رسائل
ابن حزم الأندلسي
هذه هي المجموعة الأولى من رسائل الفقيه الظاهري الكبير الإمام أبي محمد بن أحمد بن سعيد بن حزم، وهي تضم أربع رسائل: هي طوق الحمامة في الألفة والألأف، ورسالة في مداواة النفوس، ورسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور، ورسالة في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها. وتمثل الرسالة الأولى رأي ابن حزم في الحب وأحواله وبواعثه، وقد نالت من الشهرة العالمية ما جعلها تترجم إلى عدة لغات، وتصبح موضوع دراسات متعددة، وهي بحق أثر بالغ القيمة وستظل دائماً موضع درس وتفسير. وتكملها الرسالة الثانية فهي عصارة تجارب ابن حزم في الحياة، وفي شؤون الناس ومحاولة لإيجاد فلسفة ذاتية من خلال تلك التجارب. وتمثل الرسالة الثالثة قبول ابن حزم الكلي بالغناء الملهي، وتضعيفه الأحاديث التي رويت في النهي عنه، ولهذا الموضوع مؤيدون ومعارضون على مر الزمن. وأما الرسالة الأخيرة فهي خفقة فكرية جميلة تقوم على الحوار الذاتي، فالرسائل الأربع في مجموعها ترتبط بموقف واحد، وسيتلوها مجموعات أخرى من رسائله في المستقبل القريب، إن شاء الله تعالى.(1/1)
تصدير عام
- 1 -
رسائل ابن حزم
هذا أوان الشروع بنشر كل ما وقعت عليه اليد من رسائل أبي محمد بن أحمد بن سعيد بن حزم في أجزاء متتابعة، مع مراعاة التقارب في الموضوعات، حيثما أمكن ذلك، وهي تضم مجموعة الرسائل التي وردت في النسخة المحفوظة بمكتبة شهيد علي باستانبول، وإليك وصفاً للمخطوطة ومحتوياتها:
في مكتبة " شهيد علي " مخطوط رقمه 2704، يرجع تاريخ نسخه إلى القرن العاشر الهجري، مكتوب بخط نسخي جميل، ولكن ما يكاد القارئ يمضي في قراءة سطوره متأملا متمعناً حتى يحكم بان جمال خطه يحجب وراءه كثيراً من الخطأ والتحريف. ويحتوي هذا المخطوط على 265 ورقة، في كل ورقة 23 سطراً، وفي كل سطر عدد من الكلمات يتراوح بين 10 - 14 كلمة. ويشمل في مجموعه كتاباً لابن حزم الأندلسي اسمه " كتاب الأصول والفروع " أو " كتاب يشتمل على أصول وفروع شتى ". وأبواب هذا الكتاب في جملتها صورة أخرى لكثير من الفصول التي وردت في كتاب " الفصل في الملل والنحل " لابن حزم، مع اختلاف يسير في التعبير، لعله يوحي بشيء من الإيجاز والتلخيص، أو لعل هذه الفصول كتبت قبل أن يكتب " الفصل " ثم أدخلها ابن(1/1)
حزم فيه كما هي عادته في تواليفه، على ان أحد الذين تملكوا هذا الكتاب، كتب على هامش الورقة (90) يقول إنه قرأ هذا الكتاب وهو كتاب المجلى لابن حزم من أوله إلى آخره قراءة بحث وتحقيق على الإمام شهاب الدين أحمد الميلي المالكي. والمجلى هو الكتاب الذي شرحه ابن حزم في المحلى، ولكن المشابهة بين كتاب الفروع وبعض فصول كتاب الفصل تكاد تكون تامة حرفية، فلعل متملك الكتاب وهم فيما قال.
ويلي كتاب الفروع خمس عشرة رسالة وردت على الترتيب التالي:
1 - رسالة البيان عن حقيقة الإيمان. (90 ب - آخر 98) .
2 - رسالة في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها. (99 - 100أ) .
3 - رسالة الدرة في تحقيق الكلام فيما يلزم الإنسان اعتقاده (100 - 141ب) .
4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة. (142أ - 145/ب) .
5 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد. (163/ب - آخر 167) .
6 - رسالة في الرد على الهاتف من بعد. (163/ب - آخر 167) .
7 - رسالة في مسألة الكلب. (168/أ - آخر 171) .
8 - رسالة في الجواب عما سئل عنه سؤال تعنيف. (172/أ - آخر 195) .
9 - رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق. (196/أ - 221/أ) .
10 - رسالة في الإمامة. (221/ب - آخر 225) .
11 - رسالة في ألم الموت. (226/ أب) .
12 - رسالة في أرواح الأشقياء. (227/أ - 232/أ) .
13 - رسالة في الغناء الملهي. (232/ب - 235/أ) .(1/2)
14 - رسالة التلخيص لوجوه التخليص. (235/ ب - 253) .
15 - رسالة في مراتب العلوم. (254/أ - آخر 265/أ) .
وتنقطع الرسائل عند هذا الحد، وتنتهي مشتملات المخطوطة دون أن تتم، إذ كان يجب أن ترد بعد الرسالة الخامسة عشرة رسالة " في الوعد والوعيد وبيان الحق في ذلك من السنن والقرآن " [كتبها] إلى الأمير أبي الأحوص معن بن محمد التجيبي صاحب المرية.
وقد تم نشر هذه الرسائل في مجموعتين: الأولى بعنوان رسائل ابن حزم (القاهرة، 1956) ؛ والثانية بعنوان: الرد على ابن النغريلة ورسائل أخرى (القاهرة، 1960) ما عدا أربع رسائل هي رقم 3، 7، 10، 12 سيتم نشرها في هذه السللسة.
16 - رسالة الرد على الكندي الفيلسوف (وقد نشرت مع الرد على ابن النغريلة، وهي لاحقة بكتاب التقريب لحد المنطق) .
18 - 22 - خمس رسائل ألحقت بكتاب جوامع السيرة.
23 - رسالة في فضل أهل الأندلس (ومصدرها نفح الطيب) .
24 - رسالة نقط العروس.
25 - رسالة في أمهات الخلفاء (نشرها الدكتور صلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 34 (1959) ص 291 - 299) .
إلى رسائل أخرى قد يتم العثور عليها. وقد كان ابن حزم مكثراً من التأليف ولكن كثيراً مما كتبه مفقود أو محتجب.(1/3)
- 2 -
ما لم يصلنا بعد من مؤلفات ابن حزم
ذكرت في مقدمة المجموعة الثانية من رسائل ابن حزم (التي نشرتها بعنوان: الرد على ابن النغريلة ورسائل اخرى، القاهرة، 1380 1960) مجموعة من مؤلفاته التي لم تصلنا، تمثل العشرين الأولى، ثم أضاف إليها الابن العزيز أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري عدداً آخر (في مجلة الفيصل، السنة الثالثة، العدد 26) معتمداً في الأكثر على ترجمة ابن حزم في سير أعلام النبلاء للذهبي (ورمزنا إليه باسم: السير) :
1 - رسالة في الوعد والوعيد وبيان الحق في ذلك من السنن والقرآن، كتبها للأمير أبي الأحوص معن بن محمد التجيبي (انظر رسائل ابن حزم، مخطوطة شهيد علي، الورقة: 265. والسير: الرسالة الصمادحية في الوعد والوعيد) .
2 - كتاب كشف الالتباس لما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس (تذكرة الذهبي 3: 1152، والنفح 1: 365، والسير: ما وقع بين الظاهرية وأصحاب القياس) .
3 - كتاب الصادع والرادع في الرد على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على من قال بالتقليد (تذكرة الذهبي 3: 1152 والذخيرة 1/ 1: 143، والنفح 1: 365، والسير: الرد على من كفر المتأولين من المسلمين في مجلد) .
4 - كتاب الجامع في صحيح الأحاديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها واجتلاب أكمل ألفاظها وأصح معانيها (تذكرة الذهبي 3: 1252، والذخيرة 1/ 1: 143، والنفح 1: 365، والمحلى 11: 379، والسير) .
5 - كتاب شرح أحاديث الموطأ والكلام على مسائله (تذكرة الذهبي(1/4)
3 - 1152، والنفح 1: 365، والسير: الإملاء في شرح الموطأ في ألف ورقة، وانظر مخطوطة شهيد علي من رسائله، الورقة 31/ أ.
6 - كتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للكتابين التوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما " لا " يحتمل التأويل (تذكرة الذهبي 3: 1147، والذخيرة 1/ 1: 143، والجذوة: 291، والسير) .
7 - كتاب المجلى في الفقه على مذهبه واجتهاده، مجلد واحد (تذكرة الذهبي: 3: 1147 وهو الذي شرحه في المحلى؛ وهو غير مفقود وإنما لم يجمع على حدة) .
8 - الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام والحلال والحرام وسائر الأحكام على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع. أورد فيه أقوال الصحابة فمن بعدهم والحجة لكل قول، وهو كتاب كبير جداً (تذكرة الذهبي 3: 1147، والذخيرة 1/ 1: 143، وقد أشار إليه ابن حزم في الفصل 1: 114، 172 وفي الإحكام 1: 72، 4: 161، 4: 202) .
9 - كتاب الإمامة والسياسة في قسم سير الخفلاء ومراتبها والندب إلى الواجب منها (الذخيرة 1/ 1: 143، والنفح 1: 365 باسم كتاب الإمامة والخلافة الخ، وقد ذكر ابن حزم كتاب السياسة في التقريب: 181، وهو يدل على أن السياسة بمعنى التدبير، وذكره ابن عباد الرندي في الرسائل الصغرى: 51 ونقل منه شيئاً في بعض أحوال النفس الإنسانية. وهذا يدل على أن كتاب " السياسة " مختلف في موضوعه عن كتاب " الخلافة والغمامة ".
10 - كتاب في أسماء الله تعالى (تذكرة الذهبي 3: 1147، والنفح 1: 365. قال الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً لأبي(1/5)
محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه؛ والسير: أسماء الله) .
11 - فهرست شيوخ ابن حزم، (ذكره ابن خير في فهرسته وقال إنه قرأه على شريح بن محمد، وذكره عقيل بن عطية باسم البرنامج؛ وانظر السير: فهرسة ابن حزم) .
12 - الرد على ابن الإفليلي في شعر المتنبي (الصلة 1: 274 في ترجمة عبد الله بن أحمد النباهي قال: " وله رد على أبي محمد بن حزم فيما انتقده على ابن الإفليلي في شرحه لشعر المتنبي ") . (وانظر المرقبة العليا: 20، والسير بعنوان: التعقب على الإفليلي في شرحه لديوان المتنبي) .
13 - نقض العلم الالهي للرازي (ذكره ابن حزم في الفصل مرات، انظر رسائل فلسفية للرازي نشر ب. كراوس 170 - 175، والسير: كتاب الرد على ابن زكريا الرازي في مائة ورقة) .
14 - رد على إسماعيل بن إسحاق (ترجمته في تاريخ بغداد 6: 284) في كتابه الخمس (الإحكام 3: 103، قال: ولنا عليه فيه رد هتكنا عواره فيه وفضحناه بحول الله وقوته، وفي السير: قسمة الخمس في الرد على إسماعيل القاضي) .
15 - كتاب فيما خالف فيه المالكية الطائفة من الصحابة (رسائل ابن حزم الورقة 180، قال: فقد ألفنا كتاباً ضخماً فيما خالفوا فيه الطائفة من الصحابة رضي الله عنهم بآرائهم دون تعلق بأحد من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وانظر أيضاً الورقة: 192) .
16 - كتاب أن تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها لا قضاء عليه فيما قد خرج من وقته (رسائل ابن حزم، الورقة 192، قال: ولنا في هذه المسألة كتاب مفرد مشهور؛ السير: من ترك الصلاة عمداً) .(1/6)
17 - ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس (الجذوة: 168) .
18 - الفضائح (ياقوت: معجم البلدان (بربر) قال: " ولهم - أي البربر - من هذا فضائح ذكر بعضها إمام أهل المغرب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي في كتاب له سماه الفضائح ") .
19 - نكت الإسلام (تذكرة الذهبي 3: 1149 قال الفقيه ابن العربي. وقد جاءني رجل بجزء لابن حزم سماه نكت الإسلام الخ؛ ولابن العربي رد عليه فيه، وقد ذكره ابن حزم نفسه في المحلى 1: 57) .
20 - كتاب فيما خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي جمهور العلماء وما انفرد به كل واحد منهم (ذكره ابن حزم في قسم الفرائض من المحلى، وانظر تذكرة الذهبي 3: 1152) .
21 - مراتب العلماء وتواليفهم (السير) .
22 - العتاب على أبي مروان الخولاني (السير) .
23 - الرسالة البلقاء في الرد على (عبد الحق بن محمد بن هارون) الصقلي (السير: في مجيلد) .
24 - بيان غلط عثمان بن سعيد الأعور في المسند والمرسل (السير) .
25 - ترتيب سؤالات عثمان الدارمي لابن معين (السير) .
26 - الرد على أناجيل النصارى (السير: وهو غير إظهار تبديل اليهود والنصارى) .
27 - زجر الغاوي: (السير: جزءان) .
28 - رسالة المعارضة (السير) .
29 - اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر(1/7)
الكافرين (الفصل 3: 150، 5: 48 في الرد على عطاف بن دوناس؛ والسير: اليقين في نقض تمويه المعتذرين عن ابليس وسائر المشركين، في مجلد) .
30 - الرد على من اعترض على الفصل (السير: في مجلد) .
31 - ذو القواعد (الاحكام 1: 31، 3: 57؛ 5: 31؛ السير: در القواعد في فقه الظاهرية، ألف ورقة) .
32 - الإملاء في قواعد الفقه (السير: ألف ورقة) .
33 - الرسالة اللازمة لأولي الأمر (السير) .
34 - قصر الصلاة (السير: رسالة صغيرة) .
35 - التصفح في الفقه (السير: في مجلد) .
36 - الفرائض (السير: في مجلد) .
37 - مختصر الموضح من تأليف أبي الحسن المغلس (السير: في مجلد) .
38 - مختصر في علل الحديث (السير: في مجلد) .
39 - رسالة في معنى الفقه والزهد (السير) .
40 - الاظهار لما شنع به على الظاهرية (السير) .
(1) 41 - مراتب الديانة.
42 - مهم السنن.
43 - جزء في فضل العلم وأهله (السير) .
44 - أجوبة على صحيح البخاري (فتح الباري 1: 17 وكشف الظنون) .
__________
(1) هذه العلامة تفيد أن الأستاذ أبا عبد الرحمن ابن عقيل لم يشر إلى المصدر الذي اعتمده.(1/8)
45 - الخصال (وهو متن الإيصال) (السير، الإيصال الحافظ لجميع شرائع الإسلام؛ النبذ: الخصال) .
46 - الانصاف (في الرجال) (لسان الميزان 6: 217) .
47 - مختصر كتاب الساجي في الرجال (مرتب على الحروف / ميزان الاعتدال (ترجمة خالد بن عكرمة) ؛ والاعلان بالتوبيخ: 348.
48 - الحدود (التهذيب لابن حجر 7: 185) .
49 - نسب البربر (السير: في مجلد)
50 - ترتيب مسند بقي بن مخلد.
51 - جزء في أوهام الصحيحين.
52 - كتاب اختلاف الفقهاء الخمسة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداود (السير) .
53 - القراءات (المحلي 3: 253، 366) .
(1) 54 - كتاب تفسير: حتى إذا استيأس الرسل.
55 - رسالة في آية: فغن كنت في شك مما أنزلنا إليك.
56 - رسالة في أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس (الفصل 1: 107) .
57 - مقالة السعادة (السير) .
58 - تسمية شيوخ مالك (السير) .
59 - شيء في العروض (السير) .
60 - تسمية الشعراء الوافدين على أبي عامر (المنصور) (السير) .
61 - غزوات المنصور بن أبي عامر (السير) .
__________
(1) هذه العلامة تفيد أن الأستاذ أبا عبد الرحمن ابن عقيل لم يشر إلى المصدر الذي اعتمده.(1/9)
62 - تواريخ أعمامه وأبيه وأخواته وبنيه وبناته، مواليدهم وتاريخ من مات منهم في حياته.
63 - الترشيد في الرد على كتاب الفريد لابن الراوندي (السير: مجلد) .
64 - الاستجلاب (السير، مجلد) .
65 - رسالة التأكيد (السير) .
66 - الضاد والظاء (السير) .
67 - بيان البلاغة والفصاحة، رسالة في ذلك إلى ابن حفصون (السير) .
68 - رسالة في الطب النبوي (السير) .
69 - اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة (السير: نقلا عن الطب النبوي) .
70 - كتاب في الأدوية المفردة (السير: نقلاً عن الطب النبوي) .
71 - بلغة الحكيم (السير: نقلا عن الطب النبوي) .
72 - حد الطب (السير: نقلا عن الطب النبوي) .
73 - مقالة في شفاء الضد بالضد (السير: عن الطب النبوي) .
74 - شرح فصول بقراط (السير: نقلا عن الطب النبوي) .
75 - مقالة في النحل (السير: نقلا عن الطب النبوي)
76 - مقالة في المحاكمة بين التمر والزبيب (السير: نقلا عن الطب النبوي) .
77 - مسألة هل السواد لون أم لا (لعلها من الفصل، وقد نشرها النادي الأدبي في الرياض 1979) .
78 - كتاب التبيين في هل علم المصطفى أعيان المنافقين (السير: في ثلاث مجلدات) .(1/10)
79 - إجازة لتلميذه شريح (تكملة ابن الأبار) .
80 - إجازة للحسين بن عبد الرحيم (تكملة ابن الأبار) .
81 - (1) - المرطار في اللهو والدعابة.
82 - كتاب العظايم (حاشية الورقة 90/ أمن نسخة شهيد علي) .
83 - كتاب العانس في صدمات () (المصدر السابق نفسه) .
- 3 -
وتحتوي هذه المجموعة الأولى على أربع رسائل هي: طوق الحمامة، ومداواة النفوس، والغناء الملهي، ومعرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها. وان ما يجمع بينها في نطاق أنها " ذاتية " في طابعها العام، وتتصل بشخص ابن حزم، وتلقي أضواء على نفسيته وتأملاته، وتصور تسامحه إزاء الحب والغناء على وجه الخصوص، وستكون كل مجموعة من الرسائل بعدها خاضعة لرابطة تنتظمها، متقاربة في إطارها العام وموضوعاتها.
ولست أرى من الضروري أن أخص حياة ابن حزم بدراسة شاملة في مقدمة هذه الرسائل، فقد كتبت عنه كتب ودراسات كثيرة في لغات مختلفة، تجد أسماءها في ثبت المصادر والمراجع.
وأنا مدين في إعداد هذه الرسائل إلى عون أحد أبنائي الأعزاء العاملين في حقل الدراسات الأدبية وهو السيد ماهر زهير جرار، وفقه الله فيما ارتضاه لنفسه من انتهاج طريق العاملين في ميدان العلم.
بيروت في تموز (يوليه) 1980
إحسان عباس
__________
(1) هذه العلامة تفيد أن الأستاذ أبا عبد الرحمن ابن عقيل لم يشر إلى المصدر الذي اعتمده.(1/11)
طوق الحمامة في الألفة والألاف(1/17)
فراغ(1/18)
تصدير
- 1 -
منذ أن أصدر المستشرق بتروف طبعة من كتاب طوق الحمامة (1914) اعتماداً على النسخة الوحيدة منها المحفوظة في ليدن بهولندة، توالت الأيدي على طبع هذه الرسالة في الشرق وعلى ترجمتها في الغرب؛ ولابد أن تكون لهذه الرسالة أهمية خاصة حتى تنال كل ما نالته من عناية حتى اليوم.
وقد كانت معظم الطبعات التي صدرت في المشرق العربي عالة على طبعة بتروف، وهي طبعة أمينة للأصل المخطوط؛ ولكن هناك مواطن كثيرة فيها يعسر فهمها، واكبر الظن ان ذلك يعود إلى تصحيف أو تحريف في القراءة. وكنت أعجب دائماً كيف صدرت تلك الترجمات لطوق الحمامة من قبل أن يستقيم فيها النص ويصبح مفهوماً دون حاجة إلى تأول متعسف. وقد كان أجراً من حاول الخروج عن قراءة بتروف هو ليون برشيه، الذي طوق الحمامة مع ترجمة فرنسية (الجزائر 1949) ، ولكن برشه، رغم التوفيق الذي واكبه في بعض القراءات، أسرف أحياناً في البعد عن الأصل المخطوط، طلباً لصحة المعنى واستقامته.
ولست أدعي أنني أقدم اليوم نصاً بارئاً من كل خطأ، ولكني في(1/19)
هذه المحاولة استطعت أن أصحح كثيراً من الأخطاء في النص نفسه، وفي أسماء الأعلام، وأن أزود هذه الطبعة بتعليقات أراها ضرورية.
- 2 -
الطبعات العربية من طوق الحمامة
1 - طوق الحمامة تحقيق د. ك. بتروف (مع مقدمة بالفرنسية) ليدن 1914.
2 - طوق الحمامة، ط. دمشق، 1349 1930.
3 - طوق الحمامة (نص وترجمة فرنسية) لليون برشيه، الجزائر 1949.
4 - طوق الحمامة، ط. القاهرة (طبعة شعبية) 1950.
5 - طوق الحمامة، تحقيق حسن كامل الصيرفي ومقدمة لإبراهيم الابياري، القاهرة 1950.
6 - طوق الحمامة، تحقيق فاروق سعد، دار الحياة، بيروت 1968.
7 - طوق الحمامة، تحقيق الدكتور الطاهر مكي، القاهرة 1977.
8 - طوق الحمامة، ط. مؤسسة ناصر الثقافية ببيروت، 1978 (طبعة شعبية) .
9 - طوق الحمامة، تحقيق الدكتور إحسان عباس (في المجموعة الأولى من رسائل ابن حزم، ط. المؤسسة العربية، بيروت 1980) .
- 3 -
ترجمات طوق الحمامة
" الإنجليزية والروسية والألمانية والإيطالية والفرنسية والأسبانية "
1 - Abook Containing the Risala Known as the Dow " s Neck - Ring، about Love and Lovers، composed by Abu Muhammad Ali ibn Hazm al - Andalusi، trans. By A. R. Nykl، Paris، Geuthner، 1931.
2 - A. Salie. (ترجمة روسية) ، Leningrad، 1933.
3 - Halsband Der Taube Uber die Liebenden، von Max Weisweiler، Leiden، 1944.
4 - II Collare della Colomba، versione dall " arabo di Francesco Gabrieli، Bari، 1949.
5 - Le Collier du Pigeon، Par Leon Bercher، Alger، 1949.
6 - El Collar de Ia Paloma، Traducido del Arabe por Emilio Garcia Gomez. Madrid 1952 (2، a edicion 1967) .(1/20)
دراسات عن طوق الحمامة (1)
1 - باللغة العربية
1 - طوق الحمامة لابن حزم، دراسة ليوسف الشاروني (في كتاب دراسات في الحب، - كتاب الهلال 1966) ص 43 - 71 وانظر مجلة المجلة العدد 102 (ص 76 - 85) القاهرة.
2 - ابن حزم وكتابه طوق الحمامة للدكتور الطاهر مكي (فيه فصول متعددة عن طوق الحمامة) الطبعة الثانية، القاهرة 1977.
3 - تأثير طوق الحمامة في الأدب العالمي للدكتور الطاهر مكي (مجلة آفاق عربية، العدد الأول 1976، بغداد) .
4 - طوق الحمامة لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري (بحث نشر في مجلة العرب، السنة الثالثة ص 227، 713) .
5 - في الحب والحب العذري للدكتور صادق جلال العظم، بيروت 1968 (ليس خاصاً بكتاب الطوق، ولكنه يعتمد عليه) .
6 - ابن حزم الفقيه الذي عالج الحب في رسالته الشهيرة " طوق الحمامة " لمحمد أبو زهرة، مجلة العربي، أغسطس (1963) العدد: 57.
7 - مقارنة بين طوق الحمامة وكتاب المصون في سر الهوى المكنون لأبي إسحاق الحصري للدكتور محمد بن سعد الشويعر (مجلة الفيصل، السنة الأولى، عدد 10) ص: 16 - 21.
2 - باللغات الأجنبية:
Leon Bercher؛ A propos du texte du " Tawq al - Hamama " d " Ibn Hazm، Melange W. Marcais، 1950، pp. 29 - 36.
__________
(1) تراجع الكتب المؤلفة عن ابن حزم، ففي أكثرها يتعرض الدارسون لهذا الكتاب.(1/21)
- Ibn Hazm et Son " Tawg al - Hamama "، Bulletin des etudes arabes، 7، (1947) pp. 3 - 6.
Cauq al - Hamama، Islamica 5، (1932) pp. 474 - 474.
E Garcia Gomez: " El Collar de Ia Paloma " y Ia medicina occidental، Homenaje a Millas - Vallicrosa I، 1954، pp. 701 - 706.
- Una nota al Capitulo XXX del " Collar de Ia Paloma "، Andalus، 18، (1953) pp. 215 - 217.
- Un Precedente y une consecuencia del " Collar de Ia Paloma " Anda lus 16 (1951) pp. 309 - 330.
- El " Tawq " de Ibn Hazm y el " Diwan al - Sababa "، Andalus، (1941) pp. 65 - 72 (1) .
E. Levi - Provencal: En relisant le " Collier de la Colombe "، Andalus، 15 (1950) pp. 335 - 375.
W. Marcais: Observations Sur le texte du " Tawq al - Hamama " d " Ibn
Hazm، Mem. H. Basset II، 1928، pp. 59 - 88.
J. Lomba Fuentes: La beaute objestive chez Ibn Hazm cahiers de civilisation medievale، 7 (1964) pp 1 - 18، 161 - 178.
__________
(1) راجع المصدر السابق: 331 - 339.(1/22)
نظرة في رسالة طوق الحمامة
1 - آراء في الحب قبل أبن حزم:
يبدو إن حوار " المأدبة " لأفلاطون كان معروفاً على نحو ما في القرن الثالث الهجري لدى المثقفين المسلمين، وإن لم نجد له ذكراً صريحاً بين كتب أفلاطون في المصادر العربية (1) . ويدور حوار المأدبة حول موضوع " الحب " أو " العشق " على نحو غير حواري في البداية، إذ يتوالى على الحديث في الموضوع على صورة " المقام " خمسة من المتحدثين، اجتمعوا في بيت أحدهم، وأحبوا أن يتجنبوا الاستسلام إلى نوبة من الشرب بعد انتهائهم من الطعام، فتناوبوا الحديث واحداً بعد آخر، وعرض كل واحد منهم وجهة نظره في الحب، فلما جاء دور السادس، وهو سقراط، رأى جاداً أو هازلاً، إنه يقصر في البلاغة عن مدى كل منهم، وهو في حقيقة الأمر ينتقد الطريقة " الخطابية " التي عالجوا فيها الموضوع، ولذلك تحول إلى طريقته المفضلة وهي " الحوار " المتنامي، الذي يستحث فيه محاوره إلى الالتزام بحدود واضحة بعد إذ يتحول به إلى ظل له وفي أثناء ذلك أنتقل سقراط يقص حواراً جرى بينه وبين امرأة سماها ديوتيما عرفة بفنون
__________
(1) من بين كتبه المترجمة كتاب " في اللذة المنسوب إلى سقراط " وقد ذهب فرانز روزنتال ورتشارد فالتسر في تعليقاتهما على كتاب الفارابي " فلسفة إفلاطون وأجزاؤها ومراتب أجزائها.. " إلى أن " في اللذة " لابد أن يكون هو " المأدبة "، وتعقبهما الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه " إفلاطون في الإسلام " (ص: 31) ورفض التوحيد بين الكتابين، وحججه غير مقنعة؛ وكل قطع في هذا الأمر قبل أن يعثر على نصوص من كتاب " في اللذة " لا يؤخذ على علاته.(1/23)
الحب، حول الموضوع نفسه، وعندما ينتهي سقراط من آراء تلك المرأة، يدخل القبيادس مع شلة من السكارى، ويتجه الحديث وجهة عملية، إذ يكون دور المتحدث السابع - وه القبيادس - أن بين مميزات سقراط، وخاصة في الحب، وعلى نحو أخص في محبته لالقبيادس نفسه. وفيما كانت الجلسة تنحو نحواً جديداً، بعد أن انتهى كلام السابع، جاء جمع من السكارى آخر، ووجدوا الباب مفتوحاً فدخلوا، وكثر الضجيج وأنتقض النظام، وانفضت الجلسة على نحو ما.
ذلك هو الإطار العام الذي جرى فيه " حوار المأدبة " - دون المحتوى - ولعله أو إطاراً شبيهاً به (1) هو الذي أوحى بعقد ذلك " المقام " حول " العشق " في مجلس يحيى بن خالد البرمكي (190/805) (2) ، فقد كان يحضر ذلك المجلس عدد غفير من أهل البحث والنظر مثل أبي الهذيل العلاف وهشام بن الحكم والنظام وبشر بن المعتمد وثمامة بن أشرس والموبذ قاضي المجوس وغيرهم؛ وقد كان عدد المتحدثين في مجلس يحيى ثلاثة عشر، وهم وإن لم يحاولوا ترسم حوار فيما بينهم فقد اكتفوا بحكاية الشق الأول من " حوار المأدبة "، إذ تناول كل منهم " العشق " حسب تصوره له، بوصف موجز، وربما لم يكن فيهم من أعتمد الآراء التي وردت في " حوار المأدبة " حول العشق، ولكن الإطار نفسه يربط بين مجلسهم والمأدبة؛ وشيء آخر أهم من الحوار وهو تلك التوطئة في كل من المجلسين، فقد بدأ " حوار المأدبة " بالشكوى من أن جميع الأرباب تصاغ فيهم الأناشيد والمدائح إلا رب الحب، بل إن المعلمين المحترفين من السوفسطائيين يؤلفون الكتب والخطب في أصغر
__________
(1) إن توالي عدد من الحكماء اليونانيين في الحديث حول موضوع معين أصبح صورة محببة لدى المفكرين المسلمين، مثل تواليهم في تأبين الإسكندر، وفي مواقف أخرى أورد بعضها حنين أبن إسحاق في كتابه " نوادر الفلاسفة " (أنظر ملامح يونانية ص 111 وما بعدها، والملحق رقم: 2) .
(2) أنظر المسعودي: مروج الذهب (ط. شارل بلا، بيروت 1973) 4: 236 - 241.(1/24)
الموضوعات كفائدة الملح للإنسان، وليس ثمة واحد يقف ليثني على " الحب "؛ وفي مجلس يحيى فاتحة مشابهة، فقد وجه رب المجلس حديثه إلى المثقفين والموجودين في حضرته، بالتذمر من أنهم أسرفوا في الحديث عن كل نقطة، مهما تدق، في علم الكلام، فتحدثوا عن الكمون والظهور والقدم والحدوث والنفي والإثبات والحركة والسكون والجزء والطفرة والأجسام والإعراض، وإنهم قد أشبعوا القول في هذه القضايا وسواها، ومن حق العشق عليهم أن يقولوا فيه شيئاً - دون منازعة (1) - ودون استعداد سابق، بل بما سنح لهم في الوقت، على نحو ما جرى في " حوار المأدبة ".
وليس يهمني هنا: أحدث ذلك المجلس حقاً أم لم يحدث، وهل ضم تلك الشخوص أو لم يضم، وإنما الذي يهمني هو هذا " الأنموذج " الذي يقرب إلى الظن أن " حوار المأدبة " على نحو ما، أو شيئاً شبيهاً به، كان معروفاً لدى المثقفين المسلمين في أواخر القرن الثاني أو أوائل الثالث، وإلا فلماذا " العشق " من دون سائر الموضوعات ينتدب إلى الكلام فيه على نحو واقعي أو متخيل - عدد من مفكري ذلك العصر لقد ملأ الحديث عن الحب الشعر العربي والحكايات والأسعار حتى حينئذ، وكان لابد - في ظل الثقافة اليونانية - أن يتصدى له " المتفلسفون " ليحددوا طبيعته وماهيته، على نحو يذكر المأدبة.
بل إننا لا نستطيع أن ننفي الصلات الموضوعية بين مجلس يحيى والمأدبة، معتمدين الحافز والإطار موضوعين للتشابه بينهما وحسب، فإن المدقق في أحاديث المتكلمين في مجلس يحيى يلمح بعض المشابه في التعبير عن " الحب " أو " العشق ". هذا هو " فايدرس " المتحدث الأول في " المأدبة " يتناول الحب من حيث هو قوة محولة، تجعل الحب يتوجه نحو الفضيلة وينفر من الرذيلة ومن كل ما يجر العار على نفسه في سبيل رضى
__________
(1) " دون منازعة "، وهي التي حددت عدم ظهور الحوار، على نحو متعمد.(1/25)
المحبوب، مثلما إن الحب يقترن بالتضحية، مورداً هنا مثل " لقست " (Alcestis) الزوجة الوفية التي ضحت بنفسها من أجل زوجها بعد أن أنكره كل الناس حتى أبوه وأمه (1) . ويقول أبو الهذيل العلاف " غير أن العشق من أريحية تكون في الطبع وطلاقة توجد في الشمائل، وصاحبه جواد لا يصغي إلى داعية المنع ولا يصيخ لنازع العذل " (2) . ويقول آخر: " وأيسر ما يبذله لمعشوقه أن يقدم دونه " (3) - وتلك هي التضحية - ويصف أغاثون - وهو المتحدث الخامس - كيف إن الحب نموذج للرقة، رشيق، جميل القسمات يعيش بين الأزهار، وإنه شجاع حكيم وكل من يمسه يصبح حكيماً، وإنه يقرب بين النفوس ويزيل الشعور بالاغتراب، وهو أبو اللياقة واللطف وكل ضرب الفضل (4) ، وإذا نحن تغاضينا عن التشخيص أحياناً في العبارات اليونانية - لأن الحديث عن الحب في العربية كثيراً ما ينصرف إلى المحب نفسه - وجدنا أحد المتحدثين في مجلس يحيى يقول: " هو (ي الحب) من بحر اللطافة ورقة الصنيعة وصفاء الجوهر (5) " وآخر يقول أنه " موسوم بالبراءة ولطف الصورة " (6) ويقول: " وإلى غاية الرقة يضاف صاحبه " (7) .. وثالثاً يقول: " العشق أرق من السراب وأدب من الشراب " فهذه كلها مواطن للتشابه قد ترجح القول بمعرفة " المأدبة " وقد تكون أيضاً نتيجة نظرة مستقلة في جانب من تلك التجربة الإنسانية المشتركة بين الناس.
__________
(1) (The Symposium by Plato، translated by W.Hamilton (Penguin Books، 1956) pp. 42 - 45. وخلاصة القصة أن أبولو انبأ أدميتس ملك فيراي إحدى مدن تشطاليا بأن الموت مدركه لا محالة إن لم يجد من يموت نيابة عنه، فرفض أبوه وأمه ذلك، وتقدمت روجه لقست لتفديه بنفسها.
(2) المسعودي 4: 237.
(3) المسعودي 4: 239.
(4) (He Symposium، pp. 68 seq) .
(5) أنظر المسعودي 4: 237، 240، 238.
(6) أنظر المسعودي 4: 237، 240، 238.
(7) أنظر المسعودي 4: 237، 240، 238.(1/26)
على أنا قبل أن نغادر مجلس يحيى بن خالد علينا أن نتذكر أموراً سنحتاج إليها كلما تقدمت بنا الخطى في طريق هذا البحث، ومنها:
1 - أن أولئك المفكرين يكادون يجمعون على أن الحب اتصال بين الأرواح أو النفوس (أو بين روحين ونفسين) على سبيل المشاكلة، والتكافؤ في الطريقة، والمطابقة والمجانسة في التركيب، أو إنه تمازج بين جواهر النفوس بوصل المشاكلة والمناسبة والمساكنة، أو انه اتفاق الأهواء وتمازج الأرواح وتراوح الأشباح.
2 - أن بعض أولئك المفكرين ذهب إلى القول بنورانية الحب: " انبعث لمح نور ساطع تستضيء به نواظر العقل وتهتز لإشراقه طبائع الحياة " (1) .
3 - عبر أكثرهم عن قوة الحب وسلطانه ونفوذه بصور مختلفة لكن المرمى فيها واحد، مثل: " له نفوذ في القلب كنفوذ صيب المزن في خلل الرمل " و " له مقتل في صميم الكبد ومهجة القلب " و " أدب من الشراب له سحابة غزيرة تهمي على القلوب فتعشب شغفاً وتثمر كلفاً " و " له دبيب كدبيب النمل " و " يسور في البنية سوران الشراب " الخ.
4 - أتفق أكثرهم على وصف حال المحب بالتذلل وما إليه من مظاهر فقالوا: إنه يخضع لعبد عبده، دائم اللوعة، طويل الفكر، صومه البلوى، وإفطاره الشكوى، أذل من النقد، يهش لكل عبد، ويؤسر بكل طمع، يتفوه بالأماني ويتعلل بالأطماع.
5 - وأنفرد الموبذ قاضي المجوس بالربط بين الحب وحركات النجوم والفلك " الأسطقسات تولده والنجوم تنتجه وعلل الأسرار العلوية تصوره تنبعث خواطره بحركات فلكية الخ ".
__________
(1) المسعودي 4: 240 وقارن بما أورده أبن القيم في روضة المحبين: 139.(1/27)
إن مثل هذه النظرات، يدلنا على لون " الفكر " الذي كان رائجاً حول الحب في المشرق قبل أبن حزم، ويبين إلى أي مدى التقت مفهوماته عن طريق التجربة، بما وقر في نفسه عن طريق الثقافة. ولكن المشرق قبل أبن حزم عرف آراء ونظرات أخرى في الحب، أطلع عليها أبن حزم من بعد، وكان أهمها ما قرأه في كتاب الزهرة (1) لأبي بكر محمد بن داود الأصبهاني (- 297/ 910) وهو ظاهري أيضاً، فقد جاء في ذلك الكتاب: " وزعم بعض المتفلسفين أن الله - جل ثناؤه - خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة، ثم قطعها أيضاً، فجعل في كل جسد نصفاً، وكل جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه، كان بينهما عشق للمناسبة القديمة، وتتفاوت أحوال الناس في ذلك على حسب رقة طبائعهم " (2) . وقد أطلع أبن حزم على هذا القول ونسبه إلى أبن داود ولكنه أورده على النحو الآتي: " الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي، ومجاورتها في هيئة تركيبها ".
وبين النصين اختلاف جوهري، ولكن هذا يجب ألا يستوقفنا أيضاً، إنما الذي يستوقفنا هو فكرة " الأكر " التي انقسمت: من أين تسربت هذه الفكرة إلى أبن داود إن هذه الفكرة تقوي الحجة بأن كتاب " حوار المأدبة " كان معروفاً على نحو ما في القرن الثالث، لأنه -
__________
(1) دخل كتاب الزهرة إلى الأندلس - في أوائل القرن الرابع على أكثر تقدير - وقد عارضه أحمد بن فرج الجياني فألف علة نسقه كتاب " الحدائق " للحكم المستنصر واقتصر فيه على أشعار الأندلسيين، وكانت وفاة أبن فرج في سجن المستنصر (لعله إذن توفي قبل سنة 366) . وكان أبن حزم معجبا بالكتابين، وهو يقول في كتاب ابن فرج " أحسن الاختيار فيه ما شاء، وأجاد فيه فبلغ الغاية فأتى الكتاب فردا في معناه " (الجذوة: 97 وأنظر ترجمة ابن فرج في المغرب 2: 56 والمطمح: 79 ومعجم الأدباء 4: 236 والمطرب: 4 وفي الجذوة والحلة السيراء نقول كثيرة عن الحدائق) .
(2) النصف الأول من كتاب الزهرة: (تحقيق لويس نيكل ومساعدة إبراهيم طوقان، بيروت 1932) ص: 15.(1/28)
فيما اعتقد - مصدر تلك الفكرة. فالمتحدث الرابع في المأدبة، وهو الكاتب الكوميدي أرسطوفان، يرى أن الخلق كانوا ثلاثة أصناف، ذكوراً، وإناثاً وخليطاً من هذين، وكان كل مخلوق بشري كلاً كاملاً، ظهره وجانباه مدوران على شكل كرة، وكان له أربع أيد وأربع أرجل ووجهان متماثلان قائمان على رقبة مستديرة، وكان هذا المخلوق يمشي في شكل دائري، وكان قوياً مخوفاً، فرأى الإله أن يضعف من قوته، فشقه نصفين، ومنذ ذلك الحين أخذ كل نصف يتوق إلى النصف الآخر الذي أنفصل عنه، فإذا التقيا تعانقا كأنما يطلبان الاتحاد. فإذا كان النصفان المتلقيان ذكراً وأنثى نتج عن تلاقيهما التناسل، فوجدا الاكتفاء في الاتصال، وانصرف الذكر بعده إلى ممارسة شؤون الحياة الأخرى، وإذا حدث التجاذب بين ذكر ومثله، نشأت بينهما عاطفة قوية غلابة تخلق متعة في الصحبة، ولكن لا أحد يستطيع أن يقول إنها قاصرة على الجسد بل إن روح كل منهما تتوق إلى الأخرى توقاً لا تستطيع أن تصفح عنه. وعلى هذا فليس الحب سوى محاولة للعودة إلى الحال التي كان الآدميون عليها. فهو رغبة في استعادة الوحدة القديمة (1) .
إن هزل أرسطوفان في معرض الجد قد تحول وتحور حين انتقل إلى بيئة بغداد في القرن الثالث؛ فموضوع الحب في المأدبة، وهو حب بين الذكران، ويكاد لا يتوقف عند حب الذكر للأنثى، قد اختفى، ولم يستطع إلا أن يومئ إليه إيماء من وراء ستار النظرية شخص مثل أبن داود شهر بحب حدث أصبهاني يقال له محمد بن جامع أو وهب بن جامع (2) ، وانقسام الأجساد في ذلك التصوير شبه الهزلي لدى أرسطوفان أصبح عند أبن داود انقساماً في روح كرية جعلت في جسدين، فأخذ كل نصف يفتش عن نظيره، وكان ذلك التحول والتحور ضرورياً لفقيه
__________
(1) بإيجاز عن (Symposium) ص: 59 وما بعدها.
(2) الصفدي: الوافي بالوفيات 3: 59.(1/29)
ولمجتمع " استعلائي " النظرة، تحول عفته الدينية - أو تعففه - دون التسليم ببحث الجسد عن جسد مناظر له.
وفي المأدبة استطاع سقراط وحده أن يتحول بالحب - حسب تعليمات " ديوتيما " - إلى مجال آخر: فقد تدرج من أن الحب " روح " (أو شيء يشبه الملاك) وسيط بين الله والخلق، وإن هذه الروح تحفز إلى اختيار المحبوب، وذلك هو الجمال أو الخير، والرغبة في ذلك تؤدي إلى السعادة، وهذه الرغبة تعبر عن ذاتها بصور مختلفة، فالناس يقولون إن النصف يبحث عن نصفه ولكن سقراط يرى أن الحب ليس رغبة في الاتحاد بالنصف، وإنما هو رغبة في الاحتياز السرمدي للمحبوب - وهو الخير - ومهمة الحب هي " التناسل " فكل الناس " حاملون " روحياً وجسدياً، وعندما يحين الحين يحسون بالحاجة إلى " الوضع "، ولا يستطيعون ذلك إلا في الجمال لا في القبح، وهذه " الولادة " هي أقرب شيء إلى الخلود مع الخير، فالحب إذن هو حب الخلود، مثلما هو حب الخير وهما سيان؛ فمن كانت غريزته في " التولد " جسدية بحث عن المرأة، ومن كانت رغبته في " التولد " روحية بحث عن الحكمة؛ وهكذا يتدرج الحب: من تأمل الجمال الجسدي في واحد " يفرخ " في تأمله مشاعر جميلة، ثم إلى تأمل الجمال المطلق خارج هذا العالم، وهكذا يتم الانتقال في الحب من المادي إلى المعنوي ومن المعنوي إلى جمال المعرفة، ومنها إلى جمال المعرفة الكلية العليا (1) .
وهذا التدرج هو الذي لفت أنظار إخوان الصفا، فبعد أن قرروا أن النفوس تتفاوت في المحبة بين نفس شهوانية وأخرى حيوانية وثالثة ملكية (ناطقة) وأن في جبلة النفوس محبة البقاء السرمدي (2) تحدثوا
__________
(1) بإيجاز عن (Symposium) ص: 81: 94.
(2) رسائل أخوان الصفا (ط. بيروت) 3: 279 - 280.(1/30)
عن تدرج النفس من المادي إلى الروحاني فقالوا: " ثم أعلم أن الغرض الأقصى من وجود العشق في جبلة النفوس ومحبتها الأجساد واستحسانها لها ولزينة الأبدان، واشتياقها إلى المعشوقات المفتنة، كل ذلك إنما هو تنبه لها ومن نوم الغفلة ورقدة الجهالة ورياضة لها وتعريج لها وترقية من الأمور الجرمانية إلى المحاسن الروحانية ودلالة على معرفة جوهرها " (1) ذلك لأن كل المشتهيات في الأجساد رسوم طبعتها فيها النفس الكلية، فإذا تأملتها النفس الجزئية حنت إليها، وأحبتها، فإذا غابت تلك الرسوم بقيت المحبة، لأنها تمثل تشوق النفس الجزئية إلى النفس الكلية، والنفس الكلية تشبه بالباري تعبداً له واشتياقاً ليه، ولذلك كان الله هو المعشوق الأول الذي تشتاق إليه جميع الموجودات ونحوه تقصد لأنه هو الموجود المحض، وله البقاء السرمدي والكمال المؤبد (2) .
وعلى الرغم من تحول إخوان الصفا إلى نظرة أفلوطونية واضحة، فليس ببعيد إذن أن تكون " المأدبة " مصدراً لكثير من تلك التصورات عن الحب، ولكنها وأشباهها تمثل المصدر الفلسفي، وهو مصدر يقف في موازاته المصدر الطبي؛ فقد كان ابن داود نفسه يعرف أن بعض المتطببين يقول، " العشق طمع يتولد في القلب، وتجتمع إليه مواد من الحرص، فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق وكثرة الشهوة، وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء، ومن طغيان السوداء فساد الفكر، ومع فساد الفكر تكون الفدامة ونقصان العقل، ورجاء ما لا يكون وتمني ما لا يتم، حتى يؤدي ذلك إلى الجنون، فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غماً، وربما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً، وربما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنه قد مات فيقبرونه وهو حي، وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه
__________
(1) رسائل 3: 282.
(2) أنظر المصدر نفسه: 282 - 286.(1/31)
وينضم عليها القلب فلا ينفرج حتى يموت، وربما ارتاح وتشوق للنظر أو رأى من يحب فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة " (1) .
ولا يرى ابن داود بأسا في أن يقرن بين هذا التفسير الطبي في الحب، وهو قائم على نظرية الطبائع والأخلاط، متصل بالجسد اتصالاً وثيقاً، غير معترف بأي دور للروح أو للنفس في مجال الحب وبين حديث آخرين عن النفوس - أو الأرواح - الكرية التي انقسمت " في مقر عالمها العلوي " (حسب مفهوم ابن حزم) دون أن يعلق على المفارقة القائمة بين النظريتين. وأسوا من ذلك صنيع إخوان الصفا، فإنهم حشدوا جميع الآراء في نطاق، فأوردوا قول من قال إن العشق جنون إلا وهي (2) - وهو رأي ذكره ابن داود نفسه (3) - وتحدثوا عن آراء الأطباء فيه، حسبما جاء عند ابن داود (4) ، وهو رأي لم يلبث أن نسب إلى أفلاطون نفسه أيضاً (5) ، بل زاد إخوان الصفا زيادة في فهم الحب الجسدي اربت على كل شيء ساب، وإن كان توجههم النهائي أفلوطينياً، فزعموا أن العاشق والمعشوق إذا تباوسا وامتص كل واحد منهما ريق صاحبه وبلعه وصلت تلك الرطوبة إلى معدة كل واحد منهما وامتزجت مع سائر الرطوبات، ثم وصلت إلى الكبد واختلطت بأجزاء الدم وانتشرت في العروق، وأصبحت جزءاً من تكوين الجسد، وإذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه اختلط ذلك مع الهواء المستنشق، ووصل بعضه إلى مقدم الدماغ، فاستلذ كل واحد ذلك التنسم، أو وصل إلى الرئة ومن الرئة إلى القلب، وأنتقل مع حركة النبض إلى سائر الجسد، وأختلط بالدم واللحم (6) .
__________
(1) الزهرة 1: 17.
(2) رسائل 3: 270.
(3) الزهرة: 15 ونسب إلى أفلاطون.
(4) رسائل 3: 271.
(5) أفلاطون في الإسلام، نصوص جمعها وعلق عليها الدكتور عبد الرحمن بدوي (تهران 1973) ص 252 ونقله أبن القيم في روضة المحبين: 137 ونسبه لبعض الفلاسفة.
(6) رسائل 3: 274 - 275.(1/32)
واجتمع إلى هذين المصدرين الفلسفي والطبي - في تصور مفهوم الحب مصدر ثالث هو المصدر التنجيمي الذي رأينا بوادره عند الموبذ قاضي المجوس، وقد خضع ابن داود أيضاً لهذا المصدر (1) وقرنه بالمصدرين الآخرين، كما فعل شيئاً شبيهاً بذلك إخوان الصفا (2) وإن لم يكن تحديد المؤثرات النجومية متفقاً عليه بينهما.
فإذا انتهينا إلى أواخر القرن الرابع وجدنا " تصعيداً " متعمداً لكل هذه النظرات لدى أبن سينا الذي يرى أن من شأن العاقل " الولوع بالمنظر الحسن من الناس " ولكن إن كان هذا الولوع لذة حيوانية فهو مستحق للوم (مثل الفرقة الزانية والمتلوطة) (3) ، ولهذا تستبعد لذة المباضعة، فأما المعانقة والتقبيل فإن كان الغرض منهما الاتحاد فليس بمنكر (وهذا هو الظرف) ، ولكن العشق الحقيقي هو عشق الخير المطلق عشقاً غريزياً، أي قبول تجليه على الحقيقة، وتجليه هو حقيقة ذاته، والنفوس الملكية عاقلة له وعاشقة ومتشبهة بما تعقله منه أبداً (4) . وهكذا ينتهي أبن سينا إلى ما انتهى إليه إخوان الصفا، دون أن ندري يقيناً أيهما كان قبل الآخر، ويكون المتفلسفة قد وصلوا إلى فكرة " الاتحاد " في الحب، وكان وصولهم إلى ذلك قبل المتصوفة، على الأرجح.
غير أن القرن الثالث شهد مفهوماً رابعاً للحب (إلى جانب المفهوم الفلسفي والطبي والنجومي) ؛ وهذا المفهوم صوفي أيضاً، لكنه لم يبلغ بعد درجة " الاتحاد " ولا ندري حقيقة من هو الذي قال به لأنه فريد في منزعه وهو يتلخص في أن الحب - على المستوى الإنساني - امتحان لكي يتلقن المحب درساً في طاعة محبوبه ويدرك معنى المشقة في مخالفته؛ وهذا
__________
(1) الزهرة 1: 16.
(2) رسائل 3: 273.
(3) أبن سينا: رسالة في ماهية العشق (تحقيق وترجمة أحمد آتش، أستانبول 1953) ص: 18.
(4) رسالة العشق: 25 - 29.(1/33)
يهيئه ليدرك قيمة رضى الله تعالى، لأن الله تعالى أحرى بأن يتبع رضاه وتتجنب مخالفته (1) ؛ فكأن الحب الإنساني رياضة في مرحلة أولى ينتقل بعدها " العبد " إلى مرحلة ثانية.
هذه المفهومات الأربعة للحب قد جمعت معاً - بشكل موجز - في كتاب " الزهرة "، وهو كتاب عرفه أبن حزم معرفة تمكن واستلهام، فلو لم يطلع على المصادر الشرقية الأخرى، لكان كتاب " الزهرة " وحده كافياً في هذا المجال. ولكنه كان يعرف من دون ريب مروج الذهب للمسعودي، وما ورد فيه من مقامات المتكلمين حول الحب، كما كان يعرف بعض الكتب الطبية، ولا أستبعد أن يكون قد عرف " فردوس الحكمة " لعلي بن ربن الطبري (247/ 861) أو مصدراً مشبهاً له، فالحديث عن ضروب المحبة عندهما متشابه، يقول أبن ربن: " فإن من شأن النفس الولوع والعجب بكل شيء حسن من جوهر أو نبت أو دابة (2) " ويقول أبن حزم: " فالظاهر أن النفس الحسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة (3) " ثم يتفقان على أن الإثارة الأولى بعد تحريك الإعجاب هي " الشهوة " ويتمايزان بعد ذلك في الاستنتاج. وليس ببعيد أيضاً أنه عرف مصادر شرقية أخرى ذات علاقة بالموضوع من قريب أو بعيد (4) ، هذا بالإضافة إلى ما كان يمده به الشعر المشرقي،
__________
(1) الزهرة 1: 18.
(2) فردوس الحكمة: 91.
(3) طوق الحمامة: 4.
(4) نشر الأستاذ غوسيه غومس (مجلة الأندلس 191 ص 309330) بحثاً درس في معظمه مواطن اللقاء بين طوق الحمامة وكتاب الموشى، وكثير مما أورده ليس سوى تشابه عارض، س أو هو يمثل خلاصة تجارب انسانية ومواقف شعرية حول الحب، وقد أشرت الى بعض تلك المقارنات في الحواشي، وأهملت ما رأيته تزيداً، فمثلا الحديث عن كيد النساء ومكرهن ليس من الضروري أن يجده ابن حزم لدى الوشاه، وكذلك الحديث عن علامات الحب من نحول واصفرار وقلة نوم.. الخ فمثل هذه الأمور تعد قدراً مشتركاً عند اثارة قضية " الحب ".(1/34)
وحكايات العشاق المشارقة من ذخيرة كبيرة تصورات الشعراء والرواة والقصاص لموضوع الحب.
ولعله لم يكن يجد في البيئة الأندلسية تنظيراً حول " الحب "، ولكن البيئة الأندلسية كانت تمده بشيئين هامين: أولهما ذلك الشعر العفيف المتشبه بالشعر العذري، نزولاً على أحكام الظرف والفتوة السليمة (وإن كان يوازيه في خط آخر شعر المجون) ؛ وقد مهد أبن فرج في كتاب " الحدائق " لذلك السياق الأندلسي الخالص في شعر الحب، وكان أبن حزم معجباً بكتابه، كما كان يزيد على ما عرفه أبن فرج أشعاراً كثيرة جدت من بعده وجرت في ذلك السياق، وأبو محمد ذو حافظة عجيبة وذوق رفيع في الحفظ والتخير، وذو رغبة حافزة للإطلاع على كل ما يتصل بالأندلس من تراث أدبي وغير أدبي؛ وثانيهما: قصص الحب في الأندلس، ومنها المتصل بالماضي ومنها التجارب المعاصرة التي جرت لأفراد يعرفهم أبن حزم أو يسمع عنهم، فذلك الشعر وتلك القصص كانا مظهرين هامين في " الحب الأندلسي ". فأما التنظير فقد بدأت بوادره تتسرب في مجالس الجدل كما يشير إلى ذلك كتاب الطوق نفسه، وفي المحاورة التي جرت بين أبن كليب القيرواني وأبن حزم أيام كونهما بقرطبة في التفلسف حول أمور تتعلق بالحب (1) ما يدل على ذلك: وإليك هذه المحاورة (ك أبن كليب، ح أبن حزم) .
ك: إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي ما أصنع
ح: أرى أن تسعى في إدخال الروح على نفسك بلقائه وإن كره.
ك: (أنا) لا أرى ذلك بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي، وأصبر ولو كان في ذلك الحتف.
ح: إني إنما أحببته لنفسي ولالتذاذها بصورته فأنا أتبع قياسي وأقود أصلي وأقفو طريقتي في الرغبة في سرورها.
__________
(1) أنظر الباب الرابع عشر، وهو باب الطاعة ص: 158 - 159.(1/35)
ك: هذا ظلم من القياس. أشد من الموت ما تمني له الموت، وأعز من النفس ما بذلت له النفس.
ح: عن بذلك نفسك لم يكن اختياراً بل كان اضطراراً ولو أمكنك ألا تبذلها لما بذلتها، وتركك لقاءه اختياراً منك أنت فيه ملوم لإضرارك بنفسك وإدخالك الحتف عليها.
ك: أنت رجل جدلي ولا جدل في الحب يلتفت إليه.
ح: إذا كان صاحبه مؤوفاً.
ك: وأي آفة أعظم من الحب
ومع أن هذا القيرواني هو الذي فتح باب الجدل، فانه عاد يلوذ بما أرقته الطبيعة الأندلسية نفسها حين اقتصرت على الشعر والقصص، ويقول " ولا جدل في الحب يلتفت إليه "، وكأنه يردد بهذا قول الشاعر المشرقي:
ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج وعلى هذا الأساس - وخضوعاً لمنطق البيئة الأندلسية - لم يكن ابن حزم بحاجة إلى التنظير، وكان يكفيه منه القليل الذي وجده في كتاب الزهرة، كما سنرى من بعد.
2 - تسمية الرسالة:
سمى ابن حزم رسالته " طوق الحمامة " فلماذا اختار هذا الاسم يقول الثعالبي: " طوق الحمامة يضرب مثلاً لما يلزم ولا يبرح ويقيم ويستديم (1) "، ترى هل هذا هو المعنى الذي أراده ابن حزم حين اختار هذه التسمية دعني أقرر أنها فريدة، بادئ ذي بدء، ولكن من درس أحوال الحب في الكتاب يجد ان معنى " الدوام " ليس من الأمور التي تلازم الحب، لا من حيث النظرية ولا من حيث التجربة، غير أن
__________
(1) ثمار القلوب: 465.(1/36)
هذا لا ينفي أن الطوق للحماسة زينة منحتها بدعاء نوح، حين أرسلها لتستكشف المدى الذي سترسو عنده سفينته، فطوق الحمامة هنا كناية عن استلهام الجمال الذي هو مثار الحب اعني جمال الطوق لأنه حلية متميزة عن سائر لون الحمامة. ولست أستطيع هنا أن أتحدث عن " الحمائم " التي تقود مركبة فينوس - ربة الحب - في الأساطير الرومانية، فربما كان التوجه إلى هذا المعنى إيغالاً في التصور، ونقلاً من حضارة إلى حضارة أخرى، ولست كذلك أتوجه إلى أفانين الحب التي يمارسها الحمام، والتي يرى الجاحظ - أو من نقل عنه - أنها هي عين الممارسات التي توجد لدى الإنسان (1) ، كأنما هي صورة طبق الأصل من شتى المواقف من إخلاص وغيرة وشذوذ وتضحية وما إلى ذلك من فنون، ولكني حين أجدني اصل إلى الحيرة في سر هذه التسمية، أتوقف عند " الجمال " " والتميز "، وكأني بابن حزم يقول: هذا كتاب يتحدث عن العلاقة السرية بين الجمال والحب أو هذا الكتاب بين الكتب كطوق الحمامة بالنسبة للحمامة؛ وعند هذا الحد أجد الثعالبي يقول ان الحمامة إنما أعطيت طوقها " من حسن الدلالة والطاعة "، فأضيف إلى الجمال والتميز عنصر " الطاعة " وهو عنصر هام في مفهوم الحب.
ومع ان ابن حزم يقول في رسالته: " وكلفتني أعزك الله ان أصنف لك رسالة في صفة الحب وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " فغن العنوان الذي اختاره لرسالته هو " في الألفة والألاف "، يعني أنه تجاوز في رسالته ما كلفه به صديقه لأن " الألفة " كلمة اعم من " الحب " وهي ناظرة إلى الحديث الشريف في الأرواح: " فما توافق منها ائتلف ". وبسبب هذه العمومية نجده أحياناً يخرج في أمثلته. التي يوردها من دائرة العشق، وذلك شيء سأتحدث عنه عند الحديث عن العلاقة بين نظريته في الحب، وتطبيقه لتلك النظرية.
__________
(1) الحيوان 3: 63.(1/37)
3 - تاريخ التأليف:
تقلبت الأحوال بابن حزم تقلباً جائراً في الفتنة، كان عمره حين انتقل أبوه من دورهم الجديدة بالجانب الشرقي (في ربض الزاهرة) إلى دورهم الجديدة في الجهة الغربية (أب بلاط مغيث) حوالي خمسة عشر عاماً وتسعة أشهر، وفي ذي القعدة من سنة 402 توفي والده (وقبلها بنحو عام توفي أخوه أبو بكر في الطاعون) ، وتوالت عليهم النكبات والاعتقال والمصادرة، ثم احتل جند البرابر منازل أهله، فاضطر للخروج عن قرطبة (أول المحرم سنة 404 / 1013) فذهب إلى المرية يطلب الاستقرار فيها، ولم تطل فيها إقامته، فقد نكبه صاحبها خيران العامري إذ اتهمه مع صاحبة محمد بن إسحاق بأنهما يسعيان في استعادة الدولة الأموية، فاعتقلهما اشهراً، ثم غربهما فذهبا إلى حصن القصر ونزلا على صاحبه عبد الله بن هذيل التجيبي فرحب بهما، ولما سمعا بقيام المرتضى عبد الرحمن بن محمد (407/ 1016) لإحياء الدولة الأموية ركبا البحر من حصن القصر إلى لقائه في بلنسية، وسكنا معه فيها. ويبدو أن ابن حزم سار إلى قرطبة بعد إخفاق المرتضى ومقتله عند غرناطة، ويبدو أن ابن الخليفة بقرطبة يومئذ القاسم بن حمود، فدخلها (409/ 1019) وبقي فيها حتى لاحت الفرصة بمبايعة عبد الرحمن بن هشام الناصري الذي لقب بالمستظهر (414/ 1027) فقرب إليه ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة وابن شهيد، لكن هذه الخلافة لم تدم أكثر من سبعة وأربعين يوماً، وبويع المستكفي فاعتقل ابن حزم وغيره من رجال المستظهر وسجنهم، ثم نراه سنة (417/ 1026) في شاطبة، ولعله استوطنها قبل ذلك بقليل. وفي ذلك العام جاء إليه صديق من المرية (1) ونزل ضيفاً عنده بشاطبة، فلم يمض إلا وقت قصير حتى نشبت الفتنة بين أبي الجيش مجاهد العامري وخيران العامري (وكان ذلك سنة 417) فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب " وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل " فاشتد الكرب
__________
(1) أقدر أن هذا الصديق هو الذي كتبت له رسالة طوق الحمامة.(1/38)
بصديقه لأنه حيل بينه وبين العودة إلى هوى له بالمرية (1) . ويقول ياقوت نقلاً عن صاعد الأندلسي إن ابن حزم وزر للمعتد بالله هشام بن محمد (2) ، ونحن نعلم ان أهل قرطبة أرسلوا بيعتهم إلى هشام وهو في البونت (البنت) في ربيع الآخر سنة 418 ثم انتقل إلى قرطبة سنة 420، فإذا كان ابن حزم قد وزر له أولاً فقد انتقل إلى البنت وإذا كان قد وزر له بعد ذلك فقد انتقل إلى قرطبة، ولكن الرسالة كتبت في شاطبة، ولابد ان يكون ذلك قد تم في وقت ما بين سنتي 417 - 418، ومما يزيد الأمر تحديداً قول ابن حزم، في حكم بن المنذر بن سعيد البلوطي: " وحكم المذكور في الحياة حين كتابتي إليك بهذه الرسالة، قد كف بصره وأسن جداً " وقد ذكر ابن بشكوال نقلاً عن ابن مدير ان وفاة حكم كانت في نحو سنة عشرين وأربعمائة (3) ، وهذا يعني أن وفاته تمت في 418 أو 419 أو أوائل سنة عشرين وأربعمائة (4) .
ولا أعلم أن ابن حزم أشار إلى هذه الرسالة في سائر كتبه ولكن النقول القليلة التي وردتنا منها (وخاصة في روضة المحبين لابن قيم الجوزية، على تباعد في الزمن) تؤكد اسم الرسالة ونسبتها إلى ابن حزم فإذا كان التاريخ الذي قدرناه لتأليف الرسالة صواباً أو قريباً من الصواب، كان ابن حزم عندما كتبها في حدود الرابعة والثلاثين من عمره، وكان قد حصل ضروباً من الثقافات فيها الفقه والحديث - على أساس ما يظهر جلياً في هذه الرسالة - والمنطق والفلسفة والنجوم، ونظر في التوراة، وشهر بقوة عارضته في الجدل، وبالتفنن في ضروب مختلفة من الشعر، ولكن الطابع العقلاني يزاحم في شعره قوة العاطفة ويتغلب على المجال التصويري.
__________
(1) طوق الحمامة: (باب البين رقم 24 ص 216 - 217) .
(2) معجم الأدباء 12: 237 وسقط هذا من ترجمة ابن حزم في طبقات الأمم: 76 ثم أضيف اعتمادا على احدى النسخ الخطية (ص: 116 وتصحف المعتد إلى المقتدر) .
(3) الصلة 1: 146.
(4) انظر طه الحاجري: ابن حزم، صورة أندلسية: 153 - 154.(1/39)
4 - دواعي التأليف:
أحب أن أقول - بداع من إحساس يشبه اليقين - أن رسالة " طوق الحمامة " بدأت تسلية لصديق ذي ود صحيح لابن حزم، كان يستوطن المرية - ولعله حلها بعد تفرق القرطبيين في الفتنة -. وفي موطنه الجديد، نشب القرطبي المهاجر في براثن حب آسر، على غير ما تسمح به السن (فهو على الأرجح لدة لابن حزم) ، أي لم يكن مثل ذي الرمة الذي راهق الثلاثين، بل تجاوزها، وحلمته العشائر (1) ، فكتب إلى صديقه وموضع سره ابن حزم، يسأله في كتاب زادت معانيه على ما في سائر كتبه من قبل، رأيه في هذا الذي نشب فيه، ويتحدث إليه بحديث الحب، ويسأله أن يطب له، فدعا الله بينه وبين نفسه ان لا يكلنا " إلى ضعف عزائمنا وخور قوانا ووهاء بنيتنا، وتلدد آرائنا (أو آرابنا) وسوء اختيارنا، وقلة تميزنا، وفساد اهوائنا "، ولكنه حرك ساكناً وذكر أمراً متصلاً بالصبا والشباب، والجراح لم تكد تندمل، وفيما ابن حزم يقلب وجوه الرأي، إذا بصديقه وقد استبطأ رده يسافر من المرية إلى شاطبة ليلقى صاحبه ويبث إليه ما في نفسه، وما تكاد شاطبة تستقبل ذلك الصديق حتى تقوم القيامة، وتسد في وجهه أبواب العودة إلى المرية، لاشتعال نار الحرب بين مجاهد وخيران، فلا يجد ابن حزم خيراً من قصص من ابتلي بمثل ما ابتلي صديقه، يسليه عما ألم به، ويضرب له المثل بالأئمة الراشدين والخلفاء المهديين، ويذكره بما عرفاه من أحاديث العشاق والمحبين في قرطبة وغيرها، بل يقدم له نفسه نموذجاً عجيباً لتصاريف الحب وشؤونه. وأنا أصدق ابن حزم فيما يقول، لأنه منزه عن تعمد الكذب، حتى وأن كان غيره يتخذ مثل هذه التعلة مدخلاً للتأليف،
__________
(1) من قول ذي الرمة:
على حين راهقت الثلاثين وارعوت ... لداتي وكاد الحلم بالجهل يرجع ويقول (على لسان أخيه مسعود يلومه) :
أفي الدار تبكي أن تفرق أهلها ... وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر(1/40)
فهناك صديق كلفه ان يؤلف " رسالة في صفة الحب ومعانيه وأعراضه وأسبابه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " ن ولكن من السذاجة أن نظن بان الحافز لذلك كان حافزاً واحداً بسيطاً، وأن امرءاً (فقيهاً) يكتب رسالة في الحب وهو يستشعر " نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطات، وتغير الاخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الايام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع كاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار " - أن امرءاً على هذه الحال إنما اندفع إلى ذلك بتوجيه حافز بسيط بل أقدر انه قد وجد ولابد حوافز أخرى لكتابة هذه الرسالة، وما كانت تسلية الصديق إلا انقداح الشرارة الأولى، التي بعثت الماضي كله حياً في نفسه.
وفجأة انتقل الأمر من تسلية الصديق إلى تعزية النفس: فابن حزم الذي كان في حاضره حينئذ يفكر " في صيانة الأهل والولد " وفي الحصول على الرزق له ولهم، كان يريحه أن يعود إلى الماضي، لأنه لا يمثل الحب وحسب، بل يمثل المجد والجاه والغنى والراحة والحياة الرغيدة ولهو أيام الطلب، ولذة المحادثة مع الأخوان " قبل أن يغيرهم الزمان "؛ لقد تركته تجاربه الكثيرة بين علو وانحدار يحس بوطأة العمر رغم أنه لم يقطع من حبل العمر إلا نصفه، أصبح " شيخا " في إحساسه، فهو يريد أن يصرف عنه هذا الإحساس؛ وكان شاعراً وجدانياً، وهوذا يتحول متكلماً عقلانيا، فهو يريد أن يخلد شعر فترة الشباب والصبا في كتاب، وهو قد عرف الناس وخبر نفسياتهم، وأدرك مدى سيطرة الحب على نفوسهم، فليس هو وصديقه اثنين من أولئك الناس وحسب، يرضيهما أن يكونا في انسجام مع نماذج عديدة تعرضت لما تعرضا له، بل إن ابن حزم ينفرد عن صديقه ثم عن سائر الناس بأنه يستطيع أن يستوعب تلك التجارب، وأن يخضعها للدراسة والتحليل، ليتجاوز بها(1/41)
تسلية صديقه وتعزية ذاته، فتصبح " رصداً " لحركات النفوس وطبيعة العلاقات العاطفية والاجتماعية، أي أن ابن حزم - من خلال تلك النماذج والتجارب - أحس أنه قادر على أن يقوم بدور السيكولوجي الاجتماعي، وذلك كله يتطلب إلى جانب التعمق في الدراسة جرأة على " الاعتراف " وتلك ميزة لم تكن تنقصه أبداً.
فمن حال صديقه وحال نفسه وحال قرطبة (التي تمثل صورة مكبرة لكليهما) وجد الحوافز قوية لكتابة هذه الرسالة، ولعل ابن حزم أحس وهو يكتب رسالته، انه يريد أن يقدم تجربة أو صورة " أندلسية " خالصة، ولعل هذا هو الذي دعاه أن يقول وهو يحدد برنامجه في التأليف: " ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين فسبيلهم غير سبيلنا " فمما لا ريب فيه أن ابن حزم كان خير ثمرة لتلك الحركة الثقافية التي حاول بها الحكم المستنصر بلورة الشخصية الأندلسية في جميع المجالات الثقافية والحضارية، ولذلك كان للأندلس في نفسه - رغم ضياع الدولة الأموية وما حل بالبلاد من تعاسة على يد ملوك الطوائف - وجودها المحدد، وطبيعتها المشخصة، وقد أمدته ثقافته بكثير من تجارب الحب في المشرق، ولكن أين التجربة الأندلسية في ذلك أكاد أقرر أن ابن حزم ما كاد يرسم المنهاج الذي يعمل على أساسه في هذه الرسالة حتى سطعت في نفسه هذه الحقيقة، كما سطعت بعد سنوات عندما كتب رسالته في فضل الأندلس؛ ولذلك فغن هذا البيت:
ويا جوهر الصين سحقاً فقد ... غنيت بياقوتة الأندلس الذي اتخذه بعضهم شعاراً يدل على " أندلسية " ابن حزم (1) ، ليس إلا نقطة صغيرة في بحر ممتلئ بتلك الحقيقة، حتى إن المؤلف ليتابع تجارب أندلسيين اغتربوا، ونادراً ما يتوقف عند تجارب غير الأندلسيين، ولو تأملنا قوله فسبيلهم غير سبيلنا " لوجدنا أن صيغة الجمع هذه هي " سبيلنا "
__________
(1) انظر مقدمة غرسيه غومس على ترجمة الطوق (ص: 52) وسانشت البرنس عند الدكتور الطاهر مكي: دراسات عن ابن حزم ص: 180.(1/42)
لا تشير إلى طريقة فردية، وإنما تشير إلى طريقة جماعية أندلسية؛ وأرجو ألا يساء فهم هذه الروح لدى ابن حزم وان لا تلتبس بتلك الدعوى التي تشتط في القومية العرقية فترى في ابن حزم نموذجاً إسبانياً في الغضب والوفاء ومواجهة الحسد بل وحتى في الثرثرة، إلى آخر ما هنالك من صفات، تميز الأسباني عن غيره من سائر البشر (1) ، فإن هذه النعرة لاحقة بهذيان الممرورين، وبانتحال المميزات المتوهمة للتغلب على مركبات نقص، كان ابن حزم بريئاً منها، ولله الحمد، وهذا وحده يثبت أنه لم يكن أسبانياً بهذا المعنى الذي يريده له بعض المتهوسين من العرقيين. إنما الذي أطمح إلى توضيحه هنا أن ابن حزم الناشئ في ظل الإسلام والثقافة العربية، المحب للدولة الأموية في الأندلس، المتعلق بوطنه، وحب الوطن من الإسلام ومن الايمان - كان يعتز بذلك الوطن، ويدافع عن فضائله. ولا يجد حرجاً في رسم صورته على حقيقتها، لأنه يحب تلك الصورة، حتى وإن كانت لا تعجب الآخرين، إننا حقاً نجد لدى ابن حزم صورة أندلسية، ولكن من الضروري أن نحذر - قبل المضي قدماً في هذا البحث - من الإسراع إلى الظن بأن الأندلس تتفرد بهذه الصورة، ذلك أن ابن حزم لم يكن يحاول أن يقيم مقارنة بين الأندلس وغيرها، وإنما يرسم ما يراه في صدق ودقة، ولكن الدارس يستطيع من موقف المؤرخ أن ينشئ تلك المقارنة: فلقد نجد ابن حزم يقول: " وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى، ولفت في تطاريف الوشي والخز، وما أشبه ذلك، لتكون تذكرة عند البين. وأما تهادي المساويك بعد مضغها، والمصطكي اثر استعمالها فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء (2) فنظن ان هذه عادات أندلسية، وسمات
__________
(1) البرنس في المصدر السابق: 156 وما بعدها.
(2) الفصل الخامس والعشرون (باب القنوع ص: 232) .(1/43)
حضارية خاصة بالأندلس، ولكن نقرأ في الموشى (والاستاذ غرسيه غومس يعرف النص تمام المعرفة) عند الحديث عن حب القيان " وتبعث (أي القينة) إليه بخاتمها وفضلة من شعرها وقلامة من ظفرها، وشظية من مضرابها، وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضاً عن قبلتها، ومضغة لتخبره عن نكهتها، وكتاب قد نمقته بظرفها، وطيبته بكفها، وسحته بوتر من عودها، ونقطت عليه قطرات من دمعها وختمته بغالية قد عدل بالعنبر متنها " (1) فندرك أننا نتحدث عن حضارة واحدة، ليس من فرق كبير فيها بين أندلس ومشرق، وإن كان ابن حزم غير مطالب بإجراء هذه المقارنة التي يستطيعها المؤرخ دونه. هذا في وسائل الحضارة وطبيعة العادات المتصلة بها، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى خلجات النفوس الإنسانية، ومدى تقبلها أو رفضها للمؤثرات المختلفة، فابن حزم حين يتحدث عن الحب لا يكاد يختلف عن الوشاء أيضاً حين يقول: " واعلم أن الحب مع ما فيه من المرارة والنكد وطول الحسرات والكمد مستعذب عند أربابه، مستحسن عند أصحابه، حلو لا تعدله حلاوة ولا تعدله مرارة " (2) أو حين يقول: " وأعلم أن الهوى عندهم هو الهوان الصراح والبلاء المتاح لأنه يهين الكريم وبذل العزيز ويدله العاقل " (3) ؛ من غير أن يكون ابن حزم قد اطلع على ما قاله الوشاء أو غيره، دع عنك القول بان ابن حزم إنما قال ما قال لأنه " إسباني " الإدراك والأحاسيس، وكذلك هو الشان في مظاهر أخرى، لا داعي إلى الإطالة بالوقوف عندها.
وليس من الصواب ان ننفي كتاب " الزهرة " من بين تلك الحوافز التي دفعت ابن حزم إلى كتابة الطوق، بل ان نقلل من قيمته في هذه الناحية، كما زعم الأستاذ غرسيه غومس حين يقول: " إنه على الرغم من إشارة نصية بسيطة ومن التوافق في الاتجاهات العاطفية، فإن الطوق
__________
(1) الموشى: 93؛ وانظر بحث الأستاذ غومس في المقارنة بين الموشى وطوق الحمامة.
(2) الموشى: 7667.
(3) الموشى: 69.(1/44)
لا يكاد يدين للزهرة بشيء، أو إن شئت يدين لها بشيء محدود للغاية. لقد تغربت النظرية " وتأسبنت " وفقدت تكلفها الواضح، وتحذلقها الخنث، وما كان يقال في بغداد نثراً رقيقاً أو شعراً ملتقطاً أخذ ابن حزم يقوله في شاطبة دافئاً وإنسانياً عن نفسه وعن أصدقائه في قرطبة، وأتت العاطفة واللهفة، وهما خاصيتان اسبانيتان، على أسوار التقليد التي تحول دون تدفق النبع " (1) . أما أن ما جاء به ابن حزم كان " دافئاً انسانياً " فذلك لا غبار عليه بل هو عين الحقيقة، وأما أن الطوق، " لا يكاد يدين للزهرة بشيء " فذلك هو الدعوى التي لا تثبت للمناقشة، كما سأبين بعد قليل.
وقبل أن أتقدم لإثبات وجهة نظري، علي أن أقرر أن التأثير لا يعني المحاكاة، فابن حزم لا يحاكي في الطوق كتاب الزهرة، فقد قام بتلك المحاكاة ابن فرج في كتاب الحدائق، حتى كاد يتفوق - أو هو تفوق حقاً - على سلفه المشرقي، وكان ابن حزم يدرك هذه المحاكاة، وينفر منها، في آن معاً، لأنه امرؤ لا يؤمن بالتقليد حسبما يمليه عليه اتجاهه الظاهري ولكنه فيما يبدعه لا يستطيع ان ينجو من التأثر، وبين التأثر والتقليد بون شاسع.
5 - أثر الزهرة في ابن حزم:
ولكن - على كل ما هنالك - كان ابن حزم يرى في ابن داود إماماً ظاهرياً يستحق التقدير، إماماً يكتب في الحب، دون أن يعبأ بنقد المتزمتين، ويستطيع في الوقت نفسه ان يتحول بالحب، رغم العذرية والأفلاطونية والصوفية، إلى مستوى إنساني واقعي، وهذا يعجب ابن حزم كثيراً، ويوافق مشاعره ذات المنزع الظاهري، ومن ثم فإنه لا يستطيع أن يتخلص من تأثير ابن داود، حتى لو حاول ذلك، وهذا التأثير قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً.
__________
(1) طوق الحمامة ترجمة غومس: 66 - 67 والطاهر مكي: 279 - 280، ونقله البرنس انظر ايضاً مكي: 160.(1/45)
لنقل بادئ ذي بدء ان الزهرة يحتوي فصولاً لا تربطها وحدة في المنهج، وان كل فصل لا يتجاوز رواية شعر متصل بموضوعه، وتعليقات على بعض ذلك الشعر، وان في بعض تلك التعليقات نظرات ذاتية نافذة؛ هذه المواقف كفيلة باظهار تأثر ابن حزم بكتاب الزهرة، فانعدام المنهج أو اضطرابه أوحى لابن حزم بتتبع منهج دقيق، ورواية الشعر دفعته إلى ان لا يستأنس بالموروث الشعري في موضوع الحب، وتلك النظرات النافذة هي ما استغله ابن حزم على نحو يتفق وطريقته ومنهجه، وتلك النماذج الشعرية هي التي قررت لديه " انسانية " تجربة الحب سواء أكانت تلك التجربة أندلسية أم غير ذلك.
ولابد لدارس كتاب الزهرة من أن يتجاوز تلك العنوانات الشعرية المسجوعة إلى الحقائق القائمة تحتها، ليستطيع المقارنة بينه وبين كتاب الطرق، وأن تجاوز أيضاً تبدد الموضوع الواحد في عدة فصول، لكي يرد ما تبدد إلى حيز واحد، يقتضيه المنهج الحزمي الدقيق. وسوف يكتشف أن الكتابين يعالجان موضوعات واحدة من مثل الرقيب، القنوع، الرسول، الواشي، الهجر، السلو الخ وأن كثيراً من الحقائق في هذه الفصول، وضعه ابن داود، وتابعه فيه ابن حزم، مستعملاً كثيراً من لباقته التأليفية، وعقليته المنطقية.
وخير ما يصور هذا الذي نقوله أن نعرض للمقارنات، بين الكتابين في بعض المواضع:
1 - يقول ابن داود (51) : والهجر الذي يتولد عن الثقة بالوداد خير من الوصال الذي يقع من غير اعتماد؛ ويقول ابن حزم: ثم هجر يوجبه التدلل وهو ألذ من كثير من الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه.
2 - ويقول ابن داود (136) " الهجر على أربعة أضرب: هجر ملال وهجر دلال وهجر مكافأة على الذنوب وهجر يوجبه البغض(1/46)
المتمكن في القوب، فاما هجر الدلال فهو ألذ من كثير الوصال وأما هجر الملال فيبطله مر الأيام والليال، إما بنأي الدار وإما بطول الاهتجار " ويؤسس ابن حزم على هذه القسمة فيجعل الهجر سبعة أقسام منها الأربعة التي عدها ابن داود كما يتحدث عن الهجر الذي يعد مكافأة على ذنب وعن هجر الملال ويحلل هذا الثاني تحليلاً دقيقاً ويورد عليه أمثلة، ويشفق فيما سماه ابن داود " هجر يوجبه البغض " فيتخلص من كلمة بغض، ويستعمل بدلاً من ذلك " الجفاء " و " القلى " واللفظة الأخيرة مبهمة لأنها تعني الهجر، فإذا قلت " هجر الهجر " لم تفد معنى واضحاً.
3 - ويتوقف ابن داود (155) عند السلو الناتج عن الغدر، فيراه غير معيب، لان السالي إنما ينفر عمن خالف شكله، ولكن عليه ألا يشنع بهذا الغدر على المحبوب أو يذيعه عنه، ويعود إلى الموضوع (170) فيرى أن الصبر أحياناً على الغدر يقع لدى بعض المحبين، لأن حالة المحب قد تجاوزت حد العشق إلى الرضى بكل ما يفعله المحبوب ولو كان غدراً؛ أي أن ابن داود لا يقطع برأي وإنما يجيز حدوث السلو أو بقاء الحب مع الصبر؛ ويتعرض ابن حزم أيضاً لظاهرة السلو الناتج عن الغدر فيرى ان السالي غير ملوم، ويحدد موفقه على نحو أدق إذ يلوم من يسبر عليه لأنه يرى ان الغدر لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم " ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذي الحفيظة والسري السجايا من الغدر، فما يصبر إلا دنئ المروءة خسيس الهمة ساقط الأنفة "؛ ومع مخالفته لابن داود فان الذي مهد له الانطلاق في هذه المخالفة هو ابن داود نفسه.
4 - ويرد ابن داود (163) أسباب السلو إلى: نيل المحب لما أمله، أو لملل بسبب جفاء المحبوب ومخالفته، أو من الغدر المطلوب، أو التأذي من رقيب وحاجب، أو بسبب سعاية واش وعذول ويفرع ابن حزم على هذه الأسس، فيجعل بعض الأسباب ناجماً من قبل المحب: ومنها الملل والرغبة في الاستبدال (وهي تقابل نيل المحب لما أمله وسعيه(1/47)
لتجديد حب آخر) ؛ وبعضها ناجماً من قبل المحبوب: مثل الهجر ونفار المحبوب وجفاء فيه ونزوع إلى الغدر وأخيراً سبب لا يتعلق بالمحب او المحبوب، وهو اليأس بسبب موت أو غيبة منقطعة أو عارض قتل السبب الذي من أجله نشأ الحب؛ وقد عقد ابن داود فصلاً خاصاً للحديث عن الياس، وتحليليه نفسياً وطبياً (1) (وذلك ما لم يتوقف ابن حزم عنده) ولكنه ربطه بالسلو، وأضاف إضافة هامة - لم يستطع ابن حزم معالجتها - حين ربط بين اليأس وبين الانتحار عن طريق ايراده لبعض الحكايات.
5 - ويعقد ابن داود (98) فصلاً للقنوع، يورد فيه نماذج من الشعر، ويعلق عليها بقوله " وكل هذه الأحوال ناقصة عن حد التمام "؛ ويعد ابن حزم مراتب للقنوع ستاً، يستخلص أحدها من الشعر، فيقول " وللشعراء فن من القنوع أرادوا فيه إظهار غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمرامي البعيدة. فمنهم من قنع بان السماء تظله هو ومحبوبه.. الخ " ثم يلمح انهم لم يبلغوا غاية التمام - كما فعل ابن داود، فيقول: " ولي في هذا المعنى قول لا يمكن لمتعقب ان يجد بعده متناولاً ولا وراءه مكاناً.. " (وذلك هو قنوعه بلقاء محبوبه في علم الله) ولا يخفى تدقيقه هنا في ملاحظة ابن داود، وتأثره بها.
6 - وفي الزهرة فصلان أحدهما في الحجاب (104) والثاني في الوداع (184) وقد جمعهما ابن حزم في حديثه عن البين، فيعد حجب المحبوب ومنعه من لقاء محبه بيناً. وابن داود هنا أدق لأنه قسم الحجاب في قسمين اضطراري واختياري، وجعل الحجب بالقوة سبباً اضطرارياً. وأما الحجاب الاختياري فمنه امتحان المحب للمحبوب والخوف عليه من الرقيب (ابن حزم: ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة) والإشفاق على النفس من العذال، واستيلاء الملال على نفس المحب. ولا
__________
(1) الزهرة 1: 335.(1/48)
يقف ابن حزم عند بعض هذه الظواهر لأن وضعه الوداع تحت اسم البين جعله يفكر في البين المتأتي عن الرحلة او عن الموت. وقد تنبه ابن داود إلى أن مواقف الشعراء من الوداع متفاوتة، فمنهم من يسارع إلى الفراق تغنماً لساعة الوداع لان فيه " عناقاً وانتظار اعتناق يوم التلاق " ومنهم من يصبر عليه ويتعمد ألا يشهد منظر الوداع إشفاقاً من ألمه؛ وقد فتح الباب بذلك لابن حزم كي يقول: ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك بحسن ولا صواب ولا بالأصيل من الرأي فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات.. الخ ".
7 - ويلتقي المؤلفان في كثير من الحقائق العامة التي عرضاها عند الحديث عن حفظ السر والاذاعة (البابان 12، 13 عند ابن حزم؛ والبابان 43، 44 في الزهرة) حتى ليلتقيان في بعض العبارات، فيقول ابن داود في من يطوي سره رغم مضاضة الكتمان " شديد الإبقاء على إلفه " (311) ويقول ابن حزم " وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه ". ويتفقان على أن المحب لا يملك أحياناً إلا البوح بسره لأنه يمتلكه من الوجد ما يغلبه أو بتعبير ابن حزم: " وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب ".
8 - ولا خلاف في ان ابن حزم حين يتحدث عن الحب من أول نظرة وعن الحب بعد المطاولة (الفصلان 5، 6) يعتمد تجارب عرفها عند غيره وفي نفسه، ولكن أصول هذا كله متوفرة في الزهرة (330) حيث يقرر ابن داود أن ما وقع من الهوى بأول نظر كان بقاؤه يسيراً وأما ما كان استحساناً ينمو على مر الأيام فإنه لا يزول - إذا قدر له ذلك - إلا ببطء؛ ويتبنى ابن حزم نفسه هذا الموقف حين يقول " وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا اجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة " ويقول في تصوير المطاولة: " فما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً " ويقابل هذا عند ابن داود قوله: كل شيء في العالم إن اعتبرته وجدت ما ارتقى إلى هذه الغاية القصوى بغير(1/49)
ترتيب انحط انحطاطاً طويلاً " (330) أو بقوله في من صعد إلى ذروة المحبة بأول نظرة: " فكلما كان ارتقاؤهم فيها سريعاً كان انحطاطهم قريباً " (335) .
9 - وفي باب الوفاء يجيء تأثر ابن حزم بابن داود ناحياً منحى المخالفة، فإذا قال مؤلف الزهرة: " فالمحبوب يكون موفياً لمحبه ويكون غادراً بعهده، والمحب لا يكون موفياً ولا غادراً وإنما يصلح أن يكون المحبوب موفياً وغادراً لأنه يأتيه مختارا " (362) (أما المحب فهو غير مختار إلا إذا زالت المحبة فعندئذ يمكن ان يوصف بالوفاء أو بالغدر) ، وجدنا ابن حزم ينطلق إلى النقيض بقوله: " واعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب وشرطه له ألزم، لان المحب هو البادي باللصوق والتعرض لعقد الأزمة.. فمن أجبره على استجلاب المقة إن لم ينو ختمها بالوفاء لمن أراده عليها ". ثم يلتقيان بالاشادة بالوفاء مع اليأس وخاصة بعد حلول المنايا، فيجعل ابن داود عنوان الفصل " قليل الوفاء بعد الوفاة اجل من كثيره وقت الحياة " (361) ويردد ابن حزم هذا المعنى فيقول: " وغن الوفاء في هذه الحالة (يعني بعد الوفاة) لأجل وأحسن منه في الحياة ومع رجاء اللقاء " (الفصل: 22) .
10 - ويتقارب المؤلفان من حيث المنحى العام في المقدمة والخاتمة، فكلاهما في المقدمة يتوجه إلى إلف عزيز، اقترح فكرة الكتاب ويتطرف ابن داود في المقدمة إلى ذكر الأنبياء ومن جرى عله حب منهم، ويخلص إلى القول: " والنبيون عليهم السلام والصالحون من أئمة أهل السلام يجل مقدارهم عن أن تذكر للعوام أخبارهم " (ص: 5) ؛ وكان رد الفعل لدى ابن حزم مخالفته في هذا إذ ذكر عددا من الخفاء المهديين والأئمة الراشدين والصالحين والفقهاء ". وهذا باب من تأثير كتاب الزهرة في ابن حزم، أعني مخالفته، إذا لم يقتنع بوجهة نظر صاحبه. وتحرز في بعض المواقف تحرز ابن داود حين قال: " وغنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به(1/50)
في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم " وبذلك قطع حبل الإطناب في هذا الموضوع. ثم ردد النظرية الفلسفية التي جاء بها ابن داود في الفصل الأول عن الأكر التي انقسمت. وأما الخاتمة فإنها اتجهت عند ابن حزم وجهة دينية أخلاقية، فيها تحذير من المعصية وإشادة بفضل العفة، في فصلين متعاقبين، مؤيدين بالأحاديث النبوية، والشعر الزهدي التخويفي التعليمي. وأما الخاتمة عند ابن داود فلها شأن آخر؛ إذ ليس في كتابه على التحقيق خاتمة؛ ولكن مؤلفاً يبدأ كتابه في ذكر العشق وأحواله ويجعل نصيب هذا الموضوع من كتابه النصف كاملاً، ثم يعد بخمسين باباً آخر يذكر فيها الموضوعات الشعرية الباقية من رثاء ومدح وفخر وهجاء ووصف الخ؛ ثم يجعل الفصول التالية للفصول في الحب مباشرة في تعظيم الله جل شأنه - في ما مدح به الرسول - فيما قاله شعراء الاسلام في أهل بيت النبي، أقول إن مؤلفاً يفعل ذلك إنما كان يحس بتوجيه ديني بعد إذ أحس أنه أسرف في جعل " الحب " يحتل نصف كتابه، ولهذا فمن باب الاعتذار غير المقنع قوله: إنه إنما بدأ بالغزل لان الشعراء تجعل التشبيب في صدر كلامها، وانه لا يريد في تأليفه أن يخرج عن مذهب الشعراء، وانه لا يصلح إذا انقضى ذكر التشبيب بالغزل ان يقدم على أمر الله عز وجل أمراً لوا يرسم بين يدي الأشعار الدالة على عظمته شعراً (1) . أقول: اعتذار غير مقنع لأنه كان في مقدوره ان يضم الأبواب الثلاثة إلى الفصول التي خصصها للثناء والمدح، ولكن قلقه من الإسراف في موضوع العشق حفزه إلى ما يشبه التمحيص أو التكفير، فبادر إلى إيراد فصل فيه ذكر عظمة الله تعالى؛ تماماً كما أحس ابن حزم ان من واجبه التنفير من المعصية والمدح للعفة، لكي لا يظن أن الفصول السابقة ربما أوحت بالبعد عن ذلك.
من أجل ذلك كله يصح القول إن حضور كتاب الزهرة في نفس
__________
(1) انظر الزهرة 1: 273.(1/51)
ابن حزم وذهنه، كان حضورا دقيقا، وأنا أقدر أنه حفظه في سن صغيرة حتى ظلت ذاكرته تستوعب منه عبارات مطابقة أو مقاربة؛ تأمل قوله: " وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول الفراق أخو الموت فقال بل الموت أخو الفراق " (1) ؛ تجده علق بذاكرته من كتاب الزهرة ثم أنسيه نصاً، فأداه بحسب المعنى، وأصله في الزهرة: " وقد قال الجاحظ: لكل شيء رفيق، ورفيق الموت الهجر، وليس الأمر كما قال بل لكل شيء رفيق، ورفيق الهجر الموت " (2) . ومثل هذا حدث له في إيراد الرأي الفلسفي حول انقسام الأصلي الأرواح الكريه، وقد ذكرت لك من قبل. فهذا التباين بين النص الأصلي والاقتباس لا يفسره إلا ان ابن حزم حين كان في شاطبة يكتب " طوق الحمامة " لم تكن لديه نسخة من كتاب " الزهرة، وإنما كان يستعيد بعض ما علق منه بذاكرته، وسنرى أثر كتاب " الزهرة " حتى في المنهج الذي بنى عليه كتابه.
6 - خطة الرسالة:
وحين استجاب ابن حزم لما اقترحه عليه صديقه ونوى أن يكتب " رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " دون تزيد او تفنن، أخذ يتصور خطة لتلك الرسالة، ولما كان يريد قول الحقيقة من غير تزيد أو تفنن، التزم بأن لا يورد إلا تجارب واقعية، مما وقع له هو نفسه أو مما وقع لغيره وحدثه به الثقات، وهذه الواقعية قد أبعدت عن رسالته حكايات الأسمار التي أدارها قصاص ذوو خيال - واسع أو ضيق - حول مشهوري العشاق، وأحداث العشق السالفة؛ وأنقذت رسالته من الجنوح إلى الخيالات مثلما أنقذنها رسالته من الجنوح إلى الخيالات مثلما أنقذتها من التردي في المبالغات، لان غايتها هي أن تصور لقارئها كيف يعيش الحب في الواقع، وفي الواقع الأندلسي على شكل خاص، كيف
__________
(1) باب البين (رقم: 24 ص: 215) .
(2) الزهرة: 137.(1/52)
تتجسد المشاعر والأحاسيس والشهوات والنزوات في الحياة العملية، وتكون جانباً من نشاط المجتمع. وهذه النزعة القائمة على التجريب تعني ان الرسالة ليست ذات غايات أخلاقية أبداً، وكل ما يحميها من التهاوي في بعض فجاجات الواقعية - وإن لم تسلم من ذلك سلامة مطلقة - إنما هي أخلاقية كاتبها، تلك الأخلاقية التي ستسفر عن وجهها عمداً في الخاتمة.
ولما كان الأعراب - من حيث أشعارهم الوجدانية وأخبارهم في العشق، يحتلون مقاماً هاماً في كتب الأدب المشرقية، ومنها كتاب " الزهرة " نفسه، رأى ابن حزم أن ينأى بكتابه عن هذه الناحية، وهذا لم يكفل لكتابه الواقعية التي التزم بها وحسب، وإنما أثر في منهجه تأثيراً واضحاً حين أعفاه من تكرار المواقف البدوية في الحب، فلم يعد بحاجة إلى أن يفرد فصولاً في البكاء على الطلول - وإن ألمح إليه إلماحاً - والأنس بالبروق اللوامع، وتلهب النيران والعافية والزجر وحنين الابل، إلى غير ذلك من مظاهر تحدث عنها ابن داود في الزهرة. وبذلك تم لرسالة " طوق الحمامة " وجه حضري قرطبي أندلسي. ويبدو أن تعلق ابن حزم " بحضارية " ذلك الوجه كان محتوماً، بسبب فقدانه " المدينة " التي أحبها كثيراً، أعني قرطبة؛ وهذا كلام يوهم بالتناقض، وتفسيره أن ابن حزم - ابن المدينة - فقد تلك المدينة وهو أشد تعلقاً بها، ولم يغص في سلبياتها فيثور عليها ويحن إلى حياة " رعوية " نقية، ولهذا تراه يستمد أمثلة التعفف من مجتمعها: " حدثتني امرأة أثق بها " و " حدثني ثقة من إخواني " (1) بينما هو يشكل في عفاف نساء الأعراب اللواتي طار لهن ذكر بالعفاف في الشعر القديم. فيقول: " وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على أنه يذكر
__________
(1) انظر الباب الأخير رقم: 30 ص 297.(1/53)
عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى " (1) .
ولما كان الحديث المتصل بالواقع قد يتناول أشخاصاً أحياء او أشخاصاً ذوي مقام اجتماعي مرموق، فإن ذكر أسمائهم متصلا بتلك الأحداث قد يسيء إلى سمعتهم أو يعد تشهيراً بهم، ولهذا اقتصر ذكر الأسماء على من لا ضرر في تسميتهم، إما لأن الحادثة مشهورة قد تناقلها الناس وعرفوا صاحبها فلم يعد ذكر اسمه زائداً في جلب الأذى لسمعته، وخاصة إذا كان هؤلاء الناس قد أصبحوا في ذمة التاريخ مثل: الرمادي وحكايته في حب " خلوة "، أو ابن زمان وحبه لأسلم، وغما لان المخبر عنه راض بنقل ذلك الخبر غير منكر شيئاً على ناقله. والأمر أسهل إذا كان المتحدث عنه إنساناً سيء السمعة، معروفاً بذلك بين الناس، قد بلغ من سقوطه حداً لا يؤثر فيه الذيوع، كما كان حال عبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الجزيري. وقد كان إخفاء الأسماء في بعض الأحيان - معيناً لابن حزم على التمثيل بالحادثة الواحدة في غير موضع، لحاجته إلى تأييد مقرراته أحياناً باللجوء إلى الواقع. وهذا محض استنتاج لا أجد عليه دليلاً قاطعاً، وإنما استأنس ببعض ما أراه دليلاً معقولاً، فمن ذلك مثلاً أنه يخفي الاسم مرة فيقول في حال صفاء محبين عدما الرقباء وأمنا الوشاة أنه يخفي الاسم مرة فيقول في حال صفاء محبين عدما الرقباء وأمنا الوشاة وسلما من البين ورغبا عن الهجر: " ولقد رأيت من اجتمع له هذا كله إلا أنه كان دهي في من كان يحبه بشراسة أخلاق ودالة على المحبة فكانا لا يتهنيان العيش ولا تطلع الشمس إلا وكان بينهما خلاف فيه، وكلاهما كان مطبوعاً بهذا الخلق، لثقة كل واحد منهما بمحبة صاحبه، إلى أن دبت النوى بينهما فتفرقا بالموت المرتب
__________
(1) آخر فقرة في الباب: 13 (باب الاذاعة: 152) . ونلحظ أن ابن حزم تخلص من الصبغة البدوية التي تطغى على كتاب الزهرة، كما تخلص من " التعليلات " الطبية شبه العلمية التي شغف بها ابن داود، ولم يستخدم معلوماته شبه العلمية إلا نادرا كالحديث عن المرايا والمغناطيس.(1/54)
لهذا العالم " (1) . ثم يذكر عن أخيه أبي بكر وزوجه عاتكة " أنهما كانا في حد الصبا وتمكن سلطانه تغضب كل واحد منهما الكلمة التي لا أقدر لها، فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاقب مدة ثمانية أعوام، وكانت قد شفها حبه وأضناها الوجد فيه " (2) ثم فرق بينهما الموت، وليس بمستبعد ان يكون الخبر في الحالين واحداً. ومثل ذلك أيضاً قد يستشف من أخبار رواها ابن حزم عن نفسه فقال مرة: دعني أخبرك أنني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر " (3) ثم قال: " وذلك أني كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي - كانت فيما خلا - أسمها نعم " (4) فهل " نعم " هي تلك الشقراء او هي غيرها اعتقد أن إخفاء الاسم في المرة الأولى ساعد ابن حزم على الاستشهاد بالواقع الواحد في موضعين متباعدين.
بل لعلي أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فأزعم ان ابن حزم كان يخفي اسمه أحياناً، لتتم له رواية الحكاية على وجه مقبول، لحساسية خاصة في طبيعة القصة. ولعل أقوى ما يمثل ذلك قصة المرأة التي أحبت في غير ذات الله عز وجل (5) فقد تفنن ابن حزم في وصفها أيام المودة، وفي وصفها بعد التغير بما ينبئ عن لذة داخلية عميقة باسترجاع ذينك الموقفين، ولا يحاول أحد أن يسترسل في وصف هاتين الحالتين على النحو الذي فعله ابن حزم إلا إن كان يصور علاقة ذاتية في الحكاية، أو كان قاصاً محترفاً، ولما لم يكن ابن حزم هو الثاني، فذلك يجعلنا نأخذ بالفرض الأول.
__________
(1) باب الوصل (رقم: 20 ص: 185) .
(2) باب الموت (رقم: 28 ص: 259) .
(3) باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها (رقم: 7 ص: 130) .
(4) باب البين (رقم: 24 ص: 223 - 224) .
(5) باب قبح المعصية (رقم: 29 ص: 281 - 283) .(1/55)
ثم ان ابن حزم رأى أن يلتزم في خطته بأمر آخر: وهو أن يستشهد في الرسالة بأشعار قالها هو لا بأشعار لغيره، ونبهنا إلى أن مضمون تلك الأشعار لا ينصرف دائماً اليه، لأن أصدقاءه كثيراً ما كانوا يكلفونه نظم الشعر في ما يقع لهم من أحداث. وهذا الالتزام متصل بطبيعة المؤلف لا بطبيعة الرسالة، ويبدو من أول الأمر تحكماً لا يسنده تعليل قوي: عل كان ابن حزم يعتقد أن إيراد أشعار الآخرين يبعده عن الواقع ويسلمه إلى الخيال هل كان يحس أن محفوظه من الشعر غزير وأنه إن تمثل بالشعر لم يكد يكتفي منه بالقطعة والقطعتين في الموقف الواحد، وبهذا تعود رسالته صورة أخرى من كتاب الزهرة أكبر الظن أنه شاء ان يبعد عن " الزهرة " قدر المستطاع ليلتقي بها في جانب آخر، ففي الزهرة أيضاً عمد ابن داود - فيما يرجح الدارسون - إلى إيراد شعره نفسه مع أشعار الشعراء الآخرين تحت عنوان مبهم هو " وقال بعض أهل العصر "، فرأى ابن حزم ان هذا عمل يتيح له الفرصة ليعرض شعر الصبا والشباب، بعد أن كان آخذاً بالتحول عن هذا اللون الوجداني من الشعر، كما اشرت من قبل.
بعد التقيد بهذه الالتزامات أصبح وضع منهج للرسالة أقرب إلىالتحقيق؛ ولا بد لذلك المنهج من ان يكون دقيقاً قائماً على تصور واضح مكتمل، لا كمنهج ابن داود الذي لم يؤسس على خطة سليمة، فتعددت عنده الفصول وتباعدت فيها النظائر: ووجد ابن حزم أن رسالته يمكن أن تقسم في ثلاثة فصول وخاتمة: فصل في أصول الحب (وهي عشرة) وفصل في أعراض الحب (وهي اثنا عشر) وفصل في الآفات الداخلة على الحب (وهي تجيء في ستة أبواب ثلاثة منها للأشخاص: العاذل والرقيب والواشي، وثلاثة للأحوال، الهجر والبين والسلو) وخاتمة من فصلين في قبح المعصية وفضل التعفف.
ويبدو بوضوح ان المنهج منطقي، ولكن كتابته على هذا النحو المتدرج تباعد بين الأمور المتوازية؛ فالوصل من أعراض الحب مثلاً، وضده(1/56)
الهجر وهو آفات الحب، وهما يقفان متباعدين إذا التزمنا بالمقولات الثلاث. لهذا بعد ان قرر ابن حزم هذا الهيكل المنطقي عاد فغير ترتيب الفصول بحيث يتوازى كل موضوع مع ضده إن وجد له ضد.
وقد حتم عليه هذا المنهج ان يستبعد موضوعات تتصل بالحب أو يجعلها هامشية بينما يعالجها غيره في فصول مستقلة مثل الشوق والحنين، والبكاء والعتاب والغيرة، ودرجات المحبة، ولا ريب في أن ابن حزم تحدث عن هذه الموضوعات، إلا أنه رآها تفريعاً على موضوعات أكبر منها، فجعل البكاء من علامات الحب، والمح إلى العتاب في مواطن، وتحدث عن غيرته هو وعن القنوع بالشركة في المحبوب لذهاب الغيرة وعن سقوط ابن الجزيري وغيره لسقوط الغيرة من نفوسهم، ولعله أدرك من بعد أن منهجه في الطوق لم يمكنه من تحديد بعض الأمور المتعلقة بموضوع الحب فعاد إلى " الغيرة " في رسالته " في مداواة النفوس " فحددها بأنها " خلق فاضل متركب من النجدة والعدل لان من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره وأن يتعدى غيره على حرمته، ومن كانت النجدة له طبعاً حدثت فيه عزة، ومن العزة الأنفة من الاهتضام " (1) وقرر هنالك ان الغيرة إذا ارتفعت ارتفعت المحبة (2) . فابن حزم إذن لا يمكن أن يفرد للغيرة باباً في رسالة عن الحب لأنها " خلق " ولكنه قد يتحدث عنها في معرض الحديث عن ظواهر معينة من الحب.
وفي رسالة مداواة النفوس توقف عند درج المحبة، وهو موضوع لم يتح له منهجه في الطوق أن يعالجه فقال: " درج المحبة خمسة أولها الاستحسان وهو أن يتمثل الناظر صورة المنظور إليه حسنة أو يستحسن أخلاقه، وهذا يدخل في باب التصادق، ثم الإعجاب وهو رغبة الناظر في المنظور اليه في قربه، ثم الألفة وهي الوحشة إليه متى غاب، ثم
__________
(1) رسائل ابن حزم: 141.
(2) المصدر نفسه.(1/57)
الكلف وهو غلبة شغل البال به، وهذا النوع يسمى في باب الغزل بالعشق، ثم الشغف وهو امتناع النوم والأكل والشرب إلا اليسير من ذلك وربما أدى ذلك إلى المرض أو التوسوس أو إلى الموت، وليس وراء هذا منزلة في تناهي المحبة أصلاً (1) ؛ والحق أن هذا التدرج أمر ضمني في تلك الفصول التي تحدث فيها ابن حزم عن التعريض ثم الإشارة بالعين ثم المراسلة ثم إرسال سفير، ثم في الموت، فلو أفرد الحديث عن درج المحبة هنالك لتعرض بعض أجزاء رسالته للتكرار والتداخل.
وكأن ابن حزم كان ما يزال تحت تأثير كتاب الزهرة عندما كتب رسالته " في مداواة النفوس " فقد ذكر ابن داود موضوع التدرج في المحبة حين قال: " فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثم يقوى فيصير مودة.. ثم تقوى المودة فتصير محبة ثم تقوى المحبة فتصير خلة ثم تقوى الخلة فتوجب الهوى ثم تقوى الحال فيصير عشقاً الخ " (2) وهما لا يتفقان في المصطلح، وإنما يتفقان في القول بأن التدرج أمر واقعي.
ولكن منهج ابن حزم على منطقيته، بل سبب منها، لم يستطع أن يتلاقى التداخل، وكيف يمكن ذلك في موضوع عاطفي مثل الحب، تولته المصطلحات اللغوية المتداخلة المتقاربة بالتحديد، قبل أن يحاول العقل رسم حدود له ولهذا أمكن الحديث عن الملل والهجر والغدر وما أشبه في غير موطن واحد من طوق الحمامة، ولكن الذي يخفف من التكرار والتداخل أن ابن حزم لم يكن غافلاً عنه، بل كان وعيه الدقيق للمبنى الكلي مسيطراً في كل مرحلة.
7 - بين النظرية والتطبيق:
لم يقبل ابن حزم بالرأي الذي أورده ابن داود وهو أن الأرواح أكر مقسومة في العالم العلوي، وأن كل قسم يحن إلى نظيره؛ بل عدل فيها
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) الزهرة: 19 - 20.(1/58)
ليقول إن النفوس تنقسم في هذه الخليقة (لا في عالم علوي) وأنها ليست أكراً (ولكنه لم يحدد لها شكلاً) وأن عنصرها رفيع، فالحب اتصال بين تلك الأجزاء، على أساس من المجانسة والمشاكلة (وهو ما لا ينفك ابن داود من تكريره في كتابه وذلك ما قال به المتكلمون في مجلس يحيى ابن خالد) وذلك سهل على نفس تنزع إلى نفس لان عالمها صاف خفيف وجوهرها صعاد معتدل، فالحب إذن تقارب بين النفوس وليس منشؤه استحسان الصورة الجسدية إذ لو كان الأمر كذلك لما استحسن محب صورة جسدية ناقصة، ولو كان الأمر لتوافق في الأخلاق لما أحب المرء من يخالفه.
وقد كانت هذه البداية مصدر اضطراب لدى ابن حزم لا ندري سببه، ولعله اضطراب في النسخة التي وصلتنا (1) ، فبعد أن أكد أن انقسام النفوس يتم في هذه الخليقة عاد يقول إن قوله المسطر في صدر الرسالة هو " إن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي ". وبعد أن قرر أن الاتصال يتم بين أجزاء النفوس المتشاكلة، وأنه ليس استحساناً جسدياً ولو كان كذلك لما أحب امرؤ صورة ناقصة، عاد يخبرنا ان الحب يقع في الأكثر على الصورة الحسنة، لأن النفس الحسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فإذا وجدت وراء الصورة (الجسدية) الحسنة مشاكلة اتصلت وصحت المحبة، فان لم تميز شيئاً توقفت عند حب الصورة؛ وهذا يعني أن الحب يبدأ باستحسان الصورة الجسدية الحسنة، وأن محبة الصور الناقصة أمر نادر.
هذا هو شأن الحب الذي يسمى العشق، فهو امتزاج نفساني، فان قيل لماذا يحب المرء محبوباً ثم لا يبادله المحبوب ذلك فالجواب عند ابن حزم ان النفس المحبوب في هذه الحالة تكون قد أصبحت أسيرة الأغراض الكثيفة والطبائع الأرضية، مغمورة بالحجب، فهي " ساكنة " في ظلمة
__________
(1) قوله: " لا على ما حكاه ابن داود " فلو حذفنا " لا " لزال بعض ذلك الاضطراب.(1/59)
(متقبلة لا مهاجمة) ولهذا لا تستثار إلا بعد محاولات من ايصال المعرفة إليها وتنبيهها من غفلتها لتستطيع التجاوب مع روح المحب التي تكون متخلصة غير مأسورة، طالبة لنظيرها " متحركة " (مهاجمة لا متقبلة) جاذبة مشتهية لتمام التلاقي. ومثل هذا الفهم يؤكد لابن حزم أن الحب " عملية " تتطلب زمناً متطاولاً، وتكراراً في ايقاظ نفس الصنو، فأما ما يتم بسرعة من جراء الاستحسان الجسدي، أو ما يسمى الحب من النظرة الأولى فذلك هو " الشهوة "، ولهذا التجاذب بين الصنوين لا يصح ان يحب المرء اثنين في آن معاً. ولكن " الشهوة " نفسها قد تتحول إلى حب، إذا زادت عن حد الرضى الجسدي، واجتمعت تلك الزيادة مع اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس.
إذن فنحن ازاء نظريتين في الحب، لا نظرية واحدة، وقد لفهما ابن حزم لفاً سريعاً، وكأنهما ظاهرة واحدة وكأن احداهما تكمل الأخرى. والواقع أن هنالك حباً بين نفسين، وهو حب علوي، لا مدخل فيه للاستحسان الجسدي، وهنالك حب يبدأ بالاستحسان الجسدي، وهو شهوة، ثم تصعد الشهوة بالرضى الجنسي أو ما أشبهه لدى المحب والمحبوب (كقصة الرجل الذي كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حبه، بل ربما كرهته، وسرعان ما يتحول الكره إلى كلف شديد لأنه كان بطيء الإراقة، تقضي المرأة شهوتها معه مرة أو مرتين) فتوافق الشهوة أخلاق النفس، فتنشأ المحبة. وعلى الرغم من غموض في عبارة " توافق أخلاق النفس " فان البون شاسع جداً بين النظرية الأولى والثانية، لأن النفسين في الحالة الثانية لم تتعارفا إلا بعد تعارف الجسدين، وليس من الضروري ان تكونا منقسمين في عالمها العلوي، فإذا أقررنا بهذا الاحتراس، انتقضت النظرية الأولى، وهي منقوضة منذ البداية، لأنها لا تستطيع ان تفسر حالات الحب في الواقع كما عرضها ابن حزم. ومثال واحد على ذلك يعد كافياً في هذا المقام: ابن حزم نفسه الذي لم يكن يؤمن إلا بالحب بعد تطاول الزمن، أحب أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً، فهل(1/60)
كانت نفسه تبحث عن صنوها فتجده في كل أنثى من الأربع تباعاً أو أنه عن طريق الاستحسان الجسدي كان يسلك الطريق إلى قلب المحبوب من الواضح أن الأمر الثاني هو الأصح، وهكذا يقال في الحكايات الكثيرة التي أوردها في كتابه؛ ولهذا يسقط القول بان الحب عند ابن حزم أفلاطوني.
ويعطي ابن حزم للحب الأول قوة الانطباع المحفور في الذوق إلى الأبد، فبعض الناس إذا أحب فتاة وقصاء او فوهاء أو شقراء جرى ذوقه طول حياته - على استحسان ما ألفه من صفة مميزة في محبوبه الأول إذا فقده، ويعلل ذلك بالحنين إلى الحب الأول.
ويتميز الحب الذي يسمى عشقاً عن سائر ضروب المحبة - في رأي ابن حزم - بأنه لا يفنى إلا بالموت، وانه يتقبل الخبل والوسواس وتبدل الطبائع والنحول والزفير، أي أنه لا ينقضي لأن علته دائمة (وهي في زعمه اتصال بين النفوس) بينما تقتضي ضروب المحبة الأخرى بانقضاء عللها. ومن تلك الضروب:
1 - محبة المتحابين في ذات الله.
2 - محبة القرابة.
3 - محبة الألفة والاشتراك في المطالب.
4 - محبة التصاحب والمعرفة.
5 - محبة البر يضعه المرء عند أخيه.
6 - محبة الطمع في جاه المحبوب.
7 - محبة المتحابين لسر يلزمهما ستره.
8 - محبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر.
وقد ترقى ابن حزم من هذه النظرة إلى القول (في رسالته: مداواة النفوس) بان المحبة ليست ضروباً وإنما هي جنس واحد، وغنما قدر الناس أنها تختلف لاختلاف الأغراض، واختلاف الأغراض فيها ناشئ(1/61)
عن اختلاف الأطماع، وعد هنالك ضروباً منها ثم قال: " فهذا كله جنس واحد على قدر الطمع فيما ينال " (1) .
ويضيف قائلاً: " فقد رأينا من مات على ولده كما يموت العاشق أسفاً على معشوقه، وبلغنا عن من شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات، ويتدرج الطمع من الحظوة والزلفة لدى المحبوب (كما في حب الإنسان لله) إلى المجالسة فالمحادثة فالمؤازرة (محبة السلطان والصديق وذوي الرحم) وأقصى الطمع المخالطة بالأعضاء: " ولذلك نجد المحب المفرط في ذات فراشه يرغب في مجامعتها على هيئات شتى وفي أماكن مختلفة ليستكثر من الاتصال " فإذا انحسم الطمع لم تكن محبة، فالمجوسي يستحل ابنته واليهودي ابنة أخيه، للطمع الموجود، ولكن المسلم لا يفعل ذلك ولو أنهما أجمل من الشمس وكان هو أعهر الناس وأغزلهم، لذهاب مادة الطمع، (2) ؛ وهكذا غابت تماماً نظرية الاتصال بين النفوس وحل محلها التلاحم الجسدي، على أشكال شتى. وكأننا بابن حزم بعد عهد " طوق الحمامة " أصبح أكثر إدراكاً لواقع العلاقات الإنسانية.
بل أزيد فأقول إن مفهوم الحب الأفلاطوني، حتى في عهد الطوق لم يكن يلائم ابن حزم، وإنما كان مادة دخيلة على واقعيته الشاهرة، ولعله أخذ بالفكرة من زاوية فلسفية، فلما راح يسرد نماذج من تجارب الحياة، لم يجد بين الفكرة والواقع لقاء. وحسبك من امرئ يعترف بان " الاغتصاب " يكون أحياناً طريقاً لتحقيق الحب، ماذا تراه يعني حين يقول: " وربما اتبع المحب شهوته وركب راسه، فبلغ شفاءه من محبوبه، وتعمد مسرته منه على كل الوجوه، سخط أو رضي " (3) ، اترى هذا يعني غير التحكم القاسر، وتنفيذ الإرادة التي لا رد لها!
__________
(1) رسائل ابن حزم: 138.
(2) المصدر السابق: 138 - 139.
(3) باب المخالفة (رقم: 15 ص: 160) .(1/62)
وإذا كان انقسام النفوس في عالمها العلوي (أو في هذه الخليقة) انقساماً يوازي الآية القرآنية: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها " فأين يمكن ان يقع في سياق تلاقي الأجزاء حب الذكر للذكر (1) وإذا كان ذلك في أصل تجزئة النفوس فلماذا لم تكن سبيلاً إلى السكون ولقد أقر ابن حزم - على مستوى الواقع - بوجود هذا النوع من الحب، اعني انه ذكر " أحداثاً " بعضها معروف مشهور تتصل بذلك النوع، ولم يحاول ان يعللها - او يقرر إلى أين تنتهي - على أساس من فكرة انقسام النفوس، او حتى على أساس الاستحسان الجسدي الذي يؤدي إلى اتصال النفوس.
إن الاعتماد على فكرة انقسام النفوس (في عالمها العلوي أو في الخليقة) - وهي على الأساس الافلاطوني أو الأفلوطيني أجزاء من النفس الكلية المتصلة بالأول - لا يلبث لدى ابن حزم ان يتهاوى، لأننا نكتشف لديه ان النفس تعني عنده " الأمارة بالسوء "، وهذه تنقاد للشهوات، وضدها العقل (وقائده العدل) ؛ وهاتان الطبيعتان - العقل والنفس - قوتان من قوى الجسد الفعال بهما، وهما في تنازع مستمر، فغلبة العقل تعني اتباع العدل والاستضاءة بنور الله، وغلبة النفس تعني عمى البصيرة وضياع الفرق بين الحسن والقبيح " والروح واصل بين هاتين الطبيعتين وموصل ما بينهما " (2) ؛ وإذا فإن النفس التي يعرفها ابن حزم ليست قوة نورانية تحيط بها ستور الجسد وتحجب عنها التعرف إلى صنوها، كما قال في أول الرسالة، بل هي التي تؤدي إلى هلكة الإنسان، ورغم ذلك فإن ابن حزم يسميها هي والعقل " جوهرين عجيبين رفيعين علويين " وهكذا يضطرب ابن حزم اضطراباً واضحاً ويزيد من اضطرابه هنا تفرقته بين
__________
(1) ليس في طوق الحمامة أي شاهد على حب الأنثى للأنثى، مع ان الشواهد الأدبية التي يعرفها ابن حزم ولا بد مليئة بنماذج من هذا النوع، وانظر ص: 67.
(2) الباب: 29 (قبح المعصية ص: 268) .(1/63)
النفس والروح، مع أنه يقول من بعد: " والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد " (1) .
إن هذا الصراع بين المفهوم الأفلاطوني للنفس والمفهوم القرآني، يقابله صراع آخر بين ابن حزم الاجتماعي الواقعي وبين ابن حزم الأخلاقي المتدين، فالأول منهما لا يؤمن بان النظرة الأولى لك والثانية عليك (2) ، ويقترب من المرأة بحيث يتجاوز نص الحديث " باعدوا بين انفاس الرجال والنساء " (3) ، والثاني يؤمن بعكس ذلك تماماً، إيماناً نظرياً فهو يقول: " والصالح من الرجال من لا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة التركيب " وفي سلوكه العملي يكرر النظر حتى ترسخ العلاقة ويلاحق المرأة من مكان إلى آخر، ويقول في السفير: ويجب تخيره واستجادته واستفراهه " (4) وكلمة " يجب " تدل على ان الأمر عملياً لابد من ان يقع، رغم أن المتدين القابع في نفس ابن حزم يقول: " وكم داهية دهت الحجب المصونة والأستار الكثيفة والمقاصير المحروسة والسدد المضبوطة " يعني من مثل ذلك السفير.
هنالك إيمان قار لدى ابن حزم وهو أن التعفف أمر عسير، ولا يملك - وهو يحض عليه - أن يجزم بأن من نجا في امتحان تحقيق الرغبة عند إمكانها لا يتعدى أحد سببين: طبع ليس من السهل استدراجه في لحظة أو كلمة وكلمتين، ولكن لو طال الامتحان لسقط فيه الممتحن، وبصيرة حادثة - على المكان - قهرت الشهوة وردتها إلى جحرها وأطفأت بنفخة قوية شعلتها، وهذا الإيمان مبني على ان بني الإنسان ذوو " بنية مدخولة ضعيفة " وأن استحسان الحسن وتمكن الحب طبع في أصل
__________
(1) الفصل 5: 74.
(2) الباب: 29 ص: 271.
(3) الباب السابق ص: 275.
(4) الباب: 11 ص: 141.(1/64)
الخلقة (1) ، ولما كان كذلك لم يكن واقعاً تحت الأوامر الدينية، إنما الأمور الدينية تنص على المحرمات، وهذه ليست من بنية الخلقة وإنما يأتيها الإنسان باختياره " وبحسب المرء المسلم ان يعف عن محارم الله " (2) . والسؤال الذي لا نظن ابن حزم يستطيع أن يجيب عنه هو: كيف يعف مع تلك البنية المدخولة الضعيفة، أو كان طبعه من السهل أن يستدرج في كلمة أو كلمتين، أو لم تحدث له بصيرة عاجلة تقاوم ثورة الشهوة لديه في حينها، أي لم يكن نبياً مثل يوسف الصديق! إن ابن حزم يحل هذه المشكلة ويأتي بالجواب على المستوى الذاتي حين يقول: يعلم الله - وكفى به عليماً - أني برئ الساحة سليم الأديم صحيح البشرة نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا " (3) ، ولكنه حين يقص كيف تورط الآخرون، يستعيذ بالله مما فعلوه، أو يورد الحكاية دون تعليق.
فليس بمستغرب إذ أن تجد فقيهاً مثل ابن قيم الجوزية يتعقب هذا التناقض لدى ابن حزم إذ يقول: وذهب أبو محمد ابن حزم إلى جواز العشق للأجنبية من غير ريبة، وأخطأ في ذلك ظاهراً، فإن ذريعة العشق أعظم من ذريعة النظر وإذا كان الشرع قد حرم النظر لما يؤدي إليه من المفاسد فكيف يجوز تعاطي عشق الرجل لمن لا يحل له " (4) ثم وصف ابن حزم بأنه " انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة " (5) وبين موقفي الرجلين بون واضح، سببه اختلاف المنطلق وزاوية النظر، ولا ريب في أن اقربهما إلى حقيقة الاجتماع
__________
(1) الباب: 12 (طي السر ص: 145) .
(2) الباب السابق نفسه ص: 144.
(3) الباب: 29 (قبح المعصية: 272) .
(4) روضة المحبين، 88، 89 وانظر أيضا: 118.
(5) روضة المحبين: 130.(1/65)
الإنساني هو ابن حزم، لأنه يأخذ بنظرة المؤرخ الاجتماعي دون أن يتخلى عن حد هام في الموقف الديني وهو " البعد عن الكبيرة " وما عداها فقد يكون من اللمم الذي يشمله الغفران، ولولا الفصل الذي عقده ابن حزم عن " قبح المعصية " لما اضطر إلى أن يظهر بمظهر المتناقض أحياناً في رسالته، فهي رسالة ترصد العلاقات العاطفية والمواقف النفسية.
ولو أنا رصدنا فيها ظاهرة الحب كما تتمثل في المجتمع الأندلسي، لخرجنا من ذلك بالجدول الآتي:
1 - حب بين ذكر وأنثى: 40 حالة (منها 6 حالات تعد المرأة فيها طالبة، ومنها 11 حالة تتحدث عن زوج وزوجة) .
2 - حب بين ذكر وذكر: 7 حالات (3 منها ذكر فيها المحب والمحبوب، وحالتان ذكر فيهما المحب فقط، وحالتان أبهم فيهما اسم المحب والمحبوب) .
3 - حالت مبهمة (1) : 23 حالة.
وهبنا تغاضينا في هذا الإحصاء عن أن المثل الواحد يصح شاهداً في عدة مواضع، وقبلنا بالأرقام كما جاءت، فإن الحالات المبهمة لا تمكننا من البت بنسبة ما يسمى الحب الشاذ إلى الحب الطبيعي، ولكننا إذا قدرنا أن هذه الإبهام متعمد فان ذلك قد يرفع من نسبة الحب (رقم: 2) في الجدول الي ما يزيد عن 50./.، مع علمنا بأن المجتمع الأندلسي مجتمع تغلب عليه الجواري (2) ، أو إن شئت قلت إنه مجتمع " غير مغلق ".
وكل هذه الحالات في " طوق الحمامة " نماذج لما يسمى العشق،
__________
(1) يعني ليس فيها ما يدل على أن المحبوب أنثى أو ذكر لغموض التعبير، كأن يقول: فتى وحل في الحب، محبوبه يعده الزيارة. الخ.
(2) لا علاقة لهذا الحكم بلفظة " جارية " كما وردت في رسالة طوق الحمامة، في هذا الموطن، وانظر الحديث عن ذلك فيما يلي.(1/66)
أو ما وضعه تحت مفهوم " اتصال النفوس " (مباشرة أو عبر الأجساد) ، وقد كان في كل ذلك أميناً للموضوع الرئيسي في الرسالة، عير أنه كثيراً ما يلجأ إلى انتزاع أمثلة لا علاقة لها بالعشق، وإنما هي تنتمي إلى ضروب الحب الأخرى، كالمودة بين الاصدقاء، وحب الماضي الذي يمثل الغي والجاه " وغن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء " (1) ، وما يألفه المرء من ملبوس ومطعوم ومركوب وهذا أدخل في عنوان الرسالة " في الألفة والألاف " ولكنه يبدو هامشياً إزاء الموضوع الرئيس فيها؛ ولعل ابن حزم اختاره ليقوي معنى سيطرة العلاقات العاطفية جملة على مواقف الفرد. ولكن من اللافت للنظر ان الكتاب خال تماماً من أية إشارة إلى حب الانثى للأنثى (2) ، مع أن ابن حزم يتبجح في غير موطن بأنه وقف من أسرار النساء على ما لم يقف عليه أحد؛ فشهادة ابن حزم هنا على المجتمع الأندلسي تعد ناقصة.
وهي أيضاً شهادة محدودة، لأنها لا تصور المجتمع الأندلسي، ويجب أن لا تؤخذ كذلك؛ فإن اكثر الأحداث التي تستشهد بها إنما تتم - في الغالب - بين أناس من طبقة اجتماعية غنية، ومن هذه الطبقة أسر من موالي الأمويين - أي من سراة الناس وأصحاب المناصب العالية مثل بني حدير وبني عبدة وبني مغيث، ومنها رجال من البيت الحاكم أو من المقربين منه مثل ابن أبي عامر وعمار بن زياد مولى المؤيد هشام وعبيد الله بن يحيى الجزيري وبنت ابن برطال زوجة يحيى بن محمد بن الوزير يحيى، وعاتكة بنت قند صاحب الثغر الأعلى وزوجها أبو بكر ابن حزم (وأبوه وزير) ، وابن الطبني من أسرة مقربة إلى العامريين، ومنها أفراد من أسر الكتاب - وهي اسر ذات مقام اجتماعي بارز، وأحياناً كثيرة تتمتع بكثرة الأموال العريضة والخدم والحشم؛ ولا يفتأ ابن حزم
__________
(1) الباب: 6 (من لا يحب إلا مع المطاولة: 125) .
(2) أشار الدكتور الطاهر مكي الى هذه المسألة في كتابه " دراسات.. " ص: 338.(1/67)
يميز المحب أو المحبوب بصفة تدل على منزلته الاجتماعية: " فتى من أهل الجدة والحسب " " فتى من أبناء الرؤساء "، " فتى من أبناء الملوك " " جارية لبعض الرؤساء " " امرأة موسرة ذات جوار وخدم " " فتى بسبب من الرئيس والجارية تحضر مجلس بعض أكابر الملوك " وهكذا، ومرة يذكر حب شاعر لا ينتمي إلى الطبقة الثرية (وهو الرمادي) وإن كان من طبقة برجوازية بحكم ثقافته، واخرى حب ن علق بهوى وهو في حال شظف (ولعل ذلك الشظف كان مرهوناً بظروف معينة) . وذلك هو القطاع الاجتماعي الذي عرفه ابن حزم بحكم منتماه ونشأته.
وفي هذا القطاع تكثر الجواري، والجارية لفظة تدل في قصص الحب على " الفتاة "، فإذا رشحت بنوع من الوصف يميزها قطعنا أنها ليست حرة، كأن يذكر أنها بيعت أو أعتقت، أو يتحدث عنها بصفة التملك " جارية لي " " جارية لي " فرغب بعض عجائزنا إلى سيدتها " وما أشبه، وإذا رشحت بوصف من نوع آخر كانت حرة مثل " جارية من ذوات المناصب والشرف من بنات القواد " أو " امرأة من معارفي ومعها جارية من قراباتها " فمثل هذا التحديد يعين أنها حرة. ومن بين إحدى وثلاثين حالة ذكرت فيها الجواري نجد تسع عشرة منها من الرقيق، واثنتين من الحرائر، واحدى عشرة حالة مبهمة ليس من السهل أن نقطع إلى أي الفريقين تنتمي؛ وهذا كله يعتمد على ورود اللفظة نفسها في النص، فإذا أضفنا إلى ذلك أن اللواتي تزوج بهن بعض الأمراء والخلفاء مثل طروب وغزلان وصبح كن في الأصل جواري من الرقيق، ارتفع العدد كثيراً، ولهذا قلت فيما تقدم إن المجتمع الأندلسي كانت تغلب عليه الجواري، بمعنى أن الرقيق كان كثيراً، وتلك حقيقة تؤيدها المصادر الأخرى.
ولست هنا بصدد المقارنة مع ما كانت عليه الحال في المجتمع المشرقي، إذ ليس لدي تصور إحصائي أو شبه إحصائي يمكن من ذلك، ولكن إذا صح ان الجواري كن يغلبن على المجتمع الأندلسي فإن(1/68)
" قضية الحب " تقع تحت منظور جديد، وكذلك تكون المعاناة والعذاب والوجد بسببه أموراً تتطلب تفسيراً مقنعاً. وأول ظاهرة في هذا الحب أن أكثر الذين يعانون منه هم " الأبناء " في العائلات التي تملك الجواري، إذ يبدو بالإضافة إلى الجواري اللواتي كن في ملك الفتى ابن حزم - وهو لم ينفصل عن أهله بعد - أن القصر كان مليئاً بجوار أخر تتطلع أنظاره اليهن، وذلك يمكن أن يقال في فتيان آخرين من أبناء تلك الأسر، وكان ذهاب الجارية بالبيع، أو استئثار أخ دون أخيه الآخر بها، أو فراق أحدثته الحروب والأزمات، أو شؤون السفر، هي الأسباب التي رفعت درجة المعاناة إلى حد الخبل أحياناً، كما كان تعالي الفتى أو غفلته عما تحس به الجارية نحوه مسبباً في خروجها عن حد الحياء المنتظر في تصرفاتها. ولكن أشد الحالات التي تعز على التفسير هي معاناة الفتى بسبب تمنع جارية هي في ملك يده، وقد عبر ابن حزم عن هذه الظارهة حين قال: " فقد ترى الإنسان يكلف بامته التي يملك رقها ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها. فكيف الانتصاف منها ". أي انه يكلف بها، ولا يستطيع أن يحولها عن تمنعها ويتعذب بذلك (كما حدث لسعيد بن منذر ابن سعيد) وترفض الجارية ان تتزوجه، وهذا موقف يدل على إرهاف في العلاقة بين الأسياد والجواري، مثلما يدل على ان شخصية الجارية لم تكن دائماً محط إذلال، وخاصة حين يكون الأمر متصلاً بالعواطف، نعم قد يبيعها سيدها، وتصبح ملكاً لغيره، ولكنها هي لا تمنح محبتها بل ولا جسدها بحكم الملكية. ويجب هنا أن نتذكر أن الجواري كن أيضاً متفاوتات في المنزلة الاجتماعية، فمنهن اللواتي يتخذن للخدمة ومنهن اللواتي يتخذن للذة والنسل، والفريق الثاني بطبيعة الحال أرفع منزلة من الأول، ولكن إن شاءت الجارية ان تتحول من الحالة الأولى إلى الثانية فهذا ربما كان يعتمد على جمالها وعلى ما قد تحاول إتقانه من فنون، فأما تحولها من الثانية إلى الأولى فأمر مستهجن في عرف المجتمع حينئذ، وقد ينالها(1/69)
الضرب رجاء استبقائها على حالها، ولدينا مثال واحد يشير إلى وفاء جارية بيعت بعدما مات سيدها الأول فأبت أن تنصاع لرغبة مالكها التالي، وانكرت علمها بالغناء ورضيت بالخدمة رغم ما نالها من ضرب وتعذيب (1) .
8 - حال المرأة من خلال طوق الحمامة:
هل يمكننا بعد ذلك أن نتحدث عن وضع المرأة عامة من خلال الطوق قد كان من الممكن أن تسعفنا هذه الرسالة على تكوين صورة دقيقة لنفسية المرأة ووضعها الاجتماعي بحيث تتجاوز الصورة ما ألف عن الانطباعات العامة، لأن مؤلفها قد علم من أسرار النساء ما لا يعلمه غيره، فهو قد ربي في حجورهن، ولم يجالس سواهن حتى أصبح في حد الشباب، وهن اللواتي علمنه القرآن وروينه كثيراً من الأشعار ودربنه في الخط، وكان همه منذ الطفولة ان يتعرف إلى أسبابهن ويبحث عن أخبارهن، مع ذاكرة لا تنسى (2) ؛ ولكنه يعترف أنه طبع على غيرة شديدة، وسوء ظن في المرأة (3) ، بحيث لا يصلح أن يكون شاهداً موضوعياً مجرداً من التحيز، وثمة شيء آخر وهو أن الطوق يتحدث عن العلاقات العاطفية ولا يتجاوزها إلا قليلاً، ولهذا السبب ستكون صورة المرأة فيه محدودة، في إطار ذلك الموضوع، ومع ذلك فإنها رغم ذلك هامة.
وأول ما يلفت النظر ان المرأة الحرة كانت في الأندلس مقصورة تعيش خلف حجاب غليظ، وخاصة في الأسر الغنية، ولعلها تشبه في ذلك أختها في المشرق، وأما ما نلمحه من حرية في الحركة فيكاد يكون مقصوراً على الجواري، ولكن المرأة الحرة في تلك الأسر كانت ذات
__________
(1) باب الوفاء (رقم: 22 ص: 208) .
(2) الباب: 17 (المساعد من الاخوان: 166) .
(3) انظر ما تقدم، وكذلك الباب: 29 (باب قبح المعصية: ص 272) .(1/70)
سيطرة وقدرة على التصرف، وهي محفوفة بالخدم والحشم. وقد أحدث ذلك الحجاب الغليظ لدى النساء يقظة عاطفية على الأصوات المسموعة والصور المتخيلة، حتى ميزهن ابن حزم بالضعف في هذه الناحية، لسرعة إجابة طبائعهن إلى الهيام عن طريق التخيل (1) . ولكن الحجاب نفسه، ولأسباب أخرى في البنية الاجتماعية أصبح السفير بين العاشقين ذا دور هام، ولكن المرأة تتفوق على الرجل في هذه الناحية، خاصة إذا كانت عجوزاً، ولذلك كان أرباب الأسر بقرطبة يحذرون الفتيات الناشئات من النساء ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبين الأحمرين (2) .
وأكبر عامل يصنع الفرق بين الرجال والنساء ويمتد اثره إلى المناحي المختلفة في طبيعة كل منهما هو الفرق في العمل وأنواع النشاط، فالرجال مشغولو النفوس والعقول بجمع المال وصحبة السلطان وطلب العلم وحياطة العيال ومكابدة الأسفار والصيد وضروب الصناعات ومباشرة الحروب وملاقاة الفتن وتحمل المخاوف وعمارة الأرض (3) ، ومثل هذه الأمور لا تترك للرجل مجالاً كبيراً أو وقتاً كثيراً للانسياق وراء العواطف؛ أما المرأة فهي متفرغة لا تعنيها هذه الشؤون العنيفة وربما لم تطقها، ولهذا يظل خيالها مشدوداً إلى شؤون الغزل وما يتعلق به، ومن ثم كانت النساء أكثر تعاطفاً مع المحبين وأكثر إسعافاً لهما، فهن يكتمن الاسرار، ويمقتن من تفشيها منهن، وأشدهن في الكتمان العجائز منهن، لان الفتيات ربما أدركتهن الغيرة فبحن بالسر، وهن يتلذذن بالتضحية في سبيل إسعاد محبين، بل أحب الأعمال إلى امرأة صالحة مسنة منقطعة الرجاء من الرجال ان تسعى في تزويج يتيمة أو تعير حليها أو ثيابها لعروس فقيرة (4) ، ويبدو ان هذا النوع من النساء إنما ينتمي إلى طبقات ميسورة، إذ ليس كل النساء
__________
(1) باب من احب بالوصف (رقم: 4: 117) .
(2) باب السفير (رقم: 11: 141 - 142) .
(3) باب المساعد من الاخوان (رقم: 17 ص: 165) .
(4) الباب السابق نفسه.(1/71)
متفرغات بشهادة ابن حزم نفسه، وإنما كان فيهن الطبيبة والحجامة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والعاملة في الغزل والنسيج (1) ؛ ولكن من الواضح أيضاً أن هذه الفئة من المهن تختلف اختلافاً أصيلاً في أكثرها عن مهن الرجال، وهي في مجموعها مهن لخدمة النساء أنفسهن، محافظة على الحجاب الغليظ، كما أنها مداخل إلى ترسيخ الوساطة بين العشاق.
ومن السهل أن يقال بعد ذلك إن جمال المرأة - على مستوى التكوين الطبيعي والقدرة على التحمل - جمال هش لا يعمر طويلاً، وأنها إذا ابتذلت في الخدمة سارع جمالها إلى الزوال؛ أما حسن الرجل فإنه أثبت، وبرهان ذلك أنه يتعرض للهجير ولفح الرياح، فلا يذوي بسرعة (2) .
فإذا تجاوزنا التكوين الطبيعي إلى رصد التصرفات المتصلة بالعواطف والشهوات وجدنا الجنسين سواء - في رأي ابن حزم - من حيث قدرتهما على قمع الشهوة أو الانقياد لها، فكل رجل تعرض له امرأة بالحب وتثابر على ذلك واقع ولابد في حبائل الشيطان، وكل امرأة دعاها رجل بمثل ذلك مستجيبة ما من ذلك بد (3) . وكذلك هما في الصلاح سواء، والصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، والصالح هو الذي يتجنب المغريات (لاحظ الفرق هنا بين من يحتاج إلى من يضبطه ومن يستطيع أن يستعمل إرادته في ضبط نفسه) فإذا أهملت المرأة وطمح الرجل ببصره لم يعد للصلاح وجود (4) . وكل من المرأة والرجل يحب " الإعلان الذاتي " والتزين والتعريض ليكسب ود الآخر، فإذا شعرت المرأة بأن رجلاً يسمع حسها أو يراها " أحدثت حركة فاضلة كانت عنها
__________
(1) الباب 11 (باب السفير: 142) .
(2) باب السلو (رقم: 27: 142) .
(3) باب قبح المعصية (رقم: 29: ص 269) .
(4) الباب نفسه: 270.(1/72)
بمعزل " وحورت في حركاتها وكلامها لتقع موقعاً من نفسه، وكذلك الرجل أيضاً، فأما إذا تراءيا فهما سواء في حب إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزاح، إلا أن المرأة أقدر من الرجل على التحيل لاستجلاب الهوى وإيصال محبتها إلى قلبه (1) . كما أنها أنفذ بصراً في استشعار أدنى ميل نحوها (2) . وإذا كان الرجل يقدم على الاغتصاب دون تفكير في العواقب، أو يقبل التديث حين تضمحل الغيرة، فإن المرأة عنيفة تقدم على القتل إذا أحست أن محبوبها مشترك الهوى، وليس في الطوق أية إشارة إلى رجل قتل امرأة لأنها خانته، وغاية ما حدث لأحدهم عندما خانته محبوبته انه وجد لذلك وجداً شديداً (3) . فأما الموت وفاء للمحبوب، فيبدو أن الرجل والمرأة فيه سواء، وكذلك الخروج فيه إلى حد الاختلاط والجنون.
9 - صورة ابن حزم في الطوق (ورسالة مداواة النفوس)
ولقد كان لصلة ابن حزم بالنساء منذ الطفولة حتى الصبا، عن طريق المعاشرة والثقافة، أثر كبير في ذوقه وشخصيته، ويبدو أنه لم ينعم بمعرفة الأم وتربيتها وحنانها، فاستعاض عن ذلك بالدلال الذي لقيه من الجواري، وأصبح يلاحقهن وينصت لأحاديثهن ويشره إلى معرفة أخبارهن وأسرارهن وحيلهن، وكن - فيما أقدر - لا يتحرجن لصغره من البوح بأشياء كثيرة جعلته يسيء الظن بتصرفات النساء، كما أكسبته تلك العشرة محبة الانفراد بالعطف، فنشأ شديد الغيرة، واكتسب من البيئة التي ساعد عليها ذوق والده (في محبة الشقراوات) ميلاً إلى الشقرة، ورسخ تلك الحقيقة أن حبه الأول اتجه إلى فتاة شقراء؛ وقد أرهفت تلك البيئة البيتية إحساسه بجمال الأنثى، وعلمته التجارب الأولى في تنقل
__________
(1) الباب السابق: 271 - 272.
(2) باب السلو (رقم: 27: 250) .
(3) باب الوفاء (رقم: 22: 207) .(1/73)
الميل مع كل حسن لائح، ان المحبة لابد من أن تكون " خلقة " مجبولة في فطرة الانسان. لقد مارس كل ذلك على نحو عملي قبل أن يتعلم أحكام النظر ومخالطة المرأة الأجنبية في مجالس الفقه، ولذلك لم يستطع - بعد أن تعلم ذلك - التخلص مما نشأ عليه، إذ ما دامت العفة عن الحرام قد حالت بينه وبين الوقوع في الكبيرة، فما ثمة ضير كبير في محقرات الذنوب عند رب غفور؛ ولهذا قال فيه ابن القيم انه " انماع في باب العشق والنظر " أي لم يستطع أن يواجههما بتشدده الذي أظهره من بعد في الشؤون الأخرى.
ولعله صوناً لذلك التعفف - تزوج " نعما " في سن مبكرة، " وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقا وخلقا " وكان هو أبا عذرها (وتلك أيضاً حقيقة هامة) فكان فقدها فاجعاً لأنه ابرز إلى العيان ما انطوت عليه نفسه من " حدة رومنطيقية كامنة " كان يداريها من قبل بالاستحسان والألفة والتودد، فلم تعد هذه كافية لصد تيار الحزن الجارف المتدفق من نفسه، فقد أقام بعدها سبعة أشهر دون أن يغتسل، وهو آخذ في بكاء متواصل، رغم أنه معروف بجمود الدمع بسبب إدمانه أكل الكندر - على ما يقول - لمداواة خفقان القلب، ولم يطب له عيش بعدها ولا أنس بسواها ولا نسي ذكرها؛ شيء واحد لم يستطع ذلك الفقد أن يزلزله وهو إيمانه بالتعفف، ومما زاده رسوخاً في ذلك اتخاذه استاذه أبا علي الحسين بن علي الفاسي نموذجه الأعلى، وكان رجلاً صالحاً ناسكاً، ولعله كان حصوراً لم يتزوج، قال ابن حزم " فنفعني الله به كثيراً وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي " نعم ظل قلبه يخفق كلما شاه جمالاً، وكان يقترب حتى يكاد يصبو " ويثوب إليه مرفوض الهوى ويعاوده منسي الغزل " ولكنه كان يغلب الإرادة فيفر مبتعداً.
كانت نعم جزءاً من الماضي، ولكن ذلك الماضي كله انهار دفعة واحدة حين ذهبت الدور والمقصور وانطفأ العز والجاه والغنى وتفرقت الكواعب في أنحاء الأرض، وتشتت الشمل، وتهاوى البلد الحبيب تحت(1/74)
مطارق الدمار؛ وكانت " الحدة الرومنطيقية " تتعلق بالحب فأصبحت وجوداً في الماضي، وإنكاراً للحاضر (إلا من علاقات عملية عابرة) وأصبحت ألفة كل شيء تقدم هي التي تسيطر على الفكر والمشاعر: " وان حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانغلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وانه لشجى يعتادني وولوع هم ما ينفك يطرقني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل شيء استأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا " (1) . ولقد أورثته هذه النكبات إحساناً مرهفاً بمعنى الفقد والفراق حتى أصبح يرى الموت أسهل من الفراق، وجعلته يستعيذ بالله من التنكر لما درس، أي لما أصبح جزاءاً من الماضي؛ وكم جلب تغير الحال من تنكر الاخوان والأصدقاء، مما زاد حساسيته تجاه الحفاظ على العهود الماضية، فأخذ في علاقاته يتكئ على التأني والتربص والمسالمة وخفض الجناح - رغم توقد حدته - كلما أحس أنه قد يفقده التعجل والغضب صديقاً من أصدقائه؛ ولهذا استشعر انه بالمقايسة إلى المتقلبين في صداقاتهم يتحلى بالوفاء، لا لمن يمثلون العهود الماضية وحسب، بل انبسط وفاؤه حتى شمل كل من مت إليه بلقية واحدة أو حادثه ساعة، وتورع عن إلحاق الأذى بمن كان بينه وبينه أقل ذمام ولو عظمت ذنوبه وإساءاته إليه. وقد كان هذا النوع من الوفاء مرمضاً لأنه يكلفه الحمل على نفسه، ومما يزيد في الألم الناشئ عنه اقترانه بعزة النفس، فالوفاء يتطلب تحمل الضيم من الصديق، وعزة النفس لا تقر على الضيم، ومن صراعهما يتولد قهر الذات وحملها على التصبر وتحمل الألم الممض، وكل هذا يحمل على اكتنان مقت شديد للغدر والكذب والتلون، وذلك أيضاً مبعث ألم آخر، وقد يسامح ابن حزم في كل عيب يجده في من حوله من معارفه وأصدقائه إلا في الكذب، فحينئذ يكون هو
__________
(1) باب من لا يحب إلا مع المطاولة (رقم: 6: 125) .(1/75)
البادئ إلى القطيعة والمتاركة، وكأنه يقول: أن وفائي يضيق عن الكذب مهما انبسط نطاقه واتسع.
وقد بقيت تلك " الحدة الرومنطيقية " في معايشة الماضي محور شخصية ابن حزم حتى بعد سنوات من كتابة الطوق، وأحسبها لم تتغير شخصية ابن حزم حتى بعد سنوات من كتابة الطوق، وأحسبها لم تتغير إلى النهاية، وإنما كانت تتلبس أشكالاً مختلفة؛ وقد غرست في نفسه شعوراً بالظمأ الدائم، لان ريه إنما يتم بالعودة إلى الماضي وذلك أمر مستحيل؛ ولهذا كان واقع الحياة يزيد في حرارة ذلك الظمأ، وفي مجال الحب عبر عن ذلك الشعور بقوله: " وعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني الا ظمأ " (1) ، وإذا كان الصوفية يرون غايتهم في الفناء، فان ظمأ ابن حزم لم يكن يشفيه إلا أحد شيئين إما الاتحاد النهائي بالمحبوب أو العودة إلى رحم الماضي، وقد خلصته السن من الظمأ الأول وأبقت له الثاني.
قلت إن " الحدة " لدى ابن حزم أخذت تتلبس من بعد أشكالاً مختلفة، فقد أخذت تتمثل بعد عهد الطوق بالإفراط في الغضب والتعبير عن ذلك بالكلام والفعل والتخبط، وكان يقابل ذلك أيضاً الإفراط في طلب الرضى، ولكنه ظل يعالج هذين الأمرين فاستطاع التغلب على الغضب جملة، وأعجزه ذلك في شأن الرضى، وتشكلت الحدة أحياناً لديه بصورة " حقد مفرط " فقاومه بالطي والقهر، حتى لم يبد للناس، ولكنه ظل عاجزاً عن مصادقة من عاداه عداوة صحصحة - وهذا مطلب يعجز عنه أيضاً من لم يكن لديه حقد مفرط، وكذلك تشكلت في صورة حب الشهرة والغلبة، وقد ظلت هذه الصفة تلازمه إلا فيما لا يحل في الديانة، فأما العجب الذاتي اللاحق بها فقد استطاع خنقه إلى الأبد.
وأما الغيرة وسوء الظن المأتيان من تجاره مع الجواري، فقد ظلا
__________
(1) باب الوصل (رقم: 20: 184) .(1/76)
يلازمانه. أما الغيرة أو الأنفة الشديدة فقد حملته على بضعه لانكاح الحرم جملة، وأما سوء الظن فإنه امتد حتى شمل الرجال، وقد ظل يراه حزماً ما لم يخرج عن حدود الدين. كذلك استمر لديه التحمل للأذى والصبر على الألم من الخصوم والإخوان على السواء، حتى اتهمه بعضهم بتبلد الإحساس في هذه الناحية، وهو يرد على ذلك بان الإحساس بالألم في مثل ذلك أمر طبيعي ولكن كل ما هنالك أنه راض نفسه على عدم الثورة والهياج والتخبط، ولكنه يستطيع ان يرد بكلام مؤلم دون إفحاش متحرياً الصدق فيما يقول.
كذلك اتهم بأنه مذل بأسرار إخوانه، ولعل في هذا إشارة إلى كتاب الطوق نفسه إذ كشف فيه أسرار كثيرين ممن عرفهم، وكان الناس في أيامه يعرفونهم حتى وان لم يذكر أسماءهم؛ كما اتهموه بأنه يسمع الذم في اخوانه ولا يمتعض لهم، ويرد على هذه التهمة بأنه يمتعض امتعاضاً رقيقاً، يحمل الذام على الندم والاعتذار والخجل، دون مهارشة له أو استثارة لغضبه، لان ذلك قد يحمله على التمادي في ذم أحد إخوانه، ويتعدى الذم إلى سب الأبوين وإلى السفه والبذاءة.
وأخذ عليه أنه متلف لماله، ولابد أن تكون هذه التهمة بعد إذ أصبح يستطيع الحصول على مال يمكن التوفير فيه، وهذه الحال غير مستنكرة في من عانى شظف العيش بعد استقرار ورفاهية، واني لأظنها مأخذاً صحيحاً، ولكن ابن حزم يعتذر عنها بأنه لا يتلف من ماله إلا ما فيه حفظ دينه من النقص وعرضه من الأخلاق ونفسه من التعب، وكأني به يقر بتلك الخصلة على نحو غير مباشر.
ويطالعنا ابن حزم بخصلة كانت فيه ليس من السهل أن يستشف من مؤلفاته، وهي دعابة غالية، وتلك صفة حاول فيها الاعتدال بتجنب ما يغضب الممازح، وظل يحتفظ منها بالقسط الذي لا يؤذي الآخرين. وقد نحمل عليها ثلاثة مواقف في الطوق أولها: أن ابن حزم توقف في(1/77)
موطن جاد ليقول لنا إن أحد المنتسبين إلى العلم فسر القبقب بأنه البطيخ، وليس من شك في أنها نادرة كانت تضحك ابن حزم. والثاني: تلك الروح " الفضولية " التي دفعته وهو في مجلس رأى فيه غمزاً وخلوات أن ينبه صاحب المنزل بإنشاد هذين البيتين وتكرارهما كثيراً وهما:
إن إخوانه المقيمين بالامس ... أتوا للزناء لا للغناء
قطعوا أمرهم وأنت حمار ... موقر من بلادة وغباء حتى قال له صاحب المجلس " وقد أمللتنا من سماعهما فتفضل بتركهما أو إنشاد غيرهما "، فالأمر كان يبدو لابن حزم نوعاً من التندر، حتى وجد أن تندره لا يؤثر في ذلك البلد. والموقف الثالث: حين دعا أحدهم محباً كان متأنساً فرحاً بجلوسه مع محبوبه ليحضر إلى منزله، فلم يفعل فلما قابله الداعي بعد مدة لامه بشدة، فقال له ابن حزم: أنا أكشف عذره صحيحاً من كتاب الله عز وجل إذ يقول " ما اخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم " وهي دعابة عميقة.
10 - شعره:
جمع طوق الحمامة قدراً صالحاً من شعر ابن حزم مما قاله حتى سن الخامسة والثلاثين، ولعل قسماً كبيراً منه سقط بفعل ناسخ النسخة التي وصلتنا، ونقدر أن شعره كان كثيراً لأنه كان يقول على البديهة والروية، ويعالج مختلف الموضوعات، وبعض شعره قاله قبل بلوغ الحلم، واكثر ما نظمه وهو دون الشرين إنما كان تغزلاً في " نعم " ثم رثاء لها؛ وكان إخوانه يسومونه القول فيما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم فيقول ما يناسب حالهم ومقصودهم، أي أنه لم يكن يرفض أن يقول الشعر بتكليف، وأن يتحدث فيه عن أحوال غيره، وقد كلفته إحدى كرائم المظفر أن يصنع لها أغنية لتلحنها ففعل. ولم يكن يختار وقتاً معيناً لقول الشعر، فأحياناً يقول الشعر وهو نائم - وذلك شيء نادر - ويختار أحياناً(1/78)
أخرى أن ينظم بعد صلاة الصبح؛ وشعره حتى في الطوق زاخر بالمعاني، تكثر فيه المؤثرات الثقافية والإشارات إلى العلوم والعقائد والتعليلات ويكشف عن أثر الفقه الظاهري والمنحى الجدلي، ولا يفتأ يشقق المعاني ويولدها دون اهتمام كثير برونق الصياغة، وفي شعره في الطوق جانب دقيق قد نسميه " الجانب الباطني " كان يهرب إليه أحياناً من قسوة الظاهر وحدته، وينقل فيه معاني التنزيه والتوحيد، ويتأول الأشياء على غير ظاهرها حتى كان بعض أصدقائه يسمي قصيدة له " الإدراك المتوهم " وفيها يقول:
ترى كل ضد به قائماً ... فكيف تحد اختلاف المعاني
فيا أيها الجسم لا ذا الجهات ... ويا عرضاً ثابتاً غير فان
نقضت علينا وجوه الكلام ... فما هو مذ لحت بالمستبان وتجده وهو المتمسك بأشد ألوان التنزيه يقول:
أمن عالم الأملاك أنت أم انسي ... ابن لي فقد أزري بتمييزي العي
أرى هيئة إنسية غير أنه ... إذا أعمل التفكير فالجرم علوي
ولا شك عندي أنك الروح ساقه ... إلينا مثال في النفوس اتصالي
ولولا وقوع العين في الكون لم نقل ... سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي ومن تأمل هذا اللون من الشعر في موضوع الحب خاصة وجد أن ابن حزم الظاهري المتشدد قد بلغ فيه مشارف التصوف " الباطني " - لكن عن طريق التأمل الفكري - وهو في هذا الجانب المستمد من الوهم متأثر بطريقة أبي إسحاق النظام، معجب بها.
وتكاد أكثر المواقف العاطفية أن تكون لديه " قضايا " تحاكم بمنطق العقل، وتتطلب استدلالاً: تصور نفسه انتظر زيارة المحبوب، فلما حل الظلام أدرك أنه لن يأتي، فما الدليل.
وعندي دليل ليس يكذب خبره ... بأمثاله في مشكل الأمر يستدل
لأنك لو رمت الزيارة لم يكن ... ظلام ودام النور فينا ولم يزل(1/79)
أو يقول:
دليل الأسى نار على القلب تلفح ... ودمع على الخدين يهمي ويسفح ويريد أن يصور أن المحبة سرت على مهل ولم تكن بنت ساعة، فيرى في ذلك قضية تستحق الاستدلال فيقول:
يؤكد ذا أنا نرى كل نشأة ... تتم سريعاً عن قريب نفادها أو يأخذ قضية " عدم جواز حب اثنين في آن " فيقول:
فكما العقل واحد ليس يدري ... خالقاً غير واحد رحمان
فكذا القلب واحد ليس يهوى ... غير فرد مباعد أو مدان ويفيء إلى مذهبه الظاهري في اعتماد النص حين ينكر ورود نص في تحريم الحب:
متى جاء تحريم الهوى عن محمد ... وهل منعه في محكم الذكر ثابت
إذا لم أوقع محرماً أتقي به ... مجيئي يوم البعث والوجه باهت
فلست أبالي في الهوى قول لائم ... سواء لعمري جاهر أو مخافت وكثيراً ما يلجأ في شعره إلى الحوار لأنه مأخوذ بالجدل، وذلك مبثوث في طوق الحمامة، وعلى الجملة قد يطول بنا القول لو أردنا التمثيل على كل المظاهر التي ذكرناها في شعره. وقد كان إخوانه يظهرون له إعجابهم بذلك الشعر حتى قال له أحدهم في أبيات نظمها " يجب أن توضع هذه في جملة عجائب الدنيا " والأبيات تعد نسبياً من أحسن شعره ولكنها لا تبلغ من المستوى ما يستحق قولة ذلك الصديق.
ولا تقتصر الصعوبة في شعره على تشقيق المعاني المتوهمة، وركوب التعبير الخشن، والإشارات الثقافية والتاريخية وإنما تجاوز ذلك إلى صعوبات تتصل بالتلميحات والتعريضات، وخاصة حين يهجو، وتدل(1/80)
بعض قصائده في الطوق على انه جرب المنحى الزهدي في شعره في عهد مبكر، وأنه كان يطيل في قصائده وخاصة الوعظية والفخرية. وسيزداد نظم ابن حزم للشعر بعد الطوق، وربما قلل فيه من الحديث عن الحب، غير أنه أكثر من الوعظيات والفقيهات والدفاع عن مذهبه ومدح الحديث وكتبه، وزادت البديهة لديه، حتى ابتعد نظمه عن الشعر الصحيح، وقد قام تلميذه الحميدي بجمع شعره وترتيبه على حروف المعجم، ولكن هذا الديوان لم يصلنا.
11 - نثره:
من الواضح لمن يقرأ الطوق ان نثر ابن حزم فيه يقف موقف المفارقة من شعره، فهو أكثر شاعرية، وأحفل بالحيوية، وأقل حظاً من المحاكمات الذهنية، ولا يتعدى هذا النثر ثلاثة طرائق، تجيء أحياناً مجتمعة في الفصول الطويلة، فينتقل القارئ فيما بينها نقلات مريحة، وتلك الطرائق هي التقرير والخبر أو الحكاية والوصف الفني. ويجمع بينها التكثيف المتعمد استجلاباً للقوة في طيعة الأسلوب وطلباً للتأثير، وإن كانت الحكاية غالباً حظاً من ذلك، ويليها في الإكثار منه التقرير ثم ينفرد الوصف الفني بالمبالغة في التكثيف.
ويتراوح التقرير في حظه من التكثيف بين إقلال وإكثار. وقد نقارن هنا بين قوله في الطاعة: " ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع من يحبه، وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القياد، ماضي العزيمة، حمي الأنف، أبي الخسف، فما هو إلا أن يبتسم بنسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لياناً والصعوبة سهالة، والمضاء كلالة، والحمية استسلاماً " فهنا يتدرج الأسلوب من الحديث عن الطاعة في جملتين إلى تصوير المحب في ست جمل إلى وصف الحالة عند الوقوع في الحب في ثلاث جمل إلى النتيجة في أربع (2 - 6 - 3 - 4) وعند السؤال لماذا(1/81)
اختص تصوير المحب بهذا القدر (وهو 2/ 5 القطعة في مجموعها) نجد أن الجواب على ذلك هو ميل ابن حزم إلى رسم " الشخصية " وهذا يتبين لنا إذا انتقلنا إلى تقرير آخر تحتل فيه " الشخصية " جميع الدورات التي مثلتها القطعة السابقة، وذلك هو التقرير عن حال المساعد من الإخوان الذي يشترط فيه أن يكون " صديقاً مخلصاً "، لطيف القول بسيط الطول، حسن المأخذ، دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم.. الخ " ففي عملية التكثيف يحشد الكاتب ما يزيد على خمسين جملة في الشروط التي يجب أن تتوفر فيه.
أما الحكاية فأنها لا تتطلب تكثيفاً لأنها قائمة على الحركة، بينا التقرير يقوم على بطء فكري، من ذلك: " كنت بين يدي أبي الفتح والدي رحمه الله، وقد أمرني بكتاب أكتبه، إذ لمحت عيني جارية كنت أكلف بها، فلم أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت نحوها، وبهت أبي، وظن انه عرض لي عارض، ثم راجعني عقلي، فسمحت وجهي، ثم عدت، واعتذرت بأنه غلبني رعاف ". فأنت ترى أن الاسترسال هنا - على الطبيعة - هو الأغلب وكل جملة في القطعة تنقلنا نقلة جديدة إلى النهاية.
غير أن الحكاية نفسها قد تستدعي التكثيف لنفس السبب الذي ذكرناه في التقرير وهو تصوير الشخصية المحورية فيها: " وإني لأعرف من أهل قرطبة من أبناء الكتاب وجلة الخدمة من اسمه أحمد بن فتح: كنت أعهده كثير التصاون، من بغاة العلم وطلاب الأدب، يبذ أصحابه في الانقباض، ويفوقهم في السرعة، لا ينظر إلا في حلقة فضل الخ " ويمضي في هذا " التشخيص " المكثف وغايته من ذلك إبراز المفارقة القائمة بين حال التصاون التي كان عليها وحال التبذل التي صار إليها (وهذه الثانية أيضاً تقوم على ممائلة في التكثيف) ومن الخير أن نتنبه إلى أن هذه الحكاية ليست كالأولى لأنه ليس فيها إلا خبر عن فتى تغيرت حاله.(1/82)
وأما الوصف الفني فنكتفي بان نميز منه:
1 - وصف دور بني حزم ببلاط مغيث بعد أن خرجت.
2 - وصف نزهة.
3 - وصف جارية ألفها في الصبا.
4 - وصف حال امرأة كانت مودتها في غير ذات الله (1) (تشخيص محض في حالي المودة والبغضاء) وتشترك هذه المواقف جميعاً في العنصر الذاتي، كما يمثل التكثيف فيها استغراقاً نفسياً يكفل من خلال التعبير عن الحال غياباً في جنباتها، وتعتمد دون إسراف على صور شعرية، كما أن الأخيرة من هذه القطع تعتمد على غاية النهاية فيما يشبه الأمثال، وهذا النوع من النثر في الطوق، أبرعه وأكثره مائية وجمالاً.
__________
(1) انظر ص: 227، 223، 236، 282.(1/83)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
- 1 -
[صدر الرسالة وأبوابها والكلام في ماهية الحب]
(1) [صدر الرسالة]
قال أبو محمد عفا الله عنه:
أفضل ما ابتدئ به حمد الله عز وجل بما هو أهله، ثم الصلاة على محمد عبده ورسوله خاصة وعلى جميع أنبيائه عامة، وبعد -
عصمنا الله وإياك من الحيرة، ولا حملنا ما لا طاقة لنا به، وقيض لنا من جميل عونه دليلاً هادياً إلى طاعته، ووهبنا من توفيقه أدباً صارفاً عن معاصيه، ولا وكلنا إلى ضعف عزائمنا، وخور قوانا، ووهاء بنيتنا، وتلدد آرائنا (1) ، وسوء اختيارنا، وقلة تمييزنا، وفساد أهوائنا - فإن كتابك وردني من مدينة المرية (2) إلى مسكني بحضرة شاطبة (3) ، تذكر من حسن حالك ما يسرني، وحمدت الله عز وجل
__________
(1) قد تقرأ أيضاً " آرابنا "، والتلدد: التحير.
(2) المرية (ِalmeria) : بنيت عام 344 وأصبحت أهم قاعدة للأسطول الاندلسي على البحر المتوسط. (انظر الروض: 537/183 والترجمة: 221 والزهري: 101 والعذري: 86) .
(3) شاطبة (Jativa) : تقع إلى الجنوب الغربي من بلنسية، وكانت في الأيام الاسلامية مدينة حصينة يعمل بها كاغد لا نظير له (الروض: 337؛ والادريسي (دوزي) : 192 والعذري: 18 وآثار البلاد: 539) .(1/84)
عليه واستدمته لك، واستزدته فيك؛ ثم لم ألبث أن اطلع (1) علي شخصك وقصدتني بنفسك، على بعد الشقة وتنائي الديار وشحط المزار وطول المسافة وغول الطريق؛ وفي دون هذا ما سلى المشتاق، ونسى الذاكر، إلا من تمسك بحبل الوفاء مثلك، ورعى سالف الأذمة ووكيد المودات وحق النشأة ومحبة الصبا، وكانت مودته الله تعالى. ولقد أثبت بيننا من ذلك ما نحن عليه حامدون وشاكرون.
وكانت معانيك (2) في كتابك زائدة على ما عهدته من سائر كتبك، ثم كشفت إلي بإقبالك غرضك، وأطلعتني على مذهبك، سجية لم تزل عليها من مشاركتك لي في حلوك ومرك، وسرك وجهرك، يحدوك الود الصحيح الذي أنا لك على أضعافه، لا أبتغي جزاء غير مقابلته بمثله؛ وفي ذلك أقول مخاطباً لعبيد الله بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر (3) رحمه الله في كلمة لي طويلة وكان لي صديقاً: [من الطويل]
أودك وداً ليس فيه غضاضة ... وبعض مودات الرجال سراب
وأمحضك النصح الصريح وفي الحشا ... لودك نقش ظاهر وكتاب
فلو كان في روحي سواك اقتلعته ... ومزق بالكفين عنه إهاب
وما لي غير الود منك إرادة ... ولا في سواه لي إليك خطاب
__________
(1) اطلع بمعنى طلع.
(2) قرأها برشيه: مغازيك.
(3) المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر قتل خنقاً صبيحة الليلة التي مات فيها أخوه الحكم المستنصر في مؤامرة شرحها ابن حيان؛ (انظر الذخيرة لابن بسام 4/1: 58 ط. بيروت) كي تكون البيعة مضمونة لأخيه الأصغر هشام المؤيد؛ وهذا هو صديقه الذي يذكره هنا في الطوق، وقوله " رحمه الله " يدل على أنه كان قد توفي قبل تأليف طوق الحمامة، ولكنه خلف عقباً كان ابن حزم يعرفهم أيضاً.(1/85)
إذا حزته فالأرض جمعاء والورى ... (1) هباء وسكان البلاد ذباب وكلفتني - أعزك الله - أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله (2) على سبيل الحقيقة، لا متزايداً ولا مفنناً، لكن مورداً لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره، فبدرت (3) إلى مرغوبك، ولولا الإيجاب لك لما تكلفته، فهذا من العفو، والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غداً، وغن كان القاضي حمام بن احمد (4) حدثني عن يحيى ابن مالك بن عائذ (5) بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: أجموا النفوس بشيء من الباطل ليكون عوناً لها على الحق (6) ؛ ومن أقوال الصالحين من السلف المرضي: من لم يحسن يتفتى لم يحسن
__________
(1) يعارض ابن حزم هنا - في هذه الأبيات - المتنبي وأبا فراس، وبيته هذا الأخير يذكر بقول أحدهما:
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب (2) يقع فيه وله: ي يحدث أثناءه ومن أجله وبسببه؛ ومن قرأ " يحدث فيه [من] وله " فإنما يوجه العبارة وجهة خاصة، إذ ليس كل ما يحدث في الحب ولهاً.
(3) تقرأ أيضاً: فبادرت، وهما بمعنى.
(4) حمام بن أحمد بن عبد الله: كان - في رأي ابن حزم - واحد عصره في البلاغة وسعة الرواية، ضابطاً لما قيده، ولي قضاء يابرة وشنترين والاشبونة وسائر الغرب أيام عبد الملك المظفر ابن المنصور وأخيه عبد الرحمن، وتوفي بقرطبة (421) ؛ (انظر ترجمته في الصلة: 153 والجذوة: 187؛ والبغية رقم: 677) .
(5) في مختلف الطبعات: يحيى بن مالك عن عائذ؛ وهو يحيى بن مالك بن عائذ بن كيسان، أبو زكرياء مولى هاشم بن عبد الملك، من أهل طرطوشة، سمع ببلده ورحل إلى المشرق (347) وتردد هنالك نحواً من اثنتين وعشرين سنة وكتب عن طبقات من المحدثين بمصر وبغداد والبصرة والأهواز، وعاد إلى بلده (369) فسمع من ضروب من الناس وطبقات من أهل العلم، وكانت وفاته بقرطبة سنة 375 (انظر ابن الفرضي 2: 191 والجذوة: 356 والبغية رقم: 1492) .
(6) ورد قول أبي الدرداء في بهجة المجالس (1: 115) " إني لأستجم قلبي بشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق ".(1/86)
يتقرأ (1) . وفي بعض الأثر: أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد (2) .
والذي كلفتني فلا بد فيه من ذكر ما شاهدته حضرتي، وأدركته عنايتي، وحدثني به الثقات من أهل زماني، فاغتفر لي الكناية عن الأسماء فهي إما عورة لا نستجيز كشفها، وإما نحافظ في ذلك صديقاً ودوداً ورجلاً جليلاً وبحسبي أن اسمي من لا ضرر في تسميته ولا يلحقنا والمسمى عيب في ذكره، إما لاشتهار لا يغني عنه الطي وترك التبيين، وإما لرضى من المخبر عنه بظهور خبره وقلة إنكار منه لنقله.
سأورد في رسالتي هذه أشعاراً قلتها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها - علي أني سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهب المتحلين بقول الشعر، وأكثر من ذلك فإن إخواني يجشمونني القول فيما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم. وكفاني أني ذاكر لك ما عرض لي مما يشاكل ما نحوت نحوه وناسبه إلي.
والتزمت في كتابي هذا الوقوف عند حدك، والاقتصار على ما رأيت أو صح عندي بنقل الثقات، ودعني من أخبار الأعراب المتقدمين، فسبيلهم غير سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي مطية سواي، ولا أتحلى بحلي مستعار، والله المستغفر والمستعان لا رب غيره.
__________
(1) في معظم الطبعات: يتقوى؛ ولا معنى لها، وقرأها برشيه: يتقرى؛ وهي بالألف الطويلة يتقرأ لأنها مخففة عن " يتقرأ " أي يتنسك؛ والمتقرئ: الناسك، وفي أخبار أبي عمرو ابن العلاء أنه لما تقرأ طمر كتبه؛ والمعنى: إذا لم يحسن المرء أن يتفنى في فترة الفتوة، لم يستطع أن يتنسك حين يقع في دور النسك.
(2) من أقوالهم: " حادثوا هذه القلوب فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد " (بهجة المجالس 1: 116) ومعنى حادثوا: اصقلوا.(1/87)
(2) [أبواب الرسالة]
وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين باباً:
منها في أصول الحب عشرة:
فأولها هذا الباب (1) ؛ ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من احب في النوم، ثم باب فيه ذكر من احب بالوصف، ثم باب فيه ذكر من احب من نظرة واحدة، ثم باب فيه ذكر من لا يصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الاشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير.
ومنها في أغراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر باباً - وإن كان الحب عرضاً، والعرض لا يحتمل الأعراض (2) ، وصفة، والصفة لا توصف، فهذا على مجاز اللغة في إقامة الصفة مقام الموصوف، وعلى معنى قولنا: وجودنا عرضاً أقل في الحقيقة من عرض غيره وأكثر وأحسن وأقبح، في إدراكنا لها [و] علمنا انها متباينة في الزيادة والنقصان (3) من ذاتها المرئية والمعلومة، إذ لا تقع فيها الكمية ولا تجزي، لأنها لا تشغل مكاناً - وهي:
باب الصديق المساعد، ثم باب الوصل، ثم باب طي السير، ثم باب الكشف والاذاعة، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب
__________
(1) يعني: " أولها هذا الباب الذي نحن فيه وفيه صدر الرسالة وتقسيم الأبواب والكلام في ماهية الحب "، فالكلام ماهية الحب جزء من الباب الأول يسبقه جزءان آخران هما فاتحة الكتاب وذكر الأبواب.
