وإن قلنا: لا يعتبر الرضا بعد القرعة والتعيين، فإذا رضيا بالقسمة ابتداء، ثم ادعى أحدهم حيفاً بعد القرعة، فالوا: سبيل هذه الدعوى كسبيل دعوة الغلط في قسمة الإجبار. هذا ترتيبهم.
وفيه نظر.
أما قولهم: إذا تراضيا بعد القسمة، فلا رجوع إن كان محتملاً، فلا يجب أن يكون مقطوعاً به؛ فإن الرضا كان على تقدير التعديل والاستواء؛ فإذا بان خلاف ذلك، ظهر الحكم بفساد القسمة، فكأن الرضا مقيدٌ بشرط الاعتدال، وهذا كتقديرنا تقيُّدَ البيع بشرط السلامة. وهذا متجه.
وما ذكروه في آخر الترتيب من أنا إذا لم نشترط إعادة الرضا آخراً، واكتفينا بالرضا الأول، فالقاسم يصير كالحاكم في قسمة الإجبار، فهذا أيضاً فيه نظر؛ فإن قاسم القاضي مولّىً أو شاهداً، والذي ينصبه الشريكان ليس في هذا المعنى، والمسألة محتملة.
ولو لم ينصبا قاسماً أصلاً، ولكنهما اقتسما بينهما من غير قاسم، فلا بد في هذه الصورة من الرضا بعد القسمة؛ إذ لا متوسِّط بينهما، حتى يكون قَسْمه مستنداً لرضاهما. هذا هو الظاهر. وفيه احتمال على تقدير القسمة المنشأة مرضيّاً بها؛ فإنه لو توسطهما قاسم، فالتعويل على قسمته لا على عينه.
11995- ومما يليق بتمام البيان في ذلك أنهما لو تفاضلا، وعلما تفاوتاً في القسمة، وتراضيا به على علم، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب لزوم هذا، وفيه غائلة.
والوجه أن نقول: إن قلنا: إن القسمة إفراز، فلا تصح القسمة إلا مع التعديل، وإن قلنا: القسمة بيع، فإذ ذاك يجوز أن تَلْزمَ بالرضا مع العلم، ثم يتضح عندي اشتراط لفظ البيع هاهنا؛ فإنا إنما نقيم لفظ القسمة مقام لفظ البيع إذا جرت حقيقةُ القسمة، وحقيقتُها التعادل، وهذا لطيفٌ حسن.
11996- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الشريكين إذا تناكرا فادعى أحدهما القسمة،(18/564)
وأنكرها الثاني، فإن لم يكن متعلَّق بقاسم من جهة القاضي، فالقول قول النافي. وإن تعلقت بقاسم القاضي، فالرجوع إلى قول القاسم؛ فإنه حاكم، أو شاهد.
فإذا ادعى الغلط على القاسم من جهة القاضي، ولم يجد بينة، فقد ذكرنا أن دعواه لا تسمع على القاسم، فلو قال: أحلّف شريكي؛ فإنه عالم بأنى منحوسُ [الحظ] (1) ، فله تحليفه، فإن حلف، انقطعت الخصومة، وإن نكل، رد اليمين على المدعي، فإذا حلف يمين الرد، نُقضت القسمة، وأعيدت من الرأس.
وإن ادعى على جمعٍ من الشركاء، فحلف بعضهم، ونكل بعضهم، قال الأئمة: تُرد اليمين بسبب نكول الناكلين، فإذا حلف، انتقضت القسمة في حق الناكلين. قال صاحب التقريب: إذا قلنا: يمين الرد كالبينة، فقد قال بعض الأصحاب: تنتقض القسمة في حق الكلّ: من حلف، ومن نكل، كما لو أقام بينة.
وهذا سخيف، لا أصل له، فإن يمين الرد إنما يكون بينة في حق الناكل فحسب، فأما من حلف، فقد درأ يمينَ الرد عن نفسه، وهذا الوجه نقله صاحب التقريب، وبالغ في تزييفه، ولولا نقلُه لما ذكرناه.
فصل
11997- إذا كان في أيدي طائفة ملكٌ مشترك، فجاءوا إلى القاضي، والتمسوا منه أن ينصب قاسماً ليقسم الدار بينهم، فهل يجيبهم القاضي؟ إن كان ثبت ملكهم عند القاضي بطريق من الطرق، أجابهم، وإن لم يثبت ملكهم، فهل ينصب قاسماً؟ فعلى قولين: أحدهما - لا ينصبه؛ فإنه لم يتحقق عنده ملكهم، فالإقدام على القَسْم -وقد يكون الملك لغيرهم- تصرّفٌ قبل ثبوت موجِبه، ولو قسم بينهم، فربما يتعلقون به، ويعدُّونه حجةً في ثبوت الملك، وهم مبطلون. ولا حاجة إلى هذا، فإن القاضي يوضح: إني قسمتُ باستدعائهم، ولم يثبت عندي ملكُهم.
والتعويل في توجيه هذا القول على ما قدمناه من أن القَسْم تصرفٌ، لم يثبت موجِبه.
__________
(1) في الأصل: " الحق ". والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط. والحظ هنا بمعنى النصيب.(18/565)
والقول الثاني -وهو الأصح- أنه يجيبهم إلى القسمة، ولا حاجة إلى إثبات الملك فيما هذا سبيله، بدليل من [أدخل] (1) إنساناً داره، أو أضاف القاضي، فكل ذلك جائز، وما زال الأتقياء الأبرار يعتادون مثل هذا، يأخذون الأمر على ظاهر اليد، وإن لم تقم عندهم حجج بالأملاك، ولا نعرف خلافاً أن من باع داراً في يده، وأشهد على البيع القاضيَ، أثبت القاضي إقراره، ولم يطالبه بتثبيت ملكه قبل البيع.
وما ذكرناه من طلب القسمة فيه إذا جاءوا طالبين عن تراض منهم، فإذا جاء واحد مطالباً، وامتنع عليه [أصحابه] (2) ففي المسألة طريقان: أحدهما - أنه يجيب في هذه الحالة لقطع الخصومة، والطريقة الثانية - طَرْدُ القولين، وليس ينقدح عندي للامتناع عن القسمة وجهٌ. نعم، يجب القطع بجواز القسمة، كما استشهدنا به في جواز دخول الدار، فأما وجوب القسمة، ولم يثبت بعدُ عند القاضي ملكٌ، فهذا فيه تردد، من جهة أن لوجوب يجوز أن يستدعي موجِباً، فأما الجواز، فيكتفي بظاهر الحال.
فصل
11998- إذا تعذّرت القسمةُ في الملك المشترَك، فأقرب مسلك في الانتفاع المهايأة، فإن وقع التراضي عليها، فذاك، ثم هي مياومةٌ، أو مسانهةٌ، أو مشاهرةٌ، أو مسابعة، على ما يقع التوافق عليه، ولا إجبار على المهايأة في ظاهر المذهب.
وذهب ابنُ سريج إلى الإجبار عليها؛ فإن قسمة الرقبة إذا تعذرت، فلو لم تجب المهايأة، لتعطلت المنافع، ومعتمد أهل المذهب أن المهايأة فيها تعجيلُ حق أحد الشريكين، وتأخير حق الثاني، بخلاف قسمة (3) الرقاب، فإن الحصص تنفصل دفعةً
__________
(1) هكذا قدرناها على ضوء ما بقي من حرف اللام في آخر اللفظة. وعبارة الغزالي في البسيط تشهد لنا، حيث قال: " فيجوز القسمة باستدعائهم، كما يجوز للقاضي أن يدخل عليهم ضيفاً، ويأكل من طعامهم بقولهم " ا. هـ (ر. البسيط: جزء 6/ورقة: 116 ش) ثم جاءتنا (ق) موافقة لما قدرناه.
(2) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من ظلال الحروف. وأيدتنا (ق) .
(3) في الأصل: " قيمة " والمثبت تصرف من المحقق. وقد صدقتنا (وَ) .(18/566)
واحدة، فإن قلنا: لا تلزم المهايأة بالدعاء إليها، فلو جرت، فما مضى من النُّوَب لا تتبُّع لها.
وإن كان الشركاء في ابتداء النوبة، فاستوفى واحد نوبة، فهل يجب إدارة هذه النوبة على الباقين حتى يستووا؟ فعلى وجهين، أقيسهما أنه لا يجب؛ فإن الوجوب لو ثبت، لكان مأخوذاً من تقابل المنافع بمعاوضة، أو طريقة مقرِّبة من المعاوضة، وهذا ممتنع في المنافع، فالوجه أن يغرَمَ هذا المستوفي حصص أصحابه من المنفعة، إذا امتنعوا عن الاستمرار على المهايأة.
والوجه الثاني - أنه يجب إجراءُ نوبةٍ دارّة عليهم، ثم هم على خِيَرتهم بعدها، وهذا اختيار القاضي، ووجهه عندنا أنها لو جرت، فلا تتبع، فلا تخرج على مذهب التقاصّ، بل يرى ما جرى معاملة سديدة، عمل بها من مضى وبقي، فإذا استوفى واحد نوبة، وجب بحكم ذلك طردها إلى الآخِر.
وإذا قلنا: لا إجبار على المهايأة، وقد تمانع الشركاء [نَكَداً] (1) ، فأي شيء نفعل والحالة هذه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُتعرض لهم، ونترك الأملاك متعطِّلةً إلى أن يصطلحوا. والثاني - يباع الملك، ويقسم الثمن بينهم، وهذا لا أصل له، فلا أعدّه من المذهب، وإنما هو مذهبُ بعض السلف، ثم هذا إنما يجري إذا أداموا النزاع والمطالب، فإن تركوا، تركناهم.
***
__________
(1) في الأصل: " بكذا ".(18/567)
باب ما على القاضي في الخصوم والشهود
قال الشافعي: "وينبغي للقاضي أن ينصف بين الخصمين في المدخل عليه للحكم ... إلى آخره" (1) .
11999- قال الأئمة: من تولى القضاء، فينبغي أن ينتجز الكتب (2) من الإمام، أو من والي الإقليم، ثم تثبت ولايته في الناحية التي [رشح لها بالاستفاضة] (3) ، وهذا القدر كافٍ عند المحققين، والمشاهَد فيه سِيَرُ الأولين، والدليل الخاص فيه من جهة المعنى أن المُولِّي ذو الأمر، وليس للرَّعايا مطالبةٌ حتى يناط بحُججٍ خاصة، وأيضاً
فاعتبار الحُجج عسر؛ فإنها لو ثبتت، فمن يقيمها، وعند من تقام؟
ثم قال قائلون: مجردُ الكتاب كافٍ، وهو يعتضد عند استمرار الإمرة، وامتداد اليد الباطشة، واشتهار أمور الولاية في مكانها بأن ذلك لا يجترىء عليه ذو عقل، وهو مع هذا معتضد برسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاته، فما كانوا يستصحبون إلا كتبَ الرسول، حتى اشتهرت قصة ذلك المتخرص الذي أتى قوماً، وزعم أنه [رسول] (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرَموه، وبَرّوه، ثم وفدوا على رسول الله عليه السلام، وأخبروه، فلعنه، وقال: " إذا رجعتم إليه، فاقتلوه، وما أراكم تدركونه " (5) . فرجعوا وألْفَوْه حُمَمَه، وكانت أدركته صاعقة فاحترق، ووجه التعلق بالقصة أن الرسول عليه السلام لم ينكر عليهم، ولم يأمرهم باستظهارٍ في المستقبل، وعدّ ما جرى من التخرص نادرةً لعن بها صاحبها.
__________
(1) ر. المختصر: 2/245.
(2) كذا. والمراد كتاب التولية.
(3) في الأصل: "وشح لها الاستفاضة".
(4) في الأصل: " الرسول ".
(5) حديث الرجل الذي ادعى أنّه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سبق تخريجه.(18/568)
والذي يجب ضبطه في هذا -بعد التأصيل- أن من صدر عن الحضرة العليا لولاية عظيمةٍ في ناحية متسعة الخِطة، فمثل هذا يستفيض الخبرُ عنه، فالاستفاضة كافية، وحكى العراقيون هذا واعتمدوه، ووجهاً آخر أنه لا بد من عدلين يُشيعان في أهل الناحية صَدَرَ [الولاية من الإمام] (1) ، ثم ليسا شاهدين، ولكنهما مُسمعان، يُشيعان، عددُهما عددُ الشهود، لتعلق الأمر بما يخصّ الناسَ، ويعمهم، فكان شبيهاً بالشهادة من هذا الوجه، وإن لم يكنها في الاختصاص بمجلسٍ والتزام لفظ الشهادة، وهذا يناظر ما سيأتي في معنى التسامع في الأنساب، وهذا [معنى] (2) الاستفاضة.
فإن جرى مثلُ هذا، ولم يستفض الخبر، والأليق بالحال الاستفاضة، فإذا ورد، ففي هذه الحالة نظر آخر، يجوز أن يقال: لا بد من الاستفاضة بناء على قطبٍ في الأصول، وهو أن الأمور العظيمة إذا جرت، فلا بد أن تشيع، فأقلُّ المراتب أن يُورِّثَ ذلك تردداً وخبلاً.
ومن أصحابنا من اكتفى بكتاب [الوالي] (3) وهو عندي مشروط بظهور مخايل الصدق، وهو بيّن في خطوط الكتاب المشهورين وانشراح [الصدر] (3) به، فإن الخَوّان في مثل هذا على وفازٍ (4) من أمره.
وقال قائلون: لا بد من شاهدين في هذا المقام، وهذا لا بأس به، والمراد بالشاهدين عدلان يُشيعان.
وإذا استخلف القاضي حاكماً في قرية، فقد لا يستفيض مثل هذا، فلا تُشترط الاستفاضة، بل ينقدح فيه الكتاب أو شاهدان.
وينبغي للذي يَقْدَم (5) أن يقدّم [كِتْبته] (6) إلى محل الولاية، ويتعرف عن أحوال
__________
(1) في الأصل: "صدر الوالي". والزيادة والتعديل من المحقق.
(2) في الأصل: " مع ".
(3) مكان كلمة انمحت تماماً في نسخة الأصل.
(4) وفاز: أي عجلة وقلق وعدم اطمئنان.
(5) قدم البلدة يقدَم من باب تعب. (المصباح) .
(6) الكتبة والكتاب بمعنىً، ويطلقان على المكتوب. (المصباح) . وهي في الأصل: كتبه. والمثبت تصرف من المحقق.(18/569)
العدول والمزكين، وأركان القضاء، ويكتب إليهم: استعدوا، ويكون هذا من أسباب الاستفاضة، حتى لا يكون مَقدمه فجأة، إذ لو فاجأهم، وتفاوض الناس بالتشبيب بالتكذيب، سمُجَ الأمر، وانكسرت السَّوْرة (1) .
12000- وإذا دخل البلد وتصدى للقضاء، فينبغي أن يبداً بالتعرف عن أحوال المحبوسين، لا يقدّم على ذلك شغلاً، والسبب فيه أن الحبس عذاب، وإدامة العذاب على أقوام من غير تثبتٍ، لا سبيل إليه، وليس هذا من تعقب أحكام القاضي الأول.
وقد ذكرنا أنه لا يتعقبها إلا أن تُرفع إليه، والنظر في حال المحبوسين ليس من ذلك، فإن الحبس كما ذكرناه عذاب ناجز مستمر، وقد يكون المحبوس مظلوماً، وقد يكون في المحبوسين من حبس تأديباً، وفيما مضى من الحبس كفاية، وتقديم ما ذكرناه حتمٌ وليس من الآداب، حتى قال الأصحاب: لا ينبغي أن ينظر في خصومةٍ تُرفع إلى مجلسه ما لم يفرّغ قلبه من هذا الفن.
ثم يُحضر المحبوسين، فمن أقر منهم أنه محبوس بحق، ردّه إلى السجن، ومن ادعى أنه حبُس ظلماً، فالوجه أن يقول: من خصمك؟ فإذا ذكره، أحضره، وسأله، وأمره بأن يبتدىء الدعوى، وإقامة البينة، على ما لا يكاد يخفى ترتيب الخصومة. وإن قال: قد حَبَسه القاضي المصروف، فكان ذلك حكماً منه؛ وحكمه لا ينقض، قيل له (2) : أَثْبِتْ حُكمَه بما تَثْبُتُ به أحكام القضاة. أما صورة الحبس ليس (3) حكماً، فإذا عجز الخصم عن إثبات حقٍّ يوجب الحبس، أطلقنا المحبوس، ولا تطويل بجعل هذا ابتداء خصومة.
12001- قال القاضي رضي الله عنه: من قال من المحبوسين: حبست ظلماً، أطلقناه، وهذا الكلام حق، ولكنه خشن (4) ، فالمعني بالإطلاق أن يخرج من
__________
(1) السَّورة: القوّة، والحدّة، والبطشة. (المصباح) .
(2) قيل له: أي خصم المحبوس.
(3) جواب أما بدون الفاء.
(4) كذا. ولا أدري لها وجهاً. اللهم إلا إذا كانت على معنى مجازي. وفي (ق) : " حسن ". لكن كيف تتفق مع الاستدراك؟ والله أعلم.(18/570)
الحبس، ولكن لا يخلى سبيله حتى يحضر خصمه، وفي كلام القاضي ما يدل على أنه يخلّى سبيله، ولا يتشبث به، ولست أنكر اتجاه هذا في القياس؛ فإن التشبث به من الحبس، فإن ادعى مدّعٍ استعدى عليه. فإنا لا ندري أن ذلك القاضي حبسه بالحق أم لا، وحبس القضاة منقسم إلى حقٍّ، وظلم، وأدب، وحملٍ على تأدية حق، فيحصل مما بسطناه أن ما صار إليه الجماهير التشبث به إلى التفحص، من غير أن يرد إلى الحبس. والذي ذكره القاضي أنه يطلق، ثم خصمه يتبعه ويستعدي عليه.
فإن فرّعنا على ما عليه الجماهير، قلنا: لو وجدنا محبوساً لا يعرف له خصماً، فكيف السبيل فيه؟ قال الأصحاب: يأمر القاضي من ينادي باسمه، ويقول: فلان بنُ فلانٍ محبوسٌ، فمن خصمه؟ فإن لم يظهر له خصم، أطلقه، إذا كان يقول: حبست بالظلم، أو كان يقول: لا أدري لم حُبست، ولا أعرف على نفسي حقاً يوجب حبسي.
ثم قال الأصحاب: ينادي عليه إلى حد الإشاعة؛ فإن النفوس تتشوف إلى الطلب إن كان طالب، ثم ذكر الأصحاب أياماً. ولا يطاف به، وإنما يذكر اسمه على حد التعريف، وهو في ذلك لا يحبس ولا يخلَّى، بل يُنصب من يراقبه، ثم يطلق. وهل نأخذ منه كفيلاً ببدنه احتياطاً؟ ذكر صاحب التقريب فيه وجهين: أحدهما - أن عليه إعطاء كفيل، فإن امتنع، رددناه إلى الحبس، والثاني - ليس عليه ذلك، وهو الصحيح الذي قطع به الأئمة.
ولو كان خصمه غائباً، وزعم المحبوس أنه مظلوم، ولو انتظرنا مطالبة الغائب، لطالت المدة، والمراقبةُ أخت الحبس، فهل يطلق والحالة هذه؟ ذكر بعض المصنفين في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يطلق، بل يكتب إلى الموضع الذي به الخصم، حتى يحرص [على] (1) إظهار حجته، فإن قصّر، أطلقناه. والثاني - أنه يطلق على الفور.
وإذا قلنا: لا يطلق، عنينا به أنه يراقب، فأما الرد إلى الحبس، وإدامة العذاب، فلا سبيل إليه.
وقد يرى الإنسان في مجموعات الأصحاب عبارات موهمة، ولكن ليثق بما
__________
(1) في الأصل: " في ".(18/571)
ذكرناه؛ فإنا لا نورد -إن شاء الله- في هذا المجموع إلا ما نتثبت فيه، ونرتبه على نَخْل كلام الأصحاب، وحذف المجازات.
12002- فإذا انتجز نظره في ذلك تأمل أحوال الأمناء المنصوبين من جهة القاضي المصروف؛ ونظر فيهم، وفيما في أيديهم، فإن أمكنه في أثناء ذلك أن يفصل خصومة جديدة -من غير أن يتطرق إلى نظره فيما ذكرناه خللٌ- فليفعل، وإلا فالبداية بأحوال المحبوسين، وبعدها بأموال الأطقال في أيدي القُوّام والأوصياء الذين صدَرُهم عن القاضي. وإن استخلف حيث يجوز الاستخلاف في فصل الخصومات الجديدة وتعاطى بنفسه ما ذكرناه من المُهمَّيْن فجائز.
12003- ثم اندفع الشافعي في بيان كيفية إدخال الخصمين ورعاية الإنصاف بينهما، فنقول: لا يأذن لأحدهما دون الآخر؛ فإن ذلك يكسر قلب المحجوب، ويُغَلِّب على ظنه الميلَ إلى خصمه، وإذا دخلا عليه، وسلّما، ردّ جواب سلاميهما، وإن سلّم أحدهما، فقد أفرط بعض الأصحاب، وقال: لا يردّ جوابه، بل يسكت؛ بناء على أنه وضع السلام في غير موضعه؛ فإن القاضي في شغل شاغل، ولا ينبغي أن يُسلَّم عليه وهو كذلك.
هذا وجه.
وإن أراد قال لخصمه: سلّم، ثم يرد جواب سلاميهما، وهذا عندي سرفٌ، وإن ذكره القاضي، فإنَّ رد جواب السلام محمولٌ على ابتداء أحدهما بالسلام، وهذا مما لا يخفى ولا يُظهر ميلاً.
ثم يسوّي بينهما في المجلس ولا يرفع أحدَهما على الثاني، وإن كانا متفاضلين إذا كانا مسلمين، أو ذميين، فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن يسوّي بينهما لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي سوّ بين الخصمين في مجلسك ولَحْظك " ويروى " آس بين الخصمين " (1) . هذا أحد الوجهين.
__________
(1) حديث " يا علي سوَّ بين الخصمين في مجلسك ولحظك " ويروى " آس بين الخصمين ".=(18/572)
والوجه الثاني - أنه يرفع المسلم على الذمي؛ فإنه لو سوّى بينهما، كان ذلك نوعَ مهانة واستذلال، وروي أن علياً كانت له خصومة مع ذمِّي، فرفعه إلى شريح، فلما دخل عليه، قام له شريح، فقال رضي الله عنه: " هذا أول جَوْرك "، ثم أسند عليٌّ ظهره إلى الجدار، وقال: " أما أن خصمي لو كان مسلماً، لجلست بجنبه " (1) .
ويسوّي القاضي بينهما في النظر، فلا يخصص أحدهما بالنظر، بل يُطرق، ولا ينظر، أو ينظر إليهما، ولا يتبسم في وجه واحد، ويتعبّس في وجه الآخر، ويجتنب على الجملة ما يشعر بتخصيصه أحدَ الخصمين بمكرمة، أو إقبال.
12004- ثم إذا جلسا إليه، فلا بأس أن يقول: من الطالب منكما، أو من المدعي؟ فإذا ادعى المدعي، وصحّت دعواه، على ما سيأتي تصحيحُ الدعوى في كتابها، إن شاء الله، ثم هل يطلب الجواب من الخصم من غير أن يطلبه المدعي؟ فيه وجهان: أصحهما - أنه يطلب؛ فإن قرينة الحال قاطعة بأن المدعي مطالِب بالجواب،
__________
= الحديث بهذا اللفظ في مخاطبة الإمام علي رضي الله عنه لم نصل إليه، وإنما وجدناه في ذلك قوله رضي الله عنه " نهى النبي أن نضيف الخصم إلا وخصمه معه " رواه عبد الرزاق في مصنفه (15291) وإسحاق بن راهويه في مسنده (إتحاف الخيرة المهرة: 6730) والطبراني في الأوسط (3934) والبيهقي في الكبرى (10/137) . أما اللفظ الذي ذكره الإمام فقد ورد في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري المشهور، وفيه "وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك" رواه الدارقطني (4/206، 207) والبيهقي (10/135) وفي المعرفة (7/366 رقم 5873) . وفي حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليسوِّ بينهم في النظر والمجلس والإشارة" وفي رواية " فليعدل في لحظه وإشارته ومقعده " رواه الدارقطني 4/205، وأبو يعلى (5867) و (6924) والطبراني في الكبير (23/284) .
(1) أثر علي من وجه آخر وفيه عمر بن شمر عن جابر الجعفي وهما ضعيفان، وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: لم أجد له إسناداً يثبت. ا. هـ ملخصاً من التلخيص الحبير (ر. البيهقي: 10/136، التلخيص: 4/355 ح2610، مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط (7/313) .ي رضي الله عنه رواه أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة أبي سمير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي وقال: منكر، وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح، ورواه البيهق(18/573)
ولا معنى للتطويل ومعاودة المدعي. والثاني - أنه لا يطلب الجواب ما لم يلتمس المدعي؛ فإن هذا حق المدعي، فلا يطلب دونه طلبه، ثم إذا طلب الجواب، فلا يخلو المدعى عليه أن يقرّ أو ينكر، فإن أقر، ثبت الحق إذا كان الإقرار صحيحاً، ولا حاجة بأن يقول القاضي: قضيت بإقراره - على المذهب الأصح.
وقال بعض أصحابنا: الإقرار كالبيّنة المعدَّلة، وهذا ليس بشيء؛ فإن وراء التعديل وقفات، وتوقُّع رَيْب، فلا بد من قطعها بإظهار القضاء.
وإن أنكر المدعى عليه، فالأصح أن القاضي يقول للمدعي ألك بيّنة؟ ومن أصحابنا من قال: لا يقول ذلك، فإنه من باب تلقين الحجة، وهذا ليس بشيء؛ فإن المدعي قد لا يعرف ترتيب الخصومة، ويتحيّر عن دَهَشٍ، ففي السكوت عنه إبطال حقه.
فلو قال المدعي: لا بيّنة لي حاضرة، ثم أقام بعد ذلك بيّنة، سُمعت وفاقاً. فإن قال: لا بيّنة لي، لا غائبة، ولا حاضرة، ثم أقام بينة، فهل تسمع منه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا تسمع، تمسكاً بقوله، والثاني - أنها تسمع؛ فإنه قد لا يعلم أن له بينة، ولو قال: لا بيّنة لي، فهو كما لو قال: لا بينة لي حاضرة، ولا غائبة، مع تخيل ترتيب. ولو سكت المدعى عليه- فإن كان عن عيٍّ وحصر، روجع، وإن أصر، كان ذلك كالإنكار، وسيعود هذا في كتاب الدعوى إن شاء الله.
12005- ثم قال الشافعي: " ولا ينبغي أن يُضيّفَ الخصم ... إلى آخره " (1) .
قرىء يُضيف بضم الياء، وقرىء يَضيف بفتحها، ومعناه لا ينزل على الخصم ضيفاً، وقد ذكرنا هذا في الولائم، وبالجملة يجتنب من هذا ما يجر تهمة، أو يظهر ميلاً إلى خصم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/245.(18/574)
فصل
قال: " ولا يقبل هدية ... إلى آخره " (1) .
12006- المستحب للقاضي أن يسد باب قبول الهدايا جملة، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً في الصدقات يقال له: ابن اللُّتْبية، فرجع بسواد كثير، فكان يُخرج البعضَ، ويقول: هذا للمسلمين، ويُخرج البعضَ ويقول: هذا لي أُهدي إليّ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال أقوام نستعملهم على بعض ما ولاّنا الله تعالى، فيرجع الراجع بمالٍ، ويقول: هذا لي أهدي إلي، وهذا للمسلمين، هلاّ جلس في خفش أمه، ينظر هل يهدى إليه أم لا " (2) والخفش البيت الصغير.
وقصة عمر في رِجْل الجزور معروفة (3) .
ثم قال الأصحاب: ينظر إلى المُهدي، فإن كانت له خصومة، فلا يحلّ قبول الهدية منه، وعلى هذا يحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هدايا الأمراء سحت " (4) فإن قبل، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يملكه، وهذا معنى التحريم، ومن أصحابنا من قال: يملكه؛ فإن الهبة صدرت من مطلق، وكذلك القبول، والتحريم محمول على التعرض لللهمة بالأمر الظاهر، فالمِلْك بالإضافة إلى التحريم كالصلاة في الدار المغصوبة.
وهذا الخلاف يقرب من تردد الأصحاب في أن من دخل عليه وقت الصلاة في
__________
(1) السابق نفسه.
(2) حديث ابن اللتبية وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام نستعملهم ... " متفق عليه (البخاري: الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ح 6636، مسلم: الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، ح1832) هذا، وفي كل ما رأيناه من روايات الحديث "بيت أمه" مكان " خفش أمه ".
(3) قصة عمر مع الرجل الذي أهداه فخذ جزور رواها البيهقي في سننه الكبرى: 10/138.
(4) حديث "هدايا العمال سحت" قال الحافظ في التلخيص: رواه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس (ر. التلخيص الحبير: 4/349 ح2590) .(18/575)
السفر ومعه من الماء ما يكفيه لوضوئه، فوهبه ممن لا يحتاج إليه لسقيه، فهل يملكه؟ وقد قدمنا ذكر ذلك في كتاب الطهارة.
وإن لم يكن للمهدي خصومة، فلا يخلو: إما أن يكون من بلد ولايته، وإما ألا يكون من ولايته، فإن لم يكن من ولايته نظر: إن كان يهدي إليه قبل أن ولي؟ فقبول الهدية قريب، إذا (1) اجتمع عدم الخصومة، وأنه ليس من ولايته واعتاد الإهداء قديماً، والمستحب الامتناع، وإذا قبل، مَلَك، وإن كان لا يُهدي إليه من قبلُ ولا خصومة، وليس هو من ولايته، فيكره القبول، وإذا قبل، مَلَك. والأَوْلى أن يُثيب، فإن لم يفعل وضع الهدية في بيت المال، وإن كان من بلد ولايته، وكان يهدي قديماً، فلا كراهية، والمستحب الامتناع.
ولا يخفى ما بعده، وإن كان لا يهدي قديماً، وهو من أهل ولايته، ولا خصومة له، اشتدت الكراهية، والذي عليه الجريان أنه لو قبل، مَلَك.
وقال القفال في بعض طرقه: إذا حرمنا قبول الهدية، وهو إذا كانت مع الخصومة، فلا يحصل الملك بالقبول. وإذا لم يكن خصومة- ولكن كان الرجل من أهل ولايته وما كان يعتاد الإهداء، ففي حصول الملك وجهان. هكذا قال، وإذا أجرى الوجهين قال على أحدهما: يحرم قبول الهدية لا محالة.
والطريقة المشهورة للأصحاب أن الهدية إذا لم تكن في حالة الخصومة، فهي متملكة، ولا يطلق إلا الكراهية. وإن كانت في حالة الخصومة، قطعنا بالتحريم.
وفي حصول الملك وجهان.
فصل
قال: " وإذا حضر مسافرون ومقيمون ... إلى آخره " (2)
12007- إذا ازدحم على مجلسه مسافرون ومقيمون، فإن قلّ المسافرون وهم على
__________
(1) إذا: بمعنى إذ.
(2) ر. المختصر: 5/245.(18/576)
وِفاز، وربما ينقطعون عن الرفاق لو أُخروا، فالأصح أن القاضي لو أراد تقديم المسافرين، ورآه رأياً، فله ذلك.
وكذلك إذا حضرت النساء مع الرجال وخفّ أمرهن، بحيث لا يظهر من تقديمهن أثر وضرر، فللقاضي أن يقدمهن حتى ينقضي انكشافهن، ويتميّزن عن الرجال.
فإن كثر المسافرون والنساء، وكان معظم الضرر على الرجال وأهل الحضر، فلا تقديم، والأمر مردود إلى القرعة إن استَووْا، وإن سبق بعضهم، فالسبق لمن سبق، وليس له بحق السبق أو القرعة أن يدّعي على خصم، ثم بعده على آخر، وإنما يستفيد بهذا خصومة واحدة مع شخص واحد.
ولو أراد أن يدعي على خصم واحد دعويين أو ثلاثة قال القاضي: يحتمل ذلك وجهين، ومنشؤهما من تردد في كلام الشافعي واختلافٍ في كيفية قرائته. قال: " لا يسمع منه في مجلس إلا في حكم واحد " قراً بعضهم إلا في حكمٍ واحد مع التنوين، وموجَب هذا ألا يزيد على خصومة واحدة، وإن اتحد المدعى عليه كما لو تعدد المدعى عليه، وهذا هو القياس، ومنهم من قراً إلا في حكمِ واحدٍ على الإضافة من غير تنوين، ولا يبعد أن يفهم منه فصل خصومات مع شخص واحد. هذا بعيد. ثم لا مزيد على الثلاث.
وهذا فتح باب لا أصل له، فالوجه ألا يزاد على خصومة واحدة بحق السبق والقرعة.
ومن أصحابنا من يقول: لا يقدَّم مسافر ولا امرأة، وليس إلا اتباع السبق أو القرعة.
وإذا استبق طلبة العلم، نُظر: فإن كان ذلك العلم مما لا يجب تعليمه، فالخيار إلى المعلم، وإن كان مما يجب تعليمه الناس فلو خصص به أقواماً فيهم غُنية، فهل يجوز له ذلك؟ فعلى وجهين، والأولى المنع من التخصيص؛ فإنه لا يدري من المفلح ومن المتخرج، فليقصد التعميم وإن كان لا يتأتى الجمع في التعلق، فإن أقدار الطلبة يوجب أن يخصصوا بما يليق بمناصبهم، فعند ذلك يقع السبق أو القرعة.(18/577)
12008- ثم قال: " ينبغي للإمام أن يجعل مع رزق القاضي شيئاً لقراطيسه "، والمراد بذلك أن تهيأ للحُجج التي يخلدها في ديوان القضاء قراطيسُ، فإن لم يفعل، فالقاضي لا يخرجها، ولكن يقول للخصم: إن أردت أن يتأكد حقك، فائْت بقرطاس أُثبت ما ثبت عندي لك عليه، وأتذكر إذا رجعتُ إليه، فإن لم تُرد، فلا عليك.
12009- ثم أعاد الشافعي فصلاً من القضاء على الغائب. وقد مضى مفصلاً على أحسن مساق، والذي نجدده ههنا أنا ذكرنا أن من توارى وامتنع، نفذ القضاء عليه نفوذَه على الغائب، وقد ذكر القاضي هذا وارتضاه. وذكر معه وجهاً آخر أن القضاء لا ينفذ عليه ما لم يحضر مجلس الحكم، ثم قال: وهذا الاختلاف يضاهي اختلافَ الأصحاب في أن الممتنع عن أداء الثمن مع القدرة، هل يكون كالمفلس المحجور عليه حتى يرجعَ البائع في عين المبيع إن وجده، ويفسخَ العقد؟ فيه وجهان. ولذلك نظائر.
ولو كان الخصم مريضاً، فالوجه أن يستخلِف من يحضُره (1) ويقضي عليه.
12010- فأما المخدّرة، فنتكلم في وصفها، ثم في حكمها، فأما وصفها: قال (2) قائلون من الأصحاب: هي التي لا تعتاد التبذل بالخروج للحوائج، وإن كانت تخرج إلى العزايا والزيارات، فهذا لا ينتهى إلى التبذل، ولا يناقض التخدير.
قال القاضي: الذي عندي أن المخدَّرة هي التي لا تخرج لحوائجها، ولا تخرج للزيارة والعزايا على اعتيادٍ، فلو خرجت على تردُّدٍ، لم يبطل تخديرها.
والمخدَّرة عندنا هي التي لا تخرج إلا لضرورة، هذا وصفها. فأما حكمها؛ فقال قائلون: يحضُرها المستخلَف أو القاضي بنفسه، ولا يكلفُها حضورَ مجلس القضاء. فإن التبرج إذا لم يكن من عادتها يُلحق بها ضرراً عظيماً يزيد على ما يَلحق المريض لو تكلف الحضور.
__________
(1) أي يستخلف القاضىِ نائباً عه يذهب إلى المريض حيث هو، فيسمع منه، ويسأله على حسب ترتيب الدعوى، فيكون حضور نائب القاضي ومستخلَفه عنده كحضوره هو إلى القاضي.
(2) جواب أما بدون الفاء.(18/578)
وسنذكر في الشهادة على الشهادة التقريبَ المعتبرَ في المرض الذي يتخلف شاهد الأصل بسببه عن مجلس الحكم، إن شاء الله.
وقد ذهب الشيخ الققال إلى أن المخدَّرة تحضر مجلس الحكم كالبَرْزة، فإنها إذا كانت محمولة على هذا المعنى، لم يقدح خروجها في تخدُّرها، وإنما يخالف حالَها اختيارُ البروز في غير حاجة، وهذا متجه في القياس، وإن كان معظم الأصحاب على مخالفته.
12011- ولو كان المدعى عليه غائباً على مسافة العدوى، استعدى عليه الحاكم إذا طلب خصمُه، كما مضى، ولو كان على مسافة القصر، لم يكلفه الحضور بمجرد دعوى المدعي، ولو كان على مسافة قاصرةٍ عن مسافة القصر زائدةٍ على مسافة العدوى، فظاهر المذهب أنه لا يستحضره بمجرد الدعوى، ما لم يُقم الخصم بينة.
ومن أصحابنا من قال: يُحضره بمجرد الدعوى، وهذا لم أذكره فيما سبق، فأعدته لهذا. والله أعلم.
فرع:
12012- إذا سبق إلى مجلس الحاكم رجلان، فابتدر أحدهما وادعى، فقال الثاني: بادرتَ بالدعوى، وكنت أنا المدعي، فالقاضي يقول له: اخرج عن عهدة الدعوى، ثم ادّع، ولو أنشآ دعويين معاً؛ فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك مذاهب، حكاها عن العلماء، ولم يعزُها إلى الأصحاب فقال: منهم من قال: من كان له بيّنة منهما، فهو المدَّعي، ومنهم من قال: يقدِّم القاضي من شاء منهما، ومنهم من قال: يطردهما، حتى يتوافقا على من يبدأ بالدعوى، أو يسبق أحدهما في مجلس آخر، ومنهم من قال: يُقرع بينهما.
قال العراقيون: مذهبنا أنه يقرع بينهما، والأمر عندنا على ما ذكروه، فلا يستدّ على قياسنا إلا الإقراع، وما سواه من المذاهب متروكةٌ على القائلين بها، غيرُ معدودة من المذهب إلا ما حكاه العراقيون.
***(18/579)
ثم قال: " وإذا علم من رجل بإقراره أو بيقين أنه شهد بزورٍ ... إلى آخره " (1) .
12013- إذا ظهر للقاضي أن رجلاً شهد بزور، وتبين أنه اعتمد الكذب، ولم يكن ما جاء به عن عثرةٍ، ابتدره وعزّره على ما تقدمت مراتب التعزير، ثم ينبغي أن يبعثه إلى مجتمع الناس، كالمسجد الجامع وغيره، حتى يُنادَى عليه ويشاعَ عنه ما فعل، ويُحذر الناس من تحميله الشهادة.
فصل
قال المزني: " واختلف قوله في الخصم يقر عند القاضي ... إلى آخره " (2) .
12014- مضمون الفصل الكلامُ في أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما - أنه يقضي، قال في الرسالة: " وأقضي بعلمي، وهو أقوى من شاهدين، وبشاهدين، أو شاهدٍ وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، وبشاهد ويمين، وهو أقوى من النكول ورد اليمين ".
ووجه [هذا] (3) القول أن القاضي إذا كان يسند قضاءه إلى ظنون يستفيدها من قول الشهود، أو يمين المدعي، فلأن يُسندَه إلى يقين نفسه أولى.
والقول الثاني - أنه لا يقضي بعلمه؛ لأن ذلك فتحُ بابٍ لتطرق التهم إلى القضاة، ولا يليق بقاعدة الإيالة فتحُ ذلك، فإن القاضي إذا قضى بعلمه، ولم يكن ممن يراجِع أو يستفصل، أوْغر ذلك الصدور [وأبهم] (4) الأمور، والتعرض لمثل ذلك محذور.
وقال الربيع: كان الشافعي يرى القضاء بالعلم، وكان لا يبوح به لقضاة السوء.
ثم إذا جوزنا له أن يقضى بعلمه، [فنعني] (5) بذلك ما يستيقنه لا ما يظنه، وإن
__________
(1) ر. المختصر: 5/246.
(2) ر. المختصر: 5/246.
(3) زيادة اقتضاها السياق. ثم جاءت بها (ق) .
(4) في الأصل: "أوهم".
(5) في الأصل: "فتعين".(18/580)
غلب ظنه؛ فإن للظنون مآخذَ لا تسند إلى غيرها ثم لا فرق بين أن يعلم في مكان ولايته وزمانها، وبين العلم الذي يحصل له في غير مكان الولاية وزمانها، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه، فإنه جوّز أن يقضي بعلمٍ يستفيده في مكان الولاية وزمانها دون غيره. والذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن القاضي يقضي بعلمه قولاً واحداً في تعديل الشهود، [كما] (2) قدمناه في فصل التزكية.
وأبعد بعض الأصحاب، وقال: لا يفعل ذلك، بل يُسند الأمرَ إلى تزكية المزكين قياساً على غيره، وهذا القائل يقول: تعديله لا يستند إلى علم. فإذا كنا نمنع القضاء بما يستيقنه، كيف يجوزالحكم بما يظنه؟
ولم يختلف علماؤنا في أن القاضي يمتنع عن القضاء بناءً على علمه (3) . وبيانه أنه إذا شهد شاهدان على زوجيّةٍ، وعلم القاضي أن بين المدعي بها وبين المرأة محرمية، فلا يبالي بشهادة الشهود. وكذا إذا شهد شهود على موت إنسان بتأريخ ذكروه، وعلم القاضي أنه كان حياً في ذلك الزمان، فلا يقضي بشهادة الشهود؛ فإنه إذا كان يتوقف في القضاء لريبة تلحق الشهود، فكيف يستجيز القضاء بها، وهو يستيقن الكذب عمداً منهم أو خطأ.
ثم قال الأئمة: إذا امتنع، فحسنٌ أن يذكر ما عنده، وذلك أنفى للتهم.
ثم اختلف طرق أئمتنا: فالذي ذهب إليه الأكثرون ترتيبٌ نسوقه. وذلك أنهم قالوا: القولان في القضاء بالعلم فيما يتعلق بالأموال، وألحقوا بذلك الأموالَ الثابتة لله كالزكوات، والقضاءُ بالعلم في العقوبات مرتب على الأموال، والأولى أن لا يقضي فيها بالعلم.
ثم العقوبات تنقسم: فمنها ما هو لله، ومنها ما هو للآدميّ. والقضاء بما هو للآدمي أولى، ولا يخفى وجه الترتيب، فإن العقوبة الثابتة للآدمي بالإقرار لا تسقط بالرجوع، بخلاف العقوبة الواجبة لله تعالى. هذه طريقة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 332، بدائع الصنائع: 7/7، حاشية ابن عابدين: 5/23.
(2) زيادة من (ق) .
(3) الامتناع عن القضاء بناءً على علمه محل اتفاق، وإنما الخلاف هو في الحُكم بناء على علمه.(18/581)
ومن أصحابنا من لم ير الترتيب، لأن العلم لا ترتب فيه. وإنما تترتب الظنون على حسب ترتب درجات المظنون. وهذا وإن كان متجهاً، فالطريقة المشهورة الترتيب.
12015- ومن تمام القول في ذلك أن القاضي إذا سمع إقرار إنسان سرّاً، ثم إنه أبدى الإنكار جهراً، فهذا من صور القضاء بالعلم، ولو أقر في مجلس القضاء على رؤوس الأشهاد، فلا شك أنه يقضى بالإقرار، قولاً واحداً؛ فإن الإقرار في مجلس القضاء حجةٌ ظاهرة.
وذكر بعض أصحابنا أن الإقرار الذي سمعه سراً يقضى به قولاً واحداً؛ لأنه حجة، وجملةُ مجالس القاضي بمثابة [مجلسه] (1) الذي يتصدى فيه للقضاء. وهذا بعيد، فالوجه التفصيل، فإنا إذا منعنا من القضاء بالعلم، فسببه توقِّي اللهم، وهذا يتحقق في الإقرار الجاري سراً.
ومن تمام البيان في ذلك أنا إذا منعنا القضاء بالعلم، فهل يصير علم القاضي مع شاهد واحد بمثابة شاهد ينضم إلى شاهد؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه لا ينحط علمه عن شاهد.
والثاني - وهو القياس- أنه لا أثر لعلمه، ولا اعتداد بعلمه؛ إذ لو اعتددنا به، لاقتصرنا عليه، وأيضاً؛ فإن اللهمة هي المجتنبة، وهي تظهر عند القضاء بالشاهد الواحد.
فصل
في التحكيم
12016- إذا حكّم رجلان رجلاً، فهل ينفذ حكمُه بينهما في الأموال؟ فيه قولان، والنكاح مرتب عليه؛ وهو أولى بألا يجوز، والعقوبات مرتبة على النكاح؛ ولا يخفى وجه ترتيبه.
واختلف الأصحاب في محل القولين: فمنهم من قال: إذا كان في البلد قاض، لم
__________
(1) في الأصل: "مجلس".(18/582)
يجز التحكيم قولاً واحداً، وإن لم يكن، ففي المسألة قولان. وقال آخرون: إن لم يكن في البلد قاض، جاز التحكيم قولاً واحداً، وإن كان في البلد قاض، ففي المسألة قولان. ومن أصحابنا من طرد القولين في الموضعين.
والكلام في حقيقة هذا الفصل قد يتصل طرف منه بما لا يسوغ الخوض فيه، وهو إذا شغر الزمان عن إمام، فكيف الوجه في الأحكام المتعلقة بالولاة؟ ولا يليق ذكر ذلك بفن الفقه. وقد استقصينا ما فيه مَقْنع في الكتاب المترجم (بالغياثي) (1) .
12017- ثم يُشترط أن يكون المحكَّم ممن تقبل فتواه، ويضم إلى ذلك اشتراط حريته وذكورته، والقول الوجيز فيه أنا نشنرط أن يكون [بحيث] (2) يسوغ من صاحب الأمر أن ينصبه قاضياً.
ثم لا بد في تحكيمه من رضا الخصمين، ونزولهما جميعاً على حكمه، فلو تعلّق [الحكم] (3) بثالث لم يصدر منه الرضا والتحكيم، فحكم المحكّم لا ينفذ عليه، ثم إذا رضي الخصماًن بحكمه ابتداء، فأنشأه، فهل نشترط استفتاح رضىً بعد الحكم؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا بد من ذلك، وبه يحصل الالتزام التام، ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن يتم حكمه، لم ينفذ حكمه وفاقاً، وإنما الخلاف فيه إذا استمرا على الرضا حتى حكم، ولم يجددا رضاً. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا رضيا أولاً، ثم لما خاض، رجع أحدهما، لم يؤثِّر رجوعُه، ونفذ الحكم، وهذا بعيد. ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن ينشىء الخوضَ، فلا وجه إلا إبطالُ الحكم، وفيه شيء، ولا تخفى المراتب الثلاث التي أشرنا إليها، فليرتب الناظر البعض منها على البعض.
12018- ولو تحاكم رجلان في دعوى قتل خطأ، فأقام المدعي بينة على دعواه،
__________
(1) راجع كلام الإمام حيث يشير، فإنه كلام نفيس معجب، تجده في الفقرات من 551 إلى 563 من (الغياثي) وكان من فضل الله علينا أن أعاننا على تحقيقه وإخراجه في صورة بهيّة نالت إعجاب شيوخنا وأساتذتنا، فالحمد لله أولاً وآخراً.
(2) زيادة اقتضاها السياق. ثم وجدناها في (ق) .
(3) في الأصل: " الحاكم ".(18/583)
وحكم المحكّم، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في أن الدية هل تضرب على عاقلة المدعى عليه، والوجه عندي ألا تُضربَ عليهم؛ فإنه لم يوجد منهم الرضا بحكم المحكّم. ولو أقر المدعى عليه، لم تتحمل العاقلة ما أقرّ به، ما لم يصدّقوه، ثم المحكّم لا يهيء -على المذهب الظاهر- حَبْساً؛ فإنه إن فعل ذلك، فقد ضاهى القاضي؛ وليس إليه إلا إثبات الحكم فحسب. وأبعد بعض الأصحاب، فجوّز ما منعناه. وكان شيخي يقول: ليس إليه استيفاء العقوبات، وإنما إليه إثباتها؛ فإن إقامتها استقلالٌ عظيم وخرمٌ لأبهة الولاية. والصحيح عندنا ما ذكره، والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال: " وأحب للإمام إذا ولّى القضاء رجلاً ... إلى آخره " (1) .
12019- الإمام إذا كان يولّي رجلاً القضاء، فينبغي أن يتخير من يصلح له، ويستجمع الشرائط المرعية، وهي: أن يكون مفتياً حراً ذكراً، ولم نذكر المجتهد؛ فإن الفاسق مجتهد، واجتهاده نافذ عليه فيما عليه وله، ولكن لا تقبل فتواه، والكلام في صفات الاجتهاد يطلب في الأصول، والذي أراه أن يضم إلى ما ذكرناه الكفايةُ اللائقة بالقضاء، وهي عبارة عن التشمير والاستقلال بالأمر، ومواتاةِ النفس على الجد فيما إليه، وهذا يضاهي من صفات الإمام النجدةَ.
وهل يجوز أن يكون القاضي أمياً؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون وقد أشرت إليه فيما تقدم.
12020- ثم قال الشافعي: " إذا ولّى الإمام رجلاً القضاء، فالأولى أن يوليَه الاستخلاف، فإن الحاجة تمَسّ إليه في عوائقَ تطرأ ومرضاةٍ تعرض " (2) . فإن نهاه عن الاستخلاف، لم يستخلف، ولم يخالف، ولو أطلق توليته، ولم يتعرض
__________
(1) ر. المختصر: 5/246.
(2) هذا معنى كلام الشافعي، وليس لفظه ومنطوقه.(18/584)
للاستخلاف إذناً فيه، ولا نهياً عنه، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يستخلف؛ فإنه لم يفوض إليه الاستخلاف.
والثاني - أنه يستخلف؛ فإنه والٍ، وليس مستناباً، وهذا متجه لولا الوفاق على أنه إذا نُهي لم يستخلف.
والوجه الثالث -ذكره الإصطخري- وهو أن خِطة الولاية لو اتسعت بحيث لا يتأتى منه الاستقلالُ فيها بنفسه، فله الاستخلاف؛ فإن مطلقَ توليتِه في مثل هذه الخِطة يُشعر بذلك، وإن كان مستقلاً بما [فُوِّض] (1) إليه لم يستخلف، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في توكيل الوكيل.
ثم حيث يَستخلِف، إن أقام غيره مقام نفسه من التصدي لأركان القضاء، فيُشترط في خليفته من الاجتهاد [وغيره] (2) ما يُشترط فيه، وإن كان يستخلف في آحاد الأركان، فقد لا يُشترط الاجتهاد، بل يكتفى بالاستقلال بذلك الركن المفوض إليه، وهذا كاستخلافه من يحضر موضعاً [لتعيين الشهود بذلك] (3) الموضع، أو كنصبه حاكماً في التزكية، أو ما جرى هذا المجرى، والاجتهاد إنما يشترط فيمن يستقل بالحكم والإمضاء، وكان شيخي يجوّز قصور حكام النواحي عن الاجتهاد إذا لم يفوض إليهم إمضاءَ الحكم، وإنما فوّض إليهم سماعَ البيّنات، وهذا يُحْوِج إلى حظ صالح من الفقه.
فصل
في العزل وما يوجب الانعزال
12021- إذا أراد الإمام أن يعزل قاضياً -مع صلاحه للقضاء- فإن رابه منه أمر، نفذ العزل -وإن لم يتحققه- إذا حصل الظن الغالب.
__________
(1) في الأصل: " فرض ".
(2) في الأصل: " وتخيره ".
(3) في الأصل: " لتعين الشهود ". والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، ونصها: " وإن فوّض إليه تعيين الشهود أو التزكية أو شغلاً معيناً من هذا الجنس فلا يشترط إلا هداية ذلك الفن ".(18/585)
وإن لم يظن به إلا الخير، فقد قال الأصحاب: إن عزله بمن هو فوقه، نفذ العزل، وإن عزله بمن هو دونه في الصلاح للأمر، لم ينفذ العزل في ظاهر المذهب، وإن عزله بمن هو في مستواه، فعلى وجهين، هكذا رتبه القاضي.
وإطلاق هذا الكلام على هذا النسق غفلة عما يُرعى في هذا الباب.
فنقول أولاً: حقٌّ على الإمام ألا يُصدر شيئاً من أمور المسلمين إلا عن رأي ثاقب، ونظر في المصالح، وتأكُّدُ هذا المعنى على قدر الخطر فيما يأتي ويذر، فينبغي أن يوفي كلَّ شيء حظَّه من النظر، وهذا يطَّرد في العزل والتولية، فإن عزل شخصاً [بمن] (1) هو دونه لمصلحةٍ، وهي أن يرى الأصلح أولى لشغلٍ أهمَّ مما هو فيه، فهذا ينفذ، ويجب القطع به، ولا يسوغ تقدير خلافٍ فيه. وإن فُرض منه عزلٌ مطلق، فلا اعتراض عليه، إذا كان يتطرق إليه إمكان النظر، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف.
وإن رددنا الكلام إليه في نفسه، وقلنا: يصدر عزلُه والياً عن نظرٍ، فهل ينفذ ذلك؟ فهذا مما تردد فيه بعض الناس المنتمين إلى الأصول. والذي أقطع به أنه ينفذ. ولكن يتعرض صاحب الأمر بترك الأصلح لخطر المأثم، ولو لم نقل هذا، لرددنا حكم من ولاّه ثانياً، وهذا يجر خبلاً عظيماً، ولست ألتزم الخوض فيه؛ فإنه من غمرات أحكام الإمامة.
ولو عزل القاضي نفسه، انعزل، وهذا يتعلق أيضاً بطرفٍ عظيم من الإمامة، وخلعِ الإمام نفسَه، فلا نتعرض له، ونكتفي بالقدر الذي ذكرناه.
12022- فأما القول فيما ينعزل به القاضي، فأجمعُ كلامٍ فيه أن نقول: كل طارىء عليه يمنع من ابتداء التولية فإنه يوجب انقطاع التصرف بالولاية، كنسيانٍ يطرأ، ويُخل بالاجتهاد، أو الجنون، وهذا لو فرض في الإمام لم نخض فيه أيضاً، وفي فسق الإمام كلام مُخْطِر. فأما فسق القاضي، فيوجب صرفَه، وهل ينعزل بنفسه؟ قطع فقهاؤنا المعتبرون بانعزاله من غير حاجة إلى إنشاء عزل، وقال بعض الأصوليين من علمائنا: لا ينعزل، بل يُعزل، وينفذ من أحكامه ما يوافق الشرع.
__________
(1) في الأصل: " ممن ".(18/586)
ثم إذا جُنّ القاضي، ثم استبلّ، فهل هو على القضاء؟ فيه اختلاف مشهور بين الفقهاء: منهم من قال: قد انعزل بالجنون، كالوكيل يجن، ومنهم من قال: إذا استبلّ، فهو على ما كان عليه؛ فإنه متصدٍّ للولاية؛ فلا يقاس بالاستنابة الضعيفة.
والوجه الحكم بالانعزال؛ لأن تلك الولاية جائزة من جهة أنه يملك عزل نفسه.
والإمام -على الرأي الظاهر- يعزله أيضاً.
12023- ولو عزل الإمامُ القاضي؛ ففي انعزاله قبل بلوغ الخبر طريقان للأصحاب: منهم من قال: فيه قولان كالقولين في انعزال الوكيل قبل بلوغه خبر العزل. ومنهم من قال: لا ينعزل القاضي قبل بلوغ الخبر، قولاً واحداً؛ فإن الأمر في ذلك مُخطر، وتتبّع الأحكام التي أمضاها عسر، والأولى بالإمام أن يعلّق انعزاله ببلوغ الخبر، فيقول في كتابه: " إذا وقفتَ على كتابي، فأنت معزول ". ولو قال: " إذا قرأت كتابي، فأنت معزول " فلم يقرأه بنفسه، وقرىء عليه، قال الصيدلاني: ينعزل، وجهاً واحداً.
وقد ذكرنا في مسائل الطلاق تفصيلاً في ذلك، فرامَ الفرق بينهما؛ صائراً إلى أن تفاصيلَ الصفات مرعيةٌ في تعليق الطلاق، فإن ذكرنا خلافاً في صورةٍ، فسببه هذا، وأمر العزل يُرعى فيه الإعلامُ، ولا يردّد على دقائق الصفات، فإنّ قَصْدَ الإمام هذا، والقصد أغلب من صيغة اللفظ. ولو راعى الإمام غير الإعلام في ذلك، لكان في مقام العابث. هذا كلامُه، وهو حسن، ولكن اتفق الأصحاب على التسوية بين هذا وبين الطلاق في الخلاف والوفاق.
12024- ومما يتصل بهذا الفن أن القاضي إذا عُزل، أو انعزل، أو مات، وله مستخلفون، فكل من كان في أمرٍ جزئي لا يستقل، كمن يُصغي إلى شهادةٍ في خصومة معينة، فإنه ينعزل، ومن كان في أمر مستقل كمستخلَف بحكمٍ، أو قيّم في مال طفل، فحاصل ما ذكره الأصحاب في انعزال هؤلاء ثلاثة أوجه:
أحدها - أنهم ينعزلون؛ فإنهم فروع من ولاّهم.
والثاني - لا ينعزلون، فإنهم ولاة بأنفسهم.(18/587)
والثالث - أن القاضي لو استخلفهم بالإذن، لم ينعزلوا، وكأنهم منصوبون من جهة الإمام، والقاضي واسطة في توليتهم.
وإن ملّكنا القاضيَ الاستخلافَ من غير إذنٍ صريح فيه، فإذا انعزل، انعزل مستخلَفوه؛ فصلنهم تفرعوا عليه حقاً في هذه الصورة.
وهذا التفصيل تخييل؛ فإنّا إذا ملّكناه الاستخلاف فصَدَرُه عن الإمام أيضاً.
ولو مات الإمام، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب القطع بأنه لا ينعزل ولاتُه، بخلاف خلفاء القاضي، فإنا لو حكمنا بانعزالهم، لتفاقم الأمر وعظُم الخطب (1) ، وشغَرَت الخِطة عن أحكام الحكام إلى أن يظهر إمامٌ، وتوليةٌ من جهته.
ومن الفقهاء من طرد الخلاف في ولاة الإمام، وهذا بعيد.
12025- ومما يليق بهذا المنتهى أن القاضي إذا عُزل، فلو قال: قد كنت قضيت لفلان، لم يُقبل قوله، كالوكيل إذا انعزل، ثم أقر بتصرفٍ قَبْل الانعزال، فقوله مردود، ولو قال القاضي في زمان الولاية: قد قضيت لفلانٍ مُخبراً، فقوله مقبول، كالوكيل يقر في زمان الوكالة، ولا يُحوَج القاضي إلى إثبات ما أخبر عنه ببيّنة -وإن منعنا القضاء بالعلم- وهذا متفق عليه؛ ولو أُحْوج إلى البينة، فعند من يقيمها؟!
ولو شهد عدلان على قضاء القاضي بعد العزل: ثبت قضاؤه بالبينة، ولو شهد شاهد واحد، وانتصب القاضي المعزول شاهداً ثانياً على قضاء نفسه؛ فالذي ذهب إليه الأصحاب أن قوله مردود، وقال الأصطخري- فيما حكاه العراقيون: شهاته على قضاء نفسه مقبولة كشهادة المرضعة، فإنها تشهد على إرضاع نفسها، فتقبل شهاتها.
فإن جرينا على ما هو المذهب، ورددنا شهاته [مع شاهدٍ] (2) ، فقال: أشهد أنه قضى لفلان قاضٍ عدل ولم يسمّه، ففي قبول الشهادة على هذا الوجه وجهان- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن ذلك ممتنع؛ فإن الظاهر أنه يعني نفسه ويشبّب بها [والثاني -
__________
(1) بين السطور إشارة إلى أنه في نسخة أخرى: الخطر بدلاً من الخطب.
(2) تقدير من المحقق على ضوء السياق بمساعدة ما بقي من خيالات الحروف. ونحمد الله فقد صدقتنا (ق) .(18/588)
يقبل؛ كما لو] (1) شهد عدلان -لم يقضيا قط- على قضاء قاضٍ، من غيرتسمية وتعيين، فظاهر المذهب قبول ذلك.
فرع:
12026- إذا ولّى الإمام رجلاً القضاءَ، وعزل من كان قبله، فجاء إلى مجلس القاضي [رجل] (2) وادعى أنه ارتشى منه، فالجديدُ يُعدي على المعزول، ويفصل الخصومةَ بينهما. فأما إذا ادّعى أنه ترك الصواب في خصومة، وقضى بشهادة عبدين، أو مُعْلِنين بالفسق، فهل يقبل القاضي الجديد هذه الدعوى؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يقبل، ولا يستحضر المعزول لذلك.
وهذا ليس بشيء، والوجه القطع باستحضاره، والبحثُ عن حقيقة الحال، ثم إذا أحضره، ولم يُقِم المدعي بيّنةً، فقال: حلّف لي هذا القاضي، فهل يحلّفه؟ ذكروا فيه وجهين أيضاً؛ فإن أقصى درجات المعزول أن يكون مؤتمناً، والمؤتمن يحلّف.
والثاني - لا يحلَّف، فإنه ليس يدعي عليه مالاً، وقد ذكر صاحب التقربب هذا الخلاف، وزاد، فقال: من أصحابنا من قال: الدعوى مسموعة على الإطلاق، ثم فرّع المذهب كما مضى. ومنهم من قال: لا تسمع الدعوى حتى يقول: أخذ مني المال ظلماً. والقول في ذلك [تمهد.
ثم قد ذكرنا] (3) الرجوعَ عن الشهادة، وأنهم يُغرّمون إذا رجعوا، والقاضي إذا رجع هل يُغرّم؟ وسيأتي هذا في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
فصل
قال: " وكل ما حكم به لنفسه ... إلى آخره " (4) .
12027- سيأتي أن شهادة الإنسان لولده مردودة، فقال الأصحاب: قضاؤه له بمثابة شهاته له.
__________
(1) مكان كلمات انمحت تماماً، وقدرناها على ضوء السياق. وهي مطموسة في (ق) .
(2) اختيار من المحقق مكان كلمة ذهبت تماماً. ثم صدقتنا نسخة (ق) .
(3) في الأصل: " والقول في ذلك تم بذكرنا الرجوع عن الشهادة " والمثبت من تصرّف المحقق.
ثم جاءت (ق) بمثل عبارة الأصل.
(4) ر. المختصر: 5/246.(18/589)
والأصح تفصيل ذلك، فنقول: قضاؤه له بعلمه مردود -وإن جوّزنا القضاء بالعلم - قياساً على الشهادة، فأما إذا قضى له ببيّنة، ففيه وجهان، وقضاء القاضي على عدوه كشهادته على عدوه، فالوجه عندنا الفصل بين القضاء بالعلم والقضاء بالبيّنة، على الترتيب الذي ذكرناه.
ولو منعنا قضاء القاضي لولده، فلو سمع البيّنة له، وفوّض القضاء إلى غيره، ففي
المسألة وجهان. هكذا رتّبه الأصحاب.
والوجه عندي أن يقال: لا ينفذ تعديلُه البيّنةَ فيما يتعلق بولده، وكذلك إذا كان هو الناقل، فلا مساغ له وإن نقل الشهادة شاهدان عدلان عن الشاهدين الأصليين.
فرع:
12028- ذكر صاحب التقريب في أثناء كلامه أن القاضي الصارف إذا كان يحاسب الأمناء والأوصياء، فذكر بعضهم أن القاضي [المصروف] (1) فرض له أجراً من المال، فإن أقام على ذلك بيّنة، وكان ذلك قدرَ أجر مثله، وفّاه القاضي الصارف ذلك. وإن صدّقه القاضي المعزول، فلا حكم لتصديقه، كما تقدم ذلك.
ولو ادعى أجراً كما وصفناه، ولم يُقِم بينةً، وكان الذي ادعاه أجر مثله، فهل يقبل قوله في ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - يُقبل، فيحلّفه ويوفّيه، ووجهه أن عمله متقوَّم، فلا ينبغي أن يُبْنَى الأمرُ على تضييعه، وهذا يلتفت على أن من استعمل غيره، ولم يذكر له أجراً، فهل يستحق إذا عمل الأجر؟ فيه خلاف مذكور. والوجه الثاني - أنه لا يقبل قوله حتى يقيم البيّنة.
فرع:
12029- إذا ادعى قوم حقوقاً على رجل، فذكر كل واحد ديناً، ووكلوا بحقوقهم وكيلاً واحداً ليخاصم عنهم، فإن لم يرضَوْا بأن يحلّفه يميناًً واحدة، فلا بد وأن يحلف في حق كل واحد منهم يميناً، وإن رضُوا بأن يحلّفه القاضي يميناً واحدة في حق جميعهم مشتملاً على نفي دعاويهم، فهل يقتصر القاضي على يمين واحدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقتصر على يمين واحدة؛ فإن الأيمان حقوقُهم، فإذا رضوا، وجب القضاء على حكمهم.
__________
(1) زيادة للإيضاح.(18/590)
والوجه الثاني - أن ذلك لا يجوز؛ فإن الخصومات متعددة، واليمين جارية في كل خصومة، فالاكتفاء بيمين واحدة يُغيّر نَظْم الخصومات، وهذا بمثابة الاكتفاء بشاهد واحد، فالمدعَى عليه لو اكتفى (1) ولم يُقر، فليس للقاضي أن يقضي بشهادة الواحد، وكذلك القول في جملة أركان الخصومة واليمين منها، والله أعلم بالصواب.
***
__________
(1) المعنى: لو رضي المدعى عليه أن يحكم عليه بشاهدٍ واحد، فلا يحق للقاضي أن يقضي عليه.(18/591)
باب اختلاف الحكام والشهادات
قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ... إلى آخره " (1) .
12030- الإشهاد في البيوع وغيرها من العقود محثوث عليه، لقَطْع توقّع الجحود، وليس حتماً، فلا يجب الإشهاد إلا على عقد النكاح، وفي الرجعة قولان.
وأوجب داود الإشهاد، واستدل عليه بأن قال: " أثبت الله الإشهادَ، وأثبت الرُّهنَ (2) المقبوضة، إذا تعذر الإشهاد بدلاً في الاحتياط عن الإشهاد " (3) ثم الرَّهنُ لا يجب وإن تعذّر الإشهاد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى بعضٌ دماءَ بعض وأموالَهم، ولكن البيّنة على المدير واليمين على من أنكر " (4) ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع أعرابياً فرساً، فجحد الأعرابي الثمن، بقول بعض المنافقين، وجعل يقول: ائت بشاهدك يا محمد إن كان لك شاهد، فشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خُزيمةُ بن ثابت الأنصاري فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لِم تشهد لي، ولم تحضر بيعنا؟ قال: إني أصدقك في أخبار السماء، أفلا
__________
(1) ر. المختصر: 5/246.
(2) الرُّهُن: بالضم جمع رهان (المصباح) .
(3) ر. المحلّى: 8/344.
(4) حديث " لو أعطي الناس بدعاويهم.. " متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ولفظه: " لو يُعطى الناس بدعواهم.. " (ر. اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، ح 1113) .(18/592)
أصدقك على هذا الأعرابي؟ فقال له: أنت ذو الشهادتين " (1) فكان خزيمةُ بعد ذلك يشهد عند الخلفاء، فيقضون بشهاته وحده.
وأصل الشهادة مُجمع عليه.
***
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم " بايع أعرابياً فرساً فجحد الأعرابي الثمن ... فشهد له خزيمة ... " رواه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (ر. أبو داود: الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به، ح 3607، المستدرك: 2/18، البيهقي: 10/146) .(18/593)
باب عدّة الشهود وحيث لا يجوز النساء
قال الشافعي رضي الله عنه: " دلّ الله على أن لا يجوز في الزنا أقلُّ من أربعة ... إلى آخره " (1) .
12031- قال الأئمة: القضايا على خمسة أضرب:
المرتبة العليا منها يشترط فيها البيّنة الكاملة، [وهي] (2) أربعةٌ من الشهود الذكور، وهي الزنا، واللواطُ في معناه؛ إذا أوجبنا الحد فيه، وإن لم نوجب -على قول بعيد- فهل يشترط في ثبوته الأربعة؟ على قولين، قدمنا ذكرهما.
قال الله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] وقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13] ، وقصة أبي بكرةَ مشهورة. ومقدار حاجتنا منها أن أبا بكرة كان في غرفةٍ له مع جماعةٍ منهم: نافع، ونُفَيع، وزياد، وكان المغيرة بن شعبة في غرفةٍ له بحذاء القوم، وكان أسبل ستراً، فهبّت ريحٌ، ورفعت الستر، فوقع بصر القوم عليه وهو جالس على بطن امرأةٍ [يخالطها] (3) ، فجاء أبو بكرة والقوم معه إلى عمر، وشهد أبو بكرة ونافع ونفيع وجزموا شهاداتهم، فبقي زياد، واختلفت الرواية: فروي أن عمر قال له: " أرى وجه رجل أَرْيَحيّ لا يفضح الله على لسانه واحداً من أصحاب نبيّه عليه السلام، وفي بعض الروايات أنه أغلظ له القول، فقال: يا سَلْحَ (4) الغراب بم تشهد؟ فقال: رأيتُ نَفَساً يعلو، واستاً ينبو، ورأيتهما يضطربان في لحاف،
__________
(1) ر. المختصر: 5/246.
(2) مكان كلمة انمحت تماماً.
(3) في الأصل: " يخالط لها ".
(4) ضبطت في الأصل: بكسر السين. والسَّلْح معروف.(18/594)
ورجلاها على عاتقه كأنهما أذنا حمار وما رأيت أكثر من ذلك، فقال: الله أكبر، ودرأ الحد " (1) .
وللإمام أن يفعل مثلَ ذلك في حدود الله، فيسعى في الدرء جهده قبل ثبوته، ويشهد لذلك قصة ماعز، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، وقال لمن حُمل إلى مجلسه بتهمة السرقة: " ما إخالك سرقت، الحديث " (2) .
والإقرار بالزنا لا يشترط فيه العدد، كما تقدم في موضعه، وهل يثبت بشهادة رجلين، أم لا بد من أربعة؟ فعلى قولين مشهورين تقدما.
وليس للإنسان أن يشهد على الزنا بمخايل الأحوال وقرائنها، وإن غلبت على الظن، أو قربت من اليقين، بل يشهد إذا رأى ذلك منه في ذلك منها كالمِرْود في المُكْحُلَة، ثم لا بد من التصريح في لفظ الشهادة. كما سيأتي إن شاء الله هذا الفن في أثناء الكلام. وما ذكرناه كناياتٌ لا يكتفى بها من الشاهد على الزنا.
12032- وهل يجوز للشهود تعمُّدُ النظر إلى سوءة الرجل والمرأة، ليشهدوا على الزنا، أم يحرم ذلك عليهم؟ وإنما يشهدون إذا وقع بصرهم على ذلك وفاقاً؟ ذكر العراقيون وجهين في ذلك: أحدهما - أنه يجوز تعمد النظر لإقامة الشهادة. والثاني - لا يجوز؛ فإنا مأمورون بالستر جهدنا، منهيون عن التجسس.
وكل ما يقبل فيه شهادة النسوة على التجرد، وهو مما لا يطّلع عليه الرجال منهن غالباً، فهل للرجال تعمد النظر إلى تلك المواضع لتحمل الشهادة إذا مست الحاجة إليها؟ ذكروا في ذلك وجهين، ثم جمعوا تحمل الشهادة على الزنا إلى تحمل الشهادة [على] (3) بواطن النساء، وطردوا فيهما طريقين: قالوا: من أصحابنا من قال: لا يحل تعمد النظر لتحمل شهادة الزنا وجهاً واحداً، وفي جواز تعمد النظر إلى بواطن
__________
(1) أثر عمر لما شهد عنده أبو بكرة ومن معه على المغيرة بن شعبة بالزنا، ورجوع زياد، أخرجه الطحاوي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه الألباني (ر. الطحاوي: 2/286-287، البيهقي: 8/234-235، إرواء الغليل: 28/28-30 ح 2361) .
(2) سبق هذا الحديث.
(3) في الأصل: " إلى ".(18/595)
المرأة للشهادة وجهان؛ فإن الحدود على الدرء. ومنهم من قلب الترتيب.
ثم المعللون سلكوا مسلكين: فقال بعضهم: يجوز تعمد النظر إلى البواطن لتحمل الشهادة على النساء وجهاً واحداً، وفي التحمل لأجل الشهادة على الزنا وجهان. وقال قائلون: لا يجوز التعمد في البواطن لأجل الشهادة في غير الزنا مذهباً واحداً؛ لأن في النساء مَقْنعاً، فلا حاجة إلى الرجال، وفي النظر لأجل تحمل شهادة الزنا وجهان، هذا ما ذكروه.
وقد نجزت مرتبةٌ على قدر الغرض، ولسنا نضمن استقصاءَ كل أصل. وإنما نبغي توطئة الأصول وتمهيدها.
12033- المرتبة الثانية - لا يشترط فيها العدد الكامل-وهو الأربعة- بل يكفي عدلان، ولكن لا مدخل للنساء فيه.
والقول في هذه المرتبة ينقسم، فمنه متفَق عليه بين العلماء، ومنه مختلف فيه.
أما المتفق عليه، فما يتعلق بالعقوبات، فلا تثبت عقوبةٌ إلا بشهادة رجلين عدلين، كما سنصف الشهود بعد ذلك إن شاء الله، ولا فرق بين ما يثبت حقاً لله كحد الشرب، وقطع السرقة وحد القطّاع، وبين ما يثبت حقا للآدمي كالقصاص في النفس، واليد، وحد القذف.
وأما المختلف فيه، فمذهب الشافعي أن كلَّ ما ليس بمال، وليس المقصود من إثباته المال، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا يَثْبُت إلا بعدلين ذكرين كالنكاح، يثبته الرجل عليها (1) ، والرجعة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، واللعان، فلا يثبت شيء منها إلا بما ذكرنا عندنا. وألحق الأئمة بذلك الوصاية، نعني نَصْبَ الوصيّ، وألحقوا به الوكالة، وإن كانت في مال، لأنهما ليسا بمال، بل يفيدان حقَّ التصرف، والمالُ لغير المتصرف، والإقرارُ بالاستيلاد من هذا القسم، إذا كانت تُثبت والسيدُ منكر، والإقرار بانقضاء العدة من ذلك.
__________
(1) يثبته الرجل عليها: أي على الزوجة، كما صرح بذلك العز بن عبد السلام في اختصاره للنهاية.(18/596)
وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه يقول: ما سوى العقوبات يثبت بشهادة رجل وامرأتين.
وسلك الشافعي مسلكاً حسناً يليق بمنصبه، فقال: مراتب الشهادات لا يتطرق إليها قياس، والغالب عليها التعبد والاتباع، وبينة الزنا ثابتة في نص القرآن، فاتبعناها، وليس للشهادة على القصاص ذكر في الكتاب والسنة، وإجازة شهادة النسوة ثابتة بالنص في الأموال في آية المداينات، والشهادة على الرجعة في كتاب الله مقيدة بذوي عدل، فكان القصاص عندنا ملتحقاً بالرجعة لا بالأموال.
ثم قال: لا دليل في القصاص إلا اتجاهُ إلحاقه بالرجعة، فكيف يثبت بشهادة رجل وامرأتين، في كلام له رضي الله عنه ذكرناه في (الأساليب) .
12034- المرتبة الثالثة - فيما يثبت برجل وامرأتين، وهو المال، وكل ما يُعنى به المال وحقوقه. أما الأموال، فبيّنة، وما يؤول إلى المال، كالبيع، والشراء، فإن هذه العقود لا تَعْني إلا المالَ، والمعنيّ بها أحكامٌ تنتظم في الأموال، فيثبت بالشاهد والمرأتين البيعُ، والشراء، والإجارة، والعُروض، وإتلاف الأموال، والقتل خطأ، والجوائف، والسِّمْحاق دون المُوضِحة إذا لم يجر القصاص فيها، وفسوخ عقود الأموال، وحقوق الأموال كالخيار واشتراط الرهن، والرهنُ نفسه، والضمان، والإقرار بالمال، والإبراءُ عن الأموال، والحقوقُ وقبضُها.
ومن جمللها قبضُ نجوم الكتابة إلا النجم الأخير؛ فإن المكاتَب إذا أراد إثبات إقباضه برجل وامرأتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يثبت، لأنه إقباضُ مال.
والثاني - لا يثبت، لأن قصد العتق ظاهر فيه، ووطء الشبهة يثبت إذا كان المقصود من إثباته مهر المثل، وتثبت طاعة المرأة لتستحق النفقة، ويثبت القتلُ لاستحقاق السَّلَب، وما في معنى ما ذكرنا لا يخفى مُدركه إذا فَهِم الإنسانُ المقاصدَ، والمرأة إذا أثبتت النكاحَ للمهر، ثبت المهر وإن لم يثبت النكاح، والوصية تثبت وإن لم تثبت الوصاية، والبيع يثبت، وإن لم يثبت التوكيل به.
__________
(1) ر. المبسوط: 16/114، مختصر اختلاف العلماء: 3/345 مسألة: 1476، طريقة الخلاف: 380 مسألة: 159، إيثار الإنصاف: 342.(18/597)
وخرج شهود المال، وتعديلهم، فلا يثبت إلا بذَكَرين؛ فإن هذا ليس من موجِبات الأموال، بل هي إثبات صفات الشهود، ولا تختص فائدتها بواقعة؛ فإن من ثبتت عدالته في واقعة، تثبت في غيرها.
والأصح أن الأجل من حقوق الأموال؛ فإن مقصوده سقوطُ المطالبة في مدة، وإذا كان الإبراء يثبت بالرجل والمرأتين، فلأن يثبت [سقوط] (1) المطالبة أولى.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في إلحاق الأجل بالوكالة، وهذا أشاعه الخلافيون، ورمز إليه أئمة المذهب، ولا يصير إليه إلا ضعيف، لا يهتدي إلى مآخذ المذهب، وستأتي المسائل، والغرض الآن الإيناس بالأصول.
12035- المرتبة الرابعة - ما يثبت بشهادة النسوة المتجردات، وهو كل ما لا يطلع عليه الرجال من النساء غالباً، إلا عن وفاق، كالولادة وعيوب البدن، ومن جملة ذلك الرضاع، فهذه الأشياء تثبت بشهادة أربع نسوة على شرائط الشهادة.
وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: " الولادة -من جملتها- تثبت بشهادة القابلة وحدها -على تفصيلٍ له معروف- وما عداها لا يثبت إلا بشهادة رجل وامرأتين، أو رجلين ".
وما يثبت بشهادة النسوة المتجردات يثبت بشهادة رجل وامرأتين ويثبت بشهادة رجلين.
12036- المرتبة الخامسة -ما يثبت بشهادة ويمين- وفي هذا باب مقصود سيأتي من بعدُ، إن شاء الله- ولا تثبت الولادة وعيوب النساء بشاهد ويمين.
فنقول: ما يثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين، إلا ما يتعلق ببواطن النساء، والسر فيه أن المتبع في الشاهد واليمين السُّنَّةُ، وإلا فالقضاء بشاهد واحد ويمين الطالب خارج عن القياس، وقد ورد في المال، فخصصناه به، والاكتفاء
__________
(1) في الأصل: " بسقوط ".
(2) ر. رؤوس المسائل: 529 مسألة: 388، المبسوط: 16/144، مختصر اختلاف العلماء: 3/346 مسألة: 1477، الغرة المنيفة: 195.(18/598)
بالنسوة فيما يتعلق بالنساء ليس لانحطاط خطر هذا الأمر، وإنما هو لتعذُّر اطلاع الرجال.
ولو شهد على المال امرأتان، وأراد الطالب أن يحلف معهما، لم يَجُز عندنا، خلافاً لمالك (1) رحمة الله عليه. وسيأتي ذلك، إن شاء الله.
وحيث جوزنا شهادة الرجل والمرأتين لم يتوقف ذلك على العجز عن إشهاد رجلين، هذا مما اتفق عليه أصحابنا والمفتون في الأمصار.
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] محمول على أن الأولى ألا يكلفن التبرج إلا عند مسيس الحاجة.
فصل
قال: " ولا يحيل حكمُ الحاكم الأمورَ عما هي عليه ... إلى آخره " (2) .
12037- أراد الرد على أبي حنيفة (3) رضي الله عنه؛ فإنه صار إلى أن القضاء إذا استند إلى شهادة الزور في العقود والحلول التي قد ينشئها القاضي بحكم الولاية، فإنه يتضمن تغيّر حكم الله في الباطن، ولا يخفى مذهبه في ذلك.
ومذهبنا أن أحكام الله لا تحول بقضاء القضاة، فإن وافقتها لشهادة الصدق، فليس ثبوتها بالقضاء، وإنما يتعلق القضاء بالظاهر، وإن جرى القضاء على خلاف حكم الله، لم يزُل حكم الله، وإن كان ظاهرُ القضاء متبَعاً إلى التبيّن؛ قال رسول الله
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/965 مسألة 1947، عيون المسائل: 4/1566، مسألة 1104.
(2) ر. المختصر: 5/247.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 350، المبسوط: 16/180، رؤوس المسائل: 285 مسألة: 387، البدائع: 7/15، شرح أدب القاضي للخصاف: 3/172، روضة القضاة للسمناني: 1/320، طريقة الخلاف للأسمندي: 382 مسألة: 160، إيثار الإنصاف: 344، الغرة المنيفة: 189.
وفيها تجد أن الأمر كما قال إمام الحرمين، فيختصّ أبو حنيفة بهذا القول، ويخالفه محمد، وكذا أبو يوسف في قوله الثاني، بعد أن كان موافقاً له.(18/599)
صلى الله عليه وسلم: " إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر " (1) .
وقيل: سئل أبو عاصم عن هذه المسألة وكان محمدياً في الفتوى والنظر، فالتُمس منه نُصْرةُ مذهب أبي حنيفة، فقال: لا أدري، قال محمد: القضاء لا يكوّن ما لم يكن (2) .
__________
(1) حديث " إنما أحكم بالظاهر.. " سبق تخريجه والكلام عليه.
(2) هكذا العبارة بكلّ وضوح، رسماً ونقطاً.
وأبو عاصم المراد هنا هو أبو عاصم العبّادي، الهروي، أحد فقهاء أصحابنا أصحاب الوجوه، ولد سنة خمس وسبعين وثلثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
وقد أشكل علينا الأمر، فما معنى كونه محمدياً في الفتوى والنظر؟ ومن محمد الذي يُنسب إليه؟! فمن المعلوم أنّه إذا أُطلق اسم (محمد) فالمراد به محمد بن الحسن الشيباني، وقد سبق في النهاية بهذا الإطلاق. فكيف يكون أبو عاصم، وهو من أعلام الأصحاب، محمدياً في الفتوى والنظر؟ ثم كيف يُلتمس منه نصرة مذهب أبي حنيفة؟
وقد راجعنا كتب الأحناف، فلم نجد لأبي عاصم ذكراً في هذه المسألة عندهم، وكذلك راجعنا كتب المذهب، وكتب الطبقات والتراجم فلم نر من نسب أبا عاصم إلى محمد في الفتوى والنظر. وكذلك لم نجد هذه الرواية في ترجمة أبي عاصم عند من يرْوون فرائد المسائل وغرائبها عن المترجم لهم، مثل السبكي، وغيره.
ثم ما معنى قول أبي عاصم: " لا أدري، قال محمد: القضاء لا يكوِّن ما لم يكن ". هل يفهم من هذا أنه يقول برأي محمد في المسألة؟ ورأي محمد كما هو معروف يخالف أبا حنيفة، ويتفق معنا. أم أنه متوقف حقيقةً في المسألة؟ وهذا موضع احتمال ثم إننا وجدنا الرافعيَّ والنوويَّ حكيا عن أبي عاصم أنه يقول بقول أبي حنيفة، وذكرا معه البغوي أيضاً، هذا ما نستطيع قوله تعليقاً على هذه العبارة.
انظر ما راجعناه من المصادر، من كتب الأحناف: المصادر المذكورة في الهامش قبل السابق، ومن كتب المذهب: الشرح الكبير: 12/484، الروضة: 11/152، التهذيب للبغوي: 8/221-223، البيان للعمراني: 13/413، حلية الفقهاء: 8/163، وكذا الوسيط، والمهذّب، والحاوي، وشروح المنهاج بحواشيها كالتحفة، والنهاية، والمغني، والمحلّي، وكذا شروح وحواشي المنهج، والرّوض، ومختصر خلافيات البيهقي: 5/141 مسألة: 355، والأنوار للأردبيلي: 2/634.
ومن كتب الطبقات والتراجم: تهذيب الأسماء واللغات: 2/249، طبقات السبكي: 4/104، الأسنوي: 2/190، ابن قاضي شهبة: 1/232، ابن هداية 161، ابن الملقن: 94، وفيات الأعيان: 4/214، سير أعلام النبلاء: 18/180، الوافي بالوفيات: 2/82، الأنساب: 8/336، مرآة الجنان: 3/82.(18/600)
ومما يتعلق بأطراف المسألة، أن المسألة إذا كانت مجتهداً فيها، فقضى القاضي بمذهبٍ يسوغ القضاء به ولا يتجه تفريع أحكام الفقه، إلا [على أن المصيب (1) ] واحد غير متعين -فالذي ذهب إليه جماهير الفقهاء أن حكم الله باطناً يثبت في المجتهدات على اتحادٍ إذا نفذ القضاء، ويصير المقضي به حكم الله ظاهراً وباطناًً، واستدلوا عليه بامتناع جواز نقض القضاء في المجتهدات.
وذهب الأصوليون من الفقهاء إلى أن القاضي لا يغيّر حكمَ الله في الباطن، والأمر في المُصيب مبهم، كما كان، وهذا اختيار الأستاذ أبي إسحاق (2) ، وكان من الغلاة في الرد على من قال بتصويب المجتهدين، ولا يتجه عندنا إلا هذا، واتباعُ القاضي بحق الولاية؛ إذ لولا وجوب الاتباع، لانفرد كلٌّ بمذهبه، ولتقطّعت الآراء على الشتات، بين النفي والإثبات، وعدمُ نقض القضاء محمول على الاستمرار على حكم الولاية ومرتبتها، ولولا ذلك، لما حصلت الثقة بالقضاء في مسألة.
12038- وتمام البيان في هذا ما نذكره. فنقول: المقضي عليه في المجتَهَد فيه لا يجد محيصاً، وإن خالف القضاء مذهبَه، وهذا كقضاء الحنفي بشفعة الجوار على الشافعي، فأما إذا ادعى الشفعة بالجوار شافعي، أو ادعى التوريث بالرحم، [فإذا فرض القضاء له فمذهب الأستاذ وموافقيه] (3) لا يُحِل للشافعي ما قُضِيَ له به، بل لا يُحل له الإقدامَ على الطلب.
__________
(1) في الأصل: " إلا أن المصير " والمثبت من (ق) .
(2) الأستاذ أبو إسحاق: أي الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، ت 418 هـ.
فهذا هو الملقّب في كتب المذهب بالأستاذ، وتد تصحّف في (البيان) إلى أبي إسحاق المروزي: إبراهيم بن أحمد، ت 340 هـ. وهو خلاف ما عند النووي في الروضة، والبغوي في التهذيب، والرافعي في الشرح الكبير.
(3) عبارة الأصل كانت هكذا: " فإذا فرض القضاء وعلى مذهب الأستاذ موافقته " فانظر ما فيها من خلل!! والمثبت هدانا الله إليه بعد أن طال وقوفنا أمام هذه العبارة لنحو يومين، نقلّبُ (البسيط) و (الوسيط) و (الروضة) و (الشرح الكبير) و (البيان) و (التهذيب) ولم يغن عنا ذلك شيئاً إلا ما ألهمنا الله إياه آخراً. والحمد لله رب العالمين. ونسجد لله شكراً، فقد جاءتنا (ق) موافقة لما أثبتناه. فالحمد لله ملهم الصواب.(18/601)
ومن أصحابنا من قال: يَحِلّ، وهؤلاء هم الذين يزعمون أن حكم الحاكم يغيّر أحكام الباطن في المجتهدات، ويعيِّن المصيبَ، فإن قلنا بمذهب الفقهاء، فالإقدام على الدعوى مشكل استحلالاً؛ فإن الحقَّ إن كان يثبت عند القضاء، فما الذي يسوّغ الإقدام على الدعوى، وهذا فيه تردد غائص: يجوز أن يقال: لا يحل الإقدام على الدعوى، وإن اتفق وأفضى القضاء إلى تحصيل [المقصود] (1) ، فيثبت الملك، ويجوز أن يقال: الشافعي إنما ينفي التوريث بالرحم إذا لم يكن قضاء، فإذا علم المدعي علماً ظاهراً أن القاضي يورث بالرحم، فالدعوى تسوغ؛ فإنها تشوفٌ إلى سبب التملك. والأستاذ كما لم يملِّك الشافعيَّ ما لا يعتقده والقاضي على مذهبه، هل يمنع المدعي عن الدعوى إذا كان دعواه تخالف مذهب القاضي، هذا محتمل متردد، والظاهر المأثور من سِيَر القضاة أنهم لا يتعرّضون لمذاهب الخصوم، والعلم عند الله.
ثم عقد الشافعي باباً في شهادة النساء، وغرضه الرد على أبي حنيفة رضي الله عنه في مسألة القابلة. وقد مضى في ذلك ما أردناه.
***
__________
(1) في الأصل: " بالمقصود ".(18/602)
باب شهادة القاذف
قال الشافعي رضي الله عنه: " أمر الله تعالى أن يُضرَب القاذف ثمانين جلدة ... إلى آخره " (1) .
12039- القذف من موجبات الحدود، وكل ما يوجب الحدَّ كبيرةٌ، وكل كبيرة لا ترجع إلى العقد موجِبةٌ لرد الشهادة، فإذا قذف القاذف رُدت شهاتهُ قبل أن يُحَدَّ خلافاً لأبي حنيفة رضوان الله عليه. وإذا حُدّ، فشهاته مردودة، ولكنه إذا تاب -على ما سنصف توبته واستبراءَ حاله- قبلنا شهاته.
وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: المحدود مردودُ الشهادة أبداً، والمسألة مشهورة معه.
ثم الكلام يتعلق وراء هذا بتوبة القاذف:
قال الشافعي: " توبة القاذف بإكذابه نفسَه "، وهذا اللفظ في ظاهره إشكال، وفي بيان المذهب تحصيل الغرض.
فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن القاذف لا يكلّف أن يُكْذِبَ نفسه، إذ ربما يكون صادقاً في نسبة المقذوف إلى الزنا، فلو كلفناه أن يُكْذِبَ نفسه، لكان ذلك تكليفاً منا إياه أن يَكذب، وهذا محال. فالوجه أن يقولَ: أسأتُ فيما قلتُ، وما كنتُ محقاً، وقد تُبت عن الرجوع إلى مثله أبداً، ولا يصرح بتكذيب نفسه إلا أن يعلم أنه كان كاذباً. وهذا يَبْعُد علمه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/248.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 266، مختصر اختلاف العلماء: 3/328 مسألة رقم 2458، المبسوط: 16/125، رؤوس المسائل: 536 مسألة 394، طريقة الخلاف للأسمندي: 374، 375 مسألة 157، الغرة المنيفة: ص 193، إيثار الإنصاف: ص 346.(18/603)
وهؤلاء حملوا قول الشافعي على ما سنصفه، وقالوا: القاذف في الغالب يقذف ويرى من نفسه أنه قال حقاً، وأظهر ماله إظهارَه، فيرجع ما أطلقه الشافعي من الإكذاب إلى هذا. فيقول: [قد كنت قلتُ، ما قلتُه] (1) ، وقد كذبت وأبطلت فيما قدَّمت.
وقال الإصطخري: لا بد وأن يُكذب نفسَه، وإن كان صادقاً. إنه عزّ من قائل قال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، فهذا لقب أثبته الشرع، فيُكْذِبُ القاذف على هذا التأويل نفسَه؛ فإن الشرع سماه كاذباً.
وهذا بعيد لا أصل له، وهذه الآية مع آيٍ أُخَر وردت في قصة الإفك وتبرئة عائشة، وكانت مبرأة عما قذفها به المنافقون.
هذا قولنا في توبة القاذف.
12040- فأما القول في استبراء حاله بعد التوبة، فنقول أولاً: من قارف كبيرةً، وتاب لم نبتدر قبولَ شهاته وإن أظهر التوبة؛ فإنا لا نأمن -وهو فاسق- أن يكون ما أظهره هزءاً وعبثاً، أو إظهارَ توبة لغرض له، وهو مضمرٌ الإصرارَ على الغيّ، فلا بد من اختبار حاله بعد التوبة، وهذا هو الذي يسمى الاستبراء، فنتركه ونلقي إليه الأمر، ونراقبه في السر، حتى تظهر مخايلُ صدقه في التوبة؛ فإذ ذاك نحكم بعدالته.
واختلف أصحابنا في مدة الاستبراء، فقال بعضهم: سنة؛ فإن لتكرار الفصول وجريانها مع الاستمرار على التوبة أثراً بيناً في إظهار نقاء السريرة مع حسن السيرة.
وقال قائلون: يعتبر ستة أشهر، حكاه القاضي.
وذهب المحققون إلى الرد على من يُقدِّر، ولفظ الشافعي: استبرأناه أشهراً، والأصح أن ذلك لا يتقدر بزمن، فكيف المطمع فيه، والتقدير لا يثبت إلا توقيفاً، فالوجه أن نقول: نوكل به من يراقبه في سرِّه وعلنه مدة، حتى تحصل غلبة الظن، وهذا يختلف -فيما أظن- باختلاف الرجال والأشخاص، فالرجل المكاتِم الذي
__________
(1) عبارة الأصل: "قد كنت قلت لي وأنا أقول ما قلته".(18/604)
لا يعتاد إعلان ضميره، وكان خُبْثه فيما يتعاطاه دفيناً، فالاحتياط في مثل هذا الشخص يطولُ أمده، فإن لم يكن للرجل غائلة، بل كان يعلن ما رآه، فهذا الرجل يسهُل استبراؤه، وتقرب مدته. فهذا ما أردنا بيانه في الاستبراء عن سائر الكبائر.
12041- فأما إذا قذف وتاب على ما وصفنا توبته، فهل تقبل شهاته في الحال من غير استبراء، أم لا بد من استبراء فيه؟ اختلف نص الشافعي، واختلف أصحابنا على طرق:
فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يستبرأ قياساً على سائر الكبائر.
والثاني - أنه لا يستبرأ؛ فإنا نجوّز أن يكون صادقاً، ولا محمل لسائر الكبائر، هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: النصان منزلان على حالين، فحيث قال: لا يستبرأ، أراد إذا جاء مجيءَ الشهود، فلم يوافقه الأصحاب (1) في إتمام الشهادة، وقلنا: إنه محدود، فإذا تاب -وحالته ما وصفناها- فلا استبراء؛ فإنه ما جاء مجيء القَذَفةِ، وإنما جاء شاهداً، وحيث قال: يستبرأ، أراد إذا جاء قاذفاً.
ومن أصحابنا من نزل النصين على حالين من وجه آخر، فقالوا: إن كذّب نفسه صريحاً، فلا بد من استبرائه، فإن الكذب في عظائم الأمور من عظائم الذنوب، وإن لم يصرح بتكذيب نفسه، فلا حاجة إلى الاستبراء، هذا كلام الأصحاب.
والوجه عندنا أن نقول: إذا صرح بتكذيب نفسه، فهذا يخرُج (2) على التفاصيل، وترديد الأقوال، بل يُقطع فيه بالاستبراء، وإذا جاء قاذفاً، ففي الاستبراء قولان، وإن جاء مجيء الشهود، ورأينا أن نُحِدَّه عند نقص العدد، فإذا تاب، ففي الاستبراء قولان مبنيان على ما إذا جاء قاذفاً، وهذه الصورة أولى بأن لا يشترط الاستبراء منها، وقد نجز الغرض في توبة القاذف واستبرائه بعد التوبة.
__________
(1) الأصحاب: المراد هنا باقي الشهود على الزنا.
(2) يخرج على التفاصيل: أي ليس من هذا الباب، ولا مجال فيه للترديد.(18/605)
فرع:
12042- إذا قذف وأقام بينة على الزنا، فلا شك أن الحد يندفع عنه، ولكن هل نرد شهاته حتى يتوب، أم نقول: صدّق نفسه بالبينة، فخرج عن كونه قاذفاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا نردُّ شهاته، ولا نُحْوِجه إلى التوبة، ومنهم من قال: قذفُه يوجب رد الشهادة، وما كان له أن يقدم عليه، وإن صدّقه الشهود، والمسألة محتملة.
***(18/606)
باب التحفظ في الشهادة
قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
12043- قاعدة الباب أن الشهادات شرطها أن تُتَحمل عن علم ويقين، لا يعارضه مخامرةُ رَيْب، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، قال ابن عباس: " إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أشهد، فقال عليه السلام: أرأيت الشمس طالعة فقال نعم، فقال: على مثل هذا فاشهد، أو فاسكت " (2) .
ثم حقائق الأشياء والعلومُ بها تتلقى من حاسة السمع والبصر في تحمل الشهادات، والعقل المِلاك.
أما الأفعال، فالأصل في تحمل الشهادة عليها البصر، ولسنا نعيد ذكر العقل؛ فإنه لا شك فيه، وهذا كالعلم بالجنايات، والاستهلاكات، ونحوها من الأفعال، فلا سبيل إلى تحمل الشهادة عليها إلا بالعِيان المتعلّق بها، [وبفاعليها] (3) ؛ فإن الشهادة لا تنفع فيها (4) دون أن تُربَطَ بمن صدرت منه، ولا بد من البصر فيهما جميعاً.
وأما إثبات الأقوال في مفاصل القضاء، فلا بد من السمع والبصر، أما السمع، فهو الأصل بالعلم بالمسموع، واختصاصها بالقائلين لا يدرك إلا بالبصر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/249.
(2) حديث ابن عباس " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة، فقال: هل رأيت الشمس ... " رواه العقيلي في الضعفاء (4/70) وابن عدي في الكامل (6/207) والحاكم (4/98) وصححه وردّه الذهبي، ورواه البيهقي (10/156) وقال: لم يرو من وجه يعتمد عليه.
(ر. التلخيص: 4/363 ح 2636، إرواء الغليل: 8/282 ح 2667) .
(3) في الأصل: " وبقاء عليها ".
(4) أي في الأفعال.(18/607)
وأما ما يعتمد السمع المجرد، وعبارة الأئمة فيه أنه يثبت بالتسامع، فقد ذكروا في هذا القسم ما يتفق عليه ويختلف فيه، فقالوا: النسب، والموت، والملك المطلق، تجوز الشهادة عليها بتسامع الأخبار، واختلف الأصحاب في الوقف، والنكاح، والولاء، وألحق العراقيون بالقسم المختلف فيه العتقَ اعتباراً بَالوقف، ففي هذه الأشياء وجهان: أظهرهما - أنه لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع، وتظاهر الأخبار؛ لأن مشاهدة أسباب هذه الأشياء ممكنة، بخلاف النسب، والملك المطلق، والموت قد يقع في التقطعات والأسفار كذلك، وهذا غالب غير نادر.
والوجه الثاني - أنه تجوز الشهادة عليها بالتسامع؛ لأنها إذا ثبتت، بقيت ودامت، وشهود المشاهدة قد يزولون، فالوجه أن يقال: سبيل الشهادة عليها بالتسامع، وهذا ينضم إلى أن هذه الأشياء تُشهد غالباً، وليس كالبيع والشراء والهبات، وما في معناها. هذا هو الأصل.
وحكى القاضي أن من أصحابنا من ألحق الموت بالمختلف فيه، فإنه على الجملة مما يمكن فرض العِيان فيه، وهذا وإن كان منقاساً، فلا تعويل عليه؛ فإن موت الإنسان مما يشتهر، ويقع في الأفواه كالنسب، وعماد تحمل الشهادة هذا.
12044- والمقدار الدي ذكرناه نقلُ مراسم المذهب، ولا بد من وراء ذلك من تمهيد أصل، حتى إذا نجز، خضنا في استقصاء الجوانب، حتى لا نُبقي مشكلاً فيما نظن.
فنقول: عماد تحمل الشهادة: العلمُ، واليقينُ، وثلَجُ الصدر، كما ذكرناه في أول الباب. ولكن اعترض في مجاري الأحوال ما لا سبيل إلى درك اليقين فيه، والنزاع في مثله جائزٌ دائمُ الوقوع، ولا سبيل إلى تركه ناشباً بين الناس؛ فأثبت الشرع فيما لا يتصور فبه دركُ اليقين الشهادةَ [بالتسامع] (1) ، وسوّغ بناءها على ظنٍّ غالب، ولولا ذلك، لدامت الخصومات.
ومن جملة ما ذكرناه الملك، وهو مطلوبُ الخلق ومقصودُ الدنيا، ولا مستند له
__________
(1) زيادة من المحقق.(18/608)
إلى يقين، وإن تناهى المصوّر في التصوير، فلا انتهاء إلى العلم والمعرفة، ووضوح هذا يغني عن كشفه؛ فإن الأسباب التي تُحَسّ وتُعلم عن حسٍّ، كالشراء، والاتهاب لا تفيد العلم بالملك، فإن ملك المشتري مبني على ثبوت ملك البائع، ثم القول فيه كالقول في المشتري منه، وهكذا الكلام فيما يستفاد بالوراثة. ومن اصطاد صيداً، لم يأمن أنه كان مملوكاً، فأفلت من مالكه.
وكما يُفرض هذا في الملك، فالانتساب إلى الآباء بهذه المثابة؛ فإنه لا مطمع في درك عِيانٍ فيه، ولا يتحقق العلم فيما لا يتصور فيه -عند تحمل الشهادة عليه- عيانٌ.
ومما يتصل بذلك الإعسار؛ فإنه لا مُطَّلَع عليه، ولو لم يكن إلى إثباته طريق، لَتَحكَّم الحبسُ على المعسر من غير دَرْك منتهى.
12045- فإذا وضح هذا، تعيّن تقديم الكلام في الملك المطلق، فننقل قولَ الأصحاب فيه أولاً:
قال القاضي: لا تجوز الشهادة لإنسان بالملك بناء على مجرد يده، وإن دامت له؛ فإن الأيدي تنقسم، وتقع على أنحاءٍ وجهاتٍ مختلفة، فإن انضم إلى اليد تصرفُ ذي اليد، والمعنيُّ به تصرفُ الملاك، كالنقض والبناء، والرهن، والبيع، والفسخ بعده، فهذا هو المعنيُّ بتصرفات الملاك، حتى تردد بعض الأصحاب في أنه لو كان لا يعهد منه إلا الإجارة، فهل يقع الاكتفاء بهذا؟ فمنهم من قال: لا يقع الاكتفاء بها؛ فإن المكتري يُكري، فقد يكون مكترياً، وكذلك القول في الموصَى له بالمنفعة.
وقال قائلون: إذا جرت منه الإجارة مرة واحدة، فالأمر كذلك، وأما إذا تكرر منه، وبان من مخايله تصرفُ الملاك فيه، فهذا كافٍ في الفن الذي [نعنيه] (1) ، فإذا انضم تصرفُ الملاك -على ما وصفناه- إلى اليد، فقد قال القاضي: لا تجوز الشهادة على الملك، وإن اجتمعا حتى ينضمَّ إليهما تفاوض الناس بنسبة ذلك الشيء إلى ملك
__________
(1) في الأصل: نعيّنه (بهذا الرسم والضبط) .(18/609)
ذي اليد المتصرف؛ إذ ذاك تسوغ الشهادة على الملك له. هذا كلامه، وقال بحسبه: اعتماد الشهادة في الملك المطلق على التسامع مجازٌ ممن أطلقه، فإنما المعني به أن ينضم إليه اليد، والتصرف، واليدُ والتصرف لا يفيدان تحمل الشهادة، حتى ينضم إليهما التسامع بالملك.
والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن اليد إذا دامت، وانضم إليها تصرفُ الملاك، فيجوز اعتمادهما في تحمل الشهادة على الملك، وهذا -إلى أن نفصّله، ونذكر غوائلَه- مذهبٌ مشهور لا ينكره محصل.
ووجهه أن الظن يغلِب باليد والتصرفِ، وقد يكون الرجل خاملَ الذكر لا يُشهر ما ينسب إليه، ويكون ما تحت يده مما يقلّ قدره، فيقع الاكتفاء باليد والتصرف، وحقُّ هذا أن يُلحق بقرينهِ ممّا لا يمكن الوصولُ إلى اليقين فيه. وأقرب ما يضاهيه الإعسار، ثم [لمن يحيط] (1) بباطن حال الإنسان أن يشهد بإعساره، وإن لم يستَفِض في الناس ذلك، تعويلاً على مخايلَ وأمورٍ لا يَخفى دَرْكُها، وإن كنا نجوّز مع ظهورها أن يكون الرجل مُكاتماً مُظهراً من نفسه ما يعلم الله منه خلافَه، ولكن تحمل الشهادة يعتمد مع ذلك ما أشرنا إليه.
وكان شيخي يقول: اليد والتصرف يدلان على الملك مذهباً واحداً، واليد الدائمة بمجردها هل تدل على الملك؟ فعلى قولين، وأجرى هذا وغيرُه من الأصحاب في مسائلَ، ولست آمن صَدَرَ هذا من غير تثبت؛ فإني لم أر أحداً من الأصحاب غيرَ الإمام يذكر هذين القولين في اليد المجردة في كتاب الدعاوي والبينات، وإن أطلقوا القولين في اليد المجردة في سائر الكتب، فهو في الكلام المعترض الذي لا يقصد تفصيله، وقد بحثت عن كلام الأئمة وُسْعةَ جهدي، فلم أر أحداً منهم يعوّل على اليد المجردة، وإنما ذكروا اليدَ والتصرفَ معها لما أرادوا تفصيل الكلام في ذلك قصداً إليه. نعم، اليد المجردة تُقَوِّي في المخاصمة، [جَنْبة] (2) صاحب اليد، حتى
__________
(1) في الأصل: " لم يحط ".
(2) في الأصل: " حيث ". وكنا قدرناها (جانب) ثم جاءت (ق) وفيها (جَنْبة) ، وكذلك استعملها الإمام فيما يستقبل من الكلام، وهي بمعنى (جانب) .(18/610)
يكون القول قوله مع يمينه إذا خلت الخصومة عن البينة.
وإنما صار إلى دلالة اليد على الملك أبو حنيفة (1) ، وبنى على ذلك ردَّ بينة صاحب اليد مصيراً منه إلى أن شهوده يعتمدون في ثبوت الملك له ظاهر يده، وهذا معلوم لنا، فلا تكون الشهادة مثبتة زيادة لا تدل اليد عليها، ونحن نقبل بيّنة صاحب اليد على ما سيأتي ذلك، وهو أصول الدعاوى إن شاء الله.
فقد انتظم مما ذكرناه أن اليد بمجردها لا يجوز اعتمادها -وإن دامت- في الشهادة على الملك لصاحبها، والذي كان يحكيه شيخي مما لا أعتدّ به، ولا أعده من المذهب.
وإذا انضم إلى اليد التصرف، وانضمّ [إليهما] (2) التسامع، فلا خلاف في جواز اعتماد هذه الأشياء للشهادة على الملك.
وإذا وجدت اليد والتصرف من غير تسامع في الملك، فالذي ذهب إليه الجمهور جواز الشهادة على الملك، وذكر القاضي وطائفةٌ من المحققين أنه لا يجوز اعتمادُ ظاهر اليد والتصرف في الشهادة على الملك.
ولو فرض التسامع بنسبة شيء ملكاً إلى شخص من غير يد وتصرف، فالذي قطع به القاضي، وهو قياس المراوزة أنه لا يجوز اعتماده في الشهادة على الملك. وفي كلام العراقيين ما يدل على جواز اعتماد التسامع في الملك المطلق -من غير يدٍ وتصرف - وهذا بعيد. وإن فرض له ثبوت، فهو نيه إذا لم يعارض هذا التسامعَ يدٌ وتصرفٌ من الغير.
وهذا الذي ذكرناه مجامعُ المذهب، مع امتزاج النقل بمسلك البحث.
12046- وتمام البيان فيه أن ما لا يكون مستيقناً، ومعتمده الظن، فنعلم علماً كلياً أنه لا يجوز الاجتزاء فيه بمبادىء الظنون، بل يجب بناء الأمر على بحثٍ يقرب من
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 534 مسألة: 392، الغرة المنيفة: 191، إيثار الإنصاف: 352، طريقة الخلاف: 402 مسألة: 165.
(2) في الأصل: "إليها".(18/611)
استفراغ الوسع في مثله، من غير سرفٍ وتكلفِ أمرٍ يعد عسيراً في العُرف. هذا لا بد منه، ومن ضرورته اليد الدائمة، [والتصرفُ] (1) المشعرُ بالاستقلال.
ثم شَرَطَ القاضي التسامعَ بالملك، واكتفى غيره بعدم الاعتراض، ومن يتصرف فيما يعرف [لغيره] (2) يُشهر [عنه] (3) العدوان والاستقلالُ من غير استحقاق؛ فإن النفوس مجبولة على البحث عن أمثال ذلك، والأملاكُ مضنون بها، فإذا اطّرد التصرف [فيها] (4) بغير حق أُشيع ذلك، وشُهِر ونُبّه المستحِق ليثور في طلب حقه، فإذا لم يحصل، غلب على الظن المِلكُ.
ثم من أسرار هذا الفصل أن من يكتفي باليد والتصرف على الحد الذي ذكرناه، فالغالب -في العادة- أن يتفاوض الناس بنسبة الملك إذا كانت الحالة هذه، وإن كان لا يتفوه به أماثل الناس، أشاعه الجيران، ثم أهل المَحِلّة، وهذا العدد كاف في التسامع؛ فإذاً يندر اجتماع اليد والتصرف على الاطراد، مع انتفاء النكير، وعدم ظهور المعترض والطالِب، من غير تسامع بالملك وتفوهٍ به على حد ظهور اليد والتصرف، فكأن الخلاف يؤول إلى أن المعتمد في ذلك اليد والتصرف، أم هما مع التسامع معتبره؟ وإلا فحكم الاعتياد ما ذكرناه.
فمن يعتمد الملكَ والتصرفَ يقول: تفاوض الناس بالملك منها، ومن يقول: التسامع معتبر، قال: إذا شاع التفاوض، فهذا إذا انتشر يثير المستحِق -لو كان- فيؤول اعتباره إلى عدم الإنكار والاعتراض، وبالجملة لا بد من المبالغة حتى تسوغ الشهادةُ على الملك، غير أن الأمارات التي تدل على الإعسار يختص بدركها أهلُ الباطن، والعلامةُ الدالة على الملك لا يختص بدركها من يخالط الرجلَ؛ فإنها على الظهور مبناها، وكل ما نبغي ظهورَه يستوي [فيه] (5) المخالط وغيرُه، والمعتمد في
__________
(1) في الأصل: " فالتصرف ".
(2) في الأصل: " بغيره ".
(3) في الأصل: " عند ".
(4) في الأصل: " منها ".
(5) في الأصل: " منه ".(18/612)
الإعسار الأمور الخفية التي يختص بدركها المخالطون، كالصبر على المضض سرّاً، والاستمرار على الإضاقة. والغالب أن [القادر] (1) لا يصابرها سرّاً، وإن أبدى على العلن مصابرتها، فيجب تنزيل كل شيء على حسب ما يليق به.
هذا بيان القول في التسامع بالملك المطلق.
12047- وقد حان أن نتكلم بعد هذا في حقيقة التسامع ومعناه؛ فإن الحاجة ماسة إليه في الأنساب؛ إذ لا مُدركَ لها إلا التسامع: فالذي ذكره القاضي وشيخي وغيرُهما أن التسامع هو الاستفاضة، والتلقي من مُسمِعين لا يتأتى حصرهم. وذكر العراقيون أنه يكفي في التسامع السماع من عدلين، فلو سمع رجل عدلين يقولان: فلان بنُ
فلان، فيجوز التلقي منهما، وبتُّ الشهادة على النسب، ثم قالوا: ليس هذا شهادة على شهادة العدلين، بل هو بناء الشهادة على التسامع، حتى [لو لم يُذكر] (2) لفظ الشهادة، ولم يشهد السامع عنها، فللسامع أن يشهد النسب، وإذا شهد، لم يأت بشهاته على صيغة الشهادة على الشهادة، بل يأتي بها مبتوتة.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - اشتراط الاستفاضة، وقال: معناها أن يقول ذلك قوم لا يجوز منهم التواطؤ على الكذب في العادة، والوجه الثاني - أنه يكفي السماع من عدلين.
وهذا الوجه- وهو الاكتفاء بالسماع من عدلين- وإن كان بعيداً عن قياسنا، فهو متجه عندي؛ من جهة أن التواتر إنما يفيد العلم إذا كان مستنداً إلى معاينة المخبرين، هذا لا بد منه، ويعرِفُ ذلك مَنْ تلقَّى أصول الفقه من مجموعاتنا. وهذا غير ممكن في الأنساب، فإنه لا مستند لها من عِيان.
ثم الذي أراه أن من اشترط الاستفاضة، فربما يكتفي بالإشاعة من غير نكير؛ فإن
__________
(1) في الأصل: " المكاتمة ". والمثبت من لفظ (البسيط) .
والمراد بالقادر غير المعسر إذا ادعى الإعسار، فهو لا يصابر الإضاقة والجوع سرّاً، ان كان يعالن بذلك، ولذا قلنا: لا يُعرف الإعسار إلا من المخالط.
(2) في الأصل: " لو يذكر".(18/613)
التواتر إذا كان لا يوجب العلم الباطن -وهو العلم حقاً- فالعماد (1) أمر يرجع إلى العادة في إثارة غلبات الظنون، وهذا يُكتفى فيه بالإشاعة، وعدم النكير.
ثم إن العراقيين جاوزوا الحدَّ، وقالوا: لسنا نشترط السماعَ من شاهدين أيضاً، بل نكتفي بدون ذلك، فنقول: إذا رأى الرجل رجلاً، وفي يده صبي صغير، وهو يصرح باستلحاقه، فتجوز الشهادة على نسبه بمجرد ذلك، وكذلك لو قال لكبير: هذا ابني، وذلك الشخص ساكت لا يرد عليه، فتجوز الشهادة على النسب بذلك، وكذلك لو قال بالغٌ هذا أبي، وسكت ذلك الشخص، فتجوز الشهادة على النسب بينهما.
وهذا في قياس الفقه خطاً صريح؛ فإن قول الشخص الواحد -من غير إشاعة- في حكم الدعوى، حيث ذكروه، ونحن وإن كنا نثبت نسب المنبوذ بالدِّعوة (2) ، فيستحيل أن نجوّز اعتمادها للشهادة على النسب مطلقاً. نعم، يشهد الشاهد على الدِّعوة، ثم يقع الحكم بموجبها. فهذا ما أردنا ذكره في معنى التسامع.
12048- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من أصحابنا من يُلحق الانتماء إلى الأم بالانتساب إلى الأب في جواز اعتماد التسامع. ومنهم من قال: الانتماء إلى الأم بطريق الولادة لا يثبت بتسامعٍ؛ فإن العِيان في الولادة ممكن، بخلاف الانتساب إلى الأب.
وهذا الخلاف قريب المأخذ من تردد الأئمة في أن المرأة إذا ادعت مولوداً مجهولاً، فهل تثبت الأمومة بالدِّعوة المجردة، كما تثبت الأبوة بها، وسيأتي ذكر هذا في باب [القائف] (3) ، إن شاء الله عز وجل.
ثم قال الأئمة: الشهادة اعتماداً على التسامع إنما تفيد إذا كان صَدَرُها من بصير، فيقول: هذا ابن هذا، وقد يطلق المطلِق أن ما يُعتمد السماعُ، فالأعمى فيه كالبصير، وهذا ليس يصدر عن تثبت؛ فإن الأعمى لو قال: زيد هو ابن عمرو،
__________
(1) العماد: أي المعتمد، والمطلوب لبناء الشهادة عليه.
(2) الدِّعوة: بالكسر: ادعاء الولد (المصباح) .
(3) في الأصل: "القاذف".(18/614)
فالزيود فيهم كثرة؛ فلا استقلال لشهادة العميان في ذلك، وإن كان معتمد الشهادة السماع.
وقد ألطف الشيخ أبو علي في تصوير الشهادة من الأعمى فيما يثبت بالتسامع، فقال: لو أراد أن ينسب شخصاً إلى شخص، لم يجد إليه سبيلاً. نعم، لو قال: زيدٌ بنُ بكر بنُ عمرو قرشيٌّ، أو هو من بني فلان، فيثبت بشهادة الأعمى؛ فإنه نسبٌ لا يحتاج فيه إلى الإشارة. والمسألة فيه إذا كان المذكور مشهور النسب بآبائه وأجداده المعيّنين، وإنما المطلوب انتهاؤه إلى قبيلة عظيمة. هذا ما ذكره.
12049- ثم ذكر الأصحاب مذهب مالك (1) في مصيره إلى أن [للأعمى] (2) أن يعتمد في تحمل الشهادة الصوتَ، إذا حصل له العلم المبتوت فيه، لأنه يميز الصوت تمييزاً لا شك فيه، واحتَجَّ عليه باعتماد الزوج في وطء زوجته، وتمييزها من الأجنبيات.
وقال أصحابنا: وطء الزوجة من باب المعاملات، وهذا شهادة على الغير، وهو في حكم الولاية، وإن لم يكن ولاية، فلا يجوز التصدي لإثبات الأحكام على [البتات] (3) مع التردد، وما يتعلق بالمعاملات قد يُتَسامح فيه لمسيس الحاجات والضرورات، ولا حاجة في الشهادة؛ فإن في البصراء مُتّسعاً، والصوت يشبه الصوت.
واختلف أصحابنا في شهادة الأعمى على المضبوط (4) حيث يَستيقن منه قولاً، وذلك مثل أن يتمسك الأعمى بإنسان فيضع ذلك الإنسان فَلْق فيه على صماخ أذنه ويقرّ، فإذا تعلق الأعمى به، وشهد عليه في مجلس القاضي، ففي سماع شهاته -
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/971 مسألة: 1960، عيون المجالس: 4/1546 مسألة 1087، القوانين الفقهية: 304، تبصرة الحكام: 2/87.
(2) في الأصل: " الأعمى ". وهذا التعديل محاولة منا لإقامة العبارة بأدنى تغيير.
(3) في الأصل: " الثاني " وفي (ق) : " الناس ".
(4) المضبوط: الإنسان الذي أمسك آخر به، وأحكم قبضته على أطرافه، بحيث لا يستطيع انفكاكاً ولا حراكاً.(18/615)
والحالة هذه- وجهان مشهوران: قال القاضي: الأصح أنها تقبل، لما ذكرناه في حصول العلم واليقين، وهو المطلوب. ومنهم من قال: لا تقبل، فإن تصوير الضبط على التدقيق الذي ذكرناه عسر؛ فلا يجوز فتح هذا الباب.
وقد تردد أئمتنا في رواية الأعمى، والأظهر منعُها إذا كان السماع في حال العمى، وقال قائلون: يجوز إذا حصلت الثقة الظاهرة، واستدل هؤلاء بأن عائشة كانت تروي وراء الستر، ومعظم الروايات عنها كذلك، والبصراء في هذا المقام كالعميان، وما ذكرناه فيه إذا كان يفرض التحمل في حال العمى.
فأما إذا تحمل الشهادة بصيراً، وأداها ضريراً على نسب مشهور، [مثل] (1) أن يسمع إقراراً، ويرى المقر، ونسبُه مشهور لا نزاع فيه، فإذا عمي قال: أشهد أن فلانَ بنَ فلانٍ أقر، فشهادته مقبولة، خلافاً لأبي حنيفة (2) رضوان الله عليه.
والأعمى لا يجوز أن يكون قاضياً، لأنه لا يميّز بين الشهود، والمدعي والمدعى عليه، فإن سمع الشهادة على واحد، ولم يبق إلا القضاء، فعمي، فقال: قضيت على فلان، فهل ينفذ حكمه في هذه القضية الخاصة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يثبت، وهو الذي صححه القاضي ولم ينقل غيرَه. ومنهم من قال: ينعزل بالعمى، ويمتنع عليه القضاء عموماً.
ومن جملة ما يمتنع عليه تنفيذ تلك القضية.
12050- ومن تمام الكلام في هذا الفصل أنا ذكرنا اختلاف الأصحاب بأن الشهادة على الوقف هل يجوز أن تعتمد التسامعَ، ثم الذي ذكره الصيدلاني والمحققون في الطرق أن الوجهين يجريان في الوقف على معيّن جريانَهما في الوقف على جهة عامة، كجهة الفقراء والمساكين وغيرهما، وكان شيخي يقول: الوجهان في الوقف على الجهات العامة، فأما الوقف على معيّن، فلا يجوز إسناد الشهادة فيه على التسامع.
وهذا لا أعتدّ به؛ من جهة جريان الخلاف في النكاح، مع اختصاصها بشخصين
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 332، مختصر اختلاف العلماء: 3/336 مسألة 1467.(18/616)
معينين، فالتعويل إذا على ما وجهنا به الوجهَ من دوام الوقف، وجريان العرف بإشاعته، وكذلك القول في النكاح وما يلتحق بالقسم المختلف فيه.
12051- وذكر صاحب التقريب وجهين في المترجم الأعمى إذا كان القاضي يكلف أهل المجلس السكوتَ، حتى لا يتكلم إلا المدعي والمدعى عليه: أحدهما - أن ذلك لا يجوز؛ لأن الأعمى ليس من أهل نقل الأقوال، فلا نظر إلى تفاصيل الأحوال، وهذا قريب مما ذكرناه من مضبوط الأعمى، والوجه الثاني - أن ذلك مقبول؛ فإن الغرض نقل القول إلى القاضي بحيث لا يستريب في قصد نقل المترجم، وقد ذكرنا في كتاب النكاح وجهين بانعقاد النكاح بحضور أعميين، وذلك أن قلنا: تحملٌ لا يترتب عليه الأداء، وفي تجويزه خرمُ قاعدة المذهب، وإبطال مُعَوّله في أن الغرض من تحمل الشهادة على النكاح، إقامتُها عند مسيس الحاجة إليها.
فصل
متصل بما ذكرناه، والحاجة ماسة إلى درك
معناه وفيه تبيين تحمل الشهادة من النسوان
12052- فنقول: إذا تحمل الرجل الشهادة على عين إنسان، واعتمد صورته، ولم يُحِط علمُه بنسبه على حسب الإمكان فيه، فيقيم الشهادة على عينه، كما تحملها على عينه، فلو غاب، لم يُقِم الشهادةَ، وكذلك إذا مات.
وقال الأصحاب: إن مات ومست الحاجة إلى إقامة الشهادة يُحضَر (1) مجلس الحكم، ويقيم الشهود الشهادة على عينه، ولو دفن ومست الحاجة إلى الشهادة، قال القاضي: لا ينبش بعد الدفن، وهذا فيه نظر، إذا اشتدت الحاجة، وقرب العهد، ولم ينته إلى التغير الذي يحيل المنظر، فإنا قد نرى النبش بحقوق الآدميين في كون الكفن غصوباً، كما قدمناه في كتاب الجنائز، والأظهر ما ذكره القاضي.
وإذا تحمل الشهادةَ على عين إنسان، وعرف نسبه، فيشهد على عينه في حضرته،
__________
(1) أي الميت الذي شهد على عينه.(18/617)
ويعتمد النسبَ في غيبته، وإذا عرفه باسمه أحمد، وربما كان يثبته بذلك، فلا يشهد عليه باسمه واسم أبيه؛ فإنه لا يثبت عنده في انتسابه إلى أبيه، ويخرج منه أنه إذا كان لا يعرفه إلا باسمه، فقد لا تنفع الشهادة في غيبته، وإذا عرفه باسمه واسم أبيه: أحمد بن عبد الله، لم يشهد عليه باسمه واسم أبيه وجده؛ فإنه لا يثبت عنده في اسم
الجد.
قال القاضي: ورد كتاب من القاضي إلى الققال رحمه الله ليزوّج فلانة من خاطبها أحمدَ بنِ عبد الله، فكان ذلك الإنسان من جيران الشيخ، فقال رحمه الله: أنا لا أعرفك بأحمدَ بنِ عبد الله، وإنما أعرفك باسمك: أحمد، ولم يزوّج.
فلو قال قائل: هل يجوز في مثل هذه الواقعة أن يسمع المكتوب إليه بينةً على أنه أحمدُ بنُ عبدِ الله؟ قلنا: لا؛ لأن الحاكم لم يفوّض إليه سماعَ البينة على النسب، ولو فوض إليه سماعَ البينة، فلا يسمع هكذا؛ فإن البينات على الأنساب لا يسمعها القضاة إلا في دعوى تتعلق بالنسب.
12053- ومما يجب الاهتمام به الإحاطة بتحمل الشهادة على النساء، فلا يحل تحمل الشهادة على متنقِّبة، وقد جرت عادات بني الزمان بما نصفه في ذلك، ثم نوضح بطلانه.
فمن عادة المتحملين أن يعتمدوا تعريف شاهد أو شاهدين يقولان: هذه فلانةُ بنتُ فلان، حتى يقعَ التعريفُ، والمتحملُ يتحمل، ثم يؤدي الشهادة جازمةً أن فلانةَ بنتَ فلان أقرت لفلان بكذا، وهذا لا مساغ له على قاعدة المذهب. فإذا كان المتحمل لا يعرف عينها، فكيف يشير إليها عند إقامة الشهادة، ولقد كانت متنقبة عند التحمل،
وتعذَّرَ اعتمادُ النسب على ما ذكرناه.
قال القاضي: أقرت امرأة بمالٍ في مجلسي، فطلب المقر له أن أسجل على إقرارها، وزعمت المقرة أنها بنتُ فلانِ بنِ فلان، وما كنتُ عرفتها بنسبها، فلم يسغ أن أقبل قولها في نسبها (1) ، ولا أن أسمع بينةً على نسبها، من غير سبق الدعوى،
__________
(1) لأن النسب لا يثبت بالإقرار.(18/618)
فنصبت قيِّماً، فادعى عليها: على أبيها (1) مالاً، فلان بن فلان، فأنكرت أنها ابنته، فأقام الخصم البيّنةَ على أنها بنتُ فلانِ بنِ فلان، فسمعتُ البينة، وسجلت على إقرارها للأول؛ تعويلاً على النسب [الذي] (2) ثبت عندي.
فقال له بعض المحصلين: هل يسوغ للقاضي مثل هذه الحيلة، وهي تلبيسٌ؟ قال: بلى (3) ؛ قال صلى الله عليه وسلم لعامل خيبر في القصة المعروفة: " أوه!! عين الربا، لا تفعلوا هكذا، ولكن بيعوا الجَمْع بالدراهم، واشتروا بها الجنيب " (4) .
وقال تعالى في قصة أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44] ، ويمينه مشهورة، فأبرّه الله تعالى بما ذكر.
وهذا كلام ملتبس. والقاضي مصرح بأن له نصب القيّم ابتداء، واحتجاجُه بما ذكره دليل على اعتقاده أن ذلك مما يسوغ من القضاة ابتداؤه توصلاً إلى إثبات الغرض.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإنّ نَصْب القاضي قيماً، وتكليفَه الدعوى عن غائب، أو عن جهة نفسه -وإن لم يفرض قيّماً- تلقينُ دعوى باطلة، والدعوى الباطلة كلا دعوى، فكيف يسوغ بناء الشهادة عليها؟ وأنّى يشبه هذا قصةَ عامل خيبر!! والذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعٌ صحيح، والقصود لا تُبطل العقود، وقصةُ أيوب مَحملها أن الضرب بالضِّغث وفاءٌ باليمين، إذا (5) اشتمل على قضبانٍ على العدد المذكور في اليمين.
فالوجه أن يقال: إذا كان وكلاء المجلس (6) يتفطنون لمثل هذا، فلو نصبوا مدعياً
__________
(1) المعنى أنه طالبها بدين على أبيها: فلان بن فلان -وتركتُه عندها- وهذا الاسم الذي ينسبها إليه اسمٌ مفترض، لا علاقة لها به، فتنكر بالضرورة، فيقيم الخصم البينة على نسبها، فيسجل القاضي إقرارها. (2) في (2) الأصل: " التي ".
(3) بلى: بمعنى نعم، مع أنها في جواب الإثبات، وذلك جائز، وعليه شواهد من صحيح البخاري ومسلم، وقد تقدم هذا موضحاً مفصلاً.
(4) سبق هذا الحديث في باب الربا.
(5) إذا: بمعنى (إذ) .
(6) لم يسبق ذكر (وكلاء المجلس) ولا بيان لمن يعنيهم الإمام بذلك، بل عُني بتفسير (أصحاب=(18/619)
في مثل ما ذكره، فليس للقاضي أن يتجسس ويبحث، ولكن عليه أن يصغي إلى الدعوى.
ولو أقرت امرأة في مجلس القاضي، فقال المقَرّ له: هذه فلانة بنت فلان، وغرضي الإشهادُ على نسبها؛ فإن إقامة الشهادة على العين لا [تعتبر] (1) إذا غابت أو ماتت، فإن أقرت المرأة بالنسب فإقرارها يفسد ترتيبَ المقصود؛ فإن البينة إنما تُسمع مع الجحود، أو مع عدم الإقرار، فلو أنكرت النسب، فقد يظهر أن يقال: للمقَر له
أن يثبت نسبها بالبينة، حتى تتأد الحجةُ والإشهاد.
وفيه إشكال؛ فإن القاضي يقول: أقرت هذه التي ادعيتَ عليها، فطالِبْها إن كان الحق ناجزاً حالاً، فلو قال: أبغي تأكيد الحجة في المآل، فالقاضي يقول: ليس لك ذلك بعد ثبوت حقّك عِياناً، وإنما ترتبط الدعوى بالنسب إذا كان ثبوته يوجب طلَبَه، فالأمر كما ذكرناه، فقد يقال: لا حكم لإقرارها إن أثبتنا هذا المسلك؛ فإن نسبها لا يثبت بإقرارها، بل هي مدعية فيما جاءت به، فلو صح إجابة المدعي لغرض التسجيل وتأكيد الحجة، فقد يَسقُط أثر إقرارها.
12054- وكل ما ذكرته جريان على ترتيبين في ذكر طرق الطلب، وإلا فالذي يجب القطع به أن المقَرَّ له لا يُثبت نسبها بالطريقة التي رددناها، ولكن يلتمس من القاضي أن يسجل على حليتها وصورتها. هذا أقصى الإمكان، ثم الحلية المجردة تنفع عند إعادة الشهادة مع لَبسٍ عظيم ذكرناه في حلية العبد؛ فإن الحلية إذا تجردت عن النسب كانت كحلية العبد الغائب، وقد تقدم القول فيها، فلا طريق إلا ما ذكره القاضي.
__________
=مسائله) وخلاف الأصحاب فيما يقصده الشافعي بهذا اللفظ، ولم نجد هذا اللفظ (وكلاء المجلس) مفسراً عند الغزالي في البسيط، أو الرافعي في الشرح الكبير، أو النووي في الروضة، ولا في أدب القضاء عند ابن أبي الدم، ولا في غير هذه من المصادر التي بين أيدينا. اللهمّ إلا في كتاب روضة القضاة للسمناني، فقد قال: " ينبغي للقاضي أن يتخذ من الوكلاء الشيوخ والكهول " ثم ذكر صفاتهم التي ينبغي أن يتحلَّوا بها، ولكنه لم يبين مهامَّهم، وأعمالهم، والفرق بينهم وبين المستخلفين -إن كانوا- وبين أصحاب مسائله. (ر. روضة القضاة وطريق النجاة: 122) .
(1) غير مقروءة بالأصل.(18/620)
ولكن الاستدراك عليه أن القاضي لا ينشىء ذلك، بل يُفرض صَدَره من الخصم أو وكلاء المجلس، هذا تمام ما أردنا أن نذكره في ذلك.
فخرج من مجموع ما حصّلناه أن من أراد أن يتحمل الشهادة على امرأة، فينبغي أن يكشف وجهها، وينظر إليها، ثم في الإعادة يكشف وجهها ويشير إليها، ولا يلتبس الأمر عليه إذا غابت عند التحمل والإشارة.
وقيل: ادُّعي في مجلس القاضي أبي عاصم على امرأة، وكان للمدعي شهود على عينها، فدعا القاضي بنسوة في قدها وقامتها ولباسها، ثم قال للشهود: ميّزوا التي تشهدون على عينها، فميّزوها، وألزمها الكشف عن وجهها بعد ذلك، فشهدوا على عينها، وكان ما قدمه احتياطاً للإقدام على الكشف، وهو أقصى الإمكان، ولا حرج - وإن كانت المرأة على نهاية الجمال- لمسيس الحاجة، وهذا كتكشفها للطبيب، وكالنظر إلى الفرج لتحمل الشهادة على حاجةٍ، أو على الزنا.
وقيل: أشهد الشيخ القفال على امرأة جاءته مع شاهدين شهدا أنها فلانة، فأثبت الشيخ شهاته في الصك، فمست الحاجة إلى إقامة الشهادة، فلم يُقمها، فاعتُرض عليه، فقال: أَشْهد كما أُثبت، وكان هذا بعد عهد طويل، فأحضر الصكَّ، فإذا فيه أشهدني فلان وفلان على أنها فلانة، وأنها أقرت، ثم قال: كيف أشهد، والشاهدان في السوق وأنا فرعهما.
فهذا الذي ذكرناه وأكّدناه بالصور لاشتداد الاهتمام به تامٌّ في إيضاح المذهب.
ونحن نختتمه بسؤال وجواب:
12055- فإن قال قائل: قد حكيتم عن العراقيين القطع بالاكتفاء بقول عدلين، وحكيتموه عن الشيخ أبي علي وجهاً، فهلا قلتم: تُتحمل الشهادة على عين امرأة ونسبها، ويعتمد في النسب قولُ عدلين: أنها فلانة بنتُ فلان ابن فلان، فيستتب له أن يشهد -تعويلاً على النسب- في الغَيْبة؟
قلنا: إذا شرطنا الاستفاضة، فهذا لا يتحقق، ولم يحكِ القاضي إلا اشتراط الاستفاضة. وإن صححنا ما ذكره العراقيون، ففي القلب اختلاج وتردد من هذا؛ من جهة أن العين إذا عوينت كرجل يشار إليه، يجوز أن يفرض ارتباط النسب به، فأما إذا(18/621)
كانت متنقبة، أو وراء ستر، فقول عدلين على النسب في مثل هذه الصورة مشكلٌ، حتى يسوغ أن يبنى عليه إثبات إقرار منتسبة. نعم، لو كشفت عن وجهها وقال عدلان: هذه فلانة بنت فلان، فيثبت النسب، ولكن لا فائدة فيه؛ فإنه عند الإعادة يحتاج إلى رؤيتها، وفي الرؤية مَقْنع عن ذكر النسب.
فإن لم يكن كذلك، فعلى ماذا نحمل معرفة العدلين بأن المتنقبة هي التي نسبوها؟ نعم، إن كانا مَحْرمين، أو كان أحدهما زوجاً والآخر مَحْرماً، فقد ينتظم في ذلك رأي، وبالجملة لا تفريع على الاكتفاء بقول عدلين في إثبات النسب؛ فإن قول العدلين سبيله سبيل الشهادة، وللشهادة شرائط، وإن جعلناه شهادة ووجد شرائطُ الشهادة على الشهادة، فينبغي أن يشهد السامع منهما على شهاته. هذا منتهى المراد.
فصل
قال: " وكذلك يحلف الرجل على ما يعلم بأحد هذه الوجوه ... إلى آخره" (1) .
12056- العلم المسوّغ للشهادة على الغير لا شك أنه يسوّغ للإنسان الحلف في حق نفسه، وقد تجوز اليمين حيث لا تجوز الشهادة، وذلك إذا رأى (روزنامج) (2) أبيه وكان عدلاً عنده، وفيها أنه له على فلانٍ كذا، فله أن يعتمد خطَّ أبيه، ويحلف [عليه] (3) بحيث [يدّعي باليمين] (4) مع الشاهد، والشهادة لا تكتفي بأمثال هذا، وسيأتي هذا في الأيمان مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/249.
(2) الرزنامج: لفظ دخيل معناه كُتَيِّب يتضمن معرفة الأيام والشهور وطلوع الشمس والقمر على مدار السنة وإدارة صَرْف مرتبات أرباب المعاشات. (المعجم) وهي هنا بمعنى الدفتر والسجل. والعرب عند التعريب يقلبون (الجيم) هاءً مثل: فالوذج= فالوزة. فالرزنامة أصلها: الرزنامج بالفارسية.
(3) في الأصل: " على ".
(4) مكان كلمات انمحت حتى استحالت قراءتها.(18/622)
باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة
12057- قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] ... إلى آخره " (1) .
والكلام في الباب يشتمل على مقصودين: أحدهما - أن من تحمل الشهادة على شيء استشهد فيها، فإذا مست الحاجة إلى إقامة الشهادة، نُظر: فإن كان المقصود يتعطل لو لم يشهد، فحق عليه أن يشهد، وإن كان تحملَ الشهادة جمعٌ، والحقُّ يثبت ببعضهم، وهم عشرة مثلاً، فإذا دعا الخصم آحادهم إلى إقامة الشهادة، فامتنعوا، فلا شك أنهم يَحْرَجون، والمأثم يعمهم، وإذا ابتدأ، [فعين] (2) شاهدين، والتمس منهما إقامةَ ما تحملاه، فهل لهما أن يمتنعا؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لهما ذلك؛ فإن الحق يثبت بالباقين.
