5 - هل حديث التنزل صحيح وهل الإجابة مضمونة في تلك الساعة
6 - ما رأي ابن حزم في الفتنة الأندلسية وانقسام البلاد إلى إمارات
7 - كيف تكون السلامة في المطعم والملبس والمأكل للذين يسكنون الأندلس في ظل تلك الفتنة
8 - هل تتفاضل الكبائر
وإذا استثنينا السؤال الخامس - وهو يدور حول مشكلة محددة - وجدنا الأسئلة الأخرى جميعاً بالغة الأهمية.
وفي الجواب عن السؤال الأول وضح ابن حزم رأيه في ماهية " الكبيرة " وما الذي يخفف من أثقال الذنوب وأن الله مواهب خمساً قد أتحفنا بها، لا يهلك على الله بعدها إلا هالك وهي:
1 - أن الله يغفر الصغائر باجتنابه الكبائر.
2 - أن التوبة الخالصة قبل الموت تسقط الكبائر نفسها.
3 - إذا ارتكب المرء الكبائر وزنت حسناته بسيئاته فإن رجحت حسناته غفر الله له.
4 - أن السيئة بمثلها والحسنة بعشرة أمثالها.
5 - أن هناك شفاعة ذخرها الله للمؤمنين يخرجهم بها بعد أن ينالوا شطراً من العذاب.
وكان من حق ابن حزم هنا أن يجيب عن السؤال الثامن وهو: هل تتفاضل الكبائر لأنه متصل بالموضوع الأول في أجوبته. وإنا لنرى مبلغ الأمل الذي بثه ابن حزم في النفوس عن طريق فهمه الواسع لروح الدين، وهو يجيب عن السؤال الأول.
فأما الجواب عن العمل الذي يختاره والسيرة التي يفضلها فقد كان جواباً بارعاً في دقته وشموله؛ ومنه ومن أجوبة أخرى في هذه الرسالة تتضح لنا الروح الاجتماعية التي أدركها ابن حزم من طبيعة الدين، فافضل الأعمال ثلاثة متدرجة، وكلها تضع الفرد موضع المسؤولية الاجتماعية: أولها وأهمها: عمل عالم يعلم الناس دينهم؛ وثانيها: الحاكم العادل الذي يشارك رعيته في كل عمل عملوه في ظل عدله وامن سلطانه؛ وثالثها: مجاهد في سبيل الله، وهكذا تتدرج مراتب العمل عند ابن حزم من أوسع حدوده الاجتماعية إلى أصغر المراتب الفردية حتى يتم من ذلك تسع مراتب متفاضلة(3/31)
متدرجة لا تحرم الإنسان أملاً، وتليها جميعاً مرتبة واحدة مؤكدة الهلاك وهي حال الكافر فحسب. ومرة أخرى يتبين لنا اخذ ابن حزم بالرجاء وفهمه الدقيق لطبيعة موقف الفرد في الجماعة أو بعيداً عنها.
وهذا الفهم للنواحي الاجتماعية هو خير ما يميز هذه الرسالة، ومن خلال هذه الأجوبة كتب ابن حزم صفحة هامة في التاريخ الاجتماعي الاقتصادي للأندلس بعيد الفتنة البربرية، ونحن مدينون له بمعرفة أن الأندلس لم تخمس ولم تقسم عند الفتح، لكن نفذ الحكم فيها بأن لكل يد ما أخذت، ووقعت في البلاد غلبة إثر غلبة، دخلها أولاً الأفارقة فحازوا ما حازوه ثم الشاميون أصحاب بلج فاخرجوا اكثر العرب والبربر المعروفين بالبلديين عما كان بأيديهم ثم كانت الفتنة البربرية فاخذ البربر يستولون على ما بأيدي السكان ويشنون الغارات على المواشي وثمار الزيتون.
ويرى ابن حزم أن كل مدبر مدينة أو حصن في الأندلس فهو محارب لله تعالى ساع في الفساد لأنه يسمح بالغارة على الرعية ويبيح للجند قطع الطريق ويضرب المكوس والجزية على رقاب المسلمين ويسلط اليهود عليهم ليجمعوها منهم، وتسمى هذه الجزية " القطيع " وتؤدى بالعنف ظلماً وعدواناً لدفع رواتب الجند، فيعامل الجند بهذه الدراهم والدنانير التجار والصناع فتصبح في حرمتها كالحيات والعقارب والأفاعي بعد أن كانت حلالاً مستخرجاً من وادي لا ردة، ولا سلامة إلا بالإقرار بحرمتها والاستغفار من ذلك إذ كان التورع عن استعمالها أمراً غير عملي.
ثم يكون القطيع أيضاً من الغنم والبقر والدواب وعلى الأسواق وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين، وهذه الدواب تباع للذبح وللنسل. فإذا امتنع المرء عن أكل اللحم لم يمتنع عن شراء الدواب للنسل والحرث، وهي نار كلها لأنها بدل من المثمن، ثم ينصرف ثمنها في أنواع التجارات.
ثم إن مرتبات الجند تتحصل أيضاً من الجزية على الصابون والملح والدقيق والزيت والجبن، وهي جزية غير مشروعة يدفعها المسلمون وتجري في التعامل " وقد علمتم ضيق الأمر في كل ما يأتي من البلاد التي غلب عليها البربر من الزيت والملح وغن كل ذلك غصب من أهله، وكذلك الكتان أكثره من سهم صنهاجة الآخذين النصف والثلث ممن نزلوا عليه من أهل القرى، ولا سلامة من أكل الحرام والتعامل به في كل ذلك، ولكن ليفعل المرء ما هو ممكن وهو أن يجتنب ما يعرف انه غصب معرفة يقين، ثم يعذر(3/32)
فيما جهله ".
وتستعلن ثورة ابن حزم على هذا الوضع السيئ وعلى الحكام الذين يمكنون للذميين من المسلمين، ويسلمون الحصون للروم دون قتال، على تساهلهم في شؤون المسلمين والاهتمام بمصالح أنفسهم دون مصالح الرعية، ومع ذلك لا نراه ينصح بالخروج عن طاعتهم، وهو نفسه في حيرة من الامر، لانه يعتقد أن اجتماع كل من ينكر بقلبه يؤلف قوة لا تغلب فكيف لا يتم هذا والمسألة أصعب من أن يدعو فيها إلى إصلاح شامل بالقوة ولذلك تراه ينصح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتقية لمن عجز عن ذلك، ولكنه شديد الإنكار على من يعين أولئك الظلمة أو يزين لهم أفعالهم، فإذا اضطر المرء للدخول على بعضهم لقضاء الحقوق فيلفعل، وليعظ إن وجد للوعظ مجالاً.
أما العلوم وما يجب طلبه منها فقد وضحه ابن حزم في رسالة في مراتب العلوم بإسهاب وأورد شيئاً مما قاله هنالك في هذه الرسالة بوجه الإيجاز، وخلاصة رأيه أن طلب علم القراءات والنحو واللغة فرض كفاية، وأن طلب العلم إجمالاً لابد أن يكون لوجه الله تعالى غير مخلوط بشيء من طلب الجاه والذكر في هذه الدنيا، والعلم أضعف السبل إلى كسب المال، وغيره من الطرق أقدر على كسب الدنيا لمن أرادها.
وعرج ابن حزم في آخر الرسالة على ذكر التوبة فقسمها أربعة أقسام:
1 - التوبة من ذنوب بين العبد وربه كالزنا، وشرب الخمر، وهذه تتم بالاستغفار والقلاع والندم.
2 - التوبة من تعطيل الفرائض عمداً وتتم بالندم والإكثار من النوافل وفعل الخير. ولا قضاء لما فات عند ابن حزم في صوم أو صلاة، أما الزكاة والكفارات فليؤد ما فاته منها.
3 - التوبة لمن امتحن بمظالم العباد وضرب أبشارهم وقذف أعراضهم وإخافتهم ظلماً وتتم بالخروج عن المال المأخوذ ظلماً ورده إلى أصحابه أو إلى ورثتهم أو إلى إمام المسلمين إن كان لهم إمام عدل.
4 - توبة من امتحن بقتل النفس، وهو أصعب الذنوب، وتتم بان يمكن ولي المقتول من دم القاتل، أو ليلزم الجهاد وليتعرض للشهادة جهده.(3/33)
- 6 -
رسالة البيان عن حقيقة الإيمان
كان ابن الحوات أحد المعجبين بابن حزم حتى إنه ليقول في رسالته إليه: " إنه لولا خوف المشغبين وما ذهينا به من ترؤس الجاهلين لكتبت أقوالك ومذاهبك وبثثتها في العالم وناديت عليها كما ينادى على السلع "، وكان قريباً في الطريقة من ابن حزم: قوة نظر وذكاء وسرعة جواب واستعمالاً للبرهان، أي أن فيه ما يهيئه لان يكون " متكلماً "، ولكن بين الصديقين فوارق أساسية في الطبيعة وعناصر الشخصية. فابن الحوات يخاف المشغبين والحكام الجاهلين، ويحاول أن يقنع صديقه بألا يعرض نفسه للمحنة، ويلمح إليه أنه - أي ابن الحوات - يستعمل ضروباً من الساسة في معاملة الناس، وكأنه يحضه على اتباع طريقته، ولكن ابن حزم يعتقد أن الخوف من المشغبين والمترئسين الجاهلين لا يكف أذاهم، ولذلك فهو يؤثر ان يصدع بالحق دون خشية، وهو لا يخاف الناس " فقد سبق القضاء بما هو كائن فلا ترده حيلة محتال "، وعدم التعرض للمحنة في سبيل الحق ينطبق عليه مثل يردده العوام: " فلان يحب الشهادة والرجوع إلى البيت " فقد جرب هو مواجهة الأخطار حتى لقد انتصر له ناس يخالفونه في مقالته، اليس هذا حماية من الله عز وجل الذي وعد بنصر من ينصره لقد قام يذب عن ابن حزم حين كثرت عليه الهجمات القاضي عبد الرحمن بن بشر وابن عبد الرءوف صاحب الاحكام وحكم بن منذر بن سعيد ويونس بن عبد الله بن مغيث وأحمد بن عباس واحمد بن رشيق، فلماذا يخاف نعم إن السياسة قد تكون ناجحة، ولكن يبدو أنها لم تكن في طبعه، ولهذا فهو يستحسنها حين تكون ضرباً من الموعظة الحسنة، ولكنه لا يستطيع أن يتحول عن طريقته في النقد المواجه إلى المداراة. ويتخلل هذه التلميحات التوجيهية من صديقه ابن الحوات قضيتان أشبه بالنادرتين: في إحداهما يعتب ابن الحوات على ابن حزم انه نمي إليه بأنه (أي ابن حزم) قد نسب إلى صديقه القول بأن لا إدام إلا الخل، وفي الثانية ابن حزم بأنه سريع إلى إفشاء ما يقوله مؤيدوه بل قد يقولهم ما لم يقولوه؛ ويتنصل ابن حزم من هاتين التهمتين ضاحكاً من الثانية متبرئاً من الأولى لأنه لا يستجيز الكذب على أحد ولا يستحل الخروج على المنطق في مثل ذلك القول، لأنه يعلم تمام العلم أن الادام أنواع كثيرة.
تلك مقدمة أشبه بالحديث الذاتي، ولكن رسالة البيان عن حقيقة الإيمان إنما(3/34)
أثارتها قضية أخرى كانت قد دونت في مدرجة ملحقة برسالة ابن الحوات، وهذه القضية هي: هل يتم إيمان المرء دون استدلال ذلك أن ابن الحوات مثل ابن حزم ينكر التقليد، ومن أنكر التقليد توصل بسهولة إلى القول بان العقل الإنساني قادر على معرفة الله، خصوماً وان الآيات التي تحض على استعمال النظر كثيرة، وخصوماً وان ابن حزم نفسه - كما رأينا في رسالة سابقة - يستعمل الاستدلال طريقاً للإيمان.
وجواب ابن حزم عن هذه القضية واضح صريح: نعم إنه يعرف علم الكلام وطرائق أهله في الاستدلال، فهو لا يجهل ذلك ولا يمكن أن يتهم بأنه يعادي شيئاً لجهله به. وأنه يستعمل الاستدلال ويحسن استعماله حين يشاء ولكنه لا يراه فرضاً على الناس. بل المفروض على الناس الائتمار لما جاء به الوحي، والآيات الواردة في القرآن حضت على النظر، وثمة فرق شاسع بين الحض والأمر.
وهو ينكر التقليد وينهى عنه، ولكن لو أن إنساناً اهتدى إلى الحق عن طريق التقليد لكان مصيباً في الاهتداء إلى الحق مذموماً في المنهج الذي اختاره؛ فالتقليد مذموم لكن إن أدى إلى باطل فقد أوقع صاحبه في الكفر أو الفسق، وإن أدى إلى حق فقد جاء على صاحبه بالتوفيق، ولكنه لم يبرئه من الذم.
والفرق بينه وبين ابن الحوات أن هذا الثاني يريد أن يعمم رفض التقليد بحيث يتناول أيضاً عدم تقليد الرسول، احتكاماً إلى العقل على طريقة المعتزلة والأشعرية، بينا يرى ابن حزم ان التقليد هو تقليد كل إنسان دون الرسول، فأما الأخذ بما جاء به الرسول فهو ائتمار لا تقليد. كذلك فإن ابن الحوات يرى أن الرسول لا تجب طاعته إلا بعد معرفة الله، فمعرفة الله مقدمة على معرفة رسله، أما ابن حزم فيرى أن العقل الإنساني لم يعط القدرة على ذلك، وأنه لا وجوب لشيء إلا إذا دعا إليه الرسل، ومعرفة الله قد وجبت على الناس بدعاء الرسل لا بقدرة العقل. فالعقل لا يحرم شيئاً ولا يوجبه وإنما فيه معرفة الأشياء على ما هي عليه. العقل قادر على التلقي والتفسير ولكنه لا يوجب حرمة لحم الخنزير أو أن تكون صلاة الظهر أربع ركعات.
كل ما تطلبه الدين من الناس هو الإقرار بدعوة الإسلام وتحقيقها في القلوب، ولكنهم لم يكلفوا المعرفة البرهانية، ومعظم الأمة لا يعرف أن يتهجى كلمة " استدلال " ومع ذلك فغن الواحد فيهم يتحمل العذاب في سبيل دينه، ويستحل دم أبيه إذا كفر.
وبعد هذا الجدل النظري يعود ابن حزم بصديقه إلى الواقع العملي: فيتدرج به في(3/35)
الخطوات التالية:
1 - هل كان إسلام أبي بكر وخديجة وعائشة وعلي وبلال قائماً على طلب معجزة
2 - هل كان إسلام من دعي إلى الإسلام من خارج مكة كالنجاشي وذي الكلاع والمبايعين من الأنصار قائماً على طلب معجزة
3 - هل بدأ ابن الحوات نفسه بالاستدلال على معرفة الله حين البلوغ، وإذا بدأ هذا الاستدلال بعد سنوات من بلوغه الحلم فهل كان خلال تلك السنوات مؤمناً أو كافراً
وإذن فهو ينبه صديقه إلى أن لا يتمادى في الانسياق وراء المتكلمين، فهم أجسر الناس على عظيمة تقشعر منها الجلود، وهم سبب المنازعات بين المسلمين وتكفير بعضهم بعضاً.
وهكذا وجد ابن حزم من " يزايد " عليه في إنكار التقليد إلى حد التحريم، ويتجاوزه إلى الاحتكام للعقل، متأثراً بطرائق المتكلمين دون أن يكون كذلك، ولكنه قد أوصل أحد المبادئ التي يدعو لها ابن حزم إلى نهايته المنطقية.
7، - 8
رسالة في الإمامة، ورسالة في حكم من قال إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين
تتناول الرسالة الأولى أحوال إمام يصلي خلفه الناس دون أن يعرفوا مذهبه، وهذا الإمام يجيز الوضوء بالنبيذ، والغسل من حوض الحمام وهو راكد، ويمسح في الوضوء بطرف رأسه، ويبسمل في الفاتحة ويجعل البسملة آية. إلى غير ذلك من أحواله؛ وتدل الأجوبة على أن ابن حزم لا يرى في أكثر هذه الأحوال مدعاة لعدم الصلاة خلف ذلك الإمام، ذلك لان كل ما يؤاخذه به ذلك السائل قد فعله جماعة من كبار الصحابة والتابعين وليس السائل بأفضل منهم.
ولكن الرسالة لا تتوقف عند حد الإمامة، وإنما تتناول أسئلة عن السلم وعن تفرق الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة؛ ويدل آخر سؤال على ان السائل مالكي المذهب فهو يطلق على مالك لقب " أمير المسلمين في العلم " فيرد ابن حزم بان ليس للمسلمين أمير طاعته مفترضة في الدين بعد الرسول ويعد عدداً كبيراً من الأئمة لم يكونوا يقلون عن مالك اطلاعاً وتقوى، ويحذر سائله من الإفراط في العصبية لمالك، فقد أفرط قوم في(3/36)
علي - وهو أعلى من مالك بدرجات كثيرة - فضلوا.
وأما الرسالة الثانية (وهي الثامنة بحسب ترتيب هذا الجزء) فإنها لا تقف عند مدلول العنوان، إذ ليس العنوان إلا سؤالاً عن المشكلة التي تناولت الفقرات الخمس الأولى، فإذا انتقلنا إلى الفقرة التالية وجدنا سؤالاً عن الذنوب التي تاب عنها المرء هل تبقى مكتوبة في صحيفته، وأسئلة أخرى عن من حلف مكرهاً هل تجب عليه كفارة، وعن المأسور في دار الحرب هل تلزمه العهود التي قطعها للعدو على نفسه وغير ذلك. وتتخلل الرسالة خرافات يستنكرها ابن حزم، وروح شكية يستعيذ بالله منها، وهي على الجملة رسالة متعددة الأغراض لا تضبط بموضوعات كبرى.(3/37)
فراغ(3/38)
1 - رسالة في الرد على ابن النغريلة اليهودي.(3/39)
فراغ(3/40)
- 1 -
[47 - أب] رد أبي محمد بن حزم على ابن النغريلة اليهودي لعنه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله
قال أبو محمد علي بن احمد بن حزم رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
1 - اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً إلى انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائهم عليهم، وعن حياطة ملتهم [بها] عزوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة (1) والذمة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتموا بذلك ضعف همنا، لأنهم مشاركون لنا فيما يلزم الجميع من الامتعاض للديانة الزهراء والحمية للملة الغراء، ثم هم متردون بما يؤول إليه إهمال هذا الحال من فساد سياستهم والقدح في رياستهم، فللأسباب أسباب، وللمداخل إلى البلاء أبواب، والله اعلم بالصواب. وقد قال علي بن العباس (2) :
لا تحقرن سبيباً ... كم جر أمراً سبيب وقال أبو نصر ابن نباتة (3) :
__________
(1) ص: العلة.
(2) هو ابن الرومي، والبيت في ديوانه: 183 (اختيار كامل كيلاني) والرواية فيه: كم جر نفعاً سيبب؛ وانظر أيضاً ديوانه الكامل 1: 146.
(3) أبو نصر عبد العزيز بن محمد بن نباتة السعدي (317 - 405) من مقدمي شعراء عصره؛ انظر ترجمته في اليتيمة 2: 380 وابن خلكان 3: 190 وتاريخ بغداد 10: 466؛ وقد نشر ديوانه (بغداد 1977) بتحقيق عبد الأمير الطائي والبيتان فيه (2: 703) وفي اليتيمة 2/ 395 والإعجاز والإيجاز: 235 وحماسة الظرفاء: 201 ونهاية الأرب 3: 108.(3/41)
فلا تحقرن عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن السيوف (1) تجذ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر لاسيما إن كان العدو من عصابة لا تحسن إلا الخبث مع مهانة الظاهر فيأنس المغتر إلى الضعف البادي، وتحت ذلك الختل والكيد والمكر، كاليهود الذين لا يحسنون شيئاً من الحيل (2) ولا آتاهم الله شيئاً من أسباب القوة وإنما شأنهم (3) الغش [148/ أ] والتخابث والسرقة، على التطاول والخضوع، مع شدة العداوة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
2 - وبعد فإن بعض من تقلى قلبه (4) للعداوة للإسلام وأهله وذوبت كبده ببغضه الرسول صلى الله عليه وسلم من متدهرة الزنادقة المستسرين بأذل الملل وأرذل النحل من اليهود التي استمرت لعنة الله على المرتسمين بها، واستقر غضبه عز وجل [على] المنتمين إليها، أطلق الأشر لسانه، وأرخى البطر عنانه، واستشمخت لكثرة الأموال لديه نفسه المهينة، وأطغى توافر (5) الذهب والفضة عنده همته الحقيرة، فألف كتاباً قصد فيه، بزعمه، إلى إبانة تناقض كلام الله عز وجل في القرآن اغتراراً (6) بالله أولاً، ثم بملك ضعفة (7) ثانياً، واستخفافاً بأهل الدين بدءاً، ثم بأهل الرياسة في مجانة (8) عوداً؛ فلما اتصل بي أمر هذا اللعين لم أزل باحثاً عن ذلك الكتاب الخسيس لأقوم فيه بما أقدرني الله عز وجل عليه من نصر دينه بلساني وفهمي، والذب عن ملته ببياني وعلمي، إذ قد عدمها، والمشكى إلى الله عز وجل ووجود الأعوان والأنصار على توفية هذا الخسيس الزنديق المستبطن مذهب الدهرية في باطنه، المكفن بتابوت اليهودية في ظاهره، حقه الواجب عليه من سفك الدماء واستيفاء ماله وسبي نسائه وولده، لتقدمه طوره وخلعه الصغار عن عنقه، وبراءته من
__________
(1) اليتيمة: فإن الحسام يجز؛ وفي ص: تحد.
(2) الحيل: كذا، ولعله: الحول.
(3) ص: ياتهم.
(4) ص: فعلى ولبه.
(5) ص: نوافر.
(6) ص: اعتزازاً.
(7) ص: يملك ضعفه.
(8) ص: مكانة.(3/42)
الذمة الحاقنة (1) دمه، المانعة من ماله وأهله، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. فأظفرني القدر بنسخة رد فيها عليه رجل من المسلمين، فانتسخت الفصول التي ذكرها ذلك الراد عن هذا الرذل الجاهل، وبادرت إلى بطلان ظنونه الفاسدة بحول الله تعالى وقوته؛ ولعمري عن اعتراضه الذي اعترض به ليدل على ضيق باعه في العلم، وقلة اتساعه في الفهم على ما عهدناه عليه [148 ب] قديماً، فإننا ندريه عارياً إلا من المخرقة، سليماً إلا من الكذب، صفراً إلا من البهت؛ وهذه عقوبة الله تعالى المعجلة لمن سلك مسلك هذا الزنديق اللعين مقدمة، أما ما أعد الله له ولأمثاله من الخلود في نار جهنم [فهو] المقر لعيون أولياء الله عز وجل فيه وفي ضربائه، وبالله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
3 - الفصل الأول: فكان أول ما اعترض به هذا الزنديق المستسر باليهودية، على القرآن بزعمه أن ذكر [قول] لله عز وجل: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} (النساء: 78) قال هذا المائق (2) الجاهل: فأنكر في هذه الآية تقسيم القائلين بأن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فمن عند محمد، وأخبر أن كل ذلك من عند الله؛ قال: ثم قال في آخر هذه الآية: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء: 79) قال هذا الزنديق الجاهل: فعاد مصوباً لقولهم ومضاداً لما قدم في أول الآية:
4 - قال أبو محمد بن حزم: لو كان لهذا الجاهل الوقاح أقل بسطة أو أدنى حظ من التمييز لم يتعرض بهذا الاعتراض الساقط الضعيف، والآية المذكورة مكتفية بظاهرها عن تكلف تاويل، مستغنية ببادي ألفاظها عن تطلب وجه لتأليفها، ولكن جهله أعمى بصيرته وطمس إدراكه. وبيان ذلك أن الكفار يقولون: إن الحسنات الواصلة إليهم هي من عند الله عز وجل وان السيئات المصيبة لهم (3) في دنياهم هي من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، وبين وجه ورود حسنات الدنيا وسيئاتها على كل من فيها بان الحسنات السارة هي من عند الله تعالى بفضله على الناس، وان كل سيئة يصيب الله تعالى بها إنساناً في دنياه فمن [149/ أ] قبل نفس المصاب بها بما يجني على نفسه من تقصيره فيما يلزمه من أداء حق الله تعالى الذي لا
__________
(1) ص: الخافتة.
(2) ص: المالق.
(3) ص: إليهم.(3/43)
يقوم به أحد، وكل ذلك من عند الله تعالى جملة، فأحد الوجهين (1) وهو: الحسنات فضل من الله تعالى مجرد لم يستحقه أحد على الله تعالى إلا حتى يفضل به عز وجل من احسن إليه من عباده، والوجه الثاني وهو السيئات تأديب من الله تعالى أوجبه على المصاب بها تقصيره عما يلزمه من واجبات ربه تعالى.
5 - ولا يستوحشن (2) مستوحش فيقول: كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بهذا الخطاب مقصراً في أداء واجب ربه تعالى فليعلم أن التقصير ليس يكون معصية في كل وقت، وإنما يكون النبي عليه السلام منزهاً عن تعمد المعصية صغيرها وكبيرها. وأما تأدية شكر الله تعالى وجميع حقوقه على عباده فهذا ما لا يستوفيه ملك ولا نبي فكيف من دونهما، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله " فقيل له: ولا أنت يا رسول الله فقال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " (3) ، أو كما قال عليه السلام.
6 - فإنما أنكر الله تعالى على الكفار في الآية المتلوة آنفاً قولهم للنبي عليه السلام: عن ما أصابهم من سيئة فهي منك يا محمد، وأخبر عز وجل أنها من عند أنفسهم، وأن كل ذلك من عند الله تعالى؛ فلم يفرق المجنون بين ما أوجبه الله تعالى من أن كل من أصابته سيئة فمن نفسه، وبين ما ذكر الله تعالى من قول الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن ما أصابهم من سيئة فمنك يا محمد. فأي ظلم يكون اعظم من ظلم من جهل أن يفرق بين معنيي هذين اللفظين
7 - وإنما كان الكفار يتطيرون بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما يرد عليهم من نكبة تعرض لهم (4) بكفرهم وخلافهم له عليه [149 ب] السلام، كما تطير إخوانهم قبلهم بموسى صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى حاكياً عنهم قولهم: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله} (الأعراف: 131) . وما أرى هذا الزنديق الأنوك إذ (5) اعترض بهذا
__________
(1) ص: إلا لو أحد الوجهين.
(2) ص: يستوحش.
(3) ورد الحديث في البخاري (رقاق: 18) ومسلم (منافقون: 71 - 73) وابن ماجة (زهد: 20) وفي مواضع كثيرة من مسند أحمد، انظر مثلاً 2: 235، 256، 264، 319
(4) ص: تعرضهم.
(5) ص: إذا.(3/44)
الاعتراض كان إلا سكران الخمر، وسكر عجب الصغير إذا كبر، والخسيس إذا أشر، والذليل الجائع إذا عز وشبع، والسفلي إذا أمر وشط، والكلب إذا دلل ونشط، فإن لهذه المعاني مسالك خفية (1) في إفساد الأخلاق التي تقرب من الاعتدال. وكيف بخلق سوء متكرر في الخساسة والهجنة والرذالة والنذالة واللعنة والمهانة
ولله در القائل (2) :
[إذا أنت أكرمت الكريم ملكته] ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى وهذا الذي قلنا هو المفهوم من نص الآية دون تزيد ولا انتقاص ولا تبديل لفظ، والحمد لله رب العالمين كثيراً.
8 - ولكن لو تذكر هذا المائق الجاهل ما يقرأونه في كفرهم البدل وإفكهم المحرف بأخرق تحريف وأنتن معان - حاشا ما خذلهم الله تعالى في تركه على وجهه ليبدي فضائحهم، فأبقوه تخبيثاً من الله تعالى لهم ليكون حجة عليهم، من ذكر عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم - في كتابهم الذي يسمونه: " التوراة " إذ يقولون فيه في السفر الرابع عن موسى صلى الله عليه وسلم انه قال مخاطبا لله عز وجل (3) : " يا رب كما حلفت قائلاً: الرب وديع ذو حن عظيم بعفو عن الذنب والسيئة وليس ينسى شيئاً من المآثم، الذي يعاقب بذنب الوالد الولد في الدرجة الثانية والرابعة ". ويقرأون فيه أيضاً في أول السفر الأول (4) : " إن قاين ابن آدم عاقبه الله في السابع من ولده " ثم يقرأون في الكتاب المذكور نفسه في السفر [150 و] الخامس منه: " إن الله تبارك وتعالى قال لموسى: لا تقتل الآباء لأجل الأبناء، ولا الأبناء لأجل الآباء، ألا كل واحد يقتل بذنبه " - فلو تفكر هذا الجاهل المائق وعظيم التناقض لشغله عظيم مصابه عن أن يظن بقول الله تعالى الذي هو الحق الواضح الواحد غير المختلف: {قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً* ما أصابك من حسنة
__________
(1) ص: خفيفة.
(2) هو المتنبي، والبيتان في ديوانه: 361.
(3) عدد 14: 17 - 18 " فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلاً الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة لكنه لا يبرئ بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع ".
(4) ان قاين ولد آدم الخ: ليس هذا كذلك في (ع) التكوين 4: 23 وفيه: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه. وقد أخبرني الدكتور عبد المجيد بأن النص العبري يعني سبعة أضعاف حيثما ورد في أسفار العهد القديم.(3/45)
فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وهذا قد بيناه كما مر آنفاً انه لا مجاز للتناقض فيه أصلاً، وإنما التناقض المحض ما نسبوا إلى موسى عليه السلام من أنه قدر بربه أنه يغفر الذنب لفاعله، ويعاقب بذلك الذنب من كان من ولد المذنب في الدرجة الرابعة، ثم يقول في مكان آخر: أن لا تقتل الأبناء لأجل الآباء ولا الآباء لأجل الأبناء، هذا مع إقرارهم بأنه ليس في التوراة ذكر عذاب ولا جزاء بعد الموت أصلاً، وإنما فيها الجزاء بالثواب والعقاب في الدنيا فقط، فهذا هو التناقض المجرد الذي لا خفاء به، وبالله تعالى التوفيق.
9 - الفصل الثاني: وكان مما اعتراض به أيضاً ان ذكر قول الله تعالى: {أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها دماءها ومرعاها والجبال أرساها} ، (النازعات: 27 - 32) قال: فذكر في هذه الآية [أن] دحو الأرض وإخراج الماء والمرعى منها كان بعد رفع سمك السماء وبعد بنائها وتسويتها وإحكام ليلها ونهارها، ثم قال في آية أخرى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو بكل شيء عظيم} (البقرة: 29) قال: فذكر [في] هذه الآية ضد ما في الأولى، وذلك أن هذه التسوية للسماء كانت بعد خلق ما في الأرض.
10 - قال أبو محمد: والقول في هذا كالقول [150 ب] في التي قبلها ولا فرق وهو: ان بظاهر هاتين الآيتين يكتفى عن تطلب تأويل أو تكلف مخرج وهو: انه تعالى ذكر في الآية التي تلونا أولاً أنه عز وجل بنى السماء ورفع سمكها وأحكم الدور الذي به يظهر الليل والنهار، وأنه بعد ذلك أخرج ماء الأرض ومرعاها وأرسى الجبال فيها. وذكر تعالى في الآية الأخرى ان تسويته تعالى السموات سبعاً وتفريقه بين تلك الطرائق (1) السبع التي هي مدار الكواكب المتحيرة والقمر والشمس كان بعد خلقه كل ما في الأرض. فلم يفرق هذا الجاهل المائق بين قوله تعالى: إنه سوى السماء ورفع سمكها وبين قوله تعالى: إنه سواهن سبع سموات. فهل بعد هذا العمى عمى، وبعد هذا الجهل جهل
11 - وإنما أخبر تعالى ان تسوية السماء جملة واختراعها كان قبل دحو الأرض، وأن دحوه الأرض كان قبل أن تقسم السماء على طرائق الكواكب السبع، فلاح أن
__________
(1) ص: الطرائف.(3/46)
الآيتين متفقتان يصدق بعضهما بعضاً. ولكن ليذكر هذا الجاهل على ما يفتتحون به كذبهم المفترى وبهتانهم المختلق الذي يسمونه " التوراة " إذ يفترون (1) ان الله تعالى خلق إنساناً مثله، ولم يكن انفرد عنه تعالى إلا بشيئين: علم الشر والخير، ودوام الخلود والحياة، وأن آدم صلوات الله وسلامه عليه أكل من الشجرة التي فيها علم الخير والشر، فلما خالفه عظم ذلك عليه؛ قال: هذا آدم أكل من الشجرة التي بها يكون علم الخير والشر فساوانا في ذلك، فإن أكل من شجرة الحياة حصل على الخلد فكان مثلنا لا فضل لنا فيه، فجعل يخرجه من الجنة وفي يده سيف يذود به شجرة الحياة (2) . حتى لقد انسخف (3) جماعة من نوكاهم إلى ان قالوا: إن لآدم كان إنساناً من نوع الإنس الذي نحن منه، حصل على [151/ أ] أكل شجرة الحياة فزاد (4) بهاؤه وحصل له الخلد. فلو أن (5) هذا الخسيس الجاهل تبراً إلى الله تعالى من المظاهرة لهذا الوضع وهذا الاعتقاد الساقط لكان أحظى (6) له. ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يجعل له الخزي والمهانة، ويؤجل له الخلود بين أطباق النيران المعدة له ولأمثاله ولأشباهه والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
12 - الفصل الثالث (7) : وكان مما اعترض به أيضاً ان ذكر قوله عز وجل {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى منتهى قوله في الآية نفسها {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} (فصلت: 10) قال: فذكر في هذه الآية خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، فهذه ستة أيام، ثم ذكر قوله تعالى {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} (فصلت:11) إلى منتهى قوله تعالى {فقضاهن سبع سموات في يومين} (فصلت: 12) . ثم ذكر قوله تعالى {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} (ق: 38) .
13 - قال أبو محمد: والقول في هذه الآيات كالقول في التي مضى فيها الكلام
__________
(1) ص: يقرون.
(2) انظر سفر التكوين 2: 9، 3: 22.
(3) ص: إذا انكسف.
(4) ص: فدار.
(5) ص: قالوا إن.
(6) ص: أخطأ.
(7) ص: السادس.(3/47)
ولا فرق، وهي أنها تكتفي بظاهرها عن تكلف تأويل لها، وأنه لا يظن في شيء من هذا كله اختلافاً (1) إلا عديم العقل سليب التمييز مطموس عين القلب ظليم الجهل، لأنه تعالى إنما ذكر خلق الجميع من السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فسر لنا تعالى تلك الأيام الستة، فمنها يومان خلق فيهما (2) الأرض ومنها أربعة أيام قدر في الأرض أقواتها، وأنه تعالى قضى السموات سبعاً في يومين، وقد صح بما تلونا قبل أن تسويته تعالى السموات سبعاً كان بعد خلقه لما في الأرض جميعاً، فاليومان اللذان خلق [الله] تعالى فيهما السموات سبعاً هما اليومان الآخران من الأربعة [151 ب] الأيام التي قدر فيها أقوات الأرض لأن التقدير هو غير الخلق، لان الخلق هو الاختراع والإبداع وإخراج الشيء من ليس إلى أيس بمعنى من لا شيء إلى ان يكون شيئاً موجوداً. وأما التقدير فهو الترتيب وإحكام الأشياء الموجودات بعد إيجادها، وهذه معان لا يعلمها إلا من أعز الله تعالى نفسه من ذوي الهمم الرفيعة، المترفعة عن مهانة الإساءة ودناءة المعايش، القاصدة (3) إلى طلب المعاني الفاضلة (4) والحقائق المؤدية إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدخول في ظل الإسلام والملة الحنيفية المصحبة من الله تعالى السعد في الدنيا والنصرة والعزة، المتكفل لها في الآخرة بالفوز بالجنة والقبول والرضوان والريحان، والحمد لله رب العالمين الذي جعلنا من أهلها، وإياه تعالى نسأل ان يميتنا عليها حتى نلقاه وهو راض عنا، آمين. وأما من لم يقطع دهره إلا بالسرقة ولا أفنى عمره إلا بالخيانة والغش فبعيد عن إدراك هذه المعاني وفهمها.
14 - وليت شعري أين كان هذا الخسيس المائق إذ اعترض بهذا الاعتراض على هذه الأنوار الساطعة والحقائق الظاهرة عن التفكر فيما يقرأونه في هذيانهم المخترع وزورهم المفتعل الذي يسمونه " التوراة " إذ يقولون (5) : إن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع وهل تكون الراحة إلا لتعب ونصب قد خارت قواه وضعفت طبيعته فمثل هذا وشبههه من دينه الخسيس الذي يستسر (6) به لو تهمم
__________
(1) ص: اختلافاً.
(2) ص: فيها.
(3) القاصدة: غير معجمة في ص.
(4) ص: الفاصلة.
(5) انظر سفر التكوين 2: 1.
(6) ص: يتسر.(3/48)
بالفكرة فيه ثم بادر إلى التوبة منه والدخول في دين الله تعالى الذي لا دين له سواه، الذي به بدا الملك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين [152 و] .
15 - الفصل الرابع: ثم ذكر الخسيس الجاهل قول الله تعالى {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 35) ثم قال في آية أخرى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل: 111) قال: وهذا تناقض عظيم.
16 - قال أبو محمد: قد قال بعض العلماء المتقدمين: إن المنع من النطق المذكور في الآية إنما هو في بعض مواقف يوم القيامة، وان الجدال المذكور في الآية الأخرى هو موقف آخر مما يتلو ذلك اليوم نفسه، وهذا قول صحيح يبينه قول الله تعالى قبل الآية المذكورة، إذ يقول عز وجل: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون* انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب* إنها ترمي بشرر كالقصر* كأنه جمالات (1) صفر* ويل يومئذ للمكذبين* هذا يوم لا ينطلقون* ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 29 - 36) فيه بعذر. هكذا نص الآيات متتابعات، لا فصل بينها (2) ، فصح أن اليوم الذي لا ينطقون فيه بعذر إنما هو يوم إدخالهم النار، وهو أول اليوم التالي ليوم القيامة الذي هو يوم الحساب، وهو أيضاً (3) يوم جدال كل نفس عن نفسها؛ وهذا بيان لا إشكال فيه أصلاً.
17 - وها هنا وجه آخر وهو اتباع ظاهر الآيتين دون تكلف تأويل إلا أن يأتي بالتأويل نص آخر أو إجماع من جميع الأمة كلها ما بين الأشبونة والقندهار والشحر وأرمينية والمولتان (4) . فنقول وبالله نستعين: عن هاتين الآيتين بينتان لا اختلاف بينهما أصلاً، وإن النطق المنفي عنهم في الآية الأولى والمعذرة التي لم يؤذن لهم فيها إنما ذلك فيما عصوا فيه خالقهم تعالى، كما (5) قال عز وجل في آية أخرى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} (يس: 65) فلا عذر لكافر ولا لعاص أصلاً ولا كلام لهم. وأما الجدال الذي ذكر الله تعالى حينئذ
__________
(1) جمالات: هذه هي قراءة أبي عمرو.
(2) ص: بينهما.
(3) ص: وهو الذي أيضاً.
(4) في إعجام الأعلام الواردة هنا اضطراب في ص.
(5) ص: عما.(3/49)
[لكل نفس] عن نفسها فإنما هو في طلب الناس مظالمهم [125ظ] بعضهم من بعض، فإن الله تعالى لا يضيع شيئاً من ذلك، على ما صح عن النبي صلى الله عليه [وسلم] من أن يوم القيامة يقص الشاة الجماء من الشاة القرناء (1) . وبيان هذا الذي قلنا ان المعذرة إنما هي إلى الله تعالى، ولا عذر يوم القيامة لمن كفر بالله تعالى أو بنبي من أنبيائه، وخالف الإسلام. وهذا هو الذي (2) يكون يوم القيامة ولا يعذر عليه أحد. وإنما هو مصدر جادل يجادل جدالاً، وجادل هو فعل من فاعلين لا ينكر أحد هذا من أهل اللغة، فالله تعالى لا يجادل، وإنما يجادل الناس بعضهم بعضاً، فكل أحد حينئذ يجادل من ظلمه ليقتص منه وهذا ما لا يعرى منه مؤمن ولا كافر، فاستبان [معنى] الآيتين بظاهرهما دون تكلف تاويل، وبطل ما ظنه هذا الجاهل، والحمد لله رب العالمين.
18 - قال أبو محمد: ليس في حماقاتهم المبدلة التي يسمونها " التوراة " ذكر اجر ولا ثواب لمحسن بعد الموت ولا عقاب لمسيء في الدنيا أصلاً ولا في الكتب التي ينسبونها إلى أنبيائهم من هذا قليل ولا كثير. فلو نظر هذا المجنون فيما ينسبونه إلى سليمان عليه السلام في تصويبه دعاء امرأة دعت له فقالت: ولا زالت أرواح أعدائك يدور بها الفلك؛ وهذا إبطال الثواب والعقاب إلا على معنى التناسخ ومضا [د] لما ذكروه عن غيره من الأنبياء إن هنالك ناراً ونعيماً؛ ومثل ما ينسبونه إليه أيضاً عليه السلام من أنه قال مرة: " عن العالم لا أول له " وأنه قال مرة أخرى: " أنا كنت مع الله تعالى حين خلق الأرض والسماء ". فلو أن هذا الجاهل الشقي اشتغل بمثل هذا وشبهه من كذبهم وافترائهم لكان أولى به من تكلف ما لا يحسن ولا يدري، مما قد فضحه (3) الله فيه عاجلاً، ويخزيه [153/أ] آجلاً، والحمد لله رب العالمين.
19 - الفصل الخامس: ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن: 39) قال: ثم قال في آية أخرى {فلنسألن الذي أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} (الأعراف: 6) قال: وهذا تناقض.
20 - قال أبو محمد: لو فهم هذا المائق الجاهل أدنى فهم لم يجعل هذا تعارضاً، أما قوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} فإن [ما] بعد هذه الآية
__________
(1) ورد الحديث في مسند أحمد 2: 235، 323، 363، 442.
(2) ص: الذي لا.
(3) ص: نصحه.(3/50)
متصلاً بها قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان* يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام* فبأي آلاء ربكما تكذبان* هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون* يطوفون بينها وبين حميم آن* فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن: 40 - 45) فصح بهذا النص ان هذا إنما هو في حين إيرادهم جهنم التي هي إن شاء الله دار هذا الخسيس ذي الظهارة اليهودية والبطانة الدهرية ولا [ريب] في أنه إذا أخذ بناصيته وقدميه ليهودي بها في النار، نار جهنم، فإنه لا يسال عن ذنبه (1) يومئذ. وأما قوله تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} ، فإنما ذلك في أول وقوفهم يوم البعث وحين المسألة والحساب. فارتفع التناقض الذي لا مدخل له في شيء من القرآن ولا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
21 - ولكن هذا الوقاح المجنون لو تدبر ما في كذبهم المفترى الذي يسمونه " التوراة " في السفر الثاني منه ان الله تعالى قال لموسى بن عمران: إني أرى هذه الأمة قاسية الرقاب دعني لأعقب غضبي عليهم لأهلكهم وأقدمك على أمة عظيمة. ثم ذكروا أن موسى عليه السلام دعا ربه تعالى وقال في دعائه (2) : تذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحق عبيدك الذين حلفت لهم بذلك وقلت لهم سأكثر ذريتكم حتى تكونوا كنجوم السماء وأورثهم جميع الأرض التي وعدتهم بها ويملكونها أبداً، فحن [153 ظ] السيد ولم يتم ما أراد إنزاله بأمته من المكروه.
22 - قال أبو محمد: هذا نص هذا الفصل عندهم. وهذه صفة لا يوصف بها إلا إنسان ضعيف النفس، وفيه البداء، وأنه تعالى لم يتم ما أراد ان يفعل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
23 - وفي السفر المذكور إثر هذا ان الله تعالى قال لموسى عليه السلام: " من أذنب عندي سأمحوه من مصحفي، فاذهب أنت وهذه الأمة التي عهدت إليك فيها، وسيتقدمك ملك ". ثم بعد شيء يسير ذكر ان الله تعالى قال لموسى: " اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك التي خرجت من أرض مصر إلى الأرض التي وعدت بها
__________
(1) ص: دينه.
(2) اذكر إبراهيم وإسحق وإسرائيل عبيدك الذين حلفت لهم بنفسك وقلت لهم: أكثر من نسلكم كنجوم السماء، وأعطي نسلكم كل هذه الأرض التي تكلمت عنها فيملكونها إلى الأبد؛ فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه: (خروج 32: 13 - 14) .(3/51)
مقسماً لإبراهيم وإسحق ويعقوب لأورثها نسلهم وأبعث بين يديك ملكاً لإخراج الكنعانيين والأموريين والبرزيين والحيثيين واليبوسيين (1) ، وتدخل في أرض تفيض (2) لبناً وعسلاً، لست أنزل معكم لأنكم أمة قاسية الرقاب لئلا تهلك بالطريق. فلما سمع العامة هذا الوعيد الشديد عجت تبكي (3) ولم تأخذ زينتها. فقال لموسى بن عمران (4) : قل بني إسرائيل انتم قد قست (5) رقابكم، سأنزل عليكم مرة أهلككم فضعوا زينتكم لأعلم ما أفعله بكم. ثم ذكروا جواب موسى عليه السلام لله تعالى على هذا الكلام فقال: وكان يكلم السيد موسى عليه السلام فماً لفم، كما (6) يكلم المرء صديقه، فقال موسى بن عمران السيد: أتأمرني ان أقود هذه الأمة ولا تأمرني ما أنت باعثه معي. فقال له السيد: سيقدمك وجهي وأروح عندك. فقال موسى عليه السلام: إن لم تتقدمنا أنت فلا ترحلنا (7) من هذا الموضع، وكيف اعرف أنا وهذه الأمة أنك عنا راض إذا لم تنطلق معنا ونتشرف بذلك على جميع من سكن الأرض من الأجناس فقال له: سأفعل ما قلت لأني عنك راض.
24 - قال أبو محمد: ففي هذا الفصل من السخف [154/ أ] غير قليل، وبيان لا يحتمل تأويلاً (8) ، لان فيه البداء، وأنه تعالى عما يقولون علواً كبيراً، قال
__________
(1) ص: اليوشيين.
(2) ص: تفي.
(3) ص: عجب تيه.
(4) وقال الرب لموسى اذهب اصعد من هنا أنت والشعب الذي أصعدته من أرض مصر إلى الأرض التي حلفت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلاً: لنسلك أعطيها؛ وأنا أرسل أمامك ملاكاً وأطرد الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً فإني لا أصعد في وسطك لأنك شعب صلب الرقبة لئلا أفنيك في الطريق. فلما سمع الشعب هذا الكلام السوء ناحوا ولم يضع أحد زينته عليه. وكان الرب قد قال لموسى: قل لبني إسرائيل أنتم شعب صلب الرقبة إن صعدت لحظة واحدة في وسطكم أفنيتكم ولكن الآن اخلع زينتك عنك فأعلم ماذا أصنع بك ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه وقال موسى للرب: انظر، أنت قائل لي أصعد هذا الشعب وأنت لم تعرفني من ترسل معي وأنت قد قلت عرفتك باسمك فقال وجهي يسير فأريحك فقال له إن لم يسر وجهك فلا تصدنا من ههنا فإنه بماذا يعلم أني وجدت نعمة في عينيك أنا وشعبك. أليس بمسيرك معنا. فنمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. فقال الرب لموسى: هذا الأمر أيضاً الذي تكلمت عنه أفعله لأنك وجدت نعمة في عيني وعرفتك باسمك (خروج 33 - 1 - 17) .
(5) ص: مسحت.
(6) ص: فما يفهم.
(7) بعد هذه الكلمة لفظة غير مقروءة في ص.
(8) ص: تأويل.(3/52)
إنه لا يمضي معهم لكن يبعث معهم ملكاً يبصرهم بأمر الله تعالى، فلم يزل به موسى حتى رجع عن قال عز وجل وقال: سأمضي معكم، ولم يقنع موسى بمسير الملك معهم إلا بمسير الباري عز وجل معهم. وفي هذا تحقيق النقلة على الباري في الأماكن، وليست هذه صفة الله تعالى وغنما هي من صفات المخلوقين؛ وفيه التكليم فماً لفم وتحقيق التجسيم والتناقض على الباري تعالى في كلامه وفعله، دون تأويل. ولا مخرج لهم من هذا.
25 - فلو فكر هذا الوقاح الزنديق في مثل هذا وشبهه لزجره (1) عن التعرض لما لا سبيل له إليه وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. ولو ان هذا الزنديق المائق كان له أقل تحصيل، لما أقدم على المظاهرة (2) بهذا الدين الخسيس طرفة عين، ولكنه لم يقره الشيطان من كل ما استبان له من هذا البهتان إلا انسلاخه من جميع الأديان، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
26 - الفصل السادس: ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى مخاطباً لنبيه عليه السلام: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الكتاب فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} (3) ، (يونس: 94) قال هذا المجنون: فهذا محمد كان في شك مما ادعاه.
27 - قال أبو محمد: كان يلزم هذا الخسيس (4) أن لا يتكلم في لغة لا يحسنها، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يكشف سوءته ويبدي عورته. وليعلم ان [إن] في هذه الآية ليست التي بمعنى الشرط، لان من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه وينازع فيه (5) أهل الأرض ويدين به أهل البلاد العظيمة ثم يقول لهم: إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون [154 ب] ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في مثل دماغ هذا المجنون الجاهل. وإنما معنى " إن "
__________
(1) ص: جرجره.
(2) ص: الظاهرة.
(3) فإن كنت في شك الآية: انظر الأقوال في تفسيرها. في تفسير الطبري 11: 115 - 116 وليس فيه أن " إن " هنا نافية بمعنى " ما ". وقال أبو حيان في البحر 5: 191: الظاهر أن إن شرطية، وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أن " إن " نافية؛ وبهذا يأخذ ابن حزم.
(4) ص: الخسيف، ولعلها أيضاً: السخيف.
(5) ص: في.(3/53)
ها هنا الجحد فهي هنا بمعنى " ما " وهذا المعنى هو أحد موضوعاتها في اللغة العربية، كما قال تعالى آمراً (1) نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقول: {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف: 188) بمعنى: ما (2) أنا ندير وبشير لقوم يؤمنون، كما ذكر الله عز وجل عن الأنبياء انهم قالوا: {إن نحن إلا بشر مثلكم} (إبراهيم: 11) وكما قال تعالى مخبراً عن النسوة إذ رأين يوسف عليه السلام فقلن: {إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف: 31) بمعنى: ما هذا إلا ملك كريم، وكما قال تعالى: {لو أردنا ان نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} (الأنبياء: 17) أي ما كنا فاعلين. فعلى هذا المعنى خاطب نبيه عليه السلام: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، ثم قال تعالى فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك، لقد جاءك الحق من ربك بمعنى ولا أعداؤك الذين يقاتلونك من الذين أوتوا الكتاب من قبلك ما هم أيضاً في شك مما أنزلنا إليك بل هم موقنون بصحة قولك وانك نبي حق، رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك عندهم في ان الذي جاءك الحق. ومثل هذا أيضاً قوله تعالى: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} (إبراهيم: 46) تهويناً (3) له: وكذلك قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) ، (الزخرف: 81) بمعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول الجاهدين لا يكون له ولد. فوضح جهل هذا المعترض وضعف تمييزه، والحمد لله رب العالمين.
28 - ولو ان هذا الجاهل الأنوك تدبر ما في باطلهم المبتدع وهجرهم الموضوع الذي يسمونه " توراة " إذ يقول: عن موسى عليه السلام راجع ربه إذ أراد إرساله وقال (4) : من أنا [155و] حتى أمضي (5) إلى فرعون، أرسل من تريد ترسل. وأغضب ربع تعالى بذلك، وان يعقوب عليه السلام صارع ربه (6) ليلة بتمامها وهو لا يعرف من هو، فما انسلخ الصباح عرف انه الله - تعالى الله عن هذا الحمق من الكفر علواً كبراً - قالوا: فلما عرفه امسكه فقال له ربه: أطلقني، فقال له يعقوب: لا أطلقك حتى تبارك علي، فقال له ربه: كيف لا أبارك عليك وأنت كنت قوياً
__________
(1) ص: أمر.
(2) ص: إن.
(3) ص: هويناً.
(4) فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب، إلى فرعون، وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر. (خروج 3: 11) .
(5) ص: حتى أنه يمضي.
(6) وأن يعقوب صارع ربه الخ: انظر أيضاً الفصل 1: 141.(3/54)
على الله فكيف على الناس! ثم مس مأبضه (1) ، فعرج يعقوب من وقته فكذلك لا يأكل بنو إسرائيل من عروق الفخذ لان الله تعالى مسه. ولا يجرؤ (2) منهم أحد فيقول: إن المصارع ليعقوب كان ملكاً، فإن لفظ اسم المصارع له في توراتهم " إلوهيم " وهذا هو اسم الله تعالى وحده بالعبرية - فلو ان هذا الجاهل تفكر في مثل هذا وشبهه لعلم ان الحق بأيدي غيرهم وأنهم في باطل وغرور، وعلى (3) ضلال وزور، والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله تعالى.
29 - الفصل السابع: ثم ذكر هذا المائق الجاهل قوله تعالى في وصف العسل: إن فيه شفاء للناس، فقال: وكيف هذا وهو يؤذي المحمومين وأصحاب الصفراء المحترقة
30 - قال أبو محمد: لو كان مع هذا الجاهل الأنوك أقل معرفة بطبائع الإنسان او فهم مخارج اللغة العربية لم يأت بهذا البرسام. أما اللغة فإن الله تعالى لم يقل: العسل شفاء لكل علة، وإنما قال تعالى: فيه شفاء للناس؛ وهذا لا ينكره إلا رقيع سليب العقل والحياء او موسوس، لان منافع العسل وشفاءه في إسخان المبرودين وتقطيع البلغم وتقوية الأعضاء حتى صار لا يطبخ اكثر الأشربة إلا به ولا يعجن جميع اللعوقات إلا به، وما وصف جالينوس وبقراط، وهما عميدا أهل الطب، طبخ شيء من الأشربة إلا به جملة، وما ذكرا (4) قط أن [155 ب] يطبخ شراب بسكر.
31 - وكيف ينكر هذا الأنوك ان يكون العسل شفاء محضاً، وهي أغلب أموره، فكيف أن يكون به شفاء، وهم يصفون عن نبي من أنبيائهم انه شفى أكلة في عضو إنسان بتين مدقوق وجعله عليه فإذا كان في التين شفاء من بعض الملل فكيف ينكر هذا الخسيس ان يكون في العسل أشفية كثيرة وقد وجدنا (5) في اختلاطهم الذي يسمونه " توراة " عن الله تعالى في عدة مواضع انه إذا بلغ الغاية في مدح ارض القدس التي وعدهم بها قال: إلا أنها أرض تنبع عسلا ولبناً، ووعدهم فيها بأكل عسل
__________
(1) ص: ماء بضه.
(2) ص: يجره.
(3) ص: على.
(4) ص: ذكر.
(5) ص: وما وجدناهم.(3/55)
الصخور. أفترى إذ ليس في العسل شفاء أصلاً، إنما وعدهم تعالى بما فيه الداء والبلاء لا بما فيه الشفاء، هذا مع إنكار العيان، وجحد الضرورات في منافع العسل.
32 - الفصل الثامن: ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا) (ق: 9) وقال: كيف يكون مباركاً وهو يهدم البناء، ويهلك كثيراً من الحيوان
33 - قال أبو محمد: من لم يكن مقدار فهمه وعقله إلا هذا المقدار، لقد عجل الله له العقوبة في الدنيا والحمد لله رب العالمين. وليت شعري أما درى هذا الجاهل انه لولا شرب الماء لم يكن في الأرض حيوان أصلاً لا إنسان ولا ما سواه، وأن عناصر جميع المياه الظاهرة على وجه الأرض والمختزنة في أعماقها إنما هي من مواد القطر النازل من السماء أما راى هذا الأنوك ان الأمطار إذا كثرت غزرت العيون وفهقت الأنهار وطفحت البرك وامتلأت الآبار وسالت السيول وتفجرت في الأرض ينابيع حتى إذا قلت الأمطار وضعفت العيون ونقصت الأنهار وجفت (1) البرك والآبار وانقطعت السيول وغارت الينابيع، خشنت الصدور وفسد الهواء أما رأى [156/ أ] أنه لا نماء لشيء من النبات كله، منزرعه (2) وصحراويه، وجميع الشجر بساتينها وشعرائها إلا بالماء النازل من السماء أما قرأ في هذيانهم الذي يسمونه " توراة " امتنان الله تعالى في صفة الأرض المقدسة بأنها لا تسقى من النيل، كما تسقى أرض مصر لكن من ماء السماء أتراه إنما من عليهم بضد البركة لا بالبركة إن هذا لعجب. أما علم أن الأمطار ترطب الأجسام وتذهب بقحلها (3) وأن بالماء الذي عنصره ماء السماء تزال الخسيس وجهله وهو عميد اليهود وعالمهم وكبيرهم، وهذا مبلغه من الجهل والسخف، ونستعيذ بالله من الجهل والضلالة، والحمد لله رب العالمين.
34 - قال أبو محمد: ها هنا انتهى كل ما ظن المائق أنه اعترض به، قد بان فيه كله زوره وجهله واغتراره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم نحن عن شاء الله تعالى ذاكرون بحول الله تعالى وقوته قليلاً من كثير من قبائحهم يديرونها وينسبونها إلى الباري تعالى في كتبهم التي طالعناها ووقفنا عليها، وتضاعف بذلك شكرنا
__________
(1) ص: وخفت.
(2) ص: مزرعه.
(3) بقحلها: غير معجمة في ص.(3/56)
لله تعالى على عظيم ما منحنا من نعمة الإسلام والملة التي ابتعت بها محمداً صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً وعلى آله الطيبين والحمد لله على ما أولانا من فضل الإسلام وشرف الإيمان.
35 - اعلموا أيها الناس، علمنا الله وإياكم ما يقربنا منه ويزلف حظوتنا (1) لديه أن اليهود أبهت الأمم وأشدهم استسهالاً للكذب، فما لقيت منهم أحداً قط مجانباً للكذب القبيح على كثرة من لقينا منهم، إلا رجلاً (2) واحداً في طول أعمارنا، فطال تعجبي من ذلك إلى (3) أن ظفرت بسرهم من ذلك في هذا الباب، وهو انهم يعتقدون بسخفهم وضعف [156 ب] عقولهم أن الملائكة الذين يحصون أعمال العباد لا يفقهون العربية ولا يحسنون من اللغات شيئاً إلا العبرانية، فلا يكتب عليهم كل ما كذبوا فيه بغير العبرانية، فحسبكم بهذا المقدار من الجهل العظيم والحمق التام!
36 - فمن طوامهم أن علماءهم يقولون: إن الله عز وجل إنما ستر عن يعقوب أمر يوسف وكونه في مصر ثلاثة عشر عاماً كاملاً، لأن أولاد يعقوب لعنوا كل من ينقل إلى أبيهم ان يوسف حي. قالوا: فدخل الله تحت هذه اللعنة إذا أطلع يعقوب على حياة يوسف، تعالى الله عن إفك هؤلاء المجانين وكفرهم. واغوثاه من عظيم هذا الحمق! أفيكون في البقر والحمير أو الكلاب أضل من قوم هذا مقدار عقولهم، ان يجيزوا أن تكون لعنة مخلوق تلحق الخالق اللهم فإنا نحمدك على توفيقك إيانا للإسلام وهدايتك إليه، ونسألك الثبات عليه إلى ان نلقاك مسلمين، برحمتك آمين. ثم العجب انهم قالوا في إخوة يوسف إنهم كانوا المخبرين ليعقوب بحياة يوسف، فهكذا في نص الكتاب المسمى عندهم " التوراة "، فما نرى اللعنة إلا قد لحقتهم.
37 - ثم نجدهم لا يستحيون من أن ينسبوا إلى الأنبياء عليهم السلام انهم زنوا، وانهم من نسل الزنا، فإن السفر الأول من كتابهم ذلك المسمى " توراة ": أن يهوذا زنى بامرأة ولده ورشاها على ذلك جدياً من الغنم، ورهنها بالوفاء بذلك عصاه وزناره وخاتمه. وقد وقفت بعضهم على هذا فقال لي: كان ذلك مباحاً عندهم، فقلت له: إنك تقول الباطل، إذ (4) ان في توراتهم أن يهوذا (5) الذي جامعها أمر بها أن تحرق
__________
(1) ص: خطوتنا.
(2) إلا رجلاً: لعلها، ولا رجلاً.
(3) ص: إلا.
(4) ص: إلا
(5) ص: يهودياً.(3/57)
إذ ظهر حملها. فإن كان ذلك، فلم أمر بحرقها ثم لا يستحيون ان يقولوا: إن من ذلك الزنا حملت بفارص (1) ابن يهوذا الذي من نسله كان داوود وسليمان عليهما السلام، وكثير من الأنبياء كعاموص وشعيا وغيرهم.
38 - ومن عجائبهم [157/ أ] انهم يقولون: عن كل نكاح كان على غير حكم التوراة فهو زنا والمتولد منه ولد زنا، حتى إنهم يبيحون لمن تهود من سائر الأديان ان يتزوج أخته [من] أبيه. ثم لا يستحيون ان يقولوا إن موسى وهرون أخاه تولدا من نكاح عمران بن قاهث بن لاوي عمته أخت أبيه يوخابد (2) بنت لاوي. وأن سارة أم إسحق كانت أخت إبراهيم ابنة والده تارح، وأن سليمان بن داود كان ابن امرأة زنى بها داود، وولدت منه ابناً من الزنا وتزوجها او زنى المحمى حتى لم يطلقها (3) ويقولون: إن الجمع بيت الأختين زنا، وان وطء الإماء بملك اليمين زنا، والمتولد من هذه النكاحات زنا، وهم يقرون أن جميع ولد يعقوب عليه السلام كانوا من أختين نكحهما معاً، وهما ليا وراحيل ابنتا لابان، فولدت له ليا ستة ذكور، وولدت له راحيل يوسف وبنيامين (4) ، وأن الأربعة الباقين من ولد يعقوب ولدوا له من زلفاء وبلها، أمتي (5) راحيل وليا، وطئهما بملك اليمين لا بزواج أصلاً، لأن في توراتهم ان لابان أخذ عليه العهد عند كوم (6) الشهادة أن لا يتزوج على ابنته، فكلهم من أبناء هذه الولادات. وهاتان مقدمتان تنتج ان جميع بني إسرائيل وجميع اليهود أولاد زنا. فغن قالوا: كان ذلك حلالاً قبل أن يحرم، أقروا بالنسخ، وإن قالوا: إن ذلك خاص لبني إسرائيل مذ أنزلت التوراة، لزمهم ترك قولهم: إن كل مولود في الأمم بخلاف حكم التوراة فهو ولد زنا، وعلى كل حال يلزمهم أن أولاد سليمان عليه السلام كانوا أولاد زنا بحت، لأنهم مقرون انهم كانوا من أبناء العمونيات والموآبيات وسائر الأجناس، ورؤوس الجواليت إلى اليوم من أبناء من ذكرنا، تعالى الله تعالى وتنزه أنبياؤه عليهم السلام عن هذه المخازي؛ وإسحق أبوهم، وهرون وموسى وداود
__________
(1) ص: بفارض.
(2) في (ع) : يوكابد، عدد 26: 58.
(3) كذا وردت العبارة، ولا أدري ما وجه الصواب فيها.
(4) انظر قصة يهوذا، ونامار في التكوين: 38، وراجع الفصل 1: 145.
(5) ص: يلها ابني.
(6) ص: كرم، وهي التي سميت بالكلدانية سهودفا وبالعبرانية جلعيد ومعناها رجمة الشهادة (التكوين: 31) .(3/58)
وسليمان ويوسف على قول [157 ب] هؤلاء الكفرة، لعنهم الله، ولدوا (1) لغير رشدة، لعن الله قائل هذا معتقداً له ومصدقاً له.
39 - ومن عجائبهم أنهم يقرون في كتابهم المسمى بالتوراة ان السحرة فعلوا بالرقي المصري مثلما فعل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم من قلب العصا حية، ومن قلب ماء النيل، ومن استجلاب (2) الضفادع، حاشا البعوض فلم يقدروا عليه (3) .
40 - قال أبو محمد: لو صح هذا، وأعوذ بالله، وأعوذ بالله، لما كان بين موسى عليه السلام والسحرة فرق إلا قوة العلم والتمهر في الصناعة فقط، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من أن يكون آدمي يقدر بصناعته على خرق عادة، أو قلب عين، وننكر ان الله تعالى يولي ذلك أحداً غير الأنبياء صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، الذين جعل الله تعالى ظهور المعجزات عليهم شاهداً لصدقهم.
41 - ومن عجائبهم قولهم في نقل أحبارهم الذي هو عندهم بمنزلة ما قال الأنبياء: إن فرعون كان بنى في المفاز صنماً يقال له باعل صفون (4) ، وجعله طلسماً باستجلاب بعض قوى الأجرام العلوية، ليحير (5) به كل هارب من أرض مصر، وان ذلك الطلسم حير موسى وهارون وجميع بني إسرائيل حتى تاهوا أربعين سنة في فحص التيه إلى أن ماتوا (6) ملوكهم في المفاز، أولهم عن آخرهم، حاشا يوشع بن نون الافراهيمي، وكالب بن يوفنا اليهوذاني (7) . فتباً وسحقاً لكل عقل يزعم صاحبه ان صناعة آدمية وحيلة سحرية غلبت قوة الله تعالى، وأعجزت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات تائهاً في المفاز حائراً في القفار.
42 - ومن تكاذيبهم قولهم في الكتاب الذي يسمونه " التوراة ": ان الله تعالى قال لهم: سترثون الأرض المقدسة وتسكونها في الأبد. ونحن نقول: معاذ الله أن يقول
__________
(1) ص: وولدا.
(2) ص: استحلاب.
(3) في قصة موسى وقلب العصا حية وقلب ماء النيل. الخ انظر سفر الخروج 8: 18 - 190 " وفعل كذلك الفراعون بسحرهم ليخرجوا البعوض فلم يستطيعوا، وكان البعوض على الناس وعلى البهائم، فقال العرافون لفرعون هذا إصبع الله "؛ وراجع الفصل 1: 154.
(4) ص: ياغن صفون، والتصويب من الفصل 1: 218.
(5) ص: ليجير.
(6) ماتوا: كذا في ص.
(7) ص: يوقنا اليهوداني؛ وفي (ع) يفنة القنزي، وهو يهوذاني لأنه من سبط يهوذا.(3/59)
الله تعالى الكذب، وقد ظهر هذا الوعد، فما سكنوه في [158/ أ] الأبد وما عمروه إلا مدة يسيرة من آباد الأبد، ثم أخلوه وأخرجوا عنه وورثه الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
43 - ومن عجائبهم قولهم فيه: إن الله عز وجل قال لموسى: إذا أراد بنو إسرائيل الخروج عن مصر أن يأخذ أهل كل بيت من بني إسرائيل خروفاً أو جدياً (1) ويذبحونها مع الليل ويأخذون من دمائها ويمسون بها أبوابهم وعتب بيوتهم، ثم قال: قلت سأمسح بأرض مصر هذه الليلة، وأهلك كل بكر ولد بأرض مصر من أبكار الآدميين وبكور (2) نتاج المواشي، واحكم في مصر أنا السيد وعند ذلك يكون الدماء. الدم لكم في البيوت التي تكونون فيها، فإذا نظرت إلى ذلك تجاوزكم ولا يصل إليكم ضر. ثم قال بعد أسطار حاكياً عن موسى انه قال لبني إسرائيل (3) : اذهبوا وليذبح أهل كل بيت منكم الضأن، وعيدوا واصبغوا في دمائها رانا (4) ، ورشوا به أبوابكم وأعتابكم ولا يخرج أحد عن باب بيته إلى الصبح، فإن السيد سيمسخ ويهلك المصريين، فإذا نظر إلى الدم على العتب وفي الأبواب لم يجاوز الباب، ولا يأذن للقاتل (5) بالدخول إلى بيوتكم وقتلكم.
44 - قال أبو محمد: فيكون أسخف من عقول [من] ينسبون إلى الله تعالى مثل هذا الكلام الفاسد أو ترى الله عز وجل لا يعرف أبوابهم حتى يجعل عليها علامات! إن هذا لعجب. لو عقل هذا المجنون لشغله هذا السخام الذي في دينه الذي يباهي به، عن التعرض للحقائق يروم إبطالها، فكان كما قال الله عز وجل: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} (الصف: 8) .
__________
(1) ص: وجدياً.
(2) ص: ويكون.
(3) تأخذونه من الخرفان أو من المواعز. ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها. فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم. وأضع أحكاماً بكل آلهة المصريين. أنا الرب. ويكون لكم علامة الدم على البيوت التي أنتم فيها فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر فدعا موسى جميع شيوخ بني إسرائيل وقال لهم: اسحبوا وخذوا لكم غنماً بحسب عشائركم واذبحوا الفصح. وخذوا باقة زوفا واغمسوها في الدم الذي في الطست ومسوا العتبة العليا والقائمتين بالدم الذي في الطست. وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب بيته حتى الصباح فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب. (خروج 12: 5 - 23) .
(4) رانا: كذا وردت ولعلها " زوفا " كما ورد في الحاشية السابقة.
(5) ص: للقبائل، وفي (ع) : المهلك.(3/60)
45 - ومن عجائبهم أنهم يلتزمون أكل الفطير في مرور الوقت المذكور في كل عام ولا يلتزمون أكل الخروف، على ما ذكرنا، وهم يقرون في كتابهم انهم مأمورون بذلك كله. فغن قالوا: إنما أمرنا بذلك ما دمنا (158 ب] في أرض القدس. قيل لهم: اتركوا أيضاً استعمال أكل الفطير حتى تكونوا في أرض القدس فلا فرق في كتابكم بين الأمر بالفطير والخروف.
46 - ومن عجائبهم في الكتاب المسمى عندهم " التوراة " ان موسى عليه السلام مجد الله تعالى يوم أغرق فرعون فقال في تمجيده (1) : ذلك قولي ومديحي للسيد الذي صار لي مسلماً، هذا إلاهي أمجده وإله آبائي أعظمه، السيد قاتل كالرجل القادر. أفيسوغ لذي عقل أن ينسب إلى نبي الله تعالى انه شبه قوة ربه عز وجل بقوة الرجل القادر وهل في الافتراء اعظم من هذا لو عقلوا
47 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الثاني من كتابهم (2) : ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو وسبعون (3) رجلاً من المشايخ، ونظروا إلى إله إسرائيل وتحت رجله كلبة زمرد فيروزي. وفي بعض الفصول ان موسى عليه السلام قال، أو يعقوب (4) : رأيت الله مواجهة وسلمت نفسي. مع قولهم عن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: من رأى وجهي من الآدميين مات، ولست تقدر تراني، لكن سترى مؤخري. فهل في التناقض اعظم من هذا: مرة يقول من رأى وجهي مات، ومرة يقول رأيته مواجهة وسلمت نفسي. وكل ما ذكرناه ففي كتابهم الذي يسمونه " توراة " لا في نقل ضعيف ولا غيره.
48 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الثاني إن هرون [أخا] موسى بإقرارهم قال
__________
(1) " الرب قوتي ونشيدي وقد صار خلاصي، وهذا إلهي فامجده إله أبي فأرفعه، الرب رجل الحرب، الرب اسمه (خروج 15: 2 - 3) وانظر أيضاً كتاب الفصل 1: 160 حيث ورد: السيد أمجده كالرجل القادر.
(2) ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه سبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف (خروج 24: 9) وانظر الفصل 1: 160.
(3) ص: وسيقوى.
(4) رأيت الله مواجهة الخ. انظر الفصل 1: 141.(3/61)
لبني إسرائيل في مغيب موسى (1) : اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم ومواليكم (2) وأولادكم وبناتكم، ايتوني بها. ففعلت العامة ما أمر به وأتوا بالأقراط إلى هرون، فلما أقبضها أفرغها وجعل لهم منها عجلاً، فلما بصر به هرون بنى مذبحاً بين يدي وصرخ (3) مسمعاً: غداً عبد السيد (4) . ثم ذكر بعد فصول بأن موسى عليه السلام وجد بني إسرائيل عراة بين يدي العجل [159 و] يتغنون ويرقصون، وكان عراهم هرون بجهالة قلبه.
49 - هذه نصوص كتابهم. أفيسوغ في عقل من له أدنى مسكة أن يكون نبي يعمل عجلاً للعبادة من دون الله تعالى ويأمر قومه يعبدوا له، ويرقص هو وهم تعظيماً للعجل على أنه إلاههم الذي من مصر وإذا جاز ان يكون عجلاً وثناً ويعبدوه، جاز لنبي بالقبول من كلامه وأمره في العجل وما الذي جعل سائر عمله أصح من زناه وفتحه بيوت الأوثان وتقريب القرابين لها ولعل سائر ما أمر به وما عمل مفتعل كل ذلك من جنس عمل العجل والزنا. والذي لا شك فيه عندي ان من يدل توراتهم وأدخل فيها مثل هذا، إنما قصد إلى إبطال النبوة جملة، وبالله تعالى التوفيق.
50 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الرابع: إن بني إسرائيل إذ طلبوا أكل اللحم وضجوا من أكل المن، ان الله تعالى قال لموسى (5) : تقدسوا غداً تأكلون اللحمان، فأنا أسمعكم قائلين من ذا الذي يعطينا. قد كنا بخير. يعطيكم السيد اللحمان فتأكلون،
__________
(1) إن هارون أخا موسى بإقرارهم الخ: " فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هرون، فأخذ ذلك من بين أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلاً مسبوكاً فلما نظر هرون بنى مذبحاً أمامه ونادى هرون وقال: غداً عيد للرب.. ولما رأى موسى الشعب أنه معرى لأن هرون كان عراه للهزء بين مقاوميه. إلخ (خروج 32: 2 - 5، 32: 25) وراجع الفصل 1: 161، وقوله: بجهالة قلبه في الفصل 1: 162.
(2) ص: وأموالكم.
(3) ص: وبرح.
(4) ص: السعيد.
(5) وللشعب تقول تقدسوا للغد فتأكلوا لحماً لأنكم قد بكيتم في أذني الرب قائلين من يطعمنا لحماً. إنه كان لنا خير في مصر. فيعطيكم الرب لحماً فتأكلون تأكلون لا يوماً واحداً ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة أيام ولا عشرين يوماً، بل شهراً من الزمان حتى يخرج من مناخركم ويعيد لكم كراهة.. فقال موسى: ستمائة ألف ماش هو الشعب الذي أنا في وسطه وأنت قد قلت أعطيهم لحماً ليأكلوا شهراً من الزمان. أيذبح لهم غنم وبقر ليكفيهم أم يجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم. فقال الرب لموسى: هل تقصر يد الرب. الآن ترى أيوافيك كلامي أم لا. (عدد 11: 18 - 23) .(3/62)
ليس يوماً واحداً ولا اثنين ولا خمسة ولا عشرة إلا حتى تكمل أيام الشهر، حتى يخرج على مناخركم وتصيبكم التخم. فقال له (1) موسى: هؤلاء هم ستمائة [ألف] رجل وأنت تقول: أنا أعطيكم اللحوم طعماً شهراً، أترى تكثر ذبائح الغنم والبقر فيقتاتون بها، أو تجمع حيتان البحر معاً لتشبعهم [فقال السيد] : ماذا يهم السيد أترى السيد عاجزاً فالآن ترى إن تم قوله. ثم ذكروا ان الله تعالى أنزل السمانى حول العسكر فأكلوا حتى تخموا ومات كثير منهم بالتخمة، فسمي ذلك الموضع قبور الشهوات (2) .
51 - قال أبو محمد: فلو تدبر هذا اللعين الجاهل كذبهم في هذا الفصل، لردعه عن أن يظن بقول الله تعالى لنبيه عليه السلام {فإن كنت [159: ب] في شك مما أنزلنا إليك} ، وليعلم ان الشك المجرد قد نسبوه إلى موسى عليه السلام في هذا الفصل، فإنه لم يثق بقول ربه ولا صدق قدرته على إطعام بني إسرائيل اللحم شهراً كاملاً، وهذا مع ما فيه من الشك المكشوف الذي لا يجوز ان يخرج له تأويل يبعده عن الشك، ففيه من السخف غير قللي، لان من رأى شق البحر، وإنزال المن (3) المشبع لهم، فواجب عليه ان لا يستعظم إشباعهم بلحم ينزله عليهم. ولكن الكذب والتوليد لا يكون إلا هكذا ليفضح الله تعالى به أهله. والحمد لله على ما من به علينا من طهارة الإسلام، ووضوح حجته، وله الشكر على ما كفانا من دنس الكفر، وتناقض عراه.
52 - وبعد هذا الفصل أيضاً في السفر الرابع ما ذكره من قول الله تعالى لموسى عليه السلام إذ ضج بنو إسرائيل من دخول الأرض المقدسة، قالوا: فقال السيد لموسى ابن عمران (4) : " حتى متى تتناولني هذه الأمة التي لا يؤمنون بي على ما آتيتهم من العجائب التي فعلت أمامهم، سأضربهم بالوبأ حتى أمسخهم، وأجعلك مقدماً على أمة عظيمة أشد قوة من هذه "، وان موسى لم يزل يرغب إلى الله عز وجل حتى قال: قد غفرت لك كما سألتني. ففي هذا الفصل من إطلاق الكذب في الحلف على الله
__________
(1) ص: لهم.
(2) ص: الشهداء وفي (ع) قبروت هتأوة أي قبور الشهوة (عدد 11: 34) .
(3) ص: وإنزال البحر المن.
(4) وقال الرب لموسى حتى متى يهينني هذا الشعب وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم. إني أضربهم بالوبأ وأبيدهم وأصيرك شعباً أكبر وأعظم منهم (عدد 14: 11 - 12) وانظر أيضاً (عدد 14: 20) .(3/63)
عز وجل ما لا يجوز ان ينسب مثله إليه تعالى.
53 - وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم " بالفصل في الملل والنحل " (1) الفصل الذي في توراتهم في ذكر أنسابهم، وبينا عظيم الكذب فيه: وهو انهم ذكروا ان سبعة نفر من بني إسرائيل من ولد قاهث بن لاوي نسلوا ثمانية آلاف ذكر قبل موتهم في التيه، وأولئك السبعة أحياء قائمون (2) وهم حينئذ أكثر (3) ما كانوا. وقد قال بعضهم: إن هذا من المعجزات. فأجبناه بان المعجزات إنما تكون [160/أ] للأنبياء عليهم السلام، وأما لكفار (4) عاصين فلا. هذا سوى ما في توراتهم من شرائعهم التي يلتزمونها الآن كالقرابين، وكمن مس نجساً فإنه ينجس إلى الليل، ومن حضر على مقبرة ينجس إلى الليل حتى يغتسل كله بالماء. وأما الصلوات التي يصلونها الآن فمن وضع أحبارهم، فيكفيهم انهم على غير شريعة موسى عليه السلام ولا على شريعة نبي من الأنبياء.
54 - ومن طرائفهم قولهم في كتاب لهم: يعرف (بشعر توما) ان تكسير ما بي جبهة خالقهم (5) إلى أنفه كذا وكذا ذراعاً. وقالوا في كتاب لهم من " التلمود " - وهو فقهم (6) - يسمى " سادر ناشيم " (7) ومعناه حيض النساء: ان في رأس خالقهم تاجاً من كذا وكذا قنطاراً من الذهب، وان صديقون (8) الملك هو يجلس التاج على رأس خالقهم، وان في إصبع خالقهم خاتماً تضيء من فصه الشمس والكواكب.
55 - ومن طوامهم (9) قولهم عن رجل من أحبارهم الذين يريدون، ان من شتم أحداً منهم يقتل، ومن شتم أحد الأنبياء لا يقتل. فذكر عن لعين منهم يدعونه إسماعيل انه قال لهم، وكلامه عندهم والوحي سيان، فقال: كنت أمشي ذات يوم في خراب بيت المقدس، فوجدت الله تعالى في تلك الخرب يبكي ويئن كما يئن
__________
(1) راجع الفصل 1: 165 وما بعدها في مناقشة ابن حزم للأعداد التي تذكر عن بني إسرائيل في العهد القديم.
(2) ص: نائمون.
(3) ص: أكفر.
(4) ص: الكفار.
(5) أن تكسير ما بين جبهة خالقهم إلخ: انظر الفصل 1: 221.
(6) ص: فقيههم.
(7) سادر ناشيم. كذا ذكره ابن حزم في الفصل 1: 22 وقال إن معناه: أحكام الحيض، ولعل صوابه فيما يرجح الدكتور عابدين هو سادر هناشيم وهذا التركيب معناه أحكام النساء، لا أحكام الحيض فحسب.
(8) ص: صندلقون وفي الفصل (1: 221) صندلفوت؛ وفي (1: 223) صندلفون.
(9) كل ما جاء في هذه الفقرة أورده ابن حزم في الفصل 1: 221 - 222.(3/64)
الحمامة (1) ، وهو يقول (2) : ويلي هدمت بيتي، ويلي على ما فرقت من بني وبناتي، قامتي منكسة حتى أبني بيتي وأرد بناتي وبني، قال هذا الكلب لعنه الله: ثم قبض الله على ثيابي وقال لي: لا أتركك حتى تبارك علي. فباركت عليه وتركني.
56 - قال أبو محمد: أشهد الله تعالى خالقي وباعثي بعد الموت والملائكة والأنبياء والمرسلين والناس أجمعين والجن والشياطين أني كافر برب يكون بين الخرب ويطلب البركة من كلب اليهود. فلعن الله تعالى عقولاً جاز فيها مثل هذا.
57 - ومن عجائبهم قولهم في السفر الخامس من توراتهم ان [160 ب] موسى عليه السلام قال لهم: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم (3) : إني لم أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام [قلوبكم] ، ولكن لكفر من كان فيها. ثم يقولون في عيدهم (4) الذي يكون في عشر تخلو من أكتوبر، وهو (5) تشرين الأول، ساخطين على الله تعالى غضاباً عليه تعالى إذ قصر بهم ولم يؤدهم حقهم الذي يجب لهم عليه - فيقولون لعنهم الله: عن الميططرون (6) - ومعناه الرب الصغير، تحقيراً (7) لربهم تعالى وتهاوناً به - يقوم هذا اليوم قائماً وينتف شعره ويقول: ويلي إذ أخرجت بيتي وأيتمت بني، قامتي منكسة لا أرفعها حتى أبني بيتي. فهم كما ترى يلعنون ربهم ويصغرونه ويقولون ذلك بأعلى أصواتهم في أكبر أعيادهم وأعظم مجامعهم. فكيف يجتمع هذا الحمق العظيم قوله لهم في توراتهم: " لم (8) أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام قلوبكم " فهل التناقض والفساد والتبديل الظاهر إلا هذا كله لو عقلوا
__________
(1) ص: وينين كما تنين.
(2) الفصل: وهو يقول: الويل لمن أخرب بيته وضعضع ركنه وهدم قصره وموضع سكينته، ويلي على ما أخربت من بيتي إلخ.
(3) ليس لأجل برك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم بل لأجل إثم أولئك الشعوب لطردهم الرب إلهك من أمامك (ثنية 9: 5) .
(4) ثم يقولون في عيدهم. إلخ: انظر في ذلك كتاب الفصل 1: 223.
(5) ص: ومن.
(6) الميططرون: هكذا وردت هذه اللفظة أيضاً في الفصل 1: 323. ويعتقد الدكتور عابدين أن الوجه الصحيح من اللفظة هو " ميطوطيون " وهو لفظ يوناني ومعناه: مصاحب الرب أو الذي يجيء بعده في المرتبة. وربما كان هذا الاصطلاح مستفاداً مما أشار إليه النص العبري الوارد في سفر دانيال 11: 38 ومعناه " رب الحرس "، والحرس هي الأرواح التي تلازم الرب وكانت تعبد، وربما جعل كل روح منها " رباً صغيراً ".
(7) ص: وتحقيراً.
(8) ص: ثم.(3/65)
58 - وفي السفر الخامس أيضاً أن موسى عليه السلام قال لهم (1) : إن السيد إلاهكم الذي هو نار آكلة. وفي موضع آخر من كتبهم ان الله تعالى هو الحمى المحرقة؛ وفي الذي يسمونه " الزبور ": احذر ربك الذي قوته كقوة الجريش (2) . فهذا وشبهه هو الحمق والتناقض وتوليد زنديق سخر منهم وأفسد دينهم. وهم يحققون على سليمان عليه السلام انه بنى بيوت الأوثان لنسائه وقرب لها القرابين، وهو عندهم نبي. وقد مضى الكلام في بطلان كل كلام وعمل يظهر ممن هذه صفته، وانه ليس مأموناً ولا صادقاً، لعنهم الله فإنهم كذبوا على أنبياء الله وافتروا.
59 - ويقرءون في السفر الرابع من توراتهم (3) أن الله تعالى أمرهم أن يضربوا القرن ضرباً خفيفاً، حتى إذا لقوا العدو [161/أ] فليضربوا القرن بشدة ليسمعه فيبصرهم، وفي هذا من السخف والكفر غير قليل، ولكن حق لمن غضب الله عليه وتبرأ منه وألحقه لعنته وألحقه سخطه ان يكون مقدار علمهم وعقولهم التصديق لكل ما اوردنا، والحمد لله رب العالمين على منته علينا بالإسلام، ومحمد صلى الله وسلم.
60 - وهم معترفون بان التوراة طول أيامهم في دولتهم لم تكن عند أحد إلا عند الكاهن وحده، وبقوا على ذلك نحو ألف ومائتي عام، وما كان هكذا لا يتداوله إلا واحد فواحد فمضمون عليه التبديل والتغيير والتحريف والزيادة والنقصان، لا سيما وأكثر ملوكهم وجميع عامتهم في اكثر الأزمان كانوا يعبدون الأوثان ويبرءون من دينهم ويقتلون الأنبياء، فقد وجب باليقين هلاك التوراة الصحيحة وتبديلها مع هذه الأحوال بلا شك. وهم مقرون بان يهوآحاز (4) بن يوشيا الملك الداوودي (5) المالك لجميع بني إسرائيل بعد انقطاع ملوك سائر الأسباط، بشر من التوراة أسماء الله تعالى
__________
(1) " فاعلم اليوم أن الرب إلاهك هو العابر أمامك، نار آكلة (ثتنية: 9: 3) أما قوله: الحمى المحرقة فلم أهتد إليه، ولم يرد لفظ " الحمى " في أسفار العهد القديم إلا في موضعين (تثنية 28: 22 ولاويين 26: 16) وهي لا توصف هنالك بالإحراق، فلعل في النص تحريفاً أو هو منقول من بعض الشروح. أما لفظة " الجريش " فتعني " النافذ " وصفاً للرجل. والنص الذي يشير إليه ابن حزم في المزمور: 77 وليس فيه المعنى الذي أورده ابن حزم.
(2) الجريش؛ غير منقوطة في ص، والتصويب من الفصل 1: 206.
(3) يقابل هذا في (ع) وإذا ذهبتم إلى حرب في أرضكم على عدو يضر بكم تهتفون بالأبواق فتذكرون أمام الرب إلهكم وتخلصون من أعدائكم (عدد 10: 9) .
(4) ص: يهوبا جاري. وفي الفصل (1: 193) يهوخار.
(5) يهوآحاز بن يوشيا الملك الداوودي: انظر الملوك الثاني 13: 31، وأخبار الأيام الثاني: 36، وانظر الفصل 1: 193.(3/66)
وألحق فيها أسماء الأوثان. وهم مقرون أيضاً أن أخاه الوالي بعده وهو الياقيم بن يوشيا احرق التوراة بالجملة وقطع أثرها، وهو في حال ملكه قبل غلبة بخت نصر عليهم. وهم مقرون بان عزرا الذي كتبها لهم من حفظه بعد انقطاع أثرها، إنما كان وراقاً ولم يكن نبياً، إلا أن طائفة منهم قالت فيه إنه ابن الله، قد بادت هذه الطائفة وانقطعت. فأي داخلة أعظم من هذه الدواخل التي دخلت على توراتهم وأما القرآن، فإنه لا يختلف ملي ولا مي أنه لم يزل من حين نزوله إلى يومنا هذا مثبوتاً (1) عند الأحمر والأسود لم ينفرد به أحد دون أحد، بل أبيح نسخه لكل من مضى وجاء، فنقله نقل كواف لا يحصرها عدد، كنقل ان [161 ب] [في] الدنيا بلداً يقال له الهند، وسائر ما لا يجوز للشك فيه مساغ ولا مدخل، والحمد لله كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً.
61 - قال أبو محمد: إن أملي لقوي وإن رجائي مستحكم في أن يكون الله تعالى يسلط على من قرب اليهود وأدناهم وجعلهم بطانة وخاصة، ما سلط على اليهود، وهو يسمع كلام الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم عن الله لا يهدي القوم الظالمين} (المائدة: 51) وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم اكبر} (آل عمران: 118) ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون بالمودة} (الممتحنة:1) ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} (المائدة: 57) ، وقوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} (البقرة: 61) ؛ وقوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} (المائدة: 82) . فمن سمع هذا كله، ثم أدناهم وخالطهم بنفسه من ملوك الإسلام فإنه إن شاء الله تعالى قمين (2) أن يحيق الله عز وجل به ما أحاق بهم من الذلة والمسكنة والهوان والصغار والخزي في الدنيا سوى العذاب المؤلم في الآخرة.
__________
(1) مثبوتاً، كذا في ص، ولعله مبثوثاً.
(2) ص: من.(3/67)
62 - وإن من فعل ذلك لحري (1) أن يشاركهم فيما أوعد الله تعالى في توراتهم في الصفر الخامس إذ يقول لهم تعالى (2) : سنأتيكم وسيأتي عليكم هذه اللعنة التي أصف لكم فتكونون ملعونين في مدائنكم وفدادينكم وتلعن أجدادهم وبقاياكم ويكون نسلكم ملعوناً، وتكون اللعنة على الداخل منكم [162/ أ] والخارج، فيبعث الله عليكم الجوع والحاجة والنصب في كل ما علمته أيديكم حتى يهلككم ويقل عددكم لتخليكم منه. ثم يلقي الوبأ على بقيتكم ليقطع آثاركم من الأرض التي أورثكموها ويبعث الرب عليكم الجدب ويهلككم بالسموم والثلوج، ويحيل آثاركم ويطلبكم حتى يندركم ويجعل سماءه فوقكم نحاساً وأرضكم التي تسكنونها حديداً، فتمطر عليكم الغبار من السماء، وينزل عليكم الدماء حتى تهلكوا عن آخركم ويظفر الرب بكم أعداءكم فتدخلون إليهم على طريق واحدة وتنهزمون على سبعة، ويفرقكم في آخر أجناس الأمم، فتكون جيفكم طعم السباع وطيور السماء ولا يكون لهم عنكم دافع، ويبتليكم الرب بما ابتلى به المصريين (3) في أدبارهم من الحكة والأكال (4) الذي لا دواء له، ويبتليكم الرب بالبلية والغم حتى تماسكوا بالحيطان القليلة كتماسك العميان، ولا تقوموا على إقامة سبلكم فتكونوا في هضيمة طول دهر وفي سخره لا يكون لكم منفذ. ويتزوج أحدكم امرأة فتخالفه إلى غيره، ويبني أحكم بيتاً ويسكنه غيره؛ ويغترس كرماً ويقطفه غيره، ويذبح بين قدمي أحدكم ثورة ولا يطعم منه، وينزع من أحكم حماره معاينة ولا يرد إليه، وتعطى مواشيكم الأباعد، ولا تجدون ناصراً على ردها وتغلب على أولادكم وبناتكم، ولا يكون فيكم قوة للدفع عنهم، وتأكل حبوبكم أجناس تجهلونها وفواكه ارضكم، وتكونون مع ذلك في هضيمة أبداً وفي جزع منهم، فيبتليكم الرب بأجناس الأمراض وأضرها (5) التي لا دواء لها من أقدامكم إلى رؤوسكم، ويذهب (6) بالملك الذي تقدمونه على أنفسكم إلى قوم لم تعرفوهم ولا آباؤكم، لتجدوا (7) عندهم أصنامهم المصنوعة من الخشب والرخام،
__________
(1) ص: يجري.
(2) راجع هذا النص في تثنية: 28: 15 - 58.
(3) ص: المصرتدين.
(4) ص: الأكال (بدون واو) .
(5) ص: وضرها.
(6) ص: فتذهب.
(7) ص: لتجد، ولعلها لتتخذوا.(3/68)
وتكونون مثلاً لمن سمع بكم من جميع الأجناس التي أندركم فيها، فتزرعون كثيراً وترفعون قليلاً، لان الجراد [162 ظ] يأتي عليه، وتعمرون كرومكم وتحفرونها ولا تقطفون (1) منها شيئاً، لان الدود يأتي عليها. ويكثر زيتونكم ولا تدهنون (2) لأنها لا تعقد. ويولد لكم الأولاد والبنات ولا تنتفعون بهم لأنهم يساقون في السبي. ويأتي على جميع فواكه بلدكم القحوط والجدب فلا تنتفعون بها. ومن كان بين ظهرانيكم من [أهل] القرى يلعنونكم ولا يشفقون عليكم، فتتواضعون ويكون (3) الأرذال يشتمونكم وتكونون لهم ساقة فيأتي عليكم جميع هذه اللعنات وتتبعكم حتى تحزوا، إذ لم تسمعوا للرب إلاهكم، ولم تحفظوا رسالاته التي عوهدت إليكم، وتكون فيكم العجائب والمسوخ في ذريتكم في الأبد، إذ لم تقفوا عند أمر الرب إلاهكم بطيب أنفسكم (4) ، فتخدمون أعداءكم الذين (5) يبعث الرب عليكم في الجوع والعطش والعري والحاجة، وتحملون على رقابكم أغلال الحديد وتجرونها؛ ويأتي الرب عليكم بجيش من مكان بعيد في سرعة العقبان من الذين لا يكرمون شيخاً ولا يرحمون صغيراً، فيأكلون نتاجكم وما أنبتت أرضكم، ولا يدعون لكم سمناً ولا خمراً ولا زبيباً ولا ثوراً ولا شاة حتى يأتوا عليكم ويخرجوكم من جميع مدائنكم التي يرثكم الرب إلاهكم وتضيق عليكم حتى تأكلوا وسخ أجوافكم ولحوم (6) أولادكم وبناتكم الذين يولدون (7) لكم في زمان حصاركم، فمن كان منكم مترفاً أو متملكاً يمنع أخاه وامرأته لحوم (8) بنيه شحاً عليها إذ لا يجد ما يقتات به سواه من شدة الحصار من أعدائكم لكم. ومن كانت فيكم رخصة البنان التي لا تقوى على المشي من رخوصتها تحسد زوجها على أكل لحوم أولادها، والسلى الذي يخرج من فرجها، إذ لا تجد (9) مطمعاً سواه.
63 - قال أبو محمد: هذه بشارة من الله تعالى لهم، ومنحته التي خصهم بها
__________
(1) ص: تقطعون.
(2) ص: تذهبون.
(3) ص: وتكون.
(4) ص: يطلب أنفسكم.
(5) ص: الذي.
(6) ص: وتحوم.
(7) ص: يولدون.
(8) ص: نخوم.
(9) ص: يجد.(3/69)
بإقرارهم ألسنتهم، وفي كتابهم [163/أ] الذي يقرءونه. فيلتق الله تعالى امرؤ آتاه الله تعالى نعمة من نعمه، ومنحه عزة، وليجتنب هؤلاء الأنجاس الأنتان الأقدار الذين أحاق الله تعالى بهم من الغضب واللعنة والذلة والقلة والمهانة والسخط والخساسة والوسخ ما لم يحق بأمة من الأمم قط. وليعلم أن هذه الكسى التي كساهم الله تعالى إياها (1) أعدى من الجرب، وأسرع تعلقاً من الجذام، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، ومن معارضة الله تعالى في حكمه بإرادة إعزاز من أذله الله تعالى، ورفعة من حطه الله، وأكرام (2) من أهانه الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
64 - قال أبو محمد: قد أوردنا في هذا الكتاب من شنعهم أشياء تقشعر منها الجلود، ولولا ان الله تعالى نص علينا من كفرهم ما نص كقوله تعالى عنهم: إنهم قالوا عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وأن الله فقير ونحن أغنياء، لما استجزنا ذكر ما يقولون لشنعته وفظاعته. ولكننا اقتدينا بكتاب الله عز وجل في بيان كفرهم، والتحذير منهم (3) . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله [وسلم] .
تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه
وصلى الله على محمد عبده ورسوله
وعلى آله وصحبه أجمعين
وسلم تسليماً كثيراً
يا رب العالمين
__________
(1) ص: إياه.
(2) ص: وأكرم.
(3) مثل هذا العذر في رواية ما يقوله اليهود قد ردده ابن حزم أيضاً في الفصل 1: 233 قال: ولولا ما وصفه الله تعالى في كفرهم وقولهم: يد الله مغلولة، والله فقير ونحن أغنياء، ما انطلق لنا لسان بشيء مما أوردنا ولكن سهل علينا حكاية كفرهم ما ذكره الله تعالى لنا من ذلك.(3/70)
2 - رسالتان أجاب فيهما عن رسالتين
سئل فيهما سؤال تعنيف.(3/71)
فراغ(3/72)
- 2 -
[172/أ] رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين
سئل فيهما سؤال التعنيف والله أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم، عونك يا الله.
قال أبو محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً، ورضي الله عن الصحابة.
أما بعد، فإن بعض من تكلم بما وقر في نفسه بغير حجة وانطلق به لسانه بغير برهان، كتب كتاباً خاطبنا فيه معنفاً على ما لم يفهمه ومتعرضاً لما لا يحسنه، واستتر عنا مدة، ثم ظهر إلينا، فلزمنا أن نبين له موضع الخطأ من كلامه، ونوقفه على مخالفته للحق، تأدية للنصيحة التي افترضها تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول (1) : " الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين عامة ".
ونحن نورد نص ألفاظهم، على ركاكتها وغثاثتها، لئلا يظنوا بجهلهم أنها إن أوردت مصلحة قد نسخت (2) حقها ولم توف مرتبتها، ونبين، بعون الله، عظيم ما فيها من الفساد والهجنة، وما توفيقنا إلا بالله العلي العظيم.
1 - بدأ هؤلاء القوم كتابهم بعد أن قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم: " أما بعد رعاك الله وكلأك - فإن خصمك يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الشيوخ الثقات عنهم، وتضمن ذلك كتب جمة هي معلومة مشهورة مسموعة رواية رواها الثقات عنهم وهم في جملتهم عدد كثير، إلى قول واحد يطلب التعليل والاحتجاج ويرد بالمنطقي على الشرعي ".
__________
(1) أورده البخاري ومسلم في باب الإيمان (42،95) .
(2) أرجح أن الصواب: بخست.(3/73)
فالجواب - وبال التوفيق - أن خصمنا يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الثقات إلى آخر الفصل (1) - كلام يشاركهم فيه كل فرقة من فرق الإسلام، فليسوا أولى بهذه القصة من أصحاب أبي حنيفة ولا من أصحاب الشافعي، ولا من أصحاب أحمد بن حنبل [172 ب] رحمه الله على جميعهم، فكل لهم ثقات على الجملة وثقات عندهم، عن لم يكونوا أكثر من شيوخ المالكيين لم يكونوا أقل منهم، قد رووا أقوالهم وقيدوها عن الثقات كذلك، وهم أيضاً في جملتهم عدد كبير. وتضمنت تلك الأمور كتب الثقات عنهم، ليس جهل هؤلاء بها حجة على أولئك، كما أن أولئك أيضاً لا يعرفون كتب المالكيين، وأكثرهم لم يسمع قط بأسمائها، فأي فرق بين هذه الدعاوى لو نصحوا أنفسهم
وأما قولهم في الخروج عما هذه صفته إلى قول واحد، فمعاذ الله أن ندعو أحداً إلى قول أحد غير قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يقول الكاره والراضي منهم والمسلم والراغم إنه الحق الذي لا حق في الأرض سواه.
وأما قولهم: إنا نرى التعليل والاحتجاج، فقد مزحوا الكذب بالصدق والباطل بالحق، وأعوذ بالله أن نرى التعليل، بل قد رمونا ها هنا برأيهم، وهم الداعون إلى التعليل لا نحن، وكتب حذاقهم في إثبات العلل والقول بالتعليل مملوءة، كما أن كتبنا وكتب أصحابنا مملوءة من إبطال العلل والمنع من التعليل. فلو اتقى الله تعالى هؤلاء القوم لم يتكلموا فيما لا يحسنونه وقد سمعوا قول الله تعالى: {هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) .
وأما قولهم إننا نرد بالمنطقي على الشرعي، فكذب وجهل ومكابرة، ونحن الداعون إلى الشرع، لأننا إنما ندعو الناس إلى كتاب الله تعالى الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت: 42) وإلى بيان رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي أمره الله تعالى بالبيان عنه، وإلى إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف يرد على الشرعي من هذه صفته إنما يرد على الشرعي من يدعى إلى كلام الله تعالى وكلام نبيه محمد صلى عليه وسلم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فيعارض [173/أ] ذلك برأيه ويعرض عن ذلك إلى قياسه، إن (2) كان
__________
(1) ص: الفعل.
(2) ص: وإن.(3/74)
عند نفسه ممن يفهم، أو إلى تقليده إن تقليده إن كان مقصراً معترفاً بتقصيره. فلينظروا هم ونحن في هاتين الصفتين: من الجاهل لكل صفة منهما (1) ثم لينظر كل واحد منا الجزاء من الملي بالمجازاة، من الذي لا إله إلا هو.
2 - ثم قالوا: " والشرع إنما هو مسموع متبع معمول به ".
فالجواب: إن هذا حق صحيح، ولكن يلزمهم تبيين من هو الشرع منه مسموع ومن هو المتبع في الشرع، وشرع من هو المعمول به. فإن (2) قالوا: إنه لا يسمع الشرع إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، ولا يتبع في الشرع أحد سواه عليه السلام، ولا يجوز العمل إلا بشرعه، صدقوا وهو قلنا، ولله الحمد، ووافقونا وانقطع الخلاف. فإن قالوا غير هذا لزمهم ما لا يخفى على أحد من أهل الإسلام، فإن قالوا: هو مسموع من العلماء وهم المتبعون فيه، قيل لهم: هل اتفق العلماء أو اختلفوا فإن قالوا: اتفقوا، كذبوا كذباً لا يخفى على ذي عقل، ولا يرضي بالكذب إلا خسيس لا دين له ولا مروءة. وغن قالوا: بل اختلفوا، قيل لهم: فلا تموهوا بإجمال ذكر العلماء من أهل الأمصار.
3 - ثم قالوا: " فمن الشرع ما قد عمل به، ثم ترك لحديث وارد نسخه، أو لوهن في طريقه فلم يصح، أو لم يقع الإجماع على استعماله من أجل ذلك ".
الجواب - وبالله التوفيق - عن قولهم: فمن الشرع ما قد عمل به، ثم ترك لحديث وارد نسخه، فينبغي لمن تعاطى هذا يورد (3) ذلك الحديث الذي نسخ ذلك الشرع، فإن أورده لزم الانقياد له، وغن عجز عن ذلك فليتق الله على نفسه، ولا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يقول عليه بظنه ما لا يعلم صحته، فان الله تعالى يقول: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (يونس: 36) ، وقد صح أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتبوأ مقعده من النار (4) ، ومن [173 ب] ترك شرعاً صحيحاً لدعواه الكاذبة أن ها هنا حديثاً قد نسخه، ولا يدري صحة ذلك ولا يعرفه، فقد أتى أكبر الكبائر، ونعوذ بالله من الخذلان.
__________
(1) ص: منها.
(2) ص: بأن.
(3) ص: بورود.
(4) ورد في أكثر كتب الصحاح (انظر مثلاً البخاري: علم: 38 ومسلم، إيمان: 112) وراجع مسند أحمد 1: 65، 70، 78، 130 ومواطن أخرى كثيرة جداً.(3/75)
وأما قولهم: لوهن في طريقه فلم يصح، فهذا علم ما يدرى منهم أحد يدري فيه كلمة فما فوقها، ومن تكلم فيما لا يدري فقد تعرض لسخط الله، إذ يقول: {وتقولون لأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} (النور: 15) .
ثم أطرف شيء قولهم: " أو لم يقع الإجماع على استعماله "؛ نسأل هذا الجاهل الذي أتى بهذه الطامة عن كل ما يدينون ما خالف فيه مالكاً سائر العلماء، وربما بعض أصحابه: هل وقع الإجماع على استعماله (1) أم لا فغن قالوا: وقع الإجماع على استعماله، كابروا أسمج مكابرة، وناقضوا بادعائهم الإجماع على ما فيه الاختلاف بإقرارهم. وغن قالوا: لم يقع الإجماع على استعماله، قيل لهم: فكيف تعيبون القول بما لم يقع الإجماع على استعماله وانتم تقولون في أكثر أقوالكم بما لم يقع الإجماع على استعماله ولو أن من هذا مبلغه من العلم سكت، لكان أولى به وأسلم، والحمد لله على مننه.
4 - ثم قالوا: " وليس يشك أن المتقدمين من الصحابة والتابعين والسلف الماضين قد بحثوا عنه ووقفوا منه على حقيقة أوجبت تركه أو استعماله (2) ، فسكتوا عن ذلك للمعرفة الثابتة التي وردتهم (3) ، وإنهم في غير الثقة والقبول غير متهمين ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إنه جرى (4) أيضاً في هذا الفصل أيضاً من البرد والغثاثة على مثل ما جرى عليه قبل هذا. ويقال لهم: هل اتفقوا -[اعني] الصحابة والتابعين والسلف الماضين - على كل شيء من مسائل الدين حتى لم يختلفوا، أو اختلفوا فان هم (5) قالوا: لم يختلفوا في كل مسألة، ظهر كذبهم على جميعهم وصاروا في نصاب من يرجم لعظم ما تقحم [174/أ] فيه. وإن قالوا: اختلفوا في كثير من المسائل، قيل لهم: صدقتم، فأما ما اجتمعوا عليه فنحن الذين اتبعوا إجماعهم، ولله الحمد كثيراً، وإنما خالف إجماعهم من دعا إلى تقليد إنسان بعينه، كما فعل هؤلاء في تقليدهم مالكاً دون غيره، ولم يكن قط في الصحابة، ولا في
__________
(1) ص: استعمال.
(2) ص: واستعماله.
(3) ص: المعرفة الباقية التي زودتهم.
(4) ص: جزا.
(5) ص: فإنهم.(3/76)
التابعين، ولا في القرن الثالث واحد فما فوقه فعل هذا الفعل، ولا أباحه لفاعل، فهم المخالفون حقاً للإجماع حقاً في هذا وفي مسائل (1) أخر قد أوضحناها في كتبنا.
وأما ما اختلفت فيه الصحابة، رشي الله عنهم، فليس قول بعضهم أولى من قول بعض، ولا يحل تحكيم إنسان ممن دونهم في الاختيار في قولهم، ولا يجوز في ذلك إلا ما أمر الله تعالى به، إذ يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 95) ، فمن رد الاختلاف إلى اختيار مالك (2) وأبي حنيفة والشافعي أو إنسان بعينه، فقد خالف القرآن والإجماع المتقدم من الصحابة والتابعين، وهو الإجماع الصحيح.
وأما قولهم: إن الصحابة والتابعين بحثوا عنه ووقفوا على حقيقة أوجبت تركه، فهذه صفة معدومة فيما لم يصح نسخه، ولا سبيل إلى وجوبها إلا فيما تيقن نسخه كالقبلة إلى بيت المقدس، وما أشبه ذلك. وأما ما اختلفوا، فحاشا لله أن يكون إجماعاً فيما قد صح فيه الخلاف.
وأما الطامة فقولهم: " فسكتوا عنه للمعرفة الثابتة التي وردتهم "، فهذه عظيمة نعوذ بالله من أن يظن مثلها بالصحابة، رضي الله عنه، من أن سكتوا عن تبليغ ناسخ صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فعل هذا فقد وجبت عليه اللعنة وحقت، قال الله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون* إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك [174 ظ] أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} (البقرة: 159 - 160) ، فكيف يحل لمن يدري ما الإسلام أن يظن أن الصحابة والتابعين اتفقوا على السكوت عن ذكر حديث ناسخ لعمل شرعي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما لا يظنه بهم إلا الروافض الملعونون، ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما قولهم: " وإنهم في غير الثقة والقبول غير متهمين "، صحيح، وهو قولنا لا قولهم؛ لأنا نحن الذين ندين لله تعالى بكل ما أسنده لنا الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا ما صح نسخه وعلم (3) ناسخه، أو ثبت تخصيصه
__________
(1) ص: في مسائل.
(2) ص: مالكاً.
(3) وعلم: مكررة في ص.(3/77)
ونقل ما خصه؛ ونحن الذين قبلنا منهم حقاً، وإنما ترك توقيفهم (1) ورفض القبول منهم واتهمهم من اطرح جميع أقوالهم، ولم يلتف إليها، ولا اشتغل إلا قول مالك وحده، وحكم عليهم رأي مالك واختياره، فهذا هو المتهم لهم حقاً، لا من لم يخالف إجماعهم ولا حكم في اختلافهم أحداً (2) غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأي أقوالهم حكم النبي صلى الله عليه وسلم قال به، والحمد لله رب العالمين.
5 - ثم قالوا: " فوجب لهذا الطالب المجتهد الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم والأخذ بسيرتهم إذ عنهم أخذ دينهم، وهم الناقلون إليه شريعته نقل كافة عن كافة، ونقل واحد عن كافة، ونقل كافة عن واحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكرم ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن قولهم: وجب لهذا الطالب المجتهد الاقتداء بهم، وسلوك طريقتهم، والأخذ بسيرتهم فصحيح إن فعلوه، وحق إن عملوا به، ونحن نسألهم ونناشدهم الله ما الذي يدينون به ربهم تعالى: أهو ما (3) وردهم عن الصحابة والتابعين، أو ما وجدوا في المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك فغن قالوا: بما جاءنا عن الصحابة، كذبوا كذباً يستحقون به المقت من الله تعالى، ومن [175/ أ] كل من سمعهم. فإن قالوا: بل بما جاءنا من رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، فليعلموا أنهم لم يقتدوا بالصحابة والتابعين والسلف المرضيين، ولا سلكوا طريقهم، ولا أخذوا بسيرتهم. وإن قالوا: إن مالكاً (4) لم يخالف طريقة الصحابة والتابعين، قيل لهم: ما مالك بهذا أولى ممن خالفه كسفيان الثوري والليث والأوزاعي وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ومن ادعى على هؤلاء وغيرهم أنهم (5) كلهم خالفوا الصحابة والتابعين، حاشا مالكاً وحده، قالوا الكذب والباطل، ولم ينفكوا ممن عكس عليهم هذه الدعوى الكاذبة فنسب إلى مالك ما نسبوه هم إلى غير مالك، وحاشا لله من هذا، بل كل امرئ منهم مجتهد لنفسه يصيب ويخطئ، وواجب عرض أقوالهم على القرآن والسنة، فلأيها شهد القرآن والسنة أخذ بقوله وترك ما عداه. وقد بينا ان سيرة الصحابة والتابعين وطريقهم هي الاجتهاد، وطلب سنن النبي صلى الله عليه ولسم ولا مزيد،
__________
(1) ص: نزل توفيقهم.
(2) ص: أحد.
(3) ص: بما.
(4) ص: مالك.
(5) ص: أن.(3/78)
وترك تقليد (1) إنسان بعينه. فهم قد خالفوا جميع سيرة الصحابة والتابعين، وخالفوا طريقهم، ولم يقتدوا بهم، ونحن مقتدون بهم حقاً، والحمد لله رب العالمين.
وأما قولهم: " فعنهم أخذ دينه "، فلو اتقوا الله تعالى ولم يكذبوا كان أسلم لهم في الدنيا والآخرة، ولو رجعوا إلى أنفسهم فنظروا هل رووا ما يدينون به عن الصحابة والتابعين أو لم يشتغلوا قط بشيء من ذلك فأن كان عندهم الصحابة والتابعون (2) إنما هم مالك وحده، فهذه حماقة (3) لا يرضاها لنفسه ذو مسكة.
وأما قولهم: " وهم المبلغون والناقلون إليه شريعته نقل كافة عن كافة (4) ونقل واحد عن كافة، ونقل كافة عن واحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم "، فهذه والله طريقتنا لا طريقتهم، وسبيلنا لا سبيلهم، هذا أمر لا يستطيعون إنكاره؛ لأنهم لا يشتغلون بحديث أصلاً، ولا بأثر، إنما هو قول مالك وابن [175ب] القاسم، وهذا رأي، ولا مزيد إلا في الندرة فيما لا يعرفون صحته من سقمه، وفيما يأخذون بعضه، ويخالفون بعضه تظارفاً (5) ولا مزيد، ونسأل الله التوفيق.
6 - ثم قالوا: " ففي الخروج عن الثقات وعن الجماعة إلى رأي واحد إن كان ذلك الواحد من جملة الجماعة لا مزية له عليه، فهو والله شذوذ، وخطأ لا يحل "، وهذه صفتهم في خروجهم عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، وسائر الفقهاء لهم إلى رأي مالك وحده، إن كان ذلك الواحد هو الذي أجازه الله تعالى برسالته، واستصفاه لوحيه وعصمه، وافترض طاعته على الجن والأنس، فقد وفق (6) من خالف بأهل الأرض كلهم له، فكيف وجميع (7) الصحابة والتابعين مجموعون على وجوب ترك قول كل قائل لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه طريقتنا، والحمد لله رب العالمين كثيراً. فانظروا الآن من الزائر منا ومنهم، ومن الشاذ نحن أم هم وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل.
__________
(1) ص: التقليد.
(2) ص: والتابعين.
(3) ص: جماعة.
(4) عن كافة: مكررة في ص.
(5) ص: بطارقة.
(6) ص: وقف.
(7) ص: جميع.(3/79)
7 - ثم قالوا: " ولاسيما أن هذا المدعي الحق فيما يمتثله ويؤثره ويصوبه من الترتيب، والهيئات، والاشتقاق، والتفتيق، وتغليب الظاهر، وإعماله على مفهوم خطابه على ما يبدو للسامع، وترك الأخذ بالتأويل، والأحكام الماضية من السلف الصالح ".
فالجواب - وبالله التوفيق - إن هذا كلام مخلط يشبه كلام الممسوسين (1) لأنه ناقص غير تام، وما ندعي الحق إلا فيما لا يقدر أي واحد (2) منهم أن ينكر ان الحق فيه من القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط، وأما ذكر هيئات واشتقاق وتفتيق، فحمق صفيق، وهذيان عتيق، ومن عند الله يكون التوفيق.
وأما تغليبنا الظاهر وإعماله، على مفهوم خطابه، فكلام لا يعقل لاستعمال الظاهر دالاً بمفهوم خطابه، وهو نفسه الذي يبدو للسامع منه، لا معنى للظاهر غير ذلك. فلو عقل هؤلاء المساكين [176/أ] ما تكلفوا ما يفتضحون فيه من قرب، لكن من يضل الله فلا هادي له.
وأما ترك الأخذ بالتأويل، فلا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما تأويل يشهد بصحته القرىن، او سنة صحيحة أو إجماع، فبه نقول إذا وجدناه، وإما تأويل دعوى لا يشهد بصحته (3) نص قرآن، ولا إجماع، فهذا الذي ننكره وندفعه ونبرأ إلى الله تعالى منه. فإن كانوا أنكروا إنكارنا هذا الباطل، فما يحتاج معهم إلى تطويل أكثر من أن نقول لهم: ما الفرق بين تأويلكم العاري من شهادة القرآن والسنة، وبين تأويل غيركم من الحنفيين (4) والشافعيين إذا عري أيضاً من تصحيح القرآن والسنة وهذا ما لا سبيل إلى فرق بينه، ولا يتبع شيئاً مما هذه صفته بعد قيام الحجة ووصول البيان إليه إلا (5) محروم التوفيق محروم البصيرة.
وأما الأحكام الماضية بين السلف الصالح، رضى الله عنهم، فإنها لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أحكام لم يختلفوا فيها، وإما أحكام اختلفوا فيها:
__________
(1) ص: المشوشين.
(2) ص: على واحد.
(3) ص: بصحة القرآن.
(4) ص: الحنيفيين.
(5) ص: لا.(3/80)
فأما الأحكام التي لم يختلفوا فيها، فهم الذين يخالفونها كخلافهم إعطاء أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما - بحضرة الصحابة دون خلاف من أحد منهم - ارض خبير اليهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر إلى غير أجل، فخالفوا هذا الحاكم، وقالوا: هذا باطل لا يجوز. وغير هذا كثير جداً قد جمعناه عليهم مما لا ينكرون صحته.
وأما الأحكام التي فيها [اختلاف] ، فإنا حكمنا فيما امرنا الله تعالى أن يرد إليه ما تنازع العلماء فيه من القرآن، ومن السنة الصحيحة، فلأيهما شهد القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحة أخذناه. وأما هم فحكموا على الصحابة رضي الله عنهم رأى مالك، واختيار ابن القاسم، فلينظر الناظر أي الطريقين أهدى فإن قالوا: ما يتهم مالك ولا بن القاسم. قيل لهم: ولا يتهم سفيان ولا ابن المبارك ولا الأوزاعي ولا الوليد بن مسلم [176 ب] ولا الليث ومن روى عنه، ولا احمد بن حنبل ولا سائر الفقهاء، فأي فرق بين تحكيم أولئك فيما اختلف فيه السلف، وبين تحكيم هؤلاء ومن فوقهم من التابعين
8 - ثم قالوا: " وهو مع ذلك ضعيف الرواية عار من الشيوخ، وإنما هي كتب حسنها وأتقنها وضبطها؛ فمنها مروي مما قد رواها (1) على شيخ أو شيخين لا أكثر، ومنها كتب مشهورة ثابتة بيده صحيحة، مثل المسانيد، والمصنفات والصحيح كمسلم والبخاري، لا يمترى في شيء منها، ومنها ما قد خفي على المحتج لعدم الراوي لها، وقلة استعمالها أو لطروئها (2) وحدوثها في بلدتنا لم يروها علماء بلدنا، ولا شغلوا (3) بها، ولا سمعوا بها فيما مضى عمن مضى، فنافروها ولم يقبلوا عليها، فهم لا مكذبون (4) لها، ولا عاملون [بها] ، ثم إنهم رأوا فيها تغليب أحاديث قد تركت وسكت عنها الصحابة والتابعون، والعلماء الماضون، ومخالفة أحكام قد حكم بها السلف الصالح وقضوا بها واستمر الحكم عليها ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كلام مخلط في غاية التناقض.
أما قولهم عنا بضعف الرواية، والتعري من الشيوخ، فلو كان لهم عقول لأضربوا
__________
(1) ص: قدروها.
(2) ص: لطرسها.
(3) ص: شعاع.
(4) ص: يكذبون.(3/81)
عن هذا، لأنهم ليسوا من أهل الرواية فيعرفوا قويها (1) من ضعيفها، ولا اشتغلوا [بها] قط ساعة من الدهر، وما يعرفون إلا المدونة على تصحيفهم لها، وما عرفوا قط من الصحابة، رضي الله عنهم، رجلاً، ولا من التابعين عشرة رجال، ولا يفرقون بيت تابع وصاحب، سوى من ذكرنا، فلا حياء يمنعهم من أن يتعرضوا للكلام في الرواية. وأكثر المتكلمين في هذا الباب لا يقيمون الهجاء، ولا يعرفون ما حديث مسند من حديث مرسل، ولا ثقة من ضعيف، ولا حديث النبي صلى الله عليه وسلم من كعب الاحبار، وما منهم أحد يمزج له حديث موضوع مع صحيح فيميزه (2) ، ثم يقولون: عار من الشيوخ، وهم ما كان لهم شيخ قط، ولا عمروا لمجلس حديث، ولا اشتغلوا [177/أ] بتفنيده (3) ، إنما كان عندهم عبد الملك بن سليمان الخولاني (4) ، فكان (5) شيخاً صالحاً لم يكن أيضاً (6) مكثراً من الرواية، كان ربما ألم به بعضهم إلمام من لا يدري ما يطلب، يخرجون من عنده كما دخلوا، لم يعتدوا قط عنه كلمة، ولا اهتبلوا بما يروي بلفظة، إنما يقعدون عنده قعود راحة، إذا لم يكن عليهم شغل. ثم لم يلبث هؤلاء الخشارة أن نقضوا كذبهم خذلاناً من الله تعالى، فشهدوا لنا بأنها كتب أتقناها وضبطناها، منها مروي رويناها عن شيخ أو شيخين، ومنها كتب مشهورة ثابتة بأيدينا مثل المسانيد المصنفات، لا يمترون فيها. وهذا ضد ما حكموا من تعرينا من الشيوخ ومن ضعف الرواية، فهم لا يدرون ما يقولون ولا يبالون بالكذب والفضيحة (7) ، لكنا والله نصفهم بما هم (8) أهله من انهم ماضبطوا قط كلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صاحب ولا عن تابع، ولا يحسنون قراءة حديث لو وضع بأيديهم، ولا يفرقون بين جابر بن عبد الله وجابر بن زيد ولا يفرقون بين رأي
__________
(1) ص: قربها.
(2) ص: فيميزه.
(3) ص: بتنفيذه؛ وقد تقرأ " بنقده ".
(4) عبد الملك بن سليمان الخولاني أبو مروان: محدث سمع بالأندلس، وأفريقية، ومصر، ومكة. قال الحميدي: وسمعنا بالأندلس منه الكثير؛ (قلت: وربما خالف هذا ما يقوله ابن حزم) توفي بميورقة قبل 440 هـ (الجذوة: 266 وعنه الصلة: 343) .
(5) ص: فكانا.
(6) ص: أيضاً له.
(7) الأصوب: والعضيهة.
(8) ص: هو.(3/82)
ورواية (1) .
وأما أن من كتبنا ما خفي على المحتج لعدم الراوي لها (2) وقلة استعمالها، فما خفاء العلم على الحمير حجة على أهل العلم، ولا قلة طلبهم لرواية السنن دليلاً على عدم الراوي، بل الرواة ولله الحمد موجودون. فمن (3) أراد الله تعالى به خيراً وفقه لطلب ما يقرب منه، ولم يشغله عما يعنيه ما لا يعنيه وما لا يغني عنه من الله شيئاً؛ وكذلك ليس قلة استعمالهم لتلك الكتب عيباً على الكتب، إنما (4) العيب في ذلك على من ضيعها، وحظ نفسه ضيع لو عقل.
وأما ما ذكره من طروئها في بلدهم، فما بلدهم حجة على أهل العلم، ولكن هكذا (5) يكون إزراء السكارى على الأصحاء، واعتراض أهل النقص على أهل الفضل. والعجب كله قولهم: " علماء بلدنا "، وهذه والله صفة معدومة في بلدهم جملة، فما يحسنون ولله الحمد لا رأياً ولا حديثاً ولا علماً [177 ب] من العلوم إلا الشاذ منهم والنادر ممن هو عندهم مغموز (6) عليه، " والجاهلون لأهل العلم أعداء "، ومن جهل شيئاً عاداه (7) . والعجب أيضاً عيبهم كتب العلم بأنهم لم يسمع ذكرها عندهم ولا سمعوا بها فيما مضى، فنافروها ولم يقبلوا عليها. إن هذا لعجب، فإذا نافرت كتب العلم هذه الطبقة المجهولة الجاهلة، فكان ماذا لقد اذكرني هذا الجنون ما حكاه الأصمعي (8) ، فإنه ذكر أنه مر بكناسين على حش، أحدهما يكيل والثاني يستقي، والأعلى يقول للأسفل: إن المأمون سقط من عيني مذ قتل أخاه! فما سقوط هذه الكتب عند هؤلاء الجهال إلا كسقوط المأمون من عين الكناس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما قولهم: إنهم رأوا فيها تغليب أحاديث قد (9) تركت، فليت شعري من تركها
__________
(1) ص: رواية.
(2) ص: بها.
(3) ص: لمن.
(4) ص: إما.
(5) ص: هذا.
(6) ص: معموراً.
(7) من جهل شيئاً عاداه، يظن بعضهم أنه حديث، قال ابن الديبع: ليس بحديث، انظر الأخبار الموضوعة: 341.
(8) ما حكاه الأصمعي إلخ، انظر في الامتاع 2: 54 حكاية مشابهة.
(9) ص: فقد.(3/83)
لئن كان تركها تارك لقد أخذ بها من هو فوقه أو مثله، وما ضر الحديث الصحيح من تركه، بل تاركه هو المحروم حظ الأخذ به، فإما مخطئ مأجور في اجتهاده، وإما عاص لله تعالى في تقليده في ترك السنة.
وأما قولهم: وسكت عنها الصحابة والتابعون والعلماء الماضون. فقد كذبوا على الصحابة والتابعين، وعلى العلماء الماضين، ونسبوا إليهم الباطل، وكيف سكتوا عنها وهم رووها ونقلوها وأقاموا بها الحجة على من بعدهم كالذي يلزمهم.
وأما قولهم: ومخالفة أحكام قد حكم بها السلف الصالح: ما خالفوا قط حكماً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغن كان واحد منهم أو اثنان خالفوا بعض ذلك، فقد وافقه غير المخالف ممن هو ربما فوق المخالف له أو مثله، والحجة كلها هي القرآن والسنة لا ترك تارك ولا أخذ آخذ، والحق حق أخذ به أو ترك، والباطل باطل أخذ به أو ترك، وما عدا هذا فهذر وهذيان، وبالله تعالى التوفيق. وما نعلم أشد خلافاً لما حكم به الصحابة والتابعون [178/أ] منهم - كم قصة في الموطأ خاصة لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وغيرهم رضي الله عنهم خالفوها!! فمن السلف الصالح إلا هؤلاء لو عقلوا ونعوذ بالله من الخذلان والجبن.
9 - ثم قالوا: " ثم رأوا تصنيفاً وتمثيلاً واشتقاقاً وتعريفاً ونتائج تلزم المرء على سبيل طريق الاحتجاج، وظاهر القول مما يحكمه البيان، وينطلق به اللسان وتصوبه اللغة وتقيمه (1) [الحجة] وتصرفه الألحان من الكلام والأفانين من النحو وتحبير المعاني باللفظ وإشعارها بالحس وتنبيهها بالجرس، فأنكروا (2) ذلك وفروا عنه، إذ (3) لم يكن ذلك طريقة من مضى ولا سنن [من به] يقتدى، فوقع النفار في النفوس، وجعلوا ذلك كله بدعة وحدوث شرع، وزيادة وتنميقاً أحدثوه (4) أصحاب الكلام، وأهل البدعة ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -: إن في هذا الكلام عبرة لمن اعتبر، فأول ذلك إقرارهم لنا بأنهم رأوا لنا تصنيفاً وتعريفاً (5) ونتائج تلزم المرء على طريق الاحتجاج
__________
(1) ص: وتفهمه.
(2) ص: أنكروا.
(3) ص: إذا.
(4) أحدثوه: كذا في ص؛ وله أشباه - ولعله هنا نص قولهم فلم يغيره ابن حزم.
(5) ص: وتفريقاً ولعلها " وتفتيقاً ".(3/84)
وظاهر القول مما يحكمه (1) البيان وينطق به اللسان وتصوبه اللغة وتقيمه الحجة وبصرفه (2) اللحن بأفانين النحو وتحبير المعاني في اللفظ، وإشعارها بالحس وتنبيهها بالجرس. وهذه - ولله الحمد - نعمة جليلة لله تعالى علينا لا نقوم بشكرها، وهل الحق إلا في النتائج اللازمة للمرء على طريق الاحتجاج أما سمعوا قول الله تعالى {فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} (الرحمن: 33) ، ولا خلاف أن السلطان هو الحجة، وقوله تعالى: {فلله الحجة البالغة} (الأنعام: 149) وإذا شهدوا لنا بالبيان فلله الحمد كثيراً، {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} ، (الرحمن: 1 - 2) ، أما علموا أن القرآن بيان من الله تعالى وإذا شهدوا لنا باللغة تصوب (3) قولنا، فقد فزنا - ولله الحمد - بالقدح المعلى (4) ، قال تعالى: {قرآناً عربياً} (يوسف: 2/ طه: 113/ الزمر: 28/ فصلت: 3/ الشورى: 7/ الزخرف: 3) ، فإذا اللغة تشهد [178 ب] لنا، والقرآن بأيدينا، فقد فلجنا (5) - ولله الحمد - وخاب وخسر من خالفنا.
وأما قولهم في خلال ذلك إنهم رأوا لنا تمثيلاً واشتقاقاً (6) فكذب بحت. أما الكذب فدعواهم علينا التمثيل، فلسنا نقول به ولله الحمد، لأنه من باب القياس الذي هو عندنا عين الباطل، لكنا نريهم بالتمثيل الذي يقرون به تناقض أقوالهم وإفساد بعضها بعضاً. وأما الاشتقاق، فقد عرف أهل المعرفة أننا (7) لا نقول به فيما عدا الأوصاف من الصفات فقط.
وأما قولهم (8) إنهم أنكروا كل هذا وقد فروا عنه: فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير. وإن من أنكر البيان والحجة وما يصوبه النحو واللغة وأشعر بالحس، لمخذول مسخم الوجه، ونعوذ بالله من الضلال. وكذلك إخبارهم بوقوع النفار لهذا الحق، وأنهم جعلوا كل ذلك بدعة، فلا جرم قد قيل في القرآن: {إن هذا إلا سحر يؤثر*
__________
(1) ص: ما يحكم.
(2) ص: وصرف.
(3) ص: فصورة.
(4) ص: قرنا. بالقدح المعنى.
(5) ص: فلحنا.
(6) ص: وإشفاقاً.
(7) ص: لأننا.
(8) ص: قولهم له.(3/85)
إن هذا إلا قول البشر} (المدثر: 24 - 25) .
وأطرف من هذا كله، جعلهم القرآن والسنة بدعة وإحداث شرع؛ فهل في الحيوان أكثر ممن يجعل قول من قال: لا آخذ إلا بما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمعت عليه الصحابة، إحداث شرع فليت شعري هل إحداث الشرع إلا في الحكم في التحريم والتحليل، والرأي والظن، لو عقلوا
وأما قولهم (1) : لم يكن هذا طريقة من مضى، ولا سنن من به يقتدى، فقد كذبوا وأفكوا، وهل طريقة من مضى ومن به يقتدى إلا التمسك بالقرآن، والأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الطريقة التي لم تكن قط طريقة من مضى، ولا من به يقتدى، هي طريقتهم في تقليد إنسان بعينه، فهذه البدعة المنفية التي لم تكن قط صدر الإسلام، وإنما حدثت في القرن الرابع، ونعوذ بالله من الحدثان كلها.
10 - ثم قالوا: " وان معنى الفقه غير معنى الكلام " لأ179/أ] .
فالجواب -[وبالله تعالى التوفيق]- أن هؤلاء القوم ليسوا من أهل الفقه ولا من أهل الكلام، ولا يحسنون شيئاً غير التناغي والقول (2) الفاسد، نحو ما أوردنا من كلامهم آنفاً. وطريقة الفقه والكلام الصحيح، إنما هي اتباع القرآن والسنن فقط، وما عدا ذلك فباطل لا يجوز اتباعه، وبالله تعالى التوفيق.
11 - ثم قالوا: " فخلوا كتاب حدا المنطق (3) لأجل ذلك، ولما فيه التعمق والعرض، وترتيب الهيئات ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا من ذلك الباطل (4) . ليت شعري أدخل حد المنطق في السنن إن هذا لعجب عجيب؛ ومن كانت هذه منزلته من الفهم ما كان حقه أن يعود إلا إلى كتاب الهجاء. ومن طرائف الدهر قولهم: إن في حد المنطق ترتيب الهيئات، وهذا أمر ما علمه قط أحد في حد المنطق، ونسأل هؤلاء السعوات (5) عن حد المنطق هذا الذي يذمونه: هل عرفوه أم لم يعرفوه فإن كانوا عرفوه فليبينوا
__________
(1) ص: قولهم له.
(2) ص: يحسبون التفاغي والهبول.
(3) ص: فحملوا حد كتاب المنطق.
(4) ص: من الباطل.
(5) هكذا هي صورة اللفظة في ص؛ ولعلها " الببغاوات ".(3/86)
لنا ما وجدوا فيه من المنكرات. وإن كانوا لم يعرفوه، فكيف يستحلون (1) أن يذموا ما لم يعرفوه (2) ألم يسمعوا قول الله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} (يونس: 39) ولكن إعراضهم عن القرآن إلى ما يطول عليه ندمهم يوم القيامة، [هو] الذي أوقعهم في الفضائح والقبائح، ونعوذ بالله من الخذلان.
12 - ثم قالوا: " ولو صح ما ذكرته من أمثال هذه الطرائق وإقامتها بالحجة والكلام، فقام بذلك أمثالك، ورووها (3) عن الثقات والمشاهير، وأقاموها بالأسانيد الصحاح والرواية الصحيحة، حتى يوصلوها إلى من لا يهتم من التابعين، لوجب لخصمك اتباعهم فيه ولزومه والعمل به ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - عن هذا شهادة منهم على أنفسهم، فليعلموا (4) أن كل ما نقوله لهم بأجمعهم منقول بالأسانيد الصحاح عن الرواة الثقات موصلة إلى النبي صلى الله عليه [179 ب] وسلم فواجب عليهم ما التزموه من الرجوع إلى الحق. فإن شكوا في ذلك، فالميدان بيننا وبينهم، وهذه كتبنا حاضرة مروية عنا، مثبتة بخطنا وخط الثقات، ممن أخذها عنا، قد شرقت وغربت، فهم بين خيرتين (5) : إما أن يحضروا معنا، ويسألوا عن كل خبر أوردناه (6) ، فإن كان عندهم علم يعترضون به فليعترضوا، وإن لم يكن عندهم فليسكتوا. وإما أمنا لهم (7) ، وإن كرهوا ذلك، فليمحصوا (8) كتبنا. فغن كان فيها شيء غير الحق فقد مكناهم من مقابلتنا، أو كفيناهم المؤنة في إثبات ما يريدونه. هيهات هيهات، يأبى الله إلا أن يتم نوره، ولا تستر الشمس بالأكف، وما يعارض الحق بالجهل. نعم، فليعلموا أنا لم نأت بحديث إلا من تصنيف البخاري أو تصنيف مسلم أو تصنيف أبي داود أو تصنيف النسائي أو تصنيف ابن أيمن أو تصنيف ابن أصبغ أو مصنف عبد الرزاق، أو تصنيف حماد أو تصنيف وكيع أو مصنف ابن أبي شيبة أو مسنده أو حديث سفيان بن عيينة أو حديث شعبة أو ما جرى هذا المجرى، مما لا يقدر عدو الله على
__________
(1) ص: يستحلوا.
(2) ص: يعرفون.
(3) ص: وردوها.
(4) ص: فيعلموا.
(5) ص: حيرتين.
(6) ص: خبر وردناه.
(7) ص: أمثالهم.
(8) ص: فليمحوا.(3/87)
القدح (1) فيها، وأضربنا عن الحديث المستور من رواتنا. صيانة لأقدار الأئمة عن تعريضهم لمن لا يعبأ الله به شيئاً، إلا في الندرة مما لابد من إيراده. وكل هذه الدواوين عندنا - ولله الحمد - روايتنا وضبطنا وتصحيحنا، وذلك فضل الله ومنته؛ لكنهم بكم إذا ضمنا وإياهم مجلس، فإذا غابوا أتوا بمثل هذه البلاغم العفنة المضحكة، ونعوذ بالله مما امتحنهم به.
13 - ثم قالوا: " لكن بشرع زائد وعلم مبتدع انفردت به أنت من طريق نقلتها، وخالفت فيها من مضى من طريق ما ظهر إليك واطلعت عليه من وهلة أو غفلة أو تضييع أو عي أو بلادة أو قلة فهم نسبته إلى الرواة المؤلفين للدواوين الراسخة، لاتساعك في الكلام، ومعرفتك في اللغة، وتصديقك كتاب حد المنطق ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -[180/أ] أن هذا مما قد أخزيناهم (2) فيه، وبينا أن الشرع الزائد والجهل المبتدع هو ما هم عليه من التقليد الذي قد نهى عنه من قلدوه، والذي هم مقرون بأنه لا يجوز، وكفى ضلالاً وبدعة وشرعاً مهلكاً لمن يدين الله تعالى بشيء يقر بأنه باطل، وهذا يكفي من عقل، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم: إننا انفردنا به وخالفنا من مضى، فكذب منهم بحت لم يستحيوا فيه من عاجل الفضيحة. وما انفردنا قط بقول ولله الحمد، بل نحن أشد موافقة للصحابة والتابعين، رضي الله عنهم، منهم. فقد ألفنا كتاباً ضخماً فيما خالفوا فيه الطائفة من الصحابة رضي الله عنهم بآرائهم، دون تعلق بأحد من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وهم لا يجدون لنا هذا، إلا أن يجدوه في الندرة، ومما تعلقوا فيه من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فشتان بين الأمرين.
وأما قولهم: إننا نسبنا إلى الرواة المؤلفين للدواوين الراسخة الوهلة (3) والغفلة والتضييع والعي والبلادة وقلة الفهم، فقد كذبوا. وغنما بينا بالبرهان الحق خطأ من اخطأ وصواب من أصاب فقط، وما العائب للصحابة إلا هم في ازورارهم (4) عن كل ما جاء عنهم، وإطراحهم لجميع أقوال الصحابة استغناء عنهم برأي مالك وحده دون جميع فقهاء أهل الإسلام، سالفهم وخالفهم.
__________
(1) ص: ما. الكدح.
(2) ص: أجزيناهم.
(3) ص: الواهلة.
(4) ص: أحوالهم.(3/88)
وأما إقرارهم لنا بالاتساع في الكلام والمعرفة باللغة، فأمر لا نحمدهم عليه في الإقرار، لأنا (1) لم نزد بذلك فضلاً، ولا يغضنا (2) جحدهم لذلك إن جحدوا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
14 - ثم قالوا: " وصنعت دواوين وحبرتها على ما قد ظهر إليك، لم تقتنع بتواليفهم ولا صوبتها ولا رضيتها، فخالفتهم وعبتهم فيما ألفوه وخطأتهم فيما صوبوه (3) ، استنقاصاً لحقهم، وتنكباً عن [180 ب] قصدهم ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن هؤلاء القوم لا يستحيون من الكذب والبهتان، يطلقون أننا رغبنا عن تواليفهم ولم نصوبها ولا رضيناها، وخالفناها، وعبناها (4) وخطأناها، استنقاصاً لحقهم (5) ، وتنكباً عن قصدهم، فهلا بينوا هذا الضمير إلى من يرجع وهذه التواليف ما هي لكننا نحن نبين - بحول الله تعالى - كل ذلك ببيان نشهد الله تعالى وملائكته وكل من سمعه بأنه الحق، وذلك أن الناس ألفوا: فألف أصحاب الحديث تواليف جمة، وألف الحنفيون تواليف جمة، وألف المالكيون تواليف، والشافعيون تواليف، فلم يكن عندنا تأليف طبقة من هذه أولى أن يلتفت إليه من تأليف غيرها، بل جمعناها ولله الحمد وعرضناها على القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلأي تلك الأقوال شهد القرآن والسنة أخذنا به، وتركنا ما عداه.
وأما هم (6) فخالفوا تواليف جميع أهل الإسلام أولها عن آخرها، ولم يقنعوا بها ولا صوبوها (7) ولا رضوها، بل خالفوها وعابوها وخطأوا أصحابها استنقاصاً لجميع أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم في مشارق الأرض ومغاربها، حاشا المدونة والمستخرجة فقط. فمن أشد استنقاصاً للعلماء، ولكتب العلماء، هم أم نحن وهل في هذا خفاء على ذي بصيرة والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) ص: لاكنا.
(2) ص: يقصنا (واقرأ أيضاً: يقضنا) .
(3) ص: ضربوه.
(4) ص: وعايناها.
(5) ص: واستنقاصاً لحظهم.
(6) ص: فأما قولهم.
(7) ص: ضربوها.(3/89)
15 - ثم قالوا (1) : " وخصمك لا يتهم أحداً (2) من الآخذين عنهم كذلك، ولا يقع في نفسه أنك افقه ممن مضى، ولا أحذق ممن سلف، ولا أدرى بالمعاني والأحكام والتأويل، وعلم الناسخ والمنسوخ والأوامر والأفعال، والعام والخاص والمحظور والمباح، والفرض والندب، إذ قد حووا وطالعوا ما لا تحوي أنت عشر معشاره ولا تطالعه أبداً، لقربهم من دار الهجرة ومعدن الرسالة، ولصلاحهم (3) [181/أ] وإصلاحهم وورعهم، وأنهم في القرن المحمود الممدوح، وانهم قد طالعوا دواوين لم تطالعها أنت، وأن من الدواوين ما لا تقف أنت على أسمائها ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - اننا قد بينا أنهم هم المتهمون (4) للصحابة والتباعين حقاً، لأنهم كلهم عندهم (5) في نصاب من لا ينبغي أن يشتغل به ويطلب أقوالهم، ولا يلتفت إلى شيء من فقههم إلا ما وافق مالكاً (6) فقط.
وأما قولهم: إنه لا يقع بأنفسهم أننا أفقه ممن مضى، ولا أحذق ممن سلف إلى آخر الكلام، فهذا أمر لا ندعيه لأنفسنا، ومعاذ الله أن نظن هذا، ولكن كما نظروا هذا النظر، وأصابوا في ذلك، فلينظروا أيضاً أن مالكاً وابن القاسم لم يكونوا أفقه ممن مضى قبلهما من الصحابة والتابعين، ولا أدرى منهم بالمعاني والأحكام والتاويل، والناسخ والمنسوخ والأوامر والأفعال والخاص والعام، والمحظور والمباح والفرض والندب، إذ قد حووا بلا شك من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدته ما لا يحوي مالك وابن القاسم عشر معشاره، ولا طالعوه قط، لقرب أولئك من النبوة ومهبط الرسالة، ولمضمون صلاحهم وورعهم، وانهم القرنان الفاضلان المقدمان على قرن مالك وابن القاسم. فإذن (7) لم يكن تأخر مالك عنهم موجباً تقليد رجل منهم. إلا اننا نحن على كل حال، ولله الحمد، لا ندعو إلى رأينا ولا قولنا، وإنما ندعو إلى اتباع المضمون له أنه أفضل جميع الإنس والجن، والمقطوع بعظمته، وأنه لا يقول إلا الحق، والذي امرنا الله باتباعه بإقرارهم إن كانوا مسلمين. وإلى هذا ندعوهم، وهم
__________
(1) ص: قالوا قولهم.
(2) ص: أحد.
(3) ولصلاحهم: مكررة في ص.
(4) ص: المتهمون.
(5) ص: عندنا.
(6) ص: مالك.
(7) ص: فإذ.(3/90)
يدعوننا إلى ترك ما صح عنه عليه السلام، واتباع رأي مالك. وإذا كان سائغاً لهم عند أنفسهم خلاف سفيان الثوري، وسعيد بن المسيب، والزهري لقول مالك، وساغ (1) لابن وهب وأشهب والمخزومي وابن الماجشون [181 ظ] وابن نافع وابن كنانة مخالفة مالك في مسائل جمة، فقد سوغ (2) ذلك وأوجب لنا وعلينا خلاف مالك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما القبر من دار الهجرة، فدار الهجرة باقية بفضلها، لم ينتقص من فضلها شيء أصلاً، وقل غناء (3) ذلك عن سكانها.
وأما قولهم: " لأنهم في القرن [الممدوح المحمود] لورعهم وصلاحهم "، فما مالك أولى بذلك من فقهاء زمانه كسفيان والليث والأوزاعي ومعمر وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم ممن قبله وبعده ومعه، والفضل بيد الله تعالى لا بأهواء المتمنين.
وأما قولهم: إنهم طالعوا دواوين لم نطالعها نحن، ومن الدواوين ما لا نقف على أسمائها، فلعمري ما لشيوخهم (4) ديوان مشهور مؤلف في نص مذهبهم إلا وقد رأيناه ولله الحمد، كثيراً، ككتاب ابن الجهم وكتاب الأبهري الكبير، والأبهري الصغير والقزويني وابن القصار وعبد الوهاب والأصيلي (5) ، ولقد كان ينبغي لهم
__________
(1) ص: وشاع.
(2) ص: فبما سورغ من.
(3) ص: عنا.
(4) ص: شيوخهم.
(5) محمد بن الجهم (- 329 أو 333) : له عدة كتب منها بيان السنة ومسائل الخلاف والحجة لمذهب مالك، وشرح مختصر ابن عبد الحكم الصغير، ولا أدري إلى أيها يشير ابن حزم.
وأبو بكر محمد بن عبد الله الأبهري الكبير (- 375) شرح كتابي ابن عبد الحكم الصغير والكبير وله كتب أخرى.
والأبهري الصغير هو محمد بن عبد الله أبو جعفر (- 365) له كتاب في مسائل الخلاف نحو مائتي جزء وكتاب تعليق المختصر الكبير مثله وغيرهما.
وأما القزويني فهو أبو سعيد أحمد بن محمد زيد (مات بعد 390) وقد صنف في المذهب والخلاف، من ذلك كتاب المعتمد في الخلاف نحو مائة جزء وله أيضاً كتاب الالحاف في مسائل الخلاف.
وأما ابن القصار فهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد (- 398) تفقه بالأبهري الكبير؛ وقال فيه الشيرازي (طبقات الفقهاء: 168) وله كتاب في مسائل الخلاف كبير، لا أعرف لهم كتاباً في الخلاف أحسن منه.
وعبد الوهاب هو أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر (- 422) تفقه على كبار أصحاب الأبهري كابن القصار وغيره من مؤلفات عديدة في المذهب والخلاف منها كتاب النصرة لمذهب إمام الهجرة وكتاب أوائل الأدلة في مسائل الخلاف.
وأما الأصيلي فهو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم، (- 392) أندلسي، تفقه ببلده وبالقيروان ومصر والعراق وصنف كتاب " الآثار والدلائل " في الخلاف (وهؤلاء جميعاً من كبار المالكية، وتراجمهم في الديباج والمدارك، وطبقات الشيرازي، وبعضها في الفهرست وابن خلكان) .(3/91)
أن يدخلوا فيها هذه الخبايا التي تركنا بها هؤلاء الجهال، وإن كانت عندهم ولم يذكروها فقد غشوهم وظلموهم. وإن كانوا الغاية في ذلك الذي لم يقدروا على أكثر منها (1) ، فما بال كلام هؤلاء الجهال بالأهذار المقرة لعيون الشامتين ولكن لو عرف الناقص نقصه لكان كاملاً.
16 - ثم قالوا: " وهل تدعي [انك] أنت أحطت (2) بجميعها علماً، وأحصيت ما في جميعها حفظاً "
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - انه يعكس عليهم هذا السؤال، يقال لهم: أتراكم أنتم أحطتم (3) بجميع تواليف العلماء، وأحصيتموها (4) فإن قلتم: نعم، كذبتم لأنكم لا تدرون شيئاً من الكتب، إلا خواص منكم، إلا المدونة والمستخرجة فقط. وإن قلتم: لا، قيل لكم: فمن أين وقع لكم أن تدينوا الله تعالى بقول مالك دون قول من سواه لو نصحتم أنفسكم وأما نحن فقلنا: قد أحطنا (5) - ولله الحمد - بكل ما يحتج به المخالفون [182/أ] والموافقون، جمعنا ولله الحمد صحيح أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلمن وجمهور ما رواه المستورون ممن لم يبغوا مبلغ ان يحتج بنقلهم. هذا أمر نهتف [به] ونعلنه على رغم الكاشح وصغار وجهه، فمن استطاع إنكاراً فليبرز صفحته وليناظر مناظرة العلماء، فمن عجز عن ذلك فليسأل سؤال المتعلمين، أو ليسكت سكوت أهل الجهل الخبيرين بجهلهم. فإن أبوا إلا الرابعة، وهي هذر النوكى، فتلك خطة عائدة على أهلها بالخزي والدمار في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.
17 - ثم قالوا: " وإنك تقصيت وأحصيت حديث رسول الله عليه وسلم كله أجمع أكتع حتى لم يفت حظك منه شيء، فتعمل من [غير تقليد] صاحب وتابع "
فالجواب - وبالله تعلى التوفيق - قد قلنا اننا حصلنا بروايتنا وضبطنا ولله الحمد
__________
(1) هذا مضطرب ويبدو منقطع الصلة بما قبله.
(2) ص: خطب.
(3) ص: أخطأتم، وهي كذلك حيثما وردت في هذا النص.
(4) ص: وأخفيتموها.
(5) ص: فقد أخطأنا.(3/92)
كل خر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرهان واضح، وهو أن المشهور من المسندات والمصنفات الموعية للأخبار، فقد جمعناها ولله الحمد، ولا يشذ عنا خبر فيه خير أصلاً، وحتى لو لم نحط بها كلها لما وجب بذلك طرح ما بلغنا منها، بل كان يلزمنا أن نعمل بما بلغنا، ولو لم يكن إلا خبر واحد، لا يحل غير ذلك. ثم نقول لهم: أتراكم انتم أحطتم بجميع حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعلموا انه شاهد لأقوال مالك ثم نحن ننزلكم درجة: أتراكم أحطتم بجميع أقوال مالك ومسائله حتى لم يفتكم منها واحدة، فعلمتم أنها كلها حق هذا أمر يدري الله تعالى أنكم كاذبون في كل ما تذكرون فيه، فما سؤالكم إلا عائد عليكم. وهكذا عادة الله تعالى فيمن عند عن الحق، وفارق طريق السنة، وبالله تعالى التوفيق.
18 - ثم قالوا: " فخصمك لا يرى في معتقده أن يتهم (1) صاحباً، ولا أن [82 ب] يخطئه وينسب إليه غفلة أو تقصيراً (2) ، وكيف وهم القدوة المرضيون الذين بهم قامت الشرائع وبينت الحقائق "
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا ما نعلم أحداً أشد اتهاماً للصحابة كلهم من هؤلاء المقلدين، ولا أعظم تخطئة لهم منهم، لأنهم طرحوا جميع أقوال الصحابة، رضي الله عنهم، ولا يرونهم في نصاب من يستحق أن تكتب أقوالهم إلا ما وافق رأي مالك، فقد اعترفوا مخالفة الذين قامت بهم الشرائع، وثبتت بتبليغهم الحقائق. ونحن نسألهم فنقول لهم: أخبرونا، إذا أوجدناكم (3) في الكتب التي أنتم مقرون بها كالموطأ والبخاري أقوالاً صحاحاً عن الصحابة والتابعين [أتقرون بها] أو بما جاء عن مالك فإن قلتم: بما صح عن الصحابة، كذبتم وأفكتم: وإن قلتم: بما جاء عن مالك، صدقتم واعترفتم باتهامكم للصحابة وتخطئتكم إياهم، بخلاف ما قلتم ها هنا. فإن قلتم: لم يخالف مالك تلك الأقوال إلا بما هو أولى منها. قيل لكم: إذا خفي ذلك العلم الذي وقع عليه مالك على أولئك الصحابة، فأحرى وأمكن وأوجب على أن يخفى على مالك علم كثير وقفنا نحن عليه، إذ نسبتنا نحن من مالك، أقرب من نسبة مالك من أقل صاحب من الصحابة، لان مالكاً وغير مالك لو أنفق مثل أحد ذهباً لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أقل الصحابة. وليست هذه المنزلة ولا هذه
__________
(1) ص: فيهم.
(2) ص: عقله أو تقصداً.
(3) ص: وجدناكم.(3/93)
الفضيلة لمالك على أحد من الناس، بل نحن وهم من جملة المسلمين، لا نقطع له ولا لنا بنجاة، ولا نضمن لنا ولا له الجنة ولا العصمة، بخلاف ضمان ذلك للصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبالله التوفيق.
19 - ثم قالوا: " ومن أحكامهم ما قضوا بها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر الحكم عليها أو تتابع العمل بها وهو حاضر معهم لا غائب ولا متخلف، فهل كانت تحل لهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يقضوا [183/ أ] بخلاف ما يرضاه، أو يبلغهم عنه حكم فيرغبوا عنه ويقتصروا على رأيهم، أو يؤثروا أقوالهم على قوله بعد علمهم بقوله، [فإنه لا يجوز أن يقصدوا إلى خلافه عليه السلام استخفافاً بأمره] ويتجنبوا (1) ما يستحسنه عليه السلام فمعاذ الله وحاشا لله من ذلك، فهم المنزهون عن كل شر، المظنون بهم كل خير، بهم قامت (2) أعلام الدين، ورسخ العلم، وسطع الحق وأشرق النور، وأينعت (3) الحكمة، واتسعت السنة، ولاح الدليل ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذه التمويهات ليس بأيديهم غيرها، وهي كلها عليهم لا لهم.
أما قولهم في أحكامهم التي قضوا بها في عهد رسول الله صلى عليه وسلم، فنحن الآخذون، وهم المخالفون في أكثر الأمر، كقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه، فخالفوهم بآرائهم في هذا القول الظاهر إلى جنب (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكم علي باليمين في الثلاثة المتداعين في الولد بعلم رسول الله صلى الله وسلم في الإقراع عليه بينهم، وغير ذلك كثير جداً، وقد ذكرناه (5) في كتابنا (6) ولله الحمد.
وأما قولهم: " فهل كانت (7) تحل لهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن يقضوا بخلاف ما يرضاه، أو يبلغهم عنه حكم فيرغبوا عنه ويقتصروا على رأيهم
__________
(1) ص: ويستحسنوا.
(2) ص: لهم ما قامت.
(3) ص: وأنبعث، ولعلها: ونبعت.
(4) كذا هو في ص.
(5) ص: ذكرنا.
(6) لعل الصواب: في كتبنا؛ إذ لم يعين كتاباً.
(7) ص: فإن كانت.(3/94)
بعد علمهم بقوله، فإنه لا يجوز أن يقصدوا إلى خلافه عليه السلام استخفافاً بأمره " هذا ما لا يظن مسلم. لكن قد صح عن الواحد بعد الواحد منهم رضي الله عنهم أنه بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأول فيه تأويلاً، كما روينا في نهيه عليه السلام عن الحمر الأهلية، فاختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، فقال بعضهم: إنما حرمت لأنها كانت حمولة الناس. وقال بعضهم: إنما حرمت لأنه لم تكن حمر (1) . وقال بعضهم: إنما حرمت لأنها كانت تأكل القذر. وقال بعضهم: بل حرمت ألبتة. فهذه التأويلات [183 ب] كلها لا يجوز أن تكون كلها حقاً، ولا يجوز أن يضاف إلى الله منها شيء دون شيء آخر فيها بغير نص. فمثل هذا قد يتأوله المتأول مقدراً انه الحق، وهذا ما لا يجوز قبوله ممن وهم فيه، ومثل هذا كثير جداً.
وأما مدحهم الصحابة رضي الله عنه، فنحن أمدح لهم منهم، وأعرف بحقوقهم وأشد توقيراً لهم، ولكن القوم مموهون يهولون بمدح الصحابة وبإنكار خلافهم، وهم أترك الناس لأقوالهم وأشد خلافاً لهم، لا يلتفتون إلى شيء من أقوالهم، وإنما يكتبون أقوال مالك فقط. فما الذي ادخل تقليد مالك في مدح الصحابة، لو نصحوا انفسهم، وبالله تعالى التوفيق. وإذ يهولون بمدح الصحابة رضي الله عنهم ويعظمون خلافهم، فنحن نسألهم عن المسائل المأثورة في الموطأ وغيره عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، أيأخذون بها أم يتركونها لقول مالك فإن قالوا: نتركها عاد تشغيبهم عليهم، وإن قالوا: بل نأخذها كذبوا، فإن قالوا: [إن] مالكاً كان أعرف بما ترك من أين تركها، قلنا لهم: يكفيكم بهذا إقرارهم بان مالكاً أظفر بعلم خفي عن عمر، وأمكن أن نعلم نحن كثيراً خفي عن مالك ولم يعرفه، لما قد ذكرناه من النسبة والنسابة بين جميع الناس وبين مالك وبين أول الصحابة رضي الله عنهم، وبالله تعالى التوفيق.
20 - ثم قالوا: " فنفس هذا السائل تنازعه أن الذي عليه الأكثر والجمهور هو الهدى، وانه الطريقة المثلى، لاتفاق العلماء، وائتلاف الجماعة وتتابع العمل، واستقرار الأمر عليه. ويقوله عليه السلام: إن أمتي هذه لا تجتمع على ضلالة، وإن أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا من العار والشنار الذي ينبغي أن يستحيي
__________
(1) يريد لم توجد بكثرة.(3/95)
منه من له مسكة حياء وعقل، لان ما اتفقت عليه الجماعة وائتلفت فيه العلماء واستقر [184/أ] الأمر عليه، فلا خلاف فيه بين أحد من الأمة، ولا هم أولى به من غيرهم. وأما ما اختلف الناس فيهن فليس بعضهم أولى بالحق فيه من بعض، إلا من وافق قوله القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، فلا أضل ولا أجهل ولا أقل حياء ممن يريد (1) رأي مالك الذي خالفه فيه غيره من العلماء بان يوجب اتباع الإجماع.
وأما قولهم: إن الذي عليه الأكثر فهو الهدى والطريقة المثلى، فكلام في غاية السخف، لان الحنفيين كانوا أكثر من المالكيين أضعافاً مضاعفة، ولعلهم اليوم يوازونهم في العدد، والشافعيين أكثر منهم، فينبغي أن يتبع الأكثر، وقد قيل أهل المقالة تعد كثرتهم، فينبغي أن يعود الهدى لذلك ضلالاً. وهذا (2) كلام مبرسم لا يرضى به [من له] مسكة عقل. وقد كان مالك وحده ثم وافقه نفر يسير ثم كثروا. وقد كان القائلون بمذهب الأوزاعي كثيراً ثم انقطعوا، وكل هذا لا معنى له.
ثم يقال لهم: عن التزمتم اتباع الأكثر فإن جميع أهل الإسلام مجمعون على [أن] اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الواجب، وأنه لا يلزم اتباع أحد دونه، فلا تفارقوا هذا الإجماع فهو الحق المبين الذي من عاج عنه ضل في الدنيا والآخرة. وأما قولهم: " أصحابي (3) كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فحديث موضوع (4) ، ثم لو صح لكان حجة عليهم، لأنهم يلزمهم على هذا أن لا ينكروا على أحد قال بقولة قائلها صاحب، وقد صح عن بعض الصحابة ألا غسل من الإكسال، وإباحة الدرهم من الدرهمين، وإباحة المتعة، وأكل البرد للصائم، وغير ذلك كثير لا يقولون به. وبالجملة إن القوم في هذر وعمى لا يحسنون، ولا يبالون ما يتكلمون به، والله اعلم.
21 - ثم قالوا: " ويخشى أن يكون غيرك ببلدة أخرى فيأتيه [أحدهم] [184 ب] ببرهان ودليل وحجة تقهره بخلاف ما قد أوضحت أنت وبينته له، فيقع في نفسه
__________
(1) يريد: كذا هي في ص، ولعل الصواب: " يرى ".
(2) ص: ولذا.
(3) ص: وأما قولهم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقط وأما أصحابي.
(4) انظر الأخبار الموضوعة: 388.(3/96)
أنه الحق، فينصرف إليه ويعمل بما قد رواه له وأوضحه، لحديث (1) قد صح عنده ورواه لم تطلع أنت عليه ولا أحصاه حفظك، ولا أحاط به علمك، فلا يدري بمن (2) منكما يثق ولا بأيكما يتعلق، فيظل حيران هائماً، وكل واحد منكم يأتي بحجة وبرهان ودليل، وإذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم كثير متسع أكثر من أن يحاط به أو يحصى، ويدعي غيرك أن الحديث الذي ترويه أنت هو [المنسوخ والذي يرويه هو] (3) الناسخ بأصح أسانيد ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذه طريق ضلال، ومن تلاعب الشيطان بمن أراد (4) الله تعالى به الخذلان، ولو وجب أن لا يرجع أحد إلى ما قام به البرهان خوف أن يأتيه غيره بحجة أخرى، لما وجب أن يؤمن كافر أبداً، ولا أن يتوب مبتدع أبداً، ولا أن يرجع مخطئ إلى حقيقة أبداً، لأنه يقول اليهودي والنصراني والمجوسي والثنوي إذا أخذته الحجة، وقام عليه البرهان: كيف أرجع إليك ولعل غيرك يلقاني يوماً ما فيأتيني بحجة وبرهان ودليل يقهرني، بخلاف ما أوضحت أنت وبينت، فأرجع إليه أيضاً، وهكذا أبداً ويقول الخارجي والرافضي والمرجى والمعتزلي إذا قامت عليه الحجة، واثبت له البرهان: كيف أرجع إلى قولك، ولعل غيرك يلقاني يوماً فيأتيني بحجة وبرهان، ودليل يقهرني بذلك بخلاف ما أضحت أنت وبينت فأبقى حيران ويقول الحنفي والشافعي والحنبلي كذلك أيضاً سواء سواء، فعلى هذا القول الباطل يجب أن يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي يجب ان يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي كذلك والمعتزلي كذلك والخارجي كذلك والرافضي كذلك، فأي قول في الأرض أبعد عن الهدى من قول أدى إلى هذه الطريقة وهذا [185/أ] باب لا تنجلي الحيرة فيه عن الممتحن بها بكلام يسير، ولا بد لطالب الحقائق من أن يسمع حجة كل قائل، فإذا أظهر البرهان لزمه الانقياد والرجوع إليه، وإلا فهو فاسق. والبرهان لا يجوز أن يعارضه برهان آخر، فالحق لا يكون شيئين مختلفين ولا يمكن ذلك أصلاً، والحق مبين في الملل والديانات بموجب العقل والبراهين الراجعة إلى أول الحس والضرورة. فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق من طلب العلم المؤدي إلى معرفة
__________
(1) ص: الحديث.
(2) ص: لمن.
(3) زيادة لازمة يقتضيها السياق.
(4) ص: راأه.(3/97)
البرهان، والحق يستبين في النحل بالرجوع إلى القرآن الذي اتفقت عليه الفرق، وإلى الإجماع المتيقن. فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق في ذلك من الوقوف على ما أوجبه القرآن وصح به الإجماع. والحق يتبين فيما اختلف فيه العلماء بالرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من أحكام القرآن والسنن المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواجب على كل مسلم طلب ما يلزمه من ذلك والبحث عنه واعتقاده الحق إذا صح عنده، وكل هذا لا يدرك بالأماني الفاسدة ولا بالأهذار الباردة ولا بالدعاوى الكاذبة، لكن بطلب أحكام القرآن والبحث عن الحديث وضبطه والاشتغال به عما لا يجدي ولا يغني، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
[أما قولهم] : إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم متسع جداً أكثر من أن يحصى أو يحاط به، ويدعي غيرك أن الحديث الذي ترويه أنت منسوخ والذي يرويه هو هو [الناسخ] بأصح أسانيد - فكلام باطل؛ بل حديث النبي صلى الله عليه وسلم محصى مضبوط مجموع مستقصى (1) ولله الحمد. ومن ادعى في حديث انه ناسخ أو منسوخ لم يصدق ألبتة إلا بأن يأتي على ما يدعيه بذلك بنص صحيح يخبر (2) انه منسوخ، أو بإجماع صحيح يخبر انه منسوخ، أو بتقدم تاريخ مع تعذر الجمع بينهما، وكل هذا سهل ممكن لمن طلبه لا لمن قعد يهذر ويشتغل بالحديث البارد، وبالله [185 ب] تعالى التوفيق.
وأما قولهم: " إذ كل ما ذكرتم مانع من الرجوع إلى ما قامت به البينة " (3) . فالحجة (4) عندكم فيما اعتقدتم مذهب مالك ولعل غيره أصح منه. فإن قالوا: وجدنا عليه من وثقنا به من شيوخنا. قيل لهم: وهكذا يقول أهل كل مذهب فيما هم عليه، وهكذا يقول أهل كل ملة فيما هم عليه، وهكذا يقول أهل كل نحلة فيما هم عليه: انهم كلهم وجدوا على ما هم عليه من وثقوا به، ومن لا يتهم بأنه ما جهل الحق، ولا انه قال الباطل. فحصلنا من هذا الجنون على لزوم الضلال وعلى قوله تعالى: {إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} (الأحزاب: 67) . ويقال لهم: لا يخلو السائل عن هذا من أن يكون ممكناً منه طلب العلم وفهمه، أو يكون
__________
(1) ص: مقتصى.
(2) ص: غير.
(3) لم يرد هذا القول في ضمن حديثهم السابق (الفقرة: 21) .
(4) ص: الحجة.(3/98)
غبيا (1) لا يقدر على الطلب. فإن كان ممكناً منه طلب العلم، فليطلب وليبحث حتى يقف على البرهان ويعرفه. وإن كان غبياً، فليقل لمن أفتاه بشيء فيما نزل به: أهكذا أمر الله تعالى ورسوله فإن قال له: نعم، أخذ به، وإن قال: لا، أو قال له: هذا قول فلان، وذكر أحداً من دون النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب أو تابع أو فقيه أو سكت عنه، لم يلزمه اتباعه، وطلب عند غيره، وبالله تعالى التوفيق.
22 - ثم قالوا: " ومما (2) يحتج به عليك أيضاً أن أسماء الرجال والتورايخ تختلف في الآفاق والأسانيد، فمنها ما فيه الضعيف قوي، والقوي ضعيف، فكيف لك بالتغليب في الأحاديث المتضادة المتعارضة وقد يكون الرجال في الحديث الذي يرونه في طريق النهي، هم الذين يرونه من طريق الأمر، أو يتفرقوا فيكونوا هم ثقات لا داخل فيهم، إن غلبت أصحاب النهي، فقد كذبت (3) أصحاب الأمر وليسوا أهلاً للتكذيب ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن هذا لا يدرك بيانه إلا بطلب العلم والبحث، لا بالنهي والجلوس. والذي ذكروا من اختلاف التواريخ هو كما قالوا، ولكن اختلافهم [186/ أ] في الواحد يجرحه قوم ويعدله آخرون قليل جداً. والقول في ذلك أن المختلف فيه إن كان ممن اشتهرت عدالته في ضبطه، فالتعديل أولى به، حتى يأتي المجرح ببيان جرحة تسقط لها عدالته. وأما من كان مجهول الحال. فالتجريح أولى به من التعديل، لأن أصل الناس الجهل بهم والجهل منهم حتى يصح عليهم العلم (4) بهم.
وأما الأحاديث المتعارضة (5) ، فقد بينا جملة العمل فيها في غير ما موضع من كتبنا، وبينا ذلك في أشخاص الأحاديث والحمد لله رب العالمين. ونحن نذكرها هنا جملة من ذلك كافية إن شاء الله تعالى فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إن الحديثين إذا نظرا، فإن كان أحدهما صحيح السند (6) ، نظر: فإن كان أحدهما أقل معاني من الآخر، استعملا معاً إن كان كلاهما نهياً أو كان كلاهما أمراً، ولم يجز ترك شيء
__________
(1) ص: عيناً.
(2) ص: وما.
(3) ص: ذكرت.
(4) ص: والعلم.
(5) وأما الأحاديث المتعارضة الخ: قارن ما قاله هنا بما جاء في الإحكام 1: 136 - 137.
(6) ص: المسند.(3/99)
منهما، أو استعملا معاً أيضاً، بأن (1) نستثني أحدهما من الآخر [إن كان أحدهما نهياً والآخر] أمراً إذ لا يجوز ترك واحد منهما للآخر. وإن لم يمكن استعمالهما ألبتة، طلب الناسخ منهما من المنسوخ. فإن عرف ببرهان لا بدعوى لكن بنص آخر يبين أن أحدهما هو الناسخ، أو بإجماع على ذلك، فالزائد، لأنه شرع وارد لا يجوز تركه، ولأنه بيقين دافع لحكم الخبر الآخر وزائد عليه، فلا يحل ترك اليقين. وهذه وجوه لا يخرج عنها خبران متعارضان أبد الأبد، والحمد لله رب العالمين.
ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه ونقول: إذا اختلفت الرواية عن مالك لوجهين أو ثلاثة وأربعة، وهذا كثير لهم جداً، فبأيها تأخذون أتغلبون رواية ابن القاسم فقد كذبتم ابن وهب وأشهب ومطرفاً (2) وغيرهم، وليسوا أهلاً للتكذيب، أم كيف تفعلون فهذه هي الحيرة والضلالة حقاً، لا ما قد بينه الله تعالى وأوضحه ورفع (3) الإشكال فيه، والحمد لله رب العالمين [186ب] .
23 - ثم قالوا: " ونجد العلماء أيضاً يختلفون في التأويل ولا يتفقون، فكيف يوافقك على أن التأويل في آية كذا هو أمر كذا على ظاهر الآية وأن الآية لا تحتمل تأويلاً غير ظاهرها [وهو يجد غيرك يحدثه في تلك الآية بغير ما حدثته، بزائد فيه أو بناقص منه] "
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن هذا كلام مختلط في قوله، فكيف يوافقنا على ان التأويل في آية كذا هو أمر كذا على ظاهر الآية وان الآية لا تحتمل تأويلاً وهذا برسام هائج لأن القول بالتأويل خلاف الأخذ بالظاهر بلا شك، وهم قد ساووا هنا بين الأمرين، ونحن لا نقول بالتأويل أصلاً إلا أن يوجب القول به نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس، ولا مزيد، وإلا فمن ادعى تأويلاً بلا برهان، فقد ادعى ما لا يصح، فدعواه باطل، ولا يحل أن يقال إن الله تعالى لم يرد بهذه الآية إلا معنى كذا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا القول إلا معنى كذا، من غير أن يأتي نص وإجماع بذلك، لأ [ن] من قال هذا من عند نفسه، فقد تقول على الله
__________
(1) ص: فإن.
(2) هو مطرف بن عبد الرحمن بن إبراهيم (- 282) قرطبي روى عن يحيى وطبقته ورحل فسمع من سحنون ونظرائه، وكان مشاوراً في الأحكام، زاهداً ورعاً (الديباج: 346 وابن الفرضي 2: 134) .
(3) ص: ووقع.(3/100)
تعالى وعلى رسوله عليه السلام إذ لم يأت له حجة خبر عنه تعالى ولا عن نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأما قولهم (1) : إن العلماء اختلفوا في التأويل، فنعم، وليس قول أحد منهم حجة على الآخرين منهم، والواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما أمر الله تعالى بالرد إليه، إذ يقول عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) ونحن نعلم أن الله تعالى إذا نص على شيء فهو الذي أراد منا، ولو أراد غير ما خاطبنا به لبينه لنا بلا شك. فإذا لم يفعل، فما أراده قط؛ فمن ادعى انه أراده قط، فقد قال الباطل. والأمر في هذا أبين من الشمس لمن أراد الله به خيراً ولم يرد أن يضله.
ثم نسألهم بهذا القول بعينه، فنقول لهم: قد تنازع العلماء كما قلتم في التأويل، فما الذي جعل تأويل مالك أولى من تأويل غيره، لو كان لكم اهتبال بأديانكم، ونسأل الله تعالى العصمة [187/ أ] .
وأما قولهم: " وهو يجد غيرك يحدثه في تلك الآية بغير ماص: ووقع. (2) حدثته، بزائد فيه أو بناقص منه "، فإنه إن وجد عند غيرنا حديثاً صحيحاً لم يجده عندنا أو زيادة وليس كلامنا ولا كلام غيرنا حجة على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم، بل كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحجة علينا وعلى كل أحد، وما ندعو إلا إليه فقط، وبالله تعالى التوفيق.
24 - ثم قالوا: " ثم إنك تنهى عن النظائر والتفريع والتناتج والقياس، ثم تأتي بما هو أشد وأشنع، وذلك أنك تخالف مسائل كثيرة عما وردت واستقرت عليه وصح العمل بها، وتدعي أنت خلافها من طريق ظاهر الحجة والاتساع في اللغة والتصريف في الكلام، فتذهب إلى التشقيق والتناتج، ومن سبقك من المتقدمين العالمين بالسنة واللغة لم يكلفوا أنفسهم ما تتكلفه أنت، ولا غاصوا في المسائل، ولا أحالوها عن ما وردت عليه على حسب مفهومها ومسموعها، وتورعوا أن يقولوا: هذه مسألة فيها لأهل الكلام تصريف معان واحتجاج يؤدي إلى العقل قبول ذلك ويصوبه ".
__________
(1) ص: قوله.
(2) بغير ما: مكررة في ص.(3/101)
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كلام إنسان مخبول العقل يتناثر تناثر الرمل ولا يعقل (1) . فأول ذلك أنهم أنكروا نهينا عن النظائر والتفريع والتناتج والقياس، فخلط تخليطاً بجنون؛ وما نهينا قط عن التفريع والتناتج ولا عن النظائر إذا وقعت تحت نوع واحد، لكن نهينا عن القياس جملة، فجمع هؤلاء بين المختلفات جمع أهل الجهل حقاً. والتفريع هو ذكر تصاريف المسألة التي يجمعها جملة النص، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) : " من زاد في صلاته أو نقص فليسلم، ثم يسجد سجدتين "؛ فنقول: من صلى ستاً أو سبعاً ساهياً فقد دخل في هذا الحديث [187 ب] ، لأنه زاد سجدة أو سجدتين أو سجدات ساهياً فقد دخل في هذا الحديث، لأنه في صلاته. وهذا كثير جداً لو جمع لقام منه جزء ضخم. والتناتج هو نحن قوله صلى الله عليه وسلم (3) : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام "، فانتج هذا أن المسكر حرام. وأن السيكران خمر، وأن كل نقيع العسل إذا أسكر خمر، ومثل هذا كثير جداً. والنظائر هي كقوله عليه السلام (4) : " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة "، فكل حيضة فهي نظير تلك الحيضة في النوعية، والحكم لازم لها لزوماً، وهذا كله هو الظاهر بعينه، والنص بعينه.
وأما القياس فهو غير هذاكله، وإنما هو أن يحكم لما لم يأت به النص بما جاء به النص في غيره، كحكمهم في تحريم الجوز بالجوز متفاضلاً ونسيئة، قياساً على تحريم الملح بالملح والقمح بالقمح والتمر بالتمر متفاضلاً ونسيئة، فهذا هو الباطل الذي لا يحل القول به، لأنه شرع لم يأذن به الله. وقد تقصينا الكلام في هذا كله في غير هذا المكان، ولكنا لا نفقد مهذاراً يكرر السؤال فنكرر له الجواب، إقامة لحجة الله تعالى عليه، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نعود إلى تخليطهم فنقول لهم: " إننا نأتي بما هو أشد وأشنع "، هو قول كان ينبغي لهم أن يبينوه وإلا فهو كذب وبهت.
ثم ذكرتم أننا نخالف مسائل كثيرة عما وردت واستقرت عليه وصح العمل بها
__________
(1) لعل الصواب: ولا يعقد.
(2) هو في ابن ماجه (إقامة: 131، 133) ومسند أحمد 2: 483.
(3) ورد في الصحاح (انظر مثلاً: البخاري " أدب ": 80 ومسلم " أشربة " 73 - 75) ومسند أحمد 1: 274، 289، 350 ومواطن أخرى.
(4) ورد الحديث في البخاري (حيض: 19؛ وضوء: 63) ومسلم (حيض: 62) وغيرهما من كتب الصحاح وفي مسند أحمد 6: 83، 129، 141، 187.(3/102)
ندعي نحن خلافها من طريق ظاهر الحجة والتصريف في اللغة والاتساع في الكلام: أي عمل هو، وعمل من هو فان كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، فهم إذا صلوا [فليصلوا] كصلاته قاعداً بالناس في الفريضة، وكتسليمه مرتين من الصلاة، وكمسحه على العمامة، وغير ذلك كثيراً جداً. وإن كان عمل الصحابة (2) رضي الله عنهم فقد ذكرنا فعلهم، وعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إضعاف القيمة على رقيق [188/أ] حاطب، وعمله في حكمه بان يكون القراض مضموناً بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وغير ذلك كثير. وددت لو بينوا لنا عمل من يريدون عمل قضاتهم بالأندلس وأفريقية فما جعل الله تعالى أولئك حجة على أحد، وما هم أولى باتباع عملهم من قضاة خراسان وسجستان والسند وسائر بلاد الإسلام من الحنفيين والشافعين، والله اعلم.
وأما قولهم: " إن من سبقنا من المتقدمين العالمين بالسنة واللغة لم يتكلفوا قط غير طلب الحق في القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فغن كانوا لم يتكلفوا (3) ذلك فبئس ما فعلوا، ولقد ظلموا أنفسهم، وبئس ما أثنى عليهم هؤلاء المخاذيل، وإن كانوا لم يغوصوا (4) في المسائل، فما أحسنوا (5) في ذلك، مع انهم أيضاً كذبوا عليهم، فما ندري أحداً أكثر غوصاً على ما لا يكاد يقع من المسائل منهم.
وأما قولهم: " ولا أحالوها عما وردت على حسب مفهومها ومسموعها "، فهذا هو مذهبنا الذي ندعو الناس إليه، وهم لا ينكرون علينا إلا هذا بعينه، فلو عقل هؤلاء القوم ما هذروا هذا الهذر، ونعوذ بالله من الخذلان.
25 - ثم قالوا: " كقولك في المصلي: إن له ان يقول عند افتتاحه الصلاة: الكبير الله أو كبير الله، والله اكبر، واحتججت فيه بكلام كثير، وأن اللفظ بالتكبير إنما جاء على العموم، فكل ما كبر به الله تعالى فهو تكبير، وأن من كبر
__________
(1) فإن كان عمل رسول الله الخ: جاء في الاحكام 2: 100 - 101 وكان آخر عمله عليه السلام الصلاة بالناس جالساً وهم أصحاء وراءه، إما جلوس على قولنا وإما قيام على قول غيرنا، فقالوا هم [أي المالكية] صلاة من صلى كذلك باطل (وانظر أيضاً 2: 101) .
(2) وإن كان عمل الصحابة الخ: ورد مثله في الاحكام 2: 107 - 108 وفيه تفصيل لما خالفوه من أعمال عمر.
(3) ص: يكلفوا.
(4) ص: يعرضوا.