(2) يقول ابن حزم (الفصل 5: 108) ولسنا نقول إن عرضاً إلى ما لا نهاية له قلت: وفي هذا إيماء إلى أن العرض قد يحمل عرضاً، وقد صرح في موضع آخر (الفصل 5: 47) ان بعض الأعراض قد يحمل الأعراض كقولنا: حمرة مشرقة وحمرة كدرة وعمل سيء وعمل صالح وقوة شديدة وقوة دونها في الشدة، ومثل هذا كثير.
(3) قولنا والنقصان: عبارة تبدو مضطربة.(1/88)
من احب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب القنوع، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب الضنى، ثم باب الموت.
ومنها في الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب وهي:
باب العادل، ثم باب الرقيب، ثم باب الواشي، ثم باب الهجر، ثم باب البين، ثم باب السلو.
ومن هذه الأبواب الستة بابان لكل واحد منهما ضد من الأبواب المتقدمة الذكر، وهما:
باب العاذل، وضده باب الصديق المساعد؛ وباب الهجر، وضده باب الوصل.
ومنها أربعة أبواب لا ضد لها من معاني الحب وهي:
باب الرقيب، وباب الواشي، ولا ضد لهما إلا ارتفاعهما. وحقيقة الضد ما إذا وقع ارتفع الأول، وإن كان المتكلمون قد اختلفوا في ذلك، ولولا خوفنا إطالة الكلام فيما ليس من جنس الكتاب لتقصيناه - (1) ، وباب البين وضده تصاقب الديار - وليس التصاقب من معاني الحب نتكلم فيها - وباب السلو، وضده الحب بعينه، إذ معنى السلو ارتفاع الحب وعدمه.
ومنها بابان ختمنا بهما الرسالة، وهما:
باب الكلام في قبح المعصية، باب في فضل التعفف، ليكون
__________
(1) تحدث ابن حزم عن التضاد في كتاب التقريب (ص: 71) فقال: " والأضداد هي كل نقطتين اقتسم معنياهما طرفي البعد وكانا واقعين تحت مقولة واحدة وكان بينهما وسائط " فالسواد والبياض ضدان تحت جنس واحد هو اللون، والجود والشح تحت جنسين هما الفضيلة والرذيلة. وكل ضدين يدركان بحاسة واحدة، وكل ضدين ان كان أحدهما في النفس فالآخر فيها أيضاً وقال: فالمتضادة هي ما إذا وقع أحدهما ارتفع وقع الآخر ولا وسائط بينهما، كالحياة والموت والاجتماع والافتراق.(1/89)
خاتمة إيرادنا وآخر كلامنا الحض على طاعة الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مفترض على كل مؤمن.
لكن خالفنا في نسق بعض هذه الأبواب هذه الرتبة المقسمة في درج هذا الباب الذي هو أول أبواب الرسالة، فجعلناها على مباديها إلى منتهاها واستحقاقها في التقدم والدرجات والوجود، ومن أول مراتبها إلى آخرها، وجعلنا الضد إلى جنب ضده فاختلف المساق في أبواب يسيرة والله المستعان.
وهيئتها في الإيراد: أولها هذا الباب الذي نحن فيه وفيه صدر الرسالة وتقسيم الأبواب والكلام في باب ماهية الحب، ثم باب علامات الحب، ثم باب من أحب في النوم، ثم باب من أحب بالوصف، ثم باب من أحب من نظرة واحدة، ثم باب من لا يحب إلا مع المطاولة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الاشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير، ثم باب طي السر، ثم باب إذاعته، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب العاذل، ثم باب الوصل، ثم باب الهجر، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب البين، ثم باب القنوع، ثم باب الضنى، ثم باب السلو، ثم باب الموت، ثم باب قبح المعصية، ثم بابا فضل التعفف.
(3) [الكلام في ماهية الحب] :
الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل.
وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم(1/90)
بأندلسنا (1) عبد الرحمن بن معاوية (2) لدعجاء، والحكم بن هشام (3) ، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفه بطروب (4) أم عبد الله ابنه أشهر من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن (5) وأمره مع غزلان أن بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم (6) ، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله (7) رضي الله عنه وعن جميعهم وامتناعه عن التعرض للولد
__________
(1) عبارة: وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدية (هكذا) : وردت عند ابن قيم الجوزية في كتاب الجواب الكافي: 164؛ وعند الشيخ يوسف ين مرعي الحنبلي في منية المحبين (نسخة مكتبة بلدية الاسكندرية) الورقة: 9 (انظر مقالة غرسيه غومس " مجلة الأندلس (1951) : 326؛ إلا أن كليهما لم يذكر أئمة الآندلس، ولعلهما لم يكونا يعتقدان أنهم أئمة راشدون واكتفيا بذكر عشق عمر بن عبد العزيز لجارية زوجته (وقد فصل ابن القيم القصة ص: 171 كما وردت في تزيين الأسواق 2: 65) وذكرا خبر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (انظر الجواب الكافي: 158) .
(2) هو عبد الرحمن الداخل صقر قريش أبو المطرف (138 - 172/755 - 788) .
(3) الحكم بن هشام حفيد عبد الرحمن الداخل (180 - 206/796 - 821) ولم يذكر من كان يحب؛ وقد ذكر ابن عذاري (البيان المغرب 2: 79) أنه كان له خمس جوار قد استخلصهن لنفسه وملكهن أمره؛ ولعل هذه الكثرة في العدد هي التي حالت بين ابن حزم وذكر هذه الحقيقة، لأن هذا التكثر يعارض معنى الحب كما يفهمه، مما سيجيء تبيانه.
(4) عبد الرحمن بن الحكم أبو المطرف (206 - 238/821 - 852) ؛ وانظر جانباً من أخباره مع طروب عند ابن عذاري (2: 92) وابن الأبار (الحلة السيراء 1: 114، 116) ومن غزله فيها:
وإما بدت لي شمس النهار ... طالعة ذكرتني طروبا (5) محمد بن عبد الرحمن بن الحكم أبو عبد الله (238 - 273/852 - 866) ، ولد نيفاً وثلاثين ذكراً، وكان جلهم قد انقرض في أيام ابن حزم (الجمهرة: 99) .
(6) نوه ابن حزم بالمطرف ابن الأمير محمد وبأنه كان شاعراً مفلقاً عالماً بالغناء، قال: وكان عثمان وابراهيم ابنا محمد عارفين بالغناء جداً، ولم يذكر شيئاً عن القاسم إلا أنه كان يعرف أن رجلاً واحداً من عقبه ربما بقي حتى أيامه (الجمهرة: 99) ؛ وترجم الحميدي (الجذوة: 377) لمن اسمه أبو القاسم من أبناء الأمير محمد، وقال انه كان يعرف بابن غزلان؛ وكان القاسم قد اختص الشاعر العتبي وله معه حكايات (المغرب 1: 134) .
(7) الحكم المستنصر أبو المطرف بن عبد الرحمن الناصر (350 - 366/961 - 976) الخليقة العالم؛ تزوج جارية بشكنسية اسمها صبح (Aurora) ورزق منها بابنه هشام الذي تولى الخلافة من بعده، ولم يكن له فيها إلا الاسم إذ قام بالأمر الحاجب المنصور بن أبي عامر؛ أما هشام فكان حكمنه الاسمي (366 - 399/876/1008) ومرة ثانية (400 - 403/1009 - 1013) ؛ وقد ذهب بعضهم إلى تصور علاقة عاطفية بين صبح والمنصور، دفعت بهذا إلى تحقيق طموحه؛ ولكن المصادر تشير إلى انه استمالها بالهدايا والالطاف، وانتهى تضارب المصالح إلى كراهية عميقة.(1/91)
من غيرها. ومثل هذا كثير، ولولا ان حقوقهم على المسلمين واجبة - وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وغنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم - لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل.
وأما كبار رجالهم ودعائهم دولتهم فأكثر من أن يحصوا، واحدث ذلك ما شاهدناه بالأمس من كلف المظفر عبد الملك بن أبي عامر (1) بواجد، بنت رجل من الجنانين (2) حتى حمله حبها أن يتزوجها، وهي التي خلف عليها بعد فناء العامريين الوزير عبد الله بن مسلمة (3) ، ثم تزوجها بعد قتله رجل من رؤساء البربر.
ومما يشبه هذا أن أبا العيش بن ميمون القرشي الحسني (4) أخبرني أن نزار بن معد صاحب مصر لم ير ابنه منصور بن نزار (5) الذي ولي الملك بعد وادعى الإلهية إلا بعد مدة من مولده، مساعدة
__________
(1) الحاجب عبد الملك المظفر بن المنصور (392 - 398/1002 - 1008) خلف أباه المنصور في الحجابة، وكانت السلطة الفعلية بيده، وفي أيامه أخلد الأندلسيون إلى الراحة وتنافسوا في زخرف الدنيا (انظر الذخيرة 4/1: 78 وما بعدها) .
(2) بواجد الجناين؛ هذا هي قراءة بروفنسال، (انظر مجلة الأندلس 15 (1950) : 350 وسأشير إليها من بعد باسم: الاندلس) ، وقد قرئت قبله " بواحد الجبائين "، وإذا صحت القراءة فيبدو أن اسم " واجد " كان شائعاً، إذ كانت لابن الشرح زوجة بهذا الاسم (البيان المغرب 3: 80) .
(3) عبد الله بن مسلمة: لعله الذي كان صاحب مدينة الزاهرة عندما ثار محمد بن هشام ابن عبد الجبار لينتزع الخلافة من هشام المؤيد (ابن عذاري 3: 58) وقد اتصل به صاعد البغدادي أول دخوله الأندلس، ثم نكب عبد الله فكان صاعد يستعطف له أبا جعفر بن الدب ليشفع به لدى سليمان المستعين (الذخيرة 4/1: 10 - 11) .
(4) أغلب ظني أنه حسني لا حسيني، وان كنت لم أجده بين أسماء الطارئين على الآندلس.
(5) نزار بن معد هو أبو منصور العزيز بالله بن المعز لدين الله، ولد سنة 345 وبويع بالخلافة سنة 365 وبقي حتى 386، أما منصور فهو المعروف بالحاكم بأمر الله (368 - 411) .(1/92)
لجارية كان يحبها حباً شديداً، هذا ولم يكن له ذكر ولا يرث ملكه ويحيي ذكره سواه.
ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد استغني بأشعارهم عن ذكرهم؛ وقد ورد من خبر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (1) وشعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة (2) ، وقد جاء من فتيا ابن عباس رضي الله عنه ما لا يحتاج إلى غيره حين يقول (3) : هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود.
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا والذي أذهب إليه (4) أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع (5) ، لا على ما حكاه محمد بن داود (6) رحمه
__________
(1) من أعلام التابعين، وكان عالماً ناسكاً، توفي بالمدينة (بين 98، 102 هـ) وله شعر غزلي رقيق (انظر ابن خلكان 3: 115 والأغاني 9: 135 وفي حاشية ابن خلكان توسع في ذكر مصادر أخرى) .
(2) الفقهاء السبعة: عروة بن الزبير، سعيد بن المسيب، سليمان بن ياسر، عبيد الله بن عتبة، أبو بكر بن عبد الرحمن، قاسم بن محمد، خارجة بن زيد، وقد جمعهم بعضهم بقوله:
ألا كل من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد سليمان أبو بكر خارجه (ابن خلكان 1: 283) .
(3) انظر محاظرات الراغب 2: 45 (ط. بيروت) وفيه قال ابن عباس " قتيل الهوى هدر الخ، وانظر القول مقترناً بقصته في الموشى (72 - 73) ؛ ونقل ابن القيم (الجواب الكافي: 175) هذا القول عن ابن حزم مصرحاً باسمه.
(4) قوله: والذي اذهب إليه إلى قوله: فعلمنا أنه شيء في ذات النفس، نقله ابن القيم في روضة المحبين: 74 - 76.
(5) في أصل عنصرها الرفيع: كأنه تعبير آخر عن القول " في عالم المثل ".
(6) محمد بن داود الظاهري أبو بكر (- 297) : كان فقيهاً أديباً شاعراً ظريفاً، وهو صاحب كتاب الزهرة، وهو في جزءين أحدهما في الحب وقد طبع بتحقيق نيكل وطوقان (1932) والثاني في التقوى وقد طبع في بغداد (1975) بتحقيق الدكتورين ابراهيم السامرائي ونوري حمودي القيسي. (انظر ابن خلكان 4: 259، والفهرست: 217 وتاريخ بغداد 5: 256، والوافي 3: 58) .(1/93)
الله عن بعض أهل الفلسفة: الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي، ومجاورتها في هيئة تركيبها (1) .
وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دأب (2) يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل، وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار - كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرف الإنسان فيسكن إليها (3) ، والله عز وجل يقول {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} (الأعراف:189) فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص في الصورة (4) ،
__________
(1) هذا القول مأخوذ من كتاب " الزهرة " ونصه هنالك " وزعم بعض المتفلسفين ان الله جل ثناؤه خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة ثم قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً وكل جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه كان بينهما عشق للمناسبة القديمة (الزهرة 1: 15 وانظر محاضرات الراغب 2: 40) ؛ والفرق بين رأي ابن حزم ورأي ابن داود هو في القسمة نفسها، فبينا يذهب ابن حزم إلى أن النفوس تجزأت عدة أجزاء، يرى ابن داود أن الكرة انقسمت نصفين وحسب، كل منهما يطلب صاحبه، وفي نهاية المطاف نجد ابن حزم الذي لا يؤمن بالتكثر، يأخذ برأي ابن داود من وجهة عملية؛ لماذا رفض ابن حزم الشكل الكري للأرواح؛ هذا ما لا يقدم تفسيراً له؛ هل كان ابن حزم يرى تعدد التوق إلى ائتلاف الأقسام في مراحل مختلفة من العمر.
(2) روضة المحبين: فالشكل إنما؛ وقضية انجذاب المثل إلى مثله (أو كما قال المتنبي وشبه الشيء منجذب إليه) موجودة في مأدبة أفلاطون ص: 68، وتردد في مواضع مختلفة، انظر روضة المحبين: 67.
(3) الضمير في " إليها " مبهم، ولعل هنا سقطاً في النص؛ وربما كانت عبارة " فيسكن إليها " زائدة لا ضرورة لها لأن ما بعدها يغني عنها. أو لعلنا أن نقرأ " ليجد النفس التي هي شطر منه فيسكن إليها "؛ وقد سقطت العبارة " كل ذلك إليها " من روضة المحبين.
(4) روضة المحبين: من الصور.(1/94)
ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه (1) . ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا انه شيء في ذات النفس.
وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها، فمن ودك لأمر ولي مع انقضائه، وفي ذلك أقول: [من الطويل]
ودادي لك الباقي على حسب كونه ... تناهى فلم ينقص بشيء ولم يزد
وليست له غير الإرادة (2) علة ... ولا سبب حاشاه يعلمه أحد
إذا ما وجدنا الشيء علة نفسه ... فذاك وجود ليس يفنى على الأبد
وإما وجدناه لشيء خلافه ... شطر ثانيفإعدامه في عدمنا ما له وجد ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضروب (3) ، فأفضلها: محبة المتحابين في الله عز وجل، إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب (4) ، وإما لفضل علم بمنحه الإنسان؛ ومحبة القرابة، ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر (5) يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع (6) في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان
__________
(1) قارن بقول ابن الجوزي: وإذا كان سبب العشق اتفاقاً في الطباع بطل قول من قال ان العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة وإنما يكون العشق لنوع مناسبة وملاءمة ثم قد يكون الشيء حسناً عند شخص، غير حسن عند آخر (ذم الهوى: 300) .
(2) تعبير " الارادة " هنا لا أضنه يعني " الارادة الإنسانية " وإنما التقدير الإلهي، أي ان ذلك شيء مرتب في طبيعة النفس، حسب التوفيق الإلهي، ولهذا عبر عن هذا الموقف بقوله: " الشيء علة نفسه ".
(3) هنا يوسع ابن حزم في مفهوم " الحب "، حتى يصبح معنى الاتصال بين أجزاء النفوس ليس اتصالاً بين ذكر وانثى، وإنما هو اتصال بين الأجزاء المتشابهة في كل صعيد، وعلى هذا الفهم، سيمضي في كل رسالته؛ فجهة العشق التي علتها اتصال النفوس ليست إلا وجهاً واحداً من وجوه المحبة، وقارن بما ورد في رسالة في مداواة النفوس (رسائل: 138) .
(4) روضة المحبين: في أصل المذهب.
(5) روضة المحبين: ومحبة البر.
(6) روضة المحبين: ومحبة لطمع.(1/95)
عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ (1) اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس.
فكل هذه الأجناس منقضية (2) مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت. وإنك لتجد الإنسان السالي بزعمه، وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا واعتاده الطرب واهتاج له الحنين.
ولا يعرض في شيء من هذه الأجناس المذكورة، من شغل البال والخبل والوسواس وتبدل الغرائزالمركبة، واستحالة السجايا المطبوعة، والنحول والزفير وسائر دلائل الشجا، ما يعرض في العشق، فصح بذلك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني.
فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبة بينهما مستوية، إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد، فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لعمري معارضة صحيحة، ولكن نفس (3) الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية فلم تحس بالجزء الذي كان متصلاً بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة. ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغنيطس والحديد.
فقوة جوهر المغنيطس المتصلة بقوة جوهر الحديد لم تبلغ من
__________
(1) روضة المحبين: ومحبة لبلوغ.
(2) روضة المحبين: وكل فمنقضية.
(3) ولكن نفس والحديد.. وردت في رغبة المحبين: 76 وزاد إليها قول ابن حزم بعد ذلك " وكالنار في الحجر " مع حذف ما بينهما.(1/96)
تحكمها ولا من تصفيتها أن تقصد إلى الحديد على انه من شكلها وعنصرها، كما أن قوة الحديد لشدتها قصدت إلى شكلها وانجذبت نحوه، إذ الحركة أبداً إنما تكون من الأقوى، وقوة الحديد متروكة الذات غير ممنوعة بحابس، تطلب ما يشبهها وتنقطع إليه وتنهض نحوه بالطبع والضرورة وليس بالاختيار والتعمد. وأنت متى أمسكت الحديد بيدك لم ينجذب، إذ لم يبلغ من قوته أيضاً مغالبة الممسك له مما هو أقوى منه. ومتى كثرت أجزاء الحديد اشتغل بعضها ببعض واكتفت بأشكالها عن طلب اليسير من قواها النازحة عنها، فمتى عظم جرم المغنيطس ووازت قواه جميع قوى جرم الحديد عادت إلى طبعها المعهود.
وكالنار في الحجر (1) لا تبرز على قوة النار في الاتصال والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجرمين بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حجرها لا تبدو ولا تظهر.
ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق [في] الصفات الطبيعية، لابد في هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة، فانظر هذا تره عياناً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: " الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " (2) ، وقول مروي عن أحد الصالحين:
__________
(1) هذا التمثيل إنما يصح اعتماداً على نظرية " الكمون " التي كانت سائدة حينئذ؛ أي أن النار كامنة في الحجر، ومهمة القدح أن يستخرجها " انظر الحيوان للجاحظ 5: 10 وما بعدها "؛وتشبيه الحب بالنار الكامنة، ورد على لسان جارية في قصة في الموشي: 71 " له كمون ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى، وإن تركته توارى "؛ وفي ديوان الصبابة: 10.
(2) ورد هذا الحديث في البخاري (باب الأنبياء:2) ومسلم " باب البر: 159، 160) ومسند أحمد 2: 295، 527،537 وانظر بهجة المجالس 1: 641 والصداقة والصديق: 136 والموشى: 25 ومحاضرات الراغب 2: 9، 53، ونسب إلى سقراط قوله: " النفوس أشكال فما تشاكل منها اتفق وما تضاد اختلف " (مختار الحكم: 93) وانظر روضة المحبين: 73 وأورد فيه قصة؛(1/97)
" أرواح المؤمنين تتعارف ". ولذلك ما اغتم بقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان يحبه، فقيل له في ذلك فقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه (1) .
وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلماً، فلم يزل يحتج عن نفسه حتى أظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء فما لك وله فقال الملك: لعمري ما لي إليه سبيل غير أني أجد لنفسي استثقالاً لا أدري ما هو. فأدي ذلك إلى افلاطون. قال: فاحتجت أن أفتش في نفسي وأخلاقي شيئاً أقابل به نفسه وأخلاقه مما يشبهها، فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم، فميزت هذا الطبع في، فما هو إلا أن حركت هذه الموافقة وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي فأمر بإطلاقي وقال لوزيره: قد انحل كل ما أجد في نفسي له.
وأما العلة التي توقع الحب أبداً في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه (2) ، فإن ميزت وراءها شيئاً من
__________
(1) أقرب الأقوال إلى هذا قول منسوب إلى أنطيانس، إذ مدحه رجل شرير فقال له: ما أحوجني أن أكون قد فعلت شراً إذ كنت قد استحسنت مني شيئاً (صوان الحكمة: 247) وقول أبقراط هذا قد نقله ابن حجة في كتابه ديوان الصبابة: 49 وابن القيم في روضة المحبين: 73؛ وانظر: دراسات عن ابن حزم للدكتور الطاهر مكي (القاهرة 1977) ص 324 - 339.
(2) قارن هذا بقول علي بن ربن الطبري " فإن من شان النفس الولوع والعجب بكل شيء حسن من جوهر أو نبت أو دابة، فإذا اتفق مثل الحسن في شيء هو من جنس الإنسان ومما في غريزته الحب له اهتاجت الشهوة حينئذ وحرصت النفس على مواصلته وقربه " (فالنصفان متشابهان إلى حد بعيد، وابن ربن توفي سنة 247 هـ) . ويقول ابن الجوزي: العشق شدة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها فإذا قوي فكرها فيها تصورت حصولها وتمنت ذلك (ذم الهوى: 293 وانظر أيضاً: 296) .(1/98)
أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئاً من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة؛ وإن للصور لتوصيلاً عجيباً بين أجزاء النفوس النائية.
وقرأت في السفر الأول من التوراة (1) أن النبي يعقوب عليه السلام أيام رعيه غنماً للابان خاله مهراً لابنته شارطه على المشاركة في إنسالها، فكل بهيم ليعقوب وكل أغر للابان، فكان يعقوب عليه السلام يعمد إلى قضبان الشجر يسلخ نصفاً ويترك نصفاً بحاله، ثم يلقي الجميع في الماء الذي ترده الغنم، ويتعمد إرسال الطروقة في ذلك الوقت فلا تلد إلا نصفين، نصفا بهما ونصفاً غراً.
وذكر عن بعض القافة أنه أتي بابن أسود لأبيضين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما عير شك، فرغب ان يوقف على الموضع الذي اجتمعا عليه، فأدخل البيت الذي كان فيه مضجعهما، فرأى فيما يوازي نظر المرأة صورة أسود في الحائط، فقال لأبيه: من قبل هذه الصورة أتيت في ابنك.
وكثيراً ما يصرف شعراء أهل الكلام هذا المعنى في اشعارهم، فيخاطبون المرئي في الظاهر خطاب المعقول الباطن، وهو المستفيض في شعر النظام إبراهيم بن سيار (2) وغيره من المتكلمين، وفي ذلك أقول شعراً منه: [من البسيط] :
__________
(1) انظر سفر التكوين؛ الاصحاح: 30/ 25 - 43.
(2) ابراهيم بن سيار النظام أبو اسحاق 231/ 845 أستاذ الجاحظ من أبرز المتكلمين البصريين، له عدة مؤلفات (انظر الفهرست: 205 وطبقات المعتزلة: 49) وأخباره وآراؤه مبثوثة في كتب الجاحظ، وللدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة دراسة عنه (القاهرة 1946) ؛ قال ابن النديم: وذهب في شعره مذهب الكلام الفلسفي، وقد أورد ابن نباتة في سرح العيون: 230 - 231 نماذج من شعره، ينطبق عليها ما يومئ إليه ابن حزم.(1/99)
ما علة النصر في الأعداء نعرفها ... وعلة الفر منهم إذ يفرونا
إلا نزاع نفوس الناس قاطبة ... إليك يا لؤلؤاً في الناس مكنونا
ومن كنت قدامه لا ينثني أبداً ... فهم إلى نورك الصعاد يعشونا
ومن تكن خلفه فالنفس تصرفه ... إليك طوعاً فهم دأباً يكرونا ومن ذلك أقول: [من الطويل]
أمن عالم الأملاك (1) أنت أم آنسي ... أبن لي فقد أزرى بتمييزي العي
أرى هيئة إنسية غير أنه ... إذا أعمل التفكير فالجرم علوي
تبارك من سوى مذاهب خلقه ... على انك النور الأنيق الطبيعي
ولا شك عندي أنك الروح ساقه ... إلينا مثال في النفوس اتصالي
عدمنا دليلاً في حدوثك شاهداً ... نقيس عليه أنك مرئي
ولولا وقوع العين في الكون لم نقل ... سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي وكان بعض أصحابنا يسمي قصيدة لي " الإدراك المتوهم " منها: [من المتقارب] .
ترى كل ضد به قائماً ... فكيف تحد اختلاف المعاني
فيا أيها الجسم لا ذا جهات ... ويا عرضاً ثابتاً غير فان
نقضت علينا وجوه الكلام ... فما هو مذ لحت بالمستبان وهذا بعينه موجود في البغضة، ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنى ولا علة، ويستثقل بعضهما بعضاً بلا سبب.
والحب - أعزك الله - داء عياء وفيه الدواء منه على قدر
__________
(1) المعروف أن " أملاك " جمع ملك - بكسر اللام - ولكنه استعملها هنا جميعاً لملك - بفتح اللام -، مفرد ملائكة؛ ولا بأس من قراءتها " الافلاك " لتحدثه من بعد " الجرم العلوي ".(1/100)
المعاناة (1) ، وسقام مستلذ وعلة مشتهاة لا يود سليهما البرء ولا يتمنى عليلها الإفاقة؛ يزين للمرء ما كان يأنف منه، ويسهل عليه ما كان يصعب عنده حتى يحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة، وسيأتي كل ذلك مخلصاً في بابه إن شاء الله.
خبر:
ولقد علمت فتى من بعض معارفي قد وحل في الحب وتورط في حبائله، وأضر به الوجد، وأنصبه (2) الدنف، وما كانت نفسه تطيب دعاؤه إلا بالوصل والتمكن ممن يحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظن بسقيم لا يريد فقد سقمه! ولقد جالسته يوماً فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني، فقلت له في بعض قولي: " فرج الله عنك " فلقد رأيت أثر الكراهية في وجهه؛ وفي مثله أقول من كلمة طويلة: [من البسيط]
وأستلذ بلائي فيك يا أملي ... ولست عنك مدى الأيام انصرف
إن قيل لي تتسلى عن مودته ... فما جوابي إلا اللام والألف خبر:
وهذه الصفات مخالفة لما أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم بن محمد القرشي المعروف بالشبانسي (3) ، من ولد الإمام هشام
__________
(1) في طبعة بتروف وغيرها: المعاملة؛ وما أثبته هو قراءة برشيه.
(2) هذه هي قراءة برشيه؛ وفي مختلف الطبعات: " وأنضحه الدنف " وليس في معاني لفظ " أنضح " ما يمكن توجيهه نحو هذا المعنى.
(3) محمد بن قاسم بن محمد بن اسماعيل بن هشام بن محمد بن هشام بن الوليد بن هشام الرضى بن عبد الرحمن بن معاوية القرشي المرواني المعروف بالشبانسي، كان عالماً بالآداب متقدماً في البلاغة والكتابة، استقر بعد الفتنة بطليطلة كاتباً للرسائل بها، وتوفي سنة 447 (التكملة 1: 389) ولأبيه القاسم بن محمد الشبانسي ترجمة في الجذوة: 310) والبغية رقم: 1296 وكان الأب أيضاً أديباً شاعراً، سجن في أيام المنصور فكتب إليه بقصيدة يستعطفه فيها فرق له وأطلقه؛ ولأخيه عبد الرحمن ترجمة في التكملة رقم: 1549؛ وقد تصحفت كلمة " الشبانسي " في طبعات الطوق وتنبه لها غرسيه غومس (انظر ترجمته للطوق: 103 الحاشية رقم: 2) .(1/101)
ابن عبد الرحمن بن معاوية أنه لم يحب أحداً قط، ولا أسف على إلف بان منه، ولا تجاوز حد الصحبة والألفة إلى حد الحب والعشق منذ خلق.(1/102)
- 2 -
باب علامات الحب
وللحب علامات يقفوها الفطن (1) ، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، ينتقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال، كالحرباء مع الشمس، وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل]
فليس لعيني عند غيرك موقف ... كأنك ما يحكون من حجر البهت (2)
__________
(1) بعض هذه العلامات قد نقله الحنبلي عن ابن حزم؛ انظر مجلة الأندلس (1951) ص: 327؛ وورد مثله في ديوان الصبابة: (10، 12، 13) وما بعدها، وقارن بما ذكره الوشاء من علامات (الموشى: 48، 51، 52) أما ابن القيم في روضة المحبين (262 وما بعدها) فقد تصرف بعبارات ابن حزم، ومثال ذلك قوله: فمنها ادمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه، فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن ضمائره والكاشفة لأسراره فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيف دار، ويجول معه في النواحي والأفكار ومنها الاقبال على حديثه والقاء سمعه كله إليه يفرغ لحديثه سمعه وقلبه، وان ظهر منه إقبال على غيره فهو اقبال مستعار يستبين فيه التكلف لمن يرمقه ومنها البهت والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب أو عند سماع ذكره، ولا سيما إذا رآه فجأة أو طلع عليه بغتة ومنها بذل المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة والتفرد عن الناس الخ: قلت: رغم اعتماد ابن القيم على ما جاء في طوق الحمامة، فإنه يستنكر هذا النوع من الحب الذي يحمل هذه العلامات ويعده حباً حيوانياً.
(2) حجر يوجد في ساحل المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) وهو مشهور عند أهل المغرب الأقصى، ويباع الحجر منه بقيمة جيدة لا سيما في بلاد لمتونة، وهم يحكون عن هذا الحجر أن من أمسكه وسار في حاجة قضيت له بأوفى عناية، وهو جيد عندهم في عقد الألسنة على زعمهم (الادريسي: صفة المغرب وأرض السودان، تحقيق دوزي ودي خويه، ليدن 1969 ص: 28 - 29 وانظر ملحق المعجمات العربية لدوزي مادة " بهت ") .(1/103)
أصرفها حيث انصرفت وكيفما ... تقلبت كالمنعوت في النحو والنعت ومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد (1) يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه؛ والإنصات لحديثه إذا حدث، واستغراب كل ما يأتي به ولو انه عين المحال وخرق العادات؛ وتصديقه وإن كذب؛ وموافقته وإن ظلم؛ والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف سلك وأي وجه من وجوه القول تناول؛ ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه؛ والتعمد للقعود بقربه والدنو منه؛ واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته؛ والتباطؤ في المشي (2) عند القيام عنه؛ وفي ذلك أقول شعراً: [من الخفيف]
وإذا قمت عنك لم أمش إلا ... مشي عان يقاد نحو الفناء
في مجيئي إليك أحتث كالبد ... ر إذا كان قاطعاً للسماء
وقيامي إن قمت كالأنجم العا ... لية الثابتات في الإبطاء ومنها بهت يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة وطلوعه بغتة؛ ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع اسمه فجأة. وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل]
__________
(1) يقرؤها برشيه: بما لا يكاد، ولا أرى داعياً لتغييرها.
(2) في طبعة بتروف: والتباطؤ في الشيء، وتابعته طبعات أخرى؛ والمشي يؤكده قوله في الشعر: وإذا قمت عنك لم امش إلا/ مشي عان البيت؛ وكذلك وردت " المشي " في ديوان الصبابة والحنبلي.(1/104)
إذا ما رأت عيناي لابس حمرة ... تقطع قلبي حسرة وتفطرا
غدا لدماء الناس باللحظ سافكاً ... وضرج منها ثوبه فتعصفرا ومنها أن يجود المرء يبذل كل ما كان يقدر عليه مما كان يمتنع (1) به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب له والمسعي في حظه، كل ذلك ليبدي محاسنه ويرغب في نفسه؛ فكم بخيل جاد، وقطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تظرف، وجاهل تأدب، وتفل (2) تزين، وفقير تجمل، وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تهتك.
وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه، وتوقد شعله واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذ فحينئذ ترى الحديث سراراً، والإعراض عن كل من حضر إلا عن المحبوب جهاراً. ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات، منها: [من البسيط]
أهوى الحديث إذا ما كان يذكر لي ... فيه ويعبق لي عن عنبر أرج
عن قال لم أستمع ممن يجالسني ... إلى سوى لفظه المستظرف الغنج
ولو يكون أمير المؤمنين معي ... ما كنت من أجله عنه بمنعرج
فإن أقم عنه مضطراً فإني لا ... (3) أزال ملتفتاً والمشي مشي وجي
عيناي فيه وجسمي عنه مرتحل ... مثل ارتقاب الغريق البر في اللجج
أغض بالماء إن أذكر تباعده ... (4) كمن تثاءب وسط النقع والرهج
وأن تقل ممكن قصد السماء أقل ... نعم وإني لأدري موضع الدرج
__________
(1) في طبعة بتروف: ممتنع؛ وهو خطأ من حيث الاعراب، والاقرب أن يقرأ " يمتنع " بدلاً من قراءته " ممتنعاً ".
(2) يقترح الأستاذ غرسيه غومس أن تقرأ " وتفر " (الترجمة الاسبانية: 107، الحاشية: 2) ، وهو تخريج بعيد، والتفل هو الذي ترك استعمال الطيب، وهذا هو الذي يستدعي " التزين ".
(3) الوجي: الذي يجد وجعاً في قدمه.
(4) الرهج: الغبار؛ وهو كالنقع، وأما " الوهج " عند برشيه وغيره فلا معنى له في هذا المقام.(1/105)
ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكل بصر: الانبساط الكثير الزائد [في المكان الضيق] (1) والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، والميل بالأتكاء، والتعمد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة، وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه.
ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة. والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام. فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً كثر تهاجرهما (2) بغير معنى، وتضادهما في القول تعمدا، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه.
والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومحاربة (3) التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين
__________
(1) ما بين معقفين زيادة لاحداث شيء من التطابق في العبارتين " الانبساط في المكان الضيق، والتضايق في المكان الواسع " والزيادة من وضع برشيه، ولم ترد عند الحنبلي فيما نقله عن ابن حزم؛ مما حدا بغرسيه غومس أن يعدها نزوة من المحقق.
(2) تهاجرهما: تعرضت اللفظة لتصحيف طريف في مختلف الطبعات فجاءت " بهما جدهما "، والتهاجر ليس هجرة، ويقول ابن حزم بعد قليل " والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء الخ ".
(3) المحاربة: تبادل الاحراج وهو إثارة التضايق بالمماحكة؛ وفي بعض الطبعات " المخارجة " - بالخاء المعجمة - ولا أراه يصح هنا.(1/106)
قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا تقدره يصلح عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنك ريب ألبتة ولا تتمار في أن بينهما سراً من الحب دفيناً، واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه صارف. ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكاف (1) في المودة وائتلاف صحيح، وقد رأيته كثيراً.
ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي (2) سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوف ان يفطن السامع ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم (3) . فلو أمكن المحب ألا يكون حديث في مكان فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه.
ويعرض للصادق المودة ان يبتدئ في الطعام وهو له مشته فما هو إلا وقت ما يهتاج له ذكر من يحب صار الطعام غصة في الحلق وشجى في المرئ، وهكذا في الماء، وفي الحديث، فإنه يفاتحكه مبتهجا، فتعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يحب، فتستبين
__________
(1) التكافي في المودة أمر يكرره ابن حزم مراراً في هذه الرسالة؛ ومن العجيب أن تظل الكلمة في مختلف الطبعات " تكلف ".
(2) يريد برشيه أن يقراها " يستحلي " وهي قراءة جيدة، ولكن لا ضرر من بقاء " يستدعي ".
(3) هو حديث شريف، عند أبي داود (أد ب: 116) وفي مسند ابن حنبل 5: 194، 6: 450 وانظر محاضرات الراغب 2: 49 والموشى: 61 وجمهرة العسكري 1: 356 والميداني 1: 132 والمستقصي: 201 والحيوان 4: 386 وفصل المقال: 320 وبهجة المجالس 1: 808 وديوان الصبابة: 10 وروضة المحبين: 20.(1/107)
الحوالة (1) في منطقه، والتقصير في حديثه، وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانغلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقاً متثاقلاً حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال.
ومن علاماته حب الوحدة، والأنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حر (2) يكون فيه، ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي؛ دليل لا يكذب، ومخبر لا يخون عن علة (3) في النفس كامنة.
والسهر من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه وحكوا انهم رعاة الكواكب وواصفو طول الليل؛ وفي ذلك أقول وأذكر كتمان السر وأنه يتوسم بالعلامات: [من الوافر]
تعلمت السحائب من شؤوني ... فعمت بالحيا السكب الهتون
وهذا الليل فيك غدا رفيقي ... بذلك على سهري معيني
فإن لم ينقض الإظلام إلا ... [إذا] ما أطبقت نوماً جفوني
فليس إلى النهار لنا سبيل ... وسهد زائد في كل حين
كأن نجومه والغيم يخفي ... سناها عن ملاحظة العيون
ضمير في ودادك يا منايا ... فليس يبين إلا بالظنون
__________
(1) الحوالة: يريد بها الانتقال من حال إلى أخرى، والتغير، وقد استعملها ابن قزمان في أحد أزجاله (رقم: 78) فقال:
ولابد للخبز من فرن إذا ما اختمر ... إن لم يعتريه حواله ويفرن فطير ويفرن: بمعنى يخبز في الفرن؛ (وإلى هذا أشار الدكتور عبد العزيز الأهواني، انظر مجلة المعهد المصري، المجلد: 18 (1974 - 1975) ص: 72.
(2) وردت في الطبعات المختلفة (ما عدا برشيه) : حد، ولا معنى لها؛ والحر كان يقترن بالتحول عند علماء الطب، كما ان كثرة الشحم تقترن بالبرد، قال علي بن ربن الطبري (وفي فردوس الحكمة: 84) نقلاً عن جالينوس: " ومما يدل على حرارة المزاج ويبسه نحافة البدن ويدل على برد المزاج ورطوبته كثرة الشحم "..
(3) في معظم الطبعات: كلمة، وعند برشيه: كله؛ وكلاهما خطأ واضح.(1/108)
وفي مثل ذلك قطعة منها: [من الكامل]
أرعى النجوم كأنني كلفت أن ... أرعى جميع ثبوتها والخنس
فكأنها والليل نيران الجوى ... قد أضرمت في فكري من حندس
وكأنني أمسيت حارس روضة ... خضراء وشح نبتها بالنرجس
لو عاش بطليموس أيقن أنني ... أقوى الورى في رصد جري الكنس والشيء قد يذكر لما يوجبه: وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد، وهو البيت الذي أوله " فكأنها والليل " في بيت واحد، وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد، وكلاهما في هذه القطعة أوردها وهي: [من الطويل]
مشوق معنى ما ينام مسهد ... بخمر التجني ما يزال يعربد
ففي ساعة يبدي إليك عجائباً ... يمر ويستحلي ويدني ويبعد
كأنه النوى والعتب والهجر والرضى ... (1) قران وأنداد ونحس وأسعد
رثى لغرامي بعد طول تمنع ... وأصبحت محسوداً وقد كنت أحسد
نعمنا على نور من الروض زاهر ... سقته الغوادي فهو يثني ويحمد
كأن الحيا والمزن والروض عاطراً ... دموع وأجفان وخد مورد ولا ينكر علي منكر قولي " قران " فأهل المعرفة بالكواكب يسمون التقاء كوكبين في درجة واحدة قراناً.
ولي أيضاً ما هو أتم من هذا، وهو تشبيه خمسة أشياء في بيت واحد في هذه القطعة وهي: [من الطويل]
خلوت بها والراح ثالثة لنا ... وجنح ظلام الليل مذ مد ما انبلج (2)
__________
(1) قرأ برشيه: كأن الهوى قران وأنواء؛ والبيت كما هو مقبول دون تغيير.
(2) مذ مد ما انبلج: هذه هي القراءة التي أختارها؛ وفي بعض الطبعات: قد مد وانبلج وهو كلام متناقض؛ لأن " انبلج " تعني أسفر وأشرق؛ وقرأ برشيه: قد مد واتلج؛ والاتلاج: الولوج والدخول، وهي قراءة فيها شطط.(1/109)
فتاة عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج
كأني وهي والكاس والخمر والدجى ... ثرى وحيا والدر والتبر والسبح فهذا أمر لا مزيد فيه ولا يقدر أحد على اكثر منه، إذ لا يحتمل العروض ولا بنية الأسماء أكثر من ذلك.
ويعرض للمحب القلق عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه لقاء من يحب فيعرض عند ذلك حائل.
خبر:
وإني لأعلم بعض من كان محبوبه يعده الزيارة، فما كنت أراه إلا جائياً وذاهباً لا يقر به القرار ولا يثبت في مكان واحد، مقبلا مدبراً قد استخفه السرور بعد ركانة، وأشاطه بعد رزانة؛ ولي في معنى انتظار الزيارة: [من الطويل]
أقمت إلى أن جاءني الليل راجياً ... لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأمل
فأيأسني الإظلام عنك ولم أكن ... لأيأس يوماً إن بدا الليل يتصل
وعندي دليل ليس يكذب خبره ... بأمثاله في مشكل الأمر يستدل
لأنك لو رمت الزيارة لم يكن ... (1) ظلام ودام النور فينا ولم يزل والثاني عند حادث يحدث بينهما من عتاب لا تدرى حقيقته إلا بالوصف. فعند ذلك يشتد القلق حتى يوقف على الجلية (2) ، فإما أن
__________
(1) لا تعدو هذه الأبيات أن تكون " محاكمة استدلالية " - على طريقة أهل الجدل - مأخوذ من قول المتنبي:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث أنت من الظلام ضياء (2) في أكثر الطبعات (ما عدا برشيه) : الجليلة.(1/110)
يذهب تحامله إن رجا العفو، وإما أن يصير القلق حزناً وأسفاً إن تخوف الهجر.
ويعرض للمحب الاستكانة لجفاء المحبوب عليه، وسيأتي مفسراً في بابه إن شاء الله تعالى.
ومن أعراضه الجزع الشديد والحيرة (1) المفظعة تغلب عندما يرى من إعراض محبوبه عنه ونفاره منه، وآية ذلك الزفير وقلة الحركة والتأوه وتنفس الصعداء. وفي ذلك أقول شعراً منه:
جميل الصبر مسجون و: ... (2) دموع العين سارحة ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته.
والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع، وأنا منهم. وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكندر (3) لخفقان القلب، وكان عرض لي في الصبا، فإني لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطر ويتقطع، وأحس في قلبي غصة أمر من العلقم تحول بيني وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشرقني
__________
(1) قرئت: والحمرة المقطعة؛ وعند برشيه: والحيرة المقطعة.
(2) أقدر انهما بيتان حذف عجزاهما وما يلي من أبيات او انه بيت واحد اضطرب الناسخ في إيراده اضطراباً لا يجدي معه تغييره كما فعل الأستاذ حسن كامل الصيرفي إذ جعله:
جميل الصبر مسجون ... ودمع العين مسفوح فهو تصحيح للوزن لا غير، لكنا لا ندري كيف كان البيت على وجه الحقيقة؛ وأرجح انه هو البيت الذي سيرد في الباب الثاني عشر:
دموع الصب تنسفك ... وستر الصب ينهتك (على ان نقرأ: وستر الصبر منهتك)
(3) الكندر بالفارسية هو اللبان بالعربية، وقد قال ابن سينا أنه مقو للروح الذي في القلب والذي في ادماغ، وقال الرازي أنه ينفع اخفقان (انظر مادة كندر في مفردات ابن البيطار 4: 83 - 86) .(1/111)
بالنفس (1) أحياناً ولا تجيب عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع.
خبر:
ولقد أذكرني هذا الفصل يوماً ودعت أنا وأبو بكر محمد بن إسحاق (2) صاحبي أبا عامر محمد بن [أبي] عامر (3) صديقنا - رحمه الله - في سفرته إلى المشرق (4) التي لم نره بعدها، فجعل أبو بكر يبكي عند وداعه وينشد متمثلاً بهذا البيت: [من الطويل]
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... (5) عليك بباقي دمعها لجمود وهو في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة رحمه الله، ونحن وقوف على ساحل البحر بمالقة (6) ، وجعلت أنا أكثر التفجع والأسف
__________
(1) هذه قراءة برشيه وهي أصوب بكثير من " وتشوقني النفس ".
(2) محمد بن اسحاق المهلبي أبو بكر الاسحاقي الوزير، كان من أهل الأدب والفضل، وهو الذي خاطبه ابن حزم برسالته في فضل الاندلس (الجذوة: 42 والبغية رقم: 59) .
(3) أكد ابن حزم انه لا عقب لعبد الملك المظفر (الجمهرة: 419) فمحمد هذا ليس ابناً للمظفر، وإنما هو - ان كان من أسرة العامريين - محمد بن عبد الله بن المنصور العامري (وقد مات في حياة ابن حزم) وتخلف ابناً اسمه عبد الملك نهذ إلى الحج ومات هنالك؛ ووالد محمد هذا أي عبد الله كان قد قتله المنصور والده سنة 380 هـ (انظر نقط العروس: 79 تحقيق د. شوقي ضيف) وقد أشارت إلى ذلك إحدى الرسائل التي وجهت إلى المعتضد حين قتل ابنه اسماعيل (الذخيرة 3/ 1: 160؛ وتفصيل الحادثة عند ابن عذاري 2: 284) وسيذكر ابن حزم من بعد من بعد انه كانت بين والده ووالد أبي عامر هذا منافسة في صحبة السلطان ووجاهة الدنيا (ص 119 فيما يلي) ، وهذا يبعد أن يكون أبو عامر هذا من الأسرة العامرية المشهورة، فالتنافس لا يكون بين وزير وبين ابن الحاجب الأعلى نفسه.
(4) قرأها بروفنسال (الأندلس: 352) إلى الشرق (يعني شرق الأندلس) ؛ وبها أخذ غومس في ترجمته (انظر ص: 112) ؛ وليس من دليل على ذلك، وهذا ابنه عبد الملك يتوجه حاجاً إلى المشرق أيضاً ولا يعود، انظر الحاشية السابقة.
(5) البيت لأبي عطاء السندي (انظر الشعر والشعراء: 653 والسمط: 602 وأمالي القالي 1: 268 والحماسة بشرح التبريزي 2: 151) وورد في أمالي المرتضى 1: 223 منسوباً لمعن بن زائدة. وفي مقتل يزيد انظر تاريخ الطبري 3: 68 - 70 وفيه الشعر أيضاً.
(6) مالقة (Malaga) مدينة على شاطئ المتوسط: كانت مركزاً تجارياً هاماً في العصور الاسلامية، (انظر في التعريف بها: الروض: 517 والترجمة: 213 والزهري: 93 وياقوت (مالقة) والموسوعة الإسلامية) .(1/112)
ولا تساعدني عيني، فقلت مجيباً لأبي بكر: [من الطويل]
وإن امرءاً لم يفن حسن اصطباره ... عليك وقد فارقته لجليد وفي المذهب الذي عليه الناس أٌول من قصيدة قلتها قبل بلوغ الحلم، أولها: [من الطويل]
دليل الأسى نار على القلب تلفح ... ودمع على الخدين يهمي ويسفح
إذا كتم المشغوف سر ضلوعه ... فإن دموع العين تبدي وتفضح
إذا ما جفون العين سالت شؤونها ... ففي القلب داء للغرام مبرح ويعرض في الحب سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين. وإني لأعلم من كان أحسن الناس ظناً، وأوسعهم نفساً، وأكثرهم صبراً، وأشدهم احتمالاً، وأرحبهم صدراً، ثم لا يحتمل ممن يحب شيئاً، ولا يقع له معه أيسر مخالفة حتى يبدي من التعديد فنوناً، ومن سوء الظن وجوهاً. وفي ذلك أقول شعراً منه: [من المنسرح]
أسيء ظني بكل محتقر ... (1) تأتي به، والحقير من حقره
كي لا يرى أصل هجرة وقلى ... فالنار في بدء أمرها شرره
وأصل عظم الأمور أهونها ... ومن صغير النوى ترى شجره وترى المحب إذا لم يثق بنقاء طوية محبوبه له، كثير التحفظ مما لم يكن يتحفظ منه قبل ذلك، مثقفاً لكلامه، مزيناً لحركاته، ومرامي طرفه، ولا سيما إن دهي بمتجن وبلي بمعربد.
ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا يسقط عنه دقيقه ولا جليله، وتبعه لحركاته. ولعمري لقد ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.
__________
(1) قافية هذه الأبيات تنتهي بهاء ساكنة - ولابد - على خلاف ما جاء في سائر الطبعات.(1/113)
خبر:
ولقد كنت يوماً بالمرية قاعداً في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي (1) ، وكان بصيراً بالفراسة محسناً لها، وكنا في لمة، فقال له مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا وأشار إلى رجل منتبذ عنا ناحية اسمه حاتم ويكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعة يسيرة ثن قال: هو رجل عاشق، فقال له: صدقت: فمن أين قلت هذا قال: لبهت مفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس بمريب (2) .
__________
(1) كان ابن حزم يلابس يهود الاندلس، إما للسؤال أو للجدل أو لغير ذلك، ولهذا عندما نشب الخلاف بينه وبين ابن عمه أبي المغيرة عيره هذا بأنه أصبح بين شيعته وأنصاره " رئيس مدارسهم ". وقال ابن حيان: ولهذا الشيخ أبي محمد مع يهود مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة " (انظر الذخيرة 1/1: 163، 170 ومقدمتي على رسالة الرد على ابن النغريلة) . واسماعيل بن يونس الطبيب اليهودي ذكره ابن حزم في الفصل 5: 120 ووصفه ب " الأعور " واستدل على انه كان في أقواله ومناظرته ينصر مذهب تكافؤ الأدلة، لاجتهاده في نصر هذه المقالة دون أن يصرح بذلك. وأضاف أبو محمد قوله: " وكان اسماعيل ابن القراد (لعلها: القراء) الطبيب اليهودي يذهب إلى هذا القول يقيناً وقد ناظرنا عليه مصرحاً به، وكان يقول إذا دعوناه إلى الإسلام وحسمنا شكوكه ونقضنا علله: الانتقال في الأديان تلاعب ".
(2) بمريض: قراءة برشيه، وهي وجه مقبول.(1/114)
- 3 -
باب من أحب في النوم
ولابد لكل حب من سبب يكون له أصلاً، وأنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ليجري الكلام على نسق، أو أن (1) يبتدأ أبداً بالسهل والأهون. فمن أسبابه شيء لولا أني شاهدته لم أذكره لغرابته.
خبر:
وذلك أني دخلت يوماً على أبي السري عمار بن زياد صاحبنا مولى المؤيد (2) فوجدته مفكراً مهتماً فسألته عما به، فتمتع ساعة ثم قال لي: أعجوبة ما سمعت قط. قلت: وما ذاك قال: رأيت في نومي الليلة جارية فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها وهمت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها. ولقد بقي أياماً كثيرة تزيد على الشهر مغموماً لا يهنئه شيء وجداً، إلى أن عذلته وقلت له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي قال: لا والله، قلت: إنك لفيل (3) الرأي مصاب البصيرة إذ تحب
__________
(1) أو أن: كذا وردت، ولعلها " لا أن ".
(2) يعني - في الأرجح - هشام بن الحكم المستنصر.
(3) رجل فيل الرأي أي ضعيف الرأي (اللسان: فيل) يقال بكسر الفاء وسكون الياء، وقد يقال: فيل وفيل وقال؛ وقد قرئت في معظم الطبعات: لقليل؛ وهو خطأ، وقرأ برشيه " لقائل " وهي مقبولة وان أبعدت عن رسم الكلمة، ولو قرئت لفليل - بالفاء - لكان ذلك وجهاً حسناً؛ وعند الصيرفي: لقيل، ولعلها خطأ مطبعي.(1/115)
من لم تره قط، ولا خلق ولا هو في الدنيا، ولو عشقت صورة من صور الحمام (1) لكنت عندي أعذر؛ فما زلت به حتى سلا وما كاد.
وهذا عندي من حديث النفس وأضغائها، وداخل في باب التمني وتخيل الفكر، وفي ذلك أقول شعراً منه (2) [من البسيط]
يا ليت شعري من كانت وكيف سرت ... أطلعة الشمس كانت أم هي القمر
أظنه العقل أبداه تدبره ... أو صورة الروح أبدتها لي الفكر
أو صورة مثلت في النفس من أملي ... فقد تخيل (3) في إدراكها البصر
أو لم تكن كل هذا فهي حادثة ... أتى بها سبباً في حتفي القدر
__________
(1) هذا يدل على أن جدران الحمامات في الأندلس كانت تزين بالصور (كما أن الحال في بعض حمامات المشرق) انظر نفح الطيب 3: 348 وهنالك حكايات عن فتنة بعض الاندلسيين بالتماثيل؛ وفي ذلك دليل على شدة الاعجاب بالجمال الفني وجاء في الموشى (ص: 56) وبلغنا أن منهم من عشق صورة في حمام وخيالاً في منام وكفاً في حائط ومثالاً في ثوب.
(2) وردت الأبيات في ديوان الصبابة: 52 (دون نسبة) .
(3) ديوان الصبابة: تحير.(1/116)
- 4 -
باب من أحب بالوصف
من غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة، وهذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الإبصار، فغن للحكايات ونعت المحاسن ورصف الأخبار تأثيراً في النفس ظاهراً؛ وأن تسمع نغمتها من وراء جدار، فيكون سبباً للحب واشتغال البال.
وهذا كله قد وقع لغير ما واحد، ولكنه عندي بنيان هار على غير أس، وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى من لم ير لابد له إذ يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهمها وعيناً يقيمها نصب ضميره، لا يتمثل في هاجسه غيرها، قد مال بوهمه نحوها، فإن وقعت المعاينة يوماً ما فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية، وكلا الوجهين قد عرض وعرف، وأكثر ما يقع هذا في ربات الخدور (1) المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال، وحب النساء في هذا أثبت من حب الرجال لضعفهن وسرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن، وتمكنه منهن؛ وفي ذلك أقول شعراً (2) منه: [من الهزج] .
__________
(1) في بعض الطبعات: القصور.
(2) انظر ديوان الصبابة: 51 حيث أورد هذه الأبيات ونسبها للمدني () .(1/117)
ويا من لامني في حب من لم يره طرفي ... لقد أفرطت في وصفك لي في الحب بالضعف ... فقل هل تعرف الجنة يوماً بسوى الوصف ... وأقول شعراً في استحسان النغمة دون وقوع العين على العيان منه: [من مخلع البسيط]
قد حل جيش الغرام (1) سمعي ... وهو على مقلتي يبدو وأقول أيضاً في مخالفة الحقيقة لظن المحبوب عند وقوع الرؤية: [من الكامل]
وصفوك لي حتى إذا أبصرت ما ... وصفوا علمت بأنه هذيان
فالطبل جلد فارغ وطنينه ... يرتاع منه ويفرق الإنسان وفي ضد هذا أقول:
لقد وصفوك لي حتى التقينا ... فصار الظن حقاً في العيان
فأوصاف الجنان مقصرات ... على التحقيق عن قدر الجنان وإن هذه الأحوال لتحدث بين الأصدقاء والإخوان، وعني أحدث،
خبر:
أنه كان بيني وبين رجل من الأشراف ود وكيد وخطاب كثير، وما تراءينا قط، ثم منح الله لي لقاءه، فما مرت إلا أيام قلائل حتى وقعت لنا منافرة عظيمة ووحشة شديدة متصلة إلى الآن، فقلت في ذلك قطعة منها: [من البسيط]
__________
(1) حلول جيش الغرام في السمع استعارة قبيحة، هذا إذا لم نقدر أن في اللفظة تصحيفاً. وقد تصرف ابن القيم بهذه الصورة (روضة المحبين: 241) فقال: وجيش المحبة قد يدخل المدينة من باب السمع كما يدخلها من باب البصرة.(1/118)
أبدلت أشخاصنا (1) كرهاً وفرط قلى ... كما الصحائف قد يبدلن بالنسخ ووقع لي ضد هذا مع أبي عامر بن أبي عامر رحمة الله عليه، فإني كنت له على كراهة صحيحة وهو لي كذلك، ولم يرني ولا رأيته، وكان أصل ذلك تنقيلاً يحمل إليه عني وإلي عنه، ويؤكده انحراف بين أبوينا لتنافسهما فيما كانا فيه أود الناس وصرت له كذلك، إلى ان حال الموت بيننا؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من المتقارب]
أخ لي كسبنيه اللقاء ... وأوجدني فيه علقاً شريفا
وقد كنت أكره منه الجوار ... وما كنت أرغبه لي أليفا
وكان البغيض فصار الحبيب ... وكان الثقيل فصار الخفيفا
وقد كنت أدمن عنه الوجيف ... فصرت أديم إليه الوجيفا وأما أبو شاكر عبد الواحد بن محمد القبري (2) فكان لي صديقاً مدة على غير رؤية، ثم التقينا فتأكدت المودة واتصلت وتمادت إلى الآن.
__________
(1) اشخاصنا: قرأها برشيه " اخلاصنا ".
(2) في الأصل: عبد الرحمن؛ وهو عبد الواحد بن محمد بن موهب بن محمد الدجيبي أبو شاكر، يعرف بابن القبري، كان فقيهاً محدثاً خطيباً شاعراً، نشأ بقرطبة، ويبدو أنه تحول بعد الفتنة إلى شاطبة، وولي الأحكام والمظالم بها، وهنالك رآه الحميدي، وهنالك توكدت الصلة بينه وبين ابن حزم (الجذوة: 271 والبغية رقم: 1107) وقد سكن أبو شاكر بلنسية وتقلد الصلاة والخطبة والأحكام بها، وكانت وفاته سنة 456 بمدينة شاطبة ونقل إلى بلنسية فدفن فيها، وكان ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير وسيماً جميلاً حسن الهيأة والخلق، حسن السمت والهدي (الصلة: 365 - 366) وله شعر في رثاء قرطبة منه قوله (ترتيب المدارك 4: 818) .
يا ليت شعري والأيام تجمعنا ... ونأخذ البينة مغلوباً فنصفعه
في جنة الأرض اعني أرض قرطبة ... فكل شيء بديع فهي تجمعه
استودع الله أهليها فإنهم ... كالمسك قد ملأ الدنيا تضوعه(1/119)
- 5 -
باب من أحب من نظرة واحدة
وكثيراً ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة، وهو ينقسم قسمين، فانقسم الواحد مخالف للذي قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هي ولا يدري لها اسماً ولا مستقراً، وقد عرض هذا لغير واحد؛
خبر:
حدثني صاحبنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسحاق عن ثقة أخبره سقط عني اسمه، وأظنه القاضي ابن الحذاء (1) ، أن يوسف بن هارون الشاعر (2) المعروف بالرمادي كان مجتازاً عند باب العطارين
__________
(1) ابن الحذاء: هو محمد بن يحيى بن أحمد أحد رجال الأندلس فقهاً وعلماً وتفنناً في العلوم، استقضي ببجانة ثن باشبيلية، وكان أحد القضاة المشاورين بقرطبة، وتولى خطة الوثائق السلطانية، وخرج عن قرطبة في الفتنة واستقضي بمدينة تطيلة في الثغر الأعلى ثم نقل منها إلى قضاء مدينة سالم ثم إلى سرقسطة وفيها توفي (416) (الصلة: 478 - 480 وترتيب المدارك 4: 733) والنص هنا قد ينطبق عليه ولعى ابنه أحمد ويكنى بأبي عمر، فقد بدأ سماعه سنة 393 وجلا عن وطنه في الفتنة وسكن سرقسطة وتقلد القضاء بطليطلة، وانصرف في آخر عمره إلى قرطبة، وتوفي سنة 467 (الصلة: 65 - 66) .
(2) يوسف بن هارون الرمادي (أبو جنيش) ؛ ربما كان أبرز شعراء الأندلس في عصره، وقد توفي في الفتنة (حوالي 403) ؛ انظر ترجمته في الجذوة: 346 والبغية رقم: 1451 والصلة: 637 والمطرب: 4 والمغرب 1: 392 والمطمح: 69 واليتيمة 1: 435 وابن خلكان 7: 225 ومسالك الأبصار 11: 175، والمقتبس (ط. بيروت) 74، 75 ومعجم الأدباء 20: 62، وله أشعار في البديع للحميري وكتاب التشبيهات للكتاني ونفح الطيب وشرح الشريرشي على المقامات، وعنه دراسة في كتابي تاريخ الأدب الاندلسي، عصر سيادة قرطبة: 205 (ط. ثانية) ، وقد جمع شعره السيد ماهر زهير جرار ونشرته مؤسسة الدراسات العربية، بيروت 1980.(1/120)
بقرطبة (1) ، وهذا الموضع كان مجتمع النساء، فرأى جارية أخذت بمجامع قلبه وتخلل حبها جميع اعضائه، فانصرف عن طريق الجامع وجعل يتبعها وهي ناهضة نحو القنطرة (2) ، فجازتها إلى الموضع المعروف بالربض. فلما صارت بين رياض بني مروان - رحمهم الله - المبنية على قبورهم في مقبرة الربض خلف النهر نظرت منه منفرداً عن الناس لا همة له غيرها، فانصرفت إليه فقالت له: مالك تمشي ورائي فأخبرها بعظيم بليته بها. فقالت له: دع عنك هذا ولا تطلب فضيحتي فلا مطمع لك في البتة ولا إلى ما ترغبه سبيل، فقال: إني أقنع بالنظر، فقالت: ذلك مباح لك، فقال لها: يا سيدتي، أحرة أم مملوكة قالت: مملوكة، فقال لها: ما اسمك. قالت: خلوة، قال: ولمن أنت فقالت له: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك مما سألت عنه، فدع المحال، فقال لها: يا سيدتي، وأين أراك بعد هذا قالت: حيث رأيتني اليوم في مثل تلك الساعة من كل جمعة.. فقالت له: إما تنهض أنت أو انهض أنا (3) ، فقال لها: انهضي في
__________
(1) ذكر ابن بشكوال أن أبواب قرطبة سبعة باب القنطرة إلى جهة القبلة، وباب الحديد ويعرف بباب سرقسطة، وباب ابن عبد الجبار وهو باب طليطلة، وباب رومية، وباب طلبيرة، ثم باب عامر القرشي ثم باب الجوز ويعرف بباب طليوس ثم باب العطارين وهو باب إشبيلية، ومن دونه تجارة العطور والدكاكين والعطارين (انظر النفح 1: 465) .
(2) قنطرة قرطبة تقع شمالي باب قرطبة الجنوبي (المسمى بها أي باب القنطرة) ، وهو الباب الذي يصل بين المدينة وربض شقندة، وقد بناها أغسطس قيصر، وكانت تتثلم بسبب مد النهر فيتم اصلاحها وترميمها، فقد رممها الحكم المستنصر سنة 360 (أنظر عبد العزيز سالم قرطبة حضرة الخلافة الإسلامية 1: 197 - 201 ومصادره هنالك) .
(3) فقالت له إما أن تنهض أنت أو أنهض أنا؛ يبدو أن هنا سقطاً؛ والرواية نفسها عن ابن حزم عند الحميدي: " فلما قرب وقت صلاة العصر، انصرفت فجعلت أقفو أثرها، فلما بلغت قنطرة قالت إما أن تتأخر واما أن تتقدم فلست والله أخطو خطوة وأنت معي، فقلت لها: أهذا آخر العهد، قالت: لا، قلت لها: فمتى اللقاء قالت: كل يوم جمعة في هذا الوقت في هذا المكان، قلت لها: فما ثمنك أن باعك من أنت له قال: ثلاثمائة دينار، قال: فخرجت جمعة أخرى فوجدتها على العادة الأولى فزاد كلفي بها " ثم يقص كيف ارتحل إلى سرقسطة ومدح عبد الرحمن بن محمد الدجيبي صاحبها، وذكر له قصته مع خلوة وأخذ منه ثلاثمائة دينار سوى نفقة الطريق، قال: " وعدت إلى قرطبة فلزمت الرياض جمعاً لا أرى لها أثراً وقد انطبقت سما ئي على أرضي، وضاق صدري إلى أن دعاني يوماً رجل من اخواني فدخلت إلى داره وأجلسني في صدر مجلسه ثم قام لبعض شئنه، فلم أشعر إلا بالستارة المقابلة لي قد رفعت وإذا بها، فقلت: خلوة، فقال: نعم، قلت: ألأبي فلان أنت مملوكة قالت: لا والله ولكني أخته، قال: فكان الله تعالى محا محبتها من قلبي، وقمت من فوري، واعتذرت إلى صاحب المنزل بعارض طرقني وانصرف (الجذوة: 347 - 348) .(1/121)
حفظ الله. فنهضت نحو القنطرة ولم يمكنه اتباعها لأنها كانت تلتفت نحوه لترى أيسايرها أم لا. فلما تجاوزت باب القنطرة أتى يقفوها فلم يقع لها على مسألة.
قال أبو عمر - وهو يوسف بن هارون -: فو الله لقد لازمت باب العطارين والربض من ذلك الوقت إلى الآن فما وقعت لها على خبر ولا أدري أسماء لحستها أرض بلعتها، وإن في قلبي منها لأحر من الجمر، وهي خلوة التي يتغزل بها في أشعاره. ثم وقع بعد ذلك على خبرها بعد رحيله في سببها إلى سرقسطة (1) في قصة.
ومثل ذلك كثير، وفي لك أقول قطعة منها: [من البسيط]
عيني جنت في فؤادي لوعة الفكر ... فأرسل الدمع مقتصاً من البصر
فكيف تبصر الدمع منتصفاً ... (2) منها بإغراقها في دمعها الدرر
لم ألقها قبل إبصاري فأعرفها ... وآخر العهد منها ساعة النظر
__________
(1) سرقسطة (Zaragoza) مدينة الثغر الأعلى، وكانت آلهة حسنة الديار والمساكن، حكمها بنو هود في أيام ملوك الطوائف، وسقطت في يد النصارى سنة 512 (الروض: 317 والترجمة: 118 والعذري: 22 والزهري: 226 والادريسي (دوزي) 190.) .
(2) قرأها درشيه: دفعها؛ والدرر هنا كما تقول: سماء درر أي ذات درر، وفي حديث الاستسقاء: " ديماً درراً " وقيل الدرر: الدار، وعندئذ يكون القول على النعت المباشر أي بإغراقها في دمعها الدار.(1/122)
والقسم الثاني مخالف للباب الذي بعد هذا الباب إن شاء الله، وهو أن يعلق المرء من نظرة واحدة جارية معروفة الاسم والمكان والمنشأ، ولكن التفاضل يقع في هذا في سرعة الفناء وإبطائه، فمن أحب من نظرة واحدة وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة فهو دليل على قلة الصبر، ومخبر بسرعة السلو، وشاهد الطرافة (1) والملل. وهكذا في جميع الأشياء: أسرعها نمواً أسرعها فناء، وأبطؤها حدوثاً أبطؤها نفاداً.
خبر:
إني لأعلم فتى من أبناء الكتاب ورأته امرأة سرية النشأة، عالية المنصف، غليظة الحجاب، وهو مجتاز، ورأته في موضع تطلع منه كان في منزلها، فعلقته وعلقها، وتهاديا المراسلة زماناً على أدق من حد السيف، ولولا أني لم أقصد في رسالتي هذه كشف الحيل وذكر المكايد لأوردت مما صح عندي أشياء تحير اللبيب وتدهش العاقل، أسبل الله علينا ستره وعلى جميع المسلمين بمنه، وكفانا.
__________
(1) الطرافة: من قولك فلان طرف أي سريع الملل لا يثبت على عهد.(1/123)
- 6 -
باب من لا يحب إلا مع المطاولة
ومن الناس من لا تصح محبته إلا بعد طول المخافتة (1) وكثير المشاهدة وتمادى الأنس، وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت ولا يحيك فيه مر الليالي، فما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً، وهذا مذهبي. وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل قال للروح حين أمره أن يدخل جسد آدم، وهو فخار، فهاب وجزع: ادخل كرهاً واخرج كرهاً. حدثناه عن شيوخنا.
ولقد رأيت من أهل هذه الصفة من إن أحس من نفسه بابتداء هوى أو توجس من استحسانه ميلاً إلى بعض الصور استعمل الهجر وترك الإلمام، لئلا يزيد ما يجد فيخرج الأمر عن يديه، ويحال بين العير والنزوان (2) . وهذا يدل على لصوق الحب بأكباد أهل هذه الصفة، وأنه إذا تمكن منهم لم يحل أبداً. وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الوافر]
__________
(1) قرأها برشيه: المحادثة.
(2) وقد حيل بين العير والنزوان: مثل؛ من قول صخر أخي الخنساء:
أهم بأمر الحزم لو أستيطعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فصل المقال: 72.(1/124)
سأبعد عن دواعي الحب إني ... رأيت الحزم من صفة الرشيد
رأيت الحب أوله التصدي ... بعينك في أزاهير الخدود
فبينا أنت مغتبط مخلى ... إذا قد صرت في حلق القيود
كمغتر بضحضاح قريب ... فزل فغاب في غمر المدود وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكناً من صميم الفؤاد نافذاً في حجاب القلب فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لي دهراً وأخذي معه في كل جد وهزل، وكذلك أنا في السلو والتوقي، فما نسيت وداً لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء، وقد استراح من لم تكن هذه صفته. وما مللت شيئاً قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس مذ كنت، لا أقول الألاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانغلاق (1) مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجى يعتادني وولوع هم ما ينفعك يطرقني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل عيش استأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا. والله المحمود على كل حال لا إله إلا هو؛ وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل]
محبة صدق لم تكن بنت ساعة ... ولا وريت حين ارتفاد (2) زنادها
ولكن على مهل سرت وتولدت ... بطول امتزاج فاستقر عمادها
__________
(1) في أكثر الطبعات: والانفلاق - بالفاء - ولا أدري له معنى.
(2) في الطبعات: ارتياد، والارتفاد هو الاستعانة في القدح بحجر القدح عند استعمال الزناد.(1/125)
فلم يدن منها عزمها وانتفاضها (1) ... ولم ينأ عنها مكثها وازديادها
يؤكد ذا أنا نرى كل نشأة ... (2) تتم سريعاً عن قريب نفادها
ولكني أرض عزاز صليبة ... منيع إلى كل الغروس انقيادها
فما نفذت منها لديها عروقها ... فليست تبالي أن تجود عهادها ولا يظن ظان ولا يتوهم متوهم أن كل هذا مخالف لقولي المسطر صدر الرسالة: إن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي (3) ، بل هو مؤكد له. فقد علمنا أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتها الحجب، ولحقتها الأعراض، وأحاطت بها الطبائع الأرضية الكونية (4) ، فسترت كثيراً من صفاتها وإن كانت لم تحله، لكن حالت دونه، فلا يرجى الاتصال على الحقيقة إلا بعد التهيؤ من النفس والاستعداد له، وبعد إيصال المعرفة إليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت بما يشابهها من طبائع المحبوب، فحينئذ يتصل اتصلاً صحيحاً بلا مانع.
وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سر الشهوة (5) ومعناها على الحقيقة، فإذا فضلت (6) الشهوة وتجاوزت هذا الحد ووافق الفضل اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس تسمى
__________
(1) عزمها وانتقاضها: قرأها يرشيه غربها وانتقاصها؛ وكلمة " انتقاصها " تقابل " ازديادها " ولكن " غربها " لا تقابل " مكثها ".
(2) جاءت في بعض الطبعات: معادها.
(3) انظر ما تقدم ص: 93.
(4) برشيه: الكورية.
(5) من الجائز أن تكون هذه العبارة: " وأما ما يقع من أول وهلة، فبعض أعراض الاستحسان الجسدي واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، وهذا سر الشهوة " ويكون جواب " أما " هو " فبعض ".
(6) قراءة بتروف: فصلت؛ وتصحيحها إلى " فضلت " أمر يلتئم مع قوله: " ووافق الفضل اتصال نفساني؛ وفي معظم الطبعات: " غلبت ".(1/126)
عشقاً. ومن هذا (1) دخل الغلط على من يزعم انه يحب اثنين ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرناها آنفاً، وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق، وأما نفس المحب فما في الميل به فضل يصرفه في أسباب دينه ودنياه فكيف بالاشتغال بحب ثان! وفي ذلك أقول (2) : [من الخفيف]
كذب المدعي هوى اثنين حتماً ... مثل ما في الأصول أكذب ماني (3)
ليس في القلب موضع لحبيبي ... (4) ن ولا أحدث الأمور بثاني
فكما العقل واحد ليس يدري ... خالقاً غير واحد رحمان
فكذا القلب واحد ليس يهوى ... غير فرد مباعد أو مدان
هو في شرعة المودة ذو شر ... ك (5) بعيد من صحة الإيمان
وكذا الدين واحد مستقيم ... وكفور من عقدة (6) دينان وإني لأعرف فتى من أهل الجدة (7) والحسب والأدب كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حبه، وأكثر من ذلك كارهة له لقلة حلاوة شمائل كانت فيه، وقطوب دائم كان لا يفارقه ولا سيما مع النساء، فكان لا يلبث إلا يسيراً ريثما يصل إليها بالجماع ويعود ذلك الكره حباً مفرطاً وكلفاً زائداً واستهتاراً مكشوفاً، ويتحول الضجر
__________
(1) من قوله: ومن هذا حتى آخر الأبيات النونية ورد في روضة المحبين: 289 - 290.
(2) أورد ابن أبي حجلة هذه الأبيات (ما عدا الأول) في ديوان الصبابة: 41، وجعل الرابع منها آخراً وأوردها ابن القيم في روضة المحبين: 290.
(3) ماني مؤسس مذهب المانوية، وهو قائم على الأثنينية إذ يقول ان مبدأ العالم كونان أحدهما نور والآخر ظلمة، كل واحد منهما منفصل عن الآخر (انظر تفصيلاً لمذهبه عند ابن النديم في الفهرست: 392 - 402) .
(4) روضة المحبين وديوان الصبابة: اثنان.
(5) في ص: شك، والتصويب عن ديوان الصبابة.
(6) في معظم الطبعات وفي ديوان الصبابة وروضة المحبين: عنده؛ وما أثبته أدق.
(7) في أكثر الطبعات (ما عدا برشيه) : الجد.(1/127)
لصحبته ضجراً لفراقه. صحبه هذا الأمر في عدة منهن، فقال بعض إخواني، فسألته عن ذلك فتبسم نحوي وقال: إذاً والله أخبرك، أنا أبطأ الناس إنزالاً، تقضي المرأة شهوتها وربما ثنت وإنزالي وشهوتي لم ينقضيا بعد، وما فترات بعدها (1) قط، وإني لأبقى بمنتي (2) بعد انقضائها الحين الصالح، وما لاقى صدري صدر امرأة قط عند الخلوة إلا عند تعمدي المعانقة، وبحسب ارتفاع صدري نزول مؤخري.
فمثل هذا وشبهه إذا وقع (3) وافق أخلاق النفس وولد المحبة، إذ الأعضاء الحساسة مسالك إلى النفوس ومؤديات نحوها.
__________
(1) برشيه: قبلها.
(2) بمنتي: قراءة الصيرفي وتابعه على ذلك مكي؛ بتروف: بحسبي، برشيه: بحبسي.
(3) وقع: لن ترد إلا عند برشيه، والقراءات الأخرى: فمثل هذا إذا وافق ولد المحبة الخ.(1/128)
- 7 -
باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم أعزك الله إن للحب حكماً على النفوس (1) ، ماضياً، وسلطاناً قاضياً (2) ، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد، وأنه ينقض المرر، ويحل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل (3) الثابت، ويحل الشغاف، ويحل الممنوع. ولقد شاهدت كثيراً من الناس لا يهتمون في تمييزهم، ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحسن اختيارهم، ولا تقصير في حدسهم، قد وصفوا أحباباً لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمستحسن عند الناس ولا يرضى في الجمال، فصارت هجيراهم، وعرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم، ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين أو هجر أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلها على ما هو أفضل منها في الخليقة (4) ، ولا مالوا إلى سواها؛ بل صارت تلك الصفات المستجادة عند الناس مهجورة عندهم وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت
__________
(1) برشيه: في الناس.
(2) قارن هذا بقول الوشاء في الحب (الموشى: 49) ويذل له العزيز ويخضع له المتجبر
(3) برشيه: ويحلل.
(4) هذه قراءة بتروف؛ وغيرها برشيه إلى " الحقيقة ".(1/129)
اعمارهم، حنيناً منهم إلى من فقدوه، وألفه لمن صحبوه. وما أقول إن ذلك كان تصنعاً لكن طبعاً حقيقياً واختياراً لا يدخل (1) فيه، ولا يرون سواه، ولا يقولون في طي عقدهم بغيره.
وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص (2) فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك؛ وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا؛ وأعرف أيضاً من هوي جارية في فمها فوه (3) لطيف فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه ويكرهه الكراهية الصحيحة. وما أصف عن منقوصي الحظوظ في العلم والأدب لكن عن أوفر الناس قسطاً في الادراك، وأحقهم باسم الفهم والدراية.
وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسن من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تواتيني نفسي على سواه ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله.
وأما جماعة خلفاء بني مروان - رحمهم الله - ولا سيما ولد الناصر (4) منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لدن (5) دولة
__________
(1) برشيه: داخله.
(2) الوقص: قصر العنق.
(3) الفوه: سعة في الفم.
(4) يعني عبد الرحمن الناصر، وقد رزق أحد عشر ذكر (انظر الجمهرة: 100 ففيه تفصيل لمن أعقب من هؤلاء الأولاد، وصورة لاتصال النسب حتى أيام ابن حزم) .
(5) برشيه: من أول.(1/130)
الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر، نزاعاً إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشا سليمان الظافر (1) رحمه الله، فإني رأيته أسود اللمة واللحية. وأما الناصر والحكم المستنصر رضي الله عنهما فحدثني الوزير أبي رحمه الله (2) وغيره انهما كانا أشقرين أشهلين، وكذلك هشام المؤيد ومحمد المهدي (3) وعبد الرحمن المرتضى (4) رحمهم الله، فإني قد رأيتهم مراراً ودخلت عليهم فرأيتهم شقراً شهلاً، وهكذا أولادهم وإخوتهم وجميع أقاربهم، فلا أدري أذلك استحسان مركب في جميعهم أم لرواية كانت عند أسلافهم في ذلك فجروا عليها. وهذا ظاهر في شعر عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر وهو المعروف بالطليق (5) ، وكان أشعر أهل الأندلس في زمانهم وأكثر تغزله بالشقر، وقد رأيته وجالسته.
__________
(1) هو نفسه سليمان الملقب بالمستعين وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، الذي استعان بالبربر في الفتنة، وحين فتح قرطبة وبويع بالخلافة (400) تلقب أيضاً ب " الظافر بحول الله " (الحلة السيراء 2: 7) ومن المفارقة أن يتحرم عليه ابن حزم هنا وان يقول فيه في موطن آخر: " وهو الذي كان شؤم الأندلس وشؤم قومه، وهو الذي سلط جنده من البرابرة فأخلوا مدينة الزهراء وجمهور قرطبة حاشا المدينة وطرفأ من الجانب الشرقي وأخلوا ما حوالي قرطبة من القرى والمنازل والمدن وأفنوا أهلها بالقتل والسبي، وهو لا ينكر ولا يغير عليهم شيئاً " (الجمهرة: 102) وأخبار سليمان في ابن عذاري (ج 3) والذخيرة (ج: 1) .
(2) كان والد ابن حزم وزيراً في الدولة العامرية، وتوفي سنة أربعة 402 (الجذوة: 117 - 119 والبغية رقم: 411 والصلة: 31) وسيذكر ذلك ابن حزم ص: 207.
(3) محمد المهدي: وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، آخر من ولي الأمر من بني مروان بالأندلس ولاية تامة (399 - 400) يعزل فيها ويولى من آخر شرقها إلى آخر غربها وكذلك في كثير من بلاد البربر، وفي أيامه أبتدأ فساد الأندلس ولم يعقب إلا ابنة وابناً قتل بقرطبة (الجمهرة: 101) .
(4) عبد الرحمن المرتضى: هو ابن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وكان عبد الرحمن رجلاً صالحاً مائلاً إلى الفقه (انظر محاولته لانتزاع الأمر من بني حمود في الذخيرة 1/ 1: 453 والاحاطة 3: 466) .
(5) في أخبار الطليق انظر الجذوة: 322 والحلة 1: 220 (وصفحات متفرقة من نفح الطيب) والمعجب: 285، وهنالك دراسة عنه للأستاذ غريسه غومس (مع شعراء الاندلس والمتنبي: 85 ترجمة الدكتور الطاهر مكي، القاهرة 1974) ودراسة أخرى في كتابي: تاريخ الأدب الاندلسي - عصر سيادة قرطبة: 223 ط. ثانياً.(1/131)
وليس من العجب فيمن أحب قبيحاً ثم لم يصحبه ذلك في سواه فقد وقع من ذلك، ولا في من طبع مذ كان على تفضيل الأدنى، ولكن في من كان ينظر بعين الحقيقة ثم غلب عليه هوى عارض بعد طول بقائه في الجمام فأحاله عما عهدته نفسه حوالة صارت له طبعاً، وذهب طبعه الأول وهو يعرف فضل ما كان عليه أولاً، فإذا رجع إلى نفسه وجدها تأبى إلا الأدنى، فأعجب لهذا التغلب الشديد والتسلط العظيم. وهو أصدق في المحبة حقاً ممن (1) يتحلى بشيم قوم ليس منهم، ويدعي غريزة لا تقبله (2) ، فيزعم أنه يتخير من يحب. أما لو شغل المحب بصيرته، وأطاح (3) فكرته، وأجحف بتمييزه، لحال بينه وبين التخير (4) والارتياد. وفي ذلك أقول شعراً منه: [من البسيط]
منهم فتى كان في محبوبه وقص ... كأنما الغيد في عينيه جنان
وكان منبسطاً في فضل خبرته ... بحجة حقها (5) في القول تبيان
إن المها وبها الأمثال سائرة ... لا ينكر الحسن فيها الدهر إنسان
وقص فليس بها عنقاء واحدة ... وهل تزان بطول الجيد بعران
وآخر كان في محبوبه فوه ... يقول حسبي في الأفواه غزلان
وثالث كان في محبوبه قصر ... يقول إن ذوات الطول غيلان وأقول أيضاً: [من الطويل]
يعيبونها عندي بشقرة شعرها ... فقلت لهم هذا الذي زانها عندي
يعيبون لون النور والتبر ضلة ... لرأي جهول في الغواية ممتد
وهل عاب لون النرجس الغض عائب ... ولون النجوم الزاهرات على البعد
وأبعد خلق الله من كل حكمة ... مفضل جرم فاحم اللون مسود
__________
(1) هذه قراءة برشيه.
(2) برشيه: لا تقابله.
(3) برشيه: وأحاج.
(4) في قراءة: التخيل.
(5) برشيه: وكان مستدلاً [كذا] في فضل خيرته/ بحجة حفها.(1/132)
به وصفت ألوان أهل جهنم ... ولبسة باك مثكل الأهل محتد
ومذ لاحت الرابات سوداً تيقنت ... نفوس الورى أن لا سبيل إلى الرشد (1)
__________
(1) يحسن التوقف هنا عند كراهية ابن حزم للرايات السود، وهي شعار العباسيين، ليعرف مدى تعلقه بالأموية، حتى لقد اتهم بالتعصب للأمويين من رجل مثل ابن حيان (راجع مقدمة جوامع السيرة.(1/133)
- 8 -
باب التعريض بالقول
ولابد لكل مطلوب من مدخل إليه، وسبب يتوصل به نحوه، فلم ينفرد بالاختراع دون واسطة إلا العليم الأول جل ثناؤه (1) . فأول ما يستعمل طلاب الوصل وأهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحبتهم التعريض بالقول، إما بإنشاد شعر، أو بإرسال مثل، أو تعمية بيت، أو طرح لغز، أو تسليط كلام.
والناس يختلفون في ذلك على قدر إدراكهم، وعلى حسب ما يرونه من أحبتهم من نفار أو أنس أو فطنة أو بلادة. وإني لأعرف من ابتدأ كشف محبته إلى من كان يحب بأبيات قلتها. فهذا وشبهه يبتدئ به الطالب للمودة، فإن رأى أنساً وتسهيلاً زاد، وإن يعاين شيئاً من هذه الأمور في حين إنشاده لشيء مما ذكرنا، أو إيراده لبعض المعاني التي حددنا، فانتظاره الجواب، إما بلفظ أو بهيئة الوجه والحركات، لموقف بين الرجاء واليأس هائل، وإن كان حيناً قصيراً، لكنه إشراف على بلوغ الأمل أو انقطاعه.
ومن التعريض بالقول جنس ثان، ولا يكون إلا بعد الاتفاق ومعرفة المحبة من المحبوب، فحينئذ يقع التشكي وعقد المواعيد
__________
(1) مدخل هذا الفصل في غاية الغرابة: وهو قائم على المقارنة بين الخلق من لا شيء (الاختراع) وبين الفعل الإنساني الذي يعتمد على مقدمات.(1/134)
بالتغرير (1) ، وإحكام المودات بالتعريض، وبكلام يظهر لسامعه منه معنى غير ما يذهبان إليه، فيجيب السامع عنه بجواب غير ما يتأدى إلى المقصود بالكلام، على حسب ما يتأدى إلى سمعه ويسبق إلى وهمه، وقد فهم كل منهما عن صاحبه وأجابه بما لا يفهمه غيرهما، إلا من أيد بحس نافذ، وأعين بذكاء، وأمد بتجربة، ولا سيما إن أحس من معانيهما بشيء قلما يغيب عن المتوسم المجيد، فهنالك لا خفاء عليه فيما يريدان.
وأنا اعرف فتى وجارية كانا يتحابان، فأرادها في بعض وصلها على بعض ما لا يجمل، فقالت: والله لأشكونك في الملأ علانية ولأفضحنك فضيحة مستورة. فلما كان بعد أيام حضرت الجارية مجلس بعض أكابر الملوك وأركان الدولة وأجل رجال الخلافة، وفيه ممن يتوقى أمره من النساء والخدم عدد كثير، وفي جملة الحاضرين ذلك الفتى، لأنه كان بسبب من الرئيس، وفي المجلس مغنيات غيرها، فلما انتهى الغناء إليها سوت عودها واندفعت تغني بأبيات قديمة وهي (2) : [من الوافر]
غزال قد حكى بدر التمام ... كشمس قد تجلت من غمام
سبى قلبي بألحاظ مراض ... وقد الغصن في حسن القوام
خضعت خضوع صب مستكين ... له وذللت ذلة مستهام
فصلني يا فديتك في خللا ... فما أهوى وصالاً في حرام وعلمت أنا هذا الأمر فقلت: [من الوافر]
عتاب واقع وشكاة ظلم ... أتت من ظالم حكم وخصم
تشكت ما بها لم يدر خلق ... سوى المشكو ما كانت تسمي
__________
(1) والتقرير قراءة مكي؛ ويقابلها: والتغرير عند الصيرفي والطبعة البيروتية؛ والتهديد عند برشيه. والتغرير: المخاطرة.
(2) لم أجد هذه الأبيات بين الأصوات التي كانت ذائعة في المشرق والمغرب.(1/135)
- 9 -
باب الاشارة بالعين
ثم يتلو التعريض بالقول إذا وقع القبول والموافقة: الإشارة بلحظ العين، وإنه ليقوم في هذا المعنى المقام المحمود، ويبلغ المبلغ العجيب، ويقطع به ويتواصل، ويوعد ويهدد، ويقبض ويبسط، ويؤمر وينهى، وتضرب به الوعود (1) ، وينبه على الرقيب، ويضحك ويحزن، ويسأل ويجاب، ويمنع ويعطى.
ولكل واحد من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ لا يوقف على تحديده إلا بالرؤية، ولا يمكن تصويره ولا وصفه إلا بالأقل منه. وأنا واصف ما تيسر من هذه المعاني:
فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهي عن الأمر، وتفتيرها إعلام بالقبول، وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرح، والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه، والإشارة الخفية بمؤخر العينين كلتهما (2) سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين إلى الموق
__________
(1) الوعود: الأوعاد عند برشيه ومكي.
(2) كلتاهما: في جميع الطبعات.(1/136)
بسرعة شاهد المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عام، وسائر ذلك لا يدرك إلا بالمشاهدة.
واعلم أن العين تنوب عن الرسل، ويدرك بها المراد، والحواس الأربع أبواب إلى القلب ومنافذ نحو النفس، والعين أبلغها وأصحها دلالة وأوعارها (1) عملاً. وهي رائد النفس الصادق، ودليلها الهادي، ومرآتها المجلوة التي بها تقف على الحقائق وتميز الصفات وتفهم المحسوسات. وقد قيل: ليس المخبر كالمعاين، وقد ذكر ذلك افليمون (2) صاحب الفراسة وجعلها معتمدة في الحكم.
وبحسبك من قوة إدراك العين أنها إذا لاقى شعاعها شيئاً ما (3) مجلواً صافياً، إما حديداً مصقولاً (4) أو زجاجاً أو ماء أو بعض الحجارة الصافية أو سائر الأشياء المجلوة البراقة ذوات الرفيف والبصيص واللمعان يتصل أقصى حدوده بجسم كثيف ساتر مناع كدر، انعكس شعاعها فأدرك الناظر نفسه ومازها عياناً. وهو الذي ترى في المرآة، فأنت حينئذ كالناظر إليك بعين غيرك. ودليل عيان على هذا انك تأخذ مرآتين كبيرتين فتمسك إحداهما بيمينك خلف رأسك والثانية بيسارك قبالة وجهك ثم تزويها قليلاً حتى يلتقيا بالمقابلة، فإنك ترى قفاك وكل ما وراءك، وذلك لانعكاس ضوء العين إلى ضوء المرآة التي خلفك، إذ لم تجد منفذاً في التي بين يديك، ولما لم يجد وراء
__________
(1) برشيه: وأوفاها.
(2) افليمون (Philemon) صاحب الفراسة، انظر في امتحان قدرته على الفراسة ابن أبي أصيبعة 1: 27، وذكره صاحب صوان الحكمة وأورد له قوله في العشق: هو مرض يحدث في الروح جالبه النظر ومسكنه القلب ومهيجه الفكر (صوان: 245) وقال القفطي: فاضل كبير عالم في فن من فنون الطبيعة وكان معاصراً لبقراط وأظنه شامي الدار، كان خبيراً بالفراسة عالماً بها وله في ذلك تصنيف مشهور خرج من اليونانية إلى العربية (تاريخ الحكماء: 60) .
(3) هذه هي قراءة برشيه، وفي سائر القراءات: شعاعاً.
(4) في بعض الطبعات: مفصولاً.(1/137)
هذه الثانية منفذاً انصرف إلى ما قابله من الجسم، وإن كان صالح غلام أبي إسحاق النظام (1) خالف في الإدراك فهو قول ساقط لم يوافقه عليه أحد.
ولو لم يكن من فضل العين إلا أن جوهرها ارفع الجواهر وأعلاها مكاناً، لأنها نورية لا تدرك الألوان بسواها، ولا شيء أبعد مرمى ولا أنأى غاية منها، لأنها تدرك بها أجرام الكواكب التي في الأفلاك البعيدة، وترى بها السماء على شدة ارتفاعها وبعدها، وليس ذلك إلا لاتصالها في طبع خلقتها بهذه المرآة، فهي تدركها وتصل إليها بالطفر (2) ، لا على قطع الأماكن والحلول في المواضع وتنقل الحركات، وليس هذا لشيء من الحواس مثل الذوق واللمس، لا يدركان إلا بالمجاورة، والسمع والشم، لا يدركان إلا من قريب. ودليل على ما ذكرناه من الطفر أنك ترى المصوت قبل سماع الصوت، وإن تعمدت إدراكهما معاً، ولو كان إدراكهما واحداً لما تقدمت العين السمع.
__________
(1) لم أجد تعريفاً بصالح غلام النظام إلا أن الأشعري أورد قولاً في الرؤية: " الذي يرى الرائي في المرآة إنما هو إنسان مثله اخترعه الله " وأضاف: وهذا قول صالح. قلت: وهو يناسب ما يذكره ابن حزم من مخالفة صالح لمن عداه في مسألة الادراك.
(2) بالطفر: هذه هي القراءة الصحيحة (التي اقترحها برشيه) وفي سائر القراءات: بالنظر، وإنما حكمت بصحتها اعتماداً على رأي ابن حزم في الطفرة وعلاقة حاسة البصر بها. فالطفرة في رأي النظام هي أن المار على سطح جسم من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها؛ وخطأ ابن حزم هذا الرأي ثم قال: " هذا ليس موجوداً البتة إلا في حاسة البصر فقط وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب الادراكين في المدة أصلاً ". ثم قارن بين حاسة السمع وحاسة البصر (كما فعل هنا) وقال: ان الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وان البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها (أي ان ادراكه المرئيات طفرة) انظر الفصل 5: 64 - 65.(1/138)
- 10 -
باب المراسلة
ثم يتلو ذلك إذا امتزجا: المراسلة بالكتب. وللكتب آفات (1) ، ولقد رأيت أهل هذا الشان يبادرون لقطع الكتب ولحلها في الماء وبمحو (2) أثرها، فرب فضيحة كانت بسبب كتاب، وفي ذلك أقول: [من الطويل]
عزيز علي اليوم قطع كتابكم ... ولكنه لم يلف للود قاطع
فآثرت أن يبقى وداد ويمتحي ... مداد فإن الفرع للأصل تابع
فكم من كتاب فيه ميتة ربه ... ولم يدره إذ نمقته الأصابع وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأجناس؛ ولعمري إن الكتاب للسان في بعض الأحايين، إما لحصر في الإنسان وإما لحياء وإما لهيبة. نعم، حتى إن لوصول الكتاب إلى المحبوب وعلم المحب أنه قد وقع بيده ورآه للذة يجدها المحب عجيبة تقوم مقام الرؤية، وإن لرد الجواب والنظر إليه سروراً يعدل اللقاء، ولهذا ما ترى العاشق يضع الكتاب على يمينه وقلبه ويعانقه.
ولعهدي ببعض أهل المحبة، ممن كان يتحرى (3) ما يقول
__________
(1) في معظم القراءات: آيات.
(2) عند بتروف وغيره: وبحلها.. وبمحو.
(3) في بعض الطبعات: يدري، وأثبت قراءة برشيه.(1/139)
ويحسن الوصف ويعبر عما في ضميره بلسانه عبارة جيدة ويجيد النظر ويدقق في الحقائق، لا يدع المراسلة وهو ممكن الوصل قريب الدار داني المزار، ويحكي أنها من وجوه اللذة.
ولقد أخبرت عن بعض السقاط الوضعاء أنه كان يضع كتاب محبوبه على إحليله، وإن هذا النوع من الاغتلام قبيح وضرب من الشق فاحش.
وأما سقي الحبر بالدمع فأعرف من كان يفعل ذلك ويقارضه محبوبه يسقي الحبر بالريق، وفي ذلك أقول: [من الطويل] .
جواب أتاني عن كتاب بعثته ... فسكن مهتاجاً وهيج ساكنا
سقيت بدمع العين لما كتبته ... فعال محب ليس في الود خائنا
فما زال ماء العين يمحو سطوره ... فيا ماء عيني قد محوت المحاسنا
غدا بدموعي أول الخط بينا ... وأضحى بدمعي آخر الخط بائنا خبر:
ولقد رأيت كتاب المحب إلى محبوبه، وقد قطع في يده بسكين له فسال الدم واستمد منه وكتب به الكتاب أجمع. ولقد رأيت الكتاب بعد جفوفه فما شككت انه بصبغ اللك (1) .
__________
(1) اللك: صبغ أحمر تصبغ به جلود المعزى.(1/140)
- 11 -
باب السفير
ويقع في الحب بعد هذا - بعد حلول الثقة وتمام الاستئناس: إرسال السفير. ويجب تخيره وارتياده واستجادته واستفراهه، فهو دليل عقل المرء، وبيده حياته وموته، وستره وفضيحته، بعد الله تعالى، فينبغي ان يكون الرسول ذا هيئة، حاذقاً يكتفي بالإشارة، ويقرطس (1) عن الغئب، ويحسن من ذات نفسه، ويضع من عقله ما أغفله باعثه، ويؤدي إلى الذي أرسله كل ما يشاهد على وجهه، كاتماً للأسرار، حافظاً للعهد، قنوعاً ناصحاً. ومن تعدى (2) هذه الصفات كان ضرره على باعثه بمقدار ما نقصه منها. وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل]
رسولك سيف في يمينك فاستجد ... حساماً ولا تضرب به قبل صقله
فمن يك ذا سيف كهام فضره ... يعود على المعني منه بجهله وأكثر ما يستعمل المحبون في إرسالهم إلى من يحبونه، إما خاملاً لا يؤبه له ولا يهتدى للتحفظ منه، لصباه أو لهيئة رثة أو بذاذة في طلعته؛ وإما جليلاً لا تلحقه الظنن لنسك يظهره أو لسن عالية قد بلغها. وما اكثر هذا في النساء ولا سيما ذوات العكاكيز والتسابيح
__________
(1) يقرطس: يصيب المرمى.
(2) قراها برشيه: تعوزه.(1/141)
والثوبين الأحمرين (1) . وإني لأذكر بقرطبة التحذير للنساء المحدثات (2) من هذه الصفات حيثما رأينها؛ أو ذوات صناعة يقرب بها من الأشخاص، فمن النساء: كالطبيبة والحجامة والسراقة (3) والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والمستخدمة (4) والصناع في المغزل والنسيج، وما أشبه ذلك؛ أو ذا قرابة من المرسل إليه لا يشح (5) بها عليه. فكم منيع سهل بهذه الأوصاف، وعسير يسر، وبعيد قرب، وجموح أنس، وكم داهية دهت الحجب المصونة، والأستار الكثيفة، والمقاصير المحروسة، والسدد المضبوطة، لأرباب هذه النعوت، ولولا أن أنبه عليها لذكرتها (6) ، ولكن لقطع النظر (7) فيها وقلة الثقة بكل أحد. والسعيد من وعظ بغيره (8) ، وبالضد تتميز الأشياء (9) . أسبل الله علينا وعلى جميع المسلمين ستره، ولا زال على الجميع ظل العافية.
__________
(1) حين تكون المرأة العجوز ذات عكازة وتسابيح، فذلك أمر مفهوم؛ أما ان تكون ذات ثوبين أحمرين فذلك زي أندلسي، فيما يبدو.
(2) عند برشيه: المخبآت.
(3) السراقة: لا أدري أية حرفة هي هذه، وجعلها " برشيه ": السواقة، كأنه عدها مأخوذة من العمل في السوق.
(4) في سائر الطبعات (ما عدا برشيه) : والمستخفة.
(5) برشيه: يشق.
(6) برشيه: لما ذكرتها.
(7) برشيه: لقطع المضار.
(8) السعيد من وعظ بغيره: هو حديث عند مسلم (القدر: 3) وابن ماجه (المقدمة: 7) وورد في تذكرة ابن حمدون (79/ أ) ضمن كلام لعلي بن أبي طالب، ونسب في محاضرات الراغب 1: 132 لبعض الحكماء، وفي مختار الحكم: 198 لأرسطاطاليس.
(9) هو من قول المتنبي (ديوانه: 117)
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتميز الأشياء وقوله: " تتميز الأشياء " لم يرد عند برشيه، ويكون المعنى: وبالضد: أي والشقي من وعظ به غيره.(1/142)
خبر:
وإني لأعرف من كانت الرسول بينهما حمامة مؤدبة، ويعقد الكتاب في جناحها، وفي ذلك أقول منها: [من الطويل]
تخيرها نوح فما خاب ظنه ... لديها وجاءت نحوه بالبشائر
سأودعها كتبي إليك فهاكها ... رسائل تهدى في قوادم طائر(1/143)
- 12 -
باب طي السر
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يري أنه عزهاة (1) خلي.
ويأبى السر الدفين (2) ، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين (3) ، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال.
وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن ان يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صافت أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا الوجه بصحيح (4) ، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة؛ وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤثر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها. ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في
__________
(1) العزهاة: العازف عن النساء واللهو.
(2) بتروف وغيره (ما عدا برشيه) : الدقيق.
(3) قارن هذا بما في الموشى (ص: 48) ولن يخفى المحب وإن تستر، ولا ينكتم هواء وإن تصبر.
(4) في معظم القراءات: وما هذا وجه التصحيح.(1/144)
فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين؛ وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] .
يلوم رجال فيك لم يعرفوا الهوى ... وسيان عندي فيك لاح وساكت
يقولون جانبت التصاون جملة ... وأنت عليم (1) بالشريعة قانت
فقلت لهم هذا الرياء بعينه ... صراحاً وزيي للمرائين ماقت
متى جاء تحريم الهوى عن محمد ... وهل منعه في محكم الذكر ثابت
إذا لم أواقع محركاً اتقي به ... مجيئي يوم البعث والوجه باهت
فلست أبالي في الهوى قول لائم ... سواء لعمري جاهر أو مخافت
وهل يلزم الإنسان إلا اختياره ... وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامت خبر:
وإني لأعرف بعض من امتحن بشيء من هذا فسكن الوجد بين جوانحه، فرام جحده إلى أن غلظ الأمر، وعرف ذلك في شمائله من تعرض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان من عرض له بشيء نجهه (2) وقبحه، إلى ان كان من أراد الحظوة لديه من إخوانه يوهمه تصديقه في إنكاره وتكذيب من ظن به غير ذلك، فسر بهذا. ولعهدي به يوماً قاعداً ومعه بعض من كان يعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى، واصفر لونه، وتفاوتت معاني كلامه بعد حسن تثقيف، فقطع كلامه المتكلم معه قلقاً واسترعى (3) ما كان فيه من ذكره. فقيل له: ما عدا عما بدا فقال: هو ما تظنون، عذر من عذر، وعذل من عذل؛ ففي ذلك أقول شعراً منه: [من البسيط] .
__________
(1) معظم القراءات: عليهم.
(2) نجهه: رده رداً قبيحاً.
(3) معظم القراءات: فلقد استدعى.(1/145)
ما عاش إلا لأن الموت يرحمه ... (1) مما يرى تباريح الضنى فيه وأنا أقول: [من الهزج] .
دموع الصب تنسفك ... وستر الصب ينهتك
كان القلب إذ يبدو ... (2) قطاة ضمها شرك
فيا أصحابنا قولوا ... فغن الرأي مشترك
إلى كم ذا أكاتمه ... ومالي عنه مترك وهذا إنما يعرض عند مقاومة طبع الكتمان والتصاون، لطبع المحب وغلبته (3) ، فيكون صاحبه متحيزاً بين نارين محرقتين، وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع؛ وفي ذلك أقول: [من المتقارب] .
درى الناس أني فتى عاشق ... كئيب معنى ولكن بمن
إذا عاينوا حالتي أيقنوا ... وإن فتشوا رجموا (4) في الظنن
كخط يرى رسمه ظاهراً ... وإن طلبوا شرحه لم يبن
كصوت حمام على أيكة ... يرجع بالصوت في كل فن
تلذ (5) بنجواه أسماعنا ... ومعناه مستعجم لم يبن
يقولون بالله سم الذي ... نفى حبه عنك طيب الوسن
__________
(1) واضح أن البيت وحده لا يمثل لب المعنى الذي تدور عليه الفقرة السابقة، فلعل أبياتاً أسقطها الناسخ كانت تفي بذلك.
(2) تشبيه القلب بالقطاة، من الصور التي نتردد في أشعار العذريين، من ذلك قول قيس ليلى:
كان القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فأضحت ... تقلبه وقد علق الجناح (3) برشيه: طبع الكتمان لطبع الحب وغلبته (وسقطت لفظة التصاون) .
(4) بتروف وغيره (ما عدا برشيه) : رجعوا.
(5) بتروف والصيرفي ومكي: بفحواه، برشيه: بنوحه.(1/146)
وهيهات دون الذي حاولوا ... ذهاب العقول وخوض الفتن
فهم أبداً في اختلاج الشكوك ... بظن كقطع وقطع كظن وفي كتمان السر أقول قطعة منها: [من البسيط] .
للسر عندي مكان لو يحل به ... حي إذاً لا اهتدى ريب المنون له
أميته وحياة السر ميتته ... كما سرور المعنى في الهوى الوله وربما كان سبب الكتمان توقي المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.
خبر:
ولقد قال بعض الشعراء بقرطبة تغزل فيه بصبح (1) أم المؤيد رحمه الله، فغنت به جارية أدخلت على المنصور بن أبي عامر ليبتاعها، فأمر بقتلها.
خبر:
وعلى مثال هذا قتل أحمد بن مغيث، واستئصال آل مغيث (2) والتسجيل عليهم ألا يستخدم بواحد منهم أبداً حتى كان سبباً لهلاكهم وانقراض بيتهم فلم يبق منهم إلا الشريد الضال. وكان سبب ذلك تغزله بإحدى بنات الخلفاء، ومثل هذا كثير (3) .
__________
(1) مر التعريف بها فيما تقدم ص: 91.
(2) ينتسبون إلى مغيث الرومي فاتح قرطبة، وكان مع طارق، وقد نجبوا في قرطبة وسادوا وعظم بيتهم وتفرعت دوحتهم وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن الداخل (النفح 3: 12) وانظر صفحات أخرى متفرقة) ومنهم عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث الذي كان حاجباً للحكم الربضي، كما كان أخوه عبد الملك من قواد الأمير هشام الرضى (الحلة 1: 135) .
(3) يقص صفي الدين الحلي قصة مماثلة ذات لون أسطوري عن وشاح مغربي عشق رميلة أخت عبد المؤمن الأموي [كذا] ملك الاندلس، ونظم فيها موشحة تسمى " العروس " وكان أن قتله الخليفة لذلك (العاطل الحالي: 14 - 15) .(1/147)
ويحكى عن الحسن بن هانئ (1) أنه كان مغرماً بحب محمد بن هارون المعروف بابن زبيدة، وأحس منه ببعض ذلك فانتهزه على إدامة النظر إليه، فذكر عنه أنه كان لا يقدر ان يديم النظر إليه إلا مع غلبة السكر على محمد.
وربما كان سبب الكتمان ألا ينفر (2) المحبوب أو ينفر به. فإني أدري من كان محبوبه له سكناً وجليساً، لو باح بأقل سبب من أنه يهواه لكان منه " مناط الثريا قد تعلت نجومها "؛ وهذا ضرب من السياسة. ولقد كان يبلغ من انبساط هذا المذكور مع محبوبه إلى فوق الغاية وأبعد النهاية، فما هو إلا ان أباح إليه بما يجد فصار لا يصل إلى التافه اليسير مع التيه ودالة الحب وتمنع الثقة بملك الفؤاد، وذهب ذلك الانبساط ووقع التصنع والتجني، فكان أخاً فصار عبداً، ونظيراً فعاد أسيراً، ولو زاد في بوحه شيئاً إلى أن يعلم خاصة المحبوب ذلك لما رآه إلا في الطيف، ولا نقطع القليل والكثير، ولعاد ذلك عليه بالضرر.
وربما كان من أسباب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان. وربما كان من أسباب الكتمان ان يرى المحب من محبوبه انحرافاً وصداً، ويكون ذا نفس أبية، فيستتر بما يجد لئلا يشمت به عدو، أو ليريهم ومن يجب هوان ذلك عليه.
__________
(1) الحسن بن هانئ أبو نواس (- 198) ؛ وقد ألمح ابن خلكان (2: 99) إلى شيء مما يذكره ابن حزم هنا.
(2) برشيه: يشهر.(1/148)
- 13 -
باب الإذاعة
وقد تعرض في الحب الإذاعة، وهو من منكر ما يحدث من أعراضه، ولها أسباب: منها أن يريد صاحب هذا الفعل ان يتزيا بزي المحبين ويدخل في عدادهم، وهذه خلابة لا ترضى، وتجليح بغيض (1) ، ودعوى في الحب زائفة.
وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب وتسور الجهر على الحياء، فلا يملك الإنسان حينئذ لنفسه صرفاً ولا عدلاً. وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكمه على العقل، حتى يمثل الحسن في تمثال القبيح، والقبيح في هيئة الحسن. وهنالك يرى الخير شراً، والشر خيراً. وكم مصون الستر مسبل القناع مسدول الغطاء قد كشف الحب ستره مثلاً، وأحب شيء إليه الفضيحة فيما لو مثل له قبل اليوم لاعتراه النافض (2) عند ذكره، ولطالت استعاذته منه، فسهل ما كان وعراً، وهان ما كان عزيزاً، ولان ما كان شديداً.
ولعهدي بفتى من سروات الرجال وعلية إخواني قد دهي بمحبة
__________
(1) الخلابة: المخادعة؛ والتجليح: المكالحة، والمجلح: هو الذي يركب رأسه في الأمر، ويجاهر به مكاشفاً دون تستر.
(2) النافض: الحمى.(1/149)
جارية مقصورة فلم (1) بها وقطعه حبها عن كثير من مصالحه، وظهرت آيات هواه لكل ذي بصر، إلى أن كانت هي تعذله على ما ظهر منه مما يقوده إليه هواه (2) .
خبر:
وحدثني موسى بن عاصم بن عمرو قال: كنت بين يدي أبي الفتح والدي رحمه الله وقد أمرني بكتاب أكتبه، إذ لمحت عيني جارية كنت أكلف بها، فلم أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت نحوها. وبهت أبي وظن انه عرض لي عارض؛ ثم راجعني عقلي فمسحت وجهي ثم عدت واعتذرت بأنه غلبني الرعاف.
واعلم أن هذا داعية نفار المحبوب وفساد في التدبير، وضعف في السياسة؛ وما شيء من الأشياء إلا وللمأخذ فيه سنة وطريقة متى تعداها الطالب أو خرق في سلوكها انعكس عمله عليه، وكان كده عناء، وتعبه هباء، وبحثه وباء (3) . وكلما زاد عن وجه السيرة انحرافاً وفي تجنبها إغراقاً وفي غير الطريق إيغالاً ازداد عن بلوغ مراده بعداً؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] .
ولا تسع في الأمر الجسيم تهازؤاً ... ولا تسع جهراً في اليسير تريده
وقابل أفانين الزمان متى يرد ... عليك فإن الدهر جم وروده
بأشكالها (4) من حسن سعيك يكفك ال ... (5) يسير يسير والشديد شديده
ألم تبصر المصباح أول وقده ... وإشعاله، بالنفخ يطفا وقوده
__________
(1) لم بها: أصابه مس أو لمم؛ وهي قراءة بتروف وبرشيه؛ وغيرت إلى " وهام بها " عند الصيرفي ومكي.
(2) برشيه: مما يقوده إلى مهوى.
(3) برشيه: وبحثه زيادة.
(4) بأشكالها: متعلقة بالفعل " وقابل " أي: وقابل أفانين الزمان بأشكالها.
(5) هذا الشطر شديد التصحيف في معظم الطبعات: والمعنى انك إذا قابلت أفانين الزمان بأشكالها، فغن اليسير من حسن سعيك يواجه اليسير من أفانين الزمان، والشديد يقف في وجه الشديد من أفانينه.(1/150)
وإن يتضرم لفحه ولهيبه ... فنفحك يذكيه وتبدو مدوده خبر:
وإني لأعرف من أهل قرطبة من أبناء الكتاب وجلة الخدمة من اسمه أحمد بن فتح، كنت أعهده كثير التصاون، من بغاة العلم وطلاب الأدب، يبذ أصحابه في الانقباض، ويفوقهم في الرعة (1) ، لا ينظر (2) إلا في حلقة فضل، ولا يرى إلا في محفل مرضي، محمود المذاهب، جميل الطريقة، بائناً بنفسه، ذاهباً بها، ثم أبعدت الأقدار داري من داره، فأول خبر طرأ علي بعد نزولي (3) شاطبة أنه خلع عذاره في حب فتى من أبناء الفتانين (4) يسمى ابراهيم بن أحمد، اعرفه، لا تستأهل صفاته محبة من (5) بيته خير وخدم (6) وأموال عريضة ووفر تالد. وصح عندي أنه كسف رأسه وأبدى وجهه ورمى رسنه وحسر محياه وشمر عن ذراعيه وصمد الشهوة. فصار حديثاً للسمار، متراجعاً (7) بين نقلة الأخبار، وتهودي ذكره في الأقطار، وجرت نقلته في الأرض راحلة بالتعجب، ولم يحصل من ذلك إلا على كشف الغطاء، وإذاعة السر، وشنعة الحديث، وقبح الأحدوثة، وشرود محبوبه عنه جملة، والتحظير عليه من رؤيته البتة، وكان غنياً عن ذلك وبمندوحة واسعة ومعزل رحب عنه، ولو طوى مكنون سره، وأخفى بنيات (8)
__________
(1) قرئت " الدعة " في كل الطبعات ولا معنى لها هنا؛ والرعة تقارن الانقباض.
(2) برشيه: يظهر.
(3) برشيه: إطاءتي.
(4) قرأها بروفنسال: " الغنائين " وأخذ بها غومس في ترجمته (ص: 151) ؛ ولفظة الفتانين تعني الصاغة.
(5) برشيه: المحبة ممن.
(6) في القراءات (ما عدا برشيه) : وتقدم.
(7) برشيه: مضاغة؛ وفي سائر القراءات: ومدافعاً.
(8) برشيه: بلبلة.(1/151)
ضميره، لاستدام لباس العافية، ولم ينهج برد الصيانة، ولكان له في لقاء من بلي به ومحادثته ومجالسته أمل من الآمال وتعلل كاف؛ وإن حبل العذر ليقطع به، والحجة عليه قائمة؛ إلا أن يكون مختلطاً في تمييزه، أو مصاباً في عقله بجليل ما فدحه، فربما آل ذلك لعذر صحيح، وأما إن كانت له بقية [من عقل] أو ثبتت مسكة فهو ظالم في تعرضه ما يعلم أن محبوبه يكرهه ويتأذى به.
هذا غير صفة أهل الحب، وسيأتي هذا مفسراً في باب الطاعة، إن شاء الله تعالى.
ومن أسباب الشف وجه ثالث، وهو عند أهل العقول وجه مرذول وفعل ساقط؛ وذلك أن يرى المحب من محبوبه غدراً أو مللاً أو كراهة؛ فلا يجد طريق الانتصاف منه إلا بما ضرره عليه أعود منه على المقصود من الكشف والاشتهار، وهذا أشد العار وأقبح الشنار وأقوى شواهد عدم العقل ووجود السخف.
وربما كان الكشف من حديث ينتشر وأقاويل تفشو، توافق قلة مبالاة من المحب بذلك، ورضى بظهور سره، إما لإعجاب أو لاستظهار على بعض ما يؤمله؛ وقد رأيت هذا الفعل لبعض إخواني من أبناء القواد.
وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على انه يذكر عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى!(1/152)
- 14 -
باب الطاعة
ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع من يحبه، وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمي الأنف، أبي الخسف، فما هو إلا ان يتنسم نسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لياناً، والصعوبة سهالة والمضاء كلالة، والحمية استسلاماً؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من المتقارب]
فهل للوصال إلينا معاد ... وهل لتصاريف ذا الدهر حد
فقد أصبح السيف عبد القضيب ... وأضحى الغزال الأسير أسد وأقول شعراً منه: [من الطويل]
وإني وإن تعتب لأهون هالك ... كزائف نقد ذل في يدي جهبذ (1)
على أن قتلي في هواك لذاذة ... فيا عجباً من هالك متلذذ ومنها:
ولو أبصرت أنوار وجهك فارس ... (2) لأغناهم عن هرمزان وموبذ
__________
(1) قرئ هذا الشطر: كذائب نقر زل في يد جهبذ؛ أي كالفضة السائلة تدافعت في يد الجهبذ؛ ويضعف من الأخذ بهذا المعنى أن الجهبذ صيرفي للدنانير والدراهم، فهو يميز خالصها من زائفها ولذلك ارجح القراءة التي أثبتها.
(2) الهرمزان: اسم علم؛ ولا يحمل دلالة على معنى خاص؛ ولعله أراد به معنى الشجاعة، كما أراد معنى التدين في الموبذ، وهو قاضي المجوس.(1/153)
وربما كان المحبوب كارهاً لإظهار الشكوى متبرماً بسماع الوجد، فترى المحب حينئذ يكتم حزنه ويكظم أسفه وينطوي على علته، وإن الحبيب متجن، فعندها يقع الاعتذار عن كل ذنب والإقرار بالجريمة، والمرء منها بريء، تسليماً لقوله وتركاً لمخالفته. وإني لأعرف من دهي بمثل هذا فما كان ينفك من توجيه الذنوب نحوه ولا ذنب له، وإيقاع العتاب عليه والسخط وهو نقي الجلد.
وأقول شعراً إلى بعض إخواني، ويقرب مما نحن فيه، وإن لم يكن منه: [من الطويل]
وقد كنت تلقاني بوجه لقربه ... تراض وللهجران عن قربه سخط
وما تكره العتب اليسير سجيتي ... على أنه قد عيب في الشعر الوخط
فقد يتعب الإنسان في الفكر نفسه ... وقد يحسن الخيلان في الوجه والنقط
تزين إذا قلت ويفحش أمرها ... إذا أفرطت يوماً وهل يحمد الفرط ومنه:
أعنه فقد أضحى لفرط همومه ... يبكي له القرطاس والحبر والخط ولا يقولن قائل إن صبر المحب على ذلة المحبوب دناءة في النفس فهذا خطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس كفؤاً ولا نظيراً فيقارض بأذاه، وليس سبه وجفاه مما يعير به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب، ولا يقع ذلك في مجالس الخلفاء ولا في مقاعد الرؤساء، فيكون الصبر مستجراً (1) للمذلة، والضراعة قائدة للاستهانة؛ فقد ترى الإنسان يكلف (2) بأمته التي يملك رقها، ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها، فكيف الانتصاف منها. وسبل الامتعاض من السب غير هذه، إنما ذلك بين علية الرجال الذين تحصى أنفاسهم وتتبع معاني
__________
(1) قراءة بتروف: مستجرة؛ وفي بعض الطبعات: جاراً؛ وهو تحكم في تحوير الأصل.
(2) في معظم الطبعات: لا يكلف.(1/154)
كلامهم فتوجه لها الوجوه البعيدة، لأنهم لا يوقعونها سدى ولا يلقونها هملاً، وأما المحبوب فصعدة ثابتة وقضيب مناد (1) ، يجفو ويرضى متى شاء لا لمعنى؛ وفي ذلك أقول: [من الكامل]
ليس التذلل في الهوى يستنكر ... فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في حالة ... (2) قد ذل فيها قبلي المستنصر
ليس الحبيب مماثلا ومكافياً ... فيكون صبرك ذلة إذ تصبر
تفاحة وقعت فآلم وقعها ... هل قطعها منك انتصاراً يذكر خبر:
وحدثني أبو دلف الوراق عن مسلمة بن أحمد الفيلسوف المعروف بالمجريطي (3) أنه قال في المسجد الذي بشرقي مقبرة قريش بقرطبة الموازي لدار الوزير أبي عمر أحمد بن محمد بن حدير (4) رحمه الله:
__________
(1) برشيه: مياد.
(2) هذه هي قراءة برشيه، وبها أخذ غومس في ترجمته (ص: 155) ؛ ولابد أن تكون موجهة إلى شخص بعينه حينئذ، وهو هنا المستنصر الأموي ابن الناصر، وهذا على سبيل المبالغة في القياس، وإلا فليس لدينا من الأخبار ما يؤكد أن المستنصر ذل في الحب.
(3) مسلمة بن أحمد المجريطي (وتكتب أحياناً المرجيطي) أبو القاسم (- 399) إمام الرياضيين في عصره بالأندلس، كان فلكياً له عناية برصد الكواكب وشغف بتفهم المجسطي لبطليموس وله كتاب تمام علم العدد، وكتاب اختصر فيه تعديل الكواكب من زيج البتاني، ومؤلفات أخرى (انظر طبقات الأمم: 69 والصلة: 589 و Brock. S I 431 وSezgin، II)
(4) أحمد بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير أبو عمر (255 - 327) قرطبي، ولي خطة الوزارة وأحكام المظالم وكان صلباً في أحكامه مهيباً، حج سنة 275. وهو أخو موسى الحاجب (الذي ولد 256) أيام الأمير عبد الله وولاه المدينة 287؛ ولأحمد ولد اسمه سعيد وكنيته أبو عثمان (ابن الفرضي 1: 49) ؛ وذكر ابن حزم أن أحمد بن موسى بن حدير صاحب السكة كان من شيوخ المعتزلة وبينه وبين منذر بن سعيد البلوطي (سيجيء التعريف به) مراسلات (الفصل 4: 202 - 203) وهناك منهم عبد الرحمن بن موسى بن محمد بن حدير، توفي سنة 369 (ابن الفرضي 1: 307) وأحمد بن محمد بن حدير وكان خازن العسكر زمن المستنصر (المقتبس / بيروت 210) ومن بني حدير موسى بن محمد بن حدير المعروف بالزاهد وكان اخبارياً ممتعاً حافظاً لاخبار بني أمية، ويذاكر الأمير عبد الله بذلك، (المقتبس نشر انطونية: 44 - 45) .(1/155)
في هذا المسجد كان مربض (1) مقدم الأصفر أيام حداثته لعشق بعجيب فتلا الوزير أبي عمر المذكور، وكان يترك الصلاة في مسجد مسرور وبها كان (2) سكناه، ويقصد في الليل والنهار إلى هذا المسجد بسبب عجيب، حتى أخذه الحرس غير ما مرة في الليل في حين انصرافه عن صلاة العشاء الآخرة، وكان يقعد وينظر منه إلى أن كان الفتى يغضب ويضجر ويقوم إليه فيوجعه ضرباً ويلطم خديه وعينيه، فيسر بذلك ويقول: هذا والله أقصى أمنيتي قرت عيني، وكان على هذا زماناً يماشيه.
قال أبو دلف: ولقد حدثنا مسلمة بهذا الحديث غير مرة بحضرة عجيب عندما كان يرى (3) من وجاهة مقدم بن الأصفر وعرض جاهه وعافيته، فكانت حال مقدم بن الأصفر هذا قد جلت جداً واختص بالمظفر بن أبي عامر اختصاصاً شديداً واتصل والدته وأهله، وجرى على يديه من بنيان المساجد والسقايات وتسبيل (4) وجوه الخير غير قليل، مع تصرفه في كل ما يتصرف فيه أصحاب السلطان من العناية بالناس وغير ذلك.
خبر:
وأشنع من هذا أنه كانت لسعيد بن منذر بن سعيد (5) صاحب
__________
(1) مربض: قراءة برشيه، وهي الصواب، إذ القرينة تدل على انه كان يلزم المسجد لرؤية عجيب.
(2) لعل الصواب: وبه كانت، كما قرأ برشيه.
(3) قرأها برشيه: يبرم.
(4) في أكثر الطبعات: وتسهيل.
(5) كان منذر بن سعيد البلوطي من أبرز فقهاء عصره، ويميل إلى مذهب الظاهر، وتولى قضاء الجماعة بقرطبة، وله كتب كثيرة في الفقه والقرآن والرد، وتوفي سنة 355 (ابن الفرضي 2: 142 والجذوة: 326 والبغية رقم: 1357) ومن أبنائه: سعيد أبو عثمان وكان خطيباً بليغاً ذكياً نبيهاً، قتل - كما يقول ابن حزم - يوم تغلب البرابرة على قرطبة، 6 شوال 403 (الصلة: 208) ومنهم حكم أبو العاصي وكان من أهل الأدب والذكاء قديراً في الأدب توفي بمدينة سالم في نحو 420 هـ (الصلة: 146) ؛ وثالث الأبناء هو عبد الملك أبو مروان، ولي خطوة الرد ثم لحقته التهمة التي يشير إليها ابن حزم فصلب على باب سدة السلطان (وهو الباب الرئيسي لقصر الخلافة بقرطبة) سنة 368 وهو في حدود الأربعين من عمره (ابن الفرضي 1: 317 والحلة السيراء 1: 279 - 280) .(1/156)
الصلاة في جامع قرطبة أيام حكم المستنصر بالله رحمه الله جارية يحبها حباً شديداً، فعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، فقالت له ساخرة به؛ وكان عظيم اللحية: إن لحيتك أستبشع عظمها، فإن حذفت منها كان ما ترغبه. فأعمل الجلمين (1) فيها حتى لطفت، ثم دعا بجماعة شهود وأشهدهم على عتقها، ثم خطبها إلى نفسه فلم ترض به، وكان في جملة من حضر أخوه حكم بن منذر فقال لمن حضر: اعرض عليها أني أخطبها أنا، ففعل فأجابت إليه، فتزوجها في ذلك المجلس بعينه ورضي بهذا العار الفادح على ورعه ونسكه واجتهاده.
فأنا أدركت سعيداً هذا وقد قتله البربر يوم دخولهم قرطبة عنوة وانتهابهم إياها، وحكم المذكور أخوه هو رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم ومتكلمهم وناسكهم، وهو مع ذلك شاعر طيب وفقيه. وكان أخوه عبد الملك بن منذر متهماً بهذا المذهب أيضاً، ولي خطة الرد أيام الحكم رضي الله عنه، وهو الذي صلبه المنصور ابن أبي عامر إذ اتهمه هو وجماعة من الفقهاء والقضاة بقرطبة أنهم يبايعون سراً لعبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر رضي الله عنهم، فقتل عبد الرحمن وصلب عبد الملك بن منذر وبدد شمل من اتهم. وكان أبوهم قاضي القضاة منذر بن سعيد متهماً بمذهب الاعتزال أيضاً، وكان أخطب الناس وعلمهم بكل فن وأورعهم وأكثرهم هزلاً ودعابة. وحكم المذكور في الحياة في حين كتابتي إليك بهذه الرسالة قد كف بصره وأسن جداً.
__________
(1) الجلمان: المقص.(1/157)
خبر:
ومن عجيب طاعة المحب لمحبوبه أني أعرف من كان سهر الليالي الكثيرة ولقي الجهد الجاهد فقطعت قلبه ضروب الوجد ظفر بمن يحب وليس به امتناع ولا عنده دفع، فحين رأى منه بعض الكراهة لما نواه تركه وانصرف عنه، لا تعففاً ولا تخوفاً لكن توقفاً عند موافقته رضاه، ولم يجد من نفسه معيناً على إتيان ما لم ير له إليه نشاطاً وهو يجد ما يجد. وإني لأعرف من فعل هذا الفعل ثم تندم لعذر (1) ظهر من المحبوب؛ فقلت في ذلك: [من الرمل]
غافص الفرصة واعلم أنها ... كمضي البرق تمضي الفرص
كم أمور أمكنت (2) أهملها ... هي عندي إذ تولت غصص
بادر الكنز الذي ألفيته ... وانتهز صيداً (3) كباز يقنص ولقد عرض مثل هذا بعينه لأبي المطرف (4) عبد الرحمن بن أحمد بن محمود (5) صديقنا وأنشدته أبياتاً لي فطار بها كل مطار، وأخذها مني فكانت هجيراه.
خبر:
ولقد سألني يوماً أبو عبد الله محمد بن كليب من أهل القيروان أيام كوني بالمدينة، وكان طويل اللسان جداً مثقفاً للسؤال في كل فن فقال لي، وقد جرى بعض ذكر الحب ومعانيه (6) : إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي فما أصنع قلت: أرى أن تسعى في إدخال الروح
__________
(1) برشيه: لغدر.
(2) معظم الطبعات: أمهلها.
(3) معظم الطبعات: صبراً.
(4) في جميع الطبعات: المظفر.
(5) من أقرب الناس إلى ابن حزم أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن بشر قاضي الجماعة بقرطبة؛ ولكن لفظة " محمود " لا ترد في نسبه (انظر الجذوة) .
(6) هذه صورة ممتعة تشير إلى تحول القضايا العاطفية إلى مستوى الجدل العقلي.(1/158)
على نفسك بلقائه وإن كره. فقال: لكني لا أرى ذلك بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي، وأصبر ولو كان في ذلك الحتف. فقلت له: إني إنما أحببته لنفسي ولالتذاذها بصورته فأنا أتبع قياسي وأقود أصلي وأقفو طريقتي في الرغبة في سرورها، فقال لي: هذا ظلم من القياس، أشد من الموت ما تمني له الموت، وأعز من النفس ما بذلت له النفس. فقلت له: إن بذلك نفسك وإدخالك الحتف عليها. فقال لي: أنت رجل جدلي ولا جدل في الحب يلتفت إليه، فقلت له: إذا كان صاحبه مؤوفاً، فقال: وأي آفة أعظم من الحب!.(1/159)
- 15 -
باب المخالفة
وربما اتبع المحب شهوته وركب رأسه فبلغ شفاءه من محبوبه، وتعمد مسرته منه على كل الوجوه، سخط أو رضي. ومن ساعده الوقت على هذا وثبت جنانه وأتيحت له الأقدار استوفى لذته جميعها، وذهب غمه، وانقطع همه، ورأى أمله، وبلغ مرغوبه. وقد رأيت من هذه صفته؛ وفي ذلك أقول أبياتاً منها: [من السريع]
إذا أنا (1) بلغت نفسي المنى من رشأ ما زال لي ممرضا
فما أبالي الكره من طاعة ... ولا أبالي سخطاً من رضى
إذا وجدت الماء لابد أن ... أطفي به مشعل جمر الغضا
__________
(1) تمد ألف " أنا " - على غير العادة - لينضبط الوزن [على بحر السريع] .(1/160)
- 16 -
باب العاذل
وللحب آفات، فأولها العاذل، والعذل أقسام:
1 - فأولهم صديق قد أسقطت مؤنة التحفظ بينك وبينه، فعذله أفضل من كثير المساعدات، وهو من الحض والنهي، وفي ذلك زاجر للنفس عجيب، وتقوية لطبيعة بها حرض وغمل، ودواء تستد عليه الشهوة (1) ، ولا سيما إن كان رفيقاً في قوله، حسن التوصل إلى ما يورد (2) من المعاني بلفظه، عالماً بالأوقات التي يؤكد فيها النهي، وبالأحيان التي يزيد فيها الأمر، والساعات التي يكون فيها واقفاً (3) بين هذين، على قدر ما يرى من تسهل العاشق وتوعره، وقبوله وعصيانه.
2 - ثم عاذل زاجر لا يفيق أبداً من الملامة، وذلك خطب شديد وعبء ثقيل. ووقع لي مثل هذا، وإن لم يكن من جنس الكتاب ولكنه يشبهه، وذلك أن أبا السري عمار بن زياد صديقنا أكثر
__________
(1) هذه العبارة في الأصل: وتقوية لطيفة لها عرض وعمل ودواء تشتد عليه الشهوة؛ وفي قراءة برشيه: وتقوية لطيفة لما مرض وعل ودواء لمن تشتد عليه الشهوة، وحسب القراءة التي اقترحها يكون معنى العبارة: إن عذل الصديق تقوية لطبيعة قد انهكها الدنف وغلب عليها الفساد (الغمل) وهذا العذل نفسه تستد (من السداد أي تصلح) عليه الشهوة ويعتدل حالها.
(2) برشيه: يراد.
(3) في معظم الطبعات: وقفاً.(1/161)
من عذلي على نحو نحوته، وأعان علي بعض من لامني في ذلك الوجه أيضاً، وكنت أظن أنه سيكون معي، مخطئاً كنت أو مصيباً، لوكيد صداقتي وصحيح اخوتي به.
ولقد رأيت من اشتد وجده وعظم كلفه حتى كل العذل أحب شيء إليه، ليري العاذل عصيانه ويستلذ مخالفته، ويحصل مقاومته للأئمه (1) وغلبته إياه، كالملك الهازم لعدوه، والمجادل الماهر الغالب لخصمه، ويسر بما يقع منه في ذلك وربما كان هو المستجلب لعذل العاذل بأشياء يوردها توجب ابتداء العذل، وفي ذلك أقول أبياتاً منها: [من البسيط]
أحب شيء إلي اللوم والعذل ... كي أسمع اسم الذي ذكراه لي أمل
كأنني شارب بالعذل صافية ... (2) وباسم مولاي بعد الشرب انتقل
__________
(1) بتروف وغيره (ما عدا برشيه) : اللائمة.
(2) انتقل: تناول نقلاً مع الشراب أو بعده.(1/162)
- 17 -
باب المساعد من الاخوان
ومن الأسباب المتمناة في الحب ان يهب الله عز وجل للإنسان صديقاً مخلصاً، لطيف القول، بسيط الطول، حسن المأخذ، دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة، شديد الاحتمال، صابراً على الإدلال، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوي المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، كارهاً للمباعدة، نبيل المداخل (1) ، مصروف الغوائل، غامض المعاني، عارفاً بالأماني، طيب الأخلاق، سري الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، صحيح الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، ظاهر الغناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقاً بالصبر، يألف الإمحاض، ولا يعرف الإعراض، يستريح إليه ببلابله، ويشاركه في خلوة فكره (2) ، ويفاوضه في مكتوماته، وإن فيه للمحب لأعظم الراحات، وأين هذا! فغن ظفرت به يداك فشدهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك
__________
(1) برشيه: الشمائل.
(2) هذه هي قراءة برشيه، وعند غيره: فقره.(1/163)
البخيل، وصنه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الانس، وتنجلي الأحزان ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال. ولن يفقد الانسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميلاً، ورأياً حسناً، ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخففوا عنهم بعض ما حملوه من شديد الأمور وطوقوه من باهظ الأحمال، ولكي يستغنوا بآرائهم، ويستمدوا بكفايتهم، وإلا فليس في قوة الطبيعة أن تقاوم كل ما يرد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها.
ولقد كان بعض المحبين - لعدمه هذه الصفة من الإخوان، وقلة ثقته منهم لما جربه من الناس وانه لم يعدم ممن باح إليه بشيء من سره أحد وجهين: إما إزراء على رأيه وإما إذاعة لسره - أقام الوحدة مقام الأنس، وكان ينفرد في المكان النازح عن الأنيس، ويناجي الهواء، ويكلم الأرض، ويجد في ذلك راحة كما يجد المريض في التأوه، والمحزون في الزفير؛ فغن الهموم إذا ترادفت في القلب ضاق بها، فإن لم ينص منها شيء (1) باللسان، ولم يسترح إلى الشكوى لم يلبث ان يهلك غماً ويموت أسفاً.
وما رأيت الإسعاد (2) أكثر منه في النساء، فعندهن من المحافظة على هذا الشان والتواصي بكتمانه والتواطؤ على طيه إذا اطلعن عليه ما ليس عند الرجال، وما رأيت امرأة كشفت سر متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة مرمية عن قوس واحدة. وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشان ما لا يوجد عند الفتيات، لان الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغير، وهذا لا يكون إلا في الندرة، وأما العجائز فقد يئسن من أنفسهن فانصرف الإشفاق محضاً إلى غيرهن.
__________
(1) في الأصل: لم ينض شيء، وعند برشيه: لم يقش شيئاً.
(2) الاسعاد: المساعفة والعون.(1/164)
خبر:
وإني لأعلم امرأة موسرة ذات جوار وخدم، فشاع على إحدى جواريها أنها تعشق فتى من أهلها ويعشقها، وأن بينهما معاني مكروهة، وقيل لها: إن جاريتك فلانة تعرف ذلك وعندها جلية أمرها، فأخذتها وكانت غليظة العقوبة فأذاقتها من أنواع الضرب والإيذاء ما لا يصبر على مثله جلداء الرجال، رجاء ان تبوح لها بشيء مما ذكر لها، فلم تفعل البتة (1) .
خبر:
وإني لأعلم امرأة جليلة حافظة لكتاب الله عز وجل ناسكة مقبلة على الخير، وقد ظفرت بكتاب لفتى إلى جارية كان يكلف بها، وكانت في غير ملكها، فعرفته الأمر فرام الإنكار فلم يتهيأ له ذلك، فقال له: مالك ومن ذا عصم فلا تبال بهذا، فوالله لا أطلعت على سركما أحداً أبداً، ولو أمكنني ان أبتاعها لك من مالي ولو أحاط به كله لجعلتها لك في مكان تصل إليها فيه ولا يشعر بذلك أحد.
وإنك لترى المرأة الصالحة المسنة المنقطعة الرجاء من الرجال، وأحب أعمالها إليها وأرجاها للقبول عندها سعيها في تزويج يتيمة، وإعارة ثيابها وحليها لعروس مقلة. وما أعلم علة تمكن هذا الطبع من النساء إلا أنهت متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتآلف ووجوهه، لا شغل لهن غيره، ولا خلقن لسواه؛ والرجال مقتسمون في كسب المال وصحبة السلطان وطلب العلم وحياطة العيال ومكابدة الأسفار والصيد وضروب الصناعات ومباشرة الحروب وملاقاة الفتن وتحمل المخاوف وعمارة الأرض، وهذا كله متحيف للفراغ، صارف عن طريق البطل.
__________
(1) الجارية التي ضربت فلم تبح نموذج للنساء في التكتم على المحبين، ولمن ما بال سيدتها التي ضربتها ضرباً مبرحاً، أليست هي امرأ'.(1/165)
وقرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكل ثقة له بنسائه يلقي عليهن ضريبة من غزل الصوف يشغلن بها أبد الدهر، لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تتشوف (1) إلى الرجال، وتحن إلى النكاح.
ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تبقل (2) وجهي؛ وهن علمتني القرآن وروينني كثيراً من الأشعار ودربنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جداً إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك. وأنا لا أنسى شيئاً مما أراه منهن، وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل، وسيأتي ذلك مفسراً في أبوابه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الطبعات: تشوق.
(2) عند الصيرفي: تفيل، وتابعه مكي على ذلك.(1/166)
- 18 -
باب الرقيب
ومن آفات الحب الرقيب، وإنه لحمى باطنة، وبرسام ملح، وفكر مكب. والرقباء أقسام:
1 - فأولهم مثقل بالجلوس، غير متعمد، في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمحب من القلق بهذه الصفة ما لا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متون (1) الرجاء.
ولقد شاهدت يوماً محبين في مكان قد ظناً انهما انفردا فيه وتأهبا للشكوى، فاستحليا ما هما فيه من الخلوة، ولم يكن الموضع حمى، فلم يلبثا أن طلع عليهما من كانا يستثقلانه، فرآني فعدل إلي وأطال الجلوس معي، فلو رأيت الفتى المحب وقد تمازح الأسف البادي على وجهه مع الغضب لرأيت عجباً، وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] .
يطيل جلوساً وهو أثقل جالس ... ويبدي حديثاً لست أرضي فنونه
شمام ورضوى واللكام ويذبل ... ولبنان والصمان والحزن دونه 2 - ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف، وتوجس من مذهبهما شيئاً، فهو يريد أن يستقري (2) حقيقة ذلك، فيدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتقفى (3) الحركات، ويرمق الوجوه، ويحصي (4) الأنفاس، وهذا أعدى من الجرب. وإني لأعرف من هم أن يباطش
__________
(1) بتروف وتابعه الصيرفي مكي: متوفر.
(2) بتروف: يستبري؛ وغيرها الصيرفي إلى: يستبين، وتابعه مكي.
(3) بتروف: ويتجفى بالحركات؛ الصيرفي ومكي: ويتخفى بالحركات.
(4) جميع الطبعات: ويحصل.(1/167)
رقيباً هذه صفته؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من مخلع البسيط]
مواصل لا يغب قصداً ... اعظم بهذا الوصال غما
صار وصرنا لفرط ما لا ... يزول كالإسم والمسمى 3 - ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلا بترضيه. وإذا أرضي فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها. ولقد شاهدت من تلطف في استرضاء رقيب حتى صار الرقيب عليه رقيباً له، ومتغافلاً في وقت التغافل، ودافعاً عنه وساعياً له؛ ففي ذلك أقول: [من الطويل]
ورب رقيب أرقبوه فلم يزل ... على سيدي عمداً ليبعدني عنه
فما زالت الألطاف تحكم أمره ... إلى ان غدا خوفي له أمناً منه
وكان حساماً سل حتى (1) يهذني ... فعاد محباً ما لنعمته كنه وأقول قطعة، منها: [من المنسرح]
صار حياة وكان سهم ردى ... وكان سماً فصار درياقا وإني لأعرف من رقب على بعض من كان يشفق عليه رقيباً وثق به عند نفسه، فكان اعظم الآفة عليه وأصل البلاء فيه.
واما إذا لم يكن في الرقيب حيلة ولا وجد إلى ترضيه سبيل، فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همساً وبالحاجب أحياناً، والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك متعة وبلاغ إلى حين، يقنع به المشتاق؛ وفي ذلك أقول شعراً أوله: [من الطويل]
على سيدي مني رقيب محافظ ... وفي لمن والاه ليس بناكث ومنه:
ويقطع أسباب اللبانة في الهوى ... ويفعل فيها فعل بعض الحوادث
__________
(1) جميع الطبعات: يهدني.(1/168)
كان له في قلبه ريبة (1) ترى ... وفي كل عين مخبر بالأحادث ومنه:
(2) على كل من حولي رقيبان رقبا ... وقد خصني ذو العرش منهم بثالث وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهي به وطالت مدته فيه، ثم عري عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانة من رقب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأتي منه، وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته؛ وفي ذلك أقول: [من الوافر] .
رقيب طالما عرف الغراما ... وقاسى الوجد وامتنع المناما
ولاقى في الهوى ألماً أليماً ... وكاد الحب يورده الحماما
وأتقن حيلة الصب المعنى ... ولم يضع الإشارة والكلاما
وأعقبه التسلي بعد هذا ... وصار يرى الهوى عاراً وذاما
وصير دون من أهوى رقيباً ... ليبعد عنه صباً مستهاما
فأي بلية صبت علينا ... وأي مصيبة حلت لماما ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبين مذهبهما واحد في حب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كل واحد منهما رقيب على صاحبه. وفي ذلك أقول: [من السريع] .
صبان هيمانان في واحد ... كلاهما عن خدنه منحرف
كالكلب في الآري لا يعتلف ... (3) ولا يخلي الغير أن يعتلف
__________
(1) يريد برشيه أن يقرأها: رئيا يرى، وهذا لا يستقيم به الوزن؛ وقد نقرأ " ربة ترى " والربة: الجماعة الكثيرة.
(2) رقبا أو رتبا؛ لا فرق في المعنى.
(3) الآري: محبس الدابة من كلب وغيره، وقوله كالكلب لا يعتلف ولا يخلي غيره يعتلف، مثل جاء في صور مختلفة عند الاندلسيين والمغاربة، من ذلك: كلب الورد لا يشم ولا يخلي أحد يشم؛ (انظر الزجالي ص: 261 المثل رقم: 1125) وقد ذكر الاستاذ بنشرفيه أن المثل ما يزال مستعملاً في تونس، وله صنو في اسبانيا، وقارنه بقول ابن حزم هنا؛ والصورة الاسبانية من المثل أوردها غومس (هامش ص: 170) واقتبسها مكي (هامش ص: 82) .(1/169)
- 19 -
باب الواشي
ومن آفات الحب الواشي، وهو على ضربين: أحدهما واش يريد القطع بين المتحابين فقط، وإن هذا لأفترهما سوءة، على انه السم الذعاف والصاب الممقر (1) والحتف القاصد والبلاء الوارد. وربما لم ينجع ترقيشه. وأكثر ما يكون الواشي فإلى المحبوب، وأما المحب فهيهات، حال الجريض دون القريض (2) ، ومنع الحرب من الطرب، شغله بما هو مانع له من استماع الواشي. وقد علم الوشاة ذلك، وإنما يقصدون إلى الخلي البال، الصائل بحوزة الملك، المتغيب عند أقل سبب.
وإن للوشاة ضرورياً من التنقيل، فمنها أن يذكر للمحبوب عمن يحب أنه غير كاتم للسر، وهذا مكان صعب المعاناة، بطئ البرء إلا أن يوافق معارضاً (3) للمحب في محبته، وهذا أمر يوجب النفار، فلا فرج للمحبوب إلا بأن تساعده الأقدار بالاطلاع على بعض أسرار من
__________
(1) الممقر: الشديد المرارة.
(2) حال الجريض دون القريض: هذا مثل يضرب للمعضلة تعرض فتشغل عن غيرها، وهو لعبيد بن الابرص حين سئل وهو مترقب الموت أن يقول شعراً (انظر جمهرة العسكري 1: 359 والفاخر: 250 والميداني 1: 129 والمستقصى: 201 واللسان: جرض، وفصل المقال: 444) .
(3) برشيه: مغارض.(1/170)
يحب، بعد أن يكون المحبوب ذا عقل، وله حظ من تمييز، ثم يدعه والمطاولة (1) . فإذا تكذب عنده نقل الواشي مع ما اظهر من التحفظ والجفاء، ولم يسمع لسره إذاعة علم أنه إنما زور له الباطل، واضمحل ما قام في نفسه. ولقد شاهدت هذا بعينه لبعض المحبين مع بعض من كان يحب، وكان المحبوب شديد المراقبة عظيم الكتمان، وكثر الوشاة بينهما وحدث في حب لم يكن، حتى ظهرت اعلام ذلك في وجهه، وركبته وجمة (2) ، وأظلته فكرة، ودهمته حيرة، إلى أن ضاق صدره وباح بما نقل إليه؛ فلو شاهدت مقام المحب في اعتذاره لعلمت أن الهوى سلطان مطاع، ناء مشدود الأواخي، وسنان نافذ، وكان اعتذاره بين الاستسلام والاعتراف والإنكار والتوبة والرمي بالمقاليد، فبعد لأي ما صلح الأمر بينهما.
وربما ذكر الواشي أن ما يظهر المحب من المحبة ليس بصحيح (3) ، وان مذهبه في ذلك شفاء نفسه وبلوغ وطره؛ وهذا فصل من النقل وإن كان شديداً فهو أيسر معاناة مما قبله. فحالة المحب غير حالة المتلذذ. وشواهد الوجد متفاوتة بينهما. وقد وقع من هذا نبذ كافية في باب الطاعة.
وربما نقل الواشي أن هوى العاشق مشترك، وهذه النار المحرقة والوجع الفاشي في الأعضاء. وإذا وافق الناقل لهذه المقالة ان يكون المحب فتى حسن الوجه حلو الحركات، مرغوباً فيه مائلاً إلى اللذات، دنياوي الطبع، والمحبوب امرأة جليلة القدر سرية المنصب، فأقرب الأشياء سعيها في إهلاكه وتصديها لحتفه، وهذه كانت ميتة مروان بن احمد بن حدير، والد أحمد المتنسك، وموسى وعبد
__________
(1) برشيه: يديمه المطاولة.
(2) مكي والصيرفي: رحمة.
(3) بتروف والصيرفي ومكي: ليست بصحيحة.(1/171)
الرحمن المعروفين بابني لبنى (1) ، من قبل قطر الندى جارته، وفي ذلك أقول محذراً لبعض إخواني قطعة منها: [من الطويل]
وهل يأمن النسوان غير مغفل ... جهول لأسباب الردى متعرض (2) وكم وارد حوضاً من الموت أسوداً ترشفه من طيب الطعم أبيض
والثاني واش يسعى للقطع بين المحبين لينفرد بالمحبوب ويستأثر به، وهذا أشد شيء وأفظعه (3) وأجزم (4) لاجتهاد الواشي واستفادته بجهده (5) .
ومن الوشاة جنس ثالث، وهو واش يسعى بهما جميعاً ويكشف سرهما، وهذا لا يلتفت إليه إذا كان المحب مساعداً؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل]
عجبت لواش ظل يكشف أمرنا ... وما بسوى أخبارنا يتنفس
وماذا عليه من عنائي ولوعتي ... أنا آكل الرمان والولد تضرس (6) ولابد أن أورد ما يشبه ما نحن فيه، وإن كان خارجاً منه، وهو شيء في بيان التنقيل والنمائم. فالكلام يدعو بعضه بعضاً كما شرطنا في أول الرسالة:
__________
(1) قد عرفت ببعض بني حدير فيما تقدم ص: 155 هامش 4 وقد ذكر لسان الدين ابن الخطيب (اعمال الاعلام: 211) موسى بن مروان بن حدير ووصفه بالصرامة والجرأة؛ وجهه صاحب قرطبة إلى خيران حين انتزى في شرق الاندلس، فدارت بين الاثنين وقعة أسر فيها موسى وقتل أصحابه.
(2) الطبعات (ما عدا برشيه) : متأرض.
(3) أكثر القراءات: وأقطعه.
(4) برشيه: وأجزعه.
(5) الصيرفي ومكي: واستفادة جهده؛ ولعلني أرجح: واستنفاده جهده.
(6) عبارة متناقلة مشهورة، لها أصل في العهد القديم (انظر سفر حزقيال، الإصحاح: 18) .(1/172)
وما في جميع الناس شر من الوشاة، وهم النمامون، وإن النميمة (1) لطبع يدل على نتن الأصل، ورداءة الفرع، وفساد الطبع، وخبث النشأة، ولابد لصاحبه من الكذب؛ والنميمة فرع من فروع الكذب ونوع من أنواعه، وكل نمام كذاب، وما أحببت كذاباً قط، وإني لأسامح في إخاء كل ذي عيب وإن كان عظيماً، واكل أمره إلى خالقه عز وجل، وآخذ ما ظهر من أخلاقه حاشا من أعلمه يكذب، فهو عندي ماح لكل محاسنه، وذلك لان كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه وكل ذام فقد يمكن الاستتار به والتوبة منه، حاشا الكذب فلا سبيل إلى الرجعة عنه ولا إلى كتمانه حيث كان. وما رأيت قط ولا أخبرني من رأى كذاباً ترك الكذب ولم يعد إليه، ولا بدأت قط بقطيعة ذي معرفة إلا أن أطلع له على الكذب، فحينئذ أكون أنا القاصد إلى مجانبته والمتعرض لمتاركته، وهي سمة ما رأيتها قط في أحد إلا وهو مزنون إليه بشر في نفسه، مغموز عليه لعاهة سوء في ذاته، نعود بالله من الخذلان.
وقد قال بعض الحكماء: آخ من شئت واجتنب ثلاثة: الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، والملوك فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكدها بخذلك، والكذاب فإنه يجني عليك آمن ما كنت فيه من حيث لا تشعر.
وحديث عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسن العهد من الإيمان " (2) ؛ وعنه عليه السلام: " لا يؤمن الرجل بالإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح " (3) . حدثنا
__________
(1) قارن بين هذه الحملة الشديدة على النميمة هنا، وبين قول ابن حزم في رسالته في الأخلاق والسير: " واما النميمة فهي التبليغ لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلغ إليه " (رسائل ابن حزم: 133) .
(2) ورد في ارشاد الساري 9: 21 واتقان الغزي: 52 وعيون الاخبار 3: 15 والبصائر 7: 651.
(3) انظر مسند أحمد 2: 352، 364.(1/173)
بهذا أبو عمر أحمد بن محمد (1) عن محمد بن عيسى بن رفاعة (2) عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد القاسم بن سلام عن شيوخه، والآخر منهما مسند إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
والله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون} (الصف 3 - 4) . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل هل يكون المؤمن بخيلاً فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن جباناً فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن كذاباً فقال: لا. حدثناه أحمد بن محمد ابن احمد عن أحمد بن سعيد (3) عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك بن أنس عن صفوان بن سليم. وبهذا الإسناد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا خير في الكذب " في حديث سئل فيه. وبهذا الإسناد عن مالك أنه بلغه عن ابن مسعود أنه كان يقول: " لا يزال العبد يكذب وينكت في قلبه نكته سوداء حتى يسود القلب فيكتب عند الله من الكذابين " وبهذا الإسناد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر والبر
__________
(1) أحمد بن محمد بن احمد المعروف بابن الجسور الأموي هو أول شيخ سمع منه ابن حزم قبل الأربعمائة، وتوفي سنة 401 وكان من أهل العلم متقدماً في الفهم حافظاً للحديث والرأي (الجذوة: 99 - 100 والصلة: 29) وفي رواية ابن حزم عنه يروي ابن الجسور عن كل من:
(1) محمد بن عبد الله بن أبي دليم.
(2) أحمد بن مطرف.
(3) أحمد بن سعيد بن حزم.
(4) محمد بن عيسى بن رفاعة القلاس.
(5) وهب بن مسرة.
وسيعرف بكل واحد من هؤلاء في موضعه.
(2) محمد بن عيسى بن رفاعة: هو القلاس (- 337) انظر ابن الفرضي 2: 57.
(3) أبو عمر أحمد بن سعيد بن حزم الصدفي (- 350) قرطبي سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى وغيره ورحل إلى المشرق، وجمع كتاباً كبيراً في الرجال (ابن الفرضي 1: 55 والجذوة: 117) .(1/174)
يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار " (1) .
وروي أنه أتاه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إني أستهتر بثلاث: الخمر والزنا والكذب. فمرني أيها أترك، قال: اترك الكذب، فذهب عنه. ثم أراد الزنا ففكر فقال: آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني: أزينت فإن قلت: نعم، حدني، وإن قلت: لا، نقضت العهد، فتركه. ثم كذلك في الخمر. فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني تركت الجميع.
فالكذب أصل كل فاحشة، وجامع كل سوء، وجالب لمقت الله عز وجل. وعن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاث من كن فيه كان منافقاً: من إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان " (2) .
وهل الكفر إلا كذب على الله عز وجل (3) ، والله الحق وهو يحب الحق، وبالحق قامت السموات والأرض. وما رأيت أخزى من كذاب، وما هلكت الدول، ولا هلكت الممالك، ولا سفكت الدماء ظلماً، ولا
__________
(1) حديث " عليكم بالصدق الخ " ورد في الصحاح الستة؛ انظر مثلاً مسلم، باب البر: 105 (2: 289) وفي الموطأ (الكلام: 16) وفي مسند أحمد: 1، 3، 5، 7، 8، ومواضع أخرى منه، وبهجة المجالس 1: 576 وانظره في مصنف عبد الرزاق 11: 159 من كلام ابن مسعود.
(2) ورد بصيغ مختلفة منها: آية المنافق ثلاث في البخاري (شهادات: 28) ومسلم (ايمان 107، 109) ومسند أحمد 2: 357 وبصيغة: ثلاث من كن فيه فهو منافق، في مسند أحمد 2: 198، 536؛ وثلاث في المنافق: في مسند أحمد 2: 297.
(3) كرر ابن حزم هذا في رسالته في مداواة النفوس (رسائل: 146) فقال: لا شيء أقبح من الكذب، وما ظنك بعيب يكون الكفر نوعاً من أنواعه، فكل كفر كذب، فالكذب جنس والكفر نوع تحته.(1/175)
ظلماً الأستار بغير النمائم والكذب، ولا أكدت البغضاء والإحن المردية إلا بنمائم لا يحظى صاحبها إلا بالمقت والخزي والذل، وأن ينظر منه الذي ينقل إليه فضلاً عن غيره بالعين التي ينظر بها من الكلب.
والله عز وجل يقول: {ويل لكل همزة لمزة} (الهمزة: 1) ويقول جل من قائل: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6) فسمى النقل باسم الفسوق، ويقول: {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم} (القلم: 10 - 13) . والرسول عليه السلام يقول: " لا يدخل الجنة قتات " (1) ويقول: " واياكم وقاتل الثلاثة " يعني المنقل والمنقول إليه والمنقول عنه (2) . والأحنف يقول: " الثقة لا يبلغ (3) وحق لذي الوجهين ألا يكون عند الله وجيها؛ وهو ما يجعله من أخس الطبائع وأرذلها.
ولي إلى أبي اسحاق إبراهيم بن عيسى الثقفي الشاعر رحمه الله، وقد نقل إليه رجل من إخواني عني كذباً على جهة الهزل، وكان هذا الشاعر كثير الوهم فأغضبه (4) وصدقه، وكلاهما كان لي صديقاً،
__________
(1) ورد حديث " لا يدخل الجنة قتات " في البخاري (أدب: 50) ومسلم (ايمان: 169، 170) وأبي داود (أدب: 33، وبر: 79) ومسند أحمد 5: 382، 389، 392، 402، 404؛ وانظر بهجة المجالس 1: 402 والقتات هو النمام.
(2) جاء في بهجة المجالس 1: 402 قال عليه السلام: اياك ومهلك الثلاثة، قيل وما مهلك الثلاثة قال: رجل سعى بأخيه المسلم فقتله فأهلك نفسه وأخاه وسلطانه.
(3) الأحنف: اسمه الضحاك بن قيس، وقيل اسمه صخر، مضرب المثل في الحلم، مختلف في عام وفاته بين 67 - 77، والأول أشهر، انظر ترجمته في ابن خلكان 2: 499 وطبقات ابن سعد 7: 93 وتهذيب ابن عساكر 7: 10 وتهذيب التهذيب 1: 191، وأخبار حلمه مبثوثة في كتب الأدب. وقوله " الثقة لا يبلغ " كلمة تنسب له ولغيره؛ فقد جاء في الأذكياء لابن الجوزي (ط/ 1304) غضب رجل على رجل فقال له: ما أغضبك قال: شيء نقله إلي الثقة عنك، فقال: لو كان ثقة ما نم.
(4) برشيه: فأخذ به.(1/176)
وما كان الناقل إليه من أهل هذه الصفة ولكنه كان كثير المزاح جم الدعابة، فكتبت إلى أبي إسحاق، وكان يقول بالخبر (1) ، شعراً منه: [من الطويل]
ولا (2) تتبدل قالة قد سمعتها ... تقال ولا تدري الصحيح بما تدري
كمن قد أرق الماء للآل أن بدا ... فلاقى الردى في الأفيح المهمه القفر وكتبت إلى الذي نقل عني شعراً منه: [من الطويل]
ولا تدغمن (3) في الجد مزحاً كمولج ... فساد علاج النفس طي صلاحها
ومن كان نقل الزور أمضى سلاحه ... (4) كمثل الحبارى تتقي بسلاحها وكان لي صديق مرة وكثر التدخيل (5) بيني وبينه حتى كدح ذلك
__________
(1) وكان يقول بالخبر: هذه العبارة - فيما أعتقد - صنو لقوله: وكان ظاهرياً؛ وتفسير ذلك أن ابن حزم ومن رأى مثل رأيه يقولون إن الخبر الصحيح عن الرسول حكمه حكم القرآن في وجوب الطاعة لهما فمن بلغه خبر عن الرسول يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر، وهذا معنى قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ، فمن مال عن قول رسول الله إلى قول فلان وفلان أو قياسه أو استحسانه فإنه ليس بمؤمن، ويستوي في ذلك أن يكون الخبر منقولاً نقل التواتر أو نقله الواحد الثقة، وهم يردون بشدة على من يقول إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد (انظر الاحكام 1: 96 - 138) .
(2) برشيه: تتقبل؛ والبيت الثاني يقوي رواية " تتبدل ".
(3) برشيه: تمزجن؛ وفي سائر القراءات: تزعما.
(4) يشير إلى قولهم في المثل: اسلح (أو أذرق) من حبارى؛ انظر الدرة الفاخرة: 233 وجمهرة العسكري 1: 534، والميداني 1: 354 والمستقصى 1: 170.
(5) برشيه: التدجيل؛ ولا أراه صواباً؛ والتدخيل مصدر دخل، وهو وان لم يكن جارياً على القياس فإنه بمثابة " الدخال "؛ والمقصود به هنا الدخول بين اثنين للوقيعة والدس.(1/177)
فيه واستبان في وجهه وفي لحظه، وطبعت على التأني والتربص والمسالمة ما امكنت، ووجدت بالانخفاض سبيلاً إلى معاودة المودة، فكتبت إليه شعراً، منه: [من الطويل]
ولي في الذي أبدي مرام لو أنها ... بدت ما ادعى حسن الرماية وهرز (1) وأقول مخاطباً لعبيد الله بن يحيى الجزيري الذي يحفظ لعمه الرسائل البليغة (2) ، وكان طبع الكذب قد استولى عليه، واستحوذ على عقله، وألفه ألفة النفس الأمل، ويؤكد نقله وكذبه بالأيمان المؤكدة المغلظة مجاهراً بها، أكذب من السراب، مستهتراً بالكذب مشغوفاً به، لا يزال يحدث من قد صح عنده أنه لا يصدقه، فلا يزجره ذلك عن أن يحدث بالكذب: [من الطويل]
بدا كل ما كتمته بين مخبر ... وحال أرتني قبح عقدك بينا
وكم حالة صارت بياناً بحالة ... كما تثبت الأحكام بالحبل الزنا وفيه أقول قطعة منها: [من الطويل]
أنم من المرآة في كل ما درى ... وأقطع بين الناس من قضب الهند
أظن المنايا والزمان تعلما ... تحيله بالقطع بين ذوي الود وفيه أيضاً أقول من قصيدة طويلة: [من الطويل]
وأكذب من حسن الظنون حديثه ... وأقبح من دين وفقر ملازم
__________
(1) كان وهزر قائد الجيش الفارسي الذي أرسله كسرى لمعاونة سيف بن ذي يزن على طرد الأحباش وكان حاذقاً في الرماية (انظر مروج الذهب: 3: 163 وما بعدها) .
(2) قوله: يحفظ لعمه الرسائل البليغة الأرجح انه يقصد بهذا العم عبد الملك بن ادريس الجزيري (انظر الذخيرة 4/ 1: 46 ومراجع ترجمته مذكورة في الحاشية) أما ابن أخيه عبيد الله فمن العبث مساءلة المصادر عن أخبار من كان مثله سقوطاً وخسة؛ ولكن الأمر الذي يستحق التنبيه هو: لماذا لم يحاول ابن حزم ان يخفي اسمه كما أخفى أسماء كثيرين غيره وجعله مرمى لسهام هجائه، حتى كأنه كان مباءة لشتى ضروب الرذائل (أنظر ص: 279) .(1/178)
أوامر رب العرش أضيع عنده ... وأهون من شكوى إلى غير راحم
تجمع فيه كل خزي وفضحة ... فلم يبق شتماً في المقال لشاتم
وأثقل من عذل على غير قابل ... (1) وأبرد برداً من مدينة سالم
وأبغض من بين وهجر ورقبة ... جمعن على حران حيران هائم وليس من نبه غافلاً، أو نصح صديقاً، أو حفظ مسلماً، أو حكى عن فاسق أو حدث عن عدو - ما لم يكن يكذب ولا يكذب، ولا تعمد الضغائن - منقلاً (2) . وهل هلك الضعفاء وسقط من لا عقل له إلا في قلة المعرفة بالناصح من النمام، وهما صفتان متقاربتان في الظاهر متفاوتتان في الباطن، إحداهما داء والأخرى دواء. والثاقب القريحة لا يخفى عليه أمرهما، لكن الناقل من كان تنقيله غير مرضي في الديانة، ونوى به التشتيت بين الأولياء، والتضريب بين الإخوان، والتحريش والتوبيش (3) والرقيش. فمن خاف إن سلك طريق النصيحة ان يقع في طريق النميمة، ولم يثق لنفاذ تمييزه ومضاء تقديره فيما يرده من أمور دنياه ومعاملة أهل زمانه، فليجعل دينه دليلاً وسراجاً يستضيء به، فحيثما سلك به سلك وحيثما أوقفه وقف، وكفيلاً له بالنظر وزعيماً بالإصابة وضماناً للفلج والخلاص (4) . فشارع الشريعة وباعث الرسول عليه السلام ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق وأدرى بعواقب السلامة ومغبات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه، وباحث بقياسه في ظنه.
__________
(1) مدينة سالم: (Medinacelli) : تقع على بعد 135 كيلو متراً على الطريق من مدريد إلى سرقسطة، وقد توفي المنصور بها ودفن هنالك؛ وهي في منطقة شديدة البرودة شتاء، فلذلك ضرب بها المثل هنا (انظر الادريسي (دوزي) : 189) .
(2) برشيه: ناقلاً؛ وتعد " منقلاً " خبر " ليس " في أول الفقرة.
(3) التوبييش: لعلها من وبش الكلام وهو الردئ منه؛ وقرأ برشيه " والتوحيش ".
(4) وكفيلاً له والخلاص: سقطت هذه العبارة من طبعة الصيرفي ومكي والطبعة البيروتية.(1/179)
- 20 -
باب الوصل
ومن وجوه العشق الوصل، وهو حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السني، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيهن والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنتهى الأراجي. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان، ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن من بعد الخوف، ولا التروح على المال، (1) من الموقع في النفس ما للوصل، ولا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر (2) ، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتتضرم نار الرجاء. وما إصناف (3) النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع
__________
(1) الترويح: أراد هذه الصيغة بمعنى الراحة، ولو كانت " التريح " لكانت بمعنى الشعور بالأريحية وقرأ برشيه: ولا الأمن من بعد الخوف والنزوح عن الآل؛ وعلى تعسفه في القراءة فإنه يلمح إلى الحال النفسية لدى ابن حزم في فقدانه الأمن ونزوحه عن وطنه وآله بعيد الفتنة.
(2) وحلول الهجر: لم ترد عند برشيه في النص، وثبت معناها في الترجمة (فسقوطها سهو) .
(3) إصناف البنات: بدء ظهور إيراقه؛ وغيرها برشيه فجعلها: " لإيراق "، وذلك تحكم منه.(1/180)
السحاب الساريات في الزمان السجسج، ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض (1) الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه، وأنه لمعجز ألسنة البلغاء، ومقصر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام؛ وفي ذلك أقول: [من البسيط] .
وسائل لي عما لي من العمر ... وقد رأى الشيب في الفو دين والعذر
أجبته ساعة لا شيء أحسبه ... عمراً سواها بحكم العقل والنظر
فقال لي: كيف ذا بينة لي فلقد ... أخبرتني أشنع الأنباء والخبر
فقلت إن التي قلبي بها علق ... قبلتها قبلة يوماً على خطر
فما أعد ولو طالت سني سوى ... تلك السويعة بالتحقيق من عمري ومن لذيذ معاني الوصل المواعيد، وإن للوعد المنتظر مكاناً لطيفاً من شغاف القلب؛ وهو ينقسم قسمين: أحدهما الوعد بزيارة المحب لمحبوبه، وفيه أقول قطعة منها: [من البسيط] .
أسامير البدر لما أبطأت وأرى ... في نوره من سنا إشراقها عرضا
(2) فبت مشترطاً والود مختلطاً ... والوصل منبسطاً والجهر منقبضا والثاني: انتظار الوعد من المحب أن يزور محبوبه. وإن لمبادئ الوصل وأوائل الإسعاف لتولجاً (3) على الفؤاد ليس لشيء من الأشياء. وإني لأعرف من كان ممتحناً بهوى في بعض المنازل المصاقبة فكان
__________
(1) برشيه: قد أحدقن بالرياض.
(2) كذا هذا الشطر عند بتروف وغيره، إلا أن برشيه قرأه: فبت مغتبطاً والود معتبطا؛ والأصل والتصحيح عليه كلاهما قلقل، ولم أتبين له وجهاً صحيحاً؛ ولعله لو كان " فبت مختلطاُ والود مشترطاً " لكان ذا معنى.
(3) برشيه: لثلوجاً.(1/181)
يصل متى شاء بلا مانع، ولا سبيل إلى غير النظر والمحادثة زماناً طويلاً، ليلاً متى أحب ونهاراً، إلى أن ساعدته الأقدار بإجابة، ومكنته بإسعاد، بعد يأسه، لطول المدة، ولعهدي به قد كاد أن يختلط عقله فرحاً، وما كاد يتلاحق كلامه سروراً، فقلت في ذلك: [من البسيط] .
برغبة (1) لو إلى ربي دعوت بها ... لكان ذنبي عند الله مغفورا
ولو دعوت بها أسد الفلا لغدا ... إضرارها عن جميع الناس مقصورا
فجاد باللثم لي من بعد منعته ... فاهتاج من لوعتي ما كان مغمورا
كشارب الماء كي يطفي الغليل به ... فغص فانصاع في الأجداث مقبورا وقلت: [من المتقارب] .
جرى الحب مني مجرى النفس ... وأعطيت عيني عنان الفرس
ولي سيد لم يزل نافراً ... وربتما جاد لي في الخلس
فقبلته طالباً راحة ... فزاد أليلاً بقلبي اليبس
وكان فؤادي كنبت هشيم ... يبيس رمى فيه رام قبس ومنها:
ويا جوهر الصين سحقاً فقد ... (2) غنيت بياقوتة الأندلس خبر:
وإني لأعرف جارية اشتد وجدها بفتى من أبناء الرؤساء، وهو
__________
(1) برشيه: بي رغبة.
(2) الجواهر الفاخرة ثلاثة الياقوت والزمرد واللؤلؤ، وليس واحد منها موطنه الصين، وأقربها إلى تلك البلاد الياقوت فإن موطنه سرنديب (انظر الجماهير للبيروني: 81، 32 وصفحات أخرى) وقال التيفاشي: من جزيرة خلف سرنديب بأربعين فرسخاً، وهذا يقرب أن تكون الصين أو بعض الجزائر القريبة منها موطناً له (أزهار الأفكار: 63) ومهما يكن من شيء فإن الشاعر إنما يومئ إلى النفاسة التي تجعل التجار يحملون الجواهر من مكان سحيق.(1/182)
لا اعلم عنده، وكثر غمها به (1) وطال أسفها إلى أن ضنيت بحيه، وهو بغرارة الصبا لا يشعر؛ ويمنعها من إبداء أمرها إليه الحياء منه لأنها كانت بكراً بخاتمها، مع الإجلال له عن الهجوم عليه بما لا تدري لعله لا يوافقه، فلما تمادى الأمر - وكانا إلفين (2) في النشأة - شكت ذلك إلى امراة جزلة الرأي كانت تثق بها لتوليها تربيتها، فقالت لها: عرضي له بالشعر، ففعلت المرة بعد المرة وهو لا يأبه في كل هذا. ولقد كان لقناً ذكياً ولكنه لم يظن ذلك فيميل إلى تفتيش الكلام بوهمه، إلى ان عيل صبرها وضاق صدرها ولم تمسك نفسها في قعدة كانت لها معه في بعض الليالي منفردين، ولقد كان - يعلم الله - عفيفاً متصاوناً بعيداً عن المعاصي، فلما حان قيامها عنه بدرت إليه فقبلته في فمه ثم ولت في ذلك الحين ولم تكلمه بكلمة، وهي تتهادى في مشيها، كما أقول في أبيات لي: [من البسيط] .
كأنها حين تخطو في تأودها ... قضيب نرجسة في الروض مياس
كأنما (3) خطوها في قلب عاشقها ... ففيه من وقعها خطر ووسواس
كأنما مشيها مشي الحمامة لا ... كد يعاب ولا بطء به باس فبهت وسقط في يده وفت في عضده ووجد في كبده وعلته وجمة، فما هو إلا أن غابت عن عينه ووقع في شرك الردى، واشتعلت في قلبه النار، وتصعدت أنفاسه، وتردفت أوجاله، وكثر قلقه، وطال أرقه، فما غمض تلك الليلة عيناً، وكان هذا بدء الحب بينهما دهراً، إلى أن جذت جملتها (4) يد النوى؛ وإن هذا لمن مصايد إبليس ودواعي الهوى التي لا يقف لها أحد إلا من عصمه الله عز وجل.
__________
(1) به: عند برشيه وحده.
(2) برشيه: اليقين (والترجمة شاهد على أن لا تصحيف) .
(3) جميع الطبعات: خلدها.
(4) برشيه: جملتهما.(1/183)
ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يودي بالحب، وهذا هجين من القول، إنما ذلك لأهل الملل، بل كلما زاد وصلاً زاد اتصالاً.
وعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظلماً، وهذا حكم من تداوى بدائه وإن رفه عنه شيئاً ما (1) . ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى فما وجدتني إلا مستزيداً، ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسآمة ولا رهقتني فترة.
وقد ضمني مجلس مع بعض من كنت أحب فلم أجل خاطري في فن من فنون الوصل إلا وجدته مقصراً عن مرادي، وغير شاف وجدي ولا قاض أقل لبانة من لباناتي، ووجدتني كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً، وقدحت زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعي، فقلت في ذلك المجلس: [من الطويل] .