والثاني - ليس لهما الامتناع؛ فإنا لو سوّغنا لهما ذلك، فقد يمتنع كل اثنين منهم يُدْعَيان إلى إقامة الشهادة، فهذا يؤدي إلى التعطيل. والوجهان مفروضان فيه إذا عيّن والباقون يرغبون، أو لم تبِن رغبتهم، ولا إباؤهم.
ولعل الخلاف في إحدى الصورتين يترتب على الخلاف في الأخرى، ولو امتنعوا، فهو ما ذكرناه من تأثيم الجميع.
ولو أشهد الرجل شاهدين، فلما استدعى منهما إثبات الشهادة وإقامتها، قال أحدهما: أشهد، وقال الثاني: " لست أشهد؛ فأحلِف معه "، فليس له ذلك، لم يختلف أصحابنا فيه، ولا تعويلَ على احتمالٍ يعنّ، مع نقلنا الوفاق على ثبت.
__________
(1) ر. المختصر: 5/249.
(2) في الأصل: " معين ".(18/623)
ولو أشهد المودَع شاهدين على الرد، فلما أراد إثباته بشهاتهما، قالا: لا نشهد، قم فاحلف، فليس لهما ذلك.
وقد قال الأئمة: لم يرد على شيء من الكبائر الوعيدُ الواردُ على كتمان الشهادة؛ فإنه سبحانه قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، قيل في التفسير؛ ومن يكتمها مسخ الله قلبه، وانتزع منه حلاوةَ الطاعة، والاستشعار (1) من ملابسة المعصية.
وإن كان الشاهد غائباً، نُظر: إن كان على مسافة يؤويه الليلُ إلى منزله، لزمه أن يحضر ويؤدي الشهادة، قال الأصحاب: له أن يطلب مركوباً، ثم زادوا، فقالوا: له أن يطلب أجرة مركوب، ثم إن لم يركب، فلا عليه.
قال القاضي: لا يحل أخذ الأجرة على إقامة الشهادة؛ فإنه التزمها لمَّا تحملها، فلزمه إيفاؤها، وإنما الأجرة على ما يناله من نَصَبِ المشي، وهذا مشكل عندي؛ فإن المشي إن لم يكن مستحَقاً، فليس عليه أن يمشي، وإن كان مستحَقاً، فأخْذ الأجرة على المستحَق بعيد. نعم، له أن يقول: اكفني المشقة بإحضار مركوب، وفيه أيضاً [مجالٌ للناظر] (2) ؛ فإنه ورّط نفسه في ذلك، ولكن رأيت الطرق مشيرة إلى أن له أن يستدعي مركوباً، فهذا تمام التنبيه على الغرض.
12058- ولو سمع رجلان إقرار رجل، ولم يُشهدْهما، فلهما أن يشهدا على إقراره، وهل يلزمهما ذلك؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يلزمهما، كما لو أُشهدا، ومنم من قال: لا يَلزمهما، بخلاف ما لو تحملا؛ فإن التحمل التزام، وكأنه بمثابة ضمان الأموال، أثبته الشرع مُلزماً، ومن يوجب إقامةَ الشهادة، فلا محمل له إلا الحِسبةُ في تدارك ما أشرف على الضياع، وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة (3) رضوان الله عليه حَسَب اختلافنا.
__________
(1) المعنى: انتزع منه الأحساس بالخوف من ملابسة المعاصي، فتردّى فيها، والعياذ بالله.
(2) في الأصل: " مجال الناظر ".
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/358 مسألة: 1491، مختصر الطحاوي: 336.(18/624)
12059- ولو كان الشاهد المتحمل على مسادة القصر، لم يلزمه الحضور، والشهادةُ على الشهادة أثبتت لمثل ذلك. وإن كان على مسافة فوق المعروفة بمسافة العدوى، ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان أجرينا مثلهما في الاستعداء على الخصم وسنجريهما في قبول شهادة الفروع عند غيبة الأصول.
وقد نجز الغرض في هذا الطرف، ولم يبق إلا أنه لو أشهد شاهدين، فمات أحدُهما، فله أن يكلف الثانيَ إقامةَ الشهادة إذا كان الحلف مع الشاهد ممكناًً، وإن لم يكن ذلك ممكناً، فقد يجب إذا أمكنه إشهادَ شاهدٍ ثانٍ، ثم تكليفه الإقامة، وإن لم يكن في شهاته فائدة، فلا معنى لشهاته.
12060- فأما القول في التحمل، فنقول: ما لا يصح دون الشهادة عليه، فإذا فرض الدعاء إلى تحمل الشهادة، فالقيام به من فروض الكفايات، حتى إذا امتنع الناس عن التحمل عمّهم الحرج، كما يعمهم في تعطيل كل فرض من فروض الكفايات، وهذا كالنكاح والإشهاد عليه.
ولو عيّن من يريد الإشهاد رجلين، وفي غيرهما مَقْنع، فلا يَحْرَجان بالامتناع، وليس هذا كما لو امتنع من المتحملين شاهدان؛ حيث لا يتعطل الحق بامتناعهما، فإنا ذكرنا وجهين ثَمَّ، والفرق أن التحمل مسلك في الالتزام، كما قدمناه، وهذا لا يتحقق في ابتداء التحمل.
هذا إذا كان الإشهاد على ما لا يصح دون الإشهاد، وفي تعطيله ضِرارٌ عظيم.
12061- فأما الإشهاد على عقود الأموال، فهل نقول: تحمُّل الشهادة فيها من فروض الكفايات؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه ليس من فروض الكفايات؛ فإن أصل الإشهاد ليس يجب. والثاني - أنه من الفروض فإن الحاجات ماسة إلى تأكيد أسباب الملك بالشهادات.
ثم للوجهين مستند من اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، قيل: أراد أن لا يأبى من تحمل الشهادة عن الأداء، وقيل: أراد الإباء عن التحمل، فنَهى عنه.(18/625)
12062- وأما كِتْبةُ الوثيقة، هل هي من فروض الكفايات كتحمل الشهادة؟ فعلى وجهين. وتوجيههما يقرب من توجيه الوجهين في التحمل؛ فإن الحاجات ماسَّة إلى تقييد الحُجج بالصكوك، ولا يخفى غَناؤها الظاهر في التذكير، وإن لم يكن عليها معوّل عند فرض النسيان.
وهذا الاختلاف مأخوذ من اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ، قيل: هو محمول على فعل المجهول، وهو الذي يسمى: " فعل ما لم يسمّ فاعله "، فالمعنيُّ به -على هذا- لا يلحق ضرر بالكاتب، فعلى هذا لا يجب الكِتبة. ومنهم من قال: أراد أن الكاتب والشاهد لا يفعلان ما فيه ضرر ملتحق بالناس، فعلى هذا يجب الكِتبة فرضاً على الكفاية.
ثم قال الأئمة: للكاتب طلبُ الأجرة، وإن قلنا: الكِتْبة فرض على الكفاية.
وتحمل الشهادة ليس مما يستغرق به منفعةٌ متقومة، ولكن لو كلف المشي إلى موضع، فقد ألحقه الأصحاب بالكِتْبة، ثم حيث أوجبنا تحمل الشهادة لا نوجب (1) على المتحمل أن يمشي إلى موضع، فيتحملَ الشهادة به إلا أن يكون المُشهِدُ مريضاً لا يقدر على أن يأتي الشاهدَ ويشهده؛ فإذ ذاك يجبُ إذا لم تمس الحاجة إلى قطع مسافة، فإن مست الحاجة إليه فتفصيل القول في المسافات كتفصيل القول في الإقامة (2) ، إلا أن التحمل فرض كفاية، والإقامة فرضُ عين، وهذا فيه إذا لم يجد المريض من يتحمل، ومكانه قريب من مكانه.
***
__________
(1) ضبطت في الأصل: يُوجَب.
(2) المراد إقامة الشهادة.(18/626)
باب شرط الذين تقبل شهادتهم
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] .
12063- مقصود الباب ذكر الشرائط المرعية في الشهود ليكونوا من أهل الشهادة، وما نذكره كالمعاقد والتراجم، والتفاصيل بين أيدينا.
فيشترط أن يكون الشاهد عاقلاً، فلا قول لمجنون، ويشترط أن يكون بالغاً، فشهادة الصبي مردودة عندنا، ويشترط أن يكون حراً، فشهادة العبد مردودة، وقد خالف في ذلك أحمد (2) وبعض السلف (3) ، ونحن لا ننكر أن في الشهادة مشابهة بيّنة مع الولاية، والعبد ليس من أهل الولاية، والسبب فيه أن الاستقلال بالتحفظ، وإقامة أركان الشهادة، لا يتأتى ممن هو [مستغرَق] (4) المنفعة، كما لا يتأتى منه القيام بالولاية.
والإسلام شرطٌ في الشاهد، فلا تقبل شهادة كافر بحال، لا على الكافر، ولا على المسلم، خلافاً لأبي حنيفة (5) رضوان الله عليه، واعتماده على أن الكافر يلي ابنته
__________
(1) ر. المختصر: 5/249.
(2) ر. رؤوس المسائل للعكبري: 6/1005 مسألة 2257، المغني لابن قدامة: 12/71، الإنصاف للمرداوي: 12/60.
(3) بعض السلف: منهم -كما في المغني لابن قدامة- عروة بن الزبير، وشريح القاضي، وابن سيرين، وأبو ثور، وعثمان البتي (ر. المغنى: 12/71) .
(4) في الأصل: " يستغرق ".
(5) ما رأيناه عند الأحناف أن الكفار تقبل شهادة بعضهم على بعض، ولكن لم نجد القول بقبول شهادة الكافر على المسلم، فيما رجعنا إليه من مصادر. (ر. مختصر الطحاوي: 335، المبسوط: 16/140، رؤوس المسائل: 529، مختصر اختلاف العلماء: 4/340 مسألة: 1471، طريقة الخلاف: 373 مسألة 156، إيثار الإنصاف: 341) .(18/627)
الكافرة في نفسها ومالها، فظاهر المذهب ما قال (1) . وقد ذكرنا الجواب عن الولاية.
قال الحليمي: لا تثبت الولاية للكافر وتمسك بلفظ الشافعي في المختصر، فإنه قال في الكفار: " لا نزوجهم إلا بوليٍّ وشهود مسلمين " (2) ، فصرف قوله " مسلمين " إلى الولي والشهود. واللفظ الذي ذكره لا يعارض قول الشافعي في المختصر: " وولي الكافرة كافر " (3) .
ويشترط في الشاهد العدالةُ -وسيأتي وصفها- وحفظُ المروءة، وهو مشروح بين أيدينا، ويشترط الذكورة في بعض الشهادات، وعدّ عادّون انتفاءَ التهمة، وكل ذلك جُملٌ ستفصّل، إن شاء الله.
***
__________
(1) ما قال: المراد الشافعي، فإن الكلام في شرح قوله، وتمسكه بظاهر الآية الكريمة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
(2) ر. المختصر: 3/293.
(3) ر. المختصر: 3/265.(18/628)
باب الأقضية واليمين مع الشاهد
12064- روى الشافعي بإسناده عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، قال عمرو: وذلك في الأموال " (1) .
فذهب الشافعي رضي الله عنه أن القاضي يقضي بالشاهد الواحد الذكر، ويمين المدعي في الأموال، وما يُقْصد به المال.
وكل ما لا يثبت إلا بشهادة رجلين لا يثبت بالشاهد واليمين، وقد يثبت بالشاهد والمرأتين ما لا يثبت بالشاهد واليمين، وهو عيوب النساء.
والأصل اختصاص القضاء بالشاهد واليمين بالأموال وما يؤول إليها.
12065- ثم قال الأصحاب: ينبغي أن تتقدم شهادة الشاهد الواحد واليمينُ تعقُبها، ولو تقدمت اليمين، لم يُعتدّ بها؛ فإن سبب قبولِ اليمين قوةُ جانب المدعي بالشاهد الواحد. ولم يختلف الأصحاب في أن المدعي يتعين عليه تصديق شاهده في يمينه، فيحلف على ثبوت ما يدعيه، وعلى أن شاهده صادق محق، وسبب اشتراط ذلك ارتباط اليمين بالشاهد؛ فإنهما جنسان مختلفان، ويصير ارتباط أحدهما بالثاني بمثابة اتحاد نوع البينة.
__________
(1) ر. المختصر: 5/250.
وحديث ابن عباس رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والشافعي في الأم وقال: " وهذا الحديث ثابت عندنا عن رسول اله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يرد أحد من أهل العلم مثله لو لم يكن فيها غيره، مع أن معه غيره مما يشُدُّه " (ر. الأم: 7/7، مسلم: الأقضية، باب القضاء باليمين مع الشاهد، ح 1712، أبو داود: الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، ح3608، 3609، النسائي في الكبرى: القضاء، باب الحكم باليمين مع الشاهد الواحد، ح6011، 6012، ابن ماجه: الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، ح2370، التلخيص: 4/377 ح2670) .(18/629)
وإذا كان يشهد رجل وامرأتان، فلا ترتيب، فلو شهدت المرأتان [أولاً] (1) ، جاز؛ فإن النوع متحد، والاختلاف في الذكورة والأنوثة لا يوجب الاختلاف في نوع الشهادة، ويمين المدعي وإن كانت حجة، فهي قوله، فلا بد من اعتضادها بتقدم الشهادة.
12066- ثم قال العراقيون: ينبغي أن يعدَّل الشاهدُ قبل يمين المدعي، فيثني عليه المزكّي بقبول القول، وجواز الشهادة، ثم يحلف المدعي بعد التعديل، حتى لو جرى التعديل بعد يمينه، فلا يُعتدُّ باليمين، كما لو تقدمت اليمين على الشهادة، وهذا الذي ذكروه ظاهر؛ فإن قوة الجَنْبة (2) إنما تظهر إذا ظهرت عدالة الشاهد، فإذا أنشأ اليمين قبل ذلك، كانت اليمين مصادفةً حالةً لم تظهر فيها قوة الحالف.
وقد يتطرق احتمالٌ؛ من جهة أن التعديل- وإن جرى بعد اليمين، فهو مستند إلى الشهادة المتقدمة، والظاهر ما قالوه.
ولم أر أحداً من الأصحاب تضايق في تقديم تصديق الشاهد في اليمين على إثبات الحق، حتى يقال: الشرط أن يقول أولاً: بالله إن شاهدي هذا محق صادق، ولي على خصمي كذا، فلو عكس، فأثبت الحق أولاً، ثم صدق الشاهدَ، فلست أرى بذلك بأساً، فلينظر الناظر في هذا.
12067- ثم إذا وقع القضاء، فللأصحاب اختلاف في أنه يحال القضاءُ على ماذا؟ فمنهم من قال: هو محال على الشاهد واليمينُ تأكيد وعَضَدٌ، فعلى هذا لو رجع الشاهد، ورأينا الرجوع عن الشهادة مثبتاً غُرما، اختص بالغرم الشاهد، ومن أصحابنا من قال: القضاء يحال على اليمين، كما يحال ثبوت المقصود على أيمان القسامة، وإن كانت تستدعي لوثاً، ومن أصحابنا من قال: القضاء محال على اليمين والشاهد.
ويمكن أن يعلق تردد الأصحاب في هذا باختلاف ألفاظ الأخبار، ففي بعضها أنه
__________
(1) زيادة من (ق) .
(2) الجَنْبة: من الشيء جانبه وناحيته. (المعجم) . والمعنى: قوة جانب المدعي التي ترتب عليها قبول يمينه.(18/630)
قضى باليمين مع الشاهد، وفي بعضها أنه قضى بالشاهد ويمين الطالب، وهذا يدل على إحالة القضاء عليهما.
فإن أحلنا القضاء عليهما، فعلى الشاهد إذا رجع نصف الغرم، وإن أحلنا القضاء على اليمين، فقد قال الأصحاب: لا غرم على الشاهد إذا رجع؛ فإن القضاء لم يقع بشهاته، وهذا محتمل عندنا؛ لأن القضاء وإن وقع باليمين، فمنفِّذُها ومُجريها شهادةُ الشاهد، فيمكن أن يخرَّج في الشاهد الخلاف المذكور في المزكي إذا رجع عن التزكية. والعلم عند الله.
فصل
قال: " ولو أتى قوم بشاهدٍ أن لأبيهم على فلانٍ حقاً ... إلى آخره " (1) .
12068- الورثة إذا ادَّعَوْا ديناً لمورثهم، وأقاموا شاهداًً، إن حلف كل واحد منهم يميناً مع ذلك الشاهد، ثبت الدين، واستحقوه إرثاً، وإن نكلوا، لم يستحقوا، فإن حلف البعض، ونكل البعض، استحق الحالف نصيبه، دون الناكل، وفي ذلك كلام نذكره بعد انتظام الترتيب، إن شاء الله.
ثم من نكل، فلو مات الناكل، فأراد وارثه أن يحلف مع الشاهد الأول [ليستحق] (2) حصةَ الناكل ميراثاً عنه، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فإنه لو حلف، لكان ذلك باستحقاق الخلافةِ والوراثةِ، وقد بطل حقُّ الناكل عن اليمين لنكوله، بدليل أنه لو أراد في حياته أن يعود إلى اليمين، لم يجد إليه سبيلاً، فلا يثبت لوارثه بالخلافة عنه ما أبطله على نفسه في حياته.
ولو أراد وارث الناكل أن يقيم شاهداً آخر، ويحلف معه، أما الحلف، فلا معنى له بعد ما أبطله المورِّث الناكل، ولكن هذا الشاهد هل ينضم إلى الشاهد الذي أقامه الورثة في ابتداء الخصومة، حتى يقال: تمت البيّنة، فتُغني عن اليمين؟ هذا بمثابة
__________
(1) ر. المختصر: 5/120.
(2) في الأصل: "يستحق".(18/631)
ما لو أقام المورِّث شاهداً في خصومةٍ، ومات، فأقام الوارث شاهداًً آخر.
وهذا فيه احتمال من قِبل أن الوارث يحتاج إلى تجديد الدعوى، وما يأتي به في حكم خصومة جديدة، فلو قيل: لا بد من استعادة شهادة الشاهد الأول، لكان ممكناًً. ولو قيل: انتظام الخلافة [يوجب] (1) البناء على ما كان، لم يبعُد، ولذلك لو أقام الموروث الأول شاهداًً، ومات قبل أن يحلف أو ينكل، فأراد الوارث أن يحلف مع ذلك الشاهد، فهذا محتملٌ لما ذكرناه؛ من جهة أنه يحتاج إلى تجديد الدعوى، ويُخَرَّجُ فيه أن الورثة إذا أقاموا شاهداًً، وحلف بعضهم، ومات بعضهم قبل أن يحلف أو ينكُل، فوارثه هل يحلف؟ فيه التردد الذي ذكرته؛ من جهة احتياجه إلى ابتداء الدعوى، وسيأتي لهذا نظير في الفروع، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل إذا كنتم تقولون: لا يحلف الوارث، وإن لم ينكُل الموروث، فأي فائدة في فرض الكلام في النكول؟
قلنا: نكوله سدَّ بابَ اليمين على الوارث، وإن ابتدأ الدعوى وجددها، فليثبت الناظر هاهنا.
وإذا لم يحلف ولم ينكُل، فلا يمتنع على الوارث [أن يجدد] (2) الدعوى والحلف.
12069- فإن انقسم الورثة إلى حضورٍ وغُيّب، أو صغارٍ وكبار، أو مجانينَ وعقلاءَ، فإذا أقام العاقل البالغ شاهداًً وحلف معه، قُضي له بنصيبه، ووُقِف نصيبُ من يمتنع تحليفه، فإذا آب الغائب، وأفاق وبلغ المجنون والصبي، حلفوا، واستحقوا حصصهم، ولا حاجة بهم إلى استعادة الشهادة، وإن لم يقمها من يليهم (3) ، والسبب فيه أن الشهادة متعلقة بالميراث وإثبات ملك الموروث، وذلك في حكم الخصلة الواحدة، فإذا ثبتت الشهادة في حق البعض، ثبتت في حق الجميع وإن
__________
(1) في الأصل: " فوجب ".
(2) في الأصل: " أنه يجرّد ".
(3) أي الأوصياء القيّم.(18/632)
لم يصدر الدعوى من الجميع، ولا [ممن] (1) ينوب عنهم، وليس كاليمين؛ فإن اليمين، وإن تعلقت بتصديق الشاهد وإثبات ملك الموروث، فمبنى اليمين في الشرع على اختصاص أثرها دفعاً ونفعاً [بالحالف] (2) ، ولا يتصور أن يحلف الإنسان لغيره، فالشهادة (3) أبداً حكمها التعدّي.
فإذا كان في الورثة مجنون، وكنا ننظر إفاقته ليحلف، فمات، فقد قال الأصحاب: يقوم وارثه مقامه، فيحلف ويستحق، وهذا من قولهم يدل على أن من لم يحلف، ولم ينكُل إذا مات، قام وارثه مقامه من غير استعادة الشهادة، وقد يتخيل فرق، والأصل هذا.
ثم إذا كان في الورثة صبي وبالغ، أو حاضر وغائب، وأقام البالغ الحاضر الشاهدَ، وكان المدعَى عيناً في يد غاصب، وهي ميراث بزعم الورثة، فإذا حلف البالغ الحاضر، فهل نزيل يد المدعى عليه عن حصة الصبي والغائب، ونَقِفَها إلى زوال المانع؟ ذكر القاضي قولين في ذلك، وهذا فيه بُعد، والوجه ألا تزال يده عن حصة من لم يحلف؛ فإن الحجة في تلك الحصة ما تمت، فلا طريق عندنا إلا القطع بتقرير يده.
ولو أوصى لشخصين بشيء، فادعى أحدهما، وأقام شاهداًً، وحلف مع شاهده، استحق نصيبه، ولا تزال يد المدعى عليه عن نصيب الموصى له الثاني، إذا كان غائباً ما لم يراجع، فكذلك القول في سائر الموادع.
والفرق أن الموصى له يدعي الملك لنفسه، والوارث يُثبت الملك لموروثه، ثم الشرع ينقله إليه بالخلافة، وكل واحد من الموصى لهما منفرد بملكه وحقه، وإذا حضر الغائب في الوصية، لم تغنه الشهادة التي أقامها الحاضر، بل عليه افتتاحُ دعوى، وإقامةُ شاهد، فإن شهد له ذلك الأول، فذاك، وإلا طلب شاهداً آخر.
__________
(1) في الأصل: " فيمن ".
(2) في الأصل: " بالحلف ".
(3) كذا: "فالشهادة" (بالفاء) مكان الواو، وهذا معهود في لغة الإمام ومعاصريه.(18/633)
وهذا [لِما] (1) ذكرناه من انفصال إحدى الوصيتين عن الأخرى. وقد نجز الكلام في هذا الفن على الترتيب الذي ذكرناه.
12070- وبقي كلامٌ رمزنا إليه في صدر الفصل، وهذا أوان الوفاء به.
فإذا خلف الرجل وارثين، فادعيا ديناً لموروثهما، وشهد شاهد واحد، وحلف أحدهما مع الشاهد، وأثبتنا مقدار نصيبه، فقد قال الشافعي: يختص الحالف بحصته، لا يساهمه [فيه] (2) الناكل، ونصَّ في كتاب الصلح على أن رجلين لو ادعيا عيناً ميراثاً في يد رجل، وزعما أنهما ورثاها، فأقر المدعى عليه لأحدهما بالإرث في مقدار حصته وأنكر الثاني، قال: يثبت نصف العين المدعاة، ثم قال: صاحب المُقَرِّ له يشاركه ويساهمه في الذي يسلم، فإنهما اعترفا ابتداء بأن المال مشترك بينهما إرثاً، وهذا يخالف الصورة التي قدمناها في اليمين مع الشاهد.
قال الإمام (3) : في المسألتين طريقان: من أصحابنا من قال: افترقا؛ لأن المدعَى في أحدهما دين، وهي مسألة الشاهد واليمين، فاختص الحالف، فإن الذي قبضه ليس عيناً مستحقة بينهما، ولو كانت مسألة الإقرار في الدين، لكانت هكذا، ولكان المقر له ينفرد بما يسلم، لا يشاركه الآخر، ولو كانت مسألة الشاهد في عينٍ، لاشترك الناكل والحالف.
وهذا بعيد.
والطريقة الصحيحة- أن اختلاف المسألتين بسبب تعلق الاستحقاق في إحداهما باليمين مع الشاهد، فلو أثبتنا الشركة، لاستحق الناكل بيمين غيره، وهذا لا سبيل إليه مع إبطال حق نفسه بالنكول، وفي مسألة الإقرار ثبت ما ثبت بإقرار المدعى عليه، ثم ترتب على إقراره إقرار المقَرّ له بأن ما سلّم إرثٌ.
وفي المسألة احتمال، كما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: " كما ".
(2) في الأصل: " منه " والضمير مذكر على معنى النصيب أو السهم ونحوه.
(3) الإمام: يقصد به والده.(18/634)
12071- ولو ادعى الورثة ديناً أو عيناً، وكان منهم غائب وحاضر، فأقام الحاضر شاهدين، فيقضى للحاضر بنصيبه، فإن كان المدعى عيناً، انتُزع نصيبُ الغائب -قولاً واحداً- من يد المدعى عليه؛ فإن البينة تامة لا يمين فيها، وقد أثبتت الميراث، وإن كان المدعى ديناً فهل تستوفَى حصة الغائب- وقد قامت البيّنة؟ فعلى وجهين: أحدهما - تستوفى، كما تزال يد المدعى عليه عن العين. والثاني - لا تُستوفى. وهذا في الغائب.
فإن كان مجنوناً أو صبياً استوفى السلطان حصتَهما بالولاية.
وما ذكرناه في الغائب لا يختص بهذه الصورة، بل من أقر لغائب بعين، واعترف بأنه غصبها، أزال السلطان يدَه، وحفظَها للغائب، وإن أقر بدينٍ لغائب، فهل يستوفيها (1) ؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
ولو ادعى رجل أن فلاناً أوصى لي ولفلان الغائب بهذه الدار، وأقام شاهدين، فتثبت الوصية في حق هذا المقيم، ولا تثبت في حق الغائب، وإذا عاد استعاد الشهادة، أو أقام بينة أخرى.
وما ذكرناه في الورثة من أصول الكتاب، وهو في ظاهر الأمر كالخارج عن قياس الأصول؛ من حيث إن الحاضر يُثبت ملك الغائب من غير ولاية ولا نيابة، وسبب ذلك أنه يثبت ملك الميت، ولكل واحد من الورثة هذا السلطان، ليتَوَصَّل إلى ملك نفسه، ثم إذا ثبت ملكُ الميت، عم الإرث.
فصل
قال: " وليس للغريم، ولا الموصى له ... إلى آخره " (2) .
12072- الورثة إذا ادّعَوْا ديناً للميت، وأقاموا شاهداًً، ونكلوا عن اليمين، وكان على الميت ديون [لغرماء] (3) ، فهل لهم أن يحلفوا إذا نكل الورثة؟ فيه قولان،
__________
(1) كذا يعود ضمير المؤنت على الدين. وهو وارد -بتأويلٍ- في فصيح الكلام الذي يحتج به.
فلتقدّر هنا الدراهم أو الدنانير ونحوها.
(2) ر. المختصر: 5/120.
(3) في الأصل: "الغرماء".(18/635)
وكذلك لو فرض ذلك في الوصية، وقد استقصيتُ هذا في كتاب القسامة في مسألة أم الولد على أبلغ وجه، فلم أر الإعادة.
12073- ثم قال: " ولو أقام شاهداً أنه سرق له متاعاً ... إلى آخره " (1) .
وهذا أيضاًً مما ذكرناه في باب الشهادة على الجناية. والذي لا بد منه أن من قال: سرق فلان نصاباً من حرزه، وأقام على ذلك شاهداً وامرأتين، فالقطعُ لا يَثْبت، والمالُ يَثْبُت.
ثم فرع الشافعي (2) عليه مسألةً، فقال: إذا قال الرجل: " إن كنتُ غصبتُ شيئاً، فأنتِ طالق "، وخاطب زوجتَه، فأقام [المدعي الخَصْمُ] (3) شاهداً وامرأتين، أو شاهداًً، وحلف معه، ثبت الغصب، ولم يُحكم بوقوع الطلاق؛ فإن الطلاق لا يثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين.
قال ابنُ سُرَيْج: لو قضى القاضي عليه بالغصب بالشاهد واليمين، أو بالشاهد والمرأتين أولاً، فقال المقضي عليه: " إن كنتُ غصبتُ، فامرأتي طالق "، فيُقضَى بوقوع الطلاق، بخلاف ما لو تقدم التعليق على نفوذ القضاء. وهذا أجراه الأصحاب كذلك.
وحكى شيخي أن من أصحابنا من خالف ابنَ سريج، ولم يفرق بين أن يتقدم القضاء، أو يتأخر، فقال: لا يقع الطلاق في الصورتين؛ فإن التعليق وإن سبق، فالقضاء بعده قد أكد الأمر، فكان كالقضاء قبله.
وهذا وإن كان متجهاً، فلم أره إلا لشيخي.
قيل للقاضي: ولو قال لزوجته إن ولدت، فأنت طالق، فأقامت أربعة من القوابل على الولادة، فقال القاضي: لا يقع الطلاق؛ لما تقدم، ويثبت النسب؛ لأن الولادة تثبت، ثم الفراش يُلْحقُ النسب، وكذلك لو علّق طلاقها برؤية الهلال، وشهد واحد
__________
(1) السابق نفسه.
(2) ر. المختصر: 5/251. والكلام بلفظ مقارب لهذا، لا بعينه.
(3) في الأصل: " مدعي الخصم ".(18/636)
على رؤية الهلال، ورأينا الحكم بثبوت الهلال، لم يقع الطلاق بناء على ما مهدناه.
فصل (1)
قال: " ولو أقام شاهداً على جارية أنها له وابنها ولد منه ... إلى آخره " (2) .
12074- إذا كان في يد إنسان جاريةٌ وولدُها، وكان يسترقّهما، فجاء مدعٍ وادعى أن هذه الجارية أمُّ ولدي، وهذا ولدي منها، وأقام على ذلك شاهداًً، وحلف معه، فقد قال الشافعي فيما نقله المزني: تثبت أميةُ الولد، ولا يُقضى بحرية الولد على حكم دعواه، واعتل أن الحرية لا تثبت بالشاهد واليمين.
ونقل المزني قولاً آخر: أنه يُقضى له بالولد منتسباً إليه، ويقع الحكم بالحرية، فقد ثبت قولان في الولد كما حكينا، وثبت القطع بأُمّية الولد، أما أُمّية الولد، فالثابت منها اختصاصه بها، وهذا في التحقيق ملكٌ، وعُلقة الاستيلاد تثبت بإقراره وراء اختصاصه بملك الجارية.
فأما القولان في الولد، فتوجيههما: من قال: لا تثبت حرية الولد، احتج بأنه لم يدّع فيه ملكاً، بل أراد إثبات حريةٍ أصلية بشاهد ويمين، وهذا لا سبيل إليه (3) .
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن الولد في دعواه جزء من الجارية، وقد ثبت الاستيلاد، فإذا اختص بالجارية على صفة أمية الولد، تعدى ذلك إلى الولد. وهذا بعيد في القياس؛ لأن الجارية وولدها شخصان ويفرض فيهما دَعْوَيَان.
واختار المزني أقيس القولين، وهو أن حرية الولد لا تثبت، واحتج بمسألة نذكرها، ونبين تفصيل المذهب فيها، وهو أنه قال: لو كان في يد إنسان عبد على
__________
(1) وضع الناسخ البسملة هنا قبل كلمة (فصل) مع أنها في وسط الصفحة، وليست أول كلام جديد.
(2) ر. المختصر: 5/251.
(3) لأن الحرية ليست مما يثبت بالشاهد واليمين.(18/637)
زعمه يسترقّه، فقال مدعٍ: هذا العبد ملكي، قد [أعتقته] (1) بحق الملك، وأقام شاهداً وأراد الحلف معه، نقل المزني أن دعوى المدعي لا تثبت (2) ، والعبد مقرٌّ في يد المدعى عليه، واحتج بالمسألة التي أوردها، ورجّح قائلاً: إذا كانت الدعوى [لا تُثبت العتق بقول المدعي] (3) ، وإن كان ذلك العتق مترتباً على الملك، وكان العتق مسبوقاً -بزعم المدعي- بالملك الثابت للمدعي، ثم الملك والعتق مزدحمان على شخص واحد، فإذا لم تثبت دعواه لمكان العتق حالة الدعوى، فلأن لا تثبت الحرية الأصلية في الولد أولى (4) .
وقد اختلف أصحابنا في مسألة العتق والملك في العبد، فقال بعضهم: في ثبوت العتق قولان؛ من حيث إنه ترتب على الملك الذي ادعاه، كالقولين في حرية الولد؛ فإنها مترتبة على أمية الولد في الأم.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت العتق في مسألة العبد، لأنه متشبَّثٌ بدعوى المدعي في تلك المسألة، ولدعوى من يدعي أمية الولد تعلقٌ بما يقبل فيه الشاهد واليمين ثم ذلك الاختصاص على ذلك الوجه يقتضي ولداً لا محالة.
وهذا تكلف، والقياس القطُع في المسألتين بأن حرية الولد وعتق العبد لا يثبت.
فصل
قال: " ولو أقام شاهداً أن أباه تصدق عليه بهذه الدار ... إلى آخره " (5)
12075- مضمون هذا الفصل مسألتان، ثم كل مسألة لها شُعب.
__________
(1) في الأصل: " أعتقت".
(2) وجه ذلك أنه اعترف بحريةٍ ناجزة في الحال، فلا عُلْقة له به.
(3) عبارة الأصل: " لا تثبت ثبوت العتق بقول المدعي ".
(4) وجه الأولوية عبر عنه الغزالي بقوله: " قال المزني: فإذا كانت الدعوى لا تثبت بحرية ناجزة مع ترتبها على ملكٍ سابق، فكيف تثبت الحجة في الولد ولم يمسّه ملك ولارق، وهو في الحال حرّ " (البسيط: جزء6/ورقة: 143 وجه) .
(5) ر. المختصر: 5/251.(18/638)
الأولى- فيه إذا ادعى ثلاثةٌ معاً -مثلاً- داراً في يد إنسان، فقالوا: هذه الدار وقفها أبونا علينا، وكانت ملكَه إلى أن وقفها، ثم على أولادنا بعد انقراضنا، وذكروا مصرِفاً لا ينقطع من جهة الآخِر، فإذا أقاموا شاهداًً، وحلفوا معه، ثبت الوقف على الرأي الأظهر بالشاهد وأيمانهم.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: رقبة الوقف ملك الواقف، أو ملك الموقوف عليه، [فالوقف] (1) يثبت بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين.
وإذا قلنا: الملك في رقبة الوقف لله، فلا يثبت الوقف إلا بشاهدين عدلين.
وهذه الطريقة مزيفة من وجهين: أحدهما - أن مقصودهم إثبات استحقاق المنفعة ملكاً لأنفسهم، فليقع التعويل على مقصود المدعي، والآخر - أنهم يختصون بالرقبة اختصاص من يدعي استيلاد الجارية، وهذا ليس بذاك؛ فإن المستولدة ملك المستولد، والوقف إنما يضاهي الاستيلاد على قولنا: الملك في الموقوف للموقوف عليه، والتفريع بعد هذا على أن الوقف يثبت بالشاهد واليمين. وقد فرضنا الوقف على الترتب كما صورنا المسألة، ثم نذكر ثلاث صور في هذه المسألة تبيّن [القواعد] (2) والأمهات، ونأتي بعدها بما يستوعب الغرض.
12076- فإحدى المسائل أن يحلفوا ونقضي بثبوت الوقف، فإذا ماتوا، فهل يحلف البطنُ الثاني، أم يعوِّلون على أيمان الأولين؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يحلفون، ويكتفون بثبوت الوقف بما مضى. والثاني - أنهم يحلفون، ولو أبَوْا، لم يثبت الوقف في حقوقهم.
والقولان مأخوذان من أصلٍ، وهو أن البطن الثاني في الوقف المترتب يستحقون ما ينتهي إليهم من جهة الواقف، أم يتلقَّونه من جهة البطن الأول؟ فعلى قولين، وقد بنينا على ذلك مسائل في الوقف، فإن قلنا: التلقِّي من الواقف، فلا بد للبطن الثاني من الحلف، وكأنهم الأولون، وإن قلنا: إنهم يتلقون من البطن الأول، فلا
__________
(1) في الأصل: " بالوقف ".
(2) في الأصل: " للقواعد ".(18/639)
يحلَّفون؛ لأن الأولين قد حلفوا، وسبيلهم سبيل الورثة، وما أثبته الموروث باليمين والشاهد، فإذا انتقل إلى الورثة، لم يحتاجوا إلى الحلف. هذه مسألة.
12077- الثانية - إذا نكل الأولون، ولم يحلفوا مع الشاهد أصلاً، وماتوا، فلا خلاف أن البطن الثاني لا يستحقون شيئاً من غير يمين، ولكن لو أرادوا أن يحلفوا ويستحقوا؛ فهل لهم ذلك؟ فعلى قولين، ومأخذهما ومأخذ القولين الأولين [واحد] (1) ، ولكن يختلف الترتيب.
فإن قلنا: التلقِّي من الواقف، فيحلف البطن الثاني، وإن قلنا: من البطن الأول، فلا يحلفون؛ لأن الأولين أبطلوا حقوق الأيمان بالنكول، وما بطل عليهم لا يثبتُ لمن يُتَلَقَّى منهم، كما ذكرناه في الموروث وورثة الملك.
ووجه اتحاد المأخذين أنا إن قدرنا التلقِّي من الواقف، فحلِفُ البطن الأول لا يكفي في حق البطن الثاني، وعلى هذا الأصل لو نكل الأولون، لم يبطل حق البطن الثاني، فليحلفوا وليأخذوا.
وإن قلنا: التلقي من البطن الأول، فإذا لم يحلفوا ونكلوا، بطل حق البطن الثاني، وإذا حلفوا، لم يحتاجوا إلى الحلف.
12078- الصورة الثالثة - فيه إذا حلف البعض، ونكل البعض، مثل أن يحلف واحد وينكل اثنان، أما حصة الحالف فثابتة له، ولا يثبت حق الناكلَيْن، بناء على الأصل الممهد في أن حلف الإنسان لا يُثبت لغيره حقاً، ثم تُترك حصة الناكلَيْن في يد المدعى عليه؛ فإنه لم تقم عليه حجة في ذلك المقدار، ثم إن مات الحالف، فأولاده معه كأولاد جميع الأولين لو حلفوا. وأولاد الناكلَيْن إذا ماتا كأولاد جميع الأولين إذا نكلوا، وإذا ضممنا الكلام، قلنا: ولد الحالف يستحق إذا حلف، وهل يستحق من غير حلف؟ فعلى القولين. وأولاد الناكلَيْن لا يستحقون من غير حلف، وهل يستحقون مع الحلف؟ [فعلى القولين] (2) المذكورين.
__________
(1) انمحت تماماً من الأصل، وقدرناها على ضوء السياق. والحمد لله وافقتنا (ق) .
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وزاده المحقق إقامة للعبارة. وهو مطموس في (ق) .(18/640)
فهذا بيان الصور المشتملة على القواعد في هذه المسألة.
12079- وألحق صاحب التقريب [صورة] (1) بما مهدناه، فقال: إذا حلف جميعهم مع الشاهد، ثم مات واحد منهم (2) ، فيصرف نصيبه إلى صاحبيه بحكم شرط الواقف؛ فإن مقتضاه ألا يُصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول أحد.
ثم إذا كان يُصرف نصيبُ من مات إلى الباقيَيْن، وقد كانوا حلفوا معاً، فإذا أخذ [الباقي] (3) نصيبَ الميت، فهل يحتاج إلى أن يحلف مرة أخرى على نصيبه؟ هذا رَتَّبه على أن البطن الثاني هل يحلفون إذا انتهى الاستحقاق إليهم، وقد حلف البطن الأول.
فإن قلنا: لا يحلفون، ويكتفون بحلف البطن الأول، فالذين بقوا لا يحلفون على ما أخذوه من نصيب من مات منهم، ونفْي الحلف أولى هاهنا.
وإن قلنا: أهل البطن الثاني يحلفون، وإن حلف البطن الأول- فهل يحلف الباقون في مسألتنا، وقد حلفوا من قبل؟ فعلى وجهين: أحدهما - يحلفون، قياساً على البطن الثاني. والثاني - لا يحلفون، ولعله الظاهر؛ لأنهم قد حلفوا، وأقاموا الحجة التامة على الوقف وشرطه، فتجديد الحلف في حقهم في حكم إعادة اليمين، وأهل البطن الثاني ما حلفوا قط، فلو أخذوا من غير حلف، لكانوا آخذين بأيمان غيرهم، وهذا بيّن.
12080- ونحن نذكر صورة خامسة (4) متعلقة بالمسألة الأولى، وننبّه فيها على تمام الغرض، فنقول: إذا حلف واحد من البطن الأول، ونكل اثنان، ووقع القضاء للحالف بنصيبه، فمات الحالف، وتصدت لأخذ نصيبه البطن الثاني والناكلان، فكيف السبيل؟
الوجه: التنبيه على مثار الإشكال أولاً، فنقول: إن صرفنا نصيب الحالف إلى
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(2) هذه هي الصورة الرابعة من صور المسألة الأولى.
(3) في الأصل: "الثاني". والمراد: الباقي من البطن الأول. ثم جاءت (ق) موافقة لما قدرناه.
(4) الرابعة هي التي حكاها عن صاحب التقريب.(18/641)
الناكلَيْن، كان ذلك موافقاً لشرط الواقف؛ فإن موجبه أن لا يصرف إلى البطن الثاني شيء، ما بقي من البطن الأول أحد، ولكن قد أبطلا حقوقهما بالنكول، ولو صرفنا نصيب الحالف إلى البطن الثاني، لكان ذلك مخالفاً لشرط الواقف مع بقاء الناكلَيْن، فاختلف أصحابنا لما نبهنا عليه على ثلاثة أوجه:
فقال بعضهم: يصرف نصيب الحالف إلى البطن الثاني؛ لأن الناكلَيْن أبطلا حقوقهما بالكلية، فصار ذلك منهما بمثابة موتهما، ولو ماتا، لم يجز الصرف إلى البطن الثاني، وهذا ضعيف؛ فإنه مخالفةٌ لشرط الواقف.
والوجه الثاني - أن نصيب الحالف مصروف إلى الناكلَيْن وفاء بالشرط، وهما إن أبطلا حقهما المتلقَّى من الواقف، فهذا حق متجدد لهما بموت الحالف، فلا سبيل إلى إبطاله عليهما.
ومن أصحابنا من قال: لا يصرف إلى الناكلَيْن، ولا إلى البطن الثاني، وقال: هذا المقدار تعذر مصرفه، لما نبهنا عليه من الإشكال في صدْر المسألة، فيصرف إلى أقرب الناس بالمُحَبِّس، وهذا مسلك لنا معروف: مهما (1) تعذر صرف شيء من الوقف إلى المصرف الذي شرطه الواقف بعد صحة الوقف.
12081- ووراء ما ذكرناه تنبيهات في استكمال التفريع:
أحدها: إن نصيب الناكلَين في أول الأمر متروك على المدعى عليه؛ فإنه لم تثبت فيه حجة، والاستحقاق تبع الحجة، وأما نصيب الحالف، وقد مات -في صورة الأوجه الثلاثة- فقد ثبتت عليه الحجة؛ فإنه حلف عليه في حياته، فلا سبيل إلى تركه بعد وفاته على المدعى عليه، وقد انتزع من يده بحكم وقفٍ لازم، فوقع التردد بعد ذلك في المصرف.
ومما نذكره أنا إن صرفنا إلى الناكلَيْن، فهذا يخرج على التردد الذي ذكرناه في أنهم إذا حلفوا، ثم مات بعضهم، فهل يأخذ الباقون نصيب من مات من غير يمين؟
__________
(1) مهما: بمعنى: إذا.(18/642)
إن قلنا: لا بد من يمين، فللناكلَيْن أن يحلفا الآن على نصيب الحالف، وإن نكلا من قَبْل عن نصيب أنفسهماً، وإن قلنا: لا يحلف الباقون إذا مات حالف، فههنا يأخذ الناكلان ولا يحلفان. وقد يخطر للفقيه ترتيبٌ من جهة أنهما ما حلفا قط، فيمكن أن يكونا كأهل البطن الثاني في الترتيب.
التفريع:
إن قلنا يأخذان بلا يمين، فلا كلام، وإن قلنا يأخذان باليمين، فإن حلفا، فذاك، وإن نكلا، فقد تعذر الصرف إليهما، وزال هذا الوجه، وبقي النظر إلى البطن الثاني، وإلى أقرب الناس إلى المحبِّس.
وإن قلنا بالصرف إلى البطن الثاني، فلا نخصص أوّلاً أولاد الحالف، بل لا فرق بين أولاده وأولاد الناكلَيْن، ثم يعود القولان في أنهم هل يُحَلَّفون أم يكتفون بما تقدم من اليمين؟ فإن قلنا: يكتفون، فلا كلام. وإن قلنا: يُحَلَّفون، فإن حلفوا، فلا كلام، وإن نكلوا، انقطع النظر عن الأول والثاني، وبقي وقفٌ تعذر مصرفه، فإن رأينا الصرف إلى أقرب الناس بالمحبّس، صرفنا إليهم، وهل يُحَلَّفون؟ فعلى ما ذكرنا من الخلاف: فإن قلنا: يحلّفون، فلم يَحْلِفوا، فهذا وقفٌ لا ندري له مصرفاً، وحكمة مستقصىً في كتاب الوقف، وقد بأن مقصود المسألة.
وإذا انتهى طرف منها إلى فقدان مصرف الوقف، فلتقع الثقة بكمال البيان منه في كتاب الوقف.
قال العراقيون: لو أقام الأولاد كما صورناه شاهداًً، وحلفوا معه، وكان شرط الواقف أن الوقف بعد انقراضهم على المساكين، فإذا انقرض الأولاد، فإن قلنا في المسائل المتقدمة: إن أهل البطن الثاني لا يُحَلَّفُون ويكتفون بما سبق، فيصرف الوقف إلى المساكين في هذه الصورة.
وإن قلنا: أهل البطن الثاني لا بد وأن يُحَلّفوا، فلا يتصور تحليف المساكين مع خروجهم عن الضبط، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الوقف مصروف عنهم.
والثاني - أنه مصروف إليهم. ووجه الوجه الأول قياس اشتراط اليمين، ووجه الثاني الضرورة في تعذر التحليف. فإن قلنا بالوجه الأول، فقد تعذر التحليف، فهذا وقف تعذر مصرفه، فيلتحق بأصله في الوقف، ويخرج وجهٌ في الصرف إلى أقرب الناس(18/643)
بالمحبِّس، ووجهٌ في بطلان الوقف ورجوعِه ملكاً، ولا خوض في هذا بعد الإحالة على كتابه، وقد تمت مسألة بأطرافها.
12082- المسألة الثانية - إذا قال الواقف: وقفتُ على أولادي وأولادهم، فذكر البطنَ الثاني جمعاً إلى البطن الأول، ولم يرتبهم، فهذه المسألة تتميز عن الأولى في أن الاستحقاق في الأولى على الترتيب، وهو في الثانية على الجمع، ولكن مقتضى الشرط أن الأولين لو لم يولد لهم، لانفردوا بالاستحقاق، وإذا ولد لواحد منهم أو لهم، أدخل من تجدد في الاستحقاق من وقت الولادة، حتى لو كانوا ثلاثة، فالوقف بينهم أثلاثاًً، فإذا ولد مولود، فله الربع، والوقف بينهم من وقت الولادة أرباعاً، هذا حكم الشرط.
فلو أقام الأولون شاهداً، وحلفوا معه، استحقوا الوقف أثلاثاًً، فلو وجد ولدٌ، وقفنا رُبع الوقف من وقت ولادته، وأبقينا في يد الحالفين ثلاثة أرباع الوقف على الحكم الأول، ولا يصرف إلى الولد الجديد ذلك الربعُ الموقوفُ وجهاً واحداً، اكتفاء بأيمان الأولين.
وليس كالمسائل السابقة في مسألة الترتيب؛ فإن كل صورة ذكرنا فيها خلافاً في اليمين، فهي مشتملة على الترتيب، فإنا نشترط في ثبوت الاستحقاق موتَ ميت، فينشاً منه -إذا حلف من تقدم- كلامٌ في أن من تجدد يأخذ بيمين من قبله بناء على أصلٍ، وهو أن البطن الثاني يتلقَّوْن من البطن الأول، أو من الواقف؟ فإن قلنا: يتلقون من الواقف، فليس إلا الحلف، وإن قلنا: يتلقون من البطن الأول، فلا يحلف كما لا يحلف الوارث، وقد خلف موروثَه في الأملاك.
وهذا المعنى لا يتحقق حيث لا ترتيب، فإن الولد الجديد بمثابة الأولين إذا وجد، فلا ينقدح فيه إلا التلقي من الواقف، فلهذا وقفنا الربع إلى أن يبلغ، فيحلف، فإن حلف، صرفنا إليه ما وقفناه له، وإن نكل عن اليمين، فالمنصوص عليه للشافعي أن ما وقفناه له مردود على الأولين، فتعود القسمة أثلاثاً كما كانت، ويخرج هذا الجديد من البَيْن.(18/644)
وقال المزني: الربعُ الموقوف لا يصرف إلى الأولين؛ فإنهم ليس يدعون، بل معترفون بأنه يُسْتَحق للولد الجديد بحكم اعترافهم، وقد تعذر الصرف إليه بسبب نكوله عن اليمين، فلا وجه للرد إلى الأولين، وهذا الذي ذكره لا يُنكِر اتجاهَه في القياس منصفٌ، ولا حاجة إلى الإطناب فيه.
والمقدار الذي ذكره الأصحاب لنصرة النص ما حكَوْه عن ابن سريج؛ فإنه قال: كان الأولون مستحقين لجميع الوقف قبل وجود هذا المولود، فإذا وجد دخل استحقاقُه على الأولين دخولَ العَوْل، وكل استحقاق يبقى على استغراق، فهكذا يكون، ثم استحقاق العول موجَبُه الصرفُ إلى المستغرقين إذا تعذرت جهة العول.
وهذا يناظر الديون والتركة [فإذا كانت التركة ألفاً] (1) والدين ألف، فهي مصروفة إلى الدين، فلو ظهر ألف آخر، فالتركة بينهما، فلو أسقط صاحب الدين الظاهر حقَّه، فصاحب الأول يستغرق التركة، وهذا كلام نظمه ابن سريج، ولا يتصور مصادمة معنى مذهب المزني به؛ فإن الاستحقاق ثبت في الربع للولد الجديد، ولا ينفع بعد هذا التقديراتُ والتلقيباتُ، والمزني يقول في مسألة الدّينين: إذا لم يحلف صاحبُ الدين الثاني لا يأخذ صاحب الدين الأول إلا ما يخصه. نعم، إذا أبطل الثاني دينَه بإبرائه، فالتركة تصرف إلى الأول.
ومسألة الدَّينين فيه إذا اعترف الأول بثبوت حق الثاني، وقصّر الثاني في إثبات التركة لتكون متعلقاً لدينه، وأما إبطال الثاني دينه، فلا نظير له من الوقف؛ فإن النكول لا يُبطل الحق من الوقف، بدليل أن الناكل لو وجد بيّنة (2) ، أقامها واستحق بها، ولو أقر المنكر [ثبت] (3) بإقراره ما فيه النزاع، والأولون معترفون بثبوت الوقف للرابع، وتقصيره لا يبطل إقرارهم، بل يؤاخذون به.
12083- والوجه عندنا إلحاق مذهب المزني بالمذهب، واعتقادُه قولاً منقاساً
__________
(1) زيادة من (ق) .
(2) أي شاهداًً ثانياً.
(3) زيادة من (ق) .(18/645)
مخرجاً، ثم تفريع المزني أن الربع الذي لم يحلف عليه المولود إذا تعذر [صرفُه] (1) إلى الأولين لأنهم مؤاخذون بالأقرار، ولم يحلف الرابع ليأخذ، فهذا وقفٌ تعذر مصرفه، ثم هو محال على موضعه من كتاب الوقف.
فلو قال قائل: هلا رددتم ذلك الربع إلى المدعى عليه؟ فإن التعذر جاء فيه من عدم الحجة، وكأن حجة الأولين لم تشمل هذا الربع عند وجود هذا المولود، وما تقاعدت الحجة عنه، فحكم الخصومة رده على الخصم.
قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ إذ لو قيل به أولاً، لزم منه طرد ذلك في مسألة الترتيب إذا حلف الأولون ونكل البطن الثاني -على قولنا إنهم يحلفون- حتى يُردّ الوقف إلى المدعى عليه عند نكولهم، ولا قائل به.
والسبب فيه أن يد المدعى عليه أزيلت بالحجة القائمة، وانقطع تعلقه، وما يطرأ بعد ذلك من باب تعذر الصرف على الاختصاص بمصارف الوقف، كذلك في المسألة الثانية أزيلت يد المدعى عليه قبل المولود الجديد، فلا يعود استحقاقه باختباطٍ واضطراب في مصارف الوقف.
والقول الجامع فيه أنه إذا نكل البعضُ في أول مرتبة، فلا حجة في نصيبه، وحكم هذا تبقيةُ ذلك المقدار في يد المدعى عليه؛ إذ ما قامت عليه حجةٌ قط، فاستمر تعلقه، ومهما (2) أزيلت يده، فلا عود له إلى الطلب قط، ويؤول النظر إلى وقفٍ تعذر مصرفه. هذا ظاهر. ولست أنكر بقاء خلاجٍ في نفس الفقيه، ولكن ما ذكرتُه من أظهر كلام يجري في المسألة، ولست أعرف فيه خلافاًً.
فرع على التصرف، في المسألة الأخيرة:
12084- إذا قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، وكان أولاد الصلب ثلاثة، فادَّعوا وأقاموا شاهداً، وحلفوا معه، وأزلنا يد المدعى عليه، وصرفنا الوقف إليهم أثلاثاً، فتجدد ولد، ووقفنا له الربع وغَلَّتَه، ومضت سنة كذلك، فمات من
__________
(1) في الأصل: "صُرف". (بهذا الضبط) .
(2) مهما: بمعنى إذا.(18/646)
أولاد الصلب واحد فيصير الموقوف للمولود ثلثاً من وقت موت ذلك الولد، فلو مضت سنة أخرى، فمات هذا المولود الجديد، فلا شك أن رقبة الوقف بين ولدي الصلب الآن نصفين.
أما رَيْع السنتين، فنقول: رَيْع السنة الأولى حقُّه أن يصرف إلى أولاد الصلب: أعني الثلاثة، فإذا مات [الولد] (1) ، فالرَّيع الموقوف للولَدين الباقيين، ولوارث الولد الثالث الذي مات، وأما رَيْعُ السنة الثانية، فيختص بالولدين الباقيين، فإنه حدث بعد موت الثالث، فلاحظ لورثته فيه. وهذا بيّن لا شك فيه.
فرع:
12085- إذا كان الوقف على الجمع كما ذكرنا، فولد ولدٌ، وقفنا له الربع، وقد حلف الأولون قبله، فإذا مات هذا المولود الجديد طفلاً، فحكم شرط الواقف رجوعُ ذلك إلى الأولين؛ فإن المزاحِم قد زال، وهل يحتاجون إلى يمين جديدة؟ هذا يخرج على الخلاف المقدم.
إن فرّعنا على مذهب المزني؛ فإنه جعل الرابع أصلاً في الاستحقاق، وبمثابة أحد أولاد الصلب، فكان موته، ورجوع الربع بحكم الشرط إلى الأولين، بمثابة ما ذكرناه في مسألة الترتيب إذا حلف الأولون، ثم مات بعضهم، فهل يُحَلَّف الباقون؟ وإن فرّعنا على النص، لم نحوج أولاد الصلب إلى الحلف؛ فإن حكم النص إخراج الطارىء من البَيْن، وتقديره كأنه لم يكن. وكيف يستراب في هذا، ولو نكل وبقي هذا الرابع، فنصيبه مفضوضٌ على أولاد الصلب ويقدَّر كأن التجدد لم يكن.
ثم عقد الشافعي باباً في ذكر الخلاف مع أبي حنيفة في الشاهد واليمين (2) . والله أعلم.
***
__________
(1) في النسختين: " المولود " والمثبت هو ما يَقتضيه السياق، فالمراد إذا مات الولد الصلبي، فالرّيع في السنة الأولى للصلبيين الباقيين ولورثة هذا الثالث.
(2) ر. المختصر: 5/252.(18/647)
باب موضع اليمين
قال: " من ادعى مالاً فأقام عليه شاهداًً ... إلى آخره " (1) .
12086- مقصود الباب القول في تغليظ الأيمان بالمكان والزمان والألفاظ، فكل ما يعظم قدره كالدماء وما يلتحق بها مما لا يثبت بالشاهد واليمين، فالتغليظ في اليمين مشروع فيه، وما يثبت بالشاهد والمرأتين ينقسم إلى المال وحقوقه، وإلى عيوب النساء، فأما الأول، فينقسم إلى المال الكثير وإلى القليل، فأما القليل، فلا تغليظ فيه بالجهات الثلاث. وأما الكثير، فالتغليظ مشروع فيه. والكثير الذي يجري التغليظ فيه، عشرون ديناراً أو مائتا درهم، وما دون ذلك لا تغليظ فيه، والرجوع فيما ذكرناه إلى الآثار.
روي عن عبد الرحمن بن عوف أنه مرّ برجل يحلَّف بين الركن والمقام، فقال: " أعلى دمٍ؟ فقالوا: لا، فقال: أعلى عُظْم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت " (2) وروي- أن يَبْهأ (3) الناس بهذا البيت.
ومعناه: التهاون أيضاًً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/254.
(2) أثر عبد الرحمن بن عوف رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10/176، وفي معرفة السنن والآثار: 7/414 رقم 5931.
(3) يبهأ: بَهَأ به، يَبْهَأ بَهْأً، أَنِس به (المعجم) . ومعنى الأنس به أي الاعتياد، والإلف الذي يُذهب المهابة ويؤدي إلى التهاون.
وقد فسر البيهقي هذا اللفظ (يبهأ) قائلاً: "يبهأ الناس يعنى يأنسوا به، فتذهب هيبته من قلوبهم. قال أبو عبيد: يقال: بهأت بالشيء إذا أنست به"، وقد جاء هذا التفسير في (اللسان) مستشهداً بحديث عبد الرحمن بن عوف هذا.(18/648)
فروى (1) : العظيم من المال عشرون ديناراً، ولا يظن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدير من غير تثبت عندهم.
فأما عيوب النساء، فأمرها خطير يلتحق بالنكاح وما في مرتبته، وإن كان يثبت بالشاهد والمرأتين؛ فإن سبب ذلك الضرورة الداعية إلى قبول شهادة النسوة المتجردات. ثم ترتب عليه إقامة رجل مقام امرأتين.
ومما نذكره أن الوكالة في التصرف في مقدار نزرٍ من المال قياسها تغليظ اليمين فيها، لأنها لا تثبت برجل وامرأتين تعظيماً للولاية، وملك التصرف.
وفي النفس من هذا شيء؛ فإن الوكالة في الدرهم خسيسة، وهي أخس من ملك الدرهم، فإن تصرف المالك أقوى من تصرف الوكلاء، وشرطُنا شاهدين في الوكالة لا يحمل على شرف الوكالة، وإنما يحمل على اتباع التعبدات في مراتب الشهادات، والتغليظ يتلقى من عظم قدر ما فيه الخصومة، فإذا كنا نغلظ ما يتعلق ببواطن النساء مع ثبوته بالشاهد والمرأتين، لم يبعد أن نخفف ما يتعلق بالوكالة، وإن كانت لا تثبت إلا بشاهدين.
هذا قولنا فيما يجري التغليظ فيه.
12087- ثم كيفية التغليظ بالمكان والزمان مضى ذكرهما في كتاب اللعان، والذي نذكره ههنا أن التغليظ بالمكان هل يُستحَق؟ فيه قولان لا يخفى توجيههما تعلقاً بالوجود من وجه، وحملاً على الاحتياط من وجه، ووجه التعلق بالوجود أنه لو لم يجب، لما جاز لما أشار إليه عبد الرحمن بن عوف من خشية التهاون.
ثم قال الأصحاب: في تغليظ الأيمان على الكفار، نحلّفهم في كنائسهم وبيعهم، ولا نحلّف المجوسي في بيت النيران؛ فإنها ليست محترمة، وهذا وإن صار إليه الأصحاب مشكل، وقد قال صاحب التقريب: نحلفهم في بيوت النيران. ووجه ما قاله الأصحاب أن البيع والكنائس محترمة، فنسخت حرمتها، فلا يبعد الاستمساك بما كان، ولم يثبت احترام بيوت النيران في ملة من الملل.
__________
(1) فروى: أي الشافعي (ر. المختصر: 5/254) .(18/649)
فأما التغليظ بالزمان، ففيه طريقان: منهم من لم يوجبه، قولاً واحداً. ومنهم من أجرى القولين فيه.
وأما التغليظ باللفظ، فينقسم إلى تغليظٍ بالعدد كما ذكرنا في أيمان القسامة واللعان، وهذا مستحَق حيث يثبت، وتغليظ لا يرجع إلى العدد، قول الحالف " بالله الذي لا إله إلا هو " وهذا مرتب على الزمان، وهو أبعد الأركان الثلاثة عن الاستحقاق.
وإذا جمعنا المكان والزمان واللفظ، انتظم فيها أقوال:
أحدها - الاستحقاق في الكل.
والثاني - الاحتياط في الكل.
والثالث - الاستحقاق في المكان فحسب.
والرابع - الاستحقاق في الزمان والمكان دون اللفظ.
فرع:
12088- إذا رأينا التغليظ بالمكان، واقتضى ذلك إحضار المرأة المسجد وتحليفها، فلو كانت مخدرة، قال العراقيون: لا يعصمها التخدير، ويجب عليها حضور المسجد وقطعوا بها، وقد قدمنا في التخدير كلاماً يوجب تطرق الاحتمال إلى ما ذكرناه الآن.
فرع:
12089- كل تغليظ رآه القاضي مستحَقاً، فيجب اتباع رأيه فيه؛ فإن المسائل مجتَهَد فيها، والامتناع عما رآه غير سائغ، والممتنع مجبَر على الطاعة، فإذا قال القاضي: قل " بالله "، فقال " بالرحمن "، كان هذا نكولاً؛ فإنَّ حَلِفه مربوطٌ بتحليف القاضي، والقاضي لم يحلّفه بالرحمن، فكان مبتدئاً فيه، هكذا وجدت الطرق.
ولو قال: " قل بالله الذي لا إله إلا هو "، فقال: " بالله "، واقتصر، فهل يكون ناكلاً أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب. والوجه عندي أن نقول: إذا رأى القاضي التغليظ باللفظ مستحقاً، فالممتنع عنه ناكل، وإن لم ير القاضي التغليظ مستحقاً، فمخالفة القاضي فيما يراه احتياطاً هل يكون نكولاً؟ فعلى وجهين.(18/650)
هذا مقصود الباب، وقد تركت مسائل فلم أُعدها، لأني ذكرتها في كتاب اللعان، والغرض الأخص بالباب نجمعه في فصلٍ.
فصل
12090- الخصومة الدائرة بين شخصين قد تكون مغلظة في أحد الشقين مخففة في الشق الثاني، وتصوير ذلك أن العبد إذا ادعى على مولاه إعتاقه إياه، فانكر المولى، فالقول قوله مع يمينه. فإذا رغب في اليمين نظرنا إلى قيمة العبد، فإن كانت قيمته عشرين ديناراً غُلّظت اليمين عليه. والتفريع على التغليظ.
وإن كانت القيمة أقلَّ من عشرين ديناراً، لم تغلّظ، وإن نكل عن اليمين، رددنا اليمين على العبد، واليمينُ مغلظة عليه، قلّت قيمته أو كثرت، فإنه يبغي إثبات العتق وخطرُه عظيم، وكذلك إذا ادعى على مولاه الكتابة، والمولى ينكرها، فننظر إلى مقدار القيمة في جانب السيد، وإذا [رددنا] (1) اليمين على العبد غلّظناها، لأنه يبغي بإثبات الكتابة الاستقلال المنافي لحجر الرق المُفضي إلى العَتاقة.
وذكر صاحب التقريب في هذا الفن وجهاً بعيداً، أنا إذا غلظنا اليمين من جانب، غلظناها من الجانب الثاني، حتى يتحد القياس في ترتيب الخصومة.
وهذا وجه مزيف لا أصل له؛ إذ ليس المصير إلى هذا أولى من المصير إلى عكسه حتى يقال: إذا خَفَّت الخصومة في شيء كالملك، فالعتق زوال لذلك الملك الخفيف، فيجب تخفيفه، فالوجه الحكم في كل شيء بما يليق به.
فرع:
12091- قال العراقيون: إذا توجه على رجل يمين بمكة مثلاً، ورأى القاضي تغليظها بأن يحلّف المنكر بين الركن والمقام، فقال المدعى عليه: قد حلفت بالطلاق لا أحلف بين الركن والمقام، فنقول: إن حلف بالطلاق أنه لا يحلف يميناً مغلظة، وقلنا إن التغليظ ليس بواجب، فعلى القاضي أن يترك التغليظ ولا يحنّثه.
__________
(1) في الأصل: "أردنا".(18/651)
وإن قلنا التغليظ مستحَق، فلا يبالَى بيمينه ويغلّظ عليه ويحنّثه، وإن لم يرد الحنث فلينكُل.
ولو قال: لا أحلف بين الركن والمقام، وقلنا: إن التغليظ مستحب، فلا يحنّثه بالتحليف بين الركن والمقام، وإن قلنا: التغليظ مستحق، وقد حلف لا يحلف بين الركن والمقام، فقد ذكروا في هذه الصورة قولين: أحدهما - أن القاضي يحلّفه بين الركن والمقام، ولا يُبالي بيمينه، والثاني - أن يحلّفه في جانب آخر من جوانب الكعبة؛ فإن جملة جوانبها محترمة، ويحصل التغليظ بها، ولا معنى لتحنيثه، هكذا ذكروه، ولا حاصل عندي لذكر الخلاف حيث انتَهَوْا إليه إلا على تردد في أن ما بين الركن والمقام هل يتعين في التغليظ، إذا كنا نعتبر التغليظ ونراه مستحقاً، فإن عيّنّا ذلك المكان، فالامتناع عنه امتناع عن مستحق، وإن لم نر ذلك متعيناً شرعاً، فلا معنى لتحنيثه، ويعود التفريع إلى قولنا: التغليظ مستحب غير مستحق.
فصل
قال: " ويحلف الرجل في حق نفسه فيما علمه على البتّ ... إلى آخره " (1) .
12092- الإنسان يحلف على فعل نفسه على البتّ، نفياً كان أو إثباتاً؛ فإن اطلاعه على ما ينفيه ويثبته في حق نفسه ممكن، فلتكن اليمين باتّة، وتصوير ذلك [هيّن] (2) .
وإذا تضمنت يمينه إثباتَ فعل الغير، فلتكن على البت أيضاًً، فإن وصوله إلى العلم بثبوت فعل الغير ممكن. ولهذا يتصور منه الشهادة عليه، فكانت اليمين على البت.
فأما ما يتضمن نفيَ فعل الغير، فاليمين على [نفي] (3) العلم، مثل أن يدعي مدعٍ على أبيه مالاً، أو استقراضاً، فالوارث يحلف بالله لا يعلم ذلك، وسيعود هذا مرتباً في كتاب الدعاوي، إن شاء الله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/254.
(2) في الأصل: " بيمين " والمثبت من (ق) .
(3) زيادة من المحقق. والحمد لله على توفيقه، فقد وجدناها في نسخة (ق) .(18/652)
ولو ادُّعي على عبده جناية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يحلف على العلم؛ من جهة أنه يبغي بيمينه نفيَ جناية عبده، وهذا غيب لا يطلع عليه، فلتكن اليمين على العلم. والثاني - أن اليمين على البت؛ فإنّ فعلَ عبده بمثابة فعله، ويغلب اطلاعه على عبده، وقد ينسى فعلَ نفسه، وبنى الأصحاب الوجهين على أن أرش الجناية يتعلق بذمة العبد أو برقبته ورقِّه.
وعلى هذا الأصل ابتنى مقدار ما يفدي به السيد عبدَه، فإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فهو المستقل بالالتزام، والرقبة مرتهنة، والسيد يحلف على نفي العلم، وإن قلنا: الأرش يتعلق بالرقبة، فعلى هذا العبدُ بمثابة يد السيد وأعضائه.
والذي أراه (1) أنه يقتصر على نفي العلم، وإن لم يثبت للعبد ذمة.
ولو انتشرت بهيمة في زرع إنسان على وجه يقتضي ذلك وجوبَ الضمان على صاحب البهيمة، فإذا أراد أن يحلف، فالقياس الذي مهدناه مأخوذاً من التعلق بالذمة، يقتضي أن يبتّ اليمين في هذه المسألة؛ فإن مالك البهيمة لا يضمن بفعل البهيمة، وإنما يضمن لتقصيره في حفظها، وهذا يتعلق بأحواله والتعلق برقبة العبد ليس محمولاً على تقصير السيد؛ فإن مبنى الانتفاع بالعبيد على إطلاقهم بخلاف البهائم.
فصل
" ولا تقبل منه اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم ... إلى آخره " (2) .
12093- إذا ادعى المدعي، وذكر أنه لا بيّنة له، فلو ابتدر المدعى عليه وحلف، لا يعتد بيمينه، ولو طلب المدعي اليمين، فابتدر المدعى عليه وحلف، لم يعتد بيمينه بلا خلاف، ولو طلب المدعي وعرَض القاضي، فهذا أوان الحلف.
__________
(1) قال الرافعي، وأقره النووي: " أصح الوجهين أنه يحلف على البت؛ لأن عبده مالهُ، وفعله كفعل نفسه، ولذلك سمعنا الدعوى عليه ". (ر. الشرح الكبير: 13/196، والروضة: 12/35) .
(2) ر. المختصر: 5/255.(18/653)
واستدل الأئمة على ذلك بما روي: " أن ركانة طلق امرأته ألبتة، وقال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم، والله ما أردتَ إلا واحدة؟ فحلف ركانة مرة أخرى " (1) فدلّ ذلك على أن اليمين التي ابتدرها قبل عرض رسول الله لم تكن معتداً بها، ولذلك استعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قال المدعي: لا بينة لي، ولم يطلب اليمين، فإن كان ممن يجوز أن يجهل ترتيب الخصومة، فحقّ على القاضي أن يبيّن له أن حقَّه في التحليف، وذلك منوط [بخِبْرته] (2) .
وإن كان المدعي ممن لا يخفى عليه ذلك، وربما عُهد ممارساً للخصومات، دَرِباً بترتيبها [عليماً] (3) بأن اليمين تعرض إذا لم تكن للمدعي بيّنة، فالقاضي ماذا يصنع؟ أيصبر حتى يطلب المدعي تحليفَ الخصم؟ أو يقول له بعد قوله لا بينة لي: ماذا تريد؟ أو يهجُم على عرض اليمين اكتفاءً بقرينة الحال، وعلماً بأن المدعي لا يحمل خصمَه إلى مجلس الحكم ولا بيّنة له إلا وهو يبغي عرضَ اليمين عليه، فعساه يقر؟
فنقول: أما الاستبداد بالعرض، فلا سبيل إليه، والكلام في أنه يسكت عن المدعي أم يقول له ماذا تريد؟ هذا مما تردد فيه الأئمة. والقول فيه [قريب] (4) . وهو من فنّ الأَوْلى في الأوان. وظهر اختلافُ الأصحاب في أن المدعي إذا ادعى هل تتوقف مطالبة المدعى عليه بالجواب على طلب المدعي، وفيه خلافٌ قدمناه. والسبب فيه أن العادات لا تختلف في طلب الجواب، وهي تختلف في عرض اليمين.
ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن قالوا: العبرة في الأيمان بعقيدة القاضي، ولا عبرة بعقيدة- الحالف وهذا فيه فضل نظر.
__________
(1) سبق هذا الحديث في الطلاق.
(2) في الأصل: " بخيرته "، والمثبت تقدير من المحقق. والحمد لله وافقتنا فيه (ق)
(3) في الأصل: " عليها ".
(4) في الأصل: " مرتب ". والمثبت من (ق) .(18/654)
12094- قد قدمنا أن القاضي متبوع في قضائه، وأوضحنا [تعليله] (1) ، وذكرنا أن الولايات لا تستمر (2) إلا بهذا مع اختلاف المذاهب. وقد ذكر صاحب التقريب أمراً بديعاً لم أره لغيره، وذلك أنه قال: القضاء ينفذ ظاهراً على العوام، وإن اختلفت مذاهبهم، فإن كان المقضي عليه مجتهداً، [وقد] (3) خالف مذهبه مذصبَ القاضي، فهل ينفذ قضاء القاضي عليه ظاهراً على خلافِ عقده؟ ذكر في ذلك وجهين: أحدهما - أنه ينفذ. وهو الذي قطع به الأصحاب.
والثاني - أنه لا ينفذ؛ لأن المجتهد مستقل بنفسه في نظره، فليس له أن يتبع غيره، وليس للغير أن يستتبعه.
وهذا عندي في حكم الهفوة التي لا يعتدّ بها، لأن القول به يؤدي إلى خرم منصب القضاة؛ على أنه مراغمة لما مضى عليه الأولون؛ فإن أقضية الخلفاء ومن بعدهم تنفذ على أئمة الدين؛ فلا وجه لهذا. وإنما الخلاف في الباطن كما ذكرناه.
12095- ونعود بعد ذلك إلى إتمام المراد بما يليق، إذا ادّعى حنفي على شافعي شفعةَ الجوار، وكان القاضي يرى إثباتها، فإذا أنكر الشافعي الشفعة، لم يكن له أن يحلف بناء على اعتقاد نفسه لما مهدناه من أنه يجب اتباع القاضي؛ فلا يكون باراً في يمينه بالله لا يلزمه، بل هو كاذب فيها.
وفي تعليق معتمدٍ عن القاضي أنه لو حلف مؤوِّلاً بانياً على عَقْد نفسه، حنث في الظاهر (4) ، وهذا كلام خليٌّ عن التحصيل، والوجه أن نورِّك (5) الذنب فيه على المعلِّق؛ فإن لزوم الكفارة ليس مما يختلف فيه الظاهر والباطن (6) . وكذلك إذا حلف
__________
(1) في الأصل: " بعلله ".
(2) كذا، وأكاد أجزم أن صوابها: " لا تستدّ ". أي لا تستقيم، فهذا اللفظ (تستدّ) يدور على لسان الإمام كثيراً.
(3) في الأصل: " فقد ".
(4) أي لا يحنث باطناً، فلا تجب الكفارة عليه، كما سيظهر واضحاً في الأسطر الآتية.
(5) ورّك الذنب عليه أي حمّله إياه، وحمله عليه. (القاموس المحيط) .
(6) يريد الإمام -لأدبه العالي، وخلقه الجم- أن يقول: إن هذه الهفوة المنسوبة إلى القاضي=(18/655)
الرجل يميناً فاجرة، وعقبها بالاستثناء بحيث يُسمع نفسه، فلا حكم للاستثناء أصلاً ظاهراً وباطناًً، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه، ولولاه لما انتظم [مقصود] (1) في تحليف؛ فإن أحداً لا يعجز عن هذا.
وقال القاضي: لا ينفعه الاستثناء في الظاهر، وينفعه فيما بينه وبين الله في وجوب الكفارة، وهذا كلام سخيف لما ذكرته، ومحل السؤال منه أنه لو أسمع القاضي الاستثناء، فلا خلاف أنه لا يعتدّ بيمينه، بل تُعاد، وقد يقول الفطن: لو كان الاستثناء في مفصل القضاء لا يُبطل اليمين، لما كان إظهاره مبطلاً، وهذا خيال ووهم؛ فإن القاضي طلب منه يميناًً جازمة، والذي جاء به ليست اليمين المطلوبة؛ فإعادة اليمين لهذا، وأيضاً فإن ما يقوله المرء في نفسه من غير أن يظهره لأهل المجلس، فهو الذي لا يبالَى به، ولا يقضى بأنه يغيّر أمراً في الظاهر والباطن، والعلم عند الله تعالى.
فرع:
12096- إذا ادعى ديناً مؤجلاً على إنسان، ففي سماع دعواه وجهان: أحدهما - أنها لا تسمع؛ فإن الدعوى إنما تتم وتنتظم إذا اتصلت بمطالبة المدعى عليه، ولا يتصور الطلب في الدين المؤجل قبل محل الأجل. والوجه الثاني - تُسمع الدعوى، لأنه يستفيد بها إثباتَ حقه، فقد يقرّ المدعى عليه، فيسجِّل على إقراره، وإذا ثبت الدين مؤجلاً، كان مالا معتدّاً له، ولو مات من عليه الدين، حل بموته.
ومن أصحابنا من فَصَلَ بين أن يكون للمدعي بيّنة وبين ألا يكون، فقال: إن كانت له بينةٌ، سُمعت دعواه وبيّنته، ويستفيد به ثبوتَ الحق والأمنَ من ضياع البيّنة؛ فإن الشهود ربما لا يبقون إلى حلول الحق، وإذا لم يكن بينة، لم تسمع الدعوى، فحصلت ثلاثة أوجه.
وإذا ادعت الجاريةُ على مولاها الاستيلادَ، فالمذهب القطع بأن دعواها مسموعة، وكذلك إذا ادعى العبد التدبيرَ، أو ادعى تعليقَ العتق بالصِّفة.
__________
=ليست صحيحة في نسبتها، فقدر الرجل عنده أعظم من أن تكون منه هذه الزلّة، وانما الخطأ والزلل جاء من الناقل المعلّق عن القاضي، فلا يعقل عند الإمام إلا هذا.
(1) في الأصل: " مقصوده ".(18/656)
وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج هذه المسائل كلها على وجهين مأخوذين من دعوى الدَّيْن المؤجل؛ فإن غرض المملوك دعوى سبب يُفضي إلى خلاصه من الرق في ثاني الحال (1) .
وهذا غير سديد؛ فإن التعليق والتدبير والاستيلاد حقوق ثابتةٌ في الحال، يجوز تعليق الدعوى بها، وهذا يظهر جداً في الاستيلاد؛ فإنه يتنجّز به لو ثبت امتناعُ البيع والرهنِ، وفي دعوى التدبير فضل نظر، فأما إن جوّزنا الرجوع عن التدبير، فإنكار المولى يجوز أن يجعل رجوعاً، كما سيأتي، وإذا كان في تقدير الإنكار إبطال الدعوى، فلا معنى لتصبح الدعوى، وإن قلنا: لا يصح الرجوع عن التدبير، فيتجه حينئذ تصحيح الدعوى.
فرع:
12097- ذكر صاحب التقريب في تضاعيف كلامه في أثر قضاء القاضي ووجوب اتباعه حكماً متعلقاً بالفتوى، فقال: لو نكح رجل امرأة، ثم استفتيا مفتياً فأفتى لهما بفساد النكاح، والمسألة مجتهدٌ فيها، فهل تبين المرأة عن الرجل بفتوى المفتي؟ ذكر وجهين: أحدهما - أن المرأة لا تبين، وإن وقع الرضا بالفتوى، وإنما ينقطع النكاح بقضاء القاضي. والوجه الثاني - أن النكاح ينقطع؛ فإن اتباع الفتوى حتم على المقلِّد، وذكر وجهاً ثالثاً مفصلاً - فقال: إن صحَّحَ النكاح قاضٍ، لم يرتفع بالفتوى، وإن لم يتصل تصحيحه بقضاء قاض يرتفع بالفتوى، ولست أخوض في تفصيل ذلك، فإنه من أحكام الفتاوي، وهو من فن الأصول، وقد جمعت في الاجتهاد والفتوى كلاماً شافياً كافياً، فليطلبه مريده من مجموعنا فيه (2) .
***
__________
(1) في ثاني الحال: أي في المستقبل وليس الآن.
(2) ينظر في هذا كتابي الاجتهاد والفتوى في كتابه البرهان في أصول الفقه: الفقرات: 1455- 1551.(18/657)
باب الامتناع من اليمين
قال: " وإذا كانت الدعوى غيرَ دمٍ في مالٍ، أحلف المدعى عليه، فإن حلف برىء ... إلى آخره " (1) .
12098- في اللفظ الذي نقله المزني خللٌ من وجهين: أحدهما - هو أنه قال: " إن كانت الدعوى غيرَ دم "، فأوهم أن الدعوى لو كانت في الدم لا يحلف المدَّعَى عليه، وليس كذلك. وأوهم أن لا مدخل لليمين في غير الأموال، والأمر على خلاف ذلك.
12099- ومقصود الباب الكلام في شيئين: أحدهما - في النكول ورد اليمين، والثاني - فيما يجري التحليف فيه.
فإذا توجهت اليمين على المدعى عليه، فلا يخلو إما أن يحلف أو لا يحلف، فإن حلف، تخلص عن الخصومة، ولم ينقطع الحق إن كان، ولو وجد المدعي بيّنة، أقامها، وقد صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في ذلك: " البيّنة العادلة خيرٌ من اليمين الفاجرة " (2) .
وقال ابن أبي ليلى: لا تُسمع بيّنةُ المدعي بعد تحليف المدعَى عليه، والحق عنده يسقط بيمينه.
وقال مالك (3) إن كانت البينة حاضرة في المجلس، لم تقبل بعد اليمين، وتعطلت. وإن كانت غائبة، فحلف المدعى عليه، قُبلت بينته إذا أحضرها.
__________
(1) ر. المختصر: 5/255.
(2) خبر " البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة " بوّب له البيهقي في سننه وقال: روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشريح القاضي رحمه الله (السنن الكبرى: 10/182) .
(3) ر. الإشراف: 2/968 مسألة 1953، عيون المجال: 4/1580 مسألة 1116.(18/658)
ولو قال المدعي: ليست لي بيّنة، ثم قال من بعدُ: وجدت بيّنةً عالمةً بحقي، وما كنت أدريها، تسمع البيّنة منه، ولا يمتنع سماعها بقوله: ليست لي بينة.
ولو قال: ليست لي بينة لا حاضرة، ولا غائبة، ثم جاء بشهود، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تقبل.
ولو أقام المدعي شاهدين عدلين عند إنكار خصمه، ثم قال: كذب شاهداي، وشهدا بباطل، فلا شك أن بينته تسقط بما صدر منه من التكذيب، وهل تبطل دعواه في الأصل؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - تبطل الدعوى حتى لو أراد أن يقيم بينة أخرى، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وينزل تكذيبُه شهوده منزلةَ تكذيبه نفسه. وهذا الوجه ضعيف.
والوجه الثاني - أنه لا تبطل دعواه؛ إذ من الممكن أن يقول أنا محق في دعواي، ولكنكما لم تحيطا بحقيقة الحال، فشهدتما بما لا تعلمان. وهذا واضح.
ثم فرّع على هذا فقال: لو أن المدعي أقام بينة، كما ذكرنا، وأقام المدعى عليه شاهداً واحداً: أن المدعي قال: كذب شهودي، وشهدوا مبطلين، وأراد أن يحلف مع شاهده، فما حكمه؟ قال: إن قلنا: لو قال المدعي ذلك، سقط دعواه، فيُقبل ذلك من المدعى عليه؛ فإنه يستفيد بالشاهد واليمين إسقاطَ الدعوى، فصار كما لو أقام شاهداً وحلف معه أن [المدعي] (1) أبرأه، فهذا مقبول. وإن قلنا: اللفظةُ التي قدمناها لو صدرت من المدعي حقيقةً، لم تتضمن سقوط دعواه، فإذا أقام المدعى عليه شاهداًً، وأراد أن يحلف معه، والمدعي منكر للّفظ، فلا حكم لما يأتي به المدعى عليه من الشاهد واليمين؛ فإن الدعوى لا تسقط، والبينة لا تسقط أيضاًً، فإنه نقل طعناً من المدعي في البينة، وما يتضمن جرحاً وطعناً في الشهود لا يثبت بشاهد ويمين، وإن كان المشهود عليه مالاً.
وكل ما ذكرناه متعلق بالبينة.
12100- فلو لم يكن للمدعي بينة، فاليمين معروضة على المدعى عليه، فلا
__________
(1) في الأصل: " المدعى عليه ".(18/659)
يخلو: إما أن يُنكر، أو يسكت، فإن أجاب، وأنكر، عرض القاضي عليه اليمين باستدعاء المدعي، فإن نكل عن اليمين، لم يُقضَ عليه بنكوله.
ثم قال العلماء: المستحب أن يعرض اليمين عليه ثلاث مرات، فإن اقتصر على مرة واحدة، فله الحكم بالنكول، ولسنا نعني بالحكم بالنكول أنه يثبت على الناكل ما ادعاه المدعي، ولكن فائدة الحكم بالنكول إثباتُه النكول، ليرتب عليه رد اليمين، كما سنصفه إن شاء الله.
وهذه الأمور يعدها معظم الففهاء ظاهرة ويتخطَّوْنها من غير اهتمام بكشفها، ومعظم الغوائل فيها.
12101- ونحن نقول -مستعينين بالله- النكول لا يثبت ما لم يقض القاضي به إذا لم يصرح المدعى عليه بأني ناكل عن اليمين. ثم ما ذكرناه من ترديد القاضي العرضَ على المدعى عليه أدبٌ مستحب في مراسم القضاء، فإن قضى القاضي بالنكول كما (1) ظهر له في العرضة الأولى، ثبت النكول، ثم لا يجوز له أن يقضي بالنكول ما لم يظهر له ذلك من المدَعى عليه، حتى لو كان يجوّز أن يكون امتناعه عن دهش، أو كان يُقدّر أنه لم يفهم عَرْض اليمين لغباوة وعدم إلفٍ بمراسم الخصومات، فليس له أن يقضي بنكوله، وإذا ظهر له امتناعه، فإن أكد بالتكرير، فحسنٌ، وإن أراد ألا يكرر، فلا عليه.
ومما نستحسنه أن يُعلمه أنه يقضي بنكوله لو تمادى على امتناعه، فلو لم يُعلمه ذلك، وظهر له امتناعه، ولكن كان المدعى عليه لا يدري أن امتناعه مع القضاء [بنكوله] (2) يوجب ردّ اليمين، فهل للقاضي أن يقضي بنكوله ويردَّ، أم شرطُ القضاء بالنكول إعلامُه موجَب نكوله؟ هذا فيه احتمال ظاهر والأرجح أن قضاءه بالنكول ينفذ، [وإن لم يُعلمه] (3) حكمَ النكول.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "وأن يعلمه".(18/660)
وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يصرح بالنكول أو الامتناع عن اليمين.
12102- فإن قال: نكلت، أو أنا ناكِل، أو لست أحلف، فالذي نراه أنه لا حاجة في هذا المقام إلى قضاء القاضي، وهو بمثابة ما لو أقر المدعى عليه بالحق، فلا يظهر بقضاء القاضي أثر عند الإقرار، وسنبين أثر ما ذكرناه في التفريع.
12103- ثم قال الأصحاب: إنما يتحقق النكول إذا قال القاضي للمدعى عليه احلف بالله، فإذا امتنع، فإذ ذاك يقضي بالنكول، ولو قال له: أتحلف؟ فامتنع، فقد قال القاضي: لا حكم لهذا الامتناع، لأنه لم يأمره باليمين، بل استشاره فيها مستفهماً، وهذا فيه تدبر من جهة أن قول القاضي للمدعى عليه: " احلف " مشكلٌ؛ فإنه أمر، وتوجيه الأمر عليه بالحلف، فيه غموض، هذا وجه. والآخر أنه إذا قال: أتحلف، فلو ابتدر وحلف، فهل يعتد بيمينه، أم لا؟ هذا وجه التنبيه.
وسبيل الكشف بعده أن قوله: " احلف " ليس أمراً جازماً، ولكنه إبانةُ وقت الحلف واليمين المعتد بها إن أرادها المدعى عليه، فإذا لم يحلف وامتنع، نفذ القضاء بنكوله، فأما قوله: " أتحلف "، فاستخبار، ولو ابتدر وحلف، لم يُعْتَدَّ بيمينه؛ فإن اليمين إنما يُعتدُّ بها إذا استحلف القاضي، والاستفهام ليس استحلافاً، ولكن إن قُدِّم الاستفهامُ، فهو حسن، ليكون الاستحلاف بعده على بصيرة.
ونظمُ الكلام أنه يقول للمدعى عليه أتحلف؟ فإن قال: نعم. قال: قل " بالله "، ثم إذا ثبت نكوله، إما بقوله نكلت، أو بحكم الحاكم بنكوله، فلو قال بعد ذلك: أحلفُ، لا يبالَى به، وهذا أثر إثبات النكول. فإن قال: نكلت، أو قال القاضي: حكمتُ بنكولك، أو أقبل على المدعي، فقال: احلف، فلو أراد المدعى عليه أن يحلف، لم يُقبل منه بعد ما وصفنا. وقوله للمدعي: " احْلِف " قضاءٌ منه بالنكول، فلا يشترط في هذا المقام أكثرُ من ذلك.
ولو أقبل على المدعي هامّاً بتحليفه يمينَ الرد، ولم يقل بعدُ " احلف " فأراد المدعى عليه أن يحلف، ففي المسألة وجهان، ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يحلف، لأنه لم يصرح بالنكول، ولم يأت القاضي بعدُ بما يكون حكماً بالنكول،(18/661)
فوقت يمينه باقٍ. والوجه الثاني - أنه لا يحلف؛ فإن إقباله على المدعي إقدامٌ منه على تحليفه، ولا يقع هذا إلا بعد إثبات النكول.
ولو جرى القضاء بنكوله أو صرح بكونه ناكلاً، فقد ذكرنا أنه لو أراد أن يحلف لم يمكَّن.
فلو قال المدعي: رضيت بأن يحلف، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن القاضي يحلِّفُ المدعَى عليه برضا المدعي؛ فإن الحق لا يعدوه، فإذا رضي، جرى القاضي على موجب رضاه. والوجه الثاني - أنه لا يُحلَّف، وإن رضي المدعي؛ فإن هذا تحليفٌ بعد النكول، والنكولُ يُبطل إمكانَ اليمين.
ولكن ما ذكرناه فيه إذا أنكر المدعى عليه، ثم جرى في اليمين ما وصفناه، فأما إذا سكت ولم يُجب المدعي، فقال له القاضي: أجب، فليس بك بُكْم ولا صَمَم، فإن تمادى في سكوته، جُعل ذلك إنكاراً في حكم عرض اليمين، ثم يعرض اليمين، ويجعل التمادي على السكوت نكولاً عن اليمين، وهذا فيه إذا لم يظهر عنده سبب [مُسكت] (1) .
فقد انتجز الغرض المتعلق بهذا النوع.
12104- فإن نكل المدعى عليه عن اليمين، رددنا اليمين على المدعي، فإن حلف، استحق دعواه، وإن نكل، فقد قال الأصحاب: نكول المدعي عن يمين الرد بمثابة يمين المدعى عليه، وهذا طرف من الكلام يجب صرفُ الاهتمام إليه، والوجه أن نسوق كلام الأصحاب على وجهه ثم [نحوِّم] (2) على الإشكال، ونحلّه شيئاً شيئاً بتوفيق الله تعالى.
قال الأصحاب: إن قال المدعي -وقد رُدَّت اليمين عليه-: أمهلوني ريثما أطالع حسابي، أو أستفتي، وأتثبت في أمري، فإنه يُمهَل. ثم قالوا: لا تزيد مدة إمهاله على ثلاثة أيام. ولو قال المدعى عليه -لما عرضت عليه اليمين الأولى-: أمهلوني
__________
(1) في الأصل: " فسكت ".
(2) في الأصل: "نحرّم".(18/662)
لأتدبر، وأراجع حسابي، كما ذكرناه في جانب المدعي، فلا يمهل أصلاً. وإذا ظهر امتناعه، كان ناكلاً، والفرق بينه وبين المدعي أن المدعى عليه مطالبٌ محمولٌ على الإقرار، أو اليمين، وليس صاحبَ خِيَرة، وأما المدعي، فليس محمولاً من جهة أحد، بل هو صاحب الحق؛ إن أراد قدمه، وإن أراد أخره. هذا قول الأصحاب.
فقد حصل لنا من كلامهم أن نكول المدعي ممكن، وهو نازل منزلة حلف المدعى عليه، وثبت من كلامهم أنه إذا استمهل، أمهل.
12105- ونحن نقول بعد ذلك: قد اعترض لنا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد، فنقول: إذا أقام المدعي شاهداًً، فكيف وجهُ نكوله؟ ومن يعرض عليه اليمين حتى ينكُل؟ وما المأخذ الفقهي الذي يربط النكول به؟
فنقول في إيضاح ذلك: إذا استعدى المدعي على خصمه، وأحضره مجلس الحكم وادعى، وأنكرالخصم، فإن أقام المدعي بيّنة، فذاك، وإن لم يقمها، فحقٌّ على القاضي أن يقول للمدعي: أحلّف خصمك إن أردت، وإلا فاقطع طلبتك عنه، واترك رفعه إلى مجلس الحكم، فإذا أقام شاهداًً واحداً، وتمكن من الحلف معه، فلم يحلف، فينتهي الأمر إلى ما ذكرناه من تحليف الخصم، وإلزام المدعي قطعَ الخصام، وإلا فهذا يؤدي إلى أن يرفع خصمه إلى مجلس القضاء في كل ساعة يتصدى القاضي فيها للقضاء، ولا يحلّفه، ولا يقيم بيّنة، ولا سبيل إلى تسويغ هذا.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إذا أقام شاهداً، أبان له القاضي أنه لو حلف معه، ثبت حقه؛ فإن لم يحلف، أبان له أنك لو لم تحلِّف المدعَى عليه، منعتك من إعادته إلى مجلس الحكم، فهذا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد.
ولو قال المدعي: أمهلوني، أمهلناه كما يمهل المدعي في يمين الرد، فإن اليمين ليست محتومة عليه، وليس هو واقفاً موقف المحمولين في الخصومة، وإذا منعناه من إعادة خصمه إلى مجلس الحكم، فلا يُعيده في تلك الخصومة إلا أن يجد بينةً كاملة، فيُعيدُه ويقيمُها، فإنه لو وجد بينة بعد حلف المدعى عليه، فعل ذلك، وقد نجز الغرض في النكول عن اليمين مع الشاهد.(18/663)
12106- فأما تصوير النكول عن يمين الرد، ففيه مزيد إشكال؛ فإن المدعي إذا أقام شاهداً، فالمدعى عليه يقول: حلّفني أو احلف وخلصني، وهذا لا يتأتى في يمين الرد؛ فإن المدعى عليه نكل عن اليمين، فإن قال للمدعي: احلف أو انكُل، فالمدّعي يقول له: وأنت احلف أو أَقرّ، [ففي] (1) مسألة اليمين مع الشاهد، فالمدعى عليه متعرض ليمينٍ بحق، وفي مسألة الرد هو ناكل عن اليمين، غيرُ معذور في ترك الإقرار واليمين.
هذا وجه من الإشكال. ولأجله قال بعض أصحابنا: لا يصير المدعي ناكلاً عن يمين الرد قط، إذا لم يصرح بالنكول، ولا ضبط لإمهاله بمدة، وسبيله في يمين الرد كسبيله في البينة يقيمها متى وجدها. وهذا قد يظهر على قولنا: " يمين الرد تنزل منزلة البينة "، وغالب ظني أني أجريت ذكر هذا فيما تقدم من الكتب.
ولكن المذهب المشهور تصوير النكول عن يمين الرد من غير تصريح به، والسبب فيه أنا لو لم نفعل هذا، [لرفع] (2) خصمَه كلَّ يوم، والخصم ناكل، وهو لا يحلف يمين الرد، فلا يتفرغ القاضي من خصومته إلى شُغْلٍ، ولا يجوز أن يُفضي القضاء إلى مثل هذا، فيجب إذاً قطْع الخصومة، ومن ضرورة هذا أن نحكم بنكول المدعي إذا امتنع، ثم إن استمهل أمهلناه ثلاثة أيام بلا مزيد، وهي مدة ثابتة في قواعدَ من الشريعة، ومدة إمهال المرتد إذا رأينا إمهاله ثلاثةُ أيام، وهي مدةُ الخيار، ومقامُ المسافرين. ولو امتنع ولم يستمهِل [لا نمهله] (3) ثلاثةَ أيام ثم نقضي بالنكول، بل نعجل القضاءَ بالنكول إذا لم يُظهر عذراً.
وقد تم ما أردناه من تصوير النكول باليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد على أبلغ وجه في البيان.
ولو نكل المدعي عن يمين الرد، فقال: [إني] (4) نكلت، فحلّفوا خصمي، فلا
__________
(1) في الأصل: " فهي ".
(2) في الأصل: " لرجع ". والمعنى لرفع خصمه كل يومٍ إلى مجلس القضاء.
(3) في الأصل: "لا نطرده" والمثبت من (ق) .
(4) في الأصل: " إن ".(18/664)
نجيبه؛ فإن اليمين، انقطعت عن جانب المدعى عليه بنكوله، فلا عود إلى ما تحقق انقطاعه، ثم هذا لو قيل به، لأفضى إلى الدَّور، والغرض أن تنفصل الخصومة، لا أن تتسلسل.
وقد عقد الشافعي باباً في النكول ورد اليمين، وغرضُه محاجَّة أبي حنيفة في قضائه بالنكول. وليس ذلك من شرطنا.
فصل
قال: " فإن قيل: كيف أحْلَفت في الحدود والطلاق ... إلى آخره " (1) .
12107- كنا ذكرنا إن الباب مشتمل على النكول والرد، وعلى ما يجرى التحليف فيه، وقد تم الغرض في أحد الفصلين، فأما ما يجري التحليف فيه، فكل ما تتعلق الدعوى به، وتقام البينة عليه، فاليمين جاريةٌ فيه، كالطلاق، والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والرجعة، والولاء، والنسب، والنكاح.
وعند أبي حنيفة (2) لا تجري اليمين في هذه الأشياء، وقيل: بناء مذهبه على أن اليمين تُطلب بتقدير النكول، ثم القضاء يقع بالنكول، والنكولُ نازلٌ منزلة البذل والإباحة، ولا مدخل للبذل في هذه الأصول، وهذا كلام مضطربٌ، لا استناد له إلى قاعدة من قواعد الشريعة.
ونحن اعتمدنا الدعوى، وسماعَ البينة، [فالعقوبات] (3) تتمحض حدوداً لله، لا تنتظم فيها الدّعوى، وإن كانت البينة تقوم على موجباتها، فلا جرم لا يجري التحليف فيها، والنكاح، والرجعة، والطلاق والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والولاء، والنسب، تجري الدعوى فيها، وتقوم البينة عليها.
ومما يجب التثبّت فيه أن شهادة الحسبة تجري في الطلاق، والعَتاق، وإذا كان
__________
(1) ر. المختصر: 5/255.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 333، طريقة الخلاف: 395 مسألة: 162، إيثار الإنصاف: 350.
(3) في الأصل: "بالعقوبات".(18/665)
كذلك، فلا ارتباط للبينة بالدعوى، ولكنا لسنا نعني دعوىً تقتضي البينة أو تقتضيها البينة، وإنما نعني أن الدعوى تنتظم فيها، وتصح، ثم التحليف يجري متعلقاً بما ذكرناه. إلا أن يؤدي إلى فساد حال.
وبيان ذلك أن المشهود عليه لو ادعى على الشاهد تعمّد الكذب، فالدعوى منتظمة، ولو أقام بينة على إقرار الشاهد بذلك لسُمعت، ولكن لو أراد تحليف الشاهد، لم يجد إليه سبيلاً؛ فإن هذا يُطَرِّقُ إلى الشهود أمراً عظيماً لا يحتمل، وقد يرتدعون عن الشهادة لأجله، وكذلك لو ادعى الخصم على القاضي تحيُّفاً في القضاء، فالدعوى منتظمة، والبينة على شرطها مسموعة عند قاضٍ آخر. ولكن لا سبيل إلى تحليف القاضي في زمان ولايته. وإن عُزل، فقد قدمنا تفصيل المذهب في الدعاوي المسموعة على القاضي المصروف.
ولو قذف رجل رجلاً، ثم ادعى عليه أنك زنيتَ، وأراد أن يحلّفه على ذلك، فقد قال الأصحاب: له أن يحلّفه؛ فإن حلف، استقر حد القذف على القاذف، وإن نكل، رددنا اليمين على القاذف، فإن حلف، لم يثبت الزنا بحلفه، ولكن يندفع حد القذف عن القاذف، فإذاً فائدة عرض اليمين ترجع وتؤول إلى دفع حد القذف، وهو من حقوق الآدميين.
فرع:
12108- إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة، ثم أقام شاهداً، وأراد أن يحلف مع شاهده، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا يكون له ذلك؛ لأنه نكل عن اليمين في هذه الواقعة. والثاني - له ذلك؛ لأن هذه اليمين غير تيك التي نكل عنها.
وكذلك إذا أقام شاهداً واحداً، ونكل عن اليمين معه، فعرضنا اليمين على المدعى عليه، فنكل، فأراد المدعي أن يحلف يمين الرد، فقولان كما تقدم، وقد ذكرنا نظائر لذلك في كتاب القسامة، عند فرض النكول عنها، والرغبة في يمين الرد بعدها. وإذا اتضح الغرض، فالإيجاز أولى.
ومما اشتهر في المسائل قولان استنبطهما الأصحاب من كلام الشافعي في أن يمين الرد بمثابة بينة تقام، أم هي بمثابة إقرار المدعى عليه؟ ولهما فوائدُ وآثارٌ(18/666)
[سبقت] (1) في مواضعها، وسيأتي منها ما لم يأت.
فرع:
12109- إذا وكل في مجلس الحكم بحضرة القاضي من يخاصم عنه، صح التوكيل، وله أن يخاصمه، وإن وكّله في غير المجلس، فجاء وادَّعى أنه وكيل فلان، وأراد أن يقيمَ البينة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب ذاهبون إلى أن له أن يثبت الوكالة من غير إحضار الخصم، ثم إذا ثبتت، استعدى على الخصم، وأحضره، وابتدأ المخاصمة.
قال القاضي: الذي عندي أنه لا تُسمع بيّنتُه هكذا، بل يُحضر الخصمَ، ويدعي عليه أني أستحق مخاصمتك بتوكيل فلان إياي، فيربط دعواه به، ويثبت الوكالة بالبينة، ووجه ذلك أن الوكالة حقُّ آدمي، فينبغي أن تُربط بخصم عند محاولة الإثبات.
ثم قال القاضي في أثناء كلام له: الخصم إذا حضر مجلس الحكم، فالغالب أنه يقول لمن يوكله هذا وكيلي بالخصومة، ولا يخصصه؛ وحكم ذلك أنه ينتصب وكيلاً له في كل خصومة، غيرَ أن القضاة يرونه وكيلاً في تلك الخصومة في ذلك المجلس لا غير، وإنما بَنَوْا ذلك على ما علموه من عادات الخصماء على اطراد، ونزلوا اللفظ على المفهوم منه في التعارف.
ثم قال: إذا أنكر الخصم الوكالة، ولم يُقم الوكيل بينة، فقال للقاضي: حلّفه: لا يَعْلَمُني وكيلاً في الخصومة معه، فالقاضي لا يحلّفه؛ لأن أكثر ما في الباب أن يقر بوكالته، ولو أقر بالوكالة، وقال: لا أخاصمه، فإني لا آمن أن ينكر الموكِّل وكالته، فأحتاج أن أستأنف الأمرَ معه، فله أن يقول ذلك، وهذا [كما] (2) لو ادعى أنه وكيل فلان في قبض ماله، فلو أقر من عليه الحق بالوكالة، لم يلزمه الدفع إليه للعلة التي ذكرناها.
وإذا قال المدعَى عليه بعد ثبوت الوكالة: حلّفه أيها القاضي "ما عُزل أو لم يمت موكِّله"، فالقاضي يحلفه على نفي العلم.
__________
(1) في الأصل: " ثبتت ". والمثبت من (ق) .
(2) زيادة من (ق) .(18/667)
فصل
قال: " ولو قال: أَحْلفه: ما اشتريتُ هذه الدار ... إلى آخره " (1) .
12110- إذا ادعى على صاحب اليد في الدار، وقال قد بعتَ هذه الدارَ مني، والتمسَ من القاضي أن يحلّفه على نفي البيع منه، فالقاضي لا يجيبه؛ فإنه لم يدّع الملك في الحال، وما لم يدع ذلك، لم يكن مدَّعياً لاستحقاقٍ ناجز، وإنما يطالب القاضي الخصمَ بالجواب إذا توجهت عليه دعوى في استحقاق ناجزٍ، مع طلب الخروج من موجَب الدعوى، ولو قال: بعتَ مني واختصر، فلا يبعد أن يكون صادقاً، ولكن عادت الدار إلى ملك البائع، وهي مقرَّة على ملكه الآن.
وإن قال المدعي: الدار التي في يده ملكي الآن، واشتريتها منه، فالدعوى مسموعة، ثم المدعَى عليه بالخيار: إن شاء، قال: ما بعتها منه، وإن شاء، لم يجبه على وفق الدعوى لفظاً ومعنىً، بل قال: لا يلزمني تسليمُ الدار إليه، والجواب على هذا الوجه مقبول.
وكذلك إذا ادعى عليه أنه مزّق ثوبه، وعليه أرشُه، فلا يلزمه أن يقول: ما مزّقتُ، بل إن شاء قال: لا يلزمني غرامةُ الأرش له.
وإنما يسوّغ الشرعُ مثلَ ذلك، لأنه ربما كان مزّقه، لكن بإذنه، ولو اعترف بالتمزيق وادعى الإذن، فربما يحلف صاحبُه.
وذهب أبو يوسف إلى أنه يجب على المدعى عليه أن يجيب عن عين ما يذكره المدعي.
ولو ادّعى المدّعي مثلَ ما ذكرناه؛ فأنكر المدعى عليه عينَ ما ادعاه، ثم لما عُرضت اليمين عليه أراد أن يحلف، لا يلزمه تسليم الدار، أو أرش التمزيق، ففي قبول اليمين على التأويل مع تقدم الإنكار على التصريح وجهان. وسيكون لنا إلى هذا الأصل عَوْدٌ في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/255.(18/668)
فرع:
12111- إذا رهن بدينٍ عليه شيئاً عند صاحب الحق، ثم إن الراهن ادّعى تلك العين على المرتهن؛ فإنه يحلف، لا يلزمه تسليمُ العين إليه؛ فإنه لو أقر بملكه، وادعى الرهن، لم يصدقه القاضي، وانتزعه من يده.
وإذا ادعى المرتهن على الراهن الدَّينَ، فهو مُحق في دعواه، فلو كان الراهن لا [يأمن] (1) جحودَ المرتهن الرهنَ، فقد كان الشيخ القفال يقول: له أن يقول: أتدعي عليّ ألفاً بها رهنٌ عندك حتى أجيبك، أو تدعي ألفاً آخر؟ قال: لأنه لو أقر بالدين المطلق، فربما ينكر صاحبُه الرهنَ، ويستمسك بظاهر اليد، فيتضرر به الراهن.
قال القاضي: لا يُقبل عندي من المدعى عليه ترديد القول والجواب على هذا الوجه؛ فإن القاضي لا يبحث عن جهة الوجوب، ولا يطلب منه أن يذكر سبب الاستحقاق، وللمدعى عليه مع بتّ الجواب حيلةٌ أخرى مستقيمة على قياس الأصول، وهي أن يجحد الحق إذا جحد المرتهنُ الرهنَ؛ وذلك لأن العين المرهونة تدخل في ضمان المرتهن بالجحد، فللراهن الذي عليه الحق أن يجحد ويمتنع من أداء ما عليه، إذا كانت قيمةُ المرهون قدرَ الدين (2) .
وكل من غصب عيناً من إنسان، وللغاصب على المغصوب منه دين، فللمغصوب منه أن يجحد حقه ويمنعه، مع اعتبار المساواة في القدر، كما وصفنا.
فرع:
12112- إذا ادعى على رجل مالاً، فقال المدعى عليه -بعد الإنكار-: قد حلفتني في هذه الدعوة مرةً أخرى، نظرنا: فإن ادعى أنه حلّفه في مجلس هذا القاضي، فالرجوع إليه، فإن تذكر [ما ادّعاه] (3) المدعى عليه مَنَع المدعي من تحليفه مرة أخرى، وإن لم يتذكر ما ادعاه المدعَى عليه من التحليف، فلا مبالاة بقوله، وتتوجه عليه اليمين.
__________
(1) في الأصل: " يأمل "، والمثبت من تصرف المحقق. ثم وافقتنا (ق) .
(2) إلى هنا انتهت نسخة (ق) ، وسيستمر العمل على نسخة وحيدة إلى أن نلتقي بنسخة (ت5) من أول باب الشهادة على الشهادة.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.(18/669)
وإن ادعى المدعى عليه تحليف الخصم إياه عند قاضٍ آخر، فهل يسمع قول المدعى عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسمع هذا منه، لأن المدعي لو أقر به، لانتفع المدعى عليه، وتخلص من الخصومة. والثاني- لا تسمع، لأنه ليس بحقٍّ يدعيه. وقد ذكر الوجهين أبو سعيد الإصطخري، فإن قلنا: يُسمع، فإن كان للمدعى عليه بينة أقامها عليه، وتخلص من هذه الخصومة، وإن لم تكن له بينة، فالقول قول المدعي: يحلف بالله ما حلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف هو، وتخلص عن الخصومة.
ولو قال المدعى عليه -والتفريع على سماع الدعوى في ذلك- أمهلوني لأقيم البينة، قال القاضي: القياس أن يمهل ثلاثةَ أيام، قياساً على الاستمهال في نظائر ذلك، قال: ولكني أقول: لا نمهله أكثر من يوم واحد؛ فإنه يشبه المراوغ المتعنت.
وهذا الذي ذكره غير لائق [بفقهه] (1) ، فإن القياس إن صح، فلا يدافع بمثل ذلك. نعم، يتجه أن نقول: لا نمهله أصلاً؛ لأن اليمين متوجهة عليه في أصل الخصومة، وهو يريد أن يدرأها باحتيال واستمهال، وليس كالمدعي إذا ردت عليه اليمين، فاستمهل؛ فإنه صاحب الحق، واليمين حجته، ولا طلبة عليه، وإنما الإشكال في أن المدعي كيف يصح نكوله عن يمين الرد، كما قدمنا ذكر ذلك، والمدعى عليه مطالب باليمين، وهو بما يذكره من إقامة البينة مدافع ليمينٍ توجهت عليه.
فرع:
12113- إذا ادعى رجل مالاً على رجل، وصحت دعواه فيه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذه الدعوى، قال الإصطخري: هذه الدعوى مسموعة، وقال القفال: لا تسمع، وكان القفال يقول: إنما يستقيم هذا على أصل أبي حنيفة (2) ، حيث يجوّز الصلح مع الإنكار، فأما على أصلنا، فلا يصح، لأنه ادعى الإبراء مما لم
__________
(1) في الأصل: " بفقه ".
(2) ر. مختصر الطحاوي: 98، مختصر اختلاف العلماء: 4/195 مسألة: 1887، رؤوس المسائل: 315 مسألة 201، طريقة الخلاف للأسمندي: 428 مسألة 774.(18/670)
يثبت إذا (1) قال: أبرأتني عن الدعوى. والدعوى تنقسم حقاً وباطلاً، فدعوى الإبراء عن الدعوى إنما هي دعوى في شيء غير صحيح.
وعلى مذهب الأصطخري لو سمعنا هذه الدعوى، فنقول: يصح الإبراء عن الدعوى لو صدر من المدعي، فلو أقام المدعى عليه البينة على إبراء المدعي عن الدعوى، بطل حق المدعي، حتى لو أراد المدعي أن يقيم البينة على الحق، لم تقبل منه، وإن نكل المدعي عن اليمين، وحلف المدعى عليه على إبرائه، ثبت مقصوده، وانقطعت الدعوى.
ولو ادعى مالاً وصحت (2) الدعوى، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا المال، فهذا إقرار منه بالمدعَى؛ فإن الإبراء من ضرورته تقدم الحق عليه، فقد اعترف بالحق، وادعى على مستحِقه إسقاطَه، فيطالَب بإقراره، وله الدعوى.
ثم في كلام القاضي ما يدل على أن المدعى عليه إذا ادعى إبراءً عن الحق، أو إيفاءً، فهو مطالب بالحق. يقال له: أدّ ما لزمك، ثم استفتح دعواك.
وهذا لا أعرف له وجهاً. والأصحاب مجمعون على خلافه. وكيف يطالب المدعى عليه بإيفاء الحق، ودعواه مسموعة في الإيفاء، وفصلها ممكن في الحال بتحليف المدعي؟ نعم، لو ادعى الإبراءَ، وقال: لي بينة، فأمهلوني في إقامتها إياها، فلا نمهله الآن، ونقول: أدّ ما ثبت عليك، أو اقنع بتحليف صاحبك على نفي الإبراء، ثم أدّ، وإن كان لك بيّنة، فأقمها من بعدُ. ونحن نُتبع (3) الحكم، وله -إن صدق- أن يصابر الحبس أياماً معدودة ليحضر بيّنته.
وهذه الصورة الآن تناظر مسألة وكيل الغائب في الحكم، فإذا حضر وكيلٌ، وأثبت حقاً لموكله على خصمه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني موكلك، فنقول له:
__________
(1) إذا: بمعنى " إذ ".
(2) صحت الدعوى: أي صحت في نظمها وترتيبها، واستوفت شروط قبولها، وليس المراد ثبت المدَّعى به.
(3) أي: نتبع الحكمَ البينة.(18/671)
أدّ ما عليك، ثم إذا حضر الموكل، فادّع، واستدرك؛ فإنا لو لم نقل هذا، لأدى إلى تعطيل فائدة التوكيل على الغَيْبة.
فصل
12114- ذكر صاحب التلخيص مسائلَ في نوعين: أحدهما - في امتناع جريان التحليف، والثاني - في امتناع ردّ اليمين بعد النكول.
فأما النوع الأول- فمن مسائله فيه، أن من نصب وصياً في تركته، فجاء إنسان، وادعى أنه قد أوصى له الميت بوصيةٍ؛ فإن أقام البينة، تثبت الوصية، وإن لم يُقم، وأراد أن يحلّف الوصيّ بالله لا يَعلم ذلك، فلا يجد إلى تحليفه سبيلاً، إذا لم يكن الوصي وارثاً.
وهذا ظاهر؛ لأن الوصي لو أقر بالوصية، لم تثبت بقراره؛ فلا معنى لتحليفه، ولو كان الوصي وارثاً، فاليمين تتوجه عليه حينئذ بحق الوراثة.
ومما ذكره مسألة الوكيل: إذا جاء رجل، وادعى أنه وكيل غائبٍ، ولا بينة له، فإن أراد أن يحلّف الخصمَ على نفي العلم بالتوكيل، فقد ذكرنا أنه ليس له ذلك، لأنه لو أقر بالتوكيل ولا بينة، فله أن يمتنع لما يتوقعه من إنكار الموكّل لأصل الوكالة.
وألحق الأئمة بما ذكره تحليفَ الشاهد والقاضي (1) ، وقد أوضحنا امتناع ذلك لما فيه من الفساد.
__________
(1) هنا أمر عجب، وهو أن ما نسبه الإمام إلى صاحب التلخيص، وذكر أنه من مسائله ليس موجوداً في التلخيص المطبوع الذي بين أيدينا، وما قال: إن الأئمة ألحقوه بما ذكره صاحب التلخيص- فالأمر بالعكس هو الذي في التلخيص.
وهاك نص كلام صاحب التلخيص، قال:
"ويجب اليمين في كل حق لابن آدم إلا في أربعة مواضع:
أحدها - القاضي، إذا ادعى رجل بعد العزل أنه حكم بباطلٍ أيام قضائه، وادعى عليه قيمة ما أتلف، فإن أقر القاضي، لزمه، وإن أنكر، فلا يمين. قاله نصاً.
[ثانياً]- وكذلك الشاهد: إذا شهد على رجل بطلاق، أو عَتاق، أو غيره، فادعى المحكوم عليه أنه شهد بزور، وأراد قيمة ما أتلفت شهاته، فإن أقر، لزمه، وإن أنكر، فلا=(18/672)
ومما ذكره أن من ادعى على إنسان شيئاً، فادعى المدعى عليه أنه صبي، وكان ما يقوله محتملاً، فالخصومة تقف، فلو قال المدعي: حلّفوه على الصبا، لم نحلّفه، لأن الصبيَّ لا يحلّف، وتحليفه ينافي قبولَ دعواه.
12115- فأما المسائل التي ذكرها من النوع الثاني، وهي إذا امتنع رد اليمين بعد نكول الخصم، فمنها: أن الساعي إذا طلب الزكاة، فقال رب المال: قد أديتُها، فالقول قوله، فإن حلَّفناه، فنكل، فلا سبيل إلى رد اليمين على الساعي، ولا على المستحقين -ولا حصر لهم- فماذا نصنع والحالة هذه؟ فيه تفصيل قدمتُه في كتاب الزكاة، وأنا أعيد منه ما أظن أني لم أذكره، فأقول: من أصحابنا من ذهب إلى أن اليمين غيرُ مستحَقة على رب المال، فعلى هذا لا أثر لنكوله. ومنهم من قال: اليمين مستحَقة عليه، فإذا حلفناه، فنكل، ففي المسألة أوجه: أجدها- أنه يُقضى عليه بالنكول؛ فإن اليمين قد تعذَّر ردُّها (1) ، والثاني - لا يقضى بالنكول؛ فإنه ممتنعٌ على أصل الشافعي، ولا سبيل إلى الرد، فيُحبَس المدعى عليه حتى يحلف أو يؤدي ما عليه ويُقر.
وهذا بعيد عن قاعدة الشافعي؛ فإن الإجبار على التحليف إنما صار إليه أبو حنيفة في القسامة وغيرها.
والوجه الثالث - أنا نفصل بين أن يكون رَبُّ المال على صورة المدعين، وبين أن
__________
=يمين عليه. قلته تخريجاً على المسألة الأولى.
[ثالثاً]- وكذلك لو ادعى عليه شيئاً في يده، فقال: هو لولدي الصغير، لم يحلَّف. [رابعاً]- وكذلك لو ادعى رجلان في امرأة، فأقرت أنها زُوّجتْ لأحدهما، لم تحلَّف للآخر " (ر. التلخيص: 645) .
هذه هي المسائل الأربع التي ذكرها التلخيص نصَّاً، وليس فيها واحدة من الثنتين اللتين نسبهما الإمام إليه. ولكن فيها الثنتين اللتين ذكر الإمام أن الأئمة ألحقوهما بما ذكره صاحب التلخيص.
هذا وقد خالفنا منهجنا، فلم نكتف بالإشارة إلى الموضع من (التلخيص) ، وأوردنا النص بكامله -محتملين الإطالة على كُره- تأكيداً للدعوى التي ادعيناها على الإمام.
(1) هذا ما ذكره صاحب التلخيص: 646.(18/673)
يكون نافياً على صورة المدعى عليه؛ فإن كان مثبتاً، مثل أن يقول: أدّيتُ الزكاة.
12116- ومما أورده من هذا الجنس أن الذمي إذا ضربنا عليه الجزية، فلما انقضى نصف السنة، غاب عنّا، وعاد بعد انقضاء الحول مسلماً، وقال: قد أسلمت قبل انقضاء الحول، وفرّعنا على قولنا: إن الذمي إذا أسلم قبل انقضاء الحول، لم يلزمه شيء من الجزية لما مضى من الحول في الشرك، فإذا ادعى ذلك قُبل قوله؛ فإن ما يقوله ممكن، والأصل براءة الذمة، فنحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلا سبيل إلى رد اليمين على أهل الفيء.
ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يُقضى عليه بنكوله، فتلزمه الجزية (1) .
والثاني - لا يقضى عليه بالنكول، ولا سبيل إلى الرد، فلا يلزمه شيء. وهذا عندي إسقاط اليمين؛ فإنه يَنْكُل، فلا يلتزم شيئاً، ولا سبيل إلى حمله على اليمين. والوجه الثالث - أنه يحبس حتى يحلف أو يعترف [بما عليه] (2) .
ثم قيّد صاحب التلخيص هذه المسألة بالغَيْبة (3) ، فقال: لو غاب ثم جرى ما جرى، وعاد مسلماً، فظاهر هذا يدل على أنه لو بقي بيننا، ولما انقضت السنة، صادفناه مسلماً، فادعى أنه قد أسلم قبل الحول، ولم يُخْبرنا، وكتمَ إسلامَه عنا، فلا يقبل قوله في هذه الصورة؛ إذ الظاهر أن من يسلم لا يكتم إسلامه في بلاد الإسلام؛ فلم يقبل قوله، والأصل عدم ما يدعيه، فتلزمه الجزية، إلا أن يقيم بيّنة.
والذي أراه أنا لو ألزمناه في مسألة الغَيْبة الجزية إن لم يُقم بينة على إسلامه قبل انقضاء السنة، لم يكن ذلك بعيداً؛ فإن إسلامه في الغيبة وإن كان ممكناًً، فهو ثبوت أمر يناقض موجَبَ عقد ملزم؛ وقد قلنا: لو ادعى الموكّل عزْلَ الوكيل في الغيبة - تفريعاً على نفوذ عزله- فلا يقبل قوله ما لم يُقم البينة، وهذا أمثل من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
12117- ومما ذكره صاحب التلخيص في ذلك أنا إذا أسرنا طائفةً من الكفار وأردنا
__________
(1) هذه هي المسألة الثانية من مسائل صاحب التلخيص: 646.
(2) في الأصل: " ما عليه ".
(3) ر. التلخيص: الموضع السابق نفسه.(18/674)
قتل مقاتلتهم، فقال واحد منهم: لست ببالغ، فالحكم أنا نكشف عن مؤتزره، فإن كان أَنْبت، حكمنا ببلوغه، وقتلناه في القتلى، فلو قال: قد داويتُ واستعجلت الإنبات، فحصل في غير حينه، فإن قلنا: الإنبات عين البلوغ، فلا فائدة لقوله، وقد استعجل سبب حتف نفسه، وإن جعلنا الإنباتَ علامةَ البلوغ، فنحلّفه في دعوى العلاج، فإن حلف، لم نقتله، وكان من الذُّرية (1) ، وإن نكل عن اليمين، فقد نُقل نص الشافعي في أنه يقتل. وهذا قضاء بالنكول.
وهذه المسألة فيها وقفات:
منها - أنه قد ادعى الصبا، وتحليفُ من ادعى الصبا متناقض كما سبق ذكره. قال الشيخ (2) : لكنا عولنا في تحليفه على ظاهر الإنبات، وإن كان هو يدعي الصبا، ولكن ظاهر الإنبات يكذبه، فحلّفناه. قال الشيخ: هذا مشكل مع هذا.
ثم إذا حلّفناه، فنكل، فالنص ما ذكرناه. وفي المسألة وجه آخر أنه استعجل، وهذا فيه إشكال من وجه آخر، وذلك أنه إذا تحقق بلوغه، فيحتمل أن يقال: لا يقتل، بل يدام الحبس عليه حتى يحلف أو يقر بأني ما كنت استعجلت فيقتل؛ وذلك لأن البلوغ المتحقق لا يخرجه عن الذرية أمس، وهو لا يقتل لبلوغ [حالٍّ] (3) ، وإنما يقتل لتبين بلوغه عند الأسر، هذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
12118- ومما ذكره من هذا الجنس أن غلاماً يافعاً من الأولاد المرتزقة إذا عرض نفسه، وزعم أنه قد بلغ لنُثبت اسمَه في الديوان (4) ، ونُجريَ له السهم، وكان صدقه محتملاً، قال: نحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، لم يثبت له سهمُ المرتزقة.
وقد تكلم الأصحاب في هذه المسألة على وجهين: أحدهما - أن منهم من قال: إذا ادعى البلوغ، صُدِّق، ورُجع إلى قوله، ولم نحلّفه؛ فإن الإمام إن قدره بالغاً، لم
__________
(1) هذا ما اقتصر عليه صاحب التلخيص.
(2) الشيخ: المراد هنا هو القفال، كما يظهر من عبارة الرافعي، والنووي. (ر. الشرح الكبير: 13/201، والروضة: 12/38) .
(3) في الأصل: "حاله".
(4) هذه من مسائل التلخيص: ص 647.(18/675)
يحتج إلى تحليفه، وإن قدّره صبياً، فلا حكم ليمينه، وقالوا: إن حلّفه، فنكل، فليس هذا من باب القضاء بالنكول -إن رأينا تحليفه- بل هو من باب عدم الحجة، فقد ادعى أمراً لا حجة معه فيه، واليمين في حقه في هذا المقام بمثابة البينة في حق المدعي، فإنه ليس يُدّعى عليه أمرٌ حتى يفرض نكوله ويطلبَ بعد نكوله الرد. هذا منتهى ما أورده صاحب التلخيص (1) .
12119- وألحق الأصحاب بما ذكره أن من مات، ولم يخلّف ورثةً خاصة، وورثه المسلمون، وكان له دين على إنسان، فادعاه منصوب السلطان، فأنكره، ولا بيّنة، فيحلِّفه، فلو نكل، فلا سبيل إلى الرد. وفي الممسألة وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يُقضى عليه بالنكول، بخلاف قياس الباب؛ لأنا حيث لا نقضي بالنكول، نجد مَردّاً بتحقيق اليمين، وهو يمين المدعي، فلا نبرم الحكمَ دون عرضها إذا أمكن ذلك، والنكول حيث لا رد منتهى الخصومة، فلا يبعد أن يُنسب صاحبُه إلى العناد، وقصْدِ دفْع (2) الحق والامتناع عنه.
والوجه الثاني - أنه يحبس ليحلف، أو يُقر كما قدمناه، والفرق بين هذه الصورة وبين مسألة الزكاة أنه يجري في مسألة الزكاة وجهٌ أن الاستحلاف ليس مستحقاً، واليمين في الصورة التي ذكرناها الآن مستحقة على قياس الخصومات، فلم يخرّج أصحابنا وجهاً أنه يُترك إذا نكل، ولا يُقضى بالنكول ولا يحبس؛ فإن هذا إن قيل به، فحاصله إسقاط اليمين رأساً، وقد كان شيخي يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، وهو أنا نخلّيه، ولا نقضي عليه، غير أنا نُعصِّيه لو عاند، وهذا لا حاصل له.
***
__________
(1) بقيت مسألة أوردها صاحب التلخيص، ولم يذكرها الإمام، وهي بنصّها: " لو قال رب النخل: قد أحصيت مكيل ما أخذت، وهو كذا، وقد أخطأ الخارص، أو قال: أصابته جائحة، أو سرقة، صُدِّق، فإن اتهم حلّف، فإن نكل حكم عليه ". ا. هـ ثم قال: " قلتُه تخريجاً " ثم عقب قائلاً: وفي هذه المسائل قول آخر: أنه يحبس حتى يحلف، أو يعترف. (ر. التلخيص: 646) .
(2) دفع الحق: أي ردّه وعدم قبوله. وليس الدفع بمعنى الأداء كما هو متبادر في لساننا الآن.(18/676)
نسأل الله تعالى حسن الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا، وهو ولي التوفيق.
الإمام
في نهاية المطلب(19/4)
كتاب الشهادات وما دخله من الرسالة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ليس من الناس أحد نعلمه إلا قليلاً يمحِّض الطاعةَ والمروءة، حتى لا يخلطهما بمعصيته، أو يمحِّض المعصية حتى لا يخلطها بشيء من الطاعة ... إلى آخره " (1) .
12120- المقصود من هذا الكتاب الكلامُ في عفة الشاهد ومروءته، واشتراط [توقّيه] (2) عن التهمة. وقد ذكرنا في باب مجامعَ الشرائط المرعية في الشهود، والغرضُ الآن مقصور على الأصول الثلاثة التي ذكرناها.
ثم ذكر الشافعي في عقد الباب كلاماً، نقلنا بعضه، وبالجملة إذا كان اشتراط العصمة محالاً في قبول الشهادة، فيُفضي الكلامُ إلى انتشارٍ لا يستقل لضبطه إلا موفَّق في ذكر ما يقدح في الشهادة من الذنوب وفي ذكر ما لا يقدح.
ولو (3) لم يكن فيه إلا التعرض للكبائر والصغائر، وقد تقطع علماء الأصول فيها، فلا يتأتى الخوض فيها، وفي أئمتنا من قال: لا صغيرة في الذنوب، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق، واستمسك فيه بما لا يُدَافَع، فقال: الذنب يعظم بعظم قدر من خولف فيه، فعلى هذا كل ذنب - وإن استصغره مقارفه كبيرة؛ من جهة أنه مخالفةٌ لأمر الله تعالى.
والمروءة ونقيضها كيف تنضبط مع اختلاف الحالات والدرجات.
والتهمة خارجة أيضاً عن الضبط.
__________
(1) ر. المختصر: 5/256.
(2) في الأصل: " وقيه ".
(3) جواب (لو) مفهوم من السياق.(19/5)
ونحن نستفرغ الوسع في هذه الفصول ونبرأ من الحول والقوة، فنذكر أولاً ما قاله الأصحاب.
قالوا: العفيف من لا يرتكب كبيرة، ولا يُصرّ على صغيرة، وصاحب المروءة هو الذي يصون نفسه عن الأدناس، ولا يَشينها عند الناس.
وقيل: هو الذي يسير سيرة أشكاله من أهل عصره في زمانه ومكانه.
وقيل: هو من يحفظ نفسه من فعلٍ يُسخر به لأجله، فالفقيه إذا لبس السلاح وزيّ السلطان، كان تاركاً للمروءة. والحمالون إذا تطلّسوا (1) كانوا تاركين للمروءة.
فهذا ما ذكره الأصحاب، وما لم نذكره (2) ، فهو من جنس ما ذكرناه.
12121- والضبط عندنا في مقصود هذا الباب أهونُ من كل ضبط في محل انتشار، فنستعين بالله، ونقول: أما الذنوب فالمعتبر عندنا فيها أن يقال: كل ما يدلّ صَدرُه عن الشخص على استهانته بالدين، ولست أعني الاستهانة التي توجب التكفير، بل أعني استهانة تُنتجها غلبةُ النفس الأمّارة بالسوء؛ فإن من شأنها إذا [استغلبت] (3) على سُنَّةِ التقوى أن تهوّن الأمر، وقد تعتضد بعده [بالتوبة] (4) وبإظهار المطمع في الرحمة (5) ، وبالجملة تتدرب وتتمرن على العصيان على استبشار من غير استشعارٍ وانكسار، فكل ما يُشعر بذلك - يوجب ردَّ الشهادة، وهو الكبيرة عندي في قاعدة الأصول.
وما يحمل على فلتات النفس، وفترات (6) مراقبة التقوى، [وشأنُ] (7) مثله أن
__________
(1) تطلَّس: لبس الطيلسان. وهو كالوشاح، يوضع على الكتف تجملاً، وهو غير مخيط، ويشبه ما تسميه العامة (الشال) (المعجم الوسيط) .
(2) أي: ما لم نذكره مما قاله الأصحاب، ففيما ذكرناه كفاية، وغَناء، وعوض عنه، فهو من جنسه.
(3) في الأصل: " استغلب ".
(4) في الأصل: " التوبة ".
(5) المعنى أن النفس الأمارة بالسوء تهؤن المعصية، مستعينة بأن باب التوبة مفتوح ما لم يغرغر، وبأن رحمة الله واسعة. وهذا من مكر النفس بصاحبها.
(6) فترات: من الفتور والضعف.
(7) في الأصل: " وسار ".(19/6)
يقترن بالتندم، [ولا يهنأ] (1) صاحبه بلذة في المعصية، بل يُنَغص عليه كلَّ لذة تنال نفسه في المعصية، ومن هذا يلتحق الإصرار -على ما يسمى صغائر- بالكبيرة، ويُخرَّج على ما مهدناه أن الموبقات لا تكون نوادر؛ فإنه لا يستجزىء عليها إلا جسور، سبقت طمأنينة نفسه إلى أمثالها، وإلى المعنى الذي ذكرناه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " (2) .
وقد ذكر بعض الأتقياء في هذا كلاماً واقعاً، فقال: معصية التقيّ كعثرة الجواد ونبوة الصارم، فإن دام العِثار، فعن ظَلْعٍ (3) وكلال، وإن دامت النَبوة فعن انفلال.
12122- ونحن نتمم غرضنا في الشهادة، فنقول: إن كنا نطلب عدالةً ابتداءً، وظهر لنا ما يغلب على الظن استهانةً، فالجَرْحُ، [وإن] (4) ترددنا فالوقْف، وإن ظهر لنا تحرج وتعظيم للدين، فالتّعْديل.
وإن تقدمت عدالة، فظهر نقيضها، فالجرح، وإن لم يظهر نقيضها، وطرأ تردد، فهذا موضع وقف القضاة، إذا رابهم أمر فيتحرجون، فإن لم يستبينوا واضطروا، قَضَوْا.
فإن قيل: هلا توقفوا حتماً؟ قلنا: لأن العدالة الماضية تنفي استواء الظن؛ فإنه لا يليق بالعدل الرضا ما نحسبه، وهذا يرجع إلى أنه إذا قضى، فهو باقٍ على غلبة الظن في استصحاب العدالة. هذا قولنا في تقريب الضبط فيما يتعلق بالمخالفات.
12123- فأما المروءة، فحقها أولاً أن تُفْصَلَ عن مقارفة الذنوب، وتُحصَرَ فيما لا يَحْرُم في نفسه، ولو أقدم عليه المقدِم، لم يأثم ولم يُعصَّ -وإن أطلقنا في بعض الأحوال الكراهية- على ما ستأتي المسائل، إن شاء الله.
فالضابط في هذا الفصل يقرب من الضابط فيما تقدم، فكل انحلال عن عصام
__________
(1) في الأصل: " ولا ينهى ".
(2) سبق هذا الحديث في الحدود.
(3) ظلْع: ظَلَع يظلَع ظلْعاً: عرج وغمز في مشيه، ثم صار الظلعْ علماً على الضعف والكلال.
يقال: اربَع على ظلعك: أي ارفق بنفسك، وضعفك (المعجم) .
(4) في الأصل: " إن " (بدون الواو) .(19/7)
المروءة يُشعر بترك المبالاةِ والخروجِ عن التماسك، فهو يُسيء الظنون بالتحفظ في الشهادة.
وفي هذا سرّ خفي، وهو أن من انحلّ كذلك، غلب على الظن انحلاله في المعاصي، وشهادةُ الزور منها، فرجع الرد في ترك المروءة إلى ظنٍّ غالب في ارتكاب المعصية، ومنه ما يغلّب على الظن خبلاً في العقل، فهذا هو المحذور ممن لا مروءة له.
ومما يجب مراعاته في الباب أمور العادات، وهي من أعظم الأقطاب، وذلك جارٍ في الذنوب وترك المروءات.
وبيانه أن اللعب بالنرد إن ثبت أنه ليس من الموبقات والكبائر، فإذا استعظمه أهل قُطر، فلا يُقدم عليه إلا جسور. وقد لا يستعظمه أهل ناحية، فيُعتبر في حق أهلها الإصرارُ.
وأمور العادات غالبة في المروءات، حتى لو قيل: جملتها مرتبطة بالعادات، لم يكن بعيداً. فمن لبس من الفقهاء القَباء في هذه الديار يعد خارماً للمروءة، وقد يعتاد الفقهاء ذلك في بعض بلاد الشرق، فلا يُنسبون إلى خرم المروءة. وقد يعتاد السوقة ببغداد التحنك (1) والتطلّس، وذلك من عوامّ الناس خرق للمروءة في بلادنا.
وألحق الأئمة بفصل المروءات الكلامَ في أصحاب الحرف الدنيّة كالدباغ، والكنّاس، والحجام، والمدلّك، فذكروا وجهين في قبول شهادتهم، وسبب ذلك أنهم على عادةٍ مستمرة فيما هم فيه، فلم يكونوا خارمين لعادةٍ من وجه، واختيارهم تلك الحرف يورث خرماً ودلالة على خسّة الجوهر، فكان هذا التردد مثاراً للخلاف.
وذكر بعض الأصحاب [الحاكة] (2) وعدوهم من أهل الحرف الدنية، قال القفال:
ليسوا عندي كذلك، فهم ينسجون غزلاً كما يخيط الخياط ثوباً منسوجاً، وهذا الذي ذكره حسن في فنه، ولكن يتطرق إلى الحاكة أمر نبهنا على تمهيده، وهو أن الناس
__________
(1) التحنّك: طريقة في لبس العمامة، حيث يديرها من تحت حنكه، ولا يكتفي بأن يجعلها حول رأسه (القاموس) .
(2) في الأصل: " الحالة ".(19/8)
متفقون على الإزراء بهؤلاء، وقد يجرون -في التعريض بالمساب والكلم المؤذية- النسبة إلى الحياكة، فإذا اطرد هذا في الناس، فاختيارها مع ظهور الذم بها يشعر بالخسّة التي يُشعر بها جملةُ الحرف الدنية، فهذا مما يجب التنبه له.
ومما نذكره أن الرجل المعدودَ من المعتبرين والأماثل إذا كان تبذّل في نقل الماء والأطعمة إلى منزله، فإن كان ذلك عن ضِنّةٍ وشُح، فهو خسة خارمة للمروءة، وإن كان ذلك عن استكانة وتذلل، وإظهارِ خضوعٍ وتأسٍّ بالأولين، وتشوفٍ إلى شيم الأتقياء البُرآء من التكلف، فهذا لا يخرم المروءة، ولا يخفى مُدرك الفصل بين الحالتين. ويستبان ذلك في الرجلين، فليقع النظر في أمثال هذا ثم الحكم بحسبه.
وألحق الأئمة بما ذكرناه اشتغالَ المرء عن مهماته بما هو مباح في قبيله، حتى يعدّ معطلاً لما يُهم، مشتغلاً بما لا يعنيه، فصاحب هذه الحالة ملتحق بتارك المروءة، وإن لم يكنه؛ لأنه في معناه؛ من حيث ينتسب إلى ترك المبالاة والانسلال عن العادات، وهو يتهدف لتغليب الظن بالجرأة على الزور والكذب، أو للخبل في العقل، كما قدمناه.