(5) ص: حسنوا.(3/103)
" الله أكبر " فقد خص، وكيف خص وهو لم يبلغه قط أن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى من دونه من صاحب أو تابع انهم كبروا في الصلاة بما عدا " الله اكبر "، فصار عموماً عندهم إذا لم يبلغهم غيره ولا صح سواه ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن الذي ذكروا عنا أنا قلناه هو (1) قولنا حقاً، وقد أوردنا حجتنا، ولم يأتوا بمعارضة فيها أصلاً أكثر من دعواهم انه لم يبلغهم قط عن النبي صلى الله [188 ب] عليه وسلم إلى من دونه من صاحب وتابع أنهم كبروا في الصلاة بما عدا " الله اكبر ". فيقال لهم: هبكم، لو صح ذلك عندكم، كما قلتم، لما كان لكم في ذلك حجة، إذ لم يمنع عليه السلام ولا أحد من الصحابة أن يكبروا بغير " الله أكبر "، وقد أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه وغيره أن يفتتح الصلاة بالله أعظم. ويقال لهم: إن كان عدم البلاغ بافتتاح الصلاة بما عدا " الله أكبر " حجة عندكم، فمن أين أجزتم تنكيس الوضوء، ولم يأت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، انه نكس وضوءه فأي فرق بين النقلين فجعلتم النقل الواحد حجة والآخر غير حجة. فان قالوا: الواو في آية الوضوء لا تعطي رتبة. قيل لهم: والأمر بالتكبير لا يقتضي أنه لا يكبر بغير " الله أكبر "، ولا فرق. ولا سبيل لهم من الانفكاك من هذا ألبتة، وبالله تعالى [التوفيق] .
ثم يقال لهم أيضاً: هل بلغكم قط أن أحداً من الصحابة والتابعي أو تابعي التابعين قلد رجلاً واحداً دون النبي صلى الله عليه وسلم في قوله كله، كما فعلتم أنتم بمالك فإذا لم يبلغكم ذاك، فكيف استحللتموه وقد صح النهي عن التقليد، وأمرتم باتباع القرآن والسنة فقط فكيف صار العمل عندكم " بالله أكبر " حجة، ولم يأت قط نهي عن التكبير بالله الكبير ولم يكن العمل بترك التقليد لإنسان بعينه حجة عندكم، وقد صح النهي مع هذا العمل عن التقليد لها. في هذا عجب لمن عقل، ونسأل الله تعالى التوفيق.
26 - ثم قالوا: " وإنك تقول: من صلى ثماني ركعات ونسي من كل ركعة سجدة، فقد أجزأته وصلى كما أكر، وأنها (2) صلاة تامة مجزئة عنه ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا هكذا قلنا، وهو الحق عند الله، وكل من قال غير هذا فمخطئ عند الله عز وجل بلا شك، لان النبي صلى الله وسلم
__________
(1) ص: وهو.
(2) ص: أنها.(3/104)
[189/أ] قال: " من زاد في صلاته أو نقص فليسلم ويسجد سجدتين " (1) ، وهذا قد زاد في صلاته ساهياً قياماً وركوعاً وعمل باقي ذلك وسجد ثماني سجدات كما أمر، فهو معفو عنه بالنص ويسلم ويسجد للسهو، كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن أخبرونا انتم: من أين قال قائلكم عن من صلى خمس ركعات ساهياً ان صلاته تامة ويسجد للسهو، وإن صلى ستاً ساهياً بطلت صلاته، لأنه زاد في صلاته مثل نصفها فيا ليت شعري من أين خرجت هذه الشريعة الجديدة وأين قال الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم: إن من زاد في صلاته أقل من نصفها ساهياً صحت له، وإن من زاد فيها مثل نصفها ساهياً بطلت وهل جاء بهذا قرآن أو سنة صحيحة أو سقيمة أو قول صاحب أو معقول أو قياس شيء له وجه في الصواب حاشا لله من هذا، بل القرآن والنص من السنة الثابتة والمعقول والقياس كل ذلك يكذب هذا القول الفاسد. أما القرآن، فإن الله تعالى يقول: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} (الأحزاب: 5) ، ولم يخص تعالى خطأ من خطأ، فلا يجوز أن يخص شيئاً من ذلك إلا أن يأتي بتخصيص شيء (2) منه نص قرآن أو سنة أو إجماع. وأما السنة فقول النبي صلى الله تعالى [عليه وسلم] : " من زاد في صلاته أو نقص "، فلم يخص عليه السلام [من] يفعل شيئاً من الدين يستدركه عليه غيره برأيه الفاسد، أو يريد منا ما لا يبلغه إلينا، هذا كله ضلال فاحش ممن قاله. وأما الإجماع، فما نعلم أحداً قال بهذا القول قبل القائل به منه، فلا فرق بين زيادة ركعة أو ركعتين. فإن قالوا: مقدار النصف كثير. قيل لهم: عهدنا بكم تقولون: إن الثلث هو الكثير، قلتم ذلك في الحوائج وغير ذلك، فما الذي جعله ها هنا في حد القليل أما هذا مما ينبغي أن يرغب عن القول به كل من نصح نفسه، وبالله تعالى التوفيق.
27 - ثم قالوا: [189 ب] " وكذلك تقول: إنه من نسي القراءة في الركعة الأولى ولم يذكر (3) حتى صلى، أن صلاته فاسدة منتقضة، وأنه لم يصل كما أمر، وغيرك يقول: يلغيها ويأتي بركعة مكانها ويسجد لسهوه ويتم صلاته، والله اعلم ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كذب وجهل، وما قلنا قط ما ذكروا،
__________
(1) من قبيل هذا الحديث: سجدتا السهو تجزيان من كل زيادة ونقص (مجمع الزوائد 2: 151) .
(2) ص: بتخصيص ثم بشيء.
(3) ص: يذكره.(3/105)
بل قولنا إن كبر ثم نسي القراءة في الركعة الأولى أو في ركعتين أو في أكثر، ثم ذكر، فإنه يبني على تكبيره ويأتي بما بقي في صلاته كما أمر، ثم يسجد للسهو بعد السلام كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه زاد في صلاته ذلك الوقوف الذي تعدى فيه. ولكن يقال لهم: أين هذا الجواب الذي أجبتم به في هذه المسألة لعلها صلاة الصبح من قولكم (1) إن من زاد في صلاته مقدار نصفها بطلت صلاته. فلم أنكرتم (2) علينا قولنا فيمن نسي فصلى ثماني ركعات ساهياً أن صلاته تامة وهذا لا مخلص لهم منه ألبتة، والله تعالى التوفيق.
28 - ثم قالوا: " وكذلك تقول أيضاً: إن من ترك حرفاً واحداً من الحمد ولو واواً ولم يقرأه ناسياً، فقد بطلت تلك الركعة، وبطلت الركعة التي تليها، لأنه لم يقرأ كما أمر، وأن عليه الرجوع من حيث ترك ويتم قراءتها، وكذلك [لا] تصح له الركعة التي ترك فيها الحرف من الحمد لله ناسياً، أرأيت لو ترك قراءة الحرف من الحمد في أول ركعة من صلاته، ولم يسقط شيئاً من ذلك في سائر صلاته التي عليه، [فعليه] على أصلك أن يأتي بركعة ولا بد وأنت قلت: إذا فسدت أول ركعة من صلاته فقد فسدت كلها، ولا يصح أن يلغي تلك الركعة ولا يعتد بها، ويبني على ما صح من الركوع بعد فساد تلك الركعة، لأنك قلت: متى بطلت ركعته الأولى فقد بطلت تكبيرة الإجرام ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -[190/أ] أن هذا الكلام كله كذب وإفك، وما قلناه قط ولا علمنا قط بقوله، فليبينوا لنا من أين رووه (3) لنا، أو من أخبرهم بذلك عنا من ثقات أصحابنا فلا سبيل لهم إلى أحد الوجهين أبداً، وما قلنا إلا انه إذا لم يكبر الإحرام فهذا لم يدخل بعد في الصلاة فلا صلاة له. وأما إذا كبر كما أمر ثم نسي حرفاً من أم القرآن ولم يذكر إلا في آخر صلاته وقد صلى الركعات الباقيات بأم القرآن، فإنه يعيد في الركعات التي قرأ فيها بأم القرآن ويلغي الركعة التي أسقط منها الحرف من أم القرآن، ويأتي بركعة، ثم ليسلم وليسجد للسهو، فإن [ذكر] ذلك قبل أن يقرأها من الركعة الثانية، عاد إلى الوضع الذي أسقط منه الحرف فقرأ من هنالك، وبنى وسجد للسهو بعد السلام، لأنه زاد في صلاته كما أمر رسول الله
__________
(1) من قولكم إن: مكررة في ص.
(2) ص: صلاته فإن لم، ثم قالوا فلم أنكرتم؛ وهو نص مضطرب.
(3) ص: في أين رواه.(3/106)
صلى الله عليه وسلم. فإن كانوا ينكرون علينا هذا، وما نعرف من قولهم إلا الحق [في] قولنا ها هنا فلا عليهم، فماذا يقولون فيمن أسقط من أم القرآن ناسياً من ركعة حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو كلمة أو كلمتين أو ثلاثاً حتى نوقفهم على ألا يقرأ منها إلا حرفاً واحداً فقط ويسقط باقيها ناسياً؛ فإن فرقوا بين شيء من ذلك، تناقضوا وسخف قولهم. وإن سووا بين ذلك كله، فهو قولنا، لان قراءة جميعها فرض، وإذ هو فرض، فكل حرف منها فرض، وبعض الفرض بلا خلاف. ومن لم يأت الفرض كما أمر فلا يعتد بتلك الركعة. هذا قولنا الذي نقطع على انه الحق عند الله تعالى، لموافقته لقول النبي صلى الله عليه وسلم (1) : " لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن "، ومن أسقط منها حرفاً ناسياً فلم يقترئ بأم القرآن. وأما من ترك منها ولو حرفاً واحداً عامداً فقد بطلت صلاته كلها، لتعمده ان يخالف فيها ما أمر به، وبالله تعالى التوفيق.
29 - ثم قالوا: " وإنك مرة تتأسى بفعل النبي [190 ب] صلى الله عليه وسلم، ومرة تتخلف عنه، كتنفلك في العيدين في المصلى، ولم يرد بذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تنفل، ولا خالفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والعلماء المشاهير في جميع الآفاق، فكلهم اقتصروا على الائتساء به في ذلك، وخالفتهم أنت لولوعك بالاحتجاج، وليرفع الناس رءوسهم إليك. ولو سلكت طريقة من مضى لكان أجمل لك وأولى ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - هذا كلام جمعوا فيه الكذب والجهل المظلم، واستحقوا به المقت من الله تعالى. فأما الكذب والجهل، فجسرهم على دعوى الإجماع من الصحابة والتابعين المشاهير في جميع الآفاق على ترك التنفل في المصلى قبل صلاة العيدين، فلو كان لهم مسكة عقل لم يقدموا على مثل هذا، وهذا أيوب السختياني وقتادة صاحباً أنس بن مالك، يذكران أن أنس بن مالك وأبا هريرة كانا يتنفلان في المصلى قبل صلاة العيدين، وذكر أيوب انه رأى ذلك من أنس بعينه، ولا يصح عن أحد من الصحابة النهي عن ذلك إلا عن ابن مسعود وحذيفة، وبرواية (2) ساقطة منقطعة. وصح عن ابن عمر أنه كان لا يتنفل في المصلى قبل صلاة العيد، فقيل له: فمن تنفل في المصلى فقال كلاماً معناه: لا يضيع له ذلك عند الله تعالى. وجاء عن
__________
(1) انظر الحديث في صحيح مسلم (صلاة: 35، 36) .
(2) ص: ورواه.(3/107)
على بن أبي طالب انه خرج إلى المصلى، فرأى الناس يتنفلون، فقيل له: ألا تنهاهم يا أمير المؤمنين فقال: ما كنت بالذي ينهى عبداً إذا صلى. ومن التابعين ممن تنفل في المصلى قبل صلاة العيدين: الحسن البصري وجابر بن زيد وغيرهما. ومن الفقهاء: الشافعي وغيره. قال: حدثنا أحمد بن محمد الخولاني (1) إجازة، حدثنا الطلمنكي (2) إجازة قال: حدثنا ابن عون [الله] (3) قال حدثنا ابن الأعرابي (4) قال: حدثنا سعدان بن نصر بن منصور المخرمي (5) قال حدثنا معاذ بن معاذ [191/أ] العنبري، حدثنا سليمان التميمي، عن عبد الله الداناج (6) قال: رأينا أبا بردة يصلي يوم العيد قبل الإمام. وبه إلى سليمان قال: رأيت أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن (7) ، وسعيد بن أبي الحسن، وجابر بن زيد يصلون قبل الإمام في العيد. فلو سكت هؤلاء الحمير عما لا يحسنون لكان أستر لعوارهم (8) وأخفى لعارهم. فإن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم [لم] يتنفل قبل الصلاة بالمصلى، قلنا لهم: صدقتم، لأنه كان الإمام عليه السلام، وكان إقباله وتكبريه للصلاة بلا مهلة. وهكذا نقول نحن: من أتى وهو الإمام فليكن إقباله وتكبيره للصلاة معاً. وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنفل يوم العيد بالمصلى، ولو كان مكروهاً لما أغفله حتى يبينه له غيره بالرأي الفاسد، بل قد حض عليه السلام على التنفل جملة، وهذا من التنفل ومن فعل الخير،
__________
(1) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني قرطبي الأصلي إشبيلي الموطن، أجاز له عدد من الشيوخ منهم الطلمنكي وغيره ولم يكن عند كبير علم أكثر من روايته عن أولئك الجلة، وهو أصغر من ابن حزم، إذ ولد سنة 410 (الصلة: 76) وابن حزم يروي مباشرة عن الطلمنكي، فلا أدري لماذا يروي هنا عنه بالواسطة.
(2) الطلمنكي: هو أحمد بن محمد بن أبي عبد الله أبو عمر، كان إماماً في القراءات ثقة في الرواية، مات سنة 428؛ وروى عنه ابن حزم وابن عبد البر (الجذوة: 106 والديباج: 39) وهو يروي عن ابن عون الله.
(3) أحمد بن عون الله بن حدير أبو جعفر: قرطبي رحل وسمع بمكة من ابن الأعرابي وغيره كما سمع بمصر وأطرابلس الشام، وكان شيخاً صالحاً صدوقاً متشدداً على أهل البدع توفي سنة 378 (ابن الفرضي 1: 67 - 68) .
(4) المقصود هنا: أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد ابن الأعرابي المحدث الصوفي، نزيل مكة توفي 340 عن أربع وتسعين سنة، روى عن الحسن الزعفراني وسعدان بن نصر وغيرهما (عبر الذهبي 2: 252) .
(5) سعدان بن نصر المخرمي أبو عثمان البزاز سمع من ابن عيينة وغيره ووثقه الدارقطني، وكانت وفاته سنة 265 (الشذرات 2: 149) .
(6) معاذ بن معاذ العنبري أبو المثنى كان قاضي البصرة حافظاً وثقه أحمد وابن القطان وتوفي سنة 196 (تذكرة الحفاظ: 324) وهو يروي عن الحافظ سليمان بن طرخان التيمي (المتوفى سنة 143) (التذكرة: 150) والداناج هو عبد الله بن فيروز البصري (التهذيب 5: 395) .
(7) ص: الحسين.
(8) ص: لعوارهم.(3/108)
والله تعالى يقول: {وافعلوا الخير} (سورة الحج: 77) . لكن لو أنكروا على أنفسهم البدعة المحضة والضلال الذي في أيديهم بالخطبة قبل الصلاة في العيدين ائتساء بمروان إذ يقول، وقد ذكر له أبو سعيد الخدري السنة في ذلك فقال له مروان: ذهب ما هنالك يا أبا سعيد. وتمادوا على ذلك بعد زوال أمر بني مروان اتباعاً للبدعة وثباتاً على الضلالة. فهذا كان ينبغي لهم أن ينكروا لا [تنفل] من تنفل بما لم ينه عنه. ونسألهم هل صح قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، هل صام [أكثر من نصف] الدهر، أو صلى أكثر من ثلاث عشرة (1) ركعة من الليل، أو أباح أكثر من قيام ثلث الليل فلابد لهم من الإقرار بأنه لم يأت قط عنه عليه السلام إلا ذلك؛ فمن أين استجازوا أن يستبيحوا خلاف أمره وفعله، فيبيحوا صوم أكثر من نصف الدهر، وقيام اكثر من ثلث الليل، وصلاة أكثر من ثلاث عشرة ركعة، ولم يفعله قط صلى الله عليه وسلم فإن قالوا: قد جاز لك عن بعض الصحابة. قيل لهم: وقد [191 ب] صح تحريم ذلك عن بعضهم أيضاً، فلم أجزتم الفعل المخالف للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمره ولفعله وأنكرتم علينا فعلاً جماعة من الصحابة، ولم يصح النهي عن أحد منهم، ولا نهى عنه قط رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا إلا أحموقة منهم وجهل وغباوة
وأما قولهم: إننا خالفناهم لولوعنا بالاحتجاج، فقد أريناهم كذبهم، وأننا لم نخالفهم، ولكن أولعنا بالاحتجاج بالقرآن والسنن، فانه لأفضل من ولوعهم باتباع التقليد وخلاف القرآن والسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة والتابعين.
أما قولهم: " ليرفع الناس رءوسهم إلينا "، فكذب واضح، وما أردنا قط الترؤس على أمثالهم، ولو أردنا ذلك لسلكنا سبيلهم في التقليد، ولو فعلنا ذلك لما شقوا غبارنا في الرياسة في الدنيا، هذا ما لا يقدرون على إنكاره، فما منهم أحد يدعي انه يدانينا - ولله الحمد - في حفظ ما طلبوه، ليأكلوا به الخبز الخبيث لا الطيب، من الآراء، لو ملنا إليها أول ميلة، ولكن معاذ الله من ذلك، فما هذه الرياسة عندنا إلا نهاية الخساسة، وأما الذي نطلب الرياسة عنده، فهو الملي بقبول رغبتنا في ذلك لا إله إلا هو.
وأما قولهم: " لو سلكت طريقة من مضى لكان أجمل لك " فنعم ولله الحمد، نحن السالكون طريقة من مضى من الصحابة والتابعين الذين هم الناس حقاً في اتباع
__________
(1) ص: ثلثة عشر.(3/109)
القرآن والسنن، ورفض التقليد والقياس، وهم الذين خالفوا من مضى في كل ذلك. فلو اتبعوا طريقة من مضى ليلموا في دينهم، وأما طريق من بعد الصحابة والتابعين من أهل التقليد والقياس، فيعيذنا الله من اتبع طريقتهم وسلوك منهجهم، ونسأل الله العافية من الخزي في ميزانهم، وله الحمد كثيراً [192/أ] على عصمته من ذلك من جميع البدع المضلة حمداً كما هو أهله.
30 - ثم قالوا: " وإنك رتبت في كتبك خلاف ما رتبه الماضون المتفقون في الأحكام والشرائع في حكم ترتيب الصلوات وإرفاعها وحكم النية والوضوء، فقلت: إنه [إن] توضأ لصلاة بعينها لم يجز له أن يصلي بذلك الوضوء صلاة غيرها ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - ان هؤلاء القوم لا يستحيون من الكذب، ومن هذه صفته فقد كان الإضراب عن مجاوبته أولى، ولكن عدم العقل ممن هذه صفته يوهمه بجهله، إن أعرض عن مجاوبته، ان ذلك عجز عن البيان وإجلال لهم ومهابة منهم، فرأينا في واجب النصيحة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن وللمسلمين عامة، مجاوبتهم، مبينين لجهلهم وكذبهم، ومزيلين لهذا الظن السوء عن أنفسهم، وتعريفاً لهم بمقاديرهم، كي يرتدعوا بذلك عن مثل هذا الهوس البارد وشبهه.
فأما قولهم: إننا نقول: من توضأ لصلاة بعينها لم يجز له أن يصلي بذلك الوضوء صلاة غير تلك الصلاة، فهذا قول ما قلناه قط، ولا نجده لنا ولله الحمد كثيراً في رواية أحد من ثقات أصحابنا عنا، وكيف وقولنا المشهور والذي لم نختلف فيه قط أن من تيمم لصلاة فرض أو نافلة، فإن له أن يصلي بذلك التيمم أبداً ما لم ينتقض وضوؤه بحدث من الأحداث، كالوضوء ولا فرق، أو ما لم يجد ماء، لكن لو سألوا أنفسهم في قولهم: إن من تيمم لفرض صلى به بعد الفريضة ما شاء من النوافل، وإن تيمم لنافلة لم يصل به بعدها فرضاً، لكان أولى بهم، فغن هذا لا يعقل وجهه ولا يدرى من أين وجب، ولعل الناسين رأوا لنا مسألة أخرى لم يفهموها ولا أحسنوا تأديتها من أين: إنا نقول من توضأ لصلاة بعينها ونوى أنه لا يرفع الحدث بوضوئه إلا لتلك الصلاة فقط لا لغيرها، فإنه لم يتوضأ [192 ب] كما أمر، ولا يصلي بذلك الوضوء لا تلك الصلاة ولا غيرها، إذ لم يأت بالوضوء الذي أمر الله تعالى به، فهو غير متطهر.(3/110)
وأما قولهم: إننا رتبنا في كتبنا (1) خلاف ما رتبه (2) الماضون المتفقون في الأحكام والشرائع، فهم الذين فعلوا ذلك، وقد نبهنا لهم عن مسائل جمة من الطهارة ومن الصلاة خالفوا فيها الصحابة الذين لا يعرف لهم مخالف فيها، والكتاب حاضر لا يمتنع عليهم رؤيته، ففي ذلك فلينتظروا إن قدروا، وهي أربع عشرة (3) مسألة من الطهارة وخمس وثلاثون مسألة من الصلاة، من جملتها مسائل خالفوا فيها الإجماع المتيقن، كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً بالناس، وغير ذلك كثيراً جداً مما قد بيناه في كتبنا، وأما خلافنا كتبهم فنعم، ما نعتذر من ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
31 - ثم قالوا: " إنك (4) قلت: إن تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها انه لا قضاء عليه فيما قد خرج وقته ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أننا هكذا نقول، وهو الحق الراجح الذي لا يحل خلافه، ولنا في هذه المسألة كتاب مفرد مشهور. وجملة الأمر أن إعادة الصلاة في غير وقتها إيجاب شرع، والشرائع لا يوجبها إلا الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، لا من سواهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبين أوقات الصلوات، أوائلها وأواخرها، وأخبر بانقطاع أوقاتها، ولم يأمر بإعادة، وما كان ربك نسياً، ولو أراد تمادي أوقاتها لما عجز عن ذلك، ولا يجوز ان يكون حكم وعمل في غير وقته، وما عمل في غير وقته فهو غير العمل الذي أمر الله تعالى به. وهذا قول ابن عمر وابن مسعود وسلمان وغيرهم، لا يعرف لهم من الصحابة مخالف في ذلك. ومن عجائب الدنيا أن يفرض (5) الله تعالى الصلاة في وقت محدود، فيقول هؤلاء المخاذيل: إن من تعمد لا يؤديها [193/أ] ثم صلى في غير الوقت، فقد أطاع وعمل ما أمر به. وهذا هو الكذب البحت، وقد قال الله تعالى: {فويل للمصلين الين هم عن صلاتهم ساهون} (الماعون: 5) ، فأثبت الله تعالى انهم يصلونها، وأنهم يسهون عنها، وأوجب لهم الويل، ومن صلى كما أمر فما له الويل، بل له السعد فصح ان من له الويل على ما صلى فلم يصل ولا صلاة له (6) ، وهذا في غاية الوضوح
__________
(1) ص: كتابنا.
(2) ص: رتبته.
(3) ص: أربعة عشر.
(4) ص: إن.
(5) ص: يعوض.
(6) كذا، وأظن صوابه: فصح أن من له الويل هو الساهي عما صلى، فلم يصل، ولا صلاة له.(3/111)
لمن أراد الله به خيراً.
32 - ثم قالوا: " وقلت: عن الذي يأبى أن يصليها وهو يقر ان صلاتها فرض عليه لا قتل عليه، [قالوا] وقد قال الله على يتوب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (التوبة: 5) .
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا هكذا نقول، لأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال من رواية ابن مسعود وعائشة وعثمان رضي الله عنهم (1) : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو نفس بنفس " ولا يحل قتل مسلم بغير هذه الثلاث إلا أن يأتي نص بقتله في قتله بصفته، فيضاف إلى هذا الحكم. ولم يأت نص بقتل تارك الصلاة حتى يخرج وقتها وهو يقر بفرضها، والعجب كل العجب من قولهم بقتل الممتنع من الصلاة إذا خرج وقتها وهي عندهم تجزئة متى صلاها أبداً. فلم خصوا خروج الوقت بقتله ووقتها باق في قولهم الفاسد أبداً فهل في التخليط أكثر من هذا وأما الآية التي ذكروا فلا حجة فيها، لان الله تعالى يقول فيها: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (التوبة: 5) فإنما أمر الله تعالى بقتل المشركين لا بقتل المسلمين، فمن أسلم فليس مشركاً، وإذ ليس مشركاً فقد حرم قتله. فإن أبوا التعلق بظاهر قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ، قيل لهم: ليس مراد الله تعالى ما ظننتم. برهان ذلك إجماع الأمة كلها، أولها عن آخرها وأنتم في الجملة، على أن امرءاً لو أسلم [193ب] مع طلوع الشمس فأنه يخلى سبيله ولا يثقف حتى يأتي الظهر ولا حتى يحول الحول على ماله فيزكي عليه، هذا ما لم يقله مسلم قط. ولو أسلمت نفساء أو حائض، فلا خلاف من أحد من الأمة كلها أنها يخلى سبيلها ولا يثقف حتى تطهر فتصلي؛ وصح بهذا يقيننا ان مراد الله تعالى بقوله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ، إنما هو الإقرار بان الصلاة فرض، ولو كان ما ظنوه لوجب ألا نخلي سبيل من أسلم حتى يأتي وقت الصلاة فيصلي وحتى يحول عليه الحول كاملاً (2)
__________
(1) أورده البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، وانظر مسند أحمد 1: 40، 55، 61، ومواضع أخرى فيه؛ وبهذا الحديث احتج عثمان رضي الله عنه على من حاصروه.
(2) ص: كامل.(3/112)
فيزكي، فحينئذ يطلق ويخلى سبيله. ومن قال هذا فقد خرج عن الإسلام بخرقه الإجماع.
ثم. نسألهم عن المقر بفرض الصلاة وهو يقول: لا أصلي، أكافر هو أو مؤمن فإن قالوا: كافر، وهم لا يقولون هذا، لزمهم ألا يورثوا منه ورثته المسلمين ولا يدفنوه في مقابرهم ولا تنفذ وصيته. ثم نسألهم، فإن قالوا: بل هو مسلم، فقد حرم الله دماء المسلمين إلا بحقها، وقد بين الله تعالى حقها، ولم يبين في جملة ذلك من قال: لا أصلي، وهذا القول منهم لم يأت بد قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر، فهو فاسد مقطوع على فساده، واستحلال لدم مسلم بالباطل وبالرأي الفاسد. وأما نحن فنقول: إنه أتى منكراً، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) : من رأى منكم منكراً أن يغيره بيده، فنحن نضربه (2) أبداً حتى يصلي أو يموت، غير قاصدين إلى قتله، وهكذا نفعل بكل من أتى منكراً حتى يتركه، وبالله تعالى التوفيق.
33 - ثم قالوا: وقلت: " إن للمصلي أن يصلي ظهراً خلف من يصلي عصراً ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أننا هكذا قلنا، وهو الحق الذي من خالفه أخطأ بيقين، لأن الله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة: 286) ، ويقول: {لا تكلف إلا نفسك} (النساء: 84) ، وقال تعالى: {عليكم أنفسكم} (المائدة: 105) ، وقال رسول الله صلى الله عليه [194/أ] [وسلم] (3) : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى - ولكل مصل ما نوى ونيته. وما أوجب قط رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تتفق نية الإمام مع نية المأموم، بل قد أباح الله تعالى اختلاف نياتهم بيقين. وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بقوم ثم سلم، ثم صلى بآخرين تلك الصلاة بعينها، فهي له عليه السلام تطوع ولهم فرض، وقد فعل ذلك معاذ بعلمه، وهذا مما خالفوا فيه السنة وجميع الصحابة أولهم عن آخرهم بآرائهم الفاسدة. والعجب انهم يأمرون من صلى الفرض عندهم ووجد
__________
(1) انظره في مسلم (إيمان: 78) ومسند أحمد 3: 10، 52.
(2) ص: نصوبه.
(3) هذا حديث مشهور، ورد في الكتب الستة، وفي مسند أحمد 1: 25، 43.(3/113)
إماماً يصلي بجماعة أن يصلي معه إن شاء، فهي له نافلة، وللإمام فريضة. فليت شعري أي فرق بين أن يصلي المرء نافلة خلف من يصلي فريضة، وبين أن يصلي فريضة خلف من يصلي نافلة أو ظهراً خلف من يصلي عصراً فإن قالوا: لا ندري أي صلاة هي الفرض، أتوا بالمحال الظاهر، لأنهم لا يجيزون على هذا ان يصلي مع الجماعة إلا أن يشاء، وهذه صفة النافلة بلا شك لا صفة الفرض، مع انه لا يحل لمسلم ان يصلي في يوم واحد صلاتين بنية أيهما ظهر ذلك اليوم، هذا ما لا يقوله مسلم، فهو إذا صلى الأولى بنية الظهر فقد أدى فرضه، لا يحل له ذلك في الثانية بوجه من الوجوه، لأنه يزيد في الدين شرعاً لا يحل له زيادته، وبالله تعالى التوفيق.
34 - ثم قالوا: " وإنك استحسنت قول ابن عمر، وجعلت قوله حجة (1) في القصر في قوله: لو سافرت ميلاً لقصرت، وهل قوله حجة تلزم المسافر الموقوف عند قوله، وهل قوله وقول غيره إلا سواء ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - قد كذبوا علينا في دعواهم أنا استحسنا قول ابن عمر في هذا، وأنا جعلنا قوله حجة، ومعاذ الله من ذلك، ومن أن يكون قول أحد غيره (2) حجة بعد رسول الله صلى [194ب] الله عليه وسلم. وما جعلنا الحجة في ذلك إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عمر بن الخطاب وأم المؤمنين عائشة (3) وابن عباس رضي الله عنهم: من أن صلاة السفر ركعتان (4) ، ولم يخص الله تعالى سفراً من سفر، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، {وما كان ربك نسياً} (مريم: 64) ولم نجد أحداً يقصر في أقل من ميل، ووجدنا عمر بن الخطاب وغيره يقصرون في هذا القدر، فقلنا باتباع السنة في ذلك لا باتباع ابن عمر في ذلك. ولكن بهذا أنكروا على أنفسهم تقليد ابن عمر من بين الصحابة في المنع من المسح على العمامة، وقد خالفه في ذلك جمهور الصحابة، هنالك كان فعل ابن عمر حجة، وهذا هو الضلال بعينه والتخليط والتحكيم في الدين بالرأي الفاسد. وكذلك تقليدهم
__________
(1) ص: حجر.
(2) ص: عنده.
(3) بعده في ص: رضي الله عنها؛ ولا ضرورة لإثباته لورود " عنهم " من بعد.
(4) انظر الحديث في البخاري (تقصير: 11، 12) ومسلم (مسافرين: 5) وابن ماجه (إقامة: 73، 75) ومسند أحمد في مواضع كثيرة منها: 1: 37، 241، 243، 251 إلخ.(3/114)
مالكاً في أن لا قصر في أقل من ثمانية وأربعين ميلاً بغير أن يعضد قوله هذا قرآن، ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس، ولا نظر، ولا احتياط، ولا رأي يصح، بل خذلهم مالك في هذه المسألة بعينها، فروى عنه أشهب أن القصر جائز في أربعين ميلاً، وروى عنه ابن الماجشون في " المبسوط " (1) لإسماعيل أن القصر جائز في أربعين ميلاً، وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس ابن عمه وابن اخته (2) أن القصر جائز في ستة وثلاثين ميلاً، وأنه بلغه ذلك عن ابن عباس وابن عمر، فقد أسلمهم صاحبهم في هذه المسألة وتبرأ من تقليدهم، وبالله تعالى التوفيق. وما علم قط ذو حس سليم فرقاً بين ثمانية وأربعين ميلاً وبين سبعة وأربعين ميلاً ولا بين ستة وثلاثين ميلاً وخمسة وثلاثين ميلاً وأربعين ميلاً، وكل هذا لا معنىً له، ولا يتشاغل به ناصح لنفسه أصلاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
35 - ثم قالوا: " وقلت في الحد على قاذف الصبية دون البلوغ: إنما لزمه الحد للكذب وغيرها عندي [195/ أ] سواء ".
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا هكذا نقول، لأن الله تعالى يقول: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور: 4) ، والصغيرة محصنة بالإسلام وبالحرية، وبعدم الزنا منها جملة بيقين الكذب عليها، وقلنا: العجب كله ممن يوجب الحد بالشك في كذبه ولعله صدق، ثم يسقط الحد بيقين الكذب، وإنما كان ينبغي لهم أن يعجبوا من قياسهم حد القذف والزنا على قذف آخر بفعل قوم لوط، وبين قاذف بالكفر أو ببعض الكبائر من الزنا وأكل لحم الخنزير وغير ذلك، فمن أين خصوا من رمى آخر بفعل قوم لوط بالحدود دون من رماه بالكفر أو بالعقوق أو بشرب الخمر، وهم لا يقولون إن فعل قوم لوط زنا ولا حده عندهم حد الزنا، فمن هذا ينبغي أن يعجب، لا ممن تعلق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
إلى ها هنا انتهى ما رسموا من السخف، وقد أوضحنا أنه كله عائد عليهم، وهم قوم كادونا من طريق المغالبة وإثارة العامة، فأركس الله تعالى جدودهم، وأضرع خدودهم، وله الحمد كثيراً، وخابوا في ذلك فعادوا إلى المطالبة عند السلطان، وكتبوا
__________
(1) المبسوط في الفقه كتاب لإسماعيل بن إسحاق القاضي أحد أعلام مذهب مالك، وكانت وفاته سنة 282 (الديباج 92 - 95) .
(2) إسماعيل بن أبي أويس أبو عبد الله هو ابن عم مالك وابن أخته وزوج ابنته، توفي سنة 226 (الديباج: 92) .(3/115)
الكتب الكاذبة، فخيب [الله] سعيهم، وأبطل بغيهم، وله الشكر واصباً، وخسئوا في ذلك فعادوا إلى المطالبة عند أمثالهم، فكتبوا الكتب السخيفة إلى مثل ابن زياد (1) بدانية وعبد الحق (2) بصقلية، فأضاع كيدهم وفل أيدهم، وله المن كثيراً والفضل، فخزوا في ذلك، ولم يبق لهم وجه إلا مثل هذه السخافة، فرموا سهمهم الضعيف، فأظهر الله في ذلك عوارهم وأبدى عارهم، وهو أهل الطول والمنة علينا أبداً، فعاد جدهم حسيراً، وحدهم كسيراً، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل.
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليماً كثيراً، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.
__________
(1) ابن زياد: لم أهتد - على طول البحث - إلى ترجمة له أو تعريف به.
(2) هو عبد الحق بن محمد بن هارون الفقيه الصقلي (- 466) تفقه بشيوخ القيروان وصقلية وحج مرتين ولقي القاضي عبد الوهاب وأبا ذر الهروي وإمام الحرمين الجويني، وألف كتاباً كبيراً في شرح المدونة، وله استدراك على مختصر البرادعي (ترتيب المدارك 2: 775؛ الديباج: 174) .(3/116)
3 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد.(3/117)
فراغ(3/118)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
- 3 -
رسالة في الرد على الهاتف من بعد
بسم الله الرحمن الرحيم: من علي بن أحمد إلى الهاتف من بعد دون أن يسمى أو (1) يعرف (2) :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وعلى ملائكة الله المقربين وأنبيائه المرسلين (3) ، ثم السلام على أهل الإسلام، فإن كنت منهم أيها المخاطب فقد شملك ما عمهم، وإن لم تكن منهم فلست أهلاً للسلام عليك.
أما بعد: فإن كتابين وردا علي لم يكتب كاتبهما اسمه فيهما، فكانا كالشيء المسروق المجحود، وكابن الغية المنبوذ، كلاهما تتهاداه الروامس، بالسهب الطوامس، فاجبنا عن الأول بما اقتضاه سفه كاتبه، وهذا جوابنا عن الثاني.
1 - أما استعاذته بالله من سوء ما ابتلانا الله به - فيما زعم - من الطعن على سادة المسلمين، وأعلام المؤمنين، وقذفنا لهم بالجهل، والقول في دين الله تعالى بما لم يأذن الله به، فليعلم الكذاب المستتر باسمه، استتار الهرة بما يخرج منها، انه استعاذ بالله تعالى من معدوم؛ حاشا لله أن يكون منا طعن على أحد من أعلام المؤمنين وسادة المسلمين، أو أن نقذفهم بالجهل، أو أن نقول في دين الله بما لم يأذن به الله، وإنما وصمنا (4) بذلك جسارة وحيفا فيما (5) نسب، وصم جيل (6) معرضين عن القرآن والسنن، متدينين بالرأي والتقليد، لا يعرفون غيره، مخالفين لكل إمام سلف أو خلف.
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) في آخر الرسالة ما يلمح إلى أن ابن حزم كان يعرف هذا الهاتف من بعد أو الجهة التي ورد منها هتافه، وذلك حيث يقول: وقد استتبنا اللعين المريد المرتد المتوجه إليكم بهذه الأكذوبات المفتراة. إلخ.
(3) ص: والمرسلين.
(4) ص: وصفنا.
(5) ص: وجفا مما.
(6) ص: حبل.(3/119)
وأما من كان مجتهداً مأجوراً أجرا أو أجرين فليس ممن يهمل لسانه ويطلق كلامه، بما ضرره عليه عائد في الدنيا والآخرة.
2 - ثم قال: " فلم تقنع (1) بهذا المقدار في من هو في عصرنا، ومن كان قبل ذلك من علماء المسلمين، حتى تخطيت إلى أصحاب نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم، وقلت إنهم ابتدعوا من الرأي ما لم يأذن به الله تعالى لهم، وأحدثوا بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز ".
قال علي: فاعلم أيها السافل أنك قد كذبت، وما يعجز أحد عن الكذب إذا (2) لم يردعه عن ذلك دين أو حياء. معاذ الله من أن ننسب إلى الصحابة شيئاً مما ذكرت، فكيف هذا ونحن نحمد (3) الله تعالى على ما من به علينا من الجري (4) على سنتهم: من ترك التقليد ورفض القياس واتباع القرآن والسنن، وإنما الواصف لهم بما ذكرت من راء أن أقوالهم لا ينبغي أن تكتب، وفتاويهم لا يجب أن تطلب، وانهم كلهم أخطأوا إلا فيما وافق تقليده فقط، فهذا هو الذي لا يقدر أحد على إنكاره من فعلكم لشدة اشتهاره، والحمد لله رب العالمين.
3 - ثم قال: " فليت شعري إذا كان ذلك كذلك عندك، فسنن النبي، صلى الله عليه وسلم: نقل من تقبل (5) فيها "
قال علي: فقد قلنا لك إنك تكذب فيما نسبت إلينا، ونحن نقبل ديننا عن الصحابة، رضي الله عنهم، وهم حجتنا فيما نقلوه إلينا، وفيما أجمعوا عليه وإن لم ينقلوه مسنداً، ثم عن التابعين، وأفاضل الرواة، وهكذا عمن بعدهم من المحدثين، فعن هؤلاء نأخذ ديننا، ونقبل سنتنا. ولكن، أيها الجاهل، أما أنت وضرباؤك فقد استغنيتم عن القرآن، واكتفيتم بالتقليد عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تتعنون (6) في نقل سنة، ولا تشتغلون بحكم آية، وهذا أمر لا تقدرون (7) على جحوده؛ فليت شعري، من إمامكم في هذه الطامة وعن من
__________
(1) ص: يقنع.
(2) ص: إذ.
(3) ص: بحمد.
(4) ص: الجزاء.
(5) ص: يقبل.
(6) تقرأ أيضاً: تتعبون.
(7) ص: تقتدرون (دون إعجام) .(3/120)
بلغكم انه قال: استغنوا بالرأي عن القرآن، ومعاذ الله أن يقول هذا أحد من المسلمين لا سالف ولا خالف؛ وأما نحن فلا نفني ليلنا ونهارنا، ولا نقطع أعمارنا ولله الحمد كثيراً، إلا بتقييد أحكام القرآن، وضبط آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أقوال الصحابة، رضى الله عنهم، والتباعين والفقهاء مكن بعدهم - رحمة الله على جميعهم - لا تقدر على إنكار ذلك، وإن رغم انفك، ونضجت كبدك غيظاً. وطريقتنا هذه هي طريقة علماء الأمة دون خلاف من أحد منهم.
4 - ثم قال: " أنائم أنت أيها الرجل بل مفتون جاهل [أو متجاهل] ".
قال علي: فما نحن، ولله الحمد، إلا أيقاظ إذا استيقظنا، ونيام إذا نمنا. وأما الفتنة فقد أعاذنا الله منها، وله الشكر واصباً، لأننا لا نتعصب (1) لواحد من الفقهاء على آخر، ولا نثبت إلى أحد دون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا نتخذ دون الله ولا رسوله، صلى الله عليه وسلم، وليجة، وكيف لا نقطع بذلك وقد وفقنا الله تعالى لملة الإسلام، ثم لنحلة أهل السنة أصحاب الحديث، ثم يسرنا لاتباع القرآن وسنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، إذ أحدثت وضرباءك سبيل الرأي والتقليد، وأضربت عن القرآن والسنة. فأنت المفتون الجاهل حقاً، إذ تنكر على من اتبع القرآن والسنة وإجماع الأمة. وهذه هي الحقائق التي يقطع كل مسلم على أنها الحق عند الله عز وجل، وأما وصفك لنا بالجهل، فلعمري إننا لنجهل كثيراً مما علمه غيرنا، وهكذا الناس، وفوق كل ذي علم عليم.
وأما قولك " متجاهل " فلعلها صفتك، إذ قامت حجة الله عليك، وأعرضت عنها لعمى قلبك، فنعوذ بالله مما ابتلاك به، ونسأله الثبات على ما أنعم به علينا من الحق.
5 - ثم قال: " [ومثلك] قد انطوى على خبث سريرة وأبدى بلفظه ما يجنه ويستره " (2) .
قال علي: فنحن نقول: لعن الله الخبيث السريرة، وإنما يعلم السرائر خالقها والمطلع عليها تعالى ثم الذي يسرها لكن ظاهره مبد عن باطنه. فمن أعلن باتباع كلام الله عز وجل، والسنن المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين،
__________
(1) ص: نتغصب.
(2) ص: قد قال قد انطوى أبدى بلفظه ما تجنه وتستتر. وهي عبارة مضطربة وقد أصلحتها بما يوضح المعنى.(3/121)
فذلك دليل على طيب سريرته، ومن اعرض عن القرآن والسنن وعادى (1) أهلها واتكل على التقليد، وخالف الإجماع، فهذا برهان على خبث سريرته وفساد بصيرته، ونعوذ بالله من الخذلان.
6 - ثم قال: وما أرى هذه الأمور إلا (2) من تعويلك على كتب الأوائل والدهرية وأصحاب المنطق وكتاب إقليدس والمجسطي، وغيرهم من الملحدين.
قال علي: فنقول، وبالله تعالى التوفيق: اخبرنا (3) عن هذه الكتب من المنطق واقليدس والمجسطي: أطالعتها أيها الهاذر أم لم تطالعها فإن كنت طالعتها، فلم تنكر على من طالعها كما طالعتها أنت وهلا أنكرت ذلك على نفسك وأخبرنا ما الإلحاد الذي وجدت فيها، إن كنت وقفت على مواضعه منها. وإن كنت لم تطالعها، فكيف تنكر ما لا يعرف أما سمعت قول الله عز وجل {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) وقوله تعالى {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} (النور: 15) ولك قلة اشتغالك بالقرآن وعهوده تعالى فيه، سهل عليك مثل هذا وشبهه. ولو كان لك عقل تخاف به الشهرة (4) ، لم تتكلم في كتب لم تدر ما فيها.
7 - ثم خرج إلى السفه الذي هو أهله فقال: " واعلم أن صورتك عندنا انك جمعت ثلاثة أشياء: قلة الدين، وضعف العقل، وقلة التمييز والتحصيل ".
قال علي: فليعلم هذا الجاهل السخيف وأشباهه أن هذه الصورة عندهم (5) لا عندنا، وان ذمهم زين لمن ذموه، ومدحهم غضاضة على من مدحوه لأنهم لا ينطقون عن حقيقة، وإنما هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. فليقل بعد ما شاء، لكن نحن نوضح إن شاء الله تعالى [أن] هذه الصفات التي ذكر هي صفات كاتب الصحيفة الخاسئة (6) . أما قلة دينه: فاعتراضه بالجهل على القرآن، وأما ضعف عقله: فكلامه فيما لا يحسن، وأما قلة تمييزه وتحصيله: فتهديده من لا يحفل به.
__________
(1) تقرأ أيضاً: وعاب، وفي ص: وعاد.
(2) في الأصل: هذا الأمورات.
(3) ص: أخبرونا.
(4) الشهرة: الشنعة والفضيحة.
(5) ص: عندهم لا عندهم لا عندنا.
(6) ص: الخامسة.(3/122)
عوى ليروع البدرا (1) ... وما كلب وإن نبحا 8 - ثم قال: " أما قلة دينك فلما أظهرته من الطعن على الصحابة، وتخطئتك (2) لهم وتسفيهك لآرائهم ".
قال علي: فقد كذب هذا ومضى جوابه وأنه هو الطاعن عليهم، المخطئ لهم، المسفه لآرائهم، ببرهان لا إشكال فيه؛ وأنه تارك لجميعهم إلا ما وافق تقليده، فأي طعن على الصحابة، رضي الله عنهم، أعظم من هذا! وأما تسفيهه لآرائهم، فهو يعلم من نفسه، وغيره يعلم منه، أن رأيهم كلهم عنده في نصاب من لا يلتفت إليه ولا يعتد به في العلم، إلا رأي من قلده دينه. فأي سفه أكثر من هذا وأي تخطئة لهم تفوقه (3)
9 - ثم قال: " وأما ضعف عقلك، فلما ظننته بنفسك من انك قمت بإظهار الحق وبيانه، وأنه قد صح لك منه ما لم يصح لصحابة نبيك، صلى الله عليه وسلم، ولا اهتدوا إليه ".
قال علي: فلو علم هذا المجنون الفاسق، أن هذه صفته وصفة أمثاله لأعول على نفسه. فأول ذلك كذبه علينا أننا ندعي انه قد صح لنا من الحق ما [لم] يصح لصحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا اهتدوا إليه. وكيف هذا ولا نقول بغير السنن التي نقلوها إلينا، وعرفوا بها، ولا نتعداها. فكيف يصح لنا ما لم يصح لهم وليس عندنا شيء من الدين إلا من قبلهم ونقلهم فقد صح كذبه جهاراً. وأما الصفة التي ذكر فصفته لأنه سلك تقليد مالك، ولا يختلف اثنان أنه لم يكن قط في أصحابه، رضي الله عنهم، مقلد لأحد، ولا موافق لجميع قول مالك حتى لا يحل عنه خلاف لشيء منها، فقد صح يقيناً أن هذا الجاهل، كاتب تلك الصحيفة، هو الذي يظن نفسه انه وقع من التقليد على علم غاب عن جميع الأمة، فهو العديم العقل حقاً، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله الهدى والتوفيق.
10 - ثم قال: " وأنت إنما نبغت في آخر الزمان وفي ذنب الدنيا، بعد البعد عن
__________
(1) ص: ذا البدء.
(2) ص: وتحطيطك.
(3) ص: تفوته.(3/123)
القرون الممدوحة (1) ، في وقت قلة العلم وكثرة الجهل، فهذا عند (2) كل عاقل من فساد حسك ونقصان عقلك ".
قال علي: فأما قوله إننا في آخر الزمان، فنعم، وفي ذنب الدنيا والبعد عن القرون الممدوحة، وفي وقت العلم وكثرة الجهل. ولكن الله تعالى، وله الحمد، علمنا من فضله كثيراً، ويسرنا لسلوك طريق الصحابة والتابعين وأهل القرون الممدوحة، ثم من بعدهم لأئمة المسلمين وأعلام المحدثين، إذ صرف قلبك عنهم، ووفقنا لاتباعهم والتمسك بطريقتهم إذ أعماك عن ذلك، وهدانا إلى طلب السنة إذ أضلك عنها (3) ، فله الحمد كثيراً. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: " عن هذا الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً، طوبى للغرباء (4) ". ولله الحمد [على ما وهب] (5) من قوة (6) الحس وتمام التمييز؛ ومن ضعف حسك وعدم عقلك، إعراضك عن ما أمر الله به من اتباع ما أتاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلت على ما نهاك عنه [من] التقليد.
11 - ثم قال: " وأما ضعف تمييزك وتحصيلك فظاهر في تناقضك. وذلك أنك تنهى غعن تقليد الصحابة فمن دونهم وتحث أتباعك على تقليدك، والتعويل على تواليفك، وتذم القول بالرأي، وأنت تفتي في دين الله عز وجل، بما لم يرد بيانه في كتاب الله، ولا على لسان رسول الله، صلى الله عليه وسلم ".
قال علي: فليعلم هذا الجاهل أنه كاذب (7) في أكثر ما ذكر: أما نهينا عن تقليد الصحابة فمن دونهم، فأمر لا ننكره، ونحن في ذلك موافقون لجميعهم في نهيم عن ذلك بلا خلاف. أينكر هذا السائل أمراً قد صح به إجماع الأمة كلها وهلا أنكر هذا على مالك إذ لا يختلف أحد أن قوله: لا يقلد لا صاحب ولا من دونه وأما قوله إننا نحض أتباعنا على تقليدنا فقد كذب صراحاً بواحاً (8) ، وما نحض
__________
(1) انظر معنى مشابهاً لهذا فيما رد ابن حزم على جماعة من المالكية سألوه أسئلة تعنيف: 90.
(2) ص: غر.
(3) ص: ضلك.
(4) انظر تخريج هذا الحديث وشرحه في رسالة لابن رجب الحنبلي سماها " كتاب كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة " ط. مطبعة النهضة الأدبية 1332هـ؛ وهو في صحيح مسلم والترمذي وابن ماجة ومسند أحمد 1: 194، 398؛ 2: 177.
(5) زيادة يقتضيها المعنى.
(6) من قوة: مكررة في الأصل.
(7) ص: كاذب في كاذب في أكثر
(8) ص: نواحاً. والصراح: الخالص، والبواح: البين. ويجوز أيضاً براحاً بمعنى جهاراً.(3/124)
أصحابنا وغيرهم، ولا نملأ كتبنا إلا بالأمر باتباع القرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الامة، ومطالعة أقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء، وعرضها (1) على كلام الله عز وجل، وكلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلأيها شهدا (2) قلناه.
وأما دعواه (3) بأننا في القرآن والسنة، فقد كذب جهاراً علانية، نفتي في كتبنا بما ليس في القرآن والسنة، فقد كذب جهاراً علانية، وكتبنا حاضرة ومشهورة، ظاهرة منشورة، ما فيها كلمة مما يقول، والحمد لله رب العاملين كثيراً. ولو تفكر هذا الجاهل فيمن هو المفتي بما ذكر لسخنت عينه، ولعظمت مصيبته، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
12 - ثم قال: فانتبه أيها الجاهل، واعرف منزلتك، فإنك جاهل بمقدار نفسك.
قال علي: فلو أوصى نفسه بهذه الوصاة (4) أو قبلها لوفق، فهي والله صفته يقيناً.
13 - ثم قال: " وحالك عند أهل التحصيل على وجهين: أحدهما ضعف العقل وقلة التمييز، والثاني خبث السريرة وقصد التمويه والتطرق إلى أسباب قد تريدها، والله تعالى بالمرصاد، وعالم سرائر العباد ".
قال علي: فليعلم هذا أن هذه هي صفاته، وأما تشنيعه بما ذكر فمنزلة نهيق ناهق وعواء عاو (5) ، ولن يعدم على ذلك خزياً من الله عاجلاً وآجلاً، ومقتاً من عباده عوداً وبدءاً (6) ، والله حسيب كل ظالم.
14 - وأما قوله: " لئن (7) لم تنتبه من رقدتك، وتستيقظ من غفلتك، وتبادر إلى التوبة من عظيم ما افتريت، فسيرد فيك، وفيمن يقصدك ويترك أن يقيم فيك
__________
(1) ص: وعرضهم.
(2) ص: فلأيهما شهد.
(3) ص: دعواهم.
(4) ص: الموصاة.
(5) ص: وعوي.
(6) ص: وبداء.
(7) ص: أين.(3/125)
حق الله، من أجوبة أهل العلم في أقطار الأرض ما ستعلمه (1) ، وأرجو أن يريح الله منك العباد والبلاد دون ذلك، أو يصلحك إن كان قد سبق في علمه ذلك. ولتعلمن أيها الإنسان، نبأه بعد حين ".
فنقول له: أيها المخذول عماذا نتوب عن اتباع القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة واتباع جميع الصحابة رضي الله عنهم، وسلوك سبيل كل عالم في الأرض من المؤمنين فمعاذ الله من التوبة من هذا. وإلى ماذا نرجع إلى رأي مخلوق لا يغني عنا من الله شيئاً وتقليده حاشا الله من ذلك. ولعمري لئن نصحت نفسك ونظرت لها، لترجعن إلى ما دعوناك إليه من اتباع القرآن والسنة وإجماع الامة، وإلا فسترد وتعلم.
وقد استتبنا اللعين المريد المرتد (2) المتوجه إليكم بهذه الأكذوبات المفتراة، والفضائح المفتعلة، وهو ابن البارية، ولقينا (3) العتقي الذي حمق من حمق منكم، ونحن نرجو عادة الله تعالى فيمن عند عن كلامه، واستغنى عن كلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج: 40) .
وأما وعيدك بأجوبة العلماء في أقطار الأرض:
فتلك أضاليل المنى وغرورها ... سرت بكم في الترهات البسابس (4) العلماء والله قسمان لا ثالث لهما: إما عالم موافق، وإما عالم أداه (5) اجتهاده إلى مخالفتي، فهو إما سالك طريق أهل العلم في حسن المعارضة والمخاطبة بالحجة لا بالخبط والتخليط والحماقة، وإما ممسك ساكت، لا كالطريق التي سلكت من التقحم في الفتيا، قبل أن تستفتى، والتهالك في السخف.
__________
(1) أبان ابن حزم (في ما تقدم ص: 116) أن المالكية بالأندلس أثاروا العامة ضده، ثم لما أخفقوا في ذلك سعوا به إلى السلطان وكتبوا له الكتب فخذلوا في ذلك أيضاً " فعادوا إلى المطالبة عند أمثالهم فكتبوا الكتب السخيفة إلى مثل ابن زياد بدانية وعبد الحق بصقلية فأضاع الله كيدهم ".
(2) ص: المرتد المرتد.
(3) ص: وبقينا.
(4) البسابس: الكذب، والترهات البسابس: الباطل، وربما قالوا ترهات البسابس على الإضافة.
(5) ص: آذاه.(3/126)
وأما قولك: " أرجو أن يريح الله منك العباد والبلاد " فإنما يريح الله من الكافر العاند عن كلام الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأما المؤمن فمستريح.
وما أقول لك إلا كما (1) قال جرير (2) :
تمنى رجال أن (3) أموت وغن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحد
ص: آذاه. لعل الذي يبغي وفاتي ويرتجي ... (4) بها قبل موتي أن يكون هو الردي والله لئن مت، ما أسد قبوركم، ولا أوفر عليكم رزقاً. ولأردن على رب رحيم، وشفيع مقبول، لأني كنت تبع كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لا أتخذ دونهما وليجة. لكن إن مت انت، فتقدم والله على رب خالفت كتابه، وعلى نبي اطرحت أوامره ظهرياً وأطعت غيره دونه، فاعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً؛ وسترد فتعلم ولا عليك إن مت عاجلاً أو تأخر موتي، فلقد أبقى الله تعالى لك ولأمثالك مما أعانني الله ووفقني له حزناً طويلاً، وخزياً جزيلاً، وكسراً لكل رأي وقياس (5) ونصراً للسنة مؤزراً، ولينصرن الله من ينصره، فهل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين.
وبعد، فلتطب نفسك بعد أن تذيقها برد اليأس، على أن تعارض بهوس ما في تلك الرسالة الحق الواضح، وكيف تعارض نص القرآن والسنة هيهات من ذلك.
__________
(1) ص: وأما قولك كما.
(2) البيتان من قصيدة في ملحق ديوان عبيد بن الأبرص: 80 ولم ينسبهما أحد لجرير، وقال الراجكوتي في ذيل السمط: 104 إنه وجد الشعر في كتاب الاختيارين منسوباً لمالك بن القين الخزرجي وفي تفسير الطبري 30: 145 بيت منسوب لطرفة بن العبد، وانظر أبياتاً من القصيدة والخبر المتصل بها في أمالي القالي 2: 218 والعقد 4: 443 ومروج الذهب 3: 136 والبداية والنهاية 9: 232.
(3) رواية ديوان عبيد: تمنى مريئ القيس موتي.
(4) رواية البيت في ديوان عبيد:
لعل الذي يرجو رداي ومنيتي ... سفاهاً وجبناً أن يكون هو الردي (5) ص: قياساً.(3/127)
فأقصر فهو أروح لك، وأجمل بك (1) عن شاء الله تعالى. والسلام على من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل.
تمت الرسالة في الرد على الهاتف من بعد
بحمد الله وشكره وحسن توفيقه
ولله الحمد والشكر دائماً أبداً
ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم
__________
(1) ص: واجمح لك.(3/128)
4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة.(3/129)
فراغ(3/130)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
- 4 -
رسالة التوقيف على شارع النجاة
باختصار الطريق
قال الشيخ الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين كثيراً، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وسلم تسليماً وبالله نستعين على كل ما يقرب منه، أما بعد فإن خطابك اتصل بي فيما شاهدته من انقسام أهل عصرنا قسمين: فطائفة اتبعت علوم الأوائل وأصحاب تلك العلوم، وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة، ورغبتك في أن أبين لك وجه الحق في ذلك بغاية الاختصار، لئلا ينسي آخر الكلام أوله، وبنهاية (1) البيان، ليفهمه كل من قرأه، بلا كلفة، وأن يكون عليه من البرهان ما يصححه لئلا يصير دعوى كسائر الدعاوي، فسارعت إلى ذلك متأيداً بالله عز وجل لوجوب نصيحة الناس والسعي في استنقاذهم من الهلكة، وحسبنا الله تعالى:
1 - اعلم - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي: الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطاطاليس والإسكندر (2) ومن قفا قفوهم، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله، بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به، وتمييزه مما يظن من جهل (3) أنه برهان، وليس برهاناً، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها.
__________
(1) ص: ونهاية.
(2) هو الإسكندر الأفروديسي الذي فسر أكثر كتب أرسطاطاليس (انظر الفهرست: 253 وابن أبي أصيبعة 1: 69 والقفطي: 54) وكانت بينه وبين جالينوس مناظرات ومشاغبات كما كانت شروحه يرغب فيها في الأيام الرومية والإسلامية.
(3) من جهل: مكررة في ص.(3/131)
2 - وعلم العدد الذي تكلم فيه أندروماخش (1) مؤلف كتاب الأرثماطيقي في طبائع العدد، ومن نحا نحوه، وهو علم حسن صحيح برهاني. إلا أن المنفعة به إنما هي في الدنيا فقط: في قسمة الأموال على أصحابها ونحو هذا، وكل ما لا نفع (2) له إلا [142ب] في الدنيا فهي منفعة قليلة وتحة (3) لسرعة خروجنا من هذه الدار ولامتناع (4) البقاء فيها، وكل ما ينقضي فكأنه لم يكن، وكما يقول يحيى (5) :
(6) وما هذه الدنيا سوى كر لحظة ... يعد بها الماضي وما لم يحن بعد
هي الزمن الموجود لا شيء غيره ... (7) وما مر والآتي عديمان يا دعد 3 - وعلم المساحة التي تكلم فيها جامع كتاب أقليدس (8) ومن نهج نهجه، وهو علم حسن برهاني، وأصله معرفة نسبة الخطوط والأشكال بعضها من بعض، ومعرفة ذلك في شيئين: أحدهما فهم صفة هيئة الأفلاك والأرض، والثاني في رفع الأثقال (9) والبناء وقسمة الأرضين ونحو ذلك. إلا أن هذا القسم منفعته في الدنيا فقط. وقد قلنا إن ما لا نفع له إلا في الدنيا فمنفعته قليلة لسرعة انقطاعها، ولأنه قد يبقى المرء في دنياه - طول مدته فيها - عارياً من هذين العلمين، ولا يعظم ضرره بجهلهما (10) لا في عاجل ولا في آجل.
4 - وعلم الهيئة: الذي تكلم فيه بطليموس، ولونخس (11) قبله، ومن سلك
__________
(1) لم يذكر كل من ابن أبي أصيبعة والقفطي لأندروماخس الحكيم الفيلسوف كتاباً في طبائع العدد، (انظر القفطي: 72) ، أما مؤلف الأرثماطيقي في علم العدد فهو نيقوماخوس (القفطي: 336) .
(2) ص: يقع.
(3) ص: وتحى، والوتحة: القليلة التافهة.
(4) ص: والامتناع.
(5) ص: يحى، ولعل الشاعر هو يحيى بن حكم الجياني الملقب بالغزال، وهو شاعر أندلسي حكيم؛ وإذا قرئت اللفظة " نحن " وهو الأرجح فالبيتان لابن حزم نفسه، وهما شبيهان بشعره.
(6) ص: لر محطة.
(7) الشطر الثاني من هذا البيت غير واضح كثيراً في الأصل.
(8) كتاب اقليدس هو المعروف بأصول الهندسة أو الأصول كما سماه الإسلاميون وهو كتاب جامع في بابه؛ وقد نقل إلى العربية مرات عدة، وعملت عليه شروح كثيرة، وشرحه بعض الأندلسيين (القفطي: 62 - 65 ومقدمة ابن خلدون: 424) .
(9) ص: الانتقال.
(10) ص: ضرورة بجهلها.
(11) أما بطليموس فهو القلوذي صاحب المجسطي ومنظم علم الفلك، وكل من جاء بعده من علماء الهيئة فإنما حاول شرح كتابه، وأما لو نخس فلم أتبينه والأشبه أن يكون هو إبرخس الذي يقال إنه أستاذ بطليموس وعنه أخذ (انظر الفهرست: 267) .(3/132)
مسلكهما، أو سلكا مسلكه، ممن كان قبلهما من أهل الهند والنبط والقبط، وهو علم برهاني حسي حسن، وهو معرفة الأفلاك ومدارها وتقاطعها ومراكزها وأبعادها، ومعرفة الكواكب وانتقالها وأعظامها وأبعادها وأفلاك تداويرها، ومنفعة هذا العلم إنما هو في الوقوف على أحكام الصنعة وعظيم حكمة الصانع (1) وقدرته وقصده واختياره، وهذه منفعة جليلة جداً لا سيما في الآجل.
5 - وأما القضاء بالكواكب فباطل لتعريه من البرهان، وإنما هو دعوى فقط، ولا نحصى كم شاهدنا من كذب قضاياهم المحققة، وإن أردت الوقوف على ذلك فجرب، تجد كذبها أضعاف صدقها كالراقي والمتكهن سواء سواء ولا فرق.
6 - وعلم الطب الذي تكلم فيه [143/أ] أبقراط وجالينوس وذياسقوريدس (2) ومن جرى مجراهم، وهو علم مداواة الأجسام من أمراضها مدة مقامها في الدنيا، وهو (3) علم حسن برهاني؛ إلا أن منفعته إنما هي في الدنيا فقط، ثم ليست أيضاً صناعة عامة، لأننا قد شاهدنا سكان البوادي وأكثر البلاد يبرأون من عللهم بلا طبيب، وتصح أجسامهم بلا معالجة كصحة المتعالجين وأكثر، ويبلغون من الأعمار كالذي يبلغه أهل التداوي في القصر والطول، وفيهم من يرتاض ومن يخدم ولا يرتاض، ومن لا يرتاض ولا يخدم كأهل اليسار منهم والدعة من الرجال والنساء. فان قيل: إن لهم علاجات يستعملونها (4) قلنا تلك العلاجات ليست جاريات (5) على قوانين الطب بل هي مذمومة عند أهل العلم بالطب، واكثر ما يقدمون عليه بالرقي ولا مدخل له عند أهل الطب.
7 - فاعلم الآن أن كل علم قلت منفعته، ولم تكن مع قلتها إلا دنياوية وعاش من جهله كعيش من علمه - مدة كونهما (6) في الدنيا - فإن العاقل الناصح لنفسه لا يجعله وكده، ولا يفني فيه عمره، لأنه ينفق أيام حياته، التي لا يستعيض في الدنيا منها (7) فيما لا ضرورة به إليه ولا كثير حاجة تدعوه نحوه.
__________
(1) ص: الصنائع.
(2) انظر الفهرست: 287، 288، 293 والقفطي: 100، 122، 183، وذياسقوريس المشار إليه هنا هو العين زربي؛ قال القفطي: وهو أعلم من تكلم في أصل علاج الطب، وهو العلامة في العقاقير المفردة، وهو من حيث الزمن سابق على جالينوس.
(3) ص: وهم.
(4) ص: يستعملوها.
(5) ص: جايزات.
(6) ص: كونها.
(7) ص: فيها.(3/133)
8 - ووجدنا ما جاءت به النبوة ومنفعته في ثلاثة أشياء: أحدها: إصلاح الأخلاق النفسية وإيجاب التزام حسنها: كالعدل والجود والعفة والصدق والنجدة في موضعها، والصبر والحلم والرحمة، واجتناب سيئها كأضداد هذه التي ذكرنا. وهذه منفعة عظيمة لا غنى لساكني الدنيا عنها، ولا شك في العقل في أن صلاح النفس ومداواتها من فسادها، أنفع من مداواة الجسد وإصلاحه، لأن مداواة الجسد تابعة لمداواة النفس. إذ في مداواة النفس إيجاب ألا يدخل الإنسان على جسده ما يؤلمه بالمرض، فيقطع به عن مصالحه [143 ب] . وما عم إصلاح النفس والجسد معاً أفضل وأولى بالاهتبال به مما خص إصلاح الجسد فقط - هذا برهان عقلي ضروري حسي.
9 - ولا يمكن ألبتة إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة، إذ طاعة غير الخالق - عز وجل - لا تلزم. وأهل العقول مختلفون في تصويب هذه الأخلاق، فذو القوة الغضبية التي هي غالبة (1) على نفسه لا يرى من ذلك ما يراه ذو القوة النباتية (2) الغالبة على نفسه، وكلاهما لا يرى من ذلك ما يرى ذو القوة الناطقة الغالبة على نفسه (3) .
10 - والوجه الثاني من منافع ما جاءت به النبوة: دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ولا سارعوا إلى الحقائق، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة وكفاية من ضاع ولم يقدر على القيام بنفسه. وهذه منفعة عظيمة جلليلة، لا بقاء لأحد في هذه الدنيا، ولا صلاح لأهلها إلا بها. وإلا فالهلاك لازم والبوار واجب. وليست كذلك منفعة العلوم التي قدمنا قبل، وقد قدمنا أنه لا سبيل إلى منع التظالم ولا إلى إيجاد التعاطف بغير النبوة أصلاً، لما ذكرنا من أن طاعة غير الخالق تعالى لم يقم برهان بوجوبها، ولأن الفسوق ومختلفة الأهواء لا ينقاد بعضها إلى بعض.
11 - والوجه الثالث من منافع ما جاءت به النبوة هو التقدم لنجاة النفس فيما بعد خروجها من هذه الدار، من الهلكة التي ليس معها ولا بعدها شيء من الخير، لا ما قل ولا ما كثر، ولا سبيل ألبتة إلى معرفة حقيقة مراد الخالق منها ولا إلى معرفة
__________
(1) ص: عالية.
(2) ص: السانية.
(3) قسم الفلاسفة الأخلاق والقوى بنسبتها إلى الأنفس وهي: النفس النباتية الشهوانية والنفس الحيوانية الغضبية، والنفس الإنسانية الناطقة فالأولى مسؤولة عن شهوة الغذاء، والثانية عن شهوة الجماع والانتقام والرياسة، والثالثة عن شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها (انظر رسائل إخوان الصفا 1: 241 وما بعدها) .(3/134)
طريق خلاصنا إلا بالنبوة، وأما بالعلوم الفلسفية التي قدمنا فلا - أصلا - ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب، لأنه يقول ذلك بلا برهان ألبتة، وما كان هكذا فهو باطل، ولا يعجز أحد عن الدعوى، وليست [144/أ] دعوى أحد أولى من دعوى غيره بلا (1) برهان. ثم البرهان قائم على بطلان هذه الدعوى، لأن الفلاسفة الذين إليهم يستند هذا المدعي يختلفون في أديانهم كاختلاف غيرهم سواء سواء، فوجب طلب الحقيقة في ذلك عند من قام البرهان على انه إنما يخبر عن خالق العالم ومدبره - عز وجل -. وهذا مكان يلزم العاقل الناصح لنفسه ألا يجعل كده ولا اجتهاده إلا في الوقوف على حقيقته، وإلا فهو موبق لنفسه، ولا يشتغل عن ذلك بعلم من العلوم تقل منفعته، ومن فعل هذا فهو ضعيف العقل، فاسد التمييز، سيئ الاختيار، مستحق للذم، جان على نفسه عظيم الجنايات.
12 - فأول ذلك أن ينظر: هذا العالم محدث كما قالت الأنبياء - عليهم السلام - وأكثر علماء الأوائل والفلاسفة، أم لم يزل كما قال غيرهم. ومعرفة حقيقة ذلك قريبة جداً لصحة البرهان الحسي الضروري المشاهد على تناهي عدد الأشخاص النامية من كل نوع من أنواع الحيوان والنبات، فإن أشخاص نوعين منها اكثر عدداً بلا (2) شك من أشخاص أحد ذينك النوعين. فإذ لا شك في هذا عند أحد، فقد ثبت المبدأ في وجود كل عدد متناه، فقد وجب لها المبدأ ضرورة - ولا بد - وإن زمان وجود الفلك الكلي - بكل ما فيه - يزيد عدد ساعاته بما يأتي منه، وبالضرورة يدري كل أحد (3) أن ما قبل الزيادة، فإن النقص موجود فيه قبل تلك الزيادة، عما صار إليه بتلك الزيادة. ولا شك في [أن] الزيادة والنقص لا يمكن وجودهما إلا في ذي نهاية ومبدأ. فصح المبدأ للعالم ضرورة، وصح أنه محدث مبتدأ (4) ، والله أعلم.
13 - وأيضاً فإن الزمان كله يوم ثم يوم - هكذا مدة وجوده - وكل يوم فله مبدأ ونهاية بالمشاهدة. فإذ كل جزء من أجزاء الزمان ذو مبدأ ونهاية - والزمان ليس هو شيئاً غير أجزائه التي هي أيامه [144 ب]- فالزمان ذو مبدأ ونهاية - ولابد - ضرورة، ومن ادعى مدة غير الزمان فقد ادعى الباطل وما لا يقوم به برهان أبداً. ومن أراد إيقاع الزمان على الباري تعالى فقد تناقض بالباطل، لأن الزمان - كما بينا - ذو مبدأ، والباري
__________
(1) ص: فلا.
(2) ص: عدد فلما.
(3) ص: أن كل أحد.
(4) انظر ما أورده ابن حزم من براهين على حدوث العالم في الفصل 1: 14 وما بعدها.(3/135)
لا مبدأ له، فهو خالق الزمان، فهو في غير زمان - ولابد -.
14 - ثم ينظر هل له محدث مبتدئ أو لا، فوجب بأول العقل أن الحدوث والإبتداء فعل، والفعل يقتضي فاعلاً ضرورة، ولا يمكن غير ذلك أصلاً.
وأيضاً فإن النشأة والتربية والعيش، وعمارة ما لا عيش إلا به من نبات الأرض والحيوان المسخر، لا يمكن شيء من ذلك ألبتة ولا يكون وجوده أصلاً إلا بلغة يقع بها التخاطب والتفاهم، ووجدنا كل من لم يعلم اللغة لا يتكلم أبداً. وهكذا وجدنا كل من يولد أصم، فإنه لا يكون ضرورة إلا أبكم لا ينطق أبداً؛ فصح ضرورة انه لا يتكلم أحد أبداً إلا من سمع الكلام وعلمه، وكذلك جميع العلوم لا يمكن ألبتة أن يحسنها أحد أبداً إلا حتى يعلمها، برهان ذلك المشاهد مدة عمر العالم إلى يومنا هذا، فإن كل من لا يعلم الكلام لا يعلمه. والكلام التي لا علم فيها كبلاد الروم والصقالبة والترك والديلم والسودان والبربر والبوادي التي بين الحواضر لا سبيل إلى أن يوجد فيها شيء من العلوم التي لم يعلموها مذ وجد (1) العالم إلى يومنا هذا، وكذلك جميع الصناعات من الحرث والحصاد والدرس، وآلات كل ذلك، والذرو والطحن وعمل الكتان والقطن والقنب والحرير وغزل ذلك كله، لا سبيل إلى أن يعرف أحد شيئاً من ذلك كله إلا حتى يوقف عليه فيقبله ويترفق به ويفتق (2) بذهنه في ذلك بما جعل في طبعه من قبوله (3) ، وبرهان ذلك انه من لم يعلمه قط لا يدريه، وأن البلاد التي خلت من بعض هذه الصناعات لا توجد أصلاً فيها مذ كان العالم إلى يومنا [145/أ] هذا، بخلاف ما تقتضيه الطبيعة مما لا يحتاج فيه إلى معلم: كالرضاع والأكل والشرب والجماع وغير ذلك مما لا يحتاج فيه الإنسان إلى معلم وكذلك سائر الحيوان. فصح ضرورة - صحة حسنة مشاهدة - أنه لا بد في اللغات من معلم، ولابد في الصناعات من معلم، ليس من المعلمين الذين في طبعهم تعلم ذلك دون تعليم، إذ لو كان ابتداء ذلك موجوداً في الطبيعة لوجد ذلك في كل عصر وفي كل مكان، لان الطبيعة واحدة في جميع النوع؛ وكذلك نجدهم يستوون كلهم فيما توجبه الطبيعة لهم، إلا أن يعرض عارض حائل في بعض النوع. فوجب ضرورة أن مبتدئ إيجاد (4) العالم هو الذي ابتدأ تعليم اللغات وابتدأ تعليم الصناعات، لابد من ذلك، وانه تعالى علم كل ذلك أول من أحدث
__________
(1) ص: وجدوا.
(2) ص: ويفيق.
(3) اقرأ في الفصل 1: 68، 72 نصاً مشابهاً لهذه الفقرة.
(4) ص: إيجاب.(3/136)
من نوع الإنسان، ثم علمها ذلك المعلم سائر نوعه. ثم تداولوا تعلم ذلك. وهذا برهان ضروري حسي مشاهد، يقتضي - ولابد - وجود الخالق ووجود النبوة، وهي تعليم الخالق اللغات (1) والعلوم والصناعات ابتداء، ووجود الرسالة وهي تعليم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمن أمر بتعليمه إياه.
15 - فإذ قد صح هذا كله من قرب، فالنظر واجب: هل مبتدئ العالم واحد أم اكثر من واحد. ومعرفة حقيقة هذا يقرب جداً - وذلك أنه لولا الواحد لم يوجد عدد ولا معدود، ففتشنا العالم كله هل نجد فيه واحداً فلم نجده أصلاً، لان كل ما في العالم فإنه ينقسم أبداً فهو كثير لا واحد، فإذا لابد من واحد في العالم، فالواحد هو غير العالم، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم، فهو الواحد الذي لا يكثر، لا واحد سواه؛ فوجدنا العالم محدثاً تالياً كما وصفنا، لم يكن ثم كونه مكونه الذي ابتداه، ولابد من أول، إذ لولا الأول لم يكن الثاني أصلاً، ووجود الثاني يقتضي ضرورة وجود [145 ب] الأول، ولابد؛ والثاني موجود فالأول موجود. ففتشنا العالم كله عن أول لم يزل فلم نجده لأنه كله محدث، لم يكن ثم كونه مبتدئه، فوجب ضرورة أن الأول غير العالم، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم ومحدثه.
16 - فإذ قد صح الخالق وأنه واحد أول لم يزل، وصحت النبوة، وصحت الرسالة، فالنظر واجب في الأنبياء:
فوجدنا شريعة النصارى في غاية الفساد لوجوده: أحدها قولهم بخلاف التوحيد في الابن والأب وروح القدس، والثاني لفساد نقلهم لرجوعه إلى ثلاثة فقط وهم مرقش ولوقا ويوحنا الناقل من متى (2) ، فوضح عليهم الكذاب وأن أناجيلهم متضادة، ظاهرة الكذب (3) في أخبارها، فبطلت الثقة بنقلهم، مع أنها شريعة معمولة من أساقفتهم وملوكهم بإقرارهم، وما كان هكذا فالأخذ به لا يجوز؛ إذ لا يجوز في هذا المكان إلا ما صح أنه جاء به المرسل عن الله تعالى.
ووجدنا اليهود أيضاً شريعتهم في غاية الفساد لأنها راجعة إلى كتب ضائعة النقل، لم ينقلها من أول كونها إلى فشوها عندهم كافة، بل دخلها التغيير والإتلاف وانقطاع
__________
(1) انظر رأي ابن حزم في كيفية ظهور اللغات أعن توقيف أم عن اصطلاح، مفصلاً في الإحكام 1: 29 وما بعدها.
(2) راجع في هذا المعنى كتاب الفصل 1: 114، 210.
(3) ص: الذب.(3/137)
حكمها ونقلها، لكفرهم بها أيام دولتهم، ثم بعدها (1) ، واتصال ذلك فيهم المئين من السنين، مع عظيم ما فيها من كذب الاخبار، مع بطلان شرائعهم التي أمروا بها بإقرارهم، وامتناع إقامتها، وما كان هكذا فليس هو من عند الله بل هو باطل مفتعل، إذ لا سبيل إلى العمل بالواجب عندهم.
ثم نظرنا في المجوس فوجدناهم مقرين أن شريعتهم كثير منها من عمل أزدشير بن بابك الملك، وأنه ضاع من شريعتهم وكتابهم نحو الثلثين (2) أيام أحرق الإسكندر كتابهم، وما كان هكذا فلا يجوز التدين به لأن الدين [الذي] يزعمون انه الحق لا يختلفون في أنه قد علم، وما كان هكذا فلا يتدين به عاقل.
ثم نظرنا [146/أ] في المنانية (3) فوجدنا نقلهم فاسداً غير متصل بصاحبهم مع ظهور الكذب في كتب صاحبهم، وفساد ما أتى به وأخبر عنه. ولم ينقل له أحد أية معجزة نقلاً يوجب صحة العلم بها، وما كان هكذا فهو باطل بلا شك، مع ما فيها من الفساد الظاهر من إيجابه قطع النسل ليعود النور إلى خلاصه، وهذا أمر لا يمكن ألبتة لاختلاف أجناس الحيوان البحري والطائر والدارج وعدم القوة على قطع تناسلها، فلا أفسد من شريعة مدارها على سبيل إيجاب ما لا سبيل إليه.
ثم نظرنا في الصابئين فوجدناها ملة قد بطلت بالكلية، ولم يبق لها أثر مع أن أصولهم أصول المنانية التي لا شك في كذبهم. وأيضاً فإن نقلهم قد انقطع فلا سبيل إلى تصحيح معجزة شاهدة لمن قلدوه دينهم. وأيضاً فإن شرائعهم بإقرارهم من عمل أكابرهم، وما كان هكذا فلا يتدين لبه عاقل.
فإذ قد بطلت هذه الديانات وليس في العالم ملة تقر بنبي غير هؤلاء - ولابد من ملة مأخوذة عن نبي إذ لا سبيل إلى معرفة ما يأمر به الخالق تعالى إلا بنقل نبي - لم يبق إلا محمد بن عبد الله عليه السلام وملته هو الذي كتابه منقول نقل الكواف من
__________
(1) غير واضحة في ص.
(2) كذا ذكر في الفصل (1: 115) وقبل ذلك (1: 113) قال: مقرون بلا خلاف أنه ذهب منه مقدار الثلث.
(3) في ص: المباينة: والمنانية هم أتباع ماني (انظر كتاب الفصل 1: 35 والشهرستاني على هامش الفصل 2: 81) ومدار مذهب ماني على تخليص النور من الظلمة، وهذا يقتضي الزهد والرياضة، التي ينتج عنها طبقة الصفوة من الناس فيحرم عليهم التناسل. وكل شيء حتى إطعام بأنفسهم. وكل رجل من هؤلاء لابد له من رفيق من طبقة السماعين أو المريدين يقوم بخدمته.(3/138)
عنده إلينا - بخلاف نقل الإنجيل الراجع إلى ثلاثة قد ظهر كذبهم، وبخلاف نقل (1) التوراة التي هي راجعة إلى واحد وهو عزرا (2) ، وكانت قبل ذلك أيام دولتهم ممنوعة من كل واحد إلا من الكاهن وحده - وأعلامه منقولة كذلك في الكتاب المذكور، كإعجاز القرآن وعجز العرب عنه وكشقه القمر إذ سألوه آية، وكتجربة اليهود بأن يتمنوا الموت وإعلامه انهم (3) لا يتمنوه أبداً (4) وإذعان ملوك اليمن وإيمانهم به دون خوف منهم له ولا طمع منه في حظوة [146 ب] دنيا من مال أو جاه لديه، بل دعاهم إلى ترك الملك والنزول عنه والدخول في العامة، وإسقاط الفخر والثأر والعداوات وطلب الدماء. والرجوع إلى مؤاخاة من قتل الآباء والأبناء، فأجابوه كلهم كملوك اليمن وملوك عمان والبحرين وغيرهم - حتى جبلة بن الأيهم ثم ارتد أنفة ولم يزل نادماً على ردته - لا ينكر ذلك أحد، مع براءة كتابه المنزل عليه من كل كذب ومن كل مناقضة ومن كل محال، فصحت نبوته صحة لا مرية فيها، وشريعته المتصلة من عهده عنه إلينا، لأنها لم تكن قط منقطعة فيما بينه وبيننا ولا طرفة عين فما فوقها، ولا كانت عند خاص دون عام، بل منقولة من بين المشرق والمغرب.
فإذا قد صح هذا كله: فالواجب على العاقل ألا يقطع دهره إلا بطلب معرفة ما ينجيه في معاده، ويخلصه من الهلكة ومن النيران المحيطة بها، ويرفعه إلى السموات التي هي محل الحياة الأبدية والنجاة من كل مكروه، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها، ولا يشتغل من سائر العلوم إلا بمقدار ما يعرف به أعراضها، ويزيل عن نفسه عمى (5) الجهل بأنه لعل فيها ما ليس فيها، وما يتعلق بالديانة منها، ثم يرجع إلى ما فيه خلاصه.
وإذ لاشك في هذا فاعلم ان الفلاسفة لم يدعوا قط انهم تخلصوا بها بعد الموت،
__________
(1) ص: فعل.
(2) هو من الشخصيات الهامة في التاريخ الإسرائيلي ويقال إن ملك الفرس المسمى Artaxerxes أرسله من بابل إلى القدس ليعيد الشريعة المهملة فقرأ في القدس الشريعة على الناس وأدخل فيها إصلاحات. ويقال إن عمله لم يقتصر على إعادة توراة موسى التي كانت قد احترقت بل إنه أحيا كثيرا مما كان قد درس من كتب اليهود، غير أن بعض المؤرخين يظن أنه لم يكن شخصية تاريخية.
(3) ص: أنه.
(4) سورة البقرة: 94 وانظر فصلاً عقده ابن حزم عن أعلام الرسول في كتابه " جوامع السيرة " الورقة السادسة وما بعدها. قال: ودعا اليهود إلى تمني الموت وأخبرهم أنهم لا يتمنونه فحيل بينهم وبين النطق بذلك.
(5) ص: عم.(3/139)
ولو ادعوا ذلك لكانت دعواهم كاذبة لتعريها من برهان يصدق الأبدية، والنجاة من كل مكروه، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها، والله اعلم بالصواب. وأيضاً فانهم في آرائهم في أديانهم يختلفون: هذا بين في كتبهم، فبعضهم يثبت حدوث العالم كسقراط وأفلاطون، وبعضهم يثبت أنه لم يزل وانه له فاعل لم يزل يخلق، وهذا قول ينسب إلى أرسطاطاليس، وبعضهم يثبت النبوة والمعاد والجزاء في المعاد، والملائكة، كأفلاطون وصاحب كليلة ودمنة من [147/أ] فلاسفة الهند، وبعضهم يقول بتناسخ الأرواح، كصاحب كتاب سندباد من فلاسفة الهند. فهم كغيرهم في الاختلاف، ولا فرق، ولا فضل.
فالعاقل الناصح لنفسه هو من اتبع من يخلصه، والمجنون هو من اتبع من لا يخلصه ولا يغني عنه شيئاً، ولا ينفعه عاجلاً ولا آجلاً، ليس في الحماقة أكثر من هذا. وإذ لا شك في هذا فهذه صفة تعم كل أحد حاشا الذي أرسله الله خالقنا تعالى إلينا، لخلاصنا في عاجلنا وآجلنا.
18 - واعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسة أو يكسب به مالاً فقد هلك، لأنه طلبه لغير ما أمره خالقه ان يطلبه، لان خالقنا - عز وجل - إنما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط. فمن طلبه لغير ما أمره به خالقه، فقد عطاءه وبطل تعبه وحبط عمله وضل سعيه.
19 - واعلم أن من أخذ الشريعة عن غير ما صح عن صاحب الشريعة الذي أرسله الله تعالى بها، واتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فقد خاب وخسر وبطل عمله، والذي قلنا في هذا هو الذي مضى عليه جميع أهل الحق من الذين صحبوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمن بعدهم، جيلاً جيلاً؛ وحدث في خلال ذلك من الآراء الفاسدة ما لا يخفى على أحد حدوثه ومبدأه، وقد لاح أن كل حادث غير ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل مفترى، والباطل فرض اجتنابه، وبالله التوفيق.
فهذا بيان ما سالت عنه بغاية الاختصار والبيان ونهاية البرهان، والحمد لله كثيراً، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً كثيراً.
كملت رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق،
بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، وبالله المستعان(3/140)
5 - رسالة التلخيص لوجوه التخليص(3/141)
فراغ(3/142)
- 5 -
رسالة التلخيص لوجوه التخليص
[235 ب] بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلى على محمد وعلى آله
قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رحمه الله: سلام عليكم أيها الاخوة الفضلاء، والصدقاء الكرام، المغتبط بودهم، الذي هو أفضل من القرابة الواشجة والمجاورة الدائمة، فقد بشر الله عز وجل المتحابين فيه بأتم البشرى، وأنه يظلهم يوم لا ظل إلا ظله. فأني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو الموفق للخير، الواهب للنعم، وأسأله الصلاة على نبيه ورسوله وصفيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم، وأستوهبه تعالى لي ولكم المزيد من كل حسنة مقربة منه ومبعدة (1) من سخطه.
قال أبو محمد: أما بعد، فإن كتابكم ورد علي وفي أوله وصفكم لي بما لست أهله عند نفسي، ولكني احدث بنعمة الله تعالى علي مؤتمراً لأمره إذ يقول عز وجل {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) ، فأقول: بلى، عن الله تعالى عندي نعماً أنا أسأله ثم أرغب إليكم بالأمانة التي عرضها الله تعالى {على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} (الأحزاب: 72) أن تسألوه تعالى لي ولكم إذ يخفف في سجودكم في أواخر ليلكم، أن لا يجعل ما وضع عندنا من مادة الفهم في دينه فتنة لنا في دينه، ولا حجة علينا في الآخرة، وأن يجعل ما أودعنا من ذلك عوناً على طاعته في هذه الدار، وزلفى لديه تعالى في دار القرار، آمين آمين.
والذي ذكرتم من وجوب الإرشاد للمسترشد، ولزوم البيان لمن سأل، فنعم، سمعاً وطاعة لأمر الله تعالى إذ يقول: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون* إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم} (البقرة: 159، 160) ، أعاذنا الله وإياكم من كل ما يؤدي للفتنة، ورزقنا البيان الموجب لمرضاته وتوبته، آمين.
__________
(1) ص: وببعده.(3/143)
ولقد ذكر بعض (1) أهل العلم وابتغاء الخير في الشيخ الفاضل أبي الخيار مسعود ابن سليمان بن مفلت (2) رضي الله عنه معتمداً قوياً ومعتقداً (3) كافياً، برد الله مضجعه، [236/أ] ونفعه بفضله وعمله، وصحة ورعه وفهمه، وصدعه بالحق، رفع الله بذلك درجته. وأما ما ذكرتم من صفتي عنكم فأقول على ذلك ما قال سفيان ابن عيينة، رحمه الله، إذ رأى حاجة الناس إليه بذهاب السالفين من أئمته، فأنشد رافعاً صوته بحضرة الجماعة (4) :
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد ورأيت المسائل التي سألتم عنها، فوجدتها مسائل لا يستغني من له أقل اهتمام بدينه عن البحث عنها والوقوف عليها. ولقد أجدتم (5) السؤال، وأنا أسأل الله تعالى [أن] يوفق لإصابة الجواب عنه يا رب العالمين. ورأيتكم سألتم في بعض تلك المسائل بألفاظ شتى والمعنى واحد، فنصصت ألفاظكم فيها لتقفوا على ذلك إن شاء الله تعالى.
1 - سألتم - وقفنا الله وإياكم - عن أقرب ما يعتب به العبد المجرم ربه تعالى، وعن أفضل ما يستنزل به عفوه وفضله عز وجل، ويستدفع به سخطه وغضبه، وعن انفع ما يشتغل به من كثرت ذنوبه، وعن خير ما يسعى به المرء في تكفير صغائره وكبائره. فهذه أيها الصفوة الفاضلة أربع مسائل فرقتم بينها ومعناها واحد. فالجواب إن شاء الله تعالى عن ذلك. قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) . وحدثنا الرجل الصالح [أبو] محمد [عبد الله] بن يوسف بن نامي، عن احمد بن فتح (6) ، عن عبد الوهاب بن عيسى،
__________
(1) ص: لبعض.
(2) أبو الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت الشنتريني؛ قرطبي، أحد شيوخ ابن حزم، كان فقيها عالما زاهدا يميل إلى الاختيار والقول بالظاهر وتوفي سنة 426 (الجذوة: 38 والصلة: 583) .
(3) ص: ومقعداً.
(4) خلت الديار البيت: قال سفيان بن عيينة: كنت أخرج إلى المسجد فأتصفح الخلق، فإذا رأيت مشيخة وكهولاً جلست إليهم وأنا اليوم قد اكتنفني هؤلاء الصبيان، ثم أنشد البيت (انظر حلية الأولياء 7: 274، 290، 291) والبيت في البيان 3: 219، 336 منسوب لحارثة بن بدر، تمثل به سفيان، وقد جلس على مرقب عال وأصحاب الحديث على مدى البصر يكتبون.
(5) ص: أخذتم.
(6) أبو محمد عبد الله بن يوسف بن نامي، قرطبي روى عن أحمد بن فتح التاجر وغيره وكان شيخاً صالحاً، توفي سنة 435 (الجذوة: 429 والصلة: 262) ؛ وأحمد بن فتح يعرف بابن الرسان من أهل قرطبة توفي سنة 403 (الصلة: 31) وهذا هو أحد اسنادين يتكرران عند ابن حزم إلى مسلم (انظر مجلة معهد المخطوطات 4 - 2: 335) .(3/144)
عن احمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، أنبأنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1) : " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر "، فكان هذا الحديث موافقاً لقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31) . فصح أن بأداء الفرائض واجتناب الكبائر - أعاذنا الله وإياكم منها - تحط السيئات التي هي دون الكبائر. فبقى أمر الكبائر، فوجب النظر فيها، فوجدنا الناس قد اختلفوا فيها (2) . فقالت طائفة: هي سبع، واحتجوا بحديث النبي عليه السلام (3) [236 ب] : " اجتنبوا السبع الموابقات، فذكر عليه السلام الشرك، والسحر، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " وروي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. فوجب النظر فيما اختلفوا فيه من ذلك، ورده إلى القرآن وحديث النبي الصحيح عنه كما أمرنا ربنا عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) ، فلما فعلنا ذلك، وجدنا الحديث المذكور الذي احتج به من قال: إن الكبائر سبع، لا أكثر ليس فيه نص على أنه لا موبقات إلا ما ذكر فيه، ولا فيه ما يمنع من وجوب موبقات أخر إن جاء بذلك نص آخر. وأما لو لم يأتنا آخر في أن ليس ها هنا كبائر غير السبع المذكورة، لوجب علينا الاقتصار على ما في ذلك الحديث فقط. وإما وجدنا نصاً آخر بإثبات كبائر لم تذكر في هذا الحديث، فواجب علينا إضافتها إلى الموبقات المذكورة فيه،
__________
(1) الصلوات الخمس الخ: الحديث في صحيح مسلم (طهارة 14، 15) وانظر مسند أحمد 2: 229، 359، 400.
(2) فوجدنا الناس قد اختلفوا فيها الخ: أورد الطبري في تفسيره أقوالاً متعددة في عدد الكبائر، فمن أهل التأويل من قال: إن الكبائر هي التي عدت في سورة النساء من أولها حتى هذه الآية، وقال آخرون: الكبائر سبع وهي حسبما عدها علي: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة. وقال عطاء: هي سبع: قتل النفس وأكل الربا واكل مال اليتيم ورمي ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب. وقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقال: كل ما أوعد الله أهله عليه النار فكبيرة (راجع تفسير الطبري 8: 233 - 254) ؛ وسيعد المؤلف منها عدداً كثيراً.
(3) اجتنبوا السبع: في البخاري (وصايا: 23، طب: 48، حدود 44) ومسلم (إيمان: 144) وأبي داود (وصايا: 10) والنسائي (وصايا: 12) .(3/145)
لأنه ليس شيء من كلامه عليه السلام أولى بالقبول من بعض، بل الكل واجب قبوله، ولا تعارض في شيء منه، لأنه كله من عند الله عز وجل، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3) ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه، قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء: 82) .
فصح بهذا ما قلنا من ضم ما يوجد في النصوص ضماً واحداً، وقبوله كله وإضافته بعضه إلى بعض، فنظرنا في ذلك فوجدناه عليه السلام قد ادخل في الكبائر وبنص لفظه غير الذي ذكر في الحديث الذي ذكرنا آنفاً، فمنها: قول الزور، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والكذب عليه السلام، وتعريض المرء أبويه للسب بأن يسب آباء الناس. وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكفر، وعلى كفر نعمة المحسن بالحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلق الشعور فيها، وخرق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله، أو ما أبيح أكله منها، وعلى إسبال الإزار، على سبيل البخترة، وعلى المنان بما يفعل من الخير، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى مانع فضل مائه من الشارب، وعلى الغلول، وعلى مبايعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي [237/أ] لهم وغن لم يعطوا منها لو يوف لهم، وعلى المقتطع بيمنه حق امرئ مسلم، وعلى الإمام الغاش لرعيته، وعلى من ادعى إلى غير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، وعلى من ادعى ما ليس له، وعلى لاعن ما لا يستحق اللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة (1) ، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض علي. ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة والمفسدين في الأرض بالحرابة، فصح لي أن كل ما يوعد الله به النار فهو من الكبائر (2) . فلما صح هذا كله بنص القرىن، إذ من اجتنبها أدخله الله مدخلاً كريماً، ونص الحديث أيضاً، وجب النظر في ذلك على المؤمن المشفق من عذاب ربه تعالى ومن نار هي أحر من نار هذه بسبعين ضعفاً، ومن الوقوف بأصعب الأحوال وأشد الأهوال واعظم الكرب واكثر الضيق وأكثر العرق
__________
(1) ص: الأنصار.
(2) فصح لي أن كل ما يوعد الله به النار الخ: هذا رأي قال به جماعة قبل ابن حزم منهم ابن عباس وسعيد بن جبير، انظر تفسير الطبري 8: 246 - 247.(3/146)
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا وإياكم من شر ذلك اليوم، وأن يرزقنا فيه الفوز والنجاة.
فوالله أيها الأحبة إن أحدنا ليشتد روعه ويخفق قلبه من وعيد آدمي ضعيف مثله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يقدر أن يتمادى شهراً واحداً في عذاب من عاداه وكاشفه بأكثر من الحبس، فكيف بذلك اليوم المذكور، وبعذاب أهونه الوقوف في حال دنو الشمس من الرءوس، وبلوغ العرق إلى أكثر مساحة الأجسام، في يوم طوله خمسون (1) ألف عام، ثم بعد ذلك يرى مصيره إما إلى جنة أو إلى نار فأين المفر إلا إلى الله وحده لا شريك له فوجدناه تعالى قال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء: 47) ، وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية* وأما من خفت موازينه* فأمه هاوية* وما أدراك ماهيه* نار حامية} (القارعة: 6 - 11) ، فعلمنا بهذا وبقوله تعال: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) ، أن من استوت حسناته وسيئاته وفضلت له حسنة واحدة لم ير ناراً فيا لها من سرور ما أجله، وهذا هو معنى قوله عليه السلام (2) : " إن بغياً سقت كلباً فغفر الله لها، وإن رجلاً أماط غصن شوك عن الطريق فأدخله الله الجنة " وذلك أن هذين فضل لهما هذان العملان بعد موازنتهما سيئاتهما بحسناتهما، فخلصا من النار [237 ب] ودخلا الجنة. فوجب علينا إذ قد جاءتنا عهود ربنا بهذا كله، أن نطلب الأعمال الماحية أو الموازنة للسيئات، فيثابر المرء منها على ما وفقه الله تعالى للمثابرة عليه. فوجدناه، عليه السلام، قد سئل عن أحب الأعمال إلى الله تعالى، فذكر الصلاة لميقاتها، والجهاد، وكثرة السجود، وذكر عليه السلام انه (3) : " لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل أوتي مالاً فسلطه الله على هلكته في الحق "، وذكر لعمر، رضي الله عنه، تحبيس أصل ماله وتسبيل ثمرته، وذكر عليه السلام أنه (4) " لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه طائر أو سبع أو إنسان إلا كان له
__________
(1) ص: خمسين.
(2) الحديث في صحيح مسلم (سلام: 154، 155) ومسند أحمد 2: 507.
(3) هو في البخاري (علم: 15؛ زكاة: 5؛ أحكام: 3؛ اعتصام: 13) ومسلم (مسافرين: 268) وانظر مسند أحمد 1: 385، 432) .
(4) هو في البخاري (أدب: 27؛ حرث: 1) وفي مسلم (مسافاة: 7 - 10، 12) وانظر مسند أحمد 3: 147، 192.(3/147)
صدقة ".
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وجب إتحافكم به، فهو من أفضل الهدايا، وذلك ما حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن نامي بالإسناد المتقدم إلى مسلم، أنبأنا عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، ثنا محمد بن ميمون ثنا واصل الأحدب مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الدؤلي، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (1) : " يصبح على كل سلامي من احكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، ويجزئ من كل ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ". وحديث رويناه من طريق مالك عن سمي مولى أبي بكر (2) ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن النبي عليه السلام قال (3) : " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في كل يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى به إلا من عمل (4) أكثر من ذلك ". وصح عنه عليه السلام أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم (5) : " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة قالوا: وكيف يا رسول الله قال: إن " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن " وانه عليه السلام ذكر لهم سبحان الله والحمد لله والله أكبر، عدداً يبلغ مائتين وخمسين مرة لكل واحدة منهن عشر حسنات فذلك ألفان وخمسمائة حسنة كل يوم، وأنه عليه السلام قال (6) : فأيكم يعمل في يومه ألفين وخمسمائة سيئة أو كلاماً هذا معناه؛ وأمر عليه السلام الفقراء إذ شكوا إليه [أن] الأغنياء يعتقون وتصدقون، وهم لا يقدرون على ذلك [238/أ] فأمرهم عليه السلام أن يقولوا في دبر كل صلاة:
__________
(1) هو في البخاري (صلح: 1؛ جهاد: 72، 128) ومسلم (مسافرين: 84؛ زكاة: 56؛ أدب: 160) ومسند أحمد 2: 316، 328.
(2) هو سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، لمالك عنه ثلاثة عشر حديثاً أحدها مرسل، وفي حديث منها ثلاثة فتصير خمسة عشر حديثاً؛ انظر تجريد التمهيد: 68، 70.
(3) هو في البخاري (بدء الخلق: 11؛ دعوات: 64) ومسلم (ذكر: 27) ومسند أحمد 2: 302، 355.
(4) بأفضل مما جاء به إلا أحداً عمل (تجريد التمهيد: 69، 70) .
(5) انظر الترمذي (ثواب القرآن: 10) وراموز الأحاديث: 172.
(6) الحديث في ابن ماجة (إقامة: 32) والترمذي (دعوات: 25) ومسند أحمد 2: 161) .(3/148)
الله اكبر أربعاً وثلاثين مرة، وسبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة فتلك مائة. وقد نص الله أن الحسنة بعشرة أمثالها، فعلى هذه للمائة المذكورة ألف حسنة (1) . وحض النبي على قول لا حول ولا قوة إلا بالله، وأخبر أنها من كنوز الجنة (2) .
وحض عليه السلام على الاستغفار، وأخبر عليه السلام أنه ربما استغفر في اليوم مائة مرة. فهذه وصايا نبيكم الذي بنا رءوفاً رحيماً حريصاً على صلاحنا، الذي لا ينطق عن الهوى عن هو إلا وحي يوحى، فعليكم بها، ودعوا أقوال البطالين الكذابين المفسدين في الأرض القائلين إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة البطالين، كذبوا وأفكوا، بل هم البطالون المبطلون حقاً، العائجون عن سبيل ربهم وعن صراط نبيهم المستقيم، بل الاستغفار تركه علامة الفاسقين المصرين المستخفين، نعوذ بالله من مثل سيرتهم.
فهذه وفقنا الله وإياكم حظوظ رفيعة مع سهولة مأخذها، وقرب متناولها، لا تقطع بأحد منكم عن عمله، ولا تقطع جسمه، ولا ترزؤه كلفة، إذ أحصاها عالم الغيب والشهادة عز وجل اجتمع بها ما يرجى تثقيل ميزان الحسنات، فتحبط بذلك السيئات، فلعل النجاة تحصل.
ولسنا نقول هذا على الاقتصار على ذلك دون الاستكثار من سائر أعمال الخير، ومن تلاوة القرآن ما أمكن، فإنا روينا عن ابن عباس رضي الله عنه، أو عن أنس بن مالك - الشك مني - انه قال (3) : إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في عيونكم من الشعر، كنا نعهدها على عهد رسول الله من الموبقات، فاعلموا أيها الإخوة أن الأمر والله جد، وان المنتشب صعب، وأن التخليص عسير إلا بتوفيق الله عز وجل برحمته لعمل الخير، بقبول اليسير منا، وتجاوزه عن كثير ذنوبنا، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، ولكن الله تعالى قال وقوله الحق: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى* وأن إلى ربك المنتهى} (سورة النجم: 39 - 42) و {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (سورة النمل: 90) ، وقال تعالى {فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} (سورة يس: 54) .
__________
(1) راجع البخاري (أذان: 155) والترمذي (مواقيت: 185) .
(2) انظر مسند أحمد 5: 156.
(3) إنكم لتعلمون أعمالاً إلخ: ورد هذا القول في كتاب الزهد لابن حنبل: 195 منسوباً إلى أبي سعيد الخدري.(3/149)
فيستحب للمسلم الذي يطلب النجاة أن يأتي بما لعله أن يوازي ذنوبه ويوازن سيئاته، وأن يواظب على قراءة القرآن فيختمه في كل شهر مرة، فإن ختمه في أقل فحسن ما بين ما ذكرنا إلى أن يختمه في ثلاث لا أقل، ولا يسع أحداً أن يختمه في أقل من ذلك، ويواظب مع ذلك [238ب] على قراءة قل هو الله أحد، ولو في كل ركعة من صلاته مع أم القرآن وسورة أخرى، فإنا روينا أن رجلاً من الأنصار كان يفعل ذلك، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعله ذلك فقال: إني أحبها، فقال عليه السلام: عن حبك إياها أدخلك الجنة، أو كما قال. وإن لم يفعل فليقرأها في كل يوم مرة، فإنها تعدل في الآخر ثلث القرآن، وهذا الآخر لا يحقره إلا مخذول، فإن كثر منها فحظه أصاب؛ وليكثر من الصلاة على النبي متى ذكر، فإنا روينا عنه انه قال (1) : من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً. أفيزهد أحدكم عند الأكل والشرب وعند المسرة ترده، [إلا] محروم. وليكثر من حمد الله عز وجل عند الأكل والشرب وعند المسرة ترده، فقد روينا عن النبي عليه السلام في ذلك كلاماً معناه أن العبد لا يزال يفعل ذلك حتى يرضى الله عنه، أو كلاماً هذا معناه، وليكثر من قول لا إله إلا الله، فإنها ألفاظ تتم بحركة اللسان دون حركة الشفتين فلا يشعر بذلك الجليس.
وليواظب على صلاة الفرض في الجماعة، فإنه صح عن النبي عليه الصلاة أن صلاة الصبح في الجماعة تعدل قيام ليلة، وصلاة عشاء الآخرة في الجماعة تعدل قيام نصف ليلة (2) ، فأيكم أيها الأخوة يطيق القيام ما بين طرفي ليلة لا ينام فيها أو نصف ليلة كذلك فقد حصل له هذا الأجر تاماً بأهون سعي وأيسر شيء.
وليكثر من ألفاظ رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهي انه دخل على إحدى أمهات المؤمنين وهي في مصلاها تذكر الله عز وجل، فقال لها رسول الله: لو قلت كلمات ثلاثاً فوزنت (3) بما قلت لرجحتهن - أو قال: لعدلتهن (4) - وهي: " سبحان الله عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته "، فنحن نستجب أن يقولها العبد ثلاثاً كل يوم، وليواظب جهده، وقد صح أن العبد يحاسب
__________
(1) هو في مسند أحمد 3: 102، 261؛ 2: 172، 187.
(2) انظر سنن أبي داود (صلاة: 48) ومسلم (مساجد: 247) ومسند احمد 2: 485.
(3) ص: لوزنت (ولعلها: لو وزنت) .
(4) انظر مسند أحمد 1: 258.(3/150)
يوم القيامة، فإن وجد في فرائض صلاته نقص جبر من تطوع عن كان له، وكذلك في صيامه وزكاته وسائر أعماله، ورويناه من طريق تميم الداري عن رسول الله، ويبين صحة هذا قوله تعالى: {إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} (آل عمران: 195) ، ولا يلتفت إلى قول من يصد عن سبيل الله: " لا صلاة لمن لا يتم الفرض "، فهذا قول لم يأت به نص ولا إجماع، وإنما هذا فيمن ضيع الفرض في آخر وقته أو حلول وقته الذي لا فسحة فيه واشتغل بالنفل [239/أ] كإنسان لم يبق عليه من صلاة الفرض إلا مقدار ما يصليها فقط، فترك الفرض واشتغل بالتطوع، أو وجد الصلاة المنكوبة تقام أو تصلى فتركها وأقبل على ما ليس بفرض من الصلاة، كمثل ما يأمر به بعض الناس: من وجد الإمام في الركعة الأولى من صلاة الصبح أن [يركع] ركعتي الفجر، فهذا هو الخطأ، فهذا لا يقبل منه، لأنه لم يصل الصلاة التي أمر بها، ومن لم يفعل ما أمر به وفعل غير ما أمر به لم يقبل منه: قال عليه السلام (1) : " من عمل عملاً ليس عليه امرنا فهو رد " وكإنسان صام رمضان في الحضر تطوعاً لا بنية الفرض، فهذا لا يقبل منه. وأما من عليه من الفرض أو سلفت عليه فروض قد عطلها، فيستحب له التطوع ما أمكنه، كما روينا في الحديث المأثور آنفاً من جبر الفرض بالتطوع.
واعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن الله عز وجل ابتدأنا بمواهب خمس جليلة، لا يهلك على الله بعدهن إلا هالك، وهي انه تعالى غفر الصغائر باجتناب الكبائر فلو أن امرءاً وافى عرصة القيامة بملء الأرض صغائر إلا أنه لم يأت كبيرة أو أتاها ثم تاب منها، لما طالبه الله بشيء منها، وقال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31) .
والثانية: من اكثر من الكبائر، ثم منحه الله التوبة النصوح على حقها وشروطها قبل موته، فقد سقط عنه جميعها، ولا يؤاخذه ربه تعالى بشيء منها، وهذا إجماع من الأمة.
والثالثة: أن من عمل من الكبائر ما شاء الله، ثم مات مصراً عليها، ثم استوت حسناته وسيئاته لم يفضل له سيئة، مغفور له، غير مؤاخذ بشيء مما يفعل، قال الله
__________
(1) هو في البخاري (اعتصام: 20؛ وبيوع: 60؛ وصلح: 5) ومسلم (أقضية: 17، 18) وابن ماجه (مقدمة: 2) وانظر الجامع الصغير 2: 176) .(3/151)
تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) ، وقال تعال: {فأما من ثقلت موازينه} (القارعة: 6) .
والرابعة: انه تعالى جعل السيئة بمثلها والحسنة بعشر امثالها، ويضاعف الله تعالى لمن شاء.
والخامسة: انه تعالى جعل الابتداء على من أحاطت به خطيئته، وغلب شره على خيره، بالعذاب والعقاب، ثم نقله عنه بالشفاعة إلى الجنة فخلده فيها، ولم يجعل (1) ابتداء جزائه على حسناته بالجنة، ثم ينقله منها إلى النار. فهل بعد ذلك الفضل منزلة نسأل الله أن لا يدخلنا في عداد من يعذبه بمنه. فهذا أصلحنا الله وإياكم جواب [239 ب] ما سألتم عنه مما يكفر الذنوب الكبائر، وفيما يأتي بعد أيضاً من الجواب في سائر ما سألتم عنه، أشياء تستضيف إلى ما قد ذكرنا بحول الله تعالى وقوته.
2 - وسألتم عن العمل الذي إذا قطع المرء به باقي عمره رجوت له الفوز عند الله عز وجل، وأيقنت له به، وعن السيرة التي أختارها وأحسد عليها من أعطيها، من أبواب التخلص من سخط الله في القول والعمل. وهاتان مسالتان وإن كنتم فرقتم بينهما فهي واحدة فأقول - وبالله [تعالى] التوفيق -: إني قد أدمت البحث عما سألتم عنه مدى دهر طويل، وفتشت عنه القرآن والحديث الصحيح، فلاح لي بعد طلب كثير، وتحصل لي بعد طلب شديد ما أخاطبكم به، أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته آمين. وقد كنت جمعت في هذا فصلاً نسخته لكم على هيئته، وهو أن فتشت على مراتب الحقائق في دار القرار في الآخرة - وإما الدنيا فمحل مبيت بؤسها منقض (2) ، وسورها منسي كأن ذلك لم يكن - فوجدتها عشر مراتب، منها ثلاث هي مراتب الملك، والعلو، والسبق.
فأولها: مرتبة عالم يعلم الناس دينهم، فإن كل من عمل بتعليمه أو علم شيئاً مما كان هو السبب في علمه، فذلك العالم والمتعلم شريك له في الأجر إلى يوم القيامة على آباد الدهور، فيا لها منزلة ما أرفعها، أن يكون المرء أشلاء متمزعة في قبره أو مشتغلاً
__________
(1) ص: يجل.
(2) ص: منقضى.(3/152)
في أمور دنياه وصحف حسناته متزايدة، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب ومواترة عليه من حيث لم يقدر. ويؤيد هذا قوله عليه السلام (1) : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين "، وقوله لعلي (2) : " فوالله يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك من حمر النعم "، وقوله عليه السلام (3) : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، فذكر عليه السلام ولداً صالحاً يدعو له، وصدقة جارية، وعلماً ينتفع به " قوله (4) : " من عمل في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء "، ويؤيد هذا قول الله عز وجل: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} (النحل: 25) ، وقوله: {وليحملن أثقالهم} (العنكبوت: 13) فأسأل الله أيها الاخوة أن يجعلنا وإياكم من أهل الصفة الأولى، وأن يعيذنا من الثانية. فبشروا من سن القبالات والمكوس ووجوه الظلم بأخزى الجزاء واعظم البوار في الآخرة، إذ سيئاتهم تتزايد على مرور الأيام والليالي، والبلايا تترادف عليهم وهم في قبورهم؛ ولقد كان أحظى (5) لهم لو لم يكونوا خلقوا من الإنس. واعلموا [240/أ] انه لولا العلماء الذين ينقلون العلم ويعلمونه الناس جيلاً بعد جيل لهلك الإسلام جملة، فتدبروا هذا وقفوا عنده وتفكروا فيه نعماً، ولذلك سموا ورثة الانبياء، فهذه مرتبة.
والثانية: حكم عدل، فإنه شريك لرعيته في كل عمل خير عملوه في ظل عدله وأمن سلطانه بالحق لا بالعدوان، وله مثل أجر كل من عمل سنة حسنة سنها. فيا لها مرتبة ما أسناها أن يكون ساهياً لاهياً وتكسب له الحسنات، وأين هذه الصفة وأما الغاش لرعيته والمداهن في الحق، فهو ضد ما ذكرنا، ويؤيد هذا قوله عليه السلام (6) : " وغن المقسطين فيما ولوا على منابر من نور على يمين الرحمن "، أو كلاماً هذا معناه؛
__________
(1) من يرد الله الخ: ورد في البخاري (علم: 10) ومسلم (إمارة: 175؛ زكاة: 98) ومسند أحمد 1: 306؛ 2: 134؛ 4: 94 ومواطن أخرى.
(2) انظره في سنن أبي داود (علم: 10) .
(3) إذا مات الإنسان الخ في الجامع الصغير 1: 35.
(4) انظره في مسلم (زكاة: 69) ومسند أحمد 4: 357، 359، 361) .
(5) ص: أحضا.
(6) الحديث في صحيح مسلم (امارة: 18؛ قضاة: 1) ومسند أحمد 2: 159. 160. 203 وانظر الجامع الصغير 1: 85) .(3/153)
فهذه ثانية.
وأما الثالثة: مجاهد في سبيل الله عز وجل، فإنه شريك لكل من يحميه بسيفه في كل عمل خير يعمله، وإن بعدت داره في أقطار البلاد، وله مثل أجر من عمل شيئاً من الخير في كل بلد أعان على فتحه بقتال أو حصر (1) ، وله مثل أجر كل من دخل في الإسلام بسببه أو بوجه له فيه أثر إلى يوم القيامة. فيا لها حظوة ما أجلها أن يكون لعله في بعض غفلاته ونحن نصوم له ونصلي.
واعلموا أيها الاخوة الأصفياء أن هذه الثلاث سبق [إليها] الصحابة رضي الله عنهم، لأنهم كانوا السبب في بلوغ الإسلام إلينا وفي تعلمنا العلم، وفي الحكم بالعدل فيما ولوا، وفي فتوح البلاد شرقاً وغرباً، فهم شركاؤنا وشركاء من يأتي بعدنا إلى يوم القيامة، وفي كل خير يعمل به مما كانوا السبب في تعليمه أو بسطه أو فتحه من الأرض.
واعلموا أن لولا المجاهدون (2) لهلك الدين ولكنا ذمة لأهل الكفر، فتدبروا هذا فإنه أمر عظيم، وإنما هذا كله إذا صفت النيات وكانت لله، فقد سئل النبي عن عمل المجاهد وما يدانيه، فأخبر عليه السلام انه لا يعدله إلا أمر لا يستطاع، فسألوه عنه فقال كلاماً معناه (3) : أيقدر أحدكم أن يدخل مصلاه إذا خرج المجاهد فلا يفتر من صلاة وصيام فقالوا: يا رسول الله، لا نطيق ذلك. فاخبرهم أن هذا مثل المجاهد. وأخبرهم أيضاً عليه السلام (4) : أن روث وبولها ومشيها وشربها الماء، وإن لم يرد سقيها، كل ذلك له حسنات. وسئل عن أفضل الأعمال، فأخبر بالصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد (5) . وسئل عليه السلام عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل ليرى مكانه فقال (6) : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو شهيد " أو كما قال؛ وأخبر عليه السلام: أن الأعمال بالنيات.
فهذه الثلاث المراتب هي مراتب السبق التي من أمكنه شيء منها فليجهد نفسه،
__________
(1) ص: حصور.
(2) ص: المجاهدين.
(3) جاء في مسند أحمد (4: 272) مثل المجاهدين في سبيل الله كمثل الصائم نهاره والنائم ليله حتى يرجع حتى يرجع.
(4) انظر صحيح البخاري (تفسير سورة 99: 1؛ مسافاة: 12؛ جهاد: 48، اعتصام: 24) .
(5) مسند أحمد 1: 418.
(6) انظر سنن أبي داود (جهاد: 24) والنسائي (جهاد: 21) .(3/154)
وما توفيقي إلا بالله عز وجل. ومن احب قوماً فهو معهم، فقد قال رجل: يا رسول الله [240 ب] متى الساعة فقال له عليه السلام: ماذا أعددت لها فاستكان الرجل وقال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له (1) : أنت مع من أحببت؛ أو كما قال عليه السلام.
وبعد هذه المرتبة مرتبة رابعة، هي مرتبة الحظوة والقربة، وهي حالة إنسان مسلم فتح الله له باباً من أبواب البر مضافاً إلى أداء فرائضه، إما في كثرة الصيام أو كثرة صدقة، أو كثرة صلاة، أو كثرة حج وعمرة، وما أشبه ذلك، فهذا له نوافل عظيمة وخير كثير، إلا أنه ليس له إلا ما عمل، وصحيفته تطوى بموته، حاشا من حبس أرضاً أو أصلاً تجري صدقته بعده، كما اختار النبي لعمر رضي الله عنه إذ شاوره فيما يعمل في أرضه بخيبر، فإن هذا أيضاً تلحقه الحسنات بعد موته ما دامت الصدقة.
ولقد سمعت أبا علي الحسين بن سلمون المسيلي (2) يقول كلاماً استحسنته، وهو انه قال لي يوماً: من كثرت ذنوبه فعليه بكسب الضياع. ولعمري لقد قال الحق، فإن الضيعة إذا كسبت من حل ومن ارض مباح اكتسابها، فقد نص النبي أن كل من أكل من غرس مسلم أو من زرعه فهو له صدقة (3) . وإذا اكتسبت من غير وجه مرضي، فهي غل وثقل على من اكتسبها. فاعتمدوا على ما نص (4) لكم نبيكم عليه السلام، ودعوا كلام الفساق من (5) أهل الجهل الذين يفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون. فيحكون عن رجل أنه وجد ابنته قد غرست دالة فقلعها وقال: إنا لم نبعث لغرس الدوالي. فاعلموا أن هذا الرجل جاهل سخيف العقل مخالف لرسول الله، مهلك للحرث، مفسد في الأرض. فهذه مرتبة رابعة، وهي دون المراتب الثلاث الأول.
__________
(1) أنت مع من أحببت: في البخاري (فضائل الصحابة: 6؛ أدب: 95، 96) ومسند أحمد 5: 156.
(2) الحسين بن سلمون المسيلي: كان أحد الفقهاء المشاورين في عهد سيلمان بن حكم الذين أمر بتأخيرهم علي بن حمود، ثم أعادهم إلى الشورى وتوفي 431 (انظر التكملة رقم: 226 والصلة: 145) وفي ص: الحسن.
(3) انظر البخاري (أدب: 27؛ حرث: 1) ومسلم (مسافاة: 7 - 10، 12) ومسند أحمد 3: 147، 192؛ 6: 420.
(4) ص: حض ما حض.
(5) ص: عن.(3/155)
ثم مرتبة خامسة: وهي مرتبة الفوز والنجاة، وهي حالة إنسان مسلم يؤدي الفرائض ويجتنب الكبائر ويقتصر على ذلك، فإن فعل هذا فمضمون له على الله تعالى الغفران بجميع سيئاته ودخول الجنة والنجاة من النار؛ قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر مات تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31) ، وقد نص النبي عليه السلام في الذي سأله عن فرائض الإسلام فأخبره بها فقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، قال عليه السلام (1) : أفلح عن صدق، ودخل الجنة إن صدق. فهذه المراتب الخمس هي مراتب الزلفى والقربى التي لا خوف على أهلها ولا هم يحزنون.
ثم بعدها مرتبتان [241/أ] وهما مرتبتا السلامة مع الغرر (2) ، وعاقبتهما محمودة، إلا أن ابتداءهما مذموم مخوف هائل، وهما حال إنسان مسلم عمل خيراً كثيراً وشراً كثيراً، وأدى الفرائض وارتكب الكبائر، ثم رزقه الله التوبة قبل موته. والثانية حال امرئ مسلم عمل حسنات وكبائر ومات مصراً، إلا أن حسناته أكثر من سيئاته. وهذان غررا ولكنهما فائزان ناجيان بضمان الله عز وجل لهما إذ يقول: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} (طه: 82) ، ولقوله {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} (القارعة: 6) ولقوله تعالى {عن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114) ، ولا خلاف بين أحد من أهل السنة فيما قلنا من هذا.
ثم مرتبة ثامنة وهي مرتبة أهل الأعراف، وهي مرتبة خوف شديد وهول عظيم، إلا أن العاقبة إلى سلامة، وهي (3) حال امرئ مسلم تساوت حسناته وكبائره، فلم تفضل له حسنة يستحق بها الرحمة، ولا فضلت له سيئة يستحق [بها العذاب] . وقد وصف الله صفة هؤلاء في الأعراف، فقال تعالى بعد أن ذكر مخاطبة أهل الجنة لأهل النار {فهل وجدتم ما وعد ربكم قالوا نعم} (الأعراف: 44) ثم قال بعد آية {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون* وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} (الأعراف: 46 - 47) .
__________
(1) انظر البخاري (إيمان: 3) ومسلم (8، 9) والنسائي (صلاة: 4) .
(2) ص: الغرور.
(3) ص: إن.(3/156)
فهذه الوقفة لا يعدل همها والإشفاق منها سرور الدنيا كله، ولكنهم ناجون من النار داخلون الجنة، لأنه لا دار سواهما، فمن نجا من النار فلابد له من الجنة، وليتنا نكون من هذه الصفة، فو الله إنها لمن أبعد (1) آمالي التي لا أدري كيف التوصل إليها إلا برحمة الله، وأما بعمل أعلمه مني فلا.
ثم مرتبة تاسعة وهي مرتبة نشبة (2) ومحنة وبلية وورطة ومصيبة وداهية، نعوذ بالله منها، وإن كانت العاقبة إلى عفو وإقالة وخير، وهي حال امرئ مسلم خفت موازينه ورجحت كبائره على حسناته، فهؤلاء الذين وصفوا في الأحاديث الصحاح أن منهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من يبقى فيها ما شاء الله من الدهور، كما وصف النبي عليه السلام في مانع الزكاة (3) انه يبقى في العذاب الموصوف في الحديث يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى مصيره إلى جنة أو إلى نار، فيا لها بلية ما اعظمها؛ وكما نص عليه السلام انه سأل أصحابه (4) : " من المفلس عندك " قالوا: يا رسول الله، الذي لا دينار له ولا درهم، فاخبرهم عليه السلام [241ب] أن المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة وله صيام وصلاة وصدقة فيوجد قد شتم هذا، وقتل هذا وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فينتصفون من حسناته حتى إذا لم يبق له حسنة أخذ من سيئات هؤلاء الذين ظلم فرميت عليه، ثم قذف به في النار. وهذا معنى قوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} (العنكبوت: 13) ، فيبقى هؤلاء في النار على قدر ما أسلفوا، حتى إذا بقوا كما (5) جاء في الحديث الصحيح، جاءت الشفاعة التي ادخرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وجاءت الرحمة التي ادخرها الله لذلك اليوم الفظيع والموقف الشنيع وأخرجوا كلهم من النار فوجاً بعد فوج بعد ما امتحشوا أو صاروا (6) حمماً. والله أيها الاخوة لولا أن عذاب الله لا يهون منه شيء ولا يتمناه عاقل لتمنيت أن أكون من هؤلاء خوفاً من خاتمة سوء، وأعوذ بالله مما يوجب الخلود ويقتضي جوابه تعالى إذ يقول: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: 108) ولكن يمنعني من
__________
(1) ص: بعد.
(2) ص: تشبه.
(3) انظر إثم مانع الزكاة في البخاري (زكاة: 3) وابن ماجه (زكاة: 2) والترمذي (زكاة: 1) .
(4) انظر صحيح مسلم (بر: 60) ومسند أحمد 2: 303، 334، 372.
(5) ص: كذا.
(6) ص: وصاروا.(3/157)
ذلك الرجاء في عظيم عفوه عز وجل، وأن النفس لا تساعد على أن تعد شيئاً من عذاب الله خفيفاً ولو نظرة إلى النار، أعاذنا الله منها، فوالله إن أحدنا ليستشنع موقف [جنا] يته أو موقف قصاصه بين يدي مخلوق ضعيف، فكيف بين يدي الخالق الذي ليس كمثله شيء، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فكيف بنار أشد من نارنا بسبعين ضعفاً فتأملوا ذلك عافانا الله وإياكم منها في فعل الصواعق في صم الهضاب وشم الجبال، فإنها تبلغ في التأثير فيها في ساعة ما لا تبلغه نارنا لو وقدناها هنالك عاماً مجرماً، فكيف بجلود ضعيفة ونفوس ألمة، هذا على أن الحسن البصري رضي الله عنه ذكر يوماً موقف رجل يخرج من النار بعد ألف سنة فقال (1) : يا ليتني ذلك الرجل! وغنما تمنى الحسن هذا خوفاً من خاتمة شقاء، وأن يموت على غير الإسلام فيستحق الخلود في النار في الأبد. فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو الله أن يميته على الإسلام، وكان الأسود بن يزيد (2) يقول: ما حسدت أحداً حسدي مؤمناً قد دلي في قره! وإنما تمنى الأسود ذلك لأنه إذا مات مسلماً أمن الكفر.
فهذه المرتبة أيها الأخوة مرتبة نعوذ بالله منها، فقد صح عن النبي عليه السلام أن المرء المنعم في الدنيا يغمس في النار غمسة ثم يقال (3) : أرأيت خيراً قط فيقول: لا ما رأيت خيراً قط! هذا في غمسة، فكيف بمن يبقى خمسين ألف سنة يجدد له فيها أضعاف العذاب على انه قد صح عن النبي عليه السلام [242/أ] من طريق أبي سعيد الخدري (4) أن آخر أهل النار دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وأقل أهل الجنة منزلة، رجل أمره الله أن يتمنى فيتمنى مثل ملك ملك كان يعرفه في الدنيا فيعطيه الله مثل الدنيا كلها عشر مرات، وهذا حديث صحيح، فلا يدخلنكم فيه داخلة لبراهين يطول فيها الكلام ولصغر قدر الأرض وقلته في الإضافة إلى قدر الآخرة وسعتها، يعلم ذلك من علم هيئة العالم وتفاهة الأرض في عظيم السموات. ولعمري إن هذه فضيلة عظيمة، لا سيما إذا أفكرنا أنها خالدة لا تنقضي أبداً. ولكن إذا أفكرنا فيما
__________
(1) انظر الحسن البصري لابن الجوزي: 16.
(2) الأسود بن يزيد توفي في الكوفة سنة 75 (انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 6: 70 - 75، وكتاب الزهد: 347 وتهذيب التهذيب 1: 342) .
(3) انظر ابن ماجه (زهد: 38) .
(4) إن آخر أهل النار الخ: في البخاري (رقاق: 51) ومسلم (إيمان: 308، 311) والترمذي (جنة: 17) .(3/158)
قبلها من طول المكث بين أطباق النيران، يتجرعون الزقوم ويشربون الغسلين، ولهم مقامع من حديد، والأغلال في أعناقهم، والملائكة يسحبونهم على وجوههم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، لم يف بذلك سرور وإن جل، ونٍال الله أن يجرينا وإياكم من هذه المرتبة، آمين.
فلهؤلاء ذخرت الشفاعة وفي جملتهم يدخل من لم تكن له وسلية، ولا عمل خيراً قط غير اعتقاد الإسلام والنطق به، ولا استكف عن شر قط حاشا الكفر، على قدر ما يفضل من السيئات على الحسنات يكون العذاب، فأقله غمسة كما جاء في الحديث المذكور منه آنفاً، ولم يلج منه عضو في النار كما جاء في حديث جواز الصراط، وأكثره الذي ذكرنا أنه آخر أهل الإسلام خروجاً من النار في الحديث المذكور آنفاً.
وأما المرتبة العاشرة فهي مرتبة السحق، والبعد، والهلكة الأبدية، وهي مرتبة من مات كافراً، فهو مخلد في نار جهنم لا يخفف عنهم من عذابها، ولا يقضي عليهم فيموتوا، خالدين فيها أبدا، سواء صبروا أم جزعوا، ما لهم من محيص. اللهم عياذك، عياذك، عياذك من ذلك، وقد هان كل ما تقدم ذكره عند هذه: " وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي " (1) ، ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والإيمان وابتاع محمد عليه السلام. فهذا جواب ما سألتم عنه من السيرة المختارة التي أحسد عليها صاحبها، وأتمنى أعاليها، قد لخصتها وفسرتها، ثم أعيدها لكم مختصرة، ليكون أقرب للذكر وأسهل للحفظ إن شاء الله تعالى فأقول، وبالله التوفيق: إن أجل سير المسلم ثلاثة: طلب العلم، ونشره، والحكم بالعدل لمن ولي شيئاً من أمور المسلمين والجهاد - كل هذا مع أداء الفرائض واجتناب المحارم. وبعد هذا المداومة على الوتر، وركعتي الفجر والضحى، وركعتين في الليل وقبل الوتر [242 ب] في منزله، وركعتين متى دخل المسجد، فإن زاد فليصل الضحى ثماني ركعات، وليصل اثنتي عشرة (2) ركعة في آخر الليل في منزله قبل الوتر أو في أي وقت أمكنه من الليل، ولا أحب له الزيادة في الضحى على ما ذكرت، لكن من أراد الزيادة فليطول القراءة والركوع والسجود ما شاء، فإني أخاف عليه ما خافه مالك بن أنس إذ سأله سائل عن رجل أحرم قبل
__________
(1) نوكل بالأدنى إلخ: عجز بيت من الشعر لأبي خراش الهذلي وصدره: " على أنها تعفو الكلام وإنما " (انظر ديوان الهذليين 1: 158) .
(2) ص: اثنا عشر.(3/159)
الميقات، فكره ذلك وقال: لعله يتوهم أنه يأتي بأحسن مما (1) أتى به نبيه عليه السلام فيهلك! وأنا لكل أحد أن يزيد على عدد ما كان ينتفل به نبيه محمد لوجهين: أحدهما قول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) ، والثاني: أن يخطر الشيطان في قلبه فيوسوس انه قد فعل من الخير أكثر مما كان محمد يفعله، فيهلك في الأبد ويحبط عمله، ويجد صلاته وصيامه في ميزان سيئاته، فيا لها مصيبة ما اعظمها، أن يحصل في جملة من قال الله تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة* عاملة ناصية* تصلى ناراً حامية} (الغاشية: 2 - 4) فلا دنيا ولا آخرة، على أن مداواة هذا البلاء لمن امتحن به سهلة، وهي أننا نقول له: ليعلم العاقل أن تكبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اعظم عند الله واجل من كل عمل خير يعمله جميعنا، لو عمر العالم كله.
فإن أحب المزيد كما ذكرنا فليركع أربع ركعات في منزله قبل الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد العصر، وركعتين بعد المغرب، وكل هذه النوافل فهي في البيوت أفضل منها في المسجد، وركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب، إما في المنزل، وإما في المسجد، وست ركعات بعد صلاة الجمعة، ويستحب للمرء أن لا يقصر من الصيام عن صيام يوم عرفة ويوم عاشور التاسع والعاشر، وستة أيام من شوال مضافة إلى رمضان، لا يحول بينه وبينها إلا يوم الفطر وحده، فقد صح عن النبي عليه السلام أن ذلك يعدل صيام الدهر، وان صيام يوم عرفة وعاشورا يكفر عامين وعاماً، وهذا أمر لا يزهد فيه إلا محروم. فإن أحب المزيد فليصم الاثنين والخميس، فإن أحب المزيد فليصم يوماً ويفطر يوماً، فإن زاد على ما ذكرنا فهو آثم عاص. سئل رسول الله عن صيام الدهر فقال: لا صام ولا أفطر. وقد روي عنه عليه السلام ما هو أشد من هذا، وصح انه سئل عن أفضل من صيام يوم وإفطار يوم قال: " لا أفضل من ذلك " (2) ، فمن [لم] ينته إلى ما حده له نبيه فلا عفا الله عنه. والحج والعمرة والتطوع كذلك حسن جداً وأجر عظيم، لا جزاء له إلا الجنة بنص كلامه عليه السلام، والصدقة بما تيسر، فإن الإكثار منها فيما فضل عن قوته وبما بقي له غناء، ولا تحل الصدقة [243/أ] بأكثر من ذلك، وعياد مرضى الجيران، وشهود جنائزهم، فرض على مسلم جار على الكفاية، ولقاء الناس بالبشر والبر وانطلاق
__________
(1) ص: ما.
(2) انظر مسند أحمد 2: 158.(3/160)
الوجه، وهذا كله بعد أداء الفرائض واجتناب الكبائر، ويستحب من الذكر ما تقدم في أول هذه الرسالة، فبهذا يتخلص المسلم من عذاب الله، ويستوجب الجنة بفضل الله، فمن عجز عن هذا كله فليقتصر على أداء الفرائض واجتناب الكبائر فإنه فائز، ومع هذا فليخف ربه وليحسن الظن به، فقد صح عنه عليه السلام انه قال (1) : إن الله يقول: انا عند ظن عبدي بي. فاعلموا أن تحسين الظن بالله تعالى أجر عظيم، وانه عمل بالقلب رفيع فاضل، فلعل ربه تعالى قد حفظ له حسنة لا يلقي العبد إليها باله ولا يذكر علتها، كما أنه أيضاً ربما هلك بسيئة حفظت عليه كان هو يحقرها، وليدم على فعل الخير وإن قل، فبهذا جاء الأثر الصحيح (2) : " عن أحب الأعمال إلى الله أدومها ". ولا احب لنفسي ولكم ولا لأحد من المسلمين التقصير عن هذا، فمن ابتلي بالتقصير عنه فليتدارك نفسه بالتوبة والندم والاستغفار فيما سلف فإنه يجد ربه قريباً إذا راجعه، قابلاً له إذا فزع إليه، غافراً لما سلف من ذنوبه كما قال تعالى {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} (غافر: 3) . فمن امتحن بتسويف التوبة ومماطلة النفس، فليكثر من فعل الخير ما أمكنه، ولعل حسناته تذهب سيئاته، وليدخل في قوله: {خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم} (التوبة: 102) ، ولعله (3) يقل مكثه في النار، فقد جاء النص الصحيح بتفاضل مقامهم، فمن ابتلي وعجز فليتمسك بالعروة الوثقى، عروة الإسلام، وليعلم قبح ما يقول، فلعله ينجو من الخلود، وهو ناج منه بلا شك عن مات مسلماً.
3 - وسألتم - رحمنا الله وإياكم - عن طلب العلم، وهل الآداب من العلم، تعنون (4) النحو واللغة والشعر، وعن طلب الاشتغال بروايات القراء السبعة المشهورين على اختلاف ألفاظها وأحكامها، وعن قراءة الحديث، وعن مسائل، فنعم - وفقنا الله وإياكم لما يرضيه -:
أما الاشتغال بروايات القراء المشهورين السبعة وقراءة الحديث وطلب علم النحو، واللغة، فإن طلب هذه العلوم فرض واجب على المسلمين على الكفاية، بمعنى أن من
__________
(1) هو في صحيح البخاري (توحيد: 15، 35) مسلم (توبة: 1؛ ذكر 2،19) وفي مواضع كثيرة من مسند أحمد 2: 251، 315، 391، 413 الخ.
(2) هو في صحيح البخاري (إيمان: 32، رقاق: 18) ومسلم (مسافرين: 216، 218) ومسند أحمد 2: 350، 5: 219، 6: 40، 61 (ومواطن أخرى كثيرة) .
(3) ص: ولعل.
(4) ص: تمنعون.(3/161)
قام بطلبها حتى يعم بعلمه تعليم من طلبها أو فتيا من استفتاه فيها من أهل بلده أو قريته، فإذا قام بذلك من يغنى بهذا القدر، سقط فرض طلبها حينئذ عن الباقين، إلا ما يخص كل إنسان في نفسه فقط، فالذي يلزم كل إنسان من حفظ القرآن فهو أم القرآن وشيء من القرآن معها، ولو سورة أي سورة كانت، أو أي آية، فهذا لابد لكل إنسان منه.
ثم طلب علم القرآن واختلاف القراء السبعة فيه وضبط قراءتهم [243 ب] كلهم، فرض على الكفاية وفضل عظيم لمن طلبه إن كان في بلده كثير ممن يحكمه وأجر جزيل، قال عليه السلام (1) : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه "، فكفى بهذا فضلاً، وقد أمر عليه السلام بتعليم القرآن فمن تعلمه فهو خير، ولو ضاع هذا الباب لذهب القرآن وضاع، وحرام على المسلمين تضييعه، وذهابه من أشراط الساعة، وكذلك ذهاب العلم.
وأما النحو واللغة ففرض على الكفاية أيضاً كما قدمنا، لان الله يقول: {وما أرسلنا من سرول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم: 4) ، وأنزل القرآن على نبيه عليه السلام بلسان عربي مبين، فمن لم يعلم النحو واللغة، فلم يعلم اللسان الذي به بين الله لنا ديننا وخاطبنا [به] ومن لم يعلم ذلك فلم يعلم ذلك فلم يعلم دينه، ومن لم يعلم دينه ففرض عليه أن يتعلمه، وفرض عليه واجب تعلم النحو واللغة، ولابد منه على الكفاية كما قدمنا، ولو سقط علم النحو واللغة على نية إقامة الشريعة بذلك، وليفهم بهما كلام الله تعالى وكلام نبيه وليفهمه غيره، بهذا له أجر عظيم ومرتبة عالية لا يجب التقصير عنها لأحد. وأما من وسم اسمه باسم العلم والفقه وهو جاهل للنحو والغة فحرام عليه أن يفتي في دين الله بكلمة، وحرام على المسلمين أن يستفتوه، لأنه لا علم له باللسان الذي خاطبنا الله تعالى به. وإذا لم يعلمه فحرام عليه أن يفتي بما لا يعلم؛ قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (الإسراء: 36) ، وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف: 33) ، وقال تعالى: {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} (النور: 15) . فمن لم يعلم
__________
(1) ورد هذا الحديث في صحيح البخاري (فضائل القرآن: 21) والترمذي (ثواب القرآن: 15) وابن ماجه (مقدمة: 16) .(3/162)
اللسان الذي به خاطبنا الله عز وجل، ولم يعرف اختلاف المعاني فيه لاختلاف الحركات في ألفاظه، ثم أخبر عن الله بأوامره ونواهيه فقد قال على الله ما لا يعلم. وكيف يفتي في الطهارة من لا يعلم الصعيد في لغة العرب وكيف يفتي في الذبائح من لا يدري ماذا يقع عليه اسم الذكاة في لغة العرب أم كيف يفتي في الدين من لا يدري خفض اللام أو رفعها من قول الله عز وجل {إن الله بريء من المشركين ورسوله} (التوبة: 3) ، ومثل هذا في القرآن والسنة كثير، وفي هذا كفاية. فمن طلب علم النحو واللغة على النية التي ذكرنا فهو [244/أ] أعظم أجر وأفضل علم، ومن طلبهما ليكونا له مكسباً ومعاشاً فهو مأجور محسن، ولكن أجره دون أجر الأول، وفوق سائر الصناعات التي يعاش منها، لأنه يعلم الخير ويبقي آخر عالماً فيمن علم، ومن طلبهما ليتوصل بهما إلى إقامة المظالم وإحياء رسوم الجور والتدرب في أحكام المكوس والقبالات والمخاطبة عن فساق الملوك بما يرضيهم ويسخط الله عز وجل، فقد خاب وخسر وغدا في لعنة الله وراح فيها، لأنه ظالم، وقد قال الله: {ألا لعنة الله على الظالمين} (هود: 18) .
وأما علم الشعر فإنه على ثلاثة أقسام:
أحدها (1) : أن لا يكون للإنسان علم غيره فهذا حرام، يبين ذلك قوله عليه السلام (2) : لان يملأ، أو يمتلئ، جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً.
والثاني: الاستكثار منه، فلسنا نحبه وليس بحرام، ولا يأثم المستكثر منه إذا ضرب في علم دينه بنصيب، ولكن الاشتغال بغيره أفضل.
والثالث: الأخذ منه بنصيب، فهذا نحبه ونحض عليه، لان النبي عليه السلام قد استنشد الشعر، وأنشد حسان على منبره عليه السلام. وقال عليه السلام (3) : " إن من الشعر حكماً " وفيه عون على الاستشهاد في النحو واللغة. فهذا المقدار هو الذي يجب الاقتصار عليه من رواية الشعر، وفي هذا كفاية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما من قال الشعر في الحكمة والزهد فقد أحسن وأجر، وأما من قال معاتباً
__________
(1) ص: أحدهما.
(2) انظره في الجامع الصغير 2: 122.
(3) هو في البخاري (أدب: 90) والترمذي (أدب: 69) وابن ماجه (أدب: 41) ومسند أحمد 1: 269، 303؛ 3: 456؛ 5: 125.(3/163)
لصديقه ومراسلاً له، وراثياً من مات من إخوانه بما ليس باطلاً، ومادحاً لمن استحق الحمد بالحق، فليس بآثم ولا يكره ذلك، وأما من قال هاجياً لمسلم، ومادحاً بالكذب، ومشبباً بحرم المسلمين، فهو فاسق، وقد بين الله هذا كله بقوله {والشعراء يتبعهم الغاوون} (الشعراء: 224) .
والذي يجب على طالب العلم أن لا يقتصر على أقل منه من النحو، فمعرفة (1) ما يمر من القرآن والسنة من الإعراب، ويكفي من ذلك كتاب الواضح أو كتاب الزجاجي (2) ، فإن قال وأوغل حتى يحكم كتاب سيبويه وما جرى مجراه فقد أحسن، وذلك زيادة في فضله وأجره. وأما من اللغة فمثل ذلك أيضاً، ويجزئ عنه منه [244 ب] الغريب المصنف لأبي عبيد (3) ، فإن زاد وأوغل واستكثر من دواوين اللغة فقد أحسن وأجر. ويجب رواية شعر حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وما خف من مختار أشعار الجاهلين ومختار أشعار المسلمين، غير مستكثر من ذلك، ولكن بقدر ما يتدرب في فهم معاني لغة العرب ومخارج كلامهم.
وعلم الحساب والطب أيضاً من العلوم الرفيعة، فمن طلب علماً من ذلك لينتفع به الناس في القسمة والعلاج وحساب مقابلتهم فهو مأجور. وتعلم هذا المقدار فرض على الكفاية، إذ لو جهل هذا لضاع كثير من الدين، كحساب الوصايا والمواريث ومعرفة البيوع وغير ذلك. ومن طلبهما ليكتسب منهما فمأجور أيضاً، ومن طلبهما ليتوصل بهما إلى الظلم فآثم فاسق.
وأما معرفة قراءة الحديث ففرض على الكفاية بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة: 122) . ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بمعرفة أحكام القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، صحيحه من سقيمه، وناسخه من منسوخه، وما أجمع عليه مما اختلف فيه، فهذا أفضل ما استعمل المرء فيه نفسه، وأعظم ما يحاول لأجره وأمحاه لذنوبه. وقد قسم النبي هذا الباب أقساماً
__________
(1) ص: بمعرفة.
(2) الواضح في النحو لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي. وأما كتاب الزجاجي فهو " الجمل ".
(3) يعني القاسم بن سلام وكتابه جليل القدر صرف في تأليفه وجمعه أربعين سنة.(3/164)
كثيرة كافية كما حدثنا القاضي حمام بن احمد، قال: ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، نبا أبو أحمد الجرجاني، نبا محمد بن يوسف الفربري، نبا محمد بن إسماعيل البخاري، نبا محمد نبا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (1) : " مثل ما بعثني الله [به] من الهدى والعلم كمثل غيث كثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى به [الناس] فشربوا وسقوا وزرعوا (2) ، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم (3) ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "؛ فهذا الحديث أيها الاخوة الأصفياء لو لم يأتنا غيره لكفانا، ففيه جماع (4) طبقات الناس كما ترون، والطائفة الأولى التي (5) أنبتت الكلأ والعشب هم الذين فهموا معاني القرآن والحديث وتدينوا بها وعلموها الناس؛ والطائفة الثانية التي أمسكت الماء فشرب الناس منها فسقوا ورعوا هم الشيوخ الذين رووا لنا الحديث [245/أ] ، وقيدوه وعنوا به وبلغوا إلينا فأخذناه عنهم وإن لم يكن لهم فقه فيه، ولكنهم رضي الله عنهم أجروا فينا أجراً عظيماً، لأنهم كانوا سبب علمنا، فهم شركاؤنا في كل ما قيدنا وعلمنا مما أخذنا عنهم، والطائفة الثالثة هي المعرضة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي لا ترفع به رأساً ولا تقبله إذا سمعته ولا تعنى به ولا تطلبه، كما أن تلك القيعان مر عليها الماء مراً، كما دخل خرج، فمن استطاع منكم أيها الإخوة في الله عز وجل أن يكون من الطائفة الأولى النقية فليفعل، فحسب الواحد منا أن يكون في جملة من أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن لم يمنح ذلك، فليكن من الأجادب التي تمسك الماء، لعل الله ينفع بنا وبكم في ذلك، ولو أن يموت أحدنا وهو مقيد بحديث النبي يشاهد مجالسة طالب له مستكثر منه، فأعيذ نفسي وإياكم بالله أن نكون من القيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
__________
(1) مثل ما بعثني الخ: انظر باب العلم من صحيح البخاري (والرقاق: 26 والاعتصام: 2) والعيني 1: 465.
(2) وزرعوا: في هامش ص: صوابه " ورعوا " وكذلك أخرجه مسلم في كتابه. إذ الزرع في الأول. وتصحفت اللفظة في البخاري، والله أعلم، من النقلة.
(3) ص: وعمل.
(4) ص: إجماع.
(5) ص: الذي.(3/165)
وأما كتب الرأي، فاعلموا أنها لا تحل قراءتها على معنى تقليد ما فيها والتدين به، ويكفي في هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول عن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء: 59) ، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فحرام عليه أن يرد شيئاً مما اختلف فيه إلى قول عائشة وأم سلمة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ والعباس، رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء أفاضل الأمة وعلماؤها، فكيف إلى قول أبي حنيفة وإلى سفيان ومالك والشافعي وأحمد وداوود وأبي يوسف ومحمد وابن القاسم لان من رد ذلك إلى غير القرآن وحديث النبي عليه السلام، فقد خالف ما أمره به تعالى في الآية المذكورة. ومن لم [يفعل] ما أمر الله تعالى به، فقد عصى الله عز وجل ورسوله واستحق أقبح الصفات، ولم يحكم بما أنزل الله عز وجل {ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون} (المائدة: 47) . وقد أخبرنا حمام بن أحمد (1) ، قال ثنا عبد الله بن علي الباجي (2) ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن (3) ، نبا أحمد بن مسلم، نبا أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، نبا وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة، عن أبيه [245 ب] ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام أنه قال (4) : " لا ينزع العلم انتزاعاً من قلوب الرجال، ولكن ينزع بذهاب العلماء، فإذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا ". وقال عبد الله بن عمر: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيماً حتى فشا فيهم أبناء سبايا الأمم فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. وقد أخبرنا بهذا الحديث أيضاً حمام بن أحمد بن عبد الله بن إبراهيم، نبا أبو أحمد وأبو زيد المروزي كلاهما عن محمد بن يوسف الفربري، عن محمد بن إسماعيل البخاري، نبا سعيد بن تليد، نبا ابن وهبن ثني عبد الرحمن بن شريح وغيره عن محمد أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول:
__________
(1) قد مر التعريف به: 144.
(2) عبد الله بن علي بن محمد الباجي أبو محمد أصله من باجة القيروان. سكن إشبيلية. ففيه محدث مكثر جليل. سمع من ابن لبابة ومحمد بن عبد الملك بن أيمن وغيرهما (الجذوة: 233 عبد الله بن محمد بن علي. وانظر الصلة: 275 فلعله هو) .
(3) محمد بن عبد الملك بن أيمن رحل إلى العراق وحدث بالمشرق والأندلس. وله مصنف قال فيه ابن حزم انه مصنف رفيع وتوفي سنة 330 (الجذوة: 63) .
(4) انظر هذا الحديث في مسند أحمد 2: 481.(3/166)
سمعت رسول الله يقول (1) : " إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولطكن ينتزعه بقبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال فيستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون " فهذان عدلان جليلان أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة (2) وهشام شهدا على عروة، وشهد عروة على عبد الله، وعبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أبلغتكم، وليس اختلاف الألفاظ بموجب تعليلاً في الرواية إذا كان المعنى واحداً فقط، فصح ان النبي كان إذا حدث بحديث كرره ثلاث مرات فيؤديه السامع على حسب ما سمع في كل مرة: فهذه صفة الرأي.
واعلموا رحمكم الله أني أقول إعلاناً لا أسره ان تقليد الآراء لم يكن قط في قرن الصحابة رضي الله عنهم، ولا في قرن التابعين ولا في قرن تابع التابعين، وهذه هي القرون التي أثنى النبي عليها، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا سبيل إلى وجود رجل في القرون الثلاثة المتقدمة قلد صاحباً أو تابعاً أو إماماً أخذ عنه في جميع قوله فأخذه كما هو، وتدين به وأفتى به الناس، فالله الله في أنفسكم، لا تفارقوا ما مضى عليه جميع الصحابة أولهم عن آخرهم وتابعهم عن [متبوعهم] ، وتابع التابعين أولهم عن آخرهم، دون خلاف من واحد منهم، من ترك التقليد واتباع أحكام القرآن وحديث النبي عليه السلام وروايته والعمل به. فاجتنبوا هذه [246/أ] الحادثة في القرن المذموم المخالفة للإجماع المتقدم، وبعد أزيد من مائتين وخمسين عاماً من موت النبي عليه السلام، فكل بدعة ضلالة، فقد نصحت لكم وأديت ما لزمني في ذلك، وبقي ما عليكم. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) : " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وإنما يجوز قراءة كتب الرأي على وجه اذكره لكم، وهو طلب ما أجمع عليه أئمة العلماء فيتبع ويوقف عنده، لان الله امرنا في الآية التي تلونا بطاعة أولي الأمر منا ولنعرف ما اختلف فيه العلماء فيعرض على كتاب الله عز وجل، وعلى حدي النبي، فلأي تلك الأقوال شهد القرآن والسنة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذنا به، ونترك سائر ذلك عن كنا
__________
(1) إن الله لا ينزل الخ: انظر البخاري: (كتاب الاعتصام: 7) ، والعيني 1: 528، وانظر راموز الحديث: 91 في أحاديث مشابهة.
(2) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود أبو الأسود المدني يتيم عروة، الأرجح أنه توفي سنة 137، وكان ثقة (تهذيب التهذيب 9: 307) .
(3) الحديث في باب الإيمان من البخاري ومسلم (42، 95) .(3/167)
نؤمن بالله وباليوم الآخر، فهو أعرف بنفسه (1) .
فعلى هذا الوجه يجب قراءة كتب الرأي، لا على ما سواه. فمن قرأها على هذا أجر، وانتفع بها جداً، وأما من قرأها متديناً بها غير عارض لها على القرآن وحديث النبي فهو فاسق، لعصيانه ما أمره الله تعالى به، ولأنه لم يحكم بما انزل الله: فمن جمع إلى هذا استحلال مخالفة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يعتقد صحته عنه عليه السلام لقول أحد دونه، واعتقد ان هذا جائز فهو كافر مشرك مرتد عن الديانة، منسلخ عن الإسلام، حلال الدم والمال. وروينا عن النبي انه قال (2) : " كل أحد يدخل الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله ومن يأبى قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى ". ولا يحسبوا أني سبقت إلى هذا القول، فمعاذ الله ان أقول ما لم يقله الله تعالى ورسوله، قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} (النساء: 65) . فأنا أقول: والله ما آمن من حكم غير رسول الله في دينه.
واعلموا أيضاً أن هذا الذي قلت هو رأي الشافعي ومالك وإسحاق بن راهويه، فإنه بلغني عن مالك، رحمه الله، انه سأله سائل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في رجل قيل له: قال النبي كذا، فقال هو: قال إبراهيم النخعي كذا فقال مالك: أرى أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وبلغني عن الشافعي، رحمه الله، انه ذكر يوماً حديثاً عن النبي عليه السلام [246 ب] فقال له إنسان: يا أبا عبد الله، أتأخذ بهذا الحديث فقال له الشافعي: أرأيت يا هذا علي زناراً خارجاً من كنيسة تسمعني أحدث عن النبي صلى الله [عليه] وسلم وتقول لي: تأخذ به وما لي لا آخذ به إذا صح الحديث عن رسول الله فهوديني وقولي. وذكر محمد بن نصر عن إسحاق بن راهويه انه قال: من سب رسول الله أو ترك صلاة فرضاً متعمداً حتى خرج وقتها بلا عذر أو رد حديثاً مسنداً صحيحاً بلغه عن رسول [الله] ، فهو كافر مشرك.
وقد سمعنا أصحابنا يحكون عن ابن القاسم، رحمه الله، انه كان لا يجيز بيع كتب الرأي، فسئل عن ذلك فأخبر أنه لا يدري أحق هو أم باطل، وأجاز بيع المصاحف وكتب الحديث، لان الذي فيها حق. فكيف يظن جاهل لا يتقي الله عز
__________
(1) فهو أعرف بنفسه: كذا في ص، ويبدو فيه انقطاع.
(2) الحديث في البخاري (اعتصام: 2) ومسند أحمد 3: 361.(3/168)
وجل أن مالك بن أنس وابن القاسم يلزمان الناس بتقليدهما وهما يقران أنهما لا يعلمان أحق ما أفتيا برأيهما أم باطل وقد صح ما هو أغلظ من هذا، وهو أن مالكاً رضي الله عنه تمنى عند موته أن يضرب بكل مسألة أفتى فيها برأيه سوطاً، وهكذا كان الأئمة الفضلاء قبل زماننا هذا المدبر، رضي الله عنهم وعن الباقين، وفاء بالجميع إلى طاعته، ووالله لقد خذل الله وجل أمة تدين بشيء تمنى قائله أن يضرب بالسياط ولا يقوله.
وأما ما ذكرتم من أمر قارئ هذه العلوم إن حضر بباله عند (1) الاشتغال بها حب الرئاسة في الدنيا وطلب الظهور، وكيف إن كان معظم نيته هذا المعنى. فهذا مذهب سوء. صح عن النبي أنه قال (2) : " من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ". والحديث الصحيح الذي رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنه (3) " يؤتى يوم القيامة برجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه الله نعمه فعرفها، قال: فما علمت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، وقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار "، والحديث الصحيح عن النبي أنه قال (4) : " إن الله تعالى قال: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ".
وفيما ناولني حمام بن أحمد، وأخبرني أنه أخبر به العباس بن أصبغ [247/أ] عن محمد بن عبد الملك بن أيمن. نبا إسماعيل بن إسحاق القاضي ببغداد، نبا إسماعيل ابن أبي أويس، ثني أخي يعني أبا بكر، عن سليمان بن بلال، عن إسحاق بن يحيى ابن طلحة، عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (5) : " من ابتغى العلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء، أو ليقبل بأفئدة الناس إليه فإلى النار ". وهذه أحاديث في غاية الصحة، وأولاد كعب بن مالك ثقات كلهم، وهم ثلاثة مشهورين: عبد الله وعبد الرحمن وسعيد، فهذا أصلحكم الله وإيانا فتيا
__________
(1) ص: هذا.
(2) الحديث في أبي داود (علم: 12) ومسند أحمد 2: 338.
(3) ورد في صحيح مسلم (إمارة: 152) والنسائي (جهاد: 22) ومسند أحمد 2: 322؛ 3: 81.
(4) ورد في صحيح مسلم (زهد: 46) ومسند أحمد 3: 466؛ 4: 215.
(5) من ابتغى العلم الخ: هذا الحديث راوه البيهقي، والعقيلي في الضعفاء، والحاكم في المستدرك، انظر راموز الأحاديث: 395 والترمذي (علم: 6) وابن ماجه (مقدمة: 23) .(3/169)
نبيكم عليه السلام، وكلام ربكم عز وجل، فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون (1) أم أي قول بعد قول الله تعالى وكلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تطلبون وتقرءون (2) لا كفى الله من لم يكفه قول ربه تعالى، وقول نبيه عليه السلام. فالله الله عباد الله، تداركوا أنفسكم بتصفية نياتكم في هذا الباب وفي العمل المرغوب في الصلاة والصيام والصدقة، ولا تشوفوا في شيء منه قصداً لغير وجه الله تعالى؛ فوالذي لا إله إلا هو إن من طلب علماً من علوم الديانة ليدرك به عرض دنيا أو ذكراً في الناس أو عمل عملاً مما أمره الله تعالى بعمله له فعمله هو لغيره تعالى، لقد كان أحظى له في آخرته وأسلم في عاقبته وأنجى له عند ربه تعالى أن يكون دفافاً أو بهزرياً (3) . ووالله لأن يلقى الله تعالى عبد بكل بائقة (4) دون الشرك، لا أخص من ذلك قتل النفس ولا قطع الطريق ولا ما دونهما، أخف وزراً من أن يلقاه وقد تدين لغيره وصلى وصام لسواه.
واعلموا رحمكم الله أن من تعدم اللهو واللعب حتى مضى وقت صلاة مفروضة ولم يصلها، أخف ذنباً عند الله تعالى ممن صلاها لأجل الناس، ولولاهم ما صلاها، لأن كل إنسان من الذين ذكرنا لم يصل الصلاة التي أمر بها، وزاد هذا الآخر على الأول أن صلاها لغير الله تعالى؛ وكذلك من طلب العلم لغير الله تعالى، فإنه ترك الاشتغال بما يصلحه في دنياه وبما يروح به نفسه من البطالة، وأتعب نفسه في أفضل الأعمال، فقصد به التقرب إلى الناس فوكله الله إلى من قصده، وقال عليه السلام (5) : [247ب] " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " أو كما قال عليه [السلام] ، فالجد الجد فإن لإبليس اللعين ها هنا مسلكاً خفياً ومدبا (6) لطيفاً ومولجاً دقيقاً يحبط به الأعمال ويهلك به الرجال، أجارنا الله وإياكم من كيده وبغيه، ولا وكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك.
وأنا أريكم إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله، ميلقاً (7) يعرف به كل
__________
(1) انظر سورة الجاثية، الآية: 6.
(2) ص: ويقرون.
(3) كذا وردت في ص؛ ولعلها: بيرزيا أو هنزمريا وهو الذي يحيي الهنرمز وهو عيد من أعياد العجم.
(4) ص: نافقة.
(5) مر تخريجه: 133.
(6) ص: وديناً.
(7) ص: ميدقاً؛ والميلق: أداة يملس بها الذهب، أو لعله يختبر، وهذا هو المقصود هنا.(3/170)
واحد منكم وغيركم ممن يقرأ كتابي هذا، إن كانت نيته صادقة لله عز وجل أو مشوبة بقصد (1) إلى غيره، وذلك أن يفكر المرء في نفسه فيما يعمل من طلب علم أو فعل بر فيقول لها: يا نفس، أرأيت لو أن من يراني أو يبلغه خبري من الناس يكون طريقتهم في العلم وفي طلبه وفي عملهم على خلاف ما هم عليه كانوا يكرهون هذا الوجه من طلبي لما أطلب، ولا يستحسنون ما أفعل من البر، أكنت تفعلينه أم لا فإن علم من نفسه أنها كانت تفعل ذلك، سخط الناس أم رضوا، نفق عندهم أو كسد، فليحمد ربه تعالى وليبشر، كان (2) عمله وطلبه خالصاً. وإن وجد نفسه تخبره أن الناس لو كرهوا ما يطلب وما يعمل لم يطلبه ولم يعمله، فليعلم أنه هلك وأن عمله وتعبه عليه لا له، وأنه قد خسرت صفقته، وأنه قد أشرك في نيته وعمله غير ربه تعالى، إذ قرن به الناس، فمن أضيع (3) عملاً أو أسوأ منقلباً من هذا نعوذ بالله من هذه المرتبة، ونسأله التوقي من هذا. وليت شعري على ماذا يحصل المسكين الذي يطلب العلم ليحظى (4) به في دنياه والله لا حصل من ذلك إلا (5) على دنيا منغصة، ولباس خشن، ولذات يستتر بها استتار الغراب بسفاده ولا يتهناها موفرة، وعلى ما (6) لا توفى نفسه منها. ولو طلب الدنيا على وجهها لكان أنفذ لأمره وأعظم لجاهه وأكثر لماله وأوفر للذاته وأتم لهيبته، وأقل لوزره، وأخف لعذابه. ولا يغرنكم ما يقول كاذب على العلماء: " طلبنا العلم لغير الله، فما زال بنا حتى ردنا إلى الله "، فلعمري إن جديراً ألا يبارك (7) تعالى في كل شيء ابتدأ لغير وجهه عز وجل، وحسبنا الله ونعم الوكيل [248/أ] .
وأما إن نوى في عمله أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويحكم بالعدل إن ولي شيئاً من أمور المسلمين، وأن يظهر في ذلك الحق ما أمكنه، رضي الناس أم سخطوا، وأحب مع ذلك أن لا يذل ويكرم، وكانت نيته أن لا تأخذه في الله لومة لائم إن آتاه الله حظاً من الدنيا، وسره أن يؤتى مالاً حلالاً لا يأكله بخلافه ولا يكتسبه بدينه ولم يترك
__________
(1) ص: لقصد.
(2) ص: فإن.
(3) ص: أطيع.
(4) ص: ليحضا.
(5) ص: إلى.
(6) ص: مال.
(7) ص: تبارك وتعالى.(3/171)
لذلك أمراً يعتقده حقاً، ولا استعمل لأجل رغبته فيما ذكرنا أمراً يراه باطلاً، فهذه نية خير ومقصد حسن، ومذهب فاضل كانت عليه الصحابة والتابعون وأئمة الخير. وقد قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (1) : " المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ". وقد أثنى الله تعالى على {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} (الحج: 41) والدلائل على كل ما قلنا من القرآن والحديث تكثر جداً، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى.
4 - وأما ما سألتم عنه من أي الأمور أفضل في النوافل: الصلاة أم الصيام أم الصدقة فقد جاءت الرغائب في كل ذلك، وكلها فعل حسن، وما أحب للمؤمن أن يخلو من أن يضرب في هذه الثلاث بنصيب ولو بما قل، إلا أن الصدقة الجارية في الثمار في الأرضين أحب إلي من الصلاة والصوم في التنفل. وقد روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " إذا صمت ضعفت عن الصلاة. والصلاة أحب إلي من الصيام "، ولسنا نقلد في ذلك ابن مسعود، ولا نقول أيضاً إن هذا ليس كما قال، ولكني أقول: " والله أعلم "، إذ لا نص في ذلك عن النبي عليه السلام؛ ولكني قد قلت: إني أحب للمؤمن أن يضرب في كل هذه الثلاثة نصيب ويأخذ بحظه من كل واحد منها وإن قل، فلذلك إن شاء الله خير له بلا شك من أن يأخذ بإحداهن ولا يأخذ من الباقيين نصيباً. وبيان ذلك أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلين يدعون (2) من باب الصلاة، والصائمين يدعون من باب الصيام، وأصحاب الصدقة يدعون من باب الصدقة (3) ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها. فقال: نعم، وأرجو أن تكون منهم. فإنما اخترنا ما بشر به [248ب] النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وحسبك بهذا اختياراً فاضلاً، جعلنا الله وإياكم من أهله، آمين.
5 - وأما ما سألتم عنه مما روي في حديث التنزل، وهل الإجابة مضمونة في تلك الساعة، فحديث التنزل صحيح، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: {ادعوني
__________
(1) انظر الحديث في صحيح مسلم (قدر: 34) .
(2) ص: يدعوا.
(3) انظر هذا الحديث في صحيح البخاري (صوم: 4؛ فضائل أصحاب النبي: 5) ومسلم (زكاة: 85) ومسند أحمد 2: 268.(3/172)
أستجب لكم} (غافر: 60) ، وأخبرنا تعالى أنه لا يخلف الميعاد، ولكن ها هنا بينت ما سألتم عنه بياناً شافياً وهو قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) ، فإنما شرط الإجابة العمل الصالح، أو أن يكون الداعي مظلوماً، على ما جاء في الأثر عن النبي عليه السلام فمن دعا وعمله صالح أو هو مظلوم فقد جاء في الأثر عن النبي عليه السلام: أن دعاء المؤمن لا يخلو من إحدى ثلاث: إما تعجيل إجابة، وإما كفاية بلاء، وإما تعويض أجر، أو كلاماً هذا معناه. فاعلموا وفقنا الله وإياكم أن من دفع الله تعالى عنه بلاء، أو عوضه أجراً فقد أجاب دعاءه ولم يخيبه، وللإجابة في اللغة معنى غير الإسعاف، يقال في اللغة: ناديت فلاناً فأجابني، ودعوته فأجابني بمعنى أتاني، فالإجابة من الله تعالى بمعنى قبول عمل العامل في الدعاء وتعويضه عنه الأجر ودفعه عنه البلاء، وربما يفضل الله تعالى بإسعافه في أن يكون ما طلب، إذا كان مما سبق في علم الله تعالى أن يكون.
6 - وأما ما سألتم عنه من أمر هذه الفتنة وملابسة الناس بها مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امتحنا به، نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه، ولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله وساع في الأرض بفساد؛ للذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون (1) على أهلها، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدام نفاذ أمرهم ونهيهم. فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه [249/أ] ، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم. فالمخلص لنا فيها الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذم جميعهم؛ فمن عجز منا عن ذلك رجوت أن تكون التقية تسعه، وما أدري كيف هذا، فلو اجتمع كل من ينكر هذا بقلبه لما غلبوا. فقد صح عن النبي
__________
(1) ص: يعصون؛ ولعلها (ينقضون) .(3/173)
صلى الله عليه وسلم أنه قال (1) : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ". وجاء في بعض الأحاديث: ليس وراء ذلك من الإيمان شيء، أو كما قال عليه السلام؛ وجاء في الأثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) : " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله بعذاب ". واعلموا رحمكم الله انه لا عذاب أشد من الفتنة في الدين، قال الله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} (البقرة: 191) ، فأما الغرض الذي لا يسع أحداً فيه تقية، فأن لا يعين ظالماً بيده ولا بلسانه، ولا أن يزين له فعله ويصوب شره، وعاديهم بنيته ولسانه عند من يأمنه على نفسه، فإن اضطر إلى دخول مجلس أحدهم لضرورة حاجة أو لدفع مظلمة عن نفسه أو عن مسلم، أو لإظهار حق يرجو إظهاره، او الانتصاف من ظالم آخر، كما قال تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (الأنعام: 129) أو لصداقة سالفة - فقد يصادق الإنسان المسلم اليهودي والنصراني لمعرفة تقدمت - أو لطلب يعانيه، أو لبعض ما شاء الله عز وجل، فلا يزين له شيئاً من أمره ولا يعنيه ولا يمدحه على ما لا يجوز، وإن أمكنه وعظه فليعظه، وإلا فليقصد إلى ما له قصد غير مصوب له شيئاً من معاصيه، فإن فعل فهو مثله، قال الله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود: 113) وفي هذا كفاية.
7 - وأما ما سألتم عنه من وجه السلامة في المطعم والملبس والمكسب، فهيهات أيها الإخوة، إن هذا لمن أصعب ما بحثتم عنه وأوجعه للقلوب وآلمه للنفوس. وجوابكم في هذا ان الطريق ها هنا طريقان: طريق الورع، فمن سلكه فالأمر - والله - ضيق حرج. وبرهان ذلك أني لا أعلم لا أنا ولا غيري بالأندلس درهما حلالاً [249 ب] ولا ديناراً طيباً يقطع على انه حلال، حاشا ما يستخرج من وادي لاردة (3) من ذهب، فإن الذي ينزل منه في أيديهم، يعني أيدي المستخرجين له بعد ما يؤخذ منهم ظلماً فهو كماء النهر في الحل والطيب، حتى إذا ضربت الدراهم وسبكت الدنانير فاعلموا أنها تقع في أيدي الرعية فيما يبتغونه من الناس من الأقوات التي لا تؤخذ إلا منهم، ولا
__________
(1) انظر الجامع الصغير 2: 17.
(2) هو في باب الفتن من سنن الترميذي وابن ماجه (8، 20) ومسند أحمد 1:2، 5، 7، 9؛ 6: 304، 333، وانظر الجامع الصغير 2: 122.
(3) تقع لاردة (Lerida) شرقي مدينة وشقة على نهر يخرج من أرض جليقية وهو النهر الذي تلقط منه برادة الذهب الخالص، واسم النهر شيقر Segar (الروض المعطار: 503 والترجمة: 202) .(3/174)
توجد إلا عندهم من الدقيق والقمح والشعير والفول والحمص والعدس واللوبيا والزيت والزيتون والملح والتين والزبيب والخل وأنواع الفواكه والكتان والقطن والصوف والغنم والألبان والجبن والسمن والزبد والعشب والحطب. فهذه الأشياء لابد من ابتياعها من الرعية عمار الأرض وفلاحيها ضرورة. فما هو إلا أن يقع الدرهم في أيديهم، فما يستقر حتى يؤدوه بالعنف ظلماً وعدواناً بقطيع (1) مضروب على جماجمهم كجزية اليهود والنصارى، فيحصل ذلك المال المأخوذ منهم حق عند المتغلب عليهم، وقد صار ناراً، فيعطيه لمن أختصه لنفسه من الجند الذين استظهر بهم على تقوية أمره وتمشية دولته، والقمع لمن خالفه والغارة على رعية من خرج من طاعته أو رعية من دعاه إلى طاعته، فيتضاعف حر النار، فيعامل بها الجند التجار والصناع، فحصلت بأيدي التجار عقارب وحيات وأفاعي، ويبتاع بها التجار من الرعية، فهكذا الدنانير والدراهم كما ترون عياناً دواليب تستدير في نار جهنم، هذا ما لا مدفع فيه لأحد، ومن أنكر ما قلنا بلسانه فحسبه قلبه يعرفه معرفة ضرورية، كعلمه أن دون غد اليوم، فإذا فاتنا الخلاص فلا يفوتنا الاعتراف والندم والاستغفار، ولا نجمع ذنبين: ذنب المعصية وذنب استحلالها، فيجمع الله لنا خزيين وضعفين من العذاب، نعود بالله منذلك، ولنكن كما قال الله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (آل عمران: 135) ، هذا مع ما لم نزل نسمعه (2) سماع استفاضة توجب العلم الضروري أن الأندلس لم تخمس وتقسم كما فعل رسول الله فيما فتح، ولا استطيبت أنفس المستفتحين، وأقرت لجميع [250/أ] المسلمين، كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتح، لكن نفذ الحكم فيها بان لكل يد ما أخذت، ووقعت فيها غلبة بعد غلبة، ثم دخل البربر والأفارقة فغلبوا على كثير [من القرى دون قسمة] (3) ، ثم دخل الشاميون في طالعة بلج بن بشر بن عياض القشيري فأخرجوا اكثر العرب والبربر المعروفين بالبلديين عما كان بأيديهم، كما ترون الآن من فعل البربر، ولا فرق، وقد فشا في المواشي ما ترون من الغارات و [في] ثمار الزيتون ما تشاهدون من استيلاء
__________
(1) القطيع هنا بمعنى الضريبة، وسيشرحها في ما يلي.
(2) ص: فنسمع.
(3) ما بين معقفين غير واضح في النسخة، وقد استوفيته من كتاب فجر الأندلس: 621 للدكتور مؤنس. وهذا الكتاب قد نقله مما نشره بلاسيوس في مجلة الأندلس، المجلد الثاني: 1934.(3/175)
البربر والمتغلبين على ما بأيديهم إلا القليل التافه، ومشى في بلاد المتغلبين يقيناً العرى الحالسة (1) ظلم بظلم. وهذا باب الورع وقد أعلمتكم انه ضيق.
وأما الباب الثاني فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زماننا هذا باب جدي لأنه لا يؤثم صاحبه، ولا يؤجر، وليس على الناس أن يتجنوا على أصول ما يحتاجون إليه في أقواتهم ومكاسبهم إذا كان الأغلب هو الحلال وكان الحرام مغموراً. وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه، فإنما هو باب أغلق [] فرقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله، لأن الغايات [..] (2) فإنما هي جزية على رءوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهرة وضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل، يرسم على كل رأس، وعلى كل خلية شيء ما، وقبالات ما، تؤدى على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد. هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار ونقض شرائع الإسلام وحل عراه عروة عروة، وإحداث دين جديد، والتخلي (3) من الله عز وجل. والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحسرهم معهم آمنين (4) ، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه.
فإن قلتم: نحن نجتنب اللحم، فانتم تعلمون علماً يقيناً أن المواشي المغنومة ليست تباع للذبح فقط، بل تباع للنسل والرسل كثيراً وللحرث بها، فتباع ويؤخذ فيها الثمن، وهو نار لأنه بدل من المثمون ومال أخذ بالباطل، ثم ينصرف في أنواع التجارات والصناعات في الملابسات [250ب] ، فيمتزج الأمر. فهذا ملا أحيلكم فيه على غائب، لكن ما ترونه بعيونكم وتشاهدونه أكثر من مشاهدتي له. وأنتم ترون الجند في بلادكم لا يأخذون أرزاقهم إلا من الجزية التي يأخذها المتغلبون من المسلمين فيما يباع في أسواقهم على الصابون والملح وعلى الدقيق والزيت وعلى الجبن وعلى سائر السلع، ثم بتلك الدراهم الملعونة يعاملون التجار والصناع، فحسبكم وقد علمتم ضيق
__________
(1) كذا هو في ص، ولا أدري ما صوابه.
(2) ما هو بياض بين معقفين قد ذهب جانب منه لأنه كتب في الحاشية.
(3) ص: والنحل.
(4) العبارة غير واضحة، وهي صورة لما في ص.(3/176)
الأمر في كل مرة ما يأتي من البلاد التي غلب عليها البرير من الزيت والملح، أن كل ذلك غصب من أهله، وكذلك الكتان أكثره من سهم صنهاجة الآخذين النصف والثلث ممن أنزلوا عليه من أهل القرى، وكذلك التبن مزرقة، وأما القمح فهو أشبه بيسير، لأن الأرض وإن كانت مغصوبة فالزرع لزراعة حلال وعليه إثم الأرض، إلا أن تكون الزريعة مغصوبة، فحصلنا في شعل نارٍ [أشد] من ذي قبل؛ ولكن التخلص لنا ولكم أن لا يأخذ الإنسان فيما يحتاج إليه ما أيقن أنه مغصوب بعينه، ولعلنا فيما جهلنا من ذلك أعذر قليلاً فإن النار المدفونة في الرماد أفتر حراً من النار المؤججة المشتعلة، فواغوثاه.
8 - وأما ما سألتم عنه من تفاضل الكبائر، فنعم، فالحسنات تتفاضل والكبائر تتفاضل؛ سئل صلى الله عليه وسلم عن اكبر الكبائر، فذكر عليه السلام أشياء، منها عقوق الوالدين، وشهادة الزور. واستعظم عليه السلام أشياء منها زنا الزاني بامرأة جاره، ومنها زنا الشيخ ومنها زنا الزاني بامرأة المجاهد، فهذه الوجوه أعظم عند الله بنص نبيه عليه السلام [من] سائر (1) وجوه الزنا وكل عظيم؛ وذكر كذب الكاذب أيضاً بعد العصر، فدل على انه اعظم منه إثماً في سائر الأوقات، وذكر عليه السلام كذب السلطان وزهو الفقير، فعلمنا بذلك ان الكذب من الملك أعظم ذنباً من كذب غيره، وأن زهو الفقير أكبر إثماً من زهو الغني. وكذلك الإلحاد بالبيت والظلم بمكة اعظم منه في سائر البلاد، والقتل بلا شك أعظم إثماً من اللطمة والضربة، والكذب على النبي أشنع من الكذب على غيره. قال النبي عليه السلام (2) : " إن الكذب [علي] أعظم من الكذب على غيري فمن كذب علي فليلج النار " [251/أ] ، وإن شعبة بن الحجاج رحمه الله يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وأنا أقول: لأن يضرب عنقي أو أصلب أو يرمى بي وأهلي وولدي إلي من أن أقطع الطريق أو أقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وأنا أعلم أن ذلك حرام، [وهذا] أحب إلي من أن أستحل الاحتجاج بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا أعتقده صحيحاً، أو أن أرد حديثاً صحيحاً عنه عليه السلام، ولم يصح نسخه بنص آخر، ولا صح عندي تخصيصه بنص آخر، فالكبائر تتفاضل كما أخبرتكم تفاضلاً بعيداً، وكذلك العذاب عليها بتفاضل كما تتفاضل الحسنات ويتفاضل الجزاء عليها؛ صح عن النبي صلى الله
__________
(1) ص: وسائر.
(2) انظر الحديث في البخاري (علم: 38) ومسلم (زهد: 72) ومسند أحمد 2: 47، 83، 123، 150.(3/177)
عليه وسلم [أنه] قال (1) : " إن أهل الجنة يتراءون من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري ". وصح عنه عليه السلام أنه أمرنا أن نسأل الله الفردوس الأعلى، فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوق ذلك عرش الرحمن (2) . وجاء نص القرآن بان المنافقين في الدرك الأسفل من النار (3) . وقال تعالى: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر: 46) ، والأشد والأسفل لا يقعان إلا بالإضافة إلى ما هو أخف وأعلى. وجاء الحديث الصحيح (4) أن أبا طالب يخفف عنه العذاب بنعلين في رجليه يغلي منهما دماغه، وأنه أخرج عمه من النار إلى ضحضاح منها، وانه أخف أهل النار عذاباً، هذا الذي ذكرت معاني الحديث التي ذكرت لكم.