وددت بان القلب شق بمدية ... وأدخلت فيه ثم أطبق في صدري
فأصبحت فيه لا تحلين غيره ... إلى مقتضى يوم القيامة والحشر
تعيسين فيه ما حييت فإن أمت ... سكنت شغاف القلب في ظلم القبر وما في الدنيا حالة تعدل محبين إذا عدما الرقباء وأمنا الوشاة، وسلما من البين ورغبا عن الهجر، وبعدا عن الملل وفقدا العذال، وتوافقا في الأخلاق، وتكافيا في المحبة، وأتاح الله لهما رزقاً داراً، وعيشاً قاراً، وزماناً هادياً، وكان اجتماعهما على ما يرضي الرب من الحلال (2) ، وطالت صحبتهما واتصلت إلى وقت حلول الحمام الذي
__________
(1) أثبت قراءة برشيه، وعند غيره: تداوى برأيه عنه سريعا.
(2) في معظم الطبعات: من الحال.(1/184)
لا مرد له ولا بد منه، هذا عطاء لم يحصل عليه أحدا، وحاجة لم تقض لكل طالب. ولولا أن مع هذه الحال الإشفاق من بغتات المقادير المحكمة في غيب الله عز وجل، من حلول فراق لم يكتسب، واخترام منية في حال الشباب، أو ما أشبه ذلك، لقلت إنها حال بعيدة من كل آفة، وسليمة من كل داخلة.
ولقد رأيت من اجتمع له هذا كله، إلا أنه كان دهي في من كان بحبه بشراسة أخلاق، ودالة على المحبة، فكانا لا يتهنيان العيش ولا تطلع الشمس في يوم إلا وكان بينهما خلاف فيه، وكلاهما كان مطبوعا بهذا الخلق، لثقة كل واحد منهما بمحبة صاحبه، إلى أن دبت النوى بينهما فتفرقا بالموت المرتب لهذا العالم، وفي ذلك أقول: [من المنسرح] .
كيف أذم النوى واظلمها ... وكل أخلاق من احب نوى
قد كان يكفي هوى أضيق به ... فكيف إذ حل بي نوى وهوى وروي عن زياد بن أبي سفيان رحمه الله انه قال لجلسائه: من انعم الناس عيشة قالوا: أمير المؤمنين. فقال: وأين ما يلقى من قريش قيل: فأنت. قال أين ما ألقى من الخوارج والثغور قيل: فمن أيها الأمير قال: رجل مسلم له زوجة مسلمة لهما كفاف من العيش، قد رضيت به ورضي بها، لا يعرفنا ولا نعرفه (1) .
وهل فيما وافق إعجاب المخلوقين، وجلا القلوب، واستمال الحواس، واستهوى النفوس، واستولى على الأهواء، واقتطع الألباب،
__________
(1) ورد هذا الخبر في بهجة المجالس 1: 117 على النحو الآتي: قال زياد لجلساته: من أغبط عيشاً؛ قالوا: الأمير وجلساؤه، فقال: ما صنعتم شيئاً إن لأعواد المنابر هيبة، وان لقرع لجام البريد لفزعة، لكن اغبط الناس عندي رجل له دار لا يجري عليه كرؤها، وله زوجة صالحة قد رضيته ورضيها فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإنه إن عرفنا وعرفناه اتعبنا لليه ونهاره، وأفسدنا دينه ودنياه.(1/185)
وأختلس العقول، مستحسن يعدل إشفاق محب على محبوب. ولقد شاهدت من هذا المعنى كثيراً، وإنه لمن المناظر العجيبة الباعثة على الرقة الرائقة المعنى، لا سيما إن كان هوى يكتتم به. فلو رأيت المحبوب حين يعرض بالسؤال عن سبب تغضب بمحبة، وخجلته في الخروج مما وقع فيه بالاعتذار، وتوجيهه إلى غير وجهه، وتحيله في استنباط معنى يقيمه عند جلسائه، لرأيت عجباً ولذة مخفية لا تقاومها لذة. وما رأيت أجلب للقلوب ولا أغوص على حباتها (1) ولا أنفذ للمقاتل من هذا الفعل. وإن للمحبين في الوصل من الاعتذار ما اعجز أهل الأذهان الذكية والأفكار القية؛ ولقد رأيت في بعض المرات هذا فقلت: [من السريع] .
إذا مزجت الحق بالباطل ... جوزت ما شئت على الغافل
وفيهما فرق صحيح له ... علامة تبدو إلى العقل
كالتبر إن تمزح به فضة ... جازت على كل فتى جاهل
وإن تصادف صائغاً ماهراً ... (2) ميز بين المحض والخائل وإني لأعلم فتى وجارية: كان يكلف كل واحد منهما بصاحبه، فكانا يضطجعان إذا حضرهما أحد وبينهما المسند العظيم من المساند الموضوعة عند ظهور الرؤساء على الفرش، ويلتقي رأساهما وراء المسند ويقبل كل واحد منهما صاحبه ولا يريان، وكأنهما إنما يتمددان من الكلل؛ ولقد كانا بلغا (3) من تكافيهما في المودة أمراً عظيماً، إلى أن كان الفتى المحب ربما استطال عليها؛ وفي ذلك أقول: [من السريع] .
__________
(1) في جميع الطبعات: حياتها؛ وهو وهم.
(2) في جميع الطبعات: والحائل - بالحاء المهملة -؛ والخائل: المشتبه الأمر.
(3) في الطبعات (ماعدا برشيه) : " ولقد كان بلغ " ويسأل من يقرأ هذه القراءة بأي شيء نصبت " أمراً ".(1/186)
ومن أعاجيب الزمان التي ... طمت على السامع والقائل
رغبة مركوب إلى راكب ... وذلة المسؤول للسائل
وطول مأسور إلى آسر ... وصولة المقتول للقاتل
ما إن سمعنا في الورى قبلها ... خضوع مأمول إلى آمل
هل ها هنا وجه تراه سوى ... تواضع المفعول للفاعل ولقد حدثني امرأة أثق بها أنها شاهدت فتى وجارية كان يجد كل واحد منهما بصاحبه فضل وجد، قد اجتمعا في مكان على طرب، وفي يد الفتى سكين يقطع بها بعض الفواكه، فجرها جراً زائداً فقطع إبهامه قطعاً لطيفاً ظهر فيه دم، وكان على الجارية غلالة قصب خزائنية لها قيمة، فصرفت (1) يدها وخرقتها وأخرجت منها فضلة شد بها إبهامه.
وأما هذا الفعل للمحب فقليل في ما يجب عليه، وفرض لازم وشريعة مؤداة، وكيف لا وقد بذل نفسه ووهب روحه، فما يمنع بعدهما.
خبر:
وأنا أدركت بنت زكريا بن يحيى التميمي المعروف بابن برطال (2) ، وعمها كان قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن يحيى (3)
__________
(1) برشيه: فشرقت.
(2) زكريا بن يحيى بن زكريا التميمي المعروف بابن برطال، كان فقيهاً نبيلاً في الفتيا وعقد الفرضي 1: 178 وترتيب المدارك 4: 561) واخته بريهة هي أم المنصور بن أبي عامر (الحلة السيراء 1: 275) .
(3) محمد بن يحيى بن زكريا التميمي المعروف بابن برطال (أخو زكريا المتقدم ذكره والخال الثاني للمنصور) له رحلة إلى المشرق وسماع كثير، ولما عاد إلى الاندلس ولا الناصر قضاء كورة رية، وتولى في صدر دولة المؤيد هشام قضاء كورة جيان وأحكام الشرطة فلما توفي ابن زرب (381) تولى قضاء الجماعة بقرطبة، وبقي حتى سنة 392 وقد علت سنه وتفلت ذهنه، فعزل عن القضاء ونقل إلى الوزارة وتوفي 394 (وعمره ست وتسعون سنة) (ابن الفرضي 2: 107 - 109 والنباهي: 84 وترتيب المدارك 4: 562) .(1/187)
وأخوها (1) الوزير القائد الذي كان قتله غالب وقائدين له في الوقعة المشهورة بالثغور، وهما مروان بن أحمد بن شهيد ويوسف بن سعيد العكي (2) ، وكانت متزوجة بيحيى بن محمد بن الوزير يحيى بن إسحاق (3) ، فعاجلته المنية وهما في أغض عيشهما وأنضر سرورهما، فبلغ من أسفها عليه أن باتت معه في دثار واحد ليلة مات، وجعلته آخر العهد به وبوصله، ثم لم يفارقها الأسف بعده إلى حين موتها.
وإن للوصل المختلس الذي يخاتل به الرقباء ويتحفظ به من الحضر، مثل الضحك المستور والنحنحة وجولان الأيدي والضغط بالأجناب والقرص باليد والرجل، لموقعاً من النفس شهياً؛ وفي ذلك الوقت أقول: [من المديد] .
إن للوصل الخفي محلاً ... ليس للوصل المكين الجلي
لذة تمزجها بارتقاب ... كمسير في خلال النقي خبر:
ولقد حدثني ثقة من إخواني جليل من أهل البيوتات أنه كان علق في صباه جارية كانت في بعض دور آله، وكان ممنوعاً منها، فهام عقله
__________
(1) في جميع الطبعات: وأخوه، والتصويب من عمل بروفنسال استناداً إلى الوقائع التاريخية (الأندلس: 353) .
(2) كانت هذه الوقعة سنة 370هـ بين المنصور وغالب بن عبد الرحمن (انظر البيان المغرب 2: 279) ؛ وقد كان مروان بن احمد بن شهيد من رجالات الدولة أيام الحكم، أرسله سنة 363 إلى العسكر المقيم بالعدوة خازناً على أوقار الأموال التي وجبت للجند وغيرهم، وعاد في ذي الحجة من العام نفسه (المقتبس، ط. بيروت، ص: 168، 183) ولم أجد ذكراً ليوسف بن سعيد العكي؛ ولكن ابن الفرضي ترجم لمن اسمه سعيد بن مرشد العكي وجعل وفاته سنة 373 (ابن الفرضي 1: 204) .
(3) يحيى بن اسحاق الوزير - فيما ذكر ابن حزم نفسه - أديب فاضل غلب عليه الطب فبرع فيه وذكر به، وله في ذلك كتب نافعة يعتمد عليها (الجذوة: 351 والبغية رقم: 146) ولم أجد ذكراً لابنه محمد ولا لحفيده يحيى الذي يدور الخبر حوله وحول زوجه بنت ابن برطال.(1/188)
بها؛ قال لي: فتنزهنا يوماً إلى بعض ضياعنا بالسهلة غربي قرطبة مع بعض أعمامي، فتمشينا في البساتين وأبعدنا عن المنازل وانبسطنا على الأنهار، إلى أن غيمت السماء وأقبل الغيث، فلم يكن بالحضرة من الغطاء ما يكفي الجميع؛ قال: فأمر عمي ببعض الأغطية فألقي علي وأمرها بالاكتنان معي، فظن بما شئت من التمكن على أعين الملأ وهم لا يشعرون، ويا لك من جمع كخلاء، واحتفال كانفراد، قال لي: فوالله لا نسيت ذلك اليوم أبداً. ولعهدي به وهو يحدثني بهذا الحديث وأعضاؤه كلها تضحك وهو يهتز فرحاً على بعد العهد وامتداد الزمان؛ ففي ذلك أقول شعراً منه: [من الخفيف] .
يضحك الروض والسحائب تبكي ... كحبيب رآه صب معنى خبر:
ومن بديع الوصل ما حدثني به بعض إخواني أنه كان في بعض المنازل المصاقبة له هوى، وكان في المنزلين موضع مطلع من أحدهما على الآخر، فكانت تقف له في ذلك الموضع، وكان فيه بعض البعد (1) ، فتسلم عليه ويدها ملفوفة في قميصها. فخاطبها مستخبراً لها عن ذلك فأجابته: إنه ربما أحس من أمرنا شيء فوقف لك غيري فسلم عليك فرددت عليه فصح الظن، فهذه علامة بيني وبينك، فإذا رأيت يداً مكشوفة تشير نحوك بالسلام فليست يدي، فلا تجاوب.
وربما استحلي الوصال واتفقت القلوب حتى يقع التجليح (2) في الوصال، فلا يلفت إلى لائم ولا يستتر من حافظ ولا يبالي بناقل، بل العذل حينئذ يغري؛ وفي صفة الوصل أقول شعراً منه: [من السريع] .
__________
(1) برشيه: البهو.
(2) التجليح: ركوب الرأس والمكالحة، (وقد مر: 149) .(1/189)
كم درت حول الحب حتى لقد ... حصلت فيه كحصول الفراش ومنه:
تعشو إلى الوصل دواعي الهوى ... كما سرى سنا النار عاش ومنه:
عللني بالوصل من سيدي ... كمثل تعليل الظماء العطاش ومنه:
لا توقف العين على غاية ... فالحسن فيه مستزيد وفاش (1) وأقول من قصيدة لي: [من السريع] .
هل لقتيل الحب من (2) وادي ... أم هل لعاني الحب من فادي
أم هل لدهري عودة نحوها ... كمثل يوم مر في الوادي
ظللت فيه سابحاً صادياً ... يا عجباً للسابح الصادي
ضنيت يا مولاي وجداً فما ... تبصرني ألحاظ عوادي
كيف اهتدى الوجد إلى غائب ... عن أعين الحاضر والبادي
مل مداواتي طبيبي فقد ... يرحمني للسقم حسادي
__________
(1) هذه هي قراءة برشيه؛ وفي سائر المطبوعات " وباش " ولا أدري ما معناه.
(2) وادي: اسم فاعل من " ودى " بمعنى دافع الدية.(1/190)
- 21 -
باب الهجر
ومن آفات الحب أيضاً الهجر، وهو على ضروب:
1 - فأولها؛ هجر يوجبه تحفظ من رقيب حاضر؛ وإنه لأحلى من كل وصل. ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت (1) به عنه ولأجللته عن تسطيره فيه. فحينئذ ترى الحبيب منحرفاً عن محبه، مقبلاً بالحديث على غيره، معرضاً بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته؛ وترى المحب أيضاً كذلك، ولكن طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم، فتراه حينئذ منحرفاً كمقبل، وساكتاً كناطق، وناظراً إلى جهة نفسه في غيرها؛ والحاذق الفطن إذا كشف بوهمه عن باطن حديثهما علم أن الخافي غير البادي، وما جهر به غير نفس الخبر، وإنه لمن المشاهد الجالبة للفتن، والمناظر المحركة للسواكن، الباعثة للخواطر، المهيجة للضمائر، الجاذبة للفتوة. ولي أبيات في شيء من هذا أوردتها، وإن كان فيها غير هذا المعنى على ما شرطنا، منها: [من الطويل]
يلوم أبو العباس جهلاً بطبعه ... كما عير الحوت النعامة بالصدى (2)
__________
(1) برشيه: لأرجأت.
(2) الصدى: الظمأ؛ والعرب في أمثالها تقول أروى من حوت لأنه لا يفارق الماء وتقول أظمأ من حوت وأعطش من حوت يزعمون بلا بينة انه يعطش وهو في البحر، وفي الوقت نفسه يقولون: أروى من نعامة (لأنها مستغنية عن الماء) ؛ انظر هذه الأمثال في الدرة الفاخرة.(1/191)
ومنها:
وكم صاحب أكرمته غير طائع ... ولا مكره إلا لأمر تعمدا
وما كان ذاك البر إلا لغيره ... كما نصبوا للطير بالحب مصيدا وأقول من قصيدة محتوية على ضروب من الحكم وفنون من الآداب الطبيعية: [من الطويل]
وسراء أحشائي لمن أنا مؤثر ... وسراء أنبائي لمن أتحبب
فقد يشرب الصاب الكريه لعلة ... ويترك صفو الشهد وهو محبب
وأعذل في إجهاد نفسي في الذي ... أريد وأني فيه أشقى وأتعب
هل اللؤلؤ المكنون والدر كله ... رأيت بغير الغوص في البحر يطلب
وأصرف نفسي عن وجوه طباعها ... إذا في سواها صح ما أنا أرغب
كما نسخ الله الشرائع قبلنا ... بما هو أدنى للصلاح وأقرب
كما صار لون الماء لون إنائه ... وفي الأصل لون الماء أبيض معجب ومنها:
أقمت ذوي ودي مقام طبائعي ... حياتي بها والموت منهن يرهب ومنها:
وما أنا ممن تطبيه بشاشة ... ولا يقتضي ما في ضميري التجنب
أزيد نفاراً عند ذلك باطناً ... وفي ظاهري أهل وسهل ومرحب
فإني رأيت الحرب يعلو اشتعالها ... ومبدؤها في أول الأمر ملعب
وللحية الرقشاء وشي ولونها ... عجيب وتحت الوشي سم مركب
وإن فرند السيف اعجب منظراً ... وفيه إذا هز الحمام المذرب
وأجعل ذل النفس عزة أهلها ... (1) إذا هي نالت ما لها فيه مرغب
فقد يضع الإنسان في الترب وجهه ... ليأتي غداً وهو المصون المقرب
فذل يسوق العز أجود للفتى ... من العز يتلوه من الذل مركب
__________
(1) هذه هي قراءة برشيه؛ وفي سائر الطبعات: مذهب.(1/192)
وكم مأكل أربت عواقب (1) غبه ... ورب طوى بالخصب آت ومعقب
وما ذاق عز النفس من لا يذلها ... ولا التذ طعم الروح من ليس ينصب
ورودك (2) نغب الماء من بعد ظمأة ... ألذ من العل المكين وأعذب ومنها:
وفي كل مخلوق تراه تفاضل ... فرد طيباً إن لم يتح لك أطيب
ولا ترض ورد الرنق إلا ضرورة ... إذا لم يكن في الأرض حاشاه مشرب
ولا تقربن ملح المياه فإنها ... شجى والصدا بالحر أولى وأوجب ومنها:
فخذ من جداها (3) ما تيسر واقتنع ... (4) ولا تك مشغولاً بمن هو يغلب
فما لك شرط عندها لا ولا يد ... ولا هي إن حصلت أم ولا أب ومنها:
ولا تيأسن مما ينال بحيلة ... وإن بعدت فالأمر ينأى ويصعب
ولا تأمن الإظلام فالفجر طالع ... ولا تلتبس بالضوء فالشمس تغرب ومنها:
ألح فإن الماء يكدح في الصفا ... إذا طال ما يأتي عليه ويذهب
وكثر ولا تفشل وقلل كثير ما ... فعلت فماء المزن (5) جم وينضب
فلو يتغذى المرء بالسم قاته ... وقام له منه غذاء مجرب 2 - ثم هجر يوجبه التدلل وهو ألذ من كثير الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه، واستحكام
__________
(1) يريد برشيه أن يقرأها: غبة؛ وفي الطبعات الأخرى: غيه.
(2) بتروف: يغلب؛ برشيه؛ بعض؛ وفي سائر الطبعات: نهل.
(3) الصيرفي ومكي: جراها؛ ولا معنى له.
(4) برشيه: يصلب.
(5) يريد برشيه أن يقرأها: فما المرذ (وهي قراءة غريبة جداً) .(1/193)
البصيرة في صحة عقده، فحينئذ يظهر المحبوب هجراناً ليرى صبر محبه، وذلك لئلا يصفو الدهر البتة، وليأسف المحب إن كان مفرط العشق عند ذلك لا لما حل، لكن مخافة أن يترقى إلى ما هو أجل فيكون ذلك الهجر سبباً إلى غيره، أو خوفاً من آفة حادث ملل.
ولقد عرض لي في الصبا هجر مع بعض من كنت آلف، على هذه الصفة، وهو لا يلبث أن يضمحل ثم يعود؛ فلما كثر ذلك قلت على سبيل المزاح شعراً بديهياً ختمت كل بيت منه بقسيم (1) من أول قصيدة طرفة بن العبد المعلقة، وهي التي قرأناها مشروحة على أبي سعيد الفتى الجعفري عن أبي بكر المقرئ عن أبي جعفر النحاس (2) ، رحمهم الله، في المسجد الجامع بقرطبة، وهي: [من الطويل]
تذكرت وداً للحبيب كأنه ... " لخولة أطلال ببرقة ثهمد "
وعهدي بعهد كان لي منه ثابت ... " يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد "
وقفت به لا موقناً برجوعه ... " ولا آيساً أبكي وأبكي إلى الغد "
إلى أن أطال الناس عذلي وأكثروا ... " يقولون لا تهلك أسى وتجلد "
__________
(1) في جميع الطبعات: يقسم.
(2) هذا هو السند الذي نقلت به " المعلقات التسع " إلى الأندلسيين عن شارحها ابن النحاس؛ أخذها عنه أبو بكر محمد بن علي الأذفوي وعن الأذفوي أخذها أبو سعيد خلف مولى الحاجب جعفر، الفتى المقرئ المعروف بالجعفري؛ وهذا الفتى الجعفري سكن قرطبة، ثم رحل إلى المشرق فسمع بمكة، ولقي الأذفوي بمصر وأخذ عن علماء القيروان، وكان من أهل القرآن والعلم نبيلاً من أهل الفهم، مائلاً إلى الزهد والانقباض، خرج عن قرطبة في الفتنة وقصد طرطوشة وتوفي بها سنة 425 وقيل 429 (فهرسة ابن خير 366 - 369، وانظر ترجمته أيضاً في الصلة: 164) وأما أبو بكر الاذفوي (نسبة إلى أذفو - بالذال المعجمة، أو بالدال المهملة - بصعيد مصر) فقد كان نحوياً مفسراً مقرئاً ثقة، وكان يتجر بالخشب، وله كتاب التفسير في القرآن في مائة وعشرين مجلداً، وكانت وفاته بمصر سنة 388 (غاية النهاية 2: 198 وعبر الذهبي 3: 41) قلت: وفي تسمية ابن خير لها " المعلقات التسع " تجوز لان ابن النحاس أنكر التعليق جملة وسماها القصائد التسع.(1/194)
كان فنون السخط ممن أحبه ... " خلايا سفين بالنواصف من دد "
كأن انقلاب الهجر والوصل مركب ... " يجور به الملاح طوراً ويهتدي "
فوقت رضى يتلوه وقت تسخط ... " كما قسم الترب المفايل باليد "
ويبسم نحوي وهو غضبان معرض ... " مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد " 3 - ثم هجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعض الشدة، لكن فرحة الرجعة وسرور الرضى يعدل ما مضى، فإن لرضى المحبوب بعد سخطه لذة في القلب لا تعدلها لذة، وموقعا (1) من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا. وهل شاهد مشاهد أو رأت عين أو قام في فكر ألذ وأشهى من مقام قد قام عنه كل رقيب، وبعد عنه كل بغيض، وغاب عنه كل واش، واجتمع فيه محبان قد تصارما لذنب وقع من المحب منهما، وطال ذلك قليلاً، وبدأ بعض الهجر، ولم يكن ثم مانع من الإطالة للحديث، فابتدأ المحب في الاعتذار والخضوع والتذلل والادلاء (2) بحجته الواضحة (3) من الإدلال والإذلال والتذمم بما سلف، فطوراً يدل ببراءته، وطوراً يرد بالعفو (4) ويستدعي المغفرة ويقر بالذنب ولا ذنب له، والمحبوب في كل ذلك ناظر إلى الأرض يسارقه اللحظ الخفي، وربما أدامه فيه، ثم يبسم مخفياً لتبسمه، وذلك علامة الرضى، ثم ينجلي مجلسهما عن قبول العذر، وتقبل القول، وامتحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط، ووقع الجواب بنعم وذنبك مغفور، لو كان، فكيف ولا ذنب؛ وختما أمرهما بالوصل الممكن وسقوط العتاب والإسعاد، وتفرقا على هذا - هذا مكان تتقاصر دونه الصفات وتتلكن بتحديده الألسنة.
__________
(1) الصيرفي ومكي والبيروتية: وموقفاً؛ وهو غير دقيق.
(2) هذه هي قراءة برشيه، وفي سائر الطبعات: والأدلة.
(3) الواضحة: لم ترد إلا عند برشيه.
(4) برشيه؛ يريد العفو.(1/195)
ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه؛ ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء، وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أشد تبجحا ولا اعظم سروراً بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده ووثق بميله إليه وصحة مودته له؛ وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المهتمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان بين يدي محبوب غضبان قد غمره السخط وغلب عليه الجفاء.
ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وانفذ من السيف، لا أجيب إلى المدينة ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفتن القول فنوناً، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي.
والتجني بعض عوارض الهجران، وهو يقع في أول الحب وآخره، فهو في أوله علامة لصحة المحبة، وفي آخره علامة لفتورها وباب للسلو.
خبر:
وأذكر في مثل هذا أني كنت مجتازاً في بعض الأيام بقرطبة من مقبرة باب عامر في لمة من الطلاب وأصحاب الحديث، ونحن نريد مجلس الشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد المصري (1) بالرصافة (2) أستاذي رضي الله عنه، ومعنا أبو بكر عبد الرحمن
__________
(1) أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد المصري: دخل الأندلس سنة 394 وكان أديباً حافظاً للحديث وأسماء الرجال والأخبار، وسكن قرطبة حتى وقعت الفتنة فعاد إلى مصر وتوفي سنة 410 (الصلة: 337) .
(2) الرصافة: قرأها برشيه " الصواف " اعتماداً على أن هذه كانت صفة أبي القاسم المصري.(1/196)
ابن سليمان البلوي (1) من أهل سبتة، وكان شاعراً مفلقاً. وهو ينشد لنفسه في صفة متجن معهود أبياتاً له، منها: [من الطويل]
سريع إلى ظهر الطريق وإنه ... إلى نقض أسباب المودة أسرع
يطول علينا أن نرقع وده ... إذا كان في ترقيعه يتقطع فوافق إنشاد البيت الأول من هذين البيتين خطور أبي [علي] الحسين بن علي الفاسي (2) رحمه الله تعالى وهو يؤم أيضاً مجلس ابن أبي يزيد، فسمعه فتبسم رحمه الله نحونا وطوانا ماشياً وهو يقول: بل إلى عقد المودة إن شاء الله، هذا على جد أبي [علي] الحسين رحمه الله وفضله وتقربه وبراءته ونسكه وزهده وعلمه، فقلت في ذلك: [من الكامل]
دع عنك نقض مودتي متعمداً ... واعقد حبال وصالنا يا ظالم
ولترجعن أردته أو لم ترد ... كرهاً لما قال الفقيه العالم ويقع فيه الهجر والعتاب؛ ولعمري إن فيه إذا كان قليلاً للذة، وأما إذا تفاقم فهو فأل غير محمود، وأمارة وبيئة المصدر، وعلامة سوء، وهي بجملة الأمر مطية الهجران، ورائد الصريمة، ونتيجة التجني، وعنوان الثقل، ورسول الانفصال، وداعية القلى، ومقدمة الصد، وإنما يستحسن إذا لطف وكان أصله الإشفاق؛ وفي ذلك أقول: [من الوافر]
لعلك بعد عتبك أن تجودا ... بما منه عتبت وأن تزيدا
__________
(1) عبد الرحمن بن سليمان البلوي أبو بكر كان أديباً شاعراً من أهل العلم (الجذوة: 254 والبغية رقم: 1014) .
(2) الحسين بن علي الفاسي أبو علي، كان من أهل العلم والفضل مع العقيدة الخالصة والنية الجميلة، قضى عمره في طلب العلم، ومازحه ابن حزم يوماً قائلاً: متى تنقضي قراءتك على الشيخ (يعني عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي) فأجابه: إذا انقضى أجلي (انظر ترجمته في الجذوة: 181، والبغية رقم: 648 والصلة: 138 وسماه " الحسن ") .(1/197)
فكم يوم رأينا فيه صحواً ... وأسمعنا بآخره الرعودا
وعاد الصحو بعد كما علمنا ... وأنت كذاك نرجو أن تعودا وكان سبب قولي هذه الأبيات عتاب وقع في يوم هذه صفته من أيام الربيع فقلتها في ذلك الوقت.
وكان لي في بعض الزمن صديقان وكانا أخوين فغابا في سفر ثم قدما، وقد أصابني رمداً فتأخرا عن عيادتي، فكتبت إليهما، والمخاطبة للأكبر منهما، شعراً منه: [من المتقارب]
وكنت اعدد أيضاً على ... أخيك بمؤلمة السامع
ولكن إذا الدجن غطى ذكاء ... فما الظن بالقمر الطالع 4 - ثم هجر يوجبه الوشاة، وقد تقدم القول فيهم وفيما يتولد من دبيب عقاربهم، وربما كان سبباً للمقاطعة البتة.
5 - ثم هجر الملل، والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دهي به ألا يصفو له صديق، ولا يصح له إخاء، ولا يثبت على عهد، ولا يصبر على إلف ولا تطول مساعدته لمحب، ولا يعتقد منه ود ولا بغضة. وأولى الأمور بالناس ألا يقربوه منهم وإن يفروا عن صحبته ولقائه، فلن يحلو (1) منه بطائل، ولذلك أبعدنا هذه الصفة عن المحبين وجعلناها في المحبوبين، فهم بالجملة أهل التجني والتظني والتعرض للمقاطعة؛ وأما من تزيا باسم الحب وهو ملول فليس منهم، وحقه ألا يتجرع مذاقه (2) ، وينفى عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم.
وما رأيت قط هذه الصفة أشد تغلباً منها على أبي عامر
__________
(1) برشيه: يحظوا، والطبعات الأخرى: يظفروا، والصواب ما أثبته.
(2) برشيه: أن يهجر مذاقه.(1/198)
محمد بن [أبي] عامر رحمه الله، فلو وصف لي واصف بعض ما علمته منه لما صدقته. وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة، وأقلهم صبراً على المحبوب وعلى المكروه، وبالضد؛ وانقلابهم عن الود علي قدر تسرعهم إليه؛ فلا تثق بملول ولا تشغل به نفسك، ولا تعنها (1) بالرجاء في وفائه. فغن دفعت إلى محبته ضرورة بعده ابن ساعته، واستأنفه كل حين من أحيانه بحسب ما تراه من تلونه، وقابله بما يشاكله.
ولقد كان أبو عامر المحدث عنه يرى الجارية فلا يصبر عنها، ويحيق به من الاغتمام والهم ما يكاد أن يأتي عليه حتى يملكها، ولو حال دون ذلك شوك القتاد، فإذا أيقن بتصيرها إليه عادت المحبة نفاراً، وذلك الأنس شروداً والقلق إليها قلقاً منها، ونزاعه نحوها نزاعاً عنها، فيبيعها بأوكس الأثمان. هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا عشرات ألوف الدنانير عدداً عظيماً. وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقد، مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض؛ وأما حسن وجهه وكمال صورته فشيء تقف الحدود عنه وتكل الأوهام عن وصف أقله ولا يتعاطى أحد وصفه. ولقد كانت الشوارع تخلو من السيارة ويتعمدون الخطور على باب داره في الشاعر الآخذ من النهر الصغير على باب دارنا في الجانب الشرقي بقرطبة إلى الدرب المتصل بقصر الزاهرة، وفي هذا الدرب كانت داره رحمه الله ملاصقة لنا، لا لشيء إلا للنظر منه. ولقد مات من محبته جواركن علقن أوهامهن به، ووفي (2) له فخانهن مما أملنه منه، فصرن رهائن البلى وقتلهن الوحدة. وأنا اعرف جارية منهن كانت تسمى عفراء، عهدي بها لا تتستر بمحبته حيثما جلست،
__________
(1) برشيه: تعللها.
(2) برشيه: وربين، وفي سائر الطبعات: ورئين.(1/199)
ولا تجف دموعها، وكانت قد تصيرت من داره إلى البركات الخيال صاحب الفتيان (1) .
ولقد كان رحمه الله يخبرني عن نفسه انه يمل اسمه فضلاً عن غير ذلك. وأما إخوانه فإنه تبدل بهم في عمره على قصره مراراً، وكان لا يثبت على زي واحد كأبي براقش (2) ، حيناً يكون في ملابس الملوك وحيناً في ملابس الفتاك.
فيجب على من امتحن بمخالطة من هذه صفته على أي وجه كان ألا يستفرغ عامة جهده في محبته، وأن يقيم اليأس من دوامه حصناً (3) لنفسه، فإذا لاحت له مخايل الملل قاطعه أياماً حتى ينشط باله، ويبعد به عنه، ثم يعاوده، فربما دامت المودة مع هذا؛ وفي ذلك أقول: [من المجتث]
لا ترجون ملولاً ... ليس الملول بعده
ود الملول فدعه ... عارية مسترده 6 - ومن الهجر ضرب يكون متوليه المحب، وذلك عندما يرى من جفاء محبوبه والميل عنه إلى غيره، أو لثقيل يلازمه؛ فيرى الموت وتجرع غصص الأسى، والعض على نقيف الحنظل أهون من رؤية ما يكره، فينقطع وكبده تتقطع؛ وفي ذلك أقول: [من السريع]
__________
(1) يريد بروفنسال أن يقرأ: إلى أبي البركات الخيالي صاحب البنيان، ذلك لأنه يرى انه لم تكن هناك خطة تسمى " صاحب الفتيان " ويكون الخيالي نسبة إلى " خيال " زوج الحاجب عبد الملك المظفر (انظر الأندلس: 352 وترجمة غومس: 200 الحاشية؛ ومكي: 105) .
(2) أبو براقش - فيما قيل - طائر منقش بألوان النقوش يتلون في اليوم ألواناً ويضرب به المثل للمتلون (ثمار القلوب: 247) ويبدو أن هذا هو مفهوم المشارقة فقد جاء في (Vocabulista) أنه يقابل (Stellio، drago) وأنه يرادف " حرباء " (انظره ص: 591 ونبه إليه بروفنسال في الأندلس: 353) .
(3) بتروف والصيرفي ومكي: خصماً.(1/200)
هجرت من أهواه لا عن قلى ... يا عجباً للعاشق الهاجر
لكن عيني لم تطق نظرة ... إلى محيا الرشأ الغادر
فالموت أحلى مطعماً (1) من هوى ... يباح للوارد والصادر
وفي الفؤاد النار مذكية ... فاعجب لصب جزع صابر
وقد أباح الله في دينه ... تقية المأسور للآسر
وقد احل الكفر خوف الردى ... حتى ترى المؤمن كالكافر خبر:
ومن عجيب ما يكون فيها وشنيعه أني أعرف من هام قلبه بمنتاء عنه نافر منه، فقاسى الوج زمناً طويلاً، ثم سنحت له الأيام بسانحة عجيبة من الوصل أشرف منها على بلوغ أمله، فحين لم يكن بينه وبين غاية رجائه إلا ك " لا " و " لا " (2) عاد الهجر والبعد إلى أكثر مما كان قبل، فقلت في ذلك: [من السريع] .
كانت إلى دهري لي حاجة ... مقرونة في البعد بالمشتري
فساقها باللطف حتى إذا ... كانت من القرب على محجري (3)
أبعدها عني فعادت كان ... لم تبد للعين ولم تظهر وقلت: [من الطويل]
دنا أملي حتى مددت لأخذه ... يداً فانثنى نحو المجرة راحلا
فأصبحت لا أرجو وقد كنت موقناً ... وأضحى مع الشعرى وقد كان حاصلا
وقد كنت محسوداً فأصبحت حاسداً ... وقد كنت مأمولاً فأصبحت آملاً
كذا الدهر في كراته وانتقاله ... فلا يأمنن الدهر من كان عاقلا
__________
(1) قرئت مطمعاً في بعض الطبعات، ومن حسن الظن أن يقال إنها خطأ مطبعي.
(2) إلا ك " لا " و " لا " دلالة على قصر الزمن، وهو تعبير مشهور، ورغم ذلك فقد أثبتت اللفظة في بعض الطبعات " كهؤلاء ".
(3) المحجر: العظم المحيط بالعين، أي قريبة جداً.(1/201)
7 - ثم هجر القلى، وهنا ضلت الأساطين (1) ونفدت الحيل وعظم البلاء، وهو الذي خلى العقول ذواهل، فمن دهي بهذه الداهية فليتصد لمحبوب محبوبه، وليتعمد ما يعرف أنه يستحسنه. ويجب أن يجتنب ما يدري أنه يكرهه، فربما عطفه ذلك عليه إن كان المحبوب ممن يدري قدر الموافقة والرغبة فيه، وأما من لم يعلم قدر هذا فلا طمع في استصرافه، بل حسناتك عنده ذنوب. فغن لم يقدر المرء على استصرافه فليتعمد السلوان وليحاسب نفسه بما هو فيه من البلاء والحرمان، وليسع في نيل رغبته على أي وجه أمكنه. ولقد رأيت من هذه صفته، وفي ذلك أقول قطعة أولها: [من الطويل]
دهيت بمن لو أدفع الموت دونه ... لقال إذاً يا ليتني في المقابر ومنها:
ولا ذنب لي إذ صرت أحدو ركائبي ... إلى الورد والدنيا تسيء مصادري
وماذا على الشمس المنيرة بالضحى ... إذا قصرت عنها ضعاف البصائر وأقول: [من مخلع البسيط]
ما أقبح الهجر بعد وصل ... وأحسن الوصل بعد هجر
كالوفر تحويه بعد فقر ... والفقر يأتيك بعد وفر وأقول: [من السريع]
معهود أخلاقك قسمان ... والدهر فيك اليوم صنفان
__________
(1) بتروف ومكي والصيرفي: الأساطير؛ ولعل معناها: ضلت الأقاويل؛ أما الأشاطر عند برشيه فلا أدري لها توجيهاً، وكأنه فهمها بمعنى " الحذاق " أو " الشطار، فكذلك تنبئ ترجمته.(1/202)
فإنك النعمان فيما مضى ... وكان للنعمان يومان
يوم نعيم فيه سعد الورى ... ويوم بأساء وعدوان
فيوم نعماك لغيري ويو ... مي منك ذو بؤس وهجران
أليس حبي لك مستأهلا ... لأن تجازيه بإحسان وأقول قطعة منها: [من الكامل]
يا من جميع الحسن منتظم ... فيه كنظم الدر في العقد
ما بال حتفي منك يطرقني ... قصداً ووجهك (1) طالع السعد وأقول قصيدة أولها: [من الطويل]
أساعة (2) توديعك أم ساعة الحشر ... وليلة بيني منك أم ليلة النشر
وهجرك تعذيب الموحد ينقضي ... ويرجو (3) التلاقي أم عذاب ذوي الكفر ومنها:
سقى الله أياماً مضت وليالياً ... تحاكي لنا النيلوفر الغض في النشر
فأوراقه الأيام حسناً وبهجة ... وأوسطه الليل المقصر للعمر
لهونا بها في غمرة وتآلف ... تمر فلا ندري وتأتي فلا ندري
فأعقبنا منه زمان كأنه ... ولا شك حسن العقد أعقب بالغدر ومنها:
فلا تيأسي يا نفس عل زماننا ... (4) يعود بوجه مقبل غير مزور
كما صرف الرحمن ملك أمية ... إليهم، ولوذي بالتجمل والصبر
__________
(1) برشيه: ووجهي.
(2) بعض الطبعات: توديعك، ولا يستقيم بها الوزن.
(3) برشيه: ويرجى، وهي قراءة جيدة.
(4) جميع الطبعات؛ مدبر؛ وهذا لا يجوز في حكم التقفية، وابن حزم لا يمكن أن يجهل ذلك.(1/203)
وفي هذه القصيدة أمدح أبا بكر هشام بن محمد (1) أخا أمير المؤمنين عبد الرحمن المرتضى (2) رحمه الله، فأقول:
أليس يحيط الروح فينا بكل ما ... دنا وتناءى وهو في حجب الصدر
كذا الدهر جسم وهو في الدهر روحه ... محيط بما فيه وإن شئت فاستقر ومنها:
إتاوتهم (3) تهدى إليه، ومنة ... تقبلها منهم تقاوم بالشكر
كذا كل نهر في البلاد وإن طمت ... غزارته ينصب في لجج البحر
__________
(1) هشام بن محمد: لما قطع اهل قرطبة دعوة بني حمود سنة 417هـ أجمع رأيهم على رد الخلافة إلى الأمويين، فاتفقوا على تقديم هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر فبايعوه سنة 418 وتلقب المعتد بالله، فدخل قرطبة 420 ولم يبق إلا يسيرا حتى قامت عليه فرقة من الجند، فخلع، وانقطعت الدولة الأموية واستولى على أمر قرطبة أبو الحزم ابن جهور (الجذوة: 26 - 27) والبيان المغرب 3: 145 - 148) .
(2) المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن الناصر قام سنة 407 بشرق الأندلس والتف حوله الموالي العامريون وغيرهم وزحفوا إلى قرطبة وأميرها القاسم بن حمود، وفي الطريق حاولوا الاستيلاء على غرناطة، وفيها زاوي بن زيري، فانهزم اتباع المرتضى وقتل هو (البيان المغرب: 3، 121، 125، 126) .
(3) في معظم الطبعات: إتاوتها.(1/204)
- 22 -
باب الوفاء
ومن حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء؛ وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات. وفي ذلك أقول قطعة منها: وهو [من البسيط] .
أفعال كل امرئ تنبي بعنصره ... والعين تغنيك عن أن تطلب الأثرا ومنها:
وهل ترى قط دفلى أنبتت عنباً ... أو تذخر النحل في أوكارها الصبرا 1 - وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خلاق له ولا خير عنده. ولولا أن رسالتنا هذه لم نقصد بها الكلام في أخلاق الإنسان (1) وصفاته المطبوعة والمتطبع بها، وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبع بعدم الطبع، لزدت في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله، ولكنا إنما قصدنا التكلم فيما رغبته من أمر الحب فقط، وهذا أمر كان يطول جداً إذ الكلام فيه يتفنن كثيراً.
__________
(1) بتروف: النساء.(1/205)
خبر:
ومن أرفع (1) ما شاهدته من الوفاء في هذا المعنى وأهوله شأناً قصة رأيتها عياناً، وهو أني أعرف من رضي بقطيعة محبوبه وأعز الناس عليه، ومن كان الموت عنده أحلى من هجر ساعة في جنب طيه لسر أودعه، والتزم محبوبه يميناً غليظة ألا يكلمه أبداً ولا يكون بينهما خبر أو يفضح إليه ذلك السر؛ على ان صاحب ذلك السر كان غائباً فأبى من ذلك وتمادى هو على كتمانه والثاني على هجرانه إلى أن فرقت بينهما الأيام.
2 - ثم مرتبة ثانية وهو الوفاء لمن غدر، وهي للمحب دون المحبوب، وليس للمحبوب ها هنا طريق ولا يلزمه ذلك، وهي خطة لا يطيقها إلا جلد قوي واسع الصدر حر النفس عظيم الحلم جليل الصبر حصيف العقدة (2) ماجد الخلق سالم النية. ومن قابل الغدر بمثله فليس بمستأهل للملامة، ولكن الحال التي قدمنا تفوقها جداً وتفوتها بعداً. وغاية الوفاء في هذه الحال ترك مكافأة الأذى بمثله، والكف عن سيء المعارضة بالفعل والقول، والتأني في جذ (3) حبل الصحبة ما أمكن ورجيت الألفة وطمع في الرجعة ولاحت للعودة أدنى مخيلة وشيمت منها أقل بارقة، أو توجس منها أيسر علامة. فإذا وقع اليأس واستحكم الغيظ فحينئذ [لذ] بالسلامة ممن غرك، والأمن ممن ضرك، والنجاة ممن آذاك (4) ، وأن يكون ذكر ما سلف مانعاً من شفاء الغيظ فيما وقع، فرعي الأذمة (5) حق وكيد على أهل العقول، والحنين
__________
(1) برشيه: أشنع.
(2) برشيه والصريفي ومكي: العقل.
(3) بعض الطبعات: جر.
(4) بتروف: حينئذ والسلامة من غرك والأمن من ضرك والنجاة من اذاك؛ وتابعه على ذلك الصيرفي ومكي؛ والنص مضطرب، والتصويب عن برشيه.
(5) برشيه: الذمة.(1/206)
إلى ما مضى وألا ينسى ما قد فرغ منه وفنيت مدته أثبت الدلائل على صحة الوفاء. وهذه الصفة حسنة جداً وواجب استعمالها في كل وجه من وجوه معاملات الناس فيما بينهم على أي حال كانت.
خبر:
ولعهدي برجل من صفوة إخواني قد علق بجارية فتأكد الود بينهما، ثم غدرت بعهده ونقضت وده وشاع خبرهما، فوجد لذلك وجداً شديداً.
خبر: وكان لي مرة صديق ففسدت نيته بعد وكيد مودة لا يكفر (1) بمثلها، وكان علم كل واحد منا سر صاحبه وسقطت المؤنة، فلما تغير علي أفشى كل ما اطلع لي عليه مما كنت اطلعت منه على أضعافه، ثم اتصل به أن قوله في قد بلغني، فجزع لذلك وخشي أن أقارضه على قبيح فعلته؛ وبلغني ذلك فكتبت إليه شعراً أونسه فيه وأعلمه أني لا أقارضه.
خبر:
ومما يدخل في هذا الدرج، وإن كان ليس منه، ولا هذا الفصل المتقدم من جنس الرسالة والباب، ولكنه شبيه له على ما قد ذكرنا وشرطنا، وذلك أن محمد بن وليد بن مكسير الكاتب كان متصلا بي ومنقطعاً إلي أيام وزارة أبي رحمة الله عليه، فلما وقع بقرطبة ما وقع وتغيرت الأحوال خرج إلى بعض النواحي فاتصل بصاحبها فعرض جاهه وحدثت له وجاهة وحال حسنة. فحللت أنا تلك الناحية في بعض رحلتي فلم يوفني حقي بل ثقل عليه مكاني وأساء معاملتي وصحبتي، وكلفته في خلال ذلك حاجة لم يقم فيها ولا قعد، واشتغل
__________
(1) برشيه: يفكر.(1/207)
عنها بما ليس في مثله شغل، فكتبت إليه شعراً أعاتبه فيه، فجاوبني مستعتباً على ذلك، فما كلفته حاجة بعدها. ومما لي في هذا المعنى وليس من جنس الباب ولكنه يشبهه أبيات قلتها، منها: [من البسيط] .
وليس يحمد كتمان لمكتتم ... لكن كتمك ما أفشاه مفشيه
كالجود بالوفر أسنى ما يكون إذا ... قل الوجود له أو ضن معطيه 3 - ثم مرتبة ثالثة وهي الوفاء مع اليأس البات وبعد حلول المنايا وفجاءات المنون، وإن الوفاء في هذه الحالة لأجل وأحسن منه في الحياة ومع رجاء اللقاء.
خبر:
ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنها رأت في دار محمد بن وهب المعروف بابن الركيزة (1) من ولد بدر (2) ، الداخل مع الإمام عبد الرحمن بن معاوية رضي الله عنه، جارية رائعة جميلة كان لها مولى فجاءته المنية فبيعت في تركته، فأبت أن ترضى بالرجال بعده، وما جعلها رجل إلى أن لقيت الله عز وجل؛ وكانت تحسن الغناء فأنكرت علمها به، ورضيت بالخدمة والخروج عن جملة المتخذات للنسل واللذة والحال الحسنة وفاء منها لمن دثر ووارته الأرض والتأمت عليه الصفائح، ولقد رامها سيدها المذكور أن يضمها إلى فراشه مع سائر جواريه ويخرجها مما هي فيه فأبت، فضربها غير مرة وأوقع بها الادب، فصبرت على ذلك كله، فأقامت على امتناعها؛ وإن هذا من الوفاء غريب جداً.
واعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب وشرطه له
__________
(1) برشيه: بأبي ركيزة؛ ولا أدرس على أي شيء اعتمد في هذا التغيير.
(2) أخبار بدر مولى عبد الرحمن الداخل وجهوده في خدمته لاقامة الدولة في الاندلس، تراجع في نفح الطيب 3: 27 - 31.(1/208)
ألزم، لان المحب هو البادي باللصوق والتعرض لعقد الأذمة، والقاصد لتأكيد المودة والمستدعي صحة العشرة، والأول في عداد طالبي الأصفياء (1) ، والسابق في ابتغاء اللذة باكتساب الخلة، والمقيد نفسه بزمام المحبة - قد عقلها بأوثق عقال وخطمها بأشد خطام، فمن قمبره على هذا كله إن لم يرد إتمامه ومن أجبره على استجلاب المقة إن لم ينو ختمها بالوفاء لمن أراده عليها والمحبوب إنما هو مجلوب إليه ومقصود نحوه ومخير في القبول أو الترك، فإن قبل فغاية الرجاء، وإن أبى فغير مستحق للذم. وليس التعرض للوصل والإلحاح فيه والتأتي لكل ما يسجلب به من الموافقة وتصفية الحضرة والمغيب، من الوفاء في شيء، فحظ نفسه أراد الطالب، وفي سروره سعى وله احتطب، والحب يدعوه ويحدوه على ذلك شاء أو أبى، وإنما يحمد الوفاء ممن يقدر على تركه.
وللوفاء شروط على المحبين لازمة: فأولها أن يحفظ عهد محبوبه ويرعى غيبته، وتستوي (2) علانيته وسريرته، ويطوي شره وينشر خيره، ويغطي على عيوبه ويحسن أفعاله، ويتغافل عما يقع منه على سبيل الهفوة ويرضى بما حمله ولا يكثر عليه بما ينفر منه، وألا يكون طلعة دبوباً ولا ملة طرفا (3) . وعلى المحبوب إن ساواه في المحبة مثل ذلك، وإن كان دونه فيها فليس للمحب أن يكلفه الصعود إلى مرتبته ولا له الاستشاطة عليه بان يسومه الاستواء معه في درجته. وبحسبه منه حينئذ كتمان خبره وألا يقابله بما يكره ولا يخيفه
__________
(1) بتروف: طالب الأصفياء.
(2) برشيه: ويستر.
(3) بتروف: طلعة ثؤوباً ولا ملة طروقاً؛ وتابعه على ذلك الصيرفي ومكي والطبعة البيروتية؛ وليس " ثؤوباً " أو " طروقاً " مما يفيد معنى؛ وعلى حسب توجيهي للقراءة، فالطلعة هو الشديد التبحث عن حال الآخرين، والدبوب النمام، والملة السريع الملال ومثله الطرف كذلك؛ وقرأ برشيه: وألا يكون طله شؤبوباً وظله غروباً، وفي هذا تعسف واضح.(1/209)
به، وإن كانت الثالثة - وهي السلامة مما يلقى بالجملة - فليقنع بما وجد، وليأخذ من الأمر ما استدف (1) ولا يطلب شرطاً ولا يقترح عقداً (2) ، وإنما له ما سنح بجده أو ما حان بكده.
واعلم أنه لا يستبين قبح الفعل لأهله، ولذلك يتضاعف قبحه عند من ليس من ذويه، ولا أقول قولى هذا ممتدحاً ولكن آخذاً بأدب الله عز وجل {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) : لقد منحني الله عز وجل من الوفاء لكل من يمت إلى بلقية واحدة، ووهبني من المحافظة لمن يتذمم مني ولو بمحادثته ساعة حظاً أنا له شاكر وحامد، ومنه مستمد ومستزيد، وما شيء أثقل علي من الغدر؛ ولعمري ما سمحت نفسي قط في الفكرة في إضرار من بيني وبينه أقل ذمام، وإن عظمت جريريته وكثرت إلي ذنوبه، ولقد دهمني من هذا غير قليل فما جزيت على السوءى إلا بالحسنى، والحمد لله على ذلك كثيراً. وبالوفاء أفتخر في كلمة طويلة ذكرت فيها ما مضنا من النكبات، ودهمنا من الحل والترحال والتجول في الآفاق، أولها (3) : [من البسيط] .
ولي فولى جميل الصبر يتبعه ... وصرح الدمع ما تخفيه أضلعه
جسم ملول وقلب آلف فإذا ... حل الفراق عليه فهو موجعه
لم يستقر به دار ولا وطن ... ولا تدفأ منه قط مضجعه
__________
(1) دف الأمر واستدف: تهيأ وامكن، ومثله: استطف، يقال خذ ما استدف لك أو خذ ما طف لك وأطف واستطف أي ما دنا وأمكن.
(2) بتروف: حقداً؛ وصوبت في بعض الطبعات: حقاً؛ وما هنا أقرب إلى رسم الكلمة في الأصل. يبدو أن ابن حزم كان معجباً
(3) يبدو أن ابن حزم كان معجباً بقصيدة ابن زريق البغدادي، فهو يعارضها هنا، كما عارضها بقصيدة أخرى أثبتها في كتابي: تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة (ط. ثانية) : 385 - 387.(1/210)
كأنما صيغ من رهو السحاب فما ... تزال ريح إلى الآفاق تدفعه
كأنما هو توحيد تضيق به ... نفس الكفور فتأبى حين تودعه
أو كوكب قاطع في الأفق منتقل ... فالسير يغربه حيناً ويطلعه
أظنه لو جزته أو تساعده ... (1) ألقت عليه انهمال الدمع يتبعه وبالوفاء أيضاً أفتخر في قصيدة لي طويلة أوردتها، وإن كان أكثرها ليس من جنس الكتاب، فكان سبب قولي لي أن قوماً من مخالفي شرقوا بي فأساءوا العتب في وجهي وقذفوني بأني أعضد الباطل بحجتي، عجزاً منهم عن مقاومة ما أوردته من نصر الحق وأهله، وحسداً لي، فقلت وخاطبت بقصيدتي بعض إخواني وكان ذا فهم، منها: [من الطويل] .
وخذني عصا موسى وهات جميعهم ... ولو أنهم حيات ضال نضانض ومنها:
يذيعون في عيبي عجائب جمة ... وقد يتمنى (2) الليث والليث رابض ومنها:
ويرجون ما لا يبلغون كمثل ما ... يرجى محالاً في الإمام الروافض ومنها:
ولو جلدي في كل قلب ومهجة ... لما أثرت فيها العيون المرائض
أبت عن دني الوصف ضربة لازب ... كما أبت الفعل الحروف الخوافض
__________
(1) هذا البيت غريب الصلة بما قبله؛ وأظنه مضطرباً في تركيبه (أعني ان الشطر الأول قد جمع إلى شطر من بيت آخر) .
(2) قرأها برشيه: وقد يستهان.(1/211)
ومنها:
ورأيي له في كل ما غاب مسلك ... كما تسلك الجسم العروق النوابض
يبين مدب النمل في غير مشكل ... (1) ويستر عنهم للفيول المرابض
__________
(1) يريد أن نفاذ رأيه وبصيرته يمكنه من رؤية مدب النمل في سهولة ويسر، أما خصومه الأغبياء فإنهم يعجزون عن رؤية الفيول في مرابضها على ضخامة حجمها.(1/212)
- 23 -
باب الغدر
وكما أن الوفاء من سري النعوت ونبيل الصفات، فكذلك الغدر من ذميمها ومكروهها، وإنما يسمى غدراً من البادئ به، وأما المقارض بالغدر على مثله - وإن استوى معه في حقيقة الفعل - فلييس بغدر ولا هو معيباً بذلك، والله عز وجل يقول: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) وقد علمنا أن الثانية ليست بسيئة، ولكن لما جانست الأولى في الشبه أوقع عليها مثل اسمها، وسيأتي هذا مفسراً في باب السلو إن شاء الله. ولكثرة وجود الغدر في المحبوب استغرب الوفاء منه، فصار قليله الواقع منهم يقاوم الكثير الموجود في سواهم. وفي ذلك أقول: [من الوافر] .
قليل وفاء من يهوى يجل ... وعظم وفاء من يهوى يقل
فنادرة الجبان أجل مما ... يجيء به الشجاع المستقل ومن قبيح الغدر أن يكون للمحب سفير إلى محبوبه يستريح إليه بأسراره فيسعى حتى يقلبه إلى نفسه ويستأثر به دونه؛ وفيه أقول: [من الطويل] .
أقمت سفيراً قاصداً في مطالبي ... وثقت به جهلاً فضرب بيننا
وحل عرى ودي وأثبت وده ... وأبعد عني كل ما كان ممكنا(1/213)
فصرت شهيداً بعدما كنت مشهدا ... وأصبح (1) ضيفاً بعدما كان ضيفنا خبر:
ولقد حدثني القاضي يونس بن عبد الله (2) قال: أذكر في الصبا جارية في بعض السدد يهواها فتى من أهل الأدب من أبناء الملوك وتهواه ويتراسلان، وكان السفير بينهما والرسول بكتبهما فتى من أترابه كان يصل إليها، فلما عرضت الجارية للبيع أراد الذي كان يحبها ابتياعها، فبدر الذي كان رسولاً فاشتراها. فدخل عليها يوماً فوجدها قد فتحت درجاً لها تطلب فيه بعض حوائجها، فأتى إليها وجعل يفتش الدرج، فخرج إليه كتاب من ذلك الفتى الذي كان يهواها مضمخاً بالغالية مصوناً مكرماً، فغضب وقال: من أين هذا يا فاسقه قالت: أنت سقته إلي، فقال: لعله محدث بعد ذلك الحين، فقالت: ما هو إلا من قديم تلك التي تعرف؛ قال: فكأنما ألقمته حجراً، فسقط في يده وسكت.
__________
(1) في جميع الطبعات: وأصبحت؛ والمعنى يأباها؛ هو يقول بعد ما تغير السفير فأحب من كنت احب، أصبحت أنا شهيداً على ما يصنع بعدما كنت مشهداً له؛ أما هو فانتقلت حاله فبعدما كان ضيفناً (أي ضيف ضيف) اعتلت به الحال فأصبح ضيفاً. (قلت: والضيفن مذموم لأنه قريب الشبه من الطفيلي) .
(2) يونس بن عبد الله بن مغيث أبو الوليد المعروف بابن الصفار: كان قاضي الجماعة بقرطبة، ومن أعيان أهل العلم يميل إلى الزهد وله فيه مصنفات وأشعار وعنه يروي ابن حزم وابن عبد البر وأبو الوليد الباجي، توفي سنة 429 (انظر ترجمة له مطولة نسبياً في الصلة: 646 وراجع الجذوة: 362 والبغية رقم: 1498 وترتيب المدارك 4: 739) .(1/214)
- 24 -
باب البين
وقد علمنا أنه لابد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلا. وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق (1) .
والبين ينقسم أقساماً:
1 - فأولها مدة يوقن بانصرامها وبالعودة عن قريب، وإنه لشجى في القلب، وغصة في الحلق لا تبرأ إلا بالرجعة. وأنا أعلم من كان يغيب من يحب عن بصره يوماً واحداً فيعتريه من الهلع والجزع وشغل البال وترادف الكرب ما يكاد يأتي عليه.
2 - ثم بين منع من اللقاء وتحظير على المحبوب من أن يراه محبه، فهذا - ولو كان من تحبه معك في دار واحدة - فهو بين، لأنه
__________
(1) ذكر ابن داود عن الجاحظ قوله: " لكل شيء رفيق ورفيق الموت الهجر " وعلق عليه بقوله: " وليس الأمر كما قال، بل لكل شيء رفيق، ورفيق الهجر الموت " (الزهرة 1: 137) وانظر المقدمة.(1/215)
بائن عنك، وإن هذا ليولد من الحزن والأسف غير قليل، ولقد جربناه فكان مراً، وفي ذلك أقول: [من الطويل] .
أرى دارها في كل حين وساعة ... ولكن من في الدار عني مغيب
وهل نافعي قرب الديار وأهلها ... على وصلهم مني رقيب مرقب
فيا لك جار الجنب أسمع حسه ... وأعلم أن الصين أدنى وأقرب
كصاد يرى ماء الطوي بعينه ... وليس إليه من سبيل يسبب
كذلك من في اللحد عنك مغيب ... وما دونه إلا الصفيح المنصب وأقول من قصيدة مطولة: [من الطويل] .
متى تشتفي نفس أضر بها الوجد ... وتصقب دار قد طوى أهلها البعد
وعهدي بهند وهي جارة بيتنا ... وأقرب من هند لطالبها الهند
بلى إن في قرب الديار لراحة ... كما يمسك (1) الظمآن أن يدنو الورد 3 - ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة، وخوفاً أن يكون بقاؤه سبباً إلى منع اللقاء، وذريعة إلى أن يفشو الكلام فيقع الحجاب الغليظ.
4 - ثم بين يولده المحب لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعذره مقبول او مطرخ على قدر الحافز له إلى الرحيل.
خبر:
ولعهدي بصديق لي داره المرية، فعنت له حوائج إلى شاطبة فقصدها، وكان نازلاً بها في منزلي مدة إقامته بها، وكان له بالمرية علاقة هي أكبر همه وأدهى غمه، وكان يؤمل تبتيته وفراغ أسبابه وأن يوشك الرجعة ويسرع الأوبة، فلم يكن إلا حين لطيف بعد احتلاله
__________
(1) برشيه: مسك.(1/216)
عندي حتى جيش الموفق أبو الجيش مجاهد صاحب الجزائر (1) الجيوش وقرب العساكر ونابذ خيران صاحب المرية (2) وعزم على استئصاله، فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب، وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل، فتضاعف كربه إذ لم يجد إلى الانصراف سبيلاً البتة، وكاد يطفأ أسفاً، وصار لا يأنس بغير الوحدة، ولا يلجأ إلا إلى الزفير والوجوم، ولعمري لقد كان ممن لم أقدر قط فيه أن قلبه يذعن للود، ولا شراسة طبعه تحبب إلى الهوى.
وأذكر أني دخلت قرطبة بعد رحيلي عنها ثم خرجت منصرفاً عنها فضمني الطريق مع رجل من الكتاب قد رحل لأمر مهم وتخلف سكن له (3) ، فكان يرتمض لذلك.
وإني لأعلم من علق بهوى له وكان في حال شظف، وكانت له في الأرض مذاهب واسعة ومناديح رحبة ووجوه متصرف كثيرة، فهان عليه ذلك وآثر الإقامة مع من يحب؛ وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الكامل] .
لك في البلاد منادح معلومة ... والسيف غفل أو يبين قرابه
__________
(1) استولى أبو الجيش مجاهد العامري على دانية والجزائر من سنة 400 - 436؛ انظر أخباره في البيان المغرب 3: 155 وتاريخ ابن خلدون 4: 164 وأعمال الاعلام: 250 والمغرب 2: 401 وللمستشرقة الايطالية كليليا سارنللي دراسة عنه (القاهرة: 1961) ، (والجزائر هي ميورقة ومنرقة ويابسة) .
(2) كان خيران أيضاً من موالي العامريين الذين استقلوا لدى انهيار الدولة الاموية، وكان مركزه المرية، إلا أنه قام بدعوة المرتضى الاموي، ثم تخلص منه، وتوفي سنة 418 (أو 419) . انظر أعمال الاعلام: 242 والبيان المغرب والذخيرة (القسم الأول) والمغرب 2: 193؛ هذا وقد تمت المنابذة بين خيران ومجاهد العامريين سنة 417.
(3) برشيه: وخلف سكناً.(1/217)
5 - ثم بين رحيل وتباعد ديار، ولا يكون من الأوبة فيه على يقين خبر، ولا يحدث تلاق، وهو الخطب الموجع، والعم المفظع، والحادث الأشنع، والدواء الدوي. وأكثر ما يكون الهلع فيه إذا كان النائي هو المحبوب؛ وهو الذي قالت فيه الشعراء كثيراً؛ وفي ذلك أقول قصيدة منها (1) : [من الطويل] .
وبي (2) علة أعيا الطبيب علاجها ... ستوردني لا شك منهل مصرعي
رضيت بان أضحى قتيل وداده ... كجارع سم في رحيق مشعشع
فما لليالي ما أقل حياءها ... وأولعها بالنفس من كل مولع
كأن زماني عبشمي يخالني ... أعنت على عثمان أهل التشيع وأقول من قصيدة: [من الطويل] .
أظنك تمثال الجنان أباحه ... لمجتهد النساك من أوليائه وأقول من قصيدة: [من الطويل] .
لأبرد باللقيا غليلا من الهوى ... توقد (3) نيران الغضا هيمانه وأقول شعراً منه: [من الطويل] .
خفيت عن الأبصار والوجد ظاهر ... فاعجب بأعراض تبين ولا شخص
غدا الفلك الدوار حلقة خاتم ... محيط بما فيه وأنت له فص وأقول من قصيدة: [من الطويل] .
غنيت عن التشبيه حسناً وبهجة ... كما غنيت شمس السماء عن الحلي
__________
(1) بتروف: ومواطن الموافقة؛ واضطرب النص كثيراً بحسب هذه القراءة، فقد جعله مكي: والاشارة بالعين والتبسم ومواطن الموافقة
(2) أغلب الأشعار التالية لا تنطبق على مفهوم الفقرة السابقة، وهو بين الرحيل وتباعد الديار ولا نظن ابن حزم يستغل هنا قلة تدقيق القارئ فيورد شعراً كيفما اتفق، وإنما هذا في الأرجح عمل الناسخ اذ يحذف الابيات اختصاراً.
(3) بعض الطبعات: وذذي، وهو خطأ.(1/218)
عجبت لنفسي بعده كيف لم تمت ... وهجرانه دفني وفقدانه نعيي
وللجسد الغض المنعم كيف لم ... تذبه يد خشناء [تقوى على] البري وغن للأوبة من البين الذي تشفق منه النفس لطول مسافته وتكاد تيأس من العودة فيه، لروعة تبلغ ما لا حد وراءه، وربما قتلت؛ وفي ذلك أقول: [من الخفيف] .
للتلاقي بعد الفراق سرور كسرور المفيق حانت وفاته
فرحة تبهج النفوس وتحيي ... من دنا منه بالفراق مماته
ربما قد تكون داهية المو ... ت وتودي بأهله هجماته
كم رأينا من عب في الماء عطشا ... ن فزار الحمام وهو حياته وإني لأعلم من نأت دار محبوبه زمناً ثم تيسرت له اوبة، فلم يكن إلا بقدر التسليم واستيفائه حتى دعته نوى ثانية، فكاد ان يهلك؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] .
أطلت زمان البعد حتى إذا انقضى ... زمان النوى بالقرب عدت إلى البعد
فلم يك إلا كرة الطرف قربكم ... وعاودكم بعدي وعاودني وجدي
كذا حائر في الليل ضاقت وجوهه ... رأى البرق في داج من الليل مسود
فأخلفه منه رجاء دوامه ... وبعض الأراجي لا تفيد ولا تجدي وفي الأوبة بعد الفراق أقول قطعة منها: [من الطويل] .
لقد قرت العينان بالقرب منكم ... كما سخنت أيام يطويكم البعد
فلله فيما مضى الصبر والرضى ... ولله فيما قد قضى الشكر والحمد خبر:
ولقد نعي إلي بعض من كنت احب من بلدة نازحة، فقمت فاراً بنفسي نحو المقابر، وجعلت امشي بينها وأقول: [من الوافر] .(1/219)
وددت بان ظهر الأرض بطن ... وأن البطن منها صار ظهراً
وأني مت قبل ورد خطب ... أتى فأثار في الأكباد جمرا
وأن دمي لمن قد بان غسل ... وان ضلوع صدري كن قبرا ثم اتصل بعد حين تكذيب ذلك الخبر فقلت: [من السريع] .
بشرى أتت واليأس مستحكم ... والقلب في سبع طباق شداد
كنت فؤادي خضرة بعدما ... كان فؤادي لابسا للحداد
جلى سواد الغم عني كما ... يجلى بلون الشمس لون السواد
هذا وما آمل وصلاً سوى ... صدق وفاء بقديم الوداد
فالمزن قد يطلب لا للحيا ... لكن لظل بارد ذي امتداد ويقع في هذين الصنفين من البين الوداع، أعني رحيل المحب أو رحيل المحبوب. وإنه لمن المناطر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتسكب كل عين جمود، ويظهر مكنون الجوى. وهو فصل من فصول البين يجب التكلم فيه، كالعتاب في باب الهجر. ولعمري لو أن ظريفاً يموت في ساعة الوداع لكان معذوراً إذا تفكر فيما يحل به بعد ساعة من انقطاع الآمال، وحلول الأوجال، وتبدل السرور بالحزن. وإنها ساعة ترق القلوب القاسية، وتلين الأفئدة الغلاظ. وإن حركة الرأس وإدمان النظر والزفرة بعد الوداع لهاتكة حجاب القلب، وموصلة إليه من الجزع بمقدار ما تفعل حركة الوجه في ضد هذا والإشارة بالعين والتبسم في مواطن (1) الموافقة.
__________
(1) بتروف: توقع؛ وتابعه على ذلك آخرون.(1/220)
والوداع ينقسم قسمين، أحدهما لا يتمكن فيه إلا بالنظر والإشارة والثاني يتمكن فيه بالعناق والملازمة، وربما لعله كان لا يمكن قبل ذلك البتة مع تجاوز المحال وإمكان التلاقي، ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك بحسن ولا بصواب ولا بالأصيل من الرأي، فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات، فكيف إذا كان البين أياماً وشهوراً وربما أعواماً وهذا سوء من النظر ومعوج من القياس، وإنما أثنيت على النوى في شعري تمنياً لرجوع يومعا، فيكون في كل يوم لقاء ووداع، على أن تحتمل مضض هذا الاسم الكريه، وذلك عندما يمضي من الأيام التي لا التقاء فيها فحينئذ يرغب المحب من يوم الفراق لو أمكنه في كل يوم؛ وفي الصنف الأول من الوداع أقول شعراً منه: [من البسيط] .
تنوب عن بهجة الأنوار بهجته ... كما تنوب عن النيران أنفاسي وفي الصنف الثاني من الوداع أقول شعراً منه: [من البسيط] .
وجه تخر له الأنوار ساجدة ... والوجه تم فلم ينقص ولم يزد
دفء وشمس الضحى بالجدي نازلة ... وبارد ناعم والشمس في الأسد ومنه:
يوم الفراق لعمري لست أكرهه ... أصلا وإن شت شمل الروح عن جسدي
ففيه عانقت من أهوى بلا جزع ... وكان من قبله إن سيل لم يجد
أليس من عجب دمعي (1) وعبرتها ... يوم الوصال ليوم البين ذو حسد
__________
(1) برشيه: أليس من عجب واعجب بعبرته.(1/221)
وهل هجس في الأفكار أو قام في الظنون أشنع وأوجع من هجر عتاب وقع بين محبين، ثم فجأتهما النوى قبل حلول الصلح وانحلال عقدة الهجران، فقاما إلى الوداع وقد نسي العتاب، وجاء ما طم عن (1) القوى وأطار الكرى؛ وفيه أقول شعراً منه: [من الطويل] .
وقد سقط العتب المقدم وامحى ... وجاءت جيوش البين تجري وتسرع
وقد ذعر البين الصدود فراعه ... فولى فما يدرى له اليوم موضع
كذئب خلا بالصيد حتى أظله ... هزبر له من جانب الغيل مطلع
لئن سرني في طرده الهجر إنني ... لإبعاده عني الحبيب لموجع
ولابد عند الموت من بعض راحة ... وفي غبها (2) الموت الوحي المصرع وأعرف من أتى ليودع محبوبه يوم الفراق فوجده قد فات، فوقف على آثاره ساعة وتردد في الموضع الذي كان فيه ثم انصرف كئيباً متغير اللون كاسف البال، فما كان بعد أيام قلائل حتى اعتل ومات، رحمه الله.
وإن للبين في إظهار السرائر المطوية عملاً عجباً: ولقد رأيت من كان حبه مكتوماً وبما يجد فيه مستتراً حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون وظهر الخفي. وفي ذلك أقول قطعة منها: [من المتقارب] .
بذلت من الود ما كنت قبل ... منعت وأعطيتنيه جزافا
وما لي به حاجة عند ذاك ... ولو جدت قبل بلغت الشغافا
وما ينفع الطب عند الحمام ... وينفع قبل الردى من تلافى وأقول: [من الكامل] .
الآن إذ حل الفراق وجدت لي ... بخفي حب كنت تبدي بخله
__________
(1) برشيه: على.
(2) برشيه: غيبها.(1/222)
قد زدتني في حسرتي أضعافها ... ويحي فهلاً كان هذا قبله ولقد أذكرني هذا أني خطبت (1) في بعض الأزمان مودة رجل من وزراء السلطان أيام جاهه فأظهر بعض الامتساك، فتركته حتى ذهبت أيامه وانقضت دولته، فأبدى لي من المودة والاخوة غير قليل، فقلت: [من الطويل] .
بذلت لي الأعراض والدهر مقبل ... وتبذل لي الإقبال والدهر معرض
وتبسطني إذ ليس ينفع بسطكم ... فهلا أبحث البسط إذ كنت تقبض 6 - ثم بين الموت وهو الفوت، وهو الذي لا يرجى له إياب، وهو المصيبة الحالة، وهو قاصمة الظهر وداهية الدهر، وهو الويل (2) ، وهو المغطي على ظلمة الليل، وهو قاطع كل رجاء وماحي كل طمع والمؤيس من اللقاء. وهنا حارت الألسن، وانجذم حبل العلاج، فلا حيلة إلا الصبر طوعاً أو كرهاً. وهو أجل ما يبتلى به المحبون، فما لمن دهي به إلا النوح والبكاء إلى أن يتلف أو يمل؛ فهو القرحة التي لا تنكا، والوجع الذي لا يفنى، وهو الغم الذي يتجدد على قدر بلاء من اغتمدته في الثرى وفيه أقول: [من مشطور المديد]
كل بين واقع ... فمرجى لم يفت
لا تعجل قنطاً ... لم يفت من لم يمت
والذي قد مات فال ... يأس عنه قد ثبت وقد رأينا من عرض له هذا كثيراً.
وعني أخبرك أني أحد من دهي بهذه الفادحة وتعجلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي،
__________
(1) في معظم الطبعات: حظيت.
(2) برشيه: الليل.(1/223)
كانت فيما خلا اسمها نعم. وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخلقاً وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والاحجار، وسني حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها؛ وعلى ذلك فو الله ما سلوت حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعا طائعاً، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيت ذكرها، ولا أنست بسواها، ولقد عفى حبي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده؛ ومما قلت فيها: [من الطويل] .
مهذبة بيضاء كالشمس إن بدت ... وسائر ربات الحجال نجوم
أطار هواها القلب عن مستقره ... فبعد وقوع ظل وهو يحوم ومن مراثي فيها قصيدة منها: [من الطويل] .
كأني لم آنس بألفاظك التي ... على عقد الألباب هن نوافث
ولم أتحكم في الأماني كأنني ... لإفراط ما حكمت فيهن عابث ومنها:
ويبدي إعراضاً وهن أوالف ... ويقسمن في هجري وهن حوانث وأقول أيضاً في قصيدة أخاطب فيها ابن عمي أبا المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم بن غالب (1) ، وأقرضه فأقول: [من الطويل] .
__________
(1) عبد الوهاب أبو المغيرة: كان في عصره من المقدمين في الآداب والشعر والبلاغة، وكان شعره كثيراً مجموعاً، توفي في طليطلة (438) وجرى بينه وبين ابن عمه أبي محمد الفقيه تنابذ سجلاه في رسائل عنيفة (انظر الجذوة: 273 والبغية رقم: 1110 والصلة: 361 والمغرب 1: 357 والذخيرة 1/ 1: 132 - 166) .(1/224)
قفا فاسألا الأطلال أين قطينها ... أمرت عليها بالبلى الملون
على دارسات مقفرات عواطل ... كأن المغاني في الخفاء معاني واختلف الناس في أي الأمرين أشد: البين أم الهجر وكلاهما مرتقى صعب وموت أحمر وبلية سوداء وسنة شهباء، وكل يستبشع من هذين ما ضاد طبعه: فأما ذو النفس الأبية الأنوف، الحنانة الألوف (1) الثابتة على العهد، فلا شيء يعدل عنده مصيبة البين، لأنه أتى قصداً، وتعمدته النوائب عمداً، فلا يجد شيئاً يسلي نفسه؛ ولا يصرف فكرته في معنى من المعاني إلا وجد باعثاً على صبابته ومحركاً لأشجانه، وعلة لألمه (2) ، وحجة لوجده وحاضاً على البكاء على إلفه. وأما الهجر فهو داعية السلو ورائد الإقلاع.
وأما ذو النفس التواقة الكثيرة النزوع والتطلع القلوق العزوف فالهجر داؤه وجالب حتفه، والبين له مسلاة ومنساة.
وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق، وما الهجر إلا جالب للكمد فقط، ويوشك إن دام أن يحدث إيغاراً (3) ، وفي ذلك أقول: [من المتقارب] .
وقالوا ارتحل فلعل السلو ... يكون وترغب أن ترغبه
فقلت الردى لي قبل السلو ... ومن يشرب السم عن تجربه! وأقول [المتقارب]
سبى مهجتي هواه ... وأودت بها نواه
كأن الغرام ضيف ... وروحي غدا قراه
__________
(1) في معظم القراءات: فأما ذو النفس الأبية الألوف الحنانة.
(2) بعض القراءات: وعليه لا له.
(3) معظم الطبعات: اضراراً.(1/225)
ولقد رأيت من يستعجل (1) هجر محبوبه ويتعمده خوفاً من مرارة يوم البين وما يحدث به من لوعة الأسف عند التفرق، وهذا وإن لم يكن عندي من المذاهب المرضية، فهو حجة قاطعة على ان البين أصعب من الهجر، وكيف لا وفي الناس من يلوذ بالهجر خوفاً من البين. ولم أجد أحداً في الدنيا يلوذ بالبين خوفاً من الهجر، إنما يأخذ الناس أبداً الأسهل ويتكلفون الأهون. وإنما قلنا إنه ليس من المذاهب المحمودة لان أصحابه قد استعجلوا البلاء قبل نزوله، وتجرعوا غصة الصبر قبل وقتها، ولعل ما تخوفوه لا يكون، وليس من يتعجل المكروه - وهو على غير يقين مما يتعجل - بحكيم، وفيه أقول شعراً منه: [من الخفيف] .
لبس الصب للصبابة بينا ... ليس من جانب الأحبة منا
كغني يعيش عيش فقير ... خوف فقر وفقره قد أبنا وأذكر لابن عمي أبي المغيرة في هذا المعنى - من ان البين أصعب من الصد - أبياتاً من قصيدة خاطبني بها وهو ابن سبعة عشر عاماً أو نحوها، وهي: [من الكامل المجزوء] .
أجزعت أن أزف الرحيل ... وولهت ان نص الذميل
كلا: مصابك فادح ... وأجل: فراقهم جليل
كذب الألى زعموا بان ... الصد مرتعه وبيل
لم يعرفوا كنه الغلي ... ل وقد تحملت الحمول
أما الفراق فإنه ... للموت إن أهوى دليل ولي في هذا المعنى قصيدة مطولة أولها: [من الكامل] .
__________
(1) بتروف: يستعمل، وتابعته طبعات أخرى؛ والسياق التالي يقوي قراءة " يستعجل " فقد قال المؤلف بعد سطور " لان أصحابه قد استعجلوا البلاء وليس من يتعجل المكروه الخ ".(1/226)
لا مثل يومك ضحوة التنعيم ... (1) في منظر حسن وفي تنعيم
قد كان ذاك اليوم ندرة عاقر ... وصواب خاطئة وولد عقيم
أيام برق الوصل ليس بخلب ... عندي ولا روض الهوى بهشيم
من كل غانية تقول ثديها ... سيرى أمامك والإزار أقيمي
ما بي تلك العيون وليس في ... برئي سواها في الورى بزعيم
مثل الأفاعي ليس في شيء سوى ... أجسادها إبراء لدغ سليم والبين أبكى الشعراء على المعاهد فأدروا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكروا ما قد سلف لهم فيها فأعولوا وانتحبوا، وأحيت الآثار دفين شوقهم فناحوا وبكوا.
ولقد أخبرني (2) بعض الوراد من قرطبة - وقد استخبرته عنها - انه رأى دورنا ببلاط مغيث في الجانب الغربي منها وقد امحت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى وصارت صحارى مجدبة بعد العمران، وفيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة (3) بعد الحسن، وشعاباً مفزعة بعد الأمن، ومأوى للذاب، ومعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش، بعد رجال كاليوث (4) ، وخرائد كالدمى، تفيض لديهم النعم الفاشي - تبدد شملهم فصاروا في البلاد أيادي سبا، فكأن تلك المحاريب المنمقة، والمقاصير المزينة، التي كانت تشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم
__________
(1) التنعيم الأولى اسم مكان والثانية بمعنى النعمة.
(2) أورد لسان الدين ابن الخطيب بكاء ابن حزم لقرطبة نثراً وشعراً في أعمال الاعلام: 106 - 108 ولما كانت المقارنة بين النصفين تدل على اختلافات وفوارق كثيرة؛ فإني سأثبت النص الوارد عند لسان الدين ملحقاً في آخر الرسالة (انظر الملحق: 1 ومجلة الأندلس: 361 - 363) .
(3) قراها برشيه: مفظعة؛ وفي أعمال الاعلام: منقطعة.
(4) أعمال الاعلام: بعد طول غنيانها برجال كالسيوف وفرسان كالليوث.(1/227)
حسن منظرها، حين شملها الخراب، وعمها الهدم، كأفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب اهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل من تراه قائماً فيها، وتزهد في طلبها بعد أن طالما زهدت في تركها، وتذكرت أيامي بها ولذاتي (1) وشهور صباي لديها، مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم، ومثلت لنفسي كونهن تحت الثرى وفي الآفاق (2) النائية والنواحي البعيدة، وقد فرقتهن يد الجلاء، ومزقتهن أكف النوى، وخيل إلى بصري فناء (3) تلك النصبة بعدما علمته من حسنها وغضارتها والمراتب المحكمة التي نشأت فيها (4) لديها، وخلاء تلك الأفنية بعد تضايقها باهلها، وأوهمت (5) سمعي صوت الصدى والهام عليها، بعد حركة تلك الجماعات التي ربيت بينهم فيها، وكان ليلها تبعا لنهارها في انتشار ساكنها والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدوء والاستيحاش، فأبكى عيني (6) وأوجع قلبي وقرع صفاة كبدي وزاد في بلاء لبي، فقلت شعراً منه (7) : [من الطويل] .
لئن كان أظمانا فقد طالما سقى ... وإن ساءنا فيها فقد طالما سرا والبين يولد الحنين والاهتياج والتذكر، وفي ذلك أقول: [من البسيط] .
__________
(1) أعمال الاعلام: وصبابة لداتي بها.
(2) قرأها برشيه: الديار؛ وفي سائر الطبعات: الآثار، وما أثبته فهو من أعمال الاعلام، وهو الصواب.
(3) في الطبعات (ما عدا برشيه) : بقاء، وتتفق قراءة برشيه مع أعمال الاعلام.
(4) هذه هي قراءة برشيه، وفي سائر الطبعات: فيما، والعبارة في العلام مختلفة عما هي هنا، إذ جاءت: والمرتبة الرفيعة التي رفلت في حللها ناشئاً فيها.
(5) الأعمال: وأرعيت.
(6) أعمال الاعلام: فأبكى ذلك عيني على جمودها، وهذا الاحتراس ضروري لما تقدم من وصف ابن حزم لنفسه بأنه جامد العين.
(7) لم يرد هنا إلا بيت من عشرين بيتاً وردت في الاعلام، انظر الملحق.(1/228)
ليت الغراب يعيد اليوم لي فعسى ... يبين بينهم عني فقد وقفا
أقول والليل قد أرخى أجلته ... وقد تألى بألا ينقضي فوفى
والنجم قد حار في أفق السماء فما ... يمضي ولا هو للتغوير منصرفا
تخاله مخطئاً أو خائفاً وجلا ... أو راقباً موعداً أو عاشقاً دنفا(1/229)
- 25 -
باب القنوع
ولابد للمحب، إذا حرم الوصل، من القنوع بما يجد، وغن في ذلك لمتعللاً للنفس، وشغلاً للرجاء، وتجديداً للمنى، وبعض الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكن
1 - فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال ومن سري ما يسنح في الدهر، مع ما تبدي من الخفر والحياء، لما يعلمه كل واحد منهما مما في نفس صاحبه؛ وهي على وجهين: أحدهما أن يزور المحب محبوبه. وهذا الوجه واسع؛ والوجه الثاني ان يزور المحبوب محبه، ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل]
فإن تنا بالوصال فإنني ... سأرضى بلحظ العين إن لم يكن وصل
فحسبي أن ألقاك في اليوم مرة ... وما كنت أرضى ضعف ذا منك لي قبل
كذا همة الوالي تكون رفيعة ... ويرضى خلاص النفس إن وقع العزل وأما رجع السلام والمخاطبة فأمل من الآمال: وإن كنت أنا أقول(1/230)
في قصيدة لي: [من الطويل] .
فها أنا ذا أخفي وأقنع راضياً ... برجع سلام إن تيسر في الحين فإنما هذا لمن ينتقل من مرتبة إلى ما هو أدنى منها. وإنما تتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها. وأني لأعلم من كان يقول لمحبوبه: عدني واكذب، قنوعاً بان يسلي نفسه في وعده وغن كان غير صادق؛ فقلت في ذلك: [من الكامل] .
إن كان وصلك ليس فيه مطمع ... والقرب ممنوع فعدني واكذب
فعسى التعلل بالتقائك ممسك ... لحياة قلب بالصدود معذب
فلقد يسلي المجدبين إذا رأوا ... في الأفق يلمع صوء برق خلب ومما يدخل في هذا الباب شيء رأيته ورآه غيري معي: أن رجلاً من إخواني جرحه من كان يحبه بمدية، فلقد رأيته وهو يقبل مكان الجرح ويندبه مرة بعد مرة، فقلت في ذلك: [من المتقارب] .
يقولون شجك من همت فيه ... فقلت لعمري ما شجني
ولكن أحس دمي قربه ... فطار إليه ولم ينثن
فيا قاتلي ظالما محسناً ... فديتك من ظالم محسن 2 - ومن القنوع ان يسر الإنسان ويرضى ببعض آلات محبوبه، وإن له من النفس لموقعاً حسناً وإن لم يكن فيه إلا ما نص الله تعالى علينا، من ارتداد يعقوب بصيراً حين شم قميص يوسف عليهما السلام. وفي ذلك أقول: [من السريع] .
لما منعت القرب من سيدي ... ولج في هجري ولم ينصف
صرت بإبصاري أثوابه ... أو بعض ما قد مسه أكتفي(1/231)
كذاك يعقوب نبي الهدى ... إذ شفه الحزن على يوسف
شم قميصاً جاء من عنده ... وكان مكفوفاً فمنه شفي وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى، ولفت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه ذلك، لتكون تذكرة عند البين. وأما تهادي المساويك بعد مضغها، والمصطكي إثر استعمالها، فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء (1) ؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] .
أرى ريقها ماء الحياة تيقناً ... على أنها لم تبق لي في الهوى حشا خبر:
وأخبرني بعض إخواني عن سليمان بن أحمد الشاعر أنه رأى ابن سهل الحاجب بجزيرة صقلية، وذكر أنه كان غاية في الجمال، فشاهده يوماً في بعض المتنزهات ماشياً وامرأة خلفه تنظر إليه، فلما بعد أتت إلى المكان الذي قد أثر فيه مشيه فجعلت تقبله وتلثم الأرض التي فيها أثر رجله؛ وفي ذلك أقول قطعة أولها: [من الطويل] .
يلومنني في موطئ خفه (2) خطا ... ولو علموا عاد الذي لام يحسد
فيا أهل أرض لا يجود سحابها ... خذوا بوصاتي تستقلوا (3) وتحمدوا
خذوا من تراب فيه موضع وطئه ... وأضمن ان المحل عنكم يبعد
فكل تراب واقع فيه رجله ... فذاك صعيد ليس يجحد
__________
(1) يقول الوشاء في وصف عشق القيان (الموشى: 93) : وتبعث إليه بخاتمها وفضلة من شعرها وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضاً من قبلتها وكتاب ختمته بغالية قد عدل بالعنبر متنها ".
(2) قرأها برشيه: جفا.
(3) عند برشيه: تستغلوا.(1/232)
كذلك فعل السامري وقد بدا ... لعينيه من جبريل إثر ممجد
فصير جوف العجل من ذلك الثرى ... فقام له منه خوار ممدد وأقول: [من الطويل] .
لقد بوركت ارض بها أنت قاطن ... وبورك من فيها وحل بها السعد
فأحجارها در وسعدانها ورد ... وأمواهها شهد وتربتها ند 3 - ومن القنوع الرضى بمزار اللطيف وتسليم الخيال، وهذا إنما يحدث عن ذكر لا يفارق، وعهد لا يحول، وفكر لا ينقضي، فإذا نامت العيون وهدأت الحركات سرى الطيف؛ وفي ذلك أقول: [من البسيط] .
زار الخيال فتى طالت صبابته ... على احتفاظ من الحراس والحفظه
فبت في ليلتي جذلان مبتهجاً ... ولذة الطيف تنسي لذة اليقظه وأقول: [من الطويل] .
أتى طيف نعم مضجعي بعد هدأة ... ولليل سلطان وظل ممدد
وعهدي بها تحت التراب مقيمة ... وجاءت كما قد كنت من قبل اعهد
فعدنا كما كنا وعاد زماننا ... كما قد عهدنا قبل والعود أحمد وللشعراء في علة مزار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمى مخترعة، كل سبق إلى معنى من المعاني، فأبو إسحاق ابن سيار النظام راس المعتزلة جعل علة مزار الطيف خوف الأرواح من الرقيب المرقب على لقاء (1) الأبدان، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي جعل علته أن
__________
(1) بتروف والصيرفي ومكي: بهاء.(1/233)
نكاح الطيف لا يفسد الحب ونكاح الحقيقة يفسده (1) والبحتري جعل علة إقباله استضاءته بنار وجده، وعلة زواله خوف الغرق في دموعه (2) . وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم - فلهم فضل التقدم والسابقة، إنما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداء بهم، وجرياً في ميدانهم، وتتبعاً لطريقتهم التي نهجوا وأوضحوا - أبياتاً بينت فيها مزار الطيف مقطعة: [من الوافر] .
أغار عليك من إدراك طرفي ... وأشفق أن يذيبك لمس كفي
فأمتنع اللقاء حذار هذا ... واعتمد التلاقي حين أغفي
فروحي إن لنم، بك ذو انفراد ... من الأعضاء مستتر ومخفي
ووصل الروح ألطف فيك وقعاً ... من الجسم المواصل ألف ضعف وحال المزور في المنام ينقسم أقساماً أربعة:
1 - أحدها محب مهجور قد تطاول غمه، ثم رأى في هجعته ان حبيبه وصله فسر بذلك وابتهج، ثم استيقظ فأسف وتلهف، حيث علم أن ما كان فيه أماني النفس وحديثها؛ وفي ذلك أقول: [من الخفيف] .
أنت في مشرق النهار بخيل ... وإذا الليل جن كنت كريما
تجعل الشمس منك لي عوضاً ... هيهات ماذا الفعال منك قويما
زارني طيفك البعيد فيأتي ... واصلاً لي وعائداً ونديما
__________
(1) أظنه يشير إلى قول أبي تمام: (ديوانه 2: 69) .
غدت مغتدى الغضبي وأوصت خيالها بحران نضو العيس نضو الخرائد
وقالت نكاح الحب يفسد شكله وكم نكحوا حباً وليس بفاسد
والمعنى الاجمالي أنها أوصت خيالها بزيارتي وتعهدي، وقالت: ان نكاح الحب يفسد شكله، ولكن نكاح (الطيف) لا يفسده (أو هذا ما فهمه ابن حزم من البيتين) ..
(2) لقد حاولت أن أجد هذا المعنى في ديوان البحتري فلم أوفق، على كثرة ترداد النظر في الديوان.(1/234)
غير أني منعتني من تمام ال ... عيش لكن أبحث لي التشميما
فكأني من أهل الأعراف لا الفر ... دوس داري ولا أخاف الجحيما 2 - والثاني محب مواصل مشفق من تغير يقع، قد رأى في وسنه أن حبيبه يهجره فاهتم لذلك هماً شديداً، ثم هب من نومه فعلم أن ذلك باطل وبعض وساوس الإشفاق.
3 - والثالث محب داني الديار يرى أن التنائي قد فدحه، فيكترث ويوجل ثم ينتبه فيذهب ما به ويعود فرحاً؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل] .
رأيتك في نومي كأنك راحل ... وقمنا إلى التوديع والدمع هامل
وزال الكرى عني وأنت معانقي ... وغمي إذا عاينت ذلك زائل
فجددت تعنيقاً وضماً كأنني ... عليك من البين المفرق واجل 4 - والرابع محب نائي المزار، يرى أن المزار قد دنا، والمنازل قد تصاقبت، فيرتاح ويأنس إلى فقد الأسى، ثم يقوم من سنته فيرى أن ذلك غير صحيح، فيعود إلى أشد ما كان فيه من الغم.
وقد جعلت في بعض قولي علة النوم الطمع في طيف الخيال، فقلت: [من البسيط] .
طاف الخيال على مستهتر كلف ... لولا ارتقاب مزار الطيف لم ينم
لا تعجبوا إذ سرى والليل معتكر ... فنوره مذهب (1) في الأرض للظلم 4 - ومن القنوع ان يقنع المحب بالنظر إلى الجدران ورؤية الحيطان التي تحتوي على من يحب، وقد رأينا من هذه صفته. ولقد
__________
(1) برشيه: مرهب.(1/235)
حدثني أبو الوليد أحمد بن محمد بن اسحاق الخازن (1) رحمه الله من رجل جليل، أنه حدث عن نفسه بمثل هذا:
5 - ومن القنوع أن يرتاع المحب، إلى أن يرى من رأى محبوبه ويأنس به ومن أتى من بلاده، وهذا كثير؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل] .
توحش من سكانه فكأنهم ... مساكن عاد أعقبته ثمود ومما يدخل في هذا الباب أبيات لي، موجبها أني تنزهت أنا وجماعة من إخواني من أهل الأدب والشرف إلى بستان لرجل من أصحابنا، فجلنا ساعة ثم أفضى بنا القعود إلى مكان دونه يتمى، فتمددنا في رياض أريضة، وأرض عريضة، للبصر فيها منفسح، وللنفس لديها منسرح، بين جداول تطرد كأباريق اللجين، وأطيار تغرد بألحان تزري بما أبدعه معبد والغريض (2) ، وثمار مهدلة قد ذللت للأيدي ودنت (3) للمتناول، وظلال مظلة تلاحظنا الشمس من بينها فتتصور بين أيدينا كرقاع الشطرنج والثياب المدبجة، وماء عذب يوجدك حقيقة طعم الحياة، وانهار متدفقة تنساب كبطون الحيات لها خرير يقوم ويهدأ، ونواوير مؤنقة مختلفة الألوان تصفقها الرياح الطيبة النسيم، وهواء سجسج، وأخلاق جلاس تفوق كل هذا، في يوم ربيعي ذي شمس ظليلة، تارة يغطيها الغيم الرقيق والمزن اللطيف، وتارة تتجلى فهي كالعذراء الخفرة الخجلة تتراءى لعاشقها من بين الأستار ثم تغيب فيها حذر عين مراقبة. وكان بعضنا مطرقا كأنه يحادث الثرى (4) ، وذلك لسر
__________
(1) ذهب بعض المعلقين إلى أن أبا الوليد أحمد بن محمد بن اسحاق الخازن هو والد محمد بن اسحاق الوزير الاسحاقي الذي مر التعريف به (ص: 112) وهذا أمر لا يمكن القطع به دون أن تسنده المصادر.
(2) معبد والغريض من مشاهير المغنين في العصر الأموي (انظر الأغاني 1: 47؛2:318) .
(3) برشيه: وتدلت.
(4) بتروف: أخرى.(1/236)
كان له، فعرض لي بذلك، وتداعبنا حينا فكلفت أن أقول على لسانه شيئاً في ذلك، فقلت بديهة، وما كتبوها إلا من تذكرها بعد انصرافنا، وعي: [من الطويل] .
ولما تروحنا بأكناف روضة ... مهدلة الأفنان في تربها الندي
وقد ضحكت أنوارها وتضوعت ... أساورها (1) في ظل فيء ممدد
وأبدت لنا الأطيار حسن صريفها ... فمن بين شاك شجوه ومغرد
وللماء فيما بيننا متصرف ... وللعين مرتاد هناك ولليد
وما شئت من اخلقا أروع ماجد ... كريم السجايا للفخار مشيد
تنغص عندي كل ما قد وصفته ... ولم يهنني إذ غاب عني سيدي
فيا ليتني في السجن وهو معانقي ... (2) وانتم معاً في قصر دار المجدد
فمن رام منا أن يبدل حاله ... بحال أخيه أو بملك مخلد
فلا عاش إلا في شقاء ونكبة ... ولا زال في بؤسى وخزي مردد فقال هو ومن حضر: آمين آمين. وهذه الوجوه التي عددت وأوردت في حقائق القناعة هي الموجودة في أهل المودة، بلا تزيد ولا إعياء.
6 - وللشعراء فن من القنوع أرادوا فيه إظهار غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمرامي البعيدة، وكل قال على قدر قوة طبعه، إلا أنه تحكم باللسان وتشدق في الكلام واستطالة بالبيان، وهو غير صحيح في الأصل: فمنهم من قنع بأن السماء تظله هو
__________
(1) أساورها، كذا وردت عند الجميع، ولا أجد لها معنى، وأرجح: " أصاروها " من صوار وهو وعاء المسك أو الرائحة الطيبة وجمعها أصورة، فتكون أصاورها جمع جمع، إن صح التقدير.
(2) المجدد: هو أحد المباني الفخمة بقصر قرطبة الأكبر قال ابن بشكوال: ومن قصوره المشهورة وقصر السرور والتاج والبديع (نفخ الطيب 1: 464) .(1/237)
ومحبوبه والأرض تقلهما، ومنهم من قنع باستوائهما في إحاطة الليل والنهار بهما، وأشباه هذا (1) ، وكل مبادر إلى احتواء الغاية في الاستقصاء، وإحراز قصب السبق في التدقيق، ولي في هذا المعنى قول لا يمكن لمتعقب أن يجد بعده متناولا، ولا وراءه مكاناً، مع تبيني علة قرب المسافة البعيدة، وهو: [من الطويل] .
قالوا بعيد قلت حسبي بأنه ... معي في زمان لا يطيق محيدا
تمر علي الشمس مثل مرورها ... به كل يوم يستنير جديدا
فمن ليس بيني في المسير وبينه ... سوى قطع يوم هل يكون بعيدا
وعلم إله الخلق يجمعنا معاً ... كفى ذا التداني ما أريد مزيدا فبينت كما ترى أني قانع بالاجتماع مع من احب في علم الله الذي السموات والأفلاك والعوالم كلها وجميع الموجودات (2) بسبب منه ولا تجزؤ فيه ولا يشذ عنه شيء، ثم اقتصرت من علم الله تعالى على انه في زمان؛ وهذا اعلم مما قاله غيري في إحاطة الليل والنهار، وإن كان الظاهر واحداً في البادئ إلى السامع، لان كل المخلوقات واقعة
__________
(1) من أمثال هذه القناعة قول أحدهم:
ويقر عيني وهي نازحة ما لا يقر بعين ذي الحلم
أني أرى وأظن أن سترى وضح النهار وعالي النجم
وقول الآخر:
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تداني
ترى وضح النهار كما أراه ويعلوها المساء كما علاني
وقول الثالث:
ألست أرى النجم الذي هو طالع عليها فهذا للمحبين نافع
عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها فيجمعنا إذ ليس في الأرض جامع
ويعلق ابن داود على مثل هذا بقوله انه ناقص عن حد التمام (الزهرة 102، 103) وكأني بابن حزم قد قرأ هذه الجملة وتأملها، فما يحاول أن يأتي به في أبيانه التالية إنما هو نوع من بلوغ الغاية أو حد التمام.
(2) العبارة عند الصيرفي: وجميع الموجودات لا تنفصل منه ولا تتجرأ فيه ولا يشذ عنه منها شيء، وهي بعيدة كثيراً عن الأصل؛ وتابعه في ذلك مكي؛ وعند بتروف: لا تنتسب منه.(1/238)
تحت الزمان، وإنما الزمان اسم موضوع لمرور الساعات وقطع الفلك وحركاته وأجرامه، والليل والنهار متوالدان عن طلوع الشمس وغروبها، وهما متناهيان في بعض العالم الأعلى، وليس هكذا الزمان، فإنهما بعض الزمان. وإن كان لبعض الفلاسفة قول: إن الظل متماد، فهذا يخطئه العيان، وعلل الرد عليه بينة ليس هذا موضعها، ثم بينت انه وإن كان في أقصى المعمور من الشرق وأنا في أقصى المعمور من الغرب، وهذا طوال السكنى، فليس بيني إلا مسافة يوم؛ إذ الشمس تبدو في أول النهار في أول المشارق وتغرب في آخر النهار في آخر المغارب.
7 - ومن القنوع فصل أورده وأستعيذ بالله منه ومن أهله، وأحمده على ما عرف نفوسنا من منافرته، وهو ان يضل العقل جملة، وتفسد القريحة، ويتلف التمييز ويهون الصعب، وتذهب الغيرة، وتعدم الانفة، فيرضى الإنسان بالمشاركة فيمن يحب، وقد عرض هذا لقوم، أعاذنا الله من البلاء. وهذا لا يصح إلا مع كلبية في الطبع، وسقوط من العقل - الذي هو عيار على ما تحته - وضعف حس. ويؤيد هذا كله حب شديد معم. فإذا اجتمعت هذه الأشياء وتلاحقت بمزاج الطبائع ودخول بعضها في بعض نتج بينهما هذا الطبع الخسيس، وتولدت هذه الصفة الرذلة، وقام منها هذا الفعل المقذور القبيح. وأما رجل معه أقل همة وأيسر مروءة فهذا منه أبعد من الثريا، ولو مات وجداً وتقطع حباً، وفي ذلك أقول زارياً على بعض المسامحين في هذا الفصل: [من الطويل] .
رأيتك رحب الصدر ترضى بما أتى ... وأفضل شيء ان تلين وتسمحا
فحظك من بعض السواني مفضل ... على أن يحوز الملك من أصلها الرحى
وعضو بعير في الوزن ضعف ما ... تقدره في الجدي فاعص الذي لحا
ولعب الذي تهوى بسيفين معجب ... فكن ناحياً في نحوه كيفما نحا(1/239)
- 26 -
باب الضنى
ولابد لكل محب صادق المودة ممنوع الوصل - إما ببين وإما بهجر وإما بكتمان واقع لمعنى - من أن يؤول إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك؛ وهذا الأمر كثير جداً موجود أبداً. والأعراض الواقعة من المحبة غير الأعراض (1) الواقعة من هجمات العلل، ويميزها الطبيب الحاذق والمتفرس الناقد؛ وفي ذلك أقول:
[من الوافر]
يقول لي الطبيب بغير علم ... تداو فأنت يا هذا عليل
ودائي ليس يدريه سوائي ... ورب قادر ملك جليل
أأكتمه ويكشفه شهيق ... يلازمني وإطراق طويل
ووجه شاهدات الحزن فيه ... وجسم كالخيال ضن نحيل
وأثبت ما يكون الأمر يوماً ... بلا شك إذا صح الدليل
فقلت له: أبن عني قليلاً ... فلا والله تعرف ما تقول
فقال: أرى نحولاً زاد جداً ... وعلتك التي تشكو ذبول
فقلت له: الذبول تعل منه ال ... جوارح وهي حمى تستحيل
وما أشكو لعمر والله حمى ... وإن الحر في جسمي قليل
فقال: أرى التفاتأ وارتقاباً ... وأفكاراً وصمتاً لا يزول
__________
(1) جميع الطبعات: غير العلل.(1/240)
وأحسب أنها السوداء فانظر ... لنفسك إنها عرض ثقيل
فقلت له: كلامك ذا محال ... فما للدمع من عيني يسيل
فأطرق باهتاً مما رآه ... ألا في مثل ذا بهت النبيل
فقلت له: دوائي منه دائي ... ألا في مثل ذا ضلت عقول
وشاهد ما أقول يرى عياناً ... فروع النبت إن عكست أصول
وترياق الأفاعي ليس شيء ... سواه ببرء ما لدغت كفيل وحدثني أبو بكر محمد بن بقي الحجري، وكان حكيم الطبع عاقلاً فهيماً، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذكره، انه كان ببغداد في خان من خاناتها فرأى ابنة لوكيله الخان فأحبها وتزوجها، فلما خلا بها نظرت إليه وكانت بكراً، وهو قد تكشف لبعض حاجته، فراعها كبر إحليله، ففرت إلى أمها وتفادت منه، فرام بها كل من حواليها أن ترد إليه، فأبت وكادت ان تموت، ففارقها ثم ندم، ورام ان يراجعها فلم يمكنه، واستعان بالأبهري (1) وغيره، فلم يقدر أحد منهم على حيلة في أمره، فاختلط عقله وأقام في المارستان يعاني مدة طويلة حتى نقة وسلا وما كاد، ولقد كان إذا ذكرها يتنفس الصعداء.
وقد تقدم في أشعاري المذكورة في هذه الرسالة: من صفة النحول مفرقاً ما استغنيت به عن أن أذكر هنا من سواها شيئاً خوف الإطالة، والله المعين والمستعان.
__________
(1) هذه النسبة " الابهري " تنصرف إلى واحد من فقهاء المالكية، فإن كان المقصود الابهري الكبير فهو أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح، الذي سكن بغداد وانتشر عنه مذهب مالك بالعراق وجمع بين القرآن وعلو الأسناد والفقه الجيد، وقصده الطلبة من كل فج فممن أخذ العلم عليه من الاندلسيين: أبو عبيد الحيوني والأصيلي (الذي بقي في بغداد ثلاث عشرة سنة) وأبو محمد القلعي وأبو القاسم الزهري، وكانت وفاة الابهري سنة 375 (ترتيب المدارك 4: 466) وذكر ابن بشكوال أن محمد بن يوسف بن أحمد التاجر كانت له رحلة إلى المشرق وأخذ عن الابهري شريحة لمختصر ابن عبد الحكم وعن هذا التاجر يحدث أبو بكر جماهر بن عبد الرحمن الحجري (الصلة: 492) ولجماهر هذا ابن اسمه محمد توفي سنة 424 (الصلة: 488) ، ومع ذلك تبقى كلمة " بقي " عقبة في سبيل القطع بشيء في هذا الصدد.(1/241)
وربما ترقت إلى أن يغلب المرء على عقله ويحال بينه وبين ذهنه فيوسوس؛
خبر:
وإني لأعرف جارية من ذوات المناصب والجمال والشرف من بنات القواد، وقد بلغ بها حب فتى من إخواني من أبناء الكتاب مبلغ هيجان المرار الأسود، وكادت تختلط، واشتهر الأمر وشاع جداً (1) حتى علمه الأباعد، إلى ان تدوركت بالعلاج.
وهذا إنما يتولد عن إدمان الفكر، فإذا غلبت الفكرة وتمكن الخلط وترك التداوي خرج الأمر عن حد الحب إلى حد الوله والجنون، وإذا أغفل التداوي في أوائل المعاناة قوي جداً ولم يوجد له دواء سوى الوصال، ومن بعض ما كتبت إليه قطعة منها: [من الخفيف]
قد سلبت الفؤاد منها اختلاساً ... أي خلق يعيش دون فؤاد
فأغثها بالوصل تحي شريفاً ... وتفز بالثواب يوم المعاد
وأراها تعتاض إن دام هذا ... (2) من خلاخيلها حلى الأقياد
أنت حقاً متيم الشمس حتى ... عشقها بين ذا الورى لك بادي خبر:
وحدثني مولى أحمد بن محمد بن حدير، المعروف بالبليني (3) : أن سبب اختلاط مروان بن يحيى بن أحمد بن حدير
__________
(1) برشيه: وشاع حبها.
(2) ايماء إلى أنها قد تجن، وتوضع السلاسل في رجليها بدلاً من الخلاخيل، كما كانوا يفعلون بالمجانين.
(3) ان صحت هذه اللفظة فهي نسبة إلى " البلنيه " (BaIIena) وتعني الحوت الكبير أو دابة البحر (انظر المغرب 1: 193 والجذوة: 214) ، ومن أمثال بحارة الاندلس إذا ريت البلين أبشر بالرمشكل (انظر أمثال العوام 2: 6؛ والرمشكل هو ذكر البلينة) .(1/242)
وذهاب عقله اعتلاقه بجارية لأخيه، فمنعها وباعها لغيره، وما كان في إخوته مثله ولا أتم أدباً منه.
وأخبرني أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة (1) ، أن سبب جنون يحيى بن محمد بن عباس بن أبي عبدة بيع جارية له كان يجد بها وجداً شديداً، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريات.
فهذان رجلان جليلان مشهوران فقدا عقولهما واختلطا وصارا في القيود والأغلال، فأما مروان فأصابته ضربة مخطئة يوم دخول البربر قرطبة وانتهابهم لها (2) ، فتوفي رحمه الله. وأما يحيى بن محمد فهو حي على حالته المذكورة في حين كتابتي لرسالتي هذه، وقد رأيته أنا مراراً وجالسته في القصر قبل أن يمتحن بهذه المحنة، وكان أستاذي وأستاذه الفقيه أبو الخيار اللغوي (3) ، وكان يحيى لعمري حلواً من الفتيان نبيلاً.
وأما من دون هذه الطبقة فقد رأينا منهم كثيراً، ولكن لم نسمهم لخفائهم، وهذه درجة إذا بلغ المشغوف إليها فقد انبت الرجاء وانصرم الطمع، فلا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتلفت المعرفة وتغلبت الآفة، أعاذنا الله من البلاء بطوله، وكفانا النقم بمنه.
__________
(1) لم أجد لمحمد بن عباس ترجمة، ولكنه من أسرة بني عبدة إحدى الأسر الكبيرة في الاندلس، وقد كان عيسى بن أحمد بن أبي عبدة وزيراً أيام الأمير عبد الله الأموي، واحتل رجال من هذه الأسرة مناصب هامة في الدولة (انظر الحلة السيراء 1: 120 - 121 والحاشية) وكان احمد بن محمد بن أبي عبدة أيام عبد الرحمن الناصر على القيادة (البيان المغرب: 2: 158) ومحمد بن عبد الله بن أبي عبدة، على الخزانة (المصدر نفسه) وعيسى بن أحمد بن أبي عبدة على الشرطة العليا (2: 159) ؛ ويطول بنا القول لو أردنا تتبع أفراد هذه العائلة وتقلبهم في المناصب.
(2) بتروف: وانتهائهم اليها.
(3) هو مسعود بن سليمان بن مفلت الشنتريني القرطبي، كان ظاهرياً لا يرى التقليد، متواضعاً توفي سنة 426 (الصلة: والجذوة: 328 والبغية رقم: 1361) .(1/243)
- 27 -
باب السلو
وقد علمنا أن كل ما له أول فلا بد له من آخر، حاشا نعيم الله عز وجل بالجنة لأوليائه وعذابه بالنار لأعدائه؛ وأما أراض الدنيا فنافذة فانية وزائلة مضمحلة، وعاقبة كل حب إلى أحد أمرين: إما اخترام منية، وإما سلو حادث. وقد نجد النفس تغلب عليها بعض القوى المصرفة معها في الجسد، فكما نجد نفساً ترفض الراحات والملاذ للعمل في طاعة الله تعالى وللرياء في الدنيا، حتى تشتهر بالزهد، فكذلك نجد نفساً تنصرف عن الرغبة في لقاء شكلها للأنفة المستحكمة المنافرة للغدر، أو استمرار سوء المكافأة في الضمير، وهذا أصح السلو. وما كان من غير هذين الشيئين فليس إلا مذموماً. والسلو المتولد من الهجر وطوله إنما هو كاليأس يدخل على النفس من بلوغها إلى أملها، فيفتر نزاعها ولا تقوى رغبتها؛ ولي في ذم السلو قصيدة منها: من الطويل] .
إذا ما رنت فالحي ميت بلحظها ... وإن نطقت قلت السلام (1) رطاب
كأن الهوى ضيف ألم بمهجتي ... فلحمي طعام والنجيع شراب. ومنها:
صبور على الأزم (2) الذي العز خلفه ... ولو أمطرته بالحريق سحاب
__________
(1) السلام: الحجارة.
(2) الأزم: الشدة والقحط.(1/244)
جزوع من الراحات إن أنتجت له ... خمولاً وفي بعض النعيم عذاب والسلو في التجزئة الجملية ينقسم قسمين:
1 - سلو طبيعي وهو المسمى بالنسيان، يخلو به القلب ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط؛ وهذا القسم ربما لحق صاحبه الذم لأنه نسيان حادث عن أخلاق مذمومة، وعن أسباب غير موجبة استحقاق النسيان، وستأتي مبينة إن شاء الله تعالى، وربما لم تلحقه اللائمة لعذر صحيح.
2 - والثاني سلو تطبعي، قهر النفس، وهو المسمى بالتصبر، فترى المرء يظهر التجلد وفي قلبه أشد لدغاً من وخز الإشفى (1) ، ولكنه يرى بعض الشر أهون من بعض (2) ، أو يحاسب نفسه بحجة لا تصرف ولا تكسر؛ وهذا قسم لا يذم آتيه، ولا يلام فاعله لأنه لا يحدث إلا عن عظيمة، ولا يقع إلا عن فادحة، إما لسبب لا يصبر على مثله الأحرار، وإما لخطب لا مرد له تجري به الأقدار، وكفاك من الموصوف به أنه ليس بناس لكنه ذاكر، وذو حنين واقف على العهد، ومتجرع مرارات الصبر.
والفرق العامي بين المتصبر والناسي، أنك ترى المتصبر وإن أبدى غاية الجلد وأظهر سب محبوبه والتحمل عليه، لا يحتمل ذلك من غيره؛ وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل]
دعوني وسبي للحبيب فإنني ... وإن كنت أبدي الهجر لست معاديا
ولكن سبي للحبيب كقولهم ... (3) أجاد فلقاه الإله الدواهيا
__________
(1) الاشفى: المخرز.
(2) هز من قول أبي الخراش الهذلي:
حمدت الهي بعد عروة إذ نجا خراش، وبعض الشر أهون من بعض
(3) هذا سب للاستحسان والتعظيم كقولهم: قاتله الله ما أسخاء أو قولهم: " هوت أمه " وما اشبه.(1/245)
والناسي ضد هذا. وكل هذا فعلى قدر طبيعة الإنسان وإجابتها وامتناعها وقوة تمكن الحب من القلب أو ضعفه، وفي ذلك أقول وسميت السالي فيه المتصبر - قطعة منها: [من الكامل]
ناسي الأحبة غير من يسلوهم ... حكم المقصر غير حكم المقصر
ما قاهر للنفس (1) عدل مجيبها ... ما الصابر المطبوع كالمتصبر والأسباب الموجبة للسلو المنقسم هذين القسمين كثيرة، وعلى حسبها وبمقدار الواقع منها يعذر السالي ويذم:
1 - فمنها الملل - وقد قدمنا الكلام عليه - وإن من كان سلوه عن ملل فليس حبه حقيقة، والمتوسم به صاحب دعوى زائفة، وإنما هو طلب لذة ومبادر شهوة، والسالي من هذا الوجه ناس مذموم.
2 - ومنها الاستبدال، وهو وإن كان يشبه الملل ففيه معنى زائد، وهو بذلك المعنى أقبح من الأول، وصاحبه أحق بالذم.
3 - ومنها حياء مركب يكون في المحب يحول بينه وبين التعريض بما يجد، فيتطاول الأمر وتتراخى المدة، ويبلى جديد المودة ويحدث السلو؛ وهذا وجه إن كان السالي عنه ناسياً فليس بمنصف، إذ منه جاء سبب الحرمان، وإن كان متصبراً فليس بملوم، إذ آثر الحياء على لذة نفسه. وقد ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحياء من الإيمان والبذاء من النفاق (2) .. وحدثنا أحمد بن محمد (3) عن أحمد
__________
(1) في معظم الطبعات: غير، وهو خطأ واضح؛ وعند برشيه: عد.
(2) ورد الحديث في أكثر الصحاح (انظر مثلاً البخاري ايمان: 57 - 59) ومسند أحمد 2: 56، 147، 392.
(3) هو ابن الجسور، وقد تقدم التعريف به، ص: 174.(1/246)
بن مطرف (1) عن عبيد الله بن يحيى (2) عن أبيه عن مالك عن سلمة ابن صفوان الزرقي عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء (3) .
فهذه الأسباب الثلاثة أصلها من المحب وابتداؤنا من قبلة، والذم لاصق به في نسيانه لمن يحب.
4 - فمنها: الهجر، وقد مر تفسير وجوهه؛ ولابد لنا أن نورد منه شيئاً في هذا الباب يوافقه.
والهجر إذا تطاول وكثر العتاب واتصلت المفارقة يكون باباً إلى السلو. وليس من وصلك ثم قطعك لغيرك من باب الهجر في شيء لأنه الغدر الصحيح، ولا من مال إلى غيرك - دون أن تتقدم لك معه صلة - من الهجر أيضاً في شيء، إنما ذاك هو النفار - وسيقع الكلام في هذين الفصلين بعد هذا إن شاء الله تعالى - لكن الهجر ممن وصلك ثم قطعك لتنقيل واش أو لذنب واقع أو لشيء قام في النفس، ولم يمل إلى سواك ولا أقام أحداً غيرك مقامك؛ والناسي في هذا الفصل من المحبين ملوم دون سائر الأسباب الواقعة من المحبوب: لأنه لا تقع حالة تقيم العذر في نسيانه، وإنما هو راغب
__________
(1) هو أبو عمر أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن المعروف بابن المشاط (توفي سنة 352) (الجذوة: 138 وابن الفرضي 1: 57 وهو الذي سمع من عبيد الله بن يحيى (انظر التعليق التالي) ووهم الدكتور الطاهر مكي فظنه أحمد بن مطرف الجهني (انظر ص 188 حاشية 19) ، ولا شأن لهذا برواية الحديث.
(2) هو عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي وهو آخر من حدث عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك، وله رحلة إلى العراق، توفي سنة 297 (الجذوة: 250) .
(3) ورد الحديث في ابن ماجه (زهد: 17) والموطأ (حسن الخلق: 9) .(1/247)
عن وصلك، وهو شيء لا يلزمه. وقد تقدم من أذمة الوصال وحق أيامه، ما يلزم التذكر ويوجب عهد الألفة، ولكن السالي على وجهة التصبر والتجلد هاهنا معذور إذا رأى الهجر متمادياً ولم ير للوصال علامة ولا للمراجعة دلالة؛ وقد استجاز كثير من الناس أن يسموا هذا المعنى غدراً إذ ظاهرهما واحد، ولكن علتيهما مختلفتان، فلذلك فرقنا بينهما في الحقيقة؛ وأقول في ذلك شعراً منه: [من الطويل]
فكونوا كمن لم أدر قط فإنني ... كآخر لم تدروا ولم تصلوه
أنا كالصدى ما قال كل أجيبه ... فما شئتموه اليوم فاعتمدوه وأقول أيضاً قطعة، ثلاثة أبيات قلتها وأنا نائم واستيقظت فأضفت إليها البيت الربع: [من الوافر]
ألا لله دهر كنت فيه ... أعز علي من روحي وأهلي
فما برحت يد الهجران حتى ... طواك بنانها طي السجل
سقاني الصبر هجركم كما قد ... سقاني الحب وصلكم بسجل
وجدت الوصل أصل الوجد حقاً ... وطول الهجر أصلاً للتسلي وأقول أيضاً قطعة: [من الكامل المجزوء]
لو قيل لي من قبل ذا ... أن سوف تسلو من تود
لحلفت ألف (1) قسامة ... لا كان ذا أبد الأبد
وإذا طويل الهجر ما ... معه من السلوان بد
لله هجرك إنه ... ساع لبرئي مجتهد
فالآن أعجب للسل ... ووكنت أعجب للجلد
وأرى هواك كجمرة ... تحت الرماد لها مدد
__________
(1) القسامة: إذا وقعت تدمية في موضع ما دون أن يعرف القاتل على التحقيق ووجه أولياء القتيل التهمة إلى جماعة أو قرية، فإن المفروض أن يحلف خمسون رجلاً من المتهمين ببراءتهم، فتسقط بذلك التهمة.(1/248)
وأقول: [من الكامل]
كانت جهنم في الحشا من حبكم ... فلقد أراها نار إبراهيما ثم الأسباب الثلاث الباقية التي هي من قبل المحبوب، فالمنتصر من الناس فيها غير مذموم، لما سنورده إن شاء الله في كل فصل عنها:
5 - فمنها نفار يكون في المحبوب وانزواء قاطع للأطماع؛
خبر:
وإني لأخبر عني أني ألفت في أيام صباي ألفة المحبة جارية نشأت في دارنا وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاماً؛ وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، بديعة البشر، مسبلة الستر، فقيدة الذام، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب، دائمة القطوب، كثيرة الوقار، مستلذة النفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالب كل القلوب، وحالها طارد من أمها. تزدان في المنع والبخل، ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، موقوفة على الجد في أمرها غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تحسن العود إحساناً جيداً، فجنحت إليها وأحببتها حباً مفرطاً شديداً، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة، غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة.
فلعهدي بمصطنع (1) كان في دارنا لبعض ما يصطنع له في دور الرؤساء تجمعت فيه دخلتنا ودخلة أخي، رحمه الله، من النساء ونساء فتياننا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه ويلطف محله،
__________
(1) المصطنع: الوليمة أو الحفل.(1/249)
فلبثن صدراً من النهار ثم تنقلن إلى قصبة كانت في دارنا مشرفة على بستان الدار ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها، مفتحة الأبواب؛ فصرن ينظرن من خلال الشراجيب (1) وأنا بينهن، فإني لأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي فيه أنساً بقربها متعرضاً للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة، فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره؛ وكانت قد علمت كلفي بها ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه، لأنهن كن عدداً كثيراً، وإذا كلهن ينتقلن من باب إلى باب لسبب الاطلاع من بعض الأبواب على جهات لا يطلع من غيرها عليها، واعلم أن قيافة النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج (2) في الآثار، ثم نزلن إلى البستان فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها فأخذت العود وسوته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مستحسنه، ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف، حيث يقول (3) : [من البسيط]
إني طربت إلى شمس إذا غربت ... كانت مغاربها (4) جوف المقاصير
شمس ممثلة في خلق جارية ... كأن أعطافها (5) طي الطوامير
ليست من الإنس إلا في مناسبة ... ولا من الجن إلا في التصاوير
__________
(1) الشراجيب: الشبابيك أو الطاقات؛ ويكون الشباك مشرجباً إذا كان من خشب بهيئة مربعات، ومن أمثالهم العامية زاد ف المشرجب بيت، ويشير المعتمد في شعره (الحلة 2: 133) إلى قصر الشراجيب. (انظر الأمثال العامية 2: 230 وتعليقات المحقق على المثل رقم 1010) .
(2) مدلج: رجل من كنانة كان مشهوراً بالقيافة، أي قص الأثر.
(3) انظر ديوان العباس بن الأحنف: 113.
(4) الديوان: مشارقها.
(5) في الديوان: كأنما كشحها.(1/250)
فالوجه جوهرة، والجسم عبهرة ... (1) والريح عنبرة، والكل من نور
كأنها حين تخطو في مجاسدها ... تخطو على البيض أو حد (2) القوارير فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا، وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها؛ وفي ذلك أقول: [من الحفيف]
لا تلمها على النفار ومنع ال ... وصل ما ذاكم لها بنكير
هل يكون الهلال غير بعيد ... أو يكون الغزال غير نفور وأقول: [من الوافر]
منعت جمال وجهك مقلتيا ... ولفظك قد ضننت به عليا
أراك نذرت للرحمن صوماً ... فلست تكلمين اليوم حيا
وقد غنيت للعباس شعراً ... هنيئاً ذا لعباس هنيا
فلو يلقاك عباس لأضحى ... لفوز قاليا وبكم شجيا ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ربض الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة. وانتقلت أنا بانتقاله، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلثمائة، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والترقيب والإغرام الفادح والاستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس وخصتنا، إلى أن توفي أبي الوزير
__________
(1) رواية هذا البيت في الديوان:
فالجسم من لؤلؤ والشعر من ظلم والنشر من مسكة والوجه من نور
(2) الديوان: أو خضر.(1/251)
رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنتين وأربعمائة، واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها - وقد ارتفعت الواعية (1) - قائمة في المأتم وسط النساء في جملة البواكي والنوادب، فلقد أثارت وجداً دفيناً وحركت ساكناً، وذكرتني عهداً قديماً، وحباً تليداً، ودهراً ماضياً، وزمناً عافياً، وشهوراً خوالي، وأخباراً توالي، ودهوراً فواني، وأياماً قد ذهبت، وآثاراً قد دثرت، وجددت أحزاني، وهيجت بلابلي، على أني كنت في ذلك النهار مرزءاً مصاباً من وجوه، وما كنت نسيت، ولكن زاد الشجى وتوقدت اللوعة وتأكد الحزن وتضاعف الأسف، واستجلب الوجد ما كان منه كامناً فلباه مجيباً، فقلت قطعة منها: [من الطويل]
يبكي لميت مات وهو مكرم ... وللحي أولى بالدموع الذوارف
فيا عجباً من آسف لامرئ ثوى ... وما هو للمقتول ظلماً بآسف ثم ضرب الدهر ضربانه وأجلينا عن منازلنا، وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة أول المحرم سنة أربع وأربعمائة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر، ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة - وقد تغير أكثر محاسنها وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة وغاض ذلك الماء الذي كان يرى كالسيف الصقيل والمرآة الهندية، وذبل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه منبهراً ويرتاد فيه متخيراً وينصرف عنه متحيراً، فلم يبق إلا البعض المنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها وعدمها الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا ولتبذلها في الخروج فيما لابد لها منه مما كانت تصان
__________
(1) الواعية: الصراخ على الميت.(1/252)
وترفع عنه قبل ذلك؛ وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبنية متى لم يهتبل بها استهدمت؛ ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقاً وأثبت أصلاً وأعتق جودة لصبره على ما لو لقي بعضه وجوه النساء لتغيرت أشد التغيير، مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء وعدم الكن - وإني لو نلت منها أقل وصل وأنست لي بعض الأنس لخولطت طرباً أو لمت فرحاً، ولكن هذا النفار الذي صبرني وأسلاني.
وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه في كلا الوجهين معذور وغير ملوم؛ إذ لم يقع تثبت يوجب الوفاء، ولا عهد يقتضي المحافظة، ولا سلف ذمام، ولا فرط تصادق يلام على تضييعه ونسيانه.
6 - ومنها جفاء يكون من المحبوب، فإذا أفرط فيه وأسرف وصادف من المحب نفساً لها بعض الألفة والعزة تسلى، وإذا كان الجفاء يسيراً منقطعاً أو دائماً أو كبيراً منقطعاً احتمل وأغضي عليه، حتى إذا كثر ودام فلا وفاء عليه (1) ، ولا يلام الناسي لمن يحب في مثل هذا.
7 - ومنها الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم (2) ، وهو المسلاة حقاً ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسياً أو متصبراً، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه. ولولا ان القلوب بيد مقلبها لا إله إلا هو ولا يكلف المرء صرف قلبه ولا إحالة استحسناه - لولا ذاك - لقلت ان المتصبر في سلوه مع الغدر يكاد ان يستحق الملامة والتعنيف؛ ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذي
__________
(1) بعض الطبعات: فلا بقاء.
(2) قارن بما جاء في الموشى (ص: 118) : ثم ان أجهل الجهالة وأضل الضلالة صبر الفتى الأديب على غدر الحبيب، فإن الصبر على الخيانة والغدر يضع من المروءة والقدر.(1/253)
الحفيظة والسري السجايا، من الغدر، فما يصبر عليه إلا دنئ المروءة خسيس الهمة ساقط الأنفة، وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الوافر] .
هواك فلست أقربه غرور ... وأنت لكل من يأتي سرير
وما إن تصبرين على حبيب ... فحولك منهم عدد كثير
فلو كنت الأمير لما تعاطى ... لقاءك خوف جمعهم الأمير
رأيتك كالأماني ما على من ... يلم بها ولو كثروا غرور
ولا عنها لمن يأتي دفاع ... ولو حشد الأنام لهم (1) نفير 8 - ثم سبب ثامن: وهو لا من المحب ولا من المحبوب ولكنه من الله تعالى وهو اليأس، وفروعه ثلاثة، إما موت وإما بين لا يرجى معه أوبة، وإما عارض يدخل على المتحابين بعلة الحب التي من أجلها وثق المحبوب فيغيرها؛ وكل هذه الوجوه من أسباب السلو والتصبر.
وعلى المحب الناسي في هذا الوجه المنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة من الغضاضة والذم واستحقاق اسم اللوم والغدر غير قليل، وإن لليأس لعملاً في النفوس عجيباً، وثلجاً لحر الأكباد كبيراً؛ وكل هذه الوجوه المذكورة أولاً وآخراً فالتأني فيها واجب، والتربص على أهلها حسن، فيما يمكن فيه التأني ويصح لديه التربص، فإذا انقطعت الأطماع وانحسمت الآمال فحينئذ يقوم العذر.
وللشعراء فن من الشعر يذمون فيه الباكي على الدمن، ويثنون على المثابر على اللذات، وهذا يدخل في باب السلو؛ ولقد أكثر الحسن بن هانئ في هذا الباب وافتخر به، وهو كثيراً ما يصف نفسه بالغدر الصريح في أشعاره، تحكماً بلسانه واقتداراً على القول، وفي مثل هذا أقول شعراً منه: [من الخفيف]
__________
(1) برشيه: له.(1/254)
خل هذا وبادر الدهر وارحل ... في رياض الربى مطي العقار
واحدها بالبديع من نغمات ال ... عود كيما تحث بالمزمار
إن خيراً من الوقوف على الدا ... ر وقوف البنان بالأوتار
وبدا النرجس البديع كصب ... حائر الطرف مائلا كالمدار
لونه لون عاشق مستهام ... وهو لا شك هائم بالبهار ومعاذ الله أن يكون نسيان ما درس لنا طبعاً، ومعصية الله بشرب الراح لنا خلقاً، وكساد الهمة لنا صفة، ولكن حسبنا قول الله تعالى، ومن أصدق من الله قيلاً في الشعراء: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون} . (الشعراء: 224) . فهذه شهادة الله العزيز الجبار لهم، ولكن شذوذ القائل للشعر عن مرتبة الشعر خطأ.
وكان سبب هذه الأبيات أن " ضنى " العامريه، إحدى كرائم المظفر عبد الملك ابن أبي عامر، كلفتني صنعتها فأجبتها، وكنت أجلها؛ ولها فيها صنعة في طريقة النشيد والبسيط (1) رائقة جداً، ولقد أنشدتها بعض إخواني من أهل الأدب فقال سروراً بها: يجب أن توضع هذه في جملة عجائب الدنيا.
فجميع فصول هذا الباب كما ترى ثمانية: منها ثلاثة هي من المحب، اثنان منها يذم إلسالي فيهما على كل وجه، وهما الملل والاستبدال، وواحد منها يذم السالي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الحياء كما قدمنا. وأربعة من المحبوب، منها واحد يذم الناسي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الهجر الدائم، وثلاثة لا يذم السالي فيها على أي وجه كان ناسياً أو متصبراً، وهي النفار والجفاء والغدر، ووجه ثامن وهو من
__________
(1) هذان يمثلان ثلثي " النوبة " عند زرياب وغيره، والعنصر الثالث الأخير فيها هو " الهزج ".(1/255)
قبل الله عز وجل، وهو اليأس إما بموت أو بين أو آفة تزمن، والمتصبر في هذه معذور.
وعني أخبرك أني جبلت على طبيعتين لا يهنأني معهما عيش أبداً، وغني لأبرم بحياتي باجتماعهما وأود التغيب (1) من نفسي أحياناً لأفقد ما أنا بسببه من النكد من أجلهما وهما: وفاء لا يشوبه تلون قد استوت فيه الحضرة والمغيب، والباطن والظاهر، تولده الألفة التي لم تعزف (2) بها نفسي عما دربته، ولا تتطلع إلى عدم من صحبته، وعزة نفس لا تقر على الضيم، مهتمة لأقل ما يرد عليها من تغير المعارف، مؤثرة للموت عليه؛ فكل واحدة من هاتين السجيتين تدعو إلى نفسها وإني لأجفى فأحتمل، واستعمل الأناة الطويلة، والتلوم الذي لا يكاد يطيقه أحد، فإذا أفرط الأمر وحميت نفسي تصبرت، وفي القلب ما فيه، وفي ذلك أقول قطعة منها: [من البسيط]
لي خلتان أذاقاني الأسى جرعاً ... ونغصا عيشتي واستهلكا جلدي
كلتاهما تطبيني نحو جبلتها ... كالصيد ينشب بين الذئب والأسد
وفاء صدق فما فارقت ذا مقة ... فزال حزني عليه آخر الأبد
وعزة لا يحل الضيم ساحتها ... صرافة (3) فيه بالأموال والولد ومما يشبه ما نحن فيه، وإن كان ليس منه، ان رجلا من إخواني كنت أحللته من نفسي محلها، وأسقطت المؤونة بيني وبينه، وأعددته ذخراً وكنزاً، وكان كثير السمع من كل قائل، فدب ذوو النميمة بيني وبينه، فحاكوا له وأنجح سعيهم عنده، فانقبض عما كنت أعهده. فتربصت عليه مدة في مثلها أوب الغائب ورضى العاتب، فلم يزدد إلا انقباضاً فتركته وحاله.
__________
(1) معظم الطبعات: التثبت.
(2) برشيه: تصرف.
(3) بتروف: صرامة.(1/256)
- 28 -
باب الموت
ربما تزايد الأمر ورق الطبع وعظم الإشفاق فكان سبباً للموت ومفارقة الدنيا، وقد جاء في الآثار: " من عشق فعف فمات فهو شهيد " (1) . وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الوافر]
فإن أهلك هوى اهلك شهيداً ... (2) وإن تمنن بقيت قرير عين
روى هذا لنا قوم ثقات ... نأوا بالصدق عن جرح ومين ولقد حدثن أبو السري عمار بن زياد صاحبنا عمن يثق به: أن الكاتب ابن قزمان (3) امتحن بمحبة أسلم [بن أحمد بن سعيد بن قاضي
__________
(1) يروى. " من عشق فعف فكتم فمات، مات شهيداً " ويروى " من عشق فعف ثم مات مات شهيداً " ويروى " فهو شهيد ". وقد روي من طريق سويد بن سعيد مرفوعاً وأنكره ابن معين، ورواه غيره، وأخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور، والخطيب في تاريخ بغداد وابن عساكر في تاريخ دمشق، ووهنه ابن القيم في زاد المعاد (3: 324 والجواب الكافي: 174) وقول ابن حزم " في الآثار " دليل على أنه لا يصححه (انظر كشف الخفاء 2: 345 والاخبار الموضوعة: 352) ومع ذلك نجد ابن الجوزي (ذم الهوى: 326) يعتبره مصححاً؛ ورد في الموشى: 75 " من تعشق فعف فهو شهيد " (ولا ذكر فيه للموت) وانظر تزيين الأسواق 1: 6.
(2) اقتبس هذين البيتين العجلوني في كشف الخفاء 2: 345. وملا علي القاري في الأخبار الموضوعة: 353.
(3) ابن قزمان الكاتب: لعله أحمد بن كليب النحوي (انظر الجذوة: 134 والبغية رقم: 462 وانباه الرواة 1: 96 ومعجم الأدباء 4: 108 والمنتظم: 8: 83 (وجعل وفاته سنة 426 وبغية الوعاة 1: 354 وتزيين الأسواق 2: 6، ومصارع العشاق 1: 97 والنجوم الزاهرة 4: 281 وتاريخ ابن كثير 12: 38 وذم الهوى: 557) وقصة أحمد بن كليب وأسلم كما رواها الحميدي عن ابن حزم عن محمد بن الحسن المذحجي وردت في الجذوة والبغية والمنتظم ومصارع العشاق وذم الهوى ومعجم الأدباء وتزيين الأسواق؛ وديوان الصبابة: 244؛ وسأوردها ملحقة بالكتاب (انظر الملحق: 2) .(1/257)
الجماعة أسلم] بن عبد العزيز (1) أخي الحاجب هاشم بن عبد العزيز (2) . وكان أسلم غاية في الجمال، حتى أضجره لما به وأوقعه في أسباب المنية. وكان أسلم كثير الإلمام به والزيارة له ولا علم له بأنه أصل دائه إلى أن توفي أسفاً ودنفاً (3) .
قال المخبر: فأخبرت أسلم بعد وفاته بسبب علته وموته فتأسف وقال: هلا أعلمتني فقلت: ولم قال: كنت والله أزيد في صلته وما أكاد أفارقه، فما علي في ذلك ضرر.
وكان أسلم هذا من أهل الأدب البارع والتفنن، مع حظ من الفقه وافر، وذا بصارة في الشعر، وله شعر جيد، وله معرفة بالأغاني وتصرفها، وهو صاحب تأليف في طرائق غناء زرياب وأخباره،
__________
(1) هو أسلم بن أحمد بن سعيد بن أسلم بن عبد العزيز: (وجده أسلم بن عبد العزيز كان قاضي الجماعة بالأندلس أيام عبد الرحمن الناصر وتوفي سنة 319 وهذا الجد هو أخو هاشم الحاجب) كان له أدب وشعر، وشهر بتأليفه في أغاني زرياب الذي سيذكره ابن حزم في ما يلي (انظر الجذوة: 162 والبغية رقم: 570) ؛ والزيادة بين معقفين في ذلك، وإنما هو عشق أسلم الحفيد، الذي كان معاصراً لمحمد بن حسن المذحجي، ويدرس على محمد ابن خطاب النحوي المتوفى سنة 398 وقد فرق الحميدي بين الأسلمين بوضوح وجعل قصة الحب متعلقة بالحفيد منهما نصاً، وهو ادرى برواية ابن حزم.
(2) هاشم بن عبد العزيز: كان خاصاً بالأمير محمد بن عبد الرحمن يؤثره بالوزارة، ويرشحه مع بنيه ومفرداً للقيادة والامارة، وكان ذا خلال نبيلة من بأس وجود وفروسية وكتابة وشعر ونكبه المنذر بعد ذلك (الحلة السيراء 1: 137 والمغرب 2: 94) .
(3) هذه الرواية هنا غريبة، مع أن ابن حزم نفسه في روايته عن محمد بن الحسن المذحجي يذكر أن أشعار ابن كليب في أسلم تنوشدت في الأعراس، وانقطع اسلم عن جميع مجالس الطلب، ثم يروي حكايات عن تحيل ابن كليب للقائه الخ (انظر الملحق: 2) .(1/258)
وهو ديوان عجيب جداً، وكان أحسن الناس خلقاً وخلقاً، وهو والد أبي الجعد الذي كان ساكناً بالجانب الغربي من قرطبة.
وأنا اعلم جارية كانت لبعض الرؤساء فعزف عنها لشيء بلغه في جهتها لم يكن يوجب السخط، فباعها، فجزعت لذلك جزعاً شديداً وما فارقها النحول والأسف، ولا بان عن عينها الدمع إلى ان سلت، وكان ذلك سبب موتها؛ ولم تعش بعد خروجها عنه إلا أشهراً ليست بالكثيرة. ولقد أخبرتني عنها امرأة أثق بها أنها لقيتها وهي قد صارت كالخيال نحولاً ورقة فقالت لها: أحسب هذا الذي بك من محبتك لفلان، فتنفست الصعداء وقالت: والله لا نسيته أبداً، وإن كان جفاني بلا سبب. وما عاشت بعد هذا القول إلا يسيراً.
وأنا أخبرك عن أبي بكر أخي رحمه الله، وكان متزوجاً بعاتكة بنت قند (1) ، صاحب الثغر الأعلى أيام المنصور أبي عامر محمد ابن عامر، وكانت التي لا مرمى وراءها في جمالها وكريم خلالها، ولا تأتي الدنيا بمثلها في فضائلها، وكانا في حد الصبا وتمكن سلطانه تغضب كل واحد منهما الكلمة التي لا قدر لها، فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاتب مدة ثمانية أعوام، وكانت قد شفها حبه وأضناها الوجد فيه وأنحلها شدة كلفها به، حتى صارت كالخيال المتوهم (2) دنفاً، لا يلهيها من الدنيا شيء، ولا تسر من أموالها - على عرضها وتكاثرها - بقليل ولا كثير إذ فاتها اتفاقه معها وسلامته لها، إلى ان توفي أخي رحمه الله في الطاعون الواقع بقرطبة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعمائة، وهو ابن اثنين وعشرين سنة، فما انفكت منذ
__________
(1) انظر ليفي بروفنسال: (Histoire de l'Espagne Musulmane، Vol.ll، p.64،n3.) . وقند هذا (ويكتبه بروفنسال Kand وأحسبه خطأ) هو الذي استرد مدينة سالم في أيام الناصر (سنة 336/ 947) ويقول بروفنسال في تعليقه: " علينا ألا نخلط بين قند هذا وبين شخص آخر اسمه " قند الأكبر " وكان أيضاً مولى لعبد الرحمن الناصر ".
(2) بتروف: المتوسم؛ وتابعه على ذلك آخرون.(1/259)
بان عنها من السقم الدخيل والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام في اليوم الذي أكمل هو فيه تحت الأرض عاماً؛ ولقد أخبرتني عنها أمها وجميع جواريها أنها كانت تقول بعده: ما يقوي صبري ويمسك رمقي في الدنيا ساعة واحدة بعد وفاته إلا سروري وتيقني أنه لا يضمه وامرأة مضجع أبداً، فقد أمنت هذا الذي ما كنت أتخوف غيره، وأعظم آمالي اليوم اللحاق به. ولم يكن قبلها ولا معها امرأة غيرها، وهي كذلك لم يكن لها غيره، فكان كما قدرت، غفر الله لها ورضي عنها.
وأما خبر صاحبنا أبي عبد الله محمد بن يحيى [بن محمد] ابن الحسين التميمي، المعروف بابن الطبني (1) : فإنه كان رحمه الله كأنه قد خلق الحسن على مثاله او خلق من نفس كل من رآه، لم أشهد له مثلاً حسناً وجمالاً وخلقاً وعفة وتصاوناً وأدباً وفهماً وحلماً ووفاء وسؤدداً وطهارة وكرما ودماثة وحلاوة ولباقة وصبراً وإغضاء وعقلا ومروءة وديناً ودراية وحفظاً للقرآن والحديث والنحو واللغة، و [كان] شاعراً مفلقاً حسن الخط وبليغاً مفنناً، مع حظ صالح من الكلام والجدل، وكان من غلمان أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي (2) أستاذي في هذا الشأن، وكان بينه وبين أبيه اثنا عشر عاما في السن، وكنت أنا وهو متقاربين في الأسنان، وكنا أليفين لا نفترق، وخدنين لا يجري الماء بيننا إلا صفاء، إلى أن ألقت الفتنة جرانها وأرخت عزاليها، ووقع انتهاب جند البربر منازلنا في الجانب الغربي
__________
(1) بنو الطبني أًصلهم من منطقة الزاب في المغرب (الجزائر حالياً) ، أول من بنى بيت شرفهم بالاندلس أبو مضر زيادة الله بن علي الطبني إذ كان نديم محمد بن أبي عامر، وقد ترجم ابن بسام لعدد منهم (انظر 1/1: 535 - 547) وهناك فرع آخر من الطبنيين وهم: محمد ابن حسين الطبني وعقبه (الصلة: 562 والجذوة: 47) وقد كان لمحمد ابن هو يحيى، فأعقب يحيى ثلاثة من الأولاد وهم: أبو بكر ابراهيم (الجذوة: 149) وأبو عبد الله محمد، وهو هذا الذي كان صديقاً لابن حزم (الجذوة: 92) وأبو عمر القاسم وكان أيضاً أديباً شاعراً (الجذوة: 313 وسيذكره ابن حزم في ما يلي: 263) .
(2) قد مر التعريف به ص: 196.(1/260)
بقرطبة ونزولهم فيها، وكان مسكن أبي عبد الله في الجانب الشرقي ببلاط مغيث، وتقلبت بي الأمور إلى الخروج عن قرطبة وسكنى مدينة المرية، فكنا نتهادى النظم والنثر كثيراً، وآخر ما خاطبني به رسالة في درجها هذه الأبيات (1) : [من الخفيف]
ليت شعري عن حبل ودك هل يم ... سي جديداً لدي غير رثيث
وأراني أرى محياك يوماً ... وأناجيك في بلاط مغيث
فلو آن الديار ينهضها الشو ... (2) ق أتاك البلاط كالمستغيث
ولو آن القلوب تستطيع سيراً ... سار قلبي إليك سير الحثيث
كن كما شئت لي فإني محب ... ليس لي غير ذكركم من حديث
لك عندي وإن تناسيت عهد ... في صميم الفؤاد غير نكيث فكنا على ذلك إلى ان انقطعت دولة بني مروان وقتل سليمان الظافر أمير المؤمنين، وطهرت دولة الطالبية (3) وبويع علي بن حمود الحسني المسمى بالناصر (4) بالخلافة، وتغلب على قرطبة وتملكها واستمد في قتاله إياها بجيوش المتغلبين والثوار في أقطار الأندلس.
وفي إثر ذلك نكبي خيران صاحب المرية، إذ نقل إليه من لم يتق الله عز وجل من الباغين، وقد انتقم الله منهم، عني وعن محمد ابن إسحاق صاحبي أنا نسعى في القيام بدعوة الدولة الأموية، فاعتقلنا عند نفسه أشهراً ثم أخرجنا على جهة التغريب فصرنا إلى حصن القصر (5) ، ولقينا صاحبه أبو القاسم عبد الله بن هذيل التجيبي،
__________
(1) أورد الحميدي هذه الأبيات في الجذوة: 92 (وانظر البغية رقم: 316) .
(2) وقع هذا البيت بعد الذي يليه في الجذوة.
(3) دولة الطالبية يعني دولة بني حمود لأنهم ينتسبون إلى علي بن أبي طالب.
(4) انظر أخبار علي بن حمود (قتل سنة 408) في الجذوة: 21 وأعمال الأعلام: 128 والبيان المغرب 3: 119.
(5) حصن القصر (Aznalcazar) يقع إلى الجنوب الغربي من إشبيلية (ترجمة الروض: 73 التعليق: 1) .(1/261)
المعروف بان المقفل، فأقمنا عنده شهوراً في خير دار إقامة، وبين خير أهل وجيران، وعند أجل الناس همة وأكملهم معروفاً وأتمهم سيادة. ثم ركبنا البحر قاصدين بلنسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضى عبد الرحمن بن محمد، وساكناه بها، فوجدت ببلنسية أبا شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب القبري (1) صديقنا، فنعى إلى أبا عبد الله بن الطبني وأخبرني بموته رحمه الله، ثم أخبرني بعد ذلك بمديدة القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله المرادي (2) وأبو عمرو أحمد لن محرز أن أبا بكر المصعب بن عبد الله الأزدي المعروف بابن الفرضي (3) حدثهما - وكان والد المصعب هذا قاضي بلنسية أيام أمير المؤمنين المهدي (4) وكان المصعب لنا صديقاً وأخاً وأليفاً أيام طلبنا الحديث على والده وسائر شيوخ المحدثين بقرطبة - قالا، قال لنا المصعب: سألت أبا عبد الله بن الطبني عن سبب علته، وهو قد نحل وخفيت محاسن وجهه بالضنى فلم يبق إلا عين جوهرها المخبر عن صفاتها السالفة، وصار يكاد أن يطيره النفس، وقرب من الانحناء، والشجا باد على وجهه، ونحن منفردان. فقال لي: نعم، أخبرك أني كنت في باب داري بغدير ابن الشماس (5) في حين دخول علي بن
__________
(1) القبري نسبة إلى مدينة قبرة (Cabra) بالأندلس، وقد مر التعريف به ص: 119.
(2) هو ابن الصفار، وقد مر التعريف به ص: 214.
(3) أبو بكر المصعب بن عبد الله بن محمد الأزدي (ولد القاضي أبي الوليد المعروف بأبن الفرضي مؤلف تاريخ العلماء والرواة بالأندلس) وصفه الحميدي بأنه محدث اخباري شاعر ولي الحكم بالجزيرة (الجذوة: 330 والبغية رقم: 1376 والصلة: 593) .
(4) قام محمد بن هشام الملقب بالمهدي على هاشم المؤيد في جمادى الآخرة سنة 399، فإذا كانت ولاية ابن الفرضي القضاء له على بلنسية صحيحة فلا بد انها كانت فترة قصيرة، لأن المهدي لبث منذ قيامه إلى أن قتل ستة عشر شهراً، وقد ذكر ابن بشكوال أيضاً ان المهدي استقضى ابن الفرضي بكورة بلنسية (الصلة: 248) .
(5) بغدير ابن الشماس: القراءة مضطربة في مختلف الطبعات، وما اثبته هو قراءة بروفنسال، انظر الأندلس: 356 (التعليق رقم: 3) ويقول: ان غدير ابن الشماس حي من أحياء قرطبة، ويحيل القارئ على التكملة لابن الأبار تحقيق ابن أبي شنب (الجزائر 1920) رقم: 513، ص: 233 (ص: 193 من طبعة القاهرة) .(1/262)
حمود قرطبة (1) ، والجيوش واردة عليها في الجهات تتسارب، فرأيت في جملتهم فتى لم أقدر أن للحسن صورة قائمة حتى رأيته، فغلب علي عقلي وهام به لبي، فسألت عنه فقيل لي: هذا فلان ابن فلان، من سكان جهة كذا، ناحية قاصية عن قرطبة بعيدة المأخذ، فيئست من رؤيته بعد ذلك. ولعمري يا أبا بكر لا فارقني حبه أو يوردني رمسي، فكان ذلك.
وأنا اعرف ذلك الفتى وأدريه، وقد رأيته لكني أضربت عن اسمه لأنه قد مات، والتقى كلاهما عند الله عز وجل، عفا الله عن الجميع. هذا على أن عبد الله، أكرم الله نزله، ممن لم يكن له وله قط، ولا فارق الطريقة المثلى، ولا وطئ حراماً قط، ولا قارف منكراً، ولا أتى منهياً عنه يخل بدينه ومروءته؛ ولا قارض من جفا عليه، وما كان في طبقتنا مثله.
ثم دخلت أنا قرطبة في خلافة القاسم بن محمود المأمون (2) فلم أقدم شيئاً على قصد أبي عمر القاسم بن يحيى التميمي أخي [أبي] عبد الله رحمه الله، فسألته عن حاله وعزيته عن أخيه، وما كان أولى بالتعزية عنه مني، ثم سألته عن أشعاره ورسائله إذ كان الذي عندي منه قد ذهب بالنهب في السبب الذي ذكرته في صدر هذه الحكاية، فأخبرني عنه أنه لما قربت وفاته وأيقن بحضور المنية ولم يشك في الموت دعا بجميع شعره وبكتبي التي كنت خاطبته أنا بها، فقطعها كلها ثم أمر بدفنها. قال أبو عمر، فقلت له: يا أخي دعها تبقى.
__________
(1) دخلها في الثاني والعشرين من المحرم سنة 407.
(2) حكم القاسم بن حمود قرطبة بعد مقتل أخيه (408) وبقي حتى شهر ربيع الأول سنة 412 حين ثار عليه ابن أخيه (يحيى بن علي) فهرب القاسم عن قرطبة بلا قتال.(1/263)
فقال: إني أقطعها وأنا أدري أني أقطع فيها أدباً كثيراً، ولكن لو كان أبو محمد - يعنيني - حاضراً لدفعتها إليه تكون عنده تذكرة لمودتي، ولكني لا أعلم أي البلاد اضمرته ولا أحي هو أم ميت؛ وكانت نكبتي اتصلت به ولم يعلم مستقري ولا إلى ما آل إليه أمري؛ فمن مراثي له قصيدة منها: [من المتقارب] .
لئن سترتك بطون اللحود ... فوجدي بعدك لا يستتر
قصدت ديارك قصد المشوق ... وللدهر فينا كرور ومر
فألفيتها منك قفراً خلاء ... فأسكبت عيني عليك العبر وحدثني أبو القاسم الهمذاني (1) رحمه الله قال: كان معنا ببغداد أخ لعبد الله بن يحيى بن أحمد بن دحون الفقيه (2) ، الذي عليه مدار الفتيا بقرطبة، وكان أعلم من أخيه وأجل مقداراً، ما كان في أصحابنا ببغداد مثله، وأنه اجتاز يوماً بدرب قطنة (3) ، في زقاق لا ينفذ، فدخل فيه فرأى في أقصاه جارية واقفة مكشوفة الوجه، فقالت له: يا هذا إن الدرب لا ينفذ، قال: فنظر إليها فهام بها. قال: وانصرف إلينا فتزايد
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمذاني (أو الهمداني) الوهراني المعروف بابن الخراز، رحل إلى المشرق ولقي الأبهري أبا بكر وغيره، وكان رجلاًُ صالحاً منقبضاً، داره ببجانة، وكان معاشه يبتاعه ببجانة ويقصرها ويحملها إلى قرطبة فتباع له ويبتاع بثمنها ما يصلح لبجانة، ويجلب معه كتبه فتقرأ عليه من خلال ذلك، وكان يرد قرطبة كل عام إلى ان وقعت الفتنة، وتوفي سنة 411، وروى عنه ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما (الصلة: 305 والجذوة 256 والبغية رقم: 1022) قلت: وقد ورد " الهمذاني " بالذال المعجمة بضبط ابن بشكوال، وفي الجذوة بالمهملة، والأولى أرجح، رغم أنه وهراني.
(2) هو أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أحمد المعروف بابن دحون (- 431هـ) . كان من جلة الفقهاء وكبارهم عارفاً بالفتوى حافظاً للرأي على مذهب مالك وأصحابه عارفاً بالشروط وعللها، عمر وأسن وانتفع الناس به (الصلة: 260) .
(3) لم يذكر لسترانج في كتابه:
(Baghdad During the Abbasid Caliphate)
درباً بهذا الاسم؛ وأقرب ما وجدته هنالك " دار القطنية " (أي قصر سوق القطن) فلعل هنالك درباً مجاورة له كانت تسمى " درب القطنية " ويلي هذا من حيث شكل الكلمة " درب قحطبة " (140، 141) .(1/264)
عليه أمرها، وخشي الفتنة فخرج إلى البصرة فمات عشقاً رحمه الله، وكان فيما ذكر من الصالحين.
حكاية لم أزل أسمعها عن بعض ملوك البرابر: أن رجلاً أندلسياً باع جارية كان يجد بها وجداً شديداً، لفاقة أصابته، من رجل من أهل ذلك البلد، ولم يظن بائعها أن نفسه تتبعها ذلك التتبع؛ فلما حصلت عند المشتري كادت نفس الأندلسي تخرج، فأتى إلى الذي ابتاعها منه وحكمه في ماله أجم وفي نفسه، فأبى عليه، فتحمل عليه بأهل البلد فلم يسعف منهم أحد، فكاد عقله ان يذهب، ورأى أن يتصدى إلى الملك، فتعرض له وصاح، فسمعه فأمر بإدخاله، والملك قاعد في علية له مشرفة عالية، فوصل إليه، فلما مثل بين يديه أخبره بقصته واسترحمه وتضرع إليه، فرق له الملك، فأمر بإحضار الرجل المبتاع فحضر، فقال له: هذا رجل غريب وهو كما تراه، وأنا شغفه إليك، فأبى المبتاع وقال: أنا أشد حباً لها منه، وأخشى إن صرفتها إليه أن أستغيث بك غداً وأنا في أسوأ من حالته، فأذم (1) له الملك ومن حواليه من أموالهم، فأبى ولج واعتذر بمحبته لها، فلما طال المجلس ولم يروا منه البتة جنوحاً إلى الاسعاف قال للأندلسي: يا هذا، مالك بيدي أكثر مما ترى، وقد جهدت لك بأبلغ سعي، وهو [ذا] تراه يعتذر بأنه فيها أحب منك وأنه يخشى على نفسه شراً أنت فيه، فاصبر لما قضى الله عليك. فقال الأندلسي: فما لي بيدك حيلة قال له: وهل هاهنا غير الرغبة والبذل ما أستطيع لك أكثر. فلما يئس الأندلسي منها جمع يديه ورجليه وانصب من أعلى العلية إلى الأرض، فارتاع الملك وصرخ، فابتدر الغلمان من أسفل، فقضي انه لم يتأذ في ذلك الوقوع كبير أذى، فصعد به إلى الملك، فقال: ماذا أردت بهذا فقال: أيها الملك، لا سبيل إلى الحياة بعدها، ثم هم أن يرمي نفسه ثانية،
__________
(1) أذموا له: أي تكفلوا له بشيء من أموالهم؛ وعند بتروف: فرام؛ وقرأها برشيه حسب المعنى: فرغبه.(1/265)
فمنع، فقال الملك: الله أكبر، قد ظهر وجه الحكم في هذه المسألة، ثم التفت إلى المشتري فقال: يا هذا، إنك ذكرت أنك أود لها منه وتخاف أن تصير في مثل حاله، فقال: نعم، قال: فإن صاحبك هذا أبدى عنوان محبته وقذف بنفسه يريد الموت لولا ان الله عز وجل وقاه، فأنت قم فصحح حبك، وترام من أعلى هذه القصبة كما فعل صاحبك، فإن مت فبأجلك وإن عشت كنت أولى بالجارية، إذ هي في يدك ويمضي صاحبك عنك وإن أبيت نزعت الجارية منك رغماً ودفعتها إليه، فتمنع ثم قال: أتراني، فلما قرب من الباب ونظر إلى الهوى تحته رجع القهقري، فقال له الملك: هو والله ما قلت، فهم ثم نكل، فلما لم يقدم قال له الملك: لا تتلاعب بنا، يا غلمان، خذوا بيديه وارموا به إلى الأرض، فلما رأى العزيمة قال: أيها الملك، قد طابت نفسي بالجارية، فقال له: جزاك الله خيراً؛ فاشتراها منه ودفعها إلى بائعها، وانصرفا.(1/266)
- 29 -
باب قبح المعصية
قال المصنف رحمه الله تعالى: وكثير من الناس يطيعون أنفسهم ويعصون عقولهم، ويتبعون أهواءهم، ويرفضون اديانهم، ويتجنبون ما حض الله تعالى عليه ورتبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي ومقارعة (1) الهوى، ويخالفون الله ربهم ويوافقون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطبة، فيواقعون المعصية في حبهم.
وقد علمنا ان الله عز وجل ركب في الإنسان طبيعتين متضادتين: إحداهما لا تشير إلا بخير ولا تحض إلا على حسن، ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضي، وهي العقل، وقائده العدل؛ والثانية ضد لها، لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الردى، وهي النفس، وقائدها الشهوة، والله تعالى يقول: {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53) وكنى بالقلب عن العقل فقال: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق: 37) . وقال تعالى: {وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} (الحجرات: 7) . وخاطب أولي الألباب.
فهاتان الطبيعتان قطبان في الإنسان، وهما قوتان من قوى الجسد الفعال بهما، ومطرحان من مطارح شعاعات هذين الجوهرين العجيبين
__________
(1) قراءة مقبولة، ولكن برشيه يقرؤها: ومفارقة.(1/267)
الرفيعين العلويين (1) ، ففي كل جسد منهما حظه على قدر مقابلته لهما في تقدير الواحد الصمد، تقدست أسماؤه، حين خلقه وهيأه؛ فهما يتقابلان أبداً ويتنازعان دأباً، فإذا غلب العقل النفس ارتدع الانسان وقمع عوارضه المدخولة واستضاء بنور الله وابتع العدل، وإذا غلبت النفس العقل عميت البصيرة، ولم يضح الفرق بين الحسن والقبيح، وعظم الالتباس وتردى في هوة الردى ومهواة الهلكة، وبهذا حسن الأمر والنهي، ووجب الامتثال (2) ، وصح الثواب والعقاب، واستحق الجزاء. والروح واصل بين هاتين الطبيعتين، وموصل ما بينهما، ومحل (3) الالتقاء بهما، وإن الوقوف عند حد الطاعة لمعدوم إلا بطول الرياضة وصحة المعرفة ونفاذ التمييز، ومع ذلك اجتناب التعرض للفتن ومداخلة الناس جملة والجلوس في البيوت، وبالحرى أن تقع السلامة المضمونة أو يكون الرجل حصوراً لا أرب له في النساء ولا جارحة له تعينه عليهن. وقديماً ورد: " من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي شر الدنيا بحذافيرها " (4) ؛ واللقلق: السان، والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج.
ولقد أخبرني أبو حفص الكاتب (5) ، وهو من ولد روح بن زنباع الجذامي (6) ، انه سمع بعض المتسمين باسم الفقه من أهل الرواية المشاهير، وقد سئل عن هذا الحديث فقال: القبقب: البطيخ.
__________
(1) إذا كانت النفس لا تشير إلا إلى الشهوات ولا تقود إلا إلى الردى - كما يقول ابن حزم فكيف تكون جوهراً عجيباً رفيعاً علوياً! هنا يبدو الخلط الشديد بين النفس " الامارة بالسوء " والنفس التي " هبطت إليك من المحل الأرفع ".
(2) في بعض الطبعات: الاكتمال.
(3) بتروف والصيرفي ومكي: وحامل.
(4) انظر اللسان (لقق) وعده حديثاً، وانظر الجامع الصغير 2: 183) .
(5) أرجح أنه أبو حفص أحمد بن محمد بن أحمد بن برد الكاتب، وقد كان يتردد على ابن حزم بالمرية (الجذوة: 107) .
(6) روح بن زنباع الجذامي: أحد رجالات العصر الأموي شجاعة وخطابة وقدرة قيادية (توفي 84/ 703) انظر: تهذيب ابن عساكر 5: 337 وتاريخ ابن كثير 9: 54؛ وقد كانت دار جذام بالأندلس: شذونة والجزيرة وتدمير واشبيلية (جمهرة ابن حزم: 421) .(1/268)
وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد (1) ثنا وهب بن مسرة (2) ومحمد ابن أبي دليم (3) عن محمد بن وضاح (4) عن يحيى بن يحيى (5) عن مالك ابن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: " من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة " فسئل عن ذلك فقال: " ما بين لحييه وما بين رجليه " (6) .
وإني لأسمع كثيراً ممن يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء، فأطيل العجب من ذلك، وإن لي قولاً لا احول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء، وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك، ولم يكن ثم من مانع، إلا وقع في شرك الشيطان، واستهوته المعاصي، واستفزه الحرص وتغوله الطمع، وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته، حتماً مقضياً وحكماً نافذاً لا محيد عنه البتة (7) .
__________
(1) هو ابن الجسور كما تقدم (ص: 174) ووهم الدكتور الطاهر مكي فظنه ابن برد الذي مر آنفاً، وابن برد لم يكن محدثاً (انظر طوق الحمامة تحقيق د. مكي: 162 الحاشية رقم: 4) .
(2) وهب بن مسرة الحجاري التميمي أبو الحزم (- 346) حضر إلى قرطبة وأخرجت إليه أصول محمد بن وضاح التي سمع فيها (ابن الفرضي 2: 161) .
(3) هو محمد بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم (- 372) قرطبي يكنى أبا عبد الله، وكان ضابطاً لكتبه ثقة مأموناً مجتهداً عابداً عاش صرورة (ابن الفرضي 2: 85 وترتيب المدارك 4: 441) ووهم الدكتور الظاهر مكي فترجم لأخيه عبد الله بن محمد في موضعه.
(4) محمد بن وضاح (200 - 287) قرطبي، رحل إلى المشرق مرتين وسمع كثيراً وكان عالماً بالحديث بصيراً بطرقه ورعاً متعففاً (ابن الفرضي 2: 17 والجذوة: 87) .
(5) يحيى بن يحيى الليثي (- 234) تلميذ مالك، وناشر مذهبه في الأندلس، سمع منه مشايخ الاندلس في وقته ونال حظوة وجلالة ذكر (ابن الفرضي 2: 176 والجذوة359) .
(6) ورد هذا الحديث في الموطأ (كلام: 11) والترمذي (زهد: 61) ومسند أحمد 5: 362 وانظر البخاري (رقاق: 23، حدود: 19) ومسند أحمد 5: 333.
(7) يتجاوز ابن حزم هنا موقف الجاحظ الذي جعل سهولة الانقياد من نصيب المرأة وحدها، وكأنه يرد عليه (الحيوان 1: 169 - 170) .(1/269)
ولقد أخبرني ثقة صدق من إخواني من أهل التمام في الفقه والكلام والمعرفة وذو صلابة في دينه، أنه احب جارية نبيلة أديبة ذات جمال بارع، قال: فعرضت لها فنفرت، ثم عرضت فأبت، فلم يزل الأمر يطول وحبها يزيد، وهي لا تطيع البتة، إلى ان حملني فرط حبي لها مع عمى الصبا على أن نذرت أني متى نلت منها مرادي أتوب إلى الله توبة صادقة؛ قال: فما مرت الأيام والليالي حتى أذعنت بعد شماس ونفار؛ فقلت له: أبا فلان، وفيت بعهدك فقال: أي والله، فضحكت.
وذكرت بهذه الفعلة ما لم يزل يتداول في أسماعنا من ان في بلاد البربر التي تجاوز أندلسنا يتعهد (1) الفاسق على انه إذا قضى وطره ممن أراد أن يتوب إلى الله، فلا يمنع من ذلك، وينكرون على من تعرض له بكلمة ويقولون له: أتحرم رجلاً مسلماً التوبة.
قال: ولعهدي بها تبكي وتقول: والله لقد بلغتني مبلغاً ما خطر قط لي ببال، ولا قدرت ان أجيب إليه أحداً.
ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجوداً، وأعوذ بالله أن أظن غير هذا، وإني رأيت الناس يغلطون في معنى هذه الكلمة، أعني " الصلاح " غلطاً بعيداً. والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل الفواحش تحيلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل؛ والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق ولا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء، ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة التركيب؛ والفاسق من يعاشر أهل النقص وينشر بصره إلى
__________
(1) برشيه: يتوب.(1/270)
الوجوه البديعة الصنعة، ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات (1) ؛ والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تحرك، والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء.
وأما امرأة مهملة ورجل متعرض فقد هلكا وتلفا؛ ولهذا حرم على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية، وقد جعلت النظرة الأولى لك والأخرى عليك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تأمل امرأة وهو صائم حتى يرى حجم عظامها فقد أفطر " (2) . وإن فيما ورد من النهي عن الهوى بنص التنزيل لشيئاً مقنعا؛ وفي إيقاع هذه الكلمة، أعني " الهوى " اسماً على معان، وفي اشتقاقها عند العرب دليل على ميل النفوس وهويها إلى هذه المقامات. وإن المتمسك عنها مقارع لنفسه محارب لها.
وشيء أصفه لك تراه عياناً: وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكان تحس أن رجلاً يراها أو يسمع حسها إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت بمعزل، واتت بكلام زائد كانت عنه في غنية، مخالفين لكلامها وحركتها قبل ذلك؛ ورأيت التهمم لمخارج لفظها وهيئة تقلبها لائحاً فيها ظاهراً عليها لا خفاء به؛ والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء. وأما إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل واجتياز الرجل بالمرأة فهذا أشهر من الشمس في كل مكان. والله عز وجل يقول: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} وقال تقدست أسماؤه: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} (النور: 30 - 31) . فلولا علم الله عز وجل بدقة (3) إغماضهن في
__________
(1) برشيه: المهلكة.
(2) لم أجده نصاً، ومما هو بسبيله ما جاء في مصنف عبد الرزاق: (4: 193) : من تأمل خلق امرأة وهو صائم بطل صومه.
(3) جميع الطبعات: برقة.(1/271)
السعي لإيصال حبهن إلى القلوب، ولطف كيدهن في التحيل لاستجلاب الهوى، لما كشف الله عن هذا المعنى البعيد الغامض الذي ليس وراءه مرمى، وهذا حد التعرض فكيف بما دونه.
ولقد اطلعت من سر معتقد الرجال والنساء في هذا على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم أحسن قط بأحد ظناً في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في.
وحدثنا أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد، ثنا احمد، ثنا محمد ابن عيسى بن رفاعة، حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم ابن سلام عن شيوخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغيرة من الإيمان " (1) فلم أزل باحثاً عن أخبارهن كاشفاً عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن. ولولا أن أكون منبهاً على عوارت يستعاذ بالله منها لأوردت من تنبههن في الشر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب.
وإني لأعرف هذا وأتيقنه، ومع هذا يعلم الله - وكفى به عليماً - أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة، نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا، والله المحمود على ذلك، والمشكور فيما مضى، والمستعصم فيما بقي.
حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن ابن جحاف المعافري (2) - وإنه لأفضل قاض رايته - عن محمد
__________
(1) ورد الحديث في صحيح مسلم (توبة: 38) ومسند أحمد 2: 235، 438، 301.
(2) توفي القاضي أبو عبد الرحمن (سنة 417، أو 418) ؛ وقد اثنى عليه ابن حزم - حسب رواية الحميدي بقوله: هو أفضل قاض رأيته ديناً وعقلاً وتصاوناً مع حظه الوافر من العلم (الجذوة: 225 والصلة: 244) .(1/272)
ابن إبراهيم الطليطلي (1) ، عن القاضي بمصر بكر بن العلاء (2) ، في قول الله عز وجل: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11) أن لبعض المتقدمين فيه قولاً، وهو أن المسلم يكون مخبراً عن نفسه بما أنعم الله تعالى به عليه من طاعة ربه التي هي من أعظم النعم، ولاسيما في المفترض على المسلمين اجتنابه واتباعه.
وكان السبب فيما ذكرته أني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة وتمكن غرارة الفتوة مقصوراً محظراً علي بين رقباء ورقائب؛ فلما ملكت نفسي وعقلت صحبت أبا علي الحسين بن علي الفاسي في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي (3) شيخنا وأستاذي رضي الله عنه، وكان أبو علي المذكور عاقلاً عاملاً، ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح وفي الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة، وأحسبه كان حصوراً لأنه لم تكن له امرأة قط، وما رأيت مثله جملة علماً وعملاً وديناً وورعاً، فنفعني الله به كثيراً وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي. ومات أبو علي رحمه الله في طريق الحج.
ولقد ضمني المبيت ليلة في بعض الأزمان عند امرأة من بعض معارفي مشهورة بالصلاح والخير والحزم، ومعها جارية من بعض قراباتها من اللاتي قد ضمتها معي النشأة في الصبا، ثم غبت عنها أعواماً كثيرة، وكنت تركتها حين أعصرت ووجدتها قد جرى على وجهها ماء الشباب ففاض وانساب، وتفجرت عليها ينابيع الملاحة فترددت وتحيرت، وطلعت في سماء وجهها نجوم الحسن فأشرقت
__________
(1) هو دون ريب محمد بن ابراهيم بن اسماعيل الطليطلي ويعرف بابن المشكيالي، وقد رحل إلى المشرق، وسمع بمصر بكر بن العلاء القشيري، سمع منه كتابه في أحكام القرآن، وكان ورعاً متقللاً من الدنيا، توفي سنة 400 (الصلة: 461) .
(2) انظر التعليق السابق.
(3) قد مر التعريف بهما، ص: 196، 197.(1/273)
وتوقدت، وانبعث في خديها أزاهير الجمال فتمت واعتمت، فأتت كما أقول: [من البسيط]
خريدة صاغها الرحمن من نور ... جلت ملاحتها عن كل تقدير
لو جاءني عملي في حسن صورتها ... يوم الحساب ويوم النفخ في الصور
لكنت أحظى عباد الله كلهم ... بالجنتين وقرب الخرد الحور وكانت من أهل بيت صباحة، وقد ظهرت منها (1) صورة تعجز الوصاف، وقد طبق وصف شبابها قرطبة، فبت عندها ثلاث ليال متوالية، ولم تحجب عني على جاري العادة في التربية؛ فلعمري لقد كاد قلبي أن يصبو ويثوب إليه مرفوض الهوى، ويعاوده منسي الغزل. ولقد امتنعت بعد ذلك من دخول تلك الدار خوفاً على لبي أن يزدهيه الاستحسان؛ ولقد كانت هي وجميع أهلها ممن لا تتعدى الأطماع إليهن، ولكن الشيطان غير مأمون الغوائل، وفي ذلك أقول: [من الكامل المجزوء]
لا تتبع النفس الهوى ... ودع التعرض للمحن
إبليس حي لم يمت ... والعين باب للفتن وأقول: [من المجتث]
وقائل لي: هذا ... ظن يزيدك غيا
فقلت: دع عنك لومي ... أليس إبليس حيا وما أورد الله تعالى علينا من قصة يوسف بن يعقوب وداود بن يشي (2) رسل الله عليهم السلام إلا ليعلمنا نقصاننا وفاقتنا إلى
__________
(1) بعض الطبعات: على.
(2) أثبت هذه الصورة من الاسم لأنها تطابق (Jesse) مع ابدال السين شيناً في التعريب (انظر: (The Legends of the Jews، Vol. 4، p. 81) .