ومن هذا وقع لأبي حنيفة (1) أن شهادة الفاسق بالغصب. والظلم إذا كان كبير النفس، آنفاً من الكذب -مقبولة؛ فإن فسقه لا يغلّب على القلب جرأته على الكذب، مع ما ظهر فيه من الأنفة، والاستنكاف عن كذبةٍ، وإن قَبِل دونها.
والشافعي لم يثق بفاسق، وجعل عصامَ الأمر الدينَ، وقد [يعرض] (2) للظلمة في حميّات النفوس والعصبية إذا لم يَزَعْهُم دينٌ- الكذبُ.
12124- ومما نلحقه بهذه الأصول ردَّ شهادة المغفل، فالعدل الرضا إذا غلبت غفلاته، واعترته في حالاته الفترات، فالشافعي يرد شهادته مجملةً، ويقبلها مفصلة إذا وصف المكان والزمان، وتأنق في ذكر الأوصاف. وهذا خارج على القاعدة؛ لأنه إذا أجمل الشهادة، فقد يظن به غفلة، وإذا فضلها -وهو عدل لا يظن به اعتماد
__________
(1) ر. المبسوط: 16/131.
(2) في الأصل: يفرض.(19/9)
الكذب- فيبعد أن تنتظم له الدقائق في التفاصيل من غير تثبت وتحصيل.
فيخرج مما ذكرناه أن الرد بالفسق، وترك المروءة، والغفلة، يؤول إلى أصلٍ واحد في غلبة الظن، فهذا نجاز تمهيد أصول الباب.
وقد جرى بالغاً في البيان والانتظام. ونحن نعود بعده إلى مسائل الكتاب، ونقتصر على ذكرِ صورها، والمرامزِ إلى [تفاصيلها] (1) المُلْحقةِ لها بالأصول التي مهدناها، والله وليّ التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فصل
قال: " ولا يقبل الشاهدَ حتى يثبت عنده أنه حر ... إلى آخره " (2) .
12125- هذا معترِض في الباب خارج عن المقاصد الثلاثة التي ذكرناها، ولكنه مقصود في نفسه، فالحرية لا بد من مراعاتها في الشاهد، ثم يجب طلبُ الباطن فيها، ولا يمكن ضبط اشتراط الحرية بالمروءة، مصيراً إلى أن العبيد [لا تستدّ] (3) لهم رعاية المروءة؛ فإن المعول في المروءة على العادات، والتبذل عادةٌ مطردة في المماليك لا تَشينُهم، وليسوا فيما بُلوا فيه كأصحاب الحرف الدنية؛ فإنهم مضطرون إلى تصريف السادة إياهم في جهات التبذّل.
والدليل عليه أن تاركَ المروءة مردودُ الرواية، كما أنه مردودُ الشهادة، ورواية العبد مقبولة. فلا يستدّ من (4) ردّ شهادة العبيد إلا أمران: أحدهما - إجماع الخلفاء والقضاة على ترك طلب الشهادات من العبيد، مع كثرتهم، واشتهرت الروايات من المماليك.
__________
(1) في الأصل: " تعاليها " (انظر صورتها) .
(2) ر. المختصر: 5/256.
(3) في الأصل: " لا تستمرّ ". وهذا التصحيف تكرر مراراً، لأن العبارة تصح معه على نحوٍ ما، ولكن المعهود في لفظ الإمام (تستدّ) أي ثستقيم، وتثبت، والعبارة مع هذا اللفظ أصح وأقوم.
(4) من: بمعنى (عن) .(19/10)
والآخر - أن الشهادة تقتضي قياماً بتحفُّظٍ عظيمٍ، واستبدادٍ بالنفس في طلب الاطلاع، وهذا لا يتأتى من العبد؛ فإن فرض فارض إذناً من السادة، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الولايات.
ثم لا اكتفاء بالظاهر، فلتَثْبت حريةُ الشاهد ببينة أو بتسامع على استفاضة، أو بانتساب الرجل إلى أحرار فلو أراد القاضي أن يكتفي بالظاهر في ذلك، كان كما لو اكتفى بظاهر العدالة.
فصل
قال: " ولا تجوز شهادة جارّ إلى نفسه ... إلى آخره " (1) .
12126- هذا هو القطب الثالث، وهو. ردّ الشهادة بالتهمة، ولا يُدْرَكُ مقصدُ الفصل بالهوينا. وقد قال الشافعي في مواضع: " أقبل الشهادة، ولا أجعل للتهمة موضعاً ". ولا يمكن إنكار رد الشهادة بالتهمة في أصول الشريعة، فكيف الضبط، والطرفان منتشران؟
الوجه أن نذكر ما ذكره الأصحاب نقلاً، ثم نشمر للبحث. قالوا: لا تقبل شهادة جارٍّ إلى نفسه ولا دافعٍ عنها.
ثم صوّروا الجرَّ، فقالوا: إذا شهد الرجل بأن فلاناً جرح موروثه، لا تقبل شهادته في حياة المجروح (2) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/256.
(2) قوله: " لا تقبل شهادته (أي الوارث) في حياة المجروح (أي الموروث) " قلت: في هذه العبارة إيجاز شديد، يحتاج إلى تفصيل؛ وذلك لأن الإمام فصلها في باب الشهادة على الجناية.
وتفصيل المسألة أن الجرح إذا اندمل، فتجوز شهادة الوارث بعد الاندمال -إذا لم يكن بينهما بَعْضية- فإنه ليس جارّاً لنفسه نفعاً، فإن المورّث يستحق الأرش بنفسه. ولكن إذا لم يندمل الجرح، فلا تقبل شهادة الوارث؛ لأن الموروث لو مات من سراية الجرح، لوجبت الدية للوارث، فهو إذاً جارّ لنفسه نفعاً.
وكذا لو شهد بعد موت المجروح رجل أنه قتل مورّثه، فلا تقبل شهادته. (التهذيب =(19/11)
وصوروا الدافع، فقالوا: إذا شهد شاهدان على أن فلاناً قتل فلاناً خطاً، فشهد عدلان من العاقلة على جرح (1) شهود القتل، فشهادة العاقلة مردودة، لأنهم يدفعون عن أنفسهم غُرم التحمل. هذا ما ذكره الأصحاب في الجرّ والدفع.
ولست أتعرض بعدُ لضبط المذهب حتى استتم نقل المسائل المتعلقة بالتهمة.
12127- قال رضي الله عنه: " ولا على الخصم، لأن الخصومة موضع عداوة ... إلى آخره " (2) .
قال أئمتنا: شهادة العدو على العدو مردودة؛ لمكان التهمة، وشهادته له مصلحة (3) ، وعلى هذا بنى الأصحاب ردَّ شهادة الزوج مع ثلاثة من العدول على زنا زوجته، فإنها بزناها أوغرت صدر زوجها. والوجه في ذلك أنه ربما يرى منها مراودات وأمور تدل على الفجور، فيحمله ذلك على ما ذكرناه.
وأهم ما نذكره في هذا الفصل معنى العداوة، فلا ينبغي أن تُفرضَ عداوة مترتبة على فسق لا يُظهر تأثير العداوة في الرد (4) ، والعداوة التي نعنيها ونحكم بأنها توجب رد الشهادة من غير فسق هي العداوة الجبلّية أو المترتبة على سبب (قُدْرَتي) (5) ،
__________
= للبغوي: 7/259، والمنهاج: 13/308، 309، والبسيط للغزالي: جزء 7 ورقة: 124 ظهر، والشرح الكبير: 13/24) .
(1) واضح أن الجرح المشهود عليه هنا هو نقيض العدالة، وليس جرح السنان.
(2) ر. المختصر: السابق نفسه.
(3) كذا. ولعلها: " مقبولة " كما عبر بذلك في الفقرات الآتية.
(4) المعنى أن العداوة التي تترتب على فسق أي بسبب الفسق، أو التي يرتكب بسببها ما يفسق به ليست هي المرادة هنا، فإن هذا الفسق يردّ الشهادة عموماً، وإنما المقصود هنا العداوة الجبليّة أو المترتبة على سبب طبعي.
وعبارة الغزالي في البسيط توضح ذلك، إذ قال: " فإن كانت العداوة مترتبة على فسق، أوجب ردّ الشهادة عموماً " (الموضع السابق نفسه) وأما صاحب التهذيب، فقد عبّر عن ذلك قائلاً: " هذا إذا كانت العداوةِ ظاهرة بينهما، ولا يرتكب كل واحد منهما في عداوته ما يُفَسَّق به، فإن فعل في عداوته ما يُفسَّق به، فيكون مردود الشهادة له وعليه في حق كافة الناس " (ر. التهذيب: 8/277) .
(5) قُدْرَتي: كذا تماماً في الأصل، وفي إحدى مخطوطتي البسيط، وهذه اللفظة مستعملة في =(19/12)
لا انتساب فيه إلى معصية؛ فإن كان الإنسان مع آخر بحيث يتمنى له كلَّ سوء [ويريد] (1) له كلَّ شر، ويحزن بمسرته، ويشمت بمصائبه، ولا فسق، فهذه العداوة توجب رد شهادته على عدوه. وقد لا يكون ذلك الإنسان عدواً، فالنظر إلى معاداة الشاهد إياه، وإن كانت العداوة مترتبة على فسق، فالشهادة مردودة عموما للناس وعليهم.
ولم يختلف أصحابنا في أن الصداقة لا توجب رد الشهادة، ولو طرد الطارد القياس الذي يبتدره الوهم بجعل الصداقة ضد العداوة، وقال: شهادة الصديق للصديق مردودة. وهي عليه مقبولة، كما أن شهادة العدو مردودة، وهي له مقبولة، ولكن الفرق أن الصديق الصدوق إذا كان عدلاً لا يحب لصديقه إلا ما يحب لنفسه، والعدل الرضا لا يؤثر لنفسه إلا الخير، فالصداقة تحمل على طلب الخير [للصديق] (2) ، والعداوة تحمل على طلب الشر للعدو.
ولم يختلف العلماء في أن شهادة المخاصِم مردودة على المخاصَم، وشهادة المخاصَم ليست مردودة على المخاصِم، وسبب ذلك أن شهادة المخاصَم لو كانت مردودة على من يخاصمه، لصار ذلك ذريعة في إبطال كل شهادة، حتى يقال: كل من يهم بإقامة شهادة على شخص، فينشىء ذلك الشخص خصومة مع الذي يشهد، فيرد شهادته، فحسمنا هذا الباب.
12128- ثم قال: " ولا لولد بنيه وولد بناته ... إلى آخره " (3) .
__________
= الفارسية بمعنى: طبعي جبلّي. وفي المخطوطة الأخرى للبسيط: (قديم) والله أعلم بالصواب، وإن كنت أرجح أنها (قُدْرَتي) وأن ما في المخطوطة الأخرى من البسيط تصرف من الناسخ، ولكن يبقى في النفس شيء من استخدام هذه الكلمة (العربية الأصل) من الإمام بهذه الطريقة، فإن ساغ استعمال ألفاظ غير عربية في أسماء الآلات والأشياء والحرف، وتصوير بعض المسائل على ألسنة الناس - فكيف يسوغ في هذه الجملة، والله سبحانه أعلم باللفظ الذي وضعه الإمام فعلاً.
(1) في الأصل: " ويردّ ".
(2) في الأصل: " بالصديق ".
(3) ر. المختصر: السابق نفسه.(19/13)
كل شخصين بينهما قرابة توجب النفقة عند فرض الإعسار في جانب واليسار في جانب، فشهادة أحدهما مردودة للثاني مقبولة عليه، هذا هو المذهب.
وللشافعي رضي الله عنه قول في القديم أن شهادة كل واحد منهما مقبولة للثاني وعليه.
وقال مالك (1) شهادة الوالد للولد لا تقبل. وشهادة الولد للوالد تقبل. ومذهب الشافعي في القديم قبول الشهادة من الجانبين.
وكل قرابة لا توجب النفقة، لا تتضمن رد الشهادة.
وأبو حنيفة (2) أوجب النفقة بالأخوة، وما في معناها، ولم يردّ الشهادة بها.
أما شهادة الزوج لزوجته، وشهادة الزوجة لزوجها، فقد أجراها الأصحاب مجرى القول في القطع عند السرقة.
ففي المسألة إذاً ثلاثة أقوال:
أحدها - قبول الشهادة من الجانبين.
__________
(1) بالبحث شبه المستقصي لكتب المالكية لم نجد من يقول بهذا الذي نسبه إمام الحرمين لمالك، ففي المدونة (4/80) : " قال مالك: لا تجوز شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه " ا. هـ ومثل هذا في الكافي: 461، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/972 مسألة: 1963، الشرح الصغير: 4/244، شرح الحطاب: 6/154، حاشية الدسوقي: 4/168، شرح زروق: 2/284، البهجة شرح التحفة: 1/96، شرح الخرشي: 7/179، منح الجليل لعليش: 8/398.
بل أبعد من هذا، وجدنا من المالكية من يستنكر نسبة هذا القول إليهم ويعدّه وهماً من ناقله، ففي شرح الحطاب نقلاً عن المازري: " وذكر بعض متأخري الشافعية عن مالك قبول شهادة الولد لأبيه دون الأب لابنه، وهو حكاية مستنكرة عند المالكية وربما كانت وهماً من ناقلها " ا. هـ ومثله عند زروق.
ولكن، يبدو أن ذلك كان معروفاً فعلاً منسوباً إلى الإمام مالك، فليس الشافعية وحدهم الذين نسبوا هذا القول إلى مالك، فقد وجدنا السرخسي في المبسوط يقول: " ويخالفنا في الولد والوالد مالك رحمه الله، فهو يجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه، بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه " ا. هـ (المبسوط: 16/121) . فلعله كان قولاً معروفاً عند المالكية، ثم هُجر واستنكروه، واستنكروا نسبته إليهم. والله أعلم.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/372 مسألة 1511، المبسوط: 16/122.(19/14)
والثاني - ردها من الجانبين.
والثالث - قبول شهادة الزوج لزوجته ورد شهادتها لزوجها، والفاصل أنها تستحق النفقة عليه، وهو لا يستحقها عليها، ولا شك أن هذا التردد في شهادة أحدهما للثاني، فأما شهادته عليه، فمقبولة إذا لم تكن عداوة، وكذلك شهادة الولد والوالد مقبولة من كل واحد منهما على صاحبه.
وذكر العراقيون وصاحب التقريب اختلافاً في مسألةٍ وهي إذا شهد الابن على أبيه بما يوجب عليه عقوبة، فالذي ذهب إليه الأكثرون القبول، وهو جارٍ على القياس ولا تهمة.
ويُحكَى عن بعض الأصحاب ردُّ شهادة الابن على أبيه فيما يوجب عقوبة، فإنها لو قبلت، لكان الابن سبباً في وجوب العقوبة على الأب، وهذا ممتنع، لأن الأب لا يستوجب القصاصَ وحدَّ القذف بالجناية على ابنه وقذفه، وهذا كلام ركيك، لا أصل له؛ فإن العقوبة التي تجب بشهادة الابن ليست واجبة له، وهذا هو الممتنع.
هذه مسائل ذكرها الأصحاب في رد الشهادة بالتهمة.
12129- وقد حان الآن أن نذكر في ذلك ضبطاً معنوياً، فنقول: ما يقتضيه قياس أصول الشريعة ألا ترد الشهادة من عدل لتخيّل تهمة؛ فإنه لا يُظَنُّ بمن ظهرت عدالته الميلُ إلى مظانّ التهم، ومن لا يُعدّلُه دينُه في مزالّ القدم ومواطن التهم فليس عدلاً، والاعتدال افتعال من العدالة، ومن يُزيغه طلبُ حظه، فحقه أن ترد شهادته على العموم، ولكن الذي [تمهّد] (1) في أصل الشرع أن الإنسان لا يثبت حق نفسه بقولٍ يصدر منه، وإن كان أعدل العدول، وليس رد ذلك للتهمة أيضاً؛ فإن الذي هو أعدل البرية ويهون في حقه بذلُ الآلاف في اقتناء المكرمات، وجلب الخيرات، إذا ادّعى درهماً، فيغلب على القلب صدقه، وتنتفي التهمة، ولكنَّ وضْعَ الشرع على أن الإنسان لا يُثبت بنفسه لنفسه حقاً، فإذا تضمَّنت شهادته جرّاً في مسألة جرح الموروث، فهي مردودة لا للتهمة، ولكن لأنه يشهد بجُرح هو مستحق أرشه.
__________
(1) في الأصل: " نُمهّد " (بهذا الضبط) .(19/15)
وقد ذكرنا أنه لو شهد لموروثه في مرض موته بمالٍ، ولم يكن بينهما بعضية، فشهادته مقبولة؛ فإن الملك يثبت منبتّا لحيٍّ، بخلاف أرش الجرح؛ فإنه لا يثبت إلا حين يستحقه الشاهد.
وأما صورة الدفع، فهي خارجة على ما مهدناه؛ فإن العاقلة يدفعون عن أنفسهم، فكان هذا في معنى شهادتهم لأنفسهم.
ويخرّج على ذلك رد الشهادة بين قريبين بينهما عُلقة النفقة، فكأن كل واحد منهما يثبت لنفسه مالاً إليه مرجعه إذا احتاج، ولا غرض في أعيان الأموال إلا الرجوع إليها عند الحاجات.
ولو رُددنا إلى الأصل الممهد، لما رَدَدْنا شهادةَ العدو على صاحبه، ولكن اعتمد الشافعي في هذا خبراً صحيحاً، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقبل شهادة خصم على خصم " (1) ، فقال: إذا نظرنا، وجدنا العدو في معنى المخاصم، فإن الخصومة تتضمن عداوة في وضع الجبلة، وإن كان الخصم على الحق يدور.
واعترف أبو حنيفة (2) برد شهادة الخصم، وأنكر اعتبار (3) العدوّ به.
فهذا هو الذي يجب اعتماده في قاعدة التهمة، ومن ضمّ ما مهدناه في التهمة إلى ما ذكرناه في قاعدتي المعصية والمروءة، لم يخف عليه مُدرك الكلام في مسألة تتعلق بهذه الأصول.
فصل
قال: " ومن لا يُعرف بكثرة الغلط والغفلة ... إلى آخره " (4) .
12130- العدل المغفل ليس مردودَ الشهادة على الإطلاق، وليس مقبولها على
__________
(1) خبر " لا تقبل شهادة خصم على خصم " قال الحافظ، بعد أن نقل كلام الإمام: ليس له إسناد صحيح، لكن له طرق يقوى بعضها ببعض. (ر. التلخيص: 4/374 ح 2662) .
(2) ر. المبسوط: 16/133.
(3) اعتبار: بمعنى قياس.
(4) ر. المختصر: 5/256.(19/16)
الإطلاق، ولكن كل ما يَغْلِب على القلب غفلتُه فيه، فشهادته مردودة فيه، وذلك الشهادة المرسلة، فأما الشهادة المفصّلة إذا امتحناها، -والرجل عدل- فلم تضطرب، فهي مقبولة؛ إذ ليست الغفلة معنىً يقتضي الرد عموماً بخلاف الفسق.
وهذا يناظر قول أئمة الحديث في إسماعيل بن عياش، فإنهم يقبلون ما يرويه عن الشاميين، ويتوقفون فيما يرويه عن غيرهم، لأنهم رأوا حفظه ثابتاً في رواياته عن الشاميين، ولعله كان أثبتها في عنفوان شبابه، فثبت حفظه.
وكل ما يتعلق بتحقيق الثقة، فتستوي فيه الرواية والشهادة، ويترتب على هذا الأصل أمر ذكرناه قبلُ مرسلاً، ونحن نفصله الآن.
12131- قال الشافعي: " القاضي إذا رابه أمر من الشهود فرّق مجالسهم، وسألهم عن الزمان والمكان ... إلى آخره ".
ونحن نقول: إذا استشعر القاضي منهم غفلة، ورابه لذلك أمر، فإنه يطلب التفصيل لما أشرنا إليه في شهادة المغفل، فلو أَبَوْا أن (1) يذكروا التفصيل، وكان لقنهم ملقن الامتناع عن التفصيل، فالقاضي إن دامت ريبته، لم يقض بشهادتهم؛ بناء على ما ذكرناه.
وإن لم يكن بالشهود غفلة، فشهدوا، وظن القاضي بهم غفلة؛ فإذا استفصلهم، ولم يفصّلوا، فعلى القاضي أن يبحث عن حالهم، فإذا تبين أنهم ليسوا مغفلين، قضى بشهادتهم المطلقة؛ ومعظم شهادات العوام يشوبها جهل وغرّة، وإن كانوا عدولاً، فيتعين الاستفصال، كما ذكرنا. وليس الاستفصال مقصوداً في نفسه، وإنما الغرض تبين [تثبتهم] (2) في الشهادة التي أقاموها، وهذا كشف سرٍّ يغتبط الفقيه به.
__________
(1) هنا سقطت ورقة كاملة من الأصل، ووضع مكانها ورقة أخرى مقحمة لا علاقة لها بالسياق، بل وضعت مقلوبة، وبالبحث وجدناها أقحمت في مكان لاحق، لتحمل رقم 176 شمال، 177 يمين، وهى مقلوبة أيضاً.
(2) كذا قرأنا بصعوبة بالغة على ضوء ما بقي من ظلال الحروف.(19/17)
فصل
قال: " ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء، إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقه بتصديقه وقبول يمينه ... إلى آخره " (1) .
12132- قال الفقهاء الذين [شَدَوْا] (2) طرفاً من الأصول: إذا كفّرنا المعتزلة، ومن شابههم من أهل الأهواء، رددنا شهادتهم، وإن ضلّلناهم، لم نرد شهادتهم، والقول في التكفير، والتبرؤ (3) ليس بالهين، وما ذكره الأصحاب من أن من يكفو تردّ شهادته صحيح، ونقل العراقيون أن الشافعي كفّر من قال بخلق القرآن، وهذا أهونُ بدعة ابتدعها المعتزلة.
وكان شيخي ردّ شهادة الوقّاعين في أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل المتعرضين [لعائشة] (4) قذفَةً مردودين، فإن منزلتها لا تنحط عن منزلة محصنةٍ من حرائر المسلمين، وقد سماها الله تعالى محصنة، فقال: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ ... } [النور: 23] .
وأنا أقول: لا سبيل إلى تكفير المعتزلة ومن في معناهم من أهل الأهواء، وقد نص الشافعي في مجموعاته على قبول شهادتهم، وما نقل عنه من تكفيرهم، فهو محرّف، وظني الغالب أنه ناظر بعضهم، فألزمه الكفرَ عن حجاج، ولم يحكم بكفره، وإذا كان كذلك، فسبيلهم في الشهادة كسبيل غيرهم، فينظر إلى العدالة والثقة والمروءة، كما سبق تقريره. وقد قال الشافعي: النفسُ بقَوْلِ من يقول: " الكذب يوجب الخلود في النار " أوثق (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/256.
(2) في الأصل: " شهدوا ".
(3) في الأصل: " والتبرّي "، من تبرى، بالقصر. وهو مصدر قياسي.
(4) تقدير منا مكان كلمة مطموسة تماماً.
(5) المعنى أن من أهل الأهواء والبدع من يقول بأن الكذب شرك بالله يوجب الخلود في النار، فمثل هذا إذا شهد تكون النفس أوثق بشهادته، فبدعته أكبر رادعٍ له عن الكذب.(19/18)
فهذا هو المذهب لا غير، وما حكيناه ليس خلافَ مذهبٍ، وإنما هو بناء على زللٍ في التكفير، ومثل هذا لا يعد مذهباً في الفقه.
وما ذكره شيخي من ردّ شهادة القذفة يصح على قانون الفقه، وكان محمد بن إسماعيل البخاري يؤلف مخرّجه الصحيح في الروضة: بين المنبر والقبر، قال: " رويتُ عن ابن مُحَيْرِيز، فغلبتني عيناي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: تروي عن ابن مُحَيْريز وهو يطعن في أصحابي، -وكان خارجياً- قال محمد بن إسماعيل: قلت له: يا رسول الله، لكنه ثقة، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقت إنه ثقة، فارْوِ عنه، فكنت أروي عنه بعد ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) .
فصل
قال: " واللاعب بالشِّطْرَنْج والحمام ... إلى آخره " (2) .
12133- أطلق كثير من أصحابنا الإباحة في اللعب بالشِّطْرَنجْ، وقال المحققون:
إنه مكروه، وهذا هو الصحيح، ولا آمن أن الذين أطلقوا الإباحة أرادوا انتفاء التحريم؛ فإن التعرض للفصل بين المكروه والمباح مما أحدثه المتأخرون.
ثم قال الأصحاب: لا يحرم ما لم تنضم إليه مُسابّةٌ أو تركُ صلاةٍ، وهذا كلام
__________
(1) قصة البخاري وروايته عن ابن محيريز لم نصل إليها، كما لم نر من عدّ ابن محيريز من الخوارج رغم طول بحثنا، ومراجعتنا للمصادر الآتية: مقدمة الحافظ للفتح (هدي الساري) ، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/168) طبقات ابن سعد (7/447) حلية الأولياء (5/138-149) تهذيب الأسماء واللغات (1/287) سير أعلام النبلاء (4/494) تذكرة الحفاظ (1/64) تهذيب التهذيب (6/32) .
وابن مُحيريز هو عبد الله بن محيريز بن جُنادة، من سادة التابعين، روى عن أبي سعيد الخدري، ومعاوية، وأبي مَحْذورة وغيرِهم من الصحابة، وروى عنه أبو قلابة والزهري وعبدُ الملك بن أبي محذورة، ومحمد بن يحيى بن حبان ومكحول الشامي وغيرهم. توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقيل في خلافة عمر بن عبد العزيز.
(2) ر. المختصر: 5/257.(19/19)
غث؛ فإن المحرّم هو الترك والمسابّة، وقالوا: يحرم إذا قصد به القمار، وهذا أيضاً ليس بشيء؛ فإن القمار لا يلزم، والمحرم قصده وإلزامُه، والشطرنج في نفسه لا يتغير اللعب به. وقيل: كان سعيد بن جبير يلعب بالشِّطْرَنج استدباراً (1) ، وما روي أن علياً رضي الله عنه مرّ بقومٍ يلعبون بالشطرنج، فقال: " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " (2) فهذا محمول على أنه رأى الشطرنج على صورة الفرس والفيل؛ فقال ما قال.
وأما اللعب بالنرد من غير قمارٍ، فحرام على ظاهر المذهب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللاعب بالنرد كعابد الوثن " (3) ، وقال: " من لعب بالنرد، فقد عصى أبا القاسم " (4) وقد روي " ملعون من لعب بالنردشير ". وحكى صاحب التقريب عن ابن خَيْران أن النرد كالشطرنج، وحكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي. فإن لم يثبت في النرد الأخبار التي ذكرناها، فلا فرق. وقد أطلق الشافعي
__________
(1) أثر سعيد بن جبير رواه الشافعي. قال المزني: سمعت الشافعي يقول: كان سعيد بن جبير يلعب بالشطرنج استدباراً، فقلت له: كيف يلعب بها استدباراً، قال: يوليها ظهره، ثم يقول: بأي شيء وقع، فيقول: بكذا، فيقول: أوقع عليه بكذا. (ر. المختصر: 5/257) وانظر: السنن الكبرى للبيهقي: 10/211، ومعرفة السنن والآثار: 7/431 ح 5956.
(2) أثر علي بن أبي طالب رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، ورواه البيهقي في الكبرى، وفي معرفة السنن والآثار (ر. السنن الكبرى: 10/212، معرفة السنن والآثار: 7/231، التلخيص: 4/379 ح 2673، إرواء الغليل للألباني: 8/288 ح 2672، وقال: هذا الأثر لا يثبت عن علي) .
(3) حديث " اللاعب بالنرد كعابد الوثن " لم نقف عليه.
(4) حديث " من لعب بالنرد فقد عصى أبا القاسم " رواه أبو داود، وابن ماجه، ومالك، وأحمد، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي، كلهم من حديث أبي موسى الأشعري ولفظه " من لعب النردشير فقد عصى الله ورسوله ". والحديث حسنه الألباني في الإرواء (ر. أبو داود: الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد، ح 4938، ابن ماجه: الأدب، باب اللعب بالنرد، ح 3762، الموطأ: 2/958، أحمد: 4/394، 397، 400، الحاكم: 1/50، البيهقي: 10/214، 215، التلخيص: 4/365 ح 2642، إرواء الغليل: 8/285 ح 2670) .(19/20)
لفظ الكراهية في النرد، ولا اعتداد بذلك؛ فإنه كثيراً ما يُطلق الكراهية، ويريد التحريم كما قال: " وأكره استعمال أواني الذهب والفضة " وأراد التحريم.
وكان شيخي يجعل اللعب بالنرد من غير قمار صغيرة، ولا يرى الردّ بالمرّة حتى يفرض فيها إدمان وإصرار. وقال قائلون: الكرّة منه تفسّق.
12134- وسأخرج هذا على الأصول التي سبق تمهيدها. فأقول: اللعب بالشطرنج بين أن يكون مباحاً أو مكروهاً، وعلى أي الوجهين قُدِّر لا يوجب ردَّ الشهادة لعينه، ثم يتطرق إليه وجهان: أحدهما - أن إظهاره قد يكون ترك مروءة من بعض الناس. والآخر - أن إدامة الاشتغال به تعطّل المهمات. وقد بيّنت ما يتلقى من كل أصلٍ من هذين الأصلين من الرد ونقيضه.
والنرد إن ألحقناه بالشطرنج؛ فقد مضى حكمه، وإن حرّمناه، فمن أصحابنا من يراه كبيرة، ومنهم من يراه صغيرة، ولا يخفى أثرهما، وتفصيل القول فيهما، ويتصل بذلك كله ملاحظةُ الاعتياد، وقدرُ استقباح الناس في كل قطرٍ، على ما تمهّد.
واللعب بالحمام لا يحرم، وذكر العراقيون وجهين في أنه هل يكره، وليس لأمثال هذا الخلاف وَقْعٌ عندي، ثم الكلام في ردّ الشهادة يضاهي الكلامَ في اللعب بالشطرنج.
فصل
قال: " ومن شرب عصير العنب ... إلى آخره " (1) .
12135- شرب الخمر المحرمة إجماعاً من الكبائر، ثم كل مسكرٍ حرام عند الشافعي، وخلاف أبي حنيفة في المثلّث، ونقيع الزبيب، وغيرهما لا يخفى، فمن تعاطى من أصحابنا (2) شيئاً منها رُدَّت شهادته.
وقال الشافعي: " لو شرب الحنفي النبيذ، حددتُه، وقبلت شهادته " وقد ذكرنا
__________
(1) ر. المختصر: 5/257.
(2) عودة التسلسل الصحيح للترتيب بعد سدّ الخلل الذي كان.(19/21)
خلافاً للأصحاب في الحد. وقال المزنى: كيف تحد من شرب قليلاً من نبيذ شديد، وتجوّز شهادته؟ فمن أصحابنا من قال: المزني يختار أنه لا يُحدّ كما لا يفسّق، ومنهم من قال: بل يَختار أنه يُفسّق كما يُحدّ، ومن أصحابنا من ذكر وجهاً في التفسيق أيضاً، فَخَرَجَ في الحد والفسق أوجه:
أحدها - أنه لا يحدّ الحنفي ولا يفسّق.
والثاني - أنه يحدّ ويفسّق.
والثالث - أنه يحدّ ولا يفسّق. وهو النص. والشافعي يفسّقُ بشرب ما يعتقد تحريمه.
فإن قلنا: يحد الحنفي، فالشفعوي أولى، ومن قال: لا يحدّ المحلِّل، فهل يحدّ المحرِّم؟ فعلى وجهين:
أحدهما - لا يحد لشبهة مذهب المحللين، كما لا نوجب الحد على الواطىء في نكاح المتعة في ظاهر المذهب، وأما النكاح بغير ولي، فالصحيح أنه لا حدّ فيه، وأجرى بعض أصحابنا ذلك مجرى شرب النبيذ، وكل ذلك مما قرّرته في موضعه، وحظ كتاب الشهادة منه ما نبهت عليه، ولم أبسط القول في تمهيد أصول الباب إلا لأعطف عليها المسائل على إيجاز.
فصل
قال: " ولو كان يديم الغناء، ويغشاه المغنون ... إلى آخره " (1) .
12136- الفصل يشتمل على ما يتعلق السماع به من ضروب الغناء. والبداية في هذا الفن بتحريم المعازف والأوتار، وكلها حرام، وهي ذرائع إلى كبائر الذنوب.
وفي اليراع وجهان. ولا يَحْرم ضربُ الدف إذا لم تكن عليه جلاجل، فإن كان، فوجهان. وكان شيخي يقطع بتحريم (الكوبة) (2) ، ويقول: فيها أخبار مغلظة على
__________
(1) ر. المختصر: 5/257.
(2) الكوبة: الطبل الصغير المخصّر. (المصباح) .(19/22)
ضاربها، والمستمع إلى صوتها. وقد نص الشافعي أن من أوصى بطبل اللهو، فالوصية باطلة، ولا يعرف طبل لهو يلتحق بالمعازف -حتى تبطل الوصية بها- إلا (الكوبة) ، ولست أرى الطبول الصغار التي تُهيأ لملاعب الصبيان محرَّمة؛ فإنها إن لم تلتحق بالطبول الكبار، فهي في معنى الدّف.
ولم يتعرض القاضي (للكوبة) ، ولو رددنا إلى مسلك المعنى، فهي في معنى الدف، ولست أرى فيها ما يقتضي تحريماً، إلا أن المُفْلِكِين (1) يعتادون ضربها، ويتولعون بها.
والذي يقتضيه الرأي أن ما يصدر منه ألحان مستلذة تَهِيجُ الإنسان، وتستحثه على الشرب، ومجالسة إخوانه، فهو المحرّم، والمعازف والمزامير كذلك، وما ليس له صوت مستلذ، وإنما تنتحب (2) في [إيقاعات] (3) قد تطرب، فإن كانت لا تُلذ، فجميعها في معنى الدف، والكوبةُ في هذا المسلك كالدف، فإن صح فيها تحريم، حرّمناها، وإلا توقفنا فيها.
والضرب بالصَّفَّاقَتَيْن (4) كان يحرمه، وهو مما يعتاده المخنثون، وفيه نظر عندي بيّنٌ؛ فإنه لم يرد فيه خبر، إن فرض ورود أخبار في الكوبة.
واليراعُ الذي حكينا فيه الخلاف ليس هو المزمار الذي يسمى العراقي، ويضرب مع الأوتار، بل لا نشك في تحريمه. وقد روى الرواة: " أن ابن الزبير كانت له جوارٍ عَوَّادات، فدخل عليه ابن عمر وبالقرب منه عود، فقال له ابن الزبير: يا صاحب رسول الله ما هذا؟ فأخذه وتأمله، فقال: ميزانٌ شامي وأنا ابن عمر (5) " (6) .
__________
(1) المفلكين: بمعنى المدمنين المسرفين، يقال: أفلك الرجل في الأمر إذا لجّ فيه. (المعجم) .
(2) كذا.
(3) في الأصل: " يقاعات ".
(4) كذا. والمراد التصفيق باليدين؛ فلم نجد في كتاب أسماء الملاهي آلة تسمى (الصفاقتين) .
(5) أثر ابن الزبير مع ابن عمر (رضي الله عنهم) لم نقف عليه.
(6) المعنى أن ابن الزبير يُشهد ابنَ عمر أن هذا العود ليس هو المزمار العراقي الذي لا يُشك في تحريمه، كما قال الإمام.(19/23)
وكان شيخي يقول: الاستماع إلى الأوتار في رتبة الصغائر، [والإدمان] (1) فيه مفسّق، وما يندر منه لا يفسق.
وقطع العراقيون ومعظم الأصحاب بأنه من الكبائر، وهذا يوضحه ما قدّمناه من اعتبار العادات؛ فإن كان ما نحن فيه مستقبحاً معدوداً من الفواحش في بعض البلدان، فالهجوم عليه خرمٌ بيّن، واستجراءٌ على ترك المروءة. وإن كان لا يعدّ من الفواحش في بعض البلاد؛ فإذ ذاك يقع النظر في أنه من الصغائر أم من الكبائر؟ فهذا قولنا في الألحان والأوتار.
12137- وأما الغناء قولاً وسماعاً، فأجمعُ كلامٍ فيه وأحواه للمقصود قول الشافعي، إذ قال: الشعر كلامٌ، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، والأمر على ما ذَكر، فلا فرق بين أن يكون الكلام منظوماً أو منثوراً، فكل ما يحرم منثوره يحرم منظومه.
ثم في الشعر وغرضِنا منه ما يُحوِجُ إلى مزيد فكر. ومسلكُ الأصحاب مضطرب فيه: فأما الأشعار التي ليس فيها من المنكر والخنا وفُحش المنطق، والخروجِ إلى حد الكذب، وإنما هي في وصف دِمنٍ وأطلال، وما في معانيها، فهي دواوين العرب، والمُكِبُّ على تحصيلها متوسل إلى حفظ اللغة، وبيان مناظم الكلام، وهو من أشرف العلوم، وكيف لا، وهي الذريعة إلى دَرْك الكتاب والسنة.
ولو فرض ترنمُ مترنِّم بها في إنشادٍ، أو في صنع الحداء، فلا بأس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إليها، ويطلب إنشادَها، وربما كان يستزيد ويستعيد، حتى رُوي أنه قال لشَرِيد: " أمعك من شعر أمية " (2) ؛ فقال: نعم، فقال: هيهِ، فأنشدته بيتاً، فلم يزل يستزيد حتى بلغت مائة. وقال لابن رواحة:
__________
(1) في الأصل: " فالإدمان ".
(2) المراد أمية ابن أبي الصلت الشاعر الجاهلي، والشَّريد هو الشريد بن سويد الثقفي والقصة في الإصابة ساقها ابن حجر عند ترجمة الشريد، وذكر أنها من رواية مسلم وغيره (ر. مسلم: الشعر، باب في إنشاد الأشعار وبيان أشعر الكلم وذم الشعر، ح 2255، ابن ماجه: الأدب، باب الشعر، ح 3758، أحمد: 4/388، 389، 390، البيهقي: 10/226، المعجم الكبير للطبراني: 7/315 ح 7237، الأدب المفرد للبخاري: ح 799) .(19/24)
" حرّك بالقوم " (1) فاندفع يرتجز ويقول:
اللهُمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
إلى آخر القطعة. ولا حاجة إلى الإطناب فيها على بيانه.
وإنما النظر في خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدح وإطراء، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن منشىء هذا الفن كاذب، فهو كما لو كان يكذب على ندور أو اعتياد، [و] (2) قال الصيدلاني: هذا لا يلتحق بالكذب؛ فإن الكذب من يُخبر ويُري الكذبَ صدقاً، والشعر صناعة، وليس غرض الشاعر أن يُصدَّق في شعره، فليس إذاً من الكذابين.
فمن سلك المسلك الأول، قال: النادر من هذا الفن محتمل غير مؤثر في رد الشهادة، والكثير منه يوجب ردَّها، وقياس ما ذكره الصيدلاني أنه لا فرق بين القليل والكثير منه؛ فإنه ليس خبراً محقَّقاً عن مُخبرٍ، وليس خارماً للمروءة إذا لم يتخذه الشاعر مكسباً، فإذاً لا كذبَ ولا خسّة، بل هو من الفضائل، ثم من الوسائل إلى تعلّم الشريعة.
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأَنْ يمتلىء جوفُ أحدكم قيحاً حتى يَرِيَه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً " (3) قال أصحاب المعاني: هذا فيمن لا يحسن إلا الشعر، فأما إذا كان يحسن غيره، فليس يندرج تحت الخبر. وما ذكرناه مشروط بألا يهجو،
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لابن رواحة: حرّك بالقوم، رواه النسائي في سننه الكبرى من حديث قيس بن أبي حازم عن عمر، ومن حديث قيس عن ابن رواحة مرسلاً (المناقب، باب عبد الله بن رواحة، ح 8193، 8194) ورواه البيهقي في الكبرى (10/227) وفي المعرفة: 7/438 ح 5965 وانظر: التلخيص: 4/368 ح 2649.
(2) زيادة من المحقق.
(3) حديث: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً ... " بهذا اللفظ رواه البخاري من حديث ابن عمر: الأدب، باب ما يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن، ح 6154، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: " لأن يمتلىء جوف رجلٍ قيحاً يَرِيه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً " (اللؤلؤ والمرجان: 3/78 ح 1455) .(19/25)
ولا يتعرض لعرضٍ، ولا يشبب بامرأة معيّنة، فإن [في] (1) ذلك هتكاً للستر.
ولا يتطرق إلى العلم بالشعر ومنشئه ومنشده بعد التحرز مما ذكرناه إلا ترك المهمات من الأمور، فإن استوعب الأوقات بها، وترك ما يُهِمه، فقد يكون ذلك بمثابة خرق حجاب المروءة، وإن لم يكن مُضرباً عن مهماته، فلا ترد شهادته.
فتنخّل من مجموع ما ذكرناه خلافُ الأصحاب في جوهر الشعر وأنه كذب إن اشتمل على ما ينتهي إلى الكذب، أم هو صناعة؟ فإن جعلناه بمثابة الكذب، فيجب أن نفصل بين ما يحكيه (2) وبين ما ينشئه، [فلا] (3) يُسْقِطُ الثقةَ بصدق لهجته.
والكذب الذي يجري إذا قلّ وندر، لم يوجب ردَّ الشهادة، وإذا [كثر] (4) أشعر باعتياد الكذب، فإذ ذاك يتضمن ردَّ الشهادة. هذا قولنا في الكذب المقصود، فما الظن بما ليس مقصوداً كذباً، فيجب أن يُفْصَل بين القليل منه والكثير (5) .
وإن جرينا على أنه ليس من الكذب، فإذا لم يكن فيه إيذاء فيبعد تحريمه، وقد يتطرق إليه ما ذكرناه [من] (6) تَرك المهمات.
وإن اكتسب الشاعر بشعره، التحق ذلك بما يخرم المروءة، وقد انتجز القول فيه.
12138- وبقي بعده الغناء: فما يحرُم قوله، يحرُم سماعه، وما لا فلا. وإدمان الغناء قولاً وسَمْعاً يخرم مروءة الدين، ويُلحق الرجل بالهازلين.
والرَّقْص ليس محرَم العين، وإنما هو حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يَخْرِم المروءة، كسائر أصناف اللّعب إذا كان على اختيار.
__________
(1) زيادة من المحقق ليصحّ نصبُ " هتكاً ".
(2) بين ما يحكيه: أي من الشعر، أي ترديده لشعر غيره، أي يكون منشداً لا منشئاً، فالحكم لا شك يختلف فيهما، فلا تسقط العدالة بالإنشاد.
(3) في الأصل: " ولا ".
(4) في الأصل: " كثرت ".
(5) خلاصة المسألة: أنا إن اعتبرنا الشعر الذي ينتهي إلى الكذب كذباً -وليس صناعة- فيجب أن نفرق أولاً بين منشئه ومنشده، ثم نفرق ثانياً في منشئه بين القليل والكثير.
(6) في الأصل: " ممن ".(19/26)
فصل
قال: " وإذا كان هكذا، كان تحسينُ الصوت بذكر الله والقرآن أولى ... إلى آخره " (1) .
12139- أراد بذلك أنه لما جاز الاستماع إلى الحُداء مع الترنم به، فلأن يجاز ذلك في ذكر الله وقراءة القرآن أولى، على شرط ألا ينتهي إلى التمطيط المغيِّر لنظم الكلام.
وكان أبو موسى الأشعري حسنَ الترنم بالقرآن، وفيه قال المصطفى عليه السلام: " أُوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " (2) وقال عليه السلام: " ما أذن الله لشيء إذنَه لنبي حسن الترنم بالقرآن " (3) . أراد بالقراءة، فلا منع إذاً.
وفي بعض الأخبار " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " (4) وتفسير الحديث معروف مع اختلاف فيه، وأصح الوجوه في تأويل الحديث من لم يُغنه القرآن، ولم يقنعه في إيمانه، ولم يصدق بما فيه من وعدٍ ووعيد، فليس منا، وقيل من لم يرتح من قراءته وسماعه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/257.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال عن أبي موسى " أوتي مزماراً من مزامير آل داود " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، 1/152 ح 456) .
(3) حديث " ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن 1/152 ح 455) .
(4) حديث " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " رواه البخاري، وأحمد من حديث أبي هريرة، ورواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان من حديث سعد بن أبي وقاص (ر. البخاري: التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ... } ، ح 7527، أحمد: 1/172، 175، 179، أبو داود: الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، ح 1470، ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن، ح 1337، الحاكم: 1/569، 570، ابن حبان: ح 120، التلخيص: 4/369 ح 2652) .(19/27)
12140- ثم قال: " ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ... إلى آخره " (1) .
وردت أخبار في النهي عن العصبية، وليس منها أن يحبّ الرجل قومَه، وإنما العصبية أن يبغض الرجل من ليس من قومه من غير سبب، وهي (2) توجب البغض.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وقال عليه السلام: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً " (3) .
12141- ثم قال: " ويجوز شهادة ولد الزنا ... إلى آخره " (4) .
والأمر كما قال؛ فإن ذلك لا يسقط الثقة، والأوصاف المرعية موجودة. وقصد بهذا الرد على مالك (5) ، فإنه رد شهادة ولد الزنا.
12142- ثم قال: " والقروي على البدوي " (6) .
وأراد أن شهادة القروي مقبولة على البدوي، وكذلك شهادة البدوي على القروي، وقصد بذلك الرد على مالك (7) أيضاً.
فصل
12143- إذا شهد الصبي والمملوك والكافر ورُدّت شهاداتهم لما بهم، فلو صاروا إلى الكمال، فبلغ الصبي، وأسلم الكافر، وعَتَق العبد، فأعادوا تلك الشهادات، فهي مقبولة منهم وفاقاً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/257.
(2) وهي: أي العصبية.
(3) حديث: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا.. " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (اللؤلؤ والمرجان: 3/189 ح 1658) .
(4) ر. المختصر: 5/258.
(5) ر. الإشراف: 2/975 مسألة 1969، عيون المسائل: 4/1560 مسألة: 1098.
(6) ر. المختصر: الموضع السابق.
(7) ر. الإشراف: 2/975 مسألة 1968، عيون المجالس: 4/1560، مسألة 1099، الشرح الصغير: 4/250.(19/28)
12144- وإن شهد الرجل، فردت شهادته لفسقه، ثم ظهرت عدالته وحسنت حالته وكان مقبول الشهادة في القضايا، فلو أعاد تلك الشهادة التي رُدّت بسبب الفسق، نُظر: فإن كان مستسرّاً بالفسق أولاً متعيّراً به لو نسب إليه، وقُذف به، فلا تقبل الشهادة المعادة باتفاق الأصحاب (1) ، ووافق فيه أبو حنيفة (2) ، ومتبعوه.
ولو كان معلناً بالفسق لمّا شَهد، غير متعَيّرٍ بأن ينسب إليه، فردت شهادته، ثم ظهرت عدالته، فأعاد بعد العدالة تلك الشهادة، ففي قبولها وجهان: أحدهما - أنها مردودة، كما لو كان متعيراً بالفسق أول مرة. والثاني - أنها تقبل، كالشهادة المعادة بعد العتق، وتغير العتق من التغايير التي وصفناها.
وأصحاب أبي حنيفة يزعمون أن سبب رد الشهادة المعادة أنها ردت، وجرى القضاء بردها أولاً، وشهادة الفاسق شهادة، بخلاف شهادة الصبي والمملوك والكافر؛ فإنها ألفاظ على صيغ الشهادة، وليست شهادة، ومعنى ردها إبانة أن ما جاؤوا به ليست شهادة، وليس كذلك الفاسق؛ فإنه شاهد، فإذا اتصل القضاء برد شهادته في قضية، لم تُعَد؛ إذ لو أعيدت، وقبلت، لكان قبولها نقضاً للقضاء السابق بالرد. وقد ذكرنا كلامهم هذا في مسائل الخلاف ونقضناه.
والذي يدور في الخَلَد من هذه المسألة؛ أن رد الشهادة المعادة بعد ظهور العدالة ليس ينتظم فيه معنى صحيح عندي؛ فإني أوضحت أن رد الشهادة بالتهمة من العدل لا معنى له في مسلك القياس، فقد استثنى الخبر رد شهادة الخصم، وألحق الشافعي
__________
(1) اتفق الأصحاب على ردّ شهادة الفاسق في هذه الحالة، حالة ما إذا كان مستسرّاً بالفسق، يخشى أن يعيّر به، فإذا ردّت شهادته، كان الردّ كاشفاً لفسقه، مظهراً لما يتعير به، فإذا تاب، وصلحت حاله، وصار مقبول الشهادة، فلو أراد إعادة الشهادة المردودة، لم تقبل، لأنه بمحل التهمة، تهمة من يريد أن يدفع عن نفسه عار الكذب، وينفي عنها التعيّر بالفسق السابق الذي ردّت به شهادته.
وقد بسط النووي ذلك في الروضة، حين جعل من شروط قبول الشهادة " الانفكاك عن التهمة " ثم قال: " وللتهمة أصباب ... السبب السادس - أن يدفع عن نفسه عار الكذب " ثم ضرب الفاسق الذي ردّت شهادته مثلاً لذلك. (ر. الروضة: 11/234-241) .
(2) ر. مختصر الطحاوي: 333، المبسوط: 16/128.(19/29)
شهادة العدو بشهادة الخصم، واستثنى الإجماعُ ردّ [الشهادة] (1) المعادة، وليس عند من يشتغل بمعاني الفقه معنى يترتب عليه ردُّ الشهادة المعادة.
12145- ومما ينبغي أن يحاط به أن العبد المملوك إذا تصدى للشهادة، والقاضي علم برقِّه، فإنه يمنعه من إقامة الشهادة، وكذلك القول في الكافر والصبي، فأما الفاسق، فإن كان في أمره نظر، فلا شك أنه يصغي إلى شهادته، ثم يبحث عن حالته، فإن كان الشاهد معلناً بالفسق، فالذي كان يقطع به شيخي أن القاضي لا يصغي إلى شهادته؛ إذ يَقْبُح أن يُصغي القاضي إلى ثملٍ بيده قدح.
وذهب بعض أئمتنا إلى أنه يصغي إلى شهادة المعلن، ثم يرد شهادته، وهذا بعيد عن قياسنا.
ولو شهد السيد لمكاتَبه، فلا شك في رد الشهادة، فلو عَتَق المكاتَب، فأعاد السيد تلك الشهادة، ففي بعض التصانيف وجهان في قبول الشهادة المعادة: أحدهما - أنها مردودة كالشهادة المردودة بالفسق، إذا أعيدت بعد ظهور العدالة. والثاني - أنها مقبولة. والرد مخصوص بمسألة الفسق، وكأن القائل الأول ينظر إلى التعيّر بالرد الأول، ونسبة الشاهد إلى ترويج شهادته المعادة لما يُداخله من الغضاضة. وهذا قد يتحقق في رد شهادة السيد للمكاتب، ولما فيه من النظر، اختلف الأصحاب.
ولو ردت شهادته للعداوة، ثم زالت العداوة الظاهرة، وصار يوالف من كان يعاديه، فإذا أعاد تلك الشهادة، ففي المسألة وجهان، وهذا قريبٌ مما تقدم؛ من جهة أن البحث يتسلط على العداوة، وليس في رد شهادة العدو ما يَسْينه.
12146- فكأن المعتبر في الوفاق والخلاف أن الرد إذا كان بسببٍ ظاهر، وكان لا يعيِّر الردُّ المردودين، فإذا زالت الموانع، وأعيدت الشهادة، فالقطع بالقبول.
وإن كان السبب الذي به الرد مجتَهَداً فيه، وكان مع ذلك معيِّراً، فالقطع بردّ الشهادة المعادة، وإن تطرق الاجتهاد ولا تعيُّرَ في الرد، ففي رد الشهادة المعادة وجهان، والفصل تقليدي، لا انتهاض لمعاني الفقه فيه.
__________
(1) في الأصل: " شهادة المعادة ".(19/30)
فصل
12147- من تحمل الشهادة ظاهراً أداها كما تحملها، ومن سمع لفظاً، أو رأى فعلاً، وكان مختفياً عن القائل المشهود عليه، فالمذهب أن له إقامة الشهادة، بل عليه، ذلك إذا كان يتحمل الشهادة. وقال مالك (1) : ليس له أن يقيم تلك الشهادة؛ فإن هذا التحمل من قبيل التدليس، واللائق بمحاسن الشريعة إبطالُه. وقيل: هذا قولٌ للشافعي، وهو مزيف غير معتد به.
فرع:
12148- ذكر بعض أصحابنا أن جلوس الرجال على فرش الحرير يوجب تفسيقهم، حتى قالوا: لو جلس شهود النكاح حالة العقد على فرش الديباج، لم ينعقد النكاح، بناء على أن النكاح لا ينعقد بشهادة الفسقة.
وهذا لا أصل له، والذي صار إليه المحصلون أن هذا من الصغائر، وما يندر منه لا يوجب التفسيق.
فصل
قال: " ولو ترك ميت ابنين، فشهد أحدهما ... إلى آخره " (2) .
إذا مات رجل عن ابنين وتركة، [فاقتسماها] (3) ، ثم أقر أحدهما بعينٍ في التركة
__________
(1) ما نقله إمام الحرمين عن مالك، هو الذي كان شائعاً عند الخراسانيين ينقلونه عن مالك، قال صاحب البيان: " وقال مالك: إن كان المشهود عليه جلداً باطشاً لا يُمكن أن يخدع ليُقرَّ، صح تحمّل الشهادة عليه بذلك، وإن كان ضعيفاً يمكن أن يخدع بالإقرار، لم يصح تحمل الشهادة عليه ". هذا نَقْلُ أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: مذهب مالك أنه لا تقبل شهادة المختفي بكل حال. وهو قول الشافعي رحمه الله في القديم " انتهى بنصّه كلام العِمْراني في البيان.
وما نسبه صاحب البيان للعراقيين هو الذي وجدناه في مصادر المالكية (ر. البيان للعمراني: 13/357، المدونة: 4/88، البهجة شرح التحفة: 1/99، حاشية الدسوقي: 4/175، الشرح الصغير: 4/249) .
(2) ر. المختصر: 5/2.
(3) في الأصل: " فما يقسماها ".(19/31)
لإنسان، وهي واقعة في حصته، وأنكر الابن الآخر استحقاقَ ذلك المقَر له، فلا خلاف أنه يجب على المقِر تسليمَ تلك العين إلى المقر له.
وإن أقر أحدهما بدين، وأنكر الثاني، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يلزمه جميعُ المقر به في حقه بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة، وهذا مذهب أبي حنيفة (1) .
والثاني - يلزمه نصفُ المقَرِّ به بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة. فلو أقر أحدهما بألف درهم، وفي يده ألف درهم، فعلى القول الأول يلزمه جميعُ المقَرِّ به وتسليمُ الألف، أو مقداره من سائر ماله، وعلى القول الثاني يلزمه خمسمائة متعلقاً بما في يده. وتوجيه القولين مذكور في (الأساليب) ، وقد أوضحنا فيها إشكالَ القول المنصور على أبي حنيفة.
12149- ولو أقر أحدهما بوصية، نُظر: فإن أقر بعين للموصى له من جهة الوصية، وكانت تلك العين واقعةً في يده وحصتِه، فيلزمه تسليمُها إذا كان ثلث المال وافياً بها، لأنه معترف بكونها مستحقة على اللزوم للموصى له.
ولو أقر له بثلث التركة شائعاً، فيلزمُه تسليم ثلث ما في يده لا غير.
وإن أقر بوصيةٍ مرسلةٍ، ففي المسألة قولان: أحدهما - يلزمه جميعُ المقرّ به في حقه بإقراره متعلقاً بثلث ما في يده. والثاني - يلزمه نصف المقر به في حقه، متعلقاً بثلث ما في يده. فلو كان في يده ألف، وأقر بخمسمائة وصيةً، فعلى القول الأول يلزمه ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثُلث. وعلى القول الثاني يلزمه مائتان وخمسون، وهو نصف الوصية، ولكن ثلث ما في يده وافٍ به.
وإذا كان في يده ألف، وأقر بألف درهم وصية، استوى القولان؛ فإن الوصية إن قدّرناها ألفاً، فهو مردود إلى الثلث مما في يد المقر، وإن قدرناها خمسمائة فالجواب كذلك، فيخرج ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث. ولسنا نخوض في
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء 4/208 مسألة 1903، المبسوط: 18/48، 19/39.(19/32)
توجيه القولين، لأنا أحلناها على ما ذكرنا في (الأساليب) (والغُنية) (1)
12150- ومما يتعلق بتفصيل المذهب في المسألة أن أحد الابنين إذا شهد للمُقَر له بالدين، وأراد المقَر له أن يحلف مع شاهده، أو أراد أن يضم إليه شاهداً آخر، فالذي ذكره المحققون من أصحابنا أن قبول شهادته يتفرع على القولين في إفراره لو أقر فإن قلنا: لو أقر، لم يلزمه في حصته إلا نصف المقر به، فإذا شهد، كانت شهادته مقبولة على الميت، وحكمها أنه يلزمه نصفُ المشهود به في حصته، ويلزم [صاحبَه] (2) النصفُ.
فإن حكمنا بأنه لو أقر، لكان يلزمه التمام، فإذا شهد، فشهادته مردودة على صاحبه المنكر، وهي بمثابة ما لو أقر، وسبب ذلك أنا لو قبلنا شهادته، لكانت متضمنة دفعاً عن النفس (3) ؛ فإن الإقرار بالجميع مع إنكار الثاني يُلزمه حكم [الجميع] (4) في حصته، فكأنه يطلب بشهادته أن يُلزم صاحبَه النصفَ.
وعن أبي حنيفة (5) أنه قال: إن أقر أحدهما بالدين أولاً، ثم إنه شهد بعد إقراره، فشهادته مردودة؛ لأن الحق ثبت بالإقرار عليه، ثم رام دفعه بالشهادة.
وإن شهد أولاً، قال: فشهادته مقبولة. ونحن خرّجنا شهادته من غير تقدم الإقرار على القولين كما تقدم الشرح [فيه] (6) .
فلو أقر أحدهما أولاً، ثم شهد، والتفريع على أن الإقرار لا يُلزم المُقر إلا
__________
(1) (الأساليب) و (الغنية) : اسمان لكتابين من كتب الإمام في الخلاف، ولما يظهر لأي منهما أثر في المكتبات والخزائن للآن.
(2) في الأصل: " صاحب ".
(3) المعنى أنه بإقراره حكمنا بأن عليه الجميعَ في حصته، فإذا قبلنا شهادته، ثبت الجميعُ على الميت الموروث، وبهذا يلزم صاحبَه نصفُ الدين المقر به -ونحن نفرع على أننا ألزمناه الدين المقر به كاملاً في حصته- فيكون بشهادته قد دفع عن نفسه نصف الواجب، فتردّ شهادته لذلك.
(4) في الأصل: " المبيع ". وهو تصحيف.
(5) لم نقف على قول أبي حنيفة كما نقله الإمام، وانظر المبسوط: 18/48.
(6) في الأصل: " بنيه ". (كذا) .(19/33)
النصف، فالشهادة في النصف الثاني مقبولة على الابن المنكر، وإن فرّعنا على القول الثاني - وهو أن الإقرار يُلزم المقر التمامَ، فعلى هذا القول شهادته مردودة على أخيه المنكر، ولا فرق إذاً عندنا بين أن يبتدىء فيشهد وبين أن يقدم الإقرار ثم يشهد، فقبولُ الشهادة على المنكر وردُّها خارج على القولين.
فإن قال قائل: إذا قذف رجلاً، ثم شهد عليه ثلاثةٌ، فشهادته بعد القذف مردودة (1) ، ولو شهد ابتداء مع ثلاثةٍ على زناه، فشهادته على الزنا مقبولة، فهلا جعلتم الشهادة ردّاً منه عن نفسه فيما كان يلزمه لو قذف ولم يشهد، وما الفرق بين تقدم القذف وبين تقدم الإقرار؟
قلنا: هذا لا حاصل له، فإنه إذا قدم القذفَ، فقد التزم الحدَّ بالقذف، فإذا رام دفع العقوبة عن نفسه، كان دافعاً بشهادته على التحقيق، فرُدَّت، وإذا شهد ابتداء، فليس هو بشهادته دافعاً عن نفسه أمراً لا محيص له عنه؛ فإنه كان لا يجب عليه أن يشهد، والإخبارُ عن الدَّين لا بد منه في التركة، وهو بشهادته يؤدي واجباً عليه، فافترق الأمران افتراقاً ظاهراً.
وقد ذكر صاحب التقريب في الإقرار بالوصية المرسلة طريقين: إحداهما - إجراء القولين على التفصيل المقدم، وقد ذكرناه. والثاني - القطعُ بأنه لا يلزم المقِرَّ إلا مقدارُ حصته قولاً وحداً. وأبو حنيفة (2) سلّم الوصية، وإن صار إلى أن المقِر بالدين يلتزم جميعَه في حصته.
فما ذكره صاحب التقريب يوافق مذهب أبي حنيفة. وهذا ليس بشيء، ولا فرق بين الوصية والدين إلا أن الوصية وضعُها الحَسْبُ من الثلث، كما فصّلنا. والدين الثابت وضعُه إخراجُه من رأس المال، وأما الفرق، فلا اتجاه له.
***
__________
(1) أي شهادته مع الثلاثة، ليكمل عِدّة شهود الزنا، فيبرأ من حد القذف.
(2) ر. المبسوط: 19/39، 40.(19/34)
باب (1) الشهادة على الشهادة
12151- الكلام في الباب يتعلق بفصول:
أحدها - فيما تجري فيه الشهادة على الشهادة.
والثاني - في كيفية تحمل الشهادة على الشهادة.
والثالث - في الطوارىء التي تطرأ على الأصول بعد تحمل الشهادة.
والرابع - في عدد الفروع.
والخامس - في [الأعذار] (2) التي يُكتفى عندها بشهادة الفروع. فأما
الفصل الأول
12152- فكل حق مالي لله وللآدميين، فإنه يثبت بالشهادة على الشهادة، وأما ما يتعلق بالعقوبات، فحاصل المذهب ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه لا يثبت شيء من العقوبات بالشهادة على الشهادة؛ فإن مبناها على الدراء، وتضييق جهات [الإثبات] (3) ، باشتراط احتياطٍ فيها قد يعسر مراعاتُه، فيترتب على عُسْره اندفاعُها، وعلى هذا القول يمتنع التوكيلُ باستيفاء القصاص في غيبة مستحقه؛ لأن الاستنابة في حكم البدل عن التعاطي، كما أن شهادة الفرع في حكم البدل عن شهادة الأصل.
__________
(1) من هنا إلى آخر الكتاب صار عندنا نسخة مساعدة وهي (ت 5) نسأل ملهمَ الصواب أن يكون معنا دائماً، وإليه نلجأ ونبرأ من حولنا وقوّتنا، سبحانه لا حول ولا قوة إلا به.
(2) في الأصل: " الأعداد ".
(3) في الأصل: " الإتيان ".(19/35)
والقول الثاني - إن العقوبات بجملتها تثبت بالشهادة على الشهادة، وهذا قول منقاس.
والقول الثالث - إن القصاص يثبت بالشهادة على الشهادة، دون العقوبات التي تثبت لله. وهذا الفرقُ بين الحقّين في اختصاص حق الله المتعرض للسقوط، ولذلك يقبل فيها الرجوع عن الإقرار، بخلاف القصاص. والمنصوص عليه للشافعي في القصاص أنه يثبت بالشهادة على الشهادة. ومن أجرى فيه قولاً كما ذكرناه، فهو مُخَرّج. وحد القذف في مقصود الفصل جارٍ مجرى القصاص.
ثم كتاب القاضي إلى القاضي في معنى الشهادة على الشهادة، سواء فرض تحمل الشهادة وإحالة القضاء على المكتوب إليه، أو فُرض القضاء من الكاتب وإحالة الاستيفاء إلى المكتوب إليه، فالأقوال خارجة، ولكن وجه خروجها أنا إن منعنا الشهادة على الشهادة، فلا معنى لسماع القاضي الشهادة على غائب، وإن فرضنا في القضاء. فلا شك أنه لا يفرض نفوذه؛ فإنه فرع سماع الشهادة، وإذا امتنع سماع الشهادة على الغائب، لم يتصور فصل القضاء.
هذا قولنا فيما يجري فيه الشهادة على الشهادة. فأما
الفصل الثاني
12153- فقد قال الشاقعي رضي الله عنه: " وإذا سمع الرجلان الرجل يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم ... إلى آخره " (1) .
فنقول: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: أشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يصر هذا السامع شاهداً على شهادته بهذا المقدار؛ فإن الإنسان قد يقول: أشهد على أن لفلان على فلان كذا، وهو يشير إلى عِدَةِ في منحةٍ يتعلق الوفاء بها بمكارم الأخلاق، وليس قوله هذا في مَفْصل القضاء، حتى يُحمل على تأدية
__________
(1) ر. المختصر: 5/258.(19/36)
الشهادة، وصرفِ القول إليها، ولا يُحمل إلا بثَبَتٍ، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه.
فإن قيل: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: لفلان عليّ ألفُ درهم، فله أن يتحمل الشهادة على إقراره بالمبلغ المذكور، ومن الممكن أن يقال: أراد المقِر بقوله إشارة إلى عِدَةٍ (1) سبقت منه في عطية، وهو على مقتضى الوفاء بالمكارم ملتَزِم بتوفيتها وتصديقها، كما ذكرنا مثله في لفظ الشهادة، وهذا السؤال فيه إشكال، وفي الفرق بين الإقرار ولفظ الشهادة عُسْرٌ.
وقد حكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا يجوز التحمل في الإقرار لاحتمال العِدَة، كما لا يجوز التحمل في الشهادة، فلا فرق عنده بينهما، ولا بد من قرينة تنضمّ إلى الإقرار، وتتضمن صرفَه نصّاً إلى الإخبار عن الاستحقاق، مثل أن يقول: " لفلان عليّ ألفٌ عن ضمانٍ أو ثمنٍ أو قيمةِ مُتْلَف "، كما لا بد من قرينة مع لفظ الشهادة حتى يصحَّ تحملُها.
وهذا الذي ذكره المروزي في الإقرار بعيد جداً، وإن كان في التسوية بينه وبين الشهادة اتجاه في القياس. وما زال الناس يتحملون الشهادات على الأقارير المطلقة في الديون والأعيان (2) ، فالوجه الفرق، وهو أن نقول: إذا قال القائل: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فقد يُطِلق هذا وليس هو على حد التثبت التام والتحقيق الجازم.
وإذا آل الأمر إلى إقامة الشهادة في مفصل القضاء، فإذ ذاك قد يتثبت، ولا يطلق ما كان يذكره في غير مفصل القضاء. فأما الإقرار الجازم، فلا يطلقه المرء إلا وهو على بصيرة فيه. هذا حكم العادة.
فالوجه إذا أردنا الفرق، أن نُضرب عن التعرض للعِدَة، وتقدير الوفاء بها؛ فإن ذلك بعيد (3) ، لا يحمل على مثله كلامٌ مطلق. ونردّ الفرق إلى ما ذكرناه من إمكان
__________
(1) في الأصل: " عدّة ". بتشديد الدال، وهو خطأ، فهي من الوَعْد، وليس من العدد.
(2) هنا خلل في ترتيب أوراق الأصل حيث وضعت ورقة في غير موضعها، بل وضعت مقلوبة، ولذا عدنا إلى ورقة 172 ي.
(3) في ت 2: " تعبد ".(19/37)
التوسع في قول الشاهد، وإحالة التثبت إلى مَفْصل القضاء، والإقرارُ لا يخرجه المرء على نفسه إلا وهو على نهاية التثبت فيه.
هذا وجه الفرق.
12154- ونعود فنقول: لو قال الشاهد: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم، وأنا أشهدك على شهادتي هذه، أو أنت يا سامع، فاشهد على شهادتي هذه، فالشاهد يتحمل الشهادة على الشهادة.
وإذا وقع التقييد الذي وصفناه، فهذا يسمى الاسترعاء، وهذا الذي أطلق الفقهاء أقوالهم بأن الاسترعاء لا بد منه في تحمل الشهادة على الشهادة، والاسترعاء استفعال من الرعاية، كأنه يقول للمتحمل: أقبل على رعاية شهادتي وتحمّلْها، وهذا المعنى يتأدى بألفاظ لا نحصرها، منها أن يقول: " أشهدك على شهادتي " ومنها أن يقول: " اشهد على شهادتي "، أو يقول: " إذا استُشْهدت على شهادتي، فقد أذنت لك في أن تشهد عليها ".
ثم أجمع أصحابنا على أن الاسترعاء في عينه ليس شرطاً، بل إذا جرى لفظ الشهادة من شاهد الأصل على وجهٍ لا يحتمل إلا الشهادة، فيصير السامع فرعاً له، وإن لم يصدر من جهته أمر أو إذنٌ في تحمل الشهادة.
وبيان ذلك أن من شهد عند القاضي، وكان بالحضرة سامعٌ لشهادته، ولم يتفق من القاضي القضاء بشهادته، فلمن سمعها أن يشهد على شهادته؛ فإنه أقامها فى مكان يُجرَّد فيها (1) قصدُ الشهادة، ولا يُفرَضُ فيها تردد، وهذا هو المطلوب.
ولو أشهد شاهدُ الأصل زيداً على شهادته، وأجرى الاسترعاءَ على حسب ما قدمناه، وكان عمرو بالحضرة، فلعمرو أن يتحمل الشهادة، كما لزيد المسترعى أن يتحملها؛ فإنه لما استرعى زيداً، فقد تبين تجريدَه القصدَ في الشهادة، وهو المطلوب، فيتحملها عمرو وإن لم يتعلق الاسترعاءُ به؛ فإن الإشهاد على الشهادة ليس استنابةً من شاهد الأصل ولا توكيلاً، وإنما الغرض منه الحصول على الشهادة في حقها
__________
(1) كذا في النسختين بضمير المؤنث، على قصد وتقدير القضية والدعوى، ونحوها.(19/38)
مقصودة مجردة مرقّاة عن احتمال الكلام الذي قد يجريه الإنسان من غير تثبت.
حتى قال الأصحاب: لو جرى تحكيم، وكان شاهد الأصل شهد في مجلس الحكم، فسمع شهادتَه من حضر، فله أن يشهد على شهادته، وللمحكَّم نفسِه أن يشهد على شهادته.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن المطلوب تجريدُ الشهادة، وإيرادُها خارجةً عن توهّم التوسّع والتجوز، ثم هي متحمَّلة كسائر الأقوال والأفعال (1) التي يتحملها الشهود إذا رأوا أو سمعوا.
12155- ولو قال شاهد الأصل " أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم من ثمن شراء أو أجرة إجارة أو جهةٍ أخرى من جهات اللزوم "، فهل للسامع أن يشهد على شهادته؟ من غير استرعاءٍ من جهته، ولا إقامةٍ منه لشهادته في مجلس قاضٍ أو محكّم. اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز تحمل الشهادة على شهادته لمجرد ما وصفناه، ومنهم من قال: يجوز تحمل الشهادة.
توجيه الوجهين: من جوّز التحمل، احتج بأن شاهد الأصل لما نص على جهة اللزوم، فقد صرح، وأخرج كلامَه عن احتمال العِدَة. فينبغي أن يجوز التحملُ.
ومن منع -وهو الأظهر- قال: إن زال احتمال الوفاء بالعِدَة بقي إمكان التجوز والتوسع، فإن الإنسان إنما يتثبت في مجلس القضاء أو في مجلس الاسترعاء.
ومما ذكره الأصحاب أنه لو قال: أشهد أن لفلان على فلان كذا، وهذه شهادة أبتّها ولا أتمارى فيها، فهل يجوز التحمل بهذا المقدار؟ فيه وجهان قريبان مما قدمنا الآن، لأنه وإن قال: هذه شهادة مبتوتة عندي، فقد يتثبت في إقامتها عند مسيس الحاجة إليها.
12156- ولم يختلف أصحابنا في أنه لا بد وأن يذكر لفظ الشهادة، حتى لو قال: أستيقن أن لفلان على فلان كذا، فاشهدوا على قولي، لم تجز الشهادة على شهادته، وهذا، كما أنا نشترط لفظ الشهادة في مفصل القضاء ولا نقيم غيرَه من الألفاظ
__________
(1) هذا هو الوجه الثاني من الورقة المقلوبة وهو يحتل رقم 171 ش.(19/39)
مقامه. حتى لو قال الشاهد في مجلس القضاء: أتيقن، أو أقطع، أو أعلم أن لفلان على فلان كذا، فلا يقبل القاضي شيئاً من ذلك حتى يأتي بلفظ الشهادة، ولا محمل لهذا إلا التعبد، وهو كالعدد، فإنه مرعي تعبداً.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فأقام اللفظ الصريح الذي لا تردد فيه مقام لفظ الشهادة، وهذا بعيد غيرُ معتد به. والمعنى الكلي في تعيين لفظٍ أنه إذا تبيّن تعيّنُه، لاح للناس أنه لا يؤتى به إلا إذا أريد غايةُ التثبت، فكأنه مخصوص بتحصيل هذا المقصود، ولو قام غيرُه مقامَه، لرجع الأمر إلى التلقّي من صيغ الألفاظ، وهي متعرضة للاحتمالات، وهذا وإن كان " يستدّ " (1) ، فليس فيه إشعار بما يقتضي تعيينَ لفظ الشهادة، فلا محمل لتعيين ذلك اللفظ دون غيره إلا التعبد.
12157- ثم لما ذكر الأصحاب وجه تحمل الشهادة على الشهادة، ذكروا كيفية إقامة الفرع الشهادةَ، وقالوا: الوجه أن يقول: " أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وأذن لي أن أشهد إذا استشهدت، وأنا الآن أشهد على شهادته " فيحكي ما جرى على هذا الوجه.
ولو كان تَحمَّلَ الشهادةَ لجريانها في مجلس القضاء، فالأولى أن يذكر ما جرى له على وجهه، وإنما رأينا حكايةَ الحال لما يتطرق (2) إلى ذلك من الإشكال، فقد يتحمل الإنسانُ الشهادة على شهادة الأصل، حيث لا يجوز له تحملها، كما سبق التفصيل في كيفية التحمل، وإذا تطرق رَيْبٌ، لم يدفعه إلا التفصيل الذي مهدناه.
وإن قال الفرع: أشهد على شهادة فلان، ووصف شهادة فلان، [وكان] (3) عالماً بكيفية تحمل الشهادة، ووثق القاضي به، ورآه مستقلاً في مثل ذلك، فلو أراد أن يكتفي، جاز له ذلك، والغالب على الناس الجهلُ بتفاصيلِ التحملِ، وبحسب ذلك يتطرق الريبُ ويتحتم طلب التفصيل في معظم الناس. نعم، فيما ذكرناه طرف من
__________
(1) في الأصل: " يستند ". والمثبت من (ت 5) .
(2) نعود من هنا إلى الموضع الذي تركناه من صفحات الأصل بعد أن استوعبنا الورقة المنقولة من مكانها.
(3) في الأصل: " كان " (بدون الواو) .(19/40)
الإطناب يحصل الاستقلال دونه؛ فإنه إذا قال: " أشهدني فلان على شهادته "، أو قال لي: " اشهد على شهادتي " كفى هذا مع تفصيل شهادة الأصل، فإنها المقصودة.
وقد نجز الغرض في الاسترعاء. فأما
الفصل الثالث
12158- فمضمونه الكلامُ فيما يطرأ على الأصول من موانع الشهادة بعد تحمل الفروع.
فنقول أولاً: إذا تحمل الفروع الشهادة في حقها، ثم مات الأصول، قام الفروع بإقامة الشهادة، وإنما أثبت الشرع الشهادة على الشهادة؛ حتى تستمر (1) الحجة، وإن غاب شاهد الأصل، وغابت الحجة من جهته.
وإن فسق الأصل قبل أن يقيم الفرع الشهادة، لم يُقمها الفرعُ، ولو أقامها، لم تُقبل منه؛ فإن الغرض من شهادة الفرع نقلُ شهادة الأصل، والتقدير كأن شاهد الأصل هو القائل، ولو أراد الأصل أن يقيم الشهادة على (2) فسقه، لم يقبل منه.
وهذا يُحْوِجُ إلى مزيد معنىً، وهو أن الفسق إذا ظهر، أورث رَيْباً ظاهراً منعطِفاً على ما تقدم، ثم لا ضبط له في جهة التقدم، فيُحدِث (3) رَيْباً منعطفاً على تحمل الشهادة، هذا هو المعتمد فيما ذكرناه.
ويلتحق بالفسق طريان العداوة على شاهد الأصل، فلو أظهر عداوة مع المشهود عليه، لم تقبل شهادة الفرع عليه، لما ذكرناه، فظهور العداوة يدلّ على غوائلَ سابقة، وضمائر مستكنَّة، وتقرير هذا في العداوة كما ذكرنا في الفسق.
12159- وألحق أئمتنا الردةَ إذا طرأت على شاهد الأصل بالفسق والعداوةِ، ووجه
__________
(1) ت 5: "تسمى".
(2) على: بمعنى مع.
(3) ت 5: " فيورث ".(19/41)
التحاقها بهما يقرب مما ذكرناه؛ فإن الردة إذا هي ظهرت، دلت على خُبثٍ في العقد متقدم.
وفي هذا المقام سؤال: وهو أن المقذوف إذا زنى بعد ما كان ظاهرُه الإحصانَ والعفةَ عن الزنا، فالنص أن الحد يسقط عن القاذف، إذا لم يتفق إقامته حتى جرى ما جرى، ولو ارتد المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف، فالحد مقام عليه، وقد ذكرنا ترتيب المذهب واختلافَ الأصحاب في موضعه.
ومقتضى النص الفرق بين طريان ما يناقض العفة وبين طريان الردة، وقد سوّينا بين الفسق وطريان الردة على شاهد الأصل، فما الوجه؟
قلنا: لا ننكر أن طلب الفرق بين الردة وطريان الزنا [في المقذوف] (1) عسر.
ولكن الأصل ثَمَّ أنا لا نعتبر في تبرئة المقذوف طلبَ باطنه، ولا نقول: يتوقف إقامة الحد على القاذف على تزكية المزكّين للمقذوف عن الزنا، ووصفهِ بالعفةِ عنها، وأمورُ الشهادات على طلب البواطن، والتوقفُ فيها بالريب؛ فالأصل ممتاز عن الأصل، وطريان الردة في إيراث رَيْب منعطفٍ كطريان الفسق، وإذا استويا في هذا، فما ذكرناه [مستدٌّ] (2) على قاعدة الشهادة، فإن كان من إشكال، ففي مسألة القذف، ولسنا ننكر أنها تزداد إشكالاً، وما نحن فيه الآن من حكم الشهادة [مستدٌّ] (3) لا غموض فيه، والقياس ثَم أن طريان الزنا لا يؤثر، كما صار إليه المزني وطوائفُ من أصحابنا، لما حققناه من امتياز الأصل عن الأصل.
12160- ولو جُنّ شاهد الأصل، فقد خرج بجنونه عن الشهادة، فهل يشهد الفرع تعويلاً على التحمل السابق؟ وكذلك لو عمي، وعسُر منه إقامة الشهادة، لافتقارها إلى الإشارة إلى المشهود عليه، فالذي يجب التنبه قبل الخوض في التفصيل، أن الجنون لا ينعطف على ما تقدم، وطريانه لا يورث ريباً في العقل مستنداً إلى حالة
__________
(1) في الأصل: " والمقذوف ".
(2) في النسختين: " مستمر ".
(3) في الأصل، وفي (ت 5) : " مستمر ". والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى: مستقيم لا غموض فيه.(19/42)
تحمل الشهادة كالموت، والعمى بهذه المثابة.
فالذي حصّلته من كلام شيخي وكلام الصيدلاني ثلاثة أوجه:
أحدها - أن الفرع لا يشهد إذا طرأ الجنون أو العمى فإنهما مانعان يتوقع زوالهما، بخلاف الموت.
والثاني -وهو المذهب- أن الفرع يشهد، كما لو مات الأصل، وإنما المحذور من الطوارىء اقتضاؤها رَيْباً منعطِفاً على حالة التحمل، وأما توقع الزوال في الطوارىء فلا خير فيه؛ فإن الفرع يشهد لغيبة الأصل ومرضه وإن كانا يزولان.
والوجه الثالث - أن الفرع لا يشهد إذا جُنّ الأصل؛ لأن شهادته سقطت بالكلية، وليس سقوطها بالجنون كانتهائها بالموت، فكأن الفرع يخلف الميت، كما يخلف الوارث الموروث، وفَرْقٌ في قاعدة الفقه بين الانتهاء وبين الانقطاع.
فأما إذا عمي الأصل، فيشهد الفرع؛ فإن العمى لم يخرجه عن كونه من أهل الشهادة على الجملة وإن لم يكن من أهل إقامة هذه الشهادة. وقد ذكر الصيدلاني هذا المعنى، ودلّ ذكره له على الفرق بين العمى والجنون. وتعلقه بهذا المعنى عُمْدَتي في إجراء هذه الوجوه.
والأصح الذي يجب القطع به، ولا يحتمل قانون المذهب غيرَه، أن طريان العمى والجنون لا يقطعان شهادة الفرع كطريان الموت، وما عدا ذلك يُخبّط المذهب ويشوّش الأصل.
فأما إذا أغمي على الأصل - وهو حاضر، فالفرع لا يشهد؛ فإن الإغماء إلى الزوال، فينتظر زواله. وإن كان غائباً، فأُخْبرنا بأنه أغمي عليه، فلا أثر له بحال، وهو بمثابة مرض يعرض ويزول.
التفريع:
12161- إن حكمنا بأن شهادة الفرع تنقطع بطريان الجنون والعمى، فلو أبصر الأصلُ بعد العمى، وأفاق عن الجنون، فالمذهب على هذا الوجه أنه لا بد من إعادة تحمل الشهادة، وكأن التحملَ الأولَ لم يكن؛ فإنا قضينا بالانقطاع، فصار هذا كما لو جُنَّ الموكِّل، وجرى الحكم بانعزال الوكيل، فإذا أفاق، لم تعد الوكالة.(19/43)
ومن أصحابنا من قال: لا تنقطع شهادة الفرع بل يمتنع، فإذا زال الجنون والعمى، فشهادة الفرع مستمرة، وهذا ليس بشيء. والوجه الذي قبله - وإن كان قياساً، فلست أعتد به لضعف أصله.
ولو فسق الأصل، وثبت أن الفرع لا يؤدي الشهادة قطعاً، فلو عاد الأصل إلى العدالة، واستبرأنا حاله، فهو على الشهادة الأصلية، والفرع لا يشهد تعويلاً على التحمل الأول؛ لأن الرَّيْبَ قد انعطف عليه؛ وذلك الريب لا يزول بزوال فسق الأصل؛ فإن العدالة إن كانت تقطع الفسق الطارىء، فلا تقطع الرَّيب المتقدم على الفسق؛ فالوجه أن يجدد تحملاً. وهذا هو الذي لا يجوز غيره.
وأبعد بعض الأصحاب، فاكتفى بالتحمل الأول. ولا يعتد بمثل هذا؛ فإنه غفلة عن الأصل المعتبر، وغباوةٌ عن الدَّرْك.
12162- ومما يتعلق بما نحن فيه أن الفرع لو أقام الشهادة في مجلس القضاء، ونفذ القضاء بشهادته، ثم طرأت التغايير على الأصل، فلا نظر إلى ما يطرأ بعد نفوذ القضاء.
ولو أقام الفرع الشهادة، ففسق الأصل قبل نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا يقضي القاضي بشهادة الفرع، كما لو فسق الشاهد نفسُه قبل القضاء بشهادته، وتعليل ذلك بيّن، لا إشكال فيه.
ولو شهد الفرع، فكذّبه الأصل قبل القضاء، لم يقْضِ القاضي بشهادة الفرع، وإن كان عدلاً رِضاً.
ولو حضر الأصلُ قبل القضاء بشهادة الفرع، فلا خلاف أن القاضي لا يقضي بشهادة الفرع، ولكن يستحضر الأصلَ ليشهد، ولا يكتفي بأن يصدِّق الأصلُ الفرعَ، بل لا بد من إنشاء الشهادة من الأصل.
ولو حضر شاهد الأصل بعد نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا أثر لحضوره، ولو حضر بعد القضاء، وكذب الشاهدَ على شهادته، فلا يُلتفت إلى تكذيبه بعد إبرام القضاء.(19/44)
ولو قامت بيّنه على أن الأصل كذّب الفرع قبل نفوذ القضاء؛ فالقضاء منقوض؛ فإن ما أثبتته البيّنة من تقدم تكذيب الأصل للفرع بمثابة ما يسمعه القاضي من تكذيبه إياه قبل القضاء، وليس القضاء عقداً [يبرم] (1) ويحلّ، والمعنيّ بالنقض تبيّن الأمر، وسقوط ما كان استناداً (2) . وسيأتي إن شاء الله قولان في أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين، ثم قامت بينة على فسقهما حالة القضاء، فهل يُحكمُ بنقض القضاء أم لا؟
فإذا قامت بيّنة على أن الأصل كذّب الفرع قبل القضاء، فالقضاء منتقض، قولاً واحداً.
وقد يعسر الفرق في ذلك، ونحن نعيد هذا الحكم من هذا الباب عند ذكرنا ثبوت الفسق مستنداً إلى القضاء، إن شاء الله عز وجل.
وقد نجز الكلام فيما يطرأ على شهود الأصل من الطوارىء. فأما
الفصل الرابع
الكلام في العدد. ونذكر فيه الكلام في صفة الفروع.
12163- فأما العدد: فقد قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد رجلان على شهادة رجلين، فقد رأيت كثيراً من الحكام والمفتين يجيزه ... إلى آخره " (3) .
فنقول: إذا كان شاهدُ الأصل اثنين، فشهد شاهدان على شهادة أحدهما، وتحملاها، فلو تحملا شهادة الشاهد الثاني؛ فهل يثبت الشقان بشهادتهما؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو الأقيس واختيار أبي حنيفة (4) - أنه يثبت. وهو اختيار المزني أيضاً. ووجهه أن العدلين شهادتهم بيّنة، فنقلهما شهادتين من شاهدين في
__________
(1) في الأصل: " يرام "، وفي (ت 5) : " يدام ". والمثبت من تصرف المحقق.
(2) أي يسقط مستنداً إلى أصل كان موجوداً قبله يمنع صحته، فالاستناد واحد من طرق إثبات الأحكام، وقد بيناه من قبل، وأشرنا إليه مراراً.
(3) ر. المختصر: 5/258.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 333، مختصر اختلاف العلماء: 3/361 مسألة: 1496، المبسوط: 16/115.(19/45)
خصومة واحدة، كنقلهما شهادات في خصومات.
والقول الثاني - أنهما إذا تحملا شهادة أحد الشاهدين، لم يُنشئا غيرها، ولا بد من شاهدين آخرين على شهادة الشاهد الثاني؛ فإنهما قاما مقام أحد الشاهدين، فلا ينبغي أن يتعرضا للشق الآخر، فإن من احتيج إلى شهادته في إثبات شق شهادة، لم يثبت بشهادته الشق الآخر، كما لو شهد واحد على طريق الأصل، ثم أراد أن يشهد مع شاهد آخر على طريق الفرع على شهادة الثاني، فإن ذلك ممتنع.
فإن قيل: لو شهد على شهادة أحد الشاهدين أربعة من الذكور العدول، ثم هم بأعيانهم شهدوا على شهادة الشاهد الثاني؛ فما ترون في ذلك؟
قلنا: إن فرّعنا على القول المختار للمزني، فلا إشكال في ثبوت شهادة الأصل؛ فإنا إذا أثبتنا ذلك بشاهدين، فلا امتناع في إثباته بأربعة، وإن فرّعنا على القول الآخر، وهو: أن من استقل بأحد الشقين لم ينتهض في الثاني - ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - لا تثبت شهادتهما بشهادة الأربعة على كل واحد منهما، فإنهم وإن كثروا، قائمون مقام شاهد واحد، فينبغي ألا يقوموا مقام الشاهد الآخر.
والوجه الثاني - تثبت شهادتهما، كما لو شهد اثنان على أحدهما وشهد اثنان على الآخر، وهذا هو الذي لا يجوز غيره؛ فإنه إذا شهد أربعة على الشهادتين، فقد شهد على كل شهادة شاهدان.
ولا خلاف أنه لو شهد شاهدان على إحدى الشهادتين، وشاهدان على الشهادة الأخرى، تثبت الشهادتان؛ فلا ضرر في تعرض الكل للشهادتين.
فأما من شهد أصلاً، وشهد مع شاهد آخر على شهادة أصل آخر، فلا تثبت شهادة ذلك الأصل بهذه الطريقة؛ فإن ذلك الأصل الشاهدَ بنفسه، والشاهدَ على شهادة صاحبه، يريد أن يقوم بثلاثة أرباع الشهادة في محل النزاع. وهذا ممتنع لا سبيل إليه.
12164- ومما يتفرع على هذه القاعدة، أنا إذا قلنا: الشهادة على الشهادة مسموعة في الزنا، فكيف السبيل إلى إثبات شهادات الشهود الأربعة على الزنا؟(19/46)
هذا يبتني على أصلين: أحدهما - أن من يثبت به شق شهادة، هل يثبت به الشق الآخر؟
والثاني - أن الإقرار بالزنا، هل يثبت بشاهدين، أم لا بد من أربعة؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما.
فإن قلنا: الإقرار بالزنا يثبت باثنين، فنقول: كل شاهد بمثابة إقرار بالزنا؛ فإنه قول يتضمن الخبر عن الزنا، فإذاً، إن اكتفينا باثنين، وقلنا: من ثبت به شق شهادة، ثبت به الشق الآخر، فتثبت شهادة الأصول الأربعة بشاهدين عدلين ينقلان شهادة كل واحد من الأربعة الأصول.
وإن قلنا: من يثبت به شق شهادة، فلا يثبت به الشق الآخر، والإقرار يثبت باثنين، فلا بد من ثمانية، كل اثنين منهم ينقل شهادة واحد من الأصول.
وإن قلنا: الإقرار بالزنا لا يثبت إلا بأربعة. ومن ثبت به شق يجوز أن يثبت به شق آخر، فلا بد من أربعة ينقلون شهادة الأصول.
وإن قلنا: الإقرار لا يثبت إلا بأربعة، ومن ثبت به شق لا يثبت به شق آخر، فلا بد من ستةَ عشرَ، كل أربعة منهم ينقلون شهادة واحد من الشهود الأربعة، فينتظم إذاً أربعة أقاويل:
أحدها - تثبت باثنين.
والثاني - بأربعة.
والثالث - بثمانية.
والرابع - بستة عشر.
فتجري الأقاويل على التضعيف الطبيعي من الأصلين المقدمين.
ولو شهد على المال رجل وامرأتان، وأردنا إثباتَ شهادةِ الأصول بالفروع؛ فعلى قولٍ: يكفي اثنان ينقلان شهادةَ كل واحد من الرجل والمرأتين، وعلى قول: لا بد من ستة من العدول، ينقل كل اثنين منهم شهادة واحد من الرجل والمرأتين، ولا أحد في التفريغ على هذا القول يصير إلى الاكتفاء بأربعة؛ ذهاباً إلى أن المرأتين بمثابة(19/47)
رجل، ثم يكفي في رجل عدلان. هذا ما لا مصير إليه.
والنظر إلى عدد الأقوال والشهادات، وهي ثلاثة، فلينقل كلَّ قولٍ عدلان. هذا منتهى الغرض في عدد الفروع.
12165- فأما الكلام في صفة الفروع؛ فلم يختلف أصحابنا في أن الفروع يجب أن يكونوا ذكوراً وإن كان المطلوب بالشهادة إثباتَ مال؛ لأن الفروع لا يتعرضون للمال.
وإنما يتعرضون لنقل أقوال شهود الأصل، فتعين اعتبار الذكورة فيهم من كل وجه، من غير نظر إلى المطلوب بشهادة الأصول. وشهادة الأصول -فيما ذكرناه- تضاهي الوكالة على المال، فإنها لا تثبت إلا بعدلين، وإن كانت الوكالة متعلقة بالمال. فأما
الفصل الخامس
12166- فمضمونه ذكر الأعذار التي يتعذر بها الوصول إلى شهادة الأصول.
فمنها: الغَيْبة. وهي مفصلة، فإن كان الأصول على مسافة العدوى، فلا تسمع شهادة الفروع، كما لو كان الأصول حضوراً، فإن كان الأصول على مسافة القصر، سمعنا شهادة الفروع وفاقاً.
وإن كانوا فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان، وقد أدرنا هذا الترتيب في أحكامٍ.
12167 - وأما مرض الأصول، مع كونهم في البلدة، فقد أطلق الأصحاب القول بأن للفروع أن يشهدوا.
فنقول: أولاً - للأصل أن يتخلف عن مجلس القضاء بالمرض، ولسنا نشترط أن يكون بحيث لا يتأتى منه الحضور أصلاً، بل إذا كان يناله مشقة ظاهرة، لم يحضر.
وكيف تقريب القول فيها؟
قال قائلون من أئمتنا: المرض الذي يَسوغ التخلف عن الجمعة لأجله يجوز تخلف شاهد الأصل بسببه، ولعلنا ذكرنا في ذلك تقريباً في كتاب الجمعة، ولا ينتهي الأمر إلى اعتبار خوفٍ على النفس، أو ازدياد في المرض يُرْقَبُ إفضاؤه إلى الخوف، وهذا(19/48)
بمثابة قولنا في المرض الذي يجوز الإفطار به في نهار رمضان، وقد ذكرنا أنا لا نرعى فيما يجوز الإفطار به الخوفَ؛ لأنه قرينة السفر، كذلك لشاهد الأصل أن يمتنع لعذر السفر.
فالذي يجب تحصيله أن ينال المريض مشقةٌ ظاهرة، وألمٌ مُقلق يعسر الاستقلال بحمله. هذا قولنا في المرض.
وكل ما يجوز ترك الجمعة به من خوفٍ من غريم أو ما في معناه، فيجوز الامتناع عن الحضور بمثله.
فإذا تمهّد ما ذكرناه، فقد أطلق الأصحاب أن الفروع يشهدون، وكان من الممكن أن يحضر القاضي مكان شاهد الأصل، ويُصغي إلى شهادته؛ ولكن لم أر أحداً من أصحابنا يُلزم ذلك، أو يُشبّب بذكر خلافٍ فيه، وكذلك لم يوجبوا أن يستخلف (1) من يحضر شاهدَ الأصل.
وإذا وقفت القضية (2) على الإشارة إلى عينٍ، فعلى القاضي أن يَحْضُرَها (3 لتمييز الشهود، أو يستخلف من يحضرها 3) لذلك، والسبب فيه أن القضاء غير ممكن من غير تعيين، وفي ترك الحضور تعطيل الحكم. وامتناعُه عن سماع شهادة الفروع مع حضور الأصول من باب الاحتياط، وإلا إذا كان الفروع عدولاً، فتحصل الثقة بنقلهم، فلا نكلف القاضيَ الترددَ على الدورِ والمساكن، مع ما فيه من التبذل وحطّ منصب الولاية لمكان الاحتياط. ولا خلاف أن رواية الراوي مقبولةٌ، وشيخُه في البلد، وكل ما لم يثبت فيه توقيفٌ شرعي تعبدي يميّز الشهادة فيه عن الرواية، فلا يبعد في وجه الرأي التسويةُ بينهما.
والقدر الثابت أن شهادة الفروع مقيدة بحال عذرٍ يطرأ على الأصل، فهذا منتهى الغرض في ذلك، لم يتعدّه حفظي ونظري.
__________
(1) يستخلف: أي لا يجب على القاضي أن يستخلف نائباً عنه يحضر شاهدَ المريض ليسمع شهادته.
(2) في (ت 5) : " الفقيه ".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 5) .(19/49)
فرع:
12168- شهود الفرع إذا عدّلوا الأصول؛ وكانوا من أهل التعديل، تثبت عدالة الأصول بتعديلهم، وتثبت الشهادة بنقلهم، وإن لم يشهد الفروع على تعديل الأصول، جاز، فتثبت عدالة الأصول بعلم القاضي أو بشهادة شهودٍ آخرين.
وقال أبو حنيفة (1) : لا تصح شهادة الفروع ما لم يعدّلوا أصولَهم، وهذا لا حاصل له؛ فإن عدالة الأصول ونقلَ شهادتهم أمران متغايران، لا يشترط اجتماعهما في حجة. وقد ذكرنا أن المدعي إذا كان يحلف مع شاهد، فحق عليه أن يصدق شاهده، وذاك لانتظام الشاهد واليمين، ولا يشترط ثَمَّ أيضاً أن يحلف على عدالته، بل يكفي أن يحلف على صدقه، وعدالة ذلك الشاهد تُتَلقى من تزكية المزكين، كما ذكرنا في شهادة الأصول مع شهادة الفروع، فلا فرق إذاً بين البابين فيما يتغلق بالتعديل، وإنما افتراقهما في إلزام المدعي تصديقَ شاهده، لأنه عارفٌ فيما زعم بصدقه، ويستحيل أن يُكلفَ الفروعُ تصديقَ شهود الأصل.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 336، فتح القدير: 6/529.(19/50)
باب الشهادة على الحدود
قال: " وإذا شهدوا على رجلٍ بالزنا ... إلى آخره " (1) .
12169- مقصود الفصل أن شهود الزنا لا بد وأن يتوخَّوْا بحقيقة الحال، ويذكروا إيلاجَْ الحشفة في الفرج، ولا تكفي المكاني (2) ، وقد ذكرنا هذا في الحدود.
وهل يشترط ذلك في الإقرار بالزنا؟ فيه خلاف مذكور في الحدود، ونفس ذكر الزنا من القاذف، قذفٌ صريح. فإذاً هذه ثلاث مراتب.
وإنما لم نشترط التصريح في القذف؛ لأن الجناية على العرض تحصل بالنسبة إلى الزنا، ثم سيأتي في الدعاوى فصل فيما يُبيّن ويشترطُ فيه نهاية الكشف، وفيما يكتفى فيه بإطلاق الاسم، وثَمَّ نُعيد في التقاسيم ما ذكرناه الآن.
قال: " ولو شهد أربعة، اثنان منهم ... إلى آخره (3) ". وهذا مما تكرر في الحدود، فإذا شهد اثنان على أنه زنى بفلانة في بيت عيّناه، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر، فلا يثبت الزنا، والكلام في أن الشهود قذفة أم لا؟ وكل ذلك مما مضى.
ولو اختلفت الشهادات في تعيين زوايا بيت واحد، فلا يثبت الزنا عندنا خلافاً لأبي حنيفة (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/259.
(2) المكاني: أي الكنايات.
(3) ر. المختصر: الموضع السابق نفسه.
(4) ر. فتح القدير: 5/63. روضة القضاة للسمناني: 2/1298.(19/51)
فصل
قال: " ولو ادعى على رجل من أهل الجهالة ... إلى آخره " (1) .
12170- مقصود الفصل الكلامُ في تسبيب القاضي إلى درء الحد، قال صاحب التقريب: إذا رُفع إلى الإمام من يتهم بالسرقة أو غيرها من موجبات الحد، فللقاضي أن يعرّض بما يتضمن حملَ المرفوع إلى مجلسه على إنكار السرقة، حتى لا تثبت الحدود، وذلك ثابت في الحديث، فإنه عليه السلام قال للمرفوع إليه بتهمة السرقة: " ما إخالك سرقت " وفي بعض الألفاظ " أسرقت؟ قل لا! " (2) قال ذلك سراً.
ثم قال صاحب التقريب: ينبغي أن يكون التعريض بما يُسقط الحد، ولا يجوز أن يكون التعريض بما يدرأ الغرم؛ فإن التعريض فيما يتعلق بالأموال غير سائغ.
وهذا إذا لم يبتدر إلى الإقرار.
فإن أقر صريحاً، فهل يعرّض بالرجوع عن الإقرار؟ الذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يعرّض؛ فإن الاحتيال (3) ينبغي أن يكون في منع الثبوت، فأما في السقوط بعد الثبوت فلا.
ومن أصحابنا من قال: يجوز التعرض للرجوع عن الإقرار وتمسك بترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً بعد إقراره بالزنا في القصة المشهورة، وهذا غير صحيح؛ لأن الرسول عليه السلام كان يستريب في عقله؛ إذ رآه أشعث أغبر فردّده لذلك، وليس في قصته تشبيبٌ بتلقينه الرجوع عن الإقرار.
ثم ظاهر ما ذكره الأصحاب أن المسوَّغ -قبل الثبوت وبعده على أحد الوجهين- التعريضُ، فأما التصريح فلا وجه له، وهو رفع لحجاب الهيبة، وتصريح بتعليم الكذب. فإذا كنا نُحرم التصريح بالخِطبة ونبيح التعريض بها، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/259.
(2) سبق هذا الحديث في السرقة.
(3) ت 5: " الاختيار ".(19/52)
وإن صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع إلى مجلسه: (قل: لا!) فهذا يدل على جواز التصريح بالتلقين، وغالب ظني أن هذه الزيادة لم ينقلها الأثبات.
قال صاحب التقريب: التعريض المتفق عليه قبل الثبوت، كما بيّنّا، وفي التعريض بعد الإقرار الوجهان، فلو قامت بيّنة بالزنا أو السرقة، فالتعريض المتعلق بما يُسقط الحد بعد قيام البيّنة -كدعوى الشركة أو الملك- فيه وجهان مرتّبان على التعريض، وقد ثبت الحد بالإقرار، وصورة البيّنة أولى بالمنع، والفرق لائح.
والأصح -من كل ما ذكرناه- اختصاص التعريض بما قبل الثبوت.
ثم ذلك التعريض جائز أو مستحب؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأئمة.
فصل
قال: " ولو شهد أنه سرق من هذا البيت كبْشاً ... إلى آخره " (1) .
12171- ذكر وجوهاً في اختلاف شهادة الشاهدين، وقد تقدم جميعها. منها: أنه لو شهد شاهد أنه سرق غدوة، وشهد الثاني أنه سرق بالعشي، فالشهادتان مختلفتان، كذلك إذا اختُلف في المكان، أو صفة المسروق، فقال أحدهما: سرق [كبشاً] (2) أسود، وقال الثاني: سرق [كبشاً] (2) أبيض، فلا تثبت السرقة.
ولأبي حنيفة (3) خبط في الألوان، ونظر دقيق في السواد والبياض، والصفرة والحمرة، ولسنا للخوض فيها.
__________
(1) ر. المختصر: 5/259.
(2) في نسخة الأصل " كِيِساً " بالياء والسين المهملة، ويبدو أنه تصحيف قديم، قال العمراني: " ومن أصحابنا من صحّف وقال: أراد الشافعي كيساً، وهذا خطأ، بل أراد كبشاً بالشين المعجمة، لأنه قال في الأم: " كبشاً أقرن " والحكم لا يختلف بالكبش والكيس، إلا أن الغالب من قيمة الكيس أنه لا يبلغ نصاباً " (ر. البيان: 13/81) .
(3) ر. المبسوط: 9/162، فتح القدير: 6/509.(19/53)
12172- ثم قال: " ولو شهد اثنان أنه سرق ثوب كذا ... إلى آخره " (1) .
صورة المسألة: أن يشهد اثنان أنه سرق ثوباً وصفاه، وقيمته ربع دينار، وشهد آخران أنه سرق ذلك الئوبَ بعينه، وأن قيمته أقل من ربع دينار؛ أما القطع؛ فلا يجب؛ فإن ما جرى من اختلاف البيّنتين في أن قيمة المسروق هل بلغت نصاباً؛ من أقوى ما تُدرأ به الحدود. وأما الغُرم، فلا يثبت عندنا إلا أقل القيمتين.
وقال أبو حنيفة (2) : يثبت أكثر القيمتين. واعتل بأن المكثر عرف زيادة خصلة، غفل عنها المقلل.
قلنا: ربما عرف المقلل عيباً يوجب نقصان القيمة، غفل عنه المكثر، وهذا أولى؛ فإن الظاهر السلامة فربما بنى المكثر على ظاهر السلامة، واستدرك المقلل صفة خافية منقصة.
ولو اتفقا على الصفات، وصرحا بأنه لم يستقل واحد منا بمعرفة صفة لم يدركها آخر، وردوا النزاع إلى القيمةِ نفسِها، فلا يجب عندنا إلا الأقل أيضاً، حملاً على براءة الذمة.
فرع:
12173- ذكره صاحب التلخيص (3) : إذا ادعى الرجل ألفَ درهم على رجل، وأقام شاهداً أن له عليه ألفاً، وشهد شاهد آخر أن عليه ألفَ درهم قد قضاه، فلا يثبت في هذه الصورة الألف أصلاً؛ فإن الشاهد الثاني لما قال: عليه ألف ثم قضاه، فقد تناقض قوله، وكيف يكون عليه ألف وقد قضاه، ولكن الشاهد الذي جزم شهادته بالألف ولم يُناقِضْ [قولَه] (4) شهادتُه ثابتة، فلو أراد أن يحلف مع ذلك الشاهد، ويُثبت المال، جاز.
وبمثله لو شهد أحدهما أنه أقر بألف، وقال الثاني: أقر بألف، لكنه قضاه، ففي هذه المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره:
__________
(1) ر. المختصر: 5/259.
(2) لم نصل إلى هذه المسألة، بهذا التصوير، في كتب الأحناف التي راجعناها.
(3) ر. التلخيص: 652.
(4) زيادة من (ت 5) .(19/54)
أحدهما - أنه يثبت الألف بشهادتهما، وقد يشهد شاهد واحد بالقضاء، فإن أراد الخصم أن يحلف معه ليُثبت القضاء بشاهد ويمين، جاز. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت بشهادتهما شيء، فإنهما لم يجتمعا على ثبوت الألف، وليس الغرض إثبات لفظ الإقرار، وإنما المقصود إثبات معناه.
ولو شهد شاهدان أن عليه ألفاً، ثم قال أحدهما بعد يوم مثلاً، قبل أن يقضي القاضي بالبينة: قد كان المشهود عليه قضى الدين؛ فهذا رجوع منه عن شهادته، فلا يحكم الحاكم بالشهادة.
ولو شهدا أن له عليه ألف درهم، ثم قال أحدهما قبل القضاء: قد قضى الألف بعد شهادتي؛ فهل يقضي القاضي بالدين؟ فعلى وجهين: أحدهما - يقضي به، ولا حكم لقوله المجرد: قد قضى، إلا أن يحلف الخصم المشهود عليه معه.
والصورة التي تقدمت على هذه فيه إذا قال أحد الشاهدين: قد كان قضى الألف قبل لشهادتي، وتبيّنت ذلك، فيكون هذا رجوعاً كما قدمناه.
ولو قال ابتداء: أقر فلان بألف، ثم قال أحدهما بعد ذلك، وقبل القضاء: قد قضى ما أقر به بعد لشهادتنا، فهل يقضي القاضي بثبوت الدين؟ في المسألة وجهان مرتّبان على الوجهين فيه إذا شهدا على الإقرار، وقال أحدهما: قد قضى، وهذه الصورة أولى بثبوت الدين فيها من صورة الاقتران، والفرق ظاهر. والله أعلم.
***(19/55)
باب الرجوع عن الشهادة
قال: " الرجوع عن الشهادة ضربان ... إلى آخره " (1) .
12174- الكلام في الرجوع يتعلق بثلاثة فصول:
أحدها - في الشهادة على موجبات العقوبات إذا فُرض الرجوع عنها.
والثاني - في الرجوع عن الشهادة على ما لا مستدرك له، كالعَتاق والطلاق.
والثالث - في الرجوع عن الشهادة على الأموال. فأما
الفصل الأول
12175- فهو مثل الشهادة على قتلى يوجب القصاص، أو زنىً يوجب الرجم، أو الجلد، ثم يفرض موت المجلود المحدود، ومن الفصل الشهادة على السرقة الموجبة للقطع.
والذي يقتضيه الترتيب أن نذكر الرجوع قبل القضاء، ثم نذكر الرجوع بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ثم نذكر الرجوع بعد الاستيفاء.
فأما الرجوع قبل القضاء، فمبطلٌ للشهادة. والذي نذكر في هذا القسم، أنهم إذا شهدوا على الزنا، ثم رجعوا، فهم قذفة يحدون، فسقة يردون، ثم الكلام في [الاختبار] (2) ، والاستبراء على ما نفصل.
ولو قالوا كما (3) رجعوا عن شهاداتهم في الزنا وغيرِه: ما تعمدنا، ولكن
__________
(1) ر. المختصر: 5/259.
(2) في النسختين: " الاختيار ".
(3) كما: بمعنى عندما. وهي في (ت 5) : (لِمَا) .(19/56)
أخطأنا، فالذي صدر منهم لا يوجب جرحَهم في غير الشهادة على الزنا. فأما إذا رجع شهود الزنا، وقالوا: أخطأنا؛ فهل يكونون قذفة؟ قد ذكرنا أنه إذا نقص العدد، ففي كونهم قذفة قولان، فإذا كمل العدد في مسألتنا، وقالوا: أخطأنا، احتَمَل خلافاً، ولكنه مرتب على نقصان العدد؛ فإنه يتطرق إليهم الملام في ترك التحفظ والمبالغة فيه، وإن كان المتحفظ قد يغلط، وأما نقصان العدد، فلا يتجه فيه نسبة الشاهدين إلى ما يوجب لوماً، والامتناع من غيرهم، فإن قلنا: إنهم قذفة، فترد شهادتهم، وإن قلنا: لا حدّ عليهما، فلا تردّ شهادتهم.
فرع:
12176- لو شهد عند القاضي شاهدان، فيما نحن فيه أو في غيره من القضايا، ثم قالا للقاضي - قبل القضاء: توقف! حتى نتثبت في شهادتنا، فلا شك أنه يتوقف، فلو عادا، وقالا: تحققنا ونحن مصران على الشهادة، فهل يحكم؟ فعلى وجهين:
أحدهما - يحكم؛ لأنهما لم يرجعا بل توقفا، ثم استمرا.
والثاني - لا يحكم؛ لأن ما قالاه أورث ريبة في الشهادة.
ولا خلاف أنهما لو رجعا، ثم عادا، فقالا: غلطنا في الرجوع، فلا يقبل منهما، فإن قلنا: إذا استمرا بعد التوقف، فللقاضي أن يقضي، فهل يكلفهما إنشاء الشهادة؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما. هذا في الرجوع قبل القضاء.
12177- فأما إذا فرض رجوع الشهود بعد القضاء، وقبل الاستيفاء، فرجوع شهود المال في هذا الوقت لا يوجب نقض القضاء، بل يتمادى القاضي، ويُلزم المشهود عليه إيفاء ما ثبت عليه من المال.
ولو كانت الشهادة فيما يوجب عقوبة، فإذا قضى القاضي بوجوب العقوبة، فرجع الشهود قبل استيفائها، ففي المسألة ثلاثة أوجه، ذكرها الشيخ أبو علي وغيره: أحد الوجوه - أن القاضي لا يستوفي العقوبة؛ فإنها حَرِيَّةٌ بالدرء، ويبعد أن يُريق القاضي دماً، ولا حجة على الاقتران بإراقته.
والوجه الثاني - أنه يستوفي العقوبات؛ فإن الشهود رجعوا بعد القضاء، وما استحق استيفاؤه كالمستوفَى.(19/57)
والثالث - أن ما يجب حقاً للآدمي لا يسقط كالقصاص وحدِّ القذف، وما يجب حقاً لله من العقوبات يسقط؛ فإن رجوع الشهود لا ينحط عن رجوع المقر، ومن أقر بموجب حدٍّ لله، ثم رجع، سقط الحد عنه، وهذا حسن متجه؛ إذ لا خلاف في الإقرار.
ولو فسق الشهود قبل القضاء، أو بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ففسقهم كرجوعهم في كل ما ذكرناه.
12178- فأما إذا رجع الشهود بعد استيفاء العقوبات: [كأنْ] (1) شهدوا بالقصاص، فاقتُصَّ من المشهود عليه، أو شهدوا بالزنا على محصن، فرجم، أو على شخص بالسرقة، فقُطع، أو على بِكْر بالزنا فجُلِد ومات، فإذا رجعوا بعد وقوع العقوبات، فلهم أحوال في الرجوع: إحداها - أن يقولوا: تعمّدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، فيجب عليهم القَوَدُ، وعَقْد الباب أنهم بمثابة المباشرين للقتل، وكل ما لو باشره وحصل التلف به، وجب عليه القود، فإذا وقع التلف بموجَب شهادته، وجب عليه القود، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
ولو قالوا أخطانأ (3) ، وذكروا وجهاً، أو أطلقوا وصف الرجوع بالخطأ، فلا قصاص، وقد يرى القاضي تعزيرهم؛ من جهة ترك التحفظ، والغُرم يجب في مالهم؛ فإنه ثبت بإقرارهم، إلا أن تصدّقهم العاقلة، ففيه شيء سأنبه عليه، إن شاء الله.
ولو قال بعضهم (4) : تعمدت، وقال الباقون: أخطأنا، لم يجب القود على المعترف بالعمد؛ فإن القتل على حكم الأقارير وقع بعمدٍ وخطأ، ولا قصاص على العامد إذا كان شريكه مخطئاً، ولو قال كل واحد منهم: تعمدت وأخطأ أصحابي،
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/63 مسألة 1499، المبسوط: 16/178.
(3) هذه هي الثانية من الحالات الثلاث.
(4) هذه هي الحالة الثالثة.(19/58)
ففي وجوب القصاص وجهان: أحدهما - لا يجب، لأن كل واحد أقر بقتلٍ على شركة خاطىء، ولم يقر بالعمد المحض.
والثاني - يجب؛ لأن كل واحد منهم مقر بالعمد في حق نفسه، وإنما يدعي خطأ من شركائه، وقوله مقبول في حق نفسه مردود في حق شركائه.
وإن قال القاضي: علمت كذبهم وتعمدت، فعليه القَوَدُ، قطع الأئمة به؛ فإن مقامه لا ينحط عن مقام شاهد.
ولو رجع المزكّي عن تزكية الشهود، فقد ذكر أصحابنا في وجوب الغرم عليه وجهين، ثم ذكروا على أحد الوجهين في القصاص وجهين، وحاصل الكلام ثلاثة أوجه في الغرم. والقصاص، وهذا عندي مُحوِجٌ إلى فضل نظر.
فإن قال المزكي: زكيتهم مع العلم بفسقهم وكذبهم، فهذا موضع خلاف للأصحاب. وإن قال: زكيتهم مع العلم بفسقهم، ولم أعلم كذبَهم، فقد قال الأصحاب: هذا كما لو زعم أني علمت كذبهم، وما ذكروه ظاهر، ولكن قد يتجه في القصاص ترتيبٌ لحالة على حالة، والأمر فيه قريب.
12179- ومن أهم ما يجب الاعتناء به، أن الذي ادعى القصاص لو رجع عن دعواه، وأصرّ الشهود، فعليه الغُرم (1) والقود. وإن رجعوا كلهم (2) [والوليُّ] (3) هو الذي اقتص، فلا شك في وجوب القود عليه، وهل يجب القود على الشهود؟ فعلى وجهين - ذكرهما القاضي: أحدهما - لا قصاص على الشهود؛ فإن الولي قتل مختاراً، وليس في حكم المكره، والشهادات سبب، فهي بالإضافة إلى قتل الولي كالإمساك مع القتل. وهذا هو الذي بنينا عليه (الأساليب) .
والوجه الثاني - أن القصاص يجب على الشهود مع الولي؛ فإنهم من جملتهم تعاونوا على القتل، وكانوا كالمشتركين فيه. وليسوا كالقاتل والممسك؛ فإن الشهود
__________
(1) ت 5: " الغرامة ".
(2) كلّهم: أي الشهود والولي.
(3) في الأصل: " أو الولي ".(19/59)
هم الذين أكسبوا الوليَّ صفةَ المحق، ولولاهم، لما تصدى لذلك، وهذا ضعيف، والقياس الحق مع الوجه الأول (1) .
ثم إذا لم نوجب القصاص على الشهود، لم نلزمهم غرماً أيضاً، إذا آل الأمر إلى المال؛ تشبيهاً لهم بالممسكين، ومصيراً إلى أن مباشرة الولي على الاختيار تقطع أثر تسببهم.
12180- ولو قال الشهود: تعمدنا الشهادة كاذبين، ولكن لم نعلم أنه يقتل بشهادتنا، فقد قال الأكثرون: لا قود عليهم.
وهذا فيه نظر؛ فإن من ضرب شخصاً فمات، وكان ذلك الشخص مريضاً يُقصد قتلُه بمثل ذلك الضرب، فقال الضارب: لم أحسبه مريضاً، ولو كان صحيحاً، لكان الأغلب ألا يموت، فهل يجب القصاص والحالة هذه؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأصحاب. فإن قلنا بوجوب القصاص على الشهود في هذه الصورة، فلا كلام، وإن قلنا: لا قصاص عليهم؛ فقد قال الشافعي: عليهم الدية حالّةٌ في أموالهم في الصورة التي ذكرناها. قال صاحب التقريب: الوجه أن تكون الدية مؤجلة عليهم، لأنه بمثابة من يصدر منه القتلُ شبهَ عمد. وهذه المسألة تقرب مما لو قتل مسلماً في دار الحرب على توهم أنه مشرك، ففي وجوب الدية قولان. فإن أوجبناها، ففي ماله أو عاقلته؟ فعلى قولين، وقد مهدت هذا الفصل في كتاب الديات.
12181- ومما يليق بتفريع هذا الفصل الكلامُ في شهود الزنا، وشهودِ الإحصان إذا فرض الرجوع منهم أو من بعضهم، ونحن نذكر في مبتدأ ذلك أصلين - ونفرعّ المسائل عليهما؛ أحدهما - أن شهود الإحصان إذا رجعوا، فهل يغرّمون؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يغرمون؛ فإنهم ما شهدوا على موجِب الحد؛ إذ موجِبه الزنا، والإحصان صفات كمال، وعلى نحو هذا اختلف الأصحاب في أنه لو شهد على تعليق
__________
(1) هذا هو الأصح، قال النووي في زياداته: " قلت: لم يرجح الرافعي واحداً من الوجهين، بل حكى اختلاف الإمام والبغوي في الصحيح، والأصحُّ ما صححه الإمام، فهو الأصح نقلاً ودليلاً، والله أعلم " ا. هـ (ر. الروضة: 11/298، و (الشرح الكبير) : 13/125) و (التهذيب: 7/347) .(19/60)
العتق بدخول الدار شاهدان، وشهد على الدخول آخران، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، فهل يجب على اللذين شهدوا على وجود (1) الصفة غرمٌ؟ فعلى وجهين. فإن قلنا: شهود الإحصان لا يغرمون إذا رجعوا، فلا كلام. وإن غرّمناهم، أوجبنا القصاص عليهم حيث يجب القصاص، ثم كم يغرّمون إذا رجعوا ورجع شهود الزنا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يغرمون نصف الدية، لأن لحدّ الزنا ركنين: الزنا، والإحصان.
والثاني - عليهم ثلث الغرم، لأن الإحصان يثبت بشاهدين والزنا لا يثبت إلا بأربعة، فهم يقعون في مراتب الشهادات ثُلُثَ الشهود، هذا أحد الأصلين.
والأصل الآخر - أنه إذا شهد على شيء عددٌ أكثر من العدد المشروط فيه، ثم رجع من زاد على العدد؛ فنقول أولاً: إن رجع كلهم، فالغرم مفضوض على جميعهم، ولا فرق بين أن يرجعوا بأجمعهم معاً، وبين أن يرجعوا واحداً واحداً، فإذا تكامل الرجوع، فالغرم على الجميع.
فأما إذا رجع من الشهود من لا ينخرم به العدد المشروط، مثل أن يشهد خمسة على الزنا، أو ثلاثة على غيره، ثم رجع الزائد، وبقي العدد الذي به الاستقلال؛ فهل يجب على الراجع شيء في هذه الصورة؟ فعلى قولين: أحدهما - رواه البويطي، واختاره المزني أنه يُغَرَّم.
والثاني - وهو [المشهور] (2) أنه لا يغرّم، وبه قال أبو حنيفة (3) ، والتوجيه هيّن.
وإذا ثبت الأصلان، خضنا بعدهما في تفريع المسائل.
12182- فلو شهد أربعة على الزنا، واثنان سواهم على الإحصان، فلو رجع أحد شاهدي الإحصان، فإن قلنا: لا غرم، فلا كلام. وإن قلنا: يجب الضمان على شهود الإحصان إذا رجعوا بفرع النصف والثلث، فعلى الراجع على قول النصف ربع الغرم، وعلى قول الثلث سدس الغرم.
__________
(1) ت 5: " وجوب ".
(2) في الأصل: " المشروط "، والمثبت من (ت 5) .
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/365 مسألة 1500، المبسوط: 16/187.(19/61)
وإن رجع أحد شهود الزنا، فإن قلنا: يتعلق بهم ثلثا الغرم، فعلى الراجع سدس، وعلى القول الثاني عليه ثمن الغرم.
ولو شهد أربعة على الزنا والإحصان جميعاً، ثم رجع أحدهم عن الإحصان والزنا جميعاً، فلا غرامة لأجل الإحصان على أحد القولين، لأنه قد بقي من يتعلق به ثبوت الإحصان، فأما لأجل الزنا، فيغرّم، وفي مقداره الخلاف الذي قدّمناه، فيغرّم سدساً أو ثمناً.
فإن رجع ثلاثة وثبت واحد، فقد بطلت الشهادتان؛ فيغرمون على أحد الوجهين لأجل الإحصان ولأجل الزنا، ويخرج المقدار على ما تقدم: السدس -في حسابٍ- على كل واحد لأجل الزنا، و -في حسابٍ- الثمن. ولأجل الإحصان -إن غرّمنا به- ثلث الربع أو ثلث السدس؛ (1 لأنه لما رجع واحد من شهود الإحصان أوجبنا عليه في قولٍ الربعَ، وهو نصف النصف، فيُفَضُّ ذلك في هذه الصورة على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ الربع، وأوجبنا في قولٍ نصفَ الثلث، وهو السدس، فيفض على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ السدس 1) .
ولو شهد أربعة على الزنا، وشهد اثنان من هؤلاء الأربعة على الإحصان، ثم رجع أحد هذين اللذين شهدا على الأمرين، وقلنا بالضمان على شهود الإحصان، فعلى الراجع لأجل الإحصان ربع الغرم في وجه، وسدس الغرم في وجه، وأما لأجل الزنا، فثمن الغرم في وجه، فإن شهود الزنا أربعة، وسدس الغرم في وجه.
ولو شهد ثمانية على الأمرين، ثم رجع أحدهم، فلا غرم عليه، على أشهر القولين، وكذلك لو رجع الثاني، والثالث، والرابع، وإن رجع الخامس - حينئذ، لا غرامة لأجل الإحصان على الوجه المشهور، ويغرم لأجل الزنا السدس في وجه، والثمن في وجه، وهذا المقدار على الخمسة بأجمعهم.
وإن رجع [ستة] (2) وشهود (3) الإحصان ما انخرموا بعدُ، فعلى قولٍ عليهم ثلث
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(2) في الأصل: " منه ".
(3) ت 5: " فشهود الإحصان ".(19/62)
الغرم يُفضّ على ستة، وعلى قولٍ رُبع الغرم. وإن رجع سبعة، فقد بطلت الشهادتان، ولا يخفى التفريع، وقد نجز الكلام في فصل واحد من الفصول الثلاثة.
فأما
الفصل الثاني
12183- فمضمونه الشهادة على ما إذا نفذ القضاء به، لم يُستَدْرك، كالعتق والطلاق، فإذا رجع الشهود بعد نفوذ القضاء، غَرِموا القيمة في العتق، وقد مضى التفصيل فيما يغرمه شهود الطلاق في كتاب الرضاع، على أحسن وجه، وأبلغه في البيان.
والذي لم نذكره ثَمَّ فَرْعٌ فرّعه ابنُ الحداد، وهو: إذا شهد رجلٌ وعشرُ نسوة على أن بين فلان والتي تحته بحكم الزوجية رضاعاً محرِّماً، وقضى القاضي بشهادتهم، وفرّق بينهما، فلو رجعوا عن الشهادة، فالقول في أنهم يغرّمون، وماذا يغرّمون، كالقول في شهود الطلاق، لا فرق بينهما في المغروم.
وإنما غرضنا من هذا الفرع الكلام في كيفية فض المغروم على الرجال والنساء في شهادة الرضاع -وشهادة النسوة لا تتصور في الطلاق- فلهذا فرضنا في الشهادة على الرضاع -فنقدم على ذلك شهادة في المال، ونقول: إذا شهد رجل وأربع نسوة على مال، وقضى به القاضي، ورجعوا، وقلنا: إنهم يغرمون- كما سيأتي في الفصل الثالث - فالمذهب أنه يجب نصف الغرم على الرجل، ونصف الغرم على [النسوة] (1) كم كن وأيَّ عددٍ بلغن، فعلى الاثنتين النصف وعلى العشر فصاعداً النصفُ؛ فإن النسوة -وإن كثر عددهن- في محل رجل واحد، وذهب أبو حنيفة (2) إلى أن كل امرأتين بمثابة رجل. فاذا كانوا رجلاً وأربع نسوة، فعلى النسوة ثلثا الغرامة، وعلى الرجل الثلث، كأنهم ثلاثة من الرجال شهدوا ورجعوا.
__________
(1) في الأصل: " النصف "، والمثبت من (ت 5) .
(2) ر. مختصر الطحاوي: 347، بدائع الصنائع: 6/287، 288، فتح القدير: 6/542.(19/63)
قال الشيخ أبو علي: قد ذهب إلى هذا بعضُ أصحابنا، وهو بعيد فإذا ثبت ذلك، رجعنا إلى مسألتنا.
فإذا شهد رجل وعشر نسوة على الرضاع، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، قال الشيخ - نعدّ الرجل بامرأتين في حساب الغرم، فإذا كن عشراً معهن رجل، فنقدّرهم اثني عشر، ونقسم الغرم اثني عشر سهماً، على الرجل سهمان وعلى كل امرأة سهم.
وقد ذكرنا في الشهادة على المال أن المذهب أن نوجب نصف الغرم على النساء كَمْ كن، وفي الرضاع لا نقول ذلك. بل نعدّ الرجل بامرأتين، وامرأتين برجل، والفرق أن النساء أصلٌ في شهادة الرضاع، بدليل أن الرضاع يثبت بشهادتهن وحدهن، ولا يثبت المال بشهادة النسوة وحدهن، فالرجل في المال شطر البيّنة أبداً، وهو معدود في الرضاع بامرأتين على حسب عددهن، فهذا كلام فيه إذا رجع كلهم.
فإما إذا رجع الرجل وست نسوة، فقد بقيت أربع من النسوة مُصرّات على الشهادة، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب على الراجعين شيء؛ فإن الشهادة ما انخرمت.
ومنهم من قال: يجب على الراجعين بقدر ما يخصهم لو رجع كلهم، فإذا رجع رجل وست نسوة، فيخصهم ثلثا الغرامة، فيلزمهم ذلك على الحساب الذي قدمناه.
ولو رجع عن الشهادة رجل وسبع نسوة، فإن فرّعنا على القول الضعيف، فيجب على الراجعين من الغرم ما يخصهم لو رجع كلهم، وذلك تسعة أسهم من اثني عشر سهما من جميع المغروم، على الرجل سهمان من التسعة، وعلى كل واحدة سهم منها، وهذا ضعيف.
والصحيح أنه يجب ربع الغرامة؛ فإن الشهادة قد انخرم ربعها، إذ بقيت ثلاث نسوة، فيقسم ربع الغرم على الرجل والسبع نسوة: على تسعة أسهم كما ذكرناه، فهذا هو الذي أردنا ذكره هاهنا.
وتمهيد الأصول في المقدار المغروم المتوجه على الراجعين عن شهادة الطلاق قبل المسيس وبعده مذكور في كتاب الرضاع. فأما(19/64)
الفصل الثالث
12184- فمضمونه الكلامُ في الرجوع عن الشهادة بعد نفوذ القضاء فيما يفرض فيه مستدرك، وهو كالشهادة على الأموال. فإذا شهد شاهدان على أن الدار التي في يد زيد لعمرو، ونفذ القضاء بموجَب الشهادة، فإذا رجعا، فلا سبيل إلى نقض القضاء، وهل يغرمان للمشهود عليه قيمةَ الدار؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهما يغرمان. وهذا أقيس القولين؛ لأن الشهادة مسلكٌ لو فات بها شيء، وفرض الرجوع، ثبت الغرم، وكل جهة تثبت الغرم عند تحقق الفوات؛ فإنها تُثبت الغرم عند إثبات الحيلولة، والشهادة قد أَثبتت حيلولةً، فلتقتض غرماً.
والقول الثاني - إن الغرم لا يجب؛ فإن التفويت لم يتحقق؛ إذ يتصور من المشهود عليه أن يعترف ويقرّ، ويرد الدار إلى المشهود عليه، وهذا لا يتحقق في الطلاق والعتاق؛ فإنهما بعد نفوذ القضاء بهما لا يتصور فيهما مستدرك، فكانا في معنى الإتلاف المحقق، وهذا القول يعسر توجيهه، ولكنه القول الجديد، ومأخذ القولين قريب من أصل القولين فيه إذا قال الرجل: غصبت هذه الدار من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلّمة إلى الأول، وهل يغرم للثاني قيمة الدار، من حيث تسبب بتقديم الإقرار للأول إلى إيقاع الحيلولة بين الثاني الذي قَرّ عليه إقراره وبين الدار؟ فعلى قولين.
فرع:
12185- إذا شهد شاهدان، ثم رجعا عن شهادتهما قبل نفوذ القضاء، فلا شك أن القاضي لا يقضي بشهادتهما بعد الرجوع، فإن قالا: تعمدنا الكذب، رُدت شهادتهما عموماً؛ فإن الشهادة ترد بما يورث رَيْباً في شهادة الزور، فإذا اعترفا بتعمد الكذب، فقد تعرضا لهدم منصبهما فيما هو عين المقصود بالشهادة، فإن تابا واستبرأنا أحوالهما، قبلنا شهادتهما في غير (1) تلك القضية، فإن قالا: ما كنا كذبنا، وإنما
__________
(1) ت 5: " عين ".(19/65)
أظهرنا دعوى الكذب لغرضٍ، قلنا: لا سبيل إلى قبول تلك الشهادة؛ فإنا إذا كنا لا نقبل الشهادة المعادة إذا كانت ردّت بسبب الفسق، فإذا ردّت بالاعتراف بتعمد الكذب، فلأن لا تُقبل أولى، فإن المؤاخذة بالقول الأول قائمة، لا سبيل إلى إزالتها.
***(19/66)
باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته
قال: " وإذا علم الحاكم أنه قضى بشهادة عبدين أو مشركين ... إلى آخره " (1) .
12186- إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين في ظاهر الحال، ثم تبيّن له أنهما مشركان أو عبدان أو صبيان، فالحكم منقوض، وقد أوضحنا أن المعنيّ بالنقض التبيّن، وإلا فليس القضاء أمراً يعقد ويحل.
وذكر القاضي في صدر هذا الفصل أن القاضي لا يجوز له أن يصغي إلى قول المشركين، والعبيد، والصبيان إذا أحاط بحقيقة حالهم، وكذلك إذا كانوا فسقة -وقد تحقق القاضي ذلك- لم يُصغ إلى شهادتهم، وقد قدمت من قبل تردداً في ذلك.
وقد تحصل لنا ما يجب الاستقرار عليه في الإصغاء إلى شهادة الفسقة. أما المعلنون بالفسق، فلا ينبغي أن يصغي القاضي إلى شهادتهم - إلا أن يصح مذهبٌ في قبول شهادة المعلنين، ويرى القاضي أن يصغي، فلا معترض عليه في مجتَهد.
ولو أصغى إلى شهادة العبيد، ليقبلها على رأي أحمدَ (2) ، وطوائفَ من أئمة السلف، فلا معتَرَضَ. وإن كان لا يقبل قطعاً -وسبب الرد ظاهر- فالوجه ألا يصغي كما لا يصغي إلى شهادة المشركين، والعبيد، والصبيان.
وإن كان الفاسق مكاتماً، وكان القاضي عالماً بفسقه، فهذا موضع التردد؛ فإنه لو منعه من إقامة الشهادة، لكان ذلك هتكاً للستر، فالوجه أن يصغي ثم لا يَقْضي، والقياس ألا يصغي إلى من يعلم أنه مردود. والوجه أن يقدم النُّذُر إلى من يريد الإقدامَ على الشهادة من هؤلاء؛ حتى لا يتعرضوا، فإن فعلوا، فهم الذين هتكوا أستار أنفسهم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/260.
(2) ر. رؤوس المسائل الخلافية للعكبري: 6/1005، مسألة رقم: 2257، الإنصاف: 12/60، كشاف القناع: 6/426، شرح منتهى الإرادات: 3/550.(19/67)
ولو قضى القاضي بشهادة رجلين، وبانا فاسقين، وتبين اقتران فسقهما بوقت القضاء، ففي المسألة قولان: أقيسهما - أن الحكم منقوض؛ لأنه بأن من الشهود ما لو عُلم حالةَ القضاء، لامتنع القضاء بشهادتهم، فاشبه الرق والكفر.
12187- قال الشافعي: " شهادة العبد أقرب (1) من شهادة الفاسق؛ لأن ردّ شهادة الفاسق بالنص. قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .
وردُّ شهادة العبد بالتأويل (2) ، ثم قال: " من العلماء من قبل شهادة العبد، وهو أحمد وغيره. ورد شهادة الفاسق متفق عليه " (3) .
فأما وجه القول الثاني، فعسرٌ، ولا يتجه فيه كلام، إلا أن نحوّم على ما ذكره أصحاب أبي حنيفة (4) من أن الفاسق من أهل الشهادة، بدليل مسألة الرد والشهادة المعادة، وهذا على بُعده عن مذهبنا لا متمسك فيه.
ومن أصحابنا من قطع بأن الحكم يتبين انتقاضه إذا [استند] (5) الفسق، وحمل قول الشافعي حيث قال: " لا ينتقض " على فسق يظهر بعد القضاء على قرب العهد، ولكن لا يتبين استناده، فالحكم لا ينتقض؛ وإن كنا نظن أن ذلك الفسق مستند، وعليه تبيّنا فسق الأصول في باب الشهادة على الشهادة.
__________
(1) عبارة الشافعي في الأم والمختصر نصّها: " بل القاضي بشهادة الفاسق أبين خطأ منه بشهادة العبد " (ر. الأم: 7/50، والمختصر: 5/260) .
(2) ر. المختصر: 5/260، وفي هذا تصرّف يسير، فليس هو بنص المختصر.
(3) لم نصل إلى هذه العبارة في المختصر في هذا الموضع.
(4) ر. بدائع الصنائع: 6/266، فتح القدير: 5/65، 6/456، تحفة الفقهاء: 3/363.
في الأصل: " اشتبه "، والمثبت من (ت 5) .
والمعنى أن من أصحابنا من جعل في المسألة طريقة أخرى، وهي القطع يتبين نقض الحكم إذا كان الفسق مستنداً، بمعنى أنه ثبت وظهر معتمداً على أسباب توجب التفسيق كانت سابقة أو مقترنة بالقضاء.
وجعل قول الشافعي: " لا ينتقض الحكم " محمولاً على الفسق الذي يظهر بعد القضاء، ولا يتبين استناده.(19/68)
12188- وقال الشافعي: " ولو أنفذ القاضي بشهادتهما ... إلى آخره " (1) .
إذا بان الشهود عبيداً، أو مشركين، أو فسقة على القول الصحيح، وحكمنا بانتقاض القضاء على معنى التبين، فإن كان المشهود به عينَ مالٍ، وأمكن استردادها، استردها، وردّها على المشهود عليه، فإن كانت فائتة، غرم المشهود له بدلَها إذا فاتت في يده، وسلّم القيمة إلى المشهود عليه، وإن لم نتمكن من المشهود له، فالقاضي يغرم للمشهود عليه، وفي محل الغرم قولان: أحدهما - يجب في ماله، والثاني - يجب في مال بيت المال، وهذا مما استقصيناه في بابه ضما إلى أحكام خطأ الولاة.
ثم إذا غرم القاضي من ماله مثلاً، فهل يرجع على الشهود بما غرم؟ قال الأصحاب: إن بانوا فسقة، لم يرجع عليهما. وإن بانوا عبيداً أو مشركين، ففي الرجوع قولان: أحدهما - لا يرجع، كما لو بانوا فسقة. والثاني - يرجع.
والفرق أن الفاسق مأمور بكتمان الفسق، مندوب إلى حفظ الستر على نفسه، إلى أن يوفقه الله للتوبة، والمشرك لا يُخفي الشرك، والعبد لا يُخفي الرق، وهما مأموران بإظهار الرق والكفر.
فإن قلنا: يثبت الرجوع - فإن كان المرجوع عليه مشركاً ملتزماً للحكم بذمة أو عهد، فيرجع عليه بما غرِم في الحال. وإن بأن الشاهد عبداً، فحق الرجوع يتعلق بذمته أو برقبته؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يتعلق برقبته؛ فإن ما صدر منه في حكم الجناية. وأروشُ الجنايات تتعلق برقبة العبيد. والثاني - لا يتعلق برقبته؛ لأن العبد يبعد أن يعلق حقاً برقبة نفسه بقول يصدر منه، ولو أقر بجناية موجَبُها مال، لم يتعلق الضمان برقبته.
وقطع الأصحاب في الطرق أن الشاهد لو بان صبياً، فلا رجوع عليه في ماله؛ فإن التقصير من القاضي، والصبا لا يخفى.
وإن فَرَض متكلِّف صبياً مناهزاً شاطّ (2) القدّ قد طُرّ شاربه، فما ذكرناه لا يندفع
__________
(1) ر. المختصر: 5/260.