فهذا أصلحكم الله بيان ما سألتم عنه حسب ما علمني الله عز وجل، لم أقل شيئاً من ذلك من عند نفسي، ويعيذني الله ما أقول في شيء من الدين برأي أو بقياس، لكن حكيت لكم ما قاله الله تعالى وعهده إليكم نبيكم عليه السلام. ولعمري إني لأفقر منكم إلى قبول ما أوصيتكم به، وأحوج إلى استعماله. فإني والله أعلم من عيوب [نفسي أكثر مما أعلم من عيوب] كثير من الناس ونقصهم. وقد توصل الشيطان إلى جماعة من الناس بأن أسكتهم عن تعليم الخير، بان وسوس إليهم، أو لمن يقول لهم: إذا أصلحتم أنفسكم، فحينئذ اسعوا في صلاح غيركم؛ وربما اعترض عليهم بقول الله عز وجل: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105) وبقوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44) الآية؛ والحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (5) : أن رجلا يقذف به في النار فتندلق أقتابه [251 ب] فيقول له أهل النار: يا فلان ألست الذي كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول: نعم، كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه، أو كما قال عليه السلام، فأسكتهم عن تعليم الخير. فاعلموا رحمكم الله أن الآية الأولى لا حجة فيها للمعترض بها فيها، لأنه ليس فيها نهي لنا عن أن
__________
(1) ورد الحديث في البخاري (بدء الخلق: 8؛ رقاق: 51) ومسلم (جنة: 10،11) ومسند أحمد 2؛ 335،339،5: 340.
(2) انظر مسند أحمد 2: 335،339.
(3) سورة النساء: 145.
(4) انظر هذا الحديث في مسلم (إيمان: 362) ومسند أحمد 3: 27،78.
(5) ورد في البخاري (بدء الخلق: 10) ومسلم (زهد: 51) ومسند أحمد 5: 205،206،207.(3/178)
ننهى من ضل عن ضلالة، ولكن فيها تطبيب لأنفسنا عن غيرنا ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا. وقد جاء في بعض الآثار أن المنكر إذا خفي لم يؤخذ به إلا أهله، وأنه إذا أعلن فلم ينكره أخذ فاعله وشاهده الذي لا ينكره (1) . فإنما في هذه الآية إعلام لنا أننا لا نضر بإضلال من ضل إذا اهتدينا و [على] من اهتدى بنا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأما (2) الآية الثانية فلم ينكر فيها الأمر بالبر، وإنما أنكر استضافة إتيان النكر إليه، ونعم. معترفون لها (3) بذنوبنا منكرون على أنفسنا وعلى غيرنا، راجعون الأجر على إنكارنا، خائفون العقاب على ما نأتي مما ندري أنه لا يحل. ولعل أمرنا بالمعروف وتعليمنا الخير ونهينا عن المنكر، يحط به ربنا تعالى عنه ما نأتي من الذنوب، فقد أخبرنا تعالى أنه لا يضيع عمل عامل منا. وأما الحديث المذكور فهو رجل غلبت معاصيه على حسناته، فإن كان مستحلاً للمنكر الذي كان يأتي ومرائياً بما يأتي به، فهذا كافر مخلد في نار جهنم، ويكفي من بيان هذا قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة: 7 - 8) . فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وعصى مع ذلك، فوالله لا ضاع له ما أسلف من خير ولا ضاع عنده ما أسلف من شر، وليوضعن كل ما عمله يوم القيامة في ميزان يرجحه مثقال ذرة، ثم ليجازين بأيهما غلب. هذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وقد أمر تعالى فقال: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104) ، وقال تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة: 122) ، فأمر تعالى من نفر ليتفقه في الدين بان ينذر قومه، ولم ينهه عن ذلك إن عصى، بل أطلق الأمر عاماً، وقال تعالى: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} (آل عمران: 115) ، فمن رام أن يصد عن هذه السبيل بالاعتراض الذي قدمنا، فهو فاسق صاد عن سبيل الله، داعية من دواعي النار، ناطق بلسان الشيطان، عون لإبليس على ما يحب، إذ لا ينهى عن باطل ولا يأمر بالمعروف ولا يعمل خيراً. وقد بلغنا عن مالك انه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال له قائل: يا أبا عبد الله، وأنت لا تفعل ذلك، فقال: يا ابن أخي ليس [352/أ] في الشر قدرة. ورحم الله الخليل بن أحمد الرجل الصالح حيث يقول:
__________
(1) ص: يقره (وقد يصح بحذف لا) .
(2) ص: وإنما.
(3) لها: لا أدري وجه موقعها هنا.(3/179)
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري (1) وذكرت هذه المسألة يوماً بحضرة الحسن البصري رضي الله عنه فقال (2) : ود إبليس لو ظفر منا بهذه، فلا يأمر أحد بمعروف ولا [ينهى] عن منكر. وصدق الحسن، لأنه لو لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يذنب، لما (3) أمر به أحد من خلق الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكل منهم قد أذنب وفي هذا هدم للإسلام جملة. فقد صح عن النبي عليه السلام أنه قال: " ما من أحد إلا وقد ألم، إلا ما كان من يحيى بن زكريا " أو كلام هذا معناه.
فخذوا حذركم من إبليس وأتباعه في هذا الباب، ولا تدعوا الأمر بالمعروف وإن قصرتم في بعضه، ولا تدعوا النهي عن منكر وإن [كنتم] تواقعون بعضه، وعلموا الخير وإن كنتم لا تأتونه كله، واعترفوا بينكم وبين ربكم بما تعلمونه بخلاف ما تعلمونه، واستغفروا الله تعالى منه دون أن تعلنوا بذكر فاحشة وقعت منكم، فإن الإعلان بذلك من الكبائر؛ صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلعل أحدنا يستحي من ربه تعالى إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو يعلم من نفسه خلاف ما يقول يكون ذلك سبب إقلاعه ومقته لنفسه، ولعل الاعتراف الله تعالى والاستغفار المردد له يوازي ما يقصر فيه، فيحط عنا تعالى ربنا ذو الجلال، وقد قال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله} (النساء: 108) . وقد امرنا الله تعالى على لسان نبيه بالاستخفاء بالمعاصي إذا وقعت، ونهينا عن الإعلان بها أشد النهي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً معناه (4) : " كل الناس معافى إلا المجاهر، والإجهار أو من الإجهار، الشك مني، أن يبيت المرء يعمل عملاً فيستره الله عليه، ثم يصبح فيفضح نفسه، أو كما قال عليه السلام. فإنما أنكر فعل المعصية نفسها ثم وصف عز وجل [أنهم] مع ذلك يستخفون من الناس وأنه معهم، فلا يمكنهم الاستخفاء منه بل هو عالم بذلك كله. وإذا رأيتم من يعتقد انه لا ذنب له فاعلموا أنه قد هلك؛ وإن العجب (5) من اعظم الذنوب وأمحقها للأعمال. فتحفظوا حفظنا الله وإياكم من العجب والرياء، فمن امتحن
__________
(1) اعمل بعلمي البيت في عيون الأخبار 2: 125 ونور القبس: 61 وطبقات الزبيدي: 43.
(2) انظر الجزء الأول من رسائل ابن حزم: 414.
(3) ص: لمن لا.
(4) انظر البخاري (أدب: 60) ومسلم (زهد: 52) نصه في البخاري: كل أمتي معافى إلا المجاهرون؛ وفي مسلم: كل أمتي معافاة إلا المجاهرين وان من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً الخ.
(5) قارن هذا بما جاء عن العجب في رسالة مداواة النفوس، في الجزء الأول: 386 وما بعدها.(3/180)
بالعجب في علمه فليفتكر فيمن هو أفضل عملاً منه، وليعلم انه لا حول ولا قوة له فيما يفعل من الخير، وأن ذلك إنما [252 ب] هو هبة من الله تعالى، فلا يتلقاها بما يوجب أن يسلبها ولا يفخر بما حصل له فيه، لكن ليعجبه فضل ربه تعالى عليه، ليعلم أنه لو وكل إلى نفسه طرفة عين لهلك. وأما الرياء فلا يمنعكم خوف الرياء أن يصرفكم عن (1) فعل الخير، لان لإبليس في ذم الرياء حبالة ومصيدة، فكم رأيت من ممتنع من فعل الخير خوف أن يظن به الرياء، ولعلكم قد امتحنتم بهذا، ولكن أصفوا نياتكم لله تعالى، ثم لا تبالوا من كلام الناس فإنما هو ريح وهواء منبث، وقل والله ضرر كلامهم وكثر نفعه لكم، فعليكم بما ينتفعون به في دار قراركم وعند من يعلم سركم وجهركم وعند من يملك ضركم ونفعم، وحده لا شريك له.
9 - واعلموا أن كل حديث ذكرته لكم في رسالتي هذه فليس شيء منه إلا صحيح السند متصل ثابت بنقل الثقات مبلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن الحديث الذي من طريق ابن أبي أويس عن أخيه، ذكرناه قبل (2) ، قد أسيء (3) الثناء على أبي [بكر] لكراهته بعض أئمة الحديث (4) ، وحديث الإجهار لم يأت إلا من طريق ابن أخي الزهري، وقد تكلم فيه، إلا أن معنى الحديث صحيح فخرج متمماً من سائر الأحاديث الثابتة. لكني أضربت عن الأسانيد خوف التطويل ورجاء الاختصار، مع أن أكثرها أو كلها مشهورة في المصنفات المشهورة من روايتنا، والحمد لله رب العالمين.
واعلموا أن كل ما اخترت فيها من صفة ذكر أو كيفية عمل، فليس من رأيي، وأعوذ بالله العظيم، ولكنه كله إما اختيار مروي عن النبي وإما عمل، ولابد، وكل ذلك منقول بالأسانيد الصحاح ولله الحمد.
10 - ومضى في كلامنا ذكر التوبة، فأردت أن أبين لكم وجوهها، وإن كانت
__________
(1) ص: خوف الرياء أن يطريكم في.
(2) انظر ما تقدم ص: 169.
(3) ص: أنشأ.
(4) راجع تهذيب التهذيب 1: 310 في ترجمة إسماعيل بن أبي أويس، وستجد مدى الاختلاف في تعديله وتجريحه، فقال فيه بعضهم: مخلط، وقال آخر ضعيف، غير ثقة، ونقل ابن حجر عن ابن حزم نفسه في المحلى نقلاً عن آخرين أنه كان يضع الحديث، ومن الغريب ألا يتوقف ابن حزم عنده هنا، ويكتفي بالتلميح إلى موقف أخيه أبي بكر.(3/181)
ليست مما سألتم عنه باسمه، لكن نسق الكلام اقتضى إثباتها، لأنها دخلت فيما سألتم مما يحط الكبائر، فاعلموا أن التوبة تكون على أربعة أضرب:
أحدها: ما بين المرء وبين ربه تعالى من أعمال سوء عملها كالكبائر من الزنا وشرب الخمر وفعل قوم لوط والشرك وما أشبه ذلك، فالتوبة من هذا تكون بالإقلاع والندم والاستغفار وترك المعاودة بفعله وإضمار ان لا يعود بنيته. فإن فعل التائب من هذه الوجوه هذا الفعل سقط عنه بإجماع الأمة كل ما فعل من ذلك بينه وبين ربه تعالى، وأيضاً فيمن أقيم عليه الحد مما ذكرنا ومات مسلماً كان ذلك كفارة لما فعل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
والضرب الثاني: من عطل فرائض الله عمداً حتى فات وقتها، فقد اختلف الناس، فقوم قالوا: يقضيها، وقوم قالوا: لا سبيل إلى قضائها، وبهذا نأخذ، لان من فعل الشيء في غير الوقت الذي أمره الله تعالى أن يفعله فيه، فلم يفعل الشيء الذي أمره الله تعالى أن يفعله، وإنما فعل شيئاً آخر [253/أ] . وإذا لم يفعل ما أمر به فهو باق، وتوبة هذا عندنا بالندم والإقلاع والإكثار من النوافل وفعل الخير، كما جاء في الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) : " أن لم يوف فرض صلاته جبر من تطوع إن وجد له ". فأما ما كان من هذا فرضاً في المال فليؤده متى أمكنه كالزكاة والكفارات، لأن الله عز وجل لم يحد لأحد وقت أداء الزكاة والكفارات حداً لا يتعدى، كما حد عز وجل للصلاة حداً وللصيام وقتاً محدود الطرفين معلوم الأول والآخر ينقضي وقت كل ذلك بخروج أوله.
والضرب الثالث: من امتحن بمظالم العباد، من أخذ أموالهم وضرب أبشارهم وقذف أعراضهم وإخافتهم ظلماً والإفساد عليهم، فالتوبة من هذه، الخروج عن المال المأخوذ بغير حقه ورده إلى أصحابه أو إلى ورثتهم، فاما أن يردها إلى الذين غصبها منهم بأعيانهم فقد سقط الإثم عنه يقيناً، وأما إن ردها إلى ورثتهم فقد سقط عنه إثم غصبه ما غصب عن الورثة أيضاً وبقي حق الموتى قبله، لأنه فعل ثان. فليكثر من فعل الخير ما أمكنه، فإن جهلوا فإلى إمام المسلمين إن كان لهم إمام عدل تجب طاعته، وإن لم يكن فلا بد من صرف المال إلى مصالح المسلمين، لأنه مال لا يعرف ربه، وليكثر
__________
(1) مما يتصل بهذا المعنى: أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله عز وجل: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملوا به فريضته. ثم الزكاة. ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك (مسند أحمد 2: 425؛ 4: 65، 103؛ 5: 72، 377) .(3/182)
مع ذلك من الخير ليجد أرباب المتاع ما يأخذون منه يوم القيامة فليس إنصافه عمراً بمسقط عنه ظلم زيد. وأما من تاب بزعمه وهو زام يديه على ما ظلم فيه أو على ما يدري انه ظلم بعينه بين، فهذا مصر لا تائب، ولكنه ممسك عن الازدياد من الظلم، كإنسان مصر على الزنا إلا انه لا يزني. وأما التوبة من ضرب إنسان، فهو بأن يمكن الإنسان من نفسه ليقتص منه أو ليعفو، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقتص من نفسه في ضربة بقضيب، فإن مات المضروب فموعدهما يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ولكن ليستكثر من فعل الخير ليجد من ظلم ما يأخذ وما يترك، وكذلك القول في سب الأعراض والإخافة. وأما الإفساد فالتوبة منه بالإقلاع والندم والإصلاح.
والضرب الرابع: من امتحن بقتل النفس التي حرم الله تعالى، وهذا أصعب الذنوب مخرجاً، فقد جاء عن النبي: من استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة [253 ب] وقد عاينها وشم ريحها ملء محجم من دم امرئ مسلم فليفعل، أو كلاماً هذا معناه. فمن ابتلي بهذه العظيمة، فتوبته أن يمكن ولي المقتول من دمه، فإن قتله فقد اقتص منه وانتصف، وإن عفا أو أكثر قتلاه، فليلزم الجهاد، وليتعرض للشهادة جهده، فما أرجو أن يكفر عنه فعل شيء غيرها. فإن اعترض معترض بالحديث الذي فيه أن رجلاً قتل مائة ثم تاب أدخله الجنة (1) ، فلا حجة له فيه، لأن ذلك كان في الأمم الذين قبلنا، هكذا نص الحديث المذكور، وكانت أحكام تلك الأمم بخلاف أحكامنا، قال الله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة} (المائدة: 48) ، ومنها [ما] جاء في الحديث نفسه أن توبة ذلك القاتل كانت بأن خرج من قريته قرية السوء إلى قرية قوم صالحين، وهذا لا معنى له عندنا ولا في ديننا بإجماع الأمة، وقد كانت توبة بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وهذا حرام عندنا وفي ديننا لا يحل ألبتة، ولعل ذلك القاتل المائة كان كافراً فآمن، فمحا إيمانه كل ما سلف له في كفره، فهذا أيضاً وجه ظاهر.
__________
(1) انظر ابن ماجه (الديات: 2) ومسند أحمد 3: 20، 42، والحديث في صورة قصة، فإن الرجل بعد أن قتل مائة عرضت له التوبة " فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل فأتاه فقال إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، اخرج من القرية الخبيثة التي أنت بها إلى القرية الصالحة، قرية كذا وكذا، فاعبد ربك فيها، قال فخرج إلى القرية الصالحة فعرض له أجله في الطريق، قال: فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب " الخ.(3/183)
وأما التوبة في شريعتنا فإنما هي التبرؤ من الذنب والخروج عنه بما أمكن، إلا الكافر والحربي فإن توبته من كفره ومن كل ما قتل أو ظلم فإنما هو بالإسلام فقط واعتقاد العمل به وبشرائعه وليس عليه في ما قتل من المسلمين في حال كفره إذا أسلم وسدد وأصلح. والحمد لله رب العالمين.
فهذا جواب ما سألتم عنه، وفقنا الله وإياكم للخير، وجعلنا في ديننا إخوانا على سرر متقابلين، آمين. والحمد لله عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المسلمين وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تمت رسالة التلخيص لوجوه التخليص(3/184)
6 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان(3/185)
فراغ(3/186)
- 6 -
رسالة البيان عن حقيقة الإيمان
كتب بها رضي الله عنه إلى أبي أحمد عبد الرحمن بن خلف المعافري
الطليطلي المعروف بابن الحوات (1) ، رضي الله عنه
[190 ب] بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
قال الفقيه الحافظ أبو محمد علي بن حزم رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته الفاضلين، وسلم تسليماً كثيراً وبعد، فإنه وردني يا سيدي وأخي كتابك، أكرم كتب الأحبة في الله عز وجل، وحمدت الله تعالى عز وجل على ما أدى إليه من صلاح حالك. وأورد علي صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الحسن (2) - أكرمه الله - من خبرك ما أبهجني، وملأ نفسي سروراً، فلن تزال الدنيا بخير، ما دام مثلك مرفوع اللواء، معمور الفناء، وحمدت الله عز وجل على ما ذكرته فيه من حسن معتقدك لي، فهذا الذي يلزم بعضنا لبعض، فنحن غرباء بين المتعصبين على من سلم لهم دنياهم، ليسلم له دينه، ووقفت على قولك فيه: إنه لولا خوف المشغبين، وما دهينا (3) به من ترؤس الجاهلين، لكتبت أقوالك ومذاهبك وبثثتها (4)
__________
(1) هو عبد الرحمن بن احمد بن خلف، أبو احمد المعارفي الطليطلي: كان إماماً مختاراً يتكلم في الحديث والفقه والاعتقادات بالحجة، قوي النظر، كي الذهن سريع الجواب بليغ اللسان وله تواليف جيدة ومشاركة قوية في الأدب والشعر لقيه الحميدي تلميذ ابن حزم بالمرية، وتوفي قريباً من سنة خمسين وأربعمائة وقيل سنة 448 وقد أوفى على الخمسين (انظر جذوة المقتبس رقم: 590، ص: 252 وبغية الملتمس رقم: 997 والصلة:321) .
(2) يعرف بابن الكتاني وقد كر الحميدي (الجذوة:35) انه كان ذا مشاركة قوية في علم الأدب والشعر، وله تقدم في علوم الطب والمنطق وكلام في الحكم ورسائل وكتب معروفة، ولابن حزم صلة وثيقة به واستشهاد ببعض أقواله وعنه اخذ المنطق والفلسفة. وهو صاحب كتاب التشبيهات من أشعار أهل الاندلس؛ وقد ترجمت له في المقدمة وذكرت هنالك مراجع ترجمته. .
(3) ص: ذهبنا.
(4) ص: تبثها.(3/187)
في العالم، وناديت عليها كما ينادى على السلع.
1 - فاعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك - أن خوفك المشغبين لا يكف عنك غرب أذاهم، لو قدروا لك على مضرة، وان كشفك الحق وصدعك به لا يقدم إليك مؤخراً عنك أتخشون الناس {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} (التوبة: 13) . يقول الواحد الأول خالقنا لا إله إلا هو {فلا تخافوهم وخافون} (آل عمران: 175) .
2 - يا أخي: اجتهد لربك، وادع إليه وخفه في الناس، يكفك الله تعالى أمرهم، ولا تخفهم فيه، فيدعك وإياهم، وأعوذ بالله، قد سبق، قد سبق القضاء بما هو كائن فلن يرده حيلة محتال، وكائن بالموت قد نزل، فتركت (1) من تداريهم مسرورين بذهابك، لا ينفعونك بنافعة. واذكر قول نبيك محمد عليه السلام لعلي رضي الله عنه (2) " لأن [91/أ] يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ".
3 - ولقد أضحكني قولك: إنك علمت من مذهبي أني أفصح بكل من قال مقالة، فخشيت ان أفصح باسمك فيما لم تقله، فمعاذ الله أن أفصح عنك أو عن غيرك، إلا باليقين المحض، وأما إذا علمت أن الأخ من إخواني يكره أن أفصح عنه بمقالة يقولها، فهي مدفونة خلال الشغاف، لا سبيل إلى تحريك لساني بها بيني وبين نفسي، بحيث يمكن أن يسمعني سامع، فكيف أن أبثها وأما أنا فلست أكره أن تبث عني ما أقوله على حسبه.
4 - وأما قولك: أما تقصد إلى، إلى أن لا يؤثر عنك قول إلا حتى تستخير الله تعالى فيه كثيراً، وتصحح نيتك في ذلك، فحسن جداً وحال لا ينبغي لأحد تعديها (3) .
5 - وأما قولك: حتى إذا بلغت إلى حد الحسبة والصبر، إن كانت محنة، تناولت الأوكد فالأوكد، فحالة أريد ألا تتصورها ولا تتمثلها فإنها مبخلة مجبنة؛ وتذكر قول العامة: فلان يحب الشهادة والرجوع إلى البيت؛ مع أني أرجو الكفاية من الله عز وجل والحماية؛ واذكر قوله ووعده الصادق المضمون عندي إذ يقول
__________
(1) ص: فتركب.
(2) في الجامع الصغير (2: 122) لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت.
(3) ص: يعديها.(3/188)
تعالى {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج: 40) . والله يا أخي، ولله الحمد، لقد حماني تعالى، وما اعدمني قط من مخالفي مقالتي من يذود عني ويذب عن حوزتي أشد الذب، وإني لأدعو الله لهم مدى عمري. أولهم القاضي أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن بشر (1) وأبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرؤوف (2) [صاحب] الأحكام (3) - نور الله وجهيهما، وجازاهما بأفضل سعيهما، فلقد قام لي منهما ما يقوم من الأخوين المحبين. ثم أبو العاصي حكم بن سعيد (4) ، غفر الله ذنبه، وتغمد خطاياه، وقارضه بالحسنى فإنه أبلى في جانبي أتم بلاء؛ وما قصر يونس بن عبد الله بن مغيث شيخنا (5) نضر الله وجهه، واكرم منقلبه ولقد [91 ب] بلغ أبو جعفر أحمد بن عباس (6) من ذلك الغاية القصوى، واستئثار الأجر الجزيل والذكر الجميل. برد الله مضجعه، ولقاه الروح والريحان؛ ثم الكاتب الفاضل ذو المآثر العالية والفضائل السامية والأعمال الزاكية والسعي المحمود، أبو العباس (7)
__________
(1) ترجم له الحميدي في الجذوة رقم: 588، ص 251 وابن بشكوال في الصلة: 319 - 321 وابن سعيد في المغرب:1: 158 والنباهي في المرقبة العليا: 87. ولاه علي بن حمود القضاء سنة 407 فبقي فيه إلى آخر سنة 419 وكان ماهراً بالحكومة مع حلاوة اللفظ وحسن الخط، وعابه ابن حيان مؤرخ الأندلس بالشعوبية وبقعوده عن الرحلة إلى المشرق، وإليه كتب ابن حزم قصيدته البائية التي يفخر فيها بنفسه وأثنى عليه بالعلم. وقد توفى أبو المطرف عام 422هـ.
(2) كان صاحب أحكام المظالم، واسع العلم حاذقاً بالفتوى صليباً في الحكم مؤيداً للحق، وتوفي سنة 424 (الصلة: 489) .
(3) ص: الحكم.
(4) هو الحكم بن منذر بن سعيد، وقد رم حديث عنه في طوق الحمامة، وكانت وفاته سنة 420 (الصلة: 146) .
(5) انظر ترجمته في الجذوة: 362 والبغية ص: 498 والصلة: 622 والمرقبة العليا: 95: وكان يونس من أعيان أهل العلم أخذ عنه ابن حزم وابن عبد البر، وعرف بالزهد والميل إلى التحقيق في التصوف وألف فيه كتباً وقد تولى القضاء بعد أبي المطرف، وبعد أن أثنى عليه ابن حيان بمعرفة الحديث والشهرة في الخطابة والتقدم في علم اللسان والآداب ورواية الشعر ذمه لأنه لم يحج، ولأنه كان يحب الدنيا ويزدلف إلى الملوك - توفي يونس سنة 429هـ.
(6) المشهور بهذا الاسم والكنية في الزمان ابن حزم أبو جعفر أحمد بن عباس الأنصاري وكان كاتباً بارعاً في الفقه، معروفاً بحبه الشديد لجمع الكتب وبخله بها، بلغ مرتبة الوزارة ثم قتله باديس بن حبوس سنة 427 هـ. (انظر الإحاطة 1: 129 والذخيرة 1/ 2: 643) .
(7) أبو العباس هذا هو أحمد بن رشيق الكاتب الذي بسق في صناعة الرسائل وشارك في سائر العلوم ومال إلى الفقه والحديث وقدمه الأمير مجاهد العامري على كل من في دولته، وكان يجمع العلماء والصالحين ويؤثرهم ويصلح الأمور جهده وقد رآه الحميدي تلميذ ابن حزم وروى عنه (انظر الجذوة: 207 ص: 114) وهو الذي قرب ابن حزم أثناء إقامته بميورقة، وفي مجلسه جرت المناظرة بين ابن حزم وأبي الوليد الباجي.(3/189)
المشغوف بالعلم وتقديم الحسنات كشغف غيره بالأموال واللذات، صديقك ومحبك ومؤثرك، لا زالت عليه من الله واقية في دنياه، فلقد هيأه ويسره لمنافع عباده، وأجرى الصالحات على يده كثيراً، وألحقه إذا دعاه بنبيه في أعلى عليين، آمين. وبالله المستعان، وعليه الاتكال.
6 - أما قولك: إنك تتناول في خلال ما تتناول بضروب من السياسة فحسن جداً، جعلنا الله وإياك من الداعين إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.
7 - ومن اعجب ما مر بي منذ دهر قولك في كتابك: إنه بلغك عني أني أقول عنك إنك تقول: لا إدام إلا الخل؛ من أجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم الإدام الخل " (1) . فاعلم - يا أخي - انه قد ساءني هذا جداً أن أكون عندك بهذا المحل، وأقل ما أقول لك: والله الذي لا أقسم بسواه - ولو علمت أعظم من هذا القسم لأقسمت به لك، وأعوذ بالله أن أعتقد في العالم قسماً غيره، فكيف مثله، فكيف أشد منه - إن كنت قط سمعت هذه المقالة من أحد من خلق الله تعالى يحيكها لي عنك، ولا رأيتها عنك في كتاب، ولا طنت على أذني حتى رأيتها في كتابك، فكيف أن أحكيها عنك، فأستجيز الكذب البحت عليك! حاشا الله من هذا. وليس هذا النص من دليل الخطاب، إنما كان يمكن أن يتأول على من يقول بدليل الخطاب: لا نعم الإدام إلا الخل. وأما القطع بان لا إدام غيره، فليست هذه القضية مقتضية هذه الاخرى؛ فبالله ما أعرضت عن كل شرير يريد أن يسمع الناس سبهم على ألسنة [92/أ] غيرهم.
8 - ورأيت المدرجة ووقفت عليها. أسأل الله أن يجعلنا وإياك ممن يستمع القرآن والقول فيتبع احسنه، والجملة التي أوردت من قولي فيها فهو قولي أيضاً. وكذلك وقفت على الفصول التي ذكرتني بها، أحسن الله جزاءك على ذلك، فهكذا تكون الناس.
9 - أولها قولك: انظر هل فرض الله تعالى النظر أم لا (2) فجوابي إنه لم يفترض قط في التوحيد وصحة النبوة وجميع الشرائع، النظر؛ بل إنما افترض في كل ذلك اتباع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقط. ولو فرضه الله تعالى فيها، ما جاز قبولها
__________
(1) انظر حديث " نعم الإدام الخل " في صحيح مسلم 2: 144 وفي سنن أبي داود (أطعمة: 39) والنسائي (إيمان: 21) وابن ماجه (أطعمة: 33) والجامع الصغير 2: 188) .
(2) تحدث ابن حزم عن هذه المشكلة في الفصل (4: 35) وعقد لها فصلاً عنوانه هل يكون مؤمناً من اعتقد الإسلام دون استدلال، وهو في موقفه من إنكار الاستدلال والنظر يرد على الطبري والأشعري.(3/190)
من أحد حتى يقرر على الوجه الذي صح به عنده التوحيد والشريعة كلها. فتثبت يا أخي ها هنا، فإن نظري ونظرك لا يحكمان على ميراث الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم؛ وإنما افترض على الناس في الشرائع كلها شيئاً واحداً وهو الائتمار لما جاء به الوحي من عند الله تعالى فقط. فهذا الوجه خاصة، هو الذي افترض على الناس عقده، والقول به، والعمل. وأما طرق الاستدلال التي عني بها المتكلمون فما افترضها الله تعالى قط على أحد.
وأقول قولة أقدم لك فيها مقدمة تصلح بعض ما يمكن أن ينكره منكر من قولي وهي: إني أريد [أن] أقول قولاً يعيذني الله من أن أقوله مفتخراً أو ممتدحاً، لكن سياق الكلام والحجة أوجب أن أقوله وهو: إني ولله الحمد لست بمبخوس الحظ من هذا العلم، اعني علم أهل الكلام وطريقهم في الاستدلال (1) فيظن ظان أني إنما قلت ما قلت عداوة لعلم جهلته، لا، ولكن الحق لا يجوز أن يتعدى. وأما قول الله تعالى {أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق من شيء} (الأعراف: 185) وقوله {أو لم يتفكروا} وقوله {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون} (الأنبياء: 30) الآية، [92 ب] وسائر الآيات التي في معنى هذا، فإنك يا أخي إن تدبرتها، كفينا التعب؛ وهي أنها كلها بلفظ الحض لا بلفظ الأمر، وهذا قولي نفسه، وأما الأمر بالاعتبار فليس من هذا الباب، إنما هو الأمر بالاتعاظ بمن هلك ممن عصى الله تعالى فيخاف العاصي له عز وجل مثل ذلك فقط، وليس شيء من هذا يوجب انه لا يصح لأحد اسم التوحيد وحكمه عند الله تعالى إلا بأن يكون اعتقاده إياه من طريق الاستدلال.
10 - وأما قولك: انظر الأدلة المحرمة للتقليد (2) فأنا أريد أن تتفقد وان تتدبر كلامي، فإنك تجده صفراً من مدح التقليد، ومملوءاً من ذمه؛ وليس في قولي إن من اتفق له معرفة الحق بمعنى اعتقاده من جهة التقليد فإنه من أهل الحق عند الله تعالى
__________
(1) ذكر ابن حزم كيف بقي سنين كثيرة لا يعرف الاستدلال ولا وجوهه ثم تعلم طرقه وأحكمها (الفصل 4: 38 - 39) قال: فما زادنا يقيناً على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس.
(2) انظر المحلى: 66 في تحريم التقليد وإبطاله: وخلاصة رأي ابن حزم أن التقليد هو اخذ المرء قول من دون رسول (ص) ممن لم يأمرنا الله عز وجل باتباعه قط ولا يأخذ قوله بل حرم علينا ذاك ونهانا عنه، وأما أخذ المرء قول الرسول فليس تقليداً بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق.(3/191)
وإن كان مذموماً في تقليده لا في اعتقاده الحق، ما يوجب علي أني أبيح التقليد، وأنا لم أبحه قط، لا في التوحيد ولا في غيره. إنما هو عندي كإنسان خرج ليسرق فأتفق له أن وجد متاعاً له قد كان سرق منه فأخذه: هو مصيب في اعتقاده الحق، مسيء في تقليده، وتأمل القرآن كله لا تجد فيه إلا الحض على البحث لا على إيجابه ألبتة، وإنما تجد فيه ذم التقليد إذا وافق الباطل فقط، فهنالك ذم الله تعالى اتباع الآباء والسادة والكبراء والأحبار، وهنا ذمه الله على كل حال. وأما إذا وافق الحق فقد قال الله عز وجل {والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذرياتهم} (الطور: 21) ، وأمر الله تعالى باتباع ما اجمع عليه أولو الأمر منا بخلاف أولي إذا اختلفوا، فبهذا جاءت النصوص ولا مدخل للنظر على ما جاء به كلام الله تعالى. (1)
11 - وأما قولك لي أن النظر ما في الفطرة من خطأ الاقتصار على الدعوى، فلم أحمد ذلك أصلاً، ولا أمرت به، وإنما قلت وأقول إن [93/أ] المقلد مذموم في تقليده، فإن أصاب الحق بتوفيق الله عز وجل له إليه، فهو من أهل الحق، وإن حصل عليه بطريق غرر، وهما عملان متغايران، وفق في أحدهما ولم يحمد (2) في الآخر. وهذا جواب قولك لي: إذ كل قائل مدع، فيجب أن لا يؤخذ بقول أحد من المختلفين والقائلين أو يؤخذ بقول جميعهم وكلا الأمرين خطأ. فتأمل يا أخي، إنك ألزمتني ما لا يلزمني وأنا لم آمر قط بالتقليد: فاضبط عني: إنما قلت التقليد مذموم فإن أدى إلى باطل فصاحبه إما كافر إذا وافق كفراً، وإما فاسق إذا وافق خطأ في الشريعة، وإما مخطئ فيه إذا وافق الصواب بالبخت (3) ، ولم أقل قط إنه واجب، أو يؤخذ بقول مدع، ولا أنه جائز فضلا عن أن يكون واجباً، ولا أنه ممكن أيضاً؛ ولا قلت قط إنه جائز أن يؤخذ فيقول قائلاً ما بلا دليل، فكيف أن أوجبه! لكن قلت إن القول بالحق واجب لأنه حق.
12 - وأما قولك لي: فكان عندك جائزاً أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: قلدوني في قولي، فجوابي إنه عليه السلام لم يقله، ولو قاله لواجب ولكنه لم يقله، لكن قال: قولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله، فهذا واجب بيقين عند الله تعالى وعند
__________
(1) واتبعناهم قراءة أبي عمرو، وذرياتهم على الجمع منصوباً فيهما وهي قراءة البصريين وابن عامر وقرأ الباقون بغير ألف على التوحيد، والقراءة المتداولة " واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ".
(2) ص: يجهد.
(3) ص: بالبحث.(3/192)
كل مسلم. ولم يقل عليه السلام قط، ولا أحد من الخلفاء بعده، إنه لا يلزمكم هذا القول أن تقولوه إلا حتى تستدلوا وتناظروا وتعرفوا الجوهر من العرض، ومعاذ الله أن يكون هذا واجباً ويغفله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتفق الأمة الفاضلة كلها على إبطاله وإغفاله، حتى جاءت المعتزلة والأشعرية (1) ، وهما الطائفتان المعروف (2) قدرهما عند المسلمين. فها هنا قف يا أخي وقفة، وتأمله بقلب سليم، فإنه أظهر من كل ظاهر.
13 - وأما قولك لي: لو جاز أن يقلد لجاز أن يقلد غيره، فهذا لا يلزمني لأنه الحق، وغيره [93 ب] هو المبطل الباطل. فمن سكنت نفسه إلى قوله عليه السلام، ولم تنازعه إلى دليل وقبله وقاله، فقد وفق للخير والهدى؛ ومن نازعته نفسه ولم تقنع إلا ببرهان، فهذا هو الذي يلزمه النظر والاستدلال، ويلزمنا البيان له والمحاجة والمجادلة بالتي هي أحسن، وإقامة البرهان عليه. وهكذا فعل عليه السلام، فإنه قبل الإسلام ممن أسلم بلا اعتراض، ومن حاجة أتاه بالآيات، ودعاه إلى المباهلة وتمني الموت وأقام عليه حجة البرهان الواضح. فتأمل هذا تجده كما أقول لك، ودع عنك بالله حماقات أهل السفسطة المسخرين لحماقات كتب ابن فورك (3) والباقلاني (4) ، وما هنالك، فما سرني انتساخك لكتابه المعروف " بالدقائق " وستقف عليه إن شاء الله تعالى وتتدبره، فلتعلم أن الكاغد مخسور في نسخه، بل المداد على تفاهة قدره.
14 - وأما قولك: أما الرسول فلا تجب طاعته إلا بعد معرفة الله ضرورة، إذ من جهل (5) المرسل وقدره، وما يلزم من طاعتهن لم يلزمه اتباع مرسله ولا طاعته، هذا
__________
(1) انظر ما سماه ابن حزم شنع المعتزلة في الفصل (4: 192) وهو فصل من كتاب سماه النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أقوال أهل البدع، ثم أضافه إلى كتاب الفصل؛ وأما الأشعرية هاجمهم في مواضع شتى من كتابه (وانظر بخاصة الفصل 4: 204) وقد عدهم من المرجثة وأكثر ما يعيبهم عنده قولهم إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن المرء الكفر بلسانه وعبد الأوثان أو لزم اليهودية والنصرانية إلخ قال: وأما الأشعرية فكانوا ببغداد وبالبصرة ثم قامت لهم سوق بصقلية والقيروان وبالأندلس ثم رق أمرهم.
(2) ص: المعروفة.
(3) هو محمد بن الحسن انظر ترجمته في طبقات السبكي 3: 52 وتبيين كذب المفتري: 232 وابن خلكان 4: 272 ومرآة الجنان 3: 17 وإنباه الرواة 3: 110 والوفي 2: 344 والشذرات 3: 181 وكانت وفاته سنة 406 هـ.
(4) توفي القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني سنة 403 هـ، انظر ترجمته في تبيين كذب المفتري: 217 وتاريخ بغداد رقم: 2906 وابن خلكان 4: 269 وترتيب المدارك 4: 585 والوافي 3: 177 والديباج: 267 وابن كثير 11: 350 والمنتظم 7: 265.
(5) ص: جعل.(3/193)
ما لم يدفعه عقل، فمعرفة الله مقدمة على معرفة رسله، هنا انتهى قولك. وهذا قول يجب أن تتأمله، فليس على ما ذكرت، ولا كانت معرفة الله واجبة قبل الرسل. قال الله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: 15) . فإذا سقط العذاب (1) عن كل من لم يأته رسول بنص كلام الله تعالى، بيقين ندري أن كل ما لا يعذب الله تعالى عليه ولا ينكره فليس واجباً بل إنما وجبت على الناس معرفة الله بدعاء الرسل عليهم السلام، إليه تعالى فقط، لا قبل ذلك.
يا أخي قولك في وجوب معرفة الله تعالى قبل الرسل، والوجوب فعل يقتضي موجباً بضرورة العقل، فقل لي: من أوجب المعرفة فإن قلت عن الله تعالى أوجبها. قلنا لك: فمن أين [94/أ] زعمت أن الله تعالى أوجبها فإن قلت: بضرورة العقل، ادعيت على العقول ما ليس فيها (2) ، وجمهور الناس من أصحاب الحديث والفقهاء والخوارج والشيعة متفقون مصرحون بان معرفة الله تعالى لا تلزم إلا بمجيء الرسل ودعائهم إلى الله تعالى فقط. وإن قلت: إن العقل أوجب ذلك فرضاً، فهذا محال ظاهر، والعقل لا يحرم شيئاً ولا يوجبه، والعقل عرض [من] الأعراض محمول في النفس ومن المحال أن تحكم الأعراض وتوجب وتشرع؛ وإنما في العقل معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط من كيفياتها ولا مزيد. وهذا باب قد أحكمته غاية الإحكام في صدر كتاب " أصول الأحكام (3) . فتأمل هذا الفصل تجده كما قلت.
ولا تحسنن (4) ظنك بكل ما تجده لأولئك المهذرين السوفسطائيين على الحقيقة، المتسمين بالمتكلمين الذين يأتونك بألف كلمة من هذرهم (5) ينسي آخرها أولها، وليست إلا الهذيان والتخليط وقضايا فاسدة بلا برهان، بعضها ينقض بعضاً.
15 - وأما قولك: مع أن ظواهر الشريعة دلت على لزوم المعرفة والعلم بالله عز
__________
(1) ص: الكلام.
(2) قارن هذه بفكرة ابن الطفيل في حي بني يقظان فهي نعتمد على الاستدلال النظري لمعرفة الله تعالى. دون رسول. وابن حزم ربما لم ينكر هذا ولكنه ينكر وجوب المعرفة.
(3) هو كتابه الإحكام في أصول الأحكام. وفيه حديث مفصل عن مهمة العقل (1: 13 وما بعدها) وخلاصة رأيه أن في العقل الفهم عن الله تعالى ومعرفة صفات المدركات. لكنه لا يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالاً أو أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً، أو أن يقتل من زنا وهو محصن وإن عفا عنه زوج المرأة وأبوها، ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمداً إذا عفا عنه أولياء المقتول الخ (المصدر المذكور ص 28) .
(4) ص: تحسبن.
(5) غير واضحة في الأصل.(3/194)
وجل، من ذلك قوله {فاعلم أنه لا إله إلا هو} (محمد: 19) والمقلد غير عالم ولا عارف، فإنما المأمور بهذا العلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، المأمور بعقب هذا الأمر بالاستغفار للمؤمنين، وهو عليه السلام قد علم الله تعالى بأعظم البراهين، من مشاهدة الملائكة، ومشاهدة السموات سماء سماء، ومكالمة الله تعالى، ورؤية المعجزات على يده، فهو المأمور بالعلم حقاً، وأما سائر الناس فلم يؤمروا قط بهذا، وإنما أمروا بان يقولوا شهادة الإسلام بألسنتهم ويعتقدوها بقلوبهم، فهذا هو الذي أمروا به حتى لا تجد انهم أمروا بغير ذلك أصلاً. فمن شرهت نفسه إلى العلم المحقق فليطلب الاستدلال، كما فعل إبراهيم عليه السلام [94 ب] في إحياء الطير، ومن لم تنازعه نفسه، فلو فعل ذلك لكان حسناً؛ ومن لم يفعل، لم يخرج بذلك من كونه من أهل الحق إذا وقفه الله تعالى.
16 - وأما قولك: وأريد أن تتأمل قولك: لا يلزم من معرفة الباري تعالى والنبوة إلا (1) ما دعاهم إليه نبيهم المختوم به الرسل من صحة الاعتقاد: هل (2) الذي دعاهم إليه من الاعتقاد هو المعرفة أو غيرها فإن كانت المعرفة، فلا تكون إلا بتقديم البراهين وإلا كانت غير معرفة. وإن كانت غيرها فالمعرفة لم تفرض، وغنما فرض غيرها؛ ويجب أن تعرف ما ذلك المفترض، وفي إيثار هذا الكلام ما فيه - فنعم يا أخي قد تأملته جداً وأنا ثابت عليهن والحمد لله رب العالمين. وأنا أكرره فأقول: لم يفترض الله تعالى على الناس قط [إلا] (3) الإقرار بألسنتهم بدعوة الإسلام واعتقاد تحقيقها بقلوبهم فقط؛ وأما المعرفة التي لا تكون إلا ببرهان فما كلفوها قط. وأما من عبر (4) عن صحة الاعتقاد بالمعرفة فإن الجواب عن هذا دخول في استعمال الألفاظ المشتركة التي استعمالها أس البلاء. لكن نقول لك: عن كنت تعبر بالمعرفة عن صحة الاعتقاد للحق، فالناس مكفلون هذا. وإن كنت تعني بقولك المعرفة: العلم المتولد عن البرهان فما كلف الناس قط هذا. وهذا علم الأنبياء عليهم السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجميع أمته بعده حتى حدث من تعرف، فأتوا بقول إذا حققته لزم التقصير البين للنبي صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين بعده.
__________
(1) ص: إلى.
(2) ص: هل هو.
(3) زيادة لازمة.
(4) ص: غير.(3/195)
17 - وأما قولك لي: وأرغب أن تتأمل قولك " حاشا من كان عقده انه لو كان أبوه يهودياً أو نصرانياً لكان يهودياً أو نصرانياً، فهذا ليس عقده بصحيح (1) . ثم قلت أنت: وهل من لم يكن عارفاً بالأدلة ولا واثقاً بها وكان مقلداً إلا على ذلك وهل يرتفع أحد من هذا العقد الذي ليس بصحيح عندك [95/أ] حتى يعتقد الدين، لا لان آباءه اعتقدوه ولا أن قومه اعتقدوه إلا عن معرفة بالبراهين الصحيحة ومعرفة الحق مجرداً، وإنما لحظت هذا وما تصل به، لان (2) الدليل الذي اقتصرت عليه ليس بصحيح عندك؛ فغن الرسول لم يقتصر (3) على دعواه فيما دعا إليه ولا رضي عمن (4) قلده - هذا نص قولك - فاعلم يا أخي أن كل من اعتقد الحق عن غير استدلال فليس على ما ذكرت، بل أكثر الأمة والحمد لله ممن لا يدري يتهجي لفظة " استدلال " فكيف أن يعرف معناها، تجده لو خير بين أن يعذب بأنواع العذاب، إلى انقضاء عمر الدنيا، وبين أن يفارق الإسلام لتخير بلا شك أنواع العذاب، ونجده لو كفر أبوه وأهل بلاده بعد أن يفارق الإسلام لتخير بلا شك أنواع العذاب، ونجده لو كفر أبوه وأهل بلاده بعد ان تحقق عقد الإسلام في قلبه، لاستحل دم أبيه وولده وأهل بلده، وهذا أمر تشاهده بنفسك من أكثر العوام الذين أنت تدري انهم لم يعرفوا الدين قط من طريق الاستدلال. وأما من تعتقد انه لو كفر أهل بلده لكفر هو معهم، فهذا عند الناس كلهم كافر غير صحيح لاعتقاده، فتأمل هذا تجده كما أقول لك أيضاً، والله أعلم.
18 - وأما قولك لي: إن الرسول عليه السلام لم يقتصر على دعواه فيما دعا إليه ولا رضي عمن قلده، فكلام غير محقق، بل ما اقتصر قط عليه السلام إلا على دعائه فقط، إلا من طالبه بآية، فحينئذ أتاه بها، وأما من لم يطلبه بها فما قال له عليه السلام قط: لا تؤمن حتى ترى آية، وما زال عليه السلام راضياً عمن اتبعه ورضي به، وغن لم يطلبه بدليل على ما أورد بعد هذا إن شاء الله تعالى، فصح أن الدليل الذي استدللت به في غاية الصحة، وانه عيان مشهور منقول نقل الكواف، لا معترض فيه، والحمد لله رب العالمين.
19 - وأما قولك في الخبر الصحيح (5) : " وأما المنافق أو المرتاب [95 ب] فهو
__________
(1) ص: صحيح.
(2) ص: بأن.
(3) ص: وأن الرسول يقصر.
(4) ص: من.
(5) أورد البخاري هذا الحديث في كتاب العلم وكتاب الكسوف وكتاب الجمعة، وهو بصورته هذه من حديث أسماء في سؤال القبر: فأما المؤمن أو قال الموقن - شك هشام - فيقول (إذا سئل عن النبي) هو رسول الله هو محمد صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا وصدقنا فيقال له نم صالحاً قد كان نعلم إنك لتؤمن به، وأما المنافق أو قال المرتاب - شك هشام - فيقال له ما علمك بهذا الرجل فيقول لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت (وفي نسخة فقلته) . وانظر ابن ماجه (زهد: 32) والترميذي (جنائر: 70) ابن حزم، في هذا الخبر أن الرسول قال: المنافق والمرتاب ولم يقل غير المستدل فاللفظ لا يسعف خصوم ابن حزم، ثم إن المنافق والمرتاب مقلدان للناس لا محققان، والتقليد شيء غير الاستدلال.(3/196)
الذي يقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وان المؤمن هو الذي يقول جاءنا بالبينات والهدى " فخبر صحيح وهو حجتي عليك لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حكى القول " سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " عن منافق أو مرتاب، وإنما أتيت أنا على محقق بقلبه ليقينه نافر عن الشك والجحد كل النفار إلا أنه فتح (1) الله عز وجل له في ذلك الحق بالبخت لا عن استدلال؛ وهذا بعينه هو الذي يقول بقلبه ولسانه في الدنيا كما نقول، إذا مات، جاءنا بالبينات والهدى، فتأمل هذا تجده كما قلت لك، والحمد لله رب العالمين.
20 - وأما قولك لي: ويجب أن تنظر في القول إنه عليه السلام لم يدع أحداً إلى غير هذا عموماً، وإذا لم يدع إليه فهو تكلف، وإذا كان تكلفاً فكيف يرجع إليه من اختلج في صدره شيء أو كيف يجده فنعم يا أخي ما دعا عليه السلام إلى غير هذا، ومن العجب أن يكون دعا إلى غير هذا واتفقت الأمم على كتمان هذا وطيه. أترى هذا يا أخي ممكناً حاشا لله من هذا، ونعم، هو تكلف حسن ممن لم تنازعه نفسه إليه. وأما تعجبك بقولك: فكيف يرجع إليه من اختلج في صدره شيء أو كيف يجده أما علمت أن شرب الدواء والكي تكلف وأن من احتاج إليهما لدفع ضرر حل به وجب عليه أن يرجع إليهما فأي عجب في هذا وأنا لم أحتج عليك بهذا التظير، وإنما أريتك إن هذا الذي أنكرت وجوه موجود في العالم، وإنما طلب الاستدلال لتعلم القرآن كله، وتعلم الكتاب ليس فرضاً لكنه تكلف حسن ممن تكلفه، وهما فرض على من قصد ضبط الديانة للناس، والاستكثار من الخير والعلم فقط.
21 - وأما قولك: فإن قيل هو مندوب إليه، ولذلك كان له عليه أجر، قيل فجائز لجميع الأمة تركه ولا إثم عليها في إغفاله، وإذا كان هذا أدى إلى أن يكون جميع الشرع [96/أ] بأيدينا دعوى، وفي هذا ما لا يخفى، فاعلم انه مندوب إليه كما قلنا ببرهان انه لم يأت به قط أمر من عند الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه
__________
(1) غير معجمة في الأصل.(3/197)
وسلم، وأما قولك فجائز لجميع الأمة تركه ولا إثم عليها في إغفاله، فنعم هو كذلك، وهذه صفة ما لم يأت به أمر من عند الله تعالى، ولو (1) أن الأمة كلها التقت بالقبول وصحة العقد، ولم يكن فيها منازع ولا كافر، ما احتيج إلى الاستدلال ألبتة، إذ لم يأت بإيجابه أمر من الله عز وجل ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم.
22 - وأما قولك: إذا كان هذا، أدى إلى أن جميع الشرائع بأيدينا دعوى، وفي هذا ما لا يخفى، فغن الله تعالى حض على الاستدلال كما قلنا ولم يفترضه، وعلمنا إياه ولم يوجب تعلمه على أحد، وأوجب علينا مناظرة المعاندين بالبراهين؛ وأنا يا أخي لم أنكر هذا قط، وغنما قلت إن من لم تنازعه نفسه إليه، وأنس إلى اعتقاد صحة الإسلام والإقرار به فهو مسلم صحيح الإسلام عند الله تعالى، وإن المعتقد لذلك (2) عن استدلال أفضل فألزمتني ما لم يلزمنيه قولي (3) .
23 - وأما قولك: فينظر فيما فرض الله تعالى من تدبر القرآن وما فيه من الدلائل. فتدبر القرآن فرض، ومعنى تدبره فهم معاني ألفاظه. وكيف لا يكون فرضاً وهو بيان ما افترض، وقد تدبرناه ولله الحمد فلم نجد فيه فرض قبل الرسل، وهذا قولنا والحمد لله، وهنا انتهى قولك وما اقتضاه من جواب.
24 - ثم أنا أبتدئك بما يلزم بعضنا لبعض من بيان الحق وتعاطي البراهين، فأقول لك وبالله تعالى التوفيق:
قبل كل شيء أريد أن تنظر في كلامي بعينٍ (4) سليمةٍ من الأعراض ومن الاستحسان معاً، وبنفس بريئةٍ من النفار والسكون معاً، لا (5) كما ينظر المرء بما
__________
(1) ص: ولولا.
(2) ص: كذلك.
(3) قابل هذا يقول ابن حزم (الفصل 4: 40) : ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه لأنه نزود من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق. . وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد، لا يصح إسلام أحد دونه، هذا هو الباطل المحض (وانظر أيضا وقفة ابن حزم عند هذا الموضوع في الفصل 5: 110) .
(4) ص: بغير.
(5) ص: لكن.(3/198)
لم يسمعه قط، فيسبق إليه منه قبول [96ب] يسهل عليه الباطل أو نفار يوعر عليه الحق. فمن هذين السعيين تاه أكثر الناس وفارقوا المحجة.
25 - فأقول إليك يا أخي: كان إسلام خيار أهل الأرض بعد النبيين عليهم السلام كخديجة وعائشة أمي المؤمنين، وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وزيد بن حارثة، وخالد بن سعيد بن العاصي، وعمرو بن عبسة، وعثمان بن عفان، والزبير وطلحة، وزينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية، بنات النبي صلى الله عليه وسلم. فهل ذكر قط أحدهم أو جميعهم أو غيرهم عنهم أنهم لم يسلموا حتى سألوا آيةً وطلبوا معجزة، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برهاناً هل كان أكثر من أن دعا الإسلام خديجة إلى الإسلام وأبا بكر عليهما الرضوان، فلم تكن لهما كبوة ولا تردد؛ وأما عائشة وعلي وزينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية فهل كان إسلامهم إلا على تدريب الكافل والأبوين ولا مزيد وسكت عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، لأنه قد قيل إنهما لم يسلما إلا بعد معجزة رأياها. فلعمري يا أخي إن قال قائل: إن هؤلاء المذكورين لم يسلم منهم أحد إلا عن معجزة طلبها فعرضت عليه ليقولن ما يشهد قلبه بأنه كاذب فيه ثم لا يبقى أحد في العالم لم يدر شيئاً من السير والأخبار إلا كذبه ودرى أنه كاذب.
26 - تفكر يا أخي كيف أسلم النجاشي وبأذان والمنذر بن ساوى وعباد (1) وجيفر ابنا الجلندى وذو الكلاع وذو ظليم وذو مران وذو زود وهؤلاء ملوك بلادهم (2) ؛ وكيف أسلم الستة من الأنصار، والاثنا عشر، والثلاثة وسبعون الذين هم خيار أهل الأرض. هل طلب واحد منهم معجزة أو رغب آية تفكر في هذا، ودعنا من استبشاع مخالفة هذيان المتكلمين (3) الذين لم ينتج الله تعالى على أيديهم إلا افتراق الكلمة، وتفكير المسلمين بعضهم بعضاً. [97/أ] ألم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (4) " دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت، وقال أبو بكر صدقت " ولذلك سمي الصديق.
__________
(1) سماه المقري زي في الإمتاع عمرا واسمه في جوامع السيرة والفصل: عياذ؛ وفي سيرة ابن سيد الناس: عبد.
(2) انظر جوامع السيرة: 30 وما بعدها وكذلك الفصل 2: 85.
(3) ص: هذان المتكلفين.
(4) في صحيح البخاري (5: 5) إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر الصديق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوالي صاحبي. وانظر حديثاً مقارباً في مجمع الزوائد 9: 44.(3/199)
27 - فتفكر يا أخي في نفسك: كيف كان إسلامك مذ بلغت مبلغ التكليف وتوجه إليك الخطاب من الله عز وجل، عن استدلال كان منك من تلك الليلة فهذا بعيد جداً، وإن كان استدلالاً بعد ذلك فكيف تعرف نفسك بين بلوغك إلى وقت استدلالك، أترى تلزم نفسك حكم الكفر معاذ الله من هذا.
28 - ثم أقول لك: الناس أربعة: فإنسان استدل فأداه استدالاله إلى حق مأجور مرتين. وآخر استدل وبحث ونظر، فأداه ذلك إلى دهرية أو تبرهم أو منانية أو بعض أنواع الكفر، فهذا كافر مخلد في النار إن مات على ذلك، أو أداه إلى قول الأزارقة وأصحاب الأصلح أو بعض البدع المهلكة، فهو فاسق، وآخر قلد فاتفق له الحق فهو من أهل الحق، وهكذا عوام أهل الإسلام كلهم، وآخر قلد فأداه ذلك إلى الباطل، فهو إما كافر وإما فاسق.
29 - وتثبت فيما قلت لك من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس كلهم، فهو برهان ضروري منقول نقل الكواف، لا يشك فيه مسلم موحد ولا ملحد في أنه عليه السلام لم (1) يقل لأحد دعاه إلى الإسلام: لا تسلم حتى تستدل. وهذه كتبه إلى كسرى وقيصر والملوك، وذكر رسله إلى البلاد. ما في شيء منها ولا في بعوثه وغزواته إيجاب استدلال، فإن جاز عندك أن يتفق الناس كلهم على كتمان هذا. فأعيذك بالله من أن يجوز هذا عندك.
30 - ثم اعلم يا أخي ن الفرقة المحدثة لهذه المقالة. فرقة أنت تدري أنها غير مرضية عند جميع أئمة الهدى قديماً وحديثاً. وأنهم مطعون عليهم في أديانهم مظنون (2) بهم السوء في اعتقادهم. وبرهان ذلك أنهم أجسر الناس على عظيمة تقشعر منها عند جميع الأمة مرذولين إلى أن يبلغ (3) إلى الذين لقينا منهم. ولقد قال لي بعض إخواني كلاماً أقوله لك - قال: أسألك بالله هل بلغك أن أحداً أسلم على يدي متكلم من هؤلاء المتكلمين، واهتدى على أيديهم من ظلالة. وهل أسلم من أسلم واهتدى من اهتدى إلا بالدعاء المجرد الذي مضى عليه السلف فوالله يا أخي ما وجدت لقوله جواباً، بل ما وجدتهم أحدث الله تعالى على أيديهم إلا الفرقة والشتات والتخاذل وافتراق
__________
(1) ص: لا.
(2) ص: فيظنون.
(3) ص: إلى بيلغ.(3/200)
الكلمة والجسر على كل طامة وعظيمة وتكفير المسلمين بعضهم بعضاً، وهذا أمر مشاهد. ثم هم في خلال ذلك أبعد الناس عن المجيء ببرهان حق، وأكثرهم سفسطة وتخليطاً واضطراباً وتناقضاً.
31 - فإن قال قائل: قد ذممت التقليد، وأبو بكر وخديجة وعائشة وعلي وخالد ابن سعيد وعمرو بن عبسة والأنصار رضي الله عن جميعهم مقلدون أفهم مذمومون (1) في تقليدهم قلنا وبالله تعالى التوفيق: لسنا نقول هذا، ولكنا قد بينا في غير هذا الموضع أن التقليد هو لمن اتبع من لا (2) يؤمر باتباعه فهذا هو المذموم في تقليده وإن أصاب الحق. وأما من اتبع من افترض الله تعالى عليه اتباعه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس يسمى مقلداً، بل هو موفق مطيع لله تعالى، محسن، سواء (3) اتبعه في عقدة الإسلام أو فيما دون ذلك من الاعتقادات أو العبادات والأحكام. وقد بينا أيضاً في غير هذا الموضع أنه قد تقع الضرورة بخبر الواحد ويصح به العلم المتيقن، وكل هؤلاء وقع لهم العلم الحق واليقين (4) الضروري بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإسلام وبصحة نبوته. هذا ما لا شك فيه عندنا ألبتة، ولا يجوز غير هذا ألبتة.
ولقد كانوا أعلم وأفضل وأجل وأسلم وأتم من أن يستجيبوا لقول قائل، بلا برهان (5) لولا أن الله تعالى أنزل السكينة عليهم كما قال الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم [98/أ] فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} (الفتح: 18) وكما قال تعالى {حبب إليكم الإيمان وزينة في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة. والله عليم حكيم} (الحجرات: 7) .
32 - وأيضاً فقد صح برهان واضح أن الله تعالى خلق كل شيء في العالم من حامل ومحمول، ولا ثالث لهما في العالم، فإذا ذلك كذلك، فهو تعالى خالق الإيمان في قلوب المؤمنين، فمن خلق الله تعالى الإيمان في قلبه ولسانه فهو مؤمن صحيح الإيمان، سواء خلقه في قلبه ولسانه دون استدلال أو خلقه باستدلال؛ وكذلك الكفر أيضاً:
__________
(1) ص: فهم مهمومون.
(2) ص: مما.
(3) ص: وسواء.
(4) ص: اليقين.
(5) فلا معنى.(3/201)
من خلق الله تعالى الكفر [في قلبه] أو خلقه على لسانه فهو كافر محض.
33 - وأيضاً فقد يستدل الدهر كله من لا يوفق للحق كما استدل الفيومي (1) والمقمس وأبو ريطة اليعقوبي واذرباذ الموبذ (2) وأبو علي يزدان بخت المناني (3) ، ثم من فرق المسلمين: هشام بن الحكم (4) وعلي بن منصور (5) والنظام وغيره، فبعضهم يسر للكفر وبعضهم يسر للإيمان ولضلال البدعة معاً.
33 - وقد يدعي المجتهدون في نصر أقوال مالك وأبي حنيفة أنهم مستدلون جهدهم وقد ملأوا الدنيا صحائف سمجة، ولم ييسروا إلا للخطاء في أكثر أقوالهم، وقد ييسر الله تعالى للإيمان والسنة من لا يستدل، فالكل فعل الله تعالى، فمن يسر للحق، فهو محق كيفما اعتقده، ومن يسر للباطل فهو مبطل كيفما اعتقده.
34 - فإن قلت: بأي شيء يعرف الموفق للعلم الصحيح أن هذا حق وأن هذا باطل قلنا: بالبراهين، وهذا ما لا نخالفك فيه، إلا أن عدم الاستدلال بالبرهان لا يخرج الحق عن أن يكون حقاً في ذاته ولا الباطل عن أن يكون باطلاً في ذاته. والله تعالى يخلق الإيمان والكفر في قلوب عباده، وهم طبقات (6) : فمنهم من يخلق الإيمان في قلبه ضرورة بداءة كما خلق الله في قلوبنا معرفة [98 ب] أن الكل أكثر من الجزء، وأن الحلو حلو والمر مر، وهذا أرفع درجات الإيمان، وهذا إيمان الملائكة والأنبياء عليهم السلام؛ ومنهم من خلق الإيمان في قلبه ضرورة عن تصديق مخبر كإسلام من
__________
(1) قال ابن النديم (الفهرست: 23) : " ومن أفاضل اليهود وعلمائهم المتمكنين من اللغة العبرانية ويزعم اليهود أنها لم تر مثله الفيومي، واسمه سعيد ويقال سعديا وكان قريب العهد وقد أدركه جماعة من زماننا " وله كتب عدة.
(2) هو اذرباذ بن ماركسفند، موبذ موبذان، عاصر ماني وناظره بحضرة الملك بهرام بن بهرام في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم، فانقطع ماني وقتله بهرام على الأثر (الفصل 1: 36) .
(3) في الأصل: مروان، وانظر الفهرست (تجدد) : 398، 401 حيث ذكر أن يزدان بخت ظهر في خلافة المأمون فخالف في بعض أصول طائفة المهرية من المانوية ومالت إليه شرمذة منهم، وقد أحضره المأمون من الري وناظره المتكلمون وأفحموه، وعرض عليه المأمون أن يسلم فلم يفعل؛ ولم يذكر ابن النديم كنيته، وهنالك من رؤسائهم أبو علي سعيد وأبو علي رحا، فلعل هنا خلطاً بين اثنين منهم.
(4) انظر ترجمة هشام بن الحكم في الفهرست: 175 - 176، واعتقادات الرازي: 64 وتبصير الأسفراييني: 93، 70، وهو زعيم الحكمية أو الهاشمية من فرق الشيعة، ويدين بالتجسيم.
(5) هو الحلاج، انظر أخباره في صلة الطبري، وتجارب الأمم، ونشوار المحاضرة والمنتظم وفيما جمعه ماسينيون من أخباره وأقواله. وانظر أيضاً ديوانه الذي جمعه ماسينيون في المجلة الأسيوية: 1931.
(6) ص: طبقتان.(3/202)
ذكرنا من الصحابة، رضي الله عنهم، الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره، ومنهم من خلق الإيمان في قلبه ضرورة عن استدلال وبرهان برؤية المعجزات أو نقلها إليه، وهذه صفة إيمان المستدلين منا، ومنهم من خلق الإيمان في قلبه بغير سبب، وهذه صفة إيمان المحققين من العوام، ولا إيمان لمن خرج من هذه الطباق.
وكذلك خلق الله تعالى الكفر في قلوب عباده، فمنهم من خلقه تقليداً، ومنهم من خلقه في قلبه حسداً للعرب وللنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من خلقه في قلبه اتباعاً لهوى وقع له أو سكوناً إلى الشك، ومنهم من خلقه في قلبه استدلالا ببعض الأدلة الفاسدة، ومنهم من حكم الله تعالى عليهم بالكفر وإن اعتقد الإيمان وعمل به وأعلنه، لكن خرق الإجماع في بعض أقواله كمن أقر بنبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو كذب بآية من القرآن أو بشريعة مجتمع عليها، أو عمل عملاً يكون به كافراً، إن شاء الله تعالى.
فهذا بيان جميع هذه المسألة، والحمد لله رب العالمين، ثم السلام عليك أيها الأخ المحمود، ورحمة الله وبركاته.
تمت بحمد الله عز وجل
وصلى الله على سيدنا محمد
وسلم تسليماً كثيراً
والحمد لله وحده(3/203)
فراغ(3/204)
7 - رسالة في الإمامة(3/205)
فراغ(3/206)
- 7 -
[221 ب] رسالة في الإمامة
للفقيه أبي محمد رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
قال أبو محمد علي بن احمد بن حزم: -
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وسلم تسليماً؛ {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} (الكهف: 17) وأصدق الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد عليه السلام، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن الجهل والحيرة، ونسأله تعالى الهدى والتوفيق لما يرضيه، آمين.
قرأت - علمنا الله وإياك ما يزلفنا لديه - سؤالك، ووقفت عليه، وذكرت فيه انك غنما تسأل سؤال المتعلم، وذكرت قول الله، عز وجل في الذين أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه (1) فوقفت عند عهد الله - عز وجل - في ذلك على كراهتي المسائل، فقد كره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كثرة المسائل (2) ، وكرهها السلف الصالح، لا على سبيل الاسترشاد وطلب البيان، لكن على سبيل التفاخر، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1 - ذكرت - وفقنا الله وإياك لعلم يقرب منه وعمل يرضيه - أنك رأيت الرجل يصلي خلف الرجل الإمام أياماً كثيرة لا يدري مذهبه، فاعلم - عافانا الله وإياك - أن البحث عن مثل هذا أحدثه الخوارج، فهي التي كشفت الناس مذاهبهم، وامتحنتهم في ذلك، وسلك سبيلهم المأمون والمعتصم والواثق مع ابن أبي داود وبشر المريسي ومن هنالك؛ وما امتنع قط أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولا من خيار التابعين من
__________
(1) إشارة إلى الآية: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس (آل عمران: 187) .
(2) في كراهية الرسول لكثرة المسائل انظر صحيح مسلم (فضائل: 130) .(3/207)
الصلاة خلف كل إمام صلى بهم؛ حتى خلف الحجاج وحبيش بن دلجة (1) ونجدة الحروري والمختار، وكل متهم بالكفر، وقيل لابن عمر في ذلك، فقال: إذا قالوا حي على الصلاة أجبناهم، وإذا قالوا حي على سفك الدماء تركناهم. وقال عثمان رضي الله عنه -[222/أ] عن الصلاة من احسن ما عمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
2 - ثم قلت، فيقال لك: إن الذي نصلي خلفه يجيز المسح على الجورب دون أن يكون عليه أديم (2) ، وهذا يا أخي عجب؛ اعلم انه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم [المسح] على الجوربين [دون] أن يذكر أحد في ذلك جلداً، أوضح ذلك [أبو] مسعود البدري والبراء بن عازب وأنس بن مالك وابن عمر وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، ولا يعرف لهم، رضي الله عنهم، في ذلك مخالف من الصحابة. وصح ذلك أيضاً عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والأعمش. واختلف في ذلك [عن] عطاء؛ والإباحة أصح عنه. وسئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال: هو مروي عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله، صلى الله [عليه] وسلم، فإن كنت لا تستجيز الصلاة خلف من سميت لك، فقد خسرت صفقتك.
3 - ثم ذكرت أن ذلك الإمام قيل عنه إنه يجيز الوضوء بالنبيذ (3) ، فاعلم يا أخي أن الوضوء بالنبيذ، وإن كنا لا نقول به لأنه لم يصح الحديث في ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد رويناه عن علي بن أبي طالب وعكرمة والاوزاعي، وروي عن الحسن بن حي وحميد بن عبد الرحمن (4) وغيرهما من الفقهاء. فغن كنت لا تجيز الصلاة خلف هؤلاء، فأنت أعلم.
__________
(1) كان على قضاعة الأردن مع معاوية يوم صفين، وخرج سنة 65 إلى المدينة وهي في طاعة ابن الزبير، ففر عنها واليها، وبعث ابن الزبير جيشاً لحربه بقيادة عياش بن سهل الأنصاري فلحقه بالربذة، وقتل حبيش، ونجا بعض أصحابه وفيهم الحجاج بن يوسف، ورجع الفل إلى الشام (الطبري 2: 578 - 579) .
(2) في المسح على الورب قارن بالمحلى 2: 84.
(3) انظر المحلى 1: 202 - 203 حيث اعتبر ابن حزم أن ما سقط عنه اسم الماء كالنبيذ فهو تيمم، قال وروي عن عكرمة أن النبيذ وضوء وقال الأوزاعي: لا تيمم إذا عدم الماء ما دام يوجد نبيذ غير مسكر وقال حميد صاحب الحسن بن حي: نبيذ التمر خاصة يجوز الوضوء به والغسل.
(4) الحسن بن صالح بن حي (100 - 167 أو 168) كان صحيح الرواية يتفقه (طبقات الشيرازي: 85 وتهذيب التهذيب 2: 286) ومن تلامذته حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي (مختلف في تاريخ وفاته بين 189ن 190، 192) وكان ثقة كثير الحديث (تهذيب التهذيب 3: 44) .(3/208)
4 - ثم قلت: عن ذلك الإمام يجيز الوضوء والغسل من حوض الحمام، وهو راكد، وهذا يا أخي أعجوبة. أما علمت أن حذاق أصحاب مالك: إسماعيل القاضي (1) وكل من بعده هذا قولهم وهو الذي يحققون على مالك وينصرونه، وهو أن كل ما عندهم وإن حلته نجاسة فلم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ فيه ويغتسل به.
5 - ثم قلت إن ذلك الغمام لا يوجب الماء إلا من الماء (2) ؛ فاعلم يا هذا أن هذا القول، وإن كنا لا نقول به لأنه قد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، إيجاب الغسل وإن لم ينزل، فأخذنا بهذا لأنه زائد على الحديث الآخر، فقد قال بهذا القول من يوم من أيامه يعدل كل من أتى بعده ويأتي إلى نزول المسيح، عليه السلام، وهو عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص [222 ب] وأبو أيوب الأنصاري وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت ورافع بن حديج وابن عباس والنعمان بن بشير، ومن التابعين الأعمش وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهشام بن عروة وعطاء بن أبي رباح وجماعة من بعد هؤلاء، فإن كنت ترفع نفسك عن الصلاة خلف هؤلاء فسترد وتعلم.
6 - قم قلت: إن ذلك الإمام قيل عنه إنه يرى الجرعة من الخمر ليست حراماً، وأن النقطة أو النقطتين من الخمر لا تنجس الثياب ولا الجسد، فهذا غير ما كنا فيه، ولا خلاف بين أحد من المسلمين أن من استحل الخمر قليلها وكثيرها فهو كافر مشرك مرتد، وهو عندنا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل فكان ماله فيئاً. وإن كنت عنيت بالخمر ما كان من الأنبذة من غير عصير العنب، فنحن وإن كنا لا نقول بهذا أيضاً وهي عندنا كلها خمر محرمة، فقد أباحها من الأئمة من [هم] أعلى مراتب ممن جاء بعدهم ممن يؤخذ دينه عنهم: كعلقمة (3) وإبراهيم النخعي والأعمش وسفيان الثوري ووكيع وكان شديداً في ذلك جداً. وقد روي عمن هو أجل من هؤلاء، فإن كنت ترغب بنفسك عن الصلاة خلف هؤلاء فحسبك بذلك جهلا وغباروة، وخلافا للأمة
__________
(1) إسماعيل بن إسحاق القاضي: بصري استوطن ببغداد، وبه تفقه أهل العراق من المالكية، وكان فاضلاً عالماً، ألف عدداً من الكتب منها كتاب أحكام القرآن، وكتاب في القراءات، وولي القضاء اثنتين وثلاثين سنة، توفي سنة 282 (الديباج المذهب: 92 - 95 وطبقات الشيرازي: 164 - 165) .
(2) انظر مناقشة ابن حزم لهذه المسالة في المحلى 2: 2 وأسماء من خالف رأيه ص: 4.
(3) هو علقمة بن قيس النخعي خاله إبراهيم النخعي؛ توفي سنة 162 (طبقات الشيرازي: 79) .(3/209)
في تعظيم هؤلاء وأخذهم السنن والدين عنهم، ولم يعصم أحد من الخطأ بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فكل مجتهد مأجور (1) ، إن اخطأ أجراً واحداً، وإن أصاب أجرين، والمجتهد المخطئ أفضل من المقلد المصيب، لأنه لا يجتهد إلا عالم ولا يقلد إلا جاهل. وأما تنجيس الخمر ما وقعت فيه فلا نعلم في أنها تنجس ما مست من ذلك خلافاً، إلا شيئاً ذكره بعض العلماء عن ربيعة وهو قول فاسد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
7 - ثم ذكرت أن هذا الإمام كان يمسح بطرف رأسه (2) ، فاعلم أن هذا عمل قد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وصح عن ابن عمر ثم عن إبراهيم النخعي وصفية بنت أبي عبيد (3) وفاطمة بنت المنذر (4) والشعبي وعبد الرحمن بن أبي لليلى [223/أ] وعكرمة والحسن البصري، وعطاء (5) ، وأبي العالية والأوزاعي والليث، وجمهور الفقهاء وغيرهم، فغن كنت لا ترضى الصلاة خلف هؤلاء فالنقص والعار راجع إليك في ذلك لا عليهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
8 - ثم ذكرت أن هذا الغمام يقوم من جلوس، فاعلم أن هذا قد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن مالك بن الحويرث (6) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عمرو بن سلمة الجرمي (7) ، وقد صلى بالصحابة في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال بذلك طوائف من العلماء بعدهم، فإن كنت ترغب بنفسك عن الصلاة خلف من ذكرنا فنفسك سفهت وإياها ظلمت، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما قولك: نهى عنه بعض العلماء فقد علمنا بذلك، وقال به من العلماء من ذكرت لك ممن أجل ممن نهى عنه، فاعلمه، وليس بعضهم حجة على بعض، ولكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحجة على الجميع، قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء:
__________
(1) كل مجتهد مأجور: انظره في البخاري (اعتصام: 21) ومسلم (أقضية: 15) ومسند أحمد 4: 198، 204، 205.
(2) في مواقف الأئمة من مسح الرأس انظر المحلى 2: 52.
(3) صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي زوج ابن عمر وأخت المختار، مدنية تابعية ثقة (تهذيب التهذيب 12: 430) .
(4) فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام زوج هشام بن عروة، مدنية تابعية ثقة (تهذيب التهذيب 12: 444) .
(5) ص: والعطاء.
(6) مالك بن الحويرث الليثي، سكن البصرة وبها مات سنة 94 (الاستيعاب: 1349) .
(7) عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي أبو بريد، نزل البصرة (الاستيعاب: 1179) .(3/210)
59 -.
9 - وقلت في هذا الإمام: إنه يبسمل في أم القرآن ويجعلها آية، فاعلم يا هذا أن القراء الكوفيين (1) وهم عاصم (2) وحمزة (3) والكسائي (4) يفعلون ذلك ويعدونها آية من أم القرآن، وهو قول علي وابن عمر وأبي بن كعب وأبي هريرة وابن الزبير وابن عباس والزهري وعبد الله بن مغفل (5) وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس والحكم بن عتيبة (6) ، وأبي إسحاق السبيعي (7) ، وقال به طوائف من العلماء بعدهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، حتى إن بعضهم أبطل صلاة من لم يقرأ بها في ابتداء أم القرآن. ونحن وإن كنا لا نبطل صلاة من لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فقد قال بذلك من ذكرنا، نعم، وروي ذلك عن جمهور الصحابة وعن أبي بكر وعمر، فغن كنت لا تجيز الصلاة خلفهم فنفسك [223 ب] ظلمت وعن جهلها بينت، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
10 - وقلت في هذا الإمام: إن هذا الإمام يسلم عن يمينه وشماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فاعلم يا هذا أن هذا هو الصحيح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم عن أبي بكر الصديق، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، ونافع بن الحارث بن عبد الحارث، ثم علقمة وأبي عبد الرحمن السلمي والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وخيثمة (8) ؛ وعمن بعدهم: سفيان الثوري والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وإسحاق، وأبي ثور (9) وغيرهم وجمهور أصحاب الحديث، حتى إن بعض من زكريا يراها فرضاً. فإن كنت ترفع
__________
(1) ص: الكوفيون.
(2) في الأصل: حازم؛ وهو عاصم بن أبي النجود شيخ الإقراء بالكوفة وأحد القراء السبعة، توفي سنة 129 (غاية النهاية 1: 346) .
(3) حمزة بن حبيب الكوفي التميمي أحد القراء السبعة، توفي سنة 156 (غاية النهاية 1: 261) .
(4) هو علي بن حمزة الذي انتهت إليه رياسة الإقراء بالكوفة، توفي سنة 189 (غاية النهاية 1: 535 - 540) .
(5) عبد الله بن مغفل المزني أحد عشرة بعثهم عمر ليفقهوا أهل البصرة (طبقات الشيرازي: 51) .
(6) الحكم بن عتيبة مولى كندة، فقيه كوفي توفي سنة 115 (طبقات الشيرازي: 82) .
(7) في الأصل: وأحمد بن إسحاق السبيعي؛ وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله بن عبيد كوفي تابعي ثقة، توفي في تاريخ أدناه 126 وأعلاه 129 (تهذيب التهذيب 8: 63 - 67) .
(8) خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة مات بعد سنة ثمانين (تهذيب التهذيب 3: 178) .
(9) اسمه إبراهيم بن خالد، صاحب الشافعي، توفي سنة 240 (طبقات الشيرازي: 92 والسبكي 1: 227 والفهرست: 211) .(3/211)
نفسك عن الصلاة خلف هؤلاء؛ فما تضر بذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
11 - ثم ذكرت -[دعاءه]- بعد (1) الصلاة، فحسن قال الله تعالى {ادعوني أستجب لكم} [وأنه يصلي] صلاة الظهر في أول زوال الشمس فهو أفضل (2) إلا في الصيف في شدة الحر. صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، انه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: الصلاة في أول وقتها، وصح ذلك أيضاً عن من بعده من الصحابة ومن بعدهم، رضي الله [عنهم] . وتأخيرها ما لم يخرج وقتها واسع. وما نعلم أحداً من المسلمين منع من الصلاة في أول وقتها حتى تسأل عن الصلاة خلف من يصليها (3) حينئذ - وحسبنا الله ونعم الوكيل.
12 - وأما عادة (4) رفع اليدين عند كل تكبيرة؛ فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن العجب انه في الموطأ الذي ربما عرفتموه. وأما سائر كتب (5) العلماء ودواوين الحديث فالعمل بها في هذه البلاد الأندلسية قليل؛ وكنت أريد [أن] أذكر لك من نقل ذلك وتشدد في توكيده، ولكن يكفيني من ذلك أن أشهب (6) وابن وهب (7) وأبا المصعب (8) رووا رفع اليدين في الركوع، والرفع في الركوع عن مالك من قوله وفعله، فإن كنت لا ترضى الصلاة خلفه فحسبك ورأيك في ذلك. واعلم يا أخي أن ابن عمر كان يحصب من [224/أ] رآه يصلي ولا يرفع يديه في الركوع ولا في السجود، والفاعلون لذلك أكثر من ان يجهلهم الجاهلون.
13 - وأما قولك في السلم: الدرهم بدرهمين، فهذا وإن كان عندي حراماً، فقد قال به كل من لا يعدل كل من بعده يوماً من أيامه، وهو ابن عباس، ثم فقهاء
__________
(1) ض: بعض.
(2) المحلى 3: 168 إن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس.
(3) ص: فضلتها.
(4) ص: دعاوة؛ وانظر المحلى 3: 234 في رفع اليدين للتكبير مع الإحرام، وكذلك 4: 87 في رفعهما في غير الإحرام.
(5) كتب: مكررة في ص.
(6) هو أشهب بن عبد العزيز (- 244) ترجمته في ترتيب المدارك 1: 447 وابن خلكان 1: 238 وطبقات الشيرازي: 150.
(7) اسمه عبد الله (- 196) ترجمته في ترتيب المدارك 2: 421 وطبقات الشيرازي: 150.
(8) الأرجح أنه أحمد بن أبي بكر زرارة بن مصعب الزهري (- 242) انظر طبقات الشيرازي: 149 وترتيب المدارك 2: 511 والانتقاء: 62 وعبر الذهبي 1: 436.(3/212)
أتهل مكة وجماعة من بعدهم. وقد قلت لك إنه لم يعصم أحد من الخطأ بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الحجة على كل أحد، ولكن إن كنت ترفع نفسك عن الصلاة خلف ابن عباس فتباً لك وسحقاً.
14 - وأما الحديث الذي ذكرت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، تفرقت الألسن على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا الناجية، قالوا: يا رسول الله، ما الناجية قال: ما أنا عليه أنا وأصحابي؛ فليس هكذا الحديث، وأعلى ما في الحديث حدي حدثنيه أبو عمر، قال: حدثنا احمد بن قاسم قال: حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال: أخبرنا جدي قاسم بن أصبغ البياني قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي، أخبرنا نعيم - هو ابن حماد - أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا عيسى عن جرير - هو ابن عثمان - عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (1) : تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال؛ فهذا أصح ما في هذا الباب وأنقاها سنداً؛ وأما سائر الأحاديث الواردة فيه فمعلومة جداً لم يدخلها أحد من اهل الانتقاء في المصنفات والمسندات، فاعلمه.
15 - وأما قولك: فهل قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا على ما لجأ إليه أمير المسلمين في العلم ومن تبعه وهو مالك بن أنس - رحمه الله. فاعلم يا هذا: أن قول كل أحد مردود (2) إلى قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن صدقه قول رسول الله فذلك من سعد ذلك القائل، وإن رده قول رسول الله ترك قول ذلك القائل، كائناً من كان. ولا يحل لمسلم ان يحكم قول قائل على قول النبي، صلى الله عليه وسلم.
وأما قولك: [224 ب] أمير المسلمين في العلم ومن تبعه، وهو مالك، فما للمسلمين أمير مفترضة طاعته في دينهم بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ وأما مالك، رحمه الله، فهو أحد (3) العلماء والأئمة، اجتهد كاجتهاد الأئمة غيره منهم،
__________
(1) حديث " تفترق أمتي " في سنن أبي داود (سنة: 1) والترمذي (إيمان: 18) وإبن ماجه (فتن: 17) ومسند أحمد 2: 332، 33: 145.
(2) ص: يردوه.
(3) ص: جد.(3/213)
وله نظراء من الأئمة ليس له عليهم تقدم في علم ولا فقه ولا سعة رواية ولا حفظ ولا ورع، كسفيان الثوري بالكوفة والاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز (1) بالشام والليث بمصر، إلى آخرين ليس له عليهم فضل في الورع والحفظ والعلم إلا أنهم لم يكثروا الفتوى تورعاً، كشعبة (2) وابن جريح (3) وسفيان بن عيينة وابن أبي ذئب (4) ومعمر (5) وغيرهم، إلى آخرين ليس له عليهم فضل في كثرة الفتوى وإن كان (6) أحفظ منهم للحديث كابن أبي ليلى وابن شبرمة (7) والحسن بن حي وعثمان البتي (8) ، وأبي (9) حنيفة وسوار بن عبد الله القاضي وغيرهم، إلى آخرين أتوا بعد هؤلاء وإن تأخرت أزمانهم فلم يتأخروا في العلم والفقه وسعة الرواية وكثرة الفتيا عنهم: كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد وأبي ثور وداود بن علي ومحمد بن نصر المرزوي (10) ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم، ثم قبل كل من ذكرنا ممن هو عند جميع المسلمين أجل من كل من ذكرنا كعطاء وطاوس ومجاهد وعبيد بن عمير بمكة، وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار وعروة وخارجة وأبي بكر بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد الزهري وربيعة بالمدينة، عمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب بالشام، والحسن البصري ومحمد بن سيرين وأيوب السختياني وعبد الله بن عون وسليمان التميمي ويونس بن عبيد بالبصرة، وعلقمة والأسود والحكم ابن عتيبة بالطوفة، ثم قبل هؤلاء الصحابة، رضي الله عنهم؛ كل هؤلاء يا هذا نقلهم
__________
(1) كان فقيه أهل الشام مع الأوزاعي وبعده؛ توفي سنة 166 (انظر طبقات الشيرازي: 76) .
(2) يعني شعبة بن الحجاج، انظر ترجمته في ابن خلكان 2: 469.
(3) اسمه عبد الملك بن عبد العزيز.
(4) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة (توفي سنة 158 أو في التي بعدها) انظر تهذيب التهذيب 9: 303 - 307.
(5) لعله معمر بن راشد الأزدي البصري سكن اليمن وكان ثقة صدوقا توفي سنة 154 (تهذيب التهذيب 10: 243 - 246) .
(6) ص: كانوا.
(7) هو عبد الله بن شبرمة الضبي الكوفي (- 144) كان فقيهاً عفيفاً حازماً ثقة في الحديث (تهذيب التهذيب 5: 250 وطبقات الشيرازي: 84) .
(8) عثمان بن سلم البتي البصري (- 143) كان صدوقاً ثقة وكان صاحب رأي وفقه، ولقب البتي لأنه كان يبيع البتوت، وهي أكسية غليظة (تهذيب التهذيب 7: 153) .
(9) ص: وأبو.
(10) محمد بن نصر المرزوقي أبو عبد الله (- 294) ولد ببغداد واستوطن سمرقند وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم بالأحكام، أثنى عليه ابن حزم كثيراً (انظر طبقات الشيرازي: 106 والسبكي 2: 20) .(3/214)
مضبوط محفوظ مروي، والحمد لله رب العالمين، ليس جهل من جهله حجة على من علمه. وكانوا كلهم رضي الله عنهم يختلفون [225/أ] فلا ينكر بعضهم على بعض إلا أن يكون عند أحد منهم خبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيذعن له الآخر حينئذ. على هذا جرى الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعون وتابعو التابعين أولهم عن آخرهم لا أحاشي منهم أحداً بوجه من الوجوه، إلى أن حدث ما حدث في القرن الرابع؛ فإن كنت لا تعرف ذلك فاطلب الروايات للعلم عند ضباط الحديث تجدها، وكذلك الروايات عن كل من ذكرنا لك (1) في كتابي هذا حاضرة، والحمد لله رب العالمين.
فإن كان هؤلاء لم يستحق أحد منهم أن يكون أميراً للمسلمين في العلم إلا مالكاً ومن اتبعه فهذه بدعة وضلالة لا يعلم في الإسلام بدعة اعظم منها، ما لم تبلغ الكفر؛ لأن من ضل في هذه الطريقة وهلك باتباعها فإنما ضل بإفراطه في علي - رضي الله عنه، وهو صاحب بدري سابق خاص بالنبي، صلى الله عليه وسلم، مضمون له الجنة، فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، انه قال (2) : " لا يبغضه إلا منافق "؛ وأما الضلال بمثل هذا الإفراط في رجل من عرض المسلمين لا يقطع له بالجنة ولا تضمن له النجاة من النار بل يرجى له ويخاف عليه ولا يقطع له بأكثر من حسن الظن به فما ظننت قط بأحد هذا الإفراط، والحمد لله على ما من به من الهدى وعصم به من الهوى، وإنا لله وإنا إليه راجعون على ما فشا من البدعة وطمس من السنة. وكذلك والله ما توهمت أن مسلماً يعتقد أو يظن أن مالكاً وحده ومن اتبعه لجأوا إلى غير ما نص عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم في العلم، وأن سائر من خالف أقوال مالك من الصحابة والفقهاء والتابعين بدلوا ما قضى (3) رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فإن لم يكن عندك هذا فلم خصصت مالكاً ومن اتبعه بذلك في كلامه دون سائر العلماء، وما شاء الله كان. فقد أجبتك عما لزمني الجواب عنه بما (4) أخذ علي من عهد الله تعالى، ولولا ذلك لما (5) اجبتك، والله يعلم أني غير حريص [225 ب] على الفتيا، ومن علم أن كلامه من عمله محصى له مسؤول عنه قل كلامه بغير يقين، ولو أنك يا هذا
__________
(1) عن. ذكرنا: مكرر في ص.
(2) في مسند أحمد 6: 292 عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق، وانظر الترمذي (مناقب: 20) والنسائي (إيمان 19: 20) .
(3) ص: قبض.
(4) ص: عليهم.
(5) ص: فما.(3/215)
تشغل نفسك بالكرب لما حدث في الناس من كون خطة يتنافس فيها للرياسة، حتى إذا غاب الذي ولاه السلطان ووفقه الله، تعادى الناس من الغمامة خلف كل همزة لمزة واتقاء شر من هو شر الناس الذين يتقون بشرهم حتى تعطل صلاة الجماعة ولا يعمر بها المساجد وتقر عين إبليس بحرمان صلاة الجماعة وفضل السبع وعشرين درجة، لكان أولى بك [من] أن تتورع عن الصلاة خلف من لا تدري مذهبه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تمت رسالة الإمام ولله الحمد
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً
آمين.(3/216)
8 - رسالة في حكم من قال إن أرواح أهل
الشقاء معذبة إلى يوم الدين.(3/217)
فراغ(3/218)
- 8 -
[227/أ] رسالة في (1) حكم من قال: إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً
قال أبو محمد علي بن احمد رضوان الله عليه: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1 - ذكرت - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - ما حكم من قال: إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين وقد قال عز وجل في المجرمين {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً} إلى قوله عز وجل {إن لبثتم إلا يوماً} (طه: 103 - 104) فهذا أصلحك الله لا يخالف قول من قال: إنها معذبة إلى يوم الدين لأنه أيضاً نص القرآن، لكنها معذبة في غير نار جهنم. قال الله تعالى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} (السجدة: 21) وقال تعالى في آل فرعون {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر: 46) وقال تعالى {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} (الأنعام: 93) فصح أن النفس معذبة كما ترى من حين موتها إلى يوم القيامة دون الأجساد، فإذا كان يوم القيامة أحيا الله تعالى العظام، وأخرجها من القبور وركب عليها الأجساد ورد إليها الأنفس، ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وإنما تخافت المجرمون بينهم: {إن لبثتم إلا عشراً} {إن لبثتم إلا يوماً} {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} (يس: 52) لأنه صار العذاب الذي كانوا فيه هيناً يسيراً بالإضافة إلى عذاب جهنم، أعاذنا الله من عذابه. وهذا الذي تتفق به الآيات كلها، وإنما هلك من هلك بأخذه آية وتركه أخرى، وأخذه حديثاً وتركه آخر، وأخذه آية وتركه حديثاً يبينها، وأخذه حديثاً وتركه آية، وهذا خطأ لا يحل، وإنما الفرض على المسلمين أخذ كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن وسنة وضم كل ذلك بعضه إلى بعض.
__________
(1) في الأصل: عن.(3/219)
2 - وأما ما ذكرت عن عبد الملك بن مسلمة، انه قال: " إذا خرج من هذا الجسم الظاهر بالوفاة ركب (1) في جسم باطن " فلا أدري من عبد الملك بن مسلمة، إلا أني ادري أن هذا القول سخيف وكذب على الله تعالى مجرد، وضلالة [237 ب] فاحشة، وهذا مذهب أهل التناسخ وهو كفر مجرد. فإن كان قائله من [أهل] الدين المشاهير فهي زلة عالم وغفلة وهلة، يعذر فيها بالجهالة لها، وإن كان من غير هذه الصفة فهي تهمة في دينه، لان القرآن والسنن كلها ليس في شيء منها شيء من هذا، وإنما فيها أن النفس، وهي النسيم، في حكم كذا وفي أمر كذا إلى يوم القيامة. فإن ذكر ذاكر ما روي من أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر فهذا لفظ لا يصح، وإنما صح أن نسمة المؤمن طائر يعلف من ثمار الجنة فقط، فالنسمة الطائر الذي يطير ويعلف من ثمار الجنة فقط، وكذلك ما روي أيضاً في قناديل معلقة لا يصح، وغنما صح أن الأرواح تسرح في الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش (2) ، وتلك القناديل هي صور طير خضر. هكذا نص الحديث فلا يجوز ان يحرف. والصحيح المعفي على هذا كله هو ما ذكر النبي، عليه السلام، انه رآه ليلة الإسراء من الأسودة عن يمين آدم، عليه السلام، ويساره (3) ، إذ رأى آدم، عليه السلام، في السماء الدنيا، وأن تلك الأسودة نسم بنيه فالذين [عن] يمينه أرواح أهل السعادة، والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء، وأن أرواح الأنبياء والشهداء في الجنة، وبهذا جاء القرآن في قوله {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم} (الواقعة: 9 - 12) وقوله تعالى {فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم، وتصلية جحيم، إن هذا لهو حق اليقين} (الواقعة: 88 - 95) وأما قول من قال إن مستقرها في الصور فخطأ، إذ لم يأت به قرآن ولا نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من أخبار السدي (4) ؛ وإنما صح قول الله
__________
(1) ركب: مكررة في ص.
(2) حديث أن الأرواح تسرح الخ في صحيح مسلم (إمارة: 121) وسنن أبي داود (جهاد: 25) والترمذي (تفسير سورة 3: 19) ومسند ابن حنبل 6: 386؛ وانظر وقوف ابن حزم عند هذا الحديث في الفصل 5: 77.
(3) انظر صحيح البخاري (صلاة: 1) ومسلم (إيمان: 263) ومسند أحمد 5: 143.
(4) في الأصل: البذي.(3/220)
تعالى {ونفخ في الصور} {ثم نفخ فيه أخرى} (الزمر: 68) فالصور حق من أنكره كفر، والنفخ حق من أنكره كفر. وأما من قال إن فيه ثقباً على عدد الأرواح، والأرواح فيه، فخرافة من توليد أهل الكذب والإزراء على الإسلام، ونعوذ بالله [228/أ] من مثل هذا فإن اعتقاده والقول به يزري إلى إضافته بالله تعالى وبرسوله، وهو كذب عليهما. وقد قال الله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف: 33) فقرن الله تعالى مع الشرك به القول عليه بما لا علم للقائل به، وأخبرنا أن الشيطان يأمرنا بذلك فليتق الله امرؤ ولا يقل عن الله ما لا علم له به؛ وهكذا القول بأنها على أفنية القبور وأنها ترد كل اثنين وخمسين، فكل هذه خرافات لا يحل القول بها لما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
3 - وأما قول القائل إن النفس والروح شيئان، فخطأ وقول بلا برهان، وقد قال الله تعالى {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111) فصح أن كل من لا برهان له فليس بصادق؛ وقد قال قوم عن الله تعالى قال {يا أيتها النفس المطمئنة} (الفجر: 27) وقال {ولا أقسم بالنفس اللوامة} (القيامة: 2) وقال {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53) هي كل نفس في الأرض حاشا الأنبياء بقوله عليه السلام (1) : " والقلب يتمنى ويشتهي، فأهل الخير يردعون بتوفيق الله تعالى لهم ما تأمره به أنفسهم، وأهل الشر يرتكبون ما أمرتهم به أنفسهم ويتبعون أهواءهم " والنفس اللوامة هي كل نفس دون الأنبياء - عليهم السلام - لان كل أحد دونهم يلوم نفسه على تقصير يكون منها وعلى استقلالها مما تعلو به الدرجات في الجنة.
والروح والنفس شيء واحد بدلائل تكثر ذكرناها في كتاب الفصل (2) ، من جملتها قول النبي - عليه السلام - إذ نام عن الصلاة (3) : " إن أرواحنا كانت بيد الله " ثم قال بلال: يا رسول الله اخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، فأقره، عليه السلام، ولم ينكره. وصح بالنصوص كلها أن النفس مخاطبة ملزمة من الله تعالى محاسبة، ولم يختلف مسلمان في أن للإنسان نفساً (4) وهي الروح مع الجسد، فلو كانا اثنين لكان
__________
(1) انظر صحيح مسلم (قدر: 21) ومسند أحمد 2: 343، 379، 536.
(2) الفصل 5: 74؛ والأدلة النقلية فيه: 91.
(3) يشبه هذا عند البخاري (إرشاد الساري: 1: 514) إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم؛ وانظر مجمع الزوائد 1: 320، 322.
(4) ص: نفس.(3/221)
المعذب عند الموت اثنان، وهذا لا يقوله أحد. وسائر ما قلت من خروج واحد وإبقاء آخر تخليط لا دلائل عليه. وقد فسر أمر الرؤيا في كتاب الفصل فأغنى عن التطويل (1) .
4 - وأما الذي كان يمضي على أتانه (2) فإنما هو خبر [228 ب] مروي رويناه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، ومطرف رحمه الله ثقة، وهذا لا يصح عنه، وحاشا لمطرف أن يقول هذا الكذب الذي يكذبه القرآن حيث يقول تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} (فاطر: 22) وإذ يقول - عز وجل - {إنك لا تسمع الموتى} (النمل: 80) فلا يجوز أن يخص من هذا شيء إلا ما خصه النص الصحيح، كخطاب النبي لأهل القليب (3) ، فهو مستثنى، وما صح من نحو هذا فقط. ولو صح هذا عن مطرف، وهو لا يصح، لامكن انه نعس على دابته فرأى ذلك في النوم، فكيف ومثل هذا لا يقطع به على الله تعالى في الغيب إلا جاهل، وبالله التوفيق.
5 - وأما قولك إن الميت إذا دلي في قبره أتاه ملك اسمه رومان إلى آخر الكلام، فخرافة موضوعة لم يأت قط من طريق لينة فكيف قوية. وإنما صح أنه يأتيه ملكان أسودان فيسألانه ويقطعانه، على ما جاءت به الآثار الصحاح المشهورة. وقول الله تعالى {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء: 13) كقوله {قال طائركم عند الله} (النمل: 47) فكأن هذا والله اعلم ما عمله المرء وصار (4) له في ما أحصي عليه.
6 - وأما سؤالك عن الذنوب التي (5) تاب عنها العبد بعدما كتبت في الصحيفة، هل تبقى فلا أصل [له] وحاشا لله من ذلك، ولو كان ذلك لكان الكفر إذا تاب عنه المرء بإسلامه باقياً عليه. وهذا ما لا يقوله أحد. وإنما يثبت في الصحيفة ويوازن به العبد ما لا يثبت عنه قط، وبهذا صحت الآثار فيما جاء فيه ترغيب: أن من فعل كذا محيت عنه كذا وكذا سيئة، فصح أنها تمحى. وقد علم قدر ما جنى وقدر ما فضل عليه وان لا يدخل أحد بعمله الجنة إلا إن أسعده الله برحمته.
7 - وأما سؤالك عن قوله الله تعالى {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}
__________
(1) الفصل 5: 19.
(2) ص: أثانة.
(3) يعني قليب بدر.
(4) ص: وطار.
(5) ص: الذي.(3/222)
(الفرقان: 70) فنعم، إن من تاب عن الذنب فقد سقط عنه بإجماع الأمة. ومعنى التوبة ترك العودة والندم والاستغفار، فقد عوض التائب مكان كل توبة أزلفها ندماً واستغفاراً، والندم والاستغفار حسنة فهي له مكتوبة. وقد سقطت سيئاته وأبدل الله تعالى بها الحسنات له.
8 - وأما قولك عن عمر إنه تمنى أن يكون له مثل جبل كذا ذنوباً مغفورة، فأعوذ بالله أن يتمنى [229/أ] عمر بهذا أو مسلم في الأرض، فكيف يجوز لذي عقل أن يتمنى بأن يعصي الله عز وجل! أو ما سمعت قول الله تعالى {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (الجاثية: 21) بل يقول: ليت ما أذنبنا من صغير وكبير نتوب عنه أو مغفور أو غير ذلك أو لم يفعله.
9 - وأما ما سألت عنه ممن يجني الجنايات فتقام عليه الحدود، وهل تبقى عليه تبعة لله تعالى فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن الحدود كفارات (1) حاشا الفساد في الأرض فإنه باق؛ قال الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة: 33) فقد نص الله تعالى أن هؤلاء يكون ما أقيم عليهم في الدنيا من الحد خزياً لهم وأن لهم في الآخرة عذاباً عظيماً (2) .
10 - وأما ما سالت عنه من نزول الماء كمني الرجل، فيبعث الله من في القبور، فأذكر هذا الحديث (3) ولا يحضرني ذكر سنده، فغن صح قلنا به وإلا فلا. وليس هذا مما امرنا به ولا نهينا عنه، والله على ما يشاء قدير. ولا يجوز أن يقال شيء من هذا بغير يقين علم.
11 - وأما الحديث الذي ذكرت من أنه لا تقوم الساعة حتى لا يبقى أحد يأمر
__________
(1) في أن الحدود كفارات انظر الترمذي وابن ماجة والدرامي (حدود: 12، 33ن 21 على التوالي) .
(2) ص: لا يكونوا. خزيا لهم من الحد..عذاب عظيم.
(3) أخرجه ابن حجر في مجمع الزوائد (10: 329) من حديث عبد الله بن مسعود ولم يذكر سنده: " ثم يرسل الله ماء من تحت العرش يمني كمني الرجال فتنبت جسمانهم ولحمانهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الري " والحديث بطوله رواه الطبري، قال وهو موقوف مخالف للحديث الصحيح.(3/223)
بالمعروف وينهى عن المنكر (1) ، وأن الله تعالى يبعث ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، فقد جاءت في هذا آثار صحيحة معروفة إن [أردتها] فهي حاضرة. وأما عمر مولى غفرة (2) فضعيف وإنما صحت من طريق غيره.
12 - وأما ما ذكرت من قول سحنون وابنه في الرجل الذي كان يغتسل في يوم شديد البرد فقال أحدهما: وجبت، فقال الآخر: إن كان من حلال، فقال: وإن كان من حرام، فهذا لا يصح وليس الإيجاب لأحد دون الله تعالى على لسان رسوله، ولو شهد شاهد بالإيجاب لمن اغتسل من الجنابة لوجبت الشهادة بذلك لمن صلى صلاة أو صام يوماً حاراً أو ما أشبه ذلك، وهذا ما لا يختلف فيه اثنان في أنه لا يقطع لإنسان بعينه في الجنة قطعاً إلا قوم من خشارة الخوارج قد بادوا؛ وأيضاً فما يدري من يقول وجبت على ما [229 ب] ذا يموت المقول عنه ذلك، وأما إن كان من حرام فأعوذ بالله من ذلك، فإن وجوب النار أقرب إليه من وجوب الجنة، إلا أن يرمه الله تعالى. ولو كان الاغتسال توبة من الزنا وهو مصر على تماديه لكانت كل حسنة يعملها توبة من كل سيئة تقدمت له، وهذا ما لا يقوله أحد.
13 - وأما ما ذكرت من طلوع الشمس من مغربها فصحيح لا داخلة فيه، وإنما هي في ذلك يومها فقط، ثم ترجع كما كانت بلا خلاف.
14 - وأما قولك: هل يصبح الناس يومئذ قد انتزع القرآن من صدورهم فليس في هذا خبر صحيح نعتمد عليه، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.
15 - وأما سؤالك عن من حلف خوف السلطان بإكراه: هل عليه كفارة فلا كفارة على المكره ولا يلزمه شيء لقول النبي، عليه السلام (3) : " عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". وإنما الكفارة على المختار للحنث القاصد إليه فقط للنص الوارد بذلك، وللإجماع على وجوب الكفارة على من هذه صفته، ولا نص ولا
__________
(1) في اضطراب الأمر بالمعروف والنهي قبيل قيام الساعة، انظر مجمع الزوائد 10: 326؛ وفي الريح التي تقبض أرواح المؤمنين انظر مصنف عبد الرزاق؛ " والناسقة (من آيات الساعة) ريح باردة طيبة يرسلها الله فيقبض بتلك الريح نفس كل مؤمن " (11: 378) .
(2) ترجمته في تهذيب التهذيب 7: 471 وميزان الاعتدال 3: 210 وتاريخ الإسلام: 104.
(3) انظر هذا الحديث في سنن ابن ماجه (طلاق: 16) .(3/224)
إجماع فيما عدا ذلك. والشرائع لا يشرعها إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ربه تعالى، وأما من حلف وشك في الحنث فلا كفارة عليه حتى يوقن، لأننا كنا على يقين انه لم يلزمه كفارة، فلا يجوز أن يلزم عتقاً أو إطعاماً او كسوة أو صياماً بالظنون، ولا يلزم الشرائع إلا باليقين، قال تعالى {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (يونس: 36) .
16 - وأما سؤالك عن عهدة (1) السنة من الجنون والجذام والبرص، فلا يصح في ذلك شيء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أصلاً بوجه من الوجوه. وإنما روي في العهدة ثلاثة أيام وأربعة من طريقتين واهيين وهما: الحسن عن سمرة، والحسن عن عقبة بن عامر [ولم نرو فيما عدا ذلك] شيئاً أصلاً.
17 - وأما سؤالك عن الفرق بين توأمي الزانية، والمغتصبة، والمستأمنة، والمسبية [فأقول في الجواب: أما المستأمنة والمسبية] (2) فتوأماهما أخوان لأب وأم بلا شك، لان الأصل في ذلك انهما ابن زوج، إذ لا يحمل أحد على حكم الزنا إلا ببينة، فهما لاحقان بأبيهما لان أمهما فرش له. ونكاح أهل الشرك صحيح لإجماع الأمة على إقرارهم عليه إذا أسلموا معاً، لأن منه خلق النبي [230/أ] صلى الله عليه وسلم وهو مخلوق من أصح نكاح بلا خلاف. وأما توأما المغتصبة والزانية الملعنة فإنما هما لأم فقط، لان الزانية والمغتصبة ليستا فراشاً للرجل وقد قال عليه السلام (3) : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فلا يجوز أن يكونا لغير صاحب فراش، وقد أبطل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نسب ابن الملاعنة من أبيه وألحق ولدها بأمه فقط، فهما لأم فقط، ولا فرق بينهما وبين سائر ولدها منه قبل اللعان، إن جاز أن يلحقا به وقد نفاهما، فهما مع سائر ولدها منه إخوة لأب وأم أيضا؛ وهذا ما لا يقوله أحد.
18 - وأما سؤالك عن المأسور في دار الحرب الملتزم مالاً لهم بالعهود والمواثيق والأيمان، هل يلزمه الوفاء بذلك فنعوذ بالله من هذا، وهي في إجماع الأمة كلها عهود ومواثيق على باطل وظلم وعلى إعطاء مال بغير حق، ولا يجوز الوفاء بعهود
__________
(1) في حديث عقبة بن عامر " عهدة الرقيق ثلاثة أيام " هو أن يشتري الرقيق ولا يشترط البائع البراءة من العيب فما أصاب المشتري من عيب في الأيام الثلاثة فهو من مال البائع ويرد إن شاء بلا بينة، فإن وجد به عيباً بعد الثلاثة فلا يرد إلا ببينة (اللسان: عهد) .
(2) زيادة ضرورية.
(3) ورد هذا الحديث في جميع الصحاح؛ وانظر أيضاً مسند أحمد 1: 25، 59 (ومواضع أخرى كثيرة) .زيادة ضرورية.(3/225)
الباطل، ولا يحل له أن يبقى عندهم عن قدر على الخلاص، ولا يعطيهم شيئاً إن انطلق قبل أن يأخذوه منه. وإنما قال تعالى {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} (النحل: 91) وهذا ليس عهد الله إنما هو عهد الشيطان؛ فمن قال إنها عهود حق فسله ماذا يقول في أسرهم إياه وحسبهم له، أحق هو أم باطل فإن قال: هو حق، كفر بإجماع المسلمين، وجعل قتل أهل الكفر وأسرهم للإسلام حقاً وعدلا، وإن قال: هو باطل، نقض قوله وصدق انه باطل.
19 - وأما سؤالك عن المصر، فإن الله تعالى يقول {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (آل عمران: 135) وأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ان من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه (1) ، وهذا كله حق. فالمصر هو الذي عمل الذنب ثم نوى التمادي عليه، فهذا ما لم يعمله، فعليه إثم الإصرار لا إثم مواقعة الذنب حتى يواقعه؛ وأما من هم بسيئة فلم يعملها، فليس مصرا بنص القرآن الذي ذكرنا، ولا إثم عليه فيما هم به حتى يعمله، للنص المذكور.
20 - وأما سؤالك عن من افتض بكراً، فقام عليه أهلها يطلبونه، فأنكرت هي وأقر هو، وقولك: فذهب قوم أن يفرض لها ما يتحلل به عذرتها، وقلت: إلى من يرفع ذلك، أو بأي وجه يستحقه فهذه قضية سخيفة جداً، وما علمنا الفروج في الزنا تستحل بعطية، ولا أن يصالح عليها [230 ب] في ذلك بمال، وقد قال تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (البقرة: 188) وهذا الباطل. ونهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن مهر البغي. وأما إذا أقر هو، فعليه الحد للزنا ولا مزيد، وما عدا ذلك فهذر وجنون، ولو أعطاها شيئاً (2) على هذا الوجه لردته إليه.
21 - وأما سؤالك عن من أقر لآخر بحق، والمقر له منكر، أيوقف له أم لا وهل يدفعه إلى ورثته بعده أم لا فهذا مما اختلف فيه العلماء، فقالت طائفة: يوقف له، وقالت طائفة: لا يوقف له، وقد بطل هذا الإقرار إذا لم يصدقه المقر له، وهذا هو الصحيح، لان ذلك المال المقر له به لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون ملكه للذي هو بيده في جملة ماله، أو المقر له به. فإن كان للمقر له به
__________
(1) ورد هذا الحديث في البخاري (رقاق: 31) ومسلم (إيمان: 206، 207، 259) ومسند أحمد 1: 279، 310، 361؛ 2: 334، 41، 498.
(2) ص: من.(3/226)
فإنكاره مطرح وواجب أن يقضى له به أوجب أم كره، وهذا ما لا يقوله أحد. وإن كان لا يجب هذا، فهو بيقين للمقر له كما كان لا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع، إذ قد بطل إقراره به وسقط به، ولا حق لورثة المقر له به، إلا أن يجدد الذي هو بيده إقرار لهم به. لأن الإقرار الأول قد بطل، ولا يجوز أن يقضى بأمر قد بطل.
22 - وأما سؤالك عمن عليه دين لآخر فمات صاحب الدين ولا وارث له، فإن هذا مال يجب تفريقه في مصالح المسلمين بإجماع الأمة. على أن كل مال (1) لا رب له فهو في مصالح أهل الإسلام، حيث ما وضع منها جاز، وبالله تعالى التوفيق.
23 - وأما سؤالك عمن غصب مالا لإنسان فمات المغصوب منه، فماذا يكون للميت وورثته فإن ذلك حق للمغصوب منه قد وجب قبل الغاصب، فلا يسقط بموته، والميت يطالبه به بين يدي الله تعالى، وهو ولي إنصافه منه، بقوله تعالى {ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة: 7، 8) وقوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) ثم إذا انتقل ملك ذلك المغصوب إلى ورثة الميت، فهو حق آخر وحكم آخر. وقد تجدد للغاصب غصب آخر من الورثة فحقهم أيضاً فيه بتمامه وهكذا أبدا، وبالله التوفيق.
24 - وأما سؤالك عن قول الشيطان {إني أرى ما لا ترون} (الأنفال: 48) وقول القبيلتين من الجن، هاروت وماروت {إنما نحن فتنة} (البقرة: 102) هل وقف على من سمع ذلك مشافهة منهما ومن إبليس أم الله تعالى أخبر بذلك فما ظننت قط [231/أ] أن مسلما يسأل هذا السؤال، وهل خبر أصدق من خبر الله تعالى! وهل يمتري مسلم في أن ما أخبره الله تعالى فانه حق كما أخبر به وهذا مكان لا يستحق الزيادة في الجواب على هذا أصلاً، لعظيم الأمر في ذلك، ونعوذ بالله من الخذلان.
25 - ثم من عجائب الدنيا سؤالك في قول الكفار لعنهم [الله] عن رسول [الله] ، صلى الله عليه وسلم، به جنة، ماذا أرادوا بذلك أرادوا بذلك سواد وجوههم وحمقهم. أو عن مثل هذا يسأل أو يشتغل منه بأكثر من لعنتهم على ذلك واستعظام ما أتوا به فقط، وهذا أيضاً من نوع ما قبله. وأما احتجاج من احتج بقول الكافر: به جنة في أن الجان تتكلم على لسان المصروع فاحتجاج سخيف من دماغ ضعيف،
__________
(1) ص: من.(3/227)
ومن أسخف ممن يحتج بقول الكفار في النبي، صلى الله عليه وسلم، به جنة، فقولهم كله باطل وزور وإفك.
26 - وأما ما كرت من قول بعض المفسرين: إن الشيطان ألقى ذلك على لسان نبيه، فحاشا لله من هذا. وهذا هو الكذب، والرواية في هذا باطل، ومعاذ الله أن يسلط الله شيطاناً يتكلم على لسان نبيه، عليه السلام، وهو تعالى [يقول] {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3، 4) ومع هذا، فما أدري ما هذا العقل الذي يسمع فيه هذا الحمق، وهذا لا يجوز إلا على سكران أو موسوس أو مبرسم يهذي ويتكلم بما لا يدري ولا يعرفه، فكيف ان يظن هذا بالنبي أنه تكلم بالكفر وهو لا يدري ألا إن هذا هو الضلال.
27 - وأما كلام الشيطان على لسان المصروع فهذا من مخاريق العزامين (1) ولا يجوز إلا في عقول ضعفاء العجائز، ونحن نسمع المصروع يحرك لسانه بالكلام، فكيف صار لسانه لسان الشيطان عن هذا لتخليط ما شئت. وإنما يلقي الشيطان في النفس يوسوس فيها، كما قال الله تعالى {يوسوس في صدور الناس} (الناس: 5) وكما قال تعالى {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} (الحج: 52) فهذا هو فعل الشيطان فقط، وأما أن يتكلم على لسان أحد فحمق عتيق وجنون ظاهر، فنعوذ بالله من الخذلان والتصديق بالخرافات.
28 - وأما قولك فيما جاء أن [الصداقة] (2) تنسأ في الأجل، فلا يصح أصلاً، وغنما صح أن صلة الرحم تزيد في العمر وتنسأ الأجل، ومعنى هذا أن الله تعالى قد سبق في علمه أن جعل صلة الرحم سبباً لبلوغ المدة [231 ب] التي قدرها له، كما جعل الغذاء والماء سبباً، والتنفس سبباً، لبلوغ المدة التي قدرها لنا، ولا فرق.
29 - وأما سؤالك عن قوله تعالى {إذا حضر أحدكم الموت} الآية (المائدة: 106) فغن الناس اختلفوا فيها، فقالت طائفة: هي منسوخة. قال أبو محمد: وهذا خطأ لا يحل القول به، ولا يحل أن يقال في شيء من القرآن إنه منسوخ بالظن، إلا بنص جلي يبين أنها منسوخة، أو بإجماع على ذلك، ولا إجماع في ذلك
__________
(1) ص: العوامين؛ والعزامين أراه الذين يستعملون العزائم وهي الرقى.
(2) زيادة تقديرية.(3/228)
ولا نص. وقال آخرون: معنى {من غيركم} (1) : من غير قبيلتكم، وهذا خطأ لوجهين، أحدهما: انه تخصيص للآية بلا برهان، والثاني: انه لا يجوز ذلك في اللغة، لأنه تعالى لم يخاطب قبيلة بعينها وإنما خاطب الذين آمنوا في أول الآية؛ وغير الذين آمنوا هم الذين كفروا بلا شك. فالحكم بها واجب باق محكم إلى يوم القيامة، لا شك في ذلك، لأنه نص من الله تعالى لم يأت ما يبطله؛ وشهادة الكفار جائزة في السفر خاصة، في الوصية خاصة مع إيمانهم، وهو قول ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وتميم الداري (2) ، ثلاثة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا مخالف لهم من الصحابة كلهم يأمر بالحكم بها، وبالله التوفيق.
30 - وأما سؤالك: البلاء أفضل أم العافية، والفقر أفضل أم الغنى فسؤال فاسد، إنما الفضل للعباد بأعمالهم، وباختصاص الله تعالى إياهم، وباختصاص الله تعالى ما شاء مما خلق بالتفضيل. ونحن نسأل الله تعالى العافية والغنى ونعوذ بالله من البلاء والفقر، وإنما الفضل بالصبر والشكر. وقد جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، تفضيل الصبر، والقرآن أيضاً، والله تعالى يعلم مقادير ذلك (3) وسنرد ونعلم، وإنما كلفنا العلم والعمل بما نعلم، ولم نكلف علم ما عنده تعالى من المقادير، وإنما علينا التسليم لقوله فقط، ونهينا عن التكلف.
31 - وأما قولك إنه يحط سليمان، عليه السلام، من درجته في الجنة، لما أوتي من الملك، فما سمعنا بهذا أصلا. والإخبار عن الله بما (4) يفعل لا يحل إلا بنص صحيح عن النبي، والاشتغال بالسؤال عن مثل هذا فضول، ومن اشتغل بطلب الفضول وما لا يعنيه أو شك أن يضيع الحق وما يعنيه.
32 - وأما سؤالك عن تفاضل ساحة الجنة، وأنها سبع جنات، فقد نص تعالى على أن بعضها فوق [232/أ] بعض بقوله تعالى {وللآخرة أكبر درجات واكبر تفضيلا} (الإسراء: 21) وبقوله تعالى {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار} (الزمر: 20) ولو لم يكن كذلك لما كان
__________
(1) هو لاحق بالآية السابقة: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم.
(2) ص: الرازي.
(3) يبدو أن في العبارة نقصاً.
(4) ص: بلا.(3/229)
جزاء من لا عمل له غير الإيمان كالجزاء الانبياء، وهذا ما لا يقوله أحد. وقد أخبر عليه السلام أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرفات كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي، أو كما قال عليه السلام (1) .
33 - وأما قولك هل يبلغ أحد درجات النبيين: فأما أن يساويهم في جميعها فلا سبيل إلى ذلك أصلاً، ولكن أزواجهم معهم فيها بلا خلاف. وأما قولك: قيل إن بعض النبيين أعلى درجة في الجنة [من] العلماء ثم الشهداء، وقيل الصديقين، فأقوال فاسدة لم يأت نص بشيء منها، ولكن الحق من ذلك أن (2) الصحابة - رضي الله عنهم - بعد النبيين على قدرهم، ثم الناس على قدر أعمالهم. قال الله عز وجل {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (النمل: 90) فأبطل الله تعالى أن يجزي أحداً بغير ما يعمل، وبالله التوفيق.
34 - وأما سؤالك عن قول (3) النبي عند موته " [في] الرفيق الأعلى (4) فهم الذين سمى الله تعالى النبيين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم المترافقون في الجنة، جعلنا [الله] من أهلها بمنه، آمين، والسلام عليك يا أخي ورحمة الله.
تم الجواب والحمد لله كثيراً
وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم
آمين
__________
(1) انظر سنن الترمذي (جنة: 19) .
(2) ص: أما.
(3) ص: سؤال.
(4) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: توفي الرسول في بيتي وكان جبريل يدعو له بدعاء إذا مرض، فذهبت أدعو له فرفع بصره إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى (ابن سعد 2: 261) .(3/230)
جزاء من لا عمل له غير الإيمان كالجزاء الانبياء، وهذا ما لا يقوله أحد. وقد أخبر عليه السلام أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرفات كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي، أو كما قال عليه السلام (1) .
33 - وأما قولك هل يبلغ أحد درجات النبيين: فأما أن يساويهم في جميعها فلا سبيل إلى ذلك أصلاً، ولكن أزواجهم معهم فيها بلا خلاف. وأما قولك: قيل إن بعض النبيين أعلى درجة في الجنة [من] العلماء ثم الشهداء، وقيل الصديقين، فأقوال فاسدة لم يأت نص بشيء منها، ولكن الحق من ذلك أن (2) الصحابة - رضي الله عنهم - بعد النبيين على قدرهم، ثم الناس على قدر أعمالهم. قال الله عز وجل {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (النمل: 90) فأبطل الله تعالى أن يجزي أحداً بغير ما يعمل، وبالله التوفيق.
34 - وأما سؤالك عن قول (3) النبي عند موته " [في] الرفيق الأعلى (4) فهم الذين سمى الله تعالى النبيين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم المترافقون في الجنة، جعلنا [الله] من أهلها بمنه، آمين، والسلام عليك يا أخي ورحمة الله.
تم الجواب والحمد لله كثيراً
وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم
آمين
__________
(1) انظر سنن الترمذي (جنة: 19) .
(2) ص: أما.
(3) ص: سؤال.
(4) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: توفي الرسول في بيتي وكان جبريل يدعو له بدعاء إذا مرض، فذهبت أدعو له فرفع بصره إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى (ابن سعد 2: 261) .(3/230)
تصدير
يحتوي هذا الجزء الرابع من رسائل ابن حزم على خمسة عنوانات مرتبة كالآتي:
(1) رسالة في مراتب العلوم.
(2) التقريب لحد المنطق والمدخل إليه.
(3) فصل هل للموت ألم أم لا.
(4) الرد على الكندي الفيلسوف.
(5) تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول.
وهي جميعاً تومئ إلى ما غلي فيه المنحى المنطقي الفلسفي على ما كتبه ابن حزم، وكلها قد نشرت من قبل ما عدا الرسالة الخامسة، ولكن هذه الطبعة تتميز بمقدمة إضافية درست فيها رسالة مراتب العلوم في السياق العام الذي جرى فيه تصنيف العلوم عند العرب من جابر بن حيان حتى ابن حزم؛ وكذلك أعدت كتابة مقدمة " التقريب " في ضوء المعلومات التي وفرها لي اكتشاف مخطوطة جديدة، وأفدت مما كتب حول تصنيف العلوم التقريب من دراسات لباحثين معاصرين. فأما مقدمة " الردّ على الكندي الفيلسوف " فلم أجر فيها إلا قليلاً من التعديلات لاعتقادي أولاً أن هذا الكتاب ليس لابن حزم على وجه اليقين، وثانياً لأنني أعتقد أن ما هذا العنوان يمثل عدة كتب لا كتاباً واحداً وحسب.
ولا بد لي في هذا من التقديم الشكر لعدد من الأصدقاء الذين كان لمساعدتهم أثر كبير في إنجاز هذا الكتاب: فقد أولت الدكتورة وداد القاضي هذا الجزء شيئاً غير قليل من عنايتها ودقتها، كما أمدني الدكتور رضوان السيد بكل ما أعانني على دراسة ما صدر من بحوث حديثة ذات صلة بهذا الجزء، وقام الدكتور جورج صليبا بتوضيح مصطلح " البيابانية " عند أهل الهيئة، وتولى الابن العزيز ماهر زهير جرار عناء تدقيق النص معي، على الأصول الخطية؛ فلهم جميعاً أجزل الشكر.
أما الأستاذ درويش الدم مدير مطبعة " مركز الطباعة الحديثة " فلا أستطيع أن أفيه حقه من الثناء لصبره على كثرة ترددي في القراءات بين الترجيح والقطع، وتغيير الحواشي المرفقة غير مرة، فله للعاملين في المطبعة المذكورة أعلاه أوفى شكر وتقدير.(4/1)
وأخيراً لا آخراً فإن للصديقين الأثيرين: رشاد بيبي وماهر الكيالي فضلاً كبيراً، لا على هذا الجزء من رسائل ابن حزم وحسب، بل على جميع الأجزاء، أما الأول فلدقته المتناهية في ضبط الكتاب وحرصه على الجودة والإتقان، وأما الثاني فلحماسته في رؤية رسائل ابن حزم " مجموعة كاملة ". فللصديقين العزيزين كل الحب والعرفان بالفضل.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما فيه الخير، ويمنحني القدرة على إنجاز ما تبقى من هذه الرسائل، إنه ولي الحمد وأهله.
بيروت في 28 أبريل (نيسان) 1983 إحسان عباس(4/2)
مقدمة
رسالة مراتب العلوم في ضوء ما سبقها
من تصنيف للعلوم عند العرب
ربما كان من المتعذر تحديد بداية دقيقة للنزوع إلى معالجة العلوم على أساس تصنيفي في الحضارة العربية، ولكن هذه الظاهر تطالعنا منذ أواخر القرن الثاني الهجري على يد جابر بن حيان، غير أنها لا تستقوي إلا في أواخر الثالث، تصبح على أشدها في القرن الرابع، اذ تتعدى فيها المحاولات والانتحاءات، تلبيةً لما تم حينئذ من تطورات هامة على جميع المستويات وفي طليعتها تنوع الروافد الثقافية وضروب المعارف التي تستدعي على نحو طبيعي نظرة تأملية فاحصة تقوم على المقايسة والمقارنة بل وعلى المفاضلة في بعض الأحيان (1) .
ولم يكن من المستغرب أن يكون معظم القائمين بهذا النوع من النشاط مفكرين ذوي صلات قوية بالثقافات الأجنبية وبخاصة الثقافة اليونانية، وإذا ذكرنا أبا بكر الرازي والفارابي وإخوان الصفا وابن سينا والتوحيدي على المستوى الفكري النظري للتصنيف، ومحمد بن إسحاق النديم ومحمد بن أحمد الخوارزمي صاحب مفاتيح العلوم على المستوى التطبيقي العملي للتصنيف، فقد حصرنا أهم الذين عنوا بتلك الظاهرة ووضعوا لها أسسها الفكرية (2) .
ولهذه الحقيقة نفسها أسبابها الكثيرة، وفي مقدمتها تعدد ما أصبح ينضوي تحت لفظة " علم " من فنون وصناعات لم تكن تحظى من قبل بهذا الاسم، ومن حقول معرفة جديدة لم يكن اسم العلم إذا أطلق ليشملها؛ ذلك أن لفظة " علم " بصيغة المفرد كانت غامضة أو محدودة؛ أما غموضها فيتصل بتلك الحكم التي تحث على طلب العلم
__________
(1) انظر مسألة تصنيف المعرفة في الشرقين الأدنى والأوسط في القرون الوسطى، بقلم م. م. خير الله يف ص: 193 - 204 (وبخاصة ص: 197) من مجلة التراث العربي، العددان 4، 5 السنة الثانية، دمشق (عدد خاص عن ابن سينا) .
(2) لحميد بن سعيد بن بختيار المتعلم كتاب " إضافة العلوم " ولعله " أصناف العلوم " ذكره ابن النديم في الفهرست (الحاشية) 220.(4/7)
وتتحدث عن فضائله (بل وأحياناً عن كثرته وتنوعه) دون توضيح للمراد، وأما محدوديتها فتتبين لنا حين نجد لفظ العلم مقصوراً على طلب الحديث، فإذا اتسع شمل الفقه أو التفقه على وجهٍ من الوجوه في شؤون الدين (1) ؛ فلما وجد هؤلاء المفكرون أن لفظة " علم " لم تعد تغني كثيراً في الدلالة على ضروب المعارف الأصيل منها والمستحدث جعلوا يتحدثون عن " العلوم " بصيغة الجمع، حيناً، أو يوسعون من مدلول لفظة " علم " حيناً آخر بما يدرجون تحتها ن تفريعات، وكان الإحساس بقوة المفارقة بين تيارين كبيرين تيار الثقافة الأصلية وتيار الثقافة المستحدثة يجعل التصنيف عملاً ملحاً لأنه يخضع ذينك التيارين لوحدة فكرية، ويطمس ما قد يظن بينهما من تعارض، ويتيح للتيار المستحدث وجوداً معترفاً به، ويرسخ أصوله، ويستدعي على مر الزمن قبوله. وكان أمام أولئك المفكرين نموذج في التصنيف يمكنهم احتذاؤه إذا شاءوا، وهو ما يمكن أن نسميه على وجه التعميم النموذج اليوناني، فقد كان لدى أفلاطون تصور واضح لتصنيف العلوم، وكذلك كان الحال بالنسبة لأرسطاطاليس، وكان هذا النموذج يستثير هؤلاء المفكرين إلى الإفادة منه وإلى اختيار مدى صلاحيته لأوضاعهم الثقافية التي لم تكن بالضرورة مشبهة لأوضاع المجتمع اليوناني، كما أن وجود هذا النموذج لدى الفيلسوفين الكبيرين كان يعني أن التصنيف للعلوم جزء من مهمة المفكر، وأنه لا يجوز لمن أخذ بسهم من الدراسة الفلسفية أن يهمل هذه الناحية، لأن مزاولتها تعني دربةً فكرية على رؤية الأصول والفروع، وإبرازاً للقدرة على التصور الواضح لأنواع المقولات.
وكان الجو مهيأ لاستخدام تلك القدرة الفكرية في مجالين؛ أولهما الرد على تلك التفريعات الساذجة للعلم من مثل " العلم أربعة: الفقه للأديان والطب للأبدان والنجوم للأزمان والنحو للسان " (2) ، أو مثل " العلم علمان: علم يرفع وعلم ينفع، فالرافع هو الفقه في الدين والنافع هو الطب " (3) ، ومن هذا القبيل ما يرويه ابن عبد البر عن أبي إسحاق الحوفي (وقد تفوق في الرؤية على ما سبق) : " العلوم ثلاثة: علم دنياوي وعلم دنياوي وأخروي وعلم لا للدنيا ولا للآخرة، فالعلم الذي للدنيا علم الطب والنجوم وما أشبه، والعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم ليس للدنيا
__________
(1) في دلالة لفظة " علم " على الحديث وحده، انظر مثلاً تقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق يوسف العش (الطبعة الثانية 1974) وخاصة الحاشية: 2 ص: 5.
(2) ربيع الأبرار للزمخشري 3: 193.
(3) ربيع الأبرار 3: 201.(4/8)
ولا للآخرة علم الشعر والشغل به " (1) ، ولهذه الأقوال نظائر تسبقها زمنياً وتتلوها، والمراد منها في هذا المقام أن تكون مثالاً على تجاهل أصحابها للنزعة الشمولية في التقسيم والتفريع، أو عجزهم عن التمرس بالنظرة الشمولية في هذا المجال، فالشيء المستقر في نفوسهم هو أن هناك معارف تتصل بالشريعة، وهذه المعارف ضرورية، وأما ما كان خارج ذلك من معارف فهم يختارون منها ما يناسب (كالطب مثلاً) ويهملون كل ما عداه لأنه لا تحكمهم رغبة في الاستقصاء والتصنيف.
وثاني هذين المجالين هو الرد على تعصب الفرد للصنعة التي يحسنها أو ما يمكن أن يسمى " غرور المعرفة القليلة "، وكانت صورة هذا كله تمثل صراعاً بين فضل الأدب بمعناه الواسع وفضل العلم بمعناه الشمولي أيضاً وخير ما يصور هذا الموقف حكاية ذكرها الرازي الطبيب في كتاب الطب الروحاني (2) ؛ قال: " ولقد شهدت ذات يوم رجلاً من متحذلقيهم (يعني الأدباء) عند بعض مشايخنا بمدنية السلام، وكان لهذا الشيخ مع فلسفة حظ وافر من المعرفة بالنحو واللغة والشعر، وهو يجاريه وينشده ويبذخ ويشمخ في خلال ذلك بأنفه ويطنب ويبالغ في مدح أهل صناعته ويرذل من سواهم، والشيخ في كل ذلك يحتمله معرفةً منه وعجبه ويبتسم إليّ، إلى أن قال فيما قال: هذا والله العلم وما سواه ريح، فقال له الشيخ: يا بني هذا علم من لا علم له، ويفرح به من لا عقل له، ثم أقبل عليّ وقال: سل فتانا عن شيء من مبادئ العلوم الاضطرارية، فإنه ممن يرى أن من مهر في اللغة يمكنه الجواب عن جميع ما يسأل عنه، فقلت: خبرني عن العلوم: اضطرارية هي أم اصطلاحية، ولم أتمم التقسيم على تعمدٍ، فبادر فقال: العلوم كلها اصطلاحية فقلت له: فمن علم أن القمر ينكسف ليلة كذا وكذا وأن السقمونيا يطلق البطن متى أخذ إنما صح له علم ذلك من اصطلاح الناس عليه قال: لا، قلت: فمن أين علم ذلك فلم يكن فيه من الفضل ما يبين عما به نحوت؛ قم قال: فإني أقول إنها كلها اضطرارية، ظناً منه وحسباناً أنه يتهيأ له: خبرني عمن علم أن المنادى بالنداء المفرد مرفوع وأن المنادى بالنداء المضاف منصوب، أعلم أمراً اضطرارياً طبيعياً أم شيئاً مصطلحاً عليه باجتماع عليه من بعض الناس دون بعض فلجلج بأشياء يروم أن يثبت
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2: 50.
(2) رسائل فلسفية للرازي 1: 43.(4/9)
بها أن هذا الأمر اضطراري وأقبل الشيخ يتضاحك ويقول له: ذق يا بني طعم العلم الذي هو على الحقيقة علم ".
قد يبدو هذا المثل نموذجاً فردياً، وأنه لا يصلح لأن يستنتج منه حكم عام، لولا أن الرازي يذكر في تضاعيفه أن أصحابه (أي الحكماء) كانوا يردون على هذه العصابة (أي الأدباء) بأن علمهم اصطلاحي، فالأمر أوسع من أن يكون مقصوراً على حادثة فردية، بحيث يمكن أن يكون صراعاً بين فئتين متفاوتتين في الانتماء الثقافي؛ ويستدرك الرازي على ما تقدم بقوله: " ولسنا نقصد الاستجهال والاستنقاص لجميع من عني بالنحو والعربية واشتغل بهما وأخذ منهما، فإن فيهم من قد جمع الله له إلى ذلك حظاً وافراً من العلوم، بل للجهال من هؤلاء الذين لا يرون أن علماً موجود سواهما، ولا أن أحداً يستحق أن يسمى عالماً إلا بهما " (1) .
كان في وسع هذا النحوي اللغوي أن ينكر كل ما سوى علمه لقصور في تصوره، وكان في وسع المحدث أن يتجاهل كل ما لا يمت بصلةٍ إلى علمه لأنه خاضع لمنهجيه دقيقة أيضاً توازي (وليس من الضروري أن توافق) منهجية المفكر المتفلسف، ولكن لم يكن بمقدور هذا الأخير أن يقف موقفاً مشابهاً لهذين، خضوعاً أيضاً لانتمائه ولمنهجه، ولذلك كانت نظرته الشمولية إلى العلوم وتفريعاتها، ثم الخروج بتصنيف لها، أمراً يشبه الحتم، وكان هو حريصاً أشد الحرص على ذلك لكي يمنح الفلسفة (وخاصة الجانب المتافيزيقي منها) مكاناً في تصانيفاته، ذلك أنه لم يكن يجد من ينكر عليه ناحية " المنفعة " في سائر علوم الأوائل (ما عدا الجانب التنجيمي من علم الهيئة وما عدا الموسيقى لدى من يضيق ذرعاً بها) إلا أنه كان يواجه حملة شعواء على مستويات مختلفة إذا هو تحدث عن المتافيزيقا ا (لعلم الإلاهي) . فالرغبة لدى هؤلاء في التصنيف قوة حافزة ليس هدفها إيجاد مكان للمعارف المتصلة بالشريعة ضمن رؤية معينة، فهذه المعارف لها من المؤيدين ما يكفل لها الوجود الكامل في أي تصنيف، ولكن الهدف هو إظهار " التكامل " بين معارف الأوائل والمعارف الدينية أو على الأقل: وضع تصور جديد لا ينبذ الفلسفة ولا يهمل الشريعة، ويتمتع بشمول يحترم الفكر ويجد من الفكر نفسه كل تقدير (2) .
__________
(1) رسائل فلسفية للرازي 1: 44.
(2) يعكس الأستاذ محمد وقيدي هذا الوضع حين يقول: " إن قيام الشريعة الجديدة قد أدى إلى قيام معارف جديدة لم تكن معروفة لدى الأوائل، وهذه المعارف مشروعة وضرورية لارتباطها بأهداف الشريعة، لذلك فإنه ينبغي النظر في الكيفية التي تدمج بها هذه المعارف التي كانت معروفة قبلها "، انظر: المبادئ المعرفي ... في مجلة دراسات عربية، مارس 1982 ص: 72.(4/10)
وكان من أقوى التصانيف جاذبية ذلك التقسيم الثلاثي الذي يستنتج من موقف أرسطاطاليس، أعني قسمة العلوم إلى علوم نظرية وعلوم عملية وعلوم منتجة أو آلية (ميكانيكية) ، ثم على وجه الخصوص قسمة العلوم النظرية في ثلاثة أيضاً هي العلم الرياضي والعلم الطبيعي والعلم الإلاهي (المتافيزيقا) (1) ، وقد وجدت هذه القسمة الأخيرة صيغتها الحاسمة لدى ابن سينا (428 / 1036) حين لم يكتف بأخذها كما هي بل أعطاها من الوصف ما ينبئ عن تدرج في القيمة، إذ وضع العلم الطبيعي في القاعدة وسماه العلم الأسفل، وجعل العلم الإلاهي في الأعلى، وسمى العلم الرياضي العلم الأوسط (2) ؛ وقد كان لهذه التسمية الجديدة أثرها في مختلف الفئات، وعندما وصلت في تأثيرها إلى فقيه مثل ابن عبد البر النمري في القرن الخامس (463 / 1071) تحول بها إلى ما يخدم الغاية الدينية فقال: " والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط، فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصاً، والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة، والعلم الأسفل هو إحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والزي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها " (3) . ولم يكن ابن عبد البر غافلاً عما أحدثه من تغيير في التصنيف الفلسفي لأنه أضاف قائلاً: " وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة، إلا أن العلم الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك، مثل الكلام في حدوث العالم وزمانه والتشبيه ونفيه وأمور لا يدرك شيء منها بالمشاهدة ولا بالحواس " (4) ، وهو يعتقد أن هذا علم عنه لأن الكتب السماوية الناطقة بالحق والصدق قد قامت مقامه.
__________
(1) G. Sarton، Introduction to the History of Science، Baltimore، p. 128، n. b.
(2) تسع رسائل لابن سينا: 105.
(3) جامع بيان العلم 2: 46.
(4) جامع بيان العلم 2: 46.(4/11)
إن هذا النموذج الأرسطاطاليسي السينوي ظل هو المحور المعتمد في كل تصورٍ لأصناف العلوم، ولكن بدلاً من طرح العلم الأعلى عند الفلاسفة ووضع علم آخر موضعه كما فعل ابن عبد البر أصبح جهد المصنفين موجهاً نحو الإبقاء عليه كما هو، واستحداث مركب آخر ثنائي يقسم العلوم في قسمين: علوم الدين وعلوم الدنيا، أو علوم المسلمين وعلوم الأوائل، أو العلوم النقلية والعلوم العقلية، إلى غير ذلك من تسميات خلدت هذا التوزاي على مرّ الزمن. ولا ندري متى بدأت هذه الرؤية الثنائية تجد طريقها إلى التصنيف، ولكنا نعتقد أنها أقدم بكثير من التقسيمات الثلاثية، وأنها ربما كانت وليدة اشتداد حركة الترجمة في القرن الثاني الهجري، ذلك أنا نجدها عند جابر بن حيان (200 / 815) الذي يرى أن العلوم تقع في ضربين: علم الدين وعلم الدنيا (1) ؛ إلا أننا إذا استرسلنا مع جابر في تفريعاته وجدناه يبني منهجاً غايةً في الغرابة، فيقسم العلوم الدينية إلى شرعية وعقلية، والشرعية ظاهرة وباطنة، والعقلية نوعان: علوم معانٍ وعلوم حروف، فعلوم المعاني نوعان: فلسفة وإلهية وعلوم الحروف تنقسم أيضاً إلى قسمين: طبيعي وروحاني، فالطبيعي إلى أربعة: هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسية، والروحانية ينقسم بدوره إلى نوراني وظلماني. ذلك هو الهيكل الذي تمثل أركانه العلوم الدينية؛ أما العلوم الدنيوية فيقسمها جابر بحسب قيمتها إلى علم شريبف وعلم وضيع: فالعلم الشريف هو الكيمياء المجال الذي اختاره جابر لفكره وتجاربه والوضيع هو علم الصنائع التي تعين الإنسان على الكسب الدنيوي (2) .
وليس من الواضح إن كان الكندي (260 / 873) قد اعتمد القسمة الثنائية على نحو ما، فإن رسالتيه اللتين قد توضحان موقفه لم يصلا إلينا وهما: كتاب مائية العلم وأقسامه وكتاب أقسام العلم الإنسي (3) ، غير أن استخدامه لفظة " الإنسي " في عنوان الكتاب يوحي بأنه كان يرى للعلوم مصدرين أحدهما إنساني، وذلك ما يدل عليه قوله في رسالته في كمية كتب أرسطاطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة: " فإن عدم عادم علم الكمية وعلم الكيفية، عدم علم الجواهر الأولى والثواني فلم يطمع له
__________
(1) رسائل جابر بن حيان (كتاب الحدود) : 100 وانظر أيضاً منهج البحث عند العرب لجلال محمد عبد الحميد موسى (بيروت 1972) ص: 61.
(2) انظر التعليق السابق.
(3) الفهرست لابن النديم: 316.(4/12)
في علم شيء بتةً من العلوم الإنسانية التي تتم بطلب وتكلف البشر وحيلهم ... " (1) ثم يمضي في المقارنة بين علم الفيلسوف وعلم الرسل صلوات الله عليهم، فهذا الثاني يكون " بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بجبلةٍ بالرياضيات والمنطق ولا بزمان " (2) ؛ ترى هل يعد الكندي العلوم المنبثقة عما جاء به الرسل من فقه وحديث وغير ذلك وهي جهد إنساني يتم بطلب البشر وتكلفهم من ضمن العلوم الإنسية، أو يلحقها بمصدرها الأول إتباعاً ذلك ما لا تبينه رسالته في كمية كتب أرسطاطاليس التي تنبئ عن معرفةٍ واضحة لتصنيف العلوم حسب النموذج الفلسفي المذكور، وإن كان الإحساس بالثنائية متوافراً لديه (3) .
وذلك الإحساس نفسه هو الذي كان يشعر به الفارابي (339 / 950) وهو يحاول إحصاء العلوم؛ غير أنه بدلاً من أن يجعل العلوم في قسمين: دينية ودنيوية، اختط لنفسه منهجاً جديداً يمكن أن يوصف بالتفرد، فقد أبرز في البداية قيمة علمين قد يعدهما غيره آلتين للعلوم وهما علم اللسان وعلم المنطق، والثاني منهما عند أرسطاطاليس آلة (وكذلك عند ابن سينا) ، وغايته من ذلك حصر الأساسين الكبيرين اللذين تنبني عليهم العلوم جملةً، وما كان ليتجاهل أن هذين الأساسين بتفريعاتهما المختلفة قد أصبحا وخاصة علم اللسان علوماً جمة؛ فعلم اللسان يشمل علم بالألفاظ المفردة وعلم الألفاظ عندما تكون مفردة وعلم قوانينها عندما تكون مركبة وقوانين تصحيح الكتابة وقوانين تصحيح القراءة وقوانين تصحيح الأشعار (4) .
سبعة علوم في مجموعها عند كل أمة تمثل " الأوليات " التعبيرية وصورها المختلفة؛ فهي على أنه علم أو علوم تمثل في سياق العلوم الأخرى ما تمثله الأبجدية في الكتابة، وأما صناعة المنطق فإنها تعطي بالجملة " القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات، والقوانين التي يمتحن بها
__________
(1) رسائل الكندي الفلسفية 1: 372.
(2) المصدر السابق 1: 373.
(3) لا يتحدث الكندي في رسالته المشار إليها عن تفرعات العلوم الدينية، وإنما يتحدث عن تفرعات الفلسفة فهي تنقسم قسمين: علوم هي آلة كالمنطق والرياضيات (من عدد وهندسة وتنجيم وموسيقى) وعلوم تطلب لذاتها على المستويات النظري (كالطبيعيات وعلم النفس والمتافيزيقا) والعملي (كالأخلاق والسياسة) .
(4) إحصاء العلوم: 46 - 47.(4/13)
في المعقولات ما ليس يؤمن أن يكون قد غلط فيها غالط " (1) . ويقارن الفارابي بين المنطق وبين علم النحو وعلم العروض (2) ، ويورد أقسام المنطق الثمانية بحسب كتب أرسطاطاليس: قاطيغورياس، باري أرمنياس، أنالوطيقا الأولى، أنالوطيقا الثانية، طوبيقا، سوفسطيقا، ريطوريقا، بويطيقا (3) . أما العلم الثالث فهو ما يسميه أرسطاطاليس العلم الرياضي، ويسميه الفارابي علم التعاليم، ويسقمه إلى علم العدد والهندسة والمناظر والنجوم والموسيقى والأثقال والحيل، فيضيف إلى الأربعة الكبرى، وهي العدد والهندسة والنجوم والموسيقى ثلاثة أخرى يعدها غيره أقساماً فرعية للعلوم الرياضية (4) ، ويبدو هنا حرص الفارابي على التوازن العددي، فعلوم اللسان سبعة وكذلك التعاليم، وعلم المنطق ثمانية، وكذلك العلم الطبيعي (وهو الرابع من حيث الترتيب) ، فهو ثمانية فروع مبنية على جهود أرسطاطاليس في كتبه الآتية: السماع الطبيعي والسماء والعالم والكون والفساد والآثار العلوية وكتاب المعادن وكتاب النبات وكتاب الحيوان وكتاب النفس. فإذا عرض الفارابي للعلمين الخامس والسادس وهما العلم الإلاهي زالعلم المدني (أو ما يسميه غيره العلوم العملية: من أخلاق وسياسة وتدبير) تبين لنا أنه التزم إلى حد كبير بالمفهوم المشائي لصنوف العلوم؛ غير أنه يفاجئنا برؤية جديدة حين يضع العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام في فصل واحد، ذلك أنه يلمح قاسماً مشتركاً بين هذه العلوم، فإذا كانت الأخلاق تبحث في الفضائل والرذائل، وكانت السياسة هي أن تكون الأفعال والسنن الفاضلة موزعة في المدن والأمم (والتدبير يعني بالمنزل وبشؤون الاقتصاد عامة) فإن الفقه يتناول الأفعال التي تنظم المعاملات، كما أن الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة، أي هو نصر للفقه والأصول الفقهية.
ولا بد من أن نلحظ أن إحصاء الفارابي للعلوم، رغم احتفاظه بلب التصنيف الفلسفي، استطاع أن يضيف إليه أجزاء جديدة مستوحاة من الواقع العملي للعلوم لدى الأمة
__________
(1) إحصاء العلوم: 53.
(2) إحصاء العلوم: 54.
(3) أصبحت أقسام المنطق تسعة عند ابن سينا (تسع رسائل) لأنه عد فيها إيساغوجي أو المدخل لفرفوريوس الصوري، وقد أخذ بهذا بعض من جاءوا بعده.
(4) تسع رسائل: 112.(4/14)
الإسلامية (1) ، وإن لم يحاول أن يلجأ إلى ثنائية الدين والدنيا، بل مزج بينهما مزجاً بارعاً على نحو لم يوفق إليه من جاءوا بعده؛ ومن الواضح أن منهج الفارابي يتميز بوضع " مقولات كبرى " يمكن أن تندرج تحتها تفريعات قد تجد في المستقل، فهو لم يحاول أن يعطي للفروع تسميات محددة، وإنما ترك الجو صالحاً لمزيد من التوالد الطبيعي في العلوم. ويبدو أن كتاب إحصاء العلوم يمثل تطوراً في نظرة الفارابي نفسه إلى التصنيف؛ ففي رسالة " كتاب التنبيه على سبيل السعادة " نجده يلتزم التقسيم التقليدي، فيجعل الفلسفة النظرية ثلاثة أصناف: علم التعاليم والعلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعيات، والفلسفة المدنية تشمل الأخلاق والسياسة. ولم ينس الفارابي أن يعرج على تبيان ما يميز علماً عن علم في المرتبة، ولهذا جعل فضيلة العلم أو الصناعة مبنيةً على واحد من الأمور الثلاثة؛ فالعلم يفضل علماً آخر بشرف الموضوع مثل علم النجوم، أو باستقصاء البراهين مثل علم الهندسة، أو بعظم الجدوى مثل العلوم الشرعية والصناعات الضرورية، وقد يجتمع ثلاث من هذه الخصائص أو اثنتان في علم فيكتسب فضيلة إضافية وتلك هي الحال العلم الإلاهي (2) .
وليس يضيرنا أن نسأل هنا على ضوء ما جد بعد الفارابي من نظرات تصنيفية أين يقع في منهجه المتطور كل من الطب والفراسة وتعبير المنامات والطلسمات والنيرنجات والكيمياء وسائر تلك الأمور التي ستجد لها مكاناً بعده لدى إخوان الصفا وابن سينا، سواء أجعلت أصولاً أم فروعاً في البنية التصنيفية؛ إن هذا التساؤل يوضح إلى أي مدى كان الفارابي منحازاً إلى " الأساس الفكري " (3) في نظرته إلى العلوم، على ما منهجه العام من مرونة وسعة.
وحين حاول إخوان الصفا أن يلبوا حاجة الواقع الراهن حينئذ في تصنيفهم للعلوم عادوا إلى انتحال قسمة ثلاثية من نوع جديد، فجعلوا العلوم رياضية (يعني قائمة على الدربة والتمرين، وهي شيء مختلف عن الرياضيات) وشرعية وفلسفية، محاولين
__________
(1) استيحاء الواقع العملي في التصنيف شيء والقول بأن التصنيفات للعلوم تبين المعيار الذي تقاس به المعارف في كل عصر شيء آخر، فالعيار لدى معظم هؤلاء الفلاسفة لم يكن يعكس معياراً عصرياً عاماً (راجع مقالة وقيدي المذكورة سابقاً ص: 71 - 72) .
(2) كتاب التنبيه على سبيل السعادة (ضمن رسائل الفارابي ط. حيدر أياد الدكن 1345، وكل رسالة مرقمة على حدة) ص: 20 - 21.
(3) رسالة في فضيلة العلوم والصناعات (ضمن رسائل الفارابي) ص: 1.(4/15)
الاحتواء الشامل لكل ضروب النشاط الإنساني، موسعين من مدلول لفظة " علم " إلى أقصى حد تتطلبه طبيعة العصر، ولا بأس أن أورد هنا تقسيماتهم لطرافتها (1) :
أ - العلوم الرياضية تسعة:
(1) علم الكتابة والقراءة.
(2) علم اللغة والنحو.
(3) علم الحساب والمعاملات (الحساب هنا بمعنى المحاسبة وليس علم العدد النظري) .
(4) علم الشعر والعروض.
(5) علم الزجر والفأل وما يشاكله.
(6) علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما شاكلها.
(7) علم الحرف والصنائع.
(8) علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل.
(9) علم السير والأخبار.
ب - العلوم الشرعية ستة.
(1) علم التنزيل.
(2) علم التأويل.
(3) علم الروايات والأخبار.
(4) علم الفقه والسنن والأحكام.
(5) علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف.
(6) علم تأويل المنامات.
ج - العلوم الفلسفية أربعة.
(1) الرياضيات، وهي أربعة: العدد. الجومطريا. الأسطرنوميا. الموسيقى.
(2) المنطقيات، وهي خمسة (ترتقي إلى ثمانية كتب أرسطاطاليس يضاف إليها ايساغوجي) .
(3) الطبيعيات، وهي سبعة (بحسب ما في كتب أرسطاطاليس في هذا المجال) .
(4) الإلهيات، وهي خمسة: معرفة الباري. علم الروحانيات. علم النفسانيات.
__________
(1) رسائل إخوان الصفا 1: 266 - 275.(4/16)
علم السياسة. علم المعاد.
ويتضح من هذا كله مدى التغييرات التي أحدثوها في مناهج ن سبقهم إضافةً وتعديلاتن فقد حشدوا الأمور النفعية التي تتطلبها الحياة اليومية أو ترغب فيها تحت عنوان جديد هو العلوم الرياضية (دون أن يكون للطب أي وجود في نظامهم) ، وتنبهوا لأول مرة إلى علم السير والأخبار، وآثروا كلمة " تأويل " على كلمة " تفسير " خدمةً لمعتقداتهم الإسماعيلية، وعدوا المواعظ والزهد والتصوف لأول مرة علماً، وجعلوا تأويل المنامات تحت العلوم الشرعية، ولم يغيروا شيئاً في تصنيف المنطقيات والطبيعات عما جاء عند الفارابي، ولكنهم جعلوا السياسة في الإلاهيات، وهو شيء لا وجود له في النموذج اليوناني، كما أن مفهوم للروحانيات (التي هي ملائكة الله وخالص عباده) والنفسانيات (التي هي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية) وإضافتهم علم المعاد (وهو كيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد وحشرها لحساب يوم الدين) كل ذلك إلى استغراقهم في توصيل معتقداتهم الخاصة إلى الآخرين، وتلك هي غايتهم الكبرى من مجموع الرسائل.
وموقف ابن سينا في تصنيف العلوم مقارب لموقف إخوان الصفا، وأغلب الظن أنه متأثر بهم، فقد كان أبوه إسماعيلياً على ما حكى في سيرته، ولكنه أشد حذراً منهم، وأكثر التزاماً بالمفهوم الأرسطاطاليسي (1) . فالسياسة والأخلاق عنده ما يزالان كما هما عند الفارابي من العلم المدني (أو الحكمة العملية) إلا أنه يضيف إليهما ما يتعلق بالنبوة والشريعة، ويجعل الطب والتنجيم والفراسة والتعبير والطلسمات والنيرنجات والكيمياء فروعاً من الحكمة الطبيعية، ويعد عمليات الحساب وعلم المساحة والحيل وجر الأثقال والموزاين ونقل المياه والزيجات والتقاويم متفرعة من العلوم الرياضية. ويكاد اللقاء بين ابن سينا وإخوان الصفا يكون تاماً في ما يشمله العلم الإلاهي (بعد إسقاط علم السياسة) ، فهذا العلم يتكون في نظره من خمسة أصول: النظر في معرفة المعاني العامة لجميع الموجودات ن الهوية والوحدة والكثرة والوفاق والخلاف ...
الخ النظر في الأصول والمبادي، النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده، النظر في
__________
(1) يخرج ابن سينا بعض الشيء عن مفهوم أرسطاطاليس، ذلك في منطق المشرقيين (ص: 6) حين يجعل العلوم النظرية أربعة: العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي والعلم الكلي (والكتاب ناقص لا يفي بما وعد به في المقدمة ولذلك فليس واضحاً ما يعنيه بالعلم الكلي) .(4/17)
إثبات الجواهر الأول الروحانية، تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية؛ تلك هي أصول العلم الإلاهي، أما الفروع فهي كيفية نزول الوحي، والجواهر الروحانية التي تؤدي الوحي، وعلم المعاد (1) .
ويكرر أبو الحسن العامري تصور الكندي للعلوم من أنها علوم هي آلة كالمنطق واللغة وعلوم مقصودة لذاتها، إلا أنه أوضح وأصرح من الكندي حين يجعل العلوم الملية موازية للعلوم الحكمية من حيث إن كلاً من الفئتين تقصد لذاتها؛ ويعني بالعلوم الملية صناعات ثلاثاً: صناعة الحديث وهي تشمل الأخبار والتفسير والتاريخ والحديث، وصناعة الكلام، وصناعة الفقه، وصحيح أن العلوم الحكمية (التي آلتها المنطق) تختلف عن العلوم الملية (التي تتخذ من اللغة آلة لها) في المنهج فإحداهما قائمة على العقل والبرهان والأخرى على الخبر، ولكن الاثنتين تتعاونان على بلوغ السعادة الأبدية وليس بينهما " عناد أو مضادة ". ولا بد من أن نلحظ هنا أن العامري يصرح بالتكافؤ في قسمته الثنائية على غير ما جرى عليه الفارابي وابن سينا، وأنه يلتقي مع إخوان الصفا حين يجعل " علم الأخبار والتاريخ " واحداً من العلوم الملية (الشرعية) (2) .
تلك صورة للجهود النظرية التي بذلت في التصنيف حتى أوائل القرن الخامس الهجري، وهي إذا وضعت موضع التطبيق العملي قد تتطلب تعديلاً في مجالات مختلفة، فهناك علوم قد تجد ولا يؤخذ لها حساب في المنهج النظري (إلا أن يكون مرناً مثل منهج الفارابي) ، وهناك علوم فرعية في نظر أولئك المصنفين ولكن العلم الفرعي قد يتسع مع الزمن ويكبر الاهتمام به حتى ليزاحم العلم الأصلي في أهميته وكثرة تفرعاته الجديدة، وليس يغني كثيراً أن يقال إنه من الناحية الفكرية المحض فرع من العلم الطبيعي أو من العلم النظري مثلاً. وقد تنبه الفارابي إلى شيء من هذا عندما عدّ علم الأثقال وعلم المناظر في صميم علم التعاليم، بينما عدهما ابن سينا علوماً فرعية؛ ولهذا كانت حاجة المصنف العملي إلى تسمية العلوم وعدها أكثر من حاجته إلى تصنيفها، مع عدم الخلط بين تيارين يبدوان متفاوتين في طبيعتهما. ولهذا عادت القسمة الثنائية تفرض نفسها أكثر من أية قسمة أخرى في هذا المجال وخاصة لدى الخوارزمي (387 / 997) وابن النديم (438 / 1047) .
__________
(1) تسع رسائل: 110 - 116.
(2) الإعلام بمناقب الإسلام: 87 وما بعدها؛ وانظر تصنيف العلوم لدى ابن حزم، مقالة للدكتور سالم يفوت في مجلة دراسات عربية (مارس 1983) ص: 63 - 64.(4/18)
وقبل أن نعرض لهذين المصنفين لا بد من الوقوف عند رسالة تبدو خارجةً تماماً عن المنطق التصنيفي الذي عرفناه منذ الكندي حتى ابن سينا، فلا هي تلحظ القسمة الثلاثية ولا تحفظ بدقة الثنائية ولا يبدو أن لها صلة بالتصنيف النظري أو العملي، وتلك هي " رسالة في العلوم " وهي تحمل اسم أبي حيان التوحيدي (414 / 1023) وتجئ رداً على من زعم أن " ليس للمنطق مدخل في الفقه، ولا للفلسفة اتصال بالدين، ولا للحكمة تأثير في الأحكام " (1) ، فهي دفاع عن المنطق والفلسفة (الحكمة) وعن طريقة الأوائل جملةً، ومؤلفها يحيل على كتب ألفت من قبل، منها كتاب أقسام العلوم وكتاب اقتصاص الفضائل وكتاب تسهيل سبل المعارف (2) . والكتاب الأول أقسام العلوم هو في الأرجح من تأليف أبي زيد البلخي أحمد بن سهيل (3) (322 / 934) ، وأما الثاني والثالث فلم أعثر على صاحبيهما، على أن للكندي رسالة بعنوان " رسالة في تسهيل سبل الفضائل " (4) ، والعنوان الذي ذكره مؤلف رسالة العلوم يجمع بين اسمي الرسالتين المذكورتين على نحو يوحي بأن ثمة خلطاً سببه اضطراب النسخ؛ ويبدو على كل حال أن مؤلف الرسالة كان من أبناء القرن الرابع لأنه لا يتجاوز الإشارة إلى البلخي والكندي، وهو قد غادر العراق إلى بلد لم يذكره، ولكنه لقي في ذلك البلد من يتعقبه " أما إنه لو أنصف لعلم أني إلى تسمحه أحوج مني إلى تصفحه، وهو بمجاملته أسعد مني بمجادلته، وأنا لإحسانه أشكر ني لامتحانه " (5) . فمؤلف الرسالة في البلد الذي حله داعية إلى المنطق والفلسفة، وهو يجد من ينكر عليه ذلك، وهو يتحدث إلى القوم الذي نزل بينهم بلغة الاستعلاء حين يقول " فما هذا بلغني عن بعضكم على حسن توفري على صغيركم وكبيركم "؛ وهذا المؤلف يمنح الكلام مقاماً كبيراً بين العلوم، فهو علم " يدور النظر فيه على محض العقل في التحسين والتقبيح والإحالة والتصحيح " (6) ، بل هو متأثر بالفارابي في ما يجريه من مقارنة بين الكلام والفقه حين يقول: " وبابه مجاور لباب الفقه والكلام فيهما مشترك، وإن كان بينهما انفصال وتباين فإن الشركة بينهما واقعة، والأدلة فيهما متضارعة؛ ألا ترى أن الباحث
__________
(1) رسائل أبي حيان التوحيدي: 105.
(2) رسائل أبي حيان: 106.
(3) الفهرست: 153.
(4) الفهرست: 319.
(5) رسائل أبي حيان: 104.
(6) رسائل أبي حيان: 108.(4/19)
عن العالم في قدمه وحدثه وامتداده وانقراضه يشاور العقل ويخدمه ويستضيء به ويستفهمه، كذلك الناظر في العبد الجاني: هل هو مشابه للمال فيرد إليه أو مشابه للحر فيحمل عليه " (1) ؛ وكل هذا لا ينطبق على التوحيدي، لم يكن يسافر من بلد إلى بلد " مفيداً أو مستفيداً " للدعوة إلى المنطق والفلسفة، وهو أبعد ما يكون عن الشعور بأسباب السيادة والاستعلاء، وهو ضيق الصدر بالكلام والمتكلمين على حد سواء.
ومهما يكن من أمر فإن مؤلف هذه الرسالة يرتب العلوم على النحو التالي: الفقه (ومداره على الكتاب والسنة والقياس) والكلام والنحو واللغة والمنطق والطب والنجوم والحساب المفرد بالعدد والهندسة والبلاغة ثم التصوف (وهو مضاف إلى الرسالة إلحاقاً) . وباستطاعتنا أن نلحظ أنه يعد أربعة من العلوم الإسلامية وخمسةً من علوم الأوائل؛ فأما وضعه البلاغة عاشراً لتلك العلوم التسعة فحجته فيه أن البلاغة تتصل بكل واحدٍ منها، وقد منح للبلاغة ما منحه الفارابي لعلم اللسان جملةً؛ وموضع المغالطة عند مؤلف الرسالة أنه بدلاً من أن يحدد مفهوم البلاغة وأبعادها تحدث عن البليغ الذي يستطيع بصناعته " سلّ السخائم وحل الشكائم " الذي يجب أن يبرأ من التكلف وأن يحتكم إلى سلاسة الطبع، وبدلاً من أن تجئ البلاغة عنده نتيجةً لا حكام اللغة والنحو وغيرهما من الأدوات جاءت علماً مستقلاً بنفسه، ولم تكن في الواقع كذلك. وبهذا خرج على القسمة الثنائية، كما أغفل علوماً أخرى كانت جديرة باهتمامه.
ويبدو تأثر المؤلف بمن سبقه من المصنفين النظريين حين ألمح بسرعة إلى انقسام كل علمٍ من علوم الأوائل إلى اتجاه عملي وآخر نظري، كذلك هو وضع الطب والنجوم والحساب والهندسة. فمن اقتصر على الجانب العملي منها كان في درجة الصناع ولم يعد في العلماء، ويمكن أن نعد ذكره للتصوف تثراً بإخوان وإن كان حديثه عن التصوف يذكر بأبي حيان، وذلك حين يقول: " اعلم أن التصوف علم يدور بين إشارات إلاهية وعبارات وهمية وأغراض علوية وأفعال دينية وأخلاق ملوكية " (2) ، ومجيء التصوف في نهاية الجريدة كلها يدل على اضطراب في التقسيم، كما قدمت فإذا عددناه إلحاقاً على أصل الرسالة فإنا لا نستبعد أن يكون المؤلف قد اقتبسه من أبي حيان وبسببه نسبت الرسالة كلها له.
__________
(1) المصدر نفسه: 109.
(2) المصدر السابق: 116.(4/20)
ويختلف التصنيف لدى الخوارزمي وابن النديم بسبب اختلاف الغاية عند كل منهما. فالأول يهدف إلى حصر المصطلحات التي جدت في كل علم، ولذلك كانت قسمته للعلوم بسيطة، فهي تقع في مقالتين، وكل مقالة تنقسم في فصول، فالأول منهما تضم الفقه، والكلام، والنحو، والكتابة، والشعر والعروض، والأخبار؛ والثانية تضم الفلسفة والمنطق والطب وعلم العدد والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والحيل والكيمياء؛ وهو يصرح بأنه اختار القسمة الثنائية لأنه يريد أن يخصص المقالة الأول للحديث عن علم الشريعة وما يقترن بها من العلوم العربية، والثانية لعلوم العجم من اليونانيين وغيرهم من الأمم (1) . وإذا كانت هذه القسمة صريحة لدى الخوارزمي فإنها ضمنية لدى ابن النديم، ويمكن بسهولة أن نرى في تتابع العلوم الإسلامية في المقالات الست الأولى ثم ذكر الفلسفة والعلوم القديمة بعد ذلك اتكاءً على التقسيم الثنائي، ولكن مهما يكن من شأن هذا التصنيف الضمني فقد كانت طبيعة عمل ابن النديم تستلزم النظر إلى الكتب المؤلفة لا إلى افتراض مجالات علمية، وتلك الكتب المؤلفة أحياناً تعز على التصنيف التقليدي المتوارث حتى عهده؛ فهناك مثلاً علم الكلام، وهو داخل في بعض التصنيفات السابقة، ولكن هناك المتكلمون من شتى الفرق الإسلامية، وقد ألفت في أخبارهم كتب كثيرة، وهناك كتب بالعربية في مذاهب الصابئة الحرانية وغيرهم، وكلها تستحق أن تفيد ضمن التاريخ الشمولي للحركة الفكرية؛ ولكن أين تقع تلك الكتب إذا اعتبرنا التصنيف المتعارف
لهذا يتعدى ابن النديم حدود التصنيف للعوم إلى أمور تقع في خارجه وفاءً بالغاية التي من أجلها صنع كتاب الفهرست، ولا يمكن أن يحاسب مثلما يحاسب مثلاً ابن سينا وإخوان الصفا، فهؤلاء جعلوا للطلسمات والنيرنجات وما أشبهها مكاناً في المبنى العلمي، وقد كان في مقدورهم أن يسقطوا (من زاوية الفكر النظري لمفهوم لفظة علم) ؛ ولكن ابن النديم الذي كان يحصى ما ألف من كتب في كل مجال لا يلام إذا عقد فصلاً (المقالة الثامنة) في فنون الأسمار والخرافات والعزائم والسحر والشعبذة، ولو أسقط هذا الفصل من كتابه لكان ذلك إخلالاً بالأمانة في رصد الواقع العملي؛ ولما كان الفهرست مبنياً على أخبار المؤلفين في كل فن (ثم ذكر ما ألفه كل منهم في ميدانه) فليس من العدل أن نطبق عليه الأحكام التي تطبق على غيره من الكتب الخاصة
__________
(1) مفاتيح العلوم: 4 - 5.(4/21)
بالتصنيف؛ وقد كان في مقدور الفهرست أن يوحي بإعادة النظر في تصنيف العلوم ولكنه لم يفعل إلا في حدود يسيرة.
في هذا السياق المشرقي المتدرج يجيء ابن حزم (456 / 1046) في أقصى المغرب (في الأندلس) ليمثل وقفة هامة لأنها تجاوزت ما تم في المشرق، وإن كان صاحبها قد تأثر بما حققه المشارقة في هذا الميدان. فقد انطلق ابن حزم نحو الحديث عن العلوم وتصنيفها من موقعين: الأول صلته بالمنطق والفلسفة، وهي صلة تكاد تلزم صاحبها بالوقوف عند العلوم ومقدمات كل علم وكيفية أخذ تلك المقدمات، وهذا ما تصدى له في كتاب التقريب لحد المنطق، والثاني نزعة التدين العملي التي كانت توجه تلامذته إلى سؤاله عن العلوم وماذا يأخذون منها وماذا يتركون، وهذا ما عرض له في رسالته " مراتب العلوم " و " رسالة التلخيص لوجوه التخليص ".
ومن الغريب أن ابن حزم في التقريب قد تناهى في التبسيط فلم يعبأ بتلك النظرة الشمولية التي وضعها الفارابي ولا بتلك التصنيفات الأرسطاطاليسية التي تمسك بها ابن سينا، ولم يعر التقسيم الثلاثي أدنى اهتمام، بل اكتفى بتسمية العلوم الدائرة بين الناس في زمنه فوجدها على طريق الحصر اثني عشر علماً (ينتج عنها علمان) فعدها دون أن يراعي قليلاً ثنائياً الانقسام بين العلوم الإسلامية وعلوم الأوائل وهي: علم القرآن. علم الحديث. علم المذاهب. علم الفتيا. علم النحو. علم اللغة. علم الشعر. علم البر. علم الطب. علم العدد والهندسة. علم النجوم (وينتج عنها لم البلاغة وعلم العبارة) (1) ؛ وفي هذه التسمية رغم بساطتها نجد أن ابن حزم قد ذكر علمين لم يكن لهما ذكر من قبل وهما علم المذاهب وعلم الفتيا؛ وأكد حرصه على علم العبارة (تعبير المنامات) وعلم الخير، وضع البلاغة في نهاية العلوم الأصلية كما فعل مؤلف الرسالة المنسوبة لأبي حيان؛ ولا نظن أن ابن حزم قد زاد علماً جديداً على ما كان معروفاً، فعلم المذاهب يمكن أن يستنتجه كل من قرأ " الفهرست "، وهو تسمية جديدة لعلم الكلام توسع من حدوده أو تضيق بحسب مفهومات المذهب الظاهري (2) ، مثلما أن علم الفتيا تسمية جديدة لعلم الفقه (توسع من حدوده أو
__________
(1) التقريب لحد النطق (الطبعة الأولى) : 201.
(2) أشار إليه ابن حزم في موضع آخر من التقريب (ص: 10) باسم " علم النظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات ".(4/22)
تضيق) لأن الفتيا تعتمد في نظره على مقدمات مأخوذة من القرآن والحديث والإجماع (ولم يقل القياس لأنه ينكره في مذهبه) ؛ ومن الواضح أنه كسر التقسيم الثنائي حين تعمد أن يضع المنطق بين العلوم الإسلامية ليوحي بأنه علم مشترك بين جميع الأمم مثلما أنه في خدمة جميع العلوم، كما أنه لم يجر أي ذكر للفلسفة لأن القسم الذي يهمه منها مثل حدوث العالم والخلاء والملاء وما أشبه يقع حسب تصوره في ما سماه " علم المذاهب "؛ كما أنه لم يفسح في تصنيفه هذا مجالاً للعلوم الطبيعية (عدا الطب) مثل الحيل والمناظر؛ والجواب عن هذا أنه يحتكحم إلى الأمر الدائر بين الناس في تعداد العلوم هنا، وأنه يعلم تماماً كما قال في رسالته في مراتب العلوم " أن كل ما علم فهو علم فيدخل في ذلك علم التجارة والخياطة والحياكة وتدبير السفن وفلاحة الأرض ... " (1) . وبسبب هذا الاحتكام إلى ما دار بين الناس فارق التصنيف الفلسفي عن وعي وتعمد: " وهذه الرتبة هي غير الرتبة التي كانت عند المتقدمين، ولكن إنما نتكلم على ما ينتفع به الناس في كل زمان مما يتوصلون به إلى مطلوبهم من إدراك العلوم " (2) ، وهي غاية عملية تنسجم تماماً مع روح كتاب التقريب الذي ما وضع أصلاً إلا لتلك الغاية نفسها.
واستجابةً لتساؤلات تلامذته حول العلوم استطاع ابن حزم أن يقرر الحد الأدنى الضروري لكل طالبٍ من علم القراءات والحديث والنحو واللغة والشعر والحساب والطب (3) ، كما توجه بطبيعة التساؤلات نفسها إلى فكرة المفاضلة بين العلوم، وهذا ما يوحي به عنوان رسالته " مراتب العلوم "، وهو عنوان استعمله الفارابي من قبل (4) ، ولعله هو ذلك الكتاب نفسه الذي سمي من بعد " إحصاء العلوم ". ودين ابن حزم للفارابي يتجاوز العنوان إلى فكرة المفاضلة نفسها التي عرضها الفارابي أيضاً في إحدى رسائله الأخرى، إلا أن ابن حزم انتقل بالمفاضلة إلى مستوى جديد لم يهتم به الفارابي، للفرق الأصيل بين توجه الرجلين؛ فأفضل العلوم لدى ابن حزم " ما أدى إلى الخلاص
__________
(1) رسائل ابن حزم (ط / 1956) : 80.
(2) التقريب: 201.
(3) رسائل ابن حزم: 63 وما بعدها؛ والرد على ابن النغريلة ورسائل لابن حزم: 160.
(4) الفهرست: 321 وقد جاء في فاتحة إحصاء العلوم: " مقالة في إحصاء العلوم، كتاب أبي نصر محمد بن محمد الفارابي في مراتب العلوم ".(4/23)
في دار الخلود ووصل إلى الفوز في دار البقاء " (1) ، وذلك هو علم الشريعة، إذ حقيقة العلم ما ينفع في الدار العاجلة والآجلة؛ وليس معنى هذا أن العلوم الأخرى مطرحة، بل كل علم منها له فضل في ذاته وفضل في أنه درجة تصل بصاحبها إلى إتقان العلم الأسمى؛ ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يحيط بالعلوم كلها فإنه ينصح بأن يأخذ من كل علم بنصيب، " ومقدار ذلك معرفته بأعراض ذلك العلم فقط ... ثم يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحيلته فيستكثر منه ما أمكنه، فربما كان ذلك منه في علمين أو ثلاثة أو أكثر على قدر زكاء فهمه وقوة طبعه وحضور خاطره وإكبابه على الطلب ... " (2) وهنا يعود ابن حزم ليقرر الحد الأدنى الصالح من كل علم ولكن على نحو متدرج لكي يرسم برنامجاً تربوياً للدراس، يوصله في النهاية إلى إتقان علم الشريعة، وهذا هو المنهج الإسلامي الذي يضعه ابن حزم عامداً فيما أظن إزاء المنهج الأفلاطوني الذي تطلب فيه العلوم بالتدريج أيضاً للبلوغ إلى مرحلة الديالكتيك، كما يعرف كل من له إلمام بمنهجه التعليمي في كتاب الجمهورية.
ولكن ما هي هذه العلوم التي يفترض في الدارس أن يعرفها هنا يفارق ابن حزم ذلك التعداد الذي أوصلها من قبل إلى أربعة عشر علماً، ليضع قاعدة جديدة في التصنيف لم يتنبه لها أحد سوى الفارابي على نحو عام، وهي أن العلوم عند كل أمة وفي كل زمان ومكان سبعة: ثلاثة علوم تتميز بها أمة عن أخرى وهي علم شريعتها وعلم أخبارها وعلم لغتها، وأربعة تتفق فيها الأمم وهي علم النجوم وعلم العدد وعلم الطب وعلم الفلسفة (3) ؛ إن العودة إلى سحر الرقم سبعة في هذه القسمة يجب أن لا يوقع في الوهم بأنها متناقضة مع القسمة الأولى إلى أربعة عشر، لأن التدقيق يجعلنا نرى أن علوم الأوائل (أو العلوم المشتركة بين الأمم) كانت بحسب الإحصاء الأول أربعة، وهي كذلك في الإحصاء الثاني بفرق واحد وهو وضع الفلسفة في موضع المنطق لأنها أعم في الدلالة؛ أما العلوم الخاصة بكل أمة على حدة فإن ما عد في الإحصاء الأول هو تفريعاتها؛ فعلم الشريعة يساوي في الإحصاء الأول: علم القرآن. الحديث. المذاهب. الفتيا (مع وضع لفظتي الكلام والفقه موضع المذاهب والفتيا) ؛ وعلم اللغة يساوي اللغة. النحو. الشعر؛ وعلم الخبر على حاله في كليهما؛ ثم هناك علمان في
__________
(1) رسائل ابن حزم: 62.
(2) رسائل ابن حزم: 73.
(3) رسائل ابن حزم: 78.(4/24)
الإحصاء يكونان نتيجة عن العلوم وهما علم البلاغة وعلم العبارة.
ولا يخضع ابن حزم لواقع التأليف كما خضع مفكرو المشرق فعدو في العلوم أموراً لا ينطبق عليها اسم العلم مثل الطلسمات والكيمياء (بمعنى تحويل المعادن إلى ذهب) والسحر والشعوذة، لا لأن هذه الأشياء قد تتعارض مع بعض معتقده الديني، وإنما لأنها كانت علوماً عند ناس ثم درس رسمها " فمن ذلك علم السحر وعلم الطلسمات، فإن بقاياها ظاهرة لائحة، وقد طمس معرفة علمها " (1) ، أي أن ابن حزم يرى أسسها ووسائلها قد خفيت ولا سبيل إلى استعادتها، ومن قبيل هذين العلمين الموسيقى وقد يبدو هذا مستغرباً لأول وهلة، ولكن الذي يعنيه ابن حزم هو الموسيقى التي يحكمون أنها كانت تشجع الجبناء وتسخي البخلاء وتؤلف بين النفوس ثلاثة أنواع من الموسيقى لم يعد لها وجود؛ فأما الموسيقى التي لا تصنع مثل هذه المعجزات فإنه لا ينكر وجودها (2) ويضيف إلى هذين علم الكيمياء، فهو بخلاف الطلسمات والموسيقى اللذين وجدا ثم عد ما لم يكن له وجود ألبته: " وأما هذا الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز فلم يزل عدماً غير موجود وباطلاً لم يتحقق ساعةً من الدهر، إذ من المحال الممتنع قلب نوع إلى نوع، ولا فرق بين أن يقلب نحاس إلى أن يصير ذهباً أو قلب ذهب إلى أن يصير نحاساً وبين قلب إنسان إلى أن يصير حماراً أو قلب حمار إلى أن يصير إنساناً " (3) .
يتضح من كل ما تقدم في تاريخ تصنيف العلوم ابتداءً من جابر بن حيان حتى ابن حزم (وما بعد ابن حزم ينتمي إلى بحث آخر) أنه كانت لدى المصنفين المتفلسفين أو المتأثرين بالفلسفة تصورات سمولية منطلقة أساساً من موقف فكري محدد، قد يكون حيناً يونانياً في أسسه، وقد يبارح تمثل اليونانيين في تصنيفهم للعلوم (كما وضح عند ابن حزم) ؛ وعلينا ألا ننخدع بعنوان كتاب الفارابي " إحصاء العلوم " فنظنه مجرد تعداد لأنواعها، بل هو كتاب تصنيفي دقيق المنحى واسع الأفق يعتمد أساساً فلسفياً (4) ؛
__________
(1) رسائل ابن حزم: 59 - 60.