وهو " يسي " - بالسين المهملة - في العهد القديم.(1/274)
عصمته، وان بنيتنا مدخولة ضعيفة، فإذا كانا صلى الله عليهما وهما نبيان رسولان ابنا أنبياء رسل ومن أهل بيت نبوة ورسالة، مكرمين (1) في الحفظ، مغموسين في الولاية، محفوفين بالكلاءة، مؤيدين بالعصمة، لا يجعل للشيطان عليهما سبيل، ولا فتح لوسواسه نحوهما طريق، وبلغا حيث نص الله عز وجل علينا في قرآنه المنزل بالجملة المؤصلة، والطبع البشري والخلقة الأصيلة، لا بتعمد الخطيئة ولا القصد إليها - إذ النبيون مبرؤون من كل ما خالف طاعة الله عز وجل، لكنه استحسان طبيعي في النفس للصور - فمن ذا الذي يصف نفسه بملكها ويتعاطى ضبطها إلا بحول الله وقوته! وأول دم سفك في الأرض فدم أحد ابني آدم على سبب المنافسة في النساء (2) ؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء " (3) وهذه امرأة من العرب تقول، وقد حبلت من ذي قرابة لها، حين سئلت: ما ببطنك يا هند فقالت: قرب الوساد وطول السواد (4) ؛ وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الرمل]
لا تلم من عرض النفس لما ... ليس يرضي غيره عند المحن
لا تقرب عرفجاً من لهب ... ومتى قربته قامت دخن
لا تصرف ثقة في أحد ... فسد الناس جميعاً والزمن
خلق النسوان للفحل كما ... خلق الفحل بلا شك لهن
كل شكل يتشهى شكله ... لا تكن عن أحد تنفي الظنن
__________
(1) بتروف: متكررين؛ برشيه: متبحرين.
(2) انظر قصة قابيل وهابيل في عرائس المجالس للثعلبي: 43 - 47.
(3) باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء: ذكره ابن الحاج في " المدخل " في صلاة العيدين، وذكره ابن جماعة في " منسكه " في طواف النساء، ولم يورد له سنداً؛ وقال ملا علي القاري: انه غير ثابت (الأخبار الموضوعة: 145) غير ان ابن حزم لا يورده هكذا إلا وهو يصححه من وجه ما.
(4) ذكر هذا عن ابنة الخس، وذلك أنه قيل لها: لم زنيت بعبدك ولم تزني بحر، وما أغراك به، قالت: طول السواد وقرب الوساد (الحيوان 1: 169 ولمح الملح للحظيري، الورقة: 49/أ) .(1/275)
صفة الصالح من إن صنته ... عن قبيح أظهر الطوع الحسن
وسواه من ذا ثقفته ... أعمل الحيلة في خلع الرسن وإني لأعلم فتى من أهل الصيانة قد أولع بهوى له، فاجتاز بعض إخوانه فوجده قاعداً مع من كان يحب، فاستجلبه إلى منزله، فأجابه إلى منزله بامتثال المسير بعده، فمضى داعيه إلى منزله وانتظره حتى طال عليه التربص فلم يأته، فلما كان بعد ذلك اجتمع به داعيه فعدد عليه وأطال لومه على إخلافه موعده، فاعتذر وورى، فقلت أنا للذي دعاه: أنا أكشف عذره صحيحاً من كتاب الله عز وجل إذ يقول: {ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم} (طه: 87) فضحك من حضر، وكلفت أن أقول في ذلك شيئاً فقلت: [من الطويل] .
وجرحك لي جرح جبار فلا تلم ... ولكن جرح الحب غير جبار
وقد صارت الخيلان وسط بياضه ... كنيلوفر حفته روض بهار
وكم قال لي من مت وجداً بحبه ... مقالة محلول المقالة زاري
وقد كثرت مني إليه مطالب ... ألح عليه تارة وأداري:
أما في التداني ما يبرد غلة ... ويذهب شوقاً في ضلوعك ساري
فقلت له: لو كان ذلك لم تكن ... عداوة جار في الأنام لجار
وقد يتراءى العسكران لدى الوغى ... وبينهما للموت سبل بوار ولي كلمتان قلتهما معرضاً - بل مصرحاً - برجل من أصحابنا كنا نعرفه من أهل الطلب والعناية والورع وقيام الليل واقتفاء آثار النساك وسلوك مذاهب المتصوفين القدماء، باحثاً مجتهداً، وقد كنا نتجنب المزاح بحضرته، فلم يمض الزمن حتى مكن الشيطان من نفسه، وفتك بعد لباس النساك، وملك إبليس من خطامه فسول له الغرور، وزين له الويل والثبور، وأجره رسنه بعد إباء، وأعطاه ناصيته بعد(1/276)
شماس، فخب في طاعته وأوضع، واشتهر بعد ما ذكرته في بعض المعاصي القبيحة الوضرة. ولقد أطلت ملامة وتشددت في عذله إذ أعلن بالمعصية بعد استتار، إلى ان أفسد ذلك ضميره علي، وخبثت نيته لي، وتربص بي دوائر السوء، وكان بعض أصحابنا يساعده بالكلام استجراراً إليه، فيأنس به ويظهر له عداوتي، إلى أن أظهر لله سريرته، فعلمها البادي والحاضر، وسقط من عيون الناس كلهم بعد أن كان مقصداً للعلماء ومنتاباً للفضلاء، ورذل عند إخوانه جملة، أعاذنا الله من البلاء، وسترنا في كفايته، ولا سبلنا ما بنا من نعمته.
فيا سوءتاه لمن بدأ بالاستقامة ولم يعلم أن الخذلان يحل به، وأن العصمة ستفارقه!! لا إله إلا الله، ما أشنع هذا وأفظعه!! لقد دهمته إحدى بنات الحرس، وألقت عصاها به أم طبق (1) من كان الله أولاً ثم صار للشيطان آخراً، ومن إحدى الكلمتين: [من البسيط] .
أما الغلام فقد حانت فضيحته ... وانه كان مستوراً وقد هتكا
ما زال يضحك من أهل الهوى عجباً ... فالآن كل جهول منه قد ضحكا
إليك لا تلح صبا هائماً كلفاً ... يرى التهتك في دين الهوى نسكا
قد كان دهراً يعاني النسك مجتهداً ... (3) يعد (2) في نسكه كل امرئ مسكا
ذو محبر وكتاب لا يفارقه ... نحو المحدث يسعى حيث ما سلكا
فاعتاض من سمر أقلام بنان فتى ... كأنه من لجين صيغ أو سبكا
يا لائمي سفهاً في ذاك قل فلم ... تشهد حبيبين يوم الملتقى اشتبكا
دعني ووردي في الآبار اطلبه ... (4) إليك عني كذا لا أبتغي البركا
__________
(1) الحرس: الدهر، وبناته مصائبه؛ وأم طبق أو بنات طبق: الشدة، أو الداهية، وأصله للحية، إذ يقال لها أم طبق.
(2) بتروف: يعدل.
(3) المسك: البخيل (أي ان كل امرئ إذا قيس إلى نسكه عد مقصراً) ؛ وعند بتروف: نسكا، وقرأها برشيه: نهكا.
(4) يستعمل ابن حزم في هذا البيت وما يليه من أبيات نوعاً من التعريض الجارح.(1/277)
إذا تعففت عف الحب عنك وغن ... تركت يوماً فإن الحب قد تركا
ولا تحل من الهجران منعقداً ... إلا اذا ما حللت الأزر والتككا
ولا تصحح للسلطان مملكة ... أو تدخل البرد عن إنفاذه السككا
ولا بغير كثير المسح يذهب ما ... يعلو الحديد من الأصداء ان سبكا وكان هذا المذكور من أصحابنا قد احكم القراءات إحكاماً جيداً، واختصر كتاب الأنباري في الوقف والابتداء (1) اختصاراً حسناً أعجب به من رآه من المقرئين، وكان دائباً على طلب الحديث وتقييده، والمتولي لقراءة ما يسمعه على الشيوخ المحدثين، مثابراً على النسخ مجتهداً به، فلما امتحن بهذه البلية مع بعض الغلمان رفض ما كان معتنياً به وباع أكثر كتبه واستحال كلية، نعوذ بالله من الخذلان. وقلت فيه كلمة وهي التالية للكلمة التي ذكرت منها في أول خبره ثم تركتها.
وقد ذكر أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي (2) في كتاب " اللفظ والإصلاح " أن إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة، مع علو طبقته في الكلام وتمكنه وتحكمه في المعرفة، تسبب إلى ما حرم الله عليه من فتى نصراني عشقه بان وضع له كتاباً في تفضيل
__________
(1) المقصود هنا محمد بن القاسم بن محمد أبو بكر الانباري (271 - 328) وهو شارح المفضليات والسبع الطوال (انظر ترجمته في الفهرست: 82 وانباه الرواة 3: 201 وتاريخ بغداد 3: 181 وابن خلكان 4: 341 وغاية النهاية 2: 230 ومعجم الأدباء 18: 306) وقد طبع كتابه المشار إليه بعنوان " ايضاح الوقف والابتداء " في جزءين، تحقيق محيي عبد الرحمن رمضان، بعناية مجمع اللغة العربية بدمشق 1971 وقد دخل الأندلس بعدة روايات منها رواية شريح بن محمد عن أبي جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز اليحصبي بمصر عن ابن الشعيري عن المؤلف (ابن خير: 44 - 45 والصلة: 215 الترجمة رقم 498) .
(2) الراوندي أو الريوندي أو الروندي (- 245) : متكلم من أهل مرو الروذ، خرج على المعتزلة وأعلن إلحاده في كتب مختلفة، انظر الفهرست 216 وابن خلكان 1: 94 والمنتظم 6: 99 وكتاب الانتصار للخياط ورسالة الغفران: 461 وانظر عنه مقالة للدكتور يوسف فان إس في مجلة الأبحاث (السنة: 27) ؛ ولم يذكر ابن النديم " اللفظ والاصلاح " بين كتبه.(1/278)
التثليث على التوحيد؛ فيا غوثاه!!! عياذك يا رب من تولج الشيطان ووقوع الخذلان.
وقد يعظم البلاء وتكلب الشهوة، ويهون القبيح، ويرق الدين حتى يرضى الإنسان في جنب وصوله إلى مراده بالقبائح والفضائح، كمثل ما دهم عبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الجزيري (1) ، فإنه رضي بإهمال داره وإباحة حريمه والتعريض بأهله طمعاً في الحصول على بغيته من فتى كان علقه - نعوذ بالله من الضلال ونسأله الحياطة وتحسين آثارنا وإطابة أخبارنا - حتى لقد صار المسكين حديثاً تعمر به المحافل، وتصاغ فيه الأشعار، وهو الذي تسميه العرب الديوث - وهو مشتق من التدييث، وهو التسهيل، وما بعد تسهيل من تسمح نفسه بهذا الشأن تسهيل، ومنه بعير مديث، أي مذلل. ولعمري إن الغيرة لتوجد في الحيوان بالخلقة (2) ، فكيف وقد أكدتها عندنا الشريعة، وما بعد هذا مصاب.
ولقد كنت اعرف هذا المذكور مستوراً إلى أن استهواه الشيطان، ونعوذ بالله من الخذلان، وفيه يقول عيسى بن محمد بن مجمل (3) الخولاني: [من الكامل]
يا جاعلاً إخراج حر نسائه ... شركاً لصيد جآذر الغزلان
إني أرى شركاً يمزق ثم لا ... تحظى بغير مذلة الحرمان
__________
(1) مر ذكره من قبل: 178.
(2) يقول ابن حزم في الغيرة (رسائل: 141) : الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل؛ ويقول: إذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة.
(3) ترجم له الحميدي (الجذوة: 281 والبغية رقم: 1155) باسم عيسى بن مجمل، وقال كان أديباً تاجراً شاعراً من أهل قرطبة مشهوراً، وأورد له قطعتين في التذمر من قوم زاروه فقعدوا في دكانه ومنعوه من معيشته.(1/279)
وأقول أنا أيضاً: [من الطويل] .
أباح أبو مروان حر نسائه ... ليبلغ ما يهوى من الرشأ الفرد
فعاتبته الديوث في قبح فعله ... (1) فأنشدني إنشاد مستبصر جلد
" لقد كنت أدركت المنى غير أنني ... (2) يعيرني قومي بإدراكها وحدي " وأقول أيضاً: [من المتقارب] .
رأيت الجزيري فيما يعاني ... قليل الرشاد كثير السفاه
يبيع ويبتاع عرضاً بعرض ... أمور وجدك ذات اشتباه
ويأخذ ميما بإعطاء (3) هاء ... ألا هكذا فليكن ذو النواهي
ويبدل أرضاً تغذي النبات ... بأرض تحف بشوك العضاه
لقد خاب في تجره ذو ابتياع ... مهب الرياح بمجرى المياه ولقد سمعته في المسجد يستعيذ بالله من العصمة كما يستعاذ به من الخذلان.
ومما يشبه هذا أني أذكر أني كنت في مجلس فيه إخوان لنا عند بعض مياسير أهل بلدنا، فرأيت بين بعض من حضر وبين من كان بالحضرة أيضاً من أهل صاحب المجلس أمراً أنكرته وغمزاً استبشعته، وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبهته بالتعويض فلم ينتبه، وحركته بالتصريح فلم يتحرك، فجعلت أكرر عليه بيتين قديمين لعله يفطن، وهما هذان: [من الخفيف] .
إن إخوانه المقيمين بالأم ... س أتوا للزناء لا للغناء
قطعوا أمرهم وأنت حمار ... موقر من بلادة وغباء
__________
(1) قراءة برشيه: مستهتر صلد.
(2) هو مضمن، وقد ورد في الذخيرة 1/1: 156 دون نسبة.
(3) لعله باعطاء " صاد "، انظر كنايات الجرجاني: 29 والثعالبي: 26.(1/280)
وأكثرت من إنشادهما حتى قال لي صاحب المجلس: قد أمللتنا من سماعهما فتفضل بتركهما أو إنشاد غيرهما، فأمسكت وأنا لا أدري أغافل هو أم متغافل؛ وما أذكر أني عدت إلى ذلك المجلس بعدها، فقلت فيه قطعة منها: [من الخفيف] .
أنت لا شك أحسن الناس ظنا ... (1) ويقيناً ونية وضميراً
فانتبه إن بعض من كان بالأم ... س جليساً لنا يعاني كبيرا
ليس كل الركوع فاعلم صلاة ... لا ولا كل ذي لحاظ بصيرا وحدثني ثعلب بن موسى الكلاذاني (2) قال، حدثني سليمان بن أحمد الشاعر قال، حدثتني امرأة اسمها هند كنت رأيتها في المشرق، وكانت قد حجت خمس حجات، وهي من المتعبدات المجتهدات، قال سليمان: فقالت لي: يا ابن أخي، لا تحسن الظن بامرأة قط فإني أخبرك عن نفسي بما يعلمه الله عز وجل: ركبت البحر منصرفة من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة خمس نسوة، كلهن قد حججن من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة خمس نسوة، كلهن قد حججن، وصرنا في مركب في بحر القلزم (3) ، وفي بعض ملاحي السفينة رجل مضمر الخلق مديد القامة واسع الأكتاف حسن التركيب، فرأيته أول ليلة قد أتى إلى إحدى صواحبي فوضع إحليله في يدها، وكان ضخماً جداً، فأمكنته في الوقت من نفسها، ثم مر عليهن كلهن في ليال متواليات، فلم يبق له غيرها، تعني نفسها، قال: فقلت في نفسي: لأنتقمن منك؛ فأخذت موسى وأمسكتها بيدي، فأتى في الليل على جاري عادته، فلما فعل كفعله في سائر الليالي سقطت الموسى عليه فارتاع وقام لينهض، قال: فأشفقت عليه وقلت له وقد أمسكته:
__________
(1) في أمثال العوام (63 رقم: 256) أول ما يعطى للقران (أي القرنان) حسن الظن (يعني بزوجته) ومثل أندلسي آخر: كثرة الأطمني تولد القرون. وابن حزم يلمح إلى ذلك.
(2) لعل صواب هذه النسبة " الكلواذاني " أو " الكلاباذي ".
(3) هو ما يعرف اليوم باسم البحر الأحمر.(1/281)
لا زلت أو آخذ نصيبي منك، قالت العجوز: فقضى وطره وأستغفر الله.
وإن للشعراء من لطف التعريض عن الكتابة لعجباً؛ ومن بعض ذلك قولي حيث أقول: [من الطويل] .
أتاني وماء المزن في الجو يسفك ... كمحض لجين إذ يمد ويسبك
هلال الدياجي انحط من جو أفقه ... فقل في محب نال ما ليس يدرك
وكان الذي إن كنت لي عنه سائلا ... فمالي جواب غير أني أضحك
لفرط سروري خلتني عنه نائماً ... فيا عجبا من موقن يتشكك وأقول أيضاً قطعة منها: [من البسيط] .
أتيتني وهلال الجو مطلع ... قبيل قرع النصارى للنواقيس
كحاجب الشيخ عم الشيب أكثره ... واخمص الرجل في لطف وتقويس
ولاح في الأفق قوس الله مكتسياً ... (1) من كل لون كأذناب الطواويس وإن فيما يبدو إلينا من تعادي المتواصلين في غير ذات الله تعالى بعد الألفة، وتدابرهم بعد الوصال، وتقاطعهم بعد المودة، وتباغضهم بعد المحبة، واستحكام الضغائن، وتأكد (2) السخائم في صدورهم، لكاشفاً ناهياً لو صادف عقولاً سليمة، وآراء نافذة وعزائم صحيحة. فكيف بما أعد الله لمن عصاه من النكال الشديد يوم الحساب وفي دار الجزاء، ومن الكشف على رؤوس الخلائق {يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (الحج: 2) جعلنا الله ممن يفوز
__________
(1) اعتقد أن التعريض في هذه القطعة قد ضاع مع أبيات سقطت منها.
(2) برشيه: وتحكم.(1/282)
فعهدتها أصفى من الماء (1) ، وألطف من الهواء (2) ، وأثبت من الجبال، وأقوى من الحديد (3) وأشد امتزاجاً من اللون في الملون، وأنفذ استحكاماً من الأعراض في الأجسام، وأضوأ من الشمس، وأصح من العيان، وأثقب من النجم، وأصدق من كدر القطا (4) ، واعجب من الدهر، واحسن من البر، وأجمل من وجه أبي عامر، وألذ من العافية، وأحلى من المنى، وأدنى من النفس، وأقرب من النسب، وأرسخ من النقش في الحجر، ثم لم ألبث أن رأيت تلك المودة قد استحالت عداوة أفظع من الموت، وأنفذ من السهم (5) ، وأمر من السقم، وأوحش من زوال النعم، وأقبح من حلول النقم، وأمضى من عقم الرياح (6) ، وأضر من الحمق، وأدهى من غلبة العدو، وأشد من الأسر، وأقسى من الصخر (7) ، وأبغض من كشف الأستار، وانأى من الجوزاء (8) ، وأصعب من معاناة السماء، وأكبر من رؤية المصاب، وأشنع من خرق العادات، وأقطع من فجأ البلاء، وأبشع من السم الزعاف (9) ، وما لا يتولد مثله عن الذحول والتراث وقتل الآباء وسبي الأمهات. وتلك عادة الله في أهل الفسق القاصدين سواه، الآمين غيره؛ وذلك قوله عز وجل {يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ
__________
(1) يقال في المثل: أصفى من الماء، أرق من الماء (الدرة الفاخرة 263، 209) ، وبعض هذه الأمثال مما صاغه ابن حزم وبعضها مما درج في الاستعمال.
(2) يقال في المثل: أرق من الهواء (الدرة الفاخرة: 209) .
(3) يقال أصلب من الحديد، أشد من الحديد (الدرة: 263، 236) .
(4) يقال: أصدق من قطاة (الدرة: 265) .
(5) يقال: انفذ من ابرة انقذ من سنان (الدرة 391) .
(6) يقال: أسرع من الريح (الدرة: 217، 441) .
(7) يقال: أقسى من حجر، أقسى من صخرة (الدرة: 351) .
(8) يقال: أنأى من الكواكب، أبعد من النجم، من السماء، من الثريا الخ (الدرة: 391، 75) .
(9) الزعاف والذعاف: كلاهما صحيح.(1/283)
جاءني} (الفرقان: 28) . فيجب على اللبيب الاستجارة بالله مما يورط فيه الهوى: فهذا خلف مولى يوسف بن قمقام القائد المشهور كان أحد القائمين مع هشام بن سليمان بن الناصر (1) ، فلما أسر هشام وقتل وهرب الذين وازروه، فر خلف في جملتهم ونجا، فلما أتى القسطلات (2) لم يطق الصبر عن جارية كانت له بقرطبة فكر راجعاً، فظفر به أمير المؤمنين المهدي، فأمر بصلبه، فلعهدي به مصلوباً في المرح على النهر الأعظم وكأنه القنفذ من النبل.
ولقد اخبرني أبو بكر محمد بن الوزير عبد الرحمن بن الليث رحمه الله أن سبب هروبه إلى محلة البرابر أيام تحولهم مع سليمان الظافر إنما كان لجارية يكلف بها تصيرت عند بعض من كان في تلك الناحية، ولقد كاد أن يتلف في تلك السفرة.
وهذان الفصلان وإن لم يكونا من جنس الباب فإنهما شاهدان على ما يقود إليه الهوى من الهلاك الحاضر الظاهر، الذي يستوي في فهمه العالم والجاهل، فكيف من العصمة التي لا يفهمها من ضعفت بصيرته.
ولا يقولن امرؤ: خلوت، فهو وغن انفرد فبمرأى ومسمع من علام الغيوب. {الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} ، (غافر: 19) {ويعلم السر وأخفى} (طه: 7) و {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما
__________
(1) هشام بن سليمان بن الناصر الملقب بالرشيد ثار على محمد بن هاشم بن عبد الجبار الملقب بالمهدي، فكان مصيره أن قتل (سنة 399) انظر أعمال الاعلام: 113.
(2) ورد عند العذري " قسطلة " (دون إضافة) ، فلعل ما هنا صورة من صور النطق بهذا الاسم، ويؤخذ من كلام العذري أنها في جهة شنتمرية الغرب (نصوص: 107) ويستفاد من كلام بروفنسال (الاندلس: 358 الحاشية) انه أعياه العثور عليها.(1/284)
كانوا} (المجادلة: 7) / و {هو عليم بذات الصدور} وهو {عالم الغيب والشهادة} و {ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} (النساء: 108) وقال: {لقد خلقنا الآنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى الملتقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق: 16 - 18) .
وليعلم المستخف بالمعاصي، المتكل على التسويف، المعرض عن طاعة ربه ان إبليس كان في الجنة مع الملائكة المقربين فلمعصية واحدة وقعت منه استحق لعنة الأبد وعذاب الخلد، وصير شيطاناً رجيماً، وأبعد عن رفيع المقام، وهذا آدم صلى الله عليه وسلم بذنب واحد أخرج من الجنة إلى شقاء الدنيا ونكدها؛ ولولا انه تلقى من ربه كلمات وتاب عليه لكان من الهالكين (1) . افترى هذا المغتر بالله ربه وبإملائه ليزداد إثماً يظن أنه أكرم على خالقه من أبيه آدم الذي خلقه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته (2) الذين هم أفضل خلقه عنده أو عقابه اعز عليه من عقوبته إياه كلا، ولكن استعذاب التمني، واستيطاء مركب العجز، وسخف الرأي، قائدة أصحابها إلى الوبال والخزي. ولو لم يكن عند ركوب المعصية زاجر من نهي الله تعالى ولا حام من غليظ عقابه لكان في قبيح الأحدوثة عن صاحبه وعظيم الظلم الواقع في نفس فاعله اعظم مانع وأشد رادع لمن نظر بعين الحقيقة، واتبع سبيل الرشد، فكيف والله عز وجل يقول: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً} (الفرقان: 68 - 69) .
__________
(1) انظر الآية 37 من سورة البقرة.
(2) في سجود الملائكة لآدم انظر: البقرة: 34، الاعراف: 11، الإسراء: 61، الكهف: 50.(1/285)
حدثنا الهمذاني (1) في مسجد العمري (2) بالجانب الغربي من قرطبة سنة إحدى وأربعمائة، حدثنا ابن شبويه وأبو إسحاق البلخي بخراسان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، قالا ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل (3) ثنا قتيبة بن سعيد ثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله وهو ابن مسعود، قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله قال: ان تدعو لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي قال: أن تقتل ولدك أن يطعم معك. قال: ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك. فانزل الله تصديقها: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} (الفرقان: 68) (4) وقال عز وجل: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله} (النور: 2) .
حدثنا الهمذاني عن أبي إسحاق البلخي وابن شبويه عن محمد ابن يوسف عن محمد بن اسماعيل عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن
__________
(1) قد مر التعريف به في ما تقدم ص: 264.
(2) في أصل: القمري؛ وتساءل غومس: أيمكن أن يكون صوابها العمري (حاشية ص 283) ونص بروفنسال على أن تغييرها ضروري (الاندلس: 358) .
(3) محمد بن اسماعيل هو البخاري صاحب الصحيح، ومحمد بن يوسف هو الفربري (- 389) رواية الصحيح عنه. وعنه رواه ابن شبويه (وفي الطبعات ابن سبويه بالسين المهملة) المعروف بالشبوبي وهو محمد بن عمر بن شبويه المروزي (تبصير المنتبه 804 وعبر الذهبي 3: 241) وسماه ابن الأثير أحمد بن عمر (اللباب 2: 183 ط. صادر) وجاء في الصلة مضطرب الاسم والكنية: أبو محمد عمر بن شبوبة (الباء الثانية بنقطة واحدة) المروزي وعنه روى الهمذاني الذي تقدم التعريف به ص 264: وأما أبو اسحاق البلخي فهو ابراهيم بن أحمد المستملي الحافظ، حدث بصحيح البخاري مرات عن الفربري، وتوفي سنة 376 (عبر الذهبي 3: 1) .
(4) هذا الحديث في صحيح البخاري (تفسير 2: 30، 25: 2، أدب: 20، حدود: 20، انظر إرشاد الساري: 10: 7) وعند مسلم (توحدي: 40، 46؛ إيمان: 141، 142) وانظر مسند أحمد 1: 380، 431، 434، 462.(1/286)
المسيب المخزوميين وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " (1) .
وبالسند المذكور إلى محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: " أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، ثم رد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون قال: لا، قال: فهل أحصنت قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه " (2) . قال ابن شهاب: فاخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه.
حدثنا أبو سعيد مولى الحاجب جعفر في المسجد الجامع عن أبي بكر المقرئ عن أبي جعفر بن النحاس عن سعيد بن بشر عن عمرو بن رافع عن منصور عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " (3) . فيا لشنعة ذنب أنزل الله وحيه مبيناً بالتشهير بصاحبه، والعنف بفاعله، والتشديد لمقترفه، وتشدد في عقوبة رجمه الا يرجم إلا بحضرة أوليائه. وقد أجمع المسلمون إجماعاً لا ينقضه إلا ملحد أن الزاني المحصن عليه الرجم حتى يموت. فيا لها قتلة
__________
(1) ورد عند البخاري في باب الحدود (انظر ارشاد الساري 10: 6، 7) وابن ماجه (فتن: 3) .
(2) الحديث في البخاري (طلاق: 11؛ أحكام: 19) وعند مسلم (حدود: 16) ومسند أحمد 2: 453؛ 5: 86، 87 وانظر المحلى 11: 177 وما بعدها.
(3) الحديث في مسلم (حدود: 13) وأبي داود (حدود: 23) والترمذي (حدود: 8) وابن ماجه (حدود: 7) وانظر مصنف عبد الرزاق 7: 415 - 417 والمحلى 11: 118.(1/287)
ما أهولها، وعقوبة ما أفظعها، وأشد عذابها وأبعدها من الإراحة وسرعة الموت.
وطوائف من أهل العلم منهم الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه وداود (1) وأصحابه يرون عليه مع الرجم جلد مائة، ويحتجون عليه بنص القرآن وثابت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل علي رضي الله عنه بأنه رجم امرأة محصنة في الزنا بعد أن جلدها مائة. وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله (2) ؛ والقول بذلك لازم لأصحاب الشافعي، لأن زيادة العدل في الحديث مقبولة.
وقد صح في إجماع الأمة المنقول بالكافة الذي يصحبه العمل عند كل فرقة وفي أهل كل نحلة من نحل أهل القبلة - حاشا طائفة يسيرة من الخوارج لا يعتد به - أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بكفر بعد إيمان، أو نفس بنفس، أو بمحاربة لله ورسوله يشهر فيها سيفه ويسعى في الأرض فسادا مقبلاً غير مدبر، وبالزنا بعد الإحصان (3) فإن حد ما جعل الله مع الكفر بالله عز وجل ومحاربته وقطع حجته في الأرض ومنابذته دينه لجرم كبير ومعصية شنعاء. والله تعالى يقول: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} (النساء: 31) {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم. إن ربك واسع المغفرة} (النجم: 32) وإن كان أهل العلم اختلفوا في تسميتها فكلهم مجمع - مهما اختلفوا فيه منها - أن الزنا يقدم فيها، لا اختلاف بينهم في ذلك، ولم يوعد الله عز وجل في كتابه بالنار بعد
__________
(1) هو الحسن البصري (- 110) وابن راهويه فهو اسحاق بن ابراهيم الفقيه الشافعي (- 238) ؛ انظر ابن خلكان 1: 199 وداود بن علي بن خلف الاصبهاني صاحب المذهب الظاهري (- 270) ؛ انظر ابن خلكان 2: 255.
(2) ارشاد الساري 10: 6 - 7، حيث يذكر ما فعله علي.
(3) حديث لا يحل دم امرئ مسلم الخ ورد في عدة مواطن من الصحاح، وانظر مسند أحمد 1: 382.(1/288)
الشرك الا في سبع ذنوب، وهي الكبائر: الزنا أحدها، وقذف المحصنات أيضاً منها، منصوصاً ذلك كله في كتاب الله عز وجل.
وقد ذكرنا أنه لا يحب القتل على أحد من ولد آدم إلا في الذنوب الأربعة التي تقدم ذكرها: فأما الكفر منها فإن عاد صاحبه إلى الاسلام أو بالذمة إن لم يكن مرتداً قبل منه ودرى عنه الموت، وأما القتل فان قبل الولي الدية في قول بعض الفقهاء أو عفا في قول جميعهم سقط عن القاتل القتل بالقصاص، وأما الفساد في الأرض فإن ناب صاحبه قبل أن يقدر عليه هدر عنه القتل، ولا سبيل في قول أحد مؤالف أو مخالف في ترك رجم المحصن ولا وجه لرفع الموت عنه البتة.
ومما يدل على شنعة الزنا ما حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن (1) : ثنا القاضي أبو عيسى (2) عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى عن الليث عن الزهري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عبيد بن عمير: ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب في زمانه ناساً من هذيل، فخرجت جارية منهم فاتبعها رجل يريدها عن نفسها فرمته بحجر فقضت كبده. فقال عمر: هذا قتيل الله والله لا يودى أبداً.
وما جعل الله عز وجل فيه أربعة شهود، وفي كل حكم شاهدين، إلا حياطة منه ألا تشيع الفاحشة في عباده، لعظمها وشنعتها
__________
(1) القاضي أبو عبد الرحمن هو عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري قاضي بلنسية الملقب بحيدرة وقد مر التعريف به ص: 272، وهو يروي عن أبي عيسى الليثي، انظر التعليق التالي.
(2) القاضي أبو عيسى هو يحيى بن عبد الله بن يحيى بن يحيى بن يحيى الليثي (- 367) سمع من عم أبيه عبيد الله بن يحيى الليثي، وكان قاضياً ببجاية والبيرة وولي أحكام الرد بقرطبة ورحل الناس إليه من جميع كور الاندلس (ابن الفرضي 2: 189 والجذوة: 354 وترتيب المدارك 4: 412) .(1/289)
وقبحها، وكيف لا تكون شنيعة ومن قذف بها أخاه المسلم أو أخته المسلمة دون صحبة علم أو تيقن معرفة فقد أتى كبيرة من الكبائر استحق عليها النار غداً، ووجب عليه بنص التنزيل ان تضرب بشرته ثمانين سوطاً. ومالك رضي الله عنه يرى ألا يؤخذ في شيء من الأشياء حد بالتعريض دون التصريح إلا في قذف (1) .
وبالسند المذكور عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه أمر أن يجلد رجل قال لآخر: ما أبي بزان ولا أمي بزانية (2) . في حديث طويل. وبإجماع من الأمة كلها دون خلاف من أحد نعلمه انه إذا قال رجل لآخر: يا كافر، أو يا قاتل النفس التي حرم الله، لما وجب عليه حد احتياطاً من الله عز وجل ألا تثبت هذه العظيمة في مسلم ولا مسلمة.
ومن قول مالك رحمه الله أيضاً أنه لا حد في الإسلام إلا والقتل يغني عنه وينسخه إلا حد القذف، فإنه إن وجب على من قد وجب عليه القتل حد ثم قتل (3) . قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا} (النور: 4، 5) . وقال تعالى: {عن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم} (النور: 23) . وروي عن رسول الله
__________
(1) انظر المحلى 11: 277 والمدونة 6: 224.
(2) المحلى 11: 276 - 281، وهذا للاستشهاد على عظم حد القذف ولو كان تعريضاً، إلا أن ابن حزم يرفضه ولا يرى فيه حداً.
(3) قال مالك: كل حد اجتمع مع القتل لله أو قصاص لأحد من الناس فإنه لا يقام مع القتل والقتل يأتي على جميع ذلك إلا الفرية [يعني القذف] فإن الفرية تقام ثم يقتل (المدونة 6: 212) .(1/290)
صلى الله عليه وسلم انه قال في الغضب واللعنة المذكورين في اللعان: إنهما موجبتان (1) .
حدثنا الهمذاني عن أبي إسحاق عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عبد الله، قال: ثنا سليمان عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " (2) .
وإن في الزنا من إباحة الحريم، وإفساد النسل، والتفريق بين الأزواج الذي عظم الله أمره، ما لا يهون على ذي عقل أو من له أقل خلاق. ولولا مكان هذا العنصر من الإنسان وانه غير مأمون الغلبة لما خفف الله عن البكرين وشدد على المحصنين. وهذا عندنا وفي جميع الشرائع القديمة النازلة من عند الله عز وجل حكماً باقياً لم ينسخ ولا أزيل، فتبارك الناظر لعباده الذي لم يشغله عظيم ما في خلقه ولا يحيف قدرته كبير ما في عوالمه عن النظر لحقير ما فيها، فهو كما قال عز وجل: {الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة: 255) وقال: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} (سبأ: 2) وقال: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} (سبأ: (3)) .
__________
(1) يقول من يلاعن زوجته أربع مرات " بالله اني لمن الصادقين " ثم يأمر الحاكم من يضع يده على فيه ويقول " انها موجبة " فإنه يضيف " وعلي لعنة الله ان كنت من الكاذبين " وتوقف المرأة عند القولة الخامسة ويقال لها: " انها موجبة " (المحلى 10: 143 - 144) .
(2) الحديث في البخاري (وصايا: 23؛ طب: 48؛ حدود: 44) ومسلم (ايمان: 144) وأبي داود (وصايا: 10) والنسائي (وصايا: 12) .(1/291)
وإن اعظم ما يأتي به العبد هتك ستر الله عز وجل في عباده؛ وقد جاء في حكم أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ضربه الرجل الذي ضم صبياً حتى أمنى ضرباً كان سبباً للمنية. وفي إعجاب مالك رحمه الله باجتهاد الأمير الذي ضرب صبياً مكن رجلاً من تقبيله حتى أمنى الرجل، ضربه إلى أن مات، ما ينسي شدة دواعي هذا الشأن وأسبابه. والتزيد في الاجتهاد، وإن كنا لا نراه، فهو قول كثير من العلماء يتبعه على ذلك عالم من (1) الناس.
وأما الذي نذهب اليه فالذي حدثناه الهمذاني عن البلخي عن الفربري عن البخاري قال ثنا يحيى بن سليمان ثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو أن بكيراً حدثه عن سليمان بن يسار بن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله عز وجل " (2) . وبه يقول أبو جعفر محمد بن علي النسائي الشافعي رحمه الله.
وأما فعل قوم لوط فشنيع بشيع قال الله تعالى: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (الأعراف: 80) . وقد قذف الله فاعليه بحجارة من طين مسمومة. ومالك رحمه الله يرى على الفاعل والمفعول به الرجم، أحصنا أم لم يحصنا، واحتج بعض المالكيين في ذلك بان الله عز وجل يقول في رجمه فاعليه بالحجارة {وما هي من الظالمين ببعيد} (هود: 83) فوجب بهذا انه من ظلم الآن بمثل فعلهم قربت منه. والخلاف في هذه المسالة ليس هذا موضعه. وقد ذكر أبو إسحاق
__________
(1) برشيه: غالب الناس.
(2) انظر ابن ماجه (حدود: 32) .(1/292)
إبراهيم بن السري (1) أن أبا بكر رضي الله عنه أحرق فيه بالنار (2) ، وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى اسم المحرق فقال: هو شجاع ابن ورقاء الأسدي (3) ، أحرقه بالنار أبو بكر الصديق لأنه يؤتى في دبره كما تؤتى المرأة.
وإن عن المعاصي لمذاهب للعاقل واسعة، فما حرم الله شيئاً إلا وقد عوض عباده من الحلال ما هو أحسن من المحرم وأفضل، لا إله إلا هو؛
وأقول في النهي عن اتباع الهوى على سبيل الوعظ: [من الطويل] .
أقول لنفسي ما مبين كحالك ... (4) " وما الناس إلا هالك وابن هالك "
صن النفس عما عابها وارفض الهوى ... فإن الهوى مفتاح باب المهالك
رأيت الهوى سهل المبادي لذيذها ... وعقباه مر الطعم ضنك المسالك
فما لذة الإنسان والموت بعدها ... ولو عاش ضعفي عمر نوح بن لامك
فلا تتبع داراً قليلا لباثها ... فقد أنذرتنا بالفناء المواشك
وما تركها إلا إذا هي أمكنت ... وكم تارك إضماره غير تارك
فما تارك الآمال (5) عجياً جآذراً ... (6) كتاركها ذات الضروع الحواشك
__________
(1) هو أبو اسحاق الزجاج النحوي (توفي 311 أو 316) انظر ترجمته في انباه الرواة 1: 159 وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى.
(2) انظر المحلى 11: 380 - 381 (وابن حزم لا يرى ذلك وإنما يرى التعزيز فقط) وانظر أيضاً ذم الهوى: 202.
(3) وقيل كان اسمه الفجاءة (المحلى 11: 381) .
(4) مأخوذ من قول الشاعر:
وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق (5) بتروف: عجباً؛ برشيه: عجلاً؛ والعجي بتشديد الياء: ولد الدابة؛ وجمعه عجايا وأحسب الشاعر تصرف به فجمع " فعيل " على " فعلى ".
(6) الضروع الحواشك: الممتلئة.(1/293)
ومن قابل الأمر الذي كان راغباً ... بشهوة مشتاق وعقل متارك
لأحرى (1) عباد الله بالفوز عنده ... لدى جنة الفردوس فوق الأرائك
ومن عرف الأمر الذي هو طالب ... رأى سفهاً (2) ما في يدي كل مالك
ومن عرف الرحمن لم يعص أمره ... ولو انه يعطى جميع الممالك
سبيل التقى والنسك خير المسالك ... وسالكها مستبصراً خير سالك
فما فقد التنغيص من عاج دونها ... (3) ولا طاب عيش لامرئ غير ناسك
وطوبى لأقوام يؤمون (4) نحوها ... بخفة أرواح ولين عرائك
لقد فقدوا غل النفوس وفضلوا ... بعز سلاطين وأمن صعالك
فعاشوا كما شاءوا وماتوا كما اشتهوا ... وفازوا بدار الخلد رحب المبارك
عصوا طاعة الأجساد في كل لذة ... بنور مجل ظلمة الغي هاتك
فلولا (5) اغتذاء الجسم أيقنت انهم ... يعيشون عيشاً مثل عيش الملائك
فيا رب قدمهم وزد في صلاحهم ... وصل عليهم حيث حلوا وبارك
ويا نفس جدي لا تملي وشمري ... لنيل سرور الدهر فيما هنالك
وأنت متى دمرت سعيك في الهوى ... علمت بأن الحق ليس كذلك
فقد بين الله الشريعة للورى ... بابين من زهر النجوم الشوابك
فيا نفس جدي في خلاصك وانفذي ... نفاذ السيوف المرهفات البواتك
فلو أعمل الناس التفكر في الذي ... له خلقوا ما كان حي بضاحك
__________
(1) لأحرى: جواب " ومن " في البيت السابق.
(2) بتروف والصيرفي ومكي: سبباً.
(3) معظم الطبعات: ماسك (بالميم) .
(4) الضمير في " نحوها " يعود إلى سبيل التقى والنسك.
(5) في بعض الطبعات: اعتداد (بمعنى حسبان أو عد) .(1/294)
- 30 -
باب فصل التعفف
ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف، وترك ركوب المعصية والفاحشة، وألا يرغب عن مجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألا يعصي مولاه المتفضل عليه الذي جعله مكاناً وأهلاً لأمره ونهيه، وأرسل إليه رسله، وجعل كلامه ثابتاً لديه، عناية منه بنا وإحساناً إلينا.
وإن من هام قلبه، وشغل باله، واشتد شوقه، وعظم وجده، ثم ظفر فرام هواه ان يغلب عقله، وشهوته ان تقهر دينه، ثم أقام العدل لنفسه حصناً، وعلم أنها النفس الأمارة بالسوء، وذكرها بعقاب الله تعالى وفكر في اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذرها من يوم المعاد والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذي لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مدافع بحضرة علام الغيوب {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 88، 89) {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} (الحجر: 48) {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمداً بعيداً} (آل عمران: 30) يوم {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً} (طه: 111) يوم {ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}(1/295)
(الكهف: 49) {يوم الطامة الكبرى} ، {يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} (النازعات: 35 - 41) واليوم الذي قال الله تعالى فيه: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} (الإسراء: 13، 14) عندها يقول العاصي: {يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف: 49) فكيف بمن طوي قلبه على أحر من جمر الغضا، وطوي كشحه على أحد من السيف، وتجرح غصصاً أمر من الحنظل، وشرف نفسه كرها عما طمعت فيه وتيقنت ببلوغه وتهيأت له ولم يحل دونها حائل - لحري (1) أن يسر غداً يوم البعث، ويكون من المقربين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأن يأمن روعات القيامة وهول المطلع، وان يعوضه الله من هذه القرحة الأمن يوم الحشر.
حدثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب قال: رأيت شاباً حسن الوجه من أهل قرطبة قد تعبد ورفض الدنيا، وكان له أخ في الله قد سقطت بينهما مؤنة التحفظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده، فعرضت لصاحب المنزل حاجة إلى بعض معارفه بالبعد عن منزله، فنهض لها على أن ينصرف مسرعاً، ونزل الشاب في داره مع امرأته، وكانت غاية في الحسن وترباً للضيف في الصبا، فأطال رب المنزل المقام إلى أن مشى العسس ولم يمكنه الانصراف إلى منزله، فلما علمت المرأة بفوات الوقت وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة تاقت نفسها إلى ذلك الفتى فبرزت إليه ودعته إلى نفسها، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل، فهم بها ثم ثاب إليه عقله. وفكر في الله عز وجل فوضع إصبعه على السراج فتفقع ثم قال: يا نفس، ذوقي
__________
(1) لحري: جواب " إن " قبل سطور كثيرة، حيث بدأ قوله في " الفقرة: وإن من هام قلبه الخ ".(1/296)
هذا وأين هذا من نار جهنم. فهال المرأة ما رأت ثم عاودته، فعاودته الشهوة المركبة في الإنسان فعاد إلى الفعلة الأولى، فانبلج الصباح وسبابته قد اصطلمتها النار (1) . أفتظن بلغ هذا من نفسه هذا المبلغ إلا لفرط شهوة قد كلبت عليه أو ترى أن الله تعالى يضيع له هذا المقام كلا إنه لأكرم من ذلك وأعلم.
ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنها علقها فتى مثلها في الحسن وعلقته وشاع القول عليهما، فاجتمعا يوماً خاليين فقال: هلمي نحقق ما يقال فينا. فقالت: لا والله لا كان هذا أبداً، وأنا أقرأ قول الله: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (الزخرف: 67) قالت: فما مضى قليل حتى اجتمعا في حلال (2) .
ولقد حدثني ثقة من إخواني أنه خلا يوماً بجارية كانت له مفاركة (3) في الصبا، فتعرضت لبعض تلك المعاني، فقال لها: لا، إن من شكر نعمة الله فيما منحني من وصالك الذي أقصى آمالي أن أجتنب هواي لأمره، ولعمري إن هذا لغريب فيما خلا من الأزمان، فكيف في مثل هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره.
وما أقدر في هذه الأخبار - وهي صحيحة - إلا أحد وجهين لا شك فيهما: إما طبع قد مال إلى غير هذا الشأن واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه فهو لا يجيب دواعي الغزل في كلمة ولا كلمتين ولا
__________
(1) قارن - مع تذكر الفرق - بين هذا وبين ما جاء في " ذم الهوى ": 276 وروضة المحبين: 460 وهي رواية اسرائيلية انظر كذلك ص 465.
(2) انظر تزيين الأسواق 1: 9 حيث نقلت الحكاية عن طوق الحمامة، واشار إلى ذلك الدكتور الطاهر مكي، وكذلك وردت في ديوان الصبابة: 208 وصرح هنالك باسم المصدر فقال: قال الحافظ أبو محمد الأموي؛ وانظر روضة المحبين: 346.
(3) مفاركة: هاجرة، وعند برشيه: معادلة.(1/297)
في يوم ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لحلت (1) طباعهم وأجابوا هاتف الفتنة، لكن الله عصمهم بانقطاع السبب المحرك نظراً لهم وعلماً بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد، لا إله إلا هو؛ وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد انقمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخير أراد الله عز وجل لصاحبه، جعلنا الله ممن يخافه ويرجوه، آمين.
وحدثني أبو عبد الله محمد بن عمر بن مضا (2) عن رجال من بني مروان ثقات يسندون الحديث إلى أبي العباس الوليد بن غانم (3) أنه ذكر أن الإمام عبد الرحمن بن الحكم غاب في بعض غزواته شهوراً وثقف القصر بابنه محمد (4) الذي ولي الخلافة بعده ورتبه في السطح، وجعل مبيته ليلاً وقعوده نهاراً فيه، ولم يأذن له في الخروج البتة، ورتب معه في كل ليلة وزيراً وفتى من أكابر الفتيان يبيتان معه في السطح؛ قال أبو العباس: فأقام على ذلك مدة طويلة وبعد عهده بأهله، وهو في سن العشرين أو نحوها إلى أن وافق مبيتي في ليلتي نوبة فتى من أكابر الفتيان، وكان صغيراً في سنه وغاية في حسن وجهه. قال أبو العباس: فقلت في نفسي: إني أخشى الليلة على محمد بن عبد الرحمن الهلاك بمواقعة المعصية وتزيين إبليس وأتباعه
__________
(1) في الطبعات: لجادت.
(2) محمد بن عمر (وكتب في بعض الطبعات) بن مضا، كان من أهل الأدب مشهوراً بالفضل (الجذوة: 72 والبغية رقم: 225) .
(3) وليد بن عبد الرحمن بن عبد الحميد بن غانم: ذكره ابن الأبار (الحلة 1: 162) في ترجمة ابنه عبد الرحمن فقال " وولي وليد للأمير محمد بن عبد الرحمن خطتي الوزارة والمدينة وقاد جيش الصائفة الذي قدم عليه ابنه عبد الرحمن وكان عدده عظيماً " ثم ترجم له مستقلاً (2: 374) فأضاف: " وكان أديباً مرسلاً بليغاً وتوفي سنة 272 " وأخباره في المقتبس (تحقيق الدكتور محمود مكي ط. بيروت) وللمحقق تعليقات ضافية عنه وعن أسرته ص: 449، 541 إلا أن ابن حيان جعل وفاته سنة 292 (والخطأ بين الرقمين سبعة وتسعة قديم) .
(4) الأمير عبد الرحمن بن حكم (206 - 238 821 - 852) وابنه محمد بن عبد الرحمن (238 - 273/ 852 - 886) وانظر ص: 91 فيما تقدم.(1/298)
له، قال: ثم أخذت مضجعي في السطح الخارج ومحمد في السطح الداخل المطل على حرم أمير المؤمنين، والفتى في الطرف الثاني القريب من المطلع فظللت أرقبه ولا أغفل وهو يظن أني قد نمت ولا يشعر باطلاعي عليه، قال: فلما مضى هزيع من الليل رأيته قد قام واستوى قاعداً ساعة لطيفة، ثم تعوذ من الشيطان ورجع إلى منامه، ثم قام الثالثة ولبس قميصه ودلى رجليه من السرير، وبقي كذلك ساعة ثم نادى الفتى باسمه فأجابه، فقال له: انزل عن السطح وابق في الفصيل (1) الذي تحته، فقام الفتى مؤتمراً له. فلما نزل قام محمد وأغلق الباب من داخله وعاد إلى سريره، قال أبو العباس: فعلمت من ذلك الوقت ان لله فيه مراد خير.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور عن أحمد بن مطرف عن عبيد الله بن يحيى (2) عن أبيه عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن الأنصاري عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " (3) .
وإني أذكر أني دعيت إلى مجلس فيه بعض من تستحسن الأبصار صورته، وتألف القلوب أخلاقه، للحديث والمجالسة دون منكر
__________
(1) الفصيل في فن المعمار عند الاندلسيين يقابل (Vestibulum) في المباني الرومانية ويجمع على فصلان؛ ويتردد ذكره كثيراً في المصادر الأندلسية، وفي المقتبس (نشر أنطونية) : 74 وأصعد غلمانه وغلمان الولد على سقف الفصيل؛ وانظر ملحق دوزي 2: 272.
(2) قد مر التعريف بالأندلسيين من رجال هذا السند.
(3) الحديث في البخاري (أذان: 36؛ زكاة: 16؛ رقاق: 24؛ حدود: 19) ومسلم (زكاة: 91) والترمذي (زهد: 53) والنسائي (قضاة: 2) ومسند أحمد 2: 436 وذم الهوى: 243.(1/299)
ولا مكروه، فسارعت إليه وكان هذا سحراً، فبعد أن صليت الصبح وأخذت زيي طرقني فكر فسنحت لي أبيات، ومعي رجل من إخواني فقال لي: ما هذا الإطراق فلم أجبه حتى أكملتها، ثم كتبتها ودفعتها إليه، وأمسكت عن المسير حيث كنت نويت، ومن الأبيات: [من الطويل] .
أراقك حسن غيبه لك تأريق ... وتبريد وصل سره فيك تحريق
وقرب مزار يقتضي لك فرقة ... وشكاً ولولا القرب لم يك تفريق
ولذة طعم معقب لك علقماً ... وصاباً وفسح في تضاعيفه ضيق ولو لم يكن جزاء ولا عقاب ولا ثواب لوجب علينا إفناء الأعمار، وإتعاب الأبدان، وإجهاد الطاقة، واستنفاد الوسع، واستفراغ بالعقل الذي ابتدأنا بالنعم قبل استئهالها، وامتن علينا بالعقل الذي به عرفناه، ووهبنا الحواس والعلم والمعرفة ودقائق الصناعات، وصرف لنا السموات جارية بمنافعها، ودبرنا التدبير الذي لو ملكنا خلقنا لم نهتد إليه، ولا نظرنا لأنفسنا نظره لنا، وفضلنا على أكثر المخلوقات، وجعلنا مستودع كلامه ومستقر دينه، وخلق لنا الجنة دون أن نستحقها، ثم لم يرض لعباده ان يدخلوها إلا بأعمالهم لتكون واجبة لهم، قال الله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} (السجدة: 17) ورشدنا إلى سبيلها، وبصرنا وجه ظلها (1) ، وجعل غاية إحسانه إلينا وامتنانه علينا حقاً من حقوقنا قبله، وديناً لازماً له، وشكرنا على ما أعطانا من الطاعة التي رزقنا قواها، وأثابنا بفضله على تفضله - هذا كرم لا تهتدي إليه العقول، ولا يمكن أن تكيفه (2) الألباب. ومن عرف ربه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذات الذاهبة والحطام الفاني، فكيف وقد أتى من وعيده ما تقشعر لسماعه الأجساد، وتذوب له النفوس، وأورد علينا من عذابه ما لم ينته إليه أمل؛ فأين المذهب عن
__________
(1) لعل الصواب " نيلها ".
(2) لعل الصواب " تكتنفه " أو " تكتنهه ".(1/300)
طاعة هذا الملك الكريم، وما الرغبة في لذة ذاهبة لا تذهب الندامة عنها، ولا تفنى التباعة منها، ولا يزول الخزي عن راكبها، وإلى كم هذا التمادي وقد أسمعنا المنادي، وكأن قد حدا بنا الحادي إلى دار القرار، فإما إلى جنة وإما إلى النار. ألا إن التثبط في هذا المكان لهو الضلال المبين، وفي ذلك أقوال (1) : [من المنسرح] .
أقصر عن لهوه وعن طربه ... وعف في حبه وفي غربه
فليس شرب المدام همته ... ولا اقتناص الظباء من أربه
قد آن للقلب أن يفيق وأن ... يزيل ما قد علاه من حجبه
ألهاه عما عهدت يعجبه ... (2) خيفة يوم تبلى السرائر به
يا نفس جدي وشمري ودعي ... عنك اتباع الهوى على لغبه
وسارعي في النجاة واجتهدي ... ساعية في الخلاص من كربه
علي أحظى بالفوز فيه وأن ... أنجو من ضيقه ومن لهبه
يا أيها اللاعب المجد به ال ... دهر أما تتقي شبا نكبه
كفاك من كل ما وعظت به ... ما قد أراك الزمان من عجبه
دع عنك داراً تفنى غضارتها ... ومكسباً لاعباً بمكتسبه
لم يضطرب في محلها أحد ... إلا نبا حدها بمضطربه
من عرف الله حق معرفة ... لوى وحل الفؤاد في رهبه
ما منقضي الملك مثل خالده ... (3) ولا صحيح التقى كمؤتشبه
ولا تقي الورى كفاسقهم ... وليس صدق الكلام من كذبه
فلو أمنا من العقاب ولم ... نخش من الله متقى غضبه
ولم نخف ناره التي خلقت ... لكل جاني الكلام محتقبه
لكان فرضاً لزوم طاعته ... ورد وفد الهوى على عقبه
__________
(1) يعارض ابن حزم بهذه القصيدة (على سبيل التمحيص) قصيدة لأبي تمام، انظر ديوانه 1: 269.
(2) من الآية الكريمة (يوم تبلى السرائر) الطارق: 9.
(3) المؤتشب: المختلط غير الصريح؛ وقارن به قول أبي تمام:
ما سجج الشوق مثل جماحه ... ولا صريح الهوى كمؤتشبه(1/301)
وصحة الزهد في البقاء وأن ... يلحق تفنيدنا بمرتقبه
فقد رأينا فعل الزمان بأه ... ليه كفعل الشواظ في حطبه
كم متعب في (1) الإله مهجته ... راحته في الكريم (2) من تعبه
وطالب باجتهاده زهر ال ... دنيا عداه المنون عن طلبه
ومدرك ما ابتغاه ذي جذل ... حل به ما يخاف من سببه
وباحث جاهد لبغيته ... فإنما بحثه على عطبه
بينا ترى المرء سامياً ملكاً ... صار إلى السفل من ذرى رتبه
كالزرع للرجل فوقه عمل ... ان ينم حسن النمو في قصبه
كم قاطع نفسه أسى وشجا ... في إثر جد يجد في هربه
أليس من ذاك زاجر عجب ... يزيد ذا اللب في حلى أدبه
فكيف والنار للمسيء إذا ... عاج عن المستقيم من عقبه
ويوم عرض الحساب يفضحه ال ... له ويبدي الخفي من ريبه ثاني
من قد حباه الإله رحمته ... موصولة بالمزيد من نشبه
فصار من جهله يصرفها ... فيما نهى الله عنه في كتبه
أليس هذا أحرى العباد غداً ... بالوقع في ويله وفي حربه
شكراً لرب لطيف قدرته ... فينا كحبل الوريد في كثبه
رازق أهل الزمان اجمعهم ... من كان من عجمه ومن عربه
والحمد لله في تفضله ... وقمعه للزمان في نوبه
أخدمنا الأرض والسماء ومن ... في الجو من مائه ومن شهبه
فاسمع ودع من عصاه ناحية ... لا يحمل الحمل غير محتطبه وأقول أيضاً: [من الطويل] .
أعارتك دنيا مسترد معارها ... غضارة عيش سوف يذوي اخضرارها
وهل يتمنى المحكم الرأي عيشة ... وقد حان من دهم المنايا مزارها
__________
(1) برشيه: للاله.
(2) بعض الطبعات: الكريه.(1/302)
وكيف تلذ العين هجعة ساعة ... وقد طال فيما عاينته اعتبارها
وكيف تقر النفس في دار نقلة ... قد استيقنت أن ليس فيها قرارها
وأنى لها في الأرض خاطر فكرة ... ولم تدر بعد الموت أين محارها
أليس لها في السعي للفوز شاغل ... أما في توقيها العذاب ازدجارها
فخابت نفوس قادها لهو ساعة ... إلى حر نار ليس يطفى أوارها
لها سائق حاد حثيث مبادر ... إلى غير ما أضحى إليه مدارها
تراد لأمر وهي تطلب غيره ... وتقصد وجهاً في سواه سفارها
أمسرعة فيما يسوء قيامها ... وقد أيقنت أن العذاب قصارها
تعطل مفروضاً وتغنى بفضلة ... لقد شفها طغيانها واغترارها
إلى ما لها منه البلاء سكونها ... وعما لها منه النجاح نفارها
وتعرض عن رب دعاها لرشدها ... وتتبع دنيا جد عنها فرارها
فيا أيها المغرور بادر برجعة ... فلله دار ليس تخمد نارها
ولا تتخير فانياً دون خالد ... دليل على محض العقول اختيارها
أتعلم أن الحق فيما تركته ... وتسلك سبلاً ليس يخفى عوارها
وتترك بيضاء المناهج ضلة ... لبهماء يؤذي الرجل فيها عثارها
تسر بلهو معقب بندامة ... إذا ما انقضى لا ينقضي مستثارها
وتفنى الليالي والمسرات كلها ... وتبقى تباعات الذنوب وعارها
فهل أنت يا مغبون مستيقظ فقد ... تبين من سر الخطوب استتارها
فعجل إلى رضوان ربك واجتنب ... نواهيه إذ قد تجلى منارها
يجد مرور الدهر عنك بلاعب ... وتغرى بدنيا ساء فيك سرارها
فكم أمة قد غرها الدهر قبلنا ... وهاتيك منها مقفرات ديارها
تذكر على ما قد مضى واعتبر به ... فإن المذكي للعقول اعتبارها
تحامى ذراها كل باغ وطالب ... وكان ضماناً في الأعادي انتصارها
توافت ببطن الأرض وانشت شملها ... وعاد إلى ذي ملكه مستعارها
وكم راقد في غفلة عن منية ... مشمرة في القصد وهو شعارها
ومظلمة قد نالها متسلط ... مدل بأيد عند ذي العرش ثارها(1/303)
أراك إذا حاولت دنياك ساعياً ... على أنها باد إليك ازورارها
وفي طاعة الرحمن يقعدك الونى ... وتبدي أناة لا يصح اعتذارها
تحاذر أحزاناً ستفنى وتنقضي ... وتنسى التي فرض عليك حذارها
كأني أرى منك التبرم ظاهراً ... مبيناً إذا الأقدار حل اضطرارها
هناك يقول المرء من لي بأعصر ... مضت كان ملكاً في يدي خيارها
تنبه ليوم قد أظلك ورده ... عصيب يوافي النفس فيه احتضارها
تبرأ فيه منك كل مخالط ... وآن من الآمال فيه انهيارها
فأودعت في ظلماء ضنك مقرها ... يلوح عليها للعيون اغبرارها
تنادى فلا تدري المنادي مفرداً ... وقد حط عن وجه الحياة خمارها
تنادى إلى يوم شديد مفزع ... وساعة حشر ليس يخفى اشتهارها
إذا حشرت فيه الوحوش وجمعت ... (1) صحائفنا وانثال فينا انتشارها
(2) وزينت الجنات فيه وأزلفت ... واذكي من نار الجحيم استعارها
وكورت الشمس المنيرة (3) بالضحى ... (4) وأسرع من زهر النجوم انكدارها
لقد جل أمر كان منه انتظامها ... وقد حل أمر كان منه انتثارها
وسيرت الأجبال والأرض (5) بدلت ... (6) وقد عطلت من مالكيها عشارها
فإما لدار ليس يفنى نعيمها ... وإما لدار لا يفك إسارها
بحضرة جبار رفيق معاقب ... فتحصى المعاصي كبرها وصغارها
ويندم يوم البعث جاني صغارها ... وتهلك أهليها هناك كبارها
ستغبط أجساد وتحيا نفوسها ... إذا ما استوى إسرارها وجهارها
إذا حفهم عفو الإله وفضله ... وأسكنهم داراً حلالاً عقارها
__________
(1) مشير إلى الآية الكريمة (وإذا الصحف نشرت) التكوير: 10؛ وفي بعض الطبعات: انتثارها؛ وقافية " انتثارها " ستأتي بعد بيتين.
(2) وإذا الجنة أزلفت (التكوير: 13) .
(3) إذا الشمس كورت (التكوير: 1) .
(4) وإذا النجوم انكدرت (التكوير: 2) .
(5) وإذا الجبال سيرت (التكوير: 3) .
(6) وإذا العشار عطلت (التكوير: 4) .(1/304)
سيلحقهم أهل الفسوق إذا استوى ... (1) بحلبة سبق طرفها وحمارها
يفر بنو الدنيا بدنياهم التي ... يظن على أهل الحظوظ اقتصارها
هي الأم خير البر فيها عقوقها ... وليس بغير البذل يحمى ذمارها
فما نال الحظ إلا مهينها ... وما الهلك إلا قربها واعتمارها
تهافت فيها طامع بعد طامع ... وقد بان للب الذكي اختبارها
تطامن لغمر الحادثات ولا تكن ... لها ذا اعتمار يجتنبك (2) غمارها
وإياك أن تغتر منها بما ترى ... فقد صح في العقل الجلي عيارها
رأيت ملوك الأرض يبغون عدة ... ولذة نفس يستطاب اجترارها
وخلوا طريق القصد في مبتغاهم ... لمعقبة الصغار جم صغارها
وإن التي يبغون نهج لغية ... مكين لطلاب الخلاص اختصارها
هل العز إلا همة صح صونها ... إذا صان همات الرجال انكسارها
وهل رابح إلا امرؤ متوكل ... قنوع غني النفس باد وقارها
ويلقى ولاة الملك خوفاً وفكرة ... تضيق بها ذرعاً ويفنى اصطبارها
عياناً نرى هذا ولكن سكرة ... أحاطت بنا ما إن يفيق خمارها
تدبر من الباني على الأرض سقفها ... (3) وفي علمه معمورها وقفارها
ومن يمسك الأجرام والأرض أمره ... بلا عمد يبنى عليه قرارها
ومن قدر التدبير فيها بحكمة ... فصح لديها ليلها ونهارها
ومن فتق الأمواه في صفح وجهها ... فمنها تغذى حبها وثمارها
ومن صير الألوان في نور نبتها ... فأشرق فيها وردها وبهارها
فمنهن مخضر يروق بصيصه ... ومنهن ما يغشى اللحاظ احمرارها
ومن حفر الأنهار دون تكلف ... فثار من الصم الصلاب انفجارها
ومن رتب الشمس المنير ابيضاضها ... غدواً ويبدو بالعشي اصفرارها
__________
(1) أي أن أهل الفسوق لن يلحقوهم، لأن الحمار لا يدرك الجواد في حلبة السباق.
(2) برشيه: يجتبيك، وهو خطأ.
(3) في هذا البيت وأبيات تليه ينظر إلى الآيات 4 - 2 من سورة الرعد، كما فعل من قبل في آيات سورة التكوير.(1/305)
ومن خلق الأفلاك فامتد جريها ... واحكمها حتى استقام مدارها
ومن إن ألمت بالعقول رزية ... فليس إلى حي سواه افتقارها
تجد كل هذا راجعاً نحو خالق ... له ملكها منقادة وائتمارها
أبان لنا الآيات في أنبيائه ... فأمكن بعد العجز فيها اقتدارها
فأنطلق أفواهاً بألفاظ حكمة ... (1) وما حلها إثغارها واتغارها
وأبرز من صم الحجارة ناقة ... وأسمعهم في الحين منها حوارها
ليوقن أقوام وتكفر عصبة ... (2) أتاها بأسباب الهلاك قدارها
وشق لموسى البحر دون تكلف ... وبان من الأمواج فيه انحسارها
وسلم من نار الأتون خليله ... (3) فلم يؤذه إحراقها واحترارها
ونجى من الطوفان نوحاً وقد هدى ... به أمة أبدى الفسوق شرارها
ومكن داوداً بأيد وإبنه ... (4) فتعشيرها ملقى له وبذارها
وذلل جبار البلاد لأمره ... وعلم من طير السماء حوارها
وفضل بالقرآن أمة أحمد ... ومكن في أقصى البلاد مغارها
وشق له بدر السماء وخصه ... (5) بآيات حق لا يحل مغارها
وأنقذنا من كفر أربابنا به ... (6) وكان على قطب الهلاك مدارها
فما بالنا لا نترك الجهل ويحنا ... لنسلم من نار ترامى شرارها
__________
(1) أخذ في هذا البيت والذي يليه يعدد المعجزات التي جاء بها الأنبياء ككلام عيسى في المهد وناقة صالح وشق البحر لموسى ونار ابراهيم وطوفان نوح والتمكين لداود وسليمان، والقرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم وشق البدر.. الخ.
(2) يعني قدار بن سالف عاقر الناقة.
(3) احترارها: التهابها؛ وفي بعض الطبعات: واعترارها، ولا معنى له.
(4) تعشيرها: أخذ العشر منها؛ والبذار: الحب الذي يبذر، أي له زرع الأرض وجني حصادها؛ وفي قراءة: فتعسيرها - بالسين المهملة -، ولذلك قرأ برشيه " ويسارها " ليتطابق اليسر مع العسر.
(5) المغار: الحبل المفتول، أي انها آيات محكمات لا تنقض، وفي بعض الطبعات " معارها " بالعين المهملة وهو خطأ.
(6) في بعض الطبعات منارها؛ ولا معنى له.(1/306)
[خاتمة]
هنا أعزك الله انتهى ما تذكرته ايجاباً لك، وتقمنا (1) لمسرتك، ووقوفاً عند أمرك، ولم أمتنع أن أورد لك في هذه الرسالة أشياء يذكرها الشعراء ويكثرون القول فيها، موفيات على وجهها، ومفردات في أبوابها، ومنغمات التفسير، مثل الإفراط في صفة النحول وتشبيه الدموع بالأمطار وأنها تروي السفار، وعدم النوم البتة، وانقطاع الغذاء جملة، إلا أنها أشياء لا حقيقة لها (2) ، وكذب لا وجه له، ولكل شيء حد، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.
والنحول قد يعظم ولو صار حيث يصفونه لكان في قوام الذرة أو دونها، ولخرج عن حد المعقول.
والسهر قد يتصل ليالي، ولكن لو عدم الغذاء أسبوعين لهلك، وإنما قلنا الصبر عن النوم أقل من الصبر عن الطعام لان النوم غذاء الروح، والطعام غذاء الجسد، وإن كانا يشتركان في كليهما ولكنا حكينا على الأغلب. وأما الماء فقد رأيت أن ميسوراً البناء جارنا بقرطبة يصبر عن الماء أسبوعين في حمارة القيظ ويكتفي بما في غذائه من رطوبة. وحدثني القاضي أبو عبد الرحمن بن جحاف (3) انه كان يعرف من كان لا يشرب الماء شهراً. وإنما اقتصرت في رسالتي على
__________
(1) تقمن المسرة: تحريها وتوخيها.
(2) يريد: ولم يمنعني من إيراد هذه الأشياء إلا أنها أشياء لا حقيقة لها.
(3) قد مر التعريف به: 272.(1/307)
الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلاً، وعلى أني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرة يكتفي بها لئلا أخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم.
وسيرى كثير من إخواننا أخباراً لهم في هذه الرسالة مكنياً فيها عن اسمائهم على ما شرطنا في ابتدائها.
وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتبه الملكان ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه، استغفار من يعلم أن كلامه من عمله؛ ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو، وإلا فليس من السيئات والفواحش التي يتوقع عليها العذاب، وعلى كل حال فليس من الكبائر التي ورد النص فيها.
وأنا أعلم أنه سينكر علي بعض المتعصبين علي تألفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته. وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته، قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات: 12) . وحدثني أحمد ابن محمد بن الجسور، ثنا ابن أبي دليم، ثنا ابن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس عن أبي الزبير المكي عن أبي شريح الكعبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إياكم والظن فإنه أكذب الكذب ". (1) وبه إلى مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت (2) . وحدثني صاحبي أبو بكر محمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن يوسف الأزدي ثنا يحيى بن عائذ ثنا أبو عدي عبد العزيز بن
__________
(1) الحديث في البخاري (وصايا: 8، أدب: 57، 58) وغيره من الصحاح وانظر مسند أحمد في مواضع كثيرة منها 2: 254، 287، 312، 342.
(2) الحديث في البخاري (أدب 21، 85؛ رقاق: 23) وفي مسلم (ايمان: 74، لقطة: 14) ومسند أحمد 2: 174، 264، 433 ومواطن أخرى.(1/308)
علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج الإمام بمصر ثنا أبو علي الحسن ابن القاسم بن دحيم المصري ثنا محمد بن زكريا الغلابي ثنا أبو العباس ثنا أبو بكر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثماني عشرة كلمة من الحكمة منها: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك على ما يغلبك عليه. ولا تظن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملا (1) . فهذا أعزك الله أدب الله وأدب رسوله صلى الله عليه وسلم وأدب أمير المؤمنين.
وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة ولا أنسك نسكاً أعجمياً (2) . ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهي عنها، ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله.
والكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني؛ فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس
__________
(1) مثل هذا القول عن عمر رضي الله عنه، إذ يقول: " لا يحل لامرئ مسلم يسمع الكلمة من أخيه المسلم (أو عن أخيه المسلم) أن يظن بها ظن سوء، وهو يجد لها في شيء من الخير مصرفاً (ترتيب المدارك لا4: 134؛ ط. المغرب) .
(2) يقال أن رجلاً كان يستنكر رواية الشعر فقال فيه سعيد بن المسيب " ذاك رجل نسك نسكاً أعجمياً ". وقيل انه قال في ناس كرهوا إنشاد الشعر: " لقد نسكوا نسكاً أعجمياً " انظر البيان والتبيين 1: 202 والسماع لابن القيسراني: 93.(1/309)
عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار، لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا.
وإن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيف، ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تحد، ولا يؤدى شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا وكل عارية فراجعة إلى معيرها، وله الحمد أولاً وآخراً وعوداً وبدءاً وأنا أقول: [من الوافر] .
جعلنا اليأس لي حصناً ودرعاً ... فلم ألبس ثياب المتضام
وأكثر من جميع الناس عندي ... يسير صانني دون الأنام
إذا ما صح لي ديني وعرضي ... فلست لما تولى ذا اهتمام
تولى الأمس والغد لست ادري ... أأدركه ففي ماذا اغتنامي جعلنا الله وإياك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.(1/310)
الملحق (1)
(ص 227)
وممن رثى قرطبة أيضاً (1) ، من وجوه أهلها وأرباب النعم المؤثلة بها، وأكثر التفجع على دياره منها، لما استولى الخراب عليها عند فرار البرابر عنها، الفقيه الأديب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم، ابن وزير آل عامر الأكبر. فإني وجدت بخطه في خبر ذكره قال:
وقفت على أطلال منازلنا بحومة بلاط مغيث من الأرباض الغريبة، ومنازل البرابر المستباحة عند معاودة قرطبة. فرأيتها قد محت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى؛ وآكلاماً مشوهة بعد الحسن، وخرائب مفزعة بعد الأمن، ومآوي للذئاب، وملاعب للجان، ومغاني للغيلان، ومكامن للوحوش، ومخابئ للصوص، بعد غنيانها برجال كالسيوف، وفرسان كالليوث، تفيض لديهم النعم الفاشية، وتغص منهم بكثرة القطين الحاشية، وتكنس في مقاصيرهم ظباء الإنس الفاتنة، تحت زبرج من غضارة الدنيا تذكر نعيم الآخرة، حال الدهر عليهم بعد طول النضرة فبدد شملهم حتى صاروا في البلاد أيادي سبا، تنطق عنهم الموعظة، فكان تلك المحاريب المنمقة، والمقاصير المرشقة، التي كانت في تلك الديار كبروق السماء إشراقاً وبهجة، يقيد حسنها الأبصار، ويجلي منظرها الهموم،
__________
(1) انظر أعمال الاعلام (تحقيق ليفي بروفنسال، بيروت (106 - 108) .(1/311)
كان لم تغن بالأمس، ولا حلتها سادة الإنس، قد عبث بها الخراب، وعمها الهذم، فأصبحت أوحش من أفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل ما قد بقي ماثلاً فيها، وتزهدك فيها.
وكررت النظر، ورددت البصر، وكدت استطار حزناً عليها، وتذكرت أيام نشأتي فيها، وصبابة لداتي بها؛ مع كواعب غيد، إلى مثلهن يصبو الحليم؛ ومثلت لنفسي انطواءهن بالفناء، وكونهن تحت الثرى إثر تقطع جمعنا بالتفرق والجلاء في الآفاق النائية، والنواحي البعيدة، وصدقت نفسي عن فناء تلك النصبة، وانصداع تلك البيضة، بعد ما عهدته من حسنها ونضارتها وزبرجها وغضارتها، ونضوته بفراقها من الحال الحسنة، والمرتبة الرفيعة، التي رفلت في حللها ناشئاً فيها، وأرعيت سمعي صوت الصدى والبوم زاقياً بها، بعد حركات تلك الجماعة المنصدعة بعرصاتها، التي كان ليلها تبعاً لنهارها، في انتشارها بسكانها، والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدو والاستيحاش، والخفوت والإخفاش. فأبكى ذلك عيني على جمودها، وقرع كبدي على صلابتها، وهاج بلابلي على تكاثرها، وحركني للقول على نبو طبعي؛ فقلت: [من الطويل]
سلام على دار رحلنا وغودرت ... خلاء من الأهلين موحشة قفرا
تراها كان لم تغن بالأمس بلقعاً ... ولا عمرت من أهلها قبلنا دهرا
فيا دار لم يقفرك منا اختيارنا ... ولو أننا نستطيع كنت لنا قبرا
ولكن أقداراً من الله أنفذت ... تدمرنا طوعاً لما حل أو قهرا
ويا خير دار قد تركت حميدة ... سقتك الغوادي ما اجل وما أسرى
ويا مجتلى تلك البساتين حفها ... رياض قوارير غدت بعدنا غبرا
ويا دهر بلغ ساكنها تحيتي ... ولو سكنوا المروين (1) أو جاوزوا النهرا (2)
__________
(1) المروين: مثنى مرو، وهما مدينتان بخراسان.
(2) النهر: نهر جيحون.(1/312)
فصبرا لسطو الدهر فيهم وحكمه ... وإن كان طعم الصبر مستثقلا مراً
لئن كان أظمانا فقد طال ما سقى ... وإن ساءنا فيها فقد طال ما سرا
وأيتها الدار الحبيبة لا يرم ... ربوعك جون المزن يهمي بها القطرا
كأنك لم يسكنك غيد أوانس ... وصيد رجال أشبهوا الأنجم الزهرا
تفانوا وبادوا واستمرت نواهم ... لمثلهم أسكبت مقلتي العبرى
سنصبر بعد اليسر للعسر طاعة ... لعل جميل الصبر يعقبنا يسرا
وإني ولو عادت وعدنا لعهدها ... فكيف من أهلها سكن القبرا
ويا دهرنا فيها متى أنت عائد ... فنحمد منك العود إن عدت والكرا
فيا رب يوم في ذراها وليلة ... وصلنا هناك الشمس باللهو والبدرا
فوا جسمي المضنى وواقلبي المغرى ... ووانفسي الثكلى وواكبدي الحرى
ويا هم ما أعدى، ويا شجو ما أبرا ... ويا وجد ما أشجى، ويا بين ما أفرا
ويا دهر لا تبعد، ويا عهد لا تحل ... ويا دمع لا تجمد، ويا سقم لا تبرا
سأندب ذاك العهد ما قامت (1) الخضرا ... على الناس سقفاً واستقلت بنا الغبرا
__________
(1) الخضراء: السماء.(1/313)
فراغ(1/314)
الملحق (2)
(ص 257)
احمد بن كليب النحوى (1) ، أديب شاعر مشهور الشعر، ولا سيما شعره في أسلم وكان قد أفرط في حبه حتى أداه ذلك إلى موته، وخبره في [62 ب] ذلك طريف.
حدثني أبو محمد علي بن أحمد، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجي (2) ، قال: كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله محمد بن خطاب النحوي (3) في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد بن قاضي الجماعة أسلم ابن عبد العزيز (4) ، صاحب المزني والربيع (5) ، قال محمد بن الحسن: وكان من اجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب، أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع، والشعر الرائق، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متستراً بذلك إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة، وتنوشدت في المحافل؛ فلعهدي
__________
(1) انظر جذوة المقتبس: 134 (وبغية الملتمس رقم: 462) ومعجم الأدباء 4: 108.
(2) هو أستاذ ابن حزم في الفلسفة؛ راجع مقدمة كتاب التشبيهات من تحقيقي.
(3) محمد بن خطاب النحوي (938) كان من الأدباء المشهورين والنحاة المذكورين، يختلف اليه في علن العربية أولاد الأكابر (الجذوة: 50 وبغية الوعاة 1: 99) .
(4) ترجمة أسلم في الجذوة: 162 وبغية الملتمس رقم: 570.
(5) المزني هو اسماعيل بن يحيى (انظر طبقات الشيرازي: 97) والربيع بن سليمان المرادي (المصدر نفسه: 98) .(1/315)
بعرس في بعض الشوارع بقربطة، والنكوري الزامر قاعد في وسط الحفل، وفي رأسه قلنسوة وشي وعليه ثوب خز عبيدي، وفرسه بالحلية المحلاة يمسكه غلامه، وكان فيما مضى يزمر لعبد الرحمن الناصر، وهو يرمز في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم: [من المتقارب]
أسلمني في هوا ... هـ أسلم هذا الرشا
غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا
وشى بيننا حاسد ... سيسأل عما وشى
ولو شاء أن يرتشي ... على الوصل روحي ارتشى ومغن محسن يسايره فيها؛ قال: فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه، فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم سائراً، ومقبلاً نهاره كله، فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام خرج مستروحاً وجلس داره نهارا، فإذا صلى صبر أحمد بن كليب، فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً، وبالأخرى قفصاً فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يده، وقال يأمر مولاي بأخذ هذا، فقال له أسلم: ومن انت فقال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وقد كان تعرف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام وتأمله فعرفه، فقال له: يا أخي! وهنا بلغت بنفسك، وإلى هاهنا تبعتني، أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملة، وعن القعود على بابي نهاراً، حتى قطعت علي جميع ما لي فيه راحة، فقد صرت من سجنك (1) . والله، لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلي، ولا قعدت ليلاً
__________
(1) ياقوت: في سجنك.(1/316)
ولا نهاراً على بابي. ثم قام وانصرف أحمد بن كليب كئيباً حزيناً. قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنا، فقلنا لأحمد بن كليب، وخسرت دجاجك وبيضك فقال: هات كل ليلة قبلة يده وأخسر أضعاف ذلك. قال: فلما يئس من رؤيته ألبتة نهكته العلة، وأضجعه المرض. قال محمد بن الحسن: فاخبرني أبو عبد الله محمد بن خطاب شيخنا، قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم في ألبتة، فقلت له: وما دواؤك فقال: نظرة من أسلم، فلو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضاً يؤجر، قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى أسلم فاستأذنت عليه، فأذن لي وتلقاني بما يجب، فقلت له: لي حاجة، قال: وما هي قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم، ولكن قد تعلم انه برح بي، وشهر اسمي وآذاني، فقلت له: كل ذلك يغتفر في مثل الحال التي هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته، فقال والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلفني هذا، فقلت له: لابد، فليس عليك في ذلك شيء، وإنما هي عيادة مريض، قال: ولم أزل به حتى أجاب، ولا خلف، قال: نعم. فانصرفت إلى أحمد بن كليب، وأخبرته بموعده بعد تأبيه، فسر بذلك وارتاحت نفسه. قال: فلما كان الغد بكرت إلى أسلم وقلت له: الوعد، قال: فوجم وقال: والله لقد تحملني على خطة صعبة علي، وما أدري كيف أطيق ذلك. قال: فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، وتوسط الدرب، وقف واحمر وخجل، وقال لي: الساعة والله أموت، وما أستطيع أن أنقل قدمي، ولا أن أعرض هذا على نفسي، فقلت: لا تفعل، بعد أن بلغت المنزل تنصرف قال: لا سبيل والله إلى ذلك ألبتة، قال: ورجع مسرعاً فاتبعته، وأخذت بردائه(1/317)
فتمادى وتمزق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي لسرعته وإمساكي له، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت إلى احمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل عليه إذ رآنا من أول الدرب مبشراً، فلما رآني تغير وقال: وأين أبو الحسن فأخبرته بالقصة، فاستحال من وقته واختلط، وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستشنعت الحال، وجعلت أترجع وقمت، فثاب إليه ذهنه وقال لي: أبا عبد الله! قلت: نعم. قال: اسمع مني واحفظ عني، ثم أنشأ يقول: [مخلع البسيط]
أسلم يا راحة العليل ... رفقاً على الهائم النحيل
وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجلي قال: فقلت له: اتق الله! ما هذا العظيمة فقال لي: قد كان؛ قال: فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه، وقد فارق الدنيا.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وهذه قصة مشهورة عندنا، ومحمد بن الحسن ثقة ومحمد بن خطاب ثقة. وأسلم هذا من بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في أغاني زرياب، وكان شاعراً أديباً، وقد رأيت ابنه أبا الجعد.
قال أبو محمد: لقد ذكرت هذه الحكاية لأبي عبد الله محمد ابن سعيد الخولاني الكاتب فعرفها، وقال لي: لقد أخبرني الثقة أنه رأى أسلم هذا في يوم شديد المطر، لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائراً له، وقد تحين غفلة الناس في مثل ذلك الوقت.
وقال لنا أبو محمد: وحدثني أبو محمد قاسم بن محمد القرشي، قال: كتب ابن كليب إلى محمد بن خطاب شعراً يتغزل فيه بأسلم فعرضه ابن خطاب على أسلم، فقال: هذا ملحون، وكان(1/318)
ابن كليب قد أسقط التنوين في لفظة في بيت من الشعر، قال: فكتب ابن خطاب بذلك إلى ابن كليب فكتب إليه ابن كليب مسرعاً: [من السريع]
ألحق لي التنوين في مطمع ... فإنني أنسيت إلحاقه
لا سيما إذ كان في وصل من ... كدر لي في الحب أخلاقه وأنشدني أبو محمد علي بن أحمد، قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن بن أحمد التجيبي، لأحمد بن كليب، وقد أهدى إلى أسلم في أوائل أمره كتاب " الفصيح " لثعلب: [من المجتث]
هذا كتاب الفصيح ... بكل لفظ مليح
وهبته لك طوعاً ... كما وهبتك روحي(1/319)
فراغ(1/320)
- 2 -
رسالة في مداواة النفوس
وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل(1/321)
فراغ(1/322)
تصدير
نشرت هذه الرسالة عدة مرات قبل اليوم:
1 - بعناية محمد هاشم الكتبي (بمصر أو دمشق، 1324 هـ) .
2 - بعناية الشيخ عمر المحمصاني، وذكر أن فيها زيادات على الطبعة الأولى، 1325 هـ.
3 - طبعة الجمالية 1913 ومعها كلمات في الأخلاق لقاسم أمين، وتشغل رسالة ابن حزم الصفحات من 2 - 53، وذكر ناشرها أنها الطبعة الأولى4
4 - وقمت بنشرها في مجموعة رسائل ابن حزم (القاهرة 1956) اعتماداً على مخطوطة شهيد علي رقم 2704 ومقارنة على طبعة الجمالية (ورمزها م) .
5 - ثم نشرتها السيدة ندى توميش (بيروت 1961) اعتماداً على مخطوطة استانبول والنشرة التي قمت بها وعلى طبعتين في القاهرة (احداهما سنة 1908 والأخرى دون تاريخ) وطبعتين اسكندريتين (إحداهما سنة 1913) . وقد وجدت أن طبعة القاهرة (1325 1908) تزيد فقرات لم ترد في مخطوطة استانبول أو في الطبعات الأخرى على تعددها، مما يدل على وجود أصل أتم لها لا أدري ماذا كان مصيره؛ وقد كنت فتشت عن تلك الطبعة كثيراً فلم أستطع الحصول عليها(1/323)
ولهذا فاني في إعداد هذه الطبعة راجعت نص الرسالة على مطبوعة السيدة توميش لأنها أفادت كثيراً من زيادات طبعة المحمصاني ولكني لم أتقيد بترقيمها للفقرات أو ببعض ما لا أراه صواباً من القراءات. وقد قامت السيدة توميش بترجمة الرسالة إلى الفرنسية وقدمت لها بدراسة عن حياة ابن حزم، كما زودت الترجمة بالحواشي المسهبة التي تعد تزيداً في معظم الأحوال.
6 - ونشرتها دار الآفاق الجديدة (بيروت 1978) بعنوان الأخلاق والسير.
7 - ونشرتها مؤسسة ناصر الثقافية (بيوت 1979) في طبعة شعبية (1) .
وكتب عنها الأستاذ رئيف خوري دراسة بعنوان حول " كتاب السير والأخلاق " لابن حزم (مجلة الأديب، عدد 11/ 1943 بيروت) .
الرموز
ص: نسخة شهيد علي (أي الأصل المعتمد) .
م: طبعة الجمالية.
د: طبعة السيدة ندى توميش.
__________
(1) بعد كتابة هذه السطور حصلت على طبعة المحمصاني، كما حصلت على طبعة أخرى طبعت بمصر على نفقة الشيخ مصطفى القباني (1323) ، وليس فيها الزيادات التي في طبعة المحمصاني.(1/324)
رسالة في مداواة النفوس
مقدمة
- 1 -
تبدو هذه الرسالة نوعاً من المذكرات والخواطر، التي دونت على مر الزمن، وكانت حصيلة التجربة المتدرجة، ولعل أكثرها إنما دون في سن كبيرة، لأنها تشير إلى الهدوء والنضج في محاكمة الناس والأشياء، وتمثل مفارقة وتكملة لطوق الحمامة، وخروجاً على بعض الأحكام التي جاءت في الطوق أو تطويراً لها. ففي هذه الرسالة يقدم ابن حزم نظرته في الحياة على نحو فلسفي أو فكري.
فإذا نظر إلى الحياة الاجتماعية وجدها تقوم على محور واحد، أحد طرفيه موجب والثاني سالب، أما الطرف الموجب فاسمه " الطمع " ومعناه بهذا التعميم: المحرك أو الدافع الداخلي الذي يوجه الفرد نحو هذا الشيء أو ذاك. فالطمع أصل في كل المظاهر الاجتماعية التي نراها من حب وطموح وحياة مادية وغير ذلك. وإذا أخذنا الحب مثلا لنفسره على مبدأ الطمع وجدنا أنواعا من الحب تختلف في الظاهر، وترجع كلها إلى أصل واحد هو " الطمع فيما يمكن نيله من المحبوب ".
ألست ترى جميع أنواع المحبين يتفرقون في النهاية، فيموت الوالد أسفاً على ولده، والعاشق حزناً على معشوقه كما يتفقون في التعبير عن هذا الحب فيغار الرجل على صديقه كما يغار الآخر على زوجه. ثم تأمل من يقر برؤية الله تعالى ويحن إلى تحققها تجده(1/325)
لا يقنع بشيء دونها لطمعه فيها، ولكن الذي لا يؤمن بها أي لا يطمع فيها لا يحس بها أصلا، وترى المسلم يحب ابنة عمه حبا مفرطاً على قدر طمعه في أن تصير اليه بينما نجد النصراني الذي لا يحق له الزواج من ابنة عمه لا يحس نحوها بشيء إطلاقاً، وترى هذا النصراني نفسه يعشق أخته من الرضاع بينما لا يحس المسلم بعاطفة نحوها لقلة طمعه فيها. ومعنى ذلك أن هذه الظاهرة الانسانية التي تسمى " الحب " ليس لها وجود إيجابي - في رأي ابن حزم - إلا عندما يدفعها الطمع إلى الوجود فتوجد وتتشكل وتصبح فعالة في حياة صاحبها. ولا يقتصر الطمع على توجيه الحياة الاجتماعية نحو الخير بل هو سبب للشر، وهو يدعو صاحبه إلى الذل، وهو الذي يحرك في الأفراد الأنانية العمياء حتى ليجعل بعض الناس يفضل نفسه على نفوس الآخرين في سبيل الحصول على ما يحدوه الطمع إليه.
فإذا كان الطمع بهذه القوة في حياة الأفراد فمن الطبيعي أن ينشأ عنه " الهم " وهو الظرف السالب في محور الحياة الاجتماعية.
ويصف ابن حزم جميع أدوار الحياة ومظاهرها بأنها محاولة لطرد الهم، وأن الناس جميعا يتفقون في هذه الغاية سواء في ذلك المتدين ومن لا دين له، والخامل والزاهد والفيلسوف العازف عن اللذات وغيرهم. فطالب المال يكد في سعيه ليطرد " هم الفقر "، والساعي وراء الشهرة يجري إليها ليطرد " هم الخفاء والخمول "، والراغب في اللذة يطلبها ليطرد " هم الحرمان من اللذة ". وقل مثل ذلك فيمن أكل وشرب وتزوج ولعب، فإن من يقوم بهذه الأمور إنما يحاول طرد الهم الناشئ عن أضدادها.
ولكن المنافسة في هذه الأمور تخلق هموماً جديدة كطعن حاسد أو ذم ذام. أما الشيء الذي يقتلع الهم من جذوره دون أن يثير بين عناصر المجتمع هماً جديداً فهو التوجه إلى الله تعالى، فتلك هي(1/326)
الغاية السليمة التي يمكن أن يسعى إليها الفرد مطمئنا، يقول ابن حزم: " فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد وهو العمل لله تعالى، فما عدا هذا فضلال وسخف.
ويظهر أن ابن حزم يؤمن بقوة الطمع في تكبير جانب الشر في الحياة، ومن ثم آمن بان الهم دائما شر، ولكنه نسي أن الأكل والشرب والزواج واللعب وغيرها من الأمور التي تقوم بها الحياة الانسانية ليست شراً وإن سخرت لطرد الهم، وأن التوجه إلى الله تعالى لا يقضي عليها، بل هي متجددة لأنها ضرورية، ومن ثم يصبح طرد الهم ملازماً لبقاء الحياة الانسانية لا يزول إلا بزوالها. فإذا ارتبطت هذه الأمور كلها بغاية واحدة، وهي التوجه إلى الله تعالى فليس ذلك طرداً للهم، ولكنه تهوين لشأنه، وتقليل لأثره في السعي والعمل الانساني على ظهر هذه الأرض.
ومن الملاحظة يتبين لنا أن ابن حزم يقترب في بعض نظراته الاجتماعية من رجال المدرسة النفسية، فنظرية " الطمع " تشبه إلى حد كبير ما يقال عن الغرائز وأثرها، بل إن اتخاذ اسم واحد للدوافع في نفس الفرد يقترب من رأي فرويد في حصره جميع الطاقات الغريزية في الانسان تحت اسم " لبيدو " واتخاذه غريزة الجنس متمثلة لكل الطاقات والقوى. أما طرد الهم فيمكن ان يشمل ما يسمى في علم النفس الجماعي، " الصراع النفسي والاجتماعي " وهذان النوعان من الصراع قد يحتوي أحدهما الآخر، وقد يستقل عنه، ولكن في الربط بين طرد الهم وفكرة التوجه إلى الله يقترب ابن حزم من فكرة " الصراع الاجتماعي " الذي يتمثل في توجيه الرغبات الدنيوية نحو غاية مثالية.
ومهما يقل في نقد الآراء الاجتماعية التي أوردها ابن حزم يزال بعض تلك الآراء يقربه إلى أنفسنا. فنحن نحس كأن ابن حزم يتحدث عن مشكلاتنا الحاضرة وهو يقول: أشد الأشياء على الناس الخوف والهم والمرض والفقر. ونحن أيضاً نعجب إعجاباً بالغا بنفاذ(1/327)
نظرته في المجموعة البشرية وشؤونها حين يقول: " تأملت كل ما دون السماء وطالت فيه فكرتي فوجدت كل شيء فيه وغير حي، من طبعه إن قوي أن يخلع على غيره من الأنواع هيأته ويلبسه صفاته، فترى الفاضل يود لو كان كل الناس فضلاء وترى الناقص يود لو كان كل الناس نقصاء، وكل ذي مذهب يود لو كان الناس موافقين له. " وعلماء الاجتماع المحدثون يرون في هذه الظاهرة ميلا إلى " الانسجام الاجتماعي ".
- 2 -
وتسلمنا هذه النظرات الاجتماعية إلى ذلك المبدأ العام الذي لون تفكير ابن حزم في كلياته وجزئياته وهو " التوجه إلى الله تعالى "، فقد كان هذا الاعتبار حاضراً في ذهنه عند كل قولة يقولها وكل رأي يبديه حتى استسلمت فلسفته إلى نوع من الزهد يوحي لأول وهلة أنه يتعارض مع مبادئه الاجتماعية، ولكنه في الواقع زهد صحيح وسليم، تستطيع أن تعبيره تحقيقاً دقيقاً للسنة الاسلامية، ولا يضطلع به، بمثل هذا الوضوح، إلا رجل كابن حزم في تحريه ودقته وسعة اطلاعه وتشربه لروح الدين الاسلامي، فابن حزم مؤمن بقيمة الزهد، وتوجهه نظرته التشاؤمية أحياناً إلى تحبيب العزلة، ولكنه في مجموع نظرته يفهم أن الزهد هو التغلب على النفعية جهد الطاقة، وانه التربية النفسية التي تضحي بالعجب وتقضي عليه، ولذلك وقف كثيراً من جهده على توضيح الطرق التي يحارب بها العجب، ومضى يدرس الأفراد حتى يقف على دوافع هذه الرذيلة في أعماق نفوسهم ليستطيع القضاء على تلك الدوافع في منابتها. والزهد أيضاً هو التكيف المحمود الذي يمثله الرسول، وقد لخص ابن حزم سيرة الرسول في هذه الناحية تلخيصاً مبدعاً حين قال " وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو القدوة في كل خير والذي أثنى الله تعالى على خلقه والذي جمع فيه تعالى أشتات(1/328)
الفضائل بتمامها وأبعده عن كل نقص، يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خف ولا نعل ولا قلنسوة ولا عمامة، ويلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره، لا يتكلف إلى ما لا يحتاج اليه ولا يترك ما يحتاج إليه، ويستغني بما وجد عما لا يجد، ومرة يمشي حافياً راجلاً، ومرة يمشي بالخف، ويركب البغلة الرائعة الشهباء ومرة يركب الفرس عرياً ومرة يركب الناقة ومرة يركب حماراً، ويردف عليه بعض أصحابه، ومرة يأكل التمر دون خبز، والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية، والبطيخ بالرطب والحلوى، يأخذ القوت ويبذل الفضل ويترك ما لا يحتاج اليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة اليه، ولا يغضب لنفسه ولا يدع الغضب لربه عز وجل ".
ولا شك أن رجال الدين الذي دعوا إلى الزهد الخالص في الدنيا أو الذين يفعلون ذلك، في حاجة إلى أن يقرأوا هذه النبذة القصيرة التي تحدد معنى الزهد الطبيعي.
وبمثل هذه البصيرة النافذة وذلك الذكاء المدهش استطاع ابن حزم أن يحل كثيراً من المشكلات التي أثارتها حياة الزهد على مر العصور، فقد كان الزهاد يتجادلون حول الفقر والغنى وأيهما أفضل: الغني أو الفقير، ولما سئل ابن حزم " آلبلاء أفضل أم العافية والفقر أفضل أم الغنى أجاب دون تردد: هذا سؤال فاسد، إنما الفضل للعباد بأعمالهم ونحن نسأل الله تعالى العافية والغنى ونعوذ بالله من البلاء والفقر، وإنما الفضل بالصبر والشكر [الرسائل: الورقة 231] .
وفي موطن آخر استطاع ابن حزم أن يوقفنا على رأي صحيح واضح في مشكلة الزهد الذي يدعو إلى المغالاة في التعبد، فقد سئل: ما الحد الأعلى في التعبد فكان جوابه: أنا اكره لكل واحد أن يزيد عن عدد ما كان يتنفل به نبيه محمد لوجهين: أحدهما: قول الله عز(1/329)
وجل (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . والثاني أن يخطر الشيطان في قلبه، فيوسوس أنه قد فعل من الخير أكثر مما كان محمد يفعله فيهلك في الأبد، ويحيط عمله، ويجد صلاته وصيامه في ميزان سيئاته [رسالة التلخيص لوجوه التخليس، الورقة: 242] .
- 3 -
فإذا كان لابن حزم نظرات اجتماعية صادقة أو فلسفة أخلاقية موضحة الحدود فلابد ان تدرس هذه النواحي عنده في ظل فكرته الدينية، فهي التي كانت توجهه وتأخذ بيده في كل سبيل، وإن لم يخل من تأثر عام ببعض مبادئ الفلسفة الأخلاقية عند أفلاطون وأرسطوطاليس كمحاولته أن يفسر قيام الفضائل على أربعة عناصر - تنشأ من تجمعها المركبات - وهي العدل والفهم والنجدة والجود، وهذا يذكرنا برأي فلاطون، كما يذكرنا مبدأ التوسط بين طرفين بتعريف الفضيلة عند أرسطوطاليس. ولا شك أن كثيراً من محاكمات ابن حزم تظهر تأثره بالفلسفة والمنطق، وهو الشيء الذي عابه بن خصومه وشنعوا عليه بسببه. ولكن لا شك أيضاً أن الفكرة الدينية هي العامل الرئيس في توجيه ملكاته وذكائه، فبها استطاع أن يقول إن علم الشريعة أفضل العلوم وأجلها، وبسببها يظهر ابن حزم الناقد الأدبي جائراً في أحكامه على الشعر، فهو يراه من العلوم المتأخرة، ولكنه في حكمه خاضع لمبادئه الخلقية تمام الخضوع. ويرى أن يكون منهج التعليم قاصراً في الشعر على شعر الحكمة كأشعار حسان وكعب بن مالك وصالح بن عبد القدوس، ويرى كذلك أن يحال بين الطلبة وبين رواية أربعة أضرب من الشعر هي الغزل وأشعار التصعلك وأشعار التغرب وشعر الهجاء. وهذه التقدير للشعر صادر عن مبدأ تربوي قائم على تحكيم المبدأ الخلقي في تقويم الفن. ومهما يكن رأينا في ابن حزم الناقد، فلا شك أنه في موقفه من الشعر يمثل حلقة في تلك السلسلة الطويلة من قياس الشعر بمقاييس خلقية، وإذا نحن أنكرنا هذا الرأي على ابن(1/330)
حزم فما هو إلا إنكار نظري، لأننا نتبع ما يقوله بالفعل في تدريس الشعر للطلبة قبل انتقالهم إلى طور النضج، ونجنبهم قراءة جزء كبير مما نهى عنه ابن حزم، ولعل هذا عينه هو عناه ابن حزم في نقده للشعر لأنه يرسم منهجاً في التعليم ويخضع كل العلوم لمقاييس تربوية.
- 4 -
وقد نبهتني هذه المذكرات وغيرها إلى أن ابن حزم ربما كان من أولئك الرواد الذين مهدوا لابن خلدون طريقه لوضع علم الاجتماع. فذهبت أقارن بين الرجلين، ودلتني المقارنة على اتفاقهما في بعض المظاهر، مثل اعتقادهما ان التاريخ علم شريف الغاية " لأنه يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سريهم. حتى تتم في ذلك فائدة الاقتداء لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا " (المقدمة: 9 ط. التجارية) .
ومنها إبطال علم النجوم لبطلان إمكان التجربة التي تحتاج آماداً طويلة لا يفي بها العمر الانساني، ومنها الإيمان بسلامة البداوة في أجسام أهلها واستغنائهم عن علم الطب بطرقهم الخاصة، إلى غير ذلك من نظرات لو جمعت لكان منها قدر صالح لإثبات مدى التشابه، ولكنه فيما يبدو لي - تشابه ظاهري يصل إليه كل مفكر على انفراد دون تأثر أو اتباع. وربما لم يكن ابن حزم من الأشخاص الذي تأثر بهم ابن خلدون، فابن خلدون لا يذكره بين من عنوا بشيء من التفسيرات الاجتماعية، ولا يحيل عليه حين ينصح الطلبة بقراءة كتب تفهمهم حقيقة السنة الإسلامية وتؤمن لديهم سلامة العقيدة، وربما كان اتباع ابن خلدون للمذهب المالكي يباعد بينه وبين الاستئناس إلى رأي رجل ظاهري كابن حزم كان عنيفاً في خصومه للمالكية. ثم هنالك ذلك البون الشاسع في النظرة الاجتماعية عند كل منهما، فابن حزم أقرب(1/331)
إلى الفيلسوف الأخلاقي، ومن هذا الوضع نفسه ينظر إلى المجتمع، ويهتم بالفرد اهتماماً بالغاً، أما ابن خلدون فإنه عالم اجتماعي لا يعبر الفرد في فلسفته ومبادئه اهتماماً كبيراً. وابن حزم صاحب مذهب قائم على الاكتفاء بالنقل، وهو يتخذ من هذا النقل شاهداً على صحة النبوات والشرائع والتواريخ، بينما لا يرضى ابن خلدون بالنقل وحده في الخبر، لأنه يتحمل الخطأ والدس والتشويه، ومع كل ذلك فإن ابن حزم يظل مقدمة صالحة لذلك السموق الشامخ في الفكر الاسلامي كما يمثله ابن خلدون: أولا في تلك النظرة الإجلالية للتاريخ واعتباره علماً وثانياً في ذلك التقدير لمعنى التعاون في الحياة الاجتماعية، ذلك المبدأ الذي تلقاه ابن حزم عن أستاذه ابن الكتاني ودان به في نظرته الاجتماعية، فقد كان ابن حزم معجباً بقول ذلك الأستاذ " إن من العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة، أما يرى الحراث يحرث له، والطحان يطحن له، والنساج ينسج له وسائر الناس كل متول شغلا له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة " وعلى بساطة هذا الكلام فإنه يجمل أن يكون أساساً لتحويل الناس في المغرب عن الاتكالية والخمول اللذين كانا يصحبان التصوف حيثما حل. ومن هذه النظرة الايجابية إلى التعاون الإنساني في المجتمع المغربي، ومن تفشي الحياة الخاملة في طبقات الصوفية هنالك، استمد ابن خلدون، ولابد، شيئاً من تفسيراته. ومن مغالاة أهل الظاهر وإغراقهم في الاعتماد على النقل تولد لديه ما يبصره بالطريقة المثلى لتصحيح الأخبار وتمحيصها، فاهتدى إلى ضرورة المعرفة بالعمران البشري وقاده هذا إلى البحث عن مبادئ كامنة وراء ذلك العمران.(1/332)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أسألك العون
اللهم صل على محمد وآله وسلم.
قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفقيه الأندلسي.
الحمد لله على عظيم مننه، وصلى الله على سيدنا محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله وسلم تسليماً كثيراً، وأبرأ إليه تعالى من الحول والقوة، وأستعينه على كل ما يعصم في الدنيا من جميع المخاوف والمكاره، ويخلص في الأخرى من كل هول وضيق.
أما بعد، فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة أفادنيها واهب التمييز تعالى، بمرور الأيام وتعاقب الأحوال، بما منحني عز وجل من التهمم (1) بتصاريف الزمان والإشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري. وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس وعلى الازدياد من فصول المال. ورقمت (2) كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب لينفع الله تعالى به من شاء من عباده، ممن يصل إليه، ما أتعبت فيه نفسي، وأجهدتها فيه وأطلت فيه فكري، فيأخذه عفواً، وأهديته إليه هدياً، فيكون ذلك
__________
(1) ص: التهم.
(2) ص: وزممت؛ د: ودونت.(1/333)
أفضل له من كنوز المال وعقد الأملاك إذا تدبره ويسره الله تعالى لاستعماله، وأنا راج في ذلك من الله تعالى أعظم الأجر لنيتي في نفع عباده وإصلاح ما فسد من أخلاقهم ومداواة علل نفوسهم، وبالله تعالى أستعين، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل.(1/334)
1 - فصل في مداواة النفوس
وإصلاح الأخلاق الذميمة
1 - لذة العاقل بتمييزه، ولذة العالم بعلمه، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده أعظم (1) من لذة الآكل باكله، والشارب بشربه، والواطئ بوطئه، والكاسب بكسبه، واللاعب بلعبه، والآمر بأمره. وبرهان ذلك أن الحكيم والعالم والعاقل والعامل ومن ذكرنا (2) واجدون لسائر اللذات التي سمينا كما يجدها المنهمك فيها ويحسونها كما يحسها المقبل عليها. وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما، لا من عرف أحدهما ولا يعرف الآخر.
2 - إذا تعقبت (3) الأمور كلها فسدت عليك، وانتهيت في آخر فكرتك، باضمحلال جميع أحوال الدنيا، إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط، لان كل أمل ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه، ولابد من أحد هذين السبيلين، إلا العمل لله عز وجل، فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل. أما في العاجل، فقلة الهم بما يهتم به الناس وانك به معظم من الصديق والعدو، وأما في الآجل فالجنة.
__________
(1) ص: أعظم لذة ما ذكرنا.
(2) ومن ذكرنا: مكررة في ص.
(3) ص: انعقبت.(1/335)
3 - تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحداً، وهو طرد الهم (1) : فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم هممهم وإراداتهم (2) لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم. فمن مخطئ وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب، وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره، والله اعلم.
[فطرد الهم] (3) مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه، وكل غرض غيره ففي الناس من لا يستحسنه، إذ في الناس من لا دين له فعلا يعمل للآخرة، وفي الناس من أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق، وفي الناس من يؤثر (4) الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت، وفي الناس من لا يريد المال ويؤثر عدمه
__________
(1) يبدو لي أن ابن قيم الجوزية لخص ما بقوله ابن حزم في هذه الفقرة دون أن يسميه فقال: (الجواب الكافي: 136) قال بعض العلماء: فكرت في سعي العقلاء فرأيت سعيهم كلهم في مطلوب واحد، وان اختلفت طرقهم في تحصيله، رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم، فهذا في الأكل والشرب، وهذا في التجارة والكسب، وهذا بالنكاح، وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة، وهذا في اللهو واللعب، فقلت: هذا المطلوب مطلوب العقلاء، ولكن الطرق كلها غير موصلة اليه بل لعل أكثرها إنما يؤثر إلى الاقبال على الله وحده، ومعالمته وحده، وايثار مرضاته على كل شيء، فإن سالك هذا الطريق ان فاته حظه في الدنيا فقد ظفر بالحظ العالي الذي لا فوت معه وان حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته كل شيء، وان ظفر بحظه من الدنيا ناله على أهنا الوجوه، فليس للعبد أنفع من هذا الطريق ولا أوصل منه إلى ذاته وبهجته وسعادته، وبالله التوفيق ".
(2) قد تقرأ في ص: ومراداتهم، لاضطراب الناسخ في كتابتها.
(3) زيادة من م، وفي ص بياض.
(4) هذه قراءة م، وفي ص صورة " يريد ".(1/336)
على وجوده ككثير من الأنبياء، عليهم السلام، ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة، وفي الناس من يبغض اللذات بطبعه ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المؤثرين فقد المال على اقتنائه، وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم كأكثر من نرى من العامة، وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها. وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد (1) يستحسن الهم، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه.
فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الانسان، الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له. فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة. وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به عن أنفسهم هم الفقر، وإنما طلب الصوت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه، وإنما أكل من أكل وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع، ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم.
وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لابد منه: من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها، وذهاب ما وجد منها والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضاً سوء شح (2) بالحصول على ما حصل عليه
__________
(1) ص: لأحد، والتصويب عن م.
(2) د والمحمصاني: وأيضاً نتائج سوء تنتج.(1/337)
من كل ذلك من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عدو، مع الذم والإثم وغير ذلك. ووجدت العمل للآخرة سالماً من كل عيب، خالصاً من كل كدر، موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة. ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر، إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال منه، عون له (1) على ما يطلب، لم يهتم، إذ ليس مؤاخذاً بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب. ووجدته (2) إن قصد بالأذى سر، وإن تعب فيما سلك فيه سر، فهو في سرور متصل أبداً، وغيره بخلاف ذلك أبداً. فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه طريق واحد، وهو العمل لله تعالى. فما عدا هذا فضلال وسخف.
4 - لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل، في دعاء إلى حق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم. وباذل نفسه في عرض دنيا، كبائع الياقوت بالحصى.
5 - لا مروءة لمن لا دين له.
6 - العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة.
7 - لإبليس في م الرياء حبالة، وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير خوف أن يظن به الرياء، فإذا اطرقك منه هذا، فامض على فعلك، فهو شديد الألم عليه.
8 - باب عظيم من أبواب العقل والراحة: وهو طرح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل، بل هو
__________
(1) ص: دعوى.
(2) د: ورأيته.(1/338)
باب العقل كله والراحة كلها - من قدر انه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض (1) نفسه على السكون إلى (2) الحقائق وإن ألمتها في أول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه، بل مدحهم إياه إن كان بحق، وبلغه مدحهم له، أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فبلغه فسر فقد صار مسروراً بالكذب، وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه، فإن كان بحق فبلغه فربما كان لك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص، وإن كان بباطل فبلغه، فصبر، اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر، وكان مع لك غانماً لأنه يأخذ حسنات من مه بالباطل فيحظى بها في دار الجزاء أحوج ما يكون إلى النجاة بأعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها، وهذا حظ رفيه لا يزهد فيه إلا مجنون. وأما أن (3) لم يبلغه مدح الناس إياه، فكلامهم وسكوتهم سواء. وليس كذلك ذمهم إياه لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم أو لم يبلغه. ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن: " ذلك عاجل بشرى المؤمن " (4) ، لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل أكثر من رغبته في المدح بالحق. ولكن إذ جاء هذا القول فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل فإنما تجب البشرى بما في المدح لا بنفس المدح.
9 - ليس بين الفضائل والرذائل ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط. فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاغات ونفرت من الرذائل والمعاصي، والشقي من أنست نفسه بالرذائل
__________
(1) ص: وأرض.
(2) ص: على السكوت على.
(3) ص: أن من.
(4) الحديث في صحيح مسلم (بر: 166) وابن ماجة (زهد: 25) ومسند أحمد 5: 156، 157، 168.(1/339)
والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات. وليس ها هنا إلا صنع الله تعالى وحفظه.
10 - طالب الأجر في الآخرة (1) متشبه بالملائكة، وطالب الشر متشبه بالشياطين، وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع، وطالب اللذات متشبه بالبهائم، وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه، ولكنه يشبه الغدران (2) التي في الكهوف، في المواضع الوعرة لا ينتفع بها شيء من الحيوان إلا ما قل من الطائر. ثم تجفف الشمس والريح ما بقي منها. كذلك المال الذي لا ينفق في معروف.
11 - العاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد. وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع والبهائم والجمادات، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة. فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير حقها (3) لله تعالى، فليعلم أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه، ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً. ومن سر بحمله الأثقال، فليعلم أن الحمار أحمل منه. ومن سر بسرعة عدوه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع منه صوتاً، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته. فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة له لكن من قوي تمييزه، واتسع علمه وحسن عمله، فليغتبط بذلك فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس.
12 - قول الله: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن
__________
(1) م: طالب الآخرة.
(2) د: العذرات.
(3) د: موضعها.(1/340)
الهوى فإن الجنة هي المأوى) (النازعات: 40) جامع لكل فضيلة، لان نهي النفس عن الهوى هو ردعها عن الطبع الغضبي وعن الطبع الشهواني، لان كليهما واقع تحت موجب الهوى، فلم يبق إلا استعمال النفس للنطق الموضوع فيها الذي (1) به بانت عن البهائم والحشرات والسباع.
13 - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي استوصاه: " لا تغضب " (2) ، وأمره، عليه السلام، أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه، جامعان لكل فضيلة، لان في نهيه عن الغضب ردع ذات القوة الغضبية عن هواها وفي أمره عليه السلام بان يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه ردع النفوس عن القوة الشهوانية، وجمع لأزمة العدل الذي هو فائدة النطق الموضوع في النفس الناطقة.
14 -[ (3) رأيت أكثر الناس، إلا من عصم الله تعالى وقليل ما هم، يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا، ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً: من نيات خبيثة يضبون عليها من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ومن لا ذنب له، وتمني أشد البلاء لمن يكرهونه، وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه، وأنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الراحة لأنفسهم وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم، ولاقتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يريدونه أو يمنع كونه. فأي غبن اعظم من هذه
__________
(1) ص: التي.
(2) الحديث في صحيح البخاري (ادب: 76) والترمذي (بر: 73) ومسند أحمد 2: 175، 3 484، 5: 34، 370.
(3) ما بين معقفين من فقرات أضيفت الى هذه الرسالة من د: وهي عن طبعة القاهرة (1908) تحقيق أحمد عمر المحمصاني (انظر التصدير) .(1/341)
الحال التي نبهنا عليها، وأي سعد أعظم من الذي دعونا إليه (1) ] .
15 -[إذا حقت مدة الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل الزمانين فقط. وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن؛ فمن أضل ممن يبيع باقياً خالداً بمدة هي أقل من كر الطرف] .
16 -[إذا نام المرء خرج عن الدنيا ونسي كل سرور وكل حزن، فلو رتب نفسه في يقظته على ذلك أيضاً لسعد السعادة التامة] .
17 -[من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم، ومن كافأ من أساء إليه منهم فهو مثلهم، ومن لم يكافئهم بإساءتهم فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم] .
__________
(1) قارن ما جاء في هذه الفقرة بما سيجيء في الفقرة 159 (وهي أيضاً مزيدة) إذ يكاد القولان يتفقان.(1/342)
2 - فصل في العلم
18 - لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويحبونك (1) وأن العلماء يحبونك ويكرمونك، لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه. فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويعبه نظراؤه من الجهال لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار عنه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة..
19 - لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساويس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس، لكان ذلك أعظم داع إليه. فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره، ومن أقلها ما ذكرنا مما يحصل عليه طالب العلم، وفي مثله أتعب ضعفاء الملوك أنفسهم، فتشاغلوا عما ذكرنا بالشطرنج والنرد والخمر والأغاني وركض الدواب في طلب الصيد وسائر الفضول التي تعود بالمضرة في الدنيا والآخرة. وأما بفائدة (2) فلا.
20 - لو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسلط الجهال، ومن الهم بمغيب الحقائق عنه، ومن الغبطة بما قد بان
__________
(1) د: ويجلونك.
(2) ص: فائدة.(1/343)
له وجهة من الأمور الخفية عن غيره لزاد حمداً لله عز وجل، وغبطة بما لديه من العلم، ورغبة في المزيد منه.
21 - من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه، كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر، وكزارع الشعراء (1) حيث يزكو النخل والتين.
22 - نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والحلوى من به احتراق وحمى، وكتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء.
23 - البال بالعلم ألوم من الباخل بالمال، فالباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده، والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل.
24 - من مال بطبعه إلى علم ما - وإن كان أدنى من غيره - فلا يشغله (2) بسواه، فيكون كغارس النارجيل بالأندلس وكغارس الزيتون بالهند، وكل ذلك لا ينجب.
25 - أجل العلوم ما قربك من خالقك تعالى، وما أعانك على الوصول إلى رضاه.
26 - انظر في المال والحال والصحة إلى من دونك وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من فوقك.
27 - العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة، وتصفيه من كل آفة، وتهلك ذا العقل الضعيف.
28 - من الغوص على الجنون ما لو غاصه صاحبه على العقل
__________
(1) د. وكغارس، والشعراء: الشجر غير المثمر.
(2) ص: يشغلها.(1/344)
لكان أحكم من الحسن البصري، وأفلاطون الأثيني، وبزرجمهر الفارسي.
29 - وقف العقل عند أنه لا ينفع إن (1) لم يؤيد بتوفيق في الدين أو بسعد في الدنيا.
30 -[لا (2) تضر بنفسك في أن تجرب بها الآراء الفاسدة لتري المشير بها فسادها فتهلك فإن ملامة ذي الرأي الفاسد لك على مخالفته وأنت ناج من مكاره خير لك من أن يقدرك ويندم كلاكما وأنت قد حصلت في مكاره.] .
31 -[إياك أن تسر غيرك بما تسوء به نفسك فيما لم توجبه عليك شريعة أو فضيلة] .
32 - وقف العلم عند الجهل بصفات الباري عز وجل.
33 - لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون.
34 - من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمنه، آمين آمين.
35 - غاظني أهل الجهل مرتين من عمري: إحداهما بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي، والثانية بسكوتهم عن الكلام بحضرتي أيام علمي. فهم أبداً ساكتون عما ينفعهم ناطقون فيما يضرهم. وسرني أهل العلم مرتين من عمري: إحداهما بتعليمي أيام جهلي، والثانية بمذكراتي أيام علمي.
__________
(1) ص: أنه.
(2) الفقرتان، 30، 31 فصلتا بين قولين مترابطين، وجاءتا بموضوع لا علاقة له بالسياق.(1/345)
36 - من فضل العلم والزهد في الدنيا انهما لا يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلها ومستحقهما. ومن نقص علو أحوال الدنيا من المال والصوت أن أكثر ما يقعان ففي غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما.
37 - ومن طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق [من] (1) أهل المواساة والبر والصدق وكرم العشرة والصبر والوفاء والأمانة والحلم وصفاء الضمائر وصحة المودة؛ ومن طلب الجاه والمال واللذات لم يساير إلا أمثال الكلاب الكلبة والثعالب الخلبة ولو يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو في المعتقد خبيث الطبيعة.
38 - منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة، وهو انه يعلم حسن الفضائل، فيأتيها ولو في الندرة، ويعلم قبح الرذائل فيتجنبها ولو في الندرة، ويستمع الثناء الحسن فيرغب في مثله، والثناء الرديء فينفر منه، فعلى هذه المقدمات وجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل ريلة، ولا يأتي الفضائل من لم يتعلم العلم إلا صافي الطبع جداً فاضل التركيب. وهذه منزلة خص بها النبيون عليهم الصلاة والسلام، لأن الله تعالى علمهم الخير كله دون أن يتعلموه من الناس.
39 -[وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جداً. ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم السلام ووصايا الحكماء، وهو لا يتقدمه في خبث السيرة وفساد العلانية والسريرة شرار الخلق، وهذا كثير جداً، فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى] .
__________
(1) زيادة من د.(1/346)
3 - فصل في الأخلاق (1) والسير
40 - احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك، حتى ربما أضر ذلك بك وربما قتلك.
41 - وطن نفسك على ما تكره يقل همك إذا أتاك ولم تستضر بتوطينك أولاً، ويعظم سرورك ويتضاعف، إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدرته.
42 - إذا تكاثرت الهموم سقطت كلها.
43 - الغادر يفي بالمحدود [والوفي يغدر بالمحدود] (2) والسعيد كل السعيد في دنياه من لم يضطره الزمان إلى اختيار الإخوان.
44 - لا تفكر فيمن يؤذيك فانك ان كنت مقبلاً فهو هالك، وسعدك يكفيك، وإن كنت مدبراً فكل أحد يؤذيك.
45 - طوبى لمن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم منها.
46 - الصبر على الجفاء ينقسم ثلاثة أقسام: فصبر عن من يقدر عليك ولا تقدر عليه، وصبر عن من تقدر عليه ولا يقدر عليك، وصبر
__________
(1) ص: الاختلاف.
(2) زيادة من م.(1/347)
عن من لا تقدر عليه ولا يقدر عليك. فالأول ذل ومهانة وليس من الفضائل، والرأي لمن خشي ما هو أشد مما يصبر عليه، المتاركة والمباعدة، والثاني فضل وبر وهو الحلم على الحقيقة، وهو الذي يوصف به الفضلاء، والثالث ينقسم قسمين: إما أن يكون الجفاء ممن لم يقع منه إلا على سبيل الغلطة والوهلة ويعلم قبح ما أتى به ويندم عليه، فالصبر عليه فضل وفرض، وهو حلم على الحقيقة، وأما من كان لا يدري مقدار نفسه ويظن أن لها حقاً يستطيل به، فلا يندم على ما سلف منه، فالصبر عليه ذل للصابر وإفساد للمصبور عليه، لأنه يزيد استشراء، والمقارضة له سخف، والصواب إعلامه بأنه كان ممكناً أن ينتصر منه، وأنه إنما ترك ذلك استرذالاً له فقط، وصيانة عن مراجعته، ولا يزاد على ذلك. وأما جفاء (1) السفلة فليس جوابه الا النكال وحده.
47 - من جالس الناس لم يعدم هماً يؤلم نفسه، وإثماً (2) يندم عليه في معاده، وغيظاً ينضج كبده، وذلاً ينكس همته. فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم والعز والراحة والسرور والسلامة في الانفراد عنهم، ولكن اجعلهم كالنار تدفأ (3) بها ولا تخالطها. (4)
48 -[لو لم يكن في مجالسة الناس الا عيبان لكفيا، أحدهما: الاسترسال عند الأنس بالأسرار المهلكة القاتلة التي لولا المجالسة لم يبح بها البائح، والثاني: مواقعة الغلبة المهلكة في الآخرة، فلا سبيل إلى السلامة من هاتين البليتين إلا بالانفراد عن المجالسة جملة] .
49 - لا تحقرن (5) شيئاً من عمل غد أن (6) تحققه بان تعجله
__________
(1) ص: جواب.
(2) ص: وانما.
(3) ص: تدن.
(4) زاد في ص: ليلة.
(5) ص: لا تؤخر لا تحقرن.
(6) ص: لا لأن.(1/348)
اليوم (1) وان قل فإن من قليل الأعمال يجتمع كثيرها، وربما اعجز أمرها عند ذلك فبطل الكل. ولا تحقر شيئاً مما ترجو به تثقيل ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن، وان قل، فانه يحط عنك كثيراً لو اجتمع لقذف بك في النار.
50 - الوجع والفقر والنكبة والخوف لا يحس أذاها الا من كان فيها، ولا يعلمه من كان خارجاً عنها، وفساد الرأي والعار والإثم لا يعلم قبحها إلا من كان خارجاً عنها وليس يراه من كان داخلاً فيها.
51 - الأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها الا من كان خارجاً عنها وليس يعرفه (2) من كان فيها. وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لا يعرف فضلها الا من كان من أهلها، ولا يعرفه من لم يكن منها.
52 - أول من يزهد في الغادر من غدر له الغادر، وأول من يمقت شاهد الزور من شهد له به، وأول من تهون الزانية في عينه فالذي يزني بها.
53 - ما رأينا شيئاً فسد فعاد إلى صحته الا بعد لأي - أي بعد شدة - فكيف بدماغ يتوالى عليه فساد السكر كل ليلة، وان عقلاً زين لصاحبه تعجيل افساده كل ليلة لعقل (3) ينبغي أن يتهم.
54 -[الطريق تبرم، والزوايا تكرم، وكثرة المال ترغب وقلته تقنع] (4) .
55 - قد ينحس العاقل بتدبيره ولا يجوز أن يسعد الأحمق بتدبيره.
__________
(1) ص: بأن العجلة اليوم.
(2) م: وليس يعرف حقها.
(3) ص: العقل.
(4) هذه الفقرة تبدو دخيلة وقوله " الزوايا تكرم " لا أدري معناه، ولعله " الروايا " أي الابل التي تحمل الماء وتعين على قطع الطريق.(1/349)
56 - لا شيء اضر على السلطان من كثرة المتفرغين حواليه. فالحازم يشغلهم بما لا يظلمهم فيه، فان لم يفعل شغلوه بما يظلمونه فيه.
57 - مقرب أعدائه قاتل نفسه.
58 - كثرة وقوع العين على الشخص تسهل أمره وتهونه.
59 - التهويل بلزوم زي ما، والاكفهرار وقلة الانبساط، ستائر جعلها الجهال الذين مكنتهم (1) الدنيا أمام جهلهم.
60 - لا يغتر العاقل بصداقة حادثة أيام دولته، فكل أحد صديقه يومئذ.
61 - اجهد في أن تستعين في أمورك بمن يريد منها لنفسه مثل ما تريد لنفسك، ولا يستعن فيها بمن حظه من غيرك كحظه منك.
62 - لا تجب عن كلام نقل إليك عن قائل حتى توقن أنه قاله فان من نقل إليك كذباً رجع من عندك بحق (2) .
63 - ثق بالمتدين وان كان على غير دينك، ولا تثق بالمستخف وان أظهر أنه على دينك. من استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء مما تشفق عليه.
64 - وجدت المشاركين بأرواحهم أكثر من المشاركين بأموالهم، هذا شيء طال اختباري اياه، ولم أجد قط على طول التجربة سواه، فأعيتني معرفة العلة في ذلك حتى قدرت أنها طبيعة في البشر.
65 -[من قبيح الظلم الإنكار على من أكثر الإساءة إذا أحسن في الندرة] .
66 -[من استراح من عدو واحد حدث له أعداء كثيرة] .
__________
(1) ص: مكنهم.
(2) قارن بالفقرة: 144.(1/350)
67 -[أشبه ما رأيت بالدنيا خيال الظل وهي تماثيل مركبة على مطحنة خشب تدار بسرعة فتغيب طائفة وتبدو أخرى] .
68 - طال تعجبي في الموت، وذلك أني صحبت أقواماً صحبة الروح للجسد من صدق المودة، فلما ماتوا رأيت بعضهم في النوم ولم أر بعضهم، وقد كنت عاهدت بعضهم في الحياة على التزاور في المنام بعد الموت ان أمكن ذلك، فلم أره في النوم بعد أن تقدمني إلى دار الآخرة، فلا أدري أنسي أم شغل] .
69 -[غفلة النفس ونسيانها ما كانت فيه في دار الابتداء قبل حلولها في الجسد كغفلة من وقع في طين غمر عن كل ما عهد وعرف قبل ذلك. ثم أطلت الفكر أيضاً في ذلك فلاح لي شعب زائد من البيان. وهو أني رأيت النائم اذ همت نفسه بالتخلي من جسده وقوي حسها حتى تشاهد الغيوب قد نسيت ما كان فيه قبيل نومها نسياناً تاماً البتة على قرب عهدها به، وحدثت لها أحوال أخر، وهي في كل ذلك ذاكرة حساسة متلذذة آلمة، ولذة النوم محسوسة في حاله، لان النائم يلتذ ويحتلم ويخاف ويحزن في حال نومه] .
70 - انما تأنس النفس بالنفس. فأما الجسد فمستثقل مبروم به، ودليل ذلك استعجال المرء بدفن جسد حبيبه إذا فارقته نفسه، وأسفه لذهاب النفس وان كانت الجثة حاضرة بين يديه.
71 - لم أر لإبليس (1) أصيد ولا أقبح ولا أحمق من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته: إحداهما اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله، والثانية استسهال الإنسان ان يسيء اليوم لأنه قد أساء أمس، [أو أن يسيء في وجه ما لأنه قد أساء في غيره. فقد صارت هاتان الكلمتان عذراً مستهلتين للشر ومدخلتين له في حد ما يعرف ويحمل ولا ينكر] .
__________
(1) ص: الا ابليس.(1/351)
72 -[استعمل سوء الظن حيث تقدر على توفيته حقه في التحفظ والتاهب، واستعمل حسن الظن حيث لا طاقة بك على التحفظ فتربح راحة النفس] .
73 -[حد الجود وغايته أن تبذل الفضل كله في وجوه البر وأفضل ذلك في الجار المحتاج وذي الرحم الفقير، وذي النعمة الذاهبة والأخص فاقة. ومنع الفضل من هذه الوجوه داخل في البخل، وعلى قدر التقصير والتوسع في ذلك يكون المدح والذم، وما وضع في غير هذه الوجوه فهو تبذير، وهو مذموم، وما بذلت من قوتك لمن هو أمس حاجة منك، فهو فضل وإيثار، وهو خير من الجود؛ وما منع من هذا فهو لا حمد ولا ذم وهو انتصاف] .
74 - بذل الواجبات فرض، وبذل ما فضل عن القوت جود. والإيثار على النفس من القوت بما لا تهلك على عدمه فضل، ومنع الواجبات حرام، ومنع ما فضل عن القوت بخل وشح. والمنع من الايثار ببعض القوت عذر (1) ، ومنع النفس أو الأهل القوت أو بعضه نتن ورذالة ومعصية، والسخاء بما ظلمت فيه أو أخذته بغير حقه ظلم مكرر (2) ، والذم جزاء ذلك لا الحمد، لأنك إنما تبذل مال غيرك على الحقيقة لا مالك. واعطاء الناس حقوقهم مما عنك ليس جوداً ولكنه حق.
75 - حد الشجاعة بذل النفس للموت عن الدين والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلماً في المال والعرض وسائر سبل الحق، سواء قل من يعارض أو كثر. والتقصير (3) عما ذكرنا جبن وخور، وبذلها في عرض الدنيا تهور وحمق. وأحمق من
__________
(1) ص: منع، وهذه قراءة د.
(2) م: مكروه.
(3) ص: والصبر.(1/352)
ذلك من بذلها في المنع عن الحقوق والواجبات - قبلك أو قبل غيرك - وأحمق من هؤلاء كلهم قوم شاهدتهم لا يدرون فيما يبذلون أنفسهم، فتراه يقاتلون زيداً عن عمرو، وتارة يقاتلون عمراً عن زيد، ولعل ذلك يكون في يوم واحد، فيتعرضون للمهالك بلا معنى، فينقلبون (1) إلى النار أو يفرون إلى العار. وقد أنذر بهؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل " (2) .
76 - حد العفة ان تغض بصرك وجميع جوارحك عن الأجسام التي لا تحل لك، فما عدا هذا فهو عهر، وما نقص حتى يمسك عما أحل الله تعالى فهو ضعف وعجز.
77 - حد العدل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، وحد الجور أن تأخذه ولا تعطيه.
78 - وحد الكرم أن تعطي من نفسك الحق طائعاً، وتتجافى عن حقك لغيرك قادراً، فالفضل أعم والجود أخص، إذ الحلم فضل وليس جوداً، والفضل فرض زدت عليه نافلة.
79 - إهمال ساعة يفسد رياضة سنة.
80 - خطأ الواحد خير في تدبير الأمور من صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد، لأن خطأ الواحد في ذلك يستدرك، وصواب الجماعة يضري على استدامة الإهمال، وفي ذلك الهلاك.
81 -[نوار الفتنة لا يعقد] .
82 -[كانت في عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على
__________
(1) هذه هي قراءة م؛ وفي ص: يقتلون.
(2) الحديث في الترمذي (تجارات: 58) والنسائي (زكاة: 64) والموطأ (سفر: 88) .(1/353)
ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وفي آداب النفس أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها، ليتعظ بذلك متعظ يوماً ان شاء الله.
(أ) فمنها كلف في الرضاء وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل والتخبط، وامتنعت مما لا يحل من الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً وصبرت على مضض مؤلم كان ربما امرضني، وأعجزني ذلك في الرضى وكأني سامحت نفسي في ذلك، لأنها تمثلت ان ترك ذلك لؤم.
(ب) ومنها دعابة غالبة، فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح، وسامحت نفسي فيها إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر.
(ج) ومنها عجب شديد: فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع.
(د) ومنها حركات كانت تولدها غرارة الصبا وضعف الأعضاء فقسرت نفسي على تركها فذهبت.
(هـ) ومنها محبة في بعد الصيت والغلبة، فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة، والله المستعان على الباقي، مع ظهور النفس الغضبية إذا كانت منقادة للناطقة فضل وخلق محمود.
(و) ومنها إفراط في الأنفة بغضت الي إنكاح الحرم جملة بكل وجه وصعبت ذلك في طبيعتي، وكأني توقفت عن مغالبة هذا الافراط الذي أعرف قبحه لعوارض اعترضت علي، والله المستعان.(1/354)
(ز) ومنها عيبان قد سترها الله تعالى وأعان على مقاومتهما، وأعان بلطفه عليهما، فذهب احدهما البتة ولله الحمد. وكأن السعادة كانت موكلة بي، فاذا لاح منه طالع قصدت طمسه. وطاولني الثاني منهما فكان إذا ثارت منه مدوده نبضت عروقه فيكاد يظهر ثم يسر الله تعالى قدعه بضروب من لطفه حتى اخلد.
(ح) ومنها حقد مفرط قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على اظهار جميع نتائجه، وأما قطعه البتة فلم أقدر عليه وأعجزني معه أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً.
وأما سوء الظن فيعده (1) قوم عيباً على الاطلاق وليس كذلك إلا اذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة أو ما يقبح في المعاملة والا فهو حزم، والحزم فضيلة.
وأما الذي يعيبني به جهال أعدائي من أني لا أبالي - فيما اعتقده حقاً - عن مخالفة من خالفته ولو أنهم جميع من على ظهر الأرض، وأني لا أبالي موافقة أهل بلادي في كثير من زيهم الذي قد تعودوه لغير معنى، فهذه الخصلة عندي من أكبر فضائلي التي لا مثيل لها ولعمري لو لم تكن في - وأعوذ بالله - لكانت من أعظم متمنياتي وطلباتي عند خالقي عز وجل. وأنا أوصي بذلك كل من يبلغه كلامي، فلن ينفعه اتباعه الناس في الباطل والفضول اذا اسخط ربه تعالى وغبن عقله أو آلم نفسه وجسده وتكلف مؤونة لا فائدة فيها.
وقد عابني أيضاً بعض من غاب عن معرفة الحقائق أني لا آلم لنيل من نال مني، وأني اتعدى ذلك من نفسي إلى اخواني فلا امتعض لهم إذا نيل منهم بحضرتي. وأنا أقول إن من وصفني بذلك فقد أجمل الكلام ولم يفسره. والكلام إذا أجمل اندرج فيه تحسين القبيح وتقبيح الحسن. ألا
__________
(1) ص: سوء الظن بعد.(1/355)
ترى لو أن قائلاً قال: ان فلاناً يطأ أخته، لفحش ذلك ولاستقبحه كل سامع له حتى إذا فسر فقال: هي اخته في الإسلام، ظهر فحش هذا الاجمال وقبحه! وأما أنا فاني إن قلت لا آلم لنيل من نال مني لم أصدق، فالألم في ذلك مطبوع مجبول في البشر كلهم. لكني قد قصرت نفسي على أن لا أظهر لذلك غضباً ولا تخبطاً ولا تهيجاً، فان تيسر لي الامساك عن المقارضة جملة بأن أتأهب لذلك فهو الذي اعتمد عليه بحول الله تعالى وقوته، وان بادرني الأمر لم أقارض الا بكلام مؤلم غير فاحش أتحرى فيه الصدق ولا أخرجه مخرج الغضب ولا الجهل. وبالجملة فاني كاره لهذا، الا لضرورة داعية اليه مما أرجو به قمع المستشري في النيل مني أو قدع الناقل الي، إذ أكثر الناس محبون لإسماع المكروه من يسمعونه اياه على ألسنة غيرهم، ولا شيء أقدع لهم من هذا الوجه، فانهم يكفون به عن نقلهم المكاره على ألسنة الناس إلى الناس وهذا شيء لا يفيد الا إفساد الضمائر وادخال النمائم فقط.
ثم بعد هذا فان النائل مني لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لها: أما أن يكون كاذباً، وإما أن يكون صادقاً. فان كان كاذباً فلقد عجل الله لي الانتصار منه على لسان نفسه بأن حصل في جملة أهل الكذب، وبأن نبه على فضلي بأن نسب إلي ما أنا منه برئ العرض، وقد يعلم أكثر السامعين له كذبه إما في وقته ذلك وإما بعد بحثهم عما قال. وان كان صادقاً فانه لا يخلو من أحد من ثلاثة أوجهك إما أن أكون شاركته في أمر استرحت اليه استراحة المرء إلى من يقدر فيه ثقة وأمانة، فهذا أسوأ الناس حالة، وكفى به سقوطاً وضعة. وإما أن يكون عابني بما يظن أنه عيب وليس عيباً، فقد كفاني جهله شأنه. وهو المعيب لا من عاب. وإما أن يكون عابني بعيب هو في على الحقيقة وعلم مني نقصاً أطلق به لسانه، فإن كان صادقاً فنفسي أحق بأن ألوم منه، وأنا حينئذ أجدر بالغضب على نفسي مني على من عابني بالحق. وأما أمر إخواني فإني لست أمسك عن الامتعاض لهم، لكني(1/356)
أمتعض امتعاضاً رقيقاً لا أزيد فيه على أن أندم القائل منهم بحضرتي وأجعله يتذمم ويتعذر ويخجل ويتنصل، وذلك بأن أسلك به طريق ذم من نال من الناس، وان نظر المرء في أمر نفسه والتهمم بإصلاحها أولى به من تتبع عثرات الناس، وبأن أذكر فضل صديقي فأبكته على اقتصاره على ذكر العيب دون ذكر الفضيلة وأن أقول له: " انه لا يرضى فيك فهو أولى بالكرم منك، فلا ترض لنفسك بهذا "، أو نحو هذا من القول. وأما أن أهارش القائل فأحميه وأهيج طباعه وأستثير غضبه فينبعث منه في صديقي أضعاف ما أكره، فأنا الجاني حينئذ على صديقي والمعرض له بقبيح السب وتكراره فيه وإسماعه من لم يسمعه والإغراء به، وربما كنت أيضاً في ذلك جانياً على نفسي ما لا ينبغي لصديقي أن يرضاه لي من إسماعي الجفاء والمكروه، وأنا لا أريد من صديقي أن يذب عني بأكثر من الوجه الذي حددت، فان تعدى ذلك إلى أن يساب النائل مني حتى يولد بذلك أن يتضاعف النيل وان يتعدى أيضاً اليه بقبيح المواجهة، وربما إلى أبوي وأبويه على قدر سفه النائل ومنزلته من البذاءة وربما كانت منازعة بالأيدي، فأنا مستنقص لفعله في ذلك زار عليه متظلم منه غير شاكر له، لكني ألومه على ذلك أشد اللوم، وبالله تعالى التوفيق] .
[وذمني أيضاً بعض من تعسف الأمور دون تحقيق بأني أضيع مالي، وهذه جملة بيانها] ، أني لا أضيع منه (1) الا ما كان في حفظه نقص ديني أو إخلاق عرضي أو إتعاب نفسي،. فإني أرى الذي أحفظ من هذه الثلاثة، وأن قل، أجل في العوض مما يضيع من مالي، ولو أنه كل ما ذرت عليه الشمس.
83 - أفضل نعم الله على العبد أن يطبعه على العدل وحبه وعلى الحق وإيثاره [فما استعنت على قمع هذه الطوالح الفاسدة وعلى كل خير
__________
(1) جاءت هذه الفقرة في ص على النحو التالي: عيب بعضهم بإتلاف ماله فقال إني لا أضيع منه الخ.(1/357)
في الدين والدنيا الا بما في قوتي من ذلك، ولا حول ولا قوة الا بالله تعالى. وأما من طبع على الجور واستسهاله على الظلم واستخفافه فلييئس من أن يصلح نفسه او يقوم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود. وأما الزهو والحسد والكذب والخيانة فلم أعرفها بطبعي قط، وكأنني لا حمد لي في تركها لمنافرة جبلتي إياها، والحمد لله رب العالمين] .
84 - من عيب حب الذكر أنه يحبط الأعمال اذا احب عاملها أن يذكر بها وكاد يكون شركاً، لانه يعمل لغير الله عز وجل، وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير لكن ليذكر به.
85 - أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك، لأنه نبه على نقصك، وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك، ولقد انتصر لك من نفسه بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.
86 - لو علم الناقص نقصه لكان كاملاً.
87 - لا يخلو مخلوق من عيب. فالسعيد من قلت عيوبه ودفنت (1) .
87 - أكثر ما يكون ما لم تظن، والحزم هو التأهب لما تظن. فسبحان مرتب (2) ذلك ليري الإنسان عجزه وافتقاره إلى خالقه.
__________
(1) د: ودقت.
(2) م: من رتب.(1/358)
4 - فصل في الإخوان والصداقة والنصيحة
89 - استبقاك من عاتبك، وزهد فيك من استهان بشأنك (1) .
90 - العتاب للصديق كالسبك للسبيكة، فإما تصفو وإما تطير.
91 - من طوي من إخوانك سره الذي يعنيك دونك أخون لك ممن أفشى سرك، لأن من أفشى سرك فإنما خانك فقط، ومن طوى سره دونك منهم فقد خانك واستخونك.
92 - لا ترغب فيمن يزهد فيك فتحصل على الخيبة والخزي.
93 - لا تزهد فيمن يرغب فيك، فإنه باب من أبواب الظلم وترك مقارضة الاحسان، وهذا قبيح.
94 - من امتحن بان يخالط الناس فلا يكون (2) توهمه كله إلى من صحب ولا يبيت (3) منه إلا على أنه عدو مناصب، ولا يصبح كل غداة إلا وهو مترقب من غدر إخوانه وسوء معاملتهم مثل ما يترقب من العدو المكاشف. فإن سلم من ذلك، فلله الحمد، وإن كانت الأخرى ألفي متأهباً ولم يمت هماً.
[وأنا أعلمك أن بعض من خالصني المودة وأصفاني إياها غاية
__________
(1) د: بسيآتك.
(2) م: فلا يلق.
(3) ص: يبين.(1/359)
الصفاء في حال الشدة والرخاء والسعة والضيق والغضب والرضى، تغير علي أقبح تغير بعد اثني عر عاماً متصلة في غاية الصفاء، ولسبب لطيف جداً ما قدرت قط أنه يؤثر مثله في أحد من الناس، وما صلح لي بعدها، ولقد أهمني ذلك سنين كثيرة هماً شديداً] .
فلا تستعجل مع هذا سوء المعاملة فتلحق بذوي الشرارة من الناس وأهل الخب منهم. ولكن ها هنا طريق وعرة المسلك شاقة المتكلف، يحتاج سالكها إلى أن يكون أهدى من القطا وأحذر من العقعق (1) حتى يفارق الناس راحلاً إلى ربه تعالى، وهذه الطريق هي طريق الفوز في الدين والدنيا [يحرز صاحبها صفاء نيات ذوي النفوس السليمة والعقود الصحيحة، البراء من المكر والخديعة، ويحوي فضائل الأبرار وسجايا الفضلاء، ويحصل مع ذلك على سلامة الدهاة وتخلص الخبثاء ذوي النكراء والدهاء] ، وهي أن تكتم سر كل من وثق بك، وأن لا تفشي إلى من إخوانك ولا من غيرهم من سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه وإن كان أخص الناس بك، وان تفي لجميع من ائتمنك، ولا تأتمن أحداً على شيء من أمرك تشفق عليه إلا عن ضرورة لا بد منها، فارتد حينئذ واجتهد وعلى الله تعالى الكفاية. وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه لم يعتمدك بالرغبة. ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل. ولا تبت إلا على أن أول من أحسنت إليه أول مضر بك وساع (2) عليك، فإن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون، لشدة الحسد، كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم. وعامل كل أحد في الإنس أجمل معاملة وأضمر
__________
(1) أهدى من القطا وأحذر من العقعق، انظر الدرة الفاخرة: 441 وفي اهتداء القطا يقول الشاعر: " تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ".
(2) ص: وتسارع.(1/360)
السلو عنه إن حلت بعض الآفات التي تأتي مع مرور الأيام والليالي تعش سالماً مستريحاً.
95 - لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الاجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل استعمال الفضل وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف.
96 - حد الصداقة الذي يدور على طرفي محدوده هو أن يكون المرء يسوءه ما ساء الآخر، ويسره ما سره. فما سفل عن هذا فليس صديقاً ومن حمل هذه الصفة فهو صديق. وقد يكون المرء صديقاً لمن ليس صديقه - وإنما الذي يدخل في باب الاضافة، فهو المصادقة فهذا يقتضي فعلاً من فاعلين - إذ قد يحب الانسان من يبغضه، وأكثر من ذلك في الآباء مع الأبناء، وفي الاخوة مع اخوتهم، وبين الأزواج، وفيمن صارت محبته عشقاً. وليس كل صديق ناصحاً، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه. و [حد] (1) النصيحة هو أن يسوء المرء ما ضر الآخر ساء ذلك الآخر أم سره. وأن يسره ما نفعه سر الآخر أم ساءه. فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة. وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه وماله لغير علة توجب ذلك، وآثرك على من سواك. ولولا أني شاهدت مظفراً ومباركاً (2)
__________
(1) زيادة من م.
(2) مظفر ومبارك: من موالي العامريين، استقلا ببلنسية بعد ما انفرط الأمر في الفتنة البربرية بالأندلس، وابن حزم يشير إلى صداقة فذة ربطت بينهما رغم ما قد تثيره الشركة في الحكم من تنافس، وتحدث ابن حيان عن ذلك بقوله: " ثم بلغ من سياسة هين العبدين الفدمين، مبارك ومظفر، في مدة امارتهما، إلى أن تقارضا من صحة الألفة فيها طول حياتهما بما فاتا في معناهما أشقاء الأخوة، وعشاق الأحبة، فنزلا يومئذ معاً في سلطانهما قصر الامارة مختلطين يجمعهما في أكثر أوقاتهما مائدة واحدة، ولا يتميز أحدهما عن الآخر في عظيم ما يستعملانه من كسوة وحلية وفراش ومركوب وآلة، ولا ينفردان إلا في الحرم خاصة " (الذخيرة 3/1: 15) .(1/361)
صاحبي بلنسية، لقدرت أن ها الخلق معدوم في زماننا، ولكني ما رأيت قط رجلين استوفيا جميع أسباب الصداقة مع تأتي الأحوال الموجبة للفرقة غيرهما.
97 - ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الاخوان والأصدقاء. فإن ذلك فضيلة تامة مركبة، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم والجود والصبر والوفاء والاستضلاع والمشاركة والعفة وحسن الدفاع وتعليم العلم، وبكل حالة محمودة. ولسنا نعني الشاكرية (1) والاتباع أيام الحرمة، [فأولئك لصوص الاخوان وخبث الأصدقاء، والذين يظن أنهم أولياء وليسوا كذلك، ودليل ذلك] انحرافهم عند انحراف الدنيا (2) ، ولا نعني المصادقين لبعض الاطماع، ولا المتنادمين على الخمر والمجتمعين على المعاصي والقبائح ونيل أعراض الناس والفضول وما لا فائدة فيه. فليس هؤلاء أصدقاء، لنيل بعضهم من بعض وانحرافهم (3) عند فقد تلك الرذائل التي جمعتهم، وإنما نعني إخوان الصفاء لغير معنى إلا لله عز وجل، [إما للتناصر على بعض الفضائل الجدية وإما لنفس المحبة المجردة فقط. ولكن] إذا حصلت عيوب الاستكثار منهم [وصعوبة الحال في إرضائهم والغرر في مشاركتهم] وما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم [فإن غدرت بهم أو أسلمتهم لؤمت وذممت، وإن وفيت أضررت بنفسك وربما هلكت، وهذا الذي لا يرضي الفاضل بسواه إذا تنشب في الصداقة، وإذا تفكرت في الهم بما يعرض لهم وفيهم من] موت أو فراق، أو غدر من يغدر منهم كان السرور بهم لا يفي بالحزن الممض من أجلهم. وليس في الرذائل شيء أشبه بالفضائل من محبة المدح، لأنه
__________
(1) الشاكري: الأجير؛ قيل أنه معرب " جاكر " ومعناه " السخري ".
(2) ص: ولسنا نعني الشاكرية والاتباع أيام الدنيا لانحرافهم عند انحراف الدنيا.
(3) د: فليس هؤلاء أصدقاء، ودليل ذلك أن بعضهم ينال من بعض وينحرف عنه.(1/362)
في الوجه سخف ممن يرضى به [وقد (1) جاء في الاثر في المداحين ما جاء] ، إلا أنه قد ينتفع به في الاقصار عن الشر والتزيد من الخير وفي أن يرغب في مثل ذلك الخلق الممدوح من سمعه. ولقد صح عندي أن بعض السائسين للدنيا لقي رجلاً من أهل الأذى للناس، وقد قلده (2) بعض الأعمال بالجميل والرفق منتشراً، فكان ذلك سبباً إلى إقصار ذلك الفاسق عن كثير من شره.
98 - بعض أنواع النصيحة يشكل تمييزه من النميمة لأن من سمع إنساناً يذم آخر ظالماً له أو يكيده ظالماً له فكتم ذلك على وجهه كان ربما قد ولد على الذام (3) والكائد ما لم يبلغ استحقاقه بعد من الأذى فيكون ظالماً له، وليس من الحق أن يقتص من الظالم بأكثر من قدر ظلمه. والتخلص من هذا الباب صعب إلا على ذوي العقول. والرأي للعاقل في مثل هذا أن يحفظ المقول فيه من القائل فقط دون أن يبلغه ما قال لئلا يقع في الاسترسال إليه فيهلك. وأما في الكيد، فالواجب أن يحفظه من الوجه الذي يكاد منه بألطف ما يقدر في الكتمان على الكائد، وأبلغ ما يقدر في تحفيظ المكيد، ولا يزد على هذا شيئاً. وأما النميمة فهي التبليغ لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلغ إليه، وبالله تعالى التوفيق.
99 - النصيحة مرتان، فالأولى فرض وديانة والثانية تنبيه وتذكير، وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع وليس وراء ذلك إلا الركل واللطام (4) ، وربما
__________
(1) يشير الى مثل قوله (ص) : " اذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " (كشف الخفاء 1: 94) وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن المقداد بن الأسود، والطبراني وابن حبان عن ابن عمر، والحاكم في الكنى عن أنس.
(2) د: قلد.
(3) ص: على الدوام، واعتمدت قراءة د.
(4) ص: واللكام.(1/363)
أشد من لك من الغي والأذى، اللهم إلا في معاني الديانة. فواجب على المرء ترداد النصح، رضي المنصوح أو سخط، تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ.
100 - إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً أو بتعريض لا بتصريح إلا لمن لا يفهم، فلا بد من التصريح له (1) .
101 - ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة (2) لا مؤدي حق ديانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل ولا حكم الصداقة، ولكن حكم الأمير مع رعيته والسيد مع عبيده.
102 - لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذل له من نفسك فإن طلبت أكثر فأنت ظالم.
103 - لا تكسب إلا على شرط الفقد، ولا تتول إلا على شرط العزلة (3) وإلا فأنت مضر بنفسك خبيث السيرة.
104 - مسامحة أهل الاستئثار والاستغنام والتغافل لهم ليس مروءة ولا فضيلة، بل هو مهانة وضعف وتضرية لهم على التمادي على ذلك الخلق المذموم وتغبيط لهم به وعون لهم على فعل ذلك السوء؛ وإنما تكون المسامحة مروءة لأهل الإنصاف المبادرين إلى المسامحة (4) والايثار، فهؤلاء فرض على أهل الفضل أن يعاملوهم بمثل ذلك، لا سيما إن كانت حاجتهم أمس وضرورتهم أشد. فإن قال قائل: فإذا كان كلامك هذا موجباً لاسقاط المسامحة والتغافل للإخوان، فقد استوى الصديق والعدو والأجنبي في المعاملة، وهذا إفساد ظاهر،
__________
(1) م: إلا أن لا يفهم المنصوح تقريضاً.
(2) م: وطالب طاعة وملك.
(3) د: العزل.
(4) ص: المبادرون لأهل المسامحة، والتصويب عن م.(1/364)
فنقول، وبالله التوفيق: كلا ما نحض (1) إلا على المسامحة والايثار والتغافل - ليس لأهل التغنم - لكن للصديق حقاً، فإن أردت معرفة وجه العمل في هذا والوقوف على نهج الحق فإن القضية (2) التي توجب الأثرة من المرء (3) على نفسه صديقه ينبغي لكل واحد من الصديقين أن يتأمل ذلك النازل (4) ، فأيهما كان أمس حاجة فيه وأظهر ضرورة لديه، فحكم الصداقة والمروءة تقتضي للآخر وتوجب عليه أن يؤثر على نفسه في ذلك، فأن لم يفعل فهو متغنم (5) مستكثر، لا ينبغي أن يسامح البتة، إذ ليس صديقاً ولا أخاً. فأما إذا استوت حاجتهما واتفقت ضرورتهما، فحق الصداقة ههنا أن يسارع كل واحد منهما إلى الأثرة على نفسه، فإن فعلا ذلك فهما صديقان، وإن بدر أحدهما إلى ذلك ولم يبادر الآخر إليه، فإن كانت عادته هذه فليس صديقاً ولا ينبغي أن يعامل معاملة الصداقة، وإن كان قد يبادر هو أيضاً إلى مثل ذلك في قضية أخرى فهما صديقان.
105 - من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها أو أردت ابتداءه بقضائها، فلا تعمل له إلا ما يريد هو لا ما تريد أنت، وإلا فأمسك. فإن تعديت هذا كنت مسيئاً لا محسناً، ومستحقاً للوم منه ومن غيره لا للشكر، ومقتضياً للعداوة لا للصداقة.
106 - لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته، بهذا فعل الأراذل (6) ، ولا تكتمه ما يستضر بجهله فها فعل أهل الشر.
__________
(1) د: فنقول وبالله تعالى التوفيق كلاما ما نحض
(2) ص: القصة.
(3) ص: الأمر.
(4) د: الأمر.
(5) ص: معتم، والتصويب عن م.
(6) ص: الادراك.(1/365)
107 - لا يسرك أن تمدح بما ليس فيك، بل ليعظم (1) غمك بلك لأنه نقصك ينبه الناس عليه ويسمعهم إياه وسخرية منك وهزء بك، ولا يرضى بهذا إلا أحمق ضعيف العقل. ولا تأس إن ذممت بما ليس فيك، بل افرح به، فإنه فضلك ينبه الناس عليه. ولكن افرح إذا كان فيك ما تستحق به المدح، وسواء مدحت به أو لم تمدح. واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم، وسواء ذممت به أو لم تذم.
108 - من سمع قائلاً يقول في امرأة صديقه قول سوء فلا يخبره بذلك أصلاً، لا سيما إن كان القائل عيابة وقاعاً في الناس، سليط اللسان أو دافع معرة (2) عن نفسه يريد أن يكثر أمثاله في الناس، وهذا كثير موجود؛ وبالجملة فلا يحدث الانسان (3) إلا بالحق، وقول هذا القائل لا يدري أحق هو أم باطل، إلا أنه في الديانة عظيم، فإن سمع القول مستفيضاً من جماعة وعلم أن أصل ذلك القول شائع وليس راجعاً إلى قول إنسان واحد، أو اطلع على حقيقة، إلا انه لا يقدر أن يوقف صديقه على ما وقف هو عليه، فليخبره بذلك بينه وبينه في رفق، وليقل له: النساء كثير، أو حصن منزلك وثقف أهلك واجتنب أمر كذا وتحفظ من وجه كذا، فإن قبل المنصوح وتحرز، فحظ نفسه أصاب، وإن رآه لا يتحفظ ولا يبالي أمسك ولم يعاوده بكلمة، وتمادى على صداقته إياه، فليس في أن لا يصدقه في قوله ما يوجب قطيعته؛ فإن اطلع على [حقيقة] وقدر أن يوقف صديقه على مثل (4) ما وقف هو عليه من الحقيقة، ففرض عليه أن يخبره بذلك وأن يوقفه على الجلية، فإن غير ذلك، وإن رآه لا يغير (5) فليتجنب صحبته، فإنه رذل
__________
(1) ص: لتعظيم.
(2) م: مغرم.
(3) ص: الناس، وأثبت قراءة د.
(4) م: جل.
(5) ص: يتغير.(1/366)
لا خير فيه ولا بقية (1) . ودخول رجل مستتر في منزل المرء دليل سوء لا يحتاج إلى غيره، ودخول المرأة في منزل رجل على سبيل التستر مثل ذلك أيضاً، وطلب دليل أكثر من هذين سخف. وواجب أن يجتنب مثل هذه المرأة، وفراقها على كل حال، وممسكها لا يبعد عن الديانة.
109 - الناس في بعض أخلاقهم على سبع مراتب: فطائفة تمدح في الوجه وتذم في المغيب، وهذه صفة أهل النفاق والعيابين، وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم. وطائفة تذم في المشهد والمغيب، وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين. وطائفة تمدح في الوجه والمغيب وهذه صفة أهل الملق والطمع. وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب، وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهدة، ويثنون بالخير في المغيب أو يمسكون عن الذم. وأما العيابون البرآء من النفاق والقحة، فيمسكون في المشهد ويذمون في المغيب. وأما أهل السلامة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب، ومن كل من أهل هذه الصفات قد شاهدنا وبلونا.
110 - إذا نصحت ففي الخلاء وبكلام لين، ولا تسند سب من تحدثه إلى غيرك فتكون نماماً. فإن خشنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير. وقد قال تعالى: (فقولا له قولاً ليناً) (طه: 44) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تنفر " (2) . وإن نصحت بشرط القبول منك فأنت ظالم ولعلك مخطئ في وجه نصحك فتكون مطالباً بقبول خطئك وبترك الصواب.
11 - لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك (3) أهل الجهل
__________
(1) د: بغية.
(2) ورد النهي عن التفسير في عدة مواطن من الحديث، انظر مسند أحمد 3: 209، 4: 399.
(3) المحك: المنازعة في الكلام، والتمادي في اللجاجة والاغضاب.(1/367)
منعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي واحتدام خاطري وحمي فكري وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني ما ابنعثت لتلك التواليف.
112 - لا تصاهر إلى صديق ولا تبايعه، فما رأينا هذين العملين إلا سبباً للقطيعة، وإن ظن أهل الجهل أن فيهما تأكيداً للصلة فليس كذلك، لان هذين العقدين داعيان كل واحد إلى طلب حظ نفسه، والمؤثرون على أنفسهم قليل جداً. فإذا اجتمع طلب كل امرئ حظ نفسه وقعت المنازعة، ومع وقوعها فساد المودة. وأسلم المصاهرة مغبة مصاهرة الأهلين بعضهم بعضاً، لان القرابة تقتضي الصبر وإن كرهوه لأنهم مضطرون إلى ما لا انفكاك لهم منه من الاجتماع في النسب الذي توجب الطبيعة لكل أحد الذب عنه والحماية له.(1/368)
5 - فصل في أنواع المحبة
وقد سئلت عن تحقيق القول فيها وفي أنواعها
113 - المحبة كلها جنس واحد، ورسمها أنها الرغبة في المحبوب وكراهة منافرته والرغبة في المقارضة منه بالمحبة. وانما قدر الناس أنها تختلف من أجل اختلاف الأغراض فيها، وانما اختلفت الأغراض من أجل اختلاف الأطماع وتزايدها وضعفها وانحسامها، فتكون المحبة لله عز وجل وفيه، وللاتفاق على بعض المطالب، وللأب والابن والقرابة والصديق والسلطان، ولذات الفراش، والمحسن، والمأمول، والمعشوق، فهذا كله جنس واحد اختلفت أنواعه كما وصفت لك على قدر الطمع فيما ينال [من المحبوب] ، فلذلك اختلفت وجوه المحبة. وقد رأينا من مات أسفاً على ولده كما يموت العاشق أسفاً على معشوقه. وبلغنا عمن شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات. ونجد المرء يغار على سلطانه وعلى صديقه كما يغار على ذات فراشه وكما يغار العاشق على معشوقه. فأدنى أطماع المحبة، ممن تحب، الحظوة منه والرفعة لديه والزلفة عنده اذا لم تظمع في أكثر، وهذه غاية أطماع المحبين لله تعالى ثم يزيد الطمع في المجالسة ثم في المحادثة والمؤازرة. وهذه أطماع المرء في سلطانه وصديقه وذوي رحمه. وأقصى أطماع المحب ممن يحب المخالطة بالأعضاء اذا رجا ذلك. ولذلك نجد المحب المفرط المحبة في ذات فراشه(1/369)
يرغب مجامعتها على هيئات شتى في أماكن مختلفة ليستكثر من الاتصال. ويدخل في هذا الباب الملامسة بالجسد والتقبيل، وقد يقع بعض هذا الطمع في الأب في ولده فيتعدى إلى التقبيل والتعنيق.
وكل ما ذكرنا، إنما هو على قدر الطمع. فإذا انحسم الطمع عن شيء ما لبعض الأسباب الموجبة له مالت النفس إلى ما تطمع فيه. ونجد المقر بالرؤية ونجد المقر بالرؤية لله عز وجل شديد الحنين اليها عظيم التروح (1) نحوها، لا يقنع بدرجة دونها لأنه يطمع فيها، ونجد المنكر لها لا تحن نفسه إلى ذلك ولا يتمناه أصلاً لأنه لا يطمع فيه، ونجده يقتصر على الرضى والحلول في دار الكرامة فقط، لأنه لا تطمع نفسه في أكثر. ونجد المستحل لنكاح القرائب لا يقنع منهن بما يقنع المحرم لذلك، ولا تقف محبته حيث تقف محبة من لا يطمع في ذلك. فنجد من يستحل نكاح ابنته وابنة أخيه كالمجوس واليهود لا يقف من محبتهما حيث يقف المسلم، بل نجدهما يتعشقان الابنة وابنة الأخ كتعشق المسلم من يطمع في مخالطته بالجماع. ولا نجد مسلماً يبلغ ذلك. فيهما ولو أنهما أجمل من الشمس، وكان هو أعهر الناس وأغزلهم. فان وجد ذلك في الندرة فلا تجده الا من فاسد الدين، قد زال عنه ذلك الرادع فانفسح له الأمل وانفتح له باب الطمع. ولا يؤمن من المسلم أن تفرط محبته لابنة عمه لحاً (2) حتى تصير عشقاً وحتى تتجاوز محبته لها محبته لابنته وابنة أخيه وان كانت اجمل منها، لأنه يطمع من الوصول إلى ابنة عمه حيث لا يطمع من الوصول إلى ابنته وابنة أخيه. ونجد النصراني قد أمن ذلك من نفسه في ابنة عمه أيضاً لأنه لا يطمع منها في ذلك ولا يأمن ذلك من نفسه في أخته من الرضاعة لأنه طامع بها في شرعته (3) .
__________
(1) التروح: الارتياح، وقد تقرأ " النزوع ".
(2) لحاً: لاصق النسب.
(3) م: شريعته.(1/370)
فلاح بهذا عياناً ما ذكرنا من أن المحبة كلها جنس واحد لكنها تختلف أنواعها على قدر اختلاف الأغراض فيها. وإلا فطبائع البشر كلهم واحدة، الا ان للعادة والاعتقاد الدياني تأثيراً ظاهراً.
ولسنا نقول إن الطمع له تأثير في هذا الفن وحده، لكنا نقول ان الطمع سبب إلى كل هم، حتى في الأموال والأحوال، فاننا نجد الانسان يموت جاره وخاله وصديقه وابن عمته وعمه لأم وابن أخيه لأم وجده أبو أمه وابن بنته، فاذ لا مطمع له في ماله، ارتفع عنه الهم بفوته عن يده، وان جل خطره وعظم مقداره فلا سبيل إلى أن يمر الاهتمام بشيء منه بباله؛ حتى إذا مات له عصبة على بعد أو مولى على بعد حدث له الطمع في ماله وحدث له من الهم والأسف والغيظ والفكرة بفوت اليسير منه عن يده أمر عظيم. وهكذا في الأحوال: فنجد الانسان من أهل الطبقة المتأخرة لا يهتم لإنفاذ غيره أمور بلده دون أمره ولا لتقريب غيره وإبعاده، حتى اذا حدث له طمع في هذه المرتبة حدث له من الهم والفكر والغيظ أمر ربما قاده إلى تلف نفسه وتلف دنياه وأخراه. فالطمع اذاً أصل كل هم (1) ، وهو خلق سوء ذميم. وضده نزاهة النفس، وهذه صفة فاضلة متركبة من النجدة والجود والعدل والفهم لأنه فهم (2) قلة الفائدة في استعمال ضدها فاستعملها، وكانت فيه نجدة انتجت له عزة نفسه فتنزه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس فلم يهتم لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدل حببت اليه القنوع وقلة الطمع. فاذا نزاهة النفس متركبة من هذه الصفات، فالطمع الذي هو ضدها متركب من الصفات المضادة لهذه الأربع الصفات، وهي الجبن والشح والجور والجهل.
__________
(1) ص: أصل كل ذل وهم لكل هم.
(2) م: رأى.(1/371)
والرغبة طمع مستوفى متزايد متعمل (1) ، ولولا الطمع ما ذل أحد لأحد. واخبرني أبو بكر بن [أبي] (2) الفياض قال: كتب عثمان بن محامس (3) على باب داره بأستجة (4) " يا عثمان لا تطمع ".
__________
(1) د: مستعمل.
(2) زيادة من الجذوة: 288.
(3) في ص: محاسن، والتصحيح عن الجذوة (رقم: 705) وكان عثمان زاهداً عالماً معروفاً بالعزوف عن الدنيا، وقد أورد الحميدي عبارة " يا عثمان لا تطمع " راوياً عن ابن حزم.
(4) أستجة (Ecija) اسم لكورة باعمال رية متسعة الأراضي على نهر سنجل، وكانت أعمالها متصلة بأعمال قرطبة ومدينة أستجة اليوم قسم من مقاطعة اشبيلية (انظر الروض المعطار: 53 والترجمة: 20) .(1/372)
فصول من هذا الباب
114 - من امتحن بقرب من يكره كمن امتحن ببعد من يحب ولا فرق.
115 - إذا دعا المحب في السلو فإجابته مضمونة وهي دعوة مجابة.
116 - اقنع بمن عندك يقنع بك من عندك.
117 - السعيد في المحبة هو من ابتلي بمن يقدر أن يلقي عليه تعلة (1) ولا تلحقه في مواصلته تبعة من الله تعالى ولا ملامة من الناس. صلاح ذلك ان يتوافقا في المحبة، وتحديده (2) أن يكونا خاليين من الملل، فانه خلق سوء منغص (3) ، وتمامه نوم الأيام عنهما مدة انتفاع بعضهما ببعض، وأنى بذلك إلا في الجنة. وأما ضمانه بيقين فليس الا فيها، فهي دار القرار، والا فلو حصل ذلك كله في الدنيا لم تؤمن الفجائع والقطع والهرم (4) دون استيفاء اللذة.
118 - اذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة.
119 - الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل لأن من
__________
(1) د: قفله؛ ولا أرى لها معنى، ولعل الصواب " ثقله " وفي ص: تغلة.
(2) م: وتحريره.
(3) م: مبغض.
(4) د: ولقطع العمر.(1/373)
عدل كره ان يتعدى إلى حرمة غيره وأن يتعدى غيره على حرمته. ومن كانت النجدة له طبعاً حدثت فيه عزة، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتضام.
120 - اخبرني بعض من صحبناه في الدهر عن نفسه أنه ما عرف الغيرة قط حتى ابتلي بالمحبة فغار. وكان هذا المخبز فاسد الطبع، خبيث التركيب، إلا انه [كان] (1) من أهل الفهم والجود.
121 - درج المحبة خمسة: أولها الاستحسان وهو أن يتمثل الناظر صورة المنظور اليه حسنة أو يستحسن اخلاقه وهذا يدخل في باب التصادق، ثم الاعجاب، وهو رغبة الناظر في المنظور اليه وفي قربه، ثم الألفة وهي الوحشة اليه متى غاب، ثم الكلف، وهو غلبة شغل البال به، وهذا النوع يسمى في باب الغزل بالعشق، ثم الشغف وهو امتناع النوم والأكل والشرب إلا اليسير من ذلك، وربما أدى ذلك إلى المرض أو إلى التوسوس أو إلى الموت. وليس وراء هذا منزلة في تناهي المحبة أصلاً.
122 - فصل: كنا نظن أن العشق في ذوات الحركة والحدة من النساء أكثر فوجدنا الأمر بخلاف ذلك، وهو في الساكنة الحركات أكثر، ما لم يكن ذلك السكون بلهاً.
__________
(1) زيادة من م.(1/374)
6 - فصل في أنواع صباحة (1) الصور
وقد سئلت عن تحقيق الكلام فيها
123 - الحلاوة دقة المحاسن ولطف الحركات وخفة الاشارات وقبول النفس لأعراض الصورة وان لم تكن هنالك صفات ظاهرة.
124 - القوام جمال كل صفة على حدتها، ورب جميل الصفات على انفراد كل صفة منها، بارد الطلعة غير مليح ولا حسن ولا رائع ولا حلو.
125 - الروعة بهاء الأعضاء الظاهرة [مع جمال فيها] (2) . وهي أيضاً الفراهة والعتق.
126 - الحسن هو شيء ليس له في اللغة اسم يعبر به غيره (3) ، ولكنه محسوس في النفوس باتفاق [كل] من رآه، وهو برد مكسو على الوجه واشراق يستميل القلوب نحوه، فتجتمع الآراء على استحسانه وان لم يكن هنالك صفات جميلة، فكل من رآه راقه واستحسنه وقبله،
__________
(1) ص: صحابة. س
(2) زيادة من م. س
(3) م: عنه.(1/375)
حتى إذا تأملت الصفات افراداً لم تر طائلاً، وكأنه شيء في نفس المرئي تجده نفس الرائي، وهذه أجل مراتب الصباحة. ثم تختلف الأهواء بعدها، فمن مفضل للروعة، ومن مفضل للحلاوة. وما وجدنا أحداً قط يفضل القوام المنفرد.
127 - الملاحة اجتماع شيء بشيء مما ذكرنا.(1/376)
7 - فصل فيما يتعامل به الناس في الاخلاق
128 - التلون المذموم هو التنقل من زي متكلف، لا معنى له، إلى زي آخر مثله في التكلف وفي أنه لا معنى له، ومن حال لا معنى لها [إلى حال لا معنى لها] (1) بلا سبب يوجب ذلك. فأما من استعمل من الزي ما أمكنه مما به إليه حاجة وترك التزيد مما لا يحتاج إليه، فهذا عين من عيون العقل والحكمة كبير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة في كل خير والذي أثنى الله تعالى على خلقه والذي جمع الله تعالى فيه أشتات الفضائل بتمامها وأبعده عن كل نقص، يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خف ولا نعل ولا قلنسوة ولا عمامة، ويلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره لا يتكلف إلى ما لا يحتاج إليه، ولا يترك ما يحتاج إليه، ويستغني بما وجد عما لا يجد، ومرة يمشي حافياً راجلاً، ومرة يركب الناقة، ومرة [يركب] (2) حماراً ويردف عليه بعض أصحابه، ومرة يأكل التمر دون خبز والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية والبطيخ بالرطب والحلوى، يأخذ القوت، ويبذل الفضل، ويترك ما لا يحتاج إليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة إليه، ولا يغضب لنفسه، ولا يدع الغضب لربه عز وجل.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من م.(1/377)
129 - الثبات الذي هو صحة العقد، والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق. والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه، وقد لاح له فساده او لم يلح له صوابه ولا فساده. وهذا مذموم، وضده الانصاف. وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق أو على ما اعتقده المرء حقاً ما لم يلح له باطله. وهذا محمود، وضده الاضطراب، وإنما يلام بعض هذين لأنه ضيع تدبير ما ثبت عليه وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل.
130 - حد العقل استعمال الطاعات والفضائل، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل. وقد نص الله تعالى في غير موضع من كتابه على أن من عصاه لا يعقل. قال تعالى حاكياً عن قوم: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك: 10) ثم قال مصدقاً لهم: {فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} (الملك: 11) .
131 - وحد الحمق استعمال المعاصي والرذائل. وأما التعدي وقذف الحجارة والتخليط في القول، فإنما هو جنون ومرار هائج. وأما الحمق فهو ضد العقل وهو ما بينا آنفاً، ولا واسطة بين العقل والحمق، إلا السخف.
132 - وحد السخف هو العمل والقول بما لا يحتاج إليه في دين ولا دنيا ولا حميد خلق، مما ليس معصية ولا طاعة ولا عوناً عليهما ولا فضيلة ولا رذيلة مؤذية، ولكنه من هذر القول وفضول العمل. فعلى قدر الاستكثار من هذين الأمرين والتقلل منهما يستحق المرء اسم السخف. وقد يسخف المرء في قصة ويعقل في أخرى ويحمق في ثالثة.
