113 - صلاة العيد
يقول السائل: ما هو المشروع من الأعمال في ليلة عيد الأضحى؟
الجواب: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شي في إحياء ليلة العيد سواء كان ذلك ليلة عيد الفطر أو ليلة عيد الأضحى وما ورد من روايات فهي أحاديث ضعيفة جداً وبعضها مكذوب على رسول صلى الله عليه وسلم كما سأبين بعد قليل. لذا فإن إحياء ليلة العيد بدعة غير مشروعة فلا يشرع إحياؤها بصلاة خاصة أو أذكار خاصة أو غير ذلك من الطاعات قال العلامة ابن القيم في وصف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عيد الأضحى: [ثم نام حتى أصبح ولم يحي تلك الليلة ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيد شيء] زاد المعاد 2/247. بل ليلة العيد كغيرها من الليالي ليس لها خاصية تمتاز بها على غيرها وأما ما ورد من أحاديث فقد بين أهل الحديث حالها ودرجتها وأذكر بعضها: 1. ما روي عن أبي أمامه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلتي العيدين محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وفي رواية (من أحيا) رواه ابن ماجة وذكره الدارقطني في العلل وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية وفي سنده متهم بالوضع وقال الحافظ ابن حجر: [حديث مضطرب الإسناد وذكر أن فيه متهماً بالوضع قاله المناوي في فيض القدير 6/39، وقال الألباني: موضوع انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 11. 2. ما روي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر) رواه الأصبهاني ونصر المقدسي وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي وهو متروك كما قال النسائي والحافظ ابن حجر وقال يحيى ابن معين كذاب وحكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه موضوع كما في سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 11. 3. ما روي عن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفي سنده عمر بن هارون البلخي وهو كذاب كما قال يحيى بن معين وابن الجوزي انظر السلسلة الضعيفة 2/11. وحكم عليه الألباني بأنه حديث موضوع في المصدر السابق وكذا في ضعيف الترغيب والترهيب 1/334. 4. ما روي عن كردوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) قال ابن الجوزي: [هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه آفات ثم ذكر من آفاته مروان بن سالم قال فيه النسائي والدارقطني والأزدي متروك العلل المتناهية 2/562. وقال الحافظ ابن حجر عنه: [ومروان هذا متهم بالكذب] . الإصابة 5/580. وقال الحافظ عنه في لسان الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 4/391. وقال الذهبي في الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 5/372.
ومن أهل العلم من قوى هذه الأحاديث بمجموع طرقها كما في مصباح الزجاجة 2/85. حيث قال: [فيقوى بمجموع طرقه] ومن أهل العلم من قال يتسامح في هذه الأحاديث لأنها في فضائل الأعمال كما قال الحافظ ابن حجر: [اعلم أنه يستحب إحياء ليلتي العيدين في ذكر الله تعالى والصلاة وغيرهما من الطاعات للحديث الوارد في ذلك: (من أحيا ليلتي العيدين لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وروي: (من قام ليلتي العيدين لله محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) هكذا جاء في رواية الشافعي وابن ماجة وهو حديث ضعيف رويناه من رواية أبي أمامه مرفوعاً وموقوفاً وكلاهما ضعيف لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها كما قدمناه في أول الكتاب] الأذكار ص 145.
وما قاله الحافظ ابن حجر من التساهل في أحاديث الفضائل سبق له وأن قيده في أول كتابه الأذكار كما أشار إليه فقال [يجوز العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا] الأذكار ص 5. وهذه الأحاديث المذكورة في إحياء ليلتي العيد قد حكم عليها جماعة من المحدثين بأنها موضوعة أو فيها من هو كذاب أو متهم بالوضع فلا تنطبق عليها القاعدة السابقة. وخلاصة الأمر أن إحياء ليلتي العيدين بدعة لم يثبت فيه حديث يصلح للاحتجاج به أو الاعتماد عليه.(6/113)
114 - صلاة العيد
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم يصلي صلاة العيد على مذهب أبي حنيفة فيكبر في الأولى ثلاثاً بعد تكبيرة الإحرام ثم يقرأ، وفي الركعة الثانية يبدأ بالقراءة ثم يكبر ثلاثاً ثم يكبر للركوع. وإنه لاحظ أن كثيراً من المصلين يخطئون في الصلاة فيركعون عند تكبير الإمام التكبيرة الأولى من التكبيرات الزوائد في الركعة الثانية فما قولكم في ذلك؟
الجواب: اختلف أهل العلم في التكبير في صلاة العيدين اختلافاً كبيراً في عدد التكبيرات الزوائد وفي موضعها وقد ذكر الشوكاني عشرة أقوال في المسألة في كتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 3/339-340. وذكر غيره من العلماء أكثر من ذلك. ولكن يجب أن يعلم أن التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين من السنن المستحبة عند جمهور أهل العلم ولا تبطل الصلاة بتركها عمداً أو سهواً. الروضة الندية 1/383. وأرجح أقوال أهل العلم أن السنة في تكبيرات صلاة العيد أن يكبر سبعاً في الأولى قبل القراءة وخمساً في الثانية قبل القراءة قال الحافظ العراقي: [هو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة قال وهو مروي عن عمر وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وزيد بن ثابت وعائشة وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومكحول وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد واسحق] نيل الأوطار 3/339. وانظر المجموع 5/9-20. المغني 2/282. وقد استدل لهذا القول بالأدلة التالية: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى والقراءة بعدهما كلتيهما] رواه أبو داود وابن ماجة. وفي رواية عند أحمد وابن ماجة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها) قال الإمام أحمد وأنا أذهب إلى هذا.
وحديث عمرو بن شعيب حديث صحيح، صححه أحمد وعلي بن المديني والبخاري فيما حكاه الترمذي قاله الحافظ في التلخيص الحبير 2/84. وقال الإمام النووي: [وحديث عمرو بن شعيب هذا حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد حسنة] المجموع 5/16. وقال الحافظ العراقي: [إسناده صالح ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال إنه حديث صحيح] نيل الأوطار 3/338. وقال الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن أبي داود 1/213. وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وقال الشيخ الألباني حديث صحيح. انظر إرواء الغليل 3/107. وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الثانية خمساً قبل القراءة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم. سنن الترمذي مع شرحه التحفة 3/66. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/166. وعن سعد القرظ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الآخرة خمساً قبل القراءة) رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وصححه الألباني بشواهده في صحيح سنن ابن ماجة 1/215. وعن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: (التكبير في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات وفي الآخرة خمس تكبيرات) رواه الدارقطني والبزار وهو حديث ضعيف. وعن جابر رضي الله عنه قال: [مضت السنة أن يكبر للصلاة في العيدين سبعاً وخمساً] رواه البيهقي. وغير ذلك من الأحاديث.
ويلاحظ على هذه الأحاديث أن كل حديث منها لم يسلم من النقد ولكن مجموع هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً قال الشيخ الألباني بعد أن فصَّل الكلام على حديث عائشة السابق: [وبالجملة فالحديث بهذه الطرق صحيح ويؤيده عمل الصحابة به منهم أبو هريرة فيما رواه نافع مولى ابن عمر قال: [شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة] . أخرجه مالك ومن طريقه الفريابي والبيهقي. ثم أخرجاه وكذا ابن أبي شيبة من طرق أخرى عن نافع به. وزاد البيهقي: " وهي السنة " … ومنهم عبد الله بن عمر مثل حديثه المرفوع المتقدم، أخرجه الطحاوي وسنده صحيح. ومنهم عبد الله بن عباس " أنه كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الافتتاح وفي الآخرة ستاً بتكبيرة الركعة كلهن قبل القراءة ". رواه ابن أبي شيبة عن ابن جريح عن عطاء عنه وهذا سند صحيح على شرط الشيخين …إلخ] إرواء الغليل 3/110-111. وقد رجح جماعة من أهل العلم أن السنة في التكبير في صلاة العيد سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية منهم الحافظ ابن عبد البر حيث قال: [وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق حسان أنه كبر في العيدين سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية من حديث عبد الله بن عمر وابن عمرو وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني ولم يرد عنه في وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا وهو أولى ما عمل به] المنهل العذب المورود 6/331 وانظر أيضاً فتح المالك 3/346- 347 حيث فصَّل الحافظ ابن عبد البر الكلام على روايات الأحاديث الواردة في التكبيرات ثم قال عن مذهب الحنفية: [ليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه قوي ولا ضعيف مثل قول هؤلاء] فتح المالك 3/347. وقال الشوكاني: [وأرجح هذه الأقوال أولها في عدد التكبير وفي محل القراءة] نيل الأوطار 3/341.
والأول الذي ذكره أنه يكبر في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الثانية خمساً قبل القراءة. وقال الحافظ المباركفوري: [فالأولى للعمل هو ما ذهب إليه أهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم لوجهين: الأول أنه قد جاء فيه أحاديث مرفوعة عديدة وبعضها صالح للاحتجاج والباقية مؤيدة لها وأما ما ذهب إليه أهل الكوفة فلم يرد فيه حديث مرفوع غير حديث أبي موسى الأشعري وقد عرفت أنه لا يصلح للاحتجاج.
والوجه الثاني أنه قد عمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد تقدم في كلام الحافظ الحازمي أن أحد الحديثين إذا كان عمل به الخلفاء الراشدون دون الثاني فيكون آكد وأقرب إلى الصحة وأصوب بالأخذ. هذا ما عندي والله تعالى أعلم] تحفة الأحوذي 3/71. وممن رجح هذا القول الصنعاني في سبل السلام 2/68. وصديق حسن خان كما في الروضة الندية 1/382. ومما ينبغي التنبيه عليه أن السنة أن يرفع المصلي يديه مع كل تكبيرة من التكبيرات قال العلامة ابن عثيمين: [لأن هذا ورد عن الصحابة رضي الله عنهم ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ومثل هذا العمل لا مدخل للاجتهاد فيه لأنه عبادة فهو حركة في عبادة فلا يذهب إليه ذاهب من الصحابة إلا وفيه أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح عن ابن عمر (أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة في كل تكبيرة) بل إنه روي عنه مرفوعاً ومنهم من صححه مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك هنا فعن عمر (أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد) وكذلك عن زيد رواهما الأثرم) الشرح الممتع على زاد المستقنع 5/182. ورفع اليدين مع كل تكبيرة هو قول عطاء والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي ومحمد وداود وابن المنذر وغيرهم. ويستحب أن يحمد الله ويسبحه ويكبره ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين. ومن العلماء من قال يستحب أن يقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً. ومن العلماء من قال يستحب أن يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد اللهم اغفر لي وارحمني. ومنهم من قال يستحب أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وإن أحب قال غير ما ذكر إذ لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر مؤقت والأمر فيه سعة. انظر غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 1/344 –345. ملاحظة: وقع خطأ مطبعي عند ذكر مسأل تكبيرات العيد الزوائد في الجزء الأول من يسألونك حيث وردت العبارة التالية: [ويكون التكبير سبعاً في الأولى بعد القراءة وخمساً في الثانية بعد القراءة] والصواب هو (قبل القراءة) في الموضعين فينبغي أن يصحح.(6/114)
115 - صلاة العيد
يقول السائل: إنه قرأ في كتاب فقه السنة في مسألة اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد أن الحنابلة أوجبوا صلاة الظهر في حق من تخلف عن صلاة الجمعة وأن الشيخ سيد سابق رجح عدم وجوب صلاة الظهر واحتج على ذلك بما ورد عن الصحابي عبد الله بن الزبير أنه قال: عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: مسألة اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد محل اختلاف بين أهل العلم سبق وأن فصلتها وألخص أقوال العلماء فيها وهي ثلاثة فأكثر أهل العلم يرون أنه لا تجزي واحدة منهما عن الأخرى فينبغي على المسلم أن يصلي العيد وأن يصلي الجمعة لأن عموم الأدلة التي أوجبت الجمعة لم تخص بدليل يصلح لذلك عندهم. وقالت الشافعية تسقط الجمعة عن أهل البوادي والقرى إذا صلوا العيد مع أهل البلد. وقالت الحنابلة وأكثر أهل الحديث تسقط الجمعة عمن صلى العيد إلا الإمام ومن لم يصلِ الجمعة فيجب عليه أن يصلي الظهر ونقل عن بعض العلماء إسقاط الظهر أيضاً. والقول الأول هو أولى الأقوال خروجاً من الخلاف وأما القول بسقوط صلاة الظهر فقد نسب إلى عبد الله ابن الزبير من الصحابة وعطاء بن أبي رباح من كبار التابعين إن صح الخبر عنهما وما أظنه يصح عنهما ففي صحته نظر وبيان ذلك كما يلي: روى أبو داود بسنده عن عطاء قال: [اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة ولم يزد عليهما حتى صلى العصر] وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/200 ورواه ابن أبي شيبة عن وهب بن كيسان وإسناده حسن على شرط مسلم كما قال الإمام النووي في الخلاصة 2/816 وفي رواية أخرى عند أبي داود عن عطاء قال: [صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحداناً وكان ابن عباس في الطائف فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال: أصاب السنة] قال النووي: رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم الخلاصة 2/817. وقال الشيخ الألباني صحيح انظر صحيح سنن أبي داود 1/200. وروى ابن أبي شيبة بسنده عن عطاء قال: [اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير فصلى بهم العيد ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعاً] مصنف ابن أبي شيبة 2/187.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء فذكر ما حدث في عهد ابن الزبير ثم قال عطاء: [… وصليت أنا الظهر يومئذ …] مصنف عبد الراق 3/303. هذه هي الآثار التي وقفت عليها فيما ورد عن ابن الزبير وعن عطاء وهذه الآثار لا يؤخذ منها أنهما قالا بإسقاط الظهر عمن صلى العيد وإنما قالا بأن الجمعة تسقط عمن صلى العيد. والرواية الأولى التي احتج بها من قال إن ابن الزبير أسقط الظهر لا تدل على ذلك قال الصنعاني: [ولا يخفى أن عطاء أخبر أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة وليس ذلك بنص قاطع أنه لم يصل الظهر في منزله فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون عيداً على من صلى صلاة العيد لهذه الرواية غير صحيح لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله بل في قول عطاء أنهم صلوا وحداناً أي الظهر ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه ولا يقال إن مراده صلوا الجمعة وحداناً فإنها لا تصح إلا جماعة إجماعاً] سبل السلام 2/53. والرواية الثانية تثبت أنهم صلوا الظهر وحداناً. والرواية الثالثة تثبت أنهم صلوا الظهر أربعاً. والرواية الرابعة تثبت أن عطاء صلى الظهر. وبهذا يظهر أن نسبة القول بإسقاط الظهر إلى ابن الزبير وعطاء نسبة غير صحيحة. قال الشيخ محمود خطاب السبكي: [قوله صلى بنا ابن الزبير إلخ. أي صلى بنا عبد الله ابن الزبير صلاة العيد في يوم جمعة أول النهار ثم لم يخرج إلى صلاة الجمعة فصلينا وحداناً يعني صلوا الظهر منفردين لا الجمعة لأنها لا تصح إلا في جماعة كما تقدم في باب الجمعة للمملوك والمرأة في قوله صلى الله عليه وسلم (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة) ولما حكاه النووي من الإجماع على أنها لا تصح إلا في جماعة] المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود 6/221. وقال الحافظ ابن عبد البر: [وأما إذن عثمان لأهل العوالي وقوله: قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان يعني الجمعة والعيد قال: فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له، فقد اختلف العلماء في تأويل قول عثمان هذا واختلفت الآثار في ذلك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في تأويلها والأخذ بها: فذهب عطاء ابن أبي رباح إلى أن شهود العيد يوم الجمعة يجزئ عن الجمعة إذا صلى بعدها ركعتين على طريق الجمع. وروي عنه أيضاً أنه يجزيه وإن لم يصل غير صلاة العيد ولا صلاة بعد صلاة العيد حتى العصر وحكي ذلك عن ابن الزبير وهذا القول مهجور لأن الله عز وجل افترض صلاة الجمعة في يوم الجمعة على كل من في الأمصار من البالغين الذكور الأحرار فمن لم يكن بهذه الصفات ففرضه الظهر في وقتها فرضاً مطلقاً لم يختص به يوم عيد من غيره.
وقول عطاء هذا ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال: [قال عطاء بن أبي رباح: إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد فليجمعهما وليصلهما ركعتين فقط حتى يصلي صلاة الفطر ثم هي هي حتى العصر ثم أخبرنا عند ذلك قال: اجتمعا يوم فطر ويوم جمعة في يوم واحد في زمن ابن الزبير فقال ابن الزبير: عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعاً جعلهما واحداً فصلى يوم الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر لم يزد عليهما حتى صلى العصر قال: فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه قال: ولقد أنكرت أنا ذلك عليه وصليت الظهر يومئذ قال: حتى بلغنا بعد أن العيدين كانا إذا اجتمعا صليا كذلك واحداً] فتح المالك 3/335. وقال ابن عبد البر أيضاً: [وأما القول الأول: إن الجمعة تسقط بالعيد ولا تصلى ظهراً ولا جمعة فقول بين الفساد وظاهر الخطأ متروك مهجور لا يعرج عليه لأن الله عز وجل يقول: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) . ولم يخص يوم عيد من غيره وأما الآثار المرفوعة في ذلك فليس فيها بيان سقوط الجمعة والظهر ولكن فيها الرخصة في التخلف عن شهود الجمعة وهذا محمول عند أهل العلم على وجهين أحدهما: أن تسقط الجمعة عن أهل المصر وغيرهم ويصلون ظهراً. والآخر أن الرخصة إنما وردت في ذلك لأهل البادية ومن لا تجب عليه الجمعة] وضعف الحافظ ابن عبد البر الرواية الواردة عن ابن الزبير وفيها أنه لم يخرج إلى الجمعة ثم قال: [وإذا احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه لأن الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ولم يخص الله ورسوله يوم عيد من غيره من وجه تجب حجته فكيف بمن ذهب إلى سقوط الجمعة والظهر المجتمع عليهما في الكتاب والسنة والإجماع بأحاديث ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث] فتح المالك 3/338-339.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب عن سؤال حول اجتماع الجمعة والعيد فذكر أن لأهل العلم فيها ثلاثة أقوال فذكر الأولين ثم قال: [والقول الثالث: وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة. لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وابن الزبير وغيرهم ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف. وأصحاب القولين المتقدمين لم يبلغهم ما في ذلك من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمع في يومه عيدان صلى العيد ثم رخص في الجمعة وفي لفظ أنه قال: (أيها الناس إنكم قد أصبتم خيراً فمن شاء أن يشهد الجمعة فليشهد فإنا مجمعون) . وأيضاً فإنه إذا شهد العيد حصل مقصود الاجتماع ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة فتكون الظهر في وقتها] مجموع الفتاوى 24/211. وأفتت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية بوجوب صلاة الظهر على من لم يحضر الجمعة في يوم عيد فقد جاء في فتواا: [من صلى العيد يوم الجمعة رخص له في الحضور لصلاة الجمعة ذلك اليوم إلا الإمام فيجب عليه إقامتها بمن حضر لصلاتها ممن قد صلى العيد وبمن لم يكن صلى العيد فإن لم يحضر إليه أحد سقط وجوبها عنه وصلى ظهراً … ومن لم يحضر الجمعة فمن شهد صلاة العيد وجب عليه أن يصلي الظهر عملاً بعموم الأدلة الدالة على وجوب صلاة الظهر على من لم يصل الجمعة] فتاوى إسلامية 1/248. وخلاصة الأمر في حال اجتمع الجمعة والعيد أن الأولى في حق من صلى العيد أن يصلي الجمعة خروجاً من الخلاف فإن لم يحضر الجمعة فيجب عليه أن يصلي الظهر ولا يصح القول بإسقاط الظهر فإن القول بسقوط الظهر ظاهر البطلان ولا متمسك لمن زعم ذلك فيما ورد عن ابن الزبير وعطاء فليس هذا دليلاً على إسقاط الظهر الثابتة بأدلة قوية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(6/115)
116 - سنن الصلاة
يقول السائل: هل لصلاة العصر سنة راتبة؟
الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل العصر ركعتين وأحياناً أربع ركعات ولكن الراجح من أقوال أهل العلم أن هذه الصلاة لم تكن راتبة لذا لم يعتبرها المحققون من العلماء من السنن الرواتب بل اعتبروها من السنن المستحبة وبعضهم يعتبرها من السنن غير المؤكدة وهي السنن التي لم يواظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ومن الأحاديث الواردة في الصلاة قبل العصر ما يلي: عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرءً صلى قبل العصر أربعاً) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ورواه ابن خزيمة وابن حبان وصححاه وحسنه الألباني انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/382. وعن علي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين) رواه الترمذي وحسنه وقال الألباني سنده حسن. مشكاة المصابيح 1/368. وعن علي رضي الله عنه أيضاً قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر ركعتين) رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الإمام النووي في المجموع 4/8. وقال الألباني إسناده حسن انظر المصدر السابق. ومما يؤيد صلاة ركعتين قبل العصر عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) وهو حديث صحيح. والمقصود بالأذانين الأذان والإقامة. وبناء على هذه الأحاديث المتقدمة فإن المصلي مخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً قبل العصر جمعاً بين هذه الأحاديث والأربع أفضل انظر عون المعبود 4/105.
واختار الحنفية والإمام أحمد في رواية صلاة أربع ركعات قبل العصر انظر غاية المرام 5/391. قال الشوكاني: [والأحاديث المذكورة تدل على استحباب أربع ركعات قبل العصر والدعاء منه صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن فعل ذلك والتصريح بتحريم بدنه على النار مما يتنافس فيه المتنافسون) نيل الأوطار 3/21.(6/116)
117 - الإعتكاف
يقول السائل: ما قولكم فيما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال؟
الجواب: الاعتكاف من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في رمضان في العشر الأواخر منه. رواه البخاري ومسلم. ويشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد وقد قال الله تعالى: (ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) سورة البقرة الآية 187. ولم يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المسجد فلا يصح الاعتكاف في البيوت. واتفق العلماء على أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال أفضل من الاعتكاف في غيرها من المساجد وجمهور أهل العلم لا يرون أن الاعتكاف خاص بالمساجد الثلاثة كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء ونصره الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني ودافع عنه في أكثر من كتاب من كتبه. قال الشيخ الألباني: [ثم وقفت على حديث صحيح صريح يخصص المساجد المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) وقد قال به من السلف فيما اطلعت حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب وعطاء إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً وخالف آخرون فقالوا: ولو في مسجد بيته ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي ينبغي المصير إليه والله سبحانه وتعالى أعلم] قيام رمضان للألباني ص36. وقال الشيخ الألباني أيضاً: [واعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية المسجد للاعتكاف وصفته كما تراه مبسوطاً في (المصنفين) المذكورين و (المحلى) وغيرهما وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) سورة البقرة الآية 187. وهذا الحديث الصحيح والآية عامة والحديث خاص ومقتضى الأصول أن يحمل العام على الخاص وعليه فالحديث مخصص للآية ومبين لها وعليه يدل كلام حذيفه وحديثه والآثار في ذلك مختلفة أيضاً فالأولى الأخذ بما وافق الحديث منها كقول سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي. أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه] سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد السادس القسم الأول ص670. وقد تابع الشيخ الألباني بعض تلاميذه كما جاء في كتاب صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ص 93: [لا يشرع الاعتكاف إلا في المساجد لقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) وليست هذه المساجد على الاطلاق فقد ورد تقييدها في صحيح السنة المشرفة وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) ] .
وقد أطال الشيخ الألباني الكلام على الحديث السابق في الموقع المشار إليه في السلسلة الصحيحة وحكم على الحديث بالصحة ورأى أنه مخصص لعموم الآية السابقة. وما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم اشتراط المساجد الثلاثة لصحة الاعتكاف هو القول الراجح بل هو القول الصحيح من حيث الدليل وبيان ذلك فيما يلي: إن قوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) عام في كل مسجد ولا يصلح الحديث المذكور سابقاً لتخصيص الآية لأنه يشترط في المخصص من السنة أن يكون صحيحاً لا شك فيه والحديث المذكور محل خلاف بين المحدثين فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه ومنهم من أوَّله كما سيأتي وما كان حاله كذلك لا يصلح أن يكون مخصصاً لعموم الكتاب. قال الإمام مالك: [الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها فإن كان مسجداً لا يجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه فإني لا أرى بأساً بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فعمَّ الله المساجد كلها ولم يخص شيئاً منها قال مالك: فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة] الموطأ 1/285. وقال الإمام البخاري: [باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ] . قال الحافظ ابن حجر: [قوله باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد …. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان.
وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه وفيه قول للشافعي قديم وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات وخصه أبو يوسف بالواجب منه وأما النفل ففي كل مسجد وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي في الجامع وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة ويجب بالشروع عند مالك وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقاً. وأومأ إليه الشافعي في القديم وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجد مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة] فتح الباري 5/176. وقال العيني: [وقالت طائفة الاعتكاف يصح في كل مسجد روي ذلك عن النخعي وأبي سلمة وأبي ثور وداود وهو قول مالك في الموطأ وهو قول الجمهور والبخاري أيضاً حيث استدل بعموم الآية في سائر المساجد] عمدة القاري 8/286. وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن سعيد بن جبير أنه اعتكف في مسجد قومه ومثله عن همام بن الحارث ومثله عن إبراهيم النخعي وعن أبي الأحوص وعن يحيى بن أبي سلمة وعن عامر الشعبي. وروى ابن أبي شيبة أيضاً بإسناده عن شداد بن الأزمع قال اعتكف رجل في المسجد الأعظم وضرب خيمته فحصبه الناس فبلغ ذلك ابن مسعود فأرسل إليه رجلاً فكف الناس عنه وحسَّن ذلك] انظر المصنف 3/9-91. وانظر أيضاً مصنف عبد الرزاق 4/346 -348. قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في مسجد الاعتكاف قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف وأنه يصح في كل مسجد وبه قال مالك وداود وحكى ابن المنذر عن سعيد ابن المسيب أنه قال إنه لا يصح إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما أظن أن هذا يصح عنه وحكى هو وغيره عن حذيفه بن اليمان الصحابي أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى وقال الزهري والحكم وحماد ولا يصح إلا في الجامع وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور يصح في كل مسجد يصلى فيه الصلوات كلها وتقام فيه الجماعة واحتج لهم بحديث عن جويبر عن الضحاك عن حذيفة رضي الله عنه هـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح) رواه الدارقطني وقال الضحاك لم يسمع من حذيفه قلت وجويبر ضعيف باتفاق أهل الحديث فهذا الحديث مرسل ضعيف فلا يحتج به واحتج أصحابنا بقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ووجه الدلالة من الآية لاشتراط المسجد أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لأنها منافية للاعتكاف فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد وإذا ثبت جوازه في المساجد صح كل مسجد ولا يقبل تخصيص من خصه ببعضها إلا بدليل ولم يصح في التخصيص شيء صريح] المجموع 6/483. وقال ابن حزم الظاهري: [والاعتكاف جائز في كل مسجد … وبرهان ذلك قوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فعمَّ الله تعالى ولم يخص] . ثم قال ابن حزم: [أما من حدَّ مسجد المدينة وحده أو مسجد مكة ومسجد المدينة أو المساجد الثلاثة أو المسجد الجاع فأقوال لا دليل على صحتها فلا معنى لها وهو تخصيص لقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) … فإن قيل فأين أنتم عمَّا رويتموه من طريق سعيد بن منصور…: قال حذيفه لعبد الله بن مسعود قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) أو قال: (مسجد جماعة) ؟ . قلنا: هذا شك من حذيفه أو ممن دونه ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك ولو أنه عليه السلام قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا ولم يدخل فيه شكاً. فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط] المحلى 3/428 - 431. وقال الشوكاني معلقاً على حديث حذيفه أنه قال لابن مسعود: [لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال في مسجد جماعة) ] . قال الشوكاني: [الحديث الأول أخرجه ابن أبي شيبة ولكن لم يذكر المرفوع منه واقتصر على المراجعة التي فيه بين حذيفه وابن مسعود ولفظه: (إن حذيفه جاء إلى عبد الله فقال: ألا أعجبك من قوم عكوف بين دارك ودار الأشعري يعني المسجد قال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت) فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وعلى أن عبد الله يخالفه ويجوز الاعتكاف في كل مسجد ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خالفه وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج أحد شقيه. وقد استشهد بعضهم لحديث حذيفه بحديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مرفوعاً بلفظ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) وهو متفق عليه ولكن ليس فيه ما يشهد لحديث حذيفة لأن أفضلية المساجد الثلاثة واختصاصها بشد الرحال إليها لا تستلزم اختصاصها بالاعتكاف وقد حكى في الفتح عن حذيفة أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة] نيل الأوطار 4/301 وقال العلامة صديق حسن خان: [وإنما اختلفوا هل يجزئ الاعتكاف في كل مسجد؟ أم في الثلاثة المساجد فقط؟ أو في المسجد الحرام فقط؟ والظاهر أنه يجزئ في كل مسجد قال تعالى:: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ولا حجة في قول عائشة ولا في قول حذيفه في هذا الباب] الروضة الندية 2/41. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [فكل مساجد الدنيا يسن فيها الاعتكاف وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة كما روي ذلك عن حذيفه بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لااعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) فإن هذا الحديث ضعيف. ويدل على ضعفه أن ابن مسعود رضي الله عنه وهنه حين ذكر له حذيفه رضي الله عنه أن قوماً يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفه وبيت ابن مسعود رضي الله عنه فجاء إلى ابن مسعود زائراً له وقال إن قوماً كانوا معتكفين في المسجد الفلاني فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: [لعلهم أصابوا فأخطأت وذكروا فنسيت] فأوهن هذا حكماً ورواية. أما حكماً ففي قوله: [أصابوا فأخطأت] وأما رواية: [فذكروا ونسيت] والإنسان معرض للنسيان وإن صح هذا الحديث فالمراد به: لا اعتكاف تام أي أن المساجد الأخرى الاعتكاف فيها دون المساجد الثلاث كما أن الصلاة في المساجد فيها دون الصلاة في المساجد الثلاثة. ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) . فقوله: في المساجد (ال) هنا للعموم فلو كان الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة لقلنا: إن (ال) هنا للعهد الذهني ولكن أين الدليل؟ وإذا لم يقم دليل على أن (ال) للعهد الذهني فهي للعموم هذا الأصل ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها ثم نقول لا يصح إلا في المساجد الثلاثة فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية ثم نقول: إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة كالطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام. فالصواب: أنه عام في كل مسجد لكن لا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل] الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/504-505.
ويضاف لما سبق أن اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية قد اختارت أن الاعتكاف يصح في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة انظر فتاوى اللجنة الدائمة 10/410. وخلاصة الأمر أن الاعتكاف يصح في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة وليس مقصوراً على المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال.(6/117)
118 - المساجد
يقول السائل: هل يجوز تعليق الصور في المساجد خاصة أنه يكثر في أيامنا هذه تعليق صور الشهداء في المساجد؟
الجواب: إن مكان الصلاة سواء كان البيت أو المسجد يجب أن يكون خالياً من كل ما يشغل المصلي عن صلاته ويشوش عليه ويخل بخشوعه في صلاته سواء كان ذلك صوراً أو زخرفة أو غير ذلك. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي) رواه أبو داود بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني. وورد في الحديث عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة (نوع من الثياب) لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ... فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) رواه البخاري ومسلم. وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصلاة والسلام: (كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني) رواه البخاري. وعن أنس قال كان قرام (ستر رقيق من صوف ذو ألوان) لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عني قرامك فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) رواه البخاري.
وبناءً على ذلك فإني أرى أنه لا يجوز تعليق الصور مهما كانت في قبلة المسجد وكذلك تعليق اللوحات سواء كانت لوحات قرآنية أو مجلات حائط أو نحوها في قبلة المسجد وأمام المصلين لأنها بالتأكيد تشغلهم عن صلاتهم وينبغي بشكل عام تنزيه المسجد عن مثل هذه الأمور فالمساجد ليست معارض ولا متاحف لتعليق الصور أو اللوحات الفنية أو الزخرفات المختلفة.
وقد قام بعض الناس بكتابة آيات القرآن الكريم على شكل انسان وهو ساجد وهذا من التلاعب بكتاب الله الكريم فالقرآن لم ينزل لهذا. وكذلك يجب تنزيه المساجد عن كل ما يشوش على المصلين والذاكرين مثل إقامة الاحتفالات التي تكون مصحوبة بفرق الإنشاد مع ضرب الدفوف أو فرق الكشافة المصحوبة بالطبول والأجراس لأن هذا يشكل إساءة بالغة ومخالفة واضحة لمنهج الإسلام.(6/118)
119 - الأذان
يقول السائل: إنه مؤذن مسجد وعندما يؤذن للفجر كان يقول في أذانه الصلاة خير من النوم مرتين ثم قال له بعض المصلين إن الصواب أن تقال عبارة الصلاة خير من النوم في الأذان الأول الذي يسبق أذان صلاة الفجر فما قولكم في ذلك؟
الجواب: قول المؤذن في أذان صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم مرتين يسمى التثويب على قول جماعة من أهل العلم، قال الإمام الترمذي: [وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب، قال بعضهم: التثويب أن يقول في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول ابن المبارك وأحمد] ثم ذكر الترمذي قولاً آخر ثم قال: [والذي فسر ابن المبارك وأحمد أن التثويب أن يقول المؤذن في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول صحيح ويقال له التثويب أيضاً وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/506-507. والتثويب سنة مشروعة عند جمهور أهل العلم وبه قال عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأنس رضي الله عنهم والحسن البصري ومحمد بن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والشافعي في الصحيح عنه وكثير من أهل العلم. انظر المجموع 3/94 المغني 1/296 نيل الأوطار 2/43. وقد ورد إثبات مشروعية التثويب المذكور في عدة أحاديث منها: عن أبي محذورة ? قال: (كنت أؤذن لرسول الله ? وكنت أقول في أذان الفجر الأول حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) رواه النسائي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي 1/140. وفي رواية عند أبي داود: (عن أبي محذورة عن النبي ?، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/100. وفي رواية أخرى عند أبي داود عن أبي محذورة قال: (قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: فمسح مقدم رأسي وقال: تقول الله أكبر ... إلى أن قال: فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) وهي رواية صحيحة كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/100. وفي رواية أخرى عند أبي داود أيضاً عن أبي محذورة قال: (قال ألقى عليَّ رسول الله ? الأذان حرفاً حرفاً) وفي آخر الحديث: (وكان يقول في الفجر الصلاة خير من النوم) وهو حديث صحيح كما قال لشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/101. وعن انس ? قال: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم) رواه ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/201. وعن سعيد بن المسيب عن بلال ? أنه أتى النبي ? يؤذنه بصلاة الفجر فقيل: هو نائم فقال: (الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك) رواه ابن ماجة. وقال في الزوائد: إسناده ثقات إلا أن فيه انقطاعاً سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال. سنن ابن ماجة 1/237، ونحوه قال الحافظ ابن حجر وذكر له طرقاً أخرى التلخيص الحبير 1/201. إذا ثبت أن التثويب مشروع في أذان الفجر فإن الراجح من أقوال العلماء أن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة وليس محله الأذان الذي يكون قبل دخول وقت الفجر كما قال بعض أهل العلم وليس محله في الأذانين كما قال آخرون من أهل العلم.
والذي يرجح أن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ما ورد في حديث أبي محذورة: [فإن كان صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم) ، وفي الرواية الأخرى: (وكان يقول في الفجر الصلاة خير من النوم) . وما ورد عن أنس أنه قال: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم) . فالمقصود بهذه الروايات هو أذان صلاة الفجر وليس الأذان الذي يكون قبل ذلك لأن ذلك الأذان لا يسمى أذان الفجر أو أذان الصبح لأن صلاة الفجر لا يدخل وقتها به وإنما يدخل وقتها بأذان الفجر ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم) رواه البخاري ومسلم. وأما ما ورد في رواية حديث أبي محذورة وفيها: (في أذان الفجر الأول) وفي الرواية الأخرى: (الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح) فالمراد بذلك أيضاً هو أذان الفجر أي أذان الصلاة لأنه هو المقصود بالأذان الأول وأما الأذان الثاني فهو الإقامة لما ورد في الحديث أن النبي ? قال: (بين كل أذانين صلاة) فالأذان الأول هو أذان الصلاة والأذان الثاني هو الإقامة. قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: [كلمة (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول كما جاء في الحديث: فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل (الصلاة خير من النوم) فهي في الأذان الأول لا الثاني ولكن يجب أن تعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث؟ هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت والأذان الثاني هو الإقامة لأن الإقامة تسمى أذاناً قال النبي ?: (بين كل أذانين صلاة) والمراد الأذان والإقامة. وفي صحيح البخاري أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان زاد الأذان الثالث في الجمعة، إذن الأول الذي أمر فيه بلالاً أن يقول: (الصلاة خير من النوم) هو الأذان لصلاة الفجر. أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس أذاناً للفجر فالناس يسمون أذان آخر الليل بأنه الأذان الأول لصلاة الفجر والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر لأن النبي ? قال: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم) أي لأجل النائم يقوم ويتسحر والقائم يرجع ويتسحر. وقال النبي ? أيضاً لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر.
إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر. وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم (الصلاة خير من النوم) في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب. وأما من توهم بأن المراد هو الأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس له حظ من النظر] دروس وفتاوى في الحرم المكي ص 113-114. وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله جواباً على سؤال نصه: [ما المانع من الإتيان بسنة المصطفى ? في التثويب في الأذان الأول للفجر كما جاء في سنن النسائي وابن خزيمة والبيهقي؟ الجواب: نعم ينبغي الإتيان بالتثويب في الأذان الأول للفجر امتثالاً لأمر النبي ? وواضح من الحديث أنه الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر الصادق وسمي أولاً بالنسبة للإقامة فإنها أذان شرعاً كما في حديث (بين كل أذانين صلاة) وليس المراد بالأذان الأول ما ينادى به قبل ظهور الفجر الصادق فإنه شرع ليلاً ليستيقظ النائم وليرجع القائم وليس أذاناً للإعلام بالفجر ومن تدبر أحاديث التثويب لم يفهم منها إلا أن التثويب في أذان الإعلام بوقت الفجر لا الأذان الذي يكون ليلاً قبيل الفجر] . فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 6/61. واختارت لجنة الموسوعة الفقهية الكويتية هذا الرأي أيضاً فقالت: [اللجنة ترى أن المعمول به الآن من تخصيص الأذان الثاني للفجر بالتثويب أقوى لما فيه من تتابع عمل المسلمين وهو مرجح] الموسوعة الفقهية 10/150. وقد ذهب الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني يرحمه الله إلى أن التثويب يكون في الأذان الأول للصبح الذي يكون قبل دخول الوقت بنحو ربع ساعة وذكر الأدلة على ما ذهب إليه وهو اجتهاد له حظ من النظر والأثر إلا أنه قول مرجوح كما أنني أخالفه فيما قاله بعد ذلك: [ومما سبق يتبين أن جعل التثويب في الأذان الثاني بدعة مخالفة للسنة] انظر تمام المنة ص 146- 148. أقول ما ذهب إليه القائلون بأن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ليس بدعة وليس مخالفاً للسنة النبوية لأن المسألة اجتهادية وليس فيها نص صريح عن النبي ? حتى يقال: إن قولهم بدعة مخالف للسنة النبوية كما قال الشيخ الألباني. بل إن الإمام النووي يرى أن الظاهر أن التثويب يشرع في كل أذان للصبح سواء ما قبل الفجر وبعده، أي في الأذانين. المجموع 3/92. ويرى نحو ذلك بعض الشافعية والحنابلة. انظر غاية المرام شرح مغني ذوي الإفهام 3/108-109.
وكذلك فإن القول بأن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ليس فيه مخالفة للسنة لأنه لم يثبت عن النبي ? نص صريح في محل التثويب وإنما المسألة محل بحث واجتهاد وفي مثل هذه المسألة لا يقال إنه مخالف للسنة وخاصة أن من كبار العلماء من أهل الحديث والفقه قالوا بذلك الرأي كالعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز والعلامة محمد صالح العثيمين والعلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي من المعاصرين وغيرهم. يقول العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [الأفضل أن يقال ذلك في الأذان الأخير الذي هو الثاني: الذي يقال بعد طلوع الفجر كما جاء في حديث عائشة أن المؤذن كان يقوله فإذا فرغ المؤذن قام النبي ? لصلاة الفجر ثم أدى سنة الفجر ثم خرج للناس فهذا يقال في الأذان الأخير لأنه هو محل الإيقاظ الواجب أما الأول فهو للتنبيه لإنهاء التهجد وإيقاظ النائم وصلاة الوتر ونحو ذلك] مجلة الدعوة العدد1547 بتاريخ 11/2/1417 هـ. وخلاصة الأمر أن عبارة الصلاة خير من النوم تقال في أذان الفجر الذي يكون عند دخول وقت صلاة الفجر ولا تقال في الأذان الذي يسبق الوقت.(6/119)
120 - الأذان
يقول السائل: إنه مؤذن مسجد وعندما يؤذن للفجر كان يقول في أذانه الصلاة خير من النوم مرتين ثم قال له بعض المصلين إن الصواب أن تقال عبارة الصلاة خير من النوم في الأذان الأول الذي يسبق أذان صلاة الفجر فما قولكم في ذلك؟
الجواب: قول المؤذن في أذان صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم مرتين يسمى التثويب على قول جماعة من أهل العلم، قال الإمام الترمذي: [وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب، قال بعضهم: التثويب أن يقول في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول ابن المبارك وأحمد] ثم ذكر الترمذي قولاً آخر ثم قال: [والذي فسر ابن المبارك وأحمد أن التثويب أن يقول المؤذن في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول صحيح ويقال له التثويب أيضاً وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/506-507. والتثويب سنة مشروعة عند جمهور أهل العلم وبه قال عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأنس رضي الله عنهم والحسن البصري ومحمد بن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والشافعي في الصحيح عنه وكثير من أهل العلم. انظر المجموع 3/94 المغني 1/296 نيل الأوطار 2/43. وقد ورد إثبات مشروعية التثويب المذكور في عدة أحاديث منها: عن أبي محذورة ? قال: (كنت أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أقول في أذان الفجر الأول حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) رواه النسائي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي 1/140. وفي رواية عند أبي داود: (عن أبي محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/100. وفي رواية أخرى عند أبي داود عن أبي محذورة قال: (قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: فمسح مقدم رأسي وقال: تقول الله أكبر ... إلى أن قال: فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) وهي رواية صحيحة كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/100. وفي رواية أخرى عند أبي داود أيضاً عن أبي محذورة قال: (قال ألقى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفاً حرفاً) وفي آخر الحديث: (وكان يقول في الفجر الصلاة خير من النوم) وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/101. وعن انس ? قال: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم) رواه ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/201. وعن سعيد بن المسيب عن بلال ? أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر فقيل: هو نائم فقال: (الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك) رواه ابن ماجة. وقال في الزوائد: إسناده ثقات إلا أن فيه انقطاعاً سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال. سنن ابن ماجة 1/237، ونحوه قال الحافظ ابن حجر وذكر له طرقاً أخرى التلخيص الحبير 1/201. إذا ثبت أن التثويب مشروع في أذان الفجر فإن الراجح من أقوال العلماء أن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة وليس محله الأذان الذي يكون قبل دخول وقت الفجر كما قال بعض أهل العلم وليس محله في الأذانين كما قال آخرون من أهل العلم. والذي يرجح أن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ما ورد في حديث أبي محذورة: [فإن كان صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم) ، وفي الرواية الأخرى: (وكان يقول في الفجر الصلاة خير من النوم) . وما ورد عن أنس أنه قال: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم) . فالمقصود بهذه الروايات هو أذان صلاة الفجر وليس الأذان الذي يكون قبل ذلك لأن ذلك الأذان لا يسمى أذان الفجر أو أذان الصبح لأن صلاة الفجر لا يدخل وقتها به وإنما يدخل وقتها بأذان الفجر ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم) رواه البخاري ومسلم. وأما ما ورد في رواية حديث أبي محذورة وفيها: (في أذان الفجر الأول) وفي الرواية الأخرى: (الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح) فالمراد بذلك أيضاً هو أذان الفجر أي أذان الصلاة لأنه هو المقصود بالأذان الأول وأما الأذان الثاني فهو الإقامة لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة) فالأذان الأول هو أذان الصلاة والأذان الثاني هو الإقامة. قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: [كلمة (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول كما جاء في الحديث: فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل (الصلاة خير من النوم) فهي في الأذان الأول لا الثاني ولكن يجب أن تعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث؟ هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت والأذان الثاني هو الإقامة لأن الإقامة تسمى أذاناً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) والمراد الأذان والإقامة. وفي صحيح البخاري أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان زاد الأذان الثالث في الجمعة، إذن الأول الذي أمر فيه بلالاً أن يقول: (الصلاة خير من النوم) هو الأذان لصلاة الفجر.
أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس أذاناً للفجر فالناس يسمون أذان آخر الليل بأنه الأذان الأول لصلاة الفجر والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم) أي لأجل النائم يقوم ويتسحر والقائم يرجع ويتسحر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر. إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر. وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم (الصلاة خير من النوم) في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب. وأما من توهم بأن المراد هو الأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس له حظ من النظر] دروس وفتاوى في الحرم المكي ص 113-114. وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله جواباً على سؤال نصه: [ما المانع من الإتيان بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في التثويب في الأذان الأول للفجر كما جاء في سنن النسائي وابن خزيمة والبيهقي؟
الجواب: نعم ينبغي الإتيان بالتثويب في الأذان الأول للفجر امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وواضح من الحديث أنه الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر الصادق وسمي أولاً بالنسبة للإقامة فإنها أذان شرعاً كما في حديث (بين كل أذانين صلاة) وليس المراد بالأذان الأول ما ينادى به قبل ظهور الفجر الصادق فإنه شرع ليلاً ليستيقظ النائم وليرجع القائم وليس أذاناً للإعلام بالفجر ومن تدبر أحاديث التثويب لم يفهم منها إلا أن التثويب في أذان الإعلام بوقت الفجر لا الأذان الذي يكون ليلاً قبيل الفجر] . فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 6/61. واختارت لجنة الموسوعة الفقهية الكويتية هذا الرأي أيضاً فقالت: [اللجنة ترى أن المعمول به الآن من تخصيص الأذان الثاني للفجر بالتثويب أقوى لما فيه من تتابع عمل المسلمين وهو مرجح] الموسوعة الفقهية 10/150. وقد ذهب الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني يرحمه الله إلى أن التثويب يكون في الأذان الأول للصبح الذي يكون قبل دخول الوقت بنحو ربع ساعة وذكر الأدلة على ما ذهب إليه وهو اجتهاد له حظ من النظر والأثر إلا أنه قول مرجوح كما أنني أخالفه فيما قاله بعد ذلك: [ومما سبق يتبين أن جعل التثويب في الأذان الثاني بدعة مخالفة للسنة] انظر تمام المنة ص 146- 148. أقول ما ذهب إليه القائلون بأن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ليس بدعة وليس مخالفاً للسنة النبوية لأن المسألة اجتهادية وليس فيها نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقال: إن قولهم بدعة مخالف للسنة النبوية كما قال الشيخ الألباني.
بل إن الإمام النووي يرى أن الظاهر أن التثويب يشرع في كل أذان للصبح سواء ما قبل الفجر وبعده، أي في الأذانين. المجموع 3/92. ويرى نحو ذلك بعض الشافعية والحنابلة. انظر غاية المرام شرح مغني ذوي الإفهام 3/108-109. وكذلك فإن القول بأن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ليس فيه مخالفة للسنة لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح في محل التثويب وإنما المسألة محل بحث واجتهاد وفي مثل هذه المسألة لا يقال إنه مخالف للسنة وخاصة أن من كبار العلماء من أهل الحديث والفقه قالوا بذلك الرأي كالعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز والعلامة محمد صالح العثيمين والعلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي من المعاصرين وغيرهم.
يقول العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [الأفضل أن يقال ذلك في الأذان الأخير الذي هو الثاني: الذي يقال بعد طلوع الفجر كما جاء في حديث عائشة أن المؤذن كان يقوله فإذا فرغ المؤذن قام النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر ثم أدى سنة الفجر ثم خرج للناس فهذا يقال في الأذان الأخير لأنه هو محل الإيقاظ الواجب أما الأول فهو للتنبيه لإنهاء التهجد وإيقاظ النائم وصلاة الوتر ونحو ذلك] مجلة الدعوة العدد1547 بتاريخ 11/2/1417 هـ.
وخلاصة الأمر أن عبارة الصلاة خير من النوم تقال في أذان الفجر الذي يكون عند دخول وقت صلاة الفجر ولا تقال في الأذان الذي يسبق الوقت.(6/120)
121 - الأذان
حكم الخروج من المسجد بعد الأذان,
يقول السائل: ورد في الحديث أن أبا هريرة ?: (رأى رجلاً قد خرج من المسجد بعد الأذان فقال: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) فما معنى قول أبي هريرة بأن الرجل قد عصى النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه من المسجد بعد الأذان؟
الجواب: وردت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان منها ما ذكره السائل في سؤاله وهو ما رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي الشعثاء قال: (كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) . وجاء في رواية أخرى عند مسلم عن أبي الشعثاء قال: (سمعت أبا هريرة ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجاً بعد الأذان فقال: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) . وعن أبي هريرة ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق) رواه الطبراني في الأوسط وروايته محتج بها في الصحيح كما قال المنذري في الترغيب والترهيب 1/260.
وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/224. وورد عن عثمان ? أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني صحيح لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/224. وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق إلا أحد أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع) رواه أبو داود في مراسيله، وقال الشيخ الألباني: صحيح لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/224. فهذه الاحاديث تدل على النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لحاجة وقد حمل بعض أهل العلم النهي في هذه الأحاديث على التحريم ويؤكد ذلك على حسب حملهم أن أبا هريرة اعتبر الخروج من المسجد بعد الأذان عصياناً لأبي القاسم صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي المحدث: [قول أبي هريرة في الخارج من المسجد: (أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم) محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل ظاهر نسبته إليه في معرض الاحتجاج به وما كان يليق بواحد منهم للذي علم من دينهم وأمانتهم وضبطهم وبعدهم عن التدليس ومواقع الإيهام وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان فأطلق لفظ المعصية فإذا ثبت هذا استثمر منه أن من دخل المسجد لصلاة فرض فأذن مؤذن ذلك الوقت حرم عليها أن يخرج منه لغير ضرورة حتى يصلي فيه تلك الصلاة لأن ذلك المسجد تعين لتلك الصلاة أو لأنه إذا خرج قد يمنعه مانع من الرجوع إليه أو إلى غيره فتفوته الصلاة] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 2/281 ولكن أكثر أهل العلم يرون أن النهي في هذه الأحاديث محمول على الكراهة، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب هل يخرج من المسجد لعلة] ثم روى بسنده عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف، قال: على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه وقد اغتسل) .
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: [قوله باب هل يخرج من المسجد لعلة أي ضرورة وكأنه يشير إلى تخصيص ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق أبي الشعثاء عن أبي هريرة: (أنه رأى رجلاً خرج من المسجد بعد أن أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) فإن حديث الباب يدل على أن ذلك مخصوص بمن ليس له ضرورة. فيلحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن ونحوهم وكذا من يكون إماماً لمسجد آخر ومن في معناه] فتح الباري 2/261. وقال الإمام الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي هريرة: [وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه. ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة، قال أبو عيسى - الترمذي -: وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه] سنن الترمذي مع شرحه التحفة 1/518. وقال الإمام النووي: [يكره الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي إلا لعذر لحديث أبي الشعثاء قال: (كنا قعوداً مع أبي هريرة ? في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي ... ) ] المجموع 2/179. وقال الإمام النووي في شرح حديث أبي هريرة: [فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر] شرح النووي على صحيح مسلم 2/290. وذهب إلى القول بكراهة الخروج من المسجد بعد الأذان الحنفية والمالكية والشافعية. وقال مالك: بلغني أن رجلاً قدم حاجاً وأنه جلس إلى سعيد بن المسيب وقد أذن المؤذن وأراد أن يخرج من المسجد واستبطأ الصلاة فقال له سعيد: لا تخرج فإنه بلغني أنه من خرج بعد الأذان خروجاً لا يرجع إليه أصابه أمر سوء. قال: فقعد الرجل ثم إنه استبطأ الإقامة فقال: ما أراه إلا قد حبسني فخرج فركب راحلته فصرع فكسر فبلغ ذلك ابن المسيب فقال: قد ظننت أنه سيصيبه ما يكره قال ابن رشد: قول ابن المسيب بلغني معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يقال مثله بالرأي وهي عقوبة معجلة لمن خرج بعد الأذان من المسجد على أنه لا يعود إليه لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التي أذن لها وحضر وقتها.
قال أبو عمر بن عبد البر: أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل وكان على طهارة وكذا إن كان قد صلى وحده إلا ما لا يعاد من الصلوات فلا يحل الخروج من المسجد بإجماع إلا أن يخرج للوضوء وينوي الرجوع. أهـ ملخصاً ومن الأعذار المبيحة أيضاً الخروج من المسجد بعد الأذان ما أحدث أهل زماننا في المساجد من البدع كرفع الصوت بقراءة قرآن أو ذكر لأنه يشوش على المتعبدين وكالتبليغ لغير حاجة إليه … ويدل لذلك ما يأتي للمصنف في باب التثويب عن مجاهد قال كنت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فثوب رجل أي قال الصلاة خير من النوم في الظهر أو العصر فقال ابن عمر لمجاهد: اخرج بنا فإن هذه بدعة] المنهل العذب المورود 4/218-219.(6/121)
122 - الأذان
يقول السائل: إنه سمع الأذان على إحدى المحطات التلفزيونية الفضائية وسمع عبارة: [حي على خير العمل] فما حكم ذكر هذه العبارة في الأذان؟
الجواب: ألفاظ الأذان محفوظة ومعروفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت هذه الألفاظ في عدد من الأحاديث منها ما جاء في حديث عبد الله بن زيد ? قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك، فقلت له بلى، قال: فقال تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. قال ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال وتقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح واللفظ لأبي داود، وقال الشيخ الألباني حسن صحيح. صحيح سنن أبي داود 1/98-99.
وعن أبي محذورة قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت عاشر عشرة من أهل مكة نطلبهم فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن نستهزئ بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت فأرسل إلينا فأذنا رجل رجل وكنت آخرهم فقال حين أذنت تعال فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبرك علي ثلاث مرات ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام قلت كيف يا رسول الله فعلمني كما تؤذنون الآن بها الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله أهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح قال وعلمني الإقامة مرتين الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن النسائي 1/ 136-137. وغير ذلك من الأحاديث. هذه هي ألفاظ الأذان المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذا تقرر هذا فإن زيادة [حي على خير العمل] ليست من ألفاظ الأذان وإنما هي من زيادة الشيعة على ألفاظ الأذان وليس لهم مستند صحيح يعتمد عليه وقد عقد الإمام البيهقي فصلاً في سننه بعنوان: [باب ما روي في حي على خير العمل] . وذكر فيه بعض الآثار عن ابن عمر وعلي بن الحسين وبلال رضي الله عنهم فيها عبارة (حي على خير العمل) ثم قال الإمام البيهقي: [وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما علَّم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه] سنن البيهقي 1/424-425. وذكر ابن حزم أن هذه الجملة لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. المحلى 2/194. وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية. مجموع الفتاوى 23/103.
وقال الإمام النووي: [يكره أن يقال في الأذان حي على خير العمل لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى البيهقي فيه شيئاً موقوفاً على ابن عمر وعلي بن الحسين رضي الله عنهم قال البيهقي: لم تثبت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نكره الزيادة في الأذان والله أعلم] المجموع 3/98. وقال الشوكاني في أثناء شرحه لحديث عبد الله بن زيد المتقدم ما نصه: [والحديث ليس فيه ذكر حي على خير العمل وقد ذهبت العترة إلى إثباته وأنه بعد قول المؤذن حي على الفلاح قالوا: يقول مرتين حي على خير العمل ونسبه المهدي في البحر إلى أحد قولي الشافعي وهو خلاف ما في كتب الشافعية فإنا لم نجد في شيء منها هذه المقالة بل خلاف ما في كتب أهل البيت، قال في الانتصار: إن الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك، يعني في أن حي على خير العمل ليس من ألفاظ الأذان وقد أنكر هذه الرواية الإمام عز الدين في شرح البحر وغيره ممن له اطلاع على كتب الشافعية. احتج القائلون بذلك بما في كتب أهل البيت كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والأحكام وجامع آل محمد من إثبات ذلك مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في الأحكام: وقد صح لنا أن حي على خير العمل كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بها ولم تطرح إلا في زمن عمر. وهكذا قال الحسن بن يحيى روى ذلك عنه في جامع آل محمد وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر أنه كان يؤذن بحي على خير العمل أحياناً. وروى فيها عن علي بن الحسين أنه قال: هو الأذان الأول وروى المحب الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنه أذن بذلك، قال المحب الطبري: رواه ابن حزم ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة بن سهل البدري ولم يرو ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعاً. وقول بعضهم: وقد صحح ابن حزم والبيهقي والمحب الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن علي بن الحسين وابن عمر وأبي أمامة بن سهل موقوفاً ومرفوعاً ليس بصحيح اللهم إلا أن يريد بقوله مرفوعاً قول علي بن الحسين هو الأذان الأول ولم يثبت عن ابن عمر وأبي أمامة الرفع في شيء من كتب الحديث.
وأجاب الجمهور عن أدلة إثباته بأن الأحاديث الواردة بذكر ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما من دواوين الحديث ليس في شيء منها ما يدل على ثبوت ذلك، قالوا: وإذا صح ما روي من أنه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها وقد أورد البيهقي حديثاً في نسخ ذلك ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها] نيل الأوطار 2/43-44. وقال الشوكاني أيضاً معلقاً على قول صاحب حدائق الأزهار [حي على خير العمل] قال الشوكاني: [أقول هذا اللفظ قد صار من المراكز العظيمة عند غالب الشيعة ولكن الحكم بين المختلفين من العباد هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما جاءنا فيهما فسمعاً وطاعة وما لم يكن فيهما فإن وضح فيه وجه قياس بمسلك من المسالك المقبولة التي لا ترفع ولا تنقض كالنص على العلة أو دلالة الدليل على ثبوت الحكم في المسكوت عنه بفحوى الخطاب كان للمتمسك بذلك أن يقول به على ما فيه من خلاف وهكذا إذا صح الإجماع على حكم ولكن دون تصحيح الإجماع مفاوز متلوية وطرائق متشعبة وعقاب شامخة كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. وإذا كان اختلاف المختلفين في حكم ثابت من السنة فالمرجع دواوينها التي وضعها علماء الرواية وهي الأمهات وما يلتحق بها من المسانيد ونحوها ولم يثبت رفع هذا اللفظ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث على اختلاف أنواعها وغاية ما يروى في ذلك ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن بلال أنه كان يؤذن للصبح فيقول: حي على خير العمل، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم وترك حي على خير العمل، وفي إسناده عبد الرحمن بن عمار بن سعد وهو ضعيف، وقد قال البيهقي بعد إخراجه: هذا اللفظ لم يثبت فيما علم النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزبادة فيه، انتهى. ومع هذا ففي هذا التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يترك ذلك فلو قدرنا ثبوته لكان منسوخاً] السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 1/205.
وأجابت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز حول زيادة هذه الجملة في الأذان بقولها: [الأذان عبادة من العبادات والأصل في العبادات التوقيف وأنه لا يقال: إن هذا العمل مشروع إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع والقول بأن هذه العبادة مشروعة بغير دليل شرعي قول على الله بغير علم فقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وقال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) إذا علم ذلك فالأذان الشرعي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خمس عشرة جملة هي: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) هذا هو الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يؤذن به كما ذكر ذلك أهل السنن والمسانيد إلا في أذان الصبح فإنه ثبت أن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزيد فيه بعد الحيعلة (الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم) واتفق الأئمة الأربعة على مشروعية ذلك لأن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الكلمة من بلال يدل على مشروعية الإتيان بها وأما قول المؤذن في أذان الصبح حي على خير العمل فليس بثابت ولا عمل عليه عند أهل السنة وهذا من مبتدعات الرافضة فمن فعله ينكر عليه بقدر ما يكفي للامتناع عن الإتيان بهذه الزيادة في الأذان] فتاوى اللجنة الدائمة 6/94. وخلاصة الأمر أن ذكر عبارة [حي على خير العمل] في الأذان بدعة لا يجوز أن تكون من ضمن ألفاظ الأذان.(6/122)
123 - الأذان
يقول السائل: إنه يصلي أحياناً منفرداً في بيته بدون إقامة للصلاة فما حكم صلاته؟
الجواب: الإقامة من السنن المؤكدة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مشروعة في صلاة الجماعة ولمن صلى منفرداً من الرجال دون النساء فليس على النساء أذان ولا إقامة. فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) متفق عليه. وعن عقبة بن عامر ? قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يَعْجَبُ ربك من راعي غنم في رأس الشظية للجبل يؤذن ويصلي فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 1/223. وإذا صلى المنفرد بدون إقامة فصلاته صحيحة ولا شيء عليه، قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في الأذان والإقامة: مذهبنا المشهور أنهما سنة لكل الصلوات في الحضر والسفر للجماعة والمنفرد لا يجبان بحال فإن تركهما صحت صلاة المنفرد والجماعة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه ونقله السرخسي عن جمهور العلماء] المجموع 3/82. وقال الخرقي الحنبلي: [ومن صلى بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك ولا يعيد] وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي في شرحه لكلام الخرقي أنه لا يعرف مخالف في ذلك إلا عطاء ثم قال: [والصحيح قول الجمهور لما ذكرنا ولأن الإقامة أحد الأذانين فلم تفسد الصلاة بتركها كالأخر) المغني 1/302-303. ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن إبراهيم النخعي عن الأسود وعلقمة قالا: أتينا عبد الله بن مسعود في داره فقال: أصلى هؤلاء خلفكم. فقلنا: لا. قال: فقوموا فصلوا فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة ... ] رواه مسلم. وخلاصة الأمر أن من صلى منفرداً بدون إقامة فصلاته صحيحة ولكن الأولى والأفضل أن يقيم الصلاة خروجاً من خلاف من أوجبها من أهل العلم.(6/123)
124 - المحافظة على الصلاة
يقول السائل: ما قولكم في ظاهرة السهر التي يعاني منها كثير من الناس حيث إنهم يسهرون إلى ساعة متأخرة من الليل ثم ينامون وتضيع عليهم صلاة الفجر فلا يصلونها في وقتها الشرعي؟
الجواب: إن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان نعمة الوقت أو الزمن، يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَءَاتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) سورة إبراهيم الآيات 32-34. وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) سورة النحل الآية 12.
وقد اعتنى الإسلام عناية فائقة بالوقت وحث المسلم على تنظيم وقته فكثير من الأحكام الشرعية مرتبطة بالوقت ارتباطاً وثيقاً قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: [وقد رسم الشرع الحنيف: التوقيت في تكاليف كثيرة غير الصلاة، فوقت في أحكام الحج والزكاة والصوم وزكاة الفطر والأضحية والسفر والتيمم والمسح على الخفين، والرضاع والطلاق والعدة والرجعة والنفقة والدين والرهن والضيافة والعقيقة والحيض والنفاس وغيرها. وما ذلك إلا لمعنى هام رتب الشرع التوقيت عليه ولحظ المصلحة والنفع به. وقد غفل كثير من المسلمين اليوم عن هذا التوجيه الإسلامي الدقيق لهم من جانب الشرع الأغر، فجعلوا يأخذون ويتعلمون أهمية ربط الأعمال بالتوقيت المناسب، من غيرهم! وكأنهم لم يمرنوا أو يربوا على ذلك من أول يوم كلفوا فيه بأحكام الشريعة الغراء وفي أولها الصلاة. فيجب على المسلم أن ينتبه إلى الوقت في حياته وإلى تنفيذ كل عمل من أعماله في توقيته المناسب، فالوقت من حيث هو معيار زمني: من أغلى ما وهب الله تعالى للإنسان وهو في حياة العالم وطالب العلم رأس المال والربح جميعاً فلا يسوغ للعاقل أن يضيعه سى، ويعيش فيه هملاً سبهللاً ومن أجل هذا دونت هذه الصفحات حافزاً لنفسي ولأبناء جنسي رجاء الانتفاع بما فيها من أخبار آبائنا وسلفنا الماضين والله ولي التوفيق] قيمة الزمن عند العلماء ص10-11. وعلى الرغم من عظم نعمة الوقت وأهميتها في حياة المسلم إلا أن أكثر المسلمين عنها غافلون وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه البخاري. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مغبون فيهما كثير من الناس) يدل على أن المنتفعين من أوقاتهم وصحتهم قلة قليلة. ويجب على المسلم ان يستفيد من وقته وينتفع به، قال العلامة الشيخ القرضاوي: [وأول واجب على الإنسان المسلم نحو وقته أن يحافظ عليه كما يحافظ على ماله بل أكثر منه، وأن يحرص على الاستفادة من وقته كله، فيما ينفعه في دينه ودنياه، وما يعود على أمته بالخير والسعادة والنماء الروحي والمادي. وقد كان السلف - رضي الله عنهم - أحرص ما يكونون على أوقاتهم، لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها. يقول الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم! ومن هنا كان حرصهم البالغ على عمارة أوقاتهم بالعمل الدائب والحذر أن يضيع شيء منه في غير جدوى، يقول عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما! وكانوا يقولون: من علامة المقت إضاعة الوقت. ويقولون: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك. وكانوا يحاولون دائماً الترقي من حال إلى حال أحسن منها، بحيث يكون يوم أحدهم أفضل من أمسه وغده أفضل من يومه ويقول في هذا قائلهم: من كان يومه كأمسه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون! وكانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعض يوم أو برهة من الزمان وإن قصرت دون أن يتزودوا منها بعلم نافع أو عمل صالح أو مجاهدة للنفس أو إسداء نفع إلى الغير حتى لا تتسرب الأعمار سدى وتضيع هباء وتذهب جفاء وهم لا يشعرون. وكانوا يعتبرون من كفران النعمة ومن العقوق للزمن: أن يمضي يوم لا يستفيدون منه لأنفسهم ولا للحياة من حولهم نمواً في المعرفة ونموا في الإيمان ونمواً في عمل الصالحات. يقول ابن مسعود ?: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي! وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علماً يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم] الوقت في حياة المسلم ص12-13. وبعد هذا الكلام الموجز في بيان أهمية الوقت في حياة المسلم أعود إلى إجابة السؤال فأقول بأنه قد صح في الحديث عن أبي برزة الأسلمي ? أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها) . ورواه الترمذي بلفظ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها) وقال الترمذي بعد رواية الحديث السابق: [وقد كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها ورخص في ذلك بعضهم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/435. ورود في الحديث عن عائشة ? قالت: (ما نام رسول الله قبل العشاء ولا سمر بعدها) رواه ابن ماجة وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/117. وعن عبد الله بن مسعود ? قال: (جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء يعني زجرنا) رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/117، وانظر السلسلة الصحيحة 5/562. قال الإمام النووي: [وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو الذكر فيه أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو وفي وقتها المختار أو الأفضل ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا. قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها. أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك كمدارسة العلم وحكايات الصالحين ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد إلى مصلحة ونحو ذلك، فكل هذا لا كراهة فيه وقد جاءت أحاديث صحيحة ببعضه والباقي في معناه] شرح النووي على صحيح مسلم 2/282. وقال الإمام النووي أيضاً: [ويكره لمن صلى العشاء الآخرة أن يتحدث بالحديث المباح في غير هذا الوقت وأعني بالمباح الذي استوى فعله وتركه فأما الحديث المحرم في غير هذا الوقت أو المكروه فهو في هذا الوقت أشد تحريماً وكراهة وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم وحكايات الصالحين ومكارم الأخلاق والحديث مع الضيف فلا كراهة فيه بل هو مستحب وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة به وكذلك الحديث للعذر والأمور العارضة لا بأس به وقد اشتهرت الأحاديث بكل ما ذكرته] الأذكار ص 321. ثم ذكر الإمام النووي طائفة من الأحاديث التي تدل على جواز السمر في الأمور النافعة وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه ليدل على جواز ذلك بقوله: [باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء] . ثم ذكر حديث أنس ? قال: (نظرنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى كان شطر الليل يبلغه فجاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال: ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة؟ قال الحسن: وإن القوم لا يزالون بخير ما انتظروا الخير. قال قرة: هو من حديث أنس عن النبي صى الله عليه وسلم) صحيح البخاري مع الفتح 2/213-214. ثم ذكر البخاري حديثاً آخر. ثم ترجم في الباب الذي بعده بقوله: [باب السمر مع الأهل والضيف] ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في قصة أصحاب الصفة. المصدر السابق 2/215-216.
وخلاصة الأمر أن السهر بعد صلاة العشاء مكروه بشكل عام إلا إذا كان في الأمور النافعة كما سبق. وأما السهر في الأمور التافهة كالسهر لمتابعة الأفلام والتمثيليات الساقطة وفي غيرها من الأمور المنكرة فهو محرم. كما أن السهر الذي يؤدي إلى ضياع صلاة الفجر محرم لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام. وإذا حصل أن بعض الناس لا يستطيع أن ينام مبكراً ولا بد له من السهر فعليه أن ينتفع بوقته في الأمور النافعة كما ويجب عليه ان يأخذ بالأسباب التي تعينه على أداء صلاة الفجر في وقتها الشرعي.(6/124)
125 - الصلاة الوسطى
يقول السائل: إنه سمع أحد العلماء على إحدى القنوات الفضائية يذكر أن الصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) أنها صلاة الجمعة لما لها من فضائل وأن المسلم يتهيأ لها ويتطيب ويلبس أجمل ثيابه ونحو ذلك فما قولكم فيما قال؟
الجواب: لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات جميعاً والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه فينبغي للمسلم أن يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها بجميع أركانها وشروطها وسننها وآدابها وخص الصلاة الوسطى بالذكر لأهميتها وفضلها والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره وأعدله. انظر تفسير القرطبي 3/208-209. وقد اختلف أهل العلم على أقوال عديدة في المراد بالصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) سورة البقرة الآية 238. وأرجح الأقوال وأصحها أنها صلاة العصر ويدل على هذا ما يلي: عن علي ? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: (حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم أو أجوافهم ناراً) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم عن علي ? قال: (لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) . وفي رواية أخرى لمسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ثم صلاها بين العشائين بين المغرب والعشاء) . وعن عبد الله بن مسعود ? قال: (حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو قال: حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً) رواه مسلم. وروى الترمذي بإسناده عن عبد الله بن مسعود ? قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الوسطى صلاة العصر) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الترمذي أيضاً عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الوسطى صلاة العصر) . وقال الترمذي: [وفي الباب عن علي وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعائشة وحفصة وأبي هريرة وأبي هاشم بن عتبة، قال أبو عيسى - الترمذي - قال محمد - هو البخاري - قال علي بن عبد الله حديث الحسن عن سمرة بن جندب حديث صحيح وقد سمع منه. وقال أبو عيسى الترمذي: (حديث سمرة في صلاة الوسطى حديث حسن وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم) سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/456. وعن علي ? قال كنا نراها الفجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صلاة العصر يعني صلاة الوسطى. رواه أحمد وسنه جيد. الفتح الرباني 2/261. وعن عبيدة السلماني قال كنا نرى أن صلاة الوسطى صلاة الصبح قال فحدثنا علي ? أنهم يوم الأحزاب اقتتلوا وحبسونا عن صلاة العصر فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم املأ قبورهم نارا أو املأ بطونهم نارا كما حبسونا عن صلاة الوسطى قال فعرفنا يومئذ أن صلاة الوسطى صلاة العصر. رواه أحمد وعن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله أن نقرأها ثم نسخها الله فنزلت (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) فقال رجل كان جالساً عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى والله أعلم. رواه مسلم. وغير ذلك من الأدلة. وقد اختار هذا القول جماعة من أهل العلم. قال الإمام النووي: [اختلف العلماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم في الصلاة الوسطى المذكورة في القرآن فقال جماعة: هي العصر ممن نقل هذا عنه علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم رضي الله عنهم. قال الترمذي: هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم. وقال الماوردي من أصحابنا: هذا مذهب الشافعي رحمه الله لصحة الأحاديث فيه، قال وإنما نص على أنها الصبح لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه اتباع الحديث] شرح النووي على صحيح مسلم 2/268.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى في قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم منهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أيوب وأبو سعيد وعبيدة السلماني والحسن والضحاك وأبو حنيفة وأصحابه] المغني 1/274. وقال المرداوي: [قوله عن العصر وهي الوسطى هو المذهب نص عليه الإمام أحمد وقطع به الأصحاب ولا أعلم عنه خلافاً ولا فيه خلافاً] الإنصاف 1/432. وقد عدد الحافظ ابن حجر أقوال العلماء في المسألة وأوصلها إلى عشرين قولاً وذكر القول الثالث أنها العصر فقال: [قول علي بن أبي طالب فقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال: قلنا لعبيدة سل علياً عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر.. انتهى، وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأن شبهة من قال إنها الصبح قوية لكن كونها العصر هو المعتمد وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه، قال الترمذي هو قول أكثر علماء الصحابة. وقال الماوردي هو قول جمهور التابعين وقال ابن عبد البر هو قول أكثر أهل الأثر وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية ويؤيده أيضاً ما روى مسلم عن البراء بن عازب قال نزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخت فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل فهي إذن صلاة العصر. فقال أخبرتك كيف نزلت] فتح الباري 9/262. ثم قال الحافظ: [وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديث البراء الذي ذكرته عند مسلم فإنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت كذا قاله القرطبي قال: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين قال وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح. - قال الحافظ -وفي دعوى أنها أبهمت ثم عينت من حديث البراء نظر بل فيه أنها عينت ثم وصفت ولهذا قال الرجل فهي إذن العصر ولم ينكر عليه البراء. نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي. ومن حجتهم أيضاً ما روى مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً فلما بلغت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى قال فأملت علي وصلاة العصر قالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى مالك عن عمرو بن رافع قال: قال كنت أكتب مصحفاً لحفصة فقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر.... ثم ذكر الحافظ عدة روايات لهذا الحديث ثم قال: فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسناداً وأصرح وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها وهي العصر فيحتمل أن تكون الواو زائدة ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر بغير واو أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات وبأن قوله والصلاة الوسطى والعصر لم يقرأ بها أحد ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولاً والعصر ثم نزلت ثانياً بدلها والصلاة الوسطى فجمع الراوي بينهما ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال فكيف يكون مقدماً على النص الصريح بأنها صلاة العصر؟ قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال أنها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة. ثانيها معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء ... وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر ... ثالثها ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر فإن العطف يقتضي المغايرة وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه. سلمنا لكن لا يصلح معارضاً للمنصوص صريحا وأيضاً فليس العطف صريحاً في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصفات كقوله تعالى: (الأول والآخر والظاهر والباطن) ] فتح الباري 9/263-264. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي العصر وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23/106. وقد رجح هذا القول الإمام ابن دقيق العيد وقال هذا هو القول الصحيح في المسألة كما في إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام 1/171. وقال الشوكاني: [وهو المذهب الحق الذي يتعين المصير إليه ولا يرتاب في صحته من أنصف من نفسه واطرح التقليد والعصبية وجوًّد النظر إلى الأدلة] نيل الأوطار 1/264. وخلاصة الأمر أن ما قاله الشيخ المذكور بأن الصلاة الوسطى هي الجمعة قول ضعيف ليس معه دليل كما أنه مخالف للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة.(6/125)
126 - صلاة الجماعة
متى يقوم المسبوق لإتمام صلاته,
يقول السائل: هل يقوم المسبوق في الصلاة لإتمام صلاته بعد تسليم إمامه التسليمتين أم بعد التسليمة الأولى، وما حكم صلاة المسبوق إذا قام بعد التسليمة الأولى ولم ينتظر التسليمة الثانية؟
الجواب: اتفق أكثر أهل العلم على أن التسليم فريضة من فرائض الصلاة وقد ثبتت الأحاديث بذلك ومنها عن علي ? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريها التكبير وتحليلها التسليم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم وصححه الترمذي والنووي وابن حجر والألباني، انظر إرواء الغليل 2/9. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم الصلاة بالتسليم) رواه مسلم. وعن سعد بن أبي وقاص ? قال: (كنت أرى النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده) رواه مسلم. وبعد اتفاق جمهور أهل العلم على أن التسليم فرض اختلفوا هل المطلوب تسليمة واحدة أو تسليمتان؟ فذهب جمهور العلماء إلى أن التسليمة الأولى واجبة والثانية سنة، قال ابن المنذر: [أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة) المجموع 32/482. وقال الإمام النووي: [وأجمع العلماء الذين يعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة] شرح النووي على صحيح مسلم 2/236. وقال الداودي: [وأجمع العلماء على أن من سلم واحدة فقد تمت صلاته] المفهم 2/204. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والواجب تسليمة واحدة والثانية سنة، قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة] المغني 1/396. ثم استدل الشيخ ابن قدامة لما قرره بقوله: [والصحيح: ما ذكرناه.
وليس نص أحمد بصريح بوجوب التسليمتين، إنما قال: التسليمتان أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث ابن مسعود وغيره أذهب إليه، ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية والاستحباب دون الإيجاب كما ذهب إلى ذلك غيره، وقد دل عليه قوله في رواية مهنا: أعجب إليَّ التسليمتان، ولأن عائشة وسلمة بن الأكوع وسهل بن سعد قد رووا: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة) وكان المهاجرون يسلّمون تسليمة واحدة، ففيما ذكرناه جمع بين الأخبار وأقوال الصحابة رضي الله عنهم في أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين والواجب واحدة. وقد دل على صحة هذا: الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فلا معدل عنه، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يُحملُ على المشروعية والسنة فإن أكثر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة مسنونة غير واجبة فلا يمتنع حمل فعله لهذه التسليمة على السنة عند قيام الدليل عليها والله أعلم. ولأن التسليمة الواحدة يخرج بها من الصلاة فلم يجب عليه شيء آخر فيها] المغني 1/396-397. إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال حيث إن صلاة المسبوق مرتبطة بصلاة الإمام في المتابعة فأقول: الأكمل في حق المسبوق أن لا يقوم إلى قضاء ما فاته من الصلاة إلا بعد أن يفرغ إمامه من التسليمتين لأن الإمام جعل ليؤتم به كما هو ثابت في الحديث والمسبوق يأتي بما فاته بعد انتهاء الإمام من الصلاة. فقد جاء في الحديث عن المغيرة بن شعبة ? قال: (تخلفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فتبرز، وذكر وضوءه ثم عمد الناس وعبد الرحمن يصلي بهم فصلى مع الناس الركعة الأخيرة فلما سلّم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فلما قضاها أقبل عليهم فقال: قد أحسنتم وأصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها) متفق عليه. فيؤخذ من هذا الحديث أن المسبوق يقوم لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه والظاهر من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لقضاء الركعة الفائتة بعد أن سلم الإمام التسليمتين وهذا مستحب. قال الحافظ ابن عبد البر: [ولم يختلف قول مالك أن المسبوق لا يقوم إلى القضاء حتى يفرغ الإمام من التسليمتين إذا كان ممن يسلم التسليمتين] الاستذكار 4/290. وأما إذا قام المسبوق لقضاء ما فاته من صلاته بعد فراغ إمامه من التسليمة الأولى ولم ينتظر التسليمة الثانية فصلاته صحيحة ولا شيء عليه لأن صلاة الإمام ينقضي الواجب فيها بالتسليمة الأولى والتسليمة الثانية سنة.
نقل الحافظ ابن عبد البر عن الليث بن سعد فقيه مصر أنه قال في المسبوق ببعض الصلاة: [لا أرى بأساً أن يقوم بعد التسليمة الأولى] الاستذكار 4/291. وقال الإمام النووي: [اتفق أصحابنا على أنه يستحب للمسبوق أن لا يقوم ليأتي بما بقي عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين وممن صرح به البغوي والمتولي وآخرون ونص عليه الشافعي رحمه الله في مختصر البويطي فقال ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين. قال أصحابنا فإن قام بعد فراغه من قوله السلام عليكم في الأولى جاز لأنه خرج من الصلاة] المجموع 3/483. وقال الإمام النووي أيضاً: [إذا سلم الإمام التسليمة الأولى انقضت قدوة المأموم الموافق والمسبوق لخروجه من الصلاة] المجموع 3/384.(6/126)
127 - القراءة في الصلاة
يقول السائل: إنه يصلي أحياناً في بيته فهل يجهر أم يسر في القراءة؟
الجواب: من الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر في صلاة الفجر وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء وهذا الجهر مشروع في حق الإمام. وأما المنفرد فالراجح من أقوال أهل العلم أنه يجهر وهذا قول المالكية والشافعية ورواية في مذهب الحنابلة. ومن العلماء من خيَّر المنفرد بين الجهر والإسرار وهذا قول الحنفية ورواية أخرى في مذهب الحنابلة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [الجهر في مواضع الجهر والإسرار في مواضع الإسرار لا اختلاف في استحبابه والأصل فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السف فإن جهر في موضع الإسرار أو أسر في موضع الجهر ترك السنة وصحت صلاته ... وهذا الجهر مشروع للإمام ولا يشرع للمأموم بغير اختلاف وذلك لأن المأموم مأمور بالإنصات والاستماع له، بل قد منع من القراءة لأجل ذلك. وأما المنفرد فظاهر كلام أحمد أنه يخير، وكذلك من فاته بعض الصلاة فقام ليقضيه، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله - أي للإمام أحمد -: رجل فاتته ركعة مع الإمام من المغرب أو العشاء فقام ليقضي أيجهر أو يخافت؟ قال: إن شاء جهر وإن شاء خافت ثم قال إنما الجهر للجماعة. وكذلك قال طاووس فيمن فاته بعض الصلاة وهو قول الأوزاعي ولا فرق بين القضاء والأداء] المغني 1/407-408. وقال الإمام النووي: [وأما المنفرد فيسن له الجهر عندنا وعند الجمهور، قال العبدري: هو مذهب العلماء كافة إلا أبا حنيفة فقال: جهر المنفرد وإسراره سواء. دليلنا أن المنفرد كالإمام في الحاجة إلى الجهر للتدبر فسن له الجهر كالإمام وأولى لأنه أكثر تدبراً لقراءته لعدم ارتباط غيره وقدرته على إطاقة القراءة ويجهر بها للتدبر كيف شاء] المجموع 3/389-390. ويؤيد ذلك ما رواه مالك في الموطأ أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة أنه إذا سلَّم الإمام قام عبد الله بن عمر فقرأ لنفسه فيما يقضي وجهر] موطأ مالك 1/90. ومع أن الحنفية خيَّروا المنفرد بين الإسرار والجهر إلا أن الجهر أفضل عندهم، قال الزيلعي: [… أي إن شاء جهر وهو أفضل ليكون الأداء على هيئة الجماعة] تبيين الحقائق 1/127.(6/127)
128 - القراءة في الصلاة
يقول السائل: هل يقرأ المصلي في الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية سورة بالإضافة إلى سورة الفاتحة؟
الجواب: إن الأصل في الصلاة هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأن نفعل مثلما فعل بغير زيادة ولا نقصان فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. وقد اتفق أهل العلم على أن المصلي إذا كان إماماً أو منفرداً فإنه يقرأ في الركعتين الأوليين الفاتحة وسورة بعدها فقد ثبت في الحديث عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويسمعنا ويطول في الركعة الأولى مالا يطيل في الركعة الثانية وهكذا في العصر وهكذا في الصبح) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب) .
وقد بوب الإمام البخاري لحديث أبي قتادة رضي الله عنه بقوله باب (يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [يعني بغير زيادة وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمهما حكم الأخريين من الرباعية …] فتح الباري 2/403. وبناءاً على هذه الأحاديث فإن المصلي يقتصر على قراءة الفاتحة فقط في الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية وكذا الثالثة من الصلاة الثلاثية وهذا في معظم صلاته وهو مذهب جماعة كثيرة من أهل العلم. وإن قرأ المصلي في الثالثة والرابعة وكذا في ثالثة المغرب سورة مع الفاتحة فلا بأس ولكن دون أن يداوم على ذلك. فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يقرأ السورة في الثالثة والرابعة بعد الفاتحة كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية وفي الأخريين قدر نصف ذلك) رواه مسلم. فقول أبي سعيد رضي الله عنه: (وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية) يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأخريين من الظهر بزيادة لى الفاتحة لأنها ليست إلا سبع آيات. انظر نيل الأوطار 2/254 والفتح الرباني 3/209. وقال الشيخ الألباني معلقاً على هذا الحديث: [وفي الحديث دليل على أن الزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخريين سنة وعليه جمع من الصحابة منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول الإمام الشافعي سواء ذلك في الظهر أو غيرها …] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 94.
قال الإمام الماوردي بعد أن ذكر أن في المسألة قولين للإمام الشافعي: [والقول الثاني إنها سنة في الأخريين كما كانت سنة في الأوليين وهو في الصحابة قول أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما لرواية رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل حين علمه الصلاة: (ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله عز وجل أن تقرأ به ثم اصنع ذلك في كل ركعة) الحاوي الكبير 2/135. وذكر الإمام النووي أن القول الثاني للشافعي في سنية قراءة سورة مع الفاتحة في الأخريين هو نص الشافعي في الأم وقد صححه جماعة من فقهاء الشافعية. المجموع 4/386. *****(6/128)
129 - القراءة في الصلاة
ما حكم تحريك اللسان أثناء القراءة في الصلاة غير الجهرية وما دليل ذلك؟
الجواب: إن القراءة في الصلاة وكذلك الأذكار المطلوبة في الصلاة كالتكبير والتسبيح ونحوهما لا بد فيها من التلفظ ولا يحسب منها شيء ولا تكون مجزئة حتى يحرك المصلي لسانه ويتلفظ بها وأقل ذلك أن يسمع المصلي نفسه قال الإمام النووي رحمه الله: [اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له] الأذكار للنووي ص 10. وقال الإمام النووي أيضاً موضحاً معنى الإسرار في الصلاة وأقله: [وأدنى الإسرار أن يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض عنده من لغط وغيره وهذا عام في القراءة والتكبير والتسبيح في الركوع وغيره والتشهد والسلام والدعاء سواء واجبها ونفلها لا يحسب شيء منها حتى يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض فإن لم يكن كذلك رفع بحيث يسمع لو كان كذلك لا يجزيه غير ذلك هكذا نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب] المجموع 3/295. ويدل على ذلك أننا قد أُمرنا بقراءة القرآن في الصلاة كما قي قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ) وكما في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث المسيء صلاته: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) والقراءة لا تسمى قراءة حتى يتلفظ بها ويحرك اللسان وأقل ذلك أن يسمع الإنسان نفسه فإن لم يفعل ذلك فلا تسمى حينئذ قراءة وقد أجاز أهل العلم للجنب وللحائض وللنفساء تمرير القرآن على القلب دون قراءته هذا يدل على أنهما أمران مختلفان لأن قراءة الجنب والحائض والنفساء لا تجوز. *****(6/129)
130 - من البدع في الصلاة
السؤال: أعطاني أحد طلبة العلم نشرات وزعت في بعض المساجد باسم نشرات فقهية وتضمنت إحداها كلاماً حول لفظ السيادة في الصلاة الإبراهيمية أي زيادة لفظ " سيدنا "، وطلب مني بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة؟
الجواب: قرأت هذه النشرة وغيرها مما وزع في بعض المساجد وقبل الجواب التفصيلي عن السؤال أقول: إن هذه النشرات غفل عن ذكر اسم الفقيه!!! الذي كتبها والفقه لا يؤخذ عن النكرات والمجاهيل، فلا بد من معرفة كاتب هذه النشرات لنعرف هل هو من أهل هذا الشأن أم لا؟ إن الفقه له أهله ورجاله وليس من أهله ولا رجاله طلبة العلم المبتدئون ولا الدراويش الذين لا يعرفون ألف باء الفقه، أما أن تسود الصفحات وتنشر ويكذب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم الفقه فهذا منكر من القول وزور. بعد هذا أعود إلى المسألة المتعلقة بزيدة لفظ " سيدنا " في الصلاة الإبراهيمية فأقول: من المعلوم عند أهل العلم أن الأصل في العبادات هو التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري وغيره، وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم الصلاة وكيفيتها وهيئتها وأذكارها ونقل الصحابة رضي الله عنهم ذلك لمن بعدهم ومن ضمن ما نقلوه الصلاة الإبراهيمة في التشهد ولم يثبت في أي حديث من الأحاديث الواردة في ذلك زيادة لفظ " سيدنا " مع أن هذه الأحاديث كثيرة العدد فلم يرد في أي منها زيادة لفظ " سيدنا " لذلك يجب الاقتصار على الألفاظ النبوية كما وردت في الصلاة الإبراهيمية ولا يجوز زيادة لفظ " سيدنا " في الصلاة.
ويجب أن يعلم أن ما جاء في النشرة المشار إليها أن: [رعاية الأدب خير من الامتثال] كلام مغلوط بل إن كمال الأدب هو في الامتثال لأن من كان متؤدباً مع غيره يكون ممتثلاً لكلامه وهذا حال المسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن التزم بهديه صلى الله عليه وسلم فهو في غاية الأدب معه صلى الله عليه وسلم. كما ينبغي أن يعلم أننا عندما نقول لا تجوز زيادة لفظ " سيدنا " في الصلاة الإبراهيمية فهذا لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو سيدنا بل هو سيدنا صلى الله عليه وسلم. ولكن في العبادة لا بد من الاتباع ولو فتح باب الزيادة في العبادة بهذه الحجة وهي احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره لكان ينبغي زيادة لفظ " سيدنا " في الأذان وفي الإقامة فلا فرق بين الصلاة وبين الأذان والإقامة فكلها عبادات. فهل يقول هؤلاء أن نزيد لفظ سيدنا في الأذان فنقول: [أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله] ولو كان هذا الاحترام مشروعاً بهذه الزيادة لسبقنا إليها من هم أشد احتراماً وحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء أعني الصحابة رضوان الله عليهم. إذا ثبت هذا فأقول إن أهل الفقه وأهل العلم الحقيقين وليس الأدعياء قد قرروا أنه لا تجوز زيادة لفظ " سيدنا " لا في الصلاة الإبراهيمية ولا في الأذان ولا في الإقامة وهذا لا يتنافى مع تقدير النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه لأن احترامه صلى الله عليه وسلم يكون باتباعه والتزام سنته صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة الشيخ الألباني بعد كلام طويل حول المسألة وأنه لم يثبت في شيء من الأحاديث زيادة لفظ السيادة قال: [والمسألة مشهورة في كتب الفقه والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة لم يقع في كلام أحد منهم " سيدنا " ولو كانت هذه الزيادة مندوبة ما خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها والخير كله في الاتباع والله أعلم. قلت - الألباني -: وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله من عدم مشروعية تسويده صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه اتباعاً للأمر الكريم هو الذي عليه الحنفية وهو الذي ينبغي التمسك به لأنه الدليل الصادق على حبه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) سورة آل عمران الآية 31. ولذلك قال الإمام النووي في الروضة: وأكمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم صلى على محمد … الخ … فلم يذكر فيه السيادة!] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 155. وقال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله: [من استقرأ صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الواردة لم يجد فيها لفظ السيادة لا داخل الصلاة ولا خارجها ومن استقرأ أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر الشهادة بأن محمداً رسول الله. والمحدثون كافة في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد استقرأ جماعة من المحققين ومنهم الحافظ ابن حجر كما نقله عنه السخاوي في " القول البديع "، والقاسمي في " الفضل المبين في شرح الأربعين " للعجلوني إذ قرر رحمه الله تعالى أن لفظ السيادة لم يثبت في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا في الشهادة له بالرسالة صلى الله عليه وسلم وأنها داخل الصلاة لا تشرع لعدم التوقيف بالنص وأما خارجها فلا بأس] معجم المناهي اللفظية ص 304-305. ثم نقل عن الفضل المبين ما يلي: [سئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو بندبها هل يشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة بأن يقول مثلاً: صل على سيدنا محمد، أو على سيد الخلق أو سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة، لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم أو عدم الاتيان لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب رضي الله عنه: نعم اتباع الألفاظ المأثورة أرجح ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم كما لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر، لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك وهذا الإمام الشافعي - أعلى الله درجته - وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: اللهم صل على محمد إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده وهو قوله: كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه سبحان الله عدد خلقه وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين ورأها قد أكثرت التسبيح وأطالته: (لقد قلت بعدك كلمات لو وزنت بما قلت لوزنتهن. وذكر ذلك وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع في الدعاء) ] معجم المناهي اللفظية ص 305-306.
وقال الشيخ العلامة القاسمي: [رأيت أيام رحلتي إلى بيت المقدس من يقيم الصلاة وأحياناً يؤم بالقوم وكالة فيزيد لفظ " سيدنا " في قوله أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله. فقلت له بعد الصلاة: لم تزيد هذه اللفظة وهي سيدنا وليست مشروعة في الإقامة؟ فقال لي: هذه مسألة كان وقع فيها نزاع بين علماء القدس ويافا - يعني أحدثها مبتدع - فمن قائل ينبغي الاقتصار في ألفاظ الأذان والإقامة على الوارد دون زيادة ومن قائل تستحب زيادة سيدنا عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم اشتد النزاع وتراسلوا وكاد الأمر يفضي إلى تجاوز الحد والآن نحن نقولها اتباعاً لمن استحبها وقطعاً للقالة فيها. فقلت: يا أخي إن ألفاظ الأذانيين مأثورة متعبد بها رويت بالتواتر خلفاً عن سلف في كتب الحديث الصحاح والحسان والمسانيد والمعاجم ولم يرو أحد قط استحباب هذه الزيادة عن صحابي ولا تابعي بل ولا فقيه من فقهاء الأمة ولا أتباعهم وهذه كتبهم بين أيديكم وأنتم تقلدونهم ولا تخالفونهم فما هذا الابتداع وليس تعظيمه صلوات الله عليه بزيادة ألفاظ في عبارات مشروعة لم يسنها هو ولم يستحبها خلفاؤه الراشدون مما يرضاه صلوات الله عليه لأن لكل مقام مقالاً على أنه ثبت أنه نهى من خاطبه بقوله: يا سيدنا وابن سيدنا، روى النسائي بإسناد جيد عن أنس ? أن ناساً قالوا: (يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل) ] والحديث صححه الشيخ الألباني في تخريجه، إصلاح المساجد من البدع والعوائد ص 138-139.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز إضافة لفظة " سيدنا " في الصلاة الإبراهيمية في التشهد ولا في الأذان ولا في الإقامة، لأن هذه عبادات والأصل في العبادات الاتباع.(6/130)
131 - ما الذي يقطع الصلاة؟
يقول السائل: ما حكم من ضحك في الصلاة؟
الجواب: إن الصلاة من مقامات وقوف العبد بين يدي ربه عز وجل وهذا المقام يقتضي الخشوع والخضوع لله تعالى وقد قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) سورة المؤمنون الآيتان 1-2. قال ابن كثير: [ ... عن ابن عباس (خَاشِعُونَ) خائفون ساكنون وكذا روي عن الحسن ومجاهد وقتادة والزهري ... وقال الحسن البصري كان خضوعهم في قلوبهم فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح ... والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عمن عداها وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرت عيني في الصلاة) ] تفسير ابن كثير 3/238. وقال الألوسي: [وفي تقديم وصفهم في الخشوع بالصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة) ] تفسير الألوسي 9/208. وقال العلماء أكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح وقد ورد عن سعيد بن المسيب أنه لما رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة قال: [لو خشع قلبه لخشعت جوارحه] .
والمطلوب من المسلم إذا قام في صلاته أن يخشع بقلبه وجوارحه فقلبه يخضع وجوارحه تهدأ وتسكن ولا تتحرك وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ولا تكلم بكلام تعتذر منه وأجمع الإياس مما في أيدي الناس) رواه أحمد والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/190. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه] رواه الحاكم وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/320. وقد وردت عن السلف حكايات كثيرة في خشوعهم في صلاتهم حريّ بنا أن نقرأها ونستفيد منها وانظر بعضها في إحياء علوم الدين 1/149-151. إذا تقرر هذا وأن الخشوع مطلوب في الصلاة فلا شك أن الضحك في الصلاة مما ينافي الخشوع ويدل على اشتغال العبد عن ربه وانصرافه عنه. وقرر العلماء أن الضحك بصوت مبطل للصلاة، قال الإمام النووي: [وأما الضحك والبكاء والأنين والتأوه والنفخ فإن بان - أي ظهر - منه حرفان بطلت صلاته وإلا فلا) المجموع 4/79. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن ضحك فبان حرفان فسدت صلاته وكذلك إن قهقه ولم يكن حرفان وبهذا قال جابر بن عبد الله وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة والنخعي والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً. قال ابن المنذر أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة. وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها] المغني 2/39-40. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأظهر أن الصلاة تبطل بالقهقهة إذا كان فيها أصوات عالية فإنها تنافي الخشوع الواجب في الصلاة وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقض مقصود الصلاة فأبطلت لذلك لا لكونها كلاماً] الاختيارات العلمية ص 59. والضحك يكون مع الصوت بحيث يسمع نفسه ومن قرب منه والقهقهة تكون بصوت مرتفع وأما التبسم فيكون بدون صوت والضحك والقهقهة يبطلان الصلاة كما سبق وأما التبسم فلا يبطلها وإن كان مخلاً بالخشوع.
وخلاصة الأمر أن من ضحك في صلاته فصلاته باطلة ويجب عليه أن يعيدها ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويكثر من الاستغفار ولا يعود لمثل ذلك مستقبلاً.(6/131)
132 - صلاة الجماعة
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم يخطىء في قراءة سورة الفاتحة وينطق الحروف نطقاً غير صحيح فما حكم الصلاة خلفه؟
الجواب: ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) رواه مسلم. والأقرأ هو الأحسن تلاوة وقراءة أو الأكثر قراءة ومن العلماء من قال الأقرأ هو الأفقه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/301. وقد أخذ العلماء من الحديث السابق أنه يشترط في إمام الصلاة أن يكون صحيح اللسان بحيث ينطق الحروف على وجهها الصحيح وخاصة في قراءته للفاتحة. فإذا كان الإمام يخطئ في القراءة أو يلحن ففي حكم إمامته تفصيل عند أهل العلم فإذا كان اللحن في الفاتحة وكان لحناً جلياً وهو الذي يغير المعنى فلا يصح أن يكون إماماً ولا يصح الاقتداء به واللحن الذي يغير المعنى مثل أن يضم التاء في قوله تعالى: (أَنْعَمْتَ) أو يكسرها أو يبدل الميم نوناً في قوله تعالى: (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أو يفتح الهمزة في قوله تعالى: (اهْدِنَا) فإذا كان حال الإمام كذلك فكثير من الفقهاء يمنعون الاقتداء به ولا يصح أن يكون إماماً إذا كان في المصلين من لا يلحن كلحنه. وأما إذا كان اللحن لا يغير المعنى وهو اللحن الخفي فتصح الصلاة خلفه مع الكراهة ومثال اللحن الذي لا يغير المعنى أن يضم الهاء في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أو يفتح الدال في قوله تعالى: (نَعْبُدُ) أو يبدل الضاد ظاءً في قوله تعالى: (وَلَا الضَّالِّينَ) قال الحافظ ابن كثير: [والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ولأن كلاً من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ولهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك] تفسير ابن كثير 1/30.
قال الإمام النووي: [إذا لحن في القراءة كرهت إمامته مطلقاً فإن كان لحناً لا يغير المعنى كرفع الهاء من الحمد لله كانت كراهة تنزيه وصحت صلاته وصلاة من اقتدى به وإن كان لحناً يغير المعنى كضم التاء من أنعمت أو كسرها أو يبطله بأن يقول الصراط المستقين فإن كان لسانه يطاوعه وأمكنه التعلم فهو مرتكب للحرام ويلزمه المبادرة بالتعلم فإن قصر وضاق الوقت لزمه أن يصلي ويقضي ولا يصح الاقتداء به وإن لم يطاوعه لسانه أو لم يمض ما يمكن التعلم فيه فصلاة مثله خلفه صحيحة وصلاة صحيح اللسان خلفه كصلاة قارئ خلف أمي وإن كان في غير الفاتحة صحت صلاته وصلاة كل أحد خلفه لأن ترك السورة لا يبطل الصلاة فلا يمنع الاقتداء] المجموع 4/268-269. وأما اللحَّان في غير الفاتحة فتكره إمامته أيضاً ولكنها صحيحة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [تكره إمامة اللحان الذي لا يحيل المعنى، نص عليه أحمد وتصح صلاته بمن لا يلحن لأنه أتى بفرض القراءة فإن أحال المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة ولا الإئتمام به إلا أن يتعمده فتبطل صلاتهما] المغني 2/146. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [أما اللحن في الفاتحة الذي لايحيل المعنى فتصح صلاة صاحبه إماماً أو منفرداً] غاية المرام 6/261. وعلى الإمام الذي يلحن في صلاته أن يتعلم النطق الصحيح بالحروف وأن يتدرب على تقويم لسانه فإن استقام لسانه فبها ونعمت وإلا فلا يجوز أن يستمر في إمامة الناس بالصلاة ويجب تغييره.(6/132)
133 - حكم قول بلى ونحوها في الصلاة
يقول السائل: إن الإمام في صلاة المغرب قرأ سورة التين ولما قرأ قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) قال بعض المصلين [بلى] وبعد انتهاء الصلاة قام رجل وقال: من قال بلى بعد قراءة الإمام فصلاته باطلة. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن كثيراً من الناس يفتون بغير علم ويتجرؤون على دين الله سبحانه وتعالى وهذا يدل على قلة العلم وقلة التقوى والورع والعياذ بالله. وقد كان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام ومنكراً عظيماً يجب أن يمنع. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) . وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أُفتِيَ بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه) وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في المشكاة 1/81. وذلك لأن المستفتي معذور إذا كان من أفتاه لبس لبوس أهل العلم وحشر نفسه في زمرتهم وغر الناس بمظهره وسمته. ومن ثم قرر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره على ذلك فهو عاص أيضاً. وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق. وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم. وإذا كان يتعين منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على هؤلاء ولما قال له بعضهم يوماً: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ قال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب. الفتوى بين الانضباط والتسيب ص22-24 بتصرف. إذا تقرر هذا فأعود إلى موضوع السؤال فأقول أولاً: إن الادعاء بإبطال صلاة المصلين لقولهم بلى في الصلاة المذكورة إدعاء بلا دليل ولا يجوز لأحد أن يقدم على إبطال صلاة أحد بدون دليل شرعي معتبر. ثانياً: إن قول بعض المصلين بلى عند قراءة الإمام لقوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) له دليل ومستند وإن كان فيه كلام لأهل العلم فمن العلماء من يرى أالمصلي يقول ذلك في الصلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً ويقوله المستمع خارج الصلاة وبه قال جمهور العلماء كما في المجموع للنووي 4/67. ومن العلماء من قال يقوله خارج الصلاة لا داخلها ولو قال ذلك داخل الصلاة لا تبطل صلاته. انظر المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود 5/336. ومما يدل على أن المصلي يقول ذلك في صلاته ما رواه أبو داود بإسناده عن موسى بن أبي عائشة قال: (كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) قال: سبحانك فبلى. فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 1/168. وقال الشيخ الألباني في تمام المنة: [أخرجه أبو داوود بسند صحيح عن الرجل وهو صحابي وجهالته لا تضر كما هو معروف عند العلماء] تمام المنة ص 186. وورد في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ منكم بـ: (و َالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) فانتهى إلى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فانتهى إلى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فليقل: بلى. ومن قرأ المرسلات فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقل آمنا بالله) رواه أبو داود وروى الترمذي بعضه إلى قوله: (وأنا من الشاهدين) والحديث ضعيف عند أكثر المحدثين. انظر المجموع للنووي 4/67 وتمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 186 وشرح السنة 3/105. وقواه الحافظ ابن حجر بتعدد الطرق والشواهد كما فصله ابن علان في شرح الأذكار 2/236-238 فيما نقله عن الحافظ ابن حجر في كلام طويل أذكر بعضه: [قال الحافظ هذا حديث حسن يتقوى بكثرة طرقه] ثم ذكر من أخرجه. ثم قال الحافظ: [وإطلاق الضعف على هذا الحديث متعقب فإنه قد جاء عن غير أبي هريرة فجاء من حديث البراء بن عازب أخرجه عنه ابن مردويه ... ومن حديث جابر أخرجه ابن المنذر في تفسيره ... ومن حديث ابن عباس ... ومن حديث صحابي لم يسم أخرجه أبو داود عنه ... وورد مرسلاً عن قتادة ... أخرجه الطبري وسنده صحيح أو حسن لشواهده ومع تعدد هذه الطرق يتضح أن إطلاق كون هذا الحديث ضعيفاً ليس بمتجه] انتهى كلام الحافظ ملخصاً من شرح ابن علان على الأذكار. وأشار الحافظ إلى أن هذا الحديث من فضائل الأعمال فيعمل به وإن كان فيه اختلاف. انظر مرقاة المفاتيح 2 /586.
وقال الإمام النووي: [ويستحب له أن يقول ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ والتين والزيتون فقال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) رواه أبو داود والترمذي بإسناد ضعيف عن رجل عن أعرابي عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا الحديث إنما يروي بهذا الإسناد عن الأعرابي عن أبي هريرة قال ولا يسمى. وروى ابن أبي داود والترمذي: (ومن قرأ آخر (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فليقل: بلى. ومن قرأ: (فَبِأَيِّءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) أو (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقل آمنت بالله) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما وابن الزبير وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا قرأ أحدهم (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: سبحان ربي الأعلى. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول فيها سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى فقرأ آخر سورة بني إسرائيل ثم قال: الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً. وقد نص بعض أصحابنا على أنه يستحب أن يقال في الصلاة ما قدمناه، وفي حديث أبي هريرة في السور الثلاث وكذلك يستحب أن يقال باقي ما ذكرناه وما كان في معناه والله أعلم] . التبيان في آداب حملة القرآن ص 65-66. وقال الإمام النووي أيضاً: [قال الشافعي وأصحابنا يسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة أو بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب أو بآية تسبيح أن يسبح أو بآية مثل أن يتدبر قال أصحابنا ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد وإذا قرأ (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) قال بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وإذا قرأ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) قال آمنا بالله. وكل هذا يستحب لكل قارئ في صلاته أو غيرها وسواء صلاة الفرض والنفل والمأموم والإمام والمنفرد لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين ... ثم ذكر أدلة ذلك ثم قال: هذا تفصيل مذهبنا وقال أبو حنيفة رحمه الله يكره السؤال عند آية الرحمة والاستعاذة في الصلاة. وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف فمن بعدهم] المجموع 4/66-67.
والذي يظهر لي من كلام أهل العلم أنه يجوز للمصلي أن يقول بلى في المواقع التي سبقت سواء أكان إماماً أو مأموماً أو منفرداً وسواء صلى فريضة أم نافلة. ولا يصح القول ببطلان صلاة المصلي إن قال ذلك حتى عند من يمنع من قول ذلك في الصلاة المفروضة وهو قول الحنفية حيث قالوا: [ولو عمل به أحد في الصلاة لا تفسد] إعلاء السنن 4/168.(6/133)
134 - الدعاء والقنوت
يقول السائل: نلاحظ كثيراً من المصلين أنهم عندما يسلم الإمام من صلاة الجماعة يقومون سراعاً فيخرجون من المسجد دون أن يأتوا بالأذكار المشروعة بعد الصلوات المكتوبات ودون أن يدعو ربهم فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ما ورد في السؤال هو حال كثير من المصلين مع الأسف الشديد حيث أنهم بمجرد تسليم الإمام يستبقون أبواب المسجد للخروج سراعاً وما علموا أنهم تركوا فضلاً عظيماً وأعرضوا عن ساعة مباركة يستجاب فيها الدعاء ويسن فيها الذكر والاستغفار. وإني لأستغرب من بعض المصلين الذين اعتادوا هذا الأمر فهم يداومون على الخروج من المسجد بمجرد انتهاء الإمام من الصلاة وإن بعض هؤلاء لا يعرف شيئاً عن ذكر الله والدعاء أو الاستغفار. وأذكر هنا الأمور التي ينبغي أن يفعلها المصلي بعد انتهاء الصلاة أخذاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فأولها المداومة على الأذكار الواردة عقب الصلوات المكتوبات قال الإمام النووي: [أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة] الأذكار ص 57. ومن هذه الأذكار النبوية: عن ثوبان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قيل للأوزاعي وهو أحد رواة الحديث: كيف الاستغفار؟ قال: تقول أستغفر الله أستغفر الله. رواه مسلم وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا فرغ من الصلاة وسلَّم قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يقول دبر كل صلاة حين يسلم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) قال ابن الزبير: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة. رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون. فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) رواه البخاري ومسلم.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاثاً وثلاثين تسبيحة وثلاثاً وثلاثين تحميدة وأربعاً وثلاثين تكبيرة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ دبر الصلاة بهؤلاء الكلمات: (اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أردَّ إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة هما يسير ومن يعمل بهما قليل يسبح الله تعالى دبر كل صلاة عشراً ويحمد عشراً ويكبر عشراً فذلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويسبح ثلاثاً وثلاثين فذلك مائة باللسان وألف بالميزان. قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، قالوا: يا رسول الله كيف هما يسير ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم يعني الشيطان في منامه فينومه قبل أن يقوله ويأتيه في صلاته فيذكره حاجة قبل أن يقولها) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الإمام النووي: إسناده صحيح، الأذكار ص 59. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في دبر صلاة الصبح وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله تعالى) . رواه الترمذي وقال حديث حسن. هذا ما يتعلق بالأذكار بعد انتهاء الصلاة وأما الدعاء فحقيقتة مناداة الله تعالى لما يريد من جلب منفعة أو دفع مضرة من المضار والبلاء، بالدعاء فهو سبب لذلك واستجلاب لرحمة المولى ويعني هذا أن الدعاء شعور بالحاجة إلى الله تعالى وطلبها منه جل جلاله بتذلل ورغب ورهب لا غنى لأي فرد عنه في أي حال من أحواله شدة ورخاء صحة وعافية ومرضاً ولذا جاءت النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبينة فضله وحاثة عليه ومن ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) سورة غافر الآية 60. وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) سورة الأعراف الآيتان 55-56. وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) سورة البقرة الآية 186. وقال جل جلاله في وصف عباده المؤمنين: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة الآيتان 16-17.
وجاء في الحديث عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وقال الألباني حسن. انظر صحيح سنن الترمذي 3/138. وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ووافقه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/181. وعن أبي هريرة أن النبي قال: (إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء) رواه ابن حبان وأبو يعلى وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع 1519. وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي والحاكم وهو حديث حسن كما قال الألباني في صحيح الجامع 6290. ومن المعلوم عند أهل العلم أن الدعاء له أوقات مباركه يستجاب فيها ومن أعظمها دبر الصلوات المكتوبات أي عقبها، قال الإمام الشوكاني: [قد ورد الإرشاد إلى الأذكار في دبر الصلوات وهي مشتملة على ترغيب عظيم وفيها أن الذاكر يقوم مغفوراً له وفيها إنها تحل له الشفاعة وفيها أنه يكون في ذمة الله عز وجل إلى الصلاة الأخرى وفيها أنها لو كانت خطاياه مثل زبد البحر لمحتهن وغير ذلك من الترغيبات وكل ذلك يدل على شرف هذا الوقت وقبول الدعاء فيه] تحفة الذاكرين ص 66. ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: [قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات] رواه الترمذي وقال حديث حسن ووافقه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/168. وورد عن الضحاك في تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) سورة الانشراح الآية 7. قال فرغت من الصلاة فانصب بعد التسليم في الدعاء وارغب في المسألة، وهو أثر حسن انظر الترغيب في الدعاء ص264-266. وهذه طائفة من الأدعية النبوية الواردة في دبر الصلوات المكتوبات: عن معاذ بن جبل قال: (لقيني النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقال: يا معاذ إني أحبك. قلت يا رسول الله: وأنا أحبك. قال: أفلا أوصيك بكلمات تقولوهن في دبر كل صلاة: يا رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أحمد وابن حبان وصححه ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني. وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله إذا صلى الصبح قال اللهم إني أسألك علماً نافعاً وعملاً متقبلاً ورزقاً طيباً. رواه أحمد والنسائي وقال الهيثمي رجاله ثقات. مجمع الزوائد 10/111 وحسنه الحافظ لشواهده.
وعن مسلم بن أبي بكرة قال: [كان أبي يقول في دبر الصلاة اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر فكنت أقولهن فقال أبي عمن أخذت هذا قلت عنك، قال إن رسول الله كان يقولهن] رواه النسائي وقال الألباني صحيح الإسناد. صحيح سنن النسائي 1/290. وعن أبي أمامة قال: (ما دنوت من رسول الله في دبر صلاة مكتوبة ولا تطوع إلا سمعته يقول: اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها اللهم أنعشني واجبرني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت) رواه الطبراني وابن السني وجوّد إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/111. وقال الشيخ الألباني حسن، انظر صحيح الجامع 1266. وعن الحارث بن مسلم التميمي رضي الله عنه قال: (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جواراً من النار وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوراً من النار) رواه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وقال محققه حسن ونقل ابن علان عن الحافظ ابن حجر تحسينه ورواه ابن حبان في صحيحه. وغير ذلك من الأدعية. وفي الختام أنبه على قضيتين الأولى: أن هذه الأدعية تؤدى بشكل فردي أي أن كل مصل يدعو لنفسه دون أن يشوش على غيره من المصلين ولا يجوز أن تؤدى هذه الأدعية بشكل جماعي كما يفعل بعض المصلين حيث إن الإمام يدعو ويؤمن المأمومون على دعائه فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العلامة ابن القيم: [وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلاً ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن] زاد المعاد 1/257. الثانية: قال العلامة ابن القيم: [وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها وهذا هو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فإذا سلَّم منها انقطعت تلك المناجاة وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ثم يسأله إذا انصرف عنه؟ ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي] زاد المعاد 1/257-258. وقول العلامة ابن القيم غير مسلم على إطلاقه فقد ثبت في أدعية كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها بعد السلام من الصلاة كما سبق ومما يؤيد ذلك ما قاله الإمام البخاري في صحيحه: [باب الدعاء بعد الصلاة ثم ذكر حديث المغيرة السابق وفيه: [كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة إذا سلّم الحديث. صحيح البخاري مع الفتح 13/284.
وقال الحافظ ابن حجر: [قوله باب الدعاء بعد الصلاة، أي المكتوبة وفي هذه الترجمة ردّ على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع متمسكاً بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلًّم لا يثبت إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. والجواب أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالساً على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه] ثم نقل كلام ابن القيم السابق ثم قال الحافظ: [وما ادعاه من النفي مطلقاً مردود فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. وحديث أبي بكرة في قول: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر) كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن دبر كل صلاة أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم ... وحديث زيد بن أرقم (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر كل صلاة اللهم ربنا ورب كل شيء) .. الحديث، أخرجه أبو داود والنسائي. وحديث صهيب رفعه (كان يقول إذا انصرف من الصلاة اللهم أصلح لي ديني) الحديث أخرجه النسائي وصححه ابن حبان وغير ذلك. فإن قيل المراد بدبر كل صلاة قرب آخرها وهو التشهد قلنا قد ورد الأمر بالذكر دبر كل صلاة والمراد به بعد السلام إجماعاً، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه. وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة: (قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات) وقال حسن: وأخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة. وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقاً وليس كذلك.
فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة وإيراده بعد السلام وأما إذا انتقل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ] فتح الباري 13/382.(6/134)
135 - قضاء صلاة
حديث مكذوب في قضاء الصلاة الفائتة , تقول السائلة: إنها قرأت في كتاب بعنوان سور من القرن الكريم حديثاً عن الصلاة لما فات من الأوقات، وهذا نصه:
[عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من فاته في عمره صلاة ولم يقضها فليقم آخر جمعة من شهر رمضان يصلي أربع ركعات يتشهد وأخذ يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة القدر وسورة الكوثر خمسة عشر مرة ويقول في النية: نويت أن أصلي أربع ركعات كفارة لما فاتني من الصلاة. قال أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: هي كفارة أربعمئة سنة فقال علي هي كفارة ألف، قالوا يا رسول الله: ابن آدم يعيش مائة سنة فلمن تكون الصلاة الزائدة؟ قال: تكون لأبويه وزوجته وأولاده وأقاربه، فإذا فرغ من الصلاة صلى على النبي مائة مرة ثم يدعو بهذا الدعاء: اللهم يا من لا تنفعك طاعتي ولا تضرك معصيتي تقبل ما لا ينفعك واغفر لي ما لا يضرك يا من إذا وعد وفى وإذا توعد تجاوز وعفا اغفر لعبد ظلم نفسه وأساء اللهم إني أعوذ بك من بطر الغنى وجهد الفقر إلهي خلقتني ولم أكن شيئاً ورزقتني ولم أكن شيئاً وارتكبت المعاصي فإني مقر لك بذنوبي فإن عفوت عني فلا ينقص من ملكك شيء وإن عذبتني فلا يزيد في سلطانك شيء إلهي أنت تجد من تعذبه غيري وأنا لا أجد من يرحمني غيرك اغفر لي ما بيني واغفر ما بيني وبين خلقك يا ارحم الراحمين ويا رجاء السائلين ويا أمان الخائفين ارحمني برحمتك الواسعة اللهم اغفر لي ولوالدي وللمسلمين] فما قولكم في هذا الكلام؟
الجواب: لا شك أن هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلامات الوضع ظاهرة عليه وهذا الحديث تكذبه القواعد الشرعية، قال الشيخ العلامة عبد الحي اللكنوي: [حديث من قضى صلوات من الفرائض في آخر جمعة من رمضان كان ذلك جابرا لكل صلاة فائتة من عمره إلى سبعين سنة. قال علي القاري في موضوعاته الصغرى والكبرى باطل قطعياً لأنه مناقض للإجماع على أن شيئاً من العبادات لا يقوم مقام فائتة سنوات ثم لا عبرة بنقل صاحب النهاية ولا بقية شراح الهداية لأنهم ليسوا من المحدثين ولا أسندوا الحديث إلى أحد المخرجين، انتهى] الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص 85. وقال الشيخ الشوكاني: [حديث من صلى في آخر جمعة من رمضان الخمس الصلوات المفروضة في اليوم الليلة قضت عنه ما أخل به من صلاة سنته. هذا: موضوع لا إشكال فيه ولم أجده في شيء من الكتب التي جمع مصنفوها فيها الأحادي الموضوعة ولكنه اشتهر عند جماعة من المتفقهة بمدينة صنعاء في عصرنا هذا. وصار كثير منهم يفعلون ذلك ولا أدرى من وضعه لهم. فقبح الله الكذابين] الفوائد المجموعة ص 54.
وخلاصة الأمر أن هذا من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم(6/135)
136 - المساجد
يقول السائل: ما حكم الصلاة في مسجد مبني على قبر والقبر في قبلة المسجد وما الجواب عمن يجيز الصلاة في المساجد التي فيها قبور بحجة أن المسجد النبوي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصا حبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟
الجواب: إن الإسلام قد سد الطرق التي تؤدي إلى خدش التوحيد ومن ذلك النهي عن اتخاذ القبور مساجد لأنه قد يوقع في الشرك وذلك بعبادة أصحاب القبور بالاستعانة بهم ودعائهم وتقديم النذور لهم وغير ذلك من مظاهر الشرك. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد] رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: (لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فذكرن من حسنها وتصاويرها، قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين] انظر تحذير الساجد ص 17. وعن جندب بن جنادة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ... ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث. وبناء على ما تقدم فإنه يحرم بناء مسجد على قبر بمعنى أن يكون القبر سابقاً ثم بني عليه لاحقاً مسجد وهذا با تفاق أهل العلم فيما أعلم وهو ما تدل عليه النصوص الشرعية فالقبور ليست محلاً للصلاة فلا يجوز لأحد أن يصلي على قبر أو إليه ولا يستثنى من ذلك إلا صلاة الجنازة كما هو مبين في محله من كتب العلماء. وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) رواه مسلم.
قال القرطبي المحدث: [أي لا تتخذوها قبلة ... وكل ذلك لقطع الذريعة أن يعتقد الجهال في الصلاة إليها أو عليها الصلاة لها فيؤدي ذلك إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 2/628. وأما إذا كان المسجد هو السابق ووضع القبر فيه لاحقاً فإن الصلاة تكره في هذا المسجد وينبغي نبش القبر وإخراجه من المسجد. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يمهد القبر أو يعمل عليه حاجز أو حائط؟ فأجاب: الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غير إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديداً. وإن كان المسجد بني بعد القبر فإما أن يزال المسجد وإما أن تزال صورة القبر فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل فإنه منهي عنه] مجموع الفتاوى 22/194-195. وأما الاحتجاج بوجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لأنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما مات صلى الله عليه وسلم دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده وكان يفصل بينهما جدار فيه باب كان صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء ولا خلاف في ذلك بينهم والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه صلى الله عليه وسلم في الحجرة إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً] تحذير الساجد ص 84. والوليد بن عبد الملك هو الذي أمر سنة ثمان وثمانين هجرية بإضافة حجرات أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسجد النبوي وكان ذلك بعد موت عامة الصحابة رضي الله عنهم. انظر تحذير الساجد ص 84. وعلى كل حال فالمسجد النبوي مستثنى من الحكم السابق لما للمسجد النبوي من فضائل معروفة وثابتة عند أهل العلم. انظر تحذير الساجد ص 195 فما بعدها.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أنه لا يجوز دفن أحد من الأموات في المساجد وإنما السنة المعروفة هي الدفن في المقابر والمساجد ليست مقابر وإنما هي لعبادة الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون المساجد خالية من المقابر لما يترتب على وجود القبر في المسجد من مفاسد عظيمة تخل بالعقيدة. وقد سئل العلامة محمد بن صالح العثيمين عن رجل بنى مسجداً وأوصى أن يدفن فيه فدفن فما العمل الآن؟ فأجاب: [هذه الوصية أعني الوصية أن يدفن في المسجد غير صحيحة لأن المساجد ليست مقابر ولا يجوز الدفن في المسجد وتنفيذ هذه الوصية محرم والواجب الآن نبش هذا القبر وإخراجه إلى مقابر المسلمين] فتاوى العقيدة ص 461. وخلاصة الأمر أن الصلاة تصح مع الكراهة في المسجد الذي به قبر إلا إذا كان القبر في قبلة المسجد مباشرة فلا تصح.(6/136)
137 - المساجد
يقول السائل: عندنا أرض موقوفة بني عليها مسجد وقام أهل الحي ببناء طابق ثان فوق المسجد ويريدون أن يجعلوه مدرسة فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز بناء مدرسة فوق المسجد حيث إن الأرض موقوفة على بناء المسجد فقط، ولا يجوز لأهل الحي أو غيرهم التغيير في الوقف لأن شرط الواقف كنص الشارع. وكذلك فإن الأصل أن يكون بناء المسجد مستقلاً ومتميزاً ومنفصلاً عن أي بناء آخر سواء أكان مدرسة أو عيادة طبية أو غير ذلك، والمدرسة وأمثالها من الأبنية العامة يختار لها مكان مناسب غير سطح المسجد.(6/137)
138 - صلاة الجمعة
يقول السائل: إذا قرأ خطيب الجمعة وهو على المنبر آية فيها سجدة فماذا يعمل بالنسبة لسجود التلاوة؟
الجواب: إذا قرأ خطيب الجمعة وهو على المنبر آية فيها سجدة فإن أمكنه السجود على المنبر فبها ونعمت، وإن لم يمكنه السجود على المنبر فإن شاء نزل وسجد وإن شاء ترك السجود ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا قول جماعة من أهل العلم وقد فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة فهو بمثابة الإجماع. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن قرأ السجدة في أثناء الخطبة فإن شاء نزل فسجد وإن أمكنه السجود على المنبر سجد عليه وإن ترك السجود فلا حرج، فعله عمر وترك وبهذا قال الشافعي وترك عثمان وأبو موسى وعمار والنعمان بن بشير وعقبة بن عامر ... ] المغني 2/230. وفعل عمر الذي أشار إليه ابن قدامة رواه البخاري في صحيحه بإسناده أن عمر بن الخطاب: (قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله عنه. صحيح البخاري مع فتح الباري 3/213. وفعل عمر رضي الله عنه وقوله في هذا الموطن والمجمع العظيم من الصحابة دليل على جواز السجود وتركه وأن لا حرج في ذلك. وقال الحافظ ابن حجر: [وفي الحديث من الفوائد أن للخطيب أن يقرأ القرآن في الخطبة وأنه إذا مر بآية سجدة ينزل إلى الأرض ليسجد بها إذا لم يتمكن من السجود فوق المنبر وأن ذلك لا يقطع الخطبة ووجه ذلك فعل عمر مع حضور الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم] فتح الباري 3/213. ومما يدل على أنه يجوز للخطيب أن ينزل عن المنبر ليسجد سجود التلاوة ما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر " ص" فلما بلغ السجدة نزل سجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود فنزل فسجد وسجدوا) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/265.