(2) يكن أن يقارن ابن حزم هنا بمعاصره وصديقه ابن عبد البر، فإنه رفض الموسيقى واللهو على شرائط العلم والإيمان (جامع بيان العلم 2: 47) .
(3) رسائل ابن حزم: 60.
(4) ينظر في هذا مقالة الدكتور سالم يفوت: 58 - 59 حيث يناقش أرنالديز وماسينيون في ما كتباه في كتاب لهما عن العلم العربي (باريس 1966، الجزء الأول، ص: 488) إذ يذهبان إلى أن العرب تخلوا عن رؤية قاعدة فلسفية في تصنيفهم للعلوم وأن ما قاموا به هو عمل " إحصاء " وحسب، والفارابي وابن حزم على تباعد وتقارب بينهما يدحضان هذه المقولة.(4/25)
وقد كان من الطبيعي اللجوء إلى تلك القسمة الثنائية في النظرة إلى العلوم، كما كان من الطبيعي التفاوت بين المنصفين في إيلاء الأهمية أو الأفضلية لهذا القسم من العلوم دون ذاك؛ وقد استطاع ابن حزم أن يتجاوز حتى مفهوم " التكافؤ " بين الشقين، حين وضع نصب عينيه أن كل شر يفعله المرء من علم وغيره فيجب أن يقوم بأدائه خالصاً لله، وعلى أساس هذه الحقيقة نظر إلى أن العلوم كلها تخدم غاية واحدة " وإجهاد المرء نفسه فيما لا ينتفع به إلا في هذه الدار من العلوم رأي فائل وسعي خاسر، لأن المنتفع به في هذه الدار من العلوم إنما هو ما أكتسب به المال أو ما حفظت به صحة الجسم فقط فهما وجهان لا ثالث لهما " (1) ويرى ابن حزم أن العلم ليس أحسن السبل لكسب المال كما أن حفظ صحة الجسد لا بد أن تكون تابعة لحفظ صحة النفس، ولهذا استطاع أن يوحد الغاية من خلال تصنيفه فيراها في طلب علم الشريعة، مثلما كانت سائر العلوم عند المصنفين المتفلسفين في خدمة الفلسفة. فالشريعة تصلح الجسد والنفس معاً، ولهذا فهي مقدمة على الفلسفة التي هي مقصورة على إصلاح الأخلاق النفسية، ولا يمكن إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة إذ طاعة غير الخالق عز وجل لا تلزم. والشريعة تحقق غايتين أخريين لا تحققهم الفلسفة، وهما: ترتيب الوضع الإنساني بدفع التظالم وإيجاد الأمن في هذه الدنيا، والفوز بالنجاة في الآخرة (2) . وعلى هذا الأساس لا ترفض الفلسفة بل تندمج مع سائر العلوم في خدمة الشريعة، ولا ينكر ابن حزم ما لها من فائدة شأنها شأن سائر العلوم النافعة؛ وبذلك تجاوز ابن حزم التقسيم الثنائي للعلوم، وهو على وعي به، ليربط جميع العلوم معاً في تساندها وشد بعضها أزر بعض " فالعلوم كلها متعلق بعضها ببعض " ومن ثم لا يستغني منها علم عن غيره. وفي هذا يتجلى لنا إلى أي حد فارق ابن حزم المصنفين المشارقة في الرؤية والتنظير، وإذا كان ابن عبد البر يلتقي به، فذلك مما لا غرابة فيه، فقد كان الرجلان صديقين وبينهم مجالات اللقاء كثيرة في الرواية وتبادل الآراء، ولعل ابن حزم هو صاحب التأثير الواضح في معاصره، فقد تمت كتاباته في العلوم ومراتبها في دور مبكر، ونحن نرى في تصوره رسوخاً ووضوحاً أقوى من تصور ابن عبد البر وأشد منه احتفالاً بالموضع نفسه. وتبدو جرأة ابن حزم لا في أنه عكس وضع التصنيفات المشرقية وحسب بل في أنه خلافاً للاتجاه العام بين
__________
(1) رسالة مراتب العلوم (الطبعة الأولى) : 61 (ضمن رسائل ابن حزم) .
(2) رسائل ابن حزم: 46 وما بعدها.(4/26)
أبناء بلده وجد لعلوم الأوائل مكاناً " ضروياً " في منهجه التصنينفي. هل كان ابن حزم يهون من شأن التعارض المفترض الذي يقيمه الآخرون بين ما يسمى علوم الأوائل وما يسمى علوم الشريعة إن من عرف ابن حزم، الذي طلب الفلسفة ودرس المنطق وألف فيه ووجهت إليه من أجل ذلك تهم مختلفة، لا يستكثر منه هذا الموقف، بعد أن استبان له شخصياً سلامة منهجه الذي مارسه عملياً، فنظرته هذه هي خلاصة لتجربته الذاتيه محمولة على " مركب " فكري مفلسف.
ولنعد إلى رسالة مراتب العلوم: إنها رسالة لا تقف عند إحصاء العلوم وتصنيفها وتحديد مجال كل علم منها، بل تتعدى ذلك إلى عدة قضايا تتصل بالعلم مثل التكسب بالعلم، فابن حزم يعلي من قيمة المؤدب الذي يعلم الناشئة الهجاء أو الحساب أو الطب، وينهى عن صحبة السلطان بالعلم وخاصة أن يصحبه من يصحبه بالطب أو علم النجوم، وينصح للمتعلم أن لا يقتصر على السماع من أستاذ واحد، ويحذر من طلب العلم للفخر والتمدح ونيل الجاه، ويقف وقفةً طويلة عند ذم المرء لما يجهل من العلوم، ويطبق قانون " التعاون " في العلم كالتعاون في شؤون الحياة الأخرى، ثم لا ينسى أن يقف عند أدعياء العلم الذين يظنون أنهم من أهل العلم وهم ليسوا من أهله؛ وبالجملة فهو يقرر في رسالته هذه بعض " آداب العلم ".
على أن أهم مظهر في الرسالة بعد تبيانها لمراتب العلوم هو رسمها لمنهج في التدريس؛ فبعد أن يسلم الوالد ابنه وهو في الخامسة من عمره لمعلم الخط، يتدرج في مراحل الطلب صعوداً، ولعل هذا المنهج يصور سيرة حياة ابن حزم نفسه في هذا الميدان على نحو مقارب، ومن الطبيعي أن يباين منهجه هذا ما كان سائداً في الأندلس لأنه جعل للمنطق والعلوم الطبيعية مكانةً هامةً فيه، وهير ما يوضح ذلك المنهج أن نضعه على شكل جدول كالآتي:
1
- 2
3
- المرحلة الأولى
نوع العلم
أ - الخط.(4/27)
1 - 2
- 3
المرحلة الثانية:
نوع العلم
أ - النحو.
المرحلة الثالثة:
نوع العلم:
علم العدد
المرحلة الرابعة:
نوع العلم:
المنطق والعلوم الطبيعية.(4/28)
1 - 2
- 3
المرحلة الخامسة:
نوع العلم:
علمالأخبار
المرحلة السادسة:
نوع العلم:
[القضايا الفكرية مثل]
المرحلة السابعة:
نوع العلم:
علم الشريعة.
ولا يبين ابن حزم إن كانت هذه المراحل متدرجة متعاقبة أو أنها يمكن (بعد المرحلة الأولى) أن تجيء متوازنة مترافقة أو متداخلة، ولكن الأقرب للمعقول أنه عنى الفرض الثاني، فإن تعاقب هذه المراحل يستغرق وقتاً طويلاً. على أنا قد نقبل الفرض الأول (التعاقب) إذا تذكرنا أن ابن حزم يفترض كتباً مقررة بأعيانها، ولا يدعو إلى التوسع (إلا في العلم الذي يوافق رغبة المرء وملكاته وهذا لا يتعدى ثلاثة علوم بحال) وأنه كان يقيس على استعداده الذاتي، فهو قد استطاع في فترة وجيزة لا تتعدى عشر سنوات، لا أن يتقن علوماً كثيرة (ثم يتخصص في علم الشريعة) وحسب، بل أن يكتب مؤلفات في بعض تلك العلوم (وذلك ما سأوضحه عند الحديث عن التقريب لحد المنطق في ما يلي) .
- 2
كتاب التقريب لحد المنطق
1 - اسم الكتاب:
اسمه كما جاء على الورقة الأولى من المخطوطة " كتاب التقريب لحد المنطق، كلام الرئيس الأوحد أرسطاطاليس وغيره، مما عني بشرحه الفقيه الإمام الأوحد الأعلم أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ... ". وقد أشار إليه ابن حزم مرات في(4/29)
كتابه الفصل في الملل والنحل فقال في باب عن ماهية البراهين " هذا باب قد أحكمناه في كتابنا الموسوم بالتقريب في حدود الكلام " (1) . وقال في موضع آخر: " هذه شغيبة قد طالما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق " (2) فأطلق اسم " الكتب " على هذا الكتاب أنه مؤلف من كتب ثمانية؛ وذكره مرة ثالثة في الفصل فقال: " وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزراقة ... الخ " (3) وقال مرة رابعة " على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم بالتقريب في مائية البرهان " (4) فأشار في هذه التسمية إلى بعض جزء من الكتاب، وذكره ابن حزم أيضاً في الأحكام فقال: " في كتابنا الموسوم بالتقريب لحدود المنطق " (5) .
وقد ورد ذكر هذا الكتاب بين مؤلفات ابن حزم الأندلسي عند كل من الحميدي في الجذوة وصاعد في طبقات الأمم. فقال الحميدي: " التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، فإنه سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب الممخرقين به طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمناه " (6) . وهذه التسمية هي أدق ما هنالك وهي بعينها مثبتة بكاملها على الورق (55) من نسخة المكتبة الأحميدي بتونس من كتاب التقريب. أما صاعد فقال: " فعني بعلم المنطق وألف فيه كتاباً سماه التقريب لحدود المنطق بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف واستعمل فيه أمثلة فقهية وجوامع شرعية " (7) . وقد رددت المصادر المغربية والمشرقية، مع بعد، قول الحميدي وقول صاعد، ونوه الذهبي في سير أعلام النبلاء لدى عده مؤلفات ابن حزم بأن " التقريب " يقع في مجلد (8) . وهذا يكاد يشبه الإجماع على أن عبارة التقريب " لحد " أو " بحد " أو " لحدود " المنطق هي التي اختارها المؤلف لكتابه وإن تجاوزنا أحياناً إلى تسميات أخرى متقاربة.
__________
(1) الفصل 1: 4.
(2) الفصل 1: 25.
(3) الفصل 5: 70.
(4) الفصل 5: 128.
(5) الأحكام 5: 182.
(6) جذوة المقتبس: 291.
(7) طبقات الأمم: 76.
(8) ردد ابن خلكان (3: 326) قول الحميدي (وعنه اليافعي في مرآة الجنان) وكذلك فعل لسان الدين في الإحاطة (4: 113) أما قول صاعد فنجده مثلاً لدى الزوزني في المنتخبات الملتقطات من كتاب أخبار العلماء (232) ونقله أبو عبد الرحمن بن عقيل في كتابه ابن حزم خلال ألف عام 2: 75.(4/30)
ورغم ذلك كله فإنا نجد على الورقة الأولى من نسخة إزمير، عنواناً يخالف كل ما تقدم في نصه إذ جاء هنالك: " كتاب المدخل إلى كتب المنطق الأولى تأليف الشيخ الإمام الحافظ الفقيه أبي محمد عليّ بن أحمد بن حزم الظاهري رحمه الله تعالى ... "، وهو عنوان غير دقيق، فالكتاب ليس مدخلاً، إذ المدخل له ما بعده، إلا إذا قدرنا أن كتاب ابن حزم صورة مبسطة (كما توحي بذلك لفظة تقريب) تمكن قارئها بعد ذلك من الدخول إلى التفصيلات الدقيقة في الكتب المنطقية، على أن من الخير أن نتجنب هذه التسمية لأن المدخل إلى المنطق ينصرف إلى إيساغوجي، فالمدخل هو القسم الأول من كتاب ابن حزم.
2 - متى ألف كتاب التقريب:
في كتاب " التقريب " إشارات إلى كتاب " الفصل "، من ذلك قوله في أحد المواطن: " وقد أثبت غيرنا ليس جسماً ... والكلام في هذا واقع في ما بعد الطبيعة وفي علم التوحيد وقد أثبتناه في كتاب الفصل في الملل والنحل " (1) وقوله في موطن آخر: " والنفس ليست نامية وإنما النامي جسمها المركب فقط ... وللبراهين على هذا مكان آخر قد ذركناه في كتاب الفصل ... " (2) .
هل يعني هذا أن ابن حزم ألف كتاب التقريب بعد كتاب الفصل لو وقف الأمر عند حد الإشارات السابقة لصح التقدير، لكنا نجد في الفصل نفسه إشارات متعددة إلى التقريب نفسه، كما وضحنا آنفاً، وهذا قد يستدعي القول إن بعض أجزاء الفصل كتب قبل التقريب مثل الفصل عن الجواهر والأعراض والجسم والنفس (الفصل 5: 66) والكلام في النفس (5: 84) وأن هناك فصولاً من كتاب الفصل نفسه كتبت بعد التقريب مثل باب مختصر جامع في ماهية البراهين (1: 4) فما أورده في هذا الموضوع في الفصل إنما هو اختصار لما أحكم إيراده في التقريب، وكالحديث عن الآلة المسماة بالزراقة لإثبات نفي الخلاء جملة فإنه يعيد ذكرها في الفصل بناءً على ما ذكره في التقريب (5: 70) . وكل هذا يثبت أن الفصل على فترات ربما كانت متباعدة نسبياً، وأن تأليف التقريب وقع في تاريخ متوسط بين بعض أجزاء الفصل وبعضها الآخر: وهذا في النهاية لا يحدد تاريخاً واضحاً لتأليف التقريب، لأنا لا نعرف
__________
(1) النسخة التونسية (س) الورقة: 12 ظ (والإشارة إلى الفصل 5: 66) .
(2) المصدر نفسه (والإشارة إلى الفصل 5: 84) .(4/31)
على وجه اليقين متى بدأ تأليفه لكتاب الفصل، ومتى انتهى منه. كذلك حاولنا أن نستأنس ببعض الأحداث التي وردت في كتاب التقريب من أجل تعيين تأريخه من مثل ذكر ابن حزم حكاية عن مؤدبه أحمد بن محمد بن عبد الوارث (1) ، الذي كان قد توفي عند تأليف الكتاب لأن ابن حزم بترحم عليه، ولكن المصادر لم تذكر تاريخ وفاته (2) .
غير أن هناك إشارات أخرى قد تمكننا من الخروج بنتيجة إيجابية في هذه القضية، ومن ذلك:
(1) قول ابن حزم في كتاب التقريب: " وما ألفنا كتابنا هذا وكثيراً مما ألفنا إلا ونحن مغربون عن الموطن والأهل والولد، مخافون مع ذلك في أنفسنا ظلماً وعدواناً " (3) وهذه قولة هامة وإن كانت تعميمية، وقد تصح الإفادة منها إذا قرنت بما يلي.
(2) يتحدث ابن حزمن في كتاب التقريب عن حادث اعتقاله على يد المستكفي لأن ابن حزم كان يوالي المستظهر (4) ، وقد تم هذا في سنة 414 أو أواخر 413 في أكثر تقدير.
(3) يذكر ابن حزم في الكتاب نفسه أن صديقه ابن شهيد ألف كتاباً في علم البلاغة أثناء كتابته هو لكتاب التقريب (5) ، وقد توفي ابن شهيد سنة 426 وتعطل عن التأليف قبل ذلك بعام أو أكثر، وهذا يعين أن كتاب التقريب قد كتب قبل ذلك التاريخ.
(4) يضاف إلى ما تقدم قول صاعد الأندلسي عند حديثه عن والد ابن حزم: " وكان ابنه الفقيه أبو محمد وزيراً لعبد الرحمن المستظهر ... ثم نبذ هذه الطريقة وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن فعني بعلم المنطق ... وأوغل بعد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة " (6) ؛ فهذا القول يؤكد أن حياة ابن حزم العلمية لم تبدأ إلا بعد مقتل
__________
(1) س: 86 ب.
(2) ترجم له ابن الأبار في التكملة: 790 والحميدي في الجذوة: 99.
(3) س: 90 / و.
(4) س: 90 / و.
(5) س: 91 / ب " وبلغنا حين تأليفنا هذا أن صديقنا أحمد بن عبد الملك بن شهيد ألف في ذلك كتاباً " (وهذا الفصل من أواخر فصول التقريب؛ ونستبعد أن يكون ابن حزم قد بدأ كتابة هذا الفصل قبل سائر كتابه) .
(6) طبقات الأمم: 76.(4/32)
المستظهر، وبعد اعتزاله العمل السياسي، وأن المنطق كان من أوائل ما درس، وأنه بعده أوغل في علوم الشريعة مستكثراً منها، فهل تصدى للتأليف فيه بعد أن أحكم درسه له يبدو أن الفترة بين دراسته للمنطق وتأليفه فيه لم تكن فترة طويلة.
(5) ومما يحفز إلى هذا القول أن لدينا شهادة قاطعة تحدد تاريخ دراسته للمنطق وهو قول ابن حزم نفسه: " قرأت حدود المنطق على أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب رحمه الله المعروف بابن الكتاني " (1) وابن الكتاني فيما استظهرته في موطن آخر (2) لم تتعد وفاته سنة 422، فإذا صح ذلك كانت دراسة ابن حزم للمنطق بين 414 422 فإذا كان قد ألف التقريب قبل وفاة صديقه ابن شهيد فمعنى ذلك أنه كتبه قبل سنة 425، فتاريخ التأليف على ذلك قريب من تاريخ الدراسة.
(6) ونؤيد كل ما تقدم بشهادة تلقي أضواء توضيحية على القضية التي أعالجها هنا وهي قول ابن حزم نفسه في المنطق: " ثم قرأته على ثابت بن ممد الجرجاني العدوي المكنى بأبي الفتوح.... فلما انتهيت إلى أول أقودمطيقاً (أقودقطيقا) على الجرجاني ( ... ) حضر معنا عنده محمد بن الحسن اعترافاً للجرجاني وتقديماً له، وشهد قراءتي على الجرجاني " (3) وأبو الفتوح الجرجاني دخل الأندلس سنة 406 وافداً من المشرق (4) وتورط في شؤون السياسة بعد اتصاله بباديس بن حبوس صاحب غرناطة فقتل سنة 431 (5) وقد ذكره ابن حزم في الفصل، فلا بد من أن تكون الصلة بينهما قد حدثت في حدود الفترة التي قدرناها لدراسة المنطق.
(7) وهناك نسخة معتمدة للتقريب هي نسخة أبي عبد الله الرصافي (6) ، وقد قرئت على ابن حزم وخط ابن حزم عليها يشهد بأنها قرئت عليه، وقد فرغ من نسخها في صفر سنة تسع وثلاثين وأربعمائة (437) (7) وهذا يقطع بأن المؤلف قد وضع الصورة
__________
(1) نسخة إزمير (م) الورقة: 74.
(2) انظر مقدمة كتاب التشبيهات لابن الكتاني: 16.
(3) م، الورقة: 74؛ وكتاب أرسطو المشار إليه هو الرابع في الترتيب.
(4) الجذوة: 173 والصلة: 125.
(5) الإحاطة 1: 458.
(6) ترجم الحميدي في الجذوة: 63 لمن اسمه محمد بن عبد الملك بن ضيفون الرصافي وكنيته أبو عبد الله، وهو من معاصري ابن حزم، وعنه روى أبو عمر ابن عبد البر، فلعله هو المعنى هنا.
(7) م: الورقة: 74.(4/33)
الأولى لكتابه قبل التاريخ المذكور.
3 - دواعي تأليفه:
قضى ابن حزم جانباً من شبابه وهو يطلب العلم في قرطبة حتى سنة 401. وقد أثر في نفسه في ذلك الدور المبكر من حياته ما سمع بعض الأغرار يقولونه في المنطق والعلوم الفلسفية عامة دون تحقيق، وأولئك هم الذين عناهم بقوله: " ولقد رأيت طوائف من الخاسرين شاهدتهم أيام عنفوان طلبنا، وقبل تمكن قوانا في المعارف، وأول مداخلتنا صنوفاً من ذوي الآراء المختلفة، كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين أنتجه بحث موثوق به على أن الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة " (1) . ولعل بيئة قرطبة والأندلس عامة يومئذ بمعاداتها لعلوم الأوائل هي التي حفزت حب الاستطلاع لديه فجعلته يدرس الفلسفة والمنطق، ومن ثم قوى لديه الشعور بأن العلوم الفلسفية لا تنافي الشريعة، بل إن المنطق منها يمكن خاصة يمكن أن يتخذ معياراً لتقويم الآراء الشريعة وتصحيحها، وكان اتجاهه إلى مجادلة أهل المذاهب والنحل الأخرى يفرض عليه أن يتدرع بقوة منطقية في المناظرة والجدل. وهاتان الغياتان كانتا من أول العوامل التي حدت به إلى التأليف في المنطق ليثبت عدم التنافي بينه وبين الشريعة وليعزز به موقفه العقلي إزاء الخصوم ويضع فيه القواعد الصحيحة للجدل والمناظرة ويبين فيه حيل السفسطة والتشغيب.
وظل ابن حزم على رأيه هذا يؤمن بفائدة المنطق والفلسفة وسائر علوم الأولين ما عدا التنجيم -. فهو في رسالة " مراتب العلوم " ينصح الدارس أن يبدأ بعد تعلم القراءة والكتابة وأصول النحو واللغة والشعر والفلك، بالنظر في حدود المنطق وعلم الأجناس والأنواع والأسماء المفردة والقضايا والمقدمات والقرائن والنتائج ليعرف ما البرهان وما الشغب، وكيف التحفظ مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، فهذا العلم يقف على الحقائق كلها ويميزها من الأباطيل تمييزاً لا يبقى معه ريب (2) . ويسأله أحدهم رأيه في أهل عصره وكيف انقسموا طائفتين: طائفة اتبعت علوم الأوائل وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة ويطلب إليه أن يبين له أيهما المصيب، فيقول في الجواب: أعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه أن علوم الأوائل هي الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم المنطق فيها أفلاطون
__________
(1) التقريب: 51 / و.
(2) رسائل ابن حزم: 71 (ط. مصر) .(4/34)
وتلميذه أرسطاطاليس والإسكندر ومن قفا قفوهم، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه، إلى أشخاص جواهره وأغراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به وتمييزه مما يظن من جهل أنه برهان وليس برهاناً، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها.... (1) .
فهذا الإيمان بفائدة علوم الفلسفة والمنطق هو الذي جعل ابن حزم بعد درسه لها، يحاول أن يوصل ما فهمه منها مبسطاً إلى الآخرين. وقد كسب له هذا الاتجاه عداوة الفريق الذي يكره الفلسفة والمنطق، وهو يومئذ الفريق الغالب في الأندلس. واتخذ اعداؤه هذه الناحية فيه محطاً لهجماتهم، ومن أمثلة ذلك أن أحد الناقمين كتب إليه كتاباً من الإمضاء، اتهمه فيه بأن الفساد دخل عليه من تعويله على كتب الأوائل والدهرية وأصحاب المنطق وكتاب أقليدس والمجسطي وغيرهم من الملحدين. فكتب ابن حزم يقول في الجواب: " أخبرنا عن هذه الكتب من المنطق وأقليدس والمجسطي: أطالعتها أيها الهاذر أم لم تطالعها فإن كنت طالعتها فلم تنكر على من طالعها كما طالعتها أنت وهلا أنكرت ذلك على نفسك وأخبرنا عن الإلحاد الذي وجدت فيها إن كنت وقفت على مواضعه منها، وإن كنت لم تطالعها فكيف تنكر ما لا تعرف (2) " وأصبح ابن حزم يعتقد أن فائدة المنطق أمر لا يرتاب فيه منصف لأنها فائدة غير واقفة عند حدود الاطلاع والرياضة الذهنية بل تتدخل في سائر العلوم كعلم الديانة والمقالات والأهواء وعلم النحو واللغة والخبر والطب والهندسة وما كان بهذا الشكل فإنه حقيق أن يطلب وأن تكتب فيه الكتب، وتقرب فيه الحقائق الصعبة.
وغدا هذا الإيمان بقيمة المنطق وفائدته ابتداء حافزاً قوياً للتأليف فيه. إلا أن ابن حزم واجه في دراسته لهذا العلم صعوبتين، فلم لا يحاول تذليلهما للقارئ الذي يود الانتفاع بدراسة المنطق: الأولى تعقيد الترجمة وإيراد هذا العلم بألفاظ غير عامية، ويعني ابن حزم بالعامية الألفاظ الفاشية المألوفة التي يفهمها الناس لكثرة تداولها، فليكتب، إذن، كتاباً قريباً إلى الإفهام " فإن الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يسهله جهده ويقربه بقدر طاقته ويخففه ما أمكن " (3) . وهو يحسن الظن بالمترجمين ويرى
__________
(1) المصدر نفسه: 43.
(2) المصدر نفسه: 10.
(3) التقريب، الورقة: 4 ظ (من نسخة س) .(4/35)
أن توعيرهم للألفاظ هو شح بالعلم وضن به يوم كان الناس جادين في طلبه يبذلون فيه الغالي والنفيس. الصعوبة الثانية: أن المناطقة قد درجوا على استعمال الرموز والحروف في ضرب الأمثلة. ومثل هذا شيء يعسر تناوله على عامة الناس، فليحول ابن حزم الأمثلة من الرموز إلى أخرى منتزعة من المألوف في الأحوال اليومية والشريعة. وهو يحس بخطر ما هو مقدم عليه، ويعتقد أنه أول من يتجشم هذه المحاولة.
ولم يكتب ابن حزم هذا الكتاب إلا بعد أن حفزه كثير من الدواعي في الحياة اليومية، وإلا بعد أن وجد الحاجة ماسة إلى المنطق في النواحي العملية من علاقات الناس وتفكيرهم، فهو قد لقي من يعنته بالسؤال عن الفرق بين المحمول والمتمكن، ولقي كثيراً من المشغبين الآخذين بالسفسطة في الجدل، وواجه من يسومه أن يريه العرض منخزلاً عن الجواهر، وقرأ مؤلفات معقدة لا طائل تحت تعقيدها، ورأى من يدعي الحكمة وهو منها براء فأراد لكتابه أن يكون تسديداً لعوج هذه الأمور وإصلاحاً لفسادها، ورداً على المخالفين والمشغبين وإقامة للقواعد الصحيحة في المناظرة، وهي يومئذ شغل شاغل لعلماء الأندلس.
4 - مصادر الكتاب:
منذ أن بدأ دور الترجمة في تاريخ الفكر العربي بدأ النقلة ومن بعدهم من الشراح يهتمون بكتب أرسطاطاليس النطقية. وينسب إلى ابن المقفع أنه نقل ثلاثة من كتب المنطق الأرسطاطاليس وهي: قاطيغورياس وباري أرمينياس وأنولوطيقا، وأنه ترجم المدخل المعروف بإيساغوجي ... وعبر عما ترجم من ذلك بعبارة سهلة قريبة المأخذ (1) . ويذكر طيماثاوس الجاثليق الذي اتصل بالرشيد والمأمون أن الخليفة " أمرنا بترجمة كتاب طوبيقا لأرسطو الفيلسوف من السريانية إلى العربية. وقد قام بذلك بعون الله الشيخ أبو نوح " (2) .
وقد ترك لنا صاحب الفهرست صورة من جهود النقلة والشراح المختصرين للكتب المنطقية الثمانية (3) . وهو بيان يدل على ما بذله كل من الكندي وأحمد بن الطيب وثابت بن قرة ومتى بن يونس القنائي والفارابي ويحيى بن عدي وغيرهم في هذا الميدان:
__________
(1) طبقات الأمم: 49.
(2) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية: 116 (ترجمة عبد الرحمن بدوي) القاهرة: 1949.
(3) الفهرست: 308 - 310، 316، 320 - 323.(4/36)
1 - فأما الكندي فإن له رسالة في المدخل مختصرة موجزة ورسالة في المقولات العشر، ورسالته في الاحتراس من خدع السوفسطائيين، ورسالة في إيجاز واختصار البرهان المنطقي.
2 - وأما تلميذه أحمد بن الطيب فقد اختصر كلاً من فاطيغورياس وباري أرمنياس وأنالوطيقا الأول والثاني، وإيساغوجي. وله كتاب في الصناعة الديالقطية أي الجدلية على مذهب أرسطاطاليس من كتاب سوفسطيقا لأرسطاطاليس.
3 - ولثابت كتاب باريمنياس، وجوامع كتاب أنالوطيقا الأولى، واختصار المنطق ونوادر محفوظة من طوبيقا وكتاب في أغاليط السوفسطائيين.
4 - وانتهت رياسة المنطقيين إلى متى في عصره وكان أكثر جهوده موجهاً إلى النقل، كما أنه فسر الكتب الأربعة في المنطق بأسرها، وعليها يعول الناس في القراءة، وله شرح إيساغوجي.
5 - وأبعدهم أثراً في الدراسات المنطقية وهو الفارابي، وهو لم يكن مترجماً ولكنه وضع الكتب المنطقية في شكل معتمد، وفسرها بعبارات واضحة نالت إعجاب من جاءوا بعده وأصبحت كتبه المرجع المفضل في هذا الباب.
6 - وتتلمذ عليه وعلى متى منطقي آخر أصبحت له الرياسة بعدهما في المنطق وهو يحيى بن عدي. ومن يحيى استمد أبو سليمان المنطقي أستاذ التوحيدي وشيخ تلك العصبة من التلامذة الذين يكثر أبو حيان من التحدث عنهم في كتبه، مثل ابن زرعة الذي كتب مقالة في أغراض كتب أرسطاطاليس ومقالة في معاني إيساغوجي وكتاب سوفسطيقا؛ ومثل أبي الخير بن الخمار الذي فسر إيساغوجي واختصره وكتب كتاب اللبس في الكتب الأربعة في المنطق.
تلك هي الحال في المشرق.
أما في الأندلس فإن الإقبال على الفلسفة والمنطق قبل عهد الحكم المستنصر كان ضعيفاً، فكان أشهر من عني بالدراسات الفلسفية عامة قبل الفتنة البربرية (339) هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المرجيطي وعليه تتلمذ بعض المشهورين من حكماء الأندلس، ولكنه هو وأكثر تلامذته اتجهوا اتجاهاً رياضياً مع بعض اهتمام بالأمور المنطقية، وقد شاركه هذا الاهتمام الطبقة الأولى من دراسي المنطق في الأندلس وهم: ابن عبدون الجبلي وعمر بن يونس بن أحمد الحراني وأحمد بن حفصون وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم القاضي وأبو عبد الله محمد بن مسعود البجاني ومحمد بن ميمون المعروف(4/37)
بمركوس وسعيد بن فتحون السرقسطي، وعلى هؤلاء درس ابن الكتاني، شيخ ابن حزم (1) . ونضيف إلى هؤلاء من الأندلسيين المهتمين بالمنطق ملحان بن عبيد الله بن سالم وكان له نظر في حد المنطق ومطالعة لكتب الفلسفة، والرباحي وقد نظر في المنطقيات فأحمها (2) واثنين من اليهود وهما منحم بن الفوال من سكان سرقسطة، وقد ألف كتاباً في المنطق على طريقة السؤال والجواب، ومروان بن جناح، ولم يذكر له في المنطق تأليف معين (3) .
وعلى هذا يكون ابن حزم من رجال الطبقة الثالثة الذي توفروا على الدراسات المنطقية في الأندلس، بل لعله أن يكون أبرزهم في عصره.
لكن إلى أي حد كانت الترجمات والشروح والمختصرات المشرقية معروفة في الأندلس لا القاضي صاعد يحدثنا بشيء من ذلك، ولا ابن حزم في كتاب التقريب يشير إلى شيء واضح دقيق، وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا الصدد لا يعدو الفرض والتقدير. ولنا أن نفترض أن المشارقة الراحلين إلى الأندلس مثل الحراني، والأندلسيين الراحلين إلى المشرق مثل ابن عبدون الجبلي قد نقلوا معهم فيما نقلوه من كتب شيئاً من الترجمات في المنطق. ولا يبعد أن يكون ابن حزم قد عرف شيئاً منها وعول عليها كما عول على بعض مؤلفات الأندلسيين أنفسهم.
وهناك مصدر مشرقي لا شك في أن ابن حزم اطلع عليه وهو كتاب أو كتب من تأليف الناشئ الأكبر أبي العباس المعروف بابن شرشير (- 293) . وأبو العباس هذا شاعر معتزلي ألف في الرد على المنطقيين، وهو من أوائل المفكرين الذين حاولوا الطعن في منطق أرسطو. وقد استشهد به أبو سعيد السيرافي في مناظرته مع متى المنطقي وهي المناظرة التي حفظها أبو حيان في كتاب الإمتاع والمؤانسة ويبدو مما أورده ويبدو مما أورده ابن حزم أن بعض آراء الناشئ كانت نوعاً من السفسطة، ولذلك حمل عليه ووصفه بكثرة الهذر. ولعل الناشئ ممن نبهوا ابن حزم إلى بحث مسألة أسماء الله تعالى لأن الناشئ كان يقول: إن الأسماء " حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق " (4) .
__________
(1) عيون الأنباء 2: 45.
(2) طبقات الزبيدي: 303، 310.
(3) عيون الأنباء 2: 50.
(4) الرد على المنطقيين (ط. بمباي) : 156.(4/38)
غير أن أهم عبارة تومئ إلى مصدر ابن حزم في المنطق هي قول ابن تيمة " ولتعظيمه يعني ابن حزم المنطق رواه بإسناده إلى متى الترجمان الذي ترجمه إلى العربية " (1) وقد ظلت هذه العبارة مبهمة الدلالة حتى عثرت على مخطوطة إزمير التي احتفظت لنا في ختام كتاب التقريب بنص غاية في الأهمية جلا كل لبس وأماط كل حيرة حول مصدر ابن حزم في المنطق، وقد أوردت في ما تقدم بعض نقولٍ من هذا النص، ولكني أورده هنا كاملاً:
" قال لي الشيخ أبو بكر، قال لي الشيخ أبو عبد الله [يعني الرصافي] ، قال لنا أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الفقيه الحافظ: قرأت حدود المنطق على أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب، رحمه الله، المعروف بابن الكتاني، وما رأيت ذهناً أحد منه في هذا الشأن، ولا أكثر تصريفاً له منه، وكان قد قرأه على أبي عبد الله الجبلي الطبيب، وقرأه الجبلي ببغداد على أبي سليمان داود بن بهرام السجستاني، وقرأه داود على متى. ثم قرأته أيضاً على ثابت بن محمد الجرجاني العدوي المكني بأبي الفتوح، وما رأيت في خلق الله عز وجل أعلم بهذا العلم منه، لا أحفظ له منه، ولا أوسع فيه منه، فلما انتهيت إلى أول أقود قطيقا على الجرجاني، حضر معنا عنده محمد بن الحسن اعترافاً للجرجاني تقديماً له، وشهد قراءتي له على الجرجاني؛ وكان الجرجاني قد أخذ هذا العلم عن الحسن [بن] سهل بن السمح (2) ببغداد وأخذه الحسن بن سهل عن متى، وأخبرني ثابت أنه ساكن الحسن في منزل واحد أعواماً ".
هما إذن طريقان ينتهيان إلى متى كما قال ابن تيمة: إحداهما عن طريق ابن الكتاني والأخرى عن طريق ثابت الجرجاني الأستاذين المباشرين لابن حزم، فهما المصدران لما ثقفه في المنطق، ولكن النص لم يذكر اعتمادهما على مؤلفات بأعيانها، وإنما يؤكد قضية الرواية سماعاً، ولهذا لا يبعد أن نفترض أنه رغم الرواية الشفوية كان هذان الأستاذان يعتمدان على جهود متى الذي لقب " المنطقي " لشهرته
__________
(1) الرد على المنطقيين: 132.
(2) كان من الفلاسفة الذين يلتفون حول أبي سليمان المنطقي، وقد ذكره أبو حيان في المقابسات: 109، وذكر أن له دكاناً بباب الطاق ببغداد، إلا أنه أنحى عليه في الإمتاع (1: 34) اتهمه بأنه مستفرغ في كسب الدوانيق " لم يعبق بفوائح الحكمة ولم يتضرج (في المطبوعة: يتفوح) بردع الفلسفة " (في أصل الإمتاع ولم يتفرخ بربع، وصوابه: ولم يتفرج بربع) .(4/39)
في هذا العلم، وقد ذكرت من قبل أن له شرحاً على إيساغوجي وأن له تفسيراً للكتب الأربعة في المنطق، فهو فسر باري أرمينياس وأنالوطيقا الأول ونقل أنالوطيقا الثاني عن ترجمة سريانية لحنين بن إسحاق، ثم شرحه، وفسر المقالة الأولى من طوبيقا، ونقل أبو طيقا من السريانية إلى العربي كما نقل سوفسطيقا من اليونانية إلى السريانية وله نقول وتفسيرات على كتب أخرى من كتب أرسطاطاليس غير المنطقية (1) .
أبو بشر متى المنطقي
أبو سليمان المنطقي - - الحسن بن سهل بن السمح
أبو عبد الله الجبلي
أبو عبد الله الكتاني ثابت الجرجاني
__________
- ابن حزم
__________
أبو عبد الله الرصافي
أبو بكر
()
__________
(1) انظر الفهرست: 309 - 312.(4/40)
5 - منهج ابن حزم في التقريب:
ورث المناطقة المسلمون عن المدرسيين والشراح الإسكندرانيين وغيرهم ترتيب الكتب المنطقية الأرسطاطاليسية في ثمانية (1) ، وهذا هو ما وضحه الفارابي توضيحاً كافياً في ص تفصيلي نقله ابن أبي أصيبعة (2) ، سمى الكتاب الأول " المقولات " قاطاغورياس والثاني: العبارة باريمنياس، والثالث: القياس أو أنالوطيقا الأولى، والرابع: البرهان أو أنالوطيقا الثانية، والخامس: المواضع الجدلية أو طوبيقا، والسادس: الحكمة المموهة أو سوفسطيقا، والسابع: الخطابة أو الريطورية، والثامن: الشعر أو فويطيقا. وقال الفارابي: والجزء الرابع هو أشدها تقدماً للشرف والرئاسة، والمنطق إنما التمس به على القصد الجزء الرابع وباقي أجزائه إنما تحمل لأجل الرابع.
وقد سار ابن حزم على هذه القسمة، على نحو مقارب، فقدم قبل الكتب الثمانية القول في المدخل أو إيساغوجي، ثم تناول القول في كتب أرسطاطاليس، فسمى الأول الأسماء المفردة، وسمى الثاني كتاب الأخبار وهو الذي دعاه الفارابي باسم " العبارة " وأدرج الكتب الأربعة التالية (3، 4، 5، 6) في باب واحد وجمعها تحت اسم " البرهان "، ورفض اسم القياس. ومع إيمانه بأن " البرهان " هو الغاية الكبرى فإنه لم يميز " أنالوطيقا الثاني " تمييزاً بائناً، وفرق القول في السفسطة على عدة مواضع، وقبيل آخر هذا الفصل تحدث عن رتبة الجدال وآداب المناظرة (الفقرة: 18) ثم شفع هذه الفقرة بفقرة أخرى (رقم: 19) تحدث فيها عن أخذ المقدمات من العلوم وقسمها إلى اثني عشر علماً ونص على أنه لا يلتزم في هذه القسمة ما جرى عليه المتقدمون. ولم يقف فيهما عند شيء من آراء أرسطاطاليس.
والكتاب ينقسم حسب النسخة التونسية، في سفرين، يقف السفر الأول منهما عند نهاية القضايا القاطعة. ويبتدئ السفر الثاني بذكر القضايا الشرطية دون أن يكون لهذه القسمة أية علاقة بطبيعة الموضوع، وليس لهذه القسمة وجود في نسخة إزمير، فهي تجزئه اعتبارية من عمل أحد النساخ.
__________
(1) الرد على المنطقيين: 156.
(2) عيون الأنباء 1: 58 - 59.(4/41)
وقد ذكر ابن حزم في موضع من كتابه أنه بناه على الاختصار، وهذا كلام صحيح إذا نحن قسنا هذا الكتاب بالكتب المنطقية كلها، وكان الأصح أن يقول إنه بناه على الاختيار، من جهة، وعلى التبسيط من جهة أخرى، فأما الاختيار فإنه حاول أن يبرز لقراء المنطق النقاط التي يراها هامة لترسيخ القواعد الأصلية فيه، وفي أثناء هذه المحاولة كان تبسيط في الشرح من أجل تبسيط المعلومات.
ويتضح ذلك بإجراء بعض المقارنات، ففي الحديث عن " الجنس " يقول فرفوريوس الصوري: " يقال الجنس لجماعة قوم لهم نسبة بوجه الوجوه إلى واحد أو لبعضهم البعض على المعنى الذي يقال به جنس الهرقليين من قبل نسبتهم من واحد، أعني من هرقل، إذ كان جماعة القوم الذين لبعضهم قرابة إلى بعض من قبله قد يدعي جنساً بانفصالهم من سائر الأجناس الأخر. وقد يقال أيضاً على جهة أخرى جنس لمبدأ كون كل واحد واحد، إما الوالد أو من الموضع الذي يكون فيه الإنسان، فإنه على هذه الجهة تقول إن أورسطس من طنطالس وأولس من إيرقلس، وتقول أيضاً أن جنس أفلاطن أثيني وجنس فنطارس ثيباي، وذلك أن البلد مبدأ لكون كل واحد كالأب.... الخ " (1) .
فإذا أراد ابن حزم أن يعرض لهذه الفكرة قال: " ذكر الأوائل قسماً في الجنس لا معنى له وهو كتميم لبني تميم، والبصرة لأهلها، والوزارة لكل وزيرن والصناعة لأهلها، وهذا غير محصور ولا منضبط، فلا وجه للاشتغال به (2) ". فهذا الذي قاله فرفوريوس في عبارات مطولة أوجزه ابن حزم في كلمات قليلة.
وإليك مثالاً آخر: " يلخص ابن رشد ما يقوله أرسطاطاليس في تحديد معنى الانعكاس: " وأعني بالانعكاس أن يتبدل ترتيب أجزاء القضية فيصير محمولها موضوعاً وموضوعها محمولاً، ويبقى صدقها وكيفيتها من الإيجاب والسلب أيضاً محفوظاً، فإذا ما تبدل الترتيب ولم يبق الصدق محفوظاً فهو الذي يسمى في هذه الصناعة قلب القضية " (3) . وحين تناول بن حزم موضوع الانعكاس تجده يقول: " والانعكاس هو أن تجعل الخبر مخبراً عنه موصوفاً، وتجعل المخبر عنه خبراً موصوفاً به من غير أن يتغير
__________
(1) إيساغوجي نقل أبي عثمان الدمشقي، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (القاهرة 1952) : 68.
(2) التقريب (النسخة س) ، الورقة: 9.
(3) تلخيص منطق أرسطو (بيروت 1982) 1: 144.(4/42)
المعنى في ذلك أصلاً، بل إن كانت القضية موجبة قبل العكس فهي بعد العكس موجبة، وإن كانت نافية قبل العكس فهي بعد العكس نافية، وإن كانت صادقة قبل العكس فهي بعد العكس صادقة، وإن كانت كاذبة قبل العكس فهي بعد العكس كاذبة، إلا أنه في بعض المواضع تكون القضية كلية قبل العكس وجزئية بعد العكس، لا يحيلها العكس بغير هذه البتة، وإنما نعني بهذا العكس ما لا يستحيل أبداً.... " (1) فتأمل كيف يتوسع ابن حزم في البسط والتبسيط معاً لما جعله ابن رشد في كلمات قليلة. ومن أجل التيسير على متلقي المنطق وضع ابن حزم أمثلة منطقية مستمدة من الشريعة، كما " عرب " كثيراً من الأمثلة التي وردت مترجمة عن اليونانية، وحذف كثيراً من الأمور المعقدة التي لا يحتاجها المبتدئ، من ذلك قوله: " ولم أترك إلا أشخاص تقاسيم من موجبات وسوالب من البسائط والمتغيرات والمحصورة والمهملة ومن المخصوصة ومن الاثنينية والثلاثية والرباعية لا يحتاج إليها، وإنما هي تمرن وتمهر لمن تحقق بهذا العلم تحققاً يريد ضبط جميع وجوهه " (2) . أو قوله في موضع آخر: " وذكر الفلاسفة ها هنا شيئاً سموه " كون الشيء في الشيء " وليس يكاد ينحصر عندنا، وإن كنا محصوراً في الطبيعة، فلم نر وجهاً للاشتغال به، إذ ليس إلا من تشقيق الكلام فقط كقولهم: النوع في الجنس في النوع وما أسبه ذلك مما لا قوة فيه في إدراك الحقائق وإقامة البراهين وكيفية الاستدلال الذي هو غرضنا في هذا الكتاب " (3) .
وابن حزم لا ينقاد للآراء إذا لم تكن مما يرتضيه حكمه العقلي، ولذلك نجده كثيراً ما يحمل الخطأ على الترجمة والمترجمين أو يذهب إلى التصريح بمخالفة الأوائل في كثير من المواقف؛ قال أبو محمد (4) في بعض تعليقاته: " هذه عبارة المترجمين وفيها تخليط لأنهم قطعوا على أن الرسم ليس مأخوذاً من الأجناس والفصول وأنه إنما هو مأخوذ من الأعراض والخواص، ثم لم يلبثوا أن تناقضوا فقالوا: إن كل حد رسم فأوجبوا أن الحد مأخوذ من الأعراض أو أن بعض الرسوم مأخوذ من الفصول، وهذا ضد ما قالوه
__________
(1) التقريب: 48 و (من النسخة س) .
(2) التقريب: 46 / و (من النسخة س) .
(3) التقريب: 33 / و.
(4) جاء في النسخة التونسية قال الشيخ بدل قال أبو محمد، وقد أثارت اللفظة اهتمامي في الطبعة الأولى، فكتبت عنها في المقدمة، وقدرت أن الشيخ ربما كانت تشير إلى متى المنطقي؛ وهو تقدير غير مستبعد، لو اتفقت النسختان على إيرادها.(4/43)
قبل " (1) ؛ وخطأ الفلاسفة في بعض ما ذهبوا إليه كقولهم في القدمة: إن الجنس أقدم من النوع من أجل أنه مذكور في الرتبة قبله، وقولهم إن المدخل إلى العلوم أقدم من العلوم (2) ، غير أنه أشد في حملته على المشغبين وخاصة حين يمتد شغيهم إلى الأمور الفكرية والدينية. وواضح أن كثيراً من منهج ابن حزم في الكتاب متأثر بمسلمات عقائدية أو مذهبية التحمت بنفسه قبل أن يتصدى للخوض في المنطق، مثل قضية الخلاء والملاء والاسم والمسمى وأسماء الله الحسنى وإنكار القياس والعلل في الشريعة، وغير ذلك، فهو كثيراً ما ينحو نحو الاستطراد لبيان هذه المسائل، حتى حين تكون صلتها بموضوعات كتابه واهية.
ومما التزمه ابن حزم في منهجه الاعتماد على طبيعة اللغة العربية سواء أكان ذلك في نواحي تميزها أم قصورها، فهو يعلم أن السؤال ب " ما " أو ب " أي " في اللغة العربية قد يستويان وينوب كل واحد منهما عن صاحبه، " ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام، فإن فيها للاستفهام عن العام لفظاً غير لفظ الاستفهام عن أبعاض ذلك العام " (3) واللغة العربية ليس فيها لفظة تخص بالكمية دون سواها " وهذا يستبين في اللغة اللطينية عندنا استبانة ظاهرة لا تختل، وهي لفظة فيها تختص بها الكمية دون سائر المقولات العشر؛ وللكيفية أيضاً في اللطينية لفظ يختص بها اختصاصاً بيناً لا إشكال فيه دون سائر المقولات، لا توجد لها ترجمة مطابقة في العربية " (4) ؛ وإذا وجد مصطلحاً غريب الدلالة في اللغة العربية استبعده، فالأوائل سمت النوع " صورة " في بعض المواضع، وهو يقدر أن يكون ذلك منهم اتباعاً للغة يونان، فربما كان هذا الاسم عندهم، ولكنه لا يصح في اللغة العربية (5) .
لهذا كله يصدق قول الدكتور سالم يفوت بأن كتاب التقريب يمثل " قراءة لأرسطو حاولت رفع إبهامات والتباسات النص الأرسطي اعتماداً على مبادئ تقول بنسبة المعاني الفلسفية وارتباطها باللغة فيها.... وبالفعل نلاحظ أن العرض لدى ابن حزم لا يمثل الهدف الأساسي، بل هو مجرد لحظة أولى تتلوها ثانية، هل لحظة اتخاذ الموقف انطلاقاً
__________
(1) التقريب: 8 / ظ.
(2) التقريب: 33 / و - ظ.
(3) التقريب: 7 / ظ.
(4) التقريب: 22 / ظ، وانظر أيضاً: 23 / ظ.
(5) التقريب: 9 / ظ.(4/44)
من المبادئ المومأ إليها " (1) فهذه الحقيقة يدركها من درش كتاب التقريب بعناية، نعم إن ابن حزم لا ينكر أن منطلقاته تمتد إلى فرفوريوس الصوري وإلى أرسطاطاليس أو إلى الأوائل جملة، كما يحلو له أن يعبر، وقد يكون متأثراً بالرواقين في تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف كما يقول روجيه أرنالديز، أو في حديثه عن الحد والرسم، كما يقول روبير برونشفيك (2) ؛ ولكن ليس هذا هو الشيء الأساسي، إنما الشيء الأساسي هو الانتقال من مرحلة التبسيط أو شرح المستغلق ورفع الالتباس في بعض مواقف الأوائل إلى موقف فكري واضح مستمد من طبيعة اللغة والدين، موجه إلى غايات محددة؛ وقد حدد الدكتور سالم يفوت ثلاثة دواع تظهر الحاجة إلى صناعة المنطق وهي:
(1) فهم بناء كلام الله ورسوله، وفهم أحكامه وطرق استنباطها (منطق البيان) .
(2) الرد على المشغبة، وهو مر يقتضي التسل بالأفانين التي يلجأون إليها (منطق الجدل) .
(3) التمييز بين الحق والباطل، وهو أمر يتم بطبيعة الحال لا بصورة مجردة، بل اعتماداً على النص الديني (3) .
وعلى أساس من هذه الدواعي يعلل الدكتور يفوت أن " إسراع " ابن حزم في تناول أربعة كتب لأرسطو في مجال لا يتجاوز مائة صفحة إلا قليلاً بأنه إنما كان يهدف إلى " رفع قلق الموقف الأرسطي " وهذا ما جعله " يعيد كتابة " أجزاء كثيرة من المنطق " ويهمل " أبواباً كاملة (4) .
6 - صرح ابن حزم بأن كتاب التقريب يقع تحت النوع الرابع من المؤلفات، وهو النوع الذي يتناول شرح المستغلق: " ولن نعدم إن شاء الله أن يكون فيها بيان تصحيح رأي فاسد يوشك أن يغلط فيه كثير من الناس، وتنبيه على أمر غامض، واختصار لما ليست بطالب الحقائق إليه ضرورة، وجمع أشياء متفرقة مع الاستيعاب لكل ما
__________
(1) مجلة دراسات عربية، العدد 4 (السنة 19 شباط - فبراير 1983) : 57.
(2) المصدر نفسه: 56.
(3) المصدر نفسه:61.
(4) المصدر نفسه: 71.(4/45)
بطالب البرهان إليه بأقل حاجة، وترك حذف شيء من ذلك البتة " (1) ، وقد رأينا أن هذه الغاية التي وجه لها ابن حزم جهده قد أكسبت كتابة سمات من الأصالة، ففي قيامه بشرح المستغلق وحذف ما هو غير ضروري، وإثارة أمر غامض، وجمع أشياء متفرقة في نطاق واحد، مع الاستيعاب للأوليات الضرورية، برزت شخصية رجل مستقل في فكره، واضح في أهدافه؛ ومهما يشتم من تواضع في كلمته التي حدد بها طبيعة كتابه فإنه كان يدرك إدراكاً تاماً بأنه يحاول أمراً لم يحاوله أحد قبله: " ولم نجد أحداً قبلنا انتدب لهذا " (2) فهو يدرك خطورة ما هو مقدم عليه، ولكنه يجد في نفسه الاستعداد لذلك، أعني " لكشف غمة العداء للمنطق واكتساب الأجر في هداية الناس إلى فوائده ".
ومع ذلك فربما كان ابن حزم مسبوقاً إلى هذه الخطوة أو إلى ما هو شبيه بها، فقد بين الدكتور عمار الطالبي أن الفارابي كان أول ن يسر المنطق وقر به للإفهام واستخدام فيه عبارات الفقهاء والنحاة واصطلاحات المتكلمين، وقارن فيه بين منهج الأصوليين ومنهج المشائين، وضرب الأمثلة من القرآن ومن عبارات الفقهاء في القياس وغيره من الاستقراء والتمثيل، وألف في ذلك كتاباً سماه " كتاب المختصر الصغير في المنطق على طريقة المتكلمين " (3) .
يبدو لي أم ثمة فرقاً أصيلاً بين الفارابي وابن حزم في هذا الموقف، فالفارابي يأخذ منطق أرسطاطاليس كما هو ويقارنه بمنطق آخر، اتخذت من علم الكلام، بينما يجرد ابن حزم من منطق أرسطاطاليس " معياراً " يحسنه الناس البسطاء، ويخدم " تربية فكرية " تمتد إلى شؤون الدين والحياة بعامة؛ وأياً كان الأمر فهل اطلع ابن حزم على محاولة الفارابي يثير الدكتور الطالبي مسألة اللقاء بين ابن حزم والفارابي في مسألة قياس الغائب على الشاهد فيقول: والغريب أن آراء ابن حزم في مسألة قياس الغائب على الشاهد أو الاستقراء تماثل آراء الفارابي، إذ أورد نظرية الأصوليين واصطلاحهم في إجراء العلة والمعلول وانتهى إلى نفس الرأي الذي انتهى إليه الفارابي في القول بأن الاستدلال بالشاهد على الغائب إنما يصح في الإبطال لا في الإثبات (4) . ولعل هذا
__________
(1) التقريب: 5 / ظ.
(2) التقريب: 4 / و.
(3) نصوص فلسفية (إشراف وتصدير الدكتور عثمان أمين، 1976) : 87.
(4) المصدر السابق: 90؛ وانظر التقريب: 76 / و.(4/46)
الاستنتاج الذي وصل إليه ابن حزم إنما توصل إليه مستقلاً من كثرة تقليبه للتجارب الاستقرائية التي كان يواجه بها أصحاب المذاهب الأخرى.
وقد اتهم ابن حزم بعض معاصريه بأنه لم يفهم منطق أرسطاطاليس، فقال فيه صاعد: " وخالف أرسطاطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله مخالف من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتابه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط بين السقط " (1) ؛ ورد ابن حيان المؤرخ الأندلسي هذه التهمة حين قال: " كان أبو محمد حامل فنون من حديث وقفه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة لم يخل فيها من الغلط والسقط، لجرأته في التسور على الفنون، لا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في سلوك تلك المسالك، وخالف أرسطاطاليس واضعه، مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتبه " (2) .
أما أنه خالف أرسطاطاليس فشيء واضح في كتابه، وأما أنه لم يفهم غرضه، فذلك هو الشيء الذي حاولنا رفضه آنفاً، فقد يختلف غرضه ابن حزم عن غرضه أرسطاطاليس في هذا، دون أن يهتم بأنه لم يفهم غرض المعلم الأول. أما إن كان ما يقوله صاعد بأن ابن حزم وقع في الخطأ بمعنى أنه أجرى اجتهادات " لا منطقية " في محاولته للتبسيط، فشيء لا يمكن الحكم عليه إلا بعد فحص دقيق للمصطلح المنطقي والتمثيلات التي جاء بها في كتابه ومقارنتها بما لدى أرسطاطاليس، فقد اعتمد ابن حزم على منطقيات لم تكن موجودة لدى أرسطاطاليس، وأباح لنفسه القيام بأمور لم يجدها للمعلم الأول، فمن ذلك:
(1) أنه صرح بأنه لا يتقيد في هذا أو ذاك من الآراء بقول الأوائل (وفيهم أرسطاطاليس نفسه) ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وهذا أمر يدل على استقلال في النظر، لا على أنه لم يفهم غرض أرسطاطاليس.
(2) صدر في مفهوماته عن مقدمات دينية لم تكن لدى أرسطاطاليس، وهو شديد الشغف بالتقريب بين المنطق والشريعة، وجعل الأول في خدمة الثانية (وهذا قد
__________
(1) طبقات الأمم: 76.
(2) الذخيرة لابن بسام 1: 167 ونص ابن حيان هذا نقله ابن سعيد في المغرب والذهبي في سير أعلام النبلاء وفي تذكرة الحفاظ وفي تاريخ الإسلام كما نقله الصفدي في الوافي بالوفيات.(4/47)
يوقع صاحبه في الإحالة إذا لم يكن صاحبه دقيقاً متحرزاً) .
(3) تجاوز التمثيل بالحروف والرموز إلى انتزاع الأمثال من مألوف الحياة ومن الشريعة (1) ، فأصبح منطقه خاضعاً لمواصفات اللغة (لا تجريدياً كالمعادلات الجبرية) .
(4) حكم نظرته الظاهرية في كثير من الأمور فأنكر القياس والعلية في الأمور الشرعية، وأطنب في بيان المعرفة العقلية، وأضعف من قيمة الاستقراء (وبهذا خالف أرسطاطاليس الذي يقول: إننا يلزم أن نعلم الأوائل بالاستقراء، وذلك أن الحس إنما يحصل فيها الكلي بالاستقراء) .
(5) استأنس بأحكام مستمدة من طبيعة اللغة العربية نفسها، مما هو غير موجود أو متحقق في لغة أخرى كاليونانية.
ومهما يكن من شيء فكتاب التقريب " ظاهرة " هامة في تاريخ الفكر الإسلامي بالأندلس، وفيه، إذا تجاوزنا النواحي المنطقية الخالصة، حقائق هامة تتناول طبيعة الحياة الفكرية في المجتمع الأندلسي، وفيه كثير مما يتصل بابن حزم ونظرته إلى الحياة والناس، وهو مقدمة للغزالي في المشرق الذي احتذى حذو ابن حزم فاستمد أمثله المنطق من الفقه.
7 - تحقيق كتاب التقريب:
حين ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب (1959) لم يكن بين يدي إلا نسخة المكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة بتونس، ورقمها: 6814 وهي من المخطوطات التي صورها معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية (القاهرة) ورقم الفيلم: 8، وقد أذن لي المشرفون على المعهد يومئذ مشكورين بتصوير نسخة عن ذلك الفيلم.
وتقع المخطوطة في اثنتين وتسعين ورقة، في كل صفحة 26 سطراً، ومتوسطاً كلمات السطر الواحد: 11 كلمة، وهي مكتوبة بخط نسخي دقيق القلم أو متوسط الدقة وكثير من الكلمات فيها نقصه الإعجام. ومن أبرز ما فيها أن الناسخ يضع الحرف " ط " فوق الكلمة التي يشير بحذفها أو إسقاطها. وهو يثبت الياء في حال الرفع في كلمات مقل: متناهي. تالي. واهي. وهكذا، وقد حذفت هذه الياء حيثما وقعت وأشرت إلى بعض ذلك لا كله في الحواشي على سبيل التمثيل. كذلك فإن الناسخ لا يتقيد
__________
(1) انظر مثلاً التقريب: 59 ظ، 67 و....(4/48)
بعكس العدد المفرد مع المعدود، فهو يكتب مثلا: ستة أرجل، سمحت لنفسي بتغيير هذا أيضاً. وليس على هوامش النسخة سوى بعض التصويبات وتعليقتين أو ثلاث.
والنسخة ليست مؤرخة ولكن خطها قد يدل على أنها ربما كتبت في القرن السابع أو قبله بقليل.
وقد قلت يوم ظهور الطبعة الأولى: إنني بذلت في تصحيحها جهدي، ولكني لم أستطع أن أحل كل ما اعترضني فيها من مشكلات، على إدامة النظر وتكرار المحاولة. واليوم، أحمد الله على أن هذه المشكلات التي أشرت إليها لم يبق منها إلا القليل القليل، وذلك بعد العثور على نسخة التقريب في إزمير (ورقمها: 764) وهي نسخة قيمة جداً تقع في 74 ورقة وفي كل صفحة من صفحاتها 25 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد 16 كلمة، وخطها نسخي واضح دقيق جميل، وبعض الحروف فيها ينقصها الإعجام جزئياً، ونظراً لظهور هذه النسخة إلى جانب السابقة رمزت للتونسية بالحرف (س) وللإزميرية بالحرف (م) وتعد النسخة (م) وتعد النسخة (م) أكثر ضبطاً من أختها، وهي منسوخة مباشرة فيما يبدو عن نسخة الشيخ أبي بكر البغدادي، وهذا أخذ نسخته عن نسخة الشيخ أبي عبد الله الرصافي التي قرئت على ابن حزم؛ وتشمل الورقات 74 77 منها: تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول، وفي آخرها: كتب هذا الباب من كتاب النبذ الكافية في أصول أحكام الدين تأليف الشيخ الفقيه الحافظ أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد رحمه الله، وقرأت هذا على شيخنا أبي بكر البغدادي قال قرأ علينا الشيخ أبو عبد الله الرصافي قال لنا الشيخ أبو محمد (بن) عليّ منصفه رحمهم الله تعالى. واسم الناسخ " محمد بن عبد الملك بن عبد العظيم الحنفي " ولكنه لم يثبت تاريخاً للنسخ.
وعلى الورقة من النسخة (م) تملكات مختلفة أكثرها غير مؤرخ، وأحدها تملك يحمل تاريخ سادس جمادى الأولى سنة 946 كما أثبت الناسخ بخطه على هذه الورقة فهرستاً بأسماء الكتب المنطقية التي ذكرها ابن حزم في التقريب وهي كتاب إيساغوجي وكتب أرسطاطاليس الثمانية، وفهرست آخر بأسماء الكتب التي ألفها " أرسطاطاليس " في أصول الحكمة النظرية وهي إعادة للكتب الثمانية مع إضافة أسماء بعض الكتب الأخرى. وعلى حواشي الورقة السادسة منها وبين السطور تعليقات هي(4/49)
شروح وتفسيرات. وهي تشبه النسخة (س) في سقوط بعض العبارات منها عند تشابه النهايات، وفي إثبات الياء في حال الرفع في مثل: متناهي. تالي. واهي؛ ومن الغريب أن النسختين تتفاوتان في التقديم والتأخير على نحو يكاد يكون مطرداً في مواطن لا يختل فيها المعنى إطلاقاً، فقد يجيء في إحدى النسختين عبارة " ساقط مرذول " وفي الثانية " مرذول ساقط "، كما يطرد فيهما إلى حد بعيد عبارات الدعاء فحيث يجيء في إحدى النسخ " عز وجل " يجيء في الثانية " تعالى " ولكن (م) أدق بكثير من (س) في الجملة، ولهذا رجحت قراءاتها في معظم الأحوال، لأنها أقرب الصورتين إلى نسخة المؤلف.
وقد يبدو أنني أثقلت الحواشي بإثبات فروق غير ضرورية، ومع ذلك فلا أدفع أن يكون فاتني إثبات فروق أخرى، كان لا بد من أن تزيد الحواشي ازدحاماً. قد تحقق بالمقارنة نص يرضي دارسي المنطق والقراء، فيما اعتقد، وهذا يجعلني أعتذر عما لحق الطبعة الأولى من أخطاء وتجاوزات لم يكن لي قبل بتصحيحها؛ على أني يجب أن أقول أيضاً إنه لو جرى الاعتماد على (م) وحدها لبقيت نسبة الخطأ والسقط كثيرة أيضاً، فالحمد لله على أن وفقني لتدارك ذلك، راجياً مت يهتم بآراء ابن حزم أن يلغي الطبعة الأولى في قراءته أو دراسته.
- 3
فصل: هل للموت ألم أم لا
هذه رسالة صغيرة (أو فصل) في مشكلة تعرض لها الفلاسفة: هل للموت ألم أو لا، فقد ناقشها الكندي وأسهب في جلائها مسكويه في تهذيب الأخلاق عندما تحدث عن " الخوف من الموت "، وكذلك فعل غيرهما من الفلاسفة، ولم يضف ابن حزم إلى هذه القضية شيئاً جديداً، ولكن إثباتها هنا بين رسائل ذات طابع فلسفي أمر ضروري لأنه يوضح طبيعة المشكلات التي كان يحاول علاجها. ويتجلى حرص ابن حزم على ربط المشكلة بحديث الرسول: " إن للموت سكرات " مبيناً فهمه الخاص لذلك الحديث، وهي وقفة طبيعية من ابن حزم.(4/50)
- 4 -
كتاب في الرد على الكندي
جاء هذا الكتاب تالياً لكتاب التقريب من نسخة المكتبة الأحمدية بتونس حيث كتب على الورقة الأولى " وفيه الرد على محمد بن زكريا الرازي المتطبب في كتابه المسمى بكتاب العلم الإلهي.... بكتاب التوحيد من تأليفه قدس الله روحه ونور ضريحه " ويبدو أن كلمة " بكتاب التوحيد " تصحيح أضافه الناسخ على هامش الورقة الأولى بعد أن وضع علامة " م " فوق " بكتاب العلم الإلهي ".
ويستطيع المرء من النظرة الأولى أن يحكم بأن هذا الكتاب لا صلة له بكتاب العلم الإلهي للرازي ولا رد على محمد بن زكريا، فليس للرازي فيه أي ذكر وليست محتوياته رداً على كتاب العلم الإلهي وإنما هو في أكثره رد عبلى الكندي مؤلف كتاب التوحيد، ثم يلي ذلك فصول تتريب على النحو الآتي:
(أ) تعريف ببعض المصطلحات (ف 62 76) .
(ب) مناظرة بين المؤلف وأحد الدهرية (ف 77) .
(ج) فصل في أمور شتى (ف 78 81) .
(د) جملة المختلفين من أهل الملة الإسلامية (ف 82) .
(هـ) رسالة اتفاق العدل بالقدر (ف 83) .
(و) فقرتان في الروح (ف 84 85) .
ولما تبينت أن القسم الأول منه رد على الكندي رجعت إلى رسائل الكندي فوجدت أن كتاب التوحيد المذكور هنا ليس إلا رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، ولا خلاف في التسمية لأن اسم هذه الرسالة حسبما يذكر ابن أبي أصيبعة هو " كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد " وهي رسالة نشرت مرتين، مرة بتحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1948) ومرة بتحقيق الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة مع عدد من رسائل الكندي (1950) . ومن المقارنة بين ما نقله مؤلف هذا الكتاب وبين رسائل الكندي وجدت النص متفقاً، إلا أن مؤلف الرد كان يلخص العبارة أحياناً أو يعتمد الحذف وينتقي عبارات خاصة من رسالة الكندي، وقد اخترت أن أقارن هذا الرد بالرسالة التي نشرها الدكتور أبو ريدة لأنه حافظ في هوامشها على الأصل، وهذا جدول بما أظهرته المقارنة:(4/51)
ف 1: رسالة الكندي إلى المعتصم في الفلسفة الأولى: 97.
2: - المصدر نفسه: 101.
4: - المصدر نفسه: 104.
5: - المصدر نفسه: 106 107.
7: - المصدر نفسه: 107 109 110.
8: - المصدر نفسه: 111.
10: - المصدر نفسه: 111.
13: - المصدر نفسه: 112.
14: - المصدر نفسه: 112.
17: - المصدر نفسه: 112 113 114.
30: - المصدر نفسه: 143 144.
57: - يشير إلى قول الكندي 159 160 والواحد الحق إذن لا ذو هيولي ولا ذو صورة ولا ذو كمية ولا ذو كيفية ولا ذو إضافة ولا موصوف بشيء من باقي المقولات ولا ذو جنس ولا ذو فصل ولا ذو شخص ولا ذو خاصة.... الخ.
69، - 78: رسائل الكندي: 217 218.
غير أن الفقرة 47 من هذا الكتاب وهي نقل لبعض كلام الكندي ليس لها ما يوازيها في المجموعة المنشورة من رسائله. فإذا كان المؤلف ينقل من رسالة الفلسفة الأولى فهذا دليل على أن الرسالة ناقصة وذلك شيء قد نبه عليه الدكتور أبو ريدة بقوله: " ومن أسف أن هذا هو كل ما عندنا من كتاب الكندي في الفلسفة الأولى، ويظهر أن له بقية لأن المؤلف يقول في آخر الفن الرابع إنه سيكمل الكلام بما يتلوه تلواً طبيعياً " (1) هذا وان مؤلف الكتاب يشير إلى رد الكندي على الدهرية والمنانية، فلعل رسالته في التوحيد قد شملت هذا الموضوع نفسه، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة للكندي الرسائل التالية مما يحسن أن يكون متصلاً بكتاب التوحيد:
(1) رسالة في الرد على المنانية.
(2) رسالة في الرد على الثنوية.
(3) رسالة في نقض مسائل الملحدين.
__________
(1) رسائل الكندي: 96.(4/52)
وقد يكون الكندي عالج الرد على المنانية والثنوية والملحدين في غير موضع واحد من رسائله، فمرة وصل الكلام فيه بكتاب التوحيد ومرة أفرد له رسائل مستقلة.
ولعل أول شيء استوقفني حين قرأت هذا الكتاب هو:
هل الكتاب من تأليف ابن حزم ذلك لأن الذي نسبه لابن حزم ظن أنه كتاب في الرد على العلم الإلاهي للرازي، ولابن حزم كتاب يرد به على الرازي في العلم الإلاهي ذكره كثيراً في كتاب الفصل وأشار إلى بعض ما يحتويه. ولكن هذا كتاب آخر في الرد على الكندي تليه رسائل وفصول لا تجمعها رابطة واحدة، وليس فيه إشارة واحدة إلى ابن حزم نفسه إذ ابن حزم يصدر أقواله دائماً بمثل: قال عليّ، أو قال أبو محمد. ولم يرد مثل هذا مرة واحدة في الكتاب بل جاء فيه حيناً: قال محمد، وحيناً قال الموحد. وإذا حسبنا أن " قال محمد " خطأ صوابه: قال (أبو) محمد، وأن لفظة " أبو " قد سقطت سهواً من الناسخ لم نجد عبارة " قال الموحد " مما يستعمله ابن حزم في كتبه، ولم يشر أحد فيما أعلم إلى أن لابن حزم كتاباً في الرد على الكندي أو رسالة في اتفاق العدل والقدر، ولم يشر ابن حزم نفسه إلى شيء من ذلك، ومن عادته أن يسمي بعض كتبه في مادة واحدة، وقد كان من الممكن أن يشير إلى هذا الكتاب في كتاب الفصل مثلاً حيث عالج مسألة أسماء الله تعالى وصفاته وتحدث عن الدهرية وعن القدر، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث. ومن هنا نشأة الحيرة وثار التساؤل: من هو مؤلف هذا الكتاب
وفي محاولتي الإجابة عن هذا السؤال طرحت على نفسي سؤالاً آخر وهو: هل اطلع ابن حزم على فلسفة الكندي وبعد البحث وجدت ما يؤيد وجود صلة بين بعض الأفكار عند كل منهما إلا أن ابن حزم لم يذكر الكندي فيما أعلم إلا في نقل واحد في كتاب الجمهرة (1) ؛ وهذه هي أهم مجالات الاتفاق بينهما:
1 - المصطلح المنطقي الذي استعمله ابن حزم في كتاب التقريب شديد الشبه بالمصطلح المنطقي لدى الكندي.
2 - يستعمل ابن حزم في إنكار الخلاء والملاء في كتاب الفصل وكتاب التقريب نفس البرهان الذي يورده الكندي.
__________
(1) الجمهرة: 109.(4/53)
3 - يرى ابن حزم أن ليس في العالم جزء لا يتجزأ (1) أصلاً وللكندي رسالة في بطلان قول من زعم أن جزءاً لا يتجزأ. فهما متفقان في الفكرة ولكن لا ندري إلى أي حد يتفقان في طريقة البرهان لأن رسالة الكندي لم تصلنا.
4 - ذهب ابن حزم إلى القول بأن الواحد ليس عدداً وبرهانه على ذلك أن خاصية العدد أن يوجد عدد آخر مساو له وآخر ليس مساوياً له، والمساواة هي أن تكون أبعاضه كلها مساوية له وبعضها غير مساو له (2) وهذا مشبه لقول الكندي: " وإن كان الواحد كمية فخاصة الكمية تلحقه وتلزمه أعني أنه مساو ولا مساو ". ويستنتج الكندي أن الواحد إذن ليس عدداً ويقول: الواحد ليس بعدد بالطبع بل باشتباه الأسم (3) ، وبنحو من هذا القول قال ابن حزم إذ يذهب إلى أن تسميته بالعدد أمر مجازي.
5 - قال الكندي: " وقد ينبغي ألا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني لأنه ليس كل مطلوب عقلي موجوداً بالبرهان لأنه ليس لكل شيء برهان ". وبمثل هذا يقول ابن حزم: " والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها برهان، إذ لو طلب على كل برهان آخر لاقتضى ذلك وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال " (4) . وكرر هذا الرأي في كتاب التقريب.
6 - تحديد الباري عز وجل عند كل منهما يكاد يتفق نصاً، فيقول الكندي: " ولا هو عنصر ولا جنس ولا نوع ولا شخص ولا فصل ولا خاصة ولا عرض عام ولا حركة ولا نفس ولا عقل ولا كل ولا جزء.... ولا هو زمان ولا مكان ولا جوهر ولا عرض " (5) . ويقول ابن حزم: " والباري عز وجل ليس في مكان ولا هو جرم ولا جوهر ولا عرض ولا عدد ولا جنس ولا نوع ولا شخص ولا متحرك ولا ساكن فليس في زمان وإنما هو حق في ذاته موجود بمعنى أنه معلوم " (6) .
7 - استعمل ابن حزم رأي الكندي في أن الشيء لا يمكن أن يكون علة ذاته. قال
__________
(1) الفصل 5: 92.
(2) الأصول والفروع: 85.
(3) رسائل الكندي: 146.
(4) الأصول والفروع: 64 - 65.
(5) رسائل الكندي: 160 - 161.
(6) الأصول والفروع: 99.(4/54)
الكندي: " فنقول إنه ليس ممكناً أن يكون الشيء علة كون ذاته.... لأنه لا يخلو من أن يكون أيسا وذاته ليس أو يكون ليساً وذاته أيس " (1) وقد وضع ابن حزم بدل لفظي " أيس وليس " كلمتي موجود ومعدوم فقال: " إما أن يكون أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة أو أحدث ذاته وهو معدوم وذاته موجودة أو أحدثها وكلاهما موجود أو أحدثهما وكلاهما معدوم " (2) .
فإذا استأنسنا التشابه بصور التشابه بين آراء الكندي وابن حزم لم نستبعد أن يكون ابن حزم قد اطلع على رسائل الكندي فأخذ من أفكاره ما وافق مبادئه وأنكر عليه ما أنكره في هذا الكتاب.
ومن المرجحات التي تقوي نسبة الكتاب إليه أن الفكرة الأساسية في كتابه توافق الرأي الأساسي لابن حزم في مسألة أسماء الله تعالى، ومدار الرد على الكندي أنه لا يجوز لنا أن نسمي الله (علة) لسببين عقلي ونقلي. أما العقلي فهو أن العلة تفترض المعلول ولا تنفك عنه، كما أن المعلول يفترض العلة ولا ينفك عنها. فالعلاقة بين العلة والمعلول علاقة إضافة. وقد أخطأ الكندي حين نفى الإضافة أولا عن الله ثم عاد يسميه علة، " فالمعلول نوع لعلته والعلة أصل لمعلولها " ولا يمكن من هذا التأليف أن يوجد التضامن القائم بينهما، إذن فإن التضامن من محرك غيرهما ليس مثلهما لا محالة، والله هو مبدع العلل وليس له مثل، وليس هو لشيء علة، إذ العلة في العقول الصحيحة هي السبب المطبوع لكون المسبب لا محالة، فالأول جل وعز لا سبب لأنه هو محدث الأسباب.
وأما السبب النقلي فلم يقف عنده المؤلف في هذا الكتاب ولكنه ملموح من كلامه، وهو أن لفظ العلة لا يسمى به الله لأنه لا يجوز لنا أن نطلق عليه اسماً غير وارد نصاً في الأسماء التسعة والتسعين، وهذا ما وقف عنده ابن حزم في كتاب الفصل في مواطن متفرقة وكرره دون ملل فقال مثلاً: " فمن وصف الله تعالى بصفة يوصف بها شيء من خلقه أو سماه باسم يسمى به شيء من خلقه استدلالاً على ذلك بما وجد في خلقه فقد شبهه تعالى بخلقه وألحد في أسمائه وافترى الكذب، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله
__________
(1) رسائل الكندي: 123.
(2) الأصول والفروع: 70.(4/55)
عليه وسلم أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد " (1) .
فالفكرة الأساسية في هذا الرد متفقة تمام الاتفاق ورأي ابن حزم في أسماء الله تعالى صفاته كما أن هذه العبارة التي وردت في الرد وهي " من المقلوب قياس أمور خالقنا على قياس أنفسنا " إنما هي لب المفهوم العام الذي بنى عليه ابن حزم فكرته في التنزيه وما تفرع عنه من مسائل ويكاد يقولها نصاً في بعض المواطن من كتبه.
كذلك وصف قول داود القياسي " إن الله لم يزل متكلماً " بأنه مذهب مدخول يتفق وقول ابن حزم في الفصل: " ومن قال إن شيئاً غير الله تعالى لم يزل مع الله عز وجل فقد جعل لله عز وجل شريكاً " (2) غير أنه حين قال: " ولكنا نقول إنه لم يزل متكلماً منذ خلق القلم ولا يزال إلى يوم القيامة " فذلك رأي لم يجيء فقي كتاب الفصل.
وليس في المناظرة التي دارت بين المؤلف وأحد الدهرية مما يستبعد نسبته إلى ابن حزم لأنها تشبه طريقته في الجدل وهو يحدثنا أنه كان يناظر الدهريين.
وكل ما تقدم محاولة لتوضيح الأسباب التي تقوي نسبة هذا الكتاب إلى ابن حزم.
ومع ذلك فهناك أمور أخرى ما تزال تبعد نسبة هذا الكتاب عنه، ومنها أنه لم يذكر الكندي في كتبه الأخرى ولم يشر إلى رد له عليه، ولم يرد أي ذكر لهذا الكتاب عند أحد ممن ترجم لابن حزم، وهذه وإن كانت أسباباً لا تقطع بشيء إلا أنها تقوي الجانب الذي ينفي نسبة الكتاب إليه. وهناك مسألة تحتاج شيئاً من التأمل وهي أن هذا الكتاب فيما يبدو جهد رجلين لا واحد، فقد جاء فيه " أخشى أن يكون هذا الكندي الشقي كان زنديقاً، فإن كانت هذه بصيرته وإياها قصد فما أرى في جهنم أسفل درجة منه، فإن لم يكن قصدها " والشيخ " دبرها على لسانه فهو معه في أسفل السافلين، فإذا لم تكن كلمة " والشيخ " محرفة، فها هنا شخص يلخص آراء الكندي ويرد عليها وشخص يعلق على ذلك تعليقاً آخر. فإذا كانت محرفة ووضعنا مكنها مثلاً كلمة " الشيطان " صح أن الكتاب من جهد رجل واحد.
ومما قد يضعف نسبة الكتاب إلى ابن حزم عبارات وردت فيه استبعد صدورها عنه مثل:
__________
(1) الفصل 2: 139 وانظر أيضاً 1: 39، 2: 161.
(2) الفصل 3: 9.(4/56)
1 - " فالعلم معرفة العلل والرسوخ فيه بقدر الرسوخ " فهذا لا يقوله ابن حزم أبداً لأن العلم عنده يبطل العلل جملة أحياناً، فقد أنكر هو العلل في أحكام الشرائع.
2 - " ونحن لا نتمكن من صفة العلة التي من جهتها أخطأت الجهمية لأنه من الكلام في الصفات العلى التي لم يبح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم الكلام فيها ولا يتجاوزها علم القلوب "، وهذا لا يقوله ابن حزم لأنه يناقش أصحاب النحل في أدق شبهاتهم دون تحرج كما يشهد بذلك كتاب الفصل.
3 - " فالإمكان هي الإرادة هي الملك هي العرض وهو الغاية القصوى والنهاية العظمى والفصل الأكبر " وهذا قول يشبه التفسير الباطني ولا أرى له بابن حزم نسباً.
هذا وقد أكثر ابن حزم الحديث عن الجواهر والعرض في كتبه فلم يقل إن الجواهر ينقسم قسمين روحاني وجسماني والعرض ينقسم قسمين كذلك. وتكلم عن المرجئة والخوارج والجهمية، وليس في ما كتبه مشابه لما جاء هنا؛ وأشد من هذا وأبين كلامه عن " الروح "، فالكلام عنها في هذا الكتاب منقطع الصلة بكلامه عنها في كتاب الفصل، واحسب الفصل الذي عقده المؤلف للكلام عن الروح في هذا الكتاب شاذاً إذا قارناه بما جاء في الفصل كذلك، فإن في هذا الكتاب حديثاً فذاً مدهشاً عن " الثنائية الكونية " يستحق أن يكرر، وابن حزم شغوف بترديد أفكاره وتكريرها، فلو كان هذا من آرائه لبسطه وفصله في مواضع أخرى.
وهذه كلها حجج تناهض ما قدمته من براهين على نسبة الكتاب لابن حزم: فأيها يرجح الدارس
على الرغم من قوة الأدلة في الرأي الأول أراني أرجح أن هذا الكتاب ليس من مؤلفات ابن حزم. أما الاتفاق في الآراء بين ابن حزم والكندي فلا يثبت أن ابن حزم أخذ فلسفة الكندي بطريق مباشر وإنما هو أخذ بعض الآراء الأرسطاطاليسية، فالتقى فيها مع الكندي نفسه.
لقد قرأ ابن حزم الفلسفة على أستاذه محمد بن الحسن المذحجي ووصفه بأنه أهل التمكين في علوم الأوائل (1) وأن كلامه في هذه الأمور كلام من يقتدي به، وعنه أخذ المنطق كما قدمناه فصلته بالمذحجي في الدراسات المنطقية والفلسفية صلة قوية،
__________
(1) الأصول والفروع: 8.(4/57)
ولكن لا ندري على وجه التحقيق ما هو الاتجاه الفلسفي الذي كان المذحجي آخذاً فيه.
ترى هل هذا الكتاب من تأليف المذحجي نفسه واطلع عليه ابن حزم وزاد فيه بعض تعليقات من لدنه هل هو مذكرات متفرقة كتبها ابن حزم في دور مبكر أثناء طلبه الفلسفة هل هو من تأليف أحد الظاهرية الذين تابعوا ابن حزم في مسألة الصفات والأسماء كل هذه فروض يصعب ترجيح أحدها، ولكن إن صح أن هذا الكتاب من تأليف " محمد " المذحجي فإنه يكشف لنا عن أثر هذا الأستاذ في ابن حزم تلميذه في الفكر الفلسفي والمصطلح وفي الناحية الكلامية.
- 5 -
تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول
هذا مسرد لطيف مفيد، وهو لا يمثل رسالة مستقلة لأنه مسخرج من كتاب النبذ الكافية في أصول أحكام الدين، ولكن الحاقه بنسخه كتاب التقريب التي قرئت على ابن حزم نفسه، وكان يمتلكها أبو عبد الله الرصافي، ربما دل على أن ابن حزم نفسه أذن بإفراد هذا " المعجم "؛ الذي كرره ابن حزم أيضاً في كتابه الإحكام في أصول الأحكام؛ وهو متسق في بابه مع نظرة ابن حزم لقضايا الجدل والبرهان حسب ما عرض لها في كتاب التقريب لحد المنطق، إذ الجدل والبرهان لا تتم شروطها قبل تحديد المصطلح.
الرموز المستعملة في هذا الجزء
ص: الأصل حين يكون الاعتماد على نسخة مفردة.
س: النسخة التونسية من التقريب.
م: نسخة إزمير من التقريب.
ر: رسائل الكندي (في رسالة الرد على الكندي) .(4/58)
1 - رسالة مراتب العلوم(4/59)
فراغ(4/60)
- 1 -
رسالة مراتب العلوم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
رسالة مراتب العلوم
قال الفقيه الإمام الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم، رحمه الله: الحمد لله رب العالمين الذي أفاض علينا النعم الجزيلة، ومنحنا القوى الرفيعة، حمداً يرضيه عنا، ويقتضي لنا المزيد من آلائه (1) ومواهبه السنية، وصلى الله على سيدنا محمد، خيرته من الإنس، وصفوته من ولد آدم، المبعوث بالهدى لاستنفاذ من اتبعه من ظلمات الكفر وعمى الجهل إلى نور العلم.
أما بعد: فإن الله تعالى كرم بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق، وخصهم على سائر خليقته بالتمييز الذي مكنهم به من التصرف في العلوم والصناعات. فواجب على المرء ألا يضيع وديعة خالقه عنده، وأن لا يهمل عطية باريه لديه، بل فرض عليه أن يصونها باستعمالها فيما له خلق، وأن يحوطها في تصريفها فيما دعي إليه.
وبعد: فإن لكل مقام مقالاً، ولكل زمان حالاً، وإن السالفين قبلنا كانت لهم علوم يواظبون على تعليمها، ويورثها الماضي منهم الآتي. ثم إن من تلك العلوم ما بقي وبقيت الحاجة إليه، ومنها ما درس رسمه، ودثرت أعلامه، وانبت (2) جملةً فلم يبق إلا أسمه. فمن ذلك علم السحر، وعلم الطلسمات (3) ، فإن بقاياها ظاهرة
__________
(1) ص: الإله.
(2) ص: وأبنت.
(3) انظر مقدمة ابن خلدون: 433 وقد عرف الأندلسيون علوم السحر والطلسمات عن طريق مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فهو الذي لخص كتب الأقدمين في هذه الناحية.(4/61)
لائحة، وقد طمس معرفة علمها، ومن ذلك علم الموسيقى وأصنافها الثلاثة، فإن الأوائل يصفون أنه كان منها [ما] يشجع الجبناء وهو اللوي، ونوع ثان يسخي البخلاء وأظنه الطنيني، ونوع ثالث يؤلف بين النفوس وينفر (1) . وهذه صفات معدومة من العالم اليوم جملة. فاعلموا أسعدكم الله بتوفيقه أن من رأيتموه يدعي علم الموسيقى واللحون، وعلم الطلسمات، فإنه ممخرق كذاب ومشعوذ وقاح، وكذلك من وجدتموه يتعاطى علم الكيمياء فإنه قد أضاف إلى هذه الصفات الذميمة التي ذكرنا استئكال (2) أموال الناس، واستحلال التدليس في النقود وظلم من يعامل في ذلك، والتغرير بروحه وبشرته في جنب ما يعاني من هذه الرذيلة. فإن العلمين المذكورين أولاً، وإن كانا قد عدما وانقطعا ألبتة، فقد كانا موجودين دهوراً. وأما هذا العلم الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز (3) ، فلم يزل عدماً غير موجود. وباطلاً لم يتحققساعةً من الدهر؛ إذ من المحال الممتنع قلب نوع إلى نوع، ولا فرق بين أن يقلب نحاس إلى أن يصير ذهباً أو قلب ذهب إلى أن يصير نحاساً، وبين قلب إنسان إلى أن يصير حماراً، أو قلب حمار إلى أن يصير إنساناً. وهكذا سائر الأنواع كلها، وهذا ممتنع ألبته، وبالله تعالى التوفيق، ومنه أستمد (4) لا إله إلا هو، فلا وجه للاشتغال بلعم قد دثر وعدم، وإنما الواجب أن يتهمم المرء بالعلوم الممكن تعلمها التي قد يتنفع بها في الوقت، وأن يؤثر منها بالتقديم ما لا يتوصل إلى سائره إلا به ثم الأهم فالأهم والأنفع فالأنفع، فإن من رام الاتقاء إلى أرفع العلوم دون معاناة ما (5) لا يوصل إليه إلا به، كمن رام الصعود إلى عليةٍ مفتحة مظلمة أنيقة البناء دون أن يتكلف التنقل إليه في الدرج (6) والمراقي التي لا سبيل إلى تلك العلية إلا بها.
__________
(1) الأجناس في الموسيقى ثلاثة أحدهما الطنيني والثاني اللوي والثالث التأليفي وتسمى كذلك بنسبة تقسيم الأبعاد فالأول أفحلها وهو يحرك النفس إلى النجدة وشدة الانبساط ويسمى الرجلي، والثاني يحرك النفس للكرم والحديث والجراءة ويسمى الخنثوي، والثالث يولد الشجا والحزن ويسمى النسوي (مفاتيح العلوم: 140) .
(2) ص: في استئكال.
(3) ص: الفكر.
(4) ص: استمده.
(5) ص: من.
(6) ص: ص: الدرع.(4/62)
وليس للمرء إلا داران: دار الدنيا، ودار معاده إذا فارق الدنيا؛ وبيقين ندري (1) أن مدة المقام في هذه الدار إنما هي أيام قلائل. وإجهاد المرء نفسه فيما لا ينتفع به إلا في هذه الدار من العلوم رأي فائل، وسعي (2) خاسر، لأن المنتفع به في هذه الدار من العلوم، إنما هو ما اكتسب به المال، أو ما حفظت به صحة الجسم فقط، فهما وجهان لا ثالث لهما. فأما العلوم التي يكتسب بها المال فإن وجه المكسب بها ضيق غير متسع، واكتساب المال بغير العلم أجدى وأشد توصلاً إلى المراد من التوسع في [العلم] (3) لكسب المال، كصحبة السلطان وعمارة الأرض والتقلب في التجارات. وهذه الوجوه كلها قد نجد الجاهل الأغتم أنفذ (4) فيها من العالم النحرير؛ فإذ ذاك كذلك، فالشغل بطلب العلم ليكون سبباً إلى كسب المال والتعب فيه بهذه النية عناء (5) وظلال، وفاعله قد جمع عيبين عظيمين: أحدهما ترك أخصر الطريقين إلى مطلوبه وأسهلها في التوصل إلى غرضه، ورك أوعرهما مسلكاً وأطولهما تعباً وأقلهما فائشدة وأبعدهما منفعة. والوجه الثاني أنه استعمل الفضيلة التامة التي بان بها عن الحشرات والبهائم في اقتناء حجارة لا يدري متى تدعه أو يدعها، وكان كمن أتعب نفسه وأسهر ليله وأطال كده في إقامة سيف هندي قاطع نفيس، وبنى داراً سرية أنيقة البناء محكمة النقوش (6) ، موثقة الأساس، فلما تما له كما أراد جعل يستعمل في كسر العظام وقطع البقل، وأوقف الدار لطرح ما يكنس فيها من الحشيش (7) ، فمن أخسر صفقة من هذا!!.
وأما العلم الذي ليس فيه إلا حفظ صحة الجسم فقط، فإن المتعب فيه بدنه،
__________
(1) ص: يدري.
(2) ص: قاتل، وبيع.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) ص: انفسد.
(5) ص: عياء.
(6) ص: النفوس.
(7) ص: الحسوس.(4/63)
المجهد لنفسه في تلقيه (1) وتقييده لا يحصل من تمامه لديه إلا على البصر (2) في معاناة مرض لا يدري أيتم له غرض من برئه أم لا يتم. ثم إن تم فليس على ثقة من عود ذلك الداء بعينه أشد ما كان، أو حدوث داء آخر مثل الذي استنفد طوقه في معاناته (3) وأعضل منه. وأما المضمون المحتوم فإنه لا يقدر على دفع الموت إذا حل، ولا على علاج الزمانة إذا استحكمت؛ ولعل ذلك يحدث بمن أتعب نفسه في مداواته في أسرع من كر (4) الطرف.
فمن تأمل ما ذكرنا، علم أن المنفعة بما قصد به من العلوم إلى المنفعة الخاصة، قليلة جداً وضعيفة العائدة جملة. إلا أن هذين الوجهين (5) وإن كانا وتحي النفع قليلي الإجزاء (6) لا تصالهما (7) بالتعب في اقتناء العلم الذي هو سببهما، فلهذا حظ من النفع. وإنما الداء العياء، والذم الكامل، والخسارة المحضة، حال من اقتنى أرفع العلوم ليحصل به على كسب ال من غير وجهه، وصرف ما علم في غير طريقه، فإن حال الجاهل الخاملة أجل (8) من حال العالم، لما ذكرنا. ونسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان.
فإذ الأمر كما ذكرنا، فأفضل العلوم ما أدى إلى الخلاص في دار الخلود ووصل إلى الفوز في دار البقاء. فطالب هذه العلوم لهذه النية هو المستعيض تبعبٍ يسير راحة الأبد، وهو ذو الصفقة الرابحة والسعي المنجح الذي بذل قليلاً واستحق كثيراً،
__________
(1) ص: تتقيه.
(2) ص: الحصر.
(3) ص: استنفذ طونه في معاته.
(4) ص: كد.
(5) ص: إن هذا من الوجهين.
(6) الوتح: القليل التافه، والإجزاء مصدر من أجزأ بمعنى أغنى وكفى.
(7) ص: لا تحاصلها.
(8) ص: لحامله أمل.(4/64)
وأعطى تافهاً وأخذ عظيماً (1) . وهو الذي عرف ما لا يبقى معه فزهد فيه، وميز ما لا يزايله فسعى له، ونسأل الله أن يجعلنا في عدادهم بمنه آمين.
وباليقين يدري كل ذي [لب] (2) سليم أنه لا يتوصل إلى العلوم إلا بطلب، ولا يكون الطلب إلا بسماع وقراءة وكتاب، لا بد من هذه الثلاث خصال، وإلا فلا سبيل دونها إلى شيء من العلوم ألبتة. فإذ ذلك كذلك فلنتكلم بعون الله تعالى على وجه التوصل إلى العلوم، وبيان أفضلها صفةً وأعلاها قدراً، والذي بالناس إليه الضرورة الماسة، والفاقه الشديدة، والحد الذي لا يجزئ منه ما دونه، والنهاية التي لا وراء لها منه.
فالواجب على من ساس صغار ولدانه وغيرهم أن يبدأ منذ أول اشتدادهم وفهمهم ما يخاطبون به، وقوتهم على رجع الجواب وذلك يكون في خمس سنين أو نحوها من مولد الصبي فيسلمهم [إلى مؤدب] (3) في تعليم الخط وتأليف الكلمات من الحروف، فإذا درب الغلام في ذلك، درس (4) وقرأ. والحد الذي لا ينبغي أن يقتصر المعلم على أقل منه أن يكون الخط قائم الحروف، بيناً صحيح التأليف الذي هو الهجاء، فإن الخط إن لم يكن هكذا لم يقرأ إلا بتعب شديد. وأما التزيد في حسن الخط فليس هو فضيلة بل لعله داعية إلى التعلق بالسلطان، فيفني دهره إما في ظلم الناس، وإما في تسويد القراطيس بتواقيع بعيدة (5) من الحق، مشحونة بالكذب والباطل، فيضيع زمانه باطلاً، وتخسر صفقته، ويندم حين لا ينفعه الندم، وكان كإنسان مسكاً كثيراً فترك أن يصرفه في التطييب به ومداواة النفوس بريحه وفغوته (6) وأقبل يطيب به البهائم، ويصبه في الطريق حتى فني في غير فائدة. فهذا [حدّ] تعليم الكتاب.
__________
(1) ص: تانيها ... عظيمها.
(2) زيادة لازمة.
(3) زيادة يقتضيها.
(4) ص: ودرب.
(5) ص: بعيد.
(6) ص: وقوته؛ والفغوة: الرائحة الطيبة.(4/65)
وحد تعلم القراءة أن يمهر في القراءة لكل (1) كتاب يخرج من يده بلغته التي يخاطب بها صقعه، وينفذ فيه، ويحفظ مع ذلك القرآن، فإنه يجمع بذلك وجوهاً كثيرة عظيمة، أحدها التدرب في القراءة له وتمرين (2) اللسان على تلاوته فيحصل من ذلك حداً، إلى ما يحصل من عهوده الفاضلة ووصاياه الكريمة، ليحدها عدةً عنده مدخرةً لديه قبل حاجته إليها يوم حاجته إليها (3) .
فإذا نفذ في الكتاب والقراءة كما ذكرنا. فلينتقل إلى علم النحو واللغة معاً:
ومعنى النحو: هو معرفة تنقل هجاء اللفظ وتنقل حركاته الذي يدل كل ذلك على اختلاف المعاني كرفع الفاعل ونصب المفعول، وخفض المضاف، وجزم الأمر والنهى، وكالياء في التثنية والجمع، في النصب وخفضهما، وكالألف في رفع التثنية، والواو في رفع الجمع وما أشبه ذلك. فإن جهل هذا العلم عسر عليه علم ما يقرأ من العلم.
واللغة: هي ألفاظ يعبر عن المعاني فيقتضي من علم النحو كل ما يتصرف في مخاطبات الناس وكتبهم المؤلفة، ويقتضي من اللغة المستعمل الكثير التصرف. وأقل ما يجزئ من النحو " كتاب الواضح " للزبيدي (4) أو ما نحا نحوه " كالموجز " لابن السراج (5) ، وما اشبه هذه الأوضاع الحقيقة، وأما التعمق في علم النحو ففضول لا منفعة بها بل هي مشغلة عن الأكود، ومقطعة دون الأوجب والأهم، وإنما هي تكاذيب فما وجه الشغل بما هذه صفته وأما من هذا العلم فهي المخاطبة،
__________
(1) ص: كل.
(2) ص: وتمييز.
(3) ص: إليه يوم حاجته إليه.
(4) هو محمد بن الحسن نحوي الأندلس ولغويها المشهور؛ انظر ترجمته في الجذوة رقم 34 وإنباه الرواة: 624 والمحمدون: 207 والوافي 2: 351 وبغية الوعاة: 1: 84.
(5) هو محمد بن السري البغدادي النحوي صاحب المبرد وعنه أخذ الزجاجي والسيرافي. توفي سنة 316 وله مؤلفات أخرى عدا الموجز منها الأصول في النحو، والجميل والاشتقاق وغيرها (انظر تاريخ بغداد 5: 293 ومعجم الأدباء 7: 9 والوافي 3: 76) .(4/66)
وما بالمرء حاجة إليه في قراءة (1) الكتب المجموعة في العلوم فقط. فمن يزيد في هذا العلم إلى إحكام كتاب سيبويه فحسن، إلا أن الاشتغال بغير هذا أولى وأفضل، لأنه لا منفعة للتزيد على المقدار الذي ذكرنا إلا لمن أراد أن يجعله معاشاً، فهذا وجه فاضل لأنه باب من العلم على كل حال.
والذي يجزئ من علم اللغة كتابان: أحدهما " الغريب المنصف " لأبي عبيد، والثاني " مختصر العين " للزبيدي، ليقف على المستعمل بهما، ويكون ما عدا المستعمل منهما عدة لحاجة إن عنت يوماً ما في لفظ مستغلق فيما يقرأ من الكتب. فإن أوغل في علوم اللغة حتى يحكم " خلق الإنسان " لثابت، و " الفرق " له (2) ، و " المذكر والمؤنث " لابن الأنباري و " المدود والمقصور والمهموز " لأبي عليّ القالي و " النبات " لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري، وما أشبه ذلك فحسن بخلاف ما قلنا في علل النحو، لأن اللغة كلها حقيقة وذات أوضاع صحاح وعبارات عن المعاني، ولو كانت اللغة أوسع حتى يكون لكل معنى في العالم أسم مختص به، لكان أبلغ للفهم وأجلى للشك وأقرب للبيان، إلا أن الاقتصار على المقداد الجاري مما ذكرنا، والانصراف إلى الأهم والأوكد من سائر العلوم، أولى.
وإن كان مع ما ذكرنا رواية شيء من الشعر فلا يكن إلا من الأشعار التي فيها الحكم والخير، كشعر حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وكشعر صالح بن عبد القدوس ونحو ذلك، فإنها نعم العون على تنبيه النفس.
وينبغي أن يتجنب من الشعر أربعة أضرب:
أحدها: الأغزال والرقيق: فإنها تحث على الصبابة وتدعو إلى الفتنة، وتحض على الفتوة وتصرف النفس إلى الخلاعة واللذات (3) وتسهل الانهماك في الشطارة والعشق وتنهى عن الحقائق، حتى ربما أدى ذلك إلى الهلاك والفساد في الدين وتبذير
__________
(1) ص: قل.
(2) ثابت بن أبي ثابت، أبو محمد اللغوي، من أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام وكتابه " خلق الإنسان " أجاد فيه حق الإجادة (انظر إنباه الرواة 1: 162 وبغية الوعاة: 1: 481.
(3) ص: الذات.(4/67)
المال في الوجوه الذميمة وإخلاق وإذهاب المروءة وتضييع الواجبات. وإن سماع شعر رقيق لينقض بنية المرء الرائض لنفسه حتى يحتاج إلى إصلاحها ومعاناتها برهة، لا سيما ما كان يعني (1) بالمذكر وصفة الخمر والخلاعة، فإن هذا النوع يسهل الفسوق ويهون المعاصي ويردي جملة.
والضرب الثاني: الأشعار المقولة في التصعلك وذكر الحروب كشعر عنترة وعروة بن الورد وسعد (2) بن ناشب وما هنالك، فإن هذه أشعار تثير النفوس وتهيج الطبيعة وتسهل على المرء موارد التلف في غير حق، وربما أدته إلى هلاك نفسه في غير حق، وإلى خسارة الآخرة، مع إثارة الفتن وتهوين الجنايات والأحوال الشنيعة والشره إلى الظلم وسفك الدماء.
والضرب الثالث: أشعار التغرب، وصفات المفاوز والبيد المهامه، فإنها تسهل التحول والتغرب وتنشب المرء فيما ربما صعب عليه التخلص منه بلا معنى.
والضرب الرابع: الهجاء، فإن هذا الضرب أفسد الضروب لطالبه، فإنه يهون على المرء الكون في حالة أهل السفه من كناسي الحشوش (3) والمعاناة لصنعة الزمير المتكسبين بالسفاهة والنذالة والخساسة وتمزيق الأغراض وذكر العورات وانتهاك حرم الآباء والأمهات، وفي هذا حلول الدمار في الدنيا والآخرة.
ثم صنفان من الشعر لا ينهى عنهما نهياً تاماً ولا يحض عليهما بل هما عندنا من المباح الكروه وهما: المدح والرثاء: فأما إباحتهما فلأن فيهما ذكر فضائل الموت والممدوح، وهذا يقتضي للراوي ذلك الشعر الرغبة في مثل ذلك الحال، وأما كراهتنا لهما فإن أكثر ما في هذين النوعين الكذب، ولا خير في الكذب.
وأيضاً فإن الإكثار من رواية الشعر، هو كسب غير محمود، لأنه [من] طريق
__________
(1) ص: وينهي.
(2) ص: سعيد؛ أما سعد فهو أحد شعراء الحماسة؛ كان من شياطين العرب وهو صاحب يوم الوقيط في الإسلام بين تميم وبكر، وقد أصاب دماً فهدم بلال داره. (راجع الشعر والشعراء: 677 والخزانة 3: 444 والسمط: 729) .
(3) ص: كناني الحسوس.(4/68)
الباطل والفضول، لا من طريق الحق والفضائل، ولا يظن ظان أن هذا علم جهلناه فذممناه، فقد علم من داخلنا أو بلغه أمرنا كيف توسعنا في رواية الأشعار، وكيف تمكنا من الإشراف على معانيها، وكيف وقوفنا على أفانين الشعر ومحاسنه، ومعانيه وأقسامه، وكيف قوتنا على صناعته، وكيف تأتي مقصده ومقطوعه لنا، وكيف سهولة نظمه علينا في الإطالة فيه والتقصير (1) ، ولكن الحق أولى بما قيل.
فإذا بلغ المرء من النحو واللغة إلى الحد الذي ذكرنا فلينتقل إلى علم العدد، فليحكم الضرب والقسم والجمع والطرح والتسمية، وليأخذ طرفاً من المساحة، وليشرف على الأرثماطيقي وهو علم طبيعة العدد وليقرأ كتاب أقليدس قراءة متفهم له، واقفٍ على أغراضه، عارفٍ بمعانيه، فإنه علم رفيع، به يتوصل إلى معرفة نصبة الأرض ومساحتها وتركيب الأفلاك ودورانها ومراكزها وأبعادها، والوقوف على براهين كل ذلك وعلى دوران الكواكب وقطعها في البروج، فهذا علم رفيع جداً يقف به المرء حقيقة تناهي جرم العالم وعلى آثار صنعة الباري في العالم، فلا يبقى له إلا مشاهدة الصانع فقط؛ وأما الصنعة والإدارة والتركيب، فقد شاهد كل ذلك بوقوفه على ما ذكرنا. وبمطالعته كتاب المجسطي يعرف الكسوفات وعروض البلاد وأطوالها والأوقات وزيادة الليل والنهار والمد والجزر ومنازل الشمس والقمر والدراري. وأما الإيغال في المساحة فمنفعته في جلب المياه ورفع الأثقال وهندسة البناء وإقامة الآلات الحكمية.
وأما الاشتغال بأحكام النجوم فلا معنى له، ولا يخلو من أن يكون ما يحكون من قضاياها حقاً أو باطلاً، إذ لا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كانت حقاً فما لها فائدة إلا استعجال الهم والغم والبؤس والنكد، لتوقع المرض والنكبات وموت الأحبة وانقطاع كمية العمر ومعرفة فساد المولد. فإن قالوا إنه قد يمكن دفع ما يتوقع من ذلك فقد قضوا بأنها لا حقيقة لها، إذ الحق الحتم لا سبيل إلى رده. وإن كانت باطلاً
__________
(1) بذلك شهد الحميدي تلميذ ابن حزم (الجذوة: 291) حين قال: وكان له في الآداب والشعر نفس واسع وباع طويل، وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه، وشعره " كثير ".(4/69)
فأهل (1) أن لا يشتغل به. ونقول قولاً صحيحاً متيقناً ليعلم كل ذي عقل ينصح نفسه بأنه لا سبيل إلى قلب الأنواع وإحالة الطبائع، فمن اشتغل بشيء من هذين العلمين، فإنما هو إنسان محروم مخذول يطلب ما لا يجد أبداً، وبالجملة فليس القضاء بالنجوم علم برهان، وإنما هي تراعي (2) أبداً، وبالجملة تجارب، وإذ هي كذلك، فباطل بلا شك، لأن التجارب لا تكون إلا بتكرير الحال مراراً كثيرة جداً على صفة واحدة لا تستحيل أبداً (3) والنصبة التامة من الكواكب لا تعود إلا إلى عشرة آلاف من السنين، ولا سبيل إلى ضبط تجربة مثل هذه إلا بتداول قومٍ متعاقبين لرصد تلك النصب (4) ؛ وباليقين ندري أنه لا يبقى فيما انحدر عن شرق العمود مملكة عشر الدور، فكيف الدور كله وإذا ذهبت المملكة لم تذهب إلا بحروف وغارات وسوء حال وفساد بلاد وحدوث أخر، وهذا كله يذهب علوم تلك المملكة ورتبها وأرصادها وأكثر أخبارها بل كلها، فلا سبيل مع ذلك إلى اتصال رصد هذه المدة كلها، فكيف يمكن دوام التجربة تكراراً دوراً بعد دور وما عندنا تاريخ أبعد من تاريخ التوراة وليس له إلا ثلاثة آلاف سنة فقط، فأين يقع مما نريد (5) وأما تاريخ الفرس [فما] عندنا أخبار لهم فاشية محققة إلا عن عهد ملوك الساسانية وذلك أقل من ألف عام، وكذلك تاريخ الروم. وأما تاريخ القبط والسريانيين وأدوم وعمون وموآب وسائر تلك الأمم، فما لهم اليوم في الدنيا خبر ولا أثر، فكيف تبقى أرصاد المدة المذكورة وأما الهند والصين فلم تبلغنا آثارهم كما نريد، ولعل لهم أرصاداً قديمة، فإنهما
__________
(1) ص: أهل.
(2) ص: تداعى.
(3) تكلم ابن خلدون في إبطال صناعة النجوم ناقضاً إمكان كمال التجربة فقال: فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو اجتمعت عن تحصيله، إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن (مقدمة: 477) .
(4) كرر ابن حزم نقض القضاء بالنجوم في كتابه الفصل (5: 38) مستدلاً بفكرة استحالة التجربة فقال: " إن التجربة لا تصح إلا بتكرر كثير موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به كاضطرارنا إلى الإقرار بأن الإنسان إن بقي ثلاث ساعات تحت الماء مات، وإن أدخل يده في النار احترق ولا يمكن هذا في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة عندهم على الكائنات لا تعود إلا في عشرات آلاف من السنين، لا سبيل إلى أن يصح منها تجربة ".
(5) ص: فأين يقعان مما أريد.(4/70)
مملكتان لسمتا من الآفات على مر الدهور. على أن أهل الصين ليسوا أهل علوم ألبتة، وإنما هم أهل صناعات، فلعل هذا يكون بالهند. فإن لم يكن فمضمون عدمه من العالم - هذا إلى ما شروط علم القضاء من الصفات التي لا سبيل لمن يدعي علمها إلى استيفائها (1) : من معرفة مواقع السهام ومطارح الشعاعات والدرج النيرة والمظلمة، والقتمة والآبار (2) ، وخواص الدراري في كل برج، والكواكب البيبانية (3) وغير ذلك مما لا يمكنهم توفيته حقه على أصولهم. فإذا كان ذلك كذلك، فتحقيق علمهم في القضاء لا سبيل إليه ألبتة؛ ولا يحصى كم شهدنا لهم من القضايا المحققة المتفق عليها من أهل الإحسان لهذا العلم؛ على ما في كتبهم، فما صدق منها شيء إلا الأقل النزر الذي يصدق بالتقدير أكثر منه، نعني من المواليد التي لا شيء في علمهم أحق منها. وأما المناخات وتحاويل السنين والقرانات الصغار فيعلم الله أننا ما رأيناهم صدقوا منها في قضية أبداً، كل سنة رأينا، وما وجدنا أكثر كلامهم في ذلك إلا على ظاهر الرأي والتقدير فقط (4) ، ولو لم يكن من مظاهر الدعوى إلا قولهم زحل يشرف في برج كذا، ويسقط في برج كذا (5) ، وكذا سائر الدراري. ودعواهم في وجوه المطالع وسائر تلك الخرافات، فإنهم لا يأتون على ذلك لا ببرهان ولا بإقناع ولا بشغب وإنما هو " اسمع واسكت وصدق الأمير ".
وما كان هذا سبيله فلا ينبغي أن يشتغل به عاقل اشتغال معتد به علماً، إلا أنه لا ينبغي لطالب الحقائق أن يخلوا من النظر فيه ليعرف أغراضهم، ويريح نفسه من تطلعها إلى الوقوف [عليها] ، وليفيق من دعاويهم ومخرقتهم، ويزيل عن نفسه الهم إذا عرف لا فائدة فيه. ولقد حدثني شيخنا يونس بن عبد الله القاضي (6) قال:
__________
(1) انظر العبارة التالية في شروط علم القضاء مكررة نصاً في الفصل 5: 38 وهي محرفة أيضاً هنالك.
(2) ص: والقيمة والآثار. قال الخوارزمي في مفاتيح العلوم: 132 " والدرجات المظلمة درج معروفة والدرجات القتمة من القتام وهو الغبار، والآبار درج في البروج إذا عنها الكواكب نحست فيها، واحدها بئر ".
(3) ص: البنيانية، وتكتب أيضاً " البيابانية " نسبة إلى بيابان وهو الفلاة بالفارسية إذ يهتدي في الفلوات. أفادنيه صديقي الدكتور جورج صليبا، فله الشكر.
(4) راجع الفصل 5: 39.
(5) شرف الكوكب درجة في برج ينسب إليه ولكل واحد من السبعة سر. فشرف زحل في الميزان وشرف المشتري في السرطان وشرف المريخ في الجدي ... وهكذا؛ والذي يقابل الشرف هو الهبوط أو السقوط.
(6) مرت ترجمته في الجزء الأول من الرسائل ص: 214.(4/71)
سمعت يحيى بن مجاهد الفزاري الزاهد يقول: هذا كان أوان طلبي للعلم إذ قوي فهمي واستحكمت إرادتي. فقلت له: فعلمنا الطريق، لعلنا ندرك ذلك بوصاتك، في استقبال أعمارنا قال: نعم كنت آخذ من [كل] علم طرفاً، فإن سماع الإنسان قوماً يتحدثون وهو لا يدري ما يقولون غمة عظيمة، أو كلاماً هذا معناه. قال أبو محمد: ولقد صدق رحمه الله.
فإذا بلغ الإنسان حيث ذكرنا، أخذ في النظر في حدود المنطق وعلم الأجناس والأنواع والأسماء المفردة والقضايا والمقدمات والقرائن والنتائج ليعرف المرء ما البرهان وما الشغب، وكيف التحفظ مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، فبهذا العلم يقف على الحقائق كلها يميزها من الأباطيل تمييزاً لا يبقى معه ريب.
وينظر في الطبيعيات، وعوارض الجو، وتركيب العناصر، وفي الحيوان والنبات والمعادن، ويقرأ كتب التشريح ليقف على محكم الصنعة وتأثير الصانع وتأليف الأعضاء واختيار المدبر وحكمته وقدرته.
فإذا أحكم ذلك في خلال ابتدائه بالنظر في العلوم فلا يكن منه إغفال لمطالعة أخبار الأمم السالفة والخالفة، وقراءة التواريخ القديمة والحديثة ليقف من ذلك على فناء (1) الممالك المذكورة، وخراب البلاد المعمورة، ودثور المدائن المشهورة التي طالما حصنت وأحكمت مبانيها، وذهاب من كان فيها وانقطاعهم، وتقلب الدنيا بأهلها، وذهاب الملوك الذين قتلوا النفوس وظلموا الناس واستكثروا من الأموال والجيوش والعدد ليستديموها لهم (2) ولأعقابهم فما دامت (3) لهم، بل ذهبوا وانقطعت آثارهم، ورحل بنوهم وضاعوا، وبقي ما تحملوا من الآثام والذم والذكر القبيح لازماً لأرواحهم في المعاد ولذكرهم في الدنيا، فيحدث له فيها بذلك زهد وقلة رغبة، وليشرف على اغترار الملوك بها، لعظيم الحسرات النازلة بهم وبمخلفيهم، وليقف على حمد المتقين الأخيار للفضائل فيرغب فيها، ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها. ويوفي على
__________
(1) ص: خنا.
(2) ص: ليستدموا ما هم ولا.
(3) ص: دام.(4/72)
تيقن النصح منها لما يرى من تناصر التواريخ على تباعد أقطار حامليها، وتفاوت أزمانهم وتباين هممهم واختلاف أديانهم وتفرق مذاهبهم على نقل قصة ما، فيوقن أنها حق لا شك فيه، ويسمع بخلاف نقلهم في قصة ما، فيدري أنها مضطربة. ويرى أخبار العلماء والصالحين فيرى الحرص على مثل حالهم ويرغب في إلحاق اسمه بأسمائهم إذا سلك طريقهم وحذا حذوهم وعمل عملهم، ويطالع آثارهم المفسدين في الأرض وسوء الآثار عليهم، وما أبقوا من الأسماء الذميمة، فيمقت طريقهم، ويجتنب أن يكون مذكوراً فيهم. ويجعل هذا العلم خاصةً وقت راحته وسآمته من تعلم غيره من العلوم، فإن هذا العلم سهل جداً ومنشط ومنتزه ولذة، لا ينبغي لأحد أن يخلو منه فلا يدري أثراً ولا ما تقوم به الحجة من الأخبار التي يضطر إلى العلم بها حقيقة، بل يكون بمنزلة من قدر أن العالم لم يكن إلا مذ كان هو.
فإذا أحكم ما ذكرنا فأولى الأشياء به معرفة ما له خرج إلى هذا العالم، وما إليه يرجع إذا خرج من هذا العالم، وبيان ذلك بيان انقضاء أيام سفره، فإنها قليلة جداً، فلا شيء أوكد عليه من هذا، لأن ما عدا ذلك من بؤس ونعيم ولذة ومال ورياسة وفقر وخمول ونكد كله في أسرع وقت، لسنا نقول بالموت الذي لا بد منه فقط، بل بالهرم وعوارض الدهر الذي لا يؤمن تقلبه (1) بأهله قبل كر الطرف.
فيلزم (2) المرء أن ينظر إذا أحكم ما ذكرنا أن يطلب البرهان من العلوم الضرورية التي ذكرنا على: هل العالم محدث أو لم يزل. فإذا له أنه محدث وذلك قائم في إحصاء العدد لأزمانه وعدد أشخاصه وأنواعه (3) ، نظر هل [له] (4) محدث أو لا محدث له فإذا حصل له أنه محدث لم يزل، وهذا قائم من باب الفضائل من حدود المنطق، نظر هل المحدث واحد أو أكثر من واحد، فإذا حصل له أنه
__________
(1) ص: نقوله.
(2) ص: فليلزم.
(3) ص: أشخاص أنواعه.
(4) زيادة لازمة.(4/73)
واحد وهذا قائم من باب الإحصاء المذكور في العدد، [نظر] (1) هل النبوة ممكنة أو واجبة أو ممتنعة، فإذا حصل له أنها ممكنة بالقوة بما يوجبه أن المحدث للعالم مختار لا يعجز عن شيء، ثم إذا حصل له أنه قد وجدت بالأخبار الضرورية، نظر في النبوات التي افترقت عليها الملل، فإذا حصل له أن كل ما ثبتت به نبوة واحد منهم، فواجب أن تثبت بمثله نبوة من نقل عنه مثل الذي نقل عن غيره منهم، وقف عند ذلك وسلم الأمر إلى من صحت له البراهين بنبوته، وأنه عن الله عز وجل يتكلم وعن عهوده يخبر، وتبحث (2) حينئذ عن كل ما أمر به أو نهي عنه فاستعمل نفسه به، ولم يقبل من إنسان مثله لم يؤيد بوحي من الله، عز وجل، أمراً ولا نهياً، فهذا [طريق] (3) الخلاص (4) وشارع النجاة ومحلة الفوز التي من عاج عنها طال تحيره وتردده، وافترقت به السبل حتى يهلك خاسراً نادماً، أو موفياً [على النجاة] (5) بالبخت، كمن وجد لقطة بلا طلب، ونعوذ بالله من البلاء.
وهذه الطريق التي (6) وصفنا مؤدية إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وموجبة لطلبنا في القرآن من عهود الله تعالى، وطلب عهوده عليه السلام، وتمييز صحيحهما مما لم يصح منهما والأخذ بكل ذلك، والتمسك به فإن هذا معدوم في جميل الملل، حاشا ملة الإسلام: لأن ملة من عبد الأوثان أو دان بقول البراهمة المبطلين للنبوات فإنه لا سبيل إلى إثبات شريعة لهم إذ قد أعدموا المثبت الشارع، وأعدموا الطريق الموصلة إليه، فبقي الناس على قولهم سدىً لا زاجر لهم عن ظلم ولا عن فاحشة وأما دين لمنانية فظاهر التخلط لقولهم بأن الصانع صنع في نفسه، وهذا
__________
(1) زيادة لازمة.
(2) ص: ويبحث.
(3) زيادة يقتضيها المعنى.
(4) ص: أخلص.
(5) زيادة موضحة للمعنى.
(6) ص: الذي.(4/74)
مبطل بما يوجب حدوث العالم على ما بيناه في كتابنا الموسوم بالفصل بالملل والنحل (1) - وأما شريعة النصارى فإنهم مقرون أن شرائعهم ليست عن وحي الله تعالى، وإنما هن زكريا الملك وسائر بطارقته، وهذا شيء تشهد العقول بأنه لا يلزم إذ لم يوجب إلزامه برهان وأما ملة المجوس فهم معترفون بأن ثلثي كتابهم ذهب، وأن في ذلك الذاهب كانت الشرائع، ومن الباطل الممتنع أن يكلف الله تعالى الناس أن يعملوا بشيء لا يدرونه، وقد ذهب عن أيديهم، ويقرون أن أزدشير بن بابك وضع لهم شرائع ملة اليهود فمعترفون أن أكثر شرائعهم اللازمة لا سبيل لهم إليها إذ خرجوا عن صهيون، وأن شرائع الربانيين منهم (2) التي هم الآن عليها، هي غير شرائعهم التي أمروا بها في التوارة، وأن علماءهم عوضوهم عن تلك هذه، ويلزمهم الإقرار بمن صح عنه من الأعلام مثلما صح عن نبيهم عليه السلام.
فإن اشتغل مغفل عن علم الشريعة بعلمٍ غيره، فقد أساء النظر وظلم نفسه، إذ آثر الأدنى والأقل على الأعلى والأعظم منفعة؛ فإن قال قائل: إن في علم العدد والهيئة والمنطق (3) معرفة الأشياء على ما هي عليه، قلنا إن هذا حسن إذا قصد به الاستدلال على الصانع للأشياء بصنعته، ليتدرج بذلك إلى الفوز والنجاة والخلاص من العذاب والنكد؛ وأما إن لم يكن الغرض إلا معرفة الأشياء الحاضرة على ما هي عليه فقط، فطالب هذه العلوم، ومن جعل وكده معرفة صفة البلاد على ما هي عليه، وصفات سكان أهل كل بلدة وما هي عليه صورهم سواء، ومن كان هذا هو غرضه فقط، فهو إلى أن يوصف بالفضول والحماقة أقرب منه إلى أن يوصف بالعلم، إذ حقيقة العلم هو ما قلنا إنه يطلبه لينتفع به طالبه، وينتفع به غيره في داره العاجلة وداره
__________
(1) كذا ورد اسم الكتاب هنا وهو معروف باسم الفصل في الملل والأهواء والنحل وانظر في هذا الكتاب 1: 14 وما بعدها أدلته على حدوث العالم؛ وقد تصدى ابن حزم لمحاكمة النحل أيضاً في رسالة " التوقيف على شارع النجاة "، في الجزء الثالث من الرسائل.
(2) قال ابن حزم في ذكر فرق اليهود (الفصل 1: 99) الربانية هم الأشنعية، وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم، وهم جمهور اليهود.
(3) ص: المنطق.(4/75)
الآجلة التي هي محل قراره ومكان خلوده، وبالله تعالى نتأيد.
فإن كان المرء العالم في كفاف من العيش، من وجه مرضي، فليحمد الله عز وجل، وليقنع به، وليعمل لدار القرار، ولا يسره الإكثار من أحجارٍ وخرقٍ يتركها عما قريب، أو تتركه. وإن كان في حاجة، فإن أمكنه أن يجعل مكتسبه من العلم فحسن، إما أن يكون معلم هجاءٍ فهي فضيلة عظيمة لأنه سبب [حياة] (1) كل من تعلم منه شيئاً، وله الأجر المضاعف من كل من يتعلم ممن علمه هو إلى انقضاء الأبد، بأن كان سبب حياة نفوسهم أو مؤدب نحو، أو مؤدب حسابٍ أو طبيباً. فإن كان في أحد هذه السبل فلينصح في صناعته تلك، وليطلب التزيد من العلم بما أمكنه، ليكون سبباً للخير في تعليم الجاهل، وإبراء الأدواء بإذن الله تعالى، ولا يرض بالغش والتمويه، فيفسد خلقه ومتاعه ومكتسبه فتخسر صفقته، وليستعمل القناعة جهده.
وإن ابتلى بصحبة سلطان فقد ابتلى بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه، وذهاب نفسه وشغل باله وترادف همومه، فلا يشاركه في محظور ألبتة وإن أداه ذلك إلى التلف، فلأن يتلف مظلوماً مأجوراً محتسباً محموداً أفضل من أن يبقى ظالماً مسيئاً آثماً مذموماً، ولعل تلفه سريع، وإن تأخر مدةً فلا بد من التلف، وليعلم أن السلطان إذا رأى منه إشفاقاً على دينه ونصيحة له فيما لا يؤذيه في معاده، فإنه تتزيد ثقته به، ويجل في عينه؛ وإذا رآه شرها مؤثراً عاجلته على آخرته، ساء ظنه به، ولم يأمنه على نفسه إذا رأى الحظ له في هلاكه.
ولقد نكره للفاضل أن يصحب السلطان بعلم الطب، فإن الغالب على الملوك الجهل والسبعية (2) وقلة الصبر على ما قطع بهم عن لذاتهم، وتدبير الأصحاء ومعاناة المرضى لا يحتمل هذا، فهم دأباً يكلفون الطبيب إحياء الموتى ويستقصرونه (3) دون هذه المنزلة، فإن اتبع أهواءهم غشهم، وإن نصحهم عصوه واستثقلوه.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) ص: والستعية.
(3) ص: ويستقصرونهم.(4/76)
وأما صحبتهم بالنجوم فلا يدخل في ذلك ذو مسكة عقل ألبتة، لأنه يتعاطى ما ليس في قوته الوفاء به، فهو دهره في كذب متصل ومواعيد وخدائع متصلة، وفضائح متواترة، وخزايا متتابعة. وكد من اتصل بسلطان إصلاح أخلاقهم وحملهم على البر وصرفهم عن المأثم جهده وطاقته.
ودعائم العلم مشهورة مستحكمة يؤثر بها العلم على سائر أعراض الدنيا من اللذات والمال والصوت (1) ، ثم قصد إلى عين العلم، ليخرج به عن جملة أشباه البهائم فقط، لا يجعله مكتسبه ولا ليمدح به، وذكاء وفهم وبحث وذكر وصبر على كل ذلك، والتعب فيه وإنفاق المال عليه والاستكثار من الكتب، فلن يخلوا كتاب من فائدة وزيادة علم يجدها فيه إذا احتاج إليها، ولا سبيل إلى حفظ المرء لجميع علمه الذي يختص به. فإذا لا سبيل إلى ذلك فالكتب نعم الخازنة له إذا طلب، ولولا الكتب لضاعت العلوم ولم توجد. وهذا خطأ ممن ذم الإكثار منها، ولو أخذ برأيه لتلفت العلوم ولجاذبهم الجهال فيها وادعوا ما شاءوا. فلولا شهادة الكتب لا ستوت دعوى العالم والجاهل. وسقوط الأنفة في التكرر على العلماء، وتقييد ما [يسمع] وجمعه، وملازمة المحبرة والكتب يده وكمه، وسكنى حاضرة فيها العلم، ولقاء المتنازعين وحضور المتناظرين، فبهذا تلوح الحقائق، فليس من تكلم عن نفسه وما يعتقد كمن تكلم عن غيره، ليست الثكلى كالنائحة المستأجرة، ومن لم يسمع إلا من عالم واحد أوشك أن لا يحصل على طائل، وكان كمن يشرب من بئر واحدة ولعله اختار الملح المكدر، وقد ترك العذب. ومع اعتراك الأقران ومعارضتهم يلوح الباطل من الحق، ولا بد، فمن طلبه كما ذكرنا أوشك أن ينجح مطلبه وأن لا يخفق سعيه، وأن يحصل في المدة اليسيرة على الفائدة العظيمة. ومن تعدى هذه الطريق كثر تعبه، وقلت منفعته. ومن اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره؛ أوشك أن يكون ضحكة وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه، أكثر مما أدرك منه لتعليق العلوم بعضها ببعض، كما ذكرنا، وأنها درج بعضها إلى بعض، كما وصفنا، ومن طلب الاحتواء على كل علم أوشك أن ينقطع وينحسر، ولا يحصل على شيءٍ،
__________
(1) الصوت والصات والصيت: الذكر الحسن.(4/77)
وكان كالمحضر إلى غير غاية، إذ (1) العمر يقصر عن ذلك، وليأخذ من كل علم بنصيب، ومقدار ذلك معرفته بأعراض ذلك العلم فقط، ثم يأخذ مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه كما وصفنا، ثم يعتمد العلم الذي يسبق (2) فيه بطبعه وبقلبه [و] بحيلته، فيستكثر منه ما أمكنه، فربما كان ذلك منه في علمين أو ثلاثة أو أكثر، على قدر زكاء فهمه، وقوة طبعه، وحضور خاطره، وإكبابه على الطلب، وكل ذلك بتيسير الله تعالى؛ فلو بإرادة (3) المرء كان، لكان منى كل أحدٍ أن يكون أفضل الناس. والفهم والعناية مقسومان كقسمة المال والحال:
والحظ مقسوم فأجمل في الطلب
ومن طلب [العلم] (4) ليفخر به أو ليمدح به أو ليكتسب به مالاً أو جاهاً، غبعيد عن الفلاح لأنه ليس له غرض في التحقيق فيه، وإنما غرضه شيء آخر غير العلم. ونفس الإنسان وعينه طامحتان إلى غرضه فقط فلا يبالي كيف كان طلبه إذا حصل على مراده الذي إياه قصد.
فالعلوم تنقسم أقساماً سبعة عند كل أمة وفي كل زمان وفي كل مكان وهي: علم شريعة كل أمة، فلا بد لكل أمة من معتقد ما، إما إثبات وإما إبطال، وعلم أخبارها وعلم لغتها، فالأمم تتميز في هذه العلوم الثلاثة، والعلوم الأربعة الباقية تتفق فيها الأمم كلها، وهي [علم النجوم] ، وعلم العدد والطب، وهو معاناة الأجسام، وعلم الفلسفة، وهي معرفة الأشياء على ما هي عليه من حدودها من أعلى الأجناس إلى الأشخاص، ومعرفة إليهة.
وقد بينا أن كل شريعة سوى الإسلام فباطل، فالواجب الاقتصار على شريعة الحق، وعلى كل ما أعان على التبحر في علمها.
وعلم شريعة الإسلام ينقسم أقساماً أربعة: علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم
__________
(1) ص: أذى.
(2) ص: ينشق.
(3) ص: إرادة.
(4) زيادة لازمه.(4/78)
الفقه، وعلم الكلام:
فعلم القرآن: ينقسم إلى معرفة قراءته ومعانيه.
وعلم الحديث: ينقسم إلى معرفته متونه ومعرفة رواته.
وعلم الفقه: ينقسم إلى أحكام القرآن، وأحكام الحديث، وما أجمع المسلمون عليه وما اختلفوا فيه، ومعرفة وجوه الدلالة وما صح منها وما لا يصح.
وعلم الكلام: ينقسم إلى معرفة مقالاتهم ومعرفة حجاجهم وما يصح منها بالبرهان وما لا يصح.
وعلم النحو: ينقسم إلى مسموعه القديم وعلله المحدثة.
وعلم اللغة: مسموع كله فقط.
وعلم الأخبار ينقسم على مراتب: إما على الممالك (1) أو على السنين وإما على البلاد وإما على الطبقات أو منثوراً. فأصح التواريخ عندنا تاريخ الملة الإسلامية ومبدؤها وفتوحها وأخبار خلفائها وملوكها والمنتزين عليهم وعلمائهم وسائر ما انتظم بذلك. وأما تاريخ بني إسرائيل فأكثره صحيح وفي بعضه دخل، وإنما يصح منه أخبارهم مذ صاروا بالشام إلى أن خرجوا عنها الخرجة الآخرة، لا من قبل ذلك. وأخبار الروم إنما تصح من عهد الاسكندر لا ما قبل ذلك. وأخبار الترك والخزر وسائر أمم الشمال وأمم السودان فلا علوم لهذه الأمم ولا تواليف ولا تواريخ. ولم تبلغنا أخبار الهند والصين كما نريد، إلا أنهم أمتا علم وضبط وتواليف وجمع. وأما الأمم الداثرة من القبط واليمانيين والسريانيين والاشمانين وعمون وموآب وسائر الأمم فقد بادت أخبارهم جملة، فلم يبق منها إلا تكاذيب وخرافات. وأما الفرس فلا يصح شيء من أخبارهم إلا ما كان من عهد دارا بن دارا فقط. وأصح أخبارهم ما كان من عهد أزدشير بن بابك فقط. فالطالب للأخبار ينبغي له ألا يشتغل إلا بما أعلمناه بصحته ولا ينبغي له قطع وقته بما لا يجدي عليه نفعاً لا بما أخبرناه ببطلانه، فقد
__________
(1) ص: ممالك.(4/79)
كفيناه التعب في ذلك، وإن أحب التعب وقف على ما وقفنا عليه من ذلك.
وعلم النسب جزء من علم الخبر.
وعلم النجوم: ينقسم إلى معرفة علم الهيئة والتعديل ببرهانه ثم الذي يذكرونه من القضاء.
وعلم العدد: ينقسم إلى ضبط قوانينه ثم برهانه ثم العمل بذلك في المساحات وغير ذلك.
وعلم المنطق: ينقسم إلى عقلي وحسي وأما العقلي فإلاهي وطبيعي، وأما الحسي فطبيعي فقط.
وعلم الطب: ينقسم قسمين: طب النفس وهو من نتيجة علم المنطق بإصلاح الأخلاق ومداواتها (1) وصرفها عن الإفراط والتقصير وإقامتها على الاعتدال؛ وطب الأجسام: وهو ينقسم إلى معرفة الطبائع الجسمية ومعرفة تركيب الأعضاء ومعرفة العلل وأسبابها وما تعارض به من الأدوية وتميز القوي من الأدوية والأغذية (2) ، وينقسم أيضاً قسمين: عمل باليد كالجبر والبط والكي والقطع، وعمل في صرف قوى العلل بقوى الأدوية، وينقسم أيضاً قسمين: حفظ الصحة لئلا يحدث المرض ثم معاناة المرض.
وعلم الشعر: ينقسم إلى روايته ومعانيه ومحاسنه ومعايبه وأقسامه ووزنه ونظمه.
وها هنا علمان إنما يكونان (3) نتيجة العلوم التي ذكرنا إذا اجتمعت، أو من نتيجة اجتماع علمين منهما فصاعداً، وهما علم البلاغة، وعلم العبارة:
فأما علم البلاغة فإن صرفه صاحبه إلى الله عز وجل وإلى تبين الحقائق وتعليم الجهال فهي فضيلة، وأما إن صرفه في ضد ذلك خسرت صفقته، إذ أتعب نفسه وأفنى عمره فيما هو وبال عليه، ونعوذ بالله من البلاء.
__________
(1) ص: ومداراتها.
(2) ص: للأغذية.
(3) ص: يكونا.(4/80)
وأما علم العبارة (1) فهو طبع في المعبر مع عون العلم عليه ولا يقطع بصحته إلا بعد ظهور ذلك عليه لا قبله.
فهذه الأفانين هي التي يطلق عليها في قديم الدهر وحديثه اسم العلم والعلوم.
وعند التحقيق وصحة النظر فكل (2) ما علم فهو علم؛ فيدخل في ذلك علم التجارة والخياطة والحياكة وتدبير السفن وفلاة الأرض وتدبير الشجر ومعاناتها وغرسها والبناء وغير ذلك. إلا أن هذه إنما هي للدنيا خاصة فيما بالناس إليه الحاجة في معايشهم. والعلوم التي قدمنا، الغرض [منها] التوصل إلى الخلاص في المعاد فقط، فلذلك استحقت التقديم والتفضيل، والله تعالى التوفيق.
ونحن نوصي طالب العلم (3) بأن لا يذم ما جهل منها، فهو دليل على نقصه وقوله بغير معرفة، وأن لا يعجب بما علم فتطمس فضيلته، ويستحق المقت من الواهب له ما وهب، وأن لا يحسد من فوقه حسداً يؤديه إلى تنقيصه، فهذه رذيلتان. وأما إن حسده لم ينتقصه، وكان ذلك رغبة في الوصول إلى ما وصل إليه محسوده فحسن، وهو رغبة في الخير. وأن لا يحقر من دونه فقد كان في مثل حاله قبل أن يعلم ما علم. وأن لا يكتم علمه فيحصل هو ومن لا علم له ف منزلة واحدة، إذ كلاهما غير مستعمل للعلم ولا مظهر له. وأن لا تكلم في علم قبل أن يحكمه فيخزى، وأن لا يطلب بعلمه عرض دنياه فيبذل الأفضل بالأدنى، وأن يستعمل تقوى الله تعالى في سره وجهره، فهو زين العالم، وبالله التوفيق.
@فصل
والعلوم التي ذكرنا يتعلق بعها ببعض ولا يستغني منها علم عن غيره، فأول ذلك أنا قد ابنا أن غرضنا من الكون في الدنيا والمطلوب بتعلم العلوم إنما هو تعلم علم
__________
(1) يعني علم تعبير الرؤيا.
(2) ص: فهل.
(3) ص: العالم.(4/81)
ما أراد الله تعالى منا، وما به أخبر عنا (1) ، وما به يكون المخلص من هول مكاننا الكدر المظلم المشوب بالآفات المملوء من أنواع المتالف والمهالك، والمحفوف بأصناف البلايا والمعاطب، وهو المعرفة بالشريعة والإعلان بها والعمل بموجبها، فإذا الأمر كذلك، فلا سبيل إلى صحة المعرفة بها واستحقاق حقيقتها إلا بمعرفة أحكام الله عز وجل وعهوده إلينا في كتابه المنزل، وبمعرفة ما وصانا به محمد عليه السلام وبلغه لينا، وما أجمع علماء الديانة عليه، وما اختلفوا فيه، ولا يوصل إلى هذا إلا بمعرفة الناقلين لتلك الوصايا وأزمانهم وأسمائهم وأنسابهم للفرق بين ما اتفقت فيه الأسماء، وبمعرفة المقبولين من غيرهم ومعرفة من لقوا فحدثوا عنه ممن له يلقوه فبلغهم عنه، وبمعرفة القراءات المشهورة (2) ليوقف بذلك على ما تتفق فيه المعاني مما تختلف فيحدث باختلافهم حكم ما، وكل هذا لا يتم إلا بمعرفة مستعمل اللغة ومواقع الإعراب الذي تختلف المعاني باختلاف أمثلته وأشكاله، ولا بد في اللغة والإعراب من التعلق بطرف من علم الشعر، ولا بد من المعرفة بالنسب بما يدري المرء من تجوز الإمامة ممن لا تجوز فيهم، ومن هم الأنصار الذين [أمرنا] (3) بالإحسان إلى محسنهم والتجاوز عن مسيئهم، ومن هم أولو القربى الذين حرمت عليهم الصدقة، ولا بد أن يعرف من الحساب ما يعرف به القبلة والزوال إلى أوقات الصلوات، ولا يوقف على حقيقة ذلك إلا بمعرفة الهيئة، ولا يعرف حقيقة البرهان في ذلك إلا من وقف على حدود الكلام، ولا بد أن يعرف من الحساب أيضاً كيف قسمة المواريث والغنائم، فإن تحقيق ذلك فرض لا بد منه.
ولا بد في الشريعة من معرفة العيوب التي تجب [التكليف كعاهة الجنون المتملكة، وقوام الآفات والأدواء، فلا بد من] (4) معرفة العلل ومداواتها وهو علم الطب. والدعاء إلى الله عز وجل واجب، ولا سبيل إليه إلا بالخط والبلاغة، ومعرفة ما تستجلب به القلوب من حسن اللفظ وبيان المعنى، ولا يكون هذا إلا بالمعرفة الشرعية
__________
(1) ص: اخترعنا.
(2) ص: المشورة.
(3) زيادة لازمة.
(4) ما بين معقفين مكتوب في هامش النسخة وقد طمس معظمه.(4/82)
وباللغة وبالإعراب وبالفصاحة وحكم المنظوم والمنثور.
والرؤيا حق وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فلا بد من معرفة عباراتها، ولا تكون عباراتها إلا بالتمكن في العلوم المذكورة.
وأما القضاء بالنجوم فلا يعرف بطلانه إلا من أشرف عليه، ولا يعرف الخطأ من الصواب إلا بمعرفتهما معاً، فهذا وجه تعلق العلوم بعضها ببعض، وافتقار بعضها إلى بعض.
وإن لم تمكن (1) المرء الإحاطة بجميعها فليضرب في جميعها بسهم ما وإن قل، - كما قدمنا وليكن الناس فيها في تعاونهم على إقامة الواجب من ذلك عليهم كالمجتمعين لإقامة منزل، فإنه لا بد من بناء وأجراء ينقلون الحجر وينقلون الطين، ومن صناع القرمد وقطاعي الخشب وصناعي الأبواب والمسامير حتى يتم البناء، وكذلك سائر ما بالناس الحاجة إليه من الحرث فإنه لا يتم إلا بالتعاون على [القيام] بآلاته والعمل بها. وكذلك التعاون على ما به تكون النجاة والترقي إلى عالم الخلود، ورضى الخالق أوجب وأكرم، وبالله تعالى نتأيد. ط
فصل
ومن السمج القبيح بقاء الإنسان فارغاً في مدة إقامته في هذه الدار، مفنياً تلك المدة فيما غيره أولى به وأحسن منه، في حماقة وبطالة أو معصية وظلم. وقد سمعت شيخنا ابن الحسن (2) يقول لي ولغيري " إن من العجب من يبقى في هذا العالم [دون] معاونة لنوعه على مصلحة. أما يرى الحراث يحرث له والطحان يطحن له والنساج ينسج له والخياط يخيط له والجزار يجزر له والبناء يبني له وسائر الناس كل متول شغلاً، له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة أفما يستحي أن يكون عيالاً على كل العالم
__________
(1) ص: يكن.
(2) ص: أبو الحسن، وشيخه هذا هو أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بابن الكتاني، وقد ترجمت له في مقدمة كتابه " التشبيهات ".(4/83)
لا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة " (1) ولقد صدق، ولعمري إن في كلامه من الحكم لما يستثير الهمم الساكنة إلى ما هيئت له. وأي كلام في نوع هذا احسن من كلامه في تعاون (2) الناس. وقد نبه الله تعالى عباده بقوله {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2) فكل ما لمخلوق فيه مصلحة في دينه أو ما لا غنى للمرء عنه في دنياه فهو بر وتقوى، إذا استعان به على أمر الله وحض عليه. وأفضل ما استعمله المرء في دنياه، بعد أداء ما يلزمه لله تعالى في نفسه من تعلم اعتقاده من قول وعمل، أن يعلم الناس دينهم الذي له خلقوا، فيقودهم إلى رضى الله عز وجل ويخرجهم بلطف خالقه تعالى من الظلمة العمية إلى النور الخالص، ومن المضيق المهلك إلى السعة الرحبة، ثم الحكم بالحق، والمنع من الظلم، والذب عن الحوزة بجهاد أهل الحرب والمحاربة (3) وأهل البغي، وإقامة [الناس] (4) على ما خلقوا له من إقامة الدين الذي افترضه الله تعالى عليهم، ثم العون في إحراز ما ذكرنا بكتابه واحتراز وقسمة وإقامة حد وقبض مال واجب وغير ذلك، ثم هكذا أبداً كل ما فيه عون على ذلك حتى يبلغ الأمر إلى الصناعات التي لا غنى بالناس عنها.
واعلم أن كل أحد من الناس ممن له تمييز صحيح فإنه لا يخلو من أن يكون موقناً بصحة المعاد بعد الموت وبالجزاء، أو يكون شاكاً في ذلك، أو يكون معتقداً أن لا معاد ولا جزاء، وإنما هي هذه الحياة الدنيا فقط. فإن كان ممن يوقن بالمعاد والجزاء فاللازم له إجهاد نفسه واستفراغ طوقه فيما يتخلص به من الهلكة في معاده، ويكون حينئذ إذا اشتغل بغير ذلك وضيع ما فيه نجاته وخلاصه في الأبد، فاسد التمييز
__________
(1) نص هذه العبارة كما أوردها الحميدي في الجذوة، مروياً عن ابن حزم: إن من العجب من يبقى في العالم دون تعاون على مصلحة؛ أما يرى الحراث يحرث له والبناء يبني له والخراز يخرز له؛ وسائر الناس كل يتولى شغلاً له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة أما يستحي أم يبقى عيالاً على كل من في العالم، ألا يعين هو أيضاً بشيء من المصلحة (الجذوة: 46) .
(2) ص: كلام في نوع.
(3) أهل المحاربة هم المفسدون في الأرض الذين حكم القرآن بأن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض.
(4) زيادة لازمة.(4/84)
سخيف (1) العقل مذوماً مهلكاً لنفسه، بل أسوأ حالة من المجانين والحيوان الدارج (2) غير الناطق. ولا مخلص في المعاد إلا بالحبث عن شريعة الحق و [إيثار] (3) تعلمها على كل علم. و [الآجلة] . فالواجب عليه إجهاد نفسه وترك كل حال شاغلة له عن البحث عن صحة الأمر، عن أن المعاد حق أو شيء غيره حق. وإذا اشتغل عن شيء غيره فهو بلا شك فاسد التمييز، خاسر الصفقة مغرر بنفسه عن الأمر الذي فيه عظيم البلاء عليه أو كثير السعادة له، ولا يصل إلى علم ذلك إلا بالبحث عن الشرائع وطلب البرهان فيها حتى يقع على حقيقة الأمر في ذلك.
وإن كان غير معتقد لصحة المعاد، ولم يكن عند شيء غير هذه الدار، فلا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن لا يكون يرى إمراج النفس (4) في الشهوات، وإهمالها في اللذات وإطلاقها على اتباع الهوى فإن كان هذا هكذا فليس أولى بذلك فيه (5) من غيره؛ وهذا رأي يقتضي له أن لا يتظلم ممن تلف بقتله وأخذ ماله أو هتك ستره وتسخيره (6) فيما يلذ به غيره وإشقائه فيما ينعم به سواه، ولا أخسر صفقة ممن يرى أن لا دار له سوى هذه ثم لا يكون حظه منها إلا الشقاء والتعب والهلكة أو يكون ممن يقو بالسياسة التي جماعها الأمن له من غيره، ولغيره منه، على دمه (7) وحرمته وبشرته وماله وشمول العافية (8) وصلاح الحال والكفاية. وهذا لا يصح ألبتة ولا يوجد إلا باستعمال الشريعة الداعية بالوعيد بالآخرة والعقاب في الدنيا لأجل معصيته، فإذ لا سبيل إلى ذلك إلا بالشريعة فالاشتغال بها هو الغرض، والاشتغال عنها رأي فاسد.
__________
(1) ص: بتخفيف.
(2) ص: الدارج.
(3) ما بين معقفين في هذه العبارة التي كتبت بهامش النسخة، مطموس.
(4) ص: إمراح، وإمراج النفس إطلاقها على سجيتها، وتركها ترعى حيث شاءت.
(5) ص: في غيره.
(6) ص: وتسخير.
(7) ص: ذمته.
(8) ص: العاقبة.(4/85)
وأيضاً فإن المشتغل بعلم الشريعة محصل الأمن من السلطان والخاصة والعامة، متصد لعلو الحال في الدنيا والصلاح فيها؛ ومن خالفها محصل (1) للمخالفة للسلطان والخاصة والعامة، متعرض للبلاء في دمه وحاله وماله؛ فلا أضعف حالاً ولا أسوأ تمييزاً ولا أضعف عيشاً ممن (2) لا يقر بالمعاد ولا يعرف إلا هذه الدار، ثم هو متعرض للبلاء مدة حياته. وإنما يتحمل الأذى والمخاوف ويتعرض للهلكة والبلاء (3) من يرى أنه إذا خرج من هذه الدار صار إلى الحياة الأبدية والنعيم السرمدي والسرور الخالد (4) وإلا فهو أحمق مجنون. وإنما قلنا هذا البرهان العقلي الحسي الضروري: إن إيثار علم الشريعة على كل علم واجب على كل من لا يقر بالمعاد وعلى من يشك بالمعاد، كوجوبه على من يقر بالمعاد.
وإن قوماً قوي جهلهم، وضعفت عقولهم، وفسدت طبائعهم، يظنون أنهم من أهل العلم وليسوا من أهله، ولا شيء أعظم آفة على العلوم وأهلها الذين هم أهلها بالحقيقة من هذه الطبقة المذكورة، لأنهم تناولوا طرفاً من بعض العلوم يسيراً، وكان الذي فاتهم من ذلك أكثر مما أدركوا منه، ولم يكن طلبهم لما طلبوا من العلم لله تعالى، ولا ليخرجوا من ظلمة الجهل، لكن ليزدروا بالناس زهواً وعجباً، وليماروا لجاجاً وشغباً، وليفخروا أنهم من أهله تطاولاً ونفجاً، وهذه طريق مجانية الفلاح، لأنهم لم يحصلوا على الحقيقة وضيعوا سائر لوازمهم فعظمت خيبتهم ولم يكن وكدهم أيضاً، مع الازدراء بغيرهم، إلا الازدراء بسائر العلوم وتنقيصها، لظنهم الفاسد أنه لا علم إلا الذي طلبوا فقط. وكثيراً ما يعرض هذا لمبتدئ في علم من العلوم وفي عنفوان الصبا وشدة الحداثة. إلا أن هؤلاء لا يرجى لهم البرء من هذا الداء، مع طول النظر والزيادة في السن.
فقصدنا أن نري كل من هذه صفته أحد وجهين: إما نقص علمه الذي يتبجح
__________
(1) ص: فحصل.
(2) ص: لمن.
(3) ص: ولبلا.
(4) ص: الخالدي.(4/86)
به عن غيره من العلوم؛ أو فاقة (1) علمه ذلك إلى غيره من العلوم، وأنه إن لم يضف غيره من العلوم على علمه كان ناقصاً لا ينتفع به كبير منفعة بل لعله يستضر به (2) جداً:
فمن ذلك أنا وجدنا قوماً منأهل طلب العلم، أعني الديانة، يزورن بسائر العلوم، وهذا نقص عظيم شديد لا ينتفع به صاحبه في قسمة الفرائض والمواريث وأن يعرف من المطالع ما يعرف به أوقات الصلوات ودخول شهر رمضان شهر الصوم ووقت الحج، وإن لم يعرف مضار المأكل والمشرب أوشك أن يتناول ما يؤذيه ويضر به، وذلك محرم وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي فاتباع أمره فرض. فتعلم الطب فرض على الكفاية، ومضيعه مضيع فرض. والقرآن عربي فلا سبيل إلى أن يعلمه من لم يعلم العربية، ولا سيما إن كان المذكور لم تناول من الشريعة إلا علماً واحداً من علومها، فهذا إنسان ناقص مسيء إلى نفسه مهلك لها، لأنه إن تناول علم القرآن ولم تناول علم السنن كانت يده من الدين صفراً، وكان علمه عليه لا له. ومن أحسن علم السنن ولم يحسن علم القرآن لم يعلم ما يجوز به القراءة مما لا يجوز، وما أنزل الله تعالى مما لم ينزل. وإن تعلق بالفتيا دون علم بالقرآن والسنن فهو والحمار سواء ولا يحل له أن يفتي لأنه لا يدري أحق أم باطل، وإنما يفتي مقلداً لمن لا يدري هل أصاب أو أخطأ ولا يعرف ما هو عليه أهو من الدين أم من غير الدين إلا ظناً. وإن تعلق بالكلام دون أن يعرف السنن كان هالكاً، لمغيبه عن حقيقة الشريعة التي كلفه الله تعالى إياها، وألزمه أداءها (3) .
ووجدنا قوماً طلبوا علوم العرب فازدروا على سائر العلوم كالنحو واللغة والشعر والعروض، فكان هؤلاء بمنزلة من ليس في يده من الطعام إلا الملح وليس معه من السلاح إلا المصقلة التي بها يجلى السلاح فقط، وكان [الواحد منهم] غائباً عن علم الشريعة التي لا معنى لخروجنا إلى هذا العالم غيرها، ولا خلاص لنا ولا سلامة
__________
(1) ص: بانه.
(2) ص: يستصريه.
(3) ص: والتزمه إياها.(4/87)
عند خروجنا من الدنيا إلا بها، وكان بمعزل عن علم الحقائق.
ووجدنا قوماً طلبوا علوم الأوائل أو علماً منها، واتخذوا سائر العلوم سخرياً مثل من تعلق بالطب فلم ير علماً غيره؛ فيقال له إنك لا تشك أنه قد يكون فمن لا يتعاني ولا يحسن الطب أحسن أجساماً وأطول أعماراً من المتعنين، كأهل البادية (1) والعامة والبلاد التي لا يحسن أهلها الطب، هذا أمر لا ينكره منكر، فأن هذا عيان مشاهد، فما فائدة الطب إذن ولا غرض لأهله إلا تصحيح الأجسام ودفع الأمراض المخوف منها الموت (2) ولم يحصلوا من هذا الغرض إلا على أقل مما حصل عليه غيرهم. ومثل قوم من أهل الهندسة وعلم الهيئة ما عدا ذلك من العلوم إلا هذراً ولغواً فيقال لهم: ما الفرق بين معرفة قطع كوكب كذا وكوكب كذا وصفة برج كذا وبرج كذا وبرج كذا من الأرض وبين صفة مدينة كذا، وحركات ملك فلانة، أو حركات فلان وفلان وهذا لا سبيل لهم إلى المخلص منه لأن كل ذلك خبر عن بعض ما في العالم فقط لا يفيد فائدة إلا المعرفة بما عرف من كل ذلك بأنه على هيئته والاستدلال بكل ذلك على الصانع المدبر سواء. فإن صار إلى علم القضاء لم يحصل إلا على دعاوى كاذبة وخرافات لا تصح، بل البرهان قائم على بطلان هذه الدعاوي، بما قد أحكمناه في غير هذا الموضع، ومن ذلك أنهم لا يدعون على ذلك دليلاً أصلاً إلا تجارب يذكرونها وهذا باطل لأن تلك التجارب لا يمكن إثباتها ألبتة لأنها لا تكون إلا في مدد طوال، ولا سبيل إلى بقاء دولة ولا استمرار حالة على سلامة، مقدار تلك المدة أبداً، ونقول لهم: إن أصح ما بأيديكم، بإقراركم، المواليد والقرانات (3) ونحن نجد الكبش يولد ويعيش ويذبح وهو يباشر أكله (4) في دقيقة واحدة ثم يعمل من جلده أديم، فبعضه
__________
(1) كرر ابن حزم هذه الفكرة عن أهل البادية وصحتهم وطول أعمارهم في رسالة " التوقيف على شارع النجاة "، وانظر كيف كانت هذه الفكرة مختمرة أيضاً عند ابن خلدون فقد وضحها كما وضح استقلال أهل البوادي بطبهم في المقدمة: 364 وما بعدها.
(2) في الأصل: للموت.
(3) إذا ذكر القرآن إطلاقاً عني به اجتماع زحل والمشتري خاصة، فإذا قصد قرآن كوكبين آخرين قيد بذكرهما.
(4) في الأصل: وهو ناشر كله.(4/88)
رق ينسخ فيه (1) وتطول مدة بقاءه، وبعضه نطائق (2) تقطع وتعفن، ولم يتقدم في الوجود والنشأة بعض ذلك الأديم بعضاً. وأيضاً فإنهم خابوا من علم الشريعة الذي هو الحقيقة. وطائفة حصلت على علم حدود المنطق، فنقول لهم: إنكم لم تحصلوا إلا على العلوم التي لا منفعة لها ولا فائدة، إلا تصريفها في سائر فأنتم (3) كمن جمع آلة البناء ولم يصرفها في البنيان فهي معطلة لديه لا معنى لها، فإن قالوا إن لهذه العلوم معايش ومكاسب، قلنا هي أضعف المكاسب وأقل المعايش سعة، فإذ ليس غرضكم إلا هذا، فالتجارة والزراعة وصحبة السلطان أجدى بالمكسب وأوسع بالوفر (4) حظاً مما أنتم عليه.
ولم نورد شيئاً من هذا تنقيصاً لشيء ن هذه العلوم ومعاذ الله من هذا ولو فعلنا ذلك لدخلنا في جملة من نذم، ولركبنا الملة (5) الخسيسة، لكن تنقصاً لمن قصد بعلمه ذم سائر العلوم وتنقصها. وأما من طلب علماً ما، لم يفتح الله تعالى له في غيره، وهو مع ذلك معترف بفضل سائر العلوم ونقص حاله إذ أقصر عنها، فهو محسن حمود فاضل قد تعوض الإنصاف والعدل والصدق مما فاته منها فنعم العوض ما حصل عليه، ولا ملامة عليه فيما لم يفتح الله تعالى له فيه، وأما من أخذ من كل علم ما هو محتاج إليه واستعمل ما علم كما يجب فلا أحد أفضل منه، لأنه قد حصل على عز النفس وغناها في العاجل وعلى الفوز في الآجل، ونجا مما حصل فيه أهل الجهل، ومن لم يستعمل ما علم من أضداد هذه الأحوال.
وجملة الأمر أنه لولا طلب النجاة في الآخرة لما كان لطلب شيء من العلوم معنى لأنه تعب، وقاطع عن لذات الدنيا المتعجلة من المشارب والمآكل والملاهي والسفاه الاعتلاء واتباع الهوى؛ فلو لم يكن آخرة يؤدي إليها طلب العلوم، لما كان
__________
(1) ص: ورق ينسج فيه.
(2) ص: بطائق.
(3) ص: فأنت.
(4) ص: بالدفر.
(5) ص: المدة.(4/89)
أحد أسوأ حالاً من المشتغل بالعلم؛ فإذ الأمر كذلك فالعلوم كلها (1) متعلق بعضها ببعض كما بينا قبل، محتاج بعضها إلى بعض، ولا غرض لها إلا معرفة ما أدى إلى الفوز في الآخرة فقط، وهو علم الشريعة، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.
تمت الرسالة الموسومة بمراتب العلوم
والحمد لله رب العالمين
وصلاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً
__________
(1) في الأصل: فالأمر كله.(4/90)
2 - التقريب لحد المنطق(4/91)
فراغ(4/92)
- 2 -
التقريب لحد المنطق والمدخل إليه
بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على سيد المرسلين
وعلى آل محمد وصحبه وسلم (1)
قال الإمام الأوحد الأعلم، أو بمحمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب ابن صالح بن خلف بن معدان بن يزيد الفارسي (2) :
الحمد لله رب العالمين، بديع السماوات والأرض وما بينهما، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسوله إلى عباده من الأنفس الحية القابلة للموت، من الإنس والجن، بالدين الذي اجتبرهم بهن ليسكن الجنة التي هي دار النعيم السرمدي من اطاعه، ويدخل النار التي هي محل العذاب الأبدي من عصاه؛ وما توفيقنا إلا بالله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله (3) ، عز وجل.
أما بعد: فإن الأول الواحد الحق الخالق لجميع الموجودات دونه؛ يقول في وحيه الذي آتاه نبيه وخليله المقدس: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل} (الزمر: 62) وقال تعالى: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} (آل عمران: 19) مثنياً عليهم؛ وقال تعالى: {الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان،
__________
(1) م: بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(2) م: قال الشيخ أبو محمد عليّ بن أحمد الفقيه رضي الله عنه.
(3) م: إلا به.(4/93)
علمه البيان} (الرحمن: 1 4) وقال تعالى {اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 3) فهذه الآيات جامعة لجميع وجوه (1) البيان الذي امتن به عز وجل، على الناطقين من خلقه وفضلهم به على سائر الحيوان، فضلاً منه تعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ووجدناه عز وجل قد عدد في عظيم نعمه على ابتداء اختراعه من النوع الإنسي تعليمه أسماء (2) الأشياء؛ فقال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة: 31) وهذا هو الذي (3) بانت به الملائكة والإنس والجن من سائر النفوس الحية، وهو البيان عن جميع الموجودات (4) ، على اختلاف وجوهها، وتباين (5) معانيها، التي من أجل اختلافها وجب أن تختلف أسماؤها، ومعرفة وقوع المسميات تحت الأسماء، فمن جهل مقدار هذه النعمة عند نفسه، وسائر نوعه، ولم يعرف موقعها لديه، لم يكد يفضل البهائم إلا بالصورة: فلله الحمد على ما علم وآتى، لا إله إلا هو. ومن لم يعلم صفات الأشياء المسميات، الموجبة لافتراق أسمائها ويحد كل ذلك بحدوده (6) ، فقد جهل مقدار هذه النعمة النفيسة، ومر عليها غافلاً عن معرفتها، معرضاً عنها، ولم يخب خيبةً يسيرة بل جليلة جداً.
فإن قال جاهل: فهل تكلم أحد من السلف الصالح في هذا قيل (7) له: إن هذا العالم مستقر في نفس كل ذي [2 ظ] لب، فالذهن الذكي واصل بما مكنه الله تعالى فيه من سعة الفهم، إلى فوائد هذا العلم، والجاهل متسكع كالأعمى حتى ينبه عليه، وهكذا سائر العلوم. فما تكلم أحد من السلف الصالح، رضي الله عنهم، في مسائل النحو، لكن لما فشا جهل الناس، باختلاف الحركات التي باختلافها
__________
(1) ص: جامعة لوجوه.
(2) أسماء: سقطت من م.
(3) س: وهو الذي.
(4) م: المرادات.
(5) س: وبيان.
(6) س: بحدودها.
(7) م: فقيل.(4/94)
اختلفت (1) المعاني في اللغة العربية، وضع العلماء كتب النحو، فرفعوا إشكالاً عظيماً، وكان ذلك معيناً على الفهم لكلام الله عز وجل، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان من جهل ذلك ناقض الفهم عن ربه تعالى، فكان هذا من فعل العلماء حسناً وموجباً لهم أجراً. وكذلك القول في تواليف العلماء ككتب اللغة، وكذلك القول أيضاً في تواليف كتب الفقه (2) ؛ فإن السلف الصالح غنوا عن ذلك كله بما أبانهم الله به من الفضل ومشاهد النبوة، وكان من بعدهم فقراء إلى ذلك كله، يرى ذلك حساً ويعلم نقص من لم يطلع هذه العلوم ولم يقرأ هذه الكتب وأنه قريب النسبة من البهائم، وكذلك هذا العلم فإن من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل (3) مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وجاز عليه الشغب جوازاً لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليداً، والتقليد مذموم، وبالحرى إن سلم من الحيرة، نعوذ بالله منها. فلهذا ولما (4) نذكره بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وجب البدار إلى تأليف هذا العلم، والتعب في شرحه وبسطه، بحول الله وقوته، فنقول وبالله تعالى نستعين:
إن جميع الأشياء التي أحدثها الأول، الذي لا أول على الإطلاق سواه، وقسمها الواحد الذي لا واحد على التصحيح حاشاه، واخترعها الخالق الذي لا خالق على الحقيقة إلا إياه، فإن مراتبها في وجوه البيان أربعة، لا خامس لها أصلاً ومتى نقص (5) منها جزء واحد اختل من البيان بمقدار ذلك النقص.
فأول ذلك كون الأشياء الموجودات حقاً في أنفسها، فإنها إذا كانت حقاً فقد أمكنت استبانتها، وإن لم يكن لها مستبين، حينئذ، موجود، فهذه أولى مراتب البيان؛ إذ ما لم يكن موجوداً فلا سبيل إلى استبانته.
والوجه الثاني: بيانها عند من استبانها وانتقال أشكالها وصفاتها إلى نفسه،
__________
(1) م: تختلف.
(2) س: وكذلك القول في تواليف كتب العلماء في اللغة والفقه.
(3) م: تعالى (وكذلك تتبادل اللفظتان في م س على نحو شبه مطرد) .
(4) س: وما.
(5) س: وإن تناقص.(4/95)
واستقرارها (1) فيها بمادة العقل الذي فضل به الناطق (2) من النفوس، وتمييزه لها على ما هي عليه إذ من لم يبن له الشيء لم يصح له علمه ولا الأخبار عنه، فهذه المرتبة الثانية من مراتب البيان.
والوجه الثالث: إيقاع كلماتٍ مؤلفات من حروف مقطعات، مكن الحكيم [3 ب] القادر لها المخارج من الصدر والحلق وأنابيب الرئة والحنك واللسان والشفتين والأسنان، وهيأ لها الهواء المندفع بقرع اللسان إلى صمخ (3) الآذان، فتوصل بذلك نفس المتكلم مثل ما قد استبانته واستقر فيها إلى نفس المخاطب، وتنقله إليها بصوت مفهوم بقبول الطبع منها للغةٍ اتفقا عليها، فتستبين من ذلك ما قد استبانته نفس المتكلم، ويستقر في نفس المخاطب، مثل ما قد استقر في نفس المتكلم، ويخرج (4) إليها بذلك مثل ما عندها، لطفاً من اللطيف الخبير، لينتج لها ما وهبنا (5) من هذه الخاصة الشريفة، والقوة الرفيعة، والطبيعة الفاضلة، المفربة لمن استعملها في طاعته، إلى فوز الأبد برضاه والخلود في جنته، نتيجة يبين بها (6) من البهائم التي لا ثواب ولا عقاب عليها، والتي سخرها لنا في جملة ما سخر، وذللها لحكمنا مع ما ذلل، إذ خلق لنا ما في السماوات والأرض، إلا ما حمى عنا، واستثنى بالتحريم علينا، فلله الحمد والشكر منا، والسمع والطاعة علينا، ومن فضله (7) تتميم ذلك لنا بمنه وطوله، قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم: 4) فهذه المرتبة الثالثة من مراتب البيان.
والوجه الرابع: إشارات تقع باتفاق، عمدتها تخطيط ما استقر في النفس من
__________
(1) س: واستقراره.
(2) س: العاقل.
(3) صمخ: جمع صماخ وهو ثقب الأذن؛ وفي س: سمخ وهو لغة فيه.
(4) س: وخرج.
(5) س: لينتج لما وهب لنا (ولفظة لينتج لم يعجم منها إلا التاء في النسخة (س) .
(6) م: تبين.
(7) فضله: سقطت من س.(4/96)
البيان المذكور، بخطوط متباينة، ذات لون يخالف لون (1) ما تخط فيه، متفق عليها بالصوت المتقدم ذكره، فيسمى ذلك كتاباً تمثله اليد التي هي آلة لذلك. فتبلغ به نفس المخطط ما قد استبانته إلى النفس التي تريد أن تشاركها في استبانة ما قد استبانته، فتوصلها إليها العين، التي هي آلة لذلك. وهي في الأقطار المتباعدة، وعلى المسافات المتنائية التي يتفرق الهواء المسمى صوتاً قبل بلوغها، ولا يمكن توصيله إلى من فيها فتعلمها بذلك دون من يجاورها في المحل ممن لا تريد إعلامه. ولولا هذا الوجه، ما بلغت إلينا حكم الأموات على آباد الدهور، ولا علمنا علم (2) الذاهبين على سوالف الأعصار، ولا انتهت إلينا أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية. وتندرج في هذا القسم أشياء وليست بالفاشية، فمنها: إشارات باليد فقط، ومنها إشارات بالعين أو ببعض الأعضاء، وقد يمكن أن يؤدي البيان بمذاقات، فمن ذلك (3) ما يدرك الأعمى بها البيان، ومنها ما لا يدركه إلا المبصر، إلا أنها حاشا الخط لا يدرك بها البيان (4) إلا الحاضر وحده على حسب ما يتفق عليه مع المشير بذلك إليه، فهذه المرتبة الرابعة من مراتب البيان [3 ظ] إذ لا سبيل إلى الكتاب إلا بعد الاتفاق على تمييز تلك الخطوط بالأصوات الموقفة عليها، قدرة (5) عجزت العقول عن أكثر من (6) المعرفة بها، وتوحد الأول الواحد الخالق الحق بتدبير ذلك واختراعه دون علة أوجبت عليه ذلك، إلا أنه يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وصارت نهاية الفضائل فينا (7) فهم ما ذكرنا واستعمال في وجوهه والإقرار للخالق الأول الواحد الحق بالقوة والقدرة والعلم وأنه مباين لخلقه في جميع صفاتهم.
__________
(1) م: مخالف للون.
(2) م: علوم.
(3) م: هذه.
(4) ومنها ما يدركه.. البيان: سقط من س.
(5) س: ندرة.
(6) من: سقطت من س.
(7) س: فيها.(4/97)
فإن من سلف من الحكماء، قبل زماننا، جمعوا كتباً رتبوا فيها فروق وقوع المسميات تحت الأسماء التي اتفقت جميع الأمم في معانيها، وإن اختلفت في أسمائها التي يقع بها التعبير عنها، إذ الطبيعة واحدة، والاختيار مختلف شتى، ورتبوا كيف يقوم بيان المعلومات من تراكيب هذه الأسماء، وما يصح من ذلك وما لا يصح، وتقفوا (1) هذه الأمور، فحدوا في ذلك حدوداً ورفعوا الأشكال، فنفع الله تعالى بها منفعة عظيمة، وقربت بعيداً، وسهلت صعباً، وذللت عزيزاً (2) ، فمنها كتب أرسطاطاليس الثمانية في حدود المنطق. ونحن نقول قول من يرغب إلى خالقه الواحد الأول في تسديده وعصمته، ولا يجعل لنفسه حولاً ولا قوة إلا به، ولا يعلم إلا ما علمه: إن من البر الذي نأمل أن نعتبط به عند ربنا تعالى بيان تلك الكتب لعظيم فائدتها فإنا رأينا الناس فيها على ضروب أربعة: الثلاثة منها خطأ بشيع وجور شنيع، والرابع حق مهجور، وصواب مغمور، وعلم مظلوم؛ ونصر المظلوم فرض وأجر.
فأحد الضروب الأربعة قوم حكموا على تلك الكتب بأنها محتوية على الكفر للإلحاد، دون أن يقفوا على معانيها أو يطالعوها بالقراءة. هذا وهم يتلون قول الله عز وجل، وهم المقصودون (3) به إذ يقول تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} (الإسراء: 36) وقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاجتهم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) وقوله تعالى: {قل هل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (النمل: 64) فرأينا من الأجر الجزيل العظيم في هذه الطائفة إزالة هذا الباطل من نفوسهم الجائرة الحاكمة قبل التثبيت، القائلة دون علم، القاطعة بغير برهان، [4 و] ورفع المأثم الكبير عنهم بإيقاعهم هذا الظن الفاسد على قوم (4) برآء ذوي ساحة سالمة وبشرة نقية وأديم أملس مما قرفوهم به. وقد قال رسول الله،
__________
(1) س: وتقفوا.
(2) م: وعراً؛ وفي س بعدها: إرادة الحقائق؛ ولا وجود لها في م.
(3) م: المقصرون.
(4) م: أقوام.(4/98)
صلى الله عليه وسلم، الواسطة بيننا وبين الواحد الأول: " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (1) . فنحن نرجو من خالقنا أن نكون ممن (2) يضرب لنا في كشف هذه الغمة بنصيب وافر ننتفع به جداً يوم فقرنا إلى الحسنات وحاجتنا إلى النجاة بأنفسنا مما يقع فيه الآثمون، وأن ييسرنا لسنةً حسنة نشارك من تصرف بعدنا ما كنا السبب في علمه إياه، من أجره، دون أن ينقص (3) من أجرة شيء، فهكذا وعدنا الخالق (4) الأول على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ضرب.
والضرب الثاني: قوم يعدون هذه الكتب هذياناً لا يفهم، وهراء من القول وهذراً من المنطق (5) . وبالجملة فأكثر الناس سراع إلى معاداة ما جهلوه وذم ما لم يعلموه، وهم كما قال الصادق عليه السلام: " الناس كإبل مائةٍ لا تجد فيها راحلة " (6) . فرأينا أيضاً أن من وجوه البر إفهام من جهل هذا المقدار الذي نصصنا على فضله أولاً، ولعمري ما ذلك بقليل إذ بالعلم بهذا المعنى بنا عن البهائم وفهمنا مراد الباري عز وجل في خطابه إيانا.
والضرب الثالث: قوم قرأوا هذه الكتب المذكورة بعقول مدخولة وأهواء مؤوفة وبصائر غير سليمة، وقد أشربت قلوبهم حب الاستخفاف واستلانوا مركب العجز واستوبأوا نقل الشرائع (7) وقبلوا قول الجهال إنها كتب إلحاد، فمروا عليها أمراً لم يفهموها ولا تدبروا ولا عقلوها (8) فوسموا أنفسهم بفهمها، وهم أبعد الناس عنها وأنآملهم عن درايتها، وكان ما ذكرنا في تلبيس أمر هذه ومنفراً عنها فقوى رجاؤنا في أننا ببيان ما نبينه منها نكون السبب في هداية من سبقت له الهداية في علم
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري (أدب: 73) ومسلم (إيمان: 111) ومسند أحمد 2: 18، 44، 47.
(2) ممن: سقطت من م.
(3) م: ينتقص.
(4) م: الواحد.
(5) س: هذياناً من المنطق وهذراً من القول.
(6) الحديث في مسند أحمد 2: 7، 44، 70 والبخاري (رقاق: 35) ومسلم (فضائل الصحابة: 232) .
(7) س: الشرع.
(8) إنها كتب.... عقلوها: سقط من س.(4/99)
الله عز وجل، فيفوز بالحظ الأعلى ويحوز القسم الأسنى إن شاء الله عز وجل. ولم نجد أحداً قبلنا انتدب لهذا فرجونا ثواب الله عز وجل وأملنا عونه تعالى (1) في ذلك.
والضرب الرابع: قوم نظروا فيها بأذهانٍ صافية وأفكار نقية من الميل وعقول سليمة فاستناروا بها ووقفوا على أغراضها فاهتدوا بمنارها وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، وشاهدوا انقسام المخلوقات وتأثير الخالق فيها وتدبيره إياها، ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالرفيق الصالح والخفير (2) الناصح والصديق المخلص [4 ظ] الذي لا يسلم عند شدة، ولا يفتقده صاحبه في مضيق إلا وجده معه. فلم يسلكوا شعباً من شعاب العلوم إلا وجدوا منفعة هذه الكتب أمامهم ومعهم، ولا طلعوا ثنية من ثنايا المعارف إلا أحسوا بفائدتها غير مفارقةٍ لهم، بل ألفوها تفتح لهم كل مستغلق، وتليح إليهم كل غامض في جميع العلوم، فكانت لهم كالميلق (3) للصيرفي، والأشياء التي فيها الخواص لتجلية مخصوصاتها.
فلما نظرنا في ذلك وجدنا من بعض الآفات (4) الداعية إلى البلايا التي ذكرنا تعقيد الترجمة فيها وإيرادها بألفاظ غير عامية ولا فاشية الاستعمال، وليس كل فهم تصلح له كل عبارة، فتقربنا إلى الله عز وجل بأن نورد معاني هذه الكتب (5) بألفاظٍ سهلة سبطة يستوي إن شاء الله في فهمها العامي والخاصي والعالم والجاهل حسن إدراكنا وما منحنا خالقنا تبارك وتعالى من القوة والتصرف. وكان السبب الذي حدا من سلف من المترجمين إلى إغماض الألفاظ وتوعيرها وتخشين المسلك نحوها، الشح منهم بالعلم والضن به.
ولقد يقع لنا أن طلاب العلم يومئذ والراغبين فيه كانوا كثيراً ذوي حرص قوي، فأما الآن وقد زهد الناس فيه زهداً ليته سلم أهله منهم، بل قد أداهم زهدهم فيه (6)
__________
(1) وأملنا عونه تعالى: انفردت به م.
(2) م: والحفير؛ والخفير؛ المجير.
(3) س: الميدق؛ م: الميذق؛ والميلق: وعاء لتمليس الذهب (انظر ملحق المعجمات لدوزي: 638) .
(4) م: من بعض اللغات.
(5) الكتب: سقطت من س.
(6) زهداَ.... فيه: سقط من س.(4/100)
إلى إيذاء (1) أهله وذعرهم ومطالبتهم والنيل منهم ولم يقنع الجاهل بأن يترك وجهله، بل صار داعية إليه وناهياً عن العلم بفعله وقوله، وصاروا كما قال حبيب بن أوس الطائي في وصفهم (2) :
غدوا وكأن الجهل يجمعهم به ... أب وذوو الآداب فيهم نوافل فإن الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله، أن يسهله جهده، ويقربه بقدر طاقته، ويخففه ما أمكنه. بل لو كان أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة، ويدعو إليه في شوارع السابلة، وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه، ويجري (3) الأجور لمقنيه (4) ، ويعظم الأجعال عليه (5) للباحثين عنه، ويسني مراتب أهله، صابراً في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعياً مشكوراً كريماً وإحياء للعلم؛ وإلا فقد درس وطمس (6) وبلي وخفي، إلا تحلة القسم، ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام داثرة والله المستعان.
ورأينا هذه الكتب كالدواء القوي، إن تناوله ذو الصحة المستحكمة، والطبيعة السالمة، والتركيب الوثيق، والمزاج الجيد، انتفع به وصفى بنيته وأذهب أخلاطه [5 و] وقوى حواسه، وعدل كيفياته؛ وإن تناوله العليل المضطرب المزاج، الواهي التركيب، أتى عليه، وزاده بلاء وربما أهلكه وقتله. وكذلك هذه الكتب إذا تناولها ذو العقل الذكي والفهم القوي لم يعدم أين تقلب وكيف تصرف منها نفعاً جليلاً وهدياً منيراً وبياناً لائحاً ونجحاً في كل علم تناوله وخيراً في دينه ودنياه، وإن أخذها ذو العقل السخيف أبطلته أو ذو الفهم الكليل بلدته وحيرته؛ فليتناول كل امرئِ حسب طاقته. وما توفيقنا إلا بالله عز وجل.
ولا ينذعر قارئ كتابنا هذا من هذا الفصل، فيكع راجعاً، ويجفل هارباً،
__________
(1) م: أذى.
(2) البيت في ديوانه: 256 (شرح محيي الدين الخياط) ، وقوله: الطائي في وصفهم: سقط من م.
(3) س: ويجزي.
(4) م: لمقتبسيه.
(5) عليه: سقطت من م.
(6) وطمس: سقطت من س.(4/101)
ويرجع من هذه الثنية ثانياً من عنانه، فإنا نقول قولاً ينصره البرهان، ونقضي قضيةً يعضدها العيان: إن أقواماً ضعفت عقوهم عن فهم القرآن فتناولوه بأهواء جائرة، وأفكار مشغولة، وأفهام مشوبة فما لبثوا أن عاجوا عن الطريقة، وحادوا عن الحقيقة: فمن مستحل دم (1) الأمة، ومن نازع إلى بعض فجاج الكفر، ومن قائل على الله عز وجل ما لم يقل. وقد ذكر الله عز وجل وحيه وكلامه فقال: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، وما يضل به إلا الفاسقين} (البقرة: 26) وهكذا كل من تناول شيئاً على غير وجهه، أو وهو غير مطيقٍ له، وبالله تعالى نستعين.