133 - وضد الجنون تمييز الأشياء ووجود القوة على التصرف(1/378)
في المعارف والصناعات، وهذا الذي يسميه الأوائل النطق. ولا واسطة بينهما. وأما إحكام أمر الدنيا والتودد إلى الناس بما وافقهم وصلحت عليه حال المتودد من باطل أو غيره أو عيب أو ما عداه، والتحيل في إنماء المال وبعد الصوت وتمشية (1) الجاه بكل ما أمكن من معصية ورذيلة، فليس عقلاً. ولقد كان الذين صدقهم الله تعالى في أنهم لا يعقلون، فأخبرنا تعالى بأنهم لا يعقلون، سائسين لدنياهم مثمرين لأموالهم مدارين لملوكهم حافظين لرياستهم، لكن هذا الخلق يسمى الدهاء، وضده الغفلة (2) والسلامة. وأما إذا كان السعي فيما ذكرنا فيه تصاون وأنفة فهو يسمى الحزم. وضده المنافي له التضييع. وأما الوقار ووضع الكلام موضعه والتوسط في تدبير المعيشة ومسايرة الناس بالمسالمة فهذه الأخلاق تسمى الرزانة، وهي ضد السخف.
134 - الوفاء مركب من العدل والجود والنجدة، لأن الوفي (3) رأى من الجور ألا يقارض (4) من وثق به أو من أحسن إليه فعدل في ذلك، ورأى أن يسمح بعاجل يقتضيه له عدم الوفاء من الحظ فجاد في ذلك، ورأى أن يتجلد لما يتوقع من عاقبة الوفاء فشجع في ذلك.
135 - أصول الفضائل [كلها] (5) أربعة، عنها تتركب كل فضيلة وهي العدل والفهم والنجدة والجود. وأصول الرذائل كلها أربعة، عنها تتركب كل رذيلة، وهي أضداد التي ذكرنا، وهي الجور والجهل والجبن والشح.
136 - الأمانة والعفة نوعان من أنواع العدل والجود.
__________
(1) د: وتسبيب.
(2) ص: العقل.
(3) ص: الوفا.
(4) ص: من الجود ألا يعارض، وأثبت قراءة د.
(5) زيادة من م.(1/379)
137 - قال أبو محمد علي بن أحمد: ومما قلته في الأخلاق (1) : [مجزوء الرمل]
إنما العقل أساس ... فوقه الأخلاق سور
فتحل العقل بالعل ... م وإلا فهو بور
جاهل الأشياء أعمى ... لا يرى حيث (2) يدور
وتمام العلم بالعد ... ل وإلا فهو زور
وتمام العدل بالجو ... د وإلا فيجور
وملاك الجود بالنج ... دة والجبن غرور
عف إن كنت غيوراً ... ما زنى قط غيور
وكمال الكل بالتق ... وى وقول الحق نور
ذي أصول الفضل عنها ... حدثت بعد النزور ومما قلته أيضاً: [متقارب]
زمام [أصول] (3) جميع الفضائ ... ل عدل وفهم وجود وباس
فعن هذه ركبت غيرها ... فمن حازها فهو في الناس راس
كذا الراس فيه الأمور التي ... بإحساسها يكشف الالتباس 138 - النزاهة في النفس فضيلة، تركبت من النجدة والجود، وكذلك الصبر.
139 - الحلم نوع مفرد من أنواع النجدة.
140 - القناعة فضيلة مركبة من الجود والعدل.
141 - الحرص متولد عن الطمع، والطمع متولد عن الحسد. والحسد متولد عن الرغبة. والرغبة متولدة عن الجور والشح والجهل.
__________
(1) وقعت هذه الفقرة عند المحمصاني بعد رقم: 207.
(2) م: كيف.
(3) زيادة من د.(1/380)
ويتولد من الحرص رذائل عظيمة منها الذل والسرقة والغضب والزنا والقتل والعشق والهم بالفقر. والمسألة لما بأيدي الناس [تتولد فيما بين الحرص والطمع] (1) ، وإنما فرقنا بين الحرص والطمع لأن الحرص هو إظهار ما استكن في النفس من الطمع.
142 - المداراة فضيلة متركبة من الحلم والصبر.
143 - الصدق مركب من العدل والنجدة.
144 -[من جاء إليك بباطل رجع من عنك بحق، وذلك أن من نقل إليك كذباً عن إنسان حرك طبعك، فأجبته فرجع عنك بحق. فتحفظ من هذا ولا تجب إلا عن كلام صح عندك عن قائله] .
145 - لا شيء أقبح من الكذب وما ظنك بعيب يكون الكفر نوعاً من أنواعه. فكل كفر كذب. فالكذب جنس [و] الكفر (2) نوع تحته.
146 - الكذب متولد من الجور والجبن والجهل، لان الجبن يولد مهانة النفس، والكذاب مهين النفس بعيد عن عزتها المحمودة.
147 - رأيت الناس في كلامهم الذي هو فصل بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات ينقسمون أقساماً ثلاثة: أحدها من لا يبالي فيما أنفق كلامه، فيتكلم بكل ما سبق إلى لسانه غير محقق نصر حق ولا إنكار باطل، وهذا هو الأغلب في الناس، والثاني أن يتكلم ناصراً لما وقع بنفسه انه حق ودافعاً لما توهم أنه باطل، غير محقق لطلب الحقيقة، لكن لجاجاً فيما التزم، وهذا كثير وهو دون الأول. والثالث واضع الكلام في موضعه، وهذا أعز من الكبريت الأحمر.
148 - لقد طال هم من غاظه الحق.
__________
(1) زيادة من د.
(2) ص: فالكذب جنس الكفر الكفر..(1/381)
149 - اثنان عظمت راحتهما: أحدهما في غاية الحمد (1) والآخر في غاية الذم، وهما مطرح الدنيا ومطرح الحياء.
150 - لو لم يكن من التزهد في الدنيا إلا أن كل إنسان في العالم، فإنه كل ليلة إذا نام نسي كل ما يشفق (2) عليه في يقظته، وكل ما يشفق منه، وكل ما يشره (3) إليه، فتجده في تلك الحال (4) لا يذكر ولداً ولا أهلاً ولا جاهاً ولا خمولاً ولا ولاية ولا عزلة ولا فقراً ولا غنى ولا مصيبة (5) ، وكفى بهذا واعظاً لمن عقل.
151 - من عجيب تدبير الله عز وجل للعالم، أن كل شيء اشتدت الحاجة إليه، كان (6) ذلك أهون له. وتأمل ذلك في الماء فما فوقه. وكل شيء اشتد الغنى عنه كان ذلك أعز له. وتأمل ذلك في الياقوت الأحمر فما دونه.
152 - الناس فيما يعانونه (7) كالماشي في الفلاة، كلما قطع أرضاً بدت له أرضون. وكلما قصد المرء سبباً حدثت له أسباب.
153 - صدق من قال ان العاقل في الدنيا متعوب، وصدق من قال انه فيها مستريح. فأما تعبه فبما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته وبما يحال بينه وبين الحق من إظهار الحق. وأما راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا.
154 - إياك وموافقة الجليس [السيء] (8) ومساعدة أهل زمانك
__________
(1) د: المدح.
(2) ص: يشعر، وأثبت قراءة د.
(3) ص: يسره.
(4) ص: الخير.
(5) جواب " لو " في أول الفقرة محذوف للاكتفاء.
(6) ص: كانت.
(7) م: يعاينون.
(8) زيادة من م.(1/382)
فيما يضرك في أخراك وفي دنياك، وإن قل، فإنك لا تستفيد بذلك إلا الندامة حيث لا ينفعك الندم. ولن (1) يحمدك من ساعدته بل يشمت بك، وأقل ذلك، وهو المضمون، أنه لا يبالي بسوء (2) عاقبتك وفساد مغبتك. وإياك ومخالفة الجليس ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في أخراك، وإن قل، فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة، وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً.
155 - إن لم يكن بد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن لك مندوحة عن منافرة الحق ومنافرة الخلق، فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق.
156 - الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وعظه أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب، فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ وتعدى طريقته وصار في أكثر الأمور مغرياً للموعوظ بالتمادي على أمره لجاجاً وحرداً ومغايظة للواعظ الجافي، فيكون في وعظه مسيئاً لا محسناً. ومن وعظ ببشر وتبسم ولين وكأنه مشير برأي ومخبر عن غير الموعوظ بما يستقبح من الموعوظ فذلك أبلغ وأنجع في الموعظة. فغن لم يتقبل فلينتقل إلى الوعظ بالتحشيم وفي الخلاء. فإن لم يقبل ففي حضرة من يستحيي منه الموعوظ. فهذا أدب الله تعالى في أمره بالقول اللين. وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه بالموعظة، لكن كان يقول: " ما بال أقوام يفعلون كذا " (3) . وقد أثنى عليه السلام على الرفق، وأمر بالتيسير، ونهى عن التنفير، وكان يتحول بالموعظة خوف الملل. وقال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159) وأما الغلظة والشدة فإنما تجب في حد من حدود الله، فلا لين في ذلك للقادر على إقامة الحد
__________
(1) ص: ولم.
(2) م: سوء.
(3) انظر نموذجاً من ذلك في البخاري (ايمان: 3) .(1/383)
خاصة. ومما ينجع في الوعظ أيضاً الثناء بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله، س فها داعية إلى عمل الخير. وما أعلم لحب المدح فضلاً إلا ها وحده، وو أن يقتدي به من يسمع الثناء. ولهذا يجب أن تؤرخ الفضائل والرذائل لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره، ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه، ويتعظ بما سلف.
157 - وتأملت كل ما دون السماء وطالت فيه فكرتي فوجدت كل شيء فيه، من حي وغير حي، من طبعه عن قوي أن يخلع [على] (1) غيره من الأنواع هيأته ويلبسه صفاته. فترى الفاضل يود لو كان [كل] الناس فضلاء، وترى الناقص يود لو كان كل الناس نقصاء، وترى كل من ذكر شيئاً يحض عليه يقول: أنا أفعل أمر كذا وكذا، وكل [ذي] مذهب يود لو كان الناس موافقين له. وترى ذلك في العناصر، إذا قوي بعضها على بعض أحاله إلى نوعيته، وترى ذلك في تركيب الشجر وفي تغذي النبات والشجر بالماء ورطوبة الأرض وإحالتهما ذلك إلى نوعيتها. فسبحان مخترع ذلك ومدبره، لا إله إلا هو.
158 - ومن عجيب قدرة الله تعالى كثيرة الخلق، ثم لا نرى أحداً يشبه آخر شبهاً لا يكون بينهما فيه فرق. وقد سالت من طال عمره وبلغ ثمانين عاماً، هل رأى الصور فيما خلا مشبهة لهذه شبهاً واحداً، فقال لي: لا بل لكل صورة فرقها. وهكذا كل ما في العالم، يعرف ذلك من تدبر الآلات وجميع الأجسام المركبات، وطال تكرر بصره عليها، فإنه حينئذ يميز ما بينها ويعرف بعضها من بعض بفروق فيها تعرفها النفس، ولا يقدر أحد يعبر عنها بلسانه. فسبحان العزيز الحكيم الذي لا تتناهى مقدوراته.
__________
(1) زيادة من م، وجاء في د: أن يخلع عن غيره من الأنواع كيفياته.(1/384)
159 -[من عجائب الدنيا قوم غلبت عليهم آمال فاسدة لا يحصلون منها إلا على إتعاب النفس عاجلاً ثم الهم والإثم آجلاً، كمن يتمنى غلاء الأقوات التي في غلائها هلاك الناس، وكمن يتمنى بعض الأمور التي فيها الضرر لغيره، وإن كانت له فيها منفعة، فإن تأميله ما يؤمل من ذلك لا يعجل له ذلك قبل وقته، ولا يأتيه من ذلك بما ليس في علم الله تعالى تكونه، فلو تمنى الخير والرخاء لتعجل الأجر والراحة والفضيلة ولم يتعب نفسه طرفة عين فما فوقها، فاعجبوا لفساد هذه الأخلاق بلا منفعة] (1) .
__________
(1) راجع الفقرة: 14 في ما تقدم.(1/385)
8 - فصل في مداواة ذوي الأخلاق الفاسدة
160 - من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه. فان اعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنية، فان خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أنه مصيبة للأبد (1) وأنه اتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً. وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل ولا عيب أشد من هذين، لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالبها وسعى في قمعها. والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته، وإما لأنه يقدر ان عيوبه خصال، وهذا أشد عيب في الأرض. وفي الناس كثير يفجرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم فيعجب بتأتي هذه النجوس له وبقوته على هذه المخازي. واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص، حاشا الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة (2) وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة، فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها وعن عيوب غيره التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة. وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة الا الاتعاظ بما يسمع المرء منها
__________
(1) كذا في ص: وجاء في د: فليعلم أن مصيبته الى الأبد.
(2) تقرأ في ص: والخبثة.(1/386)
فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته. وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير لا يسوغ أصلاً، والواجب اجتنابه الا في نصيحة من يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب، أو على سبيل تبكيت المعجب فقط في وجهه لا خلف ظهره.
161 - ثم تقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، ولا تميل (1) بين نفسك وبين من هو أكثر منها عيوباً فتستسهل الرذائل وتكون مقلداً لأهل الشر، وقد ذم تقليد أهل الخير فكيف تقليد أهل الشر لكن ميل بين نفسك وبين من هو أفضل منك فحينئذ يتلف عجبك وتفيق من هذا الداء القبيح الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس، وفيهم بلا شك من هو خير منك، فإذا استخفت بهم لغير حق، استخفوا بك بحق، لان الله تعالى يقول: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) فتولد على نفسك ان تكون أهلاً للاستخفاف بك على الحقيقة، مع مقت الله عز وجل وطمس ما فيك من فضيلة.
(أ) فان أعجبت بعقلك، ففكر في كل فكرة سوء تمر بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة (2) بك، فانك تعلم نقص عقلك حينئذ.
(ب) وان أعجبت بآرائك، فتفكر في سقطاتك (3) واحفظها ولا تنسها، وفي كل رأي قدرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك، وأصاب غيرك وأخطأت انت، فانك ان فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك صوابه فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك. وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم.
__________
(1) ميل بين الأمرين: وازن بينهما ليرى أيهما أفضل وفي ص: تمثل.
(2) ص: المطالعة.
(3) ص: سقطاتك.(1/387)
(ج) وان أعجبت بخيرك (1) فتفكر في معاصيك وتقصيرك وفي معايبك ووجوهها (2) ، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك ويعفي على حسناتك، فليطل (3) همك حينئذ من ذلك، وأبدل من العجب تنقيصاً لنفسك.
(د) وان أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك اياها ربك تعالى فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت. ولقد أخبرت عن عبد الملك بن طريف (4) وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته، وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه اخلالاً شديداً ولم يعاوده ذلك الذكاء بعد. وأنا أصابتني علة فأقمت منها، وقد ذهب ما كنت احفظ الا ما لا قدر له، فما عاودته الا بعد أعوام.
واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة والإكباب على الدرس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالاكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح انه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا ما هذا الا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها.
ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم الذي
__________
(1) ص: بعلمك بخيرك.
(2) ص: معاشك ووجوهه.
(3) ص: فيبطل؛ وما هنا قراءة د.
(4) الأرجح أنه أبو مروان عبد الملك بن طريف من أهل قرطبة، وكان لغوياً نحوياً أخذ عن ابن القوطية وألف كتاباً حسناً في الأفعال وتوفي في نحو الأربعمائة (الصلة: 340 وبغية الوعاة 2: 111) .(1/388)
تختص (1) به والذي أعجبت بنفاذك فيه، أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها، فهو أولى. وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندك حينئذ.
وتفكر في إخلالك بعلمك، فانك لا تعمل بما علمت منه فعلمك عليك حجة حينئذ، لقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً. واعلم ان الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر، فليسقط عجبك بالكلية.
ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه، فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة، فتهون نفسك عليك.
(هـ) وان أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيما صرفتها، فان كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس بثمن لها. وان كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بعجبك، ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخ، وانك إن عشت فستصير في عدد العيال وكالصبي ضعفاً.
على أني ما رأيت العجب في طائفة أقل منه في أهل الشجاعة، فاستدللت بذلك على نزاهة أنفسهم ورفعتها وعلوها.
(و) وإن اعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك واندادك ونظائرك (2) ولعلهم أخساء وضعاء (3) سقاط. فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه ولعلهم ممن يستحيي من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وفي أخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شارك فيها من ذكرت لك.
__________
(1) م: من أنواع العلم ثم من أصناف علمك الذي تختص الخ.
(2) د: ونظرائك (وهي أصوب) .
(3) ص: وضعفاء، وهذه قراءة م.(1/389)
وان كنت مالك الأرض كلها ولا خليفة عليك - وهذا بعيد جداً في الإمكان، فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كلها على قلته وضيق مساحته (1) بالإضافة إلى غامرها (2) فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط - فتفكر فيما قال ابن السماك (3) للرشيد، وقد دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه فقال له: يا أمير المؤمنين فلو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها فقال له الرشيد بملكي كله. قال: يا أمير المؤمنين، فلو منعت من خروجها منك، بكم كنت ترضى تفتدي من ذلك قال: بملكي كله. فقال: يا أمير المؤمنين أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء وصدق ابن السماك رحمه الله.
وان كنت ملك المسلمين كلهم، فاعلم أن ملك السودان وهو رجل أسود (4) مكشوف العورة جاهل، يملك أوسع من ملكك. فان قلت أخذته بحق، فلعمري ما أخذته بحق اذ استعملت فيه رذيلة العجب، وإذا لم تعدل فيه فاستحي من حالك، فهي حالة لا حالة يجب العجب فيها.
(ز) وان أعجبت بمالك، فهذه أسوأ مراتب العجب فانظر في كل ساقط خسيس فهو أغنى منك، فلا تغتبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت. واعلم ان عجبك بالمال حمق لأنه أحجار لا تنتفع بها الا بان تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط. والمال ايضاً غاد ورائح (5) ، وربما زال
__________
(1) ص: محاسنه.
(2) ص: عامرها؛ والغامر من الأرض والدور خلاف العامر.
(3) هو محمد بن صبيح مولي بن عجل، كوفي، قدم بغداد زمن هارون الرشيد، وكان يعظه، وبعد اقامته مدة ببغداد عاد الى الكوفة وتوفي بها سنة 183 (صفة الصفوة 3: 105 وتاريخ بغداد رقم 2895) وموعظته التي أوردها ابن حزم مذكورة في العقد 3: 164.
(4) م: أسود رذل.
(5) هو من قول حاتم الطائي:
أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المرء الأحاديث والذكر(1/390)
عنك ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعجب بمثل هذا سخف والثقة به غرور وضعف.
(ج) وان اعجبت بحسنك ففكر فيما عليك مما نستحيي نحن من اثباته وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن. وفيما ذكرنا كفاية.
(ط) وان اعجبت بمدح اخوانك لك، ففكر في ذم أعدائك اياك، فحينئذ ينجلي عنك العجب، فان لم يكن لك عدو فلا خير فيك ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس الله تعالى عنده نعمة يحسد عليها، عافانا الله.
فان استحقرت عيونك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس وتمثل اطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك ان كانت لك مسكة من تمييز. واعلم بأنك لو تعلمت كيفية تركيب الطبائع وتولد الأخلاق من امتزاج ناصرها المحمولة في النفس فستقف من ذلك وقوف يقين على ان فضائلك لا خصلة لك فيها وأنها منح من الله تعالى لو منحها غيرك لكان مثلك، وانك لو وكلت إلى نفسك لعجزت وهلكت، فاجعل بدل عجبك بها حمداً لواهبك إياها وإشفاقاً من زوالها، فقد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض وبالفقر وبالخوف وبالغضب وبالهرم، وارحم من منع ما منحت، ولا تتعرض لزوال ما بك من النعم بالتعاطي (1) على واهبها تعالى، وبأن تجعل لنفسك فيما وهبك خصلة أو حقاً، فتقدر أنك استغنيت عن عصمته فتهلك عاجلاً واجلاً.
ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربواً في الطحال شديداً، فولد علي لك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمراً حاسبت نفسي فيه، اذ أنكرت تبدل خلقي، فاشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن الطحال موضع الفرح، فإذا فسد تولد ضده.
__________
(1) التعاطي: الجرأة، وتناول ما لا يحق ولا يجوز تناوله؛ د: التعالي.(1/391)
(ي) وان أعجبت بنسبك، فهذه اسوأ من كل ما ذكرنا، لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة. وانظر هل يدفع عنك جوعة أو يستر لك عورة أو ينفعك في آخرتك.
ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك، وربما فيما هو أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ثم ولادة الخلفاء، ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة، ثم ولادة التبابعة وسائر ملوك الاسلام، فتأمل غبراتهم وبقاياهم ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة، وتلقهم في غاية السقوط والرذالة والتبذل والتحلي بالصفات المذمومة. فلا تغتبط بمنزلة هم نظراؤك أو فوقك. ثم لعل الآباء الذين تفخر بهم كانوا فساقاً، وشربة خمور، ولاطة، ومتعبثين (1) ، ونوكى، أطلقت الأيام أيديهم بالظلم والجور، فأنتجوا آثاراً (2) قبيحة يبقى عارهم بذلك على الأيام، ويعظم إثمهم والندم عليها يوم الحساب. فان كان ذلك فاعلم أن الذي أعجبت به من ذلك داخل في العيب والخزي والعار والشنار، لا في الاعجاب.
(ك) فان أعجبت بولادة الفضلاء اياك، فما أخلى يدك من فضلهم ان لم تكن أنت فاضلاً، وما أقل غناءهم عنك في الدنيا والآخرة ان لم تكن محسناً، والناس كلهم ولد آدم الذي خلقه الله تعالى بيده، وأسكنه جنته وأسجد له ملائكته، ولكن ما أقل نفعه لهم، وفيهم كل عيب (3) وكل فاسق وكل كافر.
واذا فكر العاقل في أن فضائل آبائه لا تقربه من ربه تعالى ولا تكسبه وجاهة لم يحزها هو بسعده او بفضله في نفسه ولا ماله، فأي معنى
__________
(1) م: ومغنين.
(2) م: فأنتجوا ظلماً وآثاراً.
(3) م: معيب، وقد تقرأ كذلك في ص.(1/392)
للإعجاب بما لا منفعة فيه وهل المعجب بذلك الا كالمعجب بمال جاره وبجاه غيره وبفرس لغيره سبق كان على رأسه لجامه (1) ، وكما تقول العامة في أمثالها: " كالخصي يزهى بذكر ابيه ". (2)
(ل) فان تعدى بك العجب إلى الامتداح فقد تضاعف سقوطك، لأنه قد عجز عقلك عن مفارقة (3) ما فيك من العجب. هذا ان امتدحت بحق، فكيف ان امتدحت بكذب! وقد كان ابن نوح وأبو إبراهيم وأبو لهب، عم النبي صلى الله عليه وعلى نوح وابراهيم وسلم، أقرب الناس من أفضل خلق الله تعالى من ولد آدم وممن الشرف كله في اتباعهم، فما انتفعوا بذلك. وقد كان فيمن ولد لغير رشدة، من كان الغاية في رئاسة الدنيا كزياد وأبي مسلم، ومن كان نهاية في الفضل على الحقيقة كبعض من نجله عن ذكره في مثل هذا الفصل ممن يتقرب إلى الله تعالى بمحبته (4) والاقتداء بحميد آثاره.
(م) وان أعجبت بقوة جسمك فتفكر في أن البغل والحمار والثور أقوى منك وأحمل للأثقال، وان أعجبت بخفتك، فاعلم أن الكلب والأرنب يفوقانك في هذا الباب. فمن اعجب العجيب إعجاب ناطق بخصلة يفوقه فيها غير الناطق.
162 - واعلم أن من قدر في نفسه عجباً أو ظن لها على سائر الناس فضلاً، فلينظر إلى صبره عندما يدهمه من هم أو نكبة أو وجع أو دمل أو مصيبة، فان رأى في نفسه قلة الصبر (5) فليعلم أن جميع أهل
__________
(1) هذه حكاية عن أبي عبيدة أن الخيل أجريت للرهان فسبق فرس فجعل رجل من النظارة يكبر ويثب فقيل له أكان الفرس لك قال: لا ولكن اللجام لي (الميداني: 2: 57) .
(2) يشبه في الأمثال القديمة " كالفاخرة بحدج ربتها " (الحدج: المركب) (انظر فصل المقال: 401 والميداني 2: 57) وأورده الميداني (2: 81) كالخصي يفتخر بزب مولاه.
(3) ص: عن مفارقة مقاومة (فكأنه أثبت قراءتين) .
(4) د: بحبه.
(5) د. م: فان رأى نفسه قليلة الصبر.(1/393)
البلاء من المجذمين وغيرهم من الصابرين، أفضل منه على تأخر طبقتهم في التمييز. وان رأى نفسه صابرة فليعلم أنه لم يأت بشيء يسبق فيه على ما ذكرنا بل هو إما متأخر عنهم وإما مساو لهم، ولا مزيد.
163 - ثم لينظر إلى سيرته وعدله أو جوره فيما خوله الله تعالى من نعمة أو مال أو خول أو أتباع أو صحة أو جاه، فان وجد نفسه مقصرة فيما يلزمه من الشكر لواهبه تعالى، ووجدها حائفة في العدل، فليعلم أن أهل العدل والشكر والسيرة الحسنة من المخولين أكثر مما هو فيه، أفضل منه. فإن رأى نفسه ملتزمة للعدل، فالعادل بعيد من العجب البتة لعلمه بموازين الأشياء، ومقادير الأخلاق، والتزامه التوسط الذي هو الاعتدال بين الطرفين المذمومين. فإن أعجب لم يعدل، بل قد مال إلى جنبة الافراط المذمومة.
164 - ولتعلم أن التعسف وسوء الملكة لمن خولك الله أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس ودناءة الهمة وضعف العقل، لان العاقل الرفيع النفس العالي الهمة، انما يغالب أكفاءه في القوة ونظراءه في المنعة. وأما الاستطالة على من لا يمكنه المعارضة، فسقوط في الطبع ورذالة في النفس والخلق وعجز ومهانة، ومن فعل ذلك فهو بمنزلة من يتبجح بقتل جرذ او بعقر برغوث او بفرك قملة وحسبك بهذا ضعة وخساسة.
165 - واعلم أن رياضة النفس (1) أصعب من رياضة الأسد، لان الأسد اذا سجنت في البيوت التي تتخذها (2) لها الملوك، أمن شرها، والنفس ان سجنت لم يؤمن شرها.
__________
(1) م: الأنفس.
(2) ص: تتخذ.(1/394)
166 - العجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعاطي (1) وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة، ولذلك صعب الفرق بينها على أكثر الناس، فقد يكون العجب لفضيلة في المعجب ظاهرة: فمن معجب بعلمه فيكفهر ويتغلق (2) على الناس، ومن معجب بعمله فيترفع ويتعاطى (3) ، ومن معجب برأيه فيزهو على غيره، ومن معجب بنفسه فيتيه، ومن معجب بجاهه وعلو حاله فيتكبر وينتخي (4) .
167 - وأقل مراتب العجب أن تراه يتوقر عن الضحك [في مواضعه] (5) وعن خفة الحركات وعن الكلام إلا فيما لابد له منه من أمور دنياه، وعيب هذا أقل من عيب غيره، ولو فعل هذه الأفاعيل على سبيل الاقتصار على الواجبات وترك الفضول لكان ذلك فضلاً وموجباً لحمدهم، ولكنهم إنما يفعلون ذلك احتقاراً للناس وإعجاباً بأنفسهم، فحصل لهم بذلك استحقاق الذم، و " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ". حتى إذا زاد الأمر، ولم يكن هنالك تمييز يحجب عن توفيته العجب حقه ولا عقل جيد، حدث من ذلك ظهور الاستخفاف بالناس واحتقارهم بالكلام وفي المعاملة، حتى إذا زاد على ذلك وضعف التمييز والعقل ترقى ذلك إلى الاستطالة على الناس بالأذى باللسان واليد والتحكم والظلم والطغيان (6) واقتضاء الطاعة لنفسه والخضوع لها إن أمكنه ذلك. فإن لم يقدر على ذلك امتدح بلسانه واقتصر على ذم الناس والاستهزاء بهم.
168 - وقد يكون العجب لغير معنى ولغير فضيلة في
__________
(1) م: التعالي.
(2) ينغلق: يغضب ويحتد ويبدي ضيق خلقه.
(3) د: ويتعالى.
(4) ينتخي: يفتخر ويتعظم.
(5) زيادة من د.
(6) م: بالأيدي واللسان والتحكم والطغيان.(1/395)
المعجب، وهذا من عجيب ما يقع في هذا الباب، وهو شيء يسميه عامتنا " التمييز المتمندل " (1) وكثيراً ما نراه في النساء وفيمن عقله قريب من عقولهن من الرجال، وهو عجب من ليس فيه خصلة أصلاً، لا علم ولا شجاعة ولا علو حال ولا نسب رفيع ولا مال يطغيه وهو يعلم مع ذلك انه صفر من ذلك كله، لأن هذه الأمور لا يغلط فيها من يقذف بالحجارة (2) ، وإنما يغلط فيها من له أدنى حظ منها، فربما يتوهم إن كان ضعيف العقل انه قد بلغ الغاية القصوى منها، كمن له حظ من علم، فهو يظن أنه عالم كامل، أو كمن له نسب معرق في ظلمة، وتجدهم لم يكونوا أيضاً رفعاء في ظلمهم، فتجده لو كان ابن فرعون ذي الأوتاد ما زاد على إعجابه الذي فيه، او له شيء من فروسية فهو يقدر انه يهزم علياً ويأسر الزبير ويقتل خالداً، أو له شيء من جاه رذل لا يرى الاسكندر على حال، أو يكون قوياً على أن يكسب، ما يتوفر بيده مويل يفضل عن قوته، فلو أخذ بقرني الشمس لم يزد على ما هو فيه. وليس يكثر العجب من هؤلاء وإن كانوا عجباً، لكن ممن لاحظ له من علم أصلاً، ولا نسب البتة، ولا مال ولا جاه ولا نجدة، بل نراه في كفالة غيره مهتضماً لكل من له أدنى طاقة، وهو يعلم أنه خال من كل ذلك، وأنه لاحظ له في شيء منه، ثم هو مع ذلك في حالة المزهو التياه.
ولقد تسببت إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علو
__________
(1) م: التمترك؛ ولم أوفق الى توجيه لفظة " التمندل " حتى رأيت الدكتور عبد العزيز الأهواني رحمه الله قد أشار إلى الزجل (رقم: 125) لابن قزمان، وقد جاء في المقطوعة الثالثة منه (انظر مجلة المعهد المصري، المجلد: 19 (1976 - 1978) ص: 60.
حبيب يتمنزل لما أنا عبد ... وفسر " يتمنزل " بمعنى يدل بمنزلته ويتكبر؛ وهذا توضيح جيد ولكنه يلقي شكاً على لفظة " التمييز " وأنا أعتقد أن اللفظتين لفظة واحدة، واضطرب فيهما الناسخ أو أن الأصل الصحيح هو: " وهو شيء يسميه عامتنا التمنزل والتمندل " والتمندل تعني أيضاً اصطناع الدل.
(2) من يقذف بالحجارة: كناية عن المجنون؛ وفي ص: يغلط فيها من لا يقذف.(1/396)
نفسه واحتقاره الناس، فما وجدت عنده مزيداً على ان قال لي: " أنا حر لست عبد أحد ". فقلت له: أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة، فهم أحرار مثلك إلا قوماً من العبيد هم أطول يداً منك وأمرهم نافذ عليك وعلى كثير من الأحرار. فلم أجد عنده زيادة. فرجعت إلى تفتيش أحوالهم ومراعاتها، فأفكرت في ذلك سنين لأعلم السبب الباعث لهم على هذا العجب الذي لا سبب له، فلم أزل اختبر ما تنطوي عليه نفوسهم بما يبدو من أحوالهم ومن مراميهم في كلامهم، فاستقر أمرهم على انهم يقدرون أن عندهم فضل عقل وتمييز ورأي أصيل، لو أمكنتهم الأيام من تصرفه أو وجدوا (1) فيه متسعاً لأداروا الممالك الرفيعة ولبنان فضلهم على سائر الناس، ولو ملكوا مالاً لأحسنوا تصريفه، فمن هاهنا تسرب التيه إليهم وسرى العجب فيهم.
169 - وهذا مكان فيه للكلام شغب عجيب ومعارضة معترضة وهو انه ليس شيء من الفضائل كلما كان المرء منه أعرى قوي ظنه انه قد استولى عليه واستمر يقينه في أنه قد كمل فيه إلا العقل والتمييز، حتى انك تجد المجنون المطبق والسكران الطافح يسخران بالصحيح، والجاهل الناقص يهزأ بالحكماء والأفاضل العلماء، والصبيان الصغار يتفكهون (2) بالكهول، والسفهاء العيارين يستخفون بالعقلاء المتصاونين، وضعفة النساء يستنقصن عقول أكابر الرجال وآراءهم، وبالجملة: فكلما نقص العقل توهم صاحبه أنه أوفر الناس عقلا وأكمل ما كان تمييزاً، ولا يعرض هذا في سائر الفضائل، فإن العاري منها جملة يدري أنه عار منها، وإنما يدخل الغلط على من له أدنى حظ منها وإن قل، فإنه يتوهم حينئذ إن كان ضعيف التمييز أنه علي (3) الدرجة فيه. ودواء من ذكرنا الفقر والخمول، ولا دواء لهم أنجع منه
__________
(1) د: لوجدوا فيه متسعا، ص: ولأداروا.
(2) م: يتهكمون.
(3) د: عالي.(1/397)
وإلا فداؤهم وضررهم على الناس عظيم جداً، فلا تجدهم إلا عيابين للناس وقاعين في الأعراض، مستهزئين بالجميع، مجانبين للحقائق، مكبين على الفضول، وربما كانوا مع ذلك متعرضين للمشاتمة والمهارشة، وربما قصدوا إلى الملاطمة والمضاربة عند أدنى سبب يعرض لهم.
170 - وقد يكون العجب كميناً في المرء حتى إذا حصل على أدنى جاه ومال ظهر ذلك عليه، وعجز عقله عن قمعه وستره.
171 - ومن طريف ما رأيت في بعض أهل الضعف أن منهم من يغلبه ما يضمر من محبة ولده الصغير وامرأته حتى يصفها بالعقل في المحافل، وحتى إنه يقول هي أعقل مني، وأنا أتبرك بوصيتها. وأما مدحه إياها بالجمال والحسن والعافية فكثير في أهل الضعف جداً، حتى انه لو كان خاطباً لها زاد على ما يقول في ترغيب السامع لوصفه فيها، ولا يكون هذا إلا في ضعيف العقل عار من العجب بنفسه.
172 - إياك والامتداح، فغن كل من يسمعك، لا يصدقك وإن كنت صادقاً، بل يجعل ما سمع منك من ذلك من أول معايبك، وإياك ومدح أحد في وجهه، فإنه فعل أهل الملق وضعفة النفوس. وإياك وذم أحد في حضرته ولا في مغيبه، فلك في إصلاح نفسك شغل.
173 - وإياك والتفاقر (1) ، فإنك ما تحصل من ذلك إلا على تكذيبك أو احتقار من يسمعك، ولا منفعة لك في ذلك أصلاً إلا كفر نعمة ربك وشكواه إلى من لا يرحمك. وإياك ووصف نفسك باليسار، فإنك لا تزيد على اطماع السامعين فيما عندك ببطر (2) ولا تزد على شكر الله تعالى وذكر فقرك إليه وغناك عمن دونه فغن هذا يكسبك
__________
(1) ص: التفاخر، والتفاقر: التظاهر بالفقر.
(2) ببطر: غير معجمة في ص، وسقطت من د.(1/398)
الجلالة والراحة من الطمع فيما عندك. [و] العاقل هو من لا يفارق ما أوجبه تمييزه، ومن سبب للناس الطمع فيما عنده لم يحصل إلا على أن يبذله لهم، فلا غاية لهذا أو يمنعهم فيلؤم ويعادونه، فإذا أردت أن تعطي أحداً شيئاً فليكن ذلك منك قبل أن يسألك، فهو أكرم وأنزه وأوجب للمجد (1) .
174 - من بديع ما يقع في الحسد قول الحاسد إذا سمع إنساناً يغرب (2) في علم ما: " هذا شيء بارد، إذ لم يتقدم إليه ولا قاله قبله أحد ". فإن سمع من يبين ما قد قاله غيره قال: " هذا بارد وقد قيل قبله ". وهذه طائفة سوء قد نصبت أنفسها للقعود على طريق العلم يصدون الناس عنها ليكثر نظراؤهم من الجهال.
175 - إن الحكيم لا تنفعه حكمته عند الخبيث الطبع، بل يظنه خبيثاً مثله. وقد شاهدت أقواماً ذوي طبائع ردية، وقد تصور في أنفسهم الخبيثة أن الناس كلهم على مثل طبائعهم لا يصدقون أصلاً بأن أحداً هو سالم من رذائلهم بوجه من الوجوه، وهذا أفسد (3) ما يكون من فساد الطبع والبعد عن الفضل والخير. ومن كانت هذه صفته لا ترجى له معافاة (4) أبداً، وبالله تعالى التوفيق.
176 - العدل حصن يلجأ إليه كل خائف، وذلك أنك ترى الظالم إذا رأى من يريد ظلمه دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه، ولا ترى أحداً يذم العدل. فمن كان العدل في طبعه فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين.
177 - الاستهانة نوع من (5) أنواع الخيانة: إذ قد يخونك من
__________
(1) د: للحمد.
(2) ص: يعرف.
(3) م: أسوأ.
(4) ص: معانا، د: معاناة.
(5) ص: من نوع.(1/399)
لا يستهين بك، ومن استهان بك فقد خانتك الانصاف، فكل مستهين خائن، وليس كل خائن مستهيناً.
178 - الاستهانة بالمتاع دليل على الاستهانة برب المتاع.
179 - حالتان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما وهما المعاتبة والاعتذار، فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي وذكر الاحسان، وذلك غاية القبح فيما عدا هاتين الحالتين.
180 - لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو انه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل، بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل، ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل.
181 - الخيانة في الحرم أشد من الخيانة في الدماء.
182 - العرض أعز على الكريم من المال؛ ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله، ويصون نفسه بجسمه، ويصون عرضه بنفسه، ويصون دينه بعرضه ولا يصون بدينه شيئاً أصلاً.
183 - الخيانة في الأعراض أخف من الخيانة في الأموال، وبرهان ذلك أنه لا يكاد يوجد من لا يخون في العرض وإن قل ذلك منه وكان من اهل الفضل. وأما الخيانة في الأموال، وإن قلت أو كثرت، فلا تكون إلا من رذل بعيد عن الفضل.
184 - القياس في أحوال الناس قد يكذب في أكثر الأمور ويبطل في الأغلب، واستعمال ما هذه صفته في الدين لا يجوز.
185 - المقلد راض ان يغبن عقله، ولعله مع ذلك يستعظم أن يغبن ماله فيخطئ في الوجهين معاً.
186 - لا يكره الغبن في ماله ويستعظمه إلا لئيم الطبع دقيق الهمة مهين النفس.(1/400)
187 - من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحتوي على جميع الفضائل.
188 - رب مخوف كان التحفظ (1) منه سبب وقوعه. ورب سر كانت المبالغة في طيه علة انتشاره (2) ، ورب إعراض أبلغ في الاسترابة من إدامة النظر. واصل ذلك كله الإفراط الخارج عن حد الاعتدال.
189 - الفضيلة وسيطة بين الإفراط والتفريط، فكلا الطرفين مذموم، والفضيلة وسيطة بينهما محمودة، حاشا العقل فإنه لا إفراط فيه.
190 - الخطأ في الحزم خير من الخطأ في التضييع.
191 - من العجائب ان الفضائل مستحسنة ومستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستخفة.
192 - من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه.
193 - حد الحزم معرفة الصديق من العدو. وغاية الخرق والضعف جهل العدو من الصديق.
194 - لا تسلم عدوك لظلم ولا تظلمه، وساو في ذلك بينه وبين الصديق، وإياك وتقريبه وإعلاء قدره فإن هذا من فعل النوكى. ومن ساوى بين عدوه وصديقه في التقريب والرفعة، فلم يزد على أن زهد الناس في مودته وسهل عليهم عداوته، ولم يزد على استخفاف عدوه وتمكينه من مقاتله وإفساد صديقه على نفسه وإلحاقه بجملة أعدائه؛ غاية الخير أن يسلم عدوك من ظلمك ومن تركك إياه للظلم، وأما تقريبه فمن شيم النوكى الذين قد قرب منهم التلف؛ وغاية الشر إلا
__________
(1) م: التحرز.
(2) م: سبب انتشاره.(1/401)
يسلم صديقك من ظلمك، وأما إبعاده فمن فعل من لا عقل له، ومن قد كتب عليه الشقاء؛ ليس الحلم تقريب العدو، ولكنه مسالمتهم مع التحفظ منهم.
195 -[كم رأينا من فاخر بما عنده من المتاع، كان ذلك سبباً لهلاكه، فإياك وهذا الباب الذي هو ضر محض لا منفعة فيه أصلاً] .
196 -[كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه ولم نر قط أحداً بلغنا أنه أهلكه سكوته، فلا تتكلم إلا بما يقربك من خالقك، فإن خفت ظالماً فاسكت] .
197 - قلما رأيت امراً أمكن فضيع إلا فات (1) فلم يمكن بعد.
198 - محن الإنسان في دهره كثيرة، وأعظمها محنته بأهل نوعه من الأنس [وداء] (2) الإنسان بالناس اعظم من دائه بالسباع الكلبة والأفاعي الضارية، لأن التحفظ من كل ما ذكرنا ممكن، ولا يمكن التحفظ من الإنس أصلاً.
199 - الغالب على الناس النفاق، ومن العجب انه لا يجوز مع ذلك عندهم إلا من نافقهم.
200 - لو قال قائل ان في الطبائع مزية كرية (3) لأن أطراف الأضداد تلتقي، لم يبعد من الصدق. وقد نجد نتائج الأضداد تتساوى، فنجد المرء يبكي من الفرح ومن الحزن، ونجد فرط المودة يلتقي مع فرط البغضة في تتبع العثرات، وقد يكون ذلك سبباً للقطيعة عند عدم الصبر والإنصاف.
__________
(1) ص: الأوقات، ولعلها الا وفات.
(2) زيادة من م.
(3) ص: كرية مزية.(1/402)
201 - كل من غلب عليه طبيعة ما، فإنه وإن بلغ الغاية من الحزم والحذر، فإنه مصروع إذا كويد من قبلها.
202 - كثرة الريب تعلم صاحبها الكذب لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب، فيضرى عليه ويستسهله.
203 - اعدل الشهود على المطبوع على الصدق وجهه لظهور الاسترابة عليه إن وقع في كذبة أو هم بها. وأعدل الشهود على الكذاب لسانه لاضطرابه ونقض بعض كلامه بعضاً.
204 - المصيبة في الصديق الناكث اعظم من المصيبة به.
205 - اشد الناس استعظاماً (1) للعيوب بلسانه هو أشدهم استهلالاً لها بفعله. ويتبين ذلك في مسافهات أهل البذاء ومشاتمات الأرذال البالغين غاية الرذالة من الصناعات الخسيسة من الرجال والنساء كاهل التعيش بالزمير وكنس الحشوش والخادمين في المجازر وساكني دور الحمل المباحة لكراء الجماعات الرذلة والساسة للدواب، فإن كل من ذكرنا أشد الخلق رمياً من بعضهم لبعض بالقبائح وأكثرهم عيباً بالفضائح، وهم أوغل الناس فيها وأشهرهم بها.
206 - اللقاء يذهب بالسخائم، فكان نظر العين إلى العين يصلح القلوب، فلا يسؤك التقاء صديقك بعدوك، فغن ذلك يفتر (2) أمره عنك.
207 - أشد الأشياء على الناس الخوف والهم والمرض والفقر. وأشدها كلها إيلاماً للنفس الهم للفقد من المحبوب وتوقع المكروه، ثم المرض، ثم الخوف ثم الفقر. ودليل ذلك ان الفقر يستعجل ليطرد به الخوف، فيبذل المرء ماله كله ليامن، والخوف والفقر يستعجلان ليطرد
__________
(1) م: استهالاً؛ ص: استطعاماً.
(2) يفتر: يسكن.(1/403)
بهما ألم المرض فيغرر الإنسان في طلب الصحة ويبذل ماله فيها إذا أشفق من الموت ويود عند تيقنه (1) به لو بذل ماله كله ويسلم (2) ويفيق. والخوف يستهل ليطرد به الهم، فيغرر المرء بنفسه ليطرد عنها الهم. وأشد الأمراض لها ألماً وجع ملازم في عضو ما بعينه. وأما النفوس الكريمة فالذل عندها أشد من كل ما ذكرنا وهو أشعل المخوفات عند ذوي النفوس اللئيمة.
__________
(1) ص: نفسه، والتصويب عن م.
(2) ص: وسلم.(1/404)
9 - فصل في غرائب أخلاق النفس
208 - ينبغي للعاقل ان لا يحكم بما يبدو له من استرحام الباكي المتظلم وتشكيه وكثرة تلومه (1) وتقلبه وبكائه، فقد وقفت من بعض من يفعل هذا على يقين انه الظالم المعتدي المفرط في الظلم. ورأيت بعض المظلومين ساكن الكلام معدوم التشكي مظهراً لقلة المبالاة. فيسبق إلى نفس بعض من لا يحقق النظر انه ظالم، وهذا مكان ينبغي التثبت فيه ومغالبة (2) ميل النفس جملة، ولا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها، ولكن يقصد الإنصاف بما يوجبه الحق على السواء.
209 - من عجائب الأخلاق ان الغفلة مذمومة، وأن استعمالها محمود. وإنما ذلك لان من هو مطبوع [على] الغفلة يستعملها في غير موضعها، وفي حيث يجب التحفظ، وهي تغيب عن فهم الحقيقة فدخلت تحت الجهل فذمت لذلك. وأما المتيقظ الطبع فإنه لا يضع الغفلة إلا في موضعها الذي يذم [فيه] البحث والتقصي. والتغافل فهم للحقيقة وإضراب عن الطيش واستعمال للحلم وتسكين للمكروه، فلذلك حمدت حالة التغافل وذمت الغفلة.
210 - وكذلك القول في إظهار [الجزع وإبطانه] (3)
__________
(1) م: وشدة تلويه (وهي قراءة جيدة) .
(2) ص: ومعايلة.
(3) زيادة من م، وفي د: وكذلك القول في إظهار الخوف وإبطائه، فإن اظهار الجزع(1/405)
وإظهار الصبر وإبطانه. فان اظهار الجزع عند حلول المصائب مذموم لانه عجز مظهره عن ملك نفسه فأظهر امراً لا فائدة فيه، بل هو مذموم في الشريعة وقاطع عما يلزم من الأعمال وعن التأهب لما يتوقع حلوله مما لعله أشنع من الأمر الواقع الذي عنه حدث الجزع.. فلما كان إظهار الجزع مذموماً كان ضده محمودا، وهو إظهار الصبر لأنه ملك النفس واطراح لما لا فائدة فيه وإقبال على ما يعود وينتفع به في الحال وفي المستأنف. وأما استبطان [الصبر] (1) فمذموم لأنه ضعف في الحس وقسوة في النفس وقلة رحمة. وهذه أخلاق سوء لا تكون إلا في أهل الشر وخبث الطبيعة وفي النفوس السبعية (2) الرديئة. فلما كان ذلك نتيجة ما ذكرنا (3) ، كان ضده محموداً وهو استبطان الجزع لما في ذلك من الرحمة والرقة والشفقة والفهم لقدر الرزية. فصح بهذا أن الاعتدال هو أن يكون المرء جزوع النفس صبور الجسد بمعنى أن لا يظهر في وجهه ولا في جوارحه شيء من دلائل الجزع وبالله تعالى التوفيق.
211 - لو علم ذو الرأي الفاسد ما استضر به من فساد تدبيره في السالف لأنجح بترك استعماله فيما يستأنف.
__________
(1) زيادة لازمة.
(2) ص: الستعية.
(3) د. م: فلما كان ما ذكرنا يقبح.(1/406)
10 - فصل في تطلع (1) النفس
إلى معرفة ما تستر به عنها من كلام مسموع
أو شيء مرئي وإلى المدح (2) وبقاء الذكر
212 - هذان أمران لا يكاد يسلم منهما أحد إلا ساقط الهمة جداً أو من راض نفسه الرياضة التامة وقمع قوة نفسه الغضبية قمعاً كاملاً. ومداواة شره النفس إلى سماع كلام تستر به عنها أو رؤية شيء اكتتم به دونها أن يفكر فيما غاب عنها من هذا النوع في غير موضعه الذي هو فيه، بل في أقطار الأرض المتباينة، فان اهتم بكل ذلك فهو مجنون تام الجنون عديم العقل البتة. وأن لم يهتم لذلك فهل هذا الذي اختفى عنه إلا كسائر ما غاب عنه منه سواء بسواء ولا فرق ثم ليزدد احتجاجاً (3) على هواه فليقل بلسان عقله لنفسه: يا نفس أرأيت لو لم تعلمي ان ها هنا شيئاً أخفي عنك أكنت تطلعين إلى معرفة ذلك فلا بد من لا، فليقل لنفسه: فكوني الآن كما كنت تكونين لو لم تعلمي بان ها هنا شيئاً ستر عنك، فتربحي الراحة وطرد الهم وألم القلق وقبح صفة الشره. وتلك غنائم كثيرة وأرباح جليلة وأغراض فاضلة سنية، يرغب العاقل فيها ولا يزهد فيها إلا تام النقص.
__________
(1) ص: مطلع؛ م: مطامع.
(2) م: أو شيء يدني الى المدح.
(3) م: ليزيد احتجاجه.(1/407)
213 - واما من علق على وهمه وفكره بان يبعد اسمه في البلاد ويبقى ذكره على الدهور، فليتفكر في نفسه وليقل لها: يا نفس أرأيت لو ذكرت بأفضل الذكر في جميع أقطار المعمور أبد الأبد إلى انقضاء الدهور ثم لم يبلغني ذلك ولا عرفت به أكان لي في ذلك سرور وغبطة أصلاً فلا بد من " لا " ولا سبيل إلى غيرها البتة، فإذا صح ذلك وتيقن فليتعلم يقيناً أنه إذا مات فلا سبيل له إلى علم انه يذكر أو انه لا يذكر، وكذلك وأن كان حياً إذا لم يبلغه.
ثم ليتفكر أيضاً في معنيين عظيمين أحدهما كثرة من خلا من الفضلاء من الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم أولاً والذين لم يبق لهم على أديم الأرض عند أحد من الناس اسم ولا رسم ولا ذكر ولا خبر ولا أثر بوجه من الوجوه. ثم من الفضلاء الصالحين من أصحاب الأنبياء السالفين والزهاد ومن الفلاسفة والعلماء والأخيار وملوك الأمم الدارة وبناة المدن الخالية واتباع الملوك أيضاً الذين انقطعت أخبارهم فلم يبق لهم عند أحد علم ولا لأحد بهم معرفة أصلاً البتة. فهل ضر من كان فاضلاً منهم ذلك أو نقص من فضائلهم أو طمس من محاسنهم أو حط درجتهم عند بارئهم عز وجل
ومن جهل هذا الأمر فليعلم انه ليس في شيء من الدنيا خبر عن ملك من ملوك الدنيا والأجيال السالفة ابعد مما بأيدي الناس من تاريخ ملك بني اسرائيل فقط، ثم ما بأيدينا من تاريخ ملك يونان والفرس وكل ذلك لا يتجاوز ألفي عام، فأين ذكر من عمر الدنيا قبل هؤلاء أليس قد دثر وفني وانقطع ونسي البتة
ولذلك قال الله تعالى: {ورسلاً لم نقصصهم عليك} (النساء: 164) وقال تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً} (الفرقان: 38) وقال الله تعالى: {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} (إبراهيم: 9) فهل الإنسان، وأن ذكر برهة من الدهر، إلا كمن خلا قبل من الأمم الغابرة الذين ذكروا ثم نسوا جملة(1/408)
ثم ليتفكر الإنسان فيمن ذكر بخير أو بشر، هل يزيده ذلك عند الله تعالى درجة أو يكسبه فضيلة لم يكن حازها بفعله أيام حياته. فإذا (1) هذا كما قلنا فالرغبة في الذكر رغبة في غرور (2) ، ولا معنى له ولا فائدة فيه أصلا، لكن إنما ينبغي ان يرغب العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر التي يستحق من هي فيه الذكر الجميل والثناء والحسن والمدح وحميد الصفة، فهي التي تقربه من بارئه تعالى وتجعله مذكوراً عنده عز وجل الذكر الذي ينفعه ويحصل على بقاء فائدته ولا يبيد أبد الأبد، وبالله الوفيق.
214 - شكر المحسن (3) فرض واجب، وإنما ذلك بالمقارنة له يمثل ما احسن فاكثر، ثم بالتهمم بأموره والتأتي بحسن الدفاع عنه ثم بالوفاء له، حياً وميتاً، ولمن يتصل به من شأفة (4) وأهل كذلك، ثم بالتمادي على وده ونصيحته ونشر محاسنه بالصدق وطي مساويه ما دمت حياً وتوريث ذلك عقبك وأهل ودك. وليس من الشكر عونه على الآثام وترك نصيحته في ما يوتغ (5) به دينه ودنياه، بل من عاون من أحسن إليه على باطل فقد غشه وكفر إحسانه وظلمه وجحد إنعامه. وأيضاً فان إحسان الله تعالى وإنعامه عز وجل على كل أحد اعظم واقدم وأهنأ من نعمة كل منعم دونه، فهو تعالى الذي شق لنا الإبصار الناظرة وفتق فينا الآذان السامعة ومنحنا الحواس الفاضلة ورزقنا النطق والتمييز اللذين بهما استأهلنا ان يخاطبنا، وسخر لنا ما في السماوات و [ما في] (6) الأرض من الكواكب والعناصر، ولم يفضل
__________
(1) م: فاذا كان هذا.
(2) م: رغبة غرور.
(3) م: شكر المنعم.
(4) شأفة الرجل: أهله وماله، وفي ص: مسافة وكذلك في د.
(5) يزتغ: يهلك، وأوتغ دينه بالإثم أفسده.
(6) زيادة من د.(1/409)
علينا من خلقه شيئاً غير ملائكته المقدسين الذين هم عمار السماوات فقط، فأين تقع نعم المنعمين من هذه النعم فمن قدر انه يشكر محسناً إليه بمساعدته (1) على باطل أو بمحاباته فيما لا يجوز فقد كفر نعمة اعظم المنعمين عليه وجحد إحسان اجل المحسنين إليه ولك يشكر ولي الشكر حقاً ولا حمد أهل الحمد أصلاً، وهو الله تعالى.
ومن حال بين المحسن إليه وبين الباطل وأقامه على مر الحق، فقد شكره حقاً وأدى واجب حقه عليه مستوفى، ولله الحمد أولاً وآخراً وعلى كل حال.
__________
(1) ص: بمشاهدته.(1/410)
11 -[فصل] (1) في حضور مجالس العلم (2)
215 - إذا حضرت مجلس علم، فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً لا حضور مستغن بما عندك طالب عثرة تشنعها أو غريبة تشيعها، فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العالم أبداً.
فإذا حضرتها على هذه النية، فقد حصلت خيراً على كل حال، فان لم تحضرها على هذه النية فجلوسك في منزلك أروح لبدنك وأكرم لخلقك واسلم لدينك.
216 - فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم أحد ثلاثة اوجه لا رابع لها وهي:
(أ) إما أن تسكت سكوت الجهال، فتحصل على اجر النية في المشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة الفضول وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس.
(ب) فإن لم تفعل فأسأل سؤال المتعلم فتحصل على هذه الأربع المحاسن وعلى خامسة، وهي استزادة العلم. وصفة سؤال المتعلم هو أن تسال عن ما لا تدري لا عن
__________
(1) زيادة من م.
(2) ص: مجالس الذكر، ولعله سهو من الناسخ، إلا أن يتأول " الذكر " على وجه يجعله والعلم سواء.(1/411)
ما تدري فإن السؤال عما تدريه سخف وقلة عقل وشغل لكلامك وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك وربما أدى إلى اكتساب العداوات. وهو يعد عين الفضول. فيجب عليك أن لا تكون فضولياً، فانها صفة سوء. فان أجابك الذي سألت بما فيه كفاية لك فاقطع الكلام، فان لم يجبك بما فيه كفاية، أو أجابك بما لم تفهم فقل له: لم أفهم، واستزده، فان لم يزدك بياناً وسكت أو أعاد عليك الكلام الأول ولا مزيد فأمسك عنه والا حصلت على الشر والعداوة ولم تحصل على ما تريده من الزيادة.
(ج) والوجه الثالث ان تراجع مراجعة العالم، وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضاً بيناً، فان لم يكن ذلك عندك ولم يكن عندك إلا تكرار قولك أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة، فأمسك لأنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر زائد ولا على تعليم، بل على الغيظ لك ولخصمك والعداوة التي ربما ادت إلى المضرات.
وإياك وسؤال المعنت (1) ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم، فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وكثرة الفضول وضعف العقل وقوة السخف، وحسبما الله ونعم الوكيل.
217 - وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب، فاياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة (2) قبل أن تتيقن بطلانه ببرهان قاطع. وأيضاً فلا تقبل عليه اقبال المصدق (3) به المستحسن إياه قبل علمك بصحبته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك وتبعد عن ادراك الحقيقة، ولكن أقبل عليه سالم القلب عن النزاع عنه والنزوع اليه، لكن إقبال من يريد حظ نفسه في فهم
__________
(1) ص: المعيب.
(2) م: المبالغة.
(3) ص: الصدق.(1/412)
ما سمع ورأى ليزيد (1) به علماً وقبوله ان كان حسناً أو رده ان كان خطأ، فمضمون لك، اذا فعلت ذلك، الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم.
218 -[من اكتفى بقليله عن كثير ما عندك، فقد ساواك في الغنى ولو أنك قارون، حتى اذا تصاون في الكسب عما تشره أنت اليه فقد حصل أغنى منك بكثير. ومن ترفع عما تخضع اليه من أمور الدنيا فهو أعز منك بكثير] (2) .
219 - فرض على الناس تعلم الخير والعمل به، فمن جمع الأمرين جميعاً، فقد استوفى الفضلين معاً، ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعلم وأساء في ترك العمل به، فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهو خير من آخر لم يعلمه ولم يعمل به، وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالة واقل ذماً من آخر ينهى عن تعلم الخير ويصد عنه. ولو لم ينه عن الشر الا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير الا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ولا أمر بخير بعد [النبي صلى الله عليه وسلم وحسبك بمن ادى رأيه إلى هذا فساداً وسوء طبع وذم] (3) حال، وبالله تعالى التوفيق.
220 -[قال أبو محمد رضي الله عنه: فاعترض ها هنا انسان فقال: كان الحسن رضي الله عنه إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلاً واذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به، وهكذا تكون الحكمة، وقد قيل: أقبح شيء في العالم ان يأمر [المرء] بشيء لا يأخذ به في نفسه أو ينهى عن شيء يستعمله.
__________
(1) ص: بالتزيد.
(2) هذه الفقرة المزيدة (من طبعة 1908) لا علاقة وثيقة لها بالفصل.
(3) ما بين معقفين سقط من ص، وهو ثابت في د.(1/413)
قال أبو محمد: كذب قائل هذا، وأقبح منه من لم يأمر بخير ولا نهى عن شر، وهو مع ذلك يعمل الشر ولا يعمل الخير.
قال أبو محمد: وقد قال أبو الأسود الدؤلي (1) : [من الكامل] .
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك اذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فاذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليم قال أبو محمد: ان أبا الأسود انما قصد بالإنكار المجيء بما نهى عنه المرء وانه يتضاعف قبحه فيه مع نهيه عنه، فقد احسن كما قال الله تعالى: {اتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44) ولا يظن بأبي الأسود الا هذا وأما أن يكون نهى عن النهي عن الخلق المذموم فنحن نعيذه بالله من هذا، فهو فعل من لا خير فيه.
وقد صح عن الحسن أنه سمع انساناً يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله، فقال الحسن: ود ابليس لو ظفر منها بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ولا يأمر بمعروف.
قال أبو محمد: صدق الحسن، وهو قولنا آنفاً.
جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل به، وممن يبصر رشد نفسه، فما أحد الا له عيوب، اذا نظرها شغلته عن غيره، وتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم آمين رب العالمين] (2) .
__________
(1) أنظر ديوانه (تحقيق محمد حسن آل ياسين، بيروت 1974) : 165 - 166.
(2) هذه الفقرة المزيدة ثابته لابن حزم لأنها تحمل أسلوبه وطريقته، ولكن هذا الأخ والرد أشبه بكتاب " الفصل " منه بهذه الرسالة.(1/414)
تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى
الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً ورضي
الله عن أصحاب
رسول الله.(1/415)
فراغ(1/416)
- 3 -
رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور(1/417)
فراغ(1/418)
رسالة في الغناء الملهي
مقدمة
كثر القول في الغناء، وقد لخص ابن الجوزي المواقف المختلفة منه بقوله: " تكلم الناس في الغناء فأطالوا، فمنهم من حرمه، ومنهم من أباحه من غير كراهة، ومنهم من كرهه مع الإباحة " (1) ثم تطور الأمر إلى النظر في الغناء مقترناً مع مختلف الآلات الموسيقية أو مجرداً عنها، وانقسم الناس في إجازة بعض الآلات دون بعضها الآخر، أو في عدم اباحتها جميعاً (2) .
وقد تمثلت هذه الخلافات في فصول مدرجة في الكتب وفي رسائل وكتب خصصت لهذا الموضوع، فمن الفصول ما ذكره الغزالي في الإحياء ولخصه النويري في نهاية الأرب (4: 161 - 188) وما جاء في عوارف المعارف للسهروردي وفي وقت القلوب لأبي طالب المكي. وأما المصنفات من رسائل وكتب في الموضوع فانها كثيرة جداً، فمنها:
1 - كتاب لعبد الملك بن حبيب (328/ 852) في كراهة الغناء (3) .
2 - ذم الملاهي لابن أبي الدنيا (281/ 894) (وهو أشمل
__________
(1) ابن الجوزي: تلبيس إبليس: 223.
(2) انظر نهاية الأرب للنويري 4: 133.
(3) ترتيب المدارك: 4: 131 (ط. المغرب) .(1/419)
من الغناء) ؛ نشر بلندن 1938 بتحقيق جيمس روبسون (ومعه بوارق الالماع: انظر ما يلي رقم: 5) وقد قام الناشر بترجمة الكتابين إلى الانجليزية.
3 - كتاب مصنف في ذم الغناء والمنع منه لأبي الطيب الطبري الشافعي (450/ 1058) ذكره ابن الجوزي (1) وابن تيمية (2) .
4 - كتاب السماع لابن القيسراني (3) (507/ 1113) تحقيق أبو الوفا المراغي، القاهرة 1970.
5 - بوارق الالماع لأبي الفتوح أحمد بن محمد الغزالي (520/ 1126) ، نشر مع كتاب ابن أبي الدنيا وترجم إلى الانجليزية (انظر رقم: 1) .
6 - كتاب السماع والرقص لابن تيمية (ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، القاهرة 1323) 2: 277 - 315.
7 - كتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع (4) لابن حجر الهيثمي (973/ 1575) ط. القاهرة، 1310، 1325) .
8 - إيضاح الدلالات في سماع الآلات (5) لعبد الغني النابلسي (1143/ 1731) ط. دمشق 1302 وبومبي 1303.
فرسالة ابن حزم في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور تجيء في سلسلة طويلة من المؤلفات التي كتبت قبلها وبعدها، وهي على
__________
(1) تلبيس ابليس 230.
(2) فتاوى ابن تيمية 11: 577.
(3) يبدو أن ما نشر من هذا الكتاب ناقص، لأن ابن الجوزي ينقل عنه أشياء لم ترد في المنشور. ففي الكتاب " باب إكرامهم للقول، وافرادهم الموضع " (تلبيس: 241) وحكايات عن الشافعي وعن أحمد بن حنبل وإجازاتهما للسماع (241، 243) .
(4) منه نسخة بالمتحف البريطاني (رقم: 1221) انظر تكملة بروكلمان 2: 528.
(5) منه نسخة في برلين (رقم: 5522) وكمبيردج (رقم: 143) ونافذ (برقم: 389) والقاهرة (رقم 1: 271) انظر تاريخ بروكلمان 2: 347 والتكملة 2: 474.(1/420)
بساطتها تعد ذات قيمة هامة في فتح الباب أمام توهين الأحاديث التي وردت في ذم الغناء والنهي عنه. ومن الطبيعي أن نجد المتصوفة يؤيدون حل السماع، وأن يكون ما كتبوه حول هذا الموضوع غزيراً جداً، وان يتجاوزوا الأحاديث إلى عمل أسلافهم أو يستشهدوا على ذلك بالصلحاء من الصحابة والتابعين. ولكن الشيء الذي يستوقف النظر هو افتراق المتمسكين بالحديث أنفسهم في فريقين: فريق يبرز دور الأحاديث التي تنحو نحو تحريم السماع، وفريق ثان يبرز هذه الأحاديث نفسها ويضعفها ويتشبث بأحاديث أخرى. ولنأخذ أمثلة على ذلك متقيدين بالأحاديث والنصوص التي أوردها ابن حزم:
1 - حديث عائشة: " ان الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها " رده ابن حزم لان فيه من اسمه سعيد بن أبي رزين عن أخيه، فقال انه لا يعرف، وأيده الذهبي (ميزان: 2: 136) وابن حجر (لسان: 3: 29) ونقل فيه قول ابن حزم نفسه، ومع هذا نجد ابن الجوزي قد قبله (تلبيس: 233) ، ولم يورده ابن القيسراني، وأورده ابن أبي الدنيا (:46) .
2 - الحديث: " اذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة الخ " وهو عن علي يرفعه إلى الرسول، رده ابن حزم لأن عدداً ممن ذكروا في السند لا يدري من هم مثل: أبي المرجى الجيلاني (لم يذكره الذهبي وأورد ابن حجر فيه رأي ابن حزم) وأحمد بن سعيد (لم يذكره الذهبي وذكر ابن حجر (1) رأي ابن حزم فيه) ومحمد بن كثير الحمصي (لم يذكره كل من الذهبي وابن حجر) وفرج بن فضالة (وقال فيه احمد: حدث عن يحيى بن سعيد مناكير، وحدث عن ثقات أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم: حديثه عن يحيى بن سعيد فيه نكارة، وقال الساجي: روى عن يحيى بن سعيد مناكير) (2) . ومع كل ذلك فان
__________
(1) لسان الميزان 1: 179.
(2) تهذيب التهذيب 8: 260 - 262.(1/421)
ابن أبي الدنيا (42) قبله وكذلك ابن الجوزي (تلبيس: 234) وأورده ابن القيسراني، وهو من صف ابن حزم فركز تضعيفه على شخص فرج ابن فضالة وأورد ما جاء فيه من أقوال أهل العدل والتجريح، ومن ذلك قول ابن حبان: فرج بن فضالة كان يقلب الأسانيد ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، لا يحل إلا احتجاج به. ثم أورد ابن حبان هذا الحديث نفسه واستدل به على ما قاله (1) .
3 - الحديث ان الرسول نهى عن تسع (منهن الغناء) لم يقبله ابن حزم لأن فيه من اسمه " كيسان " ولا يدرى من هو، وفيه محمد بن مهاجر وهو ضعيف. (لم يذكر الذهبي وابن حجر من اسمه كيسان مولى معاوية، وأما محمد بن مهاجر فان هذا الاسم ينطلق على ستة أشخاص (2) ، ولا يدري إلى أيهم يشير ابن حزم بالضعف، ولعله لا يعني محمد بن مهاجر الوضاع فان هذا متأخر أي في حدود 260) وهذا الحديث لم يورده ابن القيسراني أو ابن الجوزي.
4 - قول ابن مسعود " والغناء ينبت النفاق في القلب " يروى منقطعاً ومرفوعاً؛ وقد استشهد به ابن أبي الدنيا (ذم الملاهي: 46) وابن الجوزي (تلبيس: 235) وزاد فيه " كما ينبت الماء البقل ". وقد أورده ابن القيسراني مسنداً إلى أبي هريرة، أي من طريق أخرى غير طريق ابن مسعود، وفي سنده عبد الرحمن بن عبد الله العمري، الذي يقول فيه أحمد بن حنبل " لا يسوى حديثه شيئاً، حرقنا حديثه.. أحاديثه مناكير وكان كذاباً (3) " ثم أورده من طريق ابن مسعود وقال: رواه سلام عن شيخ مجهول (4) ، وهذا عين ما قاله ابن حزم.
__________
(1) السماع: 85.
(2) تهذيب التهذيب 9: 478.
(3) السماع: 84.
(4) السماع: 87 - 88.(1/422)
5 - حديث أبي أمامة مرفوعاً: بتحريم تعليم المغنيات وشرائهن وبيعهن؛ وأضاف اليه الآية: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الخ رده ابن حزم لأن فيه اسماعيل بن عياش وهو ضعيف. وقال في تفسير الآية: إنه قول بعض المفسرين الذين لا يحتج بأقوالهم. وقد قبله ابن الجوزي (تلبيس: 232) وأورد آراء المفسرين في الآية (تلبيس: 231) ومنهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وسعيد ابن جبير وقتادة وابراهيم النخعي. وأورده ابن القيسراني (السماع: 79) عن طريق عبيد الله بن زحر " صاحب كل معضلة " وفيه القاسم بن عبد الرحمن " وهو منكر الحديث، وكان يروي عن الصحابة المعضلات ".
وتوقف ابن القيسراني طويلاً عند قوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الأحاديث} وقال: " وأوردوا في ذلك عدة أسانيد إلى عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر فنظرت في جميعها فلم أر فيها طريقاً يثبت إلى واحد من الصحابة إلا طريقاً واحداً " (1) ثم قال: يقال لهؤلاء القوم المحتجين: هذه التفاسير هل علم هؤلاء الصحابة الذين أوردتم أقاويلهم في هذه الآية ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يفعله ومن أمحل المحال أن يكون تفسير " لهو الحديث " بأنه الغناء والرسول يقول لعائشة: أما كان معكن من لهو، فان الأنصار يعجبهم اللهو (2)
5، - 6، 7 - لم يقبل ابن حزم أحاديث عبد الملك بن حبيب، وعدها جميعاً هالكة؛ وعبد الملك بن حبيب (238/ 852) (3) فقيه أندلسي مشهور رحل إلى المشرق وجمع علماً كثيراً، وعاد إلى الأندلس فأصبح مشاوراً مع يحيى بن يحيى الليثي، وفي أخباره ما يدل
__________
(1) السماع: 75.
(2) السماع: 76 وما بعدها.
(3) ترجمته في ابن الفرضي 1: 312 - 315 وترتيب المدارك 4:122 (ط. المغرب) .(1/423)
على أنه كان يحدث بأشياء لم يسمعها مباشرة من أصحابها، وقال ابن الفرضي: لم يكن لابن حبيب علم الحديث، وحكى الباجي وابن حزم ان أبا عمر ابن عبد البر كان يكذبه. ولكن بعض الأندلسيين دافعوا عنه بقوة لغزارة علمه وفضله وكثرة مؤلفاته.
وروايته للأحاديث التي أوردها ابن حزم تدل على أنه كان يرى كراهية الغناء، ومع ذلك فقد حكي عنه أنه كان يأخذ بالرخصة في السماع وأنه كان له جوار يسمعنه، وقد عرض له بذلك الشاعر يحيى ابن حكم الجياني المشهور بالغزال فيما آذاه به من شعره؛ والقول الأول أقوى.
8 - أما حديث البخاري " ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " فضعفه عند ابن حزم ان البخاري لم يأت به مسنداً وإنما قال: قال هشام بن عمار؛ وفي سند الحديث " أبو عامر " أو " أبو مالك " ولا يدري من هو. وقد انتقد ابن قيم الجوزية موقف ابن حزم هذا حين قال: " وخفي عليه أن البخاري لقي من علقه عنه وسمع منه وهو هشام بن عمار، وخفي عليه أن الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث غير هشام بن عمار، فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مطعن فيها بوجه " (1) ومأخذ ابن القيم صحيح، فإن البخاري روى عن هشام بن عمار أبي الوليد السلمي الدمشقي (2) ، وعبر بالقول (ولم يقل حدثنا) لأنه وقع له مذاكرة (3) ؛ وأما أبو عامر أو أبو مالك بالشك (وعند أبي داود حدثني أبو مالك دون شك) فقد قيل: الشك في اسم الصحابي لا يضر، وقد اختلف في اسمه فقيل عبد الله بن هانئ وقيل عبد الله بن وهب وقيل عبيد بن وهب، وقد أدرك خلافة عبد الملك بن مروان (4) .
__________
(1) روضة المحبين: 130 - 131.
(2) تهذيب التهذيب 11: 52.
(3) إرشاد الساري 8: 317.
(4) المصدر نفسه.(1/424)
9 - حديث: " من جلس إلى قينة صب في أذنيه الآنك " (أي الرصاص) ، وقد قال ابن حزم: " انه بلية لأنه عن مجهولين " وأبو نعيم اسمه عند ابن القيسراني: " عبيد بن محمد " وقال فيه: ضعيف ولم يبلغ عن ابن المبارك؛ والحديث عن مالك منكر جداً، وانما يروى عن ابن المنكدر مرسلاً. فهذا في نقد الإسناد قريب مما قاله ابن حزم.
10 - وقد مر القول في {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية (انظر رقم: 5) .
11 - والحديث: " يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها.. " لم يقبله ابن حزم لأن فيه معاوية بن صالح وهو ضعيف، وفيه مالك بن أبي مريم ولا يدرى من هو (وأيده في ذلك الذهبي وقال ابن حبان إنه من الثقات) ؛ وأما معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي (1) فدخل الأندلس واستقضاه الامام عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) بقرطبة، وتوفي في آخر أيام الداخل (2) ؛ وقد ضعف في الحديث، قال ابن معين: ليس بمرضي، ووثقه آخرون. وهذا الحديث يقدم لنا مشكلة واضحة فالشخصان اللذان لم يرضهما ابن حزم وثقهما غيره، فبأي القولين يؤخذ وقد وردت عدة أحاديث تقرن الخسف والمسخ بظهور المعازف والقينات والإقبال على الشراب (انظر ذم الملاهي: 41 - 42، 44 - 46) .
12 - حديث فيه النهي عن صوتين ملعونين: صوت نائحة وصوت مغنية، والحديث أورده ابن أبي الدنيا (50) وذكره ابن القيسراني بروايتين: " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة وصوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان " وقال رواه جابر، وأنكر عليه هذا الحديث وضعف لأجله فقال فيه ابن حبان: كان رديء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ يروي الشيء على التوهم ويحدث على الحسبان
__________
(1) ابن الفرضي 2: 137 - 139 وتهذيب التهذيب 10: 209.
(2) أرخ ابن حبان وفاته سنة 172 (التهذيب: 212) .(1/425)
وكثرت المناكير من حديثه فاستحق الترك، وتركه أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين (1) ؛ ولعل جابراً هو جابر بن يزيد الجعفي الكوفي (128/ 746) وقد عرف بالكذب والتدليس والغلو في التشيع (2) ؛ وأما الرواية الثانية ففيها محمد بن يزيد الطحان اليشكري، وهو خبيث وضاع (3) .
وقد رويت في ذم الغناء والتحذير منه أحاديث أخرى لم يوردها ابن حزم، ومنها:
1 - " والذي نفسي بيده لا تنقضي الدنيا حتى يقع بهم الخسف والقذف، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك بأبي وأمي قال: اذا رأيت النساء ركبن السروج وكثرت القينات وشهدت شهادات الزور " رواه سليمان اليمامي في سند ينتهي إلى أبي هريرة يرفعه، واليمامي هذا منكر الحديث في ما قاله البخاري (4) .
2 - " ليبيتن أقوام من أمتي على أكل وشراب ولهو، ثم ليصبحن قردة وخنازير، وليصيبن أقواماً من أمتي خسف وقذف باتخاذهم القينات وشربهم الخمور وضربهم بالدفوف ولبسهم الحرير " وفيه رجل غير مسمى، وهو زياد بن زياد الجصاص، وهو متروك الحديث (5) .
3 - " امرني ربي عز وجل بنفي الطنبور والمزمار " رواه إبراهيم ابن اليسع وهو فيما قاله البخاري منكر الحديث (6) . (وجاء عند ابن الجوزي في تلبيس ابليس: 233 من طريق أخرى بعثت بهدم المزمار والطبل؛ وفي طريق ثالثة: بعثت بكسر المزامير) .
__________
(1) السماع: 85؛ وانظر الحديث في تلبيس ابليس: 233.
(2) ترجمته في تهذيب التهذيب 2: 46 - 51.
(3) السماع: 83.
(4) السماع: 81.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(1/426)
4 - وعن علي أنه قال: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغنيات والنواحات وعن شرائهن وبيعهن وتجارة فيهن، وقال: كسبهن حرام " وفي سنده الحارث بن نبهان وهو لا يكتب حديثه (1) .
5 - " النظر إلى المغنية حرام وغناؤها حرام وثمنها حرام " رواه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو متروك الحديث ويروي مناكير " (2) .
6 - وحديث روي عن صفوان بن أمية قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال: يا نبي الله إن الله كتب علي الشقوة ولا أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فتأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إذن ولا كرامة ولا نعمة. وفي سنده يحيى بن العلاء وليس بثقة (3) وهذا الحديث في سنن ابن ماجة، وقد اعتمده ابن الجوزي (تلبيس ابليس: 234) .
أما الأحاديث التي يستند اليها من يرون إباحة الغناء فهي نفسها التي يناقشها من يرون كراهته أو تحريمه؛ ومنها (حسب ترتيب ابن حزم) :
1 - حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة، ودخل أبو بكر فنهرهما فقال له الرسول: دعهما يا أبا بكر فانهما أيام عيد، وحديث آخر عن عائشة وجاريتين لها تغنيان بغناء بعاث فانتهرهما أبو بكر وقال: مزمار الشيطان، فقال الرسول دعهما. وفي الحديث " انهما ليستا بمغنيتين ". فقد استشهد بهما ابن القيسراني (4) . ورد ابن الجوزي على ذلك بأن الحديثين لا يشيران إلى غناء، وإنما كان الناس يومئذ ينشدون الشعر ويسمى ذلك غناء للترجيع، وهذا لا يخرج الطباع عن حد
__________
(1) السماع: 82.
(2) السماع: 84 - 85.
(3) السماع: 88.
(4) السماع 37 - 38.(1/427)
الاعتدال وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيها الغزال والغزالة والخال والقد والاعتدال! وقال أبو الطيب الطبري: هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي عليه قوله، وكانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت، ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء (1) ؛ وقال ابن تيمية في هذا الصدد: ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي عليه السلام أقر الجواري عليه (ولكن) ليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع (2) .
2 - حديث ابن عمر حين سمع مزماراً فسد أذنيه وقال: كنت مع رسول الله فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا: وهو حديث يؤيد وجهة نظر الذين لا يرون حل الغناء ولهذا أورده ابن الجوزي وقال: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال فكيف بغناء أهل الزمان وزمورهم! (3) وقال ابن تيمية: من الناس من يقول إن الرسول لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه فيجاب بأنه كان صغيراً أو يجاب بأنه لم يكن يستمع بل كان يسمع، وهذا لا إثم فيه (4) .
4 - حديث الحبش الذين كانوا يزفنون في المسجد في يوم عيد، فدعا الرسول عائشة إلى مشاهدتهم. أورده ابن القيسراني (5) ، ولم يورده ابن أبي الدنيا وابن الجوزي.
__________
(1) تلبيس إبليس: 237 - 238.
(2) فتاوى ابن تيمية 11: 566.
(3) تلبيس ابليس: 232.
(4) فتاوى ابن تيمية 11: 567.
(5) السماع: 39.(1/428)
5 - 6: وأما الخبر عن أصحاب رسول الله وهم في عريش يستمعون إلى غناء، وعن ابن عمر وأنه سفر في بيع مغنية، وأنه وعبد الله بن جعفر سمعا الغناء بالعود، فمما انفرد به ابن حزم عن المراجع التي اعتمدناها، ولكن هذا ليس من مذهبه، إذ كل ما دون الكتاب وسنة الرسول فليس بحجة عنده، ومن الغريب أنه فعل ذلك هنا في الاحتجاج لإباحة الغناء.
ولا يدعنا ابن حزم في حيرة حول أي أنواع الغناء يعني، فهو وان لم يطنب في القول، فقد وصف الغناء بأنه مله، وأنه مصاحب بالعود، وبأنه يسمع من القينة، ومعنى ذلك أنه يرى كل مراحل الغناء حلالاً ابتداء من الحداء والنصب حتى الغناء المتقن الذي يقوم على النشيد والبسيط والهزج، أو ما يسمى " النوبة " ذات الأدوار الثلاثة، ولا يمكن أن نعرف كيف كان يتجه ابن حزم في هذه القضية لو عرف ارتباط السماع بالتصوف، وارتباطهما بالرقص، هل كان موقفه يقترب من موقف ابن القيسراني أو من موقف ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم.(1/429)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور
قال أبو محمد: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين:
أما بعد، أيدك الله وإياي بتوفيقه، وأعاننا بلطفه على أداء حقوقه، فإنك رغبت أن أقدم لك في الغناء الملهي، أمباح هو أم من المحظور، فقد وردت أحاديث بالمنع منه وأحاديث بإباحته. وأنا أذكر الأحاديث المانعة وانبه على عللها، وأذكر الأحاديث المبيحة له وأنبه على صحتها إن شاء الله، والله موفق للصواب.
فالأحاديث المانعة:
1 - ما روى سعيد بن أبي رزين عن أخيه عن ليث بن أبي سليم (1) عن عبد الرحمن بن سابط (2) عن النبي عليه السلام أنه قال: إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع (3) إليها (4) .
2 - وروى لاحق بن حسين بن عمر أن ابن أبي الورد المقدسي (5) قال: ثنا أبو المرجى ضرار بن علي بن عمير القاضي
__________
(1) راجع ما جاء عنه في التهذيب 8: 467.
(2) عبد الرحمن بن سابط تابعي أرسل عن النبي وكان ثقة وتوفي سنة (118هـ) أنظر ترجمته في التهذيب (6: 180؛ رقم 361) .
(3) ص: الاسماع.
(4) الحديث في سنن الترمذي (تفسير سورة:31) وتلبيس ابليس: 233.
(5) ابن أبي الورد اسمه عمران بن عبد الله، انظر لسان الميزان: 1730.(1/430)
الجيلاني (1) ثنا أحمد بن سعيد عن محمد بن كثير الحمصي (2) ثنا فرج [بن] فضالة عن يحيى بن سعيد (3) عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله إذا علمت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء: إذا كان المال دولاً والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، ولبست الحرير واتخذت القينات والمعارف، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليتوقعوا عند ذلك ريحاً حمراء ومسخاً وخسفاً (4) .
3 - وروى أبو عبيدة بن فضيل بن عياض (5) ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم هو عبد الرحمن بن عبد الله انبا عبد الرحمن بن العلاء عن محمد بن المهاجر (6) عن كيسان مولى معاوية ثنا معاوية أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نهى عن تسع وأنا أنهاكم عنهن: ألا إن منهن الغناء والنوح والتصاوير والشعر والذهب وجلود السباع والخز والحرير.
4 - وروى سلام بن مسكين عن شيخ شهد ابن مسعود يقول: الغناء ينبت النفاق في القلب (7) .
5 - وروى عبد الملك بن حبيب (8) ثنا عبد العزيز الأويسي عن
__________
(1) أبو المرجى ضرار بن علي (لسان الميزان: 913) وحكى النباتي عن ابن حزم أنه قال لا يدرى من هو، قال النباتي: وهو كما قال.
(2) انظر ترجمة محمد بن كثير في لسان الميزان: 572.
(3) يحيى بن سعيد في لسان الميزان: 909.
(4) الحديث في سنن الترمذي (فتن: 38) وتلبيس إبليس: 234 وذم الملاهي: 42.
(5) في الأصل فضل (انظر لسان الميزان 773) . وضعفه ابن الجوزي ووثقه الدارقطني وابن حبان.
(6) محمد بن المهاجر في لسان الميزان: 1278 (5: 396) .
(7) هذا الحديث في سنن أبي داود: 4756 (2: 579) والسماع: 87 ونهاية الارب 4: 158.
(8) انظر لسان الميزان: 174 والتهذيب: 736 قال ابن حجر: وقد أفحش ابن حزم القول فيه ونسبه إلى الكذب وتعقبه جماعة بأنه لم يسبقه أحد إلى رميه بالكذب (توفي سنة 238هـ) .(1/431)
إسماعيل بن عياش عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: (1) : سمعت رسول الله يقول: لا يحل تعليم المغنيات ولا شراؤههن ولا يبعهن ولا اتخاذهن. وثمنهن حرام، وقد أنزل الله ذلك في كتابه {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} (2) (لقمان: 6) والذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما صدره وظهره حتى يسكت.
6 - وبه إلى عبد الملك بن حبيب عن الأويسي (3) عن عبد الله ابن عمير بن حفص بن عاصم أن رسول الله قال: إن المغني أذنه بيد شيطان يرعشه حتى يسكت.
7 - وبه إلى عبد الملك بن حبيب ثنى ابن معين عن موسى بن أعين (4) عن القاسم عن أبي أمامة أن رسول الله قال: إن الله حرم تعليم المغنيات وشراءهن وبيعهن وأكل أثمانهن (5) .
8 - وذكر البخاري قال: قال هشام بن عمار (6) ثنا صدقة بن خالد (7) ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر (8) ثنا عطية بن قيس الكلابي (9) ثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري ثني أبو عامر أو أبو مالك
__________
(1) انظر السماع: 87 ونهاية الأرب 4: 147.
(2) انظر السماع: 87 ونهاية الأرب 4: 147.
(3) الأويسي هو عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى القرشي المدني الفقيه روى عن عبد الله بن عمر العمري (التهذيب: 662) .
(4) انظر ترجمة موسى بن أعين في التهذيب: 585 (توفي 177هـ) .
(5) في نهي الرسول عن بيع المغنيات انظر ابن ماجة (تجارات: 11) وقد ورد: لا تبيعوا المغنيات ولا تشتروهن في الترمذي (بيوع: 51) .
(6) هشام بن عمار في التهذيب 11: 51.
(7) ص: مجالد، وترجمته في التهذيب4: 414.
(8) انظر ترجمة عبد الرحمن في التهذيب 6: 297.
(9) راجع التهذيب 7: 228 (وتوفي عطية سنة 121 هـ) .(1/432)
الأشعري [أنه] سمع النبي عليه السلام يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (1) .
9 - وروى ابن شعبان ثني ابراهيم بن عتمان بن سعيد ثني أحمد بن الغمر بن أبي حماد بحمص ويزيد بن عبد الصمد قالا ثنا عبيد بن هاشم الحلبي هو أبو نعيم، ثنا عبد الله بن المبارك عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أنس قال، قال رسول الله: من جلس إلى قينة صب في أذنيه الآنك (2) يوم القيامة.
10 - وبه إلى ابن شعبان ثني عمي ثنا أبو عبد الله الدوري ثنا عبيد الله القواريري ثنا عمران بن عبيد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} قال: الغناء.
11 - وروى ابن أبي شيبة أبو بكر ثنا زيد بن الحباب (3) ثنا معاوية صالح (4) عن حاتم بن حريث (5) عن ابن أبي مريم (6) قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم فقال: أنبأنا أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي عليه السلام يقول: يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تضرب على رؤوسهم المعازف والقينات بخسف الله بهم الأرض (7) .
__________
(1) ورد الحديث عند البخاري في الآشرية: انظر ارشاد الساري 8: 318.
(2) ص: الايك؛ الرصاص، وانظر الترمذي (لباس: 19) والبخاري (رؤيا: 45) والسماع: 84 ونهاية الأرب 4: 155.
(3) انظر ترجمة زيد في التهذيب 3: 402 والظن أنه سمع معاوية بمكة لأن معاوية أندلسي.
(4) توفي معاوية بن صالح عام (185) وترجمته في التهذيب 10: 209 وفي توثيقه اختلاف.
(5) في الأصل جريب، وترجمته في التهذيب 2: 129.
(6) مالك بم أبي مريم: نقل في التهذيب (10: 21) قول ابن حزم إنه لا يدرى من هو، وقال الذهبي لا يعرف.
(7) انظر ابن ماجة (فتن: 22) وقال القسطلاني (8: 318) ان الحديث " يشرب الناس " ورد عند الامام أحمد وابن أبي شيبة وتاريخ البخاري.(1/433)
12 - وحديث فيه: أن الله [تعالى] نهى عن صوتين ملعونين، صوت نائحة، وصوت مغنية.
وكل هذا لا يصح منه شيء، وهي موضوعة:
1 - أما حديث عائشة رضي الله عنها ففيه سعيد بن أبي رزين عن أخيه (1) وكلاهما لا ديري أحد من هما.
2 - وأما حديث علي رضي الله عنه فجميع من فيه إلى يحيى ابن سعيد لا يدير من هم. ويحيى بن سعيد لم يرو عن محمد ابن الحنفية كلمة ولا أدركه.
3 - وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه ففيه شيخ لم يسم ولا يعرفه أحد.
4 - وأما حديث معاوية فإن فيه كيسان ولا يدرى من هو، ومحمد بن مهاجر وهو ضعيف؛ وفيه النهي عن الشعر وهم يبيحونه.
5، - 6، 7 - وأما أحاديث عبد الملك بن حبيب فكلها هالكة.
8 - فأما حديث أبي أمامة ففيه إسماعيل بن عياش (2) وهو ضعيف، والقاسم وهو مثله.
9 - وأما حديث البخاري فلم يورده البخاري مسنداً وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار ثم إلى أبي عامر أو إلى أبي مالك ولا يدرى أبو عامر هذا.
10 - وأما أحاديث ابن شعبان فهالكة.
__________
(1) في الاصل: عن أبيه، انظر، في لسان الميزان: 98 حيث نقل كلام ابن حزم فيه.
(2) إسماعيل بن عياش (التهذيب: 58) تكلم فيه قوم ووثقه آخرون، وسئل عنه يحيى بن معين فقال ليس به في أهل الشام بأس، والعراقيون يكرهون حديثه. وقال آخر: وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم.(1/434)
9 - وأما حديث أنس فبلية لأنه عن مجهولين، ولم يروه أحد قط عن مالك من ثقات أصحابه، والثاني عن مكحول عن عائشة ولم يلقها قط ولا أدركها، وفيه أيضاً من لا يعرف وهو هاشم بن ناصح وعمر بن موسى، وهو أيضاً منقطع، والثالث عن أبي عبد الله الدوري ولا يدرى من هو.
11 - وأما حديث ابن أبي شيبة ففيه معاوية بن صالح وهو ضعيف، ومالك ابن أبي مريم ولا يدرى من هو.
12 - وأما النهي عن صوتين فلا يدري من رواه. فسقط كل ما في هذا الباب جملة.
10 - وأما تفسير قول الله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} بأنه (1) الغناء فليس عن رسول الله، ولا ثبت عن أحد من أصحابه، وإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا يقوم بقوله حجة، وما كان هكذا فلا يجوز القول به. ثم لو صح لما كان فيه متعلق، لأن الله تعالى يقول {ليضل عن سبيل الله} وكل شيء يقتنى (2) ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام، ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن، وبالله التوفيق.
فإذ لم يصح في هذا شيء أصلاً، فقد قال تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (الأنعام: 119) وقال تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة: 29) وقال رسول الله من طريق سعد ابن أبي وقاص، وطريقه ثابتة، " إن من أعظم الناس جرماً في الاسلام [من سأل عن شيء] لم يجرم فحرم من اجل مسألته " (3) فصح أن كل شيء حرمه تعالى قد فصله لنا، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال.
__________
(1) ص: فإنه.
(2) ص: يفتن، نهاية الأرب: اقتني.
(3) كرره أحمد في مسنده (1520، 1545) ورواه البخاري 9: 95 ومسلم 7: 92 وتختلف روايته بعض الشيء عما ورد هنا، وأقربها إلى ما رواه ابن حزم " إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ".(1/435)
1 - وخرج مسلم بن الحجاج (1) قال ثني هارون بن سعيد الأيلي (2) ثنا عبد الله بن وهب عمرو وهو [ابن] الحارث أن ابن شهاب حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان في أيام منى وتضربان ورسول الله مسجى بثوبه، فنهرهما أبو بكر فكشف رسول الله عنه فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد.
2 - وبه (3) إلى عمرو بن الحارث أن محمد بن عبد الرحمن حدثه عن عروة عن عائشة قال: دخل رسول الله وعنده جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله! فاقبل عليه فقال: دعهما.
فإن قيل إن أبا أسامة روى هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه فقال فيه: وليستا بمغنيتين، قيل قد قالت عائشة: تغنيان، فأثبتت الغناء لهما فقولها وليستا بمغنيتين: أي ليستا بمحسنتين، وقد سمع رسول الله قول أبي بكر: مزمار الشيطان، فأنكر عليه ولم ينكر على الجاريتين غناءهما. وهذا هو الحجة التي لا يسع أحد خلافها ولا يزال التسليم لها.
3 - وروى أبو داود السجستاني (4) ثنا أحمد بن عبيد العداني ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز ثنا سليمان بن موسى عن نافع قال: سمع ابن عمر مزماراً فوضع إصبعيه في (5) أذنيه ونأى عن
__________
(1) انظر صحيح مسلم 3: 21 باب صلاة العيدين، والبخاري باب سنة العيدين لأهل الإسلام 2: 17، وابن ماجة (نكاح: 21) وبوارق الالماع: 132 والسماع: 37.
(2) ص: الأيدي.
(3) صحيح مسلم 3: 22 وانظر البخاري (عيدين: 2، 30) والسماع: 38.
(4) سنن أبي داود 7: 238 (2: 579) وانظر ذم الملاهي: 52 والسماع: 59.
(5) في مسند السجستاني: على.(1/436)
الطريق، وقال يا نافع هل تسمع شيئاً قال: لا؛ فرفع إصبعيه وقال: كنت مع رسول الله فسمع مثل هذا، فصنع (1) مثل هذا. فلو كان حراماً ما أباح رسول الله لابن عمر سماعه، ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه، ولكنه عليه السلام، كره لنفسه كل شيء ليس من التقرب إلى الله، كما كره الأكل متكئاً والتنشف بعد الغسل في ثوب يعد لذلك (2) ، والستر الموشى على سدة (3) عائشة وعلى باب فاطمة رضوان الله عليهما، وكما كره أشد الكراهية عليه السلام أن يبيت عنده دينار أو درهم. وإنما بعث عليه السلام منكراً للمنكر وآمراً بالمعروف، فلو كان ذلك حراماً لما اقتصر عليه السلام أن يسد أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وبنهى عنه. فلم يفعل عليه السلام شيئاً من ذلك، بل أقره وتنزه عنه، فصح انه مباح وأن تركه (4) أفضل، كسائر فضول الدنيا المباحة، ولا فرق.
4 - وروى مسلم بن الحجاج (5) قال ثنا زهير بن حرب ثنا جرير ابن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال: جاء حبش يزفنون في المسجد في يوم عيد، فدعاني رسول الله فوضعت رأسي على منكبه (6) فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي انصرفت عن النظر به إليهم (7) .
5 - وروى سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي (8) أن أبا مسعود البدري وقرظة بن
__________
(1) في الأصل: وصنع، وفي مسند أبي داود تعليقاً على هذا الحديث، قال أبو علي اللؤلؤي سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر.
(2) ص: بثوبه بعد الدلك والتصويب عن نهاية الأرب.
(3) السدة هنا باب الدار أو البيت، أو شيء كالظلة على الباب؛ وفي نهاية الأرب: سهوة.
(4) نهاية الأرب: وان الترك له.
(5) انظر صحيح مسلم 3: 22.
(6) في الأصل: منكبيه.
(7) في الصحيح: أنصرف عن النظر إليهم.
(8) انظره في التهذيب: 107.(1/437)
كعب وثابت بن زيد كانوا في العريش وعندهم غناء فقلت: هذا وانتم أصحاب رسول الله! فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت في غير نوح، إلا أن شعبة قال: ثابت بن وديعة مكان ثابت بن زيد ولم يذكر أبا مسعود.
6 - وروى هشام بن زيد ثنا حسان عن محمد بن سيرين قال: عن رجلاً قدم المدينة بجوار، فنزل على ابن عمر وفيهم جارية تضرب، فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئاً، قال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعاً من هذا. فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية فقال: خذي فأخذت حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، فبايعه ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إني غنيت بتسعمائة درهم، فأتى ابن عمر مع الرجل إلى المشتري فقال له إنه غبن في تسعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه وإما أن ترد عليه بيعه. فقال: بل نعطيها إياه. فهذا عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد سمعا الغناء بالعود، وإن كان ابن عمر كره ما ليس من الجد فلم ينه عنه، وقد سفر في بيع (1) مغنية كما ترى، ولو كان حراماً ما استجاز ذلك أصلاً.
فإن (2) قال قائل: قال الله تعالى {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32) ففي أي ذلك (3) يقع الغناء قيل له: حيث يقع التروح في البساتين وصباغ ألوان الثياب وكل ما هو من اللهو (4) ؛ قال رسول الله: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " فإذا نوى المرء
__________
(1) ص: بيه.
(2) ص: فقد،، والتصويب عن نهاية الأرب.
(3) ص: فقرأ في ذلك، والتصويب عن نهاية الأرب.
(4) ص: اللغز.(1/438)
بذلك ترويح نفسه وإجمالها (1) لتقوى على طاعة الله عز وجل فما أتى ضلالاً. وقد قال أبو حنيفة: من سرق مزماراً أو عوداً قطعت يده ومن كسرهما ضمنهما. فلا يحل تحريم شيء ولا إباحته إلا بنص من الله تعالى أو من رسوله عليه السلام لأنه إخبار عن الله تعالى، ولا يجوز أن بخبر عنه تعالى إلا بالنص (2) الذي لا شك فيه، وقد قال رسول الله " ومن كذب علي متعمداً فليبوأ مقعده من النار " (3) .
قال أبو بكر عبد الباقي بن بريال الحجاري (4) رضي الله عنه: ولقد أخبرني بعض كبار أهل زمانه (5) أنه قال: أخذت النسخة التي فيها الأحاديث الواردة في ذم الغناء والمنع من بيع المغنيات، وما ذكره فيها أبو محمد رضي الله عنه ونهضت بها إلى الإمام الفقيه أبي عمر بن عبد البر (6) ووقفته عليها أياماً ورغبته في أن يتاملها، فاقامت النسخة عنده أياماً ثم نهضت إليه فقلت ما صنعت في النسخة فقال: وجدتها فلم أجد ما أزيد فيها وما انقص.
تمت رسالة الغناء بحمد الله وعونه
__________
(1) ص: واجماعها.
(2) ص: بنص.
(3) انظر هذا الحديث في باب إثم من كذب على النبي من صحيح البخاري 1: 29.
(4) ص: أبو بكر بن محمد بن الباقي نوفل الحجاري والاسم محرف تحريفاً شديداً. وصوابه أبو بكر عبد الباقي بن محمد بن سعيد بن بريال الحجاري نسبة إلى وادي الحجارة توفي سنة 502 (الصلة: 366) .
(5) ص: مانه.
(6) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الفقيه الحافظ المكثر العالم بالقراءات وعلوم الحديث والرجال كان كثير الشيوخ على أنه لم يخرج عن الأندلس لكنه سمع من أكابر أهل الحديث بقرطبة وغيرها ومن الغرباء القادمين إليها، وله مؤلفات كثيرة قيمة توفي سنة 460 هـ. وترجمته في الجذوة: 344 والصلة: 640 وترتيب المدارك 4: 808 وتذكرة الحفاظ: 1128 والديباج: 357 وابن خلكان 7: 76.(1/439)
فراغ(1/440)
- 4 -
فصل في معرفة النفس بغيرها
وجهلها بذاتها(1/441)
فراغ(1/442)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلى على سيدنا محمد وآله
فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها
قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه:
أطلت الفكر في نفسي، بعد تيقني أنها المدبرة للجسد، الحساسة الحية العاقلة المميزة العالمة، وأن الجسد موات لا حياة له، وجماد لا حركة فيه إلا أن تحركه النفس، وبعد إيقاني أنها صاحبة هذه الفكرة، والمحركة للساني بما تريد إخراجه مما استقر عندها فقالت مخاطبة لنفسها، باحثة عن حقيقة أمرها:
يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد: الست التي قد عرفت صفات جسدك الذي واليت تدبيره، وحققتها وضبطتها
قال: بلى.
قال: يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد: الست التي تجاوزت جسدك المضاف تدبيره إليك، فخلص فهمك وبحثك (1) إلى سائر ما يليك من الأرض والماء والهواء وسائر الأجرام، ثم إلى ما لم يلك من الأجرام، فميزت أجناس كل ذلك وأنواعه وأشخاصه، وحققت صفات كل ذلك: الذاتية والغيرية، وفرقت بين كل ذلك بالفروق الصحيحة، ثم تخطيت كل ذلك إلى الأفلاك البعيدة وما فيها من الأجرام النيرة فعرفت كيفية أدوارها، ووقفت على حقيقة مدارها،
__________
(1) ص: وبختك.(1/443)
وضبطت كل ذلك، وأشرفت عليه، وسرحت (1) هنالك، وأوغلت في تلك الطرق والمسالك، وخضت إليه الأنوار والظلم، واقتحمت نحوه الأبعاد حتى أتيته من أمم، ولم يخف ما بعد وغمض
قالت: بلى.
قال: يا أيتها النفس المشرفة على ذلك كله: ألست التي لم تقنعي بهذا المقدار من العلم على عظمه وطوله، ولا ملأ خزانتك هذا الحظ من الإشراف، على كبر شأنه وهوله، حتى تعديت إلى ما كان قبل حلولك في هذا الجسد وارتباطك به، من أخبار القرون البائدة والمماليك الدائرة والأمم الغابرة والوقائع الشنيعة والسير الذميمة والحميدة، ووقفت على أخبارهم وعلومهم فشاهدت كل ذلك بمعرفتك إذ لم تشاهديه بحواسك
قال: بلى.
قال: يا أيتها النفس الغابطة لهذه العظائم المشرفة على هذه الأمور الشنيعة. ألست التي لم يكفك هذا كله حتى تجاوزت العالم بما فيه، وطفرته من جميع نواحيه، فشاهدت الواحد الأول، ووقفت إلى الحق الأول المبدع للعالم بكل ما فيه، فأشرفت (2) على انه هو، وتوهمت إحداثه لكل ما دونه لتوهمك لكل ما شاهدته بحواسك، فأحطت بكل هذا علماً، واحتويت على جميعه فهما
قالت: بلى.
قالت: يا أيتها النفس التي بلغت هذه المبالغ النائية، وترقت إلى هذه المراقي العالية، وسربت في تبك السبل الغامضة، واستسهلت الولوج في تلك الشعاب الخافية، وسمت إلى التوقل إلى تلك المنازل
__________
(1) ص: وشرحت.
(2) ص: فأشرقت.(1/444)
السامية، وتكلفت الارتقاء إلى دار تلك الفلك الشاهقة: تفكري إذ وصلت إلى هذه الرتب، وخرقت تلك الحجب، ورفعت دونك تلك الستور المسبلة، وفتحت لك تلك الأبواب المغلقة المقفلة، وسهل عليك تولج تلك المضايق الهائلة، وتأتى لك تخلل تلك الثنايا البعيدة، هل عرفت مائيتك، وهل دريت كيفيتك، وهل وقفت على أي شيء أنت، وما جوهرك وهل أشرفت على حملك لصفاتك، كيف حملتها
قال: لا، ما عرفت شياً من ذلك.
قالت: يا أيتها النفس العارفة بغيرها، الجاهلة بذاتها: فهل تعرفين محلك ومن أين أنت، ومن أين تتكلمين، وكيف تحركين هذه الأعضاء المصونة إذا حركتها، الساكنة إذا تركتها
قالت: لا.
قالت: يا أيتها النفس المعجب شأنها فيما علمت وفيما جهلت: هل تذكرين أين كنت ومن أين أقبلت، وكيف تعلقت بهذا الجسد المظلم الميت الجاهل، وكيف تصريفك له، وكيف بقاؤك فيه بالأسباب الممسكة لك معه، وكيف انفصالك عنه عند الآفات العارضة له
قال: لا.
قالت: يا أيتها النفس المعترفة بجهل ذاتها، الواقفة على علم ما عداها: ألست أنت المخاطبة والمسؤولة السائلة
قالت: بلى.
قالت: فما قطع بك عن معرفة ذاتك وصفاتك، ومكانك وبدء شانك، ومحلك وتنقلك، وكيف تعلقت بهذا الجسد وكيف تصريفك له وكيف تنقلك عنه(1/445)
فتدبرت هذا فأيقنت أنه لو كان علمها ما علمت بقوتها وطبيعتها، دون مادة من غيرها، لكان المعجز لها مما جهلته أسهل عليها من الممكن لها مما علمت. فاعترفت بان لها مدبراً علمها ما علمت من البعيدات فعلمته، وجهلت ما لم يطلعها طلعه من القريبات فجهلته.
فيا لك برهاناً على عجز المخلوق ومهانته وضعفه وقلته، نعم وعلى أن النفس لا تفعل ولا تقعد إلا بقوة وإرادة من قبل غيرها لا تتجاوزها ولا تتعداها، ولله الأمر كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
انتهى القول في النفس والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا
محمد وآله، وسلم تسليماً كثيراً(1/446)
1 - الابيات الجيمية (ص: 109 من طوق الحمامة) ، قد أوردها المقري في نفح الطيب 3: 599، ورواية البيت الاول هناك:
خلوت بها والراح ثالثة لنا ... وجنح ظلام الليل قد مد واعتلج ويبدو أن الابيات استوقفت أبا عامر ابن مسلمة مؤلف كتاب (حديقة الارتياح) فعلق عليها بقوله: لا أذكر مثلها إلا قول بعض المشارقة
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد إلا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم.
2 - ونقل المقري أيضاً (نفح الطيب 2: 83) أن ابن حزم مر يوماً هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكة الحطابين من مدينة إشبيلية فلقيهما شاب حسن الوجه، فقال ابو محمد: هذه صورة حسنة، فقال له ابو عمر: لم نر إلا الوجه فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك، فارتجل ابن حزم أبياتاً مطلعها:
وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول.. الأبيات (النفح (2: 82) ويقول المقري في صدر القصة، قال ابن حزم في طوق " الحمامة ". غير أن النسخة التي وصلتنا من هذه الرسالة لا تحتوي هذه القصة، فهل في الرسالة نقص او أن المقري قد وهم.
3 - فاتن أن أذكر بين المؤلفات التي تدور حول الغناء والسماع (ص 419 - 420 من هذا الكتاب) رسالة في السماع والوجد لأبي سعيد ابن الأعرابي وقد لخصت في كتاب اللمع. والفضل ف هذا التنبيه يعود إلى ذكتور رضوان السيد.
4 - جاء في بعض المصادر نقلاً عن ابن حزم (انظر مثلاً ديوان الصبابة: 27)(1/447)
أن رجلاً قال لعمر بن الخطا يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذلك مما لا يملك. وقد ذكر ابن القيم هذا القول في الجواب الكافي (164) ولكنه لم ينسبه لابن حزم، ويبدو أن سبب نسبته له وروده بعد قول لابن حزم مباشرة. وأياً كان لأمر، فليس لهذا القول وجود في طوق الحمامة.
5 - سهوت عن الإشارة إلى الترجمة الإنجليزية التي قام بها آربري (لندن 1953) لطوق الحمامة، وكذلك ترجمة آسين بلاسيوس لرسالته في مداواة النفوس (مدريد 1916) وترجمة ندى توميش للرسالة نفسها غلى الفرنسية (بيروت 1961) ، ومن الدراسات ذات الصل برسالته في الغناء بحث للأستاذ تيريس (Teres) بعنوان:
La epistola sobre el canto con musica insru،ental de Ibn Hazm de Cordoba؛ Andalus 36 (1971) ، pp 203 - 214.
6 - من الكتب المتصلة بموضوع الغناء والسماع: جزء في السماع للسلمي (كوبريلي: 16331) وكشف القناع عن حكم الوجد والسماع لأبي العباس أحمد بن عمر الأندلسي (لاله لي: 1482) .(1/448)
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
تضم هذه المجموعة الرسائل التالية:
1 - رسالة نقط العروس في تواريخ الخلفاء.
2 - رسالة في أمهات الخلفاء.
3 - رسالة في جمل فتوح الإسلام.
4 - رسالة في أسماء الخلفاء.
5 - رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها.
وقد ألحقت بها ثلاثة ملاحق وهي:
1 - رسالة في ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس.
2 - فصل في ذكر أوقات الحكام من بني إسرائيل.
3 - شذرات من روايات تاريخية.
ولا يخفى على القارئ أن الوشيجة التي سلكت كل هذه المادة في هذا الجزء إنما هي اتصالها جميعاً بالتاريخ. ولدارس ابن حزم المؤرخ أن يضيف إلى هذه المجموعة كتبه مثل جوامع السيرة وحجة الوداع والجمهرة وأن يعتمد فصولاً تاريخية كثيرة أوردها في الفصل. ونظرات تاريخية في رسائله مثل طوق الحمامة ورسالة التلخيص لوجوه التخليص. ولو وصلتنا رسالته في غزوات المنصور وكتابه في السياسة لأعطينا - فيما أقدر - تصوراً أدق لدوره في الكتابة التاريخية مادة ومنهجاً.
وقد درست ابن حزم المؤرخ في المقدمة معتمداً على ما تيسر لدينا من آثاره في هذا الميدان. ولم أشبع الحديث فيها عن موقف ابن حزم المؤرخ من السيرة النبوية، فذلك أمر قد عرضنا له في مقدمة جوامع السيرة أنا وصديقي الدكتور ناصر الدين الأسد، ولا حاجة إلى إغادة شيء منه في هذا المقام إلا ما كان ضرورياً لاستكمال جوانب الصورة العامة من ابن حزم المؤرخ.(2/1)
ذلك هو القدر الذي استوعبه هذا الجهد، أقدمه للدارسين والقراء، راجياً أن أوفق إلى نشر بقية الأجزاء من هذه الرسائل، ومن الله أستمد العون.
بيروت في 5 آذار (مارس) 1981
إحسان عباس(2/2)
مقدمة
ابن حزم والتاريخ
يحتل التاريخ حيزاً صغيراً بين مؤلفات ابن حزم على غزارتها ووفرتها، وخاصة إذا قورن بمعاصره ابن حيان، فهو لم يتوفر على الكتابة في التاريخ بمعناه الشمولي، ولا على تفسير التاريخ بحسب منهج منظم، وإنما اقتصر جهده - في حدود ما نعرفه من أسماء مؤلفاته - على ملخصات مركزة موجزة مثل: جوامع السيرة، جمل فتوح الإسلام، أسماء الخلفاء؛ ولعله سار في كتابين آخرين له على مثل هذا المنهج أو شيء شبيه به، أعني كتاب " ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس " (1)
وكتاب " غزوات المنصور بن أبي عامر " (2) ؛ كما شمل جهده أيضاً نوادر الأخبار حسبما تدل عليه رسالته " نقط العروس "؛ فإذا وسعنا من مدلول التاريخ ليشمل علم النسب أضفنا إلى كتبه هذه كتاب " جمهرة أنساب العرب " (وهو على ضخامته النسبية يعد " تلخيصاً " لكتب مشرقية في هذا العلم مع إضافة ما جد من أنساب أندلسية وبربرية) وكتاب " نسب البربر " (3) وربما كان قطعة مستخرجة من الجمهرة؛ حتى إذا زدنا في توسيع مدلول التاريخ ذكرنا مع هذه المؤلفات السابقة كتابه " الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها والندب إلى الواجب منها ". وهو عنوان غامض، وربما كان مضطرباً، وأكبر الظن أنه يشير إلى اسمي كتابين اختلطا معاً، يمثل أحدهما " الإمامة والسياسة " ويمثل الثاني مجموعة من الكتب المركزة الموجزة، ويعد جوامع السيرة فيه " المرتبة الرابعة " (4) .
__________
(1) رسائل ابن حزم، الجزء الأول: 11 (رقم: 17) .
(2) المصدر السابق: 13 (رقم: 61) .
(3) النصدر نفسه (رقم: 49) .
(4) حين نشرنا هذا الكتاب أنا والصديق الدكتور ناصر الدين الأسد وجعلنا عنوانه " جوامع السيرة " لم نخترع هذا العنوان من عند أنفسنا (كما زعم الدكتور صلاح الدين المنجد، انظر مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 34/ 2 (1959) ص 292) بل وجدناه عند الكتاني في التراتيب الإدارية (المقدمة ص: 42) والكتاني نقله عن كتاب الخزاعي تخريج الدلالات السمعية (انظر ص: 184 مثلاً من الطبعة التونسية) وقد زضحنا ذلك في المقدمة (ص 15) ولم نترك الأمر ملتبساً، ورجحنا هذه التسمية لكونها أدق على طبيعة الكتاب فتسمية الذهبي للكتاب: السيرة النبوية لا تنقض ما ذكره الخزاعي كما لا ينقضها ما ذكره الخزاعي، وأسماء الكتب تتعرض للإيجاز عند النقل وبعض التحوير لشهرتها، فهذا الخزاعي نفسه ينقل عن كتاب ابن حزم الذي يحمل عنوان " جمهرة أنساب العرب " ويسميه " الجماهر " والأمثلة على ذلك كثيرة تعز على الحصر. وقد ذكر الدكتور المنجد (مجلة معهد المخطوطات، المجلد الثاني (1956) ص: 190) أنه وجد على أول ورقة من النسخة التونسية " المرتبة الرابعة في نسب رسول الله وسيره ومغازيه وجمل من التاريخ " وكذلك وجدت مثل هذا العنوان على نسخة برلين (ولم تكن النسختان متوفرتين لدينا حين تحقيق الكتاب) وهذه التسمية هي التي جعلتني أقول أن عنوان " الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها ... الخ " عنوان مضطرب. لأن لفظة " مراتبها " تتفق مع عنوان النسختين البرلينية والتونسية.(2/7)
كذلك لا تنتقض هذه الحقيقة - أعني احتلال الترايخ لحيز صغير في مؤلفات ابن حزم - حتى لو أضفنا إلى الكتب السابقة تلك الشذرات التاريخية المنسوبة إليه في المصادر وتلك النظرات التاريخية في رسائله، فهي تؤكد اهتمامه بالروايات التاريخية أكثر من انشغاله بالتأليف في التاريخ.
غير أن للتاريخ مكانة هامة في نظر ابن حزم، فهو يقف مع القائلين بأن التاريخ " علم " ذو خصائص وغايات متميزة، مثل المسعودي (1) وإخوان الصفا (2) والخوارزمي (3) وغيرهم (4) ، وينفرد ابن حزم بتصوره الخاص للعلوم وموقع التاريخ بينها، فهو يرى أن العلوم سبعة عند كل أمة وهي: علم شريعتها، وعلم أخبارها، وعلم لغتها - وفيها تتميز كل أمة - ثم علم النجوم وعلم العدد وعلم الطب وعلم الفلسفة
__________
(1) قال المسعودي في التاريخ أنه علم يستمتع به العالم والجاهل، ويستعذب موقعه الأحمق والعاقل، فكل غريبة منه تعرف، وكل أعجوبة منه تستطرف، ومكارم الأخلاق ومعاليها منه تقتبس، وآداب سياسة الملوك وغيرها منه تلتمس، يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والبادي والحاضر، والموجود والغابر، وعليه مدار كثير من الأحكام، وبه يتزين في كل محفل ومقام (الإعلان بالتوبيخ: 17 ط، مصر 1317 وعلم التاريخ عند المسلمين: 406 - 407) .
(2) قسم إخوان الصفا العلوم في ثلاثة أقسام كبرى يتفرع عن كل قسم عدة علوم، وتلك الأقسام هي: الرياضة والشرعية الوضعية والفلسفية الحقيقية؛ وتحت الرياضة نقع تسعة علوم يجيء علم السير والأخبار في آخرها (رسائل إخوان الصفا 1: 266 - 267) .
(3) عد الخوارزمي " التاريخ " أو " الأخبار " آخر علوم العرب الستة وهي الفقه والكلام والنحو والكتاب والشعر والأخبار. (انظر مفاتيح العلوم: 5، 62) .
(4) لا نجد تحديداً لمفهوم " التاريخ " لدى الدينوري (إذ لم يكتب مقدمة للأخبار الطوال) والطبري واليعقوبي (الذي سقطت مقدمة كتابه) من المؤرخين المشارقة الذين ظهروا قبل ابن حزم؛ كما أن الفارابي في إحصاء العلوم لا يفرد التاريخ وإنما يمكن أن يستنتج من بعض ما ورد لديه أن يدرجه ضمن العلم المدني السياسي (انظر إحصاء العلوم: 104 - 106) .(2/8)
وفيها تتفق الأمم كلها (1) . وينقسم علم الأخبار على مراتب فهو إما أن يدور على الممالك أو على السنين وإما على البلاد وإما على الطبقات أو منثوراً (2) . ثم يتحدث ابن حزم عن التاريخ بحسب الأمم، وبينا يقتصر الخوارزمي في مفاتيح العلوم على ذكر الفرس وعرب الجنوب وعرب الشمال والروم واليونانيين نجد ابن حزم يستقصي ذكر الأمم المختلفة، مميزاً بين التواريخ المتصلة بها دون أن يلحظ الفرق بين اليونان والرومان، فيسمي الفريقين باسم الروم، وهذه هي الأمم التي يشمل تواريخها بالتعليق:
1 - الأمة الإسلامية: وتاريخها الذي يشمل مبدأها وفتوحها وأخبار خلفائها وملوكها والمنتزين عليهم وعلماءها.. الخ، هو أصح التواريخ.
2 - بنو إسرائيل: تاريخهم أكثره صحيح وفي بعضه دخل، وإنما يصح منه أخبارهم منذ أن صاروا بالشام إلى حين خروجهم عن تلك البلاد آخر مرة.
3 - الروم: يصح تاريخهم ابتداء من عهد الإسكندر.
4 - أمم الشمال من ترك وخزر وغيرهم: لا تواريخ لهم.
5 - أمم السودان: لا تواريخ لهم.
6 - الهنود والصينيون: يقر ابن حزم أن أخبارهم لم تصلنا كما نريد، ولكن لهم تاريخاً لأنهم أصحاب ضبط وتواليف وجمع.
7 - الأمم الداثرة كالقبط واليمانيين والسريانيين والاشمانين وعمون ومآب: دثرت أخبارهم ولم يبق منها إلا تكاذيب وخرافات.
8 - الفرس: لا يصح شيء من أخبارهم قبل دارا (انظر رقم 3) وأصح أخبارهم ما كان من عهد أردشير (3) .
وهذه الأحكام نتيجة جهد بذله ابن حزم في الاطلاع والبحث عن تواريخ الأمم، ولهذا فهو ينصح دارس التاريخ بأن يعتمد هذه النتيجة، فلا يضيع وقته في البحث عما لم يصح من التواريخ، إلا إذا أحب التعب لنفسه، فإنه عندئذ سينتهي إلى ما انتهى إليه ابن حزم.
__________
(1) رسالة في مراتب العلوم (في رسائل ابن حزم، ط. القاهرة (1954) ، ص: 78) .
(2) المصدر السابق.
(3) رغم هذا الوضوح التفصيلي الذي قد يكون ابن حزم مخطئاً في بعض أجزائه، من الغريب أن نجد الأستاذ فرانتز روزنتال يقول: " وإذا صدقنا ابن حزم فإن معظم المعلومات التاريخية التي نقلت إلينا مشكوك في صحتها وأن الإسلام وحده [كذا] يمكن اعتباره معرفة موثوقة " (علم التاريخ عند المسلمين: 55) .(2/9)
أما علم النسب فإنه يعده جزءاً من " علم الخبر " (1) وهو يدافع بقوة عن هذا الجزء. ويرد قول من قال: علم النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر، ويبين منافعه المتعددة (2) .
ويحدد ابن حزم الغايات التي يمكن أن يحققها الاطلاع على تواريخ الأمم بما يلي:
1 - التزهيد في الدنيا: بمعرفة تقلبها بأهلها، ومصاير الملوك الظالمين الذين لم ينفعهم حشدهم للأموال والجيوش.
2 - القدوة الحسنة: إذ يقف المرء على حمد المتقين الأخيار للفضائل فيرغب فيها ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها؛ ويقرأ أخبار الصالحين فيجب أن يكون منهم وأخبار المفسدين فيمقت طرائقهم.
3 - العبرة بالفناء، ودثور الحصون والمدائن وتعاقب الأجيال، وانتقال الأحوال من عمران إلى خراب.
4 - تمييز الصواب من الخطأ في الأخبار: فحين تتناصر التواريخ على تفاوت الأزمان والديانات في نقل قصة، فهي حق، وحين يحدث الخلاف، يدري دارس التاريخ أن القصة مضطربة.
5 - المتعة والرياضة والتنشيط: وذلك لأن علم الأخبار سهل، وعلى الإنسان أن يتعمد قراءته وقت سآمته من درس العلوم الأخرى أو وقت فراغه من العمل فيها. وكل هذه الأغراض يدل على أن التاريخ عند ابن حزم هام جداً في بناء شخصية الفرد، من الوجهة الأخلاقية والنفسية، خصوصاً وأن دارسه لا يحتاج فيه إلى شيخ يوجه خطاه، بل يستطيع أن يعتمد على نفسه في طلبه (3) .
وقد توفرت لابن حزم أكثر الوسائل التي تلزم المؤرخ، وفي مقدمتها سعة الاطلاع على المؤلفات التاريخية ومناهجها المختلفة ومنازعها المتعددة، ولقد حاول الدكتور عبد الحليم غويس في كتابه القيم " ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي
__________
(1) المصدر السابق: 79.
(2) جمهرة أنساب العرب: 3 - 6.
(3) تتردد الأغراض التي ذكرها ابن حزم عند المؤرخين الذين جاءوا بعده، انظر الإعلان بالتوبيخ: 21 وما بعدها (علم التاريخ عند المسلمين: 412 وما بعدها) حيث ترد آراء ابن الجوزي والعماد الأصفهاني وابن الأثير وسبط ابن الجوزي وغيرهم.(2/10)
والحضاري " أن يجمع أسماء الكتب التي اطلع عليها ابن حزم وأفادته في هذا المجال (1) . ولكن كل ما يمكن أن يعد في هذا المقام يبدو قاصراً عن تصوير الحقيقة. إذ الواقع أن ابن حزم اطلع على أكثر ما دخل الأندلس من كتب تاريخية كتبها المشارقة. وعلى ما كتبه الأندلسيون أنفسهم، وذلك كله يصور مدى ما حصله في التاريخ الإسلامي بخاصة، فأما تواريخ الأمم الأخرى فيبدو أنه وقف فيها عند مصادر معينة، مثل التوراة والإنجيل وتاريخ يوسيفوس، والأرجح أنه قرأ تاريخ هوروشيوس الذي نقل عن اللاتينية في أيام عبد الرحمن الناصر كما كان واقفاً على التاريخ المعاصر راصداً له أو مشاركاً في صنعه؛ وإلى جانب الاطلاع على المؤلفات اعتمد أيضاً على الروايات الشفوية، ولقاء الشيوخ ومحاورة الأقران، وكان لوالده أقوى الأثر في توجيهه نحو التاريخ، بحكم شخصه ومكانته: فهو مصدر هام لكثير مما نقله من روايات لم تكن تقف عند ظاهر الخبر، بل تفعل في نفسه فعلها، وإلى مثل ذلك يشير بقوله: " حدثني وهزني الوزير والدي نضر الله وجهه " (2) ، ولعل والده هو الذي نبه ذهنه إلى التقاط الغرائب والنوادر، لكثرة ما كان بقص عليه منها، ولمكانته في الدولة كان عارفاً بما يجري حوله من دقائق الأمور، كما أن تلك المكانة جعلت مجلسه حافلاً بشخصيات العصر، وفي ذلك المجلس استمع الابن إلى إلى الأحاديث الدائرة والروايات المختلفة، مثلما استمع إلى الشعراء وهم ينشدون المدائح في أبيه؛ وحين قضت الفتنة البربرية على ابن حزم بمفارقة قرطبة والتجوال في المدن الأندلسية، وسعت لديه مجال المشاهدة، مثلما كثرت من مصداره الشفوية، وأغنت خبرته بتجارب جديدة، ولو قيض لابن حزم أن يرحل إلى المشرق لتمرس بمزيد من الخبرة والاطلاع، ولأضاف إلى ثقافته عن طريق المؤلفات ثقافة عن طريق دراسة المجتمعات والعادات؛ ولا ريب في أنه حاول أن يستعيض عن خهذه الناحية بالإكثار من القراءة في مختلف العلوم فتكونت لديه حصيلة ثقافية متنوعة كان في مقدورها أن تمد مغرفته التاريخية بروافد متعددة (3) .
__________
(1) انظر ص: 148 - 161 من الكتاب المذكور.
(2) نقط العروس، الفقرة: 76.
(3) يقول ابن حزم في معرض الاطلاع والتجربة: " وقد شاهدنا الناس وبلغتنا أخبار أهل البلاد البعيدة وكثر بحثنا عما غاب عنا منها ووصلت إلينا التواريخ الكثيرة المجموعة في أخبار من سلف من غرب وعجم في كثير من الأمم.... " (الفصل 1: 175) .(2/11)
وحين وردت هذه الروافد الثقافية على الذكاء الطبيعي والصبر على عناء الطلب. تولد عن اللقاء قوتان هما أهم ما يحتاج إليه المؤرخ من وسائل، وأعني يهما القدرة على التصور الصحيح، والنقد الدقيق.
أما في مجال التصور الصحيح فيمكن أن يقال أن ابن حزم لم يدرس الجغرافيا أو الاقتصاد دراسة منظمة، ولكن صحة تصوره هي التي هدته إلى أن يجعل من هذين قاعدة لفهم التاريخ أو مناقشة الروايات التاريخية: فهو حين يناقش ما ذكر عن أعداد بني إسرائيل في زمن داود (نصف مليون مقاتل من سبط يهوذا ومليون من تسعة أسباط أخرى وبقي سبطان لم يحص عددهما. هذا عدا الأطفال والنساء والشيوخ وسائر من لا يقدر على القتال) يقول: " البلد المذكور باق لم ينقص، ولا صغرت أرضه، وحده بإقرارهم في الجنوب: غزة وعسقلان ورفح وطرف من جبال الشراة بلد عيسو ... وحدّ ذلك البلد في الغرب البحر الشامي، وحده في الشمال صور وصيدا وأعمال دمشق التي لا يختلفون في أنهم لم يملكوا منها مضرب وتد ... وحد البلد المذكور في الشرق بلاد موآب وعمون وقطعة من صحراء العرب التي هي الفلوات والرمال.... " (1) هذا التصور للجغرافيا يؤدي إلى القول بأن تلك البلاد المذكورة لا يمكن أن تتسع لتلك الملايين، فإذا أضفت إلى ذلك ما جاء في سفر يوشع من أن المدائن التي سكنها عدد من الأسباط لا كلهم بلغت في الإحصاء الكلي أربعمائة مدينة سوى القرى التي لا يحصيها إلا الله عز وجل وجدت ابن حزم يقول: " فاعجبوا لهذه الشهرة أن تكون البقعة التي قد ذكرنا مساحتها على قلتها وتفاهتها تكون فيها هذه المدن " (2) .
وتشترك العوامل الجغرافية والاقتصادية اشتراكاً يكاد يكون متلازماً، فإذا قرأ ابن حزم في التوراة أن بني إسرائيل كانوا ساكنين في أرض قوس فقط وأن معاشهم كان من المواشي فقط وأن عددهم هنالك كان ستمائة ألف وثلاثة آلاف (سوى النساء والأطفال) احتكم إلى العاملين الجغرافي والاقتصادي فقال: مالذي يكفي هذا العدد إذا لم يكن لهم من مصدر للقوت والكسوة سوى المواشي " ثم اعلموا يقيناً أن أرض مصر كلها تضيق عن مسرح هذا المقدار من المواشي فكيف أرض قوس وحدها " (3) . وإذا وقع في بعض الروايات على أن جباية سليمان كانت 636000 قنطار من ذهب رغم
__________
(1) الفصل 1: 166.
(2) الفصل 1: 168.
(3) الفصل 1: 177.(2/12)
صغر المساحة التي تقع تحت حكمه قال: " فهذه الجباية التي لو جمع كل الذهب الذي بأيدي الناس لم يبلغها. من أين خرجت " (1) وإذا قرأ أن ملك السودان غزا بيت المقدس بمليون مقاتل: لم يكتف بالتكاء على عاملي الجغرافيا والاقتصاد بل أضاف إليهما عامل العلاقات السياسية فرفض الخبر (أ) لبعد المسافة وكون أكثرها مفاوز لا تتحمل جيشاً بذلك العدد (ب) ولا بد أن يمر هذا الجيش على مصر فكيف يستطيع ذلك " هذا ممتنع في رتبة الجيوش وسيرة الممالك ". (ج) ومن المستبعد أن يكون ملك السودان قد سمع بشيء اسمه بيت المقدس (2) .
وصحة التصور هي المدخل للنقد الدقيق، وقد أفاد ابن حزم في هذه الناحية من رافدين ثقافيين على وجه الخصوص وهما طريقة أهل الحديث والفكر الفلسفي. وتعتمد طريقة أهل الحديث على نقد السند أي على التعديل والتجريح للرواة. ومن نافلة القول أن أؤكد هنا على أهمية الخبر بالنسبة للمذهب الظاهري، وكونه الدعامة الثاني - بعد القرآن - في ذلك المذهب؛ وهذا موقف يستدعي معرفة شاملة دقيقة لعلم الرجال، مثلما يفترض الحذر الشديد في تقبل الخبر، وفي هذه الناحية وضع ابن حزم بين المتعنتين في التوثيق، وانتقده بعضهم لارتكابه عدة أخطاء في حق رواة مشهورين وصفهم بأنهم مجهولون مثل الترمذي والبغوي وإسماعيل بن محمد الصفار وأبي العباس الأصم (3) ، حتى لقد قال ابن حجر في ترجمة الترمذي: " وأما أبو محمد ابن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع فقال في كتاب الفرائض من الإيصال: محمد بن هيسى بن سورة مجهول، ولا يقولن قائل: لعله ما عرف الترمذي ولا اطلع على حفظه ولا على تصانيفه، فإن هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خلق من المشهورين من الثقات الحفاظ ... " (4) كذلك أخذ عليه أنه يجهل من هو كدام بن عبد الرحمن السلمي (5) ويخلط بين كثير بن زيد الأسلمي وكثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو ويقول في الثاني: ساقط متفق على اطراحه والرواية عنه، فيتعقبه البغدادي في ذلك (6) ؛ كما يتعقب الحافظ قطب الدين الحلبي
__________
(1) الفصل 1: 219.
(2) الفصل 1: 220.
(3) الإعلان بالتوبيخ: 168 (علم التاريخ عند المسلمين: 722) وهو ينقل عن ابن حجر، انظر الحاشية التالية.
(4) تهذيب التهذيب 9: 388.
(5) تهذيب التهذيب 8: 431.
(6) تهذيب التهذيب 8: 414 - 415.(2/13)
ثم المصري ما ورد من أخطائه في كتاب المحلى خاصة (1) . ولا مراء في أن ابن حزم قد وقع في أخطاء لدى قيامه بالتجريح والتعديل، ولكن لهذه الأخطاء تفسيرات مختلفة، وليس الجهل واحداً منها، بل لقد أقر له من سجلوا عليه المآخذ، بأنه كان واسع الحفظ جداً، إلا أنه لثقة (لسعة) حافظته، كان يهجم على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة فيقع له من ذلك أوهام شنيعة (2) . ولكن هذه الثقة في الحفظ أو السعة فيه لا تفسر كل شيء، بل هناك أسباب أخرى مضافة إلى تلك الثقة حتى في حال وصفه لأحد المشهورين بأنه مجهول: فالخلاف في التعديل والتجريح يتسع إلى يقل معه الاتفاق بين العلماء بوجه إجماعي على توثيق أحد الرواة، وابن حزم في كثير من علمه في الرجال يعتمد على من سبقوه، فإذا اختار تجريح أحدهم فمعنى ذلك أنه - في أغلب الأحيان - اتبع في الحكم عليه أحد السابقين، ولذلك فليس حجة على ابن حزم أن يقال: فلان وثقه ابن معين أو عده ابن حبان في الثقات. فهذا محمد بن سليمان المشمولي المخزومي ذكره ابن حبان في الثقات، كما ذكره العقيلي والساجي والدولابي وابن الجارود في الضعفاء، فليس أحد الموقفين بملزم لابن حزم، وإنما هو يحكم رأيه فيما يراه مناسباً، ولهذا يقول فيه: منكر الحديث (3) .
__________
(1) أورد ابن حجر (في لسان الميزان 4: 201 - 202) أمثلة مما أخذه عليه القطب، فمن ذلك عند إيراده حديث لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، قال: الرواية في هذا الباب ساقطة مطروحة مكذوبة، فذكر منها طريق يسار مولى ابن عمر عن كعب بن مرة وقال: يسار مجهول ومدلس، وكعب لا يدري من هو، قال القطب: يسار قال أبو زرعة مدني ثقة.
وقال ابن حزم في حديث عائشة، قلت: يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت قال: أصبت يا عائشة، انفرد به العلاء بن زهير وهو مجهول، قال القطب: أخرج الحديث النسائي والدارقطني وروى عن العلاء وكيع وأبو نعيم والفريابي وغيرهم وقال ابن معين: ثقة.
وقال ابن حزم في حديث أم سلمة: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب ... الحديث؛ عتاب: مجهول؛ قال القطب: أخرج الحديث أبو داود محمد بن عيسى بن الطباع عن عتاب وهو ابن بشير، عن ثابت بن عجلان عن عطاء عنها؛ وعتاب هو ابن بشير الجزري روى عنه إسحاق بن راهويه ومحمد بن سلام البيكندي وغيرهما، وأخرج له البخاري، وأخرج الحديث المذكور الحاكم في المستدرك، وقال ابن معين: ثقة.
وقال ابن حزم في الحديث الذي أخرجه النسائي من طريق المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لرجل: أدرك خالداً فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفاً؛ المرقع مجهول؛ قال القطب روى عنه ولده عمر ويحيى بن سعيد الأنصاري ويونس بن أبي إسحاق وأبو الزناد وموسى بن عقبة، وذكره ابن حبان في الثقات، فليس بمجهول.
(2) لسان الميزان 4: 198.
(3) لسان الميزان 5: 186.(2/14)
ومن أهم أسباب الخلاف في التصحيف في أسماء الرواة (1) ، وقلب النسب، أو الاختصار فيه أو سقوط بعض أجزائه (2) أو التشابه في الاسم والنسب معاً (3) ؛ وعن هذه الطرق يدخل الوهم وتتباين الأحكام ويتسع مجال الاختلاف.
ومهما يكن سبب ما عد على ابن حزم من أخطاء، فإن ما يهمنا هنا هو المنهج الذي أمده به علم الحديث، وهو منهج يتحرى الدقة ويتشدد في محاكمة السند، وربما لم يحتج ابن حزم إلى كل ذلك في موقفه من الروايات التاريخية، ولكن روح المنهج الحديثي تلبست به ووجهت فكره، وسنى أثرها لديه فيما يلي عند الحديث عن أحكامه التاريخية.
ولو انفرد هذا المنهج في أثره لكان ابن حزم - في الأرجح - سلبي الموقف من التاريخ والروايات التاريخية، إذ لا يمكن أن يصل التحري هنا إلى ما يصل إليه في علم الحديث، ولكن ذلك المنهج توازى مع مؤثر آخر، هو تفتح فكره على الدراسات الفلسفية والمنطقية، فهذه الدراسات هي التي مهدت لديه تحكيم العقل في الرواية نفسها لا في رواتها، ورفضها على أساس عقلي، كما وسعت لديه الآفاق التي يستطيع أن يرودها بفكره، بحيث يتجاوز موقفه الظاهري الذي يحرص عليه في باب التشريع؛ وقد لحظ بعض الأقدمين هذه الازدواجية لديه فقال ابن كثير: " والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره،.... وكان مع هذا من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات لأنه كان أولاً قد تضلع من علم المنطق ... " (4) ؛ وهذا الذي
__________
(1) تصحف جميل بن كريب لدى ابن حزم فأصبح جميل بن جرير (لسان الميزان 2: 135) وحبة بن مسلم فأصبح حبة بن سهل (2: 166: 167) .
(2) الأمثلة في ذلك كثيرة؛ فقد ذكر ابن حزم: نصر بن عاصم الأنطاكي وصحح له حديثاً في المحلى؛ والاسم خطأ وصوابه عبد الله بن نصر الأصم؛ فسقط عبد الله من النسب وصحف الأصم بعاصم (لسان الميزان 6: 155) .
(3) مثال ذلك عبد الله بن عمرو بن لويم، قال ابن حزم فيه: مجهول، وعده غيره في الصحابة، فقال ابن حجر معلقاً: " ثم ظهر لي أن ابن حزم ما عنى هذا وإنما عنى آخر يوافقه في الاسم والأب والجد " (لسان الميزان 3: 321) .
(4) البداية والنهاية 12: 92 ومما لا ريب فيه أن ابن كثير كان معجباً بابن حزم حتى أنه رأى الشيخ محيي الدين النواوي في المنام (ليلة الاثنين 22 محرم 763) فسأله: يا سيدي الشيخ لم لا أدخلت في شرحك المهذب شيئاً من مصنفات ابن حزم فقال ما معناه إنه لا يحبه، فقال ابن كثير: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفي النقيضين في أصوله وفروعه، أما هو في الفروع فظاهري جامد لابس وفي الأصول تول مائع قرمطة القرامطة وهرمس الهرامسة.... قال ابن كثير: ثم أشرت له إلى أرض خضراء تشبه النجيل بل هي أردأ شكلاً منه لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي، فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها؛ قلت: فانظر إلى دلالة هذا المنام ما أعمقها: ابن كثير حزين في دخلة نفسه لأن الشيخ لم يقتبس من مصنفاته ولكنه بقوة العامل الخارجي مدفوع إلى إنكاره وهو يكرر في المنام رأياً جهر به في اليقظة، ثم يرى ما زرعه ابن حزم خضرة تسر النظر لكنه مدفوع إلى إنكارها لأن أرضها لا تستغل (حتى النواوي لم يستغلها) .(2/15)
يقوله ابن كثير يعد " ملمحاً " جيداً وإن لم يثبت في بعض أجزائه للمناقشة، ولكنه يفتح الباب للقول بأن ابن حزم الذي أنكر العلل - مثلاً - في الشريعة إنما كان في محاكماته للأخبار التاريخية يبحث عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء تلك الأحداث والأخبار، وأنه كان يفيء إلى تحكيم العقل في طبيعة الخبر، إلى جانب اعتماد توثيق الرواة، حتى في بعض ما يدرجه غيره ضمن الأحاديث نفسها. ولنأخذ مثلاً واحداً على ذلك وهو حديث " هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر " فقد رواه سليمان بن محمد الخزاعي عن هشام بن خالد عن بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة فرده ابن عبد البر بقوله: " سليمان لا يحتج به " أي أنه لم يقبل الحديث لضعف الراوي (1) . وقال فيه ابن حزم: وقد أقدم قوم فنسبوا هذا القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا باطل ببرهانين: أحدهما أنه لا يصح من جهة النقل أصلاً ... والثاني أن البرهان قد قام على أن علم النسب علم ينفع، وجهل يضر في الدنيا والآخرة ولا يحل لمسلم أن ينسب الباطل المتيقن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ، فاتكأ على المنهجين معاً في رفضه أن يكون ذلك القول حديثاً.
كل تلك العوامل من سعة الاطلاع وخبرة بالإنسان وأحوال العمران الإنساني وصحة في التصور ودقة في النقد، النقلي والعقلي، كانت متوفرة لدى ابن حزم ليكون في طليعة المؤرخين، ولكنه لم يصبح كذلك، واكتفى بموقف هامشي للتاريخ في مؤلفاته، ولا بد أن يكون لهذه الظاهرة أسبابها. وفي مقدمة تلك الأسباب النظر إلى التاريخ على أنه أداة لا غاية في ذاته، وأنه يفيد في شيئين: التربية النفسية الأخلاقية، وخدمة الشريعة (كالحال في سائر العلوم عدا الشريعة) " فإن اشتغل مغفل عن علم الشريعة بعلم غيره فقد أساء النظر وظلم نفسه، إذ آثر الأدنى والأقل منفعة على الأعلى والأعظم منفعة، فإن قال قائل إن في علم العدد والهيئة والمنطق معرفة الأشياء على ما هي عليه، قلنا إن هذا حسن إذا قصد به الاستدلال على الصانع للأشياء بصنعته،
__________
(1) لسان الميزان 3: 103 - 104.
(2) الجمهرة: 4.(2/16)
ليتدرج بذلك إلى الفوز والنجاة والخلاص من العذاب والنكد " (1) ، فكل العلوم ومنها التاريخ أدوات توصل في النهاية إلى الفوز والنجاة، وهي المطلب الأسمى، وذلك عن طريق ما تؤديه تلك العلوم من فهم للخالق وإقرار بالنبوة، وإسعاف على فهم علم الشريعة جملة؛ وقد بلغ ابن حزم هذا الموقف على أثر الإخفاق السياسي الذي منيت به الأندلس بعيد الفتنة البربرية، وإخفاقه هو في الاحتفاظ بالمجد الدنيوي أو في العمل السياسي، وفي ما أصبح يعانيه من وضع اقتصادي، وكان البديل عن كل ذلك زهدية معتدلة توجه خطواته، وتحدد غايته على نحو واضح، وهي التوجه الكلي إلى الآخرة، والإكباب على الشريعة وتسخير جميع القوى والروافد في خدمتها؛ وقد فعلت في نفسه تلك الكلمة التي سمع محمد بن إسحاق الزاهد يقولها لأبيه: " احرص على أن لا تعمل شيئاً إلا بنية فإنك تؤجر في جميع أعمالك، فإنك ترى ذلك في ميزان حسناتك " (2) ؛ وقد لقنته الفتنة درساً عميقاً وأملت عليه قبول التقلب في ارتفاع وهبوط، دون تذمر أو شكوى، وكانت تعرض له تلك الحكمة التي سمعها من أبيه ذات يوم:
إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن ... (3) على حالة إلا رضيت بدونها وأخذ يبحث في التاريخ عن النموذج الأعلى الذي تمثله هذه الحكمة، فوجده في الرسول، ولهذا لخص طريقته في الحياة بكلمات عميقة الدلالة: يلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره،.... ومرة يأكل التمر دون خبز، والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية ... يأخذ القوت ويترك الفضل، ويترك ما لا يحتاج إليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة إليه (4) ....
بل إن علم الشريعة نفسه الذي يرفده الاطلاع على سائر العلوم لا يطلب من أجل ذاته أو من أجل الدنيا، " واعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسة أو يكسب به مالاً فقد هلك، لأنه طلبه لغير ما أمره به خالقه أن يطلبه، لأن خالقنا، عز وجل، إنما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط ... (5) ".
__________
(1) رسائل ابن حزم (1954) : 74.
(2) الجذوة: 41.
(3) الصلة: 31.
(4) رسائل ابن حزم (1954) : 143، والجزء الأول من رسائله (1980) : 377.
(5) رسائل ابن حزم (1954) : 55 " من رسالة التوقيف على شارع النجاة.... ".(2/17)
لقد عاش ابن حزم لحظات " انحدار " التاريخ، في نفسه، التاريخ بمفهومه الكلي؛ فعلاً وفكراً؛ وفي لحظة ذلك الانحدار نفسه عاش رجل وقف ملكاته على التاريخ جاعلاً منه وسيلة وغاية، وكان " رد الفعل " لديه على ذلك الانحدار أن توقف عن كتابة التاريخ كأنما تعطلت حركته جملة واحدة - أعني حركة التاريخ - ذلك هو ابن حيان الذي يقول: " وأنسأتني المدة إلى أن لحقت بيدي منبعث هذه الفتنة البربرية، الشنعاء المدلهمة، المفرقة للجماعة، الهادمة للمملكة المؤثلة، المغربة الشأو على جميع ما مضى من الفتن الإسلامية، ففاضت أحوالها تعاظماً أدلهني عن تقييدها، ووهمني ألا مخلص منها، فعطلت التاريخ إلى أن خلا صدر منها ... " (1) . ولقد كان إحساس الرجلين تجاه ذلك الانحدار متشابهاً، وإن اختلفا في السلوك العملي بعده، فقد عبر عنه ابن حيان بقوله في الفتنة: " فتمخضت عن الفاقرة الكبرى ... مما طوى بساط الدنيا وعفى رسمها وأهلك أهلها " (2) وقال ابن حزم في ذهاب الدولة الأموية: " وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها " (3) .
وكانت معاصرة ابن حيان لابن حزم تعطيه النموذج الكبير لمعنى التاريخ، فتقنعه بأنه ما دام قد آثر الشريعة لا يستطيع أن ينقطع للتاريخ كما فعل ابن حيان، ولعله أحس أنه لا يستطيع أن يزاحمه في ذلك الميدان؛ ثم إن علاقته التاريخية بالحاضر واهية الجذور، لأنها تتصل بالماضي وتعيش في ذكرياته، فالحاضر - على مستوى التاريخ - لا يمثل له إلا أحداثاً موصولة الأسباب بالفتنة التي قضت على وحدة الجماعة، وهو غير راضٍ عن تلك الأحداث وعن أصحابها في المجال السياسي؛ والحاضر - على مستوى الشريعة - هو العمل الدائب نحو المستقبل، للنجاة الذاتية ولنجاة الآخرين - إن أمكن -، وفي هذا الموقف يصبح التاريخ السياسي وما يتصل به " طغياناً " مستمراً وخروجاً عن الشريعة واغتراراً بالدنيا وتكالباً عليها، مما هو سلبي خالص لا يفيد إلا في استلهام العبرة بهذا العبث الدائب. ولهذا كان ابن حزم غير راضٍ عن ملوك الطوائف قبل أن تحرق كتبه، وإن ألجأته الضرورات إلى العيش في كنف الصالحين منهم كأصحاب البونت أو كأحمد بن رشيق وزير مجاهد في ميورقة، فهو يقول في مفتتح إحدى رسائله: " اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم
__________
(1) الذخيرة 1/2: 576.
(2) الذخيرة 1/1: 36.
(3) البيان المغرب 2: 40.(2/18)
اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً إلى انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائهم عليهم عن حياطة ملتهم التي بها عزوا في هاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم ... " (1) ويقول في موضع آخر: " وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ورسوله وساع في الأرض بفساد، والذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية ... وإباحتهم لجندهم قطع الطريق ... ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدام نفاذ أمرهم ونهيمهم.... (2) ثم يقول: " والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم.... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه " (3) . ومن كان يحمل هذه النظرة، فإنه لا يرى في اللجوء إلى التاريخ " منقذاً " لنفسه ولغيره، بل هو يرى فيه تخليداً لأعمالٍ ظالمة لا يقرها، ولا تضيف شيئاً كثيراً إلى العبرة المستمدة من سير الظالمين على مدى العصور.
وليس من الغلو في الاستنتاج أن يقال إن اختيار ابن حزم للظاهر، إنما كان ثورة في الأساس على ما لا يرضاه من سلوك العلماء الذين يتقربون من الحكام؛ وليس معنى ذلك أن جميع العلماء - وخاصة المالكية - كانوا يفعلون ذلك، بل كان فيهم الصالحون الذين يشاركون ابن حزم في ثورته على الظلم ومبارحة الشريعة، ولكن اختياره للظاهر، يجعل أولئك الحكام في غير حاجة إليه، فيبعده عنهم ويبعدهم عنه، ويمكنه من الاستقلال العلمي والاقتصار على تخريج الطلبة، وهكذا اتخذ من التمذهب للظاهر حجاباً يحول بينه وبين تقديم الفتاوى لهم أو المشاركة في تسويغ أفعالهم؛ وقد لحظ هو وابن حيان معاً ظاهرة التعاون بين بعض رجال الدين والحكام فسمى هو مثل أولئك العلماء فساقاً ينتسبون إلى الفقه، ويلبسون جلود ضأن على قلوب
__________
(1) الرد على ابن النغريلة: 47.
(2) الرد على ابن النغريلة: 173 - 174.
(3) المصدر السابق: 177.(2/19)
سباع، ويزينون لأهل الشر شرهم (1) . وقال ابن حيان يصف وحدة الحال بين الفريقين: " ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين منهم، هم كالملح فيهم، الأمراء والفقهاء، قلما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يردون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا هذين، بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ... والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدوف عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم، خائض في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم آخذ بالتقية في صدقهم، وأولئك هم الأقلون فيهم، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها! " (2) .
ومواطن اللقاء بين الرجلين متعددة، ولكن لا تلبث أن تفترق بهما الطريق، فأما ابن حيان فقد وسع من جنبات التاريخ ليصبح شاهداً لا على عصره وحده، بل على تاريخ الأندلس كله، معتمداً التفصيلات التي لا يكاد يضيع منها شيء (3) ، شاملاً بنظره جميع مظاهر الحياة الإنسانية، واقفاً في الوقت نفسه موقف الإدانة لعصره - كما فعل ابن حزم - إلا أنها إدانة شمولية موثقة بشواهدها. وأما ابن حزم فضاق نطاق التاريخ عنده - على معرفته الدقيقة بدقائقه وتفصيلاته - (وأكبر شاهد على ذلك نقط العروس) ، ولذلك اكتفى بأن يستخدمه في غايات محددة لا يعدوها: منها الغاية التعليمية التي جعلته يتوفر على تلخيص ما لا بد للدارس من معرفته، فلخص السيرة والفتوح الإسلامية وأسماء الخلفاء في المشرق والمغرب ومدد حكم كل منهم، ولخص أنساب العرب والبربر في موجز جامع؛ ومنها الاستدلال بالتاريخ على القضايا المتصلة بالأديان وتواريخها، ولهذا لخص تاريخ اليهود - لا من أجل التاريخ نفسه، بل من أجل أن يثبت عدم التزام اليهود بالتوراة في أكثر العهود؛ ومنها إثارة النظر الإنساني إلى العجائب والنوادر، ولهذا ذهب يجزئ التاريخ في قضايا صغيرة مثيرة، فكتب " نقط العروس "؛ ولعله لم يخرج في تأريخه لغزوات المنصور بن أبي عامر عن روح الإيجاز التي سيطرت عليه في كتاباته التاريخية الأخرى.
وقد أثر فيه نهج المحدثين في الجرح والتعديل، فجعل أحكامه التاريخية نموذجاً
__________
(1) المصدر السابق: 174.
(2) الذخيرة 1/3: 180 - 181.
(3) انظر مقدمة الدكتور مكي علي المقتبس (ط. مصر) ص: 87 وبخاصة: 98 حيث يتحدث عن اللقاء في النظرة إلى الفتنة بين ابن حزم وابن حيان.(2/20)
آخر من هذا المنهج، إذ جنح إلى التركيب لا إلى التحليل، في الحكم على الأشخاص والعهود، وهو في هذا يتفق وابن حيان في الإدانة أو ما يسميه ابن بسام تسجيل المثالب (1) ، ولكنهما يختلفان في الطريقة، إذ ما يزال ابن حيان مولعاً بالتحليل مستقصياً فيما يقول، بينما يذهب ابن حزم إلى الإجمال. وقد نجد نماذج من ذلك في جميع الرسائل التي جمعت معاً في هذا الجزء، ولهذا يكفي في مقام الاستشهاد أن أورد أمثلة قليلة.
فمن أحكامه على الأشخاص قوله في الحكم الربضي: " وهو الذي أوقع بأهل الربض، وقتل الفقهاء والخيار وخصى عدداً من ذوي الجمال من أهل قرطبة ... وهدم الديار والمساجد وولى ذلك رجلاً نصرانياً كان أثيراً عنده اسمه ربيع " (2) . وذكر الأمير عبد الله بن محمد فقال: " كان قتّالاً تهون عليه الدماء، مع ما كان يظهره من عفته، فإنه احتال على أخيه المنذر لما قصده بالعسكر، وواطأ عليه حجاماً سم المبضع الذي فصده به، ثم قتل ولديه معاً بالسيف واحداً بعد واحد وقتل أخاه القاسم ثالثهم، إلى من قتل من غيرهم ". (3) ويقول في سليمان بن الحكم المتلقب بالمستعين: " وهو الذي كان شؤم الأندلس وشؤم قومه، وهو الذي سلط جنده من البرابرة فأخلوا مدينة الزهراء وجمهور قرطبة حاشا المدينة وطرفاً من الجانب الشرقي، وأخلوا ما حوالي قرطبة من القرى والمنازل والمدن وأفنوا أهلها بالقتل والسبي وهو لا ينكر ولا يغير عليهم شيئاً " (4) إلى أمثلة أخرى كثيرة لا مجال لاستقصائها.
ومن أحكامه على العهود والدول قوله الجامع في وصف الدولتين الأموية والعباسية: " وانقطعت دولة بني أمية، وكانت دولة عربية لم يتخذوا قاعدة، إنما كان سكنى كل امرئ منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجان الأموال ولا بناء القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل ولا التسويد ويكاتبوهم بالعبودية والملك، ولا تقبيل الأرض ولا رجل ولا يد، وإنما كان غرضهم الطاعة الصحيحة من التولية.... فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض،
__________
(1) هذا لا يعني أن ابن حزم أو ابن حيان لم يكن يسجل إلا المثالب، ولكن ابن بسام حين جمع هذه المثالب في نطاق وهو يترجم لابن حيان أعطاها بروزاً صارخاً لا يقف إلى جانبه شيء آخر.
(2) الجمهرة: 95 - 96.
(3) أعمال الأعلام (بروفنسال) : 26.
(4) الجمهرة: 102.(2/21)
إلى أن تغلب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع بهم ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت به دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يك في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصراً على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير، وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها. وانتقل الأمر بالمشرق إلى بني العباس ... وكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر ملكاً عضوضاً محققاً كسروياً.... " (1) .
وفي مثل هذا الحكم على الدول يتضح " الجانب التركيبي " في نظرات ابن حزم، بحيث يستطيع المرء أن يحل هذه المركبات في بحوث مفردة، وتبدو في ذلك مهارة ابن حزم في انتقاء السمات المميزة، مثلما يبدو جانب هام آخر من حس المؤرخ لديه، وذلك أنه لا ينظر إلى منجزات الدولة الواحدةنظرته إلى بعض الأفراد من ذوي المسؤولية فيها، وإنما يرى هذه المنجزات من منظار المميزات الكبرى، وتلك تتجلى في ما أصاب الجماعة من خير، فقد يعيب هو الوليد بن عبد الملك ويصفه بالطغيان (2) أو يعيب مروان بن الحكم ويتهمه بأنه شق عصا الجماعة ويقول فيه: " مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما " (3) ولكنه يبرز الخصائص الإيجابية التي تتميز بها الدولة الأموية بكلمات دقيقة دالة، ولا يضع سيئات الأفراد على كاهل الدولة كلها.
ومع ذلك نجد ابن حيان يقول فيه: " وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم بالمشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم، وانحرافه عمن سواهم من قريش حتى نسب إلى النصب لغيرهم " (4) . وهذه المقولة تستحق نقاشاً متأنياً، وأول ما يجب أن نقف عنده لفظة " تشيعه "، فهذه اللفظة تدلُّ على الموالاة والمحبة والتقدير، دون أن يدخل فيها معنى العصبية التي قد تؤسس أحياناً على غير حق وتصبح تعصباً؛ وهذا " التشيع " يتفق وما قلناه عن تقديره لدور الدولة جملة، ولكنه لا يعني إغماض الطرف عن سيئاتها وعن سيئات القائمين على أمورها؛ ويكفي
__________
(1) البيان المغرب 2: 39 - 40.
(2) نقط العروس، الفقرة (ف) : 22، ص: 71.
(3) مقدمة جوامع السيرة: 12 - 13 نقلاً عن المحلى 1: 236.
(4) الذخيرة 1/1: 169.(2/22)
المرء أن يجمع أحكام ابن حزم في أفراد بأعيانهم من أمويي المشرق والمغرب ليدرك أنه كان أبعد من أن يوصف بالتعصب، ولكنه كان يرى للدولة الأموية في الأندلس دورها الكبير ويقارن بين ما كانت عليه الأمور في عهدها وما صارت إليه في عهد ملوك الطوائف، فلا يستطيع منطق وحدة الجماعة عنده أن يقبل ذلك التفكك والتناحر، ولا يستطيع منطق السيادة كما كانت تمثله الدولة الأموية أن يتقبل منطق العبودية الذي كانت تمارسه دول الطوائف. وليس بمستغرب بعد هذا أن يعترف بصحة إمامة الأمويين في المشرق والمغرب. وأما انحرافه عمن سواهم من قريش فإنه كلام غير دقيق، وحسبك أنه يؤمن بخلافة ابن الزبير ولا يؤمن بخلافة مروان، وأنه لا ينكر دور بني العباس في الخلافة وما كان لهم من مآثر. ولم يكن في الأندلس من القرشيين - عدا الأمويين - إلا بنو حمود، وهؤلاء لديه كسائر ملوك الطوائف من غير قريش. وتظل مقولة ابن حيان حول تشيعه في بني أمية صحيحة - على أن تكون بارئة من العصبية - ومثل هذا الموقف زاد في بغض الحكام المعاصرين له من ملوك الطوائف، وهذا أيضاً صحيح، لأنهم كانوا يبغضونه لصراحته في الحق وإنحائه على تصرفاتهم بالملامة، فإذا عرفوا فيه حبه لبني أمية زاد ذلك في شنآنهم له.
وهذا الحب للأمويين لم يكن سراً خافياً بل لعله اتصل بالواقع العملي، ولكن المتصدين وجدوا طريقهم للإيقاع بابن حزم عن طريق ذلك الحب، يقول هو في هذا الصدد: " وفي أثر ذلك (أي بيعة علي بن حمود) نكبني خيران صاحب المرية، إذ نقل إليه من لم يتق الله عز وجل من الباغين - وقد انتقم الله منهم - عني وعن محمد بن إسحاق صاحبي أنا نسعى في القيام بدعوة الدولة الأموية، فاعتقلنا عند نفسه أشهراً ثم أخرجنا على جهة التغريب فصرنا إلى حصن القصر " (1) . والشيء الذي أود أن أتوقف عنده في هذا المقام هو أن ابن حزم صادق حين ينفي عن نفسه السعي في القيام بدعوة الأموية، ولكن الباغين كانوا يعرفون فيه حبه للدولة الأموية ويكيدون له من ذلك المدخل، ويلصقون به تهمة يسهل تصديقها. وقد كان هو - وإن لم يسع بنفسه لعودة الأموية - يحب عودتها، ويمني النفس بذلك عند ظهور المرتضى (407 هـ) ، فقد غادر المرية إلى بلنسية عند ظهور المرتضى بها (2) ، وأكبر الظن أنه فعل ذلك لأنه كان يؤمل عودة الخلافة، فلما عادت على وجه اليقين بمبايعة المعتد (417) أصبح
__________
(1) طوق الحمامة في الجزء الأول من رسائله (1980) : 261.
(2) المصدر السابق: 262.(2/23)
ابن حزم أحد وزرائه.
ولا يمثل ابن حزم خروجاً على جمهرة المشاعر الأندلسية في نزعته الأموية، ولكنه كان أحد ألسنتها المعبرة عن " الأكثرية الصامتة "، وموقف ابن حزم ونظرائه ممن شهدوا فترة التحول في مقدرات الأمور وذهبت أفكارهم وأخيلتهم تقيم المقارنات بين ما كان وما صار موقف طبيعي، يحسه من لا تسمح لهم ظروف التحولات الحاسمة بسوى الموازنة والمقارنة، حتى ليبدوا هذا الجنوح إلى الموازنة والمقارنة عاملاً معطلاً في الانتفاع والاستمتاع بمرافق الحاضر الراهن، وقد صور ابن حزم ذلك في صرخة ذاتية أطلقها حين قال: " وإن حنيني إلى كل عهد تقدم ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء.... وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء ودفين الأسى بين أهل الدنيا " (1) .
وحين احتجبت الأموية ولم يبق منها إلا الحنين الواله إلى عهودها شحذت إلى درجة الإرهاف مشاعر الحبِّ للأندلس؛ وهو حب يتجلى لدى ابن حزم في إبرازه للفكر الأندلسي ودفاعه عن مآثر بلده، ويتجلى بقوة في رسالته في فضل الأندلس. لا أقول إن تلك عصبية، بل أقول إنها شعبة عميقة من حب الوطن، حين تلوح في الأفق علامات إشرافه على الضياع، وقد كانت العلامة المنبئة بضياعه هي احتجاب الأموية وانفراط عقد الجماعة. وقد نقع في تلك الرسالة - إلى جانب الإحصاءات السريعة للمنجزات الفكرية الأندلسية - على عبارات مثل: " ونحن إذا ذكرنا ابا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين " (2) ومثل قوله: " ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد وحبيب والمتنبي..... " (3) فهذه الأحكام وأمثالها يجب ألا تحملنا على نسبة العصبية لابن حزم، فإنما هي أحكام نقدية تقود على التذوق ويتفاوت فيها الناس؛ وإذا تجاوزنا الأحكام النقدية وجدنا ابن حزم يتحدث عن مآثر بلده دون تزيد، ودون لجوء إلى التعميم. استمع إليه وهو يقول: " وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من
__________
(1) طوق الحمامة في الجزء الأول من الرسائل (1980) : 125.
(2) رسالة في فضل الأندلس، ف: 21. ص: 187.
(3) المصدر نفسه.(2/24)
المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا " (1) أو حين يقول: " وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم ولا اختلفت فيها النحل، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه ... " (2) تجد تواضعاً في الحكم وروحاً علمية أمينة. وكل ذلك ينفي نزعة التعصب، لأن التعصب معناه أن نبرز الحسنات ونخفي السيئات، وليس كذلك ابن حزم، فهو من ذلك الجيل من المفكرين الأندلسيين الذين قال فيهم الدكتور محمود مكي محقاً: " والمفارقة الصارخة التي تبدو عجيبة لأول وهلة هي أن هذا الجيل الذي أشرنا إلى مدى اعتداده بقوميته وبوطنه ... كان أكثر كتّاب الأندلس ومفكريها إلحاحاً على نقد شعبهم وحدةً في إظهار عيوبه ... " (3) .
وكان هذا التمجيد لتراث الأندلس في الماضي والحاضر لم يستطع أن يطمس أمام عيني ابن حزم انهيار الحاضر، لأن الوعاء السياسي - وهو الذي يستوعب جميع النشاطات الإنسانية الأخرى ويؤثر فيها - كان في نظره منهاراً، ولهذا لم يجوز أن يفهم الماضي على ضوء الحاضر، والشاهد على ذلك أن قوماً يقولون - مثلاً - إن يوسف الصديق كان في مقدوره أن يعرف أباه خبره لقرب المسافة، وهذا في رأي ابن حزم جهل ممن يقوله: لأن أباه يعقوب كان في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين وفي طاعة أخرى ودين آخر " كالذي بيننا اليوم وبين من يصاقبنا من النصارى كغاليس وغيرها أو كصحراء البربر ". وإنما كان هذا التعريف ممكناً لمن يرى " أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ولساناً واحداً وأمة واحدة والطريق سابل، والتجار ذاهبون وراجعون، والرفاق سائرة ومقبلة، والبرد ناهضة وراجعة " (4) . ومعنى ذلك كله أن التغيرات التي جدت بمرور الزمن لا تسمح بمثل هذا القياس، فالتباعد بين الماضي والحاضر في السيادة والوحدة الدينية واللغوية والوحدة الإقليمية وسهولة المواصلات واستتباب الأمن ونشاط العلاقات التجارية وتنظيم البريد يمنع من مثل ذلك. وكل هذه العوامل التي جدت تجعل الماضي مختلفاً عن الحاضر؛ لكن على ضوء الحاضر نفسه يمكن أن تفهم مسافة الخلف بينه وبين الماضي، فأما قياس التطابق
__________
(1) المصدر السابق، ف: 16، ص: 185.
(2) المصدر السابق، ف: 18، ص: 186.
(3) مقدمة المقتبس (ط. مصر) : 91.
(4) الفصل 4: 12.(2/25)
- من دون أخذ بمعالم التغير - فأمر يوقع صاحبه في الخطأ. ولعلنا لو توقفنا غند المعالم التي عدها ابن حزم لوجدناه يجمع فيها أهم مقومات الدولة.
غير أن الاستشهاد بالتاريخ على التاريخ قد يكون ممكناً بل ضرورياً إذا كان الواقع المدروس قد بلغ منزلة القانون الطبيعي أو أصبح علامة على طبيعة إنسانية راسخة لا يلحقها التفاوت ويندر فيها الشذوذ، أي أصبح شيئاً يشبه القاعدة العامة. فمن المشاهد في الحاضر والذي دلَّ عليه البحث التاريخي معاً أن الكثرة البالغة في الأطفال ظاهرة غير متوفرة إلا في النادر، وذلك للأسباب الآتية (1) :
1) - لصعوبة تنشئة الأطفال وتربيتهم.
2) - لوقوع حوادث الإسقاط بكثرة.
3) - لإبطاء الحمل وتطاول المدة بين بطن وآخر.
4) - لكثرة الموت في الأطفال.
وهذا بعينه يدلّ على أن الكثرة في الذكور لا يمكن أن تكون كثرة بالغة خارجة عن المعتاد لأن كثيراً من الولادات إناث، ومثل هذا الأمر يجعلنا نشك في الأخبار التي تنبئ بخلاف ذلك - كما هي الحال في الأعداد المذكورة في التوراة - أو نعدها شذوذاً خارجاً على القاعدة. والسبيل إلى إثبات غلبة هذه القاعدة أن نرصد ما حولنا، وأن نستقرئ الأخبار عن القضية التي نعالجها، فماذا نجد نجد أننا لو أردنا أن نعد من عاش له عشرون ولداً فصاعداً من الذكور وبلغوا الحلم لم نجدهم إلا في الندرة وفي القليل من الملوك وذوي اليسار المفرط الذين يستطيعون تزوج عدد من النساء والإماء والاعتماد على جهود الخدم والمربيات، فأما من لا يجد إلا الكفاف ولا يستطيع أن يتزوج إلا امرأة أو امرأتين فلا يكون له ذلك العدد من الأولاد.
هذا ما تدل عليه المشاهدة ومخالطة الناس. فأما البحث في تواريخ العرب والعجم وممالك النصارى والصقالبة والترك والهند والسودان فإنه يشير إلى ثلاث درجات:
(1) الحد الأعلى المعقول للكثرة: 14 ولداً، (2) الحد النادر جداً: عشرون فما فوق، (3) الحد الذي لا يقاس عليه جماعياً: 30 فما فوق؛ وهذا الأخير ينطبق على أفراد بأعيانهم منهم (2) :
__________
(1) الفصل 1: 175 وما بعدها.
(2) الفصل 1: 175 وما بعدها.(2/26)
1 - أنس بن مالك الأنصاري 100 ولد (1)
2 - خليفة بن أبي السعدي 100 (2)
3 - أبو بكرة 100 (3)
4 - عمر بن عبد الملك 60 ولداً
5 - جعفر بن سليمان بن علي 40
6 - عبد الرحمن بن الحكم بن هشام 30
7 - موسى بن إبراهيم بن موسى 31
8 - وصيف مولى المعتصم 55
9 - تامزوت مولى بني مناد 80 (4)
10 - رجل بربري من بني دمر (5)
11 - تميم بن زيد بن يزيد اليفرني 50
12 - أبو البهار بن زيري 30
13 - مرزوق بن أشكر الثغري 30
14 - أحد ملوك الهند 80
15 - جدعون بن يوآش اليهودي 70
16 - يائير بن جلعاد اليهودي 32
17 - عبدون بن هلال (هليل) اليهودي 40
18 - أفصان (أبصان) اليهودي (6) 30
19 - جودرز ملك كرمان 90
هذه الجريدة تضم أقل من عشرين مفرقين في أمم مختلفة وفي أزمنة مختلفة، ومثل ذلك لا يقاس عليه، ولهذا يحق لنا هنا أن نقيس الحاضر على الماضي أو العكس، ولا خطر من الوقوع في الخطأ لأننا بإزاء قاعدة تبلغ في شمولها حد الإجماع.
ومما يلفت النظر هنا اعتماد ابن حزم على الإحصاء، ويكاد هذا القانون الإحصائي أن ينتظم العدد الجم من رسائله التاريخية، حتى أكثر فصول السيرة بنيت على أساس
__________
(1) يدخل في هذا العدد بعض الحفدة - فيما يبدو -
(2) يدخل في هذا العدد بعض الحفدة - فيما يبدو -
(3) يدخل في هذا العدد بعض الحفدة - فيما يبدو -
(4) لهذا الرجل حالة خاصة. إذ كان يغتصب كل امرأة أعجبته من أمة أو حرة.
(5) عدَّ له ابن حزم مائتين من ولده وولد ولده.
(6) من رقم 15 حتى 18 صححت الأسماء بعرضها على العهد القديم.(2/27)
من هذا المنهج، وكذلك رسائل أخرى من مثل رسالته في القراءات وأسماء الصحابة الرواة وأصحاب الفتيا من الصحابة (1) . وإذا كانت هذه الرسائل تخدم الناحية التعليمية في الغاية إذ تقرب المادة وتوجزها، فهي من حيث المنهج تخضع للاتجاه العقلاني لدى ابن حزم الذي يستطيع أن يستخدم هذه الإحصاءات استخداماً رياضياً برهانياً في ما يعالجه من قضايا عند الحاجة إليها.
من ذلك مثلاً موقفه ممن قال إن المسلمين لم يبايعوا علياً بعد وفاة الرسول لأنه كان قد قتل عدداً من رجالات قريش، فانحرف الناس عنه، ويرد ابن حزم بأن هذا تمويه ضعيف لأن الإحصاء يفنده، فالذين قتلهم عليّ:
1 - رجل واحد من بني عامر بن لؤي هو عمرو بن ود.
2 - رجال من بني مخزوم وبني عبد الدار (لم يذكر ابن حزم عددهم) .
3 - اثنان من بني عبد شمس هما الوليد بن عتبة والعاص بن سهل بن العاص (وقد شارك في قتل ثالث) .
هذا كل ما هنالك، ولم يقتل من بني تميم (قبيلة أبي بكر) ولا من بني عدي (قبيلة عمر) أحداً، وهما قد استبعداه من الخلافة، ولم يقتل من الأنصار أحداً (فلم يسرعوا إلى بيعته إن كان النص قد جاء بها) ولم يقتل أحداً من ربيعة ومضر واليمن وقضاعة (فلم لم تبايعه هذه القبائل وبايعت أبا بكر) (2) ، وهكذا يحاول ابن حزم - على قاعدة إحصائية - أن يدفع قول من قال: إن القرشيين كانوا منحرفين عن عليّ لأنه قتل عدداً من رجالهم في حروبه مع النبي؛ ولست أقول أن هذا الجدال القائم على الإحصاءات دامغ لا ينقض، بل إن ابن حزم يعرف ذلك، فيورد حججاً أخرى تؤيد البرهان الإحصائي وتعضده، ولكنه قلما يستغني عن " لغة الأرقام " لأنها رصيد ضروري مسعف عند الحاجة إليه، وإذا كان ذلك الرصيد قد يبرز بعض العجائب والنوادر في مجرى التاريخ الإنساني، فذلك في ذاته لا يمثل إلا جانباً واحداً من فوائد الإحصاء بين جوانب أخرى متعددة.
وفي أسلوب ابن حزم خاصيتان تلقيان ظلالاً من الشكّ على دور المؤرخ لديه: إحداهما هي القطع والحسم البات بمثل " لا بد " و " لا شك " فهذه إذا لم يكن لها ما يسوغها تمس جانب الدقة في المؤرخ، والثانية هي الحدة في الخطاب وهي تمس جانب
__________
(1) انظرها ملحقة بجوامع السيرة: 269 - 335.