والتشزن معناه التأهب والتهيؤ للشيء والاستعداد له، أي استعدوا للسجود. وأخيراً فإن بعض العلماء يرون أن الأولى في الخطيب أن لا يقرأ آية فيها سجدة أثناء الخطبة. قال الماوردي: [والأولى بالإمام أن لا يقرأ في خطبته آية سجدة) الحاوي الكبير 2/444.(6/138)
139 - صلاة الجمعة
يقول السائل: إن خطيب الجمعة في مسجد بلدتهم أطال الخطبة فاعترض عليه عدد من المصلين أثناء الخطبة وطلبوا منه أن ينهي خطبته وحصل كلام ولغط في المسجد أثناء الخطبة، فما حكم ذلك؟
الجواب: إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم تقصير خطبة الجمعة وغيرها من الخطب إلا نادراً فقد ثبت في الحديث عن أبي وائل قال: (خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة وإن من البيان سحراً) رواه مسلم. وقوله لو تنفست أي لو أطلت قليلاً، وقوله مئنة من فقهه أي علامة على فقهه قاله الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 6/158. وورد في رواية أخرى عن أبي راشد قال: (خطبنا عمار فتجوز في الخطبة فقال رجل: قد قلت قولاً شفاءً لو أنك أطلت، فقال عمار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نطيل الخطبة) رواه ابن أبي شيبة. وجاء في الحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقصار الخطب) رواه أبو داود والبيهقي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/205-206. وجاء في الحديث عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هن كلمات يسيرات) رواه أبو داود وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/206. وورد في رواية أخرى عن جابر بن سمرة قال: (كانت صلاة رسول صلى الله عليه وسلم قصداً وخطبته قصداً يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس) رواه مسلم. وقوله: (قصداً وخطبته قصداً) القصد في الشيء هو الاقتصاد فيه وترك التطويل وإنما كانت صلاته صلى الله عليه وسلم وخطبته كذلك لئلا يمل الناس والحديث فيه مشروعية إقصار الخطبة ولا خلاف في ذلك بين العلماء، عون المعبود شرح سنن أبي داود 3/316-317.
وهذه الأحاديث تدل على أن السنة تقصير خطبة الجمعة وتطويل الصلاة فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أكثر خطباء الجمعة اليوم لا يقتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بل إنهم يعكسون الأمر فيطيلون الخطبة ويقصرون الصلاة. إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال حيث إن الخطيب قد أطال الخطبة فاعترض عليه عدد من المصلين فأقول لا ينبغي لأحد أن يعترض على خطيب المعة ولا يجوز لأحد أن يتكلم أثناء الخطبة فإذا أطال الخطيب فعلى المصلين أن يصبروا ويحتسبوا وقال جمهور أهل العلم يمنع جميع أنواع الكلام أثناء الخطبة ويدل على ذلك عموم قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الأعراف الآية 204. ومن المعلوم أن الخطبة تشتمل على آيات من القرآن الكريم فتدخل في وجوب الإنصات والاستماع إليها وقد ذكر جماعة من التابعين كمجاهد وعطاء وسعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت في الخطبة وضعف ذلك الإمام القرطبي في تفسيره 7/353. وأقوى من ذلك في الاستدلال على منع الكلام أثناء الخطبة ما جاء في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر: [واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة وبه قال الجمهور في حق من سمعها وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة] فتح الباري 3/66. ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي ذر أنه قال: (دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلست قريباً من أبي بن كعب فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة براءة فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قلت لأبي: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني، قال أبي: مالك من صلاتك إلا ما لغوت. فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا نبي الله: كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فسألته متى نزلت هذه السورة؟ فتجهمني ولم يكلمني ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق أبي) رواه ابن خزيمة وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 303.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (دخل عبد الله من مسعود المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بن كعب فسأله عن شيء أو كلمه بشيء فلم يرد عليه أبي وظن ابن مسعود أنها موجدة - أي غضب - فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قال ابن مسعود: يا أبي ما منعك أن ترد علي؟ قال: إنك لم تحضر معنا الجمعة. قال: لمَ؟ قال: تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. فقام ابن مسعود فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق أبي، صدق أبي، أطع أبياً) رواه أبو يعلى بإسناد جيد وابن حبان وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 304. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) رواه ابو داود وابن خزيمة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 305. وعن عبد الله بن عمرو أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله يقول: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في المصدر السابق. وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم من يتكلم أثناء خطبة الجمعة بالحمار يحمل أسفاراً فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) قال الحافظ ابن حجر: رواه أحمد بإسناد لا بأس به. وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) بلوغ المرام ص 91. وذكر ابن حزم بإسناده عن بكر بن عبد الله المزني: (أن علقمة بن عبد الله المزني كان بمكة فجاء كريه - أي الذي أجره الدابة - والإمام يخطب يوم الجمعة فقال له: حبست القوم قد ارتحلوا فقال له: لا تعجل حتى تنصرف فلما قضى صلاته قال له ابن عمر: أما صاحبك فحمار وأما أنت فلا جمعة لك) . المحلى 3/269-270.
وأخيراً أبين أن جماعة من أهل العلم يرون أن من تكلم عامداً أثناء الخطبة فلا جمعة له وتحسب له ظهراً لما جاء في الحديث: (ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) وقد سبق. ومن العلماء من قال إن الجمعة تجزئ ولكن أجرها قد بطل ولم ينل الفضيلة.(6/139)
140 - صلاة الجمعة
يقول السائل: إنه قد صلى الجمعة في أحد المساجد وبعد انتهاء الصلاة قام ليبين للمصلين حكماً شرعياً يتعلق بصلاة السنة القبلية للجمعة وأنها غير ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأمره إمام المسجد بالسكوت لأنه يثير فتنة بين المصلين كما زعم وحصل بعد ذلك صياح في المسجد من المصلين فكانوا بين مؤيد له بالكلام ومعارض، ويسأل عن حكم ذلك؟
الجواب: مما يؤسف له أن بيان الحكم الشرعي الصحيح المستند على الأدلة القوية الثابتة صار في عرف بعض أئمة المساجد يثير فتنة بين المصلين ويحدث النزاع والشقاق بينهم. إن بعض أئمة المساجد يعتبر نفسه قيماً على أفكار الناس وحارساً على عقولهم فلا يريد أن يسمعوا إلا ما يوافق رأيه وهواه إن ما فعله الإمام المذكور خطأ واضح وليس له الحق في الحجر على أفكار الناس ما دام أن هذا الشخص يريد أن يبين حكماً شرعياً بأدلته وقد أطلعني على الورقة التي كان يريد أن يقرأها وفيها بيان حكم سنة الجمعة القبلية وأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية ولم يثبتها المحققون من أهل الحديث وهذا هو القول الصحيح في المسألة. والقول بإثبات سنة الجمعة القبلية ضعيف ولم يأت القائلون به بشيء يركن إليه ولا يعول عليه وكثرة الفاعلين لها لا يدل على مشروعيتها بل هؤلاء مجرد مقلدة لبعض المتأخرين من أتباع المذاهب. وقد نص العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن يمنع الناس من الأخذ برأي فقهي وإن كان المانع إماماً للمسلمين - خليفة - أو قاضياً أو والياً ومن باب أولى إمام المسجد لا يجوز له أن يمنع الناس من رأي معين بحجة أن ذلك قد يثير الفتنة كما زعم. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز " شركة الأبدان " فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو معنى ذلك لا سيما وأكثر العلماء على جواز ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار. وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على " موطئه " في مثل هذه المسائل منعه من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله لى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه " كتاب الاختلاف " ولكن سمه " كتاب السنة ". ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة: مثل تنازع الناس في بيع الباقلاء الأخضر في قشريه، وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره والتوضؤ من مس الذكر والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين والقهقهة وترك الوضوء من ذلك، والقراءة بالبسملة سراً أو جهراً، وترك ذلك. وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم. ومن هذا الباب الشركة بالعروض وشركة الوجوه والمساقاة على جميع أنواع الشجر والمزارعة على الأرض البيضاء، فإن هذه المسائل من جنس شركة الأبدان بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها.
ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول: إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع، ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره.) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 79 - 81.(6/140)
141 - صلاة التراويح
يقول السائل: نشرت إحدى المجلات الإسلامية مقالاً حول عدد ركعات صلاة التراويح وخلص الكاتب إلى أن عدد الإحدى عشر ركعة هو الأولى والأحرى أن يستمسك به ويعض عليه بالنواجذ بل هو الذي يجب أن يصار إليه ولا يلتف إلى سواه لأنه وحده هو السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أجمعين والتي لم يثبت عنهم سواها. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: صلاة التراويح من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلف أهل العلم في عدد ركعاتها فمنهم من يرى أنها إحدى عشرة ركعة مع الوتر. ويرى جمهور الفقهاء أنها عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا قول مشهور من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا الحاضر وكثير من مساجد المسلمين تصلى فيها التراويح كذلك ومنهم من زاد على العشرين فقيل تسع وثلاثين وقيل إحدى وأربعين وقيل غير ذلك. ومن أهل العلم من يرى أنه لا حد لعدد ركعات صلاة التراويح فيجوز أن يزيد على إحدى عشرة ركعة ولا حرج في ذلك. وأقول من يزعم أنه لا تجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة فقد حجر واسعاً وضيق على المسلمين بدون دليل يركن إليه أو يعول عليه، فصلاة التراويح من السنن والسنن يتساهل فيها ما لا يتساهل في الفرائض، وزعم صاحب المقال المشار إليه بأنه يجب الأخذ بالإحدى عشرة ركعة ولا يلتف إلى سواه زعم غير صحيح وإيجاب لما لم يوجبه الشارع الحكيم فصلاة التراويح ذاتها ليست واجبة فضلاً أن يوجب هذا العدد من الركعات. ولم يأت دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب هذا العدد وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمجرده لا يدل على الإيجاب حتى تدل القرائن على ذلك والحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم، لا يدل على إيجاب ذلك العدد كما قاله المحققون من أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على ثلاث عشرة ركعة ولكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن. والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر والأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/272.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: [… ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان ويوتر بثلاث فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم. وقال طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة) واضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين. والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عدداً، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام بالليل حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة (أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات) . وأبي بن كعب لما قام بهم - وهم جماعة واحدة - لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ثم بعد ذلك كأن الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعاً وثلاثين] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/112-113. وقال الإمام الشوكاني: [والحاصل أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشبهها هو مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى فقصر الصلاة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة] نيل الأوطار 3/61. وقال الشيخ المرداوي: [قوله وهي عشرون ركعة هكذا قال الأصحاب وقال في الرعاية عشرون وقيل أو أزيد. قال: في الفروع والفائق ولا بأس بالزيادة، نص عليه، وقال: روي في هذا ألوان ولم يقض فيها بشيء، وقال الشيخ تقي الدين: كل ذلك أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة حسن كما نص عليه أحمد لعدم التوقيت فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره] الإنصاف 2/180.
وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله عن سؤال حول عدد ركعات صلاة التراويح بما يلي: [صلاة التراويح سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دلت الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ... وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة فوجب أن يحمل كلام عائشة رضي الله عنها في قولها (ما كان يزيد صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) على الأغلب جمعاً بين الأحاديث ولا حرج في الزيادة على ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد في صلاة الليل شيئاً بل لما سئل عن صلاة الليل قال: (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق عليه، ولم يحدد إحدى عشرة ركعة ولا غيرها فدل على التوسعة في صلاة الليل في رمضان وغيره] فتاوى اللجنة الدائمة 7/194-196. وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [وليس في قيام رمضان حد محدود لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت لأمته في ذلك شيئاً وإنما حثهم على قيام رمضان ولم يحدد ذلك بركعات محدودة ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن قيام الليل قال: (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) ... فدل ذلك على التوسعة في هذا الأمر فمن أحب أن يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث فلا بأس ومن أحب أن يصلي عشر ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس ومن أحب أن يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس ومن زاد عن ذلك أو نقص عنه فلا حرج عليه والأفضل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالباً وهو أن يقوم بثماني ركعات يسلم من كل ركعتين ويوتر بثلاث مع الخشوع والطمأنينة وترتيل القراءة] فضل الصوم وقيامه ص 7.
وبعد هذه النقول عن هؤلاء العلماء يظهر لنا أن الإنصاف يقضي بأن القول بأن الواجب إحدى عشرة ركعة في التراويح قولٌ غير مسلّم وأن الراجح من أقوال أهل العلم جواز الزيادة على ذلك العدد وأن الأمر فيه سعة ولا دليل على قصر التراويح على إحدى عشرة ركعة فقط.(6/141)
142 - صلاة التراويح
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم اعتاد في صلاة التراويح في كل رمضان أن يصلي قاعداً في الركعة الثانية من كل ترويحة والناس خلفه قعود وتعليل إمام المسجد لفعله هذا أنه يريد أن يسهل على المصلين صلاتهم، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الأصل هو القيام في صلاة الفريضة والنافلة فالإمام يصلي قائماً والمأمومون يصلون قياماً كما في الصلوات الخمس والجمعة وكما في صلوات الكسوف والاستسقاء والعيدين وكذلك الحال في صلاة التراويح عند صلاتها جماعة فالأصل أن يقوم الإمام وكذا المأمومون وإن لم يكن القيام فرضاً في صلاة النافلة حيث اتفق الفقهاء على جواز التنفل قاعداً بعذر ولغير عذر. ولكن المحفوظ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم القيام في صلوات النافلة التي تصلى جماعة كالتراويح فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح بالصحابة ولم ينقل قعوده ولا قعود المأمومين خلفه. وما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد وهو يؤم الصحابة إلا في حالات مرضه فقط كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وأما عدا ذلك فلا أعرف خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته قاعداً والناس خلفه قعود. والذي توارثه المسلمون من لدن نبيهم صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده إلى عصرنا الحاضر أن الإمام في صلاة التراويح يصلي قائماً والمصلون من خلفه قيام. وبناء على ما سبق فإن هذا الإمام قد خالف الهدي النبوي والمأثور عن الصحابة والتابعين من بعدهم ولا أقول إن صلاته ومن معه باطلة لأن القيام ليس ركناً في النافلة كما هو الحال في الفريضة ولكن أقول ينبغي لهذا الإمام وأهل مسجده أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتهم فيصلوا قياماً فإذا أصاب أحدهم تعب أو كان أحدهم مريضاً لا يستطيع الوقوف فإنه يجوز له الجلوس باتفاق العلماء. أما أن يكون الإمام وجميع المصلين جلوساً فهذا أمر مستغرب وخاصة أنه يقع بدون عذر للإمام ولا للمأمومين.(6/142)
143 - صلاة التراويح
يقول السائل: ما حكم الأذكار التي يقولها المؤذنون بين كل ترويحتين في صلاة التراويح وهل لذلك مستند من الشرع؟
الجواب: إن الأصل الذي قرره العلماء في العبادات عامة والصلاة بشكل خاص هو التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأصل فيها التوقيف أو الحظر كما يعبر بعض العلماء أي أن الأصل أن لا نفعل شيئاً في باب العبادات ما لم يكن وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، وهذا أمر نبوي يجب الالتزام به وقد وقع كثير من المسلمين في مخالفات كثيرة في باب العبادات وخاصة في الصلاة ومن المخالفات في صلاة التراويح ما ذكره السائل وهو الأذكار المبتدعة التي يقولوها المؤذنون بين كل ترويحتين فهذه الأذكار لا أصل لها في السنة بين الترويحتين في صلاة التراويح فهي بدعة مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قول بعض المؤذنين سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير وقولهم صلوا يا حضار على النبي المختار وغير ذلك من الأذكار فيكرر المصلون هذه الأذكار بصوت جماعي فهذا ليس عليه دليل من الشرع ومخالف للهدي النبوي وتشويش في بيوت الله. انظر السنن والمبتدعات ص 53. وقال الإمام ابن الحاج: [فصل في الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح وينبغي له - أي الإمام - أن يتجنب ما أحدثوه من الذكر بعد كل تسليمتين من صلاة التراويح ومن رفع أصواتهم بذلك والمشي على صوت واحد فإن ذلك كله من البدع وكذلك ينهى عن قول المؤذن بعد ذكرهم بعد التسلميتين من صلاة التراويح الصلاة يرحمكم الله فإنه محدث أيضاً والحدث في الدين ممنوع وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يذكر عن أحد من السلف فعل ذلك فيسعنا ما وسعهم] المدخل 1/443.(6/143)
144 - صلاة العيد
يقول السائل: ماذا يفعل من فاتته صلاة العيد مع الإمام؟
الجواب: يشرع لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يقضيها على صفتها أي أنه يصلي ركعتين ويكبر التكبيرات الزوائد، سبع في الركعة الأولى وخمس في الركعة الثانية لأن هذا أصح ما ورد في عدد التكبيرات الزوائد. ومن فاتته صلاة العيد يصليها بدون خطبة لأن الخطبة مشروعة مع الجماعة. قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب إذا فاتته صلاة العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عيدنا أهل الإسلام وأمر أنس بن مالك مولاه ابن أبي عتبة بالزاوية فجمع أهله وبنيه وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم. وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام. وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين] . وذكر الحافظ ابن حجر أن أثر أنس المذكور قد وصله ابن أبي شيبة في المصنف وقوله الزاوية اسم موضع بالقرب من البصرة كان به لأنس قصر وأرض وكان يقيم هناك كثيراً. وقول عكرمة وعطاء وصلهما ابن أبي شيبة أيضاً] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/127-128. وروى البيهقي بإسناده عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [كان أنس إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام، جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد] . ثم قال البيهقي: [ويذكر عن أنس بن مالك أنه كان بمنزله بالزاوية فلم يشهد العيد بالبصرة جمع مواليه وولده ثم يأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة فيصلي بهم كصلاة أهل المصر ركعتين ويكبر بهم كتكبيرهم] . وذكر البيهقي أن عكرمة قال: [أهل السواد - أهل الريف - يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام. وعن محمد بن سيرين قال: كانوا يستحبون إذا فات الرجل الصلاة في العيدين أن يمضي إلى الجبان فيصنع كما يصنع الإمام. وعن عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين ليس فيهما تكبيرة] سنن البيهقي 3/305. وروى عبد الرزاق بإسناده عن قتادة قال: [من فاتته صلاة يوم الفطر صلى كما يصلي الإمام. قال معمر: إن فاتت إنساناً الخطبة أو الصلاة يوم فطر أو أضحى ثم حضر بعد ذلك فإنه يصلي ركعتين] مصنف عبد الرزاق 3/300-301. وروى ابن أبي شيبة أيضاً بإسناده عن الحسن البصري قال: [فيمن فاته العيد يصلي مثل صلاة الإمام. وروى أيضاً عن إبراهيم النخعي قال: إذا فاتتك الصلاة مع الإمام فصل مثل صلاته] . قال إبراهيم: [وإذا استقبل الاس راجعين فلتدخل أدنى مسجد ثم فلتصل صلاة الإمام ومن لا يخرج إلى العيد فليصل مثل صلاة الإمام] . وروى عن حماد في من لم يدرك الصلاة يوم العيد قال: [يصلي مثل صلاته ويكبر مثل تكبيره] مصنف ابن أبي شيبة 2/183-184. وبمقتضى هذه الآثار قال جمهور أهل العلم أن من فاتته صلاة العيد صلى ركعتين كما صلى الإمام مع التكبيرات الزوائد. ومن العلماء من قال: يصليها أربعاً واحتج بأثر وارد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من فاته العيد فليصل أربعاً] ولكنه منقطع كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/121. ومن العلماء من خيره بين صلاة ركعتين أو أربع ركعات. وأولى الأقوال هو القول الأول وهو أنه يقضيها ركعتين كأصلها، ولا يصح قياسها على الجمعة فمن فاتته الجمعة صلى أربعاً أي الظهر لأن الجمعة إنما تفوت إلى بدل وهو الظهر. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن شاء صلاها على صفة صلاة العيد بتكبير، نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعد واختاره الجوزجاني وهذا قول النخعي ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لما روي عن أنس: أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات وهو مخير إن شاء صلاها وحده وإن شاء في جماعة. قيل لأبي عبد الله: أين يصلي؟ قال: إن شاء مضى إلى المصلى وإن شاء حيث شاء] المغني 2/290. ونقل القرافي أن مذهب الإمام مالك كما في المدونة أنه يستحب لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يصليها على هيئتها. الذخيرة 2/423. وقال الإمام الشافعي: [ونحن نقول: إذا صلاها أحد صلاها كما يفعل الإمام يكبر في الأولى سبعاً وفي الآخرة خمساً قبل القراءة] معرفة السنن والآثار 5/103. وذكر المرداوي الحنبلي أن المذهب عند الحنابلة هو أنها تقضى على صفتها. الإنصاف 2/433. واختارت هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز - يرحمه الله - فقد جاء في فتواها: [ومن فاتته وأحب قضاءها استحب له ذلك فيصليها على صفتها من دون خطبة بعدها وبهذا قال الإمام مالك والشافعي وأحمد والنخعي وغيرهم من أهل العلم والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا) وما روي عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فيصلي بهم ركعتين يكبر فيهما. ولمن حضر يوم العيد والإمام يخطب أن يستمع الخطبة ثم يقضي الصلاة بعد ذلك حتى يجمع بين المصلحتين] فتاوى اللجنة الدائمة 8/306. وخلاصة الأمر أن من فاتته صلاة العيد فإنه يقضيها كما صلاها الإمام أي مع التكبيرات الزوائد.(6/144)
145 - المساجد
يقول السائل: يوجد في المسجد الذي يصلي فيه عدد كبير من المصاحف وإن أحد المصلين أخذ مصحفاً منها لنفسه ليقرأ في منزله فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً مما هو موقوف على المساجد كالمصاحف والكتب والسجاد والحصير وغير ذلك من الأشياء فهذه الأشياء الموقوفة يكون الانتفاع بها داخل المسجد فقط ولا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً لنفسه منها وإن أذن بذلك إمام المسجد أو مؤذنه لأنهما يتصرفان فيما لا يملكان فالمصاحف والكتب الموقوفة على المسجد لا يملك أحد أن يبطل وقفيتها على المسجد ويحولها إلى ملكية خاصة لبعض المصلين. وقد نص العلماء على تحريم مثل هذه التصرفات، قال الإمام النووي: [لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحجر وحصاة وتراب وغيره … وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال بعض الرواة أراه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد) المجموع 2/179. وقال الزركشي: [يحرم إخراج الحصى والحجر والتراب من أجزاء المسجد منه.. ومثله الزيت والشمع] إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 239. ثم ذكر الحديث الذي ذكره الإمام النووي في كلامه السابق، وهذا الحديث قال عنه المنذري: [رواه أبو داود بإسناد جيد، وذكر أن الدارقطني رجح وقفه على أبي هريرة الترغيب والترهيب 1/279. والحديث يدل على منع إخراج الحصى من المسجد وقد كان المسجد في العهد النبوي مفروشاً بالحصى فإذا كان لا يجوز إخراج الحصى فغير الحصى أولى بالمنع من باب أولى. وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يأخذ لنفسه شيئاً من الأشياء الموقوفة على المسجد ولو ادعى أنه سينتفع به أكثر مما ينتفع به لو بقيت في المسجد كمن يقول إنه يوجد في المسجد مصاحف كثيرة وليس لديَّ مصحف فآخذ مصحفاً لأقرأ في بيتي فهذا لا يجوز. كما وأنبه على قضية أخرى لها ارتباط بالمسألة وهي أنه يوجد في بعض المساجد صندوق لجمع التبرعات وتكون مسؤولية هذا الصندوق مناطة بشخص معين فيتصرف هذا الشخص في الأموال التي تجمع للمسجد فإما أن يأخذ منها لنفسه أو لغيره على أن تسدد فيما بعد فهذه التصرفات باطلة شرعاً لأن هذا المسؤول عن هذه الأموال يده عليها يد أمانة فإذا تصرف فيها لنفسه أو لغيره فقد خان الأمانة. ويضاف إلى ذلك أن بعض هؤلاء الناس قد يتصرف في أموال المسجد في مصالح عامة للناس فهذا أيضاً ممنوع شرعاً لأن هذه الأموال جمعت للمسجد فتصرف في مصالح المسجد فقط وليس في أي مصلحة عامة أخرى. وأما إذا زادت الأموال التي جمعت لمسجد معين عن حاجته فيمكن أن تصرف في مسجد آخر وكذا لو زادت المصاحف والكتب والسجاد عن حاجة مسجد معين فيمكن أن توضع في مسجد آخر.(6/145)
146 - صلاة الجنازة
يقول السائل: إذا اجتمعت جنائز فكيف توضع أمام الإمام في صلاة الجنازة؟
الجواب: إذا اجتمعت عدة جنائز فيجوز أن يصلى عليها صلاة واحدة كما يجوز أن يصلى على كل منها صلاة مستقلة فإن صلي عليها صلاة واحدة فتوضع الجنائز أمام الإمام صفاً مما يلي القبلة بعضها خلف بعض ويكون الرجال مما يلي الإمام ثم النساء مما يلي القبلة فإذا كان الأموات رجالاً ونساءً وأطفالاً فيوضع الرجال أولاً ثم الأطفال الذكور ثم النساء وبهذا القول قال أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء فبه قال عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأبو قتادة الأنصاري وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وواثلة بن الأسقع والحسن والحسين من الصحابة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب والزهري من التابعين وهو قول مالك والثوري والحنفية والشافعية وإسحاق وابن المنذر وغيرهم، انظر الاستذكار لابن عبد البر 8/278، المجموع للنووي 5/288 معرفة السنن والآثار 5/288. قال الزرقاني: [وعلى هذا أكثر العلماء وقال به جماعة من الصحابة والتابعين وقال ابن عباس وأبو هريرة وأبو قتادة هي السنة وقول الصحابي ذلك له حكم الرفع] عون المعبود 8/335. ويدل لهذا القول ما يلي: عن نافع عن ابن عمر (أنه صلى على تسع جنائز جميعاً فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القبلة فصفهن صفاً واحداً ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له: زيد، وضعا جميعاً والإمام يومئذ سعيد بن العاص وفي الناس ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة فوضع الغلام مما يلي الإمام فقال رجل فأنكرت ذلك فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة) رواه النسائي والبيهقي والدارقطني وقال الإمام النووي إسناده صحيح، المجموع 5/224. وقال الشيخ الألباني: صحيح على شرط الشيخين، أحكام الجنائز ص 103. وعن عمار مولى الحارث بن نوفل: (أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي الإمام ووضعت المرأة وراءه فصلى عليها، فأنكرت ذلك وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة فسألتهم عن ذلك فقالوا: هذه السنة) رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز ص 104. وقال البيهقي بعد أن ذكر الحديث السابق: [ورواه حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار دون كيفية الوضع بنحوه وذكر أن الإمام كان ابن عمر قال: وكان في القوم الحسن والحسين وأبو هريرة وابن عمر ونحو ثمانين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم] سنن البيهقي 4/33. وروى البيهقي بإسناده: [أن واثلة بن الأسقع في الطاعون كان بالشام مات فيه بشر كثير فكان يصلي على جنائز الرجال والنساء جميعاً الرجال مما يليه والنساء مما يلي القبلة] سنن البيهقي 4/23.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن علي قال: [إذا كان الرجال والنساء كان الرجال يلون الإمام والنساء من وراء ذلك] . وروى أيضاً بإسناده عن علي قال: [الرجال قبل النساء والكبار قبل الصغار] . وروى أيضاً قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة: [أنه كان يصلي على الجنائز فيجعل الرجال يلون الإمام والنساء أمام ذلك وبه نأخذ] . وروى أيضاً عن عثمان بن موهب قال: [صليت مع أبي هريرة ومع ابن عمر على رجل وامرأة فجعل الرجل يلي الإمام والمرأة وراء ذلك وكبّر أربعاً] . وروى أيضاً عن الزهري قال: [الرجال يلون الإمام والنساء وراء ذلك] . وروى أيضاً عن عثمان: [أنه جعل الرجل يلي الإمام والمرأة أمام ذلك] . وروى أيضاً عن إبراهيم أنه قال: [إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء كان الرجال يلون الإمام والنساء أمام ذلك] . وروى أيضاً عن عطاء قال: [الرجال مما يلي الإمام والنساء أمام ذلك] . وروى أيضاً عن الشعبي قال: [رأيته جاء إلى جنائز رجال ونساء … قال: ثم جعل الرجال مما يلون الإمام والنساء أمام ذلك، بعضهم على إثر بعض، ثم ذكر أن ابن عمر فعل ذلك بأم كلثوم وزيد، وثم رجال من بني هاشم قال: أراه ذكر حسناً وحسيناً] . وروى أيضاً عن أبي إسحاق قال: [رأيت الشعبي صلى على جنازة رجلين وصف أحدهما خلف الآخر، ثم قال: اصنعوا بهم هكذا، وإن كان عشرة] . مصنف عبد الرزاق 3/463-466. وفي المسألة أقوال أخرى أرجحها ما ذكرته. قال الحافظ ابن عبد البر بعد أن ذكر أقوال العلماء في المسألة مرجحاً ما ذكرته: [القول الأول أعلى وأولى لما فيه من الصحابة وقد قالوا إنها السنة وعليه جماعة الفقهاء] الاستذكار 8/279.
وينبغي أن يقدم أمام الإمام أفضل الأموات وأورعهم قال الإمام النووي: [قال إمام الحرمين وغيره والمعتبر في الفضيلة هنا الورع والتقوى وسائر الخصال المرعية في الصلاة عليه والغلبة على الظن كونه أقرب من رحمة الله تعالى] المجموع 5/266-277.(6/146)
147 - صلاة الجنازة
يقول السائل: إنه سمع أحد الوعاظ يذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ويقول إن جثمان النجاشي أحضر أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فما قولكم في ذلك؟
الجواب: وردت روايات كثيرة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي منها: 1. روى الإمام البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث". 2. وروى الإمام البخاري بسنده عن عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه قال فصففنا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ونحن صفوف". 3. وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي ثم تقدم فصفوا خلفه فكبر أربعاً". 4. وروى الإمام مسلم بسنده عن أبي الزبير عن جابر ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه. قال فقمنا فصفنا صفين". وغير ذلك من الروايات التي تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على النجاشي صلاة الغائب. وقد زعم بعض أهل العلم أنه قد جيىء بجثمان النجاشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه أريه فقالوا إن الأرض دحيت له صلى الله عليه وسلم جنوباً وشمالاً حتى رأى نعش النجاشي كما دحيت له جنوباً وشمالاً حين رأى المسجد الأقصى صباح ليلة الإسراء والمعراج حين وصفه لكفار قريش. تفسير القرطبي 2/81-82. قال ابن عابدين (لأنه رفع سريره - أي النجاشي- حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين وغير مانع من الإقتداء) حاشية ابن عابدين 2/209 وأيدوا قولهم بما ورد من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا فصلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه فكبر أربعاً وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه) رواه ابن حبان وإسناده صحيح كما قال الشيخ الأرناؤوط، صحيح ابن حبان 7/369. وهذا الإدعاء غير مسلم لأن الأصل عدم الخصوصية. قال الإمام الخطابي (وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً بهذا الفعل إذ كان في حكم المشاهدين للنجاشي لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له أعلام الأرض حتى كان يبصر مكانه. وهذا تأويل فاسد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً من افعاله الشريفة كان علينا متابعته والإيتساء به والتخصيص لا يعلم إلا بدليل. ومما يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم فصلوا معه فعلمت ان هذا التأويل فاسد) معالم السنن 1/ 270- 271. وقال الإمام البغوي (وزعموا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً به. وهذا ضعيف لأن الإقتداء به في أفعاله واجب على الكافة ما لم يقم دليل التخصيص ولا تجوز دعوى التخصيص هاهنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وحده إنما صلى مع الناس) شرح السنة 5/341-342. وقال صاحب عون المعبود: (قلت دعوى الخصوصية ليس عليها د ليل ولا برهان بل قوله صلى الله عليه وسلم "فهلموا فصلوا عليه" وقوله "فقوموا فصلوا عليه" وقول جابر "فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف" وقول أبي هريرة "ثم قال استغفروا له ثم خرج بأصحابه فصلى بهم كما يصلى على الجنازة" وقول عمران "فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت" وتقدم هذه الروايات يبطل دعوى الخصوصية لأن صلاة الغائب إن كان خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى لأمره صلى الله عليه وسلم بتلك الصلاة بل نهى عنها لأن ما كان خاصاً به صلى الله عليه وسلم لا يجوز فعله لأمته. ألا ترى صوم الوصال لم يرخص لهم به مع شدة حرصهم لأدائه والأصل في كل أمر من الأمور الشرعية عدم الخصوصية حتى يقوم الدليل عليها وليس هنا دليل على الخصوصية بل قام الدليل على عدمها) عون المعبود 9/9.
وأما قولهم إن الأرض دحيت للنبي صلى الله عليه وسلم فرأى نعش النجاشي أو أحضر النعش بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكلام ينقصه الدليل وقد ردّ ذلك كثير من أهل العلم: قال الإمام النووي (إنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله) المجموع 5/253 وانظر المغني 2/382.. وقال الإمام ابن العربي المالكي جواباً على هذا الزعم بأن الأرض طويت وأحضرت الجنازة بين يديه صلى الله عليه وسلم (قلنا إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف) عارضة الأحوذي 4/260. وقال شمس الحق العظيم آبادي (وأما قولهم رفع له سريره أو أحضر روحه بين يديه فجوابه: أن الله تبارك وتعالى لقادر عليه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لأهل لذلك لكن لم يثبت ذلك في حديث النجاشي بسند صحيح أو حسن وإنما ذكره الواحدي عن إبن عباس بلا سند فلا يحتج به. ولهذا قال ابن العربي: ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف. وأما ما رواه أبو عوانه وإبن حبان من حديث عمران بن حصين، فلا يدل على ذلك فإن لفظه "وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه” وفي لفظ “ونحن لا نرى إلا الجنازة قدامنا” ومعنى هذا القول أنا صلينا عليه خلف النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي على الميت والحال أنا لم نر الميت لكن صففنا عليه كما يصف على الميت كأن الميت قدامنا ونظن أن جنازته بين يدي صلى الله عليه وسلم لصلاته صلى الله عليه وسلم كعلى الحاضر المشاهد فحينئذ يؤول معنى لفظ هذا الحديث الى معنى لفظ أحمد ويؤيد هذا المعنى حديث مجمع عند الطبراني “فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا" عون المعبود 9/9-10.. وخلاصة الأمر أن ما ادعاه الواعظ المشار إليه غير صحيح والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على النجاشي صلاة الغائب.(6/147)
148 - المساجد
خطأ في قبلة المسجد،
يقول السائل: يوجد في بلدتنا مسجد وقد تبين أن قبلة المسجد غير صحيحة فهي منحرفة كثيراً عن اتجاه القبلة الصحيح ولكن بعض المصلين يرفضون تصحيح قبلة المسجد خوف الفتنة فما قولكم في هذه القضية؟
الجواب: من المعلوم أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) سورة البقرة الآية 150. ويجب تحري القلبة عند بناء المساجد فإذا بني المسجد وتبين بعد ذلك أن هنالك خطأ في قبلة المسجد فيجب تصحيح ذلك الخطأ والتوجه إلى القبلة ولا يجوز لأحد أن يمنع ذلك لأن التوجه إلى القبلة شرط لصحة الصلاة كما قلت وينبغي تحقيق ذلك وتبيين الحكم الشرعي في هذه المسألة للناس ولا فتنة في الحكم الشرعي أبداً. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة صلَّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) رواه البخاري ومسلم. وعن أنس رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة) رواه مسلم.
وبناء على هذه الأدلة يجب تصحيح قبلة المسجد المذكور حتى تصح الصلاة ومن صلى إلى القبلة القديمة في ذلك المسجد بعد أن ثبت أنها خطأ فصلاته باطلة ولا تصح لأن استقبال القبلة فرض كما ذكرت. *****(6/148)
149 - الحركة في الصلاة
الالتفات في الصلاة،
يقول السائل: قرأت بعض كتب الحديث عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان ولا بد ففي التطوع لا في الفريضة) ويقول السائل إن الحديث رواه البخاري فهل الحديث صحيح أم لا؟ الجواب: إن هذا الحديث لم يروه البخاري في صحيحه وإنما رواه الترمذي وهو حديث ضعيف عند المحققين من أهل الحديث وإن كان قد ورد في بعض نسخ الترمذي أنه صحيح. وقد تكلم على الحديث العلامة ابن القيم فقال: [… ولكن للحديث علتان أحدهما: أن رواية سعيد عن أنس لا تعرف. الثانية: إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان] زاد المعاد 1/249. وكذلك ضعف هذا الحديث الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني فقال معلقاً على استدلال صاحب فقه السنة به: [فيه مؤاخذتان: الأولى: إن الترمذي لم يصححه وليس تصحيحه في أية نسخة من سنن الترمذي كما قال محققه الفاضل أحمد محمد شاكر بل في بعض نسخه، قال: هذا حديث حسن وفي بعضها حديث غريب وفي أخرى هذا حديث حسن غريب. الثانية: أن الحديث ليس بصحيح ولا حسن لأنه من رواية علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك: وهذا الإسناد ضعيف في علتان: 1. ضعف علي بن زيد. 2. الانقطاع بين ابن المسيب وأنس …] تمام المنة ص 308-309.
وبهذا يظهر لنا أن الحديث ضعيف لا يعول عليه وبالتالي فإن الالتفات في الصلاة لغير حاجة مكروه كما هو مذهب الجمهور من أهل الفقة والعلم وهذا الحكم عام في صلاة الفريضة وصلاة النافلة ويدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) والالتفات في الصلاة يدل على عدم الخشوع لأن خشوع الجوارح من خشوع القلب وكما قال سعيد بن المسيب لما رأى رجلاً يتحرك في صلاته: [لو خشع قلبه لخشعت جوارحه] وينبغي على المسلم أن يخشع في صلاته فلا يلتفت ولا يتحرك لغير حاجة، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) .(6/149)
150 - سنن الصلاة
ما حكم تحريك الإصبع باستمرار في التشهد في الصلاة وهل تبطل تلك الحركة الصلاة؟
الجواب: إن تحريك الإصبع في الصلاة ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في ذلك أحاديث منها:
عن وائل بن حجر أنه قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الايمن عل فخذه اليسرى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم وهو حديث صحيح.
وعن ابن عمر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمين التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها) رواه مسلم.
وغير ذلك من الأحاديث التي يؤخذ منها ثبوت تحريك الإصبع " السبابة " أثناء التشهد وحديث وائل المتقدم [رواية صريحة في تحريك الإصبع وجاء وصف فعله صلى الله عليه وسلم بـ " يحرك " وهو فعل مضارع يفيد الاستمرارية حتى تسليم المصلي وفراغه من صلاته] . القول المبين ص 162.
وتحريك الإصبع عند التشهد سنة قال بها جماعة من أهل العلم منهم الإمام مالك والإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعية وبه قال جماعة من أهل الحديث وأفاد الشيخ الألباني أنه لا يوجد دليل من السنة على أن تحريك الإصبع يكون فقط عند التلفظ بالشهادتين كما قال بعض الفقهاء. انظر صفة صلاة النبي ص 140.
وأما قول من زعم بأن تحريك الإصبع مبطل للصلاة فكلام باطل لا يصح وهو قول شاذ لا دليل عليه كما قال الإمام النووي في المجموع. 3/354.
وأما الحديث الوارد في عدم تحريك الإصبع وهو حديث عبد الله بن الزبير أنه ذكر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها) رواه أبو داود وغيره فهو حديث ضعيف ضعفه ابن القيم والألباني وغيرهما، راجع تمام المنة ص 217-218.
*****(6/150)
151 - المساجد
يقول السائل: إن بعض المصلين يطردون الأطفال من المسجد بحجة أنهم يشوشون على المصلين فما حكم ذلك؟
الجواب: إن طريقة تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال في المسجد وأثناء الصلاة تختلف اختلافاً واضحاً عن واقع تعامل كثير من المسلمين مع الأطفال في المساجد وإليكم بعض المواقف التي حصلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض الأطفال حتى نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهتدي بهديه عليه الصلاة والسلام:
1. عن شداد رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشى الظهر أو العصر وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه عند قدمه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد سجدة أطالها، قال: فرفعت رأسي من بين الناس فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله: إنك سجدت سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك؟ قال: كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
2. وفي حديث آخر: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
3. وقال أبو قتادة رضي الله عنه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص - ابنة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم - على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها) رواه البخاري ومسلم.
4. وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أطالتها فاسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) رواه البخاري ومسلم. وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جوّز ذات يوم في الفجر - أي خفف - فقيل: يا رسول الله لم جوزت؟ قال: سمعت بكاء صبي فظننت أن أمه معنا تصلي فأردت أن أفرغ له أمه) رواه أحمد بإسناد صحيح.
هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأطفال في المسجد فلا ينبغي لأحد أن يطرد الأطفال من المساجد لأنهم رجال المستقبل والمسجد خير مكان لتعليم الصلاة والأحكام الشرعية الأخرى. ولكن لا بد من التنبيه أنه ينبغي عدم إحضار الأطفال الصغار جداً إلى المساجد لأنهم لا ينضبطون فمثل ابن سنة أو سنتين أو ثلاث لا يحضر إلى المسجد ولا بأس بإحضار الأطفال الذين هم في الخامسة أو السادسة أو السابعة إلى المساجد. *****(6/151)
152 - قضاء صلاة
الترتيب في قضاء الصلوات الفوائت،
يقول السائل: إنه صلى المغرب وكان عليه قضاء صلاتي الظهر والعصر ولكن نظراً لضيق الوقت صلى المغرب أولاً ثم قضى الظهر والعصر فما حكم ذلك؟
الجواب: إن قضاء الصلاة الفائتة واجب على الفور بمجرد زوال العذر كالنسيان أو النوم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيا فليصلها إذا ذكرها) رواه البخاري ومسلم. والترتيب في قضاء الفوائت واجب عند أكثر الفقهاء لما ثبت من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم للفوائت يوم الخندق حيث قضاهن بالترتيب أي الظهر فالعصر ثم المغرب وهكذا هو الأصل أن الترتيب واجب ولكن هذا الترتيب يسقط إذا ضاف وقت الصلاة الحاضرة كما في السؤال فما فعله السائل صحيح إن شاء الله حيث إنه صلى المغرب أولاً نظراً لضيق الوقت وبعد ذلك قضى الظهر والعصر فلا بأس بذلك. *****(6/152)
153 - صلاة الجماعة
إذا أدرك المصلي الركوع مع الإمام فهل يعتبر مدركاً للركعة؟
الجواب: إذا أدرك السبوق الإمام راكعاً فقد أدرك تلك الركعة وبهذا قال أكثر أهل العلم. قال الإمام النووي: [وهذا الذي ذكرناه من إدراك الركعة بإدراك الركوع وهو الصواب الذي نص عليه الشافعي وقال جماهير الأصحاب وجماهير العلماء وتظاهرت به الأحاديث وأطبق عليه الناس …] المجموع 4/215. وفي المسألة قول آخر بأن الركعة لا تدرك إلا بإدراك القيام مع الإمام وهو قول ضعيف شاذ. والقول الأول هو القول الصحيح في المسألة وقد ثبت عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يعتدون بالركعة إذا أدرك الركوع، من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن نافع عن ابن عمر قال: [إذا جئت والإمام راكع فوضعت يديك على ركبتيك قبل أن يرفع رأسه فقد أدركت] ورواه البيهقي بلفظ: [من أدرك الإمام راكعاً فركع قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك تلك الركعة] وإسناده صحيح. ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن زيد بن وهب قال: [خرجت مع عبد الله ابن مسعود من داره إلى المسجد فلما توسطنا المسجد ركع الإمام فكبر عبد الله ثم ركع وركعت معه ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف حتى رفع القوم رؤوسهم قال: فلما قضى الإمام الصلاة قمت أنا - وأنا أرى لم أدرك - فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني وقال: إنك قد أدركت] ورواه البيهقي والطحاوي في شرح معاني الآثار وإسناده صحيح. ومثل ذلك ورد عن زيد بن ثابت وأبي بكر الصديق وعبد الله بن الزبير، قال الإمام البيهقي: [باب من ركع دون الصف وفي ذلك دليل على إدراك الركعة ولولا ذلك لما تكلفوه] سنن البيهقي 2/90.
وقد ورد في المسألة حديث أبي هريرة ولفظه: [من أدرك ركعة مع الإمام قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدرك الصلاة] وهذا الحديث فيه كلام كثير للمحدثين، وخلاصته أن الحديث بمجموع طرقه المتصلة والمرسلة يصلح للاحتجاج ويقويه ما ثبت عن الصحابة من العمل بمقتضاه. *****(6/153)
154 - صلاة الجماعة
الاقتداء بالمسبوق ,
يقول السائل: إنه جاء إلى المسجد فوجد صلاة الجماعة قد انتهت وأنه اقتدى برجل مسبوق فصلى خلفه فما حكم صلاته؟
الجواب: اقتداؤك بالمسبوق صحيح إن شاء الله على الراجح من أقوال أهل العلم وقد دلت على ذلك أحاديث منها حديث ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فتوضأ ثم قام إلى الصلاة فقمت فتوضأت كما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره فأخذ بيميني فأدارني من ورائه فأقامني عن يمينه فصليت معه) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن واللفظ لأبي داود. وحديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى في شهر رمضان قال: (فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطاً، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم بنا تجوّز في صلاته) رواه مسلم. وحديث عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام الناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الليلة الثانية فقام ناس يصلون بصلاته) رواه البخاري. وحديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وهذه الأحاديث تدل على أنه لا يشترط في الإمام أن ينوي الإمامة فالرسول صلى الله عليه وسلم شرع في الصلاة منفرداً ثم جاء ابن عباس فصلى معه جماعة وكذلك فإن الرجل الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي وحده شرع في الصلاة منفرداً فحض النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يصلي معه: (فقام رجل من القوم فصلى معه) كما في رواية البيهقي، ولا فرق بين من كان منفرداً ومن كان مسبوقاً فلا مانع من اقتداء غيره به ليحصل أجر الجماعة. *****(6/154)
155 - صلاة الجماعة
سهى الإمام فقام إلى الخامسة, إمام في صلاة رباعية قام سهواً إلى الركعة الخامسة فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا سها الإمام في الصلاة الرباعية وقام إلى الخامسة فعلى المصلين أن يسبحوا ليذكروه فإذا سبَّحوا فعليه أن يجلس ويأتي بالتشهد الأخير إن لم يكن قد أتى به وعليه أن يسجد سجدتي السهو.
وأما إذا كان المصلي منفرداً فقام إلى الخامسة وتذكّر بعد ذلك فعليه أن يجلس ويسجد سجدتي السهو وهذا مذهب جمهور أهل العلم ويدل على ما قلت حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فقيل له: (أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذلك؟ قالوا: صليت خمساً فسجد سجدتين بعدما سلّم) رواه البخاري ومسلم ولا تبطل صلاة المصلي وإن زاد خامسة سجد فيها أو لم يسجد ولا يلزمه أن يضيف ركعة سادسة كما قال بعض الفقهاء فقولهم ضعيف ولا تؤيده الأدلة والصحيح ما قاله جمهور الفقهاء.
*****(6/155)
156 - المساجد
حكم قراءة القرآن قبل الأذان،
يقول السائل: جرت العادة بقراءة القرآن لمدة عشرة دقائق تقريباً قبل الأذان للصلوات الخمس عبر مكبرات الصوت، فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن قراءة القرآن الكريم من العبادات العظيمة التي يتقرب بها العبد إلى ربه وهي جائزة في جميع الأوقات وأما تحديد القراءة وجعلها قبل الأذان والمحافظة على ذلك بصفة دائمة فأمر مخالف لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يأمر المؤذن بقراءة القرآن قبل الأذان ولم يقم دليل على أن ذلك مشروع فينبغي ترك هذا وعدم فعله لأن تخصيص العبادة بوقت معين بدون دليل شرعي يعتبر بدعة مخالفة لهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام. وقد صار بعض الناس يظن أن تلك القراءة لا بد منها فإذا غفل المؤذن مرة عن القراءة قبل الأذان لامه الناس على ذلك واعتبروه قد أخل بأمر لا بد منه. *****(6/156)
157 - صلاة الجماعة
اتصال الصفوف، يقول السائل: نرى بعض المصلين وخاصة في يوم الجمعة يصلون في ساحات المسجد وتكون صفوفهم غير متصلة مع الصفوف داخل المسجد فما حكم صلاتهم؟
الجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بتسوية الصفوف في الصلاة وسد الخلل الواقع فيها كما أمر بإتمام الصف الأول فالأول وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها:
1. عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأُول ويتراصون في الصف) رواه مسلم.
2. وعن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث حسن كما قال المنذري والحافظ ابن حجر.
3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال لهم: (تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من ورائكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل) رواه مسلم.
4. وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رصوا صفوفكم قاربوا بينها وحاذوا الأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل في خلل الصفوف كأنها الحذف) رواه أبو داود وابن حبان وصححه وغير ذلك من الأحاديث والذي يؤخذ من هذه الأحاديث أن تسوية الصفوف واجبة ويشمل ذلك اتصال الصفوف الأول فالأول فإن الوعيد الشديد الوارد في عدم تسوية الصف يدل على حرمة ذلك، فتسوية الصفوف واجبة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتسوية الصفوف والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب ما لم يصرفه صارف.
ولا شك أن من تسوية الصفوف إتمام الصف الأول فالأول ولا يجوز أن يشرع في الصف الثاني إلا بعد إتمام الصف الأول وهذا باتفاق أكثر أهل العلم لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر) .
وبناء على ذلك فإن من يصف في ساحات المسجد الخارجية ولا يكون صفه متصلاً مع الصفوف داخل المسجد فلا تصح صلاتهم مع الجماعة كما هو الحال في كثير من المساجد الكبيرة فإنهم يصلون بقرب أبواب الساحات الخارجية ويكون بينهم وبين آخر صف متصل مسافات بعيدة فإن صلاة هؤلاء غير صحيحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [فإن امتلاً المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد فإا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي فيه الناس لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء …) مجموع الفتاوى 23/410.
وقال بعض أهل العلم: [على أن القول الراجح عندي أنه لا يصح للمأموم أن يقتدي بالإمام خارج المسجد وإن رأى الإمام أو المأمومين إذا كان في المسجد مكان يمكنه أن يصلي فيه وذلك لأن المقصود بالجماعة الاتفاق في المكان وفي الأفعال فإذا كان المسجد واسعاً ويمكن أن يصلي الإنسان في المسجد فإنه لا يصح أن يتابع الجماعة في غير المسجد أما لو امتلأ المسجد وصار من كان خارج المسجد يصلي مع الإمام ويمكنه المتابعة فإن الراجح جواز متابعته للإمام وائتمامه به سواء رأى الإمام أو لم يره إذا كانت الصفوف متصلة] .
وأخيراً فإن من واجب الإمام أن يأمر المصلين بتسوية الصفوف وإكمال الصف الأول فالأول لما ثبت في الحديث عن النعمان بن بشير رضي اله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي القداح - وهي أعواد السهام - حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره في الصف فقال عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن وجوهكم) رواه مسلم.
*****(6/157)
158 - صلاة الجماعة
نوم الإمام،
يقول السائل: عندنا إمام مسجد مصاب - على ما أعلم - بمرض في قلبه وهذا المرض يسبب له نوماً أو سهواً وخاصة وهو يؤم الناس، أحياناً يستفيق لوحده وأحياناً يوقظه أحد المأمومين. فما حكم الصلاة خلف هذا الإمام؟
الجواب: إذا كان حال الإمام كما وصفت في السؤال وتلك الحالة ملازمة له فلا ينبغي لهذا الشخص أن يؤم المصلين وعليه أن يقدم غيره للإمامة فإن من شروط الإمامة أن يكون الإمام قادراً على القيام بأداء الصلاة مستكملاً لأركانها وشروطها وهذا الإمام ينام في صلاته أو يسهو فيها كثيراً فلا يؤدي الصلاة كما يجب فعليه أن لا يصلي بالناس. *****(6/158)
159 - صلاة الجماعة
الاقتداء بالإمام القاعد،
يقول السائل: إن إمامهم في الصلاة مريض ولا يستطيع الصلاة قائماً فيصلي قاعداً فكيف يصنع المصلون خلفه هل يصلون قياماً أم جلوساً؟
الجواب: إن الأفضل في حق هذا الإمام الذي لا يستطيع أن يصلي قائماً أن يستخلف غيره ليصلي بالناس قائماً لأن في ذلك خروجاً من خلاف من منع الاقتداء بالإمام القاعد، ولأن القائم أكمل وأقرب إلى إكمال هيئات الصلاة من القاعد فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة، فإن صلى بهم وهو جالس فيصلي المأمومون وهم قيام وهذا مذهب الحنفية والشافعية ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في مرضه الذي توفي فيه أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فقام يهادي بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض فجاء فجلس عن يسار أبي بكر فكان رسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى عند مسلم: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير) وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس إلى جنب أبي بكر فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد) رواه البخاري ومسلم. وقد نقل الإمام النووي عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء أن هذه الروايات صريحة في نسخ الحديث الوارد بصلاة الناس خلف الإمام جلوساً لأن ذلك الحديث كان في مرض قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه والذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وصلى الناس خلفه قياماً.(6/159)
160 - سنن الصلاة
قراءة سورة فيها سجدة في فجر الجمعة،
يقول السائل: هل يجب على الإمام أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة سورة من القرآن فيها سجدة؟ وإذا قرأ سورة لا سجود فيها فهل صلاته صحيحة؟
الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بسورة السجدة فقد رود في الحديث عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) السجدة، و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)) رواه مسلم. وجاء في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة: (ألم تنزيل) في الركعة الأولى وفي الثانية: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) رواه مسلم. من هذين الحديثين يؤخذ استحباب قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة الفجر يوم الجمعة وقد قرر المحققون من الفقهاء أن المقصود من قراءة سورة السجدة وسورة الإنسان ليس السجدة الموجودة في السورة الأولى وإنما المقصود هو المعاني العظيمة التي تضمنتها السورتان المذكورتان. لذلك لا يستحب المداومة على قراءة السورتين باستمرار إن خشي أن يظن الناس أن قراءتهما واجبة. وقد ظن بعض الناس أنه لا بد للإمام أن يقرأ أي سورة فيها سجدة في فجر يوم الجمعة وهذا الظن خطأ واضح لأن السجدة ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود السورة التي فيها وهي (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) لذلك لا ينبغي للإمام أن يقرأ أي سورة أخرى فيها سجدة. قال العلامة ابن القيم: [كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره - يوم الجمعة - بسورتي (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة ويسمونها سجدة الجمعة وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة استحب قراءة سورة أخرى فيها سجدة ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعاً لتوهم الجاهلين وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر - الجمعة - لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد وذلك يكون يوم الجمعة وكان في قراءتها في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث تفقت فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة] زاد المعاد 1/375.
وخلاصة الأمر أن الإمام إذا قرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بالسورتين المذكورتين فقد أصاب السنة وإذا لم يقرأ بالسورتين المذكورتين فصلاته صحيحة ولا شيء عليه ولا ينبغي لأحد من الناس أن ينكر عليه فالسجدة ليست لازمة لفجر الجمعة. وهذا الأمر على خلاف ما يعتقد كثير من الناس حتى ظن بعض العوام أن صلاة الفجر يوم الجمعة تختلف عن صلاة الفجر في الأيام الأخرى، قال الإمام القرافي ما نصه: [ولذلك شاع عند عوام مصر أن الصبح ركعتان إلا في يوم الجمعة فإنه ثلاث ركعات لأنهم يرون الإمام يواظب على قراءة السجدة يوم الجمعة ويسجد ويعتقدون أن تلك ركعة أخرى واجبة وسد هذه الذرائع متعين في الدين] الفروق 12/191. *****(6/160)
161 - صلاة الجمعة
إدراك صلاة الجمعة بإدراك ركعة منها،
يقول السائل: أدركت الإمام في صلاة الجمعة قبل أن يسلم ثم صليت ركعتي الجمعة وبعد التسليم قال لي بعض المصلين إن الواجب عليّ أن أصلي الظهر لأن الجمعة قد فاتتني فما الحكم في ذلك؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن التبكير إلى صلاة الجمعة مرغب فيه ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة - أي ناقة - ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم. فالمستحب للمسلم أن يبادر يوم اجمعة بالذهاب إلى المسجد مبكراً فيصلي نافلة ويقرأ من القرآن الكريم ما تيسر ويدعو ويستغفر إلى غير ذلك من الأفعال الطيبة، فإن حصل وتأخر عن الصلاة لعذر أو غيره وجاء إلى المسجد وهم يصلون فلا بد أن يدرك ركعة مع الإمام حتى يعتبر مدركاً للجمعة، وإدراك الركعة يكون بإدراك الركوع مع الإمام، فإذا أدرك ركعة مع الإمام فهو مدرك للجمعة، وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة وأئمة المذاهب الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة ويدل على ذلك أحاديث منها: 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة) ومفهوم التقييد بالركعة أن من أدرك دون الركعة لا يكون مدركاً للصلاة كما قال الحافظ ابن حجر. 2. وجاء في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة) رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهما وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. 3. وفي رواية أخرى: (من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. 4. ورد عن ابن عمر أنه قال: (من أحرم بالجمعة في وقتها وأدرك مع الإمام ركعة أتم جمعته) رواه البيهقي وهو صحيح كما قال الشيخ الألباني. 5. ورد عن ابن مسعود قال: (إذا أدركت ركعة من الجمعة فأضف إليها أخرى فإذا فاتك الركوع فصل أربعاً) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وسنده صحيح. وغير ذلك من الأحاديث والآثار. وبناء على ما تقدم فإن ما قاله بعض المصلين لك من فوات الجمعة صحيح وعليك أن تصليها ظهراً أربعاً. *****(6/161)
162 - صلاة الجمعة
ما حكم صلاة الجمعة إذا أمَّ المصلين شخص غير من خطب الجمعة؟
الجواب: الصلاة صحيحة إن شاء الله وإن كان المعروف أن من يخطب الجمعة هو الإمام الذي يصلي بالناس وهذا هو المعهود عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو المطلوب فنحن مأمورون بالاتباع ولكن إن كان هناك عذر لمن خطب الجمعة فصلّى بالناس غيره لتعب أو مرض طارئ أو نحو ذلك فلا بأس به والصلاة صحيحة. *****(6/162)
163 - صلاة الجمعة
يقول السائل: دخلت المسجد يوم الجمعة أثناء الخطبة فهل أصلي تحية المسجد أم أجلس وأصليها بعد أن تنتهي الخطبة الأولى؟
الجواب: إن المشروع في حق من دخل المسجد والخطيب يخطب يوم الجمعة أن يصلي ركعتين تحية المسجد ويشرع له أن يخففها أي لا يطيل فيها وهذا مذهب أكثر أهل العلم وهو الصحيح الذي تؤيده الأدلة. فقد ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (دخل رجل يوم الجمعة المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: فصل ركعتين) رواه البخاري ومسلم. وثبت في رواية أخرى عن جابر أيضاً قال: (جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم يجلس) رواه مسلم. فهذان الحديثان يدلان على ما قلت فلا ينبغي لمن دخل والإمام يخطب أن يجلس فإذا انتهى الخطيب من الخطبة الأولى قام فصلى الركعتين فهذا مخالف لما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمطلوب التخفيف في هاتين الركعتين حتى يسمع لخطبة الجمعة وليس المقصود بالتخفيف نقرهما نقراً وإنما المقصود عدم التطويل وهو التخفيف الذي لا يخل بالصلاة. وقد يمنع البعض الداخل من صلاة تحية المسجد بحجة ما روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا صعد الإمام فلا صلاة ولا كلام) فهذا الحديث باطل بل هو منكر لا يصح الاحتجاج به وإن كان بعض معناه صحيحاً وهو منع الكلام أثناء الخطبة ومنع الصلاة أثناء الخطبة نافلة أو قضاء أو غير ذلك وأما من جاء والإمام يخطب فإنه يصلي تحية المسجد ويخفف فيها كما سبق وأما الكلام أثناء الخطبة فممنوع لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [معناه قلت غير الصواب وقيل تكلمت بما لا ينبغي. ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة] شرح صحيح مسلم 6/138.
وأكثر أهل العلم على وجوب الإنصات للخطبة يوم الجمعة حتى ولو كان المصلي لا يسمع الخطبة فيلزمه الإنصات. ومن الجدير بالذكر أن حديث أبي هريرة السابق: (إذا قلت لصاحبك أنصت …) يردده المؤذنون في كل يوم جمعة قبل بدء خطبة الجمعة، وهذا الذي يفعله المؤذنون بدعة مخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذا الحديث على مسامع المصلين قبل خطبة الجمعة وعلى أئمة المساجد منع المؤذنين من هذه البدعة وغيرها من البدع التي تقع في يوم الجمعة وغيره وقد ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم. ومعنى رد أي مردود. ويضاف إلى ما سبق أن المؤذن ينهي الناس عن الكلام والخطيب يخطب ثم يخالفهم فيتكلم بدعاء بين الخطبتين.
وهذا الدعاء أيضاً مخالف لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولكن هذه الأمور أصبحت مشهورة ومعروفة حتى ظن عامة الناس أنها من الدين ويرجع ذلك إلى سكوت أهل العلم عنها بل وإقرارهم لها والواجب عليهم أن ينكروها لمخالفتها لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. *****(6/163)
164 - صلاة الجمعة
صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة،
يقول السائل: إنه صلى الجمعة في أحد المساجد وتحدث الخطيب خلال خطبته عن صلاة الظهر بعد الجمعة مباشرة، وبعد انتهاء صلاة الجمعة صلى الناس أربع ركعات صلاة الظهر فما حكم ذلك.
الجواب: إن ما ذكره خطيب الجمعة حول صلاة أربع ركعات بعد الجمعة قال به بعض فقهاء المذاهب الأربعة المتأخرون وهذا الرأي مبني عندهم على عدم جواز تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد وأن الجمعة لمن سبق فلذلك فهم يصلون أربع ركعات بعد الانتهاء من الجمعة من باب الاحتياط. ولكن هذا القول ضعيف ومرجوح ولا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة والصحيح خلاف ذلك وهه: لا شك لدي بجواز تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد عند الحاجة وهذا الذي عليه جمهور الفقهاء وهو القول الحق الذي يتفق مع روح الشريعة الإسلامية من رفع الحرج عن الأمة لأن في القول بمنع تعدد صلاة الجمعة حرجاً وعنتاً يلحق بالمسلمين وخاصة أن المدن والبلدات قد اتسعت وأصبح عدد الناس كثيراً ولا يجمعهم مسجد واحد لذلك كله فإنه يجوز تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد. وإلزام الناس بصلاة الظهر بعد الجمعة بدعة محدثة لا دليل عليها وقولهم: [الجمعة لمن سبق] ليس بحديث ولا أصل له في السنة كما قرره الشيخ الألباني. وإنما هو كلام مشهور على ألسنة بعض فقهاء الشافعية المتأخرين وليكن معلوماً أن الأصل في باب العبادات التوقيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرد عن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة شيء فلذلك لا تصلى الظهر بعد الجمعة. *****(6/164)
165 - صلاة الجمعة
حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة ,
يقول السائل: جرت العادة عندنا في يوم الجمعة وقبل أن يبدأ الخطيب بخطبة الجمعة أن يقوم المؤذن ويذكر حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) فما معنى لغوت وهل الكلام أثناء الخطبة مبطل للصلاة أم لا؟
الجواب: إن الحديث المذكور في السؤال حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما ولا شك أن كثيراً من المصلين لا يلتزمون بما يدل عليه الحديث الشريف فتراهم يتكلمون والإمام يخطب وينبغي أن يعلم أن جمهور الفقهاء قالوا بحرمة الكلام أثناء خطبتي الجمعة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي وغيرهم، واستدلوا بما يلي: أولاً: بالحديث المذكور في السؤال ومعنى (لغوت) الواردة في الحديث جئت بأمر باطل، وقال بعض العلماء: [لغوت: أي بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: خبت من الأجر. وقيل: صارت جمعتك ظهراً وقيل: غير ذلك] . ثانياً: عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلست قريباً من أبي بن كعب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة " براءة " فقلت لأبي: متى نزلت هذه السور؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت لأبيّ: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني؟ قال أبيّ: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فسألته متى نزلت هذه السورة، فتجهمني ولم يكلمني ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق أبيّ) . ومعنى تجهمني: قطب جبينه وعبس ونظر إلي مغضباً، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه وقل الشيخ الألباني: صحيح. ثالثاً: عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي قول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد وقال الحافظ ابن حجر: إسناده لا بأس به. رابعاً: روي في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: (من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر ومن قال: صه، فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له. ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد وأبو داود. وغير ذلك من الأحاديث والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم. وخلاصة ما تدل عليه هذه الأحادث هو تحريم الكلام اثناء خطبتي الجمعة ووجوب الإنصات كما هو مذهب جمهور الفقهاء ولكن صلاة من تكلم أثناء الخطبتين مجزئة ولكن أجر جمعته قد بطل ولم ينل فضيلة الجمعة. ومن العلماء من يرى أن من يتكلم أثناء الخطبتين تصير جمعته ظهراً ولا تُحسب له جمعة واحتجوا بما ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة ما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) رواه أبو داود وابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: حديث حسن.
ويجب أن يعلم أن قيام المؤذن بذكر الحديث الوارد في السؤال قبل أن يبدأ الخطيب بالخطبة بدعة لا أصل لها في الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال الحديث ولا ريب ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بلالاً ولا غيره من المؤذنين أن ينادي بالحديث قبل بدء الخطبة، فهذا أمر غير مشروع لأن الأصل في العبادات هو التوقيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرع في خطبتي الجمعة بعد انتهاء المؤذن من الأذان وما كان أحد ينادي بهذا الحديث فالواجب ترك ذكر هذا الحديث بين يدي خطيب الجمعة وذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع. *****(6/165)
166 - صلاة الفريضة في السيارة
يقول السائل: إنه يخرج من بيته قبل صلاة الفجر متوجهاً إلى عمله ويركب سيارة باص ولا يصل إلى عمله إلا بعد طلوع الشمس والسيارة لا تتوقف في الطريق فهل يصلي صلاة الفجر في السيارة أم ماذا يصنع؟
الجواب: يجوز لهذا السائل أن يصلي صلاة الفجر في السيارة بالكيفية التي يستطيعها حتى لا تفوته الصلاة فيصلي في السيارة فإذا أمكنه الركوع والسجود واستقبال القلبة فيجب عليه ذلك وإن لم يستطع الركوع والسجود واستقبال القبلة فإنه يصلي بقدر طاقته فيومئ إيماء " يشير " ويجعل السجود أكثر انخفاضاً من الركوع، وهكذا فدين الإسلام دين يسر وسهولة فقد قال سبحانه وتعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأئتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم. وقد ورد في الحديث عن يعلى بن أمية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم المطر والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع) رواه أحمد والترمذي. وفي سنده ضعف ولكن الترمذي قال بعد أن ساق الحديث وبين ما فيه: (والعمل على هذا عند أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال أبو بكر ابن العربي: [حديث يعلى ضعيف السند صحيح المعنى. ثم قال: الصلاة على الدابة بالإيماء صحيحة إذا خاف من خروج وقت الصلاة ولم يقدر على النزول لضيق الموضع أو لأنه عليه الطين والماء] . وبناء على ما تقدم فتصح صلاة الفريضة في السيارة أو الطائرة أو القطار أو نحو ذلك. هذا إذا كان المصلي يخشى خروج الوقت أما إذا كان يعلم أنه يصل إلى غايته قبل خروج وقت الصلاة بمدة كافية لأداء الصلاة فلا ينبغي له أن يصلي الفريضة في السيارة ونحوها وكذلك الحال إذا كانت الصلاة تجمع إلى غيرها فإما أن يصلي جمع تقديم أو تأخير ولا يصليها في السيارة ونحوها. *****(6/166)
167 - صلاة التراويح
يقول السائل: هل تصلى التراويح عشرون ركعة أم ثماني ركعات وهل تصح صلاة التراويح في البيت؟
الجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رغب في قيام رمضان وحث عليه في أحاديث منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في رمضان في عدة ليال في أوله وفي آخره كما ثبت ذلك عنه، وكان هديه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم. ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم المداومة على صلاة التراويح لأنه خشي أن تفرض على الأمة كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد اختلف أهل العلم في عدد ركعات صلاة التراويح فأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرين ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا القول مشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ورد أنه جمع الناس على إمام واحد يصلي بهم ثلاثاً وعشرين ركعة كما ورد في الحديث عن عبد الرحمن بن عبد القاري، قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله) رواه البخاري. ورى البيهقي بإسناد صحيح كما قال النووي: عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال: [كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة وكانوا يقومون بالمئتين …] المجموع 4/32. ومن أهل العلم من يرى عدم زيادة صلاة التراويح عن إحدى عشرة ركعة لحديث عائشة السابق وغيره من الأحاديث الثابتة في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. وترى طائفة أخرى من أهل العلم عدم تحديد عدد معين من الركعات في صلاة قيام رمضان أي التراويح ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الشوكاني وغيرهما وأنا أميل إلى هذا القول، قال شيخ الإسلم ابن تيمية رحمه الله ما نصه: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاثة عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع الفتاوى 22/272. *****(6/167)
168 - صلاة التراويح
يقول السائل: رأينا بعض الأئمة يقرؤون من المصحف في صلاة التراويح فهل يجوز ذلك؟
الجواب: لا بأس بقراءة الإمام في التراويح من المصحف وخاصة أن كثيراً من الأئمة لا يحفظون كثيراً من القرآن الكريم، وقد يرغب الناس في تطويل القراءة في صلاة القيام في رمضان فإذا قرأ الإمام من المصحف فلا حرج في ذلك إن شاء الله. وقد قال الإمام البخاري في صحيحه: [وكانت عائشة يؤمها غلامها ذكوان من المصحف] رواه معلقاً مجزوماً به. قال الحافظ ابن حجر: [وصله أبو داود في كتاب المصاحف من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة (أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان من المصحف) ووصله ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مليكة عن عائشة: (أنها أعتقت غلاماً لها فكان يؤمها في رمضان في المصحف) … قوله في المصحف استدل به على جواز قراءة المصلي في المصحف] فتح الباري 2/326. ولكن الأولى أن يقرأ الإمام من حفظه لما في ذلك من تقليل الحركة في الصلاة ومحافظة على الخشوع. *****(6/168)
169 - من البدع في الصلاة
التكبير عند ختم المصحف،
يقول السائل: ما حكم التكبير عند ختم المصحف من سورة الضحى إلى سورة الناس؟
الجواب: إن التكبير المشار إليه في السؤال لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ولم يقل به أكثر القراء لذلك فلا ينبغي لأحد أن يفعله لأنه ليس من السنة. ونقل التكبير من سورة الضحى إلى آخر المصحف البزي عن ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن مفلح: [وهذا حديث غريب رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي وهو ثبت في القراءة، ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر…] الآداب الشرعية 2/310. وفضل شيخ الإسلام ابن تيمية أن لا يكبر القارئ فقد أجاب على سؤال بأن جماعة قرأوا القرآن فإذا وصلوا إلى الضحى لم يهللوا ولم يكبروا إلى آخر الختمة ففعلهم ذلك هو الأفضل أم لا؟ فأجاب: [الحمد لله، نعم إذا قرأوا بغير حرف ابن كثير كان تركهم لذلك هو الأفضل بل المشروع المسنون فإن هؤلاء الأئمة من القراء لم يكونوا يكبرون لا في أوائل السور ولا في أواخرها] مجموع الفتاوى 13/417. *****(6/169)
170 - هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم عند انحباس المطر
يقول السائل: كيف كان هدي الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه عند انحباس الأمطار؟
الجواب: إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) . ولقد انحبس المطر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما تشير إلى ذلك الروايات الثابتة والتي سأذكر بعضها. وقد كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إذا انحبست الأمطار أن يستسقي للمسلمين والاستسقاء يكون بالصلاة المعروفة وهي صلاة الاستسقاء أو بالدعاء. وقد ثبت في صحيح البخاري أن المسلمين كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستستقي لهم عند انحباس الأمطار فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا اللهم اسقنا، قال أنس: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً وما بيننا وبين سلع - اسم جبل بالمدينة المنورة - من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس سبتاً - أي اسبوعاً - ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فاستقبله قائماً. فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله يديه ثم قال: اللهم حوالينا لا علينا اللهم على الآكام والجبال والظراب والأودية ومنابت الشجر. قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس) . ويتضح من هذا الحديث أنهم كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم وكان يجيبهم إلى ذلك وهذا هدي الصحابة من بعده.
قال الإمام البخاري: (باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا) وقال الإمام البخاري: (باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم) وقد ذكر في هذا الباب حديث أنس السابق وأبلغ من ذلك أن المشركين اسشتفعوا بسول الله صلى الله عليه وسلم عند انحباس المطر ودعا لهم فنزل المطر عليهم روى ذلك البخاري وغيره. فينبغي على الائمة أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بل المفروض أن يبادروا إلى الدعوة إلى إقامة صلاة الاستسقاء وينبغي على الإمام أن يأمر المسلمين قبل الاستسقاء بجملة أمور منها: 1. أن يأمر الإمام الناس بترك المظالم والتوبة من المعاصي وأداء الحقوق حتى يكونوا أقرب إلى الإجابة فإن المعاصي سبب من أسباب القحط والجدب، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) سورة الأعراف الآية 96. 2. ينبغي الإكثار من الدعاء والذكر والاستغفار بخضوع وتذلل يقول الله سبحانه وتعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) سورة نوح الآيات 10-12. وقال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا) سورة هود الآية 52.
وخير الدعاء هو الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي اله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن أبان زمانه عنكم وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم. ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي. وغير ذلك من الأدعية الواردة عن رسول اله صلى الله عليه وسلم. وقد استحب بعض أهل العلم أن يكثر الناس من الصدقة والصوم قبل الاسستقاء ويستحب أن يخرج المسلم إلى المصلى متواضعاً متخشعاً متضرعاً لما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشعاً حتى أتى المصلى) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح، ولا يعتبر انتشار المعاصي بين الناس وقطيعتهم للرحم ومنعهم للزكاة سبباً موجباً لترك صلاة الاستسقاء. *****(6/170)
171 - صلاة الاستخارة
يقول السائل: في رسالة طويلة تتعلق بالاستخارة إنه بحاجة إلى معرفة كيفية الاستخارة، وما علاقة الاستخارة بالاستشارة وما وقت الاستخارة؟ وهل من اللازم بعد الاستخارة أن يرى الإنسان رؤية؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن الاستخارة سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك واسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجلة أمري وآجله فاقدره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجلة أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به، ويسمي حاجته) . والاستخارة فيها التسليم لأمر الله وخروج الإنسان من حوله وقوته والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى للجمع بين خيري الدنيا والآخرة وأفضل شيء لذلك اللجوء إلى الصلاة والدعاء لما فيهما من الثناء على الله وتعظيمه والافتقار إليه. وهذه بعض الأحكام المتعلقة بالاستخارة:
1. أن تكون في الأمور المباحة التي لا يعرف فيها الإنسان وجه الصواب كأن يستخير في مرافقة فلان أو السفر إلى البلد الفلاني ونحو ذلك.
2. أن لا تكون الاستخارة في الأمور الواجبة أو المحرمة أو المكروهة وكذلك لا تكون في أصل المندوبات.
3. تكون الاستخارة عندما يهم الإنسان بعمل شيء ولا يكون عازماً على ذلك كأن يكون متردداً ولا يدري أيهما الصواب فعل الشيء أم تركه.
4. ينبغي للمسلم أن يستشير من يثق به من إخوانه وأصحابه قبل الاستخارة. قال الإمام النووي: [يستحب أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النصيحة والشفقة والخبرة ويثق بدينه ومعرفته قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وإذا استشار وظهر أنه مصلحة استخار الله تعالى في ذلك] .
5. المشهور في كيفية الاستخارة أنها تكون بعد أن يصلي المسلم كعتين نافلة بنية الاستخارة ثم يدعو بالدعاء المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد السلام من الركعتين وبعد الدعاء يسمي الإنسان حاجته وأجاز بعض العلماء أن يكون الدعاء أثناء السجود.
6. ويمكن أن تكون الاستخارة بدعاء الاستخارة بعد أي صلاة أو بدعاء الاستخارة بدون صلاة والأولى هي الأولى.
7. تجوز صلاة الاستخارة في جميع الأوقات ما عدا الأوقات التي تكره فيها الصلاة عند طلوع الشمس وعند زوالها وعند غروبها وبعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغيب الشمس.
8. يستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
9. استحب بعض أهل العلم تكرار الاستخارة سبع مرات عندما لا ينشرح صدر المستخير لشيء ما.
10. ليس من اللازم لمن استخار أن يرى رؤيا في المنام وإنما الذي يعقب الاستخارة انشراح الصدر أو عدمه لفعل الشيء الذي استخار فيه لما روي في حديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه) رواه ابن السني وهو ضعيف. والمقصود بانشراح الصدر هو ميل الإنسان وحبه للشيء من غير هوى للنفس. *****(6/171)
172 - صلاة الجنازة
يقول السائل: حصل نقاش حول صلاة الغائب ونفى بعض الناس صلاة الغائب وزعم أنها صلاة مخترعة لا أصل لها في الدين فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلّى على النجاشي صلاة الغائب فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث) رواه البخاري. وعن جابر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخاً لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه فقمنا صفين) رواه البخاري ومسلم. وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه. قال: فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وغير ذلك من الأحاديث. وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه فعندهما يصلى على كل ميت غائب احتجاجاً بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أنه صلى على النجاشي وهو غائب. قال الإمام الشافعي: [الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر] . وقال الحنفية والمالكية: صلاة الغائب غير مشروعة مطلقاً وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته على النجاشي فخاص به.
وقد زعم بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على النجاشي صلاة الغائب وإنما أحضر جثمان النجاشي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى عليه صلاة الجنازة والنجاشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الكلام مردود عند أهل العلم ووصف الإمام النووي هذا الكلام بأنه خيالات وأجاب عن ذلك بقوله: [قولهم أنه طويت الأرض فصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه أنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله] المجموع 5/253. وأجاب عن ذلك الإمام ابن العربي المالكي: [قالوا طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه. قلنا: إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثاً من أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف …] فتح الباري 3/432. وقد توسط جماعة من أهل العلم في هذه المسألة فقالوا: صلاة الغائب مشروعة في حق المسلم إذا مات ولم يصل عليه أحد من المسلمين وأما إذا صلي عليه فلا تشرع صلاة الغائب. وقد اختار هذا القول أبو داود صاحب السنن والإمام الخطابي في معالم السنن وبعض الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن المحدثين الشيخ المحدث الألباني وهذا رأي وجيه وفقه حسن.
قال الإمام الخطابي: [قلت: النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه على نبوته إلا أنه كان يكتم إيمانه والمسلم إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه إلا أنه كان بين ظهراني أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة عليه فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه إلى الصلاة عليه بظهر الغيب. فعلى هذا إذا مات المسلم ببلد من البلدان وقد قضي حقه في الصلاة عليه فإنه لا يصلي عليه من كان ببلد آخر غائباً عنه فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق أو مانع عذر كانت السنة أن يصلي عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا إلى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة] معالم السنن 1/270. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [الصواب: أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه صلي عليه صلاة الغائب كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه وإن صلي عليه حيث مات لم يصل عليه صلاة الغائب لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه والنبي صلى الله عليه وسلم صلى على الغائب وتركه وفعله وتركه سنة وهذا له موضع وهذا له موضع] زاد المعاد 1/520.
ومما يؤيد هذا القول أنه مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة خارج المدينة المنورة ولم ينقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليهم وما ورد من صلاته عليه الصلاة والسلام على رجل من الصحابة يقال له معاوية بن معاوية الليثي فهو غير صحيح وكذلك فإنه لما مات الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة لم يصل أحد من المسلمين عليهم صلاة الغائب ولو فعلوا لتواتر النقل بذلك عنهم كما قال الشيخ الألباني. أحكام الجنائز ص 93. ومما يؤيد هذا القول ما ورد في إحدى روايات صلاة النبي عليه الصلاة والسلام على النجاشي أنه قال: (إن أخاكم قد مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه) رواه أحمد وابن ماجة وسندها على شرط البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن صلاة الغائب مشروعة في حق الميت المسلم الذي لا يصلى عليه. *****(6/172)
173 - الدعاء والقنوت
أفضل الأذكار،
يقول السائل: ما هي أفضل الأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وما حكم الذكر بلفظ الجلالة المفرد، الله الله؟!
الجواب: الذكر عبادة من أعظم العبادات وأجلها مع كونها أيسر العبادات لأن حركة اللسان أخف حركات الجوارح فيه يحصل الفضل للذاكر وهو قاعد على فراشه وفي سوقه وفي حال صحته ومرضه وفي حال قيامه وقعوده وإقامته وسفره فليس شيء من الأعمال الصالحة يعم الأوقات والأحوال مثل الذكر. وقد أثنى الله في كتابه الكريم على الذاكرين والذاكرات فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) . وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفردون. قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) رواه مسلم. وقد وردت أقوال عن الصحابة والتابعين في بيان المراد من الذاكرين والذاكرات فقد ورد عن ابن عباس رضي الله: [الذين يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى] ، وقال مجاهد: [لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداَ ومضطجعاً] . وقال عطاء: [من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ) راجع الأذكار للنووي ص 7. وقد اتفق أهل العلم على أن أفضل الذكر هو القرآن الكريم. قال الإمام النووي: [اعلم أن تلاوة القرآن هي أفضل الأذكار والمطلوب القراءة بالتدبر] الأذكار ص 85. وبعد ذلك الأذكار المأثورة عن سيد الذاكرين عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة وأفضلها: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلى الله والله أكبر) . وقد وردت أحاديث كثيرة منها:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الل صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم.
2. وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت) رواه مسلم.
3. عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وغير ذلك من الأحاديث. ولا شك أن الأذكار المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم هي أفضل الأذكار وخاصة الأذكار التي وردت في الشرع مرتبة على أوقات معلومة أو لأفعال مخصوصة وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو قدوتنا ولأنه أعلم بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته ولكونه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب وأعلمهم بمواقع الكلام لكونه أوتي جوامع الكلم وأمد بالتسديد الرباني وكمال النصح لأمته فاتباعه في أذكاره أفضل من الاشتغال بذكر يخترعه الإنسان من عند نفسه. وبناء على ذلك فاعلم أخي السائل أن ذكر الله بلفظ الجلالة المفرد " الله، الله " لم يثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه رضي الله عنهم وهو ذكر مبتدع وليس من المأثورات في شي واعلم أن الذكر ثناء والثناء لا يكون إلا بجملة مفيدة يحسن السكوت عليها وليس كذلك الاسم المفرد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم …] مجموع الفتاوى 10/226. وقال في موضع آخر: [إن الشرع لم يتسحب من الذكر إلا ما كان كلاماً تاماً مفيداً مثل " لا إله إلا الله " ومثل " الله أكبر " ومثل " سبحان الله والحمد لله " ومثل " لا حول ولا قوة إلا بالله " ومثل " تبارك اسم ربك "، " تبارك الذي بيده الملك "، " سبح لله ما في السموات والأرض "، " تبارك الذي نزل الفرقان " فأما الاسم المفرد مظهراً مثل " الله، الله " أو مضمراً مثل " هو، هو " فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة ولا هو مأثور أيضاً عن أحد من سلف الأمة ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين …] مجموع الفتاوى 10/556.
وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الحق الذي تؤيده الألدلة الشرعية فمن ذلك ما ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) رواه مالك في الموطأ والطبراني وهو حديث حسن. *****(6/173)
174 - الإعتكاف
يقول السائل: كيف كان هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف؟ وهل يصح للمسلم أن ينوي الاعتكاف كلما دخل المسجد؟ وما حكم الاعتكاف؟
الجواب: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: [كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل وتركه مرة فقضاه في شوال. واعتكف مرة في العشر الأول ثم الأوسط ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر ثم تبين له أنها في العشر الأخير فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل. وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل وكان إذا أراد الاعتكاف صلّى الفجر ثم دخله … وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً … وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سريره في معتكفه … الخ] زاد المعاد 2/88-90.
هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف وعلينا الاقتداء به صلى الله عليه وسلم وأما حكم الاعتكاف فهو مسنون عند أكثر أهل العلم في العام كله وأوكد الاعتكاف ما كان في العشر الأواخر من رمضان وإذا نذر المسلم الاعتكاف صار الوفاء به فرضاً. وأما زمان الاعتكاف ومدته فجمهور العلماء يرون جواز الاعتكاف مدة يسيرة في المسجد كساعة أو ساعتين ونحو ذلك. قال ابن حزم: [كل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف فالاعتكاف يقع على ما ذكرنا مما قل من الأزمان أو كثر إذ لم يخص القرآن والسنة عدداً من عدد ولا وقتاً من وقت عن سويد بن غفلة قال: من جلس في المسجد وهو طاهر فهو عاكف فيه ما لم يحدث وعن عطاء بن أبي رباح عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: إني لأمكث في المسجد ساعة وما أمكث إلا لأعتكف، قال عطاء: هو اعتكاف ما مكث فيه وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف وإلا فلا] المحلى 3/412.
وينبغي أن يعلم أن الاعتكاف لا بد أن يكون في المسجد الذي تقام فيه الجمعة والجماعة حتى لا يحتاج المعتكف للخروج لهما ولا بد في الاعتكاف أيضاً من النية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) . والمطلوب من المعتكف أن يلبث في المسجد وينشغل بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وعليه أن يبتعد عن الخوض في أمور الدنيا. وعليه أن يجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال ويجتنب أيضاً المراء والجدال والسباب ويقلل الكلام في أمور الدنيا ولا يتكلم إلا بخير ويكره للمعتكف أن يترك الكلام تركاً مطلقاً معتقداً أن ذلك قربة لله لأن ذلك بدعة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذر ترك الكلام تركاً مطلقاً أن يتكلم ويجوز للمعتكف أن يأكل ويشرب وينام في المسجد مع وجوب محافظته على نظافة وطهارة المسجد ويجوز له أن يتطيب ويلبس ما شاء من الملابس الحسنة. وإذا نوى المسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فعليه أن يلبث في المسجد ولا يجوز له الخروج إلا لحاجة الإنسان ويجوز أن يخرج للوضوء والغسل وللأعمال الضرورية لأن الخروج من المسجد يفسد الاعتكاف إلا لما ذكرنا. *****(6/174)
175 - المال الحرام والصلاة
يقول السائل: هل من شروط صحة الصلاة أن تكون ملابس المصلي من كسب مشروع، وهل تصح صلاة من يلبس خاتماً أو ساعةً من مال حرام؟
الجواب: إن الصلاة صحيحة إن شاء الله في الحالات الثلاث الواردة في السؤال وهو مذهب جمهور أهل العلم. وهذا المصلي آثم لأنه اكتسب المال بطريق محرم وعليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويرجع إلى طريق الحق والصواب وأن يعيد الحقوق إلى أصحابها؟ وعلى هذا المصلي أن يتذكر قول الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) . فالصلاة ليست مجرد حركات رياضية يقوم بها الإنسان بل يجب أن تترك الصلاة آثاراً إيجابية في سلوك المصلي ومنهجه في الحياة. فإذا كان يصلي ويكسب ماله من طريق حرام ويرتكب المحرمات فإن صلاته لن تنفعه يوم القيامة وإن أداها في الدنيا وينطبق عليه ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يعطي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه فطرح في النار) رواه مسلم. فلا بد للصلاة أن تكون عاملاً رادعاً عن ارتكاب المحرمات.(6/175)
176 - الصلاة بالأحذية
يقول السائل: هل تصح الصلاة بالأحذية؟
الجواب: نعم تصح الصلاة والمصلي ينتعل حذاءه ولا بأس بذلك فقد ورد في الحديث الشريف عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم لم خلعتم؟ قالوا رأيناك خلعت فخلعنا فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي وكذلك قال النووي إسناده صحيح، وصححه الألباني. فهذا الحديث يدل على صحة الصلاة بالنعلين ولا يعني هذا أن ندخل المساجد المفروشة بالسجاد والموكيت بأحذيتنا فإن هذا مناف للذوق السليم، ولكن إن صلينا في الساحات أو في أفنية المساجد نصلي بأحذيتنا ولا شيء في ذلك ولا نبغي لأحد أن ينكر على من يصلي بحذائه لأن هذا الأمر ثابت بالسنة النبوية المطهرة.(6/176)
177 - السترة بين يدي المصلي
يقول السائل: ماحكم السترة بين يدي المصلي وإذا لم يصل لسترة فإلى أي مدى يجوز المرور بين يديه؟
الجواب: من السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي المصلي إلى سترة بين يديه فالسترة سنة مؤكدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل إن بعض الفقهاء يرون وجوبها. والمراد بالسترة: أن يضع المصلي بين يديه شيئا أو يصلي إلى شيء كالعمود أو الكرسي أو الشجرة أو نحو ذلك. ومن الأحاديث الواردة في السترة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصل إلا إلى سترة ولا تدع أحداً يمر بين يديك) رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ولايدع أحداً يمر بينه وبينها) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو حديث حسن. وعن سهل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها ولا يقطع الشيطان عليه صلاته) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وهو حديث صحيح. وإن صلى المصلي إلى سترة فلا يجوز لأحدٍ أن يمر بينه وبين السترة ويجوز للمصلي أن يدفع المار دون السترة وقد جعل العلماء مقدار دنو المصلي من السترة ثلاثة أذرع فإذا كانت المسافة أكثر من ذلك فيجوز المرور بين يدي المصلي ولا إثم في ذلك. وإذا لم يصل المصلي إلى سترة فيجوز المرور بين يديه بعد ثلاثة أذرع على قول أكثر أهل العلم. وينبغي أن يعلم أن المرور بين يدي المصلي إثم عظيم، فقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) ، وقال أبو النضر - أحد رواة الحديث -: [لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة] . رواه البخاري ومسلم. والسترة تلزم من يصلي منفرداً وكذلك الإمام وأما من يصلي مأموماً فسترة الإمام سترة له.(6/177)
178 - الخشوع في الصلاة
يقول السائل: ما حكم الخشوع في الصلاة وما الأمور التي تعين عليه؟
الجواب: الخشوع في الصلاة مطلوب وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين الخاشعين، يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) . والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع كما قال الإمام القرطبي. وقال قتادة: الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة وقد وردت نصوص كثيرة في الخشوع منها: قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) . وقوله تعالى: (قُلْءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) . ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم. وورد في حديث عمر بن عبسة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث: ( ... من قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه) رواه مسلم. وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يحضر صلاة مكتوبة فيحسن وضوئها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله) رواه مسلم. وحكم الخشوع: سنة من سنن الصلاة عند جمهور أهل العلم وقد صححوا صلاة من يفكر بأمر دنيوي إذا كان ضابطاً لأفعال الصلاة، ولا بد من مراعاة الأمور التالية حتى يخشع المصلي في صلاته:
1. أن يستحضر أنه واقف بين يدي الله سبحانه وتعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
2. أن يحصر فكره في الصلاة ويبعد أي تفكير آخر.
3. أن يخشع بجوارحه فلا يتحرك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً فلا يعبث بشيءٍ من جسده ولا بشيءٍ آخر كملابسه.
4. أن يتدبر القراءة فبذلك يكمل مقصود الخشوع.
وينبغي أن يعلم أن كثرة الحركة بالصلاة تتنافى مع الخشوع لن الخشوع كما ذكرت محله القلب ويظهر أثره على الجوارح وقد جعل بعض العلماء الحركة في الصلاة على خمس أقسام:
1. الحركة الواجبة وهي التي تتوقف عليها صحة الصلاة كمن كان يصلي لغير القبلة فنبهه آخر إلى أن القبلة عن يمينه أو يساره مثلاً فيجب عليه أن ينحرف لأنه إن بقي على حاله فصلاته باطلة.
2. حركة مستحبة وهي التي يتوقف عليها فعل مستحب مثل أن يتقدم المصلي إلى صف أمامه صار فيه فراغ فتحرك ليتم الصف فهذه الحركة مستحبة لأن فيها وصلاً للصف.
3. حركة مكروهة: وهي الحركة اليسيرة بدون حاجة لأنها عبث منافٍ للخشوع كمن ينظر إلى ساعته أثناء الصلاة.
4. حركة محرمة: وهي الحركة الكثيرة المتوالية لغير ضرورة كما يحصل من بعض المصلين من كثرة الحركة في الصلاة في إصلاح ملابسهم أو العبث بأجسادهم ونحو ذلك. ومثل هذه الحركات تكون مبطلة للصلاة ولا شك أن كثرة الحركة في الصلاة تدل على عدم الخشوع وتنقص من الأجر فقد ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (منكم من يصلي الصلاة كاملة ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع والخمس حتى بلغ العشر) رواه النسائي بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي. 5. حركة مباحة: وهي الحركة اليسيرة للحاجة كالمرأة التي تصلي وابنها يبكي فيجوز لها حمله أثناء الصلاة وقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت زينب في الصلاة) رواه البخاري ومسلم. وكما قلت على المسلم أن يستحضر وهو في الصلاة أنه بين يدي ملك الملوك سبحانه وتعالى فإن هذا يدفعه إلى الخشوع والسكون وعدم الحركة وما أجمل ما قال الشاعر: لأن بها الآراب لله تخضع ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع وأول فرض من شريعة ديننا وكان كعبد باب مولاه يقرع فمن قام للتكبير لاقته رحمة نجيا فيا طوباه لو كان يخشع وصار لرب العرش حين صلاته والآراب: هي الأعضاء. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أخشع الناس في صلاته حتى أنه كان يبكي في صلاته كما في الحديث عن مطرف عن أبيه قال: (أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزير كأزير المرجل، يعني يبكي) رواه النسائي وأبو داود بإسنادٍ صحيح. وقد ورد عن الصحابة والتابعين والصالحين أمور عجيبة في الخشوع في الصلاة منها أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلاجذع حائط. وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع الناس لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت. كان علي بن الحسن رضي الله عنهما إذا توضأ اصفر لونه فقيل له: [ما هذا الذي اعتادك عند الوضوء؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ... ] .(6/178)
179 - قضاء صلاة
قضاء الصلاة،
يقول السائل: كنت تاركاً للصلاة عدة سنوات ثم تبت ورجعت إلى الصلاة فماذا أصنع في صلوات تلك السنين هل أقضيها أم لا؟
الجواب: الحمد الله الذي هداك إلى طريق الحق والصواب وأخرجك من الظلمات إلى النور، وسأبين حكم تارك الصلاة أولاً ثم أجيب على السؤال، فأقول: إن الصلاة عمود الدين وهي ركن من أركان الإسلام ولا خلاف بين علماء المسلمين في كفر تارك الصلاة جحوداً وإنكاراً لها. وأما تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً فقد اختلف الفقهاء في حكمه: فيرى الإمام أحمد في أصح الروايات عنه أن تاركها كسلاً وتهاوناً كافر خارج من ملة الإسلام ينبغي قتله إن لم يتب ويرجع إلى الإسلام واحتج الإمام أحمد ومن تبعه على ذلك بأدلة كثيرة منها:
1. قوله سبحانه تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) . ففي هذه الآية إشارة إلى أن الكفار هم الذين لا يصلون.
2. وقال سبحانه وتعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) .
3. قوله سبحانه وتعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) .
4. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم.
5. وقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه أصحاب السنن الربعة وأحمد وهو حديث صحيح.
6. وما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهاناً ولا نوراً ولا نجاةً وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف) ، رواه بن حبان بسند صحيح رواه أحمد ورجال أحمد ثقات كما قال الهيثمي.
وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم كفر تارك الصلاة تهاوناً بل هو فاسق يقتل حداً عند الإمامين مالك والشافعي. وأما الحنفية فقالوا إنه يحبس ويضرب ضرباً شديداً حتى يصلي ويتوب أو يبقى مسجوناً حتى يموت واحتجوا بأدلة كثيرة منها:
1. قوله تعاى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
2. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه.
3. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان العمل) متفق عليه.
4. عن أن أنس أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ رديفه على الرحل: (يا معاذ قال: لبيك يارسول الله وسعديك ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه على النار) متفق عليه.
5. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصة من قلبه) رواه البخاري.
6. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات إفترضهن الله على عباده فمن جاء بهن وقد أكملهن ولم ينتقصهن استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن جاء بهن قد انتقصهن استخفافاً بحقهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء رحمه) رواه أحمد وابن حبان وهو حديث صحيح. وغير ذلك من الأدلة. وعلى كل حال فلا يخفى على المسلم إذا امعن النظر أن تارك الصلاة على خطر عظيم بين الكفر والفسق والعياذ بالله. نعود الآن إلى أصل السؤال حول قضاء الصلاة لمن تركها تهاوناً وتكاسلاً، إن من يرى أن تارك الصلاة تهاوناً كافر لا يطالبه بقضاء ما فاته من الصلوات إذا رجع وتاب لأنه رجع إلى الإسلام من جديد، وهذا قول الحنابلة. وأما جمهور الفقهاء: فيرون أن عليه قضاء ما فاته من الصلوات مع كونه آثماً ومذنباً ذنباً عظيماً لتركه لها وتأخيرها عن وقتها فيقضي ما فاته منها حسب ما يتيسر له فلا يشترط الترتيب فيها لأن في ذلك نوعاً من الحرج فيقضي حتى يغلب على ظنه أنه قد قضى ما عليه من الفوائت. ولا بد من تذكير السائل هنا بأن التوبة الصادقة لا بد لها من شروط ثلاثة: أولها: الإقلاع عن المعصية فلا توبة مع مباشرة الذنب واستمرار الوقوع في المعصية. ثانيها: الندم على ما مضى وفات فمن لم يندم على ما صدر عنه من المعاصي والآثام فلا توبة له لأن عدم ندمه يدل على رضاه بما كان منه وإصراره عليه. ثالثها: أن يعزم على عدم العودة إلى المعصية مستقبلاً وهذا العزم ينبغي أن يكون مؤكداً قوياً وعلى التائب أن يكثر من فعل الخيرات ليكسب الحسنات (فإن الحسنات يذهبن السيئات) .(6/179)
180 - حديث مكذوب في تارك الصلاة
يقول السائل: يتداول كثير من الناس حديثاً طويلاً في عقوبة تارك الصلاة وقد طبع هذا الحديث وعلق في المساجد وغيرها فهل ثبت هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلموهذا نص الحديث: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمسة عشرة عقوبة منها ستة في الدنيا وثلاثة عند الموت وثلاثة في القبر وثلاثة عند خروجه من القبر. أما الستة التي تصيبه في الدنيا:
1. ينزع الله البركة من عمره. 2. يمسح الله سيما الصالحين من وجهه. 3. كل عمل يعمله لا يؤجره الله عليه. 4. لا يرفع له دعاء في السماء. 5. ليس له حظ في دعاء الصالحين. 6. تخرج روحه بغير إيمان.
أما الثلاثة التي تصيبه عند الموت فهي: 1. أنه يموت ذليلاً. 2. أنه يموت جائعاً. 3. أنه يموت عطشاً ولو سقي ماء الدنيا ما روي من عطشه.
وأما الثلاثة التي تصيبيه في قبره فهي: 1. يضيق الله عليه القبر حتى تختلف ضلوعه. 2. يوقد الله عليه في قبره ناراً ويتقلب على الجمر ليلاً ونهاراً. 3. يسلط الله عليه في قبره ثعباناً يسمى الشجاع الأقرع يضربه على ترك صلاة الصبح من الصبح إلى الظهر وعلى تضييع صلاة الظهر من الظهر إلى العصر وهكذا كلما ضربه يغوص في الأرض سبعين ذراعاَ.
وأما الثلاثة التي تصيبه يوم القيامة فهي:
1. يسلط الله عليه من يسحبه إلى نار جهنم على جمر على وجهه. 2. ينظر الله تعالى إليه بعين الغضب وقت الحساب فيقع لحم وجهه. 3. يحاسبه الله عز وجل حساباً شديداً ويأمر الله به إلى النار وبئس القرار.
يقول السائل: يتداول كثير من الناس حديثاً طويلاً في عقوبة تارك الصلاة وقد طبع هذا الحديث وعلق في المساجد وغيرها فهل ثبت هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم الجواب: إن هذا الحديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهر من ركاكة ألفاظه وضعف سياقه وقد نص أهل الحديث على أنه مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم وقد كذب هذا الحديث وركبه أحد الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعى محمد بن علي بن عباس البغدادي العطار. قال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال: [محمد بن علي بن عباس العطار ركب على أبي بكر بن زياد النيسابوري حديثا باطلاً في تارك الصلاة] ميزان الاعتدال 3/ 653. ونقل الحافظ ابن حجر كلام الإمام الهبي وقال الحافظ: [زعم المذكور أن ابن زياد أخذه عن الربيع عن الشافعي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال الحافظ بن حجر: وهو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية] . لسان الميزان 5/334. ذكر الإمام بن عراق الحديث من ضمن الأحاديث المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل كلام الإمامين الذهبي وابن حجر ووافقهما على ذلك. تنزيه الشريعة 2/ 114. وبهذا يظهر أن الحديث مكذوب وباطل ولا يجوز نشره على الناس ولا تعليقه في المساجد، لأن ذلك من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم. وينبغي على من يرغب في نشر كتيبات أو نشرات تتضمن أحاديث نبوية أن يعرضها على أهل العلم والاختصاص للنظر فيها وتمحيصها قبل نشرها حتى لا يدخل في دائرة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم من الكبائر وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) . وإن في الأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يغني عن أمثال هذه الأخبار المكذوبة.(6/180)
181 - السهو في الصلاة
يقول السائل: إذا نسي أو سها في صلاته عن عدد الركعات التي صلاها فماذا يصنع؟
الجواب: إذا شك المصلي في صلاته فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً؟ أو نحو ذلك، فعليه أن يطرح الشك وليبن على اليقين. فمثلاً إذا كان في صلاة العشاء وشك في عدد الركعات التي صلاها أثلاثاً هي أم أربعاً فليطرح الشك وهو الأربع وليبن على الثلاث المتيقن منها أي أنه يعتبر نفسه قد صلى ثلاثاً ويكمل صلاته ويسجد سجدتي السهو قبل السلام. ويدل على ذلك حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثة أم أربعة فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماماً لأربع كانت ترغيماً للشيطان) رواه مسلم.(6/181)
182 - قضاء صلاة
يقول السائل: إن صلاة الصبح تفوته كثيراً فلا يصليها في وقتها وإنما يقضيها بعد طلوع الشمس فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن أداء الصلاة في وقتها فرض ولا بد من المحافظة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها. يقول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) . ويقول صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن أفضل الأعمال قال: (الصلاة على وقتها) رواه البخاري ومسلم. وكثير من المصلين يعانون من هذه المشكلة وهي تفويت صلاة الفجر عن وقتها وخاصة في أيام الصيف وأعتقد أن السبب في ذلك في هذه المسألة هو السهر الكثير الذي يترتب عليه ضياع صلاة الفجر، والسهر إذا كان فيما حرم الله فهو حرام كالذين يسهرون إلى ساعة متأخرة في متابعة المسلسلات والتمثيليات والأفلام الساقطة أو في الألعاب المحرمة شرعاً فإن سهرهم هذا يؤدي إلى فوات صلاة الفجر وما أدى إلى الحرام فهو حرام. وعلى الذين يسهرون في الأمور النافعة والمفيدة كطالب العلم الذي يقضي وقته في المذاكرة، على هؤلاء أن يتخذوا الأسباب التي تعينهم على الإستيقاظ وقت الصلاة كأن يتخذوا ساعة منبهة أو يطلبوا من شخص ما أن يوقظهم وقت الصلاة ونحو ذلك فإذا أخذوا بالأسباب ومع ذلك فاتتهم الصلاة فلا إثم عليهم إن شاء الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة) رواه النسائي والترمذي وصححه.(6/182)
183 - قضاء صلاة
يقول السائل: إذا نسي الإنسان أداء فريضة من الفروض. - أي الصلاة - وتذكر بعد يومين فما هو العمل؟
الجواب: إن الأصل في المسلم أن يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها لأن الشارع الحكيم قد حدد أوقاتاً معلومة للصلوات ينبغي التقيد بها فقال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) . وقد أثنى الله على المؤمنين الصادقين الذين يحافظون على صلواتهم بأدائها كما أوجبها الشارع مستكملة الأركان والشروط بقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى أن قال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وهذا الكلام الذي ذكرته يكون في حال التذكر واليقظة أما إذا نام الإنسان أو نسي وفاتته صلاة أو صلوات فلا إثم عليه في ذلك. يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما وهو حديث صحيح. وعن أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال: (إنه ليس في النوم تفريط وإنما التفريط في اليقظة) رواه النسائي والترمذي وابو داود وصححه الترمذي وقال الحافظ ابن حجر إسناده على شرط مسلم. ويجب على من نسي صلاة أو نام عنها أن يبادر إلى قضائها لأن من شغلت ذمته بفريضة لا تبرأ إلا بتفريغها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى) رواه البخاري. فعلى هذا السائل أن يبادر إلى قضاء الفريضة التي فاتته حال تذكره لها ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها) وهو حديث صحيح وجزء من حديث أبي قتادة السابق. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) رواه مسلم.(6/183)
184 - صلاة الجماعة
مسابقة الإمام في الصلاة,
يقول السائل: إن إمام المسجد الذي يصلي فيه ذو حركة بطيئة في الصلاة فمثلاً إذا كبر للركوع فإن المأمومين يسبقون الإمام في ركوعه وفي سجوده وهكذا فما حكم صلاتهم؟ الجواب: لا يجوز للمأمومين مسابقة إمامهم في الصلاة وعليهم أن يأتوا بأفعالهم وأقوالهم في الصلاة بعد إتيان الإمام بها ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: أيها الناس إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف) رواه مسلم. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ... ) رواه البخاري ومسلم. ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل أقوال المأمومين وأفعالهم مترتبة على أقوال وأفعال الإمام. ومنها عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: (سمع الله لمن حمده) لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقع سجوداً بعده. رواه البخاري.
ولهذه الأحاديث وغيرها قرر أهل العلم حرمة مسابقة المأمومين للإمام، إذا تعمدوا ذلك. إذا اتضح هذا فنقول للسائل إن عليك ألا تسابق إمامك مع علمك ببطء حركته في الركوع والسجود وغيرهما، وعليك أن تقتدي به في أفعاله وأقواله بعد وقوعها منه، وإذا حصل منك مسابقة له خطأً أو جهلاً فعليك الإنتظار حتى يدرك الإمام في الفعل الذي سبقته فيه، وصلاتك صحيحة إن شاء الله. وعلى هذا الإمام ألا يوقع المصلين في الحرام لأن مسابقة المأمومين لإمامهم محرمة وعليه أن يكبر خلال تأديته للركن وليس قبل الشروع فيه حتى يجنب المصلين الخطأ.(6/184)
185 - الجمع بين الصلوات
يقول السائل: هل يجوز الجمع بين الصلوات بسبب المطر؟ وما هي الصلوات التي يجمع بينها؟ وهل يجوز الجمع لمن كان بيته قرب المسجد؟ وهل يجوز الجمع لمن يصلي في البيت؟
الجواب: إن الجمع بين الصلاتين رخصة لدفع الحرج ورفع المشقة عن الناس ومن الأسباب التي يجوز الجمع بسببها بين الصلاتين المطر وهذا مذهب أكثر العلماء وعند الحنفية لا يجوز الجمع بين الصلاتين مطلقاً إلا في الحج فقط. وقد أجاز جمهور العلماء الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر جمع تقديم أي تقدم صلاة العشاء فتصلى بعد المغرب مباشرة. وأما الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر فلا يجوز على مذهب جمهور العلماء، وأجازه الشافعية في أحد القولين عندهم وأرى أن قولهم مرجوح ومذهب الجمهور أقوى دليلاً وأهدى سبيلاً فلا أرى جواز الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر لأن الدليل ورد فقط في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر وهو ما رواه الأثرم: أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: [إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء] والظاهر أن قوله من السنة أي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على ذلك ما رواه البيهقي أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر. سنن البيهقي 3/168-169. والمطر الذي يجوز الجمع بسببه، هو المطر الذي يبل الثياب ويتقيه عامة الناس وينبغي أن يكون المطر موجوداً عند الجمع وأما ما يفعله بعض الناس من الجمع مع عدم وجود المطر وانقطاعه قبل ساعات من الجمع فهذا لا يجوز ولا ينبغي التساهل في هذا الأمر لأن الجمع رخصة لها سبب وهو المطر فإذا وجد المطر يجوز الجمع وإلا فلا. ولا يجوز الجمع إلا لمن يصلي مع الجماعة في المسجد ولو كان بيته قريباً من المسجد فيجوز له الجمع. وأما من يصلي في بيته فلا يجوز له الجمع بسبب المطر لأن الجمع يجوز للمشقة التي تلحق بالمصلين مع الجماعة وهذا المعنى مفقود فيمن يصلي في البيت.(6/185)
186 - صلاة الجماعة
صلاة العشاء خلف الإمام في التراويح،
يقول السائل: عدة أشخاص فاتتهم صلاة العشاء مع الجماعة ودخلوا المسجد فوجدوا الإمام في التراويح فماذا يصنعون؟ هل يصلون العشاء جماعة لوحدهم؟ أم ماذا يفعلون؟
الجواب: إن الذين تفوتهم صلاة العشاء مع الجماعة ويدركون الإمام في صلاة التراويح فأرى لهم أن يدخلوا مع الإمام بنية صلاة العشاء فيصلون خلف الإمام فإن سلم الإمام قاموا وأتموا صلاة العشاء وأرى أنه لا ينبغي لهم إقامة صلاة جماعة أخرى في المسجد لما في ذلك من تعدد للجماعات ولما فيه من التشويش على الجماعة الأولى الذين يصلون مع الإمام الراتب. ولما ثبت في الحديث عن جابر: (أن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة) رواه البخاي ومسلم. وجاء في رواية: (هي له تطوع ولهم مكتوبة العشاء) رواها الشافعي والدارقطني. وصححها الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
فهذا الحديث يدل على جواز اقتداء من يصلي فريضة بمن يصلي نافلة فيصح لهم أن يصلوا فريضة العشاء خلف الإمام الذي يصلي نافلة التراويح وهذا القول هو أرجح قولي العلماء في المسألة وهو قول الشافعية والخنابلة.(6/186)
187 - صلاة المسافر
يقول السائل: ما حكم قصر الصلاة في حق المسافر وما هي المدة التي يقصر فيها وهل يجوز له أن يجمع بين الصلاتين؟
الجواب: إن الإسلام دين يسر وسهولة ومن مقاصد الشرع الحنيف دفع الحرج ورفع المشقة عن المكلفين ولا شك أن السفر فيه نوع من الحرج والمشقة فشرع الإسلام قصر الصلاة والجمع بين الصلاتين وتوضيح ذلك فيما يلي:
أولاً: حكم القصر في السفر: القصر مشروع شرعه الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويلاحظ في الآية الكريمة أن القصر علق على الخوف من فتنة الذين كفروا ولكن هذا التعليق جاء لبيان الواقع حيث إن أغلب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت كان فيها خوف فيجوز القصر أيضاً حالة الأمن. ويدل على ذلك حديث علي بن أمية قال: [قلت لعمر بن الخطاب: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد أمن الناس قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته) ] رواه مسلم وأصحاب السنن. وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على جواز القصر للمسافر منها حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك) رواه البخاري ومسلم. والقصر رخصة أو سنة عند أكثر العلماء فيجوز للمسافر أن يقصر ويجوز له أن يتم والقصر أفضل إقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره ان تؤتى معصيته) رواه أحمد وابن حبان وابن خزيمة وصححاه.
ثانياً: مسافة القصر تقدر قي وقتنا الحاضر بحوالي تسعة وثمانين كيلو متراً ويجوز للمسافر القصر إذا قطع تلك المسافة بغض النظر عن وسيلة السفر سواء سافر بالطائرة أو بالسيارة أو بالباخرة.
ثالثاً: مدة القصر، يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة ما لم ينو الإقامة في بلد مدة محدودة على خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في تحديدها: فقال الحنفية: يجوز للمسافر أن يستمر في قصر الصلاة ما لم ينو الإقامة في بلد خمسة عشر يوماً فإذا نوى الإقامة خمسة عشر يوماً فأكثر فيجب عليه الإتمام. وعند الشافعية والمالكية والحنابلة: إذا نوى المسافر الإقامة أربعة أيام فأكثر يلزمه الإتمام على خلاف بينهم في احتساب يوم الدخول ويوم الخروج. وذهب بعض العلماء من أهل الحديث وبعض المعاصرين إلى أن المسافر يجوز له القصر وإن امتدت مدة إقامته في بلد ما إلى سنين ما لم ينو اتخاذ ذلك البلد وطناً، فأجازوا مثلاً لطالب العلم أن يقصر ما دام في البلد الذي يدرس فيه وهو ينوي الرجوع إلى بلده الأصلي. ولكني لا أميل لهذا الرأي وينبغي التقيد في هذه المسألة بقول جمهور العلماء القائلين بتحديد مدة القصر.
رابعاً: الجمع بين الصلاتين للمسافر: يجوز للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر تقديماً وتأخيراً وكذلك المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً وقد ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديث منها: حديث معاذ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليها جميعاً وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. فيجوز للمسافر أن يقدم العصر إلى أول وقت الظهر فيصليهما جمعاً وقصراً أي ركعتين للظهر وركعتين للعصر وهذا جمع التقديم ويجوز ان يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيصليهما كذلك وهو جمع التاخير وكذلك الحال في المغرب والعشاء.
خامساً: لا بد أن يعلم أن المسافر لا يصير مسافراً بمجرد نية السفر وإنما يصير مسافراً إذا شرع في السفر فعلاً.
وبناء على ذلك لا يجوز للمسافر أن يتلبس بأحكام المسافر حتى يبدأ السفر فعلاً فإذا خرج المسافر من حدود بلده الذي يقيم فيه يجوز له أن يقصر ويجمع ويجوز له أن يفطر في رمضان فمثلاً إذا كان الشخص مقيماً في القدس ونوى السفر إلى عكا فلا يقصر ولا يجمع ولا يفطر إلا إذا غادر مدينة القدس ويدل على ذلك حديث أنس قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين) رواه البخاري ومسلم. وذو الحليفة هو المكان المعروف الآن بآبار علي وهو على مشارف المدينة المنورة. وكثير من الناس يقعون في هذا الخطأ فإذا نوى أحدهم السفر فإنه يصلي الظهر والعصر جميعاً ثم يخرج إلى سفره وهذا غير جائز لأنه لم يشرع في سفره بعد.(6/187)
188 - صلاة الجماعة
لا تصلى الضحى جماعة دائماً،
يقول السائل: اعتدنا أن نصلي صلاة الضحى جماعة فما حكم ذلك؟
الجواب: إن صلاة النافلة أو التطوع تنقسم إلى قسمين من حيث صلاتها جماعة: القسم الأول: ما تشرع فيه صلاة الجماعة كصلاة التراويح وصلاة الكسوف وصلاة العيدين عند من يرى أنها سنة وصلاة الإستسقاء فهذه صلوات الأصل فيها أن تصلى جماعة لأنها ثبتت كذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. القسم الثاني: ما لا تسن له الجماعة الراتبة وذلك كالسنن والرواتب وهي سنة الفجر وسنة الظهر القبلية والبعدية وسنة المغرب وسنة العشاء، وكذلك سنة الضحى وتحية المسجد وقيام الليل. فهذه الصلوات كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصليها في جماعة راتبة وإنما المشروع أن تصلى فرادى ولكن إن فعلت هذه الصلوات جماعة أحياناً وبشرط أن لا يتخذ ذلك عادة يجوز إن شاء الله ولا بأس به. وأما إذا اتخذ ذلك عادة وصار لهذه الصلوات جماعة راتبة فهذه بدعة مكروهة مخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ومما يدل على جواز فعلها جماعةً أحياناً لا دائماً ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعض هذه الصلوات جماعةً أحياناً فمثلاً كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي قيام الليل منفرداً وهذا في أغلب أحواله عليه الصلاة والسلام ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى قيام الليل جماعة في بعض الحالات منها: ما ورد في حديث ابن عباس قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه) رواه البخاري. ومنها حديث عتبان بن مالك قال: (يا رسول الله إن السيول لتحول بيني وبين مسجد قومي فأحب أن تأتيني فتصلي في مكان من بيتي أتخذه مسجداً فقال: سنفعل. فلما دخل قال أين تريد؟ فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه فصلى بنا ركعتين) رواه البخاري ومسلم.
وبناء على ما تقدم لا أرى لكم المداومة على صلاة الضحى جماعة وإنما أرى أن تصلوها فرادى وإن صليتموها جماعة أحياناً فلا بأس في ذلك.(6/188)
189 - سنن الصلاة
صلاة الوتر,
يقول السائل: ما حكم صلاة الوتر؟ وهل صحيح ما يقال بأنها تصلى ركعة واحدة؟ وهل القنوت فيها واجب؟
الجواب: صلاة الوتر من السنن المؤكدة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها: عن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن) رواه أبو داوود والترمذي وقال حديث حسن. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا) رواه مسلم. وتجوز صلاة الوتر بركعة واحدة وكذا بثلاثة أو خمس أو سبع أو تسع ركعات فقد جاء في الحديث عن ابن عمر قال: (قام رجل فقال يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته) رواه البخاري. وعن أم سلمة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام) رواه النسائي وابن ماجة وأحمد. وإذا صلى المسلم الوتر ثلاث ركعات فيجوز فيها ثلاث هيئات كما يلي:
الأولى: أن يصلي ركعتين ثم يسلم وبعدها يأتي بالثالثة.
الثانية: أن يصلي ركعتين ثم يجلس بعد الثانية ثم يأتي بالثالثة كهيئة صلاة المغرب.
الثالثة: أن يصلي الركعات الثلاث متصلة ولا يجلس إلا بعد الثالثة وكل ذلك جائز إن شاء الله ووردت فيه الأحاديث.
أما القنوت في صلاة الوتر فهو سنة وليس بواجب فإذا تركه المصلي فلا شيء عليه والذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان أحياناً يقنت في الوتر وأحياناً أخرى لا يقنت. ويجوز القنوت قبل الركوع وبعده وهو الأفضل والأقوى. وأفضل وقت لصلاة الوتر آخر الليل في حق من يغلب على ظنه الاستيقاظ في آخر الليل وإلا فليصلي الوتر بعد صلاة العشاء فقد ورد في الحديث عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد ومن وثق بقيام الليل فليوتر آخره فإن قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل) رواه مسلم. ومن السنة ي القراءة في الوتر إذا صلى ثلاثاً أن يقرأ في الركعة الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة الكافرون وفي الثالثة سورة الإخلاص كما ورد في الحديث عن أبي بن كعب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر سبح اسم ربك الأعلى وفي الركعة الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو الله أحد) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. ومن صلى صلاة الوتر أول الليل ثم رغب أن يصلي في آخر الليل يصلي ما يشاء ولا يعيد الوتر.(6/189)
190 - صلاة الجمعة
يقول السائل: إننا نشاهد أكثر المصلين يوم الجمعة وبعد الإنتهاء من الآذان يقومون فيصلون ركعتين يسمونها سنة الجمعة القبلية فهل ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: إن قوام هذا الدين في أمرين:
1. ألا يعبد إلا الله.
2. أن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ولقد قرر علماء الإسلام أن الأصل في العبادات التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن في أمورنا مأمورون باتباعه والاقتداء به. قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها وكل ما يتعلق بها وعلم الصحابة كيف يصلون وصلى أمامهم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. إني أقر جازماً أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سن لأمته ركعتين تسميان سنة الجمعة القبلية فلم يثبت ذلك عنه قولاً ولا فعلاً ولم يرد في سنة الجمعة القبلية حديث صحيح صريح وإنما وردت بعض الأحاديث التي لا يعول عليها ولا يحتج بها. ولا بد من الرجوع إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة وكيف كان يفعل حتى نرى هل سن لأمته سنة قبل الجمعة أم لا. قال العلامة ابن القيم: [وكان إذا فرغ بلال من الآذان أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ولم يقم أحد يركع ركعتين ولم يكن الآذان إلا واحداً وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد لا سنة لها وهذا أصح قولي العلماء وعليه تدل السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته فإذا رقى المنبر أخذ بلال في آذان الجمعة فإذا أكمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل وهذا رأي عين فمتى كانوا يصلون السنة؟ ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الآذان قاموا كلهم فركعوا ركعتين فهو أجهل الناس بالسنة] . زاد المعاد في هدي خير العباد 1/431 - 432.
ومن المعلوم كما أشار ابن القيم أن الآذان يوم الجمعة كان واحداً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإنه كان عند جلوس النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر وكذلك الأمر في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه زاد لآذان الثاني وعلى هذا يدل حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: (كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء) رواه البخاري. فما دام أن الأذان كان واحداً وأن الأذان يكون عندما يجلس الإمام على المنبر ومن المتفق عليه عند العلماء أن الصلاة النافلة تنقطع بمجرد جلوس الإمام على المنبر إلا من كان في صلاة فيخففها أو من كان داخلاً إلى المسجد فيصلي ركعتين خفيفتين. فمتى كانوا يصلون السنة القبلية؟ قال الحافظ العراقي: [لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل الجمعة لأنه كان يخرج إليها فيؤذن بين يديه ثم يخطب] نيل الأوطار 3/389. وقال الحافظ بن حجر: [وأما سنة الجمعة التي قبلها فلم يثبت فيها شيء] فتح الباري 3/ 61.
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من إشارة إلى سنة الجمعة القبلية فهي أحاديث باطلة أو ضعيفة لا تقوم بها الحجة فمنها ما جاء عن عائشة رضي الله عنه: (أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قبل الجمعة ركعتين في بيته) فهذا حديث باطل مكذوب. ومنها حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام: (كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعاً) وهذا حديث ضعيف بهذا السياق ومنها أنه عليه الصلاة والسلام: (كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً) وهذا ضعيف جداً. وهنالك أحاديث أخرى ضعيفة تكلم عليها الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/73. قال الشيخ ناصر الدين الألباني بعد أن ذكر بعض الأحاديث الواهية في سنة الجمعة القبلية ما نصه: [ولهذا كان جماهير الأمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد لأن ذلك يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسن في ذلك شيئاً لا بقوله ولا بفعله وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأكثر الصحابة وهو مشهور في مذهب أحمد] . وقال الحافظ العراقي: [ولم أر للأئمة الثلاثة ندب سنة قبلها] الأجوبة النافعة ص 30-32. وقال الحافظ المناوي في فيض القدير: [ولذلك لم يرد لهذه السنة المزعومة ذكر في كتاب " الأم " للإمام الشافعي ولا في " المسائل " للإمام أحمد ولا عند غيرهما من الأئمة المتقدمين] . وبعد هذه الجولة القصيرة يظهر لنا جلياً أنه لم يثبت عن رسول الله عليه وسلم سنة قبلية للجمعة وإنما الثابت عنه السنة بعد الجمعة فقط. وينبغي ألا يعتز بكثرة الفاعلين لما يسمى بالسنة القبلية فإن هذه القضية من العبادات والأصل فيها كما ذكرت ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من دليل صحيح يحتج به وأما كثرة الفاعلين لها فلا دليل معهم فلا عبرة بفعلهم.(6/190)
191 - صلاة الجمعة
الدروس قبل صلاة الجمعة,
يقول السائل: ما هو المشروع في حق المسلم الذي ينتظر صلاة الجمعة؟ وما الحكم في الدروس التي تعقد قبل صلاة الجمعة؟ وكذلك تلاوة القارئ للقرآن الكريم بواسطة مكبرات الصوت قبل صلاة الجمعة؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم قبل صلاة الجمعة أن ينشغل في الصلاة النافلة وفي قراءة القرآن الكريم وبالذات سورة الكهف وفي الأذكار وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد في ذلك عدد من الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها:
1. عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
2. وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى) رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات كما قال الهيثمي.
3. عن نافع: (أن ابن عمر رضي الله عنه كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة فيصلي ركعات وقال: هكذا كان يفعل رسول الله) رواه أحمد وأبو داود وقال العراقي إسناده صحيح.
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذكر يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى إلا أعطاه إياه) رواه البخاري ومسلم.
5. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) رواه النسائي والبيهقي والحاكم وصححه الشيخ الألباني أيضاً.
6. وعن أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه الله خلق آدم ... فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة والحاكم وافقه الذهبي.
وأما الجواب عن الشق الثاني من السؤال حول الدروس والتلاوة قبل صلاة الجمعة وخاصة مع استعمال مكبرات الصوت فأرى أن تلك الدروس وتلك التلاوة مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد تصل إلى درجة الحرام ولا تقل عن درجة المكروه لأن تلك الروس وتلك التلاوة تشتمل على إيذاء المصلين والذاكرين والقارئين وهذه أمور منهي عنها ومحرمة شرعاً كما ثبت في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف عن الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في قراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني. وكذلك ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المصلي مناجٍ ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك بسند صحيح قاله الشيخ الألباني وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا علي لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك حيث يصلي الناس فإن ذلك يفسد عليهم صلاتهم) .