وليعلم من قرأ كتابنا هذا أن منفعة هذه الكتب ليست في علم واحدٍ فقط بل في كل علم، فمنفعتها في كتاب الله عز وجل، وحديث نبيه، صلى الله عليه وسلم وفي الفتيا في الحلالوالحرام، والواجب والمباح، من (2) أعظم منفعة. وجملة ذلك في فهم الأسماء (3) التي نص الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، عليها وما تحتوي عليه (4) من المعاني التي تقع عليها الأحكام وما يخرج عنها من المسميات، وانقسامها (5) تحت الأحكام على حسب ذلك والألفاظ التي تختلف عباراتها وتتفق معانيها. ولعلم العالمون أن من لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصديق أبداً، ويميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب أخرى ولا ينبغي أن يعتبر بها.
وأما علم النظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات فلا غنى بصاحبه عن الوقوف على معاني هذه الكتب لما سنبينه في أبوابه إن شاء الله تعالى. وجملة ذلك معرفة ما يقوم بنفسه مما لا يقوم بنفسه، والحامل والمحمول، ووجوه الحمل والشغب
__________
(1) م: دماء.
(2) من: سقطتن من م.
(3) س: الأشياء.
(4) س: عليها.
(5) س: وانتسابها.(4/102)
والبرهان والإقناع (1) ، وغير ذلك.
وأما علم النحو واللغة والخبر وتمييز حقه من باطله والشعر والبلاغة والعروض [5 ظ] في جميع ذلك تصرف شديد وولوج لطيف وتكرر كثير ونفع ظاهر. وأما الطب والهندسة والنجوم فلا غنى لأهلها (2) عنها أيضاً لتحقيق الأقسام والخلاص من بلية (3) الأسماء المشتركة وغير ذلك، مما ليس كتابنا هذا مكاناً لذكره. وهذه جمل يستبينها من قرأ هذه الكتب وتمهر فيها وتمرن بها ثم نظر في شيء من العلوم التي ذكرنا وجد ما قلنا حقاً، ولاحت له أعلامها في فجاجها وأغماضها تبدي له كل ما اختفى وبالله تعالى التوفيق.
وكتابنا هذا واقع من الأنواع التي لا يؤلف أهل العلم وذوو التمييز الصحيح إلا فيها تحت النوع الرابع منها، وهو شرح المستغلق، وهو المرتبة الرابعة من مراتب الشرف في التواليف. ولن نعدم، إن شاء الله، أن يكون فيه (4) بيان تصحيح رأى فاسد يوشك أن يغلط فيه كثير من الناس وتنبيه على أمر غامض، واختصار لما ليست بطالب الحقائق إليه ضرورة، وجمع أشياء مفترقة (5) مع الاستيعاب لكل ما بطالب البرهان إليه أقل حاجة، وترك حذف شيءٍ من ذلك البتة. والأنواع التي ذكرنا سبعة لا ثامن لها: وهي إما شيء لم يسبق إلى استخراجه فيستخرجه؛ وإما شيء ناقص فيتممه؛ وإما شيء مخطأ فيصححه؛ وإما شيء مستغلق فيشرحه؛ وإما شيء طويل فيختصره؛ دون أن يحذف منه شيئاً يخل حذفه إياه بغرضه؛ وإما شيء مفترق فيجمعه؛ وإما شيء منثور فيرتبه. ثم المؤلفون يتفاضلون فيما عانوه من تواليفهم مما (6) ذكرنا على قدر استيعابهم ما قصدوا، أو تقصير (7) بعضهم عن بعض، ولكل قسط من الإحسان
__________
(1) س: والشغب والإتباع.
(2) م: بأهلها.
(3) س: من الثلاثة.
(4) س: فيها.
(5) م: متفرقة.
(6) م: في ما.
(7) س: يقتصر.(4/103)
والفضل والشكر والأجر، وإن (1) لم يتكلم إلا في مسألة واحدة إذا لم يخرج عن الأنواع التي ذكرنا في أي علم ألف. وأما من أخذ تأليف فأعاده (2) على وجهه أو قدم وأخر، دون تحسين رتبةٍ، أو بدل ألفاظه دون أن يأتي بأبسط منها وأبين، أو حذف مما (3) يحتاج إليه، أو أتى بما لا يحتاج إليه، أو نقض صواباً بخطأ، أو أتى بما لا فائدة فيه، فإنما هذه أفعال أهل الجهل والغفلة، أو أهل القحة والسخف، نعوذ (4) بالله من ذلك.
[المدخل إلى المنطق أو إيساغوجي]
وهذا حين نبدأ، إن شاء الله عز وجل بحوله وقوته، فيما له قصدنا فنشرع في بيان المدخل إلى الكتب الكذورة، وهو المسمى باللغة اليونانية إيساغوجي. معنى إيساغوجي في اللغة اليونانية " المدخل " (5) وهو خاصة من تأليف فرفوريوس الصوري (6) . والكتب التي بعده من تأليف أرسطاطاليس معلم الإسكندر ومدبر مملكته، وبالله تعالى التوفيق، وبه نعتصم ونتأيد، لا إله إلا هو.
1 - الكلام في انقسام الأصوات المسموعة [6 و]
جميع الأصوات الظاهرة من المصوتين فإنها تنقسم قسمين: إما أن تدل على معنى، وإما أن لا تدل على معنى. فالذي لا يدل على معنى لا وجه للاشتغال به لأنه لا يحصل لنا منه فائدة نفهمها؛ وطلب ما هذه صفته عناء ليس من أفعال أهل العقول. وهذا مثل كل صوت سمعته لم تدر ما هو؛ ويدخل في هذا أيضاً الكلام الظاهر من المبرسمين
__________
(1) م: ولو.
(2) م: فادعاه.
(3) م: ما.
(4) ي: فنعود.
(5) معنى.... المدخل: سقط من م.
(6) فرفوريوس الصوري: ظهر بعد جالينوس وشهر بشرح كتب أرسطاطاليس (انظر الفهرست: 313 والقفطي: 256) .(4/104)
والمجانين (1) ومن جرى مجراهم (2) . فإن قال قائل: " فإن هذا الكلام الذي ذكرت يدل على أن قائله لا يعقل أو أنه مريض "؛ قيل له وبالله تعالى التوفيق، إنه لم يدلك على ذلك (3) بمعناه، لكن لما فارق كلام أهل التمييز كان كالدليل على آفة بصاحبه. وأيضاً فقد يظهر مثل هذا الكلام من حاكٍ (4) أو مجان، فلا يدل على أن صاحبه لا يعقل. فليس ما اعترض به هذا المعترض حقاً. وهذا العلم إنما قصد به ما يكون حقاص، وتخليصه مما قد يكون حقاً وقد لا يكون.
ثم نرجع فنقول: إن الصوت الذي يدل على معنى ينقسم قسمين: إما أن يدل بالطبع وإما أن يدل بالقصد. فالذي يدل بالطبع هو كصوت الديك الذي يدل في الأغلب على السحر، وكأصوات الطير الدالة على نحو ذلك، وكأصوات البلارج والبرك (5) والاوز والكلاب بالليل الدالة في الأغلب على أنها رأت شخصاً، وكأصوات السناير في دعائها أولادها وسؤالها وعند طلبها (6) السفاد وعند التضارب، وكل صوت دلك بطبعه على مصوته كالهدم ونقر النحاس وما أشبه ذلك من أصوات الحيوان غير الإنسان. فهذه إنما تدل على كل ما ذكرنا بالعادة المعهودة منا (7) في مشاهدة تلك الأصوات، لا أنا نفهمها كفهمنا ما نتخاطب به فيما بيننا باللغات المتفق عليها بين الأمم التي نتصرف بها في جميع مراداتنا. فهذه الأصوات التي ذكرناها (8) لم نقصدها في كتابنا هذا إذ ليس يستفاد منها توقيف على علم ولا تعليم صناعة ولا إفادة خبر وقع. وأما الصوت (9) الذي يدل بالقصد فهو الكلام الذي يتخاطب الناس به فيما
__________
(1) م: من المجانين والمبرسمين.
(2) س: مجراهما.
(3) س: إنه يدلك ذلك.
(4) م: حاكي.
(5) في م س: البلوج، والبلارج: طائر كبير طويل المنقار، والبرك: جمع بركة وهو طائر من طيور الماء أبيض، والبرك أيضاً الضفادع.
(6) م: سؤالها ودعاء أولادها وعند طلب.
(7) س: مما.
(8) م: ذكرنا.
(9) الصوت: سقطت من م.(4/105)
بينهم ويتراسلون بالخطوط المعبرة عنه في كتبهم لإيصال ما استقر في نفوسهم من عند بعضهم إلى بعض، وهذه هي التي عبر عنها الفيلسوف بأن سماها " الأصوات المنطقية الدالة ". فإن شغب مشغب بما يظهر من بعض الحيوان غير الناطق من كلام مفهوم كالذي يعلمه الزرزور والببغاء والعقعق من حكاية كلام يدرب عليه (1) قائم المعنى، فليس ذلك كلاماً صحيحاً ولا مقصوداً به إفهام معنى ولا يعدو ما علم (2) ولا يضعه موضعه، ولكن يكرره كما يكرر سائر تغريده كما عوده (3) . وكثير من الحيوان في طبيعته أن يصوت بحروف ما على رتبة ما، وذلك كله بخلاف كلام الإنسان [6 ظ] الذي يعبر به عن أنواع العلوم والصناعات والأخبار وجميع المرادات.
ثم نرجع فنقول: إن هذا القسم الذي ذكرنا أنه يدل بالقصد ينقسم قسمين: إما أن يدل على شخص واحد وإما أن يدل على أكثر من شخص واحد. فأما الذي يدل على شخص واحد فهو كقولنا: زيد وعمرو وأمير المؤمنين والوزير وهذا الفرس وحمار خالد وما أشبه ذلك. فهذه إنما تعطينا إذا سمعنا الناطق ينطق بها الشخص الذي أراد الناطق وحده، لسنا نستفيد منه أكثر من ذلك. وليس هذا الذي قصدنا الكلام عليه لأن هذه الأسماء لا يضبط حدها من اسمها لفرق نذكره بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. واعلم قبل أن كل جزء مجتمع في العالم توجد في العالم أجزاء مثله كثيرة، إلا أن بعضها منحاز عن بعض فإنا نسميه شخصاً بالاتفاق منا كالرجل الواحد، والكلب (4) الواحد، والجبل الواحد، والحجر الواحد، وبياض الثوب (5) الواحد، والحركة الواحدة وسائر كل ما انفرد عن غيره. فإذا سمعتنا نذكر الشخص أو الأشخاص فهذا نريد.
وأما القسم الثاني: وهو الذي يدل على أكثر من واحد فهو كقولنا: الناس والخيل والحمير والثياب والألوان وما أشبه ذلك. فإن كل لفظة مما ذكرنا تدل إذا قلناها على
__________
(1) س: يدري فيه.
(2) س: ولا يعد مما علم.
(3) م: عود.
(4) م: كالكلب.... والرجل.
(5) في هامش س: " اللون " بدلاً من الثوب في خ.(4/106)
أشخاص كثيرة العدد جداً. وقد يقوم مقام هذه الألفاظ أيضاً في اللغة العربية أسماء تقع على الجماعة كما ذكرنا، وتقع أيضاً على الواحد، إلا أن حال المتكلم تبين عن مراده بها كقولك: " الإنسان " فإن هذه لفظة تدل على النوع كله، كقول الله عز وجل: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) فإنما عنى جماعة ولد آدم وتقع أيضاً هذه اللفظة على واحد فتقول: أتاني الإنسان الذي تعرف، وأنت تريد غلامه أو زوجته أو واحداً من الناس بعينه. وكذلك أيضاً في جميع الأنواع فتقول " الفرس " ألا ترى أنك تقول: الفرس صهال، وتقول " الفرس " لفرس واحد بعينه معهود، فإذا أردت رفع الإشكال أتيت بلفظ الجمع الموضوع له خاصةً فقلت: الخيل أو الناس وما أشبه ذلك. فهذا القسم هو الذي قصدنا بالكلام عليه، ولوقوعه على جماعة احتجنا إلى البيان عنه وعليه تكلمنا لا على غيره من الأقسام التي ذكرنا قبل، لفرط الحاجة إلى أن نحد كل شخص واقع تحت هذه اللفظة بصفات توجد في جميعها، ولا توجد في سائر الأشخاص التي لا تقع عليها هذه اللفظة، تميزه مما سواه، فإنك تقدر أن تأتي بصفات توجد في كل ما يسمى جملاً لا يخلو منها جمل أصلاً ولا توجد البتة [7 و] فيما لا يسمى جملاً، ولست تقدر على أن تأتي بصفات توجد في كل ما يسمى زيداً ولا يخلو زيد منها أصلاً ولا توجد البتة (1) فيمن لا يسمى زيداً. فهذا هو الفرق الذي وعدنا بذكره آنفاً ودعت (2) الضرورة أيضاً إلى طلب هذه الفروق لاختلاف الأسماء في اللغات العربية والعجمية (3) فاحتجنا إلى تقرير الصفات التي تتميز بها المسميات إذ المعاني في جميع اللغات واحدة لا تختلف وإنما تختلف الأسماء فقط. وأيضاً فإن اللغة إما أن تضيق عن أن توقع على كل نوع اسماً تفرده (4) به. وإما أنه لم يتهيأ ذلك للناس بالاتفاق أو لما الله عز وجل أعلم به (5) . وأكثر ذلك
__________
(1) فيمن لا يسمى جملاً.... البتة: سقط من س.
(2) م: ودفعت.
(3) م: والأعجمية.
(4) س: تفرده (دون إعجام التاء)
(5) م: به أعلم.(4/107)
في الكيفيات فإنك تجد صفرة النرجس صفرة، وصفرة المشمش صفرة، وصفرة الخيري صفرة، وصفرة الذهب صفرة، وهذه كلها ظاهرة التباين للعين وليس لكل واحد منها اسم يخصه يبين به مرادنا منها. وكذلك أيضاً كثير من أنواع الحيوان كالمتولد في مناقع المياه وعفن الرطوبات من أنواع الحشرات التي لا نعلم لها أسماء تخصها والاختلاف بين صفاتها مرئي معلوم، فلا بد من طلب صفات مفرقة يقع بها البيان لما نريده منها، إن شاء الله عز وجل، لا إله إلا هو (1) .
2 - باب الكلام على الأسماء التي تقع على جماعة أشخاص
ثم (2) نظرنا إلى هذا القسم الذي قصدنا الكلام عليه فوجدناه ينقسم (3) قسمين: أحدهما دال على جماعة أشخاص (4) دلالةً لا تفارقها البتة، ولا ترتفع عنها إلا يفسادها، وهذا القسم سماه الفيلسوف " ذاتياً " وشبهه بجزء من أجزاء ما هو فيه للزومه إياه، ونحن نقول إنه الزم لما هو فيه من الجزء لسائر أجزائه. فإن الجزء قد يذهب وتبقى سائر الأجزاء بحسبها كيد الإنسان فإنها تقطع ويبقى إنساناً بحسبه. وهذا اللفظ إن ذهبت الصفات التي من أجلها استحق الشيء المسمى أن يسمى بهذا الاسم بطل المسمى به جملة على ما نبينه بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. والقسم الثاني دال على جماعة أشخاص دلالة قد تفارق ما هي فيه أو تتوهم مفارقتها له ولا يفسد بمفارقتها إياه. وهذا القسم سماه الفيلسوف " غيرياً " للدليل الذي ذكرنا فيه.
ثم نظرنا إلى القسم الأول الذي قلنا إنه يسمى ذاتياً فوجدناه ينقسم ثلاثة أقسام: إما أن يكون لفظ يسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأشخاصها وبأنواعها، ويجاب بذلك من سأل فقال: " ما هذا الشيء " فاتفقنا على أن سمنا هذا اللفظ " جنساً "؛ وإما أن يكون لفظ تسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأشخاصها لا
__________
(1) لا إله إلا هو: لم يرد في م.
(2) س: قد.
(3) ينقسم: سقطت من س.
(4) س: الأشخاص.(4/108)
بأنواعها، ويجاب بذلك من سأل فقال: " ما هذا من الجملة التي سميت " فاتفقنا على أن سمينا هذا اللفظ " نوعاً "؛ وإما أن يكون لفظ يسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأنواعها وأشخاصها إلا أنه يجاب به من سأل فقال: " أي شيء هذا من الجملة التي سميت " [7 ظ] فاتفقنا على أن سمينا هذا " فصلاً ". وتفسير هذه المعاني يأتي بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
فهذه الثلاثة الأقسام هي ذاتيات كما قدمنا. وبيان ذلك أن تقول: ما هذا الشيء (1) فيقال لك جسم؛ فتقول: أي الأجسام هو فيقال لك: النامي (2) ؛ فتقول أي النماة هو فيقال لك: ذو السعف والخوص والورق والجريد المستطيل (3) والثمرة التي تسمى تمراً. فالجسم: جنس، والنامي: نوع، وقولك: ذو السعف والخوص والجريد: فصل؛ وأنت أسقطت الصفات التي ذكرنا، التي من أجلها استحقت تلك الأشخاص أن تسمى بالأسماء التي ذكرنا، وتوهمت معانيها معدومة، سقطت عنها تلك الأسماء البتة، فلهذا سميت ذاتية.
ثم نظرنا إلى القسم الثاني الذي ذكرنا أنه يسمى غيرياً (4) فوجدناه ينقسم قسمين: إما لفظ يدل على كثيرين (5) مختلفين بأنواعهم في جواب " أي " فيكون ذلك (6) " عرضاً عاماً " وإما لفظ يدل على كثيرين مختلفين بأشخاصهم (7) في جواب " أي " فيكون ذلك " عرضاً خاصاً ".
واعلم أن اللغة العربية لم تمكن العبارة فيها بأكثر مما ترى. على أن السؤال ب " ما " والسؤال ب " أي " قد يستويان (8) في اللغة العربية وينوب كل واحد من هذين اللفظين
__________
(1) س: ما هذا.
(2) م: نامي.
(3) والورق والجريد المستطيل: والعراجين في م.
(4) في هامش س: صوابه " عرضياً ".
(5) م: كثير.
(6) ذلك: سقطت من س.
(7) في جواب أي: سقط من م.
(8) م: يستوي.(4/109)
عن صاحبه ويقعان بمعنى واحد، ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنين اللذين قصدنا في الاستفهام، فإن لفظ الاستفهام فيها عن العام غير لفظ الاستفهام عن أبعاض ذلك العام ببيان لا يخيل على سامعه أصلاً.
3 - باب الكلام في تفسير ألفاظ اندرجت لنا في الباب الذي قبل هذا الذي نبدأ به
ذكرنا في الباب الذي قبل هذا أشياء تختلف بأنواعها وأشخاصها، وأشياء تختلف بأشخاصها فقط دون أنواعها، ومثال ذلك أننا نقول في الذاتية: حيوان، فيدلنا على الإنسان والفرس وغير ذلك. وهذه أشياء تختلف بالأنواع والأشخاص معاً، فإن الإنسان يخالف الفرس بشخصه في أنه غيره، ويخالفه أيضاً بصفات شخصه؛ ونقول: فرس زيد، وفرس عمرو (1) فهذان إنما يختلفان بالشخص فقط، أي أن هذا غير هذا، وإلا فهذا فرس وهذا فرس، وهما متفقان في الصفات التي بها استحق كل واحد منهما أن يسمى فرساً؛ وكذلك الدينار والدينار، والدرهم (2) والدرهم، وهكذا سائر الأشياء. وكذلك نقول في الغيرية: أبيض وأبيض ونعني الإنسان أبيض (3) ، والثوب أبيض، والحائط أبيض، وهذه كلها مختلفة بأنواعها (4) وأشخاص في أن كل واحد منها غير الآخر. وتختلف أيضاً بصفاتها في أن (5) أحدها لحم ودم والثاني كتان محوك والثالث [8 و] تراب وماء وجص. ونقول ضحاك وضحاك فإنما يختلفان بالشخص في أن هذا غير هذا. وأما سائر الصفات التي بها استحقا اسم الإنسانية فهما فيهما متفقان، فهذه جملة كافية تفرح أكثر الغم في الجهل بالمراد بهذا اللفظ الذي تقدم قبل؛ وبقي تفسير كثير يأتي بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
4 - باب الكلام في الحد والرسم وجمل الموجودات وتفسير الوضع والحمل
هذا باب ينبغي ضبطه جداً كالمفتاح لما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) م: خالد.... زيد.
(2) م: والدينار.
(3) م: الأبيض (وكذلك فيما يلي) .
(4) بأنواعها: سقطت من م.
(5) في أن: فإن م.(4/110)
اعلم أنه لا موجود أصلاً ولا حقيقة البتة إلا الخالق وخلقه فقط، ولا سبيل إلى ثالث أصلاً. فالخالق واحد أول لم يزل. وأما الخلق فكثير. ثم نقول: أما الخلق فينقسم قسمين لا ثالث لهما أصلاً: شيء يقوم بنفسه ويحمل غيره، فاتفقنا على أن سميناه " جوهراً " (1) ؛ وشيء لا يقوم بنفسه ولا بد من أن يحمله غيره فاتفقنا على أن سميناه " عرضاً ". فالجوهر هو جرم الحجر والحائط والعود وكل جرم في العالم. والعرض هو طوله وعرضه ولونه وحركته وشكله وسائر صفاته التي هي محمولة في الجرم. فإنك ترى البلحة (2) خضراء ثم تصير حمراء ثم تصير صفراء والحمرة غير الخضرة وغير الصفرة، والعين التي تتصرف عليها (3) هذه الألوان واحدة تنتقل فتصير جسماً آخر. وكذلك ترى الذهب زبرة، ثم يصير سبيكة ثم يصير ديناراً منقوشاً والجسم في كل ذلك هو نفسه. وكذلك ترى الإنسان مضطجعاً ثم راكعاً ثم (4) قائماً ثم قاعداً وهو في كل ذلك واحد لم يتبدل، وأعراضه متبدلة متغايرة، تذهب (5) وتحدث. ولا بد لكل ما ذكرنا من قسمي الخلق من صفات محمولة فيه أو معنى يوجد له يمتاز بذلك مما سواه ويجب من أجله الفرق بين الأسماء.
وأما الخالق عز وجل، فليس حاملاً ولا محمولاً بوجه من الوجوه وقد أحكمنا هذا المعنى في مكان غير هذا، والحمد لله رب العالمين على توفيقه إيانا.
ثم نرجع فنقول: إن الصفات أو المعاني التي ذكرنا أنه لا بد لكل ما دون الخالق تعالى منها، فإنها تنقسم قسمين: إما دالة على طبيعة ما هي فيه مميزة له مما سواه، فاتفقنا على أن سميناها (6) " حداً "؛ وإما مميزة له مما سواه وهي غير دالة على طبيعة، فاتفقنا على أن سميناها " رسماً ". ونقول: إن المحارجة (7) في الأسماء لا معنى لهان وإنما
__________
(1) إزاء كلمة " جوهر " وكلمة " عرض " في هامش س تعريف لهما. قال كاتبه: " وما في باطن الكتاب من كلام الشيخ على الجوهر والعرض قد خالف فيه كافة المحققين ".
(2) كلمة البلحة كتبت فوق كلمة " النخلة " في س.
(3) س: عليه.
(4) ثم: سقطت من س.
(5) قبل كلمة " تذهب " في س وقعت لفظة " فصفة ".
(6) م: سمينا هذا.
(7) س: المحارحة؛ م: المخارجة.(4/111)
يشتغل بذلك أهل الهذر والنوك والجهل؛ وإنما غرضنا منها الفرق بين المسميات، وما يقع به إفهام بعضنا بعضاً فقط. فقد أرسل الله تعالى رسلاً بلغات شتى، والمراد بها معنى واحد، [8 ظ] فصح أن الغرض إنما هو التفاهم فقط، ولا بد لكل ما دون الخالق تعالى من أن يكون مرسوماً ومحدوداً (1) ضرورة، لأنه لا بد أن يوجد له معنى يميز به طبعه مما سواه، عرضاً كان أو جوهراً (2) . وقد سمى المتقدمون الاسم في هذا المكان " موضوعاً "، فإذا سمعتهم يقولون " الموضوع " فإنما يعنون الاسم المراد بيانه بالرسم أو بالحد، فكل محدود مرسوم وليس كل مرسوم محدوداً، لأن كل حد فهو تمييز للمحدود مما سواه، وكل رسم فهو تمييز للمرسوم (3) مما سواه؛ فكل حد رسم وبعض الرسم حد، وليس كل رسم لطبيعة المرسوم ولا مبيناً لها (4) ، وكل حد فهو مميز لطبيعة المحدود ومبين لها (5) ، فليس كل رسم حداً فالرسم أعم من الحد.
فالرسم المطلق الكلي (6) ينقسم قسمين: قسم يميز طبيعة المرسوم فهو رسم وحد، وقسم لا يميزها فهو رسم لا حد. وعبر الأوائل عن الحد بأنه: " قول وجيز دال على طبيعة الموضوع مميز له من غيره "، وعبرت عن الرسم بأنه: " قول وجيز مميز للموضوع من غيره ". والحد محمول في المحدود والرسم محمول في المرسوم، لأن كل واحد منهما صفات ما هو فيه. فإذا كان التمييز مأخوذاً من جنس الشيء المراد تمييزه ومن فصوله كان حداً ورسماً، وإذا كان مأخوذاً من خواصه وأعراضه كان رسماً لا حداً.
قال أبو محمد (7) : هذه عبارة المترجمين وفيها تخليط لأنهم قطعوا على أن الرسم ليس مأخوذاً من الأجناس والفصول، وأنه إنما هو مأخوذ من الأعراض [والخواص] . ثم لم يلبثوا أن تناقضوا فقالوا: إن كل حد رسم، فأجبوا أن الحد مأخوذ من الأعراض وأن بعض الرسم مأخوذ من الفصول، وهذا ضد ما قالوه قبل. وأيضاً فإنهم قالوا: إن
__________
(1) س: ومحدوده.
(2) لأنه لا بد.... جوهراً: سقط في م.
(3) س: المرسوم.
(4) لها: سقطت من م.
(5) س: ومميز.
(6) المطلق الكلي: سقط من س.
(7) س: قال الشيخ؛ وهذه الفقرة متقدمة عن موضعها في س.(4/112)
الرسم غير الحد، ثم قطعوا أن الحد هو بعض الرسم، وهذا [تناقض] كما ترى. لكن الصواب أن نقول: إن كل مميز شيئاً عن شيء فهو إما أن يميزه بتمييز يؤخذ من فصول ومن أجناس، فيكون حداً منبئاً عن طبيعة الشيء، مميزاً له مما سواه أو يميزه بتمييز يؤخذ من أعراض وخواصه، فيكون مميزاً للشيء مما سواه فقط، غير منبئ عن طبيعته، فيكون التمييز رأساً جامعاً، ينقسم إلى نوعين: إما حد وإما رسم.
وهذا فإنما هو بيان لمعنى لفظة الحد ولفظة الرسم فقط، لا أن الحد يحتاج إلى حد، ولو كان ذلك لوجب وجود محدودات لا نهاية لها، وهذا محال ممتنع باطل.
وإنما يشغب علينا في هذا المكان أحد رجلين: إما مشغب لا يستحيي من إنكار ما يعلم [9 و] صحته فيسعى في إبطال الحدود عن المحدودات، وإما ملحد ساع في إثبات أزلية العالم، وكل لا يعبأ به، لأنه دافع مشاهدة، ولله الحمد. وقد بينا أن الحد إنما هو صفات ما متيقنه في أشياء ومتيقن عدمها في أشياء أخر، فتصف كلاً بما فيه. فمن أنكر هذا فقد أنكر الحس والعيان وخرج من حد من يشتغل به.
فالحد هو نحو (1) قولنا في الإنسان: إنه الجسد القابل للون، ذو النفس الناطقة الحية الميتة. فإن الحي جنس للنفس، أي نفس كانت؛ وسائر ما ذكرنا فصول لها من سائر النفوس الحيوانية. فهذا هو الحد كما ترى. والرسم مثل قولك (2) في الإنسان: إنه هو الضحاك أو الباكيز فهو كما ترى مميز للإنسان مما سواه، وليس منبئاً عن طبيعته التي هي قبول الحياة والموت. والحد مبين ذلك. وحكم الحد أن يكون مساوياً للمحدود. ومعنى ذلك أن يقتضي لفظه إذا ذكر، جميع المراد فلا يشذ عنه شيء مما أردت أن تحده، ولا يدخل فيه ما ليس منه. فإن زدت في الحد لفظاً، فإن كان الذي زدت لفظاً يقع على معاني أكثر من معاني المحدود أو مثلها، بقي المحدود بحسبه، كقولنا في حد نفس الإنسان: إنها حي ناطق ميت جوهر حساس ضحاك بكاء مشرق في جسد يقبل الألوان منتصب القامة ونحو هذا. فالمحدود حتى الآن صحيح
__________
(1) نحو: سقطت من س.
(2) س: قوله.(4/113)
الرتبة لأن كل نفس لكل إنسان فهذه صفاتها. وإن كان الذي زدت لفظاً يقتضي معاني أقل من معاني المحدود، كان ذلك نقصاناً من المحدود، كقولك في نفس الإنسان: إنها حية ناطقة ميتة حائكة أو تقول: طبيبة أو كاتبة، فإن هذا إنما هو حد لبعض نفوس الناس لا لجميعها، إذ ليس كل إنسان كاتباً ولا طبيباً ولا حائكاً. وأما إذا أنقصت من الحد الذي لا فضلة فيه، نعنى لا زيادة فيه على مقدار الكفاية في الحد، فإنه زيادة في المحدود كقولك في نفس الإنسان: إنها حية ناطقة فإن الملك والجني يدخلان تحت هذا الحد.
واتفق الأوائل على أن سموا المخبر عنه موضوعاً، وعلى أن سموا ذكرك لمن تريد أن تخبر عنه وضعاً، واتفقوا على أن سموا الخبر " محمولاً " وكون الصفة في الموصوف " حملاً "؛ فما كان ذاتياً من الصفات كما قدمنا قيل فيه: هذا " حمل جوهري "، وما كان غيريا قيل: هذا " حمل عرضي " وكل هذا اصطلاح على ألفاظٍ يسيرة ستجمع تحتها معاني كثيرة، ليقرب الإفهام. فإذا قلت: زيد منطلق، فزيد موضوع، ومنطلق (1) محمول على زيدٍ، أي هو وصف له. وهذا يسميه النحويون الابتداء والخبر إذا جاء على هذه الرتبة. فإذا سمعت الموضوع والمحمول فإنما تريد المخبر عنه والخبر عنه فاعلم، والله أعلم.
5 - باب الكلام على الجنس
ذكر الأوائل قسماً في الجنس لا معنى له، وهو: كتميم لبني تميم، والبصرة لأهلها، والوزارة لكل وزير [9 ظ] ، والصناعة لأهلها، وهذا غير محصور ولا منضبط فلا وجه للاشتغال به. وإنما نقصد بكلامنا الجنس الذي ذكرنا أولاً وهو: اللفظ الجامع لنوعين من المخلوقات فصاعداً وليس يدل على شخص واحد بعينه كزيد وعمرو، ولا على جماعة مختلفين بأشخاصهم فقط كقولك (2) : الناس، أو كقولك (3) الإبل، أو كقولك الفيلة، لكن على جماعة تختلف بأشخاصهم
__________
(1) س: منطلق.
(2) س: كقوله.
(3) س: كقوله.(4/114)
وأنواعهم كقولك " الحي " الذي يدل على الخيل والناس والملائكة وكل حي. والجنس الذي نتكلم عليه ليس يقع على بعض ما يقتضيه الحد، لكن على كل ما يقع عليه الحد، والجنس لا يفارق ما تقع عليه التسمية به إلا بفساد المسمى واستحالته. وذلك مثل قولك " الجوهر " فإن هذه اللفظة يسمى بها كل قائم بنفسه حامل (1) لغيره، فلا يمكن أن يوجد شيء قائم بنفسه حامل لغيره لا يسمى جوهراً، ولا يمكن أن يوجد جوهر لا يكون قائماً بنفسه حاملاً لغيره. ولو أنك توهمت هذا الشيء غير قائم بنفسه، لبطل أن يسمى جوهراً. وأما البلدة فقد ينتقل عنها الإنسان إلى غيرها ويبقى إنساناً بحسبه. وكذلك الخطة والصناعة والتجارة. وأما بنو تميم فقد نجد ناساً كثيراً ليسوا من بني تميم، فليس شيء من هذه الوجوه جنساً.
6 - باب الكلام على النوع
سمى الأوائل النوع في بعض المواضع اسماً آخر وهو " الصورة " وأرى هذا اتباعاً للغة يونان، فربما كان هذا الاسم عندهم، أعنى الذي يترجم عنه في اللغة العربية بالصورة، واقعاً على النوع المطلق، ولا معنى لأن نشتغل بهذا إذ لا (2) فائدة فيه. وإنما نقصد بالنوع إلى أن نسمي كل جماعة متفقة في حدها أو رسمها مختلفة بأشخاصها فقط، كقولك (3) : الملائكة والناس والجن (4) والنجوم والنخل والتفاح والخيل والجراد والسواد والبياض والقيام والقعود وما أشبه ذلك كله. والنوع واقع تحت الجنس لأنه بعضه. وقد يجمع الجنس أنواعاً كثيرة يقع اسمه نعني اسم الجنس على كل نوع منها، ويوجد حده في جميعها وتتباين هي تحته بصفات يختص بها كل نوع منها (5) دون الآخر. وذلك أنك تقول: حي فيقع تحت هذه التسمية الناس والخيل والبغال والأسد وسائر الحيوانات، فإذا حددت الحي فقلت: هو الحساس المتحرك بإرادة كان هذا الحد أيضاً جامعاً لكل ما ذكرنا وموجوداً في جميعها، وكان كل نوع مما
__________
(1) س: حاملاً.
(2) إذ لا: فلا في م.
(3) م: كقولنا.
(4) والجن: سقطت من م.
(5) منها: سقطت من م.(4/115)
ذكرنا يختص بصفة دون سائرها، كالنطق والصهيل والشحيج والزئير وغير ذلك. فالحي جنس وكل ما ذكرنا أنواع تحتهن أي أن الحي يجمعها، وهي أبعاضه، وهي مختلفة تحته كما قدمنا [10 و] .
وها هنا رتبة عجيبة وهي أن المبدأ في التقسيم للعالم جنس لا يكون نوعاً البتة، كالجوهر فإنه يسمى به الحجارة والشجر والنبات والحيوان، كل ذلك أوله عن آخره جوهر، والجوهر مبدأ ليس فوقه جنس يقع تحت اسمه الجوهر وغير الجوهر. والوقف في تقسيم العالم نوع لا يكون جنساً البتة كالناس والخيل والنمور والياقوت والعنب وما أشبه ذلك؛ فإنه ليس تحت كل اسم من هذه الأسماء إلا أشخاصه فقط كزيد وعمرو وهند، وكل (1) فرس على حدته، وكل ياقوتة على حدتها، وكل عنبة على حدتها. ولا تغتر (2) بأن تكون أيضاً أوصاف تجمع بعض الناس دون بعض كالسود والبيض والفطس والطوال والقصار، وكذلك في كل نوع، فإنما هذه أصناف وأقسام. والطبيعة في كل واحد منهم واحدة، وحد كل واحد منهم واحد جامع لجميعهم، وليس كذلك حد الأنواع، بل لكل نوع حد على حدة لا يشاركه فيه نوع آخر البتة، وبين هذين الطرفين أشياء تكون نوعاً وجنساً كالنامي فإنه نوع للجوهر لأن من (3) الجوهر نامياً وغير نام، والنامي أيضاً جنس لذي النفس الحية الميتة، ولغير ذي النفس، لأن الشجر والنبات وجسم الإنسان وسائر الحيوان القابل للموت نوام (4) كلها، واسم النامي يقع على جميعها ويعمها.
واتفق الأوائل على أن سموا الجنس الأول جنس الأجناس نعني الذي لا جنس فوقه، وهو الذي لا يكون نوعاً أصلاً. واتفقوا على أن سموا النوع الآخر نوع الأنواع، وهو الذي قلنا إن فيه الوقف وإنه لا يكون جنساً البتة، وإنه لا نوع تحته، وليس تحته شيء غير أشخاصه فقط. وهذا النوع هو الذي يعبر عنه بأنه يلي الأشخاص. وأما سائر الأنواع التي ذكرنا أنها بين الطرفين وأنها أنواع وأجناس فإنها ليست تلي
__________
(1) م: وككل.
(2) تغتر: غير معجمة في م؛ س: صورة قد تقرأ، يعتبر.
(3) من: سقطت من س.
(4) س: نوامي.(4/116)
الأشخاص في الرتبة، لأن بينها وبين الأشخاص أنواعاً أخر، كقولك: " الناس " فإن هذه اللفظة بين قولك " الحي " وبين: زيد وعمرو. فاستبان ولله الحمد أن الجنس ينقسم قسمين: جنس لا يكون نوعاً البتة (1) وهو المبدأ أعني الجوهر (2) ، وجنس قد يكون نوعاً؛ واستبان (3) أن النوع ينقسم قسمين: نوع لا يكون جنساً وهو الذي فيه الوقف في القسمة، كأشخاص الناس أو الخيل (4) ، ونوع قد يكون جنساً وهو (5) في الحقيقة (6) ثلاثة أقسام: القسم الواحد جنس محض، والقسم الثاني نوع محض، والقسم الثالث جنس من وجه ونوع من وجه آخر، فهو جنس لما تحته لأنه عام له، ونوع لما فوقه لأنه معموم به. وقد عبر بعضهم بأن قال إنما هو (7) نوع لما تحته أي جامع له، ولم يعبر أحد بأن يقول إنه جنس [10ظ] لما فوقه. وإنما ذكرت لك هذا لئلا تراه فيشكل عليك. والصواب ما ذكرنا أولاً من أنه نوع لما فوقه من الأجناس، وجنس لما تحته من الأنواع، لأنك إذا أضفته إلى ما فوقه فالأحسن أن تسميه باسم غير الذي تسميه به إذا أضفته إلى ما تحته، ليلوح الفرق بين اختلاف إضافيته. وأما نوع الأنواع الذي ذكرنا فلا يجوز أن نسميه جنساً أصلاً لأن الجنس إنما يسمى به ما يجمع نوعين فصاعداً لا الذي يلي الأشخاص فقط.
7 - باب جامع للكلام في الأجناس والأنواع معاً
أجناس الأجناس التي لا تكون نوعاً أصلاً وهي أوائل في قسمة العالم: ذكر المتقدمون أنها عشرة ثم حققوا فقالوا: إن الأصول منها أربعة، فالعشرة هي: الجوهر، والكم، والكيف، والإضافة، والمتى، والأين، والنصبة، والملك، والفاعل والمنفعل. والأربعة التي حققوا أنها رؤؤس المباديء وأوائل القسمة: الجوهر
__________
(1) البتة: سقطت من س.
(2) أعني الجوهر، لم ترد في م.
(3) س: فاستبان.
(4) كأشخاص ... الخيل: سقط من م.
(5) س م: وهي.
(6) الحقيقة: سقطت من س.
(7) إنما هو: إنه في م.(4/117)
والكم والكيف والإضافة. وأما الست البواقي فمركبات من الأربع المذكورة، أي من ضم بعضها إلى بعض على ما يقع في أبوابها، إن شاء الله عز وجل.
واعلم أن الجوهر وحده من جملة الأسماء التي ذكرنا - قائم بنفسه وحامل لسائرها، والتسعة الباقية (1) محمولات في الجوهر وأعراض له وغير قائمات بأنفسها. فإن قال قائل: هلا جعلت شيئاً أو موجوداً أو مثبتاً أو حقاً، جنساً جامعاً لهذه الأسماء العشرة، لأن جميعها موجود ومثبت وحق وشيء، قيل له وبالله تعالى التوفيق: قد قدمنا أن الجنس منه يؤخذ (2) حد كل ما تحته وأن الحد ينبئ (3) عن طبيعة المحدود، فوجب أن الجنس فيه إنباء عن طبيعة كل ما تحته. والطبيعة هي قوة في الشيء توجد (4) بها كيفياته على ما هي عليه. فما لم يكن منبئاً عن طبيعة ما تحت اسمه فليس جنساً. فلما كانت لفظة شيء وموجود ومثبت وحق (5) لا تنبيء عن طبيعة كل ماوقعت عليه، ولم يكن فيها أكثر من أنه ليس باطلاً ولا معدوماً فقط، وجب أن لا يكون شيء من هذه الألفاظ جنساً لما سمي به. وأما لفظة معلوم فقد تقع على الموجود والمعدوم والحق والباطل لأن الباطل معلوم أنه باطل، والمعدوم معلوم أنه معدوم، فليس أيضاً جنساً لما قدمنا، ولأنه كان يجب أن يكون الباطل والحق تحت جنس واحد وهذا محال شنيع. وأيضاً فإن وجودنا بعض هذه الرؤوس مخالف لوجودنا سائرها [11و] فبعضها تجدها النفس بالحواس الأربع المؤديات (6) لصفات محسوساتها إلى النفس الحساسة، غير قائمة بأنفسها، وبعضها تجدها النفس بمجرد العقل، غير قائمة بأنفسها، كوجود (7) العدد والزمان والإضافة، وبعضها تجدها النفس بتوسط العقل والحواس معاً قائماً بنفسه كالجوهر، وقد تجد النفس أيضاً بمجرد العقل وبتدرج من
__________
(1) م: والتسع البواقي.
(2) م: يؤخذ منه.
(3) م: متنبئ.
(4) س: يوجد؛ م: تجري.
(5) م: وحق مثبت.
(6) س: الأربعة؛ م: المؤدية.
(7) م: كوجودنا.(4/118)
وجودها هذه العشرة (1) موجوداً حقاً غير موصوف بشيء من صفات هذه العشرة (2) وهو الأول الواحد الخالق الذي لم يزل لا إله إلا هو. وكل ما يقع تحت جنس واحد فلا يكون وجوده إلا على صفة واحدة جامعة لجميعه، أي بحد واحد جامع لكل ما تحت الجنس، أو بخاصة واحدة جامعة لكل ما تحت الجنس، على ما نبين في باب كل رأس من العشرة المذكورة، وخواص الرؤوس المحققة من هذه العشر مختلفة فوجب أن لا تكون كلها تحت جنس واحد، فوجب أن لا يكون موجود جنساً لهذه العشرة البتة. والقول في مثبت كالقول في موجود ولا فرق. وأما لفظة حق وشيء فبعض هذه العشرة إنما هو حق بنفسه، وهو الجوهر، وكذلك هو أيضاً شيء بنفسه، وسائرها إنما هي حق بغيرها وشيء بغيرها (3) ، لأنها إنما تحققت بالجوهر، وبه صارت أشياء، ولولا الجوهر لم تكن حقاً ولا شيئاً. وكل ما يقع تحت جنس فطبيعته واحدة لا مختلفة، وهذه الأشياء طبائعها مختلفة كما ترى، فوجب أن لا يكون حق وشيء جنساً لها، إذ إنما يكون إيقاع (4) أسماء الأجناس على ما تحتها على حسب اتفاقها في طبائعها، واتفاقها في حدودها، واتفاقها في فصولها فيوجب ذلك اتفاق أسمائها، وبحسب اختلافها في الطبائع تختلف فصولها وحدودها فتختلف أسماء أجناسها لذلك.
واعلم أن موجوداً وحقاً ومثبتاً وشيئاً (5) واقعة على كل ما تقع عليه وقوع الأسماء المشتركة، على ما نبين في باب وقوع الأسماء على المسميات. فإن قال قائل (6) : فهلا جعلتم قولكم " عرضاً " جنساً للتسع الباقية دون الجوهر قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إن كون هذه التسع المسميات عرضاًكون مختلف، وحمل الجوهر لها حمل مختلف، لأن بعضها محمول في شخصه (7) وعرض فيه كالكيفيات، وبعضها
__________
(1) زاد بهامش س: إلى معرفة ما هو.
(2) س: العشر (كذلك في ما يلي) .
(3) وشيء بغيرها: سقط من م.
(4) إيقاع: سقطت من م.
(5) وردت هذه الألفاظ مرفوعة في م، وهو صواب كذلك.
(6) قائل: سقطت من م.
(7) م: جرمه.(4/119)
محمول في طبيعته وعرض فيها كالعدد والزمان، وبعضها عرض له من قبل غيره، ومحمول في طبيعته بطبيعة غيره، كالإضافة. وقد قدمنا أن الجنس منبئ عن طبيعة ما تحته، وهذه التي ذكرنا طبائعها في كونها عرضاً مختلفة ورسومها مختلفة فبطل أن يكون [11ظ] عرض جنساً لها، فمن نازعنا من أهل السخف والسفسطة وقال: أنا أريد أن أسمي جنساً كل اسم عبر به عن كثير وجماعة، ولا أبالي باتفاق طبائعها تحت ذلك الاسم أو باختلافها، قلنا له: لسنا ننازعك ولا ننفق معك الساعات في ما لا فائدة فيه، إلا أننا نقول لك قولين كافيين لمن عقل ولم يرد الشغب، فنقول: إن عزمت على ما ذكرت وكنت موحداً، فاعلم أنك قد أوقعت الله عز وجل تحت الأجناس، لأنه تعالى موجود وحق ومثبت. فإذا أوقعته تحت جنس فقد جعلته محدوداً ضرورة، إذ كل ما وقع تحت جنس فمحدود، تعالى الله عن ذلك. والقول الثاني أنا نقول له (1) : لسنا ننازعك في الجيم والنون والسين فإن بدا لك أن تسمى يدك أو رجلك أو ضرسك جنساً فلا مانع لك من ذلك إلا أنك تحتاج إلى من يوافقك على التخاطب بهذه اللغة التي أحدثتها، وحسبنا أن نقف عند طاعتك في اسم توافقنا عليه، نتفق على إيقاعه على كل جماعة تجمعها طبيعة واحدة تقوم منه فصولها، وتوجد منه حدودها، ويوجد أيضاً تحته (2) كثيرون مختلفون بأنواعهم، لنتفاهم به مرادنا، فإن أبيت من ذلك ولم توقع ما دون الخالق تعالى تحت حدود، فإنك واقع تحت المجاهرة بمكابرة العقل والحواس، لأنك ترى ضرورة أشياء تتفق في صفة واحدة، وأشياء أخر تخالفها في تلك الصفة وتتفق في صفة أخرى، وهذا هو معنى الحد لأن كل صفة تحد ما هي فيه دون ما ليست فيه، لا يدفع هذا إلا مجنون أو من هو في أسوأ من حال المجنون لقصده إبطال الحقائق وتلبيس المعارف وإثبات الأشكال. ومن بلغ هاهنا ترك الكلام معه، إذ غايتنا ممن يكلم أن ينصرف إلى الحق أو يلحق بالذين لا تجري أحكام العقل عليهم، مع أن هذا كفر من معتقده، إن كان ممن يسم نفسه بالإيمان؛ وبالله تعالى نعوذ من الضلال وما دعا إليه.
__________
(1) س: والقول الثاني نقول.
(2) م: تحته أيضاً.(4/120)
وبهذا نكلم أيضاً من قال: هلا سميتم نوعاً ما سميتم جنساً ما سميتم نوعاً، فإني قد شاهدت من يسأل هذا السؤال الأحمق.
واعلم أن الجوهر وحده دون سائر الأشياء التي ذكرنا موجود بنفسه وسائرها متداول عليه، وكلها موجود به لا سبيل إلى أن توجد دونه البتة، والجوهر وإن كان لا يوجد دونها أيضاً البتة، فقد يوجد دون بعضها، ولا سبيل إلى أن يوجد شيء منها دون جوهر البتة، إلا أن الجوهر محسوس بالعقل فقط، وليس مرئياً ولا مذوقاً ولا ملموساً ولا مشموماً وإنما نرى الألوان، فإذا عدم اللون لم نر شيئاً كالهواء المتحرك، وهو الريح فإنه يحس باللمس، وينطح [12و] الأجسام العظام فيسقطها وهو غير مرئي لأنه لا لون له، والجن (1) كذلك، وقد أخبرنا الصادق، عليه السلام، عن الله (2) عز وجل، أنهم يروننا من حيث لا نراهم، ونحن ذوو ألوان وهم غير ذوي ألوان، وكذلك أيضاً لا نشم الحجر لأنه لا رائحة له، وإنما نشم (3) الرائحة على حسب اختلافها وكذلك أيضاً لا يذاق الحجر فإنه لا طعم له وإنما تذاق الطعوم على حسب اختلافها، وإنما تلمس المجسة من الخشونة أو اللين أو الاملاس أو الصلابة أو التهيل، وقد يسمح بعض الجواهر بعرض فيه (4) على ما يقع (5) بعد هذا، إن شاء الله عز وجل. وإنما أوقعنا ما يقع تحت الحواس تحت الكيفية طلباً للاختصار وجمعاً للكثير تحت اسم واحد، ولأنها كلها ترسم برسم واحد، على ما يقع في بابه إن شاء الله. وكل واحد من الرؤوس التي ذكرنا جامع لطبيعة أشياء كثيرة فسمينا كل واحد منها (6) جنس أجناس، وسمينا كثيراً مما يقع تحت كل رأس منها أجناساً أيضاً، إلى أن نبلغ إلى الأنواع المحضة التي تلي الأشخاص.
واعلم أن كل رأس أعلى، ومرادنا بذلك جنس الأجناس، وكل ما تحته مما
__________
(1) م: والجني.
(2) م: الخالق.
(3) م: يشم ... تشم.
(4) بعرض فيه: سقطت من م.
(5) يقع: يأتي، في س.
(6) منها: سقطت من س.(4/121)
يسمى جنساً أو نوعاً فإن كل ما يقع تحته يسمى باسم الرأس الذي هو أعلى منه، ويحد (1) بحده، فإن نفس الإنسان تسمى جوهراً وتسمى حية وترسم برسم الجوهر وتحد بحد الحي وكذلك جسد الإنسان يسمى نامياً وجوهراً وجسماً ويحد ويرسم بحد كل واحد من هذه الأسماء ورسمها (2) .
واعلم أنه لا يسمى الرأس (3) الأعلى باسم ما تحته ولا يحد بحده. والمتقدمون يعبرون في هذا المكان بأن يقولوا: " الأعلى يقال على الأسفل والأسفل لا يقال على الأعلى " وإنما كان ذلك لأن الأسفل موجود في الرأس الأعلى هو وغيره مما هو واقع تحت الرأس الأعلى، فلو سميت الرأس الأعلى باسم بعض (4) ما يقع تحته لكنت قد نقصته بعض صفاته. ألا ترى كل نامٍ (5) جسم فلو سميت الجسم المطلق نامياً، لكنت مخطئاً كاذباً، لأن الحجر جسم وليس الحجر نامياً، فكان يجب من قولك أن يكون الحجر نامياً (6) وهذا محال. وأنت إذا سميت النامي جسماً كنت مصيباً، وزيد يسمى إنساناً ويحد بحد الإنسان، ويسمى حياً ويحد بحد الحي، ويسمى جسماً ويرسم برسم الجسم، ولا يسمى الجسم المطلق حياً ولا يحد بحد الحي ولا يسمى أيضاً (7) إنساناً ولا يحد بحد الإنسان، ولا يسمى زيداً ولا يحد بحد زيد. ونعني بالجسم المطلق كل ما يطلق على كل طويل عريض عميق. فالحجر جسم وليس حياً ولا إنساناً ولا زيداً. فالمطلق هو الاسم الكلي الذي يعم كل ما سمي (8) به وقد [12ظ] قدمنا قبل أن الأشياء والمخلوقات تنقسم أقساماً ثلاثة: أجناس وأنواع محضة (9) وأشخاص. فكل ما يسمى جنساً مما لا يكون إلا جنساً محضاً ومما يكون جنساً ونوعاً فإنه محدود عندنا وفي الطبيعة، أي أننا نبدأ فنقول: كل ما دون الخالق عز وجل
__________
(1) س: ونحده.
(2) س: ويحد ويرسم برسم وحد ... الأسماء.
(3) الرأس: سقطت في م.
(4) بعض: سقطت من س.
(5) م س: نامي.
(6) وكان يجب ... نامياً: سقط من س.
(7) أيضاً: سقط من م.
(8) م: يسمى.
(9) محضة: من م وحدها.(4/122)
ينقسم قسمين: جوهر ولا جوهر. فالجوهر هو الجسم في قولنا والجسم هو الجوهر ولا شيء دون الخالق تعالى إلا جسم أو محمول في جسم. وقد أثبت غيرنا جوهراً ليس جسماً وهذا باطل وليس هذا مكان حل الشكوك المعترض بها علينا في هذا القول وقد أحكمناه في مكانه، وبالله التوفيق. والكلام في هذا هو واقع فيما بعد الطبيعة وفي علم التوحيد وقد أثبتناه في كتاب الفصل في الملل والنحل (1) .
وكذلك رسم غيرنا أيضا ًفي حد الإنسان أنه حي ناطق ميت. وهذا الحد لا يخلو من أن يكون أراد به الجسم المركب وحده أو النفس وحدها أو الجسم المركب والنفس معاً، فإن كان (2) أراد الجسم المركب وحده أو النفس وحدها (3) أو الجسم المركب والنفس معاً فذلك خطاْ لأنه أدخل الجسم المركب تحت الحي، والحي إنما هو النفس وحدها، وهي الحساسة المتحركة التي إن بطلت بطل حس الجسم وحركته البتة، وإن كان أراد النفس وحدها فذلك خطأ أيضاً لأنه أدخلها تحت النامي، والنفس ليست نامية وإنما النامي جسمها المركب فقط، وللبراهين على هذا مكان آخر قد ذكرناه في كتاب الفصل (4) أيضاً في باب النفس (5) .
ثم نرجع فنقول: والجوهر منقسم (6) قسمين: حي ولا حي. والحي ينقسم قسمين (7) : نفس ناطقة ونفس غير ناطقة. ولا حي بحياة إلا نفس ولا نفس إلا (8) حية بحياة. وحد الحي ذي الحياة هو الحساس المتحرك بإرادة. فالنفوس (9) الناطقة هي الملائكة وأنفس الأشخاص الخلدية التي أخبرنا الصادق، صلى الله عليه وسلم، أنها في دار النعيم من الحور والولدان وأنفس الأنس وأنفس الجن. وغيرنا يعتقد مكان الأشخاص
__________
(1) الفصل 5: 66.
(2) كان: من م وحدها.
(3) أو النفس وحدها: سقط من م.
(4) الفصل 5: 84.
(5) في باب النفس، سقط من م.
(6) م: ينقسم.
(7) حي ... قسمين: لم يرد في م.
(8) ولا نفس إلا: لم يرد في س.
(9) م: فالنفس.(4/123)
الخلدية التي ذكرنا أن الأجرام العلوية من الكواكب والفلك ذات أنفس حية ناطقة وللكلام في كل (1) هذا الشك مكان غير هذا. والنفس غير الناطقة هي أنفس سائر الحيوان. والنفس الناطقة تنقسم قسمين: ناطقة ميتة وناطقة غير ميتة. فالغير ميتة هي الملائكة وأنفس الأشخاص الخلدية التي ذكرنا، والميتة هي أنفس الإنس والجن. ومعنى قولنا ميتة أي أنها مفارقة لمدرعاتها من الأجسام المركبة من العناصر الأربعة التي ابتدأت بالتشبث بها في عالم الامتحان، لا أنها تعدم أصلاً (2) ولا يبطل حسها وفكرها وتمييزها وحركتها أصلاً. والميتة تنقسم قسمين: ذات جسد [13و] يقبل الألوان (3) ، وهي نفس الإنسان، وذات جسد لا يقبل الألوان (4) وهي نفس الجني. وأما غير الناطقة فترسم بالصهال والنهاق (5) والنباح والشحاج (6) وبغير ذلك من سائر الصفات المحسوسة فيها المفرقة بين أنواعها، وهي أنواع كثيرة تلي الأشخاص بعد. وأما اللاحي نريد القسم الذي هو غير حي فينقسم قسمين: مركب ولا مركب، فالغير مركب هي العناصر الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض والأفلاك التسعة وما فيها من الدراري والكواكب. والأفلاك التسعة هي السماوات السبع التي هي سبع طرائق للدراري والكرسي الذي هو فلك المنازل والعرش الذي هو الفلك الكلي المحيط الذي يدور دورة في كل يوم وليلة الذي ليس فوقه خلاء ولا ملاء والذي هو منتهى جرم العالم وكرته ولا شيء بعده. ومعنى قولنا مركب وغير مركب هو أن المركب ماخلقه الخالق عز وجل من أشياء شتى كأجسام الحيوان والشجر المركبة من العناصر الأربعة. ومعنى قولنا غير مركب وبسيط هو ما خلقه الخالق تعالى من طبيعة واحدة لا من أشياء
__________
(1) م: حل.
(2) أصلاً: سقطت من س.
(3) م: ذات جسد قابل للألوان.
(4) م: وذات جسد لا قابل للألوان.
(5) والنهاق: لم ترد في س.
(6) م: والشحاج والنابح.(4/124)
شتى، وإلا فكل مركب وكل غير (1) مركب فمؤلف من أجزاء كثيرة محتمل للتجزيء والانقسام أبداً. والمركب ينقسم قسمين: نام ولا نامٍ (2) والنامي ينقسم قسمين: ذو نفس ولا ذو نفس. وحد النامي هو ما تغذى بغذاء ينقسم من وسطه إلى طرفيه ويحيله إلى نوعه، فاللا ذو نفس الشجر والنبات وهما قسمان: ذو ساق ولا ذو ساق ثم كل واحد من هذين القسمين ينقسم على أنواع كثيرة تلي الأشخاص بعد. وذو النفس ينقسم قسمين: ذو نفس ناطقة مثل أجساد الإنس والجن وذو نفس لا ناطقة مثل أجساد سائر الحيوان. وذو النفس الناطقة ينقسم قسمين جسم يقبل الألوان وهو جسم الإنسان وجسم لا يقبل الألوان (3) وهو جسد الجن (4) . وذو النفس الغير ناطقة هو أجسام سائر الحيوان وهي أنواع كثيرة جداً تلي الأشخاص بعد وتحد بصفاتها المختصة بها وبفصولها المميزة لطبائعها وبالإضافة إلى أنفسها. فتقول: ذو النفس المفترسة الزآرة، وذو نفس ناهقة وما أشبه ذلك. وهكذا يحد كل نوع من الشجر والنبات بفصوله المميزة لطبائعه وبصفاته المختصة به، وهذا أمر يكثر جداً ويتسع وإنما قصدنا هاهنا الكلام على الجمل.
وغير النامي ينقسم أقساماً كثيرة منها معدنيات [13ظ] كالياقوت والذهب وغير ذلك، ومنها خشبيات وهي أنواع محضة تلي الأشخاص ويحد كل نوع منها بفصوله المميزة لطبيعته مما سواه وبصفاته التي تخصه. فهذه الأجناس محدودة كما ترى عندنا محصورة، ومحدودة في أنفسها محصورة، وهو الذي أردنا بقولنا إنها محدودة في الطبيعة لأننا قد تيقنا أن هذه الأقسام لا زيادة فيها أصلاً وأنها متناهية العدد كما ذكرنا. وأما كل ما هو نوع محض وهي الأنواع التي تلي الأشخاص وهي التي قلنا فيها إنها تسمى أنواع الأنواع فإنها محدودة في الطبيعة غير محدودة عندنا، نعني بذلك أن عدد هذه الأنواع من الحيوان والشجر والنبات والأحجار متناه (5) في ذاته عند
__________
(1) م: وغير.
(2) م س: نامي وى نامي (وكذلك هو حيثما ورد) .
(3) يقبل الألوان: ملون في س.
(4) م: الجني.
(5) س م: متناهي.(4/125)
الباري عز وجل بعدد لا يزيد أبداً ولا ينقص، فنحن على يقين من أنه لا يحدث حيوان لم يحدث بعد، مثل ذي أربع من الجمال يطير أو ذي ثلاثة رؤوس ولا أن الخيل تفنى حتى لا يوجد في العالم فرس وكذلك سائر الأنواع. وقد نبه الرسول عليه السلام على ذلك بقوله: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها " (1) . ففي هذا إخبار أن كل أمة من الأمم لا سبيل إلى إعدامها. وقال تعالى في أنه لا مزيد في الأنواع (2) {وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته} (الأنعام:115) وكذلك قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة: 31) .
برهان ثان: جميع الأنواع محصورة العدد لا زيادة فيها لإدخاله تعالى الكلية فيها والكلية لا تدخل إلا في ذي نهاية (3) ، إلا أننا لا نحيط بأعدادها نحن، فلسنا نحصي أنواع الطير، ولا أنواع الحيوان المائي والبري وسائر الحشرات، وإنما يعلم عددها باريها عز وجل، إلا أنه متناه محصور كما قدمنا. وبرهان ذلك أن ما لا نهاية له فلا يجوز أن يكون شيء أكثر منه، والأشخاص الواقعة تحت الأنواع أكثر من الأنواع، فلما كان ذلك وجب أن الأنواع ليست مما لا نهاية له، وإذا كان ذلك وجب أنها متناهية ضرورة، ولما كانت أنواع الأنواع لا نحيط نحن بها أوجب ذلك علينا أن نتوصل إليها بالأنواع التي تكون أجناساً لنصل إلى علم اتفاقها واختلافها ولذلك لم ننحدر من الأجناس الأول إلى الأنواع المحضة؛ وأما الأشخاص فليست محصورة لا عندنا ولا في الطبيعة، لأننا نجد بالحس الضروري أن أشخاص الناس إذا كان طاعون أو قتل ذريع في يوم معركة، أنها قد قلت جداً عما كانت عليه بالأمس، ثم إذا أتصل النماء والذرء وتهدنت البلاد، كاد المعمور يضيق بأهله لكثرتهم، فهم أبداً (4) يزيدون وينقصون. والأنواع ليست كذلك. لكنها لا [14و] تزيد ولا تنقص أبداً إلا أن يشاء الخالق إفناء ما شاء منها يوم البعث في عالم الجزاء فهو القادر
__________
(1) الحديث في الجامع الصغير 2: 132.
(2) بهامش س عند قوله " لا مزيد في الأنواع " لا يخفى ما فيه لقوله: " ويخلق ما لا تعلمون " ثم أورد المعلق حكاية رواها أبو نعيم في الحلية عن امرأة مزدوجة الخلقة.
(3) وكذلك.. نهاية: سقط من م.
(4) م: دأباً.(4/126)
على ما يشاء لا إله إلا هو.
وأما الأشخاص فليس لها عدد تقف عنده، فلا يمكن أن لا تزيد ولا تنقص، لكن ما خرج منها إلى الوجود فمحدود العدد، محصور مذ خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت يقال فيه الآن. وأما ما لم يخرج منها بعد إلا أنه مما علم الله تعالى أنه سيخرج فهو في علم الله تعالى محدود محصور (1) وفي الطبيعة معدود (2) إذا خرج، لا قبل أن يخرج، والزيادة فيها ممكنة في قوته عز وجل بلا نهاية في عدد ولا أمد.
وأنت ترى بما بينا أنه كلما ابتدأنا من عند أنفسنا، نعني من (3) الأشخاص صاعدين إلى جنس الأجناس، ابتدأنا بالكثرة، فكلما ارتفعنا قل العدد إلى أن نبلغ إلى الرؤوس التي ذكرنا، وإذا ابتدأنا من هنالك لم نبتدئ إلا بقسمين فقط وهما: جوهر ولا جوهر ثم نتزيد العدد في الكثرة إلى أن نبلغ إلى الأنواع التي تلي الأشخاص.
واعلم أن العموم ليس بلا نهاية، لكن بنهاية، فأعم الأسماء (4) قولك شيء وموجود، وهذا الذي يسميه النحويون أنكر النكرات، وكذلك الخصوص ليس أيضاً بلا نهاية، لكن أخص الأسماء كلها فيما دون الله، تبارك وتعالى (5) ، أنا وأنت، وهذا أعرف المعارف.
واعلم أن جنس الأجناس مبدأ لما تحته، كآدم للناس، والأنواع كالأمم، وأنواع الأنواع كالقبائل، نريد أنها مثلها في التفرع عنها فقط.
واعلم أنهم قالوا: إن الجنس الذي هو جنس الأجناس مرسوم لا محدود لأنه ليس فوقه جنس يؤخذ حده منه وأما الأنواع فمحدودة.
وأما الأقسام التي تنقسم عليها أنواع الأنواع فإنها (6) تسمى أقساماً أو أصنافاً، وذلك
__________
(1) م: محصور معدود.
(2) وفي ... معدود: لم يرد في م.
(3) من: في م وحدها.
(4) س: الأشياء.
(5) م: دون الخالق تعالى.
(6) م: فإنما.(4/127)
مثل (1) ذكور كل نوع وإناثه، أو سودانه وبيضانه، أو ما اختلفت ألوانه من سائر الأنواع، أو ما اختلفت طعومه مما أستوى تحت نوع واحد من الثمار والنبات وسائر ما يختلف في صفة ما وهو يجمعه كله نوع واحد؛ لأنك تجد الأسود والأبيض من الناس، والذكر والأنثى من كل نوع من الناس والحيوان غير الناطق وكثير من النوامي غير الحية، وذوات الألوان المختلفة من الخيل والدجاج وغير ذلك، فكل ذلك محدود بحد واحد، ومجتمع في طبيعة واحدة. وكثير من ذلك يعم أبعاضاً من أنواع كثيرة، كالذكر والأنثى والأسود والأبيض، ومن المحال أن يكون نوع واحد تقع تحته طبائع مختلفة متضادة الصفات، لا تحد كلها بحد جامع لها؛ فلذلك لم تجعل هذه أنواعاً جامعة لما تحتها (2) ، وإنما نبهنا على هذا (3) لئلا يقول جاهل (4) : إن هذه الأقسام مختلفة، فهلا جعلتموها أنواعاً مختلفة، فأريناه أن حدها واحد، وطبيعتها واحدة، وخواصها واحدة، وفصولها واحدة، وإنما [14ظ] اختلفت في الأعراض فقط، وبهذا لم ننكر صبغ النحاس أبيض (5) حتى يعود في مثل لون الفضة، وأنكرنا ومنعنا من أن نحيل طبع النحاس أصلاً إلى طبع الفضة، كما لا سبيل إلى إحالة طبع الحمار إلى طبع الإنسان البتة أصلاً، والله أعلم (6) .
8 - باب الفصل
ذكرت الأوائل في الفصل قسمين سموهما: عامياً وخاصياً، وليس وضعهما عندنا في باب الكلام في الفصل الذي نقصده في الفلسفة صواباً، لأنهما واقعان في باب الكلام في العرض؛ وإنما نقصد هاهنا الكلام في (7) الفصل الذي يفصل الأنواع
__________
(1) مثل: لم ترد في س.
(2) وكثير من ذلك ... تحتها: سقط من م.
(3) م: بهذا.
(4) م: الجاهل.
(5) أبيض: في وحدها.
(6) والله أعلم: زيادة من م (وهو يتكرر فيها عند نهايات الفصول) .
(7) العرض ... في: سقط من س.(4/128)
بعضها عن (1) بعض تحت جنس واحد. مثل أن تقول: حي، فيقول لك قائل: نفس الإنسان حي ونفس الحمار حي، فأي الحيين تعني فتقول: الحي (2) الناطق الميت، فالناطق الميت فصلان، فصلا نوع الإنسان (3) من نوع الحمار تحت جنس الحي، فهذا الفصل نريد، لا ما سواه. وهذا الذي يسميه الأوائل " خاص الخاص " فنقول: وبالله نستعين وبه التوفيق (4) :
إن الفصل هو ما فصل طبيعة من طبيعة، فبان لنا به أن هذه غير هذه البتة مما إذا توهمنا أن ذلك الفصل معدوم مما هو فيه، مرتفع عنه، فقد فسد الذي هو فيه وبطل البتة، فإنك متى رفعت النطق والموت عن الإنسان لم يكن إنساناً أصلاً، بوجه من الوجوه، وهذا فرق ما بين الفصل والخاصة على ما يقع بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولذلك سمي هذا الفصل ذاتياً فيما خلا قبل هذا. وبهذا الفصل تقوم الأنواع تحت الجنس وينفصل بعضها من بعض، ويتميز بعضها من بعض. ومنفعته عظيمة في كل علم، إذ قد يلزم بعض النامي ما لا يلزم بعضه، ويلزم بعض الحي ما لا يلزم سائره، فلولا الفصول المميزة لكل نوع على حدة، لاختلطت الأحكام والصناعات وجميع فوائد العالم، فلم تستبن.
واعلم أن هذه الفصول تسميها الأوائل " الجوهرية " للزومها ما هي فيه، فكأنها الجواهر (5) لثباتها.
واعلم أن الفصول والأجناس والأنواع لا تقبل الأشد ولا الأضعف، ولا تقع على ما تقع عليه إلا وقوعاً مستوياً، ولا يجوز أن يكون إنسان أشد في أنه إنسان من إنسان آخر، ولسنا نعني المروة والذكرة (6) ، لكن نعني في أنه آدمي وإنسان فقط، ولا يكون فرس أضعف فرسية من فرس آخر، ولا حمار أقوى حمارية من حمار آخر
__________
(1) م: من.
(2) الحي: سقطت من م.
(3) م: الأنواع.
(4) م: وبالله تعالى التوفيق.
(5) م: الجوهر.
(6) س: المروءة والمذكرة.(4/129)
وهكذا كل أشياء استوت في جنس أو نوع أو فصل، فإنها كلها فيه متساوية لا يفضل في كونها إياه بعضها بعضاً أصلاً بوجه من الوجوه.
ورسم الفصل هو أن تقول: هو الذي تتميز به الأنواع بعضها من بعض تحت جنس واحد، والفصول موجودة في الأنواع بالفعل، وفي الجنس بالقوة. نريد بالقوة: إمكان أن يكون، وبالفعل: أنه قد كان ووجب (1) [15و] وظهر ووجد، فإنك إذا قلت: الحي، فإن النطق فيه بالقوة، أي أن بعض الأحياء ناطقون، ولو كان النطق (2) فيه بالفعل لكان كل حي ناطقاً، وهذا محال. وأنت إذا قلت الحي الناطق، فالنطق فيه بالفعل أي أنه قد ظهر ووجد.
والنطق الذي يذكر (3) في هذا العلم ليس الكلام ولكنه التمييز للأشياء والفكر في العلوم والصناعات والتجارات وتدبير الأمور، فعن جميع هذه المعاني كنينا بالنطق اتفاقاً منا. وكل إنسان فناطق النطق الذي بينا، إلا من دخلت على ذهنه آفة عرضية، وإلا فبنيته، ولو رمى الحجارة، محتملة لو زالت تلك الآفة لكل ما ذكرنا. وليس كذلك سائر الحيوان، حاشا الملائكة والجن، فإنه لا يتوهم من شيء من الحيوان غير ما ذكرنا فهم الأمور التي وصفنا.
وأما الفصول إذا حققتها فكيفيات، إلا أنها لا تفارق ما هي فيه ولا تتوهم مفارقتها له إلا ببطلانه. وكذلك (4) المعنى الذي صارت به الأشخاص تسمى أنواعاً وأجناساً، فإنه أيضاً كيفية كما ذكرنا. وأنت إذا وجدت فصلاً ذاتياً تستغني به في تمييز ما تريد منه من الأنواع، فأكتف به ولا معنى لأن تأتي بفصل آخر. فإن اضطررت إلى فصول كثيرة، ينفرد النوع الذي تريد أن تفصله من غيره بجميعها وتشاركه أشياء أخر (5) في كل واحد منها على الانفراد، فلا بد أن تأتي بجميعها أو بما ينفرد منها به ليتم لك التمييز والتخليص الذي تريد إبانته.
__________
(1) س: وجب.
(2) س: الناطق.
(3) م: تذكره.
(4) س: وذلك.
(5) م: أنواع أخر.(4/130)
واعلم أنه ليس النوع والجنس شيئاً غير الأشخاص، وإنما هي أسماء تعم جماعة أشخاص اجتمعت واشتركت في بعض صفاتها، وفارقتها سائر الأشخاص فيها، فلا تظن غير هذا، كما يظن كثير من الجهال الذين لا يعلمون.
9 - باب الخاصة
من الخاصة ما هو مساو للمخصوص، أي أنها في جميع أشخاصه، وهذه هي التي (1) نقصد بالكلام في هذا الباب (2) . ومنها ما هو أخص من المخصوص بها أي أنها في بعض أشخاصه لا في كلها، وذلك مثل الشيب في حال الكبر، فإنه فيما هو فيه في وقت دون وقت، ومثل النحو والشعر فإنهما بالفعل في بعض ما هما فيه بالقوة دون بعض، فليس كل إنسان نحوياً وشاعراً، إلا أنه قد كان ممكناً ومتوهماً أن يكون نحوياً وشاعراً.
وأما الخاصة المساوية فقد تقوم مقام الحد، ويرسم بها ما كان (3) فيه رسماً صحيحاً [15ظ] دائراً على طرفي مرسومه منعكساً. فإنك تقول: كل إنسان ضحاك، وكل ضحاك (4) إنسان، فهذا هو الانعكاس الصحيح، وهذا هو الدوران على الطرفين. أي أنه لا يشذ عنه شيء مما تريد أن ترسمه به أو تحده. وكل إنسان فضاحك إما بالقوة أي بالإمكان في كل وقت، وإما بالفعل في بعض الأوقات دون بعض أي بظهور الضحك منه. فإن قال قائل: فبأي (5) شيء فرقتم بين الخاصة والفصل فالجواب: إن الفصل هو ما لايتوهم عدمه عن الشيء الذي هو فيه إلا ببطلان ذلك الشيء، فإن النطق والموت إن توهم أنهما قد عدما من شيء لم يكن ذلك الشيء إنساناً البتة، وأما الخاصة فبخلاف ذلك، ولو توهمنا الضحك معدوماً بالكل جملة واحدة، حتى لا يعرف ما هو، لم يبطل الإنسان ولا امتنع من أجل عدم الضحك أن يتكلم في النحو والفقه والفلسفة وأن يعمل الديباج ويخيط ويغرس (6) ويحرث ويحصد وغير
__________
(1) س: وهذا الذي.
(2) س: الكتاب.
(3) م: هي.
(4) ضحاك: ناطق ميت في س (وما يلي يؤيد رواية م) .
(5) س: فلأي.
(6) م: ويقرش.(4/131)
ذلك مما ينتجه له النطق الذي هو التمييز، فهذا فرق بين واضح.
10 - باب العرض
هذا وإن كان كيفية كالفصل والخاصة فبينة وبينهما (1) فرق كبير (2) ، وهو أن الفصل لا يوجد في غير ما فصل به أصلاً، والخاصة أيضاً كذلك، لا توجد في غير مخصوصها أصلاً. وأما العرض العام الذي قصدنا بالكلام فيه (3) في هذا المكان فإنه يعم أنواعاً كثيرة جداً، وهو ينقسم أقساماً: فمنه ما يعرض في بعض الأنواع دون بعض ثم في بعض أحواله دون بعض، وذلك كحمرة الخجل، وصفرة الجزع (4) ، وكبدة الهم، وهذه سريعة الزوال جداً؛ وكالقعود والقيام والنوم وما أشبه ذلك، وهذه كلها تستحيل بها أحوال من هي فيه لاستحالة الأسباب المولدة لها، وتنفصل بها أحواله بعضها من بعض؛ ومنها ما هو أبطأ زوالا كصبا الصبي وكهولة الكهل وما أشبه ذلك، ومنها ما لا يزول أصلاً، إلا أنها لو أمكن أن تزول لم يبطل شيء من معاني ما هي فيه، كزرقة الأزرق وجدع الأجدع (5) وقنا الأقنى وفطس الأفطس وسواد الغراب وحلاوة العسل وما أشبه ذلك، فإنه إن توهم الزنجي أبيض والغراب أعصم لم يخرجا بذلك عن الغرابية ولا عن الإنسانية، وكذلك العسل قد يكون منه مر ولا يبطل أن يكون عسلاً؛ وبالصفات التي ذكرنا ينفصل بعض أنواع الأعراض عن بعض.
وهكذا عبر الأوائل في هذا الباب وهي عبارة غير محققة، لأنهم ذكروا عرضاً عاماً لأكثر من نوع، ثم إنهم ذكروا تحته حمرة الخجل وما لا يكون إلا لبعض نوع واحد أو لنوع واحد، وكان هذا بالخاصة أشبه منه بالعرض العام وأولى به (6) .
واعلم أن في الأعراض أنواعاً وأجناساً وأشخاصاً، كما في الجواهر، على ما قدمنا قبل.
__________
(1) س: وبينها.
(2) س: كثير.
(3) فيه: سقطت من م.
(4) م: الفزع.
(5) وجدع الأجدع: سقط من س.
(6) هذه الفقرة انفردت بها م.(4/132)
واعلم أن بعض [16و] النوع لو توهم معدوماً لم يعدم الجنس، ألا ترى لو عدم البياض لم يعدم اللون لأنه يبقى السواد (1) والخضرة والحمرة وغير ذلك، وكذلك لوعدم الإنسان لم يعدم الحي، لأنه يبقى الخيل والدجاج وغير ذلك، وكذلك لو عدم الجنس لعدمت جميع الأنواع البتة.
وهذا انتهاء (2) الكلام في المدخل إلى علم المنطق والألفاظ الخمسة التي هي: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض، وهو الذي يسميه الأوائل " إيساغوجي " وأول من جمعه رجل يسمى فرفوريوس من أهل صور.
والحمد لله رب العالمين كثيراً لا شريك له ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً (3)
__________
(1) السواد: سقطت من م.
(2) وها هنا انتهى.
(3) م: والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد عبده ورسوله.(4/133)
- 1 -
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الأسماء المفردة
وهو أول ما بدأ به أرسطاطاليس من كتبه، وهو المسمى في اللغة اليونانية " قاطاغورياس "، معناه: العشر المقالات (1) ، فنقول وبالله التوفيق وبه نتأيد (2) ،
أ -[مقدمة أولى]
إن الأسماء التي يقع كل واحد منها على كثير، أي على جماعة أشخاص فإنها تقع تحتها مسمياتها في جميع اللغات، أولها عن آخرها، على خمسة أوجه لا سادس لها:
إما أن يكون المسمى يوافق المسمى الثاني في اسمه وحده معاً، كقولنا: فرس وفرس، أو كقولنا: حي وحي، فإن كل واحد من هذين المسميين يوافق الآخر في اسمه، لأنه لفظ واحد، ويوافقه أيضاً في حده، لأن كليهما حساس متحرك بإرادة، وكلاهما أيضاً صهال محدد الآذان (3) مستعمل في الركوب، متوهم منه السرعة في الجري، وهذا النوع يسمى " الأسماء المتواطئة " وإن شئت قلت: المتفقة.
والثاني أن يكون المسمى يخالف المسمى في اسمه وحده معاً كقولنا: رجل وحمار، فإن هذين لفظان مختلفان (4) وحدان مختلفان، وهذا النوع يسمى " الأسماء المختلفة ".
والثالث: أن يكون المسمى يوافق المسمى في اسمه ويخالفه في حده، كقولنا: " نسر " للطائر المبالغ في الأستعلاء في الجو الذي يأكل الجيف، وقولنا لبعض حافر (5) الفرس نسر، وقولنا " نسر " للنجم الذي في السماء وما أشبه هذا مما هو كثير في اللغة، وهذا النوع يسمى " الأسماء المشتركة "، ومنها يقع البلاء كثيراً في المناظرة،
__________
(1) معناه ... المقالات: سقط من م.
(2) وبه نتأيد: من م وحدها.
(3) م: الأذن.
(4) وحدان مختلفان: لم يرد في س.
(5) م: أعضاء حافر.(4/134)
فيتنازع الخصمان ويكثران الهراش وأحدهما يريد معنى ما والآخر يريد معنى آخر (1) ، وهذا لا يقع إلا بين جاهلين أو جاهل [16ظ] وعالم أو سوفسطانيين أو سوفسطاني ومنصف، ولا يقع أبداً بين عالمين منصفين بوجه منن الوجوه، ولا يسلم من ذلك إلا من تميز (2) في هذه الصناعة وأشرف عليها وقوي فيها، فإنه لا يخفى عليه من معاني الكلام شيء.
والرابع أن يكون المسمى يوافق المسمى في حده، ويخالفه في اسمه، مثل قولنا: سنور وضيون (3) وهر، فإن هذه ألفاظ مختلفة، وهي كلها واقعة وقوعاً واحداً على كل شخص من أشخاص النوع المتخذ في البيوت لصيد الفأر الذي يلح في السؤال عند الأكل، ويشبه الأسد في خلقه، وهذا النوع من الأسماء يسمى " الأسماء (4) المترادفة ".
والخامس: أن يكون المسمى يخالف المسمى في حده وفي اسمه الذي خص نوعه به إلا أنهما يتفقان في صفة من صفاتهما أوجبت لهما الاشتراك في اسم مشتق منها، إما جسمانية وإما نفسانية، حالاً كانت أو هيئة (5) ، فالجسمانية كقولنا: ثوب أبيض، وطائر أبيض، ورجل أبيض، فإن كل واحد من هذه المسميات حده (6) غير حد صاحبه، واسمه في نوعه غير اسم صاحبه، وقد اشتركت كلها في أن سمي كل واحد منها أبيض. والنفسانية كقولنا أسد شجاع ورجل شجاع، وهذا النوع من الأسماء يسمى " الأسماء (7) المشتقة ".
وهذه الأقسام الخمسة تقع على الأجناس والأنواع وأصناف (8) الأنواع التي كأنها أنواع، كقولنا: رجل وامرأة وذكر وأنثى.
وأما الأسماء المختصة فهي التي تقع على ذات المسمى وحده، أو على كل شخص
__________
(1) ما، آخر: من م وحدها.
(2) م: تمهر.
(3) س: وضيوز.
(4) الأسماء: سقطت من س.
(5) حالاً ... هيئة: سقط من م.
(6) وقعت لفظة " حده " قبل " من هذه المسميات " في س.
(7) الأسماء: سقطت من س.
(8) م: وأقسام.(4/135)
من أشخاص ما (1) ، وهي أن تكون المسميات منها وضعت لها أسماء تختص بالمسمى أو بأشخاص ما لتمييز بعضها من بعض، فإما تتفق فيها وإما تختلف، وهي قد تبدل ولا تستقر استقراراً لازماً لأنها (2) إنما تكون باختيار المسمى، ولو شاء لم يسم ما سمي بذلك، ولم يقصد به الإبانة عن صفات مجتمعة في المسمى دون غيره، كما قصد في الأول، ولا اشتقت للمسمى بها من صفة فيه أصلاً وهي التي يسمسها النحويون " الأسماء الأعلام " وذلك نحو قولك: زيد وعمرو أو زيد وزيد أو أسد في أسم رجل أو كافور في اسمه أيضاً وما أشبه ذلك.
فهذه أقسام المسميات كلها تحت الأسماء، ووقوع الأسماء كلها على المسميات ولا مزيد.
وأسماء الله تعالى (3) التي ورد النص بها أسماء أعلام غير مشتقة من شيء أصلاً. وأما صفات الفعل له تعالى فمشتقة من أفعاله، كالمحيي والمميت، وما أشبه ذلك وتلك الأفعال أعراض حادثة في خلقه، لا فيه، تعالى الله عن ذلك [17و] .
ب (مقدمة ثانية)
باب من أقسام الكلام ومعانيه
قد بينا (4) ، قبل، أن الكلام ينقسم قسمين: مفرد ومركب، فالمفرد لا يفيدك فائدة أكثر من نفسه، كقولك: رجل وزيد وما أشبه ذلك؛ والمركب يفيدك خبراً صحيحاً، كقولك: زيد أمير، والإنسان حي وما أشبه ذلك.
__________
(1) م: كل شخص من الأشخاص.
(2) لأنها: سقطت من س.
(3) عقد ابن حزم في الفصل (2: 120 وما بعدها) فصلاً طويلاً لبيان هذه المسألة وناقش إطلاق كل صفة على حدة. وخلاصة رأيه أن الله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه اتباعاً للنص، دون خروج عن ذلك أبداً. قال: ومما أحدثه أهل الإسلام في أسماء الله عز وجل " القديم " وهذا لا يجوز البتة لأنه لم يصح به نص البتة ولا يجوز أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه. وقد قال تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} ؛ فصح أن القديم من صفات المخلوقين فلا يجوز أن يسمى الله تعالى بذلك، وإنما يعرف القديم في اللغة من القدمية الزمانية، أي أن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة، وهذا منفي عن الله عز وجل وقد أغنى اله عز وجل عن هذه التسمية بلفظة " أول ". (2: 151 - 152) .
(4) م: قلنا.(4/136)
والمركب كله ينقسم أقساماً خمسة لا سادس لها وهي: إما خبر وإما استخبار، وهو الاستفهام وإما نداء وإما رغبة وإما أمر.
فهذه الأربعة منها لا يقع فيها صدق ولا كذب، ولا يقوم منها برهان أول (1) على من ينكر وجوب الأمر، وأما بعد وجوب قبول الأمر بخبر يوجبه أو باتفاق من الخصمين فالأمر حينئذ مبرهن على صحة وجوبه، وليس برهاناً، وقد ينطوي في الأمر خبر، وذلك أن قول القائل: افعل كذا، ينطوي فيه أنك ملزم أن تفعل كذا. وأما النهي فهو نوع من أنواع الأمر، لأنه أمر بالترك. وكذلك ينطوي في الطلبة، وهي الرغبة، إخبار بأن الراغب يريد الشيء المرغوب فيه، ولا تظن أن قولك آمراً: قم، أنه اسم مفرد، فذلك ظن فاسد، بل هو مركب لأن معناه " قم أنت ". وكذلك قولك مخبراً عن غائب: قام، إنما معناه (2) " قام هو "، ولو انفرد في حقيقة المعنى دون ضمير، لما تم ولكان ناقصاً فاعلمه. وكذلك قولك مستفهماً: أقام أي هل قام هو. وأما إذا خرجت الرغبة على غير وجهها، فإن الكذب قد يدخل فيها، كمن قال وهو صحيح: اللهم أصحني، وإنما الحق أن يقول: اللهم أدم صحتي. وكذلك الاستفهام، إذا ما (3) استفهم عن باطل فهو باطل، كسائل سأل: لم اشتد الحر في الشتاء
وأما الخبر ففيه يدخل الصدق والكذب، وفيه تقع الضرورة والإقناع، وفي فاسد البنية منه يقع الشغب، ومن صحيحه يقوم البرهان على كل قضية في العالم، وإياه قصد الأوائل والمتأخرون بالقول، وتحته تدخل جميع الشرائع، وكل مؤات (4) من الطبيعيات وغيرها اتفق الناس عليه أو أختلفوا فيه.
وهو يصح بوجوه: أحدها أن يكون معلوماً صحته بأول العقل أو بالحواس، ومنها ما يصح ببرهان يقوم على صحته من مقدمات تنتج نتائج على ما يقع في هذا
__________
(1) م: أولي.
(2) قام إنما معناه: سقط من س.
(3) ما: من م.
(4) س: مواتي، وفوقها علامة خطأ؛ م: رأي.(4/137)
الديوان إن شاء الله عز وجل، ومنها ما ينقله صادق قد قام على صدقه برهان مما قدمنا، أو نقله مصدقون بضرورة، على ما قد وقع في غير هذا القول (1) ؛ وقد ظن قوم أن القسم والشرط والتعجب والشك، وجوه زائدة على ما ذكرنا، وذلك ظن فاسد [17ظ] لأنها كلها واقعة تحت قسم الخبر وراجعة إليه.
أما القسم فإنه إخبار بإرادتك إذا قلت: " والله " فإن قولك ذلك إنما هو: أحلف معظماً لأمر الله تعالى.
وأما الشرط فإنه خبر واضح لا خفاء به؛ والشك كذلك؛ والتعجب إخبار بالحال التي تعجبت منها.
وقد ظن قوم أن من الخبر ما لا يدخله صدق ولا كذب، وهو إخبار الهاذي بأمر متيقن صحته، لم يقصده، كقوله: لا إله إلا الله، مات الرجل فهذان خبران صحيحان.
قال أبو محمد: وهذا الظن غير صحيح لأنه لا يكون مخبراً إلا من قصد الخبر، والخبر مع المخبر من باب الإضافة، فلا خبر إلا لمخبر، والهاذي ليس مخبراً بكلامه (2) ، فكلامه ليس خبراً.
وإذ قد وافانا ذكر الأمر فلنقل على أقسامه قولاً وجيزاً؛ وذلك أن الأمر ينقسم أقساماً منها: الواجب الملزم، وهو عنصر الأمر الذي لا ينتقل عنه لفظ الأمر إلا بدليل برهاني، ومنها المحضوض عليه غير الملزم، ومنها المباح، ومنها المسموح فيه، وهو الذي تركه أفضل؛ ومنها التبرؤ كقول القائل: اعمل ما شئت؛ ويكون الآمر غير راض عن المأمور؛ ومنها الوعيد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت:40) ومنها القسر (3) كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49) ومنها تقرير كقول المعصي: قد نهيتك فاصبر واحتمل ما أتاك؛ ومنها (4) تعجيز كقوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً} (الإسراء:50) ومنها ما هو بمعنى
__________
(1) م: الديوان.
(2) بكلامه: لم ترد في م.
(3) س: القسم، وفوقها علامة خطأ.
(4) م: ومنه.(4/138)
الدعاء، كقول القائل: ابعد، اخسأ، ومنها زجر، كقوله تعالى: {اخسئوا فيها} ومنها تكوين، وليس هذا القسم إلا للباري تعالى وحده في أمره ما يريد أن يكون بالكون، وما يريد أن يعدم بالتلف. ومنه أمر بمعنى النهي كقول القائل لمن تقدم نهيه إياه عن شيء: افعله وسترى ما يكون أو وأدري أنك رجل. وما أشبه ذلك؛ ومنها أمر (1) بمعنى التعجب كقولك: أحسن يزيد أي ما أحسنه.
ثم تنقسم الأسماء أيضاً أقساماً أربعة إما حاملة ناعتة، وإما حاملة منعوتة، وإما محمولة ناعتة وإما محمولة منعوتة. ومعنى قولنا: ناعتة، أي أنها تقال على جماعة أشخاص تحتها فتسمى تلك الأشخاص كلها بذلك الأسم، ومعنى قولنا: منعوتة، أي تسمى باسم واحد وهي جماعة، ومعنى قولنا: حاملة أي أنها تقوم بأنفسها وتحمل غيرها، ومعنى قولنا: محمولة: أي أنها (2) لا تقوم بأنفسها.
والحمل المذكور حملان: حمل جوهري وحمل عرضي، فالجوهري يكون أعم ويكون مساوياً، ولا يكون أخص أصلاً، والعرضي [18و] يكون أعم ومساوياً وأخص، فالحمل الجوهري الأعم مثل قولك: الإنسان حي، فإن الحياة محمولة في الإنسان حملاً جوهرياً، إذ لولا الحياة لم يكن إنساناً، والحياة أيضاً في غير الإنسان موجودة. فلذلك قلنا إن هذا الحمل أعم؛ والحمل الجوهري المساوي مثل كون الحياة في الحي فإنها مساوية للحي، لا تكون حياة في غير حي، ولا يكون حي في العالم بلا حياة وتسميتنا الخالق تعالى حياً ليس على هذا الوجه، وإنما سميناه بذلك اتباعاً للنص، ولولا ذلك لم يجز لنا أن نسميه حياً إذ الحياة ليست إلا قوة تكون بها الحركة الإرادية والحس، وكلا الأمرين منفي عن الباري عز وجل. وليست أسماؤه عز وجل مشتقة أصلاً ولا واقعة تحت شيء من الأقسام الخمسة التي ذكرنا قبل (3) ، لكنها أسماء أعلام فقط، لم يوجب تسميته تعالى بها دليل، حاشا أننا أمرنا تعالى بأن نسميه بها وندعوه بها ونناديه بها، لا إله إلا هو. س: ومنه. وإنما دل البرهان على أنه تعالى أول حق واحد خالق فقط ثم نخبر عنه بأفعاله، عز وجل، فقط من
__________
(1) س: ومنه.
(2) أنها: لم ترد في س.
(3) قبل: في م وحدها.(4/139)
إحياء وإماتة وتصوير وترتيب ونحو ذلك، أو ما أمرنا أن نسميه به، دون أن يكون هنالك شيء أوجب تسميته بذلك.
ولا يجوز أن يكون حمل جوهري أخص أصلاً، لأنه حينئذ كان يكون غير جوهري، إذ الجوهري هو ما لم يتم جميع النوع إلا به، لا ما يكون في بعضه دون بعض.
وأما الحمل العرضي الأعم فكقولنا للزنجي: أسود، فإن الأسود أعم من الزنجي، لأن السواد في الغراب والسبج والمداد (1) وغير ذلك (2) . وأما الحمل العرضي المساوي فكقولنا للإنسان: ضحاك، فالضحك (3) لا يكون في غير الإنسان، ولا يكون إنسان إلا ضحاكاً. وأما الحمل العرضي الأخص فكقولنا في بعض الناس أطباء (4) وفقهاء وحاكة وما أشبه ذلك، فإن هذه الصفات لا توجد في كل إنسان، لكن في بعضهم، ولا توجد في غير إنسان؛ وقد يكون من هذا الحمل ما هو أخص الخاص، كقولك هذا الشخص هو زيد. وأما الحمل الممكن فيكون أعم، كالسواد هو في بعض الناس وغيرهم، ويكون أخص كالطب، ليس إلا في بعض الناس فقط لا في جميعهم، ولا في غيرهم، ولا يكون مساوياً البتة (5) كالضحك للإنسان.
وأما الحمل الواجب فينقسم قسمين: عام كالحياة للحي، ومساوٍ (6) كالضحك للإنسان، ويكون أعم كالحياة له ولغيره، ولا يكون أخص؛ والنفي في الممتنع يكون أعم فقط، كنفي الجمادية عن الإنسان، وربما وجد مساوياً، ولا يوجد أخص فيما أوجبه الطبع للنوع [18ظ] .
__________
(1) س: والمراح.
(2) وغير ذلك: سقط من س.
(3) س: والضحك.
(4) أطباء: سقطت من س.
(5) البتة: من م وحدها.
(6) م: والحمل الواجب يكون مساوياً.(4/140)
وأما (1) الأشياء الحاملة الناعتة فكقولك: الإنسان الكلي، أي الواقع على كل أشخاص الناس، وهو الذي أراد الله تعالى بقوله: {إن الإنسان خلق هلوعا} (المعارج: 19) فإنه تعالى لم يرد إنساناً بعينه، لكنه عز وجل عنى النوع كله. فأما الإنسان (2) الكلي وقد يقال أيضاً: الإنسان المطلق، هو حامل لصفاته من النطق والحياة واللون والطول والعرض وغير ذلك، وناعت لزيد وخالد وهند وزينب، ولكل شخص من الناس، وهو المسمى الإنسان الجزئي، فزيد يسمى إنساناً، وكل واحد (3) من الناس كذلك، فالإنسان الكلي ناعت لكل من ذكرنا، أي مسمى به كل واحد من الناس. وهذا القسم لا يكون محمولاً أصلاً، أي لا يبكون عرضاً البتة (4) ، لأن العرض محمول لا حامل، والجواهر حامل لا محمول.
وأما الحاملة المنعوتة: فالأشخاص الجوهرية، مثل قولك: زيد وعمرو وكلب خالد وجمل عمرو، وغير ذلك، فإن هذه كلها منعوتة أي (5) تسمى كلها باسم واحد يجمعها كما بينا آنفاً (6) ، وهي حاملة لصفاتها من العلم والشجاعة والطول والعرض والنطق وغير ذلك من سائر الصفات، وهذه أيضاً لا تكون محمولة البتة.
وأما المحمولة الناعتة: فكقولنا العلم فأنه نوع من كيفيات النفس، وتحت العلم أنواع كثيرة، هو لها جنس جامع، كالفقه والطب والفلسفة والنحو والشعر وغير ذلك، وكل واحد من هذه يسمى علماً، فالعلم ناعت لها، وكل واحد من هذه العلوم نوع يقع تحته أصناف منه وأشخاص أبواب ومسائل، كوقوع القبائل وأشخاص الناس تحت قولك: الإنسان، وهكذا كل نوع تحت كل جنس، فسبحان مدير العالم كما شاء، لا إله غيره.
ثم نرجع إلى تفسير الناعتة المحمولة فنقول: إن العلم الكلي محمول في أنفس العلماء
__________
(1) م: فأما.
(2) فأما الإنسان: بالإنسان في م (اقرأ: فالإنسان) .
(3) م: أحد.
(4) م: البتة عرضاً.
(5) أي: من م.
(6) آنفاً: سقطت من س.(4/141)
والنحو محمول في أنفس النحويين، وكذلك كل علم في أنفس أهله، ونقول: إن كل علم (1) من العلوم ناعت لما تحته من الأبواب والمسائل، أي أن جميعها يسمى باسم ذلك العلم، فكل مسألة من مسائل النحو تسمى نحواً وعلماً، وكل مسألة من مسائل الفقه تسمى فقهاً وعلماً، وكل قضية من قضايا الطب تسمى طباً وعلماً، وكل لفظة من اللغة تسمى لغة وعلماً، وكل حديث من الخبر يسمى خبراً وعلماً (2) ، وهكذا في كل علم. وهذه المسائل تسميها (3) الأوائل " علماً جزئياً "، وجميع علوم الناس تسمى: " علماً كلياً ".
وأما المحمولة المنعوتة فهي علم كل امرئ على حياله [19و] وهي أيضاً مسائل كل علم، فإن كل (4) ذلك محمول في نفس العالم به، وهي منعوتة باسم العلم الجامع لها، أي أنها كلها تسمى علماً - كما قلنا (5) -.
واعلم أن الناعت قد يكون منعوتاً، إلا أنه لا بد في أول طرفيه من ناعت لا ينعته شيء، وهو جنس الأجناس الذي قدمنا أولاً، ولا بد في آخر طرفيه من منعوت لا ينعت شيئاً، وهو الأشخاص من الجواهر والأعراض على ما قدمنا.
واعلم أن الحامل لا يكون محمولاً أصلاً، والمحمول لا يكون حاملاً أصلاً لما قد بينا من أن الحامل هو القائم بنفسه، والمحمول هو الذي لا يقوم بنفسه، فمحال لا يتشكل في العقل أن يكون شيء قائم (6) بنفسه لا قائم بنفسه.
وقد أضجرني قديماً (7) بعض أصدقائنا (8) ببلية أدخلها عليه حسن ظنه بكلام
__________
(1) م: نزع.
(2) وكل حديث ... وعلماً: سقط في م.
(3) س: تسميه.
(4) كل: سقطت من س.
(5) م: قدمنا.
(6) م: قائماً (وسقط ما بعدها) .
(7) قديماً: سقطت من س.
(8) بهامش س: أصحابنا.(4/142)
قرأه للكثير الهذر المكنى بأبي العباس المعروف بالناشئ (1) ، فكان أبداً يسومني الفرق بين المحمول والمتمكن، ولم يعنه الخالق تعالى إلى وقتنا الذي كتبنا فيه كتابنا هذا، على فهم الفرق بينهما، وهو أن المحمول إنما تقوله في الصفات التي تبطل ببطلان ما هي فيه، كبياض زيد وحياته، فإن زيداً إن بطل، بطلت حياته وبياضه، بلا شك، وقد يبطل أيضاً ببياضه ولا يبطل زيد بل يكون صحيحاً سوياً إما لشحوب وإما لبعض الحوادث. والمتمكن إنما نقوله في الجواهر التي لا تبطل ببطلان ما هي فيه ككون زيد في البيت ثم ينهدم البيت ويصير رابية أو وهدة، وزيد قائم صحيح ينظر في أسبابه، ويزايل زيد البيت ولا يبطل واحد منهما، وهكذا أجزاء الجسم في الجسم إنما هي متمكنة لا محمولة، وهذا فرق لا يختل على ذي حس سليم أو إنصاف. وبالجملة، فكون الجسم في الجسم تمكن، وهو غير الحمل الذي هو كون العرض في الجسم.
وكل ما نعت نوعاً فهو ناعت لأشخاص ذلك النوع، أي كل اسم سمي به نوعاً فإنه يسمى به كل شخص من أشخاص ذلك النوع، جوهراً كان أو غير جوهر. إذ ليس الجنس شيئاً غير أنواعه، وليس الجنس وأنواعه شيئاً غير الأشخاص الواقعة تحتها.
واعلم أن فصول كل جنس من الأجناس فإنه يوصف بها كل ما تحته من أنواعه وكل شخص من الأشخاص الواقعة تحت أنواعه، كالحساس فإنه يقال على كل حي وعلى كل إنسان وفرس وحمار وعلى زيد وعمرو وهند وسائر أشخاص الحيوان كله، وهكذا في جميع الأجناس والأنواع كلها. وقد قلنا أيضاً: إن الأجناس تعطي كل ما تحتها من نوع أو شخص أسماءها وحدودها، أي أن اسم ذلك الجنس وحده يسمى به ويحد كل نوع تحته وكل شخص يقع تحت [19ظ] كل نوع من
__________
(1) هو عبد الله بن محمد الأنباري المعروف بابن شرشير (906/293) كان شاعراً ذا اهتمام بالمنطق، وله تصانيف رد فيها على الشعراء والمناطقة وله أرجوزة في العلوم تبلغ أربعة آلاف بيت؛ انظر تاريخ بغداد 10: 92 والنجوم الزاهرة 3: 298 وشذرات الذهب 2: 214 وقد نشر له الدكتور يوسف فان إس كتابين هما: مسائل الإمامة ومقتطفات من الكتاب الأوسط (بيروت 1971) وقدم لهما بدراسة عن حياته ومؤلفاته.(4/143)
أنواع ذلك الجنس.
واعلم أن فصول كل نوع فإنها لا توجد في نوع آخر أصلاً بوجه من الوجوه ولا اسمه ولا حده، لأن الفرس لا يسمى باسم الإنسان ولا يحد بحده، وكذلك كل نوع أبداً، والله تعالى أعلم.
[المقولات العشر]
1 - باب الكلام على الجوهر
وهو أول الرؤوس العشرة التي قدمنا أنها أجناس الأجناس، لأنه حامل لها، وباقيها محمولة فيه، وهو قائم بنفسه، وهي غير قائمة بأنفسها. وسمت الأوائل أشخاص الجواهر: " الجواهر الحق الأول " تعني بذلك زيداً وعمراً وبعير عبد الله وكلب خالد وثوب عمرو، وما أشبه ذلك. وسمت الأجناس والأنواع (1) " الجواهر الثواني " لأن الأول على الحقيقة هي الأشخاص القائمة، وسمت ما في الأشخاص القائمة من الأعراض: " الأعراض الحق الأول " وسمت أنواعها وأجناسها التي في أنواع الجواهر وأجناسها: " الأعراض الثواني ".
واعلم أن الجواهر لا ضد لها أصلاً، فإن وصفت بالتضاد يوماً ما، فإنما يراد أنها تتضاد كيفياتها فقط. وبهذا المعنى بطل أن يكون الأول تعالى ضداً لخلقه لأنه عز وجل لا كيفية له أصلاً، والتضاد لا يكون إلا في كيفية على مكيف، فالباري عز وجل ليس ضداً ولا مضاداً ولا منافياً لا إله إلا هو.
والجوهر لا يقال فيه أشد ولا أضعف أي لا يكون حمار أشد في الحمارية من حمار آخر، ولا تيس أشد في التيسية من تيس آخر، ولا إنسان أضعف إنسانية من إنسان آخر، وكذلك الكمية أيضاً على ما يقع في بابها إن شاء الله عز وجل. وإنما يقع التضاد والأشد والأضعف في بعض الكيفيات على ما يقع في بابها، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) م: الأنواع والأجناس.(4/144)
ورسم الجوهر هو (1) أن نقول: إنه القائم بنفسه القابل للمتضادات، فإن النفس قائمة بنفسها تقبل العلم والجهل والشجاعة والجبن والنزاهة والطمع وسائر المتضادات من أخلاقها، التي هي كيفياتها، وكذلك كثير من الأجرام تقبل البياض والسواد اللذين أحدهما لون مفرق للبصر وهو البياض، والثاني جامع للبصر وهو السواد. وكثير منها يقبل الحر والبرد والمجسة، التي هي خشونة أو املاس، والرائحة التي هي طيب أو نتن، وغير ذلك من الصفات التي تقع عليها الحواس؛ فكل قائم بنفسه قابل للمتضادات (2) حامل لها في ذاته، وبهذا خرج الباري عز وجل عن أن يكون جوهراً أو يسمى جوهراً، لأنه تعالى ليس حاملاً لشيء من الكيفيات أصلاً [20و] فليس جوهراً.
وأما ما يظن قوم من أن الكيفية تقبل الأضداد لأن اللون يقبل (3) البياض والحمرة (4) فذلك ظن فاسد، لأن أنواع الكيفية بعضها هي (5) الأضداد نفسها، فهي متضادة بذاتها، لا حاملة للتضاد في ذاتها، بل هي الأضداد المحمولة أنفسها، والجوهر حامل لها كزيد، مرة هو صبي، ومرة هو شيخ، ومرة هو أصفر من الفزع أو المرض، ومرة هو أسمر من الشمس، ومرة هو حار لقربه من النار، وأخرى هو بارد لقربه من الثلج، ومرة قاعداً ومرة قائماً، وهو زيد نفسه. وكل هذه كيفيات وأعراض متعاقبة عليه (6) ذاهبة واردة، فبعضها متضاد وبعضها مختلف. وكذلك الكلام والفكر الذي هو التوهم لا يقبلان الأضداد قبول الجوهر للأضداد، لأن الكلام والتوهم إما أن يكون صدقاً وإما أن يكون كذباً، بصحة معنى الشيء المتوهم، أو الكلام، أو ببطلانه، وليس الصدق والكذب متعاقبين على كلام واحد ولا على
__________
(1) هو: سقطت من م.
(2) فهو جوهر ... للمتضادات: سقط من س.
(3) م: يجمع.
(4) م: والخضرة.
(5) س: من.
(6) س: عليها.(4/145)
توهم واحد (1) بل هما كلامان: أحدهما صدق والآخر كذب (2) ، وكذلك التوهم أيضاً، والله أعلم.
2 - الكلام على الكمية (3) وهي العدد
ذكر الأوائل أن الكمية تقع على سبعة أنواع: أولها العدد ثم الجرم ثم السطح ثم الخط ثم المكان ثم الزمان ثم القول؛ ثم تنقسم هذه السبعة على قسمين: أحدهما متصل والآخر منفصل (4) ؛ فالمتصل ما كان له فصل مشترك وهي خمسة من هذه السبعة وهي: الجرم والسطح والخط والمكان والزمان، فالفصل المشترك للجرم هو: السطح، والفصل المشترك للسطح هو الخط، والفصل المشترك للخط هو النقطة، والفصل المشترك للزمان هو الآن، وللمكان أيضاً فصل مشترك. والمنفصل هو الذي له ترتيب وليس له فصل مشترك وهو: العدد والقول (5) .
قال أبو محمد عليّ بن أحمد رضوان الله عليه (6) ونحن إن شاء الله، عز وجل مفسرون ما ذكرنا في هذا الباب (7) ، على ما شرطنا في أول الكتاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فنقول:
إن القسم الذي (8) هو العدد من هذه السبعة هو الكمية على الحقيقة الذي لا كمية غيره، لكنه يقع على سائر الأنواع التي ذكرنا،فوقوعه على الجرم إنما هو بمساحته: فإن كل جرم في العالم، فله مساحة وذرع (9) ، دق أم عظم، والمساحة عدد يؤخذ بمقدار متفق عليه: إما شبر وإما ذراع وإما ميل [20ظ] وإما فرسخ وإما غلظ ظفر أو شعرة، أو أقل أو أكثر، فلهذا المعنى أدخلوا الجرم في باب الكمية.
__________
(1) ولا ... واحد: سقط من س.
(2) م: أحدهما كذب ... صدق.
(3) م: باب الكمية.
(4) س: منفصل ... متصل.
(5) وهو العدد والقول: سقط من م.
(6) هذا الدعاء لم يرد في م.
(7) الباب: في م وحدها.
(8) الذي: سقطت من م.
(9) وذرع: في م وحدها.(4/146)
والعدد أيضاً واقع على الأجرام بوجه آخر، وهو عدد أجزائه بعد انقسامها، أو عدد الأشخاص إن أردت إحصاء جملة منها، والأجرام هي الأجسام، فتعد ما أردت عدده بواحد، اثنان (1) ، ثلاثة، أربعة، حتى تبلغ إلى ما تريد إحصاءه منها.
وقد رأيت بعض من يدعي هذا العلم يتعقب على الأوائل إدخالهم الجرم تحت الكمية، وهذا يدل على مغيب هذا المعترض عن هذا العلم، وعن الحقيقة المقصودة، ولو أن مثل هذا الصنف من الناس ينصفون أو يتركون التعلم لكان أصون للعلم وأقل ضرراً على أهله وأعظم للمنفعة، لكن صدق الله عز وجل إذ يقول: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم} (هود:119) .
والجرم المذكور هو كل طويل عريض عميق.
وأما وقوع العدد على السطح فالسطح هو (2) نهاية الجرم من جميع جهاته الست، وهذا أيضاً وجه من وجوه وقوع العدد على الجرم، فإنه لا بد لكل جرم من جهات ست، وهي فوق وأسفل وأمام ووراء ويمين وشمال، لا بد لكل جرم من هذه الجهات الست، ولا سبيل إلى جهة سابعة، والست عدد، فهذا عدد لازم واقع على كل جرم. ووقوع العدد بالمساحة على الجرم هو نفس وقوعه (3) على السطح.
ونقول أيضاً في زيادة شرح في السطح: إن السطح هو منقطع كل جرم لاقى جرماً ما (4) ، إما ماء وإما هواء وإما أرضاً وإما غير ذلك، أي جرم كان؛ والمساحة تقع على السطح، على ما قدمنا، إذ لكل سطح مقدار ما معدود مذروع كما وصفنا آنفاً.
وأما وقوع العدد على الخط فالخط هو تناهي كل سطح وانقطاعه، وأمثل ذلك بمثال ليكون زائداً في البيان فأقول: إن السكين جرم ومنتهى (5) جانبيه سطح،
__________
(1) م: اثنين.
(2) فالسطح هو: فهو في س.
(3) م: هو نفسه ووقوعه.
(4) ما: في م وحدها.
(5) م: ومستوى.(4/147)
وتناهي (1) كل جانب من جوانبه خط، فمن أول طرفه الحاد إلى منتهاه خط، وكذلك ما أخذ من تناهي سطحه مع حرف قفاه فهو خط. ونهايته هي النقطة، ولا يقع على النقطة عدد ولا مساحة ولا ذرع لأنها ليست شيئاً أصلاً، وإنما هو اسم عبر به عن الانقطاع والتناهي وعدم تمادي ذلك الجرم فقط؛ فالخط المذكور له أيضاً مساحة وهي مذروعة معدودة، وهذا أيضاً وجه من وجوه (2) وقوع العدد على الجرم.
وأما وقوع العدد على المكان، فالمكان أيضاً جرم من [21و] الأجرام لأنه إما أرض وإما هواء وإما ماء وإما بساط وغير ذلك، أي جرم فيه جرم آخر، ولكل شيء مما ذكرنا مساحة وذرع معدود.
وإما وقوع العدد على الزمان، فالأزمنة ثلاثة: حال وماض (3) ومستقبل، فهذا وجه من وجوه وقوع العدد على الزمان. وأيضاً فالزمان هو مدة بقاء الجرم ساكناً أو متحركاً، والحركات معدودة بأولى وثانية وثالثة (4) وهكذا ما زاد، فالعدد لازم للزمان وواقع عليه من هذا الوجه أيضاً، وإلا فالزمان ليس عدداً محضاً مجرداً لكنه مركب من جرم (5) وكيفيته في سكونه أو حركته ومن عدد تلك الكيفية.
وأما القول: فإنما أراد الأوائل بذلك عدد نغم اللحون، وعدد معاني الكلام، فإن لكل ذلك عدداً محصوراً في ذاته، فمنه ما نعلمه ومنه ما يغمض عنا. وأرادوا بذلك أيضاً الحروف المسموعة بالصوت المندفع من مخارج الكلام، وهي التي تسميها العامة: " حروف الهجاء " وهي التي تبتديء بأبجد أو بألف ب، ت، ث، وهي محصورة معدودة (6) لا مزيد فيها في الطبيعة البتة، وإن كانت قد تتفاوت أعدادها في اللغات، فهي في العربية ثمانية وعشرون حرفاً، وهي في العبرانية اثنان وعشرون حرفاً، وأراها
__________
(1) س: ومتناهي.
(2) وقوع: سقطت من س.
(3) س: وماضي.
(4) وثالثة: سقطت من س.
(5) م: جسم.
(6) م: معدودة محصورة.(4/148)
في الطبع ثمانية وثلاثين حرفاً (1) ، إلى ذلك انتهى تحصيلنا فيها، وأخبرني المخبر (2) ، وهو أبو الفتوح الجرجاني (3) أنها تبلغ في اللغة الفارسية أربعين حرفاً، ولم أستخبره عن الكيفية في ذلك، إلا إن كانوا يعدون منها (4) الأصوات الحادثة من إشباع الحركات الثلاث التي هي الرفع والنصب والخفض، فحينئذ (5) تبلغ واحداً وأربعين حرفاً، وللكلام في هذا المعنى مكان آخر.
وأما العدد نفسه فهو: اثنان ثلاثة أربعة فما زاد، والواحد مبدأ وليس عدداً، كما سنبينه في آخر هذا الباب، إن شاء الله عز وجل.
وأما ما ذكرناه آنفا من أن من (6) العدد ما هو متصل ومنه ما هو منفصل، وما ذكرنا من الفصل المشترك، فالمعنى في الفصل المشترك أنه ما كان أنواع ما يقع عليه العدد له نهاية إذا التقت بنهاية شيء آخر من نوعه اتحد الشيئان معاً، أي صارا شيئاً واحداً، كالجرمين فإنهما إذا التقيا بعد أن كانا مفترقين، وتمازجا، فإنهما يصيران جرماً واحداً كماء جمعته إلى ماء، فصارا ماء واحداً، وتراباً واحداً (7) إلى تراب، وحيطاً إلى حيط (8) ، وما أشبه ذلك، وهذا إنما هو (9) بتلاقي سطحيهما، وكذلك إن التقى سطح وسطح، فصار (10) خطاهما خطاً واحداً، بعد أن كان السطحان [21ظ] مفترقين، كسطح عجين ضممته إلى سطح عجين آخر، فصارا
__________
(1) وهي في العبرانية ... حرفاً: سقط من س.
(2) م: مخبر.
(3) وهو ... الجرجاني: سقط من م؛ وأبو الفتوح هذا هو ثابت بن محمد الجرجاني (350 - 431) أخذ العلم عن علماء بغداد، وهاجر إلى الأندلس، والتحق بباديس بن حبوس، فاتهم بالتدبير ضده، فأخذ وقتل؛ وخبر محنته ومقتله مفصل في الإحاطة 1: 462 وقد كان على صلة بابن حزم، وقد وصفه بالإلحاد (الفضل 1: 17) ؛ وأخباره في الجذوة: 173 (وبغية الملتمس رقم: 602) والصلة: 125 والذخيرة 1/4: 124 ومعجم الأدباء 7: 145 وبغية الوعاة 1: 482.
(4) م: فيها.
(5) م: فهي حينئذ.
(6) س: أن من.
(7) واحداً: سقط من م.
(8) م: وخيط إلى خيط.
(9) هو: سقطت من س.
(10) س: فصارا.(4/149)
عجيناً واحداً، وما أشبه ذلك. وكذلك القول في التقاء الخطين، وكل ذلك إنما هو بضم جرم إلى جرم، وكذلك مكان كان فيه زيد، ومكان كان فيه عمرو إلى جانبه، فقاما عنه، فصار المكانان مكاناً واحداً، فهذا هو الفصل المشترك بين الجرمين الذي هو آخر للأول وأول للثاني، وليس جزءاً لهما ولا لواحد منهما وإنما هو نهاية ارتفعت للأجتماع الحادث. وكذلك الفصل المشترك للزمان، فهو قولك الآن، فإن الآن نهاية للماضي (1) وابتداء للمستقبل، فإذا أتى (2) المستقبل، صار الذي كان الآن ماضياً، مع الماضي قبله، فاتحدا أي صارا زماناً واحداً ماضياً، وقولك " الآن " هو حال لا ماضياً ولا مستقبلاً، فهذا هو الذي قلنا فيه إنه متصل لأنه يتصل الشيئان منه فيصيران شيئاً واحداً.
وأما قولنا في العددً والقول: إنهما منفصلان وإن لهما ترتيباً وليس لهما فصل مشترك، فهو أن الحروف التي ذكرنا آنفاً وهي حروف الهجاء فإنه لا يجوز أن تجتمع الباء مع التاء فيصيران معاً باء واحدة أو تاء واحدة أو حرفاً واحداً، وكذلك الباء مع الباء والتاء مع التاء وكل حرف مع مثله أو مع خلافه كذلك ولا فرق، بخلاف ما ذكرنا قبل من تصير المكانين مكاناً واحداً والزمانين زماناً واحداً والجرمين جرماً واحداً والسطحين سطحاً واحداً والخطين خطاً واحداً. لكن لهذه الحروف ترتيب في ضم بعضها إلى بعض، يقوم من ذلك الترتيب فهم المعاني في الكلام؛ وكذلك النغم، لا يجوز أن تصير النغمتان نغمة واحدة ولا المعنيان معنى واحداً، لكن لكل ذلك ترتيب معلوم، فلهذا سمي القول منفصلاً، وقيل فيه (3) : إنه ليس له فصل مشترك. وكذلك العدد فإنه لا يجوز أن تضم ثلاثة قد انتهت إلى ثلاثة تبتدئها فتصير الثلاثتان ثلاثة واحدة. وهكذا كل عدد إلا أن يضم بعض الأعداد إلى بعض ترتيباً ونظماً معلوماً تعرف به نسبة بعضها من بعض وحدوث أعداد من جمع بعضها إلى بعض، فهذا غاية البيان في هذا الباب، ولم نترك فيه شيئاً من اللبس بحول الله تعالى وقوته الواردة علينا الموهوبة من قبله عز وجل، وله الحمد والشكر، لا إله إلا هو.
__________
(1) م: لما مضى.
(2) م: مضى.
(3) فيه: سقطت من م.(4/150)
وذكر الأوائل أيضاً قسماً آخر لأنواع الكمية التي ذكرنا وهي أنها (1) تنقسم قسمين: أحدهما: لذي [22و] وضع (2) والآخر لغير ذي وضع. تفسير ذلك أن قوله: " ذو وضع " عبارة عما ثبتت أجزاؤه، وقوله " ما ليس ذا وضع " إنما هي عبارة عما لا تثبت أجزاؤه.
فالذي تثبت أجزاؤه هو الجرم والسطح والخط والمكان، لأن أجزاء كل واحد من هذه ثابتة مع مرور العدد عليها، فإنك كلما ذرعت المكان أو الجرم كان ما ذرعت منها باقياً ثابتاً مع ما يستأنف ذرعه من باقيه. والخط والسطح معدود الذرع مع عدك ذرع الجرم الحامل لهما.
وأما الذي هو غير ذي وضع فهو الزمان والعدد والقول، فإنك إذا قلت أمس أو عددت ساعات يومك وجدت كل ما تعد من ذلك فانياً ماضياً غير ثابت ولا باق، وهكذا ينقضي الأول فالأول من الزمان، وكل ما تقضى منه فهو فإن معدوم، بخلاف ما ذكرنا، قبل، من بقاء أجزاء الجرم. ونجد (3) أجزاء الزمان التي لم تأت بعد، معدومة، بخلاف جميع أجزاء الجرم، وما طواه العدد معه من سطوحه وخطوطه. وما أنت فيه من الزمان فلا يثبت ثباتاً تقدر على إقراره وإمساكه أصلاً بوجه من الوجوه، لكنه يثبت ثم ينقضي بلا مهلة، وهكذا أبداً. وكذلك أجزاء القول، إذا تكلمت، من حروفه ونغمه ومعانيه، فإن كل ما تكلمت به من ذلك (4) فقد فني وعدم، وما لم تتكلم به من ذلك فمعدوم لم يحدث بعد، والذي أنت فيه من كل ذلك فلا (5) قدرة لك على إثباته ولا إمساكه ولا إقراره أصلاً، بوجه من الوجوه، لكن (6) ينقضي أولاً فأولاً بلا مهلة، فسبحان مخترع العالم ومدبره.
وأما من ظن أن الكيفيات قد تدخل تحت الكمية أيضاً وذلك لأنه سمع الناس
__________
(1) س: أيضاً.
(2) س: للذي هو وضع.
(3) م: وكذلك تجد.
(4) م: من كل ذلك.
(5) س: لا.
(6) م: لكنه.(4/151)
يقولون: بياض كثير وبياض قليل، فذلك ظن فاسد لأنه إنما يعني بذلك سعة سطح الجرم الحامل للون أو ضيقه وقلة ذرعه، وإنما (1) الكمية هاهنا لمساحة الجرم الحامل كما قدمنا قبل، وكذلك أيضاً من قال: عمل كثير أو طويل، فإنما ذلك لكثرة الزمان وطوله. وليس للكمية ضد البتة: ليس للذراع ضد، ولا للشبر ضد، وكذلك سائر مقادير الكمية. وكذلك من ظن أن الكثير ضد للقليل، والكبير ضد للصغير فظنه فاسد، وإنما ذلك من باب الإضافة، إذ ليس في العالم شيء كبير بذاته، ولا صغير بذاته، وإنما الكبير كبير بالإضافة إلى ما هو أصغر منه، والصغير صغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه. ألا ترى أن حبة الخردل (2) كبيرة بالإضافة إلى الصؤابة وإلى طحن الخردلة، وكذلك الأرض صغيرة بالإضافة إلى الفلك، ولا جزء وإن دق إلا ومتوهم [22ظ] أدق منه. وكذلك الفلك الأعلى الذي لا شيء بالفعل أكبر منه، فالمتوهم (3) في قوة الخالق تعالى الزيادة فيه، وإحداث ما هو أعظم منه. وقد نقول: جبل صغير، وخردلة كبيرة بالإضافة إلى جبل أكبر منه، وبالإضافة إلى خردلة أخرى أصغر منها، فلو كان الصغير ضداً للكبير لكان الشيء ضداً لنفسه لأنه كبير من جهة صغير من أخرى، وهذا محال. وهكذا القول في القليل والكثير، ولا فرق، فإن المائة قليل بالإضافة إلى الألف، وكثير بالإضافة إلى العشرة، وهكذا كل عدد فمتوهم الزيادة عليه (4) أبداً. إلا أن كل ما خرج منه إلى الفعل فمتناه أبداً. ولو كان عشرة في مدينة لكان ذلك عدداً قليلاً جداً، فلو كانوا مع رجل وامرأة (5) في بيت لكانوا عدداً كثيراً جداً، وكذلك لو كانوا بنيه.
واعلم أن الكثير والقليل والطويل والقصير والكبير والصغير والعظيم والحقير والجليل والدقيق والضخم والضئيل والغليظ والرقيق والجسيم (6) واليسير والتافه والنزر كل
__________
(1) م: فإنما.
(2) م: الخردلة.
(3) م: فمتوهم.
(4) تكررت لفظة " الزيادة " بعد " عليه " في م.
(5) م: وامرأته.
(6) م: والضخم والغليظ والضئيل ... والجم.(4/152)
هذه من باب الكمية وليس كل شيء منها موصوفاً (1) به شيء في العالم على الإطلاق، لكن بالإضافة إلى ما فوقه وما دونه - على ما قدمنا -.
والقبل والبعد أيضاً مما يقع في العدد لأن الاثنين قبل الثلاثة، ويقع في الزمان، ويقع في الإضافة على ما نذكر في بابها إن شاء الله تعالى.
والكمية هو كل معنى حسن فيه السؤال عنه بكم، والكمية لا تقبل الأشد ولا الأضعف. لست تقول خمسة أشد من خمسة في (2) أنها خمسة، ولا أضعف منها في ذلك أيضاً، وهكذا كل عدد، وكذلك لا تقول: زمان أشد زمانية من زمان ولا أضعف. وخاصة الكمية التي (3) لا توجد في غير الكمية، ولا يخلو منها نوع من أنواع الكمية فهي مساو ولا مساو وكثير وقليل وزائد وناقص، فإنك تقول هذه العشرة مساوية للثمانية والاثنين، وغير مساوية للثمانية فقط، وهكذا في جميع أنواع الكمية. وهذه عبارة لم تعط اللغة العربية غيرها، وقد تشاركها فيها الكيفية، وهذا (4) يستبين في اللغة اللطينية عندنا استبانة ظاهرة لا تختل (5) ، وهي لفظة فيها تختص بها الكمية دون سائر المقولات العشر. وللكيفية أيضاً في اللطينية لفظة تختص بها اختصاصاً بيناً لا إشكال فيه، دون سائر المقولات، لا توجد لها ترجمة مطابقة في العربية، فإنما يصار في مثل هذا إلى الأبعد من الأشكال على حسب الموجود في اللغة، وبالله تعالى التوفيق [23و] .
وبهذا الذي ذكرنا يتبين (6) أن الواحد ليس عدداً لأن العدد هو ما وجد عدد آخر مساو له، وليس للواحد عدد يساويه، لأنك إذا قسمته لم يكن واحداً بعد بل هو كسير (7) حينئذ، وبهذا وجب أن الواحد الحق إنما هو الخالق المبتدئ لجميع الخلق، وأنه ليس عدداً ولا معدوداً، والخلق كله معدود.
__________
(1) س: موصوف.
(2) في: سقطت من س.
(3) التي: سقطت من س.
(4) م: وهكذا.
(5) م: تحيل.
(6) م: تبين.
(7) م: كثير.(4/153)
3 - باب الكيفية
تكاد الكيفية تعم جميع المقولات التسع، حاشا الجوهر، لكنها لما كانت جواباً فيما يسأل (1) عنه بكيف، لم تعمها عموماً كلياً مطلقاً، إذ من سأل: كيف هذا لم يجب: إنه سبع (2) أذرع، ولا إنه أمس، ولا إنه في الجامع.
والكيفية هو كل ما تعاقب على جميع الأجرام ذوات الأنفس، وغير ذوات الأنفس من حال صحة وسقم وغنى وعدم وخمول ولون، وسواء كانت الأمور التي ذكرنا مزايلة: كصفرة الخوف وحمرة الخجل وكدرة الهم، أو كانت غير مزايلة كصفرة الذهب وخضرة البقل وحمرة الدم وسواد القار وبياض البلور.
ومن الكيفيات أيضاً جميع أعراض النفس من عقل وحمق وحزم وسخف وشجاعة وجبن وتمييز وبلادة (3) وعلم وجهل ورضى وغضب وورع وفسق وإقرار وإنكار وحب وبغض (4) ، ومنها الطعوم والروائح والمجسات وتراكيب الكلام والحر والبرد والصور في جميع (5) الأشكال وسائر الأعراض، كل ذلك كيفية، والتضاد لا يكون إلا في الكيفيات خاصة، وليس يكون في كل كيفية، بل يكون (6) في بعضها دون بعض، والكيفيات أنواع كثيرة جداً، ففي بعض أنواع الكيفية يقع التضاد، فيكون نوع منها ضداً لنوع آخر بذاتهما.
ومن خواص الكيفيات أيضاً أنها قد يكون بعضها أشد من بعض، وبعضها أضعف من بعض، كما كان بعض الكميات أكثر من بعض، وبعضها أقل من بعض. فنقول: إن صوت الرعد أشد من صوت البط وريح المسك أعبق من ريح الصندل، وطعم العسل أحلى من طعم الحنظل (7) ، وهكذا في الخشونة واللين والألوان وفي
__________
(1) س: سئل.
(2) س: سبعة.
(3) م: وبلدة.
(4) س: وبغض وحب.
(5) في جميع: وجميع في م.
(6) بل يكون: لكن في م.
(7) م: المخيطا.(4/154)
كثير من الكيفيات؛ وإنما ذلك منها فيما كانت له وسائط بين ضدين، وكانت تقبل المزاج ومداخلة بعضها بعضاً لا في كل كيفية على ما نبين في باب الكلام في التقابل إن شاء الله عز وجل.
وأما استواء أشخاصها تحت النوع الجامع لها وتحت (1) الجنس فلا يجوز أن يقع في شيء من ذلك تفاوت ولا تفاضل، ولا يجوز أن يقع في شيء من ذلك (2) أشد ولا أضعف، ولا [23ظ] يجوز أن نقول: لون أشد لونية من لون آخر، أي في أن كل واحد منهما لون؛ ولسنا نعني بذلك الإشراق أو الانكسار، وكذلك لا يكون صدق أصدق من صدق آخر ولا كذب أكذب من كذب آخر وإنما يتفاضل هذا في الإثم والاستشناع فقط، وإلا فكذب المزاح كذب بحت، والكذب على الخالق عز وجل كذب بحت، وكذلك المحال كذب بحت (3) متساو كل ذلك في أنه كذب استواءً صحيحاً، لا تفاضل فيه، ولا أشد ولا أضعف، لكن بعضها أعظم إثماً وأقبح في الشناعة من بعض. وكذلك لا يكون علم بشيء أصح من علم آخر بشيء آخر، ولا جهل بشيء أكثر من جهل بشيء آخر، ولا أشد ولا أضعف. فإن دخلت وسيطة الشك في شيء من ذلك، خرجت تلك الكيفية من أن تكون علماً جملة واحدة، ولم يقع ذلك الظن تحت نوع العلم. وكذلك لا يكون سواد أشد من سواد آخر إلا وقد داخل (4) أحد السوادين بياض شابه أو حمرة أو خضرة أو صفرة. وكذلك لا تكون سرعة أشد من سرعة إلا وقد داخل إحداهما توقف في خلال الحركة. وهكذا كل ما يقال فيه أشد وأضعف، فتأمل هذا بعقلك تجده صحيحاً يقيناً لا محيد لك عنه أصلاً.
وأما الخاصة التي تخص جميع الكيفيات ولا (5) تخلو منها كيفية أصلاً فهي شبيه ولا شبيه، فإنك تقول هذا الصدق شبيه بهذا الصدق، وهذا الكذب غير شبيه
__________
(1) س: تحت.
(2) تفاوت.. ذلك: سقط من س.
(3) كذب المحال وقع في م قبل الكذب على الخالق.
(4) س: دخل.
(5) م: فلا.(4/155)
بهذا الصدق، وهكذا في كل كيفية. وقد ذكرنا قبل أن هذه عبارة لم نقدر في اللغة العربية على أبين منها، ولهذا المعنى في اللطينية لفظة لائحة البيان غير مشتركة، ولم توجد لها في العربية ترجمة مطابقة لها فصير إلى أقرب ما وجد رافعاً للإشكال.
والكيفيات أجناس وأنواع متوسطة، وأنواع أنواع، وذلك أن اللون نوع تحت الكيفية وجنس لما تحته، ثم البياض والحمرة والخضرة والصفرة أنواع تحت اللون وذوات أشخاص شتى، وهكذا كيفيات النفس: الفضيلة نوع (1) تحت الكيفية، والصبر نوع تحت الفضيلة، والحلم نوع تحت الصبر، وهذا كثير جداً.
ونقول: إن الكيفيات تنقسم قسمين: جسمانية ونفسانية، فالجسمانية ما عمت الأجسام أو خصت بعضها كاللون والطعم والمجسة وغير ذلك، والنفسانية ما عمت النفوس أو خصت بعضها كالعقل والحمق والعلم والجهل والفكر والذكر والتوهم وسائر أخلاق النفس.
ونقول أيضاً: إن القسمين اللذين ذكرنا ينقسم كل واحد منهما قسمين: أحدهما ما كان بالقوة، وهو ما كان يمكن ظهوره إلا أنه لم يظهر بعد، كقعود القائم وكفر المؤمن وإيمان الكافر وغضب الحليم وحلم الغضبان [24و] وسواد ما يحمل الصبغ مما لم يصبغ بعد وما أشبه ذلك. والثاني ما كان بالفعل، وهو ما (2) قد ظهر وعلم حساً أو بتوسط حس أو بالعقل، كحمرة الأحمر، وطول الطويل، وحلاوة الحلو، وإيمان المؤمن، وحلم الحليم، وما أشبه ذلك، فهذا هو معنى ما نفهمه بالحكاية (3) عن الأوائل أنهم يقولون: هذا الأمر بالقوة، وهذا الأمر بالفعل، وإنما يعنون بالقوة الإمكان وما احتملت (4) البنية أو الرتبة أن يوجد فيها أو بها، ويعنون بالفعل: الذي قد ظهر ووجد ووجب (5) .
__________
(1) نوع: سقطت من س، وورد فيها " الفضيلية ".
(2) ما: سقطت من س.
(3) م: تسمع الحكاية.
(4) س: احتمل.
(5) م: ووجب وجد.(4/156)
ثم نقول: إن الكيفيات أيضاً تنقسم قسمين أحدهما يسمى: " حالاً " وهو ما كان سريع الزوال كالغضب الحادث والطرب الحادث وحمرة الخجل وصفرة الفزع والقيام والقعود وما أشبه ذلك؛ والثاني يسمى " هيئة " وهو ما لم يعهد زائلاً عما هو فيه، إلا أن يتوهم زواله ويبقى الذي هو فيه بحسبه: كطبع الشح وطبع النزق وطبع السخف وكزرقة الأزرق وفطسة الأفطس وما أشبه ذلك.
وأما (1) الكيفية الجسمانية فهي تقع تحت الحواس وهي تنقسم قسمين: أحدهما يحيل ضده إذا لاقاه إلى طبعه فيسمى ذلك " فاعلاً " وهذا (2) كالحر والبرد، فإن الحر إذا لاقى برداً لا يقاومه أكسب حامله حراً، والبرد إذا لاقى حراً لا يقاومه أكسب حامله برداً. والقسم الثاني يضعف هذا الأمر منه ويكثر فيه فعل القسم الأول، فيسمى هذا القسم الثاني " منفعلاً " وذلك مثل الرطوبة واليبس، فإن الحر إذا لاقى رطباً أيبسه، وقد يرطبه أيضاً، بأن تصعد إليه رطوبة.
ووقوع الكيفية الجسمانية تحت الحواس ينقسم خمسة أقسام: أحدهما ما يدرك بحس البصر، والثاني ما يدرك بحس السمع، والثالث ما يدرك بحس الشم، والرابع ما يدرك بحس الذوق، والخامس ما يدرك بحس اللمس باليد أو بجميع الجسد. وكل هذه الحواس موصلات إلى النفس، والنفس هي الحساسة المدركة من قبل هذه الحواس المؤدية إليها. وهذه الحواس إلى النفس كالأبواب والأزقة والمنافذ والطرق. ودليل ذلك أن النفس إذا عرض لها عارض أو شغلها شاغل بطلت الحواس كلها، مع كون (3) الحواس سليمة، فسبحان المدبر، لا إله إلا هو.
وأما (4) الذي يدرك بحس البصر فينقسم قسمين: أحدهما ما يدرك بالنظر بالعين مجرداً فقط، وليس ذلك شيئاً غير الألوان، والثاني ما أدركته النفس بالعقل والعلم وبتوسط اللون أو اللمس أو بهما جميعاً، كتناهي الطول والعرض، وشكل كل ذي
__________
(1) م: فأما.
(2) س: وهكذا.
(3) م: على أن تكون.
(4) م: فأما.(4/157)
شكل من مدور ومربع وغير ذلك، والحركة أو السكون أو [24ظ] ضخم الجسم وضؤولته، وما أشبه ذلك. فإنك لما رأيت اللون قد انتهى وانقطع، علمت أن حامله قد تناهى فانتهى طوله، وكذلك علمت (1) بتناهيه من كل جهة كيفية شكل ذلك الجرم، وكذلك لما رأيت اللون منتقلاً من مكان إلى مكان علمت أن الحامل له منتقل (2) ناقل له، وكذلك لما رأيت اللون ساكناً علمت أن حامله ساكن، وهذا كله (3) يدركه البصير، والأعمى باللمس، كما قلنا في اللون، سواء سواء. فإنك إن لمست مجسة الشيء منتقلة، علمت أن حامل تلك المجسة متحرك، وإن لمستها ساكنة، علمت أن حاملها ساكن في مائية البصر وإدراكه (4) . ومن هذا ما يدرك بتوسط اللون وحده والعقل فيوصلان إلى النفس ما أدركا وما فهم العقل بتوسط إدراكه وإدراك البصر معاً، كالمعاني المفهومة المعلومة من الخط في الكتاب، فإنك بتناهي ألوان الخطوط تعلم الحروف التي من تأليفها تفهم المعنى وكمعرفتك بهيئة الإنسان أنه خجل أو خائف أو مأسور أو غضبان أو ملك أو عالم وما أشبه ذلك. فمن معرفتك برؤية اللون ومعرفة الصفات عرفت من هو المرئي وما هو. وللكلام في مائية البصر وإدراكه للألوان مكان آخر. ولكن نذكر منه ها هنا طرفاً بحسب استحقاق هذا الديوان، وهو: إن البصر إذا لاقى ملوناً وانقطع علمت أن حامله قد انتهى وانتهى طوله، وكذلك علمت (5) أنه خرج من الناظرين خطان يقعان على المرئي بلا زمان ويتشكل ذلك المرئي فيهما، وفي قوة الناظر قبول لجميع الألوان. وإنما قلنا بلا زمان، لأنك ترى الكواكب التي في الأفلاك البعيدة إذا أطبقت بصرك ثم فتحته بلا زمان. وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته فإنك ترى أقرب الأشياء إليك في مثل الحال التي رأيت فيها الكواكب لا في أسرع منها، فصح أنه يقع على المرئي بلا زمان. وأيضاً فإن في الطريق إلى المرئي البعيد (6) أشياء كثيرة لا يقع عليها البصر،
__________
(1) وانقطع ... علمت: سقط من س.
(2) م: الحامل منتقل له.
(3) م: كله أيضاً.
(4) في ... وإدراكه: سقط من م.
(5) وانقطع.. علمت: سقط من م.
(6) البعيد: لم ترد في س.(4/158)
إما بظلام (1) حواليها، وإما لاشتباه الألوان، فلو قطع الأماكن بنقلة زمانية لرأى الأقرب قبل الأبعد. وإنما قلنا بخروج الخطين من الناظرين دون الرأي الآخر الذي لبعض الأوائل، لأننا نقدر على صرف ذينك الخطين كيف شئنا، بمرآة تقابل مرآة أخرى فترد قوة النظر إلى قفا الناظر. وقد ترد ذينك الخطين أيضاً الأبخرة المتصاعدة والماء وغير ذلك، وبمرآة تنظر فيها فينعكس ذانك الخطان فترى وجهك. وكذلك أيضاً (2) ينعكس الصوت الخارج من الصائح قبالة جبل بعد أن يقرع الجبل فيرجع إلى أذن ذلك الصائح، فيسمع صوته نفسه كأن مكلماً آخر رد [25و] عليه مثل كلامه، وفي هذا كفاية.
وأما المحسوس بالسمع فينقسم قسمين: أحدهما الإدراك بسمع الأذن نفسه بذاته بلا واسطة (3) ، لكن بملاقاة الهواء المندفع ما بين المصوت، أي شيء كان، وما يقرع أو ما يقرعه، بالطبع الذي ركبه فيه الباري عز وجل إلى صماخ (4) أذن السامع. وهو يقطع الأماكن في مدة متفاوتة على قدر البعد والقرب وقوة (5) القرع وضعفه، فلذلك صار بين أول القرع الذي هو عنصر الصوت وبين سماع السامع له مدة؛ وإنا نستبين (6) ذلك إذا كان المصوت منك على بعد جداً فحينئذ يصح أن له مدة كالذي يشاهد (7) من ضرب القصار الأرض بالثوب فنراه حين يفعله (8) بلا زمان ثم يقيم (9) حيناً، وحينئذ يتأدى إلينا الصوت. وهكذا القول في الرعود الحادثة مع البروق فإن البرق يرى أولاً حين حدوثه في الجو بلا مهلة ثم يقيم (10) حينئذ حيناً ثم يسمع الرعد، ذلك تقدير العزيز العليم.
__________
(1) م: لظلم.
(2) أيضاً: سقط من س.
(3) م: بلا توسط.
(4) صماخ: في م وحدها.
(5) م: في قوة.
(6) م: وإنما يستبين.
(7) م: نشاهد.
(8) س: يقلعه.
(9) م: نقيم.
(10) م: ونقيم.(4/159)
والقسم الثاني هو ما تدركه النفس بالعقل والعلم وبتوسط الصوت مثل تأليف اللحون وتركيب النغم ومعاني الكلام المسموع وما أشبه ذلك، إذ إنما تأدى إلينا كل ذلك بحاسة السمع وتوسطها. وبهذا القسم صح لنا أن نقول سمعنا كلام الله عز وجل وسمعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسمعنا كلام فلان وفلان ممن لم نشاهده وقدم زمانه من السالفين من البلغاء والشعراء وكل من حكي لنا كلامه. ومن ذلك تمييزك بالكلام من هو المتكلم وما حاله: أسائل أم ملك أم مريض وما أشبه ذلك، وكمعرفتك بالصوت ما هو المصوت وأي الأشياء هو. وأما المحسوس بالشم فهي الأرائح (1) من الطيب والنتن وما بينهما من الوسائط كروائح بعض المعادن (2) وما أشبه ذلك. والشم هو إدراك النفس بتوسط الشم من الأنف تغيراً يحدث في الهواء الذي بينهما وبين المشموم وانفعالاً من طبع المشموم وانحلال بعض أجزائه من رطوباته. وقد تدرك النفس أيضاً بتوسط العقل والشم معرفة مائية المشموم الرائحة كمعرفتنا المسك بتمييزنا رائحته، والنتن كذلك، وكذلك سائر المشمومات. وأما المحسوس بالذوق فهو الطعوم كالحلاوة والمرارة والتفاهة والزعوقة (3) والملوحة والحموضة والحرافة والعفوصة؛ وهو إدراك النفس بملاقاة أعضاء الفم جسم المطعوم (4) ، لا بتوسط شيء (5) بينها وبينه إلا انحلال (6) ما ينحل من المطعوم من رطوباته فيمازج رطوبة الحنك واللسان والشفتين واللهوات. وقد تدرك الأعضاء [25ظ] المذكورة أيضاً بعض الطعوم (7) بتوسط الهواء وانحلال بعض أجزاء الطعوم فيه كالحنظل المدقوق؛ وقد تدرك النفس أيضاً بتوسط الذوق والعقل معرفة مائبة المذوق كمعرفتنا بذوق العسل في الظلام أنه عسل وكذلك غير ذلك من المذوقات ومعرفتنا بأنه عسل غير معرفتنا بأنه حلو. أما معرفة أنه حلو فبالذوق مجرداً وأما معرفة أنه عسل فبتوسط العقل والذوق معاً. وكذلك القول (8) في الأقسام المتقدمة
__________
(1) م: الأراييح.
(2) م: المعاذر.
(3) س: والتفاهة والدعوق.
(4) م: الطعوم.
(5) شيء: سقطت من س.
(6) س: إلا بانحلال؛ وسقطت " إلا " في م.
(7) م: الطعوم.
(8) القول: سقطت في م.(4/160)
في سائر الحواس. وأما ما لا ينحل منه شيء فلا طعم له ولا رائحة كبعض الحجارة وكالزجاج وما أشبه ذلك، على قدر قوة ما ينحل من المذوق تدرك النفس طعمه.
وأما المحسوس باللمس فهو ينقسم قسمين: أحدهما ما (1) تدركه النفس بملاقاة بشرة الجسد السليم لسطح الملموس بلا توسط شيء بينهما، إما من استواء أجزاء سطحه ويسمى ذلك املاساً (2) ، وإما من ثباته فيسمى صلابة، وإما من تفرقها فيسمى تهيلاً أو تهولاً (3) ، وإما من اختلاف أجزاء سطحه ويسمى (4) ذلك خشونة. والثاني ما أدركته النفس بالعقل والعلم وبتوسط اللمس المذكور أو البصر كالذي قدمنا قبل من معرفة تناهي الجسم وكيفية الأشكال والحركة ومائية الملموس: أي (5) شيء هو فإنه يعرف ما هو بتوسط العقل واللمس معاً أو بحس النفس مجرداً أو بتوسط (6) اللمس وحده بلا عقل (7) كالحر والبرد والرطوبة واليبس. فقد صح كما ترى أن العقل يشارك جميع الحواس فيما تدركه وينفرد عنها بالدلالة على أشياء كثيرة وإدراك أشياء جمة.
4 - باب الإضافة
الإضافة على الحقيقة: هي ضم شيء إلى شيء وها هنا عبارة أخرى أخص (8) بالمعنى المراد بالإضافة في طريق الفلسفة وهي أن تقول: الإضافة هي نسبة شيء من شيء وحسابه منه، كالقليل الذي لا يكون قليلاً إلا بإضافته إلى ما هو أكثر منه ونسبته إليه وحساب قدره من قدره.
__________
(1) ما: سقطت من م.
(2) س: بذلك.
(3) م: ترهلاً أة تهيلاً.
(4) م: فيسمى.
(5) أي أي.
(6) أو بتوسط: وتوسط في م.
(7) بلا عقل: في م وحدها.
(8) م: هي أخص.(4/161)
وأما الغرض المقصود بالإضافة في هذا المكان (1) فهو نسبة شيئين متجانسين ثبات كل واحد منهما بثبات الآخر يدور عليه ولا ينافيه. ومعنى قولنا متجانسين أي أنهما تحت جنس واحد من المقولات العشر التي قدمنا أنها أجناس الأجناس. والمضافان هما الشيئان اللذان لا يثبت واحد منهما إلا بثبات الآخر. وبالجملة فإن الأوائل لما رأوا شيئين لا يثبت (2) أحدهما إلا بثبات الآخر، رأوا أن (3) ضم كل واحد منهما إلى صاحبه معنى ثالث غيرهما، فجعلوا ذلك [26و] المعنى رأساً من رؤوس المقولات وهو الإضافة، فتكلموا عليه مجرداً، وإن كان لا يتجرد، لكن كما تكلموا على الكيفية مجردة وعلى الكمية مجردة، وعلى الجوهر مجرداً، وإن كان الجوهر لا يخلو أبداً من كيفية وكمية وزمان ومكان، ولا تخلو الكيفية من جوهر يحملها، ولا تخلو الكمية من معدود، ولا الزمان من ساكن أو متحرك، ولا المكان من متمكن، لكن لتخلص الأشياء المتغايرات ويتبين (4) لكل طالب للعلم حكم كل شيء على انفراده، فإنما أتت البلية في الآراء والديانات من قبل امتزاج الكلام والضعف عن تخليص حكم كل شيء لما هو مخصوص به دون غيره.
والمضاف ينقسم قسمين لنظير ولغير نظير، فالنظير هو الذي يتفق فيه المضافان بالأسم والإضافة معاً، كقولك: المصادق أو الجار أو الأخ أو المعادي (5) فإنه لا يكون أحد مصادقاً لأحد إلا وذلك الآخر مصادق له وكذلك المعادي والأخ والجار. وأما (6) الذي يخرج من باب هذه الإضافة فالصديق والعدو فقد يكون المرء صديقاً لمن ليس هو (7) له صديقاً أي محباً وكذلك العدو فقد يعادي الإنسان من يحبه ككثير من الأبناء لآبائهم وبعض الأزواج لبعضهم. وأما غير النظير فينقسم قسمين: أحدهما ما كانت فيه ذات كل أحد (8) من المضافين موجودة قبل الإضافة، مثل
__________
(1) م: الكتاب.
(2) م: يثبت كل.
(3) رأوا أن: وأن في س.
(4) م: ولكن ليخلصوا ... ويبينوا.
(5) ربط بين هذه الألفاظ بواو العطف في م.
(6) م: وإنما.
(7) هو: سقطت من س.
(8) م: واحد.(4/162)
المالك والمملوك والزوج والزوجة، فإن المملوك قد يكون موجوداً فلم يكن أباً حتى وجد الابن، وبالجملة فاستحقاق أحد المضافين لاسم الإضافة بينهما سواء، لا يتقدم أحدهما الآخر فيها، وذلك لأنه إذا ذكر أحد المضافين بالاسم الذي يقتضي الإضافة دل ذلك على وجود الآخر ضرورة كقولنا أب، فإن هذا الاسم يقتضي ابناً مضافاً إليه ضرورة (1) ، وهكذا كل مضاف. وكذلك لا يجوز أن نقول ضعف إلا ووجب مضعوف، والمضعوف هو اسم لعدد يسمى النصف الثاني إذا أضيف إلى هذا النصف ضعفاً له، وهكذا القول في الصغير والكبير (2) والقليل والكثير والخفيف والثقيل والرخو والمكتنز [26ظ] والمساوي والمثل وغير ذلك مما يقتضي مضافاً إليه. والإضافة تقع في جميع المقولات إذا أصبت (3) في إدارتها وإيقاع حكمها فإنك تقول في الكيفية: الهيئة هيئة للمتهيء بها، والمتهيء بالهيئة ذو هيئة، والجعد جعد بالجعودة، والجعودة جعودة للجعد، وكذلك العلم يقتضي عالماً والعالم فيما بيننا يقتضي علماً، وكذلك سائر الكيفيات (4) . وكذلك جميع الكميات: فالعدد يقتضي معدوداً والمعدود يقتضي عدداً. وكذلك المكان يقتضي متمكناً والمتككن يقتضي مكاناً. وكذلك ذو (5) الزمان يقتضي زماناً، والزمان يقتضي ذا زمان. وكذلك القيام والقعود والملك والفعل والانفعال. وإنما تكون الإضافة صحيحة إذا أصبت (6) في لفظ إيقاعها وإدارتها. ولذلك قالت الأوائل إن الإضافة
__________
(1) كقولنا ... ضرورة: سقط من س.
(2) م: الكبير والصغير.
(3) م: أصيب.
(4) م: سائر جميع الكيفيات.
(5) ذو: سقطت من م.
(6) م: أصيب.(4/163)
موجودة في المقولات كلها بالعرض لا بالطبع، أي أنها ليست موجودة في اقتضاء اللفظ لها على كل حال لأنك إذا قلت: الطائر بالجناح طائر كان غير مستقيم لأنك تجد ذا جناح لا يطير كالنعام وتجد ما قد ذهب جناحه بآفة وهو يسمى طائراً، ولكن إن قلت: ذو الجناح بالجناح ذو جناح والجناح لذي الجناح جناح كان قولك صحيحاً صواباً، فتحفظ من مثل هذا في مناظرتك وفي طلبك (1) الحقائق فإنك ربما ألزمت في شيء أنه يقتضي شيئاً آخر فتجيب إليه وذلك غير واجب عليك ولا لازم (2) لك - على ما قدمنا - وهذا من أغاليط الأرذال الممخرقين، وذلك نحو قول بعض الكذابين: الفاعل من أجل فعله جسم، والباري جل وتعالى فاعل، فالباري جسم، فهذا فاسد جداً لما قد (3) بينا لك لأنه ليس من أجل أن الفاعل فاعل وجب أن يكون جسماً، لكن الصواب في القضية أن نقول: الفاعل بالفعل فاعل أو ذو فعل فهذه قضية صحيحة تعلمها النفس بأول العقل. وقد غالط بعضهم أيضاً فقال: السميع بالسمع سميع والحي بالحياة حي فأرادوا أن يوجبوا للباري تعالى حياة وسمعاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ ونحن لم نسم الباري تعالى حياً من أجل وجود الحياة له فيلزمنا إضافة الحياة إليه، وكذلك التسمية له تعالى بأنه سميع بصير؛ وإنما سميناه حياً وسميعاً وبصيراً اتباعاً للنص لا لمعنى أوجب ذلك وليس شيء من ذلك مشتقاً من عرض فيه، تعالى الله (4) عن أقوال الجهلة الملحدين، وعن أن (5) يقع تحت الأجناس والأنواع وعن [27و] حمل الأعراض فكل هذا تركيب لا يكون إلا في محدث وإنما هذه أسماء أعلام للباري تعالى فقط. وكذلك القول في أن المجداف للسفينة مجداف والسفينة بالمجداف سفينة خطأ لكن الصواب أن تقول المجداف للمجدوف مجداف والمجدوف بالمجداف مجدوف. وكذلك لو قال إنسان: الراس بالإنسان راس والإنسان بالرأس
__________
(1) م: مناظراتك وطلب الحقائق.
(2) س: وإلا لزم.
(3) قد: سقطت من م.
(4) الله: لم ترد في م.
(5) وعن أن: وأن في س.(4/164)
إنسان لكان خطأ، إذ قد يكون ذو رأس ليس إنساناً، لكن الصواب ذو الرأس بالرأس ذو رأس والرأس لذي الرأس رأس فهذه الرتبة هي غاية الصحة والإصابة. فهذه هي (1) الرؤوس الأربعة والست البواقي منها مركبات على ما يقع في أبوابها إن شاء الله تعالى (2) .
5 - باب القول على الزمان
قد بينا في باب الكمية ما الزمان وما معنى هذه اللفظة وأنها مدة وجود الجرم ساكناً أو متحركاً، فلو لم يكن جرم لم تكن مدة، ولو لم تكن مدة لم يكن جرم. وقد ذكرنا في باب الإضافة وجه كون الزمان مضافاً، والله جل وتعالى (3) ليس جرماً ولا محمولاً في جرم فلا زمان له ولا مدة، تعالى الله عن ذلك، ولو كانت له تعالى مدة لكان معه أول آخر غيره، ولو كان ذلك لوقع العدد عليهما ودخلا بعددهما تحت نوع من أنواع الكمية. ولو كان ذلك لكان تعالى محصوراً محدوداً (4) محدثاً، تعالى الله عن ذلك. وهو تعالى لا يجمعه مع خلقه عدد إذ لا يكون الشيئان معدودين بعدد واحد إلا باجتماعهما في معنى واحد ولا معنى يجمع (5) الخالق والخلق أصلاً.
والزمان ينقسم ثلاثة أقسام: أحدهما مقيم وهو الذي يسميه النحويون فعل الحال ثم ماض ثم آت وهو الذي يسميه النحويون الفعل المستقبل. وقد أكثروا في الخوض في أيها قبل وإنما ذلك للجهل بطبائع الأشياء وحقائقها. وهذا أمر بين وهو أن الحال وهو الزمان المقيم أولها كلها لأن الفعل حركة أو سكون يقعان في مدة فإذا كان زمان الفعل أولاً لغيره من الأزمان، فالفعل الذي فيه أول لغيره من الأفعال ضرورة، والزمان المقيم أول الأزمنة كلها لأنه قبل أن يوجد مقيماً لم يكن موجوداً البتة ولا كان شيئاً أصلاً، وما ليس شيئاً فإنما هو عدم فلا وجه للكلام فيه بأكثر من أنه عدم ولا
__________
(1) هي: سقطت من س.
(2) إن شاء الله تعالى: والله أعلم بالصواب في م.
(3) م: والباري تعالى.
(4) محدوداً: سقطت من س.
(5) س: لجمع.(4/165)
شيء. ثم لما وجد كان ذلك أول مراتبه في الحقيقة، ثم انقضى وصار (1) ماضياً وصح الكلام فيه لأنه قد كان حقاً [27ظ] موجوداً. وإنما غلط من غلط في هذا الباب لوجهين: أحدهما أنه راعى حال نفسه فلما وجد نفسه مستقبلة للأمور قبل كونها وللزمان قبل حلوله وقبل مضي كل ذلك، قدر أن (2) الزمان المستقبل قبل المقيم وقبل الماضي وهذا غلط فاحش وجهل شديد، لأنه موافق لنا من حيث لا يفهم. ألا ترى أنه إنما جعل الأول في الرتبة كونه مستقبلاً لما لم يأت وهذا هو الزمان المقيم على الحقيقة، وفعله لذلك هو فعل الحال لا غيره، وهو الذي قلنا فيه إنه أول الأزمنة والمقدم من الأفعال، ثم جاء ذلك الزمان المستقبل والفعل المنتظر معه بعد ذلك. والماضي أشد تحققاً من المستقبل لأن الماضي قد كان موجوداً ومعنى صحيحاً يحسن (3) الأخبار عنه وتقع الكمية عليه والكيفية، والمستقبل بخلاف ذلك كله.
واعلم أن الموجود من هذه الأزمنة هو المقيم وحده، والموجود من الأفعال هو المسمى حالاً الذي هو في الزمان المقيم، لأن الماضي إنما كان موجوداً وثابتاً وصحيحاً وحقيقة وشيئاً إذ كان مقيماً، ثم لما انتقل عن رتبة كونه مقيماً عدم وبطل وتلاشى. والمستقبل إنما يوجد ويصح ويثبت ويصير حقيقة وشيئاً إذا صار مقيماً وأما قبل ذلك فليس شيئاً وإنما هو عدم وباطل. فتدبر هذا بعقلك تجده ضرورياً يقيناً لا محيد عنه ولا سبيل إلى غيره إلا لمن كابر حسه وناكر عقله، نعوذ بالله من ذلك. والوجه الثاني أن الذي لم يحقق النظر لما لم يقدر على إمساك الزمان وقتين تفلت عليه ضبط الزمان المقيم ولم يكد يتحقق ذلك لحسه. فليعلم (4) أن الزمان لا يثبت وإنما هو منقض أبداً شيئاً بعد شيء، والزمان المقيم هو الآن؛ فإن قولك " الآن " هو فصل موجود أبداً بين الزمان الماضي والزمان الآتي؛ والآن هو الموجود في الحقيقة من الزمان أبداً، وما قبل الآن
__________
(1) م: فصار.
(2) أن: سقطت من م.
(3) س: لحسن.
(4) س: فلتعلم.(4/166)
فماض وما بعد الآن فمستقبل؛ إلا أن العبارة في اللغة العربية عن الزمان المقيم والزمان المستقبل بلفظ واحد وهو في اللغة الأعجمية بصيغتين مختلفتين وذلك أوضح في البيان والإفهام. إلا أن في اللغة العربية إذا أردت تخليص المستقبل محضاً ورفع الاشكال عنه أدخلت عليه (1) السين أو سوف فقلت سيكون أو سوف يكون فأتى المستقبل مجرداً مخلصاً. وإن شئت زدت لفظاً غير هذا [28و] وهو مثل قولك غداً أو بعد ساعة أو فيما يستأنف أو ما أشبه ذلك من الألفاظ (2) التي تحدد (3) معنى الاستقبال مخلصاً بلا إشكال. والزمان مركب من جرم ومن كيفية في سكونه أو حركته ومن عدد أجزاء سكونه أو أجزاء حركاته فلذلك لم يكن رأساً مع الأربع المقولات المتقدمات. والقبل والبعد واقع في الزمان بإضافة بعضه إلى بعض، والله أعلم.
6 - باب القول في (4) المكان
المكان (5) هو ما كان جواباً في السؤال بأين: فتقول أين محمد فيقول المجيب: في المسجد أو في القصر أو في منزله أو ما أشبه ذلك. والمكان لا يكون البتة إلا جرماً، لا يجوز غير ذلك. وإنما تركب المكان من جرم أضيف إلى جرم بمعنى أنه لاقى أحد سطوح المكان أحد سطوح المتمكن أو بعضها أو جميعها على حسب تمكن المتمكن في المكان. والمتمكن مع المكان ينقسم قسمين: أحدهما أن يكون المتمكن متشكلاً بشكل المكان الذي هو فيه وذلك مثل كل شيء مائع الأشياء أو منثورها، في كل شيء (6) جامد الأجزاء أو مجموعها، كالماء في الخابية فإنه يتشكل بشكل الخابية (7) حتى لو تمثلته قائماً لرأيته في صفة الخابية نفسها، وترى ذلك عياناً إذا جمد الماء (8)
__________
(1) عليه: سقطت من م.
(2) م: ما أشبه هذه الألفاظ.
(3) م: مما يجرد.
(4) م: على.
(5) المكان: في م وحدها.
(6) شيء: في م وحدها.
(7) في صفة الخابية: سقطت من م.
(8) الماء: سقطت من م.(4/167)
فيها بعد ميعانه وانكسرت الخابية، وكالبر والدقيق في الإناء المربع أو المثلث أو غير ذلك من الأشكال فإنك ترى كل ذلك أيضاً متشكلاً بشكل إنائه أو البيت الذي هو فيه على ما قدمنا قبل، فهذا قسم.
والقسم الثاني أن يكون المكان متشكلاً بشكل المتمكن فيه وذلك معكوس القسم الذي ذكرنا قبل، وهو كون كل جامد الأجزاء أو مجتمعها في كل مائع الأجزاء أو منثورها ككون الجرم في الماء أو في الهواء فإن مكانه فيهما متصور بصورته، ويمثل ذلك بجرم بيضة أو عود أدخلته في ماء فجمد الماء حواليه (1) بعد أن كان مائعاً فإنك تجده متشكلاً بشكل ما هو فيه أي متصور بصورته وهيئته. وكذلك كون الحجر في الدقيق أو البر فإن مكانه متشكل بشكله. والهواء جرم من الأجرام ذو جهات ست قابل للمتضادات من الحر والبرد والرطوبة واليبس إلا أنه لما لم يكن ملوناً لم تقع عليه حاسة البصر فلم ير. وأنت تعلم أنه جرم بحركتك يدك أو المروحة أو إذا (2) عدا بك فرس سريع فإنك تجد جرماً ملاقياً لك تحسه حساً قوياً لا ينكره إلا جاهل سخيف أو معاند. وكون الأجرام فيه متمكنة وهو مكان لها ككون الحيوان المائي في الماء، متى أنتقل [28 ظ] جرم من الأجرام التي في الهواء أو الماء من المكان الذي كان فيه إلى مكان آخر انتقل ما كان في مكانه الذي صار إليه من الهواء ومن الماء إلى المكان الذي كان فيه إلى مكان آخر انتقل ما كان في مكانه الذي صار إليه من الهواء ومن الماء إلى المكان الذي خرج عنه؛ والخلاء باطل وتفسيره مكان لا متمكن فيه، إذ المكان والمتمكن من باب الإضافة، فلا يكون متمكن إلا في مكان ولا مكان إلا لمتمكن ضرورة.
والبرهان على بطلان الخلاء لذكره مكان غير هذا، إلا أنا ندل منه على طرف كاف إن شاء الله عز وجل لنتم الكلام في طبيعة المكان وهو ما تراه من فعل الإناء المتخذ للهو الصبيان المسمى سارقة الماء وفعل الزراقة والمحجمة، فإن هذه الأشياء تستحيل بها الأشياء الثقال التي من طبعها الرسوب عن طبائعها في السفل إلى الارتفاع والتصعد
__________
(1) س: حواليها.
(2) أو إذا: وإذا في م.(4/168)
لأنه لو خرج (1) الهواء من هذه الأشياء أو الماء ولم يستخلف مكان كل ذلك جرماً آخر لكان ذلك المكان خالياً، ولو كان ذلك لصح الخلاء، فلما لم يكن ذلك أصلاً بوجه من الوجوه علمنا أن الخلاء محال معدوم لا سبيل إليه. وفي هذا كفاية (2) . فإن قال قائل: إذا كان كل (3) جرم يقتضي مكاناً وكان كل مكان جرماً (4) فكل مكان يقتضي مكاناً أبداً. وأراد بهذا أن يثبت أن لا نهاية لجرم العالم فهذا شغب فاسد. وقد أوضحنا تناهي جرم الفلك والعالم في " كتاب الفصل (5) " فأغنى عن ترداده إلا أنا نذكر ها هنا منه طرفاً ليتم الغرض إن شاء الله. وإنما نورد في هذا الكتاب ما يليق بمعناه المقصود فيه، بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن الجرم واقع تحت الكمية بذرعه على ما قدمنا وكرة العالم جرم قد ظهر بالفعل، فالعدد واقع على مساحته ضرورة، ولا يقع العدد إلا على محصور به أي معدود به، وقد قدمنا أنه لا عدد إلا وله أعداد أخر إذا جمعت كانت له (6) مساوية، ولا تقع المساواة إلا في متناه ضرورة، وكل ما وقع عليه الإحصاء بالعدد والكمية فمتناه ولا بد، وأيضاً فكل عدد خرج إلى حد الفعل فذو أجزاء كنصف وثلث وما أشبه ذلك وكل هذا يوجب النهاية يقيناً وهذا من باب الإضافة، فالفلك الذي هو محيط بالعالم كله متناه (7) ضرورة.
__________
(1) لأنه لو خرج: لولوج في س.
(2) تحدث ابن حزم عن هذا الموضوع بشيء من الإسهاب في الفصل 1: 25 - 27 ثم قال: 32 ومما يبطل به الخلاء الذي سموه مكاناً مطلقاً وذكروا أنه لا يتناهى وأنه مكان لا متمكن فيه برهان ضروري لا انفكاك منه وأطراف شيء أنه برهانهم الذي موهوا به وشغبوا بإيراده وأرادوا به إثبات الخلاء، وهو: أننا نرى الأرض والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو ذلك طباعها السفل أبداً وطلب الوسط والمركز وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهراً، فإذا رفعناهما ارتفعا، فإذا تركناهما عاد إلى طبعهما بالرسوب؛ ونجد النار والهواء طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط، ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسراً تدخل عليهما، يرى ذلك عياناً كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب في الماء، فإذا زالت تلك الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما. ثم نجد الإناء المسمى سارقة الماء يبقى فيها صعداً ولا ينسفل ونجد الزراقة ترفع التراب والزئبق والماء ... ونجد المحجة تمص الجسم الأرضي إلى نفسها.
(3) كل: سقطت من س.
(4) م: وكل مكان جرم.
(5) الفصل 1: 14 وما بعدها.
(6) له: سقطت من م.
(7) س م: متناهي (وله أشباه كثيرة) .(4/169)
فإن قال قائل: فإن الفلك له مكان (1) قيل له، وبالله تعالى التوفيق: كل جزء منه فالجزء الملاصق له هو مكان له لا مكان له غيره البتة، وحركته دورية لا ينتقل بها عن مكانه لكن يصير كل جزء حيث كان الذي يليه فقط، إلا أن الصفحة العليا منه لا يلاصقها من أعلاها شيء أصلاً بوجه من الوجوه لا خلاء ولا ملاء، ولا فوقه لا مكان ولا متمكن ولا مساحة [29و] ولا شيء (2) يقع عليه الوهم بوجه من الوجوه. وقد قدمنا أن كل جرم فذو ستة سطوح: فوق وأسفل ويمين وشمال وأمام ووراء، والفوق والأسفل قد يقع في الإضافة لأنه توجد أشياء هي فوق أشياء وتحت أخر، وقد لا يقعان أيضاً في باب الإضافة من هذا الوجه فإن صفحة الفلك العليا فوق لا فوق له أصلاً، فليست تحتاً لشيء البتة، ومركز كرة الأرض تحت لا تحت له أصلاً فليس فوقاً لشيء البتة. والمركز المذكور مبدأ من قبلنا وصفحة الفلك العليا نهاية لذلك المبدأ أي موقف لا تمادي وراءه. ولسنا نعني بهذا إثبات أن له وراء، بل إنما نعني أنه متناهي الذرع لا وراء له ولا فوق ولا بعد أصلاً. وهكذا مرادنا في قولنا إن زماناً سابقاً لم يكن قبله زمان إنما مرادنا بذلك أنه ذو مبدأ وليس لذلك المبدأ قبل فيكون قد تقدمه زمان. وصفحة الفلك العليا مبدأمن قبل الطبيعة الكلية أي وجود الأشياء وعمومها وإحاطتها. والمركز المذكور نهاية لذلك المبدأ أي موقف لا تمادي بعده، فجل الخالق الأول لا إله إلا هو. والمكان مركب من كيفية وجوهر مع جوهر.
7 - باب النصبة
النصبة كيفية صحيحة لا شك فيها وهي نوع من أنواع الكيفية، إلا أنهم خصوا بهذا (3) الاسم نعني (4) النصبة هيئة المتمكن في المكان كقيامه فيه أو قعوده أو بروكه أو اضطجاعه وما أشبه ذلك.
__________
(1) فإن الفلك له مكان: فأين الفلك في م.
(2) شيء: سقط من س.
(3) س: بها.
(4) س: فمعنى.(4/170)
8 - باب الملك
الملك إضافة صحيحة إلا أنهم خصوا بهذا الاسم نعني الملك ما كان من الإضافة متملكاً للجوهر كالأموال وما أشبهها وهذا حقيقة الملك. وهو (1) مركب من جوهر مع جوهر وإضافة إلا أن بعض الأوائل أدخلوا في الملك قولك: لفلان يد ورجل وبه حرارة وما أشبه ذلك، وهذا عندنا قضاء فاسد فلا وجه للاشتغال به إذ غرضنا الحقائق وما قام به (2) برهان أو جزء من برهان يوصل إلى معرفتها، وبالله تعالى التوفيق لا إله إلا هو (3) .
9 - باب الفاعل
الفعل تأثير يكون من الجرم المختار أو المطبوع في جرم آخر، فإما أن يحيله إلى طبعه فيخلعه عن نوعه ويلبسه نوع نفسه، وإما أن يحيله عن بعض [29ظ] كيفياته إلى كيفيات أخر، وإما أن يفعل فعلاً مجرداً كالمتحرك والقائم (4) والمتفكر وما أشبه ذلك.
فأما (5) القسمان الأولان فالأول منهما
كفعل (6) النار في الماء والهواء فإنها تخلعهما عن صفات أنواعهما (7) الجوهرية وتكسوهما صفات نوعها الجوهرية (8) أي تحيلهما ناراً. وكالآكل فإنه يحيل طبيعة ما أكل إلى نوعه.
وأما الثاني فكفعل السكين والحجر والقاطع بهما فإنهما يحيلان عن الاجتماع إلى الافتراق ومثل ذلك كثير، وكطبع العناصر المركب منها الإنسان في أن يحيل كل
__________
(1) م: فهو.
(2) م: منه.
(3) لا إله إلا هو: لم يرد في م.
(4) م: والعالم.
(5) س: وأما.
(6) م: أما الأول منهما فكفعل.
(7) م: نوعهما.
(8) تكسوهما ... الجوهرية: في م وحدها.(4/171)
قوي (1) منها ما لاقى من سائرها إلى نوعه، ووجد (2) ذلك في كل ما تركب منها فكل امريء يريد التكثر بغيره في أعراضه، تبارك المدبر لا إله إلا هو. والفعل ينقسم قسمين: إما فعل يبقى أثره بعد انقضائه كفعل الحراث والنجار والزواق، وإما فعل لا يبقى أثره بعد انقضائه كالسابح والماشي والمتكلم وما أشبه ذلك. والفاعل والمنفعل مركبان من جوهر وجوهر وكيفية.
10 - باب المنفعل
المنفعل هو المتهيء لقبول الفعل الذي ذكرنا كالمحترق والمستحيل بالنار والمنقطع بالسكين والمخيط بالإبرة وما أشبه ذلك؛ وهذه الأشياء كلها وإن كانت إنما تكون بمعاناة (3) غيرها فلولا أن قبول التأثير في طباعها لم يمكن الفاعل فيها أن يفعل شيئاً فيها (4) البتة؛ فإن لم يكن ذلك كذلك فليخط بقناة (5) أو بموزة أو يحرق بنفخة أو يقطع (6) برجله. وهذه المعارضات شغب وسفسطة من المعترضين بها القائلين: لم تحترق النار وإنما أحرق بها الإنسان ولا قطعت السكين وإنما قطع الإنسان بها فأردنا بيان أن في السكين قوة وفي النار كذلك لولاهما ما أمكن الإنسان أن يفعل بهما فعلاً مما يحدث عنهما.
واعلم أن المنفعل أيضاً يؤثر في الفاعل فيه (7) لا بد من ذلك إلا أنه أقل تأثيراً، فأنك لو أدمت (8) الإدارة بضابط حديد ذكر صقيل في رق أملس رطب لأثر ذلك مع الطول في الضابط تأثيراً يظهر إلى كل من له أدنى حس ظهوراً لائحاً واضحاً. وهكذا كل مؤثر في العالم ولا تحاش شيئاً أصلاً وإن بعد عن حسك، فإن مع الطول والتمادي ومرور الدهور المتواترة يظهر ظهوراً جلياً ولو أنه جر إصبع على حديدة،
__________
(1) الإنسان ... قوي: سقط من م.
(2) م: وجد.
(3) س: بمعناه.
(4) م: يفعل فيها شيئاً.
(5) م: بقثاءة.
(6) م: وليحرق ... وليقطع.
(7) س: الفعل.
(8) س: أدمنت.(4/172)
فسبحان المؤثر الحق الذي لا يؤثر فيه شيء لا إله إلا هو. وهذه مرتبة (1) تقتضي وجود الخالق المؤثر الذي ليس مؤثراً فيه [30و] ضرورة على ما بينا في كتاب الفصل. وذكر الأوائل أن أسطقسين من الأسطقسات (2) الأربعة فاعلان وهما: الحرارة والبرودة، وأن اسطقسين منهما منفعلان (3) وهما: الرطوبة واليبوسة، وهذا حكم صحيح، ومرادهم بذلك أن الحرارة والبرودة إذا لقيا شيئاً ما رداه إلى طبعهما ولا تفعل ذلك الرطوبة ولا اليبوسة. فإن قال قائل: قد ترطب الرطوبة ما قابلت، وتيبس اليبوسة ما لقيت، فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن القضايا التي يوثق بها هي التي تصدق أبداً، لا التي تصدق مرة وتكذب أخرى (4) ؛ وليس كل شيء يرطب بملاقاة الرطب، ولا كل شيء ييبس بملاقاة اليابس. فلو ألقيت حديدة في ماء وأبقيتها (5) فيه ما شاء الله أن تبقى لم ترطب ولا يبس (6) الماء من أجل ملاقاة الحديد، وأما الحر إذا لاقى شيئاً فلا بد من (7) أن يحره ضرورة، وكذلك البارد لا يلقى شيئاً إلا برده وبالله تعالى التوفيق.
انتهى الكلام في المقولات العشر والحمد لله كثيراً (8) .
ج باب الكلام على الغير والمثل والخلاف والضد
والمنافي والمقابلة والقنية والعدم وتفسير
معاني هذه الأسماء
قد قدمنا مرادنا بقولنا شخص وأشخاص، وأخبرنا أننا لا نعني بذلك الجرم وحده لكن كل جزء مجتمع منفرد من جرم أو عرض محمول في جرم. فنقول: شخص
__________
(1) م: رتبة.
(2) بهامش س: الاستقصات خ.
(3) س: مفعلان.
(4) م: تكذب مرة وتصدق أخرى.
(5) م: وبقيت.
(6) س: ييبس.
(7) من: في م وحدها.
(8) انتهى ... كثيراً: لم يرد في م.(4/173)
سواد هذا الثوب حالك أو مصقول، وشخص حركة هذا المتحرك من ها هنا إلى ها هنا، وشخص هذه المسألة محكم وما أشبه ذلك، اتفاقاً منا ليقع بذلك الإفهام لمرادنا، إن شاء الله عز وجل. ولا بد لأهل كل علم وأهل كل صناعة من ألفاظ يختصون بها للتعبير عن مراداتهم وليختصروا بها معاني كثيرة فنقول (1) وبالله تعالى نتأيد:
كل شخصين وكل شيئين جمعهما اسم واحد أو اسمان مختلفان لا يخص شيئاً دون شيء، فهما متغايران ضرورة، على كل حال، أي أن كل واحد منهما غير الآخر؛ فزيد غير عمرو، وعلم زيد غير علم عمرو، وثوب زيد غير ثوب خالد، وطول زيد هو غير زيد وغير طول عمرو (2) ، وبياض خالد غير بياض محمد، وهكذا كل شيئين أيضاً قطعاً، وكل موجودين. والخالق تعالى غير خلقه، ولو لم يكن هذا الشيء غير هذا الشيء لكان إياه وهو نفسه، ولا سبيل إلى قسم ثالث (3) ؛ وهكذا كل لفظين فإما أن يكون معناهما واحداً فيكونا حينئذ من الأسماء المترادفة، وإما أن يكون (4) معناهما متغايرين (5) ، أي أن كل مسمى [30ظ] بلفظ (6) من ذينك اللفظين غير المسمى باللفظ الآخر ولا سبيل إلى قسم ثالث بوجه من الوجوه، ولا يتشكل في الوهم البتة (7) ولا يعقل، ولا يكون أبداً لفظان معنياهما (8) لا هما متغايران ولا هما لا متغايران، إذ من أشنع المحال أن يكون معنى هذا الاسم ليس هو معنى هذا الاسم الثاني، ولا هو معنى آخر غيره؛ ومن المحال الممتنع الباطل (9) أيضاً أن
__________
(1) فنقول: سقطت من س.
(2) وقعت هذه الجملة في م بعد قوله: فزيد غير عمرو.
(3) م: إلى ثالث في التقسيم.
(4) معناها واحداً ... أن يكون: سقط من س.
(5) س: متغايران.
(6) س: أي مسمى كل لفظ.
(7) البتة: سقطت من س.
(8) متغايران ... معنياهما: سقط من س.
(9) الباطل: سقطت من م.(4/174)
يكون معنى هذا الاسم هو معنى هذا (1) الاسم الثاني وهو أيضاً غيره، فهذا يؤدي إلى أن هذا هو هذا ليس هو هذا، وهذا فساد ظاهر، إذ لا يجوز أن يراد بالاسم الواحد إلا معنى واحداً أو أكثر من واحد، ولا يجوز أن يراد (2) بالاسمين إلا معنى واحداً أو أكثر من واحد. وما عدا هذا فوسواس، ونحمد الله تعالى على ما وهب من العقل.
فإن أعترض (3) قوم بما ذكر الأوائل من أن الشيء إنما يكون غير الشيء إذا كان جوهره مخالفاً لجوهره، فإنهم قد قالوا أيضاً: الإنسان هو الحمار بالجنسية أي أنهما تحت جنس واحد ولم يريدوا ما نحن فيه. والذي نريد نحن إنما هو أن يكون هذا الشيء لا يغابر هذا الشيء أيضاً أصلاً بذاته أو يغايره، فإن قال قائل: فالجزء هو الكل أو هو غيره فالحقيقة أنه غيره لأن الجزء قد يبطل ولا يبطل الكل فلو لم يكن غيره لما وجد دونه، وإنما الكل لفظة تسمى بها هذه (4) الأبعاض كلها في حال اجتماعها، والأبعاض هي الأجزاء، وإلا فكل بعض غير البعض الآخر. والكل ينقسم قسمين: أحدهما كل يسمى كل جزء من أجزائه باسم كله، وذلك إنما يقع في أشخاص النوع، أو فيما لم يركب من أشياء مختلفة، كأجزاء الماء فكلها يسمى ماء، وأجزاء النار كذلك، وكذلك كل شخص من الإنسان الكلي يسمى إنساناً. والقسم الثاني كل (5) لا يسمى شيء من أجزائه باسم كله وذلك هو في المركب من عناصر مختلفة، كأعضاء الإنسان، فليس شيء منها يسمى إنساناً، وكذلك الباب فإنه مركب من خشب لا يسمى باباً (6) ومن مسامير لا تسمى باباً. فمن ناظرك ها هنا فكلفه أن يحد لك معنى التغاير ومعنى الهوية ثم كلمة حينئذ.
فإن قال قائل: إذا كان بعض الشيء غير الشيء وكل بعض من أبعاضه هو غير
__________
(1) الاسم هو معنى هذا: سقط من م.