(2) شاطَّ القدّ: من ضط يشط شططاً وشطوطاً، من بابي ضرب وقتل، إذا بعد، وتجاوز، =(19/69)
بهذه الصورة، وكان القاضي مؤاخذاً بالبحث عن هذا.
وذكر شيخي في الصبي في مثل الصورة التي ذكرناها خلافاً، وهذا لا أعتدّ به، وكان لا يبعد عن القياس إثبات الرجوع على من بأن فاسقاً؛ فإنه إذا ساوى الفسقُ الكفرَ والرقَّ في انتقاض الحكم بسبب ظهوره، لا يبعد في القياس أن يثبت الرجوع عليه أيضاً.
وهذا الذي ذكرناه بيان احتمال، وليس بمذهب. والذي اتفق عليه الأصحاب أنه لا رجوع على الفاسق.
ومما يجب التنبّه له أن المشهود عليه إذا ثبت له تغريمُ القاضي، فليس يبعد عن القياس أن يغرِّم الشاهدَ، حتى يقال: هو بالخيار، إن أحب طالب الشاهد، وإن أحب طالب القاضي. وهذا أيضاً غير منقول من أئمة المذهب، ولكن في كلام الأصحاب ما يدل على هذا، والظاهر المنقول ما ذكرته، من توجيه الطلب على القاضي، ثم هو يرجع، كما فصّلنا.
***
__________
= وأفرط، والمعنى المقصود هنا: أنه متجاوز القامة أو القوام المعتاد من مثل عمره (المصباح. والمعجم) .(19/70)
باب الشهادة على الوصية
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبدٍ غيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه " (1) .
12189- هذا ما نقلوه من لفظ الشافعي. والرأي عندنا أن نقدم أصولاً على قدر مسيس الحاجة، ثم نعود إلى بيان مراد الشافعي، فنقول: إذا أعتق المريض عبيداً، وكان الثلث لا يفي بجميعهم، وقد أعتقهم معاً تنجيزاً، فمذهب الشافعي أنا نقرع بينهم، ولا نعتق من كل واحد منهم جزءاً؛ فضّاً للثلث على أقدار قيمهم، وسيأتي هذا مشروحاً، إن شاء الله.
والقياس أن نعتق من كل عبدٍ مقداراً، ولكن ترك الشافعي القياسَ لحديث عمران بن حصين، كما سيأتي إيضاح ذلك، إن شاء الله.
ولو أعتق في المرض عبداً، هو قدر الثلث، ثم أعتق بعده عبداً آخر، هو مقدار الثلث أيضاً، فنقدّم من قدّمه. ولا قرعةَ، وقد تعين السابق والمسبوق. وهذا في التبرع المنجّز في الحياة.
ولو أوصى بعتق عبيد، وكان الثلث لا يفي بهم، ولم يوص بتقديم بعضهم، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يقرع بينهم، كما لو أعتق عبيداً في مرض موته.
وهذا هو المذهب المعتمد، وقد قطع به الصيدلاني، فقال: لا خلاف في المذهب في ذلك.
وذكر بعض الأصحاب قولين - وأشار إليهما القاضي: أحدهما - القرعة قياساً على العبيد المجموعين في تنجيز الإعتاق في مرض الموت. والقول الثاني - أنا نوزعّ العتقَ
__________
(1) ر. المختصر: 5/260.(19/71)
ولا نقرع في الوصايا، وإنما الإقراع في المعتَقين في الحياة. وهذا القائل احتج بأن القياس التسويةُ بين العبيد في الحياة والممات جميعاً، وتخصيص البعض القرعة، وحرمان البعض خارج عن قصد المتبرع، وعن قياس الاستحقاق؛ فإن المعتق أثبت لكل واحد من العبيد حقاً في العَتاقة. غير أن الخبر مقدم على القياس، وإنما ورد الخبر في تنجيز العتق في الحياة؛ فبقّينا الوصية على القياس في اقتضاء التشريك، ورأينا بين العتق في الحياة وبين الوصية بالعتق فرقاً يقطع أحدَهما عن الثاني، ويُخرج الوصية عن كونها في معنى العتق المنجز، والفرق الذي نبديه ناشىء من عين المقصود.
وبيانه أن القرعة تقتضي تكميل العتق لعبدٍ وتكميل الرق في عبد، وكأن للشرع غرضاً في رفع تبعّض الرق والحرية، وهذا لائق بحالة الحياة؛ فإن المريض لو أعتق بعضاً من عبد، وكان العبد بكماله خارجاً من الثلث، فعتقه الموجه على بعض العبد يسري إلى كماله؛ فلم يبعد التكميل في الحياة، والقرعة تنبني عليه، والتكميل بعد الموت ممتنع؛ فإنه لو أوصى بإعتاق بعضٍ من عبد، وكان الثلث وافياً بتمام العبد، فالعتق لا يسري من بعض العبد إلى كماله، فإذا جرت الوصية على القياس، وانقطعت عن مورد الخبر، [تعين] (1) قياس الاشتراك في الوصية حتى لا يحرم البعض.
ثم من سلك هذا المسلك، لم يفصل بين أن يقع الإيصاء بعتق العبيد دفعة واحدة، وبين أن تترتب الوصايا، فالمترتب منها كالمجموع، والخلاف الذي ذكرناه جارٍ في صور الوصية.
12190- فإذا تمهد ما ذكرناه، عُدنا بعده إلى شرح كلام الشافعي، وبيان اختلاف الناس فيه.
ظاهر ما نقله المزني أنه إذا أعتق عبيداً، فيعتق من كل واحد بعضُه ولا يُقْرع، وهذا في ظاهره يخالف القانونَ وقاعدةَ المذهب، ولكن اختلف أصحابنا في أن كلام
__________
(1) في النسختين: وتعين.(19/72)
الشافعي مفروض في العتق المنخز أو في العتق الموصى به، ونحن نذكر التنجيز وحكمه، ونخرّج عليه التعرض لقسمة العتق وفضّه، ثم نذكر الوصية، ونختتم الكلام بتعلق الأصحاب في تنزيل كلام الشافعي على التنجيز والوصية، وما يُظهر كل فريق من فحوى كلامه ومنطوقه.
فأما التنجيز، فإذا أعتق المريضُ عبدين، قيمةُ كل واحد منهما مقدار الثلث، نُظر؛ فإن أعتقهما معاً، لم يختلف الأصحاب في الإقراع. وهذا مورد نص الحديث الذي رواه عمران بن حصين.
فأما إذا أعتق سالماً أولاً، ثم أعتق غانماً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فالمقدم عتق سالم، ولا مجال للإقراع، وإن أشكل الأمر، ولم ندر أيَّ العتقين وقع أولاً، وجوّزنا أن يكون وقوعُهما معاً، والتبس علينا التقدم والترتب والوقوعُ معاً؛ فإنا نقرع بينهما كما لو وقعا معاً.
وإن علمنا تقدم أحدهما على الثاني، وأشكل علينا المتقدم والمتأخر، فالغرض من هذا الموضع يتبين بتجديد العهد بمثال من أصلٍ، وهو إذا عقدت جمعتان في بلدة لا يجوز عقد الجمعتين فيها، فلو وقعتا معاً، لم تصح واحدة منها، ولو تقدمت إحداهما، وتعينت، فهي الصحيحة، وعلى الذين أقاموا الثانية صلاةُ الظهر. وإن لم ندرِ أوقعتا معاً، أم تقدمت إحداهما، فهو كما لو وقعتا معاً.
وأثر حكمنا بفساد الجمعتين أن نقول لهم - إن كان الوقت باقياً: اعقدوا الآن جمعة، فالذي مضى فاسد غيرُ منعقد (1) وإن سبقت إحداهما وأشكلت السابقة، فقولان: أحدهما - أنا نحكم بفسادهما، والثاني - أنا نحكم بصحة جمعة لا بعينها، وأثر ذلك أنا نأمر الجميع بأن يصلى الظهر، ولو أرادوا جمعة في الوقت، لم تقع الموقع.
ولو تقدمت إحدى الجمعتين وتعينت، ثم التبست بعد التعيين، ففي المسألة
__________
(1) عبارة (ت 5) : " فاسد غير منعقد، وإن ترددنا، فلم ندر أوقعتا معاً، أو ترتبت إحداهما على الأخرى، فهو كما لو وقعتا معاً، وإن سبقت إحداهما ... إلخ " وهو تكرار واضح.(19/73)
طريقتان: إحداهما - القطع بأنه انعقدت جمعة، والأخرى - جعل المسألة على قولين، وقد أجرينا مثلَ هذا الترتيب في نكاحين، عقدهما وليان على امرأة واحدة مع خاطبين، والمثال الواحد كافٍ.
12191- فنعود إلى العتق، ونقول: إذا وقع العتقان في العبدين على صورة لو وقعت الجمعتان عليها، لحكمنا بفسادهما؛ أخذاً باجتماعهما، فنحكم في مثل هذه الصورة من العتق بالقرعة؛ أخذاً بوقوع العتقين معاً، ولو وقعا معاً، لحكمنا بالقرعة لا محالة.
وحيث يختلف القول في صحة جمعة وفسادها، فنطرد القولين في العتقين إذا تُصوّرا بتلك الصورة، وذلك إذا استيقنا الترتيب، ولم ندرك اليقين (1) ، ففي قولٍ نقرع إذا حكمنا بفساد الجمعتين، وإذا حكمنا بصحة جمعة لا بعينها، فنحكم بنفوذ عتق في عبد لا بعينه، ثم ليس أحدهما أولى به من الثاني، ولا جمعَ؛ فنُقرع، فنجعل (2) كأنهما يتداعيان عتقاً بينهما، كل واحد يدعيه بكماله، فنحكم بفض العتق عليهما، ونعتق من كل واحد منهما نصفه إذا كان كل واحد موازيا ثلثاً، هذا بيان هذه الصورة. والقيمتان [في] (3) جميعهما متساويتان، كلُّ قيمةٍ ثلث.
12192- فأما إذا أعتق عبداً قيمته ثلث، وأعتق عبداً آخر قيمته سدس، ثم وقع الكلام في الجمع والترتيب، فإن وقعا معاً فليس إلا القرعة، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عتق، ورق القليل القيمة، وإن خرجت القرعة على القليل القيمة، عَتَق كله، وعَتَق من الكثير القيمة نصفُه، ورَقّ نصفُه.
وإن صورنا صورة القولين؛ فإن أقرعنا، فالجواب ما ذكرنا، وإن أردنا التقسيط، فقد اختلف أصحابنا في كيفيته؛ فمنهم من قسط على الدعوى، وقال: الكثير القيمة يقول للقليل القيمة؛ نصفي يعتق في كل حساب، لا نزاع فيه، وإنما النزاع في نصفي
__________
(1) ت 5: " التعين ".
(2) سقطت من (ت 5) .
(3) زيدة من (ت 5) .(19/74)
الآخر؛ فأنا والقليل القيمة نزدحم وراء ذلك؛ فيقسم العتق بين نصفي الثاني وبين جميع القليل القيمة نصفين، فيعتق من القليل نصفه، ويعتق من الكثير ربع آخر، فيعتق ثلاثة أرباع الكثير القيمة ونصف القليل القيمة، وهذا وجه.
ومن أصحابنا من سلك مسلكاً في قسمة العتق بينهما، فقال: الكثير القيمة ضِعف القليل القيمة، والقليل القيمة نصف الكثير القيمة؛ ويعتق منهما مقدار ثلث المال، فالكثير القيمة يقع مع القليل القيمة ثلثين، والقليل القيمة يقع مع الكثير القيمة ثلثاً، فيضرِبُ الكثيرُ بالثلث كلِّه، ويضرب القليلُ بنصف الثلث، فنوزِّع الثلث عليهما أثلاثاً، نصرف ثلثيه إلى الكثير القيمة ونصرف ثلثه إلى القليل القيمة، فيجب من ذلك أن يعتق الثلثان من الكثير، والثلث من القليل، وفي ذلك استكمال الثلث.
وقد قال الأصحاب: لو تداعى رجلان وصيتين، فأقام أحدهما البينة أن الموصي أوصى له بكل ماله، وأقام الآخر البينة أنه أوصى له بثلث ماله، وأجاز الورثة الوصية في كل المال؛ فإنهما يقسمان المال بينهما على حساب العول، فإن أحدهما يضرب بثلاثة أثلاث المال، والثاني يضرب بثلثه، وحساب العول يقتضي أن يكون المال أرباعاً بينهما: ثلاثة أرباعه للموصى له بالكل، وربعه للموصى له بالثلث.
ومذهب أبي حنيفة (1) أن المال يقسم بينهما على الدعوى، فيقول صاحب الجميع: الثلثان لا نزاع فيهما، فلْيُسلّما إليّ. ويبقى الثلث بيننا، أنا أدعيه وأنت تدعيه، فنُقَسِّم هذا الثلث بيننا نصفين، فيخلص لصاحب الجميع خمسةُ أسداس المال، ولصاحب الثلث سدسه، والأصحاب لم يذكروا هاهنا إلا مذهب العول، ورأوا مذهب التداعي لأبي حنيفة، وقد ذكرنا مذهب التداعي وجهاً لأصحابنا في مسألة عتق العبدين، وأحدهما ثلث والثاني سدس، ولا فرق قطعاً بين المسألتين. فيلزم من ذكر قسمة التداعي وجهاً ومذهباً لنا أن نطرد ذلك الوجهَ في الصورة التي ذكرناها آخراً في الوصية وأمثالها، حتى نجري التداعي مهما (2) اتجه إجراؤه.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/9 المسألة: 2153، المبسوط: 27/148، بدائع الصنائع: 7/375، الفقه النافع للسمرقندي: 3/1412.
(2) مهما: بمعنى إذا، وفي (ت 5) : " ومهما ".(19/75)
12193- وكل ما ذكرناه طريقة واحدة للأصحاب؛ فإنهم قالوا: نصُّ الشافعي محمول على العتق في العبدين إذا نُجِّز في حالة الحياة والْتبس المتقدمُ والمتأخر. وقال هؤلاء: لو فرضنا الوصية بعتق عبدين بعد الموت، فليس فيهما إلا الإقراع، سواء جمع الموصي الوصيتين أو قدم إحداهما ذكرا على الأخرى من غير أن يوصي بمراعاة ترتيبه في تقديمه وتأخيره، وذلك لأن التفاوت في الذكر لا أثر له في الوصايا؛ إذ وقوع جميعها بعد الموت -وإن ترتبت في الذكر- فصارت الوصيتان بالعتق في العبدين بمثابة تنجيز العتق فيهما معاً في مرض الموت. هذه الطريقةُ المثلى.
واستتمامه أنه لو أوصى بعتق عبدين وأوصى بتقديم أحدهما عند ضيق الثلث، فلا شك أنا نمتثل أمره، فإن أشكل الأمر، فلم ندرِ أنه أوصى بتقديم سالم أو بتقديم غانم، فيعود في هذه الصورة صورة الوفاق، والقولين في أنا نقرع أو نوزع، كما ذكرناه في العبدين المعتقين في الحياة إذا سبق أحدهما، وأشكل عين السابق.
12194- ومن أصحابنا من قال: مسألة (السواد) (1) مفروضة في الوصية بعتق العبدين، ثم هؤلاء رأوا الشافعي وزع العتق على العبدين، فالتزموا التوزيع في الوصايا، وخصصوا القرعة بالعتق المنجز في الحياة، وقد قدمنا ذكر ذلك، ثم لم ينظروا إلى التقدم والتأخر، بل قالوا: [لو] (2) أوصى بعتق العبدين جمعاً في الذكر، وزعنا مقدار الثلث عليهما. وهذا مسلك ضعيف رمز إليه بعض الأصحاب، وصرح به القاضي نقلاً ثم زيّفه.
12195- وقد انتجز حكم المسألة، وبقي تعلق كل فريق بلفظ الشافعي، ونحن ننقل لفظه على وجهه، ونذكر متعلَّق الأصحاب فيه (3) ، قال: " لو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبد كيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، عتق من كل واحد منهما نصفه ".
__________
(1) السواد: هو مختصر المزني، كما ذكرنا ذلك مراراً، والمر اد المسألة التي ذكرها الإمام في أول الفصل.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) ت 5: " منه ".(19/76)
فمن قال من الأصحاب المسألة في تنجيز العتق رأى صريح اللفظ موافقاً له؛ فإن الشافعي قال: "أن فلاناً المتوفى أعتقه" وهذا صريح في التنجيز، ومن رأى حَمْلَ كلام الشافعي على الوصية حمل قولَه " أعتقه " على الوصية بالعتق، وقال: معناه أوصى بعتقه. واستدل على ذلك بأنه ذكر على الاتصال بهذه المسألة لفظَ الإعتاق، وصوّر الرجوع عنه، والرجوعُ عن الإعتاق المنجز غير ممكن من المعتِق، وقد قال: " لو شهد وارثان أنه رجع عن عتق الأول، وأعتق الآخر، [أجزتُ] (1) شهادتهما " فدل أن الحمل على الوصية أوجَه.
هذا منتهى كلام الأصحاب في ذلك، مذهباً، وتصرفاً على اللفظ، وتنزيلاً لكلام الشافعي على التنجيز أو الوصية.
فصل
قال: " ولو شهد الوارثان أنه رجع عن عتق الأول ... إلى آخره " (2) .
12196- إذا شهد أجنبيان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان بأنه وصى بعتق عبده سالم، وكل واحد من العبدين ثلث، وشهد الوارثان أنه رجع عن الوصية لغانم - قال الشافعي والأصحاب معه: جازت شهادة الوارثين في الرجوع، ونفذ العتق في العبد الذي عيّناه.
وتعليل ذلك أنهما ليسا يجران بهذه الشهادة نفعاً إلى أنفسهما في مالية، وإنما ينقلان الوصية من عين إلى عين؛ فإنه لو ثبتت الوصيتان، ولم يثبت رجوع، لكان للورثة ردهما إلى الثلث بمسلك يقتضيه الشرع، فلا تهمة إذاً، والوجه قبولُ شهادة الوارثَيْن في الرجوع عن إحدى الوصيتين. قال الشافعي: لا أنظر إلى الولاء، كأنه عرف من مذهب بعض الناس أنه لا يقبل شهادة الوارثين، إذ قد يكون لهما غرض في عين أحد العبدين، وقد يكون لهما غرض في ولاء أحدهما بأن كان كسوباً جمّاعاً، فيطمع الوارثان في حيازة ما يكتسبه إذا مات.
__________
(1) في الأصل: " أجيزت "، والتصويب من نص المختصر.
(2) ر. المختصر: 5/260.(19/77)
ثم قال الشافعي: هذه أمور موهومة، لا يجوز رد الشهادة بأمثالها، إذا لم تكن تهمة في الحال ناجزة في مقدارٍ من المال.
هذا بيان صورة. وهي إذا كان قيمة كل واحد من العبدين ثلثاً.
12197- فأما إذا شهد أجنبيّان بأنه أوصى بعتق عبده سالم، وهو ثلث ماله، وشهد الوارثان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو سدس المال، وشهدا على رجوعه عن الوصية بعتق سالم، فلا شك أنهما جارّان في هذه الحالة؛ من قِبل أن الرجوع لو ثبت عن الوصية الأولى بشهادة أجنبيين مثلاً، لعادت الوصية إلى السدس، فإذا شهد الوارثان على ما يقتضي ذلك، فقد حطّا نصفَ الوصية من الثلث.
12198- فإذا تبين هذا، فنذكر نص الشافعي أولاً، ثم نذكر تصرف الأصحاب.
قال الشافعي: " يَعتِق العبدان جميعاً، أما القليل القيمة؛ فلإقرارهما بأنه المستحق للعتاقة، وأما الكثير القيمة؛ فلِردّ شهادتهما في الرجوع عن الوصية بعتقه؛ فيعتقان، وإن زاد العتقان على الثلث " (1) .
وهذا مشكل جداً؛ فإن غاية الأمر أن تثبت الوصيتان، ويبطل الرجوع عن الوصية الأولى. ولو اعترف الورثة بثبوت الوصيتين جميعاً، ولم يدعيا رجوعاً، لكُنا لا نزيد على الثلث، بل نقرع على الرأي الظاهر، ونقول إن خرجت القرعة على الكثير القيمة عتق، ورَقّ القليلُ القيمة. وإن خرجت القرعة على القليل القيمة عَتَقَ، وعَتق النصف من الكثير القيمة. فإذا رَدَدْنا شهادةَ الورثة على الرجوع، فكأن لا رجوع، هذا وجه الإشكال.
وقد خرّج أصحابنا قولاً في المسألة مخالفاً للنص، وقالوا: نُقرع بين العبدين -كما وصفناه- إذا جرينا على الأصح، وهو الإقراع، وهذا قياسه بيّن، ولكنا نسوق كلام الأصحاب على وجهه، ثم نتعرض لمواقع البحث.
قالوا: القولان -المنصوص منهما والمخرّج- مبنيان على أصلٍ، وهو أن من جمع
__________
(1) ر. المختصر: 5/260، والكلام بألفاظ الشافعي ومعناه، وإن لم يكن بنظمه.(19/78)
في شهادته بين ما يرد شهادته فيه، وبين ما يقبل شهادته فيه، فإذا ردّت شهادته فيما لو أفرده، لردت الشهادة فيه، هل ترد شهادته في المضموم إليه؟ فعلى قولين. وهذا أصل في الشهادات.
ومن صوره أنه إذا شهد بمال مشترك بينه وبين شريكه، فشهادته فيما يدعيه لنفسه مردودة، وهل تقبل شهادته في حصة شريكه؟ فعلى قولين.
فإذا تمهد هذا، وقد نعيده في مسائل الدعوى، إن شاء الله، قال الأصحاب بعده: الوارثان شهدا على الرجوع عن الوصية الأولى، وأثبتا الوصية بالسدس، وتطرقت التهمة في نصف العبد الكثير [القيمة] (1) ؛ لأنهما أرادا إبطال الوصية في نصفٍ من غير تعويضٍ ونقلٍ، فكانا جارّين. فأما النصف الآخر من العبد فقد [عَوّضا] (2) عنه العبدَ القليل القيمة، فكان ذلك نقلاً؛ وقد ذكرنا أن تهمة النقل لا توجب رد الشهادة، لكنهما جمعا بين ما يرد لو أفرد، وبين ما يقبل، فإن رأينا رد الشهادة في الجميع، فالجواب ما ذكره الشافعي من الحكم بإعتاق الجبدين جميعاً، وإن رددنا الشهادة في البعض، وقبلنا في (3) البعض، فالجواب هو القول المخرج.
وهذا التصرف مضطرِب من الأصحاب، لما ذكرناه في مقدمة المسألة من أن الشهادة، وإن ردت، فكأن الرجوع لم يثبت، وحصول (4) الوصيتين من غير رجوع عن إحداهما لا يوجب عتق العبدين، هذا وجه الإشكال، ولا يؤثر في هذا ردُّ الشهادة في الجميع أو تبعيض الرد، وتمام البيان وراء ذلك.
12199- فالوجه عندنا أن يقال: يقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عَتَق العبدان، كما قال الشافعي؛ لأنا نبطل الرجوع، والقرعة اقتضت عتق الكثير القيمة، والوارثان يُقران للقليل بأنه العتيق، والعتق مستحق له، فالوجه حمل نص الشافعي على هذه الصورة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في النسختين: " عوضنا ".
(3) ت 5: " من ".
(4) ت 5: " وفضول ".(19/79)
فلو خرجت القرعة على القليل القيمة؛ فإنه يَعتِق. ويجب أن يقال: لا يَعتِق من الكثير إلا نصفه؛ حملاً على أن لا رجوع، وقد حصل العتق في القليل القيمة على موجَب إقرار الورثة. فإذا حصل ما أقروا به، وبنينا الأمر على إبطال الرجوع، فهذا أقصى اللازم.
فخرج منه أن ظاهر النص مشكلٌ والقول المخرَّجُ على الإطلاق باطل، والحق الذي لا يُدفع، ما ذكرناه.
12200- فإن قال قائل: لو فرعت هذه المسألة على أن لا إقراع في الوصايا، وأن المتبع فيها القسمة.
قلنا: نفرض هاتين الوصيتين (1) ولا رجوع، ولو كان كذلك يخرج وجهان في كيفية القسمة: أحدهما - القسمة على الدعوى، والثاني - القسمة على حساب العول، كما ذكرنا المسلكين في إعتاق العبدين - الكثير القيمة والقليل القيمة تنجيزاً.
ثم إذا أجرينا مذهباً نرتضيه، فالوجه أن نقول بعده: يَعْتِق من الكثير ما يقتضيه الحساب، ويعتق تمام القليل القيمة أخذاً بالإقرار. وقد انكشف إشكال المسألة.
12201- ونحن نستتم الكلام بذكر صورة، فنقول:
لو شهد أجنبيان بأنه أعتق سالماً تنجيزاً وهو ثلث ماله، فكذبهما الورثة في الشهادة، وقالوا ما أعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، فيعتق العبدان لا محالة؛ لأن تكذيب الورثة للشاهدين لا وجه له؛ فإنهما عدلان، والورثة [مؤاخذون] (2) بإقرارهم في غانم، فيعتق غانم لا محالة، ولا دفع لذلك، ويبقى سالم، والشاهدان مصدقان في إعتاقه.
فلو قال قائل: هلا أقرعتم بينهما، حتى إن خرجت القرعة على غانم، ارتد عتق سالم، وينزل هذا منزلة ما لو قال الورثة: صدق الشاهدان، ولكنه أعتق مع سالم غانماً، ولو كان كذلك، لأقرعنا.
__________
(1) ت 5: " الصورتين ".
(2) في الأصل: " مجاحدون ".(19/80)
قلنا: هذا السؤال يُحمل على تفصيل. فإن قال الورثة أعتق غانماً، وليس في إقرارهم وشهادة الشاهدين تاريخ، وأمكن وقوع العتقين في علم الله معاً، فقد يتجه الإقراع، وقد لا يتجه، كما سنصف.
ولو اشتملت الواقعة على تاريخ، فشهد الأجنبيان على أنه أعتق سالماً يوم السبت، وقال الورثة: كذبا، لم يعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً يوم الأحد، فإذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فلا إقراع، ويعتق العبدان، وحيث لا يقع التعرض لتأريخ، فالإقراع ممكن على ما خيّله السائل، ثم الجواب أن القرعة لو خرجت على عبد الورثة وهو غانم، لم يَعْتِق سالم، وإن خرجت على سالم، عَتَقَ العبدان بالقرعة والإقرار. هذا مسلك.
وقد يقال: القرعة إنما تجري بين مشكلَيْن، فإذا كان غانم متعيَّناً للعتق لا محالة، فإدراجه في القرعة محال، وسيأتي لذلك نظائر في كتاب العتق، إن شاء الله.
فيلزم منه إذا لم يقرع أن يعتِق العبدان جميعاً، غانم بحكم الإقرار، وسالم باستحالة التكذيب، فهذا منتهى الكلام ونجازه.
فصل
قال: " وقال في الشهادات في العتق والحدود إملاءً ... إلى آخره " (1) .
12202- العبد إذا ادعى على مولاه أنه أعتقه، وأقام شاهدين، واحتاج القاضي إلى مراجعة المزكين في تعديلهما، فلو سأل العبد أن يحال بينه وبين المولى حتى يتفق التعديل أو نقيضه؛ فقد قال الشافعي والأصحاب: يُجاب العبد إلى ذلك، وينفَق عليه من كسبه إن كان له كسب، ويُحفظ ما يفضُل من النفقة، فإن عُدّلت البينة، دُفع فاضل الكسب إلى العتيق، وإن جُرّحت البينة، رُد الفضل على المولى، وإن لم يكن له كسب أُنفق عليه من بيت المال، ثم إن [بان] (2) عتيقاً، [فهو] (3) فقير أنفقنا عليه،
__________
(1) ر. المختصر: 5/261.
(2) في النسختين: " كان ".
(3) في الأصل: " وفقيراًَ أنفقنا عليه "، و (ت 5) : (فقيرٌ أنفقنا عليه) فالمثبت تصرف من =(19/81)
وإن [بان] (1) رقيقاً، رجعنا على السيد بما أخرجناه.
ولو لم يسأل العبد الوقفَ، ورأى القاضي ذلك من غير سؤاله، فله أن يفعله على الترتيب الذي ذكرناه.
وإن كان الأمر متعلقاً بأَمةٍ، فحتمٌ على القاضي أن يفعل ذلك.
ولو أقام شاهداً واحداً، وكان يأمل أن يشهد شاهد آخر، فقال للقاضي: حُلْ بيني وبينه حتى أقيم الشاهد الثاني، فهل يجاب إلى ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يجاب إليه، كما لو أتمّ العدد، وتخلفت التزكية؛ فإن التزكية لا بد منها، كما لا بد من العدد، والقول الثاني - أنه لا يُجاب؛ فإن الشاهد الواحد ليس بحجة، فلا مبالاة به، ولا يغيَّر الحكمُ به، وليس كما لو تخلفت التزكية؛ فإن التزكية إذا ثبتت، تبيّنا أن البينة كانت تمت، ونحن جاهلون بها، وليس كذلك الشاهد الواحد.
12203- ومما يتعلق بهذا أن البينة لو قامت على استحقاق عينٍ، وتخلفت التزكية، فطلب مقيمُها أن تُزال يدُ المدعى عليه حتى لا يُضيِّع ولا يُغيِّب، فإن أمكن (2) الضياع والتغييب، أجيب المدعي، ووقفت العين؛ ولو شهد شاهد واحد، فقولان، كما ذكرناه في العتق. وإن كانت تلك العين عقاراً لا يتأتى تغييبه ولا يضيع، وقد قامت بينة وتخلفت التزكية، فللأصحاب طريقان: أحدهما - أنه يجاب، فيحال، والثاني - لا يُجاب؛ إذ لا غرض في إيقاع الحيلولة، ثم لا يخفى تخريج الشاهد الواحد على الترتيب الذي ذكرناه.
وإذا أقام شاهدين على الدَّين، وتخلفت التزكية، وطلب أن يحجُر القاضي على المشهود عليه مخافة أن يضيّع ماله أو يحتال، فيُقِرَّ به لإنسان، فهل يُجاب المدعي والحالةُ هذه؟ اختلف أصحابنا: فقال الأكثرون: لا يُجاب، فإن الحجر ضرر عظيم في غير المشهود به، فلا سبيل إلى الإجابة إليه، ولا يتّجه عندنا إلا هذا. وقال
__________
= المحقق على ضوء عبارة الغزالي في البسيط، حيث قال: " فهو فقير أنفقنا عليه من بيت مال المسلمين ".
(1) في الأصل: " كان ".
(2) ت 5: " أوجب ".(19/82)
القاضي: إن كان يتوسم القاضي هذا في المشهود عليه بأن كان عرفه محتالاً خَصِيماً، فله أن يجيب، وإن لم يتوسم ذلك منه، لم يجب إليه، وهذا الذي ذكره من الحِكم التي لا نبني على أمثالها مسائلنا.
وإذا ادعى على امرأة أنه تزوجها، وأقام شاهدين وتخلفت التزكية، [عزلنا] (1) المرأة ومنعناها من الانتشار، وفي الشاهد الواحد الخلاف. وذكر بعض أصحابنا وجها أنا [لا نعزلها] (2) إذا تخلفت التزكية بخلاف العبد؛ فإن الأصل في المرأة الحرية وتخلية السَّرْب (3) . وهذا وجه ضعيف، والتمسك بالاحتياط للبُضع أولى.
قال الصيدلاني: إذا رأينا تخليتها، فهل نأخذ منها كفيلاً ببدنها؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب. هكذا حكاه الصيدلاني.
فصل
قال: " وإذا قال لعبده: إن قُتلتُ، فأنت حرٌّ ... إلى آخره " (4) .
12204- إذا قال السيد لعبده: إن قُتلت فأنت حر، ثم قضى السيد نحبه، فشهد شاهدان أنه قُتل، وشهد شاهدان أنه مات حتف أنفه، فقد قال الشافعي: من جعل شاهدي القتل أولى، لأنها أثبتت زيادةَ علم -وهو قول أكثر المفتين- قال: عَتق العبد. ومن لم يجعل إحداهما أولى من الأخرى، قال: سقطت البينتان ولا عتق.
فذكر قولين: أحدهما - ترجيح بينة القتل؛ من جهة اشتمالها على زيادة العلم؛ إذ
__________
(1) في النسختين: عدّلنا، وهو تصحيف واضح، كما تصحفت في البسيط إلى: " عدلنا إلى المرأة "، والمثبت تقدير من المحقق، والحمد لله صدقتنا عبارة الرافعي، إذ قال: " وفى دعوى النكاح تعزل المرأة عند امرأة ثقة، وتمنع من الانتشار والخروج " (ر. الشرح الكبير: 13/54) .
(2) في النسختين: " لا نعدّلها ".
(3) السَّرْب بفتح السين المشدّدة الطريق، ومنه يقال: خلِّ سَربه أي طريقه (المصباح والقاموس وفي المعجم الوسيط بكسر السين) .
(4) لم نصل إلى هذه العبارة في المختصر.(19/83)
كل قتيل ميت، وليس كل ميت قتيلاً، فعلى هذا يَعتِق العبد. والقول الثاني - أن البيّنتين تتعارضان وتسقطان، ولا عتق، إذا حكمنا بالتهاتُر، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فإحداهما تقتضي العتق. والأخرى تقتضي دوام الرق، فسيأتي أقوال استعمال البينتين.
ويخرج [فيها] (1) قول القرعة بين البينتين، فإن خرجت عن بينة الموت رَقَّ العبد، وإن تكن الأخرى عَتق.
ومن أقوال الاستعمال الوقفُ، وهذا لا يخرج هاهنا؛ فإنه لا منتهى له، وهو في التحقيق ضبط العبد، وتعطيل منفعته. وأما قول القسمة، فموجبه إن سبق إليه ذو مذهب أن يعتق النصف ويرق النصف. وفي مثل هذا كلام سيأتي مشروحاً في كتاب الدعاوي إن شاء الله تعالى.
ومما ذكره الشافعي أنه لو قال لعبده سالم: " إن متُّ في شهر رمضان، فأنت حرّ " وقال لغانم: " إن مت في شوال، فأنت حرّ " ومات. وشهد لكل واحد شاهدان، فقد ذكر قولين: أحدهما - شاهدا الموت في رمضان أولى؛ لأن عندهما زيادة علم، وهو إثبات الموت في رمضان. والثاني - هما سواء. قال ابن سريج: بينة شوال أولى؛ لأنه قد يغمى عليه في رمضان، فيظن ظان أنه قد مات. فإن أمكن حمل الأمر على هذا، اقتضى ذلك ترجيحَ بينة شوال، ثم إن رجّحنا بينةً، قضينا بموجبها، ورددنا الأخرى، وإن حكمنا بتعارض البينتين وتساقطهما، فقد عتق أحد العبدين، وأشكل الأمر. ولو اتفق مثل ذلك، لم يخفَ الحكم في أن الرجوع إلى الورثة [أم] (2) كيف السبيل فيه؟ وهو بمثابة ما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فسالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فغانم حرّ، ومر الطائر وأشكل الأمر، ومات المولى، وهذا مما تمهد في الطلاق. وغالب الظن أنه سيعود طرف منه في كتاب العتق إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: " منها ".
(2) زيادة من (ت 5) .(19/84)
فصل
12205- شهادة الحسبة مقبولة في حدود الله. إذ لا مدّعي لها من الآدميين، وليست متعلقة بحظوظهم الخاصة.
والمعني بشهادة الحسبة شهادةٌ من غير تقدم دعوى، والطلاق، والعتاق، وتحريم الرضاع يثبت بشهادة الحسبة، والوقف إن كان على جهة عامة يثبت بشهادة الحسبة، وإن كان على معيّنين، فإن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى - فالذي قطع به الصيدلاني أن شهادة الحسبة تقبل فيه من غير دعوى من الموقوف عليه، والذي ذهب إليه معظم الأصحاب خلاف ذلك؛ فإن الغالب على هذا الوقف حظوظٌ خاصة، متعلقة بأشخاص، فيبعد قبول شهادة الحسبة فيها.
وتقبل شهادة الحسبة في الخلع ليثبت الفراق، لا ليثبت المال، ولا نقول: يثبت المال تبعاً إذا لم يفرض فيه دعوى، ولا يثبت [شراء] (1) الأب من غير دعوى، وإن كان عقَد عَتاقه، لأن المقصود منه التملك (2) ، ثم العتق يترتب عليه، هكذا ذكره القاضي، وفي القلب منه شيء، وليس يبعد أن نقول: يثبت بشهادة الحسبة.
والأوجه ما ذكره القاضي؛ فإن العوض رُكنٌ في المبيع، فلو أثبتناه، لأثبتنا العوض من غير دعوى، ولو أثبتنا العتق من غير مال، لكان إجحافاً، وليس كالخلع، فإن العوض غيرُ مقصود فيه، ولست أُبعد في الخلع ثبوتَ المال تبعاً، حتى لا يبطل حق الزوج بالكلية، ولا أبعد أن يثبت الطلاق ولا تثبت البينونة، كما لو خالع الرجل المحجورةَ بالسفه.
ولو تقدم عبدان إلى القاضي، وقالا: أعتق السيد أحدنا، وأقاما البينة، قبلت البينة، وذلك لأن الدعوى وإن فسدت بالتردد، فالبينة مسموعة حِسْبةً مستغنية عن الدعوى.
__________
(1) ت 5: " بشراء ".
(2) المعنى أن عقد شراء الرجل لأبيه هل يثبت، بشهادة الحسبة؛ لأنه في حقيقته عقد عتاقة، فإن من اشترى أباه يعتق عليه، لا محالة.(19/85)
وإذا شهد شاهدان أن المرأة ولدت الولد على فراش زوجها لستة أشهر فصاعداً، والزوج يقول: أتت به لأقل من ستة أشهر، قال الصيدلاني: تقبل البينة -وإن لم تدّع المرأة شيئاً- حسبةً.
وذكر القاضي أن شهادة الحسبة لا تسمع في الأنساب، فإنها متعلقة بالحظوظ، وهذا يخالف ما ذكره الصيدلاني، والمسألة محتملة.
ويخرج من مجموع ما ذكرناه أن ما يضاف إلى حق الله، فشهادة الحسبة فيها سائغة. وأعلى الدرجات في الحسبة ألا يفرض فيها دعوى.
ومما يلتحق بها ماله تعلق بالحظوظ، ولكن حق الله غالب حتى لا يُدْرأ بالتراضي، كالعتق، وجهات التحريم، وهذه الأقسام من حيث ارتبطت بالحظوظ، اتجهت فيها الدعوى، والأنساب من حيث لا يتصور قطعها، وتأكَّد في الشرع تعظيمُها، ولكن عظمت الحظوظ فيها، فتردد الرأي كما ذكرنا.
فرع:
12206- إذا شهد للمدعي شاهدٌ على المدعى عليه أنه أخذ منه ثوباً قيمته دينار، وشهد شاهد آخر على أخذ ذلك الثوب، وقال قيمته نصف دينار، فإذا أراد المدعي أن يحلف مع شاهد الدينار، فهل يثبت الدينار؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يجوز له ذلك، كما لو شهد أحدهما أنه أخذ منه ديناراً، وشهد الثاني أنه أخذ منه نصف دينار، فله أن يحلف مع شاهد الدينار، ويطلبَه كاملاً.
وكذلك إذا اختلفا في القيمة، والثاني ليس له إلا نصف دينار؛ فإن الشاهدين قد اختلفا في القيمة واجتمعا على ثوب واحد، وتناقض قولاهما فضعفت شهادة شاهد الدينار، ولم تصلح لتقوية جنبة المدعي، وليس كذلك إذا شهد أحدهما على أخذ دينار وشهد الثاني على أخذ نصف دينار، فإنه لا تناقض بين القولين.
فرع:
12207- إذا شهد شاهدان في عتق أو مال، ولم يعدّلا بعدُ، فللقاضي أن يوقع حيلولة إلى اتفاق التعديل، هذا هو المذهب الظاهر. وفيه شيء بعيد، لم أورده في القانونَ.
ولو شهد شاهد واحد عَدْلٌ، ففي الوقف خلاف مشهور ذكرته؛ ولو كان ذلك(19/86)
الشاهد مستوراً، ففي الوقف خلاف مرتب، وغرض الفرع أنا إذا وقفنا، والشاهد واحد، فلا نطيل الوقف، ولكن إن أتى بشاهد في مدة ثلاثة أيام، فذاك، وإن لم يأت بالشاهد الثاني في هذه المدة، رفعنا الحيلولة، ودفعنا المشهودَ به إلى المدعى عليه.
فأما إذا شهد مستوران، وأوقعنا الحيلولة، فإنا نطيل الوقف، ولا نرفع الحيلولة، حتى تتحقق العدالة أو الجرح؛ فإن المدعي أتى بما عليه. والبحث على القاضي؛ فليس من الخصم تفريط؛ نعم على القاضي أن يجدّ ويستحث المزكي.
فرع:
12208- قال صاحب التقريب: لو اجتمع طائفة، فشهد اثنان منهم لاثنين منهم بوصية في تركة، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية في تلك التركة بعينها، قال الشافعي: لا تقبل شهادتهما، فإنهم متهمون.
قال صاحب التقريب: كذلك لو كان لرجل ديون على طائفة من الغرماء، ولقوم عليهم ديون أيضاً، فتناوبوا في الشهادة على الصورة التي ذكرناها، فالشهادة مردودة.
وعندي أن ما ذكره مشكل، والقياس القطع بقبول الشهادة، ومن أحكم الأصولَ، لم يخف عليه درك ما ذكرناه، ولم أر ما حكاه صاحب التقريب في شيء من الكتب.
فرع:
12209- قال صاحب التقريب: لا تقبل شهادة القسّام على القسمة، فإنه إنما يذكرها إذا انقضت. والقاسم بعد القسمة كالوكيل بعد العزل، وأيضاً فإن شهادته تتعلق بعين [فعله] (1) ، وليس كشهادة المرضعة؛ فإن المقصود منها وصول اللبن إلى الجوف، لا صدر فعل من جهة المرضعة.
فرع:
12210- الأب هل يحبس في دين ولده؟
ما صار إليه معظم أئمتنا أنه لا يحبس، وكذلك القول في الجد والجدة والأم؛ فإنه لا يتوجه للابن عقوبة على أبيه، والحبس عقوبة، وهذا مذهب أبي حنيفة (2) .
وقال أبو زيد المروزي: من أصحابنا من قال إنه يحبس في دين ولده، قال: وهو
__________
(1) في النسختين: فعل، والمثبت من تصرف المحقق.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/282 مسألة: 4/200.(19/87)
القياس عندي؛ فإن الحبس ليس عقوبة مقصودة في نفسها، وإنما هو توسل إلى استيفاء حقٍّ.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً - وهو اختيار صاحب التلخيص (1) ، فقال: الأب يحبس في نفقة ولده إذا امتنع من الإنفاق عليه، ولا يحبس في غيره من الديون.
ثم إذا قلنا: لا يحبس الأب، فلا سبيل إلى إبطال حق الولد، فمهما (2) أثبت الابن لأبيه مالاً، أخذه القاضي قهراً، وصرفه إلى دين الابن.
ومما يداني ما نحن فيه، الاختلاف الذي قدمناه في أن العقوبة هل تثبت على الأب بشهادة الابن؟ واضطرب الأصحاب في أن الابن الجلاّد هل يقتل أباه حداً؟ والأصح أنه يقتله. والحبس من جملة ما ذكرناه أولى بالنفي. والله أعلم.
***
__________
(1) ر. التلخيص: 655، 656.
(2) فمهما: بمعنى: فإذا.(19/88)
كتاب الدعوي والبينات
12211- الأصل في الدعاوي (1) قوله صلى الله عليه وسلم: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادَّعى قوم دماء قوم وأموالَهم، لكن البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر " (2) . وروي " واليمين على المدعى عليه ". وهذه قاعدة متفق عليها بين الأُمة، فإن وقع نزاع، فهو يؤول إلى نفس المدعي والمدعى عليه، على ما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله.
واختلف العلماء في حد المدعي والمدعى عليه.
فعند أبي حنيفة (3) المدعي من يُثبت الشيءَ لنفسه، والمدعى عليه من ينفيه عن غيره. وذكر أصحابنا جوابين في ذلك: أحدهما - أن المدعي من يدعي أمراً باطناً [خفيّاً] (4) والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً جلياً، والثاني أن المدعي من إذا سكت، يترك والسكوت، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك.
وأثر هذا التردد مأخوذ من قولين، والفرع والأصل متداخلان، كل واحد منهما ملتف بالثاني، فما ذكرناه إذاً أصل مأخوذ من ثمرته وفائدتِه، والقولان فيه إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، فإن أسلما معاً، فهما على النكاح، وإن ترتبا في الإسلام، بطل النكاح، فلو اختلفا؛ فقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل الآخر؛ وقال الزوج، بل أسلمنا معاً، ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الرجل؛ فإن المرأة لو سكتت تركت، واستمر النكاح، فهي مدعية، والزوج لو سكت، لم يترك إذا ادعت المرأة.
__________
(1) الدعوى: تجمع على دعاوَى، ودعاوٍ، مثل فتاوى وفتاوٍ (المصباح والمعجم) .
(2) حديث " لو أُعطي الناس بدعاويهم.. " سبق تخريجه في باب اختلاف الحكام والشهادات.
(3) ر. بدائع الصنائع: 6/224، تحفة الفقهاء: 3/181، مختصر الطحاوي، الحاشية رقم (3) ص 351، روضة القضاء: 1/165، 166.
(4) زيادة من (ت 5) .(19/89)
فعلى هذا القول " المدعي: من إذا سكت، يترك، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك ".
والقول الثاني - القول قول المرأة، لأنها تدعي أمراً ظاهراً، وهو ترتب الإسلام؛ فإن إسلامهما معاً يندر، ولا يتفق وقوعه، فعلى هذا؛ المدعي من يدعي أمراً باطناً، والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً.
ثم أخذ الإصطخري هذا المسلك في الظهور والخفاء، فردّ دعاوى قبلها كافة الأصحاب، وقال: إذا ادعى رجل من السُّفَّل (1) معاملةَ رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه، قال: دعواه مردودة، وهذا كما إذا ادعى الرجل الخسيس أنه أقرض ملكاً مالاً، أو نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذا مردود. والذي ذكره لا تعويل عليه، ولا يسوغ في الدين تشويش القواعد بأمثال هذه الوساوس، ومثل هذا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ... الحديث ". ووجه التعلق به أن الذي حاذره الرسول صلى الله عليه وسلم ثبوت الدعوى من غير صحة، وأما رد الدعاوي لرعونات الأنفس، فلا سبيل إليه، ثم ما ذكره الإصطخري ردُّ دعوى بظن، وإنما الذي كنا فيه تعيين المدعي والمدعى عليه، وذلك يتعلق بأمارات تغلب على الظنون.
فإن قيل: المودع إذا ادعى رد الوديعة، فليس يدعي أمراً جلياً، فلِمَ جعلتم القول قوله، وأحللتموه محل المدعى عليه مذهباً واحداً. قلنا: إذا ضبطنا المدعى علية بمن لو سكت، لم يترك، لم ينخرم الضبط بمسألة المودَع. وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فسبيل تخريج المودع على ذلك أن الإيداع ائتمان، وحكم الأمانة ثابت شرعاً للمودَع ولا معترض على الشرع، فإذا أنكر المودع الردَّ، فكأنه يُضمِّنه، والأصل أن الأمانة الثابتة لا تزول، وهذا ظاهر الرد، وهو في دعوى التلف أظهر؛ فإن دعوى التلف مسموعة من الغاصب في الرأي الأظهر، وإذا ثبت التلف وحكم الوديعة الائتمان، فلا ضمان.
__________
(1) السُّفَّل: جمع سافل (المعجم) .(19/90)
12212- ولنا نظر وبحث في المدعي والمدعى عليه نذكره بعد نجاز قاعدةٍ نمهدها.
فنقول: التداعي يفرض على ثلاثة أوجه: أحدها - أن يكون جارياً بين صاحب يد وبين من لا يد له، وصاحب اليد يسمى في اصطلاح الفقهاء الداخل، ومن لا يد له يسمى الخارج بالإضافة إلى الداخل. والوجه الثاني - فرض التداعي بين اثنين في عينٍ تحت أيديهما على الاشتراك. والثالث - فرض دعويين على التناقض من خارجين على صاحب يد، وذلك إذا ادعى رجلان ملكَ دار، كل واحد منهما يدعيها لنفسه.
وإذا نحن مهدنا قواعد الكتاب في هذه الأقسام، كنا مقيمين رسمَنا في تمهيد قاعدة كل كتاب في أوله.
[القسم الأول] (1)
12213- فنبدأ بالتداعي من الداخل والخارج، فإذا ادعى رجل داراً هي في يد رجل، فأنكر صاحب اليد دعوى المدعي فالخارج في مقام المدعين، وصاحب اليد سماه الفقهاء مدعىً عليه، فالخصومة لا تخلو: إما أن تكون عريةً عن البينة، وإما أن تفرض فيها بيّنة، فإن لم تكن بينة، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. وإنما صدقه الشرع لقوة جانبه، وظهورِ صدقه؛ إذ اليدُ عاضدة فلما رجَّحتْ جَنْبَتَه، قدمه الشرع، ثم لم يكتف باعتضاده باليد، بل ألزمه اليمينَ إن أراد دفعَ الدعوى، وصاحب اليد حيث لا بينة بمثابة المدعى عليه في الدين إذا كان ينكره، فالقول قوله لاستمساكه بأصل براءة الذمة، واليد عند المحصلين أظهر وأقوى، وأولى بالتقوية من الاستمساك ببراءة الذمة؛ فإن اليدَ علامةٌ على الاختصاص، إن لم تكن دالة على الملك بمجردها، وليس للمدعى عليه في الدين دلالة على براءة الذمة، وإنما تعلقه باستصحاب حال - وهو أوهى المتعلقات، إذا سُبرت الأمارات، وخُبرت العلامات.
__________
(1) سمّى الإمام صورَ التداعي أوجهاً، وعاد وسماها أقساماً، فوضعنا هذا العنوان عملاً بما استقرّ عليه تلقيب الإمام.(19/91)
ولسنا نخوض في صيغة يمين صاحب اليد؛ فإنا سنعقد في كيفية الأيمان فصلاً جامعاً، إن شاء الله.
هذا إذا لم تكن بينة.
12214- فإن اشتملت الخصومة على البينة، لم تخل إما أن يختص المدعي بالبينة، وإما أن يقيم صاحب اليد بينة أيضاً مع بينة المدعي، وإما أن يجد صاحب اليد بينة دون المدعي الخارج.
فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يعارضه المدعى عليه، فالبينة مقضيّ بها، لا تعارضها يمين صاحب اليد؛ وذلك لأن اليمين وإن كانت حجة؛ فإنها تأتي من قِبل المدعى عليه، وهي قوله، وإن كان مؤكداً بذكر اسم الله تعالى، وبينة المدعي ثابتة من قِبل غيره، ولا حاجة إلى التكلف في تقرير هذا.
ولو وجد (1) المدعى عليه بينة، وأراد إقامتها، نُظر: فإن حاول إقامتها قبل أن يقيم المدعي بينة، فالمذهب الظاهر أنها لا تُسمع منه؛ فإنا في فصل الخصومات نستمسك بأقرب الطرق وأهونِها، والتحليف أقرب من البينة المُحْوِجة إلى رد النظر إلى الجرح والتعديل، والقواعدِ المرعية في الشهادات، فلا حاجة إذاً إلى إقامة البينة.
وخرّج ابن سريج قولاً آخر أن بيّنته مسموعة، فإنه لو لم يُقمها، يحلف، فينبغي أن يسوغ له إقامة البينة، ليستغني عن اليمين، وهذا كالمودَع إذا ادعى التلف أو الرد، فالقول قوله مع يمينه، فلو أراد أن يقيم البينة، جاز له ذلك، ليتسبب إلى إسقاط اليمين عن نفسه، وأيضاً فإن الحالف معرَّضٌ للتهمة. وقد تتطرق إليه المطاعن؛ والبينة العادلة تقطع التهم.
فإن قيل: لم قطعتم بقبول بينة المودَع، وظاهر المذهب أن بينة صاحب اليد لا تُسمع قبل قيام بينة المدعي، فما الفرق؟ قلنا: الذي يقتضيه مقام صاحب اليد في الخصومة الإنكار والنفي، فأما دعوى الملك، فلا حاجة به إليه، وهو صاحب اليد، والمستقل بما تحويه يده، وأما المودَع وإن كان مؤتمناً، فهو في منصب المدعين إذا
__________
(1) ت 5: " وجه ".(19/92)
ادعى ابتداءَ ردِّ أو تجددَ تلفٍ، فإن الملك في الوديعة ثابت للمودِع، غير أن مقامه في الائتمان صدقه فيما هو مدعٍ فيه، والبينة تليق بحال المدعين، وهذا ظاهر لمن تأمل في الفرق بين القاعدتين.
ولو أقام المدعي البينة العادلة، ولم يبق إلا طلب القضاء بموجبها، فللمدعى عليه الآن أن يقيم البينة على إثبات ملك نفسه فيما في يده.
ولو أقام المدعي البينة، ولم تعدَّل بعدُ، فهل للمدعى عليه أن يقيم البينة قبل تعديل بينة المدعي، فعلى وجهين مرتبين على الخلاف المقدم فيه إذا أراد إقامة البتنة قبل أن يقيم المدعي البينة، ولا يخفى وجه الترتيب والفرق.
12215- ولو لم تتوجه دعوى على إنسان، فاراد أن يقيم بينة على ما في يده ليسجل القاضي له بالملك، فالمذهب الذي عليه التعويل أن القاضي لا يُصغي إلى بينته على هذا الوجه؛ فإن البيّنة تسمع في خصومة، ولا خصومة في هذه الصورة.
وأبعد بعض أصحابنا، فسوّغ سماع بينته للتسجيل له بالملك؛ فإن اليد المجردة لا تدل على الملك.
12216- ونحن نذكر من هذا المنتهى ما وعدناه في تحقيق المدعي والمدعى عليه، فنقول: قد ذكر أصحابنا أن المدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً، وهذا الكلام فيه مجازفة وتساهل، فإن المدعي في حكم اللسان، بل في قضية المعقول من يطلب أمراً ويدعيه، والمدعى عليه من ترتبط الدعوى به، وهو ينكرها ويأباها، فيخرج [منه] (1) أن المدعى عليه لا يتصور أن يقيم البينة من وجه كونه مدعىً عليه؛ فإنه منكِر نافٍ، ولا تقوّم البينة على النفي. وهذا يتلقاه الفطن من فحوى الكلام النبوي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " معناه من نفى الدعوى ورُوي بدل " من أنكر " " واليمين على المدعى عليه "، فالمدعى عليه من أنكر.
__________
(1) في الأصل: " فيه ".(19/93)
ولكن إذا قامت بينة المدعي، فلصاحب اليد أن ينتصب مدعياً، فيكون مع الخارج متداعيين، ويقيم البينة من وجه ادّعائه للملك، ثم سيأتي الكلام في مقتضى البينتين.
ومن ادُعي عليه دين، فليس له إلا مقام المنكرين؛ إذ لا يتمكن من إثبات، فلما تجرد فيه مقام المدعى عليه، لم تقم البينة.
وأبو حنيفة لم يسمع بينة المدعى عليه بناء على مقامه، ولم يعلم أن الدعوى يتصور صدورها منه؛ فإن اليد لا تنافي نسبة الملك إلى نفسه. فآل حاصل الكلام: أن الشافعي أثبت لصاحب اليد مقام المدعين ليقيم البينة. فهذا القدر هو الذي يليق بهذا الموقف.
وإذا أقام المدعي البينة وعُدلت، فالمدعى عليه إن وجد بينة أقامها، والمذهب الظاهر أنه يكفيه إقامة البينة على الملك المطلق كما أقامها المدعي.
وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن المدعي إذا أقام بيّنة على الملك المطلق، لم تسمع من المدعى عليه البينة على الملك المطلق، بل عليه أن يذكر سبب ملكه، ويجب أن تشتمل بينته عليه، وإنما قال هؤلاء ما قالوه لسؤالٍ ارتاعوا منه، لما قيل: بينة صاحب اليد تعتمد ظاهر يده، فكأنها لا تدل على أكثر مما تدل اليد عليه، فحسبوا الكلام واقعاً، وقالوا: يجب أن يقيم صاحب اليد بينةً، ويسند ملكه إلى سببٍ غير اليد.
وهذا ليس بشيء، والمذهب القطع بأن ذلك ليس بشرط، ولو لم يحكِ القاضي هذا الوجه لما حكيته.
12217- ثم إذا تعارضت البينتان من الخارج والداخل، فتحقيق القول فيهما يقتضي استعجالَ كلام من القسم الثالث، فإذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، ادعاها كل واحد منهما لنفسه، وأقام على وفق دعواه شاهدين، ففي المسألة قولان في الأصل: أحدهما - أن البينتين تتهاتران وتسقطان، والقول الثاني - إنهما تستعملان.
ثم في كيفية الاستعمال -على قول الاستعمال- ثلاثة أقوال: أحدها - القرعة. والثاني(19/94)
- القسمة. والثالث - الوقف. وسيأتي تحقيق ذلك في القسم الثالث، إن شاء الله تعالى.
فنقول في الخارج والداخل: إن حكمنا بتهاتر البينتين في حق المدعيين على ثالث، فهاهنا وجهان: أحدهما - سقوط البينتين على قياس التهاتر، فكأن لا بينة، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. والوجه الثاني - أنا لا نحكم بالتهاتر هاهنا، وإن حكمنا به ثَمَّ، فإن بينة صاحب اليد مترجحة بيده، وإنما يتحقق التساقط عند التساوي، فهذا ترجيح بينة على بينة، وهو كتقديمنا رواية كبير معظّم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رواية [عدد] (1) من آحاد الصحابة.
وإذا ادعى رجلان على ثالث، فلا ترجح لأحدهما على الثاني، هذا إذا فرّعنا على قول التهاتر.
وإن فرّعنا في القسم الثالث على قول الاستعمال، فثم ثلاثة أقوال، لا يجري منها قولهٌ في الخارج والداخل، لا الوقف، ولا القرعة، ولا القسمة، وإنما يجري هاهنا هذا الترجيح باليد فحسب.
غير أنا إذا فرعنا على قول القرعة، فمن خرجت له القرعة، فهل يحلف مع القرعة؟ فيه وجهان، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، فاختصاص الداخل باليد هل يكون كخروج القرعة؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: نُجري الوجهين في التحليف، كما أجريناهما في قول القرعة. ومنهم من قطع أن لا تحليف هاهنا، فإن هذا اختصاص ثابت، والقرعة وفاق، ولو أديرت لما ميّزت ظالماً من مظلوم؛ فيجب التثبت لأمرٍ الآن. وهو أنا نحلّف الداخل مع البينة في التفاريع على وجهين: قد نحلّفه على قول التهاتر لإسقاط البينتين، واعتقاد أن الخصومة خليّة عن البيّنة، وقد نحلّفه للترجيح. كما ذكرنا في تحليف من خرجت عليه القرعة.
__________
(1) في النسختين " عدل " والمثبت من تصرف المحقق؛ فإن الصحابة كلهم عدول -رضي الله عنهم جميعاً- وللإمام في البرهان (فقرة 1203) كلام في مثل هذا المسلك من الترجيح بين الأدلة حيث قال: " الغالب على الظن أن الصِّدِّيق رضي الله عنه لو روى خبراً، وروى جمع على خلافه خبراً، لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ".(19/95)
ثم سرّ هذا الفصل أنه إذا كان يحلف لاعتقاد خلو الواقعة عن البينة، حلف على النفي، وإذا كان يحلف لترجيح بينته حلف على إثبات الملك، كما يحلف من خرجت له القرعة.
ونقول بعد ذلك: بينة المدعى عليه في مسلك بعض الأئمة مُثبتةٌ له ملكاً، وعلى هذا الوجه انتهى التفريع إلى سماع بينته أولاً، وهي عند بعض الأئمة قادحة في بينة المدعي بالمعارضة والمناقضة، وليست [مفيدةً] (1) ملكاً. وقد انتهى هذا الطرف من الكلام، وحان أن نأخذ في طرف آخر من هذا القسم (2) ، فنقول:
12218- إذا أقام المدعي بينة عادلة، ولم يتمكن المدعى عليه من إقامة بينته، فأزال القاضي يده، وسلّم العين المدعاة إلى المدعي، فلو جاء المدعى عليه ببينته، وقال: أحضرت بينتي؛ فهل يسمعها؟ وكيف الطريق فيها؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي، وقال: أظهرهما - أن البينة لا تُسمع، لأنا نفضنا يده، وأجرينا القضاء به، فلو قبلنا بينته، لكان ذلك نقضاً للقضاء السابق، إلا أن يقيم البينة على تملك من جهة المدعي، الذي هو صاحب اليد الآن. هذا وجه. وعليه بحث سنذكره.
والوجه الثاني - نسمع بينته؛ لأنها تستند إلى يده ونقضي له، كما كان يقضى له لو أقام البينة ويده بعدُ قائمة دائمة؛ فإن يد المدعي ترتبت على يده في ظاهر الأمر.
وهذان الوجهان مبهمان، ونحن نوضحهما بالبحث والتفريع. فأما الوجه الأول - الذي رآه القاضي أظهرَ الوجهين - ففيه شيء، وهو أنه قال: ينبغي أن يقيم بينةً على تلقي الملك من المدعي، وهذا فيه نظر؛ فإنه لو أقام بينة على تلقي الملك من سبب آخر، وجب قبول بينته. وإنما لا نقبل بينته إذا لم يذكر سبباً أصلاً، واقتصر على ادعاء الملك المطلق، فلا معنى لاشتراط التلقي من هذا المدعي، وحاصل هذا الوجه أن البينة المطلقة كانت تسمع من هذا الشخص في حال دوام يده، على المذهب الظاهر، وإذا أزيلت يده، فجاء ببيّنة مطلقة، فقد لا تُسمع، والبحث بعدُ قائم.
__________
(1) في الأصل: " مفسدة ".
(2) يعني القسمَ الأول من أقسام التداعي، وهو أن يجري بين صاحب يد ومن لا يدَ له، وُيعبّر عنه أيضاً بين الداخل والخارج.(19/96)
فأما إذا فرّعنا على الوجه الثاني - فشرطُ (1) سماع بينة المدعى عليه -إن أراد الفوز بالاسترداد- أن يُسند ببينته الملكَ إلى حال قيام يده، ثم بديمومته له في حالة الدعوى. فلو أقام البينة على الملك المطلق حالة الدعوى، لم تفده هذه البينة تقديماً، وسلطنة في استرداد ما أخرج من يده، فلو لم تتعرض بينته [لإسنادٍ] (2) ، وإنما تعرضت للملك بحالة الدعوى، فهذا رجل خارجي ابتدأ الدعوى وأقام بينة.
12219- وننعطف من هذا المقام إلى إتمام البحث الذي وعدناه، فنقول: إن أقام بينة مستندة إلى حالة اليد، فهذه البينة هي التي ردّها الأولون؛ فإنا لو قبلناها، لنقضنا حكمنا، حتى لو ادعى ملكاً مطلقاً غيرَ مستند، فخارجيٌّ ادعى، والسبيل في فصل الخصومة بيّن، وانتظم من مجموع ذلك أن البينة المطلقة التي ليست مستندة مسموعة، على الوجهين، ولو كانت مستندة، فهي مردودة في الوجه الأول، مقبولة في الثاني مقدمة. هذا تمام الكشف في ذلك.
ولو أقام المدعي بينة على الملك المطلق، وأقام صاحب اليد بينة على أن الدار ملكُه اشتراها من المدعي، فقد قال الصيدلاني: صاحب اليد أولى في هذه الصورة.
وقال القاضي: إذا أقام صاحب اليد البينة على هذا الوجه، قلنا له: أقررت للمدعي بالملك، فسلّم إليه، ثم ادّع البيع ابتداء.
وهذا الخلاف يرجع إلى أصل شبّب به القاضي مراراً، وصزح مراراً في الديون، وأوضح مراده في دعوى العين هاهنا. ونحن نذكر هذا الغرض موضَّحاً في الدين، ثم نقرره في دعوى العين، إن شاء الله.
فأما الكلام في الدين؛ فإذا ادعى رجل ألف درهم على رجل، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا الألف، فدعوى الإبراء منه إقرارٌ بأصل الحق، فلو أراد أن يُحلّف المدعي على نفي البراءة، فلا شك أن له ذلك؛ فإن دعوى الإبراء دعوى منتظمة مسموعة، وترتيب الخصومة إسعاف المدعي بتحليف المدعى عليه، ولكن لو قال
__________
(1) ت 5: " فيشترط ".
(2) في الأصل: " لاستناد "، والمثبت من (ت 5) .(19/97)
المدعى عليه (1) ؛ قد اقررتَ بحقي، فأدّه وسلّمه إليّ، ثم ادعّ ما شئت. فقال المدعى عليه: لا تستحق قبض شيء ما لم تحلف على نفي البراءة، فإن استحقاقك موقوف على نفي البراءة.
فالذي ذهب إليه الأصحاب أن المدعي لا يملك المطالبة بتوفية الحق ما لم يخرج عن عهدة دعوى الإبراء؛ بأن يحلف على نفيه. وقال القاضي: له أن يلزمه المال قائلاً: قد انتهت الخصومة الأولى بإقرارك، ولزمك توفية ما ثبت عليك، فوفّني حقي، ثم افتتح خصومة تريدها.
ولا خلاف أن المخاصِم لو كان وكيلاً، وكان الموكِّل غائباً، فادعي خصم الوكيل أن موكّله قبض الحق منه، ولا سبيل إلى تحليف الوكيل، فالخصومة لا تتوقف إلى حضور الموكل من مكانه الشاسع. هذا وجه التردد في الدّين.
فأما الكلام في دعوى العين، فإذا أراد المدعى عليه أن يقيم بينة على أنه اشتراها من المدعي، فللمدعي أن يقول عند القاضي: أزل يدك وردّ الدار إليّ، ثم ادّع الشراء وأثبته، وعلى هذا الأصل خرج جوابه.
وعند الصيدلاني وغيرِه: إذا حضرت البينةُ لم نُزل يدَه، فإن استحقاق المدعي في الحال لا يتحقق مع تقدم شراءٍ منه، فهذا مقام يجب التنبه له.
ولو قال المدعى عليه: اشتريت هذه الدارَ منك، وفرّعنا على ما ذكره الصيدلاني من أن بينة الشراء لو كانت حاضرةً، لسمعناها، ولا نبتدر يدَه بالإزالة. فعلى هذا لو قال: لا تزيلوا يدي وأمهلوني ثلاثة أيام لأقيم بينةً على الشراء، فلا نمهله بلا خلاف، إذا أقام المدعي بينة على الملك المطلق.
12220- ومن الأصول الجلية التي لا تخفى على الشادين لو ذكرت لهم، وهى تثير في مجاري الكلام إشكالاً، أن من أقر لإنسان بملك مطلق، أو بملك مترتب على سبب، مثل أن يقول: كانت الدار ملكي، فبعتها من فلان بيعاً صحيحاً، فإذا صح الإقرار، فحكمه مستمر على طوال الأمد، ومهما ادعى المقر الملكَ في ذلك المقرّ
__________
(1) المراد (المدّعي الأول) ولكن سمي مدَّعىً عليه، لأنه ادّعى عليه أنه أبرأه، فمن هنا صح قوله: " قال المدعى عليه: أقررتَ بحقي ".(19/98)
به، قام إقراره حجة عليه، وكان مؤاخذاً به. وإن كان لا يمتنع أن يتجدد له الملك في ذلك المقَر به. ولولا هذا الأصل المتفق عليه، لما كان في الأقارير حجةٌ، ومتعلَّقٌ، على ما رآه الأولون، فإذاً مهما ادعى المقِر ملكاً، فدعواه مردودة، إلا أن يسنده إلى التلقي من المقَر له، أو يسنده إلى التلقي ممن تلقى منه.
ولو ادعى رجل ملكاً في يد إنسان، وأقام بينة على ملك نفسه، ووقع القضاء بموجَب بينتِه له، فلو جاء المدعى عليه -بعد زوال يده، والقضاء بالملك للمدعي- وادعى أن هذه الدار ملكي، فقد تلقيت من كلام الأصحاب في هذا تردداً في أن دعواه المطلقة هل تسمع؟ وليقع الفرض فيه إذا لم تكن له بينة.
فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الدعوى على الإطلاق مسموعة هاهنا بتأويل التلقي، وإن لم يذكره. ومنهم من قال: لا بد وأن يذكر في دعواه تلقي الملك ممن قامت له بينة، كما ذْكرناه في الإقرار، ومن سلك المسلك الأول فرّق بأن المقر مؤاخذ بحكم قول نفسه، والبينة لم تشهد إلا على الملك في الحال، فلم ينبسط أثرها على الاستقبال. وهذا الذي ذكرنا، في المدعى عليه.
فأما إذا جاء أجنبي وادعى ملك الدار مطلقاً، فدعواه مسموعة، وإن قامت البينة بالملك للمدعي من قَبْلُ، وتلك البينة موجبها انتفاء الملك عن الناس كافة دون المدعي! فليتأمل الناظر هذا الموضع.
فرع:
12221- إذا أقام المدعي بينة، وقضى القاضي بها، ولم يُزِل بعدُ يدَ المدعى عليه حسّاً، ولكن قضى باستحقاق إزالتها، فلو أراد صاحب اليد أن يقيم بينة بعد نفوذ القضاء باستحقاق يده؛ فهذا مرتب على ما إذا أزال يده، ثم أراد أن يقيم البينة كما تقدم تفصيله، فإن قلنا: بينته مسموعة بعد إزالة يده حساً، فلأن تسمع حيث لم تزل يده بعدُ أولى. وإن قلنا: إذا أزيلت يده، لم تسمع بينته مستندة إلى يده، فهل تسمع إذا جرى القضاء ولم تزل اليد بعدُ؟ فعلى وجهين، والفرق لائح. وقد نجز مقدار غرضنا في القسم الأول (1) .
__________
(1) القسم الأول من أقسام التداعي.(19/99)
[القسم الثاني] (1)
12222- فأما إذا تعلق التداعي برجلين في عينِ تحت أيديهما، وذلك إذا تنازعا داراً في يدهما، فقال كل واحد منهما جميع الدار لي، فتنزيل المسألة من طريق التصوير أن كل واحد منهما مدعىً عليه في نصف الدار مدع في نصفها؛ فإن يد كل واحد منهما ثابتة على نصف الدار، فأول ما نذكره بعد التصوير أنه إذا لم يكن لهما بينة، فلا شك أنهما يتحالفان. ونص الشافعي في الكبير أنه يحلف كل واحد منهما على النفي. ولا يجمع في يمينه بين النفي والإثبات في أول الأمر، ونَصَّ في البيع على أن المتبايعين إذا تبايعا، وتنازعا، وتحالفا، يجمع كل واحد منهما بين النفي والإثبات؛ فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل في المسألتين قولين بالنقل والتخريج: أحدهما - أنه يجمع كل واحد في يمينه بين النفي والإثبات. والثاني - يحلف على النفي فيهما.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرّق بأن قال: في البيع مُثبَتُه في ضِمْنِ منفيِّه ضرورةَ؛ لاتفاقهما على أن العقد واحد. وفي مسألة الدار ليس المثبت في ضمن المنفيّ، لأنه إذا نفى ما في يده عن صاحبه، لم يصر به مثبتاً ما في يد صاحبه لنفسه. وإن شئت عبرت عن هذا بعبارة أخرى، وقلت: في البيع ما هو مدعىً فيه غير ممتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ إذ العقد واحد. وفي مسألة الدار ما هو مدعىً فيه يمتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ فإن النصف الذي يدعيه غيرُ النصف الذي يُدّعى عليه.
ومن هذا الموضع نقول: ما يتعلق بتحالف المتبايعين، فلسنا نخوضُ فيه؛ فإنه مستقصىَ في كتاب البيع. وإنما نذكر ما يتعلق بتنازع المتداعيين في الدار، وقد حصل طريقان: أحدهما - القطع بأنهما إذا تداعيا، لم نحلّف واحداً منهما ابتداء إلا على النفي، ثم سنفرع ما يؤدي إليه الكلام. والطريقة الثانية: أن المسألة على قولين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - إن كل واحد منهما يحلف على النفي والإثبات يجمع بينهما في يمين واحدة. والأصح القطع بالاقتصار على النفي.
__________
(1) العنوان من وضع المحقق اتباعاً لتقسيم الإمام وتلقيبه.(19/100)
التفريع عليه:
12223- إذا أخذنا بالتحليف، وبدأنا بأحدهما باختيار القاضي، أو بالقرعة -وفيه اختلاف ذكرته في كتاب البيع- فيحلّفه على النفي فيما هو تحت يده، ينفي عنه دعوى صاحبه، ولا ينبغي أن ينفي ملكه عن جميع الدار؛ فإنه مدعٍ في نصفٍ، والمدعي لا يحلف على النفي، فإن حلف، ونفى دعوى صاحبه في النصف الذي في يده، وحلفناه صاحبه، فحلف على هذا الوجه، فَيُقَرُّ كل واحد على نصف الدار.
وإن حلفنا الأول، فحلف على النفي وحلّفنا الثاني، فنكل، رددنا اليمين على الأول، فيحلف الآن على إثبات الملك في النصف الذي هو في يد صاحبه، وهذا مثار إشكال نوضحه بسؤال، ثم نستعين بالله ونجيب عنه.
فإن قيل: كيف تخصص يمينه بالنصف الذي في يد صاحبه؟ وهذا على الشيوع لا يتصور التعيين فيه؟ فأي اختصاص ليمينه بأحد النصفين؟ وكيف يتميز نصف عن نصف؟ ثم كيف يستحق جميع الدار بيمينٍ على نصفها؟ ولو قلنا: يحلف على جميع الدار، لكان حالفاً على الإثبات فيما هو مدعىً عليه فيه؟
قلنا: يمين الرد تُثبت ما كان ينفيه المستحلَف لو حلف على النفي، فإذا لم يحلف ونكل (1) ، جاء المردود عليه بإثبات ما كان ينفيه، ومعلوم أنه كان لا ينفي إلا النصف الذي هو صاحب اليد فيه؛ فيقع الرد في النصف؛ وتثبت الدار في يد المردود عليه على حكمين، نصفها بحكم الملك المتلقى من يمين الرد، وهي كَبيِّنةٍ أو إقرارٍ، ونصفها بحكم اليد المستقرة؛ فإنه حلف فيها نافياً دعوى صاحبه، فانقطع خصامه فيه، إلا أن يجد بينة.
فإن قيل: لو وجد بينة فيما نكل فيه، لكان يقضى له أيضاً؟ قلنا: أولاً، ليس الأمر كذلك، فإنا إذا جعلنا يمين الرد بمثابة الإقرار من المدعى عليه، فقد نقول: لا نسمع بينة المدعى عليه، ثم هذا لا يقدح في غرضنا؛ فإن ما جرى فيه يمين الرد،
__________
(1) ت 5: " إذا لم يحلف، ولكن جاء المردود عليه ... إلخ ".(19/101)
فقد صار ملكاً، والخصومة بين الشخصين، والمراد به أنه صار ملكاً لهذا في حق ذاك.
فإن قيل: إذا كان يحلف على النصف، فكيف صيغته؟
قلنا: يقول: بالله إن النصف الذي في يدك ملكي. وهذا على هذا الوجه متحقق، وكذلك يشتري الإنسان الجزء الشائع في يد إنسان، فإن الدار المشتركة بين شريكين إذا أراد أحدهما بيع نصيبه، فالمشتري يقول: اشتريت منك نصفك، فكما ينسب النصف إلى ملك الشريك، ينسب النصف إلى يد الشريك، وقد نطيل الكلام إذا أعضل شيء، وأعلمُ أنه لا يتبرم به طالب الحقيقة.
ولو عرضنا اليمين على أحدهما أولاً، فنكل، وقد جرى التداعي بينهما، فنحلّف الثاني على النفي والإثبات جميعاً، وإذا نفى وأثبت وحلف عليهما، فقد أطلق الأصحاب أن الملك يثبت له في جميع الدار، وهذا إنما أطلقة من لم يغُصْ.
والوجه أن نقول: يمين الرد تجري في نصف الدار على الإثبات، ويمين النفي تجري في نصفها، ولا حاجة فيما هو يمين الرد إلى استدعاء الخصم والتماسه، بل يكفي فيها نكوله، فأما يمين النفي في النصف الآخر، فلا سبيل إلى عرضها ما لم يطلبها الخصم؛ فإنها حقه؛ فتبين أن اليمين إن كانت واحدة يجب أن تكون مطلوبة من وجه، ويجوز ألا تطلب من وجه، كما نبهنا عليه.
وإذا حصلت الإحاطة بما ذكرناه، فلو قال المردود عليه: بالله إن هذه الدار لي وليس لصاحبي هذا فيها حق ولا ملك، فلا يضر إضافة النفي والإثبات إلى جميع الدار؛ فإن اللفظ على هذا الوجه أجمع وأحوى للغرض.
ولو أراد أن يقول: بالله إن النصف الذي في يد صاحبي لي، ولا حق له ولا ملك في النصف الذي هو في يدي، لكان جائزاً على الأصل الذي مهدناه.
ثم إذا نكل الأول، وأردنا تحليف الثاني؛ أيكتفى بيمين واحدة، أم لا بد من يمينين؟ فعلى وجهين: أقيسهما - تعدد اليمين لتعدد المقصود وتغايرهما، بل لاختلافهما؛ فإنه في البعض مدعىً عليه، وفي البعض مردود عليه، وهما في التحقيق خصومتان.(19/102)
ومن أصحابنا من قال: تكفي اليمين الواحدة إذا وقع التداعي بينهما على الجمع، وطلبُ الاختصار قاعدةُ فصل الخصومات. وقد نجز ما أردنا فيه إذا تداعيا داراً قارّة في أيديهما، ولا بينة في الخصومة.
12224- فأما إذا كان في الواقعة بينة، فلا يخلو: إما أن يكون لأحدهما بينة، وإما أن يكون لكل واحد منهما بينة على وفق دعواه.
فأما إذا كان لأحدهما بينة وأقامها، جرى القضاء بها، ولكن في المسألة شيء يجب التنبه له؛ وهو أن صاحب البينة قد أقامها في النصف الذي في يده ابتداء -قَبل أنْ قامت عليه بينة من المدعي- وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن بينة ذي اليد لا تسمع ابتداء إذا لم يكن للمدعي بينة.
ثم قال القاضي: الأمر وإن كان كذلك، فقد شهدت له البينة بالنصف الذي يدعيه، وجرت البينة على الترتيب فيه. والنصف الثاني دخل في الشهادة على طريق التبع، فتساهل الأصحاب في قبولها، وهذا الذي ذكره فيه احتمال بيّن، فلا وجه لإتباع النصفِ النصفَ، وكل نصف مقصود في نفسه، [يجب رعاية قياس] (1) الخصومة فيه، ولعل المعنى الذي يسوّغ سماع البينة كما ذكره القاضي أن عبارة الشهود تضطرب لو خصصوا شهاداتهم بأحد النصفين [على] (2) التمييز مع تحقق الشيوع. وفي المسألة احتمال لائح (3) .
12225- وإن كان لكل واحد منهما بينة، فأقام كل بينتَه، لم تؤثر البينتان في تغيير ما كانا عليه قبل الخصام، بل كل واحد على نصف الدار، غير أنهما كانا على ظاهر اليد، وقد ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف. قال القاضي: يجب أن يقال: من أقام البينةَ ابتداء منهما يقيم البينة في النصف الذي يدعي عليه مرة أخرى، بعد أن
__________
(1) عبارة الأصل: " وكل نصفٍ مقصود في نفسه، يجوز غاية الخصومة فيه ". والمثبت عبارة (ت 5) .
(2) في الأصل: " مع ". والمثبت من (ت 5) .
(3) ت 5: " شائع ".(19/103)
قامت بينة صاحبه عليه ثانياً؛ لأنه أقامها قبل الاحتياج إلى الدّفع، وهذا بناء منه على المذهب الظاهر في أن بينة صاحب اليد لا تسمع قبل مسيس الحاجة، وهو منْقدِح حسن لا بحث فيه، وقد انتجز مقدار الغرض في القسم الثاني. فأما
القسم الثالث (1)
12226- فمضمونه كلام، فيه إذا ادعى رجلان شيئاً في يد ثالث، ادعى كل واحد منهما لنفسه بكماله، وأقام كل واحد منهما بينة على حسب دعواه، ففي المسألة قولان في الأصل: أحدهما - أن البينتين تتساقطان وتتهاتران، والرجوع بعد سقوطهما إلى يمين المدعى عليه. والقول الثاني - أن البينتين تُستعملان.
ثم إذا قلنا بالاستعمال، ففي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها - أنا نقرع بين الخصمين، فمن خرجت له القرعة، قضينا له بما ادعاه، وخاب صاحبه، وعلى هذا القول هل يحلف من خرجت له القرعة ضماً لليمين إلى القرعة؟ فعلى قولين. والقول الثاني -من الأقوال الثلاثة- أن البينتين تستعملان بالوقف إلى أن يصطلحا. والثالث - أن المدعى يقسم بينهما نصفين، إذا كان المدعى قابلاً للقسمة. ولسنا نعني بقبول القسمة في هذا الباب قبول التبعيض ظاهراً؛ فإن المدعى لو كان عبداً أو دُرّةً مثلاً، فليس قابلاً للانقسام من طريق الحسّ والعِيان، ولكن المعنيّ بالانقسام في هذا الباب أن إضافة النصف إلى ملك كل واحد ممكن لا استحالة فيه مع الشيوع، فهذا هو المراد في قولنا: " إذا كان المدعى مما يتصور انقسامه ". ولا يخفى ما ذكرناه على الناظر، إن شاء الله.
12227- وعلينا بعد هذا أن نتكلم في نوعين: أحدهما - في كلام الأصحاب في
__________
(1) هنا وضع الإمام العنوان بنفسه ثالثاً للأول والثاني اللذين وضعناهما في سياقهما آنفاً. ونذكر أنه يعني -كما هو واضح- الثالث من صور التداعي الثلاث وهي:
1- بين صاحب اليد (الداخل) ومن لا يد له (الخارج) .
2- بين رجلين في عينٍ تحت أيديهما كلٌّ يدعيها كاملة لنفسه.
3- أن يدعي رَجُلان شيئاً في يد ثالث كلٌّ يدعيه لنفسه كاملاً.(19/104)
محل القولين الأولين في التهاتر والاستعمال. وحاصل القول في هذا يستدعي ذكرَ ثلاثِ صور: إحداها - أنه إذا ادعى كل واحد الشيءَ على وجهٍ يمكن تقدير صدق البينتين على ذلك الوجه على الجملة، وإن كانتا على التناقض في المعنى، وذلك بأن يقال: لعل شخصاً مالكاً أوصى لزيد بجميع هذه الدار، وسمع شهودُه ذلك، وأوصى ذلك الشخص بجميع الدار للمدعي الآخر، وسمع شهودُه ذلك، وأقام كل واحد منهما شهودَه. ولم يَشْعر شهودُ زيد بالوصية لعمرو، ولا شهودُ عمرو بالوصية لزيد، فيقرب تأويل الصدق على هذا الوجه. هذه صورة.
والصورة الثانية- أن تقع الشهادتان على وجه يبعد تأويل تصديقها، وهو مثل أن تشهد إحداهما لمقيمها بالشراء من شخص، وتشهد البينة الثانية لمقيمها بالشراء من ذلك الشخص مع اتحاد التاريخين، فتأويل الاجتماع على التصديق بعيد، وكذلك إذا أسند كلُّ بيّنةٍ الملكَ في البهيمة المدّعاة إلى وقوع نتاجها في ملك المدعي، والنتاج مما لا يتكرر (1) ، فلا يحتمل صدق البينتين بوجه (2) .
والصورة الثالثة - أن تقع البينتان على التكاذب قطعاً من غير خيال. وذلك بأن تشهد إحداهما على قتل شخص في وقت وحزّ رقبته، وتشهد الأخرى على بقائه حياً متصرفاً في ذلك الوقت وبعده، ويقرب من هذا النتاجُ.
والغرض أنهما إن تكاذبتا قطعاً، فمن أصحابنا من قطع بالتهاتر، ومنهم من أجرى القولين، وإن احتمل تأويلاً -كما ذكرناه في الوصية- فالقولان في التهاتر والاستعمال جاريان. فإن قيل: هلاّ قطع قاطعون بالاستعمال؟ قلنا: لم يقطع به أحد؛ لأن البينتين في ظاهرهما متناقضتان ولا تَرجُّح، وتعارضُ الظاهرين إذا لم يترجح أحدهما في الظهور والبعد عن التأويل كتعارض النصّين، والتأويل لا يتطرق إلى واحدة منهما.
هذا وجهٌ في التصرف.
والوجه الثاني - أن الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال تجري حيث يمكن جريانها، وقد يتعذر جريان بعضها، فليكن إجراؤها على حسب التصور، وقد قال الأئمة: إن
__________
(1) ت 5: " مما لا يتأبد ".
(2) المراد نتاج عامٍ محدّد، فلا يحتمل الصدق أن يكون النتاج في يد كل منهما في الوقت نفسه.(19/105)
كان المتنازَع نكاحاً في امرأة تنازعها رجلان، فلا شك أن قول القسمة لا يجري به.
قالوا: كذلك لا يجري قول الوقف؛ فإن الاصطلاح في النكاح غيرُ (1) ممكن، ولا معنى لحبس المرأة أبداً، وأما القرعة: فقد تردد فيها الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن قول القرعة جارٍ، وذهب آخرون إلى أنه لا يجري، فإنا نمتنع عن إجراء القرعة في الطلاق إذا استبهم، فيجب الامتناع منها إذا وقع النزاع في استحلال البضع بالنكاح؛ فإذاً ينحسم أدوال الاستعمال بجملتها، فنضطر إلى القطع بالتهاتر.
فلو كان المتنازَع عقدَ بيع، فقول القرعة جارٍ، وامتنع بعض أصحابنا عن إجراء قول الوقف بناء على أن البيع لا يقف، وهذه غفلة ظاهرة؛ فإن الوقف الذي نمنعه في البيع، إنما هو توقف العقد على وجود شرط قد تخلف عنه، فأما التوقف في الخصومات، فلا يمتنع فرضه في البيع.
والغرض مما ذكرناه أن يتبين الناظر أن جريان أقوال القسمة لا يعم كل صورة. فإذا خضنا في المسائل أوضحنا هذا المقصود، إن شاء الله.
12228- ثم إن المزني اختار لنفسه قولَ التهاتر، وارتضى للشافعي قول القسمة، أما اختياره لنفسه، فلا معترَض عليه فيه، وليس مساعَداً في اختيار قول القسمة للشافعي، وقد أبطله الشافعي في مواضع، وقال: من قال بالقسمة دخلت عليه شناعة (2) ؛ فإنه ليس قاضياً بواحدة من البينتين.
12229- وتوجيه الأقوال بعد ذلك على إيجاز: من قال بالتساقط؛ تعلق بالتضاد، واستشهد بتعارض أدلة الشريعة، ومن قال بالاستعمال تعلق باشتمال الخصومة على البينتين، ولا ننكر أن الأَوْجَهَ التهاترُ، ثم قول القرعة يوجّه بجريان القرعة في مواضع الإشكال، وقولُ القسمة يوجَّه باستواء المتداعيين، وتعلُّق كل واحد منهما بما لو انفرد به لقضي به، فالبينتان بمثابة الاشتراك في يده، وأعدل الأقوال في الاستعمال قول الوقف؛ فإن البينتين متفقتان على كون المدعى عليه مبطلاً، فبعُد
__________
(1) سقطت من (ت 5) .
(2) هذا النوع الثاني من الكلام الذي فُهم من الكلام في الفقرة 12227.(19/106)
إحباطهما، فاستعملنا البينتين في إزالة يد المدعى عليه، وعسُر إمضاؤهما على التفصيل بين المتداعيين، فأورثا إشكالاً بينهما، واقتضى ذلك التوقف إلى الاصطلاح.
وقد انتهى ما أردناه في تمهيد أصول الكتاب، ونعود بعده إلى ترتيب المسائل.
فصل
قال: " وسواء أقام أحدهما شاهداً وامرأتين والآخر عشرة ... إلى آخره " (1) .
11230- إذا أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الآخر رجلاً وامرأتين، لم تترجح إحدى البينتين على الأخرى باتفاق الأصحاب.
فإن أقام أحدهما شاهدين، أو شاهداً وامرأتين، وأقام الآخر شاهداً وأراد أن يحلف معه؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نرجح البيّنة التامة على الشاهد واليمين. وهذا هو الأصح؛ فإن الشاهدين إذا شهدا، كانت شهادتهما حجة مستقلةً، غيرَ آتية من قبل المدعي، ومن أراد أن يحلف مع شاهده، فحجته تتم بقولٍ من جهته.
والقول الثاني - أن البينتين تتساويان، لأن كل واحدة بينةٌ، لو انفردت، لوقع القضاء بها.
ولو أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الثاني عشرة من الشهود، أو ثلاثة، فالمنصوص عليه في الجديد أنا لا نرجح بينة على بينة بعدد الشهود، وللشافعي قول في القديم أنا نرجح إحدى البينتين بمزيد العدد على الأخرى، وهذا ليس يبعد توجيهه، أما وجه القول الجديد، فهو أن كل بينة كاملةٍ مستقلة، والزيادة لا حاجة إليها، فوجودها وعدمُها بمنزلة. وهذا منطبق على قواعد الفقه.
ووجه القول القديم أن الأصل الذي عليه التعويل الثقة. كما يعتبر ذلك في الروايات، ثم الترجيح يقع بكثرة الرواة في الرأي الظاهر؛ فليقع الترجيح بها في
__________
(1) ر. المختصر: 5/261.(19/107)
الشهادة، ولتكن الشهادة في ترجيح الثقة كالرواية في أصل الثقة.
والقائل الأول يقول: التعبد في الشهادات أغلب، بدليل أن العدل الواحد قد يعدل في الثقة جمعاً في الرواية لاختصاصه بمزيد التثبت والورع، ولا تقوم الحجة بقول عدل واحد في الشهادات.
وخرّج أصحابنا التفاوت في الورع والتثبت بين البينتين على وجهين، كما ذكرناه في التفاوت في العدد، وهذا قياس سديد كالرواية، فكانا في الجديد لا نلتفت إلى طرق الترجيح الجارية في الرواية، وفي القديم نتمسك بما يرجح الرواية.
ثم إذا كانت كل بينة بحيث لو انفردت، لاستقلت، ولو شهد عدلان من جانب، وهما على المنصب الأعلى في الثقة والتثبت، وشهد في مناقضتهم عشرة مثلاً من أوساط العدول، فيتعادل الورع ومزية التثبت مع زيادة العدد، ويجب على القاضي أن ينظر بينهما نظر المجتهد بين خبرين يُرويان على هذا الوجه، إذا فرعنا على القديم.
وأما إذا فرعنا على الجديد، فلا حاجة إلى هذا.
وقد أطلق الأصحاب أقوالهم بأن الرجلين الشاهدين في معارضة الرجل والمرأتين، وليس يبعد عندي إذا فرّعنا على القديم أن نرجح الرجلين؛ بدليل أن من أقام رجلاً شاهداً وحلف معه في المال أمكنه ذلك، ولو أقام امرأتين وأراد أن يحلف معهما لم يجز.
والذي بقي في الفصل فرضُ بيّنتين من خارج وداخل، مع اختصاص إحداهما بما يقع الترجيح به تفريعاً على القديم، فإذا فرعنا عليه نظرنا؛ فإن كان ما يوجب الترجيح في بينة صاحب اليد، فلا إشكال؛ فإن بينته رجحت باليد وغيرها، وإن كان في جانب الخارج كثرة في الشهود، أو اتصاف بمزية الورع، فقد اختلف أصحابنا -والتفريع على القديم- فمنهم من يحكم باستواء البينتين لاعتضاد إحداهما باليد، واختصاص الأخرى بالمزية التي ذكرناها.
ومن أصحابنا من قدّم اليد على كل ترجيح؛ فإن اليد مشاهدةٌ محسوسة، والأسباب التي يقع الترجيح بها غايتها مزيد تغليب ظن في أمر لا يُحسّ، وذلك مفرع على الترجيح.(19/108)
فصل
قال: " وإن أراد الذي قامت عليه البينة أن يُحلّف صاحبه ... إلى آخره " (1) .
12231- إذا أقام المدعي بينةً على ثبوت استحقاقه، فأراد المدعى عليه أن يحلف معها، وقد شهدت البينة له، لم يُجَب المدعى عليه إلى ما يطلبه؛ ويقال له: قد بيّنت البينةُ ملكَه، فلا افتقارَ معها إلى يمينه على الملك.
وإن قال المدعى عليه بعد قيام البينة: قد باع هذا مني، قلنا: ثبتت الخصومة الأولى بجهتها، وأنت تريد أن تبتدىء الدعوى، فلك أن تحلّف على نفي البيع صاحبَك.
ولو قال المدعى عليه: أُحلِّف خصمي: " لا يعلم أن شهوده مجروحون "، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - أنه لا يسمع منه هذا؛ لأنه لم يدّع لنفسه حقاً، وإنما طعن في بينةٍ قد عُدّلت ظاهراً وباطناً، ومطعن الخصم غير مقبول إذا لم تقم حجة.
ومن أصحابنا من قال: دعواه مسموعة، والمدعي مدعو إلى الحلف؛ من جهة أنه لو أقر لخصمه بما قال من جرح الشهود، فالخصم ينتفع بإقراره وتصديقه، وكلّ ما ينتفع به الخصم لو فرض الإقرار به، وجب سماع الدعوى فيه؛ فإن التحليف تلو الإقرار؛ إذ المقصود منه حمل المحلَّف على الإقرار إذا تورعّ عن اليمين.
قال القاضي: يمكن أن يُبنى على هذا التردد أصل ضابط فيما يجري التحليف فيه، فيقال: حد ما يجري التحليف فيه ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن حدّه أن يدعي حقاً، والثاني - يكفي أن يَدّعِي (2) ما لو أقر به الخصم، لنفع إذا كان لا يؤدي إلى فساد -احترازاً عن منع تحليف الشاهد والقاضي- فعلى هذا لو ادعى عيناً على إنسان،
__________
(1) ر. المختصر: 5/261.
(2) ضبطت في الأصل: " يُدْعى ".(19/109)
فقال المدعى عليه: [هو] (1) أقرّ لي بهذه العين، ولم يقل هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار، فهل يقبل قوله؟ وهل يحلّف صاحبه على نفي الإقرار؟ فعلى الوجهين؛ فإن من ادعى إقراراً ليس يدعي لنفسه حقاً، ولكن لو أقر صاحبه بما ادعاه، لنفعه، فيخرج ذلك على الخلاف الذي ذكرناه. وكذلك المدعي في الابتداء، إذا لم يدّع استحقاقاً، ولكنه ادعى أن صاحبه أقر له بمال، فهل تقبل الدعوى ابتداء على هذا الوجه؟ فعلى الوجهين المقدمين.
وكذلك إذا قذف، ثم ادعى على المقذوف أنه زنا، وطلب يمينَه، فهذا خارج على الوجهين.
وكذلك إذا ادعى على إنسان مالاً، فقال المدعى عليه: قد حلّفني في هذه الدعوى مرة، فهل يقبل قوله؟ فعلى ما قدمنا من الوجهين. فانتظمت هذه المسائل على نسق واحد.
فصل
قال: " ولو ادعى أنه نكح امرأة، لم أقبل دعواه، حتى يقول نكحتها بولي وشاهدي عدل ورضاها ... إلى آخره " (2) .
12232- المنصوص عليه أن من ادعى نكاحاً مطلقاً، لم تسمع دعواه، حتى يفصّل أو يفسّر، وعماد التفصيل التعرض لثلاثة أركان: أحدها - الولي، والآخر - الشاهدان، والآخر - الرضا ممن يطلب منه الرضا.
[وظاهر] (3) النص أن من ادعى شراء أو بيعاً، كفاه إطلاق الدعوى، ولم يلزمه تفسيره بالوجوه المرعية في الصحة.
وخرّج بعض أصحابنا في النكاح قولاً من البيع، قالوا: تقبل الدعوى في النكاح مطلقة؛ من غير تعرض للتفسير.
__________
(1) زيادة من (ت 5) .
(2) ر. المختصر: 5/261.
(3) في الأصل: " فظاهر ".(19/110)
توجيه القولين: من شرط التفسيرَ وجّه قوله بما اقتضاه الشرع في النكاح من رعاية أسباب التأكيد. ولذلك اشترط فيه الولي والشهود، ومن لم يشترط التفسير، اتجه له القياس علي البيع.
ومن أصحابنا من قال: إن قال: هذه زوجتي، ولم يعلق دعواه بالعقد، سُمع مطلقاً، وإن ادعى الابتداء (1) ، فلا بد من البيان، فحصل في النكاح ثلاثة أقوال:
- اشتراط التفسير ابتداء ودواماً.
- والاكتفاء بالإطلاق ابتداء ودواماً.
- والفصل بينهما.
ومن أصحابنا من خرّج في البيع قولاً من النكاح، واشترط فيه التفسير.
12233- وإذا أردنا ترتيب الدعاوى، فدعوى القصاص على الإطلاق غير مسموعة بلا خلاف، حتى يفسّرها بذكر ما يُرعَى في موجِب القصاص.
وإذا ادعى مالاً مطلقاً -ديناً أو عيناً- فلا يشترط التفسير، بلا خلاف.
وفي النكاح نصٌّ وقولان مخرّجان، والنص في البيع قبول الدعوى المطلقة، وفيه تخريج. ثم إن شرطنا التفسير في النكاح، فمعناه التعرض للأصول الثلاثة: الولي، والشاهدين، والرضا.
ولا يشترط التعرض لانتفاء المفسدات، مثل أن يقول: نكحتها وهي خلية عن الزوج والعدة والإحرام؛ فهذا وما في معناه لا يشترط التعرض له؛ لم يختلف أصحابنا فيه.
وإذا شرطنا التفسير في البيع، ذَكَر أركان البيع، ولم يتعرض لانتفاء المفسدات، فيناظر الولي كون البائع من أهل العقد، ولا شهادة في البيع، والعماد فيه التعرض للرضا في قابل البيع، مع ذكر ثمن صحيح. وهذا قول ضعيف.
وإذا لم يشترط التفسير، هل يشترط التقييد بالصحة؟ فعلى وجهين. والوجه
__________
(1) أي ابتداء النكاح، بخلاف من ادعى دوامه.(19/111)
عندي اشتراط التقييد بالصحة في النكاح؛ فإنها لفظة جامعة دالة على المقصود، وإذا شرطنا التفسير في الدعوى، فشرطنا على الشهود أن يفسّروا الشهادة. وإن لم نشترط ذلك في الدعوى، لم نشترط في الشهادة؛ فإن الشهادة تبين الدعوى، فكانت على حسبها، وهي مختصة بلفظ الشهادة تعبداً.
ولو أقرت المرأة بالنكاح، فالأصح قبول إقرارها، وقد مضى ذلك مفصلاً في كتاب النكاح، والذي نذكره الآن أنا إذا اشترطنا التفسير في الدعوى، هل نشترط التفسير في الإقرار ليصح؟ المذهبُ أنا لا نشترط. ومن أصحابنا من شرط التفسير في الإقرار، وهذا يضاهي ما ذكرناه في الزنا؛ فإن شهود الزنا يتناهَوْن في التفسير، ولا يرعى في شهود القذف التفصيل. وهل يشترط في الإقرار بالزنا التفصيل؟ فعلى قولين.
ونحن نعقد فصلاً متصلاً بما ذكرناه، ونبين به أصلاً كثير التداور في الدعاوي والبينات، فلنبين الأطراف، ونربطه بالنكاح.
فصل
12234- ظهر اختلاف الأصحاب في أن يمين الرد يُنرَّل منزلةَ البينة، أو ينزل منزلةَ إقرار المدعى عليه، ثم من الأصحاب من استعمل هذين القولين في غير وجهه.
ونحن نرى أن نرسم ثلاثَ مراتبَ، تحوي كلُّ مرتبة ما يتعلق بها، ثم تنتصب معتبراً في المسائل، فنقول:
إذا (1) ادعى الرجل على امرأة خلية أنها زوجتُه، فإن قلنا: إقرارها مقبول، فالدعوى مسموعة عليها؛ اعتباراً بكل مدّعىَ يصح الإقرار به، وإن قلنا: لو أقرت بالنكاح، لم يُقبل إقرارها، فهل تتوجه الدعوى عليها واليمين؟ فعلى قولين مبنين على أن اليمين المردودة كبيّنة، أم هي بمثابة الإقرار؟ فإن قلنا: هي بمثابة الإقرار، فلا تُحَلَّفُ المرأة؛ فإن غاية توقع الخصم أن تنكُل، ويحلف هو يمين الرد، ولو
__________
(1) هذه هي المرتبة الأولى من المراتب الثلاث.(19/112)
أفضت الخصومة إلى ذلك، لما ثبت غرض (1) المدعي.
ْوإن قلنا: يمين الرد كالبينة، فتُحَلَّف المرأة، فإن حلفت، فذاك، وإن نكلت، ردت اليمين على المدعي، فيحلف ويثبت النكاح بيمينه، كما يثبت ببينة يقيمها، وهذان القولان جاريان على وجههما؛ فإنا إن رَدَدْنا (2) لرد الإقرار، فهو قياس بيّن، وإن قبلنا لمكان يمين الرد ونزولها منزلةَ البينة، فقد أحللنا يمين الرد محل البينة في حق المدعى عليه على الخصوص، ولم يتعده. وإذا ذكرنا المرتبتين بعد هذا، بأن أثرُ ما ذكرناه الآن.
12235- ووراء ذلك بحثٌ، وهو أنا إذا رددنا إقرارها، فهلاّ رددنا إنكارها، لتكون مسلوبةَ العبارة: أقرت أو أنكرت، وهذا هو الذي يليق بمذهب الشافعي في سلب عبارة المرأة؟ قلنا: لا ينتهي الكلام إلى هذا الحد، والدليل عليه أن العبارة ليست متأصلة في الإنكار، ولذلك نقيم السكوتَ مقامه، وهذا لا ينحل انحلالاً فاحشاً أيضاً، فإنا نشترط أن تكون المرأة من أهل العبارة، حتى تنكر أو تسكت، فيقام سكوتُها مقامَ إنكارها.
فإن قيل: هلا قلتم: يحلف المدعي وإن لم تحضر المرأة؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك، فلا بد من ارتباط اليمين بإنكارٍ من المرأة، أو من وكيل لها؛ فإن إرسال الدعوى [واليمين لا ينتظم (3) عليها] .
والذي يغمض في هذا المقام أنا إذا قلنا: إقرار المرأة مردود، فلو حضرت وأقرت لما ادعى الرجل النكاح، فماذا نقول؟ وما أنكرت ليحلف المدعي (4) ؟ وإقرارها لم يُثبت المقصود، ولو قلنا: ينحسم يمين الرد بإقرارها، لكان ذلك حيلة عظيمة في دفع المدعي عن إثبات ما يبغيه بيمين الرد، وهذه الحَيْرة جاءت من التفريع
__________
(1) لأننا قلنا: يمين الردّ تقوم مقام الإقرار، فإذا نكلت، وحلف هو، فكانه أقر بنكاحها، ولا يثبت النكاح بهذا.
(2) رَدَدْنا: أي ردَدْنا الدعوى ولم نسمعها بسبب ردّ إقرار المرأة، فإنها لو أقرت لا يثبت النكاح.
(3) في الأصل: " واليمين عليها لا ينتظم " والمثبت من (ت 5) .
(4) ساقطة من (ت 5) .(19/113)
على أصلين ضعيفين: أحدهما - أن إقرار المرأة لا يُقبل، والآخر - أن يمين الرد كالبينة، ثم إذا دُفعنا إلى ذلك، فالوجه أن نجعل إقرارها كسكوتها (1) ، ونحلّف المدعي إذا قلنا: يمين الرد بمثابة البينة.
وقد نجز الكلام في هذه المرتبة، وانكشف القول عن خزيٍ عظيم، وهو ألا يثبت النكاح بإقرار المرأة، ويثبت بيمين المدعي ابتداء، والذي يحقق هذا أن المرأة لو أرادت أن تحلف، فلها ذلك. وحلفها [يقطع] (2) الخصومة، وعُرِض اليمين عليها مستقلاً (3) ، ولو أقرت، كانت كما لو أنكرت ونكلت عن اليمين.
12236- المرتبة الثانية - نفرضها في النكاح أيضاً ونفرعها على قبول إقرارها، ونقول: إذا ادعى نكاحَ المرأة رجلان، فأقرت لأحدهما، وقبلنا إقرارها، فلو ادعى الثاني عليها، فهذا قد فصلناه في كتاب النكاح، ونحن نُعيد -مما ذكرناه- ما تمسّ الحاجة إليه في نظم مقصود هذا الفصل، فنقول: ذهب بعض أصحابنا إلى أنها إذا أنكرت دعوى الثاني، ونكلت عن اليمين، وحلف هذا الثاني، ففي ثبوت النكاح في حقه وانبتات النكاح في حق الأول قولان مبنيان على أن يمين الرد بينة أم هي بمثابة إقرار الخصم؛ فإن جعلناها كالبينة، أثبتنا النكاح في حق الثاني.
وهذا سرف عظيم؛ فإن يمين الرد إن جعلت كالبينة في حق المدعى عليه في أمرٍ لا يتعداه، فله وجهٌ على حالٍ، فأما تقديرها بينةً لإبطال حق الغير، فهذا على نهاية البعد.
وهذا المسلك الذي حكيناه عن بعض الأصحاب مشهور في المسائل مُردَّدٌ في أصول: منها أنه إذا ادعى رجل على رجل قَتْلَ خطأ، فأنكر المدعى عليه، ثم نكل عن اليمين، وحلف المدعي يمين الرد، فالدية هل تضرب على العاقلة؟ خرّجوه على ما ذكرناه. وهو بعيد.
__________
(1) وسكوتها كإنكارها.
(2) في الأصل: " القطع ".
(3) ت 5: " مستفاد ".(19/114)
12237- والمرتبة الثالثة -وهي أبعدها- ذكرها الشيخ في شرح الفروع، وقال: إذا ادعى رجل على امرأة- يحسبها خلية- نكاحاً، وجرينا على قبول إقرارها، فأنكرت ونكلت، ورددنا اليمين على الخصم، فحلف، فحكمنا بالنكاح، وسلمنا المرأة إلى الحالف فجاء مدعٍ وادعى نكاحها، وأقام على ذلك شاهدين عدلين، قال رضي الله عنه: إن قلنا: يمين الرد بمنزلة إقرار الخصم، فالبينة مقدمة في هذه الصورة، والمرأة مسلّمة إلى الذي أقام البينة، وإن قلنا: إن يمين الرد بمثابة البينة، قال: سبيلهما سبيل بينتين تعارضتا، فإن حكمنا بالتساقط، فهما على مجرد الدعوى منها، ولا يخفى تفصيل ذلك، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فلا يجيء هاهنا إلا قول القرعة، والحكم بها.
وهذا الذي ذكره على نهاية البعد؛ فإن من قال: يمين الرد بمثابة البينة، فإنما قدّر تقديراً حاصله أن يثبت بيمين الرد ما لا يثبت بالإقرار إذا ترتبت اليمين على إنكار من تصح عبارته على الجملة، ولا يصح إقراره، فجعل اليمين من الخصم حجة زائدة على الإقرار المجرد مما لا ينفذ إقراره. وإذا انتهى الأمر إلى تقديم قول المدعي ويمينه على شهادة عدلين يقيمها آخر، فقد بلغ مبلغاً لا يحتمل، وآل الأمر إلى تقديم قول الخصم المؤكد باليمين على شهادة العدول، وهذا بعيد لا سبيل إلى القول به.
وإنما أوقَعْنا هذا الكلامَ في المرتبة الثالثة لسببيّة (1) أن هذا أبعد من الحكم بيمين الرد على ثالث لا تتعلق الخصومة به؛ فإن ذلك الثالث لم تصدر منه حجة، فيقال: تعارضت اليمين مع حجة. ونحن -فيما نظن- لا نُخلي تقديماً وتأخيراً وترتيباً في مساق الكلام عن غرض فقهي، لو تأمل الناظر، لاح له إن شاء الله عز وجل.
فرع:
12238- إذا ادعت المرأة عقدَ النكاح على الرجل، فإن ذكرت في دعواها صداقاً، أو نفقة في النكاح، وقصدت إثبات ما ذكرته من المال، فدعواها مقبولة فيما تقصده من المال.
وإن لم تتعرض لذكر مال، ولكنها ادعت النكاح المجرد، فهل تُسمع دعواها في
__________
(1) ت 5: " ليستبان ".(19/115)
ذلك أم لا؟ ذكر صاحب التقريب والعراقيون وجهين: أحدهما - لا تسمع الدعوى؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا كان الزوج منكِراً للنكاح؛ فإنه لو أقر، لثبت النكاح بتقارّهما، فإذا أنكر، فأحد الوجهين أنه تلغو دعواها، ولو أرادت إقامةَ البينة على النكاح، لم تسمع منها؛ فإن النكاح حقه عليها، وله الدعوى فيه عليها؛ فيبعد انعكاس الترتيب في الدعوى.
والذي يوضح ذلك أنه إذا أنكر كونَها منكوحة له، فتحرم عليه بذلك القول، فلا معنى لقبول دعواها والحالة هذه، ثم إذا لم نقبل دعواها، لم نسمع بينتها.
والوجه الثاني - أنه تقبل دعواها؛ فإن لها حقوقاً في النكاح، والنكاح مشتمل عليها؛ فدعوى النكاح تتضمّن تلك الحقوق. ثم هذا القائل يقول: إذا أنكر الرجل أئه نكحها أصلاً، أو قال ليست منكوحة لي، وفسّر ذلك الإنكار بنفي أصل النكاح، أقامت المرأة البينة أنه نكحها نكاحاً صحيحاً، فيثبت النكاح.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً. فقال: إن أنكر الزوج أصل النكاح والعقد، فلا تقام البينة عليه، وإن اعترف بالعقد ولكنه زعم أنه شغر من الولي، أو لم يَجْر بمحضر شاهدين، فأقامت المرأة البينة أن ذلك النكاح كان مستجمعاً لشرائط الصحة، فنقبل منها ونُثبت النكاح ونُثبت حقوقَها، ولها طلب القَسْم إن كان للزوج نسوة سواها.
وهذا نقلٌ منا لما ذكره صاحب التقريب والعراقيون، والبحث وراء ذلك.
12239- فنقول: أما الوجه الثالث، فلا خير فيه، فإنه إذا أنكر صحةَ النكاح، فلا أثر للاعتراف بصورة العقد، فليحذف هذا من البَيْن، ثم النظر بعد ذلك.
فنقول: الكلام في المسألة يتعلق بثلاث منازل: إحداها - أن تدعي المرأة النكاح، فيسكت الرجل، ولا يبدي إنكاراً، ولا إقراراً، ففي سماع البينة والحالة هذه وجهان: [أحدهما - لا تسمع البينة] (1) ؛ من جهة أنها لم تتعرض إلا للنكاح، وهي لا تستحق بالنكاح على زوجها مُستمتَعاً، ولم تتعرض لحقوقٍ مالية، حتى نقدرَها مقصودةً بالدعوى.
__________
(1) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.(19/116)
والوجه الثاني - أن البينة مسموعة؛ لأنها ذاتُ حظ في النكاح نفسه، وهو جامع لحقوق مالية، منها النفقة التي تَدِرُّ شيئاً شيئاً، ولو أفردتها بالدعوى، لاحتاجت كلَّ يوم إلى معاودة الدعوى، فإذا سمعنا دعواها في النكاح [وبَيَّنَتها] (1) ، فيثبت أصل النفقة، وتستغني عن معاودة الدعوى.
هذه منزلة.
المنزلة الثانية - إذا أنكر الزوج أصل النكاح -والقول في هذه المرتبة يترتب على القول في الأولى- فإن قلنا: لا تسمع دعواها إذا سكت الزوج، فلا معنى لسماعها في هذه المرتبة، وإن قلنا: دعواها مسموعة في سكوت الزوج، فإذا أنكر هل تبطل الدعوى بعد ما سُمعت؟ فعلى وجهين مبنيين على قاعدة: وهي أن الزوج إذا أنكر النكاح، ثم اعترف به، فهل يقبل اعترافه، أم يمتنع عليه إثبات النكاح بعد تقديم إنكاره؟ وهذا مختلف فيه. وعندنا أن حقيقة الخلاف في قبول دعوى المرأة تتلقى من هذا. فإن حكمنا بأن اعترافه بعد إنكاره مقبول، وله إذا اعترف أن يغشاها، فالدعوى لا تبطل بإنكاره إذا سمعنا الدعوى في سكوته، وتترتب على الدعوى حقوقها المالية.
وإن قلنا: لا يقبل اعترافه، فلا سبيل إلى إثبات النكاح عليه فيما يتعلق به، ولكن هل تثبت حقوقها المالية عليه؟ ففيه احتمال وتردد.
وكل ذلك وراء قولنا: إنكار الزوج للنكاح، أو لشرط من شرائطه بمثابة الطلاق المُبين، كما قدمنا في ذلك نصَّ الشافعي حيث قال: " إذا قال الرجل: نكحت هذه الأمة، وأنا واجد لطَوْل حرة، قال: هذا طلاق مبين " وقد أوضحنا في الخلع خروجَ هذا النص عن قياس الأصول، ومسيس الحاجة إلى تأويله إن أمكن تأويله، ولا تفريع عليه.
وما ذكرناه من التردد في الاعتراف بالنكاح بعد إنكاره لا يختص بالنكاح، بل كل من أنكر ملكاً وحقاً، ثم زعم أنه غلط في إنكاره، وعاد إلى ادعائه، ففيه الخلاف الذي ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: " ونثبتها ".(19/117)
هذا تحقيق هذا الفصل (1) .
ومآل الكلام فيه رجع إلى تعلُّقِ دعوى المرأة في حالة السكوت بما ليست مستحقة فيه من وجه، وتعلُّقِ طرف منه في بعض الصور بإنكار الزوج، وتصوّر اعترافه بعده، وهذا يرجع إلى الكلام في بطلان الدعوى بعد سماعها.
وتمام الكلام في هذا أنا إذا أثبتنا دعواها، فلها حقوقها المالية، ولا خلاص منها إلا بالطلاق، وأما طلب القَسْم، فإن لم نصوّر اعترافاً بعد إنكار، ولم نصححه، فطَلَبُ الزوج بالقَسْم محالٌ، وهي محرمة عليه. وإن قلنا: يتصور منه الاعتراف بعد الإنكار، ففي طلب القَسْم منه احتمال، مع إصراره على دعوى التحريم، وإن كنا نثبت الحقوق المالية. وقد انتجز الغرض.
فصل
12240- إذا ادعى الرجل الملك في عينٍ -هي في يد غيره- مطلقاً، وسمعنا دعواه، فشهدت البينة بالملك، وذكرت سببَ الملك، فقد قال القاضي: البينة مسموعة، وإن انفردت بذكر شيء لم تشتمل الدعوى عليه، وليس هذا كما لو ادعى ألفاً، وشهدت البينة له بألفين، فالألف الزائد لا يثبت. وفي ثبوت الألف المدعى وجهان، فإن لم نثُبته، ورَدَدْنا الشهادة فيه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في جَرْح الشهود حتى تُردَّ شهاداتهم على وجهٍ عموماً، وليس ذكر سبب الملك من هذا القبيل، فأصل الملك يثبت وفاقاً؛ فإن السبب ليس مقصوداً، وإنما هو كالتابع، والمقصود الملك، وقد وافقت البينة فيه الدعوى هكذا، وهو متجه، لم أر خلافاً فيه.
وفي ثبوت السبب -الذي لم يتعرض المدعي له- نظرٌ، والأوجه أنه لا يثبت، حتى لو قال المدعي بعد قيام البينة: صدق (2) شهودي في ذكر السبب، قيل له: إن أردت
__________
(1) انتهى الفصل، ولم يذكر المنزلة الثالثة من المنازل الثلاث التي وعد بها، ولكنه ذكرها في تضاعيف كلامه، وهي إذا اعترف الزوج بأصل العقد، وأنكر استيفاءه للشروط.
(2) في (ت 5) : " سقط شهودي ".(19/118)
ثبوته، فأعِد الشهادة (1) ، وهذا فيه تردد. ثم زاد القاضي فقال: لو ذكر المدعي سبباً في الملك، وشهدت البينة بالملك، وذكرت سبباً آخر، ففي المسألة وجهان:
أظهرهما - أن البينة لا تُقبل، ولا يثبت الملك للتناقض البيّن بين الدعوى والشهادة.
والوجه الثاني - أن البينة مقبولة؛ لأنها وافقت في أصل الملك، والسبب غير مقصود فلَغا ذكره.
ولو ذكر المدعي سبباً للملك، وشهدت البينةُ بالملك المطلق، ثبت الملك، قَطَعَ به، وهو كذلك؛ إذ لا تناقض وقد شهدت البينة بالمقصود.
ثم قال: " والأيمان في الدماء مخالفة لغيرها " وهذا من أحكام القسامة وقد تقصيناها في كتابها.
12241- وقال: " والدعوى في الكفالة بالنفس ... إلى آخره " (2) .
قد تقدم الكلام في كفالة الأبدان، فإن أبطلناها، رددنا الدعوى فيها، وإن صححناها، فالدعوى فيها مسموعة، فإن أقام المدعي بينة على أن هذا تكفل ببدن خصمي فلان، ثبتت الكفالة، وإن لم تكن بينة، حلف خصمه، وإن نكل حلف، وألزمنا المدعى عليه حكم كفالة البدن. والغرض أن كفالة البدن إذا صحّحناها، فهي كسائر الحقوق المالية وغيرها مما تجري الدعوى واليمين وردها فيها.
فصل
قال: " ولو أقام بينة أنه أكراه بيتاً ... إلى آخره " (3) .
12242- المتكاريان إذا اختلفا، فقال المكري: أكريتك هذا البيت من هذه الدار بعشرة، وقال المكتري: بل اكتريت الدار كلها بعشرة، فإن كان لأحدهما بينة، حكمنا له بالبينة.
__________
(1) المعنى أنه يعيد دعوى الملك والسبب، ويعيد الشهودُ شهادتهم بالملك والسبب، وذلك أن شهادتهم بالسبب قد جاءت قبل تقدم الدعوى به، ولا تقام الشهادة إلا على دعوى مسموعة.
(2) ر. المختصر: 5/262.
(3) ر. المختصر: 5/262.(19/119)
وإن لم تكن بينة تحالفا وترادّا؛ فإنهما متعارضان اختلفا في مقدار المعقود عليه؛ فكانا كالمتبايعين. وإن كانا يقيمان بيّنتين -كلُّ واحد بينةً على موافقته- فإن قضينا بتهاتر البينتين، سقطتا، وكأَنْ لا بينة، فيتحالفان.
وإن قلنا باستعمال البينتين، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال: أحدها - القرعة، والثاني - القسمة، والثالث - الوقف.
ولا شك أن القسمة لا جريان لها، فإنها إنما تعقد حيث يدعي رجلان شيئاً، وكان كل واحد مدّعياً جميعَه، وذلك الشيء مما يتصور الاشتراك فيه، ففي مثل هذا الموضع تجري القسمة، فأما إذا كان التنازع في النفي والإثبات، كما نحن فيه - فإن المكتري يدعي الكراء في الدار، والمالك ينكر العقدَ فيما يزيد على البيت، فلا تتصور القسمة بين النافي والمثبت.
وقول الوقف لا يجري أيضاً؛ فإن في المصير إليه تعطل المنفعة، وهي المقصودة بالدعوى، فيبقى قول القرعة.
وللأصحاب بعد [التنبيه لما] (1) ذكرناه مسلكان - أحطت بهما من مرامزهم، وتفريعاتهم: منهم من قال: الاختلاف في كيفية الاستعمال في الجميع من باب التردد في الأَوْلى، فإذا اجتمعت جهاتُ إمكان الاستعمال في الجميع، اختار كل فريق مسلكاً، وهؤلاء يقولون: إن امتنع المختار، جوزتُ التمسك في الاستعمال بما بقي.
هذا مسلك، فإذاً نعول عليه وإن رأينا القسمة أو الوقف - فإذا تعذرا، نختار القرعة.
ومن أصحابنا من سلك مسلكاً آخر، فجعل كل ما يختار في كيفية الاستعمال متعيناً، حتى لا يجوز فرض غيره، فلا جرم إذا تعذر ما نختاره، حكم بتعذر الاستعمال، وإن كان ما صار إليه الباقون جارياً من طريق الإمكان، فالرجوع إلى التهاتر؛ فإن الاستعمال إذا عسُر، لم يبق إلا التناقض.
وهذا الذي ذكرناه نوضحه فيما نحن فيه، فإذا عسرت القسمة، وامتنع الوقف، وأمكنت القرعة، فمن جعل الاختلاف عند إمكان جميع الجهات راجعاً إلى الأَوْلى،
__________
(1) في الأصل: " البينة بما " وفي (ت 5) : " التنبه لما " والتصرف من المحقق.(19/120)
تمسك بالقرعة، وإن كان لا يراها عند إمكان غيرها، ولم يحكم بالتهاتر. ومن قدر الاختلاف على الوجه الآخر، فالقرعة عنده فاسدة، وإن لم يَبق غيرها.
12243- ومما يجب التنبه له أن المتعاقدين إذا اختلفا وتحالفا، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى إجراء القرعة بينهما. وهذا يُبطل قولَ القرعة، ويستأصله من أصله؛ فإنَّ تعارض اليمينين كتعارض البينتين، ولا ينقدح فرق بينهما به مبالاة. وبالجملة ما تثبت القرعة إلا في أصلين: أحدهما - في التعيين مع الاستواء في الأغراض المقصودة، وفرض التنافس في الأعيان؛ إذ لا سبيل غيرها أو التحكم، وهذا كالإقراع في تعيين الحصص بعد تميزها على الاعتدال؛ فإن أصحاب الحصص إذا تنافسوا (1) في الأعيان لم ينقدح في تنافسهم إلا تحكم السلطان، أو القرعة، والتحكم يوغر الصدور، ثم صدَرُه عما يقع للسلطان وفاقاً، وهو في معنى القرعة، فكانت القرعة أقطع للشغب، وأحسم لغائلة التحكم؛ وقد تأكدت القرعة في هذا المقام بالأخبار المستفيضة في قَسْم الغنائم.
والتحق بهذا استباق الخصوم، وطلبة العلوم، وتقديم البعض على البعض (2) .
هذا أحد المقامين.
والثاني - القرعة في العتق، وهو غير مستدرك بطريق النظر، ولا معتمد فيه إلا الخبر، ثم [استدّ] (3) الشرع على إبطال القرعة في أصولٍ عظيمة، يتحقق الإشكال فيها، وتمس الحاجة إلى التمييز، كالطلاق وغيره، فاضطررنا إلى الاقتصار على مورد الخبر.
فأما إجراء القرعة في حرمان مدّعٍ وتثبيت الحق بكليته للآخر من غير تثبت، فأمر عظيم، سيّما وقد لاح على القرب بطلانه في التحالف، فالوجه إذاً في مسألتنا وفي كل مسألة إبطال قول القرعة، حتى إذا لم يبق غيره، تعين الرجوع إلى التهاتر.
__________
(1) ت 5: " تنازعوا ".
(2) يشير إلى تقديم القاضي للخصوم في الإذن بالدخول والبدء في الخصومة وأنها من مواقع القرعة ملتحقة بمورد الخبر، ومثل ذلك ازدحام طلبة العلوم.
(3) في النسختين: " استمر ". وهو تصحيف تكرر كثيراً لذات اللفظ، واستدّ بمعنى استقام واطرد.(19/121)
ومن أصحابنا من قال في المسألة التي نحن فيها بيّنة المكتري أولى؛ لأنها تشهد بالزيادة. وهذا كلام سخيف، وأول ما يلزم عليه أن يقال: إذا لم تكن بينة، وتحالفا، يقع القضاء لمن يدّعي الزيادة، ثم البينة إنما ترجح بالزيادة، إذا كانت الزيادة في ظهور الصدق، لا في المشهود به.
12244- ثم ذكر ابن سريج صورة أخرى في التنازع في الكراء. فقال: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت بعشرين، وقال المكتري: بل اكتريت جملة الدار بعشرة، فإن قلنا بالتهاتر، لم يخف التفريع، ورجعا إلى الاختلاف في مقدار المعقود عليه. وإن قلنا بالاستعمال، فقول القرعة على ضعفه جارٍ.
قال ابن سريج: أجرى بعض الأصحاب قولاً آخر في الاستعمال يضاهي القسمة، وليس بقسمة، فقال: لو ادعى المكري زيادة في الأجرة، ونقصاناً في المستأجَر، وادعى المكتري زيادة في المستأجَر ونقصاناً في الأجرة، فنجمع بين القولين ونثبت الإجارة في الدار أخذاً بقول المكتري، ونلزمه عشرين درهماً أخذاً بقول المكري، ونقول: الدار بعشرين. قال ابن سريج: هذا ليس بشيء؛ فإنه خروج عن مقتضى البينتين جميعاً. والأمر على ما قال. وعزُّ الفقه وشرفُه في الاقتصار على مسالكه مع التزام الجواب عن كل واقعة، فإذا فتح الإنسان أبواب الوساوس، تباعدت مذاهبه تباعداً يضله عن سواء الطريق، فحق مثل هذا ألا يتمارَى في بطلانه.
فصل
[قال] : " ولو ادعى داراً في يدي رجل، فقال له: ليست بملكٍ لي، وهي لفلان ... إلى آخره " (1) .
12245- هذا الفصل غمرة الكتاب، وكم فيه للفقهاء من اضطراب، وجيئةٍ وذهاب، وسبب ذلك أنه أصلٌ بنفسه، يجب أن يصرف إليه الاهتمام على الوجه الذي يصرف إلى الأصول.
__________
(1) ر. المختصر: 5/262.(19/122)
فإذا ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال المدعى عليه: ليست الدار لي؛ فأول ما يجب ربط الدَّرَكِ به استدراكُ مقصود الفصل، فنقول: مقصود صاحب اليد بنفي الاستحقاق عن نفسه أن يصرف الخصومة عن نفسه؛ حتى لا يُحلَّف، هذا هو الغرض، ولم يجر لهذا ذكر، فكان أصلاً مستأنفاً.
ونحن نقول: لا يخلو المدعى عليه إما أن يقر بالدار لمعيّن متميز، وإما أن لا يعترف بها لمعيّن. ثم القول في القسم الثاني ينقسم، فقد ينفي عن نفسه ولا يثبت أحداً وقد يذكر مجهولاً.
فليقع البداية بما إذا أقر لمعين، وهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يقر لحاضر يمكن مراجعته. والثاني - أن يقر لغائب. فإن أقر لحاضر، وقال: هذه الدار لفلان، فهذا إقرار صدر من ذي يد، وحكمه القبول في ظاهر الأمر. فأول ما يبتديه القاضي أن يحضر المقر له ويراجعه، فإن حضر وصدّق المُقِر، فقد استقر الإقرار، وانصرفت الخصومة من الأول إلى هذا المقَرّ له؛ فإنّ الأول ليس يدعي لنفسه حقاً، والخصومة إنما تدور بين متنازعين، فقد خرج الأول عن الخصام في عين الدار.
فلو قال المدعي: حلّفوه لي حتى إن نكل عن اليمين، حلفتُ، وألزمته قيمة الدار، ونزّلته منزلة ما لو أقر لي بعد الإقرار للأول، ولو فعل ذلك، لالتزم القيمة بانتسابه إلى إيقاع الحيلولة بيني وبين حقي بإقراره الأول.
فنقول: هذا يبنى على القولين فيمن قال: غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، وسلمنا الدار إلى زيد لتقدم الإقرار له، فهل يُغرَّم المقِر للثاني قيمةَ الدار؟ فعلى قولين مشهورين: فإن قلنا: لا يغرم للثاني شيئاً، فلا فائدة في تحليفه؛ فإن العين فاتت، والقيمةُ لا مطمع فيها، والمقصود لا يعدوهما.
وإن قلنا: لو أقر للثاني بعد الأول، لغُرّم القيمة، فنحلّفه رجاء أن يقر (1) ، وإن نكل، فيمين الرجل تُثبت ما يثبته الإقرار. فإذا رأينا تحليفه، فإن حلف تخلّص؛ وإن نكل وحلف المدعي غرّمه القيمة.
__________
(1) أي يقرّ للثاني، فيكون كمن قال: هذه الدار لزيد، لا بل هي لعمرو.(19/123)
قال قائلون من أصحابنا: هذا يخرج على أن يمين الرد تنزل منزلة الإقرار أو منزلة البينة: فإن نزلناها منزلة الإقرار، ففائدتها التزام المدعى عليه القيمة.
وإن قلنا: يمين الرد كالبيّنة، فمن الأصحاب من رأى استرداد الدار من المقرّ له الأول، كما لو أقام المدعى البينة، وهذا يقع في المنزلة الثانية من المنازل التي ذكرناها في يمين الرد، فإنا حكمنا بها على ثالث.
ومن أصحابنا من قال: لا نزيل يد المقر له الأول، ولكن نقتصر على إلزام المدعى عليه القيمة؛ فإن العين فائتة، فالرجوع إلى قيمتها.
ثم فرّع بعض المتكلفين على الوجه الضعيف شيئاً نوضح بطلانه؛ وقال: إذا استرددنا الدار من الأول، فهل يغرم المدعى عليه للأول قيمة الدار، فإنه يقول له: لو حلفتَ يميناً صادقة، لما استُردّت الدار من يدي، فقد صار نكولك سبباً في إزالة يدي، فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يغرِّمه شيئاً، وهو الأصح؛ لأنه يقول: لا يلزمني أن أحلف لك، وعلى أن لا أقر لغيرك إذا رأيتُك مستحِقاً. والثاني - يلزمه أن يغرم له القيمة؛ فإن الدار انتزعت من يده بسببه؛ والسبب يوجب الضمان كمباشرة الإتلاف. هذا كله إذا أحضرنا المُقَر له فصدق المقر.
12246- فأما إذا أحضرناه، فكذب المقِر؛ فقد ذكر الأصحاب أوجهاً: أضعفها - أن الدار تسلم إلى المدعي؛ فإن صاحب اليد ليس يدعيها لنفسه، وكذلك المقر له، فيجب تسليمها إلى من يدعيها لنفسه، وهذا باطل، فإن تسليم الدار إليه من غير بينة، ولا إقرار، ولا ظاهر يد - محالٌ.
والوجه الثاني - أن الإمام يحفظ الدار إلى أن يتبتن أمرُها، ويزيلُ يدَ المقِر عنها، فإن كان للمدعي بينة، أقامها، واستحق الدار، وإن لم تكن له بينة، حفظها إلى أن يتبين أمرَها.
ولو أراد المدعي تحليفَ المقر ليغرمه القيمةَ، لو نكل، وحلف هو، ففيه الخلاف المقدم.
ومن أصحابنا من قال: ترد الدار إلى المقِر؛ فإنه أقر لمن عيّنه. فرد المقَرّ له إقراره فارتد المُقَرّ به إليه.(19/124)
فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلِّفه، فكيف السبيل، وما الوجه؟ هذا لا يتبين إلا بإيضاح أصلٍ، وهو أن المُقِرّ لو أراد الرجوع عن إقراره والمقَر له مصدق، لم يجد إلى ذلك سبيلاً. ولو كذّب المقَر له المقِر، ثم بدا له، فصدقه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يُقبل ذلك، حتى يجدد المقِر إقراراً آخر، وهو الذي ذكره القاضي؛ فإن الإقرار الأول ارتد، وبطل بالتكذيب، فلا بد من إقرار جديد. والوجه الثاني - أنه مهما (1) صدّقه، زال أثر التكذيب، واستقر الإقرار.
وهذا ينشأ من أصلٍ، وهو أن التوكيل بالتصرف إن لم يشترط فيه القبول، فيشترط عدم الرد، فلو رد، بطل، ولا بد من توكيلٍ جديد إن أراد أن يتصرف، وسبب ذلك أن التوكيل عقد يتطرق إليه الفسخ والاستمرار، والإقرار من وجهٍ يشبه الوكالة، ولا يشبهه من وجه؛ لأنه ليس عقداً، وإنما هو إخبار، ويجوز فرض التصديق فيه بعد التكذيب.
وحاصل القول أن من أقر لغيره، وصح الإقرار، لم يملك الرجوع؛ لأنه برجوعه يُبطل حق غيره، وإذا قال قولاً يتضمن انتفاء ملكه، ثم رجع وقوله الأول لم يُثبت لغيره حقاً، ففي رجوعه عنه التردُّدُ الذي ذكرناه.
ومما نذكره الآن أنا إن أزلنا يد المقر، فقد قطعنا سلطانه بالكلية، حتى لو أراد الرجوع عن إقراره، لم يجد إليه سبيلاً، وإن بقّينا الدار تحت يده، فأراد الرجوع عن إقراره، هل يقبل رجوعه والمقر له مكذّب؛ إن قلنا: لو عاد المقر له إلى التصديق، لم يقبل ذلك منه، فلو كذب هذا المقِر نفسَه، لم يقبل منه؛ فإنه نفى الملك عن نفسه، فلا يقبل منه نقيضُ ذلك [كالمقر له] (2) وإن قلنا: المقَر له لو صدّق المُقِرَّ بعد التكذيب، قُبل منه، فالمقِر لو كذَّب نفسه -والمقر له مصرّ على التكذيب، أو مات عليه، وأيس من تصديقه- ففي رجوع المقِر الترددُ الذي ذكرناه. وإن قبلنا رجوع المقِر، فرجع، فقال المُقَر له: صدقت في إقرارك الأول، وكذبت في رجوعك، فهذا فيه تردد، وظاهر قول القاضي أنه لا مبالاة بقول المقر له.
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: " المقر له ".(19/125)
فإذا تبين ما ذكرناه، بنينا عليه الغرض قائلين: إن حكمنا بقبول رجوع المقر، فلا شك أنا نقبل منه الإقرار للمدعي إذا كُذِّب في الإقرار الأول، فعلى هذا يحلّفه المدعي رجاء أن ينكُل، فيحلفَ المدعي ويستحق الدار. فإن يمين الرد كبيّنة أو كإقرار.
وإن قلنا: لا يقبل رجوعه عن الإقرار، فالدار ليست بحكمه، وهي بمثابة ما لو انتزعها القاضي من يده. هذا كله فيه إذا أقر لحاضر.
12247- فإذا أقر لغائب؛ فتعسر مراجعته، ويتعذر وقفُ الخصومة، فلا يخلو المقر إما أن يقيم بينةً أن الدار التي في يدي لفلان -على ما سنوضح وجه إقامتها- أو لا يقيم بيّنة.
فإن لم يُقم على ذلك بينة، ولكنه أقر بها لغائب، فلا يخلو المدعي إما أن يكون معه بينة، على إثبات الملك لنفسه، أو لا يكون معه بيّنة.
فإن لم يكن معه بينة، فالذي قطع به العراقيون أن الخصومة في رقبة الدار موقوفة إلى أن يحضر الغائب. ولو قال المدعي: أحلّف المدعى عليه الذي هو صاحب اليد لا يلزمه تسليمُ الدار إليّ، فإن نكل، حلفت، وأخذت الدار، قال العراقيون: ليس له ذلك ألبتة؛ فإنه أقر للغائب، وإقراره مقبولٌ لظاهر يده، فلا يصير نكوله بعد ذلك مع رد اليمين سبباً في تسليم الدار إلى المدعي، غيرَ أنه لو أراد تحليفه، حتى إذا نكل وحلف المدعي عند نكوله، غرّمه القيمة، فهل [يكون] (1) له ذلك؟ فيه الخلاف المقدم.
وقال شيخي أبو محمد وبعضُ المصنفين: إذا لم يُقم المدعى عليه بينة أن الدار للغائب، ولم يكن للمدعي بينة، فقال المدعي: حلّفوه؛ فإنا نحلّفه: " بالله لا يلزمه تسليمُ الدار إليه "، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فإذا حلف، سلمنا الدارَ إليه، فإنا لو لم نقل هذا، لدفع كل من ادُّعي عليه شيء الخصومةَ عن نفسه بأن يقر لغائب لا يرجى وصولُه وإيابُه.
ثم قال هؤلاء: لو رجع الغائب، فهو على حجته. فإن صدّق المقِرَّ، فالدار
__________
(1) زيادة من (ت 5) .(19/126)
مردودة إليه، ثم يستفتح الخصومة بين المدعي وبينه.
وهذا تباينٌ ظاهر في الطرق. والقياس الذي لا يجوز غيره ما ذكره العراقيون.
هذا كله إذا لم يُقم المدعى عليه بينة، ولم يكن للمدعي بينة.
12248- فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يكن للمدعى عليه بينة أن الملك للغائب، فلا شك أنا نقضي بموجب البينة للمدّعي، وقطع شيخي ومن وافقه بأن هذا قضاء على الحاضر، وهو صاحب اليد، وهذا مستقيم على طريقهم.
وذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن ذلك قضاء على الغائب. والثاني - أنه قضاء على الحاضر، وفائدة قولنا أنه قضاء على الغائب أن القضاء لا يتم بالبيّنة، حتى يحلف مُقيمُ البينة، على ما ذكرنا تفصيلَ ذلك [في القضاء] (1) على الغائب.
وهذا الوجه الأخير هو الذي يوافق مذهبَ العراقيين، وليس لقولهم: هذا قضاء على الحاضر وجه.
وما من فريق إلا ولهم خرجات عن القياس في أطراف هذه المسألة، ونحن ننبّه على ما ينقاس، وعلى ما يخرج عن القياس، وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يُقم المقِر بينةً على أن ما في يده لفلان الغائب.
12249- فأما إذا أقر للغائب، كما صورنا، وأقام بينةً على أن ما في يده للمقَرّ له الغائب، فكيف السبيل؟
الوجه أن نفرض الكلام فيه إذا لم يكن للمدعي بينة، ثم نذكر ما إذا كانت له بينة.