وكذلك فإن الدروس التي تعقد قبل صلاة الجمعة وتلاوة القرآن من قبل القارئ مخالفة لما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه رضي الله عنهم وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن عقد حلقات الدروس قبل صلاة الجمعة فقد روى أبو داود بسنده: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الترمذي والألباني. قال الإمام البغوي: [وفي الحديث كراهية التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة في المسجد وغيره] شرح السنة 2/374.
وبهذه المناسبة فإني أناشد أئمة المساجد والمسؤولين عن المساجد أن يوقفوا هذه الدروس والتلاوة قبل صلاة الجمعة وأن يمنعوا التشويش على عباد الله فهم في ذلك الوقت ما بين راكع وساجد وذاكر وقارئ ومتفكر وعليهم أن يسعوا إلى إحياء سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كما وأن الموعظة الحاصلة بخطبتي الجمعة تغني عن الدروس ومن شاء أن يدرس فليكن ذلك بعد صلاة الجمعة.(6/191)
192 - صلاة الجمعة
يحرم ترك صلاة الجمعة بسبب العمل,
يقول السائل: أعمل في أحد المصانع وتفوتني صلاة الجمعة غالباً لأن صاحب العمل يمنعني من ترك العمل يوم الجمعة فما الحكم في ذلك؟
الجواب: من المعلوم أن صلاة الجمعة فرض على كل مكلف بها لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . وصلاة الجمعة هي فرض الوقت يوم الجمعة وليس صلاة الظهر كما يظن بعض الناس فصلاة الجمعة هي الأصل وصلاة الظهر بدل عنها. ولا يجوز للمسلم المكلف بصلاة الجمعة أن يتركها لغير عذر شرعي وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من يترك الجمعة لغير عذر وأن تاركها يطبع الله على قلبه فيصير قلبه قلب منافق والعياذ بالله وقد ورد في ذلك أحاديث منها:
1. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم) رواه مسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لينتهين أقوام عن ودعهم - أي تركهم - الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) رواه مسلم.
3. وعن أبي الجعد الضمري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه) رواه أصحاب السنن وغيرهم وهو حديث صحيح.
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها فيطبع على قلبه) رواه ابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني. والصبة: المجموعة من الغنم ما بين العشرين إلى الثلاثين وقيل غير ذلك من العدد. ومن خلال هذه الأحاديث يظهر لنا عدم جواز ترك الجمعة ولا يعد العمل يوم الجمعة عذراً لتركها ولا يجوز للمسلم أن يشتغل في عمل يصده عن أداء ما فرض الله عليه ولو أدى ذلك إلى تركه للعمل. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) .
ولتعلم أخي المسلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وتذكر قول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .(6/192)
193 - صلاة الجمعة
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة مع ربط ذلك بما عليه خطباء المسلمين؟
الجواب: لا شك أن خير الحديث كتاب الله وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن من يطلع على هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام ليعجب مما يفعله كثير من خطباء اليوم في خطب الجمعة والعيدين وغيرها، فخطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقريراً لأصول الإيمان، من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته وما أعد لأعدائه وأهل معصيته فتملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً كما كان عليه الصلاة والسلام يعلم الصحابة في خطبه قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم ... ألخ.
وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ آيات من القرآن الكريم في خطبته أحياناً سوراً من القرآن كسورة (ق) كما ثبت في الحديث عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما قالت: (ما أخذت (ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) رواه مسلم وأحمد وغيرهما. وكان من هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام تقصير الخطبة وإطالة الصلاة فقد ثبت في الحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) رواه مسلم. والمئنة هي العلامة. أي أن قصر الخطبة وطول الصلاة علامة على فقه الخطيب. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة) رواه النسائي وإسناده صحيح. وكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش. هذا بعض ما جاء في الهدي النبوي في خطبة الجمعة ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن القيم يرحمه الله. تلكم الصورة المشرقة التي كان عليها هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة. وإذا نظرنا إلى الصورة الواقعة في مساجدنا فماذا نرى؟ إن بعض الخطباء لا يكادون يقرؤون آية من القرآن في خطبهم ويكادون لا يذكرون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرى أن كثيراً منهم يركزون خطبهم على موضوع واحد وكأن الإسلام محصور فيه قط. فمثلاً نجد كثيراً من الخطباء لا يخطبون إلا في الموضوع السياسي للأمة أضف الى ذلك ما يضيفه بعض الخطباء على خطبهم من السباب والشتائم. ولا شك أن الموضوع السياسي مهم جداً ولكن الإسلام ليس مقصوراً عليه وخاصة أن كثيراً من الكلام الذي يقال هو مجرد كلام نظري لا يجد طريقه إلى أرض الواقع، وإنما العملية مجرد تنظير فلسفي فقط والناس في زماننا يحتاجون إلى التبصير في أمور دينهم كلها فيجب على الخطباء أن يتناولوا مختلف قضايا المسلمين وما يهمهم في الدنيا والآخرة. كذلك نجد أن بعض الخطباء يطيلون الخطبة طولاً يصيب المصلين بالسآمة والملل فإذا قاموا إلى الصلاة قرأ الإمام أقصر سور القرآن الكريم.
ومن الأمور المخالفة لهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة أن بعض الخطباء يقصرون الخطبة الثانية على الدعاء فقط ولا يذكرون فيها شيئاً من الوعظ والإرشاد والترغيب والترهيب. أضف إلى ذلك أن كثيراً من الخطباء يستشهدون بالأحاديث دون التثبت من صحة نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فكم مرة سمعنا الخطيب يملأ فمه قائلاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ... ويكون الحديث مكذوباً على الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضعيفاً واهياً. فواجب الخطيب أن يتأكد من درجة الأحاديث التي يستشهد بها في خطبته بالرجوع إلى كتب أهل الحديث. ولا يكفي أن يأخذ الخطيب حديثاً من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري مثلاً دون أن يعرف اصطلاح الإمام المنذري الذي ذكره في مقدمة كتابه فهذه مسؤولية وأمانة وخاصةً أن عامة الناس يتلقفون تلك الأحاديث من أفواه الخطباء فيكون ذلك سبباً في انتشارالأحاديث المكذوبة والواهية بين الناس.
ومن الأمور المؤسفة أن كثيراً من الخطباء يسكتون عن البدع التي تقع في المساجد يوم الجمعة وغيره والمخالفة للهدي النبوي دون أن يحركوا ساكناً لإنكارها بل أن بعضهم يعمل على نشرها قولاً وفعلاً. ومن الأمور اللافتة للنظر أن بعض الخطب تكون على شكل البيانات الرسمية والمراسيم الحكومية، وليس لها نصيب من الخطبة إلا في الإسم فقط. هذا فضلاً عن كثرة الأخطاء النحوية والأخطاء في تلاوة الآيات القرآنية التي يقع فيها كثير من الخطباء. وختاماً أدعو كل من يتصدى للخطابة أن ينهل من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن تكون الخطبة على منوال خطب النبي عليه الصلاة والسلام.(6/193)
194 - صفة سجود التلاوة
سجود التلاوة وسجود الشكر,
يقول السائل: هل لسجدة التلاوة ولسجدة الشكر تكبيرة إحرام وتسليم أم لا؟ وهل يجوز للمرأة أن تسجد سجدة التلاوة وهي غير مرتدية للباسها الكامل وهل تصح سجدة الشكر بدون وضوء؟
الجواب: إن كلاً من سجود التلاوة وسجود الشكر مشروع فقد ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم فمن ذلك:
1. ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه ... ) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) رواه مسلم.
3. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود عليه السلام توبةً ونسجدها شكراً) رواه النسائي والدارقطني وصححه ابن السكن. هذا بعض ما ورد في سجود التلاوة: أما في سجود الشكر فقد وردت أحاديث منها:
1. عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجداً لله تعالى) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن.
2. وعن عبد الرحمن بن عوف أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت شكراً) رواه أحمد وهو حديث حسن.
3. وورد عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سجد حين علم بمقتل مسيلمة الكذاب. وكذلك ورد عن كعب بن مالك رضي الله عنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سجد لما بشر بتوبة الله عليه وغير ذلك من الأحاديث والآثار. وحكم سجود التلاوة وكذلك سجود الشكر سنة عند أكثر أهل العلم. وصفة سجود التلاوة وكذا سجود الشكر كما يلي:
أولاً: خارج الصلاة: يكبر من يريد السجود دون أن يرفع يديه ويسجد سجدةً واحدة يقول فيها ما يقوله في سجود الصلاة ثم يكبر عند الرفع بدون تسليم على قول جمهور الفقهاء وهذه الصفة مشتركة بين سجود التلاوة وسجدة الشكر.
ثانياً: في الصلاة: أما سجدة التلاوة في الصلاة فإذا قرأ الإمام آية فيها سجدة فإنه يكبر ويهوي إلى السجود ويسبح كما يسبح في سجود الصلاة ثم يكبر ثانية ويقوم فيتم القراءة ثم يكمل صلاته كالمعتاد. وأما سجدة الشكر فلا تشرع في الصلاة وإنما خارج الصلاة فقط. وعند جمهور العلماء يشترط في سجود التلاوة والشكر ما يشترط في الصلاة من حيث الوضوء واستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب وطهارة المكان. وبهذا يظهر لنا أنه في سجدة التلاوة وسجدة الشكر لا تشرع تكبيرة للإحرام ولا يشرع فيها التسليم على قول أكثر أهل العلم. وكذلك يجب على المرأة أن تستر بدنها كاملاً عند السجود كما هو الحال في الصلاة ولا بد من الوضوء فيهما.(6/194)
195 - هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم عند انحباس المطر
يقول السائل: ما هي صلاة الاستسقاء؟ وكيف تصلى؟ ومتى تصلى؟
الجواب: صلاة الاستسقاء مشروعة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قلة الأمطار وانحباسها فلا بد للناس أن يبادروا إلى التوبة والاستغفار مصداقاً لقوله تعالى: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً) . وقد وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث في الاستسقاء منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه ثم قلب ردائه فجعل الأيمن الأيسر والأيسر الأيمن) رواه أحمد ورواته ثقات.
وصلاة الاستسقاء ركعتان تصلى جماعة في المصلى خارج البلد وهو الأفضل وبدون أذان ولا إقامة كصلاة العيدين وهذا قول أكثر أهل العلم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سئل عن الصلاة في الاستسقاء فقال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً متتضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وصححه. فيصلي الإمام بالناس ركعتين مع تكبيرات زوائد سبع في الأولى وخمس في الثانية ويقرأ فيهما جهراً ثم يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين كما في صلاة العيدين ويستحب أن يكثر الخطيب من الاستغفار ويلح في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل. ويستحب رفع اليدين عند الدعاء للإمام والمأمومين وكما يستحب قلب الرداء وتحويله تفاؤلاً بتحويل الحال من القحط إلى الرخاء ويحوّل الرجال فقط أرديتهم وهم جلوس فمثلا من كان يلبس عباءه يقلبها على ظهره بأن يجعل أعلاها أسفلها ونحو ذلك. ووقت صلاة الاستسقاء المستحب هو وقت صلاة العيد لقول عائشة رضي الله عنها: (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وإسناده جيد. وتجوز في أي وقت آخر ما عدا أوقات الكراهة. وبهذه المناسبة أذكر الأخوة أئمة المساجد بإحياء هذه السنة ودعوة الناس إلى إقامة صلاة الاستسقاء والإكثار من الاستغفار وطلب السقيا من الله عز وجل.(6/195)
196 - سنن الصلاة
صلاة الأوابين ,
يقول السائل ما الموقصود بصلاة الأوابين وما عدد ركعاتها؟
الجواب: إن المشهور بين الناس أن صلاة الأوابين هي التي تصلى بين المغرب والعشاء فمنهم من يصلي أربع ركعات ومنهم من يصلي ست ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة ويسمون هذه الصلاة كما ذكرت سابقاً صلاة الأوابين. ولكن الأصح أن صلاة الأوابين هي صلاة الضحى لما ورد في الحديث أن زيد بن الأرقم رضي الله عنه رأى قوماً يصلون من الضحى فقال أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عن زيد بن الأرقم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون فقال: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال) رواه مسلم. والأوابون: جمع أواب وهو الراجع إلى الله تعالى. ترمض الفصال: أي حين تشتد حرارة الشمس فيسخن الرمل فتجد أولاد الإبل حر الشمس، الفصال: جمع فصيل وهو الصغير من أولاد الإبل. وقد ذكر في بعض الروايات أن سبب ذكر الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر عليهم وهم يصلون الضحى عند شروق الشمس فذكر الحديث الذي يشير إلى أن وقت صلاة الضحى عند ارتفاع الشمس.
ويرى الإمام الشوكاني أنه لا مانع من إطلاق صلاة الأوابين على كل من الصلاتين المذكورتين أي صلاة الضحى والصلاة بين المغرب والعشاء واحتج على ذلك بخبر مرسل عن محمد بن المنكدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الصلاة بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين. ومما يجب التنبيه عليه أنه قد وردت أحاديث كثيرة في مشروعية الصلاة ما بين المغرب والعشاء وإن كانت في معظمها ضعيفة إلا أن كثيراً من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم قد عملوا بها لأن هذا من فضائل الأعمال كما حققه الإمام الشوكاني وغيره. فلا بأس بصلاة النافلة بين المغرب والعشاء من غير تحديد عدد معين للركعات. وأما صلاة الضحى فالأحاديث فيها صحيحة وثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فمنها: (عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام) رواه البخاري ومسلم. (وعن أم هانيء رضي الله عنها أنه لما كان عام الفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى) رواه البخاري ومسلم.
ويجوز أن تصلى الضحى ركعتين أو أربعاً أو ستاً أو ثمانياً وبكل ذلك وردت الأحاديث وفي الأمر سعة.(6/196)
197 - من البدع في الصلاة
يقول السائل: اعتاد كثير من المصلين بعد انتهاء الصلوات المفروضات أن يصافح بعضهم بعضاً قائلين "يتقبل الله منكم" ثم يقومون إلى صلاة السنة فما حكم ذلك؟
الجواب: قرر أهل العلم أن الأصل في العبادة هو التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أشار الرسول عليه الصلاة والسلام الى ذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. ولما لم يثبت هذا الأمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي فعله ولا الالتزم به وخاصة أنه يقابله ترك سنة مؤكدة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام ألا وهي ترك الأذكار المشروعة عقب الصلوات المفروضة كما هو مشاهد في كثير من المساجد حيث أن أغلب المصلين يلتزمون بهذه المصافحة بعد تسليم الإمام ثم يقومون إلى صلاة السنة وبعد ذلك يخرجون من المسجد فهم قد أتوا بالبدعة وتركوا السنة. ومن المعلوم عند أهل العلم أن الذكر بعد الصلوات المكتوبات من السنن الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الإمام النووي رحمه الله: [أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة في أنواع متعددة] الأذكار ص 57. ثم ساق طائفة من الأحديث منها:
1. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
2. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة سلَّم وقال: (لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي يصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون. فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن معاذٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه بيده وقال: يا معاذ والله إني لأحبك ثم قال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح. وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الموضوع وهي كثيرة جداً فينبغي على المصلين أن يحافظوا على هذه الأذكار النبوية بعد صلواتهم وأن يكثروا أيضاً من الدعاء لله عز وجل لتفريج همومهم وكربهم والدعاء بما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة. فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة) رواه أصحاب السنن الأربعة وهو حديث حديث حسن صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء) رواه الترمذي وهو حديث حسن. وقال أيضاً: (من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي وهو حديث حسن. فأكثروا يا عباد الله من الدعاء في جميع الأوقات وخاصة بعد الصلوات المكتوبات.(6/197)
198 - من البدع في الصلاة
يقول السائل: ما حكم مسح الوجه وبعض الجسم باليدين بعد الإنتهاء من دعاء القنوت كما يفعله كثير من الناس؟
الجواب: إن مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء القنوت أمر مشهور بين عامة الناس ولكن هذا الأمر مع شهرته وانتشاره وعمل كثير من الناس به لا سند له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح رضي الله عنهم وإن قال به بعض الفقهاء. قال الإمام النووي رحمه الله عند حديثه عن هذه المسألة إن فيها وجهين:
الأول: أنه يستحب وذكر جماعة من الفقهاء الذين قالوا بذلك ثم قال النووي.
والثاني: لا يسمح وهذا هو الصحيح صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين. المجموع 3/501.
ثم ذكر كلام البيهقي التالي. وأنقله من سننه رحمه الله حيث قال: [فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظ عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة. وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس. فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة وبالله التوفيق] السنن الكبرى 2/212. وأقول جزى الله أئمتنا وعلمائنا خيراً فإنهم وقافون عند موارد النصوص فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع. وأما الحديث الذي أشار إليه البيهقي فهو ما رواه أبو داوود في سننه بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم) قال أبو داوود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضاً. عن المعبود 4/251. وقد علق الشيخ الألباني على هذه الرواية: [ (فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم) فقال: ... وعلى ذلك فهذه الزيادة منكرة ولم أجد لها حتى الآن شاهداً ... ثم قال: لا يصلح شاهداً للزيادة حديث ابن عمر مرفوعاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه) لأن فيه متهماً في الوضع - أي الكذب - وقال أبو زرعة: حديث منكر أخاف ألا يكون له أصل] السلسلة الصحيحة 2/146. وروى البيهقي بسنده عن علي الباشاني قال: [سألت عبد الله بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه. قال: لم أجد له ثبتاً. أي مستنداً] . وورد عن العز بن عبد السلام سلطان العلماء أنه قال: [لا يمسح وجهه إلا جاهل] . وبمناسبة الحديث عن دعاء القنوت أذكر بعض الأمور منها: أولاً: ما نراه من بعض المصليين من المبالغة برفع أيديهم فوق رؤوسهم وأرى أن هذا الأمر فيه مبالغة واضحة وأن الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين عند الدعاء تدل على مد اليدين وبسطهما ولا تدل على هذا الرفع المبالغ فيه. قال الحافظ ابن حجر عند كلامه على حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه. قال الحافظ: [وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء ... إلى أن قال: وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة أما الرفع البليغ فيدل عليه قوله " حتى يرى بياض إبطيه " ويؤديه أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه] فتح الباري 3/171. لذلك فإني أرى أن ما يفعله بعض الناس من المبالغة الشديدة في رفع اليدين وجعلهما فوق الرأس إنما هو من الغلو في الدين وقد نهينا عن ذلك.
والأمر الثاني الذي أود التنبيه عليه وأذكر به اخواننا أئمة المساجد وهو التطويل في دعاء القنوت وغيره من الأدعية والأذكار والأفضل هو الاقتصار على الأدعية والأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن زاد على ذلك فلا بأس به بشرط ألا يكون الدعاء متكلفاً أو متضمناً مخالفة شرعية. قال الإمام النووي عند ذكره لآداب الدعاء [الخامس: أن لا يتكلف السجع وقد فسر به الاعتداء في الدعاء والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة فما كل أحد يحسن الدعاء فيخاف عليه الاعتداء] الأذكار ص342. وبعض أئمة المساجد من أجل أن يحافظ على السجع يأتي بأمور غير مقبولة في الدعاء.(6/198)
199 - المساجد
الكلام في المسجد،
يقول السائل: ما قولكم في حديث الناس وكلامهم في المساجد وارتفاع أصواتهم فيها؟
الجواب: إن حال كثير من المساجد اليوم محزن نتيجةً لجهل كثير من المسلمين بأحكام المساجد وآدابها فترى في المساجد الحلقات التي يعقدها الناس ويدور الحديث فيها عن الأمور الدنيوية وإذا وقف الحديث عند الأمور المباحة فحسن، ولكن كثيراً منهم يتجاوز المباح إلى الحرام فيتكلمون في أعراض الناس ويستغيبونهم ونحو ذلك.
والأصل أن الجلوس في المسجد عبادة وينبغي للمسلم أن يشغل وقته في المسجد إما بالصلاة أو بالذكر والدعاء أو يقرأ القرآن فإن لم يفعل شيء من ذلك فلا يتجاوز الكلام في الأمور المباحة. ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن زمان يتحلق الناس فيه في المساجد لا همّ لهم ولا كلام إلا في أمور الدنيا وقد ذمهم على ذلك، فقد ورد في الحديث عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا وليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم) رواه ابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
ومن الأمور المخالفة للشرع والتي تشوش على المصلين والتالين والذاكرين ويفعلها الناس في المساجد، البحث عن المفقودات فتسمع هذا يبحث عن نقوده وترى المؤذن يعلن عن وجود نقود أو نحوها ويطلب من صاحبها مراجعته وغير ذلك من الأمور التي نهى عنها السشارع الحكيم فقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد الضالة فقولوا: لا رد الله عليك) رواه الترمذي والدارمي وهو حديث صحيح. وفي رواية أخرى: (من سمع رجلاً ينشد في مسجد ضالة فليقل لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم. وينبغي أن يعلم أن التشويش في المسجد على المصلين والتالين لكتاب الله والذاكرين لا يجوز حتى ولو كان ذلك بقراءة القرآن فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داوود بإسناد صحيح كما قال اإمام النووي وصححه الألباني. وورد في الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك بسند صحيح قاله الألباني. وقد همّ عمر بن الخطاب بتعزير من يرفعون أصواتهم في المسجد، روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل - أي رماني بحصاة - فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ قال: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن التشويش الذي يقع الصياح الذي نسمعه من بعض المصلين في آخر المسجد عند إقامة الصلاة لإتمام الصفوف أو الدخول إلى داخل المسجد وهذا أمر لا يجوز لأن المسلم يوم الجمعة عليه أن يتقدم للصفوف الأولى ولا يترك فراغاً أمامه وهذه هي السنة كما ورد في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام في حق القادم إلى المسجد يوم الجمعة: ( ... ودنا من الإمام) أي اقترب من الإمام ثم إذا إقيمت الصلاة فإن من واجب الإمام أن يأمر بتسوية الصفوف وإكمالها وينبغي على المصليين أن يسمعوا ويطيعوا فيتموا الصفوف ويسدوا الفراغ الموجود في المسجد. وأما أن يأخذ المصلون في آخر المسجد بالصياح واللغط فهذا الأمر لا ينبغي ومخالف للهدي النبوي.(6/199)
200 - صلاة الاستخارة
يقول السائل: ما هي صلاة الاستخارة وفي أي الأمور يستخير المسلم وكيف تصلى؟
الجواب: صلاة الاستخارة سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجلة أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به ويسمي حاجته) . ومعنى الاستخارة أن المسلم يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يختار له خير الأمرين وأولاهما ومن المستحسن أن يستخير المسلم في أموره فقد ورد في الحديث: (من سعادة ابن آدم استخارته الله) رواه أحمد في المسند وقال الحافظ ابن حجر وسنده حسن. والاستخارة تكون في الأمور التي لا يعرف العبد فيها وجه الصواب. وأما أمور الخير الواضحة فلا مجال للاستخارة فيها. وينبغي أن يعلم أن الاستخارة لا تدخل باب الفرض ولا الحرام ولا المكروه وإنما تقع ضمن دائرة المندوب والمباح ولا تكون الاستخارة أيضاً في أصل المندوب وإنما تكون عند تعارض أمرين أيهما يبدأ به أو يأخذ به كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وتكون الاستخارة عندما يهمّ المسلم بأمر ما كما ورد في الحديث السابق (إذا همّ أحدكم بالأمر ... ) وهذا يعني أن الاستخارة تكون عندما يرد الأمر على القلب فيستخير فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير بخلاف ما إذا كان الأمر متمكناً في نفسه وقويت عزيمته عليه. أما كيفية صلاة الاستخارة فإن المسلم إذا أراد الاستخارة صلى ركعتين نافلة لله تعالى ويفضل أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) واستحب بعض أهل العلم أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلُِونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ولو قرأ غير ذلك أجازه. وبعد أن يسلم من صلاته يدعو بدعاء الاستخارة المذكور في الحديث سابقاً.
ويستحب له أن يفتتح الدعاء بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام ويختمه بذلك مستقبلاً القبلة رافعاً يديه فإذا فعل المسلم ذلك فإنه يفعل ما ينشرح صدره له فإذا شعر المسلم أنه يميل إلى ذلك الشيء فإنه يقدم عليه ويفعله.(6/200)
201 - من البدع في الصلاة
يقول السائل: ما حكم إحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة والذكر؟
الجواب: إن الأصل في العبادات التوقيف عن الرسول عليه الصلاة والسلام والواجب أن نعبد الله كما شرع في كتابه وكما جاء في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويجب علينا أن نلتزم بذلك بلا زيادة ولا نقصان. يقول الله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبه: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم.
إن الأصل في المسلم أن يقف عند موارد النصوص فلا يتجاوزها لأننا أمرنا بالاتباع ونهينا عن الابتداع وإن إحياء ليلة النصف من شعبان والصلاة الألفية التي تصلى فيها من البدع المنكرة التي أحدثها بعض الناس والتي لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قرر أهل العلم أنه لا يجوز تخصيص ليلة النصف من شعبان بعبادة خاصة بها كتخصيصها بالصلاة المعروفة بالصلاة الألفية وهي صلاة تقرأ فيها سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ألف مرة فهذه الصلاة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلها ولا نقلت عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، قال الإمام الشوكاني: [حديث يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ بكل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات إلا قضى له كل حاجة ... الخ هو موضوع - أي مكذوب-] . وكذلك قال ابن الجوزي والحافظ العراقي وغيرهم من أهل العلم. قال الإمام النووي ما نصه: [الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشر ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك. وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن اسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد] . وقد ذكر بعض أهل العلم أن صلاة ليلة النصف من شعبان أحدثت في بيت المقدس سنة 448هـ ولم تكن معروفة قبل ذلك وهذا يدل على أنها مبتدعة لا أصل لها في الشرع. قال أبو محمد المقدسي: [لم يكن عندنا في بيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب ولا صلاة شعبان وأول ما حدثت عندنا صلاة شعبان في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قدم علينا رجل في بيت المقدس من نابلس يعرف بابن أبي الحمراء وكان حسن التلاوة فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهما ثالث ورابع فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير وشاعت في المسجد وانتشرت في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا ... الخ) .
وبناء على ما تقدم يظهر لنا أن إحياء ليلة النصف من شعبان بدعة منكرة لا أصل له في الشرع ولو كانت من الشرع لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأحياها هو وأصحابه رضي الله عنهم وما دام أن ذلك لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز إحياؤها بنوع خاص من العبادة. والله الهادي إلى سواء السبيل(6/201)
202 - الرؤيا وصلاة الاستخارة
يقول السائل: صليت صلاة الاستخارة قبل النوم في خطبة فتاة معينة، ولكني لم أرَ شيئاً في المنام مما استخرت فيه، فهل استخارتي صحيحة أم لا؟ أفيدونا؟
الجواب: الاستخارة هي طلب خيرِ الأمرين من الله عز وجل لمن احتاج إلى أحدهما، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 18/170. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: [ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين وثبت في أمره] الوابل الصيب1/157. وصلاة الاستخارة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، فقد روى الإمام البخاري بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجلة أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به قال ويسمي حاجته) . قال الإمام الشوكاني: [قوله: (في الأمور كلها) ، دليلٌ على العموم وأن المرء لا يحتقر أمراً لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه، فربَّ أمرٍ يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيمٌ أو في تركه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليسألَ أحدُكم ربَّه حتى في شِسْع نعله) - الشسع: بكسر الشين ثم بإسكان السين وهو أحد سيور النعل التي تشد إلى زمامها- قوله: (كما يعلمنا السورة من القرآن) فيه دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكدٌ مرغبٌ فيه، قال العراقي: ولم أجد من قال بوجوب الاستخارة مستدلاً بتشبيه ذلك بتعليم السورة من القرآن، كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود: كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن] نيل الأوطار 3/87. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم استخارته الله عز وجل) رواه أحمد، وسنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 18/170. وقال العلامة الألباني: [رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم وزاد: ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله، ورواه الترمذي ولفظه: من سعادة ابن آدم كثرة استخارة الله تعالى ورضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى وسخطه بما قضى الله له) ورواه البزار ولفظه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سعادة المرء استخارته ربه ورضاه بما قضى ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وسخطه بعد القضاء) وضعفه العلامة الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب1/106. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: (إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّامُ الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا، للأمر الذي تريد خيراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي وأعني عليه، وإن كان كذا وكذا، للذي يريد شراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري، فاصرفه عني وأقدر لي الخير أينما كان ولا قوة إلا بالله) رواه أبو يعلى الموصلي وقال الحافظ العراقي: وإسناده جيد كما في نيل الأوطار 3/87. وورد في خصوص الاستخارة في الزواج حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (اكتم الخِطبة، ثم توضأ فأحسن وضوءك ثم صلِّ ما كتب الله لك ثم احمد ربك ومجِّده ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، فإن رأيت في فلانة - تسميها باسمها- خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها لي، وإن كان غيرها خيراً لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقضِ لي ذلك) رواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة وصححه ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات كلهم. وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط. وقد ثبت في قصة زواج زينب بنت جحش برسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدٍ فاذكرها عليَّ، قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخِّمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ... إلخ) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همَّ بأمرٍ سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا، وهو موافق لحديث جابر في صحيح البخاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ... ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/144. وأما كيفية صلاة الاستخارة فإذا أراد المسلم الاستخارة صلَّى ركعتين نافلةً لله تعالى، ويفضل أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} واستحب بعض أهل العلم أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} سورة القصص الآيات 68-70. ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} سورة الأحزاب الآية 36. ولو قرأ غير ذلك جاز، وبعد أن يُسلِّم من صلاته يدعو بدعاء الاستخارة المذكور في الحديث سابقاً. ويستحب له أن يفتتح الدعاء بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام ويختمه بذلك مستقبلاً القبلة رافعاً يديه، فإذا فعل المسلم ذلك، فإنه يفعل ما ينشرح صدره له، فإذا شعر المسلم أنه يميل إلى ذلك الشيء، فإنه يُقْدم عليه ويفعله. إذا تقرر هذا فلابد من بيان بعض أحكام الاستخارة، أولاً: تصح الاستخارة بعد صلاة، وتصح بالدعاء فقط بدون صلاة، قال الإمام النووي: [قال العلماء: تستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب وبتحية المسجد وغيرها من النوافل، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثانية: {قل هو الله أحد} ، ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء. ويستحب افتتاح الدعاء المذكور وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الاستخارة مستحبةٌ في جميع الأمور كما صرح به نص هذا الحديث الصحيح - حديث جابر السابق- وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدره] الأذكار ص 101. ثانياً: تسن صلاة الاستخارة في الأمور المباحة، وليس عند التباس الخير أو خفاء وجه الصواب، ويدل على ذلك ما ورد في حديث جابر (في الأمور كلها) وهذا شامل للمباح، ولا تجوز الاستخارة فيما أمر الله به من الفروض أو النوافل، ولا تجوز أيضا في المحرمات ولا في المكروهات. ثالثاً: لا تشترط الرؤيا لصحة الاستخارة كما ورد في السؤال، بل تصح الاستخارة بدون رؤيا، والمطلوب ممن استخار أن يُقْدِم على الأمر الذي استخار فيه، وإن لم يرَ رؤيا ويفوض أمره إلى الله عز وجل، فإن رأى رؤيا صالحة فيما استخار فهو خير وبركة. وأما أن لا يقدم على العمل الذي استخار فيه حتى يرى رؤيا فلا. ويجب أن يعلم أن الرؤيا لا يبنى عليها أحكام شرعية أو دنيوية. رابعاً: يصح بل يستحب تكرار الاستخارة كما ذهب إليه جمهور الفقهاء لكون ذلك نوعاً من الإلحاح الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل، سأل ثلاثاً) رواه مسلم، ولأن صلاة الاستخارة وما يتبعها من دعاء، إنما شرعت طلباً للخيرة منه سبحانه، فإذا لم يحصل للمستخير انشراح وطمأنينة فيما استخار الله فيه، كرر ذلك حتى يحصل له الانشراح والطمأنينة، وقد صرح الشافعية بذلك ولم يحصروها بعدد.] الشبكة الإسلامية. خامساً: يفعل المستخير بعد الاستخارة ما ينشرح له صدره، قال الإمام النووي: [ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوىً قبل الاستخارة بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأساً وإلا فلا يكون مستخيراً لله، بل يكون مستخيراً لهواه، وقد يكون غير صادقٍ في طلب الخِيَرَة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه] نيل الأوطار 3/87. سادسا: لا يستخير أحدٌ لأحدٍ، وإنما يستخير كلُ إنسانٍ لنفسه، وفي حديث جابر السابق قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا همَّ أحدُكم بالأمر) ، ولكن يجوز للشخص أن يدعو الله عز وجل أن يختار لابنه أو ابنته مثلاً. وخلاصة الأمر أن صلاة الاستخارة مستحبة في الأمور التي لا يدري العبدُ وجهَ الصواب فيها، أما ما هو معروفٌ خيرُه أو شره كالعبادات وصنائع المعروف والمعاصي والمنكرات فلا تجوز إلى الاستخارة فيها، إلا إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحج مثلا في هذه السنة؛ لاحتمال عدو أو فتنة، والرفقة فيه، أيرافق فلانا أم لا؟ ولا تشترط الرؤيا للاستخارة، فالمسلم بعد أن يستخير يمضي فيما استخار الله فيه.(6/202)
203 - وجوب الطمأنينة وتعديل الأركان في الصلاة
يقول السائل: نشاهد بعض المصلين الذين يستعجلون في صلاتهم ولا يتمون ركوعها ولا سجودها، فما حكم صلاتهم، أفيدونا؟
الجواب: الصلاة أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة وهي ميزان لأعمال المسلم، فإن صلحت صلحت سائر أعماله وإن فسدت فسدت سائر أعماله، كما ثبت في الحديث عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، قال فجلست إلى أبي هريرة فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيءٌ، قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك) رواه الترمذي وحسنه، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/130. وجاء في رواية أخرى عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن أكملها كتبت له نافلة، فإن لم يكن أكملها يقول الله سبحانه لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع؟ فأكملوا بها ما ضيع من فريضته ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/241. والانتقاص من الصلاة كما يكون بتأخيرها عن وقتها، يكون أيضاً بعدم إكمال أركانها وواجباتها، كمن لا يتم الركوع، وكمن لا يقيم صلبه عند الرفع منه، وكمن لا يتم السجود فينقره نقر الديك، وكمن لا يتم الرفع بين السجدتين، فالمطلوب من المصلي الطمأنينة في صلاته وهو ما يسميه بعض الفقهاء بتعديل الأركان في الصلاة، وهو فرض على الصحيح من أقوال أهل العلم، وعلى ذلك دلت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها الحديث المشهور بحديث المسيء صلاته وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في ناحية المسجد، فصلَّى ثم جاء فسلَّم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل، فصلَّى ثم جاء فسلَّم فقال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل، فصلَّى ثم جاء فسلَّم فقال: وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل، فقال في الثانية أو في التي تليها علمني يا رسول الله، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، وفي رواية (ثم ارفع حتى تستوي قائماً) يعني من السجدة الثانية، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لأبي داود (فإذا فعلت ذلك فقد تمَّت صلاتك، وإن انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك) وهي رواية صحيحة كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/129. وقد أخذ جمهور أهل العلم من هذا الحديث وجوب الطمأنينة أو تعديل الأركان في الصلاة، فقوله صلى الله عليه وسلم (اركع حتى تطمئن راكعاً) ، وقوله (ارفع حتى تستوي قائماً) ، وقوله (اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وقوله (ارفع حتى تطمئن جالساً) ، وقوله (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، وقوله كما في الرواية الأخرى (فإذا فعلت ذلك فقد تمَّت صلاتك، وإن انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك) ، أقوى دليلٍ على وجوب الطمأنينة. وقد اختلف الفقهاء في حدِّ الطمأنينة، والأصح أنها سكون بعد حركة بمقدار قول المصلي (سبحان الله) مرةً واحدةً بشكلٍ معتدلٍ، قال الإمام النووي: [وتجب الطمأنينة في الركوع بلا خلافٍ لحديث المسيء صلاته، وأقلها أن يمكث في هيئة الركوع حتى تستقر أعضاؤُه وتنفصل حركة هويهِ عن ارتفاعه من الركوع.] المجموع 3/408-409. وقال شيخنا محمد المختار الشنقيطي: [الطمأنينة: هي الوقت الكافي الذي يصدق به تحصيل الركن، ففي القيام لا إشكال أنه سيقرأ الفاتحة فيحصِّل الطمأنينة المعتبرة، فإن وقت قراءة الفاتحة قدرٌ للطمأنينة. لكن بحث العلماء في الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع من الركوع والرفع من السجود. أولها: إذا ركع، لأنه في القيام سينشغل بالقراءة، فلو ركع فإن الواجب عليه تسبيحة واحدة، فإذا ركع ثم رفع مباشرة ولو قال: سبحان ربي العظيم اختطافاً، فإنه حينئذ لا يُجزيه هذا الركوع؛ لأنه لم يطمئن، وهذا هو الذي وقع من المسيء صلاته، وهو الذي من أجله نبهه النبي صلى الله عليه وسلم على صفة الصلاة؛ لأن هذا الرجل كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة صلَّى ولم يحسن الصلاة، والمراد بعدم إحسانه الصلاة استعجاله فيها. فالطمأنينة إذا ركع أن ينتهي إلى الركوع الكامل، فإذا انتهى إلى الركوع الكامل يقول: سبحان ربي العظيم، وقدر قوله: سبحان ربي العظيم يعتبر تحصيلاً للطمأنينة.] شرح زاد المستقنع عن شبكة الإنترنت. وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي ترك الطمأنينة في الصلاة من كبائر الذنوب لما ورد من أحاديث في الترهيب من الإخلال في أركانها وواجباتها، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/361، وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير والترهيب من ترك الطمأنينة في الصلاة، وقال الإمام الشوكاني بعد أن شرح عدداً منها: [والأحاديث في هذا الباب كثيرة وكلها ترد على من لم يوجب الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال منهما] نيل الأوطار 3/500، ومن هذه الأحاديث: عن علي بن شيبان رضي الله عنه قال خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلاً لا يقيم صلاته، يعني صلبه في الركوع، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود) رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب1/346. وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزىء صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود) رواه أحمد وأبو داود واللفظ له والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ورواه الطبراني والدارقطني والبيهقي وقالا إسناده صحيح ثابت وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب1/345. وعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/345. وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، أو قال: لا يقيم صلبه في الركوع والسجود) رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب1/346. وعن أبي عبد الله الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لا يتم ركوعه وينقر في سجوده وهو يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو مات هذا على حاله هذه، مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً، قال أبو صالح - أحد رواة الحديث- قلت لأبي عبد الله: من حدَّثك بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أمراء الأجناد عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه الطبراني في الكبير وأبو يعلى بإسناد حسن وابن خزيمة في صحيحه وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب1/347. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليصلي ستين سنةً وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع) رواه أبو القاسم الأصبهاني، وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم (2535) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة ثلاثة أثلاث، الطهور ثلث، والركوع ثلث، والسجود ثلث، فمن أدَّاها بحقها قبلت منه وقبل منه سائر عمله، ومن رُدَّت عليه صلاته رُدَّ عليه سائرُ عمله) رواه البزار وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني وإسناده حسن، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/352. وروى البخاري (أن حذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته دعاه فقال له حذيفة: ما صليت وأحسبه قال ولو مُتَّ مُتَّ على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أخرى: (ما صليت ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم) . وغير ذلك من الأحاديث والآثار.
وخلاصة الأمر أن الطمأنينة واجبة في الصلاة، لا تصح الصلاة بدونها، ومن صلَّى بدون تعديل لأركان الصلاة وواجباتها فلا صلاة له وكأنه لم يصل ويلزمه إعادتها.(6/203)
204 - مقدار الوقت الفاصل بين الأذان والإقامة
يقول السائل: هل هنالك وقتٌ مقدرٌ شرعاً للفصل بين الأذان والإقامة للصلوات الخمس، أفيدونا؟
الجواب: المصلي إما أن يصلي منفرداً أو يصلي مع الجماعة، فإن صلى منفرداً، فالأفضل في حقه أن يصلي في أول الوقت، لما ثبت في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها) رواه البخاري ومسلم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ فقال: الصلاة لوقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله) رواه مسلم. قال ابن بطال: [إن البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب] فتح الباري 2/294. وأما إذا صلى المصلي مع الجماعة، فإن الثابت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجود فاصل زمني بين الأذان والإقامة، ويدل على ذلك عدة أحاديث منها: حديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة - ثلاثاً-لمن شاء) رواه البخاري ومسلم، وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة] ثم روى الحديث السابق، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم (بين كل أذانين صلاة) أي بين الأذان والإقامة، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [بين كل أذانين أي أذان وإقامة، ولا يصح حمله على ظاهره، لأن الصلاة بين الأذانين مفروضة، والخبر ناطق بالتخيير لقوله (لمن شاء) ، وأجرى المصنف الترجمة مجرى البيان للخبر لجزمه بأن ذلك المراد، وتوارد الشراح على أن هذا من باب التغليب، كقولهم القمرين، الشمس والقمر، ويحتمل أن يكون أطلق على الإقامة أذان، لأنها إعلام بحضور فعل الصلاة، كما أن الأذان إعلام بدخول الوقت] فتح الباري 2/141. ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان المؤذن إذا أذن قام ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيءٌ) رواه البخاري، وقوله (ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء) أي لم يكن بينهما شيءٌ كثيرٌ، كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 2/142. وجاء في رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقيل له: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا) رواه مسلم. وعن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين، قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة. رواه البخاري، والمراد بالصلاة قبل المغرب، أي بين الأذان والإقامة. ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة) رواه البخاري. ومنها حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال اجعل بين أذانك وإقامتك نَفَسَاً، يفرغ الآكل من طعامه في مهل، ويقضي المتوضئ حاجته في مهل) رواه أحمد وفي سنده كلام لأهل الحديث، قال الإمام الشوكاني: [والحديث يدل على مشروعية الفصل بين الأذان والإقامة، وكراهة الموالاة بينهما لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها؛ لأن من كان على طعامه، أو غير متوضئ حال النداء؛ إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل، لاسيما إذا كان مسكنه بعيداً من مسجد الجماعة، فالتراخي بالإقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها] نيل الأوطار 2/10. ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: (يا بلال، إذا أذنت فترسل في أذانك، وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني) رواه الترمذي وقال الإمام النووي: إسناده ضعيف، المجموع 3/118، وضعفه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 228. والمعتصر هو الذي يريد قضاء حاجته ليتأهب للصلاة قبل دخول وقتها كما في النهاية لابن الأثير 3/223. وعن عن سالم أبي النضر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإن رأى أهل المسجد قليلاً جلس حتى يجتمعوا ثم يصلي) رواه البيهقي وإسناده قوي مع إرساله كما قال الحافظ في فتح الباري 2/144. والذي تدل عليه هذه الأحاديث وغيرها هو مشروعية الفاصل الزمني بين الأذان والإقامة، وتقدير الفاصل الزمني بعدد معين من الدقائق كما هو المتعارف عليه الآن، لا بأس به، والمرجع في ذلك هو تمكين المصلين من ترك أعمالهم وإجابة الأذان وحضورهم إلى المسجد، واجتماعهم لصلاة الجماعة، ومطلوب من إمام المسجد أن يقدر ظروف المصلين وأحوالهم، فإذا كان المسجد في السوق أو قريباً منه، أو كان المصلى في مؤسسة كالجامعة مثلاً، فمطلوب تقصير الوقت بين الأذان والإقامة، حتى لا يلحق ضرراً بالمصلين من رواد السوق أو الموظفين والطلبة، وإذا كان المسجد في حي من الأحياء فلا بأس من إطالة وقت الانتظار بين الأذان والإقامة، وخاصة في صلاة الفجر فقد جرى عرف كثير من المساجد على جعل الوقت بين الأذان والإقامة ثلاثين دقيقة أو نحوها، فهذا أمرٌ حسنٌ، كي يستيقظ الناس ويتهيئوا للصلاة، وأما في صلاة المغرب خصوصاً، فينبغي تقصير وقت الانتظار بين الأذان والإقامة، لأن وقتها فيه ضيق وللأمر بتعجيلها ومراعاةً للخلاف. إذا تقرر هذا فلا بد من تذكير إخواننا المصلين بأنه لا داعي للخلافات حول وقت الانتظار بين الصلوات، فإذا زاد الوقت دقيقة أو بضع دقائق أو نقص، فلا حرج في ذلك، وينبغي التذكير بأن المسلم الذي ينتظر الصلاة فهو في صلاة، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث، اللهم اغفر له اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى عند أبي داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد في صلاةٍ ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، تقول الملائكة اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يحدث) ، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخَّر ليلةً صلاة العشاء إلى شطر الليل ثم أقبل بوجهه بعدما صلَّى فقال: صلَّى الناس ورقدوا ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها) رواه البخاري، وينبغي لمن جلس منتظراً إقامة الصلاة أن يشتغل بالدعاء والذكر، ولا ينشغل بأحاديث الدنيا، فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يردُّ الدعاءُ بين الأذان والإقامة) رواه النسائي وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/65. وعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة) رواه مسلم. وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة) رواه مسلم. فإذا دعا المسلم بهذه الأدعية أو بعضها تفرغ لصلاة السنة، ومن ثم يقرأ ما تيسر من الكتاب الكريم أو ذكر الله تعالى أو دعاه أو سكت، وإن تكلم فبكلام مباح ولا يشوش على المصلين.
وخلاصة الأمر أن الفاصل الزمني بين الأذان والإقامة مشروع وثابت بالسنة النبوية، وتعيين مقداره مرجعه لإمام المسجد الذي يقدر مصلحة المصلين، بما يمكنهم من الاستعداد لصلاة الجماعة، وينبغي أن يعلم أن منتظر الصلاة فهو في صلاة وعليه أن يشغل نفسه بالذكر والدعاء وقراءة القرآن.(6/204)
1 - حكم نبش القبور
يقول السائل: قام بعض الأشخاص بنبش بعض القبور في مقبرة بلدتنا لأغراض خبيثة، فما الحكم في هذه القضية، أفيدونا؟
الجواب: حرمة المسلم حرمة عظيمة حياً كان أو ميتاً وقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري ومسلم. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630. ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي.
ولا شك أن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً فلا يجوز الاعتداء عليه وهو ميت في قبره، كما لا يجوز الاعتداء عليه حال حياته، لأن حرمة المسلم ليست مقيدة بحال الحياة، بل تعم حال الحياة وحال الممات، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/214. وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ في الإثم) سنن ابن ماجة 1/516. وروى البخاري بإسناده عن عطاء قال: (حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف - موضع قريب من التنعيم بضواحي مكة المكرمة - فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا) ، قال الحافظ ابن حجر: [قوله (وارفقوا) إشارة إلى أنّ مراده السير الوسط المعتدل، ويستفاد منه أنّ حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته، وفيه حديث " كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً " أخرجه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان] فتح الباري 9/142. وعن عمارة بن حزم قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على قبر فقال يا صاحب القبر انزل عن القبر لا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك) رواه الطبراني في الكبير، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، فتح الباري3/285، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب حديث رقم 3566. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته) رواه ابن أبي شيبة في المصنف. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه سئل عن الوطء على القبر فقال: كما أكره أذى المؤمن في حياته فإني أكره أذاه بعد موته.
إذا تقرر هذا فإنّ الأصل عند أهل العلم هو حرمة نبش قبور المسلمين، لأن نبشها يعتبر انتهاكاً لحرمةٍ أوجب الشرع حفظها وصيانتها، وقد قرر الفقهاء أنه لا يجوز نبش قبر الميت إلا لعذر شرعي وغرض صحيح، فالأصل هو حرمة نبش القبور إلا في حالاتٍ خاصة بيّنها الفقهاء، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم نبّاش القبور، فقد ورد في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المختفي والمختفية) رواه البيهقي والحاكم، وهو حديث صحيح كما بينه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 5/181. وفي صحيح الجامع حديث رقم 5102، والمقصود بالمختفي نباش القبور. واللعن هو الإبعاد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وقال العلماء: اللعن على الفعل من أول الدلائل على تحريمه، واللعن لا يكون إلا على كبائر الذنوب، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/308، 2/62. وقال الحافظ ابن عبد البر: [وفي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النباش دليل على تحريم فعله والتغليظ فيه كما لعن شارب الخمر وبائعها وآكل الربا ومؤكله] الاستذكار 8/344.
إذا تقررت حرمة الميت فإن جماعة من الفقهاء قد قالوا بقطع يد النبّاش، وهو من يفتش القبور عن الموتى ليسرق أكفانهم وحليهم وما يتعلق بهم. وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف من الحنفية وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإسحاق بن راهويه والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وهو قول الظاهرية، وقرروا أنّ النبّاش يعتبر سارقاً تجري عليه أحكام السارقين، فتقطع يده إذا سرق من أكفان الموتى ما يبلغ نصاب السرقة، لأنّ الكفن مال متقوم سُرق من حرز مثله وهو القبر، فكما أنّ البيت المغلق في العمران يعتبر حرزاً لما فيه عادة، وإن لم يكن فيه أحد، فإن القبر يعتبر عادةً حرزاً لكفن الميت. واستدلوا بأدلّة منها: قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة المائدة الآية 38، حيث إنّ اسم السرقة يشمل النبّاش، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: (سارق أمواتنا كسارق أحيائنا) رواه البيهقي في كتاب المعرفة. وعن يحيى النسائي قال كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في النبّاش فكتب إليَّ إنّه سارق. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه) رواه البيهقي في كتاب المعرفة، قالوا ومعناه أنه سرق مالاً كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه فتقطع يده كما لو سرق لباس الحي، لأن الآدمي محترم حياً وميتاً، ولأن السرقة أخذ المال على وجه الخفية، وذلك يتحقق من النبّاش وهذا الثوب - الكفن - كان مالاً قبل أن يلبسه الميت فلا تختل صفة المالية فيه بلبس الميت، فأما الحرز فلأن الناس تعارفوا منذ ولدوا إحراز الأكفان بالقبور، ولا يحرزونها بأحصن من ذلك الموضع، فكان حرزاً متعيناً له باتفاق جميع الناس، ولا يبقى في إحرازه شبهة، لما كان لا يحرز بأحصن منه عادةً، ولأنه روي (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع المختفي) ، قال الأصمعي: وأهل الحجاز يسمون النبّاش المختفي، إما لاختفائه بأخذ الكفن، وإما لإظهاره الميت في أخذ كفنه، وقد يسمى المظهر، وهو من أسماء الأضداد. ومن أدلة الجمهور أيضاً ما روي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قطع نبّاشاً بعرفات وهو مجمع الحجيج، ولا يخفى ما جرى فيه على علماء العصر فما أنكره منهم منكر، ولأن جسد الميت عورة يجب سترها فجاز أن يجب القطع في سرقة ما سترها، ولأنّ قطع السرقة موضوع لحفظ ما وجب استبقاؤه على أربابه حتى ينزجر الناس عن أخذه، فكان كفن الميت أحق بالقطع لأمرين: أحدهما أنّه لا يقدر على حفظه على نفسه، والثاني أنّه لا يقدر على مثله عند أخذه.] الموسوعة الفقهية الكويتية 40/19-20. بتصرف. وقال الشيخ ابن حزم الظاهري مؤيداً قول الجمهور بقطع النبّاش ورادَّاً على المخالفين: [ ... والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: أنّ كل هذا لا معنى له، لكن الفرض هو ما افترض الله تعالى ورسوله عليه السلام الرجوع إليه عند التنازع، إذ يقول تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ففعلنا: فوجدنا الله تعالى يقول {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب القطع على من سرق بقوله عليه السلام " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها "، ووجدنا السارق في اللغة التي نزل بها القرآن وبها خاطبنا الله تعالى: هو الآخذ شيئاً لم يبح الله تعالى له أخذه، فيأخذه متملكا له، مستخفياً به فوجدنا النبّاش هذه صفته، فصح أنّه سارق، وإذ هو سارق، فقطع اليد على السارق، فقطع يده واجب وبه نقول. وأما من رأى قتله، أو قطع يده ورجله، فما نعلم له حجة، إلّا أن يكونوا رأوه محارباً وليس هاهنا دليل على أنّه محارب أصلاً؛ لأنّه لم يخف طريقاً، فليس له حكم المحارب، ودماؤنا حرام، فدم النبّاش حرام] المحلى 12/315-316. ومما يدل على قطع يد النبّاش ما رواه ابن أبي شيبة من آثار عن جماعة من السلف، فقد روى بإسناده عن معمر قال: بلغني أنّ عمر بن عبد العزيز قطع نبّاشاً. وروى بإسنده عن إبراهيم النخعي والشعبي قالا: يقطع سارق أمواتنا كما يقطع سارق أحيائنا. وروى بإسناده عن عطاء في النبّاش قال هو بمنزلة السارق , يقطع. وروى بإسناده عن أشعث قال: سألت الحسن عن النبّاش قال: يقطع, وسألت الشعبي فقال: يقطع. وروى بإسناده عن الحكم وحماد عن إبراهيم النخعي في النبّاش قال: يقطع. وروى بإسناده عن حماد وأصحابه قالوا: يقطع النبّاش لأنّه قد دخل على الميت بيته. وروى بإسناده عن مكحول قال: لا يقطع إلا أن يكون للقبر باب. وروى بإسناده عن عبد الله بن مرة قال: النبّاش لص فاقطعه. وروى بإسناده عن حجاج أنّ مسروقاً وإبراهيم النخعي والشعبي وزاذان وأبا زرعة بن عمرو بن جرير كانوا يقولون في النبّاش: يقطع. المصنف 10/34-35.
وخلاصة الأمر أنّ نبش القبور لسرقة ما فيها ,من المحرمات بل من الكبائر، وتقطع يد النبّاش على الراجح من أقوال أهل العلم إذا سرق ما يبلغ نصاب القطع.(7/1)
2 - اصطفاف أهل الميت عند المقبرة لتقبل التعزية
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله كثير من الناس في بلادنا بعد الانتهاء من دفن الميت يقف أهل الميت صفاً ويمر الحاضرون عليهم يعزونهم فهل هذه الطريقة مشروعة، أفيدونا؟ الجواب: من المعلوم أن تعزية أهل الميت من السنة فقد وردت فيها أحاديث منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126.
ومنها ما رواه الإمام النسائي عن خالد بن ميسرة قال سمعت معاوية بن قرة عن أبيه قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالي لا أرى فلاناً، قالوا يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال: يا فلان أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك قال يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي قال فذاك لك) ورواه أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 162 وغير ذلك من الأحاديث.
وليس للتعزية لفظ معين وإنما يعزي أهل الميت بما يظن أنه يسليهم ويخفف عنهم مصابهم ويحثهم على الرضا بما قدَّر الله ويحثهم على الصبر، فألفاظ التعزية بابها واسع فتجوز بكل لفظ يدعو إلى الصبر ما لم يتضمن مخالفة للشرع قال الإمام الشافعي [وليس في التعزية شيء مؤقت يقال لا يُعدى إلى غيره] الأم 1/278. وقال الإمام النووي: [وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصل … وأحسن ما يعزى به ما روينا في صحيح البخاري ومسلم. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب …] الأذكار ص 127. وتمام الحديث السابق هو عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه إن ابناً لي قبض فأتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع قال حسبته أنه قال كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا فقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر هذا فإن وقوف أهل الميت بعد الدفن صفاً واحداً ومرور المعزين عليهم لا بأس فيه ولا حرج فيه إن شاء الله تعالى لأنه وسيلة من وسائل التعزية ومن المعلوم عند العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام العز بن عبد السلام: للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل) قواعد الأحكام 1/46.
وقال الإمام شهاب الدين القرافي: [وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنَّها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين [وقد قال أهل العلم للوسائل أحكام المقاصد فما كان وسيلةٌ لمطلوبٍ فهو مطلوب وما كان وسيلةً لمنهيٍ منه فهو منهيٌ عنه] عن شبكة الإنترنت.
وبناءً على ما سبق فلا حرج في اصطفاف أهل الميت عند المقبرة لتقبل التعزية فإن هذا الاصطفاف وسيلة لتحقيق السنة وهي التعزية ولا يوجد أي مخالفة شرعية في هذا الاصطفاف لأنه وسيلة إلى تحقيق مقصد مشروع، قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في فتوى له عن حكم جمع أهل الميت في صف واحد حتى تتم تعزيتهم [يقوم بعض المعزين بإخراج أهل الميت بعيداً عن القبور، ووضعهم في صف حتى تتم معرفتهم وتعزيتهم بنظام، ولا تهان القبور، ما حكم ذلك؟ فأجاب: لا أعلم في هذا بأساً؛ لما فيه من التيسير على الحاضرين لتعزيتهم.] عن شبكة الإنترنت.
وقال الشيخ العلامة العثيمين في مثل هذه المسألة قال: [الأصل أن هذا لا بأس به؛ لأنهم يجتمعون جميعاً من أجل الحصول على كل منهم ليعزى، ولا أعلم في هذا بأس.] عن شبكة الإنترنت.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتي السعودية الحالي عن سؤال ورد فيه [يصف المعزون في المقبرة صفاً بعد دفنهم ميتهم ويمر الناس عليهم ... فأجاب [هذه الصفة المذكورة إن خلت عن محاذير شرعية وكانت لمجرد التعرف على أولياء الميت الذين أصيبوا بفقد هذا الميت، فإني لا أرى فيها بأساً ... ] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أنه لا حرج في اصطفاف أهل الميت لتقبل التعازي من الناس لأن ذلك وسيلة لتحقيق سنة التعزية، وللوسائل أحكام المقاصد.(7/2)
3 - الغسل من تغسيل الميت
يقول السائل: كنا في جنازة فقال أحد الحاضرين إنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث يفيد أن من غسَّل الميت فعليه الغسل ومن حمله فعليه الوضوء، فما قولكم في ذلك؟ الجواب: ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غسَّل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وهذا الحديث قد اختلف فيه العلماء اختلافاً كبيراً فمنهم من ضعفه
قال الإمام الشوكاني: [قال علي بن المديني وأحمد بن حنبل: لا يصح في الباب شيء. وهكذا قال الذهبي فيما حكاه الحاكم في تاريخه (ليس فيمن غسل ميتاً فليغتسل) حديث صحيح. وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا يرفعه الثقات إنما هو موقوف. وقال الرافعي: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئاً مرفوعاً.] نيل الأوطار 1/ 279.
وقال الإمام النووي [وليس في الغسل من غسل الميت شيء صحيح] المجموع 2/204.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [حديث: (من غسل ميتا فليغتسل) أحمد والبيهقي، من رواية ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، بهذا، وزاد (ومن حمله فليتوضأ) وصالح ضعيف، ورواه البزار، من رواية العلاء، عن أبيه، ومن رواية محمد بن عبد الرمن بن ثوبان، ومن رواية أبي بحر البكراوي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، كلهم عن أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجة، من حديث عبد العزيز بن المختار، وابن حبان، من رواية حماد بن سلمة كلاهما، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، ورواه أبو داود، من رواية عمرو بن عمير، وأحمد من رواية شيخ يقال له أبو إسحاق، كلاهما عن أبي هريرة، وذكر البيهقي له طرقاً وضعفها، ثم قال: والصحيح أنه موقوف، وقال البخاري: الأشبه موقوف. وقال علي – ابن المديني - وأحمد: لا يصح في الباب شيء، نقله الترمذي عن البخاري عنهما، وعلق الشافعي القول به على صحة الخبر، وهذا في البويطي. وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت، وقال ابن أبي حاتم في العلل، عن أبيه: لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف] التلخيص الحبير 1/136.
ومن العلماء من قال إن هذا الحديث منسوخ، والنسخ عند الأصوليين هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. وممن قال بأنه منسوخ الإمام أحمد وأبو داود صاحب السنن وغيرهما، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني [وقد أجاب أحمد عنه بأنه منسوخ، وكذا جزم بذلك أبو داود] التلخيص الحبير 1/ 138.
ويدل على أنه منسوخ ما يلي: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي وضعفه إلا أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ردَّ تضعيفه وحسَّن الحديث في التلخيص الحبير 1/ 138، وحسنه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص 54.
ومما يدل على النسخ أيضاً ما رواه مالك في الموطأ (أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه غسَّلت أبا بكر حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علي من غسل قالوا: لا) ورواه البيهقي وقال وله شواهد عن ابن أبي مليكة عن عطاء عن سعد بن إبراهيم وكلها مراسيل.
ومما يدل على النسخ أيضاً حديث عمر رضي الله عنه قال (كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل) أخرجه الخطيب وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إسناد صحيح، التلخيص الحبير 1/ 138.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما (لا غسل عليكم من غسل الميت) رواه الدارقطني والحاكم مرفوعاً وصحح البيهقي وقفه وقال: لا يصح رفعه.
ومن العلماء من قال إن الحديث لا يقل عن درجة الحسن، قال الحافظ ابن حجر [وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض، وقد قال الذهبي في مختصر البيهقي: طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، ولم يعلوها بالوقف، بل قدموا رواية الرفع] التلخيص الحبير 1/ 137.
والذين ثبت عندهم الحديث اختلفوا فمنهم من قال الأمر بالاغتسال في الحديث للوجوب وهو قول ابن حزم الظاهري وقوله مردود، ومنهم من قال إن الأمر في الحديث محمول على الندب لا على الوجوب فيسن الغسل من تغسيل الميت، قال الإمام الشوكاني [وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه وهو أيضاً من القرائن الصارفة عن الوجوب فإنه يبعد غاية البعد أن يجهل أهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجباً من الواجبات الشرعية ولعل الحاضرين منهم ذلك الموقف جلهم وأجلهم لأن موت مثل أبي بكر حادث لا يظن بأحد من الصحابة الموجودين في المدينة أن يتخلف عنه وهم في ذلك الوقت لم يتفرقوا كما تفرقوا من بعد] نيل الأوطار 1/281.
وقال العلامة الألباني بعد أن فصَّل الكلام على طرق الحديث: [وبالجملة، هذه خمسة طرق للحديث بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف منجبر، فلا شك في صحة الحديث عندنا، ولكن الأمر فيه للاستحباب لا للوجوب لأنه قد صح عن الصحابة أنهم كانوا إذا غسلوا الميت فمنهم من يغتسل ومنهم من لا يغتسل] إرواء الغليل 1/175.
ومن العلماء من رأى أن المراد بالغسل غسل الأيدي لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) . هذا ما يتعلق بالغسل من تغسيل الميت.
وأما مسألة الوضوء من حمل الميت فالصحيح من أقوال أهل العلم أن ذلك ليس بواجب ولا مندوب، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [وهذا قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله لأن الوجوب من الشرع ولم يرد في هذا نص , ولا هو في معنى المنصوص عليه فبقي على الأصل ولأنه غسل آدمي فأشبه غسل الحي] المغني 1/141.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي في موضع آخر [ولذلك لا يعمل به في وجوب الوضوء على من حمله وقد ذكر لعائشة قول أبي هريرة (ومن حمله فليتوضأ) قالت: وهل هي إلا أعواد حملها , ذكره الأثرم بإسناده ولا نعلم أحداً قال به في الوضوء من حمله] المغني 1/155. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز [أما حمله فلم يصح في الوضوء منه شيء، ولا يستحب الوضوء من حمله؛ لعدم الدليل على ذلك] مجلة الدعوة العدد 1557.
ومن أهل العلم من قال إن ذكر الوضوء في الحديث ليكون الحامل للميت مستعداً لصلاة الجنازة، قال الإمام الباجي المالكي [وأمر الحامل للميت أن يتوضأ قبل أن يحمله ليكون على طهارة إذا صلى عليه فيصلي مع المصلين عليه] المنتقى شرح موطأ مالك 2/455.
وخلاصة الأمر أنه يستحب الغسل لمن غسَّل الميت، لأن الحديث الوارد لا يقل عن درجة الحسن، ولا وضوء على من حمل الميت.(7/3)
4 - ألفاظ التعزية
يقول السائل: يستعمل بعض الناس ألفاظاً عند التعزية كقولهم (البقية في حياتك) وقولهم (يسلم رأسك) فما حكم هذه العبارات أفيدونا؟ الجواب: التعزية من السنة وهي مستحبة عند أهل العلم فقد ورد في الحديث أن النبي ? قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه) رواه مسلم. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن جعفر في قصة استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وفيها (فقال اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاث مرار) قال العلامة الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز ص 166. وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل، يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله مالي لا أجزع وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب: الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرىء أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثنين؟ قال: واثنين.) قال العلامة الألباني [رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت – الألباني - بل هو على شرط مسلم فإن رجاله كلهم رجال صحيحه، لكن أحدهم فيه ضعف من قبل حفظه لكن لا ينزل حديثه هذا عن رتبة الحسن والحديث أورده الهيثمي في المجمع ... وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح] أحكام الجنائز ص 165. إذا تقرر هذا فإن ألفاظ التعزي بابها واسع فتجوز بكل لفظ يدعو إلى الصبر ما لم يتضمن مخالفة للشرع قال الإمام الشافعي [وليس في التعزية شيء مؤقت يقال لا يُعدى إلى غيره] الأم 1/278. وقال الإمام النووي: [وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت واستحب أصحابنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك … وأحسن ما يعزى به ما روينا في صحيح البخاري ومسلم. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب …] الأذكار ص 127. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا نعلم في التعزية شيئاً محدوداً, إلا أنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم {عزى رجلاً , فقال: رحمك الله وآجرك.} رواه الإمام أحمد. وعزى أحمد أبا طالب, فوقف على باب المسجد فقال: أعظم الله أجركم, وأحسن عزاءكم. وقال بعض أصحابنا: إذا عزى مسلماً بمسلم قال: أعظم الله أجرك, وأحسن عزاك, ورحم الله ميتك. واستحب بعض أهل العلم أن يقول ما روى جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جده, قال: {لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية, سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفا من كل هالك, ودركا من كل ما فات, فبالله فثقوا, وإياه فارجوا, فإن المصاب من حرم الثواب.} رواه الشافعي في مسنده] المغني 2/405. وقال الشوكاني: [وأصل العزاء في اللغة: الصبر الحسن, والتعزية: التصبر, وعزَّاه: صبَّره, فكل ما يجلب للمصاب صبراً يقال له تعزية بأي لفظ كان ... ] نيل الأوطار 4/109. وقال الحطاب المالكي [وأما ألفاظ التعزية فقال في الجواهر إثر كلامه المتقدم ذكر ابن حبيب ألفاظاً في التعزية عن جماعة من السلف , ثم قال والقول في ذلك واسع إنما هو على قدر منطق الرجل وما يحضره في ذلك من القول وقد استحسنت أن أقول: أعظم الله أجرك على مصيبتك , وأحسن عزاءك عنها , وعقباك منها غفر الله لميتك ورحمه , وجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه.] . مواهب الجليل شرح مختصر خليل 3/38. وقد وردت عبارات كثيرة عن السلف في التعزية منها ما رواه الطبراني في كتاب الدعاء بإسناده " عن محمود بن لبيد، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ـ أنه مات ابن له، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه بابنه، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى معاذ بن جبل، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لاإله إلا هو، أمابعد، فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنية، وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير، الصلاة والرحمة والهدى، إن احتسبته بالصبر، ولا يحبط جزعك أجرك، فتندم على مافاتك من ثواب مصيبتك، فإنك لو اطلعت على ثواب مصيبتك، لعرفت أن المصيبة قد قصرت عن الثواب ـ وهذه الزيادة في بعض طرقه ـ ثم قال: وما هو نازل بك فكأن قد، والسلام ". ورواه الحاكم في المستدرك وقال: غريب حسن]
وبناءً على ما سبق فإنه لم يرد في الشرع لفظ معين للتعزية وخاص بها، لا تصح إلا به، بل الأمر في ذلك واسع ومطلق، وكل ما أطلقه الشارع الحكيم يبقى على إطلاقه، لذلك تصح التعزية بكل لفظ يفيد التصبر والرضا بما قدر الله عز وجل نحو: عظم الله أجرك وألهمك الصبر والسلوان ونحو أحسن الله عزاءك، وجبر مصيبتك، وأعظم أجرك، وغفر لميتك، وهذه العبارات تقال في تعزية المسلم بالمسلم. وفي تعزية المسلم بالكافر يقول: (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك.)
ومن المعلوم أنه يجوز للمسلم أن يعزي غير المسلم في ميته وهذا قول جمهور أهل العلم وذكر العلماء عدة عبارات تقال في هذه التعزية منها: (أخلف الله عليك ولا نقص عددك) ومنها (أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحداً من أهل دينك) (ألهمك الله الصبر وأصلح بالك) ومنها (أكثر الله مالك وأطال حياتك أو عمرك) ومنها (لا يصيبك إلا خير) وفي تعزية الكافر بالمسلم يقول: (أحسن الله عزاءك وغفر لميتك)
وأخيراً فإن التعزية بعبارة (يسلم رأسك) لا حرج فيها حيث إنها متضمنة للدعاء للمخاطب بالسلامة، وكذلك عبارة (البقية في حياتك) لا بأس بالتعزية بها حيث فيها الدعاء بأن يكون الخير في بقية حياة المخاطب، ولكن الأولى والأفضل هو ما ورد من ألفاظ التعزية في السنة النبوية. وقد سئل فضيلة الشيخ العلامة محمد العثيمين: عن حكم قول: (البقية في حياتك) عند التعزية ورد أهل الميت بقولهم (حياتك الباقية) . فأجاب بقوله: لا أرى فيها مانعاً إذا قال الإنسان (البقية في حياتك) لا أرى فيها مانعاً، ولكن الأولى أن يقال إن في الله خلف من كل هالك، أحسن من أن يقال (البقية في حياتك) ، كذلك الرد عليه إذا غير المعزي هذا الأسلوب فسوف يتغير الرد.] عن الإنترنت
وخلاصة الأمر أن استعمال الألفاظ الواردة في السنة في التعزية هو الأحسن والأفضل ولكن لو استعمل ألفاظاً أخرى لا تتضمن محذوراً شرعياً فلا حرج إن شاء الله ومنها قولهم (يسلم رأسك) وقولهم (البقية في حياتك) .(7/4)
5 - حكم الجلوس للتعزية ثلاثة أيام
يقول السائل: ما قولكم فيما تعارف عليه الناس في بلادنا من فتح بيت العزاء لمدة ثلاثة أيام ليقصده المعزون؟ الجواب: من المعلوم أن التعزية من السنة فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126وغير ذلك من الأحاديث.
وأما الجلوس للتعزية في بيت العزاء ثلاثة أيام كما جرى به عرف الناس في بلادنا فلا بأس به إن خلا من المنكرات والبدع وقد قال بهذا جماعة من أهل العلم وهو قول الحنفية وقول في مذهب الحنابلة والمالكية، فقد قال الكمال ابن الهمام الحنفي [ويجوز الجلوس للمصيبة ثلاثة أيام، وهو خلاف الأَولى] شرح فتح القدير2/150
وذكر الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي أنه لا بأس بالجلوس للتعزية في غير مسجد ثلاثة أيام وبين العلامة ابن عابدين أن استعمال لا بأس في كلام الحصكفي على حقيقته لأن الجلوس خلاف الأَوْلى وقد سبق ذلك في كلام ابن الهمام. انظر رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار 2/ 241. ونقل الطحطاوي عن بعض الحنفية أنه لا بأس بالجلوس لها ثلاثة أيام من غير ارتكاب محظور، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 339
وقال المرداوي الحنبلي: [وعنه الرخصة فيه - أي الإمام أحمد - لأنه عزى وجلس، قال الخلل: سهل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع ... ] الإنصاف 2/565 وانظر أيضاً حاشية الدسوقي المالكي على الشرح الكبير 1/419
وقد قال جماعة من العلماء بأن الجلوس للعزاء مكروه واستدلوا على ذلك بما ورد عن جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه قال: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة) . رواه أحمد وابن ماجة وإسناده صحيح وهذا الأثر لا يدل على منع الجلوس للعزاء وإنما يدل على منع الجلوس مع صنع أهل الميت للطعام فهذان الأمران من النياحة وأما مجرد الجلوس للعزاء فلا يعد من النياحة ويضاف إلى ذلك أنه مع كثرة الناس واتساع المدن والقرى فمن الصعوبة بمكان تعزية أهل الميت دون فتح بيت للعزاء يجلسون فيه ليقصدهم من أراد تعزيتهم وقد كان في الزمن الماضي يمكن تعزية أهل الميت في الطريق أو السوق أو في أي مكان لقيتهم فيه فكيف يمكن أن يتحقق ذلك في المدن الكبيرة وخاصة مع كثرة الناس وانشغالهم في أعمالهم فقد يؤدي القول بمنع الجلوس للتعزية إلى تفويت سنة التعزية ويدل على جواز الاجتماع للتعزية ما رواه البخاري بإسناده عن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت كلن منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن) والتلبينة حساء يصنع من دقيق أو نخالة وربما جعل فيه عسل كما بينه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/681 فهذه عائشة رضي الله عنها كانت النسوة يجتمعن عندها للعزاء
وقال الشيخ صالح آل الشيخ بعد أن ذكر القول بمنع الاجتماع [إن الشيخ عبد العزيز بن باز وبقية المشايخ يقولون لا بأس بالاجتماع، وهذا القول هو الأولى والراجح؛ لأن الاجتماع إلى أهل الميت في هذا الزمن يحصل به التعزية والتعزية سنة وعمل مشروع قد قال عليه الصلاة والسلام من عزى مصاباً فله مثل أجره، والمواساة مشروعة، وإذا تفرق الناس فلن تحصل المواساة والتعزية إلا بكَلَفة؛ يعني أين تلقاه هل في العمل الفلاني ستجده أو في بيته أو خرج، سيكون هناك مشقة في التتبع وفوت للتعزية. ولهذا قال من أفتى بمشروعية الاجتماع قال: إنه يدخل تحت قاعدة الوسيلة للمشروع مشروعة، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، فلما كان المقصد وهو السعي مشروعاً فوسيلته الآن وهي الاجتماع مشروعة، ... هنا هل الاجتماع يُعد من النياحة؟ الاجتماع لا يعد من النياحة إلا إذا انضم إليه أن يصنع أهل الميت الطعام للحاضرين جميعاً ليظهر الفخر وليظهر كثرة من يحضر الوليمة ونحو ذلك، وهذا موجود كان في الجاهلية، ولهذا جاء في حديث أبي أيوب (كذا) كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة. فالنياحة تشمل شيئين صنع الطعام مع الاجتماع لماذا؟ لأن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام ويدعون الناس ليقال هذا عزاء فلان إنه أكبر عزاء، أو إنهم اجتمعوا لأجل فلان ... وهم الذين يتكلفون بصنع الطعام وبنحر الإبل وذبح الذبائح؛ ليكثر من يجتمعوا عليها، هذه النياحة المنهي عنها بالاتفاق أما الاجتماع اجتماع المواساة والعزاء دون صنع الطعام ودون تكلف، فإن هذا لا يدخل في النياحة ... ] عن شبكة الإنترنت.
ويجب التنبيه إلى أن الاجتماع للتعزية والجلوس لها يجب أن يخلو من البدع التي يفعلها كثير من الناس وخاصة ما يسمى بقراءة الختمة للأموات فهذه من البدع المنتشرة في بلادنا حيث يجلس مجموعة من الناس بعد دفن الميت فيجلسون بعد صلاة العصر في يوم الوفاة ويومين بعده فيقرؤون السور الأخيرة من القرآن الكريم ابتداءً من سورة الضحى إلى سورة الناس ثم يقرؤون سورة الفاتحة وفواتح سورة البقرة وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وبعض الآيات الأخرى ثم يأتون ببعض الأذكار ويهللون مئة مرة ونحو ذلك. وقد يستأجرون بعض المتاجرين بالقراءة على الأموات الذين يحترفون هذا العمل فيحضرونهم ومعهم مكبرات الصوت فيقرؤون الختمة بأجر متفق عليه وبعد الانتهاء يأكلون ما أعد لهم من طعام أو حلويات ويشربون القهوة والشاي وغيرها، ويفعلون هذه البدعة ثلاثة أيام اعتباراً من يوم الدفن، ثم يفعلونها ثلاثة أيام خميس تالية ثم في الأربعين وبعضهم يفعلها في ذكرى مرور سنة على وفاة الميت وبعضهم يزيد على ذلك. وهذا الأمر بدعة فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضوان الله عليهم فعل مثل ذلك فهذه الختمة طريقة مبتدعة في قراءة القرآن وفي الذكر. ثم إن تخصيص هذه الأوقات وهي ثلاثة أيام من يوم الدفن وثلاثة أيام خميس ويوم الأربعين، بهذه الختمة وهذه الأذكار لم يقم عليه دليل من الشرع ولا يصح عند العلماء تخصيص زمان معين بعبادة معينة إلا بدليل شرعي ولا دليل على ذلك.
وخلاصة الأمر أنه لا بأس بالجلوس للتعزية بشرط أن يخلو ذلك من البدع والمنكرات.(7/5)
6 - السهو في صلاة الجنازة
يقول السائل: سها الإمام في صلاة الجنازة فسلَّم بعد التكبيرة الثالثة فسبح بعض المصلين فجاء الإمام بالتكبيرة الرابعة ولكن بعض المصلين أعادوا صلاة الجنازة مرة ثانية فما الحكم في ذلك؟ الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على أن صلاة الجنازة أربع تكبيرات وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربعاً) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعاً) رواه البخاري ومسلم.
وعن يزيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما ورد البقيع فإذا هو بقبر جديد فسأل عنه فقالوا: فلانة مولاة بني فلان قال: فعرفها وقال: ألا آذنتموني بها؟ قالوا: ماتت ظهراً وكنت قائلاً صائماً فكرهنا أن نؤذيك قال: فلا تفعلوا لا أعرفن ما مات منكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة ثم أتى القبر فصففنا خلفه فكبر عليه أربعاً) أخرجه النسائي، وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وإسناده صحيح على شرط مسلم قاله الألباني في أحكام الجنائز ص 89 وغير ذلك من الأحاديث.
قال الحافظ ابن عبد البر: [اختلف السلف في عدد التكبير على الجنازة ثم اتفقوا على أربع تكبيرات وما خالف ذلك شذوذ يشبه البدعة والحدث. حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا ابن وضاح قال: حدثنا موسى بن معاوية عن وكيع عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال: جمع عمر الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة وجمعهم على أربع تكبيرات قال: وحدثنا وكيع عن مسعر عن عبد الملك الشيباني عن إبراهيم قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بيت أبي مسعود فأجمعوا على أن التكبير أربع] فتح المالك 4/288.
ثم قال الحافظ ابن عبد البر: [وما جمع عمر عليه الناس أصح وأثبت مع صحة السنن فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر أربعاً وهو العمل المستفيض بالمدينة ومثل هذا يحتج فيه بالعمل لأنه قلَّ يوم أو جمعة إلا وفيه جنازة وعليه الجمهور وهم الحجة وبالله التوفيق] المصدر السابق 4/290.
إذا تقرر هذا فإن الصحيح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجنازة أربع تكبيرات واتفقت المذاهب الأربعة على أن التكبيرات الأربع ركن من أركان صلاة الجنازة لا تصح الصلاة بدونها.
وبناء على ذلك فإن تركت تكبيرة من الأربع عمداً فقد بطلت الصلاة وأما إن سها الإمام فسلم بعد الثالثة كما في السؤال فإنه يسبح له ليرجع فيكبر الرابعة فإن لم يرجع الإمام كبر المأمومون الرابعة وسلموا لأنفسهم.
قال الإمام البخاري: [باب التكبير على الجنازة أربعاً وقال حميد صلى بنا أنس رضي الله عنه فكبر ثلاثاً ثم سلم فقيل له فاستقبل القبلة ثم كبر الرابعة ثم سلم] صحيح البخاري مع الفتح 3/257.
وروى عبد الرزاق بسنده عن قتادة عن أنس أنه كبر على جنازة ثلاثاً ثم انصرف ناسياً فتكلم وكلم الناس فقالوا: يا أبا حمزة: إنك كبرت ثلاثاً قال: فصفوا ففعلوا فكبر الرابعة] مصنف عبد الرزاق 3/486.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وذكر الفزاري عن حميد عن أنس أنه صلى على جنازة فكبر ثلاثاً ثم سلَّم فقيل له: إنما كبرت ثلاثاً فاستقبل القبلة فكبر الرابعة ثم سلم] فتح المالك 4/289-290.
وورد في الفتاوى الهندية نقلاً عن الفتاوى التتارخانية: [ولو سلم الإمام بعد الثالثة ناسياً كبر الرابعة ويسلم] الفتاوى الهندية 1/165.
وقال الدسوقي المالكي: [إن الإمام إذا سلَّم عن أقل من أربع تكبيرات فإن مأمومه لا يتبعه بل إن كان نقص ساهياً سبح له فإن رجع وكمل سلموا معه وإن لم يرجع وتركهم كبروا لأنفسهم وصحت صلاتهم مطلقاً تنبه عن قرب وكمل صلاته أم لا وقيل إن لم يتنبه عن قرب فإن صلاتهم تبطل تبعاً لبطلان صلاة الإمام والأول هو المعتمد وإن كان نقص عمداً وهو يراه مذهباً لم يتبعوه وأتوا بتمام الأربع وصحت لهم وله وإن كان لا يراه مذهباً بطلت عليهم ولو أتوا برابعة تبعاً لبطلانها على الإمام وحينئذ فتعاد ما لم تدفن فإن دفنت صلي على القبر على ما قال المصنف …] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/411.
وينبغي أن يعلم أن أهل العلم قد اتفقوا على أنه لا يشرع سجود السهو في صلاة الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة لا ركوع ولا سجود فيها. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وروي عن ابن عباس أنه كبر على الجنازة ثلاثاً ولم يعجب ذلك أبا عبد الله وقال: قد كبر أنس ثلاثاً ناسياً فأعاد ولأنه خلاف ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الصلاة الرباعية إذا نقص منها ركعة بطلت كذلك هاهنا فإن نقص منها تكبيرة عامداً بطلت كما لو ترك ركعة عمداً وإن تركها سهواً احتمل أن يعيدها كما فعل أنس ويحتمل أن يكبرها ما لم يطل الفصل كما لو نسي ركعة ولا يشرع لها سجود سهو في الموضعين] المغني 2/385.
وخلاصة الأمر أن الإمام في صلاة الجنازة إذا سها فسلم قبل الرابعة فإنه ينبغي أن يعود ويأتي بما فاته من التكبير إن لم يطل الفصل فإن طال الفصل فتجب إعادة صلاة الجنازة لأن الأولى باطلة.(7/6)
7 - الصلاة على الجنين
يقول السائل: هل يصلى على الجنين الذي يسقط قبل تمام الحمل؟ الجواب: اتفق أهل العلم على أن صلاة الجنازة مشروعة على كل مسلم ذكراً كان أو أنثى صغيراً كان أو كبيراً.
وأما الجنين الذي سقط قبل تمام أربعة أشهر فهذا لا يصلى عليه بلا خلاف عند أهل العلم ذكره الإمام النووي في المجموع 5/258. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما من لم يأت له أربعة أشهر فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ويلف في خرقة ويدفن ولا نعلم فيه خلافاً إلا عن ابن سيرين فإنه قال: يصلى عليه إذا علم أنه نفخ فيه الروح وحديث الصادق المصدوق يدل على أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد أربعة أشهر وقبل ذلك فلا يكون نسمة فلا يصلى عليه كالجمادات والدم] المغني 2/389.
وأما السقط بعد تمام أربعة أشهر فيصلى عليه لما ورد في الحديث عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها والطفل يصلى عليه) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي:
[هذا حديث صحيح … والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم قالوا يصلى على الطفل وإن لم يستهل بعد أن يعلم أنه خلق وهو قول أحمد وإسحق] سنن الترمذي مع شرحه التحفة 4/102.
وجاء في رواية أخرى للحديث السابق: (السقط يصلى عليه) رواه أحمد وأبو داود وهي رواية صحيحة كما قال الألباني في أحكام الجنائز ص80.
وقال المجد ابن تيمية: [قلت وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح وهو أن يستكمل أربعة أشهر فأما إن سقط لدونها فلا لأنه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح وأصل ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح) ] نيل الأوطار 4/53.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً لقول الخرقي: [والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه]
قال الشيخ ابن قدامة: [السقط: الولد تضعه المرأة ميتاً أو لغير تمام فأما إن خرج حياً واستهل فإنه يغسل ويصلى عليه بغير خلاف قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل يصلى عليه وإن لم يستهل قال أحمد: إذا أتى له أربعة أشهر غسل وصلي عليه. هذا قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وإسحق وصلى ابن عمر على ابن لابنته ولد ميتاً] المغني 2/389.
وقال الشيخ الألباني: [والظاهر أن السقط إنما يصل عليه إذا كان قد نفخت فيه الروح وذلك إذا استكمل أربعة أشهر ثم مات فأما إذا سقط قبل ذلك فلا لأنه ليس بميت كما لا يخفى] أحكام الجنائز ص81.
وقد أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن السؤال التالي: [كثيراً ما يحدث في بعض المستشفيات أن تسقط بعض النساء الأجنة في الشهر الخامس ولكن لا نعلم مصير هذه الأجنة هل تدفن ويصلى عليها أم ترمى مع النفايات؟ نرجو التكرم بالتحقق في الموضوع وإفادتنا هل يصلى على الجنين بعد نفخ الروح فيه بعد غسله وهل يسمى؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من إسقاط المرأة الجنين في الشهر الخامس من حملها غسل الجنين وكفن وصلي عليه ويسن أن يعق عنه كما يفعل بالكبير من المسلمين ودفن في مقابر المسلمين وسمي] فتاوى اللجنة الدائمة 8/407. وقد اشترط جماعة من العلماء للصلاة على السقط بعد أربعة أشهر أن يستهل أي أن يصرخ واحتجوا بما روي في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استهل السقط غسل وصلي عليه …) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وإسناده ضعيف كما قال الإمام النووي في المجموع 5/255. وضعفه الألباني أيضاً فقال: [ولكنه حديث ضعيف لا يحتج به] أحكام الجنائز ص81.
وخلاصة الأمر أن السقط إذا لم يكمل أربعة أشهر فلا يصلى عليه ولكن يجب دفنه فيلف في خرقة ويدفن وأما إن أتم أربعة أشهر فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن.(7/7)
8 - تمني الموت
يقول السائل: ما حكم تمني الموت إذا ضاقت الدنيا بإنسان وكثرت مشكلاته؟ الجواب: لا ينبغي للمسلم أن يتمنى الموت إذا ضاقت به الدنيا وهجمت المشكلات عليه وزادت همومه لأن في تمني الموت نوع من الاعتراض على قدر الله سبحانه وتعالى بل الواجب على المسلم أن يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) رواه البخاري ومسلم.
وقال أنس رضي الله عنه: [لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنين أحدكم الموت) لتمنيته] رواه مسلم.
وعن قيس بن أبي حازم قال دخلنا على خباب رضي الله عنه وقد اكتوى سبع كيات في بطنه فقال: [لوما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به] رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يدخل أحداً عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا. ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة. فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله يستعتب) رواه البخاري. أي يطلب الرضا من الله بالإقلاع والاستغفار ويطلب إزالة العتاب.
وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تدعوا بالموت ولا تتمنوه فمن كان داعياً لا بد فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) رواه النسائي
وقد قال جماعة من أهل العلم إن النهي عن تمني الموت خاص بما كان سببه الأمور الدنيوية كالفقر والمرض وفقد عزيز ونحو ذلك وأما إذا تمنى الإنسان الموت خوفاً من فتنة في دينه فيجوز ذلك.
قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق فأما إذا خاف ضرراً في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة في لمفهوم هذا الحديث وغيره وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/179.
وما أشار إليه النووي من تمني بعض السلف للموت ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: [اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط] رواه مالك في الموطأ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وحكمة النهي عن ذلك أن في طلب الموت قبل حلوله نوع اعتراض ومراغمة للقدر وإن كانت الآجال لا تزيد ولا تنقص , فإن تمني الموت لا يؤثر في زيادتها ولا نقصها , ولكنه أمر قد غيب عنه وقد تقدم في " كتاب الفتن " ما يدل عل ذم ذلك في حديث أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل يقول يا ليتني مكانه " وليس به الدين إلا البلاء , وقد تقدم شرح ذلك مستوفى في " باب تمني المريض الموت من كتاب المرضى " قال النووي في الحديث التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من فاقة أو محنة بعدو ونحوه من مشاق الدنيا , فأما إذا خاف ضررا أو فتنة في دينه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث , وقد فعله خلائق من السلف بذلك وفيه أن من خالف فلم يصبر على الضر وتمنى الموت لضر نزل به فليقل الدعاء المذكور. قلت: ظاهر الحديث المنع مطلقا والاقتصار على الدعاء مطلقا , لكن الذي قاله الشيخ لا بأس به لمن وقع منه التمني ليكون عونا على ترك التمني] فتح الباري 13 /272 - 273
وقال العلامة ملا علي القاري: [وقد أفتى النووي انه لا يكره تمني الموت لخوف فتنة دينية بل قال: إنه مندوب. ونقل عن الشافعي وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: وكذا يندب تمني الشهادة في سبيل الله لأنه صح عن عمر وغيره بل صح عن معاذ أنه تمناه في طاعون عمواس ومنه يؤخذ تمني الشهادة ولو بنحو الطاعون وفي مسلم: من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه ويندب أيضاً تمني الموت ببلد شريف لما في البخاري أن عمر رضي الله عنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي ببلد رسولك فقال بنته حفصة: أنى يكون هذا؟ فقال يأتي به الله إذا شاء. أي: وقد فعل فإن قاتله كافر مجوسي] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/67.
وخلاصة الأمر أنه يكره للإنسان أن يتمنى الموت لضر دنيوي نزل به وعليه أن يصبر ويحتسب.(7/8)
9 - تغسيل الميت
يقول السائل: مات عندنا شخص وعند تغسيله قال بعض الحاضرين لا يجوز تغسيل الميت بالماء المسخن بوساطة السخان الشمسي فما قولكم في ذلك؟ الجواب: لا حرج في تغسيل الميت بالماء المسخن بالسخان الشمسي أو غيره من وسائل تسخين الماء ولم يرد في الشرع ما يمنع ذلك وما ورد من أحاديث وآثار في منع استعمال الماء المسخن أو المشمس وهو الذي يسخن عن طريق الشمس فكلها باطلة لا تصح ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأحاديث الباطلة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عائشة رضي الله عنها عن تشميس الماء وقال لها: (لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص) فهذا الحديث مكذوب وفي سنده كذاب كما ذكره أهل الحديث. انظر التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر 1/20. وقد ذكر ابن الجوزي حديث عائشة في الموضوعات أي الأحاديث المكذوبة. نصب الراية 1/102.
ومثله ما روي عن عاشة رضي الله عنها قالت: (نهى رسول الله أن نتوضأ بالماء المشمس أو نغتسل فيه) وفيه راو يضع الحديث كما قال ابن حبان انظر التلخيص الحبير 1/21. ومثله ما روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغتسلوا بالماء الذي يسخن في الشمس فإنه يعدي من البرص) وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. المصدر السابق 1/21. وقال العقيلي: لا يصح في الماء المشمس حديث مسند. انظر نصب الراية 1/103. وذكر الشوكاني أحاديث الماء المشمس في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص8. وحكم الألباني على حديث عائشة في الماء المشمس بأنه موضوع أي مكذوب وذكر طرقه وفصل الكلام عليها في كتابه إرواء الغليل 1/50-54.
وخلاصة الأمر أنه يجوز تغسيل الميت بالماء المسخن بالسخان الشمسي وغيره ولا كراهة في ذلك.(7/9)
10 - الدفن
يقول السائل: إن الأطباء قد قطعوا ساق أحد المرضى فماذا نعمل بالساق المقطوعة؟ الجواب: إذا قطع عضو من إنسان حي كيدٍ أو رجلٍ أو غير ذلك فإنه ينبغي دفن العضو المقطوع إما في المقبرة أو في أرض طاهرة ولا يجوز رميه مع النفايات والزبالة لأن الإنسان مكرم حياً وميتاً وكذلك ما قطع من أعضاء الإنسان فيجب تكريمها وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) سورة الإسراء الآية 70. ولا يغسل العضو المقطوع ولا يصلى عليه بل يلف في قطعة قماش ويدفن.
وقد ذكر بعض أهل العلم أنه يستحب دفن كل عضو يبان من الإنسان الحي كالشعر والأظافر والدم وقد روي في ذلك أحاديث لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويستحب دفن ما قلم من أظفاره أو ما أزال من شعره لما روى الخلال بإسناده عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت: (رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) . وعن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان يعجبه دفن الدم) وقال مهنا: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره: أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: لا يتلاعب به سحرة بني آدم] المغني 1/66. وقال الإمام النووي: [يستحب دفن ما أخذ من هذه الشعور والأظفار ومواراته في الأرض نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما واتفق عليه أصحابنا] المجموع 1/289-290. وقال الإمام النووي أيضاً [ونقل المتولي رحمه الله الاتفاق على أنه لا يغسل ولا يصلى عليه فقال: لا خلاف أن اليد المقطوعة في السَّرقة والقِصاص لا تغسل ولا يُصلَّى عليها، ولكن تلفُّ في خِرقة وتدفن وكذا الأظفار المقلومة والشَّعَر المأخوذ من الأحياء لا يصلَّى على شيء منها، لكن يستحَبُّ دفنها] المجموع 5/254 وقال أيضاً: [والدفن لا يختصُّ بعضو مَنْ عُلِمَ موته، بل كل ما ينفصل من الحيِّ من عضو وشعر وظُفُر وغيرهما من الأجزاء يستحَبُّ دفنُه، وكذلك تُوارَى العَلَقة والمُضغة تُلقيهما المرأة، وكذا يُواري دم الفَصْد] المصدر السابق وخلاصة الأمر أن العضو المقطوع من الإنسان الحي لا يصلى عليه ولكن يدفن ولا يرمى مع القاذورات ولا يصح الاحتفاظ به حتى يدفن مع صاحبه عند موته.(7/10)
11 - الدفن
يقول السائل: إذا مات إنسان في حادث وتقطع جسده إلى أجزاء ووجد بعض أعضائه دون بعض فهل تغسل هذه الأعضاء وهل يصلى عليها؟ الجواب: إذا وجدت بعض أعضاء الميت دون بعض فيغسل ما يمكن غسله من هذه الأعضاء وتلف في قماش ويصلى عليها وتدفن في المقبرة.
وإذا لم يمكن غسل الميت نظراً لتقطعه أو تهشم جسمه فحينئذ ييمم لأن هذا هو المستطاع وقد قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) سورة التغابن الآية 16.
ومن أهل العلم من قال يغسل أي عضو وجد من الميت ومنهم من قال إن وجد أكثر جسم الميت يغسل وإلا فلا، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإن لم يوجد إلا بعض الميت فالمذهب: أنه يغسل ويصلى عليه وهو قول الشافعي ونقل ابن منصور عن أحمد: أنه لا يصلى على الجوارح – أي الأعضاء - قال الخلال: ولعله قول قديم لأبي عبد الله. والذي استقر عليه قول أبي عبد الله: أنه يصلي على الأعضاء. وقال
أبو حنيفة ومالك: إن وجد الأكثر صُلي عليه وإلا فلا. لأنه بعض لا يزيد على النصف فلم يصل عليه كالذي بان في حياة صاحبه والشعر والظفر.
ولنا: إجماع الصحابة رضي الله عنهم. قال أحمد: صلى أبو أيوب على رِجل وصلى عمر على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس بالشام رواهما عبد الله بن أحمد بإسناده. وقال الشافعي: ألقى طائر يداً بمكة من واقعة الجمل فعرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصلى عليها أهل مكة وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم نعرف من الصحابة مخالفاً في ذلك ولأنه بعض من جملة تجب الصلاة عليها فيصلى عليه كالأكثر وفارق ما بان في الحياة. لأنه من جملة لا يصلى عليها والشعر والظفر لا حياة فيه] المغني 2/401-402. وانظر المجموع للنووي 5/253.
وخلاصة الأمر أنه إن أمكن غسل أجزاء الميت فهو الأصل وإن لم يمكن فلا حرج ويصلى عليها وتدفن في المقبرة.(7/11)
12 - صلاة الفريضة والجنازة أمام المصلين
يقول السائل: أحضرت جنازة امرأة إلى المسجد للصلاة عليها فوضعت الجنازة في القبلة وصلى المصلون صلاة الظهر وهي أمامهم ثم صلوا على الجنازة فاعترض بعض المصلين على وجود الجنازة أمامهم أثناء صلاة الظهر فما حكم ذلك؟
الجواب: تصح الصلاة على الجنازة داخل المسجد وخارجه على الراجح من أقوال أهل العلم كما سبق بيانه في حلقة سابقة وأما وضع الميت أمام المصلين في صلاة الجماعة فلا بأس في ذلك وإن كان الميت امرأة ولا أثر لذلك على صحة صلاة المصلين وقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة) رواه مسلم. فهذا الحديث يدل على جواز الصلاة إلى المرأة وهي نائمة في قبلة المصلي وإذا كان هذا يجوز وهي على قيد الحياة فمن باب أولى أنه يجوز وهي ميتة وخاصة أن عائشة شبهت نفسها بالجنازة ففي ذلك إشارة إلى جواز الصلاة والجنازة في قبلة المصلي.(7/12)
13 - توديع الميت
يقول السائل: هل يجوز للزوجة أن تودع زوجها الميت بأن تقبله بعد غسله وتكفينه؟ الجواب: يجوز للمرأة أن تودع زوجها الميت بتقبيله بعد غسله وتكفينه وكذلك يجوز للزوج أن يودع زوجته الميتة ولا يصح كلام العامة أن ذلك ناقض لوضوء الميت فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم غير نسائه) رواه أحمد
وأبو داود وابن ماجة وغيرهم وحسنه الألباني في إرواء الغليل 3/162.
وجاء في حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: (رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي وأقول: وارأساه فقال: بل أنا وارأساه ما ضرك لو مت قبلي وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك) رواه أحمد وابن ماجة وغيرهما وفيه كلام لأهل الحديث وصححه الألباني في إرواء الغليل 3/160. وجاء في الحديث عن أسماء بنت عميس قالت: غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الحافظ ابن حجر وحسنه الألباني أيضاً في إرواء الغليل 3/162.
وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث جماهير أهل العلم قال الإمام النووي: [نقل ابن المنذر في كتابيه الإجماع والإشراف والعبدري وآخرون إجماع المسلمين أن للمرأة غسل زوجها وقد قدمنا رواية عن أحمد بمنعه وأما غسله زوجته فجائز عندنا وعند جمهور العلماء حكاه ابن المنذر عن علقمة وجابر بن زيد وعبد الرحمن بن الأسود وسليمان ابن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن وقتادة وحماد بن أبي سليمان ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحق وهو مذهب عطاء وداود وابن المنذر] المجموع 5/149-150.
وكذلك فقد وردت أحاديث ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقبيل الميت منها حديث عائشة وابن عباس (أن أبا بكر رضي الله عنه قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته) رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قبَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بن مظعون وهو ميت فكأني أنظر إلى دموعه تسيل على خديه) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/246.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمرأة أن تودع زوجها الميت وكذا يجوز للزوج أن يودع زوجته الميتة.(7/13)
14 - الصلاة على الجنازة داخل المسجد
يقول السائل: اعتاد المصلون في المسجد الذي نصلي فيه أن يصلوا على الجنازة خارج المسجد وقد رغب بعض المصلين في نقل صلاة الجنازة إلى داخل المسجد ليكثر عدد المصلين على الجنازة حيث إننا نلاحظ قلة المصلين على الجنازة عندما تكون خارج المسجد فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على الجنائز في مكان خاص يقال له مصلى الجنائز وكان خارج المسجد النبوي من جهة الشرق وثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الجنائز داخل المسجد النبوي فكلا الأمرين جائز ولا بأس به. ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الجنازة في مصلى الجنائز ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صف بهم بالمصلى فكبر عليه أربعاً. ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد قال الحافظ ابن حجر: [ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها] فتح الباري 3/254. ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقاً بمسجد النبي صى الله عليه وسلم من ناحية جهة الشرق. المصدر السابق. ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مصلى للجنائز خارج المسجد ما جاء في الحديث عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: (كنا جلوساً بفناء المسجد حيث توضع الجنائز ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهرانينا …) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في أحكام الجنائز ص107. ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فجاء معنا فتخطى ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم ديناران. فتخلف قال: صلوا على صاحبكم. فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله هما علي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء؟ فقال: نعم فصلى عليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول: - وفي رواية ثم لقيه من الغد- فقال: ما صنعت الديناران؟ قال: يا رسول الله إنما مات أمس حتى كان آخر ذلك وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتهما يا رسول الله قال الآن حين بردت عليه جلده. رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه أحمد بإسناد حسن كما قال الهيثمي. انظر أحكام الجنائز ص 16. وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على الجنائز داخل المسجد فيدل عليه ما جاء في الحديث أن عائشة رضي الله عنها أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت: ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد. رواه مسلم. وفي رواية أخرى لمسلم عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد. وفي رواية ثالثة لمسلم أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكر ذلك عليها فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. صحيح مسلم مع شرح النووي 3/33-35.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إذا لم يخف تلوثيه وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود] المغني 3/368. وقال النووي: [الصلاة على الميت في المسجد صحيحة جائزة لا كراهة فيها] المجموع 5/213. وبناء على ما تقدم يظهر لنا أن صلاة الجنازة تجوز في المسجد بلا كراهة وتجوز خارج المسجد أيضاً. وأما ما ذهب إليه بعض أهل العلم من كراهة الصلاة على الجنازة داخل المسجد أخذاً مما روي في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) رواه أبو داود وفي رواية لابن ماجة: (فليس له شيء) وفي رواية أخرى: (فلا أجر له) . فقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث اختلافاً كثيراً والجمهور على أنه حديث ضعيف وإن صح فمؤول كما سيأتي. قال الحافظ ابن عبد البر عن رواية (فلا أجر له) إنها خطأ لا إشكال فيه. فتح المالك 4/307. وقال الحافظ ابن عبد البر أيضاً: [وفي هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان: أحدهما حديث عائشة هذا والثاني حديث يروى عن أبي هريرة لا يثبت عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) . وقد يحتمل قوله في حديث أبي هريرة هذا: (فلا شيء له) أي فلا شيء عليه. كما قال عز وجل: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) سورة الإسراء الآية 7 بمعنى عليها. وسئل أحمد بن حنبل وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه عن الصلاة على الجنازة في المسجد؟ فقال: لا بأس بذلك وقال بجوازه. فقيل: فحديث أبي هريرة؟ فقال: لا يثبت أو قال: حتى يثبت. ثم قال: رواه صالح مولى التوءمة وليس بشيء فيما انفرد به. فقد صحح أحمد بن حنبل السنة في الصلاة على الجنائز في المسجد وقال بذلك. وهو قول الشافعي وجمهور أهل العلم وهي السنة المعمول بها في الخليفتين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى عمر على أبي بكر الصديق في المسجد وصلَّى صهيب على عمر في المسجد بمحضر كبار الصحابة وصدر السلف من غير نكير وما أعلم من ينكر ذلك إلا ابن أبي ذئب. ورويت كراهية ذلك عن ابن عباس من وجوه لا تصح ولا تثبت وعن بعض أصحاب مالك ورواه عن مالك. وقد روي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة وغيرهم] الاستذكار 8/273-274. وقال الإمام النووي عن رواية (فلا شيء له) ضعفه الحفاظ منهم أحمد بن حنبل وأبو بكر ابن المنذر والخطابي والبيهقي قالوا: وهو من أفراد صالح مولى التوأمة وهو مختلف في عدالته معظم ما عابوا عليه الاختلاط قالوا وسمع ابن أبي ذئب منه قبل الاختلاط] خلاصة الأحكام 2/966. وقال الإمام النووي في موضع آخر: [وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فجوابه من أوجه أحدها: أنه ضعيف باتفاق الحفاظ وممن نص على ضعفه الإمام أحمد بن حنبل وأبو بكر بن المنذر والبيهقي وآخرون قال أحمد هذا الحديث مما انفرد به صالح مولى التوءمة وهو مختلف في عدالته لكن معظم ما عابوا عليه الاختلاط قالوا وسماع ابن أبي ذئب ونحوه منه قبل الاختلاط وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه والله أعلم. والوجه الثاني إن الذي ذكره أبو داود في روايته في جميع نسخ كتابه المعتمدة (فلا شيء عليه) وعلى هذا لا دلالة فيه لو صح وأما رواية (فلا شيء له) فهي مع ضعفها غريبة ولو صحت لوجب حملها على (فلا شيء عليه) للجمع بين الروايات وقد جاء مثله في القرآن كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) أي فعليها. الثالث: أجاب به الخطابي وسائر أصحابنا في كتب المذهب أنه لو ثبت لكان محمولاً على نقصان الأجر لأن المصلي عليها في المسجد ينصرف غالباً إلى أهله ومن صلى عليها في الصحراء حضر دفنها غالباً فنقص أجر الأول ويكون التقدير فلا أجر كامل له كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة الطعام) أي لا صلاة كاملة] المجموع 5/214. وقد احتج جماعة من أهل العلم برواية (فلا شيء له) ومنهم العلامة ابن القيم: [وهذا الحديث حسن فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وسماعه منه قديم قبل اختلاطه فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدث به قبل الاختلاط وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا وحديث عائشة مسلكاً آخر فقال: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة وما كانوا ليفعلوه إلا لما علموا خلاف ما نقلت. ورد ذلك على الطحاوي جماعة منهم: البيهقي وغيره قال البيهقي: ولو كان عند أبي هريرة رضي الله عنه نسخ ما روته عائشة لذكره يوم صلي على أبي بكر الصديق في المسجد ويوم صلي على عمر بن الخطاب في المسجد ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز فلما روت فيه الخبر سكتوا ولم ينكروه ولا عارضوه بغيره. قال الخطابي: وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلي عليهما في المسجد ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما وفي تركهم الإنكار الدليل على جوازه. قال: ويحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت متأولاً على نقصان الأجر. وذلك أن من صلى عليها في المسجد فالغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه وان من سعى إلى الجنازة فصلى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه وأحرز أجر القيراطين وقد يؤجر أيضاً على كثرة خطاه وصار الذي يصلي عليه في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من يصلي عليه خارج المسجد. وتأولت طائفة معنى قوله: (فلا شيء له) أي فلا شيء عليه ليتحد معنى اللفظين ولا يتناقضان كما قال تعالى: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) سورة الإسراء الآية 7. أي فعليها. فهذه طرق الناس في هذين الحديثين. والصواب ما ذكرناه أولاً وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر وكلا الأمرين جائز والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد. والله أعلم] زاد المعاد 1/501-502. وانظر أيضاً السلسلة الصحيحة 5/462 حيث فصل الشيخ الألباني الكلام على الحديث وقواه واحتج به ولكنه يرى جواز الصلاة في المسجد والأفضل في مصلى الجنائز وانظر أحكام الجنائز له ص106
وخلاصة الأمر أن صلاة الجنازة داخل المسجد صحيحة بلا كراهة لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان نقل الصلاة على الجنازة من خارج المسجد إلى داخله يؤدي إلى زيادة عدد المصلين عليها فهذا وجه معتبر شرعاً لأنه كلما كثر المصلون على الجنازة كان أفضل للميت وأنفع له فقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه) رواه مسلم. وعن كريب مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال: يا كريب انظر ما اجتمع له الناس قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته فقال: تقول: هم أربعون قال: نعم قال: أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواه مسلم. وعن مالك بن هبيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا غفر له) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه النووي في المجموع 5/212 وغير ذلك من الأحاديث.(7/14)
15 - تقديم التشريح على الدفن عند الضرورة
يقول السائل: قتل شخص في حادث جنائي وأحضرت جثته للتشريح فاعترض أقاربه على ذلك لأن تشريح جثته سيؤدي إلى تأخير دفنه فأيهما يقدم تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة أم المسارعة في دفنه أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن الإسراع في دفن الميت أمر مطلوب شرعاً وقد نصت السنة النبوية على ذلك فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) رواه البخاري ومسلم. والإسراع بالجنازة يشمل السرعة حال حملها والإسراع بها إلى الدفن قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال القرطبي: مقصود الحديث: أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن] فتح الباري 3/235.
ويؤيد المسارعة في الدفن ما رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. المصدر السابق.
ويؤيده أيضاً ما رواه أبو داود بإسناده أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: (إني لا
أرَى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) .
ويؤيده أيضاً ما رواه الترمذي وأحمد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث يا علي لا يؤخرن الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤاً) وبهذا يظهر لنا أن الإسراع في دفن الميت هو الأمر الذي لا ينبغي العدول عنه ولكن إذا تعارض الإسراع بدفن الميت مع كون التشريح قد يثبت براءة متهم أو إدانته فينبغي تقديم التشريح لأنه مصلحة راجحة فإن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما. وفي هذه المسألة تعارض الإسراع في الدفن مع التشريح لمعرفة سبب الوفاة وفيه تأخير الدفن وبما أن معرفة سبب الوفاة بالتشريح فيها منفعة كبيرة حيث يعرف سبب الوفاة الذي يتوصل به إلى إبراء البريء أو إدانة المجرم وهذا فيه صيانة للحكم عن الخطأ وصيانة لحق الميت الآيل إلى وارثه وصيانة لحق الجماعة من الاعتداء وتحقيق هذه المصالح غالب على الإسراع بدفنه.
وخلاصة الأمر أنه إذا تعارض الإسراع بدفن الميت مع تشريح جثته لمعرفة سبب الوفاة فيقدم التشريح مع مراعاة الضوابط الشرعية للتشريح وقد سبق تفصيلها في الجزء السادس من كتابي يسألونك ص 298.(7/15)
16 - كيف يكون حال مشيع الجنازة
يقول السائل: كيف ينبغي أن يكون حال من يشيع الجنازة فإننا نرى كثيراً من الناس يحضرون الجنازات ويجلسون في المقبرة ويتحدثون ويتضاحكون منتظرين دفن الميت ثم يعزون أهل الميت ثم ينصرفون؟
الجواب: إتباع الجنازة والصلاة عليها وحضور دفنها من الأمور الثابتة عن الرسولصلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرةرضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس، ردُّ السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث أيضاً عن أبي هريرةرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان، قال: مثل الجبلين العظيمين) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي للمسلم الذي يحضر الجنازة عند تشييعها ودفنها، أن يستذكر مصيبة الموت وأن يتعظ ويتفكر في هذا الميت، وأن حال هذا المشيع سيصير إلى مثل ما صار إليه الميت، وهذا التذكر يدفع الإنسان إلى محاسبة النفس والنظر والتفكر في أحواله، فإن كان محسناً إزداد إحساناً وإن كان مسيئاً رجع وثاب إلى الرشد، وهذا التفكر والإتعاظ مقصود من حضور الجنائز فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدريرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عودوا المرضى واتبعوا الجنائ تذكّركم الآخرة) رواه أحمد وابن حبان وصححه وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح أحكام الجنائز 67.
وقد روي في الحديث (أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا اتبع جنازة أكثر الصمات، ورؤي عليه الكآبة وأكثر حديث النفس) رواه وكيع في الزهد، وله شاهد صحيح، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فانتهينا إلى القبر فجلس كأن على رؤوسنا الطير) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/259، وانظر المشكاة 15/537.
وقال الفضيل بن عياض: " كانوا إذا اجتمعوا في جنازة يعرف فيهم ثلاثة أيام "، ورأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً يضحك في جنازة فقال: " أتضحك مع الجنازة! لا أكلمك أبداً ".
وكره العلماء أن يتكلم أحد في الجنازة ولا بقول القائل: " إستغفروا لأخيكم "، فقد سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً في جنازة يصيح ويقول: إستغفروا لأخيكم، فقال ابن عمر: لا غفر الله لك.
وسُئل سفيان بن عيينه عن السكوت في الجنازة وماذا يجيء به؟ قال: تذكر به حال يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى (وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا) سورة طه/108.
وقال قتادة: " بلغنا أن أبا الدرداءرضي الله عنه، نظر إلى رجل يضحك في جنازة فقال له: أما كان فيما رأيت من هول الموت ما يُشغلك عن الضحك ".
وكان مطرف يلقى الرجل من خاصة أهله في الجنازة فعسى أن يكون غائبا فما يزيده على السلام ثم يعرض عنه اشتغالاً بما هو فيه.
ذكر هذه الآثار السيوطي ثم قال: " فهذا خوف هؤلاء السادات من الموت فأما اليوم فغالب من تراه يشهد الجنازة يلهون ويضحكون، وما يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته " الأمر بالإتباع ص255.
وأخيراً نختم بما قاله الإمام النووي رحمه الله، قال: " يستحب له - أي الماشي مع الجنازة - أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه وما يكون مصيره وحاصل ما كان فيه، وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها، وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإن هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغفلة واللهو والإشتغال بالحديث الفارغ، فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهيٌ عنه في جميع الأحوال فكيف هذا الحال.
واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوتاً بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق ولا تغترن بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياضرضي الله عنه ما معناه: إلزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، الأذكار ص136.
*****(7/16)
17 - إعداد الكفن قبل الموت
يقول السائل: هل يجوز للإنسان أن يُعد كفنه قبل موته، وإذا أوصى بأن يكفن في ثوب خاص فهل تنفذ وصيته، وهل يشترط في الكفن أن يكون غير مخيط، وورد أن أبا بكر رضي الله عنه أوصى بثوبه القديم أن يغسل ويكفن فيه، فهل يغني ذلك عن الكفن، أفيدونا؟
الجواب: إن تكفين الميت فرض على الكفاية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في أحاديث منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه - أي لا تطيبوه لأنه كان محرماً - ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) رواه البخاري ومسلم.
ويجوز للمسلم أن يعد كفنه ويحضره مسبقاً، قال الإمام البخاري: " باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه "، ثم روى بسنده عن سهل رضي الله عنه (أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها، أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان فقال: أكسُنيها ما أحسنها، فقال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها وعلمت أنه لا يرد، قال: إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه) .
قال الحافظ ابن حجر: ".... فيستفاد منه جواز تحصيل ما لا بد منه للميت من كفن ونحوه في حال حياته " فتح الباري 3/385.
وإذا أوصى الميت أن يكفن في كفن خاص، فلا بأس بتنفيذ وصيته إن لم يكن في ذلك حرمة، كمن يوصي بأن يكفن في ثوب من الحرير، فلا تنفذ وصيته إن كان رجلاً، وكذلك ما لم يكن هناك مغالاة بالكفن، فلا تنفذ وصيته لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً) رواه أبوداود وإسناده حسن، قاله النووي في المجموع 5/196.
وينبغي أن يكون الكفن حسناً، لما ثبت في الحديث عن جابر بن عبد اللهرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل - أي غير كامل - وقبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم وغيره، والمراد بإحسان الكفن نظافته وستره وتوسطه وليس المراد به السرف فيه والمغالاة ونفاسته " شرح النووي على صحيح مسلم 3/13.
ولا يشترط في الكفن أن لا يكون مخيطاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم (ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات) رواه البخاري، قال الحافظ ابن حجر: " والمعنى أن التكفين في القميص ليس ممتنعاً.... وإلى أن التكفين في غير قميص مستحب ولا يكره التكفين في القميص " فتح الباري 3/381.
والأفضل أن لا تخاط الأكفان، وهو المأثور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر.
قال الحافظ ابن عبد البر: " وقد أجمعوا أن لا تخاط اللفائف، فدلَّ على أن القميص ليس مما يختار لأنه مخيط " الإستذكار 8/212.
ويدرج الميت في الكفن إدراجاً كما أدرج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يزاد في الكفن عن ثلاثة أثواب، كما كُفّن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة) رواه البخاري، وسحولية نسبة إلى (سحول) بلد في اليمن.
وأما ما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه فقد روى البخاري عن عائشة في قصة وفاة أبيها قالت: " فنظر - أي أبو بكر- إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه، به ردع من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا فزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما، قلت: إن هذا خلق، فقال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة - أي للصديد- ".
وفي رواية أخرى قال أبو بكر لعائشة: " انظروا ثوبيَّ هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت " رواه أحمد في كتاب الزهد.
وروى عبد الرزاق نحوه وقال الحافظ إسناده صحيح نصب الراية 2/262.
وقول أبي بكر ووصيته في أن يكفن في الثوب القديم، يحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه لمعنى فيه من التبرك به، لكونه صار إليه من النبي صلى الله عليه وسلم أو لكونه جاهد فيه أو تعبد فيه ويؤيده ما ورد في إحدى الروايات أنه قال: " كفنوني في ثوبيَّ اللذين كنت أصلي فيهما " ذكره الحافظ في الفتح 3/497، وقول أبي بكر ووصيته لا يغني عن الكفن لما ثبت في الرواية التي ذكرتها وهي عند البخاري أنه قال: " وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما ".
*****(7/17)
18 - اتباع النساء للجنائز غير مشروع
يقول السائل: رضي الله عنه رضي الله عنه ما حكم اتباع النساء للجنائز؟
الجواب: لا ينبغي للنساء اتباع الجنازة خاصة في زماننا هذا نظراً لفساد أحوال كثير من النساء والرجال على حد سواء.
وقد قال كثير من أهل العلم بكراهة خروج النساء في الجنازة ونقله الإمام النووي عن جماهير أهل العلم ومنهم جماعة من الصحابة كابن مسعود وابن عمر وأبي أمامة وعائشة وغيرهم. المجموع 5/278.
وقد نص فقهاء الحنفية على أن خروجهن مكروه تحريماً.
قال صاحب الدر المختار: [ويكره خروجهن تحريماً] .
وقال الشيخ ابن عابدين معلقاً على ذلك: [… ولكن يعضده المعنى الحادث باختلاف الزمان الذي أشارت إليه عائشة بقولها: لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدثت النساء بعده لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل وهذا في نساء زمانها فما ظنك بنساء زماننا] حاشية ابن عابدين 2/232.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز فقد ورد في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: [نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا] رواه البخاري ومسلم
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن النهي في الحديث نهي تنزيه قال القرطبي:
[ظاهر سياق حديث أم عطية أن النهي نهي تنزيه وبه قال جمهور أهل العلم] فتح الباري 3/378.
والذي تطمئن إليه نفسي هو منع النساء من اتباع الجنائز في هذا الزمان نظراً للمفاسد المرافقة لخروجهن من التبرج واختلاط الرجال بالنساء ولِما تقوم به بعض النسوة من مخالفات شرعية أخرى كالزغاريد المنكرة خلف الجنازة أو الصياح والنواح وغير ذلك من المنكرات فلذلك ينبغي منعهن.
قال الشيخ ابن عابدين: [وأما ما في الصحيحين عن أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) . أي أنه نهي تنزيه فينبغي أن يختص بذلك الزمن حيث كان يباح لهن الخروج للمساجد والأعياد] حاشية ابن عابدين 2/232.
وإنه مما يؤسف له أن كثيراً مما يفعله المشيعون للجنازة في بلادنا مخالف للسنة تماماً فترى المشيعين في الجنازة يهتفون ويصيحون ويرفعون أصواتهم بالتكبير والهتافات المخالفة للشرع بل إن بعض الجنائز تتحول إلى ما يشبه المظاهرات وهذا كله ليس مشروعاً بحال من الأحوال مهما كان حال الميت فإن من السنة أن يسير المشيعون للجنازة بصمت وسكوت ويتفكرون في الموت لعلهم يتعظون ويعتبرون.
فقد جاء في الحديث عن البراء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فانتهينا إلى القبر فجلس كأنّ على رؤوسنا الطير) رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني. صحيح سنن ابن ماجة 1/259.
وقد كره العلماء أن يتكلم أحد في الجنازة ولا بقول القائل: [استغفروا لأخيكم] فقد سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً في جنازة يصيح ويقول:
[استغفروا لأخيكم. فقال: ابن عمر: لا غفر الله لك] .
قال الإمام النووي: [يستحب له - أي الماشي مع الجنازة - أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه وما يكون مصيره وحاصل ما كان فيه وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه فإن هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغفلة واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهي عنه في جميع الأحوال فكيف في هذا الحال.
واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم السكوت في حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوتاً بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال.
فهذا هو الحق ولا تغترنّ بكثرة من يخالفه فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض ما معناه: [الزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين] الأذكار ص 136.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: له شواهد تقويه.
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز. رواه البيهقي بسند رجاله ثقات قاله الشيخ الألباني. أحكام الجنائز 70-71.(7/18)
19 - تلقين الميت بعد دفنه بدعة
يقول السائل: ما حكم ما يفعله كثير من الناس عند الانتهاء من دفن الميت حيث يقوم أحدهم عند رأسه فيلقنه بقوله: (يا عبد الله وابن أَمَتِهِ إذا جاءك المَلَكَان الموكلان بك وبأمثالك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يزعجاك ولا يرعباك واعلم أنهما خلق من خلق الله كما أنت خلق من خلق الله فإذا سألاك ما ربك وما ملتك وما دينك وما منهاجك وما الذي عشت ومت عليه؟ فقل لهما بلسان طلق لبق من غير تلجلج ولا وجل ولا خوف منهما ولا جزع فقل لهما الله ربي حقاً ومحمدٌ نبيي صدقاً وإبراهيم الخليل أبي وملته ملتي والكعبة قبلتي وعشت ومت على قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فإذا عادا وسألاك ثانية ماذا تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ فقل لهما نبينا وشفيعنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم … الخ) ؟
الجواب: هذا التلقين مبتدع وليس له سند من السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نصّ على أنه بدعة طائفة من أهل العلم.
قال الإمام العز بن عبد السلام: [لم يصح في التلقين شيء وهو بدعة وقوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) محمول على من دنا موته ويئس من حياته] فتاوى العز بن عبد السلام ص427.
ونقل عن الإمام مالك القول بكراهة التلقين بعد الموت. انظر كفاية الطالب الرباني نقلاً عن الآيات البينات للألوسي ص63-64.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما التلقين بعد الدفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئاً ولا أعلم فيه للأئمة قولاً سوى ما رواه الأثرم قال قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن فلان اذكر ما فارقت عليه شهادة أن لا إله إلا الله؟
فقال: ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء إنسان فقال ذلك. قال: وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه …] المغني 2/377.
وقال الشيخ المرداوي بعد أن ذكر أن مذهب الحنابلة إثبات التلقين بعد الدفن:
[… والنفس تميل إلى عدمه …] الإنصاف 2/549.
وقال شمس الحق العظيم آبادي: [والتلقين بعد الموت قد جزم كثير أنه حادث] عون المعبود 8/268.
وقال الشيخ ابن القيم: [ولم يكن يجلس - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقرأ عند القبر ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم] زاد المعاد 1/522.
وأما ما يروى في الحديث عن جابر بن سعيد الأزدي قال: (دخلت على أبي أمامة وهو في النزع فقال لي: يا أبا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع بموتانا فإنه قال: إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه يستوي قاعداً فليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول أرشدني رحمك الله فليقل: اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا شهادة أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول له: ما نصنع عند رجل لقن حجته؟ فيكون الله حجيجهما دونه)
قال الشيخ الألباني: منكر. أخرجه القاضي الخلعي في الفوائد 2/55.
قلت - أي الألباني -: [وهذا إسناد ضعيف جداً لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن. قال الدارقطني: متروك الحديث. وقال البيهقي: واهٍ منسوب إلى الوضع.
والحديث أورده الهيثمي … وقال: رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم] ثم ذكر الشيخ الألباني أن الأئمة النووي وابن الصلاح والحافظ العراقي قد ضعفوا الحديث. السلسلة الضعيفة 2/64-65.
وقال الشيخ ابن القيم بعد أن ساق الحديث: [فهذا حديث لا يصح رفعه] زاد المعاد 1/523.
ونقل ابن علان قول الحافظ ابن حجر بعد تخريج حديث أبي أمامة: [هذا حديث غريب وسند الحديثين من الطريقين ضعيف جداً] الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 4/196.
وقال الصنعاني: [ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله] سبل السلام 2/234.
وقد احتج المثبتون للتلقين بما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي 2/519.
وهذا الحديث ليس فيه التلقين بعد الموت وبعد الدفن وإنما هو في التلقين عند الاحتضار.
قال الإمام النووي: [قوله: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) معناه من حضره الموت والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما جاء في الحديث: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) والأمر بهذا التلقين أمر ندب وأجمع العلماء على هذا التلقين] شرح صحيح مسلم 2/512.
وسبق كلام العز بن عبد السلام أن هذا الحديث محمول على من دنا موته ويئس من حياته.
وقال صاحب الهداية الحنفي: [ولقن الشهادتين لقوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله) والمراد الذي قرب من موته] الهداية 2/68.
ومما يؤيد تفسير الميت بالمحتضر كما ذهب إليه كثير من أهل العلم ما ورد في الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني.