(2) الفصل 4: 99.(2/28)
الإنصاف في المؤرخ، وخاصة حين تتطابق لديه شخصية المؤرخ مع شخصية المتكلم الجدل. وكلتا الصفتين لا يمكن نفيها عنه أو الإقلال من تأثيرها في نفس من يدرس دور المؤرخ لديه، ولكن مزيداً من التعرف إلى شخصيته في إخلاصه وصدقه وصراحته واعتداده بذكائه واطلاعه يجعل قبول هاتين الخاصيتين أمراً ممكناً؛ فالحسم البات لا يكون إلا من ثقة لا يشوبها غرور كي يجد قبولاً، والحدة قد تكون ذات علاقة بوضع نفسي أو تعويضاً عن فقدان شيء ما (1) ، وحين تخرج إلى السب والتندر والدعاء على الخصم بالويل والثبور تتجاوز مرحلة القبول الموضعي، وإن تكن متصلة بطرائق المناظرة والجدال يومئذ. ترى لو لم يتطابق المؤرخ والمناظر في ابن حزم هل كانت هذه الحدة تجيء أقل سطوعاً أعتقد أن الجواب بالنفي، فهي حدة لم يستطع التخلي عنها من ساهم الدكتور محمود مكي " جيل الفتنة البربرية " من أمثال ابن حزم وابن حيان وابن شهيد، كما لم يستطيعوا أن يتخلوا عن السخرية؛ كانوا نتاج فترة " إحباط " نفسي، عبر عنه كل واحد مهم بطريقته، وإذا كان ابن حزم يصك معارضه برأيه صك الجندل (2) - فيما يقول ابن حيان - فليس ابن حيان فيما يصوره من شخصيات وأوضاع بأقل عنفاً - إن اختلف نوع العنف - وليس ابن شهيد صاحب التوابع والزوابع ورسائل أخرى بأقل سخرية منهما.
نظرة في الرسائل المدرجة في هذا الجزء
- 1 -
نقط العروس في تواريخ الخلفاء (3)
سمَّاها ابن حيان " نقط العروس في نوادر الأخبار " (4) وذلك عنوان أدلُّ على
__________
(1) انظر حديثاً عن حدة ابن حزم في الجزء الأول من الرسائل (1980) : 76.
(2) الذخيرة 1/1: 168.
(3) نقط (بفتح النون وسكين القاف) مصدر نَقَط، وعلى هذا يكون معى العنوان " تنقيط العروس " أي تحسينها بالنقط؛ وورد في الأغاني (17: 318) إنما شعر ذي الرمة نُقَطُ عروس تضمحل عما قليل وهذه الصيغة جمع نقطة؛ وانظر الميداني 2: 198 حيث كتبت " نَقْطُ " هنالك، وبهذه الصيغة وردت الترجمة (Naqt) واستشهد الجرجاني في الكتابات بما قيل في شعر ذي الرمة ثم قال: ونقط العروس إذا غسلته ذهب (كنايات: 117) .
(4) المقتبس 5: 37، 132.(2/29)
محتواها من العنوان الذي ورد على مخطوطة ميونخ. وفي نفح الطيب (نقط العروس في تواريخ الخلفاء) وقد فاد منها ابن حيان في المقتبس، ورواها الحميدي تلميذ ابن حزم، كا رواها أبو أسامة يعقوب ابن الفقيه أبي محمد وعنه أخذها البطروجي الحافظ (1) ، وعرفها ابن بسام صاحب الذخيرة (2) وذكره ابن سعيد في ارسالة التي ذيل بها على رسالة في فضل أهل الندلس لابن حزم (3) ، وكانت أحد مصادره في كتاب المغرب (4) كا ذكرها ابن خلكان بقوله: " وله كتاب صغير سماه نقط العروس مع كل غريبة نادرة وهو مفيد جداً "، وقد اعتمه ابن خلكان (5) ونقل عنه التجاني في تحفة العروس (6) ، وأدرج بعض نصوصها لسان الدين ابن اخطيب في كتابه أعمال الأعلام (7) ، والنويري في نهاية الأرب (8) ولا ندري إن كان احب مفاخر البربر (9) ينقل ها مباشرة.
وقد قام بشرها المستشرق زيبولد (Seybold) في مجلة مركز الدراسات التاريخية بغرناطة سنة 1911 وأعاد نشرها أستاذنا الدكتور شوقي ضيف بمجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة (العدد 13 سنة 1951) عن نسخة بايزيد عمومية وهي براوية الحميدي تلميذ ابن حزم وصاحبه، ولهذه المكانة التي يحتلها الحميدي فإن الثقة بروايته عالية، ولكن عند لمقارة الدقيقة بين النسختين يتبين لنا شدة التفاوت بينهما، فرواية نسخة ميونخ تحتفظ بزيادات لا وجود لها في نسخة الحميدي، وهذه الثانية كذلك، ولهذا كان لا بد ن المزاوجة بينهما لإخراج رواية كاملة، وقد اتخذت نسخة ميونخ (ورمزها: م) أصلاً لأنها تحفل بزيادات كثيرة، ووضعت زيادات نسخة بايزيد (ورمزها: ب) بين معقفين، وقد تسرب الاختلاف بين النسختين لا إلى زيادة هنا ونقص هناك وحسب بل إلى طبيعة العبارة نفسها، وهذا الاختلاف يتمثل أيضاً في النقول التي وردت من نقط العروس في المصادر التي تم ذكرها فآنفاً، وقد يعزى ذلك
__________
(1) معجم أصحاب الصدفي: 29.
(2) انظر الذخيرة 1/1: 433.
(3) نفح الطيب 3: 182.
(4) المغرب 1: 45.
(5) ابن خلكان 3: 326؛ 5: 22.
(6) تحفة العروس: 73، 192.
(7) أعمال الأعلام: 14، 26، 63، 132، 142.
(8) نهية الأرب 22: 93.
(9) مفاخر البربر: 48.(2/30)
في بعض الأحيان إلى تصرف النقلة، ولكنه قد يشير من ناحية أخرى إلى أن المؤلف كتب غير نسخة واحدة معدلة على الأصل الأول، وهذا التعليل قد يفسر التفاوت الكثير بين النسختين المذكورتين أيضاً.
وقد ترجمت هذه الرسالة إلى الإسبانية عن نشرة زيبولد وقام بذلك الأستاذ لويس سيكو دي لوثينا (Luis Seco de Lucena) سنة 1941 في مجلة جامعة غرناطة (ثم جمعت في كتاب ونشرت مع النص العربي الذي حققه زيبولد في بلنسية 1974) . ولما اطلع دي لوثينا على نشرة الدكتور شوقي ضيف، كتب مقالاً بملة الأندلس (العدد 19 سنة 1964 ص 23 - 38) درس فيه نصاً عن غالب القائد (هو الفقرة: 76 من هذه الطبعة) وقارنه بنص عن غالب نفسه ورد في أعمال الأعلام، وهذا النص لم يرد في نسخة ميونخ. ويبدو أن سعد الدين بن شنب لم يطلع على ما كتبه دي لوثينا إذ عاد إلى الموضوع نفسه في مقال له بعنوان:
Ibk el - Khatib a - t - il emprunte au Naqt al - " Arus d " ibn. Hazm la relation de la mort de Ghalib al - Nassiri (RHCM4 (1968) pp.17 - 19)
وقد كتب أبو عب الرحمن بن عقيل الظاهري مقالاً عن هذه الرسالة بعنوان " التعريف بنقط العروس " نشر بمجلة الدعوة السعودية، العدد: 491.
وهي رسالة في النوادر والغرائب، والعنواين فيها تدل على المنحى العام فيها مثل: أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها، فضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها، من غرائب المناكح، من غرائب الدهر، من غرائب الأخبار ... الخ؛ ويبدو فيها اهتمام ابن حزم بالألقاب، فقد افتتح الرسالة بهذا الموضوع ثم عاد إليه في الفقرة 84، 85، 86، حتى أنه اقترح ألقاباً صالحة للاستعمال، ومثل هذا الاهتمام لا يتطابق وعدم إيمانه بجدوى الألقاب، فهو يقول في التعليق على كثرة الألقاب وقلة غناء الملقبين، وتدني الحال إلى أن انتحل السماسرة واللصوص والأنذال ورذالات الناس الألقاب لأنفسهم " ولقد كانت دولة عبد الملك وبنيه الوليد ويزيد وهشام وعمر بن عبد العزيز لا عضد لها ولا عماد، ولا قب إلا أسماؤهم وأسماء آبائهم فقط، وقد طبقت الدنيا خساسة وضعفاً ومهانة " (1) .
ولا يخفي ابن حزم أنه كان معجباً بالأمير محمود بن سبكتكين إلى أن تلقب
__________
(1) نقط العروس، الفقرة: 86، ص: 102.(2/31)
بلقب " يمين الدولة " فسقط عنده إلى غير ما كان يقدره فيه (1) ؛ ولا تفسير لاهتمامه بموضوع الألقاب إلا أنه داخل في جملة النوادر، وإنه لا يستطيع جحد التاريخ بإغفال هذا الجانب فيه، وإن كان لا يقر الألقاب، ولا يحترمها.
وبسبب التفاوت القائم بين نسختي " نقط العروس " لا نستطيع أن نحكم على الترتيب النهائي الذي اختاره ابن حزم لرسالته، ولكنها في حالها الراهنة تعد من أكثر رسائله بعداً عن منهج مرسوم، وذلك أمر يستغرب منه، إلا أن يكون العذر هو أنها خطرات مرت بذاكرته فدونها كما خطرت، ومع ذلك فنحن نلمح فيها موضوعات محددة، فبعد ذكر الألقاب يتعرض ابن حزم لخلافة وشؤونها وما يتصل بها من ولاية عهد (ف 2 - 19) ثم يتحدث عن الخلفاء وأحوالهم فيعد من كان منهم طاغية أو أحمق أو حزماً أو كثير الفتوح أو مهراً بشرب الخمر أو عالماً أو عدلاً أو مسرفاً أو أديباً ... الخ والعلاقة بين الخليفة وأقربائه من أبناء وأخوة وأعمام. ويستغرق هذا الموضوع عدة فقرات في رسالته، ولكنه لا يرى بأساً في أن يدرج هنا وهناك فقراً لا علاقة لها بالموضوع الرئيسي. ثم يعود إلى الخلفاء وأوالهم في الفقرات 89 - 91، 105. وخارج نطاق الخلفاء والخلافة تدث ابن زم عن شؤون مثل: غرائب المناكح، من تزوج من الكبراء والعلية منكحاً ساقطاً، من تزوج من غمار الناس في الخلفاء؛ وغير ذلك من موضوعات، وقد خصص الفقرة (104) للحديث عن أمور تتعلق بالرسول (ص) ، وبكل ذلك تجاوز الحديث ع الخلفاء إلى موضوعات أخرى، ولهذا أشرت إلى أن تسميتها " نقط العروس في تواريخ الخلفاء " غير دقيقة وأدق منها أنها في النوادر، كما قال ابن حيان. ولا ريب في أنها رسالة متعددة الفوائد، تنبه إلى بعض المفارقات في أخبار الناس وأحوالهم، مثيرة بجمع الأشباه والنظائر، وتقديم المعلومات لمفاجئة، وكثير من أجزائها إنما يقوم على الإحصاء، وهي تدلُّ على " ذهنية " نفاذة إلى أمور قد يمر به الآخرون دون توقف عندها.
وقد كتبت الرسالة في سنة 432 - فيما أقدر - إذ يذكر فيها (ف: 68) محمد بن عيسى بن مزين صاحب شلب [الآن] وهذا توفي في العام المذكور، كما يذكر مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وقتله لعمه محمد (ف: 72) وكان ذلك في شعبان من ذلك العام (2) ؛ ولم يكر في الألقاب المضافة إلى الدولة لقب يمن الدولة أحمد بن
__________
(1) نقط العروس: الفقرة 86، ص: 101.
(2) تاريخ ابن الأثير 9: 488.(2/32)
محمد صاحب البونت، مع أنه نزل عنده وحظي برعايته وقد ظل يمن الدولة حاكماً حتى 434 ولكن ابن حزم في الرسالة التي كتبها له في فضل الأندلس لا يورد له لقباً؛ غير أني لا أقطع بأن تكون الرسالة قد وضعت في صورتها النهائية في ذلك التاريخ نفسه، إذ لو كان الأمر كذلك لما وجدنا في النسختين كل ذلك الاختلاف (1) .
- 2 -
رسالة في أمهات الخلفاء
تقع هه الرسالة في نسخة بايزيد عمومية تالية للرسالة السابقة " نقط العروس " وقد قام بنشرها الدكتور صلاح الدين المنجد بمجلة المجمع العلمي العربي (1959) المجلد: 34، الجزء الثاني، ونصّ الرسالة يشغل الصفحات: 294 - 299.
وهذه الرسالة تصلح أن تكون فقرة في " نقط العروس "، ولم يضف استقلالها على شكل رسالة شيئاً إذ إن ابن حزم ذكر أسماء أمهات الخلفاء في المشرق في رسالته " أسماء الخلفاء " (رقم: 4 بين هذه المجموعة) كما ذكر أسماء أمهات الأمراء والخلفاء الأموييين بالأندلس في رسالته " ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس " التي جعلتها ملحقة برسائله.
- 3 -
جمل فتوح الإسلام
هي موجز في الموضوع الذي تناولته مؤلفات مثل فتوح البلدان لبلاذري، وفتوح الشام لكل من الواقدي والأزدي وغيرها، ولابن حزم فيها بعض تعليقات هامة، ولم أجد أحداً اعتمد عليها أو اقتبس منها، وكانت نشرت مع " جوامع السيرة ".
- 4 -
أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم (2)
هه الرسالة تقتصر على ذكر الخلفاء من بني أمية بالمشرق وبني العباس، وذكر " الولاة " في العنوان لا يدل على أن ابن حزم يذكر فيها العمال وإنما هم الخلفاء أنفسهم. ويحرص ابن حزم أن يذكر عند كل خليفة تاريخ استخلافه وتاريخ وفاته وتحديد مدته بالسنوات والأشهر والأيام وعمره واسم أمه، وأهم الأحداث في زمنه، وقد
__________
(1) في الفقرة 14 ما يوحي بأن بعض التعديلات عليها أجريت سنة 452.
(2) نشرت ملحقة بكتاب لوامع السيرة.(2/33)
كتب هذه الرسالة بعد سنة 422 (أي بعد أن تولى القائم باله العباسي) ؛ وفي صورة ثانية من هذه الرسالة (رقم 4ب) ما يدل على أن كتابتها قد تمت بعد سنوات من ولاية القائم إذ قد زاد في الصورة الثانية قوله: " وهو مغلوب عليه لا يظهر ولا ينفذ له أمر " ولعلَّ في ذلك إشارة إلى ما حدث سنة 426 وما بعدها، فقد ذر ابن الأثير في أحداث تلك السنة أن أمر الخلافة انحل ببغداد، وكثر ظهور العيارين وانتشار الأعراب في النواحي وقطع الطرق (1) أو لعل الإشارة إلى فتنة البساسيري (446) .
وعد هه الرسالة واحدة في سلسلة من الكتب التي ألفت في أخبار الخلفاء مع ترسم متعمد في الإيجاز مثل:
1 - تاريخ الخلفاء لأبي عبد الله محمد بن يزيد (وفيه زيادات لأبي بكر السدوسي وأبي بكر الشافعي وابن شاذان) .
2 - بلغة الظرفاء في ذكرى تواريخ الخلفاء لروحي.
3 - الأنباء في تاريخ الخلفاء لمحمد بن علي المعروف بابن العمراني.
4 - مختصر التاريخ لابن الكازروني.
5 - خلاصة الذهب المسبوك للاربلي.
وتتفاوت هذه الكتب في مدى الإيجاز وفي ما تحرص على إثباته من وقائع وأخبار، وأقربها إلى رسالة ابن حزم تاريخ محمد بن يزيد (ابن ماجه) ولا يستبعد أن يكون ابن حزم قد اطلع على هذه الرسالة، فإن ابن ماجه يحرص فيها على أن يذكر تاريخ تولي الخليفة وتاريخ مقتله ومدة حكمه بالسنة والشهر واليوم وعمره واسم أمه وكنيته ويضيف أحياناً اسم من صلى عليه؛ فالأمور التي يدونها تشبه إلى حد كبير ما دونه ابن حزم في رسالته. وتدل المقارنة بين هذه الكتب على وجود خلاف بينها في مدة الحكم وفي شؤون أخرى.
وقد اطلع ابن الوزير صاحب الروض الباسم على رسالة ابن حزم هذه وسماها " أسماء الخلفاء " ونقل عنها بعض مساوئ مروان ابن الحكم (2) كما اطلع على السيرة لابن حزم (3) .
أما الصورة الثانية من هذه الرسالة فقد قام بتحقيقها ونشرها الأستاذان أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وعبد الحليم عويس (4) وقارناها بالصورة التي ألحقت
__________
(1) تاريخ ابن الأثير 9: 440 - 441.
(2) انظر لروض الاسم 1: 138.
(3) الروض الباسم: 61.
(4) خلاصة في أصول الإسلام وتاريخه (رسالتان جديدتان لابن حزم) الرياض 1977.(2/34)
بجوامع السيرة ووضعا ما لم يرد في الرسالة الاولى بين قوسين. ولكن الاختلاف في العبارات التي تتصل أحياناً بموضوع واحد حداني إلى نشر هذه الرسالة كما هي، بدلاً من مقارنة الرسالة السابقة بها، فهي تبدو وكأنها تأليف مستأنف، وهي جزء من رسالة تامة عنوانها " جمل من التاريخ " وقد حذفت منها ما كان متعلقاً بسيرة الرسول (ص) إذ يمكن مقارنة ما فيه بجوامع السيرة عند نشر هذا الكتاب محققاً على نسخ جديدة.
وإليك نموذجاً يبين الفرق بين الرسالتين:
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
1 - استخلف أبو بكر رضوان الله عليه وبركاته ...
1 - وتولى أمور المسلمين خليفته أبو بكر الصديق
2 - وسمي خليفة رسول الله
2 -.........
3 - وكانت مدته..............
3 - فولي الخلافة سنتين.....
4 - وتوفي في ثمان خلون من جمادى لآخرة
4 -.......
5 - وله ثلاث وستون سنة
5 - وله ثلاث وستون سنة
6 - وأمه سلمى تكنى بأم الخير......
6 - وأمه سلمى هي أم الخير........
7 - وهي مسلمة
7 - وكان أبوه وأمه مسلمين
8 - وفي أيامه كانت وقعة اليمامة ووقعة بصرى ووقعة أجنادين ووقعة مرج الصفر
8 - وهو الذي حارب أهل الردة وقتل مسيلمة وأعد الجيوش إلى الشام لقتال الروم وإلى العراق لقتال الفرس
9 -.........
9 - وقبره مع قبر رسول الله..... الخ
ومن هذه المقارنة يبدو مدى التفاوت بين الصورتين في الأسلوب وفي الأخبار.
- 5 -
رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها
هكذا أسماها ابن خير في فهرسته (1) ، كما سميت أحياناً " بيان فضل الأندلس وذكر علمائه "، ولم أعثر على أصل مخطوط لها، وإنما أوردها المقري في نفح الطيب (2) ، وذكر أن الحسن بن محمد التميمي القيرواني المعروف بابن الربيب (3)
__________
(1) فهرسة ابن خير: 226.
(2) نفح الطيب 3: 158 - 179.
(3) ترجم له العمري في المسالك 1: 319 نقلاً عن الأنموذج لابن رشيق وسماه " الحسين " وقال إن أصله من تاهرت وكان عارفاً بالأدب وعلم النسب، قوي الكلام يتكلفه بعض تكلف.(2/35)
كتب إلى أبي المغيرة ابن حزمن حزم (ابن عم الفقيه) رسالة (1) يذكر فيها تقصير أهل الأندلس في تخليد أخبار علمائهم ومآثر فضلائهم وسير ملوكهم ويقول فيها: " فإن قلت إنه كان ذلك من علمائكم وألفوا كتباً لكنها لم تصل إلينا فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لأنه ليس بيننا وبينكم إلا روحة راكب أو دلجة قارب، لو نفث ببلدكم مصدور، لأسمع ببلدنا في القبور، فضلاً عمن في الدور والقصور، وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان ابن عبد ربه منكم الذي سماه ب " العقد "، على أنه يلحقه فيه بعض اللوم إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه.... ".
وقد أورد ابن بسام فصولاً من ردّ أبي المغيرة على القروي (2) قال في بعضها: " وأنا أعلم أن عندكم لنا تواليف تطيرون بها " ويقول ابن بسام إن أبا المغيرة خرج إلى التطويل، وختم رسالته بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس " (3) .
واطلع ابن حزم أبو محمد على رسالة ابن الربيب بعد وفاة صاحبها فكتب رسالته هذه في الرد عليها، والأرجح أن رسالة ابن الربيب حفزته إلى أن يضع رسالة مطولة في تاريخ الفكر الأندلسي فجاءت هذه الرسالة. ويذكر ابن الأبار (4) أن ابن حزم صنع هذه الرسالة لمحمد بن عبد الله بن أحمد الفهري، يمن الدولة، صاحب البونت (من أعمال بلنسية) وأطال الثناء عليه وعلى سلفه في الرسالة، وهذا واضح في الفقرة الثانية منها. ولا تعارض بين ما قاله ابن الأبار وقول الحميدي (5) إنه خاطب بها صديقه أبا بكر ابن إسحاق، فالسالة قد أدت الأمرين معاً، وفي مطلعها: " أما بعد يا أخي يا أبا بكر ... "، وإنما وجهها إلى أبي بكر لأنه وجد في أحد أدراج مكتبته رسالة القروي موجهة إلى رجل أندلسي لم يعين باسمه، والخلاف بين ما يقوله ابن بسام (ثم المقري) وما يقوله ابن حزم أبو محمد واضح. ترى هل كان أبو محمد يجهل حقاً الشخص الذي أرسلت إليه الرسالة ذلك ما لا ريب فيه، فلو عرفه لم يكن له غرض في إخفاء اسمه، ولا حاجة به إلى مجانبة الصد أو إلى استعمال التقية، وتفسير هذا الخلاف أن أبا بكر محمد بن إسحاق كان يملك نسخة من رسالة القروي لم يذكر فيها عنوان الشخص الذي إليه أرسلت.
__________
(1) أوردها المقري في النفح 3: 156 - 158 وابن بسام 1/1: 133.
(2) الذخيرة 1/1: 136.
(3) المصدر نفسه: 139.
(4) التكملة: 388.
(5) الجذوة: 42.(2/36)
ولما كانت الرسالة قد ألفت باسم يم الدولة صاحب البونت فلا بد من أن تكون قد كتبت في الفترة الواقعة بين 421 434 وهي الفترة التي تولى فيها يمن الدولة الحكم (1) ، وابن حزم لا يذكر له لقباً في رسالته، ولو كنا نعلم في أي عام انتحل ابن قاسم ذلك اللقب لكان تحديد تاريخ تلك الرسالة أدق.
وقد نثر الحميدي معظم فقرات هذه الرسالة في جذوة المقتبس موزعة على التراجم، ولذا يعد نصّ الجذوة هاماً لمقارنته بالصورة التي أوردها المقري؛ وكنت استخرجت هذه الرسالة من نفح الطيب ونشرتها في كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة " (الطبعة الأولى 1960) ص 292 313، ثم نشرها الدكتور صلاح الدين المنجد مع رسالة الشقندي (وهي أيضاً في نفح الطيب) تحت عنوان: فضائل أهل الأندلس وأهلها (بيروت 1968) وللأستاذ جعفر ماجد بحث حولها نشره في حوليات الجامعة التونسية عدد 13 (1976) بعنوان " رسالة ابن الربيب ورد ابن حزم ".
وبعد أن يذكر ابن حزم السبب الذي حداه إلى كتابة الرسالة والثناء على من كتبت باسمه يتحدث عن فضائل الأندلس ويربطها بحديث أم حرام بنت ملحان (وفيه بشر الرسول بأن المجاهدين في البحر كالملوك على الأسرة) ويبين أن قرطبة تقع بحسب قسمة الأقاليم مع سُرَّ من رأى ولذلك فإن حظ أهلها من الذكاء غير قليل بحسب التقديرات الفلكية. وإذا عاب عائب الأندلس أو قرطبة بقلة التآليف فإن ذلك لو صح لكان منطبقاً على القيروان نفسها لأنه لم يؤلف فيها وفي بعض المدن الأفريقية الأخرى إلا محمد بن يوسف الوراق وو أندلسي لأنه هاجر إل الأندلس وإن نشأ بالقيروان. وهنا يستطرد ابن حزم ليحدد مدلول لفظة " أندلسي " وعلى من تطلق؛ فيرى أن الأندلسي، سوى المقيم الذي يموت في بلده، هو كل شخص هاجر إلى الأندلس وأقام فيها ومات هنالك، مل أبي علي القالي، فأما الأندلسي الذي غادر بلده ول يعد إليه وتوفي في بلاد غريبة فإنه لا يعد أندلسياً مثل محمد بن هانئ.
ثم يعود ليعرض للكتب التي خلدت مآثر البلدان العريقة كبغداد والبصرة والكوفة فلا يجد منها إلا القليل. فأما البلدان الأخرى مثل الجبال وخراسان وكرمان والسند والري ... الخ فيصرح ابن حزم بأنه لم ير فيها تآليف تخلد ذكر ملوكها وعلمائها وشعرائها، ولو وجد شيء من ذلك لوصل إلى الأندلس كما وصلت كتب من
__________
(1) أعمال الأعلام: 208.(2/37)
مؤلفات المشارقة وأهل المغرب.
ويقف ابن حزم وقفة غير قصيرة نسبياً من تنكر الأندلسيين للعالم المرموق فيهم، وكأنه يقدم لنا هنا حديثاً ذاتياً عن المرء إذا تميز على نظرائه أو خالفهم في طريقتهم المعهودة، وكلا الأمرين يمثله ابن حزم.
وبعد ذلك يتولى الردّ العملي القائم على الإحصاء والتقييم فيتناول مؤلفات الأندلسيين التي تستحق أن تذكر وتكون موضع اعتزاز في العلوم المختلفة بحسب الترتيب التالي:
علوم الشريعة (الفقه والتفسير والدراسات القرآنية جملة والحديث) - اللغة - الشعر - الأخبار (التاريخ) - الطب - الفلسفة - العدد والهندسة - سبعة علوم، لا يؤلف عالم عاقل إلا في أحدها (1) . ويختم رسالته بتوضيح السبب الذي جعل الاتجاه إلى علم الكلام بالأندلس ضعيفاً ويشير إلى بعض جهوده في نطاق المذهب الظاهري، ثم يميز ذكر بعض الشعراء والبلغاء الأندلسيين مقارناً بينهم وبين نظرائهم من المشارقة.
هذه صورة موجزة لبنية الرسالة، وقد كتب ابن سعيد تذييلاً عليها (2) ، واستدرك بعض الكتب التي لم يذكرها ابن حزم لمعاصريه، مثل كتب مكي بن أبي طالب، وهو ممن له مناظرات مع ابن حزم، ولعل ذلك يعود إلى أن تلك الكتب لم تكن في نظر ابن حزم قيمة أو أنها كتبت بعد تاريخ الرسالة، وكذلك ذكر كتاب المتين لابن حيان وكتباً أخرى لابن عبد البر وكتاباً لابن الفرضي في أخبار الشعراء وتاريخ الغزال نظماً، وهذا يدل على أن رسالة ابن حزم أغفلت كتباً كثيرة، ولم يكتب لها الاستيفاء المرجو، وربما كان السبب في ذلك تمييز مؤلفها عمداً بين كتب جديرة بالذكر وأخرى غير جديرة بذلك، وأنها كتبت في تاريخ مبكر من حياة ابن حزم ولم يعد النظر فيها ليضيف إليها ما جدَّ بعد تأليفها.
الرموز في نقط العروس
ب نسخة بايزيد عمومية من نقط العروس.
م نسخة ميونخ من نقطة العروس.
ع: العهد القديم.
__________
(1) قارن بما قاله في رسالة مراتب العلوم من قبل، انظر ص: 8 فيما تقدم.
(2) النفح 3: 179.(2/38)
[] : زيادة من النسخة ب.
() : زيادات توضيحية من المؤلف ابن حزم.
: زيادات من وضع المحقق (في العنوانات خاصة) .(2/39)
فراغ(2/40)
فراغ(2/41)
فراغ(2/42)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي:
- 1 -
أول الأسماء التي وقعت على الخلفاء رضي الله عنهم:
1 -
الصديق: سمّي به أبو بكر رضي الله عنه.
الفاروق: عمر بن الخطاب.
ذو النورين: عثمان بن عفان.
2 -
ثم لم يتسمَّ ولا سمي أحد من الخلفاء بشيء لازم له، حتى ولي بنو العباس رضي الله عنه، ونن الآن ذاكرون أسماءهم على نسق، ونذكر الأسماء التي اشترك فيها اثنان [....] أسماء الخلفاء، وإن كان الأمر قد رذل الآن غاية الرذالة في المشرق والمغرب، والله المستعان، فيتسمى بأسماء الخلفاء من ليس منهم.
السفاح: أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أول خلفاء بني العباس (1) .
المنصور: أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، أخو السفاح، وهو أول من تسمى بهذا الاسم.
وتسمى به بعده أبو طاهر إسماعيل بن أبي القاسم صاحب افريقية (2) .
__________
(1) أطلق لقب السفاح على عبد الله بن علي لتنكيله بالأمويين، وفي نقش مثبت بمئذنة جامع صنعاء يلقب عبد الله أول خلفاء بني العباس بلقب " المهدي "، انظر بحثاً للدكتور عبد العزيز الدوري بعنوان " الفكرة المهدية بين الدعوة العباسية والعصر العباسي الأول " في كتاب " دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى إحسان عباس.... " (تحرير د. وداد القاضي، الجامعة الأمريكية في بيروت، 1980) : 124 وما بعدها.
(2) ثالث خلفاء العبديين بأفريقية، توفي سنة 341.(2/43)
ثم محمد بن أبي عامر المعافري بالأندلس.
زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي صاحب غرناطة بالأندلس.
وسابور وعبد الله بن مسلمة المعروف بالأفطس صاحبا بطليوس بالأندلس.
وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر صاحب بلنسية بالأندلس.
ومنذ بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بالأندلس. وابن ابنه منذر بن يحيى بن منذر بن يحيى.
أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور.
وكا تسمى به قبله محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قام على أبي جعفر المنصور [بالمدينة] فل يتم له أمر.
وكات الشيعة تسمي بهذا الاسم قبل هذا كله محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعروف بابن الحنفية.
ثم رجل من بني علي قام باليمن.
ثم عبيد الله [الشيعي بالقيروان] بأفريقية، [أول قائم بالقيروان منهم] .
ث محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر بالأندلس.
ثم عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن الأصبغ بن الحكم الربضي(2/44)
[المعروف بابن المسن أخو الفقيه] (1) بمليلة من بلاد البربر.
ثم محمد بن إدريس بن علي ب حمود الحسني صاحب مالقة بالأندلس (2) .
الهادي: أبو محمد وسى بن المهدي بن أبي جعفر المنصور.
ثم تسمى به رجل حسنيٌّ قام بصعدة من بلاد اليمن (3) .
الرشيد: أبو جعفر هارون بن المهدي بن أبي جعفر المنصور.
ثم تسمى به هشام بن سليمان بن الناصر حين قيامه (4) ، يأتي قيامه.
الأمين: أبو عبد الله محمد بن الرشيد.
ثم سمي به صالح (5) صاحب (6) أمير المؤمنين المعتضد [ومولى والده] .
المأمون: أبو العباس عبد الله بن الرشيد بن المهدي.
ثم تسمى به عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر (7) .
ثم القاسم بن حمود الحسني (8) .
ثم يحيى بن إسماعيل بن ذي النون (9) .
المعتصم (10) : أبو إسحاق محمد بن الرشيد.
__________
(1) الفقيه المشار إليه هو عبد الملك بن أحمد بن محمد أبو مروان (- 436) ، وفي الصلة: 342 أنه يعرف بابن المش؛ وانظر الجمهرة: 97 يث ذره ابن زم ولم يذكر أخاه، وإ ذكر عبد العزيز بن هشام بن أمد وقال انه ظهر في بعض نواحي البربر ثم اضحل أمره.
(2) انظر جذوة المتبس: 30.
(3) هو المعروف بالهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، وقد نشرت سيرته بتحقيق الدكتور سهيل زكار (بيروت 1972) .
(4) البيان المغرب 3: 51.
(5) لعل الصواب: صاعد؛ إذ لم أجد م اسمه صالح إلا أن يكون صالح بن صاعد بن مخلد.
(6) ب: ابن حاجب.
(7) هو المعروف بعبد الرحمن شنجول الذي أدت تصرفاته إلى الفتنة الكبرى في الأندلس، انظر البيان المغرب 3: 38.
(8) المصدر السابق: 124.
(9) أعمال الأعلام: 177.
(10) لم يذكر ابن حزم بين من تلقبوا بالمعتصم محمد بن معن بن صمادح التجيبي الذي خلف أباه سنة 443 ومحمد ابن سعيد بن هارون صاحب أكشونبة (البيان المغرب 3: 168، 215/ والحلة 2: 18) .(2/45)
ثم تسمى به محمد بن عبد الملك بن محمد بن أبي عامر (1) .
ثم محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر (2) .
الواثق (3) : أبو جعفر هارون بن المعتصم بن الرشيد.
المتوكل: أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد.
المنتصر: أبو جعفر محمد بن المتوكل بن المعتصم.
المستعين: أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم بن الرشيد.
ثم سليمان بن الحكم.
ثم سليمان بن الناصر.
ثم تسمى به سليمان بن هود الجذامي صاحب سرقسطة (4) .
المعتز: أبو عبد الله محمد بن المتوكل.
ثم تسمى به [من غير الخلفاء] عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر صاحب شاطبة.
المهتدي: أبو عبد الله محمد بن الواثق رحمة الله عليه.
المعتمد: أبو العباس أحمد بن المتوكل.
المعتضد: أبو العباس بن أبي أحمد الموفق بن المتوكل.
ثم تسمى به بمن غير الخلفاء] عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي صاحب إشبيلية وغرب الأندلس.
المكتفي: أبو محمد علي بن المعتضد بن أبي أحمد بن المتوكل.
المقتدر (5) : أبو الفضل جعفر بن المعتضد.
__________
(1) قارن هذا بقوله في الجمهرة: 419 لا عقب لعبد الملك المتسمي بالمظفر؛ وقوله: أما عبد الله الذي قتله أبوه فتخلف ابناً اسمه محمد فمات وتخلف ابناً اسمه عبد الملك ... وما أراه عقب؛ وقد ذكر لسان الدين محمداً المعتصم وجعله ابن عبد الملك المظفر (أعمال الأعلام: 193) .
(2) يقول ابن حزم في الجمهرة: 419 أن محمداً هذا توفي في حياة أبيه.
(3) تلقب محمد بن معن بن صمادح بلقب " الواثق بفضل الله " إلى جانب تلقبه بلقب " المعتصم ".
(4) توفي سليمان بن هود سنة 438.
(5) تلقب به أيضاً أحمد بن سليمان بن هود بعد وفاة أبيه (438) . انظر أعمال الأعلام: 181.(2/46)
القاهر: أبو منصور محمد بن المعتضد.
الراضي: أبو العباس محمد بن المقتدر.
المتقي: أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر.
المستكفي: أبو القاسم عبد الله بن المكتفي.
ثم أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر المرواني - وكانا رذلي قومهما، ومن العجب (1) اتفاقهما في الأخلاق الرذلة، وفي غلبة من لا خير فيه من النساء عليهما، وفي كمية العمر: كلاهما عاش اثنتين وخمسين سنة، وفي مدة ولايتهما: فإن كل واحد منهما ملك سنة واحدة وخمسة أشهر، وفي أن كل واحد منهما متغلب عليه، وفي أن كل واحد منهما خلع، وفي أن كل واحد منهما تركه أبوه صغيراً.
المطيع: أبو القاسم الفضل بن المقتدر.
الطائع: أبو بكر عبد الكريم بن المطيع.
القادر: أبو [العباس] أحمد بن إسحاق بن المقتدر.
القائم بأمر الله: أبو جعفر عبد الله بن القادر، وهو الخليفة اليوم (422 - 467) وقد تسمى بهذا الاسم قبله جعفر بن أبي جعفر المنصور فلم يتمَّ له أمر ثم أبو القاسم صاحب افريقية (2) .
ومنهم وإن كان لا يذكر مع الخلفاء المبارك أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي بن المنصور.
3 -
وأما الخلفاء بعد عثمان رضي الله عنه إلى أبي العباس السفاح فالصحيح الذي لا شك
__________
(1) مثل هذه المقارنة بين المستكفي العباسي والمستكفي الأندلسي أورده ابن حيان، انظر المغرب 1: 54 - 55 والذخيرة 1/1: 433 والنص في الذخيرة منقول عن نقط العروس وقد جاء فيه: ومن العجب اتفاقهما في الأخلاق والعمر واللقب، وأن كل واحد منهما خلع عن الأمر، وكل واحد منهما تركه أبوه صغيراً، وهذا يظهر أن ابن بسام ينقل بإيجاز وتصرف.
(2) هو أبو القاسم محمد بن المهدي العبيدي (322 - 334) .(2/47)
فيه أنه لم يقع على أحد منهم لقب معروف، إلا أن بعض الرواة ذكر أنهم كانت لهم ألقاب، ونحن نذكرها، وإن لم تصح عندنا، فيُطَّلعَ على الألقاب لا غير وبالله نستعين:
معاوية بن أبي سفيان: الناصر لحق الله.
يزيد بن معاوية: المستنصر (1) على أهل الزيغ.
معاوية بن يزيد: الراجع إلى الله.
مروان بن الحكم: المؤتمر بالله.
عبد الملك بن مروان: الموثق لأمر الله.
الوليد بن عبد الملك: النتقم لله.
سليمان بن عبد الملك: المهدي بالله والداعي لأمر الله.
عمر بن عبد العزيز بن مروان: المعصوم بالله.
يزيد بن عبد الملك: القادر بصنع الله.
هشام بن عبد الملك: المنصور.
الوليد بن يزيد بن عبد الملك: المكتفي بالله.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك: الشاكر لأنعم الله:
إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك: المتعزز بالله.
مروان بن محمد بن مروان
آخر خلفاء بني أمية بالمشرق: القائم بحق الله.
4 -:
وأما بنو أمية بالأندلس فإنهم لم يتلقبوا، إلا هشام بن عبد الرحمن الداخل، فإنه كان يقال له هشام الرضى، ولم يتسموا بإمرة المؤمنين إلى أن كان عبد الرحمن بن محمد، إلا أنني رأيت شعراً لأبي المخشي عاصم بن زيد التميمي (2) يخاطب فيه
__________
(1) ب: المنتصر.
(2) كان أبوه من الداخلة إلى الأندلس مع جند دمشق، فنزل بقرية شوش، ونشأ ابنه عاصم على قول الشعر، مدح سليمان بن عبد الرحمن الداخل وعرض بأخيه هشام فقطع هشام لسانه، فغضب عبد الرحمن من فعلته وعنفه وأحسن إلى أبي المخشي، ومات أبو المخشي أيام حكم الحكم الربضي (180 - 206) انظر المغرب 2: 123 - 124 والجذوة: 377 (تحت كنيته) ونقل ما قاله ابن حزم فيه، وزعم ابن شهيد في حانوت عطار أن أبا المخشي أعرابي النشأة وأنه تردد غريباً طارئاً، وكانت ابنته حسانة شاعرة أيضاً، انظر نفح الطيب 4: 167 والحاشية.(2/48)
عبد الرحمن بن معاوية بإمرة المؤمنين:
فأولهم أبو المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم.
ثم ابنه أبو الوليد هشام الرضى.
ثم أبو العاصي الحكم الربضي بن هشام، عرف بالربضي لقتله أهل الربض.
ثم ابنه عبد الرحمن بن الحكم أبو المطرف.
ثم ابنه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن.
ثم ابنه أبو محمد المنذر بن محمد.
ثم أخوه أبو محمد عبد الله بن محمد.
ثم ابن ابنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، وتسمى بالناصر لدين الله، وبأمي رالمؤمنين، ويسمى القائم لله أيضاً، إلا أنه لم يستمر على هذه التسمية، وهكذا أنفذ كتابه إلى قسطنطين ملك الروم باللقبين جميعاً [قال أبو محمد: وأنا رأيت بعيني نيفاً وخمسين كتاباً كتبها بالزهراء وكلها معنونة من عبد الله عبد الرحمن الناصر لدين الله القائم لله أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان] (1) .
وكان تسمى بالناصر بله أبو أحمد ابن المتوكل ولم يلِ الخلافة.
ثم رجل من بني علي بطبرستان حسني (2) .
ثم علي بن حمود الحسني بالأندلس.
ثم عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر.
ثم المستنصر أبو العاصي الحكم بن عبد الرحمن الناصر.
ثم تسمى بهذا الاسم [بعده] معد بن علي بن منصور بن نزار [الشيعي] صاحب مصر.
__________
(1) ما بين معقفين زيادة من ب.
(2) هو أبو محمد الحسن الأطروش (301 - 304) ؛ ونسي ابن حزم من أئمة الزيدية باليمن الناصر أحمد بن يحيى الرسي (توفي سنة 325) .(2/49)
ثم حسن بن يحيى بن علي بن حمود الحسني صاحب مالقة.
[ثم] المؤيد بالله أبو الوليد هشام بن الحكم المستنصر.
وتسمى به قبله أبو إسحاق إبراهيم بن المتوكل ولم يلِ الخلافة.
ثم المهدي أبو الوليد محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر.
ثم المستعين أبو أيوب سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، وتسمى أيضاً بالظافر.
ثم المستظهر بالله أبو المطرف عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر [أخو المهدي [.
[ثم المستكفي، وقد ذكرنا المستكفي] .
ثم المعتمد بالله أبو بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وهو آخر ملوكهم بقرطبة، وكان قام قبل ذلك أخوه عبد الرحمن بن محمد وتسمى بالمرتضى فلم يتم أمره.
5 - ومن بني علي رضي الله عنه:
المعتلي يحيى بن علي بن حمود.
المتأيد بالله إدريس بن علي بن حمود.
المستنصر بالله الحسن بن يحيى بن علي وقد تقدم اسمه.
العالي [بالله] إدريس بن يحيى بن علي بن حمود، ويسمى السامي، ولم يلِ [وكان قد تسمى بهذا الاسم قبل إدريس ابن ليحيى آخر كان اسمه علياً وكان يحيى قد ولاه عهده ثم مات في حياته] .
6 -[ومن الأدعياء إليهم:
المهدي: وقد تقدم ذكره.
القائم: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله قتله ابنه المنصور ولم يل الخلافة وتسمى بهذا الاسم عبد الرحمن الناصر بالأندلس.
ثم أبو جعفر عبد الله بن القادر، وقد ذكرناه] .(2/50)
وكان بمصر:
أبو تميم معد بن إسماعيل يتسمى بالمعز.
وابنه [أبو المنصور] نزار بن معد يسمى العزيز.
وابنه منصور بن نزار يسمى الحاكم.
وابنه علي بن منصور ويسمى الظاهر.
[ثم أبو تميم معد بن علي الملقب بالمستنصر وهو واليهم الآن] (1) .
- 2 -
من ولي العهد وتسمى أو لم يتسمَّ ولم يتم له أمر، ومن قام بطلب الخلافة وتسمى بها ولم يتم أمره وقد سمّي أو لم يسمَّ:
1 -:
عبد العزيز بن مروان: كان ولي عهد أخيه عبد الملك، ولم يتم له أمر، مات في حياة أخيه عبد الملك.
أيوب بن سليمان بن عبد الملك: مات في حياة أبيه سليمان بن عبد الملك، وكان ولي عهده، وقيل إن أباه قتله سراً لأنه ارتد إلى النصرانية.
الحكم وعثمان ابنا الوليد بن يزيد: قتلا في السجن وكانا وليي عهد أبيهما.
عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان (2) : كان ولي عهد ابن عمه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، قتل يوم خلع إبراهيم، وقيل إن عبد العزيز هذا هو أخو أبي العباس السفاح لأمه، أمهما جميعاً ريطة الحارثية تزوجها محمد بن علي بعد الحجاج بن عبد الملك.
عبد الله وعبيد الله ابنا مروان بن محمد بن مروان: كانا وليي عهد أبيهما، قتل عبيد الله بأرض الروم (3) ، ولا عقب له (4) ، وعاش عبد الله دهراً بمكة، وله
__________
(1) من أطول الخلفاء مدة، حكم من 427 - 487.
(2) قارن بالجمهرة: 104.
(3) ب: بأرض النوبة.
(4) قارن بالجمهرة: 107.(2/51)
عقب، ومن ولده كان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني (1) .
2 - ومن بني العباس:
عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس: كان ولي عهد المنصور عمه ثم صيره [على العهد] بعد ابنه المهدي، ثم خلعه المهدي جملة.
جعفر بن موسى الهادي: ولاه أبوه العهد ولم يتم أمره.
القاسم المؤتمن بن هارون الرشيد: ولاه أبوه العهد بعد أخيه المأمون، وخلعه المأمون.
ثم سمي بالمؤتمن بعده محمد بن ياقوت (2) .
ثم سمي بعده سلامة أخو نجح الطولوني (3) .
ثم تسمى به عبد العزيز بن عبد الرحمن (4) أخو محمد بن أبي عامر برهة من دهره (5) .
منصور بن المهدي: ولاه أخوه إبراهيم عهده وسمي بالمرتضى بالله، ثم اضمحل أمره.
ثم تسمى بهذا الاسم علوي باليمن (6) .
علي بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب: ولاه المأمون عهده، ومات إلى مديدة في حياة المأمون، وقيل أنه سمه، وكان سماه الرضا.
وتسمى به أيضاً الحسن بن زيد بطبرستان.
موسى الناطق بالحق بن الأمين بن الرشيد: ولاه أبوه عهده، ولم يتم له أمر، ومات وله أربع عشرة سنة، ولا عقب له.
إبراهيم المؤيد بن المتوكل: ولاه أبوه العهد بعد المعتز أخيه، ولم يتم له أمر؛
__________
(1) أبو الفرج هو: علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان (الجمهرة: 107) .
(2) ولي الشرطة في عهد المقتدر، ووكل إليه أمر قيادة الجيش أحياناً وتوفي سنة 323 (انظر صفحات متفرقة من الجزء الثامن من تاريخ ابن الأثير) .
(3) ولي حجابة الخلفاء وتوفي سنة 337 (المصدر السابق) .
(4) هو الذي تلقب أيضاً بالمنصور (راجع ما سبق) .
(5) برهة من دهره؛ ب: في بعض الأوقات.
(6) هو أبو القاسم محمد بن يحيى، تولى الحكم (298 - 301) ثم اعتزله وتوفي سنة 310.(2/52)
خلعه المعتز ثم قتله.
الموفق أبو أحمد طلحة بن المتوكل: وهو الناصر أيضاً، ولي عهد أخيه المعتمد، مات في حياة أخيه.
المفوض إلى الله جعفر بن المعتمد: ولي عهده أبيه مقدماً على الموفق ثم خلعه أبوه، فلما مات أبوه قتله المعتضد.
الغالب عبد الكريم بن القادر: ولي عهد أبيه ومات في حياة أبيه.
3 - ومن بني أمية بالأندلس:
المغيرة بن الحكم الربضي (1) : ولي عهد أبيه بعد أخيه عبد الرحمن، خلعه أخوه عبد الرحمن.
محمد بن سليمان بن الحكم (2) : ولي عهد أبيه، قُتِل بعد قَتْلِ أبيه [بدهر] ولم يتم أمره، [وذلك أنه فزع إلى منذر بن يحيى مستنصراً به، فأحياه مدة، ثم أمر بقتله رجلاً يعرف بالطرسوسي، فقتله سراً] .
- 3 -
وممن تسمى [منهم] بالعهد دون أن يسميه خليفة به لأولم يتمَّ له شيء] :
1 -:
سليمان بن هشام بن سليمان بن الناصر: تسمى بالعهد في أيام محمد بن هشام المهدي ثم قتل حين قيام أبيه على المهدي [وقتل معه أبوه] وقتل معهما عدد [من بني عمه] .
سليمان بن هشام بن عبيد الله بن الناصر: تسمى بالعهد أيام ولاية ابن عمه المستكفي (3) .
محمد بن الحكم بن محمد بن عبد الملك بن الناصر (4) : تسمى بالعهد إذ ولي عمه هشام المعتد، دون أن يسميه به عمه، وكان عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر
__________
(1) تنسب إليه منية المغيرة بشرقي قرطبة؛ قارن بالجمهرة: 98.
(2) قارن بالجمهرة: 102 وذكر ابن حزم أن محمداً هذا كان نظير أبيه في الإهمال والرضى بفساد البلاد.
(3) قارن بالجمهرة: 100.
(4) لم يذكر ابن حزم في الجمهرة: 100 سوى عبد الرحمن وهشام من أبناء محمد بن عبد الملك بن الناصر.(2/53)
[وهو من معافر] قد تسمى بولاية العهد لهشام [بن الحكم] المؤيد [ولقب بالناصر؛ وكانت فعلة خارجية] فقتل إلى شهر (1) ولم يتم أمره.
2 -[ومن بني علي] :
علي العالي بن يحيى [المعتلي] بن علي بن حمود: ولي عهد أبيه، مات في حياة أبيه، وقد رأيت بعض من يعاني علم التواريخ ينكر هذا، وهو خطأ منه، ولم أكتبه إلا موقناً بالقصة، وليس من لم يعلم حجة على من يعلم.
محمد بن القاسم بن حمود: اضمحل أمره بخلع أبيه، ثم تسمى بالخلافة، ثم مات من كثب، وملك الجزيرة إدريس بن علي بن حمود، ادعى العهد، وخطب له بسبتة، وأخوه كاثبه لم ينكر من ذلك شيئاً.
الحسن بن إدريس بن علي بن حمود الملقب بالسامي، ولاه أخوه عهده، ثم نفاه إلى العدوة.
[وممن تسمى بالعهد دون أن يسمى به إدريس بن علي ادعى العهد بسبتة] .
3 - ومن الأدعياء إليهم من ولاة أفريقية:
قاسم بن أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي: مات في حياة أبيه، وكان وليَّ عهده.
تميم بن أبي تميم: كان ولي عهد أبيه فخلعه في حياته.
عبد الرحيم بن إلياس بن أحمد بن عبيد الله الشيعي: ولاه العهد ابن عمه منصور بن نزار بن معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله، فلما قتل الحاكم منصور بن نزار قتل هو (2) .
- 4 -
من ولي الخلافة بعهد:
1 -:
اختلف الناس في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والذي أدين الله به (3) أنه ولي
__________
(1) إلى شهر؛ ب: في حياته.
(2) قتل هو؛ ب: قبض عليه وقتل؛ وفي أخبار الدول المنقطعة: 63 أنه هرب عندما بويع علي بن الحكم ولقب الظاهر لإعزاز دين الله.
(3) أدين الله به؛ ب: أعهد.(2/54)
الخلافة بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ونص عليه، لإجماع أهل الإسلام على تسميته خليفة رسول الله، ولم يتسم بهذا الاسم أحد غيره لا ممن استخلفه عليه السلام على المدينة في أسفاره، ولا ممن استخلفه على الصلوات في غزواته وحجته عليه السلام - وللخبر (1) الثابت الذي رويناه من طرق ثابتة في قصة المرأة التي قالت: يا رسول الله فإن رجعت لو أجدك، تريد الموت - هكذا في نص الحديث - فقال عليه السلام: فأتى أبا بكر. [وكذلك الحديث من قوله عليه السلام في مرضه الذي مات فيه: لقد هممت أن أكتب كتاباً أو أعهد عهداً لئلا يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر أو كلاماً هذا معناه، وهو لا يهم عليه السلام إلا بالحق] ولغير هذا مما ذكرنا في كتاب الفصل (2) ، ولله الحمد.
عمر. يزيد بن معاوية. معاوية بن يزيد. عبد الملك. [ابنه] الوليد. سليمان. عمر بن عبد العزيز. يزيد بن عبد الملك. هشام بن عبد الملك. الوليد بن يزيد. إبراهيم بن الوليد. المنصور. المهدي. الهادي. الرشيد. الأمين. المأمون [بعهد أبيه] . الواثق. المنتصر. المعتضد. المكتفي. المقتدر. الطائع. القائم بأمر الله أبو جعفر [أمير المؤمنين الآن ببغداد ولي عهد أبيه] .
2 - ومن بني أمية بالأندلس:
هشام الرضى، الحكم [الربضي] . ابنه عبد الرحمن بن الحكم. [ابنه] محمد. المنذر. عبد الله. المستنصر. المؤيد.
- 5 -
من ولي الخلافة بتشاور:
1 -:
عثمان. الحسن بن علي. مروان بن الحكم. المتوكل. المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. القاهر. الراضي. المتقي. المطيع. القادر.
2 - ومن بني أمية بالأندلس:
الناصر. المعتد.
__________
(1) وللخبر ... ؛ ب: وللحديث الوارد في ذلك رواه البخاري وغيره.
(2) انظر تفصيل هذه البراهين في الفصل 4: 107 وما بعدها.(2/55)
من ولي الخلافة مغالبة:
1 -:
معاوية. ابن الزبير. يزيد بن الوليد. مروان بن محمد. السفاح. إبراهيم بن المهدي. المعتصم.
2 - ومن بني أمية بالأندلس:
عبد الرحمن بن معاوية [الداخل] . المهدي. سليمان. المستظهر. المستكفي.
- 7 -
من طلب الخلافة وتسمى بها ولم يتم أمره من قريش [وأما الخوارج فأمرهم (1) غير هذا] :
1 -:
عمرو بن سعيد بن العاص: خرج على عبد الملك بدمشق، وتسمى بالخلافة، ثم انخلع وسلم الأمر لعبد الملك. وقتله عبد الملك.
وقد قيل إن سليمان بن هشام بن عبد الملك تسمى بالخلافة في [بعض] خروجه (2) على مروان بن محمد [وأخوهمسلمة حينئذ حي وهو أسن منه] ثم نزل عن ذلك ودخل في طاعة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الصفري وسلم عليه بالخلافة، ثم دخل في طاعة أبي العباس السفاح، ثم قتله السفاح.
دحية بن المصعب وقد قيل المصعب بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان (3) : قام بمصر على المهدي فقتل.
علي بن عبد الله [النفيلي من ولد] خالد بن يزيد بن معاوية (4) : قام على المأمون بدمشق ثم انحل أمره.
__________
(1) ب: فشأنهم.
(2) ب: قيامه.
(3) الجمهرة: 105 دحية بن المصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز.
(4) الجمهرة: 112.(2/56)
2 -:
عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب: قام [على مروان بن محمد] بفارس، وتسمى بالخلافة، ثم أسره (1) أبو مسلم وقتله. وكان عبد الله بن معاوية هذا فاسد الدين، مذكوراً بالإلحاد والتعطيل.
(وقد ذكر بعض الناس أن صاحب الزنج تسمى بالخلافة، ولم يصح هذا، إنما كان يتسمى بالإمام، وكان أيضاً من عبد القيس ولم يكن من قريش أصلاً) .
عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس: قام [على أبي جعفر المنصور] بالشام [وسليمان أخوه حي وهو أسن منه] وتسمى بالخلافة وهي خمسة أشهر فقط، ثم ظفر به أبو جعفر المنصور ابن أخيه فقتله.
عبد الله بن المعتز: قام على المقتدر وتسمى بالمنتصف، ظفر به وقتل في صهريج ماء بارد، وقتل أبوه في حمام.
3 - ومن بني علي:
محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب: قام [على أبي جعفر المنصور] بالمدينة، وأبوه [عبد الله] حي في حبس أبي جعفر المنصور، فقتل رحمه الله بمكة شرفها الله.
محمد بن جعفر بن محمد (2) قام على المأمون بمكة فظفر به المأمون، وكان شيخاً محدثاً، فلم يكلفه أكثر من أن يصعد المنبر فيكذب نفسه (3) ففعل. (وكان ابنه علي من أفسق الناس وأشدهم إعلاناً بالقباح) .
أبو الفتوح الحسن بن جعفر الحسني (4) : قام بمكة وتسمى بالخلافة وتلقب بالراشد، وأعلن مذهب الزيدية وتبرأ من الإمامية ثم رجع إلى طاعة الحاكم.
ولم يتسم أحد من ثوار بني علي رضي الله عنه بالخلافة، على كثرة القائمين منم، إلا محمد بن عبد الله ومحمد بن جعفر والحسن بن جعفر المذكورون آنفاً. وحسبك
__________
(1) ب: ظفر به.
(2) الجمهرة: 59 وقال: والشيعة تلقبه " الديباجة " لجمال وجهه.
(3) فيكذب نفسه، ب: ويشهد على نفسه بالكذب في حديثه.
(4) قصته تتصل بثورة الوزير المغربي على الدولة الفاطمية وترد في تاريخ ابن الأثير وذيل تاريخ دمشق، ورسالة ابن القارح والدول المنقطعة وترجمة الوزير المغربي في بغية الطلب وابن خلكان ... الخ.(2/57)
بعلي بن حمود، لم يتسمَّ في قيامه على سليمان بالخلافة إلا بعد استيلائه على دار المملكة بقرطبة وقتل سليمان. إلا ما ذكر لي بعض أهل الأخبار من أن رجلاً من ولد محمد بن زيد الداعي القائم بطبرستان بويع بالخلافة بنيسابور، ثم اضمحل أمره وفرَّ ودخل غمار الناس، وقيل إنه مات بوادي الحجارة من الأندلس في جملة خساس الجند عند ابن باق، والله أعلم؛ وكذلك المنتمون إليهم كصاحب الزنج [الذي قام] بالبصرة وغيره، ولم يتسم عبيد الله بالخلافة إلا بعد استيلاء جنده على افريقية وذهاب بني الأغلب.
4 - ومن بني أمية بالأندلس:
هشام بن سليمان بن الناصر: قام على المهدي، وكان أخوه الحكم أسنَّ منه حياً يومئذ، وتسمى بالمعصموم فظفر به، وقتل ثاني يوم قيامه.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن الناصر: قام على علي والقاسم ابني حمود الحسنيين، وتسمى بالمرتضى، وكان رجلاً فاضلاً قتل غدراً سراً، وخفي أمره رحمه الله، وكان أخوه الحكم المكفوف وهشام المعتد حيين حينئذ وهما أسن منه بسنتين.
رجل ادعى أنه عبيد الله المهدي قام [على المستكفي] بمجريط، وثب به وقتل، ولم يكن عبيد الله. [قال أبو محمد] : صح عندنا أنه [لم يكن عبيد الله المهدي وإنما] كان مملوكاً للعطار (1) المعروف بالفصيح [وادعى أنه عبيد الله المهدي] .
عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن محمد بن الأصبغ بن الحكم الربضي: قم بمليلة وتسمى بالخلافة ثم اضمحل أمره وعاش في غمار الناس سنتين، وأخواه عبد الملك الفقيه وهشام [حيان] أسن منه بسنتين (2) ، وعاشا بعده دهراً.
وتسمى محمد بن زيد القائم بطبرستان بالداعي ولم يسَّ بالخلافة.
- 8 -
من ولي الخلافة في حياة أبيه:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مات في حياة أبيه، أبي قحافة عثمان بن عامر
__________
(1) ب: غلام العطار.
(2) ب: بسنين كثيرة.(2/58)
رحمه الله، [وورثه أبوه] .
سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر: ولي وأبوه حيّ، وقتل [وورثه أبوه الحكم] ثم قتل أبوه بعده بساعة، [قتله علي بن حمود] .
عبد الرحمن بن الحكم [الأوسط] : بويع له بالخلافة وأبوه حي [مريض] قد يئس منه، وعلم بذلك ولم يشاور فيه [إلا أنه قد كان ولاه عهده قبل ذلك] وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام متبرماً بالحياة.
عبد الكريم الطائع: انخلع له أبوه المطيع باختياره، وعاش بعد انخلاعه أربعين يوماً ومات.
وأخبر [ني] مخبر ولم يصح عندي أن أحمد القادر ولي الخلافة وأبوه إسحاق بن المقتدر حيّ.
- 9 -
من ولي الخلافة وأخوه أسنُّ منه [حيّ] :
1 -:
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان أخوه عقيل أسنَّ منه، وعاش بعد أخيه علي دهراً (1) .
يزيد بن معاوية: كان أخوه عبد الله بن معاوية أسنَّ منه، وكان يُضَعَّف، وكان عبد الله هذا يوم مرج راهط مع الضحاك بن قيس، فلما هزم أهل دمشق، أدركه عبيد الله بن زياد فأردفه، فرآه عمرو بن سعيد بن العاص فأراد قتله، فسبه عبيد الله ومنعه منه. ولا عقب لعبد الله.
هشام بن عبد الملك: ولي الخلافة وأخوه مسلمة أسن منه، وهو يومئذ حي.
الوليد بن يزيد: ولي الخلافة وله أخ أسن منه.
يزيد وإبراهيم ابنا الوليد: كلاهما ولي الخلافة، والعباس [أخوهما] وغيره من إخوتهما أحياء أسن منهما؛ ومروان بن محمد بن مروان ولى عهده ابنيه عبد الله ثم عبيد الله، وابنه عبد الملك أسنّ منهما ولم يولّه.
__________
(1) ب: ومات بعده بزمان.(2/59)
2 -[وبالأندلس] :
عبد الرحمن بن معاوية [الداخل] : ولي الأندلس وله أخوة أحياء أسن منه، منهم الوليد بن معاوية، فاتهم عبد الرحمن أخاه الوليد هذا في أمر ابنه المغيرة بن الوليد، فقتل المغيرة ونفي أبوه الوليد وسائر ولده عن الأندلس (1) ، ومن ولده [أبو المطرف] عبد الرحمن الفقيه المغيري إمام مسجد طالوت بقرطبة، وأخوه.
هشام [الرضى] بن عبد الرحمن بن معاوية: ولي أخوه سليمان أسن منه بأربعة عشر عاماً، ولم يزل محارباً له طول حياته (2) ، وقد ذكر لي (3) أن غيره من إخوته كان أسن منه أيضاً.
الحكم بن هشام: ولي الخلافة وأخوه عبد الملك (4) أسن منه حي في المطبق، وبقي فيه سبعة عشر عاماً إلى أن مات في المطبق [في حياة أخيه] .
عبد الرحمن بن الحكم بن هشام: ولي [الأمر] وأخوه هشام (5) [بن الحكم] حي أسن منه، وكان أبوهما قد سخط على هشام المذكور إذ بلغه أنه يتمنى موته.
3 - ومن بني العباس:
أبو العباس السفاح: ولي أخوه أبو جعفر المنصور أسن منه بسنتين (6) وأعقل منه، وولي بعده.
الرشيد: ولي وأخوه علي بن المهدي حي أسن منه - أعني هارون - وأم عليّ هذا ريطة بنت أبي العباس السفاح.
الأمين: ولي وأخوه المأمون حي، أسن منه بستة أشهر وأعقل، وولي بعده.
وذكر بعض أهل الأخبار (7) أن الواثق ولي أخوه محمد والد المستعين حي، وهو أسن من الواثق.
__________
(1) ب: وجميع ولده وأخرجهم عن الأندلس.
(2) ب: ونازعه طول حياته.
(3) ب: وقد أخبرت.
(4) قال ابن حزم في عبد الملك بن هشام: نكبه أبوه في حياته وسجنه، فبقي مسجوناً بضع عشرة سنة حتى مات مسجوناً في ولاية أخيه الحكم بن هشام (الجمهرة: 95) .
(5) كان هشام أكبر ولد الحكم؛ فلما بلغه أنه يتمنى موته حلف ألا يلي الخلافة بعده أبداً (الجمهرة: 98) .
(6) ب: بسنين.
(7) ب: ورأيت في بعض الأخبار.(2/60)
وان المتوكل ولي أخوه أحمد أسن منه وأعقل حيّ يومئذ. ولم يتحقق عندي كلا الخبرين، وهما عندي إلى الحق أقرب، والله أعلم.
المعتز: ولي الخلافة وجماعة من إخوته (1) أسن منه [وهم أحياء] منهم الأحدب موسى شقيق المنتصر، ومنهم إبراهيم المؤيد المعقود له بالعهد (2) بعد المعتز، كان أس من المعتز بنحو أربع سنين. ومنهم الموفق شقيق المؤيد، كان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين بعد المؤيد؛ ومنهم المعتمد، كان مولده سنة تسع وعشرين قبل الموفق بستة أشهر [وذكر في بعض الأخبار أن الموفق كان أسن من المعتمد، ولم يصحّ ذلك، بل الأصح أن المعتمد كان أسن منه بستة أشهر] ومنهم أبو عيسى، وكان مولد المعتز سنة إحدى وثلاثين في أولها. وإنما مال إليه بسبب أمه قبيحة. وكان المتوكل في آخر أمره قد تبنى خلع المنتصر وإقرار المعتز بالأمر، فعالجه المنتصر، فدس عليه من قتله.
وأظن أن أبا عيسى كان أسن من المعتمد، وولي المعتمد وأبو عيسى حيّ، ولم يكن في ولد المتوكل أعف ولا أحسن دينأً من أبي عيسى هذا.
وأظن أن القاهر ولي الخلافة وأخوه هارون أسن منه [وهو حي] .
[وكذلك] افضل المطيع: ولي الخلافة وإخوته العباس [وعبد الواحد] والمتقي (3) وعلي [كلهم] أسن منه [بسنين] وهم كلهم أحياء.
الطائع: ولي الخلافة وأخوه عبد العزيز حي أسن منه، وكان عبد العزيز هذا دهره كله هارباً مع أمه عن أبيه.
4 -[ومن بني علي] :
علي بن حمود: ولي الأمر (4) وأخوه القاسم أسن منه بعشر سنين (5) ، م ولي القاسم بعد موته.
وحسن بن يحيى بن علي بن حمود: ولي وأخوه إدريس حي، وهو أسن منه، وولي بعده.
__________
(1) ب: وأكثر إخوته.
(2) ب: بالأمر.
(3) م: والمقتفي.
(4) ب: الخلافة.
(5) ب: بسنتين أو نحوهما.(2/61)
5 - ومن ولاة مصر (1) :
نزار بن أبي تميم: ولي وأخوه تميم أسن منه، حي.
- 10 - (2)
أربعة إخوة ولوا الخلافة كلهم:
لا يعرفون إلا الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان.
وأما ثلاثة إخوة:
فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد.
والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل. والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المتضد - ودعي أخوهم هارون بن المعتضد إلى الخلافة، فامتنع، ولم يكن للمعتضد ابن ذكر غيرهم أربعتهم.
الراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر.
وأما أخوان:
1 -.
فيزيد وإبراهيم ابنا الوليد.
والمنذر وعبد الله ابنا محمد.
ومحمد [المهدي] وعبد الرحمن [المستظهر] ابنا هشام بن عبد الجبار بن الناصر.
2 - ومن بني العباس:
السفاح والمنصور ابنا محمد.
الهادي والرشيد ابنا المهدي.
الواثق والمتوكل ابنا المعتصم.
3 - ومن بي علي:
علي والقاسم ابنا حمود.
__________
(1) ب: ومن المنتمين إليهم.
(2) عقد ابن الجوزي فصلاً مثل هذا في المدهش: 62.(2/62)
من كان له لقبان (1) :
1 - من الخلفاء:
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الناصر لدين الله، القائم بأمر الله ثم اقتصر على الناصر فقط.
سليمان بن الحكم: المستعين بالله، الظافر بحول الله.
2 - من ولاة العهود:
أبو أحمد الموفق بالله الناصر لدين الله.
- 11 -
أكثر ما اجتمع في عصر واحد ممن سبق لهم في علم الله عز وجل أن يلوا الخلافة:
كان ذلك في ثلاث أوقات:
أحدها: آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع في ذلك أحياء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم. نعم وكان معهم يومئذ حياً عبد الله بن وهب الراسبي، وكان قد بايعه الخوارج بالخلافة وسلموا عليه بإمرة أمير المؤمنين.
والوقت الثاني: آخر أيام الوليد بن عبد الملك، فإنه اجتمع فيه أحياء: الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد وهشام والوليد بن يزيد وإبراهيم [ويزيد] ابنا الوليد ومروان بن محمد وأبو جعفر المنصور، وكلهم ولي الخلافة.
والوقت الثالث: آخر أيام المؤيد هشام بن الحكم كان اجتمع فيها أحياء: هشام والمهدي وسليمان والمستظهر والمستكفي والمعتد والمرتضى وعلي والقاسم ويحيى وإدريس ومحمد بن القاسم وكلهم سلم عليه بإمرة المؤمنين (2) .
__________
(1) ب: اسمان.
(2) ب: وكل هؤلاء ولوا الخلافة.(2/63)
أعرق الناس في الخلافة أباً عن أب دون أن يقطع بينهما ومن لم يلِ (1) :
1 - في بني العباس ستة في نسق: المنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، وسلم بها على عبد الله بن المعتز يوماً وليلة فكان سابعاً.
2 - وفي بني أمية بالأندلس ستة في نسق: المنذر وعبد الله ابنا محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن.
3 - وتمَّ من هذا لولاة مصر ما لم يتم لأحد وهم معد بن علي بن منصور بن نزار بن معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله، ثمانية في نسق.
- 13 -
من ولي من الخلفاء شهوراً وأياماً ولم يتم سنة (2) :
الحسن بن علي رضي الله عنهما [ولي] ستة أشهر.
معاوية بن يزيد [ولي] أربعين يوماً.
مروان بن الحكم [ولي] عشرة أشهر.
يزيد بن الوليد [ولي] ستة أشهر.
أخوه إبراهيم [ولي] ثلاثة أشهر (3) .
المستظهر [ولي] سبعة وأربعين يوماً.
[محمد] المهتدي رحمه الله [ولي] أحد عشر شهراً.
المنتصر [ولي] ستة أشهر.
وقد عدَّ فيهم محمد بن هشام بن عبد الجبار وليس بذلك، لأنه قام إلى أن قتل، خطب له بالخلافة، وسلم عليه بها سبعة أشهر، منها ستة أشهر بالثغر خاصة قطعت بين دولتيه بقرطبة.
__________
(1) عند مبتدا هذه الفقرة ينتهي الاتفاق في الترتيب بين النسختين.
(2) ب: أياماً أو شهوراً ما دون السنة.
(3) جاء بعده في نسخة الحميدي ب: " محمد بن هشام المهدي ولي أحد عشر شهراً في خلافتيه معاً " وانظر ما جاء في آخر الفقرة هذه.(2/64)
من طال عمره منهم فولي عشرين سنة فصاعداً:
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: ولي الخلافة بعد علي عليه السلام عشرين سنة.
عبد الملك بن مروان: سلم عليه بالخلافة وولي عشرين سنة.
المأمون: وليها عشرين سنة.
المعتمد: وليها عشرين سنة.
أبو جعفر المنصور: وليها إحدى وعشرين سنة.
الرشيد: وليها ثلاثاً وعشرين سنة.
المقتدر: وليها خمساً وعشرين سنة.
المطيع: وليها ثلاثين سنة.
أما من ولي لأنه أسن فأكثرهم ملك أكثر من عشرين سنة ومن ثلاثين سنة:
[عبد الرحمن بن معاوية وليها أربعاً وثلاثين سنة.
محمد بن عبد الرحمن بن الحكم وليها خمساً وثلاثين سنة.
هشام المؤيد وليها ستاً وثلاثين سنة] .
القادر وليها ثلاثاً وأربعين سنة.
أبو جعفر القائم ابنه: له منذ ولي ثلاثون سنة (1) .
ووليها عبد الرحمن الناصر خمسين سنة وستة أشهر متصلة.
- 15 -
المعرقات في الخلافة من النساء:
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجها علي وابنها الحسن رضي الله عنهم.
أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زوجها عمر بن الخطاب، وأبوها علي، وأخوها الحسن رضي الله عنهم، وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بنت أخرى لعلي تزوجها عبد الملك بن مروان.
__________
(1) هذا يعني تعديلاً جرى في الرسالة سنة 452 (انظر المقدمة) .(2/65)
عائشة بنت الواثق بن المعتصم أخت المهتدي وتزوجها المستعين.
عاتكة بنت يزيد بن معاوية أبوها خليفة وجدها خليفة وابنها خليفة وابن ابنها خليفة [وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك] وزوجها خليفة وأخوه خليفة.
فاطمة بنت عبد الملك بن مروان: جدها خليفة (1) وأبوها خليفة وإخوتها أربعة خلفاء، وبنو إخوتها ثلاثة خلفاء، وزوجها وهو ابن عمها عمر بن عبد العزيز خليفة (ولم يخلف عبد الملك ابنة غيرها، وخلف أربعة عشر ذكراً) .
[ودون هؤلاء] :
عائشة بنت عثمان رضي الله عنه زوجها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جدها خليفة، وابنها عمر بن عبد العزيز خليفة وفيه يقول (2) الشاعر:
بين أبي العصي وآل خطاب ... زبيدة أم جعفر بنت أبي جعفر المنصور: جدها خليفة وزوجها ابن عمها خليفة وهو الرشيد وابنها خليفة وهو الأمين.
[ريطة بنت السفاح زوجة المهدي] .
فاطمة بنت المنذر: زوجها الناصر.
أم الحكم بن سليمان الظافر، زوجها المستظهر، وهي التي يقول فيها (3) : [من الطويل] .
وماذا على أم الحبيبة إذ رأت ... جلالة قدري أن أكون لها صهراً
حمامة بيت العبشميين (4) حَلَّقتْ ... فطرتُ إليها من سراتهم صقراً فاطمة بنت القاسم بن حمود: تزوجها يحيى بن علي.
__________
(1) ها هو ابن حزم يعترف بخلافة مروان هنا (وكذلك ص: 55) بينا عدَّه في رسالة أسماء الخلفاء منشقاً على الخليفة ابن الزبير.
(2) ب: ولذلك قال فيه.
(3) انظر الجذوة: 24 والحلة السيراء 2: 12 - 17 والذخيرة 1/1: 56 وابن بسام يسمي بنت سليمان " حبيبة " وأمها اسمها " مشنف ".
(4) الذخيرة: حمامة عش العبشميين رفرفت.(2/66)
بنت إدريس بن علي تزوجها حسن بن يحيى بن علي بن حمود، وأخوها محمد ابن إدريس، ولما قتل زوجها أخاها يحيى بن إدريس المعروف بحيون سمت زوجها فقتلته (1) ، فهذه امرأة سُلِّمَ على أبيها وجدها وعمها وأخيها وزوجها بالخلافة.
بنت علي بن حمود: تزوجها محمد بن القاسم، وسلم على أبيها وعمها وزوجها وأخويها وبني أخويها بالخلافة.
(فأما من تزوجها خليفة وولدت خليفة فكثير جداً ولا معنى لذكر ذلك، [والمراد بهذا من أعتق خادمة وتزوجها وولدت خليفة كمرجان وصبح والخيزران وغيرهن] ) .
- 16 -
امرأة ولدت خليفتين (2) :
ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسية: ولدت الوليد وسليمان.
الخيزران: ولدت الهادي والرشيد.
أم القاسم وعلي ابني حمود، سُلِّم عليهما بالخلافة.
لبونة (3) بنت محمد العرمول (4) بن حسن بن القاسم، قنون، ولدت يحيى وإدريس، ابني علي، سلم عليهما بالخلافة (5) .
- 17 -
امرأة ولدت ولي عهد:
إسحاق، أندلسية، ولدت إبراهيم المؤيد وأبا أحمد الموفق، لم يتم لهما أمر.
- 18 -
أم خليفة تزوجت بعد خلافة ابنها:
أم خالد بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة هي أم معاوية بن يزيد، تزوجت
__________
(1) قارن بجذوة المقتبس: 31.
(2) المدهش: 64.
(3) قارن بجذوة المقتبس: 23.
(4) لم أهتد إلى صواب هذه الكلمة، ولعلها بالدال.
(5) ذكر ابن الجوزي أيضاً شاهفريد بنت فيروز بن يزدجرد تزوجها الوليد بن عبد الملك فولدت له يزيد وإبراهيم.(2/67)
مروان بن الحكم بعد موت ابنها معاوية.
- 19 -
من غرائب المناكح:
1 - امرأة تزوجها ثلاثة خلفاء: عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية تزوجها الوليد وهشام ومروان بن محمد.
2 - ويقول قائلون إن أم هشام المؤيد استحلها ابن أبي عامر بنكاح سرّ (1) ، والله أعلم.
3 - أخرى: تزوج عبد الملك بن مروان أم عثمان بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية بعد أن أطلق عمتها عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وتزوج هشام أختها عبدة بنت عبد الله بن يزيد، وتزوج معاوية بن هشام بنتاً لعبد الله من صغار بناته فكان سلف أبيه وجده.
4 - رجل تزوج بناته أربعة خلفاء (2) : عبد اللهبن عمر بن عثمان بن عفان تزوج بناته الوليد وسليمان ويزيد وهشام.
5 - المرزبانة بنت قديد بن منيع السعدي (3) : تزوجها نصر بن سيار [أمير خراسان] فلما خرج عن خراسان ومات تزوجها أبو مسلم السراج [والي خراسان] فلما قتل تزوجها أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلي (4) [والي خراسان بعده] فجرت [هذه المرأة] مجرى ولاية خراسان، كل من ولي خراسان تزوجها.
6 - هند بنت أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارية تزوجها عبيد الله بن زياد أمير العراقين، ثم تزوجها الحجاج بن يوسف أمير العراقين.
7 -[منيعة العربية: تزوجها يعقوب بن الليث ثم أخوه عمرو بن الليث] .
__________
(1) قلت في تعليقاتي على الجزء الأول من رسائل ابن حزم (ص: 92) وقد ذهب بعضهم إلى تصور علاقة عاطفية بين صبح والمنصور؛ وها هي الشائعات فيما أورده ابن حزم تتجاوز ذلك إلى " الزواج السري "، وانظر أيضاً البيان المغرب 2: 280 حيث يعرض أحد الشعراء بهذه العلاقة، وعلق المؤرخ على ذلك بقوله: يريد بذلك شغف أم هشام بابن أبي عامر لأنها كانت تتهم به ... الخ.
(2) ذكر ذلك ابن الجوزي في المدهش: 63.
(3) انظر الطبري 2: 1889، 1995.
(4) هو النقيب، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل وله ذكر كثير في الطبري (انظر الفهرست لتاريخ الطبري) وفي ب: النهشلي.(2/68)
- 20 -
من تزوج من الكبراء والعلية منكحاً ساقطاً (1) :
1 -:
أبو جعفر المنصور (2) تزوج الحميرية أم المهدي وجعفر، وكانت قبله تحت إنسان خياط، فولدت له ابناً سماه لما ولي الأمر طيفور، ودعي بمولى أمير المؤمنين، وإنما كان أخا المهدي لأمه، وكان يسترون ذلك. ذكر ذلك أحمد بن أبي طاهر في أخبار بغداد. وتزوج المنصور أيضاً كردية (3) فولدت له جعفراً الأصعر ابن الكردية، وله عقٌ باقٍ.
وتزوج المعتصم مولاة لعلي بن هشام المروزي القائد.
وتزوج محمد بن المعتصم مخارق بنت عبيد من أهل الموصل فولدت له المستعين (4) .
المعتمد تزوج في خلافته مأمون بنت الثلاج، رقاصة في المجالس عند العامة وأدخلها قصره.
عبد الرحمن الناصر تزوج أخت نجدة، امرأة قصَّارة، رآها على بعض الأنهار، تدعى أم قريش.
أبو عبد الرحمن المستكفي تزوج بنت الأسلمي (5) .
2 - من الرؤساء:
عبد الله بن طاهر بن الحسين تزوج يهودية بنت يهودي صباغ من أهل الموصل وأجبرها وأباها على الإسلام.
__________
(1) سقط هذا الفصل من النسخة ب (نسخة الحميدي) .
(2) الجمهرة: 21 أم موسى الحميرية تزوجها أبو جعفر بالقيروان في دولة بني أمية وكانت قبله عند فتىً خليع من ولد عبيد الله بن العباس ... وكان قد وقع إلى أفريقية، فولدت له ابنة ومات فاتصل موته بقومه، فنهض أبو جعفر بنفسه لاجتلاب بنته فوجدها قد تزوجت رجلاً خياطاً وولدت منه ابناً، ومات الخياط فتزوجها أبو جعفر لجمالها وسمى ابن الخياط طيفور، فلما صارت إليهم الخلافة قالوا: طيفور مولى المهدي وإنما هو أخوه لأمه وسترد الإشارة إلى ذلك في رسالة أسماء الخلفاء.
(3) الجمهرة: 21 تزوجها المنصور في زمن بني أمية في بعض أسفاره.
(4) الجمهرة: 25 وانظر رسالة أمهات الخلفاء فيما يلي.
(5) سمى ابن حيان المرأة التي كلف بها المستكفي " بنت سكرى الموروية " فلا أدري أهي بنت الأسلمي أم لا. (انظر الذخيرة 1/1: 433) .(2/69)
عبد الرحمن بن أبي عامر تزوج واجد بنت رجل بستاني (1) .
خالد بن أمية بن عيسى بن سهيل تزوج أسماء وخبرها مشهور.
الوزير تمام بن عامر بن تمام بن علقمة (2) تزوج بنت رومان النصراني ولها خبر ذكره أحمد بن محمد بن عبد البر في أخبار الفقهاء، فولدت له ابنة تزوجها فطيس بن أصبغ، فولدت له الوزير عيسى بن فطيس (3) .
- 21 -
من تزوج من غمار الناس في الخلفاء (4) :
يدر بن يعلى اليفرني تزوج امرأة حسنية، وابنه تميم كذلك أيضاً، ولقد ملك البلاد بنو خزرون، وهم أشراف البربر، فما استجازوا هذا قط.
أبو مسلم تزوج المرزبانة بنت قديد.
محمد بن زياد تزوج بنت يزيد بن معاوية.
أحمد بن رشيق الكاتب مولى بني شهيد (5) ، تزوج [أسماء] بنت هشام بن عبد الجبار أخت [خليفتين] المهدي والمستظهر.
بنت عبد الله بن يحيى بن أبي عامر (6) - وأمها بريهة بنت محمد بن أبي عامر -
__________
(1) انظر الجزء الأول من الرسائل: 92 حيث ذكر أن عبد الملك المظفر هو الذي كلف بواجد بنت رجل جنَّان (بستاني) وتزوجها.
(2) تمام بن عامر (- 283) ولي خطة الوزارة للأمير عبد الرحمن بن محمد وولديه من بعده وكان عالماً أديباً (الحلة 1: 143 - 144) وقد تزوج أم الوليد بنت خلف بن رومان النصرانية وكانت بارعة الجمال (انظر المقتبس تحقيق د. مكي، ط. بيروت ص: 182) .
(3) استكتبه الناصر ثم ولاه الوزارة (329) مكان أبيه فطيس (إعتاب الكتاب: 190) .
(4) سقط هذا الفصل من ب.
(5) هنا يتبين تقييم ابن حزم للولاء، فابن رشيق هذا كان من أكبر كتاب عصره، قدمه مجاهد العامري على كل من في دولته، وهو الذي آوى ابن حزم حين نعي عليه بقرطبة وغيرها خلافه مذهب مالك، وبين يديه تناظر هو والباجي؛ وقال الحميدي: ما رأينا من أهل الرياسة من يجري مجراه مع هيبة مفرطة وتواضع وحلم (الحلة: 128 ومع كل ذلك فإنه يقع في هذه الرسالة تحت عنوان " غمار الناس ".
(6) اسمها حبيبة وقد زوجها له عبد الملك المظفر فهي بنت أخته بريهة، ولذلك قال ابن عم أبيها عبد الله بن عمرو بن أبي عامر يذم فعل المظفر:
عربي مزوج ... عبده بنت أخته
قبح الله فعل ذا ... ورماه بمقته وقيل انه شعر لعم حبيبة المدعو عبد الملك بن يحيى (الحلة السيراء 1: 278 والجذوة: 372) .(2/70)
تزوجها عبد الملك بن قند مولى فائق.
أختها لأبيها وأمها تزوجها عامر بن أفلح عبد جدها.
بنت عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر: تزوجها حسن بن مجاهد مولى جدها، ثم خلعها أبوها منه.
بنت عمر بن عبد الله بن عمرو بن أبي عامر - وأمها بنت عبد الله بن محمد بن أبي عمر - تزوجها النايه بن غندشلب.
(ذكر (1) أن عريب المأمونية [قيل أنها كانت بنت جعفر بن يحيى بن برمك] كانت تقول: ركبني (2) سبعة من الخلفاء، فإن صدقت فقد كان فيهم الأب والابن (3)) [والله أعلم] .
- 22 -
من كان يظهر التعبد والخشوع وهو من الطغاة (4) :
الوليد بن عبد الملك: كان يركب حماراً ويمشي في الأسواق ويحتسب على البقالين وهو أحد الفراعنة (5) .
حماد بن بلقين (6) : كانت أفعاله كأفعال بابك، وهو يصوم رجب وشعبان ولا يشرب الخمر.
عبد الرحمن الأسلمي من أسلم إخوة خزاعة: فكان يؤذن ويؤم جيرانه في جميع الصلوات ثم ينبههم على الغارات على المسلمين وإفساد السبيل.
__________
(1) انظر تحفة العروس للتجاني: 192.
(2) التحفة: دخل بي.
(3) ب والتحفة: فيهم الوالد والولد.
(4) سقط هذا الفصل من النسخة ب.
(5) تردد بعض المصادر التاريخية هذا عن الوليد، جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي: 243 وكان الوليد جباراً ظالماً؛ ولكنها لا تذكر شيئاً من ضروب ظلمه وإنما تحمل عليه سياسة بعض ولاته مثل الحجاج وقرة بن شريك ... وها هو ابن حزم يأخذ بهذا الزعم أيضاً.
(6) مؤسس دولة بني حماد وباني القلعة المعروفة بهم؛ قرأ الفقه بالقيروان ونظر في الجدل وكان شجاعاً جواداً، وجرت بينه وبين أخيه باديس حروب وأهوال، ومات بتازمرت سنة 419 (أعمال الأعلام - القسم الثالث -: 67 - 76، 85 - 86) .(2/71)
- 23 -
أول من اتخذ من الخلفاء قاعدة جعلها دار ملك (1) :
1 -:
أبو جعفر المنصور بنى بغداد.
وكان سكنى المهدي بعده في أكثر أيامه عيساباذ.
وأكثر سكنى الهادي موساباذ.
وكان أكثر مقام الرشيد بالحيرة والأنبار والرقة، وأراد أن يوطن أنطاكية ثم لم يفعل.
ثم اتخذ المعتصم سر من رأى قاعدة.
ثم أراد المتوكل أن يتخذ دمشق قاعدة، ثم بدا له، وذُكِرَ أنه أراد أن يتخذ سمرقند قاعدة.
2 - وأما بنو أمية:
فإن معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك والوليد قطنوا دمشق.
وأما سليمان فقطن الرملة من أعمال فلسطين.
وأما يزيد فقطن البخراء من أعمال حمص، وكذلك ابنه بعده.
وأما عمر بن عبد العزيز فقطن خناصرة من عمل حمص.
وأما هشام فقطن الرصافة من عمل الرقة.
وسكن يزيد وإبراهيم دمشق.
وسكن يزيد وإبراهيم دمشق.
وكان مروان متحولاً.
- 24 -
أول من ذكر فاشياً من الخلفاء بشرب الخمر (2) :
يزيد بن معاوية ثم يزيد بن عبد الملك ثم ابنه الوليد - دون مجاهرة بذلك ولا
__________
(1) سقط هذا الفصل من ب.
(2) لم يرد هذا الفصل في ب.(2/72)
إعلان به، ولكن الوليد بن يزيد جاهر باستصحاب المغنين فقط -.
ثم من بني العباس الهادي والرشيد، وإنما كان يشرب الرشيد ما اختلف في جوازه فقط، وأما خمر العنب فلا. ثم جاهر الأمين جهاراً قبيحاً بالخمر، وأما المأمون فكان يشرب ما اختلف فيه فقط، وكذلك المعتصم والواثق، ثم جاهر المتوكل وكل من بعده إلا المهدي والمتقي، وكانا ناسكين لا يقربان شيئاً من المحرمات رحمهما الله تعالى، وكذلك القادر والقائم ابنه.
وأما بنو أمية بالأندلس فجاهر منهم الحكم الربضي، إلا أنه لم يشرب أحد من خلفائهم خمر العنب، وإنما كانوا يشربون العسل المطبوخ فقط، هذا أمر لا شك فيه عندنا أصلاً. فأما عبد الله منهم والحكم والمؤيد والمهدي وسليمان والمستظهر فليس أحد منهم شرب في ولايته: لا مختلفاً فيه ولا خمراً، تديناً وتنزهاً، هذا أمر شاهدنا بعضه وصحَّ عندنا سائره. وكان القاسم بن حمود لا يشرب شيئاً من الأنبذة تديناً. وأما سائرهم فمجاهرون.
- 25 -
ثلاثة ترشحوا للخلافة، ماتوا في أربعين يوماً (1) :
عبد الرحمن المستظهر وسليمان بن المرتضى ومحمد بن عبد الرحمن المعروف بالعراقي بن هشام بن سليمان بن الناصر، قتل المستظهر يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، ومات سليمان بن المرتضى بعده بعشرة أيام حتف أنفه، وقتل العراقي بعده خنقاً لثلاث عشرة ليلة خلت لذي الحجة.
- 26 -
نَوْكَى الخلفاء:
من بني العباس: الأمين [بن زبيدة] . المعتمد. القاهر. المستكفي.
ومن بني أمية: المستكفي.
( [إلا أن القاهر من هؤلاء كان نوكه ممزوجاً بسلاطة، وما كان هشام المؤيد بدونهم إلا أنه كان متنسكاً لا يؤذي أحداً، ولا يمنع أحداً من أن يؤذى، وكان أبعدهم من كل خير وأجمعهم لكل خلة سوء المستكفي والمستكفي] ) .
__________
(1) سقط هذا الفصل من ب.(2/73)
- 27 -
*حَزَمَتُهم (1) بعد الصحابة رضي الله عنهم:
مروان بن الحكم، عبد الملك بن مروان، هشام بن عبد الملك، مروان بن محمد، عبد الرحمن بن معاوية، أبو جعفر المنصور؛ وما كان المعتصم والمعتضد ببعيدين ممن ذكرنا.
- 28 -
*ذوو الفتوح منهم:
أبو بكر. عمر. عثمان. معاوية، رضي الله عنهم. الوليد. سليمان (2) : فإن خيله كانت تحارب الفرنج في ثغور الأندلس، وعسكر له آخر يحارب النوبة في عقر دارهم، وعسكر له آخر يحارب القسطنطينية قد أشرف على فتحها ويسكنها المسلمون لولا موته، وجيوشه تحارب الترك والخزر والهند، وهو ساكن في قريته ابن سبع وثلاثين سنة، وحمل إليه رأس عبد العزيز بن موسى بن نصير صاحب الأندلس ورأس قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، إذ هما مخالفان (3) .
هشام أخوه: بلغت خيله أقاصي أرض السودان خلف برِّ غانة إلى معادن الذهب، وفتح صقلية وإقريطش (4) .
وأسلم ملك كابل ايام المأمون.
وكان للمعتصم فَتْحُ بابكَ المتوسطِ بالكفر دارَ الإسلام فقط (وكان ضدهم: محمد بن عبد الرحمن المستكفي فإنه أقام بقرطبة سبعة عشر شهراً لا تجاوز طاعته فرسخاً) .
- 29 -
*عالمهم بعد الصدر الأول:
المأمون (وكان أخوه المعتصم أمياً لا يقرأ ولا يكتب) .
__________
(1) م: حبرهم.
(2) من حق هذه الفتوح أن تقرن بالوليد لا بسليمان (ما عدا غزوة القسطنطينية) فإن فتح السند وما وراء النهر والأندلس إنما تمَّ في عهد الوليد، وما كان دور سليمان إلا استمراراً لما تقدمه.
(3) خلاف قتيبة أمر تتحدث به المصادر التاريخية، أما القطع بخلاف عبد العزيز بن موسى ففيه نظر.
(4) غزيت صقلية أيام هشام (سنة 112، 113، 114، 115، 116، 118) (تاريخ خليفة: 504، 506، 507، 510، 511) 515) وفي سنة 116 أغزى ابن الحبحاب والي أفريقية عبد الرحمن بن حبيب أرض السودان فظفر وأصاب ذهباً كثيراً (المصدر نفسه: 51) فأم أقريطش فلا ذكر لفتحها أيام هشام.(2/74)
وكان الحكم المستنصر من أشد الناس صبابة بالعلوم لا سيما بالأخبار والمقالات.
- 30 -
*عُدُلهم بعد الصحابة رضي الله عنهم:
معاوية بن يزيد. عمر بن عبد العزيز، يزيد بن الوليد. محمد المهتدي. هشام الرضى (1) .
- 31 -
*مسرفوهم (2) :
يزيد بن معاوية. [الوليد بن عبد الملك] . السفاح. أبو جعفر المصور. الهادي. المعتضد. الحكم الربضي. عبد الرحن الناصر. سليما [الظافر] بن الحكم؛ إلا أنه من بينهم كان إسرافهُ وجوره ممزوجين بضعف وخساسة نفس وسوء سياسة.
- 32 -
*أدباؤهم [وشعراؤهم] :
الوليد بن يزيد. إبراهيم بن المهدي. [الراضي] . سليمان بن الحكم. المستظهر.
- 33 -
*مجاهروهم بالانهماك في المعاصي واللذات:
يزيد بن عبد الملك. ابنه الوليد. الأمين. المتوكل (إلا أن إظهاره السنة وسعادته سترا عليه) . المقتدر. القاهر. المستكفي.
الحكم الربضي (3) [وكان يَخْصِي من اشتهر بالجمال من أبناء أهل بلده، منهم طرفة بن لقيط أخو عبد الله بن لقيط، تصَّرف أبوه وإخوته وآله في الولايات الرفيعة، ومنهم نصر صاحب منية نصر، كان أبوه من اسالمة أهل الذمة من أهل
__________
(1) جاء في أعمال الأعلام: 14 أن ابن حزم عد هشاماً الرضى ثالث ثلاثة من العدول في بني أمية خاصة؛ وهذا يختلف عما ورد هنا إذ يكون رابع أربعة.
(2) ح: مريدهم.
(3) انظر المغرب 1: 44 حيث ينقل عن نقط العروس، والنصّ فيه: " ومن المجاهرين بالمعاصي السفاحين للدماء لدينا الحكم الربضي، وقد كان جبروته يخصي من اشتهر بالجمال من أبناء رعيته ليدخلهم قصره " وذكر ذلك المقري في النفح 1: 342 نقلاً عن ابن حزم.(2/75)
قرمونة، ومات قبل موت ابنه نصر بأيام، ومنهم شريح صاحب مسجد شريح] .
[عبد الرحمن الناصر (1) : وله تعليق أولاد السودان في الناعورة وركوب رسيس بقلنسوة وسيف في موكبه (قال أبو محمد: ورسيس هذه كانت امرأة من دار الخراج (2) رفيعة مهيبة اتصلت بالناصر وخفت عليه حتى حمله ذلك على أن أركبها مكشوفة في موكبه بقلنسوة وسيف تقلدته، على بغل خلفه، بينه وبين الأولاد، في يوم سرور، وشقَّ هكذا قرطبة على باب العطارين [من] الرَّبَض الغربيّ كلّه إلى الزهراء. حدثني بذلك الوزير أبو عبدة (3) رحمه الله وأبو عبد الله ابن الغليظ (4) كلاهما عن مالك بن الحسن والد أبي عبدة أنه سلم على الناصر في جملة الموالي في ذلك النهار ورأى هذه الحال] .
- 34 -
* [ذوو السعد منهم: أريد بذلك] من سعد منهم بغير استحقاق ولا تعب ولا عناء:
السفاح. المتوكل.
- 35 -
*مشائيمهم على قومهم وعلى الناس:
سليمان [الظافر] بن الحكم. محمد المستكفي.
ومن بني العباس الراضي، فإنه أبطل جند الخلافة جملة فضعفت الخلافة حينئذ
__________
(1) قال ابن حيان (المقتبس 5: 37) قد عارض الفقيه العالم أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي جميع ما ظهر للناس وحمله نقلة أخبارهم من محاسن هذا الخليفة الناصر لدين الله بما عفاها ونسخها من سماج معايبه إذ قال في كتابه المسمى نقط العروس في نوادر الأخبار عندما ذكر مثالب جد جده الأقدم الحكم بن هشام الجبار صاحب الربض فعطف على عبد الرحمن الناصر لدين الله هذا فقال: وما كان عبد الرحمن الناصر لدين الله بالبعيد من جد جده الحكم بن هشام في انهماكه في المعاصي والتباسه بالريب وعيثه في الرعايا واستهتاره باللذات وتغليظ العقوبات وتهوينه بالدماء فهو الذي علق أولاد السودان في ناعورة قصره بدلاً من الأقداس الغارفة للماء فأهلكهم، واستركب رسيس الماجنة مضحكته [في] موكبه بسيف وقلنسوة وهي عجوز سوء فاجرة، إلى مناكير كانت له باطنة، الله أعلم بها.
(2) يعني أنها من النساء اللواتي كن يسمين " الخراجيات "، لهن دور خاصة بهن، هي الفنادق؛ وقد جاء في رسالة ابن عبدون في الحسبة: 50 يجب أن ينهى نساء دور الخراج عن كشف رءوسهن خارج الفندق.
(3) يريد بأبي عبدة: حسان بن مالك بن أبي عبدة الوزير أحد الأئمة في اللغة والآداب، ومات عن سنّ عالية قبل العشرين وأربعمائة (الجذوة: 183 - 184) .
(4) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الأعلى بن هاشم من أهل قرطبة وكان من أهل العلم والأدب، وولي قضاء مالقة؛ روى عنه ابن حزم (الجذوة: 66 والصلة: 509) .(2/76)
وبطل رسمها ولم يبق منها إلا اسمها.
- 36 -
*العور منهم:
المهدي بن المنصور. الواثق. عبد الرحمن بن معاوية.
- 37 -
خليفة أبخر: عبد الملك بن مروان.
خليفة ألثغ: المستعين بن محمد بن المعتصم كان يجعل السين ثاء (1) .
خليفة ممرور: عبد الرحمن بن الحكم.
- 38 -
*المتغلب عليهم (2) :
1 -:
المطيع. القادر. القائم. أبو جعفر الراضي في آخر أيامه. المتقي. المعتمد في آخر أيامه. القاهر في أول أيامه. المستكفي [في أولها] .
2 - ومن بني أمية:
[هشام بن الحكم] المؤيد. [محمد] المستكفي. المعتد.
- 39 -
*من غاب عن موضع خلافته:
المأمون بويع له ببغداد ولم يدخلها إلى [نحو من] عشرين شهراً.
المعتد بويع له بقرطبة ولم يدخلها إلى [نحو] ثلاثة أعوام.
- 40 -
*من ولي مرتين:
المأمون بويع له ببغداد ثم خلع بها ثم بويع الأمين.
__________
(1) ب: كانت لثغته في السين يجعلها ثاء.
(2) ب: من لم يكن بيده من الخلافة إلا الاسم.(2/77)
* [من بويع] ثم خلع ثم رُد:
1 -:
المقتدر. القاهر.
2 - ومن بني أمية:
هشام المؤيد. المهدي. سليمان.
3 - ومن بني علي:
القاسم. ويحيى بن علي.
- 42 -
*من ولي [منهم] بعد عمه:
الوليد بن يزيد بعد هشام عمه.
المعتضد بعد المعتمد عمه.
يحيى بن القاسم.
- 43 -
*من ولي بعد جده:
عبد الرحمن الناصر [بعد عبد الله] . وسائرهم إنما ولي بعد أب أو بعد أخ أو ابن عم قريب أو بعيد.
- 44 -
*أكثرهم ولداً (1) :
عبد الرحمن بن الحكم كان له مائة ولد، خمسون ذكراً وخمسون أنثى (2) .
__________
(1) ب: أكثر الخلفاء.
(2) انظر المغرب 1: 45 حيث قال: ذكر ابن حزم في نقط العروس أن ولده مائة النصف ذكور؛ وذكر المقري في النفح 1: 347 أن عدد ولده مائة: خمسون من الذكور وخمسون من الإناث، وعند ابن عذاري 2: 122 أن الذكور خمسة وأربعون والإناث اثنتان وأربعون، ومن الغريب أن يقول ابن حزم نفسه في الفصل 1: 175 أنه ولد له خمسة وأربعون ذكراً عاش منهم نيف وثلاثون.(2/78)
- 45 -
*من لم يكن له ولد منهم:
معاوية بن يزيد. هشام بن الحكم.
- 46 -
*من انقرض عقبه منهم:
[الحكم] المستنصر بالله. [محمد] المهدي و [عبد الرحمن] المستظهر ابنا هشام بن عبد الجبار. محمد المستكفي. المنذر بن محمد.
ومن بني العباس: أبو العباس السفاح.
- 47 -
*من ولي منهم صبياً:
جعفر المقتدر: لم يستكمل إحدى (1) عشرة سنة.
هشام المؤيد: ولي ولم يستكمل إحدى عشرة سنة.
وأما معاوية بن يزيد فإنه ولي وله تسع عشرة سنة.
ولم يل الخلافة أحد دون العشرين غير هؤلاء.
[قال ابن حيان: ذكر نفطويه في كتابه أنه لم يل الخلافة قبل المعتز بالله أحد كان أصغر سناً منه، مولده في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (2) ، قبل خلافة والده المتوكل بمائة يوم محصاة، وبويع بالخلافة بسرّ من رأى صدر المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، قال: وسنه ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر. وقال ابن كامل: قتل المعتز وله عشرون سنة كاملة بعد خلعه بأيام أربعة] (3) .
[ويلحق بهؤلاء المقلدين في الصغر منصور بن نزار الملقب بالحاكم بأمر الله
__________
(1) ب: أربع؛ وعند ابن العمراني: 153 وكان سنه ثلاث عشرة سنة.
(2) ابن العمراني (132) : الحادي عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، فعمره على هذا الحساب اثنتان وعشرون سنة وثلاثة أشهر وأيام (ومدة خلافته أربع سنين وستة أشهر وخمسة وعشرون يوماً فتكون بيعته وهو دون العشرين) وقد روي أن عمره (يوم توفي) كان أربعاً وعشرين سنة.
(3) هكذا هو النص عند الحميدي؛ وأما في نشرة زيبولد فقد ورد في موضعه: " وقد غلط قوم فأدخلوا المعتز في هذه الجملة وهذا باطل، ما ولد المعتز إلا أول سنة إحدى وثلاثين وبلغ الحلم في رأس عين في سفرة أبيه إلى الشام، وولد له المعتضد () في أولها، هذا كله لا شك فيه " والعبارة مضطربة؛ ويبدو أن ابن حزم عدل عن هذا الرأي من بعد واعتمد قول ابن حيان.(2/79)
صاحب مصر، فهو يلي هشاماً صاحب الأندلس في هذه الخصلة، مولده في عقب ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وتقليده بعد والده نزار في عقب رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وكانت سنه إحدى عشرة سنة، وستة أشهر غير عشرة أيام، ومن الغرائب أن يتناسق بعده ولده علي الظاهر وولد ولده المستنصر في مثل هذه الولاية في الصغر، على أني لم أحص أمدهما من مواليدهما، واعترفت للإجماع على تقليدها في حدّ الأبناء، ولا سيما أحدهما معد بن علي المستنصر الباقي في هذا الوقت، وكان أقرب إلى الطفولة منه إلى الصبا - وفي هذا الباب بقية] .
- 48 -
*من ولي بمنهم] مسناً قد تجاوز ستين سنة:
1 -:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة.
عبد الله بن الزبير: ولي الخلافة وله أربع وستون سنة.
مروان بن الحكم: بويع له وله إحدى وستون سنة.
مروان بن محمد: ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة.
2 - ومن بني علي:
القاسم بن حمود: ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة (1) .
(واختلف في عثمان رضي الله عنه ما بين إحدى وخمسين إلى ثماني وسبعين (2) سنة [وقيل أقل من ذلك] والذي لا أمتري فيه أنه لم يكن له إذ ولي إلا أقل من ستين سنة (3)) .
- 49 -
*من ولي وله خمسون سنة إلى ستين سنة (4) :
عمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم.
__________
(1) ب: ولي الخلافة وقد دخل في إحدى وستين سنة.
(2) ب: وستين.
(3) ب: لم يكن له إذ ولي إلا ستون سنة.
(4) ب: إلى أقل من الستين.(2/80)
[وهشام] المعتد. [وأحمد] القادر.
- 50 -
*من ولي منهم وله ما بين أربعين سنة إلى خمسين سنة ولم يتمها:
عبد الله المستكفي. المنذر. عبد الله أخوه. الحكم المستنصر. سليمان الظافر. [أبو جعفر المنصور. المعتصم ولي وهو في الأربعين.] . محمد المستكفي. علي بن حمود.
- 51 -
*من ولي منهم وله ما بين الثلاثين إلى ما دون الأربعين (1) :
1 -:
الحسن بن علي رضي الله عنهما. يزيد بن معاوية. عبد الملك بن مروان. الوليد. سليمان. عمر بن عبد العزيز. يزيد بن عبد الملك. الوليد بن يزيد. يزيد بن الوليد. إبراهيم أخوه. هشام الرضى. عبد الرحمن بن الحكم. محمد ابنه. محمد المهدي بن هشام.
2 - ومن بني العباس:
السفاح. المهدي. الواثق. المهتدي. المعتضد. القاهر. المتقي. المطيع. الطائع.
3 - ومن بني علي:
يحيى بن علي.
(وأما سائر الخلفاء فإنما وليها كل منهم دون الثلاثين وفوق العشرين [سوى من ذكرنا] .
- 52 -
*أطول (2) الخلفاء عمراً:
__________
(1) ب: إلى أقل من الأربعين.
(2) ب: أكثر.(2/81)
(وذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه تجاوز سبعين، وتجاوزها (1) معاوية وابن الزبير، وبلغها عبد الله بن محمد، وتجاوزها الطائع وعبد الرحمن بن محمد الناصر والقاسم بن حمود.
- 53 -
*أقصر الخلفاء عمراً:
معاوية بن يزيد لم يبلغ العشرين سنة.
- 54 -
*ومن لم يستكمل خمساً وعشرين سنة (2) :
[موسى] الهادي: لم يستكمل أربعاً وعشرين سنة.
[محمد] المنتصر: لم يكمل خمساً وعشرين سنة [نقصه من خمسة وعشرين عاماً شهران أو نحوهما] .
المعتز: لم يستكمل خمساً وعشرين سنة.
- 55 -
*الذين تجاوزوا خمساً وعشرين ولم يستكملوا ثلاثين:
الأمين [بن زبيدة] .
- 56 -
*الذين تجاوزوا الثلاثين ولم يبلغوا الأربعين:
سليمان بن عبد الملك. [عمر بن عبد العزيز] . الوليد بن يزيد. يزيد بن الوليد إبراهيم بن الوليد. بأبو العباس] السفاح. الواثق. المستعين. المهتدي. المكتفي. المقتدر. الراضي. هشام الرضى. محمد [المهدي] بن هشام بن عبد الجبار.
__________
(1) وذكر عن.... وتجاوزها؛ ب: ولا تجاوز السبعين ولا بلغها منهم أحد إلا عثمان و.... الخ.
(2) ب: والذين تجاوزا عشرين ولم يبلغوا خمسة وعشرين عاماً.(2/82)
- 57 -
*من خلع من الخلفاء وسلم:
الحسن بن علي رضي الله عنهما انخلع مختاراً.
معاوية بن يزيد انخلع مختاراً (ولم يضطر واحد منهما إلى الخلع) .
إبراهيم بن الوليد. إبراهيم بن المهدي. المستكفي (اضطروا إلى الخلع كلهم وماتوا حتف أنوفهم، إلا أن إبراهيم غرق في الهزيمة مع مروان. وقيل أن المستكفي سمَّه بعض من كان معه) (1) .
المطيع (انخلع لابنه بين الطوع والكراهة ومات حتف أنفه إلى أربعين يوماً) .
- 58 -
*من خلع منهم واعتقل:
هشام المؤيد إذ خلعه المهدي.
القاسم إذ خلعه ابن أخيه يحيى.
المقتدر إذ خلعه [أخوه] القاهر [أول مرة] .
القاهر إذ خلعه المقتدر أخوه أول مرة.
- 59 -
*من خلع وسُمِلَتْ عيناه:
القاهر إذ خلعه الراضي. المتقي. المستكفي. الطائع.
- 60 -
*من خلع ثم قتل إلى مدة:
المستعين من بني العباس.
- 61 -
*من خلع وقتل إثر خلعه:
المعتز والأمين.
__________
(1) انظر جذوة المقتبس: 26 وما يلي 202.(2/83)
ومن بني أمية: سليمان بن الحكم [إذ خلعه علي بن حمود] .
- 62 -
*من لم يجب إلى الخلع وصبر حتى قتل [أو قاتل حتى أثخن ثم أخذ وقتل] :
عثمان بن عفان رضي الله عنه صبر حتى قتل.
عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر.
مروان بن محمد: قاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر.
المهتدي رحمه الله قاتل حتى جرح ثم ولى فأدرك وقتل (1) ولم يجب إلى الخلع.
- 63 -
*من قيم عليه فقتل دون أن يطالب بخلع ولم يدافع:
الوليد بن يزيد. المقتدر. المهدي محمد بن هشام. أخوه المستظهر (2) .
- 64 -
*من خطب لبني العباس أو لبني علي بالأندلس:
عبد الرحمن بن معاوية خطب لأبي جعفر المنصور أعواماً.
العلاء بن مغيث اليحصبي (3) خطب لأبي جعفر المنصور بباجة وأكشونبة (4) وتدمير.
عمر بن حفصون خطب في أعماله برية (5) لإبراهيم بن القاسم بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب صاحب البصرة. ثم خطب لعبيد الله صاحب افريقية، وأذَّن في جميع أعماله بحيَّ على خير العمل.
__________
(1) ب: حتى جرح وسلم ففر وظفر به فقتل.
(2) بعد هذا تفترق النسختان مرة أخرى؛ ولكن المتبع هو رواية م في الترتيب.
(3) العلاء بن مغيث اليحصبي الجذامي ثار بباجة سنة 146 ودعا إلى طاعة أبي جعفر ونشر الأعلام السود فاتبعته الأجناد فنهض إليه عبد الرحمن الداخل فحاصره بقرمونة، وقتل العلاء وتفرق أصحابه (البيان المغرب 2: 51 - 52) .
(4) م: بناحية أكشونبة.
(5) ب: خطب في ببشتر.(2/84)
- 65 -
*من قام بدعوة (1) بني أمية بعد ذهاب دولتهم بالشام (2) :
تمام بن تميم التميمي بالقيروان أيام الرشيد.
رافع بن الليث بن نصر بن سيار بسمرقند أيام الرشيد.
(وكان عجيف بن عنبسة بن طاهر بن الحسين من قواد رافع) .
- 66 -
*من تسمَّى بالخلافة من غير قريش (من غير الخوارج) (3) :
يزيد بن المهلب [حين قيامه على يزيد بن عبد الملك] .
محمد بن الفتح (4) المعروف بواسوال ابن ميمون، المعروف بالأمير ابن مدرار صاحب سجلماسة وكان غاية في إظهار العدل وتسمى الشاكر لله وإليه تنسب المثاقيل الشاكرية، وذلك سنة نيف وأربعين وثلاثمائة، ثم أسره جوهر قائد أبي تميم، وحمله إلى المهدية وبقي بسجلماسة ابنه يخطب لأبيه إلى أن مات. وقد أنكر بعض أهل العلم بالخبر قصة محمد بن الفتح هذا وقال أنه كان صفرياً من الخوارج، وهذا خطأ (5) ، وإنما أتي في هذا من قبل أن آباءه كانوا صفرية، وأمّا هو فسني مالكي المذهب، مشهور بذلك، طلب الفقه بالأندلس وحضر غزوة الخندق.
عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر: تسمى بالخلافة يوماً واحداً في غزاته الشتوية، وخرق ثيابه طرباً إذ سمع النداء بذلك، ثم بدا له فترك ذلك، وهذا أحمق ما سمعت (6) .
__________
(1) ب: بدعوة خلفاء.
(2) ب: بالأندلس في المشرق.
(3) من غير الخوارج؛ ب: وهو غير خارجي.
(4) مفاخر البربر: 48 وهو ينقل عن نقط العروس: ان اسمه محمد بن ميمون بن الفتوح بن مدرار؛ وهو عند البكري: 151 محمد بن الفتح؛ وقال البكري أن تلقبه بالخلافة وضربه للنقود تم سنة 342.
(5) مؤسس دولة بني مدرار أبو القاسم سمعون بن يزيلان الزناتي الملقب بمدرار (أو سمفوا بن مزلان بن نزول) كان صفرياً؛ وظلت دولتهم كذلك إلى أيام اليسع بن المنتصر بن اليسع بن مدرار حين بدأ الصراع بينهم وبين العبيديين، فأصبح صاحب سجلماسة منذ 309 تابعاً للدولة العبيدية داعياً للشيعة؛ حتى جاء محمد بن الفتح فقطع الدعوة الشيعية ودعا إلى نفسه وتلقب بالشاكر لله إلى أن أسره جوهر سنة 349 (أعمال الأعلام - القسم الثالث -: 140 - 149) ؛ وانظر البكري: 151 حيث قال: وكان محمد بن الفتح سنياً على مذهب المالكية يحسن السيرة ويظهر العدل.
(6) ب: وا هذا من الفعل الجيد.(2/85)
- 67 -
* [من أراد أن يتسمى بها من هؤلاء ثم منعه مانع:
فناخسرو بن الحسن (1) متولي الأمور ببغداد وأعمالها. أخبرني أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني قال (2) : أراد فناخسرو أن يتسمَّى بالخلافة وأوصى إلى الجُعل الحسين بن علي البصري (3) أن يؤلف له كتاباً في تَخْولِة هذا الأمر في غير قريش واستكدّه ذلك جداً، فألف الجعل هذا الكتاب ودفع نسخة منه إلى تلميذ له كان يثق به، فانتشر الأمر من قِبَلِ ذلك التلميذ إلى أن بلغ الخبر إلى خراسان، فصاحوا صيحة واحدة في مجالس الفقهاء وا إسلاماه وا محمداه، فبلغ ذلك فناخسرو فقامت عليه الفتن وخشي إجلاب أهل خراسان كلهم عليه، فكان هذا سبباً لأن سَمَّ الجعل، وقنع الناسُ بموت الجعل وسكن الأمر] .
[والمنصور محمد بن أبي عامر أراد ذلك وجمع للمشورة فيه قوماً من خواصه فيهم ابن عياش وابن فطيس وأبي (4) رحمه الله، ومن الفقهاء محمد بن يبقى ابن زرب (5) وأبو عمر بن المكوي (6) والأصيلي (7) . فأما ابن عياش وابن فطيس فصوَّبا ذلك له، وأما أبي رحمه الله فقال له: إني أخاف من هذا تحريك ساكن، والأمور كلها بيدك، ومثلك لا ينافس في هذا المعنى. وأما محمد بن يبقى بن زرب فإنه قال له: وصاحب الأمر ما شأنه فقال له: لا يصلح لهذا، فقال له: يُرَى
__________
(1) هو عضد الدولة أبو شجاع بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه (- 372) ؛ انظر ابن خلكان 4: 50 ومصادر أخرى ذكرت في الحاشية.
(2) ثابت بن محمد الجرجاني (350 - 431) ؛ انظر ترجمته في الذخيرة 4 1: 124 وقد ذكرت هنالك المصادر الأخرى؛ وكانت صلته بابن حزم وثيقة وأشار إليه في الفصل 1: 17 بأنه أحد الملحدين. في الإحاطة 1: 462 تفصيل لأمر مقتله نقلاً عن ابن حيان.
(3) كان من كبار المتكلمين في عصره (توفي سنة 369) انظر ترجمته في فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: 325 وتاريخ بغداد 8: 73 والمنتظم 7: 101 وقد حطَّ عليه التوحيدي في مؤلفاته، انظر مثلاً أخلاق الوزيرين 201 - 214.
(4) في ترجمة والد ابن حزم انظر اعتاب الكتاب. 191.
(5) محمد بن يبقى بن زرب: أحد صدور الفقهاء في زمانه، ولي القضاء، وكان ذا سيرة حسنة فيه وبقي قاضياً مدة 14 عاماً وتوفي سنة 381 (ترتيب المدارك 4: 631 والنباهي: 77) .
(6) هو أبو عمر أحمد بن عبد الملك الأشبيلي المعروف بابن المكوي مولى بني أمية، وكان شيخ الفقهاء بالأندلس في وقته، توفي أول انبعاث الفتنة البربرية فجأة سنة 401 (ترتيب المدارك 4: 635) .
(7) هو عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأصيلي أبو محمد، تفقه بقرطبة منذ صباه ورحل إلى المشرق 352 (أو 351) وتميز في مذهب مالك، ولاه المنصور قضاء سرقسطة، فلم تطل مدته فيه واستعفى وعاد إلى قرطبة وأصبح رأساً في الشورى بعد وفاة ابن زرب وتوفي سنة 392 (ترتيب المدارك 4: 642) .(2/86)
ويجرَّب، فقال له: أفي مسائل الفقه تريد أن نسأله قال: لا، ولكن في مسائل السياسة وتدبير المملكة، قال: فإن لم يقم، قال: يُنْظَرُ في قريش. فأعرض عنه مغضباً ونظر إلى الأصيلي وإلى ابن المكوي، فقال له الأصيلي: يا مولاي عربيٌّ ضابط خير من قرشي مضيِّع، قال، فنظر إلى ابن المكوي، فجعل يضحك له، ويقول: يا مولاي ومثلك يفكر في هذا وأنت الكل وكل شيء بيدك، وإنما يرغب في الأسماء من لا يحقِّق، والمدار على الحقيقة، وهي بيدك. فسكت ابن أبي عامر، وقاموا واحداً واحداً. فلما قام القاضي وسلم عليه قال: اخرجوا بين يدي الفقيه، فعظم ذلك على ابن زرب، وقال: لا بأس هذا ما لا تقدرون على عزلنا عنه، ونهض إلى منزله، فمات بعد أيام يسيرة جداً] .
وأبو تميم المعز بن باديس صاحب القيروان أراد ذلك فكَّره إليه الفقيه أبو عمران الفاسي ذلك، وبيّن له أن النص لم يجوّز الخلافة إلا في قريش، فقال: إنك إنما تريد بهذا الشقاق والارتفاع عن المسالمة، وهذا لا يتم لك، لأنك إذا فتحت هذا الباب تسمى بها كل من أردت التفوق عليه من مصاقبيك وغيرهم، فبطل ما اختصصت به، وهان هذا الأمر ولم تفقد شيئاً، فسمع المعز له، وترك ما أراد] .
- 68 -
*من قتل أباه من الخلفاء والمتغلبين:
المنتصر دسَّ على أبيه المتوكل من قتله.
ومن غير الخلفاء: زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب دسَّ على أبيه من قتله.
أبو تغلب الغضنفر بن ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وثب على أبيه فاعتقله ثم أدخله الحمام وتركه فيه حتى مات.
إبراهيم بن محمد بن يعفر الحميري صاحب صنعاء: قتل أباه بيده [وعمه] [أبا الحسن] وقتل ابن عمه [عبد الواحد بن أبي الحسن وجدته أم أبيه] في المسجد الجامع بصنعاء.
[قال ابن حيان: ولد ابن يعفر هذا صاحب اليمن اسمه إبراهيم بن محمد، لم يسمع في الملوك أجرأ منه على القتل، قتل أباه محمد بن يعفر وعمه المكني بأبي الحسن وابن أبي الحسن الذين كانوا رضوه للأمر بمكانه في مشيخة معهم من جماعة قومه في(2/87)
المسجد بصنعاء، رافضة؛ وهذا باب في الأمراء من غير قريش يتسع لأن قتلهم الأقارب كثير] .
منوشهر بن [شمس المعالي] قابوس بن وشمكير بن زياد صاحب طبرستان (1) :
صعد أبوه إلى علية (2) له [وكانت عادته أن يصعد فيها] وقد دبر [ولده] (3) منوشهر عليه [في أن ترتق أبوابها] فلما صار أبوه في العلية أمر ابنه من أغلق الباب وأقفله ثم تركه سبعة أيام ثم فتح الباب فوجد أباه ميتاً قد قطع يديه بأسنانه (4) .
اليشكري فضلون صاحب الحيرة قتل أباه وتزوج امرأته.
أذكوتكين بن أساتكين (5) صاحب الري [وقزوين وما هنالك] حارب أباه مدة، ثم أسر أباه فاعتقله إلى أن مات أذكوتكين وولي ابن له حدث فقتل جده وأظهر أنه قتل نفسه.
محمد بن عيسى بن محمد بن مزين (6) صاحب شلب [الآن] اعتقل جده أبا أبيه إثر موت أبيه [بحين] حتى مات في حبسه.
- 69 -
*من قتل ابنه:
سليمان بن عبد الملك قتل ابنه أيوب سراً.
عبد الله بن محمد قتل ابنيه محمداً والمطرف.
عبد الرحمن الناصر قتل ابنه عبد الله، وكان عبد الله فاضلاً ورعاً.
إبراهيم بن أحمد بن الأغلب قتل ابناً له رجلاً.
نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد صاحب خراسان قتل ابنه
__________
(1) ب: خراسان.
(2) ب: إلى قلعة له.
(3) ب: وقد كان تقدم ولده.
(4) ب: فوجده قد أكل يديه وقد مات.
(5) كان أساتكين من أكابر قواد الأتراك، استعمله الخليفة المعتمد على الموصل، فسيّر إليها ابنه أذكوتكين سنة 259 ونجد أذكوتكين حياً في سنة 276 (انظر ابن الأثير ج 7 في حوادث هاتين السنتين) .
(6) توفي عيسى بن محمد بن مزين صاحب شلب سنة 432 وخلفه ابنه محمد فحكم ما كان بيد أبيه (ما عدا باجة) حتى توفي سنة 440 فقوله (الآن) - في النسخة ب - يحدد تاريخاً محتملاً لكتابة العروس (انظر البيان المغرب 3: 192 - 193) .(2/88)
إسماعيل.
خلف بن أحمد صاحب سجستان قتل ابنه ولم يكن له غيره.
محمد بن أبي عامر قتل ابنه عبد الله وابن أخيه عبد الله بن يحيى وكان على ابنيه أيضاً وابني عمه (1) .
عمر بن حفصون قتل ابنه أيوب.
القائد بن حماد بن بلقين قتل ابنه زيري (2) .
عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد قتل ابنه (إسماعيل) .
- 70 -
*من قام على أبيه وحاربه:
العباس بن أحمد بن طولون قام على أبيه وحاربه.
سليمان بن عمر بن حفصون (3) . قام على أبيه [بأبذة] وحاربه [وصده] ، وكان أبوه يعجبه ذلك، ضرب أباه بالسيف في بعض حروبه معه فسرّ أبوه [بذلك] وافتخر به.
إبراهيم بن إسماعيل بن ذي النون حارب أباه دهراً [بسرته] .
- 71 -
*من قتل أخاه:
- المأمون: قتل أخاه الأمين [وخلعه] .
- المعتز: قتل أخاه المؤيد وخلعه عن العهد.
__________
(1) ب: عبد الله بن يحيى وابني عمه عسقلاجة وأخاه.
(2) ولي القائد بعد أبيه حماد وتوفي سنة 446 فكان ملكه سبعاً وعشرين سنة (أمال الأعلام - القسم الثالث -: 86 - 87) .
(3) قال ابن حيان في المقتبس (5: 132) وقد ذكر الفقيه العالم أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي بسالة سليمان بن عمر بن حفصون هذا وتمرده في كتابه في نوادر الأخبار المسمى نقط العروس في باب العقاق لآبائهم فقال: سليمان بن عمر بن حفصون المشهور بالبسالة ثار على أبيه عمر بن حفصون المنتزي على خلفاء بني أمية بكورة رية من أرض الأندلس فخالفه وامتنع عليه، ثم عاد لمثل ذلك فامتنع بمدينة أبذة وحارب أباه عمر وصمد له في القتال مواجهاً فصبَّ عليه سيفه وجرحه، فأعجب ذلك منه عمر أباه إمام الفساق، وفخر به؛ اه. قلت: فتأمل الفرق بين النصين.(2/89)
- عبد الله بن محمد: قتل أخويه: هشاماً بالسيف والقاسم بالسم (1) .
- أبو الجيش بن أحمد بن طولون: قتل أخاه العباس يوم موت أبيهما - قيل إنه أفرغ الرصاص في دبره مغلياً (2) .
- أبو تغلب بن ناصر الدولة: قتل أخاه حمدان.
- زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب: قتل [جميع] اخوته.
- جده إبراهيم بن أحمد: قتل أخاه وعمه وابن أخيه صبياً صغيراً.
- نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح صاحب خراسان: قتل أخاه صالحاً بعصر خصاه وقتل أخاه [أبا زكريا] يحيى بالسم.
- أبو عبد الله بن البريدي صاحب البصرة: قتل أخاه [أبا يوسف] يعقوب بالسيف.
- محمد بن محمود بن سبكتكين: قام على أخيه مسعود بن ممود وقتله.
- إبراهيم بن حجاج صاحب إشبيلية: قتل أخاه سليمان خنقاً.
- يحيى بن بكر: قتله أخوه خلف بن بكر ساجداً وهو يصلي بهم.
- عباد بن محمد بن غسماعيل بن عباد: قتل أخاه.
- نصر بن أحمد بن مروان صاحب ديار بكر: أرسل أخاه إلى الأتراك واستدعى منهم برهينة ليخاطبه فقتل الرهينة حتى قتل أخوه قصداً لذلك، هذا بعد أن أولد جارية لأبيه له منها ولد، فكان ابنه وأخوه أخوين.
- 72 -
*من قتل عمَّه أو خلعه:
- أبو جعفر المنصور: قتل عمه عبد الله بن علي.
__________
(1) قال لسان الدين في أعمال الأعلام عند الحديث عن الأمير عبد الله بن محمد (أعمال: 26) : ذكره الإمام أبو محمد بن حزم فصرَّح بالحمل عليه وقال: كان قتالاً تهون عليه الدماء مع ما كان يظهره من عفته، فإنه احتال على أخيه المنذر لما قصده بالعسكر وأوطأ عليه حجاماً سم المبضع الذي فصد به، ثم قتل ولديه معاً بالسيف واحداً بعد واحد (راجع الفقرة 69) وقتل أخاه القاسم ثالثهم إلى من قتل غيرهم، قال لسان الدين: والإمام أبو محمد في التجريح والتعديل حجة على قومه؛ وانظر البيان المغرب 2: 156.
(2) ب: قيل حقنه بماء مغلي حتى مات.(2/90)
- المعتضد غرّق عمه ابا عيسى بن المتوكل وقتل عمه المعتمد، قيل سمه في مدوس خرفان، وقيل انه كان إذا نام (1) فتح فاه فأمر من أفرغ [في] فيه (2) رصاصاً مذاباً، وقيل بل حفر له حفرة وملأها بالريش ثم غطاها بحشيش وكانت في طريقه في أحد البساتين، فسقط فيها فلم يخرج إلا ميتاً.
- عبد الواحد بن الموفق قتل إثر بيعة ابن أخيه علي المكتفي.
- الحكم بن هشام [الربضي] قتل أعمامه: سليمان ومسلمة وأمية (3) .
- عبد الرحمن الناصر قتل عمَّه العاصي بن عبد الله (4) .
- المغيرة بن الناصر (5) : قتل خنقاً يوم بويع ابن أخيه هشام بن الحكم.
- يحيى بن علي بن حمود: خلع عمه القاسم فلما قتل يحيى وولي أخوه إدريس قتل عمه القاسم غماً.
- زيادة الله بن عبد الله قتل جميع أعمامه.
- جيش بن أبي الجيش بن أحمد بن طولون: قتل عمه ربيعة بن أحمد بالسياط.
- نصر بن أحمد بن نوح صاحب خراسان: قتل عم أبيه إسحاق بن أحمد، أدخله مع كلب في غرارة ثم خاط رأسها ودفنها في الرمل، وكان إسحاق هذا فاضلاً مكرماً للعلماء ولأهل الدين، وكان نصر لعنه الله على مذهب الغلاة من القرامطة.
- ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان: قتل عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان بأن عصر خصاه حتى مات.
-[تاج الدولة أبو محمد جعفر بن يوسف: قتل عمه علي بن عبد الله] .
- حماد بن بلقين بن زيري: رمى عمه بلكين إلى الكلاب فأكلته حياً.
- مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين: قتل عمه محمد بن محمود.
__________
(1) ب: رقد.
(2) ب: حلقه.
(3) ب: قتل عميه سليمان ومسلمة وابن عمه أيضاً (قلت: ولم يعد ابن حزم في الجمهرة من اسمه " أمية " في أعمامه، فلعل رواية ب: هي الأصوب) .
(4) م: القاضي المغيرة (وهو وهم مما جاء بعده) .
(5) قارن بالجمهرة: 103.(2/91)
- عباد بن محمد بن إسماعيل: قتل عمه وابناً له صغيراً.
- 73 -
*من قتل ابن أخيه:
- أبو جعفر المنصور: سمّ ابني أخويه: محمد بن السفاح فمات، وعيسى بن موسى فتعالج فبرئ.
- المعتصم: قتل العباس بن المأمون، قيل أنه قتله بالمرزاب (1) حتى مات.
- القاهر: قتل ابن أخيه أبا أحمد ابن المكتفي بعصر خصاه، وكان أبو أحمد فاضلاً.
- عبد الرحمن بن معاوية: قتل ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية (2) .
- شيبان (3) بن أحمد بن طولون: قتل ابن أخيه هارون بن أبي الجيش بن أحمد.
- محمد بن أبي عامر: قتل ابن أخيه عبد الله بن يحيى، ويحيى أخوه حيّ.
- 74 -
* [خليفتان تصالحا:
وهذا أمرٌ لم يسمع في الدنيا بأشنع منه ولا بأدلَّ على إدبار الأمور: يحيى بقرطبة والقاسم بإشبيلية] (4) .
- 75 -
*من قتله عبيده:
- علي بن حمود: قتله ثلاثة صقالبة في الحمام دفاعاً عن أنفسهم، واعترفوا بذلك وقتلوا، رحمهم الله.
__________
(1) بالمزارق.
(2) الوليد بن معاوية دخل الأندلس، فلما قتل ابنه المغيرة على يد عمه عبد الرحمن نفي الوليد وبنوه عن الأندلس (الجمهرة: 94) .
(3) م: سنان.
(4) نقل لسان الدين ابن الخطيب هذا النص عن نقط العروس في أعمال الأعلام: 132 والمعني يحيى بن علي المعتلي الحمودي والقاسم بن حمود عمّه.(2/92)
- أبو سعيد الجنابي صاحب القرامطة بالأحساء، لعنهم الله: قتله خدمه (1) في الحمام، وما أعلم أحداً بعد الصدر الأول أعظم يداً عند أهل الإسلام (2) منهم، رضي الله عنهم.
- مرداويج بن زيار الديلمي صاحب الري وأصبهان: قتله [أيضاً] عبيده في الحمام.
- عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحب افريقية: قتله خادمان (3) صقلبيان بكان يثق بهما] وهو نائم على فراشه، وكان فيه خير كثير.
- أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد صاحب خراسان: قتله [أيضاً] عبدان له كان يثق بهما (4) .
- أبو الجيش بن أحمد بن طولون: ذبحه فتىً له حجام في حين تقصيصه له لما أتى ليأخذ الشعر تحت لحيته، حمل الموسى على أوداجه فذبحه.
- رافع بن هرثمة قتله عبده (5) غدراً.
- أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله [بن عبد الله] بن عمر بن الخطاب القائم بمصر (6) ، قتله عبدان له (7) كان يثق بهما، وكان رحمه الله فاضلاً، وتقربا برأسه إلى أحمد بن طولون فقال لهما: هل اطلعتما له على معصية لله تعالى، فقالا: لا، قال: فهل أساء إليكما قالا: لا، فأمر بقتلهما.
- عبد الملك بن عبد الرحمن بن متيوه (8) [صاحب طليطلة وغيرها] : قتله
__________
(1) ب: صقالبته.
(2) ب: عند المسلمين.
(3) ب: فتيان.
(4) ب: عبيد خاصة كانوا له أيضاً.
(5) ب: عبيده.
(6) ب: أبو عبد الرحمن العمري القائم في أعمال النوبة؛ وانظر الجمهرة: 153 في ضبط نسبه فالأصل في النقط مضطرب؛ وفي سيرة ابن طولون: 64 أن الثائر هو عبد الحميد وأنه يكنى أبا عبد الرحمن، وأن ثورته كانت غضباً لله ضد البجة، فخاف ابن طولون عواقب حركته وبعث إليه من يتفاهم معه فلم يتم التفاهم، ولكن ابن طولون أهمل أمره لأنه لم يكن يخاف جانبه، حتى جاءه الغلمان برأسه تقرباً إليه وماولة للحظوة عنده.
(7) ب: كانا له خاصين به.
(8) كان والي طليطلة عندما نشبت الفتنة والده عبد الرحمن بن متيوه (منيوه) فورث ذلك ابنه فأساء السيرة (البيان المغرب 3: 276) .(2/93)
صقلبي له ذباً عن نفسه.
- محمود بن الشرب: قتله عبد له كان محسناً إليه مكرماً له، على غير مكروه، إلا أنه ضربه في بعض الأيام مؤدباً له في ذنب فاضطغن عليه فقتله.
- 76 -
*رجل أتته منيته في الحرب ومات على متن فرسه دون أن يصاب بشيء:
غالب يوم حربه مع ابن أبي عامر وقد أشفى على الظفر.
[قال أبو محمد (1) : فحدثني وهزّني الوزير والدي نضّر الله وجهه قال: كان المنصور بن أبي عامر في القلب وجعفر بن علي المعروف بالزابي في الميمنة قال: وأبوك [و] أبو الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي والحسن بن عبد الودود السلمي في الميسرة (2) . قال: وكأني أنظر إلى غالب وهو شيخ كبير قد قارب الثمانين عاماً وهو على فرسه وفي رأسه طرطور عال، وقد عصب حاجبيه بعصابة (3) ، قال: ثم قال لمن حواليه، وكان قد جمع جموعاً عظيمة من المسلمين والنصارى: مَنْ هؤلاء وأشار إلى الميمنة، فقيل له جعفر بن علي وأخوه يحيى والبربر، قال: فحمل عليهم حملة قَصَفَهم فيها قصفاً، لم يثبت منهم أحد على صاحبه واصطكَّت الهزيمة على الميمنة، قال: ثم انصرف، فقال: مَنْ هؤلاء وأشار إلى الميسرة، فقيل له: أحمد بن حزم وحسن بن عبد الودود ومعن بن عبد العزيز، قال فحمل علينا حملة فانفلقنا بين يديه ولم يُلْوِ أحد منا على صاحبه، قال: وابن أبي عامر في القلب يصفق بيديه، وتضطرب رجلاه في ركائبه، وقد أيقن بالهلاك، قال: فانصرف غالب إلى اصحابه، فقال لهم: قد هزمنا الميمنة والميسرة، وإنما بقي لنا القلب وحده، وفيه هذا الأحدب الملعون، يريد ابن أبي عامر، فالآن نحمل عليه ونهلكه، وكان في أول الحرب قد دعا، وقال: اللهم إن كنت أَصْلَحَ للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني وإن كان هو أصلح لهم مني فانصره (4) ، قال: ثم همز فرسه، وترك جهة القتال، وأخذ
__________
(1) قارن بما أورده لسان الدين في أعمال الأعلام: 63 ويبدو أن أصل النص واحد رغم الاختلافات.
(2) أعمال: والحسن بن أحمد بن عبد الودود في معظم أهل الثغور في الميسرة.
(3) أعمال: عليه درع سابغة وعلى رأسه طشتان مذهب مرتفع السمك قد عصبه بعصابة حمراء أعلم بها، وشد جبينه بعصابة أخرى.
(4) أعمال الأعلام: اللهم إن كنت تعلم أن بقائي أصلح للمسلمين وأعود عليهم من بقاء محمد بن أبي عامر فأهلكه وانصرني عليه، وإن كان هو أولى بذلك مني فانصره عليّ وأرحني.(2/94)
ناحية إلى خندق كان في جانب عسكره، فظن أصحابه أنه يريد الخلاء، فلم يتبعه أحد، فلما أبطأ عليهم ركبت طائفة منهم نحوه، فوجدوه قد سقط إلى الأرض ميتاً، وقد فارق الدنيا بلا ضربة ولا طعنة ولا رمية ولا أثر، وفرسه واقف بناحية يعلك لجامه، ولا يعلم أحد بسبب موته، إلا أن الناس ظنوا ظناً وهو أن القربوس ضرب صدر هذا الذي رُزِ [ئَ] من قَدَر. فلما رأى ذلك أصحابه سُقِط في أيديهم وطلبوا حظ أنفسهم. فبادر مبادر منهم بالبشرى إلى ابن أبي عامر، فلم يصدِّق حتى وافى مواف بخاتمه، ووافاه آخر بيده، ووافاه آخر برأسه، ووقعت الهزيمة على النصارى، وكان غالب قد استمد لملوكهم فقتلوا أشنع قَتْل، وقَتِل في جملتهم رذمير بن شانجة ملك البشاكس المعروف براي قُرْجه (1) وسلخ جلد غالب وحُشي قطناً وصُلِب على باب القصر بقرطبة، وصلب رأسه على باب الزاهرة] .
[قال أبو [محمد] : فأنا أدركته بها إلى أن أهبط يوم هدْمِ الزاهرة، وكانت هذه الحرب التي هلك فيها غالب سنة إحدى وسبعين] .
- 77 -
*من عظم أمره من الملتقطين الذين لا يعرف لهم أب (2) :
- ديصان صاحب الروحانية (3) : كان لقيطاً.
- أبو مسلم السراج صاحب خراسان القائم بدعوة بني العباس: كان لقيطاً بلا شك، وكل ما قيل فيه غير هذا فهو كذب بحت.
- بابك الخّرمي وأخوه عبد الله: قيل أنه لا يعرف لهما أب، وأما أمهما فمعروفة وكانت حية حين قتلهما.
- وحدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد بن محمد بن محمد بن [عبد الملك بن] الأصبغ بن الحكم الربضي (4) القرشي الفقيه قال حدثني عبد الرحمن بن
__________
(1) أعمال: ري قُرْجُه. يعني Ramiro ابن Sancho Garces U Abarca وهو من العائلة الملكية بنبرة، ويلقب Curvus أو كما أورده لسان الدين (rey Gorjo) انظر تاريخ إسبانيا الإسلامية لبروفنسال (بالفرنسية) 2: 227 والحاشية رقم: 1.
(2) لم يرد في هذا الفصل في ب.
(3) يطلق اليونانيون لفظ الروحانية على الطائفة التي تؤمن بأن النفس في صفائها تنظر بالعين النورية وتستهدي لاستخراج البدائع والاطلاع على المغيبات (مروج الذهب 2: 312) .
(4) انظر الجمهرة: 97 والصلة: 342 وقد أشير إليه من قبل: 45 وكانت وفاته سنة 436 بإشبيلية.(2/95)
عبيد الله بن الوزير عبد الرحمن بن بدر الصاحب قال حدثني جدي عبد الرحمن الوزير أن عبد الله بن محمد الأمير خرج إلى الصيد في الغلس في حياة أبيه، فمرَّ بمسجد فسمع بكاء صبي منبوذ، فرَّقت له نفسه وأمر بأخذه وحمله إلى داره وأمر بتربيته وسماه بدراً، وهو بدر الحاجب (1) .
- 78 -
*من غرائب الدهر:
- زاوي بن زيري (2) بن مناد بن منقوش الصنهاجي [رئيس البرابر] كان في الدنيا معه وهو حيّ أزيد من ألف امرأة لا تحل له واحدة منهن [كلهن] (3) من نسل إخوته، ونحو (4) هذا من العدد من الرجال [من نسل إخوته] .
- كذلك اجتمع في عصر واحد الفضل بن جعفر بن العباس بن موسى بن عيسى ابن موسى بن محمد بن علي، وعبد الصمد بن علي، حيين جميعاً.
-[اجتمع أيضاً في عصر واحد] عبد الرحمن بن الزبير (5) بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد وسليمان بن محمد أخو عبد الله بن محمد.
-[ومن مليح ما ذكره أصحاب الخبر في هذا الباب قالوا (6) : سلم على الرشيد بالخلافة يوم بيعته سليمان بن المنصور وعمر بن [أبي] العباس بن محمد وعم جده عبد الصمد بن علي] .
[واتفق مثل ها بعينه يوم بيعة نزار بن معد بمصر، سلم عليه بالخلافة عمه حيدرة بن المنصور وعم أبيه أبو الفرات ابن القائم بأمر الله وعم جده أبو علي بن المهدي بالله، فهذا هذا] .
__________
(1) في بعض المصادر: بدر بن أحمد أبو الغصن وكانت وفاته سنة 309 (انظر صفحات متفرقة من الجزء الخامس من المقتبس) .
(2) نقل هذا النص عن ابن حزم في القسم الثالث من أعمال الأعلام: 68.
(3) زيادة من أعمال الأعلام.
(4) ب وأعمال الأعلام: وكذلك مثل.
(5) حذف مترجم نقط العروس إلى الإسبانية " الزبير " من سلسلة النسب، وجعله عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر؛ وهذا خطأ، فقد ال ابن حزم في الجمهرة إن عبد الله (لا عبيد الله) بن عبد الرحمن الناصر هذا قتله أبوه، وله ابن اسمه الزبير، وللزبير عقب باق (الجمهرة: 102) .
(6) المدهش: 61.(2/96)
[وممن توافر أهله يوم بيعته جعفر المتوكل على الله سلم عليه بالخلافة ثمانية (1) من أولاد الخلفاء: محمد بن الواثق، وأحمد بن المعتصم، وموسى بن المأمون وعبد الله بن الأمين وأبو أحمد بن الرشيد والعباس بن الهادي، ومنصور بن المهدي وثامنهم محمد بن المتوكل ابنه.
وفي الباب زيادة] .
- بايع عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن عمّ جده عمرو بن عبد الرحمن.
- وبايع المعتز والمؤيد والمنتصر بالعهد - وهم بنو المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي، منصور بن المهدي، وقبل أيديهم.
- 79 -
*أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها (2) :
ظهر رجل حصري بعد اثنتين (3) وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المؤيد، وادَّعى أنه هو، فبويع له، وخُطب له على جميع منابر الأندلس في أوقات شتى وسفكت الدماء، وتصادمت الجيوش في أمره] .
- 80 -
*فضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها (4) :
أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها كلهم يتسمى بإمرة أمير المؤمنين، ويُخْطَبُ لهم بها في زمن واحد، وهم (5) : خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام بن
__________
(1) ابن العمراني: 115 سبعة (وحذف منهم محمد بن المتوكل) وانظر الكازروني: 145 وابن الجوزي، المدهش: 62 وهو موافق لابن حزم.
(2) نقل ابن خلكان هذا النص 5: 22 ونقله النويري 22: 93.
(3) ابن خلكان والنويري: بعد نيف.
(4) جاء هذا النص في أعمال الأعلام: 142 - 143 على النحو التالي: " اجتمع عندنا بالِأندلس في صقع واحد خلفاء أربعة كل واحد منهم يخطب له بالخلافة بموضعه، وتلك فضيحة لم ير مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام كلهم يتسمى بالخلافة وإمارة المؤمنين وهم: خلف الحصيري بإشبيلية على أنه هشام، من بعد اثنتين وعشرين سنة من موت هشام، وشهد له خصيان ونسوان، فخطب له على منابر الأندلس وسفكت الدماء من أجله، ومحمد بن القاسم خليفة بالجزيرة، ومحمد بن إدريس خليفة بمالقة، وإدريس بن يحيى بن علي بببشتر "؛ وقد ورد النص عند النويري 22: 93 وفيه: فضيحة لم يقع في الدهر مثلها ... الخ.
(5) النويري: أحدهم.(2/97)
الحكم، ومحمد (1) بن القاسم بن حمود بالجزيرة [الخضراء] ، ومحمد (2) بن إدريس بن علي بن حمود بمالقة (3) ، وإدريس (4) بن يحيى بن علي بن حمود بِبُبَشتر (5) ] .
- 81 -
*امرأة وليت الولايات:
الشفاء العدوية: ولاها عمر بن الخطاب رضي الله عنه السوق وكانت أهلاً لذلك.
- 82 -
* [امرأة قعدت للمظالم] :
ثمل القهرمانة: قعدت للحكم بين الناس بالمظالم وحضر مجلسها القضاة والفقهاء.
- 83 -
*من ولي القضاء في صباه (6) :
أبو يعلى الحمادي ولي قضاء الأردن وله ست عشرة سنة.
عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن الشرقي (7) : ولي قضاء استجة وله ست عشرة سنة.
*وضد ذلك:
محمد بن يحيى التميمي المعروف بابن برطال (8) ، وشيخنا يونس بن عبد الله بن مغيث (9) الخطيب كلاهما ولي القضاء بعد أن استكمل إحدى وثمانين سنة، ووليه
__________
(1) النويري: والثاني محمد.
(2) النويري: والثالث محمد.
(3) النويري: بمدينة مالقة.
(4) النويري: والرابع إدريس.
(5) النويري: بسبتة.
(6) لم يرد هذا الفصل في ب.
(7) ابن الشرقي - بالفاء - في الصلة: 317 هو ابن الحاكم أبي إسحاق الشرفي، روى عن أبيه وتولى القضاء بعدة كور أيام العامريين ثم تولى في الفتنة الحكم بميورقة وغيرها، ثم رجع إلى قرطبة حيث توفي (438) وقد أناف على السبعين.
(8) هو خال المنصور بن أبي عامر، تولى القضاء من 381 - 392 ثم نحي عنه ونقل إلى الوزارة وقد عرفت به في الجزء الأول من رسائل ابن حزم ص 187، الحاشية: 3.
(9) هو المعروف بابن الصفار، توفي سنة 429؛ وقد مرَّ التعريف به في الجزء الأول: 241، الحاشية: 2.(2/98)
محمد إحدى عشرة سنة، ووليه يونس عشرة أعوام.
- 84 -
* [الأسماء التي تصلح للخلفاء ولم تستعمل بعد:
المعول على الله، المؤمل لله، الراغب إلى الله، الساعي لله، المحيي لدين الله، الفاضل بالله، المستجيش بالله، المؤثر للحق في الله، المرتقب في الله، المراقب لله، المستعد بالله، المتأيد بالله، المسترشد بالله، المسدَّد بالله، السديد بالله، الشديد في الله، المستهدي بالله، المستعصم بالله، القاصد للحق، السامي بالله، المستعلي بالله، المعان بالله، الكافي في الله، المظهر لدين الله، الحامي في الله، المجتبى لله، الراجي لله، المرتجي لله، المتقي بالله، المكفي بالله، الرضيّ لأمر الله، المسلم لله، المستسلم لله، المؤتمر لله، المحامي في الله، المرشد إلى الله، الحافظ لدين الله، المحافظ في الله، المحفوظ بالله، الفائز بالله، العائذ بالله، المستعيذ بالله، اللائذ بالله، الصادع بالحق، المسند إلى الله، الذاب عن دين الله، المخلص لله، الخالص لله، المخلَص لله، المصفَّى لله، الصافي لله، الصفيّ لله، المعتني بأمر الله، المنْتَضَى لدين الله، المستولي بالله، المتولي لأمر الله، المُفْتتح بالله، الفاتح بالله، المستفتح بالله، المتتبع لأمر الله، الآمر بأمر الله، القاصد إلى الله، الموفي بأمر الله، المعلي لدين الله، المرتقي بالله، الراقي بالله، المجتهد لله، المدرك بالله، الناجي بالله، الساعي لله، المتعلق بالله، الناشر لدين الله، السائق بأمر الله، المقتفي لأمر الله، المقتدي بأمر الله، الطيب بالله، الطاهر لله، الزاكي بالله، المستعدي بالله، المبتهل بأمر الله، المستفيد لله، المختار لدين الله، المحتسب لله، القاضي بأمر الله، المعتضد لله، المستمد بالله، المتضلع بأمر الله، المتقدم بالله] .
- 85 -
*أول من سمى بالأذواء:
المأمون: سمى الفضل بن سهل ذا الرياستين ثم تسمى [بهذا الاسم] بالأندلس منذر بن يحيى وسمى المأمون هرثمة ذا الحكمين، وعلي بن أبي سعيد ذا العلمين (1) و [سمى] طاهر بن الحسين ذا اليمينين.
وتسمى [عندنا] بالأندلس عبد العزيز (2) بن عبد الرحمن بن أبي عامر ذا السابقتين.
__________
(1) ب: ذا القلمين.
(2) م: عبد الرحمن.(2/99)
وأبو إبراهيم الطبيب (1) ذا المحكين (2) .
وابن ذي النون ذا المجدين.
(ورذل الأمر في المشرق الآن [وكثر] حتى عدمت الأسماء (3) وصارت سخرة ومهزأة وتسمى بها كل من لا معنى لذكره (4)) .
- 86 -
*وأول من سمي مضافاً (5) إلى الدولة:
الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب: سمي ولي الدولة أيام المكتفي.
ثم سمي المقتدر ابنه الوزير أيضاً الحسين بن القاسم عميد الدولة وهو المقتول على الزندقة بالرقة، المعروف بأبي الجمال لقبح وجهه.
فلما ولي المتقي سمّى الاخوة الثلاثة الديالمة، وهم علي والحسن وأحمد بنو بويه: علي عماد الدولة، والحسن ركن الدولة، وأحمد معز الدولة.
[ثم سمي الحسن بن عبد الله بن أبي الهيجاء بن حمدان بن ناصر الدولة وأخاه علياً سيف الدولة] .
ثم سمي فناخسرو بن الحسن بن بويه عضد الدولة، وبويه أخاه مؤيد الدولة، وعلياً أخاه فخر الدولة، وبختيار بن الأقطع عز الدولة بن معز الدولة، وإبراهيم بن الأقطع أخاه: عمدة الدولة، والمرزبان بن بختيار: إعزاز الدولة. وأنشدني أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي البغدادي اللغوي (6) ، قال: أنشدت المرزبان هذا قصيدة لي أقول فيها: [من الطويل]
فإعزازها من عِزِّها من مُعِزِّها ... كقطر غمامٍ من غمامٍ من البحرِ - وسمي ابنا علي فخر الدولة المذكور: شمس الدولة ومجد الدولة.
__________
(1) ب: وإبراهيم بن الطبيب.
(2) ب: ذا المحلين.
(3) ب: حتى كادت الأسماء تعدم.
(4) ب: وتسمى بها من لا وجه للاشتغال بذكره.
(5) ب: وأول من تسمى باسم مضاف ...
(6) توفي سنة 417 وله ترجمة في الذخيرة 4 1: 8 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى.(2/100)
- وسمي المرزبان أبو كاليجار بن فناخسرو بن الحسن: صمصمام الدولة، وأخوه أبو الفوارس شيرزيل: شرف الدولة، وأخوه أبو نصر خسرو فيروز (1) : بهاء الدولة وغياث الأمة وسيف الملة.
- وسمي قابوس بن وشمكير بن زيار [صاحب طبرستان] : شمس المعالي [ومولى الموالي وزين الأيام والليالي] .
- وسمي محمود بن سبكتكين: يمين الدولة (2) .
(قال علي بن أحمد: وكنت أمير حله وأسير حجه حتى بلغني تسميه بهذا الاسم فسقط عندي [إلى] غير ما كنت أقدره فيه، فإنما يتنافس الفضلاء في ما يقرب إلى الله تعالى، ثم الفحول بعد الفضلاء في علو اليد ونفاذ الأمر وإبقاء طيب الذكر واتساع المملكة لا في هذه الخسائس التي يُسْخَرُ بأربابها) .
- وسمى أبو تغلب: عمدة الدولة، وابن عمه سيف الدولة [بن حمدان] : سعد الدولة.
وعمران صاحب البطائح معين الدولة.
[قال أبو محمد: عمران هذا كان نبطياً يدعي أنه عربي سُلَميّ، وكان لعنه الله رافضياً غالياً، ولي البطائح وهي قرى في نجدات بين البصرة وبغداد اثنتين وأربعين سنة، وعطلت المساجد في أيامه لشدة كفره] .
- وسمي محمد بن بقية [وزير بختيار بن أحمد بن بويه] : الناصح [وبلقين بن زيري ظهير الدولة] .
- وسمي أبو الصقر (3) : الشكور.
- وسمي مؤنس الخادم: المظفر [وهو أول من تسمى بهذا الاسم] ، ثم تسمى به توزون التركي [أبو الوفا] ، ثم عبد الملك بن أبي عامر، ثم يحيى بن منذر بن يحيى، ثم محمد بن عبد الله بن مسلمة.
(وانخرق الأمر [واتسع] ورذل جداً حتى سمي بهذه الأسماء في المشرق والمغرب [السماسرة] واللصوص والأنذال [ورذالات الناس] وتطايب الناس بذلك حتى
__________
(1) في م: خسرو مهر.
(2) نصير الدولة.
(3) هو الوزير إسماعيل بن بلبل.(2/101)
لعهدي بالعامة تسمي رجلاً من أهل قرطبة يسمى أسيد بن حبيب - أيام المستكفي - أمل الدولة. ليري الله عباده هَوَانَ ما تناحروا عليه وباعوا دينهم وأخلاقهم وما غالوا به. وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقيقاً على الله تعالى أن لا يرفع الناسُ شيئاً إلا وضعه [الله] ، أو كلاماً هذا معناه، ولاح [أن] الحقيقة إنما هي العمل لدار البقاء والخلود، بما يرضي الله تعالى، والعدل في البلاد، والعمل بمكارم الأخلاق، وحمل الناس على الكتاب والسنة، والاقتصار من حطام الدنيا الفاني الرذل على ما لا بدّ منه. فهذا هو الذي لا يقدر عليه سخيف، ولا يطيقه ضعيف. وبهذا يتبين فضل الفاضل القوي على الساقط المهين، لا بأسماء يقدر على التسمي بها كلُّ نذلٍ خسيسٍ واهن، ولا بملابس لا تصلح إلا للجواري، أو بكل ما يصح في الكف من نشب (1) ، أو بمشارب تذهب عقل شاربها، وتلحقه بالمجانين. ولقد كانت دولة عبد الملك وبنيه الوليد ويزيد وهشام وعمر بن عبد العزيز لا عَضُدَ لها ولا عماد ولا لقب إلا أسماؤهم وأسماء آبائهم فقط، وقد طبَّقَت الدنيا طاعةً واستقامة ونفاذَ أمر، وهي الآن أكثر ما كانت أعضاداً وعمداً، وقد طبقت الدنيا خساسة وضعفاً ومهانةً، ولله الأمر من قبل ومن بعد وحسبنا الله ونعم الوكيل) .
- 87 -
*من مات من الخلفاء مقتولاً وأنواع قتلهم:
عمر رضي الله عنه: طعن بخنجر في السرة.
عثمان رضي الله عنه: قطع (2) بالسيوف.
علي رضي الله عنه: ضرب (3) بالسيف ضربة كانت منها منيته.
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: قتل بالسيوف (4) وصلب منكّساً.
مروان بن الحكم: قيل إن امرأته أم خالد، غمَّته [بمخدة] حتى مات.
عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [قيل إنه] سمَّ.
__________
(1) في م: مدسب.
(2) ب: قتل.
(3) ب: قتل.
(4) ب: بالسيف.(2/102)
الوليد بن يزيد: قطع بالسيوف (1) .
[إبراهيم بن الوليد مات غرقاً] .
[مروان بن محمد قتل بالسيف] .
السفاح: قيل سمَّ (2) ولم يصح، وقيل مات بالجدري.
المهدي: أرادت إحدى حظيّتيه (3) [طلة وحسنة] أن تسم صاحبتها في قطائف (4) فأكل هو منها فمات. [فكانت تقول في بكائها إياه: أردت الانفراد بك فأوحشت نفسي منك، أو كلاماً نحو هذا] .
الهادي: دفع بعض جلسائه من جرف على سبيل اللعب فتعلق المدفوع به فماتا جميعاً لأن الهادي وقع على أصول قصب [فارسي] قد قطع فدخل في مخرجه فكان سبب موته.
الرشيد: أخطأ عليه [الطبيب] جبرئيل بن بختيشوع في علاج دبيلة كانت معه فكانت سبب منيته.
الأمين: قتل بالسيف.
المتوكل قطع بالسيوف (5) .
المنتصر: [قيل] سمّ في تمرات أكلها (6) وقيل في مبضع فصد به، وقيل رمي الزئبق في أذنيه وهو وجع مثبت.
المستعين: قتل بالسيف.
المعتز: أدخل في الحمام وأغلق [عليه] حتى مات.
المهتدي رحمه الله: قتل بخنجر.
المعتمد: قيل سمَّ وقيل رمي في حلقه رصاص مذاب وقيل وقع في حفرة ملئت
__________
(1) ب: قتل بالسيف.
(2) ب: قيل سمه المنصور.
(3) م: حظاياه.
(4) ب: حلواء.
(5) ب: قتل بالسيف.
(6) ب: سمّ في كمثرى.(2/103)
بالريش فاغتم فمات (1) .
المقتدر: قطع بالسيوف (2) وقيل سمه ميسور فتاه في مبضع فصد به.
[المنذر قيل سمه أخوه في مبضع فصد به] .
[هشام المؤيد قتل خنقاً] .
المهدي: قطع بالسيوف، وهو محمد بن هشام.
سليمان بن الحكم: قطع بالسيوف (3) .
المستظهر: قتل بالسيف.
المستكفي: سمَّ.
القاسم بن حمود: غمّ.
علي بن حمود: قتل بالخناجر.
يحيى بن علي بن حمود: قتل بالسيف.
حسن بن يحيى بن علي بن حمود: سمّ.
- 88 -
*لم يل الخلافة (4) في الصدر الأول من أُمُّة أُمُّ ولدٍ إلا (5) يزيد وإبراهيم ابني الوليد، وقيل مروان بن محمد أيضاً.
ولا وليها من بني العباس ابن حرة إلا (6) السفاح والمهدي والأمين.
ولا وليها من بني أمية بالأندلس ابن حرة أصلاً.
وأما القاسم وعلي ابنا حمود فأمهما علوية [حرة] .
وقيل أن يحيى وإدريس ابنا علي أمهما علوية.
ومحمد بن القاسم بن حمود أمه علوية.
__________
(1) ب: وقيل ملئت له حفيرة بالريش ومشى عليها فسقط فيها فمات غماً.
(2) ب: قتل بالسيف.
(3) ب: قتل بالسيف.
(4) نقل هذا النص في تحفة العروس: 73 حتى قوله " حرة أصلاً ".
(5) التحفة: حاشا.
(6) ب والتحفة: بني العباس من أمه حرة حاشا.(2/104)
*خليفة استجدى بعد الخلافة:
القاهر في خلافة ابن أخيه المطيع.
وقد قيل أن المتقي والمستكفي خاطبا أبا بكر بن الحسن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب مستجديين، ولا يصح هذا عن المتقي ولا يبعد عن المستكفي، لأن المتقي كان قد أخرج أموالاً عظيمة أعدها لنفسه وسلمت له، وأما المستكفي فكان في خصاصة، [نعوذ بالله من البلاء] .
- 90 -
*من استجدى قبل الخلافة:
أبو جعفر المنصور: كان يقصد الأمراء كثيراً [قبل خلافته] وكان في شرط خالد بن عبد الله القسري، رزقه ستون درهماً في الشهر [وولي بعض المحال بالأهواز لسليمان بن حبيب بن المهلب] (1) .
وحدثني الكاتب الشيخ المسنّ عبد العزيز بن بقي رحمه الله قال: رأيت علي بن حمود قد استجدى عبد العزيز بن المنذر بن الناصر (2) ، ثم ولى الخلافة وأزال دولة بني أمية، ومات عبد العزيز المذكور في سجنه.
- 91 -
* من جلد قبل الخلافة:
أبو جعفر المنصور: استعمله سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة أيام قيامه بفارس على بعض أعمال الأهواز، فاحتجن لنفسه المال، وطالبه سليمان وضربه بالسياط [ضرباً شديداً] وأغرمه [المال] ، فلما ولي الخلافة أخوه تمكن من سليمان فقتله [وكان المنصور يقول: ثلاث كن في صدري شفى الله منها: كتاب أبي مسلم إليّ وأنا خليفة عافانا الله وإياك من السوء ودخول رسوله علينا وقوله أيكم ابن الحارثية،
__________
(1) كان سليمان بن المهلب (في سنة 129) قد انحاز إلى الأهواز مع شيبان بن عبد العزيز، فبعث إليه ابن هبيرة جيشاً بقيادة نباتة بن حنظلة فالتقوا بالماذيار وكانت الكسرة على جيش سليمان (تاريخ خليفة: 585 - 586) وفي هذه الأثناء اتصل أبو جعفر، كما سيأتي، وكان صلب سليمان أيام السفاح (مروج الذهب 4: 133 والمحبر: 486) .
(2) هو المعروف بابن القرشية، كان ذا حظ وافلا من الأدب (الجذوة: 271) .(2/105)
وضرب سليمان بن حبيب ظهري بالسياط] .
المأمون: جلده أبوه الحدَّ [في] الزنا [ببعض حرمه] ؛ وفي ذلك يقول شاعر يمدح الأمين أخاه ويعرِّضُ به: [من مجزوء الرمل]
لم تلده أمةٌ تعر ... فُ في السوقِ التجارا
لا ولا خان ولا ح ُ ... دَّ ولا في الحكم جارا - 92 -
*من العيب:
أن عبد الرحمن الناصر أخرج إذ ولي عمته أخت أبيه شقيقة عمه المطرف عن القصر لأن عمه شقيقها تولى قتل أبيه، فآواها موسى بن محمد بن حدير (1) فماتت في داره.
- 93 -
*من الغرائب:
أن موسى بن حدير كان [من] أخصِّ الناس بالمطرف بن [الأمير] عبد الله [والمطرف هذا هو] قاتل أخيه محمد بن [الأمير] عبد الله، فلما صارت الخلافة إلى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله [المقتول المذكور] كان موسى بن محمد [بن حدير] من أخص الناس به، وولاه [حجابته و] تدبير أموره [كلها] .
وقد شاهدنا مثل هذا: وذلك أن محمد بن سعيد التاكرني (2) كان أحد القائمين مع المهدي محمد بن شهام [بن عبد الجبار] على عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر، ومن المشاهدين لقتل عبد الرحمن وصلبه [والساعين في القيام عليه] وفساد أمره؛ فلما قام عبد العزيز بن عبد الرحمن [المذكور] ببلنسية لم يكن أحد أحظى منه من محمد بن سعيد المذكور، وتولى تدبير مملكته (3) إلى أن مات (4) .
__________
(1) سيأتي في الفقرة التالية خبر عنه، وقد استمر موسى في الوزارة أيام الناصر، وكان صاحب المدينة حتى سنة 302 حين صرف عن ولايتها واكتفى بالوزارة، وأخذ يصحب الناصر في غزواته حتى وفاة الحاجب بدر (3 - 9) فولى موسى مكانه وبقي في الحجابة والوزارة حتى توفي سنة 320 (صفحات متفرقة من الجزء الخامس من المقتبس) .
(2) أبو عامر محمد بن سعيد التاكوني (نسبة إلى تاكرنا قصبة كورة رندة) كان من أبرز كتاب عصره. (انظر ترجمته في الجذوة: 56 والمغرب 1: 332 والذخيرة 3 1: 226 وإعتاب الكتاب: 201 وأعمال الأعلام: 224) .
(3) بك أموره.
(4) هنا ينتهي النصّ في النسخة ب.(2/106)
وكان ناصر الدولة بن حمدان قتل عمه أبا العلاء بعصر خصاه، ثم كان أبو عبد الله بن أبي العلاء أخصَّ الناس بناصر الدولة ومتولي عسكره.
- 94 -
*من غرائب الأخبار:
أحمد بن محمد بن عمروس: حجَّ وولي القضاء والصلاة بأستجة، ثم ولي الشرطة والوزراة وكانت سيرته بحيث عرفت من البلاء.
محمد بن أبي عامر: ولي القضاء بسبتة وإشبيلية ثم ولي الأندلس جميعاً.
يحيى بن إسحاق: ولي القضاء ببطليوس ثم ولي عمالتها والوزارة.
أحمد بن محمد بن يحيى بن برطال: ولي قضاء بطليوس ثم ولي عمالتها.
بكر بن محمد بن المشاط: ولي قضاء جيان وغيرها ثم ولي الشرطة، فكان أفسق البرية وأقتلهم ظلماً.
الوزير عبيد الله بن يحيى بن إدريس: كان في وزارته مؤذناً في مسجده وكان فاضلاً.
أبو الحارث بن أبي عبدة: كان يؤم بجيرانه في المسجد في رمضان وهو وزير.
جهور بن محمد بن جهور: كان يؤم بجيرانه في مسجده في رمضان وهو وزير.
محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ الساير بالسن () : كان يؤم ويؤذن في مسجد وهو يقضي القضايا.
- 95 -
*من نكح من بني هاشم في بني أمية:
رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان.
الحسن بن علي رضي الله عنهما: تزوج بنت عثمان رضي الله عنه.
أبو جعفر المنصور: تزوج امرأة من بني عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية فولدت له علياً والعباس.
جعفر بن أبي المنصور: تزوج ايضاً امرأة من ولد عبد الله بن خالد المذكور.
المهدي بن المنصور: تزوج بنت سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان.(2/107)
الرشيد: تزوج بنت عبد الله بن سعيد بن المغيرة المذكور.
الحسن بن زيد القائم بطبرستان: تزوج امرأة من بني أمية.
رجل من بني إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي تزوج امرأة من بني سعيد الخير (1) بن عبد الرحمن بن معاوية.
أبو لهب بن عبد المطلب: تزوج أم جميل حمالة الحطب بنت حرب بن أمية بن عبد شمس (2) .
- 96 -
*من تزوج من بني أمية في بني هاشم:
الحارث بن حرب بن أمية: تزوج صفية بنت عبد المطلب قبل العوّام بن خويلد (3) .
عثمان بن عفان: تزوج أم كلثوم ورقية ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما.
عبد الملك بن مروان: تزوج بنت علي بن أبي طالب عليه السلام وبنت عبد الله جعفر بن أبي طالب.
عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: تزوج فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم (4) .
يزيد بن عبد الملك: تزوج امرأة من ولد عبد الله بن جعفر.
زيد بن عمر (5) بن عثمان بن عفان: تزوج سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم (6) ثم خلف عليها بعده سهيل بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم (7) .
__________
(1) ذكر ابن حزم (الجمهرة: 95) أن عقب سعيد الخير كثير، وهم بقرطبة وقبرة.
(2) انظر أنساب الأشراف 4 1: 5.
(3) كانت صفية شقيقة حمزة أمهما هالة بنت وهب، وهي أم الزبير بن العوام وقد أسلمت وعاشت إلى خلافة عمر (الإصابة 8: 128) .
(4) انظر أنساب الأشراف 4 1: 605 - 606.
(5) في م: عمرو.
(6) طلقها زيد امتثالاً لأمر سليمان بن عبد الملك لأنها أبت أن تقبل بعبد الملك زوجاً لها بعد مصعب (أنساب الأشراف 4 1: 641) .
(7) في الجمهرة: 105 أن الذي تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز.(2/108)
عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: تزوج نفيسة بنت عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب فولدت له علياً والعباس، قام علي بدمشق أيام المأمون (1) .
نفيسة بنت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام: تزوجها الوليد بن عبد الملك بن مروان.
خديجة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب تزوجها إسماعيل بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، فولدت له محمداً وإسحاق والحسين ومسلمة، ثم ماتت، فتزوج بعدها حمادة بنت الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فولدت له محمداً ويزيد والوليد.
مروان بن أبان بن عثمان بن عفان: تزوج أم القاسم بنت الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم فولدت له محمداً (2) .
الوليد بن عبد الملك: تزوج زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي ثم طلقها، فتزوجها عمه معاوية بن مروان، فولدت له الوليد، ولي دمشق (3) .
فاطمة بنت محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب: تزوجها بكار بن عبد الملك (4) .
أم فروة بنت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم تزوجها عبد العزيز بن سفيان بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.
ربيحة بنت محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب تزوجها بكار بن عبد الملك ابن مروان.
- 97 -
*من ولي من بني أمية لبني هاشم.
عثمان بن عفان، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص: كتبوا كلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) قام علي بن عبد الله بن خالد بدمشق سنة 195 وسمّى نفسه السفياني ودعا إلى نفسه (تاريخ الطبري 3: 830)
(2) انظر الجمهرة: 85، 45 حيث ذكر أنها بنت الحسن بن علي، وقد أنحى البلاذري بالذم على مروان هذا (انظر أنساب الأشراف 1 4: 619) .
(3) قارن بالجمهرة: 88، 42.
(4) قتل بكار يوم نهر أبي فطرس سنة 132 (الجمهرة: 89) .(2/109)
أبو سفيان بن حرب: ولاه النبي عليه السلام نجران (1) .
يزيد ابنه: ولاه النبي عليه السلام تيماء.
خالد بن سعيد بن العاص: ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قرى عربية (2) .
عتاب بن أسيد بن أبي العاص: ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة (3) .
محمد بن عبد الله بن سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان: ولاه الرشيد قضاء مكة (4) .
أبو مروان محمد بن عثمان بن خالد بن عمر بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان ولي قضاء مكة للمعتصم ثم للواثق.
رجل من بني مروان ولي قضاء المدينة للمطيع.
وولي قضاء القضاة ببغداد وغيرها في أيام المتوكل إلى أيام المطيع الحسن وعلي ابنا محمد بن عبد الملك بن محمد المعروف بأبي الشوارب بن عبد الله بن أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ثم عبد الله بن علي المذكور، ثم ابنه محمد والحسن ابنا عبد الله، ثم محمد بن الحسن بن عبد الله المذكور. ولم يزل القضاء يتردد إلى صدر من أيام القادر، وكانوا بصريين على مذهب أبي حنيفة (5) .
- 98 -
*من ولي من بني هاشم لبني أمية:
علي بن يحيى (6) بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب استقوده الناصر إلى العدوة. وكان ملوك
__________
(1) تاريخ خليفة: 73.
(2) منها تبوك وخيبر وفدك ووادي القرى؛ وفي اسمها " قرى عربية " راجع مقالاً للأستاذ محمود شاكر بمجلة العرب 9 (1968) 790 - 797؛ وقال البلاذري (أنساب 4 1: 432) أن الرسول (ص) ولى عمرو بن سعيد قرى عربية، وأنه ولى خالداً صدقات اليمن، ويقال ولاه أمر بني زبيد خاصة، فتوفي رسول الله وهو باليمن (أنساب 4 1: 431) وانظر كذلك تاريخ خليفة: 72 وهو موافق للبلاذري.
(3) تاريخ خليفة: 72.
(4) لم يشر خليفة إلى مكة وقضاتها في عهد الرشيد.
(5) قارن بالجمهرة: 114.
(6) أخرجه الناصر سنة 348 إلى شرشل مكانه من العدوة قائداً بمن انضم إليه من الحشم لمكافحة أصحاب الشيعي (البيان المغرب 2: 222) .(2/110)
الحسنيين يفدون على الناصر والحكم فيكرمونهم الإكرام العظيم ويسجلون لهم على جبايتهم بالعدوة (1) .
سليمان بن الحكم ولَّى القاسم وعلياً ابني حمود [فولَّى القاسم الجزيرة الخضراء وولى علياً] (2) سبتة وطنجة، فثار عليه [علي] وأبطل دولة المروانية وتولى قتل سليمان بيده (3) .
- 99 -
*من غرائب الأسماء في بني هاشم:
خالد بن يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (4) .
يزيد بن عبد المطلب (5) بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم.
أبو العاصي الحكم بن محمد (6) بن يحيى بن محمد بن غبراهيم بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
أمية وعبد شمس وأبو سفيان بنو الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (7) .
- 100 -
*ومن غرائب الأسماء في بني أمية:
علي بن يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان (8) .
علي بن محمد بن سليمان المستعين بن الحكم بن سليمان بن الناصر (9) .
__________
(1) انظر أمثلة ذلك في البيان المغرب 2: 216، 241 والمقتبس (تحقيق الحجي) : 120.
(2) زيادة من الجذوة: 19 وانظر ما يلي: 197 - 198.
(3) انظر الجذوة: 20، وكان قتله له سنة 407.
(4) انظر عمدة الطالب: 34 حيث ذكر أن عبد الله سمّى ابنه معاوية لأن معاوية بن أبي سفيان طلب منه ذلك وبذل له مائة ألف درهم وقيل ألف ألف؛ ولمعاوية بن عبد الله ابن اسمه يزيد ولم يذكر المؤلف عقباً له.
(5) في الأصل: عبد الله والتصحيح عن الأنساب (3: 297) والجمهرة: 70، ويكنى أبا خالد، وكان فقيهاً مات بالمدينة سنة 167، وروي عنه الحديث وكان ضعيفاً فيه.
(6) سمّاه في الجمهرة: 48 الحكم بن علي، وساق بقية النسب وقال: إنه وأخاه عبد الرحمن سكنا قرطبة وأعقبا بها.