فأما إذا لم تكن بينة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدهما - أن بينته لا تسمع إذا لم يُثْبت وكالة نفسه عن ذلك الغائب؛ فإن إقامته البينة لملك غيره من غير استنابة وتوكيل خصومة عنه، والخصومة عنه من غير توكيل كالتصرف في أمواله من غير توكيله، فإن أثبث وكالة عنه، فسنذكر ذلك على أثر هذا، إن شاء الله. فبيّنته إذاً مردودة عند هؤلاء. ويعود التفريع إلى ما قدّمناه، وهو إذا لم تكن بينةٌ أصلاً، وهذا اختيار شيخي.
__________
(1) زيادة من (ت 5) .(19/127)
والوجه الثاني -وهو مختار المحققين، المحيطين بسرّ هذا الفصل وخاصيته- أن البينة مسموعةٌ، وليس المراد بسماعها أنه يقع بها القضاء للغائب، ولكن لا طريق لمن في يده ملك غيره إلى أن يصرف الخصومة عن نفسه إلا هذا، وليس من الممكن أن يقيم بينة على أن الدار ليست له، وإذا أضافت البينةُ الملكَ إلى الغائب، حصل بذلك غرضُ صاحب اليد، وانصرفت الخصومة عنه، فالطريق في دفع الحلف هذا.
ثم سنوضح أن تلك البينة لا تُثبت ملك الغائب على التحقيق، فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلّف صاحب اليد؛ طامعاً في أن ينكُل، ويحلف هو يمينَ الرد، ويستردَّ الدارَ، لم يمكنه. وتمام هذا الفصل موقوف على نجازه.
والوجه الثالث - أنه إن أقام البينة على أن الدار لفلان الغائب، وهي في يده وديعة أو عارية، فالبينة تُسمع، والخصومة تنصرف عنه في رقبة الدار، فأما إذا لم يذكر لنفسه متعلقاً من إيداع أو إعارة، فلا تُسمع البينة. وهذا اختيار القاضي، وليس يليق هذا بمنصبه؛ فإن السرّ المتبع ما ذكرناه من انصراف الخصومة عنه، ولكن لا وصول إليه إلا ببينة تثبت الملك، والمقصودُ من إثبات الملك للغائب النفي وقطع العلائق.
والوديعة لا تُثبت للمودعَ (1) حقَّ المخاصمة، فلا معنى لاشتراط ادعائها، فإن كانت المسألة على ما وصفناها وسمعنا البينة، فهذه بينة تُسمع، وإن لم تكن للمدعي بينة، وبهذا يتضح أنها ليست ببينة، وإنما الغرض صرف الخصومة إلى الغائب. وكل ما ذكرناه فيه إذا لم تكن للمدعي بينة.
12250- فأما إذا كان للمدعي بينة فأقامها، فبيّنته مقدمة (2) ، ويقع القضاء بها، ولكن القضاء على حاضر أم على غائب؟ قال العراقيون: القضاء على الغائب، إذا أقام صاحبُ اليد بينة على أن الملك للغائب، وفائدته تحليف المدعي مع بينته.
ثم لا تعارِضُ بينةُ صاحبُ اليد بينةَ المدعي؛ لأنها ليست بينة على الحقيقة، وإذا قضينا للمدعي، وكتبنا له السجل، أثبتنا في السجل مجرى الحال، وقلنا فيه: إذا
__________
(1) ضبطت خطأ في (ت 5) : " المودع "، (بكسر الدال) .
(2) ساقطة من (ت 5) .(19/128)
رجع الغائب، فهو على حجته، وهو صاحب اليد، فمهما رجع، رددنا الدار إلى يده، وسمعنا بينته، ثم هو في حضوره يعيد البينة إمّا تيك أو أخرى، ولا يقع الاكتفاء بإقامة صاحب اليد؛ فإنه ما أقامها له وعنه، وإنما أقامها ليصرف الخصومة عن نفسه.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن من ادعى داراً في يد رجل، وأقام بينة، وقضي له بالبينة، وأزيلت يد المدعى عليه، ثم وجد المدعى عليه بينة، فهل ترد الدار إلى يده، ونقدره صاحب اليد، على ما تفصّل في تأسيس الكتاب. وهاهنا إذا حضر الغائب، وأعاد البينة، فلا خلاف أنه صاحب اليد، وبينته مقدمة؛ فإنه كان معذوراً بغيبته، إذ جرى القضاء عليه، وحصل بإقامة صاحب اليد الشهودَ عُلقةٌ على حال، وتنبيهٌ على ارتقاب عوده. فخرج من مجموعه ما ذكرناه.
ولو لم يُقم المدعى عليه بينة على أن الملك للغائب، وأقام المدعي بينة، وحلف معها، ووقع القضاء له، فإذا رجع الغائب وأراد إقامةَ البينة، فهو صاحب اليد، كما ذكرناه، لإقرار المدعى عليه له في ابتداء الخصومة، ولكون الغيبة عذراً له.
12251- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المدعى عليه لو أقام بينة على أن ما في يده لفلان الغائب، وقلنا: البينة مسموعة لصرف الخصومة، فلو لم تكن للمدعي بينة، فقال أحلّف صاحب اليد لينكُل، فأحلف، فأغرمه القيمة، [لم يكن له ذلك، مذهبا واحداً] (1) ؛ لأن الخصومة قد انصرفت عنه بسبب إقامة البينة.
ولو لم يُقم بينة على أن ما في يده لفلان، فأراد أن يحلفه، فقد سبق الكلام فيه، وهو موضع اختلاف العراقيين وغيرهم، وذلك الاختلاف في رقبة الدار: ففي الأصحاب من قال: يستفيد المدعي بيمين الرد الدارَ. ومن أبى ذلك من العراقيين ذكروا خلافاً في أنه هل يحلّفه لينكل؛ فيحلف، فيغرِّمه القيمةَ؟ فعلى الخلاف المقدم المذكور فيه إذا أقر لحاضر وصدقه ذلك الحاضر. نعم، لو عاد ذلك الغائب، وأقام البينة على ملك نفسه، أو وقع الإقرار لحاضر، ثم لما دارت الخصومة بين المدعي والمقر له، أقام المقر له بينة على ملكه، فلا يملك المدعي تحليفَ المقِر ليغرِّمه؛
__________
(1) عبارة الأصل: لم يكن ذلك مذهباً، والمثبت من (ت 5) .(19/129)
فإن الملك استقل للمقر له بالبينة، فخرج إقرار المقر عن كونه مقتضياً حيلولة، ولا مبالاة باقتضاء إقراره له ما يرجح بينته، إذا كانت الإحالة على البينة.
ومن تمام الكلام في ذلك أن المدعى عليه لو أقر للغائب، وأثبت وكالة عنه، ثم أقام البينة بأن الملك للغائب، وهو موكلي، قدّمنا هذه البينة، ونُطنا بها القضاء؛ فإنها بينة مقامة في حقها، مقدَّمةٌ على بيّنة المدعي الخارج. وقد انتهى كُثْر المقصود من ذلك. وبقي الكلام في طرفٍ هو التتمة.
فلو قال المدعى عليه: الدار لفلان الغائب، وهي رهن في يدعب، أو مستأجرة، فقد ادعى لنفسه حقاً، لو ثبت، لاستحق به مدافعةَ المدعي ومنْعَه، فمن لا يسمع البينة فيما تقدم من غير وكالة، ففي سماع البينة في هذه الصورة وجهان.
والعراقيون سمعوا البينة من غير وكالة، ولا ادعاءِ حقٍّ، ولكنهم قالوا: لا محالة، بينة المدعي مقدمة، فلما فرضوا دعوى الرهن والإجارة، وبَنَوْا عليه تصوير إقامة البينة على أن الدار لفلان، وقد أجّرها من صاحب اليد أو رهنها، فإذا أقام بينةً كذلك، وأقام المدعي بينة، ذكروا وجهين: أحدهما - تُقدم بينة صاحب اليد؛ فإن لها تعلقاً بحقه، ويثبت الملك للغائب، لتعلق الملك بحق الحاضر، حتي لا يحتاجَ إلى إعادة البينة إذا حضر. حكى العراقيون هذا الوجه عن أبي إسحاق وضعّفوه.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت ملكُ الغائب، ويثبت ملك المدعي، ولا يثبت الرهن والإجارة؛ فإنهما يتبعان ثبوتَ الملك للغائب، وثبوتَ الملك له يتبع إذنَه وتوكيله.
وقد انتجز الكلام في الطرف الأعظم. وهو إذا أقر صاحب اليد لمعين، حاضراً كان أو غائباً.
12252- فأما إذا نفى الملكَ عن نفسه ولم يُضِفْه إلى معروف معين، فهذا يتصَوَّرُ على وجوه:
أحدها - أن يقول: " ليس هذا بملكٍ لي "، فلا تنصرف الخصومة عنه بهذا، ولا تندفع عنه اليمين، فإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على الحاضر، وإن لم تجر بينة، فله أن يحلّف صاحب اليد، فإن حلف تخلص، وإن نكل حلف المدعي واستحق دعواه. هذا هو المذهب الظاهر.(19/130)
ومن أصحابنا من قال: إذا قال: " ليس هذا لي " ينزع القاضي [العينَ] (1) من يده، ويقول للمدعي: هذا مال ضائع، فإن كانت لك بينة، فأقمها.
والصحيح أن القاضي لا ينتزع من يده إذا لم يضف الملك إلى مُقَرّ له، ولا تنصرف الخصومة عنه. ثم من قال: للقاضي أن ينزع ملكَ العين من يده، يجوّز للمدعي أن يحلّف المدعى عليه ليغرمه القيمة على أحد القولين.
فإن قال المدعى عليه: هذه الدار لرجل، ولا أسميه، فالحكم فيه كما إذا قال: ليس لي، واقتصر عليه.
وإن قال: الدار لرجل لا أعرفه، وقد أُنسيتُ اسمَه وعينَه، فالاختلاف جارٍ في هذه الصورة، غير أن انتزاع القاضي العين من يده على الحكم الذي ذكرناه أَوْجَه في هذه الصورة منه في الصورتين المتقدمتين.
12253- ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو أقر لمجهول، أو قال: ليس لي، ثم قال: كذبت فيما [قلتُ] (2) ، والملك لي، فهل يقبل قوله الثاني؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وهو بعينه الخلاف الذي قدمناه فيه إذا أقر لحاضر، وكذّبه المُقَرّ له، ورجع المقِر عن إقراره، وقد قدمنا ذلك مفصلاً.
12254- ومما يتصل بهذه الجملة أن المدعى عليه لو أقر لصبي أو مجنون، فإقراره مقبول، والخصومة في رقبة الدار تنصرف عن المدعى عليه، ثم يخاصم المدعي قيم الطفل، وإذا آل الأمر إلى اليمين، وقفت الخصومة إلى بلوغ الطفل، وهل يحلّف صاحب اليد ليغرّمه؟ فيه الخلاف المقدم.
وإن قال المدعى عليه: هذه الدار وقفٌ على ولدي، أو على الفقراء، أجري الحكم بالوقف لإقراره، وفي تحليفه لتغريمه القيمةَ الخلافُ المقدم، وإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على التفصيل الماضي.
وإنما يجري الخلاف في التحليف والتغريم إذا أقر بالوقف على ولده؛ فإن التدارك
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " نقلت "، والمثبت من (ت 5) .(19/131)
ممكن، وإن أقر بالوقف على المساكين، فالتدارك فيه ممكن أيضاً بقيام البينة، فكيف فرض الأمر فالخلاف جارٍ.
وقد نجز الفصل على أبلغ وجه في البيان. والله المستعان.
فصل
ذكر الشافعي فصلاً يتعلق بالتواريخ في الدعاوي المتعلقة بالأملاك أو بالأيدي، فرأيت تأخيره إلى باب معقود في هذا المقصود (1) .
ثم قال: " ولو أقام بينة أنه غصبه إياها ... إلى آخره " (2) .
12255- إذا ادعى رجلان عيناً في يد إنسان، فأقام أحدهما بينة على أنه غصبها منه، وأقام الآخر بينة على أنه أقر بها له، فبينة الغصب مقدمة؛ فإن الغصب إذا ثبت، بطل الإقرار. وهذا بيّن.
ثم إذا رددنا الدار إلى مدعي الغصب، فليس لمدعي الإقرار أن يغرمه شيئاً، فإنه يقول: انتُزِعَت الدارُ من يدي قهراً، وإنما يخرج القولان في الغرم إذا كانت الحيلولة محالة على إقرار سابق، ثم يُفرض بعده إقرارٌ لاحق.
ثم ذكر بعد ذلك فصلاً في تقاسيم الأيمان، وأنها متى تكون على البتّ، ومتى تكون على نفي العلم، وقد ذكرنا هذا فيما سبق (3) ، وغالب ظني أنه يعود إن شاء الله في بقية مسائل الكتاب، والحاجة ماسة إليه. والله أعلم.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/262.
ونُذَكِّر هنا بمذهب الإمام أنه يسير على ترتيب (المختصر) ملتزماً إياه، فإذا خالفه، نبه على ذلك.
(2) ر. المختصر: 5/262.
(3) ينبه هنا إلى أنه لم يلتزم ترتيب المختصر في ذكر هذه المسائل في هذا الموضع، حيث أوردها من قبل.(19/132)
باب الدعوى في الميراث
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو هلك نصراني، له ابنان مسلم ونصراني ... إلى آخره " (1) .
12256- إذا مات رجل وخلّف ابنا نصرانياً، وابنا مسلماً، فاختلفا، فقال النصراني: مات نصرانياً، فلي ميراثه، وقال الئاني: بل مات مسلماً، فلي ميراثه، فلا يخلو إما أن يكون قد عُرف دين المتوفى من قبل، أو لم يعرف له دين، فإن اشتهر بالتنصر، ثم تداعيا، فإن أقام أحدهما بينة دون الثاني، قُضي له بالبينة.
فإن لم تكن لهما بينة، وقد عُرف المتوفى بالتنصر، فالقول قول النصراني؛ لأن الأصل دوام ما كان عليه، ومن يدعي الإسلام يدّعي أمراً جديداً، والأصل عدمه.
ولو كانت المسألة كذلك، فأقام كل واحد منهما بينة، فبينة الابن المسلم مقدمة؛ فإن بينته ناقلةٌ مختصة بمزيد علم، وبينة التنصر مستندة إلى استصحاب ما كان عليه، وهذا فيه إذا كانت البينتان مطلقتين، فشهدت إحداهما بأنه مات مسلماً، وشهدت الأخرى بأنه مات نصرانياً، وتقديم البينة الناقلة على البينة المستديمة أصل ممهد في البينات.
فلو شهدت بينة بأن فلاناً أصدق امرأته هذه الدار، وشهدت بينة لابنه بأنه ورثها من أبيه، فبينة الإصداق مقدمة؛ لأنها ناقلة، وبينة الإرث لا تصادمها إلا من جهة التعرض لنفي الإصداق، وهذا لا ثباتَ له.
وكذلك إذا شهدت بينة لواحد بالشراء، وشهدت بينة للابن بالميراث من ذلك الشخص الذي شهدت البينة الأولى بالشراء منه، فبينة الشراء مقدمة. هذا إذا كانت البينتان مطلقتين.
__________
(1) ر. المختصر: 5/262.(19/133)
فأما إذا كانتا مقيدتين: مثل أن تشهد بينة الإسلام بأنه نطق بالإسلام، ومات عقيبه، وشهدت بينة التنصر أنه نطق بكلمة التنصر ومات عقيبها، فهما متناقضتان في هذه الصورة، فتخرج المسألة على قولي التهاتر (1) .
فإن قلنا: إن البينتين تتهاتران، فيجعل كانهما لم تكونا، ولو لم تكن بينة، لكان الأصل بقاء التنصر، وإن قلنا باستعمال البينتين، ففي الاستعمال الأقوال الثلاثة، وهي بجملتها جارية في هذه الصورة، أما القرعة، والوقف، فلا شك في جريانهما، والقسمة جارية عند المعتبرين من الأصحاب.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا يُخرَّج قول القسمة. فإن النزاع آيل إلى الميراث، ويستحيل انقسام الميراث بين مسلم وكافر، وليس كما لو ادعى رجلان داراً عن شراء على صاحب يد؛ فإن قول القسمة عند قيام البينتين يجري؛ فإن الانقسام في الشراء ممكن، ولا يتصور الانقسام في الميراث بين المسلم والكافر.
وهذا الذي ذكره غيرُ معتد به؛ فإن قول القسمة لا يعتمدُ إلا إمكان الشركة في الجنس المدعى، فأما الجهات، فلا نظر إليها؛ فإن القسمة إنما تجري لاستواء المتداعيين في متعلقيهما، وليس أحدهما أولى من الثاني، والتعطيل عند هذا القائل لا سبيل إليه، وليست القسمة لتخيلنا ثبوت استحقاقهما على الانقسام؛ ولم أذكر هذا الوجه لضعفه عند تمهيد الأصول.
وكل هذا فيه إذا عُرف أصل دينه. ثم جرى الخلاف كما وصفنا.
12257- فأما إذا لم يعرف أصلُ دينه، ولكن ادعى أحد الابنين -وهو المسلم منهما- أنه كان مسلماً ومات على الإسلام، وادعى النصراني منهما أنه كان نصرانياً، وأقاما بينتين، فهما متناقضتان، والتفصيل فيه كما قدمنا في التهاتر والاستعمال.
ولو لم تكن معهما بينة، ولم يسبق في المتوفى دين يستصحب، فليس أحدهما أولى من الثاني؛ إذ لو أقاما بينتين موافقتين لدعوييهما، لما ترجحت إحدى البينتين على الأخرى، فإذا كانت لا تترجّح بينة على بينة، فلا تترجح دعوى على دعوى،
__________
(1) أي قولي التهاتر والاستعمال.(19/134)
والنسب ثابت من المتوفى، فسبيلهما في التركة كسبيل متداعيين في دار هي في أيديهما، وقد مضى التفصيل فيه، ويخرج منه أن التركة في أيديهما.
وقد ذكر القاضي أنا ننظر إلى اليد: فإن كانت التركة في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه، وهذا وهم وزلل من الناقل عنه؛ فمانهما إذا اعترفا بأن المال الذي فيه النزاع تركة، فلا حكم لصورة اليد، وما كان تركة فسبيله مع الإشكال تساوي الاثنين فيه.
ومما يجب التنبه له أن أحد الابنين إذا كان مسلماً وقال: لم يزل أبي مسلماً، ومات على ما كان عليه، فمن ضرورة هذا أن ينسب أخاه إلى الردة، فإن ولد المسلم مسلم، ولكن قوله مردود على أخيه فيما يتعلق بدينه.
وأبعد بعض أصحابنا، فقوّى بينة الإسلام بقوة الدار، وصدق مدعي الإسلام مع يمينه لهذا المعنى، وهذا هوسٌ لا أصل له؛ فإن الدار إنما تؤثر في طفل يُلفَى في دار الإسلام بلا أب.
12258- ومما نُلحقه بهذا أنه إذا قامت بينتان في الإسلام والكفر ولم تترجح إحداهما، وجرى القضاء بالتهاتر أو الاستعمال، فالشخص المتوفى يغسل ويصلى عليه، نصّ عليه الشافعي، وشبّهه في هذا الحكم بمسلمين اختلطوا بمشركين، وأردنا الصلاة، فإنا نصلي على المسلمين بالنية (1) ؛ وهذا الاستشهاد إيناسٌ لا حاجة إليه، والمعتمد في الصلاة استناد الإسلام إلى [بيّنة] (2) وليس في الصلاة نزاع، ولا يموت ميت فيقطع له بالإيمان في الموافاة، ولست أنكر تردداً من طريق الاحتمال، سيّما إذا كان الرجل معروفاً بالتنصر، وقد تعارضت بينتان في الكلمة التي بها الاختتام. ولكن النص هذا، ولم أر في الطرق ما يخالفه.
ومن لطيف ما يجب التنبه له أن المتوفى إذا كان معروفاً بالتنصر، والبينتان مطلقتان، فقد ذكرنا أن بينة الإسلام مقدمة؛ لأنها ناقلة، ولو لم نَفرِض بينتين، فالقول قول المتنصر، فنُرجِّحُ بينةَ من لا نصدقه لو لم تكن بينة، وذلك لفقه واضح،
__________
(1) عبارة الشافعي في المختصر: " وإنما صُلي عليه بالإشكال، كما يصلى عليه لو اختلط بمسلمين موتى ".
(2) في الأصل: " نيته " والمثبت من (ت 5) .(19/135)
وهو أن النقل دعوى، والاستصحابُ مقام المدعى عليه. ثم إذا أقاما بينتين، فبينة الناقل تشتمل على مزيد علم، لا تصادمها بينة المستصحِب إلا بالنفي، والشهادة على النفي مردودة.
فصل
قال: " ولو كانت دار في يد أخوين مسلمين ... إلى آخره " (1) .
12259- صورة المسألة: مسلم له ابنان مسلم ونصراني، فمات، فلا يخفى أن الميراث للمسلم، فإن أسلم النصراني قبل موت الأب، فالميراث بينهما، فلو اختلفا، فقال الابن المسلمُ: أسلمتَ بعد موت الأب؛ فلا حظّ لك في الميراث.
وقال هو: بل أسلمتُ قبل موته، فالاختلاف بينهما على هذا الوجه بمثابة اختلاف الزوجين في الرجعة وانقضاء العدة.
ونحن نسوق الترتيب هاهنا في عرض المسألة، فنقول: لا يخلو إما أن يتفقا على وقت الإسلام، وهما مختلفان في وقت الموت، أو يختلفان في وقت الإسلام، ويتفقان على وقت الموت.
فإن اتفقا على وقت الإسلام، واختلفا في وقت الموت، بأن يحصل الوفاق على أنه أسلم في رمضان، وقال الابن المسلم: مات أبونا في شعبان، فأسلمتَ بعد موته، فلا شيء لك من التركة، وقال الآخر: بل مات أبي في شوال، فإن كان لأحدهما بينة، وقع الحكم ببينته، وإن لم يكن لأحدهما بينة، فالقول قول الابن الذي كان نصرانياً؛ لأنه أنكر الموت في شعبان واستصحب الحياة، والأصل بقاؤها.
فإن أقام كل واحد منهما بينة على وَفْق دعواه، فقد قال القاضي والأصحاب: بينة المسلم أولى؛ لأن معها زيادةَ علم تنقل من دوام الحياة، والميت في شعبان ميت في شوال.
وهذا فيه كلام؛ فإن الذي كان نصرانياً يثبت الحياة في شعبان، والحياة صفة ثابتة
__________
(1) ر. المختصر: 5/263.(19/136)
ترتبط الشهادة بها على استيقان كالممات، فلئن تعرضت بينةٌ لثبوت الموت في وقتٍ ناقضته البينة الأخرى بوصفٍ ثابت لا يرجع إلى نفي إلا من جهة رجوع الأخرى إلى النفي، فبينة الحياة تنفي الموتَ من جهة اعتقاب الضدين واقتضاء ثبوت أحدهما نفي الثاني، وهذا يشمل الجانبين، فلست أدري لترجيح بينة على بينة وجهاً.
وليس كما قدمناه في ابنين أحدهما مستقر على التنصر، والثاني مسلم، وكان أبوهما مشهوراً بالتنصر، فلو أقام النصراني بينة على أنه مات نصرانياً، وأقام المسلم بينة على أنه مات مسلماً، فبينة الإسلام ناقلة؛ من جهة أن بينة التنصر يتجه حملها على استصحابها حكم الدين الذي كان المتوفى مشهوراً به، وأما الشهادة على الحياة، فلا يسوغ حملها على أن الشهود اعتمدوا استصحاب الحال، وشهدوا بالحياة، بل محملها أنهم عاينوه حياً، فشهدوا.
12260- ولو اتفقا على وقت الموت، واختلفا في وقت الإسلام، بأن اتفقا على أنه مات في رمضان، وقال المسلم منهما لصاحبه: أسلمتَ في شوال، فلا شيء لك، وقال ذلك المخاطَب: بل أسلمت أنا في شعبان، فالميراث بيننا، فإن كان لأحدهما بينة، حكم ببينته، وإن لم يكن لهما بينة، فالقول قول الابن المسلم، إذ الأصل بقاء الكفر. وإن أقام كل واحد منهما بينة على وفق دعواه، فبينة النصراني أولى، لأنها ناقلة، ولها زيادة علم. وهذا متجه؛ فإن بينة المسلم قد تبنى على دوام كفر الآخر، فالبينة الناقلة أولى من المستندة إلى الدوام.
12261- ولو مات وخلف زوجةً مسلمة، وأخاً مسلماً، وابنين كافرين، فتنازعوا، فإن عُرف أصلُ دين المتوفى، فالقول قول من يبقِّي الأصل، وإن لم يعرف أصل دينه، فإن أقام أحدهما بينةً، حُكم بالبينة. وإن أقام الفريقان بينتين، فهما متعارضتان، وإن لم يكن لهما بينة، فالتركة بين الفريقين.
قال القاضي: إن كانت في أيديهم، فالاشتراك. وإن كان في يد أحد الفريقين، فاليد له.
وهذا عندنا غير صحيح، مع الاعتراف بأنه تركة، كما قدمنا تقريره.(19/137)
ثم إذا انتهى التفريع إلى القسمة، فالنصف للابنين والنصف للزوجة والأخ؛ فإن الفريقين مختلفان، فإن ورث الابنان لم يرث الفريق الآخر، وإن ورثت الزوجة والأخ لم يرث الابنان، ثم ما يسلم إلى الزوجة والأخ المسلمين، فالربع للزوجة، والباقي للأخ؛ فإن الابن الكافر لا يحجب المسلم كما لا يرث.
12262- ولو مات وخلف ابنين مسلمين، وأبوين كافرين، فقال الابنان: مات مسلماً، وقال الأبوان: بل كافراً -ولا بينة- فقد ذكر القاضي وجهين، وقرّبهما من تقابل الأصلين: أحدهما - القول قول الابنين لظاهر الدار، والوجه الثاني - القول قول الأبوين؛ لأنهما إذا كانا كافرين، فالأصل أن الابن المتوفى مثلهما؛ فإن الأصل يستتبع الفرع؛ وهذا فيه إذا كان أصل دين المتوفى متنازعاً فيه.
وفي هذا أدنى نظر وتأنّق، فليقع فرض المسألة فيه إذا لم يسلّم الابنان المسلمان كون الأبوين كافرين أصليين، فإن ذلك لو ثبت، فلا شك في كفر الابن أولاً في الأصل، وإنما يثبت إسلامه طارئاً [بنسب] (1) أو إنشاء إسلام، وإذا كان كذلك، فمستصحِب أصل الكفر أولى، إذا لم تكن بينة، وهذا واضح.
فصل
قال: "ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك، وترك هذه الدارَ ميراثاً ... إلى آخره" (2) .
12263- مضمون هذا الفصل صرفُ التركة إلى من ثبت كونه وارثاً، مع التثبت في أنه لا وارث للمتوفى غير من أثبت الوراثة، ثم إذا تمهد هذا الأصلُ، ذكرنا ما يليق به من الدعوى.
فإذا أقام رجلٌ بيّنةً أن أباه مات، وخلَّفه وارثاً، وقال الشهود: لم نعلم له وارثاً سواه، نُظر: فإن كانوا من أهل الخبرة الباطنة بحاله، بحيث علموا سفره وحضره،
__________
(1) في النسختين: " بسبب " والمثبت تقديرٌ من المحقق، رعاية للسياق والمعنى.
(2) ر. المختصر: 5/263.(19/138)
ومغيبه، ومشهده، واطّلعوا على بواطن أمره، وشُعبِ نسبه وتزوجه، ففي مثل هذه الحالة يسلِّم القاضي ميراثه أجمع إلى الابن الذي فرضنا كلامنا فيه، ولا يطالبه بكفيل -مع قيام البينة- إجماعاً، ثم اتفق الأصحاب على أنه يكفي في ذلك شاهدان عدلان من أهل الخبرة الباطنة.
وذكر بعض المصنفين (1) أنه لا بد من ثلاثة يشهدون، وذكر هذا الوجهَ أيضاً في إثبات الإعسار، واعتلَّ بأن الشهادة في البابين مستندُها النفيُ، فبعدت الإحاطة بالمقصود. وهذا الذي ذكره لا أصل له، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، لا هاهنا ولا في الإعسار، فإن ذكر هذا اشتراطاً، فخطأٌ صريح، وإن ذكره احتياطاً، فالأمر أقرب.
ثم اشترط الأصحابُ كونَ الشهود من أهل الخبرة الباطنة، وهو صحيح، ولكن إذا ذَكَر عدلان أنهما خبرا باطنَه، اعتمد القاضي شهادتهما في ذكر الخبرة، كما يعتمد شهادتهما في أصل الواقعة، ثم إذا لم يذكرا كونهما خبيرين، نُظر: فإن عرف القاضي أنهما مخالطان للمتوفى سفراً وحضراً، لم يستبْحث، وإن لم يعلم ذلك، راجعهما، وأبان لهما أن الشهادة في الباب تعتمد الخبرة، وتستند إليها لا غير، فإذا ذكرا أنهما خبيران بالباطن، قُبل حينئذ شهادتهما، ثم إذا قالا مع إظهار الخبرة: لا نعرف له وارثاً غير هذا، كفى. وإن قالا: لا وارث له غيره، قُبل ذلك، مع ما فيه من المجازفة، وحُمل على الممكن في الباب من الاحتياط.
12264- ولو مات الرجل، وخلّف زوجة، وثبتت زوجيتُه عند القاضي، وأشكل هل له زوجة سواها؟ فقد قال الأئمة: يدفع إليها في الحال من غير تربص المقدارَ المستيقن لها، وهو ربع الثُّمن عائلاً بأقصى ما يتصور من العول، وهو بيّن في الفرائض؛ فإنه لا سبيل إلى منع المستيقَن، ولا مزيد عليه في الحال، مع اطراد الإشكال، والمسألة مفروضة فيه (2) ، ثم إذا بأن الورثة واحتجنا إلى أن نزيدها، زدناها.
__________
(1) بعض المصنفين: سبق مراراً القول إنه يقصد به (أبا القاسم الفوارني) .
(2) فيه: أي في الإشكال.(19/139)
ولو ثبت للمتوفى ابنٌ وارث، ولكن لم تقم بينة على أنه لا وارث سواه، فلا يصرف القاضي إليه شيئاً من الميراث، حتى يبحث عن حقيقة الحال، ويبعث إلى المواضع التي توهَّم (1) مصيرَه إليها، ويأمر من ينادي في كل قطر انتشر إليه، بأن فلاناً مات، فهل تعرفون له وارثاً؛ فإنا على قسمة ميراثه، [فما لم يَخْبُر ولم يبحث] (2) -والبحث ليس خارجاً عن الإمكان ولكن قد يتمادى فيه زمان- فلا يصرف إلى الابن شيئاً، فإنه ليس له [نصيب] (3) مقدر، وليس للممكن بين عدد المزاحمين ضبط، بخلاف الزوجة وكل صاحب فرض.
ولو خلّف المتوفى أمّا، فيدفع إليها السدس عائلاً على أقصى الإمكان في تصوير الإعالة، وللزوج أيضاً الربع العائل، وهذا مطرد في كل صاحب فرض يتصور ضبط أقل نصيبه، وكان ممن يرث لا محالة، ولا يحجب عن أصل الاستحقاق.
12265- ولو توقف القاضي في أمر الابن، أو الأخ، أو غيرهما من العصبات، فبحثَ، وخبرَ، وبالغ في الاحتياط، فلم يَبِن وارثٌ سوى من ظهر، فيصرف التركة إلى من ظهر، وهل يأخذ منه كفيلاً بما أخذه؟ في المسألة قولان: أحدهما - يأخذ كفيلاً، تتمةً للاحتياط، وإن كانت هذه الكفالة لمجهولٍ بمجهول، ولكنا قد نحتمل مثلَ ذلك في منازل الاحتياط، كما ذكرناه في ضمان العهدة؛ والذي اختاره [العراقيون] (4) أنه لا يطالب بضمين، والاحتياطُ على ما وصفناه بالبحث كافٍ؛ إذ لا خلاف أنه لو شهد شاهدان من أهل الخبرة، سُلّم المال على مقتضى شهادتهما من غير ضمين، وإنما التردد فيه إذا كان القاضي هو الذي يبحث ويخبُر.
ثم قال الأئمة: لو كانت المسألة مفروضة في الابن، فهو يرث لا محالة، ولا يحجبه شخص حجباً كلياً، وترتيب الكلام فيه ما ذكرناه في الخبرة، والبينة
__________
(1) أي توهّم القاضي وتوقع أنه صار إليه.
(2) في الأصل: " فما لم يخبره لم يبحث ". وفي نسخة ت 5: " فما لم يجر ولم يبحث " والمثبت تصرف بالجمع بين النسختين.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: " القياسون ".(19/140)
[الخابرة] (1) ، وترتيب القول في الضمان.
فأما إذا كانت المسألة مفروضة في الأخ، وكل من يتصور أن يحجب عن أصل الميراث، فإن قامت بينة ذات خبرة، وقالت: لا نعلم له وارثاً بعد الخبرة الباطنة سوى هذا الأخ، سُلّم الميراث إليه من غير ضمين، فإن لم يكن بينةٌ على هذا الوجه، واحتاج القاضي إلى الخبرة، فإذا خبر، فهل يدفع الميراث إليه؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يَدْفع؛ فإن الخبرة إذا حصلت، فهي أقصى الإمكان. وشهادة الشاهدين الخبيرين بزعمهما لا تفيد إلا غلبة الظن أيضاً، والوجه الثاني - أنه لا يسلم إليه شيئاً حتى يأتي بشاهدين خبيرين. وهذا الوجه ضعيف، والابن الذي لا يحجب عن أصل الميراث بمثابة الأخ؛ لأنه وإن كان لا يحجب، فمقدار ما يستحقه مجهول، ثم إذا كان التعويل على خبرة القاضي، فَخَبَر، وفرّعنا على الأصح، وهو أنه يسلِّم إلى الأخ بعد الخبرة، فقد قطع القاضي بأنه لا يدفع إليه إلا بضمين مذهباً واحداً بخلاف الابن. والفارقُ أن الأخ يُفرض حجبه عن أصل الميراث. ومن أصحابنا من أجرى القولين في استحقاق الضمين (2) على الأخ، وهذا منقاس متجه.
12266- وإذا كان في المسألة صاحب فرض، فلا كفيل في القدر المستيقن، إذا كان لا يفرض الحجب عنه؛ فأما تسليم تمام الفرض، فموقوف على الخبرة، فإن قامت بينة خابرة، حكمنا بها، وجرينا على مقتضاها، ولا كفيل، وإن كان الأمر مردوداً إلى خبرة القاضي، والمسألة في الزوجة مثلاً، وهي بين ربع كامل وبين ربع ثُمنٍ عائل، فإذا ظهر بالخبرة أنه لا زوجة سواها، ولا ولد في الفريضة، فقد ذكر العراقيون وصاحب التقريب وجهين في توفير نصيبها عليها بعد البحث، وهذان الوجهان كالوجهين في أن الأخ هل يصرف إليه بعد البحث شيء أم يتوقف إلى أن يقيم بينةً خابرة.
ولو شهدت بينة أن هذا ابن المتوفى ووارثه، وخبرنا، فلم نجد سواه؛ صرفنا
__________
(1) في النسختين: " الجائزة "، والمثبت من المحقق.
(2) ت 5: " القسمين ".(19/141)
الميراث إليه. ولو شهد شاهدان على البنوة، ولم يذكروا كونه وارثا، وبحثنا، فلم نجد له وارثاً سواه، صرفنا الميراث إليه، إذا لم يكن حاجب وصفي. ولو فرض هذا في الأخ، وسكت الشهود عن كونه وارثاً وبحثنا، ففي الصرف إليه خلافٌ ذكرناه، قال العراقيون: إذا سكت الشهود عن وراثة الأخ، لم نسلّم إليه شيئاً بعد الخبرة وجهاً واحداً؛ فإن سكوتهم عن الوراثة يورث رَيْباً، ويشعر بأنهم يعرفون له حاجباً، وهذا ليس بشيء؛ فإنه حكم بتوهمٍ لا أصل له، والوجه أن يخبر القاضي، ثم يخرج الوجهان كما قدمناه. هذا منتهى المراد في ذلك.
12267- ومما ذكره الأئمة أن قالوا: لو كان لامرأةٍ زوجٌ، وابن، وأخ، فماتت المرأة، ومات الابن، وتنازع الزوج -أب الابن- والأخ- خال الابن- فقال الأخ: مات الابن أولاً، وعاد شيء من ماله إلى أمه، ثم ماتت، فالميراث بيني وبينك أيها الزوج، وقال الزوج: لا، بل ماتت الأم أولاً، فورثها ابني، وحجبك يا أخ، ثم مات الابن فالميراث كله لي -ولم يكن لواحد منهما بينة- فإن عسُر دَرْك تاريخ الموتين، وأيس من الاطلاع عليه، فهذا من عمى الموت، فلا نورث ميتاً عن ميت، ومال الابن لأبيه وهو الزوج، ومال المرأة بين الزوج والأخ، وإن كان يتوقع الاطلاع على التاريخ، توقفنا لنبحث.
ثم الكلام يتصل بأقوال العلماء في ميراث الغرقى، حيث يتفق اليأس، أو يبقى مطمع، وقد فصلنا ذلك في الفرائض.
12268- ثم ذكر الشافعي صورة في الدعوى، قال: إذا جاء مدعٍ، وادعى على صاحب يد في الدار، وقال: إن أبي مات، وخلف الدار التي في يدك، وهي لي ولأخي الغائب، وأقام بينة عادلة خابرة، حُكم ببينته، وقضي للحاضر بنصيبه من الدار، وانتزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه، ويؤاجر له، فإذا رجع دُفع إليه نصيبه وما حصل من الكراء، ولا حاجة إلى إعادة البينة، ولا إلى دعوى من جهته.
ولو ادعى المدعي أن الدار التي هي في يد المدعى عليه له ولفلان الغائب، وقال: اشتريناها، وأقام بينة عادلة، فيقضى له بنصيبه، ولا ينزع نصيب الغائب من جهته،(19/142)
وإذا رجع الغائب، احتاج إلى الدعوى وإقامة البينة ليُقضى له بنصيبه، والفرق أنه إذا ادعى الإرث، فحاصل دعواه إثبات الإرث للوارث، وإذا ثبت له الملك، لم ينقسم، ولم يتبعض، وأما إذا كانت الدعوى عن جهة شراء، فقد ادعى لنفسه ولصاحبه سببين، ولم يكن وكيلاً من جهة صاحبه. فكانت دعواه المتعلقة بصاحبه مردودة.
وهذا بيّن.
***(19/143)
باب الدعوى في وقت قبل وقت
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان العبد في يدي رجل، فأقام رجل بينة أنه له منذ سنتين ... إلى آخره " (1) .
12269- إذا كان في يد رجل عبد، فجاء خارجيان، وأقام كل واحد منهما بينة أن العبد له، نُظر؛ فإن كانت البينتان مطلقتين، أو مؤرختين تاريخاً واحداً، فهما بينتان متعارضتان، وقد سيق الحكم فيهما في إبانة التهاتر والاستعمال.
وإن كانت إحدى البينتين أسبق تاريخاً، وكانت الأخرى أحدث تاريخاً، واستويا في شهادة كل بينة لمقيمها بالملك في الحال، ففي المسألة قولان: أحدهما - هما سواء؛ لأن المقصود التعرض للملك في الحالة الراهنة، وقد استوتا في ذلك، فلا أثر بعد ذلك للتقدم والتأخر.
والقول الثاني - أن البينة المشتملة على تقدم التاريخ ترجح، وهذا مذهب المزني وأبي حنيفة (2) ، واحتج المزني بأن اليد إذا كان يرجح بها، فكذلك وجب الترجيح بتقدم التاريخ، واحتج أيضاً بأن قال: إذا كانت البينتان في بهيمة، وشهدت إحداهما لمقيمها بأولية النتاج في الملك، فتلك البينة مقدمة، وسبب تقدمها اختصاصها بتقدم التاريخ، فقال الأصحاب: ليس التاريخ كاليد؛ فإن اليد علامةٌ محسوسة ناجزة تدل لو تفردت، وأما النتاج الذي استشهد به، فقد قال الأصحاب أجمعون: القولان جاريان في البينتين وإن اختصت إحداهما بذكر النتاج، فلا فرق.
ولو فرضت بينتان مؤرختان في نكاح امرأة، فالقولان جاريان في تقدم التي سبقت، كما ذكرناه في الأموال، وإن كانت إحدى البينتين مؤرخة، والبينة الثانية
__________
(1) ر. المختصر: 5/264.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 352.(19/144)
مطلقة، إن قلنا: لا ترجيح بسبق التاريخ، فهما سواء، وإن قلنا: ترجح البينة بسبق التاريخ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن المؤرخة مقدمة؛ فإن المطلقة ليست تتعرض إلا لملك الحال، بخلاف الأخرى، فإنها تعرضت للحال ولما تقدم، وهذا الوجه متجه. والوجه الثاني - أنهما سواء؛ لأن المطلقة لو استفْسرناها، فربما تؤرخ بأكثر مما أرخت المؤرخة، وكل ما ذكرناه في الخارجيين.
12270- فأما إذا فرضنا الكلام في بينة الخارجي، وصاحب اليد، نُظر: فإن كانت بينة صاحب اليد أسبق تاريخاً، فقد اجتمع لها ترجيحان، وإن كانت بينة الخارجي أسبق تاريخاً، فإن قلنا: لا يرجّح بسبق التاريخ، فبينة صاحب اليد مرجحة بيده. وإن قلنا ترجح البينة بسبق التاريخ، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنا نرجح بينة الخارجي؛ لأنها اشتملت على ما اشتملت عليه اليد مع مزيد في التاريخ. والثاني - بينة صاحب اليد أولى؛ لأن اليد علامةٌ محسوسة. والثالث - أنهما سواء، فيتعارض السبق واليد.
وإن كانت المسألة في الخارج والداخل، وإحدى البينتين مطلقة، فإن كانت بينة صاحب اليد مؤرخة، فهي المرجحة. وإن كانت بينة الخارجي مؤرخة، وبينة صاحب اليد مطلقة، -إن قلنا في الخارجين هما سواء- فبينة صاحب اليد مرجحة بيده، وإن قلنا في المسألة الأولى: المؤرخةُ أَولى من المطلقة إذا كانا خارجين، فتعود الأوجه الثلاثة في هذه الصورة.
12271- وقد كنا أحلنا فصلاً متعلقاً بالتاريخ إلى هذا الباب، ونحن نذكره الآن، فنقول: دارٌ في يد إنسان، فجاء آخر وادّعى الملك فيها، وأقام بينة على أن هذه الدار كانت ملكاً للمدعي أمس، واقتصرت على ذلك، فالمنصوص عليه في الجديد أن البينة مردودة؛ فإنها لم تتعرض لإثبات الملك في الحال. وقال في القديم: تسمع البينة، ويقضى بالملك للمدعي، إلا أن يُثبت المدعى عليه تلقياً منه، أو يقيم بينة مطلقة على الملك في الحال.
توجيه القولين: وجه القول الجديد أن البينة لم تتعرض لما هو المطلوب، وهو(19/145)
ملك الحال؛ فلا أثر لها، ولست أعرف خلافاً أن المدعي إذا لم يتعرض لدعوى الملك في الحال، بل اقتصر على إضافة الملك إلى ما مضى، فدعواه مردودة، فإذا كان الخصام يثبت بدعوى الملك في الحال، فلتكن البينة على ما هو المطلوب بالدعوى. ووجه القول القديم أن الملك إذا ثبت فيما سبق، فالأصل بقاؤه ودوامه، إلى أن يقطعه قاطع، أو يعارضه معارض، وهذان القولان يقربان من القولين في اختلاف البينتين في التاريخ، مع تعرضهما لإثبات الملك في الحال.
فإن لم نرجح بسبق التاريخ، فلا أثر للاقتصار على الملك السابق، وإن رجحنا بتقدم التاريخ، فإذ ذاك يجري القولان الجديد والقديم عند فرض الاقتصار على الملك السابق، وما ذكرناه من القولين في الشهادة على الملك السابق من غير تعرض لملك الحال يجريان فيه إذا أقام المدعي بينة على أن الدار كانت في يد هذا المدعي أمس ولا يعرض للحال. وفي الجديد لا حكم للبينة. وفي القديم يحكم بها، وتثبت اليد للمدعي، وندير الخصومة على هذا الموجب.
هذا أصل الفصل.
وفيه غائلةٌ اضطرب فيها المنقول من كلام القاضي، ونحن بعون الله نذكر ما يجب تحصيله.
12272- فنقول: أولاً، إذا علم الشاهد سبب ملكٍ الإنسان، وكان بحيث يجوز أن يسند الشهادة بالملك إليه، فإذا استُشهد الشاهدُ على الملك بعد ذلك السبب بزمان، وما عَرف الشاهدُ انقطاع ملكه، فقد أطلق الأصحاب أن له أن يشهد له بالملك في الزمان الذي استشهد فيه؛ بناء على استصحاب الملك ودوامه. هذا ما ذكروه.
ولم أر الأصحاب يشترطون في ذلك خبرة باطنة مقترنة باستمرار الزمان يطلع بها الشاهد على ظهور دوام الملك، والسبب فيه أن الخبرة وإن كانت باطنة، فليس المعنيّ بها ألا يفارق الشاهد صاحبه في لحظة وتطريفةٍ، أو في يوم أو أيام؛ فإن هذا لو شرطناه لعسُر الأمر، وإذا كان كذلك، فإذا انقطع الشاهد عن صاحبه يوماً مثلاً، فليس يتعذر زوال ملكه فيه ببيع، أو ما في معناه من جهات الإزالة، وليس ما قدرناه أمراً نادارً بعيداً، فلو اشترطنا للشاهد شيئاً سوى استصحاب الحال، لعسرت الشهادة على(19/146)
الأملاك الناجزة إذا تطاول الزمن، وهذا هو الذي تلقيناه من كلام الأصحاب.
وليس يبعد -وإن كان المعول على ما ذكرناه- أن يُشترط نوع من البحث عن مجاري الأحوال يفيد غلبة الظن في دوام الملك، إذا أراد الشاهد تنجيز الشهادة على الملك الواقع في الحال، وهذا البحث، وإن كان لا ينتهى إلى الاطلاع على مجاري الأحوال في السرّ، ولكن ترك الممكن فيه لا يليق بمنصب الشهادة. هذا وجهٌ في الاحتمال.
ثم ما ذكره الأصحاب أن من أحاط بسبب الملك على ظاهر الظن -إذ لا يُتصور درك اليقين في إثبات الأملاك- فإذا ثبت الممكن من اليد والتصرف، على ما قدمنا شرح ذلك، ثم دام الأمر بحيث يجوز له أن يبتّ الشهادة على الملك الناجز، كما ذكرناه الآن، فلو ذكر السبب السابق، وذكر في مجلس القضاء من استمرار الأحوال ما يسوّغ له الشهادة على تنجز الملك، ولكنه لم يشهد، قال الأصحاب: لا يثبت الملك في الحال، وإن كان يجوز للشاهد جزمُ الشهادة؛ وشبهوا هذا بما لو قال الشاهد على الرضاع: رأيت الرضيع التقم الثدي، وكان يحرك اللهاة ويمتص، إلى غير ذلك من المخايل، فلا يكون شاهداً على الرضاع، وإن كان يجوز أن يشهد على الرضاع مما عاين.
والسبب فيه أنه إذا لم يشهد على الرضاع، أورث ذلك رَيْباً في الأمر، وظناً غالباً بأن الشاهد غيرُ واثق، ولذلك لم يجزم الشهادة على الرضاع، كذلك إذا ذكر السبب المتقدم، ولم يجزم الشهادة على الملك في الحال، جرّ ذلك تردداً من الشاهد وريباً، هذا ما ذكره شيخي وصاحب التقريب وغيرهما.
وقال القاضي: إذا شهد على السبب المتقدم، وقال: لم أعلم زوال ملكه بعد ذلك، كان هذا بمثابة جزمه الشهادة بالملك، والسبب فيه أن انتفاء الزوال مما لا يطلع عليه، ولا مستند للشهادة على الملك في ذلك إلا عدمُ العلم، وبناء الأمر على الاستمرار، وهذا كقول الشاهد: لا أعلم له مالاً، ولا أعلم للمتوفى وارثاً سوى هذا، وإذا حصلت الشهادة كذلك، كفت وأغنت؛ فإن الاطلاع غير ممكن، وليس كذكر العلامات في الرضاع، فإن وراءها أحوالاً يدركها العِيان، ولا يحيط بها الوصف فالعبارة عنها إنما هي القطع بوصول اللبن إلى الجوف.(19/147)
ثم القاضي في طريقه ذَكَر تفصيلاً دقيق المُدرك، فقال: إذا قال الشاهد: أشهد على ما كان من السبب، ولست أعلم ما يخالفه، فهذا كافٍ. ولو قال: لستُ أدري أكان أو لم يكن، وأبدى هذا إبداءَ مرتاب متشكك غيرِ معتضدٍ باستصحاب الحال، فهذا [يخرم] (1) الشهادة، والفصلُ بين أن يبدي رَيْباً وبين أن يبدي استمراراً، ويعبر عنه بأني لا أدري زوالاً [مستبينٌ] (2) للفطن، هذا تردد الأصحاب. وهو من الأصول التي يعظم وقعها في العلم والجهل.
ويخرج من كلام القاضي أن البينة لو شهدت على الملك أمس، ولم تتعرض لما يُشعر بالاستمرار والدوام، ولم يقل: " ولا أعلم زوالاً "، ولم يبدِ رَيْباً، فهذا يلتحق بالقولين، ولا يكون شهادة بالملك الناجز.
12273- ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن البينة لو تحملت الشهادة على إقرار مؤرخ بتاريخٍ في ملك أو يدٍ، ثم فرض تنازع بين المقِر والمقَرّ له، فإذا شهدت البينة على الإقرار السابق، فمعلوم أنها ليست متعرضة لاستحقاق المقر له في الحال، وقد ذكرنا قولين فيه إذا شهدت البينة على الملك في الزمان الماضي، وبيّنا أن الأصح أن البينة مردودة غير مفيدة؛ فإن الخصام ناجز، وتاريخ الملك مقدم، وهذا بعينه يجري في تقدم الإقرار؛ فإن المقر بالملك قد يتلقى الملك بسبب من الأسباب.
وقد ذكر صاحب التقريب في الإقرار طريقين، وشفى الغليل بذكرهما، وقال: من أصحابنا من جعل الإقرار المتقدم حجة باتّة على المقر في مستقبل الزمان، وهذا ما إليه مصير معظم الأصحاب وأقضية القضاة. ولولا ذلك لما كانت في الإشهاد على الأقارير فائدة، والحجة تسقط بمضي ساعة. ومن أصحابنا من قال: الإقرار السابق إذا ثبت، فهو بمثابة شهادة الشهود على الملك فيما سبق من الزمان، وهذا وإن كان منقاساً، فالذي أعتقده فيه أنه خرق لما اتفق عليه الأولون. والقول به مسبوق بالإجماع، وإن اختار القاضي هذه الطريقة الأخيرة ونقلتها عن صاحب التقريب عضداً
__________
(1) في الأصل: " يحزم " بالحاء والزاي المحجمة. وت 5: " يجزم " بالجيم والزاي المعجمتين، وكلاهما خطأ واضح. والمثبت من عمل المحقق.
(2) في الأصل: " فبيّن ". وت 5: " متبين ". والمثبت تصرّف من المحقق.(19/148)
وتأييداً، وهو بمثابة التمسك بقياس جزئي في مصادمة قاعدة كلية.
12274- ومما يتصل بذلك أن المدعي إذا أقام بينة على أن صاحب اليد باع الدار التي في يده منِّي، وذكر تاريخاً متقدماً على وقت الدعوى، فالذي قطع به الأصحاب أنه يُقْضى له بالملك، وإن كان البيع متقدماً على وقت الدعوى، ولا يتصور إلا كذلك، ومن ذكر طريقةً في إجراء القولين في الإقرار المتقدم؛ فإنه يُجْريها هاهنا؛ فإن البينة إذا تعرضت للشراء، فقد ذكرت سبباً في الملك سابقاً، فكان كما لو ذكرت الملك مضافاً إلى زمانٍ تَقَدَّمَ، وهذا وإن كان منقاساً، فلا سبيل إلى الاجتراء على ذكر خلاف فيه.
12275- والذي ينتظم بعد تقريرنا طرقَ الأصحاب أن الملك المطلقَ مستندٌ إلى طرفٍ من العماية؛ فإن نُجّز، ثبت، وإن أضيف إلى ما سبق، ففيه التردد جديداً وقديماً، والإقرار ينقل قطعاً، وكذلك الشراء من الخصم، فالوجه دوام اقتضائه إلى أن يتبين انقطاعه؛ فإنا إذا وجدنا أصلاً مستيقناً، ولا مطمع في العلم بالدوام، كفى المستيقَن، ولم يزل أثره حتى ينقطع.
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا ثبت الإقرار مطلقاً ممّن يخاصم، أو ثبت الشراء منه.
قال صاحب التقريب: إذا جرينا على ما به الفتوى وعليه العمل، وقلنا: إذا ثبت الإقرار، أو نفس البيع، فهو حجة أبداً على المقر والبائع، فعلى هذا لو ادعى رجل شيئاً في يد رجل، ولم يسبق من المدعى عليه إقرار مطلق، ولا بيع، فقال المدعى عليه في الخصومة للمدعي: " كانت الدار ملكك أمس " فهل يكون هذا كما لو شهدت بينة على أن الدار كانت ملك المدعي أمس، أم يكون هذا الإقرار بمثابة إقرار مطلق تشهد به البينة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه كشهادة البينة على الملك المتقدم؛ فإن الإقرار بالملك المتقدم كالبينة على الملك المتقدم. والثاني - أن الإقرار بالملك المتقدم كالشهادة على الإقرار المتقدم، ولا نهاية للطف هذا التفصيل.
ومما أوصي به المنتهي إليه أن يتثبّت في مضمون هذا الفصل؛ فإنه مما يعم به البلوى، وهو جلي في نفسه، خفي على معظم من ينتسب إلى الفقه.(19/149)
فصل
12276- البينة إذا شهدت على الملك في الحال، فمن ضرورتها أن يتضمن تقدم الملك على الوقت الذي تقع الشهادة فيه ساعة لطيفة؛ فإنها لا تنشىء إيقاعاً للملك وإنما تُخبر، وإذا حصل الملك مُخبَراً عنه في الحال، فلا بد من ارتباطه بمتقدم، بحيث يتصور انتقال الملك فيه بسبب من الأسباب، ثم هذا التقدم الذي ذكرناه يقع الاكتفاء فيه بلحظة لا تقدّر، ولا تُميّز بالحس، حتى لو ادعى شاة، وأقام على دعواه بينة، وكانت قد نُتجت تلك الشاة قبيل تلك الساعة، فلا يقضى له بالنتاج، فتبين بهذا أن هذا التقدم الذي قدرناه ليس زماناً محققاً محسوساً، ومسألة النتاج شاهدة في ذلك، منبهة على الغرض.
وإن أقام المدعي بينةً، فعلقت الشاة ووضعت الحمل قبل تعديل البينة، ثم عُدِّلت البينة، فالنتاج للمدعي؛ فإن التعديل يستند إلى وقت قيام الشهادة، وهذا بين.
ومما أجراه الأصحاب على الاتصال بذلك أن قالوا: من ادّعى دابّة حاملاً، وأقام البينة على دعواه، ولم يتعرض لذكر الحمل، فيثبت ملكه في الدابة وحَملِها، كما لو اشتراها؛ فإن الملك يثبت في الحمل، وإن لم يجر ذكره حالة التعاقد.
ولو أشار إلى شجرة مثمرة، وثمرتُها باديةٌ، فادعاها باسم الشجرة، وأشار إليها، وشهدت البينة على حسب الدعوى، فالشجرة تصير مستحقة دون الثمرة؛ فإن الثمرة ليست من أجرام الشجرة، ولذلك لا تتبعها في البيع المطلق بخلاف الحَمْل. وهذا الذي ذكره الأصحاب في الثمرة مستقيم بيّن، وما ذكروه في الحمل ظاهرٌ قياساً على البيع.
وقد يتطرق إلى الحمل في الدعوى والبينة احتمالٌ على بعد؛ فإن الملك يُفرض متبعّضاً في البهيمة وحملها بالوصية، فلا يمتنع أن يدعي البهيمة، ويستثني حملها في دعواه، وأما استتباعُ البهيمةِ الحملَ في البيع، فذاك لأمر يتعلق بمقتضى العقد، فلذلك لا يصح بيع البهيمة دون ولدها على المذهب الظاهر، والاستثناء في الدعوى والإقرار جائز.(19/150)
وهذا الذي ذكرناه كلام معترض.
وغرض الفصل ما ذكرناه أولاً من أن البينة لا تقتضي إسناد الملك إلى ما تقدم من الأزمان انبساطاً عليها، وإنما تقتضي تقدماً من طريق التقدير، كما نبهنا عليه.
12277- والمراد بعد ذكر ذلك ذكرُ مشكلةٍ عظيمةِ الوقع مجانبةٍ لمسلك القياس، وهي أن من اشترى عيناً من الأعيان -داراً أو غيرَها- وتمادى الزمن، ثم جاء مدّعٍ، وادعى ملكَ تلك العين في يد المشتري، وأقام البينةَ، وانتزع العين من يده، قال الأصحاب: يرجع المشتري بالثمن على البائع.
قال القاضي: هذا في غاية الإشكال؛ من جهة أن البينة القائمة على الملك لا تتضمن استناد الملك إلى زمان يوصف ويشار إليه، ولا تقتضي إلا ملك الحال، وتقديراً في التقدم كما ذكرناه، فكيف يملك المشتري الرجوع على البائع مع إمكان ثبوت الملك للمدعي تلقياً من هذا المشتري؟ ثم قال القاضي: يحتمل أن نقول: لا يرجع المشتري بالثمن على البائع -والحالة كما وصفناها- بناء على ما قررناه من أن البينة لا تقتضي استناد الملك إلى زمان متقدم مشارٍ إليه.
فعلى هذا يختص رجوع المشتري على البائع بما إذا أسندت البينةُ (1) الاستحقاق إلى حالة البيع؛ فإذ ذاك نَتبين أن البيع صادف مستحَقّاً. وجريان هذا ليس بالنادر في البينات التي يثبت بها الاستحقاق. وهذا الذي ذكره القاضي لا دفع له من طريق القياس، لكنه قال: أجمع أصحابنا من عند آخرهم على خلاف ما قلتُه.
ثم الممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب أن يقال: إذا لم تتجدد حالة من جهة المشتري، والبينة العادلة مصدَّقةٌ في الشرع، فإذا تحقق أن المشتري لم يزُل ملكُه المستفاد بالشراء إلى هذا المدعي، والبينة لا يظن بها إلا الصدق، ولا محمل لصدقها إلا استناد الاستحقاق إلى ما تقدم، فلهذا ثبت له الرجوع، والذي يُعضِّد ذلك أن الإنسان يطلب دوامَ الملك بالشراء، فإذا لم يدم له، كان ذلك محمولاً على خلل حالة البيع، فلا يبقى بعد هذا، إلا أن البائع يقول للمشتري: لعلك أزلت
__________
(1) ت 5: " المرأة ".(19/151)
ملكك إلى المدعي، فقامت عليك البينة، فكيف ترجع عليّ، وما ذكرته ممكن.
وهذا إنما يتم بأن يقال: [هل للبائع] (1) أن يدعي ذلك؟ فالوجه أن يقال: لا تمتنع عليه الدعوى فيه. والقول قول المشتري، والإشكال مع هذا قائم؛ فإن البائع يقول: كيف ترجع عليّ بالإمكان؟ وسبيل الجواب [في الإشكال] (2) الذي ذكرناه هو أن المشتري لا يمكنه أن يُثبت عدم تصرف نفسه، والبينة لا تشهد هزلاً، ولو لم يثبت الرجوع، لما حصلت الثقة بالعهدة. فأثبت الشرع الرجوع لذلك، وصحح ضمان العهدة خارجاً عن القياس لتوثيق البيع. هذا غاية الأمر. ومن عرف شيئاً على حقيقته لم يبق عليه مطلب بعده.
ثم زاد الأصحاب فقالوا: لو اشترى شيئاً، ووهبه وسلّمه فاستُحِق الموهوبُ ببينة مطلقة، وانتُزِع من يد الموهوب له، فللمشتري الرجوع بالثمن على البائع، وإن لم يطرأ الاستحقاق على ظاهر ملكه، وهذا لا إشكال فيه -إن ثبت الأصل- المقدم؛ فإن الاستحقاق إذا ثبت، بطلت الهبة. وكأنّ الاستحقاق طارىء على يد الواهب. فليس في هذا التفريع إشكال، وإنما الإشكال في الأصل. ولو باع ما اشترى من إنسان، فثبت الاستحقاق في يد المشتري الثاني. فإنه يرجع على المشتري الأول، ثم المشتري الأول يرجع على البائع الأول.
***
__________
(1) في الأصل: " على البائع ". والمثبت من (ت 5) .
(2) في الأصل: " وسبيل الجواب المقدار الذي ذكرنا، وهو أن المشتري ".
وفي (ت 5) : " وسبيل الجواب في الإمكان الذي ذكرنا وهو أن المشتري ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى والأحكام الفقهية. والله أعلم.(19/152)
باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا أقام أحدهما البينة أنه اشترى هذه الدار ... إلى آخره " (1) .
12278- مضمون الباب مسائل أخذها الشافعي من كتب أصحاب أبي حنيفة، وخرّجها على قياس مذهبه، فأودعها المزني هذا الباب.
والمسألة الأولى منها صورتها: أن يأتي خارجيان، وتداعيا داراً في يد إنسان، وأقام كل واحد منهما بينة أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد، ونقد له الثمن، ووفّاه إياه كَمَلاً، مثل أن يقول أحدهما: اشتريت هذه الدار منك بمائة، فسقتها إليك، وقال الآخر: اشتريتها منك بمائتين، ووفّيتك الثمن، وأقام كل واحد منهما بينةً على وفق دعواه.
قال الأئمة: إن كانت البينتان مؤرّختين، واشتملت إحداهما على تقدمٍ في التاريخ، فالحكمُ بها، لأنه إذا صح الشراء المتقدم، وثبت في الزمان السابق، فالشراء الثاني بعده مردود؛ فإن الشراء الأول يثبت بالبينة على صاحب الدار في زمانٍ لا معارضة فيه لتلك البينة، وقد ذكرنا أن الشراء من الخصم إذا ثبت متقدماً، جرى الحكم به، ولسنا نفرعّ هذه المسائل إلا على هذا الأصل.
وإن كانت البينتان مؤرَّختين بتاريخٍ واحد، مصرِّحتين بالتنصيص على وقتٍ واحد، فهما متعارضتان فتتساقطتان على قول التهاتر، فكأَنْ لا بينة، ويحلف المدعى عليه لكل واحد منهما، كما سنصف ذلك، إن شاء الله. وهما مستعملتان على القول الثاني.
ثم في كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة: أحدها - قول القرعة. ومعناها أن من
__________
(1) ر. المختصر: 5/264.(19/153)
خرجت له القرعة من الخصمين، سُلِّمت الدار إليه، وقد ثبت توفيره الثمن، والثاني يستردّ الثمن؛ فإن بينته شهدت له بالشراء والتوفير، ثم جرت القرعة في محل التنازع، وهو ملك الدار، فلزم استعمال البينة في توفير الثمن.
وأما قول الوقف - فمعناه إخراج الدار من يد المدعى عليه، ووقفها بين المدعيين إلى أن يصطلحا، ومن حُكْم الوقف أن يُسترد منه الثمنان، ويعدّلا على يد إنسان حتى ينفصل الأمر.
وأما قول القسمة - فمعناه أن الدار تقسم بين المدعيين نصفين، ويرجع كل واحد منهما بنصف الثمن الذي شهدت بينته على توفيته وتوفيره، هذا معنى القسمة.
ثم يتفرع عليه أنه يثبت الخيار لكل واحد منهما؛ من جهة أنه لم يسلم له تمام المبيع، وتبعُّضُ المعقود عليه يُثبت الخيارَ.
12279- هذا كلام على الجملة، وقد فصله القاضي، فقال: إذا صرفنا النصف إلى أحد المشتريين، فرضي به، ولم يفسخ، ورجع بنصف الثمن، ثم لما عرضنا النصف على الثاني أراد الفسخ، فله ذلك، ويطالِب بتمام الثمن.
فلو قال الأول: كنتم لا تسلمون إليّ النصف الثاني لمكان صاحبي، الآن قد فسخ، سلّموا إليّ ذلك النصف أيضاً، وأردّ ما استرددته من الثمن، قال القاضي: لا يُجاب إلى ذلك، فإنه رضي بالنصف، وجرى القضاء به، فلا نُغيِّر ما مضى.
ثم قال: لو عرضنا النصف على أحدهما، فاتفق أن الذي بدأنا به فَسخَ، فقال الثاني: ادفعوا إليّ الدار بتمامها، فهل يُجاب إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجاب إليه لزوال المنازع في رقبة الدار، وإنما كنا نقسم لاستوائهما في الطلب، والتمسك بالحجة، والآن قد انقطع حق أحدهما، فيجب تسليم الدار إلى الثاني. والوجه الثاني - أنا لا نسلّم إليه إلا النصف؛ فإن مقتضى قول القسمة هذا، فلا مزيد على مقتضى القسمة.
والذي أراه أن الترتيب على عكس هذا، فإن فسخ من فاتحناه، سلمنا الدار إلى الثاني وجهاً واحداً، لأن القسمة ليست معنيّة بعينها، وإنما هي للاستواء في الطلب(19/154)
والحجة، وقيام النزاع، فإذا زال، وجب التسليم إلى المُطالِب، فإن رضي أول من فاتحناه بالنصف، وفسخ الثاني، ففي رد النصف إلى الأول وجهان؛ فإن الأول رضي بالنصف لتقدير نزاع الثاني، فإذا زال، فطلبه قائم. ثم لا يخفى أن الفاسخ يرجع بتمام الثمن، والذي يسلم له كل الدار، فهو مستوفٍ كمالَ حقه، ومن سُلّم له النصف، فهو راجع إلى نصف الثمن.
وحكى العراقيون قولاً عن الربيع أنا إذا لم نُسقط البينتين، حكمنا بانفساخ العقدين في حق المدَّعِيين؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، والدار تبقى في يد المدعى عليه، ونُلزمه رد الثمنين، وهذا أثر استعمال البينتين، ثم قال العراقيون: هذا من تخريجه، وهو مزيف لا أصل له؛ فإنا إذا استعملنا البينتين، فلا معنى لرفع حكمهما فيما هو المقصود بهما.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين بتاريخ واحد.
12280- فأما إذا كانت البينتان مطلقتين في الشراء، والتفريعُ على قول التهاتر إذا تحقق التناقض، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة: فمنهم من قال: لا نحكم بالتهاتر؛ فإن صدق البينتين ممكن. فلعل أحدهما اشترى، ثم عادت الدار إلى ملك المدعى عليه، فاشتراها الثاني، فعلى هذا يمكن تقدير الصدق في البينتين، والثاني - أنهما تتهاتران لتعذر تقديم إحداهما على الأخرى، فلا ينفع تقدير صدقهما مع تعذر إمضائهما، وصاحب قول التهاتر يرى القرعةَ، والقسمةَ، والوقفَ متعلقةً (1) بموجب البينتين جميعاً، فإن قلنا بالتهاتر، فتسقط البينتان وكأنْ لا بينة.
وإن لم نحكم بالتهاتر، فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنا لا نُجري الأقوال الثلاثة التي يُجريها من يقول باستعمال البينتين. والوجه الثاني - أنا نلزم المدعى عليه رد الثمنين؛ فإن هذا لا تناقض فيه بين البينتين، ونسقط البينتين في رقبة الدار. وهذا على التحقيق تهاتر من وجه، واستعمالٌ من وجه، وهو فقيهٌ، لا ينقدح عند المحصلين غيره.
__________
(1) ت 5: " منعقدة ".(19/155)
ومما نذكره في هذه الصورة -وهي إذا كانت البينتان مطلقتين- أنا إذا فرعنا على أقولاً (1) الاستعمال، فقد أجرى الأصحاب الأقوالَ الثلاثة على ما فصّلناها.
وكان شيخي يقول: لا أجري قولَ القرعة؛ فإنّ صدق البينتين ممكن، وإنما نُجري قول القرعة لتمييز الكاذبة من الصادقة، فإذا أمكن صدقهما، فلا معنى للقرعة.
وهذا وهمٌ وزلل؛ لأن القرعة لا تميز الصادقة من الكاذبة، بل قد تخرج بفوز الكاذب، وإنما إجراء القرعة لتمييز شخصين مستويين ظاهراً في سبب الاستحقاق.
والله يتولى السرائر.
فصل
قال: " وإذا أقام بينة أنه اشترى هذا الثوب من فلان ... إلى آخره " (2) .
12281- صورة المسألة أن نقول: دارٌ في يد ثالث، فجاء رجلان، وادعى أحدهما أن الدار له، وزعم أنه اشتراها من زيد، وكانت ملكَه إلى أن باع، وادعى الآخر الدار لنفسه، وزعم أنه اشتراها من عمرو [وهي] (3) ملكه، وأقام كلُّ واحد منهما بينة على حسب دعواه، فالبينتان متعارضتان، ولا يخفى التفصيل والتفريع، وغرض هذا الفصل أنهما إذا ربطا دعوى الملك بالشراء من شخصين، فلا بد وأن يُثبتا ملكَ البائع منهما حالة العقد؛ فإن صورة الشراء لا توجب الملك ما لم يكن صَدَرُها من مالك.
ولو ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال: بعتَها مني، فلا يشترط أن يقول: بعتَها وأنت تملكها؛ فإن بيعه يقطع سلطانه، وهو مؤاخذ بحكمه وموجبه، فلا حاجة إلى إثبات ملكه، فأما إذا كان المدعي يسند ملكه إلى شخص آخر غير صاحب اليد، فلا بد وأن يثبت ملكه المتقدم على البيع. وهذا مقبول منه. وإن لم يكن مستناباً من جهة البائع في إثبات ملكه؛ لأنه يبغي بهذا تصحيح الشراء، فكان كالذي يريد إثبات ملك نفسه.
__________
(1) زيادة من (ت 5) .
(2) ر. المختصر: 5/264.
(3) في النسختين: " وهو ".(19/156)
ولو أقام بينة على الشراء من الشخص الذي عيّنه، ولم يتعرض للملك، ثم أقام بينة أخرى على ملك ذلك البائع، قال القاضي: يجوز ذلك، ولا فرق بين أن تشهد بينة واحدة على الأمرين وبين أن تشهد بينتان عليهما، وهذا صحيح؛ فإن البينة الشاهدة على ملك البائع. وإن لم تتعرض للشراء، فالغرض به تصحيح الشراء، فلا فرق بين أن تتعدد البينة وبين أن تتّحد.
فصل
قال: " ولو كان الثوب في يد رجل، فأقام رجلان كل واحد منهما البينةَ أنه ثوبُه، باعه ... إلى آخره " (1) .
12282- صورة المسألة: ثوب في يد واحد، ادعى رجلان - كل واحد منهما أنه باع منه ذلك الثوب الذي في يده بألف درهم، وعليه ثمنه، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه.
هذه صورة المسألة، ومقصودها يؤول إلى دعوى الثمن، والعين مسلّمة إلى صاحب اليد، فنقول: إذا كانت البينتان مطلقتين، فقال معظم الأصحاب: لا تتهاتر البينتان، قولاً واحداً، ولكل واحد منهما تمامُ الثمن الذي ادعاه؛ فإنَّ صدق البينتين ممكن؛ بتقدير عقدين يتخللهما انتقال الملك إلى الثاني من المدعيين، ثم يُفرض بعد ذلك البيع منه. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من حكم بتهاتر البينتين.
وقد ذكرنا قبل ذلك ادعاء الخارجيين في الشراء، وهذه المسألة مفروضة في البيع، وتقدير التصحيح في العقدين ممكن في الصورتين. ولكن الأصحاب أجرَوْا طريقين في مسألة [ادّعاء] (2) الشراء كما مضى. وميلُهم الأظهر في مسألة البيع -وهي التي نحن فيها- استعمالُ البينتين. وإن كان من الأصحاب من يُجري قول التهاتر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/264.
(2) في الأصل: " إنشاء ". والمثبت من (ت 5) .(19/157)
وفرّق المحققون بين المسألتين بأن قالوا: المطلوب في هذه المسألة الأخيرة الثمن المتعلق بالذمة، والذمة متسعةٌ للثمنين، وإن أمكن ثبوتهما، ثبتا، والنزاع في مسألة الشراء متعلق بالبيع، وهو عين لا تتسع لتحصيل غرضيهما وتحقيق دعوييهما.
ومن أجرى قول التهاتر في المسألة التي نحن فيها؛ احتج بأنهما ما ادعيا دَيْنين في الذمة مطلقاً، وإنما أسنداه إلى عقدٍ، وذلك العقد مرتبط بعين واحدة.
والتفريع على الأصح، وهو الاستعمال، وهذا فيه دقيقة، وهي أنا إن طرَّقْنا قول التهاتر إلى الواقعة، فموجب التهاتر سقوط البينتين، حتى كأنهما لم تكونا، وإن لم نُجر التهاتر أصلاً، فليس ينقدح إلا إثبات الثمنين، وإن أجرينا التهاتر، وأردنا أن نفرعّ على قول الاستعمال؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نثبت الثمنين، ولا تخرج الأقوال الثلاثة، فينتظم قولان: أحدهما - سقوط الثمنين، حتى كأنْ لا بينة، والثاني - ثبوت الثمنين.
والوجه الثاني - أنا نُجري الأقوالَ الثلاثة على قول الاستعمال: أحدها - القرعة، فيفوز بالثمن من تخرج قرعته، ويخيب الثاني، والثاني - نقف الخصومة. والثالث - نَقْسم؛ فنصرف إلى كل واحد نصف الثمن الذي يدعيه. وهذه الطريقة -وإن ذكرها الأئمة- ليست بالمرضية، والوجهُ القطع بإثبات الثمنين لا غير، إذا كانت البينتان مطلقتين.
12283- وتكلف أصحابنا تصوير وقوع البينتين على وجه التناقض، فصوروا وقوع مخبر البينتين متعلقاً بوقت واحد، بحيث نعلم أن ذلك التعيين يضيق عن وقوع واقعين، فإذا تأرخت البينتان بتأريخ واحد -على أقصى ما يمكن فرضه من تحقيق التضييق- فالبينتان متكافئتان، مثل أن تتعرض كل واحدة لتأقيت لفظ الشراء عند بدوّ أول قرصة (1) الشمس، ثم أجروا في هذه الحالة قولي التهاتر والاستعمال، وتفريع الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال. ثم ذكروا اعتراضَ المزني في البينتين المطلقتين
__________
(1) كذا. ولعل لها وجهاً.(19/158)
في هذه الصورة، ومصيرَه إلى ثبوت الثمنين. فلم يعتذروا (1) عنه لتوجهه إلا بأن قالوا: صورةُ قولي التهاتر والاستعمال في تأريخ البينتين بتأريخ واحد.
وهذا وإن أمكن ذكره فتصويره واقعة يفتى فيها عسيرٌ عندي؛ فإنّ رد الأمر إلى وقت، لا يتصور [فيه] (2) [ترتب] (3) كلمتين ممّا لا يدخل دَرْكُه تحتَ القوة البشرية.
نعم، يمكن ذكره، كما يقال: فعلٌ واحد، ووقت واحد لا ينقسم، وجوهر فرد لا يتجزأ، كل ذلك لا يمتنع [فيها] (4) الذكر والنفي والإثبات، ولكن لا يُحَسّ في مطّرد العادة قط.
ولو تُصوّر هذا، لتصوّر أن يقال: إذا قامت بينةٌ على رجل بإقرارٍ مضافٍ [إلى وقتٍ] (5) معين على أقصى ما يمكن التصوير فيه، فمِنْ دَفْع هذه البينة أن يقول المشهود عليه: كنتُ أُسبّح في الوقت الذي عيّنته بينةُ (6) الإقرار، ولا يجتمع قولان في وقت، فيقيم البينةَ على ذلك، فيكون قادحاً في بينة الإقرار. نعم، لأصحابنا تردد في شيء نشير إليه، وهو أنهم قالوا: إذا شهدت بينةٌ على قول أو فعل، وعينت للمخبر عنه وقتاً معيناً، وشهدت بينة أخرى في ذلك الوقت بعينه على عدم ذلك الفعل وانتفاء ذلك القول، فهذه شهادة على النفي، ولكنْ هي على وجه يمكن تقدير العلم فيها بالنفي.
وقد اختلف أصحابنا في قبول مثلِ ذلك. فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة مردودة لتعلقها بالنفي، ومبنى الشهادة على التعرض للإثبات.
ومنهم من سمع مثلَ هذه إذا أمكن إسنادها إلى علم. وقد يعضد هذا القائل ما صار إليه بربط الشهادة بما يناقض القول والفعل، بأن يقول الشاهد: كان ساكناً في
__________
(1) ت 5: " يعترضوا ".
(2) كذا في النسختين: " فيها ". وهي على معنى الصورة، أو اللحظة.
(3) في الأصل: " ترقب ".
(4) في الأصل: " منه ".
(5) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.
(6) ت 5: " وبينته الإقرار ".(19/159)
ذلك الوقت عن الفعل، أو ساكتاً عن القول، والسكون والسكوت يضادان الفعل والقول.
12284- فإذا تبين ما ذكرناه، رجعنا بعده إلى تأرخ البينتين بتأريخ واحد في مسألة الشراء. فنقول: الوقت الواحد لا يتعين، فإن تلقي الأصحاب التناقض من العلم بانتفاء أحد القولين، كما حكينا خلاف الأصحاب فيه، فهذا مما يتصور وقوعه، ثم تربط كلُّ بينة شهادتَها بإثبات ما تذكر ونفي ما عداه في ذلك الوقت؛ فإن القولين يتضادان كما يتضاد السكوت والقول، ومراقبة الإنسان ليعلم أنه ليس قائلاً داخلٌ في الإمكان، سيما إذا كان القول المدعى مُظهَراً متعلقاً بمخاطَب يحضر. ودرك حضوره كدرك غيبته. فهذا وجه تصوير التناقض.
فصل
قال: " ولو أقام رجل بينةً أنه اشترى منه هذا العبد ... إلى آخره " (1) .
إذا كان في يد إنسان عبد، فجاء رجل، وادعى أن المولى باع ذلك العبدَ منه، وادعى العبدُ أن مولاه أعتقه، وأقام كل واحد بينة على وفق دعواه، فإن تأرخت البينتان، وتعرضت كل واحدة منهما لذكر تاريخ، نُظر، فإن تقدم أحد التاريخين وتأخر الثاني، نفذ ما تأرخ بالتاريخ المتقدم.
وإن عيّنت البينتان وقتاً واحداً -وإمكان تصويره على ما ذكرناه على القرب- فالبينتان متعارضتان، فإن حكمنا بتساقطهما، فكأنْ لا بينة، والقول قول صاحب اليد في العبد مع يمينه، ولا يخفى حكم الحلف، والنكول، والرد، وإن حكمنا بالاستعمال، جرت الأقوال الثلاثة: القرعة، وقد اممدها صاحب التقريب، لاشتمال الواقعة على العتق -وهو مورد الخبر في القرعة- والوقفُ جارٍ، ولا يخفى تصويره، والقسمة جارية أيضاً، فيحكم لمن يدعي الابتياع بالملك في نصفه، ويحكم بالحرية في نصف العبد.
__________
(1) ر. المختصر: 5/265.(19/160)
ثم الذي ذهب إليه الأصحاب أن المحكوم عليه بالعتق صاحب اليد، فإذا نفذ الحكم عليه بالعتق في نصف العبد، وكان موسراً، لم نقض بسريان العتق إلى النصف الآخر المحكوم به لمدعي الشراء؛ لأن هذا عتق ثابت قهراً، وإنما يسري العتق إذا اقترن باختيار المعتِق.
وذكر العراقيون في ذلك قولين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أن العتق يسري إذا كان صاحب اليد موسراً، فيكمل العتق في العبد، ويغرم صاحب اليد لمدعي الشراء قيمةَ النصف. ووجه هذا القول أن البينة كما (1) شهدت بإعتاق هذا العبد، شهدت باختياره في الإعتاق؛ فيجب الحكم عليه بموجب الاختيار، وهذا متجه، والمسألة محتملة.
ثم اعترض المزني وقال يجب تقديم بينة العتق؛ لأن العبد ادعى العتقَ، وهو في يد نفسه، فكان مع من يدعي شراءه بمثابة متداعيين وأحدهما صاحب اليد، فالعبد إذاً كالداخل ومدعي الشراء كالخارج.
وهذا الذي ذكره مزيف؛ فإن العبد في يد مولاه، ولا يد له على نفسه، وإنما تثبت له اليد على نفسه إذا عَتَق، فكأنه في التحقيق يدعي يداً والخصم ينكره.
12285- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين على التضييق في التعيين، فأما إذا كانتا مطلقتين، فقد أجراهما الأصحاب على التهاتر والاستعمال؛ فإن العتق ينافي نفوذُه نفوذَ الشراء، والشراء لو ثبت - نافى نفوذَ العتق، ولو صور مصوّرٌ تقدم الشراء وعَوْد الملك، ثم توجيه العتق، فهذا تكلف لا فائدة فيه؛ فإن من يدعي الشراء يدّعي دوام ملكه، وما ذكرناه من التصوير ينافي ذلك، وهذا بيّن.
ومن أصحابنا من قال: إذا أردنا إجراء قول التهاتر، فيجب التعرض لاشتمال البينتين على تاريخ واحد، كما ذكرنا ذلك في النظائر السابقة. وإذا نبهنا على مثل ذلك، كفى، وقد تكرر مثله في نظائره.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.(19/161)
فصل
قال: " ولا أقبل أن هذه الجارية بنت أمته ... إلى آخره " (1) .
12286- هذا الفصل قد تخبط الأصحاب فيه، واشتهر كلامهم في الطرق، وحاد معظمهم عن المسلك الحق حَيْداً يُلحق ما قالوا بالوهم والزلل الذي لا يجوز عدّ مثله من المذهب، ولكن لو تركنا ما اشتهر ذكره نقلاً، لكان ذلك إخلالاً بالنقل، فالوجه أن نأتي بما ذكروه على وجهه، ثم نطرد بعد نجازه الحقّ الذي لا يجوز غيره.
فنقول: إذا كان في يد إنسان جارية، فجاء مدعٍ، وأقام بيّنةً على أن هذه الجارية بنتُ أمته، ولدتْها في ملكه، أو علقت [بها] (2) في ملكه، قالوا: نحكم للمدعي بملك هذه الجارية.
وإن أقام بينةً على أنها بنتُ أمته، واقتصرت البينة على ذلك، لم تسمع البينة في الجديد.
وخرّج الأصحاب فيه قولاً أن البينة مسموعة، والملكُ يثبت للمدعي في الجارية المدّعاة، وهذا خرّجوه من القول القديم فيه إذا أقام المدعي بينة على أن ما يدّعيه كان ملكاً له بالأمس؛ لأن قوله: " هذه بنت أمتي " يتضمن إثبات الملك حالة الولادة، وقد تقدمت؛ فقيل لهؤلاء: الجارية قد تلد ولداً ليس ملكاً لرب الجارية، فلم يزيدوا في الجواب على أن قالوا: الظاهر أن البنت إذا كانت مملوكة، فهو ملك مالك الأم، ونحن نكتفي بالظواهر في الأملاك.
وكل ما ذكرناه تخليط لا حاصل له، ولا اعتماد عليه.
12287- والمسلك الحق أن نقول: إذا كان في يد رجل وصيف أو وصيفة (3) ،
__________
(1) ر. المختصر: 5/265.
(2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(3) الوصيف والوصيفة: الغلام والفتاة دون المراهقة.(19/162)
فجاء مدعٍ، وقال: هذا ولد أمتي. واقتصر على ذلك، فلا نقبل دعواه، ولا نسمع بينة على هذا المقدار؛ فإنه لم يدّع ملكاً وحقاً، إذ قد تلد أمتُه في غير ملكه، وفي غير يده، على معنى أن أمتي ولدته قبل أن ملكتُ أمتي، وقبل أن تثبت يدي عليها.
ولو قال: ولدته أمتي في ملكي، فقوله " في ملكي " محتمل، فإن أراد به ولدته والولد في ملكي؛ فقد ادعى ملكَ الولد، ولكن لم يدّع ملكَ الولد الآن، وإنما ادعى ملكَه حالة الولادة، فإذا أقام على ذلك بينة، ولم تتعرض البينة لملك الحال، فهذا يخرج على القولين في ملك أمس، ولا فرق.
وإن قال: ولدته جاريتي في ملكي، وفسّر ذلك بكون الجارية مملوكة له عند الولادة، فنقول: قد تكون الجارية مملوكة له، والولد لغيره، ويتصور ذلك في الوصية، وقد يكون الولد حراً، فليس فيما ذكره دعوى ملك (1) في الولد، ولكنه ادعى حصول الولد في يده، ثم ادعى يدأ في زمان سابق، فيجري فيه القولان في دعوى اليد السابقة كما جريا في الملك.
وقد يخطُر في هذا المقام أنه إذا ادعى الملك في أمها، أو هو (2) ثابت له بلا نزاع، فينبغي أن يلتحق ذلك بما إذا ادعى جاريةً حاملاً، فإنه يكون مدعياً بحملها أيضاً، وهذا فقيه، ولكن ذكرنا فيه احتمالاَّ، وهذه الصورة تتميز عن تيك من جهة أنه أفرد الولد بالدعوى في هذه المسألة. وفي التي تقدمت وجّه الدعوى على الأم، فتبع الولد. ثم ليس تخلو المسألة عن ادعاء الملك فيما مضى، وإن ادعى الملك في الحال أغنانا عن كل هذا التفصيل، واعتمدنا دعواه في الملك الناجز.
فهذا تحصيل القول في هذه المسألة. ومن اطلع عليه لم يسترب في أن ما عداه وهم.
__________
(1) ت 5: " ملكية ".
(2) ت 5: " وهو ".(19/163)
فصل
قال: " ولو كان في يديه صبي صغير يقول هو عبدي، فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم ... إلى آخره " (1) .
12288- إذا كان في يد الإنسان شخصٌ بالغ، وكان يصرِّفه كما يشاء، ويستصغره استصغار العبيد، على وجهٍ يغلِّب على الظن أن الأحرار لا يُستصغرون كذلك، فإذا قال: هو ملكي، وقال ذلك الشخص: أنا حر أصلي، فالقول قول ذلك الشخص، لم يختلف الأصحاب فيه، وإن تداولته الأيدي، وجرى عليه البيع والشراء؛ لأن ظاهر الدار الحرية، والأصل في الناس الحرية، ومن يدعيها، فهو مستمسك بالأصل والظاهر.
فإن قيل: أليس تصرف المُلاّك مع استمرار ظاهر اليد دلالة على الملك؟ وقد اجتمعا في هذه المسألة.
قلنا: إنما تدلّ اليد والتصرف على تعيين المالك، مع كون الشيء مملوكاً، فيظهر من اختصاص الإنسان باليد والتصرف، وعدمِ النكير عليه تعيّنُه من بين الناس، وليس ْمع من يدّعي الملك فيه أصل يعتضد به. فأما أصل الملك، فلا يثبت بظاهر التصرف، وعند ذلك قال الأصحاب: إذا اجتمع الظاهر والأصل، فالتعويل على الأصل، فلئن قيل: الحر لا يصرّف كذلك، قلنا: قد ينقاد الخادم للمخدوم بما ينقاد بمثله العبيد؛ فلا تعويل على ذلك. فإن قيل: أليس ينفذ تصرفه وإن لم يُبد ذلك الشخص إقراراً بالرق؟ قلنا: ذهب بعض أصحابنا إلى اشتراط الإقرار بالملك، وكان شيخي يميل إليه في الفتوى.
ونحن نذكر في ذلك أصلاً، فنقول: لا يشترط في نفوذ التصرف فيما الأصل فيه الملك المقدارُ الذي يدل على الملك؛ فإن دلالة الملك لا تثبت إلا بدوام اليد وتصرفاتٍ، مع فرض انتشارٍ وعدم إنكار، وقد يشترط مع ذلك شيوعُ تفاوض الناس
__________
(1) ر. المختصر: 5/265.(19/164)
بنسبته إلى ملكه. وهذا لا يشترط في الحكم بنفوذ تصرف المتصرف ظاهراً؛ فإن من فاجأناه يبيع شيئاً من يده، نفذنا بيعه، وكأنّ (1) المكتفى به في تنفيذ البيع يدُ الداخل في الدعاوى، ومن صادفنا شيئاً في يده حالة الدعوى عليه، جعلنا القول قوله مع يمينه.
فإذا تبيّن ذلك عُدنا إلى ما نحن فيه، فنقول: يد الدعوى لا ثبات لها إذا كان الشخص يدعي الحرية الأصلية، فلو تصرف، فلا مستند لتصرفه؛ وعن هذا شرط شارطون إقرار ذلك الشخص بالرق.
ومن أصحابنا من لم يشترط، وإن كان لو أظهر الحرية ودعواها، لكان القول قوله. وكل ذلك في شخص لم نعهده صغيراً في يد إنسان.
12289- فأما إذا رأينا صغيراً في يد إنسان، [وكان] (2) يدعي رقه ويستعبده، فقوله مقبول إذا لم يكن للصبي نطق (3) ، فالحكم بالرق نافذ في الظاهر، واليد ثابتة، وهذا فيه إذا كان لا يعقل عَقْلَ مثله، فإن بلغ مبلغ التمييز، وعقل عَقْلَ مثله، وادعى أنه حر، ذكر أصحابنا وجهين في قبول قوله: أحدهما - أنه لا يقبل؛ إذ لا حكم لقول الصبي، والثاني - يقبل؛ لأنه قال ما قال عن فهم، وهو خير كله ليس فيه توقع ضرار، وأصل الناس على الحرية، وهو ظاهر الدار.
قال القفال: الوجهان مأخوذان من إسلام الصبي؛ من جهة أن الحرية لا ضرر فيها في أصل الوضع، وإن كان يتعلق بها التزامات، فكان ادعاؤه الحرية بمثابة إخباره عن الإسلام، ثم جرى الوجهان مأخوذين من قول الشافعي؛ فإنه قال: " فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم " فمن أصحابنا من قال: أراد إذا لم يدّع الحرية. ومنهم من قال: أراد أنه كالثوب من جهة أنه لا كلام له شرعاً، كما أن الثوب لا كلام له حساًَ.
التفريع على الوجهين: إن قلنا: " لا يقبلُ قولُه "، وكان لا يعقل عقل مثله، فبلغ، وادعى أنه حر الأصل، فهل يقبل قوله الآن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا
__________
(1) ت 5: " فكان له المكتفى به ".
(2) في الأصل: " فكان ".
(3) عبارة (ت 5) : " إذا لم يكن للصبي نفوذ الحكم فالرق نافذ ".(19/165)
يقبل؛ لأنا حكمنا بالرق وثبوت الملك، فلا ننقض حكمَنا السابق. والثاني - يقبل، وهو القياس.
وبنى الأصحاب هذا على ما إذا حكمنا بإسلام الصبي تبعاً للسابي، أو الدار، أو الإسلام الطارىء من أحد الأبوين، فإذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مسلم ارتد، أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ذكرناهما على أبلغ وجه في البيان في كتاب اللقيط.
ومما يليق بتمام البيان فيه أنه إذا كان يصرِّف الصغيرَ، ولا يدّعي رقَّه، ولم يتصرف فيه تصرفاً يستدعي الملك: فمن أصحابنا من قال: لا يُحكم برقه، والحالة هذه.
حتى إذا بلغ وادعى الحرية قُبل مذهباً واحداً، وهذا متجه. ومنهم من قال: هذا بمثابة ما لو ادعى الرق، أو تصرف تصرفاً يستدعي الملك.
فصل
قال: " وإذا كانت الدار في يدي رجل لا يدعيها ... إلى آخره " (1) .
12290- إذا كان في يد رجل دار، فجاء إنسان وادعى أن نصف تلك الدار له، وجاء آخر وادعى أن كلّ الدار له، وصاحب اليد ساكت، وأقام كل واحد من المدعيين بينة على وفق دعواه، فبينة صاحب الكل في النصف لا معارِض لها، فقد نُطلق ونقول: يثبت له النصف، والبينتان متعارضتان في النصف الثاني، فإن قلنا: بالتساقط، سقطت بينة صاحب الكل في النصف، وهل تثبت في النصف الثاني، فعلى قولين مبنيين على أن الشهادة إذا رُدّ بعضها، فهل يُردّ باقيها؟ إذا كان الباقي بحيث لو انفرد بالذكر، لقبلت البينة فيه، وفي ذلك قولان أجرينا ذكرهما.
فإن قلنا: لا تتبعض البينة، وإذا بطل بعضها، بطل كلها، فتسقط بينة صاحب الكل في الكل.
وإن قلنا بالتبعيض، سقطت بينته في النصف، وسقطت بينة صاحبه، وخلص لصاحب الكل النصفُ.
وإن قلنا باستعمال البينتين، خرجت الأقوال. فإن قلنا بالقرعة، أقرع بينهما، فإن
__________
(1) ر. المختصر: 5/265.(19/166)
خرجت القرعة لصاحب النصف، قضي له بالنصف وقضي لصاحب الكل بالنصف. وإن خرجت قرعة صاحب الكل، قضي له بجملة الدار.
وإن قلنا بالوقف، سلم النصف لصاحب الكل، ووقف النصف إلى أن يصطلحا.
وإن قلنا بالقسمة، سُلم النصف كما ذكرنا، وقُسم النصف الآخر بينهما، فيحصل لصاحب الكل ثلاثة أرباع الدار، وفي يد صاحب النصف ربع الدار.
فرع:
12291- إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، وأقام كل واحد منهما بينة، فأقر المدعى عليه لأحدهما بعد قيام البينتين، فقد اختلف أصحابنا على وجهين: فمنهم من قال: لا حكم لإقراره؛ فإن يده تناهى ضعفها، فلا حكم لإقراره بعد استحقاق إزالتها. ومنهم من قال: تترجح بينة المقر له، وهذا تفريع على استعمال البينتين؛ فإنا إذا قلنا بالتهاتر والتساقط، فلا بينة في الواقعة، واليد قائمة والإقرار صادر عن يد ثابتة، فجرى الحكم بها، فأما إذا قلنا بالاستعمال، فمن أصحابنا من يجعل الإقرار ترجيحاً، فيصير المقَرّ له بمثابة. صاحب يد. ومنهم من يقول: سقط سلطان المدعى عليه بعد قيام البينتين، واستحق انتزاع الدار من يده على حكم الوقف، أو القرعة، أو القسمة، فلا تُغيّر هذه الأحكام بإقراره.
فأما إذا ادعيا، فأقر لأحدهما قبل أن يقيمَ البينة، فقد صار المقر له صاحبَ يد، وانصرفت الخصومة إليه، وهذا بعينه هو الذي تقدم ذكره إذا أقر المدعى عليه لحاضر فصدّقه المقر له.
فصل
قال: "وإذا كانت الدار في يد ثلاثة، وادعى أحدهما النصف ... إلى آخره" (1) .
12292- إذا صادفنا داراً في أيدي ثلاثة، فادعى واحد نصفها، وواحد ثلثها، وواحد سدسها، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه، أما صاحب الثلث، فيقضى له
__________
(1) ر. المختصر: 5/265.(19/167)
بالثلث، فإنه ادعى المقدار الذي تثبت يده عليه، وأما صاحب السدس، فيثبت له السدس لا شك فيه؛ فإنه أقل مما تثبت يده عليه، وأما صاحب النصف، فيسلم له الثلث لا محالة لاجتماع يده وبينته، ويبقى الكلام في سدس هو (1) يتفرد بدعواه.
فإن أقر الذي يدعي السدس أن السدس الآخر الذي في يده لصاحب النصف، فيخلص له النصف، وإن أنكر صاحب السدس ذلك، وزعم أنه لغائب في يده مثلاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك السدس يسلّم لمدعي النصف؛ فإنه قد أقام البينة عليه، وما عارضت بينته في ذلك بينة.
والوجه الثاني - أنه يأخذ نصف السدس؛ فإنه ادعى سدساً مشاعاً في الدار، وليس يدعي على صاحب السدس جميع ذلك السدس، وإنما يدعيه على صاحب الثلث والسدس، ودعواه فيما هو في يد صاحب الثلث مردودة، فإن فيه البينة واليد، فيبقى نصف السدس الآخر، وهو في يد صاحب السدس لا يدعيه لنفسه، فيسلِّم للمدعي نصفَ السدس، وهذا حسن. ذكره صاحب التقريب والعراقيون.
فرع:
12293- إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث وقال كل واحد منهما: غصبتَ هذه الدار مني، فلو أقر المدعى عليه لأحدهما وعيّنه، فقد مضى القول في هذا مستقصىً.
وغرض الفرع أن صاحب اليد إذا قال: الدار لأحدكما، ولا أدري ممن غصبتها منكما، فأول ما نذكره في ذلك أن الدار تخرج من يده، وبمثله لو قال: الدار في يدي لواحد من الناس، غصبتها منه، ولم يعين أحداً، فهل يُخرج القاضي الدارَ من يده أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُخرجها من يده ويحفظها كما يحفظ كلَّ مال ضائع. والثاني - لا يخرج الدار من يده، ولا حكم لإقراره على هذا الوجه.
فعلى هذا؛ لو أقر وأبهم، ثم قال: غلطت! فهل يقبل رجوعه؟ فعلى وجهين -مأخوذين من الخلاف في إزالة يده- فإن لم نر إزالة يده، فلا حكم لإقراره، ولا أثر لرجوعه، وكأنه لم يقر، وإن قلنا: تزال يده، فلا يقبل رجوعه، فالرجوع إذاً بين أن
__________
(1) ت 5: " وهو ".(19/168)
يلغو من حيث لا حاجة إليه، وبين أن لا يقبل لتأكد الإقرار.
وإذا قال المدعى عليه في مسألتنا: غصبتُ الدار من أحدكما، ثم رام رجوعاً عن أصل الإقرار، لم يقبل منه ذلك، والفرق أن المقر له منحصر، والطلب متوجه منهما، وإذا طالباه، فقد طالبه من أقر له، فلا يتصور والحالة هذه الرجوع.
وقد ذكرنا أن الدار تخرج من يده وجهاً واحداً، ثم تتوجه الدعوى منهما عليه، وكل واحد يخاصمه وحده، ويقول: غصبت مني، ويطالبه باليمين، وهي على البتّ أم على نفي العلم؟ ذكر الشيخ أبو علي في ذلك قولين مبنيين على أنه لو نكل عن اليمين في حقهما، فهل يغرم لكل واحد منهما نصفَ القيمة، وفيه القولان المشهوران. فإن قلنا: إنه يغرَم، فيحلف على البت؛ فإنه يمين ينفي بها فعل نفسه، والنكول عنها يثبت مالاً عليه، فيطالبه كل واحد بأن يحلف: ما غصبت منك قطعاً، فإن نكل، رُدَّت اليمين على خصمه.
وإن قلنا: إنه وإن نكل عن اليمين وحلفا، لا يلتزم شيئاً، فلا يطالب بيمين البتّ، بل يحلف على نفي العلم، كما لو كان في يد الرجل وديعة، فقال: لست أدري أنها وديعة لزيد أو لعمرو، فيحلف على [نفي] (1) العلم، وقد ذكرتُ مسألة الوديعة في كتابها، والجامعُ أن الغاصب ليس يغرَم على وجهٍ كما لا يغرم المودَع، ثم المودَع لا يحلف على البت، فكذلك الغاصب في مسألتنا. هذه طريقة.
ويتجه عندنا أن يطالَب بالقطع في اليمين، ثم لو نكل، لم يلزمه شيء، لأنه يحلف على فعل نفسه، فلتكن يمينه على [البتّ] (2) .
وإذا كان النكول لا يُلزمه شيئاً، ولا يثبت عليه مرجعاً، فلا ينبغي أن يترك قياس الأيمان (3) من غير غرض.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.
(2) في النسختين: على نفي العلم وهو مخالف للسياق، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى، واستئناساً بما في البسيط للغزالي، وبما في مختصر العز بن عبد السلام.
(3) لأن قياس الأيمان أن من حلف على فعل نفسه، حلف على البت، وعبارة العز بن عبد السلام
توضح ذلك إذ قال: "وقال الإمام: يحلف على البت -وإن قلنا لا يغرم- طرداً لقاعدة =(19/169)
12294- ولكن يدخل في هذا شيء سننبه عليه في آخر الفرع.
فلو عُرضت اليمين عليه، فحلف في حقهما جميعاًعلى البت، وقد سبق منه الإقرار لأحدهما مجملاً، فَحَلِفُه على البت في حقهما لا يبطل إقرارَه الأول، وتكون الدار موقوفة للمدعيَيْن. وهذا مشكل؛ فإنه لو حلف على البتّ في حق الأول، يجب أن يكون هذا تعييناً منه للثاني؛ وهذا لا يتجه فيه جواب؛ فإن من أبهم، ثم عيّن، قُبل التعيين منه، وكان تعيينه بعد (1) الإبهام غير منافٍ لما تقدم، والمتردّد إذا تثبت، لم يبعد ذلك، فالوجه القطع بما ذكرناه.
فإن قال قائل: إذا كنا نلزمه الغرم لو لم يحلف على البت، فهو مدفوع إلى الحلف، قلنا: هذا أغمض من الأول، فإنا إذا حملناه على البتّ، فقد أمرناه بأن يحلف كاذباً، وتكليف اليمين الفاجرة لا وجه له.
ثم إذا كان يرى أني أحلف حتى لا أغرم، أو كنا نعرض عليه، ونبين له ذلك، فهذا في حكم التواضع والتواطؤ على صورة اليمين، وليس ذلك على الصيغ المعلومة في الأيمان، فالوجه أن نفرعّ على أنه يحلف على نفي العلم، ثم نقول: إذا حلف كذلك، فالدار موقوفة بين الخصمين.
واختلف أصحابنا في كيفية الوقف؛ فمنهم من قال: موقوفة إلى أن يصطلحا على تراضٍ، ولا تقسم الدار بينهما نصفين، بخلاف ما لو تنازعا داراً -والدار في أيديهما- وتحالفا، فيثبت لكل واحد منهما نصفُ الدار في يده، والفرق أن كل واحد منهما مستمسك بيده في نصف الدار، وهاهنا لم تثبت اليد لواحد منهما.
ومن أصحابنا من قال: الدار بينهما بمثابة الدار في يدي رجلين إذا تداعياها وتحالفا؛ فإن الحق لا يعدوهما، فهو كما لو كانت الدار في أيديهما، ثم لا فرق بين أن يحلف المدعى عليه وبين أن ينكُل ويحلفا أو ينكلا.
__________
= الأيمان، وإن قلنا: يغرم، حلف لكل واحد على البت: أي ما غصبت منك" (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/375 مخطوطة مرقمة الصفحات) .
(1) ت 5: " قبل الإيهام ". وهو سبق قلم.(19/170)
ومهما استوت الخصومة، وهما متساويان، فما ذكرناه من التردد قائم في كيفية الوقف، وإذا قامت بينتان متضادتان على عين، إذا رأينا استعمالَهما، ففي كيفية الاستعمال الأقوال: أحدها - القرعة. فلم يُجْر أحد من الأصحاب القرعة في التحالف في الدار، ولا فيما نحن فيه، مع عموم القرعة وجريانها في كل خصومة، والسبب فيه أن القرعة إنما أجراها من رآها عند التمسك بنهاية الحجة، وليس وراء البينة حجة تُرقب، فإذا عسُر فصل الخصومة معها، اتجهت القرعة، واليمين ليست نهاية الحجة، إذ نَرقُب البينةَ بعدها.
وهذا الذي ذكرناه خيالٌ؛ فإن أصل القول بالقرعة باطل، والقول الثاني في الاستعمال القسمةُ، والثالث الوقفُ.
وعندي أن ما ذكرناه من التردد في أن هذا بينهما على حكم القسمة، أو على حكم الوقف إلى الاصطلاح، هو القولان القسمة والوقف، فكأنّ التحالف في المال المتنازع يخرج فيه قولُ القسمة والوقف، ولا يخرج فيه قول القرعة.
وإذا تنازعا والدار في أيديهما، فليس ما ذكرناه قسمة، ولكن قررنا كلَّ واحد على ما في يده. هذا ما أردناه.
فرع:
12295- إذا ادعى رجل على رجل جاريةً في يده، وأنكر المدعى عليه، فحلفناه، فنكل، فرددنا اليمين على المدعي، فحلف يمينَ الرد، وسلمنا الجارية إليه، فوطئها وأحبلها وأتت منه بولد، ولحقه الولد في ظاهر الأمر، ثم قال بعد ذلك: قد كذبت في دعواي ويميني، والجارية ليست لي!
قال الأصحاب: لا سبيل إلى رد الجارية على المدعى عليه؛ فإنه قد ثبت ظاهراً كونها مستولدة، وثبت أيضاً حرية الولد، فلا يقبل قوله في إبطال الاستيلاد، وإبطال حرية الولد، ولكن يغرم للمدعى عليه قيمةَ الجارية وقيمةَ الولد؛ فإنه فوّت الرد فيهما بسببٍ لا مُستدرك له ويحرم عليه وطء هذه وقِربانها على حكم الاستيلاد، ويلتزم مهر مثلها أيضاً. قال الشيخ: هذا إذا ادعت الجارية ثبوت الاستيلاد، أو لم تدّعه، ولم تنفه.
فأما إذا كذّب المدعي نفسه، كما ذكرناه، ووافقته الجارية، وقالت: إنما أنا(19/171)
ملك المدعى عليه، ولم يثبت الاستيلاد فيّ، فهل تُردُّ الجاريةُ على المدعَى عليه؟ ذكر الشيخ فيه وجهين: أحدهما - نردها؛ فإن الحق لا يعدو المدعي والجارية وقد أقر، وهذا لا أصل له. والوجه الثاني -وهو الذي يجب القطع به- أن الاستيلاد لا يزول؛ من جهة أنه لزم وتأكدت عُلقة الحرية، فلا سبيل لهما إلى إبطالها، وأما الولد، فالحرية فيه لا ترتد (1) وفاقاً.
فرع:
12296- قال الشيخ (2) : من اشترى داراً، وقبضها، فجاء إنسان وادعاها، وأقام البينةَ عليها، وانتزع الدار من يد المشتري، لما ثبت استحقاقُه، فهل يرجع المشتري بالثمن على البائع؟ نُظر: فإن لم يقل المشتري الدار لي، وكانت لمن باعها مني، ولكنه ردد قولَه، ولم يصرح بذلك، فإذا ثبت الاستحقاقُ، رجع إلى البائع، ولو قال صريحاً: هذه الدار لي، ملكتُها، فهذا إقرار منه للبائع بالملك، فإذا قامت عليه البينة، فهل يرجع بالثمن؟ ذكر (3) وجهين: أحدهما - لا يرجع؛ لأنه يؤاخذ بإقراره، وكان يمكنه أن لا يصرح بادعاء الملك، والثاني - أنه يرجع، فإنه أقر لظاهر الحال، فلما قامت البينة جُعل كأن الإقرار لم يكن.
وكان شيخي يقطع بهذا، وإليه ميل المفتين.
12297- ثم قال الشيخ: لو اشترى جاريةً بالغة، فادعت في يده أنها حرة الأصل، ولم يثبت عليها الرق بإقرارها، ولا ببينة تشهد، ولم تُعهد مسترقَّة في الصغر، فالقول قولها. وهذا مما مهدناه.
فإذا ادعت الحريةَ وصدقناها مع يمينها، فالمشتري هل يرجع بقيمتها على البائع؟ نظر؛ فإن لم يصرح بكونها مملوكة عند التفاوض في الخصومة، فيرجع بثمنها على البائع، وإن قال في الخصومة: أنت مملوكة، ثم حلفتْ، قال: فلا يرجع على [البائع] (4) لإقراره بالملك، وقطع القول به.
__________
(1) ت 5: " لا تزيل ".
(2) الشيخ: المراد الشيخ أبو علي السنجي، وهو المراد غالباً إذا أطلقه الإمام.
(3) ت 5: " ذكروا "، والذي ذكر هو الشيخ أبو علي.
(4) في الأصل: " المشتري ". وهو سبق قلمٍ واضح.(19/172)
ولا فرق عندنا بين هذه المسألة وبين مسألة المشتري؛ والفرق إن أمكن، فوجهه أن من اشترى داراً من يد إنسان، فالظاهر الملك، والإقرار بالملك مبني على هذا الظاهر، وصاحبه مقر بالملك بناء على الظاهر، فعُذِر إذا بأن خلاف الظاهر، وقُبل منه قوله: إنما أقررت لأني ظننت أن البائع مالك بحكم يده وتصرفه، فأما في الجارية، فلا ظاهر يعتمد في ثبوت رقها، فإذا قال المشتري: إنها رقيقة حُمل ذلك على تثبت منه، لا على الظاهر.
ولا بأس بهذا الفرق، والأولى إجراء الخلاف في المسألتين.
فصل
12298- ذكر الشيخ في شرح الفروع مسائل، سبق بعضها في الوصايا، ولكنا نعيدها للزوائد فيها.
فمنها: أن رجلاً لو مات وخفف ابناً لا وارث له سواه، وخلف عبداً قيمته ألف، لم يخلف سواه، فجاء إنسان وادعى أن أباه أوصى له بثلث ماله، وجاء آخر، وادعى أن له على أبيه ألف درهم، فصدّقهما معاً، ولم يقدّم أحدهما في التصديق على الثاني.
قال ابن الحداد ومعظم الأئمة في هذه المسألة: صاحب الدَّيْن يضرب في العبد بألف درهم، وصاحب الوصية يضرب فيه بثُلث الألف، فنزيد على الألف ثُلثَه عولاً، فيصير الثلث ربعاً، ويقسم العبد بين الوصية والدين أرباعاً.
فإن قيل: أليس الدينُ مقدماً على الوصية؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن الدين ثبت بإقرار الوارث، والوصية ثبتت بإقراره، والمسألة مفروضة فيه إذا كان صاحب الوصية يكذّب مدعي الدين ومستحق الدين يكذّب مدّعي الوصية.
وحكى الشيخ وجهاً غريباً، أنه إذا صدقهما جميعاً، فيصرف تمام العبد إلى الدين وتسقط الوصية. وهذا غريب. والمذهب ما قدمناه؛ إذ لا خلاف أنه لو أقر بالوصية أولاً، ثم أقر بالدين بعد ذلك، وتكاذب صاحب الوصية والدين فالوصية بكمالها(19/173)
تثبت للمقر له، لما ذكرناه، من أن جهة (1) ثبوت الوصية والدين الإقرارُ، والإقرار السابق يتضمن ثبوت الوصية بكمالها، وصاحب الوصية مكذِّب لصاحب الدين، فقدِّمت الوصية، ثم يصرف الثلثان إلى الدين.
ولو أقر بالدين أولاً، ثم أقر بالوصية، فالوصية مردودة، والدين متقدم؛ لأنه مقدم شرعاً، وقد قدّمه المقر ذكراً، وإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا أقر بهما معاً من غير فرض تقدم وتأخر، هذا ما ذكره الأصحاب.
ثم في المسألة بقيةٌ، وذلك أنا نقول: إذا قدم الإقرارَ بالوصية، ثم أقر بالدين، فقد ذكرنا أن الثلث بكماله يصرف إلى الوصية، فإذا أقر بالدين صرف الثلثان إلى الدين لمكان تأخر الإقرار به عن الإقرار بالوصية. ثم صاحب الدين يقول له: لو أقررت لي بالدين أولاً، لكنت أستحق تمام الألف، وإن أخرت الإقرار لي، وقدّمت عليّ الوصية صرتَ بتأخير إقراري مفوّتاً عليّ ثلث الألف، فاغرم لي ما انتقص من حقِّي.
هذا يخرج -فيما ذكره الشيخ أبو علي- على القولين المكررين في أن الإقرار إذا تضمن إيقاعَ حيلولة بين إنسان وبين حقه، فهل يجب على المقِر المنتسب إلى إيقاع الحيلولة ضمان؟ فيه القولان. ولو أراد التخلص منه، فينبغي أن يقدم ما يجب تقديمه، وهو الدين. وكذلك لو أقر بهما معاً، فيخرج القولان، ويلتزم على أحدهما لصاحب الدين تتمة الألف؛ من جهة أنه لو أقر بالدين أولاً، لوصل مستحِق الدين إلى كمال حقه، وليس لصاحب الوصية أن يطالب الوارث، ويقول: كان من حقك أن تقدم الإقرار بحقي، وإنما قلنا: لا يغرم للوصية شيئاً إذا أخر ذكر الوصية؛ فقد وضعها حيث وضعها الشرع، فلا يلزمه شيء، وإنما التزم لصاحب الدين على أحد الوجهين لتأخيره الإقرار، وكان حقه أن يقدمه، ويسعى في تنزيل الدين منزلته.
12299- ومما ذكره ابن الحداد من هذا القبيل أنه لو مات وخلف ابناً وارثاً دون غيره، فجاء عبد، وقال: أعتقني أبوك في مرضه، وهو ثلث ماله [فصدّقه] (2) ، فجاء
__________
(1) سقطت من (ت 5) .
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وقد سقطت من النسختين.(19/174)
عبد آخر وزعم أنه أعتقه في مرضه أيضاً، وقيمته مقدار الثلث، كما تقدم، فصدقه الوارث.
قال: أما العبد الأول فيعتَق على كل حال، ولكن يقرع بينه وبين العبد الثاني.
فإن خرجت القرعة لمن جاء أولاً، ثبت عتقه ورقَّ الثاني، وإن خرجت القرعة على الثاني، عُتقا جميعاً، فيعتق الأول بحكم الإقرار ويعتق الثاني بحكم القرعة، هكذا قال، وقطع به الشيخ في الشرح.
وحقيقة الجواب أنه لو ثبت العتق في العبدين جميعاً معاً، لكنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، عَتَق، إذا كان كل واحد منهما مقدار الثلث، فالقرعة إذاً توجب هذا المعنى، فإذا خرجت القرعة على العبد الثاني، عَتَق بحكم القرعة، ولا مرد لعتق العبد الأول؛ فإن الوارث جرد الإقرار فيه، فلا يقبل منه مسلك يتضمن نفيَ ذلك العتق، هذا تعليل ما ذكره ابن الحداد.
ولو جاء العبدان، فادعى كل واحد منهما إعتاق السيد إياهما فأقر الوارث لهما معاً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فلا يعتِق إلا مقدارُ الثلث، والمذهب أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة عَتَق، ورق الثاني.
ومن أصحابنا من قال: يَعْتِق من كل واحد منهما نصفُه. وهذا بعيد عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإن من أعتق عبيداً في مرض موته لا مال له غيرهم، وجب الإقراع بينهم، فإقرار الوارث ينبغي أن ينزل منزلة إنشاء العتق.
والوجه الثاني - أنا نعتق من كل عبد نصفه؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
وحكم الإقرار اللزوم. فقد لزم لكل واحد حق العتق؟ فلا معنى لإخراج أحدهما عن الاستحقاق. وهذا يوجب فضَّ العتق عليهما إلى استيعاب الثلث، ولهذا قلنا: إذا قدم الإقرار لأحدهما، ثم أقر للثاني يقدم المقر له بالاستحقاق، ولم يقبل الإقرار للثاني على وجه يوجب التسوية بينه وبين الأول.
12300- ومما ذكره أنه لو ادعى رجل أن أباه أوصى له بثلث ماله، فصدقه هذا الوارث، فجاء آخر وادعى أنه أوصى له بالثلث، فصدّقه، وكان كل واحد منهما ينكر(19/175)
وصية صاحبه، فيسلّم الثلث كَمَلاً إلى الأول؛ جرياً على القياس الذي مهدناه؛ لأنه أقر له أولاً. وقد ذكرنا أنه لو قدم الإقرار بالوصية، وأخر الإقرار بالدين، أكملت الوصية لتأخر الإقرار بالدين عن الوصية. وهذا أولى من وصية تقدم على وصية.
12301- ولو خلَّف المتوفى عبداً قيمته ألف، فقال العبد: أعتقني أبوك في صحته، وقال رجل: لي على أبيك ألف درهم دين، فصدقهما معاً، فالذي صار إليه الأئمة أنه يعتِق نصفُه، ويصرف نصفه إلى الدين إذا وقع الإقرار بهما معاً.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه يعتق كله، ويسقط الدين؛ فإنه إذا ثبت العتق في الصحة، فهو مقدم على الدين، فينفذ العتق، ويسقط الدين.
وهذا ليس بشيء؛ فإن هذه المسألة فيه إذا كان صاحب الدين يكذّب دعوى العتق، فأما إذا اعترف به وبجريانه في حالة الصحة، فلا إشكال في المسألة.
12302- ولو خلف ابناً وألف درهم، فجاء رجل وادعى دين ألف، فصدّقه الابن، ثم جاء آخر وادعى دين ألف، وأقام على ذلك بينة، وكذّب الأول في دعواه، فالتركة بجملتها تسلّم إلى الثاني وليس للأول منها شيء؛ فإن البينة في حق الثاني مقدمة على الإقرار في حق الأول، والمسألة مفروضة فيه إذا أنكر الثاني دين الأول.
ولو كانت المسألة بحالها، فجاء واحد، وادعى وصية له بالثلث، فصدّقه الوارث، ثم جاء آخر، وادعى الوصية بالثلث، وأقام على ذلك بينة، وأنكر الوصية الأولى، فيسلم إلى الثاني الثلث بكماله، ثم إذا سُلّم الثلث، فالأول يقول للوارث: قد أقررت لي بثلث جميع المال، وهذا الآخر أخذ الثلث بشهادة زور، [وأنت] (1) معترف بكونه مبطلاً، والمسألة مفروضة هاهنا (2) ، فاصرف إليّ ثلث الثلثين، وقدِّر ما أخذه من ادعى الوصية تالفاً من التركة، فالوارث يجيبه إلى ما قاله؛ فإنه أقر له بثلث شائع في جميع المال، وقد فات ثلثه من التركة، فله ثلث الباقي.
__________
(1) في الأصل: " وأنه "، والمثبت من (ت 5) .
(2) أي مفروضة في تكذيب الوارث للمدعي الثاني.(19/176)
فرع:
12303- إذا كان الرجل قيّماً في مال يتيم، أو وصياً بنصب أبيه، ثم هذا القيم نصبه الإمام قاضي البلد، وهو على الوصاية، فظهر مالٌ لأب الطفل، وشهد عند القاضي شاهدان أن لأب الطفل مالاً معلوماً عند فلان، قال ابن الحداد: لا يقضي به القاضي؛ فإنه خصم (1) لليتيم مطالب بماله، فيبعد أن يكون مخاصماً عنه قاضياً له. وهذا كما أنه لما كان خصماً في حق نفسه، فلا يتصور منه أن يقضي لنفسه أصلاً، فإذا لم يمكنه أن يقضي لليتيم، رفع الأمر إلى الإمام، وادعى هو بنفسه لليتيم. وأقام البينة ليقضي بها الإمام.
وإن رفع الأمر إلى بعض من استخلفه من الحكام، ففي جواز ذلك وجهان، وكذلك القول فيما يرفعه من شُغل نفسه إلى من استخلفه. وهذا الخلاف في مستخلف القاضي.
فأما الإمام [لو عنّ له] (2) شُغل، فلا بد من الارتفاع إلى من استخلفه؛ فإنه لا طريق غيره، وقد صح أن علياً ارتفع إلى مجلس شريح في قصص معروفة، قضى في بعضها له، وفي بعضها عليه.
قال الشيخ أبو علي: قال شيخي -يعني القفال- الوصي إذا نُصب قاضياً، فله أن يقضي لليتيم؛ فإن القاضي يلي أموال اليتامى، ثم لا يمنعه ذلك من القضاء لهم، فكذلك في هذه الصورة، وهذا كما أنه يقضي لسائر الأيتام الذين هم في حياطته وولايته، والذي قاله القفال متجه في القياس.
***
__________
(1) الخصم: المخاصم، والمعنى أنه مخاصم عن اليتيم ولمصلحته، وليس المراد خصيمه.
(2) في الأصل: " لو عدّله ".(19/177)
باب القافة ودعوى الولد
12304- بيّن الشافعي رضي الله عنه فيما قدمه من الأبواب حكمَ الدعاوى في الأموال، وبين في هذا الباب حكمَ الدعاوى في الأنساب.
فإذا اشترك رجلان في طهر امرأة بوطء شبهة أو بوطء حلال ووطء شبهة، فأتت بولد يحتمل أن يكون لكل واحد منهما وادعياه، أو ادعيا لقيطاً مجهول النسب، فلا سبيل إلى إلحاقه بهما جميعاً، ولا يتصور أن يكون للمولود أبوان، ولكن نُري الولدَ القائفَ، فإن ألحقه بأحدهما، لحقه، على ما سنذكر تفصيل ذلك، إن شاء الله.
[وترتيب الباب] (1) أن نذكر الطرق التي يثبت بها الاشتراك والتساوي في الدِّعوة (2) ، ثم نذكر من هو من أهل الدِّعوة، ثم نذكر القائف وما يرعى فيه، وحقيقة القيافة، ثم نختتم الباب بما إذا لم نجد القائف.
12305- فأما الكلام في الفصل الأول، فقد قال الأئمة: إذا وطىء الرجل [جاريته] (3) واعترف بالوطء، ثم وطئها غيره بشبهة في ذلك الطهر بعينه، فأتت بولد لزمان يمكن أن يكون من كل واحد منهما: السيد والواطىء بالشبهة، فنري الولدَ القائفَ.
12306- ولو وطىء الجاريةَ مالكُها، أو مالكُ بعضها، أو واطىءٌ بشبهة، ثم حاضت، فلما انقضت الحيضة، وطئها ثانٍ، وجاءت بولد لزمان يمكن أن يكون لكل واحد منهما من حيث الزمان، فالولد ملتحق بالثاني؛ فإنّ وطء الأول استعقب استبراءً
__________
(1) في الأصل: " ومن هذا الباب ". والمثبت من (ت 5) .
(2) الدِّعوة: بكسر الدال المشدّدة، وآخرها تاء مربوطة: هي ادعاء النسب خاصة. وقد سبق بيان ذلك أكثر من مرة، وإنما كررناه لطول العهد به.
(3) في النسخين: جارية. والمثبت من تصرّف المحقق.(19/178)
بحيضة، والولد في ملك اليمين لا يلحق بمجرد الإمكان؛ إذ السيد لو وطىء جارية نفسه، وأقر بوطئها، ثم ادعى أنه استبرأها بعد الوطء، فإذا أتت بولد، لم يلحقه ما لم يستلحقه، فالولد إذاً في المسألة التي نحن فيها ملحق بالثاني منتفٍ عن الأول، سواء ادعاه الأول أو لم يدعه.
وهذا فيه أدنى نظر، إذا كان يدعيه الأول؛ فإن السيد إذا وطىء أمته، ثم حاضت، وأتت بولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء المتقدم على الحيضة -بتقدير جريان الدم في زمن الحمل- فيجب أن يلحق الولدُ السيدَ، وإنما يؤثر طريان الحيضة في أن الولد لا يلحقه من غير استلحاق، فإذا فرضنا تخلل الحيضة بين الوطء الأول وبين الوطء من الثاني، ثم استلحق الأول وادعى، واستلحق الثاني، فلا يبعد أن يقال: نري الولدَ القائفَ، وظاهر كلام الأئمة يختص بالثاني من غير إلحاق قائف، وفي المسألة احتمال.
ولا خلاف أن من أبان امرأته، فنكحت، وأتت بعد النكاح بولد لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من الزوج الأول، فهو ملتحق بالزوج الثاني، من غير دِعوةٍ، منتفٍ عن الأول، وإن ادعى؛ فإن الفراش الثاني قاطع لأثر الفراش الأول فيما ذكرناه.
12307- ولو وطىء رجل امرأةً حرة بشبهة، من غير نكاح صحيح ولا فاسد، ولكن غلط إليها، وهي خلية عن الزوج، فحاضت، ثم وطئها رجل آخر بالشبهة بعد حيضة، فوقع الوطء الثاني في طهرٍ ثانٍ، وأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من كل واحد منهما جميعاً، قال الأصحاب: هو ملتحق بالثاني منتفٍ عن الأول، كما ذكرناه في ملك اليمين سواء؛ فإنّ وطء الغلط من غير نكاح في الحرة بمثابة وطء المملوكة فيما قدمناه في ملك اليمين. هكذا ذكر شيخنا، وادعى الوفاق فيه. وليس ما ذكره خالياً عن احتمال؛ فإن وطء الشبهة في اقتضاء العدة التامة -والموطوءة حرة- بمثابة الوطء الحلال في النكاح، والله أعلم.
12308- ولو كانت المرأة في حبالة زوجية صحيحة، فوطئها الزوج، وحاضت، ثم وطئها واطىء بشبهة، أو لم يثبت من الزوج حقيقة وطء، بل وجد إمكان وطء،(19/179)
ففي هذه الصورة إذا أتت بولد -يمكن أن يكون من كل واحد منهما- فنُري الولدَ القائفَ وفاقاً. ولا معتبر بما تخلل من الاستبراء بالحيضة؛ لأنا نعتبر في إلحاق النسب بالزوج في النكاح مجردَ الإمكان، والحيضة لا تقطع الإمكان أصلاً. فلا أثر لها في حق الزوج.
ولو وطىء الزوجة واطىء بشبهة أولاً، وحاضت بعد وطئه إياها، ثم أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون منهما، فيكون ملحقاً بالزوج منفياً عن الواطىء بالشبهة، إن صح ما قدمناه من تأثير الحيض في وطء الشبهة، فإنا إن اقتصرنا على الإمكان في حق الزوج، فلسنا نقتصر على الطريقة التي مهدناها في حق الواطىء بالشبهة.
12309- ولو نكح الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، فوطئها، وحاضت، ووطئها آخر بشبهة غالطاً، والزمان محتمل، ذكر الإمام (1) في هذه المسألة وجهين: أحدهما - أن حكم النكاح الفاسد حكم النكاح الصحيح، والولد ملحق فيه بالإمكان، [كما يلحق في النكاح الصحيح] (2) ؛ فعلى هذا لو تخللت حيضة، وأتت بولد، فنريه القائفَ بينهما. ولو لم نتحقق من الناكح وطئاً، فنكتفي بإمكان الوطءِ في جانبه. ولو أنكر الناكح على الفساد الوطءَ، فلا أثر لإنكاره على هذا الوجه.
والوجه الثاني - أن نكاح الشبهة في حق الناكح لا يُثبت نسباً بالإمكان المجرد؛ فعلى هذا سبيل الناكح كسبيل الواطىء بالشبهة غلطاً، ولا بد من تصوير الوطء، والتفصيل في تخلل الحيض كالتفصيل في وطأة الغالط.
12310- فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثُ مراتب: إحداها - وطأة الغالط. وقد ألحقها شيخي وطائفة من الأئمة بالوطء في ملك اليمين، وأثبتوا لتخلل الحيض أثراً، ولا شك أن الاعتراف بالوطء لا بد منه.
وأما المرتبة الثانية - فالنكاح الصحيحُ، والإمكانُ المجرد كافٍ في حق الزوج، ولا أثر في حقه لتخلل الحيضة.
__________
(1) الإمام: يعني والده الشيخ أبا محمد.
(2) في الأصل: " كما لا يلحق في النكاح الصحيح "، والعبارة صحيحة في (ت 5) .(19/180)
وأما إذا جرى نكاح على الفساد (1) ، ففيه الخلاف. من أصحابنا من ألحقه في النسب (2) وأمرِه بالنكاح الصحيح، ومنهم من شرط فيه جريان الوطء، ثم رده في الترتيب إلى وطأة الغالط.
وهذه المراتب مسبوقة بما ذكرناه في الوطء في ملك اليمين مع تصور الغلط، ولا خلاف في إلحاق الولد بالزوج الثاني، وقَطْعه عن الأول إذا أمكن أن يكون من الثاني، وإن احتمل أن يكون من الأول، سواء ادعاه الأول، أو لم يدعه، وليت شعري ماذا نقول إذا نفاه الثاني باللعان، واستلحقه الأول؟ فقد انقطع في ظاهر الأمر حكم اللحوق في النكاح الثاني، والاحتمال قائم في حق الأول، فالذي يقتضيه الرأي عندي أنه لا يلتحق بالأول، وإن كان يدعيه؛ لأن الملاعن لو استلحق المنتفي بعد اللعان، لحقه، وفي إلحاقنا إياه بالأول قطعُ هذا المعنى، وهذا فيه إذا كان الأول يستلحقه بحكم الإمكان السابق المستند إلى النكاح الأول.
فأما إذا كان يدعي وطء شبهة، فيظهر من هذا أصل آخر، وهو أن من ادعى وطء شبهة في النكاح، وصاحب النكاح ينكره، وأخذ مدعي الوطء في الدِّعوة وإسنادها إلى وطٍ يدعيه، فكيف السبيل فيه؟ إن قلنا: الرجوع إلى قول صاحب الدِّعوة، فهذا يخرم نسب الفراش، ويجر خبالاً عظيماً على الأنساب، وإن لم نقل ذلك، أَحْوجنا الواطىءَ إلى إثبات الوطء بالبينة؛ فإنّ اعتراف الزوج به لا يؤثر (3) فيما نراه، ولا أثر لاعترافها بالوطء. والمرعيّ حق الولد. وهذا أمر مشتبه. فليتأمله الناظر.
وعندي أن الذي أجراه الأصحاب من غير تعرض لما ذكرناه في وطء ثبت بطريق ثبوته، وشهدت البينة عليه، وإنعام النظر في هذه المسألة موكول إلى الفقيه الموثوق بنظره.
ولو تداعى رجلان نسب لقيطٍ مجهولِ النسب، فهذا من صور القيافة، والغالب الذي لا يُتمارى فيه في تصرف القائف هذا.
__________
(1) هذه هي المرتبة الثالثة.
(2) ت 5: " بالنسب ".
(3) ت 5: " لائق فيما نراه ".(19/181)
وقد نجز مقدار مرادنا في هذا الفصل، ولا شك أني ذكرت في كتاب اللعان أطرافاً من هذا، ولا مَعاب في الإعادة إذا دعت إليها حاجة.
12311- فأما القول فيمن هو من أهل الاستلحاق والدِّعوة - وقد مضى ذلك في كتاب اللعان، فالمسلم والكافر سيّان في الاستلحاق، والمتبع في الباب الإمكانُ في المنبوذ المجهول. وإن وقع الفرض في وطء الشبهة، فلا فرق بين الكافر والمسلم.
وأما المعتَق وعليه الولاء إذا استلحق مولوداً، والعبد الرقيق إذا استلحق، فالذي تحصل لنا من قول أئمة المذهب (1) ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنه لا دِعوة لواحد منهما؛ لأن في إلحاق النسب قطع الإرث بالولاء، فلا يقبل، والحالة هذه.
والثاني -وهو القياس- أن النسب يلحق (2) بهما إذا استلحقاه.
والوجه الثالث - الفرق بين المعتَق والرقيق، فالمعتَق لا يلحقه؛ لأنه يهجم بالاستلحاق على الولاء الكائن، والولاء موهوم في الرقيق، والأصل اطراد الرق، فكان الرقيق أولى بالاستلحاق -على هذا الترتيب في الوجه الثالث- من المعتَق.
وهذا (3) الذي ذكرناه في الدِّعوة المجردة.
فأما إذا فرض نكاح من معتَق أو رقيق، فالنسب يلحقهما بإجماع الأمة، كما يلحق الحر.
وإذا صح منهما وطء شبهة، فيجب أن يلحقهما النسب على القياس المقدم في وطأة الغالط الحر.
12312- وإذا ادعت امرأة مولوداً مجهولاً، وهي خلية، ففي الولادة بالدّعوة خلافٌ، قدمته في اللعان. من أصحابنا من لم يثبت لها دِعوة، لأن الولادة مما يمكن إثباتُه بالبينة، وإنما يلحق النسب الرجل بالدِّعوة المجردة لامتناع إقامة البينة على سبب النسب في حقه.
__________
(1) ت 5: " الأئمة المذهبيين ".
(2) ت 5: "يلحقهما".
(3) ت 5: " وهو الذي ".(19/182)
ومن أصحابنا من أثبت للمرأة الدِّعوة، ولا خلاف أنها إذا كانت ذات زوج، فادعت ولادةَ مولود، وأنكر الزوج ولادتها، وقال: هذا استعرتيه أو لقطتيه، وما ولدتيه (1) ، فالقول قول الزوج. وهذا الأصل معروف مذكور في اللعان، ولكن إذا أنكر الزوج الولادة، ولم تُقم المرأة بينة، فهل يلحقها الولد؟ فيه خلاف مرتب على الخلية.
وينتظم من الخلية وذات الزوج ثلاثة أوجه:
أحدها - أن الولد لا يلحقها إذا كانت ذات زوج، ويلحقها إذا كانت خلية (2) ، وقد انتهى القول في ذلك.
12313- فأما الكلام في القائف، فهذا مشهور من بني مدلج وحديث مُجَزِّز (3) المُدْلجي في أسامة وزيد معروف (4) .
ثم قال العراقيون: ليست القيافة محكوماً بها على كل من ينتسب إلى هذه القبيلة، بل يجوز أن يخلوَ مُدلجي عن القيافة؛ فإن ذلك إن كان علماً يُتلقف، فيختص به حملتُه، وإن كان أمراً مستفاداً من إلهام، فلا يجب إثباته على العموم، وإذا قال المدلجي: أنا عارف بالقيافة، فلا سبيل إلى تصديقه.
12314- ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه قال: لا يقبل قول القائف إلا بعد أن يجرّب ويختبر، وسبيله أن نريَه ولداً بين نسوة، ليست واحدة منهن أمه، فإذا لم يلحق الولد بواحدة أريناه مع نسوة فيهن أم المولود، فإذا ألحقه بأمه، عرفنا به معرفتَه. ثم قال الشيخ أبو حامد: لا نكتفي أن نجرّبه مرة واحدة، بل نجرّب ثلاث
__________
(1) سبق بيان أن إثبات الياء في هذه الصورة صحيحٌ فصيحٌ وعليه شواهد من الحديث النبوي الشريف.
(2) لم يذكر الوجهان الأول والثاني، لأنهما مفهومان من الكلام.
(3) في النسختين محرز بالحاء المهملة مع تأكيد الإهمال بعلامته المعروفة في كليهما.
(4) حديث مجزز المدلجي في القيافة متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 3555، مسلم: الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، ح 1459) .(19/183)
مرات، ورأى ذلك حتماً، ولم يجعله احتياطاً.
ولو أريناه المولود بين نسوة ليس فيهن أمه، فلم يلحق، فأريناه في نسوة ليس فيهن أمه أيضاً فلم يُلحق، وكررنا هذا النوع عليه، [فاستدّ] (1) في عدم الإلحاق، ثم ألحق بالأم، فلست أدري أن ما تقدم من درك [استداده] (2) هل يكتفى به، أم لا بد من تكرر الإلحاق منه (3) ؟
والذي يجب أن يكون عقَد المذهب ومعتبرَه أن يَظهرَ حذقُه وتهدّيه، ويبعد حمل ما صدر منه على وفاق، ويجب أن نتناهى في الاحتياط؛ حتى لا يكون القائف مطّلعاً من قبل بعِيان أو تسامع.
وما ذكرناه من التجربة المحتومة مخصوصة بالنسوة؛ فإن الولاد فيهن مستيقن، ولست أدري هل يقع الاكتفاء بأن نريَه ولداً مشهور النسب بين رجال ليس فيهم أبوه؟ والأظهر تخصيص التجربة بالنساء كما ذكرناه.
ثم إذا تبيّنا معرفته، فلا شك أن نشترط عقله وبلوغه وورعه.
والقائف الواحد كافٍ، والشاهد فيه حديث مجزِّز المدلجي، وفي اشتراط الحرية مذهبان: أصحهما - الاشتراط، وتنزيلُ القائف منزلة الحاكم، وليت شعري هل يُقبل إلحاق المرأة القائفة؟ إن لم نشترط الحرية.
12315- وقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن القيافة هل تختص ببني مدلج أو تتعداهم؟ فمنهم من زعم أنه مختص بهم، وهؤلاء اعتمدوا الاقتصار على مورد الشرع؛ فإن القيافة احتكام على أمرِ مُخطر، ومعوّلها التخمين، وكم من حاذق منهم يغلط، فالوجه ما ذكرناه.
وما زال أهل هذه القبيلة يراجَعون، وعصر الصحابة يطفح بذوي الفطن، فالوجه الاختصار عليهم.
__________
(1) في الأصل: " فاستبد "، وفي ت 5: " فاستدعى ". والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: " استبداده "، والمثبت من (ت 5) .
(3) ت 5: " أم لا بد من تكرر الإلحاق به منه ".(19/184)
ومن أصحابنا من لم يخصص ذلك بهم، واعتبر هذا المستدرك بكل ما يستدرك فيما يُعلم ويُظن، وعبّر الأئمة عن هذا فقالوا: القيافة خاصَّة فيهم، أم هي علم يتعلم ثم يُحْكَم بطول الدُّربة، كالعلوم التعليمية والتجريبية؟ ثم تصرف العراقيون، فقالوا: لا شك أنهم يعتمدون أشباهاً جلية وخفية: الجليةُ كالخلق والصور، والخفية كالشمائل التي لا تنتظم فيها عبارة، ثم قالوا: إذا كانت القيافة علماً من العلوم مستنداً إلى أعلام، فلو ظهر للذي يُلحق بالشبه تشابه في الخلق الجلية مع شخصٍ، ومشابهة في الشمائل الخفية مع شخص، فيعتمد ظواهر الخلق، أو الشمائل الخفية؟ فعلى وجهين. [فأما] (1) من يعتمد المسلك الجلي، فتوجيهه بين، ومن يعتمد الشمائل فمعتمده أن الخلق لو كان عليها معول، لعم تشبه الولد بالوالد في الصورة، وليس كذلك، فأما الشمائل فلا بد من التشابه فيها في حق من يتفطن لها غالباً. والله أعلم.