ومما يؤيد ذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنه من كان آخر كلمته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه) رواه ابن حبان والبزار وقال محقق صحيح ابن حبان: حديث صحيح. صحيح ابن حبان 7/272
والمشروع عند الانتهاء من دفن الميت هو الاستغفار للميت والدعاء له قال الشيخ ابن القيم: [وكان - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن ميت قام على قبره هو وأصحابه وسأل له التثبيت وأمرهم أن يسألوا له التثبيت] زاد المعاد 1/522.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عثمان رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الإمام النووي: إسناده جيد. وصححه الشيخ الألباني أيضاً.
******(7/19)
20 - حكم نبش القبور
يقول السائل: في أي الأحوال يجوز نبش القبور ونقلها من مكانها؟
الجواب: إن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً فلا يجوز الاعتداء عليه وهو ميت في قبره كما لا يجوز الاعتداء عليه حال حياته لما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) رواه أبو داود وابن ماجة واحمد وغيرهم. وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/214.
وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ في
الإثم) سنن ابن ماجة 1/516.
وقد قرر الفقهاء أنه لا يجوز نبش قبر الميت إلا لعذر شرعي وغرض صحيح فالأصل هو عدم جواز نبش القبور إلا في حالاتٍ خاصة وقد ذكر كثير من الفقهاء تفصيلاً للحالات التي يجوز فيها نبش القبور فمنها:
إذا دفن الميت في أرض مغصوبة كمن دفن في أرضٍ بغير إذن مالكها وكذلك إذا كان الكفن مغصوباً أو وقع في القبر مال لغير الميت قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:
[وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخرج] .
قال أحمد: [إذا نسي الحفّار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها.
وقال - أي أحمد - في الشيء يسقط في القبر مثل الفأس والدراهم ينبش قال: إذا كان له قيمة يعني ينبش …] المغني 2/412.
وقال الشوكاني رداً على صاحب حدائق الأزهار في قوله: [ولا ينبش لغصب قبر ولا كفن] .
أقول: [قد علم بالضرورة الدينية عصمة مال المسلم وأنه لا يخرج عن ملكه إلا بوجه مسوغ فمن زعم أن الدفن من مسوغات ذلك فعليه الدليل ولا دليل.
وقد تقدم أنه يشق بطنه لاستخرج ماله في نفسه لكون ذلك إضاعة مال فكيف لا ينبش للمال الذي اغتصبه وهو الكفن أو الأرض التي دفن فيها مع كونه إتلاف لمال محترم ومعصوم بعصمة الإسلام.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين) فكيف بمن اغتصب قبراً هو عدة أشبار.
وهكذا ينبش إذا ترك بغير غسل لأن الغسل واجب شرعي لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل هذا إذا كان يظن أن جسمه لم يتفسخ وأن غسله ممكن وهكذا التكفين لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل لأنه واجب شرعي لا يسقط إلا بمسقط شرعي]
السيل الجرار على حدائق الأزهار 1/369.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا ينبش الميت من قبره إلا لحاجة مثل أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت فينقل إلى غيره كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك] مجموع الفتاوى 24/303.
وقد ذكر الفقهاء حالات كثيرة يجوز فيها نبش القبور فصلها الخطيب الشربيني في مغني المحتاج 2/58-60، وإن كنا لا نسلم بجميع ما ذكره من الأعذار التي تبيح نبش القبور.
وقد أجاز بعض الفقهاء نبش القبر من أجل توسيع المسجد الجامع أو دفن ميت آخر معه عند الضيق فيجوز نبشه ودفنه في قبر لوحده.
قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب هل يخرج من القبر واللحد] ثم ذكر بسنده حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (لما حضر أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عليَّ ديناً فاقض واستوص بأخوتك خيراً فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر في القبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هينة في أذنه] .
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن الإمام البخاري يرى جواز إخراج الميت من قبره لغرض صحيح كما إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق بالميت من زيادة البركة له أو إخراجه لمصلحة تتعلق بالحيِّ لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين جابر ذلك بقوله: (فلم تطب نفسي) . انظر فتح الباري 3/457-458.
ومما يستأنس به لجواز نبش القبور لغرض صحيح ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن شريح بن عبيد الحضرمي أن رجالاً قبروا صاحباً لهم لم يغسلوه ولم يجدوا له كفناً ثم لقوا معاذ بن جبل فأخبروه فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره ثم غسل وكفن وحنط ثم صلى عليه. نيل الأوطار 4/128.
ومما يدل على جواز نبش القبور الدارسة لبناء المسجد وتوسيعه ما رواه الإمام البخاري في صحيحه في قصة بناء النبي صلى الله عليه وسلم مسجده لما هاجر إلى المدينة وفيه:
(وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى.
فقال انس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع …) صحيح البخاري مع الفتح 2/72.
وبعد كل هذا أقول إنه ينبغي التحرز والاحتياط في مسألة نبش القبور لأن الأصل عدم النبش فينبغي دراسة الحالات التي يسأل فيها عن نبش القبر دراسة متأنية ودقيقة لأن كثيراً من الجهات تتساهل في هذا الأمر تساهلاً كبيراً فلا تراعي حرمة الأموات فتتعدى على المقابر من أجل توسيع الطرقات أو من أجل التنظيم العمراني مع عدم الحاجة الحقيقية إلى ذلك.
وقد ذكر الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ضوابط لا بدمن مراعاتها إذا أجزنا نبش القبور وهي:
1. مرور زمن طويل على القبر بحيث يعرف أن الميت قد بلي وصار تراباً ويعرف ذلك بالخبرة فإن البلاد والأرض تختلف طبيعتها.
2. إذا كان الميت يتأذى بوجوده في هذا القبر كما إذا صار موضع القبر رديئاً لوجود مياه أو قذارة تنز عليه أو نحو ذلك.
3. إذا تعلق حق لآدمي بالقبر أو بالميت نفسه.
4. أن تتعلق بالمقبرة مصلحة عامة ضرورية للمسلمين لا يتم تحقيقها إلا بأخذ أرض المقبرة أو جزء منها ونقل ما فيها من رفات.
وذلك أن من القواعد الشرعية العامة أن المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام فإذا كان هذا يطبق على الحي حتى إن الشرع ليجيز نزع ملكية أرضه وداره وإخراجه من مسكنه من أجل حفر نهر أو إنشاء طريق أو إقامة مسجد أو توسيعه أو نحو ذلك فأولى أن يطبق على الميت الذي لو كان حياً ما رضي أن نؤذي إخوانه لأجله.
وأخيراً لا بد من التذكير أنه إذا أردنا نبش مقبرة أو بعض مقبرة أن يحرص العاملون في الحفر على عدم كسر عظام الأموات وأن يقوموا بجمع تلك العظام ونقلها بكل احترام إلى مكان آخر تدفن فيه بمعرفة أهل الرأي والدين. انظر فتاوى معاصرة 1/730-733.
*****(7/20)
21 - الدفن
يقول السائل: أوصى شخص قبل موته أن يوضع معه مصحف في قبره ليستأنس به فما حكم هذه الوصية؟
الجواب: يحرم تنفيذ هذه الوصية لما فيها من امتهان واحتقار للمصحف الشريف ويجب صيانة المصحف عن القاذورات والنجاسات ويجب تكريمه والمحافظة عليه هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الذي ينفع الميت عمله الصالح.(7/21)
22 - زيارة القبور
يقول السائل: ما هو المشروع في زيارة القبور؟
الجواب: لا شك أن زيارة القبور مشروعة في كل الأوقات لما ورد في الحديث عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة ولتزدكم زيارتها خيراً فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم.
وفي رواية أخرى (لا تقولوا ما يسخط الرب) .
فزيارة القبور سنة مشروعة تذكر بالموت وتجعل الإنسان يتعظ ويعتبر ويتذكر أنه سيصير إلى ما صار إليه الأموات وهذا يدفعه إلى العمل الصالح.
وكذلك فإن زيارة القبور فيها نفع للميت بالسلام عليه والدعاء له والاستغفار له.
والمشروع للزائر أن يقول: (السلام على أهل الديار المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) رواه مسلم.
والمشروع أيضاً في حق الزائر أن يدعو للأموات لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يخرج إلى البقيع فسألته عائشة عن ذلك فقال إني أمرت أن أدعو لهم) رواه أحمد بسند صحيح.
وينبغي لزائر القبر أن يراعي حرمة الأموات فلا يجلس على القبور ولا يطؤها بقدمه وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: (لأن يجلس أحدكم عل جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم.(7/22)
23 - بدع التأبين وذكرى الميت
يقول السائل: ما حكم تأبين الميت قبل الدفن أو بعده بإقامة حفلات التأبين؟
الجواب: إن تأبين الميت بدعة تدور بين الكراهة والتحريم فهي من الأمور المحدثة المخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم لأن المشروع الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدعاء للميت بعد دفنه والاستغفار له كما ورد في الحديث عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
هذه هي السنة ولكن وللأسف فإن الناس قد تركوا السنة وعملوا بالبدعة وهي التأبين هذا إذا كان المؤبن صادقاً فيما يقوله عن الميت ولا يصفه إلا بما كان فيه فعلاً فيكون الأمر بدعة مكروهة.
وأما إذا كان التأبين يشتمل على أمور مكذوبة كأن يقول بأن موته خسارة فظيعة للأمة وإن النساء لم يلدن مثله وإن الميت كان قد قضى حياته في أعمال البر والتقوى والناس يعرفون أنه لم يدخل المسجد إلا وهو ميت وغير ذلك من الكذب والزور والبهتان فهذا أمر محرم يؤذي الميت ويعود على المؤبن بالإثم والوبال فيرجع آثماً غير مأجور.
وهذا الحكم في التأبين سواء كان قبل الدفن أو بعده أو بعد مرور أربعين يوماً على وفاته أو غير ذلك فكله مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه، كما قال الحافظ ابن حجر.
وكذلك فإن التأبين قبل الدفن تأخير لدفن الميت وهذا أيضاً مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم لأن من السنة الإسراع في دفن الميت.
وكذلك ما يصاحب التأبين من الأمور المخالفة للشرع كدعوة الحضور للوقوف دقيقة حداداً على الميت فهذا ليس من شرع الإسلام في شيء وكذلك تصفيق الحاضرين للمؤبن وإنني أدعو المسلمين إلى ترك البدع والالتزام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الشر كل الشر في الابتداع والخير كل الخير في الاتباع.(7/23)
24 - يحرم استئجار المقرئين للقراءة على الأموات
بقول السائل: ما حكم استئجار المقرئين للقراءة على روح الميت؟
الجواب: إن استئجار المقرئين لقراءة القرآن على روح الأموات غير جائز شرعاً ومن البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ودفع المال لهؤلاء المتاجرين بكتاب الله إنفاق فيما حرم الله وهم يأخذون هذا المال بطريق حرام. والقرآن الكريم ما أنزل للمتاجرة به من هؤلاء الكسالى والعاطلين عن العمل ولا ليتكسب به الدجاجلة والمشعوذون وما أنزل هذا الكتاب الكريم ليقرأ على المقابر أو لافتتاح برامج الإذاعة والتلفاز التي تحارب الله ورسوله ودينه طوال الوقت، إنما أنزل هذا القرآن لنتدبر آياته ولتكون لنا سراجاً منيراً ودستوراً ومنهاجاً لحياة الأمة المسلمة.
وهؤلاء الذين يتاجرون بكتاب الله ينطبق عليهم قول بعض السلف (كم من تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه) وهؤلاء المرتزقة يحددون أسعاراً لقراءاتهم وإذا لم يدفع لهم ما يطلبون فإنهم لا يقرؤون وتزداد حرمة هذا الأمر إذا صاحبته أمور منكرة كالأدعية والأذكار التي لا يقرها الشرع الحنيف وكإزعاج الجيران وأهل الحي باستخدام مكبرات الصوت.(7/24)
25 - بدع التأبين وذكرى الميت
يقول السائل: عند وفاة شخص فإن أهله يذبحون ذبيحة أو أكثر ويعدون الطعام للناس بعد دفنه ومنهم من يصنع ذلك في الأيام الثلاثة التالية لوفاته أو بعد أسبوع أو بمناسبة الأربعين ويجمعون الناس ويقرأون بعض سور القرآن وبعض الأذكار فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن خير الهدي هو هدي محمد صلى الله عليه وسلم وإن ترك السنة شر عظيم ومن القضايا التي تركت فيها السنن ما يتعلق بالأموات فأن البدع في هذا المجال كثيرة جداً ومن ذلك ما هو محل السؤال. وتوضيح ذلك أن صنع أهل الميت للطعام مخالف لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام فإن أهل الميت حلت بهم مصيبة الموت وهم مشغولون بتجهيز الميت ودفنه وتعمهم الأحزان فلا ينبغي أن يكلفوا بإعداد الطعام وتقديمه للناس بل الواجب عكس ذلك أن على أقاربهم أو جيرانهم أو أهل بلدهم أن يكفوهم ذلك فيصنعون الطعام لأهل الميت ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني. والحديث النبوي يرشد إلى نوع من التكافل الإجتماعي حيث إن إعداد الطعام لأهل الميت أمر له أثر طيب في نفوسهم بالإضافة إلى تعزيتهم ومواساتهم وعلى المسلمين التمسك بسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذه المعاني العظيمة. وكذلك يقال في الجواب عن بقية السؤال فل ينبغي لأهل الميت ارتكاب هذه البدع من إحياء ذكرى الأربعين أو ما يعرف بالختمة أو ما يسمى بالونيسة فهذه أمور مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بدع منكرة. وبدلاً من إنفاق الأموال في هذه الأمور المخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي إنفاق الأموال في ما يعود بالنفع والفائدة على الميت بإذن الله وأبواب الخير التي ينتفع بها الميت كثيرة كالتصدق عن الميت فإن ذلك ينفعه بإذن الله سبحانه وتعالى ويدل عليه ما ورد في الحديث: (عن ابن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله أن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ فقال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عنها) رواه البخاري وغيره، وحائط المخراف: بستان نخل أو عنب كثير الثمر. وكذلك ما جاء في الحديث: (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه: قال نعم.) رواه مسلم وغيره. ولا ينبغي أن يقال إن قراءة ما يعرف بالختمة ما هي إلاّ قراءة قرآن فلا يجوز منعها. لأننا نقول إن الختمة المعروفة هي قراءة السور الأخيرة من القرآن من سورة الضحى إلى سورة الناس وتلاوة بعض الأذكار كتكرار لفظ الجلالة مئة مرة وغير ذلك من الأذكار، إن هذه الختمة طريقة مبتدعة في الذكر لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكم من صحابي مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك أو أمر أحداً من الصحابة بفعل ذلك. ولو كان هذا الأمر مشروعاً لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعمل به الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقونا إليه. وما دام لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز فعله لأن الأصل في باب العبادات التوقيف عن المصطفى عليه الصلاة والسلام.(7/25)
26 - زيارة القبور
زيارة القبور يوم العيد غير مشروعة , يقول السائل: جرت العادة عندنا أن يذهب الناس يوم العيد بعد انتهاء صلاة العيد لزيارة القبور ويقرؤون القرآن حول القبر وتخرج النساء كذلك معهم ويوزعون الحلوى والقهوة والشاي ويضعون جريد النخل والزهور على القبور فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن زيارة القبور سنة مشروعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة) رواه مسلم.
ولكن الشرع لم يحدد يوما ً معيناً لزيارة القبور لذلك فإن تخصيص يومي العيد بزيارة القبور بدعة مكروهة وقد تكون حراماً إذا رافقتها الأمور المنكرة التي نشاهدها في أيامنا هذه يوم العيد من خروج النساء المتبرجات إلى القبور واختلاطهن بالرجال وكذلك انتهاك حرمات الأموات من الجلوس على القبور ووطئها بالأقدام وغير ذلك من الأمور المخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز تخصيص زمان أو مكان بشيء من العبادة إلا بدليل شرعي. وتخصيص يوم العيد بزيارة القبور مما لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم زيارة القبور يوم العيد وإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الخير كل الخير بالاتباع والشر كل الشر بالابتداع.
وأما قراءة القرأن على القبور فأمر غير مشروع أيضاً بل هو بدعة منكرة ما فعلها رسول صلى الله عليه وسلم ولا نقلت عن صحابته رضي الله عنهم ولا يجوز فعل ذلك وعلى المسلم أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار رضي الله عنهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم علم الصحابة ما يقولون عند زيارتهم للقبور فقد ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم.
فالمشروع في حق من يزور المقابر أن يسلم على الأموات بهذه الصيغة أو نحوها وأن يدعو ويستغفر لهم وأما قراءة الفاتحة كما يفعله أكثرالناس اليوم وكذا قراءة غيرها من القرآن لا أصل له في الشرع وإن توارثه الناس في بلادنا كابراً عن كابر فإن الحق في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يعتاده الناس.
قال الشيخ محمد رضا صاحب تفسيرالمنار ( ... فاعلم أن ما اشتهر وعم ّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة) 8/268.
ومما يدل على عدم مشروعية قراءة القرآن على القبور قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة) رواه مسلم.
فهذا يدل على أن القبور ليست محلاً لقراءة القرآن شرعاً فلذلك حض الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن في البيوت ونهى عن جعل البيوت كالمقابر في عدم قراءة القرأن.
وأما خروج النساء إلى زيارة القبور في أي يوم من أيام السنة فالأصل فيه الجواز لدخول النساء في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم (كنت نهيتكم ... ألا فزوروها) ولأن العلة في زيارة القبور وهي التذكرة بالآخرة تشارك النساء فيها الرجال ولثبوت ذلك بأحاديث منها حديث عبد الله بن أبي مليكة: أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبد الرحمن ابن أبي بكر فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، ثم أمر بزيارتها) رواه الحاكم والبيهقي، وإسناده صحيح قاله الألباني.
وفي رواية عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور) رواه ابن ماجة.
وفي الباب أيضاً حديث عائشة عند مسلم وهو حديث طويل لم أذكره لذلك.
وأما خروج النساء لزيارة القبور يوم العيد فحكمه كما قلت سابقاً لا يجوز فهو بدعة مكروهة لأنه تخصيص لعبادة بزمان معين بدون دليل وقد يصل إلى درجة التحريم إذا عرفنا حال كثير من النساء اللواتي يخرجن إلى المقابر من التبرج، وإبداء الزينة والاختلاط الفاحش بالرجال فأرى أنه يجب على أولياء أمورهن منعهن من الخروج إلى المقابر وهن على تلك الحال وإن لم يفعلوا فهم آثمون والعياذ بالله.
وأما وضع جريد النخل وباقات الزهور أو أكاليل الزهور على القبور فلا يجوز أيضاً لأنه أمر محدث ولا يصح الاحتجاج بحديث ابن عباس وهو بما معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير.. ثم أخذ جريدة فشقها نصفيفن فوضع كل نصف على قبر وقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) .
فهذا الحديث صحيح ولا شك ولكن لا دلالة فيه على أن وضع جريدة النخل وأكاليل الزهور على قبور الأموات عامة جائز لما يلي:
أولاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله أن الرجلين يعذبان ونحن لا نعرف هل أصحاب القبور يعذبون أم لا؟
ثانياً: إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الأموات لأننا نظن ظن السوء أنهم يعذبون وما يدرينا لعلهم ينعمون.
ثالثاً: إن وضع الجريد والزهور لما كان عليه سلف الأمة الصالحة الذين هم أعلم بشريعة الله منا.
رابعاً: إن وضع جريد النخل على القبر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخطابي في معالم السنن " أنه من التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما.. إلى أن قال: والعامة في كثير من البلدان تغرس الخوص في قبور موتاهم وأراهم ذهبوا إلى هذا وليس لما تعاطوه من ذلك وجه " 1/27.
ويؤيد أن وضع الجريد خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ما ورد في حديث جابر عند مسلم وفيه (أني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين) فهذا دليل على أن رفع العذاب عنهما كان بسبب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بسبب نداوة الغصنين.
وبناء على ما تقدم لا أنصح أحداً من المسلمين بوضع جريد النخل أو أكاليل الزهور على القبور وأنصح من يفعلون ذلك بأن يتصدقوا بثمن ذلك عن أمواتهم فإن ذلك ينفعهم ويصلهم ثوابه إن شاء الله كما قاله بعض المحققين من العلماء.(7/26)
27 - ما ينتفع به اليت
يقول السائل: ما هي الأمور التي ينتفع بها الإنسان بعد وفاته ويصل ثوابها إليه؟
الجواب: إن مما اتفق عليه علماء الإسلام أن الميت ينتفع بدعاء غيره له، قال الإمام النووي: [أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصل ثوابه إليهم] .
ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر آية 10.
وكذلك ثبت في أحاديث كثيرة من الدعاء للأموات في صلاة الجنازة وعند زيارة القبور وغير ذلك كما ورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وعند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل آمين ولك بمثل) رواه مسلم وغيره.
وكذلك ما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم وغيره.
ومن الأمور التي اتفق العلماء على أن الميت ينتفع بها ويصل ثوابها له الصدقة عنه، وكذلك فإن المتصدق ينتفع بتلك الصدقة أيضاً ويدل على ذلك أحاديث وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها:
عن ابن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم، فقال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عنها) رواه البخاري وغيره. وحائط المخراف: بستان نخل وعنب كان لسعد فتصدق به عن أمه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي أفتلتت نفسها - أي ماتت فجأة - ولم توص وأظنها تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم فتصدق عنها) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه (إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه إن تصدقت عنه؟ قال: نعم) رواه مسلم وغيره. ومن الأمورالتي ينتفع بها الميت قضاء صوم النذر عنه فإذا كان الميت قد نذر صوما ًلله تعالى فمات قبل أن يصوم فيجوز لوليه أن يصوم عنه ذلك النذر.
ويدل على ذلك الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مت وعليه صوم صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم.
وهذا ارجح أقوال العلماء في الصوم عن الميت أنه يجوز في صوم النذر دون صوم الفريضة وهذا منقول عن عائشة وابن عباس وهو قول الإمام أحمد.
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه، أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرأ فأنجاها الله عز وجل فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إما أختها أو ابنتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضيه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ومن الأمور التي تصل إلى الميت وينتفع بها الحج والعمرة عنه حج الفريضة والنافلة أو النذر وكذا العمرة وقد وردت الأحاديث بذلك فمنها:
عن ابن عباس قال: أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزى أن تحج عنها؟ قال: نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يجزيء عنها فلتحج عن أمها) رواه النسائي وقال الألباني صحيح الإسناد.
وعن ابن عباس أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: أرأيت لو كان عل أختك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء) رواه البخاري وغيره.
وهناك أعمال أخرى ينتفع بها الميت على قول طائفة من أهل العلم كتلاوة القرآن وجعل ثواب التلاوة للميت والأضحية عن الميت.(7/27)
28 - ما ينتفع به اليت
يقول السائل: ما هي أفضل الأعمال التي يستطيع الابن عملها وينتفع بها الأب بعد وفاته؟
الجواب: إنَّ من أفضل الأعمال التي يستطيع الولد أن يعملها وينتفع بها أبوه الميت الصدقة.
فالصدقة عن الميت تنفعه ويصله ثوابها كما هو مذهب جماهير علماء المسلمين ودل على ذلك ما جاء بالحديث (عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي إفتلت نفسها ولم توص - أي ماتت فجأةً - وأظنها لو أنها تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم فتصدق عنها) ، رواه البخاري ومسلم.
ويدل على ذلك أيضاً (ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول اله إن أمي توفيت و؟ أنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال نعم، فقال إني أشهدك أن حائط المخراف صدقةٌ عنها) والمقصود بالحائط: بستان نخلٍ أو عنب. والحديث رواه البخاري وغيره.
ومن الأمور التي ينتفع بها الميت الدعاء له عند زيارة القبور أو كان بشكلٍ عام، يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) فهذه الآية تدل على انتفاع الأموات باستغفار الأحياء لهم.
قال الإمام النووي: [أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه] الأذكار ص 140.
ويدل على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) ، رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لغفر لحينا وميتنا ... ) رواه أبو داود والترمذي وهو حديثٌ صحيح.
ومن الأمور التي ينتفع بها الميت على قول بعض العلماء الحج عنه تطوعاً إن كان الميت قد أدى فريضة الحج وكذا قراءة القرآن بأن يجعل القارئ ثواب ما تلى للميت.(7/28)
29 - التعزية
يقول السائل: إن بعض الناس يقبلون أقارب الميت عند تعزيتهم فما حكم ذلك؟
الجواب: إن التعزية مستحبة عند أهل العلم فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126.
قال الإمام النووي: [وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت واستحب أصحابنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك … وأحسن ما يعزى به ما روينا في صحيح البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب …] الأذكار ص 127.
ولم يثبت التقبيل ولا المعانقة في التعزية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كره كثير من أهل العلم المعانقة والتقبيل من الرجل للرجل إلا للقادم من السفر.
وعليه فينبغي الاقتصار في التعزية على المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو التعزية بالكلام وليس بالمعانقة ولا بالتقبيل.(7/29)
30 - الدفن
يقول السائل: ما حكم دفن رجل مع امرأة في قبر واحد؟
الجواب: السنة أن يدفن كل ميت في قبر منفرد كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معروف من سنته صلى الله عليه وسلم بالاستقراء كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 2/136.
وأجاز العلماء دفن اثنين فأكثر في قبر واحد عند الضرورة والضيق والشدة قال الإمام الشافعي
(ويدفن في موضع الضرورة من الضيق والعجلة الميتان والثلاثة في القبر) الأم 1/276.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي (ولا يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة وسئل أحمد عن الاثنين والثلاثة يدفنون في قبر واحد، قال أما في المصر فلا، وأما في بلاد الروم فتكثر القتلى فيحفر شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا ويجعل بينهما حاجزاً لا يلتزق واحد بالآخر وهذا قول الشافعي وذلك أنه لا يتعذر في الغالب إفراد كل واحد بقبر في المصر ويتعذر ذلك غالباً في دار الحرب وفي موضع المعترك وإن وجدت الضرورة جاز دفن الاثنين والثلاثة وأكثر في القبر الواحد حيثما كان من مصر أو غيره) المغني 2/ 420.
ويدل على ذلك ما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين والثلاثة من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد …) رواه البخاري.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فقتلوا يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد) رواه أحمد بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر، انظر أحكام الجنائز ص 146.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني (وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه) وكأنه كان يجعل بينهما حائلاً من تراب ولا سيما إن كانا أجنبيين) فتح الباري 3/ 455.
وبناءً على ذلك فيجوز دفن الرجل مع المرأة في قبر واحد عند الضرورة ويوضع حاجز بينهما وأما في الأحوال العادية فينبغي أن يدفن كل ميت في قبر لوحده قال الإمام الشافعي (ولا أحب أن تدفن المرأة مع الرجل على حال وإن كانت ضروة ولا سبيل إلى غيرها كان الرجل أمامها وهي خلفه ويجعل بين الرجل والمرأة في القبر حاجز من تراب) الأم 1/ 276.(7/30)
31 - الدفن
يقول السائل: هل يجوز دفن الميت في الليل أم ينتظر به النهار؟
الجواب: قال أكثر أهل العلم يجوز دفن الميت ليلاً ولا كراهة في ذلك ولكن الدفن في النهار أفضل. قال الحافظ ابن عبد البر: [وفي هذا الحديث إباحة الدفن بالليل وعلى إجازته أكثر العلماء وجماعة الفقهاء لأن الليل ليس فيه وقت تكره فيه الصلاة] الاستذكار 8/290 وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب الدفن بالليل ودفن أبي بكر رضي الله عنه ليلاً] . ثم روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على رجل بعدما دفن بليلة. قام هو وأصحابه وكان سأل عنه فقال: من هذا؟ فقالوا: فلان دفن البارحة فصلوا عليه) صحيح البخاري مع الفتح 3/451. ومما يدل على جواز الدفن بالليل ما جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلاً فقال: (متى دفن هذا؟ فقالوا: البارحة. قال: أفلا آذنتموني. قالوا: دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك. فصلى عليه) رواه البخاري. وعن جابر قال: (رأى ناسٌ ناراً في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم. وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر) . رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم كما قال الإمام النووي. المجموع 5/302. وروى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر الصديق لم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح) صحيح البخاري 3/297. وهذا هو الحديث الذي ذكره الإمام البخاري معلقاً في ترجمة الباب السابق. وأما ما جاء عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض وكفن في غير طائل وقبر ليلاً فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم. فقد أجاب عنه العلماء بأجوبة قوية منها ما قاله الإمام النووي: [وأما النهي عن القبر ليلاً حتى يصلي عليه فقيل سببه أن الدفن نهاراً يحضره كثيرون من الناس ويصلون عليه ولا يحضره في الليل إلا أفراد. وقيل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن فلا يبين في الليل ويؤيده أول الحديث وآخره …] شرح النووي على صحيح مسلم 3/12. وقال العلامة ابن القيم: [قال الإمام أحمد: لا بأس بذلك - أي الدفن ليلاً - وقال: أبو بكر دفن ليلاً وعليٌ دفن فاطمة ليلاً وحديث عائشة: (سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي صلى الله عليه وسلم. وممن دفن ليلاً عثمان وعائشة وابن مسعود ورخص فيه عقبة بن عامر وابن المسيب وعطاء والثوري والشافعي واسحاق وكرهه الحسن وأحمد في إحدى الروايتين. وقد روى مسلم في صحيحه: … فذكر حديث جابر السابق] . ثم قال ابن القيم: [والآثار في جواز الدفن بالليل أكثر. وفي الترمذي من حديث الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً فأسرج له بسراج فأخذه من قبل القبلة وقال: رحمك الله إن كنت لأواهاً تلاءً القرآن وكبر عليه أربعاً) . قال: وفي الباب عن جابر ويزيد بن ثابت وهو أخو زيد بن ثابت أكبر منه. قال: وحديث ابن عباس حديث حسن. قال: ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبر ذي البجادين ليلاً. وفي صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن قبر رجل، فقال: من هذا؟ قالوا: فلان، دفن البارحة فصلى عليه) . وهذه الآثار أكثر واشهر من حديث مسلم. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فمات بالليل فدفنوه ليلاً فلما أصبح أخبروه. فقال: ما منعكم أن تعلموني؟ فقالوا: كان الليل وكرهنا - كانت ظلمة - أن نشق عليك فأتى قبره فصلى عليه) . قيل: وحديث النهي محمول على النزاهة والتأديب. والذي ينبغي أن يقال في ذلك - والله أعلم -: أنه متى كان الدفن ليلاً لا يفوت به شيء من حقوق الميت والصلاة عليه فلا بأس به وعليه تدل أحاديث الجواز وإن كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه نهي عن ذلك وعليه يدل الزجر وبالله التوفيق] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 8/309. وقال الحافظ ابن حجر في الجواب عن حديث جابر: [بأن النهي عن الدفن ليلاً كان بسبب تحسين الكفن وقوله: (حتى يصلي عليه) مضبوط بكسر اللام أي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا سبب آخر يقتضي أنه إن رجي بتأخير الميت إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب تأخيره وإلا فلا وبه جزم الطحاوي واستدل المُصَنْف - أي الإمام البخاري - للجواز بما ذكره من حديث ابن عباس ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم دفنهم إياه بالليل بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره وأيد ذلك بما صنع الصحابة بأبي بكر وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز] فتح الباري 3/451. *****(7/31)
32 - الدفن
يقول السائل: ما حكم الدفن في الفساقي؟
الجواب: إن الأصل أن يدفن كل ميت في قبر لوحده، وينبغي أن يكون القبر عميقاً، يمنع خروج الرائحة ويمنع الحيوانات المفترسة من الوصول إلى جثة الميت، ويجوز دفن أكثر من ميت في قبر واحد عند الضرورة لما ثبت في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين والثلاثة من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد....) رواه البخاري وغيره. وأما الدفن في الفسقية وهي كبيتٍ معقودٍ بالبناء يوضع فيه الأموات الواحد بجانب الآخر، فقد كره كثير من أهل العلم الدفن فيها، لمخالفتها للسنة، قال الإمام السبكي: " في الإكتفاء بالفساقي نظر، لأنها ليست على هيئة الدفن المعهود شرعاً قال: وقد أطلقوا تحريم إدخال ميت على ميت لما فيه من هتك حرمة الأول وظهور رائحته، فيجب إنكار ذلك، ونقل الخطيب الشربيني عن بعض شرَّاح المنهاج أنه قال: " إنه لا يكفي الدفن فيما يصنع الآن ببلاد مصر والشام وغيرهما من عقد أزج واسع أو مقتصد شبه بيت لمخالفته الخبر وإجماع السلف وحقيقته بيت تحت الأرض فهو كوضعه في غار ونحوه ويسد بابه، ثم قال الشربيني: وهذا ظاهر لأنه ليس بدفن كما أشار إلى ذلك ابن الصلاح والأذرُعي وغيرهما " مغني المحتاج 2/36 - 37. وقال الشيخ ابن عابدين: " ويكره الدفن في الفساقي.... لمخالفتها السنة، والكراهة من وجوه كثيرة: عدم اللحد ودفن جماعة في قبر واحد بلا ضرورة، واختلاط الرجال بالنساء بلا حاجز، وتجصيصها والبناء عليها.... وخصوصاً إن كان فيها ميت لم يبل " حاشية ابن عابدين 2/233. فإن وجدت ضرورة للدفن في الفساقي كما هو الحال في بعض المدن بسبب ضيق المقابر، فيجب أن يراعى أن لا يفتح على ميت قبل أن تبلى عظامه، ولا بد من وضع حاجز بين كل ميت وآخر، وينبغي أن لا يكون الميت مكشوفاً، فقد أخبرني بعض الناس أنهم يضعون الميت في الفسقية دون أن يغطوه بشيء وهذا مخالف للسنة. وينبغي التذكير بالمحافظة على حرمة الأموات لأن المسلم محترم حياً وميتاً وقد جاء في الحديث أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وغيرهم وهو صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/314. *****(7/32)
33 - الدفن
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الناس حيث إن المقبرة عندهم عبارة عن بناء قائم على وجه الأرض أشبه ما تكون بغرفة فإذا مات الميت فتحوا باب الغرفة ووضعوا الميت على الأرض بدون دفن فإذا مات آخر فتحوا الغرفة ووضعوا الميت الآخر بجانبه وهكذا فهل هذه المقبرة معتبرة شرعاً؟ أفيدونا.
الجواب: الأصل الثابت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية والقولية أن الميت يدفن تحت التراب ولا يترك على وجه الأرض ولو كان في غرفة مغلقة كما في السؤال.
ودفن الميت فرض كفاية ومعنى الدفن أن يخفى الشيء في التراب ودفن الميت جعله تحت التراب وقد جاء في الحديث عن هشام بن عامر قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقلنا يا رسول الله: الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفروا وأعمقوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، فقالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: قدموا أكثرهم قرآنا، وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وقال الشيخ الألباني إسناد الحديث صحيح كما قال الترمذي وهو على شرط الشيخين. أحكام الجنائز ص 143.
فهذا الحديث يدل على أن الميت يدفن تحت التراب ويدل على تعميق القبر، قال الشوكاني: [فيه دليل على مشروعية إعماق القبر وإحسانه وقد اختلف في حد الإعماق فقال الشافعي: قامة. وقال عمر بن عبد العزيز إلى السرة، وقال الإمام يحيى إلى الثدي وأقله ما يواري الميت ويمنع السبع] نيل الأوطار 4/89.
والمراد بقول الشافعي في حد الإعماق قامة أي قامة رجل معتدل فقد أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعمق قبره إلى قامة وبسطة. رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/326 وانظر نيل الأوطار 4/89، الموسوعة الفقهية 32/246.
وجاء في الحديث عن رجل من الأنصار قال: (خرجنا في جنازة فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفيرة القبر فجعل يوصي الحافر ويقول: أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين) رواه أبو داود والبيهقي وإسناده صحيح كما قال الإمام النووي في المجموع 5/286.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال أحمد رحمه الله: يعمق القبر إلى الصدر الرجل والمرأة في ذلك سواء كان الحسن وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر. وقال سعيد: حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر: أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة ولا يعمقوا فإن ما على ظهر الأرض أفضل مما سفل منها. وذكر أبو الخطاب: أنه يستحب أن يعمق قدر قامة وبسطة وهو قول الشافعي. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفروا وأوسعوا وأعمقوا) رواه أبو داود. ولأن ابن عمر أوصى بذلك في قبره ولأنه أحرى ألا تناله السباع وأبعد على من ينبشه. والمنصوص عن أحمد: أن المستحب تعميقه إلى الصدر لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمقوا) ليس فيه بيان لقدر التعميق ولم يصح عن ابن عمر أنه أوصى بذلك في قبره ولو صح عند أبي عبد الله لم يعده إلى غيره.
إذا ثبت هذا فإنه يستحب تحسينه وتعميقه وتوسيعه للخبر، وقد روى زيد بن أسلم قال: (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر. فقال: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، ثم قال: ما بي أن يكون يغني عنه شيئاً ولكن الله يحب إذا عمل العمل أن يحكم) قال معمر: وبلغني أنه قال: (ولكنه أطيب لأنفس أهله) رواه عبد الرزاق في كتاب الجنائز] المغني 2/371.
وبناء على ما تقدم فإن ترك الأموات في غرفة بدون دفن كما في السؤال هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وينبغي تخصيص قطعة أرض لتكون مقبرة كما توارثه المسلمون منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الآن.(7/33)
34 - من يدخل المرأة الميتة في القبر
من هو الشخص الذي يجوز له أن يتولى وضع المرأة الميتة في قبرها وهل يشترط أن يكون من محارمها؟
الجواب: الأول والأفضل أن يتولى وضع المراة في قبرها محارمها أو زوجها وإذا تولى ذلك رجل أجنبي عنها يجوز ذلك ولا بأس به فلا يشترط فيمن يضع المرأة في قبرها أن يكون محرماً للمرأة فقد ثبت في الحديث: (أن أبا طلحة الأنصاري تولى دفن إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم عند موتها) رواه البخاري.
*****(7/34)
35 - ما ينتفع به اليت
قراءة القرآن على الأموات، يقول السائل: أرجو بيان حكم قراءة القرآن على أرواح الأموات وهل يصل ثواب القراءة إليهم أم لا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن الميت ينتفع بما عمله من خير في حياته ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.
وكذلك اتفقوا على أن دعاء الحي للميت ينفعه ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر الآية 10.
وما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من دعائه للأموات في صلاة الجنازة وغيرها كحديث عوف بن مالك قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله …) الحديث، رواه مسلم.
وكذلك اتفقوا على أن صدقة الحي عن الميت تنفع الميت ويدل على ذلك حديث عائشة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله إن أمي افتلت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عليها؟ قال: نعم) رواه مسلم. ومعنى افتلت نفسها أي ماتت فجأة.
كما اتفق جمهور العلماء على أن الحج عن الميت ينفعه لما ورد في الحديث عن بريدة أن امرأة قالت: (يا رسول الله، إن أمي ماتت ولم تحج أفيجزي أن أحج عنها؟ قال: نعم) رواه مسلم.
وكذلك قال طائفة من أهل العلم بأن الميت ينتفع بصوم الحي عنه لما ورد في حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم.
هذه هي أهم الأعمال التي ينتفع بها الميت وتصل إليه والتي وردت فيها النصوص الشرعية.
وأما قراءة القرآن وجعل ثواب ذلك للميت فمسألة اختلف فيها أهل العلم قال الإمام النووي رحمه الله: [واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يصل وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل] الأذكار ص 40.
وقال الحنفية إن ثواب القرآن يصل إلى الميت وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم واختيار الإمام النووي وغيرهم من أهل العلم.
وهو الذي أختاره وأقول به لأن الأدلة الواردة في انتفاع الميت بعمل الحي في باب العبادات تدل على انتفاع الميت بقراءة القرآن إذ لا فرق بين انتفاعه بالصوم والحج وانتفاعه بقراءة القرآن، قال ابن قدامة رحمه الله: [وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله] المغني 2/423.
ثم ذكر بعض الأدلة الدالة على انتفاع الميت بعمل الحي وقد سقت بعضها ثم قال: (وهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية وقد أوصل الله نفعها إلى الميت فكذلك ما سواها] المغني 2/423.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج فإن قيل فهذا لم يكن معروفاً في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه.
فالجواب إن مورد هذا السؤال إن كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى ولا كانوا يعرفون ذلك البتة ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم. ثم يقال لهذا القائل لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا يشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم. فإن قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة قيل هو - صلى الله عليه وسلم - لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له وهذا سأله عن الصدقة فأذن له ولم يمنعهم مما سوى ذلك وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر ….) الروح ص 142-143.
وأخيراً يجب التنبيه على أن القراءة التي تصل للميت وينتفع بها هي القراءة بدون أجر وأما إذا استأجر أهل الميت قارئاً يقرأ بأجره فلا يصل ثواب القراءة للميت ولا ينتفع بها ولا يصح الاستئجار على قراءة القرآن في هذه الحالة ولا ثواب في ذلك للقاريء ولا لذوي الميت ولا للميت قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وأما الاستئجار لنفس القراءة - أي قراءة القرآن - والإهداء فلا يصح ذلك.. فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه لا ما فعل لأجل عروض الدنيا.. وأما إذا كان لا يقرأ لأجل العروض فلا ثواب لهم على ذلك وإذا لم يكن في ذلك ثواب فلا يصل إلى الميت شيء..) مجموع الفتاوى 24/ 315 - 316.
*****(7/35)
36 - بدع التأبين وذكرى الميت
ما حكم إقامة مآتم بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الميت ودعوة قاريء ليقرأ القرآن بأجر؟
والجواب: إن إقامة المآتم بمناسبة الأربعين من البدع المنكرة المنتشرة في مجتمعنا وهي مخالفة لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولما في ذلك من تجديد الأحزان على الميت ولما يصاحب ذلك من إضاعة الأموال فيما لا نفع فيه حيث إن بعض الناس قد يتكلفون في إعداد الطعام ويدفعون أموالاً طائلة قد يكون ورثة الميت بحاجة ماسة لها. وهذا الأمر لم يؤثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو إحداث في الدين وتشريع لما لم يأذن به الله عز وجل يقول الله تعالى (أم لهم شركؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى الآية 21. وقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي مردود عليه غير مقبول منه. وفي رواية أخرى (من عمل عملاً لس عليه أمرنا فهو رد) . وأما بالنسبة لاستئجار القراء لقراءة القرآن في المآتم فهذا أيضاً من البدع وليس من الهدي النبوي في شيء. ودفع المال في هذا العمل لا أجر فيه ولا ينتفع به الميت ولا القاريء وأخذ المال فيه غير جائز لأن هذا القاريء وأمثاله يقرؤون من أجل المال ولا يقصدون بقراءتهم وجه الله سبحانه وتعالى. ولم يؤثر هذا الفعل عن الصحابة رضوان الله عليهم ولا عن السلف الصالح بل هو بدعة كما قلت والبدع من الضلالة فلا أجر في ذلك لا للقاريء ولا للميت ولا لمن دفع المال. وبدلاً من إنفاق المال في هذه الأمور غير المشروعة يفضل إنفاق المال فيما ينفع الميت كالتصدق عنه كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. ولما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - توفيت أمه وهو غائب عنها فقال يا رسول الله: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: (نعم..) رواه البخاري. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه إن تصدقت عنه؟ قال: (نعم) رواه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث. فعلى المسلمين أن يقلعوا عن هذه البدع السيئة وعليهم الالتزام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) . وقال أيضاً (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) . *****(7/36)
37 - نقل الميت من دولة إلى أخرى
يقول السائل: توفي لي قريب في إحدى دول الخليج وأصر ابنه على نقل الجثمان إلى الضفة الغربية ليدفن فيها بناء على وصية الميت وقد تأخر دفنه عدة أيام فما حكم ذلك؟
الجواب: لقد حث الإسلام على تعجيل دفن الميت فقد ورد في الحديث بما معناه: (لا ينبغي لجثة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) رواه أبو داود وغيره.
ولا شك أن نقل الميت من بلد إلى بلد وخاصة أنه قد أدى إلى تأخير الدفن أياماً عدة يتنافى مع ما ذكرنا.
ومن ناحية أهرى فإن نقل الأموات في هذه الأيام يؤدي إلى امتهانهم وانتهاك حرماتهم في نقاط الحدود والمطارات وغيرها.
كما وأن نقل الميت قد يعرضه للتغيير ويكلف ذويه مبالغ طائلة كان من الأوْلى أن تكون لورثته وخاصة إذا كانوا أطفالاً لا معين لهم.
لذلك فإني أرى حرمة نقل الميت من دولة إلى اخرى لاشتماله المفاسد التي ذكرت بعضها.
وإذا أوصى الميت بنقله، فإن وصيته لا تنفذ لأن في تنفيذها مخالفة للشرع ويدل على ما قلت ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم فرددناهم) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح.
ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإسراع في الجنائز وتعجيل دفنها فقد ورد في الحديث: (إن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا) رواه أبو داود. أي عجلوا في التجهيز والتكفين.
وقد نص الإمام النووي في المجموع على حرمة نقل الميت وهذا قول جماعة من الشافعية ونص الحنفية أيضاً على ذلك. ويؤيد ذلك ما ورد عن ابن عمر مرفوعاً: (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) وفي رواية أخرى: (من مات في بكرة فلا تقيلوه إلا في قبره ومن مات عشية فلا يتبين إلا في قبره) .
وإني أرى أن الفقهاء الذين أجازوا نقل الميت من بلد إلى بلد أجازوه لمصلحة ما ولو أنهم رأوا ما يجري للأموات الذين ينقلون من بلد لآخر في زماننا هذا لأفتوا ولا شك بتحريم ذلك.
ثم إن تأخير دفن الميت فيه زيادة ومضاعفة للأحزان فإذا مات اليوم في أمريكا فإنهم ينتظرون أياماً حتى يصل جثمانه وهذا مما يزيد آلامهم وأحزانهم. بخلاف ما لو دفن بعد موته مباشرة لذلك فإن على المسلمين المبادرة بدفن موتاهم حيث ماتوا والإقلاع عن هذه العادة السيئة وهي نقل الموتى لأن إكرام الميت دفنه.(7/37)
38 - القبور
يقول السائل: ما الحكم فيما يصنعه الناس في القبور من بنائها بالحجارة والرخام ونحو ذلك؟
الجواب: إن ما آلت إليه مقابر كثيرة من المسلمين في وقتنا الحاضر ليشعر بالأسى والحزن لبعد الناس عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وإن الزائر لهذه القبور ليرى أموراً عجيبة من حيث البناء على القبور فيرى هذا القبر قد بني من الرخام الإيطالي وذلك بني بأغلى أنواع الحجارة وهذا بني برخام أبيض وذاك بأسود حتى إن كثيراً من الناس أصبحوا يتفاخرون بالبناء على قبور موتاهم وسمعنا أن بعض هذه القبور كلف بناؤها مبالغ طائلة وكل ذلك من شؤم الابتعاد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام فقال: (وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ) . وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وقال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وغير ذلك من الآيات.
واعلم أخي المسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور وقد ثبت ذلك عنه في أحاديث منها:
1. عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب (ألا أبعثك على ما بعثتني رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم وغيره.
2. وعن جابر رضي الله عنه قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن بينى عليه) رواه مسلم.
3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها) رواه أبو علي وقال الهيثمي رجاله ثقات.
4. وعن فضالة بن عبيد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتسوية القبور) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم.
إن هذه الأحاديث تدل دلالة صريحة على تحريم البناء على القبور لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك والأصل في النهي أنه يفيد التحريم لذلك فإن جماهير علماء المسلمين متفقون على أن البناء على القبور من المحرمات.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله (إعلم أنه اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها.. ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين) شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص 8.
وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم الأبنية التي على القبور ومنهم العلامة ابن حجر الهيتمي إذ قال (وتجب المبادرة لهدم المساجد والقباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ونذره) الإبداع ص 198.
ولا بد للمسلم أن يعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة فلم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تعلية القبور ولا بناؤها بآجر ولا بحجر ولا تشيديها ولا بناء القباب عليها فسنته صلى الله عليه وسلم تسوية القبور المشرفة كلها ونهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والكتابة عليها وكانت قبور الصحابة ضي الله عنهم وما زال كثير منها غير مبني عليه كما هو الحال إلى الآن في شهداء بدر وشهداء أحد وقبور الصحابة في البقيع وغيره.
وينبغي أن يعلم أن القبور ليست محلاً لتفاخر الناس في البناء عليها وزخرفتها وتخطيط اللوحات التي توضع عليها ويكتب فيها آيات من القرآن الكريم وغير ذلك.
وإن الميت لا ينتفع بالبناء على قبره أو وضع (الدرابزين) عليه وإن إنفاق الأموال في هذا المجال إنفاق فيما حرم الله وكان الواجب أن تنفق هذه الأموال في أمور أخرى قد تنفع الميت كالصدقة عنه أو عمل صالح ينتفع به.
وإنني لأذكر إخواننا المشايخ والعلماء أن من واجبهم إنكار هذه البدعة المحرمة وعدم السكوت عليها وتبين الحكم الشرعي فيها لأن هذا المنكر قد استشرى وانتشر حتى لا تكاد مقبرة تخلو منه. وإن سكوت العلماء عن هذا المنكر وغيره فيه تضليل للعوام فيظنون أن البناء على القبور من الأمور المشروعة.
وإن من منهج علماء المسلمين إنكار المنكرات وإظهار كلمة الحق وإن خالفها الكثير من الناس، بل إن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا أموراً أقل من هذا بكثير وإن علماء المسلمين في عهد الملك الظاهر أنكروا البناء على القبور وأفتوا أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم ذلك كله وهذا هو الحق. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟(7/38)
39 - القبور
يقول السائل: في أي الأحوال يجوز نبش القبور ونقلها من مكانها؟
الجواب: إن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً فلا يجوز الاعتداء عليه وهو ميت في قبره كما لا يجوز الاعتداء عليه حال حياته لما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) رواه أبو داود وابن ماجة واحمد وغيرهم. وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/214. وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ في الإثم) سنن ابن ماجة 1/516. وقد قرر الفقهاء أنه لا يجوز نبش قبر الميت إلا لعذر شرعي وغرض صحيح فالأصل هو عدم جواز نبش القبور إلا في حالاتٍ خاصة وقد ذكر كثير من الفقهاء تفصيلاً للحالات التي يجوز فيها نبش القبور فمنها: إذا دفن الميت في أرض مغصوبة كمن دفن في أرضٍ بغير إذن مالكها وكذلك إذا كان الكفن مغصوباً أو وقع في القبر مال لغير الميت قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخرج] . قال أحمد: [إذا نسي الحفّار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها. وقال - أي أحمد - في الشيء يسقط في القبر مثل الفأس والدراهم ينبش قال: إذا كان له قيمة يعني ينبش …] المغني 2/412. وقال الشوكاني رداً على صاحب حدائق الأزهار في قوله: [ولا ينبش لغصب قبر ولا كفن] . أقول: [قد علم بالضرورة الدينية عصمة مال المسلم وأنه لا يخرج عن ملكه إلا بوجه مسوغ فمن زعم أن الدفن من مسوغات ذلك فعليه الدليل ولا دليل. وقد تقدم أنه يشق بطنه لاستخرج ماله في نفسه لكون ذلك إضاعة مال فكيف لا ينبش للمال الذي اغتصبه وهو الكفن أو الأرض التي دفن فيها مع كونه إتلاف لمال محترم ومعصوم بعصمة الإسلام. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين) فكيف بمن اغتصب قبراً هو عدة أشبار. وهكذا ينبش إذا ترك بغير غسل لأن الغسل واجب شرعي لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل هذا إذا كان يظن أن جسمه لم يتفسخ وأن غسله ممكن وهكذا التكفين لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل لأنه واجب شرعي لا يسقط إلا بمسقط شرعي] السيل الجرار على حدائق الأزهار 1/369. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا ينبش الميت من قبره إلا لحاجة مثل أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت فينقل إلى غيره كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك] مجموع الفتاوى 24/303. وقد ذكر الفقهاء حالات كثيرة يجوز فيها نبش القبور فصلها الخطيب الشربيني في مغني المحتاج 2/58-60، وإن كنا لا نسلم بجميع ما ذكره من العذار التي تبيح نبش القبور. وقد أجاز بعض الفقهاء نبش القبر من أجل توسيع المسجد الجامع أو دفن ميت آخر معه عند الضيق فيجوز نبشه ودفنه في قبر لوحده. قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب هل يخرج من القبر واللحد] ثم ذكر بسنده حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (لما حضر أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عليَّ ديناً فاقض واستوص بأخوتك خيراً فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر في القبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هينة في أذنه] . وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن الإمام البخاري يرى جواز إخراج الميت من قبره لغرض صحيح كما إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق بالميت من زيادة البركة له أو إخراجه لمصلحة تتعلق بالحيِّ لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين جابر ذلك بقوله: (فلم تطب نفسي) . انظر فتح الباري 3/457-458. ومما يستأنس به لجواز نبش القبور لغرض صحيح ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن شريح بن عبيد الحضرمي أن رجالاً قبروا صاحباً لهم لم يغسلوه ولم يجدوا له كفناً ثم لقوا معاذ بن جبل فأخبروه فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره ثم غسل وكفن وحنط ثم صلى عليه. نيل الأوطار 4/128. ومما يدل على جواز نبش القبور الدارسة لبناء المسجد وتوسيعه ما رواه الإمام البخاري في صحيحه في قصة بناء النبي صلى الله عليه وسلم مسجده لما هاجر إلى المدينة وفيه: (وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى. فقال انس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع …) صحيح البخاري مع الفتح 2/72. وبعد كل هذا أقول إنه ينبغي التحرز والاحتياط في مسألة نبش القبور لأن الأصل عدم النبش فينبغي دراسة الحالات التي يسأل فيها عن نبش القبر دراسة متأنية ودقيقة لأن كثيراً من الجهات تتساهل في هذا الأمر تساهلاً كبيراً فلا تراعي حرمة الأموات فتتعدى على المقابر من أجل توسيع الطرقات أو من أجل التنظيم العمراني مع عدم الحاجة الحقيقية إلى ذلك. وقد ذكر الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ضوابط لا بدمن مراعاتها إذا أجزنا نبش القبور وهي: 1. مرور زمن طويل على القبر بحيث يعرف أن الميت قد بلي وصار تراباً ويعرف ذلك بالخبرة فإن البلاد والأرض تختلف طبيعتها. 2. إذا كان الميت يتأذى بوجوده في هذا القبر كما إذا صار موضع القبر رديئاً لوجود مياه أو قذارة تنز عليه أو نحو ذلك. 3. إذا تعلق حق لآدمي بالقبر أو بالميت نفسه. 4. أن تتعلق بالمقبرة مصلحة عامة ضرورية للمسلمين لا يتم تحقيقها إلا بأخذ أرض المقبرة أو جزء منها ونقل ما فيها من رفات. وذلك أن من القواعد الشرعية العامة أن المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام فإذا كان هذا يطبق على الحي حتى إن الشرع ليجيز نزع ملكية أرضه وداره وإخراجه من مسكنه من أجل حفر نهر أو إنشاء طريق أو إقامة مسجد أو توسيعه أو نحو ذلك فأولى أن يطبق على الميت الذي لو كان حياً ما رضي أن نؤذي إخوانه لأجله. وأخيراً لا بد من التذكير أنه إذا أردنا نبش مقبرة أو بعض مقبرة أن يحرص العاملون في الحفر على عدم كسر عظام الأموات وأن يقوموا بجمع تلك العظام ونقلها بكل احترام إلى مكان آخر تدفن فيه بمعرفة أهل الرأي والدين. انظر فتاوى معاصرة 1/730-733. *****(7/39)
40 - بدع التأبين وذكرى الميت
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الناس من إحياء ذكرى مرور عام على وفاة شخص ما بدعوة الأقارب والأصدقاء لإحياء تلك المناسبة بتلاوة آيات من القرآن؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أنه ليس من منهج الإسلام تجديد الأحزان وإثارة الأشجان فليس من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إحياء ذكرى الميت سواء كان ذلك في ذكرى الأربعين أو مرور سنة أو مرور سنتين أو مرور سنين على وفاته وليس من منهج الإسلام إقامة حفلات التأبين وإلقاء الخطب والكلمات في مدح الأموات وكل ذلك من البدع والمنكرات. يقول الله سبحانه وتعالى: (أم لَهُمْ شرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) سورة الشورى الآية 21. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (… إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) رواه مسلم. وإحياء ذكرى الأموات بدعوة الأصدقاء والأقارب وتلاوة القرآن واستئجار القراء وتكرار التعازي كل ذلك ليس له سند من الشرع وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا علمه للصحابة وما فعلوه ولا نقل عن التابعين وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز تكرار التعزية لما في ذلك من تجديد الأحزان بل إن الإمام الشافعي قال: [وأكره المآتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤونة مع ما مضى فيه من الأثر] الأم 1/279. ونقل الشيخ ابن عابدين عن الفتاوى التتارخانية: [لا ينبغي لمن عزى مرة أن يعزي مرة أخرى رواه الحسن عن أبي حنيفة] . وقد ذكر هذا الكلام عند قول صاحب الدر المختار: [وتكره التعزية ثانياً] حاشية ابن عابدين 2/241. وقال الإمام النووي: [قال أصحابنا وتكره التعزية بعد الثلاثة لأن المقصود فيها تسكين قلب المصاب والغالب سكونه بعد الثلاثة فلا يجدد له الحزن] المجموع 5/306. وأخيراً فينبغي على المسلم أن يلتزم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي بالصحابة والتابعين وسلف الأمة قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) سورة الأنعام الآية 90. ولا ينخدعن أحد بما اعتاده كثير من الناس من فعل هذه البدع وشيوعها ومشاركة بعض المشايخ فيها فلا حجة لهم في ذلك والحجة في الاقتداء بصاحب الشرع الشريف صلى الله عليه وسلم فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع. *****(7/40)
41 - زيارة القبور
يقول السائل: ما حكم زيارة النساء للقبور؟
الجواب: إن زيارة النساء للقبور ممنوعة شرعاً، على القول الراجح من أقوال أهل العلم، لأنه ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن حبان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان، وهو حديث صحيح. وعن عليرضي الله عنه قال: (خرج رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فإذا نسوة جلوس فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة قال: هل تغسلن؟ قلن: لا، قال هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات) رواه البيهقي وابن ماجة وفي سنده اختلاف. وغير ذلك من الأحاديث التي دلت على تحريم زيارة النساء للقبور، فهذه أحاديث صريحة في معناها، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام لعن النساء على زيارة القبور، واللعن على الفعل من أول الدلائل على تحريمه، ولا سيما وقد قرنه في اللعن بالمتخذين عليها المساجد والسرج. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإن قيل فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال أهل القول الآخر، قيل هذا ليس بجيد، لأن قوله (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) هذا خطاب للرجال دون النساء فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم بطريق التبع فإن كان مختصاً بهم فلا ذكر للنساء وإن كان متناولاً لغيرهم كان هذا اللفظ عاماً وقوله: (لعن الله زوارات القبور) خاص بالنساء دون الرجال، ألا تراه يقول (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) ، فالذين يتخذون عليها المساجد والسرج لعنهم الله، سواء أكانوا ذكوراً أو إناثاً وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال، وإذا كان هذا خاصاً ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة كان متقدماً على العام عند عامة أهل العلم كذلك لو علم أنه كان بعدها " مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/361,360 ملحوظة.. ظهر لي رجحان القول بمنع النساء من زيارة القبور، خلافاً لما قررته في الجزء الأول ص 76 الطبعة الثانية، من جواز زيارة النساء للقبور. وقد رجعت عن القول بالجواز وصرت إلى المنع نظراً لقوة الأدلة الواردة في ذلك فاقتضى التنويه.(7/41)
42 - آداب التعزية
يقول السائل: ما هي آداب التعزية، حيث إننا نلاحظ مخالفات كثيرة تحدث عند اجتماع الناس للتعزية، حيث يكثر الكلام في شؤون الدنيا وما يتبعه من لهوٍ وضحكٍ وتدخينٍ مع وجود مسجل لقراءة القرآن الكريم، وما حكم صنع أهل الميت للطعام في اليوم الثالث من الوفاة، أفيدونا؟
الجواب: التعزية من السنة وهي مستحبة عند أهل العلم فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسنادٍ حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناسٌ من أهله، فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه) رواه مسلم. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن جعفر في قصة استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وفيها: (فقال اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرار) قال العلامة الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز ص 166. وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل، يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله مالي لا أجزع وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب: الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثنين؟ قال: واثنين.) قال العلامة الألباني [رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، قلت - الألباني - بل هو على شرط مسلم فإن رجاله كلهم رجال صحيحه، لكن أحدهم فيه ضعف من قبل حفظه لكن لا ينزل حديثه هذا عن رتبة الحسن والحديث أورده الهيثمي في المجمع ... وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح] أحكام الجنائز ص 165. ولا بأس في اجتماع الناس للتعزية في قاعة ملحقة بالمسجد أو في البيت أو اصطفاف أهل الميت عند المقبرة بعد الدفن ليعزيهم الناس، فكل ذلك من الوسائل التي تعين على فعل السنة، ومن المقرر عند العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد، قال الإمام الشافعي: [والتعزية من حين موت الميت، إن المنزل والمسجد وطريق القبور، وبعد الدفن، ومتى عزَّى فحسن، فإذا شهد الجنازة أحببت أن تؤخر التعزية إلى أن يدفن الميت إلا أن يرى جزعاً من المصاب فيعزيه عند جزعه، ويعزي الصغير والكبير، والمرأة إلا أن تكون امرأة شابة ولا أحب مخاطبتها إلا لذي محرم، وأحب لجيران الميت أو ذي قرابته أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت، وليلته طعاماً يشبعهم فإن ذلك سنة، وذكرٌ كريمٌ، وهو من فعل أهل الخير قبلنا، وبعدنا لأنه لما (جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم) ] الأم 1/317. إذا تقرر هذا فإن من يدقق النظر في معنى التعزية كما قرره العلماء يجد أن المقصود من التعزية تسلية أهل الميت وحثهم على الصبر وعلى الرضا بما قدره الله لهم والدعاء للميت والترحم عليه، ولكن ما يفعله كثير من الناس خلاف ذلك، ومن المؤسف حقاً أنك ترى الناس يتصرفون على خلاف ذلك، فإن بيوت العزاء صارت أشبه بالمقاهي، فترى كثيراً من المعزين يتحدثون في شؤونهم الدنيوية ويتضاحكون ويدخنون ولا أثر لحادثة الموت عليهم إلا من رحم الله، وقد قرر أهل العلماء آداباً للمعزي ينبغي أن يتحلى بها منها: المسارعة في مواساة المصاب، وتصبيره. والذهاب للتعزية بسكينة ووقار، واختيار الألفاظ المناسبة في تعزيه أهل المصاب؛ ولو تقيد بما ورد لكان أحسن. وتذكير المصاب بفضيلة الصبر والرضا على ما قضاه الله تعالى وقدره، قال الإمام الشوكاني: [وثمرة التعزية الحث على الرجوع إلى الله تعالى ليحصل الأجر] نيل الأوطار4/116، وتعزية جميع أهل المصاب، ويتأكد لمن لا يقوى على تحمل المصيبة كالصبيان، والنساء، إلا إذا خشيت الفتنة فلا يُعزي النساءَ إلا محارمُهن. ولا بأس أن يجتمع بعض الناس ليذهبوا سوياً لتعزية أهل الميت، بل إنه أفضل للمعزي والمعزى، فإن هذا مما يعين المُعزِّي، ولا يتعب المُعزَّى، ويعين على أداء السنة، وداخل تحت قوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2. والتعزية في مدة العزاء التي تعارف الناس عليها، ولا يعزي بعدها لما يحصل من تجديد الحزن؛ إلا إذا كانت المصيبة باقية في نفس المصاب فلا بأس بتعزيته. انظر كتاب التعزية وأحكامها ص 238-239. فانظر إلى هذه الآداب وقارنها بما عليه حال كثير من المعزين تجد العجب العجاب، فإذا كان الناسُ لا يتعظون بالموت فما الذي يعظهم!!! وأما ما ذكره السائل من حديث الناس في شؤون الدنيا وتضاحكهم فهذا دليلٌ واضحٌ على عدم اتعاظهم بالموت، وكفى بالموت واعظاً. وأما التدخين فلا شك لدي في تحريمه، وقد رأيت بنفسي أن من أهل الميت يصطفون لتقبل العزاء من الناس وهم يدخنون!! وأما قراءة القرآن في بيوت العزاء فمن البدع النكرة. ويضاف إلى ذلك أن القرآن يتلى والناس لاهون ولا يستمعون!! وأما صنع الطعام من أهل الميت في اليوم الثالث فهو مخالف للهدي النبوي، فإن أهل الميت حلت بهم مصيبة الموت وهم مشغولون بتجهيز الميت ودفنه وتعمهم الأحزان فلا ينبغي أن يكلفوا بإعداد الطعام وتقديمه للناس، بل الواجب عكس ذلك، فعلى أقاربهم أو جيرانهم أو أهل بلدهم أن يكفوهم ذلك فيصنعوا الطعام لأهل الميت، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني. والحديث النبوي يرشد إلى نوع من التكافل الإجتماعي حيث إن إعداد الطعام لأهل الميت أمرٌ له أثرٌ طيبٌ في نفوسهم بالإضافة إلى تعزيتهم ومواساتهم وعلى المسلمين التمسك بسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذه المعاني العظيمة. قال الإمام النووي: [قال صاحب"الشامل" وأما إصلاح أهل البيت طعاماً، وجمعهم الناس عليه، فلم ينقل فيه شيء، قال: وهو بدعة غير مستحبة، وهو كما قال] روضة الطالبين2/145. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه، فهذا غير مشروع، وإنما هو بدعة] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/316. وقال العلامة ابن القيم: [وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يتكلفون الطعام للناس، بل أمر أن يصنع الناس لهم الطعام يرسلونه إليهم، وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم، والحمل عن أهل الميت، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/528. وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز: [وأما كون أهل الميت يصنعون طعاماً للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز، وهو من عمل الجاهلية سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو على رأس السنة، كل ذلك لا يجوز لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي - أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة " أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاؤا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام] مجموع فتاوى الشيخ 9/325-326.
وخلاصة الأمر أن التعزية من الأمور المستحبة وقد شرعت لمقاصد عظيمة، منها تسلية أهل الميت وحثهم على الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وإن الواجب على المعزي أن يستشعر حالة الموت وينبغي للمعزين أن يتأدبوا بآداب التعزية وأن يعلموا أنهم ما جاؤا لتعزية أهل الميت إلا لتحقيق مقاصد التعزية، وليس للحديث في شؤون الدنيا والتضاحك واللهو والتدخين وكأن بيت العزاء مقهى. فيا من جئت للعزاء استشعر عظمة الموت وتذكر أنك بانتظار دورك، فتأدب بأدب الإسلام وأكثر من الصمت واترك أمورك الدنيوية لدقائق قليلة.(7/42)
1 - الزكاة لا تسقط بالموت
يقول السائل: توفي والدي وعنده أموال وجبت فيها الزكاة ولم يزك حال حياته، فهل الورثة مطالبون بإخراج زكاة مال الوالد بعد وفاته، أفيدونا؟ الجواب: من المعلوم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وفريضة من الفرائض، وقد وردت نصوص كثيرة فيها كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة التوبة الآية103، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} سورة التوبة الآيتان 34-35، وورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله فالإبل، قال: ولا صاحب إبلٍ لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ- أرض مستوية واسعة - أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرَّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل يا رسول الله فالبقر والغنم، قال: ولا صاحب بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء - ملتوية القرنين - ولا جلحاء - لا قرن لها- ولا عضباء- انكسر قرنها- تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مرَّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من النصوص. ومن المعلوم أن الزكاة واجبة على الفور، على الراجح من أقوال أهل العلم، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام الآية141. ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت في الحديث عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (صلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ثم دخل بيته فلم يلبث أن خرج، فقلت له، أو قيل له، فقال: كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيَّته فقسمته) رواه البخاري، فالواجب على المسلم أن يبادر إلى إخراج الزكاة حال وجوبها في ماله، فإن مات المكلف بها بعد الوجوب وقبل إخراجها أثم إلا من عذر، وتبقى ديناً في ذمته يلزم الورثة إخراجها بعد نفقات تجهيز الميت وقبل الوصايا وقبل توزيع التركة على الورثة، لأن التركة لا توزع إلا بعد سداد الديون، والزكاة دين لله وهى أحق بالوفاء. والدين مقدم على الوصية باتفاق أهل العلم، وهذا هو الراجح من أقوال العلماء، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا تسقط الزكاة بموت رب المال , وتُخرج من ماله وإن لم يوص بها، هذا قول عطاء والحسن , والزهري وقتادة ومالك , والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وقال الأوزاعي والليث تؤخذ من الثلث , مقدمةً على الوصايا ولا يجاوز الثلث، وقال ابن سيرين والشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان وداود بن أبي هند , وحميد الطويل والمثنى والثوري: لا تخرج إلا أن يكون أوصى بها، وكذلك قال أصحاب الرأي , وجعلوها إذا أوصى بها وصية تُخرج من الثلث ويزاحم بها أصحاب الوصايا، وإذا لم يوص بها سقطت، لأنها عبادة من شرطها النية , فسقطت بموت من هي عليه كالصوم. ولنا أنها حق واجب تصح الوصية به , فلم تسقط بالموت كدين الآدمي، ولأنها حق مالي واجب فلم يسقط بموت من هو عليه , كالدين، ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان لا تصح الوصية بهما , ولا النيابة فيهما] المغني 2/509. وقال الإمام النووي: [فمن وجبت عليه زكاةٌ وتمكن من أدائها فمات قبل أدائها عصى ووجب إخراجها من تركته عندنا بلا خلاف، وبه قال جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة تسقط عنه الزكاة بالموت، وهو مذهب عجيب فإنهم يقولون الزكاة تجب على التراخي وتسقط بالموت وهذا طريق إلى سقوطها. ودليلنا ما ذكره المصنف. وإذا اجتمع في تركة الميت دين لله تعالى ودين لآدمي كزكاة وكفارة ونذر وجزاء صيد وغير ذلك، ففيه ثلاثة أقوال مشهورة ذكرها المصنف بأدلتها (أصحها) يقدم دين الله تعالى (والثاني) دين الآدمي (والثالث) يستويان فتوزع عليهما بنسبتهما، وحكى بعض الخراسانيين طريقاً آخر أن الزكاة المتعلقة بالعين تقدم قطعاً وإنما الأقوال في الكفارات وغيرها مما يسترسل في الذمة مع حقوق الآدمي، وقد تكون الزكاة من هذا القبيل بأن يكون له مال فيتلف بعد الحول والإمكان ثم يموت وله تركة فالزكاة هنا متعلقة بالذمة ففيها الأقوال. وأجابوا عن حجة منْ قدم دين الآدمي وقياسه على قتل الردة وقطع السرقة بأنه إنما قدمنا حق الآدمي هناك لاندراج حق الله تعالى في ضمنه وحصول مقصوده وهو إعدام نفس المرتد ويد السارق وقد حصل بخلاف الديون، ولأن الحدود مبنية على الدرء والإسقاط بخلاف حقوق الله تعالى المالية.] المجموع 6/232. ومما يدل على عدم سقوط الزكاة عن الميت بوفاته، أن الزكاة حق لله تعالى، بل هي دين الله، وديون الله أحق بالوفاء كما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك، وفي قوله " فالله أحق بالوفاء " دليل على أنه مقدم على دين الآدمي] فتح الباري 6/75. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت وعليها صوم شهر. فقال: أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟ قالت نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء) رواه مسلم. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) رواه البخاري ومسلم. وذِكْرُ النبي صلى الله عليه وسلم دينَ العباد في الأحاديث يدل على أن دين الله ملحق به في القضاء، بل هو أولى منه. ومما يؤيد ذلك أيضاً ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم، مع أن الصيام عبادة بدنية شخصية، وجازت فيه النيابة بعد الموت، فضلاً من الله ورحمة، فأولى بذلك الزكاة، وهي حق مالي. انظر فقه الزكاة 2/835. ودين الله عند الفقهاء هو كل دين ليس له من العباد من يطالب به على أنه حق له، وهو نوعان: نوع يظهر فيه وجه العبدة والتقرب إلى الله تعالى، وهو ما لا مقابل له من المنافع الدنيوية، كصدقة الفطر، وفدية الصيام، وديون النذور، والكفارات ونحو ذلك، فإنها عبادات يؤديها المسلم امتثالاً لأمر الله تعالى وتقرباً إليه. ونوعٌ يفرض لتمكين الدولة من القيام بأعباء المصالح العامة للأمة، وهو ما يُقابَلُ - في الغالب- بمنفعة دنيوية للمكلف كخمس الغنائم وما أفاء الله على المؤمنين من أعدائهم من غير قتال، وما يفرضه الإمام على القادرين من أفراد الأمة للوفاء بالمصالح التي يعجز بيت المال عن الوفاء بها. الموسوعة الفقهية الكويتية 21/117-118.
وخلاصة الأمر أن الزكاة لا تسقط بالموت، والواجب على الورثة إخراج زكاة مال الوالد الميت قبل تنفيذ وصاياه وقبل توزيع التركة على الورثة، لأن الزكاة دين الله، ودين الله أحق بالوفاء وأولى بالقضاء كما ورد في الأحاديث. كما أن في إخراج زكاة مال الوالد الميت نوعٌ من البر له، وإبراءٌ لذمته من حقوق الله عز وجل.(8/1)
2 - فضل الصدقة وأنها تطفئ الخطيئة
يقول السائل: ما صحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (داووا مرضاكم بالصدقة) وما ورد أن الصدقة تطفئ الخطيئة، أفيدونا؟
الجواب: روى أبو داود في كتابه المراسيل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع) المراسيل 1/128، وروى البيهقي بإسناده عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة وأعدوا للبلاء الدعاء) قال أبو عبد الله تفرد به موسى بن عمير، قال الشيخ – البيهقي- وإنما يعرف هذا المتن عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. سنن البيهقي3/382، وقد تكلم المحدثون على هذا الحديث برواياته المختلفة كلاماً طويلاً فمنهم من ضعفه ومنهم من حسنه، وقد بين العلامة الألباني حال الحديث في أكثر من موضع من كتبه، فقد قال في السلسة الضعيفة حديث رقم 3492: [ (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء) ضعيف جداً، رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (3/67/ 2) ، وأبو الغنائم النرسي في "فوائد الكوفيين" (25/1) ، وأبو نعيم في "الحلية" (2/104و 4/237) ، والخطيب في "التاريخ" (6/ 334و13/2) ، والقضاعي (58/1) ، وعنهما ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/2) من طريق موسى بن عمير عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. ومن هذا الوجه رواه الطبراني في "الأوسط" أيضاً (1/85/1) من "الجمع بينه وبين الصغير" وقال: "لم يروه عن الحكم إلا موسى". قلت: وهو متروك؛ كما قال الهيثمي (3/64) ، ولذلك قال ابن الجوزي: "لا يصح". وله شاهد عن الحسن البصري مرسلاً، وهو الأشبه. أخرجه أبو داود في "المراسيل". وله طرق أخرى تجدها في "المقاصد" للسخاوي. السلسلة الضعيفة 7/487-488. وكذلك فإن العلامة الألباني قد ضعف الحديث بروايته التي ذكرتها ثانياً في ضعيف الجامع الصغير حديث رقم 2723 ورقم 2724. ولكن العلامة الألباني حسًّن جملة المداواة في الحديث وهي قوله: (داووا مرضاكم بالصدقة) في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 3358، وكذا حسَّنها في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم744. وكذلك فإن جملة التداوي بالصدقة قد حسَّنها بعض أهل العلم واستدلوا بها. ذكر الشيخ السفاريني أن معنى حديث المداواة بالصدقة صحيح وأن جماعة من أصحابنا وغيرهم يفعلون هذا، وهو حسن. انظر غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب 2/288. وإن قلنا إن الحديث غير صحيح فإن الصدقة تنفع بشكل عام وترد البلاء وتطفئ الخطايا والآثام كما تدل على ذلك نصوص كثيرة، وورد في فتاوى اللجنة الدائمة: [الحديث المذكور غير صحيح، ولكن لا حرج في الصدقة عن المريض تقرباً إلى الله عز وجل، ورجاء أن يشفيه الله بذلك، لعموم الأدلة الدالة على فضل الصدقة، وأنها تطفئ الخطيئة، وتدفع ميتة السوء] فتاوى اللجنة الدائمة السعودية 4/441. ويؤيد ما سبق ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ثم قال: يا أمة محمد ما من أحدٍ أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) رواه البخاري ومسلم. ومما يدل على المداواة بالصدقة ما ورد في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصبح على كل سُلَامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) رواه مسلم. قال الشيخ ابن الحاج المالكي: [وقد دل الحديث على عمومها – أي الصدقة - بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل سُلامى من الناس عليه صدقة) ، والسُلامى بضم السين مع فتح الميم والقصر هي أعضاء ابن آدم فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: على كل عضوٍ من أحدكم صدقة فيعطي ظاهر الحديث أنه في كل يوم يحتاج المرء إلى ثلاثمائة وستين صدقة على عدد الأعضاء] المدخل 4/224. وأما ما ورد في الحديث أن الصدقة تطفئ الخطيئة فقد ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراءٍ يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش ولم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، ويرد عليَّ الحوض. يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان، والصوم جُنَّة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. يا كعب بن عجرة: إنه لا يربو لحم نبت من سحتٍ إلا كانت النارُ أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي1/189. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقلت يا رسول الله: أخبرني بعملٍ يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه. قلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله. قلت بلى يا نبي الله قال فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا. فقلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 413. وورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وصححه العلامة الألباني في السلسلة في الصحيحة حديث رقم 3484. وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة السر تطفئ غضب الرب) رواه الطبراني في الصغير، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 4/539. وعن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة) رواه البخاري ومسلم، وقد ورد في فضل الصدقة أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن الصدقة المذكورة في الأحاديث تشمل المفروضة والنافلة، قال العلامة محمد العثيمين ["والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار" الصدقة مطلقاً سواء الزكاة الواجبة أو التطوع، وسواء كانت قليلة أو كثيرة. "تطفىء الخطيئة" أي خطيئة بني آدم، وهي المعاصي. "كما يطفئ الماء النار" والماء يطفئ النار بدون تردد، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الأمر المعنوي بالأمر الحسي.] مجموع رسائل العثيمين 3/35. وخلاصة الأمر أن حديث (داووا مرضاكم بالصدقة) فيه كلام كثير لأهل العلم وفي ثبوته نظر، ومع ذلك فما يدل عليه الحديث صحيح معتبر في الشرع وثابت بأدلة أخرى، وأما ما ورد أن الصدقة تطفئ الخطيئة فهو صحيح ثابت، وفضل الصدقة عظيم ونفعها كبير معلوم من الشرع وثابت في النصوص.(8/2)
3 - يجوز صرف الزكاة لحلقات تحفيظ القرآن الكريم
يقول السائل: عندنا دار للقرآن الكريم وتضم عدداً كبيراً من الحلقات لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علم التجويد، فهل يجوز صرف الزكاة إلى المحفظين والمحفظات والمعلمين والمعلمات والطلبة الحافظين، أفيدونا.
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة الآية 60. وقد اختلف العلماء في المراد بعبارة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} المذكورة في الآية، فمنهم من رأى أن {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} يراد بها سبيل الخير. [المصالح العامة التي تقوم عليها أمور الدين والدولة دون الأفراد بالإضافة إلى المجاهدين والمرابطين كبناء المستشفيات والملاجئ والمدارس الشرعية والمعاهد الإسلامية والمكتبات العامة ومساعدة الجمعيات الخيرية على أداء مهماتها الإنسانية ودعم المؤسسات التي تقدم خدمات عامة لأفراد المجتمع وكذا الإنفاق على الجهاد شريطة ألا يأكل ذلك أسهم الأصناف الأخرى التي ذكرت في آية الصدقات] إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 100-101. ومن العلماء من يرى أن {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة في سبيل الله فقط ولا يصح صرف الزكاة فيما سواه. ومن العلماء من يرى أن مصرف في سبيل الله يقصد به الجهاد والحج والعمرة. وهنالك أقوال أخرى في المسألة، ويجب أن نعلم أن لكل قول من الأقوال السابقة دليله. وأرجح الأقوال هو القول الأول الذي يرى جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، ولا يقصره على الجهاد فقط، وقد اختار هذا القول جماعة من العلماء المتقدمين واللاحقين ولهم أدلة قوية على ما ذهبوا إليه منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة التوبة الآية 34. فالمراد بسبيل الله في الآية المعنى العام وليس الجهاد فقط، وإلا لكان من أنفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى ونحوهم داخلاً ضمن الذين يكنزون وليس الأمر كذلك. ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كلِّ سنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآية 261. ومن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} سورة البقرة الآية 262. فهذه الآيات يفهم منها أن المراد بِ {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} المعنى العام وليس المعنى الخاص، وبناءً على ما سبق فإن صرف الزكاة لدور القرآن الكريم وحلقات تحفيظه داخل في مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أحد مصارف الزكاة الثمانية، [لأن نشاطها في تحفيظ القرآن وتعليمه وتربية الناشئة عليه وهو من الدعوة إلى الله تعالى، وما كان كذلك فهو داخل في مصرف (وفي سبيل الله) لأن هذا المصرف يشمل الدعوة إلى الله تعالى، بل إنه من أعظم أنواع الجهاد، كما قال الله تعالى في سورة الفرقان – سورة مكية نزلت قبل فرض الجهاد باليد- {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} ] فتاوى مجموعة من العلماء السعوديين. وقد قرر المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بالأغلبية دخول تحفيظ القرآن، وأمور الدعوة إلى الله في مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، فقد ورد في قرار المجمع ما يلي: [وبعد اطلاع المجلس على ترجمة الاستفتاء الذي يطلب فيه الإفادة هل أحد مصارف الزكاة الثمانية المذكورة في الآية الكريمة وهو مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} يقصر معناه على الغزاة في سبيل الله أم أن سبيل الله عام لكل وجه من وجوه البر من المرافق والمصالح العامة من بناء المساجد والربط والقناطر وتعليم العلم وبث الدعاة. . . إلخ. وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه ظهر أن للعلماء في المسألة قولين: أحدهما: قصر معنى - وفي سبيل الله - في الآية الكريمة على الغزاة في سبيل الله، وهذا رأي جمهور العلماء , وأصحاب هذا القول يريدون قصر نصيب مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} من الزكاة على المجاهدين الغزاة في سبيل الله تعالى. القول الثاني: إن سبيل الله شامل عام لكل طرق الخير والمرافق العامة للمسلمين من بناء المساجد وصيانتها وبناء المدارس والربط وفتح الطرق وبناء الجسور وإعداد المؤن الحربية وبث الدعاة وغير ذلك من المرافق العامة مما ينفع الدين وينفع المسلمين , وهذا قول قلة من المتقدمين وقد ارتضاه واختاره كثير من المتأخرين. وبعد تداول الرأي ومناقشة أدلة الفريقين قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: 1 - نظراً إلى أن القول الثاني قد قال به طائفة من علماء المسلمين وإن له حظًّاً من النظر في بعض الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} , ومن الأحاديث الشريفة مثل ما جاء في سنن أبي داود أن رجلًا جعل ناقةً في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبيها فإن الحج في سبيل الله) . 2 - ونظراً إلى أن القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى وإن إعلاء كلمة الله تعالى مما يكون بالقتال يكون - أيضاً - بالدعوة إلى الله تعالى ونشر دينه بإعداد الدعاة ودعمهم ومساعدتهم على أداء مهمتهم، فيكون كلا الأمرين جهاداً لما روى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) . 3 - ونظراً إلى أن الإسلام مُحَارب - بالغزو الفكري والعقدي من الملاحدة واليهود والنصارى وسائر أعداء الدين , وأن لهؤلاء من يدعمهم الدعم المادي والمعنوي فإنه يتعين على المسلمين أن يقابلوهم بمثل السلاح الذي يغزون به الإسلام وبما هو أنكى منه. 4 - ونظراً إلى أن الحروب في البلاد الإسلامية أصبح لها وزارات خاصة بها ولها بنود مالية في ميزانية كل دولة بخلاف الجهاد بالدعوة فإنه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا عون، لذلك كله فإن المجلس يقرر - بالأكثرية المطلقة - دخول الدعوة إلى الله تعالى وما يعين عليها ويدعم أعمالها في معنى - وفي سبيل الله - في الآية الكريمة.] موقع المجمع على الإنترنت. وجاء في فتوى للشيخ العلامة عبد الله الجبرين: [مدارس تحفيظ القرآن فيها تعليم للقرآن وتعليم للعلم فتدخل في الدعوة إلى الله وتدخل في سبيل الله الذي هو من مصارف الزكاة، وتكون أولى من إعطاء المؤلفة قلوبهم الذين يرجى بإعطائهم قوة إيمانهم، أو كف شرهم، أو إسلام نظرائهم، فإذا تعطلت هذه المدارس صرف لها من الزكاة رواتب للمعلمين والغالب أنهم فقراء، وجوائز للطلاب] موقع الشيخ على الإنترنت. كما أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز بجواز دفع الزكاة للمدرسين والطلاب بمدارس تحفيظ القرآن الكريم إذا كانوا فقراء. موقع اللجنة على الإنترنت، وقال فضيلة الشيخ عبد الله البسام: [صرف الزكاة لحلقات القرآن الكريم التي تعنى بتحفيظ القران الكريم وتفهيمه لأطفال المسلمين لا سيما وأكثرهم أو كلهم من الفقراء والمساكين فإنه أفضل ما تصرف فيه الزكاة هذا المجال الذي يجمع بين سد حاجة فقر أطفال المسلمين وأيتامهم وبين نشر الدعوة بتحفيظ كتاب الله تعالى] عن الإنترنت. والغالب أن وصف القر ينطبق على رواد الحلقات ومدرسيها محل السؤال. ويضاف إلى ما سبق أن طلبة حلقات التحفيظ هم طلبة علم، ومن المتفق عليه بين أهل العلم أن طالب العلم إن كان فقيراً يعطى من الزكاة لفقره. ومن العلماء من قال: يعطى طالب العلم لكونه طالب علم، وإن كان قادراً على الكسب إذا تفرغ لطلب العلم. ومنهم من أجاز لطالب العلم أن يأخذ من الزكاة باعتباره داخلاً في مصرف: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} حيث فسر قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأنه طلبة العلم كما في الدر المختار 2/343، وحاشية الطحطاوي ص 392. ونقل ابن عابدين عن بعض الحنفية أن تفسير: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} بطلب العلم وجيه. حاشية ابن عابدين 2/343. قال العلامة الشيخ صديق حسن خان: [ومن جملة سبيل الله: الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيباً سواء أكانوا أغنياء أو فقراء، بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وحملة الدين، وبهم تحفظ بيضة الإسلام، وشريعة سيد الأنام، وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم والأمر في ذلك مشهور، ومنهم من كان يأخذ زيادة على مئة ألف درهم. ومن جملة هذه الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر لما قاله له يعطي من هو أحوج منه: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك، كما في الصحيح والأمر ظاهر] الروضة الندية 1/533 - 534. وقد ذكر الإمام النووي أن المشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلت له الزكاة لأن تحصيل العلم فرض كفاية. المجموع 6/190. وقال بعض فقهاء الحنفية يجوز لطالب العلم الأخذ من الزكاة ولو كان غنياً إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته لعجزه عن الكسب والحاجة داعية إلى ما لا بد منه. حاشية الطحطاوي ص 392.
وخلاصة الأمر أنه يجوز صرف الزكاة إلى دار القرآن الكريم ولحلقات تحفيظ القرآن الكريم ولتدريس علم التجويد وللمحفظين والمحفظات والمعلمين والمعلمات والطلبة.(8/3)
4 - تجب الزكاة في عروض التجارة على الصحيح من أقوال العلماء
يقول السائل: إنه طالب علم وقد قرأ كلاماً للشيخ محمد ناصر الدين الألباني يرى فيه أن الزكاة غير واجبة في عروض التجارة، فهل هذا صحيح، أفيدونا؟ الجواب: لا بد أن نعرف أولاً أن الشيخ العلامة الألباني رحمة الله عليه، هو محدث هذا العصر والأوان بلا منازع، وهو من أهل العلم والفقه في الحديث، ولكنه يميل كثيراً في منهجه الفقهي إلى مذهب الظاهرية، والظاهرية يأخذون بظاهر النصوص ولا يعملون بالقياس، وغير ذلك مما خالفوا به جماهير الفقهاء. ومسألة الزكاة في عروض التجارة، الخلاف فيها قديمٌ جديد، وأكثر الفقهاء قديماً وحديثاً، على وجوب الزكاة في عروض التجارة، قال الإمام النووي: [وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين، قال ابن المنذر أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، قال رويناه عن عمر بن الخطاب وبن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري وطاووس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد، وحكى أصحابنا عن داود وغيره من أهل الظاهر أنهم قالوا لا تجب] المجموع 6/47. واعتبر بعض أهل العلم القول بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة من الأقوال الشاذة التي لا يلتفت إليها ولا يعول عليها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأئمة الأربعة وسائر الأمة ـ إلا من شذ ـ متفقون على وجوبها في عرض التجارة، سواء كان التاجر مقيماً أو مسافراً، وسواء كان متربصاً ـ وهو الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر ـ أو مديراً كالتجار الذين في الحوانيت، سواء كانت التجارة بَزا من جديد، أو لبيس، أو طعاماً من قوت أو فاكهة، أو أدم أو غير ذلك، أو كانت آنية كالفخار ونحوه، أو حيواناً من رقيق أو خيل، أو بغال، أو حمير، أو غنم معلوفة، أو غير ذلك، فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة، كما أن الحيوانات الماشية هي أغلب الأموال الظاهرة.] مجموع الفتاوى 25/45. وقول العلامة الألباني في المسألة ذكره في تعليقه على كتاب فقه النة حيث قال: [الحق أن القول بوجوب الزكاة على عروض التجارة مما لا دليل عليه في الكتاب والسنة الصحيحة، مع منافاته لقاعدة " البراءة الأصلية" التي يؤيدها هنا قوله صلى الله عليه وآله في خطبة حجة الوداع: (فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ! اللهم فاشهد) الحديث. رواه الشيخان وغيرهما ... ] تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 363-364. قلت وكلام العلامة الألباني غير مُسَلَّم، بل الزكاة في عروض التجارة قامت عليها أدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمن الكتاب الكريم قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} سورة التوبة الآية 103. قال الشيخ ابن العربي المالكي: [والزكاة واجبة في العروض من أربعة أدلة: الأول: قول الله عزَّ وجَلَّ: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةٍ} وهذا عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسمائه، واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه بشيء فعليه الدليل.] عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي 3/86. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} سورة البقرة الآية 267. قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إلى قوله {أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [هكذا أورد هذه الترجمة مقتصراً على الآية بغير حديث، وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة الحلال. أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق آدم عنه] فتح الباري5/51. وقال الإمام الجصاص الحنفي: [وقد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد، وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال، لأن قوله تعالى {ما كسبتم} ينتظمها وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها، فهو عموم في أصناف الأموال، مجمل في المقدار الواجب فيها، فهو مفتقرٌ إلى البيان، ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مقادير الواجبات فيه صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه، نحو أموال التجارة، ويُحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجاب الزكاة في العروض] أحكام القرآن 2/174. ومن السنة النبوية ما ورد في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الإبل صدقتها، وفى البقر صدقتها، وفى البَز - الثياب - صدقته) ، قال الإمام النووي: [هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم، ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم ... وفى البَز صدقته هو بفتح الباء وبالزاي، هكذا رواه جميع الرواة وصرح بالزاي الدارقطني والبيهقي] المجموع 6/47. وفي هذا الحديث - وهو حديث صحيح كما قال النووي في المرجع السابق- دلالة واضحة على وجوب الزكاة في عروض التجارة، لأن الثياب لا تجب فيها الزكاة فيها إلا إذا كانت معدة للتجارة، فينبغي حمل الحديث على ذلك. ومن السنة النبوية أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [قال أهل اللغة: الأعتاد: آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها، والواحد عتاد بفتح العين، ويجمع أعتاداً وأعتدة. ومعنى الحديث: أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظناً منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم عليَّ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خالداً منع الزكاة، فقال لهم: إنكم تظلمونه؛ لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها، فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها؛ لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعاً فكيف يشح بواجب عليه؟ واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف خلافاً لداود] شرح النووي على صحيح مسلم 3/416. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع) رواه أبو داود والدارقطني والطبراني والبيهقي. وحديث سمرة بن جندب سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسنه الحافظ ابن عبد البر. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة) رواه البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل بإسناده الصحيح كما قال النووي في المجموع 6/48. وعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري قال: كنت على بيت المال زمان عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها، غائبها وشاهدها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد) . قال ابن حزم وهو خبر صحيح المحلى 7/58. ويدل على ذلك أيضاً ما ورد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: أمرني عمر قال: أدِ زكاة مالك، فقلت: مالي مال إلا جعابٌ وأُدُمٌ، فقال: قومها ثم أد زكاتها. رواه الشافعي وأحمد وبن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والدارقطني. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وهذه قصةٌ يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعاً] المغني 2/623. والجعاب جمع جعبة وهي وعاء توضع فيه السهام. انظر المصباح المنير ص 102 والأُدُم جمع أديم وهو الجلد المدبوغ، انظر المصباح المنير ص 9.
ويدل لقول الجمهور أيضاً ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: (لا بأس بالتربص حتى المبيع والزكاة واجبة فيه) ، وما صحّ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أحد عماله: انظر مَن مرَّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون في التجارات، من كل أربعين ديناراً: ديناراً، وما نقص فبحساب ذلك، حتى تبلغ عشرين ديناراً. ذكره أبو عبيد في الأموال وابن حزم في المحلى. وغير ذلك من الآثار، وأما الإجماع فقد نقله غير واحدٍ من أهل العلم، وأما القياس [فهو - كما ذكر ابن رشد- أن العروض المتخذة للتجارة مالٌ مقصودٌ به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني: الحرث والماشية والذهب والفضة، وأما من جهة النظر والاعتبار المستند إلى قواعد الإسلام وروحه العامة: فإن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقودٌ معنىً، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتغير بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض؛ فلو لم تجب الزكاة في التجارة، لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم: أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا ألا يحول الحَوْل على نصاب من النقدين أبداً، وبذلك تعطل الزكاة فيهما عندهم، إن التجار في عصرنا - دون قصد منهم إلى الفرار من الزكاة - قلَّما توجد لديهم نقودٌ عينية يحول عليها الحول، فمعظم التعامل التجاري الآن يتم بغير تقابض، إلا بالشيكات ونحوها. ورأس الاعتبار في المسألة - كما قال العلاَّمة السيد رشيد رضا - أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء صدقة، لمواساة الفقراء، ومن في معناهم، وإقامة المصالح العامة للدين الإسلامي وأمته، وأن الفائدة في ذلك للأغنياء: تطهير أنفسهم من رذيلة البخل، وتربيتها بفضائل الرحمة للفقراء، وسائر أصناف المستحقين، ومساعدة الدولة والأمة في إقامة المصالح العامة الأخرى، والفائدة للفقراء وغيرهم: إعانتهم على نوائب الدهر، مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد، وهي تضخم الأموال وحصرها في أناس معدودين - وهو المشار إليه بقوله تعالى في حكمة قسمة الفيء {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنكُمْ} فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين ربما تكون معظم ثروة الأمة في أيديهم؟] فقه الزكاة 1/321-322. والمسألة فيها تفصيل أكثر مما ذكرت ولكن المقام لا يحتمل.
وخلاصة الأمر أن الزكاة واجبة في عروض التجارة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وما ذهب إليه العلامة الألباني من عدم وجوبها، فقول شاذٌ مخالفٌ لما قرره جماهير علماء الإسلام، استناداً إلى أدلة عامة من كتاب الله عز وجل وأخرى خاصة من الأحاديث والآثار والإجماع والقياس.(8/4)
5 - إعانة القاتل عمدا بأموال ازكاة لسداد الدية
قول السائل: هل يجوز إعانة القاتل عمداً من أموال الزكاة في سداد الدية المترتبة عليه، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أن يعلم أولاً أن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق من كبائر الذنوب، وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} سورة الإسراء الآية 33. وقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} سورة النساء الآية 93. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان 68-69. وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور. قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: [الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري 12/233. وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، ... وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها.] فتح الباري 12/233-234. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره … كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/40. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56. وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/629. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/630. وغير ذلك من النصوص التي تدل على عظمة النفس المعصومة. ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي. ولا بد أن يعلم ثانياً أن مصارف الزكاة قد بينها الله عز وجل في قوله تعالى: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? سورة التوبة الآية 60. والغارمون هم أحد مصارف الزكاة بنص الآية الكريمة، والغارمون: جمع غارِم. وهو الذي تحمل الدين وتعين عليه أداؤه، فهو مثقل بالدين. وقد اتفق العلماء على أن الغارمين: هم المدينون. ولا بد أن يعلم ثالثاً أن دية القتل العمد تجب في مال القاتل، والعاقلة لا تحمل دية العمد، بل تحمل دية القتل الخطأ، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة، وهذا قضية الأصل، وهو أن بدل المتلَف يجب على المتلِف، وأرش الجناية على الجاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجني جانٍ إلا على نفسه) وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده: " ابنك هذا؟ " قال: نعم قال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه) ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني , فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه له دون غيره , وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب، وإنما خولف هذا الأصل في قتل المعذور فيه لكثرة الواجب , وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع وجوب الكفارة عليه وقيام عذره، تخفيفاً عنه ورفقاً به، والعامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف، ولا يوجد فيه المعنى المقتضى للمواساة في الخطأ] المغني 8/373.
وبناءً على ذلك فإن القاتل عمداً يتحمل الدية ويلزمه شرعاً دفعها، فإن عجز عن دفع الدية وكان معسراً، فإنه يُنظرُ إلى ميسرة، وحينئذ يكون غارماً، فيدخل في عموم صنف الغارمين المذكورين في آية الصدقات ?وَالْغَارِمِينَ?، فهذا القاتل عمداً والعاجز عن دفع الدية داخلٌ في عموم الغارمين، قال ابن حزم الظاهري: [والدية في العمد والخطأ مائة من الإبل، فإن عدمت فقيمتها لو وجدت في موضع الحكم - بالغة ما بلغت - من أوسط الإبل - بالغة ما بلغت - وهي في الخطأ على عاقلة القاتل. وأما في العمد فهي في مال القاتل وحده وهي في كل ذلك حالة العمد والخطأ سواء لا أجل في شيء منها، فمن لم يكن له مال ولا عاقلة، فهي في سهم الغارمين في الصدقات - وكذلك من لم يعرف قاتله ... وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية غارماً من الغارمين فحظهم في سهم الغارمين واجب، أو في كل مال موقوف لجميع مصالح أمور المسلمين] المحلى 10/282 فما بعدها. إذا تقرر جواز إعانة القاتل عمداً من مال الزكاة في دفع الدية المترتبة عليه، فإنه يشترط لذلك أن يتوب مما ارتكب توبة صادقة، فإن التوبة واجبة على العاصي لقوله تعالى: ?وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? سورة النور الآية 31. وقال الله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا? سورة التحريم الآية 8. وقال الله تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? سورة الزمر الآية 53. وجاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/418. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/418. ولا بد من التذكير بأن التوبة الصادقة لا بد لها من شروط: أولها: الإقلاع عن المعصية فلا توبة مع مباشرة الذنب واستمرار الوقوع في المعصية. ثانيها: الندم على ما مضى وفات، فمن لم يندم على ما صدر عنه من المعاصي والآثام فلا توبة له، لأن عدم ندمه يدل على رضاه بما كان منه وإصراره عليه. ثالثها: أن يعزم على عدم العودة إلى المعصية مستقبلاً، وهذا العزم ينبغي أن يكون مؤكداً قوياً وعلى التائب أن يكثر من فعل الخيرات ليكسب الحسنات ?فإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ?. ورابعها: إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق الناس فلا بد من إعادة الحقوق لأصحابها. فإن تاب وظهرت عليه علامات التوبة النصوح، فإنه حينئذ يعان من مال الزكاة، فإن التوبة تجب ما قبلها.
وخلاصة الأمر أنه يجوز إعانة القاتل عمداً في دفع الدية من مال الزكاة إذا كان معسراً، بشرط أن يتوب توبة صادقة، وأن تظهر عليه علامات التوبة.(8/5)
6 - كيف يزكي ثمن المحصول إذا باعه بعد أن وجبت فيه الزكاة
يقول السائل: إنه مزارع ولديه محصول من القمح وقد باع المحصول بمبلغ من المال ويريد أن يخرج الزكاة فهل يزكي ثمن المحصول زكاة المال، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجت الأرض مما يقصد بزراعته نماء الأرض عادة مثل القمح والشعير والعنب والتين والزيتون والورود والرياحين والزعتر والأعشاب الطبية التي يستنبتها الإنسان بقصد تنمية الأرض واستغلالها وهذا قول الإمام أبي حنيفة في زكاة المزروعات وهو أقوى المذاهب الفقهية في هذه المسألة، ولم يحصر الزكاة في الأقوات الأربعة التي كانت معروفة قديماً وهي القمح والشعير والتمر والزبيب ولم يحصرها في ما يقتات ويدخر كما هو قول المالكية والشافعية ولم يحصرها في ما ييبس ويبقى ويكال كما هو قول الحنابلة. وقول أبي حنيفة رحمه الله أهدى سبيلاً وأصح دليلاً واعتمد في ذلك على عموم قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} سورة البقرة الآية 267، وعلى قوله تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} سورة الأنعام الآية 141. والمراد بالحق في الآية الزكاة المفروضة كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين. واحتج أبو حنيفة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) رواه مسلم. قال الإمام ابن العربي المالكي ناصراً قول أبي حنيفة في المسألة: [وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق وقال: إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتاً كان أو غيره وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم: (فيما سقت السماء العشر) ] أحكام القرآن لابن العربي 2/759. وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة في القليل والكثير من المزروعات والثمار والخضراوات ولم يشترط النصاب مستدلاً بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) رواه مسلم، وقول أبي حنيفة في عدم اشتراط النصاب مرجوح والراجح مذهب جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بأنه لا زكاة إلا إذا بلغ المحصول النصاب وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عن قول الجمهور [هذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وجابر، وأبو أمامة بن سهل وعمر بن?عبد العزيز وجابر بن زيد، والحسن وعطاء ومكحول والحكم والنخعي ومالك، وأهل?المدينة والثوري والأوزاعي، وابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف، ومحمد وسائر أهل?العلم لا نعلم أحداً خالفهم إلا مجاهدا ً وأبا حنيفة ومن تابعه، قالوا: تجب الزكاة?في قليل ذلك وكثيره لعموم قوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) ولأنه?لا يعتبر له حول فلا يعتبر له نصاب، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ? (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) متفق عليه، وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما?رووه به كما خصصنا قوله: (في سائمة الإبل الزكاة) بقوله: (ليس فيما دون?خمس ذود صدقة) وقوله: (في الرقة ربع العشر) بقوله: (ليس فيما دون خمس?أواق صدقة) ولأنه مال تجب فيه الصدقة , فلم تجب في يسيره كسائر الأموال الزكائية?وإنما لم يعتبر الحول لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه واعتبر الحول في غيره?لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصاب اعتبر ليبلغ حداً يحتمل المواساة?منه فلهذا اعتبر فيه، يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، بما قد ذكرنا فيما?تقدم ولا يحصل الغنى بدون النصاب كسائر الأموال الزكائية] المغني 3/7.
إذا ثبت هذا فإن الواجب إخراج زكاة الزروع والثمار عند الحصاد أو القطاف لقوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام/141. ولا تجب الزكاة إلا إذا بلغ المحصول نصاباً كما سبق بيانه، والخمسة أوسق المذكورة في الحديث تساوي في وقتنا الحاضر 653 كيلو غرام تقريباً، فإذا بلغ المحصول نصاباً فتجب فيه الزكاة ومقدار الواجب يكون 10% من الإنتاج إذا كانت المزروعات تسقى بماء المطر أو مياه العيون بدون كلفة يتحملها المزارع أو 5% إذا كانت المزروعات تسقى بجهد من المزارع كمن يشتري المياه أو نحو ذلك أو 7. 5% إذا كانت المزروعات تسقى بالطريقتين السابقتين معاً.
إذا تقرر هذا فإن الأصل في زكاة المزروعات أن تخرج الزكاة من نفس المال، وبما أن السائل قد باع المحصول فإنه يخرج الزكاة من الثمن الذي قبضه والواجب عليه أن يزكي زكاة الزروع والثمار لا زكاة النقد فيخرج عشر الثمن إذا كان محصوله قد سقي بماء المطر وأما إذا سقي بكلفة فالواجب نصف العشر كما سبق. والقول بإخراج النقد بناءً على أنه يجوز إخراج القيمة في الزكاة كما هو مذهب الحنفية والشافعية في وجه والإمام أحمد في رواية عنه في غير زكاة الفطر، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [وقد روى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفطرة وقال أبو داود: سئل أحمد، عن رجل باع ثمرة نخله قال: عشره على الذي باعه، قيل له: فيخرج ثمراً أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمراً وإن شاء أخرج من الثمن وهذا دليل على جواز إخراج القيم ووجهه قول معاذ لأهل اليمن: ائتوني بخميص أو لبيس آخذه منكم , فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة، وقال سعيد: حدثنا سفيان عن عمرو وعن طاوس , قال لما قدم معاذ اليمن قال: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين , بالمدينة قال: وحدثنا جرير عن ليث عن عطاء , قال كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم ولأن المقصود دفع الحاجة ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر المالية باختلاف صور الأموال] المغني 3/87. والقول بإخراج القيمة هو الذي اختاره الإمام البخاري حيث قال في صحيحه [باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه وقد وجب فيه العشر أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وأما قوله " فأدى الزكاة من غيره " فلأنه إذا باع بعد وجوب الزكاة فقد فعل أمراً جائزاً كما تقدم فتعلقت الزكاة بذمته فله أن يعطيها من غيره أو يخرج قيمتها على رأي من يجيزه وهو اختيار البخاري كما سبق] صحيح البخري مع شرحه فتح الباري 3/442-443. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية القول بإخراج القيمة لمصلحة راجحة حيث قال [وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به، مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فههنا إخراج عشر الدراهم يجزئه، ولا يكلف أن يشتري ثمراً أو حنطة، إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك. ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كافٍ، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/82-83.
وخلاصة الأمر أنه يجب على من باع محصوله الزراعي بالنقد أن يؤدي زكاة المزروعات فيه، وليس زكاة النقد، فيجب على هذا المزارع أن يخرج عشر ثمن المحصول الذي باعه إذا كان محصوله بعلياً، أي يروى بالمطر، وأما إذا كان يسقيه بشراء الماء، فإنه يخرج نصف عشر ثمن المحصول الذي باعه.
زكاة المحصول(8/6)
7 - زكاة مزارع الدجاج اللاحم
يقول السائل: عندي مزرعة للدجاج اللاحم وعند انتهاء دورة تربية الدجاج أقوم ببيعه ويتكرر ذلك في كل سنة عدة مرات فكيف أزكي هذه المزرعة؟ وهل يجوز أن أعطي الفقراء دجاجاً على حساب الزكاة، أفيدونا؟
الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على أن الزكاة واجبة في كل ما يعده المسلم للبيع لعموم الأدلة التي أوجبت الزكاة في الأموال ومزارع الدجاج اللاحم داخلة في هذا العموم ومن هذه النصوص قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة التوبة الآية 103. وقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) سورة الذاريات الآية 19، وقوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية267. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب رضي الله عنه?قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يعد للبيع) رواه أبو داود والدارقطني واختلف في سنده وحسنه الحافظ ابن عبد البر. وعن أبي ذر رضي الله عنه?أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في الإبل صدقتها وفى البقر صدقتها وفى البز صدقته) قال الإمام النووي [هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم] المجموع 6/47. والبز المذكور في الحديث هو الثياب ومنه البزاز لمن يعمل في تجارة الثياب. انظر المصباح المنير ص 47-48. وقال الإمام النووي [والصواب الجزم بالوجوب – أي وجوب الزكاة في عروض التجارة - وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة قال رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري وطاووس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان – أبو حنيفة - وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد ... ] المجموع 6/47
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول: روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي سنن أبي داود عن {سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم??يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع} . وروى عن حماس قال: مرَّ بي عمر فقال: أدِ زكاة مالك، فقلت: مالي إلا جِعاب وأُدُم فقال قومها ثم أد زكاتها. واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/15. والجعاب جمع جعبة وهي وعاء توضع فيه السهام. انظر المصباح المنير ص 102 والأُدُم جمع أديم وهو الجلد المدبوغ، انظر المصباح المنير ص 9.
ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِّي قال: كنت على بيت المال زمان عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها غائبها وشاهدها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد) رواه ابن أبي شيبة في المصنف وأبو عبيد في كتاب الأموال، ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: (لا بأس بالتربص حتى المبيع والزكاة واجبة فيه) ، وصح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ليس في العروض زكاة إلا أن تكون لتجارة) رواه الشافعي في الأم وابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في السنن الكبرى.
إذا تقرر هذا فإن الزكاة واجبة في مزرعة الدجاج اللاحم ففي نهاية العام يقوم المالك بتقييم الدجاج الموجود لديه وتحسب الإيرادات من المبيعات خلال السنة كلها، ثم يخصم من المجموع نفقات تشغيل المزرعة كأجور العمال وثمن العلف والمعدات وأجور النقل وكذا الديون ثم يزكى الباقي إذا بلغ النصاب وتكون نسبة الزكاة 5, 2% كزكاة بقية عروض التجارة.
ويجوز أن تخرج زكاة عروض التجارة من أعيانها فيجوز لتاجر المواد الغذائية أن يخرج زكاته من المواد التي يتاجر فيها كالأرز والسكر والطحين ونحوها، ولكن لا بد من مراعاة مصلحة الفقير في ذلك فيعطيه من المواد الأساسية التي يحتاجها الفقير وليس من الكماليات، وكذا لابد أن يكون تقدير قيمة تلك الأعيان لمصلحة الفقير أيضاً، وكذلك لابد أن يعطي المزكي الطيب من الأعيان ولا يعطي المعيب أو التالف لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} سورة البقرة الآية 267. والقول بجواز إخراج الأعيان في الزكاة قال به أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وهو قول المزني، انظر المجموع للنووي 6/68، وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية إذا كانت هنالك مصلحة راجحة فقد سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنِ تيمية [عَنْ تَاجِرٍ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؟ ...
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ أَجْزَأَ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ: هَلْ يَجُوزُ مُطْلَقًا؟ أَوْ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؟ أَوْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. فَإِنْ كَانَ آخِذُ الزَّكَاةِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كُسْوَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ لَهُ بِهَا كُسْوَةً وَأَعْطَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/79-80.
وينبغي التنبيه أن هنالك عروضاً تجاريةً لا يصلح إخراج أعيانها في الزكاة لعدم حاجة الفقير إليها والواجب فيها إخراج المال أي القيمة.
وخلاصة الأمر أن الزكاة واجبة في مزرعة الدجاج اللاحم وتعامل معاملة عروض التجارة، ويجوز إخراج الدجاج اللاحم كزكاة إذا كان هنالك مصلحة راجحة للفقير.(8/7)
8 - تجب الزكاة في مال اليتيم
يقول السائل: إنه وصي على يتيم وقد ورث عن أبيه مبلغاً كبيراً من المال فهل تجب الزكاة في مال هذا اليتيم، أفيدونا؟
الجواب: الزكاة حق من حقوق المال، فتجب في كل مال تحققت فيه شروط الوجوب بغض النظر عن مالك المال فلا ينظر فيها إلى المالك فتجب الزكاة في مال البالغ وغير البالغ، وتجب في مال العاقل وغير العاقل على الراجح من أقوال أهل العلم، ويدل على ذلك عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَ?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} سورة التوبة الآية 103، ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) رواه البخاري ومسلم، وصح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال) رواه البخاري ومسلم. والقول بوجوب الزكاة في مال الصبي يتيماً كان أو غير يتيم قال به جمهور الفقهاء، وحكى ابن المنذر وجوبها في مال الصبي عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عمر وجابر والحسن بن علي وعائشة وطاووس وعطاء وجابر بن زيد ومجاهد وابن سيرين وربيعة ومالك والثوري والحسن بن صالح وابن عيينة وعبيد الله بن الحسن وأحمد واسحق وأبي عبيد وأبي ثور وسليمان بن حرب رضي الله عنهم، انظر المجموع 5/331.
وقال الإمام النووي [الزكاة عندنا واجبة في مال الصبي والمجنون بلا خلاف، ويجب على الولي إخراجها من مالهما كما يخرج من مالهما غرامة المتلفات، ونفقة الأقارب وغير ذلك من الحقوق المتوجهة إليهما, فإن لم يخرج الولي الزكاة وجب على الصبي والمجنون بعد البلوغ والإفاقة إخراج زكاة ما مضى ; لأن الحق توجه إلى مالهما, لكن الولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما] المجموع 5/330.
ومما يدل على وجوب الزكاة في مال اليتيم ما روي في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: (ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) رواه الترمذي وقال: إنما روي هذا الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال لأن المثنى بن الصباح يضعف في الحديث وروى بعضهم هذا الحديث عن عمرو بن شعيب أن عمر بن الخطاب فذكر هذا الحديث، وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب فرأى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مال اليتيم زكاة منهم عمر وعلي وعائشة وابن عمر وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحق ... ] سنن الترمذي 32-33. ويؤيده ما رواه الشافعي بسنده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى لا تذهبها ولا تستهلكها الصدقة) رواه الشافعي في الأم والبيهقي في السنن الكبرى وقال البيهقي وهذا مرسل إلا أن الشافعي رحمه الله أكده بالاستدلال بالخبر الأول وبما روي عن الصحابة رضي الله عنهم. سنن البيهقي 4/ 107.
وقال الإمام النووي [وقد أكد الشافعي رحمه الله هذا المرسل بعموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً، وبما رواه عن الصحابة في ذلك ورواه البيهقى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً عليه وقال إسناده صحيح ورواه أيضاً عن علي بن مطرف وروى إيجاب الزكاة في مال اليتيم عن ابن عمر والحسن بن علي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم] المجموع 5/329.
ويؤيد ذلك أيضاً ما رواه البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) . وقال البيهقي هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر رضي الله عنه. وقال مالك في الموطأ أنه بلغه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) . وما رواه البيهقي بسنده أن عمر بن الخطاب قال لرجل إن عندنا مال يتيم قد أسرعت فيه الزكاة فدفعه إليه ليتجر فيه له.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وروى البيهقي من حديث سعيد بن المسيب، عن عمر موقوفاً عليه مثله، وقال: إسناده صحيح. وروى الشافعي عن ابن عيينة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً أيضاً. وروى البيهقي من طريق شعبة، عن حميد بن هلال: سمعت أبا محجن أو ابن محجن وكان خادماً لعثمان بن أبي العاص، قال: قدم عثمان بن أبي العاص على عمر، فقال له عمر: " كيف متجر أرضك؟ فإن عندي مال يتيم قد كادت الزكاة أن تفنيه “. قال: فدفعه إليه. وروى أحمد بن حنبل من طريق معاوية بن قرة، عن الحكم بن أبي العاص، عن عمر نحوه، ورواه الشافعي عن ابن عيينة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً أيضاً. وروى مالك في الموطأ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: " كانت عائشة تليني وأخا لي يتيماً في حجرها، وكانت تخرج من أموالنا الزكاة ". وروى الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر ذلك، من طرق عن علي بن أبي طالب وهو مشهور عنه.] التلخيص الحبير 2/158-159.
والقول بوجوب الزكاة في مال اليتيم هو المعروف عن الصحابة رضوان الله عليهم قال العلامة المباركفوري [لم يثبت عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم بسند صحيح عدم القول بوجوب الزكاة في مال الصبي] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي3/239.
وخلاصة الأمر أن الزكاة تجب في مال اليتيم إذا تحققت فيه شروط الوجوب وأن الأحاديث الخاصة الواردة في ذلك وإن كانت متكلماً فيها فإن عموم أدلة وجوب الزكاة تؤيدها ويؤيدها أيضاً ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم كما سبق، وبناءً عليه فيجب على ولي اليتيم إخراج الزكاة عن مال اليتيم، ويعتبر الحول في أمواله من حين وفاة والده، لأنها بموت والده دخلت في ملك اليتيم.(8/8)
9 - أنصبة الزكاة توقيفية لا يجوز تعديلها مطلقا
يقول السائل: ما قولكم فيمن يزعم أن أنصبة الزكاة المقدرة شرعاً إنما هي من باب السياسة الشرعية وقد وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبتها للأوضاع الاقتصادية في عهده صلى الله عليه وسلم ولا مانع من تغييرها لتتفق مع الأوضاع الاقتصادية للناس في كل عصر؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الزكاة من العبادات، والأصل في العبادات التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) سورة الشورى الآية 21.] القواعد النورانية ص 112. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} سورة الشوري: الآية 21 والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا} سورة يونس الآية 59 ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِْ وَهَذَا لشركائنا فَمَا كَانَ لشركائهم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شركائهم سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} سورة الأنعام الآيتان 136ـ 138، فذكر ما ابتدعوه من العبادات، ومن التحريمات. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزِل به سلطانا) . وهذه قاعدة عظيمة نافعة ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/17.
ومن المعلوم أن تحديد أنصبة الزكاة في الأموال الزكوية ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الحديث الطويل عن أنس رضي الله عنه: (أن أبا بكر رضي الله عنه كتب لهم إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله فمن سُئِلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئل فوق ذلك فلا يعطه، فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين ... وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدةً ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة ... ) . والحديث بطوله [رواه البخاري في صحيحه مفرقاً في كتاب الزكاة فجمعته بحروفه] قاله الإمام النووي في المجموع للنووي 5/383.
وورد في الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعةً، ومن كل أربعين مسنة ... ) رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/296، وحكى الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه فيها، انظر نيل الأوطار 4/149.
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كتب كتاب الصدقة وفيه وفى الغنم في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها شاتان فإذا زادت على المائتين شاة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة فان كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وقال الترمذي حديث حسن، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/294.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق في التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) رواه البخاري ومسلم
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس) رواه البخاري ومسلم، وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر أن تحديد أنصبة الزكاة توقيفية فلا يجوز لأحد تغييرها بزيادة أو نقص ولاشك أن الشارع الحكيم له حكمة في هذه التقديرات قال العلامة شاه ولي الله الدهلوي: [الحكمة في أنصبة الزكاة أقول: إنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق، لأنها تكفي أقل أهل بيت إلى سنة. وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث - خادم أو ولد بينهما - وما يضاهي ذلك من أقل البيوت. وغالب قوت الإنسان رطل أو مُدٌّ من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم. وإنما قدّر من الورق خمس أواق، لأنها مقدار يكفي أقل أهل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار. واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء تجد ذلك. وإنما قدّر من الإبل خمس ذود، وجعل زكاته شاة، وإن كان الأصل ألا تؤخذ الزكاة إلا من جنس المال، وأن يجعل النصاب عدداً له بال؛ لأن الإبل أعظم المواشي جثة، وأكثرها فائدة: يمكن أن تُذبح، وتُركب، وتُحلب، ويُطلب منها النسل، ويُستدفأ بأوبارها وجلودها. وكان بعضهم يقتني نجائب قليلة تكفي كفاية الصرمة – مجموعة من الإبل - وكان البعير يسوَّى في ذلك الزمان بعشر شياه، وبثمان شياه، واثنتي عشرة شاة، كما ورد في كثير من الأحاديث فجعل خمس ذود في حكم أدنى نصاب من الغنم، وجعل فيها شاة] حجة الله البالغة 2/76.
وخلاصة الأمر أن تحديد أنصبة الزكاة توقيفي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لأحد مهما كان حاكماً أو محكوماً أن يغيره بزيادة أو نقص.(8/9)
10 - يجوز قضاء دين الأقارب من مال الزكاة
يقول السائل: إن ابنه يعمل مدرساً وراتبه قليل، وقد بنى بيتاً وتزوج وتحمل ديوناً كثيرة، فهل يجوز له أن يقضي ديون ابنه من مال الزكاة، أفيدونا؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60. وقد قرر أهل العلم أنه يجوز إعطاء الأقارب من الزكاة إن لم تكن نفقة القريب واجبة على المزكي بل إن إعطاء الزكاة للقريب مقدم على إعطائها لغير القريب، لما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه ابن ماجة والحاكم وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/387. قال المباركفوري [قوله (الصدقة على المسكين) أي صدقة واحدة (وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) يعني أن الصدقة على الأقارب أفضل لأنه خيران ولا شك أنهما أفضل من واحد] تحفة الأحوذي 3/261.
وبناءً على ذلك يجوز إعطاء الزكاة للأقارب كالعم والخال والعمة والخالة والأخت المتزوجة والأخ وابن الأخ وابن الأخت ونحوهم إن كانوا فقراء، ولم يكن المزكي ملزماً بالإنفاق عليهم، جاء في الفتاوى الهندية: [والأفضل في الزكاة والفطر والنذور الصرف أولاً إلى الأخوة والأخوات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى الأعمام والعمات، ثم إلى أولادهم ثم إلى الأخوال والخالات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى ذوي الأرحام ثم إلى الجيران ثم إلى أهل حرفته ثم إلى أهل مصره أو قريته] الفتاوى الهندية 1/190.
إذا تقرر هذا فيجوز قضاء ديون الأقارب من مال الزكاة، حتى وإن وجبت نفقتهم على المزكي فيجوز قضاء دين الأب ودين الأم ودين الابن ودين البنت وغيرهم من الأقارب، بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة على المزكي، لأن ديون الأقارب بما فيها ديون الوالدين والأولاد لا يجب شرعاً على المرء أن يؤديها عنهم، فيجوز قضاء الدين عنهم من الزكاة لأنهم يعتبرون هنا في هذه الحالة من الغارمين فهم يستحقون الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه. قال الإمام النووي: [قال أصحابنا ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة، إذا كان بهذه الصفة ... ] المجموع 6/229.
ويدل على ذلك عموم قوله تعالى في آية مصارف الزكاة {وَالْغَارِمِينَ} فهؤلاء الأقارب المدينين داخلون في عموم الغارمين، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) صحيح مسلم 3/109 - 110.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ويجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء، وهو عاجز عن نفقتهم لوجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وكذا إن كانوا غارمين أو مكاتبين أو أبناء السبيل وهو أحد القولين أيضاً في مذهب أحمد] الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: [الذين يأخذون الزكاة صنفان: صنف يأخذ لحاجته كالفقير والغارم لمصلحة نفسه.
وصنف يأخذها لحاجة المسلمين: كالمجاهد والغارم في إصلاح ذات البين فهؤلاء يجوز دفعها إليهم وإن كانوا من أقاربه.
وأما دفعها إلى الوالدين: إذا كانوا غارمين أو مكاتبين: ففيها وجهان، والأظهر جواز ذلك. وأما إن كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم فالأقوى جواز دفعها إليهم في هذه الحال; لأن المقتضي موجود والمانع مفقود فوجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/90.
وقال الشيخ العلامةعبد العزيز بن باز: [دفع الزكاة إلى الأقارب الذين هم من أهلها أفضل من دفعها إلى من هم ليسوا من قرابتك، لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة، إلا إذا كان هؤلاء الأقارب ممن تلزمك نفقتهم، وأعطيتهم من الزكاة ما تحمي به مالك من الإنفاق فإن هذا لا يجوز، فإذا قُدِّرَ أن هؤلاء الإخوة الذين ذكرت والأخوات فقراء، وأن مالك لا يتسع للإنفاق عليهم فلا حرج عليك أن تعطيهم من زكاتك، وكذلك لو كان هؤلاء الإخوة والأخوات عليهم ديون للناس وقضيت دينهم من زكاتك، فإنه لا حرج عليك في هذا أيضاً، وذلك لأن الديون لا يلزم القريب أن يقضيها عن قريبه، فيكون قضاؤها من زكاته أمرا مجزياً، حتى ولو كان ابنك أو أباك وعليه دين لأحدٍ ولا يستطيع وفاءه فإنه يجوز لك أن تقضيه من زكاتك، أي: يجوز أن تقضي دين أبيك من زكاتك، ويجوز أن تقضي دين ولدك من زكاتك، بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة عليك، فإن كان سببه تحصيل نفقة واجبة عليك فإنه لا يحل لك أن تقضي الدين من زكاتك؛ لئلا يتخذ ذلك حيلة على منع الإنفاق على من تجب نفقتهم عليه لأجل أن يستدين ثم يقضي ديونهم من زكاته] مجموع فتاوى عبد العزيز بن باز 14/310.
وقال الشيخ العلامة محمد صالح العثيمين [كل من تلزمه نفقته فإنه لا يجوز أن يدفع زكاته إليهم من أجل النفقة، أما لو كان في قضاء دين فلا بأس، فإذا فرضنا أن الوالد عليه دين، وأراد الابن أن يقضي دينه من زكاته وهو لا يستطيع قضاءه فلا حرج، وكذلك الأم وكذلك الابن، أما إذا كنت تعطيه من زكاتك من أجل النفقة فهذا لا يجوز، لأنك بهذا توفر مالك، والنفقة تجب للوالدين: الأم والأب، وللأبناء والبنات، ولكل من ترثه أنت لو مات، أي: كل من ترثه لو مات فعليك نفقته، لقول الله تعالى: (وَعَلَى ?لْوَارِثِ مِثْلُ ذ?لِكَ) فأوجب الله على الوارث أجرة الرضاع؛ لأن الرضاع بمنزلة النفقة] مجموع فتاوى العثيمين 18/416.