(7) قارن بالأنساب 3: 296 والجمهرة: 70.
(8) الجمهرة: 90.
(9) الجمهرة: 102.(2/111)
الحسن والحسين ابنا عثمان بن الأمير محمد.
الحسن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر.
الحسن وعلي ابنا محمد بن أبي الشوارب.
علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني (1) ، وعمه الحسن بن محمد (2) من ولد عبد الله بن مروان الجعدي.
- 101 -
*ومن مصائب الدنيا:
أن القاضي يحيى بن أكثم قاضي القضاة ببغداد ولَّى الديلميُّ محاسبَتَهُ عما جرى على يديه من الأوقاف وغير ذلك صاعدَ بن ثابت النصراني الكاتب.
- 102 -
*ومن طرائف المذهب:
علي بن محمد من ولد زيد بن علي بن الحسين، ففيه نجران: حنبلي النحلة والمذهب.
مروان بن محمد السروجي من ولد مروان الجعدي: شاعر مجيد رافضي غالٍ، وزيادة في العجب أنه لم يكن بديار مصر رافضي غال غيره.
وأدركنا فقيهين أحدهما: علي بن محمد بن الحسن بن القاسم بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقيه بافريقية، مصرح بتفضيل عثمان على علي بلا تقية، والثاني: محمد بن عبد الرحمن بن يحيى بن محمد بن أحمد بن مروان بن سليمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان بقرطبة (3) ، مشهور مصرح بتفضيل علي على عثمان بلا تقية، وكلاهما متكلم أديبٌ نبيلٌ ورع.
__________
(1) نسبه: علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد ابن مروان بن الحكم (الجمهرة: 107، وما تقدم ص: 52) .
(2) كان الحسن بن محمد من كبار الكتاب بسرّ من رأى، أدرك أيام المتوكل (الجمهرة: 107) .
(3) كنيته أبو القاسم ويعرف بابن شق حبة، كان عالماً بالأدب وسكن طليطلة، وكانت وفاته سنة 443 (الصلة: 502) .(2/112)
أبو حنيفة مولى يقول: لا يجوز نكاح المولى من قريش ولا في العرب؛ والشافعي قرشي مطلبي منافي يقول هذا جائز.
محارب بن دثار (1) أحد أئمة أهل السنة، وعمران بن حطان أحد أئمة الصفرية من الخوارج (2) : كانا صديقين مخلصين زميلين إلى الحج لم يتحارجا قطّ.
عبد الرحمن بن أبي ليلى (3) كان يقدم علياً على عثمان، وعبد الله بن عكيم (4) كان يقدم عثمان على علي، وكانا صديقين لم يتحارجا قط، وماتت أم عبد الرحمن فقدم [للصلاة] عليها ابن عكيم.
طلحة بن مصرف (5) وزبيد اليامي (6) صديقان متصافيان، وكان طلحة يقدم عثمان، وكان زبيد يقدم علياً، ولم يتحارجا قط.
داود بن أبي هند (7) إمام السنة وموسى بن سيار (8) من أئمة القدرية: كانا صديقين متصافيين خمسين سنة لم يتحارجا قط.
__________
(1) في الأصل: زياد؛ ومحارب بن دثار سدوسي، مختلف في تاريخ وفاته بين 116 - 119 ووثقه أهل العلم بالرجال (انظر تهذيب التهذيب 10: 49) .
(2) عمران بن حطان: سدوسي، قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً منه، وقد تردد بعضهم في قبول حديثه لأنه كان يرى رأي الخوارج، وكانت وفاته سنة 84 (انظر تهذيب التهذيب 8: 127) .
(3) عبد الرحمن بن أبي ليلى أحد التابعين روى عن عدد من الصحابة، وكان ثقة في حديثه، توفي في دير الجماجم سنة 82 وقيل 83 وقيل 86 (تهذيب التهذيب 6: 260) .
(4) روى عن عدد من الصحابة، وهو كوفي، مات في ولاية الحجاج (تهذيب التهذيب 5: 323) .
(5) طلحة بن مصرف الهمداني أبو محمد (أو أبو عبد الله) الكوفي روى عن عدد من التابعين، وكان ثقة، وكان يسمى سيد الفراء، وقال العجلي: كان عثمانياً، وتوفي سنة 112 (تهذيب التهذيب 5: 25) .
(6) في الأصل: زبيد الشامي؛ وذلك خطأ، فهو يامي نسبة إلى يام بطن من همدان. وهو زبيد بن الحارث بن عبد الكريم أبو عبد الرحمن الكوفي، كان ثقة قليل الحديث، توفي سنة 122 أو 123 أو 124 وقال بعضهم فيه إنه كان يتشيع وقال آخر إنه كان علوياً، وقال محمد بن طلحة بن مصرف: ما كان بالكوفة ابن أب وأخ أشد مجانباً من طلحة بن مصرف وزبيد اليامي، كان طلحة عثمانياً وكان زبيد علوياً (تهذيب التهذيب 3: 310 - 311) وهذا هو ما يقوله ابن حزم.
(7) داود ابن أبي هند أبو محمد البصري، كان من حفاظ البصريين، ثقة جيد الإسناد صالحاً، توفي سنة 139 أو 140 أو 141 (تهذيب التهذيب 3: 204) .
(8) موسى بن سيار الأسواري: بصري كان يجمع في مجلسه العرب والموالي ويقص لكل فريق بلغته، وقال يحيى ابن معين وغيره كان قدرياً، وعن يحيى بن سعيد قال: اصطحب داود بن [أبي] هند وموسى بن يسار (سيار) الأسواري خمسين سنة وبينهما خلاف شديد لم يجر بينهما كلمة (لسان الميزان 6: 136، 120؛ والبيان والتبيين 1: 368 وفضل الاعتزال: 271) .(2/113)
سليمان التَّيمي (1) إمام أهل السنة والفضل الرقاشي إمام المعتزلة (2) : كانا صديقين إلى أن ماتا متصافيين، وتزوج سليمان بنت الفضل وهي أم المعتمر بن سليمان (3) .
بنو خراش كانوا ستة: اثنان من أهل السنة، واثنان من الخوارج، واثنان من الرافضة، وكانوا متعادين، وكان أبوهم يقول لهم: يا بنيَّ لقد حال الله بين قلوبكم.
اليمان وهارون وعلي بنو رئاب (4) : علي من أئمة الشيعة والروافض، واليمان من أئمة الخوارج، وهارون من أئمة اهل السنة، وكانوا متعادين.
جعفر بن مبشر رأس المعتزلة، وأخوه حبيش بن مبشر (5) مجتهد في السنة، متعاديان.
والسيد الحميري كيساني شيعي، وأبوه وأمه خارجيان يلعنهما ويلعنانه (6) .
- الكميت بن زيد مضري عصبي كوفي شيعي والطرماح بن حكيم يماني عصبي شامي خارجي، وكلاهما شاعر مفلق، كانا صديقين متصافيين على عظيم تضادّهما من كل وجه (7) .
- هشام بن الحكم إمام الرافضة، وعبد الله بن زيد الفزاري إمام الإباضية،
__________
(1) في الأصل: التميمي؛ وهو سليمان بن طرخان التيمي (والد المعتمر) البصري، ولم يكن من بني تيم وإنما نزل فيهم، كان من العباد المجتدهين ثقة في الحديث، وكان يميل إلى عليّ، توفي سنة 143 (تهذيب التهذيب 4: 201) .
(2) هو الفضل بن عيسى الرقاشي البصري أبو عيسى الواعظ، لم يوثقه المحدثون لأنه كان قدرياً، وفي التهذيب 8: 283 أن المعتمر ابن اخته روى عنه، وحسب نص ابن حزم فإن المعتمر ابن بنته (وانظر فضل الاعتزال: 96) .
(3) المعتمر بن سليمان: روى عن أبيه وغيره من المحدثين، وكانت وفاته سنة 187 (تهذيب التهذيب 10: 277) .
(4) هارون بن رئاب التميمي أبو بكر أو أبو الحسن البصري العابد روى عن أنس وقيل لم يسمع منه والأحنف بن قيس وغيرهما، ذكره ابن حيان في الثقات، انظر تهذيب التهذيب 11: 4 - 5 وقد نقل ابن حجر نصَّ ابن حزم في الاخوة الثلاثة إلا أنه ذكر " العمار " في موضع " اليمان ".
(5) جعفر بن جعفر الثقفي له تصانيف في الكلام وكان من الفقه والزهد بمكان، توفي سنة 234 (لسان الميزان 2، 121 وفضل الاعتزال: 283 وتاريخ بغداد 7: 162) وكان أخوه حبيش (وفي الأصل: وحيش) فقيهاً، وقال النديم: كان حبيش أيضاً متكلماً لكنه لم يقارب جعفراً (الفهرست: 208) .
(6) السيد الحميري (105 - 173) إسماعيل بن محمد بن يزيد، كان كيسانياً شاعراً، نظم فضائل علي كلها في شعر، ويقال إنه رجع عن كيسانيته وأصبح إمامياً، انظر أخباره في طبقات ابن المعتز: 32 والأغاني 7: 224 حيث ذكر أن أبوي السيد كانا إباضيين وأنهما لما علما بمذهبه هما بقتله.
(7) قارن بالبيان والتبيين 1: 46 " وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط، ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض، ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه ".(2/114)
صديقان مخلصان في دكان وأحمد، لم يتحارجا قط (1) .
- أهل وادي بني توبة في الأندلس معتزلة.
- أهل بلفيق بغرب المرية همدانيون شيعة.
- الحاجب موسى والوزير أحمد ابنا حدير، وابن عمها أحمد بن موسى، والوزير عبد الرحمن بن الحاجب موسى وسعيد بن الوزير أحمد معتزلة كلهم (2) .
- 103 -
- رجلان صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهما الفرض: أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف.
- رجلان أثنى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: أبو بكر الصديق والعاصي بن الربيع.
- رجل اعترف له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنِّ في صحبته وماله على المنبر: أبو بكر الصديق.
- رجل قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من القرآن بأمر الله سبحانه وتعالى له بذلك: أُبيّ بن كعب.
- رجل استقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن: عبد الله بن مسعود.
- رجل استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءته واستحسنها: أبو موسى الأشعري.
- رجل روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالحكم بحضرته: عمرو بن العاص.
- رجل حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزم إنفاذ حكمه: سعد بن معاذ.
- رجل روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وحدَّث عنه على المنبر: تميم الداري.
__________
(1) قارن بالبيان والتبيين 1: 46، 47؛ وفيه عبد الله بن يزيد الاباضي، وفي معظم أصول البيان " زيد ".
(2) أشار ابن حزم في الفصل 4: 202 - 203 إلى أن أحمد بن موسى بن حدير من شيوخ المعتزلة، وذكر في طوق الحمامة (رسائل ابن حزم 1: 157) أن حكم بن منذر بن سعيد البلوطي كان رأس المعتزلة في عصره، وكبيرهم وأستاذهم، وأن أخاه عبد الملك وأباه كانا متهمين بالاعتزال.(2/115)
- رجل أري في رؤياه شريعة مقتصرة في الدين قبل أن ينزل بها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن زيد، أري الأذان.
- رجل قصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاربه بيده: المغيرة بن شعبة.
- رجل كواه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: أسعد بن زرارة.
- رجل أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأت بعد:
الأمير الذي يفتح القسطنطينية،
والذي يقتله الدجال،
والعشرة الذين يخرجون يطلبون طليعة إذا جاشت الروم.
- رجل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواره: المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف.
- 104 -
*آخر خليفة حجَّ بالناس: هارون الرشيد.
- آخر خليفة غزا أهل الكفر بنفسه: المعتصم، ومن بني أمية عبد الرحمن الناصر.
- آخر خليفة خطب على منبر: الراضي؛ ومن بني أمية المستظهر.
- آخر خليفة بنى: الراضي، ومن بني أمية الحكم المستنصر.
تم كتاب نقط العروس بعون الله ومنه وكرمه والحمد لله وحده، وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(2/116)
2 - رسالة في أمهات الخلفاء.(2/117)
فراغ(2/118)
- 2 -
رسالة في أمهات الخلفاء
قال أبو محمد ابن حزم:
أم النبيّ صلى الله عليه وسلم آمنةُ بنتُ وَهْب بن عبد مناف بن زهرة بن كِلاب بن مُرّة.
وأمّ أبي بكر، رضي الله عنه، أمُّ الخير، مسلمةٌ فاضلة، سَلْمى بنت صخر بن عامر (1) بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
أمّ عمر، رضي الله عنه، أرْوى بنت كريز (2) بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف.
وأمّ عليّ، رضي الله عنه، فاطمةُ بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، مسلمة فاضلة مهاجرة.
أمّ الحسن، رضي الله عنه، فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها.
أمّ معاوية، رضي الله عنه: هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، مسلمة مُبايعة.
أم يزيد: ميسون بنت بحدل الكلبية.
أم عبد الله بن الزبير: أسماء بنت أبي بكر الصديق.
أم معاوية بن يزيد: أم خالد بنت [أبي] هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
أمّ مروان بن الحكم: الزرقاء الكنانية.
أم عبد الملك: عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاصي بن أمية.
__________
(1) في الأصل: صخر بن عمر بن عامر، وفي أصل رسالة أسماء الخلفاء: صخر بن عمرو، ولفظة عمر أو عمرو مقحمة، انظر جمهرة أنساب العرب: 135 ونسب قريش: 275.
(2) في الأصل: كرز، وانظر الجمهرة: 74.(2/119)
أم [الوليد و] سليمان: ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جَذيمة العبسي.
أمّ عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
[أم يزيد بن عبد الملك] : عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
أمّ هشام: أم هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
[أم الوليد بن يزيد] : بنت محمد بن يوسف أخي الحجّاج بن يوسف الثقفيّ.
[أم يزيد بن الوليد] : شاهفريد (1) بنت خسروفْيروز بن يَزْدَجِرْد بن شَهْرِيار ابن كسرى أبرويز.
[أم إبراهيم بن الوليد] : أم ولد لا أقف الآن على اسمها.
وأم مروان: اختُلف فيها، فقيل أم ولد اسمها ريّا. وقيل بنت جعدة بن كلب من بني عامر بن صَعْصَعَة.
أمّ السفاح: ريطة بنت عبيد الله (2) بن عبد الله الحارثي، من بني الحارث بن كعب.
أمّ المنصور: سلامة البربريّة من نفزة، وقيل من [صنهاجة] .
أمّ المهدي: أم موسى بنت منصور الحميري.
أمّ الهادي وهارون: الخَيْزَرانُ، مولّدة كوفية.
وأمّ الأمين: أم جعفر زُبَيْدةُ بنتُ جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور.
وأمّ إبراهيم بن المهديّ: شَكْلَةُ، ظفرية.
وأمّ المأمون: مَرَاجلُ، رومية (3) .
وأم المعتصم: ماردة (4) مولّدة كوفية.
وأمّ الواثق: قراطيسُ، رومية.
__________
(1) في الطبري: شاه آفريد.
(2) في الأصل: بنت زياد، وصوبته اعتماداً على الجمهرة والطبري.
(3) في رسالة أسماء الخلفاء: بادغيسية خراسانية تركية؛ وانظر ابن العمراني: 96.
(4) زاد ابن العمراني: 104 وقيل مارية.(2/120)
وأمّ المتوكل: شُجاع، تركية.
وأمّ المنتصر: اسمها حبشية، روميّة.
وأمّ المستعين: مخارق، روميّةٌ أُمُّ ولد. وقيل إنها بنتُ عُبَيْد من أهل دَوْسَر قرية بالموصل.
وأمّ المعتزّ: اسمها قَبيحةُ، صقلبية (1) .
وأمّ المهتدي: قُرْبٌ، رومية.
وأمّ المعتمد: فتيان، أمّ ولد.
وأمّ المعتضد: ضِرار (2) ، من دار محمد بن عبد الله بن طاهر.
وأمّ المكتفي: خاضع (3) .
وأمّ المقتدر: شغب، أمّ ولد.
وأمّ القاهر: قَتول (4) ، أمّ ولد.
وأمّ الراضي: ظلُوم، أمّ ولد.
وأمّ المتَّقي: خلوب (5) ، [أم ولد] .
وأمّ المستكفي: غُصْن، أمّ ولد.
وأمّ المطيع: شعلة (6) ، من دار العباس بن الحسن.
ولا أدري اسم أم الطائع (7) .
__________
(1) عند ابن العمراني: 128 رومية.
(2) قال السيوطي: 398 وأمه أم ولد اسمها صواب وقيل حرز وقيل ضرار.
(3) في رسالة أسماء الخلفاء والطبري والسيوطي: 405 جيجك وعند ابن العمراني: 150 جارية تركية اسمها ججك، قال السيوطي: وكان يضرب بحسنها المثل.
(4) تصحف اسمها بين قبول وقتلو؛ وبين فتنة وقينة.
(5) قال السيوطي: 424 وقيل زهرة.
(6) في رسالة أسماء الخلفاء: مشغلة.
(7) لم يذكرها أيضاً في رسالة أسماء الخلفاء؛ وقال ابن العمراني: 179 أن اسمها " عتب ". قلت: وقد زاد ابن حزم في رسالة أسماء الخلفاء ذكر خليفتين بعد الطائع.(2/121)
أمهات (1) أمراء بني أمية بالأندلس (2)
أم عبد الرحمن بن معاوية: راح، نفزَّية.
وأم هشام: حوراء.
وأم الحكم: زخرف.
وأم محمد: تهتزّ.
وأم المنذر: أثل.
[وأم عبد الله: عشار] (3) .
وأم الناصر: حزم (4) .
وأم الحكم: مرجان.
[وأم المؤيد: صبح] .
وأم المهدي: مُزْنة.
وأم سليمان: ظَبيَة.
وأم المستظهر: غاية.
وأم المستكفي: حور (5) .
[وأم المعتد: عاتب] (6) .
آخره: ووله الحمد والمنّة والصلاة على محمد وآله والسلام
__________
(1) في الأصل: أول، ولا معنى له؛ إذ أنه سرد جميع أمراء بني أمية.
(2) روجعت أسماء أمهات الأمراء الأمويين بالأندلس على ما جاء في الجذوة، وهو مستفاد أيضاً من ابن حزم.
(3) زيادة ضرورية عن الجذوة (12) : عشار، وفي بغية الملتمس: أشار.
(4) اسمها مزنة كما في الجوة: 13.
(5) جذوة المقتبس (25) : حوراء.
(6) زيادة من الجذوة: 27.(2/122)
3 - رسالة في جمل فتوح الإسلام.(2/123)
فراغ(2/124)
- 3 -
جُمل فتوح الإسلام
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدَّ أكثر العرب - وثبت أهل البَحْرَتين (1) من أهل مكة والطائف، وكثير ممن سكن اليمن - فبعضٌ كفر وارتد، وبعض قال أُصلّي ولا أؤدي الزكاة. فأذعن جمهور الصحابة إلى مسالمتهم، وأبى ذلك أبو بكر:
فأنفذ بعث أُسامة بن زيد، فبلغ قرب الشام، وأغار على قُضَاعَة وانصرف.
وبعث أبو بكر رضي الله عنه البعوث، حتى قهر المرتدِّين، وراجع الناسُ الإسلامَ.
وكان قد تنبأ باليمن الأسود العَنْسيّ، فقتله فيروز الفارسي.
وتنبأ طليحة الأسدي في أسد وغطفان، فحاربه خالد، فهرب طليحة ثم أسلم.
وتنبأت سَجَاح اليربوعية، وتزوجها مُسَلمة الكذَّاب، ثم أسلمت بعد قتل مسيلمة.
وأصحابُ الفتوح من الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ بن أبي طالب في قتل الخوارج، وكفى به فتحاً، ولقد لقي الناسُ مِمَّن نحا ما نحوه من المخاوف والقتل والنهب ما لا يُجْهَل، وكيف هو فتحٌ قد أنذره به، رضي الله عنه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم له أن منهم ذا الثُّدَيَّة (2) ، وقد وجده عليٌّ؛ ثم معاوية، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم أبو جعفر المنصور، ثم عبد الله المأمون، وكانت للمعتصم
__________
(1) في الأصل: البحرين، والبحرة البلدة، والعرب تسمي المدن والقرى: البحار، وقد فسر البحرتين هنا بأنهما مكة والطائف. وهذا يصدقه قول الطبري 3: 221 " لما فصل أسامة كفرت الأرض وتصرمت وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً ".
(2) هو حرقوص بن زهير أحد الخوارج يوم النهروان. وقال الفراء هو ذو اليدية، ولكن الأحاديث تتابعت بالثاء. وقيل أن علياً بعد أن قضى على الخوارج تفقد قتلاهم، فاستخرج من بينهم ذا الثدية، فرآه ناقص اليد، ليس فيها عظم، طرفها حلمة مثل الثدي، عليها خمس شعرات أو سبع، رؤوسها معقفة، ثم نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة (مروج الذهب 4: 416 طبع باريس؛ وانظر الإصابة: 2442) .(2/125)
فتوح غير مبتدأة.
فأما أبو بكر رضي الله عنه فكانت فتوجه اليمامة، وهي من أجل الفتوح، لأنه كان بها مُسَيلمة، لعنه الله تعالى، يَدَّعي النبوَّة. ثم دَوَّخَ أبو بكر جميع بلاد العرب، فجعلها مُتملكة ينفذُ فيها حكم الإسلام والولاية والعزل دون معترض، ولم يبق بها إلا مسلمٌ طائع مُنْقاد، أو ذمّيٌّ مُصَغَّرٌ كِتَابيٌّ.
ثم فتح عمر وعثمان رضوان الله عليهما جميع الشام ومصر وإرمينية وأذربيجان والريّ وما دون النهر من خُراسان.
ثم فتح عليّ رضي الله عنه قَتْلَ الخوارج، وهو كما تقدم من أجلّ الفتوح، لأنهم كانوا لا يرون طاعةَ خليفة، ولا يرونها في قُرَشيّ، وكان ضررهم معلوماً.
ثم فتح معاويةُ رضي الله عنه إفريقية وجميع بلاد بلاد البربر إلى بلاد السودان - أسلم كلُّ من ذكرنا؛ وحاصر القُسْطَنْطِنية.
وفتح الوليد الأَنْدَلُس كلها، والسِنْدَ كلها، وما وراء النهر، وغزا ملك الصين، ثم فتح سليمان جُرْجَان، وحاصر القُسطنطينية.
ثم فتح المنصور طَبَرسْتان.
ثم فتح المأمون صِقِلِّية وإقريطش.
ثم غلب الكفرُ على آذربيجان وطبرستان ففتحهما المعتصم.
اليمامة: وَثَبَ مسيلمةُ في بني حَنيفة، فبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد، فقتل عدو الله، وأَسلم أهلُ اليمامة.
فتح الشام: ولما أتمَّ الله تعالى على يدي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الرِدَّة، بعث أَبا عُبيدة عامرَ بن الجراح، ومُعاذَ بن جبل، وشُرَحْبِيل بن حَسنَة - وهو شرحبيل بن عبد الله بن عمرو بن المطاع الكِندي - ويزيد بن أبي سفيان، وأمراء إلى الشام. وقد قيل مكان معاذ بن جبل: عمرو بن العاصي. فافتتح شرحبيل بن حَسَنة الأُردنَّ صلحاً، ثم نقضوا، ففتحها عمرو بن العاص ثانية؛ وقيل: بل افتتحها شرحبيل بن حسنة ثانية.
وافتتح دمشق خالد وأبو عبيدة ويزيد بن ابي سفيان.
وبعث أبو عبيدة إلى حمص جموعاً فصالحوهم.(2/126)
وافتتح فلسطينَ كلها عمرو بن العاصي، حاشا بيتَ المَقْدِس، فإن عمر رضي الله عنه شَخَص إليها من المدينة فصالحوه.
وافتتح أبو عبيدة قِنَّسْرين.
وعَمَرَ بعد ذلك معاوية ثغور الشام.
وكان فَتْحُ اليمامة بعد ولاية أبي بكر بسبعة أشهرٍ وستة أيام.
وكان فتح بُصْرَى من أرض الشام بعد ولايته بعام وأربعة أشهر.
وكان فتح دمشق بعد موت أبي بكر الصِّدِّيق، وبعد ولاية عمر، بنحو أحد عشر شهراً.
وذلك في سنة أربع عشرة من الهجرة.
وكان فَتْحُ حِمْص بعد دمشق بأربعة أشهر، من سنة أربع عشرة من الهجرة أيضاً.
وكان فتح بيت المقدس صلحاً بعد فتح حمص بعامين، وذلك في سنة ست عشرة من الهجرة.
وكان فتح الأردن وفلسطين بعد فتح دمشق.
وكان فتح قِنَّسْرين وفلسطين بعد فتح دمشق.
وكان فتح قِنَّسْرين بعد فتح حمص.
وكانت من خلال ذلك وقائع عظيمة، منها في حياة أبي بكر: وقعة العَرَبة (1) ثم وقعة الداثنة (2) ، وليست من كبار الوقائع؛ ثم وقعة بُصْرَى، وأَجْنادين، وقُتِلَ [فيها] أَبَانُ بن سعيد بن العاصي وهشام بن العاصي أخو عمرو بن العاصي؛ وكان يوم أجنادَيْن لليلتين بقيتا من جُمَادَى الأولى ثلاث عشرة قبل موت أبي بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأربعة وعشرين يوماً؛ [ثم وقعة مَرْج الصُّفَّر (3) ] وفيها قُتل خالد بن سعيد بن العاصي. ثم وقعة فَحْل الأردن في خلافة عمر بعد خمسة أشهر (4) منها، وذلك في آخر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وفيها قُتِل عمرو بن
__________
(1) في الأصل: العزية، وكانت وقعة العربة أول وقائع المسلمين في ناحية الشام، انظر فتوح البلدان (مصر) : 116.
(2) في الأصل: الداية، وفي البلاذري (طبع مصر: 116) أنها الدبية أو الدابية، وفي الطبري 4: 39: الداثنة؛ ولعلها هي داثن نفسها.
(3) زيادة يقتضيها السايق، فإن خالداً لم يقتل يوم أجنادين بل يوم مرج الصفر. انظر البلاذري: 124 - 125.
(4) في الأصل: خمسة عشر؛ والتصويب من البلاذري: 121.(2/127)
سعيد بن العاصي؛ ثم يوم اليرموك في سنة خمس عشرة بعد خلافة عمر بسنة وتسعة أشهر، وكان اندفاع المسلمين من المدينة في خلافة أبي بكر إلى الشام في أربعة وعشرين ألفاً.
فتح الجزيرة: افتتح أكثرها عياض بن غَنْم الفِهْري بفي خلافة] (1) عمر [بعد وفاة] (2) أبي عُبَيدة بن الجَرَّاح رضي الله عنهما.
استخلفه (3) أبو عُبَيْدَة بعد موته سنة ثمان عشرة في طاعون عَمْواس، ففتح الرُّها والرَّقَّة صلحاً ثم فتح حَرَّان ثم سُرُوج. وقدّم صَفْوان بن المُعَطَّل إلى أول أعمال إرمينية، وفتح أيضاً آمد وسائر تلك البلاد أيام عمر رضي الله عنه.
فتح إرْمِيْنِيَة: وَجَّه عثمان رضي الله عنه في خلافته حبيبَ بن مَسْلَمَةَ الفِهري من الشام إلى إرمينية، ثم كتب إلى الكوفة أن ينهض سلمان بن ربيعة الباهلي مًمِدَّا لحبيب، فافتتحا إرمينية.
فتح آذَرْبَيْجَان: افتتحها حُذَيْفَةُ بنُ اليمان رضي الله عنه سنة تسع عشرة [في خلافة عُمَر] (4) رضي الله عنه صلحاً.
فتح مصر: افتتحها عمرو بن العاص عَنْوَةً سنة تسع عشرة في خلافة عمر رضي الله عنهما، وانتهى مُفْتَتِحاً إلى بَرْقَة وزًوَيْلَةَ فصالحهما (5) وبلغ أطرابُلسُ.
فتح إفْرِيقِيَّة: أول من غزاها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح أيام عثمان فصالحهم، ثم انصرف عنهم، فلما كانت سنة خمسين من الهجرة، بعث إليها معاوية عُقْبَةَ بن نافع الفِهْري، فاختطَّ مدينة القَيْرَوَان، وسكن المسلمون إفريقية، وافتتح أعمالها، وأسلم البربر، وكانوا نصارى، وفشا الإسلام إلى أن اتصل ببلاد السودان وبالبحر المحيط؛ وكان تمام ذلك أيام الوليد بن عبد الملك، على يدي موسى بن نُصَيْر.
فتح الأَنْدَلُس: ووقع فتحها في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، دخلها طارق بن زياد، قيل إنه مِن الصَّدِف، وقيل هو مولى موسى بن نُصَيْر، ثم اتبعه موسى نصير، ويذكر ولَدُه أنهم من بَكْر بن وائل، وغيرُهم يقول إنه مولى.
__________
(1) بياض بالأصل: والزيادة مما يقتضيه السياق، ومما يتفق والرواية التاريخية في فتح الجزيرة كما فصلها البلاذري والطبري.
(2) بياض بالأصل: والزيادة مما يقتضيه السياق، ومما يتفق والرواية التاريخية في فتح الجزيرة كما فصلها البلاذري والطبري.
(3) في الأصل: استخلف.
(4) زيادة لازمة، وقد جرى ابن حزم على ذكر الخليفة في تحديد تاريخ الفتوح. انظر مثلاً فتح مصر فيما يلي.
(5) في الأصل: فصالحها.(2/128)
واستوعب فتح جميع الجزيرة منالبحر الشامي إلى ما يقابله من البحر المحيط عند المضيق؛ ثم غلب النصارى بعد ذلك على نحو نصف الجزيرة.
فتح صِقِلِّية: افتتحها أسد بن الفرات القاضي الحنفي ايام ابن الأغلب، سنة اثنتي عشرة ومائتين.
فتح إِقْرِيْطِش: فتحها أبو حفص عمر بن عيسى (1) بن نصير من بربر فحص البلوط من قرية ناطرة لونجة منها، تولد بها بنوه والمسلمون إلى أن غلب عليها الروم سنة خمسين وثلاثمائة؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فتح النُّوبة والبجة: غزاهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيام عثمان وهم نصارى، فصالحهم على رقيق يؤدّونه، وبنى على باب مدينة مُلكهم مسجداً، وشرط عليهم حفظه أبداً، ثم أسلمت البجة كلُّهم، وبقيت النوبة والحبشة خاصةً دون سائر السودان منهم نصارى، وهم الأكثر؛ وما ارتفع عن بلادهم يعبدون الأصنام ويسمونها الدقرة، الواحد دقور.
القُسْطَنْطِنيَّة: حاصرها المسلمون مرتين: مرة في أيام معاوية وعلى الجيش يزيد ابنه، وهنالك مات أبو أيوب الأنصاري صاحب رَحْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبره هنالك محفوظ مشهور إلى اليوم، ومرة ثانية في أيام سليمان بن عبد الملك، وصاحب الجيش مَسْلَمَةُ بن عبد الملك، فأشرف على فتحها لولا موت سليمان، وإقفالُ عُمَرَ بنِ عبد العزيز إياه، وبنى عليها مسجداً، وشرط عليهم حفظه، فهو محفوظ هنالك إلى اليوم.
فتح مدائن كسرى والعراق: كانت وقعة القادسية التي أذلَّ الله تعالى فيها الفُرْسَ سنة ستَّ عشرة، وقائدُ المسلمين سَعْد بن أبي وقاص أيام عمر رضي الله عنه، ثم حاصر المدائن حتى فتحها، وبنى عُتْبَةُ بن غزوان البصرةَ سنة سبع عشرة.
وكانت وقعة جَلولاء سنة ثمان عشرة، وفتح في خلال ذلك السواد وأعمال العراق.
فتح حُلْوَان: فتح جرير بن عبد الله البَجَليّ حُلْوَان إثْرَ وقعة جَلُولاء.
__________
(1) مختلف في اسمه، فهو عند ابن خلدون 4: 211 عمر بن شعيب البلوطي ويكنى بأبي الفيض، وبلده تسمى مطروح من عمل فحص البلوط، المجاور لقرطبة، وعند ياقوت أنه شعيب بن عمر بن عيسى من أهل قرية بطروج.(2/129)
فتح الجَبَل: وفتح قِرْمِسِينَ جريرُ بن عبد الله بعد حُلْوَان؛ وكانت وقعة نَهاوَنْد العظيمة التي فلَّ (1) الله جلَّ ثناؤه حَدَّ المجوس سنة عشرين. وفيها قتل أمير المسلمين النعمان بن مُقَرِّن المُزَنيّ؛ وفتحت نهاون؛ وافتتح أبو موسى الأشعري الدِّيْنَوَر وماسَبَذَان (2) ؛ وبعث صهره السائب بن الأقرع الأشعري [إلى] مِهْرِجَان قَذُقَ (3) ، ففتحها.
وفتح جرير بن بن عبد الله أيضاً هَمَذان، قيل في أيام عمر، وقيل في أول ايام عثمان، وقيل فتحها في قَرَظَة بن كَعْب الأنْصَاري ومَسْلَمة بن قيس.
وفتح أبو مسى قُمّ، ووجه الأحنف إلى قاشان ففتحها.
فتح إصبهان والرَّيّ وقُوْمِس: ثم فتح إصبهان - في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان - عبد الله بن بُدَيْل بن وَرْقاء الخُزَاعي.
وفتح الرَّيّ وقُوْمِس جيشٌ بعثهم حُذَيْفَةُ بن اليَمَان، عليهم البَرَاءُ بن عازِب، وقيل سَلَمة بن عمر الضبيّ أيام عمر.
ثم نقضت الريُّ، ففتحها قَرَظة بن كعب الأنصاري، بعثه أبو موسى الأشعري في أيام عثمان.
فتح أَبْهَر وقَزْوين وزَنْجان: فتح البَرَاء بن عازب في ولاية حُذَيْفَةَ أيامَ عمر، أَبْهَر وَزْوين وزنْجان.
فتح شَهْرَزُوْر والصَّامَغان: فتحها عُقبة بن فَرْقَد السُّلمي أيام عمر، رضي الله عنهما.
فتح كُوَرِ الأهْواز: فتحها أبو موسى الأشعري أيام عمر، عَنْوَةً وصلحاً.
فتح كُوَرِ فارس وكَرْمَان: ووجَّه عثمان بن أبي العاص، وهو والي عمر أخاه الحكم بن أبي العاصي، فقطع البحر إلى تَوَّج (4) من أرْدَشير خُرَّة، ففتحها وسكنها المسلمون، فغزاه شُهْرُكُ (5) ، وهُزِمَ الفرسُ، وأمر عثمان بن أبي العاص بالنهوض إلى
__________
(1) في الأصل: قتل.
(2) في الأصل: وسبذان.
(3) في الأصل: مهرجان فذق، من غير إعجام، ولم يعرفها الناسخ فوضع أمامها علامة استفهام، وقد جاءت في ياقوت والطبري كما ضبطناها.
(4) في الأصل: نوح، وصوابه من تاريخ الطبري 1: 2697 - 2700 وياقوت (توج) .
(5) في الأصل: سهرك (بالسين المهملة) ، وهو أحد قواد كسرى (انظر تاريخ الطبري - نفسه -) .(2/130)
فارس، فنهض نحوها، واستخلف على البحرين أخاه المغيرة بن أبي العاصي، وقيل بل أخاه حفص بن أبي العاصي. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري وهو بالبصرة في إنجاد (1) عثمان بن أبي العاصي ففعل، ففتح عثمان كور سابور، وفتحا معاً أَرَّجان وشيراز صلحاً - وشيراز كورة من كور أَرْدَشير خُرَّة (2) - وصالح عثمان بن أبي العاص نَسَا، ومدينة سابور، ثم نقض أهلُها، ففتحت سنة ست وعشرين. ثم فتح عبد الله بن عامر إصطخر في ولايته البصرة لعثمان سنة ثمان وعشرين. ثم فتح جُوْر وهي قاعدة أردشير خُرَّة (3) عنوةً سنة تسع وعشرين، ويومئذ فَني أكثر الأساورة وبيوتات فارس. وكانوا قد لجأوا إلى إصطخر؛ ووجَّه عبد الله بن عامر مُجاشع بن مسعود السُّلَمي في طلب يزدجرد بن شهريار ملك الفرس، فبلغ مجاشع كرمان، وولاه ابن عامر كرمان، وفتح السيرجان (4) قاعدة كرمان عنوة. ثم وجه أبو موسى إلى كرمان الربيع بن زياد الحارثي. ففتح قُمَّ وغيرها. ثم فتح مجاشع جيرفت عنوة.
فتح سِجِسْتان وكابُل: وجَّه عبد الله بن عامر الربيع بن زياد الحارثي إلى سجستان ففتح زَرَنج، قاعدة سِجِسْتان، وكثيراً من أعمالها؛ ثم أتبعه ابن عامر بعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب (5) بن عبد شمس، وله صحبة، ففتح أكثر سجستان. حتى بلغ الدوار (6) من أعمال السند، وفتح بست وجابلستان (7) ، ثم تخبَّل (8) أمر سجستان، فبعث إليهم عبد الله بن عامر، أيام ولايته لمعاوية، عبد الرحمن بن سَمُرَةَ أيضاً، ففتحها وفتح كابل.
أمر خُراسان: غزا عبد الله بن بُدَيْل بن وَرْقاء من قبل أبي موسى الأشعري في أيام عمر، فبلغ الطبسين، فخرج قوم من أهلها فأتوا عمر بن الخطاب فصالحوه. ثم غزا عبد الله بن عامر خراسان سنة ثلاثين أيام عثمان، فبعث الأحنف على جيش ففتح قُوْهِسْتان، وهزم الهياطلة (9) ، ثم صالح ابن عامر نيسابور وأعمالها. وبثَّ ابنُ
__________
(1) في الأصل: اتحاد، وهو تصحيف واضح.
(2) في الأصل: جرة.
(3) في الأصل: جرة.
(4) في الأصل: السرجان.
(5) في الأصل: جندب، وصوابه من تاريخ الطبري.
(6) في الأصل: الدوار، وصوابه من ياقوت، والدوار: ولاية واسعة وإقليم خصيب وهو ثغر الغور من ناحية سجستان.
(7) لم نجد جابلستان فيما بين أيدينا من مراجع، وفي الطبري وياقوت: زابلستان (بضم الباء وكسر اللام) . فلعله مما تتعاقبه الزاي والجيم، كقولهم: توج وتوز، ومنه: التوزي والتوجي.
(8) في الأصل: تخيل؛ والخبل: الفساد.
(9) في الأصل: الهياطة، وهو خطأ واضح.(2/131)
عامر البعوث ففتح أبيورد وسرخس وطوس وهراة وبوشنج وباذغيس وطخارستان وبلخ ومرو الشاهجان، ومرو الروذ، والجوزجان (1) والطالقان والفارياب وخوارزم وجميع ما دون النهر.
ثم جاز سعيد بن عثمان أيام معاوية النهر - نهر جيجون - فدخل بُخارى وصالح سمرقند وترمذ.
ثم استوعب قتيبة بن مسلم - أيام الوليد بن عبد الملك - (2) ففتح ما وراء النهر.
السند: كان عمر رضي الله عنه ولَّى عثمان بن أبي العاصي الثقفي البحرين وعُمان ولم يعزله عن الطائف، وقال له: لا أعزلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك. فاستخلف عثمان على الطائف خالاً له من ثقيف، ثم بعث من البحرين أخاه الحكم ابن أبي العاصي، كما ذكرنا آنفاً، إلى فارس.
ثم نهض عثمان بنفسه إلى عُمان، وبعث جيشاً إلى تاته (3) من أعمال السند، ثم لم تزل السند تغزى إلى زمان زياد بن أبيه الذي ألحقه معاوية بأبيه، فقيل بعد: زياد بن أبي سفيان، فإنه وجه إليها سنان بن سَلَمة بن المحبق الهذلي. ففتح مكران عنوة وسكنها.
ثم لم تزل تغزى إلى أن ولاها الحجاج بن يوسف محمد بن القاسم الثقفي، فافتتح باقي السند.
ثم غلب الكفر على ممالك، منها سَنْدان، وبَقي بأيدي المسلمين المنصورة وأعمالها، والمولتان (4) وأعمالها، وهي بلاد واسعة جداً.
أمر الدَّيْلَم: دخل إليها الحسن بن علي بن عمر (5) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، وهو المعروف بالأطروش، في حدود سنة ثلاثمائة،
__________
(1) في الأصل: الخورجان.
(2) في الأصل: ثم فتح، و " ثم " زائدة، و " فتح " مفعول به للفعل " استوعب ".
(3) في الأصل غير منقوطة، وانظر فتوح البلدان: 438.
(4) بسكون الواو واللام قال ياقوت: " يلتقي فيه ساكنان ... وأكثر ما يسمع فيه ملتان بغير واو، وأكثر ما يكتب كما ههنا ".
(5) في الأصل: عمرو، والتصويب من جمهرة أنساب العرب: 48، ونسب قريش: 61، وذكر ابن حزم في الجمهرة أن الملقب بالأطروش هو " الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر ... " فاختصر هنا النسب فنسبه إلى جده الأعلى.(2/132)
فاسلموا كلهم على يديه، فهم كلهم شِيعة مسلمون (1) .
قال أبو محمد رحمه الله تعالى: وقد كان أسلم بعضهم على يَدَيْ صاحب طَبرسْتان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن.
أمر التَّتَر والطَيْلَسان وجبل القَبْق والتُّرْك: أسلم التتر والطيلسان والجبل كلهم، وفشا الإسلام في جبل القَبْق والترك قديماً وحديثاً، والحمد لله رب العالمين.
ثم افتتح السلطان العادل محمود بن سبكتكين فتوحات متصلات إلى أن مات رحمه الله تعالى، بلاداً عظيمة في الهند، هي الآن مسكونةٌ بالمسلمين، معمورة بطلاب الحديث والقرآن، والغالب عليها، والحمد لله رب العالمين، مذهب الظاهر (2) .
بلاد السودان: بُلِّغْتُ في عام إحدى وثلاثين وأربعمائة أنه أسلم أهل سلا (3) وتَكْرُور، وهما أمتان عظيمتان من بلاد السودان، أسلم ملوكهم وعامتهم، ولله تعالى الحمد كثيراً.
تمت الرسالة
__________
(1) في هامش النسخة: هكذا قال المصنف رحمه الله تعالى، وقد خفي عليه، وأكثرهم سنية.
(2) في هامش النسخة: بل مذهب الحنفي.
(3) في الأصل: " سل "، وسلا: هي التي قال عنها ياقوت إنها " مدينة بأقصى المغرب ليس بعدها معمور ... ثم يأخذ البحر ذات الشمال وذات الجنوب وهو البحر المحيط فيما يزعمون وعلى ساحل جنوبه وما سامته بلاد السودان ".(2/133)
فراغ(2/134)
فراغ(2/135)
4 - رسالة أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم(2/136)
- 4 -
أسماء الخلفاء والولاة
وذكر مددهم
أسماء الخلفاء المهديين، والأئمة أُمراء المؤمنين
وأسماء الولاة - من قريش ومن بني هاشم - أمور المسلمين
وذكر مُددهم إلى زماننا وبالله التوفيق
خلافة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه
استُخلف أبو بكر رضوان الله عليه وبركاته، يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُمِّي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مُدَّتُه في الخلافة عامين وثلاثة أشهر وثمانية أيام. وتوفي في ثمان خلون (1) من جُمادَى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة.
وأمه: سلمى، تكنى بأم الخير، بنت صخر (2) بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّة، مُسْلِمَة، رحمها الله تعالى.
وفي أيامه كانت وقعة اليمامة، ووقعة بُصْرَى، ووقعة أجنادَيْن، ووقعة مرج الصُّفَّر.
خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يكنى أبا حفص، ولي الخلافة في رجب (3) سنة ثلاث عشرة حين موت أبي بكر. وقتل في آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، قتله أبو لؤلؤة، واسمه فيروز، عبد المغيرة بن شعبة، مجوسي، طعنه حين كبَّر للصلاة، صلاة الصبح؛ فكانت
__________
(1) في تلقيح الفهوم: لثمان بقين؛ الروحي: لتسع ليال بقين.
(2) في الأصل: ... صخر بن عمرو بن عامر؛ وعمرو مقحمة هنا، انظر جمهرة أنساب العرب: 135، ونسب قريش: 275.
(3) كذا قال، وقد ذكر قبل سطور أن أبا بكر توفي في ثمان خلون من جمادى الآخرة؛ وقد بويع عمر يوم وفاة أبي بكر.(2/137)
ولايته عشر سنين وستة أشهر ونصف شهر، قُتِل غِيلة، وله ثلاث وستون سنة، وهو أول من سُمِّي أمير المؤمنين.
أُمُّه: حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
وفي أيامه كانت وقعة فَحْل واليرموك مع الروم، والقادسية وجلولاء ونهاوند على الفرس، وبُنِيَت الكوفة والبصرة وفسطاط مصر.
خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه
يكنى أبا عمرو، وقيل أبا عبد الله، وولي الخلافة في ذي الحجة، بعد قتل عمر، رضي الله عنه، بثلاث ليال، وقيل: بل أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وقُتِل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وكانت ولايته اثني عشر عاماً كاملةً غير عشرة أيام (1) . وقتله أول خَرْمٍ دخل في الإسلام، فإن المسلمين استضيموا في قتله غيلةً. واشترك في قتله جماعة، منهم: كِنانة بن بشر التجيبي، وقُتَيْرَةُ السّكُوني (2) ، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي، وكلهم من أهل مصر. واختلف في سنه ما بين ثلاث (3) وستين إلى تسعين سنة.
وأمُّه: أروى بنت كُرَيْر بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف.
وفي أيامه كانت وقعةُ إفرِيقية (4) .
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الهاشمي
رضي الله عنه
يكنى أبا الحسن، ولي الخلافة يوم قُتِلَ عثمان رضي الله عنهما بالمدينة، فرحل عن المدينة إلى الكوفة فاستقر بها، وكانت الخلافة قبل ذلك بالمدينة. وتأخر عن بيعته قومٌ من الصحابة بغير عذر شرعي (5) ، إذ لا شك في إمامته. وقُتِل رضي الله عنه بالكوفة
__________
(1) في تلقيح الفهوم: قال أبو معشر: اثنتي عشرة إلا ثنتي عشرة ليلة.
(2) في الأصل: قنيرة الشكوى.
(3) في الأصل: ثلاثة.
(4) الروحي: وفتح في أيامه أفريقية وقبرص وكرمان وسجستان ونيسابور وفارس وطبرستان وهراة وأعمال خراسان ... وغزا معاوية القسطنطينية.
(5) في هامش النسخة: عذرهم أمر الفتنة واختلاف الناس وعدم استقرار الأمر لعلي وعدم الوصية أو الشورى، والله أعلم، قال أبو عبد الله رحمه الله تعالى بدهلي سنة 1355.(2/138)
غِيْلة، قتله عبد الرحمن بن مُلْجِم المراديّ حين دخل المسجد، وذلك في رمضان لثلاث بقين منه لسنة أربعين من الهجرة، وله ثلاث وستون سنة.
أُمه: فاطمة بنت أَسَد بن هاشم بن عبد مناف، مهاجرة رضوان الله عليها.
وفي أيامه كانت وقعةُ الجمل وصِفِّين، وعلم الناس منه فيها كيف قتال أهلِ البَغْي، وحديثُهما قد اعتنى به ثقاتُ أهلِ التاريخ، كأبي جعفر بن جرير وغيره.
وقَتَل أهل النَهْرَوان من الخوارج، ونِعْمَ الفتحُ كان، أَنَذَرَ به صلى الله عليه وسلم.
وكانت خلافته رضي الله عنه أربعَ سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، واستُضِيم المسلمون في قتله غِيلَةً، رضي الله عنه.
خلافة ابنه أمير المؤمنين الحسن بن عليّ بن أبي طالب
رضوان الله عليهما
يُكنَى أبا محمد، وليَ الخلافة يوم مات أبوه عليٌّ، وكانت مدة خلافته ستة أشهر (1) . كَرِهَ سفك الدماء، فتخلَّى عن حقِّه لمعاوية بن أبي سُفْيان، وانخلع (2) ، وبايع معاوية، وعاش رضي الله عنه متخلياً عن الدنيا إلى أن مات، سنة ثمان وأربعين.
وأُمُّه: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولاية معاوية بن أبي سفيان
ثم وليَ الخلافةَ - إذ تركها الحسنُ بن عليّ بن أبي طالب - معاوية بن أبي سفيان صَخْرِ بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يُكْنَى أبا عبد الرحمن.
بُويع لثلاثة أشهر خلت من سنة إحدى وأربعين، وكانت مدته عشرين سنة غير سبعة أشهر، ومات في نصف رجب سنة ستين، وسنُّه ثمان (3) وسبعون (4) سنة.
وأمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، مسلمة. رحمها الله تعالى.
وفي أيامه حوصرت القسطنطينية؛ وقُتِل حُجْر بن عَدِيّ وأصحابه صبراً بظاهر
__________
(1) في تلقيح الفهوم: سبعة أشهر وأحد عشر يوماً، ويقال: أربعة أشهر؛ الروحي: ستة أشهر وخمسة أيام.
(2) في الأصل: تخلع؛ وقد استعمل ابن حزم " انخلع " في حديثه عن معاوية بن يزيد بعد قليل.
(3) كلمة " ثمان " بياض في الأصل، وقد أثبتناها من ابن سعد 2/7: 128.
(4) في الأصل: وسبعين.(2/139)
دمشق أيضاً (1) - من الوهن للإسلام أن يُقْتَل مَنْ رَأَى النبي صلى الله عليه وسلم من غير رِدّة ولا زِنىً بعد إحصان - ولعائشة في قتلهم كلام محفوظ (2) .
وفي أيامه بُنِيَتْ القيروان بإفريقية.
ولاية يزيد ابنه
وبويع يزيد بن معاوية، إذ مات أبوه؛ يكنى أبا خالد. وامتنع عن بَيْعَتِه الحُسَيْن ابن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزُّبَيْر بن العَوَّام. فأما الحسين عليه السلام والرحمة فنهض إلى الكوفة فقُتِل قبل دخولها. وهو ثالثة مصائب الإسلام بعد أمير المؤمنين عثمان، أو رابعها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخرومِه، لأن المسلمين استضيموا في قتله ظلماً علانيةً. وأما عبد الله بن الزبير فاستجار بمكة، فبقي هنالك إلى أن أغزى يزيدُ الجيوش إلى المدينة، حرمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى مكة، حرم الله تعالى، فَقَتَل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحَرَّة. وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام وخُرومه، لأن أفاضل المسلمين وبقية الصحابة وخيار المسلمين من جِلَّة التابعين قُتِلوا جَهْراً ظُلماً في الحرب وصبراً. وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت وبالت في الروضة بين القَبْر والمِنْبَر، ولم تُصَلَّ جماعةٌ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان فيه أحد، حاشا سعيد بن المُسَيِّب فإنه لم يفارق المسجد؛ ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم عند مُجْرِم بن عُقْبة المُرِّي بأنه مجنون لقتله. وأكره الناسَ على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنهم عبيد له، إن شاء باع، وإن شاء أعتق؛ وذكر له بعضهم البَيْعَةَ على حكم القرآن وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله فضرب عنقه صبراً. وهتك مُسْرِفٌ أو مُجْرِمٌ الإسلام هتكاً، وأنهب المدينة ثلاثاً، واستُخِفَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُدَّتِ الأيدي إليهم وانتُهِبَتْ دورُهم؛ وانتقل هؤلاء إلى مكة شرَّفها الله تعالى، فحوصرت، ورُميَ البيتُ بحجارة المنجنيق، تولَّى ذلك الحُصَيْنُ بن نُمَيْر السّكُونيّ في جيوش أهل الشام، وذلك لأن مجرم بن عقبة المُرِّيّ، مات بعد وقعة الحَرَّة بثلاث ليال، ووَليَ مكانه الحُصَيْنُ بن نمير. وأخذ الله تعالى يزيد أخذ عزيز مقتدر، فمات بعد الحرّة بأقل من ثلاثة أشهر وأزيد من شهرين. وانصرفت الجيوش
__________
(1) زعموا أن ذلك لأنه كان من أصحاب علي وشيعته، وقد شهد الجمل وصفين.
(2) هو قولها - حين عاتبت معاوية في قتل حجر وأصحابه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل بعدي أناس يغضب الله لهم وأهل السماء. وانظر أنساب الأشراف 1/4: 264 - 265.(2/140)
عن مكة.
ومات يزيد في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين، وله نَيِّف وثلاثون سنة (1) .
أُمُّه: ميسون بنت بَحْدَل الكلبيَّة، وكانت مدته ثلاث سنين وثمانية أشهر وأياماً فقط.
ولاية معاوية بن يزيد
ثم بويع أبو ليلى معاوية بن يزيد بن معاوية، فبقي نحو أربعين يوماً، ثم رأى صعوبة الأمر، وكان رجلاً صالحاً، فتبرأ عن الأمر، وانخلع، ولزم بيته، ومات رحمه الله، إلى أيام (2) ، نحو أربعين يوماً، وسنه عشرون سنة.
أمه: أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
ولاية عبد الله بن الزُّبَيْر بمكَّة
بويع له بمكة سنة أربع وستين، بعد ثلاثة أشهر منها، وأجمع عليه المسلمون كلُّهم من إفريقيَّة إلى خراسان، حاشا شرذمة ابن الأعرابية (3) بالأُرْدُنّ، فوجَّه إليهم رسولَه مروان بن الحكم ليأخذ بيعتهم بعد أن بايعه مروان بن الحكم. فلما ورد عليهم خلع الطاعة، وهو أول (4) من شق عصا المسلمين بلا تأويل ولا شُبهة، وبايعه أهل الأُردُن، وخرج على ابن الزبير، وقتل النُّعمان بن بشير، أول مولود في الإسلام من الأنصار، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحمص.
وخرج المختار بن أبي عُبيد بن مسعود الثقفي، فقتل بالكوفة، وادَّعى النبوة في جهالات توجب أنه كان يعلم نفسه أنه ليس كما يظهر، وحاله مضبوطة عند علماء التاريخ.
ومن جيد ما وقع منه أنَّه تتبع من (5) الذين شاركوا في أمر ابن الزهراء الحسين، فقتل منهم ما أقدره الله عليه، وفعل أفعالاً يُعفِّي فيها على هذه الحسنة. وقَتَلَ بالكوفة ممنْ توهَّم منه ما يوجب مُباينةَ ما هو عليه، فهذا كان الغالب عليه.
__________
(1) في تاريخ خليفة: 255 وهو ابن ثمان وثلاثين سنة؛ وفي تاريخ محمد بن يزيد: 28 ثلاث وثلاثون سنة.
(2) من عبارات ابن حزم الغريبة، ولعله يقصد: ومات بعد انقضاء أيام من لزومه بيته، نحو أربعين يوماً.
(3) هو حسان بن مالك بن بحدل الكلبي؛ وقد وصفه ثور بن معن السلمي " بالعرابي " (الطبري 2: 472) .
(4) نقل ابن الوزير اليماني هذا النصّ عن ابن حزم في كتابه " الروض الباسم " 1: 138 وذكر أنه ينقله عن " أسماء الخلفاء ".
(5) لعله يقصد: تتبع بعض الذين شاركوا ...(2/141)
وتغلب مروان على مصر والشام، ثم مات بعد عشرة أشهر، فقام مقامه في الخُلْعان (1) لعبد الله بن الزبير، ابنه عبدُ الملك، وبقيت فتنتُه إلى أن قَوِيَ أمرُه، ووجَّه عاملَه الحجاج بن يوسف إلى مكة فحاصرها، ورمي البيت بحجارة المنجنيق، وقتل ابنَ الزبير في المسجد الحرام بمكة سنة ثلاث وسبعين في جُمادى الآخرة مُقبلاً غير مُدْبِر، مُدافَعَةً عن نفسه، مقاتلاً، فلذلك لم يُعْرَف من قتله، وله ثلاث وسبعون سنة، وهو أول مولود ولد في الإسلام. [وقَتْلُه أحد مصائب الإسلام] (2) وخرومِه، لأنَّ المسلمين استضيموا بقتله ظُلْماً عَلانيةً، وصَلْبَه، واستحلال الحرَم.
وكانت ولايته تسعة أعوام وشهرين ونصف شهر.
أُمُّه: أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق رضوان الله عليهم.
ولاية عبد الملك بن مروان بن الحكم
هو أبو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن [أبي] (3) العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يكنى بأبي الوليد (4) . وَلي إذْ قُتِلَ ابنُ الزبير، وبقي إلى أن مات، يوم الخميس النصف من شوال سنة ست وثمانين بدمشق. وكانت ولايته ثلاثة عشر عاماً وشهرين ونصفاً.
أُمُّه: عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس، قتله (5) النبي صلى الله عليه وسلم صَبْراً.
سِنُّهُ إذْ مات اثنتان وخمسون سنة (6) .
ولاية الوليد بن عبد الملك
يكنى بأبي العباس؛ ولي إ مات أبوه، وبقي والياً إلى أن مات يوم السبت في
__________
(1) لعله مصدر كالخلع، ولم نجده في المعاجم؛ وورد في نص أندلسي آخر هو قول أبي حفص الأصغر بن برد: " ولكنا علمنا أن كهولكم الخلوف عنكم، وذوي الأسنان العاصين لكم، ممن يهاب وسم الخلعان، ويخاف السلطان ". وهذا النص يدل على استعمال الخلعان في الأندلس عند غير ابن حزم.
(2) بياض في الأصل، وهي زيادة يقتضيها سياق الكلام، وتتفق مع مألوف كلام ابن حزم، انظر قوله عن قتلى الحرة في ولاية يزيد بن معاوية: " وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام وخرومه "؛ وقوله قبل ذلك عن مقتل عمر بن الخطاب: " وقتله أول خرم دخل في الإسلام ".
(3) زيادة من جمهرة أنساب العرب: 79، ونسب قريش: 159.
(4) هذا تكرار، إذ أنه ذكر ذلك في أول الترجمة.
(5) أي: معاوية بن المغيرة والد عائشة؛ انظر جوامع السيرة، ص: 175.
(6) تاريخ خليفة: وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ تاريخ محمد بن يزيد: وتوفي وله سبع وخمسون سنة.(2/142)
النصف من جُمادَى الأولى سنة خمس وتسعين، وكانت مدة ولايته تسع سنين وسبعة أشهر، ومات وله ستٌ وأربعون سنة (1) .
أُمه: ولادة بنت العباس بن جزء (2) بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي.
وفي أيامه فتحت الأندلس، وما وراء النهر بخراسان والسند.
ولاية سُليمان بن عبد الملك
كُنيته أبو أيوب، وسكناه بالرملة من فلسطين، وكانت سكنى أبيه وأخيه بدمشق. بويع إذ مات أخوه الوليد، وبقي والياً إلى أن مات يوم الجمعة لعشرٍ خلون من صفر سنة تسع وتسعين. فكانت ولايته عامين وتسعة أشهر وخمسة أيام. ومدة عمره، قيل: سبع وثلاثون سنة (3) ، وهو شقيق الوليد أخيه؛ وفي أيامه حُوصرت القسطنطينية، وحاصرها أخوه مَسلمة، وسنُّ مسلمة أربع وعشرون سنة.
خلافة عمر بن عبد العزيز
يكنى أبا حفص. وهو عمر بن عبد العزيز، ولي رحمه الله يوم مات سليمان، باستخلاف سليمان، وسكناه بخناصرة من عمل حِمص. فأقام والياً إلى أن مات، رحمه الله، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام (4) ، ومات وله تسع وثلاثون سنة، وقيل أربعون سنة كاملة، رضوان الله عليه، وهذا أصح لأن مولده ومولد الأعمش وهشام بن عروة كلهم ولدوا سنة إحدى وستين من الهجرة. وفضله أشهر من أن نتكلف ذكره هنا (5) ، لأن هذا الكتاب بني على ما لا بد من ذكره من الضروري.
أُمُّه: أُمُّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
ولاية يزيد بن عبد الملك بن مروان
بُويع إذ مات عُمَرُ بن عبد العزيز، باستخلاف سليمان له بعد عُمَر؛ يُكنى
__________
(1) زاد في الطبري: وأشهر؛ وفي تاريخ محمد بن يزيد: تسع وأربعون سنة.
(2) في الأصل: جرير، وصوابه من الجمهرة: 239، ونسب قريش: 162.
(3) عند محمد بن يزيد: وتوفي وله خمس وأربعون سنة.
(4) الروحي: وأربعة عشر يوماً؛ محمد بن يزيد: وخمسة وعشرين يوماً.
(5) في الأصل: " وفضله أشهر، أمن تتكلف ذكر هنا ". ولا معنى له. وقد صوبناه بما يتفق وسياق الكلام.(2/143)
أبا خالد. فبقي والياً إلى أن مات ليلة الجمعة لأربع بقين لشعبان سنة خمس ومائة (1) . وكان سكناه بالبخراء (2) من عمل حمص، فكانت ولايته أربعة أعوام وشهراً واحداً. مات وله نحو أربعين سنة.
وأُمُّه: عاتكة بنت يزيد بن معاوية.
ولاية هشام بن عبد الملك
بويع إذ مات أخوه يزيد باستخلاف يزيد له، وكانت سكناه بالرصافة، على (3) يوم من الرقة؛ يكنى أبا الوليد. فبقي والياً إلى أن مات لعشر خلون لربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، فكانت ولايته تسع عشرة (4) سنة وسبعة أشهر غير أيام، ومات وله اثتان (5) وخمسون سنة.
اُمُّه: أُم هاشم (6) بنت [هشام بن] (7) إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ولاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك
بويع إذ مات عمه هشام، باستخلاف يزيد له بعد عمه هشام. فلم يزل والياً إلى أن قُتل يوم الخميس لثلاث ليال بقين من جُمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة.
وكان يُكنى أبا العباس، وسكناه في بعض أعمال حِمص. وكان فاسقاً خليعاً ماجناً، وكانت ولايته سنة واحدة وشهرين، وقتل وله اثنتان وأربعون سنة (8) .
أُمه: بنت محمد بن يوسف، أخي الحجاج بن سوسف الثقفي.
خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
أقام رحمه الله تعالى منكراً للمنكر، فقتل ابن عمه الوليد بن يزيد، بما صحَّ من
__________
(1) في تاريخ محمد بن يزيد: 23 أن يزيد توفي بإربد.
(2) في الأصل: بالبحرا.
(3) في الأصل: كل يوم، ولا معنى له.
(4) في الأصل: تسعة عشر.
(5) في الأصل: اثنان، وفي تاريخ محمد بن يزيد: 43 وله إحدى وستون سنة.
(6) كذلك وردت أيضاً في الجمهرة: 139، وفي نسب قريش: 328: أم هشام؛ وفي تاريخ محمد بن يزيد: عائشة.
(7) زيادة من الجمهرة: 139 ونسب قريش: 328.
(8) تاريخ محمد بن يزيد: خمس وأربعون سنة.(2/144)
فسقه وكفره. وبويع يزيد فأقام والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة؛ وكانت مدته ستة أشهر، ومات وله نحو خمس وثلاثين سنة، وكان فاضلاً؛ يكنى ابا خالد، وسكناه بدمشق.
أُمُّه: شاهْفَرِيد (1) بنت خسروفَيْرُوز ملك الفرس بن يزدَجِرْد بن شهريار بن كسرى أبرويز.
ولاية إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم
بويع إذ مات أخوه. فأقام ثلاثة أشهر مضطرب الحال، مُخالف الأمر، إلى أن انخلع لمروان بن محمد بن مروان بن الحكم. وبقي حياً إلى أن مات. قيل غرق يوم الزاب، وقيل مات قبل ذلك. يكنى أبا إسحاق أُمُّه أم وَلد لا أعرف اسمها (2) .
ولاية مروان بن محمد بن مروان بن الحكم
آخر الأمويين من الأعياص
بويع مروان بن محمد بن مروان بالجزيرة في صفر سنة سبع وعشرين ومائة. فلم يستقر له حال؛ ولا ثبت في مكان واحد، واضطربت لديه الأمور بكثرة خروج بني عمه عليه وغيرهم. ويكنى أبا عبد الملك. فلم يبقى إلى أن قتل ببوصير من أرض مصر، وهو يقاتل إلى أن سقط ميتاً،، فلم يسمع نفسه، يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وتولى قتله عامر بن إسماعيل المُسليّ (3) من أهل خراسان. فكانت ولايته خمس سنين وشهراً، وله ست وتسعون سنة.
واختلف في أمه: فقيل أمّ ولد، وقيل من بني جَعْدَة من بني عامر بن صعصعة.
وانقطعت (4) دولة بني أمية، وكانت دولة عربية، لم يتخذوا قاعدة (5) ، إنما
__________
(1) في الأصل: هفريد، والصواب من الجمهرة: 81، وفي الطبري (2: 1874) : شاه آفريد.
(2) عند الروحي أن اسمها " نعمة " وقيل خسفا " خشفاء ".
(3) في الأصل: المسل، وصوابه من تاريخ الطبري (انظر الفهرست) . ولعله منسوب إلى محلة بالكوفة سميت باسم القبيلة (انظر معجم البلدان: مسلية) .
(4) نقل ابن عذاري هذا النص في البيان المغرب 2: 39 - 40.
(5) البيان: دولة بني مروان بالمشرق بمروان بن محمد الجعدي، وكانت على علاتها دولة عربية لم يتخذ ملوكها قاعدة.(2/145)
كان سُكنى كل امرئ (1) منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجان الأموال، ولا بناء القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل ولا التسويد (2) ، ويكاتبوهم بالعبودية والملك، ولا تقبيل الأرض ولا رجل ولايد، وإنما كان غرضهم الطاعة الصحيحة من التولية (3) والعزل في أقاصي البلاد (4) ، فكانوا يعزلون العمال، ويولون الأخر، في الأندلس، وفي السند، وفي خراسان، وفي إرمينية، وفي اليمن (5) ، فما بين هذه البلاد (6) . [وبعثوا إليها الجيوش، وولوا عليها من ارتضوا من العمال وملكوا أكثر الدنيا، فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض، إلى أن تغلب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع به ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت بها دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يك في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصراً على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير، وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها] .
وانتقل (7) الأمر [بالمشرق] إلى بني العباس بن عبد المطلب رضوان الله عليه، وكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر مُلكاً عضوضاً محققاً (8) كسروياً، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، بخلاف ما كان بنو أمية يستعملون من لعن عليّ (9) ابن أبي طالب رضوان الله عليه (10) ، ولعن بنيه الطاهرين من بني الزهراء؛ وكلهم كان على هذا حاشا عُمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد رحمهما الله تعالى فإنهما لم يستجيزا
__________
(1) البيان: أمير.
(2) يبدو أنه يقصج " بالتمويل " قولهم: " يا مولاي "، كما يقصد " بالتسويد " قولهم " يا سيدي "؛ وفي البيان: ولا طلبوا مخاطبة الناس لهم بالتمويل والعبودية والملك.
(3) البيان: والتولية.
(4) البيان: بلاد الدنيا.
(5) البيان: في السند والهند وفي خراسان وفي إرمينية وفي العراق وفي اليمن وفي المغرب الأدنى والأقصى وبلاد السوس ويلاد الأندلس.
(6) فما بين هذه البلاد: سقطت من البيان المغرب.
(7) يستمر ابن عذاري بنقل هذا النص (2: 40) .
(8) محققاً: لم ترد في البيان.
(9) البيان: بخلاف ما كان عليه بنو أمية من استعمال ذلك في جانب علي.
(10) زاد في البيان: وكفاهم ذلك قبحاً وباطلاً.(2/146)
ذلك.
وافترقت في ولاية بني العباس (1) كلمة المسلمين، فخرج عنهم من منقطع الزابين دون إفريقية إلى البحر المحيط وبلاد السودان، فتغلب في هذه البلاد طوائف من الخوارج وجماعية وشيعة ومعتزلة من ولد إدريس وسليمان ابني (2) عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ظهروا (3) في نواحي بلاد البربر، ومنهم من ولد معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، تغلبوا على الأندلس، وكثير من غيرهم. وأيضاً في خلال هذه الأمور تغلب الكَفَرة على نصف الأندلس وعلى نحو نصف السِّند [فأما ما لم يملكه العباسيون فهو ما وراء الزاب من بلاد المغرب وتلمسان وأنظارها، فوليها محمد بن سليمان الحسني، وفاس وأنظارها كان فيها شيعة ثم آل مُلكها إلى إدريس، وأما تامسنا ففيها أولاد صالح بن طريف على ضلالتهم، وأما سجلماسة فنزلها رئيس الصفرية. هذه هي البلاد المتفق عليها، وأما المختلف فيها فإفريقية قيل أنه كان فيها عبد الرحمن بن حبيب ثائراً، وفي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري] .
ولاية أبي العباس السفاح (4)
فكانت ولاية أبي العباس السفاح، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في الكوفة في ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وسكن الأنبار والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، ومات وله ثلاثون سنة، فكانت ولايته أربع سنين وثمانية أشهر.
وأمه: ريطة بنت عُبيد [الله] (5) بن عبد الله بن عبد المدان الحارثية، من بني الحارث بن كعب، كانت قبله (6) تحت الحجاج بن عبد الملك بن مروان، فولدت له عبد العزيز بن الحجاج، وكان أخا أبي العباس لأمه، ثم خلف عليها بعدُ أخوه
__________
(1) في الأصل: أبي العباس؛ وذلك غير دقيق لأن ما سيذكره لم يحدث في زمن أبي العباس السفاح وإنما حدث في زمن أبي جعفر المنصور ومن بعده؛ وما أثبته هو ما ورد في البيان المغرب.
(2) في الأصل: بني.
(3) 3 في النص بعض اختلاف في البيان عما ورد هنا؛ وما يليه بين معقفين زيادة من البيان المغرب، وأسلوبه يشبه أسلوب ابن حزم، والنقل متصل فلذلك استجزت إضافته في موضعه.
(4) هذا العنوان كان في صدر الفقرة السابقة، وموضعه الصحيح هنا.
(5) زيادة من الجمهرة: 18، والطبري 9: 154.
(6) أي قبل محمد بن علي والد أبي العباس السفاح.(2/147)
عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فولدت له ابنةً أدركت ولاية أبي العباس وكان يكرمها. وفي ولاية أبي العباس استعرض (1) ابن أخيه إبراهيم (2) أَهل الموصل في الجامع إلى أن كسروا المقصورة، وأخذوا العيدان، وصدموا الجند، فأخرجوهم (3) ، فنجوا؛ وكان منهم ابن زريق جد صدقة الأزدي.
ولاية المنصور أبي جعفر
وولي بعد السفاح أخوه: المنصور، وهو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ بويع إذ مات أخوه، وهو بَنى بغداد، وجعلها قاعدة ملكهم، وبقي والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، فكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة، مات متوجهاً إلى الحج، ودُفن ببئر بقرب مكة، وله ثلاث وستون سنة.
أُمُّه: أم ولد نفزية (4) ، وقيل صنهاجية.
ولاية المَهْدِيّ
المهدي لقبه، واسمه محمد. وولي بعد المنصور ابنه: أبو عبد الله محمد بن عبد الله، فلم يزل والياً إلى أن مات سنة تسع وستين ومائة، فكانت ولايته عشر سنين وأشهراً (5) ، إذ مات وله ثلاث وأربعون سنة بعيساباذ (6) .
أُمُّه: أُمُّ موسى بنت منصور الحميري، كانت من أهل قيروان إفريقية، فتزوجها هنالك فتى من ولد عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، كان خليعاً متخلعاً، فولدت له ابنة. وكان لها زوج قبله خياط ولدت منه ولداً (7) ، وبلغ ذلك قومها، فنهض
__________
(1) استعرض الناس: قتلهم ولم يسأل عن حال أحد ولم يبال من قتل منهم.
(2) هو إبراهيم بن يحيى بن محمد؛ ويحيى أخو أبي العباس السفاح، ولم يعقب إلا إبراهيم هذا.
(3) في الجمهرة: 18 " فأخرجوا لهم " بدل " أخرجوهم "، والخبر في الجمهرة أوضح قال: " ... إبراهيم بن يحيى، هو الذي قتل أهل الموصل، واستعرضهم بالسيف يوم الجمعة؛ فلم ينج منهم إلا نحو أربعمائة رجل، صدموا الجند، فأخرجوا لهم، ثم أمر بأن لا يبقى بالموصل ديك إلا يذبح، ولا كلب إلا يعقر ".
(4) في الأصل: بقرية، والتصويب من الجمهرة: 18، وسماها ابن حزم هناك: " سلامة " وكذلك هو في تاريخ محمد بن يزيد: 37.
(5) لعلها: " وشهراً " انظر مروج الذهب 4: 165.
(6) بهامش الأصل الذي نقلت عنه نسختنا: " ولعله بموساباذ " وفي الطبري 10: 12 أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان يقال لها: الرذ، وسماها المسعودي في المروج 4: 165: " ردين ".
(7) ذكر ابن حزم هذا الخبر في الجمهرة: 21 وانظر ما تقدم في رسالة نقط العروس، الفقرة: 20.(2/148)
أبو جعفر المنصور بنفسه، وذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، فدخل القيروان ووجد الخياط قد مات أو طلقها، فتزوجها أبو جعفر وأتى بها، فلما صارت الخلافة إليه سَمَّوُا ابن ذلك الخيّاطِ: طيفور، وقالوا: هو مولى المهديّ، وإنما كان أخاه لأمه، وهو جدُّ عُبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر مؤلف " أخبار بغداد " (1) .
ولاية الهادي
وولي بعد المهدي ابنه: أبو محمد موسى بن محمد، فلم يزل والياً إلى أن مات بموساباذ سنة سبعين ومائة؛ وكانت ولايته عاماً واحداً وشهرين، وله أربع وعشرون سنة وأشهر. وأمه أم ولد، اسمها: الخَيْزُرَان.
ولاية الرشيد
وولي بعد الهادي أخوه: أبو جعفر هارون بن محمد، فلم يزل والياً إلى أن مات بطوس من خراسان، وهنالك قبره. وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وهو آخر خليفة حجَّ في خلافته، وحجَّ من بعده كثير من قبل ولايتهم. وقد سكن الرقة والحيرة، وكانت وفاته سنة ثلاث وتسعين ومائة. وكانت مدة ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، ومات وله ست وأربعون سنة؛ وهو شقيق أخيه موسى.
ولاية الأمين
وولي بعد الرشيد ابنه: أبو عبد الله محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي، فأقام والياً إلى أن قُتيل سنة ثمان وتسعين ومائة، أمر أخوه المأمون طاهر بن الحسين قائده (2) - حين وجَّهَهُ إلى حربه - بقتله، فقتل صبراً محمداً الأمين، وكانت ولايته أربع سنين وأشهراً، ومات وله سبع وعشرون سنة.
وأُمُّه: زُبيدة، واسمها أم جعفر بنت جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور.
ولاية المأمون
وولي بعد الأمين أخوه: أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي،
__________
(1) أحمد بن أبي طاهر - وأبو طاهر هو طيفور - (204 - 280) له مصنفات كثيرة منها كتاب بغداد الذي أتمه ابنه عبيد الله، فإن أحمد عمل إلى آخر أيام المهتدي وزاد فيه ابنه أخبار المعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر ولم يتمه (الفهرست 163 - 164) فقول ابن حزم " مؤلف أخبار بغداد " غير دقيق.
(2) في الأصل: " فأقام قائده "؛ ولا معنى لها، فلعل لفظ " فأقام " من خطأ الناسخ.(2/149)
فلم يزل والياً إلى أن مات غازياً بأرض الروم، وقبره بطرطوس، وكانت ولايته عشرين سنة وأشهراً، ومات وله ثمان وأربعون سنة، وكانت وفاته سنة ثماني عشرة ومائتين يوم الخميس، في نصف رجب، وكان يرى حُب آل البيت، ولا يُعْطي من أعرض عنهم، أو عرضهم (1) ، رخصةً، فقيل: كان يَتَشَيَّع.
أُمُّه أُمُّ ولدٍ، اسمها: مَرَاجل، بادغيسية خُراسَانية تُركية.
وفي أيامه افتتح المسلمون صِقِلِّية وإقْريطش.
ولاية المعتصم
وولي بعد المأمون أخوه: أبو إسحاق محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله، فَرحل عن بغداد، واتخذ سر من رأى قاعدةً، وأضعف أمور الخُراسانية جند آبائه، واستظهر بالأتراك، فأتى بهم واتخذهم جنداً (2) ، فبطلت دولة الإسلام، وابتدأ ارتفاع عمود الفساد حينئذٍ، وكانت له مع ذلك فتوحات عظيمة الغناء في الإسلام، منها:
قتل بابك الخرمي، وقد ظهر بآذربيجان معلناً بدين المجوسية، وبقي نحو عشرين عاماً يهزم الجيوش السُلطانية، ويضع سيفه في الإسلام.
ومنها قَتلُه المازيار المجوسي صاحب جبال طبرستان، وفتح طبرستان. وكان هنالك أيضاً معلناً بدين المجوسية.
ومنها قتله المُحمرة (3) بالجبل، وقد قاموا أيضاً بدين المجوسية.
وهو آخر خليفة غزا أرض الكفر بنفسه.
وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وكان يذهب مذهب الاعتزال.
وكانت ولايته ثمانية أعوام وثمانية أشهر وثمانية أيام؛ ومات وله ثمانٍ وأربعون سنة؛ وذلك سنة سبع وعشرين ومائتين في ربيع الأول.
أُمُّه أم ولد، اسمها: ماردة، كوفية، مُولدة.
__________
(1) عرضه يعرضه، واعترضه: أوقع فيه وانتقصه وشتمه.
(2) في الأصل: " فأتاهم واتخذهم جنداً " والتصويب مما يقتضيه السياق.
(3) فرقة من الخرمية.(2/150)
ولاية الواثق
وولي بعد المعتصم: أبو جعفر هارون بن محمد بن هارون بن عبد الله، فبقي والياً إلى أن مات في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
وكانت ولايته خمس سنين وثمانية أشهر، وله إذ مات ستٌ وثلاثون سنة وأشهر، وكان يذهب مذهب الاعتزال.
أُمُّه أُمُّ وَلد، اسمها: قَرَاطِيس، رُوميَّة.
ولاية المُتَوَكِّل
وولي بعد الواثق أخوه: أبو الفضل جعفر بن محمد بن هارون بن محمد، فأقام والياً إلى أن قُتِل ليلة الأربعاء لأربع خَلَوْنَ لشوال سنة سبع (1) وأربعين ومائتين. تولى قتله باغر (2) ويجن التركيان (3) ، غدراً في مجلسه، بأمر ابنه المنتصر، كانت ولايته خمسة عشر عاماً، غير شهرين، وقتل وهو ابن اثنتين وأربعين عاماً.
أُمه أم ولد، اسمها: تُركية.
ولاية المنتصر
وولي بعد المتوكل ابنه: أبو جعفر محمد بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد، وهو الذي دسَّ على قتل أبيه، فأقام والياً إلى أن مات لخمس خلون لربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وكانت ولايته ستة أشهر. وكانت مُدَّة عمره خمساً وعشرين سنة، وكان يتشيع.
أُمُّهُ أُمُّ وَلَد، اسمها: حبشية، رومية. وقيل إنما قتل والده لما كان يراه منه ويسمعه من تنقص آل البيت، وما يسمعه من جلسائه، كعلي بن الجهم ومن نحا نحوه.
وقد كان الرشيد يميل إلى ما يميل إليه المتوكل لكن بغير إفراط، فقد مدح الرشيد وتنقص أهل البيت في أثناء مدحه بما لا يرضاه، فكان سبباً لحرمان ذلك الشاعر ولطرده، ولم يكن المتوكل يكره المبالغة في تنقص أهل البيت.
__________
(1) في الأصل: " تسع "، وهو خطأ واضح، إذ إن ابنه - على ما يذكر بعد قليل - مات سنة ثمان وأربعين ومائتين.
(2) في الأصل: باعر.
(3) في الطبري 3: 1306: " واجن الأشروسني الصغدي ".(2/151)
ولاية المُسْتَعين
وولي بعد المنتصر ابن عمه لحا: أبو العباس أحمد بن محمد المعتصم، فأقام والياً مخلوعاً إلى أن قتل في شوال من العام المؤرخ (1) . أمر بقتله المعتز، فقتل صبراً، وكان عمره ستاً وثلاثين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين سنة.
أُمه مُخارق، قيل أم ولد، وقيل إنها بنت عبيد (2) من أهل دوسرة (3) قرية بالموصل.
ولاية المعتز
وولي بعد المستعين ابن عمه لحا: أبو عبد الله الزبير بن جعفر المتوكل، فأقام والياً، إلى أن قتل في شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. أدخل في حمام وسد عليه بابه حتى مات. أمر بذلك صالح بن وصيف التركي متولي خلعه.
وفي أيامه ابتدأ ظهور المتغلبين في أطراف البلاد، فكانت مدته منذ خلع المستعين إلى أن خلع هو أربع سنين غير خمسة أشهر (4) ، وكان عمره خمساً وعشرين سنة غير شهر (5) ، ولم يحج قط.
أمه أم ولد، اسمها: قبيحة، صقلية.
خلافة المهتدي رضي الله عنه
وولي بعد المعتز ابن عمه لحا: أبو عبد الله محمد بن هارون الواثق، وكان رحمه الله تعالى إمام عدل (6) ، فأقام والياً إلى أن قتل في نصف رجب سنة ست وخمسين ومائتين؛ فقام عليه موسى بن بغا، فحاربه، فأصابت المهتدي جراحات، ثم أخذ فقتل (7) ، فكانت مدته في الخلافة أحد عشر شهراً، وعمره سبع وثلاثون سنة.
أُمُّه أُمُّ وَلَد، اسمها: قُرْب.
__________
(1) كذا في الأصل؛ وفي ابن الأثير 7: 58، 61 أنه خلع ثم قتل في سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
(2) في الجمهرة: 22 " وقيل بنت رجل من أهل الموصل ".
(3) في معجم البلدان: " دوسر " بغير هاء.
(4) ابن العمراني: 132 أربع سنين وستة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
(5) ابن العمراني: فعمره ... اثنتان وعشرون سنة وثلاثة أشهر وأيام وقد روي أن عمره كان أربعاً وعشرين سنة.
(6) ابن العمراني: 133: وكان المهتدي زاهداً ورعاً صواماً قواماً لم تعرف له زلة.
(7) انظر في خبر قتله ابن الكازروني: 159.(2/152)
ولاية المعتمد
وولي بعد المهتدي ابن عمه لحا: أبو العباس أحمد بن جعفر المتوكل، فأقام والياً إلى أن مات، فكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وله خمسون سنة.
أُمه أُمُّ ولد، اسمها: فتيان (1) .
وفي أيامه قتل أخوه أبو أحمد الموفق صاحب الزنج القائم بهدم الإسلام.
والمعتمد أول خليفة تغلب عليه، ولم ينفذ له أمر ولا نهي (2) .
ولم يكن بيده من أمر الخلافة إلا الاسم فقط (3) .
ولاية المعتضد
وولي بعد المعتمد ابن أخيه: أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن طلحة بن المتوكل، فأقام والياً إلى أن مات لسبع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، فكانت ولايته عشر سنين غير شهرين وأيام، ومات وله ست وأربعون سنة (4) ، وكان يتشيع، ورجع إلى بغداد وسكنها، ولم يحج قط، لا هو ولا أحد بعده من الخلفاء إلى زماننا إلى أن نقطع عنده إن شاء الله تعالى التأليف عند آخرهم.
أُمه أُم ولد، اسمها: ضِرار.
وفي أيامه ظهرت دعوة الكفر بقرامطة البحرين، وفي بلاد إفريقية وباليمن، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولاية المكتفي
وولي بعد المعتضد ابنه: أبو محمد علي بن أحمد؛ فأقام والياً إلى أن مات عَشية يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت لذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائتين. وكانت مدة
__________
(1) في الأصل: قتبان، وصوابها من الجمهرة: 23، والمحبر لابن حبيب: 44 وابن العمراني: 137 وابن الكازروني: 161 وتاريخ محمد بن يزيد: 45.
(2) ابن العمراني: 137 ولم يبق للمعتمد على الله تصرف في أمر من الأمور، وإنما كان مستهتراً بالشراب لا يبح من الجوسق بسامراء ولا يخرج منه إلا إلى متصيد أو متنزه.
(3) يريد أن السلطة الفعلية كانت بيد أخيه أبي أحمد الموفق طلجة.
(4) ابن العمراني (148) وكان ابن خمس وأربعين سنة.(2/153)
ولايته خمس سنين وسبعة أشهر وأياماً (1) ، ومات وله ثلاث وثلاثون سنة، وكان يتشيع.
أُمه أم ولد، اسمها: جيجك (2) .
ولاية المقتدر
وولي بعد المكتفي أخوه: أبو الفضل جعفر بن أحمد، وله أربع عشرة سنة (3) ، ولم يَلِ إمرة المؤمنين أحدٌ إلى يومنا هذا أصغر منه.
وفي ايامه فسدت الخلافة، ورقت أمور المسلمين، وظهرت غالية الروافض الكفرة، فغلبوا على كثير من البلاد، وتسموا بإمرة المؤمنين، وسلك سبيلهم في ذلك من تغلب على الأندلس من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان، وسلك سبيلهم في زماننا من تغلب على بعض الجهات من ولد أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما، واختل النظام جُملة.
فلم يزل والياً إلى أن قتل في شوال سنة عشرين وثلاثمائة، يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال في حرب مؤنس الخادم، إذ قام عليه، وسنه ثمان وثلاثون سنة وأشهر. وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة غير شهرين.
أُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: شغب (4) .
وفي أيامه ملك الروافض الغالية إفريقية كلها، وغلب القرامطة الكفرة على مكة، وقلعوا الحجر الأسود. وقتل الناس في الطواف، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولاية القاهر
وولي المقتدر أخوه: أبو منصور محمد بن أحمد، فأقام والياً إلى أن خلع وسملت عيناه، يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين (5) وعشرين
__________
(1) ابن الكازروني: 170 توفي عشية السبت ثالث عشر من ذي القعدة من سنة خمس وتسعين ومائتين ... وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وعشرين يوماً؛ وانظر ابن العمراني: 152.
(2) في الأصل " ححوا " والتصويب من الطبري 11: 404، وتاريخ الخلفاء للسيوطي (تحقيق محيي الدين سنة 1371) : 376؛ وفي ابن الكازروني: 168 جيجك.
(3) ابن العمراني: ثلاث عشرة سنة (وقد مرَّ ذلك ص: 79) .
(4) في الأصل: شعب، وصوابه من الطبري 3: 2184 وابن العمراني: 153.
(5) عند ابن العمراني: سنة 323.(2/154)
وثلاثمائة، فكانت ولايته عاماً واحداً وستة أشهر، ثم عاش خاملاً مُضاعاً فقيراً، إلى أن مات سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وله ثمان وخمسون سنة.
وأُمُّه أم ولد، اسمها: قَتُول (1) .
ولاية الرَّاضي
وولي بعد القاهر ابن أخيه: أبو العباس محمد بن جعفر المقتدر، فأقام والياً إلى أن مات ليلة السبت النصف من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وكانت ولايته سبع سنين غير شهر واثنين وعشرين يوماً (2) ، وكانت سنه إذْ مات إحدى وثلاثين سنة وشهوراً.
أُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: ظَلُوم.
وفي أيامه كثر المتغلبون (3) ، فتغلب على كل ناحية مُتغلب، وتغلب عليه وعلى من بعده من الخلفاء، وفسد الأمر إلى هلمَّ جَرّا.
ولاية المتَّقي
وولي بعد الراضي أخوه: أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر، المُتَّقي، فأقام والياً إلى أن انخلع، وسُمِلَتْ عيناه، لسبع بقين من صفر، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، أمر بذلك توزون التركي إذ قام عليه، فكانت ولايته أربع سنين غير شهر. وكان رجلاً صالحاً إلا أنه لم يتمكن من ولاية الأمور، وعاش مخلوعاً إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. وسنه إذ مات سبع واربعون سنة.
وأُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: خَلوب.
ولاية المُسْتَكْفي
وولي بعد المتقي ابن عمه لحا: أبو القاسم عبد الله بن علي المستكفي. فأقام والياً إلى أن خلع وسُمِلت عيناه في جُمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، بأمر أحمد ابن بويه الديلمي الأقطع (4) ، إذْ دخل بغداد وتغلب على الخلافة. وكانت ولايته سبعة عشر شهراً، وعاش مخلوعاً إلى أن مات سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وسنه إذ
__________
(1) أو قبول؛ انظر ما تقدم: 121 حاشية: 4.
(2) ابن العمراني: 165 فكانت خلافته ست سنين وخمسة أشهر.
(3) يعني أمثال بني حمدان وبني بويه وغيرهم.
(4) هو معز الدولة البويهي.(2/155)
مات إحدى وخمسون سنة وشهور.
أُمُّه أُمُّ ولد، اسمها: غُصْن.
ولاية المطيع
وولي بعد المستكفي ابن عمه لحاً: أبو القاسم بن جعفر المقتدر. فأقام والياً إلى أن فلج، وتخلى لابنه عن الأمر طائعاً غير مُكْرَه (1) ، يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت لذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً، وسنُّه إذ مات أربع وستون سنة، وعاش في ولايته مُضْطَهداً ليس له من الأمر شيء إلا الاسم.
وأُمُّه أُمُّ ولدٍ، اسمُها: مَشْغَلَة.
وفي ايامه ضعفت الخلافة ووهت، وغلبت الديالم على بغداد، وغالية الروافض في مصر والشام كلها ومكة والمدينة، وغلب الروم على إقْريطش والثغور الشامية وبعض الجزيرة، وردَّت القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة.
ولاية الطائع
وولي بعد المطيع ابنه: أبو بكر عبد الكريم، فأقام والياً إلى أن خلع سة ثمانين وثلثمائة. وكانت ولايته ستة عشر عاماً وأشهراً، وعاش بعد ذلك مخلوعاً مسمولاً إلى أن مات سنة أربعمائة (2) ، وتولى خلعه وسَمْلَه خسرو فيروز (3) بن فناخسرو بن الحسن بن بويه الديلمي (4) .
ولاية القادر
ثم تولى بعد الطائع ابن عمه لحا: أبو العباس أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدر، فأقام والياً إلى أن مات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة (5) ، ولم يبلغ أحدٌ من الخلفاء في الإسلام مدَّتَه في إمرة المؤمنين، ولا طول عمره، لأن ولايته اتصلت ثلاثاً وأربعين
__________
(1) ابن العمراني: 178 طلب الأتراك من الخليفة قلع الديلم فلم يجبهم إلى ذلك، وقصدوا ابنه ولي عهده عبد الكريم فاستجاب لهم، " ودخل الأمير أبو بكر عبد الكريم على أبيه المطيع لله وسامه خلع نفسه، فرأى الجدَّ منه وخاف من القتل على نفسه فخلع نفسه وسلم الأمر إلى ولده ".
(2) في سائر الكتب التاريخية: سنة 393.
(3) هو بهاء الدولة أبو نصر، وقد ورد اسمه في الأصل: خسرو مهر.
(4) عند ابن العمراني أن خلعه تمَّ سنة 381.
(5) ابن العمراني: 186 في الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة 422.(2/156)
سنة، ومات وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، لأن مولده كان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
ولاية القائم بالله عبد الله بن القادر بالله
تولى بعد القادر بالله: أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، فهو أمير المؤمنين اليوم (1) .
ونسأل الله تعالى بمنه أن يوزع المسلمين أميراً رشيداً يعز به وليه، ويذل به عدوه، ويُعلي به كلمة الإسلام، ويُسفل كلمة من ناوأه من سائر الأديان، ويُظهر معه العدل، وحُكم الكتاب والسنة، آمين، آمين. آمين رَبّ العالمين.
قد أعان الله تعالى على استيفاء الغرض في كتابنا هذا، فله الحمد واصباً عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. وهو المُسْتَغْفَرُ من الزلل، والمرجو للرحمة والقبول. لا إله إلا هو، ربُّ كل شيء ومليكه، الأحد الأول الحق. وصلى الله على سيدنا محمد خيرة الله تعالى من خلقه، وعلى آله وصحبه وعترته، ورضي الله عن صحابته، وسلَّم تسليماً.
وكان الفراغ منه في العشر الأخير من شهر صفر سنة 776 ست وسبعين وسبعمائة.
__________
(1) فأقام والياً إلى أن مات في سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته خمساً وأربعين سنة، فهو قد فاق القادر في طول المدة، وفي أيامه بدأت سيطرة السلاجقة ...(2/157)
فراغ(2/158)
فراغ(2/159)
فراغ(2/160)
- 4ب -
الخلفاء بعده عليه السلام
(صورة أخرى من الرسالة السابقة)
الخلفاء بعده - عليه السلام (1)
1 - لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الناس عليه أفذاذاً دون إمام، وتولى أمور المسلمين خليفته أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، واسمه: عبد الله، فولي الخلافة سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام. وتوفي، رضي الله عنه، وله ثلاث وستون سنة. وكان أبوه وأمه مسلمين، وأمه هي أم الخير [سلمى] بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وهو الذي حارب أهل الردة، وقتل مسيلمة وأغزى الجيوش إلى الشام لقتال الروم وإلى العراق لقتال الفرس.
وقبره مع قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بيت عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهو الآن داخل المسجد.
2 - ثم استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب أبا حفص فولي عشر سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً. ثم قتل، رضي الله عنه، غيلة وهو في صلاة الصبح، طعنه أبو لؤلؤة، مجوسي فارسي، غلام المغيرة بن شعبة. عاش ثلاثة أيام ومات، رضي الله عنه، وقبره مع قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر.
وفي أيام عمر فتحت الشام كلها، وجميع أعمال مصر، وأعمال السواد، وبعض فارس وأصبهان والري والأهواز والجزيرة وأذربيجان وديار مضر وديار ربيعة.
وبنيت البصرة والكوفة والفسطاط قاعدة أرض مصر.
__________
(1) هذا جزء من رسالة بعنوان " جمل من التاريخ " ضمن مجموعة بدار الكتب المصرية وردت تحت عنوان " كتاب الجامع من كتاب الإيصال " وقد نشرها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وعبد الحليم عويس (الرياض: 1977) وهذا القسم من الرسالة يقابل الرسالة السابقة، غير أنه يختلف عنها بعض اختلاف، فلذلك آثرت إيراده على حاله، ولم أشأ إثبات الفروق في حاشية الرسالة السابقة. فأما القسم الأول الذي لم أورده هنا فإنه يتعلق بسيرة الرسول، وهو صورة موجزة جداً من بعض ما جاء في جوامع السيرة.(2/161)
3 - ثم ولي الخلافة عثمان أبو عمرو بن عفان، اثنتي عشرة سنة ثم قتل صبراً، رضي الله عنه. وفي أيامه فتحت اصطخر من فارس وكرمان وسجستان وخراسان - ما دون النهر منها - وأرمينية وغرب أفريقية، وقبره، رضي الله عنه، في طرف البقيع.
4 - ثم ولي الخلافة أبو الحسن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فاضطربت عليه الأمور، ولم يبايعه جمهور الصحابة، رضي الله عنهم، وخالف عليه معاوية بالشام وكانت وقعة الجمل بالبصرة، قتل فيها طلحة والزبير، رضي الله عن جميعهم، وكانا مع عائشة رضي الله عنها.
وكانت وقعة صفين بالشام، وقتل الخوارج بالنهروان، وافترقت كلمة الإسلام، وافترقت الطائفة القائمة على عثمان، رضي الله عنه، فرقتين: خوارج وشيعة غالية وغير غالية، وكل لا خير فيه.
وكانت ولاية علي بالكوفة خمس سنين غير ثلاثة أشهر. وقتل، رضي الله عنه، غيلة وهو داخل المسجد لصلاة الصبح، ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي - من الخوارج - ضربة مات منها بعد ثلاثة أيام. وقبره بالغري عند الكوفة.
5 - ثم ولي الخلافة ابنه أبو محمد الحسن بن علي، أمه فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولي ستة أشهر ثم انحل عن الخلافة طوعاً وسلم الأمر إلى معاوية.
وقبر الحسن، رضي الله عنه، بالبقيع بالمدينة، وله تسع وأربعون سنة.
6 - فولي الخلافة أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، وأجمع عليه جميع المسلمين. وكان كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الوحي وغير ذلك. فأقام خليفة عشرين سنة غير أربعة أشهر. ومات، رضي الله، وله خمس وسبعون سنة.
وفي أيامه فتحت افريقية كلها، وسكنها المسلمون، وبنيت القيروان، ونزل ابنه يزيد بالجيش على القسطنطينية، فحاصرها مدة، ومات هنالك أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، رضي الله عنه - صاحب رَحل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودفن هناك.
وقبر معاوية بدمشق.
7 - ثم ولي ابنه أبو خالد يزيد بن معاوية ثلاث سنين وثلاثة أشهر. واضطربت الأمور، ونهض الحسين بن علي، رضي الله عنهما، إلى الكوفة، وقتل هنالك.(2/162)
وخالفه أهل المدينة، وكانت وقعة الحرة التي قتل فيها خيار الناس.
وحاصر عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه، بمكة، ثم مات (1) .
8 - وولي الخلافة أبو بكر عبد الله بن الزبير بمكة تسعة أعوام وثلاثة أشهر. وقام عليه بالأردن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس فغلب على الشام ومصر.
ثم مات مروان وقام مقامه ابنه عبد الملك، ووجه الحجاج لحصار ابن الزبير بمكة. فحاصره مدة. ثم قتل ابن الزبير، رضي الله عنه، داخل المسجد الحرام مقبلاً غير مدبر، وله ثلاث وسبعون سنة.
9 - فولي أبو الوليد عبد الملك بن مروان، فاجتمع عليه المسلمون، فولي ثلاث عشرة سنة. ثم مات، وله ثنتان وخمسون سنة، وقبره بدمشق.
وفي أيامه زاد التفرق، وظهر الإرجاء، وإنكار القدر.
10 - فولي مكانه أبو العباس الوليد بن عبد الملك. ففي أيامه فتحت السند والأندلس وما وراء النهر من خراسان وكانت ولايته تسع سنين وسبعة أشهر. وكان سكناه دمشق.
11 - ثم ولي الخلافة أخوه أبو أيوب سليمان بن عبد الملك، فأغزى أخاه مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية، فحاصرها حتى أشرف على أخذها. ومات سليمان، رحمه الله، وكانت ولايته عامين وتسعة أشهر وخمسة أيام. وكان سكناه بالرملة قرب بيت المقدس.
12 - فولي بعده ابن عمه أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان، رضي الله عنه، وكان غاية في العدل والخير. وكانت ولايته عامين وخمسة أيام. وكان سكناه بخناصرة من أرض حمص. وهنالك قبره معروف.
13 - ثم ولي بعده أبو خالد يزيد بن عبد الملك أربعة أعوام وشهراً، وكان مائلاً إلى اللذات. وكان سكناه بالبخراء من أرض حمص.
14 - ثم ولي بعده أخوه أبو الوليد هشام بن عبد الملك تسعة عشر عاماً وعشرة أشهر غير أيام. وكان سكناه بالرصافة بقرب الرقة.
__________
(1) يلاحظ أنه لم يذكر خلافة معاوية بن يزيد، وهذا سهو.(2/163)
15 - ثم ولي بعده ابن أخيه أبو العباس الوليد بن يزيد وكان خليعاً ماجناً. ثم قتل بعد سنة وشهرين. وكان سكناه حيث سكن أبوه.
16 - ثم ولي بعده ابن عمه أبو خالد يزيد بن الوليد، وهو القائم على الوليد المذكور. وكان يزيد غاية في الزهد والعدل. فولي ستة أشهر ومات بدمشق.
17 - فولي بعده أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن الوليد الخليع.
18 - وولي أبو عبد الملك مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، فكانت ولايته خمس سنين وشهراً واحداً. واضطربت عليه الأمور من أول ولايته حتى قام عليه أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس فقتل مروان ببوصير من أرض مصر، مقبلاً غير مدبر وسيفه بيده يضارب به حتى سقط.
19 - وولي أبو العباس وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب فكانت ولايته أربع سنين وثمانية أشهر واياماً، وكان سكناه بالأنبار. وفي أيامه تفرقت الجماعة. فخرج عن طاعته من ما بين تاهرت وطبنة إلى بلاد السودان وجميع الأندلس. وتغلبت على هذه البلاد طوائف من خوارج وجماعية، وضعفت دولة العرب وأجنادها.
20 - فولي بعده أخوه أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد عشرين سنة كاملة (1) . وهو بنى بغداد، ومات محرماً بالحج بمكة ودفن ببئر ميمون.
21 - فولي بعده ابنه: أبو عبد الله المهدي محمد بن أبي جعفر عشر سنين وأشهراً، وكان مقامه بعيساباذ من عمل السواد.
22 - فولي بعده ابنه أبو محمد موسى الهادي سنة واحدة وشهرين، وكان مقامه بموساباذ من عمل السواد.
23 - فولي بعده أخوه أبو جعفر هارون الرشيد ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، وهو آخر خليفة حجَّ بالناس في خلافته. وكان مقامه بالحيرة وبغداد (2) . وقبره بطوس من خراسان.
24 - وولي بعده ابنه أبو عبد الله الأمين أربع سنين وأشهراً إلى أن قتل ببغداد.
25 - وولي بعده أخوه أبو العباس عبد الله المأمون، وهو بخراسان، ثم رحل إلى
__________
(1) في رسالة اسماء الخلفاء: اثنتين وعشرين سنة.
(2) في رسالة أسماء الخلفاء: وقد سكن الرقة والحيرة.(2/164)
بغداد. وكانت ولايته عشرين سنة وأشهراً. ومات بأرض الروم، وقبره بطرسوس.
26 - ثم ولي بعده أخوه أبو إسحاق محمد المعتصم بالله ثمانية أعوام وثمانية أشهر وثمانية أيام. وهو قتل بابك الخرمي القائم بملة المجوس بطبرستان، وهو آخر خليفة غزا دار الحرب بنفسه. وكان سكناه " سر من رأى ".
وهو أول من تجند بالعبيد، وضعف أجناد الأحرار.
27 - ثم ولي ابنه أبو جعفر هارون الواثق بالله خمس سنين وثمانية أشهر.
28 - ثم ولي بعده أخوه أبو الفضل جعفر المتوكل على الله خمسة عشر عاماً غير شهرين، إلى أن قتله عبيد أبيه الأتراك بأمر ابنه المنتصر.
29 - ثم ولي ابنه أبو عبد الله محمد المنتصر قاتل أبيه، فكانت ولايته ستة أشهر.
30 - ثم ولي بعده ابن عمه لحا أبو العباس المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم أربع سنين غير ثلاثة أشهر. ثم خلع ثم قتل.
وهؤلاء كلهم حجوا قبل الخلافة.
31 - ثم ولي ابن عمه أبو عبد الله المعتز بالله محمد بن المتوكل أربع سنين غير خمسة أشهر ثم خلع وقتل، ولم يحج قط.
32 - ثم ولي ابن عمه أبو عبد الله المهتدي بالله بن الواثق. وكان ناسكاً فاضلاً، فكانت مدته، رحمة الله عليه، إلى أن خلع وقتل: أحد عشر شهراً. وحج قبل الخلافة.
33 - ثم ولي ابن عمه أبو العباس المعتمد على الله أحمد بن المتوكل ثلاثاً وعشرين سنة. وكان ناقصاً متخلفاً متغلباً عليه. وكان مع ذلك فصيحاً خطيباً. ثم مات ولم يكن له مستقر، كان أخوه أبو أحمد الموفق ينقله من موضع إلى موضع. وحج قبل الخلافة.
34 - ثم ولي ابن أخيه أبو العباس المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق طلحة بن المتوكل عشر سنين غير شهرين.
وفي أيامه ظهرت القرامطة ودعوة الباطنية في بلاد الإسلام واستولوا على البحرين وبعض اليمن. ولم يحج قط، ولا غزا دار الحرب، لا هو ولا من كان بعده، ورجع إلى بغداد وعطَّل سر من رأى.(2/165)
35 - وولي بعده ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله خمس سنين وسبعة أشهر.
36 - ثم ولي أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بالله. وفي أيامه غلب الباطنية، لعنهم الله، على افريقية، وأخذ القرامطة، لعنهم الله، مكة، وقلعوا الحجر الأسود وحملوه إلى الإحساء، وأقام عندهم اثنين وعشرين عاماً كاملة، ثم ردوه بقوة الله عز وجل، فابتدأت دولة الخلافة والإسلام تضعف، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكل من كان قبله من الخلفاء: صلوا بالناس، إلا هو فلم يصل بالناس قط. وكان ملازماً للنساء واللذات، مهملاً للأمور إلى أن قتل. وكانت مدة ولايته خمساً وعشرين سنة غير عشرين يوماً.
37 - ثم ولي أخوه أبو منصور محمد القاهر بن المعتضد سنة واحدة وستة أشهر. ثم خلع وسملت عيناه، وبقي كذلك نحو ستة عشر عاماً إلى أن مات سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. ولم يصل بالناس قط.
38 - وولي - حين خلعه - ابن أخته أبو العباس الراضي بالله محمد بن المقتدر سبع سنين غير أيام. وصلى بالناس مرتين فقط، ولم يصل بالناس خليفة بعده.
وفي أيامه بطل حد الخلافة كله، وتغلب عليه وعلى كل من ولي بعده - وإنا لله وإنا إليه راجعون - ومات على فراشه.
39 - وولي بعد أخوه أبو إسحق إبراهيم المتقي لله بن المقتدر أربع سنين غير شهر. وكان متكرماً متصاوناً عما لا يحل. ثم خلع وسملت عيناه وعاش كذلك نحواً من أربع عشرة سنة إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة.
40 - وولي مكانه إذ خلع ابن عمه أبو القاسم عبد الله المستكفي بن المكتفي سنة واحدة وخمسة أشهر. ثم خلع وسملت عيناه، وبقي كذلك نحو خمسة أعوام إلى أن مات سنة تسع وأربعين وثلاثمائة.
41 - وولي مكانه إذ خلع ابن عمه أبو القاسم الفضل المطيع بن المقتدر، فاتصلت ولايته ثلاثين سنة متغلباً عليه، ولا ينفذ له أمر إلى أن خلع نفسه طائعاً مختاراً لذلك وهو عليل مثبت العلة، لابنه أبي بكر عبد الكريم الطائع لله. ومات على فراشه بعد أربعين يوماً من ولاية ابنه.
وفي أيام المطيع غلبت الباطنية على مصر والشام ومكة والمدينة، وإنا لله وإنا إليه(2/166)
راجعون. وظهر الرفض ودين الغالية في أعمال فارس والري وما والاها.
42 - وولي إذ خلع نفسه ابنه أبو بكر عبد الكريم الطائع لله، فدامت ولايته ست عشرة سنة. ثم خلع وسملت عيناه وعاش كذلك عشرين سنة إلى أن مات سنة أربعمائة.
43 - وولي إذ خلع ابن عمه أبو العباس أحمد القادر بالله بن إسحاق بن المقتدر، فاتصلت ولايته ثلاثاً وأربعين سنة، لم يعش هذه المدة خليفة في الإسلام غيره. وكانت سنوه إذ مات ثلاثاً وتسعين سنة، مائة غير سبع سنين.
44 - ثم ولي بعده ابنه أبو جعفر القائم بالله، وهو الخليفة الآن (1) ، وهو مغلوب عليه لا يظهر ولا ينفذ له أمر إلا في بعض الأحوال في ولاية القضاة واصحاب الصلاة فقط، وإنا لله وإنا إليه راجعون (2) .
ونسأل الله أن يعطف على المسلمين بجمع الكلمة، وخلافة حق يظهر تعالى بها ما دثر من حكم الكتاب والسنة، ويعلي بها النصر على الكفار، آمين يا رب العالمين.
تم الكتاب المحلى [كذا] والحمد لله كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) في هذه العبارة مزيدة ولم ترد في رسالة أسماء الخلفاء، مما قد يدل على أن الصورة الموجزة هذه، من تلك الرسالة، قد كتبت بعد أن وصلت أنباء القائم بالله إلى الأندلس، أي بعد سنوات من بداية خلافته.
(2) في هذه العبارة مزيدة ولم ترد في رسالة أسماء الخلفاء، مما قد يدل على أن الصورة الموجزة هذه، من تلك الرسالة، قد كتبت بعد أن وصلت أنباء القائم بالله إلى الأندلس، أي بعد سنوات من بداية خلافته.(2/167)
فراغ(2/168)
فراغ(2/169)
فراغ(2/170)
- 5 -
رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها (1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى أصحابه الأكرمين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته الفاضلين الطيبين.
1 - أما بعد يا أخي يا أبا بكر (2) سلام عليك، سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ، وكثرت الأيام والليالي، ثم لقيك في حال سفرٍ ونقلة، ووادَّكَ في خلال جولةٍ ورحلة، فلم يقضِ من مجاورتك أرباً، ولا بلغ في محاورتك مطلباً. وإني لما احتللت بك، وجالت يدي في مكنون كتبك، ومضمون دواوينك، لمحت عيني في تضاعيفها درجاً فتأملته، فإذا فيه خطاب لبعض الكتّاب من مصاقبينا في الدار، أهل إفريقية، ثم ممن ضمته حضرة قيروانهم، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه، ولا ذكر بنسبه (3) ، يذكر له فيها أن علماءَ بلدنا بالأندلس، وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف، فإن هِمَمَهم قد قَصَّرتْ عن تخليد مآثر بلدهم، ومكارم ملوكهم، ومحاسن فقهائهم، ومناقب قضاتهم، ومفاخر كتابهم، وفضائل علمائهم، ثم تعدَّى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم، ويبقي علمهم، بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه، وحقق ظنه في ذلك، واستدل على صحته عند نفسه، بأن شيئاً من هذه التآليف لو كان منّا موجوداً لكان إليهم منقولاً،
__________
(1) هذا هو اسم الرسالة كما ورد في فهرسة ابن خير: 226.
(2) هو أبو بكر محمد بن إسحاق صديق ابن حزم، والمتنقل معه في الأندلس، والمعتقل معه على يد خيران (انظر الجذوة: 42 وطوق الحمامة في الجزء الأول: 112، 113، 120) .
(3) هذا عجيب فقد صرح ابن بسام أن أبا علي ابن الربيب القروي كتبه إلى أبي المغيرة ابن حزم رسالة بهذا المعنى وأن أبا المغيرة رد عليه برسالة أطال فيها القول وختمها بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس. الذخيرة 1/1: 133، وهذا هو عين ما قاله صاحب النفح 3: 156.(2/171)
وعندهم ظاهراً، لقرب المزار وكثرة السُّفار، وترددهم إليهم، وتكررهم علينا.
2 - ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب، والمشهد الآهل بأنواع العلوم، والقصر المعمور بأنواع الفضائل، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي، قرارة المجد ومحل السؤدد، ومحط رحال الخائفين، وَمُلْقَى عصا التسيار، عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه، الرفيع حديثُه ومكتسبه، الذي أُجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته، ولا ينال حُضْرُهُ (1) هويناه، وأربأ به عن كل مرتبةٍ يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموه، ولا يدنو من المعالي دنوه، ولا يعلو في حميد الخلال علوه، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور، وأجتزي من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور، فحسبي بذينك العلمين دليلاً على سعيه المشكور وفضله المشهور، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (2) ، أطال الله بقاءه، وأدام اعتلاءه، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه، فرأيته أعزه الله تعالى حريصاً على أن يجاوب هذا المخاطب، وراغباً في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي، أو بعد عنه فخفي، فتناولت الجواب المذكور، بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات، رحمنا الله تعالى وإياه، فلم يكن لقصده بالجواب معنى، وقد صارت المقابر له مغنى، فلسنا بمسمعين من في القبور، فصرفت عنان الخطاب إليك، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه، ومن لدنك وصلت إلي الرسالة المعارضة، وفي صول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كنايةٌ لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا، مثلما غاب عن هذا الباحث الأول، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا " كمهد إلى البركان نار الحباحب "، وباني صوىً في مهيع القصد اللاحب، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأي عنهم علم ما استجلبه السائل الماضي، وما توفيقي إلا بالله سبحانه.
3 - فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي (3) التاريخي كتباً
__________
(1) الحُضْر: سرعة الجري.
(2) البونت (Elpuente) قرية من أعمال بلنسية، استقل فيها بنو قاسم بعد الفتنة وأولهم عبد الله بن قاسم الذي توفي سنة 421 وخلفه ابنه محمد الملقب بيمن الدولة، وبقي فيها والياً حتى 434 (أعمال الأعلام: 208) .
(3) الجذوة: 96 - 97 وطبقات الزبيدي: 327؛ وقد نقل الحميدي نص ابن حزم هنا. وكذلك فعل في كثير مما ورد في هذه الرسالة.(2/172)
جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة (1) ، وخواص كل بلد منها، وما فيه مما ليس في غيره، وهو كتاب مريح مليح.
وأنا أقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشَّر به، ووصف أسلافنا المجاهدين فيه، بصفات الملوك على الأسرة، في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان، زوج أبي الوليد عبادة ابن الصامت، رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين، حدثته به عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها بذلك لكفى شرفاً بذلك (2) ، يَسُرُّ عاجله ويغبط آجله. فإن قال قائل: لعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش، وما الدليل على ما ادعيته من أنه صلى الله عليه وسلم عنى الأندلس حتماً، ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح وبيان لائح، لا يحتمل التوجيه، ولا يقبل التجريح. فالجواب، وبالله التوفيق، أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، وأمر بالبيان لما أوحي إليه، وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج البحر غزاةً واحدة بعد واحدة، فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم، فأخبرها صلى الله عليه وسلم، وخبرة الحق، بأنها من الأولين، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بالشيء قبل كونه، وصح البرهان على رسالته بذلك، وكانت من الغزاة إلى قبرس، وخرَّتْ عن بغلتها هناك، فتوفيت رحمها الله تعالى، وهي أول غزاةٍ ركب فيها المسلمون البحر، فثبت يقيناً أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم حرام منهم، كما أخبرت صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولا سبيل أن يظن به، وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان، أنّه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى، إلا والتالية لها ثانية، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد، وهذا مقتضى طبيعة صناعة المنطق، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية، ولا الثانية ثانية
__________
(1) لعله يعني الأجناد التي نزلت الأندلس في طالعة بلج القشيري وفرقها أبو الخطار على الكور. انظر النفح 1: 237 والإحاطة 1: 109.
(2) يشير إلى حديث أورده مسلم (2: 104) وفيه أن رسول الله (ص) نام ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له بنت ملحان: ما يضحك يا رسول الله قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة.... وأنه نام مرة أخرى وفعل كفعله الأول، فلما قالت له أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين.(2/173)
إلا لأولى، فلا سبيل إلى ذكر ثالث بعد ثان ضرورة، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين، وبشر بفئتين، وسمّى إحداهما الأولين، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين، والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون بعد قرنه، وأول القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خير من كل قرن بعده. ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري، وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة 212، أيام قاد إليها السفن غازياً أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى، وبها مات، وأما إقريطش فإنها فُتحت بعد الثلاث والمائتين (1) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب (2) ، المعروف بابن الغليظ (3) ، من أهل قرية بطروج (4) ، من عمل فحص البلوط، المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس، وكان من فلّ الربضيين (5) ، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في ايامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 (6) ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس.
4 - وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة، مسقط رؤوسنا ومَعَقُّ تمائمنا، مع سُرَّ من رأى في إقليم واحد، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور. وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، فلها من ذلك، على كل حال، حظّ يفوق حظّ أكثر البلاد، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة، وذلك من أدلة التمكن في العلوم، والنفاذ فيها عند من ذكرنا، وقد صدق ذلك الخبر، وأبانته التجربة، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات، وحفظ كثير من الفقه، والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم، بمكان رحب الفناء، واسع
__________
(1) الجذوة: بعد الثلاثين والمائتين، وفي ياقوت (إقريطش) بعد 250.
(2) ترجمته في الجذوة: 282 وقد نقل الحميدي ما قاله ابن حزم.
(3) الجذوة: المعروف بالغليظ.
(4) ويقال: بطروش، وهو حصن شامخ الحصانة من أعمال قرطبة ويحيط البلوط بجباله وسهوله، وأهل بطروش يحفظونه، ويستعينون به على الغذاء في أيام الشدة.
(5) يريد أنه كان من أهل الربض الذين ثاروا على الحكم الملقب بالربضي، ثم أخرجوا عن الأندلس فلجأوا أولاً إلى الإسكندرية ثم إلى إقريطش، وأقاموا لهم دولة هنالك.
(6) انظر ياقوت (إقريطش) حيث ذكر أن أرمانوس قتل ونهب وأخذ عبد العزيز وبني عمه وأموالهم إلى القسطنطينية.(2/174)
العطن، متنائي الأقطار، فسيح المجال.
5 - والذي نعاه علينا الكاتب المذكور، لو كان كما ذكر، لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر، وجلائل البلاد، ومتسعات الأعمال، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفاً غير " المعرب عن أخبار المغرب " وحاشا تآليف محمد بن يوسف الوراق (1) ، فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديواناً ضخماً، وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم (2) كتباً جمة، وكذلك ألف أيضاً في أخبار تيهرت ووهران وتونس (3) وسجلماسة ونكور والبصرة (4) وغيرها تآليف حساناً. ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة (5) ومدفنه بقرطبة وهجرته إليها، وإن كانت نشأته بالقيروان.
6 - ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا، إذ مرادنا أن نأتي منه بالمطلب، فيما يستأنف، إن شاء الله تعالى، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين، دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك، متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها، ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً (6) ، وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى، وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا. وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، وأبي بكرة، وهؤلاء: مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك. وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم. وكذلك في المصريين: عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير (7) ، والحكم في هؤلاء كالحكم
__________
(1) الجذوة: 90، والبغية: 304 والوافي 5 رقم: 2327.
(2) الجذوة: والغالبين عليهم.
(3) الجذوة: وتنس.
(4) نكور مدينة في المغرب على ساحل البحر الأبيض، والبصرة المعنية هنا موضع ببلاد المغرب أيضاً كان على مقربة من مدينة أصيلا.
(5) تعرف أيضاً بمدينة الفرج بينها وبين طليطلة خمسة وستون ميلاً (الروض: 606) .
(6) علق ابن حجر على هذا بقوله: صوابه أربعة أعوام (النفح 3: 179) .
(7) هذا هو النظام الذي جرى عليه ابن سعد في الطبقات، ولكن الأمر في ذلك يختلف عما يذهب إليه ابن حزم، فليس هناك من مترجم مثلاً يقول، إن علياً كوفي أو إن عمراً مصري.(2/175)
في من قصصنا. فمن هاجر إلينا من سائر البلاد، فنحن أحقُّ به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا، الذين إجماعهم فرض اتباعه، وخلافه محرم اقترافه، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلا حظٌ لنا فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم (1) ، فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا، والعدل أولى ما حُرص عليه، والنصف أفضل ما دُعي إليه، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه، وعلى ما ذكرنا من الإنصاف تراضى الكل.
7 - وهذه بغداد حاضرة الدنيا، ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف، والتدقيق في تصريف العلوم، ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاذ الخواطر، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا: وما أعلم في أخبار بغداد تأليفاً غير كتاب أحمد بن أبي طاهر (2) . وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها، فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة (3) ، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان، في خطط البصرة وقطائعها، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر، كريزي النسب، [في] صفاتها وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها. ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبة (4) . وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند والري وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفاً قصد به أخبار ملوك تلك النواحي وعلمائها وشعرائها وأطبائها (5) ، ولقد تاقت النفوس إلى أن يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد، وما علمناه علم، على أنهم العلية الرؤساء والأكابر العظماء. ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم، وكما بلغنا كتاب
__________
(1) يريد أبا علي القالي، فهو قد أصبح - حسب مقياسه - أندلسياً.
(2) أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (- 280) : ترجمته في معجم الأدباء 1: 152 وتاريخ بغداد والفهرست، وقد بقيت قطعة من كتابه تاريخ بغداد نشرها المستشرق هنسي كلر بالزنكو غراف 1908 وأعيد طبعها بمصر 1368هـ. وبقي من كتابه المنظوم والمنثور جزءان (القاهرة، أدب 587) .
(3) انظر ترجمة عمر بن شبة في معجم الأدباء 6: 481، والتهذيب 7: 460 ونور القبس: 231 وبغية الوعاة: 361. والكتاب الذي يشير إليه ابن حزم هو: أخبار أهل البصرة.
(4) ذكر السخاوي فيمن ألف في الكوفة: ابن مجالد، وعمر بن شبة، وأبا الحسين محمد بن جعفر التميمي الكوفي النحوي (الإعلان: 128) .
(5) استفاض التاريخ للبلدان بعد ابن حزم، انظر الإحاطة 1: 90 وما بعدها، وانظر الإعلان بالتوبيخ للسخاوي: 121 - 135.(2/176)
حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان (1) ، وكتاب الموصلي وغيره في أخبار مصر، وكما بلغنا سائر تآليفهم في أنحاء العلوم. وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى (2) ، وكذلك بلغنا رد القاضي [عبد الله بن] أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشنيعه على الشافعي (3) ، وكتب ابن عبدوس ومحمد بن سحنون (4) وغير ذلك من خوامل تآليفهم دون مشهورها.
8 - وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر " أزهد الناس في عالمٍ أهله ". وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: " لا يفقد النبي حرمته إلأ في بلده ". وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش، وهم أوفر الناس أحلاماً، وأصحهم عقولاً، وأشدهم تثبتاً، مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع، وتغذيتهم بأكرم المياه، حتى خص الله الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء. ولا سيما أندلسنا، فإنها خُصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، واستقلالهم، كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته، بأضعاف ما في سائر البلاد. إن أجاد قالوا: سارقٌ مغير، ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غثٌ بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهَبَل. وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفاً بائناً يعليه على نظرائه، أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها، فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضاً للأقوال، وهدفاً للمطالب، ونصباً للتسبب إليه، ونهباً للألسنة، وعرضةً للتطرق إلى عرضه، وربما نحل ما لم يقل، وطوق ما لم يتقلد، وألحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه، وبالحرى، وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من
__________
(1) حمزة بن الحسن الأصبهاني: ترجم له أبو نعيم في تاريخ أصبهان 1: 300 وقد وصلنا من كتبه تواريخ سني ملوك الأرض والأنبياء، والدرة الفاخرة، وهي الأمثال التي جاءت على وزن أفعل التفضيل (ميونخ: 642 والفاتيكان: 526 وداماد إبراهيم: 963 وقد طبع في القاهرة بتحقيق الدكتور عبد المجيد قطامش) ، وشرح ديوان أبي نواس (نشر منه الجزء الأول والثاني بعناية فاغنر) ، ولم يوجد كتابه في أخبار أصبهان.
(2) انظر الخشني: 306، وكان ابن عبدون قاضياً في القيروان؛ قال: وكان موثقاً كاتباً للشروط والوثائق (انظر علماء افريقية: 257، 297) .
(3) انظر المالكي: 375، 504؛ قال: وله كتب يرد فيها على الشافعي لا بأس بها، وانظر علماء أفريقية 257، 297.
(4) انظر الخشني: 182، 178، والمالكي: 360، 345 حيث ترجمة كل من ابن عبدوس وابن سحنون.(2/177)
السلطان بحظ، أن يسلم من المتالف، وينجو من المخالف. فإن تعرض لتأليف غمز ولمز، وتعرض وهمز، واشتط عليه، وعظم يسير خطبه، واستشنع هين سقطه، وذهبت محاسنه، وسترت فضائله، وهتف ونودي بما أغفل، فتنكس لذلك همته، وتكل نفسه وتبرد حميته، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعراً، أو يعمل رسالة، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلص من هذا النصب، إلا الناهض الفائت، والمطفف المستولي على الأمد.
9 - وعلى ذلك، فقد جُمع ما ظنه الظان غير مجموع، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن، لنا خطر السبق في بعضها، فمنها: كتاب الهداية لعيسى بن دينار (1) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق. ومن الكتب المالكية التي ألفت بالأندلس: كتاب القطني مالك بن علي (2) ، وهو رجل قرشي من بني فهر، لقي أصحاب مالك، وأصحاب أصحابه، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل والمولدات. ومنها كتاب أبي إسحاق [يحيى بن] إبراهيم بن مزين (3) في تفسير الموطإ، والكتب المستقصية لمعاني الموطإ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضاً. وكتابه في رجال الموطإ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه.
وفي تفسير القرآن: كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد (4) ؛ فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه انه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره. ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف. ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحدٍ قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام
__________
(1) الجذوة: 279 وابن دينار (توفي 212هـ) وكان يعجبه ترك الرأي والأخذ بالحديث، ولم يورد الحميدي أسماء كتبه.
(2) الجذوة: 324 وابن الفرضي 2: 3 وهو من نسل عبد الملك بن قطن الفهري والي الأندلس (توفي 268 بعد أن كف بصره) وله مختصر في الفقه على مذهب مالك.
(3) الجذوة: 350 وقد توفي يحيى سنة 209، وانظر أيضاً ابن الفرضي 2: 178.
(4) الجذوة: 167 وهو ينقل النص الموجود هنا، وانظر ترجمته في الصلة 1: 118.(2/178)
مشاهير، زمنها مصنفه في فضل (1) الصحابة والتابعين ومن دونهم، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة وصمنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها، وانتظم علماً عظيماً لم يقع في شيء من هذه، فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها. وكان متخيراً لا يقلد أحداً، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه [وجارياً في مضمار أبي عبد الله البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وأبي عبد الرحمن النسائي رحمة الله عليهم] (2) .
ومنها في أحكام القرآن: كتب ابن آمة الحجاري (3) ، وكان شافعي المذهب بصيراً بالكلام على اختياره، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد (4) وكان داودي المذهب، قوياً على الانتصار له، وكلاهما في أحكام القرآن غاية، ولمنذر مصنفات: منها كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة. ومنها في الحديث: مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح (5) ، ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن (6) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جداً، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل (7) وكلامه، ومنها كتاب المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى وهو خير منه [انتقاء] (8) وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدة. ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة، وكتاب في الناسخ والمنسوخ، وكتاب [في] غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطإ، ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر (9) ، وهو الآن في الحياة، لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه. ومنها كتاب
__________
(1) الجذوة: فتاوى، وهو أدقّ.
(2) زيادة من الجذوة، وقال بعده: هذا آخر كلام أبي محمد.
(3) في النفح: ابن أمية، والتصحيح عن الجذوة: 380 ونقل قول ابن حزم.
(4) كان قاضي الجماعة في حياة الحكم المستنصر، وهو خطيب الأندلس وفقيهها، انظر الجذوة: 326، وطبقات الزبيدي: 319، وابن الفرضي 2: 142. ومن مصنفاته: الأدلة على استنباط الأحكام من كتاب الله.
(5) الجذوة: 311، وتوفي ابن أصبغ سنة 340.
(6) انظر الجذوة: 63، وتوفي ابن أيمن سنة 330.
(7) هو إسماعيل بن إسحاق القاضي (الجذوة: 311) .
(8) زيادة من الجذوة.
(9) الجذوة: 344، 345 وهو ينقل نص هذه الرسالة، والصلة: 640، وتوفي ابن عبد البر سنة 463هـ.(2/179)
الاستذكار وهو اختصار التمهيد المذكور. ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثل لها. منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتاباً (1) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه. ومنها كتابه في الصحابة [سماه كتاب الاستيعاب في أسماء المذكورين في الروايات والسير والمصنفات من الصحابة رضي الله عنهم والتعريف بهم وتلخيص أحوالهم ومنازلهم وعيون أخبارهم على حروف المعجم، اثنا عشر جزءاً] (2) ليس لأحد من المتقدمين مثله، على كثرة ما صنفوا في ذلك، ومنها كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات. ومنها كتاب جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته (3) . ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي (4) في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال، - ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين - لا أعلم مثله في فنه البتة. ومنها تاريخ أحمد بن سعيد (5) ، ما وضع في الرجال أحد مثله، إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي، لم أره. وأحمد بن سعيد هو المتقدم في التأليف القائم في ذلك. ومنها كتب محمد بن [أحمد بن] يحيى بن مفرج القاضي (6) وهي كثيرة، منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري، وكتبٌ كثيرة جمع فيها فقه الزهري. ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت السرقسطي (7) فما شآه أبو عبيد إلا
__________
(1) الجذوة: ستة عشر جزءاً.
(2) طبع في أربعة أجزاء في القاهرة.
(3) أغفل ذكر الدرر في اختصار المغازي والسير وكتاب الشواهد في إثبات خبر الواحد وكتاب البيان عن تلاوة القرآن وكتاب التجويد والمدخل إلى العلم بالتجديد وكتاب العقل والعقلاء وكتاب أخبار أئمة الأنصار. أما كتاب جامع بيان العلم فقد طبع في جزئين (إدارة الطباعة المنيرية 1346هـ) وطبع مجرداً من الإسناد باسم مختصر جامع بيان العلم في جزء واحد؛ وأما بهجة المجالس فطبع أيضاً في مجلدين (القاهرة) كما طبع جزء من الاستذكار (القاهرة 1970) .
(4) ابن الفرضي أبو الوليد هو الحافظ الرواية قتل في الفتنة 403، انظر الجذوة: 337 وقد وصلنا كتابه في تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس.
(5) الجذوة: 117 وابن الفرضي 1: 55 وأحمد بن سعيد هو الصدفي (توفي سنة 350) ألف في تاريخ الرجال كتاباً كبيراً جمع فيه جميع ما أمكنه من أقوال الناس في العدالة والتجريح.
(6) الجذوة: 38.
(7) في أصول النفح: عامر بن خلف السرقسطي، والتصويب من الجذوة: 312 وقد نقل تعليق ابن حزم هنالك، حتى قوله: فقط.(2/180)
بتقدم العصر فقط. ومنها في الفقه الواضحة، والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها. ومنها المستخرجة من الأسمعة وهي المعروفة ب " العتبية " (1) ولها عند أهل أفريقية القدر العالي والطيران الحثيث. والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام (2) الإشبيلي المعروف بابن المكوي (3) ، والقرشي أبو مروان المعيطي (4) ، في جمع أقاويل مالك، كلها على نحو الكتاب الباهر الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد المصري أقاويل الشافعي كلها. ومنها كتاب المنتخب الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة (5) ، وما رأيت لمالكي قط كتاباً أنبل منه في جمع روايات المذهب [وتأليفها] وشرح مستغلقها، وتفريع وجوهها. وتآليف قاسم بن محمد (6) المعروف بصاحب الوثائق، وكلها حسن في معناه، وكان شافعي المذهب نظاراً، جارياً في ميدان البغداديين.
11 - ومنها في اللغة الكتاب البارع (7) الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب، وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف مثله في بابه، وكتاب الأفعال لمحمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية (8) ، بزيادات ابن طريف (9) ، مولى العبديين، فلم يوضع في فنه مثله، وكتاب جمعه أبو غالب تمام بن
__________
(1) الواضحة لعبد الملك بن حبيب والعتبية لتلميذه العتبي (الجذوة 264، 37) وها هنا يذكر ابن حزم ما تفتخر به الأندلس بقطع النظر عن رأيه هو فيه، لأنه لا يرى عبد الملك أو تلميذه من ثقات أهل الحديث، وفي الكتابين من غرائب الحديث ما لا يقبله مثل ابن حزم.
(2) الجذوة: هاشم.
(3) في أصول النفح: الكوي.
(4) ترجمة ابن المكوي في الجذوة: 123، والصلة: 28 (توفي سنة 401) واسم المعيطي: محمد بن عبيد الله القرشي، وقد قال ابن بشكوال انهما جمعا الكتاب للمستنصر، أما الحميدي فذكر أنهما جمعاه بأمر المنصور ابن أبي عامر. واسم الكتاب المجموع " الاستيعاب ".
(5) الجذوة: 91، ونقل هنالك رأي ابن حزم.
(6) الجذوة: 310 وتوفي قاسم سنة 278 وله كتاب الإيضاح في الرد على المقلدين؛ وأعتقد أن النص هنا موجز، فقد قال الحميدي: وقد ذكر هـ أبو محمد في موضع آخر فمد في نسبه وقال: قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد المحدث.... [له] تحقق بمذهب الشافعي وتواليف فيه على مخالفته؛ أو لعل هذا النص مأخوذ عن مصدر آخر ليس هو رسالة ابن حزم هذه؛ ومن الغريب أن الحميدي لم ينقل نص الرسالة، في هذا الموضع، مع أنه نقل ما ورد عن قاسم في الفقرة التالية رقم: 21.
(7) بقيت من هذا الكتاب قطعة أخرجها Fulton بالزنكوغراف، لندن 1933 (ط، بيروت: 1975) وهذا النص في الجذوة: 156.
(8) في أصول النفح: محمد بن عامر العزي والتصويب عن الجذوة: 71، وقد وصلنا من كتبه كتاب الأفعال وكتاب افتتاح الأندلس.
(9) انظر ترجمة ابن طريف في الجذوة: 381.(2/181)
غالب المعروف بابن التياني في اللغة (1) ، لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وثقة نقل، وهو أظن في الحياة بعد. وهاهنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها، وهي: أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي حدثني أن أبا الجيش مجاهداً صاحب الجزائر ودانية وجَّه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية، وأبو غالب ساكن بها، ألف دينار أندلسية، على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور " مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد " فرد الدنانير وأبى من ذلك ولم يفتح في هذا باباً البتة وقال: والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب، لأني لم أجمعه له خاصة، بل لكل طالب [عامة] (2) فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد (3) في اللغة المعروف بكتاب " العالم " نحو مائة سفر على الأجناس، في غاية الايعاب، بدأ بالفلك، وختم بالذرة، وكتاب النوادر (4) لأبي علي إسماعيل بن القاسم وهو مُبار لكتاب الكامل لأبي العباس المبرد، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً. وكتاب الفصوص لصاعد بن الحسن الربعي (5) وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين. ومن الانحاء تفسير الجرفي (6) لكتاب الكسائي حسن في معناه، وكتاب ابن سيده في ذلك المنبوز ب " العالم والمتعلم " وشرح له لكتاب الأخفش (7) .
12 - ومما ألف في الشعر (8) : كتاب عبادة بن ماء السماء في أخبار شعراء
__________
(1) الجذوة: 172، 380 وقد نقل الحكاية عن مجاهد العامري وابن التياني. وانظر أيضاً الصلة 1: 122 وكتاب ابن التياني يسمى تلقيح العين.
(2) زيادة من الجذوة.
(3) الجذوة: 110، والصلة: 14 وكان صاحب الشرطة بقرطبة، أخذ عن القالي كتاب النوادر، وتوفي سنة 382 وترجم له صاحب الجذوة مرة أخرى تحت " ابن أسيد ": 381 ونقل ما قاله ابن حزم هنا.
(4) هو المشهور باسم " كتاب الأمالي "؛ ونقل الحميدي: 156 ما قاله فيه ابن حزم.
(5) ترجمة صاعد في الجذوة: 223، والبغية رقم: 852 والذخيرة 1/4: 8.
(6) في أصول النفح: الحوفي، والتصحيح عن الجذوة: 384 وضبطه بالجيم وضمها، وهو في البغية رقم: 1576.
(7) ترجمة ابن سيده، رقم 892 في الصلة (2: 396) ، وهو صاحب المخصص والمحكم وغيرهما، وتوفي سنة 458، وقد ذكر الحميدي كتاب العالم والمتعلم وشرح كتاب الأخفش عند الكلام على ابن سيد المتقدم الذكر، ويبدو أن المصادر اضطربت في نسبة هذين الكتابين لتشابه الاسمين ولكن من الغريب أن يذكر ابن حزم مؤلفات ابن سيد في مكانين.
(8) لم يذكر هنا كتاب أشعار الخلفاء من بني أمية لعبد الله بن محمد بن مغيث والد شيخه يونس المعروف بابن الصفار. انظر الجذوة: 235، حيث ذكر قصة تأليف هذا الكتاب نقلاً عن ابن حزم.(2/182)
الأندلس (1) ، كتاب حسن، وكتاب الحدائق لأبي عمر أحمد بن فرج (2) ، عارض به كتاب الزهرة لأبي [بكر] محمد [بن] داود رحمه الله تعالى، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب، في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت، ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد، فبلغ الغاية، وأتى الكتاب فرداً في معناه. ومنها كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب (3) وهو حي بعد. ومما يتعلق بذلك: شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد الافليلي لشعر المتنبي، وهو حسن جدّاً (4) .
13 - ومن الأخبار: تواريخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي (5) في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وذلك كثيراً جداً، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد، وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها. وتواريخ متفرقة رأيت منها: أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه. وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف (6) . وفي أخبار بني قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر (7) فقد رأيت من ذلك كتباً مصنفة في غاية الحسن، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها [وولاتها] وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني (8) . وكتاب محمد بن الحارث الخشني في أخبار القضاة بقرطبة وسائر
__________
(1) عبادة بن ماء السماء: ترجم له في الجذوة: 274 والصلة: 426 والذخيرة 1/1: 468 ولابن حيان في المقتبس نقول عن كتاب لعبادة، وكذلك ينقل ابن سعيد في المغرب عن كتابه في طبقات الشعراء (انظر المغرب 1: 115، 125) .
(2) أحمد بن فرج: ترجمته في الجذوة: 97 والصلة 1: 12 والمغرب 2: 56 واليتيمة 1: 368 وقلائد العقيان: 79، ولم يصلنا كتاب الحدائق ولكن الحميدي وابن الأبار في الحلية وابن سعيد في المغرب نقلوا عنه كثيراً.
(3) علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب: ترجمته في الجذوة: 290 قال الحميدي: كان في الدولة العامرية وعاش إلى أيام الفتنة.
(4) الجذوة: 142.
(5) انظر النص في الجذوة: 97.
(6) نظر المقتبس (انطونية) : 15 والجذوة: 260 وأشار إلى قول ابن حزم.
(7) من أخبار هؤلاء الثائرين طرف في المقتبس وابن عذاري، وانظر في التعريف بهم وبأنسابهم كتاب الجمهرة: 464، أما التجيبيون فهم من العرب، وأما بنو قسي وبنو الطويل وهم بنو شبراط فإنهم من المولدين.
(8) في أصول النفح: الليثي، وترجمته في الجذوة: 159 ونقل رأي ابن حزم؛ ومعجم البلدان (رية) .(2/183)
بلاد الأندلس، وكتاب في أخبار الفقهاء بها (1) . وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في أنساب مشاهير أهل الأندلس (2) ، في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتابٍ في الأنساب وأوسعها، وكتاب قاسم بن أصبغ في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب والإيجاز (3) . وكتابه في فضائل بني أمية (4) . وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره (5) ، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس. ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الندلس للمستنصر رحمه الله تعالى، رأيت منها أخبار شعراء البيرة في نحو عشرة أجزاء، ومنها كتاب الطوالع في أنساب أهل الأندلس، ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس [وملوكها] تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار، من أجل كتابٍ أُلف في هذا المعنى، وهو في الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال (6) ، وكتاب المآثر العامرية لحسين بن عاصم (7) في سير ابن أبي عامر وأخباره، وكتاب الأقشتين محمد بن هاشم النحوي في طبقات الكتاب بالأندلس (8) . وكتاب سكن بن سعيد في ذلك (9) . وكتاب أحمد بن [محمد بن] فرج في المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم (10) . وكتاب أخبار أطباء الأندلس لسليمان بن جلجل (11) .
__________
(1) توفي الخشني 361هـ، وترجمته في الجذوة: 49. وقد وصلنا كتابه في أخبار قضاة الأندلس الذي ألفه بطلب من الحكم المستنصر ونشره ريبيرا 1914 ونشر بمصر 1372 وكذلك وصلنا كتابه علماء أفريقية وهو مطبوع مع الكتاب الأول، وقول ابن حزم " بها " يدل على أن للخشني كتاباً في علماء الأندلس وفقهائها وهو غير الكتاب السابق.
(2) الجذوة: 97، قال الحميدي: ولم يبين أبو محمد إن كان هو الأول (أي أخبار ملوك الأندلس) أو غيره لأنه ذكر ذلك في موضعين، وأنا أظن الذي قبله.
(3) الجذوة: 312 وسقطت لفظة " والإيجاز ".
(4) الجذوة (312) : فضائل قريش.
(5) هذا أيضاً في الجذوة (نفسه) .
(6) مؤرخ الأندلس المشهور حيان بن خلف أبو مروان، انظر ترجمته في الصلة 1: 150 والذخيرة 2/1: 84 - 114. وانظر ملحق بروكلمان 1: 578 لأسماء كتبه، وقد نشرت أربع قطع؛ م المقتبس ومن تواريخ ابن حيان نقول كثيرة في الكتب الأندلسية وبخاصة في الذخيرة؛ وقارن ما جاء في الجذوة: 188.
(7) حسين بن عاصم: ترجمته في الجذوة: 181، ونقل رأي ابن حزم.
(8) الأقشتين Augustine ترجمته في الجذوة: 82 والبغية رقم: 268 وطبقات الزبيدي: 305 وابن الفرضي 3: 216.
(9) سكن بن سعيد: ترجمته في الجذوة: 181، ونقل رأي ابن حزم.
(10) الجذوة: 97.
(11) ألف ابن جلجل هذا الكتاب سنة 377 وقد نشر نشرة محققة جيدة بعناية الأستاذ فؤاد السيد رحمه الله (مطبعة المعهد الفرنسي بالقاهرة 1955) ، مع مقدمة ضافية في التعريف بالكتاب ومؤلفه؛ وانظر الجذوة: 208.(2/184)
14 - وأمّا الطب: فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب رفيعة حسان (1) . وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى، وهو المعروف بابن الكتاني، وهي كتب رفيعة حسان (2) . وكتاب التصريف [لمن عجز عن التأليف] لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي (3) ، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع، لنصدقن. وكتب ابن الهيثم (4) في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها.
15 - وأما الفلسفة: فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيوناً مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار، دالة على تمكنه من هذه الصناعة (5) ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة.
16 - وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ، ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا، إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول: إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة (6) وزيج ابن السمح (7) ، وهما من أهل بلدنا. وكذلك
__________
(1) يحيى بن إسحاق: ترجمته في ابن جلجل: 100 وابن أبي أصيبعة 3: 68 والجذوة: 351 والبغية رقم 1460؛ ونص الجذوة: " وله في ذلك كتب نافعة يعتمد عليها ".
(2) محمد بن الحسن المذحجي: (يكتب ابن الحسين في طبقات صاعد وابن أبي أصيبعة، ويكتب ابن الحسن حيث ورد في مؤلفات ابن حزم من مطبوع ومخطوط) ترجمته في ابن أبي أصيبعة 3: 73 والجذوة: 45 والبغية رقم: 81 وله أيضاً كتاب التشبيهات، انظر المقدمة.
(3) خلف بن عباس (في النفح: عياش) الزهراوي: ترجمته في ابن أبي أصيبعة 3: 85 والجذوة: 195 (ونقل كلام ابن حزم) والبغية رقم: 715 ومن كتابه التصريف نسخ مخطوطة في برلين وباريس وولي الدين وغيرها (راجع ملحق بروكلمان 1: 425) .
(4) اسمه عبد الرحمن بن إسحاق وترجمته في ابن أبي أصيبعة: 74؛ وانظر الجذوة: 383 حيث نقل قول ابن حزم.
(5) سعيد بن فتحون السرقسطي: ترجمته في الجذوة: 216 والبغية رقم: 813 وطبقات الأمم: 78 والذيل والتكملة 4: 40 وله تأليف في الموسيقى ورسالة في المدخل إلى علوم الفلسفة سماها " شجرة الحكمة " ورسالة في تعديل العلوم. نالته محنة أيام المنثور بن ابي عامر فهاجر إلى صقلية وبها توفي.
(6) مسلمة: هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد من أهل قرطبة توفي 398 وله تعديل زيج البتاني ولعله الذي يشير إليه ابن حزم (ابن أبي أصيبعة 3: 62 وطبقات الأمم: 78 وابن القفطي: 326 وانظر مؤلفاته التي وصلتنا في بروكلمان الملحق 1: 431) .
(7) ابن السمح: أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهندس الغرناطي كان في زمن الحكم ومن كتبه زيجه الذي ألفه على أحد مذاهب الهند توفي سنة 426 (ابن أبي أصيبعة 3: 62 وطبقات الأمم 79 وانظر مؤلفاته التي وصلتنا في تاريخ بروكلمان 1: 472 والملحق 1: 861) .(2/185)
كتاب لأحمد بن نصر [في المساحة المجهولة] فما تقدم إلى مثله في معناه (1) .
17 - وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل إلا في أحدها (2) ، وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتمه أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه. وأما التآليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها.
18 - وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم، ولا اختلفت فيها النحل، فقلَّ لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال، نظار على أصوله، ولهم فيه تآليف منهم: خليل بن إسحاق (3) ويحيى بن السمينة (4) والحاجب موسى بن حدير (5) وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد، وكان داعية إلى الاعتزال لا يستتر بذلك.
19 - ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى (6) ، وهو وإن كان صغير الجرم، قليل عدد الورق، يزيد على المائتين زيادة يسيرة، فعظيم الفائدة، لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها، وأضربنا على التطويل جملة، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة، ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام، ومنها ما قد مضى منه مصدر، ويعين الله تعالى على باقيه، لم نقصد به قَصْدَ
__________
(1) انظر الجذوة: 139 وأورد ما قاله ابن حزم هنا.
(2) انظر الجذوة: 139 وأورد ما قاله ابن حزم هنا.
(3) خليل بن إسحاق: لعل صوابه خليل بن عبد الملك (ابن الفرضي 1: 165 والتكملة 1: 309) وهو ممن صحب ابن مسرة وكان يقول بالاستطاعة وتتلمذ له ابن السمينة.
(4) يحيى بن السمينة توفي سنة 315، ترجمته في طبقات الأمم: 74 وابن الفرضي 2: 185.
(5) موسى بن محمد بن جدير: ترجمته في الجذوة 316 والبغية رقم: 1320 وأخوه أحمد بن محمد بن جدير ولي أيضاً الوزارة والقيادة لعبد الرحمن الناصر.
(6) لعله يعني كتاب " المجلى " الذي شرحه في " المحلى ".(2/186)
مباهاةٍ فنذكرها، ولا أردنا السمعة فنسميها، والمراد بها ربنا جل وجهه، وهو ولي العون فيها، والمليّ بالمجازاة عليها، وما كان الله تعالى فسيبدو، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
20 - وبلدنا هذا على بعده من ينبوع العلم، ونأيه من محلة العلماء، فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طُلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام، أعوز وجود ذلك، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها.
21 - ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي (1) في الشعر، لم نباهِ إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين. وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث السجستاني وأحمد بن شعيب النسائي، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد (2) لم نباهِ به إلا القفال () ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي (3) إبراهيم والتلمذة له، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار بهما إلا أبا الحسن ابن المغلس والخلال والديباجي ورويم بن أحمد وقد شركهم عبد الله في أبي سليمان (4) وصحبته. وإذا أشرنا إلى محمد بن يحيى بن لبابة (5) وعمه محمد بن عمر وفضل بن سلمة لم (6) نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس. وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي (7) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد.
ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد وحبيب والمتنبي (8) فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب وأحمد بن
__________
(1) ترجمة جعونة في الجذوة 177 والبغية رقم: 626 والمغرب 1: 131 وهم يوردون رأي ابن حزم في جعونة.
(2) انظر النص في الجذوة: 310.
(3) في أصول النفح: ابن.
(4) يعني داود بن علي؛ وانظر النص في الجذوة: 246.
(5) الجذوة: 71 والبغية رقم: 222.
(6) فضل بن سلمة الجهني مولاهم توفي سنة 317 أو 319، انظر الجذوة: 308 والبغية رقم: 1283.
(7) محمد بن يحيى الرباحي: ترجمته في الجذوة: 91 والبغية رقم: 312 (وهنالك ما قاله فيه ابن حزم) وابن الفرضي 2: 71 والقفطي 3: 372 وبغية الوعاة: 113 والرباحي نسبة إلى قلعة رباح.
(8) ولو لم يكن.... والمتنبي: نقله الحميدي في الجذوة: 105 - 106.(2/187)
عبد الملك بن مروان (1) وأغلب بن شعيب (2) ومحمد بن [مطرف بن] شخيص (3) وأحمد بن فرج وعبد الملك بن سعيد المرادي (4) ، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان ممسوح الغرة.
ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد (5) صديقنا وصاحبنا وهو حي بعد، لم يبلغ سن الاكتهال، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل (6) . ومحمد بن عبد الله بن مسرة (7) في طريقه التي سلك فيها وإن كنا لا نرضى مذهبه، في جماعة يكثر تعدادهم.
وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان، ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه، والحمد لله الموفق لعلمه، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم.
انتهت الرسالة
__________
(1) الجذوة: 123.
(2) الجذوة: 84 والمغرب 1: 203.
(3) الجذوة: 84.
(4) الجذوة: 266.
(5) انظر الذخيرة 111: 191 - 336.
(6) يعني عمرو بن بحر الجاحظ وسهل بن هارون؛ وهذا النص نقله الحميدي في الجذوة: 124.
(7) في ابن مسرة ومذهبه كتاب مستوفى للمستشرق آثين بلاسيوس وخلاصة عنه في تاريخ الفكر الأندلسي لبالنثيا، وفصل موجز في كتابي تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة.(2/188)
ملحقات(2/189)
فراغ(2/190)
الملحق (1)
ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس (1)
[ولاية الأمير عبد الرحمن بن معاوية]
أول أمراء بني أمية بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، يُكنى أبا المُطَرِّف، مولده بالشام سنة ثلاث عشرة ومائة، وأُمُّه أم ولد اسمها راح؛ هرب لما ظهرت دولة بني العباس، ولم يزل مستتراً إلى أن دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة في زمن أبي جعفر المنصور، فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف ابن عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري الوالي على الأندلس (2) فهزمه، واستولى عبد الرحمن على قُرطبة يوم الأضحى من العام المذكور، فاتصلت ولايته إلى أن مات سنة اثنتين وسبعين ومائة.
كذا قال لنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه: يوسف بن عبد الرحمن ابن أبي عبيدة. ورأيت في غير موضع يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبدة، فالله أعلم.
وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم، وعلى سيرة جميلة من العدل. ومن قُضاته: معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي (3) .
وله أدبٌ وشعر، ومما أنشدونا له يتشوق إلى معاهده بالشام قوله (4) : [من الخفيف]
أيها الرَّاكب المُيَمِّمُ أرضي ... أقْر من بعضيَ السلام لبعضي
__________
(1) انظر جذوة المقتبس للحميدي ص 10 - 34.
(2) اشتد الخلاف بين القبائل في الأندلس على أثر ضعف الدولة الأموية بالمشرق، ثم اتفقت القبائل على تقديم قرشي يجمع الكلمة إلى أن تستقر الأمور بالشام فقدموا يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد انتصر عبد الرحمن على يوسف، وجرى الصلح بينهما إلا أن يوسف عاد فنقض الصلح سنة 141 وقتل سنة 142 (انظر نهاية الأرب 22: 5 - 6) .
(3) قيل حجَّ سنة 154 وتوفي سنة 158 (وقيل حجَّ سنة 168) ولذلك أرخ بعضهم وفاته سنة 168 أو 172 أو سنة 185. كان فقيهاً، أما في الحديث فإن ابن حزم يضعفه (انظر الجزء الأول من الرسائل: 435؛ وراجع ترجمته في ابن الفرضي 2: 137 والجذوة: 318 والنباهي: 43) .
(4) الأبيات في الحلة السيراء 1: ى36 وذكر بلاد الأندلس: 97 والنفح 3: 38، 54 والمعجب: 41.(2/191)
إن جسمي، كما علمتَ، بأرضٍ ... وفُؤادي ومالكيه بأَرض
قُدِّر البينُ بينَنا فافترقنا ... وطوى البينُ عن جفوني غَمضي
قد قضى اللهُ بالفراق علينا ... (1) فَعسَى باجتماعِنا سوفَ يَقْضي
ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن
ثم ولي بعد عبد الرحمن ابنه هشام، يُكنى أبا الوليد، وسنُّه حينئذٍ ثلاثون سنة، فاتصلت ولايته سبعة أعوام إلى أن مات في صفر سنة ثمانين ومائة، وكان حسن السيرة متحرياً (2) للعدل، يعود المرضى ويشهد الجنائز، أُمُّه حَوراء.
ولاية الحكم بن هشام
ثم ولي بعده ابنه الحكم، وله اثنتان وعشرون سنة، يُكنى أبا العاص، أُمُّه أُمُّ ولد اسمها زُخْرُف؛ وكان طاغياً مُسرفاً (3) ، وله آثار سوءٍ قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الربض الوقعة المشهورة فقتلهم وهدم ديارهم ومساجدهم؛ وكان الرَّبَضُ مَحلة متصلة بقصره، فاتهمهم في بعض أمره، ففعل بهم ذلك، فسُمِّي الحكم الرَّبَضيّ لذلك؛ واتصلت ولايته إلى أن مات في آخر ذي الحجة سنة ست ومائتين.
ولاية عبد الرحمن بن الحكم
ثم ولي بعده ابنه عبد الرحمن، يُكنى أبا المطرف، وله ثلاثون سنة، وأُمُّه أُمُّ ولد اسمها حَلاوة، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين؛ وكان وادعاً محمود السيرة.
ولاية الأمير محمد بن عبد الرحمن
ثم ولي بعده ابنه محمد يُكنى أبا عبد الله، وأُمُّه أُمُّ ولد اسمها تهتز؛ فاتصلت ولايته إلى أن مات في آخر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وكان مُحباً للعلوم مؤثراً لأهل الحديث، عارفاً، حسن السيرة؛ ولما دخل الأندلس أبو عبد الرحمن بقي بن مَخْلَدٍ (4) بكتاب " مُصنف "
__________
(1) كانت مدة ولايته منذ استولى على قرطبة إلى أن توفي اثنتين وثلاثين سنة.
(2) في الأصل: متحيزاً، والتصويب عن المعجب.
(3) انظر ما تقدم في رسالة نقط العروس، الفقرة: 31، 33.
(4) بقي بن مخلد من حفاظ المحدثين وأئمة الدين رحل إلى المشرق فروى عن الأئمة وكتب المصنفات الكبار وبالغ في الجمع والرواية وكانت وفاته على الأرجح سنة 276 (الجذوة: 167 والصلة 1: 118 وانظر ما ورد في رسالة فضل الأندلس، الفقرة: 10) .(2/192)
أبي بكر بن أبي شيبة وقُرئ عليه، أنكر جماعةٌ من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستشنعوه، وبسطوا العامة عليه، ومنعوه من قراءته، إلى أن اتصل ذلك بالأمير محمد، فاستحضره وإياهم، واستحضر الكتاب كله، وجعل يتصفحه جزءا جزءاً إلى أن أتى على آخره، وقد ظنوا أنه يوافقهم في الإنكار عليه، ثم قال لخازن الكتب: هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا؛ ثم قال لبقي بن مخلد: انشر علمك، وارو ما عندك من الحديث، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك. أو كما قال، ونهاهم أن يتعرضوا له (1) .
ولاية المنذر بن محمد
ثم ولي بعده ابنه المنذر بن محمد، ويُكنى أبا الحكم. وأُمه أم ولد اسمها أثْل، وكان مولده في سنة تسع وعشرين ومائتين، فاتصلت ولايته سنتين غير خمسة عشر يوماً، ومات وهو على قلعة يقال لها بباشتر محاصراً لعمر بن حفصون: خارجي قام هناك وتحصن. وكان موته في سنة خمس وسبعين ومائتين؛ وقد انقرض عقِبُ المنذر.
ولاية عبد الله بن محمد
فَوليَ بعده أخوه عبد الله بن محمد، وكان مولده سنة ثلاثين ومائتين؛ يُكنى أبا محمد. أُمُّه أُم ولد اسمها عشار، طال عمرها إلى أن ماتت قبل موته بسنةٍ وشهر؛ وكان وادعاً لا يشرب الخمر، وفي أيامه امتلأت الأندلس بالفتن، وصار في كل جهةٍ متغلب، فلم يزل كذلك طول ولايته إلى أن مات مُستهل ربيع الأول سنة ثلاثمائة.
ولاية عبد الرحمن الناصر
ثم ولي بعده ابن ابنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، وكان والده محمد قد قتله أخوه المُطرف بن عبد الله في صدر دولة أبيهما عبد الله، وترك ابنه عبد الرحمن
__________
(1) في ترجيح وفاة بقي (276) قال الحميدي: إن الأمير عبد الله بن محمد شاور الفقهاء وفيهم بقي بن مخلد ... فصحَّ كونه حياً في أيام عبد الله (خلافاً لمن قال إنه توفي سنة 273) وكانت ولايته في سنة خمس وسبعين وتمادت إلى الثلاثمائة، هكذا أخبرنا أبو محمد فيما جمعه من ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس.(2/193)
هذا وهو ابن عشرين يوماً، فولي الأمر وله اثنتان وعشرون سنة.
قال لي أبو محمد عليُّ بن أحمد: وكانت ولايته من المستطرف، لأنه كان في هذا الوقت شاباً، وبالحضرة جماعة أكابر من أعمامه وأعمام أبيه، وذوي القعْدُدِ في النسب من أهل بيته، فلم يعترض معترض واستمر له الأمر، وكان شهماً صارماً.
وكلُّ من ذكرنا من الأمراء أجداده إلى عبد الرحمن بن محمد هذا، فليس منهم أحد تسمى بإمرة المؤمنين، وإنما كان يسلم عليهم، ويخطب لهم بالإمارة فقط؛ وجرى على ذلك عبد الرحمن بن محمد إلى آخر السَّنة السابعة عشرة من ولايته، فلما بلغه ضعف الخلافة بالعراق في أيام المقتدر، وظهور الشيعة بالقيروان، تسمى عبد الرحمن بأمير المؤمنين، وتلقب بالناصر لدين الله. وكان يُكنى أبا المُطَرِّف، وأُمه أُم ولد اسمها مُزْنة، ولم يزل منذ ولي يستنزل المتغلبين حتى استكمل إنزال جميعهم في خمس وعشرين سنةً من ولايته، وصار جميع أقطار الأندلس في طاعته، ثم اتصلت ولايته إلى أن مات في صدر رمضان سنة خمسين وثلاثمائة، ولم يبلغ أحد من بني أُمية في الولاية مُدّتَه فيها.
ولاية الحكم المستنصر
ثم ولي بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن، ويلقب بالمستنصر بالله، وله إذ ولي سبعٌ واربعون سنة، يُكنى أبا العاص؛ أُمه أُمُّ ولد اسمها مَرجان، وكان حسن السيرة، جامعاً للعلوم محباً لها مكرماً لأهلها، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك قبله هنالك (1) ، وذلك بإرساله عنها إلى الأقطار، واشترائه لها بأغلى الأثمان، ونفق ذلك عليه فحُمِل إليه.
وكان قد رام قطع الخمر من الأندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله، فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك. وفي أمره بإراقة الخمور في سائر الجهات يقول أبو عمر يوسف بن هارون الكندي (2) قصيدته المشهورة فيها، متوجعاً لشاربها، وإنما أوردناها تحقيقاً لما ذكرنا عنه من ذلك، وهي قوله: [من الوافر]
__________
(1) راجع عن اهتمام الحكم بالعلوم واستعماله لذلك شتى الوسائل كتاب: تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة.
(2) هو الرمادي الشاعر، انظر الجزء الأول من رسائل ابن حزم: 120.(2/194)
بخطب الشاربين يضيق صدري ... وترمضني بليتهم لعمري
وهل هم غير عشاق أصيبوا ... بفقد حبائبٍ ومنوا بهجر
أعُشاق المُدامة إن جزعتم ... لفرقتهم فليس مكان صبر
سعى طلابكم حتى أُريقت ... دماءً فوق وجه الأرض تجري
تضوع عرفها شرقاً وغرباً ... وطبق أفق قُرطبة بعطر
فقل للمسفحين لها بسفحٍ ... وما سكنته من ظرف بكسر
وللأبواب إحراقاً إلى أن ... تركتم أهلها سكان قفر
تحريتم بذاك العدل فيها ... بزعمكم فإن يكُ عن تَحري
فإن أبا حنيفة وهو عدلٌ ... وفر عن القضاء مسير شهر
فقيه لا يدانيه فقيهٌ ... إذا جاء القياس أتى بدر
وكان من الصلاة طويل ليل ... يقطعه بلا تغميض شفر
وكان له من الشراب جارٌ ... يواصل مغرباً فيها بفجر
وكان إذا انتشى غنى بصوت ال ... مضاع بسجنه من آل عمرو
" أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... (1) ليومِ كريهة وسداد ثغر "
فغيب صوت ذاك الجار سجنٌ ... ولم يكن الفقيه بذاك يدري
فقال، وقد مضى ليلٌ وثانٍ ... ولم يسمعه غنى: " ليت شعري
أجاري المؤنسي ليلاً غناء ... لخير قطع ذلك أم لشر "
فقالوا إنه في سجن عيسى ... أتاه به المحارس وهو يسري
فنادى (2) بالطويلة وهي مما ... يكون برأسه لجليل أمر
ويمَّم جاره عيسى بن موسى ... فلاقاه بإكرام وبر
وقال: أحاجةٌ عَرضت فإني ... لقاضيها ومتبعها بشكر
فقال: سجنت لي جاراً يسمى ... بعمرو قال: يطلق كل عمرو
بسجني حين وافقه اسم جار ال ... فقيه ولو سجنتهم بوتر
فأطلقهم له عيسى جميعاً ... لجارٍ لا يبيت بغير سكر
فإن أحببت قل لجوار جارٍ ... وإن أحببت قل لطلاب أجر
فإن أبا حنيفة لم يَؤُبْ من ... تطلبه تخلصه بوزر
__________
(1) البت للعرجي الشاعر الأموي.
(2) يعني القلنسوة، وكان الفقهاء والقضاة يلبسون قلانس طوالاً.(2/195)
نواقعها من اجل النهي سراً ... (1) وكم نهيٍ نواقعه بجهر وكان الحكم المستنصر مواصلاً لغزو الروم، ومن خالفه من المحاربين، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة ست وستين وثلاثمائة؛ وقد انقرض عقبه (2) .
ولاية هشام المؤيد
ثم ولي بعده ابنه هشام يُكنى أبا الوليد، وأُمه أُمُّ ولد تسَّى صُبح، وكان له إذْ ولي عشرةُ أعوام وأشهر (3) ، فلم يزل متغلباً عليه، لا يظهر ولا ينفذ له أمر.
وتغلب عليه أبو عامر مُحمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور، فكان يتولى جميع الأمور إلى أن مات. فصار مكانه أخوه عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر، فخلط وتسمى ولي العهد، وبقي كذلك أربعة أشهر، إلى أن قام عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار يوم الثلاثاء لثمان عشرة ليلة خلت من جُمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فخلع هشام بن الحكم وأسلمت الجيوش عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر، فقتل وصلب. وبقي كذلك إلى أن قتل محمد بن هشام بن عبد الجبار وصُرف هشام المؤيد إلى الأمر، وذلك يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة أربعمائة، فبقي كذلك وجيوش البربر تحاصره مع سليمان بن الحكم بن سليمان، واتصل ذلك إلى خمسٍ خلون من شوال سنة ثلاث وأربعمائة، فدخل البربر مع سليمان قُرطبة، وأخلوها من أهلها، حاشا المدينة وبعض الربض الشرقي، وقُتل هشام. وكان في طول دولته متغلباً عليه لا ينفذ له أمر وتغلب عليه في هذا الحصار واحدٌ بعد واحدٍ من العبيد، ولم يولد له قط.
ولاية محمد بن هشام المهدي
قام محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، على هشام بن الحكم في جُمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فخلعه وتسمى بالمهدي، وبقي كذلك إلى أن قام عليه يوم الخميس لخمسٍ خلون من شوال سنة تسع وتسعين، هشام بن
__________
(1) شرح الحميدي هنا القصة التي تروى عن أبي حنيفة وجاره السكير، وهي رواية الحميدي نفسه عن الخطيب البغدادي، ولا دخل لابن حزم بها.
(2) يريد أن المستنصر لم يعقب إلا هشاماً، وهشام لم يعقب، فبذلك انقرض عقبه وعقب أبيه (الجمهرة: 100) .
(3) الجمهرة: ابن أحد عشر عاماً.(2/196)
سليمان بن الناصر مع البربر، فحاربه بقية يومه والليلة المُقبلة، وصبيحة اليوم الثاني، وقام عليه عامة أهل قرطبة مع محمد بن هشام، فانهزم البربر، وأُسر هشام بن سليمان، فأُتي [به] إلى المهدي فضرب عُنقه. واجتمع البربر عند ذلك فقدموا على أنفسهم سليمان بن الحكم بن سليمان [بن] الناصر ابن أخي هشام القائم المذكور، ونهض بهم إلى الثغر، فاستجاش بالنصارى وأتى بهم إلى باب قُرطبة، وبرز إليه جماعة أهل قرطبة، فلم تكن إلا ساعة حتى قتل من أهل قُرطبة نيف على عشرين ألف رجل في جبل هناك يعرف بجبل قنطيش، وهي الوقعة المشهورة، ذهب فيها من الخيار وأئمة المساجد والمؤذنين خلق عظيم، واستتر محمد بن هشام المهدي أياماً ثم لحق بطُلَيْطُلَة، وكانت الثغور كلها من طُرْطُوشة إلى الأشبونة باقيةً على طاعته ودعوته، فاستجاش بالأفرنج، وأتى بهم إلى قرطبة، فبرز إليه سليمان بن الحكم مع البربر إلى موضع بقرب قرطبة على نحو بضعة عشر ميلاً يُدعى عقبة البقر، فانهزم سليمان والبربر، واستولى المهدي على قرطبة، ثم خرج بعد أيام إلى قتال جُمهور البربر، وكانوا قد صاروا بالجزيرة فالتقوا بوادي آرُ، فكانت الهزيمة على محمد بن هشام، وانصرف إلى قرطبة فوثب عليه العبيد مع واضح الصقلبي، فقتلوه وصرفوا هشاماً المؤيد كما ذكرنا قبل، فكانت مدة ولاية محمد المهدي مذ قام إلى أن قتل ستة عشر شهراً من جملتها الستة الأشهر التي كان فيها سليمان بقرطبة، وكان هو بالثغر؛ وكان يكنى أبا الوليد، أمه أم ولد تسمى مُزنة، وكان له ولد اسمه عبيد الله، انقرض ولا عقب للمهدي، وكان مولد المهدي في سنة ست وستين وثلاثمائة.
ولاية سليمان بن الحكم المستعين
قام سليمان بن الحكم كما ذكرنا يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وتلقب بالمستعين بالله، ثم دخل قرطبة كما ذكرنا في ربيع الآخر سنة أربعمائة، وتلقب حينئذ بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين، ثم خرج عنها في شوال سنة أربعمائة فلم يزل يجول بعساكر البربر في بلاد الأندلس، يفسد وينهب ويقفر المدائن والقُرَى بالسيف والغارة، لا تُبقي البربر معه على صغير ولا كبير ولا امرأة، إلى أن دخل قرطبة في صدر شوال سنة ثلاث وأربعمائة. وكان من جملة جُنده رجلان من وَلَد الحسن بن علي بن أبي طالب، يُسَمَّيان القاسم وعليا ابني حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمرو بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقودهما على المغاربة ثم ولَّى(2/197)
أحدهما سبتة وطنجة، وهو علي الأصغر منهما؛ وولي القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزقاق، وسعة البحر هناك اثنا عشر ميلاً. وافترق العبيد، إذ دخل البربر مع سليمان قرطبة، فملكوا مدناً عظيمة، وتحصنوا فيها، فراسلهم علي بن حمود المذكور، وقد حدث له طمعٌ في ولاية الأندلس، وكتب إليهم يذكر لهم أن هشام بن الحكم إذ كان محاصراً بقرطبة كتب إليه يوليه عهده، فاستجابوا له وبايعوه، فزحف من سبتة إلى مالقة، وفيها عامر بن فتوح الفائقي مولى فائق، مولى الحكم المستنصر، فأطاع له وأدخله مالقة، فتملكها علي بن حمود، وأخرج عنها عامر بن فتوح، ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة، فخرج إليه محمد بن سليمان في عساكر البربر، فانهزم محمد بن سليمان، ودخل علي بن حمود قرطبة وقتل سليمان بن الحكم صبراً، ضرب عنقه بيده يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة سبع واربعمائة، وقتل أباه الحكم بن سليمان بن الناصر أيضاً في ذلك اليوم، وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة، فكانت مدة سليمان مذ دخل قرطبة إلى أن قتل ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وأياماً، وقد كان ملكها قبل ذلك ستة أشهر وأياماً، وانقطعت دولة بني أمية في هذا الوقت وذكرهم على المنابر في جميع أقطار الأندلس، إلى أن عاد بعد ذلك في الوقت الذي نذكره إن شاء الله.
وكانت أمه أم ولد اسمها ظبية، ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وترك من الولد ولي عهده محمداً لم يعقب، والوليد ومسلمة.
وكان سليمان أديباً شاعراً، أنشدني أبو محمد علي بن أحمد قال: أنشدني فتى من ولد إسماعيل بن إسحاق المنادي الشاعر (1) كان يكتب لأبي جعفر أحمد بن سعيد بن الدّب قال، أنشدني أبو جعفر قال، أنشدني أمير المؤمنين سليمان الظافر لنفسه، قال أبو محمد: وأنشدنيها قاسم بن محمد المرواني (2) قال: أنشدنيها وليد بن محمد الكاتب لسليمان الظافر (3) : [من الكامل]
__________
(1) ترجم الحميدي: 152: لإسماعيل بن إسحاق المنادي ثم لإسحاق بن إسماعيل المنادي (158) : ثم قال: هكذا وقع هذا الاسم فيما قيدته بالأندلس، وقد تقدم في باب إسماعيل: إسماعيل بن إسحاق المنادي فلا أدري أهو والد هذا أو ولده أو قد وقع الغلط في تبديل اسمه.... وأبو محمد موثوق بضبطه وإتقانه ومعرفته بالرجل وزمانه.
(2) هو المعروف بالشبانسي، كان شاعراً أديباً في الدولة العامرية (الجذوة: 310 وبغية الملتمس رقم: 1296) .
(3) الأبيات في الذخيرة 1/1: 47 والبيان المغرب 3: 118 والحلة 2: 8 والمعجب (دوزي) : 31 والنفح 1: 430.(2/198)
عجباً يهاب الليث حد سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
وأقارع الأهوال لا مُتهيباً ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاثٌ كالدمى ... زُهر الوجوه نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فوق أغصان على كثبان
هذي الهلال وتلك بنت المشتري ... حُسناً وهذي أُخت غصن البان
حاكمت فيهن السلو إلى الصبا ... فقضي بسلطان على سلطاني
فأبحن من قلبي الحمى وثنينني ... في عز ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى ... ذُلُّ الهوى عزٌّ وملك ثاني
ما ضر أني عبدهن صبابةً ... وبنو الزمان وهن من عبداني
إن لم أُطع فيهن سلطان الهوى ... كلفاً بهن فلست من مروان
وإذا الكريم أحب أمن إلفه ... خطب القلى وحوادث السُّلوان
وإذا تجارى في الهوى أهل الهوى ... عاش الهوى في عبطة وأمان وهذه الأبيات معارضةٌ للأبيات التي تنسب إلى هارون الرشيد، وأنشدنيها له (1) أبو محمد عبد الله بن عثمان بن مروان العمري وهي (2) : [من الكامل]
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأُطيعهن وهن في عصيان
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعزُّ من سلطاني
ولاية علي بن حمود الناصر
تسمَّى بالخلافة وتلقب بالناصر، ثم خالف عليه العبيد الذين كانوا بايعوه وقدموا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وسموه المرتضى، وزحفوا إلى أغرناطة التي تغلب عليها البربر، ثم ندموا على إقامته لما رأوا من صرامته، وخافوا عواقب تمكنه وقدرته، فانهزموا عنه ودسوا عليه من قتله غيلة، وخفي أمره، وبقي علي بن حمود بقرطبة مستمر الأمر عامين غير شهرين، إلى أن قتله صقالبة له في الحمام سنة ثمان وأربعمائة. وكان له من الولد يحيى وإدريس.
__________
(1) هذا هو ما يقوله الحميدي لا ابن حزم لأن العمري نحوي فقيه شاعر قرأ عليه الحميدي الأدب ومات قريباً من سنة 440 (الجذوة: 245) .