ولا ينبغي عندنا أن ينتهي الفقيه إلى أن يتصرف في علم القيافة.
ومما نلحقه بذلك، أنا إذا جرّبنا القائف في مولود، فأصبناه مصيباً فيه، فلا نكرر عليه التجربة في كل مولود، وهذا كحكمنا بكون الكلب معلماً، إذا ثبت، لم نحتج إلى إعادة التجربة كل مرة، بل هو على حكم التعليم إلى أن يتبين خلافه.
هذا منتهى ما أردناه في صفات القائف.
12316- فإذا وجدنا قائفاً على الشرط، فلا مَعْدل عنه. وإن لم نجد قائفاً، أو وجدناه فتحيرّ، أو جربناه فغلط، أو كان القائف غائباً -على ما سأصف الغيبة- فيقف الأمر، ونتوقف إلى أن يبلغ الطفل ونأمره بالانتساب.
ثم الذي فهمته من كلام الأصحاب أن هذا المولود يعتمد ميلَ نفسه وحنينها، معتقداً أن النفوس مجبولة على الميل إلى الوالدين، وليس له أن يختار واحداً عن وفاق، هذا ما وجدته. حتى قال شيخي: لو امتنع بعد البلوغ عن الاختيار، حبسه القاضي.
__________
(1) في الأصل: " وأما ". والمثبت من (ت 5) .(19/185)
ولست أرى الأمر كذلك (1) ، بل هذا مناقضٌ لقولنا: لا يختار تشهياً؛ فإن الإجبار يليق بهذا الفن من الاختيار، وهذا كحبسنا من أسلم على عشر نسوة ليختار أربعاً منهن، ولا يمكن أن نحكم على النفوس بأنها تميل إلى آبائها ميلاً جلياً (2) لا بد منه؛ حتى لا يخلو شخص عن وجدانه ودركه من نفسه، ولست أشك أن هذا لا يعم النفوس مع الجهل والتباس الحال.
فأما إذا ألف الرجل أباه وتربّى في حجره، فذاك إلف وتقليد، وإنّا في التعويل على ما يندر من الميل على تردد، ولا متبع فيه إلا الشرع والتوقيف.
ثم إذا اختار المولود أحدهما، وقع الحكم به، وأرى له محملاً جلياً في قواعد الشريعة، وهو تقارّ المستلحِق والمستلحَق على النسب، ولو استلحق الرجل نسب بالغٍ، فلا يلحقه نسبه ما لم يوافقه، هذا من ذلك الفن، يل هو هو بعينه. وما قدمناه من النزوع إلى نوازع النفس كلام فيما يعتمده المختار، وإلا فالحكم الظاهر المنوط بالاختيار متلقى مما ذكرته.
ولو بلغ الصبي مبلغ التمييز، ولم ينته إلى مظنة التكليف فهل يختار؟ وهل لاختياره حكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يخيّر ليختار، إذا لم يكن قائف، كما يُخَيَّر المولودُ المميز بين أبويه في الحضانة. والوجه الثاني - أنا نصبر إلى أن يبلغ؛ فإن أمر النسب خطير، وليس كالحضانة؛ فإنها مطلوبة في الصغر، ولو أخر أمرها، فيقع الكلام بعد انقضائها؛ على أنا اعتمدنا فيها الخبر والأثر.
12317- وقد أجرينا ذكر غيبة القائف، والذي يجمب الرجوع إليه عندنا في هذا أن يقال: الاختيار في حكم البدل عن القيافة، فنعتبر في غيبة القائف ما نعتبره في غيبة شهود الأصل عند استشهاد الفروع.
12318- ووراء ذلك غائلة ننبه عليها الآن، ونقدم أصلاً مقصوداً، فنقول: الولد
__________
(1) كذلك: الإشارة إلى أن الاختيار عند البلوغ يكلون عن جبلّةٍ وطبيعة، لا يخلو منها إنسان، حتى لا يمكن أن يكون اختياره عن وفاق.
(2) كذا في النسختين، وأراها جبلِّياً، والله أعلم.(19/186)
الذي ألحقه فراش النكاح لا يؤثر فيه قيافةٌ، ولا انتسابٌ يخالف حكم الفراش، بل لا ينتفي ولد ألحقه الفراش إلا باللعان.
ولو صادفنا صبياً صغيراً في يد إنسان، وكان يستلحقه، ولا نعرف فراشاً نُسند الولدَ إليه، فالنسب يلحق بظاهر اليد مع الانتساب، حتى لو جاء إنسان واستلحقه، فلا حكم لاستلحاقه. ولو دعانا إلى الاحتكام إلى القائف، لم نجبه، وهذا رأيته متفقاً عليه بين الأصحاب.
ولو بلغ الطفل فانتفى ممن كان يستلحقه وهو تحت يده في صباه، فهل يقبل انتفاؤه عنه؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على ما إذا حكمنا لطفل بالإسلام تبعاً، فبلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مرتد أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ووجه البناء لائح.
وذكرنا في ادعاء الحرية بعد البلوغ مثلَ هذا الخلاف.
ثم ذكر الأصحاب في هذا المنتهى مسألة، فنذكرها، ثم نعود إلى ما نبهنا عليه، قالوا: إذا كان في يده صبي، وهو يدعي نسبه، ويزعم أن زوجته أتت به، والزوجة تنكر ولادته، فالنسب يلحق وإن أنكرت، فلو جاء خارجي وادعى نسبه، وزوجة الخارجي تزعم أنها ولدته على فراش الخارجي، أما الأبوة، فثابتةٌ لمن الطفل في يده. واختلف أصحابنا وراء ذلك في الأمّ: فقال قائلون: هو ابن صاحب اليد وابن زوجة الخارجي، فلا منافاة، ولعله وطئها بشبهة، وهذا إذا جعلنا للمرأة دِعْوة.
ومن أصحابنا من قال: هو ملحق بالذي في يده، وبزوجته وإن أنكرته.
ومن أصحابنا من قال: الأبوة تثبت لصاحب اليد، ولا قائف في ذلك، ونُري الولدَ القائفَ بين زوجته وزوجة الخارجي.
12319- ونحن نعود بعد ذلك إلى ما أردناه، فنقول: إذا وقفنا أمرَ المولود الذي تداعاه رجلان، لما لم نجد القائف، وانتظرنا بلوغ المولود واختيارَه، فلو بلغ، فحضر قائف قبل اختياره، فالرجوع إلى اختياره أم إلى إلحاق القائف؟ أولاً - لا خلاف أنه لو لم يختر، ألحقه القائف، وإذا اختار ووافق اختيارُه إلحاقَ القائف، فلا إشكال.(19/187)
وإن اختار أحدَهما وألحقه القائف بالثاني، فهذا موضع النظر؛ من جهة أن القيافة تليق بحالة الصغر؛ إذ لو ادعى رجل نسب بالغ، وهو ينكر، فاستشهد المدعي بقائف، فلا يجوز أن يكون قولُ القائف حجةً في هذا المقام، والمستلحَق المدعى بالغ مستقل، وادعاء الرجل نسبه كادعائه مالَه، ولكن إنما ترددنا في المسألة الأولى؛ لأن الولد في حكم النسب كابنٍ في أيديهما، وتثبت عُلقة النسب، بل حقيقة النسب من أحدهما؛ فإن هذا إذا بلغ لا بد وأن يختار أحدهما، إلا على وجه بعيد، في أن الطفل لو بلغ ونفى النسب أنه ينتفي أخذاً من الإسلام والتبعية فيه.
فإذا جرينا على الصحيح، فالنسب ثابت من أحدهما، وقد اختار، وقال القائف خلاف اختياره، وهذا محتمل جداً، وفي أثر عن عمر ما يرشد إلى مسلك في هذه المسألة؛ فإنه أرى الولدَ القائفَ أولاً، فلم يأت القائف بما يرضيه في قصة مشهورة (1) ، فأدب القائفَ، ثم قال للمولود: والِ من شئت، وأراد الانتساب.
فيمكن أن يكون ذلك بعد البلوغ. ويظهر أن يكون في الصغر. فإن ابتداء الدّعوة لو كان بعد البلوغ، فلا قائف، كما مهدته فيما تقدم - والعلم عند الله.
وقد تناهى التنبيه (2) ، وإنعام النظر موكول إلى نظر الفقيه.
ثم عقد باباً (3) وذكر فيه استلحاق الكافر والعبد وطرفاً من أحكام إسلام الطفل بالتبعية، أما ما يتعلق بالاستلحاق، فقد ذكرناه، وأما أمر التبعية بالإسلام فقد استقصيناه في كتاب اللقيط.
***
__________
(1) أثر عمر في القيافة رواه الشافعي والبيهقي، قال الحافظ: بسندٍ صحيح إلى عروة، وعروة عن عمر منقطع (ر. السنن الكبرى: 10/263، ومعرفة السنن والآثار: ح 6000، والتلخيص: 4/287 ح 2695) .
(2) ت 5: " الشبه ".
(3) يشير إلى أبواب ومسائل في المختصر، وكأنه ينبه إلى مخالفته الترتيب في إيرادها.(19/188)
باب متاع البيت، يختلف فيه الزوجان
قال: " وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت ... إلى آخره " (1) .
12320- إذا كانا يسكنان بيتاً فيه أمتعة، فاختلفا فيها، فاليد في الأمتعة لهما جميعاً، ولا فرق بين أن يكون ذلك المتاع مما يصلح للرجال كالأسلحة والأقبية (2) وملابس الرجال، أو يصلح للنساء كالحلي والمغازل وأوعيتها، فجملتها تحت اليدين، خلافاً لأبي حنيفة (3) .
ولا خلاف أنه إذا تنازع دبّاغ وعطار في جلدٍ وفأرة مسك (4) ، فاليد فيهما لهما، ولو تنازع رجلان دابةً: أحدهما ركبها، والآخر متعلق بلجامها، أو تنازعا ثوباً: أحدهما لابسه، والآخر متعلق بذيله، فالمذهب الأصح أن اليد للراكب، واللابس، لاختصاصه التام، وإن كان التعلق باللجام لو انفرد ولا راكب، فالدابة في يد المتعلق باللجام، وقال أبو إسحاق -في الراكب والمتعلق واللابس والمتشبث بالذيل- اليد لهما. وهذا بعيد لا تعويل عليه.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/266.
(2) جمع قَباء. نوع من لباس الأعاجم.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 228، رؤوس المسائل: 549 مسألة 405، مختصر اختلاف العلماء: 2/345 مسألة: 838.
(4) يضربُ اختلاف العطار والدباغ مثلاً يؤكد به اختلاف الزوجين في متاع البيت، فكما أن الجلد من شأن الدباغ، وفأرة المسك من اختصاص العطار، إلا أن هذا لم يمنع أن تكون اليد لهما باتفاق، فكذا اختلاف الزوجين.(19/189)
باب أخذ الرجل حقه ممن يمنعه
12321- إذا كان للرجل دين على إنسان وكان من عليه الدين مليئاً وفياً، لم يظهر منه امتناعٌ عن أداء ما عليه، فليس لصاحب الحق أن يأخذ ماله، ولو أخذه، لم يملكه، ولا فرق بين أن يكون من جنس حقه، أو من غير جنس حقه.
وإن كان من عليه الحق مُقراً مليئاً، ولكن كان مماطلاً، فليرفعه إلى القاضي، وليس له مع التمكن من ذلك أن يأخذ مالَه.
وإن امتنع عليه رفْعُه، أو غَيّب عنه وجهَه، وتعذر عليه الوصول إلى حقه، فإذا ظفر، نظر: فإن ظفر بجنس حقه؛ فله أن يأخذه، وإذا قصد أخذه عن حقه ملكه.
فأما إذا ظفر بغير جنس حقه، فهل يأخذه؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يأخذه، وهو مذهب أبي حنيفة (1) . والثاني - أنه يأخذه، واستدل الشافعي عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " (2) .
ولم يفصل بين أن تظفر بجنس النفقة أو بغير جنسها.
ثم أبو حنيفةَ جوّز أخذ الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم، ونحن نجري القولين في ذلك إذا تحقق اختلاف الجنس.
ولو كان حقه دراهمَ صحيحة، فوجد مكسرة؛ فإن رضي بها أخذها قولاً واحداً.
وإن كان حقه دراهم مكسرة، فوجد دراهم صحيحة، فلا يأخذها بحقه، ولا يتصور اعتياض مع التفاضل (3) ، ولا مسلك إلا بيع الدراهم بالدنانير مثلاً، وصرف الدنانير إلى نوع حقه من الدراهم، فإذا كانت صورة المسألة هكذا، فالظافر بالدراهم كالظافر
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 358.
(2) حديث " خذي ما يكفيك " سبق تخريجه.
(3) لأن الاعتياض مع التفاضل ربا، بل يبيع بالدنانير، ويشتري بها الدراهم المكسرة.(19/190)
بغير جنس حقه على الأصح؛ فإنه لا يتوصل إلى حقه إلا ببيعتين، فهي أبعد عن ثوب يظفر به. ومن أصحابنا من ألحقه بالظفر بجنس حقه.
وفائدة ذلك القطع بجواز الأخذ، ثم لا طريق إلى التملك، ولا وجه إلا ما ذكرناه.
12322- وإن ظفر بغير جنس حقه وقلنا: له أخذه، فهل يبيعه بنفسه؟ فعلى وجهين: أظهرهما في النقل - أنه لا يبيعه بنفسه، بل يرفعه إلى القاضي ليبيعه، ثم القاضي لا يبيع مُعوِّلاً على قوله، بل يبني الأمر على علمٍ.
ومن أصحابنا من جوّز للظافر أن يبيع بنفسه، على شرط الاحتياط، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإنه ربما يعجز عن تقرير الحال في مجلس القضاء؛ فإنه قد لا يجد بينة في إثبات دَيْنه، وإن وجدها، فقد يعجز عن إثبات كون هذه العين ملكاً لمن عليه الدين، وإنما أُثبت التسلُّطُ لصاحب الحق ليصل إلى حقه المتعذر.
ثم إذا قلنا: للظافر أن يبيعه بنفسه، فقد قال الأئمة: يبيعه بنقد البلد -وإن كان حقه بُرّاً أو شعيراً- ثم يصرف نقدَ البلد إلى حقه، ويجري في ذلك مجرى الوكيل بالبيع المطلق. هكذا ذكره القاضي، وفيه إشكال؛ فإن من عليه الحق، إذا تمكن من بيع ثوبه بالبر، فليس له أن يطوّل ببيعه بالدراهم إذا لم يكن له غرض مالي، وأيضاً فإن وجد الدراهم الصحيحة، وحقه المكسرة، يبيع الدراهم الصحيحة بالدنانير، وإن لم تكن الدنانير غالبة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الضرورة تدعو إليه.
وقد ذهب طائفة من محققينا إلى أنه لو أراد البيع بجنس حقه، جاز، وهذا متجه حسن.
ثم إذا أخذ ثوباً عن حقه، فليس له أن يستعمله، وإنما له حق البيع فحسب، ولو تلف في يده، تلف من ضمانه. هكذا قال الأصحاب. وليس كما لو دفع من عليه الحق إلى مستحق الحق ثوباً ليبيعه، ويصرف ثمنه إلى نفسه، فلو تلف في يده، لم يضمنه. والفرق أن مالك الثوب ائتمنه في ذلك الثوب، والآخذ الظافر مستقل بنفسه.(19/191)
12323- فلو أخذ أكثر من حقه مع إمكان ألا يأخذ لم يجُز. والضمان لا شك فيه.
ولو لم يجد إلا ما يزيد على مقدار حقه، مثل أن يظفر بسيف يسوى (1) مائة، وحقه خمسون، فله أن يأخذه، ولكن هل تدخل الزيادة في ضمانه؟ فعلى وجهين: أحدهما - تدخل كالأصل، والثاني - لا تدخل في ضمانه؛ لأنه لم يأخذه لحق نفسه، وله أخذه.
12324- ولو كان لا يتوصل إلى حقه إلا بنقب جدار، فقد قال القاضي: له النقب وإخراج ما يأخذ منه حقه من الحرز، ولا يضمن أرش النقض الحاصل بالنقب؛ فإن من جاز له أن يأخذ شيئاً، جاز له التوصل بالطريق الممكن، ومن استحق شيئاً، استحق الوصول إليه.
12325- ولو أخذ ثوباً قيمتُه عشرة وحقه عشرة، فبقي الثوب في يده، حتى بلغت قيمته عشرين، فتلك الزيادة محسوبة عليه، لا شك فيه، وإن انتقصت قيمة الثوب، نُظر: فإن لم يتوان حتى انتقصت القيمة، لم يُحسب عليه النقصان، وإن توانى في البيع حتى انتقصت القيمة، فالنقصان محسوب عليه. هكذا ذكره القاضي.
ولو غصب عيناً من إنسان، وظفر المغصوب منه بعينٍ للغاصب، والامتناعُ قائم، فله أن يأخذها، فيبيعَها، وينتفعَ بقيمتها، كما لو أبق العبد المغصوب؛ فإن الغاصبَ يغرَم القيمةَ للمغصوب منه، وما ذكرناه مأخوذ من هذا الأصل.
ثم إذا رد الغاصبُ العينَ المغصوبة، فيرد الظافر قيمةَ العين.
فإذاً ظاهر المذهب أن الظافر لا يبيع بنفسه، وبيعُه مخرج عند بعض الأصحاب، قال الصيدلاني: لم يحكه القفال.
12326- ثم من جوّز للظافر أن يبيع، فلو أراد أن يتملك عين ما ظفر به، فالذي ذكره أئمة المذهب أنه لا يتملك، وأبعد بعض الأصحاب فذكر وجهاً أنه يتملك بقدر
__________
(1) يسوَى: أي يساوي: وهي من سوي يسوى من باب تعب، وهي لغة قليلة (المصباح) .(19/192)
الحق، وهذا بعيد غير معتد به. ولهذا أخّرته عن تفصيل الباب.
ولو أخذ العين وحبسها، وقصّر في بيعها، حتى نقصت القيمة، فقد ذكرنا أن النقصان محسوب عليه، وهذا فيه إذا باع واستوفى، فأما إذا ردّ العين، فحقه بجُمامه؛ إذ الغاصب لا يضمن نقصان القيمة عند رد العين، فما الظن بما نحن فيه؟
12327- ولو كان لإنسان على إنسان دين، وعليه لذلك الشخص دين، فالقول في ذلك يتعلق بالتقاصّ (1) ، وكان شيخي يستقصيه في كتاب الكتابة، ونحن نتيمن بالجريان على ترتيبه إن شاء الله، والقدر الذي يليق بهذا الموضع أن من عليه حقه لو جحده، وقلنا: لا تقاصّ إلا بالرضا، فهل له أن يجحد ما عليه؟ فعلى وجهين: على قولنا لو ظفر بغير جنس حقه، لأخذه، ولعل القياس أن له أن يجحده. والعلم عند الله تعالى.
فصل
وجدنا في مجموع القاضي في الدعوى وأدب القضاء مسائلَ تتعلق بالمراسم، وليست عريةً عن الفقه، فرأيتُ إثباتَها مسائلَ.
مسألة 12328- إذا دفع رجل إلى آخرَ عشرةَ أمناء فَيْلَج (2) ليطبخه، ويضرِب منها الإبريسم، فإذا طُبخ، رجع إلى خمسة أمناء، والإبريسم منه مَنْ، فجحد المدفوع إليه، ولم يدر المدعي أن الفيلج على الهيئة الأولى باقية، فيدعيها عشرةَ أمناء، أم هي مطبوخة، فيدعيها خمسةَ أمناء، أم حصل الإبريسم مناً، أو تلف في يده، فيغرم القيمة، وسببُ الضمان لم يثبت إلا عند الجحود، والتفريع على أن لا ضمان على الأجير المشترك.
__________
(1) ت 5: " بالنقصان ".
(2) أمناء: جمع (مناً) مثل سبب وأسباب. وهو مكيال يكال به السمن وغيره، وقيل: مكيلته أي ملؤه يزن رطلين، والتثنية منوان. وفي لغة تميم (منّ) بالتشديد، والجمع أمنان، والتثنية منان على لفظه.
أما (الفيلج) وزان زينب، فهو ما يتخذ منه القز، وهو معرّب، والأصل (فيلق) ، ومنهم من يورده على أصله " المصباح ".(19/193)
فإن وصف المدعي الحالَ ونوعّ الدعوى، فقال: عليك عشرة من كذا، أو خمسةٌ من كذا، أو منٌّ مِنْ كذا، أو القيمةُ إن أتلفت، فهل تقبل الدعوة مميّلة (1) على هذه الصيغة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قبلها، وحلّف المدعى عليه على جميعها، قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى. فمن أصحابنا من قال: لا تسمع الدعوى متميلة، ولكن ينبغي أن تفرد (2) هذه الدعاوي ويحلَّف المدعى عليه على آحادها. وهذا جارٍ على القياس، ولكن فيه إشكال، وهو أن المدعى عليه لو نَكل عن اليمين، فلا يتأتى للمدعي الإقدامُ على يمين الرد؛ لأنه إذا ادعى عشرة أمناء فَيْلَج، فكيف يحلف؟ وربما طبخه، أو ضربه إبريسم، والذي يدل عليه كلام القاضي أن للمدعي أن يعتمد نكولَه، فيحلف ويستند إلى نكوله، وهذا حسن. وهو كما لو ادعى المودَع تلفَ الوديعة، وحلَّفناه، فنكل، فللمودِع أن يحلف تعويلاً على نكول المودَع. وهذا أصل ضابط.
فنقول: إن كان المردود عليه عالماً بما يحلف عليه، مثل أن ينكُل المودَع عن اليمين على الرد (3) ، وعلم المودِع أنه لم يرد، فيحلف يمين الرد (4) ، وإن ادعى التلف ولم يقطع المودع بالتلف، فهل له أن يعتمد نكولَه ويحلف، كما يعتمد الوارث خطَّ أبيه المعتمد في الروزنامج، ويحلف؟ فعلى وجهين - وهذه المسألة خارجة على ذلك. وقد مضى لهذا نظير في دعوى العين على الضامن أو القيمة.
ويلتحق بهذا أنه إذا دفع ثوباً إلى دلال ليبيع الثوبَ بعشرة دراهم؛ وجحد الدلال الثوبَ، فصاحب الثوب يدعي الثوب، أو الثمن، أو القيمة؟ فهو على ما ذكرناه.
مسألة 12329- إذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، فقال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، قال (5) ؛ ليس للقاضي أن يقول: لا تلزمك العشرة، ولا شيء منها. ولو
__________
(1) ت 5: "متميلة".
(2) ت 5: " تقرر ".
(3) على الردّ: أي على ردّه الوديعة.
(4) يمين الردّ: أي اليمين المردودة من المدعي.
(5) القائل هو القاضي الحسين، فعن مجموعه ينقل هذه المسائل.(19/194)
قال ذلك، كان فضولاً؛ فإن إنكاره انطبق على مضادة الدعوى، فإن المدعي أثبت في دعواه عشرة، والمدعى عليه أنكر العشرة، ثم قال القاضي: إذا آل الأمر إلى تحليفه، حلّفه لا تلزمه العشرة ولا شيء منها.
وهذا الذي ذكره في التحليف مستقيم، والذي ذكره أولاً من الاكتفاء بإنكاره عشرة [وهمٌ] (1) عظيم، وما بناه عليه من انطباق الجحود على مضادة الدعوة فزللٌ بيّن؛ فإن (2) من ادعى عشرة، فقد ادعى استحقاق أجزاء العشرة ذرة ذرة، وإذا قال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، فمن الممكن أن العشرة لا تلزمه، وتلزمه العشرة إلا حبة، فنَفْي العدد ليس نفيا لآحادها، وليس ما ذكرناه تأويلاً، بل القول متردد فيما دون العشرة، وليس فيما دون العشرة ذكر في إنكاره، وهي مثبتة في الدعوى، فالإنكار ليس بتامٍّ، فكأنه لم ينكر إلا أقل جزء من العشرة، فإذا لم يتم الإنكار، فلا نأخذ في التحليف؛ فإن امتنع عن المزيد على هذا القدر، فهو في حكم الساكت عما دونه، وقد مضى تفصيلُ السكوت وتقديرُه إنكاراً ثم نكولاً، هذا هو الذي لا يجوز غيره.
والظن بالقاضي أنه لا يخالف فيما ذكرناه. وإنما صوّبى المسألة في اقتصاره على نفي العشرة، وامتناعه عن ذكر ما دونها، فإن حلّفناه لا تلزمه العشرة، ولا شيء منها، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فيحلف ويستحق، وإن حلف المدعى عليه، انتهت الخصومة في هذا الفن.
فإن حلف لا تلزمه عشرة، وامتنع عن الحلف على نفي ما دون العشرة، فيحلف المدعي على ما يقل عن العشرة بأقل القليل؛ فإنه نكل عما دون العشرة، والعشرة إلا حبة دون العشرة، وهذا في نهاية اللطف.
فإن قال قائل: من يلزمه دينار، فقوله: لا تلزمني العشرة سديد، ومن تلزمه تسعة، فقوله لا تلزمني العشرة سديد، فلم جعلتموه ناكلاً عن عشرة إلا أقلَّ القليل؟
__________
(1) في الأصل: " دراهم " مكان لفظ " وهم " وهو تصحيف طريف، والتصويب من (ت 5) .
(2) ت 5: " فأما ".(19/195)
قلنا: لأنه امتنع عن الحلف عن كل (1) ما دون العشرة.
مسألة 12330- إذا ادعى داراً في يد رجل، وقال: إنها ملكي وأنت مبطل في استيلائك، وعليك ردُّها على، فقال المدعَى عليه: لا يلزمني تسليم هذه الدار إليك، فأقام المدعي بيّنة أن الدار ملكُه، ولم تتعرض البينة لأكثر من إثبات الملك للمدعي.
قال القاضي: يثبت الملك ويكفي ثبوته. ويقال للمدعى عليه: إن أثبتّ استحقاقاً من إيجار، أو ارتهان، فادّع، وأثبت. وإلا فحكم الملك استبداد المالك باسترداد الملك من يدك.
وهذا فيه للنظر مجال؛ فإن البينة لم تشهد إلا على الملك، والملك لا ينافي استحقاقَ يد المدعى عليه، فلم تقم البينة على وجه يوجب إزالةَ يده.
وهذا عندي يقرب مأخذه من أن المالك وصاحب اليد إذا تنازعا في الإعارة والإجارة، فالقول قول منْ؟ وهذا قدمته في موضعه مفصلاً، فإن جعلنا القول قولَ المالك، فيكفي ثبوت الملك هاهنا، ثم باب الدعوى مفتوح لصاحب اليد، والقول قول المالك، وإن جعلنا القول قولَ صاحب اليد، فلا تُزال يده ما لم تتعرض البينة لكون صاحب اليد مبطلاً.
مسألة 12331- أجرى القاضي في أثناء الكلام شيئاً مستفاداً، قد يتوقف الناظر في ابتدائه، ولا تعلق له بالدعاوي والأقضية، قال: إذا غصب رجل أُمَّ ولدٍ، فهي مضمونة باليد عندنا، وهذا سديد، لا إشكالَ فيه على المذهب، فلو أَبِقت من يد الغاصب؛ غَرِم الغاصب القيمةَ.
فإذا غرمها، ثم مات السيد المغصوب منه، عَتَقَت المستولدة، ووجب ردُّ قيمتها من تركة المولى؛ لأن الرق صار مستهلكاً بحكم الموت عليه.
وكذلك إذا غصب عبداً فأبق، وغرم القيمةَ، ثم إن المغصوب منه أعتق العبد في
__________
(1) ت 5: " وعن كل ما دون العشرة ".(19/196)
[إباقه] (1) ، فيلزمه ردُّ القيمة، لأنه بإعتاقه إياه، صار في حكم المسترِدّ له.
وإن قطع جانٍ يدَ أمِّ الولد، وغرم الأرش، ثم مات السيد، وعَتَقَت المستولدة، فلا يُرد الأرش على الجاني، لأنه بدل الطرف الفائت. والعتق لا ينعكس عليه.
مسألة: 12332- إذا ادعت امرأة على رجل، وقالت: تزوجتني بخمسين ديناراً، فاعترف الزوج بالنكاح، ولكنه قال: ما قبلتُ نكاحَك بخمسين، فإنكاره منطبق على مضادة دعواها.
والوجه أن نذكر غائلة المسألة وإشكالَها، ثم نخوض في الجواب عنها. فنقول: إذا أنكر الزوج، وحلف، فكأنه شبَّبَ بأن المهر أقلُّ من الخمسين، ولكنه لم يذكر المقدار، والمرأة إذا اعتقدت أن الزوج قبل الخمسين لو نزلت عن ذلك، كانت كاذبة، فأين الوقوف، وكيف السبيل، وليس للمهر أقل حتى ننتهي إليه ونثبته على قطع، ونرد الخصام إلى الزائد؟
وليس هذا كما لو ادعى رجل على رجل عشرة، ولم يذكر أنها ثمن عبد، فإذا حلف المدعى عليه على نفي العشرة، ولم ينف ما دونها، فالمدعي يمكنه أن يحلف على ما دونها؛ فإن الدعوى المرسلة تقبل التبعيض، والمرأة في مسألتنا ادعت قبولاً في الخمسين، فلو ذكرت ما دون الخمسين، فيكون هذا منها دعوى عقد آخر، فإن تفطّنت لهذا، وادعت خمسين ديناراً من غير أن تنسبها إلى قبولٍ في عقد، فهذا هو الذي قدمناه في ادعاء العشرة وإنكارها.
وإن ربطت دعواها بالقبول كما ذكرنا، فقد قال القاضي: الوجه أن يفرض القاضي لها مهرَ مثلها، ويقدّر كأنها مفوِّضةٌ؛ فإن الزوج إذا امتنع عن ذكر مسمى، فليس بين النكاح المشتمل على المسمى، وبين التفويض رتبة، ولا يمكننا أن نُلزم الزوجَ ذكرَ مسمّى من غير طلب من المرأة، وتعريةُ النكاح عن المهر لا سبيل إليه، ولا وجه لإثبات الأقل؛ فإنه لا ضبط له، فيفرض القاضي لها مهرَ مثلها، وهذا إذا كان مهرُ مثلها خمسين أو أقلَّ منه، فإن كان كثر، فليس لها إلا الخمسون.
__________
(1) في الأصل: " إيابه ".(19/197)
وهذا لا يليق مثله بقياس مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإنه لا يركب إلا متن جادّة الشريعة ولا يميل مثل هذا الميل.
فإن قيل: ما الوجه؟ قلنا: أولاً، ليس يعظم تعطل حق إذا لم تقم عليه حجة، ومعظم الحقوق المجحودة بهذه المثابة، فطريقها أن تدعي خمسين ديناراً من جهة المهر، إن أرادت أن تذكر الجهةَ من غير أن تضيف الخمسين إلى القبول، ومن غير أن تذكر أنها كلُّ المسمى. فإن حلف الزوج: لا يلزمه الخمسون، ونكل عن الحلف على نفي ما دون الخمسين، حلفت المرأة واستحقت الخمسين إلا أقلَّ القليل.
والمشكل في المسألة أن الزوج لو أراد أن يحلف على نفي الخمسين وكل جزء منه (1) ، فلا يتصور هذا إلا بتقدير البراءة أو الأداء، فلا يقبل قوله حينئذٍ، وليس كما لو ادعى رجل ديناً مطلقاً، فقال المدعى عليه: لا يلزمني، فإن هذا كما يحتمل البراءة يحتمل نفي أصل الدين، ونفيُ أصل الدين ممكن، ونفي أصل المهر لا يمكن، إلا على مذهب التفويض. فإذا حلف على نفي المهر، تعيّن التفويض، فيفرض القاضي لها مهر المثل -لا وجه غيره- فيحصل به إثبات المهر، والجريان على موجب يمين الزوج.
هذا منتهى القول. وهو الذي عناه القاضي، ولكن لا بد من إجراء المسألة إلى هذا الحد، ولا يجوز ابتدار الفرض بقوله: ما قبلت بخمسين، ويجوز أن يقال: القول قول الزوج في أن لا مسمى؛ فإن الأصلَ عدمُ التسمية، ثم الشرع يحكم بما يرى في النكاح الخالي عن المهر ذكراً.
مسألة: 12333- إذا صححنا كفالة البدن، فطلب المدعي من المدعى عليه كفيلاً قبل أن يقيم البينة، وذكر أني أبغي كفيلاً إلى أن أشمِّر لإقامة البينة، وأجمع الشهودَ، فقد جرى رسم القضاة بحمل المدعى عليه على إعطاء الكفيل، وهذا غير واجب باتفاق الأصحاب؛ فإنه لم يَثْبت للمدعي بعدُ حقٌ.
وإن أقام بينة على دين في ذمة المدعى عليه، ولم يُعدَّل شهودُه، فقد قال
__________
(1) منه: على معنى العدد، أو المبلغ.(19/198)
القاضي: له طلب الكفيل هاهنا؛ فإن حبسه قبل التعديل لأداء الدين محال؛ فإن الحبس عذاب، وتخليته -وقد يغيّب وجهه- لا وجه له، فتكليفه بذلُ كفيلٍ يضاهي إخراجنا العين المدعاة من يده إن كانت الدعوى في عين (1) ، فإن أعطى الكفيل، فذاك، وإلا حبسناه لمنع الكفيل، لا لمنع الدين.
فإن قيل: البينة قبل التعديل كما لا توجب الدين، يجب أن لا توجب الكفيل.
قلنا: البينة لا توجب الكفيل، ولكن الحالة توجب الكفيل.
مسألة: 12334- إذا ادعى قصاصاً على عبد، استحضره، وادعى عليه، ولا تعلق للدعوى بالمولى.
وإن ادعى أرش جناية، قال القاضي: يستحضر المولى؛ فإن الخصومة مالية؛ وحق المال في العبد للمولى.
ولو أراد استحضار (2) العبد على قولنا: له ذمة في الجناية، فله ذلك.
ولو قُبِل الدعوى (3) ، تعلّق بالعبد - إن قلنا للعبد في الجناية ذمة.
ثم إن جعلنا يمين الرد إقراراً (4) ، لم يتعلق برقبته شيء لو نكل عن اليمين، وحلف المدعي، وإن جعلنا يمين الرد بمثابة البينة، فيثبت الأرش في ذمته، ولا يتعلق
__________
(1) ت 5: " إن كانت الدعوى عين ".
(2) استحضار العبد: أي طلب إحضاره وتوجيه الدعوى إليه، لا إلى السيد، وهذا طبعاً لا يكون إلا على القول بأن العبد له ذمة تتعلق بها الحقوق، كما وضح من عبارة المؤلف.
(3) أي لو قبلت الدعوى على العبد، تعلّق المدعي به، وطلب القاضي الإجابة من العبد، وهي إما إنكار، أو سكوت، أو إقرار، كما هو ترتيب الدعاوى.
(4) فيما إذا أنكر العبد، وطلب القاضي منه اليمين، فنكل عنها العبد، فردّ القاضي اليمين إلى المدعي، فحلف المدعي يمين الردّ، تتردّد منزلتها بين الإقرار من المدعى عليه، وبين البينة يقيمها المدعي، فإن جعلناها إقراراً، لا يتعلق برقبة العبد شيء، لأن العبد ليس من أهل الإقرار، والرقبة حق السيد. وإن جعلنا اليمين المردودة بمنزلة البينة، فيتعلق الأرش بذمة العبد، فإن المسألة كلَّها مفروضة على قولنا. إن للعبد ذمة، ولا ثقبل الدعوى عليه إلا على هذا التقدير.
ثم هو إثبات للأرش في ذمة العبد يُتبع به إذا عَتَق، فليس شيئاً حالاً ناجزاً.(19/199)
برقبته، على ظاهر المذهب، وفيه الوجه البعيد أنه يتعلق برقبته، وإن [اقتضى] (1) ذلك حكماً على ثالث (2) ، فهذا احتمالٌ على بُعْد، ولا تعويلَ عليه؛ فإن توجيه الدعوى على السيد ممكن، وذلك الوجه البعيد إنما يجري إذا عسُر توجيه الدعوى على الثالث (3) .
مسألة: 12335- ذكر في أثناء الكلام أن من أخذ فأساً مسبَّلاً على المسلمين، فتلف في يده من غير تقصير، فلا ضمان عليه، فإنه بمثابة الموصى له بالمنفعة، إذا تلفت العين في يده.
وكذلك لو وضع دِنّاً على باب داره، وسبّل، ورتب كيزاناً، وسبّلها، فتلف كوزٌ في يد شارب من غير تقصير، فالأمر على ما رسمناه في نفي الضمان.
***
__________
(1) في الأصل: " اقتصر "، والمثبت من (ت 5) .
(2) صورة الحكم على ثالث: هي أن الدعوى على العبد، فإذا أنكر، ونكل عن اليمين، وردت اليمين على المدعي، فحلف، وجعلناها بمنزلة البينة، فيثبت الأرسْ على العبد متعلقاً بذمته، كما سبق.
وفي وجهٍ بعيد، يتعلّق برقبته، وهنا يكون الحكم على ثالث غيرِ المدعي والمدعى عليه، ونعني به السيد؛ لأن رقبة العبد ملكُ السيد، فإذا علقنا الأرش بها، فقد علقناه بمال السيد، ونكون بهذا قد حكمنا على ثالث (السيد) .
(3) راجع هذه المسألة -إن شئت- في الشرح الكبير: 13/187، 188، وفي الروضة: 12/30، 31.(19/200)
[كتاب العتق] (1)
باب عتق الشريك في الصحة والمرض والوصايا
قال الشافعي رضي الله عنه: " من أعتق شركاً له في عبد، وكان له مال ... إلى آخره" (2) .
12336- العتق نافذ، وأصول الشرع: الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ شاهدةٌ عليه.
والقول فيه ينقسم إلى ما يتعلق بالتصرف في صيغ الألفاظ، ومسائل العتق في هذا كمسائل الطلاق، وإلى ما يختص العتق به كالسراية إلى ملك الغير، وجريان القرعة فيه وانحصاره في الثلث من المريض (3) ، وتعلق أحكام التركة به.
(وكتابُ العتق) (4) معقود لذكر خصائصه، ولما رأى الشافعي سريانه إلى ملك الغير من أظهر خصائصه، صدر الكتاب به.
12337- فنقول: العتق ينقسم إلى ما يوجه على شَخْصٍ، وإلى ما يوجه على شِقْص، فمن أعتق شَخْصاً، فإن كان مملوكاً له، لا حقّ لأحد فيه، وكان هو
__________
(1) العنوان من وضع المحقق جرياً على ترتيب كتب المذهب التي بُنيت على (نهاية المطلب) مثل بسيط الغزالي ووسيطه ووجيزه، والأكثر من ذلك أن الإمام وضع باقي قضايا العتق تحت عنوان كُتب، فسيأتي (كتاب التدبير) و (كتاب المكاتب) و (كتاب عتق أمهات الأولاد) أولى من كل ذلك أن الإمامَ بعد أسطرٍ سماه (كتاب العتق) .
(2) ر. المختصر: 5/267.
(3) ت 5: " من المديون ".
(4) تأمَّل! سماه (كتاب العتق) .(19/201)
مطلقاً (1) ، نفذ عتقُه، وإن لم يكن مملوكاً له، فلا شك أنه لا يعتِق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم " (2) .
ونقل النقلة عن ابن أبي ليلى أن من أعتق عبد غيره وكان موسراً، نفذ عتقه، وغرم قيمة العبد لمالكه، قياساً على نفوذ العتق في الشقص المملوك للشريك.
ولو قال لعبد الغير: أنت حر، فهذا القول مردود في الحال، ولكن لو ملكه يوماً من الدهر، حُكِم بعتقه، وحُمل قوله السابق " أنت حرٌّ " على الإقرار بحرّيته، ومن أقر بحرّية عبد ثم ملكه، كان مؤاخذاً بموجب إقراره.
وفي هذا لطيفة، وهي أن المالك إذا قال لعبده: أنت حر، فهذا إنشاء عتق منه، وإن كان اللفظ على صيغة الإقرار، وهو كقول الزوج لزوجته: أنت طالق.
فكان قول المالك: " أنت حرٌّ " متضمناً إنشاء تحرير، وهذا مما اعتضد اللفظ فيه بغلبة الاستعمال، وانضم إليه أنه لو كان مقراً، لكان مؤاخذاً بإقراره، فجعل هذا إنشاءً.
فإذا قال لعبد الغير: " أنت حرٌّ "، فلا مساغ لإنشاء التحرير، فنفذ اللفظ إقراراً، وكذلك لو قال لعبد الغير: " قد أعتقتك ". قال القاضي: قد يؤكد معنى المضي إذا انضم إلى الصيغة التي تسمى الفعل الماضي، فكان ذلك إقراراً بالحرية، كما لو قال: أنت حر.
وفحوى كلامه دالة على أنه لو قال: " أعتقتك "، لم يكن ذلك إقراراً، وإن كانت الصيغة في أصل الوضع للإخبار عما مضى، ولا فصل عندي بين قوله: " أعتقتك " وبين قوله: " قد أعتقتك "، فإنه إن ترجح أحدهما على الثاني في تأكيد، لم ينته ذاك
__________
(1) مطلقاً: أي غيرَ محجور.
(2) حديث " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم " رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: " حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب ".
وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح. (ر. أبو داود: الطلاق، باب في الطلاق قبل النكاح، ح 2190، الترمذي: الطلاق، باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح، ح 1181، المسند: 11/48 ح 6780 (طبعة شاكر) البيهقي: 7/318، نصب الراية: 3/278) .(19/202)
إلى إلحاق أحدهما بالصريح الذي لا يقبل فيه تفسير القائل، فالوجه أن يراجَع، ويقال: ماذا أردتََ؟ أهزلاً قصدتَ في إنشاء العتق، أم أقررت؟ ثم نحكم على موجب قوله، وإن لم يفسر، تركناه، فلا طلبة عليه.
فأما إذا قال: " أنت حر "، فالظاهر حمل هذا على الإقرار؛ فإنه صفة، ولولا قرينة الاستعمال على الشيوع حيث يمكن الإنشاء، لحملناه على الإقرار.
ولو ملك جارية وكانت حاملاً بولد مملوكٍ لغيره، فإذا أعتق الجاريةَ مالكُها، لم يَسْرِ عتقُها إلى الجنين سراية عتق من شقص إلى شقص، فكذلك إذا أعتق مالك الجنين الولدَ نفذ العتق، ووقف عليه.
وقال أبو حنيفة (1) : إعتاق الأم يسري إلى الجنين هذا في توجيه العتق على شخص.
12338- فأما إن أعتق شقصاً، فلا يخلو إما أن يعتق شقصاً من عبده الخالص، أو يعتق شقصاً من عبد مشترك بينه وبين غيره، فإن أعتق شقصاً من عبده الخالص، عَتَق كلُّه، سواء كان له مال غيره، أو لم يكن، وفي كيفية وقوع العتق وجهان: أحدهما - أن العتق يرد على الجزء الذي سماه، ثم يسري إلى الباقي، فيحصل العتق مترتباً، ولا يتخللهما زمان يفرض فيه نقل الملك؛ فإن الملك كائن. والوجه الثاني - يقع العتق دفعةً واحدة، وقوله أعتقت نصفك عبارة عن عتق الكل، فكأنه قال: "أعتقتك".
هذا إذا وجّه العتق على جزء شائع.
فأما إذا وجّهه على جزء معين، فالعتق يحصل في الجميع عند الشافعي؛ وترتيب المذهب في الأجزاء إذا أضيف العتق إليها كترتيب المذهب في إضافة الطلاق.
ثم إذا حكمنا بعتق العبد -وقد وجه المولى العتقَ على جزء معين منه، ففي كيفية نفوذ العتق وجهان مرتّبان على الوجهين في إضافة العتق إلى الجزء الشائع، والصورة الأخيرة أولى بأن يقال فيها: يقع العتق دفعة واحدة، غيرَ نازل على الجزء المعين، مع
__________
(1) ر. الاختيار: 4/22.(19/203)
تقدير السراية منه. والفرق أن الجزء المعين لا يتصور انفراده بالحرية، بخلاف الجزء الشائع. والطلاق إذا أضيف إلى الجزء الشائع- فهو في ترتيب المذهب كالعتق، يضاف إلى الجزء المعين، فإنه كما لا يقف العتق على الجزء المعين لا يقف الطلاق على الجزء الشائع.
12339- التفريع على الوجهين في الجزء المعين. إذا قال لعبده: إن دخلتَ الدار، فخنصرك حر، فقطعت خنصره، ثم دخل. إن قلنا: ينزل العتق على الجزء، ثم يسري منه، لم يحصل العتق بدخول الدار؛ لفقد المحل الذي يضيف العتق إليه.
وإن قلنا: هو عبارة عن إعتاق الجميع، فلا أثر لانعدام الخنصر، وكأنه قال له: إن دخلت الدار، فأنت حر.
ولو قال لعبده: " يدك حر " -ولا يد له- فقد اختلف أصحابنا على طريقين:
فمنهم من قال: في نفوذ العتق وجهان مبنيان على ما ذكرناه من حلول العتق وسريانه، أو توجهه على الجميع، فإن سلكنا مسلك السريان بعد الحلول على الجزء المسمى، فلا يحصل العتق، وإن حكمنا بأن سبيل ذلك سبيل توجيه العتق على الجميع، حصل العتق، وكأنه قال له: أنت حر.
ومن أصحابنا من قطع بأن العتق لا ينفذ في هذه الصورة؛ فإن العَتاق من طريق اللفظ لم يصادف محلاً نطقاً وذكراً، حتى يقال: إنه عبارة عن الجميع، وهذه الطريقة أَفْقه.
وكل ما ذكرناه في العَتاق فلا شك في جريانه في الطلاق، ولولا إقامة الرسم في تصدير الكتاب بالتقاسيم وترتيبها بذكر [تراجم] (1) الأحكام، لاقتصرنا على الإحالة على مسائل الطلاق في ذلك؛ فإنا استقصينا هذه المسائل.
ثم هذا كله إذا كان العبد خالصاً، فأضيف العتق إلى بعضه.
12340- فأما إذا كان العبد مشتركاً، فأضاف أحدُ الشريكين العتقَ إلى جزئه، نُظر: فإن سمى نصيب شريكٍ، ووجه العتقَ عليه، لغا لفظه، ولم ينفذ العتق
__________
(1) في الأصل: " تزاحُم " بهذا الضبط والنقط، والمثبت من (ت 5) .(19/204)
[وذلك] (1) إذا قال لشريكه: نصيبك في هذا العبد حر، أو أعتقتُ نصيبك، وليتحفظ الإنسان حتى لا يقع في الإقرار بعتق نصيب صاحبه، وليختر لفظة في الإنشاء لا يُتمارى فيها.
فأما إذا قال: أعتقت نصيبي منك، فيعتِق نصيبُه، وسنذكر حكمَ السراية.
وإن قال لعبده، وهو يملك نصفه: " أعتقت نصفك "، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق ينصرف إلى نصفه المملوك؛ فإن الإنسان لا يُعتق إلا ملكَ نفسه، فيحمل مطلقُ لفظه على ذلك.
والوجه الثاني - أنه ينصرف إلى نصف العبد شائعاً؛ فإنه لم يخصصه بملك نفسه، فعلى هذا يَعْتِق نصفُ نصيب المعتِق، وهو ربع العبد، ثم يسري لا محالة إلى ما بقي من نصيبه، سواء كان موسراً أو معسراً، وإلى نصيب صاحبه إن كان موسراً.
ولا يكاد يظهر لهذا فائدة، إلا أن يفرض تعليق عَتاقٍ أو طلاق في ذلك، بأن يقول: إن أعتقت نصفي من هذا العبد فامرأته طالق، فماذا قال: نصفك حر، وصرفنا ذلك إلى نصفه المملوك، فيقع الطلاق المعلق بإعتاقه ما يملكه من هذا العبد، وعلى الوجه الثاني لا يقع؛ فإنه لم يعتق منه ما يملكه، بل أعتق بعضه، وسرى العتق إلى باقيه، وهذه التقريرات تهذب مأخذ الفقه، وإن كانت قليلةَ الجدوى في النفي والإثبات.
وإذا باع نصف العبد المشترك، نُظر إلى لفظه، فإن قال: بعت نصفي من هذا العبد، [أو نصيبي] (2) ، وكانا عالمين بمقداره، نزل (3) على ما يملكه.
وإن قال: بعت النصف من هذا العبد، ولم يضفه إلى ملكه، جرى الوجهان: أحدهما - أن البيع ينصرف إلى نصفه المملوك، وهو كما لو قال: بعت نصفي من هذا العبد، والثاني - ينصرف إلى نصف العبد شائعاً، فعلى هذا لم يصح البيع في نصف ذلك النصف، لمصادفة ملك الشريك، ويجري في نصف النصف قولا تفريق الصفقة.
__________
(1) في الأصل: " في ذلك "، والمثبت من (ت 5) .
(2) في النسختين: " ونصيبي " والمثبت تصرف من المحقق.
(3) في الأصل: " فنزل ". والمثبت من (ت 5) .(19/205)
ولو أقر أحد الشريكين بنصف العبد المشترك لإنسان، قال الأصحاب: يخرج في الإقرار الوجهان المذكوران في البيع، فإن حصرنا لفظه على ملكه؛ فقد أقر بما كنا نعرفه (1) له، وإن [أشعنا] (2) اللفظ، فقد أقر بنصف نصيبه، ونصف نصيب صاحبه.
وقال أبو حنيفة (3) : النصف المطلق في البيع مختص بملك البائع، حملاً على أن الإنسان لا يبيع إلا ما يملك، فأما الإقرار، فمحمول على الإشاعة؛ فإن الإقرار إخبار، ولا يمتنع أن يخبر الإنسان بما يتعلق بملك غيره.
ولا بأس بهذا الفرق، ولو استعملناه، فرتبنا الإقرار على البيع، لم يضر.
12341- فإذا تمهد ما ذكرناه، عُدنا إلى ترتيب العتق. فإذا أعتق الرجل نصيبه من العبد المشترك، نفذ عتقه فيه، ثم ننظر: فإن كان معسراً وقف العتقُ على نصيبه، ولم يقوّم عليه نصيب شريكه، وإن كان موسراً، سرى العتقُ إلى نصيب شريكه.
وفي وقت السراية ثلاثةُ أقوال: أحدها - أنه يسري عاجلاً متصلاً باللفظ. والثاني - أنه لا يسري إلا عند أداء القيمة إلى الشريك، والثالث - أن الأمر موقوف، فإن أدّى القيمة، تبينّا سريان العتق متصلاً باللفظ، وإن لم يؤدِّ، فظاهر الرق في نصيب الشريك مستدام.
توجيه الأقوال: من عجّل السراية، قال: الإعتاق مع ما يترتب عليه من السراية في حكم الإتلاف، والقيمة تجب بسبب التلف، فماذا ألزمنا الشريك المعتِق قيمةَ نصيب صاحبه، أشعر ذلك بتنفيذنا العتق.
ومن قال بأن العتق لا يحصل إلا عند أداء القيمة، احتج بأن قال: لا يعتق نصيب شريكه عليه إلا بتقدير نقل الملك إليه، فهذا إذاً تملُّكٌ قهري على الغير بعوض، فينبغي أن يتوقف على سَوْق العوض كالتملك بالشفعة.
ومن قال بالوقف، نَظَر إلى العتق واستحالةِ استئخار نفوذه إذا كان ينفذ، وإلى حق
__________
(1) ت 5: "نملكه".
(2) في النسختين: " أشبعنا ".
(3) لم نقف على قول أبي حنيفة في هذه المسألة.(19/206)
الشريك، وامتناع إحباطه نقداً وإحالته على الذمة، فرأى الوقفَ وسطاً بين هذين.
12342- ثم مذهبنا أن عتق المعسر لا ينفذ في نصيب صاحبه، وإنما يسري عتق المتمكن من أداء قيمة نصيب الشريك.
وليس يمتنع في العبد المشترك عتقُ البعض وبقاءُ الرق في البعض، وإنما يبعد ذلك على اختلافٍ في ضرب الرق ابتداءً على البعض مع بقاء الحرية الأصلية في البعض، ونحن نذكر في ذلك صوراً: منها - أنه إذا كان بين المسلم والذمي عبد مشترك، فأعتقاه، والعبد كافر، فنقض المعتَق (1) العهد، والتحق بدار الحرب، فَسُبي، فلا يُسترق نصيبُ المسلم، وفي استرقاق نصيب الذمي وجهان؛ لأن معتِقَه لا يزيد عليه، ولو التحق هو بدار الحرب، لاسترققناه إذا رأينا ذلك؛ فإذاً هذا الخلاف ليس من أثر التبعيض، بل هو في تردد الأصحاب في أن معتَق الذمي هل يسترق؟
والإمام إذا أسر جماعة من الرجال فأراد أن يَرِقَّ بعضَ واحد منهم، ويترك بعضه على الحرية -إن لم يكن فيه مصلحة- لم يجز، ولو فعل على خلاف المصلحة، فقال: أرققتُ نصفك، فأمره محمول على المصلحة على الظاهر، ولكنا نجري ما نجريه في حقه، وإذا لم نصحح إرقاق البعض، فقد أشار الأصحاب إلى وجهين: فقال بعضهم: إرقاقُ البعض منهم إرقاقٌ للكل، والمسألة مفروضة فيه إذا كان في إرقاق جميعه مصلحة. ومن أصحابنا من قال: يلغو لفظُه، ولا يَرِق منه شيء.
وإن رأى الإمام في إرقاقِ بعضه وجهاً من المصلحة. حتى يجدّ في الاكتساب لنصفه الحر، فهل يجوز له أن يُرق (2) بعضَه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجوز ذلك، كما يتبعض الرق والحرية في العبد المشترك إذا كان المعتق معسراً، فإذا جاز ورود الحرية على بعض الرقيق، جاز ورود الرق على بعض الحرية. والوجه الثاني - لا يجوز؛ فإن أحكام الحرية والرق متناقضة، فينبغي ألا يختار التبعيضَ فيها، وعِتقُ المعسر لا سبيل إلى رده، ولا سبيل إلى تنفيذه في نصيب شريكه، فأما ضرب ابتداء
__________
(1) سقطت من (ت 5) .
(2) رَقّ: من باب ضرب، يتعدى بنفسه، وبالهمزة.(19/207)
الرق على الاختيار، فمن باب اختيار تصرفٍ يجر عُسراً، وهذا يقرب من الاختلاف الذي يأتي مفصلاً في مكاتبة بعض العبد إن شاء الله تعالى.
12343- ومن صور التبعيض أن الجارية المشتركة بين الشريكين، إذا أولدها الشريك المعسر، فالاستيلاد يقف على نصيبه وقوفَ العتق، أما الولد، ففيه اختلاف قولٍ. أحد القولين - أنه حر كلُّه؛ حتى لا تتبعض الحرية والرق في الابتداء. والثاني - أن النصف منه حر، والنصف رقيق، وهذا الوجه أوجه في هذه الصورة؛ فإن هذا أمر قهري، لا تعلق له بالاختيار، وقد اشتمل ما ذكرناه على ذكر الفرق بين المعسر والموسر في العتق.
12344- ثم نذكر في اليسار أمرين: أحدهما - أن الاعتبار في يسار المعتق، بكلّ ما يجب إخراجه إلى دَيْن الآدمي، ولا يعتبر في هذا يسارُ الكفارة المترتِّبة، حتى لو كان للمعتِق عبدٌ مستغرَقٌ بخدمته، فهو موسر به في تسرية عتقه، وإن لم نعتبره في اليسار المرعي في الكفارة المترتّبة. هذا أحد ما أردناه.
والثاني - أن الاعتبار بحالة الإعتاق؛ فإن كان المعتق موسراً إذ ذاك، ثبت العتق أو استحقاقه، وإن لم يكن حالةَ الإعتاق موسراً، واستفاد بعد ذلك يساراً، فلا حكم له، وقد استقر تبعُّض الرق والحرية.
ولو ظن ظان أنا إذا فرعنا على تأخير السراية، وحكمنا بأن العتق يحصل مع الأداء، فلو استفاد مالاً وأدّى، عتق نصيب صاحبه، قيل له: لا سبيل إلى ذلك؛ فإنا على هذا القول وإن أخرنا السراية، أثبتنا استحقاقها، كما سيأتي إيضاح ذلك. فإذا لم يثبت الاستحقاق عند الإعتاق، لم يطرأ من بعدُ بطريان اليسار، وإن كنا في قولٍ نعتبر في الكفارة المرتبة حالةَ الأداء، ولكن ذاك تردّدٌ في كيفية ما سبق وجوبه.
12345- ومما نذكره متصلاً بهذا أن الشريك إذا أعتق نصيبه، وكان يملك ما يفي بقيمة نصيب صاحبه، غيرَ أنه كان عليه من الدين مثلُ ما يملك أو أكثر، فهل يسري العتق؟ فعلى قولين مأخوذين من القولين في أن الدين هل يمنع تعلقَ الزكاة بالعين؟ والجامع أن العتق حق الله، وهو متعلق بحظ الآدمي في الخلاص، فكان في معنى(19/208)
الزكاة، وهذا ذكرته احتمالاً في بعض المجموعات، ثم ألفيته منصوصا للشيخ أبي علي في منقولات.
ولو كان الشريك موسراً ببعض قيمة النصيب دون البعض، ففي المسألة وجهان - ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن العتق يسري بمقداره، والثاني - أنه لا يسري من العتق شيء، ويقف على ملك المعتِق، والأوجه الأول؛ فإنا نتبع السرايةَ اليسارَ، ووجه الثاني -على بعده- أن السريان من حيث يقتضي نقلَ الملك إلى المعتِق يشابه استحقاق الشقص المشفوع بالشفعة، ولو أراد الشفيع أن يأخذ البعض من الشقص المبيع. ويترك البعض، لم يجد إليه سبيلاً.
12346- ومما نرى تمهيده أنا إذا عجلنا السراية، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الملك ينتقل في فصيب الشريك إلى المعتِق، ثم يَعتِق عليه، ويثبت الولاء، ولا يتصور أن يسري العتقُ في ملك الشريك من غير تقدير نقل، ثم ما صار إليه الأصحاب أن نقل الملك والعتق -على قول التعجيل- (1) يقعان في وقتين، وإن كانا لا يدركان بالحس. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يحصل نقل الملك والعتق معاً من غير ترتب، ولما قيل له: هذا جمعُ النقيضين، قال: لا يبعد هذا في الأحكام، وإنما يمتنع اجتماع المتضادات المحسوسة، وطرد مذهبه في شراء الرجل أباه، ومن يعتِق عليه، وقال: يحصل الملك والعتق معاً.
وهذا كلام سخيف، متروك عليه، وباطل قطعاً.
12347- فإن قيل: ذكرتم حكم العتق في العبدِ الخالص، والعبدِ المشترك على الجملة، وأغفلتم إعتاقَ المالك جاريتَه الحبلى، والحمل لمالك الجارية، وكذلك إعتاقَه الحمل، والأم مملوكة له.
قلنا: أما إذا أعتق الجاريةَ، فالعتق يسري إلى الجنين مذهبأ واحداً. وإن وجّه العتقَ على الحمل، نفذ العتق فيه، وما ذكره الأصحاب أن العتق يقف عليه،
__________
(1) ت 5: " قول العتق ".(19/209)
ولا يتعدى من الجنين إلى الأم، فتعتِق الأم، كما يعتق الجنين بعتق الأم، وهذا غريب في الحكاية، وإن أمكن توجيهه.
ثم اختار المزني أصحَّ الأقوال، وهو قول تعجيل السراية، وسلك مسلكين: أحدهما - التعلق بنصوص الشافعي في مواضع من الكتب (1) ، والآخر الاستشهاد بالأحكام، ومعظم ما يستشهد به مفرع من الشافعي على قول تعجيل السراية، وأما استشهاده بنصوص الشافعي، وقطعِه القول في مواضع من كتبه، فهذا على مذهبه في أن الشافعي إذا قطع قولاً في موضع، كان ذلك تركاً منه للقولين.
12348- وفي هذا دقيقة لا بد من التنبه لها، وهي أن الشافعي إذا نص على قولين، فكأنه لم يذكر لنفسه مذهباً، وإنما ردّدَ، ولو انتهى نظره نهايته، لجزم القولَ، ولا مذهب لمتردِّد. نعم، إن كان ينقدح مذهب ثالث، فإعراضه عنه مذهب.
ثم إن قطع قوله بعد القولين، فيجب القطع بأن مذهبه ما قطع به، وما كان يتردد فيه ينتهى إليه ويقف (2) .
وإن تقدم قطعُه، ثم قطع بعده بخلافه، فهو رجوع، واستحداث مذهب.
وإن قطع بمذهب، ثم ذكر بعده قولين، فقد ترك المذهب، وعاد إلى التردد.
وإن نُقلت عنه نصوص مختلفة من غير تأريخ، فلا وجه للاستشهاد بالبعض منها.
غير أن المزني يستشهد بكثرة النصوص، وهذا لا متعلق فيه.
12349- ثم ذكر المزني جملاً من الأحكام المتفرعة على الأقوال، ونقل جواب الشافعي فيها على ما يقتضيه تعجيل السراية، ونحن نتتبع تلك الأحكامَ ونذكر المذهبَ فيها، والجوابُ عن تعلق المزني لا يخرج عن قسمين: أحدهما - اعتذار عما يذكره إن اتجه، والآخر - حملُ كلامه على التفريع على قول تعجيل السراية.
__________
(1) ت 5: " الكتاب ".
(2) عبارة الأصل: " ويقف عليه "، ولفظة: (عليه) ساقطة من (ت 5) ، ولعلها: ويقف عنده. أي لا يقطع.(19/210)
فمما تعلق به أن قال: قال الشافعي: إذا مات المعتِق الموسر، فقيمة نصيب الشريك تؤخذ من تركته بعد موته، وهذا لا خلاف فيه على الأقوال. ووجه الجواب عنه على قول تأخير العتق إلى الأداء، أن العتق صار مستحقاً في نصيب صاحبه، فصار هذا الاستحقاق موجِباً للقيمة، ثم أَخْذ القيمة من تركته، وإن كان يحصل العتق بعد موته ليس بدعاً، وهو محمول على قاعدة تقدم السبب في الحياة، ومن الأصول أن من قدم سبباً في حياته، وترتب عليه تلفٌ بعد موته، فالضمان يتعلق بتركته. هذا إذا مات المعتِق.
وإن [مات] (1) العبد الذي أعتق الشريك نصيبه من قبل أداء القيمة -والتفريع على تأخير السراية إلى وقت الأداء- فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - لا تلزم القيمة؛ فإن السراية قد فاتت؛ إذْ عِتْقُ العبد بعد موته محال؛ فتقديم العتق على أداء القيمة يخالف القول الذي نفرع عليه [وبمثل] (2) هذا الحكم فإن المكاتب إذا مات، تنفسخ الكتابة، ويموت رقيقاً. والوجه الثاني - أنه يجب على المعتِق قيمةُ نصيب شريكه، ثم نتبين أن العتق حصل قبيل موته، وهذا يضاهي مذهب أبي حنيفة (3) في مصيره إلى أن المكاتب إذا خلف وفاء أُدّي النجم مما خلّفه، ويتبين أنه عَتَق قُبَيْل موته.
ومما احتج به المزني أن قال: نَصَّ على أن أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة -وهو موسر- سرى الاستيلادُ إلى نصيب الثاني في الحال.
قلنا: هذا جوابٌ على أحد القولين -وهو تعجيل السراية- فالاستيلاد كالإعتاق، فإن عجلنا، فالجواب ما نقله المزني، وإن رأينا تأخير نفوذ العتق إلى أداء القيمة، فالاستيلاد بمثابته، وقولُ الوقف جارٍ فيه. ثم من أصحابنا من يرى الاستيلاد أولى بالتعجيل؛ لأنه مترتب على فعلٍ لا مردّ له، ومنهم من يرى العتق أولى؛ لأنه تحقيق وتنجيز، والاستيلاد فيه عُلْقة العتاقة، ومنهم من سوى بينهما.
__________
(1) في الأصل: " كان ".
(2) في الأصل: " بمثل " (بدون الواو) .
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/431 مسألة: 2125.(19/211)
ثم نقول في الاستيلاد: إن كان الشريك المولدُ موسراً، ثبت الاستيلاد في نصيبه، ثم في وقت سريانه إلى نصيب الشريك الأقوالُ؛ فإن أخرنا نفوذ الاستيلاد، فنقول: الولد حر لا محالة، ويجب على المستولد نصفُ قيمته لشريكه، كما يجب عليه نصف قيمة الجارية.
وإن قلنا: تتعجل السراية -تفريعاً على الصّحيح- ففي وقت نفوذ الاستيلاد خلافٌ، ذكرناه في استيلاد الأب جاريةَ الابن: فمن أصحابنا من يقول بنقل الملك إلى المستولد قبيل العلوق، فعلى هذا يصادف الوطءُ ملكَه، فلا يلتزم لشريكه شيئاً (1) .
ومنهم من قال: يُنقل الملك في نصيب الشريك بعد العلوق، فيثبت العلوق على مقتضى الشركة.
وقد قدمنا استقصاءَ هذا في استيلاد الأب، وكشفنا ما فيه من إشكال بطريق البحث، ومقدار غرضنا منه الآن التردد في أن الاستيلاد إذا تعجل، وقطعنا بحصول الحرية في الولد، فهل يغرَم المستولد لشريكه في مقابلة الولد شيئاً؟ وإن أخرنا، فلا شك في حصول الحرية في الولد، ولكنا نقطع بتغريم المستولد نصفَ قيمة الولد، وإذا كان المستولد معسراً، ففي انعقاد الولد على التبعض في الحرية وجهان ذكرناهما.
ثم ذكر الأصحاب متصلاً بالاستيلاد أن المستولد لو كان معسراً، ووقف الاستيلاد على نصيبه، ولو استولد الثاني أيضاً، لثبت الاستيلاد في نصيبه أيضاً، فتصير المستولدة مشتركة بينهما على حكم الاستيلاد، فلو فرض يسار بعد ذلك لأحدهما، فأعتق الموسر نصيبه من أم الولد، فقد قال قائلون من أصحابنا: العتق يسري إلى نصيب الشريك الثاني، ويجب غُرْم (2) الثاني.
قال القاضي: هذا خطأ؛ لأن قضية السراية نقل الملك من شخص إلى شخص، وأم الولد غير قابلة لنقل الملك. وإذا امتنع نقل الملك، امتنع تصوير السراية.
__________
(1) أي في الولد.
(2) ويجب غرم الثاني: " غُرم " بمعنى المغروم؛ أي يجب أن يغرم للثاني نصيبه.(19/212)
12350- ومما احتج به المزني أن قال: إذا قال أحد الشريكين للثاني: قد أعتقتَ نصيبك وأنت موسر، فنحكم بعتق نصيب المدعي، لأنه أقرّ به وهو مؤاخذٌ بإقراره، فدل أن العتق حصل بنفس اللفظ، ولو كان يعتق بأداء القيمة، لم نحكم بعتق نصيب المقر، لأنه لم يأخذ قيمة نصيبه بعدُ.
قلنا: لا يشك الفقيه في أن هذا تفريع على قول تعجيل السراية، والجواب فيه أنا إن حكمنا بالتعجيل، وقع الحكم بالعتق في نصيب الشريك المدعي، والقول قول المدعى عليه، فإن حلف أنه لم يُعتِق نصيبَ نفسه، تَخَلَّص، وإن نكل، حلف المدعي، واستحق عليه القيمةَ لنصيبه، ثم إذا حلف المدعي يمين الرد وألزمنا المدعى عليه القيمة، فهل يقع الحكم بالعتق في نصيب المدعى عليه؟
قال المحققون: لا نحكم بالعتق في نصيبه؛ فإن الدعوى إنما توجهت عليه بسبب تغريمه القيمة؛ وإلا فالدعوى على الإنسان بإعتاق ملكه مردودة، وهي بمثابة ما لو ادعى رجل على مالك عبد أنه أعتقه، فلا تسمع الدعوى، ولا معنى لها. نعم، لو كان هذا المدعي شاهداً، وانضم إليه آخر، وعُدّلا، حُكم بالعتق لشهادة الحسبة.
وإنما نسمع الدعوى من العبد نفسه لما له في العتق من الحظ واستفادة الخلاص، وإنما تقبل دعوى الشريك لطلب القيمة، وَرَدُّ اليمين لا يثبت غير القيمة.
وأبعد بعض من لا خبرة له وقضى بنفوذ العتق في نصيب الشريك المدعى عليه بيمين الرد؛ تبعاً لارتباط دعوى القيمة به، ولا مساغ للقيمة إلا من جهة تقدير السراية، ولا سراية ما لم يُقَدَّرْ نفوذُ العتق من الشريك في نصيبه.
ثم إذا حكمنا على قول التعجيل بنفوذ العتق في نصيب المدعي، فولاء ذلك النصيب موقوف؛ لأن المدعي يزعم أنه لشريكه، وشريكه ينفيه؛ فبقي الولاء موقوفاً، وسيأتي القول في وقف الولاء في مثل ذلك.
ثم قال المزني: لو ادعى الشريك المدعى عليه على صاحبه مثل ذلك، عَتَقَ العبدُ، وكان الولاء له، وبيان ذلك: أنه إذا ادعى كل واحد من الشريكين على صاحبه أنه أعتق نصيبه -والتفريع على قول التعجيل- فينفذ الحكم بعتق العبد ونقول: كل(19/213)
واحد من الشريكين يزعم أن [شِرْكه] (1) عتق على صاحبه، وصاحبه ينكره، فصار كلُّ واحد مؤاخذاً بموجب إقراره.
وأما قوله: " وولاؤه له " فهو خطأ؛ فإن الولاء موقوف ليس يدعيه واحد من الشريكين. وإذا كان كذلك، فلا وجه إلا وقف الولاء، وهذا لا شك فيه.
وإن اعترف أحدهما بعتق نصيبه، تغير وضع المسألة، وإذ ذاك يكون الولاء للمعترف. وكل هذا تفريع على تعجيل السراية.
12351- ومما ذكره المزني، أن أحد الشريكين إذا قال لصاحبه: مهما (2) أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حر، والمخاطب المقول له موسر، فإذا أعتق عَتَقَ الكل عليه، ويلزمه قيمةُ نصيب القائل موسراً كان أو معسراً.
قلنا: هذا جواب على التعجيل، كما سنوضحه، إن شاء الله.
فأما إذا قلنا: [تحصُل] (3) السراية عند أداء القيمة، لم يَعْتِق الكلُّ على المعتقِ، بل عَتَقَ نصيبه عليه، وعَتَقَ نصيبُ المعلِّق عليه عند بعض أصحابنا.
وتحصيل القول في ذلك يقتضي تقديمَ أصلٍ، وهو أنا إذا رأينا تأخير السراية إلى حصول الأداء، فنصيب الشريك رقيق قبل أداء القيمة.
فلو أعتق ذلك الشريك نصيبَ نفسه، إنشاءً قبل وصول القيمة إليه من جهة شريكه، ففي نفوذ عتقه وجهان على هذا القول: أحدهما - أنه ينفذ لمصادفة الملك، والثاني - أنه لا ينفذ؛ لكونه محلاً لاستحقاق نفوذ السراية فيه من جهة الشريك، وهذا يصادف (4) نظائر معروفة، منها: إعتاق الراهن المرهون، ثم إن لم ينفذ العتقُ من الشريك إنشاءً، فلا كلام، وإن نفذناه، ففي تنفيذ البيع فيه وجهان ذكرهما القاضي.
وكان شيخي يقطع بأن البيع لا ينفذ فيه، وإن تردد المذهب في نفوذ الإعتاق إنشاء
__________
(1) في النسختين: " شريكه " وهو تصحيف واضح. والمثبت تقدير من المحقق. والشِّرْك أي النصيب.
(2) مهما: بمعنى إذا.
(3) في الأصل: " تحصيل ".
(4) أي يضاهي نظائر معروفة.(19/214)
كالمرهون وما يناظره، بخلاف العبد الجاني إذا تعلق الأرش برقبته فإن القول مختلف في نفوذ بيع السيد في رقبته قبل إيصال الفداء إلى مستحقه.
وإذا نحن نفذنا بيع الشريك في مسألتنا، نشأ من هذا سرٌّ في المذهب، لا بدّ من التنبه له، وهو أنا إن جرينا على أنه لا ينفذ عتق الشريك، فلا شك أنه لا ينفذ على هذا بيعُه، فقيمة الحصة مستحقة على الشريك المعتِق، لما اقتضاه إعتاقه من الحجر على ملك الشريك، والحيلولة توجب الغرم في مثل هذا المقام. فترتب على ذلك أن الذي لم يُعتق يطالِب الشريكَ بالقيمة، وإذا قلنا: ينفذ عتق الشريك، ولا ينفذ بيعه، فالمطالبة بالقيمة تامة أيضاً؛ لاطراد الحجر في المنع من البيع.
وإن جرينا على أنه ينفذ عتقُ الشريك في نصيبه وبيعُه، فلا حجر عليه إذاً؛ ويجب لا محالة أن يقال: لا يملك مطالبةَ شريكه المعتِق بالقيمة؛ فإن إعتاقه لم يستعقب السراية ولا الحجر، والشريك الذي لم يُعتِق بحكمه في تصرفاته، فيبقى (1) أن المعتِق إن بذل القيمة، حصل السراية، وهو في بذلها مختار، ويكون بِمنزلة الشفيع في بذل العوض: إن بذله مَلَك الشقصَ المشفوع، وإن لم يبذله، فلا طِلبَة عليه من مشتري الشقص.
وهذا يخبّط المذهب، ويقطع نظامه، ومنه يبين أن تنفيذ بيعه لا وجه له، ثم إن قلنا: ينفذ بيعه، فلو باع، وأَلْزَم البيع من جهة نفسه، فأراد الشريك المعتِق أن يتتبّع بيعه بالنقض، ويبذل القيمة، كما يملك الشفيع نقضَ بيع المشتري لو باع الشقص المشترى، فكيف الوجه في ذلك؟ هذا فيه احتمال وتردد؛ لأنا إذا نزلنا الشريك المعتِق منزلة الشفيع، فقد أثبتنا له حقَّ إثبات العتق في نصيب صاحبه، فإذا جرى بيعٌ [لو حُكِم بلزومه] (2) ، لامتنع حق الشريك المعتِق، لوجب أن يملك الشريك النقض.
وهذا الآن ينتهي إلى خبال وفساد، فالوجه: القطع بأن بيع الشريك لا ينفذ.
ثم يبتني عليه أنه يملك مطالبة المعتق بقيمة النصيب؛ لمكان الحجر الحاصل في ملكه.
__________
(1) ت 5: "فينبغي".
(2) في الأصل: " أو حكم بلزومه ".(19/215)
12352- فإذا ثبت ما ذكرناه من الخلاف في نفوذ عتق الشريك الثاني بعد إعتاق الأول، فنعود بعد هذا إلى غرض المسألة، ونقول: إذا قال أحد الشريكين: إذا (1) أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حر، فهذا نفرّعه على قولَي التعجيل والتأخير: أما التفريع على التعجيل، فإذا جرى هذا التعليق من أحد الشريكين، فقال لصاحبه: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حرٍ، فإذا أعتق المخاطَب نصيبه عَتَق عليه العبد إنشاء وسراية (2) ، ولم يعتق نصيب المعلِّق بحكم التعليق، فإن قوله: " فنصيبي حر " يقتضي التعقيب، فإذا أعتق المقول له، فالسراية من حكم لفظه، فتغلِبُ السرايةُ حصولَ عتق المعلِّق في نصيب نفسه بحكم التعليق السابق. وهذا مما اتفق الأصحاب عليه إذا فرعنا على قول التعجيل.
فإن قيل: هلا كان عتق المعلِّق أولى بالنفوذ؛ فإنه يوافق وقت السريان؟ وهذا السؤال يقوَى بما مهدناه من أن الملك ينتقل إلى المعتِق، ثم يترتب عليه السريان، فلا بدّ من وقوع العتق بالسريان مترتباً على النقل، والعتق المعلَّق يلاقي وقت نقل الملك، ولأجل هذا السؤال قال المروزي: يحصل العتق متصلاً بإعتاق الشريك غيرَ مترتب، وهذا لا يُنجْيه من السؤال وغائلته؛ فإن الترتّب [على نقل الملك إن رُفع من البين،] (3) بقي مصادمةُ العتق المعلَّق للعتق بالسراية، وهذا كافٍ في إشكال السؤال.
ثم سبيل الجواب في هذا أن نقول: العتق المعلق مرتب على نفوذ عتق الشريك ترتيباً اختيارياً، وحصول العتق على طريق السراية، يترتب على نفوذ العتق ترتباً
__________
(1) أعاد المسألة بنصها واضعاً (إذا) مكان (مهما) مما يؤكد صحة تقديرنا في استعماله (مهما) بمعنى (إذا) .
(2) إنشاءً في نصيبه، وسراية في نصيب شريكه.
(3) عبارة الأصل: " فإن الترتب يحط نقل الملك أو رفع من البين ... إلخ " والمثبت عبارة (ت 5) . والمعنى أننا لو قلنا بقول أبي إسحاق المروزي، أي بحصول العتق متصلاً غير مترتب على نقل الملك، فهذا لا ينجي من السؤال، لأننا لو رفعنا من البَيْن تقدير نقل الملك، فسيبقى مصادمةُ العتق المعلِّق للعتق بالسراية. هذا معنى العبارة، والله أعلى وأعلم.(19/216)
حكمياً، والترتب الحكمي أغلب؛ لأنه لا يقع (1) على وقتين محسوسين، فَيُفْصَل أحدُهما عن الثاني، وإنما هو تقدير لا يدركه الحس، وترتيب العتق بالفاء تصرفٌ مقتضاه تقسيم الوقت تعقيباً وترتيباً.
وهذا لا يشفي الغليل إذا كان لا ينفصل العتق المعلق عن إعتاق الشريك بفاصل زماني، فلا شك في اجتماع وقت السراية والعتق المعلق، وإذا فرضنا لنقل الملك زماناً، ولنفوذ العتق بعده زماناً، اقتضى هذا استئخار عتق السراية عن العتق المعلق من طريق الزمان.
فلا خروج عن السؤال إلا بأن نقول: العتق المعلق يصادف ملكاً [مستحَقَّ] (2) الإزالة، وقد ذكرنا وجهين على قول التأخير في أن الشريك الثاني إذا أعتق نصيبه هل ينفذ عتقه؟ فإذا فرّعنا على أنه لا ينفذ عتقه، لم يبق إشكال في تغليب السراية على قول التعجيل، وإنما السؤال على الوجه الثاني - وهو إذا قلنا: ينفذ عتق الشريك الثاني في نصيبه بعد تقدم عتق الأول، فعلى هذا تغلّب السراية على قول التعجيل أيضاً.
والسبب فيه أن الملك الذي يستحق نقله بالسراية مختطف مستوفًى منتزع عن إمكان التصرف على وجه لا تبقى فيه خِيَرةٌ للمختار، فلما عظم هذا الاستحقاق، اتّحد المذهب في امتناع نفوذ عتق المعلِّق، ونحن إذا نفذنا عتق الراهن، فهو لتغليبنا العتق على حق المرتهن؛ لما يختص الملك [به] (3) من السلطان ولهذا لا ينفذ بيعه، وهاهنا إذا كان الملك مستحقاً للمعتق بسريان العتق، امتنع نفوذ عتق المعلِّق فيه.
فكأنا نتخيل مراتب نقسط عليها أقدار الفقه: فعتق الراهن -إن نفذ- فسببه أن العتق أقوى من حق الاستيثاق، وعتق الشريك الثاني -على تأخير السراية- أولى بألا ينفذ؛ لأن الحق الثابت في ملكه على اللزوم سببه عتقٌ أيضاً.
وإذا فرعنا على قول التعجيل، فالملك مختطفٌ من البين، حتى كأن لا ملك، وعتق المعلِّق محمول على اختياره، وهذا هو الممكن في ذلك.
__________
(1) ت 5: " لأنه يقع ".
(2) في الأصل: " يستحق ". والمثبت من (ت 5) .
(3) في الأصل: " فيه ". وعبارة (ت 5) : " لما يخصّص به الملك من السلطان ".(19/217)
12353- ولو قال أحد الشريكين للثاني: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر قبل نصيبك -فهذه المسألة تدور على مذهب الدَّور الذي سبق إليه ابن الحداد. ووجهه أن الشريك المخاطب المقول له إذا أعتق- فلو نفذنا عتقه، لنفذ على صاحب اللفظ عتقُ المعلِّق قبل إعتاقه، وإذا نفذ عتق المعلق قبل إعتاقه سرى، وإذا سرى، لم ينفذ إعتاق الشريك، وإذا لم ينفذ إعتاقه، لم ينفذ العتق المعلَّق؛ ففي تنفيذ إعتاقه ردُّ إعتاقه.
وعلى هذا المذهب إذا قال مالك العبد له: مهما أعتقتك فأنت حر قبله، لم ينفذ عتقه، وقد ذكرنا نظير ذلك في الطلاق، وذكرنا مذهب قطع مذهب الدور، واخترناه، فلا نعيده.
ومن سلك في رد الدور مسلك الاستبعاد، فالدور في هذه المسألة أبعد، لأنه يؤدي إلى الحجر على الغير في ملكه، وهو أبعد من تصرف المرء في حقه.
ونحن إذا قطعنا الدور، لم نلتفت على هذا الاستبعاد، بل نقطعه بأن الشرط في نظم الكلام وضعه أن يتحقق، ثم ننظر في الجزاء، فإن امتنع، منع، فأما تخيل المنع في الشرط، فلا سبيل إليه لا لفظاً ولا شرعاً، ولسنا نطيل بالإعادة.
ويلزم على مذهب الدور امتناعُ التصرف من الجانبين، لو صدر التعليق من كل واحد منهما، ثم يجب طرد هذا في جميع التصرفات حتى إذا قال كل واحد منهما لصاحبه: مهما بعت نصيبك، فنصيبي حر قبل بيعك، فلا ينفذ البيع، [ثم] (1) لا ينفذ العتق، فإنه موقوف على بيع صحيح، وصحة البيع ممتنعة، وبمثل هذا يستبين المنصفُ بطلانَ المصير إلى الدور اللفظي. وكل ما ذكرناه على قول التعجيل.
12354- فإن فرعنا على التأخير - وقد قال لشريكه: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر، فهذا مخرج على الوجهين في أن الشريك الثاني هل ينفذ عتقه؟ وقد مضى.
ولو قال على هذا القول: فنصيبي حر قبل إعتاقك -وفرعنا على أن عتق الثاني لا ينفذ بعد عتق الأول- دارت المسألة أيضاً؛ فإنا إذا قدمنا العتق المعلَّق، صادف إعتاق الثاني ملكاً مستحَقاً، ثم هكذا إلى منتهى الدور.
__________
(1) في الأصل: " فإنا لا ننفذ العتق ".(19/218)
12355- وفرع صاحب التقريب على قول التأخير مسألةً في التصرف، فقال: إذا أعتق أحد الشريكين نصيبَه من الجارية المشتركة، وقلنا: لا يسري العتق قبل الأداء، فلو وطىء الشريك الثاني الجارية، فهل يلتزم المهر؟ أما نصف المهر، فيلزمه في مقابلة النصف الحر، وليقع الفرض في وطءٍ محترم (1) ، أو في تصوير الضبط والإكراه، فأما النصف الثاني من المهر - فقد ذكر صاحب التقريب فيه وجهين: أحدهما -أنه لا يلزم، لأن وطأه صادف ملكاً في ذلك النصف- وهذا هو الذي لا يجوز غيره. وليس هو من قبيل التصرفات التي يمتنع بها جريان العتق، حتى يجري الاختلاف فيها.
والوجه الثاني - أنه يجب عليه في مقابلة ملكه نصفُ المهر للشريك، وهذا بعيد، ولكن الممكن في تخريجه أن الملك وإن كان ثابتاً للواطىء، فهو مستحقَّ الانقلاب إلى المعتِق، فصار كأنه منقلب إليه. وهذا يناظر وجهاً ضعيفاً في أن البيع إذا كان فيه شرط خيار (2) وقلنا: الملك للبائع، فلو وطئت الجارية بشبهة، ثم أفضى العقد إلى اللزوم، فقد قال بعض أصحابنا: المهر للمشتري؛ نظراً إلى مصير الملك إليه في المآل، كذلك هذا الملك يصير إلى المعتق في المآل.
ثم لو قال قائل: هلا صرفتم هذا النصف من المهر إلى المعتقة أيضاً؛ فإن هذا الملك إلى الزوال.
قلنا: لا ننكر احتمال هذا، أما صاحب التقريب، فقد أثبته للشريك المعتِق، ووجهه أن الملك ينقلب إليه، ثم يترتب العتق، ولا يمكن توجيه هذا إلا بهذا الطريق. فيجوز أن يقال: إذا كان ملك الواطىء لا يدرأ المهر عنه؛ لأنه مستحقَّ الانقلاب، فالملك الذي نقدّره للمعتق أولى بأن يكون مستحقَّ الانقلاب، فإنه في حكم الحاصل الزائل، فيتجه صرف هذا النصف إليها أيضاً.
ويخرج من هذا أنا إن أثبتنا المهر في مقابلة النصف المملوك، فيجب ألا ينجز
__________
(1) ت 5: " محتوم ".
(2) ت 5: " خلاف ".(19/219)
إلزامه، بل نُثبته عند حصول السراية، حتى لو ماتت الجارية -وفرعنا على أن السريان لا يتصور بعد موتها- فلا مهر على الواطىء في مقابلة النصف الذي كان مملوكاً له، واستمر الملك فيه -وهذا كله تفريع على وجهٍ لا أصل له.
وإذا جرينا على العادة في طلب النهاية- ونحن نفرع على ضعيف، أفضى التفريع إلى أمور بديعة.
12356- ثم قال المزني: " وسواء كان بين مُسلمَيْن أو كافرَيْن أو مسلم وكافر " وأراد بذلك أن العبد إذا كان مشتركاً بين كافر ومسلم، فأعتق الكافر نصيبه، وقلنا: لا يصح من الكافر شراءُ العبد المسلم -وكان العبد مسلماً- فعلى هذا هل يُقوّم عليه نصيب الشريك؟ في المسألة وجهان، وهو بمثابة شرائه أباه المسلم، وقد قدمنا الخلاف فيه.
والنقل بالسراية -على قول التعجيل- أولى بالصحة من شراء العبد، فإن ذلك عقد اختيار، والنقل يحصل اضطراراً إذا عجلنا السراية، فكان أولى بالنفوذ. نعم، إذا فرعنا على قول التأخير، فبذْلُه القيمة ليعتِق نصيبُ صاحبه يضاهي شراءه من يعتق عليه مع فرق أيضاً، فإن هذا البذل واجب لو قلنا بالسراية، وشراء الأب لا يجب.
ثم فرض المزني عبداً مسلماً بين كافر ومسلم، وما ذكرناه من ترتيب المذهب في السريان ومنعه إنما نشأ من إسلام العبد، وما نشأ فيه من إسلام الشريك، ولكنه صوَّر عبداً مسلماً بين مسلم وكافر ليبني عليه أن المسلم لو أعتق، نفذ عتقه في نصيب الكافر، والكافر إذا أعتق، لم ينفذ عتقه على وجهٍ لبعض الأصحاب، وهذا لم يأت به المزني ليحتج به، وإنما أجراه في عُرض الكلام.
12357- ومما تعلق به أن قال: إذا أعتق الشريك الموسر وألزمناه قيمة نصيب صاحبه، فالاعتبار في القيمة بيوم الإعتاق، لا بيوم التقويم، فدلّ أن العتق يتنجز باللفظ.
وهذا الذي ذكره فرّعه الأصحاب على القولين في التعجيل والتأخير، فنقول: إن عجلنا السراية، فلا شك أنا نعتبر قيمة يوم الإعتاق؛ فإن إتلاف ملك الشريك يحصل(19/220)
متصلاً باللفظ، فإن أخرنا تحصيل العتق إلى وقت الأداء، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: تعتبر قيمة يوم الأداء. فإن التلف يحصل حينئذ، فيجب اعتبار قيمة يوم التلف. والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة يوم الإعتاق؛ فإن الحجر على الملك حصل في ذلك اليوم.
وفي بعض التصانيف وجه ثالث، هو الصواب - وهو أنا نعتبر أقصى القيم من يوم العتق إلى يوم الأداء؛ فإن الإعتاق سببٌ متصل إلى الإفضاء إلى التلف، فيجب أن يكون بمثابة جراحة العبد، ومن جرح عبداً، ثم مات بعد زمان، اعتبرنا قيمته أقصى ما يكون من يوم الجرح إلى يوم التلف، وكذلك من غصب عبداً، وتلف في يده، ألزمناه أقصى القيم؛ لأننا نُنْزل الغصب منه بمنزلة التسبب إلى التلف. هذا ما ذكره الأصحاب، ولا بد من بحث فيه.
أما إيجاب الأقصى، فمصرِّحٌ بالغرض، لا بحث فيه، وأما من قال: يُعتبر يوم الإعتاق، فمعناه عندي إدخال يوم الإعتاق في الاعتبار، وإلا فلا وجه لإنكار اعتبار القيمة بعده، لما قدمناه.
وقد ينقدح -على بُعْده- أن يقال: صار الملك كالمهلَك يومئذ فلا يعتبر ازدياد بعده. وهذا يلتفت على ما حكيناه في المهر.
وأما من اعتبر يومَ أداء القيمة، فلا اتجاه له إلا على مذهب من لا يمنع العتق والبيع، فيكون بذل القيمة يومَ الأداء كبذل الثمن المسمى من الشفيع، وكأن الاعتياض يجري يوم البذل، والقيمة يومئذ ممثلة بالثمن.
12358- ثم قال الشافعي: " وإن كان معسراً، عَتَقَ نصيبه، وكان الشريك على ملكه ... إلى آخره " (1) .
أراد بذلك أن العتق إذا وقف على نصيب المُعْسر، فالشخص يستقل بموجب الحرية في بعضه، وعليه حكمُ الرق في بعضه.
ولعلي أجمع في آخر العتق ما يحضرني من أحكام مَن بعضه رقيق وبعضه حر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/268.(19/221)
فصل
قال: "ولو أعتق شريكان، لأحدهما النصف، وللآخر السدس ... إلى آخره" (1) .
12359- صورة المسألة: عبد بين ثلاثة، لواحد نصفه، ولواحد ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتق صاحب النصف والسدس نصيبهما، ووقع العتقان معاً، وتصوير الاجتماع أن يتلفظا معاً أو يوكلا وكيلاً بإعتاق نصيبهما حتى يعبر عنهما بعبارة واحدة، فإذا نفذ العتقان معاً، وكانا موسرين -والتفريع على قول التعجيل- فيسري العتقان إلى الثلث الباقي؛ وفي كيفية التقويم على صاحب النصف والسدس قولان: أحدهما - يُقوَّم عليهما على عدد الرؤوس بالتسوية، ولا نظر إلى اختلاف الملكين. والثاني - أن التقويم يقع عليهما على قدر الأملاك، فيغرم صاحب النصف ثلاثة أرباع قيمة الثلث، ويغرم صاحب السدس ربعَها، ونَقْلُ الملك والولاء يقعان على هذه النسبة. والقولان يبتنيان على أن الشفعة على عدد الرؤوس، أم على قدر الأنصباء. هذا هو المسلك المرضي.
وقال بعض أصحابنا نقطع بالتقويم على عدد الرؤوس هاهنا؛ لأن سبيل التقويم فيما نحن فيه كسبيل تغريم الجناة الأرش إذا سرت الجراحات. ثم اختلاف الجراحات في الصورة لا يوجب تفاوتاً، حتى لو جَرَحَ أحدُ الجارحين مائةَ جراحة، وجرح الثاني جراحةً واحدة، وسرت الجراحات إلى الزهوق، فالدية نصفان بينهما.
وهذا ليس بذاك؛ فإن سراية الجراحات صورةٌ وعِيان. وقد يغمض مبلغ آثار السرايات، وقدرُ وقعها، وصُوَرُ الجراح لم تقتل؛ فإنها لم تكن مذفِّفة (2) ، فلما غمض الأمر، وزعنا على الرؤوس، والسراية فيما نحن فيه حكم، والحكم محال على الشرع، فينبغي أن نثبته على موجب القياس في الشرع.
__________
(1) ر. المختصر: 5/269.
(2) ت 5: " مذافة ".(19/222)
فصل
قال: " ولو اختلفا في قيمة العبد، فيها قولان ... إلى آخره " (1) .
12360- إذا اختلف المعتِق وشريكه في قيمة العبد، وتعذر معرفتها بأن مات العبد، وتقادم العهد، وعسر الرجوع إلى اعتبار صورته وصفته؛ فإذا اختلفا في القيمة على الإطلاق، ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول المعتِق؛ لأنه الغارم كما في ضمان الإتلافات، وهذا اختيار المزني. والقول الثاني - القول قول صاحب النصيب؛ فإنه يُستَحَقّ عليه ملكُه بعوض، فيجب أن يخرج ملكه من يده بحكم قوله.
والأَوْلى عندنا بناء القولين على أنه إذا اشترى الرجل عبدين، وتلف أحدهما في يده، وأراد أن يردَّ الثاني بالعيب، وجوزنا تفريق الصفقة في الرد، فلو اختلفا، فقال المشتري: كان قيمةُ العبد التالف خمسمائة، وقيمة الباقي ألفاً، فرُدَّ عليّ ثلثي الثمن، والبائع يقول: بل قيمة التالف ألف، فلا أرد إلا نصف الثمن، فالقول قول من؟ في المسألة قولان.
وهذا البناء ليس كما نؤثره؛ فإن تلك القيمة ليست قيمة مغرومة، والقيمة فيما نحن فيه مغرومة، فالأصل أن يكون القول قولُ الغارم، فلا وجه إلا الاقتصار على توجيه القولين بما يمكن.
12361- ثم قال: "ولو قال: هو خباز، وقال الغارم ليس كذلك ... إلى آخره" (2) .
وهذا من تتمة القول في الاختلاف في القيمة. فإذا مات العبد -والرجوع إليه- فقال المغروم له: كان العبد خبازاً، أو كاتباً، وأنكر الغارم ذلك، فقد ذكر العراقيون فيه طريقين: قالوا: من أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول الغارم، والثاني - القول قول الطالب، والقولان مبنيان على أنهما إذا اختلفا في
__________
(1) ر. المختصر: 5/269.
(2) ر. المختصر: 5/269.(19/223)
مبلغ القيمة اختلافاً مطلقاً، فالقول قول من؟ وذلك لأن من يدعي مزيداً في القيمة، فلا بد وأن يكون مدعياً لزيادة صفة، أو زيادة رغبة، فإن صُدّق ثَمَّ، وجب أن يُصَدَّق فيما نحن فيه.
قالوا: ومن أصحابنا من قال: القول قول الغارم في نفي الصفة الزائدة التي يدعيها الطالب؛ فإن الأصل عدمُها.
ولو ادعى الغارم نقيصةً تنتقص القيمة بسببها، وأنكر الطالب تلك النقيصة، نظر: فإن قال الغارم: كان العبد سليماً في أصل الخلقة، لكن عاب قبل أن أعتق نصيبي منه، فهل يصدَّق هذا الذي يدعي طريان النقصان؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يصدق مع يمينه؛ فإن الأصل براءة ذمته، والقول الثاني - أنه يصدق الطالب مع يمينه؛ لأن الأصل بقاءُ السلامة، قال أئمتنا: هذا من تقابل الأصلين، فإن الأصل من جانبٍ براءةُ الذمة، فبعُد شَغْلُها من غير ثَبَتٍ، والأصل في الجانب الثاني بقاءُ العبد على سلامته، فَبَعُدَ ادعاء النقصان من غير ثَبَت. وهذا أوقع صورة تذكر في تقابل الأصلين.
12362- ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن المعنيّ بتقابل الأصلين تعارضهما على وزن (1) واحد في الترجيح؛ فإن هذا كلام متناقض إذا كنا نُفتي لا محالة بأحد القولين، ونُلحق المسألة بالمجتَهَدَات التي يتعين على المجتهد فيها تقديم ظن على ظن، وحسِب بعضُ الناس من شيوع هذا اللقب أن الأصلين متعارضان تحقيقاً، ولو تحقق ذلك، لسقط المذهبان، وهذا يستحيل المصير إليه، ولو سمى مُسمٍّ كل قولين بهذا الاسم، لم يمتنع؛ من جهة أن من يُجري القولين لا يبتّ جواباً، ولا يعيّن مذهباً، بل يقول إني متردد، والأمران متقابلان عندي، وتقابلهما حملني على التردد، ومن أدى اجتهادُه إلى أحدهما، فلا تقابل عنده، وقد ظهر الترجيح لديه، غير أن مسائلَ معدودة جرت على صورة واحدة، وعلى قضية في التشابه، فسماها الفقهاء باسمٍ لتمييز ذلك النوع عما عداها في التبويب والترتيب.
__________
(1) ت 5: " قدر واحد ".(19/224)
وهذا كقولهم إذا غاب العبد وانقطع الخبر، فهل يجب على المَوْلى إخراجُ فطرته؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجب تغليبا لبراءة الذمة، والثاني - يجب لاعتقاد الحياة، وكذلك إذا أعتقه مالكه عن ظهارٍ، فهل تبرأ ذمته في الحال، فعلى ما ذكرناه: في قولٍ نقول: الأصل اشتغال الذمة، فلا براءة إلا بثت، وفي قولٍ: الأصل بقاء العبد، فلا حكم بالموت والفوت إلا بثبت، فهذا هو المسلك، ولا معنى لإكثار الأمثلة بعد وضوح المقصود. نعم، مِن حكم تقابل الأصلين أن يَدِقّ النظرُ في محاولة ترجيح جانب على جانب.
ولو لم يسلِّم الغارم السلامةَ الخِلْقية، بل قال: خلق أكمه، أو بِفَرْد عينٍ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الغارم مصدق، فإنه لم يسلم أصلاً حتى يُنسبَ بعد تسليمه إلى زواله، وقال العراقيون: في هذه الصورة قولان مبنيان على القولين فيه إذا اختلفا في مقدار القيمة مطلقاً، فإنا إذا صدقنا من يدعي الزيادة، فليس معه أصل في دعوى الزيادة. ومع هذا أجرينا قولاً في تصديق الطالب، ولا فرق بين أن يدعي مزيداً مطلقاً لا يستند إلى أصل، وبين أن يدعي مزيداً في أصل الخلقة، بل هذا أقرب؛ فإن سلامة الخلقة معتادة؛ والكمه نادر، وادعاءُ الزيادة المطلقة ليس فيها استناد إلى اعتياد.
وليتّخذ الفقيه هذا الفصل معتبره إن كان يبغي أن تتميز له صور تقابل الأصلين عن غيرها، فالقولان في الاختلاف المطلق في مقدار القيمة ليسا من تقابل الأصلين، بل أصح القولين تصديق الغارم. والقول الثاني موجه باعتبار قول من يُزال ملكه بعوض.
وهذا ضعيف؛ لأن هذا الكلام كالمشير إلى تراضي المعاوضات، والملك يزول بسبب القهر، فهو من فن الإتلاف.
وإذا رجع النزاع إلى ادعاء نقص بعد تسليم السلامة، فهذا من صور تقابل الأصلين؛ إذ أصل براءة الذمة يعارض أصلَ السلامة، (1 وإذا لم يسلم الغارم السلامة 1) ، فهذا يَخْرُج عن قالب تقابل الأصلين، فإن الغارم لم يسلم أصلَ السلامة، وإن تكلف متكلف، وقال: الأصل في الناس السلامة، كان مبعداً، ومن
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 5) .(19/225)
أجرى القولين ألحقهما بالاختلاف في أصل القيمة مع ترجيحٍ نبهنا عليه، فكل صورة مما ذكرناه يظهر فيها توجيه، فليس من تقابل الأصلين، وإذا تدانى المأخذان ودق الترجيح، وتمسك كل قائل باستصحاب أصل، فذاك هو الذي يسمى تقابل الأصلين.
فهذا منتهى ما ذكرناه.
فصل
قال: " وإذا أعتق شركاً له في مرضه الذي مات فيه ... إلى آخره " (1) .
12363- ثلث مال المريض في تبرعاته ينزل منزلة مال الصحيح، فإذا أعتق المريض شقصاً له من عبد، إن كان في ثلثه وفاءٌ بالقيمة، سرى العتق إلى الباقي، سواء كان العبد خالصاً له أو كان مشتَركاً. ولو كان في الثلث وفاءٌ ببعض ما بقي، ففيه التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم.
ولو أوصى أن يعتق عنه بعضٌ من عبد، لم يقوّم عليه الباقي، وإن خرج من ثلثه؛ فإنه عِتْقٌ واقع بعد الموت، والموت يزيل الملك، ويُلحق الميت بالمعسرين، والثلث وإن كان محل وصاياه، فذاك لو أوصى بما يستغرق الثلث؛ وإذا لم يفعل، فحق الورثة مقدَّم مغلّب، ولو كان له شقص من عبد فأوصى أن يعتق عنه ذلك الشقص، ويسري العتق في باقيه من ثلثه، وكان الثلث وافياً، فلا خير في هذه الوصية؛ فإن الملك يزول بالموت، كما ذكرناه، وإذا زال الملك، فلا سريان له، والوصية إنما تنفذ بأمر يبتدىء بعد الموت، أو بأمر تُعلق وقوعه بالموت، والسراية لا تنشأ ولا تُعلق، والموت يزيل الملك، فيمتنع السريان، فإن أراد تكميل العتق أوصى بأن يُشتَرى نصيبُ صاحبه ويعتَق.
فرع:
12364- وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع في أثناء الكلام، أن أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه، وقلنا: إن نصيب شريكه لا يَعْتِق إلا مع أداء القيمة، وقلنا: المعتِق مطالب بالقيمة، ولا ينفذ تصرف شريكه في نصيب نفسه لكونه مستحقاً
__________
(1) ر. المختصر: 5/269.(19/226)
للسراية، فلو تلف مالُ الشريك، وصار معسراً، قال رضي الله عنه: ينطلق الحجر عن الشريك في حصته، ويتصرف فيها بما شاء، لأن شريكه قد أعسر، ولو كان معسراً ابتداء، لما أثر العتق في حصة الشريك، فكذلك إذا طرأ الإعسار، والتفريع على ما ذكرنا.
ثم قال: فلو أيسر الشريك، ووجد ما يفي بنصيب صاحبه، فلا يقوّم عليه نصيب الشريك بعد ذلك؛ فإن الطَّلِبةَ قد انقطعت عنه بتخلل إعساره، وارتفع حق العتق عن نصيب صاحبه، فلا يعود بعود المال. هكذا قال رضي الله عنه.
ويتطرق الاحتمال إلى موضعين من كلامه: أحدهما - أنه قال: انطلق الحجر بطريان الإعسار، والظاهر ما قال؛ فإن هذا القول مبني على رعاية حق الشريك، ولذلك فَصَلْنا بين أن يكون المعتق موسراً وبين أن يكون معسراً. ووجه تطرق الاحتمال مع ظهور ما قال أن عُلقة العتق تثبت، فيجوز أن يظن لزومها، وأما ما ذكر من أنه إذا عاد اليسار، لم يعُد حق العتق، ففيه احتمال. وهو أظهر؛ لأن علقة العَتاقة تثبت أولاً، فلئن طرأ عسر، فقد زال. والعلم عند الله.
***(19/227)
باب في عتق العبيد، لا يخرجون من الثلث
قال: " ولو أعتق رجل ستة مملوكين ... إلى آخره " (1) .
12365 - إنما فرض الشافعي الكلام في ستة مملوكين تيمناً بفرض المسألة في مورد خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عِمران بن حُصين في الحديث المشهور.
وغرض الباب أن من أعتق في مرض موته عبيداً لا مال له غيرُهم؛ وردَّ الورثةُ ما يزيد على الثلث، فمذهب الشافعي أنا نُقرع بين العبيد، ونُعْتِق مقدارَ الثلث منهم، مع طلب التكميل جهدَنا، حتى إذا أَعتق ثلاثةَ أعبد لا مال له غيرُهم، وكانت قِيَمُهم متساوية، فنُعِتق بالقرعة واحداً، ونرد اثنين، كما سنذكر كيفيةَ الإقراع.
وهذا مائل عن مقتضى القياس؛ فإن المريض لما أعتق العبيد، فقد أثبت لكل واحد منهم حقاً في العَتاقة نصاً، وإرقاقُ اثنين حرمانٌ لهما، والعتقُ من أعظم حقوق المعتَق، فإنه يملّكه نفسه، ويخلّصه من أسر الرق، والذي يقتضيه القياس أن نُعتق من كل واحد منهم ثُلثَه، ولكن قدم الشافعيُّ النصَّ الصريح على القياس؛ فإن عمران بنَ حصين روى أن رجلاً أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم، فَجرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة (2) .
فمعتمد المذهب الخبرُ إذاً، وكأنا نفهم من غرض الشرع طلبَ تكميل الحرية.
ولو قال المريض -والعبيد ثلاثة كما وصفناهم في استواء القيم- واحد منكم حر، فَنُعتِق واحداً، على ما سيأتي تفصيل ذلك.
12366- ولو قال: الثلث من كل واحد منكم حر، فهذا تنصيص على قصد التبعيض، وقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة على وجهين، فقال قائلون: إذا
__________
(1) ر. المختصر: 5/269.
(2) سبق هذا الحديث.(19/228)
صرح على هذا الوجه بقصد التبعيض، وجب اتباعه، وتنزيل العتق على حسب لفظه. وقال آخرون: هذا بمثابة ما لو قال: أعتقتكم، فإن العبيد كانوا خُلَّصاً له، ومن ملك عبداً خالصاً، فأعتق جزءاً منه، عَتَقَ كلُّه، ولا تعويل على لفظه في التبعيض، مع تنزيل الشرع ذكرَ الأشقاص في العبيد الخُلَّص منزلةَ ذكر الأشخاص.
ولو قال لعبيده: ثُلثكم حر، فقد أطلق الأصحاب القول بالإقراع في هذه الصورة؛ من حيث لم يصرح بقصد التبعيض.
وقد ينتظم قول من يقول: الواحد ثُلث الثلاثة، وهذا إذا لم يفسِّر هذا اللفظَ بإعتاق الثلث من كل عبد؛ فإن فسّره به، فهو كما لو صرح، وقد مضى الخلاف فيه، وإن بقي اللفظ مبهماً، فالقرعة مقطوع بها، فقد تبين وضع الباب.
وأما أبو حنيفة (1) ، فإنه قال: إذا أعتق العبيد الثلاثة، عتق من كل واحد منهم ثلثه، ويستسعى في قيمة ثلثين، ولا قرعة بحال. وقدم القياس الذي نبهنا عليه على الخبر الناص على [رأيه] (2) في المسائل المشتملة على الخبر وطرفٍ من النظر. ثم لم يستمسك بالقياس أيضاً، بل قال: لو قال المريض لعبيدٍ: أحدكم حر، يَعْتِقُ من كل واحد ثلثُه، ويُسْتَسْعى من البقيه، فلا هو تمسك بالخبر، ولا وفّى القياس حقه.
فإذا تمهد ما ذكرناه فكيفية الإقراع ذكره الشافعي في باب مفرد.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 382، المبسوط: 29/71، رؤوس المسائل: 541 مسألة: 399.
(2) في الأصل: " دابر ".(19/229)
باب كيفية القرعة بين المماليك وغيرهم
قال الشافعي: " أحب القرعة إليّ وأبعدُها من الحَيْف ... إلى آخره " (1) .
12367- أصل القرعة واجب عند الشافعي إذا أعتق المريض عبيداً، ولا يقوم غيرُ القرعة مقامَها، حتى لو فرض مراجعةُ شخصٍ لا غرض له في تعيين عبد لإرقاق أو إعتاق، فأطلق من يعتِق أو يرِق، فلا أثر لهذا، ولو فرض تعليقُ الأمرِ بنوعٍ من أنواع الغرر سوى القرعة، كتوقُّعِ طائرٍ لا يتصور الإحاطة به، أو ما جرى هذا المَجْرَى من أنواع الخطر، فلا حكم لذلك، والمتبع الإقراعُ الذي نص عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم الغرض تحكيم القرعة، على وجه لا يبقى فيه خيال المواطأة، والتسبب، ولسنا نضبط وجهاً من القرعة، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب: " أحب القرعة عندي وأبعدها عن الحيف رقاعٌ صغار ... إلى آخره ".
وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قسمة بعض الغنائم بالإقراع بالنَّوى، وروي: أنه أمر في بعضها بالإقراع بالبعر (2) .
12368- ثم مقصود الباب وإن كان لا يزيد على ما ذكرناه، ففيه أصول منقسمة: بعضها احتياط، وبعضُها واجب، فلا ينبغي أن يستهان بها، ونحن نذكر ما نرى ذِكْرَه، وغرضُنا مقصورٌ على تمييز الاحتياط عما يجب.
فأول ما نذكره أنه إذا تهيأ تجزئةُ العبيد ثلاثةَ أجزاء - ففي الإقراع مسلكان: أحدهما -
__________
(1) ر. المختصر: 5/269.
(2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم أمر في قسمة بعض الغنائم بالإقراع بالنّوى، وروي أنه أمر في بعضها بالإقراع بالبعر" قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: " لا أعرف له صحة، والله أعلم " (ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 7/477، التلخيص: 4/391 ح 2703) .(19/230)
أن تُكتَب أسامي العبيد في الرقاع: سالم، وغانم، ومبشر، ثم يقال: أخرج على الحرية اسماً، فإذا أخرج اسمُ عبد عَتَقَ ورَقَّ الباقيان.
والمسلك الثاني - أن يكتب الرق والحرية على عدد الأجزاء: الحرية في واحدة، والرق في اثنتين، ثم يقال: أخرج على اسم فلان، فإن خرجت الحرية عَتَقَ ورَقَّ الآخران، وإن خرج الرق عليه رَقَّ، وأخرجنا أخرى، فإن خرج الرق أيضاً، تعين الثالث للحرية، ورق الأولان، وإن خرجت الحرية، عَتَقَ هذا، ورَقَّ الأول والثالث.
وكِتبةُ الأسامي هاهنا أصوب؛ لأنها أقرب إلى فصل الأمر وأيسر؛ لأنا إذا كتبنا أسامي العبيد، نتخلص بالقرعة الأولى إذا كانوا ثلاثة، وإذا كتبنا الرق والحرية، فربما نحتاج في بعض الصور إلى الإقراع مرتين، وقد ذكرنا هذا في باب القسام، وذكرنا تردد الأصحاب، ثم أوضحنا الاتفاق على تجويز الأمرين، ورددنا الكلام إلى الأَوْلى، فقد ثبت في هذا المقام أنا لا نوجب أحد المسلكين.
12369- والذي يتعلق بما يجب أنا إذا كنا نُعتِق عبداً ونُرق عبدين، ورأينا كِتبة الرق والحرية، فقد قال الأصحاب: الرق ضعف العتق، فيجب أن تكون الرقاع على هذه النسبة، فنكتبُ للحرية رقعةَّ وَللرق رقعتين؛ لتكون الرقاع على نسبة المطلوب في الكثرة والقلة؛ فإن ما يكثر، فهو حَرِيٌّ بأن يسبق إلى اليد، وفي كلام الأصحاب ما يدل على استحقاق ذلك.
ومنهم من يقول هذا استصواب، وإلا فتكفي رقعة في الحرية، وأخرى في الرق، ثم يقال: أخرج إحداهما على هذا، فإن خرجت الحرية، انفصل الأمر.
ولكن إن خرج الرق احتجنا إلى إدراج الرقعة في البندقة مرة أخرى، والأَوْجَه أن هذا احتياط، ولا بد في الوجهين -كُتِبَت (1) أسماء العبيد، أو الرق والحرية- من تحكُّمٍ ممن يُرجع إليه، فإنه يقول: أخرج على هذا.
فلو قال الآخرون: ينبغي أن يخرج على أسمائنا، فإن الذي يبدأ به فقد عُرّض
__________
(1) ت 5: " ثبتت ".(19/231)
للحرية، وكذلك إن كتبت الأسماء، فقال من إليه الرجوع: أخرج اسماً على الحرية، فهذا تحكُّم، فهلا قال: أخرج اسماً على الرق.
فلو نازع فيه الورثة، وطلبوا الإخراج على الرق، وطلب العبد الإخراج على الحرية، فهذا مما لم يتعرض له الأصحاب، وفيه غائلة، فلا يمتنع أن يقال -لقطع الميل، وحَسْم التحكم إن كتب الرق. والحرية- أَقْرع أولاً بين العبيد، حتى يتعين من يُعرض على الرق والحرية، ثم إذا تعين واحد، أخرج على اسمه الرق أو الحرية.
فهذا وجه.
والآخر أن يكتب للرق رقعتان وللحرية رقعة، ثم يلقي إنسان لم يكن في الأمر إلى كل عبد رقعة، فهذا تحكيم القرعة في حقه.
فأما إذا قيل: أخرج باسم هذا، فقد قدّم، والتنافس في التقديم والتأخير تميز في القرعة، فهذا ما أردنا التنبيه عليه.
والأصحاب لم يذكروا هذا لا في وجوبٍ ولا في استصوابٍ.
12370- ومما يتعلق بما نحن فيه أن العبيد إذا أمكن تجزئتهم ثلاثةَ أجزاء والغرض تمييز الثلث عن الثلثين، فلا معدل عن هذا الضرب من التجزئة.
وإن كانوا على عدد وتفاوت في القيمة، بحيث لا يتأتى تجزئتُهم ثلاثةَ أجزاء، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يجوز تجزئتهم على غير التثليث، فيجزؤون على ما يسهل ويقرب، كما سنصف، فإن كانوا سبعة، وكان الأيسر أن نجزئهم سبعة أجزاء، فعلنا، وفي الثمانية نفعل الأيسر ونجزّئهم ثمانية أجزاء، ونكتب ثماني رقاع، وإن سهل تجزئتهم أربعة أجزاء، فعلنا وجمعنا في كل جزء اسمَ عبدين. ثم إذا خَرَجَت قرعةُ عبدين للحرية، أُعتقا، وأعدنا القرعة بين الباقين على ما يتيسر حتى نستوظف الثلث.
والقول الثاني - أنه لا يجوز إلا التثليث، أو مقاربةُ التثليث، على أقصى الإمكان؛ لأن القصد إعتاق الثلث، ففي السبعة نجعل اثنين جزءاً، واثنين جزءاً، وثلاثة جزءاً، إذا كان هذا أقرب. وفي الثمانية نجعل ثلاثةً في قرعة، وثلاثةً في قرعة، واثنين في(19/232)
قرعة، ونعوّل في هذا التقريب تعديلَ القِيَم، فقد يقتضي الحال جعلَ عبدين في قرعة وعبيد في قرعة.
ثم على القول الأول إن جعلنا الثمانية أرباعاً، فعَتِق اثنان، أعدنا القرعة بين الستة، وجعلنا كل اثنين في قرعة، فإذا خرج اسم اثنين، فنعيد القرعة بينهما إذا كانت القيم متساوية، فمن خرجت عليه قرعة الحرية منهما عَتَق منه تكملةُ الثلث، وهو ثلثاه.
ثم ما ذكره القاضي أن هذا الاختلاف في الاستصواب، وما ذكره الصيدلاني أن القولين في استحقاق هذا، ثم التقريب من الثلث مجوّز على القولين.
فأما التجزئة على الأيسر من غير مراعاة التقريب من التثليث ففيه القولان، والوجه عندنا القطع بأن هذا تردُّدٌ في الأصوب، لا فى الاستحقاق.
ولو أعتق عبدين لا مال له غيرُهما، فلا وجه إلا أن نجعلهما سهمين، فمن خرج عليه سهمُ الحرية، عَتَقَ منه مقدار ثلث التركة، وهذا باب يتبرم بالتطويل فيه كل محقق، وغرض الباب ما نبهنا عليه.
12371- ثم قال: " وإن كان عليه دين يحيط ببعض رقيقه ... إلى آخره " (1) .
إذا كان في التركة دينٌ وعِتقٌ، فالمطلوب ثلاثة أشياء: الدينُ، والعتقُ، وحقُّ الورثة، والكلام مفروض فيه إذا لم يكن الدين مستغرقاً، فإنه إذا استغرق، بطل به العتق، وحق الورثة.
ثم قال الأئمة: إذا لم يكن الدَّيْن مستغرقاً، أقرعنا بين الدَّيْن والتركة أولاً، فنميز الدين ما يخرج عليه القرعة، والدين وإن كان مقدماً على حق الورثة، فالقرعة إذا ميّزت شيئاً للتركة -وفيها العتق وحق الورثة- فمن ضرورتها أن تميز الدين، فإن أحد السهمين إذا تعين لجهة، تعين الآخر للجهة الأخرى إذا تعينت جهتان.
فإن قيل: هلا قدمتم الدين تحكماً؟ قلنا: لا غرض في هذا، ولا سبيل إلى إبطال العتق من غير غرض.
__________
(1) ر. المختصر: 5/270.(19/233)
ثم لو كان الدين ثلثاً مثلاً، والعتق مقداراً يخرج من الثلث بعد الدين، فأردنا أن نثُبتَ ثلاثَ رقاع: واحدة للدين، وواحدة للعتق، وواحدة للورثة، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - أنه يجوز؛ فإنه لا ينتقص بما نفعله حقٌّ. والثاني -وهو الأصح- أنه لا يجوز؛ لأن قرعة العتق ربما تخرج أولاً، فإن لم نحكم بها، فقرعة باطلة، وإن حكمنا بها، فقد نفذنا الوصية، والدينُ بعدُ قائم، وهذا لا وجه له.
ثم الذي نراه في ذلك أنا إذا فرّعنا على الوجه الصحيح بين الدَّين والتركة، فخرجت قرعة الدين على عبدٍ، وكان فيه غُنية، فلا ينبغي أن نُقرع للعتق ما لم نؤدِّ الدين؛ فإن الدين لا يزول بتعين مالٍ له؛ بدليل أن ما يُعيَّن له لو تلف قبل التسليم، انعكس الدين على ما بقي من التركة، فلا وصية ولا ميراث ما بقي من الدين درهم.
ولو قيل: نُخرج القرعةَ على الحرية، ثم لا يقع الحكم على البت إلى تأدية الدين، فهذا فيه نظر؛ فإنها قرعة لا نفاذ لها، ووضع القرعة ألا تنشأ إلا في وقت ينفصل بها الأمر.
وهذا التردد في مضمون هذا الفصل دائر على [الوجوب] (1) ، لا على الاستصواب. وهذا سر الباب. وهو تمييز الاحتياط عن الاشتراط.
12372- ثم قال: " فإن ظهر عليه دين بعد ذلك ... إلى آخره " (2) .
إذا أعتقنا واحداً بالقرعة، ولم ندر أن في التركة ديناً، ثم ظهر دين فإن كان مستغرقاً، فالعتق مردود، وإن لم يكن مستغرقاً، وكان تأدية الدين ممكناً مع تنفيذ العتق، فهل تُنْقَضُ القرعة؟ وهل تُردُّ الحرية؟ في المسألة قولان، وهذا بعينه هو الذي مهدناه في باب القسام، إذا (3) قلنا: إذا جرت قسمةٌ ثم ظهر دين، فالقسمة هل يتبين انتقاضها؟ أم يمكن تقريرها؟ وقد سبق تمهيد هذا، وسيأتي في فروع ابن الحداد كلام جامعٌ فيما يَنْفُذ من التصرفات في التركة مع الدين، وفيما يمتنع نفوذه.
__________
(1) في الأصل: " الوجوه "، والمثبت من (ت 5) .
(2) ر. المختصر: 5/270.
(3) إذا: بمعنى " إذ ".(19/234)
12373- ثم قال: " فإن أعتقت ثلثاً وأوقفت ثلثين بالقرعة، ثم ظهر له مال ... إلى آخره " (1) .
إذا أعتق عبيداً، وكنا نحسب أنه لا مال له غيرهم، فأعتقنا واحداً وأرققنا اثنين على ما يقتضيه التثليث، وقيمة كل عبد مائة، فلو ظهر له مائة درهم، أعدنا القرعة بين اللذين أرققناهما، وقد مضى العتق فيمن أعتقناه، فمن خرجت عليه القرعة مِن العبدين، حكمنا بعتق ثلثه، وإن ظهر له مائتا درهم، أعتقنا من أحد العبدين ثلثيه، وإن ظهر له ثلاثمائة درهم، أعتقنا كله مع ما أعتقنا أولاً، ولا يخفى هذا.
ثم اندفع الأصحاب في مسائل دورية تتعلق بالكسب، وزيادة القيمة ونقصانها، وقد جمعنا في كتاب الوصايا ما لا يُحْوِجُ إلى الإعادة، وجمعنا ما يتعلق بالحساب من مسائل الفقه في موضع واحد، فليتأملها من يريدها. والله أعلم.
فصل
12374- إذا أعتق عبداً لا مال له سواه في مرض موته، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، فهذا مما ذكرته في أثناء دَوْر الوصايا، ولكني أعيده لمزيدٍ فقهيّ، فأقول: حاصل ما ذكره الأصحاب في ذلك ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنا نحكم بأنه مات حراً كله، لأنه ليس يبقى هاهنا شيء، ولو كان على الرق، لما كان موروثاً؛ إذ مات قبل موت المورِّث، لأن حق الوراثة إنما يثبت فيما يخلّفه المتوفى.
والوجه الثاني - أنه مات رقيقاً كله، لأنه إنما يخرج بالوصية مثل نصف ما يبقى للورثة، والعتق في المرض وصية، وإذا كان لا يبقى للورثة شيء لا ينفذ من العتق شيء.
وقال القفال: يموت ثلثه حراً، وثلثاه رقيقاً؛ لأنه لو عاش، عاش على الرق والحرية، فإذا مات مات عليهما.
وإذا أعتق في المرض عبداً، وله مال سواه، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، قال
__________
(1) ر. المختصر: 5/270.(19/235)
جماهير الأصحاب: لا يحسب ذلك العتق من الثلث، حتى يزاحم أرباب الوصايا، بل نجعل كأن ذلك العبد لم يكن؛ لأن الوصية إنما تتحقق بالموت، فإذا لم يبق إلى الموت، لم يدخل في حساب، وهذا مذهب من يقول في المسألة الأولى إذا أعتق عبداً لا مال له سواه ومات قبل مولاه، فهو حر كله، أو رقيق كله، فأما على طريقة الشيخ (1) فحكمه بعد ما مات كحكمه لو بقي حياً، فعلى هذا يُحسب من الثلث، ويُزاحِم أرباب الوصايا.
ولو وهب عبداً، وأقبضه، فتلف في يد المتهب قبل موت الواهب، ولم يكن للواهب مال غيره، فتلفه في يده بمثابة ما لو أعتقه ومات قبل موت المولى؛ فإن الهبة تبرع كالعتق، ولو وهبه وسلّمه وله مال غيره، فتلف في يد المتهب، فهو كما لو أعتقه، وله مال غيره، فتلف، فالتلف بعد تمام الهبة في الصورتين، حيث لا مالٌ غيُر الموهوب، وحيث يثبت مالٌ غيرُه بمثابة الإعتاق.
ولو وهب العبدَ وسلمه، فأتلفه الموهوب، فهو كما لو كان باقياً، حتى إن كان سواه مال، حسب الموهوب من الثلث، وإن لم تخرج قيمته من الثلث يجب عليه أن يغرم للورثة ما يزيد على الثلث.
فإن قيل: هلا جعلتم التلف في يده بمثابة إتلافه؟
قلنا: إذا تلف في يده، فقد تلف لا على جهة الضمان، فإن الهبة ليست مضمّنة، والإتلاف مضمِّن على كل حال.
وهذا فيه نظر للمفكر؛ فإنا إذا كنا على وجه نحسب المعتَق الذي مات قبل موت المولى من الثلث، يجب طرد ذلك الموهوب الذي مات في يد الموهوب له قبل موت المَوْلى، ثم إذا حسبنا من الثلث، فمعناه أن الثلث لو ضاق عن احتماله، فالزائد على الثلث يكون باقياً في يده لغيره، وإن كان على حكم الهبة، فهو بمثابة ما لو وهب الغاصب العينَ المغصوبةَ وقبضها الموهوب له على ظن أن الواهب مالك، فإذا تبين
__________
(1) الشيخ: المراد به هنا: القفال.(19/236)
بخلاف ذلك، فقد نقول -على قول صحيح- يستقر الضمان على الموهوب له، ثم إن قطع تبعة الضمان في التلف، جاز ذلك في الإتلاف.
الدليل عليه أن الواهب في [حياته] (1) لا يطالب الموهوب منه، سواء تلف في يده، أو أتلفه، فقد تبين وجه التردد في المسألة.
12375- ولو أعتق ثلاثةَ أعبد، قيمةُ كل واحد مائة، فمات واحد منهم قبل موت المعتِق، فالذي أطلقه الفقهاء والدَّوريّون أنا ندرج الميت في القرعة؛ حتى لو خرجت القرعة على الميت، بان أنه مات حراً.
وهذه المسألة تناقض المسألة الأولى؛ فإنا بنينا كلامنا فيما تقدم على أن الميت كالفائت؛ من حيث إنه لا يبقى للورثة لو قُدّر رقيقاً؛ فالذي يقتضيه القياس أن نقول: إذا مات واحد من العبيد الذين أعتقهم، أخرجناه من البَيْن على قياسنا في العبد الواحد، وجعلنا كأنه أعتق عبدين لا مال له سواهما، أو له مال غيرهما، ومن رام فرقاً في ذلك لم يجده. نعم، لو أعتق عبيداً، ثم نقصت قيمة واحد منهم، فلا شك أنا ندرجه في القرعة، فلو خرجت القرعة عليه، فالمقطوع به للأصحاب أن ذلك النقصان غير محتفل به؛ فإن القرعة إذا اقتضت حرية في شخص، فالحر لا تنتقص قيمته، وهذا مما استقصينا القول فيه في قاعدة الدور، والمسألة من غمراته.
ولو أعتق ثلاثة أعبد وجرينا على ما ذكره الأصحاب في إدخال الميت في القرعة، وقد مات منهم عبد قبل موت المولى، فالحكم ما قدمنا.
وإن قتل، فخرجت القرعة على المقتول، فعلى القاتل الدية لورثته، فإنا تبيّنا أن القتل صادف حراً، وإن خرجت قرعة الحرية على أحد الحيين عَتَقَ، وعلى قاتل العبد القيمة، والقيمة تركة.
12376- ومما ذكره الأصحاب أنه إذا أعتق ثلاثة أعبد كما ذكرناه، لا مال له غيرهم ومات المريض، ثم مات أحد العبيد بعد موته - قال الأصحاب: إن حصل
__________
(1) في الأصل: " في حقوقه ". والمثبت من (ت 5) .(19/237)
الموت ويد الوارث غيرُ واصلة إلى التركة، وكان مَحُولاً (1) دون العبيد، لم يحسب الميت عليه، حتى إذا وقعت القرعة على أحد الحيين عتق ثلثاه؛ فإنه لم يَسْلَم للورثة ما فات، فإن خرجت القرعة على الذي مات، فهو الحر، والعبدان الباقيان الثلثان.
فإن قتل أحد العبيد بعد موت المعتق، فقيمته معتبرة قائمة مقام [العبد] (2) ، فإن خرجت القرعة على الميت، حكم بعتقه (3) ، وعلى القاتل الدية.
فإن مات واحد منهم كما ذكرناه، والتركة في يد الوارث، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أنه غير محسوب على الوارث، كما إذا تلف والتركة خارجة عن يد الوارث، حتى إذا خرجت القرعة على أحد الحيّين، عَتَق ثلثاه فحسب، وذلك لأن الحيلولة الشرعية واقعة من حيث إنه ممنوع من التصرف فيهم قبل تفصيل الأمر وإخراج سهم العتق.
والوجه الثاني - أن الميت محسوب على الورثة، لأنه تلف في أيديهم، وهذه المسألة مما يجب الاعتناء بأطرافها والاستمداد فيها بما ذكرناه في صور الدَّوْر عند فرض النقصان في قيمة العبد. ولم نغادر نحن شيئاً من البيان والتنبيه. ولكن الأمر على ما وصفناه.
فصل
قال: " ولو قال في مرضه: سالم حر، وغانم حر ... إلى آخره " (4) .
12377- التبرعات المنجزة في مرض الموت يقدم الأسبق منها، فالأسبق، حتى إذا أعتق عبيداً على الترتيب، كلُّ واحدٍ ثُلثُ ماله، عَتَقَ الأول منهم، وَرَقَّ الباقيان، ولا قرعة، وإنما تجرى القرعة إذا أعتقهم جمعاً.
__________
(1) أي كانت هناك حيلولة بين الورثة والعبيد، فلم يَفُت العبد الذي مات وهو تحت يده.
(2) في النسختين: " العبيد ".
(3) ت 5: " فلم نعتِقُه "؟ (بهذا الرسم وهذا الضبط) .
(4) ر. المختصر: 5/271.(19/238)
ثم ما ذكرناه جارٍ في جميع التبرعات إذا انتهت نهاياتها.
فلو أعتق، ثم حابَى، فالعتق مقدم، ولو حابى، ثم أعتق، فالمحاباة مقدمة، ولو وهب وسلم، ثم أعتق، فالهبة مقدمة؛ طرداً للقياس في جميع التبرعات.
ولو وهب ولم يسلم، ثم حابى، فالمحاباة مقدمة، ولا اعتبار بالهبة من غير إقباض، ولأبي حنيفة تفصيل في المحاباة والعتق، لسنا له بعد ما أوضحنا مذهبنا.
ثم قد أجرينا في مسائل الطلاق (1) وغيرها أموراً متفرعة على هذه القاعدة. فلو قال: سالم حر، وغانم حر، فقد قدم سالماً في إيقاع العتق به، ولا نظر إلى أن الواو لا تُرتّب، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق؛ فإنه لا تلحقها إلا الطلقة الأولى.
ولو أوصى بإعتاق سالم بعد موته، ثم أوصى بعد ذلك بإعتاق غانم، وجرت إحدى الوصيتين بعد الأخرى من طريق الزمان؛ فإذا ضاق الثلث، أدخلنا جميع العبيد في القرعة، ولا حكم للتقدم والتأخر في الوصايا، والسبب فيه أن الموت يجمع الوصايا، وإنما تنفذ عند الموت، فلا حكم لترتيب ذكرها والموت جامعها إلا أن يصرح باعتبار التقديم في بعضها، كما مهدنا ذلك في الوصايا.
واختلف أصحابنا في صورةٍ، وهي أنه لو دبّر عبداً، وأوصى بإنشاء عتق عبد آخر بعد موته، فالتدبير يقتضي وقوعَ العتق في المدبر بالموت من غير إيقاع، والعتق الموصى بإنشائه يستأخر وقوعه عن الموت لا محالة، فهل يقدم عتقُ المدبر على العتق الموصى به؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - أنا نقدم عتق المدبر فيما نبهنا عليه، ولعل الأصح أن لا تقديمَ؛ فإن العتق الموصَى به يصير مستحقاً بالموت، فليقع التعويل على الاستحقاق، لا على الإنشاء.
وليت شعري ماذا يقول صاحب الوجه الأول فيه إذا قال: أعتقوا يوم موتي عبداً، وأعتقوا بعد موتي بشهر عبداً، والعلم عند الله.
__________
(1) ت 5: " مسائل الرقاب ".(19/239)
فصل
قال: " ولو قال لعشرة أعبد: أحدكم حر ... إلى آخره " (1) .
12378- إجمال العتق بين عبيد بمثابة إجمال الطلاق بين نسوة، وقد قدمنا مسائل إبهام الطلاق في بابٍ من كتاب الطلاق، وأتينا فيه بما يجب، ولكنا نظن أن ذكر إبهام العتق [لا يضرّ، والتزام الإعادة] (2) لتوقع مزيد إفادةٍ أولى.
فنقول: إذا أعتق عبداً من عبيد، فقال: أحدكم حرْ، لم يخلُ إما أن يُطلق ولا ينوي أحدَهم بالقلب، أو ينوي بالقلب واحداً منهم، فإن نوى واحداً منهم عَتَقَ ما نواه، وكان المعيّن بالنية كالمعين لفظاً، ثم ننظر.
فإن أبهم، ثم عيّن، وزعم أن من عينه ذكراً، هو الذي نواه عقداً، فإن صدقه العبيد، فلا كلام، وإن كذّبوه، فالقول قوله مع يمينه؛ فإن النية عاملةٌ وفاقاً، والرجوع في تفصيل النية إلى الناوي، وهذا أصل ممهد.
وإن نكل عن اليمين، حلف من يدعي أنه عناه، وعَتَق الأول بإقراره، والثاني بنكوله وردِّ اليمين، ولسنا نتعدى هذا الحد، فنقع في المعادات قطعاً.
12379- ولو أبهم العتقَ، وجب عليه البيان؛ حتى إذا امتنع منه، حُمل عليه بالحبس، وهذا عندي فيه إذا لم يعيِّن بقلبه أحداً، وكان تعيينه موكولاً إلى مشيئته، فإذا امتنع، صار كالذي يسلمُ على نسوة زائدات على العدد الإسلامي؛ فإنه مجبر على أن يعين عددَ الإسلام.
ولو قال: عيَّنت بقلبي واحداً من العبيد، وهو على ذُكري، فهو مجبر أيضاً، وإن قال: عينت بقلبي، ثم أُنسيت من عينته حالةَ اللفظ، فهل يحبس والحالة هذه؟ هذا فيه احتمال. والذي أطلقه الأصحاب الحبس. وعندي أني ذكرت ذلك في مسائل إبهام الطلاق.
__________
(1) ر. المختصر: 5/271.
(2) في الأصل: " لا يورد التزام الإعادة ". والمثبت من (ت 5) .(19/240)
ولو أبهم العتق بين جاريتين، ثم وطىء إحداهما، فإن كان عيّن بقلبه واحدة منهما، فلا يكون الوطء بياناً؛ لأن المعتقة معلومة له، فلا أثر للوطء في التعيين، فإن زعم أن الموطوءة هي التي لم أردها بالعتق، صُدّق لقوله لا للوطء، فإن قال: عنيت بالعتق التي وطئتها، فقد وطىء حرة، ولا يخفى الحكم.
وإذا نوى بالقلب كما ذكرناه، فالوارث يقوم مقامه في البيان، كما ذكرنا بناء على سماعه منه، وهذا فيه إذا عين بقلبه، ولو قال الورثة: لا نعلم، وقد سمعناه يقول: عيّنْت بقلبي، فليس إلا الوقف إلى البيان.
ولو لم يعين بقلبه أحداً، بل أطلق إبهام العتق، فإليه التعيين، ثم التعيين إلى إرادته، وليس هذا من البيان في شيء، ولو عين واحداً، لم يكن للباقين منازعته، والدعوى عليه، وهذا واضح.
12380- ثم إذا عيّن واحداً وكان الإعتاق مطلقاً، لا نية معه، فالعتق يقع يومَ اللفظ أو يوم التعيين؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع يومَ اللفظ؛ فإن العتق يستدعي لفظاً يقع به؛ بدليل أنه لو أطلق ولم يعين بقلبه، ثم عين من بعدُ بقلبه، لم يؤثر تعيين القلب إذا تأخر عن اللفظ، فدلّ أن اللفظ لا بدّ منه.
والوجه الثاني - يقع العتق [يوم اللفظ ويتبيّن المحلّ يومَ التعيين] (1) . وعبر الأئمة عن الوجهين، فقالوا: نقول في وجهٍ، العَتاق واقع في عين (2) ، ونقول في وجهٍ، هو ملتزم في الذمة مستحَقُّ الإيقاع في واحد من هؤلاء، فعلى هذا يقع يومَ التعيين.
ولو أبهم العتقَ بين عبدين، ولم يعين بقلبه، فإذا مات أحدهما، فهل له تعيين العتق في الميت؟ فهذا يخرج على الوجهين: إن قلنا: العتق يقع يوم التعيين، فلا سبيل إلى ذلك؛ لأن الميت لا يقبل العتق، فعلى هذا يتعين له من بقي، ولا حاجة إلى لفظه.
__________
(1) عبارة الأصل: " يقع العتق بيوم اللفظ، ويبيّنُ اليومَ يومَ التعيين ". بهذا الرسم وبهذا الضبط، والمثبت عبارة (ت 5) .
(2) ت 5: " في غيره ".(19/241)
وإن قلنا: العتق وقع باللفظ، فتعيين الميت له جائز؛ فإنه مستند إلى ما قبل الموت، والتعيين بيان.
12381- وإذا أبهم العتقَ بين جاريتين من غير نية بالقلب، ثم وطىء إحداهما، فهل يحصل بالوطء التعيين؟ فعلى وجهين: وهما جاريان في إبهام الطلاق من غير تعيين بالقلب، وأبو حنيفة (1) يفصل بين إبهام العتاق وإبهام الطلاق، فيجعل الوطء [تعييناً] (2) للطلاق، ولا يجعله تعييناً للعَتاق، ولا فصل عندنا في إجراء الوجهين.
ثم إن جعلنا الوطء تعييناً، فلو استمتع فيما دون الفرج، أو قبّل، أو لمس بالشهوة، فهل يقع التعيين بهذه الجهات من الاستمتاعات؟ فعلى وجهين مرتبين على الوطء. ثم إن جعلنا هذه الضروب تعييناً، فهل نجعل الاستخدام تعييناً للملوكة؟ فعلى وجهين مرتبين على الاستمتاع. هكذا ذكره القاضي. وهذا يوجب لا محالة طردَ الخلاف في أن الاستخدام هل يكون فسخاً أو إجازة في زمان الخيار، وكان قَرَعَ مسامعي هذا التردد من الخلافيين، حتى وجدته مصرَّحاً به للقاضي.