وقال الشيخ القرضاوي [أما القريب الوثيق القرابة - كالوالدين والأولاد والإخوة والأخوات والأعمام والعمات … إلخ ففي جواز إعطائهم من الزكاة تفصيل: فإذا كان القريب يستحق الزكاة لأنه من العاملين عليها أو في الرقاب أو الغارمين أو في سبيل الله، فلقريبه أن يعطيه من زكاته ولا حرج؛ لأنه يستحق الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه، ولا يجب على القريب - باسم القرابة - أن يؤدي عنه غُرمه، أو يتحمل عنه نفقة غزوه في سبيل الله، وما شابه ذلك.] فقه الزكاة للقَرَضَاوي 2/716.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للأب أن يسدد ديون ابنه من مال الزكاة.(8/10)
11 - زكاة المال المستفاد
يقول السائل: إن والده قد توفي وبعد توزيع الميراث كان نصيبه مبلغاً كبيراً من المال فهل تجب الزكاة في هذا المبلغ حالاً أم أنه يزكيه مع أمواله الأخرى في وقت زكاتها وهو شهر رمضان القادم، أفيدونا؟
الجواب: هذه المسألة تسمى عند الفقهاء مسألة زكاة المال المستفاد، وهو المال الذي يملكه المكلف بالزكاة أثناء الحول، وهو على نوعين: الأول هو ربح مالٍ أصله عند المكلف كمن عنده مال تتحقق فيه شروط الزكاة وتاجر به فربح عشرة آلاف دينار، فهذا لا خلاف بين أهل العلم أن زكاته عند زكاة أصله. والنوع الثاني من المال المستفاد هو ما ملكه المكلف بالزكاة أثناء الحول وليس ناتجاً عن مال لديه، كما ذكر السائل أنه ورث مبلغاً كبيراً من المال من أبيه، ومثل ذلك من حصل على جائزة مالية أو هبة وكذا مكافأة نهاية الخدمة أو ما توفر من راتبه عند مشغله ونحو ذلك، وهذا النوع من المال المستفاد وقع فيه خلاف بين الفقهاء، فبعضهم أوجب فيه الزكاة عند قبضه وبدون اشتراط حولان الحول عليه، وأما جمهور الفقهاء فيرون أنه لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول وهذا القول هو الراجح والذي تؤيده الأدلة القوية، قال ابن رشد القرطبي المالكي: [وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم ولانتشار العمل به ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعاً من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت] بداية المجتهد 5/78-79. وقال الحافظ ابن عبد البر: [وأما الذهب والوَرِق – الفضة - فلا تجب الزكاة في شيء منها إلا بعد تمام الحول أيضاً وعلى هذا جمهور العلماء والخلاف فيه شذوذ ولا أعلمه إلا شيء روي عن ابن عباس ومعاوية أنهما قالا: من ملك النصاب من الذهب والوَرِق وجبت عليه الزكاة في الوقت. وهذا قول لم يعرج عليه أحدٌ من العلماء ولا قال به أحدٌ من أئمة الصحابة ولا قال به أحدٌ من أئمة الفتوى إلا رواية عن الأوزاعي…] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 5/20. وذكر الحافظ ابن عبد البر أيضاً أن القول باشتراط الحول في الزكاة عليه جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً لا يختلفون فيه أنه لا يجب في مال من العين ولا في ماشية زكاة حتى يحول عليه الحول إلا ما روي عن ابن عباس وعن معاوية أيضاً … ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بقول معاوية وابن عباس في اطراح مرور الحول إلا مسألة جاءت عن الأوزاعي … وعقب الحافظ ابن عبد البر بقوله: [هذا قول ضعيف متناقض] انظر الاستذكار 9/32-33. والقول باشتراط الحول في الزكاة قال به الأئمة الأربعة وثبت ذلك عن الخلفاء الأربعة وهو قول مشهور بين الصحابة وعملوا به وهذا الانتشار لا يجوز إلا أن يكون عن توقيف كما قال العلامة ابن رشد، بداية المجتهد 5/78. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام مؤيداً اشتراط الحول: [فقد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا] كتاب الأموال ص 505. وحديث ابن عمر رضي الله عنه الذي ذكره ابن رشد وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول] رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي والدارقطني وغيرهم. وقد ورد بهذا اللفظ ونحوه عن جماعة من الصحابة، وهذه الأحاديث فيها كلام طويل لأهل الحديث لا يتسع المقام لإيراده والصحيح أنها تصلح للاستدلال بمجموع طرقها بل إن بعض طرقها صحيح أو حسن. قال الشيخ أحمد الغماري بعد أن تكلم على أسانيد هذه الأحاديث: [… إلا أن مجموع هذه الأحاديث مع حديث علي الذي هو حسن يصل إلى درجة المعمول به لا سيما مع تواتر ذلك عن الصحابة كما قال أبو عبيد في الأموال: قد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا ثم أسند ذلك عن علي وابن عمر وأبي بكر وعثمان وابن مسعود وطارق بن شهاب وفي مصنف ابن أبي شيبة زيادة أبي بكرة وعائشة وبعض ذلك في الموطأ كأثر ابن عمر وعثمان] الهداية في تخريج أحاديث البداية 5/84-86. وحديث علي رضي الله عنه الذي أشار إليه الشيخ الغماري هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا من الرقة ربع العشر من كل مئتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين ديناراً نصف دينار وليس في مئتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول ففيها خمسة دراهم … الخ) رواه أبو داود والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/296. وكذلك فإن الشيخ الألباني صحح حديث ابن عمر المذكور بمجوع طرقه وذكر أن حديث علي رضي الله عنه السابق يقويه فقال: [ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى بسند صحيح عن علي رضي الله عنه خرجته في صحيح أبي داود فصح الحديث والحمد لله] إرواء الغليل 3/258. وقال الإمام الزيلعي عن حديث علي المذكور: [… فالحديث حسن … قال النووي رحمه الله في الخلاصة وهو حديث صحيح أو حسن] نصب الراية 2/328. وقال الحافظ ابن حجر: [… حديث علي لا بأس بإسناده والآثار تعضده فيصلح للحجة والله أعلم] التلخيص الحبير 2/156. وقال الحافظ أيضاً: إنه حديث حسن. بلوغ المرام ص 121. كما أن الحافظ العراقي قد جوَّد إسناد حديث علي رضي الله عنه كما في إتحاف السادة المتقين 4/16. وقال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في اشتراط الحول: [ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة في اعتبار الحول] السيل الجرار 2/13. والمسألة فيها كلام طويل للعلماء المتقدمين والمعاصرين لا يتسع له المقام، ولكن أكثر المجامع العلمية المعاصرة اختارت قول الجمهور واختار الشيخ القرضاوي الرأي الآخر وهو ضعيف كما ذكرت.
إذا تقرر أن الراجح أنه لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه الحول، فهنالك طريقتان في ذلك: الأولى أن صاحبه يستقبل به الحول ولا يضيفه إلى أمواله الأخرى فإذا حال عليه الحول زكَّاه، وأما الطريقة الثانية فهي أن يضيف المال المستفاد إلى بقية أمواله فيزكيه معها وإن لم يحل الحول على المال المستفاد، وهذه الطريقة فيها تسامح من المالك لأنه يغلب حق الفقير كما أنها أسهل في الحساب. وهذه الطريقة أحسن وأولى.
وخلاصة الأمر أن المال المستفاد لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، فهذا المال الذي ورثه السائل عن أبيه يضيفه إلى أمواله الأخرى فيزكي الجميع عند حلول الحول وهو شهر رمضان القادم، وإن لم يكن عنده مال سواه، استقبل به الحول ويزكيه عند تمام الحول.(8/11)
12 - تجب زكاة الفطر على من صام ومن لم يصم
يقول السائل: إن والده كبير في السن وعاجز عن الصيام ولم يصم في رمضان الحالي فهل تجب زكاة الفطر عليه أفيدونا؟
الجواب: زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد ثبتت بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغيرٍ وكبير حرٍ أو مملوكٍ صاعاً من طعام أو صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجاً أو معتمراً فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت) رواه مسلم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فجاج مكة (ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب. وغير ذلك من الأحاديث.
وزكاة الفطر هي زكاة الأبدان بخلاف زكاة الأموال وقد ذكر أهل العلم أن الحكمة من مشروعية زكاة الفطر هي المشار إليها في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وحسَّنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 1420. ومما ذكره بعض أهل العلم من الحِكَمِ أن زكاة الفطر تطهير وتنقية للصائم مما اقترفه في صيامه من اللغو: وهو الكلام الباطل الذي لا فائدة فيه، أو الرف: وهو ما قبح وساء من الكلام. قال وكيع بن الجراح: زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة، وقال الشيخ ولي الله الدهلوي [وإنما وقتت بعيد الفطر لمعانٍ: منها أنها تكمل كونه من شعائر الله، وأن فيها طهرة للصائمين وتكميلاً لصومهم بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة] حجة الله البالغة 2/79. وكذلك فإنها من شكر الله عز وجل على إتمام الشهر، ونعمة إكمال الصيام. وكذلك ما فيها من إشاعة المحبة، وبث السرور بين الناس، وخاصة المساكين، فالعيد يوم فرح وسرور، فاقتضت حكمة الشارع أن يفرض للمسكين في يوم العيد ما يعفّه عن السؤال، ويغنيه عن الحاجة، وقد روي في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكن يقويه حديث ابن عباس السابق كما قال العلامة العثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/181.
إذا تقرر هذا فإن شرط وجوب زكاة الفطر أمران: أولهما الإسلام وثانيهما أن يكون عند المسلم ليلة العيد ما يزيد عن قوته وقوت عياله، ولذا لا يشترط لوجوبها ملك النصاب على قول جمهور العلماء. وبناءً على ذلك تجب زكاة الفطر على كل مسلم حضر رمضان صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً أو مريضاً، مقيماً أو مسافراً، صام أم لم يصم، ومما يدل على ذلك أن النصوص التي أوجبت زكاة الفطر جاءت عامة مطلقة وورد فيها الأنثى ومن المعلوم أن من الإناث من لا تصوم كل رمضان إما للحيض وإما للنفاس وإما أن تكون حاملاً أو مرضعاً، وورد فيها الصغير والكبير، والصغير لفظ عام يشمل كل صغير حتى الرضيع ومن المعلوم أن الصيام ليس بواجب على الصغار وإن صاموا قبل منهم، وكذلك الكبير فمن المعلوم أن من الكبار من لا يطيق الصيام بسبب الهرم كما قال تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184. وكذلك فقد يكون من الكبار من هو مريض أو مسافر لا يلزمه الصوم كما قال تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 184.
ومما يؤيد ذلك [أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يُخرجوا زكاة الفطر، ولم يفصِّل، حيث لم يقل: (من أفطر شيئاً من رمضان فلا زكاة عليه) ، ولم يقل: (من كان شيخاً كبيراً فأفطر فلا زكاة عليه) ، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه] من موقع الشيخ الشنقيطي عن الإنترنت. ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي (أنه كان يقول صدقة الفطر عمن صام من الأحرار وعن الرقيق من صام منهم ومن لم يصم، نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير) . وروى أيضاً عن الحسن البصري (أنه قال مثل قول الشعبي فيمن لم يصم من الأحرار) المصنف 3/171.
ومما يؤيد ذلك أيضاً ما قاله بعض أهل العلم في تسمية زكاة الفطر بهذا الاسم كأنها من الفطرة التي هي الخلقة، فوجوبها عليها تزكية للنفس، وتنقية لعملها فيدخل في ذلك من صام ومن لم يصم. انظر فقه الزكاة 2/917.
وأما ما نقل عن بعض الفقهاء من أن زكاة الفطر واجبة على من صام رمضان فقط لأنه ورد في الحديث: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين) ، فقد أجاب عن ذلك الإمام النووي بقوله [وتعلق من لم يوجبها أنها تطهير والصبي ليس محتاجاً إلى التطهير لعدم الإثم، وأجاب الجمهور عن هذا بأن التعليل بالتطهير لغالب الناس، ولا يمتنع ألا يوجد التطهير من الذنب، كما أنها تجب على من لا ذنب له، كصالح محقق الصلاح، وككافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، فإنها تجب عليه مع عدم الإثم] شرح النووي على صحيح مسلم 3/50.
وأجاب الشيخ الشنقيطي أيضاً بقوله [والصحيح: ما نص عليه الجماهير من أنها شرعت طعمةً للمساكين وغناءً لهم يوم العيد، وعلى هذا كونها تطهِّر الصائم من اللغو والرفث مشترك مع غيره من العلة الموجودة، ويجوز تعليل الحكم بعلتين على أصح أقوال الأصوليين، وحينئذٍ يستقيم أن يخاطب بها إعمالاً للأصل؛ لأنه أفطر من رمضان، والمراد أنه دخلت عليه ليلة العيد وهي ليلة الفطر من رمضان. ألا ترى أنهم نصوا على أنه لو أسلم الكافر قبل مغيب الشمس ولو بلحظة أنه تجب عليه زكاة الفطر مع أنه لم يصم، وبناءً على ذلك لا يشترط أن يكون قد صام، بل زكاة الفطر واجبة على من صام أو أفطر بعذر] من موقع الشيخ الشنقيطي عن الإنترنت.
وقد سئل الشيخ العلامة العثيمين عمن تجب عليه زكاة الفطر؟ فأجاب فضيلته بقوله: تجب على كل إنسان من المسلمين ذكراً كان أو أنثى، صغيراً كان أم كبيراً، سواء كان صائماً أم لم يصم، كما لو كان مسافراً ولم يصم فإن صدقة الفطر تلزمه] عن الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم شهد رمضان صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً أو مريضاً، مقيماً أو مسافراً، صام أم لم يصم.(8/12)
13 - زكاة البضاعة الكاسدة
يقول السائل: إنه تاجر ولديه كمية من بعض السلع قد كسدت وبارت ولم يتمكن من بيعها وقد مضى عليها أكثر من خمس سنوات ولما يتمكن من بيعها فماذا يصنع بالنسبة لزكاة هذه البضاعة الكاسدة أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن الزكاة واجبة في عروض التجارة على الصحيح من أقوال أهل العلم لعموم الأدلة التي أوجبت الزكاة في الأموال ولا شك أن عروض التجارة داخلة في هذا العموم دخولاً أولياً كقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة التوبة الآية 103. وقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) سورة الذاريات الآية 19 وقوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية267. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يعد للبيع) رواه أبو داود والدارقطني واختلف في سنده وحسنه ابن عبد البر. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في الإبل صدقتها وفى البقر صدقتها وفى البز صدقته) قال الإمام النووي [هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي بأسانيدهم ذكره الحاكم بإسنادين ثم قال هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم] المجموع 6/47. والبز المذكور في الحديث هو الثياب ومنه البزاز لمن يعمل في تجارة الثياب. انظر المصباح المنير ص 47-48.
وقال الإمام النووي [والصواب الجزم بالوجوب – أي وجوب الزكاة في عروض التجارة - وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين قال ابن المنذر أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة قال رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري وطاووس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان – أبو حنيفة - وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد ... ] المجموع 6/47
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول: روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي سنن أبي داود عن {سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع} . وروى عن حماس قال: مرَّ بي عمر فقال: أدِ زكاة مالك، فقلت: مالي إلا جِعاب وأُدُم فقال قومها ثم أد زكاتها. واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع. – والجعاب جمع جعبة وهي وعاء توضع فيه السهام. انظر المصباح المنير ص 102 والأُدُم جمع أديم وهو الجلد المدبوغ انظر المصباح المنير ص 9 -. وأما مالك فمذهبه أن التجار على قسمين: متربص ومدير. فالمتربص: وهو الذي يشتري السلع وينتظر بها الأسواق فربما أقامت السلع عنده سنين فهذا عنده لا زكاة عليه إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد وحجته أن الزكاة شرعت في الأموال النامية فإذا زكى السلعة كل عام - وقد تكون كاسدة - نقصت عن شرائها فيتضرر فإذا زكيت عند البيع فإن كانت ربحت فالربح كان كامناً فيها فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل. وأما المدير: وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول فلا يستقر بيده. سلعة فهذا يزكي في السنة الجميع يجعل لنفسه شهراً معلوماً يحسب ما بيده من السلع والعين والدين الذي على المليء الثقة ويزكي الجميع هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة ولو درهم فإن لم يكن يبيع بعين أصلاً فلا زكاة عليه عنده] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/15-16
إذا تقرر هذا فإن الأصل عند أكثر العلماء أن كل مال يكون عند التاجر ويقصد به التجارة تجب فيه الزكاة ويدخل في ذلك جميع السلع وإن كسدت أو بارت فعلى التاجر أن يقوم هذه السلع الكاسدة ويؤدي زكاتها كغيرها من السلع غير الكاسدة.
وهنالك رأي آخر في المسألة قال به بعض فقهاء المالكية ونسب إلى الإمام مالك وهو إن السلع إذا كسدت وبارت فلا تجب الزكاة فيها إلا إذا بيعت فيزكيها صاحبها عن سنة واحدة وهذا رأي له وجاهته ويمكن الأخذ به وخاصة إذا كانت البضائع الكاسدة كثيرة وهذا من باب التخفيف والتيسير على التجار. ومن المعروف عند التجار أنه لابد أن تبور كمية من كل نوع من السلع فمثلاً إذا اشترى التاجر مئة قطعة من نوع معين من الثياب فباع تسعين قطعة وبارت الباقية فحينئذ تكون الفتوى على قول جمهور أهل العلم فتقوم تلك البضاعة ويزكيها عندما يزكي أمواله وأما إذا كان الكساد هو الأكثر فحينئذ نأخذ برأي بعض فقهاء المالكية. قال الدسوقي المالكي [قوله: (إذ بوارها لا ينقلها للقنية ولا للاحتكار) هذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم، ومقابله ما لابن نافع وسحنون لا يقوم ما بار منها وينتقل للاحتكار، وخص اللخمي وابن يونس الخلاف بما إذا بار الأقل قالا: فإن بار النصف أو الأكثر لم يقوم اتفاقاً. وقال ابن بشير: بل الخلاف مطلقاً بناء على أن الحكم للنية لأنه لو وجد مشترياً لباع أو للموجود وهو الاحتكار قاله في التوضيح] حاشية الدسوقي 1/474. وقد أفتى بقول المالكية هذا بعض أهل العلم المعاصرين منهم الشيخ العلامة مصطفى الزرقا فقال: [إن ما سألتني عنه من رأيي في زكاة البضائع الكاسدة والتاجر المتربِّص، رأيي فيه من القديم هو مذهب مالك ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي يُشعِر كلامُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ باستحسانه، كما استحسنه أخونا العلامة الدكتور الشيخ القرضاوي أيضاً، وضعاً للضَّرر البالغ عن التاجر المتربِّص، فأنا أُفتي به دائماً تيسيراً على الناس، ولا سيما في العقارات، حيث يكثر فيها المشترون المتربِّصون في عهد التضخم النقدي العام اليوم، ولا سيما في عالمنا الثالث الذي استمر فيه هبوط قيمة النقود الورقية التي انفردت في وظيفة التنمية، منذ أن حلَّت المَطابع محلَّ مناجم استخراج الذَّهب والفضة!! ولم يبقَ أمام كثير من الناس وسيلة لحفظ قيمة نقودهم وقوتها الشرائية سوى تحويلها إلى عقار والتربص به، وقد يتربَّصون بها مُدداً طويلة، وعدداً من السنين قد تَصل إلى العَشرات، ثم يبيعونها عندما يَحتاجون إلى قيمتها. وخلال ذلك قد ترتفع قيمتها كما كانوا يتوقَّعون من استمرار ارتفاع قيمة العَقارات في كل مكان تقريباً، وإن لم ترتفع فإنها لا تهبِط، فأنا أفتي في هذه بأنها تزكَّى مرة واحدة عن سنة واحدة حين بيعها، لكنها يجب أن تزكّى على أساس قيمتها الحالية المرتفعة، لا على أساس قيمتها القديمة التي اشتروها بها، فإذا كانت قيمتها قد ارتفعت من البيع عشرة أضعاف مثلاً أو أكثر ـ وهذا واقع كثيرًا في الأراضي ـ فإن زكاتها تَزيد أيضاً عشرة أضعاف عن زكاتها بحسَب قيمتها الأولى التي اشْتُريتْ بها. وفي هذا عدل، كما أنه تيسير على المكلَّف، ودفع للإرهاق عنه، ومثل ذلك التربُّص في البضائع التجارية الكاسدة. وقد نصَّ الفقهاء على أن التاجر إذا أفرزَ بعض أموالِه ليأخذَه إلى بيته لاستعماله فيه، فإن زكاته تتوقَّف منذ ذلك؛ لأنه خرج من نطاق التِّجارة التي تُنَمِّيه، فأصبح بتحويله لاستعماله غيرَ نامٍ، والزكاة إنما هي في المال النامِي فعلاً أو تقديراً كالنقود.
ففي رأيي أن حالة التربُّص ـ خلال مدّة التربُّص ـ تُشبهُ هذه ما دام المُتربِّص لا يُريد بيع المال المتربَّص فيه، بل تركه بمعزِل عن التداول إلى أجل غير محدَّد، فالمال في هذه الحالة أصبح غير نام، أو متوقِّف النماء، كالديون غير المرجوة الوفاء (ولو أَنّها كانت أثمانًا لمَبيعات رابحة، وليست قروضًا حسنة) فإنها بانقطاع الأمل من استيفائها خرجت عن أن تكونَ ناميةً ولو تَقديراً. هذا ما أراه ـ أيها الأخ الكريم ـ وأرجو من فضله ـ تعالى ـ أن يكون صوابا مُتَّفِقًا مع مقاصد الشريعة] فتاوى الشيخ العلامة مصطفى الزرقا ص 135-136.
وخلاصة الأمر أن البضائع إذا كسدت وبارت وكانت كثيرة وصار الأمل ضعيفاً جداً في بيعها فلا زكاة فيها حتى يتم بيعها فإذا بيعت زكيت عن سنة واحدة فقط ولو مضى على بوارها سنوات وأما البوار والكساد القليل فلا يمنع الزكاة فيها.(8/13)
14 - تعجيل صدقة الفطر
يقول السائل: هل يجوز لي أن أعجل صدقة الفطر من أول رمضان لأن لي جاراً فقيراً وهو بحاجة ماسة. أفيدونا؟
الجواب: صدقة الفطر أو زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على وجوب صدقة الفطر. وقد ثبتت صدقة الفطر بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: حديث ابن عمررضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
ووقت وجوب صدقة الفطر محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من يرى أنها تصير واجبة بغروب الشمس ليلة الفطر، لأنه وقت الفطر من رمضان. وقالت جماعة أخرى من العلماء إن وقت وجوبها هو طلوع الفجر من يوم العيد.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي [فأما وقت الوجوب فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان ... وبما ذكرنا في وقت الوجوب قال الثوري وإسحاق ومالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه. وقال الليث وأبو ثور وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهو رواية عن مالك لأنها قربة تتعلق بالعيد , فلم يتقدم وجوبها يوم العيد وهو رواية عن مالك كالأضحية ولنا قول ابن عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث) ولأنها تضاف إلى الفطر فكانت واجبة به كزكاة المال , وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص والسبب أخص بحكمه من غيره والأضحية لا تعلق لها بطلوع الفجر ولا هي واجبة ولا تشبه ما نحن فيه] المغني3/89 وينبغي إخراجها قبل صلاة العيد فقد جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه. وقد أورد ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: [يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) سورة الأعلى الآيتان 14-15. انظر فتح الباري 3/472. وقد أجاز العلماء تعجيل صدقة الفطر عن وقت الوجوب فمنهم من قال يجوز تعجيلها من أول العام. ومنهم من قال يجوز تعجيلها من أول الشهر. ومنهم من قال يجوز تعجيلها من نصف الشهر. ومنهم من قال يجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين وهذا القول الأخير هو أرجح أقوال العلماء في المسألة ويدل له ما كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلونه فعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه قال (وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أيضاً (أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) رواه مالك في الموطأ والبيهقي في السنن وغيرهما. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وقد وقع في رواية ابن خزيمة من طريق عبد الوارث عن أيوب " قلت متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل. قلت متى يقعد العامل؟ قال قبل الفطر بيوم أو يومين ". ولمالك في " الموطأ " عن نافع " أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة " وأخرجه الشافعي عنه وقال: هذا حسن وأنا أستحبه - يعني تعجيلها قبل يوم الفطر - انتهى. ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة قال " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان " الحديث. وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر فدل على أنهم كانوا يعجلونها ... ] فتح الباري 3/474. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [قال وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه وجملته أنه يجوز تقديم الفطرة قبل العيد بيومين لا يجوز أكثر من ذلك وقال ابن عمر: كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين وقال بعض أصحابنا: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل وقال أبو حنيفة: ويجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة فأشبهت زكاة المال وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها , كزكاة المال بعد ملك النصاب ولنا ما روى الجوزجاني: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو معشر عن نافع , عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر به فيقسم - قال يزيد أظن: هذا يوم الفطر - ويقول أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " والأمر للوجوب , ومتى قدمها بالزمان الكثير لم يحصل إغناؤهم بها يوم العيد وسبب وجوبها الفطر بدليل إضافتها إليه وزكاة المال سببها ملك النصاب , والمقصود إغناء الفقير بها في الحول كله فجاز إخراجها في جميعه وهذه المقصود منها الإغناء في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت فأما تقديمها بيوم أو يومين فجائز لما روى البخاري بإسناده عن ابن عمر , قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان وقال في آخره: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين) وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعاً ولأن تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها , فإن الظاهر أنها تبقى أو بعضها إلى يوم العيد فيستغنى بها عن الطواف والطلب فيه ولأنها زكاة , فجاز تعجيلها قبل وجوبها كزكاة المال والله أعلم] المغني3/89-90 وخلاصة الأمر أنه يجوز تعجيل صدقة الفطر قبل يوم العيد بيوم أو يومين وفي ذلك تحقيق لمصلحة للفقير.
وينبغي التنبيه على أنه يجوز إخراج القيمة في صدقة الفطر أي إخراجها نقداً وهو مذهب الحنفية ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو الذي يحقق مصلحة الفقير وخاصة في هذا الزمان وهو قول وجيه تؤيده الأدلة الكثيرة ومنها أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج. وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر أثر معاذ صلى الله عليه وسلم السابق واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/54. ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته وصدقة الفطر زكاة بلا خلاف.
ولا يصح القول بأن من أخرج القيمة في صدقة الفطر فإنها غير مجزئة فالمسألة محل خلاف بين العلماء ومسائل الخلاف إن أخذ أحد من الناس بقول أحد العلماء المجتهدين فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى وجواز إخراج القيمة قال به جماعة من أهل العلم المعتبرين كما سبق وأخيراً أقول لبعض طلبة العلم الذين لا يأخذون بالقيمة لا تحجروا واسعاً ورفقاً بالمسلمين.(8/14)
15 - صدقة الفطر
يقول السائل: على من تجب صدقة الفطر وهل يشترط لها ملك نصاب معين حتى تجب على المسلم؟
الجواب: صدقة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم لما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) رواه البخاري ومسلم.
وقد صرح جماعة من السلف بفرضيتها كما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية وعطاء وابن سيرين بل إن ابن المنذر قد نقل الإجماع على فرضيتها. ولكن في نقله الإجماع نظر. انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/463.
وقال الشوكاني: [ (قوله فرض) فيه دليل على أن صدقة الفطر من الفرائض وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، ولكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية] نيل الأوطار 4/201.
وتجب صدقة الفطر على كل مسلم ذكراً كان أو أنثى صغيراً كان أو كبيراً عبداً كان أو حراً ويخرجها الزوج عن زوجته وأولاده ومن يمونهم من أقاربه كأمه التي تعيش معه أو أخته التي تعيش معه.
وقد ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (أمر الله بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون) رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما. وقال الألباني: حديث حسن. انظر إرواء الغليل 3/320.
وتجب صدقة الفطر على من ملك قوته وقوت عياله وقوت من يمونهم ليلة العيد ويومها لأن صدقة الفطر تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان أو طلوع فجر يوم عيد الفطر على خلاف بين أهل العلم ولا يشترط لوجوبها ملك النصاب على الراجح من أقوال العلماء.
قال الخرقي الحنبلي: [وإذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته] وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً عبارة الخرقي: [وجملة ذلك أن صدقة الفطر واجبة على من قدر عليها ولا يعتبر في وجوبها نصاب وبهذا قال أبو هريرة وأبو العالية والشعبي وعطاء وابن سيرين والزهري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبو ثور وقال أصحاب الرأي: لا تجب إلا على من يملك مائتي درهم أو ما قيمته نصاب فاضل عن مسكنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صدقة إلا عن ظهر غنىً) والفقير لا غنى له فلا تجب عليه ولأنه تحل له الصدقة فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها. ولنا: ما روى ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أدوا صدقة الفطر صاعاً من قمح أو قال بر عن كل إنسان صغير أو كبير حر أو مملوك غني أو فقير ذكر أو أنثى أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى) وفي رواية أبي داود: (صاع من بر أو قمح عن كل اثنين) ولأنه حق مال لا يزيد بزيادة المال، فلا يعتبر وجوب النصاب فيه كالكفارة ولا يمتنع أن يؤخذ منه ويعطى لمن وجب عليه العشر والذي قاسوا عليه عاجز فلا يصح القياس عليه وحديثهم محمول على زكاة المال] المغني 3/94. وحديث عبد الله بن ثعلبة الذي ذكره الشيخ ابن قدامة المقدسي رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وذكر الشيخ الألباني أصل الحديث في السلسلة الصحيحة 3/170.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واستدل بقوله في حديث ابن عباس " طهرة للصائم " على أنها تجب على الفقير كما تجب على الغني وقد ورد ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة عند أحمد وفي حديث ثعلبة بن أبي صعير عند الدارقطني وعن الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصاباً ومقتضاه أنها لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغني والفقير واستدل لهم بحديث أبي هريرة المتقدم " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " واشترط الشافعي ومن تبعه أن يكون ذلك فاضلاً عن قوت يومه ومن تلزمه نفقته. وقال ابن بزيزة: لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها لأنها زكاة بدنية لا مالية] فتح الباري 3/465.
وقال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في ضبط اليسار الذي تجب به الفطرة ذكرنا أن مذهبنا أنه يشترط أن يملك فاضلاً عن قوته وقوت من يلزمه نفقته ليلة العيد ويومه حكاه العبدري عن أبي هريرة وعطاء والشعبي وابن سيرين وأبي العالية والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وأبي ثور وقال أبو حنيفة لا تجب إلا على من يملك نصاباً من الذهب أو الفضة أو ما قيمته نصاب فاضلاً عن مسكنه وأثاثه الذي لا بد منه قال العبدري ولا يحفظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة] المجموع 6/113.
وقد اشترط الحنفية ملك النصاب لوجوب صدقة الفطر وقولهم مرجوح وما احتجوا به من أدلة فغير مسلم عند المحققين من أهل العلم قال الشوكاني: [قد اختلف في القَدْر الذي يعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة فقال الهادي والقاسم وأحد قولي المؤيد بالله أنه يعتبر أن يملك قوت عشرة أيام فاضلاً عما استثني للفقير وغير الفطرة لما أخرجه أبو داود في حديث ابن أبي صعير عن أبيه في رواية بزيادة " غني أو فقير " بعد " حر أو عبد " ويجاب عن هذا الدليل بأنه وإن أفاد عدم اعتبار الغنى الشرعي فلا يفيد اعتبار ملك قوت عشر. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه إنه يعتبر أن يكون المخرج غنياً غنىً شرعياً واستدل لهم في البحر بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الصدقة ما كانت عن ظهر غنى) وبالقياس على زكاة المال. ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب لأنه بلفظ (خير الصدقة ما كان على ظهر غنىً) كما أخرجه أبو داود ومعارض أيضاً بما أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (أفضلُ الصدقة جهد المقل) وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامه مرفوعاً (أفضلُ الصدقة سرٌ إلى فقير وجهد من مقل) وفسره في النهاية بقدر ما يحتمل حال قليل المال. وما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال: على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به فهذا تصدق بنصف ماله) الحديث. وأما الاستدلال بالقياس فغير صحيح لأنه قياس مع الفارق إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان والزكاة بالأموال. وقال مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحق والمؤيد بالله في أحد قوليه: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً لقوت يوم وليلة لما تقدم من أنها طهرة للصائم. ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك ويؤيد ذلك ما تقدم من تفسيره صلى الله عليه وسلم من لا يحل له السؤال بمن يملك ما يغديه ويعشيه وهذا هو الحق لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنياً ولا فقيراً ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً له لا سيما العلة التي شرعت لها الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهر من اللغو والرفث واعتبار كونه واجداً لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم كما أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر قال (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: أغنوهم في هذا اليوم) وفي رواية للبيهقي (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) وأخرجه أيضاً ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغنائه في ذلك اليوم لا من المأمورين إخراج الفطرة وإغناء غيره وبهذا يندفع ما اعترض به صاحب البحر عن أهل هذه المقالة من أنه يلزمهم إيجاب الفطرة على من لم يملك إلا دون قوت اليوم ولا قائل به] نيل الأوطار 4/208-209.
وقال الشيخ القرضاوي: [والذي أراه أن للشارع هدفاً أخلاقياً تربوياً - وراء الهدف المالي - من فرض هذه الزكاة على كل مسلم غني أو فقير ذلك هو تدريب المسلم على الإنفاق في الضراء كما ينفق في السراء والبذل في العسر كما يبذل في اليسر ومن صفات المتقين التي ذكرها القرآن أنهم (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) . وبهذا يتعلم المسلم وإن كان فقير المال رقيق الحال أن تكون يده هي العليا وأن يذوق لذة الإعطاء والإفضال على غيره ولو كان ذلك يوماً في كل عام. ولهذا أرجح مذهب الجمهور الذين لم يشترطوا لوجوب هذه الزكاة ملك النصاب] فقه الزكاة 2/930.
وخلاصة الأمر أنه لا يشترط ملك النصاب لوجوب صدقة افطر بل تجب على من ملك قوته وقوت عياله يومه وليلته.(8/15)
16 - زكاة أموال التجارة
يقول السائل: إنه قد اشترك مع عدد من الأشخاص في محل تجاري ودفع كل واحد منهم مبلغا من المال فكيف يزكون أموالهم؟
الجواب: الأصل أن الزكاة تجب على المكلف في ماله فإذا ملك نصاباً وحال عليه الحول وتحققت شروط وجوب الزكاة في ماله زكاه وبالنسبة للمال المشترك فكل واحد من الشركاء يحسب نصيبه من الشركة وما تحقق له من ربح في المحل التجاري ويضمه إلى ما لديه من أموال أخرى فإن تحققت فيه شروط وجوب الزكاة وجب عليه إخراجها. وقد أخذ بهذا القول مجمع البحوث الإسلامية – بالقاهرة فقرر أنه في الشركات التي يساهم فيها عدد من الأفراد لا ينظر في تطبيق أحكام الزكاة إلى مجموع أرباح الشركات وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة. ومن العلماء من يرى أن تعامل الشركة معاملة الشخص الواحد أي شخصية اعتبارية فتخرج الزكاة على هذا الأساس فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:
أولا: تجب زكاة الأسهم على أصحابها وتخرجها الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك أو صدر به قرار من الجمعية العمومية أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانيا: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة ومن حيث النصاب ومن حيث المقدار الذي يؤخذ وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة ومنها أسهم الخزانة العامة وأسهم الوقف الخيري وأسهم الجهات الخيرية وكذلك أسهم غير المسلمين. ثالثا: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه زكى أسهمه على هذا الاعتبار لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم وإنما تجب الزكاة في الريع وهو ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة زكاها زكاة عروض التجارة فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة فيخرج ربع العشر 2,5 % من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. رابعا: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق
وجاء في فتاوى بيت التمويل الكويتي ما يلي: يجوز أن يتضمن عقد إنشاء الشركة بنداً ينص على أن الشركة تخرج الزكاة عما لديها من الأموال وحينئذ يحق لإدارة الشركة إخراج الزكاة نيابة عن المساهمين أما إذا لم ينص عقد إنشاء الشركة على ذلك فيجوز للشركاء أن يوكلوا إدارة الشركة في إخراج الزكاة فإن لم يوكلوها لم يكن لها أن تخرج الزكاة وهذا في ظل الأمر القائم الآن من أن الدولة جعلت تحصيل بيت الزكاة للزكوات باختيار المزكين أما لو أخذت الدولة بنظام التحصيل الإلزامي فيجوز حينئذ أخذ الزكاة للشركة ككل ويعتبر مالها مالاً واحداً قياساً على نظام الخلطة في زكاة الماشية وأما في ظل الوضع الحاضر فإن كل مزك يخرج عن نفسه أو يوكل من يخرج عنه الزكاة ويضم إلى حصته من الموجودات الزكوية من الشركة ما سوى ذلك من أمواله الزكوية ويسقط ما عليها من الديون ويزكى الباقي إن كان أكثر من نصاب والله أعلم) . ولا بد من رضا المساهمين شخصياً عند تطبيق هذا الرأي ومستند هذا الاتجاه الأخذ بمبدأ (الخلطة) الوارد في السنة النبوية بشأن زكاة الأنعام والذي أخذ به الشافعية أيضا في الأموال النقدية وأموال التجارة وغيرها قال الإمام النووي: (الخلطة تؤثر في المواشي بلا خلاف – أي في المذهب الشافعي – وهل تؤثر في الثمار والزروع والنقدين وأموال التجارة؟ …) ثم ذكر أن المذهب الجديد عندهم أن الخلطة تؤثر فيها. الروضة 2/30.
وخلاصة الأمر أن الأصل أن يزكي كل شريك أمواله منفرداً وإن زكت الشركة أموالها باعتبار أنها شخصية اعتبارية فحسن ولا بأس بذلك.(8/16)
17 - زكاة المواشي
يقول السائل: إن لديه قطيع أغنام ولكنه يعلفها أكثر أيا م السنة ويشتري لها العلف ويبيع من أولادها وألبانها وأصوافها فكيف يزكيها أفيدونا؟
الجواب: تجب الزكاة في الغنم بشروط وهي أن تبلغ النصاب وأن يحول عليها الحول وهذا باتفاق أهل العلم وبشرط أن تكون سائمة وهذا عند جمهور العلماء وهو الذي تؤيده الأدلة ومعنى السوم أن ترعى الماشية أكثر العام فإن كان صاحبها يعلفها أكثر العام فلا زكاة فيها إلا إذا اتخذها للتجارة فعندئذ تزكى زكاة عروض التجارة.
لما ورد في حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها شاة" رواه البخاري. ولما ورد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في كل سائمة إبل في أربعين ابنة لبون" رواه أحمد وأبو داود والنسائي. فوصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بالسائمة يدل مفهومه على أن المعلوفة لا زكاة فيها، لأن الشارع ينزه كلامه عن اللغو. والحديثان السابقان وما جاء في معناهما يقيد ما ورد من أحاديث مطلقة عن وصف السوم فتحمل على الأحاديث المقيدة بهذا الوصف. وأما ما تبيعه من أولادها وألبانها وأصوافها فتضيف أثمانها إلى ما لديك من أموال فإذا بلغ نصاباً وحال عليه الحول فتزكيه عندئذ.(8/17)
18 - حكم القرض الحسن من أموال الزكاة
يقول السائل: ترغب إحدى الجمعيات الخيرية في إنشاء صندوق من أموال الزكاة لمساعدة الطلبة الجامعيين الفقراء بإعطائهم قروضاً حسنة بحيث يعطى الطالب مبلغاً من مال الزكاة كقرض حسن ويسدده بدون أية زيادة بعد أن يتخرج من الجامعة ويعمل، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الله سبحانه وتعالى بين لنا مصارف الزكاة فقال جل جلاله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60.
فهذه الآية الكريمة حصرت مصارف الزكاة في المصارف الثمانية ويدل على ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) ولفظة (إنما) تقتضي حصر الزكاة في المصارف الثمانية ثم إن الله سبحانه وتعالى أضاف الصدقات للفقراء باللام التي تدل على التمليك ثم عطف بقية الأصناف على الفقراء، قال أبو إسحق الشيرازي بعد أن ذكر آية مصارف الزكاة: [فأضاف جميع الصدقات إليهم بلام التمليك وأشرك بينهم بواو التشريك فدل على أنه مملوك لهم مشترك بينهم] المهذب مع شرحه المجموع 6/185.
وقد اختلف أهل العلم في اشتراط تمليك الزكاة للأصناف الثمانية، فمن العلماء من قال إن التمليك شرط في الأصناف الثمانية. وجمهور العلماء على أن التمليك شرط في الأصناف الأربعة الأولى وهم الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وأربعة أصناف يأخذون أخذاً مستقراً ولا يراعى حالهم بعد الدفع وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة. فمتى أخذوها ملكوها ملكاً دائماً مستقراً لا يجب عليهم ردها بحال وأربعة منهم وهم: الغارمون وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل. فإنهم يأخذون أخذاً مراعىً. فإن صرفوه في الجهة التي استحقوا الأخذ لأجلها وإلا استرجع منهم. والفرق بين هذه الأصناف والتي قبلها: أن هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم للزكاة والأولون حصل المقصود بأخذهم وهو غنى الفقراء والمساكين وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين] المغني 2/500.
وقال الخطيب الشربيني: [وأضاف في الآية الكريمة الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك والأربعة لأخير – كذا والصواب الأخيرة – بفي الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى وتقييده في الأربعة الأخيرة حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى …] مغني المحتاج 4/173.
وقال الألوسي: [والعدول عن اللام إلى (في) في الأربعة الأخيرة على ما قاله الزمخشري للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن (في) للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فاللام لمجرد الاختصاص، وفي الانتصاف أن ثم سراً آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأوائل ملاك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكاً فكان دخول اللام لائقاً بهم وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون لما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون فليس نصيبهم مصروفاً إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بملكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به، وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصاً لذممهم لا لهم، وأما في سبيل الله فواضح فيه ذلك، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجاً في سبيل الله وإنما أفرد بالذكر تنبيهاً على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعاً] روح المعاني 5/314.
وجاء في توصيات الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في الكويت سنة 1413هـ ما يلي: [التمليك في الأصناف الأربعة الأولى المذكورة في آية مصارف الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ …) شرط في إجزاء الزكاة والتمليك يعني دفع مبلغ من النقود أو شراء وسيلة النتاج كآلات الحرفة وأدوات الصنعة وتمليكها للمستحق القادر على العمل] أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 2/886.
إذا تقرر هذا فإني أرى أنه لا يجوز تحويل أموال الزكاة إلى قروض حسنة تسترجع من الطلبة مستقبلاً لأن هذا يعني أن الزكاة لم توضع في مصارفها الشرعية فهذه الأموال المقرضة ستستمر في الدوران بين الطلبة وبين الصندوق كلما أخذها طالب ردها إلى الصندوق ليأخذها آخر وهكذا وبالتالي لا تكون الزكاة قد وقعت في أيدي مستحقيها ومن المعلوم أن المكلف بإخراج الزكاة أما أن يدفع مال الزكاة للمستحقين وأما أن يدفعه للإمام الذي يتولى إيصاله لمستحقيه أو من يقوم مقامه ولا تبرأ الذمة إلا بأحد الأمرين. انظر مجلة المجمع الفقهي عدد 3 ج1 ص416. فإذا بقيت الزكاة تدور بين الصندوق وبين الطلبة فإنها لن تصل إلى مستحقيها ويبقى المال في هذا الصندوق الذي لا مالك له حقيقة.
وأخيراً لا بد أن أذكر أن بعض العلماء المعاصرين ذهبوا إلى جواز إقراض مال الزكاة، قال الدكتور يوسف القرضاوي: [بقي هنا بحث نتم به الحديث عن هذا المصرف وهو إعطاء القروض الحسنة من الزكاة هل يجوز ذلك قياساً للمستقرضين على الغارمين؟ أم نقف عند حرفية النص ولا نجيز ذلك بناء على أن الغارمين هم الذين استدانوا بالفعل، أعتقد أن القياس الصحيح والمقاصد العامة للإسلام في باب الزكاة تجيز لنا القول بإقراض المحتاجين من سهم الغارمين على أن ينظم ذلك وينشأ له صندوق خاص. وبذلك تساهم الزكاة مساهمة عملية في محاربة الربا والقضاء على الفوائد الربوية. وهذا ما ذهب إليه الأساتذة: أبو زهرة وخلاف وحسن في بحثهم عن الزكاة معللين ذلك بأنه إذا كانت الديون العادلة تؤدي من مال الزكاة فأولى أن تعطى منه القروض الحسنة الخالية من الربا لترد إلى بيت المال فجعلوه من قياس الأولى] فقه الزكاة 2/634.
وأقول إن القياس المذكور غير مسلم لأن الغارمين هم الذين استدانوا فعلاً وأصبحوا مطالبين بالدين ولا يستطيعون السداد فهؤلاء يعطون من سهم الغارمين وأما الإقراض للطلبة فإن هؤلاء الطلبة ليسوا غارمين حقيقة حتى نلحقهم بالغارمين.
والصحيح في هذه المسألة أن هؤلاء الطلبة فقراء فيعطون من سهم الفقراء والمساكين ويمَلَّكون هذا المال ولا يصح استرداده منهم.
ويمكن إيجاد حل آخر لمسألة القروض بأن ينشأ صندوق لإقراض الطلبة من أموال الصدقات الأخرى غير الزكاة على أن يخبر المتبرعون لهذا الصندوق بأن ما سيتبرعون به سيوضع في صندوق للقروض الحسنة ويجعل له نظام واضح ويبين فيه مآل هذه الأموال مستقبلاً إن انتهى عمل الصندوق.(8/18)
19 - الجهل بوجوب الزكاة
يقول السائل: إنها ملكت مبلغاً كبيراً من المال منذ عدة سنوات ولكنها لم تزكِ مالها في السنوات الماضية لأنها لا تعلم بوجوب الزكاة على النساء فماذا تصنع؟
الجواب: الزكاة فريضة على الرجال والنساء سواء، متى تحققت أسبابها وشروطها من ملك النصاب وحولان الحول والفضل عن الحوائج الأصلية. ولا فرق بين الرجل والمرأة في وجوب الزكاة كما دلت على ذلك النصوص الموجبة للزكاة كما في قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ) سورة البقرة الآية 43 وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) سورة التوبة الآيات 34-35. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه عندما بعثه إلى اليمن: (أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) رواه البخاري. ومما ورد في خصوص الزكاة على النساء ما جاء في الحديث عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد - أي فقير - وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فإته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني، وإلا صرفتها لغيركم، قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: إئت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن قالت: فدخل بلال فسأله فقال له: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب فقال الرسول: أي الزيانب؟ فقال امرأة عبد الله فقال صلى الله عليه وسلم لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) متفق عليه. وأما قول السائلة إنها لا تعلم بوجوب الزكاة على النساء فهذا جهل لا يعذر صاحبه شرعاً فإن وجوب الزكاة من المعلوم في دين الإسلام بالضرورة في ديار المسلمين ويجب على من جهل أن يسأل أهل العلم يقول الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) سورة النحل الآية 43. والعلم بالزكاة وأحكامها العامة فرض في حق من وجبت عليه وقد ورد في الحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/140. والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله وحد هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42. وقال الإمام النووي: [… فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها] المجموع 1/42 وقال الإمام القرافي: [إن الغزالي حكى الإجماع في إحياء علوم الدين والشافعي في رسالته حكاه أيضاً في أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله تعالى في الإجارة ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة وكذلك الطهارة وجميع الأقوال والأعمال فمن تعلم وعمل بمقتضى ما علم فقد أطاع الله طاعتين ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين ومن علم ولم يعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله تعالى طاعة وعصاه معصية] الفروق 2/148. وقال القرافي أيضاً في الاستدلال لكلامه السابق: [ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) قال الشافعي رحمه الله طلب العلم قسمان فرض عين وفرض كفاية ففرض العين علمك بحالتك التي أنت فيها وفرض الكفاية ما عدا ذلك فإذا كان العلم بما يقدم الإنسان عليه واجباً كان الجاهل في الصلاة عاصياً بترك العلم فهو كالمتعمد الترك بعد العلم بما وجب عليه فهذا هو وجه قول مالك رحمه الله إن الجهل في الصلاة كالعمد والجاهل كالمتعمد لا كالناسي وأما الناسي فمعفو عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وأجمعت الأمة على أن النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة] الفروق 2/149. إذا تقرر هذا فأقول للسائلة بأن الزكاة واجبة عليها عن كل السنوات التي لم تزكِ فيها ما دام أنها قد ملكت نصاباً وتحققت شروط وجوب الزكاة فعليها أن تؤدي زكاة مالها عن السنوات الماضية كلها ولا تبرأ ذمتها إلا بذاك. قال الإمام النووي: [إذا مضت عليه سنون ولم يؤد زكاتها لزمه إخراج الزكاة عن جميعها سواء علم وجوب الزكاة أم لا وسواء كان في دار الإسلام أم دار الحرب] المجموع 5/33. فعلى هذه المرأة أن تحسب أموالها في كل سنة مضت وتزكي عن كل سنة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وفائدة الخلاف أنها إذا كانت في الذمة - أي الزكاة - فحال على ماله حولان لم يؤد زكاتهما وجب عليه أداؤها لما مضى ولا تنقص عنه الزكاة في الحول الثاني. وكذلك إن كان أكثر من نصاب لم تنقص الزكاة وإن مضى عليه أحوال فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه وإن كانت مائة دينار فعليه سبعة دنانير ونصف لأن الزكاة وجبت في ذمته فلم يؤثر في تنقيص النصاب] المغني 2/506-507. وبهذا يظهر لنا أن الزكاة وهي حق من الحقوق المالية لا تسقط بالتقادم أي بمضي المدة بل تبقى ديناً في الذمة ولا تبرأ ذمة المؤخر لها إلا بإخراجها سواء أخّرها عمداً أو جهلاً فالتوبة لا أثر لها في إسقاط الحقوق المالية سواء كانت حقاً لله تعالى أو حقاً للعباد. وخلاصة الأمر أن على هذه المرأة أن تؤدي زكاة مالها عن جميع السنوات الماضية ولا تبرأ ذمتها إلا بذلك.(8/19)
20 - زكاة العسل
يقول السائل: أرجو توضيح مسألة الزكاة في العسل وإن كان فيه زكاة فما نصاب الزكاة فيه؟
الجواب: العسل من الطيبات التي امتن الله بها على عباده قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة النحل الآيتان 68-69. وقد اختلف العلماء قديماً في زكاة العسل وأرجح قولي العلماء في ذلك قول من أوجب الزكاة في العسل وهو قول الحنفية والحنابلة قال الإمام الترمذي بعد أن ذكر حديث ابن عمر ? أن النبي ? قال: (في العسل كل عشرة أزق زق) قال الترمذي: [… والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم وبه يقول أحمد واسحق وقال بعض أهل العلم ليس في العسل شيء] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 3/217-218. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومذهب أحمد أن في العسل العُشر. قال الأثرم سئل أبو عبد الله: أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة؟ قال: نعم أذهب إلى أن في العسل زكاةً العُشر قد أخذ عمر منهم الزكاة. قلت: ذلك على أنهم تطوعوا به؟ قال: لا بل أخذه منهم ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري وسليمان بن موسى والأوزاعي واسحق] المغني 3/20. ومما يدل على ترجيح القول بوجوب الزكاة في العسل الأدلة العامة الواردة في وجوب الزكاة في الأموال ومنها قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة التوبة الآية 103. وقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) سورة الذاريات الآية 19. وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية267. وغير ذلك من الأدلة العامة التي توجب الزكاة في الأموال ولا شك أن العسل مال ومن المعروف اليوم أن هنالك مزارع خاصة لإنتاج العسل وتدر دخلاً كبيراً على أصحابها. وقد وردت أدلة خاصة في زكاة العسل ولكنها محل خلاف عند أهل العلم فمن ذلك: مارواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء هلال أحد بني تعان إلى رسول الله ? بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي وادياً يقال له سلبة فحمى له رسول الله ? ذلك الوادي فلما ولي عمر بن الخطاب ? كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله ? من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله متى يشاء) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/341-342. وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/302. وفي رواية أخرى عند أبي داود قال: [من كل عشر قرب قربة وقال سفيان بن عبد الله الثقفي قال: وكان يحمي لهم واديين زاد: فأدوا إليه ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله ? وحمى لهم وادييهم] سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/342. وحسنه الألباني أيضاً في صحيح سنن أبي داود 1/302. وروى الترمذي بإسناده عن ابن عمر أن النبي ? قال: (في العسل في كل عشرة أزق زق) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/196. وروى ابن ماجة بإسناده عن عبد الله بن عمرو عن النبي ? انه أخذ من العسل العُشر. وقال الشيخ الألباني حسن صحيح. صحيح سنن ابن ماجة 1/306. وانظر إرواء الغليل 3/384-387. ووردت آثار عن الصحابة والتابعين في وجوب الزكاة في العسل منها: ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن عمرو بن شعيب أن أمير الطائف كتب إلى عمر بن الخطاب أن أهل العسل منعونا ما كانوا يعطون من كان قبلنا قال: فكتب إليه إن أعطوك ما كانوا يعطون رسول الله ? فاحمِ لهم وإلا فلا تحمها لهم قال: وزعم عمرو بن شعيب أنهم كانوا يعطون من كل عشر قرب قربة. وما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن عطاء الخراساني عن عمر قال: في العسل عُشر. وما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن الحارث بن عبد الرحمن عن منير بن عبد الله عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب أنه قدم على قومه فقال لهم: في العسل زكاة فإنه لا خير في مال لا يزكى قال قالوا: فكم ترى قلت العُشر فأخذ منهم العُشر فقدم به على عمر وأخبره بما فيه قال: فأخذه عمر وجعله في صدقات المسلمين. وما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن الزهري قال في العسل العشر] مصنف ابن أبي شيبة 3/141-142. وروى عبد الرزاق بسنده عن عطاء الخراساني أن عمر أتاه ناس من أهل اليمن فسألوه وادياً فأعطاهم إياه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن فيه نحلاً كثيراً قال: فإن عليكم في كل عشرة أفراق فرقاً. وروى أيضاً بسنده عن أبي هريرة قال: كتب رسول الله ? إلى أهل اليمن أن يؤخذ من أهل العسل العشور] مصنف عبد الرزاق 4/63. وقال الحافظ ابن عبد البر: [ذكر إسماعيل بن اسحق … عن الزهري: أن صدقة العسل العُشر وأن صدقة الزيت مثل ذلك. وممن قال بإيجاب الزكاة في العسل: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وهو قول ربيعة وابن شهاب ويحيى بن سعيد. إلا أن الكوفيين لا يرون فيه الزكاة إلا أن يكون في أرض العُشر دون أرض الخراج. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن في العسل العُشر. قال وهب وأخبرني عمر بن الحارث عن يحيى بن سعيد وربيعة بمثل ذلك. قال يحيى: إنه سمع من أدرك يقول: مضت السنة بأن في العسل العُشر. وهو قول ابن وهب] الاستذكار 9/284-286. وغير ذلك من الأحاديث والآثار انظر نصب الراية 2/390-393. الأموال لأبي عبيد ص597-599. وقد قال الموجبون للزكاة في العسل إن هذه الأحاديث والآثار وإن لم تسلم من النقد فبعضها يقوي بعضاً كما أن الأدلة العامة في وجوب الزكاة تؤيدها. قال الشيخ ابن القيم: [وذهب أحمد وأبو حنيفة وجماعة إلى أن في العسل زكاة ورأوا أن هذه الآثار يقوي بعضها بعضاً وقد تعددت مخارجها واختلفت طرقها ومرسلها يعضد بمسندها وقد سئل أبو حاتم الرازي عن عبد الله والد منير عن سعد بن أبي ذباب يصح حديثه؟ قال: نعم. قال: هؤلاء ولأنه يتولد من نور الشجر والزهر ويكال ويدخر فوجبت فيه الزكاة كالحبوب والثمار] زاد المعاد 2/15. وقال الشوكاني بعد أن ساق بعض الأحاديث الموجبة لزكاة العسل: [وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضاً ويشهد بعضها لبعض فينتهض الاحتجاج بها] السيل الجرار 2/48. وقال العلامة صديق حسن خان بعد أن ساق بعض الأدلة السابقة في وجوب زكاة العسل [والجميع لا يقصر عن الصلاحية للاحتجاج به] الروضة الندية 1/ 519. وأما كيفية إخراج زكاة العسل ونصاب ذلك فقد اختلف الموجبون للزكاة في العسل في النصاب اختلافاً كبيراً قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ونصاب العسل عشرة أفراق وهذا قول الزهري وقال أبو يوسف ومحمد خمسة أوساق لقول النبي ?: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وقال أبو حنيفة: تجب في قليله وكثيره بناء على أصله في الحبوب والثمار] المغني 3/20. وبعد النظر في أقوال العلماء في تحديد النصاب وأدلتهم أختار ما اختاره العلامة الشيخ يوسف القرضاوي ورجحه حيث قال: [والراجح عندي أن يقدر النصاب بقيمة خمسة أوسق (أي 653 كغم أو 50كيلة مصرية) من أوسط ما يوسق كالقمح باعتباره قوتاً من أوسط الأقوات العالمية وقد جعل الشارع الخمسة الأوسق نصاب الزروع والثمار والعسل مقيس عليهما ولهذا يؤخذ منه العُشر فلنجعل الأوسق هي الأصل في نصابه. واعتبار قيمة الأدنى كالشعير كما قال أبو يوسف – وإن كان فيه رعاية للفقراء – فيه إجحاف بأرباب الأموال واعتبار الأعلى كالزبيب فيه إجحاف بالفقراء واعتبار الوسط هو الأعدل للجانبين] فقه الزكاة 1/428-429. وخلاصة الأمر أن الزكاة واجبة في العسل وأن النصاب يقدر حسب قيمة خمسة أوسق من القمح وهي تعادل 653 كيلوغرام فإذا بلغ الإنتاج من العسل ما يعادل قيمة 653 كيلوغرام من القمح فيخرج المزكي عشرها.(8/20)
21 - مصارف الزكاة
يقول السائل: هل يجوز دفع الزكاة للأقارب؟
الجواب: من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد بين مصارف الزكاة في كتابه الكريم يقول تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة /60. وصرف الزكاة لأِقارب المزكي فيه تفصيل عند أهل العلم أبينه فيما يلي: أولاً: لا يجوز صرف الزكاة للوالدين بإتفاق أهل العلم، نقل الشيخ ابن قدامة المقدسي عن ابن المنذر قوله: " أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يجبر الدافع إليهم على النفقة، ولأن دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفقته وتسقطها عنه ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه فلم تجز كما لو قضى بها دينه " المغني 2/282. ثانياً: لا يجوز صرف الزكاة للأولاد ذكوراً وإناثاً، لأن أولاد الرجل جزء منه وهو ملزم بالإنفاق عليهم، ومن يدفع الزكاة لأولاده يكون كمن دفع المال إلى نفسه، انظر فقه الزكاة 2/781. ثالثاً: لا يجوز للزوج أن يصرف الزكاة إلى زوجته، لأن نفقة الزوجة واجبة على زوجها بإتفاق أهل العلم، قال ابن رشد القرطبي المالكي: " واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على زوجها النفقة والكسوة، لقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة /233، ولما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام لهند زوجة أبي سفيان: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) بداية المجتهد 2/45. فإذا أعطى الزوج زكاة ماله لزوجته فقد دفع المال إلى نفسه. رابعاً: يجوز للزوجة الغنية أن تدفع زكاة مالها الخاص بها لزوجها الفقير لأنه لا يجب على المرأة الإنفاق على زوجها الفقير. ويدل على الجواز ما ورد في الحديث عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد - أي فقير - وإن الرسولصلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فاته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني، وإلا صرفتها لغيركم، قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار باب رسول اللهصلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: إئت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن قالت: فدخل بلال فسأله فقال له: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب فقال الرسول: أي الزيانب؟ فقال امرأة عبد الله فقال صلى الله عليه وسلم لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) متفق عليه. وذهب إلى العمل بمقتضى هذا الحديث جمهور أهل العلم فقالوا: يجوز للزوجة أن تعطي زكاة مالها لزوجها. قال الشيخ الشوكاني: " والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها، أما أولاً: فلعدم المانع من ذلك ومن قال إنه لا يجوز فعليه الدليل، وأما ثانياً: فلأن ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها ينزل منزلة العموم، فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب، فكأنه قال: يجزي عنك فرضاً كان أو تطوعاً " نيل الأوطار 4/199. وقال القرطبي: " واختلفوا في إعطاء المرأة زكاتها لزوجها.... وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وخالفه صاحباه فقالا: يجوز، وهو الأصح لما ثبت أن زينب امرأة عبد الله أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر الحديث السابق - ثم قال: والصدقة المطلقة هي الزكاة ولأنه لا نفقة للزوج عليها.... " القرطبي 8/190. وقال الشيخ ابن قدامة: " وليس في المنع نص ولا إجماع " المغني 2/485. خامساً: لا يجوز إعطاء الزكاة لبقية الأقارب الذين تجب نفقتهم على المزكي، وهناك خلاف بين أهل العلم في النفقة على الأقارب غير الأصول والفروع والزوجة، مثل الأخ أو الأخت والعم والعمة والخال والخالة وغيرهم. والقول الراجح في ذلك هو: إن النفقة تجب على ذي الرحم الوارث، سواء ورث بفرض أو تعصيب أو برحم وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وبناء على ذلك لا يجوز أن يعطي الرجل زكاة ماله لمن وجبت عليه نفقته، فمثلاً أخرج المزكي زكاة ماله وله عمة وليس لها من ينفق عليها إلا المزكي المذكور، فلا يجوز أن يعطيها من زكاة ماله. وهذا الأساس الذي بني عليه الحكم في المنع من إعطاء الزكاة للأقارب إذا كانت النفقة واجبة على المزكي، قال به جماعة من أهل العلم من السلف والخلف فمن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي حفصة قال: " سألت سعيد بن جبير عن الخالة تعطى من الزكاة فقال: ما لم يغلق عليكم باباً " المصنف 3/192، - أي ما لم يضمها إلى عياله -. وما رواه أيضاً بإسناده عن عبد الملك قال: قلت لعطاء: " أيجزي الرجل أن يضع زكاته في أقاربه، قال: نعم إذا لم يكونوا في عياله " المصنف 3/192. وما رواه أيضاً عن سفيان الثوري أنه قال: " لا يعطيها من تجب عليه نفقته" المصنف 3/192 وروى أبو عبيد القاسم بن سلام بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إذا لم تعط منها أحداً تعوله فلا بأس ". وقال أبو عبيد: قال لي عبد الرحمن: " إنما كرهوا ذلك لأن الرجل إذا ألزم نفسه نفقتهم وضمهم إليه ثم جعل ذلك بعده إلى الزكاة كان كأنه قد وقى ماله بزكاته" الأموال ص695 ورواه الأثرم في سننه بلفظ آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إذا كان ذووا قرابة فأعطهم من زكاة مالك وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول " نيل الأوطار 4/200. سادساً: إن لم تكن نفقة القريب واجبة على المزكي، فيجوز إعطاؤه من الزكاة، فيجوز إعطاء عمك وخالك وعمتك وخالتك وأختك المتزوجة وأخيك وابن أخيك وابن أختك وزوج أختك ونحوهم إن كانوا فقراء، ولم تكن ملزماً بالإنفاق عليهم، بل هؤلاء الأقارب في هذه الحالة أولى بالزكاة من غيرهم، وللمزكي إن أعطى الزكاة لأقاربه أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، لما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/387. وجاء في الفتاوى الهندية: " والأفضل في الزكاة والفطر والنذور والصرف أولاً إلى الأخوة والأخوات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى الأعمام والعمات، ثم إلى أولادهم ثم إلى الأخوال والخالات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى ذوي الأرحام ثم إلى الجيران ثم إلى أهل حرفته ثم إلى أهل مصره أو قريته " الفتاوى الهندية 1/190. سابعاً: يجوز إعطاء الزكاة للبنت المتزوجة من فقير، لأن نفقة البنت بعد زواجها واجبة على الزوج لا على أبيها. ثامناً: يجوز قضاء ديون الأقارب من الزكاة، حتى وإن وجبت نفقتهم على المزكي فيجوز قضاء دين الأب ودين والأم ودين الإبن ودين البنت وغيرهم من الأقارب، بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة على المزكي، لأن ديون الأقارب بما فيها ديون الوالدين والأولاد لا يجب شرعاً على المرء أن يؤديها عنهم، فيجوز قضاء الدين عنهم من الزكاة لأنهم يعتبرون هنا في هذه الحالة من الغارمين فهم يستحقون الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه. قال الإمام النووي: " قال أصحابنا ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة، إذا كان بهذه الصفة...." المجموع 6/229، وراجع فقه الزكاة للقَرَضَاوي 2/716، وفتاوى الصيام للشيخ ابن عثيمين ص48-49. *****(8/21)
22 - لا يجوز احتساب الدين من الزكاة
يقول السائل: هل يجوز لمن وجبت عليه الزكاة وله ديون على شخص فقير، أن يسقط الدين عن الفقير ويحتسبه من الزكاة؟
الجواب: لا يجوز احتساب الدين الذي على الفقير من مال الزكاة، على الراجح من أقوال أهل العلم لما ورد في الحديث الشريف من قول الرسولصلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن فقال له: (…. أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) رواه البخاري ومسلم. فلا بد في الزكاة من أخذها من الأغنياء، ثم ردها إلى الفقراء، وإسقاط الدين عن الفقير لا يعتبر، لا أخذاً من الأغنياء ولا رداً على الفقراء، وهذا قول جماهير أهل العلم الحنفية والمالكية والحنابلة وهو أصح القولين في مذهب الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام وسفيان الثوري وغيرهم. قال الإمام النووي: " إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله من زكاته وقال له جعلته عن زكاتي فوجهان حكاهما صاحب البيان أصحهما لا يجزئه، وبه قطع الصيمري، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، لأن الزكاة في ذمته فلا يبرأ إلا بإقباضها.... الخ " المجموع 6/210. وقال الإمام القرافي "لا يخرج في زكاته إسقاط دينه عن الفقير لأنه مستهلك عند الفقير" الذخيرة 3/153. وقال ابن قدامه: " قال مهنا: سألت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - عن رجل له دين برهن وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يفرقها على المساكين فيدفع إليه رهنه ويقول له: الدين الذي لي عليك هو لك ويحسبه من زكاة ماله، قال -أحمد- لا يجزيه ذلك، ثم قال ابن قدامة معللاً ذلك: لأن الزكاة لحق الله تعالى، فلا يجوز صرفها إلى نفعه، ولا يجوز أن يحتسب الدين الذي له من الزكاة قبل قبضه، لأنه مأمور بأدائها وإيتائها وهذا إسقاط، والله أعلم " المغني 2/487. وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إسقاط الدين عن المعسر، هل يجوز أن يحسبه من الزكاة؟ فأجاب: " وأما إسقاط الدين عن المعسر فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع" الفتاوى 25/84. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: " وكان سفيان بن سعيد الثوري فيما حكوا عنه يكرهه ولا يراه مجزئاً - أي إسقاط الدين واحتسابه من الزكاة - فسألت عنه عبد الرحمن، فإذا هو على مثل رأي سفيان، ولا أدري لعله قد ذكره عن مالك أيضاً، وكذلك هو عندي غير مجزئ عن صاحبه، لخلال اجتمعت فيه: أما إحداها: فإن سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم في الصدقة كانت على خلاف هذا الفعل، لأنه إنما كان يأخذها من أعيان المال عن ظهر الأغنياء ثم يردها في الفقراء، وكذلك كانت الخلفاء بعده ولم يأتنا عن أحد منهم أنه أذن لأحد في احتساب دين من زكاة، وقد علمنا أن الناس قد كانوا يدانون به في دهرهم - أي يتداينون -. الثانية: أن هذا المال ثاوٍ - أي هالك أو ضائع - غير موجود قد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد التواء إلى غيره بالنية، فهذا ليس بجائز في معاملات الناس بينهم حتى يقبض ذلك الدين ثم يستأنف الوجه الأخر فكيف يجوز فيما بين العباد وبين الله عز وجل. الثالثة: أني لا آمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين قد يئس منه فيجعله ردءاً لماله يقيه به إذا كان منه يائساً.... وليس يقبل الله تبارك وتعالى إلا ما كان له خالصاً " الأموال ص533 - 534. وبهذا يظهر لنا أنه لا يجوز إسقاط الدين واحتسابه من الزكاة. *****(8/22)
23 - حكم استثمار أموال الزكاة
يقول السائل: هل يجوز للجان الزكاة أن تقوم بإستثمار أموال الزكاة في مشاريع إقتصادية تعود بالنفع على الفقراء والمساكين وبقية المستحقين للزكاة؟
الجواب: من المعلوم أن الزكاة واجبة على الفور، على الراجح من أقوال أهل العلم ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) سورة الأنعام/141. ويدل على ذلك أيضاً، ما ثبت في الحديث الصحيح عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (صلى الرسول صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ثم دخل بيته فلم يلبث أن خرج، فقلت له، أو قيل له، فقال: كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيَّته فقسمته) رواه البخاري. وقال الإمام النووي: " قد ذكرنا أن مذهبنا أنها إذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها، وجب الإخراج على الفور، فإن أخرها أثم، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء " المجموع 5/335. واستثمار أموال الزكاة فيما أرى أنه يتعارض مع الفورية في إيصال الزكاة إلى مستحقيها، ممن ذكرهم الله سبحانه وتعالى في آية مصارف الزكاة، لأن استثمار أموال الزكاة في المشاريع المختلفة يؤدي إلى انتظار أرباحها، وبالتالي يؤدي إلى تأخير توزيعها. كما أن استثمار أموال الزكاة قد يعرضها للخسارة، لأن التجارة والإستثمار تحتمل الربح والخسارة. كما وأنه يخشى على أموال الزكاة إذا استثمرت من الضياع إذا تولتها أيد غير أمينة، وخاصة أننا نعيش في مجتمع قد خربت فيه ذمم كثير من الناس وكثر فيه الطمع وقَّل فيه الورع. هذا هو الأصل في المسألة. وبالرغم مما قلت وبينت، إلا أنه يجوز في ظروف خاصة استثمار أموال الزكاة إذا توفرت بعض الشروط وهي: أولاً: أن يتم تغطية الحاجات المستعجلة للفقراء والمساكين وبقية المستحقين للزكاة، فإن فاضت أموال الزكاة وزادت عن سد الحاجات الأساسية للمستحقين لها - وما أظنها في مجتمعنا تفيض أو تزيد - فحينئذ يجوز استثمار أموال الزكاة، وأما إن لم تكف أموال الزكاة الحاجات الأساسية للمستحقين لها فلا يصح تأخير صرف الزكاة بحجة استثمارها. ثانياً: أن يتم استثمار أموال الزكاة في مجالات مشروعة، فلا يجوز استثمارها في البنوك الربوية مقابل الربا (الفائدة) . ثالثاً: أن لا توضع أموال الزكاة في مشاريع استثمارية إلا بعد دراسة الجدوى الإقتصادية من تلك المشاريع، وأنه يغلب على الظن أن تكون رابحة بإذن الله. رابعاً: أن يتولى الإشراف على استثمار أموال الزكاة أيد أمينة تقية زاهدة في تلك الأموال ومتبرعة بالعمل لله تعالى، انظر أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 2/516 فما بعدها. خامساً: أن ينتفع من الأموال المستثمرة وأرباحها المستحقون للزكاة فقط. وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي جواز استثمار أموال الزكاة من حيث المبدأ، فقد جاء في القرار ما يلي: يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع مال الزكاة وتوزيعها على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر، مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 3 ج1/421. ومما يستأنس به لجواز استثمار أموال الزكاة، ما ورد عن النبيصلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أنهم كانوا يستثمرون أموال الصدقة من إبل وغنم، كما في قصة العرنيين الذين وفدوا على المدينة ثم مرضوا، فأمرهم الرسولصلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل صدقة فيشربوا ألبانها.... الخ) الحديث الشريف الذي رواه البخاري في صحيحه. وكذلك ورد في الحديث عن أنس بن مالكرضي الله عنه قال: (أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى، حلسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء، فقال: إئتني بهما، فأتاه بهما فأخذهما رسول اللهصلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ فقال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهم قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: إشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوماً فأتني به، فشد رسول اللهصلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال: إذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب خمسة عشر درهماً فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: هذا خير لك أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، وإن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع) رواه أبو داود والبيهقي، وقال الشيخ الألباني: صحيح لشواهده، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/350. وقاسوا استثمار أموال الزكاة على استثمار أموال الأيتام كما ورد في الحديث (ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي وهو مرسل رجاله ثقات ويتقوى بما ورد عن الصحابة، وقال العراقي إسناده صحيح، انظر إرواء الغليل 3/260. وقالوا أيضاً: إن معنى سداد العيش الوارد في الحديث الشريف، يدل على أن سداد العيش المستثمر بعمل الفقير القادر على العمل في أموال الزكاة المستمرة أولى وأفضل من أن يعطى لفترة قصيرة ويعود مستحقاً " مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 3 ج1/372. وقالوا أيضاً: إن أموال الزكاة التي تصرف مباشرة على المستحقين، فإن هؤلاء المستحقين ينتفعون منها انتفاعاً آنياً، أما الأموال التي تستثمر في مشاريع فإن نفعها سيستمر ويعود النفع على المستحقين باستمرار، وإن عملية استثمار أموال الزكاة ما هي إلا من باب تنظيم صرف الزكاة. وخلاصة الأمر، فإن الأصل العام في هذه المسألة هو عدم جواز استثمار أموال الزكاة إلا في حالات خاصة وبالشروط التي ذكرتها، لأن الفورية في إيصال الزكاة لمستحقيها أمر واضح من الأدلة الشرعية، ولأن الزكاة شعيرة من شعائر الإسلام التي يجب المحافظة عليها محافظة تامة، ولا ينبغي فتح هذا الباب خشية أن يؤدي إلى ضياع حقوق المستحقين للزكاة وحتى لا يدخل من هذا الباب الطامعون في أموال الزكاة، فتضيع هذه الأموال بحجة الاستثمار. وأخيراً أؤكد على أنه بالنظر إلى حالة الفقر المنتشرة في بلادنا، بسبب الظروف التي نعيشها، فإني أعتقد أن أموال الزكاة التي تجمع، لا تفي بحاجات الفقراء والمساكين الأصلية حتى تقوم لجان الزكاة باستثمارها. *****(8/23)
24 - مصارف الزكاة
يصح إعطاء المتضررين من السيول والعواصف من الزكاة، يقول السائل: هل يجوز أن أعطي الناس الذين تضرروا بسبب العواصف والسيول من أموال الزكاة؟
الجواب: نعم يجوز أن يُعطى من مال الزكاة الذين تضرروا من السيول والعواصف، فخربت بيوتهم وتلفت مزارعهم ولم يعد لهم شيء، لأن هؤلاء يعتبرون من الغارمين وهم أحد مصارف الزكاة الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة/60. والغارمون هم الذين ركبهم الدين ولا مال عندهم، كما قال الشيخ القرطبي في تفسيره 5/183. ويُعتبر من أصابتهم الكوارث الطبيعية من هذا الصنف، قال د. يوسف القرضاوي: " وأخَصُ من ينطبق عليه هذا الوصف - الغارمون - أولئك الذين فاجأتهم كوارث الحياة ونزلت بهم جوائح اجتاحت مالهم واضطرتهم إلى الإستدانة لأنفسهم وأهليهم. فعن مجاهد قال: ثلاثة من الغارمين، رجل ذهب السيل بماله، ورجل أصابه حريق فذهب بماله، ورجل له عيال وليس له مال فهو يدان وينفق على عياله " رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/207، وانظر فقه الزكاة 2/623. ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) صحيح مسلم 3/109 - 110. والحمالة هي ما يتحمله عن غيره من دية أو غرامة، والجائحة هي الآفة المهلكة للثمار والأموال. قال صاحب عون المعبود: " من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة حتى يحصل له ما يقوم بحاله ويسد خلته " عون المعبود 3/36. ويدل على دخول هؤلاء في الغارمين فتجوز لهم المسألة ويعطون من الزكاة ما ورد في الحديث"عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نتساءَل أموالنا، قال: (يتساءَل الرجل في الجائحة والفتق ليصلح به بين قومه فإذا بلغ أو كرب استعف) رواه أحمد وذكره الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، مجمع الزوائد 3/100. وقوله نتساءَل، أي يسأل بعضنا بعضاً في الأموال، وقوله والفتق أي الحرب تكون بين القوم تقع فيها الجراحات والدماء، وقوله فإذا بلغ أو كرب، أي فإذا بلغ مقصده بالسؤال أو قارب ذلك استعف " الفتح الرباني 9/67. *****(8/24)
25 - تعجيل الزكاة
يقول السائل: إن له قريباً فقيراً وبحاجة ماسة إلى المال، وقد أخرجت زكاة مالي لهذه السنة، فهل يجوز لي أن أعطي قريبي من زكاة مالي عن السنة القادمة؟ الجواب: يجوز تعجيل زكاة الأموال التي يشترط لها الحول قبل حلول الحول، على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي والحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم، انظر المغني 2/470، ويدل على ذلك أحاديث منها: - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأل الرسول عليه الصلاة والسلام في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخص له في ذلك) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما. وقال الإمام النووي: " وإسناده حسن " المجموع 6/145، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن، صحيح سنن الترمذي 1/207. - وعن علي أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب: (إنا أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام) رواه أبو داود والترمذي، وقال الشيخ الألباني: حسن أيضاً صحيح سنن الترمذي 1/207، - وفي رواية أخرى عن علي أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا كنا احتجنا فاستسلفنا من العباس صدقة عامين) قال البيهقي: وهذا مرسل. قال الإمام النووي بعد أن ذكر الأدلة على جواز تعجيل الزكاة: " إذا عرفت هذا، حصل الاستدلال على جواز التعجيل من مجموع ما ذكرنا، وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الشافعي يحتج بالحديث المرسل إذا اعتضد بأحد أربعة أمور، وهي أن يسند من جهة أخرى أو يرسل، أو يقول بعض الصحابة أو أكثر العلماء به فمتى وجد واحد من هذه الأربعة جاز الاحتجاج به، وقد وجد في هذا الحديث المذكور عن علي رضي الله عنه، بأنه روي في الصحيحين معناه من حديث أبي هريرة السابق وروى هو أيضاً مرسلاً ومتصلاً كما سبق، وقال به من الصحابة ابن عمر، وقال به أكثر العلماء كما نقله الترمذي، فحصلت الدلائل المتظاهرة على صحة الاحتجاج به، والله أعلم " المجموع 6/146. وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه الإمام النووي، هو ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله رسوله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي عليه صدقة ومثلها معها) . وفي رواية أخرى: (وأما العباس فهي عَلَيَّ ومثلها معها) رواه مسلم. وقد اختلف أهل العلم في المراد بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في حق صدقة العباس على أقوال منها ما قاله الحافظ ابن حجر: " وقيل معنى قوله (عَلَيَّ) أي هي عندي قرض، لأنني استلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً بما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي "، - ثم ذكر الروايات الواردة في تعجيل العباس صدقته وبين حال إسنادها - ثم قال: ".... وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق، والله أعلم " فتح الباري 4/76. قال الشيخ الألباني: " قلت: وهو الذي نجزم به لصحة سندها مرسلاً وهذه شواهد لم يشتد ضعفها فهو يتقوى بها ويرتقي إلى درجة الحسن على أقل الأحوال" إرواء الغليل 3/49. وقال الإمام النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فهي عليَّ ومثلها معها) " والصواب أن معناه تعجلتها منه وقد جاء في حديث آخر في غير مسلم (إنا تعجلنا منه صدقة عامين) شرح النووي على صحيح مسلم 3/49. ومما يدل على جواز تعجيل الزكاة، ما ورد في جواز تعجيل صدقة الفطر قبل وقت الوجوب، كما هو مذهب جمهور أهل العلم، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، (أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) رواه مالك في الموطأ والبيهقي في السنن وغيرهما. ومما احتج به العلماء على جواز تعجيل الزكاة قبل حلول الحول، قياس ذلك على جواز الكفارة قبل الحنث، لما ثبت في أحاديث كثيرة منها، قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير) رواه مسلم. وقد أجاز الحنفية تعجيل زكاة سنوات كثيرة، وأجاز الحسن البصري أن يعجلها لثلاث سنوات فقد روى أبو عبيد بإسناده عن حفص بن سليمان قال: " قلت للحسن: أأخرج زكاة ثلاثة أعوام ضربة - أي دفعة واحدة - فلم ير بذلك بأساً " الأموال ص703. والأولى هو ألا يزيد التعجيل عن حولين، لأنه هو الذي وردت به النصوص. *****(8/25)
26 - لا يصح تأخير صرف الزكاة لمستحقيها
يقول السائل: هل يجوز تأخير صرف الزكاة لمستحقيها، كأن تبقى أموال الزكاة لدى الموكَل بتوزيعها لمدة سنة أو سنتين ويقوم بتوزيعها على الفقراء بالتقسيط؟
الجواب: يرى جمهور الفقهاء أن الزكاة واجبة على الفور، فلا ينبغي تأخيرها إذا وجبت هذا في حق من وجبت عليه الزكاة، ومن باب أولى في حق من هو موكل بتوزيعها على المستحقين ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) سورة الأنعام/141، وهذه الآية في زكاة الزروع ويلحق بها غيرها. فالله سبحانه وتعالى أمر بإيتاء الزكاة، فمتى وجبت الزكاة في مال فيجب المبادرة إلى إخراجها وتوزيعها على مستحقيها، ولأنه لو جاز التأخير لجاز إلى غير غاية فتنتفي العقوبة على الترك، ولأن حاجة الفقراء والمساكين ناجزة وحقهم في الزكاة ثابت، فيكون تأخيرها منعاً لحقهم في وقته. وسُئل الإمام أحمد عن الرجل إذا ابتدأ في إخراج الزكاة فجعل يخرجها أولاً فأولاً؟ فقال: " لا بل يخرجها كلها إن حال الحول ". وقال الإمام أحمد: " لا يجري على أقاربه من الزكاة في كل شهر يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئاً " المغني 2/510، الموسوعة الفقهية 23/295. ومما يدل على وجوب إخراج الزكاة على الفور والمبادرة إلى توزيعها على المستحقين عموم النصوص المرغبة في المبادرة إلى الطاعات كما في قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) سورة البقرة/148. وقوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) سورة آل عمران/133. ومما يدل على المبادرة في إخراج الزكاة وإيصالها إلى مستحقيها، ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له، فقال: كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيِّته فقسمته) ، فانظر أخي المسلم يارعاك الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يبيّت عنده شيء من مال الصدقة فسارع إلى قسمته وإعطائه لمستحقيه. وقال ابن بطال معلقاً على الحديث السابق: " فيه أن الخير ينبغي أن يُبادَر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف غير محمود " فتح البري 4/41. وقال الحافظ ابن حجر: " وزاد غيره - أي غير ابن بطال - وهو أخلص للذمة وأنقى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب " فتح الباري 4/41. وبناءً على ما تقدم، فلا يجوز شرعاً تأخير إخراج الزكاة أو تأخير توزيعها من الشخص أو الجهة الموكلة بتوزيعها، ومن يؤخرها بدون عذر شرعي فهو آثم. قال الإمام النووي: " قد ذكرنا أن مذهبنا أنها إذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها، وجب الإخراج على الفور فإن أخرها أثم، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء " المجموع 5/335. فلذلك ننصح لجان الزكاة والقائمين على توزيع الزكاة، أنهم إذا جمعوا الزكاة فالواجب عليهم أن يبادروا إلى توزيعها على مستحقيها، ولا يؤخروها إلا لمدة يسيرة ولعذر مقبول، كأن تؤخر لتدفع إلى فقير غائب أشد حاجة وفقراً من الحاضرين. وعلى كل حال فالتأخير المسموح به هو التأخير اليسير، قال العلامة الدكتور القرضاوي: " وعندي أنه لا ينبغي العدول عن ظاهر ما جاء عن فقهاء المذاهب، وإن كان التسامح في يوم أو يومين بل أياماً أمراً ممكناً جرياً على قاعدة اليسر ورفع الحرج، أما التسامح في شهر أو شهرين بل أكثر إلى ما دون العام.... فلا يصح اعتباره حتى لا يتهاون الناس في الفورية الواجبة " فقه الزكاة 2/830. *****(8/26)
27 - تقدير نصاب زكاة النقود بالذهب
يقول السائل: لماذا يقدر نصاب النقود في الزكاة بالذهب دون الفضة، مع أن تقديره بالفضة يكون لمصلحة للفقير؟
الجواب: إن الزكاة فريضة على الأغنياء، وترد على الفقراء كما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني وسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم....) رواه البخاري. وجاء في حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إنما الصدقة عن ظهر غنى) رواه أحمد وإسناده صحيح. والغنى الذي يوجب الزكاة عند الفقهاء، هو ملك النصاب، والمقصود بالنصاب هنا، عشرون ديناراً ذهباً، وتعادل خمسة وثمانين غراماً من الذهب، أو مئتا درهم من الفضة وتعادل خمسمئة وخمسة وتسعون غراماً من الفضة. ومن المعلوم أن مقدار النصاب من الذهب - عشرون ديناراً - كانت تساوي مقدار نصاب الفضة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سعر الفضة أخذ في الهبوط بعد ذلك العهد إلى أن صار الفرق بين النصابين كبير جداً بينما بقي الذهب محافظاً على سعره إلى وقتنا الحاضر مع اختلاف يسير حيث إن القوة الشرائية للذهب في زمن رسول اللهصلى الله عليه وسلم كانت تساوي (100% - 120%) مما هي عليه الآن لا أكثر، انظر مجلة المجمع الفقهي 5/3/1679. ونظراً للهبوط الكبير في سعر الفضة، رأى كثير من العلماء، أن تقدير النصاب في الزكاة بالذهب هو الصحيح، نظراً لثبات سعر الذهب دون الفضة. قال د. يوسف القرضاوي مرجحاً هذا القول: " ويبدو لي أن هذا القول سليم الوجهة قوي الحجة، فبالمقارنة بين الأنصبة المذكورة في أموال الزكاة، كخمس من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر، تجد أن الذي يقاربها في عصرنا الحاضر، هو نصاب الذهب لا نصاب الفضة " فقه الزكاة 1/264. ويقول د. وهبة الزحيلي: " ويجب اعتبار النصاب الحالي كما هو كان في أصل الشرع دون النظر إلى تفاوت السعر القائم بين الذهب والفضة، وتقدر الأوراق النقدية بسعر الذهب، ولأنه هو الأصل في التعامل، ولأن غطاء النقود هو بالذهب، ولأن المثقال كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند أهل مكة هو أساس العملة.... " الفقه الإسلامي وأدلته 2/760. وقال د. محمد الأشقر: " وقد مال في هذا العصر بعض الفقهاء في هذا العصر إلى الرجوع إلى التقويم في عروض التجارة والنقود الورقية إلى نصاب الذهب خاصة، ولذلك وجه بيّن، وهو ثبات القدرة الشرائية للذهب فإن نصاب الذهب - العشرين ديناراً - كان يشترى بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرون شاة من شياه الحجاز تقريباً وكذلك نصاب الفضة - المئتا درهم - كان يُشتَرى بها عشرون شاةً تقريباً أيضاً، أما في عصرنا الحاضر فلا تكفي قيمة مئتي درهم من الفضة إلا لشراء شاة واحدة، بينما العشرون مثقالاً من الذهب تكفي الآن لشراء عشرين شاة من شياه الحجاز أو أقل قليلاً فهذا الثبات في قوة الذهب الشرائية تتحقق به حكمة تقدير النصاب على الوجه الأكمل، بخلاف نصاب الفضة " أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 1/30.(8/27)
28 - زكاة المحاجر
يقول السائل: إنه صاحب محجر يستخرج الحجارة من الأرض على شكل كتل كبيرة ثم يقوم بتقطيعها وبيعها فكيف يؤدي زكاة ذلك؟
الجواب: يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية 267. هذه الآية أصل عظيم اعتمد عليه العلماء في وجوب الزكاة فيما تخرج الأرض من نبات ومعادن وركاز كما قال القرطبي في تفسيره 3/321. وقد صح في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس] رواه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المعدن وقد قال العلماء: المعدن: اسم للمال المخلوق في الأرض. التهذيب في فقه الإمام الشافعي 3/116. والمعدن يشمل الذهب والفضة والحديد والنحاس والفحم الحجري ويشمل أيضاً الرخام وحجارة المحاجر محل السؤال. وقد ذكر بعض أهل العلم أن المعدن والركاز شيء واحد لذا أوجبوا فيهما الخمس كما هو نص الحديث السابق. ولكن الراجح من أقوال أهل العلم في نظري التفريق بين المعدن والركاز. قال الإمام البخاري: [باب في الركاز الخمس وقال مالك وابن إدريس - يعني الشافعي - الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيرة الخمس. وليس المعدن بركاز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في المعدن جبار وفي الركاز الخمس ... ) وقال بعض الناس: المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية لأنه يقال أركز المعدن إذا خرج منه شيء قيل له قد يقال لمن وهب له شيء أو ربح ربحاً كثيراً أو كثر ثمره أركزت] صحيح البخاري مع الفتح 3/106-107. وما ذكره الإمام البخاري في التفريق بين الركاز والمعدن هو الراجح وهو الذي عليه الإمام مالك حيث قال: [الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يطلب بمال ولم يتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤونة فأما ما طلب بمال وتكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز] الموطأ 1/214. وقال الحافظ ابن عبد البر: [ومن حجة مالك أيضاً في تفريقه بين ما يؤخذ من المعدن وما يؤخذ من الركاز قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: ( ... والمعدن جبار وفي الركاز الخمس) فرق بين المعدن والركاز ب " و " فاصلة فدل ذلك على أن الخمس في الركاز لا في المعدن] الاستذكار 9/56. وقال القرطبي: [وأما المعدن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس) . قال علماؤنا: لمّا قال صلى الله عليه وسلم: (وفي الركاز الخمس) دلّ على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعدن والركاز بالواو الفاصلة ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس فلما قال: (وفي الركاز الخمس) علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم] تفسير القرطبي 3/322. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: [الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض وعند أهل العراق المعادن، والقولان تحتملها اللغة. لأن كلاً منهما مركوز في الأرض أي ثابت والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه] تعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على الموطأ 1/214. إذا تقررت التفرقة بين المعدن والركاز فأقول إن الواجب في زكاة المعدن ربع العشر أي 2. 5% وهذا قول عمر بن عبد العزيز والإمام مالك في رواية ابن نافع عنه وهو القول الصحيح عند الشافعية وقول الحنابلة. روى الإمام البخاري في صحيحه تعليقاً: [وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مئتين خمسة] . قال الحافظ ابن حجر: [وصله أبو عبيد في كتاب الأموال] صحيح البخاري مع الفتح 3/107. وما أشار إليه الحافظ رواه أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز أخذ من المعادن الزكاة. وفي رواية أخرى أن عمر بن عبد العزيز كتب أن خذ من المعادن الصدقة ولا تأخذ منها الخمس. الأموال ص 424. وروى مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة) الموطأ 1/211. قال الحافظ ابن عبد البر: [هذا الخبر منقطع في الموطأ وقد روي متصلاً مسنداً ... من رواية الداروردي عن ربيعة ... ] الاستذكار 9/55. وقال ابن عبد البر أيضاً: [وإسناد ربيعة فيه صالح حسن وهو حجة لمالك ومن ذهب مذهبه في المعادن] فتح المالك 5/23. ورواه أبو داود في سننه، انظر عون المعبود 8/216 وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/592-593. وبناءً على ما تقدم فإن المحاجر تجب الزكاة فيها بنسبة 2. 5% ولا يشترط لذلك حولان الحول. وأما النصاب فالمعروف من حال أصحاب المحاجر أن ما يستخرجونه يبلغ أنصبة كثيرة لا نصاباً واحداً وعليه فإن صاحب المحجر كلما استخرج كمية من الحجارة فباعها فإنه يخرج الزكاة بنسبة 2. 5% بعد أن يخصم من ذلك أجور العمال وتكلفة تشغيل الآلات والمعدات فمثلاً لو أن صاحب محجر جعل له حساباً شهرياً يحسب فيه ثمن الحجارة المستخرجة التي يتم بيعها محسوماً منها أجور العمال وتكلفة تشغيل الأجهزة والمعدات وما يبقى بعد ذلك يزكيه بنسبة 2. 5% وهكذا في كل شهر. ومما يؤيد تقدير الزكاة في المعادن بربع العشر 2. 5% وليس الخمس 20% أنه قد جرت عادة الشرع أن ما غلظت مؤونته خفف عنه في قدر الزكاة وما خفت مؤونته زيد في زكاته. انظر فتح الباري 3/107، التهذيب في فقه الإمام الشافعي 3/115. ?????(8/28)
29 - قضاء الديون من الزكاة
يقول السائل: توفي شخص وعليه ديون ولم يترك وفاءً لديونه فهل يجوز أن نقضي ديونه من أموال الزكاة؟
الجواب: إن من مصارف الزكاة مصرف الغارمين كما نصت على ذلك الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60. والأصل عند أهل العلم أن الميت إذا كان عليه ديون وترك أموالاً أن تسدد ديونه من تركته فإن لم يترك أموالاً تفي بقضاء الدين فإن على بيت مال المسلمين قضاء ديونه لما صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاءً لدينه فعلينا قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته) رواه البخاري ومسلم. فإن لم يتيسر سداد الدين من بيت مال المسلمين كما هو الحال الآن في زماننا فيجوز على الراجح من قولي العلماء قضاء الدين عن الميت لأن الميت المدين داخل في عموم قوله تعالى: (وَالْغَارِمِينَ) لأنها شاملة لكل غارم حياً كان أو ميتاً. بل إن بعض العلماء قد قال: قضاء دين الميت أحق من قضاء دين الحي لأن دين الميت لا يرجى قضاؤه. قال الشيخ ابن العربي المالكي: [فإن كان ميتاً - أي الغارم - قضي منها دينه لأنه من الغارمين] أحكام القرآن 2/968. وقال الشيخ القرطبي: [وقال علماؤنا وغيرهم: يقضى منها دين الميت لأنه من الغارمين، قال صلى الله عليه وسلم: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعاً - أي عيال - فإلي وعليّ] تفسير القرطبي 8/185. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما الدين الذي على الميت فيجوز أن يوفى من الزكاة في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى قال: (وَالْغَارِمِينَ) ولم يقل: (وللغارمين) فالغارم لا يشترط تمليكه وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وأن يملك لوارثه ولغيره] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/80. والقول بجواز قضاء دين الميت من الزكاة هو قول مالك وأكثر أصحابه والشافعي في وجه وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وبه قال أبو ثور وأبو جعفر الطحاوي وغيرهم من أهل العلم. قال العلامة الدكتور يوسف القرضاوي فظه الله: [والذي نرجحه: أن نصوص الشريعة وروحها لا تمنع قضاء دين الميت من الزكاة لأن الله تعالى جعل مصارف الزكاة نوعين: نوع عبر عنه استحقاقهم باللام التي تفيد التمليك وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم - وهؤلاء هم الذين يملكون -. ونوع عبر عنه بـ (فِي) وهم بقية الأصناف: (وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ) فكأنه قال: الصدقات في الغارمين ولم يقل: للغارمين ... فالغارم على هذا لا يشترط تمليكه وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وهذا ما اختاره وأفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية ويؤيد هذا حديث: (من ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ) ] فقه الزكاة 2/633. ?????(8/29)
30 - مصارف الزكاة
إعطاء من يريد الزواج من أموال الزكاة، يقول السائل: هل يجوز صرف الزكاة لشاب يريد الزواج وكما تعلمون فإن تكاليف الزواج صارت باهظة في وقتنا الحالي؟
الجواب: لا شك أن الزواج من الحاجات الأساسية للإنسان وقد نصّ بعض أهل العلم على أن الزواج من تمام الكفاية فيجوز إعطاء الشاب من الزكاة ليستعين على الزواج إذا كان لا يستطيع الزواج بإمكاناته المادية أي أنه فقير. وكذلك يجوز إعطاء من تزوج فتحمّل ديوناً بسبب زواجه ولا وفاء عنده فيعطى من مال الزكاة ليقضي ديونه وينبغي الانتباه عند صرف الزكاة لمن يريد الزواج أن ينفق ذلك في الأمور الأساسية للزواج ودون مبالغة في تكاليف الزواج. ?????(8/30)
31 - مصارف الزكاة
يقول السائل: هل يجوز إعطاء طلبة العلم من الزكاة؟
الجواب: من المعلوم أن مصارف الزكاة هي المنصوص عليها في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60. ومن المتفق عليه بين أهل العلم أن طالب العلم إن كان فقيراً يعطى من الزكاة لفقره. ومن العلماء من قال: يعطى طالب العلم لكونه طالب علم وإن كان قادراً على الكسب إذا تفرغ لطلب العلم. ومنهم من أجاز لطالب العلم أن يأخذ من الزكاة باعتباره داخلاً في مصرف: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) حيث فسر قوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) بأنه طلبة العلم كما في الدر المختار 2/343، وحاشية الطحطاوي ص 392. ونقل ابن عابدين عن بعض الحنفية أن تفسير: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) بطلب العلم وجيه. حاشية ابن عابدين 2/343. وهذا بناءً على التوسع في مصرف في سبيل الله وهو قول جيد ولكن ليس على إطلاقه بل لا بد من ضوابط معينة لكل حالة من الحالات التي تدخل في هذا المصرف. قال العلامة الشيخ صديق حسن خان: [ومن جملة سبيل الله: الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية فإن لهم في مال الله نصيباً سواء أكانوا أغنياء أو فقراء بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم والأمر في ذلك مشهور ومنهم من كان يأخذ زيادة على مئة ألف درهم. ومن جملة هذه الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة وقد قال صلى الله عليه وسلملعمر لما قاله له يعطي من هو أحوج منه: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك، كما في الصحيح والأمر ظاهر] الروضة الندية 1/533 - 534. وقال الدكتور محمد أبو فارس: [المراد بقوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) طلبة العلم. أورد هذا القول صاحب الفتاوى الظهيرية من الحنفية واقتصر عليه وهذا قول في مذهب الأباضية كما ذكره كتاب شرح النيل عن التاج. وذكر صاحب منهاج الصالين من الإمامية جواز أخذ طالب العلم من سهم سبيل الله. أقول: إنني لم أعثر على دليل من الكتاب والسنة استدل به أصحاب هذا القول على مدعاهم وكل الذي استندوا إليه القياس وصورته إذا كان للعامل على الزكاة أن يأخذ منها لأنه يصرف وقته أو جزءاً منه في منفعة للمسلمين فكذلك الذي يتفرغ لطلب العلم فإن مآله إلى نفع المسلمين. وقياس الطالب المتفرغ للعلم على العامل على الزكاة بجامع حبس النفس لمصلحة المسلمين قياس موفق نؤيده ونراه. إلا أننا لا نحصر سهم سبيل الله في طلبة العلم بل نقول يجوز أن يصرف من هذا السهم لطلبة العلم المتفرغين. ونقول أيضاً: أن طلب العلم جهاد إذ الجهاد مجاهدة النفس على حمل الحق وتعلم العلم وتعليمه للآخرين. ونقول أيضاً: إذا كان طالب العلم فقيراً عاجزاً عن الكسب فيعطى من سهم الفقراء لفقره وحاجته وعجزه عن الكسب وإذا كان فقيراً قادراً على الكسب فيعطى من سهم سبيل الله ولا يعطى من سهم الفقراء لأنه غني بقوته وقدرته على الكسب إلا أنه حبس نفسه لمجاهدتها على تعلم العلم وتعليم الناس فدخل بهذا تحت المجاهدين الذين يستحقون سهم سبيل الله مع قدرتهم على الكسب والله سبحانه وتعالى أعلم] إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 82-83. وقال الدكتور يوسف القرضاوي: [المتفرغ للعلم يأخذ من الزكاة فإذا ما تفرغ لطلب علم نافع وتعذر الجمع بين الكسب وطلب العلم فإنه يعطى من الزكاة قدر ما يعينه على أداء مهمته وما يشبع حاجاته ومنها كتب العلم التي لا بد منها لمصلحة دينه ودنياه. وإنما أعطي طالب العلم لأنه يقوم بفرض كفاية ولأن فائدة علمه ليست مقصورة عليه بل هي لمجموع الأمة. فمن حقه أن يعان من مال الزكاة لأنها لأحد رجلين: إما لمحتاج من المسلمين أو لمن يحتاج إليه المسلمون وهذا قد جمع بين الأمرين. واشترط بعضهم أن يكون نجيباً يرجى تفوقه ونفع المسلمين به وإلا لم يستحق الأخذ من الزكاة ما دام قادراً على الكسب وهو قول وجيه. وهو الذي تسير عليه الدول الحديثة حيث تنفق على النجباء بأن تتيح لهم دراسات خاصة أو ترسلهم في بعثات خارجية أو داخلية] فقه الزكاة 2/560-561. وقد ذكر الإمام النووي أن المشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلت له الزكاة لأن تحصيل العلم فرض كفاية. المجموع 6/190. وقال بعض فقهاء الحنفية يجوز لطالب العلم الأخذ من الزكاة ولو كان غنياً إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته لعجزه عن الكسب والحاجة داعية إلى ما لا بد منه. حاشية الطحطاوي ص 392. وخلاصة الأمر أنه يجوز صرف الزكاة إلى طلبة العلم بشكل عام والمبدعون منهم على وجه الخصوص. ?????(8/31)
32 - صدقة الفطر
يقول السائل: ما هو الأساس الذي يبنى عليه تقدير قيمة صدقة الفطر؟
الجواب: صدقة الفطر واجبة كما هو معلوم فقد ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى والحر والعبد والكبير والصغير من المسلمين) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: [كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من إقط أو من زبيب] رواه البخاري ومسلم. وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على وجوب صدقة الفطر. وقد أجاز جماعة من أهل العلم إخراج القيمة في صدقة الفطر وقد نقل هذا القول عن جماعة من الصحابة والتابعين منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وبه العمل وعليه الفتوى عند الحنفية وهو أرجح أقوال أهل العلم في المسألة كما سبق وأن بينت ذلك مفصلاً في موضع آخر. وتقدير القيمة يكون بناء على قيمة الأصناف المذكورة في الحديث ولكن ينبغي أن يعلم أن هذه الأصناف التي ذكرت في الحديث ليست على سبيل التعيين وإنما لأنها كانت غالب قوت الناس في المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كنا نخرجها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام وكان طعامنا يومئذ التمر والزبيب والشعير) . [فقوله من طعام فيه إشارة إلى العلة وهي أنها طعام يؤكل ويطعم ويرجح هذا ويقويه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكن يقويه حديث ان عباس رضي الله عنه: (فرضها -أي زكاة الفطر - طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين) وعلى هذا فإن لم تكن هذه الأشياء من القوت كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها لا تجزئ] . الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/180-181. لذلك ينبغي أن يكون تقدير القيمة على حسب غالب قوت البلد من الطعام وإن لم يكن مذكوراً في الحديث فمن المعلوم أن بعض البلاد يقتاتون غالباً على الأرز فتخرج صدقة الفطر من الأرز أو قيمة الأرز قال الحطاب المالكي: [فذكر أنها تؤدى من أغلب القوت يعني أغلب قوت البلد الذي يكون فيه المخرج لها إذا كان ذلك الأغلب من المعشرات - ما تجب فيه الزكاة - أو من الإقط … فإن إقتات أهل بلد غير المعشرات أخرجت زكاة الفطر مما يتاتونه … وأنها تؤدى من أغلب القوت من هذه الأصناف التسعة التي هي: القمح والشعير والسلت والتمر والزبيب والإقط والدخن والذرة والأرز فإن كان غالب القوت في بلد خلاف هذه الأصناف التسعة من علس أو قطنية أو غير ذلك وشيء من هذه الأصناف موجود لم تخرج إلا من الأصناف التسعة فإن كان أهل بلد ليس عندهم شيء من الأصناف التسعة وإنما يقتاتون في غيره فيجوز أن تؤدى حينئذ من عيشهم ولو كان من غير الأصناف التسعة قال في المدونة: قال ماللك: وتؤدى زكاة الفطر من القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والتمر والزبيب والإقط صاع من كل صنف منها ويخرج ذلك أهل كل بلد من جل عيشهم من ذلك والتمر عيش أهل المدينة ولا يخرج أهل مصر إلا القمح لأنه جل عيشهم إلا أن يغلو سعرهم فيكون عيشهم الشعير فيجزئهم] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 3/260 -261. وقال القرافي: [يخرج أهل كل بلد من غالب عيشهم ذلك الوقت وفي الجواهر قال أشهب: من عيشه هو وعيش عياله إذا لم يشح على نفسه وعليهم لنا: قوله عليه السلام: (أغنوهم عن سؤال هذا اليوم) والمطلوب لهم غالب عيش البلد وقياساً على الغنم المأخوذ في الإبل قال سند: إن عدل عن غالب عيش البلد أو عيشه إلى ما هو أعلا أجزأ وإلى الأدنى لا يجزئ عند مالك … وقال ابن حبيب: إن كان يأكل من أفضل القمح والشعير والسلت فأخرج الأدنى أجزأ وكان ابن عمر رضي الله عنه يخرج التمر والشعير والسلت ويأكل البر واحتجوا بأن الخبر ورد بصيغة التخيير فيخير. جوابهم: أن أو فيه ليست للتخيير بل للتنويع ومعناه إن كان غالب العيش كذا فأخرجوه أو كذا فأخرجوه فهو تنويع للحال كما قال فيه حراً أو عبداً ذكراً أو أنثى ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم) ] الذخيرة 3/169. وقال الخطيب الشربيني: [ويجب الصاع من غالب قوت بلده إن كان بلدياً وفي غيره من غالب قوت محله لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي وقيل من غالب قوته على الخصوص وقيل يتخير بين جميع الأقوات فأو فى الخبرين السابقين على الأولين للتنويع وعلى الثالث للتخيير والمعتبر في غالب القوت غالب قوت السنة كما في المجموع لا غالب قوت وقت الوجوب خلافاً للغزالي في وسيطه] مغني المحتاج 2/117-118. وبناء على ما تقدم يظهر لنا أن الأصناف المذكورة في أحاديث صدقة الفطر ليست على التعيين وإنما من باب التمثيل لأنها كانت غالب قوت أهل المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن تقدير قيمة صدقة الفطر يكون على هذا الأساس وعليه فإن تقدير القيمة في بلادنا يكون على أساس القمح والطحين والأرز والخبز لأن هذه الأصناف هي غالب قوت أهل بلدنا فيؤخذ متوسط أسعار هذه المواد فيكون هو مقدار قيمة صدقة الفطر وقد جربت ذلك بنفسي اليوم فوجدت أن قيمة صدقة الفطر ستة شواكل تقريباً أو دينار أردني إذا تقرر هذا فإنه لا يصح الادعاء بأن تقدير صدقة الفطر بالمبلغ المذكور سابقاً (ستة شواكل) غير صحيح وأن الصواب أنه ثلاثة أضعافه لأن قائل هذا القول زعم أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار ثمن صاع التمر وصاع الإقط عند تقدير قيمة صدقة الفطر. فهذا الكلام مردود لأن التمر والإقط لا يعتبران قوتاً غالباً في بلادنا فلذلك لا يدخلان في تقدير قيمة صدقة الفطر وتقديرها بستة شواكل هو الصحيح وهذا هو الحد الأدنى لصدقة الفطر فإن رغب أحد في أن يدفع أكثر من ذلك فلا حرج عليه بل هو زيادة في الخيرات. كما قال الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) سورة البقرة 184. ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً - أي لجمع الزكاة - فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض فقلت له أدّ ابنة مخاض فإنها صدقتك فقال ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها فقلت له ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت عليَّ فافعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته قال فإني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض عليَّ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال له: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما عليَّ فيه ابنة مخاض وذلك ما لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى عليَّ وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك) . قال: فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة.) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن أبي داود 1/298.(8/32)
33 - صدقة الفطر
يقول السائل: ما حكم إخراج النقود في صدقة الفطر؟ وما هو وقتها؟ وهل يجوز تعجيلها؟ ولمن تعطى؟
الجواب: صدقة الفطر أو زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد ثبتت بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: حديث ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد الحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيهما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء - أي القمح الشامي - قال: أرى مداً من هذه يعدل مدين) رواه البخاري. وجمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يرون وجوب إخراج الأعيان في صدقة الفطر كالتمر والشعير والزبيب أو من غالب قوت الناس ولا يجيزون إخراج القيمة أي إخراج النقود. ومذهب الحنفية جواز إخراج القيمة ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا هو القول الراجح إن شاء الله لما يلي: أولاً: إن الأصل في الصدقة المال لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) . والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة وأطلق على ما يقتنى من الأعيان مجازاً وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج لا لتقييد الواجب وحصر المقصود. ثانياً: إن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج. وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر الأثر عن معاذ ونصه (وقال طاووس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة) واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ بن حجر في فتح الباري 4/54. ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته. ثالثاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة فجعل من التمر والشعير صاعاً ومن البر نصف صاع وذلك لكونه أكثر ثمناً في عصره فدل على أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر القيمة. ورواية نصف الصاع من البر ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة ولا يسلم ضعفها كما قال بعض المحدثين. رابعاً: إن المقصود من صدقة الفطر إغناء الفقراء وسد حاجتهم وهذا المقصود يتحقق بالنقود أكثر من تحققه بالأعيان وخاصة في زماننا هذا لأن نفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأسرته ومن المشاهد في بعض بلاد المسلمين أن الفقراء يبيعون الأعيان (القمح والأرز) إلى التجار بأبخس الأثمان نظراً لحاجتهم إلى النقود. خامساً: قال الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض زكاة الفطر من الأطعمة السائدة في بيئته وعصره إنما اراد بذلك التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم فقد كانت النقود الفضية أو الذهبية عزيزة عند العرب وأكثر الناس لا يكاد يوجد عنده منها إلا القليل أو لا يوجد عنده منها شيء وكان الفقراء والمساكين في حاجة إلى الطعام من البر أو التمر أو الزبيب أو الإقط، لهذا كان إخراج الطعام أيسر على المعطي وأنفع للآخذ ولقصد التيسير أجاز لأصحاب الإبل والغنم أن يخرجوا (الإقط) وهو اللبن المجفف المنزوع زبده فكل إنسان يخرج من الميسور لديه. ثم إن القدرة الشرائية للنقود تتغير من زمن لآخر ومن بلد لآخر ومن مال لآخر فلو قدر الواجب في زكاة الفطر بالنقود لكان قابلاً للارتفاع والانخفاض حسب قدرة النقود على حين يمثل الصاع من الطعام إشباع حاجة بشرية محددة لا تختلف فإذا جعل الصاع هو الأصل في التقدير فإن هذا أقرب إلى العدل وأبعد عن التقلب ". وهناك أدلة أخرى كثيرة تدل على رجحان مذهب الحنفية القائلين بجواز إخراج القيمة في صدقة الفطر ومن اراد الاستزادة فليراجع كتاب الإمام المحدث أحمد بن محمد الغماري بعنوان (تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال) . وأما بقية الأسئلة فنقول في الجواب عنها: إن وقت وجوب صدقة الفطر هو غروب شمس آخر يوم من رمضان عند الجمهور وطلوع فجر يوم العيد عند الحنفية. هذا وقوت الوجوب وقد اجازوا تقديمها عن وقت الوجوب وهو الأصلح والأنفع للفقراء فعند الحنفية يجوز تعجيلها من أول العام وعند الشافعية يجوز تعجيلها من أول شهر رمضان وعند المالكية والحنابلة يجوز تقديمها بيوم أو يومين لقول ابن عمر: (كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري. وهذا قول حسن وثبت من فعل جماعة من الصحابة تعجيلها بيوم أو يومين أو ثلاثة حتى يتمكن الفقير من شراء ما يلزمه قبل يوم العيد. وتصرف صدقة الفطر للفقراء والمساكين والمحتاجين فقط ولا تصرف في مصارف الزكاة الثمانية على الراجح من أقوال أهل العلم.(8/33)
34 - زكاة أموال التجارة
يقول السائل: كيف يزكي التجار تجارتهم؟
الجواب: إذا حلَّ الشهر الذي يؤدي التاجر فيه زكاة أمواله فإنه يقوم بحصر أمواله من التجارة والتي تشمل البضائع الموجودة لديه والتي لم تبع بعد ذلك وكذلك أمواله السائلة وماله من ديون الناس إذا كانت مضمونة فيقوِّم البضائع الموجودة لديه بسعرها الحاضر ويضم إلى ذلك أرباحه ومدخراته وديونه المضمونة الأداء ويخصم ما عليه من دين إن كان هناك دين ثم يخرج زكاة الباقي بنسبة 2,5% أي ربع العشر. وينبغي التنبيه على أن الأجهزة والمعدات لا تدخل في الزكاة مثلاً إذا كانت لديه ثلاجات أو خزائن أو مبنى أو سيارة لخدمة المحل أو نحو ذلك فلا تحسب من ضمن مال الزكاة وإنما الزكاة على الأموال السائلة وهي الأموال المعدة للبيع لما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يعد للبيع) ، رواه أبو داود والدارقطني واختلف في سنده وحسنه ابن عبد البر. كما وأن تقويم البضائع والسلع يكون بناءً على سعرها الحالي الذي تباع به وقت التقويم وهذا قول أكثر الفقهاء. ويجوز للتاجر أن يخرج زكاة تجارته من أعيان تلك التجارة كتاجر المواد الغذائية فيجوز له أن يخرجها مما عنده من أرزٍ أو طحينٍ أو سكر وغيرها، ويجوز له أيضاً أن يخرج القيمة مما وجب عليه نقداً.(8/34)
35 - زكاة الزروع والثمار
يقول السائل: كيف تخرج زكاة الزيتون؟ وإذا عصر الزيتون فهل تخرج من الزيت؟ وما هو النصاب الشرعي في ذلك؟ وهل يجوز إخراج النقود بدلاً من الزيت والزيتون؟
الجواب: قال أكثر أهل العلم بوجوب الزكاة في الزيتون إذا تحققت شروط وجوب الزكاة فيه وهذا القول هو الراجح إن شاء الله وهو الذي تؤيده عمومات الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشهد له حكمة الشريعة الإسلامية وعدلها وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنه وعن الزهري والأوزاعي والليث الثوري والحنفية في القول المعتمد عندهم والمالكية وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو قول الشافعي في القديم. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) الأنعام الآية 141. وورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان بعلاً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) ، رواه البخاري وأصحاب السنن. فإذا قطف المزارع الزيتون وبلغ نصاباً وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسةٍ أو سق صدقة) ، متفقٌ عليه، والخمسة أوسق تساوي في زماننا هذا (653) كيلو غرام على وجه التقريب فتجب الزكاة فيه ومقدار الواجب هو العشر أي (10%) إذا كان يسقى بماء السماء كما هو الواقع بالنسبة لمعظم أشجار الزيتون في بلادنا حيث يعتمد المزارعون في سقيها على الأمطار. وأما إذا كانت تسقى بعض السنة بوسائل الري المعروفة الآن فيكون مقدار الواجب هو نصف العشر أي (5%) ، وأما إّذا كانت تسقى بعض السنة بماء المطر وبعضها الآخر بوسائل الري المعروفة ففيها ثلاثة أرباع العشر (7. 5%) . ويجوز للمزارع أن يخرج المقدار الواجب من زكاة الزيتون حباً إن أراد أو زيتا ً. وينبغي أن يكون ما يخرجه هو الأنفع للفقراء والمحتاجين والأيسر على المزارعين والمعروف اليوم أن كثيراً من المزارعين يعصرون الزيتون فيخرجون من الزيت المقدار الواجب بعد أن يكون الحب قد بلغ نصاباً كما ذكرت. ويجوز للمزارع أن يدفع قيمة المقدار الواجب من الزكاة نقداً ولا بأس في ذلك كما هو مذهب الحنفية والقول المهور عند المالكية وهو رواية في مذهب الحنابلة ومنقول ٌ عن الثوري وعمر بن عبد العزيز من فقهاء السلف. وقد يكون إخراج القيمة أنفع للفقراء والمحتاجين من إخراج الأعيان. ويجب على المزارع ألا يبخس المستحقين للزكاة حقهم فيقدر القيمة بما عليه السعر في السوق يوم إخراج الزكاة. وكما وأن على المزارع أن يبادر إلى إخراج الزكاة بمجرد انتهائه من قطف الزيتون حباً أو عصره زيتاً.(8/35)
36 - مصارف الزكاة
تقول السائلة: هل يجوز للزوجة أن تصرف زكاة أموالها لزوجها الفقير؟
الجواب: نعم يجوز للزوجة أن تدفع زكاة مالها لزوجها الفقير وهذا قول جمهور أهل العلم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فسأله، فإن كان ذلك يجزيء عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزيء الصدقة عنهما على زوجيهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن. قالت: فدخل بلال فسأله قال له: من هما؟ فقال امرأة من الأنصار وزينب. فقال: أي الزيانب؟ فقال: زينب امرأة عبد الله. فقال: لهما أجران: أجر القرابة واجر الصدقة) متفق عليه.(8/36)
37 - مصارف الزكاة
يقول السائل: إنه يعمل في إحدى لجان الزكاة وإن كثيراً من الناس يراجعون لجنة الزكاة طالبين الأخذ من مال الزكاة وبعد دراسة أحوالهم يتبين أن بعضهم غير مستحقين للزكاة لأن لهم رواتب تكفيهم بل تزيد فما حكم أخذ هؤلاء من أموال الزكاة؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60.
وقد أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا تصرف إلا في المصارف الثمانية المذكورة في الآية الكريمة ولا حق لأحد من الناس فيها سواهم ولهذا قال عمر بن الخطاب: [هذه لهؤلاء] .
وقد روي في الحديث عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته - وذكر حديثاً طويلاً - فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت في تلك الأجزاء أعطيتك حقك) رواه أبو داود والبيهقي والدارقطني وفي سنده ضعف.
وقد طعن بعض الناس في تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم للزكاة وكانوا طامعين فيها مع أنهم ليسوا من أهلها فنعى الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَاءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآيات 58-60.
إذا تقرر هذا فإن العلماء قد بينوا أصناف الذين لا يستحقون الزكاة ولا يجوز صرفها لهم وهم على وجه الإجمال: الأغنياء والأقوياء المتكسبون والمتفرغون للعبادة وأصول المزكي وفروعه وزوجته وآل النبي صلى الله عليه وسلم والكفار والملاحدة هذا بشكل عام وهناك غيرهم اختلف الفقهاء في إعطائهم وسأقتصر هنا على الحديث على القسمين الأولين ولعلي أفصل الكلام على بقيتهم في حلقات قادمة إن شاء الله.
أما الأغنياء فلا تحل لهم الزكاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لمعاذ رضي الله عنه في الحديث: (أعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح صححه الألباني وغيره انظر صحيح سنن أبي داود 1/308.
وعن عبيد الله بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن الصدقة فصعد فيهما وصوب فقال: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب) رواه أبو داوود والنسائي وهو حديث صحيح صححه الألباني وغيره. انظر صحيح سنن أبي داود 1/307.
والغني الذي لا تحل له الزكاة هو من ملك نصاباً زائداً عن حاجته الأصلية وتحققت فيه شروط وجوب الزكاة وهذا أرجح أقوال العلماء في حد الغنى المانع لأخذ الزكاة حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء ومن ملك نصاباً وتحققت فيه الشروط الشرعية لوجوب الزكاة فعليه أداؤها فهو غني وغير فقير قال القرطبي عند ذكر اختلاف العلماء في حد الفقر: [وقال أبو حنيفة: من معه عشرون ديناراً أو مئتا درهم فلا يأخذ من الزكاة، فاعتبر النصاب لقوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم) وهذا واضح ورواه المغيرة عن مالك] تفسير القرطبي 8/171-172.
وأما القوي المكتسب فلا تحل له الزكاة والقوي المكتسب هو من كان صحيحاً في بدنه ويجد عملاً يكتسب منه ما يسد حاجته فهذا لا يعطى من الزكاة لأن الواجب عليه أن يعمل ويكسب ليكفي نفسه وعياله ولا يجوز أن يكون عاطلاً عن العمل باختياره ويمد يده ليأخذ من أموال الزكاة وهذا مذهب جمهور أهل العلم. انظر المجموع 6/228.
وعلى ذلك دلت الأدلة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) وهذا الحديث وإن كان قد ورد في ذو المرة السوي مطلقاً إلا أنه مقيد بالحديث الآخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب) وهو حديث صحيح كما سبق. قال الإمام النووي: [من يكسب كل يوم كفايته لا يجوز له أخذ الزكاة] روضة الطالبين 2/310.
وقال الإمام البغوي بعد أن ذكر الحديث: [فيه دليل على أن القوي المكتسب الذي يغنيه كسبه لا يحل له الزكاة ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر القوة دون أن يضم إليه الكسب لأن الرجل قد يكون ظاهر القوة غير أنه أخرق لا كسب له فتحل له الزكاة وإذا رأى الإمام السائل جلداً قوياً شك في أمره وأنذره وأخبره بالأمر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن زعم أنه لا كسب له أو له عيال لا يقوم كسبه بكفايتهم قبل منه وأعطاه] شرح السنة 6/81-82.
فإذا لم يجد الكسوب عملاً حلت له الزكاة قال الإمام النووي: [قال أصحابنا وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة] . المجموع 6/191.
وقال الشيخ القرضاوي: [والخلاصة أن القادر على الكسب الذي يحرم عليه الزكاة هو الذي تتوافر فيه الشروط التالية:
1. أن يجد العلم الذي يكتسب منه.
2. أن يكون هذا العلم حلالاً شرعاً فإن العمل المحظور في الشرع بمنزلة المعدوم.
3. أن يقدر عليه من غير مشقة شديدة فوق المحتمل عادةً.
4. أن يكون ملائمأً لمثله ولائقاً بحاله ومركزه ومروؤته ومنزلته الإجتماعية.
5. أن يكتسب منه قدر ما تتم به كفايته وكفاية من يعولهم.
ومعنى هذا أن كل قادر على الكسب مطلوب منه شرعاً أن يكفي نفسه بنفسه وأن المجتمع بعامة - وولي الأمر بخاصة - مطلوب منه أن يعينه على هذا الأمر الذي هو حق له وواجب عليه. فمن كان عاجزاً عن الكسب - لضعف ذاتي كالصغر والعته والشيخوخة والعاهة والمرض أو كان قادراً ولم يجد باباً حلالاً للكسب يليق بمثله أو وجد ولكن كان دخله من كسبه لا يكفيه وعائلته أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها - فقد حل له الأخذ من الزكاة ولا حرج عليه في دين الله] فقه الزكاة 2/559-560.(8/37)
38 - اشتراط الحول في الزكاة
يقول السائل: إنه قرأ في كتاب فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي أنه لم يثبت حديث صحيح في اشتراط الحول في الزكاة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: من المعروف عند أهل العلم أن أهم مصدر في المكتبة الإسلامية المعاصرة في موضوع الزكاة هو كتاب فقه الزكاة للدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي فقيه العصر والأوان بلا منازع حيث إنه بحث الزكاة بتوسع وعمق يشكر عليه. وقد تعرض لمسألة اشتراط الحول في الزكاة في موضعين من كتابه ففي الموضع الأول ذكر حولان الحول ضمن شروط المال الذي تجب فيه الزكاة فقد ذكر أنه يشترط فيه ما يلي:
1. الملك التام.
2. النماء.
3. بلوغ النصاب.
4. الفضل عن الحوائج الأصلية.
5. السلامة من الدين.
6. حولان الحول.
فقال: [ومعناه: أن يمر على الملك في ملك المالك اثنا عشر شهراً عربياً وهذا الشرط إنما هو بالنسبة للأنعام والنقود والسلع التجارية (وهو ما يدخل تحت اسم زكاة رأس المال) أما الزروع والثمار والعسل والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها فلا يشترط لها حول وهو ما يمكن أن يدخل تحت اسم " زكاة المدخل "] فقه الزكاة 1/161.
ثم نقل الشيخ القرضاوي كلام بعض أهل العلم في اشتراط الحول وخلاف بعض العلماء في عدم اشتراط الحول ثم قال: [وقد ذكر ابن رشد في سبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت، ثم عقب الشيخ القرضاوي على ذلك بقوله: وهو توجيه صيح كما سنبينه في موضعه إن شاء الله] فقه الزكاة 1/163.
وقد وفى الشيخ القرضاوي بما وعد فقد فصل الكلام على الأحاديث الواردة في اشتراط الحول فقال: [روي اشتراط الحول عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أربعة من الصحابة هم علي وابن عمر وأنس وعائشة رضي الله عنهم ولكن هذه الأحاديث كلها ضعيفة لا تصلح للحجة] فقه الزكاة 1/492.
ثم فصل الكلام على الأحاديث الأربعة من حيث السند.
وبعد كلام طويل عن الأحاديث السابقة قال العلامة القرضاوي حفظه الله ورعاه: [وبهذا البيان يتضح لنا أنه ليس في اشتراط الحول حديث ثابت مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم] فقه الزكاة 1/497.