(2) بالاسم الواحد ... يراد: سقط من س.
(3) م: اغتر.
(4) هذه: سقطت من م.
(5) كل: قسم في س.
(6) س: مركب من خشب ومسامير، والخشبة لا تسمى باباً.(4/175)
كله، والشيء كله إنما هو أبعاضه كلها ليس هو شيئاً غيرها أصلاً، فالشيء غير نفسه، والبعض غير نفسه، فهذا تمويه لأن الكل إنما هو اسم يقع على الأبعاض كلها إذا اجتمعت ولا يقع على شيء منها على انفراده، ألا ترى أن [31و] البعض إذا فني (1) لا يفنى الكل بفنائه ولا يحد هو بحد كله فإنما اسم " كل " بمنزلة اسم إنسان، واليد ليست إنساناً، والرأس ليس إنساناً، والرجل ليست إنساناً، والمعدة ليست إنساناً، فإذا اجتمع كل ذلك حدث له حينئذ اسم الإنسان (2) لا قبل ذلك. وهكذا هو الكل مع أجزائه، إلا أننا نزيد في (3) السؤال بياناً ولا ندع للمتحير معنى يتحير فيه (4) فنقول: كل اسمين فإنهما لا يخلوان من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما: إما أن يقعا جميعاً على شيء واحد أو على أكثر من شيء واحد فلا بد للمسؤول حينئذ من أن يصير إلى أحد هذين المعنيين، وإلا بان انقطاعه وصح حينئذ أن معنى اللفظين معنى واحد، وكل واحد من اللفظين يعبر به عن مسمى واحد، أو أن كل واحد من اللفظين يعبر به عن معنى غير معنى اللفظ الآخر، وإن كان معنياهما متغايرين فكل (5) واحد منهما غير الآخر.
ثم نعود، وبالله تعالى التوفيق، فنقول (6) : ثم تنقسم الأشياء بعد التغاير أقساماً: فمنها أغيار أمثال كسواد هذا الغراب وسواد هذا الثوب وكالدينار والدينار وكل ما يقع تحت نوع واحد من الأنواع التي تلي الأشخاص من جرم أو غيره، ومها أغيار خلاف كالدينار والدرهم والبياض والحمرة والقيام والاتكاء وكالدينار والحمرة وكل ما وقع تحت نوعين مختلفين أو تحت جنسين مختلفين. إلا أن كل ما ذكرنا وإن كانت (7) خلافاً كما قلنا فهي أيضاً أمثال من وجه آخر لاتفاقهما في الرأس الأعلى الذي هو جنس الأجناس، أو لاتفاقهما في الانقسام وإن لم يجمعهما جنس أجناس،
__________
(1) إذا فني: سقط من م.
(2) م: إنسان.
(3) في: سقطت من م.
(4) م: ولا ندع للتحير معنى.
(5) م: معناهما متغاير كل.
(6) م: ثم نعود فنقول وبالله ... الخ.
(7) م: كان.(4/176)
وفي الحدوث وفي التأليف. وأما الباري عز وجل فخلاف لخلقه كله من كل وجه لا تماثل بينه تعالى وبين جميع خلقه، ولا بينه تعالى وبين شيء من خلقه بوجه من وجوه البتة. واللفظ الأول وهو التغاير يقع في كل مسميين. وهذان القسمان يقعان في الجواهر والأعراض، وهذا القسم الثاني، أعني المخالفة يقع بين كل موجودين وسواء كانا تحت نوعين مختلفين أو تحت جنسين مختلفين أو كان أحدهما مما يقع تحت الأجناس والآخر مما لا يقع تحت الأجناس، ولا بد في كل موجودين ضرورة من أن يكونا مختلفين أو متماثلين؛ ثم قسمان باقيان لا يقعان إلا في الكيفيات، أحدهما: أغيار أضداد كالسواد والبياض (1) والثاني أغيار متنافية كالحياة والموت والسكون والحركة وما أشبه ذلك. والأضداد هي كل لفظتين (2) اقتسم معنياهما طرفي البعد، وكانا واقعين تحت مقولة واحدة [31ظ] وكان بينهما وسائط؛ فإما تحت نوعين مختلفين تحت جنس واحد كالسواد (3) والبياض اللذين هما نوعان واقعان تحت جنسين مختلفين، وهما الفضيلة والرذيلة، وإما كالفضيلة والرذيلة اللذين هما جنسان جامعان لما ذكرنا وتجمعهما الكيفية؛ وكل ضدين فإنهما يدركان بحاسة واحدة أبداً لا يجوز غير ذلك، إما أن يدركا معاً بالعقل وإما معاً بالبصر وما أشبه ذلك من لمس وذوق وشم، فتأمل هذا بعقلك تجده يقيناً. وكل ضدين فإن أحدهما إن كان في النفس فإن الثاني فيها أيضاً وإن كان أحدهما في الجرم فإن الثاني فيه أيضاً (4) ، لا يجوز إلا هذا، لأن الأضداد أيضاً تتعاقب على حاملها كالبياض والسواد (5) اللذين في الجسم، والحلم والطيش اللذين في النفس، وكذلك سائر أخلاق النفس من العلم والجهل والعدل والجور والورع والفسق والرضا والغضب (6) وسائر أخلاقها. وكذلك سائر الأضداد المتعاقبة على الجرم
__________
(1) كالسواد والبياض: كالحلاوة والمرارة في م.
(2) م: هي لفظين.
(3) م: كالحضرة.
(4) وإن كان ... أيضاً: سقط من م.
(5) م: والخضرة.
(6) اضطرب ترتيب هذه الأخلاق في س.(4/177)
المركب: من الحر والبرد واليبس والرطوبة، فالمتضادة هي إذا ما وقع أحدهما أرتفع الآخر وبينهما وسائط (1) . والمتنافية هي ما اقتسم أيضاً طرفي البعد ولا وسائط بينهما وكانا إذا ارتفع أحدهما وقع الآخر، وذلك مثل الحياة والموت والاجتماع والافتراق وصحة العضو ومرضه وما أشبه ذلك. وقولنا في هذا المكان: " الحياة والموت " إنما هي مسامحة (2) لا تحقيق، وإنما أردنا بذلك اجتماع النفس مع الجسد المركب من العناصر فعن هذا عبرنا بالحياة، وأردنا بقولنا الموت مفارقة النفس للجسد المذكور، فهذا الاجتماع والافتراق هما المتنافيان. وأما الحياة التي هي الحس والحركة الإرادية فهي جوهرية في النفس لا تفارق النفس أبداً، وإذ ذلك كذلك فلا ضد للحياة على الحقيقة، لأن الضد مع ضده أبداً واقعان متعاقبان على شيء (3) واحد، وكذلك المتنافيان. والمواتية أيضاً على الحقيقة هي عدم الحس والحركة الإرادية وإنما هذا في الجمادات. فالموت إذاً (4) جوهري أيضاً غير مفارق لها بوجه من الوجوه، فلا ضد للمواتية أيضاً على الحقيقة على هذا الوجه ولا منافي لها أيضاً ولا للحياة. والجسد المركب من الطبائع الأربع مواتي أبداً لا حياة له بوجه من الوجوه أصلاً [32و] وإنما الحياة للنفس المتخللة له، ولكنا اضطررنا إلى التعبير بالحياة والموت عن اجتماعها مع الجسد المذكور ومفارقتها إياه لعادة الناس في استعمال هاتين (5) العبارتين عن هذين المعنيين فأردنا التقريب والإفهام كما ترى. فمتى رأيت في كتابنا هذا أن الموت ضد الحياة فهذا الذي أردنا فلا تظن بنا خطأ في هذا المعنى، وقد قال بعض أهل الشريعة: إن العلم يضاد الموت، وهذا كلام فاسد، لأن النفس بعد مفارقتها للجسد هي أثبت ما كانت قط (6) علماً، والجسد المركب لا يعلم شيئاً.
والفرق بين المنافي والمضاد أن الضدين بينهما وسائط ليست (7) من أحد الضدين
__________
(1) فالمتضادة ... وسائط: سقط من م.
(2) س: مشاحة.
(3) س: على كل شيء.
(4) فالموت إذاً: سقط من م.
(5) س: لعادة الناس لهاتين.
(6) قط: سقطت من م.
(7) م: ليسا.(4/178)
كالحمرة والصفرة والخضرة (1) التي بين السواد (2) والبياض وكحال الاعتدال الذي (3) بين الجود والشح على ما نبين في كتابنا في أخلاق النفس (4) إن شاء الله عز وجل. والمنافيان هما اللذان ليس بينهما وسائط، فإن الحياة والموت فيما يكونان فيه ليس بينهما وسيط لا يكون حياة ولا موتاً؛ وكذلك صحة العضو ومرضه لا يجوز أن يكون العضو صحيحاً مريضاً، ولا لا صحيحاً ولا مريضاً. والصحة هي تصرف العضو في فعله الطبيعي، والمرض هو ضعفه عن ذلك. وكذلك الجور والعدل في الحكم (5) : لا يجوز أن يكون حكم لا عدلاً ولا جوراً ولا عدلاً جوراً. ولما كان هذان الأمران أعني التضاد والمنافاة معنيين مختلفين احتجنا في العبارة عنهما إلى اسمين متغايرين لئلا يقع الإشكال (6) ؛ وقد حد قوم الضد بأنه الذي إذا وقع ارتفع الآخر، وهذا خطأ، لأن هذا قول يوجب أن يكون الاتكاء ضد القعود والخضرة ضد الحمرة وهذا خطأ، وإنما هذا من الخلاف والتغاير لا من التضاد، وحد الضد على الحقيقة هو ما عبرنا به آنفاً. وأما حال الجسم التي تنفي الضدين معاً من بعض الأضداد وبعض المتنافيين فلا يعرف لها (7) اسم في الأكثر من مواضعها، كحال نفس الطفل فإنه لا يسمى براً ولا فاجراً ولا عالماً ولا جاهلاً بل كل حال من هذه الأحوال منفية عنه بلفظة " لا " فنقول: الطفل لا يعلم شيئاً ولا يطلق عليه اسم الجهل إلا مع إمكان العلم، ويقال الطفل ليس براً ولا فاجراً فإذا قوي واحتمل الأمرين وقع عليه أحدهما على حسب ما يبدو منه، وكالحجر لا يقال عنه حي ولا ميت لكن ننفي عنه كلا الأمرين بلفظة " لا "، أو " ليس " أو " ما " فنقول: الحجر ليس حياً ولا ميتاً. وقد يستحيل حامل كل واحد من المتنافيين أو الضدين أو الخلافين إلى حمل القسم الآخر فيكون
__________
(1) والخضرة: سقطت من م.
(2) م: الخضرة.
(3) م: التي.
(4) هي رسالته التي تحمل عنوان: " رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل، وقد طبعت عدة مرات (انظر الجزء الأول من رسائل ابن حزم/ 1980ص: 323) وقد عالج ابن حزم في باب الأخلاق منها بعض الفضائل ومركباتها (ص 379 وما بعدها) .
(5) س: في العدل والحكم.
(6) م: اشكال.
(7) لها: سقطت من س.(4/179)
الحي ميتاً والميت حياً والأسود أبيض والأبيض أسود. وليس ذلك لازماً لكن على حسب ما يكون ولكنه ممكن في الأغلب ومتوهم لو كان [32ظ] كيف كان يكون في الجملة. وقد يدخل في الامتناع بالفعل لضروب من النصبة (1) المانعة منه في العادة.
وأما التقابل فهو ينقسم قسمين: تقابل في الطبع وتقابل في القول: فالذي في القول هو الإيجاب والسلب، نعني بالإيجاب إثبات شيء لشيء (2) كقولك زيد منطلق والخمر حرام والزكاة واجبة على مالك مقدار كذا وكذا (3) من المسلمين والعالم محدث ومحمد رسول الله وما أشبه ذلك. والسلب نفي شيء عن شيء كقولك زيد ليس أميراً ومسيلمة ليس نبياً والربا ليس حلالاً والعالم ليس أزلياً وما أشبه ذلك؛ وقد يأتي لفظ الإيجاب والسلب كذباً إذا أوجبت الباطل ونفيت الحق. وإنما الفرق بين الإيجاب والسلب إدخال ألفاظ النفي وهي لا أو ليس أو ما أو الحروف التي تجزم في اللغة العربية الأفعال، بغير معنى الشرط، أو تنصبها وهي " لم " وأخواتها و " لن " وما أشبهها، فيكون نفياً، أو إخراجها فيكون إيجاباً.
وأما الذي في الطبع فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها مقابلة الأضداد والمتنافيات، والثاني مقابلة المضاف، والثالث مقابلة القنية والعدم. وقد تكلمنا قبل في الأضداد وفي المتنافيات وفي الإضافة بما كفى.
واعلم أن الضدين ثبات كل واحد منهما بنفسه، وكذلك المتنافيان. وأما المضافان فثبات كل واحد منهما بثبات الآخر، على ما بينا هنالك. ولذلك لا يدور كل واحد من الضدين على الآخر وكذلك المتنافيان. وأما المضافان فكل واحد منهما يدور على صاحبه فنقول: ضعف النصف ونصف الضعف ولا نقول جور العدل ولا عدل الجور ولا بياض السواد (4) ولا سواد (5) البياض ولا شر الخير ولا خير الشر. ومعنى
__________
(1) م: النصب.
(2) س: بشيء.
(3) وكذا: سقطت من م.
(4) م: الخضرة.
(5) م: خضرة.(4/180)
التقابل هو كون شيئين في طرفين معينين يقتضي أحدهما وجود الآخر على الرتب التي ذكرنا، فكأنه يقابل أحدهما الآخر. وأما مقابلة القنية والعدم فذلك كالبصر وعدمه الذي هو العمى، فإن أحد هذين يدور على الآخر ولا يدور الآخر عليه، ومعنى الدوران هو الإضافة فنقول عمى البصر ولا نقول بصر العمى.
واعلم أن القنية هي التي لا تدور على العدم أي لا تضاف إليه والعدم يدور على القنية أي يضاف إليها (1) . والعدم ليس معنى لكنه ذهاب الشيء وبطلانه ولا يعد عادماً إلا من يحتمل وجود ما هو عادم له، ألا ترى أن الحجر لا يسمى عادماً وكان هذا عندنا معنى [33و] اتبعت فيه اللغة اليونانية، وأما اللغة العربية فكل حال لم يكن فيها شيء ما فإنه يطلق فيها اسم عدم ذلك الشيء، وسواء كان موجوداً قبل ذلك أو لم يكن. وكذلك يسمى فيها أيضاً بالعدم كل ما لم يكن، وسواء توهم كونه أو لم يتوهم؛ إلا أن الفرق بين الضدين وبين العدم والوجود أن كلا (2) الضدين لهما إنية ومعنى ذلك أنهما موجودان، والموجود له إنية أي أنه موجود، والعدم لا إنية له أي لا وجود له.
واعلم أن السلب والإيجاب إنما يقعان في الاخبار وبذلك يكون الصدق والكذب، وذكر الفلاسفة ها هنا شيئاً سموه " كون الشيء في الشيء " وليس يكاد ينحصر عندنا وإن كان محصوراً في الطبيعة، فلم نر وجهاً للاشتغال به إذ ليس إلا من تشقيق الكلام فقط كقولهم: النوع في الجنس والجنس في النوع وما أشبه ذلك مما لا قوة فيه في إدراك الحقائق وإقامة البراهين وكيفية الاستدلال الذي هو غرضنا في هذا الكتاب. وكذلك ذكروا أيضاً شيئاً وسموه " يكون الشيء مع الشيء " ورتبوه على ثلاثة أقسام: أحدها كون الشيء مع الشيء في زمن واحد، وهو المعهود في استعمال اللغة إذ كل شيئين كانا في زمان واحد فهما معاً أي كل واحد منهما مع الآخر، ورتبوا في ذلك أيضاً كون المضافين أحدهما مع الآخر أي أن (3) مع النصف ضعفاً ومع الضعف
__________
(1) س: عليها.
(2) س: كل.
(3) أن: سقطت من س.(4/181)
نصفاً، ورتبوا في ذلك أيضاً كون النوعين معاً تحت جنس واحد أي مستويين فيه كالفرس والحمار تحت جنس (1) الحي، وكل هذه الأقسام ترجع إلى ال " مع " الزماني ولا تخرج عنه. وذكروا شيئاً (2) سموه " القدمة "، وهذه لفظة أستعملها أهل اللغة العربية فيما تقدم زمانه زمان غيره كقولهم: الشيخ أقدم من الغلام، ودولة بني أمية أقدم من دولة بني العباس، وما أشبه ذلك، وأما أهل الكلام فإنهم استعملوها في الخبر عن المخلوقات والخالق تعالى فسموا الواحد الأول عز وجل قديماً ونحن نمنع من ذلك ونأباه ولا نزيل القديم والقدم عن موضعهما (3) في اللغة ولا نصف به الخالق عز وجل البتة. وقد قال عز وجل: " كالعرجون القديم " يريد البالي الذي مرت عليه أزمنة محيلة (4) له بتطاولها، ونضع مكان هذه العبارة لفظة " الأول "، والإخبار بأنه تعالى لم يزل، وأن جميع ما دونه وهي كل المخلوقات لم تكن ثم كانت، وأن كل شيء سواه تعالى محدث مخلوق، وهو خالق أول واحد حق لا إله إلا هو. وذكر الأوائل أشياء في القدمة ليست صحيحة منها: أن الجنس أقدم من النوع بالطبع [33ظ] من أجل أنه مذكور في الرتبة قبله، وهذا لا معنى له لأن الجنس هو جملة أنواعه نفسها، فلا يكون الشيء أقدم من نفسه، ولا يجوز أن يكون الكل أقدم من أجزائه.
وذكروا أيضاً أن المدخل إلى العلوم أقدم من العلوم وهذا خطأ لأن العلم موجود في الطبيعة [أي بالقوة فيها] قبل دخول الداخل إلى طلبه.
وذكروا أيضاً قدمة الشرف وهذا فاسد البتة إلا إن (5) كان ذلك في اللغة اليونانية، واغتر بعضهم في ذلك في اللغة العربية في قولهم: " فرس عتيق " فظنوه بمعنى قديم كقولهم: " رجل عتيق " (6) ، أي قديم، وليس كذلك، لأن العتيق في اللغة
__________
(1) م: نوع.
(2) س: أشياء.
(3) م: موضعهما.
(4) س: مختلفة.
(5) س: بأن.
(6) فظنوه ... عتيق: سقط من م.(4/182)
العربية من الأسماء (1) المشتركة فيقع على القديم كقولهم: " شراب عتيق " ويقع على الحسن (2) الجيد كقولهم: " عتيق الوجه "، و " فلان ظاهر العتق " أي ظاهر الحسن، فعلى هذا المعنى قالوا: فرس عتيق، ويقع أيضاً على البراءة من الملك فيقولون: أعتق فلان عبده والعبد عتيق أي مبرأ من الملك. وأما العلة والمعلول فمن باب الإضافة ولا يجوز أن تسبق العلة المعلول أصلاً، ولو سبقته لوجدت (3) وقتاً ما غير موجبة له، ولو كان ذلك لم تكن علة له (4) ، إذ العلة ليست شيئاً أصلاً (5) إلى القوة الموجبة لوجود ما يجب بوجودها، وبالله تعالى التوفيق.
د باب الكلام على الحركة
الحركة تنقسم ستة أقسام: قسمان أولان وهما حركتا الكون والفساد وهما في الجوهر، ومعنى الكون: " خروجه من الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود " وهذه حركة للجوهر الخارج لا لمبدعه المخرج له عز وجل؛ ومعنى الفساد: " خروجه من الوجود والوجوب إلى البطلان والعدم "، وذلك واجب في الأعراض ومتوهم على الأجرام إن شاء ذلك (6) خالقها تعالى فيما شاء منها. والفساد عندنا على الحقيقة افتراق الجسم على أشياء (7) كثيرة وذهاب أعراضه وحدوث أعراض أخر عليه، وأما الأجرام كلها فغير معدومة الأعيان أبداً بوجه من الوجوه، ولكنها منتقلة من صفة إلى صفة كما قال تعالى: {خلقاً من بعد خلق} (الزمر:6) ومن مكان إلى مكان ومن عالم إلى عالم حتى تستقر المتعبدة منها في دار النعيم أو العذاب في عالم الجزاء بلا نهاية. وهاتان الحركتان تقعان أيضاً (8) في الأعراض كلها لأنها كائنات فاسدات.
__________
(1) س: الأشياء.
(2) م: الجنس.
(3) س: لوجد.
(4) له: سقطت من س.
(5) أصلاً: سقطت من م.
(6) ذلك: في م وحدها.
(7) م: أجزاء.
(8) أيضاً: سقطت من س.(4/183)
ثم قسمان آخران وهما حركة الربو والاضمحلال [34و] وهما من الكمية، فالربو هو: " تباعد (1) نهايات الجرم عن مركزه " والاضمحلال هو: " تقارب نهايات الجرم من مركزه "، وهذان لا يكونان إلا في النوامي، فيكون الربو بغذاء يستحيل إلى نوعها وينبسط من وسطها إلى طرفيها، ويكون الاضمحلال بأخذ الجو (2) من رطوباتها أكثر مما يقبله الجرم من الغذاء، فترى الشجرة والنبت والحي ذا الجسد المركب يتغذى فيستحيل الغذاء أجزاء كأجزاء (3) المتغذي به، ففي الحيوان يستحيل دماً ولحماً وشحماً وعظماً وعروقاً وشرايين وعصباً وشعراً وهلباً وريشاً وجلداً، فيمتد من (4) ذلك الجسم ويطول ويعرض ويضخم؛ ويستحيل الغذاء للشجرة من الماء والرطوبات من الأرض (5) والدمن عوداً ولحاءً وورقاً وزهراً وطعماً وصمغاً وخوصاً وعساليج، ويمتد ويعظم كما ذكرنا، وكذلك في النبت، ثم إذا ابتدأ كل ذلك يضمحل بتناهي أمره الذي رتبه له خالقه عز وجل صار (6) الجو والحر يأخذ من رطوبات الأجرام التي ذكرنا أكثر مما يقبله من الغذاء حتى ييبس الشجر والنبات ويموت الحي وتفترق (7) أجزاؤه وترجع نفسه إلى عالمها الذي شاهدها فيه الصادق المبتعث من الخالق الأول (8) عز وجل، إلينا (9) ، صلى الله عليه وسلم، حين جولانه وتصرفه في عالم (10) الأفلاك بالقدرة الإلهية التي خص بها وهو ما بين مبدأ الأفلاك الذي هو فلك القمر، وبين تناهي أبعد العناصر الأربعة، جعل الله لنا في ذلك الفوز والنجاة والراحة وتخلصنا مما يقع فيه العصاة الآثمون (11) . وتفتقر سائر (12) العناصر الجسدية إلى مستقرها الذي رتبها باريها
__________
(1) س: هو ما تباعد.
(2) س: الجزء.
(3) كأجزاء: سقط من س.
(4) من: سقطت من س.
(5) من: سقطت من س.
(6) صار: سقطت من س.
(7) م: فتفترق.
(8) م: من الأول الواحد الخالق.
(9) س: النبي.
(10) م: أعالي.
(11) م: الآثمون العصاة.
(12) سائر: سقطت من م.(4/184)
تعالى فيه إلى أن يجمعها كلها يوم المبعث (1) ويعيدها كما بدأها، لا إله إلا هو. وتتفرق أيضاً أجزاء الشجر والنبات إلى مقرها أيضاً من العناصر الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، فسبحان المبدع المركب المتمم المدبر، لا إله إلا هو، {إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} (النمل:52) {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (يوسف:105) .
ثم قسمان باقيان وهما الاستحالة والنقلة: فالاستحالة كاستحالة الخمر خلاً، فإن الخمر لم ترب ولا اضمحلت، ولا حدثت عينها ولا عين الخل، ولا عدم واحد منهما، ولا انتقل من مكان إلى مكان. وكذلك استحالة النار إلى الهواء والهواء إلى النار وبعض العناصر إلى بعض، وقد نجد المربع تزيد (2) عليه مربعاً آخر فينمى ويربو ولا يستحيل عن التربيع. وأما النقلة فهي [34ظ] الحركة العامية الظاهرة وهي تبدل الأماكن، وهذان القسمان كيفية، ومنافي كل حركة سكون المتحرك بها، فالسكون بالجملة ينافي الحركة بالجملة.
والحركة المكانية النقلية تنقسم قسمين: اختيارية وطبيعية. فالاختيارية تنقسم قسمين: أحدهما تحريك الباري عز وجل ما شاء من أجرام الجو حيث شاء تعالى من ريح أو مطر وما أشبه ذلك، وهي حركة حالة في الأشياء المذكورات وتأثير فيها. والثاني تحريك النفس لما هي فيه (3) من الأجسام صعداً وسفلاً، وأمام ووراء، ويميناً ويساراً، وتحرك (4) كل جسم مختار بجبلته.
والطبيعة تنقسم ثلاثة أقسام: حركة من الوسط بمعنى علواً كالنار والهواء الآخذين أبداً في الارتفاع، ولا يأخذان سفلاً إلا بالقسر والقهر، وحركة إلى الوسط كحركة الماء والأرض فلا يأخذان أبداً إلا سفلاً يطلبان المركز أبداً (5) ولا يأخذان علواً إلا
__________
(1) م: البعث.
(2) س: يزيد.
(3) فيه سقطت من س.
(4) س: وتحريك.
(5) أبداً: في م وحدها.(4/185)
بالقسر والقهر؛ وحركة حوالى الوسط، وهي حركة الأفلاك وكل ما فيها من الأجرام الجارية على رتبة معهودة طبيعية وهي كلها حركة استدارة، وهذه الحركة تنقسم قسمين إما من شرق إلى غرب كالفلك الأعلى في ذاته، وإما من غرب إلى شرق كالشمس والقمر والكواكب وأفلاكها، ثم هي أيضاً تختلف في حال سرعتها وبطئها، فتبارك الخالق المدبر، لا إله إلا هو (1) .
تم كتاب قاطاغورياس، وهو كتاب الأسماء المفردة، بحوله وقوته
وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم (2) .
__________
(1) م: فتبارك المدبر الخالق.
(2) بحوله ... وسلم: لم يرد في م.(4/186)
- 2 -
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الأخبار
وهو الأسماء المجموعة إلى غيرها وتسمى " المركبة " وهو المسمى
في اللغة اليونانية " باري أرمينياس "
1 - رسم الاسم
الاسم صوت موضوع باتفاق لا يدل على زمان معين، وإن فرقت أجزاؤه لم تدل على شيء من معناه، نريد بقولنا " موضوع باتفاق " اصطلاحاً من أهل اللغة على ما يختصرون به المعاني الكثيرة بلفظ مختصر يدل عليها كاتفاق العرب على أن سمت الراعي الطويل العنق، الأحدب الظهر، العالي القوائم، القصير الذنب، المتخذ للحمل والركوب " بعيراً "، واتفاق العجم على أن سمته باسم آخر. وكل تلك الأسماء دالة على الحيوان الذي ذكرنا [35و] دلالة واحدة وهكذا كل مسمى وضع له اسم. وقولك " بعير " لا يدل على زمان معين، لا حال ولا ماض ولا مستقبل. وأنت إذا قسمته فقلت: " بعي " لم يدل على معنى البعير. وقد ظن قوم (1) جهال أن من الأسماء ما يدل شيء من أجزائه (2) على شيء من معناه، كقولك: " عبد الله "، فإن عبداً يدل على معنى، فاعلم أن المعنى الذي يدل عليه " عبد " غير المعنى الذي يدل عليه " عبد الله " أي أنه لا يدل على المعنى الذي قصد بتسمية الرجل عبد الله. ألا ترى أنك تقول فيمن اسمه عبد الرحمن ليس هذا عبد الله هذا عبد الرحمن، أو هذا خالد فيمن اسمه خالد وتكون صادقاً مصيباً؛ ويكون مسميه عبد الله كاذباً مخطئاً، فلو كان المراد في التسمية الاخبار بأنه عبد الله لكان عبد الرحمن، ولكان عبد الرحمن عبد الله أيضاً، ولكنت في نفيك أنه عبد الله أيضاً كاذباً، ولكان من سماه عبد الله في الشهادة عليه والإخبار عنه صادقاً ولا شك في كذبه، فصح ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
__________
(1) قوم: سقطت من م.
(2) م: يدل بعض أجزائه.(4/187)
وقد لاح بالحقيقة التي بينا أن الأوصاف والأخبار كلها إنما تقع على المسميات لا على الأسماء وأن المسميات هي المعاني والأسماء هي عبارات عنها، فثبت بهذا أن الاسم غير المسمى (1) ، ووضح غلط من ظن غير ذلك من أصحابنا الذين يقولون الكلام (2) غير محققين له: إن الاسم هو المسمى (3) ، وقد احتج بعضهم في خطائه ذلك بقول الله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} . (الأعلى:1) وهذا منهم سقوط شديد، وإنما بيان ذلك أن المسميات لما لم يتوصل (4) إلى الأخبار عنها أصلاً إلا بتوسط العبارات المتفق عليها عنها جعلت المسميات عين (5) تلك العبارات وإنما المراد المعبر بها عنها (6) . ولما لم يكن سبيل إلى الثناء على الله عز وجل إلا بذكر الاسم المعبر به عنه لم يقدر على إيقاع الثناء والحمد (7) والتسبيح له تعالى إلا بتوسط الاسم، فأمرنا تعالى بما نقدر عليه لا بما لا نقدر عليه أصلاً، والمراد بالتسبيح هو تعالى، لا الصوت الفاني المنقطع المعدوم أثر وجوده، الواقع تحت حد الكمية في نوع القول كما قدمنا، فاعلم هذا.
ومن الأسماء معارف وهي الخصوص كقولك زيد وعمرو والرجل الذي تعرف وغلام زيد وغلام الرجل وغلامي. ومنها نكرات وهي العموم كقولك رجل ما وحمار ما، وللأسماء أبدال (8) تنوب عنها معروفة في اللغات بعضها للحاضر المتكلم وبعضها للحاضر المكلم وبعضها للمخبر عنه وبعضها للمشار [35ظ] إليه كقولك: أنا وأنت وهو وهذا. وهذه هي المسماة (9) عند أهل النحو الضمائر والمبهمات والكنايات
__________
(1) أورد ابن حزم في كتاب الفصل باباً في " الكلام في الاسم والمسمى " (5: 27) وقال: ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمى، وقال آخرون الاسم غير المسمى، واحتج من قال إن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام، ويقرأ أيضاً ذو الجلال والإكرام، قال: ولا يجوز أن يقال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن يقال تبارك اسم ربك. وبقوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى ... الخ.
(2) س: بالكلام.
(3) إن الاسم هو المسمى: سقطت العبارة من م.
(4) م: توصل.
(5) جعلت المسميات عين: حملت الصفات على في م؛ وفي أصل س: الصفات.
(6) م: عنها بها.
(7) س: والمدح.
(8) أبدال: التي في س.
(9) س: المسميات.(4/188)
وقد قدمنا أنها غاية الخصوص وأعرف المعارف.
2 - القول على الكلمة
تعني الفلاسفة بهذه اللفظة (1) الشيء الذي يسميه النحويون: " النعوت " والذي يسميه المتكلمون " الصفات "، وإذا رسمه النحويون قالوا: هو اسم مشتق من فعل مثل صح يصح فهو صحيح وظرف يظرف فهو ظريف (2) وما أشبه ذلك. وقال الأوائل: إنه يدل على زمان مقيم (3) لأنك تقول صح يصح فهو صحيح فهذا إخبار عن حاله الآن، وذلك بين (4) فعل ماض ومستقبل، وهذه الكلمة صوت موضوع باتفاق أيضاً على ما قدمنا في الاسم لا يدل بعض أجزائها على معناها إلا أنها تدل على زمان مقيم كما ذكرنا. وذكروا في قولك الصحة أنها اسم لا كلمة وهذا الذي يسميه النحويون المصدر وهو على الحقيقة اسم للسلامة من العلل إلا أنه قد ينقسم قسمين: فمنه ما يكون فعلاً لفاعل وحركة لمتحرك كالضرب من الضارب، ومنه ما يكون صفة لموصوف كالصحة للصحيح فإنها محمولة فيه وصفة من صفاته. وأما الصحيح والضارب فاسمان للبريء من العلة وللمتحرك (5) بالضرب استحقهما بمحموله وتأثيره، وإنما ذكرنا هذين اللفظين لأنهما موضوع الخبر ومحموله فهما جزءان للخبر، وكذلك قولك (6) فعل وقعد أسماء (7) موضوعة للعبارة عن التأثير الظاهر من الأجرام أو فيها وهي أيضاً جزء من أجزاء الخبر كقولك: زيد صحيح وعبد الله منطلق، فالخبر يقوم من اسمين أحدهما اسم مميز للمخبر عنه من غيره وهو الموضوع والثاني صفة مميزة للإخبار عنه من غيره وهو المحمول.
__________
(1) م: بهذا اللفظ.
(2) وظريف ... ظريف: في م وحدها.
(3) س: معين.
(4) بين: سقطت من س.
(5) س: فاسما المبرأ ... والمتحرك.
(6) س: كقولك.
(7) س: أشياء.(4/189)
3 - القول على القول
أراد الأوائل بلفظة القول ها هنا كل خبر قائم بنفسه وأقل ذلك اسم وصفة على ما قدمنا. والخبر المذكور يدل كل جزء منه على شيء من معناه بخلاف الألفاظ المفردات، إذ قلت محمد نبي دلك " محمد " على بعض مرادك بقولك: محمد نبي، وكذلك إذا قلت " نبي " أيضاً دلك على بعض مرادك بقولك محمد نبي (1) . وللخبر توابع ألفاظ (2) سمتها الأوائل " لواحق وربطاً "، فاللواحق أشياء زائدة في البيان والتأكيد مثل قولك: العقل الحسن لزيد، والشعر الطويل (3) الجيد [36و] لفلان، والقوم أجمعون أتوني، فإن قولك: العقل الحسن اسمان لم يتم الخبر بهما تمامه بقولك زيد قائم، فلم يكن حكم اجتماع هذين اللفظين الناقصين كحكم اجتماع اللذين تم المعنى بهما. والألف واللام الداخلان في اللغة العربية للتعريف أو ما قام مقامهما في سائر اللغات من (4) اللواحق أيضاً لأن كل ذلك بيان لاحق بالمبين فلذلك سميت هذه الزوائد لواحق. وأما الربط فهي التي يسميها النحويون حرفاً جاء لمعنى، وهي ألفاظ وضعت للمعاني الموصلة بين الاسم والاسم، وبين الاسم والصفة، وبين المخبر عنه والخبر، كقولك: زيد في الدار، وزيد وعمرو قاما، وزيد لم يقم، وهي مثل حروف الخفض ك: في وعن ومن وسائرها وكحروف الاستفهام مثل: هل وكيف وما أشبه ذلك، فإنك تقول: هل قام زيد وكذلك سائر الحروف الموصلة للمعاني. ومنفعة هذه الحروف في البيان عظيمة فينبغي تثقيف معانيها في اللغة، إذ لا يتم البيان إلا بها، وتنوب عن تطويل كثير. ألا ترى أنك تقول اخوتك وأعمامك أتوني، فلولا الواو احتجت إلى إفراد كل واحدة من الجملتين والإخبار عنها بأنهم أتوك. وقد يكون القول مركباً من لفظين ولا يكون تاماً كقولك: إن جئتني أو كقولك:
__________
(1) وكذلك ... نبي: سقط من س.
(2) ألفاظ: سقطت من س.
(3) الطويل: سقطت من م.
(4) س: هي من.(4/190)
إذا مات زيد، فإن قلت إن جئتني أكرمتك كان كلاماً تاماً (1) ، وإذا مات زيد انقطعت حركته كان كلاماً تاماً.
والخبر كما قدمنا إما إيجاب وإما نفي، والموجب إما أن يكون كذباً وإما أن يكون صدقاً، والمنفي أيضاً كذلك. والخبر إذا تم كما ذكرنا سمي قضية فإما صادقة وإما كاذبة، فاحفظ هذا واذكره فإنه سيمر بك كثيراً إن شاء الله تعالى.
والقضية النافية والموجبة تنقسم كل واحدة (2) منهما قسمين: إما معلقة بشرط وإما قاطعة. فالمعلقة كقولك: من بدل دينه بغير الإسلام لزمه القتل، وقولك (3) : إن كان متحركاً بإرادة فهو حي، وكقولك: إذا غابت الشمس كان الليل. وأعلم أن إن ومتى ومتى ما وإذا وإذا وما وكلما هذه الحروف توجب حكماً واحداً (4) في الشرط وتعليق المحمول بالموضوع فيها، فإن أردت أن تجعل هذه القضايا بلفظ النفي قلت: من بدل دينه (5) لم يجز أن يستبقى إلا أن يسلم، وإن كان متحركاً بإرادة فليس ميتاً [36ظ] وإن غابت الشمس لم يكن نهاراً. وأما القاطعة فأن تقول: كل إنسان جوهر، أو أن تقول: الصلوات الخمس فرض على من خوطب بها، والنفي يكون بإدخال لا أو ليس أو ما أو الحروف التي ذكرنا أنها تجزم الأفعال بغير الشرط أو تنصبها، فإذا أدخلت شيئاً من هذه الحروف التي ذكرنا أنها تجزم الأفعال بغير الشرط أو تنصبها، فإذا أدخلت شيئاً من هذه الحروف على قضية كاذبة صار النفي حقاً. " إله غير الله " قضية كاذبة فإذا أدخلت عليها حرف النفي فقلت (6) " لا إله غير الله " صدقت. وإذا أدخلت أحد (7) هذه الحروف على قضية صادقة كنت كاذباً فهذا هو (8) الذي سمته الأوائل " السلب والإيجاب " لأن هذه الحروف تسلب ما أوجبت في لفظك الذي أدخلتها عليه. ولكل موجبة سالبة واحدة ولكل سالبة موجبة واحدة وليس ذلك إلا بإدخال حرف من حروف النفي التي ذكرنا أو إخراجه فقط، وبالله تعالى
__________
(1) تاماً: سقطت من س.
(2) س: ينقسم كل واحد.
(3) م: وكقولك.
(4) س: موجب حكمها واحد.
(5) قلت ... دينه: سقط من م.
(6) فإذا ... فقلت: سقط من س.
(7) أحد: لم ترد في س.
(8) هو: سقطت من س.(4/191)
التوفيق.
واعلم أن كل قضية وقع في أول عقدها استثناء فهي شرطية (1) ، والشرطية تكون على وجهين: إما متصل وإما مقسم فاصل. فالمتصل هو ما أوجب أرتباط شيء بشيء آخر لا يكون إلا بكونه؛ وهو يكون على وجهين: إما موجب كقولك: إن غابت الشمس كان الليل، وإما ناف كقولك: إن لم تطلع الشمس لم يكن نهار. ألا ترى أنك ربطت كون النهار بكون طلوع الشمس ووصلته به، وربطت كون الليل بكون مغيب الشمس ووصلته به، وربطت كون الليل بكون (2) مغيب الشمس ووصلته به. وأما المقسم الفاصل فهو ما جاء بلفظ الشك وإن لم يكن شكاً لكنه حكم للموضوع بأحد أقسام المحمولات وذلك مثل قولك: العالم إما محدث وإما لم يزل، وإن شئت أتيت بلفظة أو؛ إلا أن لفظة إما إذا قطعت وقسمت أبين من لفظة أو، وإذا كنت مقرراً مستفهماً، فإن شئت أتيت بلفظة أم، وإن شئت بلفظة أو، فتقول: أمحدث العالم أو لم يزل، وإن شئت قلت: أم لم يزل. وقد تكون أقسام هذا النوع أعني الفاصل أكثر من قسمين، وذلك على قدر توفية القسمة جميع ما تحتمله في العقل، وهذا موضع يعظم فيه الغلط إذا وقع في القسمة اختلال ونقص، فتحفظ منه أشد التحفظ، فإن كنت مسؤولاً فتأمل (3) هل أبقى سائلك قسماً من أقسام سؤاله فنبه عليه، فإن لم تفعل فلا بد لك من الخطأ ضرورة إذا أجبت (4) . وإن كنت سائلاً فلا ترض لنفسك بهذا فإنه من فعل الجهال أو الوضعاء الأخلاق المغالطين لخصومهم القانعين بغلبة الوقت دون إدراك الحقائق.
واعلم [37و] أن المحمول إذا كان واحداً والموضوعات كثيرة فهي قضايا كثيرة كقولك: الملك والانسي والجني (5) أحياء. فهذه ثلاث قضايا، وإذا كان الموضوع
__________
(1) م: من الشرطية.
(2) يكون: سقطت من س.
(3) فتأمل: مكررة في م.
(4) م: أوجبت.
(5) س: والإنس والجن.(4/192)
واحداً والمحمولات كثيرة فهي قضية واحدة كقولك: نفس الإنسان حية ناطقة ميتة مشرقة على جسد يقبل اللون منتصب القامة؛ فإن فرقت كل ذلك أو كان كل محمول منها مستغنياً بنفسه (1) كانت قضايا متغايرة.
واعلم أن الكلام لا يسمى قضية حتى يتم، وسواء طال أو قصر، كقولك الإنسان المركب من جسد يقبل اللون ونفس حية ناطقة ميتة يحرك يده بجسم محدد الطرف، وفي طرفه جسم (2) مائع مخالف للون سطح جسمه في يده، يخط في ذلك السطح خطوطاً تفهم معانيها، فكل هذا مساو لقولك إنسان كاتب.
واعلم أن القضايا إما اثنينية وهي المركبة من موضوع ومحمول كما قدمنا، وإما أكثر من اثنينية وهي أن تزيد صفة أو زماناً فتقول: محمد كان أمس وزيراً وعمرو رجل عاقل، وقد تزيد أيضاً على هذا بزيادتك فائدة أخرى وهي أن تزيد في القضية: إما وجوبها ولا بد، وإما إمكانها، وإما أنها محال لا تكون. وأنت إذا زدت على القضية التي هي مخبر عنه وخبر صفة أخرى كما ذكرنا جاز ذلك، وكانت الزيادة التي زدت هي غرضك في الخبر، يعني أنها تصير هي المحمول والخبر معاً، وكان المحمول والموضوع اللذان كانا هما المخبر عنه والخبر معاً موضوعاً ومخبراً عنه فقط، كقولك: زيد منطلق فإذا زدت فقلت: زيد المنطلق كريم أو زيد منطلقاً كريم فيصير قولك " زيد منطلقاً (3) " موضوعاً أي مخبراً عنه ويصير قولك " كريم " هو المحمول، أي هو الخبر، وهكذا القول في النفي ولا فرق.
واعلم أن القضايا إما مهملة وإما مخصوصة وإما ذوات أسوار. فالمخصوصة ما كانت خبراً عن شخص واحد أو عن أشخاص بأعيانهم لا عن جميع نوعهم بنفي أو إيجاب، كقولك: زيد غير منطلق، وإخوتك لا كرام، وفلان خليفة، وعمرو حي.
واعلم أن هذا القسم الذي سميناه مخصوصاً لا يقوم منه برهان عام فتحفظ من
__________
(1) ... بنفسه: سقط من س.
(2) م: في.
(3) س: منطلق.(4/193)
ذلك وسيأتي بيان هذا القول في الكتاب الذي يتلو هذا الكتاب إن شاء الله عز وجل.
وأما ذوات الأسوار فهي تنقسم قسمين في الإيجاب وقسمين في النفي. فقسما الإيجاب إما كلي وإما جزئي، فالكلي ما وقع بلفظ [37ظ] عموم كقولك: كل أو جميع أو لا واحد وما أشبه ذلك. والجزئي ما وقع بلفظ تبعيض كقولك: بعض أو جزء أو طائفة أو قطعة وما أشبه ذلك؛ وقسما النفي إدخال حروف النفي على كلا (1) هذين القسمين. وهذه الأسماء التي (2) تعطي العموم المتيقن أو التبعيض المتيقن هي المسماة أسواراً لأنها كالسور المحيط بما في دائرته أو سائر شكله، ومن هذه أعني ذوات الأسوار يقوم البرهان الصحيح على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل، وبها يقع الإلزام الذي به تبين الحقائق كقولك: كل (3) إنسان حي، أو جميع الناس أحياء أو لا واحد من الناس نهاق أو لا واحد (4) من الناس صهال أو قولك: بعض الناس كاتب أو طائفة من المسلمين (5) أطباء وما أشبه ذلك، وكقولك في النفي لا بعض الناس حجر وما أشبه ذلك (6) .
وأما المهملة فهي التي لا يكون عليها شيء من الأسوار التي ذكرنا وقد تنوب، في اللغة العربية، المهملة مكان ذوات الأسوار، وذلك أنها لفظة تقع على الجنس أو النوع كقولك: الحي حساس، أو كقولك: الإنسان حي، وبين قولك كل إنسان حي، والحقيقة في ذلك عند قوة البحث أن تتأمل القضية المهملة فتنظر في محمولها فإن لم يمكن إلا أن يكون عاماً (7) فالموضوع كلي، وإن لم يمكن أن يكون عاماً فالقضية جزئية ومما يبين هذا أنك إن لفظت بالمهمل فقلت: الإنسان حي ناطق ميت، الإنسان
__________
(1) كلا: سقطت من س.
(2) التي: سقطت من س.
(3) كل: في م وحدها.
(4) م: أحد.
(5) م: من الناس.
(6) وكقولك ... ذلك: سقط من م.
(7) م: فإن كان يمكن أن يكون عاماً.(4/194)
ضحاك، لم ينكر ذلك أحد، ولو قلت الإنسان طبيب بالفعل، الإنسان حائك بالفعل لأنكر ذلك عليك كل سامع ولكذبوك، لأن الصفة جزئية، وكذلك لو قلت الأطباء محسنون لكذبك كل سامع لأن الأطباء عموم. والمحسنون هم بعض الأطباء بلا شك، فلما حملت على المهمل صفة جزئية أنكرتها النفوس.
واعلم أن السور الكلي لا يجوز أن يوضع إلا قبل الموضوع أي قبل المخبر عنه لا قبل المحمول، وهو الخبر، لأنك إذا قلت: كل إنسان حي صدقت، وإذا قلت: الإنسان كل حي، كذبت؛ وإنما يجوز أن تقرن السور الكلي (1) بالمحمول إذا كان حداً أو رسماً، كقولك: نفس الإنسان كل حية ناطقة مبتة ذات جسد ملون (2) ، وإذا قلت: الإنسان كل ضحاك، أو إذا كان السور جزئياً مثل قولك: الإنسان بعض الحي.
4 - باب العناصر
[38و] اعلم أن عناصر الأشياء كلها، أي أقسامها، في الإخبار عنها، ثلاثة أقسام لا رابع لها: إما واجب وهو الذي قد وجد (3) وظهر، أو ما يكون مما لا بد من كونه، كطلوع الشمس كل صباح، وما أشبه ذلك. وهذا يسمى في الشرائع: " الفرض واللازم ". وإما ممكن وهو الذي قد يكون وقد لا يكون، وذلك مثل توقعنا أن تمطر غداً وما أشبه ذلك، وهذا يسمى في الشرائع: " الحلال والمباح ". وإما ممتنع وهو الذي لا سبيل إليه كبقاء الإنسان تحت الماء يوماً كاملاً، أو عيشه شهراً بلا أكل أو مشيه في الهواء بلا حيلة وما أشبه ذلك، وهذه التي إذا ظهرت من إنسان علمنا أنه نبي وهذا القسم يسمى في الشرائع (4) : " الحرام والمحظور ".
ثم الممكن ينقسم أقساماً ثلاثة لا رابع لها: ممكن قريب كإمكان وقوع المطر عند تكاثف الغيم في شهري كانون وغلبة العدد الكبير من الشجعان العدد اليسير من
__________
(1) السور الكلي: سقط من م.
(2) م: يقبل اللون.
(3) س: وجب.
(4) س: الشرع.(4/195)
الجبناء؛ وممكن بعيد وهو كانهزام العدد الكثير من الشجعان عند عدد يسير من جبناء وكحجام يلي الخلافة وما أشبه ذلك؛ وممكن محض وهو يستوي طرفاه، وهو كالمرء الواقف إما يمشي وإما يقعد وما أشبه ذلك. وكذلك نجد هذا القسم المتوسط في الشرائع ينقسم أقساماً ثلاثة: فمباح مستحب ومباح مكروه ومباح مستو لا ميل له إلى إحدى الجهتين.
فأما المباح (1) المستحب فهو الذي إذا فعلته أجرت وإذا تركته لم تأثم ولم تؤجر، مثل صلاة ركعتين نافلة تطوعاً؛ وأما المباح المكروه فهو الذي إذا فعلته لم تأثم ولم تؤجر وإذا تركته أجرت وذلك مثل الأكل متكئاً ونحوه؛ وأما المباح المستوي فهو الذي [إذا) فعلته أو تركته لم تأثم ولم تؤجر وذلك مثل صبغك ثيابك أي لون شئت، وكركوبك أي حمولة شئت ونحوه.
وقد يأتي اللفظ الذي يعبر به عن الممكن على وجوه، فمنه ما يأتي بلفظ الإيجاب كقولك: ممكن أن يموت هذا المريض، وقد يأتي بلفظ الشك فتقول: هذا المريض إما يموت وإما يعيش، وهذا الرمان إما حلو وإما حامض. وقد يأتي بلفظ النفي فتقول: هذا المريض لا ممتنع أن يبرأ.
واعلم أن كل ممكن فإنك تصفه بالضدين معاً أحدهما بالقوة والآخر بالفعل كقولك: القاعد قائم أي أنه قاعد بالفعل قائم بالإمكان.
واعلم أن الواجب قبل الممكن لأن الواجب هو الموجود وأما الممكن فلم يأت بعد وأما الممتنع فهو باطل لأنه لا يكون ولا يظهر.
واعلم أن الواجب ينقسم قسمين: أحدهما [38ظ] ما كان معلوماً قبل كونه أنه لا بد من كونه، كطلوع الشمس غداً، أو ما لم يزل ملازماً واجباً مذ وجد كملازمة التأليف للأجسام. والثاني ما كان قبل وجوبه غير مقطوع على أنه يكون كصحة المريض أو موته.
واعلم أن الممتنع ينقسم أقساماً أربعة:
__________
(1) هذه الفقرة من أنواع المباح سقطت من م.(4/196)
أحدها الممتنع بالإضافة وهو إما في زمان دون زمان، أو في مكان دون مكان، أو من جوهر دون جوهر، أو في حال دون حال، كوجوب كون الفيلة فاشية في الهند وكونها إلى الآن ممتنعة أن تكون فاشية في أرض الصقالبة، وكوجوب المردة في خلال استيفاء المرء أربعة عشر عاماً وامتناع اللحية في تلك المدة ووجوبها بعد وجودها وكوجوب رفع المرء الذي لا يجود بنفسه أو ليس مغمى عليه لرطل (1) وامتناع حمله ألف رطل، وكامتناع الضعيف من رفع (2) خمس مائة رطل، ووجوب حمل القوي لها، وكإمكان الذكي أن يغوص على المعاني (3) الغامضة ويعمل الشعر الجيد، وامتناع ذلك من الغبي البليد (4) الأبله الطبع فهذا وجه.
والثاني الممتنع (5) في العادة قطعاً وهو متشكل في حس النفس وتخيلها لوكان كيف كان (6) يكون، كاتقلاب الجماد حيواناً، واختراع الأجسام دون تولد، ونطق الجماد، وهذا القسم به تصح نبوة النبي، إذا ظهرت منه ولا سبيل إليها لغيره. والثالث الممتنع في العقل ككون المرء قائماً قاعداً في حال واحدة، وككون الجسم في مكانين، وكانقلاب الذي لم يزل محدثاً، أو المحدث لم يزل؛ أو وجود أشياء كثيرة لم تزل (7) ، وهذا بالجملة هو كل ما ضاد الأوائل المعلومة بأول العقل، وهذا ما لا سبيل إلى وجوده أصلاً، ولا يفعله الخالق أبداً، ولا يكون ذلك أصلاً، وفيه فساد بنية العالم وانخرام رتب العقول التي هي أسباب معرفة الحقائق {وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته} والرابع الممتنع (8) المطلق مثل كل سؤال أوجب على ذات الباري تعالى تغيراً، فهذا هو الممتنع لعينه (9) الذي ينقض بعضه بعضاً ويفسد
__________
(1) لرطل: هي قراءة م وأصل س، وفي هامش س: أرطالاً يسيرة.
(2) من رفع: لم ترد في س؛ وجاء بدله: وكامتناع حمل الضعيف خمسمائة ... الخ.
(3) المعاني: سقطت من س.
(4) س: البعيد.
(5) س: ممتنع.
(6) كان: سقطت من س.
(7) وكانقلاب ... تزل: سقطت من م.
(8) الممتنع: سقط من س.
(9) لعينه: لم ترد في س.(4/197)
أوله آخره (1) ، وهذا مثل سؤال من يسأل هل يقدر الله تعالى أن يخلق مثله ونحو هذا، فأعلمه لأنه لا يحدث أولاً على الإطلاق (2) .
واعلم أنه لا قسم لقضايا العالم غير ما ذكرنا أصلاً.
وقد يأتي أيضاً اللفظ الذي يعبر به عن الواجب بلفظ النفي وبلفظ الإيجاب، وقد يأتي اللفظ الذي يعبر به عن الممتنع بلفظ النفي، وقد يأتي أيضاً (3) بلفظ الإيجاب، ولا سبيل إلى أن يأتيا بلفظ شك فتقول: واجب أن تطلع الشمس غداً، وممتنع أن لا تطلع غداً (4) ، وتقول: واجب أن لا يوجد في النار برد، وممتنع [39و] أن يوجد في النار برد (5) .
وقد قال قوم إن العناصر اثنان وهما واجب وممتنع فقط، قالوا: ولا ممكن البتة لأن الشيء الذي تسمونه ممكناً هو قبل وجوده ممتنع، وهو بعد وجوده واجب، فلا ثالث. قالوا: وما غاب عنا فإما أنه في علم الله تعالى يكون وإما أنه لا يكون، فإن كان الله عز وجل قد علم أنه سيكون، فهو الآن واجب أن يكون، وإن كان تعالى علم أنه لا يكون فهو الآن ممتنع أن يكون. ونحن نقول: إن هذا حكم فاسد.
أما حجتهم الأولى من أن الشيء قبل كونه ممتنع فخطأ، بل في القوة وفي الظن ربما قد (6) كان وربما لم يكن؛ وأما احتجاجهم بعلم الله تعالى فإن الله تعالى قد أمر ونهى، فلو لم يكن الشيء الذي أمر به تعالى متوهماً كونه من (7) المأمور به لم يكن للأمر به (8) معنى، فالمتوهم كونه هو الممكن، وأفعال المختارين قبل كونها داخلة في قسم الممكن (9) ، بخلاف أفعال الطبيعة.
__________
(1) م: آخره أوله.
(2) لأنه ... الإطلاق: سقط من م.
(3) أيضاً: سقطت من م.
(4) وممتنع ... غداً: سقط من م.
(5) وممتنع ... برد: سقط من م.
(6) قد: لم ترد في م.
(7) س: في.
(8) به: سقطت من س.
(9) م: قسم حد الممكن.(4/198)
ثم نقول: إن الحس والعقل قد ثبت فيهما أن بين مشي القاعد الصحيح الجوارح والجسم الغير ممنوع وبين مشي المقعد المبطل الساقين فرقاً، وهذا فرق بين الممكن والممتنع. وكذلك فيهما أن بين قعود الصحيح الذي ذكرنا الذي إذا شاء تركه تركه، وبين قعود المقعد الذي لو رام جهده تركه لم يقدر، فرقاً واضحاً، وهذا فرق بين الممكن والواجب. والواجب أن نلزم (1) من قال بخلاف قولنا أن لا يتأهب للجوع إذا أصابه بأكل الطعام لأنه إن كان انتهى أجله فواجب أن يموت، وإن كان لم ينته أجله فممتنع أن يموت، وينبغي له (2) أن يقتحم النيران إذ إن كان (3) في المغيب أنه لا يحترق فممتنع أن يحترق، فيلزم مخالفنا أن تأهبه وفكرته وسعيه فيما يدفع به عن نفسه البرد والعطش والأذى كتأهبه وفكرته لدفع حركة الفلك أو لمنع الشمس من الطلوع، ونحن إنما نناظر الناس حتى نردهم إلى موجب العقل أو الحس أو نلزمهم أن يخرجوا عن رتب العقل وإلى مكابرة الحس، فإذا خرجوا إلى ما ذكرنا فقد كفونا التعب معهم، ولزمنا الإعراض عنهم وتركهم يتمنون الأضاليل ويفرحون بالأباطيل كالسكارى والصبيان المغرورين بأحوالهم، المسرورين بأفعالهم، ونشتغل بما يلزمنا من تبيين الحقائق لطلابها، فإنما نتكلم مع النفوس العاقلة المميزة، لا مع الألسنة فقط، ولا مع النفوس السخيفة.
5 - باب الكلام في الإيجاب والسلب وهو النفي ومراتبه ووجوهه
النفي المفيد معنى والذي تنفي به ما أوجب خصمك إنما حكمه أن يكون للمحمول لا [39ظ] للموضوع لأنك تثبت الاسم ثم توجب له صفة أو تنفيها عنه. ولو نفيت الموضوع وهو الاسم المخبر عنه لكنت لم تحصل معنى تخبر عنه كقولك: لا زيد منطلق، لأن ظاهر هذا اللفظ نفي زيد ونفي الانطلاق معه. والأوائل يسمون مثل هذا " قضية غير محصلة "، وإنما الصواب أن تقول: زيد غير منطلق، أو ليس منطلقاً، فتكون قد أثبت زيداً ونفيت عنه الانطلاق. والأوائل يسمون هذه " قضية مسلوبة " و " متغيرة في المحمول " لأنك غيرتها عن الإيجاب، فتحفظ في هذا المكان، فأقل
__________
(1) سقطت عبارة: والواجب أن في م، وجاء مباشرة " ويلزم ... ".
(2) له: سقطت من س.
(3) س: إذا كان.(4/199)
ما في ذلك أن تجيب على أحد وجهي الكلام اللذين هما إما نفي المخبر عنه جملة وإما نفي الصفة عنه، فتكون مجيباً قبل تحقيق السؤال وتصحيحه، فيلزمك نقص الفهم والجور في الحكم.
وإذا أردت نفي ما أوجب خصمك نفياً تاماً صحيحاً فلا بد لك من أنك إنما تريد نقض بعضه أو نقض كله، فإن أردت نقض بعضه فبين ذلك، وإن أردت نقض كله فلا بد من أن يجمع كلامك ثمانية شروط وإلا فليس نقضاً تاماً: أحدها (1) : أن يكون الموضوع فيما أوجب هو وفيما نفيت أنت واحداً، فإن كانا اثنين وقع الشغب، وذلك مثل قول القائل: الموجود محدث، فيقول الآخر: الموجود ليس محدثاً، فهذا فساد في بنية الكلام، وليس أحد الكلامين نقضاً للآخر، لأن الباري عز وجل موجود، وليس محدثاً، والعالم موجود وهو محدث، ونحو ذلك عرض لأصحابنا من أهل السنة والمعتزلة فإنهم أكثروا التنازع والخوض حتى كفر بعضهم بعضاً، فقالت المعتزلة: القرآن مخلوق، وهم يعنون العبارة المسموعة، وقال أصحابنا: القرآن لا مخلوق (2) ، وهم يعنون علم الباري عز وجل. والثاني: أن يكون المحمول الذي أوجب أحدهما هو المحمول الذي نفى الآخر لا غيره أصلاً، وذلك مثل قائل قال (3) زيد عالم، فقال مخالفه: زيد ليس بعالم، فإن عنى أحدهما عالماً بالنحو، وعنى الآخر عالماً بالفقه لم تتناقض قضيتاهما. والثالث: أن يكون الجزء الذي فيه استقر الحكم من الموضوع واحداً في كلتا القضيتين لا غيره كقائل قال: زيد أسود، يريد أسود الشعر، فيقول الآخر: زيد ليس بأسود، يريد اللون أو العين. والرابع: أن يكون الجزء من المحمول في القضيتين واحداً لا متغايراً كقائل قال (4) : زيد ضعيف، فيقول الآخر: زيد ليس بضعيف، يريد أحدهما ضعف الجسم بالبنية الكلية، والآخر نفي ضعف الجسم بالمرض الذي هو جزء من أجزاء [40و] الضعف. والخامس: أن يكون الزمان الذي أثبت فيه أحدهما ما أثبت هو الزمان الذي نفى فيه الآخر
__________
(1) م: وهي؛ ثم حذف العدّ واستعمل لفظة " ومنها ".
(2) وهم يعنون ... مخلوق: سقط من س.
(3) س: مثل قول القائل.
(4) س: كقول القائل.(4/200)
ما أثبت هذا لا غيره، كقائل قال: زيد كاتب - أي قد كتب ويكتب (1) فيقول الآخر: زيد ليس كاتباً، أي ليس الآن يكتب. والسادس: أن تكون الحال التي أثبت فيها أحدهما ما أثبت، هي الحال التي نفى فيها الآخر (2) ما أثبت هذا لا غيرها، كقائل قال: الطفل فارس، يريد الإمكان والاحتمال في البنية (3) ، فيقول الآخر: الطفل ليس بفارس يريد بالفعل في حال الطفولة. والسابع: أن تكون إضافة الشيء الذي أثبت هو وإضافة الشيء الذي نفى خصمه إلى شيء واحد لا إلى شيئين، كقائل قال: زيد عبد، فيقول الآخر: زيد ليس عبداً، يريد أحدهما لله عز وجل، ويريد الآخر نفى أنه متملك لإنسان، ونحو قولك (4) : السيف يقطع، فيقول خصمك: السيف ليس يقطع، أردت اللحم (5) ، وأراد هذا الحجارة. والثامن أن تكون القضيتان مستويتين في الجوهر أو في العرض، لا مختلفتين، كقائل قال: زيد ينتقل، فقال خصمه: زيد لا ينتقل، وهما يخبران جميعاً عن رجل (6) قاعد في سفينة تسير، فهو ينتقل بالعرض، أي بنقل السفينة إياه، وهو غيرمنتقل بذاته بل هو ساكن.
وبالجملة ففتش كلام خصمك فإن كان في كلامك الذي تريد إيجابه أو نفيه معنى يخالف ما حكم هو فيه بإيجاب أو بنفي فبينه ولا تخالف شيئاً من معانيه إلا بحرف النفي فقط وإلا كنت شغبياً معنتاً (7) أو جاهلاً، فهذه شروط النقيض.
والنفي الكلي وهو نفيك الصفة عن جميع النوع أو نفيك جميع الصفة عن بعض النوع تنطق به (8) بلفظ يشبه في ظاهره الجزئي لأنك إذا أردت النفي الكلي، وهو العام، قلت ليس واحد (9) من الناس صهالاً، أو ليس أحد من الناس صهالاً،
__________
(1) ويكتب: في م وحدها.
(2) الآخر: سقطت من س.
(3) م: واحتمال البنية.
(4) س: ذلك.
(5) س: وأراد هذا اللحم.
(6) عن رجل: سقط من س.
(7) م: معيباً.
(8) به: سقطت من س.
(9) س: واحداً.(4/201)
وليس واحد من الخيل ناطقاً، وليس شيء من النطق في هذا الفرس.
والنفي الجزئي، وهو نفيك الصفة عن بعض النوع لا عن كله، تنطق به بلفظ جزئي وبلفظ كلي [ ... ] (1) ومعنى هذين اللفظين واحد لا اختلاف فيه، أحدهما ظاهره العموم والثاني ظاهره الخصوص.
والإيجاب الكلي وهو إثباتك الصفة لجميع النوع لا يكون إلا بلفظ كلي إما بسور كما قدمنا، وإما مهمل يقصد به العموم كقولك: كل إنسان حي، أو كقولك: جميع الناس أحياء، أو تقول، الإنسان حي، وأنت لا تريد شخصاً واحداً بعينه، أو تقول: الناس أحياء وأنت لا تريد بعضاً منهم.
والإيجاب الجزئي وهو إثباتك الصفة لبعض النوع لا يكون أصلاً إلا بلفظ جزئي كقولك: بعض الناس كتاب، فأفهم هذه الرتب وتثبت فيها.
وقد قال [40ظ] بعض المتقدمين إن القائل إذا أتى بقضية مهملة فقال: الإنسان كاتب، ان الأسبق إلى النفس أن مراده بذلك بعض النوع لا كله. وأما نحن فنقول: إن هذا القول غير صحيح وإن هذه المهملات يعني الألفاظ التي تأتي في اللغة: مرة للنوع كله، ومرة للشخص الواحد، ومرة لجماعة من النوع، فإنها إن لم يبين المتكلم بها أنه أراد شخصاً واحداً من النوع، أو بعض النوع دون بعض، أو لم يقم على ذلك برهان ضروري، أو مقبول، أو متفق عليه من الخصمين، فلا يجوز أن تحمل على عموم النوع كله لأن الألفاظ إنما وضعت للإفهام لا للتلبيس. وكل لفظة فمعبرة عن معانيها ومقتضية لكل ما يفهم منها، ولا يجوز أن يكلف المخاطب فهم بعض ما تقتضيه اللفظة (2) دون بعض، إذ ليس ذلك في قوة الطبيعة البتة، بل هذا من الممتنع الذي لا سبيل إليه ومن باب التكهن، إلا باتفاق منهما أو ببيان زائد، وإلا فهي سفسطة وشغب وتطويل بما لا يفيد ولا يحقق معنى.
__________
(1) زاد في س: لأنك تقول [ليس] بعض الناس كاتباً؛ وهو كلام ناقص، ولا وجود له في م؛ وهو نقص لم تسعف النسختان على استكماله.
(2) س: يقتضيه اللفظ.(4/202)
وسمى بعض المتقدمين قول القائل: كل إنسان حي، وقول المخالف له: ليس (1) كل إنسان حياً، " ضداً "، وسمى قول القائل: كل إنسان حي وقول الآخر لا بعض الناس حي، " نقيضاً " وذكر أن النقيض أشد مباينة من الضد، واحتج بأن قال إن القضيتين الأوليين اللتين سميناهما ضداً كلتاهما كلية، الواحدة موجبة والأخرى نافية، والقضيتان الأخريان اللتان سميناهما نقيضاً، الواحدة كلية والثانية جزئية، والواحدة موجبة والثانية نافية، فإنما اختلفت الأوليان (2) في جهة واحدة وهي الكيفية فقط أي في الإيجاب والنفي، وهما متفقتان في الكمية أي أن كلتيهما كلية، واختلفت الأخريان في جهتين: إحداهما الكيفية، أي الإيجاب والنفي كاختلاف قضيتي الضد، والثانية الكمية وهي أن الواحدة كلية والثانية جزئية. قال: فما اختلف من جهتين أشد تبايناً مما اختلف من جهة واحدة. ونحن نقول: إن هذا خطأ وإن هذا القائل إنما راعى ظاهر اللفظ دون حقيقة المعنى، وإن قضاء هذا القائل وإن كان صادقاً في عدد وجوه الاختلاف، فهو قضاء كاذب في شدة الاختلاف، ولو كان (3) قال مكان أشد " أكثر " لكان حقاً. بل نقول: إن التي تسمى ضداً، ونحن (4) نسميها " نفياً عاماً " إن (5) شئت، أو " نقيضاً عاماً "، أشد تبايناً من [41و] الأخرى التي نسميها " نقيضاً خاصاً " لأن قائل الأولى نفى جميع ما أوجبه الآخر وكذبه في كل ما حكى، ولم يدع معنى من معاني قضيته إلا وخالفه فيها وباينه في جميعها. وأما الثانية فإن قائلها إنما نفى بعض ما أوجبه (6) الآخر وأمسك عن سائر القضية فلم ينفها ولا أوجبها ولا خالفه فيها ولا وافقه، وإنما باينه في بعض قضيته لا في كلها، والمباين في الجميع أشد خلافاً من المباين في البعض.
__________
(1) له: سقطت من س؛ ليس: لا في م.
(2) س: اختلف الأولتان.
(3) كان: سقطت من م.
(4) س: فنحن.
(5) س: أو ان شئت، ونقلت " أو " إلى ما بعد الفعل، وهو أصوب، كما في م.
(6) س: أوجب.(4/203)
وإذا أتاك خصمك بمقدمة مهملة فقرر معه معناها: العموم (1) أراد أو (2) الخصوص، أي على الكل يحملها أو على بعض ما يقتضيه اللفظ الذي تكلم به، وتحفظ من إهمال هذا الباب، وإذا قضيت قضية فنفاها خصمك فتأمل فإن كان ما أوجبت ونفى هو من ذوات الوسائط فحقق عليه في أن يبين ما أراد كقولك: زيد أبيض، فيقول هو: ليس زيد بأبيض، فإنه لا يلزمه بهذا القول أن يكون زيد أسود، ولعله أراد أنه أحمر أو أصفر. ومثال هذا في الشرائع أن تقول: أمر كذا حرام فيقول خصمك ليس بحرام أو تقول أمر كذا واجب، فيقول خصمك: ليس بواجب، فإنه في قوله ليس بحرام ليس يلزمه أنه واجب ولا في قوله إنه ليس واجباً أنه حرام، بل لعله أراد أنه مباح فقط. وأما غير ذوات الوسائط فلا تبال (3) عن هذا لأنك إن قلت: زيد حي فقال خصمك: هو غير حي فقد أوجب أنه ميت ضرورة، ولا واسطة (4) هاهنا، ولقد لزمه القول بموته (5) فانظر أنه قد يكون معنى النفي بلفظ الإيجاب إلا أن ذلك ليس شرطاً عاماً تثق النفس به بل هو في مكان دون مكان لأنك تقول: فلان ميت فيقول خصمك: فلان يكتب أو فلان حي فهذا معنى صحيح في نفي الموت ولكن لا تثق بهذا؛ فإنك إذا قلت: فلان متكيء فيقول خصمك: فلان جالس فقد تكونان معاً كاذبين بأن يكون المخبر عنه قائماً، وحقيقة النفي هو ما صدق أحدهما وكذب الآخر، فإذا أردت حقيقة النفي ورفع الإشكال فلا بد من أحد حروف النفي التي قدمنا ذكرها فتأمن من (6) الغلط، ولهذا قال المتقدمون: إن لكل موجبة سالبة واحدة، ولكل سالبة موجبة واحدة، أي أن ذلك لا يكون إلا بإدخال حرف النفي فقط، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) زاد في هامش س " هل " قبل لفظة " العموم ".
(2) م: أم.
(3) س: تبالي.
(4) م: وسط.
(5) س: وقد لزمه الموت بقوله.
(6) من: سقطت من م.(4/204)
[41ظ] 6 باب اقتسام القضايا: الصدق والكذب
وإذ قد ذكرنا أن عناصر الاخبار ثلاثة أي انقسامها ثلاثة وهي: واجب أو ممكن أو ممتنع فلنذكر إن شاء الله عز وجل بتوفيقه لنا وجوه اقتسام (1) القضايا الموجبات والنوافي للصدق في هذه الأقسام الثلاثة فنقول، وبالله تعالى نتأيد:
إن النفي العام والإيجاب العام يقتسمان (2) الصدق والكذب ضرورة في عنصر الوجوب، فالموجبة أبداً (3) صادقة حق، والنافية أبداً كاذبة باطل، مثل قولك: كل إنسان حي، فهذا حق ونفيه كذب، إذا قلت: ولا واحد من الناس حي فهذا أمر لا يخونك أبداً، فاضبطه. وكذلك أيضاً في عنصر الإمكان. فإن قولك: كل إنسان كاتب، إذا عنيت بالقوة، وإما إذا عنيت بالفعل فالقضيتان العامتان الموجبة والنافية كاذبتان فيه أبداً، كقولك: كل إنسان كاتب أي محسن للكتابة أو قولك ولا واحد من الناس كاتب، فكلتاهما كذب. وأما في عنصر الامتناع فالنافية أبداً صادقة، والموجبة أبداً كاذبة، كقولك: كل إنسان نهاق فهذا كذب، وإذا قلت ليس أحد من الناس نهاقاً فهذا صدق.
ثم لنتكلم عن النفي الخاص والإيجاب الخاص إن شاء الله تعالى، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إن (4) قضيتي النفي الخاص والإيجاب الخاص في عنصر الوجوب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة لأنك تقول: بعض الناس حي فذلك حق ونفيه لا بعض الناس حي كذب، وأما في عنصر الامتناع فإنهما أيضاً يقتسمان الصدق والكذب: فإن (5) قولك بعض الناس حجر كذب ونفيه بعض الناس لا حجر صدق، فتصدق النافية أبداً في هذا القسم وتكذب الموجبة أبداً (6) فيه. وإما في عنصر الإمكان فكلتاهما (7) صادقة ضرورة وذلك قولك: بعض الناس كاتب تريد بالفعل حق،
__________
(1) اقتسام: أقسام في س (في العنوان وأكثر الفصل، وهو خطأ) .
(2) س: ينقسمان إلى.
(3) س: والموجبة.
(4) س: بأن.
(5) س: في أن.
(6) أبداً: سقطت من س.
(7) س: فكلاهما.(4/205)
ونفيه بعض الناس لا كاتب تريد بالفعل حق.
ثم لنتكلم على الإيجاب العام والنفي الخاص، فنقول وبالله تعالى نتأبد: إن قضيتي الإيجاب العام والنفي الخاص في عنصر الإيجاب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة، فإن قولك: كل الناس حي صدق، ونفيه: لا كل الناس حي ولا بعض الناس حي كذب، فتصدق الموجبة أبداً وتكذب النافية. وأما في عنصر الإمكان فإنهما أيضاً يقتسمان الصدق والكذب، فإن قولك كل الناس كاتب، تريد بالفعل، كذب، ونفيه لا كل الناس [42و] كاتب أو لا بعض الناس كاتب (1) ، تريد بالفعل، صدق، فتكذب الموجبة وتصدق النافية. وأما في عنصر الامتناع فإنهما أيضاً يقتسمان الصدق والكذب ضرورة، كقولك: كل إنسان نهاق كذب، ونفيه لا كل الناس نهاق أو لا بعض الناس نهاق صدق، فتكذب الموجبة وتصدق النافية.
ثم لنتكلم على الإيجاب الخاص والنفي العام، فنقول، وبالله تعالى نتأيد: إن قضيتي الإيجاب الخاص والنفي العام في عنصر الوجوب يقتسمان الصدق والكذب ضرورة. فإن قولك بعض الناس حي حق، ونفيه: ليس واحد من الناس حياً كذب، فتصدق الموجبة وتكذب النافية. وأما في عنصر الإمكان فكذلك أيضاً، لأن قولك: بعض الناس كاتب حق، ونفيه لا واحد من الناس كاتب كذب، فتصدق الموجبة وتكذب النافية. وأما في عنصر الامتناع فكذلك أيضاً، لأن قولك: بعض الناس حجر كذب، ونفيه لا واحد من الناس حجر صدق، فتصدق النافية وتكذب الموجبة، فتدبر هذه القسمة فإنك ترى رتبة حسنة لا تخونك أبداً فاضبط:
إننا عنينا بقولنا فيما تقدم لنا " عام " أنه الذي تسميه الأوائل " كلياً " والذي قلنا فيه " خاص " فهو الذي تسميه الأوائل " جزئياً ".
واعلم ان العموم في النفي والإيجاب في عنصر الإمكان كاذبان أبداً، وأن الخصوص في النفي والإيجاب في عنصر الإمكان (2) صادقان أبداً.
__________
(1) أو لابعض الناس كاتب؛ سقط من م.
(2) كاذبان ... أبداً: سقط من س.(4/206)
واعلم أن الموجبة العامة في عنصر الوجوب صادقة أبداً.
واعلم أن النافية العامة في عنصر الوجوب كاذبة أبداً.
واعلم أن الموجبة الخاصة في عنصر الوجوب صادقة أبداً.
واعلم أن النافية الخاصة في عنصر الوجوب كاذبة أبداً.
واعلم أن الموجبة العامة في عنصر الإمكان كاذبة أبداً.
واعلم أن النافية العامة في عنصر الإمكان كاذبة أبداً.
واعلم أن الموجبة الخاصة في عنصر الإمكان صادقة أبداً.
واعلم أن النافية الخاصة في عنصر الإمكان صادقة أبداً.
واعلم أن الموجبة العامة في عنصر الامتناع كاذبة أبداً.
واعلم أن النافية العامة في عنصر الامتناع صادقة أبداً.
واعلم أن الموجبة الخاصة في عنصر الامتناع كاذبة أبداً.
واعلم أن النافية الخاصة في عنصر الامتناع صادقة أبداً.
واندرج لنا فيما ذكرنا آنفاً أمر غلط فيه جماعة من الناس فعظم فيه خطأهم وفحش جداً. وذلك أنهم قدروا أن القائل: ليس بعض الناس نهاقاً، أنه قد أوجب لسائرهم النهيق [42ظ] ، فظنوها قضية كاذبة، وهذا كذب منهم وظن فاسد رديء باطل ينتج لهم نتائج عظيمة الفحش، لأنه يخبر عن سائرهم بخبر أصلاً لا بأنهم ينهقون، ولا بأنهم لا ينهقون، ولا ندري لو أخبر أكان يخبر بكذب أو بصدق حتى يخبر، فندري حينئذ صفة خبره، لكنه الآن قد صدق في نفيه النهيق عن بعضهم صدقاً صحيحاً متيقناً، وسكت عن سائرهم، وليس يلزم من أخبر عن بعض النوع بخبر يعمه ويعم سائر نوعه أن يخبر ولا بد عن سائر النوع إلا إن شاء أن يخبر، والسكوت ليس كلاماً؛ ومن سكت فلم يتكلم، ولا يقضى على أحد بسكوته وأنه قضى قضاءً لا يعلم إلا بالكلام إلا حيث أمضت الشريعة القضاء به فيما صار خارجاً بالأمر عن المعهود المعلوم فقط، وليس ذلك إلا في موضعين فقط لا ثالث لهما، أحدهما إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام على ما رأى، والثاني صمات البكر. ومن تكلم فلم يسكت، ألا ترى أن من قال نفس زيد حية ناطقة ميتة فهو صادق، فلو كان ظن هذا الظان الذي أبطلنا غلطه حقاً لكان القائل نفس زيد ناطقة ميتة كاذباً، لأنه على حكم هؤلاء الجهال كان(4/207)
يكون موجباً لسائر أنفس الناس غير (1) ما أخبر به عن نفس زيد، وهذا ما لا يظنه ذو عقل؛ ولو كان هذا لكانت القضايا المخصوصة كلها كواذب، أي أن كل خبر عن شخص بعينه كان يكون كاذباً، إذ ينطوي فيه عندهم أن سائر نوعه بخلاف ذلك، فلما كان هذا مكابرة للحس صح ما قلنا أولاً من أن المخبر بأن بعض الناس ليس حماراً صادق، ولم يكن النفي لما هو منفي أولى بالصدق فيه من الإيجاب لما هو موجب، ولم يلزمه أن يظن به أنه أوجب الحمارية لسائر من سكت عنه من باقي النوع، لكن سائر النوع موقوف على ما هو عليه أي له من الحكم ما قد وجب بعد له بغير هذه القضية التي قضيت على بعضه، وهذا الذي غلط فيه كثير ممن تكلم في علوم الشريعة وسموه " بدليل الخطاب " وقضوا به القضايا الفاسدة؛ وكذلك من أخبر بممكن فقال: بعض الناس كاتب أو ليس زيد كاتباً فليس فيه أن سائر الناس لا كتاب ولا أن من عدا زيداً كاتب، ولا يوجب قوله ما ذكرنا شيئاً مما سكت عنه أصلاً، وإنما يؤخذ حكم سائرهم من دلائل أخر وقضايا غير هذه، ولو كان ما ظنه هؤلاء المغفلون لوجب ضرورة أن قول [43و] القائل: ليس زيد كاتباً (2) كذب، إذ ذلك يوجب على حكم هؤلاء أن جميع الناس حاشاه كتاب. فلما كان كلا الأمرين باطلاً بطل الحكم لجميع ما ذكروه (3) ، ولما صدق القائل: ليس زيد كاتباً، والقائل: عمرو كاتب، والقائل: خالد حي، والقائل: ليس عبد الله حجراً، ولم يوجب كل ذلك حكماً على غير من ذكر لا بموافقة ولا بمخالفة، صح ما قلناه من أن القضية إنما تعطيك مفهومها خاصة وإن ما عداها موقوف على دليله، وبطل أيضاً قول من قال: إن ما عداها داخل في حكمها، وبالله تعالى التوفيق.
ولا يظن ظان أن هذا نقض لما قلنا في كتبنا في أحكام الدين إن الحكم الذي حكم به الواحد الأول تعالى على لسان الذي ابتعثه رسولاً إلينا في شخص من نوع أنه لازم لجميع النوع إلا أن يبين أنه خص به ذلك الشخص، وقلنا أيضاً إنه غير لازم
__________
(1) س: على.
(2) س: زيد كاتب.
(3) م: لكل ما ذكروا.(4/208)
لغير ذلك النوع أيضاً أصلاً إلا ببيان وارد بأنه فيما (1) سواه من الأنواع، فمن ظن في كلامنا هذا الظن فقد غاب عن فهم قولنا. وبيان ذلك أن عدد الأشخاص غير متناه عندنا، على ما قدمنا في أول هذا الديوان، فلا سبيل إلى عموم كل شخص منها بخطاب يخصه إذ هم حادثون جيلاً بعد جيل، والرسول عليه السلام مبتعث ليحكم في كل شخص وعلى كل شخص يحدث أبداً إلى انقضاء عالم الاختبار (2) ، فإذا حكم عليه السلام في شخص بحكم ولم يعلمنا أنه خاص به ولا انفرد (3) به ذلك الشخص بكلام يخصه به كان كحكمه على البعض الذين في عصره، وكان ذلك جارياً بالمقدمات المقبولة على كل حادث من الأشخاص أبداً. ويكفي من بطلان هذا الأعتراض أنه لا شيء من كلامه، عليه السلام، أتى مفرداً إلا وقد جاء بيان واضح بأنه (4) عام لمن سوى ذلك الشخص ولما سواه أبداً. وليس هذا مكان الكلام في ذلك، وإنما نبهنا عليه لئلا يتحير فيه من صدم به ممن يقول بقولنا، وبالله تعالى التوفيق.
واعلم أن قولك: كل الناس حي وقول الذي يناظرك: بعض الناس حي (5) ليس خلافاً لقولك؛ وكذلك لو قال: زيد حي، لكن هذا تتال في الإيجاب لأنه تلاك فصوب بعض قولك ولم يخالفك في سائره ولا وافقك لكنه أمسك عنه؛ وكذلك إذا قلت: كل الناس لا حجر، فقال هو: بعض الناس لا حجر، فلم يخالفك أيضاً لكنه تتال في النفي أي تتابع. وإنما يكون خلافاً إذا قلت: ليس بعض الناس حياً، فهذا خلاف [43ظ] أحدهما نفي عام والثاني نفي خاص.
وأما القضايا المخصوصة وهي التي يخبر بها عن شخص واحد فإنها تقتسم الصدق والكذب أبداً في الواجب والممكن والممتنع، أما في الواجب فتصدق الموجبة أبداً
__________
(1) م: في.
(2) م: الاختيار.
(3) م: أفرد.
(4) بأنه: سقطت من س.
(5) وقول الذي ... حي: سقط من م.(4/209)
وتكذب النافية، كقولك، زيد (1) حي، زيد لا حي. وأما في الممتنع فتكذب الموجبة أبداً وتصدق النافية كقولك: زيد حجر، زيد لا حجر. وأما في الممكن فكيف ما وافق حقيقة الخبر في صفة ذلك الشخص المخبر عنه مثل قولك: زيد طبيب، زيد ليس بطبيب، فإن التي توافق صفته تصدق، إما الموجبة وإما النافية، والتي تخالف صفته تكذب، إما الموجبة وإما النافية.
7 - باب ذكر موضع حروف النفي
واعلم أنه واجب أن تراعي إذا أردت أن تنفي صفة ما أين تضع حرف النفي، فأصل الحكم فيه إذا أردت البيان ورفع الإشكال أن تضع حرف النفي قبل الخبر لا قبل المخبر عنه، فيقول خصمك: زيد حي فتقول: زيد لا حي.
واعلم أن الأوائل إذا وضعوا حرف النفي قبل الموضوع الذي هو المخبر عنه، كان معه خبراً أو لم يكن معه خبر، فحينئذ يسمونه " غير محصل " وإذا (2) وضعوه قبل الموضوع، ووضعوه ثانية أيضاً قبل المحمول الذي هو الخبر سموه " غير محصل ومتغيراً " ولو وضعوه قبل المحمول فقط سمي " متغيراً " فقط. وذكروا أنه قد يقع في المهمل الذي لا سور عليه، وفي المخصوص وهو الإخبار عن شخص واحد وفي ذوات الأسوار. وإذا وضعوه قبل المحمول في القضية ذات السور سموه " مسلوباً "، وإذا وضعوه قبل السور سموه " نقيضاً "، وإذا وضعوه في كل موضع من هذه المواضع جمعوا له الأسماء الثلاثة المذكورة.
وكل قضية لم يكن حرف النفي قبل موضوعها الذي هو المخبر عنه فهي تسمى " بسيطة "، نافية كانت أو موجبة، ذات سور كانت أو غير ذات سور، وذلك أنك إذا قلت: كل لا إنسان حجر (3) فإنك لم تحصل شيئاً تخبر عنه. وتأمل عظيم الغلط
__________
(1) زيد: في م وحدها.
(2) س: إذا.
(3) وذلك أنك ... حجر: هذه عبارة م؛ وموضعها في س: وأنك إذا قلت لا إنسان حجر.(4/210)
الواقع (1) في تسويتك وضع حرف النفي قبل السور ووضعه قبل المحمول فإنك إذا قلت: لا كل إنسان كاتب صدقت، وكنت إنما نفيت بذلك الكتابة عن بعض الناس على الحقيقة، لاعن كلهم على ما قدمنا من أن النافية الجزئية تظهر بقول كلي وبجزئي أيضاً. وتأمل ذلك في قولك: ليس كل إنسان كاتباً فإن هذا أبين في اللغة العربية وأوضح في أنه نفي جزئي (2) [44و] وكذلك لو أضمرت اسم ليس فقلت: ليس كل إنسان كاتب (3) أي ليس الحكم كل إنسان كاتب، فهذه كلها نوافي جزئيات فاضبط ذلك جداً. وأنت إذا قلت: كل إنسان لا كاتب فإنك نفيت الكتابة عن الجميع واحداً واحداً فتحفظ من (4) مثل هذا، فأيسر ما في ذلك أن يكون خبرك كذباً وإن كنت لم تقصده فتضل بذلك من حسن ظنه بك، وهذه خطة خسف لا يرضى بها فاضل.
واعلم أنك إنما تنفي ما تلصق به حرف النفي، فإن ألصقته بالمحمول الذي هو الخبر عن المخبر عنه نفيت المحمول كله، وإن ألصقته بالسور فإنما تنفي بعض القضية أو جميعها على حسب صيغة لفظك في اللغة، ألا ترى أنك تقول: ممكن أن يكون زيد أميراً، فإن جعلت حرف النفي قبل ممكن فقلت لا ممكن أن يكون زيداً أميراً فهذا " نقيض " لأنك نفيت النوع وهو العنصر، يعني أنك نفيت إمكان القضية كلها، فإذا جعلت حرف النفي بعد ممكن وقبل ذكر يكون الذي هو الزمان فقلت ممكن أن لا يكون زيداً أميراً فهذا " تغيير " لأن الإمكان لم تنفه بل أثبته، لكن أدخلت فيه نفي ما أدخل خصمك فيه الإمكان، وتغيرت المقدمة عن حالها، وهي: كون زيد أميراً؛ فإن جعلت حرف النفي بعد العنصر والزمان أي بعد لفظ الجواز وهو الإمكان وبعد لفظ الكون وقبل الموضوع الذي هو المخبر عنه فقلت: ممكن أن يكون غير (5) زيد أميراً فلم تنف عن زيد شيئاً وهذا الذي يسمى " غير محصل "، ويسمى أيضاً
__________
(1) س: الرافع.
(2) س: يجزئي.
(3) س: كاتباً.
(4) م: في.
(5) م: لا.(4/211)
" متغيراً "، إذا كانت [غير] بمعنى ليس (1) ، لأنك (2) لم تنف عن شخص بعينه شيئاً ولا نفيت (3) أيضاً ما أوجب خصمك ولا أوجبت أيضاً لشخص بعينه شيئاً لكن أخبرت عن غير زيد، وغير زيد لا يتحصل من هو ولا ما هو، وأبقيت الإمكان والكون بحسبهما مثبتين لا منفيين. وكذلك المقدمة التي أثبت خصمك لم تنفها أنت ولا أثبتها أيضاً بل سكت عنها جملة فلم تناقضه ولا خالفته. وإن (4) جعلت حرف النفي بعد النوع وبعد الزمان وبعد الموضوع وقبل (5) المحمول فقلت: ممكن أن يكون زيد لا أميراً فهذا سلب، ويسمى أيضاً " انتقالاً "، لأنك أثبت النوع الذي هو الإمكان والزمان الذي هو الكون والموضوع الذي هو المخبر عنه ونفيت عنه الحمل الذي أثبت خصمك فقط، فهذه قضية نافية. وهكذا القول في القضايا المهملة وفي القضايا المحصورة ولا فرق في نفي ما تنفي وإيجاب ما توجب. فافهم اختلاف هذه الرتب فمنفعتها في إيراد الحقائق وتثقيف المعاني ورفع الاشكال منفعة عظيمة (6) جداً وبالله تعالى [44ظ] التوفيق.
وأعلم أنك إذا أوجبت لمخبر عنه بلفظة " ذي " شيئاً ما، مثل قولك: ذو مال أو ذو صفة كذا، فإنك إذا أردت نفي ذلك عنه لم يكن لك بد من إبقاء لفظة ذي في نفيك ذلك عن من أوجبته له فتقول: ليس ذا مال.
8 - بقية الكلام في اقتسام القضايا الصدق والكذب
واعلم أن من القضايا ما تصدق مفردة وتصدق مجموعة، ومنها ما تصدق مفردة وتكذب مجموعة، ومنها ما تكذب مفردة وتصدق مجموعة، ومنها ما تكذب مفردة وتكذب مجموعة.
__________
(1) إذا كانت ... ليس: سقط من م.
(2) لأنك: سقطت من س.
(3) س: أنفيت.
(4) م: فان.
(5) س: وبعد.
(6) عظيمة: سقطت من س.(4/212)
فالتي (1) تصدق مفردة ومجموعة مثل قولك الإنسان حي، الإنسان ناطق، الإنسان ميت، الإنسان ضحاك، فكل ذلك حق صدق، فإن قلت: الإنسان حي ناطق ميت ضحاك، فكل ذلك حق صدق.
وأما التي (2) تصدق مفردة وتكذب مجموعة فكعبد مجتهد لنفسه لا لسيده، فقولك فيه: إنه عبد حق، وقولك فيه: مجتهد حق (3) ، فإن قلت: هذا عبد مجتهد كذبت حتى تبين وجه اجتهاده؛ وإنما هذا في الصفتين المحمولتين إذا كانتا مضافتين إلى شيئين مختلفين فألبست بإسقاط ما هي مضافة إليه وأوهمت أن كلتا الصفتين مضافة إلى شيء واحد.
وأما التي تصدق مجموعة وتكذب مفترقة فكرجل قوي النفس ضعيف الجسم، فإنك إن قلت: فلان ضعيف كذبت، وإن قلت فلان قوي كذبت. حتى تجمع فتقول: فلان قوي النفس، ضعيف الجسم، وإنما هذا فيما لا تقال فيه الصفة على الإطلاق لكن بإضافة. وأما التي تكذب مجموعة ومفردة فكقولك: الإنسان صهال، الإنسان نهاق، الإنسان شحاج (4) فهذا كذب؛ فإن جمعته فقلت الإنسان صهال نهاق شحاج (5) ، فهو كذب أيضاً. فاضبط جميع هذا إن أردت تحقيق المعارف وتصحيح القضايا وبالله تعالى التوفيق.
9 - باب الكلام في المتلائمات (6)
هذه لفظة عبر بها الأوائل عن قضايا مختلفة الألفاظ متفقة المعاني وإن كان ظاهر لفظ بعضها وحقيقة معناها النفي، وظاهر بعضها وحقيقة معناها الإيجاب، وهي مع ذلك متفقة المعاني اتفاقاً صحبحاً لا اختلاف بينها. فاعلم أنه قد ترد [45و] أخبار وقضايا بألفاظ شتى ومعناها واحد، فيظن الجاهل أنها مختلفة المعاني بسبب ما يرى من اختلاف
__________
(1) س: فالذي.
(2) س: الذي.
(3) وقولك ... حق: مكرر في س.
(4) س: سجاع.
(5) س: شجاع.
(6) س: الملائمات.(4/213)
ألفاظها فيغلط كثيراً، وهذا ما ينبغي لطلاب الحقائق أن يضبطوه ويقفوا على مراتبه ولا يمروا عنها معرضين، مثال (1) ذلك من أحكام (2) الشريعة قولك: وطء الرجل كل ما عدا الزوجة المباحة له أو أمته المباحة له حرام، وقولك: ليس شيء مما عدا زوجة الرجل المباحة له أو أمته المباحة له ليس حراماً (3) معنيان متفقان متطابقان، والألفاظ (4) مختلفة، ظاهر إحدى القضيتين إباحة، وظاهر الأخرى تحريم. وكذلك إذا قلت: ليس (5) كل ما ليس لحم خنزير حلالاً، وقولك: بعض ما ليس لحم خنزير ليس حلالاً، فهذان لفظان مختلفان ومعنيان متفقان، وهكذا ينبغي أن تتأمل الألفاظ الواردات وتتأمل معانيها لئلا تتجاذب أنت وخصمك فنون الاختلاف والتشاجر وأنتما متفقان غير مختلفين.
واعلم أن قولك إذا قلت ممكن أن يكون، وقلت غير ممتنع أن يكون، وقلت غير واجب أن يكون، وقلت غير واجب أن لا يكون، فكلها متلائمات أي متفقات المعاني (6) .
واعلم أن قولك واجب ان لا يكون، ممتنع أن يكون، غير ممكن أن يكون متفقات المعاني.
واعلم أن قولك غير واجب أن يكون، غير واجب أن لا يكون متفقان.
واعلم أن قولك غير ممتنع أن يكون وقولك غير ممتنع أن لا يكون متفقان.
واعلم أن قولك ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون متفقان.
واعلم أن هذه الستة كلها متفقة.
واعلم أن قولك ممكن أن يكون ليس نفيه ممكن أن لا يكون، لكن نفيه أن تقول: لا ممكن أن يكون، ونقيض قولك واجب أن يكون قولك لا واجب أن يكون، وضده
__________
(1) س: مثل.
(2) س: أمثال.
(3) س: له حلالاً.
(4) م: بألفاظ.
(5) ليس: سقطت من س.
(6) هذه الفقرة مضطربة في س.(4/214)
واجب أن لا يكون، ونقيض ممتنع أن يكون لا ممتنع أن يكون، وضده ممتنع أن لا يكون، وهذا هو الذي سميناه نحن فيما خلا نفياً عاماً ونفياً خاصاً.
واعلم أن قولك كل مؤلف لا أزلي، وقولك ليس واحد من المؤلفات أزلياً متفقان، وقولك ليس كل مرضعة حراماً وقولك بعض المرضعات حلال متفقان، وقولك بعض المؤلفات غير مركب، وقولك ليس كل مؤلف مركباً متفقان.
واعلم أن قولك ليس واحد من المؤلفات غير محدث وقولك كل مؤلف محدث متفقان. ومما يدخل [45ظ] في هذا النوع كل عدد أستثني منه عدد فقولك (1) مائة غير واحد ملائم لقولك تسعة وتسعون، وقولك مائة غير تسعة وتسعين ملائم لقولك واحد. وكذلك كل عدد أضفت إليه عدداً آخر فإنه ملائم للعدد المساوي لهما، كقولك ثلاثة وسبعة فذلك ملائم لقولك عشرة فاعلمه. والجامع لهذا الباب هو أنك إذا أثبت معنى بلفظ إيجاب لشيء ما ثم نفيت عن ذلك الشيء نفي الصفة التي أوجبت له، فقد أوجبت له تلك الصفة (2) . وكل كلام أعطي معنى كإعطاء كلام آخر له (3) فالكلامان مختلفان والمعنى واحد، فاحفظ هذا واضبطه. وأنت إذا سلبت شيئاً ما معنى ما، أي نفيته عنه بلفظ النفي، ثم أوجبت لذلك الشيء نفي ذلك المعنى الذي نفيته عنه في القضية الأخرى، فاللفظان مختلفان والمعنى واحد. مثال ذلك أن تقول: زيد صالح، فإذا سلبت الصلاح فقلت زيد غير صالح، فإذا نفيت النفي فقلت زيد ليس غير صالح فقد أوجبت له الصلاح (4) ، فاضبط هذا تسترح من شغب كثير وتخليط كبير ولا تعد هذه الرتبة إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الكلي من الأخبار التي تسمى قضايا ومقدمات يقتضي الجزئي منها، أي أن الجزئي بعض الكلي إذا كان كلاهما موجباً أو كلاهما نافياً، وهو معنى من معاني التتالي الذي ذكرنا قبل. ألا ترى أنك تقول: كل حساس حي، فهذه قضية
__________
(1) س: كقولك.
(2) فقد أوجبت له تلك الصفقة: سقط من م.
(3) له: في م وحدها.
(4) مثال ذلك ... الصلاح: سقط من م.(4/215)
كلية، ثم يقول خصمك أو أنت: كل إنسان حي، فليست هذه الجزئية معارضة لتلك الكلية أصلاً ولا منافية لها بل هي بعضها وداخلة تحتها، ومثل هذا في الشريعة قول الله عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (المائدة: 38) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القطع في ربع دينار ". فهذه الجزئية بعض تلك الكلية وتفسير لجزء من أجزائها وليست دافعة لها ولا لشيء منها أصلاً، ولا مانعة من القطع في أقل من ربع دينار إلا بإدخال حرف النفي فينتفي حينئذ ما نفاه اللفظ الجزئي ويكون ذلك كقول القائل: الحساس ناطق ثم يقول بعد ذلك: لا ناطق إلا الإنسان (1) والملك والجني، فتكون هذه الجزئية مبينة لمراد القائل: الحساس ناطق أي أنه أراد بعض الحساسين (2) لا كلهم، وليس ذلك كذباً لأن الحساس يقع على الإنسان أي يوصف به كما يقع على كل حي. وهكذا (3) القول في الكليات من النوافي [46و] والجزئيات منها ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق.
فقد أتينا على كل ما بطالب الحقائق والإشراف على صحيح معاني الكلام إليه فاقة وضرورة من أحكام الأخبار وهي الأسماء المركبة، وبقيت أشياء تقع، إن شاء الله عز وجل، في الكتاب الذي يتلو هذا، وهو كتاب صناعة البرهان. ولم أترك (4) إلا أشخاص تقاسيم من موجبات وسوالب، من البسائط (5) والمتغيرات والمحصورة والمهملة ومن المخصوصة ومن الإثنينية والثلاثية والرباعية لا يحتاج إليها، وإنما هي تمرن وتمهر لمن تحقق بهذا العلم تحققاً يريد ضبط جميع وجوهه. وإنما هذه المسائل التي تركنا كالنوازل الموضوعة في الفقه كقول القائل: رجل مات وترك عشرين جدة متحاذيات وعشرين من بنات (6) البنين وبني البنين بعضهم أسفل من بعض في درج مختلفة، فمثل هذا لا يحتاج إليه لأنه لا يمر في الزمان ولكنه تمهر
__________
(1) س: إنسان.
(2) س: الحساس.
(3) س: وهذا.
(4) م: نترك.
(5) س: الوسائط.
(6) س: عمات.(4/216)
وتفتيق للذهن، وكنحو المسائل الطوال التي أدخلها أبو العباس المبرد في صدر كتابه " المقتضب " (1) في النحو فإنها لا ترد على أحد أبداً لا في كتاب ولا في كلام، وكنحو كلام (2) كثير من وحشي اللغة كالعفنجج والعجالط والقذعمل (3) ، ولسنا نذم من طلب هذا كله بل نصوب رأيه، لكنا نقول: ينبغي لطالب كل علم أن يبدأ بأصوله التي هي جوامع له ومقدمات، ثم بما لا بد منه من تفسير تلك الجمل، فإذا تمهر في ذلك وأراد الإيغال والإغراق فليفعل، فإنه من تدرب بالوعر زاد ذلك في خفة تناوله السهل، فقد بلغنا عن بعض الأنجاد أنه كان إذا أراد حرباً أدمن لباس درعين قبل ذلك بمدة، فإذا حارب خلع إحداهما لتخف عليه الواحدة، والنفس هكذا، وبالله التوفيق وله الأمر من قبل ومن بعد (4) .
تم كتاب باري أرمينياس والحمد لله على ذلك كثيراً كما هو أهله
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم تسليماً كثيراً مؤبداً (5)
__________
(1) كتاب المقتضب في النحو منه نسخة في كوبريللي (1507) في أربع مجلدات، صححها السيرافي، ومن رواة الكتاب ابن الراوندي الملحد، وقد أهمل الناس هذا الكتاب حتى قيل إن شؤم ابن الراوندي دخله (أفادني هذا كله العلامة هلموت ريتر، وقد ذكر هذا الكتاب في مقالة له بمجلة Oriens المجلد السادس ص 67. قلت: هذا ما ذكرته في تعليقات الطبعة الأولى، وقد ظهر المقتضب بعد ذلك في أربعة مجلدات بتحقيق الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة (القاهرة) عن نسخة صورت عن نسخة كوبريللي، محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم: 1525 نحو. والمسائل المشكلة في أول المقتضب التي يشير إليها ابن حزم فقد أثارت انتباه النحويين ففسرها الرماني، وذلك من مثل: سرني والمشبعة طعامك شتم غلامك زيداً، ومثل: ظننت الذي الضارب أخاه زيداً عمراً ... الخ، وهي افتراضات تمحلية.
(2) كلام: سقطت من م.
(3) العفنجج: الضخم الأحمق؛ العجاليط: الخاثر؛ القذعمل: الضخم من الإبل.
(4) وبالله ... بعد: ولله الأمر ... بعد في م.
(5) تم كتاب ... مؤبداً: تم: ... والحمد لله رب العالمين في م.(4/217)
3 - 4 - 5 - 6
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البرهان
1 -[نظرة عامة في القضايا وانعكاسها]
قال أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم رضي الله عنه (1) :
هذا الجزء من ديواننا هذا جمعنا فيه ما في الكتاب الثالث من كتب أرسطاطاليس في المنطق وهو المسمى باليونانية " أنولوطيقيا " [46ظ] وما (2) في الكتاب الرابع من كتبه في المنطق وهو المسمى باليونانية " أفوذ قطيقا " (3) لتناسب (4) معنى الكتابين، إذ الغرض فيهما البيان عن صور (5) البرهان وشروطه على ما نفسر (6) بعد هذا إن شاء الله. وأضفنا إليه أيضاً ما ذكره في كتابه الخامس من كتبه في المنطق وهو المسمى " طوبيقا " (7) وهو الموضوع في الجدل (8) ، وزدنا في هذا الكتاب (9) أشياء من مراتب الجدال وشروطه كثيرة مما لا غنى بالمتناظرين الطالبين للحقائق عنها، إذ ما ذكر في هذا (10) الكتاب هو من شرط (11) قيام البرهان وتوابعه اللاحقة له، وأضفنا إليه أيضاً ما ذكره في كتابه السادس من كتبه في المنطق وهو المسمى باليونانية " سوفسطيقا " (12) وهوصفة أهل الشغب المنكبين عن الحقائق إلى نصر الجهل والشعوذة، إذ لا غنى بطالب الحقائق عن معرفة أهل هذه الصفة والتأهب لهم. فلما كان كل ما ذكرنا متشبثاً بالبرهان جمعناه إليه وبلغنا الغاية (13) في التقصي والبسط والشرح والإيجاز
__________
(1) علي بن أحمد ... عنه: لم يرد في م.
(2) ما: سقطت من س.
(3) أفوذ قطيقا يعرف باسم أنولوطيقا الثاني أيضاً؛ وفي م: أقوذ قطيقا.
(4) س: ليناسب.
(5) م: صورة.
(6) س: على نفس.
(7) م: طونيقي.
(8) م: الجدال.
(9) الكتاب: في م وحدها.
(10) هذا: سقطت من م.
(11) م: شروط.
(12) س: سوفسطيا.
(13) م: من.(4/218)
كما وعدنا، ولله الحمد، فنقول وبالله التوفيق (1) وبالخالق الأول الواحد (2) نستعين:
قد مضى لنا في الكتب المتقدمة من هذا الديوان أمور يجب ضبطها وذكرها وحضورها في الفهم والحفظ والإيراد لها عند الحاجة إليها من التبيين (3) لك من غيرك والتبيين منك لغيرك، بحول الواحد الأول وقوته الموهوبة منه لنا عز وجل، ونحن الآن آخذون في ثمرة هذا الديوان وغرضه الذي إياه قصدنا بكل ما تقدم لنا في الأجزاء المتقدمة لهذا الجزء، وغرضنا في هذا الجزء (4) بيان إقامة البرهان وكيفية تصحيح الاستدلال في جمل الاختلاف الواقع بين المختلفين في أي شيء اختلفوا فيه، فنقول، وبالواحد الأول تعالى نتأيد:
إننا قد قلنا إن القضية لا تعطيك أكثر من نفسها، فإن اتفق الخصمان عليها وصححاها والتزما حكمها واختلفا في فرع من فروع ذلك المعنى وجب عليهما أن يأتيا بقضية أخرى يتفقان على صحتها أيضاً، فإن كانت القضيتان المذكورتان صحيحتين في طبعهما وفي تركيبهما (5) فالانقياد لهما حينئذ لازم لكل واحد (6) ، واعلم أن القضيتين المذكورتين إذا اجتمعتا سمتهما الأوائل " القرينة ". واعلم أن باجتماعهما كما ذكرنا تحدث أبداً عنهما قضية ثالثة صادقة أبداً لازمة ضرورة لا محيد عنها، وتسمى هذه القضية الحادثة عن اجتماع [47و] القضيتين الأولى والثانية (7) : " نتيجة " لأنها أنتجت عن تينك القضيتين (8) والأوائل يسمون القضيتين والنتيجة
__________
(1) وبالله التوفيق: في م وحدها.
(2) الواحد: في م وحدها.
(3) م: التبين.
(4) في هذا الجزء: سقطت من س.
(5) س: وتركيبها.
(6) م: أحد.
(7) الأولى والثانية: في م وحدها.
(8) لأنها.. القضيتين: سقط من س.(4/219)
معاً في اللغة اليونانية " السلجسموس " (1) وتسمى الثلاث (2) كلها في اللغة العربية: " الجامعة "، مثال ذلك أن تقول: كل إنسان حي فهذه قضية تسمى على انفرادها: " مقدمة " ثم تقول: وكل حي جوهر، فهذه أيضاً قضية تسمى على انفرادها " مقدمة " فإذا جمعتهما معاً فاسمهما قرينة لاقترانهما وذلك إذا قلت: كل إنسان حي، وكل حي جوهر فيحدث من هذا الاجتماع قضية ثالثة وهي ان كل إنسان جوهر فهذه قضية تسمى على انفرادها نتيجة، فإذا جمعتها ثلاثتها (3) سميت كلها جامعة، والجامعة باليونانية السلجسموس.
وقد قدمنا في الجزء الذي قبل هذا ذكر القضايا وأنها بسائط ومتغيرات وقلنا إن المتغيرات في الموضوع هي غير المحصلات وهي التي تقع [فيها] (4) حروف النفي قبل الشيء الموصوف وهو المخبر عنه، وهو الذي تسميه الأوائل الموضوع، فاعلم أن هذه التي تسمى متغيرات لا تنتج، أي أنه لا يوثق بأنها تنتج على كل حال إنتاجاً صحيحاً أبداً لا يخون البتة، وإن كانت قد تنتج في بعض الأحوال صدقاً فقد تنتج أيضاً كذباً. وما كان بهذه الصفة مما قد (5) يصدق مرة ويكذب أخرى، فلا ينبغي أن يوثق بمقدماته ولا بنتائجها الحادثة عنها، ولا يجب أن يلتزم في أخذ البرهان، وإنما ينبغي أن يوثق بما قد تيقن أنه لا يخون أبداً. ثم قلنا إن البسائط وهي التي حققت معنى (6) المخبر عنه ثم أوجبت له صفة أو نفت عنه صفة، منها محصورات ومهملات؛ وبينا أن المحصور هو ما وقع قبله لفظ يبين أن المراد به العموم وهو المسمى كلياً أو لفظ (7) يبين أن المراد به الخصوص، وهو المسمى جزئياً؛ وذلك مثل قولك: كل الناس ناطق، بعض الناس ناطق أو كاتب إن شئت، ليس أحد من
__________
(1) م س: السجلسموس.
(2) س: الثلاثة ووقعت لفظة كلها بعد " العربية " في م.
(3) س: لثلاثتها.
(4) فيها: سقطت من م س.
(5) قد: من وحدها.
(6) س: مع.
(7) يبين ... لفظ: سقط من م.(4/220)
الناس نهاقاً، ليس بعض الناس نهاقاً أو كاتباً إن شئت، وما أشبه ذلك.
وذكر الأوائل أن المهملات لا تنتج كما ذكرنا في المتغيرات سواءً سواءً، وهذا في اللغة العربية قول (1) لا يصح، وإنما حكى القوم عن لغتهم، لكنا نقول إن المهملة ما لم يبين الناطق بها أنه يريد بها بعض ما يعطي اسمها أو لم يمنع من العموم بها مانع ضرورة فإنها كالمحصورة الكلية ولا فرق. وسيأتي بيان هذا فيما يستأنف إن شاء الله عز وجل؛ فعلى هذا الحكم يلزم أن المهمل ينتج كإنتاج المحصور الكلي.
ثم نرجع فنقول إن الجزئيات من [47ظ] المحصورات والمهمل الذي يوقن أنه جزئي لا ينتج، بمعنى أنه لا ينتج إنتاجاً صحيحاً ضرورياً أبداً، وإنما قلنا (2) هذا إذا كانت المقدمتان معاً جزئيتين، نافيتين كانتا أو موجبتين. وأما إذا كانت إحداهما كلية والأخرى جزئية فذلك ينتج على ما نبين بعد هذا، إن شاء الله تعالى (3) .
واعلم أن القضية المخصوصة وهي التي تخص شخصاً واحداً بعينه فحكمها في كل ما قلنا حكم الجزئية ولا فرق، وذلك (4) نحو قولك: زيد منطلق وما أشبه ذلك (5) .
ثم قلنا إن المحصور ينقسم قسمين: موجب وناف، واعلم أن القضايا النافيات أيضاً لا تنتج، كليتين كانتا أو جزئيتين، أي أنها لا تنتج إنتاجاً موثوقاً به في كل حال، وإنما ذلك إذا كانتا معاً نافيتين، وأما إذا كانت احداهما نافية والأخرى موجبة فذلك ينتج، على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فصح الآن أن المقدمات التي ينبغي أن يوثق بها هي المحصورات والمهمل الذي في معنى المحصور، وهي كل قرينة كانت فيها (6) مقدمة كلية أو مقدمة موجبة،
__________
(1) قول: سقطت من س.
(2) قلنا: سقطت من م.
(3) س: فحكمه.
(4) س: في ذلك.
(5) س: وما أشبهه.
(6) س: قبلها.(4/221)
إما أن تكون إحدى المقدمتين قد جمعت الأمرين معاً: العموم والإيجاب، وإما أن تكون المقدمتان اقتسمتا الأمرين فكانت الواحدة كلية والثانية موجبة، وإما أن تكون كل واحدة منهما كلية موجبة (1) .
واعلم أنا قدمنا أن أقل (2) القضايا قضية من كلمتين موضوع ومحمول، بمعنى مخبر عنه وخبر، فإذا أردت أن تجمع قضيتين يقوم منهما برهان، فلا بد لك (3) من أن يكون في كلتا القضيتين لفظة موجودة في كل واحد منهما، أي تتكرر تلك اللفظة في كل واحدة من المقدمتين. ولا بد من ان يكون في كل واحدة منهما لفظة تنفرد بها ولا تتكرر في الأخرى، إذ لو اتفقنا في المخبر عنه والخبر لكانت القضيتان قضية واحدة ضرورة، كقولك: كل إنسان حي، وكل حي جوهر، فهاتان قضيتان قد تكرر ذكر الحي في كل واحدة منهما، وهذه اللفظة المتكررة كما ذكرنا تسميها الأوائل (الحد المشترك) من أجل اشتراك القضيتين فيه، وقد انفردت كل واحدة منهما بلفظة فانفردت الأولى بالإنسان لأنه ذكر فيها ولم يذكر في الثانية، ولو ذكر لكانت الثانية هب الأولى نفسها، وانفردت الثانية بالجوهر ولم يذكر في الأولى ولو ذكر لكانتا (4) واحدة، فافهم هذا واضبطه، إن شاء الله عز وجل.
واعلم أن القضايا البسيطة المحصورة [48و] تنقسم قسمين: قسماً ينعكس وقسماً لا ينعكس، والانعكاس هو أن تجعل الخبر مخبراً عنه موصوفاً، وتجعل المخبر عنه خبراً موصوفاً به، من غير أن يتغير المعنى في ذلك أصلاً، بل إن كانت القضية موجبة قبل العكس فهي بعد العكس موجبة، وإن كانت نافية قبل العكس فهي بعد العكس نافية، وإن كانت صادقة قبل العكس فهي بعد العكس صادقة، وإن كانت كاذبة قبل العكس فهي بعد العكس كاذبة، إلا أنه في بعض المواضع تكون القضية كلية قبل العكس، وجزئية بعد العكس لا يحيلها (5) العكس بغير هذه البتة، وإنما نعني بهذا العكس ما (6) لا يستحيل أبداً فيما ذكرنا قبل.
__________
(1) وأما أن تكون كل ... موجبة: في م وحدها.
(2) أقل: سقطت من م.
(3) لك: سقطت من س.
(4) س: لكانت.
(5) يحيلها: في م وأصل س، وبهامش س لا تختلف في.
(6) م: الذي.(4/222)
وأما التي قد تنعكس كما ذكرنا في بعض المواضع وربما أيضاً تتبدل إذا عكست، إما من صدق إلى كذب، وإما من كذب إلى صدق، وإما من نفي إلى إيجاب، وإما من إيجاب إلى نفي، فهذه هي القسم الذي قلنا فيه إنه لا ينعكس، وليس هذا القسم مما يتعنى به في إقامة البرهان لأنه قد يخون وليس بمستمر الصدق أبداً. والعكس الذي ذكرنا إنما هو تبدل مواضع الألفاظ في القضية فقط.
وقد قدمنا وجوه أقسام الصفات في الموصوفين قبل وأنها ستة (1) : فوصف الشيء بما هو واجب له ينقسم قسمين: إما أعم منه كالحياة للإنسان فإنها تعمه وتعم معه أنواعاً (2) كثيرة سواه، وإما مساو (3) كالضحك لإنسان، فإنه لكل إنسان وليس لغير الناس أصلاً، ولا يجوز أن يكون أخص البتة. ووصف الشيء بما هو ممكن له ينقسم قسمين: إما أعم كالسواد فإنه في بعض الناس وفي أشياء من غير الناس، وإما أخص كالطب فإنه في بعض الناس دون بعض وليس لغير الناس ولا يجوز أن يكون مساوياً أصلاً، لأنه لو كان مساوياً لكان واجباً، والواجب غير الممكن. ووصف الشيء بامتناعه بما هو ممتنع فيه فيكون (4) أعم كوصف الإنسان بأنه ليس حجراً، فإن هذا الوصف يعمه ويعم كل حيوان، وقد يمكن أن يوجد مساوياً كنفي الجمادية عن الحيوان.
ثم نرجع إلى بيان العكس فنقول وبالخالق الواحد نتأيد: إن النافية الكلية تنعكس نافية كلية فنقول: لا واحد من الناس حجر، فإذا عكست (5) قلت: لا (6) واحد من الحجارة إنسان. واعلم أن كل (7) ما انعكس كلياً فإنه ينعكس جزئياً، إذ كل ما أوجبته للكل فهو موجب لكل جزء من أجزائه التي تسمى باسمه، وكل ما نفيته عن الكل فهو منفي عن كل جزء من أجزائه التي [48ظ] تسمى باسمه، نريد بالأجزاء
__________
(1) م: خمسة.
(2) س: أنواع.
(3) م: مساوياً.
(4) م: يكون.
(5) م: عكستها.
(6) م: ولا.
(7) كل: سقطت من م.(4/223)
هاهنا أشخاص النوع التي كل شخص منها يسمى باسم النوع فإن كل آدمي يسمى في ذاته إنساناً، والنوع أيضاً كله (1) يسمى إنساناً، ولم نرد أجزاء الجسم التي لا يقع على الجزء منها اسم الكل، كيد الإنسان ورجله؛ ألا ترى أنك لو قلت أيضاً: ولا بعض الحجارة إنسان، أو قلت: لا بعض الناس حجر لصدقت، فهذا الذي ذكرنا عكس صحيح صادق أبداً.
والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية فتقول: كل إنسان حي، فإذا عكست قلت: وبعض الأحياء إنسان، وهذا عكس (2) صادق أبداً.
واعلم أن ما كان من هذا الباب والذي بعده مما قلنا فيه إنه ينعكس جزئياً فإنه لا ينعكس (3) كلياً أصلاً لأنه ليس كل ما وجب للجزء وجب للكل. ألا ترى أنك لو قلت: وكل حي إنسان لكذبت لأن الملك حي وليس إنساناً. والفيل حي وليس إنساناً. ولا تغتر بما تجد من هذا الباب ينعكس (4) كلياً صادقاً نحو قولك كل حي حساس وكل حساس حي، ولو قلت أيضاً وبعض الحساس حي لصدقت، وهذا إنما يصدق في المساوي فقط. فإن هذا العكس إن صدق في مكان كذب في آخر كما قدمنا. وإنما يكذب ذلك إذا كان الوصف أعم من الموصوف أو أخص منه كما قدمنا؛ فأما الأعم فنحو قولك: كل إنسان حي وأما الأخص فكقولنا: كل طبيب إنسان، فإذا عكست وقلت: وبعض الناس أطباء صدقت ولو قلت: وكل الناس أطباء كذبت، فلهذا قصدنا إلى عكسها جزئية لأنها تصدق في كل ذلك أبداً على كل حال من عام أو خاص أو مساو (5) فتحفظ من هذا الباب ولا تغلط فيه، وأنت إذا سلكت الطريق التي نهجنا لك أمنت الغلط البتة ولم يكن (6) إلى كلامك سبيل.
والموجبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية فتقول: إن كان بعض الناس نحويين
__________
(1) م: كله أيضاً.
(2) عكس: سقطت من س.
(3) م: يعكس.
(4) ينعكس: سقطت من م.
(5) س م: مساوي.
(6) م: يكن له.(4/224)
فبعض النحويين ناس، ولا تنعكس كلية لأنك وإن كنت تصدق في بعض المواضع فإنك كنت تكذب في مواضع أخر أيضاً. وإنها تصدق في الحمل الأخص والمساوي وتكذب في الحمل الأعم، وأنت إذا عكستها جزئية صدقت أبداً على كل حال. ألا ترى أنك تقول: إذا كان بعض النحويين ناساً فكل الناس نحويون كذبت.
واعلم أن هذه القضايا كلها التي ذكرنا أنها تنعكس أي أنها تصدق إذا عكست أبداً فإنها تصدق في إيجابك الواجب، وفي اخبارك عن الممكن بما هو حق من صفاته وفي نفيك الممتنع. [49و] . (1)
واعلم أن النافية الجزئية لا تنعكس أي أنها ليس لها رتبة تصدق فيها أبداً لأنها وإن صدقت في نفي الممتنع إذا قلت: ليس بعض الناس حجراً فعكست فقلت: ولا بعض الحجارة إنسان فصدقت، فإنك إن نفيت الممكن حق نفيه فقلت: ليس كل إنسان طبيباً فإنك صادق، فإن عكست فقلت: ولا كل طبيب إنسان أو قلت ولا بعض الأطباء ناس كنت كاذباً، فلهذا لم نشتغل بعكس النوافي في الجزئيات لأنها في بعض المواضع تكذب في العكس. فأفهم ذلك (2) كله، فبكل طالب علم حقيقة إليه أعظم (3) حاجة.
ونمثل ذلك بمثال شرعي فنقول: إنك تقول في النافية الكلية: إذا صح أنه ليس شيء من المسكرات حلالاً فليس شيء من (4) الحلال مسكر أو لو عكستها جزئية لصدقت أيضاً، ولكن الكلي أتم وأعم للمطلوبات، فاكتفينا به إذا وجدناه واستغنينا به عن أن نذكر ما ينطوي فيه من جزئياته، لأن (5) الإخبار عن الكل إخبار عن كل جزء من أجزائه. ونقول في الموجبة الكلية إذا كان كل والد واجب البر فبعض الواجب برهم الوالد، ولو عكستها كلية لكذبت لأنه يجب بر الأم والخليفة والعالم والفاضل والجار وليس واحد من هؤلاء والداً.
__________
(1) م: وإنما.
(2) م: هذا.
(3) أعظم: لم ترد في س.
(4) المسكرات ... من: سقط من م.
(5) س: إلا أن.(4/225)
وتقول في عكس الموجبة الجزئية: إذا كان بعض الكفار مباح الدم فبعض المباح دماؤهم كفار (1) ولو عكستها كلية فقلت: وكل مباح دمه كافر لكذبت، لأن الزاني المحصن مباح دمه وليس كافراً، فافهم هذا كله وثق به فإنه لا يخونك أبداً. وبرهان صحة ما ذكرنا أولاً إذا قلنا لا واحد من الناس حجر وأنه ينعكس كلياً فنقول: ولا واحد من الحجارة إنسان أنه إن خالفنا في صحة هذا العكس مخالف قلنا إن كان عكسنا هذا ليس حقاً فنقيضه حق على ما قدمنا من اقتسام قضيتي النفي والإيجاب للصدق والكذب. ونقيض قولنا لا واحد من الحجارة إنسان، بعض الحجارة إنسان، فنضم قولنا: بعض الحجارة إنسان ظغلى مقدمتنا التي صححنا فنقول: لا واحد من الناس حجر، وبعض الحجارة إنسان، وإذا كان بعض الحجارة إنساناً فبعض الناس حجارة، وقد قدمنا أنه ليس واحد من الناس حجراً، وهذا تناقض ومحال. وهذا (2) الذي ذكرناه فإنما هو (3) في عنصر الوجوب وهو لزوم الصفة للموصوف. وأما في عنصر الإمكان فلا فرق بين [49ظ] قضاياه في الموجبات الجزئيات وبين ما ذكرنا من قضايا عنصر الوجوب، فنقول في الحمل الأعم: إن كان بعض الناس أسود فبعض السودان ناس، ونقول في الحمل الأخص: إن كان بعض الناس طبيباً فبعض الأطباء ناس، وليس في الإمكان حمل مساو لأن المساوي لازم لجميع النوع بالفعل.
وإما قضايا الإمكان الكليات فإنها في الموجبات كواذب، نقول: ممكن أن يكون كل إنسان أسود أو طبيباً، فهذا كذب. وعكس الحمل الأعم كاذب أيضاً وهو: ممكن أن يكون كل أسود إنساناً. وأما (4) عكس الحمل الأخص فصادق، نقول: ممكن أن يكون كل طبيب إنساناً.
وأما قضايا الإمكان النوافي فالكلية كاذبة أبداً هي (5) وعكسها، نقول: إن كان ممكن أن لا يكون واحد من الناس أسود أو طبيباً فممكن أن لا يكون واحد من
__________
(1) م: كفار.
(2) س: هذا.
(3) فإنما هو: سقط من س.
(4) وعكس الحمل الأعم ... وأما: سقط من س.
(5) هي: سقطت من س.(4/226)
السودان أو الأطباء إنساناً.
وأما النافية الجزئية في عنصر الإمكان فإنها تنعكس نافية جزئية. نقول: ممكن أن لا يكون بعض الناس أسود، وعكسها: ممكن أن لا يكون بعض السودان إنساناً وهذا في الحمل الأعم، وتكذب في الحمل الأخص لأنك إذا قلت ممكن أن لا يكون بعض الناس طبيباً فتصدق، فإذا عكست وقلت: ممكن أن لا يكون بعض الأطباء إنساناً، كذبت.
وأما في عنصر الامتناع فإن الموجبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية. نقول: ممتنع أن (1) يكون بعض الناس حجراً، وممتنع أن لا يكون بعض الحجارة إنساناً، وتنعكس أيضاً موجبة كلية صادقة فتقول: ممتنع أن يكون كل واحد من الحجارة إنساناً.
وأما الموجبة الكلية فتنعكس أيضاً كلية وجزئية صادقتين أبداً، نقول: ممتنع أن يكون كل واحد من الناس حجراً، وممتنع أن يكون كل واحد من الحجارة إنساناً، وممتنع أن يكون بعض الحجارة إنساناً.
فأما (2) النافية الكلية في عنصر الامتناع فتنعكس جزئية، فتقول: إن كان ممتنع أن لا يكون كل واحد من الناس حياً، فممتنع أن لا يكون بعض الأحياء إنساناً، وهكذا تصدق في منع نفي الضحك المساوي للنوع. وفي الحمل الأخص كالطب وما أشبهه نقول: إن كان ممتنع أن لا يكون كل (3) واحد من الأطباء إنساناً فممتنع أن لا يكون بعض الناس طبيباً.
وأما النافية الجزئية في عنصر الامتناع فإنها تنعكس نافية جزئية كقولك: ممتنع ألا يكون بعض الناس حياً (4) وممتنع أن لا يكون بعض الأحياء ناساً وهذا (5) ينعكس في الحمل المساوي والأخص أبداً.
__________
(1) س: أن لا.
(2) م: وأما.
(3) كل: سقطت من س.
(4) ممتنع ... حياً: سقط من س.
(5) م: وهكذا.(4/227)
ومنفعتنا بمعرفة عكس القضايا من (1) وجهين. أحدهما ما يستأنف من رد بعض البراهين التي فيها صعوبة إلى البين (2) اللائح منها، وهو الذي يأتي إن شاء الله [50و] عز وجل في رد أنحاء الشكل الثاني والثالث إلى الشكل الأول مفسراً في موضعه. والوجه الثاني في تصحيح المقدمات التي يريد طلاب (3) الحقائق تقديمها ليجعلوها أصولاً لينتجوا منها ما يشهد للصحيح من الأقوال. وإذ قد قدمنا أن القضية تكون من موضوع ومحمول أي من مخبر عنه وخبر وأن القرينة تكون من مقدمتين في كل واحدة منهما (4) لفظة تشترك فيها المقدمتان معاً، فاعلم أن كل لفظة من ألفاظ المقدمتين فإن الأوائل يسمونها " حداً " ويسمون اللفظة المشتركة: " الحد المشترك ".
فاعلم الآن (5) أن أشكال البرهان لا تكون إلا ثلاثة، نعني بأشكاله صور القرائن التي يقوم منها البرهان، لأنه لا بد من أن يكون الحد المشترك محمولاً في المقدمة الواحدة وموضوعاً في الثانية، أو يكون محمولاً في كل واحدة منهما أو يكون موضوعاً في كل واحدة منهما (6) ؛ ولا سبيل في رتبة العقل إلى قسمة (7) رابعة بوجه من الوجوه البتة.
واعلم أيضاً أنه لا فرق بين قولك: الحياة في كل إنسان وبين قولك: كل إنسان حي، تريد في المعنى، وهذا تسميه الأوائل " تقديم الحمل " أي أن (8) تجعل الصفة مخبراً عنها والموصوف مردوداً إلى (9) الصفة أي كأنه خبر عنها فلا تبال باختلاف هذه العبارات.
واعلم أن الأوائل يسمون المقدمة التي فيها اللفظ الأعم " مقدمة كبرى " مثل
__________
(1) م: في.
(2) س: البيان.
(3) زاد في س: بطلان.
(4) س: منها.
(5) هذه قراءة م؛ س: واعلم (وسقطت: الآن) .
(6) في كل ... منهما: فيهما في س (والعبارة بهامش س) .
(7) م: قسمة العقل ... رتبة.
(8) س: أنه أيضاً.
(9) م: على.(4/228)
قولك: كل إنسان حي، وكل حي جوهر فالتي فيها ذكر الجوهر هي التي يسمونها كبرى لأن اللفظة التي فيها (1) أعم من اللفظة التي في المقدمة الأخرى، وذلك أن الجوهر أعم من الحي ومن الإنسان، والأخرى يسمونها الصغرى.
واعلم أنه لا تنتج نافيتان ولا جزئيتان ولا مخصوصتان وهي التي يخبر بها (2) عن شخص واحد بعينه.
واعلم أن الحد المشترك لا يذكر في النتيجة أصلاً، ولو ذكر فيها لكانت النتيجة إحدى المقدمتين، وإنما يذكر في النتيجة اللفظة التي تنفرد بها المقدمة الواحدة، واللفظة الأخرى التي تنفرد بها أيضاً (3) المقدمة الثانية.
واعلم أنه لا يخرج في النتيجة إلا أقل ما في المقدمتين وأبعده من اليقين والقطع، لأن النتيجة من طبعها تحري الصدق فيها، فلذلك لا يخرج فيها إلا الأقل الذي لا شك فيه. فإن كانت إحدى المقدمتين مهملة والأخرى ذات سور، فالنتيجة مهملة، وإن كانت إحدى المقدمتين جزئية خرجت النتيجة جزئية، وإن كانت إحدى المقدمتين مخصوصة خرجت النتيجة مخصوصة، وإن كانت إحدى المقدمتين نافية خرجت النتيجة نافية، وإن [50ظ] كانت إحدى المقدمتين جزئية أو مخصوصة والأخرى نافية خرجت النتيجة جزئية نافية أو مخصوصة نافية. نقول: لا واحد من الناس حجر وزيد من الناس فزيد لا حجر، وإنما هذه الرتبة فيما يصدق أبداً ويوثق (4) بإنتاجه. وكذلك إن كانت إحدى المقدمتين ضرورية والثانية ممكنة فإنه لا تخرج في النتيجة إلا الممكنة، وأما إذا استوت المقدمتان، فالنتيجة مثلهما، فإن كانتا موجبتين فالنتيجة موجبة، وإن كانتا ضروريتين فالنتيجة ضرورية، وإن كانتا ممكنتين فالنتيجة ممكنة، وإن كانتا مهملتين فالنتيجة مهملة، إلا أنهما إن كانتا كليتين فالنتيجة كلية وربما كانت جزئية ولا تبال عن هذا، فالجزئي منطو في الكلي وليس الكلي منطوياً في الجزئي، وتذكر (5) ما قلنا لك إن أشكال البرهان ثلاثة: فللشكل الأول أربعة أنحاء، وللشكل
__________
(1) هي التي ... أعم: سقط من س.
(2) م: فيها.
(3) أيضاً: سقطت من س.
(4) س: وموثوق.
(5) س: وتذكر على.(4/229)
الثاني أربعة أنحاء (1) ، وللشكل الثالث ستة أنحاء، وإنما نعني بذلك الأنحاء الصادقة في الإنتاج أبداً على كل حال، فالشكل للبرهان كالجنس، والنحو له كالنوع، ثم المقدمات المأخوذة كالأشخاص، وهي غير محصاة عندنا بعدد لأنها تتصرف في كل علم وفي كل مسألة.
واعلم أنه إنما سمي الشكل الأول أولاً لأن الشكلين الآخرين يرجعان عند الحقيقة إليه على ما نبين بعد هذا إن شاء الله عز وجل.
واعلم أنه قد تقدم لك مقدمتان نافيتان فينتجان لك إنتاجاً صادقاً صحيحاً (2) فلا تثق بذلك لأنها طريق خوانة غير موثوق بصدقها أبداً، بل قد تقدمهما صحيحتين فتنتجان لك نتيجة كاذبة؛ فالخداع من هذا الباب هو نحو ما أقول لك: ليس كل إنسان حجراً، ولا كل حجر حماراً، النتيجة: فليس كل إنسان حماراً، وهذا حق. والفاضح لكل ما ذكرنا هو نحو ما أقول لك: تقول ليس كل إنسان أسود ولا كل أسود حي فهاتان صادقتان، النتيجة فليس كل إنسان حياً (3) ، وكذلك أيضاً لو قلت: فليس بعض الناس حياً فكلتاهما كذب، فإياك والاغترار بمقدمتين نافيتين أصلاً (4) ؛ وإنما (5) صدقت القرينة الأولى من قبل حسن نظم المقدمتين لأنك نظمتها نظماً جعلت الذي (6) نفيت عن الحجر مما ينتفي (7) عن الإنسان جملة.
وأنا أريك الآن زيادة بيان في صدق هذا الحكم، فأعمل لك مقدمتين إحداهما كذب بحت فتنتج لك إنتاجاً حقاً وهو أن تقول: كل إنسان حجر وكل حجر جوهر، النتيجة فكل إنسان جوهر. وتقول: ليس كل إنسان كلباً وليس [51و] كل كلب فرساً، النتيجة ليس كل إنسان فرساً (8) وذلك حق، فالأولى مقدمة
__________
(1) س: وللثاني (سقطت بقية العبارة) .
(2) صحيحاً: سقطت من م.
(3) س: حي.
(4) فكلتاهما كذب ... أصلاً: سقط من م.
(5) وإنما: سقطت من س.
(6) س: التي.
(7) س: ينفى.
(8) النتيجة ... فرساً: سقطت من م.(4/230)
كذب أنتجت حقاً لحسن نظمها، وهو أنك وصفت الحجر بصفة تعمه وتعم الإنسان، والأخرى في النفي كذلك، نعني في حسن النظم فقط. فاعلم الآن أنه لا بد من صدق كل واحدة من المقدمتين، ولا بد مع الصدق فيهما من إحسان رتبتهما على الطريق (1) التي وصفت لك، وإلا تحيرت وتخبلت عليك الأمور، واختلط الحق في ذهنك بالباطل. وكذلك في المقدمتين الجزئيتين، وقد قدمنا أن حكم المخصوص حكم الجزئي ولا فرق فنقول: زيد ناطق وبعض الناطق (2) ميت فزيد ميت، هذه نتيجة حق، ولكن لا تثق بمقدمتين جزئيتين البتة ولا مخصوصتين ولا مخصوصة وجزئية.
واعلم أن هذه إنما صدقت من قبل صدق الخبر عن طبائع المخبر عنهما وعموم الصفة للمخبر عنهما، وأنا أريك خيانة هذه الطريق، وذلك أن تقول: زيد أبيض، وبعض البيض حجر، فهاتان صادقتان، النتيجة: فزيد حجر، وهذا كذب. وإن شئت قلت: زيد ناطق، وبعض الناطقين كاتب، هاتان مقدمتان حق، النتيجة: فزيد كاتب؛ هذه النتيجة [يمكن] أن تكون حقاً وممكن (3) أن تكون كذباً. فتدبر مثل هذا ولا تنسه تفق من شغب عظيم، وتعلم أن الجزئيتين والمخصوصتين [والمخصوصة] والجزئية لا تنتج إنتاجاً صادقاً مطرداً لا يخون (4) .
وها نحن بحول الله (5) خالقنا الواحد تعالى وعونه لنا شارعون في تشخيص الأشكال الثلاثة المذكورة آنفاً من مثال طبيعي ومثال (6) شريعي ليكون أسهل للطالب وأجلى للشك. ولقد رأيت طوائف (7) من الخاسرين شاهدتهم أيام عنفوان طلبنا وقبل تمكن قوانا في المعارف وأوان (8) مداخلتنا صنوفاً من ذوي الآراء المختلفة كانوا
__________
(1) م: الطرائق.
(2) م: الناطقين.
(3) س: لممكن.
(4) وتعلم أن ... يخون: سقط من س.
(5) لم ترد اللفظة في م.
(6) م: ومن مثال.
(7) م: وأجلى لشك طوائف ... الخ.
(8) س: وأول.(4/231)
يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين أنتجه بحث موثوق به على أن علم (1) الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة، فعمدة غرضنا وعلمنا (2) إنارة هذه الظلمة بقوة خالقنا الواحد عز وجل لنا (3) فلا قوة لنا إلا به وحده لا شريك له.
وأعلم أن هذا الكلام الذي نتأهب لإيراده دأباً وننبهك على الإصاخة إليه هو الغرض المقصود من هذا الديوان وهو الذي به نقيس جميع ما اختلف فيه من أي علم كان، فتذوقه (4) ذوقاً لا يخونك أبداً، وتدبره (5) نعماً وتحفظه جداً فهو الذي وعرته الأوائل وعبرت [51ظ] عنه بحروف الهجاء ضنانة به، واحتسبنا (6) الأجر في إبدائه وتسهيله وتقريبه على كل من نظر فيه للأسباب التي ذكرنا في أول ديواننا هذا، ولم نقنع إلا بأن جعلنا جميع الأنحاء من لفظ واحد في الإيجاب ولفظ واحد في النفي، ليلوح رجوع بعضها إلى بعض ومناسبة بعضها بعضاً ووجوه (7) العمل في أخذ البرهان بها، فقربنا من ذلك بعيداً وبينا مشكلاً وأوضحنا عويصاً وسهلنا وعراً وذللنا صعباً ما نعلم أحداً سمح بذلك ولا أتعب (8) ذهنه فيه قبلنا، ولله الحمد أولاً وآخراً. وبوقوفك على هذا الفصل تدفع (9) عنك غمة الجهل والنفار الذي يولده الهلع من سوء الظن بهذا العلم وشدة الهم بمخرقة كثير ممن يدعيه ممن ليس من أهله، وفقنا الله وإياك وسائر أهل نوعنا عامة وأهل ملتنا من المؤمنين (10) خاصة لما يرضيه، آمين.
فاعلم (11) أن الشكل الأول كبراه أبداً كلية (12) إما موجبة وإما نافية، وصغراه
__________
(1) علم: سقطت من س.
(2) م: وعملنا.
(3) لنا: زيادة من م؛ فلا: لا في س.
(4) م س: وتذوقه.
(5) م س: فتدبره.
(6) م: فاحتسبنا.
(7) م: ووجه.
(8) م: وأتعب.
(9) م: ترتفع.
(10) من المؤمنين: سقطت من س.
(11) م: واعلم.
(12) كلية: سقطت من م.(4/232)
أبداً موجبة إما جزئية وإما كلية. واعلم أيضاً أن الشكل الثاني والثالث راجعان إلى الشكل الأول أبداً، إما إلى قرينة من قرائنه، وإما إلى (1) نتيجة من نتائجه، إما في اللفظ، وإما في الرتبة، على ما نبين في كل نحو منهما إن شاء الله عز وجل.
واعلم أن الصغرى من المقدمتين مقدمة أبداً لتخرج اللفظة التي انفردت بها موضوعة في النتيجة أي مخبراً عنها، والكبرى مؤخرة أبداً لتخرج اللفظة التي انفردت بها محمولة في النتيجة أي خبراً.
واعلم أنه إن وقعت صفة تخص بعض النوع (2) في زمان دون زمان في إحدى المقدمتين وجب ضرورة أن تكون الأخرى كلية، وقد ذكرنا قبل أن بعض الأوائل وصفوا أن المقدمة الكبرى تقع فيها لفظة أعم من اللفظتين الأخريين المشتركة والتي انفردت بها المقدمة الأخرى، وهذا أمر غير صحيح على الإطلاق بل قد أجاز من عليه المعتمد في هذا العلم، وهو أرسطا طاليس، مرتب هذه الصناعة، المساواة في المقدمات وهو الصحيح. وقد وجدنا خمسة أنحاء منها الأربعة متساوية المقدمتين وهو النحو الثاني من الشكل الأول، والنحو الأول والثاني من الشكل الثاني، والنحو الثاني من الشكل الثالث، والنحو الخامس من الشكل الثالث وصغراه كلية وكبراه جزئية، فاللفظة الأعم في ذلك النحو خاصة في المقدمة الصغرى [52و] لا في الكبرى. وقد نبهنا على كل نحو منها في مكانه إن شاء الله عز وجل، وما توفيقنا إلا بالله تعالى، وهذا حين نأخذ في تشخيص الأنحاء المذكورة:
الشكل الأول:
الحد المشترك فيه موضوع في إحدى المقدمتين محمول في الأخرى أي إن اللفظة المذكورة في كلتا المقدمتين هي في إحداهما مخبر عنه وموصوف، وهي في الأخرى خبر وصفة. مثال ذلك:
الشكل الأول: الحد المشترك فيه مخبر عنه في إحدى المقدمتين وخبر في الأخرى.
__________
(1) إلى: سقطت من س.
(2) س: صفة تحت النوع.(4/233)
النحو الأول من الشكل الأول: صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي.
كبرى كلية موجبة: وكل حي جوهر.
النتيجة: كل إنسان جوهر.
النحو الثاني من الشكل الأول: قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي.
كبرى كلية نافية: ولا واحد حي حجر.
النتيجة: لا واحد إنسان حجر.
وإن شئت قلت: لا أحد
من الناس حجر. وهذا
النحو متساوي المقدمتين،
ليست إحداهما أعم من
الأخرى.
النحو الثالث من الشكل الأول: صغرى جزئية موجبة: بعض الناس حي.
كبرى كلية موجبة: وكل حي جوهر.
النتيجة: بعض الناس جوهر.
النحو الرابع من الشكل الأول: صغرى جزئية موجبة: بعض الناس حي.
كبرى كلية نافية: ولا واحد من الأحياء
حجر.
النتيجة: بعض الناس ليس حجراً.
الشكل الثاني: الحد المشترك فيه محمول في كلتا المقدمتين أي أنه خبر فيهما معاً.
النحو الأول من الشكل الثاني: قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي.
كبرى كلية نافية: ولا واحد من الحجارة
حي.
النتيجة: فلا واحد من الناس حجر.
ليس بين هذا النحو الأول من الشكل الثاني وبين النحو الثاني من الشكل الأول إلا أن(4/234)
المحمول وهو الخبر الذي في المقدمة الكبرى من ذلك النحو الثاني من الشكل الأول هو موضوع أي مخبر عنه في المقدمة الكبرى من هذا النحو الأول من الشكل الثاني على حسب ما أتينا به هناك (1) وهنا فقط. برهان صحة هذه النتيجة نعكس المقدمة النافية فنقول: إن كان لا واحد من الحجارة حي فلا واحد من الأحياء (2) حجر، وقد قلنا كل إنسان حي فنضيف اللفظ الذي حصل لنا في العكس إلى هذه التي لم تعكس فنقول: كل إنسان حي، ولا واحد من الأحياء حجر، وهذا هو النحو الثاني من الشكل الأول بعينه، خرج في العكس المخبر عنه خبراً والخبر مخبراً عنه على ما قدمنا إذ وصفنا رتب العكس فتذكره، وإنما لم نعكس الموجبة لأننا لو عكسناها لأتانا النحو الثالث من الشكل الثاني، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
النحو الثاني من الشكل الثاني: قالوا صغرى كلية: ولا واحد من الحجارة حي.
كبرى كلية موجبة: وكل إنسان حي.
النتيجة: فلا (3) واحد من الحجارة [52ظ] إنسان.
ليس بين هذا النحو والنحو الذي قبله فرق أصلاً إلا أن كبرى ذلك هي صغرى هذا، أخرت هنالك وقدمت هنا، وصغرى ذلك هي كبرى هذا قدمت هنالك (4) وأخرت هنا، وإنما - كان ذلك لأنا نخرج موضوع نتيجة الذي قبل هذا محمولاً في نتيجة هذا، والمحمول هنالك موضوعاً هنا. وبرهان هذا (5) النحو بعكستين عكسة للمقدمة الثانية وعكسة أخرى للنتيجة التي ذكرنا، فنقول إن كان لا واحد من الحجارة حي، فلا واحد من الأحياء حجر، وقد قلنا إن كل إنسان حي فنقول لا واحد من الأحياء حجر (6) وكل إنسان حي فلا واحد من الحجارة إنسان. ثم نعكس هذه النتيجة فنقول: إذا كان لا واحد من الحجارة إنسان فلا واحد من الناس حجر،
__________
(1) م: هنالك.
(2) س: الناس.
(3) س: لا.
(4) وقدمت هنا ... هنالك: سقط من م.
(5) محمولاً في ... هذا، سقط من س.
(6) وقد قلنا ... حجر: سقط من س.(4/235)
وهذه هي نتيجة النحو الثاني من الشكل الأول بعينها.
واعلم أن مقدمتي هذا النحو والنحو الذي قبله متساويتان ليس في إحداهما لفظة هي أعم من اللفظة التي في الأخرى.
واعلم أنه لا فرق في شيء من الأنحاء كلها بين قولك: لا واحد من الناس حجر، وقولك: لا شيء من الناس حجر، وقولك: لا واحد إنسان حجر، كل ذلك سواء قل كيف شئت. والأولى أن تقول الذي هو أبين في اللغة التي عبارتك بها، وهكذا حكم كل ما نفيت.
النحو الثالث من الشكل الثاني:
صغرى جزئية موجبة: بعض الناس حي.
كبرى كلية نافية: ولا واحد من الحجارة حي.
النتيجة: بعض الناس لا حجر.
ليس بين هذا النحو وبين النحو الرابع من الشكل الأول فرق إلا أن محمول المقدمة الكبرى من ذلك النحو هو موضوع المقدمة الكبرى من ذلك النحو هو محمول المقدمة الكبرى من هذا النحو. برهانه بعكس المقدمة النافية فتقول: إذا كان لا واحد من الحجارة حي فلا واحد من الأحياء حجر، ونضيف إلى ذلك المقدمة التي لم تعكس فنقول: بعض الناس حي ولا واحد من الأحياء حجر، وهذا هو النحو الرابع من الشكل الأول بعينه.
النحو الرابع من الشكل الثاني: صغرى جزئية سالبة: بعض الحجارة ليس حياً.
كبرى كلية موجبة: وكل إنسان حي.
النتيجة: فبعض الحجارة ليس إنساناً؛ وإن شئت قلت: فليس كل حجر إنساناً، لأنا قد قلنا قبل إن النافية الجزئية تظهر بلفظ كلي وجزئي إن شئت. ثم(4/236)
نعكس هذه النتيجة فنقول: إذا كان بعض الحجارة ليس إنساناً، فبعض الناس ليس حجراً، وهذا هو نتيجة النحو الرابع من الشكل الأول بعينها.
وهذا النحو لا تعكس مقدمته لأنك لو عكست الموجبة الكلية لانعكست جزئية ومعها [53و] جزئية نافية، وجزئيتان لا تنتج، والنافية الجزئية لا تنعكس على ما قدمنا. لكن برهانه برفع الكلام إلى الإحالة (1) ، وذلك أن نقول: إن أنكر منكر أن هذه النتيجة حق وهي قولنا فبعض الحجارة ليس إنساناً، فنقيضها حق وهو كل الحجارة إنسان، فنقول: كل الحجارة إنسان، وكل إنسان حي على ما أثبتنا في المقدمة الكبرى فينتج لنا ذلك: كل حجر حي، وقد صححنا في المقدمة الصغرى: بعض الحجارة لا حي، وهذا ضد ما أنتج لنا ما قدمنا آخراً، وهذا محال.
الشكل الثالث: الحد المشترك فيه موضوع في كلتا المقدمتين أي مخبر عنه، ونتائجه كلها جزئيات.
النحو الأول من الشكل الثالث:
صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي.
كبرى كلية موجبة: وكل إنسان جوهر.
النتيجة: فبعض الأحياء جوهر.
برهانه بعكس المقدمة الصغرى فنقول: إن كان كل إنسان حياً فبعض الأحياء إنسان، ونضيف إليها المقدمة الكبرى فنقول: بعض الأحياء إنسان (2) ، وكل إنسان جوهر، فبعض الأحياء جوهر، وهذه هي رتبة النحو الثالث من الشكل الأول.
__________
(1) س: الإحالة ... الكلام.
(2) ونضيف ... إنسان: سقط من س.(4/237)
النحو الثاني من الشكل الثالث:
قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي.
كبرى كلية نافية: ولا واحد من الناس حجر.
النتيجة: فبعض الأحياء لا حجر.
برهانه بعكس المقدمة الصغرى نقول: إن كان كل إنسان حياً، فبعض الأحياء إنسان، ولا أحد (1) إنسان حجر، فبعض الأحياء ليس حجراً، وهذه رتبة النحو الرابع من الشكل الأول بعينها، وهذا النحو متساوي المقدمتين ليس في إحداهما لفظ أعم مما في الأخرى.
النحو الثالث من الشكل الثالث:
صغرى جزئية موجبة: بعض الأحياء ناس.
كبرى كلية موجبة: وكل الأحياء جوهر.
النتيجة: بعض الناس جوهر.
برهانه بعكس المقدمة الجزئية نقول: إن كان بعض الأحياء ناساً فبعض الناس حي، ثم نضيف ذلك إلى المقدمة الكلية فنقول: بعض الناس حي، وكل حي جوهر، وهذا هو النحو الثالث من الشكل الأول بعينه.
النحو الرابع من الشكل الثالث:
صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي.
كبرى جزئية موجبة: وبعض الناس جوهر.
النتيجة: بعض الجوهر حي (2) .
رتية هذا النحو مخالف لرتبة الذي قبله في تقديم الجزئية وتأخيرها، فكبرى ذلك صغرى هذا، وصغرى ذلك كبرى هذا، إلا أنه (3) يخرج موضوع نتيجة الذي قبل هذا محمولاً في نتيجة هذا في الرتبة، ومحمول نتيجة ذلك موضوعاً في نتيجة هذا، إذ الحد الذي في المقدمة الكبرى هو [53ظ] الذي يخرج محمولاً في النتيجة، وبرهانه بعكس المقدمة الجزئية، نقول: إن كان بعض الناس جوهراً فبعض الجوهر ناس، ثم نضيف ذلك إلى المقدمة الكلية فنقول: بعض الجوهر ناس، وكل الناس
__________
(1) م: واحد.
(2) س: بعض الحي جوهر.
(3) إلا أنه: لأن في م.(4/238)
حي، النتيجة: بعض الجوهر حي، وهذه رتبة النحو الثالث من الشكل الأول بعينها.
النحو الخامس من الشكل الثالث:
قالوا صغرى كلية موجبة: كل إنسان حي.
كبرى جزئية نافية: وبعض الناس لا حجر.
النتيجة: فبعض الحي ليس حجراً.
لا عكس في هذا، لأنك لو عكست الكلية لانعكست جزئية، وجمعنا (1) إليها جزئية أخرى، وجزئيتان لا تنتج، والجزئية النافية لا تنعكس، لكن برهانه يرفع الكلام إلى الإحالة فنقول: إن كانت النتيجة المذكورة باطلاً فنقيضها حق، وهو كل حي حجر، ثم نقول: كل إنسان حي وكل حي حجر، النتيجة: فكل الناس حجر، وقد اتفقنا في المقدمة على أن بعض الناس لا حجر، وهذا محال، ونتيجة هذا النحو هي نتيجة النحو الثاني من الشكل الثالث، ويرجع هذا النحو إلى النحو الرابع من الشكل الأول بأن تأخذ النتيجة فتضيفها إلى المقدمة الصغرى، فتقول: كل إنسان حي، وبعض الحي لا حجر، النتيجة: فبعض الناس لا حجر، وهذه هي (2) نتيجة النحو الرابع من الشكل الأول، وهذا النحو ليس في كبراه لفظة أعم من التي في صغراه.
النحو السادس من الشكل الثالث:
صغرى جزئية موجبة: بعض الحي إنسان.
كبرى كلية نافية: ولا واحد من الأحياء حجر.
النتيجة: بعض الناس (3) لا حجر.
برهانه بعكسة واحدة، نقول: إن كان بعض الحي إنساناً فبعض الناس حي، ثم نضيف ذلك إلى الكلية السالبة فنقول: بعض الناس حي ولا واحد من الأحياء حجر، وهذا هو النحو الرابع من الشكل الأول. وإنما لم نعكس ما لم يعكس من المقدمات في الشكل الثاني والثالث لأنه إما كانت تخرج جزئيتين أو تخرج إلى ما قد خرج قبلها أو بعدها من الأنحاء، أو لأنه كان يكون أطول في العمل فقصدنا الأخصر
__________
(1) م: ومعنا.
(2) هي: من م وحدها.
(3) س: الحي.(4/239)
والأكثر فائدة فهذه الأنحاء التي لا ينتج سواها إنتاجاً مطرداً.
وسنبين إن شاء الله تعالى اعتراضات اعترضها المشغبون في هذه الأشكال، وحل ذلك كله بحول الله وقوته، وها نحن آخذون في تمثيل هذه (1) الأنحاء بمثال إلا هي ومثال شريعي بحول الله واهب الفضائل لمن شاء من عباده لا إله إلا هو (2) ليظهر فضل هذه [54و] الصناعة في كل علم.
الشكل الأول:
النحو الأول من الشكل الأول: كل ما خرج إلى الفعل من العالم فمعدود وكل معدود فمتناه فكل ما خرج إلى الفعل من العالم فمتناه.
مثال شريعي: كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام.
النحو الثاني منه: كل ما خرج إلى الفعل من العالم معدود ولا واحد من المعدودات أزلي، فليس شيء مما خرج إلى الفعل من العالم أزلياً.
مثال شريعي: كل مسكر خمر وكل خمر ليست حلالاً فكل مسكر ليس حلالاً.
النحو الثالث منه: بعض العالم مركب وكل مركب مؤلف من شتى (3) ، فبعض العالم مؤلف من شتى (3) .
مثال شريعي: بعض المملوكات حرام وطئها، وكل حرام ففرض اجتنابه، فبعض المملوكات فرض اجتنابها.
النحو الرابع منه: بعض العالم مركب وليس شيء من المركبات أزلياً فبعض العالم ليس أزلياً.
مثال شريعي: بعض البيوع ربا وليس شيء من الربا حلالاً، فبعض البيوع ليس حلالاً.
__________
(1) هذه: سقطت من م.
(2) لا ... هو: سقطت من س.
(3) س: شتى.
(3) س: شتى.(4/240)
الشكل الثاني:
النحو الأول منه: كل جمل العالم مؤلفات من أجزائها وليس شيء من المؤلفات أزلياً فليس شيء من العالم أزلياً.
مثال شريعي: كل ذبح لما لم تملكه فقد نهيت عنه وليس شيء مما نهيت عنه حلالاً، فليس ذبحك لشيء لم تملكه حلالاً.
النحو الثاني منه: ليس شيء أزلي مؤلفاً (1) وكل جمل العالم مؤلفات (2) من أجزائها فلا شيء في جمل العالم أزلي (3) .
مثال شريعي: ليس شيء حلالاً مما نهيت عنه (4) ، وكل ذبح لما لم تملكه فقد نهيت عنه، فليس حلالاً ذبحك لما (5) لم تملكه.
النحو الثالث منه: بعض العالم مركب، وليس شيء أزلي مركباً، فبعض العالم ليس أزلياً.
مثال شريعي: بعض الآباء كافر وليس أحد تجب طاعته كافراً، فبعض الآباء لا تجب طاعته.
النحو الرابع منه: بعض العالم ليس خالقاً، والأزلي خالق، فبعض العالم ليس أزلياً.
مثال شريعي: بعض الفروج من المتملكات لا يحل وطئه، وكل فرج زوجة أو أمة مباحين يحل وطئه، فبعض الفروج من المتملكات، ليس فرج زوجة أو أمة، ليس مباحاً.
الشكل الثالث:
النحو الأول منه: كل مركب متناه (6) ، وكل مركب مؤلف، فبعض المتناهيات
__________
(1) م: ليس شيء من المؤلفات أزلياً.
(2) س: المؤلفات.
(3) م: فلا شيء أزلي في كل جمل العالم.
(4) م: ليس شيء مما نهيت عنه حلالاً.
(5) م: ما.
(6) س: متناهي.(4/241)
[54ظ] مؤلف.
مثال شريعي: كل قاذف محصنة فاسق، وكل قاذف محصنة يحد، فبعض الفاسقين يحد.
النحو الثاني منه: كل جسم مركب من أجزائه، وليس واحد من الأجسام أزلياً، فبعض المركب من أجزائه ليس أزلياً.
مثال شريعي: كل المحرمين منهي عن الصيد (1) ، وليس أحد من المحرمين مباحاً له النساء، فليس بعض المنهيين عن الصيد (1) مباحاً لهم النساء.
النحو الثالث منه: بعض الأعراض عدد، وكل الأعراض محمول، فبعض العدد محمول.
مثال شريعي: بعض المصلين مقبول الصلاة، وكل مصل فمأمور باستقبال الكعبة إن قدر، فبعض المقبول صلاتهم مأمور باستقبال الكعبة إن قدر.
النحو الرابع منه: كل جسم معدود، وبعض الجسم مركب، فبعض المركب معدود.
مثال شريعي: كل مرضعة خمس رضعات حرام، وبعض المرضعات خمس رضعات أم، فبعض الأمهات حرام.
النحو الخامس منه: بعض الأجسام ليس عرضاً، وكل جسم فشاغل مكاناً، فبعض الأعراض ليس شاغلاً مكاناً.
مثال شريعي: ليس بعض القاتلين بغير حق يفاد منه، وكل قاتل بغير حق فاسق، فبعض من لا يفاد منه فاسق.
النحو السادس منه: بعض الأجسام ذو جهات ست، وليس شيء من الأجسام عرضاً، فبعض ما هو ذو جهات ست ليس (2) عرضاً.
__________
(1) م: التصيد.
(1) م: التصيد.
(2) شيء من الأجسام ... ليس: سقط من م.(4/242)
مثال شريعي: بعض الشروط مفسد للعقد، وليس شيء من الشروط متقدماً للعقد، فبعض المفسد للعقد لا يتقدم العقد.
فإذ قد أتممنا بحمد الله تعالى وعونه لنا ما كنا (1) وعدنا به من ذكر أنحاء أشكال البرهان، فلنقل إن كل نتيجة ظهرت فيما قدمنا من القرائن فإنها إن (2) كانت موجبة كلية فإنه قد يصح (3) بصحتها عكسها وهو موجبة جزئية. وإن كانت موجبة جزئية فإنه قد يصح (3) بصحتها عكسها وهو موجبة جزئية. وإن كانت سالبة (4) كلية فإنه قد يصح بصحتها عكسها وهو نافية كلية. وإذا صحت الكلية فقد صحت جزئياتها وليس إذا صحت الجزئية صحت كليتها، فتأمل هذا تجده، وقد قدمنا لك من ذلك أمثلة بينة فأغنى عن تكرارها. فتدبر في هذا المكان عظيم منفعة العكس لأنه يصح لك بصحة النتيجة ما انطوى فيها مما ذكرنا الآن.
[55و] وأما النافية الجزئية فقد قدمنا أنها لا تنعكس، وإذا كان ماقلنا، فذلك إنتاج من النتيجة صادق أبداً، فالنتائج كما ذكرنا أربع عشرة (5) نتيجة، تنعكس منها ثمان، ثلاث في الشكل الأول اثنتان منهما موجبتان، إحداها جزئية، والثانية كلية، والثالثة كلية نافية، واثنتان في الثاني كليتان نافيتان، وثلاث في الثالث موجبات جزئيات (6) ، فلذلك اثنتان وعشرون نتيجة صادقة أبداً (7) .
وتذكر ما قلنا قبل إن القضايا، وهي الأخبار، تنقسم قسمين: قاطعة وشرطية، فهذه القاطعة قد ذكرتا أقسامها، والحمد لله واهب التمييز والعلم والبيان والقوة وهو الذي لا يستمد المزيد في كل ذلك ومن كل خير إلا منه، لا إله إلا هو، فإذ قد أتممنا ذلك فلنشرع (8) في ذكر القسم الثاني وهو الشرطية، إن شاء الله عز وجل ولا
__________
(1) س: كنا له.
(2) م: إذا.
(3) م: فإنها قد صح.
(3) م: فإنها قد صح.
(4) م: نافية.
(5) س: أربعة عشر.
(6) جزئيات: في م وحدها.
(7) أبداً: لم ترد في س.
(8) في: لم ترد في س.(4/243)
حول ولا قوة إلا بالله تعالى ذكره.
تم السفر الأول من كتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية تأليف أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الأندلسي رحمة الله عليه والحمد لله على ذلك كثيراً، كما هو أهله،
وصلى الله على النبي محمد وسلم (1)
__________
(1) تم السفر ... وسلم: لم يرد في م.(4/244)
وهذا بدء السفر الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد (1)
2 - باب ذكر القضايا الشرطية
نقول وبالله تعالى نستعين (2) إن الشرطية هي ما لم يقطع في وصف الموصوف فيها بشيء لازم، والشرطية هذه تنقسم قسمين: إما معلقة بشيء آخر وإما مقسمة. فالمعلقة تنقسم قسمين، المعلقة بالجملة وتسمى المتصلة وهي التي علق الحكم فيها بحكم آخر تصح بصحته أو تبطل ببطلانه. مثال ذلك: إن كان من زنى وهو محصن وهو بالغ عاقل ثيباً فإنه يجلد ويرجم، لكنه ثيب فإنه يجلد ويرجم؛ فهذه قضية شرطية مركبة من حكمين: أحدهما صفة الزاني والثاني صفة ما يصنع به إن زنى وهو الجلد والرجم. فالحكم الأول يسمى المقدم، وهو قولك [55ظ] إن كان زنى وهو محصن بالغ عاقل ثيباً، والحكم الثاني يسمى التالي (3) وهو قولك فإنه يجلد ويرجم، فأثبت على ذكر (4) هذه التسمية أيضاً فستتكرر (5) عليك كثيراً (6) إن شاء الله عز وجل. فأحد قسمي المعلقة اللذين (7) ذكرنا آنفاً أنها تنقسم عليهما أن يستثنى المقدم، ومعنى قولنا يستثنى هو أن يشترط أن كون الأمر المذكور أولاً موجب لكون الأمر المذكور آخراً. فإن لم يكن الأول لم يكن الآخر، والقسم الثاني هو ما استثنيت فيه التالي أي أنك تشترط أن كون الشيء الذي تذكر آخراً موجب لكون (8) الأمر المذكور أولاً. فإن لم يكن المذكور آخراً لم يكن المذكور أولاً، فالقسم الأول مقدمة تركبت من موضوع ومحمول إلا أن أحدهما قرن به حرف شرط فإن أردت إنتاجها أضفت إليها أخرى
__________
(1) وهذا بدء ... محمد: لم يرد في م.
(2) م: نتأيد.
(3) س: الثاني.
(4) ذكر: لم ترد في س.
(5) س: فتتكرر.
(6) كثيراً: لم ترد في س.
(7) س: التي.
(8) م: كون.(4/245)
فقلت: إن كان الزاني المحصن البالغ العاقل يجلد ويرجم فهذه مقدمة من مخبر عنه وخبر قرنت بأحدهما حرف شرط. ثم تقول: وهذا زان محصن (1) بالغ عاقل فهذه مقدمة ثانية إليها فتمت قرينة النتيجة فهذا يجلد ويرجم.
والقول في كل ما صحبه حرف من حروف الشرط الواحد، وهي إن وإذاوإذا ما ومتى ومتى ما ومهما وكلما وما أشبه ذلك. وإن شئت أن تقدم في اللفظ المعلقة على التي علقت بها فلك ذلك.
والمعلقة هي المسببة والمعلقة بها هي السبب، كالزنا مع الإحصان هو سبب الرجم، وكطلوع الشمس هو سبب النهار، وكدخول الأرض بين الشمس والقمر هو سبب كسوف القمر (2) ؛ فهذه الأسباب هي المعلق بها الحكم، والكسوف والشمس (3) والنهار هي المسببات (4) وهي المعلقات. فنقول في تقديم المعلقة: إن كان نهار فالشمس قد طلعت، وإن كان اسم الثيب يقع على الزاني إن كان بالغاً عاقلآً محصناً (5) فإنه يجلد ويرجم، وهذ1مثل تقديمك المحمول على الموضوع في القضايا القاطعة التي ليس فيها شرط. فتقول: الحياة في كل إنسان والجوهرية في كل حي فالجوهرية في كل إنسان.
وقد تكون المقدمتان في الشرطية نافيتين، وقد تكون موجبتين وقد تكون موجبة ونافية كقولك: إن لم تغرب الشمس لم (6) يأت الليل وإن لم يكن في الجو برق لم يكن صعق وإن لم تقر بما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن مسلماً [56و] فالمقدمة الأولى هي قولك: إن لم تغرب الشمس وإن لم يكن في الجو برق وإن لم تقر بما أتى (7) به محمد، صلى الله عليه وسلم. والثانية هي قولك: لم يكن ليل، لم يكن صعق، لم تكن مسلماً.
وأما الموجبتان فكالتي قدمنا قبل.
__________
(1) محصن: سقطت من س.
(2) م: الكسوف القمري.
(3) م: والرجم.
(4) م: المسميات.
(5) محصناً عاقلاً: وقعت بعد " إن كان " في س.
(6) م: فلم.
(7) س: جاء.(4/246)
وأما الموجبة والنافية فكقولك: الماء راسب بالطبع ما لم يقسر (1) أو يستحل، والنار صعادة بالطبع ما لم تقسر أو تستحل (2) ، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فكأنك قلت: إن تركت الماء بطبعه فهو راسب، وإن تركت النار بطبعها فهي صعادة، وإن كان المتبايعان مجتمعين فالخيار لهما.
وقد تكون المقدمات كثيرة في هذا الباب مثل قولك: إذا كان العالم محدثاً وكان المحدث يقتضي محدثاً، وكان لا شيء غير المحدث والمحدث، وكان لا محدث غير المحدث للعالم، وكانت أحداث مخالفة للطبيعة ظاهرة من إنسان محدث لها بأختياره، وكان يأتي بها شواهد على دعواه فمحدثها له محدث العالم، وإذا كان محدثها له متى طلبها من محدث العالم فمحدث العالم شاهد له بصحة ما يدعي، وإذا كان محدث العالم شاهداً له ومحدث العالم لا يشهد لمدعي باطل فهذا (3) ليس مدعي باطل. وإذا كان ليس مدعي باطل فهو مدعي حق. وإذا كان مدعي حق وجب تصديقه. فالمقدم من هذا الاستدلال الشرطي كما ترى مقدمات كثيرة والتالي واحد وهو: فإذا كان مدعي حق وجب تصديقه. فهذا هو القسم الأول الذي ذكرنا أنه يستثنى فيه المقدم. أي أن (4) المقدمة الأولى هي التي نقطع على أنها حق بعد أن يشترط أنها إن صحت الأولى صحت التي علقت صحتها بصحتها. وإن بطلت الأولى (5) بطلت التي علقت صحتها بصحتها. وهذا واجب بأول العقل ضرورة: إذ كل شيء لا يجوز أن يصح إلا حتى يصح شيء آخر، ثم إذا لم يصح ذلك الشيء الآخر فواجب ضرورة أن لا يصح الذي لا صحة له إلا بوجود صحة لم توجد.
ومن هذا الأصل الضروري البرهاني (6) أبطلنا في الشرائع كل عقد أرتبط بشرط فاسد لا يصح في النكاح والطلاق والبيوع والعتق وسائر العقود كلها. وكذلك إن كان
__________
(1) س: يفسد.
(2) س: تفسد أو تستحيل.
(3) م: فهو.
(4) أن: سقطت من م.
(5) الأولى: سقطت من س.
(6) م: البرهاني الضروري.(4/247)
التالي لا يوجد ضرورة إلا بوجود الأول والأول غير موجود (1) فالتالي غير موجود.
فإن جعلت (2) المقدمة الأولى جزئية فقلت: إن كان زيد طبيباً فهو ناطق، لكن زيد (3) طبيب فهو ناطق، فلو استثنيت نقيض الأول أي (4) صححت [56ظ] نفيه فقلت: لكن زيد ليس طبيباً لم يصح لك أنه ليس ناطقاً، وهكذا كل ما كان فيه الوصف في المقدم جزئياً للذي في التالي. وأما إن كان مساوياً له أو أعم فإنك إذا نفيت الأول انتفى الثاني كقولك: إن كان الإنسان حساساً أو قلت ضحاكاً فهو حي، لكنه ليس حساساً أو ليس ضحاكاً فليس حياً. ولا يجوز أن يكون التالي جزئياً للمقدم البتة لأنه مرتبط به موجود بوجوده، فهو (5) أبداً إما مساو وإما أعم فاحفظ كل هذا واضبطه. فلو استثنيت نفي التالي أي صححته فإنه ينتج لك نفي الأول ضرورة على كل حال جزئياً كان الأول أو مساوياً. ألا ترى أنك لوقلت: إن كان زيد طبيباً فهو عالم لكنه ليس عالماً أصلاً فليس طبيباً؛ وكذلك المساوي، ألا ترى أنك لو قلت: إن كان الجرم إنساناً فهو ضحاك لكنه ليس ضحاكاً فليس إنساناً؛ ومن (6) الجزئي الأخص أيضاً أن نقول: إن كان الجرم إنساناً فهو ناطق لكنه ليس ناطقاً فليس إنساناً. فإن استثنيت التالي أي صححته لم يصح لك الأول إلا في المساوي وحده، وأما الأعم فلا لأنك لوقلت: إن كان الجرم إنساناً فهو حي، لكنه حي، فلا يصح لك بذلك أنه إنسان. فالوجه هاهنا أن تصحح إما الأول فينتج لك صحة التالي، وإما أن تصحح نفي التالي فيصح لك نفي الأول. وأما إن صححت التالي أو صححت نفي الأول فإنه لا يصح لك بتصحيح التالي تصحيح الأول. ولا يصح لك بتصحيح نفي الأول نفي التالي إلا في المساوي فقط. إلا أنك تحتاج إذا أردت بنفي التالي نفي الأول في المساوي إلى عمل يمتد في إنتاج ذلك، إذ ليس ذلك بيناً بسرعة كبيان انتفاء
__________
(1) والأول غير موجود: سقطت من س، وكرر بدلها الجملة السابقة.
(2) س: وجدت.
(3) م: لكن زيداً.
(4) س: الذي.
(5) م: فهذا.
(6) س: وهو من.(4/248)
التالي بانتفاء الأول؛ ألا ترى أنك إذا قلت: إن كان العمر طويلاً فالهرم موجود، لكن العمر ليس طويلاً، النتيجة: فالهرم ليس موجوداً، بين. فلو قلت والقرينة بحسبها: لكن (1) الهرم غير موجود، فإنك تحتاج في الإنتاج من ذلك أن طول العمر ليس موجوداً إلى عمل، وهو أن تقول: إن كان الهرم يوجد بوجود طول العمر فليس يمكن أن يعدم الهرم ويوجد طول العمر، لأن طول العمر إذا كان موجوداً وجد الهرم، فإن كان الهرم موجوداً وليس طول العمر موجوداً (2) فليس الهرم إذن موجوداً بوجود طول العمر؛ وقد قدمنا أن الهرم يوجد بوجود طول العمر وهذا تناقض. وإنما كانت تكون بينة لوقدمت فقلت: إذا [57و] كان ضعف الكبر غير موجود فطول العمر غير موجود، وضعف الكبر غير موجود، فطول العمر غير موجود وهذا بين.
وقد قلنا إن القسم الذي تستثني فيه (3) ضد المقدمة التالية أي تصححه فإنه ينتج لك نفي الأول ضرورة مثل أن تقول: إن كان العالم غير محدث فهو غير مؤلف ولا متناهي الجرم، لكن العالم مؤلف متناهي الجرم، فالعالم محدث. وقد تكون المقدمات التوالي في هذا النوع متنافية كقولك: إن كان يوجد زمان لغير جرم ذي زمان، والزمان إنما هو مدة يعد بها سكون أو حركة، فليس يوجد إذن زمان لغير جرم ذي زمان. فهذه أقسام الشرطي المتصل وهي إما أن تصحح المقدم وإما أن تصحح نفيه وإما أن تصحح التالي وإما أن تصحح نفيه (4) ، فاعلم.
وأما الشرطي المقسم (5) فهو أن تقسم الشيء الذي تريد معرفة صحة حكمه على جميع أقسامه ولا تترك من جميع أقسامه التي (6) يعطيه العقل إياها قسماً أصلاً، ولا تكون تلك الأقسام إلا متعاندة (7) أي متباينة مختلفة كل واحد منها مخالف لسائرها، وجائز أن تكون الأقسام أثنين فصاعداً ولكن لا بد من الاختلاف المذكور.
__________
(1) س: لكون.
(2) لأن طول العمر ... موجوداً: هذه هي قراءة م والنص مضطرب في س.
(3) س: منه.
(4) وإما أن تصحح التالي ... نفيه: سقط من م.
(5) س: المنقسم.
(6) س: الذي.
(7) س: متغايرة (حيث ورد) .(4/249)
فالذي ينقسم قسمين نحو قولك: العالم إما محدث وإما أزلي، وهذا الشيء إما حرام وإما غير حرام، وهذا الشيء واجب أو غير واجب. ونحو قولك: هذان الاسمان إما واقعان على معنى واحد وإما على أكثر من معنى واحد.
وأما الذي ينقسم أقساماً أكثر من أثنين أن تقول: لا يخلو العالم إن كان محدثاً من أن يكون أحدث نفسه أو أحدثه غيره أو حدث لا من محدث. ونحو قوله: هذا الشيء إما واجب وإما مباح متساو وإما مباح مستحب وإما مباح مكروه (1) وإما حرام وهذه الأقسام كما ترى تامة التعاند (2) أي كل قسم منها مخالف لسائرها وقسمت تامة مستوفاة.
وأما إذا كان التقسيم ناقصاً، وهو (3) أن تكون أخللت بشيء من أقسامه إما جهلاً وإما نسياناً وإما عمداً، فليست أقسامه حينئذ تامة المعاندة (4) وذلك نحو قولك: لا يخلو محدث العالم أن يكون أحدثه لجوده أو كرمه (5) أو لأنه (6) أو لاجترار منفعة أو لدفع مضرة أو لعلة ما (7) غير ما ذكرنا. فهذا تقسيم ناقص لأنك أسقطت منه القسم الصحيح وهو أن يكون أحدثه لا لعلة أصلاً.
وقد يعرض من هذا الباب [57ظ] أن يكون التقسيم لا يخرج (8) إلا على قسمين فقط فيحذف المقسم أحد القسمين ويذكر الآخر فيجعله كلياً في الحكم وهو في الحقيقة جزئي كقول القائل: الزمان حركة تعد فأخرج ذلك مخرج صفة كلية للزمان، وإنما الصواب أن يقول (9) الزمان معنى لا زمناً (10) ، أي لا أن الزمان
__________
(1) وإما مباح مكروه: تقدم في م.
(2) س: المعاني.
(3) س: هو.
(4) س: المغايرة.
(5) م: وكرمه.
(6) كذا في م، وسقط من س.
(7) ما: في م وحدها.
(8) س: يكون.
(9) الصواب أن يقول: سقط من س.
(10) الزمان ... زمناً: سقط من م.(4/250)
حركة تعد أو سكون يعد (1) ؛ ومن ذلك أيضاً ان تقول: المدبر المعتق بالموت موصى به فهو من الثلث. وإنما الصواب ان تقول المدبر المعتق (2) بالموت إما موصى بعتقه أو معتق نصفه (3) فتوفي القسمة حقها، فتحفظ من مثل هذا أشد التحفظ، فإن دخول الأغاليط كثيراً ما تدخل في (4) هذا الباب، فأقل ما في هذا الباب (5) أن تعمى عليك الحقائق إن كنت باحثاً فتعتقد الباطل وتضل غيرك ممن يحسن الظن بك، أو تتحير إن ظهر ما فسد (6) من الأقسام إليك، أو تجيب جواباً فاسداً إن كنت مسؤولاً، أو تغالط خصمك إن كنت سائلاً، وكل هذه أحوال غير محمودة، بل هي (7) مذمومة عند أهل الغقل جداً. فإن كنت جاهلاً بالتقسيم فتعلم وابحث، وإن كنت ناسياً ففتش وتدبر، وإن كنت عامداً فتلك أقبح فأعرض عنها.
ومن ذلك أيضاً ان تقول: زيد إما (8) جالس وإما متكيء، وليس هذا تقسيماً صحيحاً، إذ لعله ماش أو واقف. فاعلم الآن أن التقسيم إذا وقع على قسمين فقط واستوفيا حقيقة الطبع في التقسيم التام الذي لا يشذ عنه شيء فإنك إذا صححت أحد القسمين وأثبته وأخرجته من الشك فإنه ينتج لك أي يصحح لك ضد (9) القسم الآخر ضرورة لا بد من ذلك، كقولك: العالم إما أزلي وإما محدث، لكن العالم محدث، فصح أنه ليس أزلياً. فإذا صححت نفي أحد القسمين وأثبته أنتج صحة القسم الآخر ضرورة (10) كقولك: العالم إما أزلي وإما محدث لكنه ليس أزلياً فصح أنه محدث وهكذا (11) إذا كانت الأقسام أكثر من اثنين فإنك إذا صححت أحدها فقد صح أنه
__________
(1) س: بعد ... بعد.
(2) م: المعتق المدبر.
(3) س: بصفه.
(4) م: من.
(5) م: ما في ذلك.
(6) م: فسد ما ظهر.
(7) هي: سقطت من م.
(8) س: إما زيد.
(9) س: هذا.
(10) ضرورة: وقعت في س بعد أن " أنتج ".
(11) م: لكنه ... محدث: سقط من م؛ وهذا.(4/251)
مخالف لسائرها لا بد من ذلك.
وكذلك إذا صححت نفي جميع تلك الأقسام حاشا واحداً صح أن حكمه هو ذلك الواحد الذي بقي ضرورة، فإن صححت أن حكمه مخالف لبعض تلك الأقسام وبقي منها أكثر من واحد سقطت الأقسام التي صح أنه مخالف لها ولم يصح أن حكم الشيء الذي يتعرف [58و] صحة حكمه في أحد ما بقي دون سائر ما بقي، ولا تبال أي الأقسام قدمت في اللفظ ولا أيها أخرت من (1) هذه الوجوه كلها.