12382- وإذا كان العتق المبهم مطلقاً، لم يقترن به تعيين القلب، فلو مات المبهِم قبل البيان، فالورثة هل يقومون مقامه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم يخلفونه في البيان والتعيين؛ لأن ذلك كان من حق المبهِم في حياته، وهو متعلق بالأموال، فيخلفه الوارث فيه. والقول الثاني - أن الوارث لا يقوم مقامه؛ فإن التعيين في حكم تكميل اللفظ، فينبغي أن يصدر من المتلفظ بالعتق لا غير، والقولان يقربان مما ذكرناه في أن التعيين إيقاعٌ أو بيان مستبد (3) ، فإن جعلناه إيقاعاً، فقد قال القاضي: يقوم الوارث فيه مقام الموروث، فإنه يوقع العتق عن الموروث بأمره أو بتأدية كفارة عنه.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 4/103، 104، تحفة الفقهاء: 3/393، طريقة الخلاف: 155 مسألة: 65، إيثار الإنصاف: 2/393.
(2) في الأصل: " تبييناً "، والمثبت من (ت 5) .
(3) ت 5: "مستند".(19/242)
وإن قلنا: هو التزام، والتعيين ليس إيقاعاً، فالوارث لا يقوم مقامه.
ْوهذا عندنا بالعكس أولى؛ فإنا إن جعلناه إيقاعاً، فهو تتمة اللفظ، ولا يجوز أن ينقسم لفظ في الإيقاع بين شخصين، ولا حاجة عندي إلى هذا البناء. ولو قيل: يجري القولان على المسلكين، لم يبعد، وهما مستقلان بالتوجيه من غير بناء.
ثم إن أقمنا الورثة مقامه في التعيين، فلا كلام، وإن لم نُقمهم مقامه، فلا طريق إلا الإقراع، فمن خرجت عليه قرعة الحرية نزلت القرعة منزلة التعيين.
***(19/243)
باب عتق من يعتق بالملك
قال: " من ملك أحداً من آبائه وأمهاته ... إلى آخره " (1) .
12383- من ملك أباه أو ولده أو أمه، عَتَقَ عليه، وهذا لا يتعلق بكل قرابة، بل كل شخصين بينهما بعضية، فهذا المعنى جارٍ بينهما، فالأصل يعتِق على الفرع، والفرع على الأصل، ولا يختص بذلك قريبٌ عن بعيد، ولا وارثٌ عمن لا يرث، والتعويل على البعضية، ورب حكم يتعلق بالوالد والولد، ثم يضطرب الأصحاب في أن غير الوالد هل يقوم مقام الوالد، كالرجوع في الهبة على ما تقدم في موضعه، وليس هذا الذي نحن فيه محل توقع الخلاف أصلاً، بل العتق جارٍ بالبعضية، كما يجري استحقاقُ النفقة متعلقاً بها، ولا يَعْتِق قريبٌ على قريب إذا وقعا حاشية من عمود النسب، فلا يعتِق أخ على أخ؛ طرداً لذلك في جميع القرابات الذين لا بعضية بينهم، وخلاف أبي حنيفة (2) في ذلك مشهور.
فصل
قال: " ومن ملك شقصاً من أحد منهم بغير الميراث ... إلى آخره " (3) .
12384- إذا ملك الرجل شقصاً من عمودي نسبه عَتَقَ عليه، ولا ننظر إلى جهة حصول المِلك.
ومقصود الفصل الكلامُ في أن العتق هل يسري؟ وضبط المذهب في النفي
__________
(1) ر. المختصر: 5/271.
(2) ر. رؤوس المسائل: 539 مسألة: 397، طريقة الخلاف: 144 مسألة: 60، إيثار الإنصاف: 182، الغرة المنيفة: 165، حاشية ابن عابدين: 5/64.
(3) ر. المختصر: 5/271.(19/244)
والإثبات: أنه إن ملك الشقص مِلْكَ اكتساب واختيار، وكان الملك مقصوداً في تلك الجهة، فإذا حصل العتق فيه، والمتملك موسرٌ، سرى العتق من ذلك الشقص إلى الباقي. فإذا اشترى، أو اتهب، أو أوصي له، فقبل، سرى العتقُ إذا كان موسراً.
وإن حصل الملك في ذلك الشقص لجهةٍ ضرورية كالإرث، عتق ما ملك، ولم يقوّم عليه الباقي، باتفاق الأصحاب.
وإن أُوصي له ببعض أبيه، ومات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول، فِمن الأصول الممهدة في الوصايا أنا نقيم وارث الموصى له مقام الموصى له في القبول عنه، ومن الألفاظ الجامعة في ذلك أن قبول الوارث ينزل منزلة قبول الموروث الموصى له، والقول في ذلك يليق بقاعدة عظيمة من الوصايا سبقت على أبلغ وجه من البيان في موضعها، ولكنا نذكر مقدار غرضنا الآن من هذا الفصل.
فنقول: إذا مات الموصى له قبل القبول، وقد أُوصي له ببعض أبيه، فإن قبل الوارثُ، فإن كان في ثلث الموصى له وفاء بقيمة الباقي، قوّم عليه، لما ذكرناه من تنزيل قبول الوارث منزلة قبوله، ويصير كأنه تولى القبول بنفسه.
وفي هذا وقفة على المتأمل؛ من جهة أن القبول حصل من غير اختيارٍ إلى (1) الموصى له، وقد ذكرنا أن الملك إذا حصل في شقصٍ، لا على جهة الاختيار، فلا تقويم ولا سراية، ولكن الأصحاب ذكروا ما قدمناه، وقطعوا القول به لما أشرنا إليه.
وإنما يحسن فرض هذه المسألة، حيث يعتق ذلك الشقص على الميت، ولا يعتق على وارثه، مثل أن يوصى له ببعض [ابنه] (2) وأخوه وارثه، فإذا مات، ولم يقبل، وقبل أخوه، فالأمر على ما ذكرناه نقلاً واحتمالاً.
ولو أُوصي للرجل بقسطٍ ممن لا يَعتِق عليه، ولكن كان يَعتِق على وارثه، وذلك بأن يوصى له ببعضٍ من ابن أخيه، وأخوه وارث، فمات ولم يقبل، ثم قبل أخوه وهو
__________
(1) ت 5: " من غير اختيار الموصى له ".
(2) في (ت 5) : " ببعض أبيه ".(19/245)
الوارث، فلا شك أن ذلك القدر يعتق، وفي تقويم الباقي على هذا الوجه وجهان:
أحدهما - يقوّم، لأنه اختار تملكه، وتسبّب إليه. فصار كما لو اشترى أو اتهب، أو قبل وصيةً كانت له.
والوجه الثاني - أنه لا يقوّم عليه؛ لأن قبوله يدخله في ملك موروثه، ثم ينتقل الملك إليه إرثاً، فلا يتجرد القصد.
ولو باع الرجل بعضَ ابن أخيه بثوبٍ، ثم مات، وأخوه وارثه، والثوب في التركة، فلو ردّ مشتري الشقص ما اشتراه بعيب وجده، واسترد الثوبَ، عَتَقَ ذلك القدرُ، ولا يقوّم الباقي عليه، لأن هذا الشقص ارتد إلى ملكه ضرورة.
ولو أن هذا الوارث اطلع على عيبٍ بالثوب، فرده، وعاد إليه الشقص من ابنه، وعتق عليه، ففي تقويم الباقي عليه وجهان: أحدهما - أنه يقوم عليه لتسببه إلى ملك الشقص بطريق الرد. والثاني - أنه لا يعتق عليه، لأن مقصوده ردُّ الثوب، وعين المسترد ليس مقصوداً، بدليل أن الرد في الثوب يجري، والمستَردُّ تالف، ثم الرجوع إلى قيمته. فهذا إذاً من الصنف الذي قدمناه.
وإذا مَلك المكاتب بعض ابن مولاه، أو بعض أبيه، فلو عجّز المكاتَب نفسه، عاد ذلك القدر إلى المولى، وعتق عليه، ولا يقوّم عليه الباقي، وإن عجّزه السيد، ففي تقويم الباقي عليه وجهان: أحدهما - يُقوّم عليه لاختياره، والثاني - لا يقوّم، لأن قصده التعجيز، وعودُ ذلك القدر يحصل ضمناً. فقد تمهد محل الوفاق والخلاف في ذلك.
فصل
قال: " وإن ورث منه شقصاً.... إلى آخره " (1)
12385- المريض إذا ورث شقصاً ممن يعتق عليه، وهو في مرض موته، فهل نقول: العتق فيما ملكه من ثلثه؟ في المسألة وجهان:
__________
(1) ر. المختصر: 5/271.(19/246)
أحدهما - أنه من ثلثه، لأنه عتقٌ ترتب على حصول الملك في مرض الموت، فأشبه ما لو اتهب المريض عبداً، ثم أعتقه، فالعتق من ثلثه -وإن كان استفاده بتبرع عليه-.
والوجه الثاني - أن العتق في الشقص الموروث لا يكون محسوباً من الثلث لعلتين: إحداهما - أنه ملك حصل بغير اختيار، والعتق فيه ضروري حيث يحصل، فهو خارج عن قبيل التبرعات، بل هو عتق مستحق شرعاً في ملكٍ ثابتٍ شرعاً، هذا أحد المعنيين. والمعنى الثاني - أنه ملك لم يَبْذُل في مقابلته عوضاً.
ولو اتهب من يعتق عليه، أو قَبِله وصيةً، وهو في مرض موته، فالعتق هل يحسب من ثلثه؟ في المسألة وجهان مرَتبان على الوجهين فيما يحصل إرثاً، فإن قلنا: ما حصل إرثاً، فالعتق فيه محسوب من الثلث، فلأن يحسب ما نحن فيه من الثلث أولى.
وإن قلنا في الموروث: إنه لا يحسب من الثلث، فهاهنا وجهان مبنيان على المعنيين. ولا يخفى وجه التلقي منهما.
12386- ومما ينبني على ذلك أنه لو ورث ابنه في مرضه، ثم مات المريض، فهل يرثه الابن الذي عَتَقَ عليه؟ هذا يخرج على الخلاف الذي قدمناه في أن العتق الحاصل بهذه الجهة هل يكون محسوباً من الثلث أم لا؟
فإن قلنا: لا يحسب من الثلث، ورثه الابن، وإن قلنا: العتق محسوب من الثلث، لم يرث، لأن العتق وقع وصية له، فلو ورّثناه، لاقتضى ذلك ردّ الوصية، وفي ردها إرقاقه وإخراجه عن كونه وارثاً.
وإذا ورث ابنَه أو أباه، كما صورناه، ولا مال له سواه، فكم يعتق منه؟ في المسألة وجهان: إن قلنا: إنه من الثلث، عَتَقَ ثلثُه، ورق ثلثاهْ للورثة، وإن قلنا: هو من رأس المال، عتق كله.
فإن قيل: لم تذكروا خلافاً فيه إذا اتهب عبداً في مرضه وأعتقه؟ قلنا: لأن ذاك تبرع منشأ على الاختيار في ملكٍ حاصل، ولو ورث عبداً وأنشأ إعتاقه في مرضه، فلا(19/247)
خلاف أيضاً في احتسابه من الثلث، ولا خفاء بذلك.
ولو ورث في مرضه أباه وعليه ديون مستغرِقه، فهل يعتِق عليه؟ إن قلنا: هو محسوب من الثلث، لم ينفذ العتق، وإن قلنا: العتق محسوب من رأس المال، نفذ، ولم ينافه الدين.
ولو اشترى المريض أباه، وعليه ديون مستغرِقة بثمن المثل، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يصح الشراء، ولا يعتِق عليه، بل يباع في دينه؛ فإنه من أهل التملك؛ فصح تملكه، وامتنع العتق لمكان الدين، والوجه الثاني - أنه لا يصح الشراء أصلا؛ فإن شراء الأب عقدُ عَتاقة، فإذا لم يمكن تحصيل العَتاقة، وجب إبطال العقد.
وإذا لم يكن على المريض دين، فاشترى من يعتِق عليه، فالعتق يحصل من ثلثه، ولا يرث الأبُ في هذه الصورة؛ فإن العتق يقعُ وصيةً، وجهاً واحداً، وهذا إذا اشتراه بألف وقيمته ألف، فالأمر على ما ذكرناه، وإن اشتراه بخمسمائة، وقيمته ألف، فالمحاباة ليس في مقابلتها إخراج مال، فذلك القدر من المشترى ينزل منزلة ما لو اتهب من يعتق عليه في مرضه، وقد ذكرنا في أنه هل يحسب من الثلث وجهين، والمقدار الذي يقابل العوض يحسب من الثلث.
فصل
قال: " وإن وُهب لصبي من يعتق عليه ... إلى آخره " (1) .
12387- وإذا وُهب من الصبي أبوه، أو أُوصي له به، هل يقبله القيم؟ نظر: إن كان الصبي معسراً، قبله القيّم، كسوباً كان الأب أو زَمِناً، ثم إذا أيسر، أنفق عليه، وتوقُّع اليسار للطفل لا يمنع القبولَ عليه، وهل يجب عليه أن يقبله عليه حيث يجوز؟ هذا فيه تردد، وسبب تخيل وجوب القبول تحصيل غرض الولد في خلاص الأب، وقد يكون الولاء أيضاً مقصوداً، كما سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/271.(19/248)
وإن كان الابن موسراً، نظر: فإن كان الأب كسوباً قَبله، وإن كان زمناً، لم يقبله، لأن الطفل يتضرر بالتزام النفقة، والأمر كذلك - وإَن اتسع مال الطفل، فلا ينبغي أن نرتاع من التهاويل العريَّة عن التحصيل.
وإذا وُهب من الطفل بعضُ أبيه، والطفل معسر، قبله القيم كسوباً، كان الأب أو زمناً، ويَعْتِق عليه ذلك القدرُ؛ إذ لا تضرر بوجه، وإن كان الطفل موسراً والأب كسوب، فهل يقبل القيم بعضَه؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يقبل؛ إذ لو قبله، لاحتجنا إلى تقويم الباقي عليه؛ فيتضرر، والثاني - يقبله، ويعتق عليه ذلك القدر، ولا يقوّم عليه الباقي، فيصح مالا ضرر فيه، ويُمنع ما يتضرر به.
ولو كان الأب زمناً والطفل موسراً، فلا يصح قبوله له، ولا أحد يصير إلى أنه يصح القبول، ثم لا تجب النفقة، فإن دفع (1) النفقة لا سبيل إليه، وعتق بعض الأب قد ينفك عن التقويم في بعض الصور.
مسائل وفروع
12388- مسألة: إذا أعتق الحملَ في البطن، وكان ملكاً له، نفذ.
ولو كانت الأمة حائلا، فقال: كل ولد تلدينه، فهو حر، فعلقت بولد وولدته، ففي المسألة وجهان، وهذا يقرب من تعليق العبد الطلقةَ الثالثة في حالة الرق، وقد ذكرنا هذا في كتاب الطلاق.
ولو قال: أول ولد تلدينه حر، والتفريع على تصحيح التعليق فيما يتجرد العلوق به، فإذا ولدت ميتاً، ثم حيّاً، انحلت اليمين بالأول، ولم يعتِق الثاني عندنا، خلافاً لأيي حنيفة (2) ، والمسألة مشهورة معه.
12389- مسألة: إذا قال لعبده - وهو أصغر سناً منه: " أنت ابني " إن كان بالغاً، فصدقه، ثبت النسب، وعَتَقَ، وإن كذبه، عَتَقَ، والقولُ قولُ العبد في نفي النسب.
__________
(1) دفع النفقة: المراد ردّ وجوبها والتزامها، وليس الدفعُ بمعنى الأداء مراداً هنا.
(2) ر. طريقة الخلاف: 150، مسألة: 63، إيثار الإنصاف: 185، الغرة المنيفة: 167.(19/249)
وإن كان صغيراً مجهول النسب، عَتَق، وثبت النسب.
وإن كان مثلَه في السن أو على حدٍّ لا يُتَصوَّر أن يكون ابنَه، لغا لفظُه، ولم يعتِق، فإنه قال محالاً، خلافا لأبي حنيفة (1) ، فإنه حكم بالعتق.
ولو قال لعبده - وهو معروف النسب لغيره: " أنت ابني " فالنسب لا يلحقه، وفي حصول العتق وجهان: أحدهما - لا يحصل؛ فإنه تبعُ النسب، والثاني - يحصل؛ لأن النسب ممكن، وهو مؤاخذ بإقرار نفسه في العتق، وإن رُد قوله في النسب.
ولو قال لزوجته: " أنتِ بنتي " فالقول في حصول الفراق والنسب كالقول في حصول العتق.
فصل
12390- العتق يجري فيه الصريح والكناية، فصريحه الإعتاق، والتحرير، وفي فك الرقبة وجهان: أحدهما أنه صريح لجريان ذكره في الكتاب، فإنه تعالى قال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] ، وهذا الخلاف يرجع إلى أن ما جرى ذكره مرةً في الكتاب، هل يلتحق بالصريح؟ ونظيره الاختلاف في أن لفظ الإمساك هل هو صريح في الرجعة؟ ولفظ المفاداة هل هو صريح في الخُلع؟ وفيهما وجهان.
وأما الكنايات، فكل لفظ يتضمن إزالةَ الملك، ويشعر بها، فهو كناية، كقوله: لا ملك لي عليك، ولا سلطان، ولا سبيل. وكقوله: أزلت ملكي عنك، أو أزلت يدي، أو حرَّمتُك، أو طلقتك، أو لا سلطان لي عليك، أو لا سبيل، وما شاكل هذا، ولا حصر عندنا لكنايات العَتاق، كما لا حصر لكنايات الطلاق.
ولو قال لعبده: " يا مولايَ "، ونوى العتق عَتَقَ؛ إذا هو لفظ يطلق على المعتَق، فإن المعتَق يسمى المولى الأسفل، واللفظ كناية لا تعمل إلا بالنية؛ فإنه مشترَكٌ بين معان: يراد به ابن العم، والناصر، والمولى الأعلى.
وإذا قال لعبده: " يا سيدي " قال القاضي: لم يَعْتِق -وإن نوى- فإنه من السؤدد،
__________
(1) ر. طريقة الخلاف: 146، مسألة: 61، إيثار الإنصاف: 184، الغرة المنيفة: 165.(19/250)
وليس فيه ما يقتضي العتقَ، والذي نراه أنه كناية.
فإن السيد يراد به المالك، فسيد الدار مالكها، وإذا كان كذلك فاللفظ صالح لكونه كناية، ولو قال لأمته: " يا كَدْبانو " (1) - فقد قال القاضي: لا تَعتق وإن نوى. وليس الأمر كذلك عندنا؛ فإنه في معنى لفظ السيد.
ولو سميت المرأة حُرّة -قبل جريان الرق عليها- فلما رَقَّتْ قال لها مولاها: يا حرة، وقصد نداءها باسمها قبل أن رَقَّت، فقد قطع القاضي بأن ذلك لا يقبل منه، ويحكم بالعتق؛ فإن اللفظ صريح في الإعتاق، وفيه دقيقة، وهي أنها سميت حرة، إذا كانت حرة، فكانت الحرةُ لها صفةً غالبةً عليها ملتحقة بالألقاب، والرق إذا طرأ يمحق اسمها.
وسمعت شيخي غير مّرة يقول: لا تَعتق الأمةُ إذا ناداها باسمها القديم، وعندي أن هذه المسألة منزلة على مرتبة بين المرتبتين.
وقد ذكرنا مسائل الطلاق وقلنا فيها: منها ما لا يعمل اللفظُ فيه إلا بالنية، ومنها ما يعمل اللفظ فيه من غير نية، ولو نوى ما ينافي الوقوع دُيِّن، ومنها ما لو نوى ما ينافي الوقوع قُبِل ظاهرا، وإن كان مطلقُ اللفظ يعمل، فإذا قال لهذه الأمة: يا حرة، ولم يخطر له تسميتها باسمها القديم، فتعتق لا شك فيه. وإن نوى تسميتها، فالظاهر عندنا أنه يقبل، ومن أحكم ما مهدناه في كتاب الطلاق عَرَفَ قدْر هذا الكلام.
ولو قال لعبده: " يا آزاد مَرْد " (2) عَتَقَ، وإن قصد بذلك أمراً غير الحرية دُيّن، ولو قال لعبد الغير: " يا آزاد مرد "، ثم ملكه يوماً، عَتَق عليه بحكم إقراره.
ولو كان اسم امرأة (طالق) ، فقال لها زوجها: يا طالق - قال القاضي: طُلّقت، وهذا على قياس تسمية الأمة باسمها القديم إذا كانت تدعى حرّة، والخلاف فيه على ما تقدم.
ولو قال السيد: أنا أريد أن أسمي أمتي هذه حرة تلقيباً، فإذا قال بعد ذلك: "يا
__________
(1) كلمة فارسية معناها: سيدة البيت.
(2) تعبير فارسي معناه: أيها الرجل الحر.(19/251)
حرة"، فحصول العتق ينشأ من الأصل الذي ذكرناه الآن، ومن أصل آخر، وهو أن الرجل إذا غيرّ موجب اللغة بمواطأة ومواضعة، فهل يؤاخذ بموجب اللغة؟ فيه كلام استقصيته في مسألة السر والعلانية، وذكرت طرفاً منه في مسائل الطلاق.
فروع لابن الحداد تتعلق بالعتق والوصايا
وقد أجرى الشيخ أبو علي في إثباتها فوائد، فنستعين بالله في جميع ما نأتي ونذر.
فرع:
12391- عبد مشترك بين شريكين، قيمته عشرون ديناراً، فجاء أجنبي يملك عشرة دنانير لا غير، فقال لأحد الشريكين: أعتق نصيبك عني بعشرة، فأعتقه عنه، وقع العتق عن المستدعي، وهل يسري العتق إلى النصيب الثاني؟ نُظر: فإن التمس العتق بعين الدنانير ووقع العتقُ عنه، لم يسر؛ لأنه ببذل الدنانير صار معسراً.
ولو قال: أعتق نصيبك عني بعشرة، والتزمها في ذمته، ولم يعيّن دنانيره، ففي سراية العتق وجهان مبنيان على أن الدين هل ينافي اليسار المعتبر في سريان العتق؟
وقد قدمت الاختلاف في ذلك، وبنيته على أن الدين هل يمنع تعلق الزكاة بالعين؟ وإذا وضح الغرض، اكتفينا.
فرع:
12392- ذكر الشيخ في مقدمة مسألةٍ لابن الحداد أصولاً تَمَسُّ الحاجةُ إليها، وإن أنا فرقتها فيما تقدم، فَجَمْعُها الآن مستفاد، فنقول: إذا مات، وخلف عبداً، وورثةً، ودينا مستغرِقاً للتركة، فإذا أعتق الوارث العبد قبل قضاء الدين؛ قال الشيخ: إن قلنا: الدين يمنع الميراث، لم ينفذ العتق، وهذا على ضعفه مشهور، وكأنا نقول: لا يملك الوارث التركة ما بقي من الدين شيء، ثم لا يتجه لنا أن نقول: التركة ملكٌ لا مالك لها، بل نقول على هذا: هي مُقَرَّة على ملك الميت، ولا مطمع في إضافة الملك فيها إلى مستحِق الدين.
وإن فرعنا على أن التركة ملك الوارث وإن استغرقها الدين، فإذا أعتق الوارث عبداً في التركة، قال: إن كان معسراً لا يمكنه أن يؤديَ الدينَ من ماله، فلا ينفذُ عتقُه قولاً واحداً، هكذا قال، واعتلّ بأن فيه إسقاطَ متعلَّق الدين، وكان شيخي يجعل عتق الوارث بمثابة عتق الراهن، وفيه قول أن عتقه ينفذ، وإن كان معسراً، والأوجه(19/252)
ما ذكره الشيخ؛ فإن حق الوثيقة طرأ على ملكٍ تام للراهن، ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة، وهي مشروطة بتقديم حق الميت. وعن هذا تخيل بعض الفقهاء أن الدين يمنع الإرث.
ولو كان الوارث المعتق موسراً، فهل ينفذ عتقه؟ فعلى قولين، ذكرهما: أحدهما أنه ينفذ ويلزم. والثاني - أن العتق موقوف، فإن وصل الدين إلى مستحقه، بأن أن العتق نفذ مع لفظ الإعتاق، وإلا فالرق باقٍ، فإن أدى الوارثُ الدينَ، فالأمر على ما ذكرناه، وإلا بِيع العبد في الدين.
12393- ثم من كلامه أنا إذا نفذنا العتق، نقلنا الدين بالغا ما بلغ إلى ذمة الوارث، إذا كانت التركة ثمن العبد، ولستُ أرى الأمر كذلك، فالدين لا يتحول إلى ذمة الوارث قطّ، بل هو بالإعتاق متلفٌ للعبد، فلا يلتزم إلا أقلَّ الأمرين من الدين وقيمةِ العبد.
12394- ثم قال: لو باع الوارث التركة، وفيها دين: إن كان البائع معسراً، لم ينفذ بيعه ألبتة، وإن كان موسراً، ففي المسألة ثلاثة أوجه - نسوقها على وجهها: أحدها - أن البيع باطل إلا أن يعقده ابتداءً برضا الغريم، فيصح حينئذ. والوجه الثاني - أن البيع صحيح، ويلزم، ولا سبيل إلى نقضه، وفي التفريع على هذا كلام نذكره.
والوجه الثالث - أن البيع منعقد. ولزومه موقوف، فإن أدى الدين، لزم البيع. وإن لم يؤد الدين، فللغريم فسخ البيع. هذا ما ذكره.
وفيه بحث من أوجه: منها، أن شيخي كان يقول: التركة مع الدين كرقبة العبد الجاني مع الأرش، ثم في بيع السيد العبد الجاني قولان، أحدهما - أنه لا يصح، والثاني - أنه يصح. وهو عرضة الفسخ، كما قررناه في موضعه، ثم لا فصل بين أن يكون البائع موسراً أو معسراً، فيخرج على هذا القياس قول في نفوذ بيع المعسر.
وأنا أقول: تنزيل التركة منزلَة العبد الجاني بعيد؛ لما حققته الآن من الفرق بين المرهون والتركة، ولكن لتنفيذ بيع المعسر خروج حسن إذا قلنا: لا يلزم، وهو كبيع(19/253)
المفلس المحجور عليه مالَه، وقد أجرينا في بيعه قولاً على الوقف، فلا مانع من خروجه هاهنا.
12395- ومما نذكره أن الشيخ قال - مفرعاً على أن بيع الوارث ينفذ ويلزم: يجب صرف الثمن إلى الغرماء، ثم قال: إذا سلّم المشتري الثمنَ إلى الوارث، وتلف في يده، فللغرماء أن يطالبوا المشتري بالثمن؛ فإن كان من حقه أن يسلمه إليهم، فإذا لم يفعل، توجهت الطلبة عليه، وفي كلامه ما يدل على أنهم يطالبون الوارث بالثمن، فإن تعذر، رجعوا على المشتري.
والوجه عندي القطع بأنهم لا يطالبون المشتري، فإنا إذا ألزمنا بيع الوارث، فبيعه بمثابة إعتاقه، فإذا أعتق، فلا عوض للعتق، ولا مستدرك له إذا نفذ، فالوجه إن صح لزوم البيع - تنزيلُه منزلة العتق، ولكن جاء الخلل من ضعف قول من قال: " يلزمُ بيعُ الوارث ".
وهذا لا وجه له؛ فإنا لم نُلزم بيعَ المولى في العبد الجاني مع ضعف تعلق الأرش بالرقبة، فكيف نُلزم البيع هاهنا؟
ثم يدخل على الشيخ فقهٌ لطيف، وهو أن الثَّمن إذا كان مستحقاً للغرماء، فما وجه الفرق بين أن يكون الوارث معسراً أو موسراً، فإن صح هذا، اتجه في تنفيذ بيع المعسر احتمال بيّن لا يتوجه مثله، في إعتاقه؛ فإنه لا عوض في الإعتاق.
12396- عاد بنا الكلام إلى [فروع] (1) ابن الحداد. قال: لو زوّج الرجل أمته من عبدٍ لإنسان، وقبض مهرها، وأتلفه، ومات، والزوج لم يدخل بعدُ بها، فلما مات سيدها، أعتقها الوارث، قال ابن الحداد: نفذ عتقه فيها.
وهل يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؟ لا يخلو: إما أن يكون الوارث معسراً أو موسراً، فإن كان معسراً، فلا خيار لها؛ فمانا لو خيّرناها، وفسخت قبل الدخول، لوجب ردّ مهرها، وذلك دَيْن، وإذا تحقق الدين، لم ينفذ عتق الوارث المعسر، وإذا رَقَّت، فلا خيار لها، ففي إثبات الخيار ردُّه.
__________
(1) في النسختين: " فرع ". ولعل ما أثبتناه أوفق للسياق.(19/254)
وإن كان المعِتق موسراً، قال: إن قلنا: ينفذ عتقه مع الدين، فإذا أعتقها، نفذ، ولها الخيار، وإذا فسخت، رجع مهرها دَيْناً، ثم يطالَب به المعتِق، إن كانت القيمة مثل المهر أو أكثر، فيطالب بالمهر، وإن كان مهرها أكثر، فإنما تتوجه الطَّلِبةُ بقدر قيمة الجارية. وهذا هو الذي لا يجوز غيره؛ لأنه لم [يفوّت] (1) إلا رقبتها.
وإن لم ينفذ العتق، لم يخف الحكم.
فرع:
12397- إذا مات رجل وخلف ابناً وثلاثة من العبيد، قيمة كل واحد مائة، فقال الابن قد أعتق أبي هذا العبدَ في مرضه، وأشار إلى واحد منهم، ثم أشار إلى الأول وإلى عبد آخر من الثلاثة وقال: أعتق أبي هذين معاً، أو هذا وهذا معاً، ثم أشار إلى الثلاثة وقال: أعتق أبي هؤلاء بكلمة واحدة، أو معاً ولا وارث سواه.
فإن الأول يعتق على بهل حال، فإنه قدّمه ذكراً في الإقرار، وقد سبق أصل ذلك في كتاب الدعوى.
ثم نقرع بين الأول والثاني، فإن خرجت القرعة للأول، فهو الحر بعدُ لا غير، وإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق، وعتَقَ العبد الأول معه، فإن موجب إقراره للثاني أن الثاني يستحق أن يُقْرَعَ بينه وبين الأول.
ثم نقرع بين الأول والثاني والثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث عَتَق، ولو خرجت القرعة على الثاني، وثانياً على الثالث عَتَقوا كلهم، وإن خرجت القرعتان جميعاً على الأول لم يعتق غيرُه، وإن خرجت قرعة على الثاني وخرجت القرعة الثانية على الأول عتق الأول والثاني، ورَقّ الثالث، وإن خرجت القرعة الأولى على الأول، والثانية على الثالث، عتق الأول والثالث، ورق الثاني.
ولو تَفاوتت قِيَمُ العبيد والمسألة بحالها، فكانت قيمة الذي أقر بعتقه أولاً مائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث ثلاثمائة، فأما الأول، فحر بكل حال، وهو أقل من الثلث، ثم يُقْرع بين الأول والثاني، فإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق كله؛ لأنه في نفسه لا يزيد على الثلث، وقد أقر بعتق الأول، فعتق للسبق بالإقرار، وإن خرجت
__________
(1) في الأصل: " يفرق ". والمثبت من (ت 5) .(19/255)
القرعة على الأول، عَتَق، وعَتَق من الثاني نصفُه؛ فإن الثلث إنما يكمل بذلك؛ إذ ثلث جميع المال مائتان.
ثم يقرع بينهما وبين الثالث، فإن خرجت القرعة على الثاني، فلا يعتق الثالث، ولا يعتق من الثاني إلا ما عَتَق قبلُ؛ فإنه ليس في موجَب إقراره تغييرُ العتق في الثاني بقرعتين، وسنوضح ذلك في أثناء المسألة.
إن خرجت القرعة على العبد الثالث، عَتَقَ منه ثلثاه، وهذا موجَبُ إقراره مع القرعة، وإن خرجت القرعة على العبد الأول، فنعيد بين الثاني والثالث، فإن الثلث لم يصر مستوعباً بالأول. فإن خرجت القرعة في الكرّة الثانية على الثاني، فيرق العبد الثالث لا محالة، ولا يحدث بهذه القرعة في العبد الثاني شيء، فإنه قد أخذ حظه من القرعة، فإن عتق كلُّه بالقرعة الأولى، فذاك، وإن عتق نصفه مع الأول، وكمل الثلث، فلا مزيد في إعتاقه أصلاً، ولا تُغيَّر قضيةُ تلك القرعة؛ فإن إقراره لا يتضمن تغييرَه لحكم العِتق في الثاني بقرعة أخرى، وإن أعدنا القرعةَ بين الثاني والثالث مرةً أخرى، فخرجت على الثالث، فيعتِق منه الثلث، فإن ثلثه إذا ضُمّ إلى الأول، كَمُلَ به الثلث، فثلث الثالث مثلُ نصف الثاني.
12398- وفي هذه المسألة بحث من وجهين: أحدهما - أنا قلنا: إذا عتق من الثاني نصفه لمَّا أقرعنا بينه وبين الأول، فذلك عند خروج القرعة على الأول، وتكميلُنا الثلث من الثاني بالقرعة لم يفده شيئاً، وهو بحكم الإقرار يستحق الاندراج تحت قرعتين الأولى مع الأول، والثانية معهم، فلئن خاب في القرعة الأولى، ولم ينله العتق بكماله، وإنما عتق نصفه بحق التكميل، فينبغي ألا يبعد أن يكمل العتق فيه بسبب القرعة الثانية، والدليل عليه شيئان:
أحدهما - لما قال أَعتقكم جميعاً، فقد أقر له إقراراً موجبه أنه لا يبعد عتق الثاني بكماله بحكم القرعة، ثم أثبت له حقَّ القرعة مرتين، فلئن خاب في واحدة، فليدخل في الأخرى.
والثاني: أن قيمة العبيد إذا كانت متساوية، فأقرعنا بين الأول والثاني وخاب(19/256)
الثاني، فلا يبعد أن يخيب في الأولى ويصيبَ العتقَ في الثانية، فكذلك إذا اختلفت القيم، وهذا متجه لا إشكال فيه.
وفي المسألة بحث لمزيد بيان، فنقول: إذا أقرعنا بين المائة والمائتين، فخرجت القرعة على الأول، فحكمه أن يعتق الأول بالإقرار، ويعتِقَ نصفُ الثاني بالتكميل، فإذا أقرعنا مرة ثانية بين الثلاثة، فخرجت القرعة على الأول أيضاً، فكيف السبيل والثلث لا يكمل بالأول؟
فإن قيل: ما هذا وقد كملتم الثلثَ؟ قلنا: لم نُثبت في حق الثالث شيئاً والقرعة تثبت للثالث حقَّ تكميل الثلث منه إذا خرجت القرعة على الأول، فكيف السبيل؟
الوجه ما قدمناه من إعادة القرعة بين الثالث لنكون وفينا حق الثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث، أعتقنا منه ثُلثَه، وإن خرجت القرعة على الثاني، فهذا موضع النظر.
أما ما حكيناه عن الأصحاب، فهو أنه لا يَعتِقُ من الثاني إلا ما عَتَق. وهذا مستقيم لا خلاف فيه؛ لأن الثاني لا يستحق إلا قرعتين، وقد عتق نصفه بحق التكميل في القرعة الأولى، وأدرجناه عند إقراعنا بين الثلاثة، فاستوفى التعرض للخطر بين قرعتين فلا يستحق بحكم الإقرار موجبَ قرعة ثالثة، ولكن القرعة بين الثاني والثالث لرجاء أن يعتق شيء من الثالث، فإن لم يعِتق، فقد نفذ الحكم، وتم، ولا مزيد على الثلث، والموضع الذي أبدينا الخلاف فيه إذا خرجت القرعة الثانية المضروبة بين الثلاثة على الثاني، فالذي ذكروه أنه لا يزاد له شيء، وهذا غير سديد؛ فإنه يستحق بالقرعة الثانية تعرضَ جميعه للعتق بحكم القرعة، إذ قد أقر له الوارث بقرعتين، كما ذكرناه في المسألة الأولى إذا استوت القيم.
12399- ثم ذكر ابن الحداد صورة أغمضَ مما تقدم، فقال: لو مات وخلّف ثلاثة من البنين وثلاثة من العبيد قِيَمُهم متساوية، فقال واحد من البنين: أعتق أبي هذا العبدَ. وقال الابن الثاني: أعتق العبد الذي عينّه أخي، وأعتق معه هذا الآخر في كلمة واحدة. وقال الابن الثالث: أعتقهما وأعتق الثالث معهما في كلمة واحدة.
فأما الثلث من العبد الأول، فعتيق بكل حال، فإن الابن الأول أقر بعتقه ولم(19/257)
يشرّكه مع غيره، فإقراره مقبول في ثلث ذلك العبد، فعَتَق ثلثُه من غير إقراع، ثم نقرع بين العبد الأول والثاني، لإقرار الابن الثاني، فإن خرجت القرعة على العبد الأول، عتق منه ثلثٌ آخر؛ فإن هذا الابن يزعم أن جميعه حر بقضية القرعة والإقرار، فقبل قوله في حصته، وإنما حصته الثلث، وإن خرجت القرعة على العبد الثاني، عَتَق ثلثه وهو قدر حصة هذا الابن منه.
ثم نقرع بين العبيد الثلاثة لإقرار الابن الثالث، فمن خرجت عليه القرعة من العبيد يعتق منه ثلث، فإن خرج على الأول عتق ثلثه، وكذلك إن خرج على الثاني، أو على الثالث.
وحاصل القول أنه إن خرجت القرعتان فيها جميعاً على الأول، كمل فيه العتق، ورَقَّ العبدان، وإن خرجتا جميعاً على العبد الثاني، عتَقَ ثلثاه، وثلثُ العبد الأول، ورَقَّ ثلثا الأول، وثلثُ الثاني، وتمام الثالث، وإن خرجت قرعة على الثاني وأخرى على الثالث، عتق من كل عبد ثُلُثه. وهذا إذا كانت قيمهم متساوية.
12400- فأما إذا تفاوتت والمسألة بحالها في الأقارير، لكن كان قيمة العبد الأول، مائة، وقيمة العبد الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلاثمائة، فيعتِق من الأول ثلُثُه، كما قدمناه، ثم نُقرع بين الأول والثاني بسبب إقرار الابن الثاني، فإن خرجت القرعة على الثاني، عتق ثُلثُه؛ فإن قيمته مائتان، وهو ثلث المال، وهذا الابن يزعم أن جميعه حر، فقُبل قوله في حصته، وهو الثلث، وإن خرجت القرعة على العبد الأول، عتق منه ثلث آخر، وعَتَق من الثاني سدسه، وإنما ذاك لأنه يزعم أن الأول بكماله أعتق بهذه القرعة، ونصفٌ من العبد الثاني تكملة الثلث، فعتق من تمام الأول ثلثه، وعتق من نصف الثاني ثلث النصف وهو السدس.
والغرض ينكشف بسؤال وجواب عندنا، فإن قيل: الابن الثاني يُقر بأن العبد الأول بحكم القرعة حر بكماله، والنصف حرٌّ من الثاني، فلينفذ إقراره في مقدار ملكه من الثاني، ويُردّ في الزائد.
وموجب هذا أن يعتق ثلث الثاني. فإن إقرار المرء في مقدار ملكه مقبول.(19/258)
قلنا: أقر بالعتق في النصف شائعاً في الحصص، فالنصف المقرّ به يستحيل أن يُحصَر ثلثاه في ملكه بل يشاع، وحصته منه ثلثه، وثلث النصف السدس، فإن قيل: هلا خرج هذا على الخلاف فيه إذا أقر أحد الشريكين في الدار بنصفها لإنسان، فإن من الأصحاب من قال: الإقرار ينحصر على ما كان قبل الإقرار؟ فهلا، قلتم على هذا: الابن الثاني مؤاخذ بموجب إقراره فيما هو ملكه؟
قلنا: لم يتعرض الابن الثاني إلاّ لما يوجب القرعة على التركة والميراث، وحقه الشيوع، فيجب الوفاء بالإشاعة، فهذا منتهى البيان.
والرأي بعده مشترك بين الفقهاء.
ثم نقرع بين العبيد الثلاثة بسبب إقرار الابن الثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث، عَتَقَ منه تُسعاه، فإنه يزعم أنه عتق منه على الشيوع ثلثاه وهو مائتان. وهذا مقدار الثلث، فقُبل قولُه مع القرعة في حصته، وحصتُه من ثلثه تسعاه، وإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق منه ثلثه؛ فإنه يزعم أن جميعه حر، فقُبل قوله في حصته وإن خرجت القرعة على الأول عَتَق منه ثلثه، ثم تُعاد القرعة مرة أخرى بين الثاني والثالث لتعتق حصتُه من تمام الثلث، فإن خرجت على الثاني عتق منه سدسه، وإن خرجت على الثالث عَتَق منه تُسعه؛ فإنه يزعم أن لابد من إعتَاق قدر مائة أخرى مع الأول، فيعتق من مائة ثلثها، وهو حصته منها.
هذا كلام الأصحاب مع البحث الممكن فيه.
فرع:
12401- قال ابن الحداد: إذا قال أحد الشريكين في العبد: إن دخلتَ الدار، فنصيبي منك حر، وقال الثاني بعد أيام: إن دخلتَ تلك الدار -وعَيَّنَ الدارَ التي عينها الأول- فنصيبي منك حر، فدخل الدارَ - عَتَقَ نصيبُ كل واحد منهما على مالكه، ولا سراية؛ فإن العتق في النصيبين وقعا معاً، ولا معتبر لتباين التعليقين.
ثم قال الشيخ في أثناء كلامه: قال ابن سريج: لو قال لعبده سالم: مهما (1) أعتقتُ غانماً، فأنت حر مع عتقه، ثم أعتق غانماً في مرض موته، وهو ثلث ماله،
__________
(1) مهما: بمعنى: " إذا ".(19/259)
فيكون عِتقُ غانم مبدّأ (1) على عتق سالم عند ضيق الثلث، وإن كان قد قال لسالم: فأنت حر مع عتقه؛ وذلك لأنه جعل عتق غانم شرطاً في عتق سالم، والمشروط لا يقع إلا بعد الشرط، وقد يقع العتق مرتباً، فيقدم الأول منهما.
وقد ذكر الأصحاب عن صاحب التقريب: أنه إذا أعتق نصيَبه، لم يسر عتقُه، وعَتَقَ نصيبُ الثاني (2) بتعليقه السابق، وقد خالفه الأصحاب في هذا. فقالوا: عِتْقُ الشريك يسري، ولا يقع العتق المعلّق، فانتظم وجهان في مسألة الشريكين: أحدهما - اعتبار قول المعلِّق في الاجتماع، وذلك ينافي السراية. والثاني - أن العتق يترتب في المعنى، فهو كما لو قال: مهما أعتقتَ نصيبَك، فنصيبي حر، وهذا التردد يوجب اختلافاً في مسألة سالم وغانم، حتى يقال: يحتمل أن نحكم بوقوع العتق فيهما ظاهراً معاً، ويكون كما لو أعتقهما في مرضه، فيقرع بينهما.
وفي المسألة غائلة وبكشفها نكشف الغرض، فنقول: إذا أعتق الرجل في مرضه عبيداً لا مال له غيرهم، فعتقه في المرض وصيةٌ محسوبة من الثلث، والوصية الزائدة إذا ردّت، ففيها قولان: أحدهما - أنها ثبتت، ثم ردت، والثاني - أنها إذا خُصرت، تبين أنها (3) لم ينفذ غيرُ ما بان.
ومما يجب التنبه له أن من علّق عتقاً على عتقٍ، فمذهب الشافعي أن العتق الذي هو صفة، لا يقنع فيه باللفظ، بل لابد من عتق صحيح، وكذلك القول في البيع وغيره من العقود، وقد قررنا هذا في كتاب الأيمان.
فإذا تبين هذا، رجعنا إلى الغرض.
فإن اعتقدنا الجمع تمسكاً باللغة (4) ، وهو مقتضى الصيغة، فلا نعول على الشرط والمشروط؛ فإن التعليقات تحتمل تقديم المشروط على الشرط؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق قبل دخولك بشهر، ثم مضت أشهر،
__________
(1) مبدّأ: أي مُقدّم ومُفَضَّل (المعجم) .
(2) في النسختين: " شريك الثاني ".
(3) كذا. وضمير الحال والشأن يعود على الوصية. والله أعلم.
(4) يعني قوله: " مع عتقه ".(19/260)
ودخلت، وقع الطلاق قبل الدخول بشهر، ولكن النظر فيما نبهنا عليه.
فإن قلنا: " العتق ينفذ في الجميع ثم يرد "، صحت المسألة، ونجعل كأنه أعتق العبدين، فإن خرجت القرعة على سالم، عتق، إذ قد كان عَتَقَ غانم، فتحققت الصفة (1) ثم رُدّ.
وإن قلنا: " ما (2) يرد تبين أنه لم ينفذ "، فتعضل المسألة: بأن القرعة لو خرجت على سالم، وعتقه مشروط بعتق غانم، ونحن تبيّنا أن غانماً لم يعتِق، فكيف يعتق سالم، وعتقه معلّق غير منجّز؟ وهذا يوجب الدور، فيرتد -لو صح هذا القياس- عتقُ غانم؛ لأن القرعة لم تخرج عليه، ويرتد عتق سالم للدور، وهذا يجز خبلاً عظيماً، وهو أن يعتق الرجل عبدين، فتجري حالة في القرعة تقضي ارتداد العتق فيهما.
وفي المسألة خبط آخر، وهو أن القرعة لو خرجت على غانم، نفذ العتق فيه، ولو خرجت على سالم، دارت المسألة، فالظن بالأئمة أنهم ما قدّموا العتق في غانم مع التصريح بالجمع إلا لهذا؛ فإن العتق في سالم يوجب القرعة، والقرعة تدير المسألة، وتُبطل العتقين، والعتق في غانم يصحح العتق في الثلث، فذكروا تعيّن غانم لهذا المعنى.
وقياس الدور مع الوفاء بالجمع أن يقال: لو خرجت القرعة على غانم عتق، ولو خرجت على سالم، لم يعتق غانم ولا سالم. وهذا نهاية النظر في المسألة.
فرع:
12402- إذا كان بين رجلين عبد مشترك لكل واحد منهما نصفه، فطار طائر، فقال أحدهما: إن كان غراباً، فنصيبي حر، وقال الآخر: إن كان حماماً، فنصيبي حر، ثم أشكل الطير، فلا يعتق نصيب واحد منهما؛ فإن الطائر قد لا يكون غراباً ولا حماماً.
ولو قال أحدهما: إن كان غراباً فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً،
__________
(1) تحققت الصفة: أي العتق المعلّق عليه، وهو عتق غانم.
(2) (ما) اسم موصول.(19/261)
فنصيبي حر، فلا يحكم بعتق واحد منهما في ظاهر الحكم إذا كانا معسرين؛ فإن نصيبهما كعبدين، ولا سريان، ولكن نعلم باطناً أنه قد عَتَقَ نصيبُ أحدهما.
ولكن لو اشترى أحدهما نصيب صاحبه فنحكم الآن بأن نصف العبد حر، ولكن لا سريان والفرضُ في المعسر.
ولو جاء ثالث، واشترى النصيبين جميعاً، فيصح الشراء، ولكن إذا اجتمع النصيبان في يده حكم بعتق النصف، وتعليل ذلك بيّن.
ثم قال القفال: لا يرد ما اشتراه عليهما ولا على واحد منهما؛ فإن كل واحد منهما يزعم أن نصيبه مملوك، والمشتري يزعم أن النصف منه حر.
وحكى الشيخ عن بعض الأصحاب أن المشتري إذا لم يعلم ما جرى لهما من التعليق، واشترى نصيبهما، ثم تبين له ذلك، فله الرد عليهما جميعاً، ويجعل الاطلاع على ذلك سبباً مثبتاً للخيار.
وهذا هَوَسٌ. ولا ينبغي أن يعدّ مثله من المذهب؛ لأنا لو جوّزنا له الرد، لعاد كل واحد من الشريكين إلى نصيبه، وزال العتق المحكوم به. هذا كله إذا كانا معسرين.
فأما إذا كانا موسرين والمسألة كما صورناها في النفي والإثبات، فنحكم بعتق جميع العبد؛ تفريعاً على قول تعجيل السراية، فإن كل واحد منهما يُقرّ بأنه قد عتق نصيبُه، إما بإنشائه، وإما بسراية العتق من نصيب صاحبه إلى نصيبه. فإن ادعى كل واحد على صاحبه قيمةَ نصيبه وتحالفا، فلا يستحق في ظاهر الحكم واحد على صاحبه شيئاً.
وإن فرعنا على أن السراية لا تتعجل، لم نحكم بعتق نصيب واحد منهما.
فرع:
12403- إذا خلف ثلاثة من البنين، وكان في أيديهم جاريةٌ وولدُها، فادعى أحدهم أن هذه الجارية أمُّ ولد أبينا والولد ولدها منه، وهو أخونا، وزعم الثاني أن الجارية أمُّ ولدي، وهذا ولدي منها، وادعى الثالث أن الجارية مملوكةٌ لي وولدها رقيقي وعبدي، وأيديهم ثابتة عليها.(19/262)
فنقول (1) : أما نسب المولود، فيثبت ممن ادعى أنه ولده؛ تفريعاً على أن نسب الرقيق يستلحق إذا كان مجهول الحال والنسب، ومن قال منهم: إنه أخونا، فلا نقبل قوله؛ فإنه يقر بالنسب على أبيه، فلا يلتحق النسب، ما لم يُجْمع الورثةُ عليه، كما مضى في الأقارير.
فإن قيل: من يدعي ملكَ الولد ويقول: هو رقيقي واليد ثابتة له على ثلث الولد، فينبغي أن يثبت ملكُه فيه، فيكون مدعي النسب من نفسه مستلحقاً نسب مملوك.
قلنا: قد نبهنا على هذا، فإن فرعنا على أن المملوك يُستلحق، فأمر النسب على ما ذكرنا، وإن قلنا: نسب المملوك لا يستلحق، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يلحق لمكان الرق في البعض. والثاني - يلحق لأن الرق لم يعمه، والنسب لا يتبعض. وهو إلى الثبوت أقرب، وهذا القائل يقول: لو كان بعض الشخص رقيقاً وبعضه حراً، واستلحق مستلحقٌ نسبَه، لحقه، وهذا ليس بشيء، والقياس رد الدِّعوة ببعض الرق إذا فرعنا على ردها عند تمام الرق (2) .
12404- ثم نتكلم بعد ذلك في الجارية وحكم الولد، ونذكر حكم التحالف فيه، ثم حكم الغرامة.
أما الولد فحرّ كله، هكذا قالوا، لأن أحدهم زعم أنه أخوهم، وهذا يقتضي حريته، ويده ثابتة على ثلث الولد، فإقراره مقبول فيه، والذي زعم أنه ولده منها، فيقبل إقراره فيما هو تحت يده، ثم قد أقر هذا الشخص بأنه قد استولد هذه الجارية، فيجعل ذلك بمثابة ما لو استولد أحد الشريكين الجارية [المشتركة] (3) ، ولو تحقق ذلك، كان الولد حراً، وليقع الفرض فيه إذا كان موسراً، فإذا تُصور منه إنشاء الاستيلاد، ثم يترتب حكم حرية الولد، فيقبل الإقرار [منه] (4) فيما يتصور إنشاؤه،
__________
(1) النظر في هذه المسألة إلى عدة أحكام: 1- نسب الولد 2- وحريته 3- وحرية الأم وثبوت أميهّ الولد 4- والتحالف، 5- والغرم. فتقرأ المسألة في ضوء هذه الشُّعب من الأحكام.
(2) انتهى هنا الكلام على نسب المولود، وأنه بين أن يلحق الابن الثاني أو لا يلحق.
(3) في الأصل: " المشتراة "، والمثبت من (ت 5) .
(4) زيادة من المحقق حيث سقطت من الأصل، وفي ت 5: (فيه) مكان (منه) .(19/263)
وهذا ليس خالياً عن الاحتمال؛ لأن الإقرار إنما يقبل فيما يجوز إنشاؤه، (1 لا فيما يتصور إنشاؤه 1) .
ويجوز تخريج هذه المسألة على خلافٍ في أن المحجور السفيه لو أقر بإتلاف مالٍ هل يقبل إقراره أم لا (2) ؟ فيه وجهان، ذكرناهما في موضعهما (3) .
ثم يقع الكلام بعد هذا في التحالف، ثم في الغرم، والقول في التحالف ينبني على المقدار الذي تثبت يد كل واحد عليه، وقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب أكثرهم إلى أن يد كل واحد من الثلاثة تثبت على ثلث الجارية والولد، ثم يقع الكلام بعد هذا في التحالف والغرم، ووجه هذا بيّن.
ومن أئمتنا من قال: من قال منهم: إن الجارية أمُّ ولد أبي، فلا يد له على شيء من الجارية وولدها؛ فإنه ذكر أن الجارية أم ولد أبي، وقد عَتَقَتْ بزعمه بموت أبيهم، وليس يدعي عتقاً صادراً منه، وقوله مردود في ذلك؛ فإن أمية الولد تابعةٌ لثبوت نسب الولد، ونسب الولد لا يثبت بقوله، ولكنه مؤاخذ بإقرار نفسه؛ فإنه ليس يدعي لنفسه فيها شيئاً، فلم تبق له يدٌ لإعراضه (4) ، ولم يُقبل قوله لاستناد أمية الولد إلى النسب الذي لم يثبت.
والأصح الوجه الأول؛ فإن يده ثابتة حسّاً، وقد اعترف بالحرية فيما تثبت يده
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(2) عبر الغزالي في البسيط عن ذلك بعبارة، ربما كانت أكثر وضوحاً، إذ قال: " فأما أمية الولد، فتثبت بإقراره، لأنه شريك، ولو أنشأ الاستيلاد، لنفذ، وسرى، فيقبل إقرار من له أهلية الإنشاء، ويحتمل أن يقال: لا يحل له الإنشاء، ولكن يتصوّر منه، وفي قبول مثله خلاف في السفيه المحجور عليه إذا أقر بإتلاف مال الغير أنه هل يقبل ". (البسيط: جزء (6) ص 379 - مخطوطة مرقمة الصفحات) .
(3) إلى هنا انتهى الكلام عن حكم حرية الولد، وهو الحكم الثاني من الأحكام التي في ثنايا هذه المسألة، وقد قطع بحريّة الولد.
(4) وجه هذا الوجه القائل بأن يده لا تثبت على شيء هو إقراره، وإعراضه، وعدم مطالبته، وليس إثبات أمية الولد، فإنها تابعة لثبوت نسب الولد من أبيه، وقد رأينا أنه لم يثبت.
هذا توجيه هذا الوجه، وهو ليس الأصح كما قال الإمام، بل الأصح أن يده ثابتة حساً على الثلث من الولد والجارية.(19/264)
عليه صورةً، وحقيقةُ هذا الخلاف ترجع إلى أنا إذا رَدَدْنا قولَه في النسب، فهل يقبل قوله في أمية الولد حتى يُحكم بالعتق فيه؛ فإن قبلنا قوله في الحرية، فالثلث حُكم فيه بالحرية ليده، ويبقى في يد كل واحد من الباقيين ثلثٌ، وإن لم نقبل قوله في الحرية، قبلناه في سقوط حقه ويده، فتصير الجارية في يد الباقيَيْن نصفين؛ ولم يبق للذي قال: " إنها أم ولد أبي " يدٌ ولا تعلّق. هذا ما ذكره الأئمة.
وفي القلب منه بقية، فإنا (1) إذا رددنا إقراره، فينبغي أن يبقى الثلث من الجارية على حكم يده وملكه، وإن كان لا يدعيه لنفسه، والدليل عليه أن (2 أحد الابنين إذا أقر بابن ثالث لأبيه، ورددنا إقراره بالنسب، فلا يستحق المقر له شيئاً من ميراث الأب، ولا 2) يقال: على المقِر منهما أن يسلم شيئاً مما في يده إلى المقر له، بل يبقى على حقيقة ملكه. وهذا القياس يقتضي لا مجالة أن يبقى ثلث الجارية في يده، وإن ادعى حريتها، فهذا ما أردنا التنبيه عليه في ذلك.
12405- ثم نرجع إلى ترتيب الكلام، فنقول: يحلف من يدعي الملك، و [من يدعي] (3) الاستيلاد في حق نفسه، وينفي كل واحد [منهما] (4) ما يدعيه صاحبه (5) ، على القياس الذي ذكرناه في الدعاوي. قالوا: ولا يحلف من يدعي أمية الولد لأبيه؛ فإنه ليس يدعي لنفسه شيئاً، وإنما ينفي كلُّ واحدٍ دعوى صاحبه إذا كان يدعي لنفسه شيئاً.
__________
(1) ت 5: " فأما ".
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(3) ما بين المعقفين زيادة من المحقق لإيضاح العبارة، والمعنى أن التحالفَ يكون بين الابن الثاني الذي يدعي أن الجارية مستولدته، وأن الولد ولده منها = والابن الثالث الذي يدعي أنها جاريته والولد رقيقه منها.
أما الابن الأول الذي يقول: إنها مستولدة أبينا، فهو لا يدعي شيئاً، ولذا لا يحلف.
(4) في الأصل: " منهم " والمثبت من (ت 5) .
(5) فيحلف من يدعي الاستيلاد نافياً أنها مملوكة لمن يدعي الرق، ويحلف من يدعي الملك نافياً أنها مستولدة من يدعي الاستيلاد، فكل منهما مدَّعٍ فيما في يد صاحبه، مدعىً عليه فيما في يده.(19/265)
فإذا حلفا -والتفريع على ثبوت الاستيلاد عاجلاً، ونفوذِ إقراره- فيلتزم لصاحبه ثلث قيمة الجارية (1) ، فإن يده تثبت على الثلث ملكاً، وتأكدت باليمين، ثم [سرَّينا] (2) فيه استيلاد من يدعي الاستيلاد لنفسه، فيلزمه قيمةُ الثلث لصاحبه (3) .
فأما إذا قلنا: لا يدَ لمن ادعى أميةَ الولد لأبيه، والجارية نصفان بين الأخوين، فيغرم من ادعى لنفسه الاستيلاد نصفَ القيمة لصاحبه.
وإن قلنا: يعتِق الثلثُ بإقرار من ادعى أمية الولد، فلا نغرمه شيئاً؛ [فإنه لم يضف الاستيلاد إلى نفسه، وإنما أضاف إلى أبيه، فلا يلتزم هو بسبب استيلاد أبيه شيئاً] (4) ، ولا يقبل إقراره على أبيه في إلزام غرم، فهذا منتهى ما ذكره الأئمة.
فرع:
12406- إذا كان للرجل جاريةٌ حامل بغلام وجارية، فقال: إن ولدت أولاً غلاماً، فهو حر، وإن ولدت أولاً جارية فأنت أيتها الأمة حرة، فإن ولدت أولاً غلاماَّ، [عَتَقَ] (5) الغلام، ورقّت الأمة والجاريةُ في بطنها.
وإن ولدت جارية أولاً، عَتَقَت الأمة، وعَتَقَ الغلام أيضاً؛ فإن الأم إذا عتقت، عتق الجنين في بطنها، أما الجارية التي ولدتها، فلا شك أنها لا تعتِق؛ لأنه لم يوجه
__________
(1) يلزمه الثلث من الجارية والولد لإقراره بأنه فوت عليه نصيبه بالاستيلاد.
(2) في الأصل: (تبرَّينا) بهذا الرسم والضبط، وفي ت 5: غير واضحة، وأقرب ما تكون إلى ما في الأصل، ولكن بدون نقط وضبط.
وأجزم صادقاً -إن شاء الله- أن هذا الخلل في نسخة الأصل جاء من أحد القراء المبتدئين، ودليلي على ذلك أن ناسخ هذه النسخة على درجة من العلم، يستحيل معها أن يقع في هذا الوهم الغليظ، وقد ظهر علمه بأكثر من دليل، أيسرها أنه يُشكل المشكل بصورة تقطع بأنه فاهم لما ينسخ، ثم إن هذه الكلمة الغريبة عن السياق والمعنى (تبرّينا) فيها أثر ريشة غير ريشة الناسخ الأصيل.
(3) علل الأئمة ذلك بإقراره أنه فوت على صاحبه نصيبه بالاستيلاد -كما قلنا- ويلزم من هذا التعليل أنه قد سلّم لمدعي الرق بأن له نصيباً في الجارية من ميراث أو غيره، وإلا، فلا يلزم من قوله: " مستولدتي " كونها مشتركة من قبل، فلا بد من ملاحظة هذا المعنى في تصوير المسألة.
(ر. الشرح الكبير: 13/377، والروضة: 12/162) .
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 5) .
(5) في الأصل: " فأعتق ".(19/266)
العتق عليها، والأم إنما تعتِق أيضاً بعد انفصالها، فلا يلحق الجاريةَ عتق على وجه التبعية.
فخرج مما ذكرناه أن الجارية لا تعتِق في حسابٍ أصلاً، والغلام يعتق كيف فرض الأمر؛ فإنه إن خرج أولاً عَتَق، وإن خرجت الجارية، عتق تبعاً للأم، والأم قد تعتق وقد لا تعتق.
فلو خرج الولدان على ترتب، وأشكل الأمر، فلم ندر كيف كان الخروج - فأما الغلام فيعتِق لا محالة، والجارية رقيقة قطعاً، وأمر الأم مشكل، فإن خرج الغلام أولاً، فهي رقيقة، وإن خرجت الجارية أولاً، فهي حرة. وقد أشكل الأمر.
قال ابن الحداد: نقرع بين الغلام وبين الأم. فإن خرجت القرعة على الأم، عَتَقَت، والغلام حرّ لا يدرأ حريتَه شيء.
وإن خرجت القرعة على الغلام، رقّت. وسبب القرعة أن الغلام إن خرج أولاً، فهي رقيقة، وإن لم يخرج أولاً، وخرجت الجارية، فالأم حرة، فعِتْق الأم يتعلق بخروج الغلام، فخرجت القرعة على هذا التقدير. وقد وافقه بعض الأصحاب فيما قال.
والذي ذهب الأكثرون إليه أن القرعة لا معنى لها في هذه الصورة؛ فإن القرعة إنما تجري إذا تردد العتق بين شخصين رُدّد العتق بينهما قصداً وأشكل الأمر، وليس الأمر كذلك في هذه المسألة؛ فإن الغلام لم يُجعل في معارضة الجارية، فالوجه أن نقول: الجارية رقيقة والغلام حر. والجارية أشكل أمرها. فالأصل بقاء الرق فيها.
فرع:
12407- ذكره الشيخ من وقائع نيسابور قديماً، وهو أنه إذا كان بين يدي السيد غلامان سالم وغانم، فقال: أحدكما حر، ثم غاب سالم وبقي غانم بين يديه، فوقف بجنبه غلام اسمه مبشر، فقال لغانم ومبشر: أحدكما حر، ثم مات قبل البيان، فكيف السبيل فيه؟
قال الأستاذ أبو إسحاق في جواب المسألة: نقرع في هذه المسألة بين سالم وغانم، فإن خرجت القرعة على سالم -وهو الذي غاب- فيعتِق، ثم نعيد القرعة مرة أخرى بين غانم ومبشر، فعلى أيهما خرجت القرعة، حكمنا بعتقه، فيعتِق عبدان.(19/267)
وإن خرجت القرعة الأولى على غانم، رقّ سالم، ولم نعد القرعة مرة أخرى؛ فإن القرعة عينت غانماً للحرية، فلما قال له ولمبشر: أحدكما حر، فغانم هو الحر منهما، وتحقيق ذلك أن خروج القرعة بمثابة بيان المالك. ولو قال السيد: أردت غانما في الدّفعتين، لم يَعِتق غيره.
وقال أبو الحسن الماسَرْجِسِي: إذا خرجت القرعة الأولى على غانم، عتق ورق سالم، ثم نعيد القرعة مرة أخرى بين غانم ومبشر، فإن خرجت على غانم، رق مبشر، وإن خرج على مبشر عتق وغانم حر. كما تقدم ذكره، ففائدة إعادة القرعة توقُّع عتق مبشر.
والذي ذكره الماسَرْجِسِي أفقه وأغوص، وذلك أن غانماً إن عتق، فلا يمتنع أنه أراد بقوله الثاني -لمّا أبهم العتقَ- إعتاق مبشر، فإذا كان ذلك ممكناً، فالقرعة تجري حيث يتصور الإبهام، وكثيراً ما تجري القرعة بين من نستبقي (1) حريته، وبين من يشكل علينا رقه، وهذا واضح من هذا الوجه.
فرع:
12408- نقدم على مسألة ذكرها ابن الحداد [تذكيراً بأصولٍ] (2) : أحدها - أنه لو أبهم العتق بين أمتين ولم يعين بقلبه، ثم وطىء إحداهما، فهل يكون الوطء تعييناً في الموطوءة للرق؟ فعلى وجهين، تقدم ذكرهما.
ومما تقدم أنه لو كان في ملكه أربع من الإماء، فقال: إذا وطئت واحدة منكن، فواحدة منكن حرة، فإذا وطىء واحدة، فتعتِق واحدة، ولكن هل تدخل الموطوءة في إبهام العتق؟ أم لا؟ هذا يبتني على أن الوطء هل يكون تعييناً أم لا؛ فإن قلنا: لا يكون تعييناً، فتدخل الموطوءة في إبهام العتق.
وإن قلنا: يكون الوطء تعييناً للموطوءة في الملك، فأول الوطء لا يتضمن التعيين أصلاً؛ فإنه ذكر الوطء وعلق عليه العتق المبهم، وهذا في التحقيق يُخرج أول الوطء عن كونه تعيينا للملك.
__________
(1) كذا في النسختين، ولعل الأَوْلى: " نستيقن ".
(2) في النسختين: " تذكير أصولٍ "، والمثبت تقدير من المحقق.(19/268)
وقد يقول الرجل لأمته إذا وطئتك فأنت حرة، وهذا واضح، فلو وطىء وغيّب الحشفة، ثم نزع، فالموطوءة تدخل في الإبهام. ولو وطىء واستدام -والتفريع على أن الوطء يتضمن تعييناً لو تقدم الإبهام عليه، مثل أن يقول لأمتيه إحداكما حرة، ثم وطىء واحدة منهما- فتتعين الأخرى للعتق.
فإذا قال للإماء الأربع: إذا وطئت واحدة منكن، فواحدة حرة، فوطىء واستدام، وقد وضح أن ابتداء الوطء لا ينافي العتق في هذه الصورة. فإذا استدام، فهل يتضمن الاستدامة إخراج الموطوءة عن العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تخرج عن إبهام العتق؛ فإن الاستدامة تدل على أنه يبغي استبقاءها، والثاني - أنها لا تخرج عن إبهام العتق بالاستدامة؛ فإن استدامة الوطء حكمها حكم ابتدائه، وقد ذكرنا أن ابتداء الوطء لا يخرجها عن إبهام العتق.
وهذا يقرب من اختلافٍ ذكرناه فيما تقدم، وهو أن الرجل إذا قال لأمته: إذا وطئتك فأنت حرة، فوطئها، فلو وطىء، لم يلتزم مهراً إذا نزع كما (1) غيّب، ولو استدام، فهل يلتزم بالاستدامة مهرها؟ فعلى وجهين. وقد ذكرنا نظير ذلك في كتاب الإيلاء، فيه إذا قال لامرأته: إذا وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً. وهذا الاختلاف في المهر مما تمس الحاجة إليه.
12409- عدنا إلى مسألة ابن الحداد. قال: إذا كان له أربع من الإماء، فقال: كلما وطئت واحدة منكن، فواحدة منكن حرة، ثم وطىء واحدة، وثانية، وثالثة، فقوله " كلما " يتضمن تكرير العتق، وقد وطىء ثلاثاً منهن، فاقتضى ذلك تكرير العتق ثلاث مرات. فإن فرعنا على أن الوطء يتضمن التعيين للملك -وقلنا: الاستدامة تتضمن التعيين أيضاً، والمسألة مفروضة فيه إذا استدام الوطء في كل واحدة- فالجواب على هذا أنه يتعين للعتق الأولى والثانية والرابعة وترق الثالثة.
وبيانه أنه لما وطىء الأولى، فقد وقع عتق، وخرجت الأولى عن كونها معينة؛ فإنها تعينت للملك بالاستدامة، وخرجت الثانية والثالثة عن ذلك العتق أيضاً، فتعينت
__________
(1) كما: بمعنى عندما.(19/269)
الرابعة وعَتَقت، ولما وطىء الثانية، وقع عتق آخر، وخرج عنه الثانية لدوام الوطء فيها وتردد العتق بين الأولى والثالثة، ولكن لما وطىء الثالثة، خرجت عن كونها معينة بذلك العتق فتعينت الأولى وعَتَقت، ولما وطىء الثالثة، وقع عتق آخر، ولم يصادف الرابعة والأولى فإنهما قد عَتَقَا من قبل، وخرجت الثالثة عن كونها معينة، فعتقت الثانية. هذا إذا قلنا الوطء تعيين واستدامة تعيين.
فأما إذا قلنا: الوطء بعد العتق تعيين، واستدامته ليست بتعيين -وعليه فَرَّع ابن الحداد- فنقول: لما وطىء الأولى، وقع عتق مبهم بين الأربع، ثم لم يعد إلى وطء الأولى، ولم يطأ الرابعة، فيخرج عن ذلك العتق بين الثانية والثالثة؛ فإنه وطئهما بعد العتق الأول. فإذاً ذلك العتق بين الأولى والرابعة، فيقرع بينهما، فإن خرجت القرعة على الرابعة، عتقت، ثم لما وطىء الثانية، وقع عتق آخر، ولا حظ فيه للرابعة؛ فإنها قد عتقت بالقرعة، ولا حظ فيه [للثالثة] (1) فإنها وطئت بعده، فهو متردد بين الأولى والثانية، فيقرع بينهما، فمن خرجت القرعة عليه منهما، عَتَقَت، ثم لما وطىء الثالثة وقع بوطئها عتق جديد، لا حظ فيه للرابعة، ولمن عَتَقَت من الأولى والثانية، فإن عتقت الأولى، أقرعنا بين الثانية والثالثة. وإن عتقت الثانية، أقرعنا الآن بين الثالثة والأولى، ولا تدخل من عتقت في القرعة؛ ما دمنا نتمكن من الإقراع بين اثنتين لم تتعين واحدة منهما للحرية؛ والسبب فيه أنه لا بد من تحصيل العتق في ثلاث منهن؛ فإن اللفظ يقتضي ذلك صريحاً، ولو أدخلنا عتيقة في [القرعة] (2) ، لم يتحصل هذا المعنى.
ولو خرجت القرعة الأولى التي ضربناها بين الأولى والرابعة على الأولى، عتقت، ولما وطىء الثانية، دار العتق بينها وبين الرابعة، والثالثة خارجة من هذا العتق، فإنها موطوءة بعد ذلك، فنقرع بين الثانية والرابعة، فإن خرجت القرعة على الثانية، عتقت، ولما وطىء الثالثة دار العتق بينها وبين الرابعة، فنقرع بينهما، فإن خرجت
__________
(1) في الأصل: " للثانية ".
(2) في الأصل: " الحرية ".(19/270)
القرعة على الثالثة، عتقت، ورقّت الرابعة، ولا يخفى القياس بعد تمهيد الأصول، إن شاء الله.
وهذا إن قلنا: الاستدامة لا تكون تعييناً، والوطء بعد الإبهام تعيين.
12410- فأما إذا قلنا: الوطء لا يكون تعييناً أصلاً، فقد وقع بين الإماء الأربع العتق ثلاث مرات، فعَتِق ثلاثٌ منهن، فكيف السبيل في القرعة والتمييز؟ المذهب الصحيح الذي عليه التعويل أن يقرع بينهن على ترتيب في دفعات، فنقول: لما وطىء الأولى، وقع عتق، فيقرع لذلك بين الأربع بسهم عتق وثلاثة أسهم رقّ، والوطء لا يتضمن تعييناً. فإن خرجت القرعة على الرابعة عَتَقَت، ولا مهر، فإنها ليست موطوءة، وإن خرجت القرعة الأولى على الأولى، فقد بأن أنها عَتَقت بابتداء الوطء، فإن قلنا: استدامة الوطء يوجب المهر، فلها مهرها بسبب الاستدامة، وإن قلنا: لا مهر لها بسبب الاستدامة، فلا تستحق شيئاً.
وإن خرجت القرعة الأولى على الثانية، أو على الثالثة، فتستحق المهر؛ فإنا تبينا أنها عتقت قبل أن وطئها السيد بالعتق الواقع بوطء الأولى، والوطء بعد العتق يوجب المهر، ثم إذا عتقت واحدة من الأربعة بالقرعة الأولى، فيقرع مرة ثانية بسهم عتق وسهمي رقّ. فإن كانت الأولى قد عتقت بالقرعة الأولى، فيقرع بين الثانية والثالثة والرابعة، فإن خرجت القرعة على الرابعة، عَتَقَت ولا مهر لها؛ فإنها لم توطأ. وإن خرجت القرعة الثانية على الثالثة، عتقت، وفي استحقاق المهر وجهان مأخوذان من أن استدامة الوطء هل توجب المهر، ثم نقرع مرة أخرى بين الثالثة والرابعة بسهم عتق وسهم رق. فإن خرجت القرعة على الرابعة، فلا مهر، وإن خرجت على الثالثة، فعلى وجهين لما ذكرناه من الاستدامة.
وحقيقة هذا أن المهر يجب بالوطء بعد العتق، وفي الاستدامة وجهان، ثم تبين العتق بالقرعة، وتبين بحسبه أمر المهر على ما يقتضيه القياس. فإن عتقت الثانية بالقرعة الأولى، فقد وُطئت بعد العتق، وإن خرجت القرعة الأولى على الأولى، فيخرج وجهان في أن الاستدامة هل توجب المهر، ولا يبيّن أمرَ المهر إلا ترتيبُ القرعة على هذا الوجه الذي ذكرناه.(19/271)
12411- وقال بعض أصحابنا يقرع بين الإماء دفعة واحدة بثلاثة أسهم حرية وسهم رق، فتعتق ثلاث منهن، وتَرِق واحدة، فلو خرج سهم الرق على واحدة أولاً رَقَّت، وعَتَقَت الثلاث الباقيات.
وهذا وإن كان يميز العتق، فالمصير إليه يجر لَبْساً في المهر، فإنه إذا عتقت ثلاث منهن، فكيف ابتداء الوطء واستدامته؟ وبماذا يعلم من تستحق المهر وجهاً واحداً، ومن تخرج المسألة فيه على وجهين من الاستدامة؟ وهذا اللبس يتحقق إذا قلنا: الاستدامة لا توجب المهر، ثم يلتبس عليه الأمر، فإن قلنا: الاستدامة توجب المهر، فتصح القرعة على هذا الوجه، ولكل موطوءة عَتَقت مهرُها، فأما إذا قلنا: الاستدامة لا توجب المهر، فلا تصح القرعة على هذا الوجه قطعاً.
12412- وإنما يتم الغرض في ذلك بأن نذكر صورة أخرى، فنقول: إذا وطىء الأربع، والمسألة كما صورناها، فلا شك أنهن يعتقن جميعاً، ولا حاجة إلى القرعة لأجل العتق، ولكن أمر المهر مشكل، ولا يتبين أمره إلا بأن يُقرع بينهن بسهم عتق وثلاثة أسهم رق، فإن خرجت الحرية على الأولى، ففي استحقاق المهر وجهان؛ لمكان الاستدامة. وإن خرجت القرعة على الثانية، فلها مهرها، فإنا عرفنا أنها عَتَقَت أولاً ثم وُطئت، وهكذا القياس، والضابط فيه أنا نرتب القرعة على التفصيل المقدم، فمن بان بالقرعة أنها عَتَقت بوطئها، ففيها وجهان مأخوذان من الاستدامة، وإن عتقت، ثم جرى الوطء بعد العتق فيها، فيجب المهر وجهاً واحداً، فإن تقدم وطء واحدة ثم أبانت القرعة العتقَ بعد وطئها، فلا مهر لها وجهاً واحداً.
هذا ترتيب القول في أمر المهر لا ينقدح غيره.
وإن عتقن بجملتهن إذا جرى الوطء مرتبا على ما ذكرناه، فإن قيل: إذا وطىء ثلاثاً منهن كما تقدم تصويره، فهلا أقرعتم بينهن معاً، ثم تقرعون على الترتيب مرة أخرى لمكان المهر، كما فعلتم ذلك فيهن إذا عتقن جميعاً في الصورة الأخيرة؟
قلنا: أنشانا القرعة في المسألة الأخيرة لأجل المهر مرة واحدة. ولو أقرعنا فيه إذا وطىء ثلاثاً منهن دفعة واحدة من غير ترتيب بثلاثة أسهم حُرية وسهم رق، ثم عُدنا(19/272)
فأقرعنا على الترتيب مرة أخرى، فربما تتناقض القرعتان، فلا ينتظم الأمر أصلاً، فلا وجه إلا الترتيب أول مرة.
فإن قيل: في المسألة الأخيرة أقرعتم للمهر، وهذا لا سبيل إليه؛ فإن القرعة إنما شرعت في العتق، فأما إذا أشكل من تستحق مهراً، فتمييز ذلك بالقرعة بعيد.
قلنا: العتق وإن حصل فيهن فالقرعة تُبيّن الترتيب في وقوع العتق، ثم يترتب عليه أمر المهر، فلم تنشأ القرعة للمهر، وإنما اعتمدنا بها ترتيب العَتاق، وإذا تطرقت القرعة إلى أصله، تطرقت إلى ترتيبه، ثم المهر يَتْبع الترتيبَ.
هذا بيان المسألة على أبلغ وجه في الإمكان.
فرع:
12413- إذا قال: أعتق عبدك هذا عني، ولك علي مائةُ درهم، فإذا قال: أعتقتُه عنك، نفذ العتق عن المستدعي، ولزمه العوض المسمى، ولا يشترط في ثبوت العوض أن يعيد المعتِقُ ذكرَ العوض؛ فإن الجواب مرتب على السؤال، والسؤال كالمُعاد في الجواب، وهذا قد تمهد في المعاوضات، وغرض الفرع شيء وراء هذا.
فلو قال: أعتق عبدك (1) هذا عني بمائة، فقال: أعتقته، ولم يقل: أعتقته عنك، وقع العتق عن المستدعي، وثبت العوض، وإن لم يضفه إلى المستدعي؛ لما قررنا من حمل الجواب على الخطاب.
ومما يعرض في هذه الصورة أن المجيب لو قال: أعتقتُه، ثم زعم أنه أراد إعتاقه عن نفسه، فالذي أراه أن ذلك مقبول منه؛ فإن لفظه لا ينافي قصده في ذلك، والعبد ملكُه، فخرج من ذلك أنه إن أطلق ولم يقصد شيئاً، فهو محمول على موافقة الخطاب، وإن صرفه إلى نفسه، وجب تصديقه فيه.
ولو قال: أعتق عبدك بمائة، فإذا أعتقه، لم يقع العتقُ عن المستدعي، وفي استحقاق العوض وجهان مشهوران (2) ذكرناهما في كتاب الظهار.
__________
(1) ت 5: " عبدي ". وهو سبق قلم.
(2) أصحهما يلزم العوض.(19/273)
ولو قال: أعتق أم ولدك عني ولك مائة، فأعتقها، فلا شك أن العتق لا يقع عن المستدعي؛ فإن وقوع العتق يستدعي لا محالة تقديرَ نقل الملك إلى المستدعي، وهذا غير ممكن في أم الولد. ولكن المذهب أن العتق ينفذ في المستولدة، ولا يثبت العوض؛ فإنه قيّد استحقاق العوض بوقوع العتق عنه (1) .
وذكر الشيخ وجهاً غريباً أن العتق لا ينفذ؛ فإنه إنما أعتقها على استحقاق العوض، فإذا لم يَسْلم العوض، لم ينفذ العتق، وهذا خطأ غيرُ معتد به؛ فإن من أعتق عبداً عن كفارته، وكان بحيث لا يجزىء عن الكفارة، فالعتق ينفذ، وإن لم تبرأ الذمة عن الكفارة (2) .
ولو قال: أعتق أم ولدك، ولك مائة، ولم يقل: أعتقها عني، فالذي قطع به الأئمة أنه يستحق العوض، كما ذكرناه في العبد القن إذا قال: أعتقه، ولم يقل: عني، [وكما ذكرناه أيضاً في اختلاع الأجنبي إذا قال: طلّق زوجتك وعليّ ألف، فإنه يلزم الألف.
ونقل وجهاً آخر -في أم الولد- أنه لا يلزم العوض] (3) وهذا غريب جدّاً (4) .
__________
(1) " وقيل يستحق العوض، ويُلْغى قولُه: عنّي، ويجعل باقي الكلام افتداء " قاله النووي في الروضة: 8/292.
(2) خالف الغزالي إمامه في ذلك فقال معقباً على هذا بعد أن نقله عن الإمام: " وعندي أن هذا الوجه متجه، ويجري في مسألة الكفارة أيضاً؛ بناء على أن من حاول في تصرفه محالاً، يلغى أصل كلامه، والقدر المحال، كما إذا قال: اشتريته لزيد، وزيد لم يأذن له، لم يقع عن زيد، وهل يقع عن المشتري؟ وجهان. وكذلك إذا قال: أعتقت عن زيد، فلا يبعد أن يؤاخذ ببعض كلامه ويلغى الباقي، بل هو منقاس ". (ر. البسيط: ج 6 صفحة رقم 381 مخطوطة مرقمة الصفحات) .
وأقول: لم يحك هذا الوجه القائل بعدم وقوع العتق -فيما رأينا- غير إمام الحرمين والغزالي في البسيط، فلم أره في (البيان) للعمراني، ولا في الروضة للنووي، ولا في الشرح الكبير للرافعي، ولا في التهذيب للبغوي، مع عرضهم للمسألة، وقطعهم بنفوذ العتق، وذكرهم أن المذهب عدم استحقاق العوض، أو الأصح عدم استحقاقه.
(3) ما بين المعقفين زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، حيث سقطت من النسختين، وزادها المحقق على ضوء السياق والسباق، مع الاستعانة بألفاظ وعبارات المصادر التي عرضت المسألة.
(4) لم يذكر النووي هذا الوجه، واكتفى بقوله: "وإذا قال: أعتق مستولدتك على ألف، =(19/274)
ثم أشار إلى الفرق فقال: أم الولد مملوكة تضمن باليد، فلا يتحقق فيها معنى الفداء والتخليص بخلاف الزوجة؛ فإن المالية لا تتحقق فيها، وهذا ليس بشيء (1) .
فرع:
12414- إذا كان بين شريكين جارية مشتركة، وكانت حاملاً بولد رقيق مشترك بينهما، فقال أحد الشريكين: نصفي من الجنين حر، فأتت بولد لزمان يعلم أنه كان موجوداً يوم الإعتاق، نُظر: فإن انفصل حياً، حكمنا بأنه حر: إعتاقاً وسراية، وعلى المعتِق قيمةُ نصفه لشريكه.
وكل ذلك تفريع على تعجيل السراية.
ثم اتفق الأصحاب على أنا نعتبر قيمةَ يوم انفصاله حياً؛ فإن العتق وإن تقدم على هذه الحالة، فلا يمكن اعتبار حالة متقدمة على وقت الانفصال، وهذا أصل ممهد.
ولو انفصل الجنين ميتاً، نُظر: فإن انفصل من غير جناية جانٍ، فلا ضمان على المعتِق، وإن انفصل بجناية جانٍ، فعليه غرةُ عبدٍ أو أمة، كما لا يخفى تفصيل الغرة.
وإنما أوجبنا الغرة؛ لأن الجنين حر مسلم، ثم يجب على المعتِق لشريكه نصف عشر قيمة الأم؛ نظراً إلى قيمة الجنين المملوك، وإنما يلزم المعتِق القيمةُ مع تقدير استمرار الرق والملك. وهذا واضح.
قال القفال فيما حكاه الشيخ: هذا فيه إذا كان عشر قيمة الأم مثلَ الغرة أو أقلَّ، فيلتزم نصف العشر في مقابلة نصيب صاحبه من الجنين، فأما إذا كان عشرُ القيمة أكثر
__________
= فأعتقها، نفذ العتق، وثبت الألف، وكان ذلك افتداءً من المستدعي، كاختلاع الأجنبي" (ر. الروضة: 8/292) . وكذا البغوي في التهذيب ذكر المسألة عرضاً في كفارة الظهار، ولم يذكر إلا أن العوض يستحق (ر. التهذيب: 6/173) وأما الغزالي فذكر هذا الوجه في البسيط ووصفه بأنه غريب -كما وصفه إمام الحرمين- ولم يذكره في الوسيط.
(1) حقاً إن هذا الفرق ليس بشيء، فليس هناك من ناحية الافتداء والتخليص فرق بين الزوجة وأم الولد، وإنما الفرق بين الزوجة وأم الولد من جانب وبين العبد القن من جانب آخر، والمعنى أنه لو قال: أعتق عبدك ولك عليّ ألف، عتق العبدُ، ولزمه الألف، هذا هو المذهب، وفيه وجه أنه ينفذ العتق، ولا يلزم العوض، وهذا الوجه يخرج في العبد والأمة ولا يخرج في أم الولد واختلاع الزوجة، والفرق أنه يمكن شراء العبد أو الأمة وإعتاقهما، فلا تتعين هذه الطريقة لتخليصهما، بخلاف الزوجة والمستولدة، إذا احتيج إلى فدائهما وتخليصهما.(19/275)
من الغرة، فلا يلتزم لصاحبه إلا نصف الغرة، فإن سبب وجوب الضمان (1) الغرةُ بدليل أنه لو انفصل من غير جناية، لم يجب شيء من الضمان، فينبغي أن يُعتبر مقدارُ الغرة كما اعتبرنا أصلها.
قال الشيخ أبو علي: الوجه ألا ننظر إلى مقدار الغرة ونسبة عُشر قيمة الأم إليه، بل نقول: يلتزم نصفَ عُشر قيمةِ الأم بالغاً ما بلغ؛ فإن انفصاله مضموناً بمثابة انفصاله حياً، والدليل عليه أن الغرة الواجبة يستحقها وارث الجنين، وقد لا يستحق المعتق منه شيئاً، ومع هذا ألزمناه الغرم، وإنما كان يجب مراعاة المناسبة بين الغرمين لو كان الواجب بالجناية للمعتِق، فإذا كان يغرَم بعتقه وليس له من الغرة شيء، فيلتزم نصفَ عشر القيمة من غير التفات إلى المقدار والتساوي والتفاوت.
فرع:
12415- إذا قال مالك عبدين: أحدكما حر على ألف درهم، فقالا جميعاً: قبلنا، معناه قبل كل واحد منا ألف درهم؛ فإنهما لو قبلا ألفاً على معنى التوزيع، لم يعتق واحد منهما؛ فإنه علّق عتق أحدهما بقبول أحدهما ألف درهم، فإذا قال كل واحد منهما: قبلت الألف، فقد تحقق متعلَّق العتق، فوجب الحكم بنفوذه على الإبهام.
ثم لو مات المولى، وقلنا: لا يقوم الوارث في البيان مقامه، أو لم يكن له وارث معين، فنُقرع بينهما. فمن خرجت عليه القرعة، ألزمناه.
وفيما نُلزمه وجهان: أصحهما - أنه نُلزمه قيمةَ رقبة نفسه، فإن القبول جرى في مقابلة إيجاب مبهم. ولا تصح المعاوضة على هذه الصفة، ولكن نفذ العتق لتحقق الصفة، فالرجوع إلى قيمة الرقبة الفائتة بالعتق.
وحكى الشيخ وجهاً آخر أن من تعيّنه القرعة، فعليه الألف المسمى، ويقبل المسمى الترديد، كما قَبِل العتقُ في نفوذه ذلك اتباعاً لعوض العتق، وهذا بعيد لا اعتداد به.
__________
(1) سبب وجوب الضمان الغرة: المراد ضمان الشريك لشريكه، فلو لم توجد الغرة -كأن انفصل ميتاً بغير جناية- فلا ضمان على الشريك. هذا معنى كون الغرة سبباً في الضمان.(19/276)
فرع:
12416- إذا شهد شاهدان على أن فلاناً أوصى بعتق هذا العبد، وعيّنا عبداً، ونفذ القضاء بشهادتهما، وشهد شاهدان على أنه أوصى بعتق عبد آخر، وكل واحد منهما يعدل ثلثَ التركة، ثم رجع الشاهدان الأولان، فالقضاء لا ينقض بعد نفوذه، ويقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على العبد الأول، التزم الراجعان قيمة [ثلث] (1) التركة لرجوعهما، فإن الذي جرى منهما تفويت لا يتوقع له مستدرك، فيوجب الضمان مذهباً واحداً.
ثم إذا اتفق ما وصفتُه، فالتركة متوفرة على الورثة من غير نقصان، وإن كانت إحدى البينتين مصرة على شهادتهما؛ فإن القرعة عينت العبد الأول واقتضى الشرع تغريم الراجعَيْن.
وإن خرجت القرعة على العبد الثاني، وشهوده مصرون، عتق ذلك العبد، ولم يغرم الراجعان شيئاً؛ فإن القرعة لم تُفض إلى عتق من شهدا عليه، وسلم الرق فيه للورثة.
فرع:
12417- عبد مشترك بين ثلاثة، فشهد اثنان منهم على الثالث بأنه أعتق نصيبه، [وكان موسراً] (2) ، فالمذهب ردُّ شهادتهما، والتفريع على تعجيل السراية، وإنما رددنا شهادتهما، لأن موجبها أن يغرَمَ الشريكُ لهما قيمةَ نصيبهما، وهما مثبتان لأنفسهما استحقاقاً.
وذكر الشيخ وجهاً بعيداً أن عتق الثالث يثبت في نصيبه، ولكنا لا نُلزمه قيمةَ نصيب الشاهدين، فتقبل الشهادة في العتق، ونردُّها في مكان التهمة. وهذا ليس بشيء؛ فإن الشهادة إذا كان وضعها اقتضاء التهمة، فينبغي أن ترد، ثم إن رددنا شهادتهما على ظاهر المذهب، فالعتق نافذ في نصيبهما مؤاخذة بالإقرار؛ فإن الشهادة وإن ردّت على الثالث لمكان التهمة، فهما مؤاخذان بإقرارهما قطعاً.
وإن قلنا: العتق لا يتعجل سرايته قبل غرامة القيمة، فحينئذ لا يعتِق نصيبهما،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وسقطت من النسختين.
(2) في النسختين: " وكانا موسرين ".(19/277)
ولكن المذهب الظاهر أنه يمتنع عليهما التصرفُ في نصيبهما بموجب إقرارهما بناء على ما قدمناه في تفريع سريان العتق.
فرع:
12418- إذا شهد شاهدان أن هذا الشريك أعتق نصيبه من العبد المشترك، وكان موسراً، ونفذ القضاء بشهادتهما؛ فلو رجعا، فلا مردّ للقضاء، فإن فرّعنا على تعجيل السراية، فلا شك أنهما يغرمان قيمةَ نصيب من شهدا على إنشائه العتق؛ فإن هذا لا مردّ ولا استدراك له، فقطعنا بالغرم.
فأما قيمة نصيب الشريك، فقد وجبت بالشهادة كما ذكرنا. فإذا رجعا، فهل يغرمان تلك القيمة؟ هذا يخرج على القولين. والسبب فيه أن الشريك الذي أثبتنا السراية في نصيبه ربما يقر لشريكه، ويكذب الشاهدين، ويرد القيمة، فالاستدراك (1) موهوم (2) ، فخرجت المسألة في الغرم على قولين.
ولو شهد شاهدان على أحد الشريكين بأنه أعتق نصيبه من العبد وشهد شاهدان آخران أن الشريك الثاني أعتق نصيبه من العبد ولم يتعرض واحد لتاريخ، فيحكم الحاكم بنفوذ العتق في جميع العبد لا محالة، ولا يمكننا أن نقضي بسراية؛ إذ لا تاريخ في تقدم أو تأخر، وليس أحدهما بأن نقدره مُنشئاً ابتداء أولى من الثاني، فلو رجع الشهود بأجمعهم عن الشهادة بعد نفوذ القضاء، وهم أربعة، فيغرم كل واحد منهم ربع قيمة العبد لمن شهد عليه، وتعليله بيّن.
وحكى الشيخ وجهاً آخر أنه لا يَغرم واحدٌ منهم شيئاً لجواز أن نقدر تقدماً في أحد العتقين وسرايته إلى الثاني، فتكون بيّنة الإعتاق شاهدة على الإعتاق بعد السريان. ولو وقع كذلك تحقيقاً، لما وجب على شهود الإعتاق بعد السريان شيء.
ثم هذا الاحتمال لا يختص بجانب، بل يجري في الجانبين جميعاً، والأصل براءة الذمة، فيجب أن ينفى الغرم.
وهذا وجه بعيد لا أصل له. فإن الراجع مؤاخذ بموجب قوله، وهو معترف
__________
(1) ت 5: " فالاشتراك فيه موهوم ".
(2) موهوم: بمعنى محتمل.(19/278)
بالرجوع عن الشهادة على إنشاء العتق، فليلزمه الغرم على موجَب رجوعه، ولا ينبغي أن ندعي له تأويلاً هو لا يدعيه لنفسه، وأيضاً فإن فوات العبد قد تحقق قطعاً بشهاداتهم، وليس البعض أولى من البعض، فالوجه تغريمهم، كما ذهب إليه الأكثرون، لا وجه غيره.
فرع:
12419- إذا شهد شاهدان أنه أعتق سالماً في مرضه - وهو ثلث ماله، وقال الوارث: قد أعتق غانماً -وهو ثلث ماله- ولم يتعرض لتكذيب الشاهدين، فقد ثبت العتق في سالم وغانم في ظاهر الحال، فنقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على غانم الذي أقر له الوارث، عتق، وعتق سالم، فإنا لو رَدَدْنا عتق سالم، لكنا قد تسببنا إلى رد العتق المشهود عليه بسبب إقرار الوارث، ولا سبيل إلى هذا، ولو لم يكن إقرار الوارث، لعَتَق سالمٌ قطعاً، ولو خرجت القرعة على سالم، فعتقه محكوم به، ولكن يرق غانم؛ لأن الوارث اعترف بعتقه في المرض وذلك يوجب القرعة، فمقتضى إقراره تعريضُ غانمٍ للقرعة، فأما أن يعتِق لا محالة، فلا.
فرع:
12420- ذكر الشيخ في مقدمة مسألة في الغرور زوائد، نذكرها ثم نذكر المسألة قال: إذا غُر الرجل بأمة في النكاح، واعتقد حريتها، وولدت على غرور ولداً، فهو حر، ثم يغرم المغرور لسيد الأمة قيمة الولد إذا انفصل حياًً. وهذا مشهور.
وقال الشيخ: القياس ألا يغرم شيئاً، لأن الولد خلق حراً، فلم يثبت فيه رق ثم تسبب إلى إزالة الرق، وإنما يجب الغرم لمالك الرق إذا فرضت جناية فيما ثبت ملكه فيه.
ثم قال: وهذا فلا (1) وقع له. والإجماع بخلافه، فأوضح أن الذي ذكره ليس بتخريج، [وإنما هو إبداء قياس] (2) واحتمالٌ غيرُ مقولٍ به.
__________
(1) كذا في النسختين (فلا) بالفاء. ووضعُ الفاء مكان الواو معهودٌ في لسان الإمام وكل معاصريه من الأئمة والمؤلفين.
(2) في الأصل: قلنا: " هو إيداء قياس ... إلخ " والمثبت من (ت 5) .(19/279)
ثم أجرى في أثناء المسألة أن من قال من أصحابنا: لا يغرم المغرور شيئاً، فتفريعه كذا، وهذا يوهم أن ما ذكره وجه، ولست أثق بهذا، وقد انعقد الإجماع على خلافه، وجرى به قضاء عمر رضي الله عنه (1) .
وقد ذكر الشيخ في صدر المسألة أن هذا قياسٌ غير معمول به والإجماع على خلافه.
ومما زاده أن قال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الولد يمسّه الرق، ثم يعتِق بسبب الغرور، وهذا غريب جداً، لم أره لغيره، فلا أعدّه من المذهب.
12421- ثم نرجع إلى صورة المسألة: قال ابن الحداد: إذا غُرّ الرجل بأمة وجاء الولد على الغرور حراً كما ذكرنا، فلو بان أن الجارية كانت لأب المغرور، فالمذهب أنه يغرم قيمةَ الولد جرياً على قياس الغرور.
ولو نكح جارية أبيه على علمٍ، لكان الولد يعتِق على الجد، وإذا جرى الغرور على جهلٍ من المغرور بأن الجارية لأبيه، فالغرم واجب.
وقد حكى الشيخ وجهاً أنه لا يجب الغرم، فإن تقدير الرق في الولد مما لا ينتفع به الأب. فإنه يعتق عليه لا محالة. فإذاً لم يفته بسبب الغرور رقٌّ ينتفع به، وهذا ينبه على أمر آخر، وهو أن الابن إذا نكح جاريةَ أبيه، فقد ذكرنا أن الرق لا يبقى في الولد، وإن كان الابن عالماً، فظاهر كلام الأئمة أنه لو كان كذلك، لقلنا: ينعقد رقيقاً، ثم يعتِق على الجد، وهذا كما لو اشترى أو اتهب من يعتق عليه، فالملك يحصل، ثم يترتب عليه العتق. فوجود الولد من جاريته سبب في تملك الولد، فليحصل الملك فيه ثم يعتق.
وهذا فيه أدنى احتمال؛ فإن انعقاد الولد حراً ليس بدعاً، ويستحيل شراء لا يفيد ملكاً، وكذلك الإرث وغيرهما من أسباب الملك، ولا يستحيل علوقٌ على الحرية.
__________
(1) أثر عمر عزاه الحافظ إلى البيهقي من حديث الشافعي عن مالك (ر. التلخيص: 4/391 ح 2706) .(19/280)
فلو قيل: لا ينعقد الولد إلا حراً، لم يبعد. والله أعلم.
فرع:
12422- إذا كان في ملك المريض ثلاثة آلاف درهم، فاشترى في مرض موته عبداً قيمته ألف درهم، بألفي درهم، فقد حابى بثلث ماله، فلو أعتق ذلك العبد الذي اشتراه، فقد قال ابنُ الحداد: نُظر فيه؛ فإن لم يوفر الثمن حتى يعتق قال: نفذ العتق، وردت المحاباة، ولزم البيع في العبد بثمن المثل.
وإن وفّر الثمن، لزمت المحاباة، ورددنا العتق.
وقد جمع ابن الحداد بين غلطات فاحشة، فنذكر المذهب الحق ثم نذكر وجوه خطئه، فنقول: المحاباة لازمة؛ لأنها على مقدار الثلث والعتقُ مردود؛ فإنه وقع بعدها، ولا فرق بين أن يقع العتق بعد التوفير أو قبله؛ فإن المحاباة لا يتوقف لزومها حيث تلزم على إقباض وتسليم، وقد ثبت فيها التقدم.
وأما غلطاته، فمن وجوه: منها أنه فرق بين أن يوفر الثمن وبين أن لا يوفر، ومنها أنه ألزم البيع بمقدار ثمن المثل، وهذا ليس بشيء؛ فإن البائع لا يرضى بهذا، وهو يقول: إذا لم يسلم لي الثمن المسمى، فسخت العقد، فلا وجه لما قال أصلاً.
قال الشيخ: اتفقت له زلاّت في مسائل الكتاب، ولم تتفق زلة أفحش مما ذكرناه في هذه المسألة، إذ لا إشكال ولا خيال فيها.
فرع:
12423- جارية مشتركةٌ بين شريكين زوجاها من ابن أحدهما، قال ابن الحداد: إذا ولدت، عتق نصف الولد على الأب، ويبقى نصفه رقيقاًً، ولا يسري العتق؛ فإن السريان إنما يثبت إذا كان التسبّب إلى العتق مختاراً، كما مهدنا ذلك في بابه، ولم يوجد اختيار من الأب، فوقف العتق على النصف ولم يسرِ، فالولد نصفه رقيق ونصفه حر.
قال الشيخ: رأيت لبعض من شرح الفروع شيئاً لا أصل له، وهو أنه قال: إنما لا يسري لأن نصف الولد ينعقد حراً، ولا نقول: ينعقد الكل رقيقاًً، ثم يعتِق نصفه.
والحرية الأصلية لا تسري وإنما يسري العتق الوارد على الرق في بعض الولد. وقد أشرت إلى إظهار ذلك احتمالاً فيما تقدم.(19/281)
ثم قال الشيخ: هذا خطأ. والمقطوع به أن الولد ينعقد جميعه رقيقاًً، ثم يَعْتِق نصفه على الأب، وتعليل عدم السريان بما ذكرناه من سقوط الاختيار في تحصيل الملك، ولا نظر إلى كون التزويج صادراً عن الرضا؛ فإن وقوع الوطء وجريان العلوق بعده لا يتعلق باختيار المزوّج. والله أعلم.
***(19/282)
باب الولاء
12424- من عَتَق في ملكه مملوك فولاء ذلك العتيق لمن حصل العتق في ملكه، ولا فرق بين أن يحصل الملك اختياراً، وبين أن يقع شرعاً ضرورة من غير اختيار.
فإذا أعتق الرجل مملوكه، أو اشترى من يعتِق عليه، فَعَتَقَ، فالولاء يثبت له، وكذلك إذا ورث من يعتق عليه وعَتَق، يثبت الولاء.
والأصل في الولاء السنة والإجماع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". وفي بعض الروايات: " لا يباع، ولا يورث، ولا يوهب " (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " الولاء لمن أعتق " (2) .
والولاء أثر نعمة أنعمها المعتِق على المعتَق، فكأنَّ حقيقته ترجع إلى انتساب المنعَم عليه إلى المنعِم، ثم ذلك الانتساب يثبت أحكاماً، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله في تفاصيل الباب.
ومما يعهد في الشريعة أن اجتماع أحكام قد يعبر عنها بعبارة تجمعها كالبيع؛ فإنه عبارة عن اجتماع قضايا وأحكام، وليس العقد في التحقيق زائداً عليها. ثم يسمى ثبوتها عقداً، ويسمى رفعها فسخاً، كذلك الولاء في الحقيقة انتسابٌ لازم، سببه نعمةُ العتق، ثم تعلق بذلك الانتساب أحكامٌ، والعبارة عن مجموعها الولاء.
__________
(1) حديث " الولاء لحمة كلحمة النسب " رواه الشافعي، وابن حبان، والبيهقي من حديث ابن عمر (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/72، 73، صحيح ابن حبان: 7/220، السنن الكبرى: 10/292، التلخيص: 4/392 ح 2708) .
(2) حديث " الولاء لمن أعتق " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: العتق، باب بيع الولاء وهبته، ح 2536، مسلم: العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504) .(19/283)
وليس الولاء حقاً مملوكاً؛ إذ لو كان كذلك، لأمكن حطُّه وإسقاطُه كسائر الحقوق الثابتة للآدمي، وإنما هو كالنسب الذي لا يتصور إسقاطه، وقد دل قول الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في ذلك؛ إذ قال: " الولاء لحمة كلحمة النسب " معناه أنه انتساب كالنسب. وقال: " مولى القوم منهم " (1) . وقال: " سلمان منا أهل البيت " (2) .
وقد قال كثير من أئمتنا من أوصى لبني فلان بشيء دخل الموالي فيهم، وقالوا: الصدقة كما تحرم على بني هاشم وبني المطلب، تحرم على مواليهم.
وعلى هذا الأصل امتنع نفي الولاء بالشرط. فمن أعتق عبداً وشرط ألا يكون له ولاء، لم ينتف كما لا تنتفي الأنساب بعد ثبوتها.
12425- ثم الكلام في الباب يتعلق بأصلين: أحدهما - في الجهات التي يثبت الولاء بها. والثاني - في أحكام الولاء.
فليقع البداية بجهات الولاء، ويجب أن يكون للناظر فضل اعتناء بهذا الباب؛ فإنه مزلة الأقدام، وقد كثر فيه غلطاتُ الكبار، ونحن لا نألوا في الكشف والبيان جهدنا -إن شاء الله عز وجل- وهو ولي التأييد بمنّه ولطفه. فنقول:
الولاء يثبت بمباشرة العتق، وهو أقوى الجهات. ويثبت بغيره أيضاً.
__________
(1) حديث " مولى القوم منهم " رواه أصحاب السنن، وابن حبان من حديث أبي رافع (ر. أبو داود: الزكاة، باب الصدقة على بني هاشم، ح 1650، الترمذي: الزكاة، باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومواليه، ح 657، النسائي: الزكاة، باب مولى القوم منهم، ح 2612، ابن حبان: 5/124 ح 3282، التلخيص: 4/393 ح 2711) .
(2) حديث " سلمان منا آل البيت " رواه ابن سعد في الطبقات (4/82، 7/318) والطبراني في الكيير (6/260) والحاكم (3/598) والبيهقي في الدلائل (3/418) من حديث عمرو بن عوف مرفوعاً. قال الألباني: ضعيف جداً، وقد صح عن علي رضي الله عنه موقوفاً من طرق، رواه ابن أبي شيبة (12/148 ح 1238) ، وابن سعد (2/346، 4/85) ، وأبو نعيم في الحلية (1/187) . (ر. سلسلة الضعيفة للألباني: 8/176-181 ح 3704، ضعيف الجامع الصغير: 3272) .(19/284)
فأما ولاء المباشرة: فهو الثابت لمن حصل العتق في ملكه.
فأما غيرُه من الجهات، فمن استحق ولاءَ شخص بالإعتاق، أو حصولِ العتق فيه، فلو أعتق ذلك العتيق عبداً، فلا شك أنه أولى بولائه، فإن ولاءه عليه بالمباشرة.
ولكن لو مات المعتِق، فيثبت للمعتِق الأول ولاءُ معتَقِ معتَقه. على ترتيبِ سيأتي وصفه -إن شاء الله عز وجل- عند ذكر أحكام الولاء. فمعتَق المعتَق منتسب إليه بولاء المباشرة. وهو منتسب إلى المعتِق الأول بانتسابه إلى معتِقه. فهذه جهة.
والجهة الأخرى الولادة، فولد المعتَق عليه حكم الولاء لمعتِق الوالد.
فخرج مما ذكرناه أن الولاء يثبت حكمه بجهتين أخريين. إحداهما: معتَق المعتَق، والثانية: ولد المعتَق.
ثم لا يختص بولد صلبه، بل يطّرد ويجري على أحفاده، كما سنوضح ذلك بالتفصيل -ولا يتأتى الهجوم على المشكلات إلا قليلاً قليلاً- ثم كما يثبت الولاء على ولد المعتَق يثبت الولاء على ولد المعتَقة، وثبوته على ولد المعتَقة أقرب إلى درك الفهم من ثبوته على ولد المعتَق؛ فإن ولادة المعتَقة محسوسة، والانتساب إلى المعتَق حكمٌ غير محسوس ولا مستيقن.
12426- وينشأ (1) من هذا المنتهى الكلامُ في جر الولاء، ونحن بعون الله نوضح ما فيه. فنقول:
إذا نكح معتَقٌ معتقَةً، فأتت بولدٍ، فهو متردد بين أبويه ولادةً وانتساباً، والولاء يثبت على الولد. واتفق العلماء على أن الولاء على الولد بين المعتَق والمعتَقة لموالي المعتَق، ولا يثبت الولاء لموالي الأم، وهذا يؤكد ما ذكرناه في قاعدة الباب من أن الولاء انتساب؛ فإن النسب إلى الآباء، فكان انتساب الولاء إلى الأب أولى، ثم ينتسب إلى معتَق الأب منه، ولم يصر أحد إلى كون الولاء مشتركاً بين مولى الأب ومولى الأم.
__________
(1) في هامش نسخة الأصل كلمة: (وتبينا) مع علامة لحق بعد كلمة: (وينشأ) ولم أعرف لها موضعاً.(19/285)
ثم نخوض من هذا الموضع في تفصيل جر الولاء، فنقول: إذا نكح مملوكٌ معتَقةً، فأتت بولد، فهو حر بمثابة الأم، ويثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولا يثبت الولاء لمالك الأب؛ فإنه لا ولاء له عليه، فكيف يثبت له الولاء على ولده؟ وإنما قلنا كذلك، لأن الولاء انتساب إلى المنعِم بالعتق، ولم يتحقق ذلك في جانب الأب، ثم لو أعتق السيد العبدَ، ثبت له ولاءُ المباشرة عليه، وانجرّ الولاء على ولده إلى معتِق الأب من معتِق الأم، وهذا أصدق في تقوية جانب الأب في انتساب الولاء؛ فإن الولاء الثابت المحكوم بثبوته لمولى الأم ينقطع عنه، ويثبت لمعتِق الأب.
ومما يجب الإحاطة به في هذا المقام أن الولد لو مات والأب رقيق بعدُ، فورثه مولى الأم، ثم عَتَقَ الأبُ، فذلك الميراث المحكوم به لا ينتقض، بل هو مقر على ما جرى الحكم، والسرّ فيه أن الولاء إذا انجرّ، فليس المعنيّ بانجراره أنا نتبين من طريق الاستناد أن الولاء لم يزل في جانب الأب؛ ولكن المراد به أنه ينقطع من وقت عتق الأب عن مولى الأم، وينجز إلى مولى الأب.
ولو نكح معتَق معتَقة، فأتت بولد، فنفاه المعتَق باللعان، فإن انتفى نسبه، فلا ولاء عليه لمولى الزوج؛ فإن [الولاء] (1) يتبع النسب، فلو مات ذلك الولد، صرفنا ميراثه إلى مولى الأم.
ولو كذب الزوج نفسه، واستلحق النسبَ الذي كان نفاه باللعان، لحقه النسب، ثم ينقطع الميراث عن مولى الأم؛ فإن هذا بابه الإسناد والتبيّن، وهذا واضح لا خفاء به، فوضح أن سبب (2) الجر يقطع ولاء الولد عن موالي الأم، ولا يستند ذلك إلى متقدم سابق.
ومما نذكره في أصل الجر أن المعتَق لو نكح أمة، فأولاده منها أرقاء، فلو أعتقهم مالكهم، ثبت له الولاء بمباشرة العتق، وولاء المباشرة لا يثبت لغير المعتِق، ولا ينجر إلى جانب الأم أصلاً، وإنما ينجر ولاءٌ ثبت عن تعدي الولاء من الأم إلى الولد. وهذا متفق عليه.
__________
(1) في الأصل: " انتسابه "، وفي ت 5 غير مقروءة، والمثبت من المحقق.
(2) ت 5: " نسب الحر " مكان " سبب الجز ".(19/286)
ولو نكح معتَقٌ حرة أصلية، لا ولاء عليها، فأتت بولد، فالمذهب الذي يجب القطع به أن الولاء يثبت عليه لموالي الأب نظراً إلى الأب، وهو معتَق. والدليل عليه أن الأب لو كان رقيقاً، والأم معتَقة، ثبت الولاء بسبب كون الأم معتقة، وإن لم يكن في جانب الأب الرقيق ولاء، فكذلك إذا كان على الأب ولاء، ثبت الولاء على الأب. وإن كانت الأم حرة، لا ولاء عليها، نظراً إلى الانتساب.
والذي يوضح ذلك أن ولد المعتَق من معتَقة يثبت الولاء عليه، وإن لم يمسّه رق قط؛ نظراً إلى الولاء على الأب.
ولو نكح حر لا ولاء عليه معتقةً، وأتت منه بولد، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الولاء لا يثبت؛ فإن جانب الأب لا ولاء فيه، وهو حر مستقل، والنسب إليه؛ فينبغي أن يكون بمثابة أبيه في انتفاء الولاء عنه، وليس كما لو كان رقيقاًً؛ فإنه يتصور الولاء عليه إذا أعتق. والوجه الثاني أن الولاء يثبت على الولد لمولى الأم؛ فإنها معتقة، وقد امتنع إثبات الولاء في جانب الأب. والوجه الثالث - أنه ينظر إلى الزوج، فإن كان حراً ظاهراً وباطناً -وهو الذي لا يتمارى في حريته- فلا ولاء على الولد، وإن كان ظاهر الحرية لا اطلاع على باطن أمره، كالذي يحكم له بالحرية لظاهر الدار، أو للبناء على أن الأصل في الناس الحرية، فالولاء يثبت على الولد لمولى الأم لضعف الحرية في الأب.
وقد ذكر شيخي أبو محمد في المعتَق إذا نكح حرة لا ولاء عليها أن الولد لا ولاء عليه عند بعض أصحابنا. وهذا ليس بشيء ولست أعتد به، ولذلك ذكرته آخراً وأخرته عن ترتيب المذهب.
12427- ومما يتعلق بقاعدة الكلام في الجرّ أن العبد إذا نكح معتقة، وولدت منه ولداً، فهو حر، يثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولو اشترى هذا الولدُ -لما استقل- أباه المملوك، وعتق عليه، فالذي يقتضيه قياس الجرّ أن ينجر ولاؤه إلى جانب الأب؛ فإنه قد عَتَق. ولكن ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا ينجرّ الولاء في هذه الصورة عن مولى الأم؛ فإنه لو انجر، لثبت لمعتِق الأب. ومعتِق الأب هو الابن. فيلزم منه(19/287)
أن ينجر إليه ولاؤه، فيصير مولى نفسه، أو ينجر ويزول وكلاهما بعيد، فإن الولاء لا يزال بعد ثبوته أصلاً.
وقال ابن سريج ينجرّ الولاء عن موالي الأم، فينقطع ويصير الولد بمثابة من لا ولاء عليه أصلاً. وهذا بعيد (1) لا تفريع عليه.
12428- ومن الأسرار التي بالغفلة عنها يستبهم الباب على طالبه أنا إذا كنا نجرّ الولاء إلى جانب الأب، فلسنا نعني بذلك أن الولاء يثبت للأب، ثم يثبت منه لمولاه ومعتِقه، ولكن لا يثبت الولاء على الولد إلا للأب، ولا نقول: المعتَق إذا كان له ولد، فله ولاؤه، وليس كالمعتِق إذا أعتق عبداً؛ فإن ولاءه لمعتِقه، ثم بعده لمعتِق المعتَق، والدليل على ذلك أن الابن من المعتَقة إذا اشترى أباه المملوك، فالولاء لا ينجر عن مولى الأم على الظاهر، ولا نقول ينجر إلى الوالد ولا ينجر منه إلى [الولد] (2) . ولا يستغني الناظر في مسائل هذه عن تفكر وردٍّ إلى النظر والتدبر.
12429- ومما ذكره الأئمة في أصول الجر أن المملوك لو نكح معتقة، وولدت، وقلنا: الولاء لمولى الأم لا محالة، والزوج عبد، فلو كان أبوه الذي هو جد المولود عبداً أيضاً، فلو اشترى إنسان جده وأعتقه، فهل ينجرّ الولاء إلى معتِق الجد؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - ينجر إليه؛ فإن الجد أصل المولود من قبل أبيه، وقد حصل العتق فيه. والثاني - أنه لا ينجر الولاء بإعتاق الجد؛ فإن الأب باق رقيق، والعتق فيه ممكن، فلو قلنا: لو أُعتق الأب، انجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهذا ولاء مجرور غير مستقر، وهو بعيد، وإن قلنا: لا ينجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهو بعيد، فالوجه أن نقول: لا ينجر إلى معتِق الجد أصلاً. والأصح [الوجه] (3) الأول. وهو أنه ينجر إلى معتق الجد، ثم ينجر منه إلى معتق الأب.
__________
(1) خالف الغزالي إمامه في ذلك، إذ قال: " واستبعاد هذا من ابن سريج؛ يبعد عندي، فإنه صار أولى بنفسه من غيره، فيستفيد قطع ولاء موالي الأم عن نفسه " (ر. البسيط: الجزء السادس، صفحة رقم 384 - مخطوطة مرقمة الصفحات) .
(2) في الأصل: " المولى ". والمثبت من (ت 5) .
(3) زيادة من (ت 5) .(19/288)
والذي تحققتُه من مذهب الأئمة أن الأب لو مات رقيقاًً، فأعتق معتق الجدَّ أبَ الأب، فينجر الولاء من مولى الأم إلى معتِق الجد وجهاً واحداً؛ فإنه يستقر، ولا يتوقع فيه بعد ذلك انجرار.
12430- فهذه قاعدة المذهب في جر الولاء، ومنشؤها من قولنا: جانب الأب أولى من جانب الأم، وقد تقرر بمجموع ما ذكرناه أن الولاء يثبت لمعتِق المعتَق، ويثبت على ولد المعتَق والمعتَقة، ثم تفصيل الجر على ما تمهد.
ومما يليق بتمام القول فيه أن ولد المعتَق إذا صرفنا ولاءه إلى مولى الأب، فلو أعتق هذا الولدُ عبداً، فله ولاء المباشرة عليه، فلو مات هذا الولد، ولم يخلف عصبة سوى معتِق أبيه، ثم مات معتَقه، فميراثه لمعتِق الأب.
وفائدة ذلك أن معتَق المعتَق قد ينتهي انتسابه إلى المعتِق الأول، كذلك معتَق ولد المعتَق ينتهي إلى معتِق الأب الذي أثبتنا له ولد الولد، فيلتف النسب بالولاء في جهة الانتماء والولاء بالنسب [إذا] (1) افتتحنا الكلام في الأحكام. وإنما غرضنا الآن إيضاح جهات الولاء وإحكام قواعدها [ثم إنها تتهذب] (2) بالفروع وإكثار الصور المعقَّدة.
والله ولي الإعانة بمنّه ولطفه.
فرع في جر الولاء:
12431- إذا تزوج عبد بأمة، فما يحصل من الأولاد رقيق، فلو وُلد ولا رقيق، فاعتقه مالكه، وهو مالك الأم، فيثبت له عليه ولاء المباشرة، وهذا لا يتصور انجراره، كما قدمنا ذكره وتمهيدَه، ولا يثبت عليه ولاء السراية، والمراد به أنه لا يثبت مع ولاء المباشرة ولاء بسبب ولاء الأم أو بسبب ولاء الأب عند جريان العتق عليهما أو على أحدهما، بل لا يتصور فيه -وقد مسّه الرق والعتق- أن يثبت عليه ولاء من غير جهة المباشرة، ولا يتصور أن نبين غوامض الباب إلا عند نجازه بجميع مسائله.
__________
(1) في النسختين: " وإذا ".
(2) عبارة الأصل: " ثم أتمها في أنها تتهذب ... إلخ ".(19/289)
فإذا أُعتق الأم والأب، فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت عتقهما، فالولاء لمعتق الأم، لأنا نتيقن أنه علق رقيقاً، ثم عَتَق بإعتاق الأم، فولاؤه ولاء المباشرة، لا ينجرّ أصلاً، فإن من ثبت عليه ولاء المباشرة، لم يلحقه ولاء السراية.
وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من عتقها، نُظر: فإن كان الزوج يفترشها، فالولاء عليه لمولى الأب، والأمر محمول على أن العلوق حصل بعد عتق الأم، فقد خلق حراً، وما مسه الرق، فثبت عليه ولاء السراية على الترتيب المقدم.
فإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من يوم عتق الأم، ولأقل من أربع سنين، وكان الزوج لا يفترشها، ففي المسألة قولان، بناء على أنه لو أوصى لحمل عَمْرةَ من زيد بشيءٍ، فإن أتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، استحق الوصية؛ فإنا تحققنا كونه موجوداً يوم الوصية، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فيستحق أيضاً؛ فإنه ولد عمرةَ من زيد، ولا يضر أن يوجد بعد الوصية، وإن كان لا يفترشها، وقد زادت المدة على ستة أشهر، فالصحيح أنه يستحق؛ لأن النسب ملتحق، فهو ولد عمرة من زيد.
وذكر الربيع قولاً أنه لا يستحق، لأنا لم نتحقق كونه من زيد، والنسب لا يبنى [إلا] (1) على التحقق (2) .
والمسألة تصور على وجه آخر.
وهو أنه لو أوصى للحمل الموجود، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر، صحت الوصية له، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فلا تثبت الوصية، لأنا نحيل العلوق على الافتراش الواقع بعد الوصية، ولو كان الزوج لا يفترشها، فأتت بولد، ففي استحقاق الوصية قولان. وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في كتاب الوصايا، عند ذكرنا الوصية للحمل، والوصية بالحمل.
__________
(1) زيادة من (ت 5) .
(2) جملة " والنسب لا يبنى على التحقيق " في موضع الردّ على قول الربيع، وعبارة الغزالي هنا: " لكن النسب يثبت بالاحتمال، والولاء لا ينتفي بالاحتمال " (ر. البسيط: الموضع السابق) .(19/290)
وقدر غرضنا الآن بناء الصورة التي ذكرناها في الجر على هذه القاعدة، وإن كان في نفس الفقيه بقية مما ذكرنا، فليصبر إلى نجاز الباب؛ فإن انحل الإشكال الذي يخطر له، فذاك، وإلا فالأغلب أنه من تساهله في تأمل ما نرسمه في الباب، فليرجع وليتأمل. والله وليّ توفيق الطالبين بمنه وكرمه.
وقد حان الآن أن نذكر أحكام الولاء في فصل.
فصل
12432- يتعلق بالولاء ثلاثة أحكام: الميراث، والولاية في التزويج، وضرْب العقل، وإذا نحن أوضحنا الميراث، كفى وظهر منه غيره.
فنقول: إذا مات المعتَق، نُظر: فإن خلف عصبة نسيباً، فلا يخلص الميراث إلى الولاء أصلاً، وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، وكان في ورثته أصحاب فرائض تستغرق الميراث، فلا ينتهي الميراث إلى عصبة النسب، فما الظن بالولاء؟
وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، ولا فرائض، أو أفضلت الفرائض شيئاً، فهو للمعتِق المباشر للعتق كما قدمنا، فإن كان المعتِق قد مات قبل موت المعتَق، فالميراث مصروف إلى عصبات المعتِق، وقد مضى ترتيب القول في عصبات المعتِق في الفرائض، ولكنا نعيده لنتمكن من الكشف في الأطراف التي لم ينته إليها الشرح في الفرائض.
ونصدِّر ما نريد الخوضَ فيه بتمهيد أصلٍ، وهو أن عصبة المعتِق لا يرثون الولاء كما يرثون الأملاكَ وحقوقها، وإنما يرثون بالولاء بانتسابهم إلى المعتِق بجهةٍ تقتضي العصوبة المحضة، توجب توريثهم.
والدليل على أنهم لا يرثون الولاء، أن الولاء لو كان موروثاً، لاقتضى القياس أن يستوي في استحقاقه بالإرث الرجال والنساء كسائر الحقوق، ومن الدليل عليه أن المعتِق لو مات مسلماً، وخلف ابنا مسلماً، وابنا نصرانياً، ثم أسلم النصراني ومات المعتَق، فالابنان يستويان في ميراث المعتَق؛ لأنهما حالة موته من أهل استحقاق(19/291)
الميراث، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يقال: لما مات المعتِق المسلم، وخلف ابنين أحدهما كافر = إنه يختص بإرث الولاء المسلمُ منهما، ثم كان يجب أن يقال: إسلام الكافر بعد الموت لا يرد استحقاقه؛ فإن من لم يكن وارثاً حالة الموت لكفره، لم (1) يصر وارثاً بعد إسلامه.
ومن الدليل على ذلك أن المعتِق لو مات، وخلف ابنين، ثم مات أحد الابنين عن ابن، ثم مات المعتَق بعد ذلك، فالميراث لابن المعتِق، وليس لابن الابن منه شيء، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يُرَدَّ نصيب أحد الابنين لما مات إلى ابنه، وهذا يوجب توريثه من المعتَق مع عمه. وليس الأمر كذلك؛ فإنه يختص بالإرث العمُّ.
وهو المعنيّ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " الولاء للكُبْر " (2) .
وسيزداد هذا الفصل وضوحاً بالتفصيل.
1433- فإذا ثبت ذلك، خضنا في ترتيب عصبات المعتِق.
فإذا مات المعتَق، ولا عصبةَ له من جهة النسب، ولا صاحبَ فرض، وكان المعتِق قد مات قبله، فلا نصرف إلى الذين هم أصحاب فرائض المعتِق شيئاً، وكذلك لا نصرف إلى الذين لا تتمحض العصوبة فيهم شيئاً. وهم الذين يصيرون عصبة بغيرهم.
فإذا وجدنا [ابنَ المعتِق وبنتَه] (3) ، فميراث المعتَق بجملته لابن المعتِق، وليس لبنت المعتِق شيء، وإن كانت البنت عصبة مع الابن في التوريث بالنسب، وهذا متفق عليه.
وإذا كان في المسألة ابنُ المعتِق وأبوه، اختص بالميراث الابن؛ فإن الأب صاحب
__________
(1) عبارة (ت 5) : " ثم لم يصرف وارثاً بعد إسلامه ".
(2) حديث " الولاء للكبر " رواه البيهقي عن عمر وعثمان من طريق سعيد بن المسيب، ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم " أن عمر، وعليّاً، وزيد بن ثابت كانوا يجعلون الولاء للكبر " (ر. السنن الكبرى: 10/303، مصنف عبد الرزاق 9/30 ح 16238، التلخيص: 4/395 ح 2720) .
(3) في النسختين: ابن ابن المعتق وبنته.(19/292)
فرض مع الابن، وكذلك ابنُ الابن مع الأب: الميراث لابن الابن دون الأب.
وإن لم يكن ابن ولا ابن ابن، فالميراث لأب المعتِق، ثم تترتب العصبات حسب ترتبهم في الميراث بالنسب.
ويخالف ترتيبُ العصبات في الولاء ترتيبَهم في النسب في أمور: منها: أن الجدّ يقاسم الإخوة في النسب؛ وفي الجد مع الإخوة في التوريث بالولاء قولان ذكرناهما، فلا نعيدهما.
ومنها أن الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب إذا اجتمعا مع الجدّ، فمذهب زيد في النسب المعادّة، ولا تجري المعادّة في الولاء أصلاً، بل يسقط الأخ من الأب؛ وذلك لأنا في المعادّة قد نعتبر فرضاً، ولا يتصور اعتباره في الولاء بحال.
فإن لم نجد عصبةً نسيباً للمعتِق، فالميراث لمعتِق المعتِق، فإن لم يكن، فلعصبات معتِق المعتِق، فإن لم نجدهم، فلمعتِق معتِق المعتِق، ثم هكذا إلى حيث ينتهى.
12434- فإن قيل: هلا تورثون معتِق عصبةَ المعتِق؟ قلنا: لا ميراث لمعتق عصبات المعتِق، إلا أن تكون العصبة أباً، فمعتِقه يرث المعتَقَ؛ وهذا بعينه هو الذي مهدناه عند ذكرنا سراية الولاية.
ونوضح هذا بالمثال، فنقول: زيد أعتق سالماً، فوُلد لسالمٍ ولد اسمه عبد الله، فأعتق عبدُ الله عبداً، ثم مات المعتِق عبد الله، ومات أبوه سالم، وبقي معتِق أبيه زيد، ثم مات المعتَق، ورثه زيد؛ لأنه لما ثبتت له النعمة على سالم: أبِ المعتِق، ورث بولائه، وقد ذكرنا أن الولاء يسري إلى ولد المعتَق، وعبّر الأئمة بعبارة جامعة عمن يرث من عصبات المعتِق، وأجرَوْا عليه (1) المسائل، فقالوا: " يرث المعتَق بولاء المعتِق ذكرٌ يكون عصبة للمعتِق، لو مات المعتِق يوم موت المعتَق على البدل "، وعلى هذا تخرج المسائل التي لا يبتدرها فهم المبتدىء.
__________
(1) كذا في النسختين (عليه) بضمير المذكر، على معنى " الأصل " وسيأتي بعد قليل تسميته هذه العبارة (أصلاً) .(19/293)
فلو مات المعتِق، وخلف أباً وابناً، ثم مات المعتَق، ورثه الابن دون الأب؛ لأن المعتَق لو كان هو الميت الآن، لكان العصبة ابنه دون الأب.
وكذلك يخرّج الابن والبنت؛ فإن البنت ليست عصبة ذكراً، وليست عصوبتها بنفسها. ولو مات المعتِق عن ابنين مسلم وكافر، فأسلم الكافر، ثم مات المعتَق، ورثاه، أعني المسلم والذي أسلم بعد موت الأب؛ لأن الأب المعتِق لو مات يوم موت المعتَق، لكان الابنان جميعاً يرثانه بالعصوبة المحضة.
ولو اشترى أخ وأخت أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم الأب اشترى عبداً وأعتقه، فمات الأب، ثم مات المعتَق، ورثه الأخ دون الأخت، وليس يرثه الأخ بالولاء، وإنما يرثه بعصوبة المعتِق بالنسب، وهو يخرج على العبارة الضابطة، لأن المعتِق لو مات في هذه الحالة، لكان عصبته الابن دون البنت.
فإن قيل: أليس الابن والبنت اشتركا في شراء الأب، وثبت لهما الولاء عليه معاً؟ قلنا: نعم، ولكن الابن عصبة بالنسب، وقد ذكرنا أن عصوبة النسب مقدمة على عصوبة الولاء، وما دمنا نجد للمعتَق عصبة نسيباً، لا نصرف إلى معتِقه شيئاً، قيل: هذه المسألة غلط فيها أربعمائة قاضٍ، فضلاً عن غيرهم، وهي واضحة.
ومن غلط، قال: الميراث بين الأخ والأخت، لأنهما مشتركان في ولاء الأب.
وإذا ماتت امرأة عن ابنٍ، وأخٍ، وزوج، ولها معتَق، فمات المعتَق، ورثه الابن لا غير؛ لأنها لو ماتت الآن، كان هو العصبة.
ولو مات رجل عن ثلاثة بنين، وله معتَق، فمات أحدهم عن ابنٍ، والثاني عن أربعة بنين، والثالث عن خمسة بنين، ثم مات المعتَق ورثوه كلهم اعتباراً بالتسوية؛ فإن المعتِق لو مات الآن، لكانوا جميعاً عصبة له يقسمون ماله أعشاراً.
12435- ومما يخرّج على هذا الأصل أنه إذا كان لرجل ثلاثة من البنين، اثنان من امرأة وواحدٌ من أخرى، فمات، ثم اشترى أحد الأخوين من أب وأم -وأولاد الأب والأم يسمّون الأعيان، وأولاد الأب يسمَّوْن العلات- فإذا اشترى أحد العينين عبداً(19/294)
وأعتقه، فمات، ورثه أخوه العَيْن، وصار قائماً بالولاء، فلو مات عن أخيه العَلّة، وعن ابن، فماله لابنه، والولاء لأخيه العَلّة.
فإن قال الابن: أنا قد أحرزت مال أبي، فأُحرز الولاءَ أيضاً، قلنا: لا، فإن الولاء لا يورث، بل يورث به، فالعَلَّة يتقدم على ابن العين (1) .
ولو مات المعتِق -أحد العينين- وخلف ابن عَيْن وعَلَّة - وهو أخوه من أب، فهو العصبة دون ابن العين.
وهذه المسألة بعينها وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه: كان لهشام بن أبي العاص ثلاثة من البنين: اثنان من امرأة، وواحدة من أخرى، فاشترى أحد العينين عبداً، وأعتقه، ومات، وأخذ مالهَ أخوه العين، ثم مات عن ابن، فتنازع هو وأخ العلة في الولاء، فقضى به عثمان للعلَّة. وقيل هذا هو المعني بما ورد: "أن الولاء للكُبْر"، وليس المراد كبر السن وإنما هو كبر الدرجة، ومن هو أقرب وأولى بالعصوبة.
12436- ومما ذكره أبو حامد المروزي في عصبات الولاء أنه إذا كان للمعتَق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فإن سبيل التوريث في النسب أن نقول: للذي هو أخ لأم سدس المال. والباقي بينهما. قال أبو حامد: إذا وقعا في الولاء، فابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ جميع المال.
وهذا لم يُر إلا له، وهو غلط عند المحققين؛ فإن أخوة الأم لا توجب قوةً في عصوبة النسب، فكيف توجب قوةً في الولاء، والوجه الذي لا يجوز غيره استواء ابني العم، وسقوط أثر أخوة الأم.
والمذهب الصحيح أن الأخ من الأب والأم في الولاء مقدم على الأخ من الأب، كما أنه مقدم عليه في التوريث بالنسب. وقال بعض الأصحاب: هما سواء؛ فإن أخوة الأم لو انفردت، لم يعلق بها استحقاق بالولاء، فينبغي ألا تكون مؤثرة في تقوية العصوبة. وهذا وإن كان منقاساً، فهو بعيد في الحكاية، والأصح تقديم الأخ من
__________
(1) لأن المعروف في ترتيب العصبات أن (الأخ لأب) يتقدم على (ابن الأخ الشقيق) .(19/295)
الأب والأم على الأخ من الأب في عصوبة الولاء، وإنما اشتهر القولان في اجتماع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب في ولاية التزويج.
هذا ترتيب المذهب في عصبات الولاء، أعدنا منه ما رأينا إعادته.
12437- ووراء ذلك أمر يجب الاعتناء به، وهو أن المعتَق لو مات، وخلف معتِق أب مُعتِقه (1) -وهو الذي صورناه في أثناء المسألة- فلو انفرد هذا، لاستحق ميراث المعتَق؛ فإنه لما أعتق أبَ المعتِق، ثبت له الولاء على المعتِق بالسراية، لا بالمباشرة، فلما أعتق ذلك الابن عبداً، انتسب المعتَق إليه، وانتسب هو إلى أبيه، والأب معتَق المعتِق الأول، وقد ذكرنا أن الولاء انتساب، فقد ينتظم الانتساب من الولاء المحض، كمعتِق المعتَق ومعتِق معتِق المعتَق.
وإن نظمنا الكلام من الطرف الآخر، قلنا: معتِق معتِق المعتَق ابن المعتِق، وقد ينتظم من الولاء والنسب مثل معتِق أب المعتِق وإن عكست، قلت: معتَق ابن المعتَق. والولاء ينتظم مع من هو ابن المعتِق كما ينتظم مع المعتِق. وكل هذا مما مهدناه من قبل.
وبالجملة للولاء حكم السراية في جهتين، في جهة الأولاد وفي جهة معتِق المعتِق ثم يتركب مُعتِق ابن وابنُ معتِق، وإذا فُهم ذلك، لم يبق وراءه إلا النظر في التقديم والتأخير. فلو مات المعتَق وله معتِق أب المعتِق ومعتِق المعتِق، فلا شك أن معتق معتقه أولى به؛ فإنه يستحق ولاء معتَقه بالمباشرة ومعتِق أبيه يستحق حكم ولاية السراية التي تقدم شرحها، ومن انتهى إلى هذا الموضع لم يخف عليه قوة ولاء المباشرة واستئخار ولاية السراية عنه؛ ولهذا لم ينجرّ ولاء المباشرة وانجر ولاء السراية.
12438- فلو كان في المسألة معتِق أب المعتِق ومعتِق معتِق المعتِق، فهذا موضع التأمل؛ فإن المعتق البعيد العالي ليس له على المعتِق الأخير ولاء مباشرة. وإنما انتظم الأمر بينهما بجهات من الولاء، لم يصدر العتق فيها عن المعتق العالي، فقد يقول ذو الفطنة: معتِق أب المعتِق أقرب، وهو يتوصل إليه بالسراية الوِلادية، ومعتق معتق
__________
(1) سقطت من (ت 5) .(19/296)
المعتق يتوصل إلى المعتق الأخير بالسراية المستفادة من جهة تعاقب جهات الولاء.
فيجب أن ينظر إلى الأقرب، ومعتق أب المعتق أقرب من المعتق العالي البعيد.
وهذا غلط ذكرناه تنبيهاً، ووجهه أن المعتِق الأخير شخص واحد، فرضنا اتصال معتقين به، أحدهما - معتِق أبيه. والثاني - معتق معتِق معتِقه، وإذا كان كذلك فقد مسّ المعتِق الأخير رق، ثم عتق، وثبت عليه ولاء مباشرة، وإذا كان عليه ولاء مباشرة، فلا يتصور أن ينجرّ ولاؤه إلى معتق أبيه، فلا نظر -والحالة هذه- إلى البعد والقرب.
ومعظم مسائل الولاء تعقيدات يحلّها الفكر القويمُ وإحكامُ الأصول، وهي شبيهة بمعاياة الفرائض، وقد يستهين المحقق بمعاياة الفرائض لوضوح أصولها، وتكثير مسائل الولاء حتمٌ، فبها التدرّب، وبتكريرها طرداً من الأعلى إلى الأسفل، وعكساً من الأسفل إلى الأعلى يحصل الإلف بوضع ألباب؛ وإلا فلم يبق من الباب قولٌ في جهة الولاء، ولا في حكمه، ولا فيمن يقدم ويؤخر.
نعم، بقي طرف يسمى سهمَ الدور، وأنا أرى أن نذكر من هذا المنتهى إلى افتتاح القول في الدور مسائلَ متوسطة، ثم بعدها سهمَ الدور، وينتجز الباب عليه.
مسألة:
قال: " ولا ترث النساء الولاء، ولا يرثن بالولاء إلا من أعتقن ... إلى آخره " (1) .
12439- قوله: " لا ترث النساء الولاءَ " يوهم أن الرجال يرثونه، وليس كذلك، فالولاء لا يورث، بل يورث به، وغرض المسألة أن المرأة لا تكون عصبةً للمعتَق عن نسب بينها وبينه عصوبة يستحق به الإرث بالولاء؛ فإنها إن كانت عصبةً، فبغيرها، والعصوبة إذا كانت مستفادة من الغير، لم يتعلق بها توريث بالولاء.
فأما إذا أعتقت المرأةُ عبداً، أو أمة، كانت بمثابة الرجل إذا أعتق، فترث عتيقها حيث يرثه الرجل المعتِق، وكذلك معتَق معتَقها كمعتَق معتَق الرجل، وكذلك ولدُ
__________
(1) ر. المختصر: 5/272.(19/297)
معتَقها منها كولد معتَق الرجل منه؛ فقد ساوت المرأة الرجلَ في ولاء المباشرة، وفي جهتي ولاء السراية.
ولو أعتقت امرأةٌ عبداً، وأعتق رجل أمة، ونكح المعتَق المعتَقة، فأتت بولد، فولاؤه لمعتِقَةِ الزوج لا لمعتِق الزوجة.