ثم قال في موضع آخر: [إن اشتراط الحول في كل مال - حتى المستفاد منه - ليس فيه نص في مرتبة الصحيح أو الحسن الذي يؤخذ منه حكم شرعي عام للأمة وتقيد به النصوص المطلقة وهذا ما صرح به علماء الحديث وإنما صح ذلك من قول بعض الصحابة كما ذكرنا] فقه الزكاة 1/505.
هذا مختصر كلام العلامة القرضاوي في المسألة وقد اعتمد فيما ذهب إليه على كلام بعض أهل الحديث في الحكم على الأحاديث الواردة في اشتراط الحول وأنها ضعيفة لا تصلح للحجة ولكنني أخالفه فيما ذهب وأرى أن ما ذهب إليه الشيخ القرضاوي من عدم اشتراط الحول في الزكاة هو قول ضعيف ومخالف لما عليه جماهير الصحابة وأئمة الفتوى من الفقهاء، انظر المجموع 5/361، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/14.
وقد وقفت بعد البحث والتقصي على كلام لبعض أهل العلم يقوى الأحاديث التي اشترطت الحول في الزكاة فأقول وبالله التوفيق:
إن كلام العلامة ابن رشد الذي ساقه الشيخ القرضاوي وصوبه فيه إثبات قوي لاشتراط الحول وإليك نص كلام ابن رشد: [وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم ولانتشار العمل به ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعاً من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت] بداية المجتهد 5/78-79.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وأما الذهب والورق فلا تجب الزكاة في شيء منها إلا بعد تمام الحول أيضاً وعلى هذا جمهور العلماء والخلاف فيه شذوذ ولا أعلمه إلا شيء روي عن ابن عباس ومعاوية أنهما قالا: من ملك النصاب من الذهب والورق وجبت عليه الزكاة في الوقت. وهذا قول لم يعرج عليه أحد من العلماء ولا قال به أحد من أئمة الصحابة ولا قال به أحد من أئمة الفتوى إلا رواية عن الأوزاعي …] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 5/20.
وذكر الحافظ ابن عبد البر أن القول باشتراط الحول في الزكاة عليه جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً لا يختلفون فيه أنه لا يجب في مال من العين ولا في ماشية زكاة حتى يحول عليه الحول إلا ما روي عن ابن عباس وعن معاوية أيضاً … ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بقول معاوية وابن عباس في اطراح مرور الحول إلا مسألة جاءت عن الأوزاعي …
وعقب الحافظ ابن عبد البر بقوله: [هذا قول ضعيف متناقض] انظر الاستذكار 9/32-33.
إن القول باشتراط الحول في الزكاة قال به الأئمة الأربعة وثبت ذلك عن الخلفاء الأربعة وهو قول مشهور بين الصحابة وعملوا به وهذا الانتشار لا يجوز إلا أن يكون عن توقيف كما قال العلامة ابن رشد. بداية المجتهد 5/78.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام مؤيداً اشتراط الحول: [فقد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا] كتاب الأموال ص 505.
إذا ثبت هذا فنعود إلى أقوال المحدثين في الأحاديث الواردة في اشتراط الحول وهي عدة أحاديث، منها حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول] رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي والدارقطني وغيرهم.
وقد ورد بهذا اللفظ ونحوه عن جماعة من الصحابة منهم علي وعائشة وأنس وأم سعد الأنصارية وسراء بنت نبهان رضي الله عنهم.
وهذه الأحاديث فيها كلام طويل لأهل الحديث لا يتسع المقام لإيراده وهذه الأحاديث حكم عليها بعض أهل الحديث بالضعف كما فصله الشيخ القرضاوي في كتابه إلا أن جماعة أخرى من أهل الحديث يرون أن هذه الأحاديث تصلح للاستدلال بمجموع طرقها بل إن بعض طرقها صحيح أو حسن.
قال الشيخ أحمد الغماري بعد أن تكلم على أسانيد هذه الأحاديث: [… إلا أن مجموع هذه الأحاديث مع حديث علي الذي هو حسن يصل إلى درجة المعمول به لا سيما مع تواتر ذلك عن الصحابة كما قال أبو عبيد في الأموال: قد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا ثم أسند ذلك عن علي وابن عمر وأبي بكر وعثمان وابن مسعود وطارق بن شهاب وفي مصنف ابن أبي شيبة زيادة أبي بكرة وعائشة وبعض ذلك في الموطأ كأثر ابن عمر وعثمان} الهداية في تخريج أحاديث البداية 5/84-86
وحديث علي الذي أشار إليه الشيخ الغماري هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا من الرقة ربع العشر من كل مئتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين ديناراً نصف دينار وليس في مئتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول ففيها خمسة دراهم … الخ] رواه
أبو داود والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/296.
وكذلك فإن الشيخ الألباني صحح حديث ابن عمر المذكور بمجوع طرقه وذكر أن حديث علي السبق يقويه فقال: [ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى بسند صحيح عن علي رضي الله عنه خرجته في صحيح أبي داود فصح الحديث والحمد لله] إرواء الغليل 3/258.
وقال الإمام الزيلعي عن حديث علي المذكور: [… فالحديث حسن … قال النووي رحمه الله في الخلاصة وهو حديث صحيح أو حسن] نصب الراية 2/328.
وقال الحافظ ابن حجر: [… حديث علي لا بأس بإسناده والآثار تعضده فيصلح للحجة والله أعلم] التلخيص الحبير 2/156. وقال الحافظ أيضاً: إنه حديث حسن. بلوغ المرام ص 121.
كما أن الحافظ العراقي قد جود إسناد حديث علي كما في إتحاف السادة المتقين 4/16.
وقال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في اشتراط الحول: [ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة في اعتبار الحول] السيل الجرار 2/13.
وأما ما نقله العلامة القرضاوي عن الشيخ ابن حزم من تضعيفه لحديث علي المذكور فقد رجع ابن حزم عن كلامه هذا في كتابه المحلى فقال في آخر المسألة: [ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير ابن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه … الخ كلامه] تهذيب السنن 8/312.
وبعد هذا العرض الموجز لأقوال العلماء يظهر لي أن اشتراط الحول في الزكاة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول وما كان أكثر الصحابة رضي الله عنهم ليقولوا بهذا القول لولا وقوفهم فيه على شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أن هذا الشرط متعلق بعبادة من العبادات والأصل في العبادات التوقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فما ورد عن الصحابة في هذا الشرط له حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد في ذلك. انظر سبل السلام 2/263.(8/38)
39 - التهرب من أداء الزكاة
يقول السائل: ما حكم ما يفعله بعض الناس من التهرب من أداء الزكاة بطرق ملتوية كمن لديه مال أوشك أن يحول عليه الحول فيقوم بشراء عمارة وهو ليس بحاجة لها حتى لا يزكي ماله ثم بعد مدة وجيزة يقوم ببيعها ليستأنف حولاً جديداً؟
الجواب: صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فالله سبحانه وتعالى مطلع على النوايا ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فالمسلم يجب أن يلتزم بما أمر الله سبحانه وتعالى به والزكاة من جملة فرائض الله سبحانه وتعالى فعلى من وجبت عليه الزكاة أن يلتزم بإخراجها وأن يضعها في مصارفها الشرعية ولا يجوز لأحد أن يحتال لإسقاط الزكاة ويحرم الفرار من الزكاة وهذا مذهب جماهير أهل العلم وقالوا إن من حاول الفرار من الزكاة فإنها تؤخذ منه ويعامل على خلاف قصده كما في قصة أصحاب الجنة التي قصها الله علينا قال الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) سورة القلم 17-32.
فأصحاب البستان عزموا على حرمان المساكين من الصدقة فعاقبهم الله سبحانه وتعالى بخلاف قصدهم، قال العلامة ابن كثير: [هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ولهذا قال تعالى (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ) أي اختبرناهم (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) أي فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلاً لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء (وَلَا يَسْتَثْنُونَ) أي فيما حلفوا به، ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فقال تعالى (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) أي أصابتها آفة سماوية (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) ] .
ثم قال ابن كثير أيضاً: [قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير: كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء، وقيل كانوا من أهل الحبشة وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج إليه ويدخر لعياله قوت سنتهم ويتصدق بالفاضل فلما مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء ولو أنا منعناهم لنوفر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شيء قال الله تعالى (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) أي هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما أتاه الله وأنعم عليه ومنع حق المساكين والفقير وذوي الحاجات وبدل نعمة الله كفراً (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق] تفسير ابن كثير 4/406-407.
ومما يدل على تحريم الفرار من الزكاة ما ورد عن أنس رضي الله عنه: (أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) رواه البخاري.
وقد ذكر الإمام البخاري هذا الحديث في صحيحه في كتاب الحيل باب الزكاة أي ترك الحيل في الزكاة لإسقاطها. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 15/363.
قال الحافظ ابن حجر: [قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة وللساعي من جهة فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة. فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل والساعي يخشى أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر، فمعنى قوله (خشية الصدقة) أي خشية أن تكثر الصدقة أو خشية أن تقل الصدقة فلما كان محتملاً للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر فحمل عليهما معا. لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر والله أعلم] فتح الباري 4/56.
وقال العلامة ابن القيم: [ويدل على تحريم الحيل الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيلاً على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها] إعلام الموقعين 3/172.
وذكر الخرقي في مختصره مسألة الفرار من الزكاة فقال: [من كانت عنده ماشية فباعها قبل الحول بدراهم فراراً من الزكاة لم تسقط الزكاة عنه] .
وقد فصل الشيخ ابن قدامة المقدسي المسألة بقوله: [قد ذكرنا أن إبدال النصاب بغير جنسه يقطع الحول ويستأنف حولاً آخر فإن فعل هذا فراراً من الزكاة لم تسقط عنه سواء أكان المُبدل ماشية أو غيرها من النصب. وكذا لو أتلف جزءاً من النصاب قصداً للتنقيص لتسقط عنه الزكاة، لم تسقط وتؤخذ الزكاة منه في آخر الحول إذا كان إبداله أو إتلافه عند قرب الوجوب ولو فعل ذلك في أول الحول لم تجب الزكاة. لأن ذلك ليس بمظنة للفرار، وبما ذكرناه قال مالك والأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق وأبو عبيد....
ولنا: قول الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) فعاقبهم الله تعالى بذلك لفرارهم من الصدقة ولأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه، فلم يسقط كما لو طلّق امرأته في مرض موته، ولأنه لمّا قصد قصداً فاسداً اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده كمن قتل موثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان وإذا أتلفه لحاجته لم يقصد قصداً فاسداً] المغني 2/504.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يفر من أداء الزكاة بأي وسيلة كانت لأن ذلك من الحيل المحرمة في الشرع وقد نعى الله سبحانه وتعالى تحيل اليهود لانتهاك المحرمات فقال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) سورة الأعراف الآية 163.
ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (لا ترتكبوا ما ارتكبت يهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة ويحسنه تارة] إبطال الحيل ص 112.
وقال الشيخ الألباني: [وحسن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير] صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 33.
وبناءً على كل ماسبق يجب على هذا الشخص أن يؤدي الزكاة التي وجبت عليه وهي باقية في ذمته إلى أن يؤديها ولا تسقط عنه بما فعل من الحيلة.(8/39)
40 - زكاة الزروع والثمار
يقول السائل: إنه اتفق مع شخص يملك أشجار زيتون على أن يقوم بقطف الزيتون على أن يكون له ربع المحصول فعلى من تكون الزكاة؟
الجواب: هذه المعاملة تعتبر إجارة والأجرة بعض المعمول بعد العمل كما وسبق أن بينت ذلك في حلقة سابقة وهذا الأجير لا زكاة عليه فيما يحصل عليه من المحصول. وإنما الزكاة على مالك الشجر فهو الذي يزكي المحصول.
ولكن أهل العلم اختلفوا هل يزكي جميع المحصول قبل خصم أجرة من قام بالقطف؟ أم أنه يزكي المحصول بعد خصم حصة الأجير؟
اتجاهان لأهل العلم فمنهم من يرى أن المزارع يخصم النفقات التي تحملها في الإنفاق على زرعه ويدخل في ذلك ما أنفقه على الحراثة والتسميد وأجرة العمال والحصادين فيخصم قبل إخراج الزكاة، باستثناء نفقات الري التي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العشر إلى نصفه وهذا ما اختاره العلامة القرضاوي في فقه الزكاة وهو الذي أرجّحه وأختاره. انظر فقه الزكاة 1/396-397.
قال الإمام أحمد: [من استدان ما أنفق على زرعه واستدان ما أنفق على أهله - عياله - احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله] وعلل الحنابلة ذلك بأنه من مئونة الزرع كما بينه الشيخ ابن قدامة في المغني 3/30.
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قال في الرجل ينفق على ثمرته، فقال: يرفع النفقة ويزكي ما بقي) وعن عطاء قال: [إنه يسقط مما أصاب النفقة فإن بقي مقدار لزكاة زكى وإلا فلا] المحلى 4/66.
وروى يحيى بن آدم عن وكيع عن إسماعيل بن عبد الملك قال: [قلت لعطاء: الأرض أزرعها؟ قال فقال: ارفع نفقتك وزك ما بقي] الخراج ص 152.
وروى يحيى بن آدم بإسناده عن ابن عباس وابن عمر في الرجل: [يستقرض فينفق على ثمرته وأهله قال: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض فيقضيه ويزكي ما بقي. قال: وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة ثم يزكي ما بقي] .
قال الشيخ أحمد محمد شاكر يرحمه الله: هذا إسناد صحيح. كتاب الخراج ص 153.
وروى يحيى بن آدم أيضاً عن الثوري، قال: [فيما أخرجت الأرض الخراج قال: ارفع دينك وخراجك فإن بلغ خمسة أوسق بعد ذلك فزكها] الخراج ص 153.
قال القرطبي: [قال مالك وما استهلكه منه ربه - أي صاحب الثمر - بعد بدو صلاحه أو بعدما أفرك حسب عليه. وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه ومن الزيتون في التقاطه تحرى ذلك وحسب عليه. وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس] تفسير القرطبي 7/108.
وقال العلامة الشيخ القرضاوي: [والذي يلوح أن الشارع حكم بتفاوت الواجب في الخارج بناء على تفاوت المشقة والجهد المبذول في سقي الأرض فقد كان ذلك أبرز ما تتفاوت به الأراضي الزراعية أما النفقات الأخرى فلم يأت نص باعتبارها ولا بإلغائها ولكن الأشبه بروح الشريعة إسقاط الزكاة عما يقابل المؤنة من الخارج والذي يؤيد هذا أمران:
الأول: أن للكلفة والمؤونة تأثيراً في نظر الشارع فقد تقلل مقدار الواجب كما في السقي بآلة جعل الشارع فيه نصف العشر فقط، وقد تمنع الوجوب أصلاً كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب أن تؤثر في إسقاط ما يقابلها من الخارج من الأرض.
الثاني: أن حقيقة النماء هي الزيادة ولا يعد المال زيادة وكسباً إذا كان قد أنفق مثله في الحصول عليه ولهذا قال بعض الفقهاء: إن قدر المؤنة بمنزلة ما سلم له بعوض فكأنه اشتراه وهذا صحيح.
هذا على ألا تحسب في ذلك نفقات الري التي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العشر إلى نصفه.
فمن كانت له أرض أخرجت عشرة قناطير من القطن تساوي مائتي جنيه وقد أنفق عليها - في غير الري - مع الضريبة العقارية مبلغ ستين جنيهاً (أي ما يعادل ثلاثة قناطير) فإنه يخرج الزكاة عن سبعة قناطير فقط، فإذا كانت سقيت سيحاً ففيها العشر أو بآلة فنصف العشر. والله أعلم] فقه الزكاة 1/396-397.
ومما يؤيد هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الخارص - وهو الذي يقدر كمية الثمار التي تجب فيها الزكاة - أن يترك ثلث الثمر أو ربعه لأصحاب الثمر ولا يحسب فيه زكاة فقد جاء في حديث سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) رواه أبو داود وسكت عليه هو والمنذري ورواه الترمذي وابن خزيمة وصححه ورواه ابن حبان وصححه ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وضعفه آخرون.
قال الحاكم: [هذا حديث صحيح الإسناد وله شاهد بإسناد متفق على صحته. عمر بن الخطاب أمر به ثم روى الحاكم بسنده عن سهل بن أبي حثمة: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه إلى خرص التمر وقال: إذا أتيت أرضاً فاخرصها ودع لهم قدر ما يأكلون) المستدرك 2/22-23.
ومعنى ترك الثلث أو الربع على أحد قولي العلماء هو ما قاله الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم ويكون في الثمرة السقاطة وينتابها الطير وتأكل منه المارة فلو استوفى الكل منهم أضر بهم وبهذا قال إسحاق ونحوه قال الليث وأبو عبيد والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده فإن رأى الأكلة كثيراً ترك الثلث وإن كانوا قليلاً ترك الربع. لما روى سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) رواه أبو عبيد وأبو داود والنسائي والترمذي وروى أبو عبيد بإسناده عن مكحول قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال: خففوا على الناس فإن في المال العرية والواطئة والآكلة) قال أبو عبيد: الواطئة: السابلة، سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين، والآكلة: أرباب الثمار وأهلوهم ومن لصق بهم. ومنه حديث سهل في مال سعد بن أبي سعد حين قال: لولا أني وجدت فيه أربعين عريشاً لخرصته تسعمائة وسق. وكانت تلك العرش لهؤلاء الآكلة، والعرية: النخلة أو النخلات يهب إنساناً ثمرتها، فجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس في العرايا صدقة) .
وروى ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه انه قال لسهل بن أبي حثمة: (إذا أتيت على نخل قد حضرها قوم فدع لهم ما يأكلون) والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء فإن لم يترك لهم الخارص شيئاً فلهم الأكل قدر ذلك ولا يحتسب عليهم به، نصّ عليه. لأنه حق لهم] المغني 3/16-17.
وقال الشيخ ابن العربي المالكي: [وكذلك اختلف قول علمائنا هل تحط المؤنة من المال المزكى وحينئذ تجب الزكاة أو تكون مؤنة المال وخدمته حتى يصير حاصلا في حصة رب المال وتؤخذ من الرأس؟ والصحيح أنها محسوبة وأن الباقي هو الذي يؤخذ عشره ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ? دعوا الثلث أو الربع) وهو قدر المؤنة ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب وبما يأكل رطباً ويحتسب المؤنة يتخلص الباقي ثلاثة أرباع أو [ثلثين] والله أعلم. ومن حديث ابن لهيعة وغيره عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ? خففوا في الخص فإن في المال العرية والرطبة والأكل والوصية والعامل والنوائب) . وقد روى سهل بن أبي حثمة ? أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا حثمة خارصا، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن عمك يزعم أنك زدت عليه. فقال: يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعم المساكين وما تسقط الريح. فقال: قد زادك ابن عمك في نصفك) فقال الطحاوي: ترك له واخطأ إنما زاده ما تسقط الريح لأنه يجمعه لنفسه وكان حقه أن يعيده عليه وأما الذي يأكل أهله ومن نزل به أو مرّ عليه فقد تقدم في الحديث أنه لا يعيد عليه في الزكاة. قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: والمتحصل من صحيح النظر أن يترك له قدر الثلث أو الربع كما بيناه في مقابلة المؤنة من واجب فيها ومندوب إليها منه والله أعلم] عارضة الأحوذي 3/116.(8/40)
41 - زكاة الزروع والثمار
زكاة الزيتون على المالك والمتضمن, يقول السائل: إنه قد اتفق مع أحد أصحاب شجر الزيتون على أن يقوم بما يلزم شجر الزيتون من حراثة وتسميد وتقليم وقطاف على أن له نصف المحصول فهل تلزمه الزكاة؟
الجواب: هذا الاتفاق بين صاحب شجر الزيتون والسائل هو عقد مساقاة وهي إعطاء الشجر المثمر لمن يقوم عليه بخدمته من حرث وسقي وتسميد وتقليم ونحو ذلك على أن يكون للعامل نصيب من الثمر. والمساقاة عقد صحيح جائز شرعاً كما هو مذهب أكثر أهل العلم، وقد صح في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر) متفق عليه، ويشترط لصحة عقد المساقاة أن يكون نصيب كل من المتعاقدين نسبة شائعة كالنصف أو الثلث أو الربع فمهما رزق الله من ثمر فهو بينهما على النسبة التي يتفقان عليها.
إذا تقرر هذا فأقول إن الزكاة تكون في هذه الحالة على المتعاقدين جميعاً فكل منهما يزكي حصته إذا بلغت نصاباً وهو خمسة أوسق ويقدر في زماننا بحوالي 653 كيلو غراماً. فإذا قل نصيب أحدهما عن النصاب فلا زكاة حينئذ إلا أن يكون لهما أو لأحدهما أرضاً أخرى تنتج فعندها يكمل النصاب منها
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن زارع رجلاً مزارعة فاسدة فالعشر على من يجب الزرع له وإن كانت صحيحة فعلى كل واحد منهما عشر حصته إن بلغت خمسة أوسق أو كان له من الزرع ما يبلغ بضمه إليها خمسة أوسق وإلا فلا عشر عليه وإن بلغت حصة أحدهما دون صاحبه النصاب فعلى من بلغت حصته النصاب عشرها ولا شيء على الآخر لأن الخلطة لا تؤثر في غير السائمة في الصحيح] المغني 30-31
وينبغي أن يعلم أن هذه المسألة تختلف فيما لو كان الشخص مجرد أجير لقطف الزيتون وأجرته نسبة شائعة من الثمر كالربع أو الثلث فلا زكاة عليه كما بينته في حلقة سابقة.(8/41)
42 - مصارف الزكاة
استيعاب مصارف الزكاة, يقول السائل: إذا قامت لجنة الزكاة بجمع الزكاة فهل المطلوب منها أن توزع الزكاة على جميع المستحقين للزكاة من الأصناف المذكورين في آية مصارف الزكاة؟
الجواب: بين الله سبحانه وتعالى مصارف الزكاة وحصرها في ثمانية مصارف، فقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60. وقد اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا لهذه الأصناف التي ذكرت في الآية الكريمة ولكنهم اختلفوا بعد ذلك هل يجب استيعاب هذه المصارف؟ أم أنه يجوز الصرف لبعض هذه المصارف دون بعض. والذي عليه أكثر أهل العلم أنه لا يجب صرف الزكاة لجميع الأصناف المذكورين في الآية ويجوز صرفها إلى صنف واحد وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة ومنقول عن جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي: [وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه] وجملته أنه يجوز أن يقتصر على صنف واحد من الأصناف الثمانية ويجوز أن يعطيها شخصاً واحداً وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي وعطاء وإليه ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي] المغني 2/498-499.
وقال الإمام النووي: [وقال الحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد له صرفها إلى صنف واحد قال ابن المنذر وغيره وروي هذا عن حذيفة وابن عباس قال أبو حنيفة وله صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف قال مالك ويصرفها إلى أمسهم حاجة وقال إبراهيم النخعي إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف وإلا وجب استيعاب الأصناف] المجموع 6/186.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [باب تفريق الصدقة في الأصناف الثمانية وإعطائها بعضهم دون بعض، ثم روى بإسناده عن حذيفة رضي الله عنه قال: [إذا وضعت الزكاة في صنف واحد من الأصناف الثمانية أجزأك. قال أبو معاوية: قال حجاج وسألت عطاء عن ذلك فقال لا بأس به، قال: حدثنا ... عن سعيد بن جبير وعن عطاء قالا إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك ... وعن ابن عباس أنه قال: إذا وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف فحسبك إنما قال الله تبارك وتعالى: (إِنّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) وكذا وكذا لئلا يجعلها في غير هذه الأصناف ... وعن الحسن قال: إنما الزكاة علم حيث وضعت أجزأت عنك. وقال عكرمة: فرقها في الأصناف.
وعن إبراهيم قال: إذا كان المال ذا مز - أي كثيراً -ففرقه في الأصناف وإذا كان قليلاً فأعطه صنفاً واحداً] الأموال ص 688-689.
وروى البيهقي نحو ذلك عن سعيد بن جبير وعطاء وابراهيم النخعي والحسن البصري. انظر سنن البيهقي 7/8.
وقال الطحاوي والحافظ ابن عبد البر: [لا نعلم لابن عباس وحذيفة في ذلك مخالفاً من الصحابة.
وقال أبو بكر الرازي - الجصاص - روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس ولا يروى عن أحد من الصحابة خلافه] الجوهر النقي 7/7.
وقال الكمال ابن الهمام: [إن ذلك قد ورد عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وأبي العالية وميمون بن مهران بأسانيد حسنة] شرح فتح القدير 2/206.
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية قول الإمام أبي جعفر الطبري [عامة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها ووضعها في أي الأصناف الثمانية شاء وإنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجاباً لقسمتها بين الأصناف الثمانية وروى بإسناده عن حذيفة وعن ابن عباس أنهما قالا: إن شئت جعلته في صنف أو صنفين أو ثلاثة. قال وروى عن عمر أنه قال: أيما صنف أعطيته أجزأك وروى عنه أنه كان عمر يأخذ الفرض في الصدقة فيجعله في الصنف الواحد وهو قول أبي العالية وميمون بن مهران وإبراهيم النخعي] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/40.
ويدل لما ذهب إليه جمهور أهل العلم من جواز إعطاء صنف واحد من أصناف الزكاة وأنه لا يجب تعميمها على الأصناف الثمانية ما قاله القرطبي: [وتمسك علماؤنا بقوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) سورة البقرة الآية 271. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض] تفسير القرطبي 8/168. ومراد القرطبي أن الآية لم تذكر إلا صنفاً واحداً - الفقراء - من الأصناف الثمانية.
واحتج الشيخ ابن قدامة المقدسي لقول الجمهور بحديث معاذ رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: [ (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) فأخبر أنه مأمور برد جملتها في الفقراء وهم صنف واحد ولم يذكر سواهم ثم أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف ثان سوى الفقراء وهم المؤلفة: الأقرع بن حابس وعينية بن حصن وعلقمة ابن علاثة وزيد الخيل قسّم فيهم الذهبية التي بعث بها إليه علي من اليمن وإنما يؤخذ من أهل اليمن الصدقة ثم أتاه مال آخر: فجعله في صنف آخر لقوله لقبيصة بن المخارق حين تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) وفي حديث سلمة بن صخر البياضي: أنه أمر له بصدقة قومه ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز دفعها إلى واحد] المغني 2/499.
وحديث معاذ الذي ذكره ابن قدامة رواه البخاري ومسلم، وأما حديث الذهبية فهو ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر الأقرع بن حابس الحنظلي وعينية بن بدر الفزاري وعلقمة بن ملائة العامري ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم ... ) الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم فقط ولو كان استيعاب الأصناف واجباً لاستوعبها.
وأما حديث قبيصة فهو ما رواه مسلم بإسناده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: (تحملت حمالة فأتيت رسول الله أسأله فيها فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) قال: ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) صحيح مسلم مع شرح النووي 3/110.
والشاهد في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من مصرف واحد وهو مصرف الغارمين وأما حديث سلمة بن صخر البياضي فقد جاء فيه أنه قد ظاهر من زوجته ثم واقعها ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب عونه في الكفارة فقال له رسول الله: (انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي حديث حسن. والشاهد في هذا الحديث كسابقه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفع الزكاة لصنف واحد بل لشخص واحد.
قال العلامة صديق حسن خان: [والحاصل أن الله سبحانه جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير سائغة لغيرهم واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم بل المعنى أن جنس الصدقات لجنس هذه الأصناف من وجب عليه شيء من جنس الصدقة ووضعه في جنس الأصناف فقد فعل ما أمره الله به وسقط عنه ما أوجبه الله عليه.] الروضة الندية 1/534.
وخلاصة الأمر في هذه المسألة أنه يجب أخذ الأمور الآتية بالاعتبار عند توزيع الزكاة من قبل لجان الزكا أو من الأفراد: أولاً: إذا كان مال الزكاة كثيراً فينبغي تعميم المال على المصارف الثمانية إذا وجدت. قال الشيخ ابن قدامة: [فإن المستحب صرفها إلى جميع الأصناف أو إلى من أمكن منهم لأنه يخرج بذلك عن الخلاف ويحصل الإجزاء يقيناً] المغني 2/499. وهذا ما رجحه الشيخ يوسف القرضاوي إذا كانت الزكاة توزع من قبل إمام المسلمين.
ثانياً: إذا كان المال قليلاً فيعجبني ما ذهب إليه إبراهيم النخعي حيث قال: [إذا كان المال ذا مز - أي ذا فضل وكثرة - ففرقه في الأصناف وإذا كان قليلاً فأعطه صنفاً واحداً] الأموال ص 689.
فإذا كان لدى شخص ألف دينار فزكاتها خمسة وعشرون ديناراً فأرى له أن يعطيها فقيراً واحداً أو مسكيناً واحداً ولا أرى له أن يفرقها لقلة النفع بها حينئذ.
ثالثاً: إذا كان في أحد الأصناف الثمانية حاجة ماسة وظاهرة فينبغي العناية بالصرف إليه وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك حيث إنه يرى أنه إن وجدت الأصناف كلها فينبغي إيثار أهل الحاجة. الذخيرة 3/149.
رابعاً: قال الشيخ يوسف القرضاوي: [ينبغي أن يكون الفقراء والمساكين هم أول الأصناف الذين تصرف لهم الزكاة، فإن كفايتهم وإغنائهم هو الهدف الأول للزكاة حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر في حديث معاذ وغيره إلا هذا المصرف: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وذلك لما لهذا المصرف من أهمية خاصة] فقه الزكاة 2/693.(8/42)
43 - زكاة الزروع والثمار
كيف يزكي المزارعون مزروعاتهم وكيف تخرج زكاة البساتين من عنب وبرتقال وتفاح وبرقوق ونحو ذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجت الأرض مما يقصد بزراعته نماء الأرض وتستغل به الأرض عادة مثل القمح والشعير والعنب والتين والزيتون والورود والرياحين والزعتر والأعشاب الطبية التي يستنبتها الإنسان بقصد تنمية الأرض واستغلالها وهذا قول الإمام أبي حنيفة في زكاة المزروعات وهو أقوى المذاهب الفقهية في هذه المسألة ولم يحصر الزكاة في الأقوات الأربعة التي كانت معروفة قديماً وهي القمح والشعير والتمر والزبيب ولم يحصرها في ما يقتات ويدخر كما هو قول المالكية والشافعية ولم يحصرها في ما ييبس ويبقى ويكال كما هو قول الحنابلة.
وقول أبي حنيفة رحمه الله أهدى سبيلاً وأصح دليلاً واعتمد في ذلك على عموم قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات) سورة البقرة الآية 267، وعلى قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) سورة الأنعام الآية 141.
والمراد بالحق في الآية الزكاة المفروضة كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين.
واحتج أبو حنيفة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر وفيا سقي بالنضح نصف العشر) رواه مسلم في صحيحه.
قال الإمام ابن العربي المالكي ناصراً قول أبي حنيفة في المسألة: [وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق وقال: إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتاً كان أو غيره وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم: (فيما سقت السماء العشر) ] أحكام القرآن لابن العربي 2/759.
إذا ثبت هذا فإن الواجب إخراج زكاة الزروع والثمار عند الحصاد أو القطاف لقوله تعالى: (آتوا حقه يوم حصاده) ولا تجب الزكاة إلا إذا بلغ المحصول نصاباً والنصاب خمسة أوسق وتساوي في وقتنا الحضار 653 كيلو غرام تقريباً فإذا بلغ المحصول نصاباً فتجب فيه الزكاة ومقدار الواجب يكون 10% من الإنتاج إذا كانت المزروعات تسقى بما المطر أو مياه العيون بدون كلفة يتحملها المزارع أو 5% إذا كانت المزروعات تسقى بجهد من المزارع كمن يشتري المياه أو نحو ذلك أو 7. 5% إذا كانت المزروعات تسقى بكل من الطريقتين السابقتين. وعند تقدير الواجب على المزارع فإنه يحسب الناتج من المزروعات والثمار ويحسب ما أنفقه على الأرض من أجرة العمال أو أجرة معدات أو شراء أسمدة أو أدوية ونحوها ويخصمها ويزكي الباقي. ويجب أن يعلم أن المزارع إذا باع إنتاج أرضه قبل الجفاف كما هو الحال فيمن يبيع العنب قبل أن يصير زبيباً أو المزارع الذي يبيع إنتاجه من الخضار ونحوها فإن الزكاة واجبة في أثمانها إذا كانت تلك الخضار أو العنب قد بلغت نصاباً.
فالمزارع الذي باع إنتاج بساتينه من الفواكة مثلا وكانت قد بلغت نصاباً وكانت تسقى بماء المطر فالواجب عليه ان يخرج عشر الثمن زكاة لله تعالى.
*****(8/43)
44 - زكاة الأسهم
يقول السائل: إن له أسهماً في شركة تجارية فهل تجب الزكاة في الأسهم أم لا؟
الجواب: السهم هو الحصة التي يقدمها الشريك في شركات المساهمة وهو يمثل جزءاً معيناً من رأس مال الشركة فالسهم مال كما هو في الغالب لأن بعض الأسهم قد تكون عيناً وبما أن السهم مال مملوك فتجب الزكاة فيه إذا توافرت شروط وجوب الزكاة وهذا ما قرره الفقهاء المعاصرون.
ومن هؤلاء العلماء من يرى أنه تجب زكاة الأسهم على المساهم نفسه لأنه هو المالك لها فيقوم بإخراج زكاتها ومنهم من يرى أن الشركة هي المطالبة بإخراج زكاة الأسهم لأن الشركة لها شخصية اعتبارية مستقلة ولأن الزكاة حق متعلق بالمال نفسه فلا يشترط فيمن تجب عليه أن يكون مكلفاً شرعاً كما هو الحال في وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون.
ومن العلماء من جمع بين القولين بأن قال إن زكاة الأسهم تجب على المساهم لأنه هو المالك الحقيقي للأسهم وتقوم الشركة بإخراج الزكاة نيابة عنه فإذا نص نظام الشركة الأساسي على أن الشركة تخرج زكاة الأسهم فتقوم الشركة بإخراجها ولا يطالب بها المساهمون وأما إذا لم تقم الشركة بإخراج الزكاة فيجب على المساهم أن يزكي أسهمه وهذا رأي حسن قرره مجمع الفقه الإسلامي في جدة بالسعودية.
وعند قيام الشركة بإخراج زكاة الأسهم فإنها تخرجها كما يخرج الشخص العادي زكاة ماله بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال لشخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال وتعامل الأسهم في الشركة التجارية معاملة عروض التجارة فتقوم الأسهم وتزكى مع أرباحها في كل عام بنسبة 2. 5%.
وأما إذا كان الشخص مساهماً في شركة تجارية ولا تقوم هذه الشركة بإخراج الزكاة فإن الواجب على المساهم أن يخرج زكاة أسهمه بعد أن يعرف قيمة أسهمه وأرباحها.
*****(8/44)
45 - صرف الزكاة لموظفي لجان الزكاة
هل يجوز أن يعطى الموظفون العاملون في لجنة الزكاة من أموال الزكاة باعتبارهم من العاملين عليها؟
الجواب: من المعلوم أن مصارف الزكاة حددتها الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
ونظراً لغياب الدولة الإسلامية التي من واجبها القيام على شؤون الزكاة يجوز صرف سهم (َالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) لموظفي لجان الزكاة بشرط أن يكون الموظف متفرغأ للعمل في مجال الزكاة وما يتعلق بها. فيجوز صرف رواتبهم منها، وكذلك يجوز أن يصرف للموظفين مكافآت عمل إضافية لمن كان يعمل بوظيفة أخرى إذا عمل لمصلحة الزكاة وقتاً خارج وقت وظيفته.
وينبغي مراعاة ألا يطغى الصرف على العاملين في مجال الزكاة على أي مصرف آخر من مصارف الزكاة ويجب عدم المغالاة في رواتب هؤلاء الموظفين وإنما يعطون راتباً يماثل رواتب أقرانهم.
*****(8/45)
46 - مصارف الزكاة
هل يصح إعطاء الزكاة للعمال الذين حرموا ومنعوا من العمل بسبب الظروف الراهنة التي نعيشها؟
الجواب: إن الأصل في الزكاة أن تصرف في المصارف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
فهؤلاء الذين تصرف لهم الزكاة فمن كان غنياً أو قادراً على الكسب فلا يجوز أن تصرف له الزكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
والمقصود بذي مرة سوي أي الإنسان القوي السليم الأعضاء الذي يستطيع العمل والذي يفهم من النصوص الشرعية أن المقصود من يستطع العمل ويجد العمل والطريق إلى كسب العيش وأما من سدت طرق التكسب في وجهه ولا يجد عملاً فيجوز أن يعطى من الزكاة وإن كان قوياً قادراً على الكسب ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك كما هو حال كثير من العمال في وقتنا الحاضر الذي سدت سبل طلب الرزق أمامهم فإذا أعطوا من الزكاة فلا بأس بذلك، قال الإمام النووي: [قال أصحابنا - أي الشافعية - وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة لأنه عاجز] المجموع 6/191.
ويؤيد ما سبق ما رود في الحديث عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: (أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين - أي قويين - فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني.
*****(8/46)
47 - مصارف الزكاة
ما المراد بقوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) في آية مصارف الزكاة؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60.
وقد اختلف العلماء في المراد بعبارة (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) المذكورة في الآية فمنهم من رأى أن سبيل الله يراد بها سبيل الخير. [المصالح العامة التي تقوم عليها أمور الدين والدولة دون الأفراد بالإضافة إلى المجاهدين والمرابطين كبناء المستشفيات والملاجئ والمدارس الشرعية والمعاهد الإسلامية والمكتبات العامة ومساعدة الجمعيات الخيرية على أداء مهماتها الإنسانية ودعم المؤسسات التي تقدم خدمات عامة لأفراد المجتمع وكذا الإنفاق على الجهاد شريطة ألا يأكل ذلك أسهم الأصناف الأخرى التي ذكرت في آية الصدقات] إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 100-101.
ومن العلماء من يرى أن (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) الغزاة في سبيل الله فقط ولا يصح صرف الزكاة فيما سواه. ومن العلماء من يرى أن مصرف في سبيل الله يقصد به الجهاد والحج والعمرة.
وهنالك أقوال أخرى في المسألة ويجب أن نعلم أن لكل قول من الأقوال السابقة دليله.
وأرجح الأقوال هو القول الأول الذي يرى جواز صرف الزكاة في المصالح العامة وقد اختار هذا القول جماعة من العلماء المتقدمين واللاحقين ولهم أدلة قوية على ما ذهبوا إليه منها.
أولاً: لا يوجد نص صريح في كتاب الله أو سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يمنع أن يصرف جزء من سهم (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) في المصالح العامة أو يحصر الصرف في الجهاد.
ثانياً: ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى دية رجل من الأنصار قتل بخيبر مئة من إبل الصدقة رواه البخاري ومسلم.
وهذا من الإصلاح بين الناس وهو من المصالح العامة.
ثالثاً: إن المتأمل للآية التي حددت المصارف الثمانية للزكاة يجد أنها فرقت بين الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم من جهة وبين بقية الأصناف الأخرى وهي الرقاب والغارمون وسبيل الله وابن السبيل من جهة أخرى في حرف الجر الذي سبق كلاً من المجموعتين فقد سبق ذكر الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم حرف اللام وسبق الأصناف الأخرى حرف (في) واللام تفيد التمليك أما في فتفيد الوعاء وعلى هذا فالأصناف الأربعة الأوائل يملكون الزكاة والأصناف الأخرى يستحقون الزكاة فتصرف عليهم لتحقيق مصالحهم ومنافعهم وما جاءت المصالح العامة إلا لهذا. إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 103-104.
رابعاً: زعم بعض العلماء المعاصرين أن عبارة (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) إذا اقترنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزماً ولا تحتمل غيره مطلقاً. النظام الاقتصادي في الإسلام ص 208.
إن هذا الزعم غير صحيح وهذا الجزم غير مقبول وترده الآيات التي ذكر فيها (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) ويراد بها غير الجهاد فمن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) سورة التوبة الآية 34.
فالمراد بسبيل الله في الآية المعنى الأعم وليس الجهاد فقط وإلا لكان من أنفق ماله على بسبيل الله في الآية المعنى الأعم وليس الجهاد فقط وإلا لكان من أنفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى ونحوهم داخلاً ضمن الذين يكنزون وليس الأمر كذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كلِّ سنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 261.
ومن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) سورة البقرة الآية 262.
فهذه الأيات يفهم منها أن المراد بِ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) المعنى العام وليس المعنى الخاص وخلاصة الأمر جواز الصرف في المصالح العامة للمسلمين ولكن يجب التدقيق والنظر العميق قبل الصرف حتى نتحقق أن ما نصرفه من هذا السهم هو فعلاً من المصالح العامة للمسلمين.
*****(8/47)
48 - صدقة الفطر
لمن تعطى صدقة الفطر وهل يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر؟،
الجواب: تُصرف صدقة الفطر للمساكين والفقراء والمحتاجين ولا تصرف في مصارف الزكاة الثمانية لورود الأحاديث في ذلك فمنها ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (طعمة للمساكين) أي طعام للمساكين وهذا واضح في صرفها للمساكين دون غيرهم. ولما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما.
والمراد إغناء الفقراء عن المسألة في ذلك اليوم أي يوم العيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ساق الحديثين السابقين: [ولهذا أوجبها الله طعاماً كما أوجب الكفارة وعلى هذا القول فلا يجزئ إطعامهما إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم فلا يعطى منها المؤلفة قلوبهم ولا الرقاب ولا غير ذلك وهذا القول أقوى في الدليل] مجموع الفتاوى 25/73.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة ولا أمر بذلك ولا فعله أحد من أصحابه ولا من بعدهم بل أحد القولين عندنا - أي عند الحنابلة - إنه لا يجوز أخراجها إلا على المساكين خاصة وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية] زاد لمعاد في هدي خير العباد 2/22.
وقد اختار بعض الفقهاء المعاصرين مثل االدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله قولاً قريباً من ذلك وهو: [تقديم الفقراء على غيرهم إلا لحاجة ومصلحة إسلامية معتبرة] فقه الزكاة 2/958.
وأما بالنسبة لنقل صدقة الفطر فالحال فيها كنقل زكاة المال من بلد إلى بلد فإن الأصل أن توزع الزكاة في البلد الذي جمعت منه ويجوز نقلها من بلد إلى آخر إذا كان هنالك مصلحة في نقلها كأن يكتفي أهل البلد الذي وجبت فيه الزكاة فيجوز نقلها إلى بلد آخر وأن ينقلها ليعطيها للأرحام والأقارب فهذا نقل جائز ولا بأس به. وكذلك إذا كان فقراء البلدان الأخرى أشد حاجة من فقراء بلده فيجوز نقل الزكاة إليهم لا بأس في ذلك إن شاء الله.
*****(8/48)
49 - صدقة الفطر
مضى العيد ولم يخرج زكاة الفطر، ما حكم شخص لم يخرج زكاة الفطر حتى مضى العيد؟
الجواب: إن صدقة الفطر واجبة مؤقتة بوقت محدد وهو قبل صلاة العيد فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وقد أورد ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: [يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) سورة الأعلى الآيتان 14-15.
فإذا قامت صلاة العيد ولم يخرج صدقة الفطر فقد اتى مكروهاً كما قال جمهور الفقهاء وأما إن أخرها حتى انقضاء يوم العيد فأكثر الفقهاء على أن ذلك التأخير حرام ولكنها لا تسقط بل تبقى ديناً في ذمته حتى يخرجها.
قال بعض أهل العلم إن تأخيرها عن يوم العيد حرام بالاتفاق لأنها زكاة واجبة فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج اصللاة عن وقتها. نيل الأوطار 4/207.
ويدل على ذلك حديث ابن عباس قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة لصلائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه.
قال ابن حزم: [فمن لم يؤدها حتى خرج وقتها فقد وجبت في ذمته وماله لمن هي له فهي دين لهم وحق من حقوقهم وقد وجب إخراجها من ماله وحرم عليه إمساكها في ماله فوجب عليه أداؤها أبداً وبالله تعالى التوفيق ويسقط بذلك حقهم ويبقى حق الله تعالى في تضييعه الوقت لا يقدر على جبره إلا بالاستغفار والندامة] المحلى 4/266.
*****(8/49)
50 - حكم تأخير زكاة الفطر
يقول السائل: ما حكم من أخر زكاة الفطر عن يوم العيد، أفيدونا؟
الجواب: صدقة الفطر أو زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم، وقد ثبتت بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيهما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ أو صاعاً من زبيبٍ، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء -أي القمح الشامي- قال: أرى مداً من هذه يعدل مدين) رواه البخاري. [قال الإمام الخطابي رحمه الله: قوله (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر) فيه بيان أن صدقة الفطر فرض واجب كافتراض الزكاة الواجبة في الأموال، وفيه بيان أن ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما فرض الله، لأن طاعته صادرة عن طاعة الله، وقد قال بفرضية زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم. وقد عُللت بأنها طهرةٌ للصائم من الرفث واللغو، فهي واجبة على كل صائم غني ذي جِدة أو فقير، يجدها فضلاً عن قوته، إذا كان وجوبها لعلة التطهير، وكل الصائمين محتاجون إليها فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب. وقال الحافظ أبو بكر بن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض، وممن حفظنا ذلك عنه من أهل العلم محمد بن سيرين وأبو العالية والضحاك وعطاء ومالك وسفيان الثوري والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وقال إسحاق هو كالإجماع من أهل العلم] صحيح الترغيب ص 454. وزكاة الفطر أضيفت للفطر فهو سببها، وبناءً على ذلك فوقت وجوبها هو غروب شمس آخر يوم من رمضان، وهو أول ليلة من شهر شوال، على الراجح من أقوال العلماء، وهو قول جمهور الفقهاء، وقال الحنفية تجب بطلوع فجر يوم العيد. هذا وقت الوجوب. وقال الفقهاء يجوز تقديمها عن وقت الوجوب، فعند الحنفية يجوز تعجيلها من أول العام، وعند الشافعية يجوز تعجيلها من أول شهر رمضان، وعند المالكية والحنابلة يجوز تقديمها بيوم أو يومين لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري. وهذا قول حسن، وثبت من فعل جماعة من الصحابة تعجيلها بيوم أو يومين أو ثلاثة، وهو الأصلح والأنفع للفقراء حتى يتمكن الفقير من الانتفاع بها قبل يوم العيد. وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إخراجها قبل صلاة العيد كما سبق في الحديث (وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) قال الشيخ ابن القيم: [وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إخراج هذه الصدقة قبل صلاة العيد، وفي السنن عنه أنه قال: (من أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) ، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) ، ومقتضى هذين الحديثين أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وأنها تفوت بالفراغ من الصلاة، وهذا هو الصواب، فإنه لا معارض لهذين الحديثين ولا ناسخ ولا إجماع يدفع القول بهما، وكان شيخنا يقوي ذلك وينصره] زاد المعاد 2/19-20. وصدقة الفطر مؤقتة بوقت محدد وهو قبل صلاة العيد، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، فمن أداها بعد يوم العيد بدون عذرٍ كان آثماً وهو قول الحسن بن زياد من الحنفية، انظر بداية المجتهد 1/144 تبيين الحقائق 1/307 شرح المنهاج 1/ 528كشاف القناع 1/ 471، ويدل على ذلك ما ورد في حديث ابن عمر السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد) ، والأصل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدل على الوجوب، قال الأمير الصنعاني: [وقوله (وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) يدل على أن المبادرة بها هي المأمور بها، فلو أخرجها عن الصلاة أثم، وخرجت عن كونها صدقة فطر، وصارت صدقة من الصدقات، ويؤكد ذلك قوله: ولابن عدي والدارقطني بإسناد ضعيف (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) ... أي الفقراء (عن الطواف) في الأزقة والأسواق لطلب المعاش (في هذا اليوم) أي يوم العيد وإغناؤهم يكون بإعطائهم صدقته أول اليوم] سبل السلام 3/247. وقال الشوكاني: [قوله: (فمن أداها قبل الصلاة) أي قبل صلاة العيد، قوله: (فهي زكاة مقبولة) المراد بالزكاة صدقة الفطر، قوله: (فهي صدقة من الصدقات) يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات، وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله تعالى. والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد صلاة العيد كان كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة. وقد ذهب الجمهور إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر، والحديث يرد عليهم. وأما تأخيرها عن يوم العيد فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق لأنها زكاة واجبة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج الصلاة عن وقتها] نيل الأوطار4/207. ومما يؤكد أنها تؤدى قبل صلاة العيد حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم، وقال صحيح على شرط البخاري، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب حديث رقم 1085. وقال الشيخ العلامة العثيمين: [قوله: "وتكره في باقيه" أي: ويكره أن تخرج زكاة الفطر في باقي يوم العيد، وهذا وقت ثالث لإخراجها؛ وهو من بعد صلاة العيد إلى غروب شمس يوم العيد، فيكون هذا وقت كراهة؛ وذلك لأن إخراجها بعد الصلاة يفوت بعض المقصود من إغناء الفقراء في هذا اليوم، فلا يحصل لهم الغناء إلا بعد الصلاة، والذي يريد أن يعطيهم ليغنيهم فإنه يجب عليه أن يعطيهم إياها قبل الصلاة؛ لأجل أن يشملهم الفرح جميع اليوم. والدليل على الإجزاء، دخولها في قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) وهذا ضعيف. والصحيح: أن إخراجها في هذا الوقت محرم، وأنها لا تجزئ، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة) ، فإذا أخرها حتى يخرج الناس من الصلاة فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . بل إن حديث ابن عباس رضي الله عنهما صريح في هذا حيث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) وهذا نص في أنها لا تجزئ، وإذا كانت لا تجزئ فإن الإنسان يكون قد ترك فرضاً عليه بالنص وهو "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر" فيكون بذلك آثماً، ولا تقبل على أنها زكاة فطر ... فعلى هذا يكون وقت إخراج زكاة الفطر على أربعة أقسام: (1) جائز: وهو قبل العيد بيوم أو يومين. (2) مندوب: وهو صباح يوم العيد قبل صلاة العيد. (3) مكروه: وهو بعد صلاة العيد إلى غروب شمس يوم العيد. (4) محرم: بعد غروب شمس يوم العيد وتكون قضاءً. وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أخرجها يوم العيد تقع أداء وبعده تقع قضاء. والصواب في هذا والذي تقتضيه الأدلة، أنها لا تقبل زكاته منه إذا أخرها ولم يخرجها إلا بعد الصلاة من يوم العيد، بل تكون صدقة من الصدقات، ويكون بذلك آثماً. وذلك بناء على القاعدة التي دلت عليها النصوص وهي: "إن كل عبادةٍ مؤقتةٍ إذا تعمد الإنسان إخراجها عن وقتها لم تقبل"] الشرح الممتع6/106. وبناءً على ما سبق فإذا أخرت زكاة الفطر حتى انقضاء يوم العيد بغروب الشمس، فأكثر الفقهاء على أن ذلك التأخير حرام ولكنها لا تسقط بل تبقى ديناً في ذمته حتى يخرجها. قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [فمن لم يؤدها حتى خرج وقتها فقد وجبت في ذمته وماله لمن هي له فهي دين لهم وحق من حقوقهم وقد وجب إخراجها من ماله وحرم عليه إمساكها في ماله، فوجب عليه أداؤها أبداً وبالله تعالى التوفيق ويسقط بذلك حقهم ويبقى حق الله تعالى في تضييعه الوقت لا يقدر على جبره إلا بالاستغفار والندامة] المحلى 4/266. وورد في الموسوعة الفقهية: [واتفق جميع الفقهاء على أنها لا تسقط بخروج وقتها؛ لأنها وجبت في ذمته لمن هي له، وهم مستحقوها، فهي دين لهم لا يسقط إلا بالأداء؛ لأنها حق للعبد، أما حق الله في التأخير عن وقتها فلا يجبر إلا بالاستغفار والندامة]
وخلاصة الأمر أن صدقة الفطر فريضة، وأنها من العبادات المؤقتة بوقتٍ محددٍ، ووقتها المفضل قبل صلاة العيد، ويكره تأخيرها إلى غروب شمس يوم العيد، ويحرم تأخيرها عن ذلك الوقت، وإذا أخرها عنه فتبقى ديناً في الذمة ولا تسقط.(8/50)
1 - العلاقات الزوجية في نهار رمضان
يقول السائل: أنا شاب تزوجت قبل رمضان بأيام قليلة وقد غلبتني الشهوة فواقعت زوجتي في نهار رمضان فماذا يلزمني، أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن ركن الصيام الأساسي هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، ومن أهداف الصيام تربية الصائم وتعويده على ضبط شهواته، ومن علامات الإخلاص في الصوم أن الصائم يترك شهواته لله عز وجل، فقد ورد في الحديث القدسي، يقول الله تعالى: (الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجل) رواه البخاري ومسلم. وورد في بعض روايات الحديث السابق (ويدع لذته من أجلي) ، وفي رواية أخرى (يدع امرأته وشهوته وطعامه وشرابه من أجلي) ، ووقع في رواية أخرى (يترك شهوته من الطعام والشراب والجماع من أجلي) انظر فتح الباري 4/138. ويقول الكمال بن الهمام الحنفي عن الصوم: [هذا ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً شيئين: أحدهما عن الآخر سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها، وما عن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات] فتح القدير2/233.(9/1)
2 - الرد على الفتاوى التي تجيز الإفطار للاعبي كرة القدم
يقول السائل: كما تعلمون فإن شهر رمضان المبارك لهذا العام قد حلَّ في شدة الصيف وأنا أشتغل في البناء وأتعرض لأشعة الشمس وأجد مشقة في الصوم، فهل يجوز لي أن أفطر، أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن صوم شهر رمضان ركنٌ من أركان الإسلام وفُرضَ صيامُه على جميع المكلفين من المسلمين بالإجماع، ولقول الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} سورة البقرة الآية 185، والذين يجوز لهم الفطر، هم من أذن لهم الشارع الحكيم بالفطر، كما في حالتي المريض والمسافر، قال تعالى {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 185. ويجب أن يُعلمَ أن العمل ولو كان شاقاً ليس من الأعذار التي تبيح الفطر، ويجب على العامل أن يصوم ويجتهد في ذلك ويتحمل المشقة المعتادة، لأن التكاليف الشرعية ومنها الصيام لا تخلو من المشقات، وليست كل مشقة مبيحة للفطر، فإن العلماء قسموا المشقة إلى قسمين: مشقةٌ معتادةٌ يتحملها الناس عادة، ولا تخلو منها التكاليف الشرعية، كالوضوء بالماء البارد وكالصوم في اليوم الحارّ والحج في أشهر الصيف وغيرها، فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها، كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 2/7. ومشقةٌ غير معتادة لا يستطيع الناس أن يداوموا عليها باستمرار كالوصال في الصوم وقيام الليل كله باستمرار ونحو ذلك. وبناءً على ما تقدم أقول لا يجوز للإنسان أن يفطر في رمضان إلا إذا لحقه أذى شديد بسبب الصوم، فالمريض الذي منعه الأطباء من الصوم، لأن الصوم يزيد المرض أو يؤخر الشفاء، يجوز له الفطر، وأما أصحاب المهن والعمال كالنجار والحداد والخباز والحجَّار، فعليهم أن يصوموا ولا يجوز لهم الفطر، لأن هؤلاء قد اعتادوا على مهنتهم وصارت حياتهم منسجمة تماماً مع أعمالهم، فالخباز الذي يقف أمام بيت النار يومياً صار ذلك بالنسبة له شيء عادي فلا يجوز له أن يفطر. والذين يدَّعون أنهم يعملون في أشغال شاقة كما في السؤال بإمكانهم أن يأخذوا إجازة من عملهم في شهر رمضان أو أن يبحثوا عن أعمال أخرى لا مشقة شديدة فيها، فإن لم يتيسر لهم ذلك واضطروا للعمل كما يضطر الإنسان إلى أكل الميتة، فإن عليهم أن يصوموا، فإذا شعروا بالحرج والضيق من الصوم، أفطروا ثم أمسكوا بقية يومهم وعليهم القضاء فيما بعد. ورد في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ما يلي: [من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن صيام شهر رمضان فرض على كل مكلف وركن من أركان الإسلام، فعلى كل مكلف أن يحرص على صيامه تحقيقاً لما فرض الله عليه، رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، ودون أن يُؤثر دنياه على أخراه، وإذا تعارض أداء ما فرضه الله عليه من العبادات مع عمله لدنياه وجب عليه أن ينسق بينهما حتى يتمكن من القيام بهما جميعاً، ففي المثال المذكور في السؤال – عملٌ شاقٌ في نهار رمضان - يجعل الليل وقت عمله لدنياه، فإن لم يتيسر ذلك أخذ إجازة من عمله شهر رمضان ولو بدون مرتب، فإن لم يتيسر ذلك بحث عن عملٍ آخر يمكنه فيه الجمع بين أداء الواجبين ولا يؤثر جانب دنياه على جانب آخرته، فالعمل كثير، وطرق كسب المال ليست قاصرة على مثل ذلك النوع من الأعمال الشاقة، ولن يعدم المسلم وجهاً من وجوه الكسب المباح الذي يمكنه معه القيام بما فرضه الله عليه من العبادة بإذن الله، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} سورة الطلاق الآيتان 2-3. وعلى تقدير أنه لم يجد عملاً دون ما ذكر مما فيه حرج وخشي أن تأخذه قوانين جائرة وتفرض عليه ما لا يتمكن معه من إقامة شعائر دينه أو بعض فرائضه فليفر بدينه من تلك الأرض إلى أرض يتيسر له فيها القيام بواجب دينه ودنياه ويتعاون فيه مع المسلمين على البر والتقوى فأرض الله واسعة، قال الله تعالى {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} سورة النساء الآية 100، وقال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة الزمر الآية 10 فإذا لم يتيسر له شيء من ذلك كله واضطر إلى مثل ما ذكر في السؤال من العمل الشاق صام حتى يحس بمبادئ الحرج فيتناول من الطعام والشراب ما يحول دون وقوعه في الحرج، ثم يمسك وعليه القضاء في أيام يسهل عليه فيها الصيام] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 10/ 234-236. ويجب أن يُعلم أنه قد صدرت بعض الفتاوى المتساهلة في السماح بالفطر لأعذار غير معتبرة شرعاً، كما في الفتوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية بإباحة الفطر في نهار رمضان للاعبي كرة القدم أثناء المباريات الرسمية، بحجة أن اللاعب المرتبط بعقد مع ناديه مثل الأجير الملزم بأداء عملٍ معين، وفي حال تأثر العمل بالصوم فإن له رخصة للإفطار. وجاء في الفتوى المشار إليها: [اتفق العلماء على أنه يجوز الفطر للأجير أو صاحب المهنة الشاقة الذي يعوقه الصوم أو يُضعِفه عن عمله، كما نُصَّ على ذلك في فقه الحنفية على أن من آجر نفسه مدة معلومة - وهو متحقق هنا في عقود اللعب والاحتراف- ثم جاء رمضان وكان يتضرر بالصوم في عمله فإن له أن يفطر وإن كان عنده ما يكفيه] . وصدرت فتوى عن أحد المشايخ السعوديين أباح فيها الفطر بسبب انقطاع التيار الكهربائي!! وأقول إن هذه الفتاوى ما هي إلا تمييع للأحكام الشرعية، فمتى كان اللعب من الأسباب المبيحة للفطر؟! ولعبة كرة القدم نوعٌ من اللهو والترفيه، واللهو ليس من أسباب الترخص بالفطر، حتى لو كانت المباريات رسمية، فإنها لا تخرج عن هذا الإطار، وأما عن ارتباط اللاعب بعقد مع النادي الذي يلعب معه، فهذا العقد ليس مبرراً للفطر، لأن بإمكان اللاعب أن يشترط في العقد احترام شعائره الدينية، وإذا ترتب على العقد الإخلال بالفرائض الدينية فيحرم على اللاعب أن يوقعه. وكذلك فإن جعل انقطاع التيار الكهربائي سببٌ مبيحٌ للفطر، نوع من التساهل في الفتوى ترده أصول الإفتاء الصحيح، حتى لو لحقت بالناس مشقة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، لأن هذه المشقة محتملة، ولنا أن نسأل متى دخلت الكهرباء لبلاد المسلمين؟ وكيف كان المسلمون يصومون قبل معرفة الكهرباء في قيظ الصيف في المناطق الحارة كجزيرة العرب؟ أم أننا نريد صوماً خالياً من أدنى مشقة – صوم خمس نجوم، لا شك أن هذه الفتاوى لم تقم على أدلة معتبرة، ولا على فهمٍ صحيحٍ للأدلة، ولا على فهم مقاصد الشارع الحكيم، وأسوق هنا كلاماً طيباً لبعض العلماء في تبيان مقاصد الصيام، يقول العلامة ابن القيم: [لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ... وللصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الردئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصومُ جُنَّة) وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام وجعله وجاءَ هذه الشهوة. والمقصود: أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمةً بهم وإحساناً إليهم وحميةً لهم وجنة] زاد المعاد 2/28-30. ويقول الكمال بن الهمام الحنفي عن الصوم: [هذا ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً شيئين: أحدهما عن الآخر سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها، وما عن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات، ومنها: كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا في عموم الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألمٍ باطنٍ فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال ما عند الله تعالى من حسن الجزاء. ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً، وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى] فتح القدير2/233. وقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي [سئل بعض السلف: لِمَ شُرِع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع.] لطائف المعارف ص 314.
وخلاصة الأمر أن العمل الشاق بمجرده ليس من الأعذار المبيحة للفطر، والعمال مكلفون بالصيام كغيرهم، ولا يحل لهم الفطر إلا إذا لحقت بهم المشقة الشديدة، ويجب الحذر من فتاوى المتساهلين التي تبيح الفطر لغير عذر شرعي معتبر كإباحة الفطر للاعبي كرة القدم ولمن انقطع عنهم التيار الكهربائي.(9/2)
3 - استقبال رمضان
يقول السائل: انتشرت ظاهرة تركيب الزينات والأنوار لاستقبال شهر رمضان، فما حكم ذلك، أفيدونا؟
الجواب: إن من يقرأ سير السلف الصالح وكيف كان حالهم في استقبال شهر رمضان يجد بوناً شاسعاً بين حالهم وحالنا، ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي عن معلى بن الفضل قوله: (كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم) وذكر عن يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: (اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلاً) لطائف المعارف ص 280. ونجد أن استقبال السلف لرمضان يكون بالتوبة الصادقة والإنابة والإقبال على الله، ويكون بالطاعات وإصلاح النفوس ظاهراً وباطناً، والاستعداد للاجتهاد في العبادات من صيام وزكاة وقيام قراءة للقرآن وذكر لله عز وجل ونحوها من أنواع القربات. وأما استقبال رمضان في زماننا فمختلف تماماً عما سبق، فأغلب وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات، تستعد لاستقبال رمضان بإعداد المسلسلات والتمثيليات الهابطة والفاسدة، وهنالك العشرات بل المئات من القنوات الفضائية التي أصبحت معولاً من معاول محاربة الدين والأخلاق والفضيلة، بل هي منابر لنشر الفساد والرذيلة، ومع الأسف الشديد فإن القنوات الفضائية قد دخلت بيوتنا، وأصبحت مربيةً لأبنائنا وبناتنا، ومرشدةً لزوجاتنا، وموجهةً لشبابنا ورجالنا، إلا من رحم ربي وحماه من هذه الطوفان الهادر، والفيضان الرهيب. ومن ضمن سموم القنوات الفضائية، هذه المسلسلات الفاسدة المفسدة، الطافحة بالانحرافات الفكرية والمسلكية، التي تتعارض مع ديننا ومع أخلاقنا ومع عادتنا وتقاليدنا الأصيلة، هذه المسلسلات التي تنشر الفواحش والمنكرات، وتجعل الزنا أمراً عادياً، وتجعل العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج وما يترتب عليها من حملٍ، أموراً طبيعية، يجب على الأسرة أن تتقبلها وتقر بها، هذه المسلسلات التافهة التي تروج [للممارسات غير الأخلاقية التي اجتاحت بعض المجتمعات كهروب الفتيات والزواج السري وغيرها ... إن الدراما العربية ووسائل الإعلام ساهمت في تلك الانحرافات وأن نموذج الراقصة أو الفنانة التي تهرب من بيت الأسرة تحت دعاوى الضغوط الأسرية وإظهارها بعد ذلك بمظهر القدوة والبطولة قد أثر في وجدان العديد من الفتيات وصرن يمارسنه في الواقع كما أن الترويج لمفهوم معين للحب يقوم على التلاقي بين الفتى والفتاة بعيداً عن الأسرة والأطر الشرعية عبر اإلحاح الإعلامي بكل وسائله أثر بشكلٍ كبيرٍ على المجتمع وعلى طبيعة العلاقات التي تحكم الرجل بالمرأة فالعديد من الأفلام تصور الراقصة بطلة ولديها أخلاقيات ومثل عليا!!! ... وفي بعض الأفلام تعيش المرأة المتزوجة مع حبيبها وتقدم هذه المرأة على أنها تستحق التعاطف معها!!] من دراسة ميدانية للدكتور أحمد المجذوب الخبير الاجتماعي، عن الإنترنت. كما أن هذه المسلسلات التافهة تبرز المرأة كرمزٍ للجنس المكشوف أو الموارب. ويضاف إلى ذلك أن هذه المسلسلات قد أسهمت في تفكيك الحياة الأسرية بزيادة المشكلات في البيوت، وزيادة عدد حالات الطلاق، يقول أحد قضاة المحاكم الشرعية في السعودية: [الفضائيات تتسبب في ارتفاع حالات الطلاق، فالفضائيات تدعو إلى تمرد المرأة على زوجها، فهي تظهر لها أن الزوج متسلط وظالم، سلب منها حقوقها وحياتها. كما أن من أسباب الطلاق مقارنة الزوج لزوجته بنساء الفضائيات، اللائي جملّتهن كاميرات التصوير حتى القبيحات منهن أصبحن جميلات بفعل أنواع الماكياج] مجلة الأسرة العدد 105، وهذا غيضٌ من فيض قاذورات القنوات الفضائية الفاسدة والمفسدة المتخصصة في محاربة ما بقي لدى المجتمع من قيمٍ وأخلاقٍ وعاداتٍ كريمة. إن هذه القنوات الفضائية ينطبق عليها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. ويضاف إلى ذلك استعداد القنوات الفضائية لاستقبال شهر رمضان بتقديم برامج الطبخ الكثيرة جداً في رمضان والتي تهدف إلى تغريب المجتمع حتى في طعامه وتطبيعه بطبائع غير المسلمين في قضايا الأكل والشرب، بالإضافة لما تغرسه في نفوس الناس من اهتمامٍ زائدٍ بالطعام وأشكاله وأنواعه وطرق تقديمه وما يتبع ذلك من زيادة الإنفاق على الطعام والشراب وما يتعلق بهما من أجهزة وأدوات، ولا يقولن أحدٌ بأن برامج الطبخ هذه إنما هي برامج مفيدة، فإن ورائها أهدافاً وغايات ليست بريئة!! وخاصة أن هنالك قنوات فضائية متخصصة في الطبخ؟!!
إن ما تقوم به أغلب الفضائيات في رمضان يهدف إلى إفساد هذه العبادة العظيمة- عبادة الصيام - على الناس وإفراغها من مضامينها الإيمانية من خلال تقديم التمثيليات والمسلسلات المختلفة وبعضها يزعمون أنها دينية وهي في معظمها لا علاقة لها بالدين إلا في الاسم. وكذلك المسابقات التي يتفننون في أسمائها وأشكالها وهدفها الحقيقي إنما هو إفساد الناس وأخلاقهم وتضييع أموالهم في أمورٍ العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر، فعلينا أن نحذر الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، الذين تقدمهم الفضائيات على أنهم نجوم وكواكب وهم في الحقيقة من الديوثين والديوثات.
إذا اتضحت ملامح صورة المقارنة بين حالنا وبين حال السلف في استقبال رمضان، أقول: إن الفرح والسرور بقدوم رمضان أمر مشروع، وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويقول: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم أيوب) رواه الإمام أحمد والنسائي وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/585. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين، من أين يشبه هذا الزمان زمان] لطائف المعارف ص 279. وورد في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، منْ حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم) رواه ابن ماجة وإسناده حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/586. واستقبال شهر رمضان يكون أولاً بالاستعداد النفسي وإصلاح الباطن والظاهر قبل الاستعداد بالمظاهر الخارجية كإضاءة الأنوار والفوانيس وغيرها من المظاهر.
أتى رمضانُ مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولاً وفعلاً ... وزادُك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوه نادماً يوم الحصاد
فشهر رمضان فرصة عظيمة للتوبة والمغفرة، فقد ورد في الحديث عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احضروا المنبر فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: إن جبريل عليه السلام عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت آمين، فلما رقيت الثانية قال: بَعُدَ من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك، فقلت آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبرُ عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين. رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/583. إذا تقرر هذا فإن تركيب الزينات والأنوار لاستقبال شهر رمضان، أمرٌ لا بأس به إن كان الهدف منه إظهار السرور بقدوم شهر رمضان، وبشرط أن لا يكون هنالك مبالغة فيه أو إسراف وتبذير. ولا بد من التنبيه إلى أن هذا الأمر من الأمور العادية ولا مدخل للعبادة فيه، والأمور العادية قد يؤجر المرء عليها بحسب نيته، ويمكن أن يقاس على ما يعتبره الفقهاء من باب إظهار الشعائر كما قال بعض فقهاء الحنفية باستحباب ربط الأضحية أمام البيت قبل الذبح، لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرغبة فيها، فيكون له فيها أجر وثواب؛ لأن ذلك يشعر بتعظيم هذه الشعيرة قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية 32. انظر بدائع الصنائع 4/219. وخلاصة الأمر أن استقبال رمضان يكون بالطاعات وإصلاح النفوس ظاهراً وباطناً، والاستعداد للاجتهاد في العبادات من صيام وزكاة وقيام قراءة للقرآن وذكر لله عز وجل ونحوها من أنواع القربات، وبعد ذلك لا بأس بوضع الأنوار والزينة بدون مبالغة ولا تبذير.(9/3)
4 - لا تضاعف السيئات في شهر رمضان المبارك بل تغلظ
يقول السائل: ما صحة القول بأن السيئات تضاعف في شهر رمضان المبارك كما تضاعف الحسنات، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن حرمة شهر رمضان المبارك حرمة عظيمة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عن عقوبة من ينتهك حرمة رمضان فقد ورد في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضَبعيَّ - أي بعضُديَّ - فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد فقلت: إني لا أطيقه فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ... ) رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 7/1669، وفي صحيح الترغيب والترهيب 1/588.
وقد قرر المحققون من أهل العلم أنه مع هذه الحرمة العظيمة لرمضان، فإن السيئات لا تضاعف أعدادها في رمضان بل المضاعفة خاصة بالحسنات في رمضان وفي غيره، وما ورد في بعض الأحاديث من مضاعفة السيئات في رمضان فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سأبين لاحقاً. وقد نصت آيات الكتاب الكريم على أن جزاء السيئة سيئة مثلها فقط، قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} سورة الأنعام الآية 160. وقال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة القصص الآية 84. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة يونس الآية 27. وقال الله تعالى: {مَنْ عَملَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة غافر الآية 40. وقال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} سورة الشورى الآية 40.
وثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي عند شرحه للحديث [النوع الثاني عمل السيئات: فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة كما قال الله تعالى {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} وقوله (كتبت له سيئة واحدة) إشارة إلى أنها غير مضاعفة كما خرج في حديث آخر، لكن السيئة تعظم أحياناً بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} ، في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرماً وعظَّم حرمتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا. وقد روي في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان ولكن إسنادهما لا يصح] جامع العلوم والحكم ص 438- 439.
وما أشار إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي من مضاعفة السيئات في رمضان هو ما رواه الطبراني وابن عدي عن أم هانئ رضي الله عنها، وابن عدي وابن صصري في أماليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أمتي لن تخزى ما أقاموا صيام شهر رمضان، قيل: يا رسول الله؟ وما خزيهم في إضاعة شهر رمضان؟ قال: انتهاك المحارم فيه، من زنى فيه، أو شرب خمراً فيه لعنه الله ومن في السموات إلى مثله من الحول، فإن مات قبل أن يدرك رمضان فليست له عند الله حسنة يتقي بها النار. فاتقوا الله في شهر رمضان، فإن الحسنات تضاعف فيه ما لا تضاعف فيما سواه، وكذلك السيئات) وهذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي، وممن ضعَّف الحديث السابق أيضاً ابن الجوزي حيث قال: هذا حديث لا يصح كما في العلل المتناهية 3/537.
إذا تقرر هذا فإن العلماء متفقون على أن الحسنات تضاعف كما قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} سورة الأنعام الآية 160. وقال تعالى {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} سورة البقرة الآية 245 وغير ذلك من الآيات. وتزداد مضاعفة الحسنات في مواسم الخير كرمضان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه مسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: [ ... المراد بقوله (وأنا أجزي به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال ... ] فتح الباري 4/139. وكذلك تضاعف الحسنات في الأمكنة الفاضلة كالحرمين والمسجد الأقصى المبارك، فقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن كما قال الهيثمي مجمع الزوائد 4/7، ورواه البزار وقال إسناده حسن، الترغيب والترهيب 2/175.
وقال المحققون من أهل العلم بأن مضاعفة السيئات لا تكون في كمياتها وأعدادها ولكن تكون في كيفيتها فتكون السيئة مغلظة في الأزمنة الفاضلة وفي الأمكنة الفاضلة، فمن يعص الله عز وجل في رمضان وفي الأشهر الحرم فذنبه مغلظ، وكذا من يعص الله في المسجد الحرام، فذنبه مغلظ، قال العلامة ابن القيم: [ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه – أي المسجد الحرام - لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها سيئة لكن سيئة كبيرة، وجزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه، فهذا فص النزاع في تضعيف السيئات والله أعلم] زاد المعاد 1/51.
وقال الشيخ ابن حجر المكي [ينبغي حمل مضاعفة السيئات على مقابلها دون الزيادة على كميتها، لقوله تعالى: {فلا يجزى إلا مثلها} وكذا يقال بمثل ذلك السيئات في حرم مكة. وقول مجاهد وغيره رحمهم الله تعالى بمضاعفتها فيه، إن أرادوا به ما ذكر كان قريباً، أو زيادة كميتها على مائة ألف في مقابلة السيئة الواحدة كالحسنة، كان بعيداً من ظواهر نصوص الكتاب والسنة.] إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام ص52.
وخلاصة الأمر أن شهر رمضان المبارك موسم للطاعات ولفعل الخيرات، وعلى المسلم أن يحرص على طاعة ربه عز وجل وأن يبتعد عن المعاصي والآثام، لأن حرمة رمضان عظيمة، ومن يعص الله عز وجل في رمضان فذنبه مغلظ، وأن الحسنات تضاعف في رمضان وغير رمضان، وأما السيئات فلا تضاعف لا في رمضان ولا في غير رمضان ولكنها في رمضان تغلظ، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.(9/4)
5 - وقوع المعاصي في رمضان مع كون الشياطين مصفدة
يقول السائل: ورد في بعض الأحاديث أن الشياطين تصفد في رمضان ومع ذلك نرى معاصي كثيرة فما تعليل ذلك، أفيدونا؟ الجواب: تصفيد الشياطين في رمضان ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلِّقت أبواب النار وصفدت الشياطين) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) رواه الترمذي وغيره، وقال العلامة الألباني: حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي 1/209.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه مردة الشياطين، وفه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما بينه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 55.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا شهر رمضان قد جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما ذكره العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 6995. وفي صحيح الترغيب والترهيب 2/69.
وقال الإمام ابن خزيمة في صحيحه: [باب ذكر البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: وصفدت الشياطين مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين إذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم، وذكر دعاء الملك في رمضان إلى الخيرات والتقصير عن السيئات مع الدليل على أن أبواب الجنان إذا فتحت لم يغلق منها باب ولا يفتح باب من أبواب النيران إذا أغلقت في شهر رمضان. ثم ساق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار) وقال العلامة الألباني: إسناده حسن.
وقد اختلف شرَّاحُ الحديث في معنى تصفيد الشياطين وغلها وسلسلتها كما ورد في الأحاديث، وأجمع كلام في ذلك ما كتبه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، فقد نقل عن الحليمي قوله [يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر. وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه وأورد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن) وأخرجه النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة بلفظ (وتغل فيه مردة الشياطين) زاد أبو صالح في روايته (وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) لفظ ابن خزيمة، وقوله " صفدت " بالمهملة المضمومة بعدها فاء ثقيلة مكسورة أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت، ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود وقال فيه (فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب الشهر كله) . قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين. قال: ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم (فتحت أبواب الرحمة) قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات وذلك أسباب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزين بن المنير: والأول أوجه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره. ... وجزم التوربشتي شارح المصابيح بالاحتمال الأخير وعبارته: فتح أبواب السماء كناية عن تنزل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات ... وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟
فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. وقال غيره: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية] . فتح الباري 4/147
إذا تقرر هذا فإن وقوع المعاصي في رمضان لا ينافي تصفيد الشياطين لأننا إذا حملنا الحديث على ظاهره فإن بعض الشياطين هي التي تصفد وهم مردتهم أو أنهم يصفدون في ليالي رمضان دون نهاره كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وإذا حملنا الحديث على المجاز فيكون المعنى كما قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البر: ["صفدت الشياطين" وجهه عندي والله أعلم أنه على المجاز وإن كان قد روي في بعض الأحاديث سلسلت فهو عندي مجاز والمعنى فيه والله أعلم أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي ولا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليهم في سائر السنة وأما الصفد (بتخفيف الفاء) فهو الغل عند العرب] الاستذكار 10/252.
ونحو كلام ابن عبد البر قاله القاضي عياض كما نقله الإمام النووي [قال: ويحتمل أن يكون المراد المجاز، ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء، ولناس دون ناس، ويؤيد هذه الرواية الثانية (فتحت أبواب الرحمة) وجاء في حديث آخر: (صفدت مردة الشياطين) قال القاضي: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى صفدت: غللت، والصفد بفتح الفاء، الغل بضم الغين، وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى. هذا كلام القاضي] شرح النووي على صحيح مسلم 3/154.
وخلاصة الأمر أن تصفيد الشياطين في رمضان حق وصدق نؤمن به ونصدقه لأنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: سألت أبي عن حديث (إذا جاء رمضان صفدت الشياطين) قال: نعم، قلت: الرجل يوسوس في رمضان ويصرع، قال هكذا جاء الحديث. ووقوع المعاصي من الناس في رمضان لا ينافي الحديث حيث حمل العلماء الحديث على عدة وجوه كما سبق.(9/5)
6 - حكم استئذان المرأة زوجها في صوم ما أفطرته من رمضان
تقول السائلة: هل يلزم الزوجة استئذان زوجها في صوم ما أفطرته من رمضان، وما الحكم إذا أفطرت أثناء أيام قضاء رمضان، وهل تلزم الكفارة إذا كان الفطر بالجماع، أفيدونا؟ الجواب: القضاء على من أفطر في نهار رمضان واجب شرعاً، يقول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 184.
وينبغي أن يعلم أن قضاء ما أفطره المسلم من رمضان لعذر واجب على التراخي وليس واجباً على الفور، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وجملة ذلك أن من عليه صوماً من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان، فما أقضيه حتى يجيء شعبان) متفق عليه..] المغني 3/153. وما ذكره الشيخ ابن قدامة المقدسي هو مذهب جماهير أهل العلم أن قضاء ما أفطره من رمضان لعذر فهو على التراخي، وإن كانت المبادرة للقضاء أفضل لعموم النصوص المرغبة في المبادرة إلى الطاعات كا في قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) سورة البقرة/148. وقوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) سورة آل عمران/133.
وأما إذا كان الفطر لغير عذر فالقضاء على الفور، قال الإمام النووي: [الصوم الفائت من رمضان كالصلاة فان كان معذوراً في فواته كالفائت بالحيض والنفاس والمرض والإغماء والسفر فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة القابلة ... ، وإن كان متعدياً في فواته ففيه الوجهان كالصلاة أصحهما عند العراقيين قضاؤه على التراخي وأصحهما عند الخراسانيين وبعض العراقيين وهو الصواب أنه على الفور، وأما قضاء الحج الفاسد فهل هو على الفور أم التراخي؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب في موضعهما أصحهما على الفور لأنه متعد بالإفساد، وأما الكفارة فان كانت بغير عدوان ككفارة القتل خطأ وكفارة اليمين في بعض الصور فهي على التراخي بلا خلاف لأنه معذور وإن كان متعدياً فهل هي على الفور أم على التراخي فيه وجهان حكاهما القفال والأصحاب أصحهما على الفور] المجموع 3/69-70.
إذا تقرر هذا فإن المرأة التي عليها قضاء من رمضان ينبغي أن تستأذن زوجها في القضاء ما دام وقت القضاء متسعاً، وهذا خير لها ولزوجها، وأما إذا ضاق وقت القضاء كأن يكون قد بقي من شعبان بعدد الأيام التي أفطرتها من رمضان فلا يلزمها الاستئذان وإذا صامت الزوجة قضاءً لما أفطرت من رمضان فلا يجوز لزوجها أن يلزمها بالفطر، وهذا بخلاف صومها نافلة فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم، وقد حمل أهل العلم هذا الحديث على صوم النافلة قال الإمام النووي في شرح الحديث: [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين، وهذا النهي للتحريم صرح به أصحابنا، وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل: فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها، فالجواب: إن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة؛ لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وزوجها شاهد) أي مقيم في البلد، أما إذا كان مسافراً فلها الصوم؛ لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه.] شرح النووي على صحيح مسلم 3/95.
ويؤيد حمل الحديث على غير رمضان ما ورد في رواية الترمذي (عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال (لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوماً من غير شهر رمضان إلا بإذنه) وهو حديث حسن صحيح، كما قال الترمذي، انظر سنن الترمذي 3/151.
وأما إذا أفطرت أثناء أيام قضاء رمضان فلا يلزمها إلا قضاء يوم واحد فقط، ولكن يجب أن يعلم أنه لا ينبغي لمن صام قضاءً أن يقطع صومه لغير عذر ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أم هانئ قالت: (لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، قالت يا رسول الله: لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها: أكنت تقضين شيئاً قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعاً) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/222.
وإذا أفطرت المرأة بالجماع فلا تلزمها الكفارة المذكورة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تتطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: ثم جلس. فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تمر، فقال صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا. قال: أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه البخاري ومسلم. والعَرَق هو القفة والمكتل ويسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مُدَّاً لستين مسكيناً لكل مسكين مُدّ، قاله الإمام النووي. شرح النووي على صحيح مسلم 3/184.
وهذه الكفارة تجب فقط فيمن أفسد صوم رمضان بالجماع على الراجح من أقوال أهل العلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء، وقال قتادة: تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها، فوجبت في قضائها كالحج، ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة، كما لو جامع في صيام الكفارة ويفارق القضاء الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له، بخلاف القضاء.] المغني 3/138-139.
وأخيراً أنبه على جواز قضاء ما أفطر من رمضان مفرقاً فلا يشترط التتابع في أيام القضاء، كما وأنه يجوز تأخير القضاء إلى أيام الشتاء، لأن نهارها أقصر فلا حرج في ذلك. كما وأن الأفضل في حق من كان عليه قضاء أيام من رمضان أن يقضيها أولاً ثم يصوم ستاً من شوال فإن القضاء واجب وصيام الستة سنة، والواجب مقدم على السنة.
وخلاصة الأمر أن المرأة تستأذن زوجها في صوم القضاء ما دام وقت القضاء واسعاً، ولا تستأذنه إن ضاق وقت القضاء، وإن أفطرت في يوم القضاء لزمها قضاء يوم واحد فقط، وإن كان الفطر بالجماع فلا كفارة في ذلك.(9/6)
7 - مقدار طعام المسكين المذكور في قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}
يقول السائل: ما هو مقدار طعام المسكين المذكور في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، أفيدونا؟ الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآيتان 183-184.
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هل هذه الآية منسوخة أم أنها محكمة؟ وأرجح أقوال العلماء أن الآية الكريمة ليست منسوخة، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/225.
وقد روى الإمام الطبري بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وعلى الذين يطوقونه} قال: يتجشمونه يتكلفونه.
وروى الإمام الطبري بإسناده أيضاً عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق فيفطر ويطعم كل يوم مسكيناً.
وروى الإمام الطبري بإسناده أيضاً، عن ابن عباس قال: {الذين يطيقونه} ، يتكلفونه، فدية طعام مسكين واحد، ولم يرخص هذا إلا للشيخ الذي لا يطيق الصوم، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى ثم قال الطبري: [هذا عن مجاهد.] تفسير الطبري 3/431.
وبناءً على أن الآية محكمة يكون معناها وعلى الذين يطيقون الصيام بصعوبة بالغة، أي يلاقون جهداً ومشقة وتعباً في الصوم، فلهم أن يفطروا وعليهم إطعام مسكين عن كل يوم يفطرونه.
قال الإمام البخاري: [وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كبر عاماً أو عامين كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر] . صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/225.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر ,، وأطعم لكل يوم مسكينا. وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم، ويشق عليهما مشقةً شديدةً فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكيناً، وهذا قول علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير وطاووس وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي. وقال مالك: لا يجب عليه شيء، لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت، وللشافعي قولان كالمذهبين، ولنا الآية، وقول ابن عباس في تفسيرها: نزلت رخصة للشيخ الكبير، ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء ... ] المغني 3/151.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على الذي لا يطيق الصيام كالرجل الهرم وكذا المرأة الهرمة، إطعام مسكين عن كل يوم من رمضان، ويلحق بهما المريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه كالمصاب بالسرطان وغيره من الأمراض التي لا يرجى شفاؤها.
وقد اختلف أهل العلم في مقدار طعام المسكين المذكور في الآية الكريمة، فقد ورد عن جماعة من الصحابة كعمر وابنه عبد الله وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن ذلك يقدر بمدٍ من الحنطة عن كل يوم من رمضان، فقد روى الدارقطني بإسناده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أطعم عن كل يوم مداً مداً) .
وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مداً من حنطة لكل مسكين) .
وروى عبد الرزاق في المصنف عن سعيد بن المسيب قال: هي في الشيخ الكبير، إذا لم يطق الصيام، افتدى مكان كل يوم، إطعام مسكين مداً من حنطة) .
وروى عبد الرزاق في المصنف عن عكرمة بن عمار قال: سألت طاوساً عن أمي وكان بها عطاش – مرض - فلم تستطع أن تصوم رمضان، فقال: تطعم كل يوم مسكيناً ... ) .
ووردت آثار أخرى عن بعض الصحابة والتابعين قدروا الإطعام فيها بمدين، وفي بعضها بصاع أي أربعة أمداد، وأرجحها التقدير الأول، والذي يظهر لي أن المد كان يكفي المسكين طعاماً ليومه، ويؤيد ذلك أن مقدار الإطعام في كفارة اليمين هو مد لكل مسكين من المساكين العشرة كما هو قول جمهور أهل العلم، فقد ذكر مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مداً من حنطة.
وروى مالك عن سليمان بن يسار أنه قال: [أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئاً عنهم] قال الحافظ ابن عبد البر: [والمد الأصغر عندهم مد النبي صلى الله عليه وسلم] الاستذكار 15/87-88. والمقصود بالطعام في الكلام السابق أي يطعم من غالب قوت أهل البلد، وكانوا يطعمون الحنطة والشعير والتمر، وأما في زماننا فلأرز والطحين هما غالب قوت الناس.
وينبغي التنبيه على أنه يجوز إخراج القيمة بدلاً عن الإطعام، أي إعطاء المسكين نقوداً بقيمة الطعام وذلك قياساً على جواز إخراج القيمة في الزكاة وفي صدقة الفطر والكفارات وهو مذهب الحنفية ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو الذي يحقق مصلحة الفقير وخاصة في هذا الزمان وهو قول وجيه تؤيده الأدلة الكثيرة ومنها أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج. وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر أثر معاذ السابق واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/54. ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته وكذلك فإن سد حاجة المسكين تتحقق بالنقود أكثر من تحققها بالأعيان وخاصة في زماننا هذا لأن نفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأسرته.
وأخيراً أنبه على جواز إخراج هذه الفدية في أول رمضان أو في آخره أو بعد رمضان حسب الوسع والطاقة، ويجوز إعطاؤها لمسكين واحد أو أكثر، والأفضل دفعها لأسرة فقيرة محتاجة.
وخلاصة الأمر أن إطعام المسكين المذكور في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} يقدر بمدٍ وهو ربع صاع والصاع يساوي 2176 غراماً وربعه المد ويساوي 544 غراماً، ويجوز إخراج القيمة بدلاً من الطعام على الراجح من أقوال العلماء. وينبغي أن لا تقل القيمة عن سبعة شواقل في زماننا هذا.(9/7)
8 - معنى ما ورد في الحديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)
يقول السائل: ما معنى ما ورد في الحديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ، أفيدونا؟ الجواب: هذا جزء من حديث قدسي ونصه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب - الخصام والصياح -، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم – الرائحة - أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
وقد ذكر شرَّاحُ الحديث وجوهاً عديدة في معنى قوله تعالى في الحديث القدسي (إلا الصوم فإنه لي) فمن ذلك ما أورده الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال: [وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى (الصيام لي وأنا أجزي به) مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال: أحدها أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد، ولفظ أبي عبيد في غريبه: قد لمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب. ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم (ليس في الصيام رياء) حدثنيه شبابة عن عقيل عن الزهري فذكره يعني مرسلاً قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس، وهذا وجه الحديث عندي، انتهى. وقد روى الحديث المذكور البيهقي في " الشعب " من طريق عقيل، وأورده من وجه آخر عن الزهري موصولاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده ضعيف ولفظه (الصيام لا رياء فيه، قال الله عز وجل: هو لي وأنا أجزي به) وهذا لو صح لكان قاطعاً للنزاع. وقال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث (يدع شهوته من أجلي) وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ، بخلاف الصوم. وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم فإن حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً يعني في الصورة الظاهرة ...
ثانيها أن المراد بقوله (وأنا أجزي به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال ... ثالثها معنى قوله (الصوم لي) أي أنه أحب العبادات إليَّ والمقدم عندي ... رابعها:: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله ... ] فتح الباري 4/140-142. ثم ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني بقية الأجوبة العشرة، وذكر أن أقرب الأجوبة إلى الصواب الأول والثاني. ولعل أصحها هو القول الأول، ولا بد أن يعلم أن المراد بالصيام هنا هو الصيام الذي سلم من المعاصي قولاً وفعلاً كما نقل الشيخ العيني اتفاق العلماء على ذلك. انظر عمدة القاري 8/14.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وقوله (الصيام لي وأنا أجزي به) معناه والله أعلم أن الصوم لا يظهر من بن آدم في قول ولا عمل وإنما هو نية ينطوي عليها لا يعلمها إلا الله وليست مما يظهر فيكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر أعمال الظاهر، لأن الصوم في الشريعة ليس هو بالإمساك عن الطعام والشراب دون استشعار النية واعتقاد النية بأن تركه الطعام والشراب والجماع ابتغاء ثواب الله ورغبته فيما ندب إليه تزلفاً وقربةً منه كل ذلك منه إيماناً واحتساباً لا يريد به غير الله - عز وجل - ومن لم ينو بصومه أنه لله عز وجل فليس بصيام، فلهذا قلنا إنه لا تطلع عليه الحفظة لأن التارك للأكل والشرب ليس بصائم في الشرع إلا أن ينوي بفعله ذلك التقرب إلى الله تعالى بما أمره به ورضيه من تركه طعامه وشرابه له وحده لا شريك له لا لأحد سواه فمعنى قوله الصوم لي والله أعلم وكل ما أريد به وجه الله فهو له ولكنه ظاهر والصوم ليس بظاهر.] الاستذكار 10/249.
ويؤيد ما تقدم ما ورد في الأحاديث من ترتيب الأجر العظيم على كون الصيام إيماناً واحتساباً وكذلك قيام رمضان عامة وليلة القدر خاصة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [معنى إيماناً: تصديقاً بأنه حق معتقد فضيلته، ومعنى احتساباً، أنه يريد الله تعالى لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص.] شرح النووي على صحيح مسلم 2/378.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [المراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى.] فتح الباري 4/149.
وقال المباركفوري [قوله: (من صام رمضان وقامه إيماناً) أي تصديقاً بأنه فرض عليه حق وأنه من أركان الإسلام ومما وعد الله عليه من الثواب والأجر قاله السيوطي. وقال الطيبي: نصب على أنه مفعول له أي للإيمان وهو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والاعتقاد بفرضية الصوم، (واحتساباً) أي طلباً للثواب منه تعالى، أو إخلاصاً، أي باعثه على الصوم ما ذكر لا الخوف من الناس ولا الاستحياء منهم ولا قصد السمعة والرياء عنهم] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 2/293.
إذا تقرر هذا فإن الصيام يجب أن يكون خالصاً لله تعالى لا تشوبه شائبة، وخاصة أن الصيام عبادة خفية لا يطلع عليها الناس، وهذا الحكم ينسحب على بقية أعمال المسلم ولكنه في الصيام أظهر وأوضح، وقد ورد في بعض النصوص النبوية الإشارة إلى الإيمان والاحتساب كما ورد في الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ ن دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط) رواه البخاري.
وروى البيهقي بإسناده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقالت: (حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين فليس عبد يقع الطاعون فيقيم ببلده إيماناً واحتساباً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد) أخرجه البخاري من حديث داود بن أبي الفرات كما قال البيهقي في السنن الكبرى 3/376.
وخلاصة الأمر أن معنى كون الصوم لله وأنه يجزي به أن الصوم أبعد الأعمال عن الرياء لأنه أمر خفي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل. ولا بد للمسلم من أن يخلص عمله كله لله تعالى لأننا قد أمرنا بإخلاص الأعمال كلها لله تعالى كما قال جل جلاله {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى) رواه البخاري وغيره.(9/8)
9 - المتاجرون برمضان
يقول السائل: ما قولكم فيما تقدمه كثير من المحطات الفضائية في رمضان من مسلسلات دينية وبرامج ترفيهية حيث يحرص كثير من الناس على متابعتها بحجة الاستفادة العلمية أو الترويح عن النفس، أفيدونا؟ الجواب: إن معظم وسائل الإعلام المعاصر المسموعة والمرئية والمقروءة تقوم بدور هدام في المجتمع المسلم وخاصة المحطات الفضائية التي ترفع راية محاربة البقية الباقية من القيم والأخلاق المستمدة من ديننا وقيمنا وعادتنا الصحيحة الشريفة. إن ما يقدم للناس من عري فاضح ورقص وقح واختلاط ماجن باسم الفن لهو الفاحشة بعينها فأي فن هذا الذي يقدم فيما يعرف (بالفيديو كليب) !؟ عشرات الفتيات شبه عاريات وعشرات المخنثين يتراقصون ويغنون بأجسادهم لا بأصواتهم، وأما ما يسمونه مسلسلات دينية فإن الدين من معظمها براء وليس لها حظ من الدين إلا في الاسم، فمتى كان الفسقة والفجرة يقدمون الدين للناس!؟ وأما المسلسلات التاريخية فهي تشويه لحقائق التاريخ وتشويه للصور المضيئة لقادتنا وأئمتنا كما هو الحال في مسلسل تعرضه إحدى الفضائيات عن الخليفة العباسي هارون الرشيد وابنيه الأمين والمأمون والذي تقدم فيه خليفة المسلمين الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً على أنه زير نساء سكير يقضي وقته مع الغلمان والجواري وغير ذلك من التشويه المتعمد، إن هذا لشيء عجاب، وأما البرامج الترفيهية فإنها تدعو إلى الخنا والفجور من خلال تقديم الفنانات والممثلات والراقصات وأشباههن من قليلات الأدب والحياء [ففي إحدى القنوات والتي عرضت برنامجاً بعد الإفطار في شهر رمضان المبارك حيث يستضيف الممثلين والممثلات، استضاف في إحدى حلقاته إحدى الراقصات، فسألتها مقدمة البرنامج: كيف وصلت إلى ما وصلت له من مجد؟! فأجابت هذه الراقصة: أنا هربت من أسرتي وعمري 12 سنة ومارست حياتي! حتى وصلت وأصبحت فلانة صاحبة الشهرة والملايين!! ثمَّ سألتها المذيعة: أنت تزوجت 3 مرات رسمياً و4 عرفياً؟ فقالت: لا بل 4 رسمياً و7 عرفياً!!
هكذا تقدم بعض فضائياتنا العربية قليلات الحياء والأدب والدين في شهر رمضان ليتحدثوا عن مجدهن الملطَّخ الذي مارسوا فيه حياتهن بكلِّ حريَّة!
ـ وفي برنامج آخر في شهر رمضان سئلت إحدى الفاسقات عن عدد مرَّات الزواج؟ فقالت أربع رسمياً أمَّا العرفي فلا أعرف له عدداً، فسألوها لم كل هذا العدد؟ يبدو أنَّ العيب في الرجال؟! فقالت: لا العيب في نظام الزواج لأنَّه نظام بالٍ ومتخلِّف عفاه الزمن!!] مجلة البيان عدد 141ص 39. هذا غيض من فيض مما تقدمه المحطات الفضائية في رمضان وأما في غير رمضان فحدث ولا حرج!؟ إن هؤلاء الفسقة ينطبق عليهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. وإن هؤلاء المفسدين يجاهرون بفسادهم وإفسادهم في رمضان بل في أعظم أوقاته وأكثرها بركة كقبيل الإفطار وبعده وفي وقت صلاة التراويح ووقت صلاة القيام ولا يستحون من الله ولا من الناس مع أن فساق الماضي كان عندهم قليل من الحياء [فهذا أبو نواس الشاعر الماجن كان يستحي من إظهار المعصية في شهر رمضان ويقول: منع الصوم عقاراً وذوي اللهو فغارا
وبقينا في سجون الصوم للهم أسارى
غير أنَّا سنداري فيه ما ليس يدارى]
إن واجب المسلمين أن يحذروا أعوان الشيطان الذين يحاولون بشتى السبل والوسائل سرقة شهر رمضان منا ويحاولون إفساد هذه العبادة العظيمة على الناس ويفرغونها من مضامينها الإيمانية عبر تقديم مسلسلات وتمثيليات وفوازير ومسابقات ونحوها. إن واجبنا أن نحيي هذا الشهر الفضيل كما أراده الله عز وجل وكما أحياه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وكما أحياه سلف هذه الأمة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة الآية 179. "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم يصوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سآبه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سآبك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه الشيخ الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الشيخ الألباني. فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الصوم لا يقصد به مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من صوم الجوارح عن المعاصي، فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ومنها متابعة ما أشرت إليه من تمثيليات ومسلسلات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله، كما أشار إلى ذلك الحديث الأخير، وله رواية أخرى وهي: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة. وقد فهم السلف الصالح هذه المعاني الجليلة فقال بعضهم: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
وعلى المسلم أن يشغل وقته في رمضان بأنواع الطاعات فيحافظ على الصلوات الخمس في الجماعات ويحافظ على صلاة التراويح ويقوي صلته بكتاب الله عز وجل فرمضان شهر القرآن قال الله تعالى {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} البقرة: 185، وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ، وقال سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن في رمضان كما ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى لله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي الانتباه إلى تدبر الآيات والتفكر فيها أثناء القراءة وليس المقصود هو كثرة القراءة وسرعتها وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال: [إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة – والمفصل هو السبع السابع من القرآن الكريم ويبدأ بسورة الحجرات إلى سورة الناس - فقال ابن مسعود: أهذّاً كهذِّ الشعر؟! إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع] وكان ابن مسعود يقول: [إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأصغ لها سمعك، فإنه خير تُؤْمَر به أو شر تُصْرَف عنه] وقال الحسن البصري [أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً] .
وخلاصة الأمر أن على المسلم أن يصرف جميع وقته في طاعة الله عز وجل وبالذات في رمضان وأن لا يضيع وقته في متابعة ما يقدمه شياطين الإنس في الفضائيات وغيرها من فساد وانحلال ومن فحشاء ومنكر.(9/9)
10 - المفطرات العصرية في الصيام
يقول السائل: نسمع من المشايخ على الفضائيات وفي المساجد أموراً متضاربة في مفطرات الصائم وخاصة ما يتعلق بالأشياء العصرية مثل بخاخ الربو والتحاميل واستعمال المنظار الطبي ونحوها فما قولكم في ذلك؟ الجواب: إن الاختلاف الفقهي في الفروع إن صدر عن أهل العلم وكان معتمداً على استدلالات صحيحة خلاف معتبر وسبب الخلافات في هذه الأمور التي اعتبرها بعض العلماء مفطرة للصائم وبعضهم يرى أنه غير مفطرة يرجع إلى تحديد معنى الجوف فمنهم يعتبر أن الجوف هو التجويف البطني فجعلوا الداخل إليه من أي منفذ مفطراً لكونه موصلاً إلى الجوف وتوسع الشافعية في مدلول الجوف فقالوا كل مجوف في بدن الإنسان فهو جوف كباطن الإذن وداخل العين وباطن الرأس وباطن الدبر والقبل فعندهم يفطر الصائم بكل ما دخل من هذه المنافذ حتى قالوا يفطر الصائم بما وصل من عينه عمداً إلى مطلق الجوف من منفذ مفتوح والتقطير في باطن الأذن مفطر والحقنة من الدبر والتقطير في باطن الإحليل وإدخال عود أو نحوه فيه مفطر ودخول طرف الأصبع في الدبر حالة الاستنجاء فيفطر به] تحفة الحبيب على شرح الخطيب بتصرف، وقالوا أيضاً [لو طعن نفسه أو طعنه غيره فوصل السكين جوفه أفطر] حاشيتا قليوبي وعميرة، وقالوا أيضاً [لو كان برأسه جرحاً فوضع عليه دواءً فوصل إلى الدماغ أفطر] تحفة المحتاج ف شرح المنهاج وغير ذلك [والقول الراجح أن الجوف هو المعدة فقط، أي إن المفطر هو ما يصل إلى المعدة دون غيرها من تجاويف البدن. ويضاف إلى ذلك أن الأمعاء هي المكان الذي يمتص فيه الغذاء، فإذا وضع فيها ما يصلح للامتصاص سواء كان غذاء أو ماء فهو مفطر، لأن هذا في معنى الأكل والشرب كما لا يخفى.] مفطرات الصيام المعاصرة. إذا تقرر هذا فإن أرجح أقوال أهل العلم هو التضييق في مسألة المفطرات وعدم التوسع فيها لعدم ثبوت الأدلة، فالمفطرات المعتبرة هي ما دل عليه الكتاب والسنة وهي الطعام والشراب والجماع ومعلوم أن الطعام والشراب يتناوله الإنسان من منفذه الطبيعي وهو الفم فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي فلا شك أنه يفطر الصائم. ويدل على ذلك قوله تعالى {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} البقرة الآية 187. وبناءً على ما سبق فإن استعمال بخاخ الربو والتحاميل واستعمال المنظار الطبي من أي موضع دخل لا تعتبر من المفطرات وكذلك القطرات بأنواعها لا تفطر الصائم سواء كانت في الأذن أو العين أو الأنف وكذلك الحقن (الإبر) الدوائية سواء كانت في الوريد أو العضل أو تحت الجلد لا تفطر الصائم وكذلك الحقن الشرجية لا تفطر الصائم وكذا غاز الأكسجين لا يفطر الصائم، وكذلك غسيل الكلى إن لم يصاحبه تزويد للجسم بمواد مغذية سكرية أو غيرها فلا يفطر الصائم وكذلك الفحص الداخلي للمرأة لا يفطر الصائم وكذلك سحب الدم للتبرع به أو للتحليل لا يفطر الصائم وكذلك التخدير الموضعي وجميع أنواع الدهون والمراهم واللصقات العلاجية لا تفطر الصائم.
وقد اختار القول بالتضييق في المفطرات الإمام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله كما يؤخذ من تراجم أبوابه، واختاره الشيخ ابن حزم الظاهري رحمه الله حيث قال: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله] المحلى 4/348. واختاره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم فنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ومن لم يفطر الكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام في دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/ 233-234. وقال شيخ الإسلام أيضاً: [إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقل الأمة فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبين صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره] مجموع الفتاوى 25/236-242.
وكذا اختاره جماعة من علماء العصر كالشيخ القرضاوي وأعضاء مجمع الفقه الإسلامي حيث ورد في قراره مايلي: [بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9-12 صفر 1418هـ الموافق 14-17 حزيران (يونيو) 1997م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء قرر ما يلي:
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: 1 - قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 2 - الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 3 - ما يدخل المهبل – فرج المرأة -من تحاميل (لبوس) ، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي. 4 - إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم. 5 - ما يدخل الإحليل - أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى - من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6 - حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7 - المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 8 - الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية. 9 - غاز الأكسجين. 10- غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية. 11- ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية. 12- إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء. 13- إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها. 14- أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل. 15- منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى. 16- دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي. 17- القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد (الاستقاءة) .] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر الجزء الثاني 453-455.
وخلاصة الأمر أن الراجح من أقوال أهل العلم هو التضييق في المفطرات وأن المفطرات المعتبرة هي الجماع والأكل والشرب ويضاف لها ما اتفق عليه أهل العلم على أنه مفطر، مما هو في حكم الطعام والشراب، كالتدخين وتعاطي الأدوية عن طريق الفم.(9/10)
11 - الطبيب الذي يقبل قوله للفطر في رمضان
يقول السائل: من هو الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض في رمضان؟ الجواب: الأصل في الطبيب الذي يقبل قوله إذا أخبر المريض أن يفطر في رمضان هو الطبيب المسلم الثقة الحاذق في الطب وكذا إذا أخبر هذا الطبيب بأن المريض ممنوع من استعمال الماء لمرضه فيجوز له التيمم أو أخبره بأن عليه أن يصلي قاعداً في الفريضة ونحو ذلك من المسائل.
وقد قال جماعة من الفقهاء بأن الإسلام شرط في هذا الطبيب مع كونه حاذقاً، فلا يقبل قول الطبيب غير المسلم قال الإمام النووي [قال أصحابنا يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصاً في التيمم وأنه على الصفة المعتبرة على معرفة نفسه إن كان عارفاً وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عدل فان لم يمكن بهذه الصفة لم يجز اعتماده] المجموع 2/286. وقال الشيخ البهوتي الحنبلي: [ (وإذا قال طبيب) سمي بذلك لفطنته وحذقه (مسلم ثقة) أي عدل ضابط فلا يقبل خبر كافر ولا فاسق، لأنه أمر ديني، فاشترط له ذلك كغيره من أمور الدين (حاذق فطن لمريض: إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك فله) أي المريض (ذلك) أي الصلاة مستلقياً (ولو مع قدرته على القيام) ] كشاف القناع عن متن الإقناع.
ومن الفقهاء من أجاز قبول قول الطبيب غير المسلم إذا كان حاذقاً في الطب وهذا أرجح قولي الفقهاء في المسألة وفيه نوع من التيسير على الناس وخاصة في بلادنا حيث إن كثيراً من الناس يتعالجون عند أطباء غير مسلمين، فإذا كان الطبيب غير المسلم حاذقاً وماهراً في تخصصه فيجوز للمسلم أن يقبل قوله في قضايا الإفطار في رمضان وغيرها.
قال الشيخ ابن مفلح الحنبلي [وقال الشيخ تقي الدين – أي شيخ الإسلام ابن تيمية -: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيراً بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطب كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله كما قال تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} . وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلاً مشركاً هادياً خريتاً والخريت الماهر بالهداية وائتمنه على نفسه وماله وكانت خزاعة عيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - أي موضع سره وأمانته - مسلمهم وكافرهم , وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب الحارث بن كلدة وكان كافراً، وإذا أمكنه أن يستطب مسلماً فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي أو استطبابه فله ذلك ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسناً فإن الله تعالى يقول: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} . الآداب الشرعية 2/441-442. والحديث الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في حادثة الهجرة النبوية هو ما رواه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث) والخريت هو الماهر في الدلالة على الطريق.
وقال العلامة ابن القيم معلقاً على استئجار المشرك في حادثة الهجرة [في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم – عبد الله بن أريقط الديلي هادياً في وقت الهجرة، وهو كافر دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والحساب والعيوب ونحوها ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من مجرد كونه كافراً ألا يوثق به في شيء أصلاً، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة] بدائع الفوائد 3 /208.
والحديث الثاني الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو ما رواه أبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال مرضت مرضاً أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي فقال إنك رجل مفئود ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن) قال صاحب عون المعبود [ (مفئود) : اسم مفعول مأخوذ من الفؤاد وهو الذي أصابه داء في فؤاده وأهل اللغة يقولون الفؤاد هو القلب, وقيل هو غشاء القلب, أو كان مصدورا فكنى بالفؤاد عن الصدر لأنه محله قاله القاري ... قوله (ثم ليلدك بهن) : من اللدود وهو صب الدواء في الفم أي ليجعله في الماء ويسقيك] والحارث بن كلدة الثقفي من أشهر أطباء العرب في الجاهلية وأدرك الإسلام واختلف في إسلامه ولكن لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يتداوى عنده لم يكن مسلماً حينذاك.
وقال الشيخ ابن مفلح الحنبلي أيضاً: [وذكر أبو الخطاب في حديثه صلح الحديبية وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عيناً له من خزاعة وقبوله خبره، إن فيه دليلاً على جواز قبول المتطبب الكافر فيما يخبر به عن صفة العلة ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه وكان غير مظنون به الريبة.] الآداب الشرعية 2/442.
وقال الرحيباني الحنبلي: [وسن فطر وكره صوم (لخوف مريض وحادث به في يومه ضرراً بزيادته أو طوله أي المرض ولو بقول طبيب غير مسلم ثقة] مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى.
وقال الشيخ النفراوي المالكي: [الخوف المجوز للفطر هو المستند صاحبه إلى قول طبيب ثقة حاذق أو لتجربة من نفسه] الفواكه الدواني.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [ذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون الإِسلام، وقال: متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً. واستدلُّوا لذلك: بأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بقول الكافر حال ائتمانه؛ لأنه وَثِقَ به فقد استأجرَ في الهجرةِ رَجُلاً مشركاً مِن بني الدِّيلِ، يُقال له: عبدُ الله بن أُريقط ليدلَّه على الطريق مِن مكَّة إلى المدينة، مع أنَّ الحالَ خطرةٌ جداً أن يعتمد فيها على الكافر، لأن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر حتى جعلوا لمن جاء بهما مئتي بعير، ولكن لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل أمين، وإن كان كافراً ائتمنه ليدله على الطريق. فأخذ العلماء القائلون بأن المدار على الثقة أنه يقبل قول الطبيب الكافر إذا كان ثقة، ونحن نعلم أن من الأطباء الكفار من يحافظون على صناعتهم ومهنتهم أكثر مما يحافظ عليها بعض المسلمين لا تقرباً إلى الله أو رجاء لثوابه، ولكن حفاظاً على سمعتهم وشرفهم. فإذا قال طبيب غير مسلم ممن يوثق بقوله لأمانته وحذقه: إنه يضرك أن تصلّي قائماً ولا بد أن تصلّي مستلقياً فله أن يعمل بقوله، ومن ذلك أيضاً لو قال له الطبيب الثقة: إن الصوم يضرك أو يؤخر البرء عنك فله أن يفطر بقوله. وهذا هو القول الراجح لقوة دليله وتعليله.] الشرح الممتع
وخلاصة الأمر أنه يقبل قول الطبيب المسلم الثقة المتخصص في الأعذار التي تبيح الفطر في رمضان وكذلك يقبل قول الطبيب غير المسلم المتخصص فيجوز للمريض أن يأخذ بقولهما فيفطر في رمضان، ولكن يجب الحذر من الأخذ بأقوال الأطباء المستهترين بالدين ممن لا يصلون ولا يصومون فهؤلاء ليسوا من الثقات فلا تقبل أقوالهم في المسائل الدينية.(9/11)
12 - قضاء رمضان
تقول السائلة: إنها تبلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة ولم تقض ما أفطرته من شهور رمضان السابقة بسبب الحيض، لأنها لم تكن تعلم بوجوب القضاء عليها والآن قد عرفت بوجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان فماذا تصنع؟ الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الحائض لا تصوم لأن من شروط الصيام الطهارة من الحيض وقد كنت أظن أن هذا الحكم معروف بين النساء ولكنني علمت من خلال أسئلة بعض النساء أنهن كن يصمن حال الحيض ولا يعرفن أنه لا يجوز للحائض الصوم، ومما يدل على منع الحائض من الصيام ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ... أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي أن يعلم ثانياً أن العلماء قد اتفقوا على وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان بسبب الحيض، فقد ورد في الحديث عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) رواه البخاري ومسلم. ومعاذة هي بنت عبد الله العدوية، وهي معدودة في فقهاء التابعين قولها: (أحرورية أنت؟) الحروري منسوب إلى حرورا، بلدة على ميلين من الكوفة، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي رضي الله عنه بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنسبة إليها وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دل عليه القرآن ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً. تحفة الأحوذي 1/345.
وينبغي أن يعلم ثالثاً أن العذر بالجهل ليس مقبولاً على إطلاقه عند أهل العلم بل المسألة فيها تفصيل فهنالك أمور من الدين، العلم بها فرض عين ولا يعذر المسلم بجهلها، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/140. والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42. وقال الإمام النووي: [… فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها] المجموع 1/42.
فهذا النوع من العلم هو الذي لا يسع المسلم أن يجهله، وهو علم العامة كما قال الإمام الشافعي: [قال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ. قال: ومِثْل ماذا؟ قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه. وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا.] الرسالة ص 357-359.
وقال جلال الدين السيوطي: [كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم.] الموسوعة الفقهية الكويتية 16/199.
وما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في هذا القسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة فلم يعتد بصلاته فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم. ويدخل في هذا القسم وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان فهذا الحكم لا تعذر المرأة بالجهل به بشكل عام ما دامت تعيش في ديار الإسلام. وهنالك حالات يعذر فيها المسلم بالجهل كمن يجهل دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد كما ورد في الحديث عن أبي هريرة أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري ومسلم، وكما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أحرم في ملابس مطيبة فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق أو قال أثر صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ... قال أين السائل عن العمرة اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على المرأة السائلة أن تقضي جميع الأيام التي أفطرتها من رمضانات سابقة وتبقى ذمتها مشغولة بذلك حتى تقضيها ولا فدية عليها لأن الراجح من أقوال أهل العلم فيمن أخر قضاء ما عليه من رمضان سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر وجوب القضاء فقط ولا تجب عليه الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 184. وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الحنفية ونقل عن إسحاق بن راهويه والحسن البصري والنخعي واختاره الإمام الشوكاني، وإن كان جمهور الفقهاء على خلافه، قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] نيل الأوطار 4/263.
وخلاصة الأمر أن المرأة الحائض لا يجزئ منها الصيام ولا يجوز لها الإقدام عليه أصلاً ويلزمها قضاء ما أفطرته من رمضان، وأن المسلم لا يعذر بالجهل في الأكام المعروفة والمشهورة بين المسلمين ويعذر بالجهل بالمسائل الفرعية التفصيلية.(9/12)
13 - هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان، أفيدونا؟ الجواب: لا شك أن خير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو أكمل الهدي، وعمله صلى الله عليه وسلم خير العمل، وعلى كل مسلم أن يبذل وسعه وطاقته في الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) سورة الأحزاب الآية 21.
وقد كان أعظم ما يميز هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في شعبان هو الصيام حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شعبان، بل إن شهر شعبان هو أكثر شهر صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رمضان فقد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك منها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهرٍ إلا رمضان وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن لله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلّت وكان إذا صلى صلاة دوام عليها) رواه البخاري.
وعنها رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها قالت: (ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلا ً) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي [وقولها: (كان يصوم شعبان كله, كان يصومه إلا قليلاً) الثاني تفسير للأول, وبيان أن قولها كله أي غالبه, وقيل: كان يصومه كله في وقت, ويصوم بعضه في سنة أخرى, وقيل: كان يصوم تارة من أوله, وتارة من آخره, وتارة بينهما, وما يخلي منه شيئاً بلا صيام، لكن في سنين, وقيل: في تخصيص شعبان بكثرة الصوم لكونه ترفع فيه أعمال العباد, وقيل غير ذلك.] شرح النووي على صحيح مسلم 3/223-224.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [ ... إن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم. ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: (شعبان تعظيماً لرمضان) وفي إسناده مقال. وفي سنن ابن ماجة: (أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (صم شوالاً) فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالاً حتى مات. وفي إسناده إرسال، وقد روي من وجه آخر يعضده. فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم، وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال. فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم، فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى. فظهر بهذا أن أفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده. فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه ... ] لطائف المعارف ص248-249.
وقال بعض أهل العلم: الحكمة من صيام النبي صلى الله عليه وسلم أكثر شعبان أن كثيراً من الناس يغفلون عن الصيام في شعبان فكان صلى الله عليه وسلم يصوم أكثره وقد ورد ذلك معللاً في حديث أسامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر ما تصوم من شعبان؟ قال: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي معلقاً على حديث أسامة: [ ... أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه. وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام، وليس كذلك. وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناسٌ يصومون رجباً، فقال: (فأين هم عن شعبان) وفي قوله: (يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقاً أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم،
وفيه: دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف، يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن) ... ] لطائف المعارف ص 250-251.
وهنا لا بد من الإشارة إلى حديث قد يتعارض مع ما ذكرنا وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) رواه أصحاب السنن الأربعة. فيجاب عنه من وجهين: الأول: إن الحديث ضعيف ضعفه الإمام أحمد وابن معين والبيهقي. الثاني: إن صح فيحمل النهي في الحديث على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده قاله الحافظ ابن حجر. وقال الشوكاني: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة: (أن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجباً به) نيل الأوطار 4/276.
وينبغي أن يعلم أنه يكره للمسلم أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين لئلا يختلط النفل بالفرض، أو حتى يستريح الصائم ليدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم) رواه البخاري. وأخيراً أنبه على أن إحياء ليلة النصف من شعبان بدعة منكرة لا أصل له في الشرع وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) قال ابن الجوزي: [هذا حديث لا يصح عن رسول الله ? وفيه آفات ثم ذكر من آفاته مروان بن سالم قال فيه النسائي والدارقطني والأزدي متروك. العلل المتناهية 2/562. وقال الحافظ ابن حجر عنه: [ومروان هذا متهم بالكذب] . الإصابة 5/580. وقال الحافظ عنه في لسان الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 4/391. وقال الذهبي في الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 5/372.
وخلاة الأمر أنه كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم صيام أكثر شهر شعبان.(9/13)
14 - حكم اعتكاف المرأة
يقول السائل: ما حكم اعتكاف المرأة في العشر الأواخر من رمضان؟ الجواب: الاعتكاف من السنن الثابتة عن النبي ? وقد صح أن النبي ? اعتكف في رمضان في العشر الأواخر منه) رواه البخاري ومسلم. ويشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد قال الله تعالى: (ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) سورة البقرة الآية 187. ولم يعتكف النبي ? إلا في المسجد فلا يصح الاعتكاف في البيوت.
والاعتكاف مشروع للنساء كما هو مشروع للرجال إلا أنه يشترط لصحة الاعتكاف من المرأة أن تكون طاهراً من حيض أو نفاس على قول جمهور أهل العلم
ويدل على مشروعية الاعتكاف للنساء ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي ? كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده) رواه البخاري ومسلم
وثبت في الحديث الآخر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، صَلّىَ الْفَجْرَ. ثُمّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ. وَإِنّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ. أَرَادَ الاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ. وَأَمَرَ غَيْرُها مِنْ أَزْوَاجِ النّبِيّ ? بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ. فَلَمّا صَلّىَ رَسُولُ اللهِ ? الْفَجْرَ، نَظََ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ. فَقَالَ: "آلْبِرّ تُرِدْنَ؟ " فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوّضَ. وَتَرَكَ الإِعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. حَتّىَ اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوّلِ مِنْ شَوّالٍ) رواه البخاري ومسلم
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (فترك الاعتكاف) في رواية أبي معاوية " فأمر بخبائه فقوض " وهو بضم القاف وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة أي نقض وكأنه ? خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة والتنافس الناشىء عن الغيرة حرصاً على القرب منه خاصة فيخرج الاعتكاف عن موضوعه أو لما أذن لعائشة وحفصة أولا كان ذلك خفيفاً بالنسبة إلى ما يفضي إليه الأمر من توارد بقية النسوة على ذلك فيضيق المسجد على المصلين أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته وربما شغلنه عن التخلي لما قصد من العبادة فيفوت مقصود الاعتكاف.] فتح الباري 4/351
ويجب أن يعلم أنه يشترط إذن الزوج وموافقته لجواز اعتكاف الزوجة وكذا غير المتزوجة فلا بد من موافقة وليها قال الحافظ ابن حجر العسقلاني [قوله: (فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء) في رواية الأوزاعي المذكورة " فاستأذنته عائشة فأذن لها وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت " وفي رواية ابن فضيل المذكورة " فاستأذن عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت قبة , فسمعت بها حفصة فضربت قبة "] فتح الباري 4/350
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: [ ... قال ابن المنذر وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها , وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها. وعن أهل الرأي إذا أذن لها الزوج ثم منعها أثم بذلك وامتنعت , وعن مالك ليس له ذلك , وهذا الحديث حجة عليهم] فتح الباري 4/351
ويشترط لصحة اعتكاف المرأة أمن الفتنة فلا يصح اعتكاف المرأة في مسجد لا يوجد فيه مكان خاص بالنساء لأنها حينئذ ستختلط بالرجال وهذا فيه مفاسد تنافي الحكمة من الاعتكاف ومن المعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وإن اعتكفت مجموعة من النساء في مسجد خاص بهن فأمر حسن إن كان المسجد آمناً
ولا يشترط لصحة اعتكاف المرأة أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة ولا الجماعة لأنهما ليستا واجبتين على المرأة
قال الشيخ ابن قدامةالمقدسي [وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها وبهذا قال الشافعي وليس لها الاعتكاف في بيتها وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكي عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة (لأن النبي ? ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه وقال: (آلبر تردن) ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل. ولنا قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجداً كان مجازاً فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية كقول النبي ?: (جعلت لي الأرض مسجداً) ولأن أزواج النبي ? استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن ولو لم يكن موضعاً لاعتكافهن لما أذن فيه ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه ونبههن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرت أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء المقصد به ولذلك قال ?: (آلبر تردن) منكراً لذلك أي لم تفعلن ذلك تبرراً ولذلك ترك الاعتكاف لظنه أنهن يتنافسن في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن ولم يأذن لهن في المسجد وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه.] المغني 3/190-191.
وخلاصة الأمر أن الاعتكاف للنساء مشروع كالرجال بشروطه السابقة ولكن نظراً للظروف الصعبة التي نعيشها في هذه البلاد فأرى أنه لا ينبغي للنساء أن يعتكفن في المساجد في العشر الأواخر من رمضان ولا في غيرها إلا إذا اعتكفت المرأة في المسجد ساعة من النهار أو سويعات فلا بأس بذلك وأما أن تعتكف ليلاً في المسجد فلا.(9/14)
15 - حكم الأكل أثناء الأذان لصلاة الفجر
يقول السائل: إنه سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) فهل هذا الحديث يجيز للصائم أن يستمر في الأكل والشرب أثناء أذان الفجر. أفيدونا. الجواب: من المعلوم أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر الصادق وهو وقت أذان الفجر للصلاة
قال الله سبحانه وتعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) سورة البقرة الآية 187. فإذا طلع الفجر الصادق فحينئذ يحرم الطعام والشراب على الصائم. ومن المعروف أنه يؤذن للفجر بأذانين فالأذان الأول لا يدخل به وقت صلاة الفجر ويجوز لمن أراد الصيام أن يأكل ويشرب وأما الأذان الثاني فبه يدخل وقت صلاة الفجر وعنده يحرم الأكل والشرب على الصائم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت) رواه البخاري ومسلم.
وبناءً على ما تقدم فبمجرد أن يؤذن لصلاة الفجر فلا يجوز الأكل ولا الشرب لأن وقت الصيام قد بدأ هذا إذا كان المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر الصادق وبما أن المؤذنين في بلادنا يعتمدون على التوقيت المعروف وهو توقيت صحيح أعدته لجنة من أهل العلم الشرعي ومن مختصين في علم الفلك وممن لديهم خبرة ومعرفة في التوقيت فيجب الالتزام به
قال العلامة ابن القيم [وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر , وهو قول الأئمة الأربعة , وعامة فقهاء الأمصار , وروي معناه عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 6/341.
وأما الحديث المذكور في السؤال فقد رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث حسن وقد فصَّل الكلام على سنده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 1394
وأما المراد بالحديث فقد قال الإمام البيهقي [وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن المنادي كان ينادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر] السنن الكبرى 4/218
وقال الإمام النووي: [ذكرنا أن من طلع الفجر وفى فيه – فمه - طعام فليلفظه ويتم صومه فان ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه وهذا لا خلاف فيه ودليله حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " رواه البخاري ومسلم وفى الصحيح أحاديث بمعناه وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه " وفى رواية " وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر " فروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الأولي وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ورواهما البيهقى ثم قال: وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر قال وقوله إذا بزغ يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة أو يكون خبراً عن الأذان الثاني ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده " خبراً عن النداء الأول ليكون موافقاً لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قال وعلى هذا تتفق الأخبار وبالله التوفيق والله أعلم] المجموع 6/311- 312
وحمل جماعة من العلماء هذا الحديث على حال من شك في طلوع الفجر، أما إذا تأكد من طلوع الفجر فليس له أن يأكل أو يشرب فإن فعل بعد التأكد من طلوع الفجر فقد بطل صومه ويلزمه القضاء. .