ونحن نمثل الوجوه الثلاثة التي ذكرنا فنقول، وبالله تعالى نتأيد: إذا قلت هذا الطعم إما تفه وإما زعاق وإما حلو وإما مر وإما حامض وإما ملح وإما حريف وإما عفص، لكنه مر، فقد نفيت عنه جميع الطعوم الباقية كلها يقيناً بلا شك. وكذلك إذا قلت: هذا العدد إما مساو لهذا العدد، وإما أقل منه، وإما أكثر منه، لكنه أكثر منه، فقد نفيت القسمين الباقيين (2) بلا شك وهو حينئذ لا مساو ولا أقل يقيناً. فإن أبطلت جميع الأقسام حاشا واحداً فقلت في المسألة الأولى: لكنه ليس تفهاً ولا زعاقاً ولا حلواً ولا مراً ولا حامضاً ولا ملحاً ولا حريفاً فقد صح بلا شك أنه عفص. وكذلك لو قلت في الثانية لكنه ليس أكثر منه ولا مساوياً له فقد صح أنه أقل منه يقيناً (3) ، فإن أبطلت بعض الأقسام وسكت عن أكثر من واحد منها سقطت الأقسام التي صححت أنها مخالفة له فقط ولم يثبت له واحد بعينه من الذي نفيت وبقي الاستدلال والنظر واجباً فيها كقولك في المسألة الأولى لكنه ليس مراً ولا حلواً فقد سقطت عنه المرارة والحلاوة وبقي الطعم مشكوكاً فيه على باقي الأقسام، ثم كلما أسقطت قسماً بقي موقوفاً على الباقي حتى لا يبقى إلا واحد فيصح حينئذ أن ذلك الواحد هو حكمه، وهكذا في جميع المسائل؛ وإنما أخرجت لك الوجوه كلها من مسألة واحدة لترى نسبة الوجوه بعضها من بعض بأمكن وأسهل منها لو كانت من مسائل شتى. ولو أنك أثبت من الأقسام الكثيرة اثنين فصاعداً بحرف الشك مثل أن تقول: لكنه إما حلو وإما حامض وإما مر فقد أبطلت سائرها وبقي الحكم موقوفاً على الذي قصرتها عليه.
__________
(1) س: في.
(2) م: النافيين.
(3) م: بيقين.(4/252)
واعلم أن هذا الفصل لا يكون صحيحاً إلا بعد ذكرك جميع ما توجبه الطبيعة من الأقسام كلها، ثم تقصره منها على بعضها دون بعض، وأما إن لم تذكر أولاً جميع الأقسام (1) وابتدأت بذكرك (2) بعض الأقسام مقتصراً عليها في القسمة فقد أسأت العمل، والصواب عنك (3) ممنوع إلا من جهة واحدة لا ينبغي لك أن تتكل عليها (4) ، وهي (5) أن يتفق لك صحة وقوع أحد الأقسام التي ذكرت على الشيء الذي تطلب معرفة صحة حكمه، فإنك حينئذ إذا صححت ذلك القسم [58ظ] الموافق خاصة صادفت الحق غير محسن في إصابته لكن كإنسان أوقعه البخت على كنز، وذلك نحو قولك: هذا الشيء إما حار وإما بارد لكنه حار، فإن كنت قد أصبت في وصفه بالحر حقيقة طبعه فقد أنتج لك ذلك بطلان كل قسم ذكرته أو لم تذكره، وإن نفيت في هذا العمل أحد القسمين اللذين ذكرت فإنه لم يصح لك شيء بعد، وذلك نحو قولك هذا الشيء إما حار وإما بارد، لكنه ليس بحار فاعلم أنك لم تصب بعد حقيقة طبعه ولا أثبت له البرد، لأنك أسقطت القسم الثالث وهو المعتدل، فلعله معتدل إذ ليس حاراً فلا يكون أيضاً داخلاً في القسم الثاني الذي ذكرت وهو البارد. ولو كان تقسيمك موعباً لارتفع الإشكال على ما قدمنا قبل وأنت إذا قطعت في القسمة الناقصة على أنه لا بد من أحد الأقسام التي ذكرت فالكذب حصتك من هذا الخبر والفضيحة صفتك فيه، وهاتان صفتا سوء، والأمر لله (6) من قبل ومن بعد. فاحفظ هذه المعاني وميزها إذا مرت بك في جميع مطالبك وفتش عنها في كل ما يرد عليك فإنك تستضيء في العلم ضياءً تاماً وتشرف على عجائب تفرج عنك هموماً عظيمة إن كنت ممن يهتم بالحقائق.
واعلم أن إيرادك في التقسيم لفظة إما أو لفظة أو، أو أنه لا يخلو من كذا وكذا، أو لا بد من كذا وكذا، أو هذا ينقسم كذا وكذا قسماً، منها كذا ومنها كذا، أو لا
__________
(1) كلها ... الأقسام: سقط من س.
(2) س: فلو ابتدأت بذكر.
(3) عنك: سقطت من س.
(4) س: تنكل عنها.
(5) س: وهو.
(6) م: ولله الأمر.(4/253)
سبيل إلى غير كذا وكذا، أو ما أعطى هذا (1) المعنى، فكل ذلك سواء لا يحيل شيء من ذلك معنى أصلاً (2) .
3 - باب من أنواع البرهان تتضاعف الصفات فيه
واعلم أنه قد تقع مقدمات بنسبة أعداد في الكثرة أو في القلة أو المساواة أو تفاضل كيفيات في الشدة أو الضعف أو تماثلها، فمنها ما هو تقديم صحيح فينتج إنتاجاً صحيحاً راجعاً إلى الشكل الول، كقولك: النرجس أشد صفرة [59و] من اللفاح واللفاح أشد صفرة من الأترج. النتيجة: فالنرجس أشد صفرة من الأترج. فالحد الأوسط وهو اللفظة المشتركة في كلتا المقدمتين، التي طالما بينتها عليك زمان وصفي لك أنحاء الأشكال الثلاثة، هو هاهنا (3) قولك (4) : اللفاح، وقولك أشد صفرة هو الغرض المقصود والرابط ما بين الحدين، فلا بد من خروجه في النتيجة كخروج لفظة (5) كل أو بعض في الأشكال المتقدمة، والحدان المقتسمان وهما اللفظان اللذان انفردت كل مقدمة منهما بواحد هما (6) النرجس والأترج. وربما جاءا بلفظ تنظير (7) صحيح فتقول: نسبة الخمسة إلى العشرة كنسبة الاثنين من الأربعة، النتيجة: فالخمسة نصف العشرة، وهكذا إن شيهت كيفية بكيفية ما. ثم شبهت تلك الكيفية الثانية بكيفية أخرى، فقد أنتج لك ذلك شبه الكيفية الأولى بالكيفية الثانية (8) ضرورة، وذلك مثل قولك: بياض زيد كبياض عمرو وبياض عمرو كبياض خالد. النتيجة: فبياض (9) زيد كبياض خالد. فهذه القرينة أعطت الخمسة أنها نصف العشرة وأعطتها أيضاً أن لها نسبة من عدد يشبه نسبة عدد آخر من عدد آخر،
__________
(1) هذا: سقطت من س.
(2) تكررت هذه الفقرة في س واضطربت النهايتان. واعتمدت هنا رواية م، فحذفت المكرر.
(3) ها هنا: سقطت من س.
(4) س: قولنا ... وقولنا.
(5) س: لفظ.
(6) س: وهو.
(7) س: بنظير.
(8) م: الثالثة.
(9) م: بياض.(4/254)
وكذلك أعطت الأخرى أن بياض زيد يشبه بياض عمرو ويشبه أيضاً (1) بياض خالد.
وهذا مكان ينبغي أن تتحفظ فيه فربما غالط فيه بعض النوكى كما فعل الناشيء المكنى بأبي العباس إذ قال: إذا كانت العشرة في عشرة مائة، فالخمسة في الخمسة خمسون، وذلك لأن الخمسين نصف المائة والخمسة نصف العشرة، ونسبة العشرة من المائة كنسبة الخمسة من الخمسين، ونسبة الخمسة من العشرة كنسبة الخمسين من المائة. وإنما وقع هذا الإيهام الساقط لأن المتكلم أتى بلفظ غير واضح في المقدمة وكان الصواب ان يقول إذا كانت عشرة مكررة عشر مرات مائة فخمسة مكررة خمس مرات (2) خمسة وعشرون. لكن أهل صناعة الحساب اختصروا التطويل بلفظ اتفقوا على وضعه للتفاهم فيما بينهم وليس عليهم أكثر من ذلك البيان (3) للجاهل فقط.
وتحفظ أيضاً من أن تأتي بحمل مختلف، ومعنى ذلك أن تكون الصفة التي تصف بها المخبر عنه في هذا النوع من البرهان مختلفة، فيتولد عليك من هذا غلط مثل ان تقول: الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أضعف رائحة من المسك، فهذا تركيب [59ظ] فاسد لأن حق هذه القرائن أن تكون الصفة من نوع واحد إلا في درج التفاضل (4) فقط لأنها هي مع (5) الحد المشترك فلا يجوز إلا أن تكون بلفظ واحد ومعنى (6) واحد. وحكم (7) الحد المشترك في هاتين القضيتين مختلف أحدهما أطيب رائحة، والثاني أضعف رائحة، فليس حداً مشتركاً، بل هما كلامان مختلفان لم يتم فيهما حق (8) الاقتران، فلذلك خرجت النتيجة في بعض المواضع فاسدة، وربما صدقت، ولكنها غير موثوق بها على ما قدمنا. مما قد يصدق مرة ويكذب (9) أخرى: ألا ترى
__________
(1) أيضاً: سقطت من س.
(2) م: مرار.
(3) م: إلا البيان.
(4) التفاضل: سقطت من س.
(5) مع: سقطت من س.
(6) س: في معنى.
(7) حكم: سقطت من س.
(8) س: حد.
(9) س: وقد تصدق ... وتكذب.(4/255)
أنك لو قلت: الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أضعف رائحة من البنفسج، النتيجة: فالورد أطيب رائحة من البنفسج صادقة، وإذا قلت الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أضعف رائحة من المسك، النتيجة: فالورد أطيب رائحة من المسك كاذبة، وأنت إذا التزمت ما حددته (1) لك صدقت أبداً بلا شك، وذلك أن تقول: الورد أطيب رائحة من الخزامى، والخزامى أطيب رائحة من الضيمران، فالورد أطيب رائحة من الضيمران، فهذا الترتيب لا يخونك أبداً.
ونمثل ذلك بمثال شريعي فنقول: إن موه مموه فقال: عليّ أكثر فضائل من العباس، والعباس أقل فضائل من أبي بكر، فأراد أن ينتج من ذلك: فعلي أكثر فضائل من أبي بكر وقال: إن مقدمتي كلتيهما صادقة لم يسوغ له (2) ذلك، وقيل له اجعل مكان أبي بكر رسول الله، ملى الله عليه وسلم، فإنها أيضاً تأتيك مقدمتان صادقتان، ثم انظر ماذا تنتج فتقول: عليّ أكثر فضائل من العباس والعباس أقل فضائل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهاتان صادقتان، والنتيجة: فعلي أكثر فضائل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وكفر. ولا يترك يأخذ في نتيجة قرينة واحدة ما وصف به المخبر عنه في المقدمة الأولى وفي نتيجة قرينة أخرى ما وصف به المخبر عنه في المقدمة الثانية، مثل أن يأخذ في الواحدة ذكر الأكثر وفي الثانية ذكر الأقل، ولكن يعكس عليه ما يريد من ذلك فيلوح تمويهه من قريب، حتى إذا جعلت حكم الحد المشترك واحداً في اللفظ أصبت أبداً، وذلك مثل ان تقول: عليّ أكثر فضائل من أبي هريرة، وأبو هريرة أكثر [60و] فضائل من معاوية، النتيجة: فعلي أفضل من معاوية (3) ، فهذا الترتيب لا يخونك أبداً وصح لك في هذا النوع من البرهان صفتان للمخبر عنه أحدهما فضله على من نسبته منه والثانية فضله على من نسبت إليه الذي نسبت منه أولاً. ولذلك ترجمناه بأنه تتضاعف فيه الصفات، وبالله تعالى التوفيق.
__________
(1) م: حددت.
(2) له: سقطت من م.
(3) النتيجة فعلي ... معاوية: سقط من م.(4/256)
4 - باب من أنواع البرهان تختلف مقدماته في الظاهر إلا أن الغرض في نفيها وإيجابها واحد
هذا نوع من إقامة البرهان يصدق أبداً إذا رتب رتبة حسنة كقولك: بعض الموجودات شيء لم يزل، ولا موجود إلا الخالق والجوهر والعرض، وهذا الذي (1) لم يزل ليس هو الجوهر ولا العرض. النتيجة: فهو الخالق عز وجل. فالمقدمة الأولى من هذه المقدمات الثلاث هي من النوع الذي ذكرنا قبل هذا متصلاً آخره بأول هذا الباب وهو الذي يعطي المخبر عنه أكثر من صفة واحدة. ألا ترى أنك (2) أوجبت للمخبر عنه أنه لم يزل وأنه موجود وبأنه خالق لا إله إلا هو. والمقدمة الثالثة هي من القضايا المقسمة وقد صححت فيها نفي أنه الجوهر أو العرض، فوجب أنه القسم الثالث ضرورة وهو الخالق عز وجل. والمقدمة الثانية المتوسطة هي من كلا النوعين المذكورين فأخذت من النوع الذي يعطي المخبر عنه أكثر من صفة واحدة قولك (3) فيها إنه لم يزل وإنه ليس الجوهر وليس العرض، وأخذت من المقسمة قولك ليس الجوهر وليس العرض، ووصفت أيضاً فيها الموجود أنه أكثر من واحد، فقد أنتجت هذه المقدمات الثلاث نتيجة واحدة. وهذا النوع كثير التكرر في تضاعيف المناظرات (4) وجم (5) المرور في أثناء البحث عن الحقائق المطلوبات، لأنك توقن وجود (6) شيء ما فتريد تحقيق صفاته، فتأخذ كل قسم ممكن أن يكون الموصوف يوصف به ثم تنفي عنه ما صح نفيه بالدلائل الصحاح حتى تنتفي (7) كلها حاشا واحداً منها فقط. فذلك الذي يبقى هو صفة الشيء الذي تريد معرفة حقيقة حكمه. ومن ذلك أن تقول: واحد ممن في المنزل (8) قتل زيداً، ولم يكن في البيت إلا يزيد وخالد ومحمد، فمحمد كان نائماً، ويزيد كان مغشياً عليه من علة به، النتيجة: [60ظ] فخالد قتله. وقد تكثر
__________
(1) س: والذي.
(2) س: أنك إذا.
(3) س: كقولك.
(4) س: المناظرة.
(5) س: وحر.
(6) س: وجوب.
(7) م: تنفى.
(8) س: من في (وسقطت لفظة المنزل) .(4/257)
المقدمات هاهنا جداً وتكون من جميع أنواع البرهان وتنتج إنتاجاً صحيحاً إذا رتبت على حسب ما ذكرنا من رتبة كل نوع من أنواع البرهان في بابه. ومن هذا الباب يفهم أن للأب الثلثين من قول الله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} (النساء:11) وذلك أن المال ثلث وثلثان والمال للأبوين وللأم منه الثلث. النتيجة: فالثلثان للأب. وبالله تعالى التوفيق (1) .
5 - باب من أنواع البرهان تكثر مقدماته وتوجب كل مقدمة منها المقدمة التي بعدها (2)
مثال ذلك أن تقول: إذا أفرط الأكل وجبت التخمة، وإذا وجبت التخمة ضعفت المعدة، وإذا ضعفت المعدة وجب سوء الهضم، وإذا وجب سوء الهضم وجب المرض. النتيجة: فوجود إفراط الأكل يوجب إفراط المرض (3) . وهذا برهان صحيح لأن فساد الهضم لا يوجد إلا ومرض معه (4) وفساد المعدة لا يوجد إلا وسوء الهضم (5) معه، والتخمة لا توجد إلا وفساد المعدة معها، والزيادة في الأكل (6) فوق القدر الموافق لقدرة (7) الطبيعة لا توجد إلا وتخمة معها، وما لا يوجد إلا ووجد شيء آخر معه بوجوده والثاني أيضاً إذا وجد أوجب ثالثاً فواجب أن لا (8) يوجد الثالث إلا بوجود الأول. وهذا أيضاً مما ينبغي أن تتحفظ في وضع مقدماته من أن تدخل (9) فيها مقدمة كاذبة. فإن قائلاً لو قال: إذا وجدت قلة المال وجد الفقر، وإذا وجد الفقر فالحاجة موجودة، وأراد أن ينتج من ذلك: إذا وجدت قلة المال فالحاجة موجودة، فهذا كذب لأن كل (10) قلة مال ليست فقراً، وقد يكون المرء صنعاً (11) وذا غلة كفاف لا
__________
(1) هذه الجملة لم ترد في م.
(2) م: منه ... بعده؛ س: بعده.
(3) م: فوجد إفراط الأكل فوجد.
(4) س: ومعه مرض.
(5) م: هضم.
(6) في الأكل: سقطت من س.
(7) م: لقوة.
(8) فواجب أن لا: فلا في س.
(9) س: يدخل.
(10) كل: لم ترد في س.
(11) س: صانعاً.(4/258)
يحتاج إلى أحد ولا بفضل عنه شيء؛ لكن لو قلت: إذا وجدت حال التقصير عن الكفاف وجد الفقر، وإذا وجد الفقر وجدت الحاجة، لأنتج ذلك إنتاجاً صحيحاً وهو: إذا وجدت حال التقصير عن الكفاف وجدت الحاجة. فينبغي لك (1) أن تتحفظ من مثل هذا من الأسماء المشتركة العامة لمعان فتحقق معانيها بألفاظ مختصة بها، وأن تتحفظ من الصفات الكليات العامة فلا توقعها بعمومها على بعض ما تحتها دون بعض.
وقد موه بعض المغالطين (2) فقال ليفسد هذا البرهان: إذا عدمت [61و] النار عدم الحر، وإذا عدم الحر لم نحتج إلى التبرد، فأراد أن ينتج: إذا عدمت النار لم نحتج إلى التبرد، وهذا كذب لأن المحموم والصائف محتاجان إلى التبرد ولا نار ظاهرة عندهما، وإنما هذا لأن المقدمة الأولى كذب، وإنما الصاب أن يقول: إذا عدمت النار عدم الحر المتولد عنها.
وهذا مثال شريعي: كل وطء صح علم الواطئ بباطنه وظاهره وحكمه فهو إما فراش وإما عهر، وكل مباحة العين للواطئ (3) فراش وكل ما ليس فراشاً فهو (4) عهر، والأمة المشتركة عهر (5) ، وكل ذي عهر عاهر، فكل واطىء أمة مشتركة عاهر وكل عاهر فله الحجر، فكل واطئ أمة مشتركة فله الحجر. فهذه المقدمات كلها أنتجت أن كل واطئ أمة مشتركة فله الحجر.
6 - باب من البرهان شرطي اللفظ قاطع المعنى
مثاله: إن وصف شيء بالإسكار وصف بالتحريم، ونبيذ التين إذا إلى وصف بالإسكار، فالتحريم واجب لنبيذ التين إذا إلى. فهذا كما ترى ظاهره أن الوصف بالتحريم إنما هو معلق بالإسكار فإذا أردت أن تجعله قاطعاً في لفظه قلت: التحريم حكم كل مسكر، وبعض المسكرات نبيذ التين إذا غلى، فالتحريم حكم نبيذ التين
__________
(1) لك: سقطت من س.
(2) س: المخالفين.
(3) م: للوطء.
(4) فهو: سقطت من س.
(5) والأمة ... عهر: سقط من م.(4/259)
إذا غلى (1) .
وقد غالط في هذا الباب قوم من المشغبين فقالوا: قد قطعتم بأن نافيتين لا تنتج إنتاجاً موثوقاً به، وأنتم في بعض هذه الأبواب التي خلت تنتجون إنتاجاً مطرداً من نافيتين، وفي هذا الباب أيضاً كقولكم (2) من لم يكن ضحاكاً لم يكن إنساناً، والفرس ليس ضحاكاً، فالفرس ليس إنساناً. وتقولون: كل من لم يؤمن فليس مقبولاً من الله عز وجل، والوثني ليس مؤمناً (3) ، فليس مقبولاً من الله عز وجل. فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن النفي الذي أبعدنا إقامة البرهان المطرد منه هو (4) كل نفي مجرد وهو كل نفي لم يوجب (5) للمخبر عنه صفة أصلاً، فسواء إذا كان النفي بهذه الصفة أي بلفظ النفي أو بلفظ الإيجاب لا (6) ينتج أبداً شيئاً، وسنذكر شيئاً من هذا في باب مفرد في هذا الديوان في ذكر مغالطات (7) [61ظ] رامها بعض المغالطين في الأشكال، إن شاء الله عز وجل. وأما ما كان نفياً في اللفظ (8) وهو يوجب معنى وصفة ما للمخبر عنه فهذا ليس نفياً ولكنه إيجاب صحيح، وإنما يراعى المعنى الذي يعطيه اللفظ لا صيغة اللفظ وحده. ومن هاهنا لم يلزمنا تشبيه الباري عز وجل في نفينا عنه أشياء هي أيضاً منفية (9) عن كثير من خلقه إلا أن ذلك لم يوجب تشبيهه (10) تعالى كقولنا (11) . إن الباري تعالى ليس جسماً، والعرض ليس جسماً، والباري تعالى ليس عرضاً، والجسم ليس عرضاً، لأنا في هذا النفي لم نثبت للباري حالاً يشترك فيها مع العرض إذ نفينا عنه الجسمية، ولا مع الجسم إذ نفينا عنه العرضية، وهذا هو
__________
(1) فالتحريم ... غلى: سقط من م.
(2) م: كقولك.
(3) م: لم يؤمن.
(4) هو: سقطت من س.
(5) سقطت " لم " من س، وورد فيها " موجب " بدل " يوجب ".
(6) س: فلا.
(7) س: مخلطات.
(8) م: وأما كل نفي في لفظه.
(9) م: منتفية.
(10) م: شبهه.
(11) زاد في م: بما انتفى عنه ما انتفى عن الباري تعالى.(4/260)
النفي المجرد المحض. وأما في القضايا التي ذكرنا آنفاً فإننا أوجبنا فيها الضحك لمن كان إنساناً، وأوجبنا للفرس نفي الإنسانية، وأوجبنا له بذلك شبهاً مع كل من ليس ضحاكاً في أنهم ليسوا ناساً. وكذلك أوجبنا لمن لم يؤمن ضد القبول، وهو التبرؤ، وأوجبنا ضد الإيمان، وهو الكفر للوثني. وقد قدمنا أن المعنى إذا أنحصر إلى شيئين فنفيت أحدهما فقد أوجبت الآخر ضرورة فاحفظ هذا وإذا نفيتهما معاً (1) فلم توجب شيئاً أصلاً، وإذا نفيت النفي فقد أوجبت ضرورة وإذا أوجبت النفي فقد نفيت بلا شك. فثقف هذا كله يثلج (2) يقينك بصحة علمك.
7 - باب من البرهان يؤخذ من نتيجة كذب بأن يصدق نفيها
اعلم أنه إذا كانت (3) إحدى المقدمتين كذباً والأخرى صدقاً فأنتجت نتيجة كاذبة ظاهرة الكذب وكانت المقدمة الكاذبة مما رضيها خصمك سامحته في ذلك لتريه فحش إنتاجه (4) ؛ فإن الشيء إذا كذب فنفيه حق لا شك في ذلك (5) ، فإذا كذبت نتيجة ما فنفيها حق. فقد يصح أخذ البرهان على هذا الوجه صحة مطردة موثوقاً بها أبداً. مثال ذلك: إنسان (6) خالفك فقال: العالم أزلي، فقلت له (7) : أنا أسامحك في تقديم هذه المقدمة فأقول: العالم أزلي وأضيف إليها صحيحة أخرى (8) وهي الأزلي ليس مؤلفاً فالنتيجة: العالم ليس مؤلفاً (9) ، وهذا كذب ظاهر وإذا كان هذا كذباً فنقيضه حق، وهو العالم مؤلف، وإذا كان هذا حقاً وقد قدمنا أن الأزلي ليس مؤلفاً فقد صح أن العالم ليس أزلياً إذ هو مؤلف، وظهر كذب مقدمته، إذ قال: العالم
__________
(1) معاً: سقطت من س.
(2) يثلج: ينتج في س (دون إعجام) .
(3) م: كان.
(4) م: فسامحته فيها ... إنتاجها.
(5) في ذلك: سقط من س.
(6) م: كإنسان.
(7) له: سقطت من م.
(8) م: أخرى صحيحة.
(9) م: فالعالم.(4/261)
أزلي. فهذا استدلال صحيح لا [62و] يخون (1) أبداً إذا أخذ مما يخالف النتيجة وترد (2) النتيجة إلى الإحالة.
وتذكر هاهنا (3) ما كتبت لك في أنحاء من الأشكال الثلاثة التي يصح البرهان فيها بردها إلى الإحالة. ومن ذلك أيضاً أن تقول النصارى: الفاعل الأول ثلاثة فتقول: قل بنا الفاعل ثلاثة، ثم نضيف إلى هذه المقدمة مقدمة صحيحة متيقنة وهي: والثلاثة عدد والعدد مركب من أجزائه المساوية لكله، فالثلاثة مركبة من أجزائها المساوية لجميعها، وقد قلتم الأول ثلاثة، فالأول مركب من أجزائه المساوية لجميعه وكله، وقد تيقنتم أنتم ونحن أن الأول غير مركب وغير ذي أجزاء، فالأول مركب ذو أجزاء لا مركب ولا ذو أجزاء، وهذا محال، وإذ هذا محال وصح أنه لا مركب فقد صح أنه ليس عدداً وإذ (4) صح أنه ليس عدداً فقد (5) صح أنه ليس ثلاثة، وظهر كذب مقدمتكم (6) الفاسدة، وبالله تعالى التوفيق.
8 - باب من البرهان مركب من نتائج كثيرة مأخوذة من مقدمات شتى
مثال ذلك أن نقول: كل معدود فذو طرفين وكل ذي طرفين فمتناه فكل معدود متناه؛ ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الأول فنقول: كل معدود متناه وكل متناه فذو أجزاء فالنتيجة: كل معدود فذو أجزاء. ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الثاني فنقول: كل معدود فذو أجزاء وكل ذي أجزاء مؤلف، النتيجة: فكل معدود مؤلف. ثم (7) نأخذ نتيجة هذا البرهان الثالث فنقول كل معدود مؤلف (7) وكل مؤلف فمقارن للتأليف، النتيجة: فكل معدود مقارن للتأليف، ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الرابع فنقول: كل معدود مقارن للتأليف، وكل مقارن للتأليف فلم يسبق التأليف، النتيجة:
__________
(1) م: يخونك.
(2) م: وبرد.
(3) س: هنا.
(4) م: فإذ.
(5) فقد: سقطت من س.
(6) م: مقدمتهم.
(7) سقط من س.
(7) سقط من س.(4/262)
فكل معدود فلم يسبق التأليف، ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان الخامس فنقول: كل معدود لم يسبق التأليف (1) والعالم معدود، [فالنتيجة] : فالعالم لم يسبق التأليف (1) ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان السادس فنقول: العالم (2) لم يسبق التأليف، والتأليف محدث، [النتيجة] : فالعالم لم يسبق المحدث، ثم نأخذ نتيجة هذا البرهان السابع فتقول (2) : العالم لم يسبق المحدث وما لم يسبق المحدث فمحدث مثله، النتيجة: فالعالم محدث.
وقد تأتيك في هذا الباب مقدمات قاطعة وشرطية متصلة ومقسمة، واستدلال بضد ما يخرج في النتيجة، وبالجملة فإنه يتصرف لك في جميع أنواع البرهان، وكل ذلك إذا أخذته على الشروط التي قدمنا فهو موثوق بإنتاجه، والحمد لله رب العالمين (3) .
9 - باب [62ظ] من أحكام القضايا
واعلم أن من القضايا قضايا ينطوي في ذكرك إياها قضايا أخر وإن كنت لم تلفظ بها وهذا المعنى يؤخذ (4) من المتلائمات ومن عكس القضايا وقد ذكرناهما (5) . وهذا نحو قولك: لا يجوز أن يكون الأزلي مؤلفاً، فقد انطوى لنا في هذا الكلام أنه لا يجوز أن يكون المؤلف أزلياً ضرورة لا بد من ذلك، وانطوى فيه (6) أيضاً أن المؤلف محدث. وكذلك إذا قلت: كل مسكر حرام، فقد انطوى فيه أن المسكر ليس حلالاً، وأن الحلال ليس مسكراً، وانطوى فيه أيضاً أن نبيذ التمر إذا أسكر حرام وأن السوكران إذا أسكر حرام، وأن نبيذ التفاح إذا أسكر حرام (7) ، وغير ذلك كثير (8) . وكذلك (9) إذا قلت: زيد يمشي فقد انطوى لك فيه أنه متحرك وأنه ذو رجل سالمة
__________
(1) سقط من س.
(1) سقط من س.
(2) سقط من س.
(2) سقط من س.
(3) والحمد ... العالمين: ولله الحمد في م.
(4) م: يأخذ.
(5) س: ذكرناها.
(6) س: فيها.
(7) وإن السوكران (أصل س: السكيران) ... حرام: سقط من م.
(8) كثير: سقطت من س.
(9) س: كما.(4/263)
وأنه حي وأشياء كثيرة.
ولذلك ظن قوم ذوو شغب وجهل أننا مخطئون في قولنا إن القضية الواحدة لا (1) تنتج ولا (2) تعطيك إلا نفسها فقط، وقال آخرون منهم إن القضية الواحدة تنتج (2) وأبوا ما (3) ذكرنا، وليس ظنهم صحيحاً لأن كل ما ذكرنا ليس إنتاجاً إذ شرط معنى الإنتاج أن نستفيد من اجتماع كلتا القضيتين معنى ليس منطوياً (4) في إحداهما أصلاً فأنت إذا قلت: كل مسكر حرام فليس فيه إيجاب أن نبيذ التمر يسكر ولا بد أصلاً لكن حتى تلفظ به وتصحح له أنه قد يسكر، فإذا حققت (5) له هذه الصفة فحينئذ تقطع له بالتحريم دون شرط، وإلا فإنما هو (6) في قولك كل مسكر حرام بالإمكان إن أسكر لا بالوجوب؛ إذ في العالم أشياء كثيرة لا تسكر فلعله منها فتدبر هذا ودع المسامحة وحقق.
وهذا الذي ذكرنا في هذا الباب من قضايا تفهم منها (7) قضايا لم يلفظ بها إنما هو انطواء فيها فقط (8) ، ومعنى الانطواء أننا أتينا إلى معان كثيرة فعبرنا عنها بلفظ واحداً طلباً للاختصار. وبالجملة فكل قضية (9) فجزئياتها يدخل الإخبار عنها في الإخبار بكليتها كقولك: الإنسان حي فإنك قد أخبرت أن زيداً حي وعمراً حي وخالداً حي (10) وهنداً حية، وبالجملة فكل رجل وامرأة لأنهم أجزاء الإنسان فافهم هذا. وكذلك أيضاً ينطوي (11) في كل قضية إبطال ضدها كقول الله تعالى {أن إبراهيم لأواه حليم} (التوبة:114) فقد (12) انطوى فيه نفي ضد الحلم وهو السفه،
__________
(1) لا: سقطت من س.
(2) سقط من س.
(2) سقط من س.
(3) م: وأتوا بما ذكرنا.
(4) س: مطوياً.
(5) س: جعلت.
(6) هو: سقطت من س.
(7) س: من.
(8) س: الانطواء فقط فيها.
(9) فكل قضية: سقط من س.
(10) س: إن زيداً وعمراً أحياء.
(11) م: ينطوي أيضاً.
(12) م: قد.(4/264)
فقد انطوى فيه ان إبراهيم ليس سفيهاً. وأما الانتاج فخلاف ذلك، وهو ما قد بيناه ولله الحمد.
واعلم أيضاً أنه ليس في كل وقت [63و] يردك الكلام الذي تريد أن تجعله مقدمة على الرتب (1) التي قدمنا لك في أخذ البرهان، لكن تردك الأقوال (2) المخالفة لتلك الرتب على ثلاثة اوجه: فوجه مخالف لكل ما ذكرنا في الرتبة والمعنى فلا تلتفت إليه وحقق الرتبة والصدق على الشروط التي قدمنا لك، فليس يقوم لك من غبر ما قلنا برهان البتة.
ووجه آخر فيه ألفاظ زائدة لا تصلح المعنى ولا تفسده ولو سكت عنها لم تحتج إليها فلا تبال بها، وعان أخذ البرهان من سائر الكلام الصحيح، وتلك الألفاظ الزائدة إنما تعطي معنى ليس من البرهان في شيء، ومن هذا المكان تثبت لنا إقامة الحد بشهادة شاهدين اتفقا على ما يوجب الحد ثم اختلفا في صفات لا معنى لها في الشهادة، والشهادة تامة دونها، كشاهدين شهدا على زيد أنه سرق بقرة فقال أحدهما: صفراء وقال الآخر: سوداء فإنه ليس كونها صفراء أو سوداء مما يعاند (3) سرقته لها ولا ينفيها نعني لا ينفي (4) سرقته لها، والكلام تام دون ذكر شيء من ذلك.
ومن هذا الباب أيضاً نفسه ومن ضده أبطلنا إقرار من أقر بمحال كمن قال: فلان قتلته (5) بسحري لعلمنا أن السحر لا يقتل، فالزيادة التي زاد مفسدة للمعنى فهي مقدمة فاسدة، ولو أقر مرة فقال، قتلته بسيف، وقال مرة أخرى: قتلته برمح لكان إقراراً صحيحاً، لأنه ليس شيء من هذه الزيادات معاندة للقتل فسكوته عنها وذكره لها سواء إذ ليس في ذكرها ما يفسد المقدمة.
ونحو هذا ما يذكره أهل الملل المخالفة لنا من أن للدنيا مذ حدثت سبعة آلاف
__________
(1) س: الترتيب الذي.
(2) م: قد ترد كالأقوال.
(3) س: يغاير.
(4) لا ينفي: سقطت من س.
(5) م: قتلت فلاناً.(4/265)
سنة. وقال (1) آخرون خمسة آلاف سنة (1) . وقال آخرون ستة آلاف سنة (2) . وقال آخرون أربعمائة ألف سنة وقلنا نحن لا حد عندنا في ذلك، وقد يمكن أن تكون أضعاف أضعاف هذه الأعداد كلها، وقد يمكن أن يكون أقل من ذلك، فكل هذه الأقوال ليس بكادح في اتفاقنا على أن للعالم أولاً ومبدأً (3) . وهذه كلها ألفاظ لسنا نقول إنها لا تفسد المبدأ والحدوث (4) فقط، لكنا لا نقتصر على كل (5) ذلك حتى نقول: بل إنها كلها على اختلافها موجبة للحدوث والمبدأ، فلسنا نستضر باختلاف مثل هذه الألفاظ ولا بزيادتها ولا بنقصانها (6) إذا أعطت صحة المعنى المطلوب ولم تفسده.
والوجه الثالث أن يأتي بلفظ (7) قد قام البرهان على وجوب الانقياد إليه (8) فنحتاج إلى أخذه في المقدمات بيننا وبين من خالفنا [63ظ] في بعض الآراء ممن يقر معنا بذلك اللفظ وينقاد له، وفي ذلك اللفظ حذف بين ولفظ قد ترك ذكره ولا (9) يقدر خصمنا على إنكار ذلك ولا يضر ذلك الحذف شيئاً أو هو (10) كما لو ذكر ولا فرق، إذا تيقن كونه قائماً في المعنى، وذلك نحو مقدمة نأخذها من قول الله عز وجل: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء:43) فلا شك عند السامع لهذه الآية، إن كان له أدنى فهم للسان العربي وأقل معرفة بالملة الإسلامية، أن
__________
(1) وقع في م آخراً.
(1) وقع في م آخراً.
(2) وقع هذا بعد الجملة التالية، في م.
(3) كذب من ادعى لمدة الدنيا عدداً معلوماً: عالج ابن حرم هذا الموضوع في الفصل 2: 105 فقال: وأما اختلاف الناس في التاريخ فإن اليهود يقولون للدنيا أربعة آلاف سنة ونيف، والنصارى يقولون: للدنيا خمسة آلاف سنة؛ وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا. وأما من ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل فقد كذب، وقال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح عنه عليه السلام خلافه.
(4) س: والحدث.
(5) كل: سقطت من م.
(6) م: أو نقصها.
(7) م: لفظ.
(8) م: له.
(9) م: لا.
(10) س: وهو.(4/266)
هاهنا (1) معنى به إليه ضرورة قد (2) حذف من اللفظ اكتفاء بأنه لا يخفى ذلك أصلاً وهي " فأحدثتم " ومكان معنى هذه اللفظة بين " سفر " وبين " أو جاء " وكذلك إن احتجنا إلى مقدمة أخرى من قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} (المائدة:89) فلا شك عند أحد (3) من أهل الملة الإسلامية واللغة العربية أن المعنى " فحنثتم ".
وقد يكون الحذف على رتبة أخرى، وهو أن يوجب اللفظ في بنية اللغة ارتباطاً بمعنى لم يذكر ولا بد من تصحيحه كقول القائل: فلان تاب، فلا يحيل (4) على سامع أنه أذنب، وفلان أرتد فلا يحيل على سامع أنه قد كان مسلماً، وهذا المال موزون فلا يحيل على سامع أنه بميزان، ومثل هذا كثير، فمثل هذا الحذف لا يضر الكلام شيئاً، والكلام صحيح، وأخذ المقدمات منه للبرهان واجب وإثبات المعنى للمحذوف (5) فيها لازم، ولا يتعلل في مثل هذا الحذف إلا جاهل غبي أو مكابر سخيف أو منقطع متسلل (6) . وكذلك إذا قلت ضرب زيد بالسيف عمراً فأبان رأسه أنتجت (7) أن زيداً قتل عمراً وهذا إنتاج صادق صحيح (8) وتقديم صحيح ولا يضرك إن حذفت من المقدمة: وكل من أبين رأسه مقتول، وكل من أبان رأس غيره فقد قتله ففلان قتل فلاناً. وكذلك قوله عز وجل: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (البقرة:196) فهذا إنتاج صحيح مكتفى به عن أن نقول سبعة وثلاثة مساوية لعشرة، فتلك عشرة، لصحة العلم بذلك.
فافهم الآن من هذا الباب أن خلاف الرتب التي قدمت لك (9) لا يكون إلا على
__________
(1) س: هنا.
(2) م: وقد.
(3) س: عند من له لسان.
(4) س: يحتل (حيث وقع) .
(5) م: المحذوف.
(6) كذلك هي حيثما وردت في الفصل 2: 180 متسلل عنه.
(7) م: فأنتجت.
(8) م: صحيح صادق.
(9) لك: سقطت من س.(4/267)
ثلاثة أوجه: فساد الرتبة والمعنى فاطرحه، وزيادة في (1) اللفظ فإن كانت تفسد (2) المعنى فاطرحه، وإن كانت (3) لا تفسده فلا تبال بها (3) فلن يضرك، وحذف من اللفظ فإن كان يفسد المعنى فاطرحه وإن كان لا يفسده فلا تبال به [64و] فلن يضرك، وثقف هذا كله فالمنفعة به عظيمة جداً.
واعلم أن الخصم إذا أقر لك بالمقدمتين اللتين على الشروط التي قدمنا من الصحة وأنكر النتيجة فقد تناقض وسقط وبطل قوله، وكذلك إن كانت النتيجة كاذبة على ما قدمنا فوجب عليه تصديق ضدها على ما قدمنا من البرهان الذي يؤخذ من ضد النتيجة الكاذبة التي يسامح الخصم في أخذ (4) المقدمات فيه (5) ، فإن صدق ذلك الضد فقد راجع الحق ولزمه أن يكذب مقدمته الفاسدة، وإن صدق النتيجة ولم يرجع عن تكذيب مقدمته الفاسدة فقد صدق الشيء وضده وهذا (6) محال، ومن أنكر الحق وصدق الباطل أو صدق الشيء وضده (6) أو أنكرهما جميعاً فقد سخف وسقط الكلام معه وبان بطلان قوله، وبالله تعالى التوفيق، وله الأمر من قبل ومن بعد لا إله إلا هو. ولا تغلط فتقدر أن من وافقك في قولك فقد لزمه ما لزمك فهذا جهل ممن أراد إلزام خصمه، أو شغب.
واعلم أن موافقة الخصم للخصم (7) تنقسم قسمين: أحدهما موافقة في النتيجة فقط دون موافقة له في المقدمات المنتجة للنتيجة، فهذا هو الذي قلنا لك أن لا تغتر (8) به إذ إنما وافقك على ذلك لتقديمه مقدمات أخر أنتجت تلك النتيجة إما هي فاسدة وإما مقدماتك فاسدة، فإن هذا وإن أدخلته مقدماته في موافقتك الآن فهي مخرجة له عما قليل إلى مخالفتك. والوجه الثاني أن يوافقك على مقدماتك فهذا الوفاق اللازم
__________
(1) في: من م وحدها.
(2) س: كان يفسد.
(3) س: كان ... به.
(3) س: كان ... به.
(4) س: إحدى.
(5) فيه: سقطت من س.
(6) سقط من س.
(6) سقط من س.
(7) المخصم: سقط من م.
(8) س: تعبر.(4/268)
الذي تقوم به الحجة إن كانت صحاحاً بالجملة أو تقوم به على الخصمين معاً الحجة فقط على كل حال صحاحاً كانت أو غير صحاح لالتزامهما إياها. فإن قال قائل: كيف تختلف المقدمات وتنتج نتيجة واحدة لا سيما وأحد العملين في بعض المقدمات حق والعمل الثاني باطل، فقد صار الحق والباطل ينتجان إنتاجاً واحداً، فليتذكر (1) على ما ذكرناه قبل أن نبدأ بذكر أنحاء الأشكال من أنه قد تكون مقدمات فاسدة (2) تنتج إنتاجاً صحيحاً وبيناها هنالك وما نذكره (3) إثر هذا الباب، فمذكور (4) هنالك تقديم مقدمتين نافيتين فنقول لك (5) : ليس كل إنسان حجراً ولا كل حجر حماراً النتيجة: ليس كل إنسان حماراً. وقلنا هنالك إن هذا تقديم غرار خوان (6) لأنك إذا وثقت به واستسلمت إليه قدم إليك (7) مثلها فقال: ليس كل إنسان أسود وليس كل أسود حياً، النتيجة: ليس كل أسود حياً (8) فهذا تقديم فاسد، قد (9) ينتج إنتاجاً يوافق [64ظ] الإنتاج الصحيح في بعض المواضع، إلا أنك إن اتبعته فكما أدخلك في الحقيقة في مكان فكذلك يخرجك منها في آخر (10) . وقد بينا هذا هنالك وفي الباب الذي يتلو هذا الباب ولم ندع للإشكال إليك سبيلاً.
وكثيراً ما يحتج علينا اليهود بأنا قد وافقناهم على أن دينهم قد كان حقاً وأن نبيهم (11) حق، ويريدون من هاهنا إلزامنا الإقرار به حتى الآن، فاضبط هذا المكان، واعلم أنا إنما وافقناهم على مقدماتهم، وهي (12) مقدمات أنتجت لنا موافقتهم فيما
__________
(1) س: فليذكر.
(2) م: فواسد.
(3) م: نذكر.
(4) م: فمما ذكرنا.
(5) لك: سقطت من م.
(6) م: حوار.
(7) م: لك.
(8) النتيجة ... حياً: سقط من م.
(9) س: وقد.
(10) س: الآخر.
(11) س: ونبيهم.
(12) مقدماتهم وهي: سقطت من م.(4/269)
ذكروا، فأضربوا عن تلك (1) المقدمات واتباعها فيما أنتجت وتعلقوا بالموافقة في النتيجة فقط. فلا تغتر بموافقة في النتيجة أصلاً حتى تصحح المقدمات؛ وإنما صححنا نحن وهم أن من ثبت أنه أتى بمعجزات فهو نبي، وموسى، عليه السلام، أتى بمعجزات، النتيجة (2) : فموسى نبي، وهذه المقدمة نفسها تنتج نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، فنقول: كل من أتى بمعجزات فهو نبي، ومحمد صلى الله عليه وسلم أتى بمعجزات (3) فهو نبي، فاضبط هذا جداً. وقد وافقنا أصحاب القياس في نتائج كثيرة إلا أن مقدماتهم غير مقدماتنا فليس إلزامنا إياهم ولا إلزامهم إيانا رافعاً (4) الشغب بتلك النتائج واجباً لكن حتى نتفق على المقدمات الموجبة لها. فإن شغب مشغب فقال: قد رأينا (5) مقدمات يختلف إنتاجها، وذكر استدلال الخارجي والمرجىء بقول الله عز وجل: {لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} (الليل:15،16) فإن الخارجي قال: قد صحت آثار وآيات بأن القاتل يصلاها ولا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فالقاتل هو الأشقى الذي كذب وتولى. وقال المرجئ: قد صحت آثار (6) وآيات بأن المقر بالتوحيد والإيمان يدخل الجنة، والنار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فالزاني (7) لم يكذب ولا تولى فالزاني لا يصلاها. فأعلم ان هذا من البرهان (8) الذي نبهتك عليه (9) فتذكر عليه، إذ أخبرتك أن من المقدمات المقبولة كلاماً فيه حذف، والحذف في هذه المقدمات التي قدر الجاهل (10) أنها أنتجت إنتاجاً مختلفاً هو شيء قد دل عليه البرهان، وهو أن (11) المراد لا يصلاها صلي خلود
__________
(1) تلك: في س وحدها.
(2) النتيجة: في م وحدها.
(3) س: بمعجزة.
(4) رافعاً: سقطت من م.
(5) س: أبنا لكم.
(6) م: أخبار.
(7) م: والزاني.
(8) م: من الباب من البرهان.
(9) م: له.
(10) م: الجهال.
(11) أن: سقطت من س.(4/270)
وأنها (1) نار بعينها من جملة نار جهنم لا يصلى تلك النار إلا أهل هذه الصفة، وليس في هذا أن كل نار في جهنم لا يصلاها إلا أهل هذه الصفة (1) . وهذا أيضاً مما ينبغي أن تتحفظ منه بأن تستوعب كل ما هو متصل بالمقدمات وإلا فهي مقدمات ناقصة، وليست في (2) هذه الآية وحدها مقبولة عندنا لكن معها (3) آيات [65و] كثيرة وأخبار كثيرة فضمها كلها بعضها إلى بعض (4) ولا تأخذ بعض الكلام دون بعض فتفسد المعاني، وأحذرك من شغب قوم في هذا المكان (5) إذا ناظروا ضبطوا على آية (6) واحدة أو حديث واحد، وهذا سقوط شديد وجهل مفرط إذ ليس ما ضبطوا عليه أولى بان يتخذ مقدمة يرجع إلى إنتاجها من آيات أخر وأحاديث أخر، وهذا تحكم وسفسطة فاحذره أيضاً جداً.
10 - باب أغاليط أوردناها خوفاً من تشغيب مشغب بها في البرهان
وينبغي أن تتحفظ من أغاليط شغب (7) بها مشغبون وقحاء في عكس المقدمات وفي الأشكال، وقد ذكرنا في بعض الأبواب الخالية نبذاً من هذا، فمن ذلك أنا قد قلنا: إن النافية الكلية تنعكس نافية كلية، فإن قال لك قائل: لا فارسي إلا أعجمي، هذا حق، وعكسها لا أعجمي إلا فارسي، كذب. فتنبه لموضع المغالطة، واعلم أن هذه القضية موجبة لا نافية وإن كان ظاهرها النفي، وتذكر ما قلنا لك في الباب المترجم بأنه (8) باب من البرهان شرطي اللفظ قاطع المعنى في الإنتاج من مقدمتين ظاهرهما أنهما نافيتان فإن ذلك يبين لك هذا المكان.
__________
(1) سقط من م.
(1) سقط من م.
(2) في: سقطت من م.
(3) معها: سقطت من س.
(4) س: فنضمها كلها إلى بعضها بعض.
(5) في هذا المكان: سقطت من س.
(6) س: على أنه آية.
(7) شغب: مكررة في س؛ م: تشغب.
(8) س: في هذا ... فإنه.(4/271)
ونزيد هاهنا بياناً فنقول: ألا ترى أنك قد أوجبت العجمة لكل فارسي فهذه موجبة كلية وليست نافية البتة، وإذ هي كذلك فعكسها موجبة جزئية، وهي قولك: وبعض الأعجمين فارسي؛ وكذلك قولك: ليس شيء من الجوهر محمولاً في عرض، فهذه صادقة، فإذا عكست فقلت: ولا شيء من الأعراض محمولاً في الجوهر، فهذا كذب. فتفهم موضع المغالطة في (1) هذا الباب، وهو أن العكس الذي ذكرنا حكمه في النوافي وصححناه إنما هو في نفي اشتباه الذاتين أو في نفي اشتباه جزئيهما ولم نرد نفي اشتباه غيرهما. وهاهنا إنما نفيت اشتباه موضع الجوهر وموضع العرض، وموضعهما غيرهما، وموضع كل شيء فهو غير الشيء الذي في الموضع بلا شك.
وتحفظ أيضاً من المغالطة الواقعة (2) في عكس الموجبة الكلية بأن يقال لك: أليس كل ماض من الزمن قد كان مستقبلاً، فلا بد من نعم، فيقال لك: فبعض المستقبل قد كان ماضياً، وهذا كذب، فتحفظ من موضع المغالطة هاهنا، وهو أنه إنما دخل الكلام (3) الغلط من التسوية بين زمانين هما غير الصفتين اللتين هما المضي والاستقبال، المضي (4) خبر عن شيء كان موجوداً حال المستقبل، لأن المستقبل عدم ولا حال للعدم (4) . ويقتضي لفظ [65ظ] المخبر عنهما اختلافهما لا التسوية بينهما، وتصحيح ذلك أن تقول: بعض المستقبل يصير ماضياً أو قد صار ماضياً وهذا (5) صحيح.
وتحفظ أيضاً من غلط يقع في عكس الموجبة الجزئية. مثاله: بعض الخمر قد كان عصيراً، فإن قلت: بعض العصير قد كان خمراً كذبت. والغلط أيضاً هاهنا من قبل تسويتك بين زماني المخبر عنهما، وزمانهما غيرهما، وإنما يصح العكس في الصفات الملازمة للمخبر عنهما لا في الصفات اللازمة لغيرهما. وتصحيح ذلك أن
__________
(1) س: من.
(2) م: غلط يقع.
(3) الكلام: سقطت من م.
(4) سقط من م.
(4) سقط من م.
(5) م: فهذا.(4/272)
تقول: وبعض العصير صار خمراً أو يصير خمراً؛ فاحفظ الآن أن العكس الصحيح إنما هو في الذوات أو في الصفات الملازمة للذوات.
وقد غالط (1) أيضاً بعض النوكى ممن مذهبه إفساد الحقائق والجري إلى غير غاية وطلب ما لا يدري هو فكيف غيره فقال: إن الشكل الأول قد يكذب فيقول: الفرس وحده صهال، والصهال حي، فالفرس وحده حي. فإنما أتى الغلط هاهنا من زيادة زيدت تفسد المعنى وهي " وحده "، فتذكر ما قلت لك في الباب الذي قبل هذا الباب من حكم اللفظ الزائد في المقدمات فاسدات اللفظ (2) والرتبة؛ فتأمل الألفاظ الزائدة كما حددت لك، وأعلم أن الموصوف في النتيجة ليس مقتضياً لأن تلك الصفة لا تكون إلا له ولا بد، بل قد تعمه وتعم غيره.
ونزيدك بياناً ليقوى تحفظك من تخليط كل (3) من لا يتقي الله عز وجل في السعي في إفساد الحقائق من المدلسين الذين هم أحق بالنكال من المدلسين في النقود والبيوع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من غشنا فليس منا " (4) ولا غش أعظم من غش في إبطال الحقائق فنقول، وبالله تعالى التوفيق: تأمل ضعف هذا المدلس فإنه إذا قطع بأن الفرس وحده صهال، فقد صح بلا شك أن الصهال وحده فرس، لأن الصهيل صفة مساوية للفرس ليست أعم منه وقد نبهناك على هذا في باب عكس القضايا فلما أتى هذا المدلس بقضية توجب أن الصهال وحده فرس قال: والصهال حي، بعد أن شرط انفراد الصهال بالفرسية، وأدرج في قوله الصهال حي أنه الصهال المراد بالذكر في المقدمة الأولى، فأوجب برتبة لفظه أن وصف الصهال بالجياة وصف مساو لا أنه وصف أعم، فصار قائلاً الصهال وحده حي، فهذه المقدمة الثانية مموهة كما ترى، وهي كاذبة لأنها وضعت موضع كذب وشبهت بالحقائق (5) ، فلكذب المقدمة كذبت النتيجة. وقد بينت [26و] لك أن كذب المقدمة الثانية إنما كان لأنه
__________
(1) س: غالط قوم.
(2) م: فأسأت النظم.
(3) كل: سقطت من م.
(4) الحديث في الجامع الصغير 2: 176 وقد أورده الترمذي.
(5) م: بالحق.(4/273)
بناها كلية اللفظ على موصوف جزئي، فتفهم هذا وتحفظ من أهل الرقاعة جداً. وإنما كان الصواب أن يقول في النتيجة فالفرس حي، ولا يذكر " وحده " لأن " وحده " في الحقيقة مع " صهال " خبر عن الفرس، وليس لفظ " وحده " تابعاً للفرس فيذكر في النتيجة، لكنه تابع للصهال - وهو الحد المشترك - ولو ذكره في المقدمة الثانية مع الصهال فقال الفرس وحده صهال، وهو وحده (1) صهال حي، فالفرس حي لأصاب.
ومن ذلك أيضاً لو قال قائل وهو يشير إلى رجل بعينه: الإنسان طبيب، لكان هذا اللفظ عاماً وباطنه الخصوص، فلو حمل عليه وصفاً يجب أن لا يقع إلا على معنى عام لكان كاذباً. وقد سأل بعض المغالطين طبيباً فقال له: الحر يحلل (2) قال له نعم، فقال له: والبرد يحلل (3) قال له نعم، فقال له: فالحر هو البرد والبرد هو الحر؛ فقال له الطبيب: إن وجهي تحليلهما (4) مختلف وليس من أجل اتفاقهما في صفة ما وجب أن يكون كل واحد منهما هو الآخر، فلج المشغب وأبى، فلما رأى الطبيب جنونه وتراقعه (5) قال له: أنت حي قال نعم قال: والكلب حي قال نعم قال: فانت الكلب والكلب أنت.
واعلم أن هاتين الشغيبتين من الشكل الثاني، وقد أسيء (6) في رتبتهما لأن الشرط في الشكل الثاني أن تكون إحدى مقدمتيه نافية ولا بد، فافهم هذا واضبطه فإنه لا يخونك أبداً. ولا تلتفت إلى أهل الشغب فإن مثل (7) هؤلاء إنما يجرون مجرى المضحكين لسخفاء الملوك والملهين (8) لضعفاء المطاعين، وليسوا من أهل الحقائق أصلاً، فلا تعبأ بهم شيئاً.
__________
(1) وهو وحده: الوحدة في م وأصل س.
(2) س: يحلل البرد.
(3) س: يحلل الحر.
(4) س: تحليلها.
(5) س: وترتعه.
(6) س: أساء.
(7) م: فمثل.
(8) م: والمهلكين.(4/274)
وقالوا أيضاً: قد وجدنا (1) موجبتين لا تنتج وهي: ممتنع أن يكون الإنسان حجراً، وممتنع أن يكون الحجر حياً فهاتان صادقتان، النتيجة: ممتنع أن يكون الإنسان حياً، وهذا كذب، فافهم أيضاً موضع المغالطة هاهنا وهي: أن هاتين المقدمتين نافيتان نفياً مجرداً ليس فيه شيء من الإيجاب أصلاً، وقد قلنا إن نافيتين لا تنتج، وقد ذكرنا لك قبل أن المراعى إنما هو حقيقة المعنى المفهوم من اللفظ لا صيغة اللفظ وحدها، وهاتان المقدمتان وإن كانتا بلفظ الإيجاب فمعناها النفي المجرد المحض لأنهما نفتا عن [66ظ] الإنسان الحجرية وعن الحجر الحياة ولم توجبا للحجر ولا للإنسان معنى أصلاً غي ما أوجبه لهما (2) اسماهما فقط.
وقد غالطوا أيضاً فقالوا: كل نهاق حي، ولا واحد من الناس نهاق (3) ، فهاتان صادقتان، النتيجة: فلا واحد من الناس حي، وهو كذب. وإنما أتت المغالطة من أجل أن (4) الصفة التي وصف بها النهاق تعم النهاق وتعم أيضاً معه الشيء الذي نفي عنه النهاق، فهذا سوء نظم. وإنما ينبغي له أن تصفه (5) بما لا يشركه فيه الذي نفى عنه مشاركته جملة في المقدمة الثانية.
ومن هذا الباب أن نقول: ليس كل آخذ مال بغير حقه سارقاً، وكل آخذ مال بغير حقه وهو عالم به فاسق، فهاتان صادقتان، النتيجة: فليس كل آخذ مال بغير حقه وهو عالم به فاسقاً، وهذا كذب، وإنما أتت المغالطة لأنك وصفت آخذ المال بغير حقه في المقدمة الموجبة بصفة تعمه وتعم كل سارق معه، وإنما كان ينبغي أن تصفه بما لا يشترك معه فيه من نفيت عنه (6) في الأخرى مشاركته إياه.
وقد غالطوا أيضاً من قبل إسقاط شيء من الموصوف فقالوا: الشعر غير (7) موجود
__________
(1) م: وجد.
(2) م: له.
(3) زاد في س: حي.
(4) أن: سقطت من س.
(5) س: تشركه.
(6) عنه: سقطت من م.
(7) س: غير شي.(4/275)
في شيء من العظام، والعظام موجودة في كل إنسان فهاتان صادقتان، النتيجة: فالشعر غير موجود في شيء من الإنسان، وهذا كذب، وهذه مغالطة قبيحة، لأن الموضوع وهو المخبر عنه المقصود بالوصف في المقدمة الأولى إنما هي العظام، لأنه عنها نفى الشعر ثم أثبت ذكر العظام في المقدمة الثانية في أن وصف مكانها فقط، وقد قدمنا أن الشبه بالإيجاب لا يكون إلا في ذاتي المخبر عنهما وفي الصفات الملازمة لهما لا في مواضعهما؛ إلا أنك لو صححت لقلت: فالشعر ليس في شيء من عظام الإنسان، وأيضاً فإن قوة هاتين المقدمتين قوة جزئية لأن العظام بعض من أبعاض الإنسان وليست (1) كل الإنسان، والشعر إنما هو في بعض الإنسان (1) لا في كله، وجزئيتان لا تنتج، فتذكر على ما قلنا لك قبل من ان الحد المشترك لا بد من أن يكون مخبراً عنه في إحدى المقدمتين وخبراً في الأخرى أو مخبراً عنه في كلتيهما أو خبراً في كلتيهما. فإن كان مخبراً عنه في الواحدة وخبراً في الثانية فانظر، فإن كانتا موجبتين فلا بد من أن يكون الوصف به لما وصف به ذاتياً عاماً له كله، ويكون أيضاً المخبر عنه معموماً في المقدمة الأخرى بما صار وصفاً له فيها، فإن كانت إحداهما نافية فليكن النفي الذي وصفت به المنفي عنه في إحدى المقدمتين منتفياً في الحقيقة عنه وعن الموصوف في (2) الأخرى بذلك الموصوف في هذه [67و] لأن الشيء الموصوف في إحدى المقدمتين هو صفة في الأخرى، فإن كان موصوفاً به في كلتا المقدمتين فلا بد من أن تكون إحدى المقدمتين نافية، فليكن حينئذ الذي نفيت في الواحدة عاماً لما نفيته عنه ومنتفياً عن الموصوف في الثانية، على حسب ما تنصه (3) فيها. فإن كان موصوفاً في كلتيهما فافعل في الموجبتين ما قلنا لك (4) في الشكل الأول، وافعل في التي إحداهما نافية ما قلنا لك في الشكل الثاني، والله الموفق للصواب.
__________
(1) سقط من س.
(1) سقط من س.
(2) الموصوف في: سقط من س.
(3) س: ينصه.
(4) لك: سقطت من س.(4/276)
11 - باب من أحكام البرهان (1) في الشرائع على الرتب التي (2) قدمنا
الألفاظ الواردة في الشرائع اللازم الانقياد لها بعد ثبوتها التي إليها يرجع فيما اختلف فيه منها، إما قول عام كلي ذو سور، أو ما يجري مجرى ذي السور من المهمل الذي قوته في اللغة قوة ذي السور، أو من الخبر الذي يفهم منه ما يفهم من الأمر، والأمر أيضاً هو على عموم المعنى، إلا حيث نبين (3) بعد هذا إن شاء الله عز وجل. وذلك نحو قوله، عليه السلام، " كل مسكر حرام " فهذا كلي ذو سور، أو كقوله عز وجل: {وأحل الله البيع} (البقرة:275) فهذا مهمل قوته قوة كلي ذي سور، وكقوله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (المائدة: 90) فهذا أمر عام، ومثله قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء: 58) .
ثم هذه الوجوه الثلاثة ينقسم كل واحد منها أربعة أقسام: أحدهما كلي اللفظ كلي المعنى، والثاني جزئي اللفظ جزئي المعنى وهو ما حكم به في بعض النوع دون بعض. وهذا النوع أيضاً فتنبه لما أقول لك هو أيضاً عموم لما اقتضاه لفظة، وهذا النوع والذي قبله معلومان بأنفسهما جاريان على حسب موضوعهما في اللغة لا يحتاجان إلى دليل على أنهما يقتضيان ما يفهم منهما (4) ، ولو احتاجا إلى دليل لما كان ذلك الدليل إلا لفظاً يعبر عن معناه، فما كان يكون هذا (5) المدلول عليه بأفقر إلى دليل من الذي هو عليه دليل، وهذا يقتضي ألا يثبت شيء أبداً، وفي هذا بطلان الحقائق كلها، ووجود أدلة موجودات لا أوائل لها، وهذا محال فاسد، والمعلوم بأول العقل أن اللفظ يفهم (6) منه معناه لا بعض معناه ولا شيء ليس (7) من معناه. ولذلك وضعت اللغات ليفهم من الألفاظ معانيها (8) .
__________
(1) م: البراهين.
(2) م: الذي.
(3) س: يتبين.
(4) س: عنهما.
(5) هذا: سقط من س.
(6) يفهم: سقطت من س.
(7) ليس: لم ترد في س.
(8) س: معناها.(4/277)
والقسم الثالث جزئي اللفظ كلي المعنى، وهو ما جاء اللفظ به في بعض النوع دون بعضه إلا أن ذلك الحكم شامل لسائر ذلك النوع، وهذا لا يعلم [67ظ] من ذلك اللفظ الجزئي لكن من لفظ آخر وارد بنقل حكم هذا الجزئي إلى سائر النوع.
والقسم الرابع كلي اللفظ جزئي المعنى وهو ما جاء بلفظ عام والمراد به بعض ما اقتضاه ذلك اللفظ، إلا أن هذا القسم والذي قبله لا يفهم معنياهما من ألفاظهما أصلاً لكن ببرهان من لفظ آخر أو بديهة عقل أو حس يبين كل ذلك أنه إنما أريد به بعض ما يقتضيه لفظة دون ما يقتضيه (1) ذلك اللفظ. ولولا البرهان الذي ذكرنا لما جاز أصلاً أن ينقل عن موضوعه (2) في اللغة ولا أن يخص به بعض ما هو مسمى به دون سائر كل ما هو مسمى بذلك اللفظ.
فأما النوع الذي هو كلي اللفظ جزئي المعنى فهو كقول الناس في معهود خطابهم " فسد الناس " وإنما المراد بعضهم، وهذا يعلم ببديهة العقل، لأن الناس لا يفسدون كلهم إلا بذهاب الفضائل جملة، والفضائل أجناس وأنواع مرتبة في بنية العالم، ولا سبيل إلى عدم نوع بأسرة جملة حتى لا يوجد في العالم أصلاً. وكقول القائل " الماء للعطشان حياة " إنما يريد بعض المياه، وهذا يعلم بالحس لأن ماء البحور (3) والمياه المرة ليست حياة للعطشان. ومن هذا النحو قول الله عز وجل: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} (آل عمران:173) وهذا معلوم بالعقل أنه تعالى إنما عنى بعض الناس لأنه ممتنع لقاء جميع الناس لهم مخبرين؛ ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة: 6) وإنما المراد به (4) بعض أحوال القيام إلى الصلاة دون بعض، وهي حال كون المرء محدثاً، وهذا إنما علم ببيان آخر. وأعلم أن المراد بهذا اللفظ ما ذكرنا، وهذا مستعمل كثيراً في الكلام، إلا أنه (5) لا بد من برهان يعدله عما وضع عبارة عنه في اللغة، وإلا فهو تحكم من مدعيه وإفساد للبيان الذي يقع به التفاهم. وليت شعري هل إذا لم يكن
__________
(1) لفظه ... يقتضيه: سقط من س.
(2) س: موضعه.
(3) م: البحر.
(4) به: من ذلك في س.
(5) م: لأنه.(4/278)
اللفظ عبارة عن المعنى ولم يكن لكل معنى عبارة (1) معلومة له فكيف يريد أن يصنع المساوي بين هذه الألفاظ الذي لا يحملها على أنها كلية بهيئتها، أو يقول بالتوقف حتى يلوح له المراد، وبأي شيء يريد يفرق بين المعاني بزعمه هل يجد شيئاً غير لفظ آخر وهل ذلك اللفظ الآخر في احتمال التشكك (2) في المراد به في (3) معناه إلا كهذا اللفظ الأول، ولا فرق وهكذا أبداً. ولو صح هذا لبطلت فضيلتنا على البهائم، إذا (4) لم يقع لنا التفاهم بالأسماء الواقعة على المسميات، وينبغي للعاقل أن لا يرضى لنفسه [68و] بكل كلام أداه إلى إبطال التفاهم، فإن ذلك خروج عن ثقاف العقل وهزء بنعم الأول الواحد المتفضل علينا بهذه القوى العظيمة التي بها استحققنا أن يخاطبنا.
ومما خرج بالأدلة الصحاح عن بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه قوله تعالى في آية التحريم (5) : {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (النساء:23) وقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (النور:2) {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً} (المائدة:38) وكثير من مثل هذا، فلولا براهين مقبولة من ألفاظ أخر بينت لنا أن المراد بالتحريم بعض المرضعات والمرضعات، وبعض (6) الزواني والزناة دون بعض، وبعض السراق دون بعض، لوجب حمل هذه الألفاظ على كل ماهو (7) مسمى بها، وإن كان البعض أيضاً من هذه المعاني يقع عليه الأسم الذي يقع على الكل.
وأما اللفظ الجزئي الذي يدخل فيه معنى كلي فقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا} (النساء: 19) في أول آيات من سورة النساء، ثم اتصل الخطاب إلى قوله تعالى {حرمت
__________
(1) م: معهودة.
(2) س: التشكيك.
(3) س: وفي.
(4) س: إذ.
(5) زاد بعده في س: " قوله تعالى " (وهو مكرر) .
(6) وبعض: سقطت من م.
(7) هو: سقطت من م.(4/279)
عليكم أمهاتكم} (النساء:23) الآية، وكل ما ذكر فيها (1) فمحرم على غير الذين آمنوا كتحريمه على الذين آمنوا (2) ولكن ليس بهذا اللفظ لكن بدلائل أخر من ألفاظ أخر (3) أوقعت أيضاً هذا الحكم على غير من سمي في هذا المكان، ولولا تلك الألفاظ الأخر لما دخل في هذا الحكم من ليس مسمى باسم من خوطب به أصلاً. وإنما ذكرنا هذا القسم لئلا يظن جاهل أن هذا الحكم إنما انتقل من هذا اللفظ إلى غير من يقتضيه. فإذا أردت أن تقدم مقدمات من الأنواع التي ذكرنا في أول هذا الباب، وقلنا إن إليها يرجع في ما أختلف فيه، قلت: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، النتيجة: فكل مسكر حرام؛ فهذه قرينة من النحو الأول من الشكل الأول. وإن شئت قلت: كل سارق ما سوى أقل من ربع دينار فعليه قطع يده، وزيد (4) سرق شيئاً ليس أقل من ربع دينار، فزيد عليه قطع يده (4) . وهكذا يفعل في جميع الأوامر وهو أن يخرج الأمر بلفظ خبر كلي يعم ما اقتضاه اللفظ الذي يجب الأئتمار له. واعلم أن اللفظ إن كان من الألفاظ المشتركة كان ذلك جارياً على جميع الأنواع التي اقتضاها ذلك اللفظ، إن قدر على ذلك، حيث ما وجدت مجتمعات أو أفراداً.
وليس لأحد أن يقول: لا أجري الحكم إلا على اجتماع جميع المعاني التي يقتضيها الاسم، لأنه حينئذ يصير مخالفاً لحكم الاسم من حيث قدر أنه موافق له، لن كل بعض منه يقع (68ظ) عليه ذلك الاسم، فإذا لم يجره على ذلك البعض إذا وجده منفرداً فقد منع من إجراء الاسم على عمومه وما يقتضيه، وهذا إبطال موضوع الاسم، فإن كان ذلك ممتنعاً في الطبيعة أو كان لفظاً عاماً إلا أنه لا يقوم منه بيان يفهم أو كان لفظاً يقع على نوع واحد أو صفة واحدة إلا ان عمومها ممتنع في الطبع لا سبيل إليه ولا إلى إخراج شيء محدود منه، أو كان الإتيان بكل الوجوه التي يقتضيها ذلك الاسم غير واجب بحكم الشرع بيقين، لم يلزم منه إلا أقل ما يقتضيه ذلك اللفظ، لأن
__________
(1) س: فيه.
(2) كتحريمه ... آمنوا: سقط من س.
(3) من ألفاظ آخر: سقط من م.
(4) سقط من م.
(4) سقط من م.(4/280)
ما عدا هذا المقدار لا يقدر على استيفائه، والعجز علة مانعة، وغاية في البيان بأن ذلك اللفظ لم يقصد به العموم الذي لا يطاق أصلاً؛ وذلك كقول قائل: ادع لي الناس أطعمهم، فلا سبيل إلى عموم الناس كلهم، فإنما هذا على جماعة يقع عليهم اسم ناس. وكذلك حيث ذكر الله عز وجل المساكين أو الفقراء إذ لا يطاق غير هذا أصلاً، ومن كلف غيره الممتنع فقد خرج عن حد من يكلم.
فمن القسم الذي قلنا إنه يكون لفظاً يعم ذوي صفات شتى قوله عز وجل حيث ذكر المحصنات، فإنه لا يجوز أن يخص بذلك بعض من يقع عليه هذا (1) الاسم دون بعض، ولا يجوز أيضاً أن نمتنع من إجراء الحكم حتى تجتمع جميع الصفات التي كل صفة منها تسمى (2) إحصاناً. لكن إذا وجدت منها صفة واحدة فأكثر وجب لها حكم الاسم المعبر عنها، وهو اسم يقع على العفائف والحرائر والمتزوجات، إلا أن يأتي لفظ مانع من عمومه كل من ذكرنا فيوقف عنده على ما قدمنا. وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} (النساء:22) والنكاح يقع على العقد الصحيح وعلى الوطء صحيحاً كان أو فاسداً، فكل من وطئها الأب بزنا أو غيره حرام على الأبن، فتقول في مقدمة من هذا الباب: كل ما نكح الأب من النساء على الابن حرام، وهند (3) نكحها أبو زيد، فهند على زيد حرام (3) ؛ فالحد المشترك ههنا النكاح والأب، والحدان المقتسمان: أما في المقدمة الكبرى فالنساء والابن والحرام، وأما في الصغرى فزيد وهند وهما الخارجان في النتيجة.
واعلم ما قلت لك إن اللفظ المشترك (4) الواقع على أنواع شتى في (5) عمومه لكل ما تحته من الأنواع، لأنه جنس لها، كاللفظ الواقع على النوع الواحد في عمومه لكل ما تحته (6) من الأشخاص ولا فرق، إلا أن يقوم برهان [69و] كما قدمنا على أن المراد بعض تلك الأنواع لا كلها، وبعض تلك الأشخاص لا كلها، فيؤخذ
__________
(1) م: ذلك.
(2) س: ليس.
(3) سقط من م.
(3) سقط من م.
(4) المشترك: سقطت من س.
(5) في: هو على في س.
(6) لكل ما تحته: سقط من س.(4/281)
به في ذلك المكان خاصة لا حيث وجد ذلك اللفظ. لكنه إن وجد ذلك اللفظ في مكان آخر فهو محمول على عمومه لكل ما تحته أبداً، لأن ذلك البرهان الذي نقله عن عمومه في المكان الأول لم يدل (1) على أنه قد نقل عن موضوعه (2) في اللغة قطعاً، لكنه دل على أن المراد به في هذا المكان خاصة بعض ما يقتضيه موضوعه (2) في اللغة فقط.
وأما قول القائل: فلان لا يظلم في حبة خردل (3) ، فلا يفهم من ذلك عند التحقيق وترك المسامحة إلا ما اقتضاه اللفظ خاصة من أنه لا يظلم في الخردل خاصة، وهذا الذي وضع له اللفظ في اللغة، ولا يفهم من ذلك أنه لا يظلم في الآطام (4) والضياع والدور، لأن الضياع والدور (5) لا تسمى خردلاً أصلاً. لكن إن قال: فلان (6) لا يظلم الناس شيئاً أو قال لا يظلم في شيء فحينئذ يعم بالنفي كل ما وقع عليه اسم ظلم. فإن لم يكن هذا فلأي معنى علقت (7) في اللغة الأسماء على المسميات وثبت في العقول أنه لا بيان إلا بالألفاظ المعبرة عن المعاني التي أوقعت عليها في اللغة، وهذا ما لا يعلم أحد سواه إلا مغالط لنفسه مكابر لحسه، مسامح حيث لا تنبغي المسامحة.
وكذلك قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفً} (الإسراء:23) فإنه لا يفهم من هذا (8) اللفظ إلا منع أفً فقط، وأما القتل والضرب وغير ذلك فلا منع منه في هذا اللفظ أصلاً، لأن كل ذلك لا يسمى " أف " ولا يعبر عنه بأف، ولو أن إنساناً قتل آخر وأخبرنا عنه مخبر وشهد شاهد أنه قال له أف لكان كاذباً وشاهد زور وآتياً كبيرة من الكبائر، بحكم المختار للوسائط (9) بيننا وبين الواحد الأول،
__________
(1) س: يدخل.
(2) س: موضعه.
(2) س: موضعه.
(3) م: خردلة.
(4) م: اللطام.
(5) م: لأن الدور والضياع واللطام.
(6) س: قائل.
(7) س: علقته.
(8) هذا: سقطت من س.
(9) م: للوساطة.(4/282)
صلى الله عليه وسلم، وعز باعثه وجل، إذ قضى أن شهادة الزور من الكبائر، فمن لم يردعه قبح الخروج عن المعقول فليردعه خوف النكال الشديد يوم الجزاء، نعوذ بالله من ذلك. ولو أن حالفاً حلف على القاتل أنه قال للمقتول " أف " لكانت يمينه غموساً، فكيف استجاز من يصف نفسه بالفهم أن يقضي قضاءً يقر به (1) على نفسه أنه كاذب إذا حقق الحكم ولعمري إن كثيراً منهم لأفاضل فهماء أخيار صالحون معظمون باستحقاقهم، ولكن النقص لم يعر منه بشر إلا المعصومين بالقوى الإلهية من الأنبياء عليهم السلام [69ظ] خاصة، وزلة العالم مؤذية جداً ولو لم تعده إلى غيره لقل ضررها، لكن لما قال الله عز وجل {وبالوالدين إحساناً} اقتضت هذه اللفظة إتيان كل ما يسمى إحساتاً، ودفع كل ما يسمى إساءة، لأن الإساءة ضد الإحسان، والإحسان واجب فالإساءة ممنوعة، لأن قولك: أحسن إلى فلان يقوم مقام قولك (2) لا تسيء إليه، وذلك معنى مقتضاه فقط (3) وزائد معنى هو أيضاً شيء هو غير ترك الإساءة فقط (4) . وأما قولك: لا تسيء إليه (5) ، فليس فيه الإحسان إليه، وكذلك إذا قلت: لا تحسن إليه، فليس فيه أن تسيء إليه أصلاً، لأن هذا من الأضداد التي بينها وسائط، والوسيطة (6) هاهنا التي (7) بين الإساءة والإحسان: المتاركة. وأما إذا قلت أسيء إلى فلان ففيه رفع الإحسان عنه (8) لأن الضد يدفع الضد، إذا وقع أحدهما بطل الآخر. فتدبر هذه المعاني تستضيء في جميع مطلوباتك بالنور الذي منحك خالقك تعالى وقرب به شبهك من الملائكة وأبانك عن البهائم، وإلا كنت كخابط عشواء حيران لا تدري ما تقدم عليه بالحقيقة ولا ماتترك باليقين، لكن بالجسر (9) والهجم اللذين لعلهما يوردانك (10) المتالف ويقذفانك في المهالك، هدانا الله وإياك
__________
(1) م: فيه.
(2) م: ملائم لقولك.
(3) وذلك ... فقط: لم يرد في م.
(4) وزائد ... فقط: سقط من س.
(5) م: إلى فلان.
(6) م: والوسيلة.
(7) س: هي التي.
(8) م: إليه.
(9) س: بالحس.
(10) م: يردان بك.(4/283)
بمنه.
وإذا وصلت إلى هذا الفصل فقف عنده وارم بفكرك (1) إلى ما تكلمنا لك فيه آنفاً من المتلائمات التي عبرنا عنها بعبارات لعل بعض (2) أهل الغفلة الذين نرغب من صلاحهم أكثر مما يرغبون من صلاح أنفسهم يقول عند نظره فيها: لقد تعنى هذا المؤلف في شيء يساوبه في المعرفة به كل أحد، فليعلم أننا إنما ننظر المعاني بألفاظ متفق عليها لتكون قاضية على ما يغمض فهمه مما ليس من نوعها (3) ، فهاهنا يلوح لك فضل كلامنا آنفاً في المتلائمات وترتاح لفهمه جداً.
وإذ قد قدمنا في أول كتابنا أنه لا سبيل إلى معرفة حقائق الأشياء إلا بتوسط اللفظ فلا سبيل إلى نقل موجب العقل عن موضعه من كون الأشياء على مراتبها التي رتبها عليها بارئها جل وعز، ولا سبيل إلى نقل مقتضى اللفظ عن موضعه الذي رتب للعبارة عنه، وإلا ركبت الباطل وتركت الحق وجميع الدلائل تبطل نقل اللفظ عن موضوعه في اللغة ولا دليل يصححه أصلاً.
فإن قال قائل: قد وجدنا لفظاً منقولاً، قيل له: ذلك الذي وجدت قد تبين (4) لنا أنه هو موضوعه في ذلك المكان ولم تجد ذلك فيما تريد (5) إلحاقه به بلا دليل، وليس كل مسمى (6) وجدته منقولاً عن رتبته بدليل موجباً (7) أن تنقله أنت إلى غيره (8) برأيك بلا دليل، فإن كان حكمك في إيجاب نقل ما لم تجد دليلاً ينقله لأنك قد وجدت لفظاً آخر [70و] منقولاً حكماً صحيحاً، فقد وجدت أيضاً في
__________
(1) س: تفكرك.
(2) بعض: سقطت من س.
(3) م وأصل س: فهمه من نوعها.
(4) م: بين.
(5) س: نجد ... نريد.
(6) م: شيء.
(7) م: بموجب.
(8) م: أن تنقل أنت غيره.(4/284)
الأوامر منسوخاً كثيراً بدليل صحيح، فاحكم على كل أمر بأنه منسوخ لأنك قد وجدت أموراً كثيرة منسوخة، وقد وجدت أيضاً في كلام الناس كذباً كثيراً (1) فاحكم على كل كلام بأنه كذب لأنك وجدت كذباً كثيراً (1) وهذا هو إبطال الحقائق فارغب عنه كما ينبغي، وبالله تعالى التوفيق.
12 - باب أقسام المعارف وهي العلوم
اعلم ان معرفة كل عارف منا بما يعرفه، وهو علمه بما يعلم، ينقسم قسمين: أحدهما أول والثاني تال، فالأول ينقسم قسمين:
أحدهما ما عرفه الإنسان بفطرته وموجب خلقته المفضلة بالنطق الذي هو التمييز والتصرف والفرق بين المشاهدات، فعرف هذا الباب بأول عقله، مثل معرفته أن الكل أكثر من الجزء، وأن من لم يولد قبلك فليس أكبر منك، ومن لم تتقدمه فلم توجد (2) قبله، وأن نصفي العدد مساويان لجميعه، وأن كون الجسم الواحد في مكانين مختلفين في وقت واحد محال، وأن كل شيء صدق في نفيه فإثباته كذب، وإن كذب في نفيه فإثباته حق، وأن الحق لا يكون في الشيء وضده، وأن كل أقسام أخرجها العقل بكليتها تامة إخراجاً صحيحاً ولم يكن بد من أحدها فكذبت كلها حاشا واحداً أن ذلك الواحد حق وضرورة.
والقسم (3) الثاني من هذا القسم الأول هو ما عرفه الإنسان بحسه المؤدي إلى النفس بتوسط العقل كمعرفته أن النار حارة، والثلج (4) بارد، والصبر مر، والتمر حلو، والثلج الجديد أبيض، والقار أسود، وأن جلد القنفذ (5) خشن والحرير لين وأن صوت الرعد أشد من صوت الدجاجة وما أشبه ذلك. وهذان القسمان (6) فلا
__________
(1) سقط من س.
(1) سقط من س.
(2) فلم توجد: ليس في س.
(3) س: فالقسم.
(4) س: وأن الثلج.
(5) س: القندفد.
(6) القسمان: سقطت من س.(4/285)
يدري أحد كيف وقعت له صحة معرفته (1) بذلك ولا كان بين أول أوقات فهمه وتمييزه وعود (2) نفسه إلى ابتداء ذكرها وبين معرفته بصحة ما ذكرنا زمان أصلاً، لا طويل ولا قصير ولا قليل ولا كثير ولا مهلة البتة (3) ، وإنما هو فعل الله عز وجل في النفس، وهي مضطرة إلى فعل (4) ذلك ضرورة ولا تجد عنها محيداً البتة، وليس ذلك في بعض النفوس دون بعض بل في نفس كل ذي تمييز لم تصبه آفة. وكل نفس تعلم أن سائر النفوس تعلم ذلك ضرورة. فلو أن إنساناً رام أن يوهم نفسه خلاف ما ذكرنا لما قدر، فإن قدر على ذلك يوماً ما فليعلم أن بعقله آفة شديدة لا يجوز غير ذلك.
وفي القسم الثاني من هذين القسمين تدخل صحة المعرفة بما صححه (5) النقل عند المخبر تحقيق ضرورة، كعلمنا أن الفيل موجود ولم نره، [70ظ] وأن مصر ومكة في الدنيا، وأنه قد كان موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وقد كان (6) أرسطاطاليس وجالينوس موجودين، وكواقعة صفين والجمل وككون أهل القسطنطينية (7) مملكين لملك الروم النصراني (8) ، وأن النصرانية دينهم الغالب عندهم وكالأخبار تتظاهر عندنا كل يوم مما لا يجد المرء للشك فيه مساغاً عنده أصلاً، وكذلك أن (9) في رأس الإنسان دماغاً وفي بطنه مصراناً (10) وفي جوفه قلباً وفي عروقه دماً، وإنما يرجع في ذلك إلى قول (11) المشرحين وقول من رأى رؤوس القتلى مشدوخة وأجوافهم
__________
(1) س: معرفة.
(2) م: وعوده.
(3) البتة: سقطت من س.
(4) م: معرفة.
(5) م: حققه.
(6) م: وكان.
(7) م: قسطنطينية.
(8) س: والنصارى؛ م: للملك الرومي.
(9) أن: سقطت من س.
(10) م: مصيراً.
(11) وإنما يرجع ... قول: هذه أقوال في م.(4/286)
مخروقة، فصح ذلك أيضاً (1) صحة ضرورية، وهذان القسمان لا يجوز أن يطلب على صحتهما دليل ولا يكلف ذلك غيره إلا عديم عقل وافر (2) جهل أو مشتبه بهما، فهو أقل عذراً (3) . بل من هذين القسمين تقوم الدلائل كلها وإليهما (4) ترجع جميع البراهين وإن بعدت طرقها (5) على ما قدمنا لك من (6) إنتاج نتائج عن مقدمات تؤخذ تلك المقدمات أيضاً من (6) نتائج مأخوذة من مقدمات وهكذا أبداً، وإن كثرت القرائن والنتائج واختلفت أنواعها، حتى تقف راجعاً عند هذين العلمين الموهوبين بمن الأول الواحد وتطوله (7) وإفاضة فضله علينا دون استحقاق منا لذلك، إذ لم يتقدم منا فعل يوجب أن يعطينا هذه العطية العظيمة التي أوجدنا بها السبيل إلى التشبه (8) بالملائكة الذين هم أفضل خلق خلق والذين أفاض عليهم الفضائل إفاضة عامة (9) تامة نزههم بها عن كل نقص قل أو جل (10) . وبهذه السبيل التي ذكرنا عرفنا أن لنا خالقاً واحداً أولاً (11) حقاً لم يزل، وأن ما عداه محدث كثير مخلوق لم يكن ثم كان، وبها عرفنا صدق المرسلين الداعين إليه تعالى وصحة بعث محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة. ولولا العقل والبراهين المذكورة ما عرفنا صحة شيء من كل ما ذكرنا كما لا يعرفه (12) المجنون. فمن كذب شهادة العقل والتمييز فقد كذب كل ما أوجبت، وأنتج له ذلك تكذيب الربوبية والتوحيد والنبوة
__________
(1) أيضاً: سقطت من م.
(2) س: ووافر.
(3) س: فهم أقل عدداً.
(4) س: وإليه.
(5) س: بعد طرفها.
(6) سقط من س.
(6) سقط من س.
(7) س: وبطوله.
(8) س: النسبة.
(9) عامة: سقطت من س.
(10) س: نقص أو حل.
(11) تكررت لفظة " خالقاً " بعد " أولاً " في س.
(12) م وأصل س: يعلمه.(4/287)
والشرائع. فإما يدخل في ذلك وإما يتناقض تناقض المجنون (1) بلسانه، نعوذ بالله من الخذلان.
وبقدر قرب (2) هذه النتائج من هذه المعارف الأوائل يسهل بيانها، وبقدر بعدها يتعذر (3) بيانها، إلا أن كل ما صح من هذه الطرائق (4) من قريب أو من بعيد فمستو في أنه حق استواءً واحداً وإن كان بعضه أغمض من بعض (5) . ولا يجوز أن يكون حق أحق من حق آخر، ولا باطل أبطل من باطل آخر، إذ ما ثبت ووجد فقد ثبت ووجد، وما بطل فقد بطل، وما خرج عن يقين الوجود والثبوت ولم يدخل [71و] في يقين البطلان فهو مشكوك فيه عند الشاك، وهو في ذاته بعد إما حق وإما باطل لا يجوز غير ذلك، ولا يبطله إن كان حقاً جهل من جهله أو تشكك من تشكك فيه، كما لا يحق الباطل غلط من توهمه حقاً أو تشكك من تشكك فيه، فهذا جملة الكلام في القسم الأول.
وأما الثاني فهو الذي ذكرت لك آنفاً أنه يعرف بالمقدمات المنتجة على الصفات التي حددنا من أنها راجعة إلى العقل والحس إما من قرب وإما من بعد، وفي هذا القسم تدخل صحة العلم بالتوحيد والربوبية والأزلية والاختراع والنبوة وما أتت به من الشرائع والأحكام والعبادات، على ما قدمنا في سائر كتبنا، لأنه إذا صح التوحيد وصحت النبوة وصح وجوب الائتمار لها وصحت الأوامر والنواهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب اعتقاد صحتها والائتمار لها. وفي هذا القسم أيضاً تدخل صحة الكلام (6) في الطبيعيات وفي قوانين الطب ووجوه المعاناة والقوى والمزاج وأكثر مراتب العدد والهندسة.
واعلم أنه لا يعلم شيء أصلاً بوجه من الوجوه من غير هذين الطريقين، فمن لم يصل منهما فهو مقلد مدع علماً (7) وليس عالماً، وإن وافق اعتقاده الحق، لكنه
__________
(1) م: المخبول.
(2) قرب: سقطت من س.
(3) س: يبعد.
(4) من هذه الطرائق: بهذه الطريق في م.
(5) من بعض: سقطت من س.
(6) س: يدخل الكلام.
(7) م: مدعي علم.(4/288)
هاهنا مبخوت، وسلامة الغرر قد (1) وجدنا أهل الحزم لا يحمدونها، وانتظار وجود اللقطة وترك الطلب والاكتساب خلق ذميم مرذول ساقط (2) جداً، وفي هذا المقلد مشابه (3) قوية ومناسبة صحيحة لمن هذه صفته، بل المقلد أسوأ حالاً لأن تضييعه أقبح وأوخم عاقبة. إلا أن توجب الشريعة أن يسمى عالماً وإن لم يعلم ذلك ببرهان فيوقف عند ما أوجبته الشريعة في ذلك (4) . إلا أن هاهنا وجهاً ينبغي لك استعماله في المناظرة خاصة على سبيل كف شغب الخصم الجاهل وليس مما يصح به قول ولا يلزم في الحقيقة أحداً ولا يثبت به برهان، وهو أن قوماً قد اعتادوا عادة (5) سوء أفسدت فضيلة التمييز فيهم بالجملة، وذلك أنهم لا يلتفتون إلى البرهان وإن أقروا أنه برهان وقد ألفوا الإقناع والشغب إلفاً شديداً، وهم (6) ينقدعون إذا عورضوا به، فهؤلاء إن عارضتهم ببرهان (7) لم ينجع فيهم، وربما آذوك بألسنتهم، وإن عارضتهم بإقناع ذلوا له ذلة اليتيم (8) وكفوك شرهم واشتد خزيهم (9) وغيظهم وربما أثر ذلك في بعضهم؛ فأذكرني أمر هذه الطائفة على كثرتهم في الناس ما قاله بعض قدماء الأطباء: إن ذا الطبع الشديد الذي لا تخدره (10) الأدوية القوية [71ظ] فإن قرص بنفسج يخدره. ومثال ذلك أقوام تراهم (11) إذا نصرت عندهم القول الصحيح بالمقدمات الصحاح التي هي منصوصة في القرآن والحديث الذي يقرون بصحته لم يؤثر ذلك فيهم أصلاً، وكذلك لو وقفتهم عليه حساً وعقلاً، حتى إذا قلت لهم فلان يقول هذا القول وذكرت لهم رجلاً من عرض الناس موسوماً بخير انقادوا له
__________
(1) قد: سقطت من م.
(2) م: ساقط مرذول.
(3) س: مشابهة.
(4) إلا أن توجب ... ذلك: سقط من م.
(5) م: عادات.
(6) إلفاً شديدياً وهم: بدا لهم في س (دون إعجام الباء) .
(7) ببرهان: سقطت من س.
(8) م: اللئيم.
(9) م: حزنهم.
(10) م: تحدره ... يحدره (مع علامة إهمال الحاء) ؛ وكذلك في س (دون علامة) .
(11) م: أقوام كثير.(4/289)
وتوقفوا جداً وسهل جانبهم، ولا سيما إن ذكرت لهم جماعة يقولون بذلك فقد كفيت التعب معهم، فمثل هؤلاء ينبغي أن يردعوا بما يؤثر فيهم، فالطبيب الحاذق لا يعطي الدواء إلا على قدر احتمال بنية المتداوي (1) ، ومداواة النفوس أولى بالتلطف لإصلاحها من مداواة الأجسام.
وأما ما طلب بتقديم (2) المقدمات فإما أن يطلب على وجهه الذي وصفنا (3) فيكون الطالب على يقين وثلج، وإما أن يتفق هو وخصمه على مقدمات لم تثبت بالعمل الذي قدمنا لكن بتراض منهما؛ وهذا ينقسم قسمين: أحدهما أن يوفقا لمقدمات (4) حق فيدخلان في القسم الذي قدمنا ببختهما لا ببحثهما وبجدهما لا بحدهما (5) ، وبحظهما لا بتفتيشهما؛ والثاني أن يتفقا على مقدمة فاسدة أو مقدمتين كذلك (6) ، وهذا ينقسم قسمين: أحدهما أن يتراضيا على ذلك معاً فهما ظالمان لأنفسهما، وما أنتجت تلك البلايا التي التطخا فيها فلازم لهما في قوانين المناظرة لا في الحقيقة، والحقيقة باقية بحسبها لا يضرها تراضي الجهال بالباطل، وذلك كثير جداً في الملل والآراء الطبيعية والنحل والفتيا (7) كاتفاق المنانية على قدم الأصلين والنصارى على التثليث وقوم من المعتزلة على أن أشياء في العالم محدثة غير مخلوقة، وهذا نسميه نحن " عكس الخطأ على الخطأ " ومما حضرنا من ذلك على كثرته رد إخواننا الحكم في جنين الأمة على خطائهم في تقويم الغرة في جنين الحرة.
والقسم الثاني أن يوافق الخصم العالم المحق خصمه على مقدمة فاسدة يقدمها لا راض (8) بها ولكن (9) ليريه فساد إنتاجها وأنها تؤديه إلى محال أو إلى فساد
__________
(1) م: المداوى.
(2) س: وأما طلب تقديم.
(3) س: وضعه.
(4) س: أن توفق المقدمات.
(5) س: وبحدهما لا يجدهما.
(6) س: فذلك.
(7) والفتيا: من م وحدها.
(8) م: رضى.
(9) م: لكن.(4/290)
أصله (1) . واعلم أن هذا الحكم ينبغي أن يلزم الراضي به إن يلزم الراضي به إن التزمه وليس يلزم المسامح (2) فيها بشرط تبيين (3) فسادها كالذي ألزم أذرباذ بن مارا كسفند (4) الموبذماني بن حماني (5) في نفس قوله تحسين قتله وهو ضد ما حقق ماني أولاً (6) .
وكثيراً ما نلزم نحن في الشرائع أهل القياس المتحكمين أشياء من مقدماتهم تقودهم (7) إلى التناقض أو إلى ما لا يلتزمونه، فيلوح بذلك فساد [72و] مقالتهم كالذي قدمه عظيم من (8) أسلافنا (9) نحبه لفضله، ولكن الحق أحب إلينا منه وأفضل، فإنه قال: من بلغ الحلم من رجل أو امرأة ولم يعلم الله عز وجل في أول أوقات (10) بلوغه بجميع صفاته علم استدلال ونظر وبحث فهو كافر حلال دمه وماله (11) ؛ ونحن نقسم بالله خالقنا قسماً لا نستثني فيه أن هذا الرئيس قد أنتج حكمه هذا عليه أن يكون كافراً حلال الدم والمال؛ ونعيد القسم بالله تعالى ثانية أنه ما دخل قبره إلا جاهلاً بتمام صحة ما ضيق في علمه هذا التضييق، على أنه قد تجاوز في عمره خمسة وثمانين عاماً، يرحمنا الله وإياه ويغفر لنا وله. ولولا أن مقدمته هذه فاسدة
__________
(1) س: أصل.
(2) س: المتسامح.
(3) س: تبين.
(4) س: مارا سعيد؛ م: مارسفند، والتصحيح عن الفصل.
(5) م: خماني. وفي الشهرستاني 2: 81 أنه ماني بن فاتك.
(6) يشير ابن حزم إلى مناظرة جرت بين ماني والموبذ في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم. قال الموبذ: أنت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ورجوع كل شكل إلى شكله، وأن ذلك حق واجب فقال له ماني: واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج. فقال له اذرباذ: فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم. فانقطع ماني، فأمر بهرام بقتل ماني. (الفصل 1: 36) .
(7) س: يفودهم.
(8) من: سقطت من س.
(9) يعني محمد بن جرير الطبري؛ وقد وضح ابن حزم في الفصل (4: 35) : أن محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني ذهبوا إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل، وإلا فليس مسلماً، وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال، وقال: إنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على ذلك.
(10) أوقات: سقطت من س.
(11) وما له: سقطت من س.(4/291)
لوجب عليه ما أوجب على من هو محدود بحده ومرسوم برسمه، ولكنها ولله الحمد قضية باطل فلا يجب ما أنتجت لا عليه ولا على غيره، وقد ذكرنا هذا الباب في النوع الخامس من البرهان.
واعلم أن من وافقنا في هذه الأوائل ثم كذب موجباتها أو خالفنا في هذه الأوائل فلم يثبتها تركناه وكنا إن كلمناه كمن كلم السكران، إلا في حالين: أحدهما أن يضطرنا (1) إلى الكلام معه خوف أذى (2) ما إن تركنا الكلام معه. والثانية الرجاء في أوبته وأوبة غيره من حاضر أو غائب يبلغه كلامنا، أو تثبت حاضر أو غائب يبلغه كلامنا، فأي ذلك كان فواجب علينا الكلام حينئذ بما نرجو به (3) المنفعة إما لأنفسنا وإما لمن يلزمنا تبصيره من أهل نوعنا، فقد قال الأول الواحد الخالق خالق الصدق والآمر به في عهوده إلينا: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135) وقال تعالى أيضاً (4) : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النمل:125) وقال لنا رسوله المتوسط بيننا وبينه تعالى، صلى الله عليه وسلم، في وصاياه لنا " لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً أحب إليك من حمر النعم " (5) . حتى إذا ارتفع خوفنا أو رجاؤنا لزمنا حينئذ أن نفعل ما أمرنا به الواحد الأول عز وجل في عهوده إلينا إذ يقول (6) {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة:105) فنقول لمن لزمنا أن نقول له من هذه الطائفة، ولعمري إنهم لكثير كما وصف الواحد الأول تعالى إذ يقول مخبراً لنا عمن تاه في الأباطيل: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} (الكهف:104) وقال تعالى أيضاً (7) {أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} (الأعراف:195) فنقول لمن هذه صفته: إن كنتم
__________
(1) س: يضطر.
(2) س: إذا.
(3) س: له.
(4) أيضاً: سقطت من س.
(5) الحديث في الجامع الصغير 2: 122 وروايته: " خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ".
(6) إذ يقول: في م وحدها.
(7) أيضاً: سقطت من س.(4/292)
تنكرون الحقائق [72ظ] وما شهد به الحس والعقل وأدياه إلى النفس ولا (1) تستحيون من قبيح هذه الصفة فدعوا التعب في أكل الطعام والسعي فيه وانتظروا كما أنتم واخرجوا أفذاذاً إلى مضارب العدو من أطراف الثغور والشعاري الموحشة رافلين في ثيابكم وابقوا هنالك (2) مطمئنين ظاهرين حتى تروا صحة ما نحدثكم به مما تشهد (3) النفس أنه يحل بكم، واقذفوا بأنفسكم على أمهات رؤوسكم من أعلى المنار وزموا (4) السكاكين الحادة (5) على لحومكم ثم جروا أيديكم بها، فإن امتنعوا من كل هذا فقد حققوا الأوائل الدالة على عواقب الأمور، وإن تمادوا أعرضنا عنهم وانصرفنا (6) إلى ما هو أجدى علينا وأولى بنا مما نرجو به التقرب من خالقنا يوم جمعنا للقضاء في عالم الجزاء، نسأله ضارعين أن يمن (7) علينا وأن يثبتنا في عداد العقلاء الأبرار في هذه الدار وأن يدخلنا في عداد الفائزين هنالك، ونعوذ به من ضد ما سألناه آمين.
وأتم من هؤلاء الذين ذكرنا رقاعة وأوقح وجوهاً المدعون للإلهام، وما يعجز صفيق الوجه عن (8) أن يدعي أنه ألهم بطلان قولهم بلا دليل، ومثل هؤلاء يرحمون لذهابهم عن الحق، وبالله تعالى نستعين.
وقد شغب منهم (9) قوم فقالوا: بأي شيء ثبتت عندكم صحة (10) هذه الأمور التي صحت بالعقل وبماذا علمتم صحة العقل وهذا فساد في القول وقد قلنا إن صحة
__________
(1) س: فلا.
(2) س: هناك.
(3) مما تشهد: تستبين في س.
(4) س: وارمو.
(5) س: والحجارة.
(6) وانصرفنا: سقطت من س.
(7) م: يمتن.
(8) عن: لم ترد في س.
(9) منهم: سقطت من س.
(10) صحة: من م وحدها.(4/293)
ذلك ثابتة ضرورة في النفس لا بدليل (1) دل على صحة ذلك أصلاً. وكفانا ما عارضناهم به إن أنصفوا أنفسهم وإلا فلا كلام لنا مع من أقر أنه لا يصحح العقل وأنه لا عقل له.
13 - باب ذكر أشياء تلتبس على قوم في طريق البرهان
واعلم أن قوماً قدروا أن (2) البرهان يقوم مما ذكرنا في باب الإضافة من كون أحد الشيئين يقتضي الآخر فلم يفرقوا بين الواجب من ذلك وغير الواجب (3) ، ونحن نفرق إن شاء الله عز وجل بين الصحيح من ذلك والفاسد فنقول، وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد (4) : إن هذا شيء (5) يسميه المتقدمون " برهان الدور "، مثال ذلك: أن يقول القائل: الدليل على أن كون القصد في الأمور موجود أن الإفراط موجود. فيقال له: وما الدليل على أن كون الإفراط موجود فيقول: لما كان القصد موجوداً وجب أن الإفراط موجود، فقام من هذا الكلام: لما كان الإفراط موجوداً كان الإفراط موجوداً، وهذا فساد (6) في الرتبة، وهو أن يستشهد على الشيء بنفسه، وإنما الصواب [73و] أن يستشهد على مجهول (7) بمتيقن، فإذا كان الشيء مجهولاً فليس متيقناً عند الذي هو عنده مجهول، وأنت هاهنا (8) تروم أن تبين المجهول (9) بنفسه التي هي ذلك المجهول بعينه. وإذا كان الشيء متيقناً فالمتيقن لا يحتاج فيه إلى برهان، فهذا الاستدلال (10) فاسد كما ترى. وكل شيء فإما معلوم وإما مجهول، فالمعلوم يصحح غيره من المجهولات، والمجهول يصحح بغيره من المعلومات، وكون كل واحد من المضافين مقتضياً وجود صاحبه أمر معلوم بأول العقل، فطلب الاستدلال
__________
(1) س: بلا دليل.
(2) أن: سقطت من م.
(3) وغير الواجب: وغير في س.
(4) م: وبالله تعالى نتأيد.
(5) س: الشيء.
(6) فساد: باطل فاسد في س.
(7) وإنما الصواب ... مجهول: سقط من م.
(8) ها هنا: وقعت بعد " تبين " في س.
(9) المجهول: سقطت من س.
(10) س: استدلال.(4/294)
عليه خطأ. وأما الخطأ في بيان المجهول بالمجهول فكنحو إنسان قال لآخر (1) : ما صفة الفيل فيقول له (2) : صفة الخنزير، والسائل لا يعرف صفة الخنزير فيقول له وما صفة الخنزير فيقول له (2) : صفة الفيل. فهذا فساد شديد وهو راجع إلى أن صفة الفيل هي (3) صفة الفيل. ويدخل في هذا الخبال من رام أن يثبت القياس بالقياس والخبر بالخبر وما أشبه ذلك.
وأما كون الشيء مستدلاً به على بطلانه فلا يجوز ذلك أيضاً إلا من وجه واحد، وهو أن يكون مؤدياً إلى فساد أو تناقض فالعقل أبطله حينئذ وليس (4) هو أبطل نفسه ولو صحح (5) إبطاله لنفسه لكان صحيحاً، ولو كان صحيحاً لم يكن باطلاً، وقد قدمنا أن صحة موجب العقل لم يعلم لها سبب أكثر من ثباتها في النفس ضرورة لا محيد عنها، ولم يثبت العقل بالعقل لكن بالضرورة التي لا وقت للتمييز بتقدمها (6) البتة. وقد يدخل (7) أيضاً في الاستدلال شيء (8) يسمى " الاستدلال بالمعلول على العلة " كمن أراد أن يقيم البرهان على وجود النار بالدخان الذي هو متولد عن النار وعن فعلها، والعلة أظهر في العقول من المعلول، إلا أنه إذا كان السائل جاهلاً بكون العلة علة، وكان عالماً بأن المعلول متولد عن العلة فواجب حينئذ أن يحقق عنده أن هذا الشيء علة لهذا الآخر بارتباط المعلول بها وكونه موجوداأ بوجودها. ولو أن أمرأ رأى دخاناً على بعد فقال: في ذلك المكان نار ولا بد لأني أرى هنالك دخاناً قد سطع، لكان مستدلاً بحقيقة الاستدلال. وهذا لم يستدل على أن كلية النار موجودة من أجل الدخان لكن علم أن المعلول لا يوجد إلا وعلته موجودة، فلما رأى الدخان وهو المعلول علم أن العلة هناك وهي النار، وبالله تعالى التوفيق [73ظ] .
__________
(1) آخر: له إنسان في س.
(2) له: سقطت من م.
(2) له: سقطت من م.
(3) هي: سقطت من س.
(4) س: فليس.
(5) م: صح.
(6) س: لاقت التمييز التي بتقدمها.
(7) م: يذم.
(8) س: شيئاً.(4/295)
14 - باب ذكر أشياء عدها قوم براهين وهي فاسدة وبيان خطأ من عدها برهاناً
فمن ذلك شيء سماه الأوائل " الاستقراء " وسماه أهل ملتنا " القياس " فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن معنى هذا اللفظ هو أن تتبع بفكرك أشياء موجودات يجمعها نوع واحد أو جنس واحد، أو يحكم فيها بحكم واحد، فتجد في كل شخص من أشخاص ذلك النوع أو في كل نوع من أنواع ذلك الجنس صفة قد لازمت كل شخص مما تحت النوع أو كل نوع تحت الجنس أو كل واحد من المحكوم فيهم، إلا أنه ليس وجود تلك الصفة مما يقتضي العقل وجودها في كل ما وجدت فيه، ولا تقتضيه طبيعة ذلك الموصوف فيكون حكمه لو اقتضته طبيعته أن تكون تلك الصفة فيه ولا بد، بل قد يتوهم وجود شيء من ذلك النوع خالياً من تلك الصفة. وكذلك أيضاً لم يأت لفظ في الحكم بأنه ملازم لكل شيء مما فيه تلك الصفة فيقطع قوم من أجل ما ذكرنا على أن كل أشخاص ذلك النوع، وإن غابت عنهم، ففيها تلك الصفة وأن كل ما فيه تلك الصفة من الأشياء فمحكوم (1) فيه بذلك الحكم. ولعمري لو قدرنا على تقصي جميع (2) الأشخاص أولها عن آخرها حتى نحيط علماً بأنه لم يشذ عنا منها واحد، فوجدنا هذه (3) الصفة عامة لجميعها، لوجب أن نقضي بعمومها لها، وكذلك لو وجدنا الأحكام منصوصة على كل شيء فيه تلك الصفة لقطعنا أنها لازمة (4) لكل ما فيه تلك الصفة، فأما ونحن لا نقدر على استيعاب ذلك ولا نجده أيضاً في الحكم منصوصاً على كل ما فيه تلك الصفة، فهذا تكهن من المتحكم به وتخرص وتسهل في الكذب وقضاء بغير علم وغرور للناس ولنفسه أولاً التي نصيحتها عليه أوجب. ونمثل لذلك مثالاً عيانياً فنقول، وبالله تعالى التوفيق (5) :
وصف الموصوف بالصفة ينقسم قسمين: أحدهما صفة لا بد للموصوف منها (6)
__________
(1) س: فمحكوماً.
(2) جميع: تلك في س.
(3) م: تلك.
(4) م: ملازمة.
(5) م: نتأيد.
(6) م: بها.(4/296)
ضرورة كعلمنا يقيناً أن كل ذي روح فمتنفس، وكل متنفس فذو آلة يتنفس بها إما يقبض بها الهواء ويدفعه وإما يقبض بها الماء ويدفعه (1) إن كان من سكان الماء، فهذا قسم قائم في العقل معلوم ضرورة ولا (2) محيد عنه، ولو عدمت النفس تلك الآلة لفارقت الجسد. والقسم الثاني صفة (3) قد توجد ملازمة للموصوف بها ولو عدمت لم تضره كالمرارة فإنك إن تقريت أكثر أصناف الحيوان وجدتها فيه إلا الجمل فلا مرارة له، وقد ذكر قوم أن الفرس لا [74و] طحال له. وكالعلم الفاشي بين الناس أننا لم نشاهد قط بغلة تلد ولا بغلاً (4) يولد، وككوننا لم نر (5) قط كبشاً من الضأن ذا لحية. وقد أخبرني مخبر في مجلس بعض الرؤساء أنه شاهد بغلة ولدت في بلد ذكره وشهد له بصحة ذلك قوم كانوا في تلك الناحية. وأخبرني من أثق به أنه رأى كباشاً بلحى وتيوساً بلا لحى، وأنا رأيت سنينيراً صغيراً ولد ذا جسدين متميزين منحازين تامين لا ينقص منهما عضو أصلاً، في كل جسد ذنب ويدان ورجلان يجمعهما رأس واحد ليس فيه إلا عينان وأذنان وفم واحد؛ ورأيت أيضاً فروجاً وفرخ إوزة تفقست البيضتان عنهما ولكل واحد منهما أربعة أرجل وأريت الفروج جماعة كانوا معي. فالقطع على أن هذا لا يكون هو التحكم المذموم الذي قد يخون.
وقد غلط في هذا الباب جماعة من أهل ملتنا وطوائف من أهل نحلتنا، فأما المخالفون لنا في النحلة وهم موافقون لنا في الملة فإنهم تتبعوا الفاعلين فلم يجدوا فاعلاً البتة مختاراً، إلا جسماً، فقطعوا على (6) أن الفاعل الأول عز وجل جسم لأنهم لم يشاهدوا فاعلاً إلا جسماً. فتحفظ من مثل هذا الشغب الذي عظم فيه غلط كثير من الناس. فقد أريتك الطريق التي أغتروا (7) بها فاجتنبها، وهذا (8) القول مع قيام
__________
(1) س: إما بقبض ... أو بدفعه ... فيدفعه.
(2) م: لا.
(3) صفة: سقطت من م.
(4) س: بغل.
(5) س: نجد.
(6) على: سقطت من م.
(7) س: أغروا.
(8) س: وهو.(4/297)
البرهان على بطلانه ومع أنه دعوى مجردة فعلى كل ذلك قد ناقضوا (1) فيه، وذلك أنهم لم يغالطوا أنفسهم ويغروها وتتبعوا ما وجدوا تتبعاً صحيحاً فلم يجدوا قط فاعلاً مختاراً غير محدث وغير مركب إما من ولادة وإما من رطوبات مستحيلة، (2) فلازم لهم إن كان حكمهم صحيحاً إذ لم يشاهدوا قط فاعلاً مختاراً إلا مركباً من ولادة أو من رطوبات مستحيلة أن يقطعوا في الواحد الأول تعالى أنه محدث مركب من ولادة أو من رطوبات مستحيلة (2) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وإلا (3) فقد ناقضوا وأبطلوا دليلهم. وليعلموا أنهم في بلية شنعاء وهم يقرون بلا خلاف منهم أن من اعتقد هذا فمفارق للملة مباح دمه متبريء من خالقه تعالى، أفلا يستحيي من له أدنى فهم وعقل من أن يشهد على نفسه بأنه ثابت على شيء باطل
وأما الذي غلط فيه بعض الموافقين لنا في النحلة من أصحابنا الإخباريين فإنهم تتبعوا كل موصوف في العالم فرأوه إنما استحق ذلك الاسم بصفة فيه اشتق له [74ظ] منها ذلك الاسم، فقطعوا من أجل ذلك على أن الواحد الأول عز وجل ذو سمع وبصر وحياة وإرادة وأنه متكلم لا يسكت، لأنه (4) تعالى موصوف بأنه سميع بصير حي مريد وله كلام، ولو أنهم أنصفوا أنفسهم ولم يقتحموا فيما يعيرون به خصومهم لكانوا إذ (5) فتشوا هذا التفتيش قد وجدوا يقيناً أنهم لا يرون أبداً ولا يشاهدون موصوفاً بشيء إلا وتلك الصفة عرض في الموصوف محمول وأن الصفة لا يحملها إلا جوهر، على أن هذا الذي نذكر لا يتوهم متوهم في العالم رتبة سواها؛ فلازم لهم إذ لم يشاهدوا قط موصوفاً بصفة إلا وهو جوهر يحمل عرضاً في ذاته أن يقولوا: إن الأول الذي ليس كمثله شيء جوهر يحمل الأعراض ولم يفارقها قط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لكنهم قد خجلوا من هذا الخطأ وشردوا عنه، ولم يختلفوا في أن قائل ذلك معتقداً له جاحدٌ للخالق تعالى مباح دمه، لخروجه من الملة.
__________
(1) س: نوقضوا.
(2) سقط من س في هذا الموضع ووقع بعد لفظة " خالقه ".
(2) سقط من س في هذا الموضع ووقع بعد لفظة " خالقه ".
(3) وإلا: سقطت من س.
(4) س: بأنه.
(5) س: إذا.(4/298)
والعجب واقع على هؤلاء كوقوعه على المذكورين قبل ولا فرق. فينبغي لكل طالب حقيقة أن يقر بما أوجبه العقل، ويقر بما شاهد وأحس وبما قام عليه برهان راجع إلى البابين (1) المذكورين، وأن لا يسكن إلى الاستقراء أصلاً إلا أن يحيط علماً بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي حكم فيه. فإن لم يقدر فلا يقطع بالحكم على ما لم يشاهد ولا يحكم إلا على ما أدرك دون ما لم يدرك. وهذا إذا تدبرته في الأحكام الشريعية (2) نفعك جداً ومنعك من القياس الذي غر كثيراً من الناس ومن الأئمة الفضلاء الذين غلط بغلطهم ألوف ألوف من الناس، وأنت إذا فعلت ذلك كنت على يقين من الصواب لأنك لم تقطع بتحليل ولا بتحريم ولا إيجاب إلا على كل ما أتاك عن الله تعالى الحكم عليه، وأما ما لم تجد فيه نصاً فأمسك عنه ولا تقطع عليه بأنه (3) داخل في حكم ما وجدت فيه نصاً بتكهنك (4) .
واعلم أن قوماً غلطوا أيضاً (5) في هذا النوع غلطاً لم يخرجوا به من هذا المنتشب (6) إلا أنهم بسوء النظر ظنوا انفسهم خارجين منه فسموا فعلهم في هذا الباب باسم آخر، وهو أن سموه " الاستدلال بالشاهد على الغائب " وبالحقيقة لو حصلوا البحث لعلموا أن الغائب عن الحواس من الأشياء المعلومة ليس بغائب عن العقل بل هو شاهد فيه كشهود ما أدرك بالحواس ولا فرق. وإذا أيقن المرء أن الحواس موصلات إلى النفس وأن النفس إنما [75و] يصح حكمها في المحسوسات (7) ، إذا صح عقلها من الآفات، وبأن تتفرغ من كل ما يشغل عقلها، وانفردت بأن تستبين (8) به وتفكر فيما دلها عليه، لم يجد المرء حينئذ لما يشاهد بحواسه فضلاً على ما شاهد بعقله دون حواسه، فلا غائب من المعلومات أصلاً، إذ ما غاب عن العقل لم يجز أن يعلم البتة،
__________
(1) س: الناس.
(2) س: الشرعية.
(3) س: فإنه (وفوقها علامة خطأ) .
(4) بتكهنك: فأمسك عنه في س.
(5) أيضاً: سقطت من س.
(6) س: المنتسب.
(7) س: بالمحسوسات.
(8) م: تستنير.(4/299)
ونحن نجد الأعمى الذي ولد أكمه موقنا بأن (1) الألوان موجودة، كإيقان المبصر لها ولا فرق؛ وكذلك يقيننا (2) بوجود الفيل وإن كنا لم نره قط كيقين من رآه ولا فرق. وإنما افترق الأعمى والبصير في كيفية الألوان فقط، وأما في أن اللون صحيح موجود فلا فرق بينهما في يقين العلم بذلك. وكذلك نحن إنما يفضلنا من رأى الفيل بالكيفية فقط، وإنما صحة وجوده فلا فضل له علينا في المعرفة بأنه حق. ونحن وإن كنا لم نشاهد ولا اخبرنا من شاهد ولا بلغنا أن في الناس اليوم إنسانا يرفع من الأرض ستمائة رطل، فلسنا ننكر وجوده، إن وجد، كإنكارنا وجود إنسان يرفع ستة آلاف رطل من الأرض، وكلاهما لم نشاهده ولم نشاهد مثله. فليس وجودنا أشياء كثيرة مشتركة في بعض صفاتها اشتراكا صحيحا، ثم وجودنا بعض تلك الأشياء، ينفرد بحكم ما نتيقنه فيها بموجب أن نحكم على سائر تلك الأشياء باستوائها في هذا الحكم الثاني من قبيل استوائها (3) في الحكم الأول. وهذه دعوى (4) سمجة وتحكم فاحش، وإنما يلزم هذا إذا اقتضت طبيعة ما وجود (5) شيء فيما هي (6) فيه وعلمنا وجوب ذلك بعقولنا، فإذا كان ذلك، حكمنا ضرورة على ما لم نشاهد من أجزاء ذلك الشيء كحكمنا على ما شاهدناه منها، كاقتضاء طبيعة ذرع كل جسم متحرك أن يكون متناهي الأقطار، فهذا معلوم بأولية العقل وموجب حكم الكمية، وكاقتضاء طبيعة مني الإنسان أن لا يتولد منه بغل ولا جمل، لكن جسم بشكل ما، فيه نفس ناطقة تقبل التعليم والتصرف في الصناعات (7) ، فليست معرفتنا بأن أجسامنا متناهية لأن طبيعة العقل توجب ذلك بأقوى من معرفتنا بأن جسم الفلك متناه إنما صح عندنا لأن أجسامنا متناهية، لكن الوجه الذي صح أن أجسامنا متناهية به صح أن جسم
__________
(1) م: أن.
(2) س: تيقنا.
(3) س: استوائهما.
(4) س: الدعوى.
(5) س: يوجد.
(6) س: هو.
(7) س: والصناعة.(4/300)
الفلك متناه (1) . وكذلك أيضا علمنا بأن كل شيء رخو لاقى شيئا صلبا ملاقاة شديدة (2) صدم، فإن الصلب يؤثر في الرخو ضرورة، إما بتفريق أجزائه وإما بإحالته عن شكله، ليس من أجل أنا شاهدنا ذلك في أجسام معدودة، لكن طبيعة العقل تقتضي ذلك [75ظ] ومثل هذا كثير.
وأما ما لا تقتضيه طبيعة العقل ولا تنفيه، فإنا إن وجدناه صدقناه، وأن لم نجده لم نمنع منه. فإنا قد شاهدناه في الناس من لا يأكل اللبن أصلا، ولو أكله لقذف قذفا شديدا، وآخر لا يأكل الشحم أصلا، فليس من أجل وجودنا ذلك يجب أن نقطع قطعا على أن في الناس أيضا من لا يأكل التمر أصلا، ولا يجب أيضا أن نمنع من وجود ذلك أصلا. وكذلك إذا وجدنا حجرا يجذب الحديد فليس يجب (3) أن نقطع على أنه لا يوجد، ولابد، حجر يجذب النحاس، ولا أن (4) نقطع أيضا على أنه لا يوجد. ومثل ذلك كثير.
وأشد من هذا كله التحكم على الخالق الأول بأنه قد حرم هذا وحلل هذا، بلا حكم وارد عنه تعالى بذلك، لكن بشهوات النفوس، لأنه قد حرم شيئا آخر يشبه هذا الذي تحرم أنت في بعض صفاته. بلى، ولقد لعن الله تعالى أناسا عصاة معتدين، افتراه يلعن (5) كل إنسان لأنهم مثل أولئك الملعونين في أنهم ناس وأنهم عصاة معتدون وأحرق قوما لأنهم خانوا المكيال، وأحرق معهم أطفالهم ونساءهم افترى كل خائن للمكيال والميزان (6) يحرق هو وولده وامرأته إن هذا لهو الضلال البعيد.
ومن بديع ما يقع للمغرورين بهذا النوع الفاسد أنهم إذا أحبوا أن يبدو لهم في هذا الحكم الذي حكموا به لم يصعب عليهم تركه، فيخرجون أشياء من المشتبهات
__________
(1) اضطربت هذه الجملة في م.
(2) م: شدة.
(3) م: يلزم.
(4) أن: سقطت من م.
(5) يلعن: سقطت من م.
(6) والميزان: لم ترد في م.(4/301)
عن حكم وجد في بعضها ويقولون: هذا خرج عن أصله وشذ، والشاذ لا يقاس عليه. ونحن نقول: لو كان هذا الحكم المشذوذ عنه (1) أصلا للشاذ لما شذ عنه ما شذ، ولا يجوز أن ينبعث فرع من غير أصله. ولو كان ذلك، لما كان الأصل أصلا للمتأصل به، ولا كان المتأصل من الأصل متأصلا منه. ولا تظن أن ما خالف صورة نوعه الجامعة له أنه شاذ عن نوعه وأصله فتخطئ. لأنك إذا عملت علل التركيب علمت (2) أنه لم يشذ عن أصله البتة، وأن تلك الزوائد إنما هي من زيادة في مادة العنصر على مقدار ما يقوم منه الشخص التام وكذلك النقص أيضا هو نقص من مادة العنصر. فهكذا تكون الأصول الصحاح.
ومثل هذا ما يستعمله النحويون في عللهم فإنها كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة البتة (3) . وإنما الحق من ذلك أن هكذا (4) سمع من أهل اللغة الذين يرجع إليهم في ضبطها ونقلها، وما عداها (5) فهو، مع أنه [76ظ] تحكم وفاسد متناقض، هو (6) أيضا كذب، لأن قولهم كان الأصل كذا، فاستثقل فنقل إلى كذا، شيء يعلم كل ذي حس أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة، ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك. وقد قال الخالق الأول قولا كفى كل تعب إذ يقول تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111) ثم زاد بيانا فقال تعالى: {فإن شهدوا فلا تشهد معهم} (الأنعام: 150) ثم زادنا (7) بيانا فقال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء: 23) والذي (8) قلنا من تمييز العقل والحواس هو فعل الله عز وجل فلا يسأل لم كان ذلك، وما عداه ففعل لنا، لابد
__________
(1) عنه: سقطت من س.
(2) علمت علل التركيب: سقطت من س.
(3) م: إلى حقيقة أصلاً.
(4) س: هذا.
(5) س: وما عدا هذا.
(6) س: وهو.
(7) س: زاد.
(8) س: فالذي.(4/302)
فيه من السؤال. بلم، فإن صح به برهان قبل وإلا رفض.
وقد سمي بعضهم هذا الباب: " إجراء العلة في المعلول " ولعمري لو صح أن ذلك علة ككون القتل علة للموت القسري (1) ، والجوع علة لإرادة الغذاء، والعطش علة لإرادة الماء العذب، إن ذلك لواجب إجراؤها في معلولاتها حتى لا سبيل إلى أن يوجد أبدا قط في الدهر علة إلا ومعلولها موجود. وأما إن لم تكن هكذا فاعلم أنها ليست علة. وأما ما ادعى متحكم أنها علة دون برهان فغير واجب اجراؤها فيما (2) ليس معلولا بها.
وبالجملة فليس في الشرائع علة أصلا بوجه من الوجوه ولا شيء يوجبها إلا الأوامر الواردة من الله عز وجل فقط، إذ ليس في العقل ما يوجب تحريم شيء مما في العالم وتحليل آخر، ولا إيجاب عمل وترك إيجاب آخر. فالأوامر أسباب موجبة لما وردت به. فإذا لم ترد فلا سبب يوجب شيئا أصلا ولا يمنعه. وإذا لم تكن العلة إلا التي لم توجد قط إلا وموجبها معها فليس ذلك إلا في الطبيعيات (3) فقط؛ وإذا كان ذلك فلا يجوز أن يوقع اسم علة على غير هذا المعنى فيقع التلبيس بإيقاع اسم واحد على معنيين مختلفين؛ وهذه (4) أقوى سبيل لأهل المخرقة.
واعلم وتنبه لما أنا مورده عليك، إن شاء الله عز وجل: إن هذا الشيء الذي سموه استدلالا بالشاهد على الغائب وإجراء للعلة في المعلول إنما يصح به إبطال التساوي (5) في الحكم لا إثباته، لأنك متى وجدت أشياء مستوية في صفات ما وهي مختلفة الأحكام فلا تشك في اختلافها، بل معرفتنا باختلافها علم ضروري. وكذلك نكون حينئذ غير قاطعين على أن حكم ما غاب عن حواسنا من سائر تلك الأشياء الغائبة التي تساوي هذه الحاضرة في الصفة التي استوت هذه الحاضرة كلها فيها لا على أنه موافق لحكم هذه [76ظ] الحاضرة ولا على أنه مخالف. وهذا ما لا يخالفنا فيه
__________
(1) القسري: سقطت من س.
(2) س: مما.
(3) س: الطبيعيات.
(4) س: وهذا.
(5) س: المتساوي.(4/303)
خصومنا لأنه ضروري. فثبت أن المنفعة عظيمة صحيحة باختلاف المشاهدات في إبطال القطع بتساوي الغائبات عن الحواس معها، وإننا لا ننتفع باستواء المشاهدات فيما لم توجبه طبيعة العقل لها في معرفة حكم الغائبات. ألا ترى أننا إذا لم نجد حمارا يجتر لا نقطع على أنه لا يوجد، بل إن وجد لم ننكره؛ ولقد أخبرني مخبر (1) أنه صح عنده وجود فرس يجتر، ولم يوجد قط ذو قرن إلا وهو مشقوق الحافر حاشا الحمار الهندي (2) فهو ذو قرن وهو غير (3) مشقوق الحافر؛ ومثل هذه الأمور التي لا توجبها الطبيعة فهي في حد الممكن إلا أنها على قدر قلة وجودها وكثرته تدخل في الممكن البعيد أو المتساوي أو (4) القريب. ونجد النار مضيئة حمراء حارة، فمن قال إن (5) الضياء علة الإحراق أريناه أشياء مضيئة كالمرايا وغيرها وهي غير محرقة، ومن قال الحمرة علة الإحراق أريناه الدم غير محرق، ومن قال الحرارة علة الإحراق أريناه أشياء تحر الجسم ولا تحرق. فوجب ضرورة أن لا يكون شيء مما ذكرناه علة وهي صفات مطردة كما ترى؛ لكن كل عنصر بسيط حار يلبس صعاد مضيء مصعد للرطوبات قد (6) يسفل بالقهر ويستحيل هواء فهو محرق بلا شك، لأن طبيعة العقل تقتضي ذلك. ومن سلك الطريق التي نهينا عنها لم يسلم من حيرة أو تناقض أو تحكم بلا دليل. ومما قاد إليه أيضا هذا الاستدلال الفاسد قوما أن قالوا: لما كنا أحياء ناطقين وكانت الكواكب أعلى منها وفي أصفى مكان، وكان (7) تأثيرها ضاهرا فينا كانت أولى بالحياة والنطق منا، فهي أحياء ناطقة عاقلة. فيلزمهم على هذا البرهان الفاسد أنهم لما وجدوا كل عاقل مميز ناطق حي فيما بيننا إنما هو لحم ودم
__________
(1) مخبر: سقطت من س.
(2) الهندي: الوحشي في س.
(3) وهو: سقطت من س.
(4) أو: سقطت من س.
(5) إن: سقطت من م.
(6) قد: سقط من س.
(7) س: كان.(4/304)
وذو دماغ وقلب لا يجوز غير ذلك ولا شاهدوا قط حيا ناطقا إلا هكذا، أن (1) يقطعوا أن الكواكب والملائكة مركبون من لحم ودم وذوو أدمغة وقلوب لأنها أحياء ناطقة. وكل هذا خطأ لأنه ليس من أجل شرفنا على الحجارة وأننا نؤثر فيها وجب لنا النطق والحياة، ولا من أجل أننا ناطقون أحياء وجب أن نكون لحما ودما. ولكنا (2) لما كنا مميزين متصرفين مختارين حساسين وجب [77و] لنا اسم النطق والحياة عبارة عن حالنا تلك فقط وتسمية لها. وموه أيضا بعضهم فقال مثبتا لسكنى النفس في الدماغ أن الملك إنما يسكن أبدا (3) في القصاب العالية، والنفس ملك البدن، والدماغ أعلى البدن، فالنفس فيه. وكم رأينا ملكا لا يسكن إلا الحضيض من عمله ويدع القصاب. فعارضه محير مثله فقال مثبتا لأنها في القلب: إن الملك أبدا إنما يسكن أبدا وسط عمله، والقلب وسط البدن، فوجب (4) أن تكون النفس فيه. وكم ملك سكن (5) طرف عمله أو قرب طرفه (6) وترك الوسط. وهذا كله تحكم ضعيف. وكمن قال: وجدت الكلب طويل الذنب يصلح (7) لحراسة الغنم، والسبع طويل الذنب فيصلح أيضا لحراسة (8) الماشية. وهذا يكثر جدا وفيما ذكرنا كفاية.
ومثل هذا استعمله قوم كثير فحرموا به وأحلوا وتحكموا في دين الله تعالى. وذلك مثل حكمهم بأن الكيل علة التحريم في الربا، وحكم آخرين أن (9) الادخار علة التحريم في الربا، وقال آخرون: الأكل هو علة التحريم في الربا (10) ، فهل
__________
(1) س: إلا أن.
(2) م: لكنا.
(3) أبداً، وقعت بعد لفظة " الملك " في س.
(4) س: وجب.
(5) م: يسكن.
(6) س: قرب عمله.
(7) س: فيصلح أيضاً.
(8) الغنم ... لحراسة: سقط من م.
(9) س: وتحكم ... بأن.
(10) وقال آخرون ... الربا: مكرر في س.(4/305)
هذا إلا (1) كالذي ذكرنا قبل سواء سواء. وكذلك إن وجدنا صفة في موصوف ولذلك الموصوف حكم ما، فإذا ارتفعت تلك الصفة ارتفع ذلك الحكم، فإنه ليس واجبا من أجل هذا فقط أن يكون ذلك الموصوف متى وجدت له تلك الصفة وجد له ذلك الحكم بل لعله قد توجد له تلك الصفة ولا يوجد له ذلك الحكم. مثال ذلك: ان الحياة إذا لم تكن موجودة قط في جسم ما فواجب ضرورة أن ذلك الجسم ليس إنسانا بلا شك؛ فإن أراد امرؤ أن يجري على الطريق التي ذممنا له (2) لزمه أن يقول: فالحياة متى وجدت في جسم ما وجب أن يكون إنسانا وهذا كذب بحت. ومثال ذلك في الشريعة: أن ملكك إذا ارتفع عن شيء فقد صح ملكه إلى غيرك، أو صح أنه لا ملك لمخلوق عليه، فهذا حق (3) ؛ فإذا ارتفع ملك غيرك عنه لم يلزم أن يصح ملكه لك أو أنه لا ملك لمخلوق عليه، بل لعله يملكه ثالث غيركما.
واعلم الآن أن المسامحة في طلب الحقائق لا تجوز البتة، وإنما هو حق أو باطل ولا (4) يجوز أن يكون الشيء حقا باطلا، ولا باطلا حقا، ولا باطلا لا حقا. فإذا بطل (5) هذا القسمان ببديهة العقل ضرورة ثبت القسم الثالث إذ لم يبق قسم سواه وهو إما حق وإما باطل. ولذلك قال لنا الأول الواحد عز وجل في عهوده إلينا: {فما [77ظ] ذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32) .
ولعل جاهلا يعترض علينا ها هنا في شيئين فيقول: أنتم تقولون بإباحة أشياء كالغناء (6) وغير ذلك فحق هي أم باطل فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن كل ما أبحناه إذا فعله الفاعل ترويحا لنفسه وعونا على الصحة والنشاط ليقوى على إنفاذ أوامر خالقه عز وجل فهذا (7) كله حق؛ وإذا فعله عبئا وأشرا فكل ذلك ضلال. إلا أن من الضلال ما هو لغو أي غير معدود علينا رفقا بنا. ومنه ما هو معدود علينا
__________
(1) إلا: سقطت من س.
(2) ذممنا له: ذممته في س.
(3) س: فهو أحق.
(4) س: لا.
(5) م: أبطل.
(6) في إباحة ابن حزم للغناء انظر رسالته في الغناء الملهي (رسائل ابن حزم 1: 419 - 439) .
(7) م: فهو.(4/306)
عدلا فينا. وقد قال لنا الخيرة المرسل إلينا (1) من قبل الواحد الأول، صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " (2) .
والشيء الثاني أن يقول الناقد (3) : قلتم لاشيء إلا حق أو باطل، فالحق برهاني: إما أولي وإما منتج عن أولي، إما بقرب وإما ببعد، وما عدا هذين الطريقين فباطل. وأنتم تحكمون بخبر الواحد في الأحكام وبشهادة الشاهدين، وتقرون أن حكمكم ذلك لعله باطل. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن الحكم بخبر الواحد في الأحكام وبشهادة الشاهدين حق برهاني ضروري (4) نقطع على غيبه؛ وأما الجزئيات من ذلك، يعني من الشهادة، فلا ندري أموافقة هي للذي (5) تيقنا أنه حق أو (6) لا وهذا من تقصيرنا عن علم الغيب. إلا أننا متحققون (7) بلا شك في الحكم بذلك ثم (8) كل قضية منها فإما حق وإما باطل في ذاتها لابد من ذلك، ولم ندع علم كل حق وعلم كل باطل، بل كثير من الأمور يخفى علينا الحكم فيها إلا أنها (9) في ذواتها إما حق وإما باطل.
ومن بديع ما غلط فيه إخواننا الموافقون لنا في النحلة (10) والملة المخالفون لنا في الفتيا (11) أن حكمين وردا في الشعير والتمر فنقلوا أحدهما إلى الزيتون والتين، ومنعوا من نقل الآخر إلى الزيتون والتين: وهو أن التحريم جاء في الشعير بالشعير والتمر بالتمر في البيع إلا مثله بمثل كيلا بكيل يدا بيد، وأمرنا بإخراج الشعير أو التمر في زكاة الفطر. فقالوا قول من تحكم: أما التحريم في البيع إلا مثلا بمثل (12)
__________
(1) إلينا: سقطت من س.
(2) متفق عليه عن عمر، انظر كشف الخفا 1: 166 والمقاصد الحسنة: 68.
(3) م: يقول لنا قد.
(4) ضرورة.
(5) س: للتي.
(6) م: أم.
(7) م: محقون.
(8) في الحكم بذلك ثم: سقط من س.
(9) إلا أنها: قراءة م، وهي بهامش س.
(10) س: الخلة.
(11) س: الفتى.
(12) م: إلا بالتماثل.(4/307)
ويدا بيد فمنقول إلى الزيتون والتين، وأما الإعطاء في الزكاة فغير منقول إلى الزيتون والتين. ولهم من مثل هذا وأشنع آلاف قضايا مما نبينه في (1) كتبنا في أحكام الديانة، إن شاء الله عز وجل. والتحكم باللسان لا يعجز عنه من رضيه لنفسه [78و] والباطل كثير. وأما الذي يحمد الواهب المنعم عز وجل عليه أهله فالحق، والذي يجب أن يفرح به الحاصل عليه فما أوجبه البرهان.
واعلم أنه لا فرق فيما تصح به الأحكام الشريعية وبين ما تصح به القضايا الطبيعية في مراتب البرهان الذي قدمنا؛ بل الخطأ في الشرائع أضر وأشد فسادا في الدنيا، وأردى عاقبة في الأخرى، وأحق بالنظر فيه والاهتبال (2) بتصحيحه، وأولى بترك المسامحة وأحضى بتحري الصواب، وأن لا يقدم فيها إلا على ما أوجبته مقدمات مقبولة (3) عن مثلها إلى أن تبلغ أوائل العقل والحس، وبالله تعالى التوفيق، وله الحمد ومنه الاستزادة من جميل مواهبه. والخطأ في كل (4) ذلك يشمله اسم (5) الباطل وتنفرد هذه الجهة (6) بالنكال في الدار الآخرة لمن عاند وترك البحث هو قادر عليه.
واعلم أن المتقدمين سموا المقدمات " قياسا "، فتحيل إخواننا القياسيون حيلة ضعيفة سوفسطانية بأن أوقعوا اسم القياس على التحكم والسفسطة، فسموا تحكمهم بالاستقراء المذموم قياسا، وسموا حكمهم فيما لم يرد فيه نص بحكم شيء آخر مما ورد فيه نص لاشتباههما في بعض أوصافهما قياسا واستدلالا وإجراء للعلة في المعلول. فأرادوا تصحيح الباطل بأن سموه باسم أوقعه غيرهم على الحق الواضح كالذي بلغنا عن بعض جهال البربر أنه أراد استحلال أكل خنوص صاده بأن سماه باسم ولد الأيل. وقد جاء عن الرسول، عليه السلام، أنه أنذر بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها. وهذه حيلة مموهة لا تثبت على التخليص. وقد قلنا قبل إنه ليس في العالم شيئان
__________
(1) م: من.
(2) س: والاحتيال.
(3) س: موجودة.
(4) كل: سقطت من س.
(5) اسم: سقطت من س.
(6) س: الحملة.(4/308)
إلا وبينهما شبه ما وافتراق ما ضرورة لابد من ذلك. فإن كان الشبه يوجب استواء الحكم فليحكموا (1) لكل ما في العالم بحكم واحد في كل حال من أجل اشتباهه في صفة ما، ولم كان الاجتماع في الشبه يوجب استواء الحكم ولم يكن الافتراق في الشبه يوجب اختلاف الحكم فينبغي على هذا أن لا نحكم لشيئين أصلا بحكم واحد لأجل اختلافهما في صفة ما. وكل هذا خطأ وحيرة ومؤد إلى التناقض والضلال، ونعوذ بالله من ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله (2) .
15 - باب زيادة من الكلام بيان السفسطة
وسمت الأوائل ما أخذ من مقدمات فاسدة " سفسطة ". ونحن نبين منها وجوها كافية بحول الله الواهب (3) للعلم وقوته، لا اله إلا هو.
واعلم أن المشغب الناصر للباطل أعظم سلاحه التلبيس، وذلك يكون إما بإيجاب ما لا يجب، وإما بإسقاط قسم من الأقسام (4) أو أكثر من قسم، وإما بزيادة قسم فاسد [78ظ] ، أو بأن يأتي بأقسام كلها فاسدة (5) ، وإما أن يتعلق بلفظ مشترك متفق على صحته يعطي أشياء كثيرة مختلفة الأحكام والصفات ومتفقة أيضا في أشياء؛ فيريد (6) أن يخص بما (7) اتفقت فيه بعض ما يعطي الاسم دون جميعه (8) ، أو يريد أن يعم جميع ما يقع عليه ذلك الاسم بما (9) يخص بعض ما يقع عليه ذلك الاسم، أو يأتي هو به (10) ابتداء.
فإيجاب ما لا يجب هو نحو أن يقول: لو كان الباري تعالى غير جسم لكان عرضا
__________
(1) س: فليحكم (دون إعجام) .
(2) م: والضلال نعوذ بالله منه. (وسقط ما بعدها) .
(3) م: بحول الواهب.
(4) م: أقسام.
(5) م: فواسد.
(6) س: ويريد.
(7) س: ما.
(8) س: جميعها.
(9) س: مما.
(10) س: به هو.(4/309)
فلما ثبت أن الباري تعالى ليس عرضا صح أنه جسم. فهذا علق كونه (1) تعالى غير جسم بكونه عرضا وهذا لا يجب، ولو علق ذلك بما يوجب قضيته لكان صادقا، وذلك لو قال: لو كان الباري تعالى محدثا أو كان غير جسم لكان عرضا. فهذا تقديم (2) صحيح، لكن الباري تعالى ليس محدثا فليس جسما ولا عرضا. وإنما نحن الآن في بيان صحة عمل القرائن لا في بيان الجزيئات، ولذلك مكانه.
وأما إسقاط قسم فكقول القائل: لا يخلوا هذا اللون من أن يكون أحمر أو أخضر أو أصفر أو أسود فقط أسقط (3) الأبيض واللازوردي وغير ذلك.
وأما زيادة قسم فاسد فكقول القائل: لا يخلو هذا الشيء من أن يكون هو هذا الشيء أو هو غيره أو لا هو هو ولا غيره. فهذا قسم فاسد زائد. وأما المجيء بأقسام كلها فاسدة فكقول القائل: لا يخلوا الباري تعالى من أن يكون فعل الأشياء كلها (4) لدفع مضرة أو لاجتلاب منفعة أو لطبيعة أو لآفة (5) أو لجوده وكرمه. فهذه كلها أقسام فاسدة. والصحيح أنه فعل (6) لا لعلة ولا لسبب أصلا. فمن ادعى على خصمه أنه أتاه بشيء من هذه الوجوه فعليه أن يبين ذلك.
وأما الغلط الواقع من اشتباه الأسماء فيكون من جاهل ومن عامد، فأما الجاهل فمعذور وأما العامد فملوم (7) . فالجاهل غلطه في ذلك نحو غلط عدي بن حاتم إذ سمع الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (البقرة: 187) فطنها من الخيوط المعهودة. وأما العامد فنحو الذين قيل لهم " راعنا " من المراعاة فقالوا راعنا من الرعونة؛ ومثل ما قال بعض الأكابر وقد سئل عن اللفظ بالقرآن فقال: هذا السؤال محال واللفظ بالقرآن لا يجوز لأنه لا يلفظ،
__________
(1) س: أنه.
(2) م: تقرين (دون إعجام الياء) .
(3) س: بعد إسقاط.
(4) كلها: سقطت من س.
(5) م: لأنه.
(6) س: فعلها.
(7) س: فمذموم.(4/310)
فأضرب عن اللفظ الذي هو القول والكلام وتعدى إلى اللفظ (1) الذي هو القذف كلفظ الرجل لقمة من فيه. فهذا ونحوه شعاوذ مضمحلة.
وكذلك ينبغي لك (2) أن تتحفظ من اشتباه الخط ولا سيما في الخط العربي فأن ذلك فيه فاش لأن لأكثر حروفه (3) لا يفرق بينها في الصور إلا بالنقط كزبد [79و] وزيد (4) وزند وربد ورند (5) وما أشبه ذلك. وقد كتب بعض الخلفاء إلى عامله: احص المخنثين قبلك، يريد إحصاء العدد، فقرأها الكاتب " اخص " فخصى كل من كان قبله منه. ولهذا صار طالب الحقائق مضطرا إلى قراءة (6) النحو. ألا ترى أن قارئا لو قرأ: إنما يخشى الله من عباده العلماء، فرفع الهاء من الله ونصب الهمزة من العلماء قاصدا إلى ذلك، وهو عالم، لكان ذلك خروجا عن الملة وكذلك لو قرأ: إن الله بريء من المشركين ورسوله - بكسر اللام من رسوله - فتحفظ من مثل هذا تحفظا شديدا على ما نصف لك بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك أشياء تقع في العطوف محيرة، كنحو ما غلط فيه جماعة من العلماء في قول الله عز وجل: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} (آل عمران: 7) فظنوا أن " الراسخون في العلم " معطوفون على الله عز وجل؛ وليس كذلك وإنما هو ابتداء كلام وقضية، وعطف جملة على جملة، لبرهان ضروري قد ذكرناه في موضعه.
ومن السفسطة أيضا تصحيح شيء آخر، وبطلانه ببطلان شيء آخر، بلا برهان يوجب إضافتهما. فلذلك فاسد جدا، كقول من قال: لو جاز أن يكون الباري عز وجل مرئيا رؤية غير المعهودة لجاز أن يشم شما غير المعهود (7) ؛
__________
(1) اللفظ: سقطت من س.
(2) لك: أيضاً في م.
(3) م: لأن كثيراً من حروفه.
(4) م: كزيد وزبد.
(5) م: ورثد ورند وربد.
(6) قراءة: سقطت من س.
(7) لجاز ... المعهود: سقط من س.(4/311)
وكقول القائل: لما صح التحريم في البر بالبر متفاضلا صح التحريم في الأرز بالأرز متفضلا. وهذا كله تحكم دعوى. وليس يعجز أحد عن ربط شيء بشيء لا رباط بينهما بلسانه إذا استجاز القطع بما اشتهى. وكقول من قال من العميان: لو كان اللون مرئيا لكان العقل مرئيا، فلما كان العقل غير مرئي وجب أن اللون غير مرئي، فتأمل هذا كله تجده بهتانا وجهلا ودالة في (1) غير موضعها كدالة الصبيان على آبائهم ولا فرق.
فلذلك (2) قد أتينا على ما يحتاج إليه من بيان البرهان الصحيح وذكر جمل الجدليات الفاسدة والشغبيات الساقطة وبيان كثير منها بمقدار ما يميزها به الطالب إذا رآها؛ وقلنا إن كل ما عدا البرهان على الطريق (3) التي قدمنا فواجب اجتنابه. ولعمري لقد أكثرنا من البيان وكررنا لأن خطاء أصحابنا كثر في ذلك وفحش جدا فاحتجنا إلى المبالغة في البيان، فلنقتصر على ذلك، ولنأخذ في الزيادة في فضل ما أدركنا (4) بالعقل. وبالله تعالى نعتصم ونتأيد لا إله إلا هو (5) .
16 - باب الكلام في فضل قوة إدراك العقل على إدراك الحواس
واعلم أن الحواس السليمة قد تقصر على كثير من مدركاتها وقد تضعف عنها وقد تخطىء ثم لا يلبث أن يستبين للنفس [79ظ] غلطها وتقصيرها وما خفي عنها وتدركه إدراكا تاما على حقيقته. وإدراك العقل في كل ذلك إدراك واحد، وبالجملة فالعقل قوة أفرد الباري تعالى به النفس ولم يجعل فيه شركة لشيء من الجسد. وإدراك النفس من قبل الحواس فيه للجسد شركة، والجسد كدر ثقيل فإدراكها بالعقل إذا نظرت به ولم تغب عليه الشهوات الجسدية أو سائر أخلاقها المذمومة إدراك صاف تام غير مشوب. ومن أقرب ما نمثل لك به كدر النفس بمشاركتها الجسد وصفائها بانفرادها عنه وخفة الجسد بمشاركة النفس وثقله بانفراده عنها ما ترى من حال النائم
__________
(1) س: على.
(2) م: فإذ.
(3) س: غير الطريق.
(4) م: أدرك.
(5) وبالله ... هو: إن شاء الله عز وجل في م.(4/312)
فإن جسده حينئذ أثقل وزناً (1) ويعلم ذلك من اكترى من الحمالين (2) فإنهم يكثرون نهيه عن النوم حتى إذا استيقظ خف وزنه واستقل. وترى النفس في حال النوم قد تشاهد جزءا من النبوة بالرؤيا الصحيحة مما لا سبيل إلى مشاهدته في حال اليقظة. وهكذا كلما انفردت وتخلت عن الجسد أدركت غوامض الأشياء وصحيح العواقب في الآراء حتى إن المرء في تلك الحال لا يسمع كلام من معه ولا يرى كثيرا مما بحضرته (3) .
ثم نعود إلى ما بدأنا به فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إنك ترى الإنسان من بعيد صغير الجرم جدا كأنه صبي، وأنت لا تشك بعقلك أنه أكبر مما تراه، ثم لا يلبث أن يقرب منك فتراه على قدره الذي هو عليه الذي لم يشك العقل قط في أنه عليه. وكذلك يعرض لك في الصوت. وأيضا فإن الشيء إذا بعد عن الحاسة جدا بطل إدراكها جملة، فإن الإنسان إذا كان منك على خمسة أميال أو نحوها رأيت (4) شبحه ولم تستبن عينيه ولا سمعت صوته أصلا، حتى إذا قرب استبنت كل ذلك وميزت لون عينيه وسمعت كلامه. وكهدم رأيته من بعيد ولم تسمع صوته ولم يشك العقل أن (5) له صوتا مرعبا لو قربت منه لسمعته. فالعقل في كل ما ذكرنا لا يخون. وأما في حس الجسم فكخردلة تزاد في حمل الإنسان فلا يحس بها البتة، حتى إذا كثر صب الخردل لم يلبث أن يعجز عن الاستقلال به ولو أنه صب على ظهر فيل أو سفينة بحرية. والعقل يعلمك أن تلك الخردلة المصبوبة أولا (6) لها نصيب من الثقل ضرورة، إلا أن الحس قصر عن إدراكه لتأخر إدراك الحس عن إدراك العقل وأنه لا يدرك إلا ما ظهر ظهورا قويا وقد يخفى عليه كثير من الحقائق كما ترى. والعقل، كما بينت لك، يدرك حصة الخردلة من الثقل إدراكا لا فرق بينه وبين إدراكه حصة ما (7) ظهر إلى الحس من
__________
(1) وزناً: مكررة في س.
(2) م: الجمالين.
(3) س: يحضره.
(4) س: نظرت.
(5) م: والعقل لا يشك فيه أن.
(6) أولاً: سقطت من س.
(7) س: إدراك ما.(4/313)
ثقل القناطير المجتمعة. وهكذا الشم (1) فإن مقدار فلس من حلتيت يكون معك في البيت فلا تشمه أصلا [80و] حتى إذا كثرت أجزاء الحلتيت لم يلبث الشم أن يجده ويضجر منه؛ والعقل موقن أن لذلك الفلس جزءا من النتن، وهكذا (2) القول في المسك. والعقل أيضا يعلمك أن قوة الرائحة في القليل والكثير واحدة، ولكن الكثير إذا اجتمع كثر افتراق ما ينحل (3) منه في الهواء فشغل مكانا واسعا. وكذلك السماء، لا نراها متحركة والعقل يوقن أنها متحركة بما نرى من اختلاف حركتي الأجرام التي فيها من شرق إلى غرب بحركة السماء لها، ومن غرب إلى شرق، وبانتقالها في الدرج وحركتها بذاتها (4) . وكذلك العين لا تستبين حركة الشمس أصلا، حتى إذا بقيت مدة لاحت لها حركتها يقينا بأن تراها في كبد السماء بعد أن تراها (5) في أفق المشرق. وكنماء الأجسام من الحيوان والنبات فإنك لا تستبين نموه على أنه بين يديك ونصب عينيك حتى إذا مضت مدة رأيت النماء بعينيك (6) ظاهرا وعلمت نسبة زيادته على ما كان، والعقل يشهد أن لكل ساعة مرت (7) حظا من نمو ذلك الشجر (8) لم تتبينه (9) ببصرك. وهذا إذا تدبرته كثير جدا.
وقد بينا في باب الكلام في الكيفية من هذا الديوان مشاركة العقل للحواس في جميع مدركاتها وانفراده دونها بأشياء كثيرة؛ فلولا العقل ما عرفنا الغائب (10) عن الحواس ولا عرفنا الله عز وجل. ومن كذب عقله فقد كذب شهادة (11) الذي لولاه لم يعرف ربه، وحصل في حالة المجنون، ولم يحصل على حقيقة. وبالفكر والذكر
__________
(1) م: النسيم.
(2) م: وكذلك.
(3) س: إذا كثر افترق ما يتحلل (دون إعجام يتحلل) .
(4) م: بذواتها.
(5) م: رأتها.
(6) م: بعينك.
(7) مرت: سقطت من س.
(8) م: الشيء.
(9) م: تستبنه.
(10) س: الغائبة.
(11) م: شاهده.(4/314)
تؤخذ المقدمات أخذا صحيحا بأن تنظر النفس في ضم طباع الأشياء بعضها إلى بعض حتى يقوم مرادها فيما تريد علمه وهذا الذكر مبثوث (1) في الحيوان. والحيوان قد يتفاضل فيه: فمن الحيوان ما يميز ربه ويذكر عليه (2) وإن غاب عنه، ويهش إليه إذا قدم عليه؛ وأقواها في ذلك الفيل والكلب والقرد والدب ثم السنور؛ ومن الحيوان ما يذكر ذكرا دون ذلك كالفرس والبعير؛ ومن الحيوان سائر ما ذكرنا لا يذكر شيئا من ذلك كالديك وغيره.
واعلم أن العقل والحس والظن والتخيل قوى من قوى النفس. وأما الفكر فهو حكم النفس فيما أدت إليها هذه القوى وأما الذكر فهو تمثل النفس لما أدته إليها هذه القوى فتجد النفس إذا افتقدت بالنسيان شيئا مما اختزنته تتطلبه وتفتشه في مذكوراتها بالفكر كما يفتش رب المتاع متاعه إذا أتلفه أو اختلط له بين أمتعة شتى، فيبحث عنه في وجه وجه ومكان مكان حتى يجده فيؤوب (3) إليه، أولا يجده أصلا. وهكذا النفس سواء سواء، فسبحانه مدبر كل ذلك ومخترعه لا إله إلا هو. وليس في القوى التي (4) ذكرنا شيء [80ظ] يوثق به أبدا على كل حال غير العقل فبه تميز مدركات الحواس السليمة والمدخولة (5) بالمرض وشبهه، كوجود العليل طعم العسل مرا كالعلقم، والعقل يشهد بالشهادة الصحيحة الصادقة أنه حلو، وكما ترى الشيء في الماء بخلاف شكله الذي يشهد العقل أنه شكله على الحقيقة. وأما الظن فأكذب دليل لأنه يصور لك الرجل الضخم المتسلح شجاعا ولعله غاية في الجبن، ويصور لك المتفاوت الطلعة بليدا ولعله غاية في الذكاء. وقد نبه الله تعالى على هذا فقال: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46) . فأخبر عز وجل أن الحواس تبع للعقل، وأن ذا العقل الذي يغلب هواه عليه لا ينتفع بما أدركت حواسه؛ وقال تعالى {إن بعض
__________
(1) س: مثبوت.
(2) م: ويذكره.
(3) م: فيثوب؛ س: فيؤب.
(4) م: الذي.
(5) س: والمخذلة.(4/315)
الظن إثم} (الحجرات: 12) ؛ وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " الظن أكذب الحديث " (1) .
وأما التخيل فقد يسمعك صوتا حيث لا صوت، ويريك شخصا ولا شخص، وقد قال تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه: 66) فأخبر تعالى بكذب التخيل. والعقل صادق أبدا، قال تعالى مصدقا لاعتراف من فضل شواهد عقله بالخطأ: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} (الملك: 10 - 11) . وقال تعالى ذاما لمن أعرض عن استعمال عقله: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} (يوسف: 105) . وقال تعالى مبطلا (2) لكل ما لم يقم عليه برهان: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} . (البقرة: 111) . وقال تعالى (3) ذاما لمن تكلم بغير علم وحامدا لمن حاج بعلم (4) : {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} (آل عمران: 66) . وقال تعالى في مثل ذلك: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} (يونس: 39) . فهذه وصايا الواحد الأول (5) التي أتانا بها رسوله، صلى الله عليه وسلم، وهذه موجبات العقول، فأين المذهب عن الخالق تعالى وعن العقل المؤدي إلى معرفته إلا إلى الشيطان الرجيم والجنون المؤدي إلى الضلال (6) المبين، نسأل الممتن بالنعمة أن يزيدنا من المعرفة الفاضلة، وأن لا يسلبنا ما منحنا من العقل ومحبة استعماله (7) وتصديق شهاداته (8) ؛ وإلى العقل نرجع في معرفة صحة الديانة وصحة العمل
__________
(1) أوله: إياكم والظن فإن الظن ... الخ. وقد ورد في عدة مواطن من صحيح البخاري (مثلاً وصايا: 8) . وصحيح مسلم (بر: 28) ومسند أحمد 2: 245، 287 وانظر الجامع الصغير 1:116 وكشف الخفا 1: 214.
(2) مبطلاً: في م وحدها.
(3) تعالى: في م وحدها.
(4) وحامداً ... بعلم: سقط من س.
(5) م: الأول الواحد.
(6) س: المودي والضلال.
(7) ومحبة استعماله: ومحبته في م.
(8) م: شهادته.(4/316)
الموصلين إلى فوز الآخرة والسلامة الأبدية، وبه نعرف حقيقة العلم، ونخرج (1) من ظلمة الجهل، ونصلح تدبير المعاش والعالم والجسد (2) .
ومن الناس من يستشهد بالعقل على تصحيح شيء ليس في العقل إلا إبطاله، كمتطلب في العقل عللا موجبة لجزئيات الشرائع، فإنه ليس في العقل إلا وجوب الائتمار للأول الخالق فقط في أي شيء أمر به، ولو [81و] أنه (3) قتل أنفسنا فمن دونها بأنواع المثل (4) ؛ وأما علة موجبة لتحريم لحم الخنزير وإباحة لحم التيس، أو لإيجاب الصلاة بعد زوال الشمس والمنع منها حين طلوعها، أو لأن تكون صلاة أربع ركعات وأخرى ثلاثا، أو صيام شهر رمضان دون ذي الحجة، أو الحج إلى مكة في ذي الحجة دون الحج إلى غيرها في شهر آخر، وقتل من زنا وهو محصن عفا عنه زوج المزني بها أو أبوها أو لم (5) يعفوا، أو تحريم قتل من قتل النفس المحرمة إذا عفا عنه الولي. ولا تحريم المشقوق البطن أو المخنوق (6) وتحليل المذبوح أو المنحور، فليس ابتداء هذا كله في العقل أصلا. وهكذا جميع الشرائع (7) ، وهكذا جميع أفعال الخالق تعالى فإنه خلق الحمار خلقا مهين للسخرة، وخلق الفرس للركوب، وحبا صورة الإنسان بالعقل، وسلط الكلب على الظبي، وأباح ذبح بعض الحيوان دون بعض للأكل، وخلق بعض الحيوان طيارا وبعضه مائيا، وبعضه طعاما لبعض، وبعضه ناطقا وبعضه جاهلا، وبعضه ذا رجلين وبعضه ذا أربع أرجل وبعضه ذا ست أرجل وبعضه ذا أكثر من ذلك وبعضه بلا أرجل أصلا، وخلق الأسد شجاعا جريئا والقرد جبانا هلوعا، وخلق أشياء حادة الإبصار وخلق الخلد أعمى، وخلق ذوات السموم المؤذية للحيوان. وهكذا رتب الخالق الكريم الأشياء كلها (8) . ويلزم من فر عن
__________
(1) م: يعرف ... ويخرج.
(2) م: العالم والجسد والمعاش.
(3) س: بأنواع.
(4) س: فمن دونها السل.
(5) س: لا.
(6) س: المخبون.
(7) جميع: سقطت من س.
(8) م: رتب الخلق كله.(4/317)
هذا إلى أن النفس فعلت ذلك (1) إيجاب العجز أو المسامحة في العبث على أصله للباري، تعالى عن ذلك. وقد بينا هذا (2) في كتاب (3) " الفصل " بيانا كافيا. وإنما العقل قوة تميز بها النفس جميع الموجودات على مراتبها وتشاهد بها ما هي عليه من صفاتها الحقيقية لها فقط وتنفي بها عنها ما ليس فيها. فهذه حقيقة حد العقل ويتلوه في ذلك الحواس سواء سواء، وهذا التميز هو حد إدراك العقل الذي لا إدراك له غيره. وأما حد منفعة العقل فهي استعمال الطاعات والفضائل، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل، والكلام في هذا وغيره مما هو متصل به (4) مستوعب، إن شاء الله تعالى، في كتابنا " في أخلاق النفس " (5) .
واعلم أن الأكثر في الناس جدا فالغالب عليهم الحمق وضعف العقول، والعاقل الفاضل نادر جدا وقليل البتة، وهذا يوجد حسا. وقد ورد النص بذلك عن الخالق الأول وعن خيرته المبتعث إلينا صلى الله عليه وسلم،. قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} (الأنعام: 116) . وقال رسول الله [81ظ] صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " (6) . وأما ما (7) يظنه أهل ضعف العقول من أنه عقل وليس عقلا ولا مدخل للعقل فيه فقد غلطوا في ذلك كثيرا، فإنهم يظنون العقل إنما هو ما حيطت به السلامة في الدنيا ووصل به إلى الوجاهة والمال (8) ؛ وهذا إذا
__________
(1) س: ذلك في.
(2) س: ذلك.
(3) كتاب: سقطت من س.
(4) به: سقطت من س.
(5) هي رسالته في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق، انظر الجزء الأول من رسائله: 323 - 414. وقد تحدث فيها عن حد العقل فقال: " وأما إحكام أمر الدنيا والتودد إلى الناس بما وافقهم وصلحت عليه حال المتودد من باطل وغيره أو عيب أو ما عداه، والتحيل في إنماء المال وبعد الصوت وتمشية الجاه بكل ما أمكن من معصية ورذيلة، فليس عقلاً ... لكن هذا الخلق يسمى الدهاء (الرسائل 1: 379) ، وقال أيضاً: " حد العقل استعمال الطاعات والفضائل، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل (رسائل 1: 378) .
(6) صحيح مسلم (فضائل الصحابة) : 232 ومسند أحمد 2: 7، 44، 70 ...
(7) ما: سقطت من س.
(8) انظر التعليق السابق رقم: 5 المنقول عن رسالته في مداواة النفوس.(4/318)
كان بطرق محمودة مما لا معصية فيه ولا رذيلة (1) فهو عقل، وأما إذا كان بما أمكن من كذب ومنافقة وتضييع فرض وظلم إنسان ومساعدة على باطل فهو ضد العقل، لأن العقل (2) بعد نهي الله تعالى الوارد علينا بذم هذه الخلال يذمها (3) ذما صحيحا. فكيف يكون (4) عقلا ما يذمه العقل ويفسده وينهى عنه ولم يوجد العقل إلا ذاما لهذه الرذائل ولا ورد الأمر من الله عز وجل قط إلا بذمها. وكذلك ما ظنه آخرون من (5) أن من العقل المحمود الذي لا ينبغي خلافه التزام أزياء معهودة لا معنى لها فليس هذا إذا حصلته إلا حمقا وجهلا وليس هذا من العقل في شيء. وبيان ذلك مذكور في كتابنا في " أخلاق النفس والسيرة الفاضلة " (6) وفي كتابنا في " السياسة " (7) إن شاء الله عز وجل، والله تعالى الموفق (8) لكل فضيلة.
واعلم أنه لا يدرك الأشياء على حقائقها إلا من جرد نفسه عن الأهواء كلها ونظر في (9) الأراء كلها نظرا واحدا مستويا لا يميل إلى شيء منها، وفتش أخلاق نفسه بعقله تفتيشا لا يترك فيها من الهوى والتقليد شيئا البتة، ثم سلك بعقله الطريق التي وصفنا في هذا الديوان واجتنب ما عداها مما قد رأينا أعلام كل ذلك، فإنه من فعل ما قلنا فضمان له إدراك الحقائق على وجودها في كل مطلوب وقد نبه الله عز وجل على ذلك في عهوده إلينا فقال: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم: 23) وقال تعالى (10) : {إن يتبعون إلا الظن وإن
__________
(1) س: زيادة.
(2) لأن العقل: سقطت من س.
(3) الخلال يذمها: الحال في س.
(4) م: يدعو.
(5) من: سقطت من م.
(6) قد سبقت الإشارة إليه.
(7) أظن أن هذا الكتاب شيء مختلف عما سمي " كتاب الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء، ومراتبها والندب إلى الواجب منها " (الرسائل 1: 9) وإنما هذا المذكور هنا ربما كان ما ذكره ابن عباد الرندي في الرسائل الصغرى: 51. ونقل منه شيئاً في بعض أحوال النفس الإنسانية وقد نص هنالك أن النفس قد تقدم على الأعمال الشاقة من غير تصور غرض ولا تحصيل عوض.
(8) م: وبالله تعالى التوفيق.
(9) م: من.
(10) أن يتبعون ... تعالى: سقط من م.(4/319)
الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم: 28) وقال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} (الزمر: 18) .
واعلم أن الناس إلا من عصم الله تعالى، وقليل ما هم، يقبحون فعل من حكم بالهوى ويضللون من قلد ويبطلون التقليد، وهم لا ينطقون بكلمة بعد هذا إلا وهي راجعة إلى أحد هذين الوجهين الخبيثين اللذين قد شهدوا بقبحهما وخطاء من اتبعهما؛ فتأمل هذا تجده كثيرا، وكفى بذم الله تعالى هؤلاء إذ يقول: {لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن [82و] تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2 - 3) نعوذ بالله من مقته. إلا أننا نقول إن (1) من أحسن في وجه وأساء في آخر أفضل ممن أساء في كل وجه فهؤلاء ممقوتون لفعلهم خلاف قولهم، فلو أنهم مع إساءتهم في فعلهم يذمون الحقائق لتضاعف مقتهم لتضاعف إساءتهم، نعوذ بالله من الخذلان. وإذ قد أتينا في هذا الغرض بجمل كافية على أن الكلام في ذلك يطول جدا ويتسع - فلنقطع، على مذهبنا في هذا الديوان في الاختصار والبيان (2) إن شاء الله عز وجل، ولنأخذ بحول خالقنا تعالى في كيفية المناظرة ووجوهها المحمودة والمذمومة ومراتبها فهي متعلقة بما تقدم أن شاء الله تعالى.
17 - باب أقسام السؤال عما تريد معرفة حقيقته (3) مما يرتقى (4) إليه بالدلائل الراجعة إلى الأوائل التي قدمنا
اعلم أنه لا يوصل إلى معرفة حقيقة بالاستدلال إلا بالبحث، والبحث يكون عن فكر واحد، ويكون عن تذكر من اثنين، فإما من معلم إلى متعلم وإما من متناظرين مختلفين باحثين؛ وهذا الوجه هو آخر ما نتوصل به إلى بيان الحقائق لكثرة التقصي فيه وأنه لا يبقى بعد توفيته حقه بقية أصلا. فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد (5) :
__________
(1) إن: سقطت من س.
(2) والبيان: سقطت من م وفوقها علامة خطأ في س وحذفها أولى.
(3) م: عما تريد حقيقة.
(4) م: يترقى.
(5) م: وبالله تعالى نتأيد ونستعين.(4/320)
اعلم أنه لابد في (1) أول السؤال عن كل مسؤول عنه مما يترقى إليه بالدلائل الراجعة إلى الأوائل التي قدمنا من سؤالات أربعة (2) ولكل واحد (3) منها نوع من الجواب: فأولها السؤال " بهل " فنقول: هل هذا الشيء موجود أم لا وهل أمر كذا حق أم لا فلابد للمسؤل حينئذ من جواب (4) ضرورة بلا أو نعم؛ فإن قال لا أو قال لا أدري سقط السؤال عنه، على كل حال، لأن الشيء المسؤول عنه لا يخلو من أن يكون مما يدرك بأول العقل (5) وبالحواس أو مما يدرك بالتوالي من المقدمات التي وصفنا، فإن كان مما يدرك بالحواس أو أول (6) العقل فالكلام مع منكر ذلك عناء وكذلك مع من شك فيه. وإن كان مما يدرك بالتوالي فالسؤال أيضا عنه ساقط لأنه مغلوب ولكن لم يثبت شيئا فيتمادى معه في البحث عنه ولأنه قد صدق عن نفسه إذ قال لا أدري؛ ولا سبيل إلى أن يقال لأحد فيما ليس مدركا بأول العقل والحواس لم لم تدر هذا لكن حتى يثبت عنده بالدلائل ثم حينئذ يلزمه الإقرار بموجبها؛ فعلى من أراد إلزامه الإقرار بأمر ما أن يبينه (7) له ويثبته (8) لديه، إذ (9) الواجب أن لا يصدق أحد بشيء لم يقم عليه دليل [82ظ] وأن يصدق به إذا قام عليه الدليل.
وإما إبطال المرء بالبراهين ما أثبته مثبت بلا برهان فهو تبرع منه وقوة، وذلك غير لازم له، إذ المثبت للشيء بلا برهان مدع والدعوى ساقطة إذا لم يؤيدها دليل. والأصل في البنية أن المرء ولد وهو لا يعلم شيئا ثم سمع الأقوال، وكل أحد يحسن عنده رأيه فلا سبيل إلزامه الإقرار بشيء منها أصلا إلا بأن يوجب برهان صحة شيء منها فيلزمه حينئذ، وإلا فليس بعضها أولى بالتصديق من بعض، ولا سبيل إلى أن
__________
(1) في: سقطت من س.
(2) س: أربع.
(3) واحد: سقطت من س.
(4) م: الجواب.
(5) بأول العقل: بالعقل في س.
(6) أول: سقطت من س.
(7) أن يبينه: تبيينه في س.
(8) س: وتثبيته (دون إعجام) .
(9) س: فإذ.(4/321)
تكون كلها حقا فتصدق (1) بجميعها. ونفيها كلها والشك فيها ممكن حتى يقوم البرهان على صحة الصحيح منها.
فإن أجاب بنعم وصحح ما سئل عنه، سئل (2) حينئذ بالمرتبة الثانية وهي السؤال " بما هو (3) " وهو تال للسؤال بهل فيقال له إذا حققه (4) فما هو أي أخبرنا بجوهره أو حده أو رسمه أو ما يمكن أن تخبرنا به عنه من صفات ذاته الملازمة له، (5) أو بما يخبر به عنه مما قام به البرهان إن كان لا يدخل تحت حد، وهذا للباري وحده تعالى (5) .
فإذا أخبر بما أخبر به من ذلك سئل بالمرتبة الثالثة وهو السؤال " بكيف " أي هذا الذي حققت كيف حاله (6) وكيف هيئته وكيف وجود ما أثبت له فيه، (7) وهذا لا يدخل فيه الباري تعالى ولا في الرتبة الرابعة أصلا (7) .
فإذا أخبر (8) بما أخبر به من ذلك (9) سئل بالمرتبة الرابعة وهي " لم " فيقال له لم كان ما أثبت كما وصفت وما برهانك على صحة ما ادعيت مما ذكرت ولا سؤال عليه فيما لم يذكر أخل أو لم (10) يخل إلا بأن يدعى عليه تناقض أو نقص (11) . فعلى من أثبت عليه ذلك أن يقيم البرهان على ما نسب إليه من صحة تناقضه أو نقصه (12) وفي هذه المرتبة الرابعة يقع الاعتراض وطلب الدلائل وإزافتها؛ ومثال ذلك أن
__________
(1) م: فيصدق.
(2) سئل: سقطت من م.
(3) بما هو: بما في س.
(4) م: إذ حققته.
(5) - (5) : سقط من س.
(5) - (5) : سقط من س.
(6) س: حققت حاله وأي شيء.
(7) - (7) : سقط من س.
(7) - (7) : سقط من س.
(8) س: أخبرنا.
(9) من ذلك: في م وحدها.
(10) لم: سقطت من س.
(11) س: يدعي ... تناقضاً أو نقضاً.
(12) س: مناقضة أو نقض.(4/322)
تقول (1) . هل يوجد كسوف قمري أم لا، فيقول المجيب: نعم هو موجود، فلو قال لا قيل له: فهذا السواد (2) الذي يعرض فيه (3) ليلة النصف من الشهر ما هو فإن أنكره (4) أنكر العيان وصار في نصاب من لا يكلم، وإن أقر به قيل له: هو الذي نريد بقولنا " كسوف "، فإذا حققت المعنى لم ننازعك في الاسم، وسألناك بعبارة ترضاها، وهي أن نقول لك: هل يوجد سواد في القمر ليلة النصف من الشهر أم لا فإذا حقق قيل له ما هو فيقول: هو ذهاب النور عن القمر لدخول الأرض بينه وبين الشمس والقمر التي منها يقبل النور؛ فيقول السائل: كيف تدخل الأرض بين الشمس والقمر فيقول المجيب: بأن تكون الشمس في درجة مقابلة للدرجة التي فيها القمر مع تقاطع فلكيهما. فيقول السائل: لم كان ذلك فيصف (5) له المجيب حينئذ هيئة الفلك وانتقال الشمس وقطعها ومدة قطعها [83و] وانتقال القمر ومدة قطعه وما يتم به هذا (6) المعنى، وهكذا (7) القول في كل مسؤول عنه من كل علم.
واعلم أنه لا يجوز أن يقدم مؤخر من هذه المراتب الأربع (8) على ما رتبنا قبله لأنه كلام على غير معهود.
واعلم أن المسؤول بما وبكيف وبلم مخير في الجواب يجيب بما أمكنه مما لا يخرج به عن مقتضى سؤال السائل، إلا أن اللازم في السؤال بما (9) أن يخبر السائل بحد الشيء المسؤول عنه أو رسمه، وإذا سئل بكيف هو: أن يجيب بأحوال الشيء العامة له ولغيره أو الخاصة له الشائعة في نوعه أو ما يخصه به من غيره إن كان المسؤول عنه
__________
(1) أن تقول: مكررة في س.
(2) م: السؤال.
(3) س: في.
(4) أنكره: سقطت من س.
(5) س: فيقول.
(6) س: من هذا.
(7) س: وهذا.
(8) م: الأربعة.
(9) بما: سقطت من س.(4/323)
شخصا. وإن (1) سئل بلم: أن يجيب بالعلة الموجبة لكون ما أخبر بكونه، ويرسم العلة برسمها الذي لا يشاركها فيه غيرها. وينبغي أن تكون العلة لازمة لما يستدل بها عليه كالقتل فإنه علة الموت القتلي إذ لا يجوز أن يكون قتل ولا يكون موت، والموت القتلي معلول للقتل، ولكن ليس كل موت معلولا للقتل، إذ قد (2) يكون موت بلا قتل وكذلك أيضا ليس الموت علة للقتل. والحد مأخوذ من صفة الشيء التي هي (3) صفة عنصره ومأخوذ (4) من تمامه أيضا، كقولك إذا سئلت عن حد الطب أن تقول: صناعة، فهذا عنصر الطب، ثم تقول: مبرئة لأبدان الناس وبهذا يتم الطب ويكون طبا. وإذا سئلت عن المرض أن تقول: ضعف يكون في الجسم بتعادي أخلاطه وخروجها عن (5) الاعتدال، فالضعف عنصر المرض وتعادي الأخلاط تمامه وبه يسمى مرضا (6) . وكذلك قولك في حد المتنفس: انه حيوان يجذب الهواء بآلة طبيعية ويخرجه بها. وينبغي أن يكون الحد والرسم في كل ما ذكرنا وفي كل ما تسأل (7) عنه فتجيب بما يدور (8) على محدوده ومرسومه كقولك: كل خط إما مستقيم وإما معوج، وكل ما هو إما مستقيم وإما معوج خط، وكل جسم طويل عريض عميق، وكل طويل عريض عميق جسم، فهذا واجب (9) لكل ما وصف به (10) في كل زمان وكل مكان وعلى كل حال. فإذا أردت أن تحقق فليكن ذلك بلفظ الإيجاب ومعناه، فإنك إذا قلت حار أو قلت بارد فقد أثبت معنى واجبا، وإذا أردت أن تنفي فليكن ذلك بلفظ النفي ومعناه، فإنك إذا قلت: لا حار، فلم تثبت معنى أصلا بوجه من الوجوه، وكذلك إذا قلت: لا جسم لا عرض؛ وقد يكون
__________
(1) س: وإن كان.
(2) قد: سقطت من س.
(3) س: الذي هو.
(4) م: ومأخوذة.
(5) م: من.
(6) م: ويسمى.
(7) س: يسأل.
(8) س: بما يدل.
(9) م: لازم.
(10) س: وصفته.(4/324)
غير الحار باردا وقد يكون معتدلا وقد يكون طبيعة علوية لا يدخل فيها شيء من هذه الصفات. وإذا (1) أردت أن تقسم فينبغي لك [83ظ] التحفظ من مثل هذا بأن لا تدع قسما إلا حققته، إما بحرف النفي فتكفى المؤونة، أو بتفتيش الأقسام كلها قسما قسما والنظر هل فيها فاسد أو زائد (2) أو نفي محتمل، ومن ما ذكرنا في شروط وضع حرف النفي في مواضعه (3) ، وتهمم بالأسماء والمسميات والكلية (4) والجزئية وبالموصوف والصفة والكيفية والكمية (5) والزمان وسائر الشروط، فإنك إن نظرت نظرا صحيحا لم تخف عنك الحقائق ولا جازت (6) عليك المخارق، وملاك ذلك عون الله عز وجل إياك وتوفيقه لك. وكمال العلم ليس إلا لخالق العلم والمعلوم، لا إله إلا هو (7) .
18 - باب الكلام في رتب (8) الجدال وكيفية المناظرة المؤديين إلى معرفة الحقائق
من حكم الجدال أن لا يكون إلا بين اثنين (9) طالبي حقيقة ومريدي بيان، أما أن يكون أحدهما على يقين من أمره ببرهان قاطع لا بإيهام نفسه ولا بأمر أقنعها به، ويكون الآخر متوهما أنه على حق متمنيا (10) لنفسه ما لم يحصل له، وكالعامهِ (11) في الظلمة خادعا لنفسه مغالطا لعقله، أو مغرورا كالحالم لا يدري أنه نائم حتى ينتبه. فهذا الذي ذكرنا أنه على يقين من أمره ببرهان قاطع يريد أن يوصل إلى مناظره من الحقيقة مثل ما عنده منها، ويحاول أن يحل شك هذا الغالط المخالف له أو المغالط ويفضح سره
__________
(1) م: وإن.
(2) س: فاسداً أو زائداً.
(3) س: موضعه.
(4) م: والكلي.
(5) م: والكمية والكيفية.
(6) س: تجاوزت.
(7) م: وكمال العلم ليس إلا مبثوثاً في العالم لا مجتمعاً لأحد، وذلك تدبير خالق العلوم والمعلومات، لا إله إلا هو.
(8) س: رتبة.
(9) س: يكون الاثنين.
(10) س: مثبتاً.
(11) م: وكالغامر.(4/325)
في المغالطة ويدفع شره.
أو يكون أحدهما موقنا كما قدمنا، والثاني لم يقف على بيان الحقيقة فهو يطلب الحقيقة والوقوف عليها. فإذا اتفق أن يكون المتناظران هكذا فتلك مناظرة فاضلة حميدة العاقبة يوشك أن تنجلي (1) عن خير مضمون وأجر (2) موفور وهي التي أمر الله تعالى بها إذ يقول: {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل:125) وإذ يقول تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: 125) وإذ يقول تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111النمل: 64) . ولم يذم قط هذه المناظرة إلا سخيف جاهل مذموم الطبع مفسد على الناس قد جعل هذا النفار ستارة دون جهله فلم يقنع بأن حرم نفسه الخير حتى سعى في أن يحرمه سواه. وأما إذا كان المتناظران معا غالطين أو مغالطين أو كان أحدهما جاهلا [84و] طالبا والثاني غالطا أو مغالطا فتلك مناظرة يكثر فيها الشغب ويعظم النصب ويكثر الصخب ويشتد الغضب، ويوشك أن تشتد (3) مضرتها، وأما المنفعة فلا منفعة؛ وربما كان الجاهل فيها مسارعا إلى قبول ما قرع سمعه دون برهان صحيح فيهلك باعتقاد الباطل وقبوله. وأما إن كان عالما موقنا فالمضمون له انتقاض البنية بالأسف والغيض إلا أنه محمود في نصرة الحق مأجور بذلك ولعله أن ينفع سامعا منه. وملاك ذلك أن لا ينطق بينهما ثالث بكلمة إلا أن يرى حيفا ظاهرا فيشهد به، وألا يقطع أحدهما كلام صاحبه حتى يتمه، وأن لا يطول المتكلم (4) منهما بما لا فائدة فيه، وأن يفضيا (5) إلى الاختصار الذي لا يقصر عن البيان الموعب. فإن أخطأ أحدهما ثم أراد الإقالة فذلك له، وواجب على الآخر أن يقيله لأن المرء ليس قوله جزءا منه، لكنه واجب عليه ترك الخطأ إذا عرف أنه خطأ، فالمانع من الإقالة ظالم مشغب جاهل. وكذلك إن رأى حجته فاسدة فأراد (6) تركها وأخذ غيرها فذلك له، وهو محسن
__________
(1) س: تخل.