(2) انظر مصادر الأبيات السابقة، وأضف إليها الأغاني 16: 269 والغيث 2: 326، وقد أدرجت هذه الأبيات نفسها في ديوان العباس بن الأحنف: 279.(2/199)
ولاية القاسم بن حمود المأمون
فولي بعده أخوه القاسم بن حمود، وكان أسن منه بعشرة أعوام، وتلقب بالمأمون، وكان وادعاً أمن الناس معه، وكان يُذكر عنه أنه يتشيع، ولكنه لم يظهر ذلك، ولا غير للناس عادة ولا مذهباً، وكذلك سائر من ولي منهم بالأندلس، فبقي القاسم كذلك إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، فقام عليه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود بمالقة، فهرب القاسم عن قرطبة بلا قتال وصار بإشبيلية، وزحف ابن أخيه المذكور من مالقة بالعساكر، فدخل دون مانع وتسمى بالخلافة، وتلقب بالمعتلي، فبقي كذلك إلى أن اجتمع للقاسم أمره، واستمال البربر وزحف بهم إلى قرطبة، فدخلها في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وهرب يحيى بن علي إلى مالقة، فبقي القاسم بقرطبة شهوراً اضطرب أمره، وغلب ابن أخيه يحيى على الجزيرة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وهي كانت معقل القاسم وبها كانت امرأته وذخائره، وغلب ابن أخيه الثاني إدريس بن علي صاحب سبتة على طنجة، وهي كانت عدة القاسم ليلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس. وقام عليه جماعة أهل قرطبة في المدينة، وأغلقوا أبوابها دونه، فحاصرهم نيفاً وخمسين يوماً، وأقام الجمعة في مسجد ابن أبي عثمان. ثم إن أهل قرطبة زحفوا إلى البربر، فانهزم البربر عن القاسم، وخرجوا من الأرباض كلها في شعبان سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولحقت كل طائفة من البربر ببلد غلبت عليه، وقصد القاسم إشبيلية، وبها كان ابناه محمد والحسن؛ فلما عرف أهل إشبيلية خروجه عن قرطبة ومجيئه إليهم، طردوا ابنيه ومن كان معهما من البربر وضبطوا البلد، وقدموا على أنفسهم ثلاثة رجال من شيوخ البلد وأكابرهم؛ وهم القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الألهاني، ومحمد بن محمد بن الحسن الزُبيدي، ومكثوا كذلك أياماً مشتركين في سياسة البلد وتدبيره، ثم انفرد القاضي أبو القاسم ابن عباد بالأمر، واستبد بالتدبير، وصار الآخران في جملة الناس، ولحق القاسم بشريش، واجتمع البربر على تقديم ابن أخيه يحيى، وزحفوا إلى القاسم فحصروه حتى صار في قبضة ابن أخيه يحيى، وانفرد ابن أخيه يحيى بولاية البربر، وبقي القاسم أسيراً عنده وعند أخيه إدريس بعده، إلى أن مات إدريس، فقتل القاسم خنقاً سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وحمل إليه ابنه محمد بن القاسم بالجزيرة، فدفنه هنالك؛ فكانت ولاية القاسم مُذ تسمى بالخلافة بقرطبة إلى أن أسره ابن أخيه ستة أعوام، ثم كان مقبوضاً عليه ست عشرة سنة عند ابني أخيه إلى أن قتل كما ذكرنا في أول سنة إحدى وثلاثين، ومات وله ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن(2/200)
أُمهما أميرة بنت الحسن بن قنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ولاية يحيى بن علي المعتلي
اختلف في كنيته فقيل أبو إسحاق وقيل أبو محمد، وأُمه لبونة بنت محمد بن الحسن بن القاسم المعروف بقنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ وكان الحسن بن قنون من كبار الملوك الحسنيين وشجعانهم ومردتهم وطغاتهم المشهورين، فتسمى يحيى بالخلافة بقرطبة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة كما ذكرنا، ثم هرب عنها إلى مالقة سنة أربع عشرة كما وصفنا، ثم سعى قوم من المفسدين في رد دعوته إلى قرطبة في سنة ست عشرة فتم لهم ذلك، إلا أنه تأخر عن دخولها باختياره، واستخلف عليها عبد الرحمن بن عطاف اليفرني، فبقي الأمر كذلك إلى سنة سبع عشرة، ثم قُطعت دعوته عن قرطبة، وبقي يتردد عليها بالعساكر إلى أن اتفقت على طاعتهجماعة البربر، وسلموا إليه الحصون والقلاع والمدن، وعظُم أمره، فصار بقرمونة محاصراً لإشبيلية طامعاً في أخذها، فخرج يوماً وهو سكران إلى خيل ظهرت من إشبيلية بقرب قرمونة، فلقيها وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وكان له من الولد: الحسن وإدريس، لأُمي ولد.
ولاية عبد الرحمن بن هشام المستظهر
ولما انهزم البرابر عن أهل قرطبة مع القاسم كما ذكرنا، اتفق رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أُمية، فاختاروا منهم ثلاثة، وهم: عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، أخو المهدي المذكور آنفاً، وسليمان بن المرتضى المذكور آنفاً، ومحمد بن عبد الرحمن بن هشام القائم على المهدي بن سليمان بن الناصر، ثم استقر الأمر لعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار، فبويع بالخلافة لثلاث عشرة ليلة خلت لرمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة، وله اثنتان وعشرون سنة، وتلقب بالمستظهر، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، في ذي القعدة. يُكنى أبا المطرف وأمه أم ولد اسمها غاية.
ثم قام أبو عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر، مع طائفة من أراذل العوام، فقتل عبد الرحمن بن هشام، وذلك لثلاث بقين من ذي القعدة سنة(2/201)
أربع عشرة المؤرخ، ولا عقب له.
وكان في غاية الأدب والبلاغة والفهم ورقة النفس، كذا قال أبو محمد علي بن أحمد وكان خبيراً به.
[وقال الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد: كان المستظهر رحمه الله شاعراً مطبوعاً، ويستعمل الصناعة فيجيد، وهو القائل في ابنة عمه (1) : [من الطويل]
حمامة بيت العبشميين رفرفت ... فطرت إليها من سراتهم صقرا
تقل الثريا أن تكون لها يداً ... ويرجو الصباح أن يكون لها نحرا
وإني لطعان إذا الخيل أقبلت ... جوانبها حتى جونها شقرا
ومكرم ضيفي حين ينزل ساحتي ... وجاعلُ وفري عند سائله وفرا وهي طويلة قالها أيام خطبته لابنة عمه أم الحكم بنت المستعين. قال أبو عامر: وكان يتهم في أشعاره ورسائله، حتى كتب أمان يعلى بن أبي زيد حين وفد عليه ارتجالاً، فعجب أهل التمييز منه، وأما أنا فقد كنت بلوته؛ وكان ورود يعلى فجأةً لم يبرح من مجلسه حتى ارتجل الأمان، وأنا والله أخاف أن يزل فأجاد وزاد؛ هذا آخر كلام أبي عامر] (2) .
ولاية محمد بن عبد الرحمن المستكفي
وولي محمد بن عبد الرحمن المذكور، وله ثمان وأربعون سنة وأشهر، لأن مولده في سنة ست وستين وثلاثمائة، وكنيته أبو عبد الرحمن، وأُمه أُم ولد اسمها حوراء، وكان أبوه قد قتله محمد بن أبي عامر في أول دولة هشام المؤيد لسعيه في القايم وطلبه للأمر؛ وكان محمد بن عبد الرحمن هذا قد تلقب بالمستكفي، فولي ستة عشر شهراً وأياماً إلى أن خلع ورجع الأمر إلى يحيى بن علي الحسني، وهرب المستكفي، فلما صار بقريةٍ يقال لها شمُونْت (3) من أعمال مدينة سالم جلس ليأكل، وكان معه عبد الرحمن بن محمد بن السليم من ولد سعيد بن المنذر القائد المشهور أيام عبد الرحمن الناصر، فكره التمادي معه، وأخذ شيئاً من البيش (4) وهو كثير في ذلك البلد، فدهن له به دجاجة، فلما أكلها مات لوقته، فقبره هنالك. وكان هذا المستكفي في غاية
__________
(1) الأبيات من قصيدة في الذخيرة 1/1: 56؛ وبعضها في المعجب (دوزي) : 39 وما تقدم: 66.
(2) واضح أن هذا ليس من رواية ابن حزم فلذلك جعلته بين معقفين.
(3) المعجب (دوزي) : شمنت.
(4) نبات سام (انظر التاج: بيش) .(2/202)
التخلف وله في ذلك أخبار يقبح ذكرها، وكان متغلباً عليه طول مدته لا ينفذ له أمر، ولا عقب له.
ولاية هشام بن محمد المعتد
ولما قطعت دعوة يحيى بن علي الحسني من قرطبة سنة سبع عشرة كما ذكرنا، أجمع رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغفار بن أبي عبدة، وقد كان ذهب كل من كان ينافس في الرياسة ويخب في الفتنة بقرطبة، فراسل جمهور ومن معه من أهل الثغور والمتغلبين هنالك على الأمور، وداخلهم في هذا، فاتفقوا بعد مدة طويلة على تقديم أبي بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر وهو أخو المرتضى المذكور؛ قيل: كان مقيماً بالبونت عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم (1) المتغلب بها، فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وتلقب بالمعتد بالله، وكان مولده سنة أربع وستين وثلاثمائة، وكان أسن من أخيه المرتضى بأربعة أعوام؛ وأمه أم ولد اسمها عاتب، فبقي متردداً في الثغور ثلاثة أعوام غير شهرين، ودارت هنالك فتن كثيرة، واضطراب شديد بين الرؤساء بها إلى اتفق أمرهم على أن يصير إلى قرطبة قصبة الملك، فصار ودخلها يوم منى ثامن ذي الحجة سنة عشرين وأربعمائة، ولم يبق إلا يسيراً حتى قامت عليه فرقةٌ من الجند فخلع، وجرت أمور يكثر شرحها، وانقطعت الدعوة الأموية من يومئذ فيها، واستولى على قرطبة جهور بن محمد المذكور آنفاً، وكان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرياسة، موصوفاً بالدهاء والعقل، لم يدخل في أمور الفتن قبل ذلك، وكان يتصاون عنها. فلما خلا له الجو وأمكنته الفرصة وثب عليها فتولى أمرها واستضلع بحمايتها، ولم ينتقل إلى رُتبة الإمارة ظاهراً، بل دبرها تدبيراً لم يسبق إليه، وجعل نفسه ممسكاً للموضع إلى أن يجيء مستحق يتفق عليه، فيسلم إليه. ورتب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام الدولة، ولم يتحول عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك، وهو المشرف عليه، وصير أهل الأسواق جنداً، وجعل أرزاقهم
__________
(1) هو يمن الدولة الفهري الذي نزل عليه ابن حزم بالبونت، وكتب له رسالة في فضل الأندلس؛ انظر الفقرة الثانية من الرسالة المذكورة.(2/203)
رؤوس أموال [تكون بأيديهم محصلة عليهم يأخذون ربحها فقط ورؤوس الأموال] (1) باقيةٌ محفوظةٌ يؤخذون بها، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها. وفرق السلاح عليهم وأمرهم بتفرقته في الدكاكين وفي البيوت، حتى إذا دهم أمرٌ في ليل أو نهار كان سلاح كل واحدٍ معه. وكان يشهد الجنائز ويعود المرضى، جارياً في طريقة الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمور تدبير السلاطين المتغلبين، وكان مأموناً وقرطبة في أيامه حرماً (2) يأمن فيه كل خائف من غيره، إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين واربعمائة.
وتولى أمرها بعده ابن أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات، فغلب عليها بعد أمور جرت هنالك الأمير الملقب بالمأمون صاحب طُليطلة، ودبرها مدة يسيرة ومات فيها، ثم غلب عليها صاحب إشبيلية الأمير الظافر ابن عباد، فهي الآن بيده على ما بلغنا (3) .
وبقي هشام بن المعتد معتقلاً، ثم هرب ولحق بابن هود بلا ردة، فأقام هنالك إلى أن مات سنة سبع وعشرين وأربعمائة، ولا عقب له، وانقطعت دولة بني مروان جملة، إلا أن إشبيلية ومن كان على رأيهم من أهل تلك البلاد، لما ضيق عليهم يحيى بن علي الحسني وخافوا أمره، أظهروا أن هشام بن الحكم المؤيد حي، وأنهم ظفروا به فبايعوه وأظهروا دعوته، وتابعهم أكثر أهل الأندلس. وبقي الأمر كذلك إلى حدود الخمسين وأربعمائة (4) ، فإنهم أظهروا موت هشام المؤيد الذي ذكروا أنه وصل إليهم، وحصل عندهم، وانقطعت الخطبة لبني أمية من جميع أقطار الأندلس من حينئذ وإلا الآن.
وأما الحسنيُّون فإنه لما قتل يحيى بن علي كما ذكرنا لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين، رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقنة، و " نجا " الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة الحسنيين، فأتيا مالقة وهي دار مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان بسبتة وكان يمتلك معها طنجة، واستدعياه فأتى إلى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، ولم يبايعا واحداً من ابني يحيى وهما: إدريس وحسن لصغرهما، فأجابهما إلى ذلك، ونهض " نجا "
__________
(1) زيادة ضرورية، وهي في المعجب وبغية الملتمس.
(2) في الأصل: حريماً.
(3) هذا على السماع؛ لا رواية عن ابن حزم.
(4) هذا أيضاً مبني على السماع لأن الحميدي كان قد غادر الأندلس.(2/204)
مع حسن هذا إلى سبتة وطنجة، وكان حسن أصغر ابني يحيى، ولكنه كان أشدهما، وتلقب إدريس بالمتأيد، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين، أو إحدى وثلاثين، فتحركت فتن.
وحدث للقاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد صاحب إشبيلية أملٌ في التغلب على تلك البلاد، فأخرج ابنه إسماعيل في عسكر مع من أجابه من قبائل البربر، ونهض إلى قرمونة (1) فحاصرها، ثم نهض إلى أشونة (2) وأستجة (3) فأخذهما وكانتا بيد محمد بن عبد الله البرزالي (4) صاحب قرمونة، فاستصرخ محمد بن عبد الله بإدريس بن علي الحسني وبصنهاجة، فأمده صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقنة مدبر دولته، فاجتمعوا مع ابن عبد الله، ثم غلبت عليهم هيبة إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن عباد قائد عسكر القاضي أبيه فافترقوا، وانصرف كل واحد منهم راجعاً إلى بلده، فبلغ ذلك إسماعيل بن محمد فقوي أمله، ونهض بعسكره قاصداً طريق صاحب صنهاجة من بينهم، وركض ركضاً شديداً في اتباعه، فلما قرب منه وأيقن صاحب صنهاجة بأنه سيلحقه، وجه إلى ابن بقنة يسترجعه، وإنما كان فارقه قبل ذلك بساعة فرجع إليه، والتقت العساكر، فما كان إلا أن تراءت، وولى عسكر ابن عباد منهزماً وأسلموه، فكان إسماعيل أول مقتول، وحمل رأسه إلى إدريس بن علي، وقد كان أيقن بالهلاك، وزال عن مالقة إلى جبل بباشتر متحصناً به، وهو مريض مُدنف، فلم يعش إلا يومين ومات. وترك من الولد: يحيى قُتل بعده، ومحمداً الملقب بالمهدي، وحسناً المعروف بالسامي وكان ابن هو أكبر بنيه اسمه علي مات في حياة أبيه، وترك ابناً اسمه عبد الله أخرجه عمه ونفاه لما ولي. وقد كان يحيى ابن علي المذكور قبل قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، وكان الموكل بهما رجل من المغاربة يعرف بأبي الحجاج، فحين وصل إليه خبر قتل يحيى جمع من كان في الجزيرة من المغاربة والسودان، وأخرج محمداً والحسن، وقال: هذان سيداكم، فسارع جميعهم إلى الطاعة لهما، لشدة ميل أبيهما إلى السودان قديماً وإيثاره لهم، وانفرد محمد بالأمر وملك الجزيرة، إلا أنه لم يتسمَّ
__________
(1) قرمونة Carmona تقع إلى الشرق من إشبيلية وتبعد عنها بمقدار ثلاثين كيلومتراً (الروض: 461 والترجمة: 190) .
(2) أشونة Osuna من كور أستجة على بعد 34 كيلومتراً من هذه الثانية (الروض: 60 والترجمة: 29) .
(3) أستجة Ecija على نهر شنيل وتعد اليوم من مقاطعة إشبيلية (الروض: 53 والترجمة: 20) .
(4) بويع بقرمونة سنة 404 وكان فارساً شجاعاً، يؤثر العدل، فبايعته أستجة وأشونة والمدور وغيرها ولم يزل على أحسن حال حتى توفي سنة 434 (البيان المغرب 3: 311 - 312) .(2/205)
بالخلافة، وبقي معه أخوه حسن مدة، إلى أن حدث له رأي في التنسك، فلبس الصوف وتبرأ عن الدنيا، وخرج إلى الحج مع أخته فاطمة بنت القاسم زوجة يحيى بن علي المعتلي. فلما مات إدريس، كما ذكرنا، رام ابن بقنة ضبط الأمر لولده يحيى ابن إدريس المعروف بحيون، ثم لم يجسر على ذلك الجسر التام، وتخير وتردد، ولما وصل خبر قتل إسماعيل بن عباد وموت إدريس بن علي إلى " نجا " الصقلبي بسبتة، استخلف عليها من وثق به من الصقالبة، وركب البحر هو وحسن بن يحيى إلى مالقة ليرتب الأمر له، فلما وصلا إلى مرسى مالقة خارت قوى ابن بقنة، وهرب إلى حصن قمارش على ثمانية عشر ميلاً من مالقة.
ودخل حسن و " نجا " مالقة، واجتمع إليهما من بها من البربر، فبايعوا حسن بن يحيى بالخلافة، وتسمى المستنصر، ثم خاطب ابن بقنة وأمنه؛ فلما رجع إليه قبض عليه وقتله، وقتل ابن عمه يحيى ابن إدريس، ورجع " نجا " إلى سبتة وطنجة، وترك مع حسن رجلاً كان من التجار يعرف بالسطيفي كان " نجا " شديد الثقة به، فبقي الأمر كذلك نحواً من عامين، وكان حسن بن يحيى متزوجاً بابنة عمه إدريس، فقيل إنها سمته أسفاً على أخيها، فلما مات احتاط السطيفي على الأمر، واعتقل إدريس ابن يحيى، وكتب إلى " نجا " بالخبر، وكان لحسن ابنٌ صغير عند " نجا "، فقيل إنه اغتاله أيضاً وقتله، والله أعلم.
ولم يُعْقِب حسن بن يحيى، واستخلف " نجا " على سبتة وطنجة من وثق به من الصقالبة عند وصول الخبر إليه، وركب البحر إلى مالقة، فلما وصل إليها زاد في الاحتياط على إدريس بن يحيى، وأكد اعتقاله، وعزم على محو أمر الحسنيين، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه، فدعا البربر الذين كانوا جُند البلد، وكشف الأمر إليهم علانية، ووعدهم بالإحسان، فلم يجدوا من مساعدته بداً في الظاهر، وعظم ذلك في أنفسهم باطناً، ثم جمع عسكره ونهض إلى الجزيرة ليستأصل محمد بن القاسم، فحاربهما أياماً، ثم أحس بفتور نية من معه، فرأى أن يرجع إلى مالقة، فإذا رجع إليها، [و] حصل فيها نفى من خاف غائلته منهم واستصلح سائرهم، واستدعى الصقالبة من حيث ما أمكنه ليقوى بهم على غيرهم وأحس البربر بهذا منه فاغتالوه في الطريق قبل أن يصل إلى مالقة، فقُتل وهو على دابته في مضيق صار فيه، وقد تقدمه إليه الذي أراد الفتك به (1) ، وفر من كان معه من الصقالبة بأنفسهم، ثم تقدم فارسان
__________
(1) انظر في مقتل نجا البيان المغرب 3: 291.(2/206)
من الذين غدروا به يركضان حتى وردا مالقة ودخلا وهما يقولان: البشرى البشرى، فلما وصلا إلى السطيفي وضعا سيوفهما عليه فقتلاه (1) ، ثم وافيا العسكر، فاستخرجوا إدريس بن يحيى من محبسه، فقدموه وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالعالي، فظهرت منه أمورٌ متناقضة، منها أنه كان أرحم الناس قلباً، كثير الصدقة، يتصدق كل يوم جمعة بخمسمائة دينار، ورد كل مطرود عن وطنه إلى أوطانهم، ورد عليهم ضياعهم وأملاكهم، ولم يسع بغياً في أحد من الرعية، وكان أديب اللقاء حسن المجلس، يقول من الشعر الأبيات الحسان، ومع هذا فكان لا يصحب ولا يقرب إلا كل ساقط نذل، ولا يحجب حُرَمَهُ عنهم، وكلُّ من طلب منه حصناً من حصون بلاده ممن يجاوره من صنهاجة أو بني يفرن أعطاهم إياه، وكتب إليه أمير صنهاجة في أن يسلم إليه وزيره ومدبر أمره وصاحب أبيه وجده، موسى بن عفان السبتي، فلما أخبره بأن الصنهاجي طلبه منه وأنه لا بد له من تسليمه إليه، قال له موسى بن عفان " افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين "، فبعث به إلى الصنهاجي فقتله وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً وحسناً ابني إدريس في حصن يعرف بأيرش، فلما رأى ثقته الذي في الحصن اضطراب آرائه خالف عليه، وقدم ابن عمه محمد بن إدريس، فلما بلغ ذلك السودان المرتبين في قصبة مالقة، نادوا بدعوة ابن عمه محمد بن إدريس، وراسلوه في المجيء إليهم، وامتنعوا بالقصبة، فاجتمعت العامة إلى إدريس بن يحيى واستأذنوه في حرب القصبة والدفاع عنه، ولو أذن لهم ما ثبت السودان ساعة من النهار، فأبى وقال: الزموا منازلكم ودعوني، فتفرقوا عنه، وجاء ابن عمه فسلم إليه، وبويع بالخلافة وتسمى المهدي (2) ، وولى أخاه عهده، وسماه السامي. واعتقل ابن عمه إدريس العالي في الحصن الذي كان هو معتقلاً فيه، وظهرت في محمد بن إدريس هذا رجلةٌ وجرأة شديدة هابه بها جميع البرابر، وأشفقوا منه، وراسلوا المرتب في الحصن الذي كان فيه إدريس بن يحيى واستمالوه، فأجابهم وقام بدعوته.
وكان إدريس بن يحيى هذا أول ولايته بعد قتل " نجا " قد ولى سبتة وطنجة رجلين برغواطيين من عبيد أبيه يسميان رزق الله وسُكات (3) ، فلما خلع كما ذكرنا بقيا حافظين لمكانهما، فلما قام كما ذكرنا في حصن أيرش، لم يظهر محمد بن إدريس
__________
(1) انظر المصدر السابق.
(2) البيان المغرب 3: 292.
(3) أو سقوت: ويكتب بصور مختلفة، وفي أخباره راجع البيان المغرب 3: 250 وأعمال الأعلام: 141 وروض القرطاس: 104 وابن خلدون 6: 184 والذخيرة 2/2: 657.(2/207)
مبالاةً بذلك، بل ثبت ثباتاً شديداً، وكانت والدته تشد منه وتقوي مُنته وتُشرف على الحرب بنفسها وتحسن إلى من أبلى، فلما رأى البربر شدة عزمه وثباته، فت ذلك في أعضادهم، وانحلوا عن إدريس بن يحيى، ورأوا أن يبعثوا إلى سبتة وطنجة إلى البرغواطيين اللذين ذكرنا، وقد كان جعل ابنه عندهما في حضانتهما، فلما وصل إليهما أظهرا تعطيمه ومخاطبته بالخلافة، الا أن الأمر كله لهما دونه، فتوصل إليه قوم من أكابر البربر وقالوا له: إن هذي العبدين قد غلبا عليك، وقد حالا بينك وبين أمرك، فأذن لنا نكفك أمرهما، فأبى، ثم أخبرهما بذلك فنفيا أولئك القوم، وأخرجا إدريس بن يحيى عن أنفسهما إلى الأندلس، وتمسكا بولده لصغره إلا أنهما في كل ذلك يخطبان لإدريس بالخلافة. ثم إن محمد بن إدريس أنكر من أخيه الملقب بالسامي أمراً فنفاه إلى العدوة، فصار في جبال غُمارة وهي بلاد تنقاد لهؤلاء الحسنيين، وأهلها يعظمونهم جداً. ثم إن البرابر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة، واجتمعوا إليه ووعدوه بالنصر، فاستفزه الطمع وخرج إليهم، فبايعوه بالخلافة وتسمى بالمهدي، فصار الأمر في غاية الأُخلوقة والفضيحة (1) ؛ أربعة كلهم يسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً في مثلها، فأقاموا معه أياماً ثم افترقوا عنه إلى بلادهم، ورجع خاسئاً إلى الجزيرة، ومات إلى أيام، وقيل إنه مات غماً. وترك نحو ثمانية ذكور؛ فتولى أمر الجزيرة ابنه القاسم بن محمد بن القاسم، إلا أنه لم يتسم الخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين وأربعمائة؛ وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا، فلما توفي محمد بن إدريس ردته العامة إلى مالقة واستولى عليها.
[قال الحميدي] : هذا آخر ما استفدنا أكثره من شيخنا أبي محمد علي بن أحمد رحمه الله، وعلمناه نحن، من جُمل أخبار من ذكرنا من ملوك تلك البلاد إلى وقت خروجنا منها (2) .
__________
(1) راجع ما تقدم في نقط العروس، الفقرة: 80.
(2) كان خروج الحميدي من الأندلس سنة 448؛ انظر الجذوة: 118.(2/208)
الملحق (2)
[ذكر أوقات الحكام من بني إسرائيل] (1)
قال أبو محمد رضي الله عنه: دخل بنو إسرائيل الأردن وفلسطين والغور مع يوشع بن نون مدبر أمرهم عليه السلام إثر موت موسى عليه السلام، ومع يوشع العازار ابن هارون عليه السلام صاحب السرادق بما فيه، وعنده التوراة لا عند أحد غيره بإقرارهم. فدبر يوشع عليه السلام أمرهم في استقامة، وألزمهم للدين إحدى وثلاثين سنة مذ مات موسى عليه السلام إلى أن مات يوشع.
ثم دبرهم فنحاس بن العازار ابن هارون، وهو صاحب السرادق والكوهن الأكبر، والتوراة عنده لا عند احد غيره خمساً وعشرين سنة في استقامة والتزام للدين، ثم مات وطائفة منهم عظيمة يزعمون أنه حي إلى اليوم وثلاثة أنفس إليه، وهم الياس النبي الهاروني عليه السلام، ولكيصيدق بن فالج بن عابر بن أرفخشاذ بن سام بن نوح عليه السلام، والعبد الذي بعثه إبراهيم عليه السلام ليزوج إسحاق عليه السلام رفقة بنت بتوئيل بن ناخور أخي إبراهيم عليه السلام. فلما انقضت المدة المذكورة لفنحاس بن العازار كفر بنو إسرائيل وارتدوا كلهم وعبدوا الأوثان علانية، فملكهم كذلك ملك صور وصيدا مدة ثمانية أعوام على الكفر.
ثم دبر أمرهم عثنيال (2) بن قناز بن أخي كالب بن يفنة بن يهوذا أربعين سنة على الإيمان، ثم مات، فكفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان علانية، فملكهم كذلك عجلون ملك بني موآب ثمان عشرة سنة على الكفر.
ثم دبر أمرهم أهود بن قارا (3) ، قيل إنه من سبط أفرايم، وقيل من سبط بنيامين. واختلف أيضاً في مدة رياسته، فقيل ثمانون سنة، وقيل خمس وخمسون سنة، على الإيمان إلى أن مات.
__________
(1) الفصل 1: 187 - 196 وقد راجعت هذا الفصل على العهد القديم (رمزه: ع) لضبط أسماء الأعلام وقارن باليعقوبي 1: 46 - 65 وحمزة: 79 - 82.
(2) ع: عثنيئيل.
(3) ع: أهود بن جبرا، وكذلك اليعقوبي.(2/209)
ثم دبرهم سمعان (1) بن عنات من سبط أشار خمساً وعشرين سنة على الإيمان. ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم وعبدوا الأوثان جهاراً. فملكهم كذلك يابين (2) الكنعاني عشرين سنة على الكفر.
ثم دبرت أمرهم دبورا النبية من سبط يهوذا، وكان زوجها رجلاً يسمى الفيدوت (3) من سبط أفرايم إلى أن ماتت وهم على الإيمان، فكان مدة تدبيرها لهم أربعين سنة. فلما ماتت كفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان جهاراً. فملكهم عوزيب وزاب (4) ملكا بني مدين سبع سنين على الكفر.
ثم دبر أمرهم جدعون بن يوآش من سبط أرايم، وقيل بل من سبط منشا وهم يصفون أنه كان نبياً، وكان له واحد وسبعون أبناً ذكوراً. فملكهم على الإيمان أربعين سنة.
ثم مات وولي ابنه أبو ملك (5) بن جدعون وكان فاسقاً خبيث السيرة، فارتد جميع بني إسرائيل وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً، وأعانه أخواله من أهل نابلس من بني إسرائيل من سبط يوسف بتسعين دينراً (6) من بيت بعل الصنم ومضوا معه، فقتل جميع إخوته حاشا واحداً منهم أفلت، وبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قتل.
ودبرهم بعده تولع بن قواة (7) من سبط يساخر، ولم نجد بياناً هل كان على الإيمان أو على الكفر، خمساً وعشرين سنة، ثم مات.
ثم دبر أمرهم يائير (8) بن جلعاد من سبط منشا اثنين وعشرين عاماً على الإيمان إلى أن مات، وكان له اثنان وثلاثون ولداً ذكوراً قد ولي كلُّ واحد منهم مدينة من مدائن بني إسرائيل، فارتد بنو إسرائيل كلهم بعد موته وعبدوا الأوثان جهاراً. وملكهم بنو عمون ثلاث عشرة سنة متصلة على الكفر.
ثم قام فيهم رجل من سبط منشا اسمه يفتاح (9) بن جلعاد. ولا يختلفون في أنه
__________
(1) ع: شمجر؛ اليعقوبي: سمحر.
(2) في المطبوعة: مراش.
(3) في المطبوعة: السدوت.
(4) ع: صلمناع وزبح.
(5) ع: أبيمالك بن يربعل بن جدعون.
(6) ع: بسبعين شاقل فضة؛ ودينر دينار (وفي الأصل: دير) .
(7) في المطبوعة: مولع بن فرا.
(8) في المطبوعة: يابين.
(9) في المطبوعة هيلع.(2/210)
كان ابن زانية وكان فاسقاً خبيث السيرة، نذر إن أظفره الله بعدوه أن يقرب لله سبحانه وتعالى أول من يلقاه من منزله فأول من لقيه ابنته ولم يكن له ولد غيرها فوفى بنذره وذبحها قرباناً. وكان في عصره نبي فلم يلتفت إليه. وأنه قتل من بني أفرايم اثنين وأربعين ألف رجل. فملكهم ست سنين ثم مات.
فوليهم بعده أبصان من سبط يهوذا من سكان بيت لحم وكان له ثلاثون ابناً ذكوراً، فوليهم سبع سنين وقيل ست سنين ثم مات. والأظهر من حاله على ما توجبه أخبارهم الاستقامة.
ووليهم بعده أيلون من سبط زبلون عشر سنين إلى أن مات.
وولي بعده عبدون بن هلال (1) من سبط أفرايم ثماني سنين على الإيمان. وكان له أربعون ولداً ذكوراً. فلما مات ارتد بنو إسرائيل كلهم وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً، فملكهم الفلسطينيون، وهم الكنعانيون وغيرهم، أربعين سنة على الكفر.
ثم دبرهم شمشون بن مانوح (2) من سبط داني، وكان مذكوراً عندهم بالفسق واتباع الزواني. فدبرهم عشرين سنة وينسبون إليه المعجزات، ثم أسر ومات، فدبر بنو إسرائيل بعضهم بعضاً في سلامة وإيمان أربعين سنة بلا رئيس يجمعهم.
ثم دبرهم الكاهن الهاروني على الإيمان عشرين سنة إلى أن مات.
ثم دبرهم شمويل بن القانة (3) النبي من سبط أفرايم، قيل عشرين سنة وقيل أربعين سنة، كل ذلك في كتبهم، على الإيمان. وذكروا أنه كان له ابنان توآل وأبيا (4) يجوران في الحكم ويظلمان الناس.
وعند ذلك رغبوا إلى شمويل أن يجعل لهم ملكاً. فولى عليهم شاول الدباغ ابن قيش بن أبيئيل بن شارو بن بكورات بن أفيح (5) بن خس بن سبط بنيامين، وهو طالوت، فوليهم عشرين سنة، وهو أول ملك كان لهم ويصفونه بالنبوة وبالفسق والظلم والمعاصي معاً، وأنه قتل من بني هارون نيفاً وثمانين إنساناً، وقتل نساءهم
__________
(1) ع: هليل.
(2) ع: منوح.
(3) في المطبوعة: فتان.
(4) في المطبوعة: قوهال وبيا.
(5) في المطبوعة: بن أنيل بن شارون بن بورات بن آسيا (ابن خس لم ترد في ع) .(2/211)
وأطفالهم لأنهم أطعموا داود عليه السلام خبزاً فقط.
فاعلموا الآن أنه كان مذ دخلوا الأرض المقدسة إثر موت موسى عليه السلام إلى ولاية أول ملك لهم - وهو شاول المذكور - سبع ردات فارقوا فيها الإيمان وأعلنوا بعبادة الأصنام. فأولها بقوا فيها ثمانية أعوام، والثانية ثمانية عشر عاماً، والثالثة عشرين عاماً، والرابعة سبعة أعوام، والخامسة ثلاثة أعوام وربما أكثر، والسادسة ثمانية عشر عاماً، والسابعة اربعين عاماً. فتأملوا أي كتاب يبقى مع تمادي الكفر ورفض الإيمان هذه المدد الطوال في بلد صغير مقدار ثلاثة أيام في مثلها فقط. ليس على دينهم واتباع كتابهم أحد على ظهر الأرض غيرهم.
ثم مات شاول المذكور مقتولاً وولي أمرهم داود عليه السلام وهم ينسبون إليه الزنا علانية بأم سليمان عليه السلام، وأنها ولدت منه من الزنا ابناً مات قبل ولادة سليمان، فعلى من يضيف هذا إلى الأنبياء عليهم السلام ألف ألف لعنة. وينسبون إليه أنه قتل جميع أولاد شاول لذنب أبيهم، حاشا صغيراً مقعداً كان فيهم فقط. وكانت مدته عليه السلام أربعين سنة.
ثم ولي سليمان عليه السلام، وقد وصفوه بما ذكرنا قبل وذكروا عنه أن نفقته فرضها على الأسباط لطل سبط شهر من السنة، وأن جنده كانوا اثني عشر ألف فارس على الخيل وأربعين ألفاً على الرمك خلافاً لما في التوراة أن لا يكثروا من الخيل. وهو الذي بنى الهيكل في بيت المقدس وجعل فيه السرادق والمذبح والمنارة الآن والقربان والتوراة والتابوت وسكينة بني هارون، فكانت ولايته أربعين سنة.
ثم مات عليه السلام فافترق أمر بني إسرائيل فصار بنو يهوذا وبنو بنيامين لبني سليمان بن داود عليه السلام في بيت المقدس، وصار ملك الأسباط العشرة الباقية إلى ملك آخر منهم يسكن بنابلس على ثمانية عشر ميلاً من بيت المقدس. وبقوا كذلك إلى ابتداء إدبار أمرهم على ما نبين إن شاء الله تعالى.
فنذكر بحول الله تعالى وقوته أسماء ملوك بني سليمان عليه السلام وأديانهم. ثم نذكر ملوك الأسباط العشرة وبالله عز وجل نتأيد ليرى كل واحد كيف كانت حال التوراة والديانة في أيام دولتهم.
قال أبو محمد رضي الله عنه:
ولي إثر موت سليمان بن داود عليه السلام ابنه رحبعام بن سليمان وله ست عشرة(2/212)
سنة، وكانت ولايته سبعة عشر عاماً فأعلن الكفر طول ولايته وعبد الأوثان جهاراً هو وجميع رعيته وجنده بلا خلاف منهم. ويقولون إن جنده كانوا مائة ألف وعشرين الف مقاتل، وفي ايامه غزا ملك مصر (1) في سبعة آلاف فارس وخمسة عشر ألف راجل (2) إلى بيت المقدس فأخذها عنوة بالسيف، وهرب رحبعام، وانتهب ملك مصر المدينة والقصر والهيكل وأخذ كل ما فيها ورجع إلى مصر سالماً غانماً.
ثم مات رحبعام على الكفر فولي مكانه ابنه أبيا وله ثمان عشرة سنة. فبقي على الكفر هو وجنده ورعيته وعلى عبادة الأوثان علانية، وكانت ولايته ست سنين. ويقولون قتل من الأسباط العشرة في حروبه معهم خمسمائة ألف إنسان.
ثم ولي بعد موته ابنه آسا بن أبيا وله عشر سنين، وكان مؤمناً فهدم بيوت الأوثان وأظهر الإيمان، وبقي في ولايته إحدى وأربعين سنة على الإيمان، وذكروا أن جنده كانوا ثلاثمائة ألف مقاتل من بني يهوذا، واثنين وخمسين ألفاً من بني بنيامين.
ومات وولي بعده ابنه يهوشافاط بن آسا وهو ابن خمس وثلاثين سنة، فكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وذكروا عنه أنه كان على الإيمان إلى أن مات.
فولى ابنه يهورام بن يهوشافاط، ولم نجد أمر سيرته ودينه (3) إلا أنه كان مؤالفاً لعبادة الأوثان من ملوك سائر الأسباط، وولي وله اثنان وثلاثون سنة، وكانت ولايته ثمانية أعوام.
ومات فولي مكانه ابنه أخزيا وله اثنان وعشرون سنة، فأظهر الكفر وعبادة الأصنام في جميع رعيته، وكانت ولايته سنة.
وقتل فوليت أمه عثليا بنت عمري ملك العشرة الأسباط، فتمادت على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان، وقتلت الأطفال، وأمرت بإعلان الزنا في البيت المقدس وجميع عملها، وعهدت أن لا تمنع امرأة ممن أراد الزنا معها، وعهدت أن لا ينكر ذلك أحد، فبقيت كذلك ست سنين إلى أن قتلت.
فولي ابن ابنها يوآش بن أخزيا وله سبع سنين، فاتصلت ولايته أربعين سنة، وأعلن الكفر وعبادة الأوثان، وقتل زكريا النبي عليه السلام بالحجارة. ثم قتل غلمانه.
__________
(1) هو شيشق.
(2) ع: بألف ومئتين مركبة وستين ألف فارس.
(3) هذا غريب إذ ورد في ع: وعمل الشر في عيني الرب (الأيام الثاني 21: 6) .(2/213)
فولي بعده ابنه أمصيا بن يوآش وله خمس وعشرون سنة. فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته، فبقي كذلك إلى أن قتل وهو على الكفر، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة. وفي ايامه انتهب ملوك الأسباط العشرة البيت المقدس وأغاروا على كل ما فيه مرتين.
ثم ولي بعده عُزيا بن أمصيا وله ست عشرة سنة، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته إلى أن مات، وكانت ولايته اثنتين وخمسين سنة، وهو قتل عاموص النبي عليه السلام الداوودي.
فولي بعده ابنه يوثام بن عزيا وله خمس وعشرون سنة، ولم نجد له سيرة (1) ، وكانت ولايته ست عشرة سنة.
فمات فولي مكانه ابنه آحاز بن يوثام وله عشرون سنة، فعلن الكفر وعبادة الأوثان، وكانت ولايته ست عشرة سنة، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات.
فولي بعده ابنه حزقيا بن آحاز وله خمس وعشرون سنة، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة، فأظهر الإيمان وهدم بيوت الأوثان وقتل خدمتهما، وبقي على الإيمان إلى أن مات هو وجميع رعيته. وفي السنة السابعة من ولايته انقطع ملك العشرة الأسباط من بني إسرائيل، وغلب عليهم سليمان الأعسر (2) ملك الموصل، وسباهم ونقلهم إلى آمد وبلاد الجزيرة، وسكن في بلاد الأسباط العشرة أهل آمد والجزيرة. فأظهروا دين السامرة الذين هناك إلى اليوم.
ثم مات حزقيا وولي بعده ابنه منشا بن حزقيا وله ثنتا عشرة سنة. ففي السنة الثالثة من ملكه أظهر الكفر وبنى بيوت الأوثان وأظهر عبادتها وجميع أهل مملكته، وقتل شعيا النبي، قيل نشره بالمنشار من رأسه إلى مخرجه، وقيل قتله بالحجارة وأحرقه بالنار. والعجب كله أنهم يصفون في بعض كتبهم بأن الله أوحى إليه مع ملك من الملائكة، وأن ملك بابل كان أسره وحمله إلى بلده وأدخله في تَوْرِ نحاس وأوقد النار تحته، فدعا الله فأرسل إليه ملكاً فأخرجه من التور ورده إلى بيت المقدس، وأنه تمادى مع ذلك كله على كفره حتى مات، وكانت ولايته خمساً وخمسين سنة. فقولوا يا معشر السامعين: بلد تُعْلن فيه عبادة الأوثان، وتبنى هياكلها، ويقتل من وجد فيه
__________
(1) جاء في ع (الأيام الثاني 28: 2) وعمل المستقيم في عيني الرب حسب كل ما عمل عزيا أبوه (وسيرة عزيا في ع تخالف ما ذكره ابن حزم بعض الشيء) إلا أنه لم يدخل هيكل الرب.
(2) حليف سنحاريب ملك آشور.(2/214)
من الأنبياء، كيف يجوز أن يبقى فيه كتاب الله سالماً أم كيف يمكن هذا
فلما مات منشا ولي مكانه ابنه آمون بن منشا وهو ابن اثنين وعشرين عاماً، فكانت ولايته سنتين على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات.
فولي مكانه ابنه يوشيا بن آمون وهو ابن ثمان سنين، ففي السنة الثالثة من ملكه أعلن الإيمان، وكسر الأصنام وأحرقها واستأصل هياكلها، وقتل خدامها ولم يزل على الإيمان إلى أن قتل، قتله ملك مصر. وفي أيامه أخذ إرميا النبي السرادق والتابوت والنار وأخفاها حيث لا يدري أحد لعلمه بفوت ذهاب أمرهم.
ثم ولي بعده ابنه يهوياحوز (1) بن يوشيا وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، فرد الكفر وأعلن عبادة الأوثان، وأخذ التوراة من الكاهن الهاروني وبشر منها أسماء الله حيث وجدها، وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وأسره ملك مصر.
فولي مكانه يهوياقيم بن يوشيا أخوه وهو ابن خمس وعشرين سنة، فأعلن الكفر وبنى بيوت الأوثان، هو وجميع أهل مملكته، وقطع الدين جملة، وأخذ التوراة من الهاروني فأحرقها بالنار وقطع أثرها، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة.
ومات فولي مكانه ابنه يهوياكين بن يهوياقيم وتلقب يحنيا وهو ابن ثمان عشرة سنة، فأقام على الكفر وأعلن عبادة الأوثان، وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وأسره بختنصر.
فولي مكانه عمه متنيا بن يوشيا، وتلقب صدقيا، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فثبت على الكفر وأعلن عبادة الأوثان هو وجميع أهل مملكته، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة. وأسره بختنصر وهدم البيت والمدينة واستأصل جميع بني إسرائيل وأخلى البلد منهم، وحملهم مسبيين إلى بلاد بابل. وهو آخر ملوك بني إسرائيل وبني سليمان جملة.
فهذه كانت صفة ملوك بني سليمان بن داود عليهما السلام.
فاعلموا الآن أن التوراة لم تكن من أول دولتهم إلى انقضائها إلا عند الهاروني الكوهن الأكبر وحده في الهيكل فقط، وأما ملوك الأسباط العشرة فلم يكن فيهم مؤمن قط ولا واحد فما فوقه، بل كانوا كلهم معلنين بعبادة الأوثان مخيفين للأنبياء مانعين القصد إلى بيت المقدس، لم يكن فيهم نبي قط إلا مقتولاً أو هارباً مخافاً. فإن قيل:
__________
(1) ع: يهوآحاز (يوآحاز) .(2/215)
أليس قد قتل الياس جميع أنبياء بابل لأجل الوثن الذي كان يعبده الملك، والنخلة التي كانت تعبدها بني إسرائيل وهم ثمانمائة وثمانون رجلاً قلنا: إنما كان بإقرار كتبهم في مشهد واحد، ثم هرب من وقته وطلبته امرأة الملك لتقتله وما أبصره أحد.
فأول ملوك الأسباط العشرة يربعام بن ناباط (1) الأفرايمي، وليهم إثر موت سليمان النبي صلى الله عليه وسلم، فعمل من حينه عجلين من ذهب وقال: هذان إلاهكم اللذان خلصاكم من مصر، وبنى لهما هيكلين، وجعل لهما سدنة من غير بني لاوي، وعبدهما هو وجميع أهل مملكته، ومنعهم من المسير إلى بيت المقدس، وهو كان شريعتهم لا شريعة لهم غير القصد إليه والقربان فيه. فملك أربعاً وعشرين سنة.
ثم مات وولي ابنه ناداب بن يربعام على الكفر المعلن سنتين، ثم قتل هو وجميع أهل بيته.
وولي بعشابن آخيا (2) من بني يساخر على عبادة الأوثان علانية أربعاً وعشرين سنة.
وولي ولده أيلا بن بعشا على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قام عليه رجل من قواده اسمه زمري، فقتله وجميع أهل بيته.
وولي زمري سبعة أيام، فقتله وأحرق عليه داره، وافترق أمرهم على رجلين، أحدهما يسمى تبني بن جينة، والآخر عمري، فبقيا كذلك اثنتي عشر عاماً.
ثم مات تبني وانفرد بملكهم عمري فبقي كذلك ثمانية أعوام على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات.
وولي بعده ابنه آخاب بن عمري على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان إحدى وعشرين سنة. وفي أيامه كان إلياس النبي عليه السلام هارباً عنه في الفلوات وعن امرأته بنت ملك صيدا. وهما يطلبانه للقتل.
ثم مات آخاب وولي ابنه أحزيا بن آخاب على الكفر وعبادة الأوثان ثلاث سنين.
ثم مات وولي مكانه أخوه يهورام بن آخاب على الكفر وعبادة الأوثان اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته. وفي ايامه كان اليسع عليه السلام.
وولي مكانه ياهو [بن يهوشافاط] بني نمشي من سبط منشا فكان أقلهم كفراً،
__________
(1) ع: نباط.
(2) في المطبوعة: أيلا.(2/216)
هدم هياكل بعل (1) الوثن وقتل سدنته، إلا أنه لم ينقض قط عبادة الأوثان بل ترك الناس عليها ولم يظهر الإيمان. فولي كذلك ثماني وعشرين سنة ومات.
وولي مكانه ابنه يهوياحاز (2) بن ياهو سبع عشرة سنة، فبنى بيوت الأوثان، وأعلن عبادتها هو ورعيته إلى أن مات. وفي كتبهم أن أمر الأسباط العشرة ضعف في أيامه، حتى لم يكن معه من الجند إلا خمسون فارساً وعشرة آلاف راجل فقط، لأن ملك دمشق غلب عليهم وقتلهم.
وولي مكانه ابنه يوآش (3) بن يهوياحاز ست عشرة سنة على أشد من كفر أبيه، وأخذ في عبادة الأوثان، وهو الذي غزا بيت المقدس وأغار عليه وعلى الهيكل وأخذ كل ما فيه، وهدم من سور المدينة أربعمائة ذراع، وهرب عنه ملك يهوذا.
ثم مات وولي مكانه ابنه زخريا بن ياربعام بن يوآش بن يهوياحاز بن ياهو بن نمشي ستة أشهر على الكفر وعبادة الأوثان، إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته.
وولي مكانه شلوم بن يابيش (4) من سبط نفتالي فملك شهراً واحداً على الكفر وعبادة الأوثان.
ثم قتل وولي مكانه بعده مناحيم بن جادي (5) من سبط يساخر عشرين سنة على عبادة الأوثان والكفر ومات.
وولي مكانه ابنه فقحيا (6) بن مناحيم على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته.
وولي مكانه فاقح بن رمليا (7) من سبط داني، فملك ثماني وعشرين سنة على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته. وفي أيامه أجلى تغلث فلاسر (8) ملك
__________
(1) في المطبوعة: ماعل.
(2) يهوآحاز.
(3) يهوآش.
(4) في المطبوعة: نامس.
(5) في المطبوعة: مياحيم بن قارا.
(6) في المطبوعة: محيا.
(7) في المطبوعة: ناجح بن رمليا (ع: فقح) .
(8) في المطبوعة: تباشر.(2/217)
الجزير، بني رؤوبين وبني جاد ونصف سبط منشا من بلادهم بالغور، وحملهم إلى بلاده وسكن بلادهم قوماً من بلاده.
ثم ولي مكانه هوشيع بن أيلا من سبط جاد على الكفر وعبادة الأوثان سبع سنين، إلى أن أسره كما ذكرنا سليمان الأعسر ملك الموصل وحمله والتسعة الأسباط ونصف سبط منشا إلى بلاد أسرى، وسكن بلادهم قوماً من أهل بلاده، وهم السامرية إلى اليوم، وهوشيع هذا آخر ملوك الأسباط العشرة.
وانقضى أمرهم، فبقايا المنقولين من آمد والجزيرة إلى بلاد بني إسرائيل هم الذين ينكرون التوراة جملة، وعندهم توراة أخرى غير هذه التي عند اليهود، ولا يؤمنون بنبي بعد موسى عليه السلام، ولا يقولون بفضل بيت المقدس ولا يعرفونه، ويقولون إن المدينة المقدسة هي نابلس، فأمر توراة أولئك أضعف من توراة هؤلاء، لأنهم لا يرجعون فيها إلى نبي أصلاً، ولا كانوا هنالك أيام دولة بني إسرائيل، وإنما عملها لهم رؤساهم أيضاً.
فقد صح يقيناً أن جميع أسباط بني إسرائيل حاشا سبط يهوذا وبنيامين ومن كان بينهم من بني هارون بعد سليمان عليه السلام، مدة مائتي عام وواحد وسبعين عاماً، لم يظهر فيهم قط إيمان ولا يوماً واحداً فما فوقه، وإنما كانوا عباد أوثان ولم يكن قط فيهم نبي إلا مخاف، ولا كان للتوراة عندهم لا ذكر ولا رسم ولا أثر، ولا كان عندهم شيء من شرائعها أصلاً، مضى على ذلك جميع عامتهم وجميع ملوكهم وهم عشرون ملكاً قد سميناهم إلى أن أجلوا ودخلوا في الأمم وتدينوا بدين الصابئين الذين كانوا بينهم متملكين.(2/218)
الملحق (3)
شذرات من الروايات التاريخية
- 1 -
حدثني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الفارسي الفقيه وأملاه عليَّ بالأندلس قال: حدثنا أبو البركات محمد بن عبد الواحد الزُبيري (1) قال، حدثني أبو علي حسن بن الأشكري (2) المصري قال: كنت من جُلاس تميم بن أبي تميم، وممن يخف عليه جداً، قال: فأرسل إلى بغداذ فابتيعت له جارية فائقة الغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة وأمرها بالغناء، فغنت (3) [من الكامل] :
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برقٌ تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنعٌ أركانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت (4) به أجفانه قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم وكل من حضر، ثم غنت (5) : [من الطويل]
ستسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره
ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مُذ شُدت عليه مآزره قال: فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً، قال: ثم غنت (6) : بمن البسيط]
أستودع الله في بغداذ لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
__________
(1) الجذوة: 66 - 68 (وبغية الملتمس رقم: 208) والمطرب: 62 - 64 والشريشي 2: 327 - 328 ومصارع العشاق 1: 170 - 171.
(2) ولد بمكة سنة 357 وتنقل في البلاد طلباً للعلم ودخل الأندلس وحدث بها (الجذوة: 66) .
(3) من الأصوات التي غناها بنان للمتوكل، وورد البيت الأول منها في الأغاني 16: 291 والشعر لمحمد بن صالح العلوي، والقصيدة في المصدر المذكور: 283.
(4) الأغاني: سحت.
(5) الشعر للحسين بن الضحاك، انظر الأغاني 7: 154، 155.
(6) من عينية ابن زريق المشهورة وذكره أبو حيان (الامتاع 2: 166) من الأصوات التي كانت تغني في عصره.(2/219)
قال: فاشتد طرب تميم وأفرط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فلك مناك، فقالت: أتمنى عافية الأمير وسعادته، فقال: والله لا بد لك أن تتمني، فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى فقال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداذ، قال فاستنقع لو تميم وتغير وجهه، وتكدر المجلس، وقام وقمنا. قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه وقال لي: أرجع فالأمير يدعوك، فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت وقمت بين يديه فقال: ويحك! أرأيت ما امتحنا به فقلت: نعم أيها الأمير. فقال لا بد من الوفاء لها، وما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداذ، فإذا غنت هنالك فاصرفها. فقلت: سمعاً وطاعة. قال: ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية له سوداء تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ومحمل فأدخلت فيه، وجعلها معي. وصرت إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا " القادسية " أتتني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي: أين نحن فقلت لها: نحن نزول القادسية، فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد ارتفع بالغناء (1) : [من الكامل المجزوء]
لما وردنا (2) القادسية حي ... ث مجتمع الرفاق
وشممت من أرض الحجا ... ز شميم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن أُح ... ب بجمع شمل واتفاق
وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! قال: فما سمع لها كلمة. قال: ثم نزلنا " الياسرية "، وبينها وبين بغداذ نحو خمسة أميال، في بساتين متصلة ينزل الناس بها، يبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداذ. فلما كان قرب الصباح إذ أنا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: ما لك فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت ويلك! وأين هي قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد، ودخلت بغداذ وقضيت حوائجي بها، وانصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها.
- 2 -
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: كان أبو بكر محمد بن معاوية المعروف بابن
__________
(1) وردت هذه الأبيات في البصائر 648/2 منسوبة ليعقوب بن الربيع.
(2) البصائر: الثعلبية.(2/220)
الأحمر (1) مُكثراً ثقة جليلاً، ولم أزل أسمع المشايخ يقولون: إن سبب خروجه إلى المشرق كان أنه خرجت بأنفه أو ببعض جسده قرحة، فلم يجد لها بالأندلس مداوياً، وعظم عليه أمرها، وقيل له: ربما ترقت وتفشغت فأدت إلى الهلاك، فأسرع الخروج إلى المشرق. فقيل له لا دواء لها إلا بالهند، وأنه وصل إلى الهند فأراها بعض أهل الطب هنالك، فقال له: أُداويها على إن تم برؤك وصح شفاؤك، قاسمتك جميع مالك، فقال: رضيت، فداواه. فلما أفاق دعاه إلى بيته وأخرج إليه جميع ماله وقال له: دونك المقاسمة المشروطة، فقال له الطبيب الهندي: أليست نفسك طيبةً بذلك قال: بلى والله! قال: فوالله لا أرزؤك شيئاً من مالك، ولكن آخذ هذا [الشيء] لشيءٍ استحسنه من آلات بيته. وقال له: إنما جربتك بقولي وأردت أن أعرف قيمة نفسك عندك، ولو أبيت ما داويتك إلا بجميع مالك، ولو لم تداوها لهلكت، فإنها قد كانت قاربت الخطر. فحمد الله عز وجل وانصرف، واشتغل في رجوعه بطلب العلم وروايات الكتب، فحصل له علم جمٌّ وبورك فيه.
- 3 -
حدثني أبو محمد علي بن أحمد (2) قال: حدثني أبو الوليد يونس بن عبد الله القاضي قال: لما أراد الحكم المستنصر غزو الروم سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، تقدم إلى والدي بالكون في صحبته، فاعتذر بضعف في جسمه، فقال المستنصر لأحمد بن نصر: قل له إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة. فخرج أحمد بن نصر إليه بذلك فقال: أنا أفعل ذلك لأمير المؤمنين إن شاء الله. قال، فقال المستنصر: إن شاء أن يكون تأليفه له في منزله فذلك إليه، وإن شاء في دار الملك قال المطلة على النهر فذلك له. قال: فسأل أبي أن يكون ذلك في دار الملك وقال: أنا رجل مورود في منزلي، وانفرادي في دار الملك لهذه الخدمة أقطع لكل شغل، فأُجيب إلى ذلك. وكمل الكتاب في مجلد صالح، وخرج به أحمد بن نصر إلى الحكم المستنصر فلقيه بالمجلد
__________
(1) جذوة المقتبس: 82 (وبغية الملتمس رقم: 271) وابن الفرضي 2: 70 ينتهي في نسبه إلى هشام بن عبد الملك، رحل إلى المشرق سنة 295 ودخل الهند تاجراً وكان يقول: خرجت من أرض الهند وأنا أقرر أن معي قيمة ثلاثين ألف دينار فلما قاربت أرض الإسلام غرقت فما نجوت إلا سيحاً لا شيء معي؛ عاد إلى وطنه سنة 325 وكانت وفاته سنة 358.
(2) الجذوة: 235 (والبغية رقم: 883) .(2/221)
بطليطلة فسر الحكم به. قال أبو الوليد ابن الصفار: وفي تلك السنة مات أبي - يعني سنة اثنتين وخمسين. وأنشدني له أبو محمد علي بن أحمد: [من الطويل]
أتوا حسبة أن قيل جدَّ نحوله ... فلم يبق من لحم عليه ولا عظم
فعادوا قميصاً في فراش فلم يروا ... ولا لمسوا شيئاً يدلُّ على جسم
طواه الهوى في ثوب سقم من الضنى ... فليس بمحسوس بعينٍ ولا وهم - 4 -
وأخبرني أبو محمد علي بن أحمد قال (1) : أخبرني القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله (2) عن أبيه، أنه شاهد قاضي الجماعة محمد بن أبي عيسى (3) في دار رجلٍ من بني جدير مع أخيه أبي عيسى في ناحية مقابر قريش وقد خرجوا لحضور جنازة، وجارية للحديري تغنيهم هذه الأبيات: [من الكامل]
طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة خدك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدُّجى المصباح قال: وكتبها قاضي الجماعة في يده ثم خرجوا. قال: فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة، والأبيات مكتوبة على باطن كفه.
- 5 -
حدثني ابو محمد علي بن أحمد قال (4) : حدثني خلف بن عثمان المعروف بابن اللجام (5) قال: حدثني يحيى بن هذيل (6) أن أول تعرضه للشعر إنما كان لأنه حضر جنازة أحمد بن محمد بن عبد ربه، قال: وأنا يومئذ في أوان الشبيبة. قال: فرأيت فيها من الجمع العظيم وتكاثر الناس شيئاً راعني، فقلت: لمن هذه الجنازة فقيل لي
__________
(1) الجذوة: 70 (بغية الملتمس رقم: 218) ونفح الطيب: 3: 564.
(2) هو ابن الصفار أحد شيوخ ابن حزم، وقد مر التعريف به في الجزء الأول: 214.
(3) محمد بن أبي عيسى: هو محمد بن عبد الله من بني يحيى بن يحيى الليثي، قرطبي رحل إلى المشرق 312 وكان حافظاً للرأي معنياً بالآثار شاعراً، تولى قضاء الجماعة بقرطبة سنة 326، مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة ودفن بها سنة 339 (ابن الفرضي 2: 61 وانظر الجذوة والبغية) .
(4) الجذوة: 358 (بغية الملتمس رقم: 1495) .
(5) من أصحاب الأصيلي، انظر الجذوة: 195 والصلة: 162. (- 491) .
(6) راجع التعليقات على كتاب التشبيهات لابن الكتاني: 337 - 338 ففيها ترجمة موجزة له وذكر للمصادر.(2/222)
لشاعر البلد، فوقع في نفسي الرَّغبة في الشعر، واشتغل فكري بذلك، وانصرفت إلى منزلي. فلما أخذت مضجعي من الليل أُريت كأني على باب دار فيقال لي: هذه دار الحسن بن هانئ، فكنت أقرع الباب فيخرج إلي الحسن فيفتح الباب وينظرني بعين حولاء ثم ينصرف. قال: فاستيقظت من ساعتي وقمت سحراً إلى المفسر فقصصتها عليه فقال: سيكون محلك من قول الشعر بمقدار ما كان يتحول إليك من عين الحسن. قال لي أبو محمد: مات أبو بكر ابن هذيل سنة خمس أو ست وثمانين وثلاثمائة، وهو ابن ست وثمانين، وكان قد بلغ من الأدب والشعر مبلغاً مشهوراً، ومن مستحسن شعره (1) : [من الكامل]
لم يرحلوا إلا وفوق رحالهم ... (2) غيمٌ حكى غبش الظلام المقبل
وعلت مطارفهم (3) مجاجات الندى ... فكأنما مطرت بدر مرسل
لما تحركت (4) الحمول تناثرت ... من فوقهم في الأرض تحت الأرجل (5) - 6 -
أخبرني أبو محمد علي بن أحمد قال (6) ، أخبرني أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين (7) قال، وجدت بخط أبي قال: أمرنا الحكم المستنصر بالله، رحمه الله، بمقابلة كتاب " العين " للخليل بن أحمد مع أبي علي إسماعيل بن القاسم البغداذي، وابني سيد (8) في دار الملك التي بقصر قرطبة: وأحضر من الكتاب نسخاً كثيرة في جملتها نسخة القاضي منذر بن سعيد التي رواها بمصر عن ابن ولاد. فمر لنا صور من الكتاب بالمقابلة. فدخل علينا الحكم في بعض الأيام فسألنا عن النسخ، فقلنا نحن: أما نسخة القاضي التي كتبها بخطه فهي أشد النسخ تصحيفاً وخطأ وتبديلا، فسألنا عما نذكره من ذلك فأنشدناه أبياتاً مكسورة وأسمعناه ألفاظاً مصحفة ولغات مبدلة، فعجب
__________
(1) كتاب التشبيهات (رقم: 300) .
(2) التشبيهات: المعتلي.
(3) التشبيهات: وعلى هوادجهم.
(4) التشبيهات: الركاب.
(5) التشبيهات: بين.
(6) الجذوة: 47 (والبغية رقم: 94) .
(7) هو صاحب كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، وقد أدرك الفتنة البربرية (الجذوة: 290 والبغية رقم: 1194) .
(8) لعل الصواب " وابن سيد " وهو إمام في اللغة العربية وقال الحميدي لعله أحمد بن أبان بن سيد الذي روى عن القالي (الجذوة: 110، 381) .(2/223)
من ذلك وسأل ابا علي فقال له نحو ذلك، واتصل المجلس بالقاضي فكتب إلى الحكم المستنصر رقعة وفيها: [من الوافر]
جزى الله الخليل الخير عنا ... بأفضل ما جزى فهو المجازي
وما خطا الخليل سوى المغيلي ... وعضروطين في ربض الطراز
فصار القوم زرية كل زار ... وسخرياً وهزأة كل هاز فلما دخلنا على المستنصر قال لنا: أما القاضي فقد هجاكم، وناولنا الرقعة بخط يد القاضي، وكانت تحت شيء بين يديه، فقرأناها وقلنا: مولانا نجل مجلسك الكريم عن انتقاص أحدٍ فيه، لا سيما مثل القاضي في سنه ومنصبه، وإن أحب مولانا أن يقف على حقيقة ما أدركناه، فليحضره، وليحضر الأستاذ الأستاذ أبا علي، ثم نتكلم على كل كلمة أدركناها عليه، فقال: قد ابتدأكما والبادي أظلم، وليس على من انتصر لوم. قال أبي: فمددت يدي إلى الدواة وكتبت بين يديه: [من الوافر]
هلم فقد دعوت إلى البراز ... وقد ناجزت قرناً ذا نجاز
ولا تمش الضراء فقد أثرت ال ... أسود الغلب تخطر باحتفاز
وأصحر للقاء تكن صريعاً ... لماضي الحد مصقول جراز
رويت عن الخليل الوهم جهراً ... لجهل بالكلام وبالمجاز
دعوت له بخير ثم أنحت ... يداك على مفاخره العزاز
تهدمها وتجعل ما علاها ... أسافلها ستجزيك الجوازي
جزى الله الإمام العدل عنا ... جزاء الخير فهو له مجازي
به وريت زناد العلم قدماً ... وشرف طالبيه باعتزاز
وجلى عن كتاب العين دجناً ... وإظلاماً بنور ذي امتياز
بأستاذ اللغات أبي علي ... وأحداثٍ بناحية " الطراز "
بهم صح الكتاب وصيروه ... من التصحيف في ظل احتراز وأسقطنا نحن منها أبياتاً تجاوز الحد فيها.
قال: ثم أنشدتها المستنصر بالله فضحك وقال: قد انتصرت وزدت، وأمر بها فختمت، ثم وجه بها إلى القاضي، فلم يسمع له بعد ذلك كلمة.(2/224)
- 7 -
أخبرني أبو محمد علي بن أحمد (1) قال: أخبرني غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله الفهري اللغوي (2) قال: دعاني يوماً رجل من إخواني إلى حضور عرس له في أيام الشبيبة والطلب، فحضرت مع جماعة من أهل الأدب، وأحضر جماعة من الملهين وفيهم ابن مقيم الزامر، وكان طيب المجلس صاحب نوادر، فلما اطمأن المجلس واستمر السرور بأهله، انحرف ابن مقيم إلينا وأقبل علينا، فقال: يا معشر أهل الإعراب واللغة والآداب، ويا أصحاب أبي علي البغداذي، أريد أن أسألكم عن مسألة حتى أرى مقدار علمكم، وسعة جمعكم، فقلنا له: هات بالله قل وأعد يا طيب الخبر، فقال: بماذا تُسمى الدُّويبة السوداء التي تكون في الباقلاء عند أهل اللغة العلماء فرجعنا إلى أنفسنا نفكر، فو الله ما عرفنا ما نقول فيها ولا مرت بأُذننا قط، وبهتنا، ثم قلنا له: ما نعرف، فقال: سبحان الله ما هذا وأنتم الضابطون للناس لغتهم بزعمكم! فقلنا له: أفدنا ما عندك. فقال: نعم، هذه تسمى البيقران. قال الفهري: فتصورت والله في ذهني، وقلت: فيعلان من بقر يبقر يوشك أن يكون هذا وعددتها فائدة، فبينا نحن بعد مدة عند أبي علي إذ سألنا عن هذه المسألة بعينها. قال الفهري: فأسرعت الإجابة ثقةً بما جرى فقلت: تسمى البيقران، فقال: من أين تقول هذا فأخبرته بالمشهد الذي جرى فيها، والحال في استفادتها، فقال: إنا لله، رجعت تأخذ اللغة من أهل الزَّمْر، لقد ساءني مكانك، وجعل يؤنِّبُني، ثم قال: هي الدّفْنِس، والدّنِفس. قال الفهري يطيب الحكاية: فتركت روايتي عن ابن مقيم لروايتي عن أبي علي.
- 8 -
وأخبرني [أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه] (3) أن المنصور أبا عامر لما فتح شَنْت ياقب (4) أو غيرها من القلاع الحصينة التي يقال إن أحداً لم يصل إليها قبله، استدعي أبو عمر أحمد بن محمد بن دَرّاج (5) وأبو مروان عبد الملك بن إدريس
__________
(1) الجذوة: 374 (والبغية رقم: 1533) .
(2) هو غلام أبي علي القالي، انظر المصدرين السابقين.
(3) الجذوة: 104 (ترجمة ابن دراج) .
(4) شنت ياقب SANTIAGO DE COMPOSTELA في أقصى الشمال الغربي من إيبيريا، وفيها قبر القديس يعقوب وإليه يحجون.
(5) شاعر الأندلس في عصره، انظر التشبيهات: 296.(2/225)
المعروف بابن الجزيري (1) ، وأُمرا بإنشاء كُتب الفتح إلى الحضرة وإلى سائر الأعمال، فأما ابن الجزيري فقال: سمعاً وطاعة، وأما ابن دراج فقال: لا يتم لي ذلك في أقل من يومين أو ثلاثة، وكان معروفاً بالتنقيح والتجويد والتؤدة. فخرج الأمر إلى ابن الجزيري بالشروع في ذلك، فجلس في ظل السُّرادق ولم يبرح حتى أكمل الكتب في ذلك. وقيل لابن دراج افعل ذلك على اختيارك فقد فسح لك فيه. ثم جاء بعد ذلك بنسخة الفتح، وقد وصف الغزاة من أولها إلى آخرها، ومشاهد القتال، وكيفية الحال، بأحسن وصف وأبدع رصف، فاستحسنت ووقع الإعجاب بها، ولم تزل منقولة متداولة إلى الآن، وما بقي من نسخ ابن الجزيري في ذلك الفتح على كثرتها عينٌ ولا أثر.
- 9 -
وحدثني أبو محمد عل بن أحمد بن سعيد (2) قال: أخبرني هشام بن محمد ابن هشام بن محمد بن عثمان المعروف بابن البشتني، من آل الوزير أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي، عن الوزير أبي رحمه الله أنه كان بين يدي المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه للعامة، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان ابن أبي عامر حنقاً عليه لجرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه وقال: ذكرتني والله به، وأخذ القلم يوقع، وأراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يطلق، ورمى الكتاب إلى الوزير. قال: فأخذ أبوك القلم وتناول رقعة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشُّرط، فقال له ابن أبي عامر ما هذا الذي تكتب قال: بإطلاق فلان، قال: فحرد قوال: من أمر بهذا فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمت، والله ليصلبن، ثم خط ما كتب، واراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يُطلق. قال: فأخذ والدك الرقعة، فلما رأى التوقيع تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه، ونظر إليه المنصور متمادياً على الكتاب، فقال: ما تكتب قال: بإطلاق الرجل، فغضب غضباً أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا فناوله الرقعة، فرأى خطه، فخط على ما كتب، وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يطلق، فأخذ والدك الكتاب فنظر ما وقع به، ثم تمادى فيما كان بدأ به، فقال له: ماذا تكتب فقال: بإطلاق الرجل، وهذا الخط ثالثاً بذلك، فلما رآه عجب وقال: نعم يُطلق على رغمي،
__________
(1) عبد الملك بن إدريس الجزيري (- 394) ، مصادر ترجمته مذكورة في كتاب التشبيهات: 317.
(2) الجذوة: 118 (والبغية رقم: 411) واعتاب الكتاب 192.(2/226)
فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على منعه، أو كما قال.
- 10 -
أحمد بن أبي بكر بن الحسن الزُّبيدي أبو القاسم (1) : من أهل الأدب والفضل، ولي قضاء إشبيلية بعد أبيه.
قال لي أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم: إلا أنه كان شديد العجب؛ فأخبرني ابن عمي أبو عمر أحمد بن عبد الرحمن (2) قال: كتب أبو القاسم ابن الزبيدي إلى الوزير أبيك كتاباً يرغب فيه إليه ان بُحسن العناية به في بعض الأمور، وكتب في آخر الكتاب (3) : [من الطويل]
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد قال ابن عمي: فأخبرني عمي، يعني الوزير أبا عمر، وقال: فحولت الكتاب ووقعت على ظهره ولم أزد:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... صديقاً له ما من عداوته بُدُّ - 11 -
أخبرني أبو محمد علي بن أحمد (4) قال: أخبرني أبو عمرو البراء بن عبد الملك الباجي (5) قال: لما ورد أبو الفتوح الجرجاني (6) الأندلس كان أول من لقي من ملوكها الأمير الموفق أبو الجيش مجاهد العامري فأكرمه، وبالغ في بره، فسأله يوماً عن رفيق له، من هذا معك فقال:
__________
(1) الجذوة: 98 (والبغية رقم: 385) .
(2) تولى الحكم بالجانب الغربي من قرطبة أيام المهدي وهو أخو أبي المغيرة (الجذوة: 122 والبغية رقم: 432) .
(3) البيت للمتنبي: 184.
(4) الجذوة: 173 - 174 (والبغية رقم: 602) والذخيرة 4: 125 ومعجم الأدباء 7: 147.
(5) كان وزيراً من أهل الأدب والفضل (الجذوة: 171 والبغية رقم 596) .
(6) ثابت بن بن محمد الجرجاني العدوي أبو الفتوح، قتله باديس بن حبوس سنة 431، انظر ترجمته في الذخيرة 1/4: 124 والجذوة والبغية والصلة: 125 والإحاطة 1: 462 وبغية الوعاة: 210 ومعجم الأدباء 7: 145.(2/227)
اسبيجاب (1) ، وقال للآخر من أين أنت قال: من الأندلس؛ فعجب ابن الأعرابي وأنشد البيت المتقدم؛ ثم أنشدني تمامها: [من الطويل]
نزلنا على قيسية يمنية ... لها نسبٌ في الصالحين هجان
فقالت وارخت جانب الستر دوننا ... لأية أرض أم من الرجلان
فقلت لها: أما رفيقي فقومه ... تميم، وأما أسرتي فيمان
رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان وأخبرني عنه أبو محمد علي بن أحمد قال: أخبرني علي بن حمزة مضيف المتنبي، قال: وعنده نزل المتنبي ببغداذ، أن القصيدة التي أولها:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... قالها في محمد بن زريق الناظر في زوامل ابن الزيات صاحب طرسوس وأنه وصله عليها بعشرة دراهم فقيل له: إن شعره حسن فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح ولكن أزيده لقولكم عشرة دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهماً.
- 12 -
أخبرنا ابو محمد علي بن أحمد قال (2) : حدثني أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني، قال: كنت مع أبي الجيش مجاهد أيام غزاته سردانية، فدخل بالمراكب في مرسى نهاه عنه أبو خروب، رئيس البحريين، فلم يقبل منه. فلما حصل في ذلك المرسى هبت ريح فجعلت تقذف مراكب المسلمين مركباً مركباً إلى الريف، والروم وقوف لا شغل لهم إلا الأسر والقتل للمسلمين، فكلما سقط مركب بين أيديهم جعل مجاهد يبكي بأعلى صوته لا يقدر هو ولا غيره على أكثر، لارتجاج البحر وزيادة الريح. قال: فيقبل علينا أبو خروب وينشد (3) : [من الطويل]
بكا دوبلٌ لا أرقأَ الله عينه ... ألا إنما يبكي من الذُّلِّ دَوْبلُ ثم يقول: قد كنت حذرته من الدخول هاهنا فلم يقبل، قال: فَبِجُرَيعة الذّقن ما تخلصنا في يسير من الركب. هذا آخر خبر ثابت بن محمد.
__________
(1) أثبتها ياقوت " أسفيجاب " وقال: بلدة كبيرة من أعيان بلاد ما وراء النهر (معجم البلدان 1: 249) .
(2) الجذوة: 331 - 332 (والبغية رقم: 1379) .
(3) البيت لجرير (كما في اللسان: دبل) والدوبل: ولد الحمار وقد أطلقه جرير على الأخطل.(2/228)
- 13 -
سمعت الفقيه الحافظ أبا محمد علي بن أحمد يقول (1) : " مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا فإن يحيى بن يحيى (2) كان مكيناً عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به. على أن يحيى بن يحيى لم يلِ قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر في أفريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما أنشر ".
- 14 -
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد (3) : توفي أبو عامر ابن شهيد ضحى يوم الجمعة آخر يوم من جُمادى الأولى، سنة ست وعشرين واربعمائة بقرطبة، ودفن يوم السبت ثاني يوم وفاته في مقبرة أم سلمة، وصلى عليه جهور بن محمد بن جهور أبو الحزم، وكان حين وفاته حامل لواء الشعر والبلاغة، لم يخلف لنفسه نظيراً في هذين العلمين جملة. مولده سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، ولم يعقب وانقرض عقب الوزير [أبيه] بموته. وكان جواداً لا يليق شيئاً ولا يأسى على فائت، عزيز النفس مائلاً إلى الهزل. وكان له من علم الطب نصيب وافر، وكانت علة أبي عامر ضيق النفس والنفخ، ومات في ذهنه وهو يدعو الله عز وجل، ويشهد شهادة التوحيد والإسلام. وكان أوصى أن يصلي عليه أبو عمر الحصار الرجل الصالح، فتغيب إذ دعي، وأوصى أن يسن عليه التراب دون لبن ولا خشب فأغفل ذلك.
__________
(1) الجذوة 360 - 361 (والبغية رقم: 1497) .
(2) يحيى بن يحيى الليثي تلميذ مالك بن أنس (توفي سنة 234) انظر الجذوة 358 - 361 وابن الفرضي 2: 176.
(3) الجذوة: 127 (والبغية رقم: 437) .(2/229)
- 15 -
أخبرني ابو محمد علي بن أحمد قال (1) : بات عندي أبو بكر إبراهيم بن يحيى [الطبني] (2) في ليلة مطيرة، فاستدعيت ابن عمه أبا مروان عبد الملك بن زيادة الله (3) بهذين البيتين: [من السريع]
صنواك في ربعي فثلثهما ... غيث السواري وأبو بكر
صلني بلقياك التي أبتغي ... أصلك بالحمد وبالشكر وأنشدني له من قصيدة طويلة في مدح أبي العاص حكم بن سعيد بن حكم القيسي، وزير دولة المعتد (4) ، قال أبو محمد: وسمعته ينشده إياها ومنها: [من الكامل]
إن الرسوم إذا اعتبرت نواطق ... فسل الربوع تجبك عند سؤالها
يأبى الفناء يرى فناءً عامراً ... شطر ثاني
قد أجملت جمل ولكن ضيعت ... شطر ثاني - 16 -
أخبر الإمام أبو محمد ابن حزم (5) أن [محمد بن المظفر عبد الملك العامري] (6) لما أيقن بالموت دق جوهراً عظيماً كانت قيمته ما لا نهاية له، لئلا يتمتع به أحد بعده، فانقضى أمره على هذه السبيل.
__________
(1) الجذوة: 149 - 150 (والبغية رقم: 531) .
(2) انظر الجزء الأول: 260 (الحاشية رقم: 1) .
(3) أبو مروان الطبني: كان إماماً في اللغة شاعراً، رحل غير مرة إلى المشرق ومات بقرطبة مقتولاً بعد سنة 450 (الجذوة: 265 والذخيرة 1/1: 535 والصلة: 343 والمغرب 1: 92 والنفح 2: 496 وبغية الوعاة: 312 والمسالك 11: 398) .
(4) المعتد بالله: لقب هشام بن محمد (البيان المغرب 3: 145) .
(5) أعمال الأعلام: 194.
(6) لا يستبعد أن يكون هذا هو الذي أطال الحديث عن جماله وافتتان الناس به في طوق الحمامة (انظر الجزء الاول: 112 والتعليق رقم: 3) حيث ذكرت اعتماداً على الجمهرة أنه لا عقب لعبد الملك المظفر، ويبدو أن هذا خطأ، فقد ترجم لسان الدين لمحمد بن عبد الملك في أعمال الأعلام (نفسه) ؛ والمسألة لا تزال بحاجة إلى تحقيق.(2/230)
إضافات واستدراكات(2/231)
فراغ(2/232)
إضافات واستدراكات
- 1 -
اعتمد القلقشندي في الجزء الأول من مآثر الإناقة على ابن حرم، في نقط العروس، وهذه هي إشاراته إليه:
22: - وحكى ابن حزم في بعض مصنفاته أن خلفاء بني أمية تلقب منهم جماعة بألقاب الخلافة، وأن أول من تلقب بألقاب الخلافة معاوية بن أبي سفيان وأن لقبه كان الناصر لحق الله ثم تبعه باقي خلفاء بني أمية على التلقيب ... قال ابن حزم: وليس بصحيح (نقط العروس، ف: 1، ص: 48) .
88: - قال ابن حزم في " نقط العروس ": وكانت سنه (أي أبو بكر) حين ولي الخلافة دون الستين سنة (ف: 48) (1) .
94: - قال في " نقط العروس ": واختلف في سنه (يعني عثمان بن عفان) حين وليها، فقيل إنه ولي وله ما بين ثمان وخمسين إلى إحدى وخمسين [كذا] سنة، وقيل أقل من ذلك، قال: والحق الذي لا شك فيه أنه لم يكن بلغ ستين سنة (ف: 48) (2) .
100: - قال في " نقط العروس " وكان عمره (أي علي بن أبي طالب) يومئذ دون الستين (ف:49) .
106: - قال في " نقط العروس " وكان عمره (أي الحسن بن علي) حينئذ ما بين ثلاثين سنة إلى أربعين سنة (ف: 51) .
110: - قال في " نقط العوس " وكانت سنه (أي معاوية بن أبي سفيان) دون الستين سنة (ف: 49) .
116: - ومقتضى كلام ابن حزم في " نقط العروس " أنه (يعني يزيد) ولي وعمره
__________
(1) هذا غير ما ورد، إذ ذكر ابن حزم أنه ولي الخلافة وله إحدى وستون سنة.
(2) نص ابن حزم: واختلف في عثمان ما بين إحدى وخمسين إلى ثماني وسبعين (ب: وستين) سنة.(2/233)
ما بين العشرين والثلاثين سنة (ف: 51) (1) [ولقبه: المستنصر على أهل الزيغ] .
122: - ومقتضى كلام ابن حزم أنه (اي معاوية بن يزيد) ولي الخلافة وسنه ما بين العشرين والثلاثين سنة (ف: 47، 53) (2) [ولقبه: الراجع إلى الله] .
123: - قال ابن حزم: وسنه (أي ابن الزبير) حين بويع ما يزيد على ستين سنة (ف: 48) .
125: - قال ابن حزم في " نقط العروس ": وكان سنه (أي مروان بن الحكم) يوم ولي الخلافة إحدى وستين سنة. (ف: 48) [ولقبه: المؤتمن بالله] (3) .
128: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي عبد الملك) حين ولي الخلافة ما بين الثلاثين سنة والأربعين سنة (ف: 51) [ولقبه: الموثق لأمر الله] .
133: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي الوليد بن عبد الملك) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين سنة (ف: 51) [ولقبه: المنتقم لله] .
139: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي سليمان بن عبد الملك) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين (ف:51) بولقبه: المهدي بالله الداعي إلى الله] .
142: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي عمر بن عبد العزيز) حين ولي الخلافة ما بين الثلاثين سنة والأربعين (ف: 51) [ولقبه: المعصوم بالله] .
147: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي يزيد بن عبد الملك) يومئذ ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) [ولقبه: القادر بصنع الله] .
151: - قال ابن حزم: وكان عمره (أي هشام بن عبد الملك) حين ولي الخلافة ما بين الخمسين والستين (ف: 49) [ولقبه: المنصور بالله] (4) .
158: - الوليد بن يزيد [لقبه: المكتفي بالله] .
159: - ومقتضى كلام ابن حزم أن عمره (أي يزيد بن الوليد) حين ولي الخلافة فيما بين العشرين والثلاثين (ف: 51) [ولقبه: الشاكر لأنعم الله] .
__________
(1) عده فيمن ولي ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
(2) هذا مخالف لما قاله ابن حزم إذ صرح نصاً بأنه ولي الخلافة ولم يبلغ التاسعة عشرة وأنه توفي ولم يبلغ العشرين.
(3) في نقط العروس: المؤتمر بالله.
(4) في نقط العروس: المنصور.(2/234)
161 - قال ابن حزم: وسنه (أي إبراهيم بن الوليد) يومئذ ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) [ولقبه: المقتدر بالله] (1) .
163: - ومقتضى كلام ابن حزم أنه (أي مروان بن محمد) كان سنه بين الثلاثين والعشرين [كذا] (ف: 48) (2) [ولقبه: القائم بحق الله] .
171: - قال ابن حزم: كان سنه (أي السفاح) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) .
176: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي المنصور) حين ولي ما بين الأربعين والخمسين (ف: 50) .
184: - قال ابن حزم: وكان سنه (أي المهدي) حين ولي ما بين الثلاثين والأربعين (ف: 51) .
190: - وقضية كلام ابن حزم أن سنه (أي الهادي) حين ولي كانت ما بين العشرين والثلاثين (ف: 51) .
193: - ومقتضى كلام ابن حزم أنه (أي الرشيد) ولي وعمره ما بين العشرين إلى الثلاثين (ف: 51) .
346: - قال ابن حزم: وكانت وفاته (أي أبو الفتوح السليماني صاحب مكة) عن غير ولد، وانقرض بموته دولة السليمانيين بمكة.
- 2 -
ص 79 (ف: 47 من نقط العروس) ينقل ابن حيان عن نفطويه وهو إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المشهور المتوفى سنة 323 (ترجمته في إنباه الرواة 1: 176 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) وقد ذكر القفطي أن له مصنفاً في التاريخ (1: 180) وهذا يفسر قول ابن حيان " وذكر نفطويه في كتابه " أما ابن كامل المذكور في هذا الخبر فهو أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة أحد أصحاب محمد بن جرير الطبري وقد ذكر صاحب الفهرست من مصنفاته كتاباً في التاريخ (الفهرست: 35 وإنباه الرواة 1: 97 ومصادر أخرى في الحاشية) وقد توفي ابن كامل سنة 350.
__________
(1) في نقط العروس: المتعزز بالله.
(2) نص ابن حزم على أنه تولى الخلافة وله إحدى وستون سنة.(2/235)
ص: 85: كانت وقعة الخندق سنة 327 عند مدينة شنت مانقش (شنت مانكش) ، وقد حفر عبد الرحمن الناصر تحت أسوار تلك المدينة خندقاً ليحصر به قوات الأعداء إذا فكروا في الهرب، وكان خصمه هو رذمير الثالث ملك ليون (ملك الجلالقة) وقد مني الناصر بالهزيمة ونجا بفل الجيش إلى قرطبة، وهي المعركة الوحيدة التي لم ينل فيها نصراً، وكانت آخر معركة قادها بنفسه (انظر الروض المعطار: 324 - 325 مادة " سمورة "، وقد فصل ابن حيان في خبرها في المقتبس 5: 432 - 447) .
- 4 -
ورد في الفقرة: 67 (ص: 87) من نقط العروس ذكر أبي عمران الفاسي: وهو موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي (وغفجوم: فخذ من زناتة) نزيل القيروان، أصله من فاس، تفقه على علماء القيروان، ودخل الأندلس فدرس على علماء قرطبة، ثم رحل إلى المشرق وأخذ عن العلماء ودخل بغداد سنة 399 وحضر مجلس أبي الطيب الباقلاني، وكان فقيهاً ورعاً ذا هيبة ووقار، توفي سنة 430 ودفن بالقيروان (انظر معالم الإيمان 3: 159 - 164 تحقيق وتعليق محمد ماضور، والديباج المذهب: 344 والصلة: 577) .
- 5 -
ص: 90 س 13: يحيى بن بكر قتله أخوه خلف بن بكر ساجداً وهو يصلي بهم: ذكر ابن حيان من اسمه يحيى بن بكر وعدَّه ممن انتزى على الأمير عبد الله بن محمد، وكان خروجه بكورة أكشونبة متزعماً حركة المولدين بها (المقتبس - تحقيق أنطونية -: 15 - 16) وقد بقي إلى صدر من حكم عبد الرحمن الناصر (انظر المقتبس 5: 105، 117 - 118) ولم يذكر ابن حيان خبر مقتل يحيى هذا على أخيه خلف، ولكن نجد أخاه هذا يتزعم في أكشونبة ويقول فيه ابن حيان " من مجرمي أهل الخلاف المستبصرين في الغواية " (5: 248) وقد هاجمه الناصر سنة 317، فبادر إلى إعلان الطاعة، على أن يقره الناصر بمكانه، فقبل الناصر إنابته وأقره على ولاية بلده.
- 6 -
ص: 99 (ف: 85) ورد في نسخة الحميدي أن عبد العزيز بن محمد بن أبي(2/236)
عامر لقب " ذا السابقتين " وفي نسخة ميونخ أن الذي نال هذا اللقب هو عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر؛ والصواب أنه عبد العزيز بن عبد الرحمن [بن محمد] بن أبي عامر، وهو الذي اختاره الموالي اعامريون لرئاسة بلنسية، وقد تودد إلى القاسم بن حمود الخليفة بقرطبة وارسل إليه هدية حسنة فسماه: المؤتمن ذا السابقتين (البيان المغرب 3: 164 - 165) .
- 7 -
ص: 107، س: 12 الوزير عبيد الله بن يحيى بن إدريس: أوجز الحميدي في ترجمته (الجذوة: 250 والبغية رقم: 974) ولكن ابن الفرضي أورد له ترجمة مسهبة نسبياً (1: 294) وذكر فيها ما يقوله ابن حزم عنه، وهو أنه كان يؤذن في مسجده وهو وزير؛ وتوقف عند شهرته بالشعر وأن الشعر كان أشهر أدواته مع معرفته بالآثار والسنن وحفظه للغريب والأمثال؛ ولي أحكام الشرطة ثم الوزارة فما زادته هذه الخطط إلا تواضعاً، وكانت وفاته سنة 352؛ وقد أورد له صاحب كتاب التشبيهات عدداً من المقاطعات الشعرية، وانظر اليتيمة 2: 11.
- 8 -
ص: 148، س: 2 ذكر ابن حزم أن إبراهيم بن يحيى (ابن أخي السفاح) استعرض أهل الموصل، وقد نسب الأزدي مؤلف تاريخ الموصل (ص: 145) هذا الفعل إلى يحيى نفسه، قال وفيها (أي سنة 133) قتل يحيى بن محمد بن علي أهل الموصل، وقد اختلف في سبب قتله لهم.... وقد أسهب الأزدي في وصف الحادث (146 - 154) ؛ ولم تذكر المصادر شيئاً عن ابن زريق هذا، ولكن نجد من حفدته علي بن صدقة بن دينار الأزدي (أيام الرشيد) وزريق بن علي بن صدفة الذي ولاه المأمون أرمينية وأذربيجان وأمده بالجيوش لحرب بابك (انظر الأزدي - صفحات متفرقة - وأما الطبري 3: 1072 فيسميه صدقة بن علي المعروف بزريق) .
- 9 -
ص: 179، س: 15 ذكر ابن الجارود وهو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله ابن علي بن الجارود النيسابوري، وكان من العلماء المتقنين المجودين، توفي سنة 307، وقد عرف بكتابه " المنتقى في الأحكام " (انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ: 794) .(2/237)
- 10 -
ص: 181، س: 6 أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد المصري: فقيه شافعي، له كتاب " الفروع " في المذهب، وهو كتاب صغير دقيق في مسائله، اهتم بشرحه عدد من الأئمة الكبار مثل القفال المروزي وأبي الطيب الطبري وغيرهما. وكان ابن الحداد فقيهاً محققاً تولى التدريس والقضاء بمصر، وتوفي سنة 344 (انظر ابن خلكان 4: 197 وطبقات الشيرازي: 114 وتاريخ بغداد 1: 365 والوافي للصفدي 2: 70 وطبقات السبكي 1: 288) .
- 11 -
ص: 184، س: 11 الأقشتين محمد بن هاشم (في النفح: الأقشتين محمد بن عاصم، وهو خطأ تعين تصحيحه) فقد أجمعت المصادر على أن الأقشتين هو محمد بن موسى بن هاشم، ومما يدل على خطأ النفح أن الحميدي استشهد بما ذكره ابن حزم في ترجمة محمد بن موسى بن هاشم (ص: 82) وللأقشتين رحلة إلى المشرق لقي فيها علماء العربية، وكانت وفاته في رجب سنة 307 (وقد ذكرت مصادر ترجمته ص: 184 حاشية رقم: 8، ويضاف إليها بغية الوعاة: 108، 1: 252 (تحقيق أبو الفضل إبراهيم) وإنباه الرواة 3: 216) .
- 12 -
ص: 187، س: 11 - 13 قال ابن حزم: " وإذا ذكرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبة المزني أبي إبراهيم والتلمذة له ".
أما قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد فهو محدث أندلسي كان يميل إلى قول الشافعي، رحل فسمع من المزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ولزم الثاني للتفقه والمناظرة وتحقق به وبالمزني، وكان أيضاً يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد، وألف كتاباً نبيلاً في الرد على يحيى بن إبراهيم بن مزين وعبد الله بن خالد والعتبي، ويعرف بصاحب الوثائق لأنه كان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه، وكانت وفاته سنة 278 (الجذوة: 310 وابن الفرضي 1: 397 والسبكي 2: 344 تحقيق الحلو والطناحي) .
وأما القفال، فإنه يدلُّ على أبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي(2/238)
(المتوفى سنة 365) أو على القفال المروزي عبد الله بن احمد (ابن خلكان 4: 200، 3: 46) أو على القاسم بن محمد (ابن الشاشي) وكل من هؤلاء لم يدرك المزني، وأبعدهما زماناً الشاشي الكبير وقد ولد سنة 291 بينا توفي المزني سنة 264. وعلى هذا فالكلمة قد تشير إلى قفال آخر مبكر عاصر المزني، أو تكون مصحفة، وأقرب الوجوه إليها " النقال " وهو الحارث بن سريج الخوارزمي، وإنما قيل له النقال لأنه نقل رسالة الشافعي إلى عبد الرحمن بن مهدي وكانت وفاته سنة 236 (طبقات السبكي 2: 112 تحقيق الحلو والطناحي) .
وأما محمد بن عقيل الفريابي أبو سعيد فهو من أصحاب المزني، حدث بمصر وكانت وفاته سنة 285 (طبقات السبكي 2: 243 تحقيق الحلو والطناحي) .
وأما أستاذ هؤلاء وهو المزني فهو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو إبراهيم، أحد كبار أصحاب الشافعي وكان زاهداً ورعاً متقللاً من الدنيا، توفي سنة 264 (ترجمته في طبقات السبكي 2: 93 (الحلو والطناحي) 1: 238 وطبقات الشيرازي: 97 وابن خلكان 1: 96 والانتقاء: 110) .
- 13 -
ص: 187، س: 13 - 15 قال ابن حزم: " وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار بهما إلا أبا الحسن ابن المغلس والخلال والديباجي ورويم ابن أحمد، وقد شركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته ".
من الواضح أن ابن حزم يعد هنا البارزين من علماء المذهب الظاهري ممن درس على أبي سليمان داود بن علي إمام الظاهر في المشرق (ترجمته في تاريخ بغداد 8: 369 والفهرست: 271 وطبقات السبكي 2: 284 تحقيق الحلو والطناجي) كما يعد من تأثر بهذا المذهب من الأندلسيين قبله.
فأما ابن المغلس فهو عبد الله بن أحمد بن محمد وإليه انتهت رياسة الداوديين في وقته، وكان ثقة مقدماً عند الناس، وله كتاب " الموضح " وتوفي سنة 324 (الفهرست: 27 - 73 وطبقات الشيرازي: 177 وعبر الذهبي 2: 201) .
وأما الخلال فقد ذكره ابن النديم (الفهرست: 273) في الداوديين وكناه أبا الطيب، وذكر من كتبه كتاب " إبطال القياس ". ولم يذكر ابن النديم من نسبته " الديباجي "، وهذه النسبة تطلق على كثيرين، وربما رجحت أن يكون المقصود هنا:(2/239)
أحمد بن محمد بن علي بن الحسن، أبو الحسن الديباجي الذي وصفه الدارقطني بأنه شيخ فاضل صالح وتوفي سنة 328 (تاريخ بغداد 5: 68 - 69) ولكني لست أقطع بذلك.
وأما رويم بن أحمد بن يزيد، أبو محمد فقد كان بغدادياً فقيهاً على مذهب داود، ذا نزعة زهدية واضحة، توفي سنة 303 (ترجمته في تاريخ بغداد 8: 430 والمنتظم 6: 136 وحلية الأولياء 10: 296 وطبقات السلمي: 180 وصفة الصفوة 2: 249) .
ومن اول الأندلسيين تأثراً بمذهب داود: عبد الله بن قاسم بن هلال (هكذا نسبه ابن حزم، وتلميذه الحميدي في الجذوة: 246) وعند ابن الفرضي 1: 257 عبد الله ابن محمد بن قاسم بن هلال) وهو قرطبي لقي داود وكتب عنه كتبه كلها وأدخلها الأندلس، وكان علم داود الأغلب عليه، وكانت وفاته سنة 292 (في ابن الفرضي 272 خطأ) ، وأما منذر بن سعيد البلوطي (المتوفى في سنة 355) فشهرته تغني عن تكلف ترجمة له (انظر ترجمته في ابن الفرضي 2: 142 والجذوة: 326 والبغية رقم: 1357 والروض المعطار: 95) .
- 14 -
ص: 187، س: 15 - قال ابن حزم: " وإذا أشرنا إلى محمد بن يحيى بن لبابة وعمه محمد بن عمر وفضل بن سلمة لم نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس ".
هؤلاء ستة أشخاص في نسق وإليك تعريفاً موجزاً بكل واحد منهم:
1 - محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة: كان فقيهاً مقدماً، وجل سماعه من عمه محمد بن عمر (انظر الترجمة التالية) وكان من أحفظ أهل زمانه للمذهب، وهو صاحب كتاب " المنتخب " الذي أثنى عليه ابن حزم في ما تقدم (انظر ص: 181 من هذا الجزء) وقد أشار القاضي عياض في المدارك (4: 398) إلى هذا الثناء فقال: وأثنى ابن حزم الفارسي على كتابه المنتخب (في المطبوعة: المنتخبة) وأنه ليس لأصحابه مثلها. واستقضاه الناصر على البيرة ثم عزله وولاه أمر الوثائق وكانت وفاته سنة 330 (ابن الفرضي 2: 53 والجذوة: 91 والبغية رقم: 311 وترتيب المدارك 4: 398 - 403 والديباج: 251) .(2/240)
2 - وعمه محمد بن عمر بن لبابة أبو عبد الله: كان إماماً في الفقه مقدماً في حفظ الرأي والبصر في الفتيا، وعين مشاوراً في أيام الأمير عبد الله ثم انفرد بالتيا في أول عهد الناصر، وتوفي سنة 314 (ابن الفرضي 2: 36 والجذوة: 71 والبغية رقم: 222 والديباج: 245) .
3 - فضل بن سلمة بن جرير بن منخل الجهني، أصله من البيرة وقيل من بجانة، رحل رحلتين أقام فيهما عشرة أعوام، وكان من أوقف الناس على الروايات وأعرفهم باختلاف أصحاب مالك، وكانت وفاته 319 أو 317 (الجذوة: 308 والبغية رقم: 312 وابن الفرضي 1: 394 والديباج: 219) .
4 - محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أبو عبد الله: سمع من أبيه وابن وهب وأشهب وابن القاسم وغيرهم من أصحاب مالك وصحب الشافعي وأخذ عنه، وأصبح من أهل النظر والحجة فيما يتكلم فيه ويتقلده من مذهبه، وانتهت إليه الرياسة بمصر على مذهب مالك، وكانت وفاته سنة 268 أو التي بعدها. (الديباج: 231 وترتيب المدارك 3: 62) .
5 - محمد بن سحنون: تفقه بأبيه وغيره، وكان إماماً في الفقه والنظر والرد على أهل الأهواء، وجلس مجلس أبيه بعد موته، وكان غزير التأليف، توفي سنة 256 (الديباج: 234 وترتيب المدارك 3: 104 ورياض النفوس 1: 345) .
6 - محمد بن عبدوس: هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس، من كبار أصحاب سحنون، وكان ثقة إماماً في الفقه صالحاً زاهداً حسن التقييد، ألف " المجموعة " على مذهب مالك، وله مؤلفات فسر فيها أصولاً من العلم، وكانت وفاته سنة 260 (ترتيب المدارك 3: 119 - 124 ورياض النفوس 1: 360 والديباج: 237) .
- 15 -
ص: 187، س: 18 أبو عبد الله محمد بن عاصم: يعرف بالعاصمي من أهل قرطبة، روى عن الرباحي والقالي وغيرهما، وكان من كبار العلماء وأدبائهم، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، وتوفي سنة 382 (الصلة: 453 والجذوة: 74 والبغية رقم: 243 وبغية الوعاة 1: 123/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) .(2/241)
- 16 -
جاء في كتاب الوافي بالوفيات للصفدي (10: 46) وقال ابن حزم في " نقط العروس " إن سليمان قتل ابنه أيوب سراً لأنه ارتد إلى النصرانية، كان قد ضمه إلى عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وكان زنديقاً فزندقه، فدسَّ إليه سليمان سماً فقتله. قال سبط ابن الجوزي في المرآة: أخطأ ابن حزم فإنهم اتفقوا على أن سليمان حزن عليه حتى قالوا إنه انفلقت كبده فمات كمداً. ثم إن ابن أربع عشرة سنة من أين تأتيه الزندقة وعبد الله بن عبد الأعلى لم يكن زنديقاً وإنما المتهم بالزندقة أخوه عبد الصمد (قلت: انظر ص: 51، 88 وليس في كلام ابن حزم شيء عن عبد الله بن عبد الأعلى، فتأمل) .(2/242)
توجيهات وقراءات تتعلق بالجزء الأول
من رسائل ابن حزم(2/243)
فراغ(2/244)
توجيهات وقراءات تتعلق بالجزء الأول
من رسائل ابن حزم
تفضل أخي وأستاذي العلامة الكبير محمود محمد شاكر، فزودني بهذه القراءات لنص الجزء الأول من رسائل ابن حزم (وبخاصة طوق الحمامة) فأنا أثبتها لفائدة القراء، واعترافاً بفضل الأستاذ الكريم:
ص 109/س: 13 قران وأنداد: قران وأبداد (قلت: أقترح على أخي أن تقرأ: قران وأفذاذ، فذلك أدقّ) .
110/ - 12 وأشاطه: ظني أن صوابه " واستشاطه ".
113/ - 12 التعديد: صوابه " التعربد ".
116/ - 4 وتخيل الفكر: الصواب " وتخييل ".
126/ - 1 قراءة برشيه " غربها وانتقاصها " هي الصواب لأن " الغَرْب " هو الذهاب والتنحي عن الناس وهو أيضاً النوى والبعد، ومنه " غَرْبة النوى ".
127/ - 3 - 4 اقرأ: أما نفس الحب فما في المبتلى به فضل.
127/ - 7 اقرأ: ولا أحدث الأمور اثنان.
129/ - 13 - 14 اقرأ: أفضل منها في الخلفة.
134/ - 13 - 15 اقرأ: فإن انتظاره ... لموقف ... لأنه إشراف.
135/ - 1 بالتغرير: صوابه " بالتورية ".
135/ - 9 على ما لا يجمل: صوابه " يَحِلّ ".
139/ - 8 ويتحي: الأجود " ويمحي ".
140/ - 14 كتاب المحب: الصواب: كتاباً لمحبّ.
141/ - 7 ويُحْسِن: وَيُحَسِّن.
141/ - 9 ومن تعدى هذه: الصواب " ومن تعرى من هذه ".(2/245)
145 - 20 - 21 فقطع كلامه المتكلم معه قلقاً واسترعى ... أظن الصواب: " فقطع كلامه المتكلم معه، فانكفأ واستدعى ما كان فيه.... " ويدل على هذا ما بعده.
150/ - 1 فلم بها: لعل الصواب " فتام بها " أو " فتيم بها ".
151/ - 13 متراجعاً: الصواب " مضاعفة " (قراءة برشيه) (وهي جيدة جداً) .
152/ - 5 بقية [من عقل] : لا معنى لزيادة " من عقل "، يقال: في فلان بقية، وفي كتاب الله " فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد " أي فهم وحسن نظر؛ ويكون الذي بعده " أو ثبيت مُكسة " هكذا الصواب إن شاء الله.
155/ - 5 الصواب في البيت الثاني " المستبصر " وهو الذي يتبين ما يأتيه من خير أو شر.
159/ - 7 - 8 اقرأ: وتركك لقاءه اختيار.... وإدخالك الحيف عليها.
159/ - 4 - 8 اقرأ: أسقطت مؤونة.... وهو بين الحض والنهي ... وتقوية لطيفة لها غوص وعمل.... إلى ما يورده من المعاني بلطفه.
164/ - 14 اقرأ: لم يفض منها شيء باللسان (فاض صدره بسره امتلأ ولم يطق كتمه فباح به) .
169/ - 1 كأن له في قلبه ريبة ترى: سأنظر فيها حتى أهتدي إلى حق صوابها.
169/ - 8 وامتنع المناما، صوابه: إذ منع المناما.
169/ - 18 ولا يخلي الغير أن يعتلف: غريب جداً ولعلها " العير ".
171/ - 6 صوابه: وحدث في حب لم يكن.
176/ - 3 الصواب: التي ينظر بها إلى الكلب.
179/ - 12 والتوبيش: صوابه بلا ريب " التقريش ".
183/ - 20 إلى أن جذت جملتها: الصواب بلا ريب " جَذَّت حبليهما ".(2/246)
191 - 7 معرضاً بمعرض: صوابه " معرضاً كمعرض ".
195/ - 11 اقرأ: وبدأ نقض الهجر (والسياق دالٌّ عليه) .
99/ - 3 اقرأ: وبالضد انقلابهم.
199/ - 20 اقرأ: إلا للنظرة منه.
208/ - 17 أظن أنه: " وتلمأت عليه الصفائح ".
213/ - 13 الشجاع المستقل: صوابه " المشمعل " أما " المستقل " فمتكلف غير جيد.
225/ - 20 آخر شعر في هذه الصفحة من المضارع (وليس من المتقارب) .
237/ - 5 أساورها: أرجح أن الصوابر " تناويرها "، أما ما كتبت في التعليق فاحذفه، لا خير فيه.
271/ - 18 " وايقاع المزح " غير مفهوم، والصواب فيما أظن " وإيقاع المرح " وإن كنت في شك من " إيقاع ".
277/ - 16 مسكا: شرحه غريب، لعله " حسكا ".
277/ - 19 قلَّ فلم: قدك فلم.
289/ - 16 صوابه: ففضت كبده.
300/ - 18 اقرأ: وبصرنا وجه طلبها.
311/ - 9 قد محت: صواب ضبطه قد محت.
312/1 كأن لم تغن بالأمس.(2/247)
فراغ(2/248)
بنو الطبني التميميون (1)
(مخطط موجود في الكتاب الأصلي)
__________
(1) جاء عند ابن عبد الملك في الذيل والتكملة 6: 169 محمد بن حسين بن أحمد بن حبيش بن أسد التميمي الحماني الطبني أبو عبد الله (- 491) وهذا يفترض احلال " أحمد " محل " محمد " ووضع " حبيش " قبل الجد الأعلى " أسد " وهو لا ما يرد في المصادر الأخرى.(2/249)
بنو حزم (1)
(مخطط موجود في الكتاب الأصلي)
__________
(1) ذكر ابن الأبار في التكملة: 51 أحمد بن سعيد بن علي بن أحمد بن أحمد بن سعيد بن حزم وتعقبه ابن عبد الملك في الذيل والتكملة 1: 122 وبين أنه يستبعد أن يكون للفقيه ابن اسمه سعيد، وهو يرجح أن أحمد هذا من بني حزم الإشبيليين، ولكن الفقيه جده من جهة الأم.(2/250)
العامريون
(مخطط موجود في الكتاب الأصلي)(2/251)
بنو أمية بالأندلس
(مخطط موجود في الكتاب الأصلي)(2/252)
(تكملة للمخطط الموجود في الكتاب الأصلي)(2/253)
رسائل
ابن حزم الأندلسي
أعلم - وفقنا الله وغياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطالطاليس ... وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله، بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به ...
(رسالة التوقيف على شارع النجاة)
وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه [الأندلس] ... فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهرة، ضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل ... وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد؛ هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار ونقض شرائع الإسلام ...
(رسالة التلخيص لوجوه اتلخيص)(3/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
- تصدير -
قد حاولت أن تكون هذه الرسائل الثماني التي يتضمنها هذا الجزء " ردوداً " على مختلف المستويات، فبعضها رد على عدو للدين، وبعضها رد على الخصوم، وبعضها ردود على الأصحاب والأصدقاء والمشايعين، وبعضها صورة للفتاوى (أو النوازل) عن مسائل يطرحها بعض السائلين.
وتتفاوت هذه الردود بين عنف وهدوء، كما يتفاوت السائلون في حظوظهم من العلم.
وابن حزم لا يحب الفناء، ولو خير لما اختار هذا الطريق، ولكنه مدعو إلى أن لا يكتم العلم وإلى أن يبينه للناس.
وقد تتكرر التهمة (أو القضية) فيتكرر الرد عليها في غير رسالة، لطبيعة الحياة يومئذ، وطبيعة الحصول على الكتب والرسائل، فاتهام ابن حزم بأنه يعيب الأئمة سيتكرر ولابد، وقضية " ماذا نتعلم " قد أجاب عنها ابن حزم في رسالة " مراتب العلوم " وفي كتاب التقريب لحد المنطق، وفي رسالة التوقيف على شارع النجاة، وفي رسالة التلخيص لوجوه التخليص وربما في غيرها. ومشكلة التقليد سترد في مواضع كثيرة، ولذلك فإن فكر ابن حزم لا يمكن أن تتم دراسته على نحو منظم إلا بعد استكمال مؤلفاته وتنظيمها بحسب الموضوعات.
إن جمع هذه الرسائل في نطاق ليس المقصود منه رؤية ابن حزم الفقيه، فذلك شيء لا يتم دون دراسة المحلى والاحكام والإيصال وغيرها من مؤلفاته، ولكن كانت الغاية هنا الوقوف على " ردود فعله " الفكرية، وهو يخاصم أو يترفق، والوقوف على منهجه وعلى المنطلقات الأساسية التي يرتكز إليها ذلك المنهج.
ولقد نشرت هذه الرسائل من قبل ما عدا الرسالتين الأخيرتين، ولكني قد عدت على ما نشر برؤية جديدة، وبفهم متميز في إعطاء هذه الرسائل حقها من العناية(3/1)
ولم أكن لأبلغ كل ذلك لولا المساعدة القيمة التي قام بها الابن البار السيد ماهر زهير جرار، في كل المراحل من إعداد هذه الأجزاء وما سيليها، فله شكري وتقديري ودعائي بان يحالفه التوفيق في كل خطوة كما أكرر شكري لصديقي الدكتور عبد المجيد عابدين لمعاونته واقتراحاته المتعلقة بالألفاظ العبرية.
وأردد هنا دعاء أبي حيان: اللهم " وفقنا لأقصد السبل إليك، وخفف علينا في كل الأمور التوكل عليك " يا أرحم الراحمين.
بيروت في غرة مايو (أيار) 1981. إحسان عباس(3/2)
نظرة في رسائل هذه المجموعة
- 1 -
رسالة في الرد على ابن النغريلة
1 - من هو ابن النغريلة:
تختلف المصادر في رسم اسمه على النحو الآتي:
(أ) ابن النغرالي في الفصل (ومرة النغرال) وتصحف إلى الغزال في طبقات صاعد.
(ب) ابن نغرالة في التبيان وأعمال الأعلام (واللام مشددة) ، ونغرالة في أصول الإحاطة، ونغرالة في البيان المغرب (ويكتبه الأستاذ غرسيه غومس بلام خفيفة) .
(ج) ابن نغرله في مغرب ابن سعيد.
(د) ابن النغريلي في ذخيرة ابن بسام.
(هـ) ابن نغدالة (بالدال) عند دوزي.
(و) ابن نفريلة في الأصل المخطوط من رسالة ابن حزم.
هذا الاسم إذا أطلق عني أحد اثنين هما: صموئيل بن يوسف (إسماعيل أو أشموال عند ابن حزم في الفصل) المكني بأبي إبراهيم، وابنه يوسف بن إسماعيل المكني بأبي الحسين. والأول وزر لصاحب غرناطة حبوس ثم لابنه باديس وخلفه ابنه في خطته، والثاني - يوسف - هو الذي ثارت به صنهاجة وقتلته. وبعض المصادر مثل الذخيرة والنفح والبيان المغرب ومغرب ابن سعيد يجعل المقتول هو إسماعيل ويجعل الوزير لأول أباه ويسميه يوسف، ويذكر ابن سعيد أن للمقتول إسماعيل ابناً اسمه يوسف كان(3/7)
صغيراً حين قتل أبوه وصلب (1) . وهذا كله وهم يصححه كتاب التبيان (2) لأن مؤلفه هو حفيد باديس نفسه، وقد شهد تلك الأحداث وعرفها عن كثب.
ويبدو أن الاختلاف في رسم الاسم ليس منشؤه التصحيف فحسب، وإنما هو من طبيعة النطق، وربما كانت ألفه المتوسطة وسطاً بين الألف والياء، وربما كانت نهايته بين الهاء والياء تعتمد تارة على نطقه باللهجة العامية الأندلسية وتارة على انتحال نطق فصيح له. وتكاد المصادر تجمع على كتابته بالراء إلا أن دوزي اختار الدال، ولعله لمح شيئاً من الصلة بين الاسم وكلمة ناغيد (أو ناغيذ) العبرية، وهي لقب أحرزه إسماعيل وانتحله ابنه من بعده على غير استحقاق له، قال ابن بسام: " وتسمى من خططه الشرعية بالناغير (الناغيد في نسخة أخرى) معناه المدبر عندهم ". وهاهي كلمة " الناغيد " تتصحف أيضاً فتكتب بالراء.
وقد وردت لفظة " الناغيد " (بالدال أو بالذال) في أسفار العهد القديم بمعنى القيم على المعبد (الاخبار الأول 26: 24) وبمعنى رئيس القصر (الاخبار الثاني 28: 7 وأشعيا 22: 21) وبمعنى قائد الجيش أو رئيس فصيلة منه أو زعيم قبيلة (الاخبار الأول 27: 16 والثاني 19: 11) واختار ابن بسام لها كلمة " المدبر "، ولا يبعد أن يكون هو اللفظ الاصطلاحي الذي استعمل في الأندلس.
فإذا كان من صلة بين الاسم وبين اللقب فالأقرب أن الاسم هو " الناغيدلي " أو " الناغيدلة " ثم يقصر النطق به لكثرة تردده. فأما المقطع " لي " أو " له " الملحق به فإما ان يكون ذا صلة بلفظة " إيل " العبرية أو يكون صيغة تصغير لاتينية. وهذا كله تخمين أترك تحقيقه للعارفين بهذه الشؤون اللغوية، غير أن إجماع المصادر - تقريباً - على كتابته بالراء وتمسك أساتذة ثقات بهذا الاسم - مثل بروفنسال وغومس - يجعلني أحتفظ به كذلك.
2 - إسماعيل بن النغريلة: (383 - 448/ 993 - 1056) (3)
لم يكن أندلسي الأصل بل كان أهله من الطارئين على الأندلس. وقد أخطأ
__________
(1) المغرب 2: 115 والصواب أن يقال: إسماعيل الجد، ثم ابنه يوسف الذي قامت عليه ثورة فقتل وصلب ثم الحفيذ إسماعيل الذي هرب إلى أفريقية حين قتل أبوه.
(2) التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله (تحقيق ليفي بروفنسال 1955) 30 - 68.
(3) ذكر ابن الخطيب في الإحاطة (1: 447) أن إسماعيل توفي سنة 459 وهذا وهم ولعل الصواب 449، وتوفي ابنه يوسف سنة 459 (انظر المصدر نفسه: 448) .(3/8)
ابن سعيد في قوله إنه من بيت مشهور بغرناطة، فهو غريب عن الأندلس وعن غرناطة معاً لأنه بقرطبة واضطرته فتنة البربر (399 هـ) إلى الهجرة منها، فسكن مالقة حيث افتتح له دكاناً. وكان قد درس التلمود بقرطبة على الكاهن حنوك، كما درس الأدب العربي وغيره حتى أصبح يتقن الكتابة المنمقة بالعربية (1) . وتوصلت به الأحوال إلى أن أصبح كاتباً عند أبي العباس وزير حبوس وكاتبه الأعلى، فلما توفي أبو العباس خلفه ابنه على الكتابة، وكان صغير السن، فأصبحت شؤون الديوان في يد إسماعيل (2) ، وأخذ هذا يتقرب إلى باديس طمعاً منه أن يحظى لديه إذا هو تولى الحكم بعد أبيه حبوس، واتفق حدوث مؤامرة دبرها بعضهم لإزاحة باديس عن الأمارة وشارك إسماعيل فيها ولكنه إمعاناً منه في طلب الحظوة كشف أمرها لباديس وجعله بحيث يسمع ما يقوله المتآمرون؛ ولهذه اليد ولأسباب أخرى اتخذه باديس وزيراً، ومن تلك الأسباب (3) :
(أ) أنه ذمي غير أندلسي لا تشره نفسه إلى ولاية.
(ب) أن في غرناطة جالية كبيرة من اليهود، فهو أقدر من غيره على جباية الأموال، وعلى ضبط الجباية لان عمالها منهم أيضاً.
(ج) أن إسماعيل كان حسن المداراة للناس ماهراً في استخراج ما يريده منهم.
وقد حاول دوزي أن يعزو الثقة في إسماعيل إلى مهارته في الكتابة وأن باديس لم يكن يطمئن إلى العرب ولا يجد كاتباً رفيع الأسلوب من البرب، وليس هذا بأقوى الأسباب.
وعلى أي حال فإن إسماعيل أثبت في السياسة كفاية ممتازة، وهي كفاية تزداد شأناً كلما تذكرنا طغيان باديس وجبروته واتجاه الأمور وجهة الفوضى والمؤامرات، حتى إن باديس لما فكر في استئصال العناصر العربية في غرناطة نصحه إسماعيل أن لا يفعل ودس نسواناً إلى معارف لهن من نساء زعماء المسلمين بغرناطة لينهاهم عن حضور الصلاة وأحبط تدبير باديس. وكشف باديس مؤامرة من صنهاجة ضده ووقعت يده
__________
(1) دوزي: 607.
(2) وصار متى غاب ولد أبي العباس يحضر أبو إبراهيم فيسأل حبوس، فيقول معتذراً في الظاهر ومطالباً له في لحن القول: ولد أبي العباس - كما ترى - صبي يؤثر الراحة، وأنت جدير بالإغضاء عليه، وإقامة عذره؛ وأنا عبده أنوب منابه، فمرني بما شئت يتهيأ ذلك. (التبيان 30 - 31) .
(3) انظر التبيان: 31 - 32.(3/9)
على أزيد من مائتي اسم مشتركين فيها فشاور وزيره اليهودي في أمرهم، فأشار عليه بحرق الكتب التي ضبطها وبطي المسألة وقال: إن رأس العقل مداراة الناس (1) .
وتجمع المصادر على إطراء إسماعيل وحسن سياسته حتى قال فيه ابن حيان: " وكان هذا اللعين في ذاته على ما زوى الله عنه من هدايته من أكمل الرجال علماً وحلماً وفهماً وذكاء ودماثة وركانة ودهاء ومكراً وملكاً لنفسه وبسطاً من خلقه ومعرفة بزمانه ومداراة لعدوه " (2) وكان قليل الكلام دائم التفكير جماعة للكتب، وكان من الناحية الأدبية يحسن الكتابة بالعربية والعبرية، مزوداً بأنواع مختلفة من الثقافات كالرياضيات والنجوم والهندسة والمنطق والجدل وعلوم الدين. وقد ألف في الرياضيات كتاباً اسمه " السجيح في علوم الأوائل الرياضية ". وقال القاضي صاعد فيه: " وكان عنده من العلم بشريعة اليهود والمعرفة بالانتصار لها والذب عنها ما لم يكن عند أحد من أهل الأندلس " (3) وله رسالة رد فيها على أبي مروان بن جناح اليهودي في نحو اللغة العبرية (4) كما نشر مقدمة للتلمود بالعبرية تناولت منهج التلمود ومصطلحاته. وكتب اثنين وعشرين مؤلفاً في النحو. ومن مؤلفاته المشهورة ما نجا به نحن المزامير (بن تحليم) والأمثال (بن مشلي) والجامعة (بن قوهلت) أي ما دبجه في الأدعية والأمثال والحكمة الفلسفية (5) . وقد وظف نساخاً ينسخون المشنا والتلمود ليقدم النسخ إلى من لا يستطيع شراءها من طلبة العلم، وكان يفضل على اليهود في الأندلس وخارجها ولذا لقبه يهود غرناطة " الناغيد " اعترافاً بفضله (6) ولما فقده اليهود حزنوا عليه كثيراً لأنهم فقدوا دعامة كبيرة من دعائم مجدهم.
وقد كان إسماعيل أيضاً شاعراً مرموقاً بين أهل ملته، وله ديوان شعر، ويقال إنه نظم ما يزيد على ألف وسبعمائة بين مقطوعة وقصيدة، ويتناول شعره بعض الموضوعات الدينية، ولكنه يعد من أوائل من تجاوزا تلك الموضوعات إلى موضوعات دنيوية فنظم في الغزل والخمر ووصف الطبيعة ومناظر الحرب والمديح والهجاء، وهي الموضوعات التي كان يجد نماذجها الكثيرة في الشعر العربي؛ وكان يحل في شعره
__________
(1) التبيان: 33 - 34.
(2) الإحاطة 1: 446.
(3) طبقات الأمم: 100.
(4) بالثنايا: 492.
(5) دوزي: 609.
(6) المصدر نفسه: 610.(3/10)
معاني من المزامير والأمثال والجماعة ويكثر فيه من الإشارات والاقتباسات (1) . ولدى قراءة نماذج من شعره يبدو أنه إذا تجاوز الشؤون الدينية لا يفترق في معانيه وصوره عن الشعر العربي، فمن ذلك قوله في إحدى خمرياته (2) :
حمراء في لونها، عذبة في مذاقها
خمرة أندلسية غير أنها ذائعة الصيت في المشرق
ضعيفة في الكأس ولكن ما إن تخالط اللب
حتى تتحكم في الرءوس وتميلها
الثاكل الذي تمتزج دموعه بالدم،
يبدد دم العنقود أحزانه
والندامى الذين يصرفون الكأس من يد إلى يد
كأنما يتياسرون فيما بينهم لإحراز جوهرة ثمينة.
ومن شعره في القلم:
حكمة المرء في سن قلمه
وذكاؤه فيما تخط يده
قلم المرء يرفعه إلى منزلة
يتيحها الصولجان للملك.
وله من أخرى:
قالت لي ابتهج لان الله
قد بلغك سن الخمسين في هذا الكون، ونسيت
أن لا فرق لدي بين أيامي التي عبرت
وما أسمعه عن أيام نوح
ليس لي في هذا العالم إلا الساعة التي أنا فيها.
إنها تدوم لحظة، ثم هي لا شيء، كالسحابة.
__________
(1) دوزي: 609.
(2) حرصت على تأدية هذه المقتبسات على نحو حرفي، لأن أي تحوير فيها يجعلها صورة أخرى مما يشبهها في الشعر العربي. وهذه النماذج في كتاب Master Pieces of Hebrew Literature (نيويورك 1969) ص 175 - 178.(3/11)
وله من قصيدة أرسلها إلى ابنه يوسف يذكر فيها فكاك الحصار عن لورقة:
أبعث بحمامة زاجلة وإن كانت لا تحسن النطق
وبرسالة لطيفة مربوطة إلى جناحيها
مخلقة بالزعفران، مضمخة بالمسك
وعندما تهم أن تطير أبعث معها أخرى
حتى إذا لقيها نسر أو وقعت في شرك
أو أبطأت، أسرعت الأخرى؛
فإذا بلغت بيت يوسف، حطت على ذروته
وإذا طارت لتحط على يده سر بها كأنها بلبل غريد
ونشر جناحيها وقرأ في الرسالة:
اعلم يا بني أن عصبة الثائرين الملعونين قد فرت
وتفرقت بين الربى كالعصف من حقل هبت عليه ريح
ومضت في الدروب كالغنم ضلت دون راع لها
كانوا يرجون أن يقهروا عدوهم لكنهم لم يبصروه
ومضينا للقضاء عليهم لحظة أن هربوا
فذبحوا وتساقطوا بعضهم فوق بعض عند المعبر
وأخفقت خطتهم ضد المدينة المنيعة المسورة
وله قصيدة طويلة يذكر فيها انتصاره - وكان قائداً فيما يقول لجيش غرناطة - على ابن عباد، وذلك بعد الانتصار على زهير الفتى وصاحبه ابن عباس (1) ، وهذا يدل على أن جانباً من شعره يتصل بأحداث الأندلس ويلقي عليها بعض الأضواء.
لتلك المنزلة الكبيرة التي بلغها إسماعيل في دولة بني زيري بغرناطة نجد أن الشعراء من يهود وغيرهم كانوا يتقربون إليه بالمدائح، رجاء الحظوة لديه والعطاء، ومن مدائحه أحمد بن خيرة المعروف بالمنفتل، وهو شاعر قرطبي، ولد فيه:
وما اكتحلت عيني بمثل ابن يوسف ... ولست أحاشي الشمس من ذا ولا البدرا ويقول ابن بسام في التعليق على هذه القصيدة: " وله في هذه القصيدة من الغلو
__________
(1) انظر هذه القصيدة في: Goldstein: Hebrew Poems From Spain ص 46 - 54؛ وفي هزيمة ابن عباد انظر التبيان: 42.(3/12)
في القول، ما نبرأ منه إلى ذي القوة والحول.. فما أدري من أي شؤون هذا المدل بذنبه المجترئ على ربه أعجب: ألتفضيل هذا اليهودي المأفون على الأنبياء والمرسلين، أم خلعه إليه الدنيا والدين، حشره الله تحت لوائه، ولا أدخله الجنة إلا بفضل اعتنائه " (1) وللمنفتل هذا رسالة يذكر فيها فقره ورحلته عن قرطبة، يؤم جناب إسماعيل بن يوسف " فتى كرم خالاً وعماً، وشرح من المجد ما كان معمى، قساً فصاحة، وكعباً سماحة، ولقمان علماً، والأحنف حلماً " ويطنب فيها في الثناء عليه رجاء نواله ويختم رسالته بقصيدة مدحية أيضاً (2) .
وهذا السلطان الواسع الذي أحرزه إسماعيل هو الذي مكن لليهود في كثير من الشؤون الإدارية والمالية لأنه كان يختار الموظفين منهم، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين (3) ، ثم أن هذا الجاه الدنيوي هو الذي ساعد الجماعة اليهودية يومئذ على تثبيت اللغة اليهودية وبعث الثقافة اليهودية والظهور بذلك.
3 - يوسف ابن النغريلة:
وخلفه على الوزارة ابنه يوسف وكان فتى جميل الوجه حاد الذهن مقروفاً ببعض الشؤون (4) ، وكان أبوه قد حمله على مطالعة بعض الكتب إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية يعلمونه ويدارسونه، وأعلقه بصنعة الكتابة، وألحقه بخدمة بلكين بن باديس (5) . وكان لباديس وزيران هما: علي وعبد الله ابنا القوري، فترقب إليهما يوسف بالأموال حتى اطمئن إليه ونصحا لباديس بالاعتماد عليه، فقدمه باديس على العمال والجبايات، فنفق لديه بتدبير الأموال حتى انتزع له بالحيلة ما كان بيد ابني القوري من أملاك (6) . فاغتاظ ابنا القوري من ذلك وشاركهم شعورهم بعض رجال الدولة وحرضوا بلقين (بلكين) على قتله، وكان بلكين رجلاً لا يستطيع كتمان سر، فأخذ يتحدث بقتله علناً، فاحتال عليه اليهودي بأن دعاه للشرب عنده وتخلص منه بالسم، وكانت هذه الحادثة مما أثار الناس على اليهودي حتى هموا بقتله لأن بلكين كان
__________
(1) انظر الذخيرة 1/ 2: 763 - 765.
(2) المصدر السابق: 761 - 763.
(3) الإحاطة: 446.
(4) الذخيرة 1/ 2: 766.
(5) الإحاطة 1: 447.
(6) انظر التبيان: 37 - 39.(3/13)
مرجواً لديهم. ولم يكف يوسف عن أساليبه فظل يتعقب ابني القوري حتى نفاهما عما تبقى لهما من أملاك، وازدهاه انتصاره وأبطره.
ومن الأسباب التي مكنت له في الدولة (1) :
(أ) كبر سن باديس وإسلامه الأمور كلها له واشتغال باديس بالشرب حتى كان لا يكاد يصحو.
(ب) اختلاف النساء في القصر حول من يقدم للإمارة بعد باديس وتوصل يوسف إليهن بأسباب الخدمة.
(ج) عمله مع أناس قليلي التجارب من مثل ابني القوري وبلكين وأشباههم وجريه فيهم على سياسة التفرقة وتضريب بعضهم ببعض.
أما الأسباب التي أدت إلى مصرعه فيمكن إجمالها فيما يلي:
(أ) توسع شأن اليهود وتسلطهم على المسلمين في حكومته وحكومة أبيه من قبله ونفور المسلمين من دفع الجبايات لهم، خصوصاً وأن باديس لم يأذن - رسمياً - لليهود بمطالبة المسلمين، ولكن يوسف وأعوانه كانوا يحتالون لذلك.
(ب) الصراع بينه وبين الناية وهو عبد للمعتضد بن عباد فر إلى غرناطة ولقي حظوة عند باديس، وكانت المنافسة بينه وبين اليهودي شديدة، وأخذ باديس يصغي إليه فيما يقوله ضد يوسف بعض إصغاء.
(ج) كثرت مؤامرات النساء وتشابكت وكانت كلما انكشفت واحدة منها عصبت برأس اليهودي، فرأى يوسف أن لا مخلص له إلا في التآمر مع صاحب المرية - ابن صمادح - ليستولي على غرناطة ويتخلص من باديس. وإتماماً لهذه المؤامرة نصح يوسف لباديس أن يقصي أكابر صنهاجة عن غرناطة ويوليهم الولايات بعيداً عنها، وانكشفت مؤامراته ونادى المنادي بذلك في الأسواق فهبت صنهاجة لدفع ذلك.
(د) عدم تورعه عن نقد الأديان والتطاول عليها في سخرية (2) ، حتى كان اليهود أنفسهم غير راضين عنه، بل هم يتشاءمون باسمه ويتظلمون من جور حكمه،
__________
(1) التبيان: 41 وما بعدها.
(2) يذكر ابن بسام (الذخيرة 1/ 2:766) أنه كان يمتدح بالطعن على الملل.(3/14)
وتطاول إلى لقب " الناغيد " (1) ونقل عنه أنه يقول إنه ينظم القرآن شعراً وموشحات وهكذا.
(هـ) ثورة الأتقياء على هذا الوضع أي على وضع الثقة في شخص غير مسلم، ومن ذلك نجمت قصيدة الشيخ أبي إسحاق الألبيري التي يحرض فيها صنهاجة على التخلص من اليهود والوزير اليهودي ويقول فيها (2) :
وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخصمون وهم يقسمون
وهم يلبسون رفيع الكسا ... وأنتم لأوضاعها لابسون
وهم أمناكم على سركم ... وكيف يكون أمينا خؤون وكان لهذه القصيدة أثر في تحريك النفوس وازدياد الغليان. فلما نادى المنادي " يا معشر من سمع بالمظفر قد غدره اليهودي، وهذا ابن صمادح داخل في البلدة " (3) وتسامع الناس بذلك، هبوا جميعاً. وهرب يوسف إلى داخل القصر واتبعته العامة حتى ظفروا به وقتلوه، وقيل إنهم وجدوه مختبئاً في مخزن للفحم وقد سود وجهه لئلا يعرف، ثم قصدوا اليهود فأحالوا عليهم قتلاً ونهبوا أموالهم، ويقال إنهم قضوا على أربعة آلاف ونيف في تلك المذبحة (4) .
4 - ابن حزم والثقافة اليهودية:
لم يكن ابن الحزم يعرف اللغة العبرية، وشاهد ذلك أنه يقول في الفصل: " ولقد أخبرني بعض أهل البصر بالعبرانية " (5) ولكنه فيما يبدو وجد نفسه وجهاً لوجه أمام بعض المجادلين من اليهود في شؤون العقائد، فكان يناظرهم دون أن يطلع على التوراة (6) . وكثرت المناظرات وتعددت حتى قال ابن حيان: ولهذا الشيخ أبي محمد مع يهود -
__________
(1) الذخيرة 1/ 2: 767.
(2) القصيدة في ديوان أبي إسحاق الألبيري (مدريد) : 151 - 153 و (بيروت) : 96 - 100.
(3) يذهب ابن بسام إلى أن ابن النغريلة واطأ ابن صمادح ليتخلص من المظفر باديس، وملكه أكثر حصون غرناطة وأنه كان ينوي أن يتخلص من ابن صمادح بعد ذلك (الذخيرة 1/ 2: 768 - 769) .
(4) الذخيرة 1/ 2: 796.
(5) الفصل 1: 142.
(6) الفصل 1: 213.(3/15)
لعنهم الله - ومع غيرهم من أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة (1) . ثم أنه رأى أن الاطلاع على نصوص كتبهم يقوي موقفه وينفي عنه تهمة الجهل بما يوردونه عليه من آراء، فقرأ التوراة وهي الأسفار الخمسة الأولى. ويبدو انه كان منها نسخ مترجمة ترجمات مختلفة ولم تكن هناك ترجمة واحدة معتمدة بقوله: " ورأيت في نسخة أخرى منها " (2) وأورد نصاً مغايراً بعض المعايرة لنص آخر وجده في إحدى النسخ. وقد وصف ابن حزم نسخة التوراة - وهي مجموعة الأسفار الخمسة - بقوله: وإنما هي مقدار مائة ورقة وعشرة أوراق في كل صفحة منها من ثلاثة وعشرين سطراً إلى نحو ذلك بخط هو إلى الانفساح أقرب، ويكون في السطر بضع عشرة كلمة " (3) . ويظهر من النصوص التي أوردها في هذه الرسالة ومن مقابلتها بالترجمة الموجودة بين أيدينا مدى البعد بين الترجمتين في اللفظ والمعنى.
وإذا تحدث ابن حزم عن أسفار التوراة استعمل أسماء معربة مثل سفر التكرار (4) (التثنية) أو استعمل الأسماء العبرية، فهو يقول: وأما الكتب التي يضيفونها إلى سليمان عليه السلام - فهي ثلاثة واحدها يسمى شارهسير ثم (صوابه: شيرهشيريم) معناه شعر الأشعار.. والثاني يسمى: مثلا (هذه هي الصيغة السريانية أما العبرية مشلا بالشين) معناه الأمثال، والثالث يسمى فوهلث (صوابه: قوهلث) معناه الجوامع (5) ولا نشك في أن التحريف في الأسماء إنما هو من جهل النساخ وأن ابن حزم كان يعرف الوجه الصحيح منها.
واطلع ابن حزم أيضاً على الأسفار الأخرى، وعلى كتب وشروح لليهود ولا يسميها ويكتفي بأن يشير إليها بقوله: " وفي بعض كتبهم " أو " وفي بعض كتبهم المعظمة " (6) كما يشير إلى سفرين من أسفار التلمود يسمي أحدهما شعر توما ويسمي الثاني سادر ناشيم. وقرأ أيضاً تاريخ يوسيفوس (أو يوسف بن هارون الهاروني - كما يسميه -) (7) وبالإضافة إلى هذا الإطلاع عرف شيئاً من أحوال اليهود بالمجاورة والمشاهدة فكان
__________
(1) الذخيرة 1/ 1: 170.
(2) الفصل 1: 121.
(3) الفصل 1: 187.
(4) الفصل: 1: 198.
(5) الفصل1: 207 - 208.
(6) الفصل 1: 217، 218، 219.
(7) الفصل 1: 99.(3/16)
يسأل بعض علمائهم ومقدميهم عما يتوقف فيهن مجادلاً في أكثر الأحيان لا مستفهماً، ونراه في المرية يجلس في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي الذي كان مشهوراً بالفراسة (1) . وقد جعل وكده منذ البدء إثبات التحريف والتناقض والتبديل على التوراة، ولذلك درسها دراسة مستأنية، وكان هو رائد ابن خلدون في المنهج الذي اتبعه في نقد الخبر التاريخي من هذه الناحية اعني الناحية الزمنية والعددية.
5 - بينه وبين صموئيل بن النغرالي (النغريلة) :
وكان من أوائل من لقيه ابن حزم من يهود إسماعيل - أو أشموال - ابن يوسف الكاتب المعروف بابن النغرالي ووصفه بأنه اعلم اليهود وأجدلهم (2) . واعتقد أن اللقاء بينهما لم يتم في قرطبة وإنما كان بعد هجرة ابن حزم منها، وقد ذكر ابن حزم نفسه أنه لقيه مرة عام 404 هـ، ونحن نعلم أن ابن النغريلة فارق قرطبة قبل ذلك بقليل وسكن مالقة وهي إحدى البلاد التي زارها ابن حزم، وربما أقام فيها مدة من الزمن. وفي هذا اللقاء سأله ابن حزم عن قول التوراة " لا تنقطع من يهوذا المخصرة ولا من نسله قائد حتى يأتي المبعوث الذي هو رجاء الأمم " فقال ابن النغرالي: لم تزل رءوس الجواليت ينتسلون من ولد داوود وهم من بني يهوذا وهي قيادة وملك ورياسة، فقال ابن حزم: هذا خطأ لأن رأس الجالوت لا ينفذ أمره على أحد من اليهود ولا من غيرهم وإنما هي تسمية لا حقيقة لها ولا له قيادة ولا بيده مخصرة الخ (3) ثم لم يذكر ابن حزم ماذا كان رد ابن النغرالي عليه.
وفي موضع آخر تساءل ابن حزم عن قول إبراهيم إن سارة اخته، فقال ابن النغرالي: إن نص اللفظة في التوراة " أخت " وهي لفظة نقع في العبرانية على الأخت وعلى القريبة، فقال ابن حزم: يمنع من صرفنا هذه اللفظة إلى القريبة هاهنا قوله: لكن ليست من أمي وإنما هي بنت أبي. فوجب أنه أراد الأخت بنت الأم، قال: فخلط (أي ابن النغرالي) ولم يأت بشيء (4) .
وتاريخ اللقاء بين ابن حزم وابن النغرالي يدل على أن اهتمام ابن حزم بشؤون الملل
__________
(1) رسائل ابن حزم (1980) 1: 114.
(2) الفصل1: 135 - 152.
(3) الفصل 1: 152 - 153.
(4) الفصل 1: 135.(3/17)
الأخرى بدأ في دور مبكر، وما زال ينمو حتى تمثل على أتمه فيما حواه كتاب الفصل من ذلك.
6 - على من يرد ابن حزم في هذه الرسالة
ذكر ابن بسام إسماعيل بن النغريلي ونسب إليه ما ينسبه آخرون إلى ابنه يوسف، وتابعه على ذلك ابن سعيد في المغرب ويبدو أن النص مضطرب وأنه يجب أن نضع كلمة يوسف حيث وردت كلمة إسماعيل (1) ، أما إذا انصرف الكلام على وجهه حسبما يذكره ابن بسام فإن إسماعيل كتب رداً على أبي محمد بن حزم (2) ، ولست أستبعد ان يكون إسماعيل قد اطلع على أجزاء من الفصل تتعلق بالتوراة وكتب رداً عليها، ولكن هل هذا الرد هو الذي أثار ابن حزم لكتابة رسالته هذه
يقول ابن حزم في هذه الرسالة: " ولعمري إن اعتراضه الذي اعترض به ليدل على ضيق باعه في العلم وقلة اتساعه في الفهم على ما عهدناه عليه قديماً " فقوله " عهدناه قديماً " يدل على سابق معرفة به، ونحن لا نعرف لابن حزم صلة بيوسف - الابن - وكل ما أشار إليه في الفصل هو صلته بإسماعيل ولكن نستبعد أن يكون إسماعيل هو مؤلف كتاب في تناقض القرآن لان المصادر كلها تجمع على انه كان بعيد النظر حسن المدارارة لا يتورط فيما يوغر عليه الصدور، وهذه صفات عري منها ابنه يوسف، وإليه يمكن أن ينصرف قول ابن بسام: " وجاهر بالكلام في الطعن على ملة الإسلام " (3) وإليه يمكن أن ينصرف قول ابن سعيد: وأقسم ان ينظم جميع القرآن في أشعار وموشحات يغنى بها (4) ثم إن ابن حزم قد شهد لإسماعيل بالعلم والقوة على الجدل. ومهما نقل إن هذا شيء نسبي فلسنا نستطيع أن ننكر شهادة المصادر الأخرى له.
اغلب الظن - إذن - أن الذي كتب كتاباً في تناقض كلام الله - بزعمه هو يوسف وان ابن حزم يرد عليه وان قوله " عهدناه عليه قديماً " يشير حقاً إلى معرفة سابقة لا نعرفها. ويجب أن أقرر أن ابن حزم لم يذكر ابن النغريلة نصاً في هذه الرسالة وإنما أشار إلى انه رجل من يهود يعمل في ظل ملك ضعيف وانه استشعر البطر وشمخت نفسه لكثرة أمواله وأنه قليل العلم سيء الفهم، وكل هذه الصفات مما يمكن أن تلصق
__________
(1) الذخيرة 1/ 2: 767 وما بعدها.
(2) الذخيرة 1/ 2: 766.
(3) الذخيرة 1/ 2: 766.
(4) المغرب 2: 114.(3/18)
بيوسف لا بأبيه إسماعيل.
ولما كان يوسف قد خلف أباه على الوزارة حوالي سنة 450 أو التي بعدها - في الأرجح - فقد يقترن تطاوله على القرآن الكريم بشموخ نفسه في ارتقائه إلى خطة الوزارة أي أنه كتب ذلك بين عامي 450 - 455، وأن رسالته كانت معروفة قبل سنة 456 وهي السنة التي توفي فيها ابن حزم (في شعبان منها) وابن حزم لم يظفر برسالة ابن النغريلة وإنما ظفر برد عليها، وهذا ربما دل على ان الزمن بين كتابة تلك الرسالة وصدور رسالة ابن حزم قد تطاول. ولعل تاريخ رد ابن حزم لا يعدو ان يكون بين سنتي 453 - 455، ومهما يكن من شيء فإن هذا الكتاب الذي صدر عن ابن النغريلة كان في أساس الثورة عليه بالإضافة إلى إساءاته الأخرى وربما كان لشيوع رد ابن حزم ورد عالم آخر قبله بين الناس دور في تحريك النفوس ضده، وما كانت الصيحة التحريضية التي أطلقها أبو اسحاق الألبيري إلا تتويجاً لذلك التفاعل الذي كان يتحرك في المشاعر.
7 - طريقة ابن حزم في الرد:
تنقسم هذه الرسالة في قسمين: الأول: المشكلات التي أثارها ابن النغريلة ورد ابن حزم على كل مشكلة منها "، وتقع في ثمانية فصول - كما سماها ابن حزم - وهو لا يكتفي بالرد بل يشفعه بانتقاد إحدى المسائل التي وردت في التوراة لافتاً ابن النغريلة إلى أن بيته من زجاج؛ وتشغل هذه الفصول الفقرات 1 - 33؛ وفي القسم الثاني ناقش ابن حزم بعض ما يسميه " الطوام " التي وردت في كتب يهود، وهو الجانب الذي أفاض فيه في كتاب الفصل. واعتذر في ختام الرسالة عن إيراد شنع اليهود بمثل ما اعتذر به في الفصل فذهب إلى أن الله تعالى قص علينا من كفرهم، فاقتدى بكتاب الله في ذلك.
وهذه الرسالة شاهد آخر يضاف إلى غيره من الشواهد التي تدل على كراهية ابن حزم لملوك الطوائف: " وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ومن معارضة الله تعالى في حكمه بإرادة إعزاز من أذله الله تعالى (1) ". وفاتحة الرسالة أيضاً تشير إلى تشاغل أهل الممالك عن إقامة دينهم، وهذا ما عرض له ابن حزم بشيء من التفصيل في رسالة التلخيص لوجوه التخليص.
__________
(1) الفقرة 63 من الرسالة.(3/19)
- 2 -
رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال تعنيف
1 - ابن حزم والمالكية:
هكذا هو عنوان هذه الرسالة (في الأصل المخطوط) وهي في الحق رسالة واحدة لا رسالتان، وقد قال ابن حزم في مطلعها: " كتب كتاباً خاطبنا فيه معنفاً " ولم يقل: كتابين. وقد كان صاحب هذه الرسالة مستتراً ثم ظهر، فإذا هو يمثل في موقفه من ابن حزم رأي فقهاء المالكية في بعض المسائل، ولذلك فإن ابن حزم يرد على جماعة لا على فرد، ويقول إنه يورد نص ألفاظهم على ركاكتها وغثائتها لئلا يظنوا بجهلهم أنها إن أوردت مصلحة فقد نسخت حقها ولم توف مرتبتها.
وقد كانت الخصومة بين ابن حزم وفقهاء المالكية عنيفة بالغة العنف لان إبطال القياس والرأي والتقليد كان يعني حرباً لا هوادة فيها على فقهاء المالكية بالأندلس يومئذ. ولذلك وقفوا لمناظرة ابن حزم في المجالس العامة، وأشار هو إلى بعض هذه المناظرات في مواطن من كتبه فمنها:
أ) مناظرة بينه وبين الليث بين حريش العبدري (1) في مجلس القاضي عبد الرحمن ابن أحمد بن بشر وفي حفل عظيم من فقهاء المالكية، وكانت المناظرة تدور حول كتمان العالم بعض الحديث وإذاعة بعضه الآخر، قال ابن حزم: وذلك أني قلت له لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس، وذلك انك تصفه بأنه أبدى إلى الناس الملعول والمتروك والمنسوخ من رواية، وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد، وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتلبيس على اهله، وقد أعاذه الله من ذلك، بل كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة، ولكنه أصاب واخطأ واجتهد، فوفق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق، أو كلاماً هذا معناه (2) . ويقول ابن حزم: إن أحداً من المالكية لم يجب إجابة معارضة بل صمتوا كلهم إلا قليلاً منهم أجابوني بالتصديق لقولي.
__________
(1) هو الليث بن أحمد بن حريش العبدري (وتصحف اسم جده ونسبته في كتاب الاحكام: 428) من أهل قرطبة. يكنى أبا الوليد، كان في عداد المشاورين بقرطبة ذا نصيب من علم الحديث، واستقضي بالمرية (الصلة: 451) .
(2) الاحكام 2: 122.(3/20)
ب) مناظرة بينه وبين كبير من المالكيين حول قول ابن عباس في دية الأصابع: ألا اعتبرتم ذلك بالأسنان عقلها سواء وإن اختلفت منافعها. فالمالكية يرون هذا من باب القياس وابن حزم يراه نصاً جلياً في إبطاله. قال ابن حزم لمناظره: عن القياس عند جميع القائلين به وأنت منهم، إنما هو رد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص، وليس في الأصابع ولا في الأسنان إجماع بل الخلاف موجود في كليهما، وقد جاء عن عمر المفاضلة بين دية الأصابع وبين دية الأضراس، وجاء عنه وعن غيره التسوية بين كل ذلك، فبطل هاهنا رد المختلف فيه إلى المجمع عليه، والنص في الأصابع والأسنان سواء، ثم من المحال الممتنع أن يكون عند ابن عباس نص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسوية بين الأصابع وبين الأضراس ثم يفتي بذلك قياساً (1) .
وليس هذان المثلان إلا شيئاً يسيراً من ذلك الصراع المذهبي بين ابن حزم والمالكية، وهما نموذج لمناظرات أخرى عنيفة حامية. وقد ملأ ابن حزم كتبه الفقهية بردوده على فقهاء المالكية، ويبدو من حديثه عنهم - بوجه عام - انهم كانوا قد وقفوا عند حد المدونة والمستخرجة لا يتعدونهما إلى شيء، حتى لقد سئل عبد الله بن إبراهيم الأصيلي: كيف صفة الفقيه عندكم بالأندلس فقال: يقرأ المدونة وربما المستخرجة فإذا حفظ أفتى، فقال له سائله وهو شرقي: أجمعت الأمة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي.
وروى ابن حزم أيضاً هذه القصة قال (2) : حدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد المرواني (3) قال: سمعت احمد بن عبد الملك الإشبيلي المعروف بابن المكوي (4) ونحن مقبلون من جنازة من الربض بعدوة نهر قرطبة وقد سأله سائل فقال له: ما المقدار الذي إذا بلغه المرء حل له ان يفتي فقال له: إذا عرف موضع المسالة في الكتاب الذي يقرأ حل له أن يفتي.
ولم يحمل ابن حزم على تقليد المالكيين وحدهم بل على التقليد عند غيرهم من أهل المذاهب الأخرى حتى قال في اتهامه لهم جميعاً: وأما أهل بلدنا فليسوا ممن يعتني بطلب دليل على مسائلهم فيعرضون كلام الله تعالى وكلام الرسول على قول صاحبهم
__________
(1) الاحكام 7: 78.
(2) الاحكام 5: 129.
(3) هو ابن المسن (أو المش) توفي سنة 436 (الصلة: 342) .
(4) كبير أهل الفتوى في زمنه بقرطبة. توفي سنة 401 (الصلة: 28 وترتيب المدارك 4: 635) .(3/21)
وهو مخلوق مذنب يخطئ ويصيب (1) .
وكان هذا التقليد هو الذي حال بين أولئك الفقهاء وبين الارتفاع إلى مستوى الأحداث - كما نقول اليوم - لأنهم كانوا يقفون عند رأي صاحبهم لا يتجاوزونه، وقد حدث في أيام الفتنة البربرية أن كان الناس في فزع من هجوم البربر عليهم بقربطة فسألوا فقهاءهم الجمع بين المغرب والعشاء لئلا يتعرض لهم متلصصة البربر في المنعطفات والدروب المظلمة فما استطاعوا أن يفتوهم بذلك جموداً عند حد التقليد.
ومن سيئات ذلك التقليد، أن كان أولئك الفقهاء ضعفاء في علم الحديث ومعرفة صحيحه من ضعيفه، عاجزين عن القيام بأمر الجرح والتعديل وتصحيح النقل إجمالاً. ومن المضحك في هذا الباب ما يقوله شيخ من شيوخ المالكية مقدم في مشاورة القضاة في كتاب ألفه مكتوب كله بخطه، وأقر بتأليفه وقرأه غير ابن حزم عليه " روينا بأسانيد صحاح إلى التوارة أن السماء والأرض بكتا على عمر بن عبد العزيز أربعين سنة " (2) قال ابن حزن: هذا نص لفظه، فلا اعجب من الشيخ المذكور في ان يروي عن التوراة شيئاً من أخبار عمر بن عبد العزيز.
ولم تنجح المناظرات في رد ابن حزم عن الاتجاه الذي اختاره لنفسه، فحاول المالكية - حسب قوله - إثارة العامة ضده، فلما أخفقوا في هذا أيضاً لجأوا إلى السلطان وكتبوا الكتب الكاذبة " فخيب الله سعيهم وأبطل بغيهم فعادوا إلى المطالبة عند أمثالهم فكتبوا الكتب السخيفة إلى مثل ابن زياد بدانية وعبد الحق بصقلية " فلم ينفعهم ذلك كله، فلجأوا إلى كتابة الرسائل إليه - كهذه الرسالة -.
ولا ريب في أن هذه الخصومة كانت من الأسباب التي جرت إلى أزمة شديدة وقع فيها ابن حزم، بالإضافة إلى تكاتف الأشاعرة وغيرهم ضده، وقسمت علماء بلده قسمين: قسم يريد إسكاته وقسم يدافع عنه، وقد سمى هو في المدافعين عنه جماعة من الفقهاء المشهورين. ولخص ابن حيان المؤرخ مشكلة ابن حزم خير تلخيص حين قال: " فلم يك يلطف صدعه بما عنده بتعريض ولا يزفه بتدريج بل يصك به معارضه صك الجندل وينشقه متلقيه إنشاق الخردل فيفر عنه القلوب ويوقع بها الندوب حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالأوا على بغضه وردوا قوله وأجمعوا على تضليله وشنعوا عليه
__________
(1) الإحكام 6: 117 - 118.
(2) الإحكام 5: 163.(3/22)
وحذروا سلاطينهم من فتنته ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم ويسيرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به إلى منقطع أثره بتربه بلده من بادية لبلة.. وهو في ذلك غير مرتدع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبث علمه فيمن ينتابه بباديته تلك من عامة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة يحدثهم وفقهم ويدارسهم ولا يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف " (1) .
انهزم ابن حزم - إذن - أمام المذهب المالكي لان السياسة في المغرب وقفت تسند ذلك المذهب، وما حرق كتبه إلا شاهد قوي على ذلك، وبعد وفاة ابن حزم بسنوات وقعت الأندلس في قبضة المرابطين فبلغ انتصار المذهب المالكي أقصاه؛ لان أمير المرابطين لم يكن يحظى عنده إلا من علم علم الفروع - أي فروع مذهب مالك - فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها وكثر حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - هكذا قال المراكشي (2) ؛ وهذا هو عين ما كان ينعاه ابن حزم على فقهاء بلده ويلح من اجله على دعوتهم إلى الكتاب والسنة وهجر التقليد للأئمة.
2 - هذه الرسالة:
تحوي رسالة الفقهاء المالكية إلى ابن حزم نقاطاً ومسائل كثيرة، وليس من همي ان أسرد كل ذلك ولكني اختار أهم الاتهامات التي وجهوها إلى ابن حزم نفسه. ولا يخطئ الناظر في هذه الرسالة أن يرى تلك الناحية التي عانى ابن حزم شيئاً كثيراً من أجلها، اعني علاقته بعلم المنطق، فهو عند هؤلاء الفقهاء متهم بأنه يرد بالمنطقي على الشرعي وله عناية بحد المنطق، والشق الأول من التهمة باطل لان ابن حزم اتخذ المنطق أساساً في الأحكام الشرعية ليثبت به تلك الأحكام لا ليردها، وأما الشق الثاني فيشير إلى كتاب التقريب " وما فيه من التعمق والعرض وترتيب الهيئات " (3) وقد كان رد ابن حزم على هذا واحداً حيثما هاجمه به أعداؤه وهو: هل عرف هؤلاء الناس حد المنطق أو لم يعرفوه فإن عرفوه فليبينوا ما فيه من المنكرات، وإن لم يعرفوه فكيف يستحلون ان يذموا ما لم يعرفوه
__________
(1) الذخيرة 1/ 1: 168.
(2) المعجب: 111.
(3) انظر الفقرة: 11 من الرسالة.(3/23)
وقد يتفرع عن هذه التهمة المزدوجة انه أوغل في التصنيف والتمثيل والاشتقاق والنتائج وأنهم يقرون بقوته في الحجاج واتساعه في اللغة ولكنهم يرون طريقته مخالفة لما كان عليه الأئمة من قبل، وكأنهم يلمحون من طرف خفي إلى اقتداره على المنطق هو المسؤول عن ذلك أيضاً. وقد دفع ابن حزم هذا كله، وحمد الله على رزقه من سعة اطلاع وقوة حجة ولم يحمدهم على شهادتهم له بذلك لأنها لا تزيده شرفاً ولا تطغيه.
وأما اتهامهم له بأنه ضعيف الرواية عار من الشيوخ فهو متصل - فيما يبدو - بكونه لم يرحل في طلب العلم. ولم ينف ابن حزم هذه التهمة، وإنما رد عليهم بتهمة مقابلة، فهو ليسوا من أهل الرواية وكل ما يعرفونه هو المدونة، وأكثرهم لا يقيم الهجاء، ولا يعرف ما حديث مرسل من مسند، وهم أيضاً عارون من الشيوخ، ما كان لهم شيخ قط إلا عند الملك بن سليمان الخولاني (1) ، وكانوا يجالسونه ثم يخرجون من عنده كما دخلوا.
وأقوى ما واجههوه قولهم: " إن أسماء الرجال والتواريخ تختلف في الآفاق، والأسانيد فمنها قوي ومنها ضعيف ". وقد شرح ابن حزم موقفه من الأحاديث المتعارضة باختصار في هذه الرسالة، وملخص ما قاله في الإحكام حول هذه المسألة (2) .
(أ) كل خبر لم يأت إلا مرسلاً، أو لم يروه إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرعة فهو باطل بلا شك.
(ب) من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون استثبتنا أحدهما فإن ثبتت عدالته قطع على صحة خبره وإن ثبتت جرحته قطعنا على بطلان خبره وإن تعادلا توقفنا، وربما اهتدى غيرنا إلى الصواب فيه.
(ج) لا يكون خطأ في خبر ثقة إلا باعترافه أو شهادة عدل على أنه وهم فيه أو إثبات خطأ بالمشاهدة.
(د) كل خبرين صحيحين متعارضين لم يأت نص بالناسخ منهما فالزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ. " فإن وجد لنا يوماً غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه، وهي وهلة نستغفر الله عز وجل منها وإنا
__________
(1) ترد ترجمته عند ورود ذكره في الرسالة.
(2) الإحكام 1: 136 - 138.(3/24)
لنرجو أن لا يوجد لنا ذلك بمن الله تعالى ولطفه ".
ولا يزال هذا المنهاج من الناحية النظرية سديداً جيداً، أما عند التطبيق العملي فإنه يسمح باختلاف كثير.
وقد كشفت هذه الرسالة عن عدة أمور هامة، منها: مدى اطلاع ابن حزم على الفقه المالكي: " فلعمري ما لشيوخهم ديوان مشهور ومؤلف في نص مذهبهم إلا وقد رأيناه ولله الحمد كثيراً ككتاب ابن الجهم وكتاب الأبهري الكبير والأبهري الصغير والقزويني وابن القصار وعبد الوهاب والأصيلي ". ومنها نظرته الموضوعية الناقدة بعد اطلاعه على ما ألفه أهل كل مذهب: " فألف أصحاب الحديث تواليف جمة وألف الحنيفون تواليف جمة وألف المالكيون تواليف والشافعيون تواليف فلم يكن عندنا تأليف طبقة من هذه أولى أن يلتفت إليه من تأليف غيرها بل جمعناها - ولله الحمد - وعرضناها على القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
وحدد ابن حزم في هذه الرسالة مظان الحديث المعتمدة عنده وهي: تصنيف البخاري وأبي داود والنسائي وابن أيمن وابن أصبغ وعبد الرزاق وحماد ووكيع ومصنف ابن أبي شيبة أو مسنده وحديث سفيان بن عيينة وحديث شعبة. ويقول ابن حزم إنه أضرب عن الحديث المستور من الرواة صيانة لأقدار الأئمة عن تعريضهم لمن لا يعبأ به الله شيئاً. وذكر أنه كان يقتني كل هذه الدواوين وقد رواها وضبطها وصححها.
وثمة شيء آخر كشفت عنه هذه الرسالة وهو شيوع آراء منسوبة لابن حزم لم يقل هو بها (ف: 26، 27، 28، 30) وكان هذا مما يوسع شقة الاختلاف بينه وبين أهل المذاهب الأخرى.
- 3 -
رسالة في الرد على الهاتف من بعد (1)
وهذه الرسالة شبيهة بالرسالة السابقة، بل توشك أن تكون ثانية الرسالتين اللتين سئل فيهما سؤال تعنيف، إذ يقول في أولها " أما بعد فإن كتابين وردا علي لم يكتب كاتبهما اسمه فيهما "، ثم يذكر أنه أجاب عن الاول، وأنه بصدد الإجابة في هذه
__________
(1) يرى الابن العزيز الباحث الظاهري المحقق أبو عبد الرحمن بن عقيل أن هذه الرسالة كانت رداً على أبي الوليد ابن البارية أحد فقهاء ميورقة. (انظر ص: 126) .(3/25)
الرسالة عن الكتاب الثاني. ومنزع الاتهامات في الرسالتين واحد، وإن كانت تلك الاتهامات في الرسالة السابقة اعم واكثر وقد أديت بلهجة محاور هادئ نسبياً. أما في هذه الرسالة فإن من بعد امرؤ غاضب يعتمد الشتم والبذاء أكثر مما يعتمد الاحتجاج، فهو يتهم ابن حزم بأنه مفتون جاهل أو متجاهل وأنه ينطوي على خبث سريرة وأنه قليل الدين ضعيف العقل قليل التمييز والتحصيل، وأنه نبغ في آخر الزمان بعيداً عن القرون الأولى الممدوحة في وقت غلبت عليه قلة العلم وكثرة الجهل (وفي هذا يشركه أيضاً الهاتف من بعد دون أن يدري) وهو ينذره بضرورة التوبة فغن لم يفعل فإنه سيستعدي عليه أهل العلم في أقطار الأرض ليفتوا بآرائهم في من كان على مثل حاله، ويختم ذلك داعياً أن يريح الله العباد والبلاد من ابن حزم أو يصلحه إن كان سبق ذلك في علمه.
ومع أن هذا السيل من الهجاء يمكن أن يعد هراء لا يغير حقيقة ولا يثبت تهمة، فإن ابن حزم جزأ أقوال هذا الهاتف في أربعة عشر موقفاً، ورد على كل موقف، حتى إن الهاتف حين قال " أنائم أنت أيها الرجل بل مفتون جاهل أو متجاهل " أجابه ابن حزم بهدوء شديد، ملتزماً الفهم الحرفي الظاهري لما أورده ذلك الهاتف فقال: فما نحن ولله الحمد إلا أيقاظ إذا استيقظنا ونيام إذا نمنا، وأما الفتنة فقد أعاذنا الله منها وله الشكر واصباً وأما وصفك لنا بالجهل فلعمري إننا لنجهل كثيراً مما علمه غيرنا، وهكذا الناس، وفوق كل ذي علم عليم (الفقرة: 4 في الرسالة) .
وهذا السيل من الشتائم يدور حول تهمتين ترددنا في الرسالة السابقة:
(1) أولاهما أن ابن حزم يطعن على سادة المسلمين وأعلام المؤمنين ويقذفهم بالجهل، بل تخطى ذلك إلى الصحابة، وقال انهم ابتدعوا في الرأي وطعن عليهم وسفه آراءهم، وذهب به الاعتداد بالنفس حداً بعيداً حين ظن أنه قد صح له ما لم يصح للصحابة، ومن ثم فهو متناقض لأنه يدعو إلى عدم تقليد الصحابة ويحث أتباعه على تقليده.
والرد على هذه التهمة سهل، فابن حزم لم يطعن على أحد من أعلام المؤمنين وسادة المسلمين لا من الصحابة ولا ممن جاء بعدهم، بل هو يأخذ دينه مما نقله هؤلاء عن الرسول (ص) ، وهو يعتقد انه أصح تقديراً للصحابة والأئمة السابقين لأنه جرى على سنتهم في رفض الرأي والقياس والتقليد، وهو لا يتعصب لإمام على إمام كما يفعل(3/26)
خصومه، وإنما يأخذ كل ما يأخذه عن القرآن والسنة، وإذا كان لا يحتج برأي واحد دون الرسول ولا يقلده فليس معنى ذلك انه يعيبه ويزري عليه. إنما يطعن على الصحابة من ترك جميع ما قالوه إلا ما كان موافقاً لإمامه الذي يقلده. أما اتهامه بأنه يحث أصحابه على تقليده فإنها تدل على غفلة قائلها، إذ لا يصح لامرئ ينهى عن التقليد جملة وتفصيلاً، أن يفتح الباب على نفسه فيدعو الأصحاب لتقليده، فمثل ذلك تناقض لا يقع فيه شخص له أدنى حظ من الذكاء.
من الواضح أن توجيه هذه التهمة لابن حزم إنما كان يمليه التناحر المذهبي، ومحاولة الغض من الخصم بكل وسيلة ممكنة، وتشويه موقفه لإسكاته، وعلى ذلك فإن هذه التهمة الباطلة ظلت تلصق بابن حزم، حتى لقد رددها بعض الباحثين في العصر الحديث، دون أن يفقه مدى الشنعة فيها. ولو قال قائل انه يستعمل عبارة فجة خشنة - كما قال الذهبي (1) - لكان أقرب إلى الواقع، ولكن شتان بين ذلك وبين الوقيعة والطعن.
(2) وأما التهمة الثانية فهي ان تورط ابن حزم في إنكار الرأي والقياس والقول بالتقليد أو إن شئت فقل بلسان الخصوم: إن خروجه على مذهب مالك وغيره إنما كان بسبب تعويله على كتب الأوائل والدهرية وأصحاب المنطق وكتاب أقليدس والمجسطي وغيرهم من الملحدين.
وهذه التهمة أضعف من التي قبلها والرد عليها أسهل ولذلك واجهها ابن حزم بقوله: أخبرنا عن هذه الكتب من المنطق وأقليدس والمجسطي، أطالعتها أيها الهاذر أم لم تطالعها فإن كنت طالعتها فلم تنكر على من طالعها كما طالعتها أنت وهل أنكرت ذلك على نفسك، وأخبرنا ما الإلحاد الذي وجدت فيها وإن كنت لم تطالعها فكيف تنكر ما لا تعرف
والحقيقة التي تشف عنها هذه التهمة هي الجهل المطبق لدى ذلك الهاتف، فإن من يزج بكتاب أقليدس في مبادئ الهندسة مع كتب الملحدين والدهرية إنما يكشف عوار نفسه ومبلغ جهله.
ومسألة أخرى أهم من هذه جميعاً فاتت جميع الذين هاجموا ابن حزم وهي أن اطلاعه على هذه الكتب كان يجب أن يقوي لديه الميل إلى الأخذ بالرأي والقياس،
__________
(1) تذكرة الحفاظ: 1154.(3/27)
أي الاحتكام إلى الجانب العقلاني في النظر إلى الأمور الشرعية، ومع ذلك فإن مطالعتها لم تزده إلا تصلباً برفض الرأي والقياس في شؤون الدين والشريعة، وبرفض العلل في تلك الشؤون نفسها، وكل ما أفاده ابن حزم من الاطلاع على المنطق هو أن يستوعب قيام الأحكام الشرعية على أسس منطقية. هو أمر حاوله الغزالي من بعد ولم يتهمه أحد بالإلحاد أو بالانقياد لآراء الدهرية.
- 4 -
رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق
تصور هذه الرسالة منعطفاً في مشكلة الثقافة بالأندلس، فبعد الثورة التي مثلها ابن عبد ربه ومن جرى مجراه على الثقافة الهيلينية متمثلة في التهكم بمن يقول بكروية الأرض أو بمن يطلب علم النجوم (أو الفلك بوجه عام) (1) أصبح المثقفون ينقسمون في فريقين: فريق يقبل على علوم الأوائل وفريق يعادي هذه العلوم ويقبل على علوم الشريعة، وعلى هذا الأساس وجه السؤال إلى ابن حزم: أين يقع الحق هل هو في صف طلاب الثقافة الهيلينية أو هو في صف طلاب الثقافة الإسلامية
ويبدو أن الذين طرحوا هذا السؤال على ابن حزم دون غيره من الناس إنما كانوا يحاولون الحصول على جواب توفيقي يبعث الاطمئنان في نفوسهم؛ إذ لا ريب في أنهم كانوا يعملون موقفه من علوم الأوائل، وما ناله من خصومه بسبب إقباله على تعلمها. ولكن يبدو أيضاً أن الذين ألقوا عليه ذلك السؤال لم يعرفوا رسالته في مراتب العلوم (وهي رسالة ستكون من مشتملات الجزء التالي) لأنهم لم يطلعوا عليها أو لأنها لم تكن قد كتبت بعد، أو أنهم اطلعوا عليها فلم يقتنعوا بما جاء فيها من مقررات - والفرض الأول أقرب إلى الرجحان - ولها جاءوا يسألونه حول الأفضلية: بين العلوم التي تنسب للأوائل والأخرى التي جاءت متصلة بالنبوة، مؤكدين أنهم يريدون بياناً مختصراً في هذه المسألة، ليكون حاسماً على نحو تقريري واضح، لا يضيع فيه الجواب المحدد في تضاعيف التفصيلات.
واستجابة لهذا المطلب قام ابن حزم بحصر العلوم المنتمية إلى الأوائل في أربعة هي/ الفلسفة وحدود المنطق، علم المساحة، علم الهيئة، علم الطب، ووصفها بأنها
__________
(1) انظر تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 121 - 123.(3/28)
علوم حسنة لأنها حسية برهانية، وأنها نافعة، ولكن منفعتها كلها دنيوية، لأنها تفيد في شؤون متعلقة بواقع الإنسان على هذه الأرض وتحقق له مصلحة في الدنيا، ومن هذا الجانب لا يمكن أن تكون المطلب النهائي للإنسان، إذ لا تستطيع أن تنافس ما جاءت به النبوة؛ ذلك أن ما جاءت به النبوة يحقق ثلاثة أشياء هامة تعجز عنها علوم الأوائل، وهي:
(1) إصلاح الأخلاق النفسية بينما العلوم الهلينية لا تستطيع إلا إصلاح الجسد؛ ومن الواضح أن إصلاح النفوس ومداواتها أهم من إصلاح الأجساد ومداواتها.
(2) دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة وإيقاف التظالم بينهم، أي تنظيم أمور المعاش وإحقاق العدالة بين الناس، وهذا لا تستطيعه العلوم لأنها اجتهاد بشري غير ملزم ولا ينقاد له الناس بالطاعة كما ينقادون لأوامر صادرة من خارج نطاق الاجتهاد الإنساني.
(3) كفالة النجاة للنفس بعد المرحلة الدنيوية.
وقد يبدو من هذا العرض أن ابن حزم انتصر للعلوم الدينية دون أن ينكر الدور الهام الذي تقوم به علوم الأوائل، ولكن التعمق في دراسة الرسالة يدل على انه استطاع الربط بين الجانبين ربطاً وثيقاتً حين ذهب يثبت ضرورة الاستدلال العقلي البرهاني الذي يعده مدخلاً إلى التدين (1) ؛ فالمؤمن يستطيع عن طريق التمرس بالفكر المنطقي أن يتوصل إلى البت في أمر العالم: هل هو محدث أو لم يزل، والطرق للبرهان على حدوثه متعددة منها تناهي العدد، ومنها ان الزمان ذو مبدأ، وهذا يعني وجود أول وراء العالم، وهذا الأول لا يمكن أن يكون ذا مبدأ، وأن هذا الأول - وهو محدث العالم - هو الذي علم اللغة وأعطى الأشياء مسمياتها؛ فإذا قد صح ذلك حق لنا ان نتساءل: هل مبتدئ العالم واحد أو اكثر من واحد، وإذا فتشنا وجدنا أن الواحد غير موجود في تركيب العالم، لأنه قابل دائماً للانقسام، وإذن لا بد من واحد خارج عن تركيب العالم.
بعد ثبوت حدوث العالم ووجود أول محدث له ينتقل المرء ليتفحص الشرائع بنظر عقلي أيضاً (مستفاد من دراسة علوم الأوائل) فيجد الشرائع من مسيحية ويهودية
__________
(1) هذه هي طريقته الذاتية (في الربط) ولكنه لا يفرضها على الآخرين. كما يتبين من الرسالة التالية حين سئل هل فرض الله النظر؛ أي الاستدلال العقلي فنفى أن يكون النظر مفروضاً (الفقرة: 9 من الرسالة التالية) .(3/29)
ومجوسية ومانوية وصابئية جميعاً فاسدة، لفساد النقل إما بتغيير أو انقطاع أو ضياع أو تناقض أو غير ذلك، فلم تبق إلا شريعة واحدة تتمتع بالصحة وذلك هي ملة محمد (ص) وذلك لسببين هامين أولهما أن كتابه منقول عن كواف وثانيهما أن أعلامه مثل إعجاز القرآن وشق القمر منقولة كذلك.
من ثم يتبين أن جميع العلوم ليست سوى أدوات في خدمة العلم الذي يجدر بالإنسان أن يمضي عمره في طلبه، لأنه يكفل النجاة في المعاد، وهو علم الشريعة الإسلامية؛ فهو علم يؤخذ عن صاحب الشريعة نفسه لا عن غيره، من غير ان يكون لطالبه هدف دنيوي من إدراك رياسة أو كسب مال.
- 5 -
رسالة التلخيص لوجوه التخليص
هذه رسالة من أجود ما كتبه ابن حزم وأكثره هدوءاً وأعلقه بأسباب النفوس الباحثة عن طريق النجاة، ترفرف عليها مسحة الأخوة وتشملها سعة الأفق ورحابة الصدر، وفيها يظهر شموخ ابن حزم في اتساع النظرة الدينية، فهي خلاصة للاستقصاء في البحث والقدرة على الوضوح والوعي والدقة وفهم أحوال الدين والدنيا، كتبها رداً على أسئلة جاءته من بعض أصدقائه " لا يستغني عنها من له أقل اهتمام لدينه " أجادوا فيها السؤال وجود هو فيها الجواب، فضم الأسئلة المتشابهة بعضها إلى بعض في نطاق واحد واستشهد على آرائه بالأحاديث متخففاً من إسنادها في الأكثر، رجاء الاختصار، وكلها أحاديث صحيحة لا يشك أحد في صحتها ولا يتردد في قبولها إلا حديثين (ف: 8) .
والأسئلة في مجموعها ثمانية وهي:
1 - ما أفضل ما يعمله المرء ليحصل به على عفو ربه وما انفع ما يشتغل به من كثرت ذنوبه في تكفير الصغائر والكبائر.
2 - ما العمل الذي إذا قطع به الإنسان باقي عمره رجا الفوز وما السيرة التي يختارها ابن حزم.
3 - ما القدر الذي يطلبه المرء من العلوم
4 - أي الأمور في النوافل أفضل الصلاة أم الصيام أم الصدقة(3/30)