وقال العلامة علي القاري [قوله صلى الله عليه وسلم (حتى يقضي حاجته منه) هذا إذا علم أو ظن عدم الطلوع. وقال ابن الملك: هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح أما إذا علم أنه قد طلع أو شك فيه فلا] مرقاة المفاتيح 4/483.
وخلاصة الأمر أن الحديث وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث حسن ولكن الحديث لا يجيز للصائم أن يستمر في الأكل والشرب خلال أذان الفجر إذا تأكد من طلوع الفجر الصادق. والواجب على الصائم أن يمتنع عن الأكل والشرب بمجرد سماع أذان الفجر.(9/15)
16 - قضاء رمضان سابق
يقول السائل: إنه لم يصم شهر رمضان الماضي بدون أي عذر ولم يقضه وقد ندم على تقصيره وينوي أن يصوم رمضان القادم فماذا عليه؟ الجواب: إن الإفطار في رمضان متعمداً من كبائر الذنوب وانتهاك للمحرمات وتعدي على ركن من أركان الإسلام والواجب على من وقع منه ذلك أن يبادر بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى بشروطها المعروفة.
قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31.
ويلزم هذا المفطر أن يقضي الشهر الذي أفطره كما قرره جمهور أهل العلم
يقول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 184. ففي هذه الآية الكريمة ألزم الله عز وجل القضاء لمن أفطر لعذر كالمريض والمسافر فمن باب أولى أن يلزم القضاء من أفطر متعمداً
ومما يدل على وجوب القضاء على المفطر المتعمد في رمضان ما ورد في الحديث عن أبي هريرة ? قال قال رسول الله ? (من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد ومالك وهو حديث صحيح كما قال اعلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/452. فهذا الحديث قد أوجب القضاء على من استقاء أي تعمد إخراج القيء وقد أفطر بغير عذر فهو آثم فيما فعل فكل من أفطر عامداً كان حكمه كحكم من إستقاء. انظر قضاء العبادات ص 225.
وكذلك فإن ذمة هذا المفطر متعمداً مشغولة بفريضة الصيام ولا تبرأ الذمة إلا بالأداء وقد فاته الأداء فلزمه القضاء.
وقد أوجب جماعة من العلماء الفدية بالإضافة للقضاء في حق من دخل عليه رمضان وفي ذمته أيام لم يصمها من رمضان سابق إن كان تأخير القضاء لغير عذر وهذه الفدية تكون بإطعام مسكين عن كل يوم أفطره من رمضان
قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في من أخر قضاء رمضان بغير عذر حتى دخل رمضان آخر * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزمه صوم رمضان الحاضر ثم يقضى الأول ويلزمه عن كل يوم فدية وهى مد من طعام وبهذا قال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد والزهري والأوزاعي ومالك والثوري وأحمد وإسحق إلا أن الثوري قال الفدية مدان عن كل يوم وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة والمزني وداود يقضيه ولا فدية عليه] المجموع 6/366.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وجملة ذلك أن من عليه صوماً من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان , فما أقضيه حتى يجيء شعبان) متفق عليه. ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة , فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة، فإن أخره عن رمضان آخر نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء وإن كان لغير عذر , فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة , ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك , والثوري والأوزاعي والشافعي , وإسحاق وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه صوم واجب , فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر ولنا ما روي عن ابن عمر وابن عباس , وأبي هريرة أنهم قالوا: أطعم عن كل يوم مسكيناً ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسنداً من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء , أوجب الفدية كالشيخ الهرم.] المغني 3/153-154.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجب القضاء فقط سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر ولا تجب الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول ? قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] نيل الأوطار 4/263.
ولكن إن عمل أحد بالقول الثاني فلا بأس للآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم.
وخلاصة الأمر أن على من أفطر عامداً في رمضان أن يقضي الأيام التي أفطرها ولا تبرأ ذمته إلا بذاك.(9/16)
17 - يشرع صيام يوم عرفة وإن وافق يوم السبت
يقول السائل: إن يوم عرفة يصادف هذا العام يوم السبت فما حكم صيامه حيث إنني قد سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن صوم يوم السبت إلا في الفريضة فما قولكم في ذلك؟ الجواب: يوم عرفة يوم من أيام الله سبحانه وتعالى ويوم عظيم مبارك ومن أفضل أعمال المؤمن أن يصوم يوم عرفة وقد ثبت في فضل صيامه أحديث كثيرة منها: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم (قال وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال يكفر السنة الماضية والباقية) وعن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة بعده) رواه ابن ماجة، وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على مشروعية صوم يوم عرفة وفضله، وصوم يوم عرفة مشروع مهما كان اليوم الذي وقع فيه سواء كان يوم الجمعة أو السبت أو الأحد وأما الحديث الذي أشار إليه السائل وهو عن عبد الله بن بسر عن أخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه) رواه أحمد وأصحاب السن إلا النسائي، فإن هذا الحديث محل خلاف بين المحدثين فمنهم من ضعفه ومنهم من قال بنسخه ومنهم من قال إنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من حسنه أو صححه ومنهم من أولَّه وجمع بينه وبين غيره من الأحاديث التي أثبتت صوم السبت في النافلة.
قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر الحديث [فقال مالك رحمه الله هذا كذب يريد حديث عبد الله بن بسر ذكره عنه أبو داود، قال الترمذي: هو حديث حسن، وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ وقال النسائي هو حديث مضطرب وقال جماعة من أهل العلم لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة فإن النهي عن صومه إنما هو إفراده وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد قالوا ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده] زاد المعاد في هدي خير العباد 2/79-80.
وقال الشيخ سليمان العلوان عن الحديث [هذا الخبر منكر سنداً ومتناً. قال عنه الإمام مالك هذا كذب ذكره عنه أبو داود في سننه. وقال الأوزاعي. مازلت له كاتماً حتى رأيته انتشر يعني حديث ابن بسر هذا في صوم يوم السبت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده) متفق عليه من حديث أبي هريرة وهو دليل على صوم يوم السبت والأحاديث في ذلك كثيرة] .
وقال بعض أهل العلم [… وهذا الحديث وإن كان رجاله ثقات معروفون، إلا أنه ليس بالقائم بل هو مضطرب… وفي متنه نكارة، ومخالفة للأحاديث الصحاح في صوم يوم الجمعة ويوماً بعده، كما في الصحيحين من حديث جويرية وكذلك صوم أيام البيض، وصيام داود صيام يوم وفطر يوم كما في الصحيحين، وصوم يوم عرفة وست من شوال كما في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب وغيرها. وقد أنكر هذا الخبر الحفاظ، قال الأوزاعي رحمه الله: لم نزل نكتمه حتى انتشر. قال الإمام أحمد: يحيى بن سعيد ينفيه أبى أن يحدثني به. وقال الأثرم: حجة أبي عبد الله - أحمد بن حنبل- في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر]
ومن أهل العلم من يرى جواز إفراد السبت بالصيام وهو اختيار الزهري والأوزاعي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد لما ورد في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.
وقال جماهير أهل العلم يكره إفراد يوم السبت بالصيام فإذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا كراهة وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد. قال الإمام الترمذي [ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم يوم السبت] سنن الترمذي 3/120.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [قال أصحابنا يكره إفراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) … والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره لما قدمناه] المغني 3/171.
وقال الإمام النووي: [يكره إفراد يوم السبت بالصوم، فإن صام قبله أو بعده معه لم يكره صرح بكراهة إفراده أصحابنا منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم؛ لحديث عبد الله بن بسر …قال الحاكم أبو عبد الله: …وله معارض صحيح وهو حديث جويرية السابق في صوم يوم الجمعة قال: وله معارض آخر بإسناد صحيح. ثم روى بإسناده (عن كريب مولى ابن عباس أن ابن عباس وناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً لها؟ قالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا فذكر أنك قلت كذا وكذا، فقالت: صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد، وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم) هذا آخر كلام الحاكم. وحديث أم سلمة هذا رواه النسائي أيضا والبيهقي وغيرهما. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس) رواه الترمذي وقال حديث حسن. والصواب على الجملة ما قدمناه عن أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له؛ لحديث الصماء … وأما الأحاديث الباقية التي ذكرناها في صيام السبت فكلها واردة في صومه مع الجمعة والأحد فلا مخالفة فيها لما قاله أصحابنا من كراهة إفراد السبت وبهذا يجمع بين الأحاديث] المجموع 6/439-440.
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز [يجوز صيام يوم عرفة مستقلاً سواء وافق يوم السبت أو غيره من أيام الأسبوع لأنه لا فرق بينها لأن صوم يوم عرفة سنة مستقلة وحديث النهي عن يوم السبت ضعيف لاضطرابه ومخالفته للأحاديث الصحيحة] فتاوى اللجنة الدائمة 10/396.
وخلاصة الأمر أنه يجوز إفراد يوم السبت بصيام إذا كان له سبب كيوم عرفة وعاشوراء وصيام البيض ولا يكره صيام السبت إذا صام يوماً قبله أو بعده ويكره إفراد يوم السبت بصيام إذا قصد المسلم تعظيمه لأنه من أعياد اليهود. وأقول للقراء الكرام صوموا يوم غدٍ لأنه يوم عرفة وبغض النظر أنه وافق يوم السبت.(9/17)
18 - تفرق المسلمين في رؤية الهلال
يقول السائل: ما قولكم فيما حدث يوم الثلاثين من رمضان هذا العام حيث إن بعض الناس قلدوا ما أعلن في بعض مناطق العراق أن عيد الفطر يوم الاثنين 24-11-2003 فعيدوا في ذلك اليوم وخالفوا ما عليه أكثر المسلمين في العالم حيث إن العيد كان يوم الثلاثاء 25-11-2003 مما أحدث بلبلة بين عامة الناس أفيدونا. الجواب: إن مما يؤسف له تكرر هذه المشكلة في بلادنا على يد فئة تشذ وتخالف جماعة الناس بزعم أنهم يتبنون وحدة المطالع فيصومون مع أول من يعلن الصيام ويفطرون مع أول من يعلن الفطر والغريب في الأمر أنه هؤلاء يتبنون هذا الحكم في الصيام فقط ولا يتبنون في بقية أحكام الصوم؟! ثم هؤلاء الذين عيدوا يوم الاثنين لم يصلوا العيد في ذلك اليوم بل صلوا العيد يوم الثلاثاء. إن هذا لشيء عجاب فصلاة العيد مشروعة يوم العيد فكيف يصلونها في اليوم التالي للعيد على رأيهم الأعرج!!! ومن المعلوم أن قضية بداية شهر الصوم ونهايته تشكل مثاراً للنزاع والاختلاف في كل عام تقريباً والمسألة محل اختلاف بين أهل العلم منذ عهد بعيد فمن العلماء من يرى أن لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد والرأي الآخر في المسألة وهو أن لكل بلد رؤيتهم قال به جماعة من أهل العلم والمسألة مسألة اجتهادية محتملة واستدل كل فريق بأدلة من الكتاب والسنة والقياس. وإن كنت أعتقد رجحان القول الأول بعد النظر في أدلته ولكن هذا القول وهو عدم اعتبار اختلاف المطالع رأي نظري لم يجد طريقه إلى التطبيق العملي في تاريخ المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا الحاضر لعدم توفر وسائل الاتصال التي تربط أنحاء الدولة الإسلامية بعضها مع بعض ومعلوم أن وسائل الاتصال حديثة العهد. كما وأود أن أبين أنه ينبغي الاستئناس بما يقرره علم الفلك وإن كان الأصل هو رؤية العين المجردة ولكن أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة لا تمنع أن نستعين بعلم الفلك وخاصة أنه علم متقدم ومتطور وعلم الفلك ليس مجرد حسابات وإنما هو رؤية ولكن بالمراصد والآلات فلا مانع شرعاً من الاستفادة من التقدم العلمي في هذا المجال وبالذات في حالة النفي أي إذا نفى علم الفلك احتمال رؤية الهلال بشكل قطعي فينبغي حينئذ عدم قبول ادعاء الرؤية وهذا هو ما حصل في هذا العام فإن علم الفلك نفى احتمال رؤية الهلال مساء الأحد 23/11/2003 م وأن الهلال لم يكن قد تولد لذا فإني أعتقد أن إعلان بعض العراقيين عن ثبوت رؤية الهلال إعلان باطل ولم يكن القرار بناءً على رؤية حقيقية للهلال لاستحالة ذلك كلياً كما قرر ذلك علماء الفلك وبعض الفقهاء فقد أعلن معهد البحوث الفلكية بحلوان أن يوم الثلاثاء 25-11-2003 هو أول أيام عيد الفطر المبارك في مصر فلكيًا. وقال الدكتور محمد سليمان رئيس قسم الفلك والشمس بالمعهد: إن الحسابات الفلكية تؤيد أن ميلاد هلال شهر شوال في جميع البلاد العربية والإسلامية لن يُرى قبل غروب يوم الاثنين الموافق 24-11-2003، وعليه فإن يوم الاثنين سيكون المتمم لشهر رمضان لعام 1424 هـ ويكون يوم الثلاثاء الموافق 25-11-2003 هو أول أيام عيد الفطر المبارك". وأعلن كل من المجلس الإسلامي للأهلة التابع للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا والمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء استحالة رؤية هلال شهر شوال لعام 1424 هجريا مساء الأحد الموافق 23-11-2003، وعليه فإن يوم الثلاثاء الموافق 25-11-2003 هو أول أيام شهر شوال، وأول أيام عيد الفطر المبارك. وجاء في بيان صادر عن المجلس الإسلامي للأهلة الجمعة 21-11-2003: إن هلال شهر شوال سيولد في الساعة 23 ودقيقة واحدة يوم الأحد بتوقيت جرينتش الموافق للساعة الثانية ودقيقة واحدة من صباح الاثنين 24-11-2003 بتوقيت مكة المكرمة. وأضاف البيان أن هلال شوال سيولد بعد 6 ساعات من غروب شمس يوم الأحد؛ الأمر الذي يعني استحالة رؤية الهلال مساء ذلك اليوم. وأوضح الدكتور محمد الهواري رئيس المجلس الأعلى للأهلة في اتصال هاتفي مع "إسلام أون لاين. نت" الجمعة 21-11-2003 أن الهلال سيمكث في السماء لمدة 28 دقيقة بعد غروب يوم الاثنين 24-11-2003، ويمكن رؤيته بوضوح في معظم الدول العربية والأوربية. وأشار الهواري إلى أنه بناء على ما تقدم فإن يوم الثلاثاء الموافق 25-11-2003 أول أيام شهر شوال 1424هـ وأول أيام عيد الفطر المبارك. إسلام أون لاين. نت
وقال الشيخ عبد الله المنيع عضو هيئة كبار العلماء في السعودية [يولد هلال شهر شوال عام 1424هـ يوم الاثنين الموافق 30/9/1424هـ الساعة الثانية صباحاً، أي بعد غروب شمس يوم الأحد الموافق 29/9/1424هـ بما يزيد عن سبع ساعات، ويمكث الهلال بعد غروب شمس يوم الاثنين ثمان وعشرين دقيقة وذلك بتوقيت مكة المكرمة، وعليه فيكون يوم عيد الفطر يوم الثلاثاء الموافق 25 نوفمبر 2003م، وهو أول يوم من شهر شوال سنة 1424هـ. وعليه فإذا ثبت دخول شهر رمضان يوم الأحد 26/10/2003 م حسب الرؤية الشرعية المتفقة مع الحساب الفلكي فإن يوم الاثنين 24 نوفمبر الموافق 30/9/1424هـ هو آخر يوم من أيام رمضان، ولا حاجة لترائي هلال شهر شوال مساء الاثنين، لكونه تمام الثلاثين يوماً لشهر رمضان ونظراً إلى أن ولادة هلال شهر شوال هو الساعة الثانية من صباح يوم الاثنين 30/9/1424هـ، فلا يصح فلكياً ترائي الهلال مساء الأحد 29/9/1424هـ بعد غروب شمس ذلك اليوم؛ لكون الهلال ولد بعد غروب شمس يوم الأحد بما يزيد عن سبع ساعات وأي دعوى رؤية للهلال مساء هذا اليوم يوم الأحد 29/9/1424هـ فهي شهادة غير صحيحة؛ لعدم انفكاكها عما يكذبها، ويجب ردها مهما كانت عدالة أو عدداً.] ونقل القليوبي من فقهاء الشافعية عن العبادي قوله [إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يقبل قول العدول برؤيته، وترد شهادتهم. ثم قال القليوبي: هذا ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذ، وإن مخالفة ذلك معاندة ومكابرة] إذا تقرر هذا فإن ما قام به هؤلاء الذين عيدوا يوم الاثنين إنما هو عمل باطل ويلزمهم قضاء يوم بدل اليوم الذي أفطروه حيث إنهم أفطروا يوماً من رمضان وإفطارهم لم يكن مستنداً على دليل صحيح بل قلدوا أناساً خالفوا المحسوس وأبلغ دليل على ذلك أن من أهل العراق السنة قد وافقوا أكثر المسلمين في أن العيد هذا العام هو يوم الثلاثاء ولم تثبت لديهم رؤية هلال شوال مساء الأحد كما زعم غيرهم. وينبغي التنبيه أن ما فعله هؤلاء يؤكد ما أقوله دائماً أن الصوم والفطر ليس عملاً فردياً يقوم به فرد أو أفراد لوحدهم بل الصيام والعيد عبادة جماعية تتم مع الجماعة فلا يصح أن يصوم أحد رمضان لوحده وكذلك لا يصح أن يعيد فرد لوحده وهذا هو المفهوم المستمد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وهو حديث صحيح كما قاله الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/213. قال الإمام الترمذي رحمه الله: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعِظم الناس](9/18)
19 - هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان؟ الجواب: إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر أكثر مما سبقها من رمضان فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: قوله (شدَّ مئزره) أي اعتزل النساء وبذلك جزم عبد الرزاق عن الثوري واستشهد بقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزر عن النساء ولو باتت بأطهار
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه، وقال الخطابي يحتمل أن يريد به الجد في العبادة كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معاً ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة قلت: وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة المذكورة " شد مئزره واعتزل النساء " فعطفه بالواو فيتقوى الاحتمال الأول.
قوله: " وأحيا ليله " أي سهره فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه لأن النوم أخو الموت وأضافه إلى الليل اتساعاً لأن القائم إذا حيي باليقظة أحيا ليله بحياته وهو نحو قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً " أي لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور.
قوله: " وأيقظ أهله " أي للصلاة وروى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه " قال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أن اعتزاله النساء كان بالاعتكاف وفيه نظر لقوله فيه: " وأيقظ أهله " فإنه يشعر بأنه كان معهم في البيت فلو كان معتكفاً لكان في المسجد ولم يكن معه أحد وفيه نظر فقد تقدم حديث
(اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه) وعلى تقدير أنه لم يعتكف أحد منهن فيحتمل أن يوقظهن من موضعه وأن يوقظهن عندما يدخل البيت لحاجته] فتح الباري 4/342.
وجاء في رواية عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجدَّ وشد المئزر) .
وفي رواية عند مسلم أيضاً عنها رضي الله عنها: (قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره) .
قال الإمام النووي: [قولها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجدَّ وشدَّ المئزر) وفي رواية: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيره) ، اختلف العلماء في معنى شد المئزر فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره ومعناه التشمير في العبادات. يقال: شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات وقولها: أحيا الليل أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها. وقولها: وأيقظ أهله أي أيقظهم للصلاة في الليل وجدَّ في العبادة زيادة على العادة] شرح النووي على صحيح مسلم 3/250.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة. وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر وخرَّج الطبراني من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة.
قال سفيان الثوري: أَحبُ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: (ألا تقومان فتصليان) . وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة ونضح الماء في وجهه. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) ] لطائف لمعارف فيما لمواسم العام من وظائف 341-342.
وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي أن من هديه صلى الله عليه وسلم الاغتسال بين أذان المغرب والعشاء في ليالي العشر فقال: [وقد تقدم من حديث عائشة: (واغتسل بين الأذانين) والمراد: أذان المغرب والعشاء. وروي من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر وفي إسناده ضعف.
وروي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من رمضان فاغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وستره حذيفه وبقيت فضلة فاغتسل بها حذيفه وستره النبي صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن أبي عاصم.
وفي رواية أخرى عن حذيفه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من رمضان في حجرة من جريد النخل فصب عليه دلواً من ماء. وقال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر. وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة. ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان. وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزاراً ورداءً فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة والتي تليها ليلتنا يعني البصريين. وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة - أنواع من الطيب - في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.
فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات كما قال تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقال ابن عمر: الله أحق أن يتزين له. وروي عنه مرفوعاً. ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئاً. قال الله تعالى: (يَابَنِيءَادَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) ] لطائف المعارف ص 346-347.
ومن المعلوم أن ليلة القدر تكون في الليالي الفردية من العشر الأواخر من رمضان. فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) وفي رواية عند البخاري: (في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) .
قال الحافظ ابن رجب: [وأما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضاً. قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق. انتهى. ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسناً وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها. وقد قال الشعبي في ليلة القدر ليلها كنهارها. وقال الشافعي في القديم: أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره والله أعلم] لطائف المعارف ص367-368
وكان السلف يجتهدون في التماس ليلة القدر إقتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن أبي شيبة بسنده أن عائشة رضي الله عنها كانت توقظ أهلها ليلة ثلاث وعشرين.
وروى أيضاً أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يرش على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين. وروى بسنده أن ابن عمر رضي الله عنه كان يوقظ أهله في العشر الأواخر وروى بسنده أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي في رمضان كصلاته سائر السنة فإذا دخلت العشر اجتهد. مصنف ابن أبي شيبة 3/77.
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان كما ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أنه يستحب الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان بشكل عام ويخص الليالي الفردية بمزيد لعله يوافق ليلة القدر.(9/19)
20 - البدء بصيام الستة من شوال يوم جمعة أو يوم سبت
يقول السائل: إنه قد صام يوم الجمعة الثاني من شوال لهذا العام ونوى أن يصوم الستة من شوال متتابعة ولكن أحد المشايخ أفتاه بأن يفطر لأنه لا يجوز صوم يوم الجمعة ولا يوم السبت وعليه أن يبدأ صوم الستة من شوال يوم الأحد فما قولكم أفيدونا؟ الجواب: إفراد يوم الجمعة بالصوم وكذا إفراد يوم السبت بالصوم مكروه عند جمهور أهل العلم ولكن إن صام يوماً قبلهما أو يوماً بعدهما فلا حرج في ذلك وعليه دلت السنة النبوية فقد روى البخاري بإسناده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ سَأَلْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَالَ نَعَمْ زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمٍ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قوله (لا يصوم أحدكم) كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي , وفي رواية الكشميهني " لا يصومن " بلفظ النهي المؤكد … ولمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يصوم بعده " وللنسائي من هذا الوجه " إلا أن يصوم قبله يوماً أو يصوم بعده يوماً " ولمسلم من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي , ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام , إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " ورواه أحمد من طريق عوف عن ابن سيرين بلفظ " نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم " , وله من طريق أبي الأوبر زياد الحارثي " أن رجلاً قال لأبي هريرة: أنت الذي تنهى الناس عن صوم يوم الجمعة؟ قال ها ورب الكعبة ثلاثاً , لقد سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصوم أحدكم يوم الجمعة وحده إلا في أيام معه " وله من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها ".
وهذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة , ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلا أو يوم شفاء فلان) فتح الباري 4/296-297.
وعن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس؟ قالت لا. قال تريدين أن تصومي غداً؟ قالت لا قال فأفطري. وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب أن جويرية حدثته فأمرها فأفطرت. رواه البخاري.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام , ونقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية , وكأنه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد , وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم فهذا قد يشعر بأنه يرى بتحريمه. وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده , بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر , قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفاً من الصحابة. وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه …. واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال: أحدها لكونه يوم عيد والعيد لا يصام , واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة , ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها لئلا يضعف عن العبادة وهذا اختاره النووي , وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه , وأجاب أنه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتور أو تقصير , وفيه نظر فإن الجبران لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن أعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك. وأيضا فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف لا من يتحقق القوة , ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه. ثالثها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت , وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام , وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه لأنهم لا يصومونه. وقد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم " رابعها خوف اعتقاد وجوبه , وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس … خامسها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك , قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره , وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم لارتفاع السبب , لكن المهلب حمله على ذلك اعتقاده عدم الكراهة على ظاهر مذهبه. سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم نقلها القمولي وهو ضعيف. وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها , وورد فيه صريحاً حديثان: أحدهما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا " يوم الجمعة يوم عيد , فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم , إلا أن تصوموا قبله أو بعده ". والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال " من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس , ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر ". فتح الباري 4/297- 299
وقال النووي: (باب كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً) قوله: (سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: نعم ورب هذا البيت) وفي رواية أبي هريرة: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده) . وفي رواية: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي , ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام , إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) هكذا وقع في الأصول (تختصوا ليلة الجمعة , ولا تخصوا يوم الجمعة) بإثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد وبحذفها في الثاني , وهما صحيحان. وفي هذه الأحاديث الدلالة الظاهرة لقول جمهور أصحاب الشافعي وموافقيهم , وأنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق عادة له , فإن وصله بيوم قبله أو بعده , أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبداً , فوافق يوم الجمعة لم يكره ; لهذه الأحاديث. وأما قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه , ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة , وصيامه حسن , وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه , وأراه كان يتحراه , فهذا الذي قاله هو الذي رآه , وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو , والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره , وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة , فيتعين القول به. ومالك معذور ; فإنه لم يبلغه. قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكاً هذا الحديث , ولو بلغه لم يخالفه , قال العلماء: والحكمة في النهي عنه: أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة: من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها ; لقول الله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا) وغير ذلك من العبادات في يومها , فاستحب الفطر فيه , فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها , والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة , وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة , فإن السنة له الفطر كما سبق تقريره لهذه الحكمة , فإن قيل: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم قبله أو بعده لبقاء المعنى , فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه , فهذا هو المعتمد في الحكمة في النهي عن إفراد صوم الجمعة , وقيل: سببه خوف المبالغة في تعظيمه , بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت , وهذا ضعيف منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور من وظائف يوم الجمعة وتعظيمه , وقيل: سبب النهي لئلا يعتقد وجوبه , وهذا ضعيف منتقض بيوم الاثنين فإنه يندب صومه ولا يلتفت إلى هذا الاحتمال البعيد , وبيوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك , فالصواب ما قدمنا. والله أعلم) شرح النووي على صحيح مسلم 3/209- 211.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد يوم الجمعة بصوم) رواه أحمد.
قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر معظم الأحاديث السابقة: (والنهي إنما هو عن الإفراد فمتى وصلهن بغيره زال النهي) .
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه، مثل من يصوم يوماً ويفطر يوماً فيوافق صومه يوم الجمعة ومن عادته صوم أول يوم من الشهر أو آخره أو يوم نصفه ونحو ذلك. نص عليه أحمد في رواية الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديث النهي أن يفرد. ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه. وأما أن يفرد فلا قال: قلت: رجل كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت فصام الجمعة مفرداً؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة) المغني 3/170.
وقال الشيخ ابن عثيمين بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة: [والصحيح أنه يجوز بدون إفراد يعني إذا صمت معه الأحد أو صمت معه الجمعة فلا بأس والدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لزوجته: أتصومين غداً؟ أي: السبت] الشرح الممتع 6/466.
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بذلك أيضاً انظر فتاوى اللجنة 10/347.
وخلاصة الأمر أنه يجوز أن يبدأ صوم الستة من شوال من يوم الجمعة ويصوم السبت أيضا ما دام أنه لم يفرد واحداً منهما بالصوم وكذا يجوز صومهما إن وافقا يوم عاشوراء أو وافقا يوم عرفة.(9/20)
21 - الصيام مرتبط بالبلد الذي يقيم فيه الصائم
يقول السائل: إنه أفطر في أحد أيام رمضان بناءً على أذان المؤذن في الإذاعة ثم تبين له أن ذلك الأذان كان في دولة أخرى، فما الحكم في ذلك؟ الجواب: يلزم هذا الشخص أن يقضي يوماً بدل اليوم الذي أفطره خطأً حيث إنه ظن أن أذان المغرب كان من الإذاعة في بلده ثم ظهر له أن الأذان كان في دولة مجاورة أي أن هذا الشخص أفطر قبل الوقت الشرعي للإفطار فيلزمه القضاء على الراجح من أقوال أهل العلم وهو قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. فقد روى في البخاري بسنده عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام فأمروا بالقضاء قال لا بد من قضاء وقال معمر سمعت هشاماً لا أدري أقضوا أم لا؟)
قال الحافظ ابن حجر: [وقد اختلف في هذه المسألة فذهب الجمهور إلى إيجاب القضاء , واختلف عن عمر فروى ابن أبي شيبة وغيره من طريق زيد بن وهب عنه ترك القضاء , ولفظ معمر عن الأعمش عن زيد " فقال عمر: لم نقض والله ما يجانفنا الإثم " وروى مالك من وجه آخر عن عمر أنه قال لما أفطر ثم طلعت الشمس " الخطب يسير وقد اجتهدنا " وزاد عبد الرزاق في روايته من هذا الوجه " نقضي يوماً " وله من طريق لي بن حنظلة عن أبيه نحوه , ورواه سعيد بن منصور وفيه " فقال من أفطر منكم فليصم يوماً مكانه " وروى سعيد بن منصور من طريق أخرى عن عمر نحوه. وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن وبه قال إسحاق وأحمد في رواية …, ويرجح الأول أنه لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا.] فتح الباري 4/255.
وذكر مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين طلعت الشمس فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا) قال مالك يريد بقوله (الخطب يسير) القضاء فيما نرى والله أعلم وخفة مؤونته ويسارته يقول نصوم يوماً مكانه.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وروى الثوري عن جبلة بن سحيم عن علي بن حنظلة عن أبيه: أنه شهد عمر … فذكر القصة وقال: يا هؤلاء! من كان أفطر فإن القضاء يوم يسير ومن لم يكن أفطر فليتم صومه] الاستذكار 10/35. ثم ذكر الحافظ ابن عبد البر قولاً آخر عن عمر أنه لا قضاء على المفطر خطأً، ثم قال: [فهذا خلاف عن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة والرواية الأولى أولى بالصائم إن شاء الله] الاستذكار 10/175.
وقد صحح الإمام البيهقي الروايات الواردة عن عمر بالقضاء وضعف الرواية الواردة بعدم القضاء ثم ذكر روايةً تفيد أن جماعة أفطروا مع صهيب رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في يوم غيم فبينما هم يتعشون إذ طلعت الشمس فقال صهيب: طعمة الله أتموا صيامكم إلى الليل واقضوا يوماً مكانه] سنن البيهقي 4/217-218.
واستدل الشيخ ابن قدامة المقدسي لقول الجمهور بقوله: [ولنا أنه أكل مختاراً ذاكراً للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان ولأنه يمكن التحرز فأشبه أكل العامد وفارق الناسي فإنه لا يمكن التحرز منه وأما الخبر فرواه الأثرم أن عمر قال من أكل فليقض يوماً مكانه ورواه مالك في الموطأ أن عمر قال الخطب يسير يعني خفة القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء قالت أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام أمروا بالقضاء قال لا بد من قضاء أخرجه البخاري] المغني 3/247.
ومقتضى قول الجمهور التفريق بين الناسي والمخطئ في الأكل في نهار رمضان فإن النسيان آفة طبيعية في الإنسان خارجة عن إرادته والنسيان لا يمكن الاحتراز منه بخلاف الخطأ فإن فيه نوعاً من التقصير حيث إن المخطئ لم يتثبت وكان بإمكانه أن يحترز من الخطأ.
قال الإمام الخطابي [الناسي لا يمكنه أن يحترز من الأكل ناسياً وهذا يمكنه أن يمكث فلا يأكل حتى يتيقن غيبوبة الشمس , فالنسيان خطأٌ في الفعل وهذا خطأٌ في الوقت والزمان والتحرز ممكن] معالم السنن 2/94.
وأما الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
فإن المرفوع في الحديث إنما هو الإثم وأما الحكم وهو القضاء فلا يرفع. انظر المجموع للنووي 6/311.
لذا أرجح القول بلزوم القضاء في حق المخطئ دون الناسي لورود النص في الناسي وهو ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن القول بإيجاب القضاء على المخطئ هو أحوط القولين في المسألة.(9/21)
22 - تذكير الناسي في نهار رمضان
يقول السائل: ما قولكم فيما يقوله بعض الناس إنهم إذا رأوا شخصاً يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسياً فلا يذكرونه باعتبار أن ذلك الطعام والشراب رزق ساقه الله إليه؟ الجواب: إن ما قاله هؤلاء إنما هو فهم غير صحيح للحديث النبوي وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم. فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن الناسي في رمضان إن أكل أو شرب فيلزمه إتمام الصوم ولا يقطعه وليس عليه قضاء ذلك اليوم حيث إن الله قد ساق له رزقاً فالأكل والشرب نسياناً أثناء الصوم لا يؤثر على الصوم لأن الناسي قد رفع عنه قلم التكليف لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ، قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قال قد فعلت (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قال قد فعلت (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا) قال قد فعلت) رواه مسلم.
ولما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
وورد في رواية أخرى للحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. سنن الدارقطني 2/178.
ولما ورد في الحديث عن أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق رضي الله عنها: (أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ومعه ذو اليدين - صحابي - فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً - عظم عليه لحم - فقال: يا أم إسحاق أصيبي من هذا. فذكرتُ أني كنت صائمة فرددت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم مالك؟ قالت: كنتُ صائمةً فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك] رواه أحمد والطبراني في الكبير كما قال الهيثمي.
وغير ذلك في الأدلة.
وأما قول بعض الناس بعدم تذكير الناسي في نهار رمضان بحجة أن ذلك الطعام والشراب رزق ساقه الله إلى الناسي فغير صحيح لما يلي:
أولاً: لأن الأكل أو الشراب في نهار رمضان محرمٌ شرعاً ومنكرٌ يجب على من رآه أن ينكره وإن كان الناسي معذوراً عند الله سبحانه وتعالى لما سبق من الأدلة. فتذكيره بالصيام أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر وهو الأكل في نهار رمضان.
ثانياً: إن ترك الناسي مستمراً في أكله وشرابه جهاراً وعدم تذكيره بالصيام فيه فتح باب شر على الناس فيجترئون على المجاهرة بالفطر في رمضان.
ثالثاً: إن تذكير الناسي واجب لأنه داخل في باب التعاون على البر والتقوى لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة الآية 2.
رابعاً: يمكن أن تقاس هذه المسألة وهي تذكير الناسي في الصيام على تذكير الناسي في الصلاة فقد شرع التسبيح في الصلاة لتذكير الإمام إذا سها في صلاته. فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم … فلما سلَّم قيل له يا رسول الله: أحدث في الصلاة شيء؟ قال وما ذاك؟ قالوا صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلَّم فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيءٌ لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين) رواه البخاري ومسلم
ومن المستظرفات في هذا الباب ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني مما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال أصبحت صائماً فنسيت فطعمت , قال لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت , قال. لا بأس، الله أطعمك وسقاك. ثم قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت , فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. فتح الباري 4/201.
وخلاصة الأمر أنه يجب تذكير الناسي في نهار رمضان ولا يصح القول بعدم تذكيره بحجة أن ذلك الطعام والشراب رزق ساقه الله إليه.(9/22)
23 - المجاهرة بالفطر في رمضان
يقول السائل: ما حكم من لا يصوم رمضان ويجاهر بفطره؟ الجواب: من المعلوم أن صوم رمضان فريضة مكتوبة على المسلمين لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة الآية 183.
والصيام ركن من أركان الإسلام فمن تهاون في صيام رمضان فقد وقع في معصية كبيرة والعياذ بالله فإذا انضم إلى فطره مجاهرته في ذلك فقد ازداد عصياناً وإثماً حيث إنه أظهر المعصية وتلبس بأفعال أهل المجون نسأل الله العفو والعافية.
أما لو أن هذا المفطر قد ستر على نفسه لكان ذنبه أهون وإن كان هو عظيم في ذاته قال العلامة ابن القيم [والمستخفي بما يرتكبه أقل إثماً من المجاهر المستعلن والكاتم له أقل إثماً من المخبر المحدث للناس به فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يستر الله تعالى عليه ثم يصبح يكشف ستر الله عنه يقول يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فيبيت ربه يستره ويصبح يكشف ستر الله عن نفسه أو كما قال، وفي الحديث الآخر عنه (من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)
وفي الحديث الآخر (إن الخطيئة إذا خفيت لم تض إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/147-148
ولا شك أن المجاهرة بالإفطار فيها نوع من التبجح والافتخار بالمعصية وهذه وقاحة عظيمة وقلة حياء فهذا العاصي المجاهر لم يستح من الله سبحانه وتعالى ولم يستح من الناس.
والحديث الأول الذي ذكره ابن القيم رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول … الحديث.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (كل أمتي معافى) بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه … ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن أ. هـ … وقال الطيبي: الأظهر أن يقال المعنى كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرون , والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) والمجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها , وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به اهـ. والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به … ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي) فتح الباري 10/597-598
وقال الحافظ أبو العباس القرطبي في شرح الحديث السابق بعد أن ذكر اختلاف الروايات فيه: [وهذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها هي راجعة إلى معنىً واحد قد فسره في الحديث وهو أن يعمل الرجل معصية في خفية وخلوة ثم يخرج يتحدث بها مع الناس ويجهر بها ويعلنها وهذا من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش وذلك: أن هذا لا يصدر إلا من جاهل بقدر المعصية أو مستهين مستهزئ بها مصرٍ عليها غير تائب منها مظهرٍ للمنكر. والواحد من هذه الأمور كبيرة فكيف إذا اجتمعت؟! فلذلك كان فاعل هذه الأشياء أشد الناس بلاء في الدنيا وعقوبة في الآخرة لأنه تجتمع عليه عقوبة تلك الأمور كلها وسائر الناس ممن ليس على مثل حاله وإن كان مرتكب كبيرة فأمره أخف وعقوبته إن عوقب أهون. ورجوعه عنها أقرب من الأول لأن ذلك المجاهر قل أن يتوب أو يرجع عما اعتاده من المعصية وسهل عليه منها. فيكون كل العصاة بالنسبة إليه إما معافى مطلقاً إن تاب وإما معافى بالنسبة إليه إن عوقب والله تعالى أعلم] المفهم لما أشكل من تلخيص 6/618.
وينبغي أن يعلم أن الإنسان إذا ابتلي بمعصية من المعاصي فالواجب عليه أن يستر نفسه ولا يظهر شيئاً من ذلك وعليه أن يتوب إلى الله تعالى فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها فمن ألم بشيء منها فليتستر بستر الله عز وجل وليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 663.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين , وفيه ضرب من العناد لهم , وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف , لأن المعاصي تذل أهلها , ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حداً , وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه , فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة , والذي يجاهر يفوته جميع ذلك] فتح الباري 10/598- 599.
وخلاصة الأمر أن الفطر في نهار رمضان بدون عذر حرام شرعاً ومن كبائر الذنوب فإذا انضم إلى ذلك المجاهرة بالفطر فقد ازداد إثماً على إثم والواجب على من فعل ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى وأن يقضي ما أفطر من رمضان.(9/23)
24 - الصيام مرتبط بالبلد الذي يقيم فيه الصائم
يقول السائل: إنه كان في العمرة لما أعلن عن بدء الصيام في بلادنا يوم الأحد وصام يوم الاثنين مع أهل مكة المكرمة حيث بدأ الصوم في تلك البلاد يوم الاثنين ثم رجع إلى القدس فماذا يعمل بالنسبة لليوم الذي فاته صيامه؟ الجواب: إن حكم الصوم والفطر مرتبط مع أهل البلاد التي يوجد فيها الشخص لأن صيام رمضان يكون مع جماعة الناس ولا يصوم الإنسان رمضان لوحده فحكم صوم الفرد هو حكم صوم أهل البلد الذي وجد فيه فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح، انظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 4/11.
وقال الإمام الترمذي بعد أن ذكر الحديث [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 3/312.
وبناء على ذلك فعلى هذا الشخص أن يتم صيام رمضان مع أهل بلده ويلتزم بالعيد معهم فإذا كان رمضان هذا العام ثلاثين يوماً وهو قد صام تسعة وعشرين يوماً فلا يلزمه قضاء يوم. وأما إذا جاء رمضان تسعة وعشرين يوماً ويكون قد صام ثمانية وعشرين يوماً فيلزمه قضا يوم. لأن الشهر الهجري لا يكون أقل من تسعة وعشرين يوماً لما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه إلا أن يغم عليكم فإن غم عليكم فاقدروا له) رواه مسلم.
وهكذا يقال في حق من ابتدأ الصيام في بلادنا حيث صمنا الأحد ثم سافر في آخر الشهر مثلاً إلى مكة المكرمة فإنه ملزم بالفطر مع أهل مكة فإذا ثبتت رؤية الهلال في تلك الديار فهذا الشخص ملزم بأن يفطر مع أهل مكة ويصلي العيد معهم فإن كان مجموع ما صامه أقل من تسعة وعشرين يوماً فهو ملزم بقضاء صوم يوم.(9/24)
25 - انقطاع الحيض أثناء نهار رمضان
تقول السائلة: إذا انقطع دم الحيض أثناء النهار فماذا يلزمها بالنسبة للصوم؟ الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الحائض لا تصوم ولا تصلي فإذا انقطع دم الحيض أثناء نهار رمضان فيستحب لها أن تمسك عن الطعام والشراب احتراماً للشهر الكريم وابتعاداً عن التهمة ولكن لا يجب عليها ذلك لأنها كانت معذورة في الفطر بسبب الحيض فإذا زال حيضها أثناء النهار فلا شيء عليها إذا أكلت أو شربت ولكن يستحسن أن يكون ذلك بعيداً عن أنظار الصائمين قال الإمام النووي: [إذا طهرت في أثناء النهار يستحب لها إمساك بقيته ولا يلزمها …] المجموع 6/257.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهراً وباطناً كالحائض والمسافر والنفساء والصبي والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض والنفساء وأقام المسافر وبلغ الصبي وأفاق المجنون وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان:
إحداهما: يلزمهم الإمساك في بقية اليوم. وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والعنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك كقيام البينة بالرؤية.
والثانية: لا يلزمهم الإمساك وهو قول مالك والشافعي وروي ذلك عن جابر بن زيد وروي عن ابن مسعود أنه ال: [من أكل أول النهار فليأكل آخره] ولأنه أبيح له فطر أول النهار ظاهراً وباطناً. فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النهار كما لو دام العذر] المغني 3/145-146.
وما ذكره ابن قدامة ثانياً هو الراجح من قولي العلماء فيجوز للحائض إذا طهرت أثناء النهار الأكل والشرب والأولى أن تمسك بقية يومها لحرمة الشهر.(9/25)
26 - إكراه الزوجة على الإفطار في نهار رمضان
يقول السائل: إنه قرأ في أحد الكتب التي تتحدث عن رمضان العبارة التالية: " والإكراه مثل أن يكره الرجل زوجته على الجماع ولم تستطع الامتناع منه فلا شيء عليها وصيامها صحيح ولا ريب أنه يبوء بإثمها وإثمه إن كان الصيام فرضاً " أرجو توضيح مسألة إكراه الزوجة على الجماع في رمضان مع بيان الدليل؟
الجواب: من المعلوم أن الجماع من مبطلات الصوم باتفاق الفقهاء قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) سورة البقرة الآية 187. وجاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع الطعام من أجلي ويدع الشراب من أجلي ويدع لذته من أجلي ويدع زوجته من أجلي) رواه ابن خزيمة وهو حديث صحيح. ويحرم على المسلم أن يبطل صومه أو صوم غيره ومن تعمد ذلك فقد أتى منكراً كبيراً.
وأما الإكراه على الفطر فقد اختلف فيه الفقهاء اختلافاً كثيراً وأقتصر هنا على مسألة إكراه الزوجة على الجماع وهي محل السؤال فأقول: إن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في أحد القولين عندهم والحنابلة في القول الذي عليه الفتوى من المذهب قالوا إن الزوج إذا أكره زوجته على الجماع في نهار رمضان فإن صومها قد بطل وعليها القضاء فقط ولا كفارة عليها بخلاف زوجها فعليه القضاء والكفارة.
وذهب الشافعي في قوله الآخر والحنابلة في رواية عندهم إلى أن صوم المكرهة صحيح ولا شيء عليها لأنها مكرهة وقد ورد في الحديث: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
والذي تطمئن إليه نفسي هو القول الأول الذي يوجب على المرأة المكرهة القضاء لأنه يغلب على ظني أن الإكراه في مثل هذه الحالة لا يكون تاماً وغالباً ما يكون هنالك نوع مطاوعة ورغبة من الزوجة كما أن مفهوم الإكراه ليس واضحاً عند أكثر الناس. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها رواية واحدة وعليها القضاء. قال مهنا: سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها أعليها القضاء؟ قال: نعم. قلت: وعليها كفارة: قال: لا. وهذا قول الحسن ونحو ذلك قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي] المغني 3/137.
وقال المرداوي: [الصحيح من المذهب – أي الحنبلي – فساد صوم المكرهة على الوطء نص عليه – أي أحمد – وعليه أكثر الأصحاب وهو ظاهر كلام المصنف هنا] الإنصاف 3/313.
وخلاصة الأمر أن على هذه المرأة أن تقضي ذلك اليوم الذي أكرهت فيه على الفطر بالوطء.(9/26)
27 - المباحات في رمضان
يقول السائل: هل يجوز للرجل أن يأتي زوجته في ليالي رمضان؟
الجواب: نعم يجوز للرجل أن يعاشر زوجته في ليالي رمضان وينتهي ذلك بأذان الفجر الثاني أي أذان الصلاة.
وقد كان هذا الأمر ممنوعاً في أول ما فرض الصيام كما ثبت في الحديث عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) سورة البقرة الآية 178. رواه البخاري.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب قول الله جل ذكره: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) عن البراء رضي الله عنه قال: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك فلما انصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحاً شديداً ونزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) سورة البقرة الآية 187] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 4/166.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله: فنام قبل أن يفطر … إلخ في رواية زهير " كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئاً ولا يشرب ليله ويومه حتى تغرب الشمس " ولأبي الشيخ من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحق كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلى مثلها " فاتفقت الروايات في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيداً بالنوم وهذا هو المشهور في حديث غيره. وقيد المنع من ذلك في حديث ابن عباس بصلاة العتمة أخرجه أبو داود بلفظ " كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة " ونحوه في حديث أبي هريرة … وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر ويحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالباً والتقييد في الحقيقة إنما هو بالنوم كما في سائر الأحاديث وبين السدي وغيره أن ذلك الحكم كان على وفق ما كتب على أهل الكتاب كما أخرجه ابن جرير من طريق السدي ولفظه: " كتب على النصارى الصيام وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم وكتب على المسلمين أولاً مثل ذلك حتى أقبل رجل من الأنصار " فذكر القصة. ومن طريق إبراهيم التيمي " كان المسلمون في أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة " ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص مرفوعاً: " فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر "] فتح الباري 4/167.
وقال القرطبي في تفسير الآية السابقة: [قوله تعالى " أحل " لفظ أحل يقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك ثم نسخ روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال: وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت فظن أنها تعتل فأتاها فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاماً فقالوا: حتى نسخن لك شيئاً فنام فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية وفيها: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ] تفسير القرطبي 2/314.
وقال القرطبي أيضاً: [وفي البخاري أيضاً عن البراء قل: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) يقال: خان واختان بمعنىً من الخيانة أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي رمضان. ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه وذكر الطبري: أن عمر رضي الله عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت فقال لها: ما نمت فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتذر إلى الله وإليك فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: لم تكن حقيقاً بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وذكره النحاس ومكي وأن عمر نام ثم وقع بامرأته وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) سورة البقرة الآية 187] تفسير القرطبي 2/315.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للرجل أن يجامع زوجته في ليالي رمضان وأن المنع من ذلك منسوخ والحل ثابت في كتاب الله تعالى.(9/27)
28 - الاعتماد على الحسابات الفلكية في الصيام
يقول السائل: هل يجوز الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول شهر رمضان أفيدونا.
الجواب: يرى فريق من العلماء أنه لا يجوز الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات الشهور القمرية مطلقاً وأن الأصل في ذلك هو الرؤية البصرية ?هذا الرأي منقول عن أكثر العلماء المتقدمين بل يكاد يكون مجمعاً عليه، فهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. انظر مجموعة رسائل ابن عابدين 1/224 ? المنتقى 2/38 ? شرح الحطاب 2/387 ? المجموع 6/270 ? كشاف القناع 2/272) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إنّا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب، أنه يرى أو لا يرى لا يجوز. والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقه الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم] مجمو الفتاوى 25/132. وأهم الأدلة التي اعتمدوا عليها ما رواه مسلم في صحيحه: قال رسول الله: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً) وفي لفظ عند مسلم أيضاً قال: قال أبو القاسم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا العدة) وفي لفظ عند النسائي: (فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين) وفي لفظ عنده أيضاً: (فاقدروا له) قال النووي: (المراد رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل انسان ? بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين وكذا عدل على الأصح ? هذا في الصوم) شرح النووي على صحيح مسلم 3/155- 156. ومنها ما رواه البخاري في صحيحه أن رسول الله قال إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي لفظ لمسلم (أن رسول الله ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين) . وفي لفظ: (فاقدروا له) ومعنى قوله (فاقدروا له) عندهم ? أي إتمام الشهر ثلاثين يوماً ? لأن التقدير يكون بمعنى التمام ويؤيده قوله تعالى (قد جعل الله لكل شيء قدراً) سورة الطلاق الآية 3 أي أن الله جعل لكل شيء تماماً. انظر فتح الباري 4/120 ? شرح النووي على صحيح مسلم 3/155 ? المجموع 6/270)
ويرى فريق آخر من العلماء جواز الاستئناس بالحسابات الفلكية في إثبات الشهور القمرية بشروط معينة نقل هذا القول عن بعض العلماء كابن سريج الفقيه الشافعي انظر المجموع 6/279) وهو قول تقي الدين السبكي حيث قال: [فأنا أختار في ذلك قول ابن سريج ومن وافقه في الجواز خاصة لا في الوجوب وشرط اختياري للجواز حيث ينكشف من علم الحساب انكشافاً جلياً إمكانه ولا يحصل ذلك إلا لماهر في الصنعة والعلم] (العلم المنشور ? 22) . ومن القائلين بالجواز من علماء العصر الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي حيث قال: [وأقول مما يؤيد العمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يرجعون في كل حادثة إلى أهل الخبرة بها وذوي البصارة فيها فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان وغير ذلك كثير فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهما من الأشهر على الحساب؟ والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك] .
ومن القائلين بالجواز أيضاً الشيخ أحمد محمد شاكر كما في رسالته (أوائل الشهور العربية) (فتاوى معاصرة 2/216 فما بعدها) . ومنهم الشيخ مصطفى الزرقا ? حيث فصل قوله في كتابه العقل والفقه في فهم الحديث النبوي ? 80 فما بعدها ? وفي فتاويه أيضاً ? 157) . ومن القائلين بالجواز الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال: [وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي – على الأقل – في النفي لا في الإثبات تقليلاً للاختلاف الشاسع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض ? ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقاً لرأي الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا ? ولكن إذا نفى الحساب إمكانية الرؤية وقال: إنها غير ممكنة لأن الهلال لم يولد أصلاً في أي مكان من العالم الإسلامي كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال لأن الواقع الذي أثبته العلم الرياضي القطعي يكذبهم بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلاً ولا تفتح المحاكم الشرعية ولا دور الفتوى أو الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلى بشهادة عن رؤية الهلال] فتاوى معاصرة 2/221. وأهم ما استدل به لهذا القول ما يلي: إن رواية (فاقدروا له) معناها: قدروه بحساب المنازل وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وأن قوله (فأكملوا العدة) خطاب للعامة. (فتح الباري 4/122 ? ? شرح النووي على صحيح مسلم 3/155) حديث: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فالأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللاً بعلة منصوصة وهي إن الأمة لا تكتب ولا تحسب والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً فإذا وصلت الأمة إلى حال في معرفة هذا العلم باليقين في حساب أوائل الشهور وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور. ليست حقيقة الرؤية شرطاً في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدة أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه] ((مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 3 جزء 2/829) . وقد بين العلامة مصطفى الزرقا رأيه في هذه المسألة وما اعتمد عليه بقوله: [أن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع وربط بعضها ببعض وكلها واردة في الصوم والإفطار يبرز العلة السببية في أمر الرسول بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته ويبين أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب أي ليس لديهم علم وحساب مضبوط يعرفون به متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يوماً وتارة ثلاثين.
وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافر العلم بالنظام الفلكي المحكم الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف ولا تتخلف وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر وفي أي وقت بعد ولادته تمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة إذ انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال ومن الفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام كما يحصل في بعض الأعوام!!. كما إن الفقهاء الأوائل واجهوا مشكلة خطيرة في عصرهم وهي الاختلاط والارتباط الوثيق إذ ذاك في الماضي بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة وبين حساب النجوم بمعنى علم الفلك من جهة أخرى. فيبدو أن كثيراً من أهل حساب النجوم كانوا أيضاً يشتغلون بتلك الأمور الباطلة التي نهت عنها الشريعة أشد النهي فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان: الأولى: أنه ظني من باب الحدس والتخمين مبني على طريقة التعديل التي بينا معناها فلا يعقل أن تترك به الرؤية بالعين الباصرة رغم ما قد يعتريها من عوارض واشتباهات
الثانية: وهي الأشد خطورة والأدهى هي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجمين والعرافين الذين يحترفون الضحك على عقول الناس بأكاذيبهم وترهاتهم وشعوذاتهم. أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح عن التنجيم بمعناه العرفي من الشعوذة والكهانة واستطلاع الحظوظ من حركات النجوم وأصبح علم الفلك قائماً على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة والأجهزة العملاقة التي تكتشف حركات الكواكب من مسافات السنين الضوئية وبالحسابات الدقيقة المتيقنة التي تحدد تلك الحركات بجزء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية وأقيمت بناء عليه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة وتستقبل مركبات تدور حول الأرض … إلخ … فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية والتعديل في الماضي زمن أسلافنا رحمهم الله] (فتاوى الزرقا ? 166-169) .
ولكن مع هذا أقول إنه بعد التقدم العلمي الهائل لعلم الفلك ولوضوح الفصل بين علم الفلك وبين التنجيم لا بد من الاستئناس بعلم الفلك في هذه القضية المهمة، وفق الشروط والأحوال التي أشار إليها ألفقهاء قديما وحديثا. وأهمها تعذر رؤية الهلال ? وأن يكون أهل الحساب ممن يؤمن معهم الخطأ ويحصل العلم أو الظن القوي من اتفاقهم على عدم الخطأ في الحساب. وخاصة أنه قد حدثت عوامل كثيرة تؤثر في إثبات الرؤية في العصر الحاضر ? مثل: عدم صفاء الجو بسبب التلوث الصناعي بالغازات الهائلة من الصناعات ? والتلوث الضوئي ? وبخار الماء ? والأقمار الصناعية التي تملأ ألأجواء ليل نهار ? إضافة إلى عوامل أخرى قد تؤثر على الرؤية منها: الوهم ? وحدة البصر ? وعمر القمر (بعد التولد ولحظة الرؤية)
وخلاصة الأمر في هذه المسألة هو وجوب الاعتماد على الرؤية البصرية لإثبات الشهور القمرية وهذا ما نطقت به النصوص الشرعية ويستعان (يستأنس) بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.(9/28)
29 - هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان؟
الجواب: لا شك أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان هو أكمل الهدي، وعمله صلى الله عليه وسلم هو خير العمل، وعلى كل مسلم أن يبذل وسعه وطاقته في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) سورة الأحزاب الآية 21.
وأبين هنا هدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان كما صح عنه في دواوين السنة وكما ذكره المحققون من أهل العلم
فمن المعلوم عند أهل العلم أن فرض صيام رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة النبوية وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الكمال وأعظم تحصيل للمقصود وأسهله على النفوس كما قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد 2/30.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل في صوم رمضان برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد كما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود وابن حبان وصححه ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وإذا حالت دون رؤية الهلال غيوم أو قتر أو نحوهما أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً كما ثبت في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين) رواه البخاري ومسلم.
فإذا ثبتت رؤية الهلال أو أكملت عدة شعبان ثلاثين يوماً فنصوم ويجب أن يعلم أن صوم رمضان عبادة جماعية لا يجوز لجماعة أو أحد أن ينفرد في بداية الصوم أو نهايته وإنما الصوم مع جماعة الناس فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح قال الإمام الترمذي: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] سنن الترمذي 1/80.
فإذا ثبت دخول شهر رمضان فلا بد من تبييت نية الصيام كما ورد في الحديث عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة. وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/465.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن النية محلها القلب ولا علاقة للسان بها لذا فإن التلفظ بالنية بدعة مخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان السحور فقد صح في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تسحروا فإن في السحور بركة) رواه البخاري ومسلم.
ومن السنة تأخير السحور وجعله قريباً من وقت صلاة الفجر فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة. قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) رواه البخاري ومسلم.
ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر فمن المعلوم أن الصوم ينتهي بحلول الليل كما قال تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) سورة البقرة الآية 187. والليل يبدأ بعد غروب الشمس مباشرة. وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) رواه البخاري ومسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب فقد جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء) رواه أبو داود وقال الألباني حسن صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/449.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم الإفطار على الرطب كما تقدم في حديث أنس فإن لم يتيسر الرطب - وهو ثمر النخل الناضج – أفطر على تمرات - والتمر هو ثمر النخل بعد أن يجف أو يقارب – فإن لم يتيسر التمر أفطر على الماء. قال العلامة ابن القيم: [وكان يحض على الفطر بالتمر فإن لم يجد فعلى الماء هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به ولا سيما القوى الباصرة فإنها تقوى به وحلاوة المدينة التمر ومرباهم عليه وهو عندهم قوت، وأدم ورطبه فاكهة. فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس. فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده. ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب.] زاد المعاد 2/50-51.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقول عند الفطر ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) رواه أبو داود وغيره وهو حديث حسن كما قال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/449.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند فطره: (الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت) رواه أبو داود وهو حديث مرسل رواه ابن السني أيضاً. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أفطر: (اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبله منا إنك أنت السميع العليم) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد) رواه ابن ماجة والحاكم وابن السني وقال البوصيري إسناده صحيح رجاله ثقات. انظر عمل اليوم والليلة لابن السني ص228.
وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة التراويح كما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة في جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: (أما فإنه لم يخف عليَّ مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك) . رواه البخاري ومسلم.
ثم إن المسلمين قد حافظوا على صلاة التروايح في كل ليلة من ليالي رمضان في جماعة واحدة في المسجد منذ عهد عمر رضي الله عنه فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارىء قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون وكان الناس يقومون أوله) .
وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) رواه البخاري ومسلم وفي رواية عند مسلم: (كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) .
وكان من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في رمضان فقد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) رواه البخاري ومسلم.
ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في رمضان الجود والكرم ومدارسة القرآن الكريم فقد صح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن وكان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري ومسلم.
وختاماً فعلى المسلم أن يصوم رمضان مخلصاً لله تعالى حتى ينال الجزاء الأوفى وهو غفران الذنوب فقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه مسلم.
هذا هو الهدي النبوي في رمضان على وجه الإيجاز والاختصار فعلى الصائمين الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الفضيل بقدر الوسع والطاقة وعليهم أن يحذروا الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس الذين يحاولون بشتى السبل والوسائل إفساد هذه العبادة العظيمة على الناس ويفرغونها من مضامينها الإيمانية عن طريق استغلال وسائل الإعلام بتقديم المسلسلات التي يزعمون أنها دينية وهي في معظمها لا علاقة لها بالدين إلا في الاسم
وكذلك المسابقات التي يتفننون في أسمائها وأشكالها وهدفها الحقيقي إنما هو إفساد الناس وأخلاقهم وتضييع أموالهم فيما العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر.
فعلى المسلم أن يستفيد من وقته دائماً وخاصة في شهر رمضان المبارك فيقضي الصائم وقته في الطاعة كقراءة القرآن الكريم والمحافظة على صلاة الجماعة وصلاة التراويح وفعل الخيرات.
كما أن في شهر رمضان فرصة طيبة للرجوع إلى الله والالتزام بشرعه وفيه فرصة للإقلاع عن العادات القبيحة والسيئة كالتدخين.(9/29)
30 - المشقة المبيحة للفطر
يقول السائل: ما هو المرض الذي يبيح الفطر في رمضان؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 184.
وقد أجمع أهل العلم على أن المرض في الجملة عذر يبيح الفطر كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 3/155. ولكن العلماء اختلفوا في تحديد طبيعة المرض المبيح للفطر وأرجح الأقوال في المسألة هو قول من قال هو كل مرض يزيد بالصوم أو يخشى تأخر الشفاء معه بالصوم فهذان يجيزان الفطر في رمضان. وأما القول بأن مطلق المرض يبيح الفطر فقول غير مسلم فهناك كثير من الأمراض والأوجاع لا تؤثر على الصائم كمن به صداع أو ألم في يده ورجله أو نحو ذلك فمن كان به شيء من ذلك فلا يجوز له الفطر. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه. قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟ وحكي عن بعض السلف: أنه أباح الفطر بكل مرض حتى من وجع الإصبع والضرس لعموم الآية فيه ولأن المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فذلك المريض] .
ثم قال ابن قدامة: [والمرض لا ضابط له فإن الأمراض تختلف منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الإصبع والدمل والقرحة اليسيرة والجرب وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطاً وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره] المغني 3/155-156.
وقال القرطبي: [وقال جمهور العلماء إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده يصح له الفطر قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به] تفسير القرطبي 2/276.
وقال الإمام النووي: [… ثم كون شرط المرض مبيحاً أن يجهده الصوم معه فيلحقه ضرر يشق احتماله] الروضة 2/234-235.
وقال الإمام النووي في موضع آخر: [المريض العاجز عن الصوم لمرض يرجى زواله لا يلزمه الصوم في الحال ويلزمه القضاء لما ذكره المصنف هذا إذا لحقه مشقة ظاهرة بالصوم ولا يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم بل قال أصحابنا: شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها قالوا وهو على التفصيل السابق في باب التيمم قال أصحابنا وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة لم يجز له الفطر بلا خلاف عندنا خلافاً لأهل الظاهر] المجموع 6/258.
وقال الكاساني: [أما المرض فالمرخص منه هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم وإليه وقعت الإشارة في الجامع الصغير فإنه قال في رجل خاف إن لم يفطر تزداد عيناه وجعاً أو حمَّاه شدة أفطر وذكر الكرخي في مختصره أن المرض الذي يبيح الإفطار هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة كائناً ما كانت العلة.
وروري عن أبي حنيفة أنه إن كان بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعداً فلا بأس بأن يفطر والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب والوجوب لا يبقى في هذه الحالة وأنه حرام فكان الإفطار مباحاً بل واجباً] .
ثم قال الكاساني: [وكذا مطلق المرض ليس بسبب للرخصة لأن الرخصة بسبب المرض والسفر لمعنى المشقة بالصوم تيسيراً لهما وتخفيفاً عليهما على ما قاله الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) سورة البقرة الآية 185 ومن الأمراض ما ينفعه الصوم ويخففه ويكون الصوم على المريض أسهل من الأكل بل الأكل يضره ويشتد عليه ومن التعبد الترخص بما يسهل على المريض تحصيله والتضييق بما يشتد عليه المرض] بدائع الصنائع 2/245-246.
[وبعد هذا العرض لإقوال العلماء فالصواب من القول في ذلك عندنا أن المرض الذي أباح الله تعالى الإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهداً غير محتمل فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر فإن لم يكن مأذوناً له في الإفطار فقد كلف عسراً ومنع يسراً وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بقوله:: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) سورة البقرة الآية 185 وأما من كان الصوم غير جاهده فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم فعليه أداء فرضه. قلت والذي يظهر لي من أدلة الكتاب والسنة: أن كل مرض يضر صاحبه بالصوم سواء كان بزيادة المرض أو بتباطؤ برئه فإنه يباح له الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر.
أما إذا قدر المريض على الصوم بغير جهد ولا مشقة تلحقه من أجل مرضه ولا يخشى أن يزيد الصيام في مرضه فعليه أن يصوم لأن مطلق المرض ليس سبباً للرخصة على الصحيح كما أن المسافر لا يباح له الفطر إذا كان سفره دون مسافة قصر فالرخصة بسبب المرض والسفر لمعنى المشقة بالصوم تيسيراً لهما وتخفيفاً عليهما كما قال تعالى:: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) سورة البقرة الآية 185 ومن الأمراض ما ينفعه الصوم ويكون الصوم علاجاً له أو مفيداً فيه ويكون الصيام على المريض أسهل من الأكل بل الأكل قد يضره ويشتد عليه كمرض التخمة والإسهال ونحو ذلك.
ويدل على أن الرخصة في الإفطار للمريض متعلقة بخوف الضرر ما رواه أنس بن مالك ? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم) ومعلوم أن الرخصة للحامل والمرضع في الإفطار موقوفة على خوف الضرر على أنفسهما أو على ولديهما وإن لم تكونا مريضتين … والمريض أيضاً أبيح له الإفطار لخوف الضرر فمتى خاف الضرر جاز له الفطر والله أعلم] أحكام المريض ص94-95.
وينبغي التنويه إلى أن المرض الذي يبيح الفطر يعود تقديره إلى المريض نفسه أو إخبار الطبيب الثقة في علمه وإن كان غير مسلم.
قال الدكتور يوسف القرضاوي عن ذلك: [وإنما يعرف ذلك بغلبة الظن فهي كافية في الأحكام العملية وغلبة الظن تعرف هنا بأمرين:
إما التجربة - تجربته هو - بأن يكون جرب الصوم يوماً أو أكثر فشق عليه أو زاد وجعه أو تجربة غيره ممن يثق به وحاله كحاله ممن يعاني نفس المرض.
وأما بإخبار طبيب مسلم ثقة في دينه ثقة في طبه بأن يكون من أهل الاختصاص في هذا المرض فلا يكفي أن يكون طبيباً وماهراً بل لا بد ان يكون مختصاً فقد عرف عصرنا التخصص الدقيق في الطب إلى حد يجعل بعض الأطباء الحاذقين أشبه بالعوام في الاختصاصات الدقيقة الأخرى] فقه الصيام ص66.
وأخيراً فعلى المريض الذي يجوز له الفطر أن يأخذ بالرخصة فيفطر يقول الله تعالى:: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) سورة البقرة الآية 185 وجاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما كره أن أن تؤتى معصيته) رواه أحمد وفي رواية أخرى: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) وهو حديث صحيح بروايتيه كما فصل ذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/9-13.(9/30)
31 - المفطرات المعتبرة
يقول السائل: هل التبرع بالدم يفطر الصائم؟
الجواب: التبرع بالدم لايفطر الصائم على الراجح من أقوال أهل العلم ولو كثرت كمية الدم المتبرع بها كوحدة دم واحدة أو اثنتين كما هو معمول به طبيا. ومما يدل على أن التبرع بالدم لا يفطر الصائم الأحاديث الواردة في جواز الحجامة للصائم فهي بعمومها تشمل التبرع بالدم فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) .
وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح. وروى الإمام البخاري بإسناده أن ثابتاً البناني قال: [سئل أنس بن مالك رضي الله عنه أكنتم تكرهون الحجامة للصائم قال: لا، إلا من أجل الضعف] .
وورد في رواية في الصحيح أن ذلك كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة للصائم إبقاء على أصحابه ولم يحرمها] رواه أحمد وأبو داود وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر. فتح الباري 5/81.
وأما ما ورد في الحديث الصحيح عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجة والحاكم وغيرهم.
فهذا الحديث على الراجح من أقوال أهل العلم أنه منسوخ بحديث ابن عباس وما في معناه من الأحاديث. قال الحافظ ابن عبد البر: [والقول عندي في هذه الأحاديث أن حديث ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً) . ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ عام الفتح على رجل يحتجم لثماني عشر ليلة خلت من رمضان فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) فابن عباس شهد معه حجة الوداع وشهد حجامته يومئذ محرم صائم فإذا كانت حجامته عليه السلام عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان لأنه توفي في ربيع الأول صلى الله عليه وسلم وإنما وجه النظر والقياس في ذلك بأن الأحاديث متعارضة متدافعة في إفساد صوم من احتجم فأقل أحوالها أن يسقط الاحتجاج بها والأصل أن الصائم لا يقضى بأنه مفطر إذا سلم من الأكل والشرب والجماع إلا بسنة لا معارض له. ووجه آخر من القياس وهو ما قاله ابن عباس: [الفطر مما دخل لا مما خرج] الاستذكار 10/125-126.
وممن قال بنسخ حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) الإمام الشافعي والخطابي والبيهقي وابن حزم الظاهري حيث قال فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر: [صح حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) بلا ريب لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم) وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً] فتح الباري 5/81. ورجح الشيخ الألباني أن حديث الإفطار بالحجامة منسوخ فقال: [فائدة: حديث أنس هذا صريح في نسخ الأحاديث المتقدمة (أفطر الحاجم والمحجوم) الإرواء 4/73.
ثم قال الشيخ الألباني بعد أن ذكر حديث أبي سعيد الخدري قال: [رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة] . [قلت: فالحديث بهذه الطرق صحيح لا شك فيه وهو نص في النسخ فوجب الأخذ به كما سبق عن ابن حزم رحمه الله] الإرواء 4/75 وانظر أيضاً الإرواء 4/80.
وخلاصة الأمر أن التبرع بالدم لا يفطر الصائم وكذلك سحب الدم للفحص لا يفطر الصائم وكذلك الحجامة لا تفطر الصائم. ولكن ينبغي مراعاة أن لا تؤدي هذه الأمور إلى إضعاف الصائم ومن ثم عجزه عن الصيام فتنتهي به للإفطار بتناول الطعام أو الشراب أو الدواء.(9/31)
32 - أحاديث في شهر الصيام
هنالك أحاديث يكثر ترديدها في شهر رمضان المبارك على ألسنة الوعاظ والخطباء وهي منتشرة وشائعة وتكرر السؤال عنها فرغبت في ذكرها وبيان ما قاله أهل الحديث في الحكم عليها وهذه الأحاديث هي:
الحديث الأول: عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: (يا أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار واستكثروا فيه من أربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غناء بكم عنهما فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون اله الجنة وتعوذون به من النار ومن أسقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة)
قال الحافظ المنذري: رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال: إن صح الخبر ورواه من طريقه البيهقي.
ثم ذكر المنذري رواية أخرى للحديث وقال: [وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان] الترغيب والترهيب 2/24-25.
وعلي بن زيد ضعيف ضعفه جماعة من أهل الحديث، قال الحافظ ابن حجر: [مداره - أي الحديث على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ويوسف بن زياد الراوي عنه ضعيف جداً] نقل كلام الحافظ محقق شعب الإيمان 3/305.
وقال الشيخ الألباني عن الحديث السابق إنه منكر. سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/263.
الحديث الثاني: (صوموا تصحوا) .
قال الزبيدي: [قال العراقي رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف] إتحاف السادة المتقين 7/401.
فالحديث ضعيف وممن ضعفه أيضاً الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة 1/277، وفي ضعيف الجامع الصغير أيضاً ص 512.
وقد اعتبر الإمام الصاغاني الحديث من الأحاديث الموضوعة كما في رسالته في الأحاديث الموضوعة ص 104.
وأنظر أيضاً المقاصد الحسنة ص 236 كشف الخفاء 1/445، تمييز الطيب من الخبيث ص 146.
الحديث الثالث: عن أبي مسعود الغفاري رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأهلَّ رمضان فقال:
لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان. فقال رجل من خزاعة: يا نبي الله حدثناّ. فقال: إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق أشجار الجنة فتنظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا ربنا! اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجاً تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا. قال: فما من عبد يصوم يوماً من رمضان إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درة كما نعت الله عز وجلّ: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) " الرحمن 72 " على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى وتعطى سبعين لوناً من الطيب ليس منه لون على ريح الآخر لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها وسبعون ألف وصيف مع كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون طعام يجد لآخر لقمة منها لذة لم يجد لأوله ولكل امرأة منهن سبعون سريراً من ياقوتة حمراء على كل سرير سبعون فراشاً بطائنها من استبرق فوق كل فراش سبعون أريكة ويعطي زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر موشحاً بالدر عليه سواران من ذهب هذا بكل يوم صامه من رمضان سوى ما عمل من الحسنات) رواه ابن خزيمة والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الكبير وغيرهم وهو حديث موضوع أي مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم كما قرر ذلك أهل الحديث وقد ذكره في الموضوعات ابن الجوزي والشوكاني وغيرهما. انظر الفوائد المجموعة ص 88، الترغيب والترهيب 2/31-32.
الحديث الرابع: حديث: (يوم صومكم يوم نحركم يوم رأس سنتكم) .
قال الإمام أحمد لا أصل له، وذكره في الموضوعات ابن الصلاح وابن عراق وملا علي القاري
وابن القيم وغيرهم. انظر المنار المنيف ص 124، المقاصد الحسنة ص 480، المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 219، تمييز الطيب من الخبيث ص 313.
الحديث الخامس: حديث: (السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس، قريب من النار وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) رواه الترمذي وضعفه ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.
وقد عده الشيخ ابن الجوزي في الموضوعات وكذلك ابن القيم، وقال الشيخ الألباني: ضعيف جداً.
وقال الحافظ أبو حاتم هذا حديث منكر، وقال أيضا عن رواية أخرى للحديث هذا حديث باطل. انظر السلسلة الضعيفة 1/184-185، المنار المنيف ص 26.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن في صحيح السنة النبوية وحسنها ما يغني عن ذكر هذه الأحاديث الموضوعة والواهية وينبغي على الخطباء والوعاظ أن يعتنوا عناية خاصة بالأحاديث التي يذكرونها في خطبهم ودروسهم وأن يراجعوا كلام أهل الحديث عليها حتى لا يقعوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقصدون أو لا يقصدون فإن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على سواه.(9/32)
33 - بداية الصوم ونهايته
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض طلبة العلم الشرعي في رمضان حيث إنهم يستمرون في الأكل والشرب إلى ما بعد أذان الفجر الثاني ويزعمون أنهم بهذا يتحققون من طلوع الفجر الصادق ويفطرون قبل أذان المغرب بعدة دقائق لأن الشمس قد غابت بزعمهم؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) سورة البقرة الآية 187.
فهذه الآية الكريمة قد حددت بداية الصوم ونهايته وقد ذكر الإمام القرطبي قولين لأهل العلم في تفسير بداية الصوم فقال: [واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا) وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضاً.
وفي حديث ابن مسعود: (إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ولكن الذي يقول هكذا ووضع المسبحة ومد يديه) وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا حل شيئاً ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام) هذا مرسل.
وقالت طائفة ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت روى ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش بن سليمان وغيرهم أن الإمساك بحيث يتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال وقال مسروق لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت وروى النسائي عن عاصم عن زر قال، قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال: (كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر) قال
الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي، وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة.
قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار والنهار عندهم من طلوع الشمس وآخره غروبها وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك وقوله: (أياماً معدودات) .
وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له) تفرد به عبد الله بن عبادة عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد وكلهم ثقات وروى عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء وروى عن حفصة مرفوعاً من قولها ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر) تفسير القرطبي 2/318-319.
وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي قول جمهور أهل العلم، ثم ذكر قول مسروق والأعمش أن الفجر هو الذي يملأ البيوت والطرق، ثم قال الشيخ ابن قدامة مستدلاً لقول الجمهور: [ولنا قول الله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم) دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين] المغني 3/105.
وقال الإمام النووي: [هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار قال وبه نقول، قال روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال حين صلى الفجر الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود قال وروي عن حذيفة أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى قال وروي معناه عن ابن مسعود وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق قال وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن على الآخرين قال إسحاق ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي قاله هؤلاء هذا كلام ابن المنذر، وحكى أصحابنا عن الأعمش وإسحاق بن راهويه إنهما جوزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس ولا أظنه يصح عنهما] المجموع 6/305.
ثم استدل الإمام النووي لقول الجمهور بالأحاديث التالية:
حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (لما نزلت: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) قلت يا رسول الله: إني أجعل تحت وسادتي عقالين عقالاً أبيض وعقالاً أسود أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: (أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى من الفجر فعلموا أنه يعني به الليل من النهار) رواه البخاري ومسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير) رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم وليس أن يقول الفجر أو الصبح وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا وقال بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدّ هما عن يمينه وشماله) رواه البخاري ومسلم. المجموع 6/305-306.
وبعد هذا البيان والاستدلال أوضح الأمور التالية:
أولاً: يجب أن يعلم أن الصوم والفطر يكون مع عامة المسلمين لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وقال: [هذا حديث غريب حسن وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح كما في صحيح سنن الترمذي 1/213.
فلا ينبغي لفرد أو لجماعة أن تنفرد عن جمهور المسلمين فيجعلون لأنفسهم وقتاً خاصاً يبدؤون به الصوم ووقتاً خاصاً يفطرون فيه ويخالفون عامة الناس لأن هذا شذوذ منبوذ.
ثانياً: إن الذين يسكنون اليوم في المدن والقرى الكبيرة لا يمكنهم أن يتحققوا من طلوع الفجر الصادق أو غروب الشمس المؤكد لعوامل كثيرة منها: عدم معرفة كثير من الناس بالتمييز بين الفجر الصادق والكاذب فإن عرف بعضهم ذلك صعب عليه بسبب الأضواء الكهربائية المنتشرة في المدن والقرى ولا يصح أن يقاس حال هؤلاء على سكان الصحارى والمدن في العهد النبوي وما بعده من عهود الصحابة والتابعين لأن ذلك قياس مع الفارق.
لذا فإن الاعتماد على التوقيت المعتبر والمعتمد على الدراسات والحسابات الفلكية وآلات الرصد ونحوها اعتماد صحيح.
وأما الزعم بأن أحكام الصوم متعلقة بالرؤية البصرية " العين البشرية " ولا ينبغي التكلف والتنطع ورصد الهلال ومراقبة الفجر بالآلات الفلكية الحديثة كما ورد في صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم ص 41-42.
فهذا القول مردود جملة وتفصيلاً فالاستعانة بعلم الفلك والأجهزة والآلات الحديثة لا مانع منه شرعاً وهذه الوسائل الحديثة تعين الإنسان في ضبط هذه الأمور ويجب أن يعلم أن هنالك فرقاً شاسعاً بين علم الفلك والتنجيم حيث إن بعض الناس يظنهما شيئاً واحداً وهما مختلفان فالفلك علم معروف وله قواعد وأسس والآخر دجل وباطل.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله في جواب سؤال مضمونه أن بعض المسلمين الملتزمين لا يصومون حتى يروا الهلال بالعين المجردة ولا يفطرون حتى يروه بالعين المجردة ولا يعترفون بالرؤية بالأجهزة الحديثة ويخالفون الناس في صلاة العيد في وقتها ... الخ.
فأجابت اللجنة بقولها: [يجب عليهم أن يصوموا مع الناس ويفطروا مع الناس ويصلوا العيدين مع المسلمين في بلادهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة) متفق عليه والمراد بالأمر بالصوم والفطر إذا ثبتت الرؤية بالعين المجردة أو بالوسائل التي تعين العين على الرؤية لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) ] فتاوى اللجنة الدائمة 10/95.
ثالثاً: إن إفطار هؤلاء قبل أذان المغرب وزعمهم أن الشمس قد غابت قبل أذان المغرب بعدة دقائق أقول إن هذا خطأ واضح فقد ورد في الحديث عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) رواه البخاري ومسلم.
والمراد بالحديث أنه لا بد من إقبال الليل وليس مجرد مغيب الشمس عن أعين الناس بل لا بد أن تغرب الشمس حقيقة وأما قول بعضهم إن الإفطار يتحقق بعد غروب الشمس مباشرة وإن كان ضوؤها ظاهراً. صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم ص 40.
أقول هذا كلام ينقض آخره أوله فكيف يغيب قرص الشمس ويبقى ضوؤها ظاهراً فإذا كان شخص يمشي في واد وغاب عنه قرص الشمس فلا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق من غروب الشمس.
قال الإمام النووي (قال العلماء إنما ذكر غروب الشمس وإقبال الليل وإدبار النهار ليبين أن غروبها عن العيون لا يكفي لأنها قد تغيب في بعض الأماكن عن العيون ولا تكون قد غربت حقيقة فلا بد من إقبال الليل وإدبار النهار] المجموع 6/303.
وقال الإمام النووي أيضا: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس) قال العلماء كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين ويلازمهما وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في واد ونحوه بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء] شرح النووي على صحيح مسلم 7/209.
وقال الحافظ ابن حجر: [وذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقبال حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار وأنهما بواسطة غروب الشمس لا سبب آخر] فتح الباري 5/99.
وخلاصة الأمر يجب على هؤلاء وأمثالهم أن يصوموا ويفطروا مع الناس وألا يشذوا فإن الشذوذ شر عظيم.(9/33)
34 - بداية الصوم ونهايته
يقول السائل: ما قولكم فيما يسمى بموعد الإمساك المطبوع في الكثير من التقاويم (الإمساكيات) وعادة ما يكون قبل أذان الفجر بربع أو ثلث ساعة فهل يحرم على المسلم أن يأكل في هذا الوقت؟
الجواب: إن الإمساك قبل أذان الفجر والمتعارف عليه لدى كثير من الناس حيث أنهم يمتنعون عن الطعام والشراب إذا حان موعد الإمساك ويعتبرون أن وقت الصوم قد بدأ، إن هذا الإمساك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ولا دليل على جوازه من الكتاب أو السنة وفيه نوع من الغلو والتشدد الذي نهى عنه الشرع إذا التزم به المسلم. والأصل أن وقت الصيام يبدأ بطلوع الفجر الصادق وهو موعد أذان الفجر يقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وبناءً على ذلك يجوز للمسلم أن يستمر في الأكل والشرب إلى أن يؤذن لصلاة الفجر ولا يحرم عليه الطعام أو الشراب إلا إذا دخل وقت صلاة الفجر. وهذا الإمساك المبتدع يتعارض مع ما ورد في السنة النبوية من تأخير السحور فقد ورد في ذلك أحاديث منها: 1. ما رواه الإمام البخاري قال: [باب تعجيل السحور ثم ساق بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي صلاة الفجر -] . وقال الحافظ ابن حجر قوله باب تعجيل السحور أي الإسراع بالأكل إشارة إلى أن السحور كان يقع قرب طلوع الفجر. وقد ورد في بعض نسخ صحيح البخاري في ترجمة الباب قوله: باب تأخير السحور. 2. روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه: كنا ننصرف من صلاة الليل فنستعجل بالطعام مخافة الفجر. 3. وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل فطرنا وأن نأخر سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) رواه الطبراني والأوسط ورجاله رجال الصحيح. قاله الهيثمي.(9/34)
35 - المسائل الطبية في الصيام
فهذه مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بأمور طبية وعلاقتها بالصيام، أجبت عليها على وجه الإختصار، وقبل الشروع فيها أود أن أبين قضية هامة تتعلق بالمفطرات في رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فهذه مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بأمور طبية وعلاقتها بالصيام، أجبت عليها على وجه الإختصار، وقبل الشروع فيها أود أن أبين قضية هامة تتعلق بالمفطرات في رمضان فأقول:
من المعلوم أن المفطرات المتفق عليها بين أهل العلم، هي الطعام والشراب والشهوة ويدل على ذلك قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) سورة البقرة/187.
ويضاف للمفطرات الثلاثة ما اتفق عليه أهل العلم على أنه مفطر، مما هو في حكم الطعام والشراب، كالتدخين وتعاطي الأدوية عن طريق الفم وهو المفذ الطبيعي للطعام والشراب، فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي، فلا شك أنه يفطّر الصائم، وقد اجتهد فقهاء الإسلام في الأمور المفطرة للصائم، وذكروا أشياء كثيرة من المفطرات حتى صارت كتب الفقه طافحة بها على اختلاف في المذاهب في كل منها هل يعد مفطراً أم لا؟
والصحيح الذي أطمئن إليه وتؤيده الأدلة، أن كثيراً مما عدّه الفقهاء من المفطرات ليس كذلك، ولم تقم الأدلة الصحيحة على اعتباره مفطراً للصائم، وأنا أميل إلى التضييق في المفطرات وعدم التوسع فيها، لعدم ثبوت الأدلة على صحة ما عده كثير من الفقهاء من المفطرات أنه مفطر فعلاً، فمثلاً قال بعض الفقهاء إن مجرد دخول أي شيء إلى الجسم يعد مفطراً بغض النظر من أين دخل، فمثلاً إذا احتقن الصائم بدواء فإنه يفطر بل قال بعضهم إذا استنجى الصائم فأدخل إصبعه في دبره أفطر، وإذا اكتحل أفطر …. الخ، وهذا الكلام غير مسلّم به وغير مقبول لماذا؟
لأن الصيام مما يبتلى به عامة الناس في دين الإسلام ولو كانت مثل هذه الأمور مفسدة للصوم لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً مفصلاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: " وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك، لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، عُلم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك " مجموع الفتاوى 25/233 - 234.
وقال أيضاً: " إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا عُلم أن هذا ليس من دينه.... وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد أن تنقل الأمة، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والإغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره.... " مجموع الفتاوى 25/236 - 242.
وقال ابن حزم: " إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي، وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس، وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله " المحلى 4/348.
إذا تقرر ما قلت: فهذه هي الأسئلة وإجاباتها:
1 - ما هو تأثير الحقن على الصيام؟
الجواب: إن الحقن التي تعطى للمريض على نوعين:
- الحقن التي يقصد بها الدواء، وليست للتغذية فهذه لا تفطر الصائم، سواءً كانت في العضل أو في الوريد أو كانت في الشرج.
- الحقن التي يقصد بها الغذاء فهذه مفطرة لأنها في معنى الطعام والشراب.
2 - هل التحاميل تبطل الصوم؟
الجواب: التحاميل إن كانت علاجية ولا يقصد بها الغذاء، فلا تبطل الصيام، وإن كانت للتغذية فهي مبطلة للصوم.
3 - هل الحبوب التي توضع تحت اللسان تبطل الصوم؟
الجواب: هذه الحبوب التي توضع تحت اللسان تفطر الصائم.
4 - هل المراهم تبطل الصوم؟
الجواب: المراهم التي تدهن بها الأعضاء المريضة لا تبطل الصوم.
5 - هل القطرة تفطر الصائم؟
الجواب: القطرات سواء أكانت عن طريق الأذن أو العين أو الأنف لا تفطر الصائم لأنها ليست طعاماً ولا شراباً ولا تدخل إلى الجوف من المدخل الطبيعي للطعام والشراب، وهو الفم.
6 - هل البخاخ الذي يستعمله بعض المرضى لتوسيع الشرايين يفسد الصيام؟
الجواب: إن البخاخ المذكور سائل يستعمل لتوسيع شرايين الرئتين عند ضيق التنفس ولا يصل إلى المعدة عند استعماله كما قال بعض الأطباء وبناءً عليه لا يفسد الصيام.
7 - هل الدواء الذي يؤخذ للغرغرة في الفم يبطل الصيام؟
الجواب: لا يبطل الصوم بدواء الغرغرة طالما لم يبتلعه المريض، فإذا ابتلعه المريض بطل صيامه.
8 - هل الدواء الذي يعطى للمريض عن طريق التبخير، ويقوم المريض باستنشاقه يفسد الصوم؟
الجواب: الذي يظهر لي أنه غير مبطل للصوم.
9 - هل استخدام الأكسجين يبطل الصيام؟
الجواب: الأكسجين المذكور لا يبطل الصيام، لأنه ليس بطعام ولا شراب بل هو من مكونات الهواء الذي نتنفسه.
10 - هل سحب الدم يفطر الصائم؟
الجواب: سحب الدم لا يفطر الصائم.
11 - إذا أصيب الإنسان بنزيف وهو صائم هل يبطل صومه؟
الجواب: إن خروج الدم من الإنسان سواء كان من الفم أو الأنف أو الوجه أو الرأس لا يؤثر على الصيام، إلا إذا دخل الدم في الجوف، كمن خلع ضرسه فنزل الدم إلى جوفه فهذا يبطل الصوم وما عداه فلا.
12 - هل الفحص المهبلي للمرأة يبطل الصيام؟
الجواب: لا يبطل الصوم بالفحص المهبلي للمرأة.
13 - هل الفحص الشرجي للمريض يبطل الصوم؟
الجواب: لا يبطل الصيام بالفحص الشرجي.
14 - هل التدخين يبطل الصيام؟
الجواب: نعم اتفق أهل العلم المعاصرون وغيرهم، على أن التدخين يبطل الصيام.
15 - إذا استنشق الصائم الدخان دون أن يدخن، كأن يجلس في مكان فيه مدخنون فهل يبطل صومه؟
الجواب: لا يبطل صوه إن شاء الله، ولا ينبغي للصائم أن يجالس المفطرين في رمضان باختياره.
16 - هل يجوز للمرأة استعمال أدوية لتأخير الحيض من أجل أن تصوم رمضان كله؟
الجواب: يجوز ذلك وإن كان الأولى أن تترك المرأة الأمور على طبيعتها، لأن الحيض شيء كتبه الله على النساء، فلا تتناول هذه الحبوب، وإن تناولتها فينبغي أخذ رأي الأطباء في أنه لا يلحق المرأة أذى من تناول هذه الحبوب.
17 - هل يجوز للصائم استعمال فرشاة الأسنان والمعجون أثناء الصيام؟
الجواب: ينبغي للصائم إن أراد استعمال فرشاة الأسنان والمعجون أن يستعملها قبل طلوع الفجر، أو بعد الإفطار، فهذا هو الأفضل والأحوط، وإن استعملهما أثناء النهار فلا بأس، بشرط أن لا يبتلع شيئاً من ذلك، فإن ابتلع شيئاً من ذلك فقد بطل صومه.
18 - هل القيء يبطل الصوم؟
الجواب: إذا خرج القيء من الصائم رغماً عنه فصومه صحيح، وأما إن استقاء بأن سعى في الإستفراغ فقد بطل صومه وعليه القضاء.
19 - هل يجوز للمرضع والحامل أن تفطرا في رمضان؟
الجواب: إذا استطاعت الحامل والمرضع الصوم دون أن يلحقهما ضرر فهو المطلوب، وإلا يجوز لهما الإفطار وتقضيا ما عليهما من صيام.(9/35)
36 - قضاء رمضان
يقول السائل: ما المطلوب من المرأة الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان؟
الجواب: اختلف أهل العلم في هذه المسألة اختلافاً كبيراً حتى قال الإمام ابن العربي المالكي: [وأما الحامل والمرضع فالاختلاف فيهما كثير ومتباين] عارضة الأحوذي 3/189.
ثم ذكر أربعة أقوال لأهل العلم في المسألة وهي:
1. إن على الحامل والمرضع الفدية فقط ولا قضاء عليهما وهذا منقول عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما.
2. عليهما القضاء فقط ولا فدية وهو قول جماعة من أهل العلم سأذكرهم فيما بعد.
3. عليهما القضاء والفدية وهو قول مجاهد والشافعي في أحد قوليه وأحمد.
4. على المرضع القضاء والفدية وعلى الحامل القضاء فقط وهو قول مالك وقول الشافعي الآخر.
والذي أختاره من هذه الأقوال وأرجحه هو القول الثاني بأن على الحامل والمرضع القضاء فقط ولا فدية عليهما وبهذا قال: الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء والزهري والضحاك والأوزاعي وربيعة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والطبري وأبو ثور وأبو عبيد وغيرهم. انظر الاستذكار لابن عبد البر 10/222.
وقال ابن المنذر بعد أن ذكر أقوال العلماء في المسألة: [وبقول عطاء أقول] .
قال الإمام البخاري في صحيحه: [وقال الحسن وإبراهيم في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران ثم تقضيان] .
وعقب الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: [فأما أثر الحسن فوصله عبد بن حميد عن طريق يونس بن حميد عن الحسن هو البصري: قال المرضع إذا خافت على ولدها أفطرت وأطعمت والحامل إذا خافت على نفسها أفطرت وقضت وهي بمنزلة المريض. ومن طريق قتادة عن الحسن: تفطران وتقضيان.
وأما قول إبراهيم وهو النخعي فوصله عبد بن حميد أيضاً من طريق أبي معشر عن النخعي قال: الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وقضتا صوماً] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/245-246.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [تفطر الحامل والمرضع في رمضان وتقضيان صياماً ولا تطعمان] .
وروى أيضاً بإسناده عن عكرمة قال: [تفطر الحامل والمرضع في رمضان وتقضيان صياماً ولا طعام عليهما] .
وروى أيضاً بإسناده عن الحسن قال: [تقضيان صياماً بمنزلة المريض يفطر ويقضي والمرضع كذلك] المصنف 4/218.
وهذا القول هو أقوى المذاهب في رأيي من حيث الدليل:
ويدل على ذلك أن الحامل والمرضع حالهما كحال المريض الذي يرجى شفاؤه فتفطران وتقضيان فالحامل لا تبقى حاملاً والمرضع لا بقى مرضعاً فإذا ولدت الحامل وأرضعت وفطمت ولدها فإنها تقضي ما أفطرت من رمضان تماماً مثل المريض الذي مرض مدة من الزمان ثم كتب الله له الشفاء فإنه يقضي ما أفطره من رمضان.
قال الإمام الأوزاعي: [الحمل والإرضاع عندنا مرض من الأمراض تقضيان ولا إطعام عليهما] الاستذكار 10/222.
ومما يدل على هذا ما ورد في الحديث عن أنس بن مالك - رجل من بني عبد الله بن كعب – رضي الله عنه: [قال أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: ادن فكل. فقلت: إني صائم. فقال: ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام. واللهِ لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي أن أكون طعمت من طعام النبي صلى الله عليه وسلم] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن … والعمل على هذا عند أهل العلم. عارضة الأحوذي 3/188.
وقال الشيخ الألباني: [حسن صحيح] انظر صحيح سنن الترمذي 1/218.
وظاهر حديث أنس الكعبي أن الحامل والمرضع في حكم المسافر فالمسافر إذا أفطر يقضي فقط.
قال الإمام ابن العربي المالكي: [وظاهر حديث أنس الكعبي يقتضي أن يفطرا ويقضيا خاصة لأن الصوم موضوع عنهما كوضعه عن المسافر إلى عدة أخرى …] عارضة الأحوذي 3/189.
قال أبو بكر الجصاص الحنفي: [ووجه دلالته - أي حديث أنس الكعبي - على ما ذكرنا إخباره عليه الصلاة والسلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر ألا ترى أن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم المرضع والحامل لأن عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره ثبت بذلك أن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر لا فرق بينهما ومعلوم أن وضع الصوم إنما هو على جهة إيجاب قضائه بالإفطار من غير فدية فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما إذ لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلمبينهما وأيضاً لما كانت الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر] أحكام القرآن 1/224.
ومما يدل على أن الحامل والمرضع تقضيان فقط قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) سورة البقرة الآية 184.
فهذه الآية الكريمة بينت الحكم في حق المريض والمسافر وأن عليهما القضاء فقط
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وفي حديث أنس الكعبي عطفت الحامل والمرضع على المسافر فالظاهر اتحاد الحكم في حق الثلاثة إلا إذا دل دليل قوي على خلاف ذلك ولم يوجد. انظر إعلاء السنن 9/151-152.
وقد قال الإمام مالك بعد أن ذكر أثر ابن عمر عندما سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام قال تفطر وتطعم … الخ.
قال مالك: [وأهل العلم يرون عليها القضاء كما قال الله عز وجل: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ] الموطأ 1/254.
وقد رجح هذا القول جماعة من أهل العلم منهم العلامة ولي الله الدهلوي حيث قال:
[والظاهر عندي أنهما - الحامل والمرضع - في حكم المريض فيلزم عليهما القضاء فقط] تحفة الأحوذي 3/331.
واختارت هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية حيث جاء في فتواها: [إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من الصوم أفطرت وعليها القضاء فقط شأنها في ذلك شأن المريض الذي لا يقوى على الصوم أو يخشى منه على نفسه قال الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ] فتاوى إسلامية 1/396.
واختار هذا القول أيضاً الدكتور يوسف القرضاوي إلا أنه جعله في حق المرأة التي تتباعد فترات حملها كما هو الشأن في معظم نساء زماننا في معظم المجتمعات الإسلامية وخصوصاً في المدن والتي قد لا تعاني الحمل والإرضاع في حياتها إلا مرتين أو ثلاثاً فالأرجح أن تقضي كما هو رأي الجمهور. فقه الصيام ص 74.
*****(9/36)
37 - الفرق بين الفدية والكفارة
يقول السائل: ما الفرق بين الفدية والكفارة في الصيام ومتى تلزم كل منهما؟
الجواب: كثير من الناس يلتبس عليه الفرق بين الفدية والكفارة في الصوم.
والفرق بينهما أن الفدية هي المذكورة في قول الله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 184.
وهذه الآية في حق الشيخ الكبير ومن في حكمه ممن لا يستطيع الصوم فإنه يفطر ويخرج عن كل يوم أفطره فدية طعام مسكين.
ويلحق بالشيخ الكبير المرأة الكبيرة الهرمة والمريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه.
وألحق بعض العلماء بهم الحامل والمرضع التي تخاف على ولدها تقضي وتطعم مسكيناً ولكن الراجح من أقوال العلماء أن الحامل والمرضع تقضيان فقط.
وقال جمهور الفقهاء من كان عليه قضاء من رمضان فلم يقضه حتى دخل رمضان التالي فعليه القضاء والفدية وقال الحنفية يلزمه القضاء بدون فدية وهو أرجح قولي العلماء في المسألة.
ومقدار الفدية مُدُّ بِمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم ويساوي في زماننا هذا نصف كيلوغرام ويزيد قليلاً عليه وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
وأما الكفارة فهي التي ورد ذكرها في الحديث عن أبي هريرة ? قال:
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عيه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟
قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تتطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: ثم جلس. فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تمر، فقال صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا. قال: أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه البخاري ومسلم.
والعَرَق هو القفة والمكتل ويسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مُدَّاً لستين مسكيناً لكل مسكين مُدّ، قاله الإمام النووي. شرح النووي على صحيح مسلم 3/184.
وهذه الكفارة لها خصال ثلاث:
الأولى: عتق رقبة.
والثانية: صيام شهرين متتابعين دون أن يكون بينهما فاصل إلا من عذر شرعي كالمرض.
والثالثة: إطعام ستين مسكيناً لكل منهم مُدٌّ بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام البغوي: [وفيه- - أي حديث أبي هريرة - دلالة من حيث الظاهر أن طعام الكفارة مُدُّ لكل مسكين لا يجوز أقل منه ولا يجب أكثر لأن خمسة عشر صاعاً إذا قسمت بين ستين مسكيناً يخص كل واحد منهم مُدٌّ وإلى هذا ذهب الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد] شرح السنة 6/285.
والكفارة خاصة عند جمهور أهل العلم بمن جامع زوجته في نهار رمضان متعمداً فقط
وقال بعض أهل العلم: تجب الكفارة في حق من تعمد انتهاك حرمة صوم رمضان سواء كان ذلك بأكل أو شرب أو جماع. وقول الجمهور أرجح.
والكفارة واجبة عند جمهور العلماء على الترتيب فيبدأ بالعتق أولاً ونظراً لعدم وجود رقيق في عصرنا الحاضر فيبدأ بصوم ستين يوماً متتابعةً لا يصح قطعها إلا بعذر شرعي. فإن كان عاجزاً عن الصيام فإنه يطعم ستين مسكيناً.
قال الإمام البغوي: [وكفارة الجماع مرتبة مثل الظهار فعليه عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع فعليه أن يطعم ستين مسكيناً هذا قول أكثر العلماء …] شرح السنة 6/285.
ومما يدل على الترتيب في الكفارة ما جاء في رواية لحديث أبي هريرة ? السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (أعتق رقبة. قال: لا أجد. قال: صم شهرين متتابعين. قال: لا أطيق. قال: أطعم ستين مسكيناً. قال: لا أجد …) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/280.
قال ابن تيمية الجَدُّ رحمه الله: [وفيه - أي الرواية السابقة للحديث - دلالة قوية على الترتيب] نيل الأوطار 4/240.
وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم أن الكفارة على الترتيب وقد رجحه ابن قدامة المقدسي في المغني 3/140 والشوكاني في نيل الأوطار 4/240.
ويجب على من أفطر بالجماع في نهار رمضان بالإضافة للكفارة أن يقضي ذلك اليوم لأنه قد ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة السابق قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (وصم يوماً واستغفر الله) وقد صححها الشيخ الألباني في كتابه " إرواء الغليل " 4/90-93.
قال الإمام البغوي: [وقوله: (صم يوماً واستغفر الله) فيه بيان أن قضاء ذلك اليوم لا يدخل في صيام الشهرين عن الكفارة وهو قول عامة أهل العلم غير
الأوزاعي] شرح السنة 6/288-289.
فإن عجز عن الكفارة بخصالها الثلاث لم تسقط عنه وتبقى ديناً في ذمته على الراجح من أقوال العلماء إلى أن تتيسر له الكفارة فيكفر.
قال الإمام النووي: [فإن عجز عن الخصال الثلاث فللشافعي قولان أحدهما: لا شيء عليه وإن استطاع بعد ذلك فلا شيء عليه … والقول الثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياساً على سائر الديون والحقوق والمؤآخذات كجزاء الصيد وغيره.
وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمره بإخراجه فدل على ثبوتها في ذمته وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه كان محتاجاً ومضطراً إلى الإنفاق على عياله في الحال والكفارة على التراخي فأذن له في أكله وإطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته …] شرح النووي على صحيح مسلم 3/182-183
وينبغي أن يعلم أن الكفارة تجب في حالة إفساد صوم رمضان فقط دون غيره من أنواع الصوم الأخرى كصوم القضاء وصوم النذر وصوم النافلة وصوم الكفارة فإن أفسد صوماً منها فعليه القضاء فقط.
قال الشيخ ابن قدامة: [ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء] المغني 3/138.
*****(9/37)
38 - يصح صوم من أصبح جنبا
يقول السائل: أصابته جنابة في ليلة من رمضان ولم يغتسل إلا بعد أذان الفجر فهل صومه صحيح أم لا؟
الجواب: لا تشترط الطهارة من الجنابة للصيام فيجوز للجنب أن يدخل عليه وقت الفجر وهو جنب ولكن ينبغي له أن يغتسل حتى يصلي الفجر.
قال الإمام النووي: [فقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع وبه قال جماهير الصحابة والتابعين …] شرح النووي على صحيح مسلم 3/181.
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم) رواه مسلم.
وروى مسلم بإسناده: (أن مروان أرسل إلى أم سلمة رضي الله عنها يسأل عن الرجل يصبح جنباً أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماعٍ لا من حلم ثم لا يفطر ولا يقضي) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب فقال: (يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) رواه مسلم.
*****
عقوبة من أفطر عامداً في رمضان
يقو السائل: ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أفطر يوماً في رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر وإن صامه) فهل معنى هذا الحديث أن من أفطر عامداً في رمضان أنه لا يقضي اليوم الذي أفطره؟
الجواب: إن هذا الحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض عن أبي هريرة ? وهو حديث ضعيف عند المحدثين.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وهذا - أي الحديث - يحتمل أن يكون لو صح على التغليظ وهو حديث ضعيف لا يحتج به] الاستذكار 10/104.
وقال الإمام الترمذي: [حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسمعت محمداً - يعني الإمام البخاري - يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 3/341.
وقال الحافظ ابن حجر: [… وقال البخاري في التاريخ أيضاً: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا؟
قلت: - أي الحافظ - واختلف فيه على حبيب ابن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء …] فتح الباري 5/63.
وضعفه الحافظ ابن بطال شارح صحيح البخاري. عون المعبود 7/21.
وضعف الحديث أيضاً الشيخ الألباني حيث قال: [… الحديث ضعيف وقد أشار لذلك البخاري بقوله: (ويذكر) وضعفه ابن خزيمة في صحيحه والمنذري والبغوي والقرطبي والذهبي والدميري فيما نقله المناوي والحافظ ابن حجر …] تمام المنة ص 396.
والحاصل أن الحديث ضعيف وعلى من أفطر يوماً من رمضان عامداً بالأكل أو الشرب أن يقضي يوماً مكانه وأن يتوب إلى الله توبةً صادقة لأنه أتى ذنباً عظيماً.
قال الإمام البغوي: [هذا- أي الحديث - على طريق الإنذار والإعلام بما لحقه من الإثم وفاته من الأجر فالعلماء مجمعون على أنه يقضي يوماً مكانه] شرح السنة 6/290.
*****(9/38)
39 - النية في الصيام
تقول السائلة: إنها صامت ألأيام الستة من شوال ونوت صيام الأيام الستة وقضاء ستة أيام أفطرتها من رمضان لعذر الحيض فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن مسألة التشريك في النية من المسائل التي يكثر السؤال عنها وخاصة في حالة صوم الأيام الستة المندوبة من شوال وهل تقع عن الصوم المندوب وعن القضاء؟
وكذلك صوم يومي الاثنين والخميس ندباً وقضاءً وكذلك التشريك في النية في صلاة ركعتين تحية المسجد وسنة الظهر القبلية والتشريك في نية الغسل عن غسل الجنابة وغسل الجمعة وغير ذلك من المسائل.
وهذه المسائل فيها تفصيل:
قال الحافظ ابن رجب: [إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد في وقت واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما واكتفي فيهما بفعل واحد] تقرير القواعد وتحرير الفوائد 1/142.
وهذه القاعدة التي ذكرها الحافظ ابن رجب تقع على أنواع:
النوع الأول: أن يكون مبنى العبادتين على التداخل كغسل الجمعة والجنابة ومثل الوضوء والغسل من الجنابة فإذا اغتسل شخص ونوى بغسله غسل الجمعة وهو مندوب وغسل الجنابة وهو فرض فالراجح من أقوال أهل العلم أن ذلك يجزئه عنهما ويكفيه الغسل الواحد ويحصل له كلا الغسلين.
قال الإمام الشافعي: [وإن كان جنباً فاغتسل لهما جميعاً أجزأه] .
قال الماوردي: [وصورتها في رجل أصبح يوم الجمعة جنباً فعليه غسلان واجب وهو الجنابة ومسنون وهو الجمعة فإن اغتسل لهما غسلين كان أفضل ويقدم غسل الجنابة وإن اغتسل لهما غسلاً واحداً ينويهما معاً أجزأه] الحاوي الكبير 1/375.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا اجتمع شيئان يوجبان الغسل كالحيض والجنابة أو التقاء الختانين والإنزال ونواهما بطهارته أجزأه عنهما قاله أكثر أهل العلم منهم عطاء وأبو الزناد وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي … ولأنهما سببان يوجبان الغسل فأجزأ الغسل الواحد عنهما كالحدث والنجاسة] .
المغني 1/163.
وقال بعض أهل العلم لا يجزئه غسل واحد ولا بد من غسلين وعلى هذا ابن حزم الظاهري والشيخ الألباني وغيرهما. انظر المحلى 1/289، تمام المنة 126-127.
والصحيح القول الأول أنه يكفي غسل واحد في هذه الحالة لأن مراد الشارع يتحقق بحصول الفعل وقد حصل بالغسل مرة واحدة فالمراد أن يتطهر الإنسان وقد تطهر ولا حاجة للاغتسال مرة ثانية.
قال الإمام النووي: [ولو نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة حصلا جميعاً هذا هو الصحيح] المجموع 3/326. وضعف الإمام النووي القول المخالف.
وكذلك يقال فيمن نوى بغسله للجنابة رفع الحدث الأصغر أيضاً يصح لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) سورة المائدة آية 6.
ولم يذكر وجوب الوضوء ولا وجوب نيته وهذا هو القول الراجح على أنه يجزئ إذا نوى رفع الحدث الأكبر أدى عن الأصغر لأن الله تعالى لم يذكر شيئاً آخر سوى أن يتطَّهر الإنسان] تعليق الشيخ ابن عثيمين على قواعد ابن رجب 1/144.
وقال الإمام البيهقي: [باب الدليل على دخول الوضوء في الغسل …] .
ثم ساق الأحاديث في غسل النبي صلى الله عليه وسلم. سنن البيهقي 1/177-178.
وأما النوع الثاني: وهو أن تحصل له إحدى العبادتين بنيتها وتسقط عنه الأخرى فمن ذلك إذا دخل شخص المسجد وقد أقيمت صلاة الفجر فصلى مع الجماعة فإنه ينوي الفريضة ولا بد وتسقط عنه تحية المسجد.
لأن تحية المسجد تحصل بأداء الفريضة نوى التحية أولم ينوها لأن المراد شغل البقعة بالعبادة كما ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين] رواه البخاري ومسلم.
وكذلك إذا دخل المسجد قبل إقامة صلاة الظهر ولا يتسع الوقت لصلاة سنة الظهر القبلية وصلاة تحية المسجد فإنه يصلي السنة الراتبة وتجزؤه عن تحية المسجد.
قال ابن نجيم الحنفي: [… وسنة الوضوء وتحية المسجد وينوب عنها كل صلاة أداها عند الدخول … كذلك تنوب عنها كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً] الأشباه والنظائر 1/123.
ومن ذلك إذا أخر طواف الإفاضة إلى وقت مغادرته مكة فطاف فيجزؤه عن طواف الوداع.
النوع الثالث: لا يصح التشريك في النية في عبادتين مقصودتين لذاتهما كأن ينوي شخص أداء فريضة الظهر وأربع ركعات السنة القبلية فهذا لا يصح ولا يجزئ لأنهما عبادتان مستقلتان لا تندرج إحداهما في الأخرى ومثل ذلك لو نوى بصلاة العصر أدائها وقضاء صلاة الظهر فإن ذلك لا يصح ولا يجزؤه.
ومثل ذلك من ينوي بصيام الستة من شوال القضاء وصيام الستة معاً فهذا لا يجزئ لأن صوم القضاء عبادة مستقلة وصيام الستة من شوال عبادة مستقلة فلا يصح التداخل بينهما وينبغي على الشخص في هذه الحالة أن يحدد بنيته أي العبادتين يريد فإما أن ينوي القضاء مستقلاً وإما أن ينوي صيام الستة من شوال مستقلة وأما الجمع بينهما بنية واحدة فلا يصح ولا يجزئ عنهما.
فإذا فعل ذلك فاختلف العلماء عن أي العبادتين يقع؟ والأقرب أنه يقع عن القضاء لأنه فرض ولا يقع عن صيام الستة من شوال لأنها مندوبة والعبادة الأوجب لها الأولوية. انظر مقاصد المكلفين ص 257.
*****(9/39)
40 - تفرق المسلمين في رؤية الهلال
يقول السائل: ما قولكم فيمن ابتدأ صيام رمضان هذا العام يوم الأربعاء اتباعاً لما أعلن في اليمن من ثبوت رؤية الهلال مساء الثلاثاء؟
الجواب: إن قضية بداية شهر الصوم ونهايته تشكل مثاراً للنزاع والاختلاف في كل عام تقريباً والمسألة محل اختلاف بين أهل العلم منذ عهد بعيد فمن العلماء من يرى أن لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد والرأي الآخر في المسالة وهو أن لكل بلد رؤيتهم قال به جماعة من أهل العلم والمسألة مسألة اجتهادية محتملة واستدل كل فريق بأدلة من الكتاب والسنة والقياس ولم يكن لهذا الاختلاف بينهم أثر سيىء على الأمة تخشى عاقبته، لحسن قصدهم واحترام كل مجتهد منهم اجتهاد الآخر.
وإن كنت أعتقد رجحان القول الأول بعد النظر في أدلته ولكن هذا القول وهو عدم اعتبار اختلاف المطالع رأي نظري لم يجد طريقه إلى التطبيق العملي في تاريخ المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر لعدم توفر وسائل الاتصال التي تربط أنحاء الدولة الإسلامية بعضها مع بعض ومعلوم أن وسائل الاتصال حديثة العهد.
إذا تقرر هذا فأقول إن الأمل كبير أن تتوحد الأمة الإسلامية تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله وأن تلتزم بشرع الله كاملاً.
ومن ضمن ذلك بداية الصوم ونايته ولكن إلى أن يتحقق هذا الأمل المنشود أرى أن على مسلمي كل بلد أن يلتزموا بالصوم جميعا بناءً على ما تعلنه الجهة المخولة في كل بلد كالقضاء الشرعي أو الإفتاء أو المراكز الإسلامية.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحّون) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح.
قال الإمام الترمذي: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] .
إن المحافظة على وحدة المسلمين الجزئية في البلد الواحد مطلوبة ويجب العمل لها إلى أن تتحقق وحدة المسلمين الكلية أقول هذا ونحن قد وجدنا تمزق هذه الوحدة في البلد الواحد بل في الأسرة الواحدة فبعض الناس صام يوم الأربعاء والأكثر صاموا يوم الخميس وقلة صامت يوم الجمعة فهل هذا مقبول في شرع الله أن تكون بداية رمضان في ثلاثة أيام وماذا سنصنع في العيد، هل سيكون عيد الفطر ثلاثة أعياد وهل ستقام صلاة العيد على مدى ثلاثة أيام؟
ويزعم الذين صاموا يوم الأربعاء أن رأيهم هو الصواب لأنهم أخذوا بالحديث النبوي: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) متفق عليه، وعلى الناس أن يتبعوا ذلك.
ولكن أقول لهم ما هي نتيجة صومكم يوم الأربعاء اتباعاً لليمن؟ النتيجة هي تفرق الأسرة الواحدة في الصيام وتفرق البلدة الواحدة!! ثم هل تتحقق وحدة المسلمين إن صاموا في يوم واحد وأفطروا في يوم واحد مع هذا التمزق السياسي الموجود!!؟
إن الحديث عن وحدة المسلمين في الصيام وفي العبادة في ظل الواقع السياسي الممزق للأمة الإسلامية ما هو إلا ترف فكري وقصور في الهمة وتعامي عن مواجهة الحقيقة والواقع فلو فرضنا جدلاً أن جميع دول مسلمي اليوم صامت في يوم واحد فهل توحدت الأمة؟ الجواب بالتأكيد لا.
إن وحدة الأمة الإسلامية أعمق من وحدتهم في الصيام والعيد وإن وحدة المسلمين الحقيقية تكون بتحكيم شرع الله تعالى في جميع شؤونهم!
إن الذين صاموا يوم الأربعاء لم يتعلموا الدرس مما حصل في رمضان سنة 1413 هـ عندما اختلف المسلمون في نهاية رمضان ولم يستخلصوا العبر مما حدث حينذاك.
السؤال الآن ما هو المخرج من هذا الخلاف والنزاع في بداية رمضان ونهايته فالذين يقولون نصوم مع أول بلد يعلن الصوم، ليس لديهم السلطان ليلتزم الناس بقولهم فالخلاف سيستمر ولن ينقطع.
وأعتقد أنه يسع المسلمين اليوم ما وسع المسلمين خلال تاريخهم الطويل وحين كانت لهم دولة واحدة فما كانوا يصومون في يوم واحد وما كان عيدهم واحداً.
وبناءً على ما تقدم أرى أن الحل الصحيح لهذه القضية هو الالتزام بما تعلنه الجهة المخولة في كل بلد كالقاضي الشرعي أو دار الإفتاء فيصوم أهل القطر الواحد جمعياً ويفطرون جميعاً وإذا أطعنا هؤلاء القضاة والمفتين في هذا الأمر فإنما نطيعهم في المعروف بغض النظر عمن عينهم فحكم الحاكم الشرعي في مثل هذه المسألة يقطع النزاع ويرفع الخلاف.
ومعلوم أن جميع المسلمين في هذه البلاد يرجعون إلى القضاء الشرعي في قضاياهم المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وغيرها فيقبلون قولهم فلم لا يقبلون قولهم في هذه المسألة؟
كما وإني لأستغرب لم لا تثار هذه القضية عند بداية شهر ذي الحجة الذي ترتبط به فريضة الحج!! ولا فرق بين هلال رمضان وبين هلال ذي الحجة!! ولماذا يقبل جميع المسلمين ما يقرره مجلس القضاء الأعلى في السعودية؟!! ولا نسمع أحداً من الناس يدعي خلاف ذلك فيقف في عرفات حسب رؤيته!!
كما وأود أن أبين أنه ينبغي الاستئناس بما يقرره علم الفلك وإن كان الأصل هو رؤية العين المجردة ولكن أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة لا تمنع أن نستعين بعلم الفلك وخاصة أنه علم متقدم ومتطور وعلم الفلك ليس مجرد حسابات وإنما هو رؤية ولكن بالمراصد والآلات فلا مانع شرعاً من الاستفادة من التقدم العلمي في هذا المجال وبالذات في حالة النفي أي إذا نفى علم الفلك احتمال رؤية الهلال بشكل قطعي فينبغى حينئذ عدم قبول ادعاء الرؤية وهذا هو ما حصل في هذا العام فإن علم الفلك نفى احتمال رؤية الهلال مساء الثلاثاء وأن الهلال لم يكن قد تولد لذا فإني أعتقد أن إعلان اليمن عن ثبوت الرؤية ما هو إلا قرار سياسي ولم يكن القرار بناءً على رؤية حقيقية للهلال لاستحالة ذلك كلياً، وأعتقد أن بداية الصوم الصحيحة كانت يوم الخميس.
وأخيراً أقول إن على المنادين بوحدة المسلمين في الصوم أن يكفوا عن هذه الدعوى لما فيها من تفريق للمسلمين في البلد الواحد وأن يسعوا سعياً حقيقياً إلى الوحدة الحقيقية للمسلمين لا مجرد كلام وتنظير فلسفي وعليهم أن يتركوا قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في دول مسلمي اليوم وإن الذي يكفل وحدة المسلمين الحقيقية هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونهم وليس مجرد اتفاقهم على الصيام والعيد في يوم واحد.(9/40)
41 - المشقة المبيحة للفطر
يقول السائل: ما هي المشقة التي تبيح الفطر في رمضان؟
الجواب: يظن بعض الناس أن اشتغالهم بالأعمال التي فيها شيء من المشقة يبيح لهم الفطر في رمضان كالخباز الذي يقف أمام بيت النار طوال النهار والحداد والحجار ولا بد من بيان متى يجوز الفطر في رمضان بسب المشقة فأقول:
إن الشريعة الإسلامية جاءت برفع الحرج ودفع المشقة عن الناس بل إن هذا أصل من أصول الشريعة الإسلامية وقد قامت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على اعتبار هذا الأصل يقول الله سبحانه وتعالى: (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة الآية 6.
وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) سورة الحج الآية 78.
وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) سورة البقرة الآية 185.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا) رواه البخاري.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لمّا بعثهما إلى اليمن:
(يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) رواه البخاري.
وقال صل الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم، وغير ذلك من النصوص الشرعية.
ومن خلال هذه النصوص نرى أن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسهولة رفعت الحرج ودفعت المشقة عن الناس وليس معنى هذا أن يتحلل الناس من الأحكام الشرعية لأدنى مشقة تلحق بهم فإنه لا يكاد عمل في الدنيا يخلو من نوع من المشقة وقد جعل العلماء المشقة على نوعين:
1. مشقة معتادة يتحملها الناس عادة ولا تخلو منها التكاليف الشرعية كالوضوء بالماء البارد وكالصوم في اليوم الحارّ والحج في أشهر الصيف وغيرها فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 2/7.
2. ومشقة غير معتادة لا يستطيع الناس أن يداوموا عليها باستمرار كالوصال في الصوم وقيام الليل كله باستمرار ونحو ذلك.
فهذه المشاق لا يجوز شرعاً للمكلف أن يجلبها على نفسه فيقع في الحرج والمشقة وإن حصلت في التكاليف الشرعية فيجوز حينئذ الأخذ بالرخصة الشرعية.
وبناءً على ما تقدم أقول لا يجوز للإنسان أن يفطر في رمضان إلا إذا لحقه أذى شديد بسبب الصوم فالمريض الذي منعه الأطباء من الصوم لأن الصوم يزيد المرض أو يؤخر الشفاء يجوز له الفطر وأما أصحاب المهن كالنجار والحداد والخباز والحجار فعليهم أن يصوموا ولا يجوز لهم الفطر لأن هؤلاء قد اعتادوا على مهنتهم وصارت حياتهم منسجمة تماماً مع أعمالهم فالخباز الذي يقف أمام بيت النار يومياً صار ذلك بالنسبة له شيء عادي فلا يجوز له أن يفطر.
ومن المعلوم أن صيام رمضان فرض لا يجوز للمكلف تركه إلا لعذر شرعي والذين يدعون أنهم يعملون في أشغال شاقة بإمكانهم أن يأخذوا إجازة من عملهم في شهر رمضان أو أن يبحثوا عن أعمال أخرى لا مشقة شديدة فيها فإن لم يتيسر لهم ذلك واضطروا للعمل كما يضطر الإنسان إلى أكل الميتة فإن عليهم أن يصوموا فإذا شعروا بالحرج والضيق من الصوم أفطروا ثم أمسكوا بقية يومهم وعليهم القضاء فيما بعد.
قال الله جل جلاله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) سورة الطلاق الآيتان 2-3.
?????(9/41)
42 - فتح المطاعم في نهار رمضان
يقول السائل: إنه صاحب مطعم في مدينة القدس ويسأل عن فتح مطعمه في نهار رمضان مع العلم أن الزبائن هم من السياح الأجانب فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز فتح المطاعم والمقاهي ونحوها في نهار رمضان وإن كان زبائنها من غير المسلمين محافظةً على حرمة شهر رمضان فإن الواجب على كل مسلم أن يسعى جاهداً لمنع مظاهر التهاون في الصيام بشكل عام فلا يجوز تقديم الطعام والشراب للمفطرين في رمضان من المسلمين وكذلك لغير المسلمين لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان والمفروض في الشخص المسلم الذي يبتلى بالإفطار في رمضان لعذر شرعي كالمرض أو السفر أو الحيض أو النفاس أو غير ذلك من الأعذار أن لا يجاهر بالفطر على مرأى من الصائمين وعلى هؤلاء أن يستتروا عن أعين الصائمين.
وأما الذين يفطرون عمداً دونما عذر فهؤلاء فسقة فاسدون فإذا جاهروا بالفطر فقد ازدادوا فسقاً على فسقهم وأما غير المسلمين فينبغي لهم أن يراعوا مشاعر المسلمين في الصوم فلا يجاهروا بالأكل والشرب بين المسلمين.
فإن جاهروا ولا حول ولا قوة للمسلمين كما هو حال المسلمين الآن فالمطلوب من المسلم ألا يعينهم على هذا الأمر وهذا أقل الواجب.
وبناءاً على ذلك لا يجوز فتح المطاعم والمقاهي في نهار رمضان ويحرم على المسلم أن يقدم الطعام للمسلم المفطر في نهار رمضان المجاهر بالمعصية فإن أعانه على ذلك فهو آثم وهذا من التعاون على الإثم والعدوان.
?????(9/42)
43 - صيام يوم عاشوراء
يقول السائل: إنه سمع أحد المشايخ يمنع من صيام يوم عاشوراء هذا العام لأنه صادف يوم السبت لما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فما قولكم؟
الجواب: قد أخطأ هذا الشيخ في منعه صيام يوم عاشوراء لأنه صادف يوم السبت اعتماداً على الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجر فليمضغه) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
وهذا الحديث اختلف فيه أهل الحديث اختلافاً كبيراً فصححه بعضهم وأعله آخرون بالاضطراب وقد فصل الكلام عليه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/118-125 وحكم بصحته. وقال أبو داود صاحب السنن إنه منسوخ ولم يسلم له ذلك.
وعلى كل حال فإن الحديث ثابت إلا أنه لا يؤخذ منه منع صوم يوم عاشوراء إن صادف يوم سبت فهذا الفهم غريب عجيب وإذا قلنا به فمعنى ذلك أنه لا ينبغي لنا أن نصوم يوم عرفة أيضاً إن وافق يوم سبت وهذا لم يقل به أحد من العلماء فيما أعلم.
فنحن نصوم يوم عاشوراء لأنه يوم عاشوراء بغض النظر صادف الجمعة أو السبت أو الأحد، وكذلك نصوم يوم عرفة بغض النظر صادف الجمعة أو السبت أو الأحد اقتداءً بهدي المصطفىصلى الله عليه وسلم وقد قال العلماء إن المقصود بالنهي في الحديث هو إفراد يوم السبت بالصيام، قال الإمام الترمذي بعد أن ذكر الحديث: [ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم السبت] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 2/220.
وقال العلامة ابن القيم: [وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد.
قال: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال: إن صومه نوع تعظيم له فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه وإن تضمن مخالفتهم في صومه فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم ولا ريب أن الحديث لم يجىء بإفراده وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم. والله أعلم] زاد المعاد 2/79-80.