(2) س: أخر.
(3) م: تعظم.
(4) س: الكلام.
(5) م: يقصد.
(6) م: فإذا.(4/326)
في ذلك، وليس ذلك (1) انقطاعا في القول المناظر عنه؛ والمانع من ذلك جاهل ضيق الباع في العلم متغفل (2) لخصمه، وذلك قبيح جدا. فإن تنازعا الكلام أو تنازعا التكليم مثل أن يقول كل واحد منهما: أنا أسأل أو يقول كل واحد منهما للآخر: كن (3) أنت السائل، فهذا عجز من كليهما وقلة ثقة، إما بالقوة على نصر القول الذي يريد بيانه وإما بصحة القول نفسه (4) ؛ فإن كان من قلة ثقة بقوة نصره فليتسع في العلم (5) ولا يتعرض للمناظرة حتى يقوى، وهو كالجبان لا يجب أن (6) يحضر القتال فيوهن طائفته؛ وإن (7) كان من قلة ثقة بصحة القول فهذا ملوم جدا في الإقامة على قول لا يثق بصحته، وواجب عليهما بالجملة (8) الاتفاق على أمر يفتتحان به الكلام.
وأما نحن فطريقتنا في ذلك تخيير الخصم أن يكون سائلا أو مسؤولا فأيهما تخير أجبناه إليه (9) ، فإن رد الخيار ألينا اخترنا أن يكون هو السائل، لأن هذا العمل هو أكثر قصد الضعفاء وعمدة مرغوبهم، وهم يضعفون إذا سئلوا، فنختار حسم أعذارهم وتوفيتهم أقصى مطالبهم التي يظنون أنهم فيها أقوى ليكون ذلك أبلغ (10) في قطع معالقهم. ثم إنه إن بدا له في ذلك واختار أن نسأله أجبناه إلى ذلك أيضا (11) ، إلا أننا لا نقضي بذلك على غيرنا لأنه ليس واجبا، فمن تخير أن يكون سائلا وأذن له خصمه من ذلك فله أن يسأل وليس له أن يتحكم فيترك ذلك [84ظ] وينتقل إلى أن يكون مسؤولا؛ فإن فعل فهذا عجز أو خرق (12) في حكم المناظرة، ونحن نختار
__________
(1) س: في ذلك.
(2) م: متفعل.
(3) كن: سقطت من س.
(4) س: بنفسه.
(5) م: التعلم.
(6) يجب أن: في م وحدها.
(7) س: فإن.
(8) م: بالجملة عليهما.
(9) إليه: سقطت من س.
(10) س: أقوى.
(11) أيضاً: سقطت من م.
(12) م: هذا في.(4/327)
للفاضل أن لا يضايق في ذلك رغبة منا في إظهار الحق، وقلة سرور بالغلبة الظاهرة (1) . وهكذا نحب لكل من اتبع طريقتنا (2) . ومن أذن لخصمه في أن يكون السائل فواجب عليه في حكم المناظرة أن يجيب، فإن لم يفعل فعن ظلم أو عجز (3) ، إلا أن يكون هناك أمر مخوف يمنع من البوح بالجواب فلسنا نتكلم مع المخاوف، وإنما المناظرة مع الأمن، إلا من بذل نفسه لله تعالى وعرف ما يطلب وما يبذل في ذلك فله الفوز إن أراد نصر الإسلام أو الحق فيما اختلف فيه المسلمون فقط. ولا أرى (4) أن ينزل المسلم العاقل عن نفسه (5) التي (6) لا شيء موجود في وقته من الخلق أعز عليه منها ولا أوجب حرمة إلا فيما فيه فوزها الأبدي فقط، فالعاقل لا يرى لنفسه ثمنا إلا الجنة (7) .
ومن سأل فأجابه خصمه فسكت عن المعارضة فإما أن يكون صدق الجواب وإما أن يكون عجز عن المعارضة (8) وهذا مكان قد انقطعت فيه المناظرة التي ابتدآها إلا أن يستأنفا أخرى، اللهم إلا من خوف كما قدمنا (9) ، إلا أن يكون المجيب يأتي بما لا يعقل أو بقحة ومباهتة أو بما هو من غير ما سئل عنه، جهلا أو مكابرة، فمن هذه صفته فسكوت الخصم عن معارضته واجب (10) ، إلا بإخباره بأن الذي أتى به ليس مما هما فيه ويبين الدليل على ذلك فقط، إلا ما كان من ذلك لا يحتاج إلى
__________
(1) الظاهرة: سقطت من س.
(2) س: طريقنا.
(3) س: جهل.
(4) م: نرى.
(5) م: يبذل ... نفسه.
(6) التي: سقطت من س.
(7) كرر ابن حزم رأيه هذا في " مداواة النفوس " (رسائل ابن حزم 1: 338) فقال: لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل، في دعاء الحق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم، وباذل نفسه في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى ... وقال: العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة.
(8) فإما أن يكون ... المعارضة: سقط من س.
(9) كما قدمنا: سقط من س.
(10) س: جواب.(4/328)
دليل لوضوحه واستواء السامعين في علمه. والفلج (1) في المناظرة هو ظهور البرهان الحقيقي فقط، وليس انقطاع الخصم فلجا (2) ، فقد ينقطع جهلا أو خوفا أو لشغل بال طرقه، وكل ذلك ليس قطعا للحق إن كان بيده. وليست شهادة الحاضرين بالغلبة لأحدهما شيئا إذ قد يكونون موافقين في رأيهم لرأي الذي شهدوا له فسبيلهم وسبيله واحدة (3) ، والإنصاف في الناس قليل. وقد يكونون غير محصلين لما (4) يقولون ولا فهماء ما (5) يسمعون وهذا كثير جدا. وأما من انقطع عن معارضة خصمه عجزا عن الجواب لا لخوف مانع فهو المغلوب لا قوله، وإن كان ذلك عن حقيقة برهان فهو مغلوب وقوله معا، ولا يضر ما صح بالبرهان عجز معتقده عن نصره، ولا يقوى ما لم يصح ببرهان لتمويه من مموه (6) في نصره بالسفطسة. والبرهان لا يتعارض أبدا فما صح ببرهان فلا يبطله برهان آخر أبدا إلا أن يكون مما يستحيل، كبرهان صح بحياة زيد أمس ثم صح آخر بموته اليوم. وهكذا كل ما يمكن تنقله ولا ينتقل شيء مما ذكرنا مما صح [85و] ببرهان إلا برهان آخر، وإلا فحكم البرهان الأول باق. ولا ينتقل الشيء عن الإمكان إلى الوجوب إلا ببرهان، ولا ينتقل بعد الوجوب إلى الإمكان إلا ببرهان، والمعاندة والمكابرة عار وإثم وسخف.
واعلم أن السائل إذا قال لخصمه: ما قولك في كذا فالجواب مفوض إلى المسؤول يجيب بما شاء. وأما إذا قال له: أمر كذا أحق هو فلابد من أن يجيب إما بنعم أو بلا كما قدمنا - (7) ، كسائل سأل فقال: ما تقول في الأرض أكرية أم لا، فلابد له من نعم أو لا. أو لو قال له: ما تقول في لحوم الحمر الأهلية (8) أحلال أم لا فكذلك أيضا، أو قال له هل الخلاء موجود أو لا فلابد من نعم
__________
(1) س: والفلح.
(2) س: فلحاً.
(3) س: واحد.
(4) س: ما.
(5) س: بما.
(6) م: بتمويه من موه.
(7) كما قدمنا: سقط من س.
(8) لحوم الحمر الأهلية: الخمر في س.(4/329)
أو لا. وكذلك إذا سأل السائل بتقسيم فقال: ما قولك في كذا وكذا: أكذا أو كذا (1) ، مثل قوله: ما تقول في الورد أبارد أم حار أم معتدل أو ما تقول في كسب الحجام أمستحب أم حرام أم مكروه فإن كانت الأقسام مستوفاة فلا بد للمسؤول من التزام أحد تلك الأقسام، فإن لم يفعل فهو منقطع بالحقيقة، وإن كانت غير مستوفاة فالسائل جاهل أو معاند، فإن ظهر انقطاع الخصم فالمتقدمون يقولون: ليس على السائل بيان الحقيقة، وأما نحن فنقول: إن ذلك عليه، ومن أبطل حكما ما فعليه أن يبين قوله، فإما أن يدخل في مثل ما أبطل وإما أن يجلي الحيرة. وبيان الحقائق فرض وقد أخذ الله تعالى ميثاق العلماء أن يبينوا ما علموا ولا يكتمونه (2) .
وإذا استوفى الخصم الأقسام وزاد فيها قسما فاسدا فليس للآخر أن يدع ما هما فيه ويأخذ في الاحتجاج في بيان القسم الزائد الذي زاد لكن يقول له: زدت قسما فاسدا وهو كذا، وإنما ذكرته لك لئلا تجوزه (3) علي فيكون سكوتي عنه عند من لا ينصف مثل إقراري به ولكني لا (4) أستضر بذلك وألتزم من الأقسام التي ذكرت قسما كذا، وهو الصحيح.
واعلم أن من ترك ما هو فيه مع خصمه من المناضرة وخرج إلى مسألة أخرى فجاهل مشغب منقطع (5) كمثل ما شاهدنا كثيرا ممن ترك ما هما بسبيله وجعل يتعقب (6) لحن خصمه (7) في كلامه، ولسنا نقول هذا نصرا للحن ولكن نصرا للحق (8) وتركا للاشتغال بغير ما شرعا فيه، وليس على الخصم (9) أكثر من أن يعبر عن مراده بما يفهم به خصمه ولا مزيد بأي لفظ كان وبأي لغة كان، إلا أننا نختار الاختصار الجامع
__________
(1) أكذا أو كذا: سقط من م.
(2) م: أو.
(3) س: تحور.
(4) لا: سقطت من س.
(5) س: مقنع.
(6) س: يتبع؛ م: يترك ... ويجعل.
(7) س: صاحبه.
(8) ولكن ... للحق: سقط من س هنا، ووقع بعد قليل في غير موضعه.
(9) س: للخصم.(4/330)
[85ظ] لكثير المعاني في (1) قليل الألفاظ وسبطها وفصيحها لمن قدر على ذلك، وإلا فلا (2) لوم عليه إلا في مكان واحد، وهو أن يسأله السائل والمسؤول يدري أن السائل يقول بقول يؤول (3) به إلى التزام قول الخصم أو إلى التناقض، فجوابه ها هنا بأن يقول له: ما تقول (4) أنت في كذا وكذا أي فإني أقول بقولك (5) فإن قال له الذي عورض بهذا: لست أقول ما تظن ولا أقول شيئا ولا أنصر ها هنا (6) جوابا وإنما أنا طالب برهان ولاعليك من خطائي إن أخطأت أنا، فانصر قولك أو أقر بالخطاء، فواجب حينئذ أن لا يعارضه بسؤال أصلا لكن ببرهان يبين به صحة قوله فقط.
وقد يكون الخصم يسامح خصمه في أن يريه الإقرار بفساد قوله ثم يقول له: فدع قولي وهات قولك وبين (7) وجه الصواب. وهذا الفعل خطاء إلا من (8) وجهين: أحدهما أن يكون صادقا في إقراره ببطلان قوله ورجوعه عنه وطلبه معرفة الحق، فهذا فضل عظيم وفاعله محمود جدا. والثاني: أن يكون قد علم أن خصمه يأتي بمثل ذلك فيريد يلزمه مثل ما ألزمه هو ليكف عن (9) نفسه شغبه وهذا إنصاف. ومثال ذلك أن يقول أحد الخصمين: الجدال مكروه، فيقول الآخر: فإذا هو مكروه فبأي شيء يوصل عندك إلى معرفة الحق مما اختلف فيه من هو عندك رضا من أهل ملتك هات ما (10) عندك ودع الجدال الآن جانبا. وهذا يرجع إلى ما قلناه قبل من وجود (11) أقسام تبطل كلها إلا واحدا، فيصح ذلك الواحد، فإن الخصم حينئذ لابد له من أن يذكر
__________
(1) س: من.
(2) س: لا.
(3) يؤول: يعود بهامش س.
(4) ما تقول: سقطت من م.
(5) م: أي قولي كقولك.
(6) س: طامعاً.
(7) م: فبين.
(8) م: في.
(9) س: من.
(10) ما: سقطت من س.
(11) س: وجوه.(4/331)
التقليد أو الإيهام (1) أو ترك طلب الحق. وكل هذه الوجوه باطل فاسد فإذا بطلت صح الجدال. فهذا الذي قلنا حصر للخصم إلى هذا الوجه من وجوه البرهان فيراجع الحق أو ينقطع إما بسكوت أو بهتان يأتي به.
وقد ذكرنا في باب أقسام المعارف ما يعارض به الخصم الجاهل من أشياء يعدها الجاهل حجة وليس حجة (2) أصلا فوجب أن يكف ضرر جهلهم بها على كل حال.
واعلم أن من الخطاء معارضة الخطاء بالخطاء في المناظرة مثل أن يقول السائل للمسؤول: أنت تقول كذا أو لم تقل كذا، فيقول المجيب: وأنت تقول أيضا (3) كذا أو لأنك أنت أيضا تقول كذا (4) ، فيأتيه بمثل ما أنكر هو عليه أو أشنع، فهذا كله خطاء فاحش وعار عظيم واقتداء بالخطاء اللهم إلا في [86و] مكانين: أحدهما أن يكون القول الذي اعترض به المجيب قولا صحيحا ينتج ما يقول هو، فهذا وجه فاضل وقطع للسائل. وذلك كمعتزلي قال لآخر: لم قلت إن الله تعالى خالق (5) الشر فقال لأنك تقول معي إن الله تعالى خلق (6) جميع العالم من جواهره وأعراضه، والشر عرض، فالله تعالى خالق الشر. فهذه معارضة صحيحة إلا أن ظاهر لفطها غير محكم لأنه في الظاهر إنما جعل علة قوله بما يقول قول خصمه بما يقول، فلزمه (7) أنه لولا قول خصمه بذلك لم يقل هو بما قال. وهذا خطاء وإنما الصواب أن يقول: لقيام البرهان على أن الله تعالى خالق الجوهر والعرض ثم يمضي في مسألته. والوجه الثاني هو أن يكون السائل مشغبا يقصد التشنيع والإغراء والتوبيخ
__________
(1) م: الإلهام.
(2) الخصم الجاهل ... حجة: سقط من م.
(3) م: أيضاً تقول.
(4) أو لأنك ... كذا: سقط من م.
(5) م: خلق.
(6) م: خالق.
(7) م: فيلزمه.(4/332)
ولا يقصد طلب حقيقة، فهذا واجب أن يكسر غربه ويردع عيبه (1) بمثل هذا فقط ولا يناضر بأكثر من ذلك، إذ الغرض كف ضرره فقط، ولا يكف ضرره بمناظرة (2) صحيحة أصلا فلا شيء أكف لضرره مما ذكرنا.
واعلم أنه لا يجوز أن يصحح الشيء بنفسه البتة، وجائز أن يبطل بنفسه، ولا تظن أن الأوائل التي منها يؤخذ البرهان صححت بأنفسها فتخطىء، بل تلك أشياء قد ذكرنا أن الخلقة صححتها وأنه لم يخل ذو الفهم قط من معرفة صحتها. ولا تظن أيضا أن إبطال الشيء بنفسه تصحيح له فتخطئ ولم يبطل بنفسه من أجل أنه صحح إبطاله به فكان حينئذ يكون مصححا مبطلا وذلك محال، لكن لما أبطل نفسه أيقنا أنه باطل لأن الحق الصحيح لا يبطل أصلا، ولأنه نقض حكمه، فكل (3) ما انتقض فباطل. وليس قول من قال مبطلا للنظر: إن النظر لا يصحح (4) بالنظر، قولا صحيحا، لأن النظر الذي به تصحح (5) الأشياء هو ردها إلى المقدمات الأوائل التي قد (6) قضى الطبع بصحتها، فما رجع (7) إليها فشهدت له فهو صحيح، وما لم يرجع إليها فهو فاسد، فهذا النظر هو النظر الذي به تصح الأشياء لا أن (8) النظر إنما صح (9) بنظر آخر (10) . وإذا انقطع الخصم (11) فقد انقطعت المناظرة فلهما حينئذ أن يبتدئا سؤالا ثانيا. وللمنقطع حينئذ أن يقول: أنا أسألك سؤالا يتصل بمسألتنا وألزمك أنك قائل كقولي الذي أنكرت عليّ. وليس للآخر أن يمتنع من ذلك، فإن امتنع فهو متسلل ضعيف، فإن وفى الآخر بشرطه فكلاهما ملوم إن لم يرجعا إلى الحق إذا عجز المسؤول
__________
(1) م: حمقه؛ س: حيبه.
(2) م: بمناقضة.
(3) م: وكل.
(4) س: يصح.
(5) س: تصح.
(6) قد: سقطت من م.
(7) س: رجعت.
(8) س: لأن.
(9) س: يصح.
(10) آخر: سقطت من م.
(11) س: الحكم.(4/333)
عن التفريق بين القولين، وكما نلوم من ظهر إليه برهان فتمادى على الباطل ولم يرجع [86ظ] إلى موجب البرهان، فكذلك نلوم من سارع إلى القبول لما سمع بلا برهان، وكما نحمد من رجع إلى موجب البرهان فكذلك نحمد من ثبت على موجبه ولم يرجع لاقناع سمعه أو سفسطة؛ وإن (1) عجز عن كسرهما، فحصل لنا من (2) هذه المقدمات حمد من لم يعتقد إلا ما أوجبه البرهان فقط.
والتكثير من الأدلة قوة وليس يعده عجزا إلا جاهل منقطع. وحقق كل ما تسمعه من خصمك ولا تتغفله (3) وأقله إن أخطأ ولا تدع مشكلا إلا وقفته عليه، فإذا استقر البيان سليما من النقص والإشكال فأجب حينئذ. وكما (4) تطالب خصمك بذلك فالتزم له سواء سواء. وبين سؤالك سليماً من النقص والإشكال. وإياك وإدخال ما ليس من المناظرة فهذا من فعل أهل المجون (5) أو من يريد أن يطيل الكلام حتى ينسي آخره أوله لينسى غلطه وسقطه. وتأمل مقدماته ومقدماتك وعكسك وعكسه (6) ونتائجه فلا ترض لنفسك من خصمك ولا من نفسك لخصمك (7) إلا بالحق الواضح.
واعلم أنه ليس على المرء أكثر من نصر الحق وتبيينه، ثم ليس عليه أن يصور للحواس أو في النفوس ما لا سبيل إلى تصويره وما لا صوره له أصلا، كمن أثبت أن الواحد الأول لا جوهر ولا عرض ولا جسم ولا في زمان ولا في مكان ولا حاملا ولا محمولا، فأراد الخصم منه أن يشكل له ذلك، فهذا لا يلزم؛ وهذا كأعمى كلف بصيرا أن يصور له الألوان، فهذا ما لا سبيل إليه، وهذا تكليف فاسد لا نقص في العجز عنه على المكلف (8) . وأما ما دام ذلك ممكنا فواجب على المكلف بيانه
__________
(1) س: فإن.
(2) لنا من: لنا طرين في س.
(3) س: تغفله.
(4) س: وكلما.
(5) س: الجنون.
(6) م: وعكسه وعكسك.
(7) م: من نفسك لخصمك ولا من خصمك لنفسك.
(8) س: التكليف.(4/334)
بأقصى ما يقدر عليه. ولقد أخبرني مؤدبي أحمد بن محمد بن عبد الوارث (1) رحمه الله أن أباه صور لمولود (2) كان له أعمى ولد أكمه حروف الهجاء أجراما من قير ثم ألمسه إياها حتى وقف على صورها بعقله وحسه، ثم ألمسه تراكيبها (3) وقيام الأشياء (4) منها حتى تشكل الخط وكيف يستبان الكتاب ويقرأ في نفسه ورفع بذلك عنه غمة عظيمة. وأما الألوان فلا سبيل إلى ذلك فيها وليس إلا الإقرار بما قام به البرهان وإن لم يتشكل في النفس أصلا.
ولقد امتحنت مرة ببعض أصدقائنا فإنه سامنا أن نريه العرض منخزلا عن الجوهر قائما بنفسه، وقال لي: إن لم ترني ذلك فإني لا أصدق بالعرض. فلست أحصي كم مثلث له تربيع الطين ثم تدويره وذهاب [87و] التربيع وبقاء الطين بحسبه، وحركات المرء من قيامه وقعوده (5) وحمرة الثوب بعد بياضه، فأبى في (6) كل ذلك إلا أن أريه العرض مزالا عن الجوهر باقيا بحسبه يراه في غير جوهر، فلا أحصي كم قلت له: إن العرض لو قام بنفسه وكان كما تريد مني لم يكن عرضا وإنما هو عرض لأنه بخلاف ما تريد أن تراه عليه، فلج (7) وتمادى (8) فعدت إلى أن قلت له مهازلا: لو أمكنك إخراجي عن كرة العالم فربما كان يمكن حينئذ لو أمكن انخزال العرض عن الجوهر ولا سبيل إلى كل ذلك أن تراه في غير (9) جوهر؛ فأما والعالم كله (10) كرة مصمتة وجوهرة متصلة متجاورة الأجزاء لا تخلخل فيها ولا خلاء (11) ، فحتى لو انفصل العرض من جوهر ما وجاز أن يبقى بعد انفصاله عنه لما صار إلا في جوهر آخر، لا
__________
(1) أحمد بن عبد الوارث أبو عمر يعرف بابن أخي الزاهد وهو مؤدب ابن حزم في النحو (انظر التكملة: 790 والجذوة: 99) .
(2) م: لمؤدب.
(3) س: تراكبها.
(4) م: الأسماء.
(5) م: ثم قعوده.
(6) في: سقطت من س.
(7) س: فلح.
(8) وتمادى: سقطت من س.
(9) م: كل.
(10) كله: سقطت من م.
(11) س: حلل.(4/335)
بد من ذلك (1) . فما ردعه هذا الهزء عما هجس في نفسه وفارقته آبيا فما أدري أوفق بعدي لرفض هذا المرار (2) الهائج أم لا. فليس مثل هذا التكليف الفاسد وكون المرء لا تتشكل له الحقائق بقادح (3) في البرهان ولا بملتفت إليه. وكفانا من ذلك كله (4) وحسبنا قيام صحة ذلك في النفس بدلالة العقل على أنه حق فقط. ولو جاز لكل من لا يتشكل في نفسه شيء أن ينكره لجاز للأخشم أن ينكر الروائح، وللذي ولد أعمى أن ينكر الألوان، ولنا أن ننكر الفيل والزرافة، وكل هذا باطل. وإنما يجب على العاقل أن يثبت ما أثبت البرهان ويبطل ما أبطل البرهان، ويقف فيما لم يثبته ولا أبطله البرهان (5) حتى يلوح له الحق. وكذلك ليس علينا قسر الألسنة إلى الإقرار بالحق لكن علينا قسر النفوس إلى الإقرار به وقطع الألسنة عن المعارضة الصحيحة لعدم وجودها، إذ لا يتعارض البرهان، وإذا أقمناه فقد أمنا أن يقيمه خصمنا، وكذلك أيضا إن قصر مقصر عن إقامة البرهان على حق يعتقده فذلك لا يضر الحق شيئا. ولا يفرح بهذا من خصمه إلا الذي يفرح بالأماني وهو الأحمق المضروب به المثل. ولا تقنع بغفلة خصمك بل انظر (6) في كل ما يمكن أن يصح به قوله، فإن وجدت حقا ببرهان فارجع إليه ولا تتردد، ولا ترض لنفسك ببقاء ساعة آبيا من قبول الحق. وإن وجدت تمويها فبينه ولا تغتر بذهاب خصمك عنه فلعل غيره من أهل مقالته يتفطن لما غاب عنه. هذا ولا تقنع إلا بحقيقة الظفر ولا تبال أن قيل عنك إنك مبطل، فلك فيمن نسب إليه ذلك من المحققين أكرم أسوة من الأنبياء عليهم السلام فمن (7) دونهم. نعم حتى إن كثيرا منهم قتل دفعا [87ظ] لحقه ونسبة (8) للباطل إليه. ولا تستوحش مع الحق إلى أحد، فمن كان معه الحق فالخالق تعالى معه (9) . ولا تبال بكثرة خصومك ولا بقدم أزمانهم ولا بتعظيم الناس إياهم ولا
__________
(1) لا بد من ذلك: سقط من س.
(2) س: المراء.
(3) س: قادح؛ م: بكادح.
(4) كله. سقطت من س.
(5) س: برهان.
(6) بل انظر: سقط من س.
(7) س: ومن.
(8) س: ونسباً.
(9) م: معه تعالى.(4/336)
بعزتهم (1) فالحق أكثر منهم وأقدم وأعز وأعظم عند كل أحد وأولى بالتعظيم.
وإذا شئت أن تتيقن فساد مراعاة ما ذكرنا فتأمل أهل كل ملة وكل أمة، فإنك تجدهم مطبقين على تعظيم أسلافهم وصفتهم بكل فضيلة وبكل خير وذم أسلاف من خالفهم. وتأمل كل قول يقال، فقد كان القائلون به في أول أمره (2) قليلا، وأكثر ذلك يرجع إلى واحد ثم كثر أتباعه. وفتش كل قول قديم تجده قد كان ابن ساعة بعد أن لم يكن، ثم مرت عليه الأيام والشهور والسنون والدهور. فاعلم أن مراعاة هذه الأمور من ضعف العقل وقلة العلم.
ولا تبال (3) أيضا وان (4) كانوا فضلاء على الحقيقة (5) فقد يخطئ الفاضل ما لم يكن معصوما. ولو أن ذلك الفاضل لاح له ما لاح لك لرجع إليك ولو لم يفعل لكان غير فاضل. وأخبرك بحكاية لولا رجاؤنا في أن يسهل بها الإنصاف على من لعله ينافره (6) ما ذكرناه، وهي: أني ناظرت رجلا من أصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب فوجدت برهانا صحيحا يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد (7) أصحابنا ممن (8) شهد ذلك المجلس فعرفته بذلك، ثم رآني (9) قد علمت على المكان من الكتاب، فقال لي (10) ما تريد فقلت: أريد (11) حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان وإعلامه بأنه المحق وأني كنت المبطل وأني راجع (12) إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت وقال لي: وتسمح
__________
(1) س: بعدتهم.
(2) م: مرة.
(3) س: تبالي.
(4) م: وإن.
(5) على الحقيقة: سقطت من م.
(6) س: ينافر.
(7) م: معي آخر من.
(8) م: قد.
(9) س: ثم إني.
(10) لي: سقطت من م.
(11) أريد: سقطت من س.
(12) س: راجعاً.(4/337)
نفسك بهذا! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما (1) أخرته إلى غد.
واعلم أن مثل (2) هذا الفعل يكسبك أجمل الذكر مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يعدله. ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب، أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب، وأنت بالحقيقة مغلوب، فتكون خسيسا وضيعا جدا وسخيفا البتة وساقط الهمة وبمنزلة (3) من يوهم نفسه أنه ملك مطاع وهو شقي منحوس، أو في نصاب من يقال له إنك أبيض مليح وهو أسود مشوه، فيحصل مسخرة ومهزأة عند أهل العقول الذين قضاؤهم هو الحق.
واعلم أن من رضي بهذا فهو مغرور (4) وسبيله سبيل صاحب الأماني فإنها (5) بضائع النوكى؛ والمغرى بها يلتذ بها (6) [88ظ] حتى إذا ثاب إليه عقله ونظر في حاله علم أنه في أضاليل وأنه ليس في يده شيء.
وإياك والالتفات إلى من يتبجح بقدرته في (7) الجدل فيبلغ به الجهل والنوك (8) إلى أن يقول: إني قادر على أن أجعل الحق باطلا والباطل حقا، فلا تصدق مثل هؤلاء الكذابين فإنهم سفلة أرذال (9) أهل كذب وشر ومخرقة.
واعلم أنه لا سبيل إلى ذلك لأحد ولا هو في قوة مخلوق أصلا، والتمويهات كلها قد بينتها لك، وهي مضمحلة، إذا حصلت وفتشت لم توجد إلا دعاوى (10) وحماقات. ومن فاحش ما يعرض في هذه السبل أن يلوح البرهان للمرء فيحدوه الالف
__________
(1) س: ما.
(2) مثل: سقطت من س.
(3) س: بمنزلة.
(4) س: معذور؛ م: فمغرور.
(5) س: وإنها.
(6) س: فيها.
(7) م: على.
(8) والنوك: سقطت من س.
(9) م: أنذال.
(10) س: دعاو.(4/338)
بما قد ألفه من المذاهب (1) إلى أن يقول: لابد أن (2) ها هنا حجة (3) تعارض هذا البرهان وإن خفيت عني. واعلم أن هذا مغرور شقي جدا لأنه غلب ظنه على يقينه، وصدق ما لم يصح عنده، وكذب ما صح عنده، وأثبت ما لعله أن لا يكون، وترك حاصلا قد كان؛ وهذا غاية الخذلان، ومثله من ترك برهانا قد صح عنده لتمويه لم يتدبره فحمله التهور على اعتقاده.
وبالجملة فالجهل لا خير فيه، والعلم إذا لم يستعمله صاحبه فهو أسوأ حالا من الجاهل، وعلمه حجة زائدة عليه. وإياك وتقليد الآباء فقد ذم الله عز وجل ذلك، ولو كان محمودا لعذر من وجد آباءه زناة أو سراقا أو على بعض الخلال التي هي أخبث مما ذكرنا في أن يقتدي بهم. وإياك والاغترار بكثرة صواب الواحد فتقبل له قولة واحدة بلا برهان، فقد يخطئ في خلال صوابه في ما (4) هو أبين وأوضح من كثير مما أصاب فيه. واقنع من خصمك بالعجز عن (5) أن ينصر قوله، ولا تطالبه بالإقرار بالغلبة، فليس ذلك من فعال (6) أهل القوة. وهذا باب لا ينتج شيئا (7) إلا العداوة وأن توصف بلؤم الظفر، ولتكن رغبتك في أن تكون محقا عالما عاقلا (8) غالبا في الحقيقة، وإن سميت مبطلا جاهلا أحمق مغلوبا، أكثر من رغبتك في أن تسمى محقا عالما عاقلا غالبا وأنت في الحقيقة مبطل جاهل أحمق (9) مغلوب؛ بل لا ترغب في هذا (10) أصلا وعاده (11) واكرهه جدا ولك فيمن وصفه الجهال بذلك (12)
__________
(1) بما قد ... المذاهب: سقط من م.
(2) ان: سقطت من س.
(3) س: حجة برهان.
(4) س: بما.
(5) س: على.
(6) م: فعل.
(7) شيئاً: سقطت من س.
(8) عاقلاً: سقطت من س.
(9) أحمق: سقطت من س.
(10) م: في غير هذا.
(11) وعده: سقطت من س.
(12) م: بذلك الجهال.(4/339)
قبلك من المرسلين عليهم السلام والأفاضل المتقدمين (1) أفضل أسوة وأكرم (2) قدوة، وكذلك أن توصف بالفسق وأنت فاضل خير من أن توصف بالفضل وأنت فاسق.
وتحفظ من الخروج من مسألة إلى مسألة قبل تمام الأولى وبيانها (3) فهذا من أفعال أهل الجهل.
واحذر مكالمة من ليس مذهبة إلا [88ظ] المضادة والمخالفة أو الصياح (4) والمغالبة، فلا تتعن به ولو أمكنك (5) صرفه عن ضلاله بالوعظ لكان حسنا. فإن لم يكن فبالزجر والقدع (6) فإن كان ممتنع الجانب فليجتنب كما يجتنب المجنون فأذاه أكثر (7) من أذى كثير من (8) المجانين. وتحفظ من الكلام بحيث يتعصب عليك ظلما، واحذر (9) من أن تجيب نفسك عن خصمك مثل أن تقول له: إن قلت كذا ألزمك كذا (10) ، فلعله لا يقول ذلك فتخزى، إلا أن تكون مؤلفا (11) ، فلا بد لك من ذلك (12) ومن إنصاف خصمك وتقصي حججه وإلا كنت ظالما. وتحفظ أن تقول خصمك ما لم يقل (13) فتكذب. وتحفظ من أن تجيب من (14) لم يسألك فتحصل على الخزي (15) ؛ وأقل ذلك أن يعرض عنك، فكيف إن قال لك: لم
__________
(1) م: المقدسين.
(2) م: أكرم ... وأفضل.
(3) س: وبيانه؛ م: قبل تمام بيان الأولى.
(4) م: والصياح.
(5) م: أمكن.
(6) س: والقذع.
(7) م: أعظم.
(8) كثير من: سقط من س.
(9) س: وتحفظ.
(10) م: لزمك.
(11) م: إن كنت.
(12) من ذلك و: سقطت من س.
(13) م: يكذب.
(14) م: ما.
(15) م: الخزية.(4/340)
أسألك. ولا تتكلم على لسان مناظر (1) غيرك حتى يدع الكلام ويبيح لك مناظره أن تكلمه، فأقل ما في هذا أن يقول لك: أنا غني عن نصرك، ويقول له خصمه: أنا أقويك به مباركا لك (2) فيه فتخزى جدا (3) . وإياك والكلام في علم من العلوم حتى تتبحر فيه إلا على سبيل (4) الاستفهام والتزيد إلا ما أحسنت منه فقط. واعترف لمن هو أعلم منك فهو أزين (5) لك، ولا تبخسه حقه فلن ينقصه تنقصك (6) إياه بل هو نقص فيك.
وإياك والامتداح بما تحسن، واترك ذلك فهو من غيرك فيك أحسن، ولا تحقر أحدا حتى تعرف ما عنده فربما فجأك منه ما لم تحتسب، وليس ذلك إلا من فعل أهل النوك الذين لا يحصلون. واحذر كل من لا ينصف وكل من لا يفهم، ولا تكلم إلا من ترجو إنصافه وفهمه، وأنفق الزمان الذي يمضي ضياعا في مكالمة من لا يفهم ولا ينصف فيما هو أعود عليك تعش غانما للفضائل (7) سالما من المغالط (8) وهذا حظان جليلان جدا. واجعل بدل كلامه (9) حمد الله عز وجل على السلامة من مثل حاله، ولا تتكلم إلا في إبانة حق أو استبانتة.
واعلم أنه لا يقدر أحد على هذه الشروط إلا بخصلة واحدة وهي أن يروض نفسه على قلة المبالاة بمدح الناس له أو ذمهم إياه، ولكن يجعل وكده طلب الحق لنفسه فقط (10) .
وقد ذكرت الأوائل في صفة المنقطع الذي لا ينصف (11) وجوها نذكرها وهي:
__________
(1) م: حاضر.
(2) م: له.
(3) جداً: مكررة في م.
(4) م: معنى.
(5) س: فهذا زين.
(6) س: نقصك؛ م: فلن ينقصك إياه.
(7) م: من الفضائل.
(8) م: المغايظ.
(9) س: كلامك.
(10) هذه الفقرة سقطت من م.
(11) الذي لا ينصف: سقط من س.(4/341)
منها أن يقصد إبطال الحق أو التشكيك (1) فيه ومن هذا النوع أن يحيل في جواب ما يسأل عنه على أنه ممتنع غير ممكن. والثاني: أن يستعمل البهت والرقاعة والمجاهرة بالباطل ولا يبالي بتناقض قوله ولا بفساد ما ذهب إليه (2) ومن ذلك أن يحكم بحكم ثم ينقضه. والثالث: الانتقال من قول إلى قول وسؤال إلى [89و] سؤال على سبيل التخليط لا على سبيل الترك والإنابة (3) . والرابع أن يستعمل كلاما مستغلقا يظن الجاهل أنه مملوء حكمة وهو مملوء هذرا. ومن أقرب ما حضرني ذكره حين كتابي هذا على كثرة (4) هذا الشأن في كتب الناس فكتاب أبي الفرج القاضي المسمى " باللمع " (5) فإنه مملوء كلاما مغلقا لا معنى له إلا التناقض والهدم لما بنى (6) . وفي زماننا هذا من سلك هذه الطريق في كلامه فلعمري لقد أوهم خلقا كثيرا أنه ينطق بالحكمة ولعمري إن أكثر كلامه ما يفهمه هو فكيف غيره. والخامس أن يحرج خصمه ويلجئه إلى تكرار الكلام بلا زيادة فائدة لأنه يرجع إلى الموضوع الذي طرد عنه ويلوذ حواليه بلا حياء ولا تقوى ولا مزيد أكثر من وصف قوله بلا حجة. والسادس الإيهام بالتضاحك والصياح والمحاكاة والتطييب (7) والاستجهال والجفاء وربما بالسب (8) والتكفير واللعن والسفه والقذف للأمهات (9) والآباء وبالحرى إن لم يكن لطام وركاض. وأكثر هذه المعاني ليست تكاد تجد في أكثر أهل زماننا غيرها، والله المستعان.
والناس في كلامهم الذي فضلوا به على البهائم والذي لولاه لكانوا (10) من أشباه
__________
(1) س: التشكك.
(2) م: بفساد ما يأتي به.
(3) س: والإنابة.
(4) هذا على كثرة: سقط من س.
(5) اللمع لأبي الفرج القاضي: هو كتاب اللمع في أصول الفقه لأبي الفرج المالكي عمر بن محمد المتوفى سنة 331 هـ (انظر الفهرست) .
(6) م: بني.
(7) س: والتطبيب.
(8) م: السب.
(9) س: بالأمهات.
(10) س: كانوا.(4/342)
الحمير والبقر، على ثلاثة أصناف (1) : فصنف لا يبالي فيما صرف كلامه مبادرا إلى الإنكار أو التصديق أو المكابرة دون تحقيق، فإن سألته إثر انقضاء كلامه عن القول الذي نصر دون تحقيق لم يدر ولا عرف من نصر ولا قوله، وهذا هو الأغلب في الناس، وتجد من هذه صفته يضن على أخيه وجاره بزبل منتن عند رجلي حماره فلا يبذله لمن ينتفع به، وهو أسمح الناس بالنطق الذي بان به عن التيوس والكلاب في غير أجر ولا بر لكن في الباطل والوزر والإفساد، وإن لم يحصل من ذلك ظاهرا إلا على تخشين (2) أنابيب صدره وتصديع رأسه واحتدام طبعه وإن سفه وسفه عليه. وصنف آخر ينصر ما عقد عليه نيته واعتقده بغير برهان، فلا يبالي بما نصره من حق أو باطل أو محال أو مكابرة أو أذى، وكذلك لا تجده اعتقد ما اعتقد إلا إلفا أو تقليدا أو شهوة، دون تحري حق ولا مجانبة باطل، وهؤلاء كثير وهم دون الأولين. وصنف ثالث لا يقصدون إلا إلى (3) نصر الحق وقمع الباطل وهؤلاء قليل جدا، ولا أعلم في الموجودات شيئا أقل [89ظ] منه البتة، نسأل الله تعالى أن يثبتنا في عدادهم (4) وأن لا يحيلنا (5) عن هذه الصفة الكريمة بمنة آمين، فإن العاقل ينبغي له أن يبغض نفقة حياته ونطقه (6) اللذين بهما أبانه خالقه تعالى عن الجمادات وسائر الحيوانات في غير ما ينتفع به لمعاده أكثر مما يبغض إنفاق ماله الذي هو غاد عنه ورائح.
واعلم أن ما ذكرنا من الوقوف على الحقائق لا يكون إلا بشدة البحث، وشدة البحث لا تكون إلا بكثرة (7) المطالعة لجميع الآراء والأقوال (8) والنظر في طبائع
__________
(1) عرض ابن حزم لهذه الفكرة في رسالته في مداواة النفوس (رسائل 1: 381 ف: 147) فقال: رأيت الناس في كلامهم الذي هو فصل [ما] بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات ينقسمون أقساماً ثلاثة: أحدها لا يبالي فيما أنفق كلامه، فيتكلم بكل ما سبق على لسانه غير محقق نصر حق ولا إنكار باطل، وهذا هو الأغلب في الناس. والثاني أن يتكلم ناصراً لما وقع بنفسه أنه حق ودافعاً لما توهم أنه باطل، غير محقق لطلب الحقيقة لكن لجاجاً فيما التزم، وهذا كثير وهو دون الأول. والثالث: واضع الكلام في موضعه وهذا أعز من الكبريت الأحمر.
(2) س: تحسين.
(3) إلى: سقطت من م.
(4) س: عددهم.
(5) وأن لا يحيلنا: ولا يخلينا في س.
(6) م: وموته.
(7) م: بكثير.
(8) م: الأقوال والآراء.(4/343)
الأشياء وسماع حجة كل محتج والنظر فيها وتفتيشها، والإشراف على الديانات والآراء (1) والنحل والمذاهب والاختيارات واختلاف الناس وقراءة كتبهم، فمن ذم من الجهال ما ذكرنا فليعلم أنه (2) خالف ربه تعالى، فقد أعلمنا (3) عز وجل في كتابه المنزل أقوال المختلفين من أهل الجحد القائلين بأن العالم لم يزل، ومن أهل الثنوية (4) ، ومن أهل التثليث ومن الملحدين (5) في صفة كل ذلك ليرينا تعالى تناقضهم وفساد أقولهم.
ثم نرجع فنقول: ولابد لطالب الحقائق من الاطلاع على القرآن ومعانيه ورتب (6) ألفاظه وأحكامه وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيره الجامعة لجميع الفضائل المحمودة في الدنيا والموصلة إلى خير (7) الآخرة. ولابد له مع ذلك من مطالعة الأخبار القديمة والحديثة والإشراف على أقسام (8) البلاد ومعرفة الهيئة والوقوف على اللغة التي تقرأ الكتب المترجمة بها والتبحر في وجوه المستعمل منها، ولابد له مع ذلك من مطالعة النحو ويكفيه منه ما يصل به إلى اختلاف المعاني بما يقف عليه من اختلاف الحركات في الألفاظ ومواضع الإعراب منها فقط، وهذا مجموع في كتاب " الجمل " لأبي القاسم عبد الرحمن ابن إسحاق الزجاجي الدمشقي (9) . وأما كل ما تقدم فليستكثر منه ما أمكنه، ولذلك حدان: حد هو الغاية وحد هو الذي لا ينبغي أن يقتصر على أقل منه. فالحد الأكبر
__________
(1) والآراء: في م وحدها.
(2) فليعلم أنه: سقط من س.
(3) م: علمنا.
(4) م: التثنية.
(5) س: والملحدين.
(6) س: وروية.
(7) خير: سقطت من س.
(8) س: قسم.
(9) توفي عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي سنة 340 بطبرية وكانت طريقته في النحو متوسطة وتصانيفه يقصد بها الإفادة (انظر ترجمته في إنباه الرواة رقم: 376 وفي الحاشية ثبت بأسماء المراجع) . أما كتاب " الجمل " فمنه اليوم نسخ كثيرة. وقد كتبت عليه شروح متعددة كذلك. واهتم به الأندلسيون فشرحوه وشرحوا أبياته، من ذلك شرح أبيات الجمل للشنتمري؛ وصنف فيه البطليوسي كتاباً سماه " الحلل في إصلاح الخلل الواقع في كتاب الجمل " ولابن خروف شرح له ولابن حريق شرح لأبياته، وكذلك لابن عصفور ولأحمد بن يوسف الفهري اللبلي شرح لأبياته " وشي الحلل في شرح أبيات الجمل " (انظر بروكلمان - الذيل 1: 177) .(4/344)
هو ألا تخلو (1) من النظر في العلوم التي قدمنا إلا في أوقات (2) أداء الفرائض والنظر فيما لابد لك منه من المعاش وترك كل ما يمكن أن تستغني عنه من أمور الدنيا. واعلم أن نظرك في العلوم على نية إدراك الحقائق في إنكار الباطل ونصر الحق وتعليمه للناس وهدي الجاهل ومعرفة ما تدين به خالقك عز وجل لئلا تعبده (3) على جهل فتخطئ أكثر مما تصيب من (4) ملة الله تعالى ونحلة الحق والمذهب المصيب في أداء ما تعبدك به تعالى [90و] ونفعك الناس في أديانهم وأبدانهم وتدبير أمورهم وإنفاذ أحكامهم وسياستهم، وتبصير من يتولى شيئا من ذلك وتعديل طبعة ونصيحته في ذلك، بالحق وتفهيمه وتقبيح القبيح لديه، أفضل عند الله من كل نافلة تتقرب بها (5) إلى الله عز وجل وأعظم أجرا وأعود عليك من كل مال تتكسبه (6) بعد ما لا قوام لجسمك وعيالك إلا به مما لعلك تتركه لمن لو شاهدت فعله فيه (7) بعدك لغاظك، ومن كل جاه لعله لا يكسبك إلا الإثم والخوف والتعب والغيظ. واعلم أن ذلك أعظم ثوابا وأفضل عاقبة وأكثر منفعة من صلتك الناس بالدنانير والدراهم؛ وضرر الجهل والخطاء أشد وأعظم من ضرر الفقر والخمول.
واعلم أنك لا تورث العلم إلا من يكسبك الحسنات وأنت ميت، والذكر الطيب وأنت رميم، ولا يذكرك إلا بكل جميل. ولا تورثه بعدك ولا تصحب في حياتك في طريقه إلا كل فاضل بر (8) ، ولست تصحب في طلب المال والجاه إلا أشباه الثعالب والذئاب.
وأحدثك في ذلك بما نرجو (9) أن ينتفع به قارئه إن شاء الله تعالى، وذلك (10)
__________
(1) م: الذي لا تخلو.
(2) أوقات: سقطت من م.
(3) م: تعبد.
(4) م: في.
(5) نافلة تتقرب بها: ما يتقرب به في س.
(6) مال تتكسبه: ما تكسبه في س.
(7) م: فيه فعله.
(8) بر: سقطت من س.
(9) م: أرجو.
(10) وذلك: هو في م.(4/345)
أني كنت معتقلا في يد (1) الملقب بالمستكفي (2) وهو محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر (3) في مطبق (4) وكنت لا آمن قتلته لأنه كان سلطانا جائرا ظالما عاديا قليل الدين كثير الجهل غير مأمون ولا متثبت، وكان ذنبنا عنده صحبتنا للمستظهر (5) رضي الله عنه، وكان العيارون (6) قد انتزوا (7) بهذا الخاسر على المستظهر فقتله، واستولى على الأمر واعتقلنا حيث ذكرنا. وكنت مفكرا في مسألة عويصة من كليات الجمل التي تقع تحتها معان عظيمة كثر فيها الشغب قديما وحديثا في أحكام الديانة، وهي متصرفة الفروع في جميع أبواب الفقه، فطالت فكرتي فيها أياما وليالي إلى أن لاح لي وجه البيان فيها وصح لي وحق لي الحق يقينا في حكمها وانبلج، وأنا في الحال الذي وصفت (8) فبالله الذي لا إله إلا هو الخالق الأول (9) مدبر الأمور كلها أقسم، الذي لا يجوز القسم بسواه، لقد كان سروري يومئذ وأنا في تلك الحال بظفري بالحق فيما كنت مشغول البال به وإشراق الصواب لي أشد من سروري بإطلاقي (10) مما كنت فيه، وما ألفنا كتابنا هذا وكثيرا من كتبنا إلا ونحن مغربون مبعدون عن الوطن والأهل والولد، مخافون مع ذلك في أنفسنا ظلما وعدوانا،
__________
(1) م: يدي.
(2) وهو: في م وحدها.
(3) تعرض ابن حزم لذكر المستكفي في كثير من مؤلفاته، ووصفه بأنه كان في نهاية الضعة والسقوط والضعف والتأخر؛ وأن أتباعه من السفلة هم الذين قاموا على المستظهر عبد الرحمن، وقارن بين المستكفي المرواني والمستكفي العباسي (انظر الجمهرة: 101 ونقط العروس في الجزء الثاني من الرسائل: 47، 202) .
(4) م: مطبق ضيق.
(5) بويع المستظهر وهو عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار في رمضان سنة 414هـ فاستوزر ابن حزم وابن شهيد، ثم ثار عليه محمد بن عبد الرحمن الناصري فس شهر ذي القعدة من العام نفسه وقتله وبويع بالخلافة وتلقب بالمستكفي، وقد سجن ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة، وأقام في الخلافة ستة عشر شهراً عاد بعدها أمر قرطبة إلى بني حمود وفر المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مقره.
(6) س: العبادون.
(7) س: ابتزوا.
(8) م: التي وصفنا.
(9) م: الواحد الأول الخالق.
(10) م: بانطلاقي.(4/346)
لا نسر (1) هذا بل نعلنه، ولا يمكن الطالب (2) إبطال قولنا في ذلك، إلى الله تعالى نشكو، وإياه نستحكم لا سواه، لا إله إلا هو.
وأما الحد الأصغر الذي لا (3) ينبغي للعاقل أن [90ظ] يقصر دونه فلينظر الوقت الذي ينفرد فيه (4) للفضول من الحديث الذي لا يجدي (5) مع جيرانه أو القعود متبطلا بلا شغل لا من عمل أخرى ولا من عمل دنيا، أو حين مشيه في الأرض مرحا، وقد نهاه خالقه تعالى عن ذلك، فليجعل هذه الأوقات (6) للتعلم والنظر في العلوم التي قدمنا ورياضة طبعه على العدل الذي هو أس كل فضيلة، فإن العدل يقتضي أن لا يميل لقول على قول إلا ببرهان واضح، ويقتضي له أيضا أن لا يشتغل بالأدنى ويترك الأفضل، فإنه إن فعل هكذا أوشك أن يظفر بما فيه الفوز في الدارين. وأما الأوقات التي يشتغل فيها أهل الجهل إما باللذات بالمعاصي، وإما بظلم الناس في أموالهم، والسعي بالفساد في سياستهم، والنيل من أعراضهم، والجور عليهم، فإن اشتغالهم بالأمراض المؤلمة لأنفسهم المؤذية لأبدانهم أعود عليهم من ذلك وأفضل، فكيف الاشتغال بالعلوم المؤدية إلى خير الدنيا وفوز الآخرة وقد قال الواحد الأول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر:28) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " (7) ولا فقه إلا بمعرفة ما ذكرنا والإشراف عليه. فمن حرم ما ذكرنا (8) فما أخوفنا عليه أن يكون الله عز وجل لم يرد به خيرا، نعوذ بالله من ذلك لأنفسنا ولأبنائنا ولإخواننا ولكل أهل (9) الخير والفضل، وما توفيقنا إلا بالله عز وجل.
__________
(1) س: نستر.
(2) م: الطالب.
(3) لا: سقطت من س.
(4) س: به.
(5) س: يجري.
(6) م: الأقوات.
(7) الجامع الصغير 2: 183.
(8) س: ذكرت.
(9) س: وأهل.(4/347)
واعلم أن من فضل العلم والإكباب على طلبه والعمل بموجبه أنك تحصل على طرد الهم (1) الذي هو الغرض الجامع لجميع المقاصد من كل قاصد أولها عن آخرها وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل لا إله إلا هو.
19 - باب كيفية أخذ المقدمات من (2) العلوم الظاهرة عند الناس بإيجاز (3)
العلوم الدائرة بين الناس اليوم المقصودة بالطلب اثنا عشر علما، وينتج منها علمان زائدان، وهذه الرتبة هي غير الرتبة التي كانت عند المتقدمين، ولكن إنما نتكلم على ما ينتفع به الناس في كل زمان مما يتوصلون به إلى مطلوبهم من إدراك العلوم بحول الله تعالى وقوته. فالعلوم التي ذكرنا: علم القرآن. وعلم الحديث. وعلم المذاهب. وعلم الفتيا. وعلم المنطق. وعلم النحو (4) . وعلم اللغة. وعلم الشعر. وعلم الخبر. وعلم الطب. وعلم العدد والهندسة (5) . وعلم النجوم. وينتج من هذه علم العبارة وعلم البلاغة.
فأما علم القرآن فينقسم أقساما [91و] وهي علم قراءاته وإعرابه وغريبه وتفسيره وأحكامه؛ فالمرجوع إليه من علم قراءته مقدمات مقبولة راجعة إلى قراء مرضيين معلومين، راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد قامت البراهين على صحة نقلها عنه وعلى صحة ثبوته. وأما إعرابه فهو مقدمة صحيحة فيه إذا أخذ (6) اللفظ فيه على حركات ما وهيئة ما فهو أصل مرجوع إليه. وأما لغته فإلى المعهود منها في اللغة العربية. وأما أحكامه فإلى مفهوم ألفاظها وإلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لها.
__________
(1) عقد ابن حزم فصلاً مطولاً حول " طرد الهم " في رسالته في مداواة النفوس، انظر الرسائل 1: 336 - 338.
(2) م: في.
(3) قارن بين هذا الفصل وما تقدم في رسالة مراتب العلوم.
(4) وعلم النحو: سقط من م.
(5) س: وعلم الهندسة.
(6) م: وجد.(4/348)
وأما الحديث فينقسم على (1) قسمين: علم رواته (2) وعلم أحكامه. فأما رواته فالمرجوع إليه فيهم مقدمات منقولة عن ثقات شهدوا عليهم بالعدالة أو الجرحة والشهادة مأخوذة من نص القرآن الذي ذكرنا صحته. وأما أحكامه فإلى مفهوم ألفاظها وإلى بناء (3) بعضها على بعض، على ما قد شرحنا في غير هذا المكان.
وأما علم المذاهب فما كان منها خارجا عن الملة الإسلامية فإلى القرآن وإلى مقدمات راجعة إلى أوائل العقل والحس على ما ذكرنا (4) في كتاب " الفصل ".
وأما علم المنطق فقد بيناه في هذا الديوان وهو المعيار (5) على كل علم.
وأما علم الفتيا فإلى مقدمات مأخوذة من القرآن والحديث اللذين صحا بالبراهين، وإلى إجماع العلماء الأفاضل الذي صح بالقرآن على ما بينا في سائر كتبنا.
وأما علم النحو فإلى مقدمات محفوظة عن العرب الذين نريد (6) معرفة تفاهمهم للمعاني بلغتهم (7) ؛ وأما العلل فيه ففاسدة جدا.
وأما علم اللغة فإلى ما سمع أيضا من العرب بنقل الثقات المقبولين أن هذه هي (8) لغتهم.
وأما علم الشعر فإلى ما سمع أيضا من استعمالهم في الأوزان خاصة دون كل وزن يستعمل عند غيرهم، إذ إنما يسمى الناس شعرا ما ضمته الأعاريض فقط التي ذكر النديم في كتابه. وأما في مستحسنه ومستقبحه فإلى أشياء اصطلح عليها أهل الإكثار من روايته والإكباب على تفتيش معانيه من لفظ عذب وسهل ومعنى جامع حسن
__________
(1) على: سقطت من س.
(2) م: رجاله.
(3) م: وبناء؛ (سقطت بناء من س) .
(4) م: شرحنا.
(5) س: العبارة.
(6) نريد: غير معجمة في س.
(7) بلغتهم: سقطت من م.
(8) هي: سقطت من س.(4/349)
وإصابة تشبيه وكناية ملحية ونظم بديع.
وأما علم الخبر فإلى مقدمات قد اضطر تواتر النقل إلى الإقرار بصحتها من كون البلاد المشهورة والممالك المعروفة (1) والملوك المعلومين ووقائعهم وسائر أخبارهم مما لا شك فيه.
وأما علم الطب فإلى مقدمات صححتها التجربة أو ما بدا وظهر من قوى الأمراض وما يولدها عن اضطراب المزاج ومقابلة ذلك بقوى الأدوية [91ظ] وذلك كله راجع إلى أوائل العقل والحس.
وأما علم العدد والهندسة فمقدماته من أوائل العقل كلها.
وأما علم النجوم فينقسم قسمين: أحدهما على هيئة الأفلاك وقطع الكواكب والشمس والقمر والسماوات وأقسام الفلك ومراكزها. فهذا القسم مقدماته راجعة إلى مقدمات (2) العدد والهندسة وأوائل العقل والحس. والقسم الثاني القضايا الكائنة بنصب انتقال الكواكب والشمس والقمر في البروج ومقابلة بعضها بعضا، فإن صححت التجربة شيئا من ذلك صدق به، وإلا فليس هنالك إلا أقوال عن قوم متقدمين فقط.
وأما علم البلاغة فعلى ما نذكره في بابها بعد هذا (3) إن شاء الله عز وجل.
وأما علم العبارة فإلى أشياء رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أفاضل أهل هذا العلم. وملاك هذين العلمين التوسع في جميع العلوم مع الطبع والموافقة في أصل الخلقة.
وقد انتهينا إلى ما أردنا من إحكام القول في البرهان وتوابعه وما تشبه (4) به مما ليس ببرهان.
والحمد لله رب العالمين كثيرا لا شريك له وحسبنا الله ونعم الوكيل (5) .
__________
(1) والممالك المعروفة: سقط من س.
(2) مقدمات: سقطت من س.
(3) بعد هذا: سقط من س.
(4) م: يشبه.
(5) كثيراً ... الوكيل: سقط من م.(4/350)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب البلاغة (1)
قد تكلم أرسطاطاليس في هذا الباب وتكلم الناس فيه كثيرا، وقد أحكم فيه قدامة بن جعفر الكاتب (2) كتابا حسنا، وبلغنا حين تأليفنا هذا أن صديقنا أحمد بن عبد الملك بن شهيد (3) ألف في ذلك كتابا، وهو من المتمكنين من علم البلاغة الأقوياء فيه جدا، وقد كتب إلينا يخبرنا بذلك، إلا أننا لم نر الكتاب بعد فغنينا بالكتب التي ذكرنا عن الإيغال في الكلام في هذا الشأن، ولكنا نتكلم فيه بإيجاز جامع، ونحيل على ما قد بينه غيرنا ممن سمينا وممن نسمي، إن شاء الله عز وجل فنقول وبالله تعالى نتأيد:
البلاغة قد تختلف في اللغات على قدر ما يستحسن أهل كل لغة من مواقع ألفاظها على المعاني التي تتفق في كل لغة. وقد تكون معدودة في البلاغة الفاظ مستغربة فإذا كثر
__________
(1) هذا يقابل كتاب " ريطوريقا " بين كتب أرسطاطاليس.
(2) قدامة بن جعفر أبو الفرج صاحب كتاب الخراج ونقد الشعر، ولست أظن أن ابن حزم يشير إلى هذا الثاني على أنه في البلاغة فإنه يلحق بالبويطيقا؛ وقد ذكر أبو حيان التوحيدي (الامتاع 2: 145) أن المرتبة الثالثة في كتاب الخراج تدور حول النثر، فلعل هذا هو المعني هنا.
(3) أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد (382 - 426) ربيب الدولة العامرية. أثر في نفسه زوال المجد العامري في قرطبة، ولكنه لم يهاجر من بلده كما فعل ابن دراج أو صديقه ابن حزم. شارك في الحياة السياسية عندما جاء المستظهر مع ابن حزم ثم مدح بني حمود المتغلبين على قرطبة، وأصيب في آخر أيامه بفالج أقعده. وكان مسرفاً في كرمه شديد الذهاب بالنفس مائلاً إلى الفكاهة والهزل معجباً بشعره زارياً على بني قومه وخاصة طبقة المؤدبين. وقد شهر بين المشارقة برسالة التوابع والزوابع. أما كتابه الذي يذكره ابن حزم في البلاغة فقد أورد ابن بسام بعض فقر منه في الذخيرة، (راجع ترجمته في الذخيرة 1/1: 61 والجذوة: 124 والمغرب 1: 78 والمطمح: 16 والخريدة 3: 555 واليتيمة 1: 382 وإعتاب الكتاب: 74؛ وقد كتبت عنه دراسة في كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي ") .(4/351)
استعمالهم لها (1) لم تعد في البلاغة ولا استحسنت. ونقول: البلاغة ما فهمه العامي كفهم الخاصي وكان بلفظ ينتبه له العامي لأنه لا عهد له (2) بمثله، ويتنبه له الخاصي لأنه لا عهد له بمثله، ويتنبه له الخاصي لأنه لا عهد له بمثل نظمه ومعناه واستوعب المراد كله ولم يزد فيه ما ليس منه ولا حذف مما يحتاج من ذلك المطلوب شيئا، وقرب على المخاطب به فهمه، ولوضوحه وتقريبه ما بعد، وكثر من المعاني [92و] وسهل عليه حفظه لقصره وسهولة ألفاضه. وملاك ذلك الاختصار لمن يفهم، والشرح لمن لا يفهم، وترك التكرار لمن قبل ولم يغفل وإدمان التكرار لمن لم يقبل أو غفل.
وهذا الذي ذكرنا ينقسم قسمين: أحدهما مائل إلى الألفاظ المعهودة عند العامة كبلاغة عمرو بن بحر الجاحظ، وقسم مائل إلى الألفاظ غير المعهودة عند العامة كبلاغة الحسن البصري وسهل بن هرون. ثم يحدث بينهما قسم ثالث أخذ من كلا الوجهين كبلاغة صاحب ترجمة كليلة ودمنة، ابن المقفع كان أو غيره (3) . ثم بلاغة الناس تحت هذه الطرائق التي ذكرنا.
وأما نظم القرآن فإن منزله تعالى منع من القدرة على مثله وحال بين البلغاء وبين المجيء بما يشبهه (4) . وقد كان أحدث ابن دراج (5) عندنا نوعا من البلاغة ما بين الخطب والرسائل. وأما المتأخرون فإنا نقول: إنهم مبعدون عن البلاغة ومقربون من الصلف والتزيد، حاشا الحاتمي وبديع الزمان فهما مائلان نحو طريقه سهل بن هرون.
فهذه حقيقة البلاغة ومعناها قد جمعناه والحمد لله رب العالمين.
ولابد لمن أراد علم البلاغة من أن يضرب في جميع العلوم التي قدمنا قبل هذا
__________
(1) م: فإذا كثرت استعمالها.
(2) - (2) : سقط من س.
(3) إن عدم الجزم هنا له دلالته، فكأن ابن حزم لا يقطع بأن ابن المقفع هو مترجم كليلة ودمنة.
(4) هذه هي نظرية الصرفة، فابن حزم يوافق المعتزلة في هذه المسألة، وانظر الفصل 3: 15 وما بعدها. فهو ينكر أنه معجز لكونه في أعلى درجات البلاغة ويقول: فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هارون والجاحظ وشعر امرئ القيس، ومعاذ الله من هذا.
(5) أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي من كبار الأدباء في عصره، كان يجمع إلى الشعر قدرة على الترسل، انظر ترجمته في الذخيرة 1/1: 59 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى كثيرة.(4/352)
بنصيب، وأكثر هذا (1) القرآن والحديث والأخبار وكتب عمرو بن بحر ويكون مع ذلك مطبوعا فيه وإلا لم يكن بليغا؛ والطبع لا ينفع مع عدم التوسع في العلوم.
تم كتاب البلاغة والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله
__________
(1) م: ذلك.(4/353)
- 8 -
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الشعر
هذه صناعة قال فيها بعض الحكماء: كل شيء يزينه الصدق إلا الساعي والشاعر، فإن الصدق يشينهما فحسبك بما تسمع. وقال المتقدمون: الشعر كذب ولهذا (1) منعه الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} (يس: 69) وأخبر تعالى أنهم يقولون ما لا يفعلون. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإكثار منه، وإنما ذلك لأنه كذب إلا ما خرج عن حد الشعر فجاء مجيء الحكم والمواعظ ومدح النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ما عدا ذلك فإن قائله إن تحرى الصدق فقال (2) :
الليل ليل والنهار نهار ... والبغل بغل والحمار حمار
والديك ديك والحمامة مثله ... وكلاهما طير له منقار صار في نصاب من يهزأ به ويسخر منه ويدخل في المضاحك، حتى إذا كذب وأغرق فقال: [92ظ]
ألف السقم جسمه والأنين ... وبراه الهوى فيما يستبين
لا تراه الظنون إلا ظنونا ... وهو أخفى من أن تراه الظنون
قد سمعنا أنينه من قريب ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين
لم يعش أنه جليد ولكن ... ذاب سقما (3) فلم تجده المنون
__________
(1) ولهذا: ولأمر ما في م.
(2) ذكر ابن سعيد (المغرب 2: 92) أن ابن هانئ الأندلسي حين قصد جعفر بن علي صاحب الزاب الأوسط وجد بابه معموراً من الشعراء، فخاف أن يحولوا بينه وبين الوصول إليه فتزيا بزي بربري وكتب على كتف شاة هذين البيتين، ووقف للوزير وقال له: أنا شاعر مفلق أريد أنشد الملك هذا الشعر فضحك الوزير، وأراد أن يطرف به الملك، فأدخل عليه ليضحك منه، فأنشده قصيدته: " أليتنا إذ أرسلت وارداً وحفا ... " فقام إليه جعفر وعانقه أنه ابن هانئ، وخلع عليه.
(3) م: وجداً.(4/354)
حسن (1) وملح، ولكنا نتكلم فيه بمقدار (2) ما يحسن فنقول: الشعر ينقسم ثلاثة أقسام: صناعة وطبع وبراعة:
فالصناعة هي التأليف الجامع للاستعارة والإشارة (4) ، والتحليق على المعاني والكناية عنها، ورب هذا الباب من المتقدمين زهير بن أبي سلمى ومن المحدثين حبيب ابن أوس (5) .
والطبع هو ما لم يقع فيه تكلف، وكان لفظه عاميا لا فضل فيه عن معناه، حتى لو أردت التعبير عن ذلك المعنى بمنثور لم تأت بأسهل ولا أخصر (6) من ذلك اللفظ، ورب هذا الباب من المتقدمين جرير ومن المحدثين الحسن (7) .
والبراعة هي التصرف في دقيق المعاني وبعيدها، والإكثار فيما لا عهد للناس بالقول فيه، وإصابة التشبيه، وتحسين المعنى اللطيف، ورب هذا الباب من المتقدمين امرؤ القيس ومن المتأخرين عليّ بن العباس (8) الرومي.
وأشعار سائر الناس راجعة إلى الأقسام التي ذكرنا ومركبة منها. وأما من أراد التمهر في أقسام الشعر ومختاره وأفانين التصرف في محاسنه فلينظر في كتاب قدامة ابن جعفر في نقد الشعر وفي كتب أبي عليّ الحاتمي (9) ففيها كفاية الكفاية (10) والتوسع (11) والإيعاب لهذا المعنى. وكون المرء شاعرا ليس مكتسبا لكنها جبلة (12) ،
__________
(1) س: حمق.
(2) س: مقدار.
(4) س: بالأشياء.
(5) بن أوس: سقطت من م.
(6) س: أذعر.
(7) هو أبو نواس الحسن بن هانئ.
(8) س: عباس.
(9) من كتبه الهامة: حلية المحاضرة، طبعت بتحقيق د. جعفر الكتاني (بغداد 1979) وكتاب الحالي العاطل في صنعة الشعر وكتاب الهلباجة وغيرها (انظر تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 254) .
(10) م: ففيها الكفاية.
(11) والتوسع: سقطت من س.
(12) س: حيلة.(4/355)
إلا أنه يقوى (1) صاحبها بالتوسع في قراءة (2) الأشعار وتدبرها.
وإذ قد تكلمنا في الشعر بكلام جامع لأقسامه وانقضى أربنا فنقول: هذا هو (3) حد المنطق الذي يحذر (4) منه من اتبع (5) الظنون وترك اليقين، قد كشفنا غامضه مسهلنا مطلبه، وكفينا صاحبه تشنيع الجاهلين وشعوذة الممخرقين وحيرة المتوهمين، ولله الشكر خالق الأولين والآخرين، فلنختم كتابنا بما بدأنا به (6) فنقول: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليما كثيرا.
تم كتاب التقريب لحد المنطق تأليف الإمام الأوحد البارع أبي محمد
عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح
ابن خلف بن معدان بن يزيد رضوان الله عليه (7)
__________
(1) س: اننا نقوي.
(2) قراءة: سقطت من س.
(3) هو: سقطت من م.
(4) س: تحذر.
(5) من اتبع: سقط من س.
(6) م: به بدأناه.
(7) تم ... عليه: خاتمة النسخة س، ولم ترد في م.(4/356)
3 - رسالة في ألم الموت وإبطاله(4/357)
فراغ(4/358)
- 3 -
رسالة في ألم الموت وإبطاله
فصل
هل للموت ألم أم لا
قال أبو محمد رحمه الله:
اختلف المتقدمون من أصحاب الطبائع في الموت: هل له ألم أم لا ألم له، فقالت طائفة إنه لا ألم له أصلا وبهذا نقول، لبرهانين: أحدهما حسي والآخر ضروري عقلي راجع إلى الحس أيضا. فأما الأول فهو أنه كل من رأينا يموت، وهو في عقله، إذا سئل عما يجد فإنه يقول: لا شيء إلا الانحلال فقط، وأن كل من يحس عند ذلك ألما فإنه ألم المرض الذي كان فيه، كالوجع المختص بمكان واحد، وما أشبه ذلك، حتى إنه لابد من شيء يسميه الناس راحة الموت، ثم لا يكون بين حكايتهم وبين زهوق أنفسهم إلا لمحة يسيرة جدا.
وأما البرهان الضروري فإنه لا يكون ألم للشيء المألوم البتة في حين وقوعه ولا يكون إلا في ثاني وقوعه، وليس للنفس بعد الموت بقاء بحيث يصل إليها الألم الجسدي أصلا، لأنها قد فارقت الجسد، وأكثر ما يكون القلق الشديد، والشوق المرعب، لمن فارق عقله. وقد يعرض مثل ذلك القلق لمن يبرأ من مرضه، فإذا برئوا وسئلوا (1) عن ذلك أخبروا أنهم لم يكونوا يجدون شيئا.
وقد نجد من تخرج النفس من بعض أعضائه فيموت ذلك العضو خاصة من المفلوجين، ومن عفن بعض أعضائه لبعض القروح والعلل، لا بالموت، لخروج النفس عن ذلك الموضع، حين خروجها، لا (2) بعده. وإنما الألم ما دامت النفس
__________
(1) ص: سئلوا.
(2) ص: ولا لا.(4/359)
في ذلك الموضع قوية التشبث.
وأما الطائفة التي قالت إن للموت ألما، فلم تأت ببرهان يصحح قولها، وقد يمكن أن تشغب من شدائد المرض (1) ومقدمات الموت التي عنها يكون، ومن الشريعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (2) " إن للموت لسكرات " وهذا لا حجة فيه لقولهم، لأن هذه الآلام التي تظهر من المريض إنما هي ما دامت النفس متشبثة بالجسد مقترنة به، لا بعد الموت. إنما هو حال الفراق، وحال الفراق [أليم] . وقوله إن للموت سكرات حق وصدق لا شك فيه، لأنه قد يمكن أنه عليه السلام يصف ما يكون سببا للموت، من فساد الجسم واضطراب حاله الموجب للألم للموت، فهي من سكراته؛ وقد يكون ذلك لعناء في (3) النوم، فلم يعن عليه السلام قط إلا من له سكرات متقدمة، وقد يكون عليه السلام [يصف] حاله، وما كان مثلها، أو يكون عنى ما كان ما يتخوف بعده، وما يفكر العاقل حينئذ فيما يقدم (4) عليه، فتكون سكرات معلقة بنفسه ولا سبيل إلا ما يكون إلا ما في قلبه أو فيما بعده حين لقائه لها، ولم ينص عليه السلام على أن حال الموت ذات ألم فيكون معارضا للمذكور، وحاشا له عليه السلام أن يأتي بخلاف ما تقتضيه العقول وتدركه المشاهدات، إنما يصفه بهذا من يريد إطفاء نوره، وإبطال كلمته، وتوهين أمره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وبالله تعالى التوفيق.
تمت الرسالة في ألم الموت وإبطاله
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد
__________
(1) أي تؤيد رأيها بشغب وسفسطة مستشهدة بشدائد المرض، وبقول الرسول: إن للموت سكرات.
(2) انظر هذا الحديث في البخاري (رقاق: 42) وباب الجنائز في ابن ماجة والترمذي (64، 7) ومسند أحمد 6: 64، 70، 77، 151.
(3) ص: وفي.
(4) ص: فما تقدم.(4/360)
4 - الرد على الكندي الفيلسوف(4/361)
فراغ(4/362)
- 4 -
الرد على الكندي الفيلسوف
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعترته
1 -[قال الكندي] : اعلم، أسعدك الله (1) ، أن أعلى الصناعات الإنسانية درجة (2) ، وأشرفها مرتبة، صناعة الفلسفة، التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان. ولا نجد (3) مطلوبا من الحق من غير علة، وعلة كل شيء وثباته الحق، لأن كل ماله إنية له حقيقة، فالحق اضطرارا (4) موجود، إذ الإنيات (5) موجودة.
2 - قال: وإنما نعلم كل معلوم إذا [نحن] أحطنا بعلم علته، لأن كل علة إما أن تكون عنصرا، وإما صورة، وإما فاعلة، أعني ما منه مبدأ الحركة، وإما متممة، أعني ما من أجله كان الشيء. والمطالب العامة (6) أربعة: هل، وما، [وأي] ، [ولم] ، فهل باحثة عن الانية، وما فبحث عن الجنس في كل ما له جنس؛ وأي فبحث عن الفصل، وما وأي جميعا عن النوع؛ ولم عن العلة التمامية. وبين أنا متى أحطنا بعلم عنصرها فقد أحطنا بعلم نوعها، وفي علم النوع علم الفصل، فإذا أحطنا بعلم العنصر والصورة والعلة التمامية (7) ، فقد أحطنا بعلم حدها؛ وكل محدود فحقيقته في حده.
__________
(1) أسعدك الله: غير موجودة في ر.
(2) ر: منزلة.
(3) ر: ولسنا نجد.
(4) ص: اضطرار.
(5) ر: إذن.
(6) ر: العلمية.
(7) ر: عنصرها وصورتها وعلتها التمامية.(4/363)
3 - قال محمد: اختصار هذا، أنا متى أحطنا بعلم الأصل أحطنا بعلم ما بعده.
4 - وذكر أهل الرياسة فقال: نصبوا كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، ومن تجر بالدين لم يكن له دين، وحق (1) أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها وكفرا، لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة (2) ، [وجملة] علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الدين (3) الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل صلوات الله عليهم إنما أتت بالإقرار بربوبية الله تعالى وحده، ولزوم القضايا المرتضاة عنده، ورفض الرذائل المضادة للفضائل في ذاتها وعواقبها.
ما في الفن الثاني
5 - الوجود الإنساني وجودان: أحدهما: وجود الحواس الذي هو لجميع الحيوان معنا منذ نشوئه، وهذا الوجود الذي ثبتت صورته في المصور (4) فأداها (5) الحس إلى الحفظ، فتصور وتمثل في النفس، والحس يباشرها بلا زمان ولا مؤونة، والمحسوس كله (6) ذو هيولى فكله ذو جرم.
والوجود الثاني أقرب من الطبيعة وأبعد عنا، وهو وجود العقل. وبحق كان الوجود وجودين، إذ الأشياء كلية وجزئية، أعني بالكلية الأجناس (7) [93ظ] لكل الأنواع والأنواع لكل الأجناس، والجزئية للأشخاص أجزاء من النوع، والأنواع أجزاء من الجنس. فالأشخاص الجزئية الهيولانية واقعة تحت الحواس، والأجناس والأنواع لا توجد إلا بقوة من قوى النفس التامة، وتلك القوة هي العقل.
__________
(1) ر: ويحق.
(2) ر: الفضيلة.
(3) الدين: سقطت من ر.
(4) ر: المصورة.
(5) ص: فوادها وفي ر: فتؤديها؛ مع سقوط كلمة " الحس ".
(6) ص: والحسوس كلها.
(7) ر: الأشخاص.(4/364)
6 - قال محمد: اختصار هذا أن الحواس تجد (1) الأشخاص وأن العقل يجد المعاني.
7 - قال: وكل متمثل نوعي جزئي، وما فوق النوعي لا يتمثل للنفوس، لأن المثل كلها [محسوسة] ، ولكنه مصدق ومحقق، متيقن اضطرارا، كقولك (2) هو لا هو غير صادقتين (3) في شيء بعينه. وهذا وجود للنفس لا يحتاج إلى متوسط ولا مثال له في النفس، لأنه لا لون ولا صوت ولا رائحة ولا طعم ولا ملموس. ومثله لو قال لنا: إن جسم الكل ليس خارجا منه لا خلاء ولا ملاء، وهذا لا يتمثل لأن " لا خلاء ولا ملاء " لم يدركه الحس ولا لحقته النفس (4) ، فيكون له فيها مثال، وإنما هو شيء يجده العقل اضطرارا. فاحفظ، حفظ الله عليك جميع الفضائل، وصانك من جميع الرذائل، هذه المقدمة لتكون لك دليلا قاصدا إلى الحقائق (5) ، فإن بهاتين السبيلين كان الحق من جهة سهلا، ومن جهة عسرا، لأن من طلب تمثيل ما لا يتمثل عشي عنه، كعشا أعين الوطاوط عن درك (6) الأشخاص الواضحة لنا في شعاع الشمس.
8 - قال: والهيولى موضوعة الانفعال فهي متحركة، والطبيعة علة أولية لكل متحرك وساكن.
9 - قال محمد: يقول فالطبيعة فوق الهيولى، والهيولى هو حد التمثيل والإدراك بالحس، فكيف يدرك ما فوقها بالتمثيل لا يدرك إلا بعلته وفي الطبيعة.
10 -[قال] : وعلم الطبيعة (7) علم كل متحرك، فما فوق الطبيعة من المحدثات أيضا [هو] لا متحرك لأنه [ليس] يمكن أن يكون الشيء علة كونه (8) ،
__________
(1) ص: تحد.
(2) ص: لا كقولك؛ وفي ر ساقطة.
(3) ر: صادقتين.
(4) ر: ولا الحق الحس.
(5) ر: سواء الحقائق.
(6) ر: عين الوطواط عن نيل.
(7) ر: فإذن علم الطبيعيات.
(8) ر: كونه ذاته.(4/365)
فليس علة الحركة حركة، ولا علة المتحرك متحركا، فما فوق الطبيعة (1) ليس متحركا.
وهذا القول صواب، إن شاء الله، لأنه ليس فوق الطبيعة من المحدثات إلا العدم، والله عز وجل فوق الحركات والسكون، لا تأخذه صفة حركة ولا سكون. فهذا صواب من الوجهين.
11 - قال: وقد ينبغي أن لا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني، لأنه ليس كل مطلوب عقلي موجودا بالبرهان، لأنه ليس لكل شيء برهان، إذ البرهان بعض الأشياء (2) ، ولو كان للبرهان برهان لكان هذا بلا نهاية (3) ولم يكن لشيء وجود بتة، لأن ما لا ينتهي إلى علم أوائله فليس بمعلوم، فلا يكون علم بتة [94و] .
12 -[قال] محمد: هذا كقوله لا ينبغي أن يطلب ما فوق الهيولي بالتمثيل. ونعم ما قال إن شاء الله، لأن البرهان هو النور في نفس اللفظة، فإدراك هو كإدراك البصر نور واضح لا يحتاج إلى برهان. فلو قال قائل: ما البرهان أن هذه السماء وهذه الأرض قيل له: لو أجبناك على ذلك ببرهان طلبت على البرهان برهانا إلى ما لا نهاية له، ولكن هذا برهانه، لأن ما ذهب في إدراك البرهان إلى إدراك الطبيعة وإدراك الحواس نسميه إقناعا.
13 - قال الكندي: فلا ينبغي أن يطلب الإقناع في العلوم الرياضية، بل البرهان، لأنا إن استعملنا الإقناع في العلم الرياضي كانت إحاطتنا به ظنية (4) .
14 -[قال] محمد: ثم خلط أنواع المطلوبات خلطا ما هو بمحصل لأنه قال: فلا يطلب في العلم الرياضي إقناع، ولا في العلم الالإهي حس ولا تمثيل، ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في الإقناعية (5) برهان، ولا في أوائل البرهان
__________
(1) ر: الطبيعيات.
(2) إذ البرهان بعض الأشياء: هكذا أيضاً في أصل ر. وزاد المحقق كلمة (في) بعد كلمة البهان، وإسقاطها أصح.
(3) ر: وليس للبرهان برهان لأن هذا يكون بلا نهاية.
(4) ر: ظنية لا علمية.
(5) ر: البلاغة.(4/366)
برهانا.
15 - أوائل العلم الطبيعي هو الهيولاني عنده الآن.
والجوامع الفكرية عنده البرهان.
وأوائل البرهان ما فوق الطبيعة والفطرة من أوائل الأمر بلا تعريف.
وكيف يكون هذا محصلا والعلم الالإهي وأوائل الطبيعة واحد في الإدراك لا يتمثل، فهلا جمعهما وقال: حسا ولا تمثيلا؛ وفي الآخر الجوامع الفكرية، والجوامع الفكرية هي المتمثلات، وهو قد قال: كهو لا هو لا يدرك إلا اضطرارا.
16 - قال محمد: صحته عندي أن لا يطلب في العلم الرياضي علم الربوبية؛ وما كان فوق الهيولى إقناعا، ولكن اضطرارا، ولا يطلب في أوائل البرهان، وهو علم الحس، برهان، كما ذكرنا في أمر السماء والأرض.
17 - ثم ذكر (1) حقيقة معنى الأزلية فقال: ينبغي أن نقدم القرائن (2) التي نحتاج إلى استعمالها.
فنقول: إن الأزلي هو الذي لم يجب لشيء (3) هو مطلق، أي بل هو مطلق، فالأزلي لا قبل (4) لهويته، فالأزلي هو لا قوامة هو [من] غيره (5) ، [هو] ولا علة له ولا موضوع ولا محمول ولا فاعل له ولا سبب، أعني ما من أجله كان، فلا جنس له، لأنه إن كان له جنس فهو نوع، والنوع مركب من جنسه العام له ولغيره، ومن فصل ليس في غيره، فله موضوع هو الجنس القابل لصورته وصورة غيره، ومحمول هو الصورة الخاصية له دون غيره، فالنوع كله موضوع ومحمول. فالأزلي لا يفسد، لأن الفساد (6) إنما هو تبدل المحمول لا الحامل الأول، فأما الحامل الأول الذي هو
__________
(1) ص: بذكر.
(2) ر: الفوائد وعلق المحقق بأنها قد تكون مصحفة وما في هذا الكتاب أصح.
(3) لشيء: ليس في ر.
(4) ر: لا قبل كونياً.
(5) هو غير في ص والصواب من ر.
(6) ص: الفاسد.(4/367)
الأيس (1) فليس يتبدل، لأن الفاسد ليس تتباين إنيته بتباين إبنيته (2) ، وكل متبدل فإنما يتبدل (3) بضده الأقرب معه (4) في جنس واحد كالحرارة (94ظ) إلى البرودة، لا بالأبعد (5) من المقابلة كالحرارة باليبس أو بالحلاوة أو بالطول، والأضداد المتقاربة هي في جنس (6) واحد، فالفاسد جنس، والأزلي لا جنس له، فهو لا يتبدل ولا ينتقل من نقص إلى تمام، لأن الانتقال استحالة، وهو لا يستحيل. والتام هو الذي ليست له حاله ثانية يكون بها فاضلا، والأزلي لا يمكن أن يكون ناقصا، لأنه لا يمكن أن ينتقل إلى حال يكون بها فاضلا، لأنه لا يمكن أن يستحيل بتة، فالأزلي تام اضطرارا، وإذا كان الأزلي لا جنس له، فما له جنس وأنواع غير أزلي، فالجرم لا أزلي.
__________
(1) الأيس: غير منقوطة في ص.
(2) ر: لأن الفاسد ليس فساده بقأييس أيسيته.
(3) ر: تبدله.
(4) ر: الأقرب أعني الذي معه.
(5) ر: لأنا لا نعد.
(6) ر: هي جنس.(4/368)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم
18 - قال الموحد: هذا قولنا والرد على من جهل ربه وسماه بغير أسمائه التي سمى بها نفسه، ووصفه بغير صفاته، سبحانه وتعالى عن ذلك، لا نقول في الباري عز وجل كما قال يعقوب بن إسحاق: إنه علة، فنقض (1) توحيده وهدم بناءه وكذب نفسه في المقدمات التي برهنها في بدء أقاويله، وزلت قدمه فهوى، فلا نقول في الباري عز وجل إنه علة لما بعده إذا نحن أردنا كشف العلل والبلوغ إلى حقائقها في ذواتها والإبانة عنها، لأنا نوهم السامع أنه من جهة المعلول وجب أن نسميه بعلة، إذ ليست العلة علة معقولة إلا لمعلول، ولا المعلول معلول إلا لعلة بالقول إلى مضاف اضطرارا، فتوهم إذن السامع أن خالقه مضاف إلى كل معلول بغير إطلاق، تعالى ربنا عن ذلك وتقدس.
19 - والكندي يقولنا بما قلنا بلسانه وينطق به كتابه عنه ويشهد به عليه، فقد كرر القول وبرهنه أنه عز وجل لا يلحقه المضاف ولا ما شاكل المضاف، وإن رام أحد بعد أن يخطئ على نفسه فيسميه بعلة [على] ألا يكون حينئذ من المضاف في عقله بكل جهده، لم يجد ذلك ولم يقدر أن ينفي عنه الإضافة من بعد أبدا، بل أوجب بذلك التبعيض والنهاية، وكل ما نفى عنه الكندي وغيره إذ سماه علة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلذلك لا نقول نحن إنه علة أفعال المعلولات، ولا علة المعلولات، ولا علة العلة، في مطلبنا هذا الذي نريد به قصد الواحد الصمد جل ثناؤه، بل نقول: هو الأحد الأول الصمد مبدع العلل، وهو الذي (95و) ابتدع المعلولات لأجل تلك العلل التي سبقت منه، فوجب أن يكون الإبداع من أجلها كائنا تاما متقنا على ما هو عليه من التنضيد والإتقان.
__________
(1) ص: فنقص.(4/369)
20 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الأول: هل هي غيره بذواتها وغير الإبداع الكائن منها قيل له: نعم، ومن أجل تلك العلل الأول البسيطة الانهمال كانت المهويات المركبة في أنفسها حقائق؛ والعلل الأول هي التي تسمى بالحقيقة عللا، لأنها وضعت لتكون معلولاتها المتهوية منها بفعال فاعلها عز وجل، ولا نقول إن العلل كانت لأجل واضعها المخرج لها من عدم، لأنه الغني عن ذلك والمتعالي عنه عز وجل {ليس كمثله شيء} (الشورى:11) فهو لا من أجله وجب أن يكون شيء، لأنه هو لا موضوع لشيء يجب، فيقال لذلك الشيء إنه من أجله كان، كما (1) يقال ذلك في العلل الموضوعة، سبحانه وتعالى عن ذلك.
21 - فإن قال قائل: فلولاه لم تكن العلل ولا المعلولات. قيل له: نعم، لولاه لم تكن، ولكن ليس علة لذلك، لأن اسم العلة فيه معنى الضرورة إلى معلولها، وفي المعلول معنى الضرورة إلى علته، لأن العلة موضوعة للمعلول، والمعلول محمول على العلة، فهما مضافان مضطران متصلان غير مفترقين ولا غنيين، لحاجة كل واحد منهما إلى صاحبه. وليست هذه صفة الخالق الأول الذي كان قبل أن يبدع شيئا غنيا عن كل شيء، ثم لم يحل به حال لأنه لا لتأخذه الاستحالة فيعود من غني إلى احتياج، أو من انفراد (2) إلى اتصال، أو من وحدانية (3) إلى تكثر. وفرقان صفته من صفة العلة، أن العلة منساقة إلى معلولها، كما ذكرنا، وهو عز وجل ليس بأولى أن يكون واضعا لها منه بأن لا يكون، سبحانه وتعالى عن أن يكون أولى بالترك، لا بإيجاد معرفته منه لإيجادها. كمثل ما يلزم العلل من ضد هذا القول، بل هو المختار الذي لا يلزمه في أحد المعنيين ولا في شيء منها اضطرار، لا يلزمه فعل شيء ولا يلزمه ترك شيء، كلتا الحالتين معدلتان في اختياره. والعلل الموضوعة ليست بأولى بالترك لمعلولاتها وإعدامها منها إلا بترك ما قد جعل لها في قوتها أن تفعله ويوجد منها، لأنها مضطرة إلى فعل ما جعل فيها فعله.
__________
(1) ص: فما.
(2) ص: انفراده.
(3) ص: وحدانيته.(4/370)
22 - فالأول الغني المتعال جل جلاله بريء مما يلزم الموضوعات من الضرورة لإيجاد ما لها في القوة إيجاد {ليس كمثله شيء} هو الخالق وما سواه مخلوق (95ظ) ، وهو المختار وما سواه مضطر، ولذلك لا تلحقه الأسماء المجازية ولا الخفية لحوق اللزوم والتطرد في العقول العالمة به عز وجل، إنما الأسماء والصفات موضوعة على معنى هي له بدائع، لا لتلحقه، كما هي لاحقة الذي هو مركب منها معار جوهرها، لأنا نقول في الصفات: إنها لاحقة المركبات بجوهرها، وإن المركبات مركبات من جوهرها مكسبة إياه، وهذا اللحاق اللاحق الذي لا يلحق بارينا تعالى من صفاته وأسمائه، وإنما هي دلالات دالة للعقول، دالة عليه سبحانه وبحمده الواحد الصمد. ونقول إنها ليست بخالقة ولا نقول مخلوقة، بل هي صفات مجعولة موضوعة، والخلق مركب منها، أعني من جوهرها البسيط. وأقول في الأسماء الصوتية: إنها للصفات مثالات باتفاق المعارف، كائنة ما كانت تلك الأصوات، كانت من صنع الله تعالى أو من صنع الآدميين، وأقول ذلك في الأسماء المرقومة كائنة ما كانت من لون مداد أو غير ذلك.
23 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الموصوفة البسيطة السابقة (1) لتهوية المهويات، قيل له: الاسطقصات الأربع الخارجة من عنده التي هي للخلق موضوعة منفعلة، بعد إذ هي لا كائنة ولا موجودة، فهي الاسطقصات الأربع المتهوية المتأيسة (2) في المكان الجامع لها، وهي الطبائع الأربع المتأيسة (3) السابقة للخلق من ربها عز وجل: الأرض والماء والنار والهواء، هي العلل الموضوعات لتهوية جميع المهويات في المكان الجامع.
24 - فإن قال قائل: فهل من علة أوجبت هذه العلل، فكانت العلل لأجلها قيل له: العلل ليست بلا نهاية، لأن هذا (4) الاسم الذي هو لها جامع يحصرها في الحال للذي له صارت عللا، فتقصر إليه ضرورة بلا زيادة دائمة. فإن وجد واجد
__________
(1) ص: البسيط والسبق.
(2) ص: المهوية المتباينة.
(3) ص: المتباينة.
(4) ص: بهذا.(4/371)
علة داخلة في الحال سوى ما ذكرنا فليأت على ذلك بسلطان بين: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} (الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15) بأن سماه علة فأدخله بزعمه في حال العلل التي هو عنها متعال في وجود كل ذي عقل، وهو محدث العلل وواضعها ومدخلها بالاسم والحال، بلا تبديل لها ما دامت كائنة، كما وضعها عليه في البدء، إقامة لدلائل الضرورة فيها، وإبانة لنفسه عنها بالارتفاع عليها سبحانه وبحمده {تعالى} عما يقول المبطلون علوا كبيرا.
25 - ثم يقال له: هل هي علل إلا لأنها بحال هي بد للمعلولات علل (96و) موضوعة بذلك البتة، وأن ذلك حال الفاضل لها من كل معلول خرج منها ويكون من أجلها، وأنها ليست بأولى بأنفسها منها بإخراج المعلول بتة فهذا بيان الضرورة فيها إن أقررت، وإن أنكرت جحدت العلل والمعلولات والمتعارف المعقول منها.
26 - فإن قال: سماه علة، عز وجل، لأنه للعل بحالها [ما] هي لغيرها على مثل سواء، فهذا الكذب الصراح، فليأت عليه بسلطان بين، لأن الحال لا تلزمه ولا تستطيع أن تلحقه صفتها من جهة من الجهات أبدا.
27 - فإن قال: فهل هي للعلل ببعض ما هي لغيرها. قيل له: سبحان الله عن التبعيض والتجزئة، أو أن يكون نفسه لغيره لا لنفسه، فإن ظهر له نفي جميع ذلك عنه، كما هو أهله عز وجل، بالحقيقة الظاهر (1) نورها لكل ذي هدى وإنصاف. فما سبيله إذن إلى أن يسميه علة يجب لإيجابه شيء سواه، كما وجبت أن تكون المعلولات لأجل العلل، وأن تكون العلل لأجل المعلولات الواجبة منها ضرورة، وانعطف بعض الخلق على بعض وانحصر في نفسه بما حده له خالقه، ولم يكن له أن يجاوز الحادث إلى القدم، ولا المحصور إلى المطلق، ولا المخلوق إلى الخالق، إنما نفع اسم من كتب نبوة أو حجة فطرة، فإن أقر بالنبوة فليس هذا الاسم منها، وإن ذهب إلى حجة العقول، فقد ظهر به نفي ذلك عنه سبحانه.
28 - وإن سأل السائل عن حال العلل فقال: وما الحال التي من أجلها صارت عللا، فلا يجب لتلك الحال أن يكون الباري علة المعلول قيل له: الاشتراك في
__________
(1) ص: الظاهرة.(4/372)
حال العلل، لأن تلك الحال جامعها معا لكون كل معلول يكون من أجلها، كالاشتراك بحالها الجامع لها. فالباري تعالى لا علة، إذ ليس مشتركا معها في الاسم ولا في المعنى، وإذ هي بالفصل بائنه عنه، لأن الفصل غاية لها، وهو لا غاية له عز وجل.
29 - فإن قال: فلم صارت هي عللا سابقة دون أن تكون هي المعلولات المسبوقة قيل له: لأنها بالفصل الأكبر في بسطها أحق من المعلولات، وإذ هي بالفصل الأكبر أحق، وجب لها السبق قبل كل معلول، لأنه محال أن تكون هي في بسطها وعظم أقدارها في الفصل الأصغر الذي هو أحق المعلولات من بعدها، فلأجل [96ظ] صغر الفصل صارت معلولات من غير اضطرارا، ولأجل عظم الفصول العظام صارت عللا لغيرها واستحقت السبق لها، وهو أصغر قدرا منها. ثم هي لا تعود بتلك الفصول العظام إلى أن تكون معلولات لغيرها أبدا إلا أن يكون قبلها ذو فصل أعظم منها. ولو كان قبل كل عظيم أعظم منه، كان هذا بلا غاية. والباري جل وعز لا يقال فيه إنه ذو فصل، أي يناله بذاته، على معنى أن تكون المنفصلات فيه كما هي في العلل، لأن الموضوع في المحدود محدود، والفاصل لذي الغاية ذو غاية، والمحيط بذي النهاية إحاطة الاتصال ذو نهاية، وهو الذي لا غاية له، عز وجل عن ذلك.
30 - فإن قال قائل: ولم كان هذا كذا قيل له: لأنه لم يكن بد من أن يكون صغير وكبير، ليعقل الصغير والكبير، ولا يعقل الصغير إلا بالكبير، ولا الكبير إلا بالصغير، فلما لم يكن بد من أن يعقل وضع على المعنى الذي به يعقل، فكان الكبير أحق بالسبق لكبره وفضله عن الصغير وحمله له، فكان علة له، وتأخر الصغير لصغره إذ حق ذلك له، إذ لا يقوم إلا في حامل قبله يسعه، فالكبير مكان، والصغير متمكن.
31 - فإن قال: ولم لم يكن المعلول بالفصل الأكبر أحق من العلة قيل له: فهذا تكرير بعد الفصل، ولكنا نقول له: لأن الفصل الأكبر فاصل عنه، فالكبير يفصل الصغير، لا الصغير يحيط بالكبير، ولا يعقل المعقول إلا بفصله الأحق به، فالصغير معقول بفصله الأصغر إذا أضيف إلى ما هو أكبر منه، فإن لم يضف إلى ما هو أكبر منه لم يعقل أن فصله صغير أو كبير بتة، وإذا لم يعقل دثر بلا زمان عن(4/373)
المعقول، لأن ما لا يعقل فصله دائر غير قائم، لأن الفصل هو الحق المبين له في العقول، فإن لم يكن الحق فقد بطل ما قارنه الحق، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
32 - واعلم أن الحق الأول الرب الأعلى المحقق للحق، الفاصل لكل شيء مرتفع عن أن يقال بالحق حق، كما حق بالحق غيره، لأنه المحقق للحق الذي حقت به الأشياء، ولو وجب أن يكون المحقق للحق بالحق حق أعني قبل الحق - لوجب أن يكون المكون للكون بالكون تكون، وهذا رأس المحال، وهو الذي أحق الحق الأكبر وأحق به الأشياء، فأثبتها وأبانها به، فمحال أن تكون حقت بالحق حقيقته، بل (97و) ويحق عندنا بالحق على معنى الدلالة عليه أنه الحق المبين، لأن كل ما حقت إنيته بشيء، فذلك الشيء قبل إنيته، فافهم.
33 - ومن الزيادة في إيضاح قولنا في العلة والمعلول أنا نقول: إن الباري عز وجل خلق المعلولات على ما هي عليه من الإتقان والإحكام والثبات باضطراره للعلل التي وجبت المعلولات من أجلها واضطراره إياها. وهذا قول صحيح جدا. ألا ترى المركب المعلول المنضد ذا أجزاء لا محالة بعضها مخالف في الطبع لبعض: حار وبارد، ورطب ويابس، وثقيل راسب، وخفيف طاف، ومتوسط بينهما شبيه بالطرفين كليهما، وشديد غاية ضعيف بتة، ومتوسط بينهما قد توسط بين طرفيهما مما يلي الشديد شديد ليس كشدة الأشد، ومما يلي الضعيف ضعيف ليس كضعف الأضعف، فأنت لو طلبت سوى الأربعة بجهدك وجهد غيرك لم تجده بتة في شيء من العالم. فيحق ما قلنا على المعلولات إنها فعل الله تعالى باضطرار العلل لبعضها، لأنا نرى الأربعة في المعلول المركب مبنية بوزن العدل، قائمة بالإتقان لما يجب على ما يجب عند دفع العلل من أماكنها في الفصل المراد للمعلول. فالأثقل الراسب منها تجده في المعلول قد نزل في الحضيض الأسفل حاملا لسواها، كالماء الذي هو في الأسفل من العالم الأكبر، وكذلك هو في العالم الأصغر، وكذلك هو في النبات والحيوان الكلي. والأخف الطافي تجده لا محالة في الأعلى من العالم الأكبر وفي كل شيء سواه. والمتوسط بين الطرفين قائم لا محالة باعتدال موزون، فإن نزل فيه الجزء حامت (1) الأطراف عليه
__________
(1) ص: وحامت.(4/374)
ليعتدل ويسكن، ذلك تقدير العزيز العليم.
34 - فالمعلول فرع لعلته بوصفنا هذا، والعلة أصل لمعلولها، وحركة التأليف لا يمكن أن يكون منها التضاد القائم بينهما، فهي من محرك غيرهما ليس مثلهما لا محالة. فالمعلولات، كما فسرنا، كناية لأجل العلل الأول التي اضطرت إلى فعل معلولها، والعلل الأول الباعثة بما جعل في طبعها لكون كل معلول موضوعات لمنفعلاتها، وليست العلل بعد، إذ هي النهاية من [كل] شيء، سوى العدم الذي هو اسم ناف لكل شيء من وهم أو لفظ. ومن قال كقول يعقوب بن إسحاق إنها من أجل (97ظ) الباري، تعالى عن ذلك، فالباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء، إلا أن الأول لا يكون إلا عن سبب معلوم أنه لا موضوع هو لشيء يكون من أجله انفعال ذلك الشيء، فقد نقض قوله إنه لا موضوع إذن، والباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء، لأن الأولى لا يكون إلا عن سبب متقدم يوجب له أن يكون أولى، فهو مطلق الاختيار عز وجل تام الغنى.
35 - فرأس العلم وقطبه وذروته العليا أن تعلم أنه ليس شيء من المعلولات كائنا إلا لعلة موضوعة، وضعها من تعالى عن أن يكون علة أو معلولها، ولكن كل شيء كان فلعلة موضوعة كان، وجب عند الله عز وجل أن يكون المعلول من أجلها كائنا لأن الله عز وجل تعالى وتقدس وتنزه وارتفع عن أن يضع نفسه ليكون من أجله شيء، لأن الخالق لا يعود مخلوقا والموضوع مخلوق، ولكنه القادر على أن وضع ما من أجله كان كل شيء، فتعالى ذو الكبرياء والعزة والعظمة والجلال عما يقول الملحدون في أسمائه، خطأ وعمدا، علوا كبيرا.
36 - وإنما دخل الغلط على الكندي على ما قال، لأنه نزه الباري زعم - أن يكون خلق الخلق من أجل غيره، فظن أنه إن أوجب ذلك وجب أن ذلك الغير سابق له ومستحق للقبل قبله، فاعجب كيف طمس عليه عقله، فإذا لم يجد صحيحا أن يكون فعل من أجل إنيته ولا من أجل غير قبله، أن يقول فعل من أجل شيء بعده فيصيب، فنعوذ بالله من العمى عن الهدى والضلال عن الحق والزيغ عن الطريق المستقيم.(4/375)
37 - أرأيت لو قال له قائل قولا مختصرا: يا أيها الكندي المنكشف المبهوت، نحن نقول: إن الباري جل جلاله فعل ما فعل من أجل المفعول، إذ لا يجوز أن يكون مفعوله مفعولا تاما كائنا ذا أفعال وانطلاق وانتفاع إلا بفعل التمام له الذي من أجله كان المفعول وتم، وكان هو من أجل المفعول، إذ لا يكون علة إلا لمعلول، ولا معلول إلا لعلة متشاكلان. وإذ لا يجوز أن يعلمه المفعول إلا وهو منفعل وإرادته أن تعلمه هي علة انفعاله، فللإرادة كان المفعول، وللمفعول كانت الإرادة، ليس لواحد منهما عن صاحبه مخرج. فإن قال: هو إذن من [أجل] أن يعلمه فعله، قيل له: نعم، من أجل أن يعلمه، وأن يعلمه هي إرادته التي من أجلها فعل، لأن علم المفعول هي الإرادة التي من أجلها قام، فافهم.
38 - وقوله إن الإنية فعلت من أجل إنيتها فباطل محض، لأنه لا يجوز أن يقال على الإنية الواحدة بقول متوسط، إذ لا غاية لها فيدخلها توسط، لأنه لو دخلها توسط كان لها إذن بعض يفعل من أجله هذا قول لا يحمله العقل عن الله عز وجل، تعالى الله عنه، لأنه إن كان فاعلا من أجل [98و] ذاته، والذات وحده لا غيرية فيها، فهو لذاته فاعل ما فعل، وذاته قبل ذلك وحدة لا علة فيها، هذا من أشنع المحال والتناقض لمن عقله. وأيضا إن كان فعل من إجل إنيته، فالفعل لازمه ضرورة بما كانت الإنية علة للفعل، لأن العلة والمعلول من المضاف، لأن العلة علة المعلول، والمعلول معلول العلة، لا يجد العقل سوى هذا.
39 - وأيضا إن كانت الإنية فعلت من أجل ذاتها، إذ الفعل ليس ضرورة، فهي فاعلة لبعضها وما سواها معدوم، لأن بعضها علة فعل، وبعضها علة إيجاب فعل، فهذا كله يدخل على الكندي.
40 - وأيضا إن كان الفعل من أجل الإنية، فالفعل لازمه ضرورة، فالفعل إذن لم يزل والإنية متقدمة للفعل، فهي إذن قبل الفعل، فهي إذن أزلية والفعل حادث، والفعل من أجل الإنية، فالفعل إذن لم يزل، فالفعل إذن حادث والفعل لم يزل، هذا خلف، أراد شيئا فكانت الإرادة السابقة علة موضوعة لما يكون، ولا علة لها هي لأنه ليس قبلها مثلها، والعلة والمعلول متشاكلان، فمحال أن يكون لها علة، إذ ليس(4/376)
قبلها شيء يشاكلها فيكون علة لها، فالله تعالى محدثها وباعثها، وهي علة بأن سبقت كل معلول بعدها. هذا عندي أصح من أن يكون من أجل المعلول.
41 - تفسير الإرادة: الإرادة في الفصل الأكبر وهي الحد الأول وهي النهاية القصوى وهي العلة الأولى، فليس للفصل فصل، ولا للحد حد، ولا للنهاية نهاية، ولا للعلة علة. الفصل هو بنفسه فصل، والحد هو بنفسه حد، والنهاية هي بنفسها نهاية، والعلة هي بنفسها علة.
42 - العلة والمعلول من المضاف الذي لا يكون بعضه إلا لبعض، وهو يتسابق بالفعل ليس هو كالمكان والمتمكن؛ المكان والمتمكن والحد والمحدود والفصل والمفصول لا يتسابق بتة، وأما العلة والمعلول فيتسابق بالفصل، وأظن القائلين إنه لا يتسابق هم الدهرية، لأن هذا اللفظ يعضد ضلالهم فيزيدهم ضلالا.
والناقص والتام يتسابقان أيضا، فاحفظ إن شاء الله ما يتسابق مما لا يتسابق وتحفظ منه. وإنما يعنون بقولهم في العلة والمعلول: مضاف لا يتسابق، لأن العلة فيها معنى المعلول مضمر في لفظها، إذ لا يكون علة إلا لمعلول فيها معنى المعلول قائم لا تسبقه، كما المعلول فيه معنى العلة لا يسبقها، لأنه إذا ذكر فذكرها قائم فيه، فهو لا يسبقها بزمان، لغنى في ذكره إذا ذكر ومعناه وصف، وهي تسبق معلولها بالذات كالأب يسبق الابن، والمالك يسبق المملوك [98ظ] .
43 - تفسير الفصل الأول: الفصل الأول فصل العدم من الوجود، فهل فصل للمفصول وحد للمحدود، فالمحدود فيه عن العدم، والمفصول فيه من العدم، هو العلم. هي المقادير الأول التي عنها كان الكون كله، هي مثال الكون كله، ولا يمكن أن يكون هذا الفصل الأكبر إلا العدم، والعدم لا يكون علة ولا معلولا. فمن زعم أن العلة التي هي العدم علة، قيل له: مشاكلة لها أو غير مشاكلة فإن قال: مشاكلة، قيل له: فهي إذن العلة الأولى حتى تنتهي إلى علة ليس بعدها علة مشاكلة، فإذا لم يجد أن الخالق والعدم، قيل له: فالخالق ليس مشاكلا للمعلول فيكون علة، والعدم لا يكون علة ولا معلولا، فإلى العلة إذن، فهي إذن ضرورة بنفسها علة لا علة لها، ولغيرها كانت علة، وذلك الغير هو المحدث لها، والأول الذي ليس كمثله(4/377)
شيء.
44 - مسألة الإمكان: نقول قولا لابد للكندي وأهل مذهبه وأشباههم من القول به ضرورة، نقول: إن الفاعل الأول فعل فعلا كان ممكنا أن يكون قبل كونه، فليس يقدر أن ينكر الإمكان لله تعالى في ذلك أحد، لأن الإمكان واجب قبل الفعل لا محالة، فلإمكان الذي ظهر ضرورة بين الفاعل والفعل هو البون الأكبر بين البون بين الفاعل والمفعول، ثم بينه بون آخر دونه في القدر والعظم هو تحته حاجز أيضا للمفعول أن يضاف إلى البون الأعلى، فضلا عن الفاعل الأول، جل وعز، وهذا البون الثاني هو الانفعال الخارج من جهة البون الأعلى الذي هو الإمكان، ولا يجوز أن يكون الإمكان هو الانفعال، كما لا يجوز أن يكون الانفعال هو المفعول التام المقدر المفروغ منه، لأن الانفعال عن إمكان يكون ضرورة، والمفعول القائم عن انفعال يكون ضرورة أيضا متتابعا. هكذا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بجميع ذلك لمن لقنه، والحمد لله، وليس لأحد من الملحدين عن هذا بحجة العقل مخرج أبدا ولا محيص.
45 - تفسير الإمكان: فقل الآن للمتشاغل عن نور النبوة التي أبانت الألفاظ مع المعاني بوحي الله تعالى ونوره: فلإمكان هي الإرادة، هي الملك، هي العرش، وهو الغاية القصوى والنهاية العظمى والفصل الأكبر، وهو الحق المحيط بالكل، وهو الأمر الأعلى، والنور الأعظم، والحجاب الأرفع المضروب بين الخالق وخلقه، ثم دونه إلى الخلق حجاب آخر، وهو مكان الانفعال، وهو المثال الكائن [99و] من بعد الأمر الأول الجامع لأقدار المكونات كلها، قدر كل ما يكون، وزمام ما قد كان؛ وهو العلم والكرسي القائم تحت عرش الرحمن، فسبحان رب العالمين رب العرش العظيم.
46 - فقل الآن على ترجمة ما قالت حكماء الفترة (1) ولم يفصحوا بالتسمية إذ عدموا نور النبوة: الإمكان هي الإرادة الجامعة لكل مراد من المنفعل والمفعول،
__________
(1) ص: العترة.(4/378)
والانفعال هو الطبيعة المتحركة تحت الإمكان، فهو مدة خروج الأقدار المفعولة عنه، فهو الزمان، ونهاية حركة الانفعال إلى حد؛ الإمكان الإرادة الجامعة لانفعال المنفعلات، والإمكان نهاية للزمان [أي] الطبيعة المتحركة للانفعال؛ فالإمكان [هو] العرش والذي تحته حركة انفعال الزمان، والذي تحت الزمان حركة المفعولات المكونات التامة هي الأوقات والسنون والأيام، والزمان نهاية السنين والأيام، والدهر نهاية الزمان، فالدهر جامع للزمان القائم بحركات الصور التي هي ذات الأقدار الثلاث طول وعرض وعمق - التي هي للجرم، وتلك الحركات التي هي حركات الأجرام هي المفصلة أوقات الانفصال أقدارها أجساما تامة، والدهر الجامع لذلك كله هو البون الأكبر والحد الأعظم والإرادة الدائمة الأبدية لخلود أهل الجنة والنار، وربنا المحمود ذو العرش المجيد الفعال لما يريد، وصلى الله على سيدنا محمد الذي لم يدعنا في ضلال أهل الفترة ولا حيرة أهل الفتنة وسلم.
47 - وقوله: اعلم أن الدهر هو بقاء غاية الإمكان التي يقوم الإمكان بها دائما ما بقيت تلك الغاية ساكنة في حال واحدة أو حركة واحدة لا ضد لها، واعلم أنهما غايتان: إحداهما ساكنة والأخرى متحركة، فالمتحركة تحمل الساكنة، لأنا لا نجوز أن يكون ساكن قبل حركته، لأنه لا يكون قبل حركة إبداعه وكونه ولا قبل حركة انفعاله، فالساكن من حركة فصل، ولم تفصل الحركة من ساكن كأنه يفسر الإرادة الأولى والحادثة هذا الكلام مدخول لأن الذي قال فيه بإمكان (1) لا بد أن يجعله قديما أو محدثا. فإن جعله محدثا زعم أنه لم يكن ممكنا له أن يفعل قبل، فأوجب عارضا فنفى الوحدة. وإن جعله قديما أوجب الدهر قديما شيء آخر، فنفى الوحدة.
48 - فإن تبلد ذهن سامع فازداد بيانا فقال: بين لي كيف امتنع ذلك بوجوب الإمكان والانفعال فصلان عظيمان [99ظ] والإضافة لا تقال إلا على اثنين لا بون بينهما بمكان ولا بزمان، بإجماع من الفلاسفة الذين خطوا لكم الطريق، فالوجود الضروري للفصلين العظيمين قطع الإضافة بين الخالق والمخلوق، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ومن جهة مائية الإضافة هلكت النصارى
__________
(1) ص: إمكان.(4/379)
بديا، وعن إيجاب الإضافة هلكت الدهرية أيضا والديصانية والمجوس كلها، وعن جهل ذلك هلكت المنانية والمشبهة أيضا، وبجهل الكندي بها هلك في كتابه، فلم يجد علة للخلق إلا الخالق، فسماه غير اسمه، إذ لم يجد إلا الخالق والخلق ولم يعرف الأمر. فوجود الإمكان والانفعال بحجة العقل وضرورته، قيل: كون المعقول الخارج عنها من عدم، وهما الدهر والزمان الكائنان بتعديهما بين المفعول والفاعل الأول، جل ثناؤه، فصل الإضافة، لأنهما ليسا فعلا تاما، بل الفعل التام أعني المفعول كائن لأجلهما (1) ، ولذلك لا يمكن أن يقال: الانفعال والإمكان فعل، إذ الفعل المفعول غيرهما لا محالة، وهما الدهر والزمان المدبران لذلك الفصل بين الفاعل الأول والفعل الكائن القائم المحسوس في مستقره.
49 - فإن قال: وما الذي منع أن يكون الدهر والزمان من المضاف إلى ربهما دون المفعول قيل له: منع من ذلك أنهما مضافان إلى مفعولهما الكائن عنهما، لأن الدهر هو غاية الزمان، أعني غاية مدة حركة الانفعال والمفعول، والزمان مدة انفعال المفعول، فلا يمكن أن يكون الزمان بلا غاية، لأنه لا يكون شيء بلا غاية، ولا يكون مفعول بلا مدة، فالانفعال مدة المفعول، فهما لا يصلان إلى غير ما هما مضافان إليه، بل هما بائنان بالمفعول وزائلان به، والمفعول ثابت بهما وزائل فيهما، دون الوصول منه أو منهما إلى الفاعل الذي لا غاية له. والإضافة أيضا لا تكون إلا لذوي الغايات المتساوية الأبعاد والأوساط، وإلا لم تكن الإضافة بينهما حقيقة أصلا ولا واجبة لهما أبدا. ألا ترى أنه يمتنع أن يكون المفعول مضافا إلى الزمان كله من قبل حدوث كلية المفعول المستقر في الدهر بعد زمانه، المقضي الذي هو انفعاله المخرج له من عدم إلى وجود. والمفعول إنما يكون مضافا إلى الانفعال بأول دقيقة منه، يكون إذن مضافا، والإرادة الأولى المحيطة بالانفعال هي الفصل الجامع الفاصل في الانفعال إلى مثلها من الانفعال في الصغر من الزمان ضرورة، وهكذا تقال الإضافة بينهما قولا صادقا بالتكافؤ بالدقائق، فكيف تجب الإضافة لما لا أبعاد له [100و] ولا أوساط إذن
50 - فإن قال: فما منع أن يكون المفعول بدهره وزمانه مضافا إلى الفاعل الأول
__________
(1) ص: كامن.(4/380)
فلا يتسابق قيل له: الزمان الذي هو انفعال المفعول إلى أن يستقر في دهر لا يتخلق به فيه بعد لتمام انفعاله؛ قد أريناك فصل المفعول من فاعله، لأنه مخرج من عدم إلى وجود، وموجب عليه الحدث، ووجوب الحدث عليه موجب لقدمه خالقه قبله، فإذا وجب التسابق بطلت الإضافة بطل التسابق، فافهمه.
51 - فإن تبلد فقال: فإن كان الانفعال قديما ثم ظهر المفعول حديثا قيل له: الانفعال حركة ما، والحركة بدء ما، وما كان له بدء فله قبل، وما كان له قبل فهو حادث.(4/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}
وهذه زيادة تبين على من ألحد في أسماء الله فسمى ربه علة
52 - قال الموحد: نحن نقول أن الواحد الأول الذي لا مثل له يقول لأجل إرادته، فيفعل بقوله الذي لا خلف فيه، وهو جل وعز أبدا، إن أراد شيئا قال له: كن فيكون، قوله الحق وله الملك، فقوله الحق وأرادته الحكم الفاصل، جل ربنا وتقدس. فإن أراد ربنا شيئا كان بقوله: كن فيكون كائنا، وإن لم يرد شيئا لم يكن. فنقول: إن الله عز وجل فاعل بالقول، لأجل الإرادة التي سبقت منه قبل الفعل، وهذا بين في القرآن [مثل] قوله تعالى: {فعال لما يريد} (سورة البروج: 16) ، وهو بالقول فعال، قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (سورة النحل: 40) . ونقول: إنه لو لم يشأ أن تكون منه الإرادة لم تكن، لأنه غير مضطر إلى الإرادة، غير مضطر إلى أن يريد، كيف وهو الأول قبل الإرادة سبحانه الواحد الصمد الفرد الأحد فنقول: لا كائن إلا بقوله، ولا قول يسبق منه إلا بإرادته، وهما يحدثان منه متى ما شاء قضاءهما بلا مانع له عنهما، فإن أراد قولا قال، وإن لم يرد لم يقل، فإذن لا قول يكون منه ولا إرادة إن لم يرد، هو مالك الإرادة ومالك القول، ومالك كل شيء سواه. فلأجل هاتين الصفتين كان المفعول مفعولا بعد أن لم يكن، وهما علتان لكل مفعول، لا علة قبلهما من الله لكون الكائنات سواهما. فلا يقال في الباري جل جلاله إنه علة الأكوان (100ظ) بهذا الاسم الذي لا يحسن ولا يحق أن يسمى به إن أراد مريد قصد الصمد بذلك دون الصفات، أعني دون القول والإرادة، لأن الصفات علل الكائنات جميعا، وهو بوحدانيته غيرهما لا محالة، وهي محضة صمدة كما سمى نفسه، متعال، ووحدانيته قديمة بلا غاية(4/382)
لها، ولكل شيء من القول والإرادة غاية، فليس الله تعالى يسمى علة كما ظن الجاهلون الملحدون في أسمائه، {سيجزون ما كانوا يعملون} (الأعراف: 180) لأنه ليست العلة علة معقوله إلا لمعلول يكون المعلول من أجلها ضرورة، أعني بلا أختيار وبلا رجعة عما لها في القوة أن يكون منها، أعني كون معلولها منها كالقول الذي هو للإرادة بالقوة قبل خروجه منها بالفعل لكون الكائنات، وكالكائنات التي هي للقول في القوة مكونة قبل الفعل، وذلك من شأن العلل معقول أبدا عند أهل العلم، أعني لا شيء لها في القوة إلا ولابد أن يكون كائنا بالفعل ضرورة يلزمها طبع العلة مقدور على ذلك اضطرارا.
53 - فالأول المبدع للعلل الذي لا مثل له ليس هو لشيء علة تعالى عن ذلك وارتفع، إذ العلة في العقول الصحيحة هي السبب المطبوع لكون المسبب لا محالة، فالأول جل وعز لا سبب، تعالى عن ذلك، فأنى يكون سببا وهو محدث الأسباب وفاعلها، وأنى يكون علة وهو محدث العلل وواضعها، لا من سبب ولا من علة.
54 - والذين قالوا إنه ليس علة الخلق شيء سوى القول والإرادة والقدرة، وأنه إن كان جميع ذلك لم يزل بلا غاية، فالخلق لم يزل بلا غاية، فهو كما قالوا في كلامهم؛ غير أنهم ضلوا عن المبدع الأول، لأنه ليس علة الخلق إلا الإرادة والقول والقدرة، فأما محدث ذلك فليس علة، ولا لأنه لو لم تزل هذه الصفات لم نزل الكائنات واجبة، لأن العلة فيها إيجاب معلولها، ولكن من لهم بدعواهم أن العلل لم تزل مع الأول الموصوف، وأنها أزلية بلا غاية، وهم لا يأتون عليه بسلطان أبدا، وإذا لم يجدوا به سلطانا ولا برهانا، أليس القول به كفرا وشرا وطغيانا وهذا موضع خلاف النصارى والدهريين، فسبحان الفرد الصمد الذي {ليس كمثله شيء} وهو الأول وحده، وكل شيء سواه حادث بعده، بائن منه، مملوك له {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} .
55 - ومن فقه الصفات أن الصفات علل بادية، وهي قبل أن يكون الفعل التام لانفعالات بتركيب المفعول [101هـ] المفعول منها، ولذلك لا يجب أن يقال: هي مفعولة، أعني العلل التي هي الاسطقصات الأربع، لأن المفعول هو المركب، وهي(4/383)
بسيطة لا مركبة. ولا يقال في العلل إنها أفعال الله ما دامت متحركة لا مستقرة، بل هي انفعالات لله تعالى واجبة، ولا يقال في المعلولات إنها انفعالات إذا هي تمت مستقرة. وهكذا تنفصل في الوهم الهوية من لا هوية، لأن الموجب يبعث السالب.(4/384)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم
56 - كتب محمد - رحمه الله - في جانب كتاب الكندي صاحب هذا الكتاب لمن فهمه عنه:
لاشك فيه أنه غير صحيح الإيمان، غير عالم بربه، غير ذي بصيرة في شيء، لأنه تناقض في كلامه واضطرب اضطرابا يخبر أنه لم يحصل ما يقول.
57 - أول ذلك العلة والمعلول التي كفر فيهما في كتابه في التوحيد هو ما قد جاء بهما كما هنا، فبعد أن أوجب الإيجاب التام الجيد ونفى عن التوحيد كل ما ينغصه من المضاف والنوع والجنس وسائر المقولات، زعم أن الواحد علة ما خلق، والعلة لا تكون إلا جنسا، والعلة لا تكون إلا مضافة، والعلة من كل جهة لا تكون مع الوحدة الصحيحة في قوله وبما أوجب بلسانه، فحسبه بهذا عيا وكفرا وضلالا.
58 - ثم جعل تناقص النبوة في هذا الكتاب بما يدخل عليه، أن جعل ربه علة، دخولا كدخوله عليهم أو أشد، وكذلك الكفر ما نقص ضربا منه نقص أجناسه كلها، وإنما هلك المسكين لأنه بعد أن نفى عن الخالق شبه المخلوق في شيء من صفاته، جعل يطلب خالقه بما يتمثل لعقله كطلب المخلوق سواء سواء. ولو لم يعرف إذا بلغ الحد الذي وقفت الغايات إليه كيف ينفذ إلى إيجاب وجود الخالق بما يخالف وجود المخلوق، وأراد أن يسلك فيها سبيلا واحدا بعد أن أوجب في مبادي كلامه أن سبيل وجودهما مختلف، فلعمري ما أرى الكلام الصحيح الذي قدمه في كتاب " التوحيد "، والذي يجري في داخل كلامه في هذا الكتاب، إلا ما حفظ من كلام غيره من الأوائل الموحدين: أرسطاطاليس وأفلاطون وأبقراط ومن وحد منهم، حتى إذا رجع إلى محصول نفسه جاء حينئذ بالاختلاط والضلال، فليتق عبد على نفسه، فإن النظر في مثل [101ظ] هذه الكتب لمن يعرف الله معرفة تامة تهلكه وتكفزه وتخسره آخرته وتوجب عليه عذاب الأبد السرمد، وأين من يعرف ربه كانوا إذ كانوا، وقد والله(4/385)
ذهبوا، فإن كان قد بقي منهم في الدنيا واحد أو اثنان فعلمه مخزون في صدورهم مقصور على أنفسهم أو على خاصة يسلك بهم مثل سبيله في طيه عن أهل زمانه، إذ لا يرى مستحقا ولا أمينا ولا لقنا ولا صديقا ولا مريدا صادقا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
59 - قال الموحد: من المسائل التي هي محالية السؤال، فلا أجوبة لها بالمقابلة (1) لأنك إن قابلت المحال كنت محيلا: لو سأل سائل عن الله عز وجل بإيقاع صفة التمام والكمال مثل ما هو تام كامل، قيل له: أتسأل بصفة المخلوق عن الخالق، تعالى الله عن هذه الصفة كما تعالى عن ضدها، هو فوق ما يأخذه التمام والنقص، عال علوا كبيرا، وهذا المحال من السؤال موجود مثاله في المخلوقات وجودا قريبا ظاهرا، لو قال قائل: الأمير حاجب أو وزير قيل له: منزلته فوق منزلة الحاجب والوزير. فلو قال القائل: اللؤلؤ أخضر هو أو أحمر قيل له: لا ذا ولا ذا. ومثل هذا يرد كثيرا في مواضع مشبهة لا يظهر محالها إلا بالكشف. وكذلك لو سأل سائل، وهي أغمض من التي قبلها: هل يحيط علم الله بذاته أم لا يحيط قيل له: لا تسل عما لا يتناهى بصفة الإحاطة فليس لك جواب، أرأيت لو قلت: أيحيط المحيط بما لا يحاط به ألم يكن محالا كما لو قلت: هل لما لا حد له حد، وهل لما لا نهاية له نهاية، وهل يخلوا الذهب أن يكون أسود أو أخضر قلنا: لا يقع عليه واحدة من هاتين الحالتين، فكذلك بمن سأل عن متقابلين في المخلوقات ليس واحد منهما فيه، نفيا جميعا. ومن سأل عن الخالق تعالى عز وجل بما يقع على المخلوقات من الصفة، ومن جهة الضد والند، ومن جهة الكم والكيف، كل هذا لا يجاب فيه حتى يسأل غير سؤال المخلوق، كما لا يشبه خلقه في صفة من صفاته، كذلك لا يمكن أن يسأل عنه بصفة من صفات خلقه، فافهم ولا يستخفنك الذين لا يوقنون {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (سورة البقرة: 42) ، الذين قالوا بالكمون جهلوا المكان والمتمكن، فحسبوا أن المتمكن يكون في المتمكن ولا يكون المتمكن إلا في مكان، والمكان لا يأخذ منه الجسم إلا قدره وحده، فلا يمكن أن يكون جسم آخر معه في مكان لا فضل فيه، والمكان [102و] الهواء والأجسام المتمكنات فيه، فبؤسا
__________
(1) ص: بالمقالة.(4/386)
لهم ما أبلدهم.
60 - قال: أخشى أن يكون هذا الكندي الشقي كان زنديقا، فعمل على أن يوقع غيره فيما وقع هو فيه، ويرى مثله ممن أراد الله تعالى هلاكه أن البراهين تتناقض في إثبات التوحيد، كيف هي وكيف تثبت، وأنها لا تصح إلا بهذه الشرائط. ثم أتبع ذلك بأنه لابد للعالم من علة، وأنه لا علة إلا خالقه، لينقض بذلك الصفة التي هي التوحيد، فيرى أن الوحدة غير موجودة وغير قائمة. فإن كانت هذه بصيرته وإياها قصد، فما أرى في جهنم أسفل درجة منه. وإن لم يكن قصدها، فالشيخ (1) دبرها على لسانه، فهو معه في أسفل السافلين، إذ مكنه الله تعالى من أن أجرى على لسانه الكفر بهذا اللبس من حيله، ليصد عن سبيل الله. وربما ظننت أن طويته قول الدهرية لأنه رجع قوله إلى أن كل شيء معلول وعلة فأثبت العالم ونفى غير ذلك. فلعمري إذ خشيت هذا من كيده إنه ليجب أن يوضع شيء يبين به عليه، ويقابل به ضلاله، لتمحى ظلمته بنور الهدى إن شاء الله. ألا ترى كلامه كله كلام الحيران معرفته بأزمة الكلام من جهة صناعة المنطق، فهو يرد على المنانية والدهرية ويخلط القول صحيحا بمريض، كما كان في قلبه سواء، والله أعلم.
61 - قال: إن الكندي وإن ناظر هؤلاء المبطلين، فقوله ظنين غير مأمون لنقضه على نفسه التوحيد جهارا، إذ أقر أن العلة والمعلول من المضاف، وأن الوحدانية لا يقال عليها بالمضاف، ثم زعم أن ربه علة، فأوجب المضاف، فكأنه تعمد النقض، فنقول: إن رده على المنانية ومناقضته إياهم صحيحة، كما ناقض، إلا مواضع زل فيها. وأصل مناظرته صحيحة (2) ، غير أنه كثر فيما يستغنى فيه بالقليل، إنما هي عقدة واحدة، فلينظر إليها من أراد الحق ويجعلها لنفسه أصلا يغنيه عمن زال عن قوله: {ليس كمثله شيء} . فكل مناظرة تلحقه، وكل مناقضة تدخل عليه من شبه إلهه بشيء من المخلوقات من جهة من الجهات، فجعله جرما أو محدودا أو متناهيا أو أي صفة من صفات المخلوق كانت، دقت أو جلت، دخل عليه سائر الصفات
__________
(1) الشيخ: يعني إبليس.
(2) كذا والأصوب أن يكون " صحيح ".(4/387)
كلها، وناقضته المعاني كلها في السموات والأرض حتى تخرجه عن المثل بكل جهة مقولة ومتوهمة، وإلا فهو مبطل ملحد في الدنيا والآخرة، وصلى الله على سيدنا محمد.
كما أن الكندي إذ سمى ربه علة، يدخل عليه كل ما أدخله على المنانية [102ظ] فيسأله عما كان خطأ أو عمدا.
تم الكتاب بحمد الله وعونه(4/388)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم
62 - من المقلوب قياس أمور خالقنا على قياس أنفسنا فنخر ولا نشعر، وإنما منع الإضافة عدم المشاكلة، هي فصل، لا فصل مسافة مانعة من الإضافة، وإن زاغ المعنى عن هذا إلى توهم المسافة ووضع الكلام عليه، دخل الباطل والزيغ لا محالة، فاشعر إن كنت تشعر.
63 - الإنية والذات: الشيء بعينه.
64 - الأشخاص الجزئية: كل ما تدركه بالحواس الخمس.
65 - والأجناس والأنواع: كل ما يدركه الوهم - وهو العقل وإنما يدرك العقل المعاني والجواهر البسيطة التي هي الأمر.
66 - المركبات: المخلوقات.
67 - والصفات: العلل.
68 - " الحكمة ": هي الفصل الأكبر؛ " رب احكم " أي افصل؛ " حاكم ": فاصل، {وهو خير الفاصلين} أي خير الحاكمين.
69 - العلل التي هي رؤوس بادية أربع: العنصر والصورة والفاعلة والمتممة. فأما العنصر فمثل الذهب والنحاس والفضة؛ وأما الصورة فما صور منها مثل: الأباريق والكؤوس والحلي؛ وأما الفاعلة فمثل الصانع الذي منه ابتدأت الحركة لفعل هذه الأشياء من العنصر؛ وأما المتممة فإنها التي من أجلها فعل الفاعل مفعوله من العنصر، مثل أن يقال: لم عمل الكأس فقيل: عمل لأجل الشرب به، ومثل البيت الذي بناه البناء، فيقال: لم بني البيت قيل: للسكنى فيه، فكأن علة بنيان البيت السكنى الذي لأجله بني البيت، فهذه العلة التمامية التي تم بها المفعول.
70 - ومما يحق على من أراد أن يقضي بالحق ألا يكون معاديا لمن خالفه، بل(4/389)
يجب عليه أن يكون رفيقا محسنا منصفا، ومن إحسانه أن يجيز له مثل الذي يجيز لنفسه من الصواب، والوقوف عند حدود البراهين، وكل حجة بلا برهان خرافة.
71 - العلة العنصرية تنقسم ضربين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل إرادة الباري جل ثناؤه، والجسماني مثل الاسطقصات الأربع.
والعلة الصورية تنقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل الأرواح والملائكة التي قامت من العلة الروحانية العنصرية وهي إرادة الباري، وأما الجسمانية فمثل أجسام بني آدم وأجسام البهائم والنبات التي قامت من العلة العنصرية الجسمانية وهي [103و] الأسطقصات الأربع.
والعلة الفاعلة تنقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل كلمة الباريالتي فصلت الأرواح والملائكة من إرادة الباري، وأما الجسمانية فمثل الطبيعة المتحركة لفعل أجسامنا وأجسام البهائم والنبات من العلة العنصرية التي هي الاسطقصات (1) الأربع.
وأما العلة المتممة فتنقسم قسمين: روحانية وجسمانية، فالجسمانية مثل تحرك الأجسام أجمع، وأما الروحانية فمثل علوم الإلهية وأفراد الوحدة.
72 - قال أفلاطون: الأفعال ثلاثة: فعل اختراعي وطبيعي وصناعي. فأما الاختراعي فهو المخصوص بفعل الباري، وهو تأسيس أيس من ليس. وأما الطبيعي فهو تأسيس أيس من أيس. مع فساد صورة ذلك الشيء وطبيعته إلى صورة أخرى وطبيعة أخرى (2) ، المخصوص بفعل العلل بإذن الله تعالى. وأما الصناعي فهو أيس من أيس بغير فساد صورة ذلك الأيس، وهذا المخصوص بفعل المعلولات بإرادة الباري ومشيئته تعالى.
73 - الجوهر ينقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني مثل العقل والنفس، والجسماني مثل الطويل والعريض والعميق.
والعرض ينقسم قسمين: روحاني وجسماني، فالروحاني مثل الحلم والعلم والأدب
__________
(1) ص: الاستقصات.
(2) إلى ... أخرى: مكررة في ص.(4/390)
المحمولة في (1) النفس، وأما الجسماني فمثل السواد والبياض المحمولة على الجسم، فافهم.
74 - قال محمد: قال أفلاطون: كل ما وقعت حركته تحت الزمان محدود معدود، وكل محدود معدود فأوله التفريق، ثم ألفه بعد التفريق، لأن كل شيء له طرفان، والزمان والمكان معا معا، فإذا فني المكان فني معه الزمان لا محالة، والحمد لله رب العالمين.
75 - صفة الله تعالى: الله تعالى نفى صفات البشر عنه، وقد جعل لذلك اعتبارا، وهو المريد المحدد، فإن صفته عدم صفته، فنقول: هو خير مجرد لم ير قبله مثله، كذلك نقول: هو رب {ليس كمثله شيء} .
76 - قال: سألتني أكرمك الله عن قول داود القياسي في الله تعالى: إنه لم يزل متكلما، وأن أكتب إليك بما يوجبه عليه مذهبه فيه، فمذهبه أعزك الله مدخول، ولا أدري من أين أخذه، ولا على أي شيء حمله، ولا معنى له في القرآن، ولا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون الكلام إلا عن سبب وعلة توجب الكلام [103ظ] ، ولولا العلة لم يكن كلام، ولكن نقول: إنه لم يزل متكلما منذ خلق القلم، ولا يزال إلى يوم القيامة لقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (سورة يس: 82) . وإنما كان هذا من حيث ابتدأ خلق ما خلق، فلم يتكون شيء من ملكوته كله إلا بهذه الكلمة، وفيها زم قدرته على كل ما خلق، فإنما أوجب كلمته هذه خلق الأشياء كلها لما أراده من المحنة عز وجل.
77 - محمد رحمه الله قال: كلمت رجلا على قول الدهرية فقلت له: هل تعرف شيئا إلا ما يعرفه عقلك، أو عندك شيء آخر تعرف به وتنكر
قال: ما أعرف إلا ما عرفه عقلي.
قلت: فما عرفه العقل فهو المعروف المقر به
قال: نعم.
__________
(1) ص: على.(4/391)
قلت: فما لم يعرفه العقل إذن فهو المنكر، والمنكر أصل الذي لا برهان عليه
قال: نعم.
قلت: والمنكر باطل
قال: نعم.
قلت له: فهل يعرف العقل شيئا لا نهاية له
قال: لا يعرف العقل إلا ما له نهاية في جسمه.
قلت: فإني أجمع لك كل ما مضى: لا يخلو قولك وقول أصحابك من أن نقول: إن الفلك هو الغاية أو أن فوقه غاية، فإن قلت: هو الغاية قلت لك: فهو متحرك، والحركة لا تكون إلا في مكان، والمكان لا يكون إلا في مكان إلى ما لا نهاية له؛ فالعقل ينكر هذا، وإن قلت: هو في متحرك، فإنه جسم، والجسم لا يكون إلا في جسم إلى ما لا نهاية له. وإن قلت: فوقه غاية، قلت لك: ما تلك الغاية التي فوقه أتشبهه أم لا تشبهه فإن قلت: تشبهه. قلت لك: فهي جسم، فهي إذن في جسم، فرجعت إلى سيرتك الأولى. وإن قلت: لا تشبهه. قلت لك: فإن العقل لا يجد مثالا إلا ما يشاهده، ولم يشاهد إلا الأجسام. فإذا أجبت بشيء تزعم أنك تجد مثاله وهو خلاف المثال أنكره العقل، وما أنكر العقل فهو باطل (1) .
قال: أقول: فوقه شيء يشبهه في الجسم، وليس يدور عليه زمان، لأنه فوق الزمان.
قلت له: فهو جسم أو غير جسم
قال: جسم.
قلت له: قد رجعت إلى الجسم، ولا يكون الجسم إلا في جسم إلى غير نهاية، وهذا باطل.
قال: ليس بجسم ولكنه الدهر.
قلت: وما هو
قال: لا هو الدهر.
__________
(1) ص: الباطل.(4/392)
قلت: اسم بلا معنى.
قال: اسم له معنى.
[قلت] : فإني أسمعك تأتي بالاسم فردا.
قال: اسم أشار إلى معنى.
قلت: فصف لي المعنى.
قال: هو الذي تنتهي إليه الحركات [104و] .
قلت: وما ذلك الذي تنتهي إليه الحركات ما مائيته عن ذلك أسألك.
قال: هو الدهر.
قلت: إن الاسم لا يتوهمه العقل إنما يتوهم المعنى، فما معناه أهو مكان
قال: لا.
قلت: فكيف يكون جسم الفلك في غير مكان ثم قلت: ويحك إنه ينكر عليك هذا القول من جهات كثيرة أن الذي يقول فوق الزمان إن كان متوهما فهو جسم، وإن كان غير متوهم أنكره العقل على أصلك. ولا يخلو شيء من أن يكون زمانا أو مكانا، لأن الزمان لا يكون إلا مع المكان، والمكان لا يسبق الزمان. فإذا كان زمانا أو مكانا فهو مؤلف متحرك، والمتحرك ذو آخر لأنه ذو نقلة. فإن كان ذا أجزاء فهو مؤلف من تفرقة، والتفرقة نهايته الأولى.
قال: فأقول: إن له نهاية أولى من التفرقة تأتلف.
قلت: وقبل أن تأتلف، ما كان
قال: مفرقا.
قلت: عدما
قال: لا.
قلت: فكان أجزاء متفرقة إذن، والأجزاء أمكنة، فمعها زمان بلا نهاية تأليف.
قال: بل للتأليف نهاية أولى.
قلت: فمن عدم إذن
قال: من عدم.(4/393)
قلت: في العدم لا شيء، فلا شيء يؤلف شيئا إذن، وهذا ما يحده العقل، لأن الشيء لا يؤلف نفسه، لأنه قبل أن يؤلف نفسه عدم، والعدم لا شيء، ولا شيء لا يكون منه شيء من ذاته، لأنه لا ذات له، إلا أن يكون منشئ ينشئ شيئا من لا شيء، وهو الله رب العالمين.
قال: فلو سامحني أولا في النهاية الأولى، كيف كنت تصنع في آخر الأمر
قلت له: إذا كان لشيء طرف أول لم يكن له بد من طرف ثان، وإلا لم يكن بذي نهاية، والعقل لا يحد ما لا نهاية له ممثلا، ولا يحد ما ليس له طرف ممثلا. فإن كان له طرف، فطرفه الفناء، لأنه منه بدأ وإليه يعود، كما أن كل شيء له طرفان من ضده لا محالة؛ هكذا نجد ونرى في الممتثلات كلها.
قال: فما أراني أجد إلا أحد أمرين: إما مكانا فوق الممثلات يكون جسما فيلزمني فقد النهاية، أو أقول: ليس جسما فينكره العقل.
قلت له: كذلك تجد في قولك.
قال: فما تقول أنت
قلت: أقول: فوق الزمان والمكان خالقهما ومؤلفهما وهو خلافهما وغيرهما من كل جهة، فلا يحيط به العقل من جهة التمثيل ويدركه من جهة الدليل، ومن قولك آخذه، لأنك أنت وكل من يفهم من أصحابك وغيرهم لا يحدون في البدء إلا الزمان والمكان معا، لا يسبق بعضه بعضا، ولا يكون المكان إلا من [104ظ] تأليف، ولا يقوم التأليف إلا من عدم، فمخرجه من عدم هو الله الذي لا إله إلا هو، تعالى [الله] الأول الخالق. ولا يكون المكان أيضا إلا لمتمسك، فلو كان مثله كان بلا نهاية، غير محدود لا محالة، ولكنه ممسك خلافه من كل جهة، فلذلك الله رب العالمين.
قال: والله ما أجد بعقلي إلا ما تقول، غير أن قوما قالوا: جوهر بسيط.
قلت: يلزمهم في الجوهر البسيط ما لزمك، لأن الجوهر البسيط شيء قالوه لا يتمثل. فإن قالوا إنه لا يتمثل وهو جسم كذبوا وجاءوا بما لا يعرفه العقل. وإن قالوا: هو غير جسم، قلت لهم: هو مقيم الأجسام ومدبر الكل، وليس يشبهه شيء، تعالى(4/394)
الله رب العالمين.
قال: كذلك لعمري يلزمهم ولابد من هذا.
قلت: فاعلم أنه لما نظروا وجدوا بعد المكان والزمان غيرهما، فلما قالوا مثل، بطل عليهم في فكرهم، ولما قالوا خلافه لم يحسنوا الصفة، لأنهم حسبوا أن العقل لا يجد خالقا مرتفعا فوق العقل يدركه بالدليل بلا تمثيل، لأنه لا شبه له ولا ند، ويوجد مخلوقا يتمثل، لأنهم وجدوا له أمثلة وأشباها. فلما أرادوا أن يرفعوه فوق العقل لم يهتدوا إلى الدليل عليه فأنكره. ولما أرادوا أن يتمثلوه وجدوه من المخلوقات بلا نهاية، فأنكروه فوقعوا بين الحيرتين على ثالثة لا يعرفونها، وجعلوها حيلة يختصمون بها في المناظرة، اسما بلا معنى، صفة بلا كيفية، فقالوا: جوهر بسيط، ففروا من الحيرة إلى الضلال، ومن العشى إلى العمى، ومن الحر إلى النار، فنعوذ بالله من العمى ونحمده على الهدى، ونصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
فاعلم الآن بما هداك الله موقع الكفر وفظاعته وعظم خطره في الشر والخسران من كل من ألحد في توحيد الله تعالى، وأنه إذا أخذ توحيده ممن ليس يقر بربه ولا خالقه، بأن تعلم أن كل من لم يصح توحيده ويخلص لله فيه حق إخلاصه، وزعم أن ربه غير واحد بوحدانيته الحقيقية من كل جهة، فهو كعابد وثن، لأن العباد إنما يتوجهون إلى عبادة ربهم، ويصفون خالقهم بتصحيح الصفة في العقل، فإذا لم يصب وصف صفة الخالق، فإنما يصيب صفة المخلوق، لأنه ليس إلا الله تعالى خالقا، فمن زال عن صفة خالقه ربه زال إلى صفة خلقه [105و] . فإذا قصد بعبادته صفة الخلق، فهو كعابد الوثن، قد تبرأ من الله عز وجل وكفر وجحد نعمته كلها من الدنيا والآخرة، ونسبها إلى غيره، وتعبد ورجا وخاف غير الله، فلم يوجه إلى الله تعالى بشيء من حقوقه، ولا أقر له بشيء من نعمته، ولا أعلق به شيئا من رجائه ولا خوفه، ولا أسند إليه شيئا من دنياه وآخرته، ولا أقر بخالق، ولا أثبت ربا ولا إلها، تعالى الله علوا كبيرا، والحمد لله على الهدى كثيرا حمدا يرضاه ويتقبله، ويوجب الثبات به حتى نلقاه عليه، ويوجب الزلفى لديه والكون في جواره وظل(4/395)
عرشه، برحمته آمين.
فصل
78 - قال محمد رحمه الله:
كل مكون معلول، وكل كائن فله علة، وما لا علة له فلا كون له، فالعلة العليا علة العلل وجنس الأجناس وطبيعة كل طبيعة وجنس كل نوع. فالعلة العليا لكل شيء هي مشيئة الله تعالى لكون الأشياء كلها، فهي شاملة عامة، ثم انفصل منها لكل شيء علة خاصة لاصقة بالشيء قريبة منه، والعلة الكبرى فوقها أم لها، لا مقصر لشيء من العلل دونها، لأن منها فصلها، ولا أم لها بعدها لأنها غايتها، فالعلم معرفة العلل، والرسوخ فيه بقدر الرسوخ فيها.
79 - وإن الله عز وجل لما خلق الدنيا دار محنة وبلوى، خلقها أضدادا وأزواجا، لتقع المحنة وتتم الدلالة، فتمام الدلالة بذلك لأنه لا يعرف الشيء بحقيقته إلا من قبل ضده، فبالظلمة يعرف النور، وبالمكروه يعرف المحبوب، وبالشر يعرف الخير، وبالبرد يعرف الحر، وبالتحت يعرف الفوق، وبالظاهر يعرف الباطن، كل واحد منها يعرف بصاحبه، ويهتدى إليه بزوجه وضده، ويهتدى بالأضداد كلها إلى وحدانية الخالق لها. وأما وقوع المحنة من جهة الأزواج، فإن الله عز وجل جعل الدنيا امتزاجا وانفصالا زوجين أيضا ضدين، ليعرف هذا بهذا. فما فصله الله تعالى بأمره ولم يكن إلى المخلوق لعله قامت حقيقته، وارتفعت الشبهة عنه، كانفصال الأرض من السماء، والماء من الثرى، والنار من الرطوبة، والأجسام بعضها من بعض، وما مرجه وامتحن المخلوق بفصله جعل بين حديه البينين، وهما معظم الشيئين، شبهة مشبهة بالشك واليقين، فالشبهة واقعة بين الحق [105ظ] والباطل، كالغبش بين الظلمة والنور، وكالدكنة بين البياض والسواد، وكالحامض بين الحلو والمر، والسنة بين النوم واليقظة، فكل شيء في الدنيا من المتصل والمنفصل زوجان، والشبه واقع بين حدي المتصل عند وقت(4/396)
الانفصال. فانفرد الله تعالى بالوحدانية وحده، وجعل الأشياء كلها زوجين بعده، والعلم هو معرفة العلل، ومعرفة العلل هي معرفة الحدود، والحدود زوجان: حد إحاطة وحد مقاربة، والشبهة زوجان: أحدهما يقع في حد الإحاطة بأن يشابه أعيان الشيئين، كاشتباه الشبه بالذهب والقزدير بالفضة ونحو ذلك. والثاني في حد المقاربة حيث تقع الشبهة بين المنفصلين، كحد ما بين الجبل والسهل والحلو والمر والقوة والوهن.
فالأزواج والأضداد الجارية في كل موضوع ومخلوق من أمور الدنيا والدين هي علة الاختلاف الكبرى التي من جهتها وجب النظر، ووقعت كلفة التدبر والتثبت والاشتباه. وكل خطأ وقع في بني آدم فمن هذه الجهة يقع، ومن هذا الأصل ينبعث.
80 - وأمثلة العلم أمثلة باطنة مفصولة من الذكر الباطن في الذكر المفصول للإنسان في الباطن، فهي لا ترى إلا بالبصر الباطن، وهو العقل، فتمييز الناظر فيها على قدر حدة بصره، وقوة نور باطن عقله، كما يتميز الناظر في دقائق الأشخاص بحسب قوة بصر عينه وحدة حاسة حدقته ونوره، وقوة البصر الباطن ونوره بحسب بعده من الشهوات التي هي تكدره وتطمس عليه وتحجبه عن الاتصال بمادته، ومادته علم الله الأعلى الذي يمد به من يشاء، فافهم. ومن ارتفع بنظره إلى العلل العليا فأصاب وجه ما طلب، جرى صوابه في كل ما تحت ذلك من العلل، فعظم صوابه. ومن أخطأ في تلك المنزلة العليا، جرى خطأه فيما تحت ذلك فعظم خطأه. ومن أخطأ فيما دون ذلك، فخطأه بقدر درجته من النظر، فافهم.
81 - تكلمت النصارى في الله فأخطأت الوحدانية فكفروا، وتكلمت اليهود في النبوة فأخطأوا فيها فكفروا، لأن الكلام في النبوة هو من الكلام في الصفات العلى. وتكلم الفقهاء في فروع الأحكام، فلم يكن خطأهم كفرا، لبعد الكلام من الأصل. وتكلمت الفرق المبتدعة في الأصول العليا بعد أن اعتصموا بالإقرار بالوحدانية والنبوة، فمنعهم أن يكون كلامهم كفرا اعتصامهم بجملة الإقرار، وارتفعوا (1) في القدر عن
__________
(1) ص: وارتفع.(4/397)
الخطأ في فروع الأحكام، ولم يبلغ بهم الخروجعن حد الإسلام [106و] لاعتصامهم بعقدة الإقرار، وكان خطأهم كأنه خطأ تأويل، وهو بين الحدين في موقف الشبهة لأنه يقول: أنا مؤمن بما جاء به النبي على ما جاء به، لا أنكر شيئا منه، ولا أخرج نفسي عنه. ثم يتأول فيخرج عنه، وهو يرى أنه يوافقه، وكأنه إنما يطلب موضع الحق منه، فهو خارج من جهة النظر، معتصم من جهة النية والإقرار، فبيان الحكم فيهم غيب، ولله عليهم حجة إن عذب، ولهم وسيلة إلى العفو إن عفا، ونستعصم الله من الخطأ والزيغ في رفيع الأمور وقريبها برحمته.
82 - جملة المختلفين من أمتنا: المرجئة والخوارج والجهمية، من هذه الثلاث طوائف انفصلت الفرق بأجمعها، وأعظم فرقة انفصلت منها حتى صارت كأنها رابعة معها فرقة الشيعة، ولكنها منفصلة من الخوارج، ثم تليها فرقة القدرية الذين جملتهم المعتزلة، وهي منفصلة من الجهمية، وانفصلت المرجئة على كل فرقة فرقة منها، لم يغلب عليها اسم يمحو عنها اسمها الأعظم، كلهم يسمون مرجئة.
فأما المرجئة والخوارج فإنهم يختلفون أن الإيمان روحاني كشيء له طرفان، ابتداء وغاية، ونشوء وكمال، وأنه في ذاته درجات منفصلات ومراتب متفاوتات. فقالت المرجئة: الإيمان هو الإقرار بالله تعالى، فكل من أقر بالله فهو مؤمن في الجنة، فحكموا في الإيمان بأحد طرفيه، وهو أوله ومدخله، فضاهوا اليهود. وقالت الخوارج بالطرف الآخر فقالت: المؤمن من لا ذنب له بتة، وما دون ذلك فكافر في النار فحكموا في الإيمان بأحد الطرفين، وهو طرف الكمال وأعلاه وغايته، وتركوا الحق وسطا، ومشت الطائفتان من جانبيه تعسفا، وركبت الجماعة الوسط، فأصابوا الجادة ولزموا القصد وأم الطريق، والحمد لله.
وأما الجهنمية فإنهم تكلموا فيما لم يبح الكلام فيه للعامة، وأرادوا أن يكيفوا علم الله تعالى، فضاهوا النصارى. ونحن لا نتمكن من صفة العلة التي من جهتها أخطأت الجهمية، لأنه من الكلام في الصفات العلي التي لم يبح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم الكلام فيها ولا يتجاوزها علم القلوب، ولكنا نقصد من ذلك إلى ما نرى أنه يجوز لنا الكلام فيه، فمن لقنه انتفع به، ومن لم يلقنه فقد قدمنا إليه العذر المانع من التفصيل(4/398)
أصل الخطأ في القدر [106ظ] والعلم أن المتكلف له أراد أن يقترن القدر بالعدل، فتنافرا في نظره، وقصر عن كيفية اقترانهما فهمه. فقال قوم فأثبتوا العدل ونفوا القدر، وهم المعتزلة، فضاهوا المجوس، وقال قوم فارتفعوا فوقهم وانحرفوا إلى الكلام في العلم، وهم الجهمية، فضاهوا ضروبا من الكفر كثيرا. وقوم أقروا بعدل الله وقدره مذعنين لما ذكر في كتابه، واقفين عند ما لم يستبين لهم علمه، وهم الجماعة، فثبتوا على إيمانهم ولم ينقضوا عقدة إقرارهم. ومن تكلم من كلا الفريقين في ذلك غوى وهوى، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
وأما المعتزلة فإنهم كالجهنمية، اتقوا في أمر ضاهوا به الدهرية، وذلك أنهم أرادوا أن لا يقروا إلا بما يتمثل في عقولهم وما قصر عنه فهمهم ردوه، وزعموا أن الله لم ينزله، وأن الرسول عليه السلام لم يقله، فحسبوا أن الدين وضع، وأن القضايا قضيت على مقدار الأفهام الخسيسة وفطر القلوب القاسية التي نشأت في عصر الفتنة، والتبست برين الظلمة، وأصغت إلى كدر الشهوات المعشية، فكذبوا من ذلك بفتنة القبر، وحياة الأرواح في البرزخ، وبخلق الجنة والنار، وبحقيقة العرش والكرسي، وغير ذلك من أنباء النبوة. فنعوذ بالله من الجرأة على الله والرد لأمر الله تعالى، ومن جهل المخلوق بقدرته وتخطيه إلى غير حده، وصلى الله على جميع أنبيائه ورسله.
فصل
83 - رسالة اتفاق العدل بالقدر.
قال محمد رحمه الله عليه:
أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله فإن العاقبة للتقوى، وأوصيك فيما أردت علمه من جهة القدر والعدل وتصاحبهما بأن تقف حيث وقفت منه، وتؤمن بما عليك أن تؤمن به، وتنتهي إلى ما انتهى سلفك إليه.
فأما قولك: قد نزلت البلية فيه، والتبس بالقلوب داء مخامر منه لا غنى به عن الدواء، وصدى ولابد له من الجلاء، فإني واعظك بمثالك الذي مثلت، وعاطف(4/399)
بك إلى أصلك الذي أصلت:
فاعلم أن من الدواء نفعا عاجلا، ومنه سم قاتل، ومهما قصر عن الحتف بقي له دواء ومداخل، وكذلك الكلام في القدر إذا وقف به على حده ولم يتعد به إلى ما لا يجوز، فهو دواء غير داء. وإذا جووز (1) به الكفاية، وابتغي فيه التطلع من الغاية، فهو داء لا دواء. وسألقي إليك إن شاء الله في ذلك مقدارا (2) يسعني ويسعك وينفعني وينفعك إن وفقت، وبقدر إليك إن جمحت. فمهما شككت فيه أو [107و] اشتبه عليك منه، فاعلم أن الله تعالى خلق جميع خلقه على ما سبق في علمه المخطوط في أم الكتاب الذي لا تبديل له، فمضى عليه خلقهم وجرت عليه سائر أمورهم دقيقتها وجليلها، وخيرها وشرها، وعامها وخاصها، وباطنها وظاهرها، ومكروها ومحبوبها، لا يزيغ أحد عما سبق في مقاديره ونفذ من مشيئته، وقضي في أم الكتاب عنده، ولا يعيدوه في لفظة ولا لحظة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر في دنيا ولا آخرة، بل جارون على ما علم وكتب وقضى وقدر وشاء وأراد قبل أن يخلق السماوات والأرض، إن ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير.
ومن قضائه في أم الكتاب أن كتب على نفسه الرحمة، ومن الرحمة العدل والفضل، ومن العدل الفضل أنه لا يظلم الناس شيئا، ولا يكلف فوق طاقته أحدا، وأن له الحجة البالغة، وأن له الحمد في الأولى والآخرة، ولكن الناس أنفسهم يظلمون فمن زعم أنه يخرج من قدر الله في شيء من أمره كائنا ما كان: عمل أو أجل، أو سراء أو ضراء، فقد نقص توحيده وأشرك بربه. ومن ادعى على الله ما لا برهان له به، فزعم أن الضرورة لزمته من قبل ربه، وأنه معذور بذنبه، مكلف فوق وسعه، غير محجوج في معصية الله، فقد كفر وجحد عدله وفضله، ورد كتابه وكذب رسله. وكلا الفريقين قد جاءته (3) الفتنة المتخوفة التي أنذرها سلفنا خلفهم: أن المرء يسلب إيمانه وهو لا يشعر، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا، ونعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى
__________
(1) ص: جوز.
(2) ص: مقدار.
(3) جاءته: غير واضحة في س.(4/400)
والضلال بعد البيان (1) . ومن سلك الواعظة ولزم الجادة واتبع آثار السلف الراشدين، فآمن بالقدر كله خيره وشره، موقنا بعدل الله تعالى وصدق وعده، وأنه أهل العفو والفضل، وأن ابن أدم أهل الخطأ والذنب، وأن لله الحجة البالغة، ثم لم يكذب بما آمن به من ذلك بلفظ غيره نصا، ولا تعريضا، فقد نجا إن شاء الله ولم يسأله الله عما وراء ذلك.
فقد رأينا من يقر بهذا الإقرار، ثم يعود عليه بلفظ آخر فينقضه نقضا وهو لا يشعر، فأخشى أن يكون سلب إيمانه وهو لا يشعر.
فاجعل - وفقك الله - مع الإيمان بالقدر الإيمان بالعدل غير زائغ عنه بلفظة ولا لحظة، وداو وساوس الشيطان الباطنة بما تشاهده من أحكام الله الظاهرة التي تشهد أن عدله فيها أرفع العدل، وفضله فيها أعظم الفضل، فاستشهد الظاهر على الباطن، والمحكم على المتشابه، وما اتضح لك على ما خفي عليك [107ظ] ، ليقويك على ذلك ثبات علمك بأن الله ذو القدرة التامة والحكمة البالغة قادر على كل شيء، مالك لكل شيء، لم تلزمه ضرورة في أول تدبيره ولا آخره، ولا لحقه ضيق ولا حرج في عدله وقدره وفي نظامهما ووضعهما وإمضائهما، وأن أحكامه كلها لمن عقل موقعها، وعاين بعين عقله حكمة تطلبها، قائمة على غاية الإتقان والإحسان، لا جور فيها يضاد العدل والخير، ظاهرها كباطنها، وواضحها كغامضها، ومجهولها كمعلومها، لا دخل (2) فيه ولا غاية، وإنما النقص في درك ذلك من بعضها على نظر المخلوق وقصر فهمه لا عليها. من ظن غير ذلك فقد ظن عجزا، وأضمر إلحادا وكفرا.
واعلم فيما تعلم من ذلك أن كل قدرة لمخلوق أو مشيئة أو إرادة فالله مالكها، كما هو خالقها، لم ينفرد المخلوق بحال يملكه، ولا أمر يقدره، ولا قوة يبطش بها، ولا مشيئة ينفذها، أمر الله عز وجل فوق أمره، ويد الله فوق يده، ومشيئته ماضية عليه ولازمة له نافذة فيه: {قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله} (سورة يونس: 49) ، وما كسب ابن آدم من خير وشر فهو عاملة وكاسبه، له
__________
(1) البيان: كذا في ص ولعلها الثبات.
(2) ص: دحل.(4/401)
النية فيه والمباشرة بفعله.
فاجعل مع الإقرار بلزوم مشيئة الله تعالى لك وفيك، الإقرار بأن الذنب لك ومنك، وانسب إلى الله عز وجل العدل والفضل والإحسان الذي هو أهله، والذي لست ترى عندك من الله غيره، وبؤ على نفسك بالخطأ والزلل واللوم والذنب الذي أنت أهله وجانيه، والذي لست ترى مع نفسك شريكا فيه، ونزه الله تعالى وبرئه مما يعمل الظالمون، سبحانه وتعالى عما يصفون.
ثم اعلم مع ذلك أنه قضي عليك ولك إن عملت خيرا أصبت خيرا، وإن عملت شرا أصبت شرا، وتركك للخير هو من عملك للشر، وعملك للشر هو من تركك للخير، ذلك كله عمل، ولا ينال شيء من الثواب إلا بالعمل، ولا يدرك إلا بالسعي، كالثمرة لا تجتنى إلا من غراس الشجرة. وهكذا قضى الله تعالى أمر الدنيا ودبرها، وأن الاجتهاد وسيلتك، والعمل مبلغك، وأن الله معين المريدين ومؤيد الصالحين ومثبت الصابرين، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (سورة النحل: 128) .
ثم اعلم أن مما قد نزل من فتنة هذا الأمر أن لا أزال أسمع موعوضا يوعظ أو غافلا يذكر، فيلجأ إلى الاعتذار بالقدر، فيتخذه عذرا مانعا، ومخطئاً يخطئ، وآثما [108و] يأثم، فيعتذر بالقدر، فيجعله لنفسه براءة من الذنب، كالمقيم لنفسه الحجة والعذر. أفلا تتقي الله يا ابن آدم فتعلم من خاصمت ومن حاددت وعلى من احتججت أما إنك إذا قصدت وطر شهوتك التي سخطها الله تعالى منك راكبا لبعض محارم ربك، فإنك تنهض إليه بأيد أيد وبطش شديد، غير متوهم حينئذ لمانع يمنعك منه، أو حاجز يحجزك عنه، حتى إذا أنت هممت بالخير الذي رضيه الله تعالى منك، تلكأت وتثاقلت وأخلدت إلى الأرض وتربصت، ثم افتعلت الحجج وألقيت: {بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره} (سورة القيامة: 14) .
أحين نهضت إلى الشيء فعلمت أن الله خاذلك ومعرض عنك وواكلك إلى نفسك، لم تخف عجزا عنه حتى بلغت غاية ما تريد منه، فلما هممت بالخير فعلمت(4/402)
أن الله تعالى معك ولك ومؤيدك ومثبتك، خفت العجز والنكول وافتعلت المعاذير كذلك لما أخطأت زعمت أن القدر قواك، فإذا هممت بالخير تزعم أن القدر خذلك لم لا تعدل وقد عدل الله عليك ولكنك تتخير على القدر بهواك، فتزعم أن القدر ينهضك إلى الخطأ، وأن القدر يثبطك عن الصواب، فلم لا إذ تكلفت ما ليس عليك وازنت ببصيرتك فقلت: وبالقدر أيضا أثبطك عن الخطأ. وبالقدر أنهض إلى الصواب أو لعلك تزعم أن القدر معك إذا أردت الشر، وليس معك إذا أردت الخير كلا، لئن قلت ذلك، لقد ضللت وكفرت، وما فارقك القدر في حال من حالاتك، ولقد عدل ربك عليك في جميع أوقاتك، وفي قدر الله كنت، وفي قدر الله عز وجل أنت، وفي قدر الله تكون، وإنما عليك أن تعمل ولا تطالب ربك بما تعمل، فاكلف بما كلفت، ودع عنك أن تحاج الله عز وجل، فإنك متى خاصمته خصمت.
فلا تكون أخي ممن يتخذ الإقرار بالقدر سببا للكسل والوهن في العمل، ولا تحسب أن عملك مخرجك من قدر الله الذي قدر لك، ولا أن القدر، كيف تصرفت بك الحال، يزايلك. بل اعلم أن عملك من قدرك، وأن عجزك إن عجزت من قدرك، وأنك في القدر كنت وفي القدر تكون وإليه تصير، كيف تصرفت بك الحال، فمن قدر الله إلى قدر الله، لا زائغا عنه ولا خارجا منه. فارغب وارهب وجد واعمل، فليس تسأل عما قضي عليك، ولكن عما عهد إليك، ولن تجازى إلا بعملك، ولن تحاسب إلا بسعيك، ولن تجد محضرا إلا ما قدمت، ولن ترد إحدى المنزلتين إلا بما كسبت [108ظ] ، ولا تلزم الشر إذا تركته وفررت إلى الله تعالىمنه، {ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} (سورة الذاريات: 51) ، والسلام عليك، وصلى الله على سيدنا محمد.
فصل
84 - قال محمد: أما الروح فليس يخلو من إحدى منزلتين عند القبض: أن يكون يقبض، ثم يرد إلى فناء المضجع، ويكون متصلا إلى أعلى منزلته بقدر ما يجعل(4/403)
له في الأولى والثانية أو حيث كان. فإن جاوز السماء وفتحت له، فهو إن شاء الله ممن يرى الجنة من موضعه ذلك من أعلاه، وكلما قرب إليها كان أبين له وأروح حتى [يبلغ] إلى منزلة الشهداء الذين يشاهدون الملكوت رؤية مشاهدة ومداخلة في الروضة والفناء والساحة.
وتذكر أن الله لا يسمى ما كان من ابن آدم روحا، وإنما يسمي الروح الملائكة والقرآن ونحو ذلك، لأن الروح الذي في ابن آدم لا يستحق أظن - الثناء حتى يختم له بالسعادة وتسميته روحا فهو ثناء، فإن لم يكن من أهل السعادة سمي نفسا، قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (سورة الزمر: 42) فهذا يجمع أنفس المؤمنين والكافرين، " والتي لم تمت في منامها ". أيضا يجمع الطائفتين. وقال في الكفار: {أخرجوا أنفسكم} (سورة الأنعام: 93) ، ومن العجب أنه لم يقل في الشهداء أرواحا، قال: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (سورة آل عمران: 169) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نسمة المؤمن ولم يقل روحه؛ فلعل هذا الفصل بين أرواح الملائكة صلى الله عليهم وبين هذه الأرواح الأرضية، أو لما الله به أعلم أن الروح تحفظ كل ما فعل ابن آدم، وإنما النسيان آفات من آفات النفس أو الجسد، فإذا كشفت الآفات ذكر الروح كل ما شاهد في الدنيا، ذكره في الآخرة ألا تراه في الدنيا ينسى، ثم يذكر، وهذا دليل بين.
فصل
وأما الروح المرسل إلى مريم، و {يوم يقوم الروح} (سورة النبأ: 28) هذا جبريل. وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (سورة الشورى: 52) هذا هو العلم، {وروح منه} (سورة النساء: 171) هو الروح المنفوخ في عيسى، كالذي نفخ في آدم، وهو قدس لم تتناتجه الأصلاب. كل هذا أصله من الروح الأعلى، إن ألقي في القلوب فهو علم، وإن كان نسيما فهو روح، وإن كان شديد(4/404)
الحركة فهو ريح، وإن كان قويا في القلب مفصلا راسخا فهو يقين، وإن كان حياة للجسم فهو روح للجسم، وأصله كله الروح الأعلى، ثم تختلف أسماؤه باختلاف صفاته وحركاته.
تم الكتاب بعون الله وتوفيقه وصلى الله
على سيد الأولين والآخرين
محمد وعلى آل محمد
وصحابته والتابعين(4/405)
فراغ(4/406)
فراغ(4/407)
فراغ(4/408)
- 5 -
تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول (1)
1 - اللفظ: هو كل ما حرك به اللسان يراد به الكلام قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق: 18) وحده على الحقيقة هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة.
2 - الخلاف: في أي شيء كان هو أن يأخذ الإنسان مسلكا من القول أو الفعل ويأخذ غيره مسلكا آخر وهو التنازع، قال الله عز وجل: {ولا تنازعوا فتفشلوا} (الأنفال: 46) وقال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 82) وهو التفرق، قال تعالى: {ولا تفرقوا} (آل عمران: 103) .
3 - الإجماع: في اللغة هو ما اتفق عليه اثنان فصاعدا، وهو الاتفاق، وهو حينئذ مضاف إلى من أجمع عليه. وأما الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما نتيقن أن جميع الصحابة رضي الله عنهم دانوا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وأما [ما] لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم وسكت بعضهم عن الكلام فيه.
4 - السنة: هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشيء، وأقسامها في الشريعة فرض أو ندب أو تحريم أو كراهة أو إباحة، كل ذلك قد سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى.
__________
(1) هذا الفصل قد ورد لاحقاً لكتاب التقريب في مخطوطة ازمير، وقد رأيت أن ألحقه بهذه المجموعة لفائدته، وهو كما نص ناسخه مأخوذ من كتاب " النبذ الكافية في أصول أحكام الدين "، وهذه التعريفات موجودة في كتاب الإحكام 1: 35 - 51 وعنوان الفصل هنالك " في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر ". وهناك بعض اختلافات يسيرة بين ما ورد هنا وما ورد في الأحكام.(4/409)
5 - البدعة: كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل في ما نسب إليه، وهو في الدين كل ما لم يأت [في القرآن ولا] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر فيما قصد به الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه جملة ويكون حسنا كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " نعمت البدعة هذه "، ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به.
6 - الكناية: هو لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية.
7 - الإشارة: تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح، وهي تنبيه على المشار إليه أو تنبيه له.
8 - المجاز: في اللغة هو ما سلكت عليه من مكان إلى آخر، كما يقال هذا المجاز من مكان كذا إلى مكان كذا، ثم استعمل فيما نقل عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر، وذلك لا يعلم إلا بدليل من اتفاق أو مشاهدة؛ وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله عليه السلام عن موضوعه في اللغة، ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنها مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس، وهو حينئذ حقيقة لأن التسمية لله تعالى فإذا سمى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان، وليس ذلك لغيره تعالى في الدين، قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} (النجم: 23) .
9 - التشبيه: هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته، وهذا لا يوجب حكما في الدين أصلا، وهو أصل القياس، لأن كل ما في العالم دون الله عز وجل فمشبه بعضه لبعض من وجه أو وجوه ومخالف له أيضا من وجه من الوجوه وهو التمثيل.
10 - والمتشابه في القرآن هو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه وأمرنا بالإيمان به جملة وليس هو شيئا غير الأقسام التي في السور والحروف المقطعة التي في أوائلها وكل ما عدا هذا من القرآن فمحكم.(4/410)
11 - المفصل: هو ما بينت أقسامه، وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض، تقول فصلت اللحم ونحو ذلك.
12 - دليل الخطاب: معناه ضد القياس وهو أن يحكم للمسكوت بخلاف حكم المنصوص عليه.
13 - الشريعة: هو ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في الديانات أو على ألسنة أنبيائه عليهم السلام، والحكم منها للناسخ، وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب الشارب من النهر، قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} (الشورى: 13) .
وقال امرؤ القيس:
ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي 14 - اللغة: ألفاظ يعبر بها عن المسميات والمعاني المراد إفهامها، ولكل أمة لغتهم، قال عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم: 4) ولا خلاف في أنه أراد اللغة.
15 - الاستنباط: إخراج الشيء المغيب من شيء آخر كان فيه، وهو في الدين إن كان منصوصا على معناه فهو حق، وإن كان غير منصوص على معناه فهو باطل.
16 - الحكم: هو إمضاء قضية في شيء ما، وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة على ما قدمنا.
17 - الإيمان: أصله في اللغة التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى أن نصدق به، والنطق بذلك باللسان واستعمل الجوارح في جميع الطاعات، برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذبون بأشياء مصدقون بأشياء، وقد أطلق عليهم في الدين اسم الإيمان، وهكذا مطلقا دون إضافة، ولا خلاف في أنه لا يحل أن يطلق عليهم اسم التكذيب بلا إضافة.
18 - الكفر: أصله في اللغة التغطية، قال تعالى: {أعجب الكفار نباته}(4/411)
(الحديد: 20) .
وقال الشاعر:
ألقت ذكاء يمينها في كافر ... يريد الليل لأنه يغطي كل شيء. وهو في الدين [صفة] من جحد ما افترض الله عز وجل الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق نحوه بقلبه أو بلسانه أو عمل عملا جاء النص بأنه مخرج له عن اسم الإيمان على ما قد بينا في غير هذا الموضع، وبرهان ذلك أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء مكذب بأشياء ولا يجوز بلا خلاف أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة.
19 - الشرك: هو في اللغة أن تجمع شيئا إلى شيء فتشرك بينهما، وهو في الدين معنى الكفر سواء سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان، والتسمية لله تعالى لا لغيره.
20 - الإلزام: هو أن يحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب وإما غير واجب.
21 - العقل: هو استعمال الطاعات والفضائل، وهو غير التمييز، لأنه استعمال ما أوجب التمييز فضله، فكل عاقل فهو مميز، وليس كل مميز عاقلا، وهو في اللغة المنع تقول: عقلت البعير أعقله عقلا، وقد يستعمل أيضا في اللغة بمعنى الفهم، تقول: عقلت عنك أعقل عقلا، وأهل الزمان يستعملونه في من وافق أهواءهم، والحق من ذلك هو ما قاله الله عز وجل، قال تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} (يونس: 100) يريد الذين يعصونه ولا يطيعونه. وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب الحال.
22 - الفوز: هو ما استعمل بلا مهلة.
23 - والتراخي: هو ما أخر وترك تعجيله، وحكم أوامر الله تعالى كلها الفور، إلا أن يأتي نص أو إجماع بإباحة التراخي في شيء منها فيوقف عنده.
24 - الاحتياط: هو التورع نفسه، وهو اجتناب ما تتقي أنه لا يجوز، وإن لم يصح ذلك، أو اتقاء ما غيره خير منه عند ذلك المحتاط، وليس بواجب في شيء من الدين ولكنه حسن ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحد ولكن يندب إليه فقط.(4/412)
25 - والحد (1) : هو ذكر صفات المحدود الذاتية الجوهرية، وهي تنبىء عن طبيعته وتميزه.
26 - والرسم (2) : ذكر صفاته الغيرية العرضية، وهي تميزه فقط.
27 - والعلم: تيقن الشيء على ما هو عليه عن برهان أولي، أو راجع إلى أولي، أو عن اتباع صادق قام البرهان على صدقه، وعلم الباري تعالى ليس محدودا إذ ليس [هو] غيره تعالى (3) .
28 - والاعتقاد: استقرار حكم ما في النفس، وقد يكون حقا ويكون باطلا، والعلم لا يكون إلا حقا أبدا.
29 - والبرهان: كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم ما.
30 - والدليل: ما استدل به، وقد يكون برهانا، وقد يقع اسما لكل شيء دلك على معنى كرجل دلك على طريق ونحو ذلك.
31 - والحجة: هي الدليل نفسه، وقد تكون برهانا أو إقناعا أو شغبا.
32 - والدال: هو المعرف بحقيقة الشيء، وقد يكون إنسانا معلما، وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم؛ وقد يسمى الدليل دالا والدال دليلا في لغة العرب.
33 - والاستدلال: طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه، أو من قبل معلم.
34 - والدلالة: وقد تضاف إلى الدليل أيضا.
35 - والإقناع: قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على
__________
(1) في الأحكام 1: 35 الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه ...
(2) في الأحكام 1: 36 الرسم هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبئ عن طبيعته.
(3) جاء في الأصل: تعالى الله عن ذلك؛ وهو خطأ؛ وإنما يعني ابن حزم أن علم الله ليس شيئاً غير الله، قال: ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ولكن اتباعاً منا للنص الوارد في أن له علماً فقط (الأحكام 1: 38) .(4/413)
حقيقة حجة ولم يقم برهان بابطاله.
36 - والشغب: تمويه بحجة باطل.
37 - والتقليد: قبول قول كل من لم يقم على قبول قوله برهان.
38 - والإلهام: شيء يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد.
39 - والنبوة: اختصاص الله عز وجل من شاء من الناس بالانباء بما ليس في قوة نوعه أن يعرفوه حتى يعرفوا به، وليس ذلك لأحد بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم أنبيائه عليهم السلام.
40 - والرسالة: زيادة معنى على النبوة، وهو أن يأمر الله تعالى النبي بانذار غيره والتبليغ إليهم.
41 - والبيان: كون الشيء في ذاته ممكنا أن يعرف بحقيقة من أراد علمه.
42 - والتبين والإبانة: فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الاشكال إلى إمكان الفهم بحقيقة، والتبين فعل نفس المتبين للشيء في فهمها إياه، وهو الاستبانة أيضا، والمبين هو الدال نفسه.
43 - والصدق: هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه أو بما يكون عليه إذا كان شيئا.
44 - والحق: هو كون الشيء صحيح الوجود وكون الخبر صدقا.
45 - والباطل: ما ليس حق.
46 - والكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، أو ما يكون عليه، إذا كان شيئا.
47 - والأصل: ما أدرك بأول العقل والحواس.
48 - والفرع: كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ذلك من قرب أو بعد، وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما انتج منه.(4/414)
49 - والنص: هو اللفظ الوارد في القرآن والسنة مبينا لأحكام الأشياء ومراتبها، وهو الظاهر، وهو ما يقتضيه اللفظ في اللغة المنطوق بها، وقد يسمى ما يتكلم به المتكلم نصا إذ هو نص على مراده وإخبار عنه.
50 - والتأويل: إخراج اللفظ عن مقتضاه في اللغة، فإن كان بدليل قبل وإلا فلا.
51 - والعموم: حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة، والفرق بين العموم والظاهر أن العموم لا يقع إلا على معنيين أو شخصين فصاعدا، والظاهر قد يقع على واحد، فكل عموم ظاهر وليس كل ظاهر عموما.
52 - والخصوص: حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه اللفظ في اللغة، فإن كان بدليل قبل وإلا فلا.
53 - والمجمل: لفظ يقتضي تفسيرا يؤخذ من لفظ آخر.
54 - والمفسر: لفظ يفهم منه معنى المجمل.
55 - والأمر: إلزام المأمور عملا ما.
56 - والنهي: إلزام المنهي ترك عمل ما.
57 - والفرض والواجب واللازم والحتم: أسماء مترادفة تقع بمعنى واحد على كل ما استحق تاركه اللوم، واسم المعصية والحرام والمحضور والذي لا يجوز والممنوع عبارات مترادفة أيضا تقع بمعنى واحد على ما استحق فاعله اللوم.
58 - واسم المعصية والطاعة: التزام المأمور لما أمر به والانتهاء عما نهي عنه.
59 - والندب: حض على فعل شيء ما وترغيب فيه من غير إيجاب للفعل، ومن المستحسن والمستحب والاختيار والائتساء، وذلك في أفعال الخير كلها.
60 - والكراهة: حض على ترك شيء ما من غير إيجاب للترك.
61 - والإباحة: وهي الحلال واسطة بين هذين، وهو ما ليس محضوضا على تركه ولا على فعله كسائر الحركات كلها.(4/415)
62 - والقياس: عندهم حكم لشيءٍ ما بحكم شيءٍ آخر، لاجتماعه معه واشتباهه به في صفةٍ ما لم ينص عليها.
63 - والنية: قصدٌ إلى العمل بإرادة النفس له واعتقاد النفس ما استيقن فيها.
64 - والشرط: تعليق حكم ما بوجود حكم آخر ورفعه برفعه.
65 - والتفسير والشرح: هما التبيين.
66 - والنسخ: ورود أمرٍ بخلاف أمرٍ كان قبله ينقضي به أمد الأول.
67 - والاستثناء: ورود لفظ أو بيان بفعل يقتضي إخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر.
68 - والجدل والجدال: إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حُجته.
69 - والاجتهاد: بلوغ الجهد في طلب الحق وإجهاد النفس في تفتيشه في مواضع طلبه.
70 - والرأي: ما طنته النفس صواباً دون برهان.
71 - والاستحسان: ما اشتهته النفس ووافقها.
72 - والصواب: إصابة الحق.
73 - والخطأ: العدول عنه بغير قصد إلى ذلك.
74 - والعناد: القصد إلى مخالفة الحق.
75 - والجهل: مغيب [حقيقة] العلم عن النفس.
76 - والطبيعة: صفات في الشيء موجودةٌ يوجد بها على ما هو عليه ولا تعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه.
تم تفسير الألفاظ بحمد الله تعالى وعونه(4/416)