وقال العلامة علي القاري: [قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة والمقصود مخالفة اليهود فيهما والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء، أو وافق ورداً] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/599.
وقال الإمام النووي: [والصواب على الجملة ما قدمناه عن أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له] المجموع 6/440.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي بعد أن ذكر الحديث: [والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره..] المغني 3/171.
ويوم السبت وافق صوماً لمحمد صلى الله عليه وسلم فنصومه ولا نسمع لقول من منع صومه لجموده على ظاهر النص.
?????(9/43)
44 - ما لا يفطر الصائم
دواء مرضى الربو والصوم, يقول السائل: هل البخاخ الذي يستعمله بعض المرضى في الفم يفطر الصائم؟ وهل التحاميل تفطر الصائم؟
الجواب: إن البخاخ المذكور في السؤال هو سائل يستعمل لتوسيع شرايين الرئتين عند ضيق النفس ولا يصل إلى المعدة عند استعماله من المريض كما قال الأطباء وبناءً على ذلك فهو غير مفسد للصيام إن شاء الله.
وأما التحاميل فلا تعد من مفسدات الصوم ولا بأس باستعمالها إذا أخذت على أنها علاج.(9/44)
45 - تأثير المعاصي والآثام في الصيام
يقول السائل: هل للمعاصي والآثام التي يرتكبها الإنسان في نهار رمضان تأثير على الصيام كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى.
وبناء على ذلك فليس الصوم هو مجرد الإمتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة فحسب بل لا بد من صوم الجوارح أيضاً، فاليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات واللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله.
إن الصائم مأمور بتقوى الله عز وجل وهي امتثال ما أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه وهذه طائفة عطرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى هذه المعاني:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم يصوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب إن سآبه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سآبك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه الشيخ الألباني.
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له بصيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الشيخ الألباني.
فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الصوم لا يقصد به مجرد الإمتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من صوم الجوارح عن المعاصي، فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله، كما أشار إلى ذلك الحديث الأخير، وله رواية أخرى وهي: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة.
فالأصل في المسلم الالتزام بشرع الله كاملاً وأن يأتي بالعبادات كما أرادها الله سبحانه وتعالى، بأن تكون هذه العبادات محققة لثمارها الإيجابية في سلوك المسلم وحياته، وأما إن كانت الصلاة مجرد حركات خالية من روحها والصوم مجرد جوع وعطش، والزكاة للرياء والسمعة والحج للشهرة واللقب فقد خاب المسلم وخسر وحبط عمله وكان من المفلسين يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم وابن حبان والترمذي والبيهقي وأحمد. وبناء على كل ما تقدم نرى أن المعاصي والآثام لها تأثير واضح في الصيام فهي تفسد المعنى الحقيقي للصيام ولكنها لا تعد من المفطرات.(9/45)
46 - قضاء رمضان
تقول السائلة: امرأة أفطرت في رمضان بسبب الحمل وجاء رمضان التالي ولم تقض الأيام التي أفطرتها فماذا يجب عليها؟ وهل تلزمها الفدية مع القضاء؟ وما مقدار الفدية إن وجبت؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم أن يبادر إلى قضاء الصوم إبراء للذمة ولأنه لا يعلم ما يحدث له من مرض أو سفر أو موت يمنعه من القضاء فإذا دخل رمضان التالي ولم يقض ما عليه فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم فقال جمهور العلماء إن كان تأخير القضاء لعذر شرعي كالمرض مثلاً فيجب القضاء فقط.
وإن كان تأخير القضاء لغير عذر فيلزم القضاء والفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم وحجتهم بعض الآثار المنقولة عن بعض الصحابة كابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجب القضاء فقط سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر ولا تجب الفدية لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .
وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] .
فهذه المرأة عليها قضاء الأيام التي أفطرتها من رمضان ولا فدية عليها.(9/46)
47 - قضاء رمضان
يقول السائل: إذا توفي شخص وكان عليه صيام أيام من رمضان لم يصمها بسبب مرضه فهل يجوز لأولاده صيام تلك الأيام عنه؟
الجواب: لا يصح صيام الأولاد عن أبيهم الذي مات وعليه صيام أيام من رمضان لم يصمها بسبب مرضه لأن صوم الفرض عبادة بدنية محضة لا تدخلها النيابة، ولأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة فكما لا يصلي أحد عن أحد فكذلك الصوم لا يصوم أحد عن أحد صوم رمضان.
ويجوز أن يصام عن الميت صوم النذر لأن النذر إلتزام في الذمة بمنزلة الدين فيجوز أن يقوم ولي الميت بالقضاء عنه كما يقضي الدين عنه وعلى هذا يحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم.
وعلى أولاد هذا الشخص أن يطعموا مسكيناً عن كل يوم أفطره والدهم الذي مات مريضاً ويدل على ذلك (ما روت عمرة أن أمها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة: رضي الله عنها: أقضيه عنها؟
قالت عائشة: لا بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين) . أخرجه الطحاوي وهو أثر صحيح.
وكذلك ما ورد عن ابن عباس قال: (إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه) رواه أبو داود بسند صحيح كما قال الألباني.
وهذا القول الذي ذكرته هو قول السيدة عائشة رضي الله عنها وابن عباس وبه قال الإمام احمد بن حنبل واختاره جماعة من المحققين.(9/47)
48 - صوم التطوع
يقول السائل: إنه صام يوم اثنين تطوعاً لله تعالى ولما كان وقت الظهر زار قريباً له فدعاه إلى الطعام فأفطر ويسأل هل يلزمه قضاء يوم مكان اليوم الذي أفطره؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم إذا بدأ بأمر مندوب كصلاة مندوبة (نافلة) أو صوم مندوب أن يتمه ويكمله (كصوم الإثنين والخميس) . والذي عليه جمهور الفقهاء أن ذلك ليس واجباً وإنما هو في دائرة الاستحباب وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تفيد ذلك منها: 1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليّ رسول الله يوماً فقال هل عندكم شيء؟ فقلت لا قال: فإني صائم ثم مر بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس قلت يا رسول الله أهدي إلي حيس فخبأت لك منه قال: أدنيه أما إني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال لنا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها) رواه مسلم وأبو داود والنسائي واللفظ له. والحيس: تمر نزع نواه ويدق مع إقط ويعجنان بالسمن كما في المصباح المنير 1/159. 2. عن أم هانيء رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخل عليها فدعى بشراب ثم ناولها فشربت فقالت يا رسول الله أما إني كنت صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد والبيهقي وضعفه الترمذي وغيره إلا أن الحديث يتقوى بكثرة طرقه كما قال الشيخ الألباني. وقال النووي إسناده جيد وقال الحاكم صحيح ووافقه الذهبي وقال الحافظ العراقي إسناده حسن. 3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فلما وضع قال رجل: أنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك أخوك وتكلف لك أفطر وصم مكانه إن شئت) رواه البيهقي وإسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 5/112. 4. عن أبي جحيفة قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرآى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال كل فإني صائم فقال سلمان ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما ذهب الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال سلمان نم فنام ثم ذهب يقوم فقال سلمان نم فلما كان آخر الليل قال سلمان قم الآن فصليا فقال سلمان: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) رواه البخاري وغيره. فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن المتطوع أمير نفسه فيجوز له أن يتم وهو الأفضل ويجوز له أن يقطع تطوعه ولا شيء عليه فلا يلزمه القضاء وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة ونقل عن جماعة من الصحابة كعمر وابن عباس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم أجمعين. إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه استثني من هذا الحكم الذي ذكرته الحج والعمرة فإذا شرع المسلم بحج أو عمرة فيجب عليه إتمامهما بلا خلاف كما قال النووي: [وأما إذا دخل في حج تطوع أو عمرة فإنه يلزمه إتمامها بلا خلاف] المجموع 6/393.(9/48)
49 - صوم التطوع
يقول السائل ما حكم صوم التطوع بعد منتصف شعبان؟
الجواب: إن صوم التطوع بعد منتصف شعبان جائز ولا بأس به عند جمهورأهل العلم وقد ورد في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
1. عن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلّت وكان إذا صلى صلاة دوام عليها) رواه البخاري.
2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله) متفق عليه.
3. وفي رواية أخرى: (ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلا ً) متفق عليه.
إلا أنه يجب أن يعلم أنه يكره للمسلم أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين لئلا يختلط النفل بالفرض، أو حتى يستريح الصائم ليدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم) رواه البخاري.(9/49)
50 - صيام ستة أيام من شعبان
يقول السائل: هل يجوز صيام ستة أيام من شوال لمن عيه قضاء أيام من رمضان وهل تصام متتابعة أم يجوز تفريقها؟
الجواب: إن صيام ستة أيام من شوال من السنن الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد ذلك في أحاديث منها: 1. عن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذاك صيام الدهر) رواه مسلم وغيره. 2. عن ثوبان مولى رسول الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان وستة بعد الفطر كان تمام السنة) ، (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) رواه ابن ماجة والنسائي وهو حديث صحيح. 3. ما رواه ثوبان عند النسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة) وهي رواية صحيحة وغير ذلك من الأحاديث. وبناء على ذلك فمن السنة أن تصوم ستة أيام من شهر شوال والأفضل في حق من كان عليه قضاء أيام من رمضان أن يقضيها أولاً ثم يصوم ستاً من شوال فإن القضاء واجب وصيام الستة سنة والواجب مقدم على السنة. ولا يشترط في صيام الأيام الستة من شوال التتابع بل يجوز تفريقها. وإن صامها أيام الإثنين والخميس فهو حسن وله الأجر والثواب الذي يقع بصيام الإثنين والخميس.(9/50)
51 - صوم التطوع
يقول السائل: ما حكم صوم عاشوراء وهل يصام ذلك اليوم منفرداً أم يصام قبله أو بعده؟
الجواب: إن صوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من محرم من الأمور المستحبة عند أكثر أهل العلم وقد وردت أحاديث كثيرة في صوم عاشوراء منها:
1. عن عائسة رضي الله عنها قالت: (كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وانا صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن ابن عباس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أن اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجّى الله فيه موسى وبني اسرلئيل من عدوهم فصامه موسى فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
ويستحب أن يصام اليوم التاسع مع اليوم العاشر من محرم لما ثبت في الحديث عن ابن عباس قال: (لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال: إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.(9/51)
52 - صوم التطوع
يقول السائل: ما هو أكثر شهر كان النبي عليه الصلاة والسلام يصومه غير شهر رمضان؟
الجواب: إن أكثر شهر صامه النبي صلى الله عليه وسلم صوم نافلة هو شهر شعبان فقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) رواه البخاري ومسلم.
2. وفي رواية عن عائشة أيضاً قالت: (ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً) رواه البخاري ومسلم.
3. وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهرمن السنة أكثر صياماً منه في شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فغن الله لن يمل حتى تملوا وكان يقول أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) رواه البخاري ومسلم وهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان.
والحكمة من ذلك كما قال بعض أهل العلم إن كثيراً من الناس يغفلون عن الصيام في شعبان فكان عليه الصلاة والسلام يصوم أكثره وقد ورد ذلك معللاً في حديث أسامة قال قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر ما تصوم من شعبان قال: (ذلك شهر يغفل الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
وقيل في الحكمة من إكثار الرسول صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان أقوال أخرى. وهنا لا بد من الإشارة إلى حديث قد يتعارض مع ما ذكرنا وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) رواه أصحاب السنن الأربعة.
فيجاب عنه من وجهين:
الأول: إن الحديث ضعيف ضعفه أحمد وابن معين والبيهقي.
الثاني: إن صح فيحمل النهي في الحديث على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده قاله الحافظ ابن حجر.(9/52)
53 - حكم من اصبح في أول يوم من رمضان مفطرا
ما حكم استعمال فرشاة الأسنان مع المعجون في نهار رمضان؟
الجواب: أن على الصائم أن يأخذ بالأسباب الكفيلة بالمحافظة على الصوم فيبتعد على كل ما من شأنه أن يخل بالصوم. فيستطيع الشخص أن ينظف أسنانه بالفرشاة والمعجون قبل الفجر أو بعد الإفطار فهذا هو الأفضل ويجوز له أن يستعملها أثناء النهار إذا تيقن من عدم نزول شيء الى جوفه. لأن نزول شيء من المعجون أو الماء الى الجوف من المفطرات والإحتياط في هذا الأمر أولى.(9/53)
54 - حكم استعمال البخاخ في رمضان
يقول السائل هل البخاخ الذي يستعمله بعض المرضى في الفم يفطر الصائم؟ وهل التحاميل تفطر الصائم؟
الجواب: إن البخاخ المذكور في السؤال هو سائل يستعمل لتوسيع شرايين الرئتين عند ضيق النفس ولا يصل الى المعدة عند استعماله من المريض كما قال الأطباء وبناء على ذلك فهو غير مفسد للصيام إن شاء الله. وأما التحاميل فلا تعد من مفسدات الصوم ولا بأس باستعمالها إذا أخذت على أنها علاج.(9/54)
55 - النية في الصيام
حكم من أصبح في أول يوم من رمضان مفطراً، ما حكم من أصبح في أول يوم من رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت النية للصوم؟
الجواب: يجب على من أصبح في اليوم الأول من رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت فيه الصوم يجب عليه أن يمسك بقية يومه ويجب عليه قضاء ذلك اليوم لأن تبييت النية من الليل أمر لا بد منه في صوم رمضان ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه أصحاب السنن وأحمد وهو حديث صحيح.
والمراد بقوله في الحديث: (يجمع) أي يعزم والمقصود أنه لا بد من النية قبل طلوع الفجر فعلى هذا الشخص أن يقضي يوماً عن اليوم الذي لم يصمه سواء أكل في ذلك اليوم أم لم يأكل.
وينبغي أن يعلم أن النية في الصوم لا يشترط فيها التلفظ باللسان بل إن التلفظ بها بدعة وإنما محلها القلب فإذا خطر على قلبه ليلاً أنه يصوم ويوم غد من رمضان فقد نوى وكذلك إذا قام للسحور وأما التلفظ بالنية فليس مشروعاً.
*****(9/55)
56 - العبادة في رمضان فقط
يقول السائل: نرى كثيراً من الناس يقبلون على عبادة الله في شهر رمضان فيصلون ويصومون ويرتادون المساجد فإذا انتهى شهر مضان انقطعوا عن عبادتهم فما تقولون في هؤلاء؟
الجواب: لا شك أن إقبال الناس على الصلاة والصيام وقراءة القرآن وارتياد المساجد في رمضان يشير إلى جوانب إيجابية في حياة الناس وإلى تعظيمهم لشهر مضان ولكنه يشير في الوقت ذاته إلى خلل في حقيقة تصور هؤلاء الناس لعبادة الله سبحانه وتعالى فالمفهوم الحقيقي لعبادة الله يتسم بطابع الاستمرارية وعدم الانقطاع فعبادة الله ينبغي أن تكون مستمرة ومتصلة طوال الوقت وعلى مدار الأيام وعبادة الله سبحانه وتعالى ليست موسمية في رمضان فقط وإنما في كل شهور العام فرب رمضام هو رب شوال وشعبان، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي استمر على عبادة الله حتى يأتيك الموت.
ونقول لهؤلاء الناس الذين يتقربون لله تعالى في رمضان أن عليهم أن يعتبروا قدوم شهر رمضان فرصة عظيمة لتجديد التوبة الصادقة والبدء بحياة جديدة في ظل الإيمان والالتزام بمنهج الرحمن وعليهم أن يجعلوا إقبالهم على الله في رمضان فاتحة خير للاستمرار على طريق الخير والرشاد ونوصيهم بأن يستمروا في هذا الطريق ونحذرهم من النكوص على أعقابهم بعد نهاية رمضان فإن فعلوا ذلك فقد ساروا في طريق الخذلان والعياذ بالله.
*****(9/56)
57 - المفطرات المعتبرة
يقول السائل: يتناقل كثير من الناس في رمضان الحديث عن الأمور التي تفطر الصائم ونسمع من المشايخ كثيراً من ذلك كقولهم أن القطرة تفطر الصائم وأن الحقنة تفطر الصائم والتحميلة تفطر الصائم وإن أدخل إصبعه في دبره يفطر ونحو ذلك، فما هو الصحيح في هذه الأمور وأمثالها وهل تعتبر مفطرة للصائم أم لا؟
الجواب: إن الذي دل عليه القرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ما يفطر الصائم هو الطعام والشراب والجماع ومعلوم أن الطعام والشراب يتناوله الإنسان من منفذه الطبيعي وهو الفم فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي فلا شك أنه يفطر الصائم.
وقد اجتهد فقهاء الإسلام في الأمور المفطرة للصائم وذكروا أشياء كثيرة من المفطرات حتى صارت كتب الفقه طافحة بها على اختلاف في المذاهب في كل منها، هل يعد مفطراً أم لا؟
والصحيح الذي أطمئن إليه وتؤيده الأدلة أن كثيراً مما ذكره الفقهاء من المفطرات ليس كذلك ولم تقم الأدلة الصحيحة على اعتباره مفطراً للصائم، وأنا أميل إلى التضييق في المفطرات وعدم التوسع فيها لعدم ثبوت الأدلة. على أن كثيراً مما عده الفقهاء من المفطرات أنه مفطر فعلاً فمثلاً قال بعض الفقهاء أن مجرد دخول أي شيء إلى داخل الجسم يعد مفطراً بغض النظر من أين دخل فمثلاً إذا احتقن الصائم بدواء فإنه يفطر بل قال بعضهم إذا استنجى الصائم فأدخل إصبعه في دبره أفطر وإذا اكتحل أفطر … الخ، وهذا الكلام غير مسلم وغير مقبول لماذا؟ لأن الصيام مما يبتلى به عامة الناس في دين الإسلام ولو كانت مثل هذه الأمور مفسدة للصوم لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً مفصلاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم فنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ومن لم يفطر الكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام في دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/ 233-234.
وقال أيضاً: [إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقل الأمة فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبين صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره] مجموع الفتاوى 25/236-242.
وقال ابن حزم: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله] المحلى 4/348.
*****(9/57)
58 - إكراه الزوجة على الإفطار في نهار رمضان
تقول السائلة: إنها امرأة تصوم رمضان ولكن زوجها لا يصوم ويكرهها على الجماع في نهار رمضان فماذا تصنع؟
الجواب: إن زوجك رجل فاسق ومرتكب للمحرمات فهو لا يصوم ولا يكتفي بذلك بل يفسد عليك صيامك والواجب عليك ألا تطيعيه فيما يطلب وأن تحاولي الامتناع منه قدر الاستطاعة فإذا أكرهك إكراهاً شديداً وحصل الجماع فقد أفطرت ويجب عليك قضاء ذلك اليوم ولا إثم عليك إن شاء الله لقوله عليه الصلاة ولسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) .
وعلى زوجك أن يبادر إلى التوبة إلى الله عز وجل وأن يعود عن غيه وضلاله وعليه أن يحذر غضب الجبار سبحانه وتعالى ويجب عليك أن تذكريه بالله وتذكريه بحرمة ما يفعل لعله يذكر أو يخشى فيرجع إلى طريق الحق والصواب.
*****(9/58)
59 - ما لا يفطر الصائم
هل القطرة في العين أو الأذن أو الأنف مما يفطر الصائم؟ وما حكم استعمال الحقن للصائم؟
الجواب: إن حقيقة الصيام هي الامتناع عن الطعام والشراب والجماع كما هو معروف فما كان من هذه الأنواع فهو مفطر للصائم وأما القطرة بأنواعها المختلفة سواء كانت في الأنف أو الأذن أو العين فإنها لا تفطر الصائم لأن هذه ليست طعاماً ولا شراباً ولا تدخل إلى الجوف من المدخل الطبيعي للطعام والشراب ولا يعد استعمال القطرة بأنواعها المختلفة أكلاً أو شراباً. لذلك فهي غير مفطرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند حديثه عن الكحل والقطرة ونحوها: [والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/234.
وقال ابن حزم رحمه الله: [ولا ينقض الصوم حجامة ولا احتلام … ولا حنة ولا سعوط ولا تقطير في أذن أو في إحليل أو في أنف …] المحلى 4/335.
وأما الحقن التي تعطى تحت الجلد أو في الوريد فإذا كانت دواء فلا تفطر وإذا كانت على سبيل الغذاء فهي مفطرة وتتنافى مع حقيقة الصوم.
*****(9/59)
60 - استعمال أدوية لتأخير الحيض للصائمة
هل يجوز للمرأة تناول أدوية تمنع الحيض حتى تتمكن من الصيام؟
الجواب: إن الحيض من الأمور التي كتبها الله سبحانه وتعالى على النساء والحيض من موانع الصوم كما هو معلوم والأفضل في حق المرأة أن تسير مع فطرتها التي فطرها الله عليها فتصوم ما شاء الله لها أن تصوم فإذا حاضت توقفت عن الصيام ومن ثم يلزمها القضاء بعد ذلك.
ومع ذلك فلا مانع من استعمال الأدوية التي تمنع الحيض حتى تتمكن المرأة من الصيام ولكن لا بد من تقييد ذلك بأن لا يلحق المرأة ضرر من استعمال هذه الأدوية وبناء عليه لا بد للمرأة من استشارة طبيب حاذق صاحب دين فإن أخبرها الطبيب بأن ساتعمال هذه الأدوية يضرها فلا يجوز لها استعمالها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وغيرهم وهو حديث صحيح.
ومما يشير إلى جواز استعمال المرأة لهذه الأدوية ما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يسقون نسائهم أدوية مأخوذة من الأعشاب لمنع نزول دم الحيض أثناء الحج ويقاس الصوم عليه.
قال الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي: [وللأنثى شربه - أي دواء مباح - لحصول الحيض ولقطعه] .
لأن الأصل الحل حتى يرد التحريم ولم يرد كذا قال الشارح. منار السبيل 1/62.
وقد أفتى بالجواز في هذه المسألة كثير من أهل العلم المعاصرين منهم الشيخ القرضاوي حفظه الله.
*****(9/60)
61 - ما لا يفطر الصائم
ما حكم استعمال فرشاة الأسنان مع المعجون في نهار رمضان للصائم؟
الجواب: إن على الصائم أن يأخذ بالأسباب الكفيلة بالمحافظة على الصوم فيبتعد عن كل ما من شأنه أن يخل بالصوم، فيستيطع الشخص أن ينظف أسنانه بالفرشاة والمعجون قبل الفجر أو بعد الإفطار فهذا هو الأفضل ويجوز له أن يستعملها أثناء النهار إذا تيقن من عدم نزول شيء إلى جوفه. لأن نزول شيء من المعجون أو الماء إلى الجوف من المفطرات والاحتياط في هذا الأمر أولى.
*****(9/61)
62 - ما لا يفطر الصائم
ما حكم من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم وهل هناك فرق بين أن يكون ذلك في صوم فرض أو نافلة وهل يشرع لمن رآه يأكل أو يشرب أن يذكره؟
الجواب: لا شك أن النسيان من طبيعة الإنسان وهو من الأمور الخارجة عن إرادته وإن من يسر الشريعة الإسلامية أنها لا تكلف الإنسان حال نسيانه يقول الله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) والنسيان ليس من كسب القلوب وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وغيرهم.
والمقصود بالرفع هنا هو حكم هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث والحكم المرفوع هو حكم الدنيا وحكم الآخرة وهذا الكلام ينطبق على من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فلا إثم عليه ولا قضاء عليه وليتم صومه وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم.
ورود في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح كلهم ثقات كما نقله ابن الجوزي في التحقيق 2/87.
ويهذا يظهر أن من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فعليه أن يتم صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة وهذا الحكم في مطلق الصوم فرضاً كان أو نفلاً ولا وجه لمن فرق بين صوم الفريضة وصوم النافلة في هذا الحكم وكذلك لا فرق بين أن يأكل الصائم أو يشرب قليلاً أو كثيراً فالحكم لا يختلف ما دام أن الأمر وقع نسياناً فلا حرج في ذلك.
فقد ورد في الحديث عن أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق رضي الله عنها: (أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ومعه ذو اليدين - صحابي - فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً - عظم عليه لحم - فقال: يا أم إسحاق أصيبي من هذا. فذكرت أني كنت صائمة فرددت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم مالك؟ قالت: كنت صائمة فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك] رواه أحمد والطبراني في الكبير كما قال الهيثمي.
ويشرع في حق من رأى إنساناً يعلم أنه صائم فرآه يأكل أو يشرب أن يذكره بصومه لأن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى يقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
ويتأكد هذا التذكير إذا كان الصائم يأكل أو يشرب في رمضان نسياناً فعليه أن يذكره لأن الأكل والشرب في نهار رمضان من المنكرات والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. إلا أن ذلك معفو عنه لأنه وقع نسياناً ووقوعه نسياناً من الصائم لا يعفي من رآه من تذكيره.
*****(9/62)
63 - صوم الأطفال
يقول السائل: في أي سن يصوم الأطفال؟
الجواب: إن الأطفال ليسوا من أهل التكليف شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يفيق) رواه ابن ماجة وغيره وإسناده صحيح.
فهم غير مكلفين شرعاً ولكنهم يؤمرون بالصوم إذا أطاقوه وهذا الأمر على سبيل التمرين والتعويد وعلى هذا أكثر أهل العلم من أجل أن يتمرن الطفل على الصوم وكذلك يفعل معه بالنسبة لبقية الأحكام الشرعية فقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه.
ولا شك أن الصوم أشق من الصلاة فلذلك فإن الصبي إذا أطاق الصوم يطلب منه ذلك ولا بد أن يكون صومه بالتدريج حتى لا يكون شاقاً عليه وقد يطيق الصبي الصوم وهو ابن ثمان أو تسع أو عشر ويعود تحديد السن إلى ولي أمره الذي يعرف مقدرة الصبي على الصوم من عدمها.
ومطالبة الصبي بالصوم أمر معهود منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم فقد ورد في الحديث عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائماً فليصم قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار) رواه البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث تخبر الصحابية الربيع أنهم كانوا يصومون الأطفال في صوم عاشوراء ويشغلونهم عن الطعام باللعب يصنعونها من الصوف فإذا كان الحال كذلك في صوم عاشوراء فمن باب أولى أن يكون في صوم رمضان حتى يتمرنوا على الصوم ويكون الأمر سهلاً إذا ما بلغوا وهكذا ينبغي أن يكون الأمر في بقية التكاليف الشرعية قال ابن عباس رضي الله عنهما: (اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم ولكم من النار) .
*****(9/63)
64 - صوم شهر رجب
ما حكم صيام شهر رجب وما مدى صحة الحديث الذي يقول: (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) ؟
الجواب: أما الحديث المذكور فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ العراقي: [حديث ضعيف جداً وهو من مرسلات الحسن رويناه في كتاب الترغيب والترهيب للأصفهاني ومرسلات الحسن لا شيء عند أهل الحديث ولا يصح في فضل رجب حديث] .
وذكر المناوي أن الديلمي رواه في مسنده وقد عده ابن الجوزي في الموضوعات أي من الأخبار المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيض القدير 4/24، كشف الخفاء 1/433.
وأما بالنسبة للصوم في شهر رجب فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء على وجه التخصيص. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه] لطائف المعارف ص 228.
ولكن وردت أحاديث عامة في صوم الأشهر الحرم وشهر رجب أحدها فمن ذلك ما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ومن ذلك حديث أسامة قال: (قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
قال الشوكاني: ظاهر قوله في حديث أسامة: (أن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجباً به) نيل الأوطار 4/276.
*****(9/64)
65 - تفرق المسلمين في رؤية الهلال
يقول السائل: ما قولكم في رؤية أهل بلد الهلال، فهل يلزم المسلمين في البلدان الأخرى الصوم؟
الجواب: إن هذه المسألة محل اختلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً، وكثر الحديث عنها في هذه الديار وخاصة في أعقاب ما حصل في نهاية رمضان من العام 1413هـ حيث حصلت بلبله بين الناس في اليوم الأخير من رمضان وفي يوم العيد أدت إلى أمور تتعارض مع شريعتنا الإسلامية.
فأقول وبالله التوفيق: لا شك أن جمهور أهل العلم يرون أنه لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا في يوم واحد وأنا أقول بهذا القول وأعتقد رجحانه، ولكن هذا القول مع قوته ورجحانه إلا أنه رأي نظري لم يأخذ طريقه إلى التطبيق الفعلي في تاريخ المسلمين منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا تعلم فترة جرى فيها توحيد المسلمين جميعاً على رؤية واحدة إلا ان يكون حصل ذلك عرضاً ودون ترتيب لذلك الأمر وقد يستغرب بعض الناس هذا الكلام ولكنه الواقع، لأن جمع المسلمين على رؤية واحدة عند الصيام أو عند الأعياد، يحتاج إلى وسائل اتصالات حديثة وسريعة حتى يصل الخبر خلال ساعات إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ليصوموا في نفس اليوم، وهل هذا الأمر كان متوفراً للمسلمين منذ عهد الرسول ص وعهد الخلفاء من بعده! ونحن نعلم أن وسائل الاتصالات الحديثة قريبة العهد، ولنضرب مثلاً يقرب الصورة في عهد الخلافة الراشدة كان مقر الخليفة في المدينة المنورة وكانت دولة الخلافة مترامية الأطراف فهل كان إذا ثبت رؤية هلال رمضان لدى الخلفة في المدينة المنورة تطير البرقيات وتشتغل الهواتف لإخبار المسلمين في اليمن وفي مصر وفي الشام وفي العراق ليصوموا في يوم واحد؟ كل ذلك ما حصل وما وقع ومن قال بخلاف هذا فقد أخطأ. ولا شك أنني آمل أن يتحقق جمع المسلمين على رؤية واحدة وأن هذا الأمر لسهل ميسور في هذا الزمان في ظل دولة إسلامية واحدة ومع تقدم وسائل الاتصال ولكن إلى أن يتحقق هذا الأمل، أقول: بأنه يجب على أهل كل بلدان المسلمين أن يصوموا في يوم واحد وأن يكون عيدهم في يوم واحد. فنحن أهل فلسطين علينا أن نصوم جميعاً في يوم واحد وأن يكون عيدنا واحداً لأن في هذا الأمر محافظة على وحدتنا الجزئية إلى أن تتحقق وحدة العالم الإسلامي الكلية، فلا يقبل أن يختلف أهل البلدة الواحدة أو المدينة الواحدة أو القرية الواحدة، فبعضهم صائم وبعضهم يصلي العيد.
وضابط هذا الأمر هو الالتزام بما يصدر عن أهل العلم في ذلك البلد وهم القضاة في المحاكم الشرعية وطاعتهم في ذلك طاعة في المعروف وإن كان هذا مخالفاً لرؤية أهل بلد آخر، لأن الأصل في الصوم أن يكون مع جماعة المسلمين وعامتهم لما ثبت في الحديث الصحيح من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وهو حديث صحيح.
قال الإمام الترمذي رحمه الله: (وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس) .
وعلى المسلمين في هذه الديار أن يعلموا أنه يسعهم ما وسع المسلمين في السابق، بل أيام قيام دولة الإسلام، فما كانوا يصومون في يوم واحد وما كان عيدهم في يوم واحد لما ذكرته سابقاً، وأنقل كلام بعض أهل العلم في ذلك:
قال الإمام السبكي رحمه الله، في كتابه "العلم النشور في إثبات الشهور" (ص15) ما نصه (……لأن عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين لم ينقل أنهم كانوا إذا رأوا الهلال يكتبون إلى الآفاق ولو كان لازماً لهم لكتبوا إليهم لعنايتهم بأمور الدين) .
وقال الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني (… وإلى أن تجتمع الأمة الإسلامية على ذلك - توحيد الصوم والعيد - فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته ولا ينقسم على نفسه فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها، تقدمت في صيامها أو تأخرت. لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد) تمام المنه في التعليق على فقه السنة، ص398.
ويقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: (إن السعي الى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم وسائر شعائرهم أمر مطلوب دائماً ولا ينبغي اليأس من الوصول اليه، ولا من إزالة العوائق دونه، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال هو، أننا إذا لم نصل الى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد، فلا يجوز أن نقبل أن ينقسم أبناء البلد الواحد أو المدينة الواحدة فيصوم فريق اليوم على أنه رمضان ويفطر آخرون على أنه من شعبان وفي آخر الشهر تصوم جماعة وتعيّد أخرى فهذا وضع غير مقبول.
فمن المتفق عليه أن حكم الحاكم أو قرار ولي الأمر يرفع الخلاف في الأمور المختلف فيها فإذا أصدرت السلطة الشرعية المسؤولة عن إثبات الهلال في بلد إسلامي - المحكمة العليا أو دار الإفتاء أو رئاسة الشؤون الدينية أو غيرها - قراراً بالصوم أو الإفطار فعلى مسلمي ذلك البلد الطاعة والإلتزام.
لأنها طاعة في المعروف وإن كان ذلك مخالفاً لما ثبت في بلد آخر، فإن حكم الحاكم هنا رجح الرأي الذي يقول: إن لكل بلد رؤيته. وقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون} وفي لفظ {وفطركم يوم تفطرون واضحاكم يوم تضحون} فتاوي معاصرة ج2 ص223.(9/65)
66 - النية في الصيام
يقول السائل: كيف تكون النية في الصيام، وما الحكم لو نوى الصائم أثناء النهار قطع الصوم ولكنه لم يفعل ما يفطره فعلا؟
الجواب: النية فرض من فرائض العبادة، سواء أكانت صلاةً أو صياماً أو حجاً أو غيرها، وقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه البخاري وغيره.
والصوم لابد فيه من نية، فلا يصح الصوم بدون نية، سواء أكان الصوم فرضاً أو نفلاً أو قضاءً، وإن اختلف أهل العلم في وقت النية في أنواع الصيام المذكورة، وبالنسبة لصوم رمضان، فالراجح من أقوال أهل العلم أنه لا بد من تبييت النية، أي لابد أن ينوي المسلم الصيام قبل طلوع الفجر، ويدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أخته حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صوم له) رواه أبو داود وابن خزيمة والدراقطني والبيهقي وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ المحدث الألباني، انظر إرواء الغليل 4/25.
ومعنى (يجمع) في الحديث أي يعزم، أي لابد لمن أراد الصوم أن يعزم على الصيام خلال الليل، ويكون ذلك من وقت المغرب إلى طلوع الفجر، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا القول المرجح: " إنه أوسط أقوال أهل العلم في المسألة "، انظر مجموع الفتاوى 25/120.
وكما قلت فان المقصود من النية العزم على الصوم، وليس المراد أن يتلفظ بالنية، كأن يقول بلسانه " نويت أن أصوم يوم غدٍ من شهر رمضان " أو نحو ذلك من العبارات، فإن التلفظ بالنية بدعة لا أصل له في الشرع، لأن النية من عمل القلب وليست من عمل اللسان، وقد اتفق معظم العلماء على أن محل النية القلب، والتلفظ بها بدعة لأن ذلك لم ينقل عن الرسول ص أنه علّم أصحابه التلفظ بالنية، ولا أمر به أحداً منهم فلو كان ذلك مشروعاً لبينه عليه الصلاة والسلام، إما بالقول أو بالفعل أو بهما وكل ذلك لم يكن.
وينبغي أن يعلم أن كل يوم من أيام رمضان يحتاج إلى نية مستقلة، على الراجح من أقوال أهل العلم لأن كل يوم من أيام رمضان عبادة مستقلة، وهذا بخلاف قول الإمام مالك أنه تجزئ نية واحدة لجميع شهر رمضان.
قال الشيخ ابن قدامى مستدلاً للقول الراجح: "ولنا أنه صومَ واجبَ، فوجب أن ينوي كل يومٍ من ليلته كالقضاء، ولأن هذه الأيام عباداتَ لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها… " المغني 4/111.
وأما مسألة لو نوى الصائم في نهار رمضان قطع الصيام ولم يأكل ولم يشرب ولم يأت شهوته، فان المسألة خلافية بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن من نوى الإفطار فقد أفطر وان لم يأكل ولم يشرب، لأن الصوم عبادةَ من شرطها النية، فيفسد الصوم بنية الخروج منه.
ومن أهل العلم من يرى أن من نوى الفطر لا يفطر، لأنه لم يفعل ما يوجب الفطر، وهذا القول هو الذي أختاره وأرجحه، وهو قول الحنفية والأصح عند الشافعية، كما قال الإمام النووي في المجموع 3/285.
وقاسوا ذلك على من نوى الكلام في صلاته ولم يتكلم، فصلاته صحيحة ولأن الصوم ملحق بالتروك، أنظر الموسوعة الفقهية 28/27.(9/66)
67 - حكم من اصبح في أول يوم من رمضان مفطرا
ما حكم من أصبح في أول يوم في رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت النية للصوم؟
والجواب: يجب على من أصبح في اليوم الأول من رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت فيه الصوم يجب عليه أن يمسك بقية يومه ويجب عليه قضاء ذلك اليوم لأن تبييت النية من الليل أمر لا بد منه في صوم رمضان ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر عن حفصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه أصحاب السنن واحمد وهو حديث صحيح.
والمراد بقوله في الحديث (يجمع) أي يعزم والمقصود أنه لا بد من النية قبل طلوع الفجر فعلى هذا الشخص أن يقضي يوما عن اليوم الذي لم يصمه سواء أكل في ذلك اليوم أو لم يأكل.
وينبغي أن يعلم أن النية في الصوم لا يشترط فيها التلفظ باللسان بل أن التلفظ بها بدعة وإنما محلها القلب فإذا خطر على قلبه ليلا أنه يصوم يوم غد من رمضان فقد نوى وكذلك إذا قام للسحور وأما التلفظ بالنية فليس مشروعا.(9/67)
68 - حكم من اصبح في أول يوم من رمضان مفطرا
ما حكم من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم وهل هناك فرق بين أن يكون ذلك في صوم فرض أو نافلة وهل يشرع لمن رآه يأكل أو يشرب أن يذكره؟
الجواب: لا شك أن النسيان من طبيعة الإنسان وهو من الأمور الخارجة عن ارادته وأن من يسر الشريعة الإسلامية أنها لا تكلف حال نسيانه يقول الله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) والنسيان ليس من كسب القلوب وقد ثبت في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وغيرهم.
والمقصود بالرفع هنا هو حكم هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث والحكم المرفوع هو حكم الدنيا وحكم الآخرة وهذا الكلام ينطبق على من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فلا اثم علي ولا قضاء عليه وليتم صومه وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم.
وورد في حديث آخر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله اليه ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني وقال اسناده صحيح كلهم ثقات كما نقله ابن الجوزي في التحقيق 22/87.
وبهذا يظهر أن من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فعليه أن يتم صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة وذا الحكم في مطلق الصوم فرضا كان أو نفلا ولا وجه لمن فرق بين صوم الفريضة وصوم النافلة في هذا الحكم وكذلك لا فرق بين أن يأكل الصائم أو يشرب قليلا أو كثيرا فالحكم لا يختلف ما دام أن الأمر وقع نسيانا فلا حرج في ذلك فقد ورد في الحديث عن أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم اسحق رضي الله عبها أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى بقصعة من ثريد فأكلت معه ومعه ذو اليدين -صحابي- فناولها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرقا -عظم عليه لحم- فقال يا أم اسحق أصيبي من هذا فذكرت أني كنت صائمة فرددت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك؟ قالت كنت صائمة فنسيت فقال ذو اليدين الآن بعد ما شبعت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله اليك رواه احمد والطبراني في الكبير كما قال الهيثمي.
ويشرع في حق من رأى إنسانا يعلم أنه صائم فرآه يأكل أو يشرب أن يذكره يصومه لأن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى يقول الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) .
ويتأكد هذا التذكير إذا كان الصائم يأكل أو يشرب في رمضان نسيانا فعليه أن يذكره لأن الأكل والشرب في نهار رمضان من المنكرات والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم إلا أن ذلك معفو عنه لأنه وقع نسيانا ووقوعه نسيانا من الصائم لا يعفي من رآه من تذكيره.(9/68)
69 - تشويه مُحيا شهر رمضان المبارك بالمعاصي والآثام
يقول السائل: قرأت في كتاب أن بعض الفقهاء أبطلوا الصوم بالمعاصي كالغيبة والنميمة، فما مدى صحة هذا القول، أفيدونا؟
الجواب: تزكية النفوس أحد مقاصد الصيام، وعلى ذلك دلَّت نصوص الكتاب والسنة، قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي، فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى، أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى. وبناءً على ذلك فلا بد من صوم الجوارح عن المعاصي والآثام بالإضافة للامتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة، فاللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، واليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات، والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله وهكذا. وقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وصححه العلامة الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائمٍ ليس له بصيامه إلا الجوع، ورب قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري، وصححه العلامة الألباني. وفي رواية أخرى: (رب صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائمٍ حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو) ، وعن علي رضي الله عنه قال: (الصيام ليس من الطعام والشراب ولكن من الكذب والباطل واللغو) ، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (إذا صمتَ فليصُم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء) ، وقال أبو ذر رضي الله عنه: (إذا صمت فتحفظ ما استطعت) . وكان أبو هريرة رضي الله عنه وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: (نطهر صومنا) . روى هذه الآثار ابن أبي شيبة في المصنف 2/422. ونقل ابن رجب الحنبلي عن بعض السلف قوله: [أهون الصيام ترك الشراب والطعام] لطائف المعارف ص292. ولا شك أن الصوم الحقيقي الذي أراده الله عز وجل يؤدي إلى كسر شهوات النفس حتى تصفو لطاعة الله تعالى، قال الإمام الكمال بن الهمام عن حكمة مشروعية الصوم: [هذا ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها: كونه موجباً شيئين: أحدهما عن الآخر سكون النفس الأمارة، وكسر سَورَتِها- سورة النفس: حدتها وهيجانها وسطوتها - في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها، وما عن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات. ومنها: كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في جميع الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألمٍ باطنٍ فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال بذلك ما عند الله من حسن الجزاء. ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى.] شرح فتح القدير 2/45. وقال أبو حامد الغزالي: [اعلم أن الصوم ثلاث درجات، صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. وأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص، فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص، فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية ... وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور: الأول غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل ... الثاني حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان ... الثالث كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، لأن كل ما حرم قوله، حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} وقال عز وجل: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} ... الرابع كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرِجل عن المكاره وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام ... الخامس أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلىء جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال، وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام ... السادس أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها ... ] إحياء علوم الدين 1/454.
إذا تقرر هذا فإن بعض الفقهاء قد قالوا: إن فعل المعاصي يبطل الصوم، وقد نقل هذا القول عن جماعة من السلف، وبه قال إبراهيم النخعي والأوزاعي واختاره الشيخ ابن حزم الظاهري. قالت حفصة بنت سيرين: (الصيام جُنَّة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة) ، وعن أبي العالية قال: (الصائم في عبادة ما لم يغتب) . وقال إبراهيم النخعي كانوا يقولون: (الكذب يفطِّر الصائم) ، وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [مسألة: ويبطل الصوم أيضاً تعمد كل معصية - أي معصية كانت، لا نحاش شيئاً - إذا فعلها عامداً ذاكراً لصومه، كمباشرة من لا يحل له من أنثى أو ذكر، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له من أنثى أو ذكر، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما، أو كذب، أو غيبة، أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم، أو غير ذلك من كل ما حرم على المرء فعله؟ برهان ذلك ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ، ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله؟ فليقل: إني صائم) ... وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ... وعن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأتين صائمتين تغتابان الناس فقال لهما: قيئا، فقاءتا قيحاً ودماً ولحماً عبيطاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ها إن هاتين صامتا عن الحلال وأفطرتا على الحرام) - رواه أحمد وهو حديث ضعيف كما في المسند بتحقيق شعيب الأرنؤوط - قال أبو محمد- ابن حزم -: فنهى عليه الصلاة والسلام عن الرفث والجهل في الصوم، فكان من فعل شيئاً من ذلك- عامداً ذاكراً لصومه - لم يصم كما أمر، ومن لم يصم كما أمر، فلم يصم، لأنه لم يأت بالصيام الذي أمره الله تعالى به، وهو السالم من الرفث والجهل، وهما اسمان يعمَّان كل معصية؛ وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من لم يدع القول بالباطل - وهو الزور - ولم يدع العمل به فلا حاجة لله تعالى في ترك طعامه وشرابه. فصح أن الله تعالى لا يرضى صومه ذلك ولا يتقبله، وإذا لم يرضه ولا قبله فهو باطل ساقط؛ وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المغتابة مفطرة وهذا ما لا يسع أحداً خلافه؟ ... وبهذا يقول السلف الطيب ... ] المحلى 4/304-306. والذي يظهر للمدقق فيما ساقه الشيخ ابن حزم من أدلة على بطلان الصوم بالمعاصي والآثام يرى أن هذه الأدلة لا ترتقي إلى ما قصده ابن حزم. والصحيح في هذه المسألة أن المعاصي تؤثر في الصيام بنقصان الأجر والثواب، ولكنها لا تبطله كما هو مذهب جماهير أهل العلم، قال الإمام النووي: [وقول المصنف ينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم، معناه يتأكد التنزه عن ذلك في حق الصائم أكثر من غيره للحديث وإلا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضاً ويؤمر به في كل حال، والتنزه التباعد فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه] المجموع 6/357.وقال السفاريني: [الفروع: ولا يفطر بالغيبة ونحوها، نقله الجماعة اتفاقاً. وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم. وذكره الموفق إجماعاً، لأن فرض الصوم بظاهر القرآن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، وظاهره صحته إلا ما خصه دليل] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب 1/171. ويجدر التنبيه على حديثٍ باطلٍ يذكره بعض الناس وهو "خمس يفطرن الصائم: النظرة المحرمة والكذب والغيبة والنميمة والقبلة" فهذا الحديث لا أصل له بل هو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديثُ كَذِبٍ، وقال الإمام الزيلعي: [رواه ابن الجوزي في " الموضوعات " ... وقال: هذا حديث موضوع، وقال ابن معين: سعيد كذاب، ومن سعيد إلى أنس كلهم مطعون فيهم انتهى. وقال ابن أبي حاتم في " كتاب العلل ": سألت أبي عن حديث رواه بقية عن محمد بن الحجاج عن ميسرة بن عبد ربه عن جابان عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: " خمس يفطرن الصائم "، فذكره، فقال أبي: إن هذا كذب، وميسرة كان يفتعل الحديث] نصب الراية 5/3.
وخلاصة الأمر أن تزكية الأنفس من مقاصد الصوم وأن فعل المعاصي والآثام يخل بذلك ولكنه لا يبطل الصيام بل ينقص الأجر والثواب. فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله.(9/69)
70 - غسيل الكلى من مفسدات الصيام
يقول السائل: أنا مصاب بفشل كلوي وأغسل الكلى ثلاث مرات أسبوعياً فما أثر غسيل الكلى على صيامي حيث إنني أقوم بذلك في النهار، أفيدونا؟
الجواب: جاء في إحدى الموسوعات الطبية تعريف غسيل الكلى - ولعل الأصح هو غسيل الدم - بما يلي: [الغسيل الكلوي (الإنفاذ) أو (الديلزة Dialysis) وهي عبارة عن عملية تنقية الدم من المواد السامة بمعاملته مع محلول سائل الإنفاذ dialysing fluid (يشبه تركيبه تركيب البلازما) . وهناك نوعان من الغسيل الكلوي: الإنفاذ البيروتوني (الخلبي) Peritoneal dialysis والذي يستخدم به الغشاء البريتوني (الموجود في جوف البطن كغطاء لجدار البطن والأحشاء) كفاصل بين سائل الإنفاذ والدم. وتتم الطريقة كالآتي: يغرز في أسفل البطن (تحت السرة وفوق العانة) قسطره خاصة canula بعد التخدير الموضعي، ثم يتم تسريب سائل الإنفاذ من خلالها (لتر واحد أو لترين) إلى جوف البطن ويترك لبضع ساعات (4-5 ساعات) ونتيجة لفرق التركيز بين سائل الإنفاذ والدم تنفذ المواد السامة إلى السائل من خلال الشعيرات الدموية الموجودة في جوف البطن (في غشاء البيرتون) ومن ثم يصرف السائل إلى الخارج وتتكرر هذه العملية عدة مرات في اليوم مع الأخذ بعين الاعتبار وجوب توقف العملية أثناء نوم المريض. تمتاز هذه الطريقة بسهولتها وقلة تكلفتها وعدم حاجتها إلى الآلات المعقدة، فالمريض لا يحتاج إلى الحمية الغذائية ولا إلى التنويم في المستشفى حيث يمكن بالتدريب أن يقوم بالعملية بنفسه في البيت. ومن أهم وأخطر عيوب هذه الطريقة (مما يجعلها غير منتشرة إلا في أوروبا وأمريكا) هي إمكانية حدوث التهاب بيريتوبي للمريض إذ أنها تحتاج إلى درجة عالية من التعقيم وتدريب المرضى عليها.
الإنفاذ الدموي (غسيل الكلى) أو الديلزية الدموية haemodialysis تتم هذه الطريق بإخراج دم المريض من جسمه وتمريره عبر جهاز الإنفاذ الذي يقوم بتنقيته ثم يتم إعادته إلى جسم المريض. وجهاز الإنفاذ يحتوي على غشاء رقيق يسمى المنفاذ dialyser الذي يفصل بين الدم وسائل الإنفاذ، كما يحتوي على غشاء نصف نفوذ Semipermeable والذي يسمح بمرور مواد معينة من الدم إلى سائل الإنفاذ. كما أن الجهاز يحتوي على مضخة لضخ الدم في جهاز الإنفاذ ومن ثم إعادته إلى المريض، ويحتوي أيضاً على مصيدة الفقاعات الموجودة في الدم التي يمكن أن تسبب مضاعفات خطيرة للمريض إذا ما عادت إلى الدورة الدموية. كما يحتوي على عدة أجهزة إنذار للتنبيه إذا ما حدث خطأ ما في دائرة الإنفاذ. ومن ميزات هذه الطريقة كفاءتها العالية في التخلص من السموم المتراكمة في الجسم. ومن عيوبها تكلفتها العالية ووجوب عملها في المستشفى مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعياً، في كل مرة يبقى المريض دون حراك لفترة ما بين 4-5 ساعات كما أن المريض يشعر بضعف جسدي وجنسي، كما أن هذه الطريقة تعتبر العامل الرئيسي في نقل الفيروس المسبب لالتهاب الكبد الوبائي (ب) B و (ج) C. http://ar.shvoong.com/medicine-and-health. ومسألة غسيل الكلى وتأثيرها على الصيام من المسائل المعاصرة المختلف فيها. وقد بحثها عدد من فقهاء العصر ودُرست في عدد من الندوات والمؤتمرات، وكتبت فيها عدة دراسات، وصدرت بشأنها الفتاوى، ولم تتفق كلمة الفقهاء والباحثين على رأي واحد، للاختلاف في تكييفها وكيفية إلحاقها بمفسدات الصيام، والذي تطمئن إليه النفس ما يلي: عملية غسيل الكلى في نوعها الثاني وهو الأكثر شيوعاً - الديلزة الدموية - تتم بضخ الدم من خلال الكلية الصناعية التي يتم من خلالها إزالة السموم، ومن ثم إعادة الدم إلى الجسم. والكلية الصناعية: هي عبارة عن اسطوانة تحوي على غشاء يفصل بين الدم وبين سائل التنقية، ويوجد في هذا الغشاء فتحات صغيرة جداً تسمح بمرور السموم والأملاح إلى سائل التنقية. وسائل التنقية عبارة عن ماء يُضاف إليه بعض الأملاح، وسكر، ومعادن، تُعادل الكميات الموجودة في الدم. تعبر الفضلات السامة والأملاح الزائدة من الدم إلى سائل التنقية، ومن ثم يتم ضخ الدم إلى الجسم مرة أُخرى، بينما يطرد سائل التنقية المحمل بالفضلات السامة إلى الصرف الصحي. وتستلزم عملية التنقية الدموية هذه إعطاء أدوية متعددة كمسيلات مثل الهرمونات والفيتامينات. وأما طريقة التنقية البريتونية - الديلزة الصفاقية- حيث يتم إدخال سائل التنقية إلى تجويف البطن لتترشح الفضلات السامة من الدم الموجود في الأوعية الدموية لأعضاء البطن إلى سائل التنقية. ويتكون سائل التنقية المستخدم في هذه الطريقة من الماء النقي، مضافًا إليه الأملاح والمعادن والسكر. http://almoslim.net/node/. هذا ما قرره الأطباء أهل الخبرة، وبناءً على هذه المعلومات الطبية فإن غسيل الكلى يتضمن إضافة مجموعة من العناصر إلى الدم ومنها مواد تعتبر مغذية، وعليه فالذي أختاره وأفتي به أن غسيل الكلى من مفسدات الصيام إذا صاحبه تزويد الجسم بمواد مغذية سكرية أو غيرها كمسيلات الدم والهرمونات والفيتامينات والأملاح، وإذا لم يكن فيه ذلك فلا يؤثر على الصوم، وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حول سؤال عن غسيل الكلى ما يلي: [جرت الكتابة لكل من: مدير مستشفى الملك فيصل التخصصي ومدير مستشفى القوات المسلحة بالرياض للإفادة عن صفة واقع غسيل الكلى، وعن خلطه بالمواد الكيماوية، وهل تشتمل على نوع من الغذاء. وقد وردت الإجابة منهما بما مضمونه: أن غسيل الكلى عبارة عن إخراج دم المريض إلى آلة (كلية صناعية) تتولى تنقيته ثم إعادته إلى الجسم بعد ذلك، وأنه يتم إضافة بعض المواد الكيماوية والغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم. وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء والوقوف على حقيقة الغسيل الكلوي بواسطة أهل الخبرة أفتت اللجنة بأن الغسيل المذكور للكلى يفسد الصيام.] وينبغي التنويه بأن هذه المسألة من المسائل المعاصرة الشائكة، والذي أنصح به هو مراعاة الخلاف فيها بتأخير غسيل الكلى إلى ما بعد المغرب إن أمكن، لأن المسألة فيها احتمالات قوية، فإن لم يمكن فالأخذ برأي القائلين بالفطر أحوط، وعليه فإن المريض المحتاج لغسيل الكلى يكون مفطراً في اليوم الذي يقوم به بالغسيل، ويلزمه القضاء فيما بعد، وعليه أن يستشير طبيباً مختصاً من الثقات لبيان قدرته على الصيام في الأيام التي لا يغسل فيها، جاء في الموقع الإسلامي الطبي على شبكة الإنترنت: [هل يمكن لمريض الكلى أن يصوم؟ لكي يمكننا الإجابة على هذا السؤال يجب أن نعلم ولو باختصار وظيفة الكلى كما يجب أن نعلم أن أمراض الكلى ليست مرضاً واحداً وإنما هي أمراض متعددة، ويجب أن نعلم أيضاً أن المرض الواحد ليس على درجة واحدة من الشدة إنما تتفاوت درجة حدته من حالة إلى أخرى. تعمل الكليتان على تنظيم كمية المياه والأملاح الموجودة داخل الجسم، كما تعمل على ضبط درجة الحمضية والقلوية في الدم، وتعمل كمرشح يبقي على المواد النافعة كالجلوكوز والبروتينات وتتخلص من المواد غير المرغوبة مثل: البولينا، وحمض البوليك، والكرياتينين وتفرز بعض الهرمونات التي لها علاقة بتنظيم ضغط الدم. وللحديث عن هذا الموضوع نشير إلى أنه هناك من يسمون بمرضى الغسيل الكلوي، وهناك مرضى التهابات الكلى والمثانة البولية، وكقاعدة عامة لا بد لمريض الكلى من استشارة الطبيب المختص بشأن تنظيم جرعات الدواء الموصوفة إذا لم تكن هناك خطورة تحول دون أدائه فريضة الصوم. أما بالنسبة لالتهابات الكلى والمثانة فغالباً لا يحتاج المريض إلى الإفطار في حالة عدم وجود قصور في وظائف الكلية، وهذا يكون من خلال تشخيص الأطباء المختصين. أما عن مرضى الفشل الكلوي فهم أنواع: المجموعة الأولى: مرضى القصور الكلوي المزمن. المجموعة الثانية: مرضى الغسيل الكلوي. المجموعة الثالثة: مرضى زراعة الكلى. أما بالنسبة للمجموعة الأولى، مرضى القصور الكلوي المزمن: فقد يتسبب الصوم - نتيجةً لنقص السوائل والأملاح - في تدهور حالة القصور المزمن خصوصاً في حالات التهابات الكلى المزمنة، والتكيس الكلوي، فقد يحدث جفاف واختلال في وظائف الكلى والجسم. ولذلك ننصح مريض القصور الكلوي بمراجعة الطبيب المتابع لحالته لأخذ النصيحة الطبية حسب حالته المرضية قبل الشروع في صوم رمضان. أما بالنسبة لمرضى الغسيل الكلوي فيمكنهم الصوم، طالما كانت القيم الأساسية تحت السيطرة على أن يفطروا في الأيام التي يتلقون فيها جلسات الغسيل، إذا كانت هذه الجلسات تقع في أثناء النهار، حيث إن عملية الغسيل يصاحبها إعطاء محاليل عن طريق الوريد مما يفسد الصيام.] http://www.medislam.com
وخلاصة الأمر أن غسيل الكلى من مفسدات الصيام طالما صاحبه تزويد الجسم بمواد مغذية سكرية أو غيرها، والأخذ بهذا القول أحوط، وإن أمكن تأخير غسيل الكلى إلى ما بعد المغرب فهو أولى مراعاة للخلاف.(9/70)
71 - وظائف المسلم في عيد الفطر
يقول السائل: ما هي الأعمال التي يقوم بها المسلم في عيد الفطر، أفيدونا؟
الجواب: ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبو داود وأبو يعلى والحاكم وصححه، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 1004، فعيد الفطر يوم مبارك من أيام الله عز وجل، فهو واقع في آخر عبادة الصوم، وللمسلم أعمالٌ كثيرةٌ ينبغي أن يقوم بها في عيد الفطر ومنها: أولاً: التكبير ويبدأ من غروب شمس آخر يوم من رمضان، أي من ليلة العيد ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة البقرة الآية 185.قال زيد بن أسلم: {ولتكبروا الله على ما هداكم} إذا رأى الهلال، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام، في الطريق والمسجد، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره) ،
وصفة التكبير كما وردت عن ابن مسعود رضي الله عنه: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ) ذكره ابن أبي شيبة في المصنف. ويكون التكبير في عيد الفطر جهراً، وهو قول جمهور الفقهاء، واحتجوا بقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} قال ابن عباس: هذا ورد في عيد الفطر بدليل عطفه على قوله تعالى: {ولتكملوا العدة} والمراد بإكمال العدة بإكمال صوم رمضان. ولما روى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله بن عباس وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، ويأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى] الموسوعة الفقهية الكويتية 13/213-214. ثانياً: يستحب الغسل للعيد والتطيب والتزين والتجمل ولبس الملابس الجديدة، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب في العيدين والتجمل فيهما، ثم ذكر حديث ابن عمر قال: أخذ عمر جبة من إستبرق تباع في السوق، فأخذها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما هذه لباس من لا خلاق له) . فلبث عمر ما شاء الله أن يلبث ثم أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج فأقبل بها عمر فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك قلت (إنما هذه لباس من لا خلاق له. وأرسلت إليَّ بهذه الجبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبيعها أو تصيب بها حاجتك) ] صحيح البخاري. ولما روي في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى) رواه ابن ماجة، ولأنه يوم يجتمع الناس فيه للصلاة، فاستحب الغسل فيه كيوم الجمعة، وإن اقتصر على الوضوء أجزأه، ويستحب أن يتزين ويتنظف ويحلق شعره ويلبس أحسن ما يجد ويتطيب ويتسوك، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة) أخرجه ابن مردويه، وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوب مهنته لجمعته أو لعيده) أخرجه ابن السكن في صحيحه، وقال الإمام مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد، والإمام بذلك أحق، لأنه منظور إليه من بينهم. وأفضل ألوان الثياب البياض، فعلى هذا إن استوى ثوبان في الحسن والنفاسة فالأبيض أفضل، فإن كان الأحسن غير أبيض فهو أفضل من الأبيض في هذا اليوم. فإن لم يجد إلا ثوبا استحب أن يغسله للعيد. ويستوي في استحباب تحسين الثياب والتنظيف والتطيب وإزالة الشعر والرائحة الكريهة، الخارج إلى الصلاة والقاعد في بيته؛ لأنه يوم الزينة فاستووا فيه، ويستحب تزيين الصبيان ذكوراً كانوا أو إناثاً بالمصبغ وبحلي الذهب ولبس الحرير في العيد، قال النووي: اتفقوا على إباحة تزيينهم بالمصبغ وحلي الذهب والفضة يوم العيد؛ لأنه يوم زينة] الموسوعة الفقهية الكويتية 31/115-116. ثالثاً: يستحب أن يأكل تمرات قبل خروجه إلى صلاة العيد، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج ثم ذكر حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات) ] صحيح البخاري. رابعاً: إخراج زكاة الفطر قبل الخروج إلى صلاة العيد لما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم. خامساً: كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في مصلى العيد، وهو ليس المسجد النبوي وإنما كان أرض خلاء، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بإخراج النساء يشهدن الصلاة ويسمعن الذكر حتى الحيض منهن، فقد جاء في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها جلبابها) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى: (والحيّض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس) رواه مسلم، والعواتق أي الشابات، والحيّض: جمع حائض، وذوات الخدور: ربات البيوت. وعن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكأً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن) رواه مسلم. وأصح ما ورد في صفة صلاة العيد وعدد التكبيرات الزوائد ما جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها) رواه أحمد وابن ماجة، وقال الحافظ العراقي إسناده صالح، ونقل الترمذي تصحيحه عن الإمام البخاري. ويكون التكبير قبل القراءة وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة. سادساً: تستحب التهنئة بالعيد والدعاء فيه، فقد ورد في الحديث عن محمد بن زياد قال: [كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض يتقبل الله منا ومنك] قال الإمام أحمد بن حنبل إسناده إسناد جيد وجوَّده أيضاً العلامة ابن التركماني، الجوهر النقي 3/319. ونقل ابن قدامة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال: [ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد تقبل الله منا ومنك] . وقال حرب: [سئل أحمد عن قول الناس في العيدين: تقبل الله منا ومنكم قال: لا بأس به يرويه أهل الشام عن أبي أمامة قيل وواثلة بن الأسقع؟ قال: نعم، قيل فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد: قال: لا] المغني 2/295-296. وسئل الإمام مالك عن قول الرجل لأخيه يوم العيد تقبل الله منا ومنك يريد الصوم فقال: ما أعرفه ولا أنكره، قال ابن حبيب المالكي معناه لا يعرفه سنة ولا ينكره على من يقوله، لأنه قول حسن ولأنه دعاء. وقد عقد الإمام البيهقي باباً في سننه الكبرى بعنوان: [باب ما روي في قول الناس يوم العيد بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك] . ثم ساق فيه بعض الأحاديث الواردة في ذلك وضعّفها وساق فيه أيضاً أثراً عن عمر بن عبد العزيز فقال: [عن أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال: كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيد تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين، فيردَّ علينا ولا ينكر ذلك علينا] سنن البيهقي 3/319. وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فلا بأس أن يعمل بها في مثل هذا الأمر الذي يُعد من فضائل الأعمال، وخاصة إذا أضفنا إليها الحديث الذي لم يذكره البيهقي وهو حديث أبي أمامة المذكور سابقاً، وخلاصة الأمر أنه لا بأس أن يقال في التهنئة بالعيد تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال أو نحوها من العبارات. سابعاً: زيارة الأقارب والأرحام والأصدقاء وتفقد الأيتام والأرامل وعائلات الشهداء والأسرى، وهذا ليس خاصاً بالعيد، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم13822. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيماً بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة) رواه أبو يعلى والطبراني وأحمد مختصراً بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري. وقال العلامة الألباني صحيح لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/676. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ يشكو قسوة قلبه؟ قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) رواه الطبراني وقال العلامة الألباني حسن لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/676. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم لا يفطر) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن أعمال المسلم في عيد الفطر كثيرة وهي أعمال صالحة، وينبغي للمسلم أن يحرص عليها اقتداءً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(9/71)
1 - الغاء موسم الحج بسبب انفلونزا الخنازير
يقول السائل: ما قولكم في بعض الفتاوى التي نادت بتأجيل موسم الحج لهذا العام بسبب انتشار مرض إنفلونزا الخنازير، أفيدونا؟
الجواب: انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة، من النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى دراسة طبية فقهية معمقة، وما صدر من فتاوى طالبت بإلغاء موسم الحج لهذا العام وتأجيل العمرة، ما هي إلا فتاوى متسرعة ومتعجلة لم تدرس النازلة وفق القواعد والضوابط الشرعية المقررة لدراسة القضايا المعاصرة، والفتاوى المطالبة بإلغاء موسم الحج لهذا العام مشت على منهج المبالغة في التيسير والتساهل بحجة أن الدين يسر، وأن المصلحة تقضي بالمحافظة على صحة الناس، وأن حفظ الصحة أهم من الشعائر، كما قالت إحدى المفتيات!! [إن المحافظة على الحياة أحد المقاصد الرئيسية للشريعة، لافتة إلى أن الإسلام دين يسرٍ لا عسر، والمشقة فيه تجلب التيسير؛ حيث يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، ويقول جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ودعت إلى تطبيق قاعدة «درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة» مستنكرة أن يخاف المسلمون من تأجيل العمرة أو حتى الحج، وكذلك الصلاة في الخلاء؛ لأنه يجب أن يكون خوفهم على حياتهم أكبر من خوفهم على فوات العبادة في هذه الظروف الاستثنائية التي تهدد الحياة!!!] وهذه المخاوف التي بنيت عليها هذه الفتاوى المتسرعة ما هي إلا ظنون متوهمة ولا يجوز شرعاً أن نلغي فريضة الحج بسبب هذه الأوهام. ويمكن تلخيص الرد على هذه الفتاوى العرجاء بما يلي:
1- إن المبالغة في العمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص الشرعية أمر مرفوض شرعاً، لأن المصلحة دليل متأخر الرتبة عند من يستدل به. ولا يجوز بحال من الأحوال تقديم المصلحة على نصوص الكتاب والسنة، حيث إن الحج فريضة محكمة، يقول الله عز وجل: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} سورة آل عمران الآية97.
2- هنالك تسرع واضح في إصدار هذه الفتاوى قبل استشارة أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم، فإن رأي الجهات الطبية ورأي الأطباء الثقات أهل الاختصاص يجب أن يؤخذ أولاً وبعد دراسته يمكن إصدار الفتاوى المناسبة، ومن المعلوم حتى الآن أن الأطباء لا يقولون بأنه يوجد داعٍ لإلغاء موسم الحج بسبب إنفلونزا الخنازير، فقد قال الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء المصريين: [إنه لا مانع من إنجاز موسم الحج والعمرة، مع ضرورة تقديم السلطات السعودية ضماناتٍ صحيةً بالحفاظ على الحجَّاج والمعتمرين، وأعرب عن استغرابه للدعوات المطالبة بوقف موسمَي الحج والعمرة، مؤكدًا أن العشرات يموتون في الأراضي المقدسة كلَّ عام بالإنفلونزا وغيرها؛ نتيجة تقدُّم الأعمار، وإصابة عدد كبير منهم بأمراض مزمنة وضعف مناعة.] وأعلنت نقابة أطباء مصر في بيان لها أنه لا ضرورة علمية أو صحية لإلغاء رحلات الحج والعمرة هذا العام بسبب فيروس إنفلونزا الخنازير، معتبرة أن الفيروس المسبب للمرض (إتش 1 إن 1) هو من نوع الأنفلونزا الموسمية نفسها , بل أخف منها ضرراً وقالت النقابة: إن الأطباء المتخصصين في علم الميكروبيولوجيا الإكلينيكية الذين استطلعت آراؤهم أجمعوا على أن الاتجاه إلى إلغاء الحج والعمرة للمصريين هذا العام يعتبر إجراءً علمياً غير صحيح , واستشهدت النقابة بأن معظم المصابين المصريين الوافدين لمصر تماثلوا للشفاء] .
3- إن فهم الواقعة المعاصرة فهماً صحيحاً، مطلوب قبل إصدار الفتوى، يقول العلامة ابن القيم: [ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرٍ، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم] إعلام الموقعين 1/ 187.
4- إن هذه النازلة المعاصرة العظيمة - انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة - تحتاج إلى فتوى جماعية تصدر عن المجامع الفقهية المعتبرة، ولا يقبل فيها فتاوى فردية متسرعة لا تقوم على قواعد الفتوى الصحيحة. ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية اليوم، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، قال العلامة ابن القيم: [ ... ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحدٌ، وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصٌ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم] إعلام الموقعين 2/156. وما يصدر عن المجامع الفقهية من قرارات لا يعتبر في حكم الإجماع الأصولي، ولكن قرارات هذه المجامع مقدمة على اجتهادات أفراد العلماء.
5- وقد بحث المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وهو يضم مجموعة من علماء العصر هذه النازلة - تأجيل العمرة وإلغاء الحج بسبب إنفلونزا الخنازير - في أواخر حزيران الماضي وجاء في قراره ما يلي: [تلقى المجلس استفتاءً بخصوص السفر لأداء مناسك الحج أو العمرة في هذا العام في ضوء ما حدث أخيراً من انتشار أنفلونزا الخنازير في الكثير من بلدان العالم، ورفع درجة التحذير من الوباء إلى الدرجة السادسة، وقد قام المجلس بالاتصال بالمسئولين في منظمة الصحة العالمية، فأفادوا أن هذه الدرجات المشار إليها هي درجات للانتشار الجغرافي، ولا علاقة لها على الإطلاق بدرجة الخطورة، وقد أعلنت الدرجة السادسة لأن عدة حالات من المرض قد ظهرت في جميع قارات العالم، وقد أوضحت المديرة العامة للمنظمة - وهي المفوضة الوحيدة من قبل دول العالم بتطبيق وتفسير اللوائح الصحية الدولية - أن شدة المرض معتدلة، ولا تزيد عن شدة الأنفلونزا الموسمية المعهودة. ولم يحدث أبداً من قبل أن أوبئة الأنفلونزا الموسمية قد دفعت إلى منع أو تحديد الحج أو العمرة، علماً بأن حكومة المملكة العربية السعودية قد تعهدت ... بتنفيذ الخطة المتكاملة لمكافحة الوباء، وباتخاذ الاستعدادات لمنع وقوع المزيد من الحالات. وقد أصدرت وزارة الصحة في المملكة الاشتراطات الصحية لأداء الحج والعمرة لهذا العام، واحتفظت بحقها باتخاذ أي إجراءات احترازية إضافية. وبناء على ما تقدم، لا يرى المجلس مسوغاً لأية فتوى يكون مفادها تثبيط همم من يعقد العزم على أداء الحج أو العمرة هذا العام. على أنه من الضروري على كل حال اتخاذ التدابير الواقية من هذا المرض ومن غيره من الأوبئة، وتتلخص هذه التدابير بالدرجة الأولى في الامتناع عن العناق والقبلات والتقليل من المصافحة ما أمكن، وغسل اليدين بعد كل ملامسة لمريض، أو عقب تلوثهما، وستر الأنف والفم في حال العطاس والسعال بمنديل ورقي، والأفضل في أثناء التجمعات استعمال الأقنعة والكمامات، مع الانتباه إلى تبديل هذه الأقنعة أو الكمامات مراراً، والتخلص منها بطريقة صحية. ومن وسائل الوقاية أيضاً الالتزام بالتوصيات الصادرة عن السلطات الصحية في السعودية أو في البلدان التي ينتمي إليها الحجاج والمعتمرون، حول أخذ اللقاحات أو اصطحاب الأدوية اللازمة، علماً بأن هذه التوصيات قد يتم تخفيفها أو تشديدها بما يلائ الوضع الصحي السائد. كما يوصي المجلس بتأجيل القيام بأداء هذه المناسك للمسنين والمصابين بأمراض موهنة، أو المتعاطين لأدوية تخفف من المناعة، كما يوصي بذلك أولئك الذين حجوا أو اعتمروا من قبل تخفيفاً للزحام.]
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً المناداة بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة بسبب ظنون وأوهام وتخوفات لا محل لها بسبب إنفلونزا الخنازير، ولا يجوز شرعاً تثبيط همم الحجاج والمعتمرين بمثل هذه الظنون، ومثل هذه القضايا المعاصرة الكبيرة تحتاج إلى اجتهادات جماعية وأخذ رأي أهل الاختصاص، ومن الغريب أن هذه الفتاوى العرجاء طالبت بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة فقط دون النظر إلى تجمعات الناس الأخرى كالتي تحصل في مباريات كرة القدم ودور السينما والملاهي وغيرها، ولا نستبعد غداً أن تخرج فتاوى أخرى تنادي بإلغاء صلاة الجمعة وصلاة الجماعة بمثل هذه الظنون والأوهام!!!
يقول السائل: ما قولكم في بعض الفتاوى التي نادت بتأجيل موسم الحج لهذا العام بسبب انتشار مرض إنفلونزا الخنازير، أفيدونا؟
الجواب: انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة، من النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى دراسة طبية فقهية معمقة، وما صدر من فتاوى طالبت بإلغاء موسم الحج لهذا العام وتأجيل العمرة، ما هي إلا فتاوى متسرعة ومتعجلة لم تدرس النازلة وفق القواعد والضوابط الشرعية المقررة لدراسة القضايا المعاصرة، والفتاوى المطالبة بإلغاء موسم الحج لهذا العام مشت على منهج المبالغة في التيسير والتساهل بحجة أن الدين يسر، وأن المصلحة تقضي بالمحافظة على صحة الناس، وأن حفظ الصحة أهم من الشعائر، كما قالت إحدى المفتيات!! [إن المحافظة على الحياة أحد المقاصد الرئيسية للشريعة، لافتة إلى أن الإسلام دين يسرٍ لا عسر، والمشقة فيه تجلب التيسير؛ حيث يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، ويقول جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ودعت إلى تطبيق قاعدة «درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة» مستنكرة أن يخاف المسلمون من تأجيل العمرة أو حتى الحج، وكذلك الصلاة في الخلاء؛ لأنه يجب أن يكون خوفهم على حياتهم أكبر من خوفهم على فوات العبادة في هذه الظروف الاستثنائية التي تهدد الحياة!!!] وهذه المخاوف التي بنيت عليها هذه الفتاوى المتسرعة ما هي إلا ظنون متوهمة ولا يجوز شرعاً أن نلغي فريضة الحج بسبب هذه الأوهام. ويمكن تلخيص الرد على هذه الفتاوى العرجاء بما يلي: 1- إن المبالغة في العمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص الشرعية أمر مرفوض شرعاً، لأن المصلحة دليل متأخر الرتبة عند من يستدل به. ولا يجوز بحال من الأحوال تقديم المصلحة على نصوص الكتاب والسنة، حيث إن الحج فريضة محكمة، يقول الله عز وجل: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} سورة آل عمران الآية97. 2- هنالك تسرع واضح في إصدار هذه الفتاوى قبل استشارة أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم، فإن رأي الجهات الطبية ورأي الأطباء الثقات أهل الاختصاص يجب أن يؤخذ أولاً وبعد دراسته يمكن إصدار الفتاوى المناسبة، ومن المعلوم حتى الآن أن الأطباء لا يقولون بأنه يوجد داعٍ لإلغاء موسم الحج بسبب إنفلونزا الخنازير، فقد قال الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء المصريين: [إنه لا مانع من إنجاز موسم الحج والعمرة، مع ضرورة تقديم السلطات السعودية ضماناتٍ صحيةً بالحفاظ على الحجَّاج والمعتمرين، وأعرب عن استغرابه للدعوات المطالبة بوقف موسمَي الحج والعمرة، مؤكدًا أن العشرات يموتون في الأراضي المقدسة كلَّ عام بالإنفلونزا وغيرها؛ نتيجة تقدُّم الأعمار، وإصابة عدد كبير منهم بأمراض مزمنة وضعف مناعة.] وأعلنت نقابة أطباء مصر في بيان لها أنه لا ضرورة علمية أو صحية لإلغاء رحلات الحج والعمرة هذا العام بسبب فيروس إنفلونزا الخنازير، معتبرة أن الفيروس المسبب للمرض (إتش 1 إن 1) هو من نوع الأنفلونزا الموسمية نفسها , بل أخف منها ضرراً وقالت النقابة: إن الأطباء المتخصصين في علم الميكروبيولوجيا الإكلينيكية الذين استطلعت آراؤهم أجمعوا على أن الاتجاه إلى إلغاء الحج والعمرة للمصريين هذا العام يعتبر إجراءً علمياً غير صحيح , واستشهدت النقابة بأن معظم المصابين المصريين الوافدين لمصر تماثلوا للشفاء] .
3- إن فهم الواقعة المعاصرة فهماً صحيحاً، مطلوب قبل إصدار الفتوى، يقول العلامة ابن القيم: [ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرٍ، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم] إعلام الموقعين 1/ 187.
4- إن هذه النازلة المعاصرة العظيمة - انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة - تحتاج إلى فتوى جماعية تصدر عن المجامع الفقهية المعتبرة، ولا يقبل فيها فتاوى فردية متسرعة لا تقوم على قواعد الفتوى الصحيحة. ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية اليوم، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، قال العلامة ابن القيم: [ ... ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحدٌ، وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصٌ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم] إعلام الموقعين 2/156. وما يصدر عن المجامع الفقهية من قرارات لا يعتبر في حكم الإجماع الأصولي، ولكن قرارات هذه المجامع مقدمة على اجتهادات أفراد العلماء.
5- وقد بحث المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وهو يضم مجموعة من علماء العصر هذه النازلة - تأجيل العمرة وإلغاء الحج بسبب إنفلونزا الخنازير - في أواخر حزيران الماضي وجاء في قراره ما يلي: [تلقى المجلس استفتاءً بخصوص السفر لأداء مناسك الحج أو العمرة في هذا العام في ضوء ما حدث أخيراً من انتشار أنفلونزا الخنازير في الكثير من بلدان العالم، ورفع درجة التحذير من الوباء إلى الدرجة السادسة، وقد قام المجلس بالاتصال بالمسئولين في منظمة الصحة العالمية، فأفادوا أن هذه الدرجات المشار إليها هي درجات للانتشار الجغرافي، ولا علاقة لها على الإطلاق بدرجة الخطورة، وقد أعلنت الدرجة السادسة لأن عدة حالات من المرض قد ظهرت في جميع قارات العالم، وقد أوضحت المديرة العامة للمنظمة - وهي المفوضة الوحيدة من قبل دول العالم بتطبيق وتفسير اللوائح الصحية الدولية - أن شدة المرض معتدلة، ولا تزيد عن شدة الأنفلونزا الموسمية المعهودة. ولم يحدث أبداً من قبل أن أوبئة الأنفلونزا الموسمية قد دفعت إلى منع أو تحديد الحج أو العمرة، علماً بأن حكومة المملكة العربية السعودية قد تعهدت ... بتنفيذ الخطة المتكاملة لمكافحة الوباء، وباتخاذ الاستعدادات لمنع وقوع المزيد من الحالات. وقد أصدرت وزارة الصحة في المملكة الاشتراطات الصحية لأداء الحج والعمرة لهذا العام، واحتفظت بحقها باتخاذ أي إجراءات احترازية إضافية. وبناء على ما تقدم، لا يرى المجلس مسوغاً لأية فتوى يكون مفادها تثبيط همم من يعقد العزم على أداء الحج أو العمرة هذا العام. على أنه من الضروري على كل حال اتخاذ التدابير الواقية من هذا المرض ومن غيره من الأوبئة، وتتلخص هذه التدابير بالدرجة الأولى في الامتناع عن العناق والقبلات والتقليل من المصافحة ما أمكن، وغسل اليدين بعد كل ملامسة لمريض، أو عقب تلوثهما، وستر الأنف والفم في حال العطاس والسعال بمنديل ورقي، والأفضل في أثناء التجمعات استعمال الأقنعة والكمامات، مع الانتباه إلى تبديل هذه الأقنعة أو الكمامات مراراً، والتخلص منها بطريقة صحية. ومن وسائل الوقاية أيضاً الالتزام بالتوصيات الصادرة عن السلطات الصحية في السعودية أو في البلدان التي ينتمي إليها الحجاج والمعتمرون، حول أخذ اللقاحات أو اصطحاب الأدوية اللازمة، علماً بأن هذه التوصيات قد يتم تخفيفها أو تشديدها بما يلائم الوضع الصحي السائد. كما يوصي المجلس بتأجيل القيام بأداء هذه المناسك للمسنين والمصابين بأمراض موهنة، أو المتعاطين لأدوية تخفف من المناعة، كما يوصي بذلك أولئك الذين حجوا أو اعتمروا من قبل تخفيفاً للزحام.]
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً المناداة بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة بسبب ظنون وأوهام وتخوفات لا محل لها بسبب إنفلونزا الخنازير، ولا يجوز شرعاً تثبيط همم الحجاج والمعتمرين بمثل هذه الظنون، ومثل هذه القضايا المعاصرة الكبيرة تحتاج إلى اجتهادات جماعية وأخذ رأي أهل الاختصاص، ومن الغريب أن هذه الفتاوى العرجاء طالبت بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة فقط دون النظر إلى تجمعات الناس الأخرى كالتي تحصل في مباريات كرة القدم ودور السينما والملاهي وغيرها، ولا نستبعد غداً أن تخرج فتاوى أخرى تنادي بإلغاء صلاة الجمعة وصلاة الجماعة بمثل هذه الظنون والأوهام!!!
قول السائل: ما قولكم في بعض الفتاوى التي نادت بتأجيل موسم الحج لهذا العام بسبب انتشار مرض إنفلونزا الخنازير، أفيدونا؟
الجواب: انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة، من النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى دراسة طبية فقهية معمقة، وما صدر من فتاوى طالبت بإلغاء موسم الحج لهذا العام وتأجيل العمرة، ما هي إلا فتاوى متسرعة ومتعجلة لم تدرس النازلة وفق القواعد والضوابط الشرعية المقررة لدراسة القضايا المعاصرة، والفتاوى المطالبة بإلغاء موسم الحج لهذا العام مشت على منهج المبالغة في التيسير والتساهل بحجة أن الدين يسر، وأن المصلحة تقضي بالمحافظة على صحة الناس، وأن حفظ الصحة أهم من الشعائر، كما قالت إحدى المفتيات!! [إن المحافظة على الحياة أحد المقاصد الرئيسية للشريعة، لافتة إلى أن الإسلام دين يسرٍ لا عسر، والمشقة فيه تجلب التيسير؛ حيث يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، ويقول جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ودعت إلى تطبيق قاعدة «درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة» مستنكرة أن يخاف المسلمون من تأجيل العمرة أو حتى الحج، وكذلك الصلاة في الخلاء؛ لأنه يجب أن يكون خوفهم على حياتهم أكبر من خوفهم على فوات العبادة في هذه الظروف الاستثنائية التي تهدد الحياة!!!] وهذه المخاوف التي بنيت عليها هذه الفتاوى المتسرعة ما هي إلا ظنون متوهمة ولا يجوز شرعاً أن نلغي فريضة الحج بسبب هذه الأوهام. ويمكن تلخيص الرد على هذه الفتاوى العرجاء بما يلي: 1- إن المبالغة في العمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص الشرعية أمر مرفوض شرعاً، لأن المصلحة دليل متأخر الرتبة عند من يستدل به. ولا يجوز بحال من الأحوال تقديم المصلحة على نصوص الكتاب والسنة، حيث إن الحج فريضة محكمة، يقول الله عز وجل: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} سورة آل عمران الآية97. 2- هنالك تسرع واضح في إصدار هذه الفتاوى قبل استشارة أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم، فإن رأي الجهات الطبية ورأي الأطباء الثقات أهل الاختصاص يجب أن يؤخذ أولاً وبعد دراسته يمكن إصدار الفتاوى المناسبة، ومن المعلوم حتى الآن أن الأطباء لا يقولون بأنه يوجد داعٍ لإلغاء موسم الحج بسبب إنفلونزا الخنازير، فقد قال الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء المصريين: [إنه لا مانع من إنجاز موسم الحج والعمرة، مع ضرورة تقديم السلطات السعودية ضماناتٍ صحيةً بالحفاظ على الحجَّاج والمعتمرين، وأعرب عن استغرابه للدعوات المطالبة بوقف موسمَي الحج والعمرة، مؤكدًا أن العشرات يموتون في الأراضي المقدسة كلَّ عام بالإنفلونزا وغيرها؛ نتيجة تقدُّم الأعمار، وإصابة عدد كبير منهم بأمراض مزمنة وضعف مناعة.] وأعلنت نقابة أطباء مصر في بيان لها أنه لا ضرورة علمية أو صحية لإلغاء رحلات الحج والعمرة هذا العام بسبب فيروس إنفلونزا الخنازير، معتبرة أن الفيروس المسبب للمرض (إتش 1 إن 1) هو من نوع الأنفلونزا الموسمية نفسها , بل أخف منها ضرراً وقالت النقابة: إن الأطباء المتخصصين في علم الميكروبيولوجيا الإكلينيكية الذين استطلعت آراؤهم أجمعوا على أن الاتجاه إلى إلغاء الحج والعمرة للمصريين هذا العام يعتبر إجراءً علمياً غير صحيح , واستشهدت النقابة بأن معظم المصابين المصريين الوافدين لمصر تماثلوا للشفاء] .
3- إن فهم الواقعة المعاصرة فهماً صحيحاً، مطلوب قبل إصدار الفتوى، يقول العلامة ابن القيم: [ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرٍ، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم] إعلام الموقعين 1/ 187.
4- إن هذه النازلة المعاصرة العظيمة - انتشار إنفلونزا الخنازير وتأثيرها على الحج والعمرة - تحتاج إلى فتوى جماعية تصدر عن المجامع الفقهية المعتبرة، ولا يقبل فيها فتاوى فردية متسرعة لا تقوم على قواعد الفتوى الصحيحة. ولا شك أن الاجتهاد الجماعي الذي تمثله المجامع الفقهية اليوم، مقدمٌ على الاجتهاد الفردي الذي يصدر عن أفراد الفقهاء، فهو أكثر دقةً وإصابةً من الاجتهاد الفردي، كما أن فيه تحقيقاً لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وهو مبدأ أصيل في تاريخ الفقه الإسلامي، قال العلامة ابن القيم: [ ... ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحدٌ، وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصٌ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم] إعلام الموقعين 2/156. وما يصدر عن المجامع الفقهية من قرارات لا يعتبر في حكم الإجماع الأصولي، ولكن قرارات هذه المجامع مقدمة على اجتهادات أفراد العلماء.
5- وقد بحث المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وهو يضم مجموعة من علماء العصر هذه النازلة - تأجيل العمرة وإلغاء الحج بسبب إنفلونزا الخنازير - في أواخر حزيران الماضي وجاء في قراره ما يلي: [تلقى المجلس استفتاءً بخصوص السفر لأداء مناسك الحج أو العمرة في هذا العام في ضوء ما حدث أخيراً من انتشار أنفلونزا الخنازير في الكثير من بلدان العالم، ورفع درجة التحذير من الوباء إلى الدرجة السادسة، وقد قام المجلس بالاتصال بالمسئولين في منظمة الصحة العالمية، فأفادوا أن هذه الدرجات المشار إليها هي درجات للانتشار الجغرافي، ولا علاقة لها على الإطلاق بدرجة الخطورة، وقد أعلنت الدرجة السادسة لأن عدة حالات من المرض قد ظهرت في جميع قارات العالم، وقد أوضحت المديرة العامة للمنظمة - وهي المفوضة الوحيدة من قبل دول العالم بتطبيق وتفسير اللوائح الصحية الدولية - أن شدة المرض معتدلة، ولا تزيد عن شدة الأنفلونزا الوسمية المعهودة. ولم يحدث أبداً من قبل أن أوبئة الأنفلونزا الموسمية قد دفعت إلى منع أو تحديد الحج أو العمرة، علماً بأن حكومة المملكة العربية السعودية قد تعهدت ... بتنفيذ الخطة المتكاملة لمكافحة الوباء، وباتخاذ الاستعدادات لمنع وقوع المزيد من الحالات. وقد أصدرت وزارة الصحة في المملكة الاشتراطات الصحية لأداء الحج والعمرة لهذا العام، واحتفظت بحقها باتخاذ أي إجراءات احترازية إضافية. وبناء على ما تقدم، لا يرى المجلس مسوغاً لأية فتوى يكون مفادها تثبيط همم من يعقد العزم على أداء الحج أو العمرة هذا العام. على أنه من الضروري على كل حال اتخاذ التدابير الواقية من هذا المرض ومن غيره من الأوبئة، وتتلخص هذه التدابير بالدرجة الأولى في الامتناع عن العناق والقبلات والتقليل من المصافحة ما أمكن، وغسل اليدين بعد كل ملامسة لمريض، أو عقب تلوثهما، وستر الأنف والفم في حال العطاس والسعال بمنديل ورقي، والأفضل في أثناء التجمعات استعمال الأقنعة والكمامات، مع الانتباه إلى تبديل هذه الأقنعة أو الكمامات مراراً، والتخلص منها بطريقة صحية. ومن وسائل الوقاية أيضاً الالتزام بالتوصيات الصادرة عن السلطات الصحية في السعودية أو في البلدان التي ينتمي إليها الحجاج والمعتمرون، حول أخذ اللقاحات أو اصطحاب الأدوية اللازمة، علماً بأن هذه التوصيات قد يتم تخفيفها أو تشديدها بما يلائم الوضع الصحي السائد. كما يوصي المجلس بتأجيل القيام بأداء هذه المناسك للمسنين والمصابين بأمراض موهنة، أو المتعاطين لأدوية تخفف من المناعة، كما يوصي بذلك أولئك الذين حجوا أو اعتمروا من قبل تخفيفاً للزحام.]
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً المناداة بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة بسبب ظنون وأوهام وتخوفات لا محل لها بسبب إنفلونزا الخنازير، ولا يجوز شرعاً تثبيط همم الحجاج والمعتمرين بمثل هذه الظنون، ومثل هذه القضايا المعاصرة الكبيرة تحتاج إلى اجتهادات جماعية وأخذ رأي أهل الاختصاص، ومن الغريب أن هذه الفتاوى العرجاء طالبت بإلغاء موسم الحج وتأجيل العمرة فقط دون النظر إلى تجمعات الناس الأخرى كالتي تحصل في مباريات كرة القدم ودور السينما والملاهي وغيرها، ولا نستبعد غداً أن تخرج فتاوى أخرى تنادي بإلغاء صلاة الجمعة وصلاة الجماعة بمثل هذه الظنون والأوهام!!!
الرئيسة
تعريف بالموقع
السيرة الذاتية
فتاوى
كتب ومؤلفات
مقالات وأبحاث
ر سائل علمية
مخطوطات
موسوعة علماء فلسطين
ركن المرأة المسلمة
صوتيات
مطويات
يوجد في الموقع 23 من الزوار
257343 العدد الكلي للزوار
247344 منذ 20/12/2002
جميع الحقوق محفوظة 2002(10/1)
2 - حكم الإحرام بالحج أو العمرة من القدس
يقول السائل: نويت الحج هذا العام وأرغب أن أحرم من المسجد الأقصى المبارك حيث إنني سمعت حديثاً في فضل الإحرام من بيت المقدس، فما حكم ذلك، أفيدونا؟
الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على جواز الإحرام بالنسك، حجاً أو عمرة، قبل المواقيت المكانية التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون منها) رواه البخاري ومسلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرماً، وتثبت في حقه أحكام الإحرام] المغني 3/250. إلا أن أهل الظاهر منعوا الإحرام قبل المواقيت مطلقاً، وقولهم مرجوح، قال الإمام النووي: [أجمع من يُعْتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه، وحكى العبدري وغيره عن داود – الظاهري - أنه قال: لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات، وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه، ويلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات، وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله] المجموع 7/200. ومع اتفاق جمهور الفقهاء على جواز الإحرام قبل المواقيت المكانية إلا أنهم اختلفوا في الأفضل، هل هو الإحرام من المواقيت؟ أم الإحرام من بلد مريد الحج؟ والمسألة محلُ خلافٍ بين أهل العلم، والراجح أن الإحرام من الميقات أفضل، وبه قال المالكية والشافعية في أصح القولين عندهم والحنابلة، وقد كره عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يحرم أحدٌ قبل الميقات، فقد ورد (أن عمران بن الحصين رضي الله عنه أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره) رواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في الكبير، وروى البخاري تعليقاً أن عثمان رضي الله عنه كره أن يُحرم من خراسان أو كرمان) ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وصله سعيد بن منصور ... أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عار من خراسان، فقدم على عثمان فلامه وقال: غزوتَ وهانَ عليك نُسُكك، وروى أحمد بن سيار في " تاريخ مرو " من طريق داود بن أبي هند قال: لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرماً، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع. وهذه أسانيد يقوي بعضها بعضاً] فتح الباري 3/530.
ولا شك أن الاقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأهدى، فقد أحرم الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من ذي الحليفة – آبار علي- كما هو ثابت في السنة النبوية، وهكذا فعل صحابته رضوان الله عليهم، فقد كانوا يحرمون من المواقيت، قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب فرض مواقيت الحج والعمرة) ثم روى عن زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في منزله وله فسطاط وسرادق، فسألته من أين يجوز أن أعتمر؟ قال فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجدٍ قرناً، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة) ثم قال الإمام البخاري: (باب ميقات أهل المدينة، ولا يُهلون قبل ذي الحليفة) ثم روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يُهل أهلُ المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجدٍ من قَرْن. قال عبد الله وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم) صحيح البخاري 3/482، 488. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وهذا التوقيت يقتضي نفي الزيادة والنقص، فإن لم تكن الزيادة محرمةً، فلا أقلَّ من أن يكون تركها أفضل] شرح العمدة 5/129. وقد سئل الإمام مالك رحمه الله حيث أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل. فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها! قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} . ذكر هذا الأثر عن الإمام مالك الشيخ ابن العربي في أحكام القرآن 3/432، والإمام الشاطبي في الاعتصام 1/131ـ132. وقال الإمام النووي: [والأصح على الجملة أن الإحرام من الميقات أفضل للأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته من الميقات، وهذا مجمعٌ عليه، وأجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد وجوب الحج ولا بعد الهجرة غيرها، وأحرم صلى الله عليه وسلم عام الحديبية بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة، رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي، وكذلك أحرم معه صلى الله عليه وسلم بالحجة المذكورة والعمرة المذكورة أصحابه من الميقات، وهكذا فعل بعده صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعون وجماهير العلماء وأهل الفضل، فترك النبي صلى الله عليه سلم الإحرام من مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وأحرم من الميقات فلا يبقى بعد هذا شكٌ في أن الإحرام من الميقات أفضل] المجموع 7/201.
إذا تقرر هذا فأعود للحديث الذي أشار إليه السائل في فضيلة الإحرام من بيت المقدس، وهو عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهلَّ بحجٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وأحمد، وهذا الحديث ضعيف، ضعفه البخاري والمنذري وابن حزم والنووي وابن كثير وابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهم، قال الشيخ ابن حزم: [واحتج من رأى هذا – أي جواز الإحرام قبل الميقات - بما روينا من طريق أبي داود ... عن أم سلمة أم المؤمنين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهلَّ بحجةٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة) شك عبد الله أيهما قال، ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ... عن أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أهلَّ بعمرةٍ من بيت المقدس غُفر له) . قال عليٌ – أي ابن حزم -: أما هذان الأثران، فلا يشتغل بهما من له أدنى علم بالحديث، لأن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي، وجدته حكيمة، وأم حكيم بنت أمية لا يُدرى من هم من الناس، ولا يجوز مخالفة ما صح بيقينٍ، بمثل هذه المجهولات التي لم تصح قط] المحلى 5/59-60.
وقد ضعف الحديث السابق العلامة الألباني حيث فصلَّ الكلام عليه فقال: [ضعيف، أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وأحمد من طريق حكيمة عن أم سلمة مرفوعاً. قال ابن القيم في تهذيب السنن: قال غير واحد من الحفاظ: إسناده غير قوي. قلت: وعلته عندي حكيمة هذه فإنها ليست بالمشهورة، ولم يوثقها غير ابن حبان وقد نبهنا مراراً على ما في توثيقه من التساهل، ولهذا لم يعتمده الحافظ فلم يوثقها، وإنما قال في التقريب: مقبولة، يعني عند المتابعة، وليس لها متابع هاهنا فحديثها ضعيف غير مقبول، هذا وجه الضعف عندي، وأما المنذري فأعله بالاضطراب فقال في مختصر السنن وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافاً كثيراً، وكذا أعله بالاضطراب الحافظ ابن كثير كما في نيل الأوطار. ثم إن المنذري كأنه نسي هذا فقال في الترغيب والترهيب: رواه ابن ماجة بإسناد صحيح! وأنى له الصحة وفيه ما ذكره هو وغيره من الاضطراب، وجهالة حكيمة عندنا؟! ثم إن الحديث قال السندي وتبعه الشوكاني: يدل على جواز تقديم الإحرام على الميقات. قلت: كلا، بل دلالته أخص من ذلك، أعني أنه إنما يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، وأما غيره من البلاد فالأصل الإحرام من المواقيت المعروفة وهو الأفضل كما قرره الصنعاني في سبل السلام، وهذا على فرض صحة الحديث، أما وهو لم يصح كما رأيت، فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم ... ] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/248-249. ويضاف إلى ما سبق، أن الإحرام قبل الميقات، كالإحرام من بيت المقدس، فيه نوع حرج وتضييق على المحرم، حيث تطول مدة الإحرام، وقد يلحق الأذى والضرر بالمحرم، كما لو كان الفصل شتاءً، وكما أن الإنسان لا يخلو من الوقوع في الذنوب، فإذا وقع في الذنب وهو محرم كان الذنب عظيماً، قال عطاء من كبار التابعين: [انظروا هذه المواقيت التي وُقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدُكم ذنباً في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك] المغني 5/251.
وخلاصة الأمر أن الإحرام من المواقيت المكانية المعروفة هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرم منها الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون وغيرهم من التابعين، فالخير كل الخير في إتباعهم، والحديث الوارد في فضل الإحرام من المسجد الأقصى أو من بيت المقدس حديث ضعيف عند المحدثين، لذا أنصح الحجاج والمعتمرين أن يحرموا من المواقيت التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(10/2)
3 - الإحرام من التنعيم في العمرة
يقول السائل: إنه يريد أن يعتمر في رمضان القادم إن شاء الله تعالى، ويرغب أن يعتمر عن أمه المتوفية بعد الفراغ من عمرته وذلك بأن يحرم من التنعيم، وقد سمع أن العمرة من التنعيم لا تصح، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: العمرة شعيرة من شعائر الله وللعمرة فضل عظيم فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم) رواه ابن ماجة وابن حبان وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2 / 149. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة) . رواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1 / 244 ـ 245. وورد زيادة فضل للعمرة في شهر رمضان فقد روى الإمام البخاري بسنده عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يخبرنا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها ما منعك أن تحجي معنا، قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه - لزوجها وابنها- وترك ناضحاً ننضح عليه قال: (فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان حجة) . وفي رواية عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة) .
وعن ابن عباس قال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك قالت أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه، فقالت أحجني على جملك فلان، فقلت ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله، قال وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك فقال رسول الله صلى الله عليه وسل: أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة معي يعني عمرة في رمضان) رواه أبو داود وغيره وقال الألباني حسن صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 1/ 374. وقال الإمام الترمذي: (وقال أحمد وإسحق قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمرة في رمضان تعدل حجة قال إسحق معنى هذا الحديث مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ {قل هو الله أحد} فقد قرأ ثلث القرآن) سنن الترمذي 3/276-277، وقال الإمام النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن عمرة فيه) أي في رمضان (تعدل حجة) ، وفي الرواية الأخرى: (تقضي حجة) أي تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء، فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة. شرح النووي على صحيح مسلم 3/385. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قال ابن خزيمة: في هذا الحديث أن الشيء يشبه الشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها، لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر… فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض , للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض. ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة , فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد.) فتح الباري 3/762-763.
وتصح النيابة في العمرة عن الميت كما تصح في الحج، فقد جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: (يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال: فحجي عنه) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر) رواه أبو داود والترمذي، وقال الإمام الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح وإنما ذكرت العمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يعتمر الرجل عن غيره] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي لابن العربي المالكي 3/127.
إذا تقرر هذا فإن العمرة من التنعيم – مسجد عائشة رضي الله عنها - جائزة على الراجح من أقوال أهل العلم للمكي وللآفاقي – وهو من أتى مكة من غير أهلها – وبه قال جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم منهم عائشة وعلي وابن عباس وأنس بن مالك وأم الدرداء وجابر بن عبد الله وابن عمر وعبد الله بن الزبير، وقال به من التابعين عكرمة والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاووس وهو قول جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم، كما في نضرة النعيم في حكم العمرة من التنعيم، عن الإنترنت. قال الإمام مالك: [فأما العمرة من التنعيم فإنه من شاء أن يخرج من الحرم ثم يحرم فإن ذلك مجزىء عنه إن شاء الله، ولكن الفضل أن يهل من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما هو أبعد من التنعيم] الموطأ 1/282. وقال الإمام الشافعي: [ميقات العمرة لمن كان بمكة الحل، والأفضل أن يحرم من الجعرانة أو التنعيم] الأم 2/133.
وقال عطاء: [من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتاً - ميقاتاً – من مواقيت الحج] فتح الباري 3/606. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [مسألة: وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل وإذا أرادوا الحج فمن مكة، أهل مكة ومن كان بها سواء كان مقيماً بها أو غير مقيم، لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتاً له، وكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافاً، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمِّر عائشة من التنعيم] المغني 3/246. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل، وأدناه من التنعيم، قال: وقال القاضي: يستحب الإحرام من الجعرانة، فإن فاته ذلك أحرم من التنعيم، فإن فاته فمن الحديبية، وكذلك ذكر ابن عقيل، إلا أنه لم يذكر التنعيم هنا، وعمدة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة واعتمر عمرة الحديبية، وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم فخصت هذه بالفضل وكان أفضل هذه المواقيت، قال: وقال أبو الخطاب: الأفضل أن يحرم من التنعيم] شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية، عن الإنترنت.
ومما يدل على جواز العمرة من التنعيم ما يلي: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً. فقدمت معه مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقضي رأسك، وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة. ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق إلى التنعيم فاعتمرت فقال: هذه مكان عمرتك) . وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم ... ) رواه مالك في الموطأ. وسئل عطاء عن عمرة التنعيم فقال: هي تامة ومجزئة) مجموع فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 26/266. وغير ذلك من الأدلة تجدها مفصلة في نضرة النعيم في حكم العمرة من التنعيم.
وخلاصة الأمر أن العمرة لها فضل عظيم وخاصة إذا كانت في رمضان، وتصح العمرة عن الميت، والعمرة من التنعيم – مسجد عائشة رضي الله عنها - جائزة على الراجح من أقوال أهل العلم.(10/3)
4 - أيهما أولى تزويج الابن أم حج الفريضة؟
يقول السائل: إن لديه مبلغاً من المال ويريد الحج به ولكن زوجته تقول إن تزويج ابنهما أوجب، لأن الولد غير مستطيع للزواج بنفسه، فأيهما أولى أن يؤدي فريضة الحج أم يزوج ولده، أفيدونا؟ الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الحج فريضة العمر على المسلم المستطيع، قال الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} سورة آل عمران الآية 97. وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على وجوب الحج على المستطيع. وفي قوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) إشارة إلى أن الأصل في المسلم أنه لا يترك الحج مع القدرة عليه لأنه سبحانه وتعالى جعل مقابل الفرض الكفر، فترك الحج ليس من شأن المسلم، بل هو من شأن الكافر. انظر الموسوعة الفقهية 17/23. والواجب على المسلم أن يبادر للحج إن كان مستطيعاً لأن الحج واجب على الفور على قول جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا قال أبو حنيفة ومالك] المغني 3/212. ويدل على ذلك قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} سورة البقرة 196، قال القرطبي: [وروى قتادة عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية فذلك قوله تعالى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قلت – القرطبي - هذا خرج مخرج التلغيط … وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه] تفسير القرطبي 4/153-154.
ويدل على الفورية قوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} سورة البقرة الآية 48.
ويدل على وجوب الحج على الفور ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أراد الحج فليتعجل) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي، وقال الشيخ الألباني حديث حسن، كما في صحيح سنن أبي داود 1/325. وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس عن الفضل رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وضل الضالة وتعرض الحاجة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/147.
وعن عبد الرحمن بن غُنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً. ذكره ابن كثير وقال: هذا إسناد صحيح إلى عمر. تفسير ابن كثير 2/97.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جِدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) رواه سعيد بن منصور في سننه.
إذا تقرر أن الحج واجب على الفور على المستطيع فإن أداء المسلم لحج الفريضة مقدم على تزويج ابنه لأن تزويج الابن ليس واجباً على أبيه كما هو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية، بل هو أمر مندوب إليه، وخاصة إذا كان الأب موسراً فينبغي أن يساعد ابنه في الزواج، قال ابن عرفة المالكي: [نفقة الابن تسقط ببلوغه] مواهب الجليل للحطاب.
وقال الإمام النووي: [لا يلزم الأب إعفاف الابن] روضة الطالبين.
والمطلوب من الابن الفقير الذي لا يستطيع الزواج بنفسه أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله كما قال تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} سورة النور الآية 33.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم استطاعة الزواج لمن أراد الزواج استطاعة ذاتية ولم يجعلها استطاعة بغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) رواه مسلم. وأما ما يذكره بعض الناس من الحديث الوارد في أن من حق الابن على أبيه أن يزوجه ولفظه (إن من حق الولد على والده أن يعلمه الكتابة وأن يحسن اسمه وأن يزوجه إذا بلغ) وفي رواية أخرى (ويزوجه إن أدرك) ، فهذا الحديث ضعيف جداً عند أهل الحديث قال الشيخ العلامة الألباني: [أخرجه الأصبهاني في "الترغيب" (ق62/ 2) ، والديلمي (2/ 86-87) من طريق أبي نعيم معلقاً عنه عن أبي هارون السندي عن الحسن ابن عمارة عن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة مرفوعاً.
قلت – أي الألباني -: وهذا إسناد ضعيف جداً. الحسن بن عمارة متروك. والحديث عزاه السيوطي لأبي نعيم أيضاً في “الحلية"، لم أره في فهرسه. والله أعلم. ونحوه ما رواه الأصبهاني في "الترغيب" (62/ 2) من طريق عبد الله بن عبد العزيز قال: أخبرني أبي عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "إن من حق الولد على ولده أن يحسن أدبه، وأن يحسن اسمه، وأن يعظه (وفي رواية: أن يفقهه) إذا بلغ". وعبد الله هو ابن عبد العزيز بن أبي رواد، قال ابن الجنيد: "لا يساوي شيئاً، يحدث بأحاديث كذب". وروى سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أخيه عبد الله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "إن من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، وأن يحسن أدبه". أخرجه البزار (2/ 411/ 1984) وقال: "تفرد به عبد الله بن سعيد، ولم يتابع عليه". قلت: وهو متروك؛ كما في "المجمع" (8/ 47) . وأخوه سعد بن سعيد لين الحديث، كما في "التقريب". ووقع في رواية محمد بن مخلد الدوري في “جزئه": (عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد) كما في "المداوي" (2/ 547) للشيخ الغماري، من طريق علي بن شاذان عنه. وقال الشيخ: "علي بن شاذان ضعفه الدارقطني"، فقوله: (عبد المجيد) مكان (عبد الله) خطأ منه أو من النساخ، أو هو العكس. والله أعلم.] سلسلة الأحاديث الضعيفة 7/491-492.
وقد ورد الحديث المذكور من كلام سفيان الثوري كما ذكره أبو عبد الله المروزي في كتاب البر والصلة، قال حدثنا الحسين قال أخبرنا ابن المبارك قال كان سفيان الثوري يقول: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه وأن يزوجه إذا بلغ وأن يحسن أدبه) قال محقق الكتاب د. محمد سعيد بخاري. رجال إسناده ثقات.
وخلاصة الأمر أن الحج واجب على الفور في حق المستطيع، ولا يجب على الوالد أن يزوج ولده، بل ذلك مندوب إليه، وحج الفريضة مقدم على تزويج الولد.(10/4)
5 - حكم من مات أثناء أداء مناسك الحج
يقول السائل: ذهب رجل لأداء فريضة الحج ولكنه توفي في حادث سيارة قبل أن يقف في عرفة فهل يُحج عنه أفيدونا؟ الجواب: إذا خرج المسلم من بيته قاصداً الحج ثم مات قبل أن يتمه أو مات قبل أن يبدأ به فقد وقع أجره على الله عز وجل كما قال الله تعالى {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} سورة النساء الآية 100.
فهذا الرجل خرج من بيته ناوياً الحج فله الأجر والثواب إن شاء الله تعالى وإن لم يتم أعمال الحج وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فصل – أي خرج من بيته - في سبيل الله فمات أو قتل، فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره، أو لدغته هامَّة، أو مات على فراشه، أو بأي حتف شاء الله تعالى، فإنه شهيد وإن له الجنة) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه وقال العلامة الألباني: إنما هو حسن فقط. أحكام الجنائز ص 37.
إذا تقرر بأن الأجر ثابت لمن مات ناوياً عملاً مشروعاً قبل أن يتمه فهذا الشخص الذي شرع بمناسك الحج ثم مات قبل أن يقف بعرفة إن مات محرماً فإنه يبعث ملبياً يوم القيامة كما ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه - أي لا تطيبوه لأنه كان محرماً - ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) رواه البخاري ومسلم. ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن ابن بطال – أحد شرَّاح صحيح البخاري – قوله: [وفيه أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رُجِيَ له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل] فتح الباري 3/174.
ولا يجب قضاء الحج عمن مات قبل إتمام المناسك حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقضاء الحج عن الرجل الذي مات محرماً في الحديث السابق.
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين: [إذا هلك من سافر للحج قبل أن يخرج فليس بحاج، لكن الله عز وجل يثيبه على عمله، أما إذا أحرم وهلك فهو حاج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة فقال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) . ولم يأمرهم بقضاء حجه، وهذا يدل على أنه يكون حاجاً.] فتاوى ابن عثيمين 21/252.
ولا بد من التنبيه على أن من مات ولم يحج حجة الإسلام وترك مالاً فينبغي أن يحج عنه من ماله سواء ترك الحج لتقصير أو لغير تقصير وسواء أوصى بالحج عنه أم لم يوص ويدل على ذلك أحاديث منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن أختي قد نذرت أن تحج وإنها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كان عليها دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاقض الله فهو أحق بالقضاء.) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها قال نعم حجي عنها) رواه الترمذي وقال وهذا حديث صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء) رواه النسائي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها فلتحج عن أمها) رواه النسائي.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج , وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط وبهذا قال الحسن وطاوس , والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت , كالصلاة.
ولنا ما روى ابن عباس (أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم-عن أبيها مات ولم يحج؟ قال: حجي عن أبيك) وعنه (أن امرأة نذرت أن تحج , فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك؟ فقال: أرأيت لو كان على أختك دين أما كنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فاقضوا دين الله , فهو أحق بالقضاء) رواهما النسائي وروى هذا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة , فلم يسقط بالموت كالدين ... والعمرة كالحج في القضاء , فإنها واجبة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر , فكان من جميع المال كدين الآدمي.] المغني 3/233.
وخلاصة الأمر أن من مات أثناء تأدية مناسك الحج والعمرة فقد وقع أجره على الله ولا يلزم قضاء الحج عنه على الراجح من أقوال أهل العلم وأما من مات ولم يحج حجة الفريضة وقد ترك مالاً فينبغي أن يحج عنه سواء ترك الحج لتقصير أو لغير تقصير أوصى بالحج عنه أم لم يوص.(10/5)
6 - حكم الخطأ في تحديد يوم عرفة
يقول السائل: ما قولكم فيما حصل من بلبلة حول بداية شهر ذي الحجة هذا العام والاختلاف في يوم الوقوف بعرفة ويوم عيد الأضحى ثم تراجع السعودية وإعلانها أن وقفة عرفة يوم الأربعاء والعيد يوم الخميس فما قولكم في ذلك أفيدونا؟ الجواب: أعلن مجلس القضاء الأعلى في السعودية أن بداية شهر ذي الحجة لهذا العام 1425 هـ هو يوم الأربعاء 12 /1/ 2005م وقد جاء في إعلانه [نظراً لأن شهر شوال ثبت دخوله يوم السبت ولم يتقدم أحد يخبر بدخول شهر ذي القعدة يوم الأحد ولأن يوم الثلاثاء / 30 ذي القعدة / حسب تقويم أم القرى هو تمام ستين يوماً بعد شهر رمضان ولم يرد للمجلس عن دخول شهر ذي الحجة ليلة الثلاثاء ما يفيد دخول الشهر وإنما ورد نفي الرؤية وعليه فإن يوم الأربعاء 1 / 12 / 1425هـ حسب تقويم أم القرى الموافق 12 /1/2005م هو أول أيام شهر ذي الحجة وبهذا يكون الوقوف بعرفة يوم الخميس التاسع من ذي الحجة وعيد الأضحى المبارك يوم الجمعة الموافق 21 /1/ 2005م.] ثم أصدر مجلس القضاء الأعلى في السعودية بياناً أعلن فيه أنه قد شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم قد رأوا الهلال ليلة الثلاثاء، وبناءً على ذلك أصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً تصحيحياً أعلن فيه أن الثلاثاء 11/1/ 2005 في التقويم الميلادي هو غرة ذي الحجة ويوم الأربعاء 19/1/2005 هو يوم وقفة عرفة ويوم الخميس 20/1/2005 هو يوم عيد الأضحى المبارك] .
وما قام به مجلس القضاء الأعلى في السعودية هو رجوع عن الخطأ والرجوع عن الخطأ فضيلة وقد سررت كثيراً عندما رجع مجلس القضاء الأعلى في السعودية عن قراره الأول لما في ذلك من تصحيح لوقت عبادة عظيمة وركن من أركان الإسلام وهو الحج بل إن ما فعله مجلس القضاء الأعلى في السعودية هو السنة النبوية حيث ورد في الحديث عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال (اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم لأهلا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا) وفي رواية (وأن يغدوا إلى مصلاهم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة بألفاظ متقاربة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/446. وعن أبي عمير بن أنس قال حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (غُمَّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً جاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والدارقطني وقال: إسناده حسن وأخرجه البيهقي وحسنه. بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني 9/226. وغير ذلك من الأحاديث والآثار. وبهذا يظهر لنا أن تراجع مجلس القضاء الأعلى في السعودية موافق للسنة النبوية مع أني كنت أتمنى أن لا يقعوا في هذا الخطأ وأن يتريثوا في إثبات شهر ذي الحجة.
إذا تقرر هذا فينبغي أن يعلم أن الفقهاء قد قرروا أن يوم عرفة هو اليوم الذي يقف الناس فيه بعرفة بغض النظر كان اليوم التاسع أو اليوم العاشر فلو وقفوا بعرفة خطأً يوم العاشر من ذي الحجة فحجهم صحيح باتفاق الفقهاء وكذا في العيد عيد الفطر وعيد الأضحى فهما اليومان اللذان يعيد فيهما المسلمون ولو كانا خطأً والخطأ في هذا الباب مغتفر
قال الخطيب الشربيني [قالوا: وليس يوم الفطر أول شوال مطلقاً بل يوم فطر الناس، وكذا يوم النحر يوم يضحي الناس، ويوم عرفة اليوم الذي يظهر لهم أنه يوم عرفة، سواء التاسع والعاشر، وذلك لخبر (الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس) رواه الترمذي وصححه. وفي رواية للشافعي (وعرفة يوم يعرفون) ] مغني المحتاج 1/595.
والحديث الذي ذكره الخطيب رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح ونصه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) قال الإمام الترمذي: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] سنن الترمذي 3/80.
وقال العلامة ابن القيم: [وقال الخطابي في معنى الحديث: إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوماً اجتهدوا، فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعاً وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض، لا شيء عليهم من وزر أو عنت، وكذلك في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة، ليس عليهم إعادة] حاشية ابن القيم على سنن أبي داود6/317. وروى البيهقي بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يوم عرفة اليوم الذي يُعرِّف الناس فيه] قال البيهقي: هذا مرسل جيد، أخرجه أبو داود في المراسيل] سنن البيهقي 5/176. وروى البيهقي أيضاً بإسناده عن ابن جريح قال: (قلت لعطاء: رجل حج أول ما حج فأخطأ الناس بيوم النحر أيجزىء عنه، قال: نعم إي لعمري إنها لتجزيء عنه. قال: وأحسبه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون. وأراه قال: وعرفة يوم تعرفون] سنن البيهقي 5/176.
وقال الشيخ ابن حزم الظاهري [وَمَنْ أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ لِذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ وَهُوَ يَظُنُّهُ التَّاسِعَ , وَوَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ اللَّيْلَةَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْعَاشِرَةَ: فَحَجُّهُ تَامٌّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , لأن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْهَا ; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عليه السلام الْوُقُوفَ بِهَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا أَجْزَأَهُ] المحلى 5/203-204. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير ليلة عرفة أجزأهم ذلك لما روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة الذي يعرف فيه الناس] المغني 3/456
وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي [وإن أخطأ الناس الوقوف فوقفوا في اليوم الثامن أو العاشر لم يجب عليهم القضاء] المهذب مع شرحه المجموع 8/292وقال الإمام النووي [وإن غلطوا بيوم واحد فوقفوا في اليوم العاشر من ذي الحجة أجزأهم وتم حجهم ولا قضاء] المجموع 8/292. ثم قال [فرع في مذاهب العلماء في الغلط في الوقوف: اتفقوا على أنهم إذا غلطوا فوقفوا في العاشر وهم جمع كثير على العادة أجزأهم] المجموع 8/292.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [… ولهذا قالوا: إذا أخطأ الناس كلهم فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم] مجموع الفتاوى 25/107
وقال الكاساني الحنفي [ولو اشتبه على الناس هلال ذي الحجة فوقفوا بعرفة بعد أن أكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوماً ثم شهد الشهود أنهم رأوا الهلال يوم كذا، وتبين أن ذلك اليوم كان يوم النحر فوقوفهم صحيح، وحجتهم تامة استحساناً ... إلخ] بدائع الصنائع 2/304.
وقال الخرشي المالكي [ ... وكذلك يجزيء إذا أخطأ في رؤية الهلال الجم أي جماعة أهل الموسم بان غم عليهم ليلة ثلاثين من القعدة فأكملوا العدة ووقفوا فوقع وقوفهم بعاشر من ذي الحجة] شرح الخرشي على مختصر خليل 2/321.
وأخيراً ينبغي أن يعلم أن المسلمين تبع لأهل الديار المقدسة في مواعيد الحج عرفة وعيد الأضحى قال الشيخ ابن العربي المالكي عند تفسير قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} سورة البقرة الاية 203: [ ... وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها] . أحكام القرآن 1/143. وقال الدكتور محمد سليمان الأشقر [إن المسلمين في جميع أقطار العالم الإسلامي قد أجمعوا إجماعاً عملياً منذ عشرات السنين على متابعة الحجاج في عيد الأضحى ولا يجوز لأي جهة أو مجموعة من الناس مخالفة هذا الإجماع] عن شبكة الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن رجوع مجلس القضاء الأعلى في السعودية عن بيانه الأول في هذه الحادثة موافق للسنة النبوية كما أن الخطأ في الوقوف بعرفة أو الخطأ في العيد لا يضر ويجب على المسلم أن يسير مع جماعة المسلمين للحديث المذكور سابقاً [الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون] .(10/6)
7 - الحج عن الغير
يقول السائل: سمعت أن بعض العلماء قد اشترطوا في النائب في الحج والعمرة أن يخرج من بلد المحجوج عنه ووالدتي امرأة كبيرة في السن ومريضة ولي زميل مقيم في السعودية وأريد أن أوكله في الحج عنها فما حكم ذلك؟ الجواب: ما ذكره السائل ورد في كتب الفقهاء واشترطوا في النائب بالحج والعمرة أن يخرج من بلد المحجوج عنه فقد قال بذلك الحنفية والمالكية والحنابلة وعند الشافعية يحرم النائب من ميقات بلد المحجوج عنه وقد اتفقوا على أنه يشترط ذلك إن اتسعت نفقة المحجوج عنه وأما إن ضاقت نفقة المحجوج عنه فيحج عنه من حيث أمكن انظر كتاب قضاء العبادات والنيابة فيها ص 361. وقد راجعت كتبهم ولكني لم أقف على دليل معتمد لذلك والراجح أنه يجوز إحرام النائب من أي ميقات ولا يشترط أن يخرج النائب من بلد المحجوج عنه وخاصة أن الظروف التي يمر بها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة صعبة جداً كما أن الحج قد أصبح حسب القرعة قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) سورة البقرة الآية 286. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم، وقد أفتت بجواز ذلك اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية كما ورد في فتاوى اللجنة الدائمة 11/80، 81، 83، 84.
وقال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في ترجيح هذا القول: [فالقول الراجح أنه لا يلزمه أن يقيم من يحج عنه من مكانه وله أن يقيم من يحج عنه من مكة ولا حرج عليه في ذلك] الشرح الممتع 7/40.
وخلاصة الأمر أنه يجوز إنابة من يحج عن الميت وكذا المعضوب من غير بلدهما ومن غير ميقاتهما وهذا فيه تيسير على الناس.(10/7)
8 - تمكن من الحج قبل الموت فلم يحج
يقول السائل: ما حكم من تمكن من الحج فلم يحج حتى مات؟ الجواب: قال الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} سورة آل عمران الآية 97. وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على وجوب الحج على المستطيع. وفي قوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) إشارة إلى أن الأصل في المسلم أنه لا يترك الحج مع القدرة عليه لأنه سبحانه وتعالى جعل مقابل الفرض الكفر فترك الحج ليس من شأن المسلم بل هو من شأن الكافر. انظر الموسوعة الفقهية 17/23. وقال القرطبي: [وروى قتادة عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية فذلك قوله تعالى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قلت – القرطبي - هذا خرج مخرج التلغيط … وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه] تفسير القرطبي 4/153-154
وينبغي على المسلم إن كان مستطيعاً للحج أن يبادر إليه لأن الحج واجب على الفور على قول جمهور أهل العلم. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا قال أبو حنيفة ومالك] المغني 3/212. وقد ورد في الحديث عن ابن عباس عن الفضل رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/147. وروي في الحديث عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? (مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَاللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُلٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِي الْحديث وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب 1/377
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين شاء: إما يهودياً وإما نصرانياً (رواه ابن عدي في الكامل وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الحافظ ابن حجر: رواه ابن عدي من حديث عبد الرحمن القُطامي عن أبي المهزوم وهما متروكان، التلخيص الحبير 2/223 وقال الحافظ ابن حجر: ومحمله على من استحل الترك] المصدر السابق. وعن عبد الرحمن بن غُنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً. ذكره ابن كثير وقال: هذا إسناد صحيح إلى عمر تفسير ابن كثير 2/97.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جِدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) رواه سعيد بن منصور في سننه.
إذا تقرر هذا فإن من استطاع الحج ولم يحج حتى مات فإنه يموت عاصياً على الراجح من أقوال أهل العلم لأنه قصر في فريضة من فرائض الإسلام ويجب الحج من ماله إن ترك مالاً ويخرج من ماله ما يحج به عنه قبل توزيع التركة على الورثة لأن دين الله أحق بالقضاء قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج، وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط. وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي] المغني 3/233. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن أختي قد نذرت أن تحج وإنها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كان عليها دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاقض الله فهو أحق بالقضاء) رواه البخاري وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق) رواه البخاري أيضاً.
وقد اعتبر العلامة ابن حجر المكي ترك الحج مع القدرة عليه إلى الموت من كبائر الذنوب فقال [الكبيرة الثامنة والأربعون بعد المائة: ترك الحج مع القدرة عليه إلى الموت … والحاصل أن الحديث ضعيف – أي حديث علي المتقدم - كما قاله النووي في شرح المهذب، نعم صح ذلك عن عمر رضي الله عنه ومن ثم قال (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين) ، ومثل ذلك الحديث لا يقال من قبل الرأي فيكون في حكم المرفوع ومن ثم أفتيت بأنه حديث صحيح، وقد رواه البيهقي أيضا عن عبد الله بن سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا) . وأخرج البزار: (الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام أي كلمته سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له) . وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: إن عبداً صححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يغدو عليَّ لمحروم) رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي وقال: قال علي بن المنذر: أخبرني بعض أصحابنا: كان حسن بن حي يعجبه هذا الحديث وبه يأخذ ويحب للرجل الموسر الصحيح أن لا يترك الحج خمس سنين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما مرَّ عنه: ما من أحد لم يحج ولم يؤد زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت، فقيل له: إنما يسأل الرجعة الكفار، وقال: وإن ذلك في كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق} : أي أؤدي الزكاة {وأكن من الصالحين} أي أحج. وجاء عن سعيد بن جبير، قال: مات لي جار موسر لم يحج فلم أصل عليه تنبيه: عدُّ ما ذكر كبيرة هو ما صرحوا به ودليله هذا الوعيد الشديد] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/456-457.
وخلاصة الأمر أنه ينبغي التعجيل في أداء الحج للمستطيع فإن مات قبل أن يحج فهو عاصٍ ويجب الحج عنه إن ترك مالاً.(10/8)