ثم ينعقد من هذا مسألة فيها تثبت، وهي أن ابن المعتَق عليه ولاء السراية، وكذلك ابن ابنه وإن تسفّل إذا كان الإدلاء بمحض الذكور.
ولو كان للمعتَق أحفاد إناث، فلا يبتدرنّ الفقيهُ الجوابَ؛ فإن البنت الأولى منتسبة إلى المعتَق، فلا فرق بينها وبين الابن، إذ الذكر والأنثى أبوهما المعتَق، وأما بنت البنت، فإنها تنتسب إلى البنت العالية بالولادة ونسبها الحقيقي إلى أبيها، فانظر مَنْ أبوها وأخرجه من الأصول، فإن كان أبوها معتَقاً لشخص، فهي بين معتَقة ومعتَق، فولاؤها لموالي أبيها، وإن كان أبوها مملوكاً، فولاؤها ينتظم إلى المعتَق الذي هو جدها، وإن كان أبوها حرّ الأصل، فوجهان: أحدهما - لا ولاء عليها، والثاني - أن الولاء عليها لموالي الأم كما قدمنا.
وليس في هذه المسألة زيادة، ولكن لا بد منها؛ إذ بها الدربة وتهذيب الأصول.
مسألة: 12440- إذا اشترت المرأة أباها، عَتَقَ الأب عليها، وثبت لها الولاء على أبيها، على وجه المباشرة، فلو أن الأب بعد ما عَتَقَ اشترى عبداً وأعتقه، فقد ثبت له ولاء المباشرة على معتَقه، وللبنت حقُّ سراية الولاء على معتَقه، ولكن صاحب المباشرة مقدمٌ ما بقي، فلو مات الأب، وخلف مالاً وترك البنت وابن عم أو غيره من عصبات النسب، فللبنت نصف ميراث أبيها والباقي للعصبة؛ فإن عصوبة النسب مقدمة على جهة الولاء، [ولو لم] (1) يخلف الأب سوى البنت، أخذت نصف المال بالنسب ونصفه بالولاء.
ولو مات أبوها وخلّف عمّاً والبنت، فقد بان ميراثه.
__________
(1) في الأصل: " ولم يخلف ". والمثبت من (ت 5) .(19/298)
فلو مات معتَقه، ولم يخلف من خواص ورثته أحداً، وإنما خلف عمَّ معتِقه وابنتَه التي أعتقته، فالميراث كله لعم المعتِق، فإن عصبة المعتِق أولى من معتِق المعتَق.
ومما يتعلق بهذه المسألة أن ابناً وبنتاً لو اشتركا، فاشتريا أباهما نصفين، عتق عليهما، وثبت لكل واحد عليه نصف الولاء، فلو اشترى الأب عبداً وأعتقه، ثم مات الأب، فميراثه بيّن، فلو مات معتَقُه ولم يخلف سوى ابن المعتِق وابنته، فهما مشتركان في الولاء، ولكن الميراث لابن المعتِق، لا لأجل الولاء، ولكن لأنه عصبةُ المعتِق من جهة النسب.
فإذا أخذ الابنُ ميراثه كما ذكرناه، فلو مات الابن وخلف أخته، فلها نصف ميراثه بالأخوة، ولها من الباقي نصفه؛ فإنها لما اشترت نصف أبيها، عتق عليها نصفه، وثبت لها ولاء السراية على نصف ابنه، وكذلك الابن ثبت له ولاء السراية على نصف أخته. فلما مات الابن في مسألتنا، أخذت نصف ميراثه بالأخوة، وأخذت من النصف الباقي نصفه. فيخلص لها ثلاثة أرباع الميراث، ويصرف الباقي إلى بيت المال.
ولو مات الأب، ثم مات الابن، ثم مات معتَق الأب ولم يخلف سوى بنت المعتق، فلها نصف ميراثه بثبوت الولاء على نصف الأب، ولها من النصف الآخر نصفه لثبوت ولاء السراية على نصف الأخ؛ وكان يستحق لو كان باقياً، فيسلّم لها ثلاثة الأرباع (1) . وهذا هيّن.
مسألة: 12441- إذا اشترى الرجل جاريتين كانتا أجنبيتين من المشتري، ولكنهما كانتا أختين لأب وأم، فلما اشتراهما أعتقهما، فقد ثبت له الولاء عليهما لمباشرة الإعتاق فيهما، فلو اشترتا أباهما، وعتق عليهما، فلكل واحدة الولاء على نصف أبيها، ولا يثبت لواحدة منهما الولاء على صاحبتها بسبب ثبوت الولاء على الأب؛ لأن الولاء قد ثبت عليهما للأجنبي بمباشرة الإعتاق، والولاء الثابت بهذه
__________
(1) لأنها في النصف الذي ملكته عن الأب معتِق المعتِق (أي نصف المعتق) وفي النصف الآخر معتق أب المعتق. (بولاء السراية على نصف الأخ) .(19/299)
الجهة لا يتحوّل، فإذا مات أبوهما، فلهما ثلثا ميراثه بالنسب، والباقي بالولاء الثابت لهما عليه؛ إذ لا عصبة للأب غيرهما.
فلو ماتت إحداهما بعد ذلك، فللأخت نصف ميراثها بالأخوة، والنصف الباقي لمعتِقها، إذا لم يكن لها عصبةٌ بنسب.
ولو كانتا ولدي معتقه من أب رقيق، ثم اشترتا أباهما، فيثبت لهما الولاء على الأب، ويثبت لكل واحدة الولاءُ على نصف أختها؛ فإن الولاء إذا ثبت على الأب، ثبت على أولاده، وانجر من جانب الأم إذا لم يكن الولاء على الأولاد بمباشرة الإعتاق. ثم لا يخفى بيان التوريث بعد ذلك.
مسألة: 12442- أختان حرتان لم تعتقا مباشرة، كان أبواهما رقيقين -وتصوير ذلك هيّن بغرور- إذا اشترت إحداهما أباهما، واشترت الأخرى أمهما، فقد ثبت لكل واحدة منهما ولاء المباشرة على من اشترت، ويثبت الجرّ من أحد الجانبين، فولاء التي اشترت أمها ينجر إلى التي اشترت أباها؛ فإن من ثبت له الولاء على الأب، انجر إليه ولاء أولاده من موالي الأم. فأما التي اشترت الأم، فالمنصوص أن ولاء صاحبتها، وهي التي اشترت الأب للتي اشترت الأم؛ لأن التي اشترت الأب جرّت ولاء أختها بسبب إعتاقها الأب. فلو جرت ولاء نفسها على القياس، لكانت مولاة نفسها، أو لانقطع الولاء، وكلاهما محال؛ فتعذّر الجر. وإذا تعذر، بقي ولاؤها لموالي الأم، وأختها مولاة الأم؛ فصارت كل واحدة من الأختين مولاة الأخرى.
وقد يتصور شخصان كل واحد منهما مولى صاحبه من أعلى ومن أسفل، وسنذكر لذلك أمثلة.
وقال ابن سريج في مسألة الأختين: ولاء مشترية الأب لا يكون لمشترية الأم، بل تجر ولاء نفسها، ويرتفع الولاء عنها، وتصير بمثابة مَنْ لا ولاء عليه لأحد. وقد قدمنا هذا بعينه في تمهيد أصول الولاء.
فإذا وضح أمر الولاء، هان ترتيب الإرث، فنقول: إذا مات الأب، فميراثه مقسوم بينهما، فلهما الثلثان - أعني البنتين، وباقي ميراثه للتي اشترته بالولاء، وإذا ماتت الأم فثلثا الميراث لهما. وباقي ميراثها للتي اشترتها.(19/300)
ثم إذا ماتت إحداهما بعد ذلك، نُظر: فإن ماتت التي اشترت الأم، فنصف ميراثها للأخت بالأخوة، وباقي الميراث مصروف إليها بالولاء؛ فإنها جرت ولاءها بإعتاق الأب.
وإن ماتت التي اشترت الأب، فنصف ميراثها لأختها بالأخوة، والنص أن الباقي يصرف إليها بالولاء لتعذر الجر. هذا هو النص. وابن سريج يزعم أنه لا يصرف إليها الباقي؛ فإنه لا ولاء على التي اشترت أباها، فيصرف الباقي إلى بيت المال.
مسألة: 12443- رجل حر، وأبواه حران ما مسّ أحداً منهم الرق، وأَبَوَا أبيه مملوكان، وأبو أمه مملوك، وأم أمه معتقَة، فالولاء ثابت لمولى أم الأم، وهذا بيّن من مقتضى الأصول؛ فإن جدته معتقة عليها ولاء مباشرة، وبنتها عليها ولاء السراية، والرجل الذي فيه الكلام ابنها. وهذا يجري إذا قلنا: إذا تزوج حر بمعتقة، ثبت الولاء على الأولاد لموالي الأم، فليقع التفريع على هذا الوجه.
فإذا أُعتق أبو الأم -فإنا صورناه مملوكاً- انجر الولاء إلى مواليه، فإذا [أُعتقت] (1) أم الأب، انجر الولاء إلى مولاها، فإذا أعتق أبو الأب، انجر الولاء إلى مولاه، ويستقر حينئذ.
فأما الجر الأول فبين؛ فإن الولاء كان ثبت لمولى الأم على ابنتها، فإذا أُعتق أبو البنت، انجر الولاء إلى جانب الأب، وكل ذلك تردّدٌ في [ولاء] (2) أم الرجل الذي نتكلم فيه: كان لموالي أمها، ثم صار لموالي أبي الأم، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل - وقد كان ولاء الرجل لموالي أمه، ثم انجر إلى موالي أبي أمه، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل- ثبت الولاء على أبي الرجل بالسراية، فكان ولاء الرجل الذي فيه الكلام بجانب أبيه أولى، فإذا أُعتق أبو أبي الرجل، كان الولاء بجانب أبي الرجل أولى، فتردد الولاء كذلك، وهذا واضح أخذاً من الأصول.
__________
(1) في النسختين: " أُعتق " (بدون تأنيث الفعل) . وسيتكرر الفعل مرتين في الأسطر الباقية من المسألة.
(2) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.(19/301)
مسألة: 12444- أب وابن اشتريا عبداً وأعتقاه، فمات المعتَق، فالميراث بينهما نصفان، فلو مات الأب عن ابن آخر سوى الابن المشتري، ثم مات المعتَق، كان نصف المال للابن المشتري بولاء المباشرة، والنصف الباقي بينهما لأنهما عصبات الأب وهو مستحق نصف الولاء.
فلو مات الابن المشتري عن ابنٍ، وكان الأب مات عن ابنٍ، ثم مات المعتَق، كان للابن الذي هو ابن المشتري نصف المال بولاء أبيه، ولغيره النصف الثاني بولاء أبيه. ولا شيء لهذا الحافد بولاء جده؛ لأن الابن يتقدم على ابن الابن، وعلى هذا فقِس.
مسألة: 12445- ابنة اشترت أباها، فمات الأب، ورثت نصف المال بالنسب، والباقي بالولاء.
(1 ولو اشترت بنتان أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم مات، فلهما الثلثان، والباقي بالولاء 1) . فإذا اشترى الأب عبداً، وأعتقه، ومات الأب، ثم مات المعتَق ورثتاه، لأنه عتيق عتيقهما.
ولو اشترت إحدى البنتين مع أبيها أخاها من الأب، والأب معسر عَتَق عليه النصف، فلو أعتقت هي النصف الآخر، ثم مات الأب، كان المال بين الأولاد وهم بنتان وابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو مات الأخ بعد ذلك، أخذتا الثلثين بالنسب، وللمعتقة نصف الباقي بولاء ثبت لها، والباقي لبيت المال، إلا أن يصادف عصبة.
مسألة: 12446- وهي غمرة (2) الولاء، وفيها الدَّوْرُ. وصورتها: أختان اشترتا
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(2) في الأصل: " عمرة " بالعين المهملة بدون ضبط، وفي ت 5: عُمرَة: بالعين المهملة، مع ضم العين وفتح الراء. والنسختان خاليتان -تقريباً- من علامات الإهمال بالرموز والحروف، اعتماداً على النقط. وهي -بالعين المهملة المفتوحة- كل ما يوضع على الرأس من عمامة ونحوها، فيكون المعنى هي تمام الكتاب وزينتُه وكماله. والمثبت تقدير من المحقق، وهي -بالغين المعجمة- بمعنى الشدة، وجمعها غمرات. (ر. المعجم. والمصباح) .(19/302)
أمّهما، وعتقت الأم عليهما، ثم إن الأم بعد ما عتقت، شاركت أجنبياً، واشتريا أبا الأختين، وأعتقاه، فيثبت الولاء لهما نصفين على الأب، ثم يثبت لهما ولاء الأختين نصفين؛ فإن من ثبت له الولاء على شخص، ثبت له الولاء على أولاده. وولاء الأب، يجر ولاء الأولاد من الأم، فيثبت للأجنبي نصف ولاء كل واحدة من الأختين، وكذلك يثبت للأم نصف الولاء على كل واحدة منهما.
هذا قاعدة التصوير.
12447- ثم شعّب ابن الحداد في التقديم والتأخير في تصوير الموت مما ذكرناه أربع صور:
إحداها: أن تموت الأم، ثم الأب، ثم إحدى الأختين. فنقول: أما الأم لما ماتت، فلبنتيها الثلثان، من مالها بالنسب، ولهما بقية مالها بالولاء؛ فإنهما اشترتاها، وعتقت عليهما.
ثم لما مات الأب، فترثان الثلثين من مال الأب بالنسب، وما بقي فنصفه للأجنبي الذي شارك الأم في شراء الأب، لأن له نصف ولائه، والنصف من الباقي (1) للبنتين؛ فإن نصف الولاء لأمهما، وهما استحقتا ولاء أمهما، فإذا لم تكن حية ورثتا ولاء معتَقها، إذالم يكن لها عصبة نسب.
فخرج منه أن الأب لما مات، فالثلثان للبنتين، والباقي بين الأجنبي وبينهما، نصفه للأجنبي ونصفه لهما.
ثم لما ماتت إحداهما بعد موت الأب، فللأخت من ميراثها النصف بالأخوة، فبقي النصف. فنقول: نصفه الباقي للأجنبي؛ لأنه لما ثبت له الولاء على نصف الأب، ثبت له الولاء على نصف ولده، فله نصف ما بقي إذاً، وأما الباقي - وهو الربع فلو كانت الأم باقية، لأخذته؛ فإن لها نصف ولاء كل بنت، كما للأجنبي ذلك، فإذا كانت ماتت، فيأخذ ذلك في القياس من يستحق ولاء الأم، وولاء الأم ثابت للأخت الحية والميتة نصفين، فنقول: نصف الربع الباقي للأخت الحية بالولاء، والباقي -
__________
(1) أي الباقي بعد الثلثين.(19/303)
وهو الثمن - للميتة لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فالقياس أن يكون ذلك لمن يرجع ولاء الميتة إليه، وولاء الميتة يرجع إلى الأجنبي والأم، ثم قدر ولاء الأم يرجع إلى الحية والميتة، ثم قدر ولاء الميتة من الأم يرجع إلى الأجنبي والأم، فيدور سهم لا ينقطع، ولا ينفصل أثره.
فاختلف أصحابنا في هذا السهم، فالذي اختاره ابن الحداد بأنه يوضع في بيت المال، ويكون ميراثاً للمسلمين. فإنه عَسُر صرفه إلى جهة الولاء بسبب الدور، فكأنْ لا ولاء له في ذلك القدر.
وهذا مزيّف؛ فإن الولاء ثابت، ونسبة الدور معلومة، فيجب تنزيل الدائر على تلك النسبة.
ثم الكلام يقع بعد ذلك في سهم الدور ثم في النسبة التي يقسّم سهم الدور عليها.
فإن قيل: ما قدر سهم الدور في كل مسألة يتفق فيها الدور؟ قلنا: ما أمكن صرفه إلى الأحياء، فلا دَوْرَ فيه، وما يرجع استحقاقه إلى ميت، ثم يدور منه إلى حي، وذلك الميت، فإذا انتهى الأمر إلى سهم ذلك الميت الذي لو قسم، لرجع سهمٌ إليه، فهو سهم [الدّور] (1) فإن قيل: كم سهم الدور في المسألة التي نحن فيها؟ قلنا: هو ثُمن جميع المال مع إدخال نصف الأخت في الحساب. هذا سهم الدور.
فإن قيل: فما النسبة التي يقسمون سهم الدور عليها؟ قال الشيخ أبو علي: يقسم كل الميراث بين الأخت الحية، وبين الأجنبي على سبعة أسهم. للأخت منها خمسة، وللأجنبي سهمان.
قال: وطريقة معرفة ذلك أنه لما وقع في المسألة ثُمن، قدرنا المسألة ابتداء من ثمانية، وصرفنا إلى الأخت أربعة بحق النصف. ثم صرفنا من الباقي سهمين إلى الأجنبي، وسهما إلى الأخت الحية، فحصل للأخت خمسة، وللأجنبي سهمان.
وبقي سهم هو سهم الدور، فنفضُّه على السهام السبعة.
وهذا خطأ صريح؛ فإن ضَم ما تستحقه الأخت بالنسب إلى حساب الولاء،
__________
(1) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.(19/304)
لا وجه له، [وفضّ] (1) ما يؤخذ بالولاء على ما يؤخذ بالنسب غير مستقيم. وليس هذا مما يخفى بأوائل الفكر، فالوجه أن نفرد النصف، فلا ندخله في حساب الولاء، ولا نعطف عليه شيئاً من حساب الولاء، وننظر في الباقي، فنجد نصف الباقي مصروفاًً إلى الأجنبي، والنصف الآخر من الباقي مصروفاً إلى الأم، ثم منها إلى البنتين، ثم سهم واحدة -وهو مبتدأ الدور- يرجع نصفه إلى الأجنبي ونصفه إلى الأم.
فنستبين من هذه الإدارة أن المال بين الأجنبي وبين الأخت الحية أثلاثاً، هكذا تجري نسبة القسمة. فنحتاج إلى عدد له نصف، ولنصفه ثلث، وهو ستة، فنصرف إلى الأخت ثلاثة بالأخوة، وسهماً مما بقي، ونصرف سهمين إلى الأجنبي، فيحصل للأخت أربعة من ستة، وللأجنبي سهمان.
12448- الصورة الثانية: أن تموت -في المسألة التي صورناها- إحدى الأختين، والأبوان حيّان، [ثم] (2) تموت الأم. فنقول: البنت لما ماتت، صرف ميراثها إلى أبويها، للأم الثلث والباقي للأب؛ والأخت (3) محجوبة. ثم لما ماتت الأم، فنصف ميراثها للبنت بالنسب، والنصف من الباقي لها أيضاً، فإن ولاء الأم ثبت للبنتين، لكل واحدة نصفه. فأما الباقي فللأب؛ فإن نصف الولاء للبنت الميتة، والأب عصبة للميتة، ولا دور في هذه المسألة، ولا نصوّر فيها زوجية بين الأب والأم.
12449- الصورة الثالثة - أن يموت الأب أولاً، ثم إحدى البنتين، ثم الأم، فنقول: لما مات الأب، فالثلثان للبنتين، والباقي للأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأب لها.
ولما توفيت إحدى الأختين فقد خلفت أختا وأما، فللأم الثلث، وللأخت النصف، والباقي بين الأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأخت الميتة ثبت لها بثبوت الولاء على أبيها.
__________
(1) في الأصل: " في فض ". والمثبت من (ت 5) .
(2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) المراد بالأخت البنت الثانية، فهي أخت البنت التي ماتت.(19/305)
فلما ماتت الأم وخلفت بنتاً، فلها النصف بالميراث، ولها أيضاً نصف ما بقي؛ فإن نصف ولاء الأم لها. والنصف الثاني من الولاء حق البنت الأخرى لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فيرجع إلى من ولاء الميتة له، وولاء الميتة للأجنبي والأم الميتة، فأما الأجنبي فيأخذ مما بقي نصفَه، فيبقى الثُمن من الجملة إذا حُسب، وهذا في التقدير حق الأم الميتة، وهو سهم الدور، فتخرج المسألة فيه على الترتيب الذي ذكرناه.
وقد ذكر ابن الحداد في هذه الصورة شيئاً غلط [فيه،] (1) فقال: للبنت الحية إذا ماتت الأم النصف، ولها نصف ما بقي. وللأجنبي نصف ما بقي -وهو الثُمن. ثم قال: وللبنت الحية النصف من هذا الثُمن الباقي مرة أخرى، ثم يوضع الباقي في بيت المال. قال القفال: هذا غلط؛ فإن سهم الدور [هو] (2) الثمن الذي آل إلى استحقاق الأم الميتة- فلو جاز أن تعطى البنت للحية [منهما] (3) نصف الثمن، فينبغي أن يدفع إلى الأجنبي مرة أخرى، وليست مرة أخرى أَولى من مرتين، ثم هذا على فساده خلاف ما ذكر في المسألة الأولى؛ فإنه لم يقطع في تلك المسألة إلا سهم الدور.
12450- والصورة الرابعة - -والمسألة كما وصفناها- تموت البنتان وأبواهما حيان، فميراثهما مصروف إليهما كما ذكرنا، فلو مات الأب بعدهما، فميراثه مصروف إلى الأجنبي والأم نصفين؛ إذ قد ثبت لهما الولاء عليه كذلك؛ فلما ماتت الأم، فنصف ميراثها للأجنبي؛ فإنه قد ثبت للأجنبي نصف ولاء بنتيها. وقد ثبت لبنتيها عليها الولاء، ويوضع الباقي في بيت المال.
وقد نجز الكلام في الولاء تأصيلاً وحكماً وتفصيلاً وضبطاً وتدريباً بالمسائل. والله المشكور.
***
__________
(1) في النسختين: " فيها ".
(2) في الأصل: " وهو ". والمثبت من (ت 5) .
(3) في النسختين: " منها ".(19/306)
كتاب التدبير
12451- التدبير في وضع الشريعة اسم لتعليق العتق بالموت. كقول الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي، أو أنت حر دُبُرَ موتي.
وهذا اللفظ شائع في اللسان في إرادة ذلك، فما زالت العرب تعرف التدبير، وتنطق به وتعتاده.
والتدبير في الأمر هو النظر في عواقبه وأدباره وما يُفضي إليه منتهاه؛ وأصل التدبير متفق عليه.
والذي يجب تقعيده في صدر الكتاب بيان اللفظ، ثم بيان حكمه على الجملة، ثم بيان حقيقته إذا أضيف إلى عقود العَتاقة:
12452- فأما الكلام في اللفظ، فإذا قال لعبده: دبّرتك أو أنت مدبر، أو إذا مت فأنت حر، أو محرر، أو عتيق، على حسب اختلاف العبارات عن العتق، فهذه الألفاظ [هي] (1) المستعملة.
ثم النص أنه إذا قال لعبده: دبرتك، فهذا صريحٌ مغنٍ عن النية ومزيد تقييد في اللفظ، وإذا قاله السيد، وأطلقه، كان مقتضاه وقوعَ العتق عند الموت. ولو قال لعبده " كاتبتك " وذكر النجوم، فالنص أن مجرد لفظ الكتابة ليس صريحاً في موضوع العقد، حتى يقولَ معه: فإذا أديت النجوم، فأنت حر، فإن لم يقله، فَلْيَنْوِه بالقلب.
قال العراقيون: اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أن التدبير والكتابة كلاهما صريحان، وتوجيه ذلك
__________
(1) في الأصل: " من ".(19/307)
في التدبير ظاهر، ووجهه في الكتابة أن لفظها اشتهر في الشرع اشتهار البيع والهبة وغيرهما من العقود.
والقول الثاني - أن التدبير والكتابة كنايتان في العقدين؛ لأنهما لا يستعملان إلا مع التقييد بالتعرض للحرية في منتهى الأمر، فلئن غلب اللفظ، فإنما غلب كذلك.
والطريقة الثانية: أن لفظ التدبير صريح مستغنٍ عن النية، ولفظ الكتابة كناية على ما اقتضاه النصان. وهذا هو الذي قطع به المراوزة، ولم يذكروا طريقة القولين، والفرق أن التدبير لم يزل مستعملاً على الإشاعة في الجاهلية، ثم ورد الشرع موافقاً لمقتضاه من غير تغيير في أصل المعنى، فتطابق فيه عرف اللسان والشرع.
أما الكتابة، فلم تكن مستعملة، ولم يشع في الشريعة شيوع الألفاظ المنقولة إلى عرف الشريعة، وكانوا قد يطلقونها في مخارجة المماليك وما يقدّرون عليهم من الوظائف، وإذا أرادوا صرفها إلى مقصود الكتابة، تعرضوا للحرية.
وما ذكرناه من تردد العراقيين في لفظ التدبير. فأما إذا قال: " إذا مت فأنت حر "، فهذا تصريح بالمقصود، لا شك فيه. وفي لفظ التدبير مسائل، ستأتي على ترتيب الكتاب (1) إن شاء الله.
والذي ذكرناه في حكم التمهيد.
12453- فأما حكم التدبير، فالمدبَّر يعتِق عند موت المدبِّر إن وفَّى ثلثه، وإن ضاق الثلث عن احتماله، عَتَق منه مقدار الثلث من غير مزيد، ولو لم يخلف غير العبد عَتَقَ ثلثه، ورق للورثة ثلثاه.
وقد يخطر للفطن في هذا شيء. وهو أنه إذا لم يخلف غير العبد، وحكمنا بعتق ثلثه، والباقي للورثة ثلثاه بالجزئيّة، ولكن التبعيض يعيّب العبد، فلا يبلغ ثلثاه ثلثي ثمنه لو بيع كله، فكأنا لم نبق للورثة ثلثي التركة من طريق المالية، وإنما دخل عليهم هذا النقصان بسبب الوصية.
ولو قيل: يبقى للورثة من جزئية العبد ما يساوي ثمنه لو بيع كله، فإذ ذاك تتحقق
__________
(1) ت 5: " المكان ".(19/308)
التجزئة المقصودة في المالية. ولكن هذا غير معتبر باتفاق الأصحاب، بل باتفاق العلماء، ويجري مثلُ ما ذكرناه في الوصية بثلث العبد وثلث الدار، فكان ما ينتقص بالجزئية من رأس المال تعلقاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " إن الله أعطاكم ثلث أموالكم "، ثم لو حططنا الوصية، لكان ذلك على القطع أقل من الثلث بالجزئية والمالية، فكان هذا محتملاً وفاقاً.
ثم إذا تبيّن احتسابُ عتق المدبر من الثلث، فلا شك أن الدَّين مقوم عليه؛ وِبالجملة عتقُ المدبر ينفذ نفوذ الوصايا قدراً ومحلاً، ثم مذهب الشافعي أن التدبير لا يمنع السيد عن شيء من التصرفات التي كانت مسوغة له قبل التدبير، فله البيع، والهبة، والرهن وغيرها من أنواع التصرفات.
وسر المذهب أن التدبير ليس عقدَ عَتاقة، حتى يفرض مقصوداً في نفسه مُوقِعاً حكماً ناجزاً إلى وقوع منتهى المقصود، بخلاف الكتابة؛ فإنها توقع حيلولة في الحال من جانب السيد، وآية ذلك أن الكتابة لو جرت في الصحة، لزمت واحتسب العتق المترتب عليها من رأس المال، فلو جرت في مرض الموت، كانت إذ ذاك تبرعاً محسوباً من الثلث.
وأما التدبير فسواء قُدّر صدوره من الصحيح أو المريض، فالعتق الواقع به عند الموت محسوب من الثلث، وهذا جارٍ في قياس مذهب الشافعي، لا يميل المذهب فيه عما ذكرنا، إلا أن الشافعي قال: لو أصدق الرجل امرأته عبداً، فدبّرته، ثم طلقها قبل المسيس، لم يرتد إليه النصف منه، بل يرجع إلى نصف القيمة.
وهذا لا يخرم القاعدة التي ذكرناها؛ فإنا ذكرنا أن التدبير لا يؤثر في منع التصرفات التي كانت تسوغ قبل التدبير، وارتداد نصف العبد ليس مأخوذاً من تصرف ينشئه مالكٌ، ولكن تشطر الصداق [بدْع] (1) في جهات انتقاض الأملاك؛ من حيث إنه ليس فسخاً، والمرأة متسلطة على التصرف في جميع الصداق قبل الطلاق، فلا يقف شيء من تصرفاتها على تأكد النكاح بالمسيس، فلما تحقق الشافعي ذلك، لم ير أن
__________
(1) في الأصل: " نوع ". والمثبت من (ت 5) .(19/309)
يبطل على المرأة غرضها في عين الصداق وعَوّض الزوجَ عنها نصف القيمة، حتى قال: لو زادت عين الصداق زيادة متصلة، فللمرأة الاستمساك بالعين، وغرامة نصف القيمة، فقد أتى هذا من خاصيةٍ في الصداق، وهذا إلى خبط عظيم للأصحاب تقصيناه في موضعه.
هذا مقدار غرضنا في حكم التدبير ومقصوده.
12454- فأما القول في حقيقة التدبير إذا نُسب إلى سائر التصرفات، فقد قال الأئمة: للشافعي قولان - في أن التدبير وصية أو تعليق عتق بصفة؟ أحد القولين - أنه وصية، وإليه ميل المزني، ووجهه أن مقصوده يقع بعد الموت، قياساً على سائر الوصايا، ولو كان في حقائق التعليق، لانقطع بالموت، ولبعُد أن يتعلق بالموت؛ فإن الرجل إذا قال لعبده: إذا دخلت الدار، فأنت حر، فدخل الدار بعد موت المعلق، لم يعتق، وإن وفّى الثلث.
والقول الثاني - أنه تعليق. ووجهه أن حكم الألفاظ يؤخذ من صيغها في التقسيم الأولي، والمعنيّ بالتعليق ربط العتق بصفة ماضية أو مرتقبة، والتدبير بهذه المثابة، والوصية تنشأ إيقاعاً بعد الموت لو يفرض فيها قبول، والتدبير بخلاف ذلك.
ثم على القولين لا يمتنع من تصرفات المولى شيء، وإنما فائدة القولين أنا إن جعلنا التدبير وصية، فيصح الرجوع عنه من غير تصرف، قياساً على الرجوع عن الوصايا. ثم في تفصيل ما يكون رجوعاً عن الوصايا باب في كتابها.
وإن قلنا: التدبير تعليق، فلا يمتنع فيه تصرف أيضاً، والمدبر كالعبد المعلق عتقه بالصفة، ولكن لو أراد الرجوعَ عن التدبير من غير تصرف في عين المدبر، لم يصح ذلك منه، كما لو أراد معلِّق العتق بالصفة أن يرجع عن التعليق، ويرد الأمر إلى ما كان قبل التعليق، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، فهذا ما رأينا تقعيده وتمهيده في أصل الكتاب.
12455- ثم قسم الأئمة التدبير إلى المطلق والمقيد.
فالتدبير المطلق هو ما يقتضي حصولَ العتق بموت المدبِّر مطلقاً، من غير(19/310)
تخصيص. ثم للشرع حكمُه بالحصر في الثلث، فإذا قال: دبّرتك أو إذا مت فأنت حر، فهذا تدبير مطلق.
والمقيد ما يتضمن تخصيصاً، مثل أن يقول: إن مت من مرضي هذا، أو إن قتلت، أو إن مت بحتف أنفي، فأنت حر. فهذه تقييدات ضمها إلى الموت، ثم الحكم عندنا لا يختلف بالتقييد والإطلاق، وكذلك تردد القول في حقيقة التدبير، وأنه وصية أو تعليق لا يختلف بالإطلاق والتقييد.
وقد يجوز أن يقال: تدبير المرأة العبد المُصْدَق إن كان مطلقاً يؤثر في منع الارتداد إلى الزوج عند الطلاق، وإن قيّدته، فقد أخرجت التدبير عن مقتضى إطلاقه، ولم تأت به مقصوداً في نفسه على المعتاد فيه، فسبيلها كسبيل المعلِّق أو الموصي. وغالب الظن أني أشرت إلى ذلك في الصداق. والأمر فيه قريب.
12456- ثم قال الشافعي: " فإذا قال الرجل لعبده: أنت مدبر متى دخلت الدار ... إلى آخره " (1) .
التدبير مقتضاه ما ذكرناه، فإن عُلق، تعلّق، ومقتضى تعليقه أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت مدبر، وإنما ساغ هذا لأنه بين أن يكون وصية أو تعليقاً، فإن كان وصية فالوصية قابلة للتعليق، وإن كان تعليقاً، فالتعليق جارٍ في التعليق.
فإن السيد إذا قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت حر إذا كلمتَ زيداً، فهذا صحيح، وحاصله تعليق العتق بصفتين. ثم إذا علق التدبير بصفة في حياة المدبِّر، فوجدت الصفة، حصل التدبير، والتحق بالتدبير المطلق إن كان يختلف بهذا غرض.
فصل
قال: " ولا يعتق في مالٍ غائب حتى يحضر ... إلى آخره " (2) .
12457- صورة المسألة: إذا كان الثلث وافياً بقيمة المدبر، ولكن مات السيد،
__________
(1) ر. المختصر: 5/272.
(2) ر. المختصر: 5/272.(19/311)
ولم يحضر من ماله غيرُ المدبر، وكان سائر ماله غائباً غيبة يُحتفل بها، فلا يُقْضى بتكميل العتق في المدبر؛ فإن هذا تنجيزُ الوصية، وإضافةُ حقوق الورثة إلى مالٍ قد يحول بينهم وبينه خطر، ووضع الشرع ألا تنفذ الوصية في مقدار حتى يَسْلَمَ للورثة ضعفه، ولكن هل يحكم بأنه يُعتق من المدبر ثلثُه وينتظر في تكميل العتق حضورُ المال الغائب؟
نص الشافعي على أنه لا يعتق من المدبر شيء في الحال، واختلف أصحابنا: فمنهم من قال بظاهر النص، ووجهه أنا لو حكمنا بتنفيذ العتق في جزء فيه، لأدّى هذا إلى تحيّفٍ على الورثة؛ فإنا إذا عجلنا العتق في ثلث المدبر، ولم نطلق يد الورثة في ثلثيه، كان ذلك تعجيلاً للوصية مع تأخير حق الورثة، ولا سبيل إلى ذلك، وليس كما لو لم يخلّف إلا العبد المدبر؛ فإنا نعتق الثلث، ونرق الثلثين، ونطلق فيهما حق الورثة.
ومن أصحابنا من قال: يعتِق الثلثُ في الحال؛ فإنه لا توقف فيه، ويستحيل تأخير الوصية فيما يستيقن نفوذها فيه، وأيضاً غيبة المال ينبغي أن لا تزيد على عدم المال، ولو لم يخلف إلا المدبر، لنفذنا العتق في الثلث.
فانتظم في المسألة إذاً قول منصوص، وآخر مخرج.
12458- ثم بنى الأصحاب على ذلك مسألة، وهي أن رجلاً لو مات عن ابنين، ولم يخلّف شيئاً من الأعيان، إلا أن له ألفَ درهم على أحد الابنين، فالذي يقتضيه قياس القسمة أن يبرأ من عليه الدين من الابنين عن نصف الدين.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين مبنيين على القولين اللذين ذكرناهما الآن: أحدهما - أنه لا يبرأ عن شيء مما عليه؛ فإنا لو حكمنا ببراءته عن جزء، لكان مختصاً بحقه قبل أن يتوفر على شريكه مثلُ ما برِىء عنه، وإيجاب التسوية بينهما ينافي ما ذكرناه.
ومنهم من قال: يبرأ عن حصته؛ فإنه يملك مقداراً منه، ويستحيل أن يملك على نفسه ديناً، وإن قيل: إنه لا يملك (1) ، فيجب أن لا يملك شريكه عليه شيئاً، وهذا
__________
(1) أي يبقى على ملك الميت.(19/312)
يؤدي إلى تعلق التركة من غير إجراء ملك فيها، ومذهب الشافعي لا يحتمل هذا الفن.
12459- ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب تفريعاً، ونحن نسوقه على وجهه، ثم نبحث عنه. قال صاحب التقريب حكاية عن ابن سريج: إذا مات المولى، وخلف المدبَّر ومالاً، يخرج المدبر معه عن ثلث التركة، ولكن لم يحضر إلا المدبر -كما صورناه- قال ابن سريج: لو أعتق الورثة هذا العبد واستكمل العتق فيه، ثم حضر المال -والتفريع على النص في أنه لا يعتق من المدبر الحاضر شيء- فإذا أعتقه الورثة، قال: ينفذ العتق عن الورثة، وينصرف الولاء فيه إليهم، فلو حضر المال، لم يتغير ما حكمنا به من قبل؛ فإنا نفذنا العتق عن الورثة، فلا نصرفه عنهم، فإذا كان كذلك، فالولاء لهم.
ثم قال الصيدلاني: يُخَرَّج في المسألة وجهٌ آخر: أن الولاء للميت تخريجاً على أن الوارث إذا أجاز الوصية، فإجازته تنفيذ للوصية وليس بابتداء عطية؛ فيكون الولاء للميت.
هذا مساق ما حكاه، ولم يردّ عليه، وهو في نهاية الإشكال؛ بل ما أرى له وجهاً في الصحة؛ فإن التدبير لا سبيل إلى ردّه بسبب غيبة المال، وإعتاق الورثة عن أنفسهم ردٌّ للتدبير، ويتضح هذا بصرف الولاء إلى الورثة، ثم عتق التدبير لو نفذ، فلا حاجة لإنشائه، فلا وجه إذاً إلا التوقف إلى عَوْد المال؛ فإن تحقق عودُه، فالوجه أن نقول: نتبيّن نفوذَ العتق عند الموت؛ إذ لا سبيل إلى تنفيذه بعد الموت، وإن تلف المال، نتبيّن نفوذَ العتق في ثلثه عن جهة التدبير، فإذا كان أنشأ الورثة إعتاقاً (1) ، فنتبين أيضاً -عند تلف المال- نفوذ إعتاقهم عن أنفسهم في الثلثين.
وإنما التباس المسألة في (2) شيء، وهو أن المال الغائب إذا حضر، فالتعذر الذي كان أمس لا نتبين زوالَه، والقدرة على المال في الحال لا تعطف قدرة على ما مضى،
__________
(1) ساقطة من (ت 5) .
(2) ت 5: " من شيء ".(19/313)
فلو قلنا: يتبين وقوع العتق حالة الموت، لكنا نفذنا العتق مع تحقق التعذر في الثلثين، فإن احتملنا هذا، فالجواب ما قدمناه، وإن ترددنا فيه، فموجبه حصول العتق يوم القدرة.
ثم وإن قلنا بذلك، فتصرّف الورثة قبل هذا يجب أن يكون مردوداً؛ فإن العتق وإن لم ينفذ، فهو موقوف، وما استحق عن جهة الوصية لا ينفذ فيه تصرف الورثة، وإن لم تتم الوصية بعدُ، والدليل عليه أن من أوصى بوصية يفي الثلث بها لإنسان، وقلنا ملك الموصَى [له] (1) يتوقف على قبوله، فلو تصرف الوارث في الموصى به قبل القبول، لم ينفذ تصرفهم وإن كان قبول الموصى له متردداً، وكان ردّه (2) ممكناً.
ومما يتصل بذلك أن المدبِّر إذا مات وخلف العبد المدبر وتركةً يفي ثلثها بقيمة العبد لولا دين مستغرِق، فلا يحكم بنفوذ العتق ما لم يبرأ من الدين، فلو مرت أيام من موت المولى، فأبرأ مستحق الدين، فنتبين عتق المدبر عند الموت استناداً، أم نحكم بأنه يتنجز من وقت سقوط الدين؟ هذا فيه التردد الذي ذكرناه، والأظهر في هذه الصورة أن لا يستند العتق، بل يتنجز من وقت سقوط الدين.
فصل
قال: " ولو قال: إن شئتَ، فأنت حرّ متى ما متّ ... إلى آخره " (3) .
12460- إذا قال لعبده: أنت حر إن شئت، فالمذهب الذي عليه التعويل -وهو مقتضى النصوص- أن هذا يستدعي مشيئةً عاجلة، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت.
وذكر صاحب التقريب والشيخُ أبو علي أن هذا تعليق مجرد، لا يقتضي وجودَ الصفة (4) في الحال، وهو كقوله: أنتَ حر إن دخلتَ الدار، أو أنتِ طالق إن كلمت
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. وقد سقطت من النسختين.
(2) ردّه: أي ردّ الوصية وعدم قبولها.
(3) ر. المختصر: 5/272.
(4) الصفة: المراد المشيئة، كما صرح بدلك الغزالي في البسيط.(19/314)
فلاناًً، وإنما يقتضي الخطاب تعجيلَ الجواب فيما يتعلق بالمعاوضات.
وهذا الوجه غريب (1) ، وإن كان منقاساً؛ إذْ أقصى (2) ما قيل في تعليل تعجيل المشيئة: إن ذلك يقتضي تمليكَها أمرها، أو تمليكَ العبد أمره، فيلتحق هذا بتمليك الإنسان الشيء في معاوضة أو تبرع. وهذا ضعيف، ثم (3) لو قال الرجل لامرأته: ملكتك نفسك، أو طلقي نفسك، ففي اقتضاء ذلك تعجيلَ الجواب قولان ذكرناهما.
وإذا قال لعبده: أنت مدبر إن شئت، أو دبرتك إن شئت، فلا بد من المشيئة، ثم القول في التعجيل والتأخير على ما ذكرناه.
ولو قال: أنت مدبر متى شئت، فهذا لا يشترط فيه تعجيل الجواب، ولكن لو مات المولى، فشاء بعد موته، فالذي أراه أن الموت يقطع هذا التعليق، وهو كما لو قال لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، فمات السيد، ثم دخل الدار، لم يَعتِق، كذلك التدبير أمر يتممه المولى في حياته تنجيزاً، وقد يعلّقه، فتتحقق الصفة في حياته.
ولو قال: إذا مت، فأنت حر إن شئت، فهذا اللفظ فيه تردد، يحتمل أن يقال: معناه إن شئت بعد موتي، ويحتمل أن يقال: يطلب مشيئته في الحال، كما لو قال: دبرتك إن شئت، أو أنت مدبر إن شئت، فإذا تردد اللفظ بين هذين المعنيين، رجعنا إلى نيته، فإن قال: أردت تعليق التدبير بمشيئته في الحياة، فالرجوع إلى قوله، ثم يشترط تعجيل المشيئة، أم يجوز تأخيرها؟ فيه الكلام الذي قدمناه.
وإن قال: أردت تأخير المشيئة إلى ما بعد الموت، فقوله مقبول، ثم لا أثر للمشيئة في حياة المولى.
وإن قال: أطلقت اللفظ، ولم أرد به شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه:
__________
(1) أي غريب في الحكاية.
(2) تعليل لصحة القياس، ببيان ضعف تعليل من قال بالتعجيل للمشيئة، مع قوله: إن المذهب الذي عليه التعويل هو التعجيل.
(3) استمرار لبيان ضعف تعليل القول بالتعجيل، حيث لا يقطع بتعجيل الجواب فيمن ملكها أمرها صراحة.(19/315)
أحدها - أنه لا يحكم بالعتق أصلاً، حتى يشاء في حياته، ويشاء بعد الموت؛ فإن اللفظ متردد بين المعنيين جميعاً، فما لم يتحققا، لم تحصل الثقة بالعتق.
ومن أصحابنا من قال: مطلق ذلك محمول على المشيئة بعد الموت، وهو الذي صححه العراقيون؛ فإنه لما قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، فقد ذكر المشيئة بعد وقت الحرية، فلتقع بعد الموت.
ومن أصحابنا من قال: يحمل اللفظ المطلق على المشيئة في الحال، وهذا متجه، لا بعد فيه؛ فإن قول القائل أنت حر بعد موتي عبارة عن قوله دبرتك، ولو قال: دبرتك إن شئت، فالمشيئة مطلوبة في حالة الحياة.
12461- وقد نشأ من هذا المنتهى إشكال في شيء، وهو أن الرجل لو قال لعبده: إن رأيت عيناً، فأنت حر، والعين لفظ مشترك بين مسميات: منها العين الباصرة، وعين الماء، وعين الركبة، والدينار، وأحد الأخوين من أب وأم، فلو رأى العبد شيئاً مسمىً بالعين، فهل يعتق إذا لم يعين المعلِّق مسمىً بقلبه؟ والتفريع في مسألتنا على أن العبد لا يعتق ما لم يشأ في الحياة، وبعد الموت هذا فيه تردد.
والوجه: الحكم بأن الحرية تحصل في مسألة العين وما في معناها إذا رأى مسمىً واحداً ينطلق عليه اسم [العين] (1) ، وهذا يُضعف -فيما نرى- الوجه الأول (2) في المشيئة.
ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد المشيئة بعد الموت، فلا خلاف بين الأصحاب أنا لا نشترط وصل المشيئة بالموت، ولكن لو انفصلت، جاز؛ فإنها إذا استأخرت عن الخطاب، ووجب وقوعها بعد الموت، فلا معنى لاشتراط اتصالها بالموت، وليست جواباً، والدليل عليه أن قبول الوصية في معنى قبول الهبة والبيع، ثم لما وقع بعد الموت، لم يشترط اتصاله بالموت.
ولو قال: إذا متُّ، فشئتَ، فأنت حر، فهذه الصيغة تقتضي وقوع المشيئة بعد الموت؛ فإنه ذكر الموت وعقّبه بالمشيئة، واختلف أصحابنا في أنا هل نشترط -
__________
(1) في الأصل: " العتق " وهو سبق قلم من الناسخ.
(2) المراد الوجه الأول من الوجوه الثلاثة في مسألة إطلاق المشيئة التي تقدمت آنفاً.(19/316)
والصيغة هذه- أن تتصل المشيئة بالموت: فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، كما لو قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد إيقاع المشيئة بعد الموت.
والوجه الثاني - أنه لا بد من اتصال المشيئة بالموت إذا قال: إذا مت فشئتَ؛ لأن العطف إذا وقع بالفاء، اقتضى ذلك تعقيباً، ومن ضرورة التعقيب الاتصال. وقد ذكر الوجهين القاضي.
والذي أراه أنهما يجريان فيه إذا قال: إن دخلتِ الدار، فكلمتِ زيداً، فأنت طالق، فلو كلمته على الاتصال، طلقت، ولو انفصل التكليم عن دخول الدار انفصالاً معتداً به، ففي وقوع الطلاق وجهان.
فصل
قال: " ولو قال شريكان في عبد: متى متنا، فأنت حر ... إلى آخره " (1) .
12462- إذا كان بين رجلين عبد مشترك، فقالا له: إذا متنا، فأنت حر. فإذا مات أحدهما، لم يعتِق أصلاً؛ فإن كل واحد منهما علق عتق نصيبه بموته وموت شريكه، فلا يحصل العتق بموت أحدهما، وكل عتق أو طلاق علّق بوصفين، لم يقع بأحدهما، كما لو قال لعبده: إذا دخلتَ الدار، وكلمتَ زيداً، فأنت حر. فلا تحصل الحرية ما لم يوجد الشرطان: الدخول والكلام؛ فإذا مات أحد الشريكين، فللذي لم يمت بيع نصيبه؛ (2 فإن ملكه باقٍ كما كان، وغايته أن يكون مدبراً، أو معلق العتق، والتصرف نافذ في كل واحد منهما.
وأما الذي مات، فلا يجوز لورثته بيع نصيبه 2) ، وإن لم يعتِق بعدُ؛ لأن الوصية انعقدت في نصيبه بموته، غير أن نفوذها معلَّق بمعنىً يحدث من بعدُ، وكل وصية تثبت بالموت، ونفوذها موقوف على معنىً (3) منتظر، فالوارث لا يملك قطعها، وإن لم يوجد ذلك المعنى المنتظر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/272.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 5) .
(3) سقطت من (ت 5) .(19/317)
وهذا كما إذا أوصى لواحدٍ بمال -والثلث وافٍ به- ومات الموصي، فنفوذ الوصية موقوف على قبول الموصى له، ثم الوارث لا يملك إبطال الوصية قبل القبول، وعلى هذا الأصل إذا قال لعبده: إذا متُّ، ودخلتَ الدار، فأنت حر، فإذا مات، لم يملك الورثة بيعه على هذا القياس الذي مهدناه، والتحقيق فيه أنه يصير بالموت مستحق العتاقة لو دخل الدار.
ولو قال المالك لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، لم يمتنع عليه التصرف بسبب التعليق، وإن كان التعليق لا يتأتى رفعه مع دوام الملك، ولكن معنى التعليق: أن المالك يقول: أنا على سلطاني ما لم يدخل، فإذا وقع التعليق بعد الموت، فليس للوارث أن يقطع عليه ما بناه، وهذا يقرب من العارية والوصية بالمنفعة، فمن أعارَ مَلك الرجوع في العارية.
وإذا قال: أعيروا من فلان بعد موتي داري شهراً، لزم تنفيذ أمره، ولا يملك الوارث الرجوع، وإلا فالوصية بالمنفعة على صورة العارية. هذا منتهى ما جرى به الفكر.
وليس يخلو تعليق عتق العبد بالدخول بعد الموت عن احتمالٍ (1) من طريق المعنى، وقد رمز إليه القاضي، فإن كان لهذا (2) ثبات، فيلزم طرده في مسألة الشريكين، بل هو أولى؛ من جهة أنه ينتظر في عتقه موت الشريك الآخر، وليس ارتقابه مما يستغرب، وليس من الحزم إفساد قاعدة المذهب بمثل هذا، فالأصل ما ذكرناه (3) .
ومما يتصل بذلك أن الشريكين إذا قالا: إذا متنا، فأنت حر، فليس واحد منهما مدبراً في الحال، بل كل واحد معلِّق. فإذا مات أحدهما، فقد صار الشريك الثاني بحيث يعتِق نصيبُه بموته؛ فيثبت لنصيبه الآن حكم التدبير، كما تقدم مقتضى التدبير وموجب التعليق.
__________
(1) أي عن احتمال جواز الورثة بيعه.
(2) أي هذا الاحتمال.
(3) أي ما ذكرناه من عدم جواز تصرف الوارث بعد موت الشريك.(19/318)
فصل (1)
قال: " ولو قال سيد المدبر: قد رجعت ... إلى آخره " (2) .
12463- مضمون هذا الفصل قد سبق في تمهيد أصول الكتاب عند ذكرنا حقيقة التدبير، والقول الوجيز فيه أنا إن جعلنا التدبير وصيةً، فالرجوع عنه ممكن، وكل ما يكون رجوعاً عن الوصية، فهو رجوع عن التدبير إلا في واحدٍ (3) نرمز إليه الآن ونستقصيه في باب بعد هذا، إن شاء الله.
وذلك أن من أوصى لإنسان بجاريةٍ، ثم استولدها، أو وطئها، ولم يعزل، فنجعله راجعاً، وهذا الفن لا يكون رجوعاً عن التدبير؛ لما سنوضحه من بعدُ.
وإن قلنا: التدبير تعليق، فالرجوع عنه غير ممكن مع استمرار الملك، فإن باع المولى، جاز له ذلك، فلو عاد إليه، ففي عَوْد التدبير من الكلام ما في عَوْد الحنث في اليمين المعقودة على الطلاق أو العتَاق. فإذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم أبانها، ثم نكحها، ففي وقوع الطلاق قولان، لو دخلَتْ الدار في النكاح الثاني، وكذلك لو علّق عتق عبده، ثم باعه، وعاد إلى ملكه، ففي عود الحنث القولان المشهوران. وإذا عاد المدبَّر إلى ملك المولى بعد الزوال، فهو بمثابة ما لو باع العبد المعلَّق عتقُه، ثم عاد.
فصل
قال: " وجناية المدبر كجناية العبد ... إلى آخره " (4) .
12464- إذا جنى [المدبّر] (5) تعلَّقَ الأرش برقبته، والسيد بالخيار بين فدائه
__________
(1) من هنا بدأ سقط من نسخة (ت 5) نحو ورقتين، وسننبه عند انتهائه إن شاء الله.
(2) ر. المختصر: 5/272.
(3) كذا بدون موصوف لـ (واحد) ولعلّ التقدير: " في تصرف واحد ".
(4) ر. المختصر: 5/273.
(5) زيادة اقتضاها إيضاح العبارة.(19/319)
وتسليمه للبيع، ولا اختصاص للمدبر بمزية في هذا الحكم، مع الحكم بأن [المولى] (1) يبيعه من غير جناية.
والذي يتعلق بهذا الفصل أنه إن بيع، ثم عاد، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في عَوْد التدبير على قول التعليق، وقد ذكرناهما.
ولو جنى المدبر، ولم يتفق فداؤه ولا بيعه في الجناية حتى مات السيد، وكان التركة يفي ثلثها بالفداء، وقيمة الرقبة بعد الفداء؛ فقد ذكر العراقيون طريقةً وذكر صاحب التقريب أخرى. فنسوقهما ثم نذكر ما فيهما.
قال العراقيون: هذا يخرّج على القولين في أن العبد إذا جنى، وتعلق الأرش برقبته، فأعتقه سيده، فهل ينفذ فيه عتقه؟ وفيه قولان. قالوا: فإذا مات السيد، والمدبرُ جانٍ، فيخرّج على هذين القولين. فإن قلنا: ينفذ إنشاء العتق في الجاني، فإذا مات السيد والمدبر جانٍ، فيعتق المدبر، ويجب فداؤه. وإن قلنا: لا ينفذ إعتاق الجاني، فإذا مات السيد، لم يعتِق المدبر، والورثة بالخيار عند اتساع التركة، فإن فَدَوه، عَتَقَ، وإن سلّموه للبيع، كان لهم ذلك، وإن أدى إلى إبطال العتق واتسع الثلث. هذا طريق العراقيين.
فأما صاحب التقريب، فإنه قطع جوابه بأنه يجب على الورثة تحصيل العتق فيه إذا وفى الثلث بالفداء، بقيمة الرقبة، من غير فصلٍ وبناءٍ على إعتاق الجاني.
والذي ذكره العراقيون أمثل وأحسن.
ومما ذكره الأئمة أن المدبرة لو جنت، وأراد السيد بيعها في الجناية، وكان لها ولد صغير -قد (2) حكمنا بتعدي التدبير [إليه] (3) على قولٍ، كما سيأتي من بعدُ إن شاء الله- فإذا منعنا التفريق بين الأم والولد في البيع، فلو بعنا الولد، كان ذلك تسبباً إلى إبطال التدبير فيه؛ والجناية إنما وجدت من أمه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبيع الولد مع الأم ولا نفرق. والثاني - أن نبيع الأم دون الولد؛ استبقاءً للتدبير في الولد،
__________
(1) في الأصل: " مولى ".
(2) جملة " قد حكمنا بتعدي التدبير إليه على قولٍ " في محل صفة لـ " ولدٍ صغير ".
(3) زيادة من المحقق حيث سقطت من الأصل، وما زلنا في موضع السقط من (ت 5) .(19/320)
ويجوز التفريق بين الوالدة وولدها في هذه الصورة للضرورة.
وعلى نحو هذا اختلف أئمتنا في أن من رهن جارية دون ولدها الصغير، ومست الحاجة إلى بيع الجارية في الدَّين، فيجب في وجبما بيع الولد معها، ويجوز في وجه بيعها دون الولد، ولا يحرم التفريق في هذه الصورة للضرورة الداعية إليه، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهون.
فصل
قال: " ولو أن سيده ارتد ... إلى آخره " (1) .
12465- إذا دبر عبداً، ثم ارتد المولى، فاختلاف الأقوال في زوال ملكه معروف، وقد أوضحناها في كتاب [المرتدّ] (2) توجيهاً وتفريعاً.
ونحن نقول هاهنا: إن قلنا: لا يزول ملك المرتد بالردة، فالتدبير يبقى. وإن قلنا: يزول ملكه، فلو عاد إلى الإسلام، فيعود ملكه، وهل يعود التدبير؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فقال بعضهم: هذا بمثابة ما لو باع المدبَّر، ثم عاد إلى ملكه، وقد مضى التفصيل فيه. ومن أصحابنا من قال: يعود التدبير عَوْدَ الملك، فإن الملك عاد لأن الزوال لم يكن زوالَ انبتات؛ إذ لو كان زوال انبتات، لما عاد بالإسلام.
وهذا بمثابة العصير يشتد، والغرض من صب العصير الخل، فإذا استحالت الخمر خلاًّ، فالملك قائم كما كان، ولو رهن عصيراً، فاستحال خمراً، ثم استحالت الخمر خلاًّ، فالخل مرهون، ونجعل كان تخلّل الشدة لم يكن، وهذا قد قررناه في كتاب الرهون.
وكذلكَ لو رهن شاة، فماتت، فيخرج إهابُها عن الاتصاف بكونه مرهوناً؛ فإن إهاب الميتة نجس العين، فإذا دبغ الجلد، فالرهن قائم، وإن لم يجدد بعد الدباغ، وقد ذكرنا محل الخلاف والوفاق في ذلك في كتاب الرهن.
__________
(1) ر. المختصر: 5/273. والعبارة هنا بمعنى ما في المختصر، لا بلفظه.
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، ثم أقول: إن الإمام سماه هناك (باب المرتد) .(19/321)
وقال قائلون: لئن زال ملك المرتد، فإذا عاد، فنجعل كأنه لم يزل، والتدبير مطرد، كما ذكرناه في العصير والجلد في حكم الرهن.
ومما يتصل بذلك أنا إذا قلنا: التدبير لا يزول، والملك لا يزول، فلو قتل على الردة، أو مات عليها فماله فيء، فإن وفى الثلث، نفذ عتق المدبر.
فإن قيل: إنما يفرض الثلث حيث يفرض الورثة، والمرتد ليس موروثاً؟ قلنا: نعم. ولكن ماله مصروف إلى جهة مستحِقه، فلا فرق بين أن يكون إرثاً وبين أن لا يكون إرثاً، والتدبير قد أنشأه في إسلامه، وثبت استحقاق العتاقة في ثلثه، فلئن شقي بالردة ومات عليها، فذلك الاستحقاق لا يزول.
ولو أنشأ المرتد التدبير في حالة الردة، فإن قلنا: لا ملك له، فتدبيره مردود، وإن قلنا: ملكه غير زائل، وقد يفرض عليه ضرب حجر من جهة القاضي، كما ذكرناه في كتاب أهل الردة، فإن دبر قبل الحجر، نفذ تدبيره، وإن دبر بعد الحجر، فهو كالمفلس يدبِّر أو يُعتِق، وقد ذكرنا تصرفاتِه في كتاب التفليس.
فصل.
قال الشافعي: " ولو قال لعبده: متى قدم فلان، فأنت حر ... إلى آخره " (1) .
12466- مضمون الفصل أن السيد إذا علق عتق عبده في حالة الصحة، ثم وجدت الصفة في حالة المرض، فالعتق محسوب من الثلث، أم هو نافذ من رأس المال؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الاعتبار بحالة التعليق، وقد كان صحيحاً فيها، فالعتق من رأس المال، كما لو نجَّز العتقَ في الصحة. والثاني - أن الاعتبار بحالة وقوع العتق؛ فإن زوال الملك يحصل يومئذ.
وعلى هذا النحو اختلف الأصحاب في أن من علق طلاق امرأته في حالة الصحة، ووجدت الصفة في مرض موت المعلَّق، فهل نجعله فارّاً (2) ؛ فيه الوجهان المذكوران.
__________
(1) ر. المختصر: 5/273.
(2) أي فارّاً من الميراث.(19/322)
وعن هذا الأصل اختلف الأصحاب في أن شاهدين لو شهدا على تعليق العَتاق بصفة، وشهد آخران على وجود الصفة، وجرى القضاء بنفوذ العتق، ثم رجع الشهود بعد القضاء، فمن أصحابنا من قال: يجب الغرم عليهم بأجمعهم، ومنهم من قال: يختص بالغرم شهود التعليق، وليس على شهود الصفة شيء؛ فإن التعليق هو الموقع للعَتَاق، [وأما] (1) الصفةُ محلُّ وقوعه، فهي بمثابة المحل، والتعليق بمثابة العلّة، والحكم للعلة.
وكذلك جرى اختلاف القول في أن شهود الإحصان والزنا إذا رجعوا بعد نفوذ القضاء وإقامة الحد، فالغرم على من؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه على شهود الزنا، والثاني - أنه على شهود الزنا والإحصان جميعاً، وقد ذكرنا هذا في باب الرجوع عن الشهادة.
فإن قيل: من قال من الأصحاب: الاعتبار بحالة وقوع العتق، ولهذا يحتسب من الثلث، فلو قال قائل على هذا: إذا رجع شهود التعليق وشهود الطلاق، فهلا أوجبتم الغرم على شهود الصفة (2) فحسب، كما أنكم اعتبرتم الصفة الواقعة في مرض الموت، وجعلتم كأن العتق أنشىء في مرض الموت.
قلنا: هذا السؤال متجه، والجواب عنه عسر. ولكن لم يصر أحد من الأصحاب إلى أن شهود الصفة يختصون بالغرم، فهذا مما يجب فهمه وتعدّيه، والاقتصار على ما قطع به الأصحاب (3) .
فصل
12467- إذا ادعى العبد على سيده أنه دبره، فهل تسمع دعواه؛ ظاهر النص هاهنا أن الدعوى مسموعة، وهذا مشكل؛ لأن المدبَّر لا يستحق في الحال على مولاه شيئاً، وعماد الدعوى أن يستحق المدعي على المدعى عليه حقاً في الحال يملك
__________
(1) في الأصل: " وفي الصفة ".
(2) أي الصفة التي علق الطلاق عليها.
(3) إلى هنا انتهى السقط الموجود في (ت 5) .(19/323)
المطالبةَ به، وليس يملك المدبَّر على مولاه شيئاً في الحالة الراهنة، وقد نص الشافعي على أن صاحب الدين المؤجل لو أراد أن يدعيَه على المدعى عليه، لم يكن له ذلك، والتدبير كالدين المؤجل؛ من حيث إنه لا يثبت في الحال طلبه، ولكن التدبير عُلقة تُفضي إلى العتق في المآل، كما أن الدين المؤجل إذا انقضى أجله، توجهت الطلبة به، فاتفق الأصحاب على إجراء الخلاف في المسألتين، وإن لم يكن في الحال طلبٌ ناجز.
ثم هذا الذي أطلقناه منتظم في الدَّيْن المؤجل، وفيه غموض في التدبير من وجهين: أحدهما - أن السيد إذا أنكر -على قولنا بإثبات الرجوع فيه مع استمرار الملك- فهل يكون إنكاره بمثابة الرجوع؟ فنذكر هذا الطرف. ونقول: إن لم نثبت الرجوع، فلا سؤال من هذه الجهة، وإن أثبتناه، فهاهنا مسائل، نذكرها ونوضح تباينها واتفاقها:
فإذا ادعت المرأة على زوجها طلاقاً رجعياً، فأنكره، لم يكن إنكاره له رجعةً فيه؛ لأن الرجعة في حكم عقد مبتدأ مفيد لِحلٍّ جديد، ورَفْع تحريم واقعٍ، فلا يكون نفي موجَبه متضمناً إنشاءه. هذا متفق عليه.
ولو ادعى رجل على رجل آخرَ بيعاً فيه خيار للمدعى عليه، فأنكره فإنكاره له لا يكون فسخاً منه للبيع، وسينعطف على هذا ضرب من الاحتمال.
فأما إذا ادعى رجل وصيةً على الموصي، أو ادعى العبد عليه تدبيره، أو ادعى الوكيل على رجل أنه وكَّله، فأنكر هؤلاء الوصية، والتدبير، والتوكيل، فهل يكون إنكارهم رفعاً منهم لما ادُّعي عليهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أن هذه العقود بجملتها تنفسخ لو كانت ثبتت في علم الله تعالى؛ فإنها معرضة ليفسخ والرفع من جهة المدعى عليه.
ولو قال الموكل -بعد ثبوت التوكيل لوكيله-: لست وكيلي، وجب القطع بالخروج عن كونه وكيلاً، وفي قوله: ما وكلتك أمس هذا المعنى الذي ذكرناه؛ فإنه إذا لم يكن وكيله أمس، فليس الآن؛ وهذا جارٍ في الوصية والتدبير.
والوجه الثاني - أن هذه العقود لا تنفسخ بالإنكار؛ فإن الإنكار إخبار عن ماضٍ(19/324)
لا تعلق له بالحال، فإذا كان كذباً، لم يؤثر في رفع العقود، والدليل عليه أن إنكار الأصل موجبه استحالة الرفع، فإن ما لم يقع لا يرفع، فنفي الأصل مع الرفع ضدان.
والوجه الثالث - أن الوكالة ترتفع من بينهما، ولا يرتفع التدبير والوصية؛ فإنهما عقدان يتعلق مقصودهما بغرضين ظاهرين لغير المنكر، فلم نجعل الإنكار فيهما رفعاً، وأما التوكيل، فالغرض الأظهر منه يرجع إلى الموكِّل، فإذا أنكر التوكيل، انقطعت الوكالة.
فإذا لاح ما ذكرناه، وجرى الحكم بكون الإنكار قطعاً للوصية والتدبير، فليس يبعد توجيه احتمالٍ إلى البيع الذي فيه خيار للمنكر، ولكنه بعيد.
12468- فإذا ثبت هذا الأصلُ، عدنا إلى غرض الفصل: فإن لم نجعل الإنكار رجوعاً، فالقول في سماع الدعوى في التدبير والوصية والوكالة على التردد الذي ذكرناه.
والأوجه ردُّ الدعوى، وقبولُها في الدين المؤجل أقربُ؛ لأنه حق، وكيف لا؟ ونحن نكتفي به ركنا في عقد المعاوضة.
وإن حكمنا بأن الإنكار يكون رجوعاً في الأصول التي ذكرناها، فالذي ذكره الأئمة أن الدعوى لا تسمع على ذلك.
وهذا فيه نظر؛ فإن الدعوى إن كانت منساغة في الأصل، فليست مبنية على إنكار المدعى عليه لا محالة، فربما يقرّ، وربما يسكت ولا يقرّ ولا ينكر، فليس يمتنع (1) إجراء الخلاف، ثم المصير إلى أنه إذا أنكر، انقطعت الدعوى، والدعوى في أصلها فيها ضعيفة.
ومما يتم به البيان أن شهادة الحسبة في الطلاق والعتَاق مسموعتان -كما مهدناه في كتاب الدعاوي- وهل تسمع شهادة الحسبة على التدبير؟ هذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في قبول الدعوى. فإن لم نقبلها لتحليف المدعى عليه، فلا نصغي إلى شهادة الحسبة من غير دعوى، فرد شهادة الحسبة أولى من ردّ الدعوى، فإن محل
__________
(1) سقطت من (ت 5) .(19/325)
الحسبة فيه إذا ثبت لله حق وهو مجحود، فينتهض من يشهد محتسباً في إثبات حق مجحود.
وقد ينقدح للفقيه فصلٌ بين شهادة الحسبة في غيبة المشهود عليه وبين الشهادة في حضوره، حتى يقال: الشهادة في الغيبة أولى بالقبول؛ من جهة تقدير مماتٍ أو فوات. وهذا بالحسبة أَلْيقُ، ولهذا. جوّز بعضُ الأصحاب استرجاعَ العين المغصوبة حسبةً في غيبة المغصوب منه، ولا ينبغي أن يجوز بحضرته مع قدرته على الاسترجاع أو الأمرِ به.
والأصح أن دعوى الاستيلاد مقبولة؛ فإنها تتضمن -لو ثبتت- عُلقةَ ناجزة لازمة.
ومن أصحابنا من ذكر خلافاً في دعوى الاستيلاد من غير مسيس حاجة إليها، وإن باع المستولِد أم الولد؛ فإذ ذاك لا خلاف في قبول الدعوى وشهادة الحسبة.
***(19/326)
باب وطء المدبرة
12469- وطء المدبرة جائز، وإذا استولدها المولى، فلا خفاء بثبوت الاستيلاد، ولا يبقى للتدبير أثر؛ فإن أمية الولد تُحصِّل العَتاقة على اللزوم، ولكن من طريق التقدير لا يكون الاستيلاد مناقضاً للتدبير؛ فإنه يوافق مقصودَه، ويؤكدُه.
وليس مساق الكلام في هذا كقولنا: الاستيلاد لا ينافي الكتابة؛ فإن المكاتبة إذا استولدها السيد، وعتقت بموت مولاها، استتبعت الكسب والولد، وهذا من آثار الكتابة، وليس يبقى لعتق التدبير خاصية، حتى يقال: إنها باقية (1) مع الاستيلاد، وليس من الفقه أن يقال: العتق معلل بعلتين، فإن خبط الأصوليين في هذا عظيم، ولسنا له الآن. نعم، إذا أوصى رجل بجاريته لإنسان، ثم استولدها، فهذا رجوع عن الوصية لمضادة الاستيلاد مقصود الوصية للغير، ولو وطئها ولم يعزل، فقد نجعل ذلك رجوعاً عن الوصية.
ولو وطىء المولى المدبَّرة ولم يعزل -والتفريع على أن الرجوع ممكن في التدبير بناء على أنه وصية- فلا يكون الوطء رجوعاً عن التدبير؛ فإن المنتظر منه العلوق؛ ولا منافاة بين مقتضاه وبين مقصود التدبير، فمن هذا الوجه تفترق الوصية والتدبير في مقدمة الاستيلاد.
ولو دبّر عبداً، ثم كاتبه -والتفريع على أن التدبير وصية- فهل تكون المكاتبة رجوعاً عن الوصية؟ فعلى قولين، نقلهما صاحب التقريب، ومنشأ التردد أن مقصود الكتابة العتُق أيضاً، ويخرج عندنا على هذا التردد ما لو علّق المولى عتق المدبر بصفة، وقد أطلق الأصحاب كون ذلك رجوعاً عن الوصية للغير. وقد ذكرت حكم الرجوع في موضعه.
__________
(1) ت 5: " كافية ".(19/327)
وذكر الشيخ أبو علي أمراً بدعاً لا يليق به، فقال: إذا جعلنا التدبير وصية، فلو وَهَبَ المدبَّرَ ولم يسلِّم، كان راجعاً عن التدبير، وهذا منقاس، قال: وإن قلنا: التدبير تعليق، فهل تكون الهبة من غير إقباض إبطالاً للتدبير؟ فعلى وجهين.
ولست أعرف لهذا الاختلاف وجهاً، ولا طريق إلا القطع بأن الهبة بمجردها لا تُبطل التدبير. نعم، إذا اتصلت الهبة بالإقباض -فإن قلنا: الملك يحصل عند التسليم- فعنده ينقطع التدبير، وإن قلنا: نتبين استناد الملك إلى حالة الهبة، فهل نتبين استناد انقطاع التدبير؛ هذا فيه تردد.
وكذلك لو فرض بيع على شرط الخيار، وجعلناه مزيلاً للملك، فهل يبطل التدبير به قبل لزوم البيع؟ فيه تردد.
وأثر ذلك في أنا إن قلنا: إذا زال الملك على وجه اللزوم، وعاد، فالتدبير منقطع، فلو زال على الجواز، ثم عاد، فهل نحكم بانقطاع التدبير؟ فيه تردد بيّن.
يجوز أن يقال: ينقطع لزوال الملك، ويجوز أن يقال: لا ينقطع كالطلاق الرجعي إذا تداركته الرجعة، فإن الأيمان لا تنقطع، والعلم عند الله. وقد نجز هذا الغرض.
12470- ونحن نأخذ بعده في تفصيل المذهب في ولد المدبرة. فنقول: إذا أتت المدبرة بولد بعد التدبير عن نكاحٍ أو سفاحٍ، وتبين حصول العلوق به بعد التدبير، فهل يثبت لولدها حكم التدبير؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - لا يثبت، وهو القياس؛ فإن التدبير عرضةُ الرجوع في قولٍ، وهو بصدد الإبطال بالبيع في قولٍ، وما لا يلزم أو يتطرق إليه إمكان الرفع، فقياس المذهب فيه ألا يتعدى من الأم إلى الولد، اعتباراً بالرهن؛ فإنه لا يتعدى إلى الولد، وليس كولد المستولدة؛ فإن الاستيلاد لازمٌ، لا دفع له.
والقول الثاني - أنه يثبت التدبير للولد، تشبيهاً بالاستيلاد؛ فإن كل واحد منهما يتضمن العَتاقة عند الموت.
وبنى أصحابنا القولين على أن التدبير وصيةٌ أو تعليق، فإن قلنا: إنه وصية، لم يتعد إلى الولد، وإن قلنا: إنه تعليق، تعدى.(19/328)
وهذا ليس بشيء؛ فإن الأئمة نقلوا قولين في أن تعليق عتق الأمة بالصفة هل يتعدى إلى الولد الذي تَعْلق به بعد التعليق؟ فمختار الأئمة طرد القولين، سواء قلنا: التدبير وصية أو تعليق.
وكان شيخي يقول: إذا أوصى الرجل بجارية، فعلقت بمولود بعد الوصية، الظاهرُ القطعُ بأن الوصية لا تتعدى إلى الولد، إذا حصل العلوق في حياة الموصي، ويمكن إجراء القولين كما ذكرناه في التدبير، والأظهر القطع؛ فإن الشافعي إنما ردد قوله في ولد المدبرة على مذهب التشبيه بالمستولدة، وهذا التشبيه يختص بعقد العَتاقة.
12471- التفريع على أصل القولين في ولد المدبرة: إن قلنا: يتعدى التدبير إلى الولد الحادث من بعدُ، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتعدى التدبير إليه، فلو كانت الجارية حاملاً لمّا (1) دبرها، فهل يثبت التدبير في ولدها الموجود حالة توجيه التدبير عليها؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يتعدى، لا للسريان، ولكن لاشتمال اللفظ على الحمل.
ومن أصحابنا من قال: لا يتعدى، ولم أرَ خلافاً أنه لو أعتقها وفي بطنها جنين، ثبت العتق في الجنين.
ثم إذا قلنا: يثبت التدبير في الجنين، ولا يثبت فيما يحدث العلوق به من بعدُ، فلو أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت التدبير، فقد بان أنه كان موجوداً، وإن أتت به لأكثرَ من ستة أشهر -والتفريع على أن التدبير لا يتعدى إلى الولد الحادث بعد التدبير- فعند ذلك نُفَصِّل بين أن يكون لها من يفترشها بعد التدبير: بأن كانت مزوّجة، وبين ألا يفترشها بعد التدبير مفترش. والعهد قريب بهذا التفصيل في جر الولاء، والقول هاهنا كالقول ثَمَّ.
ثم إذا أثبتنا للولد حكمَ التدبير، فلا خلاف أن الأم لو ماتت قبل موت المَوْلى، لم يبطل التدبير في ولدها، ويعتِق الولد بموت المولى على حسب ما كانت الأم تعتِق لو
__________
(1) ت 5: " كما ". وهي بمعنى عندما.(19/329)
بقيت، ولو باع الأم أو رجع عن التدبير فيها -على قول الرجوع- بقي التدبير (1) في الولد، وهذا يحقق أن التدبير تأصّل في الولد.
12472- ومما يتصل بهذا المنتهى ما ذكره ابنُ الحداد في مسائلَ أتى بها بدداً من الكتب، قال: إذا مات السيد، وخلف تركةً، ومدبّرةً، وولدَها، وكان الثلث يفي بأحدهما دون الثاني - قال ابن الحداد: يقرع بين الأم والولد، كما لو دبّر عبدين، وقال بعض أصحابنا: يقسم العتق بينهما؛ فإنا لو أقرعنا، فقد تخرج القرعة على الولد، وترِق الأم، وهي الأصل، ومنها تعدى التدبير؛ فإن الولد لم يُدبّر، فيبعد أن ترِق ويعتِق الولد.
وهذا ليس بشيء. والوجه ما قاله ابن الحداد؛ فإن التدبير إذا ثبت، فلا نظر بعد ثبوته إلى ذلك، ولو صح هذا المعنى، لوجب أن يقال: تعتق الأم لا محالة، فإن بقي وفاء بالولد، فذاك، وإلا حُكم برقه، ولا قائل بذلك، وكذلك لا نعرف خلافاً أن المدبرة لو ماتت قبل موت المولى، فقد ماتت رقيقة، والتدبير لا ينقطع في الولد، فالأصل ما ذكره ابن الحداد.
12473- ثم فرع الشافعي على قول جريان التدبير، وقال: لو اختلف المولى والمدبَّرة، فقال المولى: هذا الولد ولدتيه (2) قبل التدبير، فهو منّي وقالت: ولدته بعد التدبير، فالقول قول المولى؛ لأن الأصل بقاء ملكه على ولد أمته. وكذلك لو وقع هذا الاختلاف بينها وبين الوارث بعد موت المولى، فالقول قول الوارث.
وقد يتصور الخلاف بين الوارث وبين المدبرة على قولنا: لا يسري التدبير إلى الولد. وبيان تصويره أن الوارث لو قال: ولدتِ هذا الولد قبل موت المولى، فكان رقيقاًً، وقالت: بل ولدته بعد موته، فهو حر؛ فإن الحرة قط لا تلد رقيقاًً؛ فإنها وإن كانت حاملاً برقيق، فإذا عتَقَت عَتَق ولدها في بطنها؛ فإذا فرض النزاع كذلك،
__________
(1) ت 5: " ففي التدبير ".
(2) كذا في النسختين بإثبات الياء، وهي لغةٌ، وعليها جاء في حديث البخاري ومسلم قول ابن مسعود: " لئن كنت قرأتيه، فقد وجدتيه " (ر. البخاري ح 9539، ومسلم: 2125) .(19/330)
فالقول قول الوارث؛ جرياً على الأصل الذي ذكرناه.
فإن قيل: إذا انفصل، وكان الثلث لا يفي بها وبولدها، فكيف تحكمون بعتق الولد؟ قلنا: إذا خرجت قيمتها وهي حامل من الثلث، لم نعتبر قيمة الولد بعد الانفصال.
12474- ومما يتم به البيان أنه إذا علّق عتقَ جاريته بدخول الدار، فأتت بولد، وقلنا: يتعدى التعليقُ إليه - فالذي ذكره الأصحاب أن الأم إذا دخلت الدارَ، وعَتقَت، عَتَق ولدُها، وإن لم يدخل الدار. فقَضَوْا بأن الولد يعتِق، بما تعتق به الأم.
وكان شيخي أبو محمد يقول: [معنى] (1) تعدِّي التعليق إلى الولد، أن الولد لو دخل، عَتَق، فأما أن يعتِق بعتق الأم، فلا.
وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في التوجيه؛ فإن الأصحاب إنما قالوا ما قالوه عن المدبَّرة إذا مات عنها مولاها ولها ولد، فإنهما يعتِقان، ولكن لا اختصاص للموت بالأم، بل مات المولى عنهما.
ولو ماتت الأم أولاً، ثم مات المولى، لعَتَق الولد، فموت المولى عنهما كموته عن عبدين دبرهما.
فأما إذا سرّينا التعليق، [وقلنا] (2) : يعتق الولد بدخول الأم الدار، مع انتفاء الدخول عنه، فهذا تسرية عتق، وليس بتسرية التعليق. والله أعلم.
***
__________
(1) في النسختين: " متى " والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في النسختين: " قلنا " بدون الواو.(19/331)
باب تدبير النصارى
12475- تدبير الذمي المعاهد والحربي جائز، وإعتاقهم عبيدَهم نافذٌ؛ فإن هذا من تصرفات المُلاّك في الأملاك، والملك ثابت لهم. ثم ذكر أن الذمي لو دبّر عبداً، ونقض العهد، فله حمل مدبَّره الكافر؛ فإنه رقيق، وهو عرضة تصرفات المولى؛ ولو كاتب عبداً ثم أراد حمله، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو أسلم مدبَّر الكافر، فهل نبيعه عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - يباع؛ فإنه قابل للبيع؛ فلا يدام عليه رق الكافر، مع القدرة على إزالته. والثاني - أنه يحال بينه وبينه على رجاء أن يعتِق؛ فإن إدامة هذا له أغبط عليه من بيعه لمسلم.
فرع (1) :
12476- إذا كان للرجل جاريةٌ حامل بولد رقيق، فدبّر حملها دونها، صح ذلك، ولو دبرهما جميعاً، ثم رجع عن التدبير فيها، بقي التدبير في الولد، وهل يصح الرجوع عن التدبير في الحمل إذا كنا نجوز الرجوع؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن ذلك ممكن؛ فإنا وإن كنا نسرّي التدبير إلى الولد، فلا يبعد الرجوع عن التدبير فيه مع إبقائه في الأم. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من امتنع من تصوير الرجوع في الولد -وهو حملٌ- مع إبقاء التدبير في الأم، وهذا هَوَسٌ غيرُ معتد به، ولا خلاف أن ذلك جائز على قول الرجوع بعد انفصال الولد.
فلو دبر الجنينَ دون الأم، ثم باع الأم، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه إن قصد الرجوع عن تدبير الولد، صح البيع في الأم والولد، وإن لم ينوِ الرجوع عن تدبير الولد، فلا يصح البيع في الولد، ثم إذا لم يصح فيه، لم يصح في
__________
(1) هذا الفرع سقط من (ت 5) .(19/332)
الأم على الرأي الأصح فيه إذا باع جارية حبلى بولد حر، وهذا اختيار صاحب التقريب، لم يحك غيره.
والوجه الثاني - أنه يصح البيع في الأم والولد، وإن لم ينو رجوعاً وهذا هو القياس، ومنشأ الخلاف عندي من شيء وهو أن البيع هل يتناول الحمل حتى يقابل بقسط من الثمن؛ فإن قلنا: يتناوله، صح البيع؛ وإن قلنا: لا يتناوله، ثار منه التردد.
فرع:
12478- عبد مشترك بين شريكين دبر أحدهما نصيبه، فالمذهب أن التدبير لا يسري إلى نصيب الشريك.
وذكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهين في سريان التدبير: أظهرهما - أنه لا يسري. والثاني - أنه يسري، ويقوَّم على الشريك المدبِّر نصيبُ صاحبه على قياس سراية العتق. وهذا رديء لا أعرف له توجيهاً.
ولو كان العبد خالصاً، فدبر سيدُه نصفَه، فإن قلنا: يسري التدبير إلى نصيب الشريك، فلا شك في سريانه إلى عبده الخالص. وإن قلنا: لا يسري ثَمَّ، فلا يسري هاهنا.
فرع:
12479- إذا دبر الرجل نصيبه من العبد المشترك، وقلنا: لا يسري التدبير، فلو أعتق صاحبُه نصيب نفسه، فهل يسري عتقه إلى نصيب المدبِّر؟ ذكر الإمام والعراقيون والشيخ قولين: أحدهما - أنه يسري، وهو القياس. والثاني - لا يسري لحق المدبِّر (1) ؛ فإن السراية من ضرورتها نقل الملك، وهذا عندي شديد الشبه بالطلاق قبل المسيس، وقد دبرت المرأةُ العبدَ المصْدَق، فإن ذلك الارتداد قهري [كهذا] (2) ، ولكن نقل الملك لتسرية العتق أقوى لسلطان العتق.
ثم إن قلنا: لا يسري، فلو رجع المولى عن التدبير، فهل يسري الآن؟ قال
__________
(1) عبارة الغزالي: " لأن السيد استحق العتق عن نفسه بالتدبير، فلا ينتقل إلى غيره (أي شريكه) قهراً " (ر. البسيط: ج 6 ورقة: 402) .
(2) في الأصل: " هكذا ". وت 5: " لهذا ". والمثبت من تصرف المحقق.(19/333)
الأصحاب: لا يسري؛ فإنه قد امتنع السريان حالة العتق، فلا يسري بعده، وهذا كما لو أعتق وهو معسر، ثم أيسر.
وحكى شيخي وجهاً: أنه يسري؛ فإنا منعنا السراية لرجاء العتق بسبب التدبير، فإذا زال التدبير سرّينا، ثم ذكر على هذا الوجه وجهين: أحدهما - أنا نسرّي كما (1) زال التدبير. والثاني - نتبين السريان مستنداً إلى العتق.
12480- ثم عقد الشافعي باب في تدبير الصبي (2) المميز وتدبيرُه كوصيته، وإن لم نجعل التدبير وصية، وفي وصيته قولان ذكرناهما في كتاب الوصايا.
فإن قيل: إذا جعلتم التدبير تعليقاً، فلم تصححونه منه، والتعليق منه باطل؟ قلنا: لأنه تعليق في معنى الوصية؛ إذ العتق يحصل به بعد الموت.
***
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) ر. المختصر: 5/274.(19/334)
كتَابُ المُكاتَبِ
12481- الأصل في الكتابة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] .
والأخبار والآثار في الكتابة قريبة مَن حد الاستفاضة، والإجماع منعقد عليها.
وقيل: اشتقاق الكتابة من الكَتْب، وهو الضم، يقال: كتبتُ البغلَةَ إذا جمعت بين شُفريها بحلقة، وكَتبتُ القِربة إذا خرزتها، وضممت أحدَ شقيها إلى الآخر، وسميت الكتابة كتابة لما فيها من ضم الحروف والكلم ونظمها، والكتيبة سميت كتيبة لانضمام بعض الناس إلى البعض، فالكتابة سميت كتابة لانضمام بعض النجوم منها إلى البعض.
12482- ثم أصل الكتابة خارج عن قياس العقود والمعاملات من وجوه:
منها - أنها معاملة مشتملةٌ على العوض دائرةٌ بين السيد وعبده. وهذا بدع في الأصول.
ومنها: أنه يقابل عبده المملوك بما يُحصِّله العبدُ كسباً، وكسبُ العبد للمولى، فالعوض والمعوّض صادران عن ملكه.
ومنها: أن المكاتَب على منزلةٍ بين الرق المحقق وبين العتق، فليس له استقلال الأحرار، ولا انقياد المماليك، وينشأ منه خروج تصرفاته على التردد بين الاستقلال ونقيضه، ثم ينتهي الأمر إلى معاملته السيدَ، وانتظام الطلب بينهما، واستحقاق كل واحد على صاحبه، ثم يثبت للمكاتب ملكٌ، وقياس المذهب الجديد أن المملوك لا يملك، ثم يعتِق ويتبعه ما فضل من كسبه.
فأصل الكتابة إذاً خارج عن وضع قياس العقود، فرأى الشافعي الاتباع في الأصل، وتنزيلَ الكتابة على مورد الشرع، ولذلك رأى التنجيم فيها حتماً؛ فإنه لم يُلفِ كتابة(19/335)
فيما بلغه من آثار الأولين إلا مشتملة على التنجيم، وأوجب الإيتاء بناء على ذلك أيضاً.
12483- ثم العقود مبناها على المصالح، وأقدار الأغراض، وذلك بيّن في كل عقد، فلسنا نطيل الكلام بذكر وجوه المصالح فيها.
ثم مما يجب التفطن له في تمهيد ما ذكرناه أن ما يُفسد عقداً، قد يقع شرطاً في عقد، وهذا بمثابة قولنا: المعقود عليه في البيع يجب أن يكون موجوداً، والإجارة كما (1) أجيزت للحاجة والمصلحة، فهي لا تَرِد إلا على منافع معدومة، ثم الإعلام شرطٌ في الإجارة، إما بالمدة وإما بذكر ملتمسٍ معلومٍ، كخياطة الثوب ونحوها.
ومقصود النكاح لا يثبت إلا مجهولاً ممدوداً على أمد العمر، والتأقيت يفسده، كما أن التأبيد يفسد الإجارة؛ لأن اللائق بكل عقد ما أثبت فيه: إما تأقيتٌ أو تأبيد؛ وصحت الجعالة مع ظهور الجهالة فيها لمسيس الحاجة، حتى لا يُشترط في بعض صورها قبول وتعيين مخاطب؛ فيقول الجاعل: من رد عبدي، فله عليّ كذا.
ثم جرت هذه العقود على حاجاتٍ حاقّة، تكاد تعم، والحاجةُ إذا عمت، كانت كالضرورة، وتغلب فيها الضرورةُ الحقيقية؛ ثم أثبت الشرع معاملةً لا تظهر الحاجة فيها ظهورها في القواعد التي ذكرناها، ولكنها تتعلق بالاتساع في المعيشة، وتحصيل الزوائد والفوائد، كالقراض في تحصيل الأرباح، ثم أثبت الشرع فيه أمراً بدعاً لتحصيل الربح، وأثبت عوض عمل العامل جزءاً من الربح، ليكون ذلك تحريضاً له على بذل الجد في الاسترباح. والكتابة من وراء ذلك؛ فإن العبد يستفرغُ الوسع، ويتناهى في تحصيل الأكساب إذا كوتب.
والعتق محثوث عليه على الجملة، والرق من أظهر آثار القهر والسطوة، فرأى الشرع إثباتَ معاملة يحصل بها التقرب إلى الله تعالى بالعتق؛ فإن الكسب يُمْلَكُ من العبد مِلْكَه (2) ، ثم لا يحصل الغرض بتعجيل العتق واتّباع معسر لا مال له؛ فإن
__________
(1) كما: بمعنى (عندما) ، وهي في ت 5: (لمّا) .
(2) المعنى أن الكسب من العبد، أي اكتسابه، يملكه منه مِلْك رقبته، أي كما تملك رقبته، ثم =(19/336)
الرغبات تتقاعد عن ذلك؛ فكانت المكاتبة معاملة [تحقق] (1) الغرض الذي أشرنا إليه.
12484- وكل عقد لم يعهد له نظير في العقود، فلا ينبغي أن يقال: لا يعقل معناه؛ فإن وضعه ومقصودَ الشرع منه معقول، ولكن لو رُدّ الأمر إلى نظرنا، لم نستنبط من قياس العقود وضعَ ما أحدثه الشرع لمقصود جديد، وإذا عقلنا معناه وخاصيته في مقصوده، تصرفنا بما فهمناه في تفصيل ذلك العقد، حتى نجيز ما يتوفر المقصود عليه، ونفسد ما يتخلف المقصود عنه.
وننظم في هذه المسالك أقيسة فقهية وأخرى شبهيّة وننوّعها إلى جلية وخفية، ولذلك تتسع مسائلُ كتابٍ، [فتبلغ] (2) آلافاً، وموضع النص منها معدود محدود، وليس لنا أن نفتتح مصالح، ونبني بحسبها عقوداً؛ فإن ما نتخيل من جهات المصالح لا نهاية لها، وقواعد الشرع مضبوطة، وإن فرضت مصلحة شبيهة بالمصلحة المعتبرة في الشرع، فقد نجوّز القياس فيها بطريق التشبيه إذا ظهر، وهذا مقام يجب أن يتأنق القائسُ فيه، ويحاذر البعدَ عن الاتباع، ولا يجري بالخَطْو الوساع.
هذا الشافعي لما رأى المساقاة قريبة من القراض، ورام أن ينظم بينهما تشبيهاً، لم يهجم على قياس المساقاة على القراض، بل استمسك بالحديث في المساقاة، ثم لما رام التعلُّقَ بالمعنى، قال: ليس للقراض ثبتٌ في الحديث، ولم يُجمع الأصحاب عليه إلا عمّا ظهر لهم في المساقاة - في كلام طويل وفيناه حقه من [التقرير] (3) في الخلاف (4) .
__________
= بعقد الكتابة الذي هو عقد عتاقة، متقرب به إلى الله، تصير أكساب العبد ملكاً له يؤديها نجوماً يعتق بأدائها.
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " تبلغ "، والمثبت من (ت 5) .
(3) في الأصل: " التقريب "، والمثبت من (ت 5) .
(4) هنا خرم في (ت 5) . نحو عشر ورقات كاملة، وأعتقد أنها كراسة كاملة -الكراسة عشر ورقات- سقطت من الأصل الذي كتبت عنه نسخة (ت 5) ، فإن الخرم ليس يبدأ من رأس الصفحة ونهايتها، مما يشهد بأن السقط كان من الأصل المنقول عنه.(19/337)
12485- ثم إنا نستعين بالله فنقول: وضع الكتابة على الاتباع، فلذلك وجب فيها التنجيمُ، والإيتاء، كما سيأتي إن شاء الله.
ثم انتظمت الكتابة معاوضة حقيقية بعد ما احتُمل [معاوضة] (1) الملك بالملك، ولم تصح على عين، لأنها ملك يُحصَّل للسيد، والكتابة للتحريض على تحصيل الكسب، واقتضى ذلك تسليطَه على الكسب على الاستقلال، على شرط ضرب الحجر عليه في التبرع، فقد يكتسب ويَضَعُ (2) ، وابتنى على هذا معاملته للسيد؛ فإن عليه أداء النجوم، وله طلب النجم منه، فكان كل عوض في معاملة بهذه المثابة، ثم لو أعتقه السيد برىء؛ لأنا احتملنا عوضَ الكتابة لتحصيل العتق، فإذا حصل العتق، ارتدت النجوم، ولو أبرأ عن النجوم، حصل العتق على قياس المعاوضة؛ فإن استيفاء العوض والإبراء عنه بمثابة، وتعليق العتق بتأدية النجوم ضِمْنٌ (3) ؛ فإذا قال: إن أديت، فأنت حر، لم يكن هذا تعليقاً محضاً، بل هو تعبير عن مقصود الكتابة ومآلها، وإلا فالكتابة في صحتها على حكم المعاوضة.
وإن فسدت الكتابةُ، فالعتق لا يفسد تعليقُه، وهو المقصود في تصحيح (4) الكتابة؛ ولولاه، لفسدت الكتابة، نظراً إلى مقاصد العقود، فانتظار هذا المقصود يُثبت للكتابة الفاسدة -في بعض قضاياها- حكمَ الصحة؛ حتى يستقل العبد، والكتابة جائزة؛ لأنه لم تتوفر عليها شرائط الصحة، فإذا حصل العتق، غلب عند حصوله مضاهاة الخلع؛ فإنه إذ ذاك عتق بعوض فاسد، فيثبت الرجوع إلى قيمة العبد، وهذا يناظر الرجوع إلى مهر المثل في الخلع الفاسد.
ثم الكتابة جائزة -وإن صحت- من جانب العبد؛ فإن السيد لا يخسر بتعجيزه (5)
__________
(1) في الأصل: " معاملة "، والمثبث تصرف من المحقق.
(2) ويضع: أىِ يضع المستحقَّ له عمن يعاملهم، ويُبرئهم عما يجب عليهم، تبرعاً منه.
(3) ضمنٌ: أي في مطاوي كلام العقد ودلالاته، فهو في حقيقته عقد معاوضة، وإن علق العتق على أداء النجوم.
(4) كذا. ولعلها في صحيح الكتابة.
(5) أي تعجيز العبد نفسه عن النجوم، وعوده إلى كمال الرق.(19/338)
نفسَه، وهي لازمة -إذا صحت- من جانب السيد، حتى يثق العبد، [فيكتسب] (1) .
ْهذا وضع الكتاب، وتمهيد قاعدتها.
ثم مسائل الكتاب تنعطف على هذه الأصول، وتتبين بها، والأصول تنبسط بالمسائل.
12486- ونعود بعد ذلك إلى ترتيب المسائل، فنقول: إذا دعا العبد مولاه إلى المكاتبة، وكان كسوباً، مائلاً إلى الخير، فإجابته إلى الكتابة مستحبة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، ولا تجب الإجابة خلافاً لداود (2) وطائفةٍ من السلف.
قال صاحب التقريب: ردد الشافعي جوابه في هذا في بعض مصنفاته، ولم يُبعد القولَ بوجوب الإجابة. ثم حكى قولاً مرسلاً للشافعي على هذا النحو، وعضده ببناء الشافعي أصل الكتابة على الاتباع، وقد أوجب الإيتاء تعويلاً على قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33] ، وذلك معطوف على قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] .
وهذا غريب، لم أره لغيره، ولست أعتد به، وذلك أن الصيغة ليست ممتنعة عن الحمل على الندب، ولو حملناها على الإيجاب، لبطل أثر الملك، واحتكام الملاك، ولزوم اطراد الرق، فليس يليق بوضع الشرع إيجاب إنشاء الكتابة، ولا يمتنع أن يكون الإيتاء موجَباً لعقد الكتابة بعد اختيار الإقدام عليها؛ ومثل هذا لا يحيط به إلا مَنْ يألف مسالكنا في الأصول.
12487- ولو لم يكن العبد كسوباً ولا أميناً، فلا تستحب مكاتبته؛ فإنه يجرّ بالاستقلال خبالاً، ثم قد يعجّز نفسه آخراً، ولو عَتَق، لكان كلاًّ على المسلمين.
قال العراقيون: إن لم يكن كسوباً، وكان رشيداً ذا خير، ففي استحباب مكاتبته وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا تستحب، وهو الذي قطع به المراوزة لما
__________
(1) تقدير من المحقق مكان كلمة استحالت قراءتها.
(2) ر. المحلى: 9/222.(19/339)
أشرنا إليه [من] (1) أنه إذا لم يكن كسوباً، صار وبالاً بعد العتق يتكفف الوجوه.
والثاني - أنه تستحب إجابته؛ فإن أرباب الزكوات إذا رأوا رُشدَه وخيرَه، رغبوا في تخيّره لصرف سهم المكاتبين إليه، وهذا الوجه يعتضد بظاهر قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ؛ فإنه ليس في سياق الآية التعرض للكسب.
فأما إذا كان غير رشيد، وكان كسوباً، فلم ير أحد استحبابَ كتابته؛ لأن من لا يوثق به، فلا تعويل على معاقدته.
وهذا الفصل على ظهوره يستدعي مزيد كشف؛ فإن الإعتاق قُربةٌ في العبد، كيف فرض العبد محبوبٌ. وما ذكر من مصير العبد كلاًّ، لا تعويل عليه؛ فإن تنجيز العتق محبوب مع ذلك، فالتعويل على أنا لا نستحب للعبد المكاتبة؛ فإن الكتابة لا تنجز العتق، وإذا لم يكن أمانة وقوة، فيبعد رجاء العتق بطريق الكتابة، ولا يندب السيد إلى إيقاع الحيلولة بين نفسه وملكه من غير ظهور الرجاء في العتق. فهذا هو الأصل.
12488- ثم ذكر الشافعي في بعض مجموعاته لفظة، ننقلها لغرض، قال: " أما أنا، فلا أمتنع -إن شاء الله- من كتابة عبد جمع القوة والأمانة " وظني أن ما حكاه صاحب التقريب مأخوذ من هذا، فإن كان كذلك، فلا وجه له؛ فإن الشافعي قال هذا بإيثاره في حق نفسه الخروجَ عن الخلاف، وابتدار الأحب والأفضل، وهذا كقوله: لو كنت أنا الواجد، لخمست القليل والكثير، ولو وجدت تجارة، لخمستها، وقال: أما أنا، فلا أَقْصر فيما دون ثلاثة أيام، وإن كان القصر مباحاً لي.
ومثل ذلك كثير.
فصل
قال: " ولا يكون الابتغاء من الأطفال والمجانين ... إلى آخره " (2) .
12489- كتابةُ الطفل باطلة، وكذلك كتابة المجنون، وتيمن الشافعي في ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33] ، وقال: لا يكون الابتغاء من
__________
(1) في الأصل: " في ".
(2) ر. المختصر: 5/274.(19/340)
الأطفال والمجانين، أراد لا حكم لابتغائهم.
وهذه المسألة مأخوذة من بطلان عبارة الطفل والمجنون في العقود، والمعوّل في صحة العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول على صحة العبارة من الموجِب والقابِل.
وقال أبو حنيفة (1) : كتابة الصغير الذي لا يعقِل عقلَ مثله جائزة، وهذا بناء منه على تصحيح تصرف العبد الصغير إذا كان بإذن المولى، والسيدُ بإيجاب الكتابة له آذنٌ في القبول، وعندنا عبارة الطفل كعبارة المجنون.
فإن قيل: هلا ربطتم صحة العقد بعبارة الطفل المميز، كما أوقعتم الطلاق بقبول السفيهة المحجور عليها إذا خالعها زوجها؟ قلت: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن السفه لا يبطل العبارة بالكلية. فإن قيل: ذكرتم اختلافاً في أن الزوج إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق إن شئت، فقالت: " شئت "، هل يقع الطلاق بعبارتها؟ قلنا: من ذكر ذلك الخلاف في المشيئة، لم يذكره في لفظ العقد؛ فإن العقود متضمّنها إلزامٌ، وعبارة الصبي بعيدة عن هذا المعنى، وقول القائل: شئتُ إذا صدر عن فهم يسمى مشيئة. ثم مع تسليم ذلك كلِّه إذا قال للسفيهة: " أنت طالق على ألف "، فقالت: قبلت، لم يثبت الخلع، ووقع الطلاق رجعياً، والكتابة إذا لم يثبت فيها مقتضى إلزام والتزام، فلا وقع لها، والطلاق ينقسم إلى الرجعي والبائن.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن كتابة الصغير باطلة، لا يثبت لها حكم الكتابة الفاسدة، على ما سنجمع أحكام الكتابة الفاسدة، إن شاء الله، ولكن إن قال المولى: إن أديتَ كذا، فأنتَ حُرٌّ، فوجدت الصفة، قضينا بوقوع الحرية لوجود الصفة، ثم لا يرجع المولى [بقيمته عليه] (2) ، بخلاف ما إذا فسدت الكتابة الجارية مع العبد العاقل البالغ لما ذكرناه من انتفاء الكتابة بالكلية وتمحُّض التعليق.
وفي النفس شيء من قوله: " إن أديت " فإن هذا أداء من حيث الصورة، وإن كان لا يتصور فيه التمليك، أم كيف السبيل فيه؟ وقد ذكرنا أن قول الرجل لامرأته: "إن
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 384، حاشية ابن عابدين: 5/60.
(2) في الأصل: " بقيمتها عليها " ولم يسبق في الكلام إشارة فرض المسألة في جارية.(19/341)
أعطيتني ألفاً، فأنت طالق" يقتضي إعطاء مع إمكان التمليك، وسنأتي في هذا بما يكشف الغطاء في فصل الكتابة الفاسدة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وما جاز بين المسلمين في البيع والإجارة ... إلى آخره " (1) .
12490- كل ما جاز أن يكون عوضاً في البيع والإجارة والنكاح، جاز أن يكون عوضاً في الكتابة، إذا كان موصوفاً في الذمة منجماً، وهذا يستند إلى ما مهدناه.
فإذا التزمنا الاتباعَ، وسوّغنا معاملة الرجل ملكه بملكه للحاجة التي أومأنا إليها، فلا حاجة بعد تمهيد هذا إلى مخالفة قياس المعاوضات، فيجب أن نرعى فيها من الإعلام ما نرعاه في عقود المعاوضات. ثم تختص الكتابة بكون عوضها واقعاً في الذمة؛ لأن العبد لا يملك عيناً، وما في يده من الأعيان لمولاه، أو لأجنبي، ولا يصح إيراده الكتابة عليها.
فإن قيل: كسبه -لو اطرد الرق- لمولاه.
قلنا: غيرَ أن الكتابة تملكه الكسب، ولا تملكه الكتابة عيناً من أعيان مال السيد؛ فليكن عوضُ الكتابة موصوفاً في الذمة بمثابة المُسلَم فيه إن كان عَرْضاً، وإن كان نقداً غالباً أغنت العادة عن ذكر الأوصاف، كصنيعها في المعاوضات، وأثبت أبو حنيفة (2) العبد المطلق عوضاً، أو صرفه إلى عبد وسط.
فصل
قال: " ولا يجوز على أقل من نجمين ... إلى آخره " (3) .
12491- التأجيل ركن في الكتابة عند الشافعي رضي الله عنه، وكذلك التنجيم؛ فلا تصح المكاتبة إلا على نجمين فصاعداً، ومعتمد المذهب الاتباعُ، ولم يثبت عن
__________
(1) ر. المختصر: 5/274.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 5/62.
(3) ر. المختصر: 5/274.(19/342)
الأولين تعرية الكتابة عن التأجيل [والتنجيم] (1) .
وقال أبو حنيفة (2) : الأجل يشترط في السلم لابتنائه على جرّ مرفقٍ موفور، وزعم أن الحلول ينافيه، ثم جوز الكتابة الحالّة ومبناها على المواساة لا غير.
وتعلق بعض أصحابنا بتحقق عجز المكاتب عن تأدية العوض لو كان حالاًّ (3) .
ولست أعتمد ذلك في الخلاف، ولكني أذكره لربط مسائلَ مذهبية بطرده وعكسه.
قال أئمتنا: العبد إذا قبل الكتابة، فلا يتصور له مع حصول القبول ملكٌ عتيد (4) يِتهيأ تأدية العوض فيه، ففرض أصحاب أبي حنيفة مسائلَ نذكرها ونذكر المذهب فيها.
فإن قيل: لو أوصى إنسان له بمال قبل الكتابة، فمات الموصي قبل جريان الكتابة أو فرض إنشاء هبة؟
قلنا: كل ذلك بعد قبول الكتابة (5) ، ولو قبل الوصية والهبة قبل قبول الكتابة، لم يصح قبوله على مذهبٍ، ويصح على وجه، ويقع الملك للمولى، وإن فرض القبول بعد قبول الكتابة، فيكون العوض لازماً قبل تمام قبول الوصية، ولا مال ولا تمكن في تلك الحالة.
فإن قيل: لو كاتبه على مقدار من الملح وهما على [مَمْلحة] (6) ، فيقبل الكتابة ويسلِّم الملح.
قلنا: لا يملك الملح ما لم يأخذه، فالأخذ بمثابة قبول الوصية فيما قدمنا.
__________
(1) في الأصل: " والتنجيز " والمثبت من تصرف المحقق رعاية للسياق.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/411 مسألة 2097، رؤوس المسائل: 545 مسألة 204، مختصر الطحاوي: 384، المبسوط: 8/3، حاشية ابن عابدين: 5/60.
(3) أي جعل علة اشتراط التأجيل في الكتابة عجز المكاتب عن الأداء العاجل، فإنه لا ملك له عند الكتابة.
(4) عتيد أي حاضر مهيأ.
(5) المعنى أن كل ذلك لا يمكن أن يقع للعبد ملكه قبل قبول الكتابة، كما سيظهر من التفصيل بعده مباشرة.
(6) في الأصل: " مصلحة ".(19/343)
فإن قيل: لو كان نصفه حراً وقد حصل له مال بنصفه الحر، فكاتب مالك الرق في نصفه النصف المملوك كتابة حالّة؟
قلنا: اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من جوّز هذا لتمكنه من تأدية النجم، واقتران القدرة والملك بالعقد، ومن أصحابنا من منع ذلك.
والذي يستقيم على تحقيق الأصول المنع؛ فإنا لا نعتمد ما ذكره الأصحاب من تحقق العجز في أول الحال، بل التعويل عندنا في اشتراط [التأجيل] (1) الاتباعُ، وهذا يطرد في الصور، فلا تجوز الكتابة إلا على حسب ما عُهدت عليه.
فإن قيل: لو كاتب عبدَه على نجمين بينهما لحظة، وكل نجم مالٌ جم، ويبعد الاستمكان من مثله في مثل ذلك الزمان، فما الجواب؟
قلنا: أما من اعتمد اقتران العجز، فقد طردوا وجهين في هذه الصورة: أحدهما - الجواز لتصور الإمكان، ثم إن لم يتفق، فأصل التعجيز ممهّد. ومن أصحابنا من لم يصحح ذلك؛ لأن ما يندر الاقتدار عليه، فهو في عقود المعاوضات كالمعجوز عنه، ولهذا بَطَل السلمُ فيما يعزّ وجوده بطلانَه فيما يُستيقن عدمه.
وهذا لا أصل له مع الاتفاق على مبايعة المعسر الذي لا يملك شيئاً، مع إثبات ثمن قد لا يستقل به ذوو الثروة والغِنَى، وقد سمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة يحكي وجهاً في فساد البيع، إذا كان الثمن زائداً على قيمة المبيع؛ فإن القيمة إن كانت مثلَ الثمن، أمكن صرف المبيع إلى الثمن.
وهذا بعيد لا أصل له، وإن نحن اتبعنا مورد الشرع، ولم نتمسك باقتران العجز، أمكن إجراء الوجهين: فأحدهما - على اتباع صورة التنجيم والتأجيل (2) . والثاني - أن ذلك ممتنع؛ فإنا وإن اتبعنا، فلا ننكر فهم معنى المواساة؛ وإذا بعُد الإمكان، بطلت المواساة، وهذا يناظر اختلافَ القول في إلحاق المحارم بالأجنبيات في اللمس الناقض للطهارة.
__________
(1) في الأصل: " التعجيل " وهو سبق قلم واضح.
(2) أي يجوز العقد لأنه جرى على الاتباع في وجود صورة التنجيم والتأجيل.(19/344)
وقد ذكر القاضي وجهين فيه إذا أسلم إلى مكاتَب عقب قبول الكتابة سلماً حالاًّ، وهذا بعينه هو الذي ذكره شيخي رضي الله عنه في البيع من المعسِر، ولكن بين المسلم فيه والثمن فرق على حال؛ ولذلك امتنع الاعتياض عن المسلم فيه، [وفي] (1) الاعتياض عن الثمن قولان، فالإسلام إلى المعسِر كالإسلام إلى المكاتب على أثر قبول الكتابة، فأما الثمن، فيحتمل ما لا يحتمله المسلم فيه، ولهذا ذهب معظم الأصحاب إلى أن انقطاع جنس الملتزم ثمناً لا يوجب انفساخ العقد، وفي انقطاع المسلم فيه قولان. وذهب المحققون إلى التسوية بين الثمن والمسلم فيه في جميع ذلك، وهذا يخرج حَسَناً (2) على إثبات حق الفسخ للبائع إذا أفلس المشتري بالثمن.
12492- ثم قال الشافعي: " ولو كاتبه على مائة دينار موصوفة الوزن والعين إلى عشر سنين ... إلى آخره " (3) .
مقصود الشافعي قطعُ وَهْم من يتوهم منعَ المزيد على نجمين، فالنجمان هما الأقل، ولا منتهى لما يجوز من المزيد على التراضي، ولا يشترط اتفاق النجوم في القدر، ولا استواء الأزمنة المتخللة.
ثم قال الشافعي: " ولا يَعتِق حتى يقول في الكتابة: إذا أديت، فأنت حر ... إلى آخره " (4) .
هذا ما قدمناه في أول التدبير، فالنص أن لفظ التدبير صريح في موضوعه، ولفظ الكتابة ليس صريحاً حتى يقترن بالتصريح بتعليق الحرية على أداء النجوم.
وقد ذكرت اختلافَ الطرق في النقل والتخريج، وتنزيلَ النصين منزلتهما والفرقَ
__________
(1) في الأصل: " وعن " والمثبت من تصرف المحقق.
(2) كذا في الأصل. ويمكن أن تقرأ " حيناً ".
وعبارة الغزالي في هذا الموضع: " ومن المحققين من رأى التسوية بين الثمن والمسلم فيه في جميع الأحكام وهو متأيّد بمذهب الشافعي في إثبات الفسخ بسبب الإفلاس بالثمن " (ر. البسيط: 6/ورقة: 199 يمين) .
(3) ر. المختصر: 5/274.
(4) ر. المختصر: 5/274.(19/345)
بينهما، والذي نذكره الآن أن هذا التعليق ليس تعليقاً على الحقيقة، وإنما هو نطق بمضمون العقد على الغالب؛ إذ لو كان تعليقاً، لما حصل العتق إلا بالأداء، وإنما الغرض إزالة التردد في لفظ الكتابة، ولهذا قال الأصحاب: النية كافية من غير لفظ، ولو كان التعليق مقصوداً، لبعد حصوله بالنية في ظاهر الحكم. هذا ما أردنا التنبيه عليه.
فصل
قال "ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد الشهر ... إلى آخره" (1) .
12493- صورة المسألة أن يكاتب عبده على أن يخدمه شهراً، ويؤدي بعد الشهر ديناراً، قال الشافعي: الكتابة على هذا الوجه جائزة؛ فإن منافع المكاتب بعد انعقاد الكتابة بحكم المكاتَب (2) ، فإذا وقع الشرط على صرف مقدارٍ منها إلى عوض الكتابة، ساغ ذلك.
وهذه المسألة تهذب الأصل الذي قدمناه في اشتراط التأجيل، أو التنجيم؛ فإن منفعة المكاتب متصلة بقبول الكتابة، ولا أَجَلَ فيها؛ والمدة المذكورة تثبت لتأديتها على حسب وجودها شيئاً فشيئاً، وإلا فاستحقاق المنفعة ثبت حالاًّ، وهذا يوضح أن شيئاً من عوض الكتابة إذا أمكن ثبوته مع التمكن من أدائه، فلا امتناع في حلوله، وإنما نشترط التأجيل في الأعواض التي نستيقن اقتران العجز عنها بعقد الكتابة، وهذا لا يتحقق في منافع المكاتب.
ولو فرض استئخار المنفعة المشروطة عوضاً عن وقت قبول العقد، لما صح العقد؛ فإنّ إضافة العقد اللازم إلى وقت منتظر للمنافع غير جائزة عندنا، ولهذا امتنع إجارة الدار الشهرَ الذي سيأتي، فالمنفعة إذاً لا تثبت عوضاً في الكتابة إلا متصلة، ثم استئخار أدائها على حسب التصور في وجودها، ولكن هذا إنما يتحقق في النجم
__________
(1) ر. المختصر: 5/275.
(2) أي صارت منافعه ملكاً له.(19/346)
الأول، ولا بد من فرض نجمٍ ثانٍ؛ فإن [التنجيم] (1) ركن الكتابة، ومن ضرورة محل النجم الثاني أن يتأخر. [و] (2) النجم الأول يجوز أن يكون حالاً في منفعة المكاتب لا غير؛ فإن الإمكان يتحقق فيها مع القبول، والنجم الثاني يتأجل لا محالة؛ فإنه لا يتحقق تعدد النجم إلا بتخلل فاصل زماني.
ثم لفظ الشافعي في المسألة قد يوهم وجوب تأجيل الدينار، بحيث يحل بعد انقضاء الشهر المذكور وقتاً للمنافع. وقد سبق هذا إلى فهم أبي إسحاق المروزي واعتقده مذهباً، وشرطَ انفصال محل الدينار عن منقرض الشهر ولو بلحظة، وخالفه كافة الأصحاب؛ فلم يشترطوا ذلك، وقالوا: لو كاتب عبده على منفعة شهر ودينار بعد القبول بيومٍ أو بلحظة جاز؛ فإن محل المنافع الساعة المتصلة بالقبول، وطوال الشهر لاستيفاء ما ثبت استحقاقه، فإذا انفصل محل الدينار عما بعد العقد بألطف ساعة، فقد تحقق التنجيم (3) .
ولو أردنا أن نصور حلول نجم المنفعة [بعد] (4) حلول الدينار، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع إذا انفصل استحقاقها عن العقد، كانت الإضافة إلى زمان منتظر، وهذا ما لا سبيل إليه.
ولو قال: كاتبتك على خدمة شهر، ثم زعم أن الخدمة من كل عشرة أيام من الشهر نجمٌ، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع لو لم تستحق دفعة واحدة نجماً واحداً، لكان النجم الثاني مستحقاً على تقدير الإضافة إلى زمان منتظر، وقد يخرج في ذلك وجه إذا وقع التصريح بهذا التفصيل، وهذا الوجه مبني على ما إذا آجر الرجل داره من إنسان، ثم قال: إذا انقضت مدة الإجارة الأولى، فقد أجرتك شهراً آخر، ففي أصحابنا من
__________
(1) في الأصل: التنجيز، والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى الذي لا يستقيم إلا به.
(2) الواو زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(3) المعنى أن محل النجم الثاني -الذي هو الدينار- تأخر عن محل النجم الأول -الذي هو المنفعة- حيث يحل النجم الأول بعد القبول متصلاً به، فالعبرة بحلول النجم الأول وليس بانتهائه، ولذا أجاز الأصحاب أداء الدينار بعد العقد بيومٍ أو ساعة، فذلك متأخر عن حلول النجم الأول كما ترى.
(4) في الأصل: " بغير "، والمثبت من المحقق إقامة للعبارة، وتصويباً لهذا التصحيف.(19/347)
يصحح ذلك، إذا اتحد المستأجر، واتصل مبتدأ الإجارة الثانية بمنقرض مدة الإجارة الأولى. وهذا الوجه بعيد، ويخرج مثله فيما ذكرناه من الكتابة، والأصح المنع في الموضعين.
ولو كاتبه على خدمة شهر، وخدمة شهر آخر بعد الشهر الأول بعشرة أيام، فسدت الكتابة، لإضافة الاستحقاق إلى زمان منتظر في الشهر الثاني.
ولو أعتق عبده على أن يخدمه شهراً؛ فقبل، عتق في الحال؛ فإنه علق العتق ونجَّزه على قبول الخدمة، فإذا قبلها عَتَق، ثم عليه الوفاء؛ فإن الوفاء ممكن، فإن تعذرت الخدمة في الشهر كله، فالعتق لا مستدرك له، والرجوع إلى قيمة الأجرة، أو إلى قيمة العبد؟ فعلى القولين المذكورين في بدل الخلع، وفي الصداق المسمى إذا فرض فيهما التلف قبل التسليم.
فصل
[قال] : " وإن كاتبه على أن باعه شيئاً لم يجز ... إلى آخره " (1) .
12494- إذا شرط في عقد الكتابة أن يبتاع المكاتب منه شيئاً، فسدت الكتابة، وهذا من باب شرط عقد في عقد.
[فلو] (2) قال: كاتبتك، وبعت منك هذا العبد بألف، ونجّمه على الشرط المعلوم في الكتابة، فقال العبد: قبلتُ الكتابةَ والبيعَ، أو قال: قبلت البيعَ والكتابةَ، أو قال: قبلتهما، فللأصحاب طريقان في المسألة: ذهب الأكثرون إلى أن البيع لا ينعقد قولاً واحداً، وفي الكتابة قولان، مبنيان على القولين في الصفقة المشتملة على بيع ما يجوز وبيع ما لا يجوز: فإن قلنا: لا يصح البيع فيما يجوز إذا اقترن بما لا يجوز بيعه، فلا تصح الكتابة في مسألتنا، وإن صححنا العقد ثَمَّ فيما يجوز، صحت الكتابة ها هنا، ولا حاجة إلى البناء على القولين في الصفقة التي تجمع
__________
(1) ر. المختصر: 5/275.
(2) في الأصل: " ولو ".(19/348)
عقدين مختلفين كالإجارة والبيع؛ فإن ذلك الفن من التفريع فيه إذا صح إفرادُ كلِّ عقدٍ بالصحة، ومنشأ القولين من اختلاف المقصودين، وهذا المعنى وإن تحقق في البيع والكتابة، فلا حاجة إليه مع حكمنا بفساد البيع، فالوجه إلحاقه ببيع عبد مغصوب وعبد مملوك. ثم السبب في بطلان البيع أن أحد شقيه يقع لا محالة قبل انعقاد الكتابة، وذلك باطل؛ فإن الرقيق لا يخاطب بالبيع وإيجابه.
ثم تمام التفريع على هذه الطريقة أنا إن أفسدنا الكتابة، فسيأتي شرح الكتابة الفاسدة؛ وإن صححنا الكتابة، فهي مُجازةٌ بجميع الألف المذكور ثمناً ونجماً، أم هي مجازة بقسط من الألف؟ فعلى قولين: أصحهما - أنها مجازة بقسط، فالألف أُثبت ثمناً ونجماً، فلا يجوز تغيير موجب اللفظ. والقول الثاني -وهو فاسدٌ، لا اتجاه له مع اشتهاره- أن الألف بجملته يثبت عوضاً في الكتابة، ونجعل كان العبدَ وبيعَه لم يُذكرا، وهذا القول مشهور في تفريق الصفقة. هذه طريقةُ جمهور الأئمة.
ثم التوزيع إذا قلنا به، فمعناه تقويم المكاتب، وتقويم العبد المبيع، ودرك المبلغين، ثم توزيع الألف عليهما، وإسقاط ما يقابل قيمة المبيع، [وتقرير] (1) ما يقابل قيمة العبد.
ومن (2) أصحابنا من شبب بذكر خلاف في صحة البيع، واستشهد بمسألة في الرهن، وهي أن الرجل إذا قال: اشتريت عبدك هذا بألف، ورهنتك بالألف داري، فقال المخاطب: بعت وارتهنت، فالنص في الرهن دليل على صحة الرهن، وإن جرى أحد شقي الرهن قبل انعقاد البيع.
وهذا القائل يطبق تصوير البيع مع الكتابة على تصور الرهن مع البيع، وقد ذكرنا كيفية تصوير الرهن مع البيع، وأوضحنا تفصيل المذهب فيه، فالبيع مع الكتابة كالرهن مع البيع، فإن سلكنا هذا المسلك، وحكمنا بصحة البيع، فينتظم بعد هذا التقدير تخريج الكتابة والبيع جميعاً على تفريق الصفقة فيه إذا اشتملت على عقدين
__________
(1) في الأصل: " وتقدير ".
(2) هذه هي الطريقة الثانية.(19/349)
مختلفي الحكم كالإجارة والبيع، ولا يتأتى هذا المسلك في الرهن والبيع؛ فإن الرهن تابعٌ للبيع، ومؤكد للعوض فيه، فلا يجري مع البيع مجرى عقدين تشتمل عليهما صفقة؛ ولذلك يصح اشتراط الرهن في البيع، ولا يصح اشتراط البيع في الكتابة، وعن هذا المسلك قال المحققون: البيع يبطل [في] (1) مسألتنا، قولاً واحداً.
والرهن يصح وإن اقترن بالبيع؛ لأنه من مصلحة البيع، وهو من توابعه.
فهذا حاصل القول في هذه المسألة، وبيان طريقي الأصحاب، والأصح الطريقة الأولى.
12495- ثم قال: "ولو كاتبه على مائة دينار يؤديها في عشر سنين ... إلى آخره" (2) .
الكتابة فاسدة على هذه الصفة لأن محل الأنجم مجهول، فينبغي أن يبين وقت حلول كل نجم من كل سنة، والقول في إعلام الآجال ابتداءً وانتهاءً مذكور في كتاب السلم وغيره، فلسنا لإعادة صور الوفاق والخلاف منهما في النفي والإثبات.
فصل
قال: " ولو كاتب ثلاثة كتابة واحدة على مائة منجمة ... إلى آخره " (3) .
12496- صورة المسألة أن يكاتب ثلاثة أو أربعة من عبيده على مالٍ واحد، وأجّله ونجّمه، وأعلم المحلّ، ولكن لم يبين حصة كل واحد من العبيد، بل قابلهم بالإيجاب، وذكر المال، فقبلوه من غير تفصيل وتوزيع، فالمنصوص عليه صحة الكتابة.
ونص على أنه إذا اشترى أربعة أعبد أو ما شئت من العدد من أربعة أشخاص، فالبيع فاسد. ونص على أنه إذا نكح نسوة وأصدقهن صدقة واحدة، ففي فساد التسمية
__________
(1) في الأصل: " من ".
(2) ر. المختصر: 5/275.
(3) ر. المختصر: 5/275.(19/350)
قولان، ونص أيضاً على قولين في فساد بدل الخلع إذا قوبل به نسوة من غير توزيع.
فالنص في البيع على الفساد، وفي الكتابة على الصحة، وفي الخلع والصداق قولان.
فاختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من ضرب النصوص بعضها ببعض، وأجرى في البيع والكتابة قولين، وهذه الطريقة هي المنقاسة الصحيحة؛ فإن إعلام الثمن في البيع، والعوض في الكتابة مرعيٌّ معتبرٌ على قضية واحدة، فإذا جرى في الصداق وبدل الخلع قولان؛ فالوجه جريانهما في البيع والكتابة.
ثم توجيه القولين في المسائل: من قال بالفساد، احتج بأن قال: لم يخص واحداً في العقود بمقدار ما يخصه؛ فكانت حصة كل واحد مجهولة، وجهالة العوض فيما يشترط إعلام العوض فيه مفسد.
ومن قال بالصحة؛ احتج بأن الجملة معلومة في مقابلة الجملة، والوصول إلى التفصيل ممكن بطريق التوزيع، فوجب الحكم بالصحة، كما لو قال: بعتك هذا العبد بما اشتريته، وكانا عالمين بالثمن المسمى في عقد المرابح، ثم قال على ربح " ده يازده " (1) فالعقد صحيح. وإن كان يحتاج في إعلام ما يلزم المشترى إلى حساب وجمع وضم، هذه طريقة.
12497- ومن أصحابنا من أجرى النصوص على ظواهرها (2) ، وفرّق بأن قال: البيع حريٌّ بالفساد؛ فإن العوض فيه آكد حكماً، بدليل أن فساده يُفسد البيعَ ويبطل المقصود منه، وفساد الصداق وبدل الخلع لا يفسدان المقصود منهما، وأما الكتابة، فإنها تنفصل عن الخلع والصداق من وجه آخر، وهو أن العبيد جميعهم ملك المولى، فكان صدورهم بالإضافة إلى جانب السيد عن ملك واحد.
وهذا تخييل لا حاصل له؛ فإن العبيد إذا قبلوا الكتابة، فهم متفرقون في شق
__________
(1) ده يازده: كلمة فارسية تشبه أن تكون مصطلحاً من مصطلحات السوق والتجارة، ومعناها: بعتك بالثمن المعروف الذي اشتريت به بزيادة 10%، وذلك أن كلمة (ده) تعني عشرة، وكلمة (يازده) تعني أحد عشر.
(2) هذه هي الطريقة الثانية.(19/351)
القبول، والعقود متعددة بالإضافة إليهم، وإذا صححنا الكتابة، فالعقد في كل واحد منفرد بحكمه، كما سنوضح تفصيله في التفريع، إن شاء الله تعالى.
وما ذكره هذا القائل من كون العوض ركناً في عقد المعاوضة لا يفيد حاصلاً فيما هو مطلوب المسألة؛ فإن الجهالة تُفسد الصداقَ وبدلَ الخلع كما تفسد البيعَ، وكذلك القول في الكتابة، فلا خير في تخييلات لا تفضي إلى الفقه المطلوب مع استواء الأصول في اشتراط الإعلام، فهذا حاصل ما ذكره الأصحاب في أصل المذهب.
12498- ثم اشتملت الطرق على ما أتبرّم بنقل مثله، فقال قائلون: البيع فاسد، والكتابة خارجة على القولين، وقال آخرون: الكتابة صحيحة، قولاً واحداً، والبيع خارج على القولين (1) .
وكل ما يذكر في ذلك منشؤه مسلكان: أحدهما - التسوية بين المسالك، وهو الوجه لا غير، والثاني - اعتقاد الفَرْق بين البيع وبين بدل الخلع والصداق، مع الميل إلى أن البيع أولى بالفساد، واعتقاد الفرق بين الكتابة وغيرها، مع الميل إلى تصحيح الكتابة.
ثم إذا فرعنا على فساد الكتابة، فسيأتي على الاتصال بهذا الفصل بيان حكم الكتابة الفاسدة، وإن صححنا الكتابة، ففي كيفية توزيع العوض المسمى على المكاتبين قولان، ذكرهما الصيدلاني: أظهرهما -وهو الذي قطع به معظم الأئمة- أنه يوزع المسمى على أقدار القيم، حتى لو كانت قيمة الواحد مائة، وقيمة الآخر مائتين، وقيمة الثالث ثلاثمائة، فعلى من قيمته مائة السدس، وعلى من قيمته مائتان الثلث من العوض المسمى، وعلى من قيمته ثلاثمائة النصف.
والقول الثاني - أن العوض موزع على عدد الرؤوس من غير نظر إلى تفاوت القيم، وهو ضعيف، ولكن نقله الصيدلاني، وهو موثوق به، ووافقه القاضي في النقل، ثم طردا حكاية هذا القول في الصداق وبدل الخلع، فأما البيع، فلم يتعرضا له، ويبعد كل البعد التوزيع على رؤوس الباعة من غير نظر إلى قيم عبيدهم، وإن طرد القول
__________
(1) هذان هما الطريقة الثالثة والرابعة.(19/352)
الضعيف في البيع طارد، لم يبعُد، لو صح هذا القول، ولكنه مما يجب القطع بفساده.
وينشأ من هذا أنا إن كنا نعتقد أن التوزيع على الرؤوس، فيجب أن نقطع بصحة هذه العقود لارتفاع الجهالة، وإن حكمنا بالتوزيع على القيم، فعند ذلك تختلف الأقوال، ونجري الطرق على ما رسمناها، ولا عود إلى هذا القول. ولا تفريع عليه.
12499- ثم أول ما نفرعه بعد تمهيد الأصل أنا إذا صححنا الكتابة، فكل مكاتب مخاطب بمقدار حصته من غير مزيد، وإذا أدى واحد منهم حصته عَتَق، وقال أبو حنيفة (1) : لا يعتق واحد منهم ما بقي على الواحد منهم درهم. واعتقد أن عتق جميعهم يحصل معاً، وذهب في هذا مذهب التعليق المحض؛ فإن المولى قال لهم: إذا أديتم، فأنتم أحرار.
وهذا ذهول عن وضع الكتابة الصحيحة، وقد ذكرنا أن التعليق غيرُ معتبر في مقتضى الكتابة الصحيحة، ودللنا عليه بأنه لو قال -والمكاتب واحد بعد ذكر النجوم- إذا أديتها، فأنت حر، لم يتوقف العتق على الأداء، بل قد يحصل بالإبراء عن نجوم الكتابة، فإذا كنا لا نرعى حقيقة الأداء والمكاتب واحد مع التصريح بتعليق العتق بالأداء، فكيف نرعى ذلك في تعدد المكاتبين.
فإذا وضح أن واحداً منهم لا يخاطَب بما على أصحابه، ولا يطالب إلا بحصته، فلو جاؤوا عند محِلّ النجم بمقدار من المال وأَدَّوْه، ثم اختلفوا: فقال بعضهم -وهو القليل القيمة- أدينا ما أدينا على عدد الرؤوس، وقال الكثير القيمة: بل أديناه على أقدار القيم، وكانت أملاكنا في المؤدى ثابتة على هذا النسق، فقد حكى بعض المصنفين نصين مختلفين في ذلك: أحدهما - أنه يُصدق من يدعي التسوية مع يمينه (2) .
والثاني - أن المصدّق منهم من يدعي التوزيع على أقدار القيم، ثم في هذا
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/413 مسألة: 2100.
(2) وعلة ذلك اشتمال أيديهم على ما أدَّوْه، فالقول قول صاحب اليد.(19/353)
التصنيف أن الأصحاب اختلفوا: فمنهم من أجرى في ذلك قولين، ومنهم من نزّل النصين على حالين. قال: إن كان هذا الاختلاف في النجم الأخير، ولو صدّقنا (1) القليل القيمة، [لكان] (2) له شيء مما أداه يحتاج المولى إلى رده، [فلا] (3) يُصدق من يدعي التسوية؛ فإن ظاهر الأداء يدل على اعتقاد الوجوب فيه، وعلى هذا ينزل النص الذي يقتضي تصديق من يدعي التوزيع على أقدار القيم.
وحيث قال: يُصدق مدعي التسوية، أراد إذا كان ذلك في أوساط النجوم أو في أوائلها، بحيث لو فضَل عن مقدار النجم الحالّ فاضل في حق القليل القيمة، فهو محمول على تعجيل مقدارٍ من النجم المنتظر، والذي ارتضاه الأئمة تصديق من يدعي التسوية قطعاً للقول، ولم يعرفوا اختلاف النص، واستمسكوا بما يجب القطع بأنه أصل الباب. وقالوا: المسألة مفروضة فيه إذا جاءوا بالنجم وأيديهم ثابتة عليه، فظاهر اليد في التداعي يقتضي استواءهم في الأيدي قطعاً. وهذا يقتضي تصديقَ من يدعي التسوية، فيجب إجراء هذا.
ولست أُنكر اتجاه خيال في النجم الأخير إذا كان يفضل -لو حملنا على التسوية في حق القليل القيمة- فاضل ويحتاج إلى استرداده. والعلم عند الله.
12500- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أدى البعض من هؤلاء النجمَ عن البعض، فهذا على التحقيق تبرع منه، وسنذكر أن تبرع المكاتب إن انفرد به مردود، وإن صدر عن إذن السيد، ففيه قولان، [و] (4) سيأتي استقصاء ذلك، فإن كنا نصحح التبرع بإذن المولى، فإذا أتى واحد منهم بما ليس عليه، وأداه ذاكراً أن هذا عن أصحابي، فقبول السيد فيه بمثابة إذنه في التبرع على الأصح، وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط سوى ظاهر القبض إذناً، وهذا ليس بشيء.
فإن فرعنا على بطلان التبرع -وإن صدر عن إذن المولى- فإذا أدى البعضُ الدينَ
__________
(1) عبارة الأصل: " ولو صدقنا صاحب القليل القيمة " وظني أنه لا محل لكلمة (صاحب) .
(2) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: ولا.
(4) الواو زيادة من المحقق.(19/354)
[عن] (1) البعض، ثم اتفق أن المؤدي عتق، قبل أن يسترد ما أداه من المولى -تفريعاً على رد التبرع وإن أذن المولى فيه- فالذي نص عليه الشافعي أنه لا يملك الرجوع بعد العتق، ونص على أن المولى لو جنى على المكاتب، فعفا المكاتب، وأبطلنا العفو على مذهب ردّ التبرع، فلو عتق المجني عليه العافي قبل قبض الأرش، فإن له مطالبة السيد بالأرش بعد العتق، فحصل قولان: أحدهما - أن تبرعه مردود وإن عتق؛ لأن الحجر عليه كان ثابتاً حالة التصرف؛ فيجب رد التصرف من غير نظر إلى ما تُفضي إليه العاقبة، والقول الثاني - أن التبرع ينفذ إذا اتصل بالعتق؛ فإن الحجر كان لحق الله في العتق، وقد حصل العتق.
والصحيح عندنا بناء هذين القولين على تصرفات المفلس في اطراد الحجر عليه؛ فإنا نقول: إن مست حاجة المضاربة إلى نقضها (2) نقضناها، فإن أُبرىء وانفك الحجر، ففي نفوذ التصرفات التي جرت في حالة الحجر قولان، وقول الصحة خارج على الوقف، فالمكاتب فيما نحن فيه يخرج تبرعه على هذه القاعدة.
ثم الذي اقتضاه النص، وأطبق عليه الأصحاب أن المؤدي عن أصحابه إذا استرد من المولى -لما تبين له الفساد- ثم عَتَق، فالعتق مسبوق بانتقاض التبرع، فالانعطاف على ما [مضى] (3) محال، وكذلك القول في العفو عن أرش الجناية إذا نقضه العافي وطالب بالأرش واستوفاه، وكأنا على قول الوقف، إنما نقف الأمر إذا لم ينقض التبرع، وجريان القولين فيه إذا لم يتفق نقضٌ، ولو طالب العافي بالأرش بناء على فساد العفو، أو طالب المؤدي عن أصحابه برد ما أدى عنهم، ولم يتفق تغريم في الأرش ولا استرداد، فهذا فيه احتمال مأخوذ من فحوى كلام الأصحاب.
12501- ثم قال: " ولا يجوز أن يتحمل بعضهم عن بعض الكتابة ... إلى آخره " (4) .
__________
(1) في الأصل: " على ".
(2) أي تصرفات المفلس.
(3) في الأصل: " يقضي ".
(4) ر. المختصر: 5/275.(19/355)
هذا متصل بمكاتبة العبيد في عُقدة (1) ، ومضمون الفصل من وجه لا يختص بتلك الصورة، فنقول: ضمان مال الكتابة لا يجوز، وقد فصّلنا ذلك في كتاب الضمان، وكذلك لا يصح الرهن به، والسبب فيه أنه ليس مستقراً، وليس آيلاً إلى الاستقرار، وضمان الثمن في زمان الخيار في البيع صحيحٌ؛ لأنه مُفضٍ إلى القرار في عقد موضوعه للزوم.
قال القاضي: كما لا يجوز ضمان نجم الكتابة، فكذلك لا يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الاستبدال أعظم وقعاً من الضمان، [بدليل تعليل أن ضمان المسلم فيه صحيح] (2) والاعتياض عنه باطل، فالاستبدال يقتضي مزيداً في الاستقرار لا يقتضيه الضمان. فإذا بطل الضمان لعدم القرار بطل الاستبدال.
ولو كاتب جمعاً من العبيد، وشرط أن يضمن البعض منهم عن البعض، فالمنصوص عليه أن الكتابة فاسدة، ووجهه بيّن؛ فإن الضمان فاسد؛ فإذا [فسد شَرْطُه تفسد الكتابة بالشرط الفاسد] (3) .
وقال مالك (4) : يصح الشرط والعقد، وأضيف مذهبه إلى الشافعي قولاً في القديم. والممكن في توجيهه أن هذا الضمان من مصلحة هذا العقد الذي وصفناه، إذا أراد المولى ارتباط بعض المكاتبين بالبعض، ونحن قد نمنع ضماناً على قياس، ثم نجيزه لمصلحة العقد، وهذا بمثابة إفساده ضمان المجهول، والضمان عن المجهول، ثم صححنا ضمان الدَّرَك مع اشتماله على الجهالتين لمسيس الحاجة إليه في تأكيد مقصود العقود.
وهذا بعيد، لا معول عليه. وقد نجز الغرض في مكاتبة العبيد (5) .
__________
(1) أي في عقدٍ واحد.
(2) عبارة الأصل: " بدليل تعليل أن الضمان المسلم فيه صحيح " والتعديل بالحذف وغيره من عمل المحقق.
(3) عبارة الأصل: " فإذا فسدت شرطه ثم تفسد الكتابة بالشرط الفاسد ".
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/1000 مسألة 2034.
(5) إلى هنا انتهى الخرم الموجود في نسخة (ت 5) .(19/356)
فصل
قال: " ولو كاتب عبداً كتابة فاسدة، فأدى عُتق ... إلى آخره " (1) .
12502- مقصود الفصل بيانُ حكم الكتابة الفاسدة، وأول ما يجب افتتاحه تصوير الكتابة الفاسدة: والقولُ الكلي فيه أن الكتابة إذا صدرت إيجاباً وقبولاً ممن يصح عبارته، وظهور اشتمال الكتابة على قصد المالية، ولكنها لم تكن مستجمعة لشرائط الصحة، فهي الكتابة الفاسدة.
ثم من أحكامها أن المكاتب لو أدى ما شرط عليه، عَتَق، واستتبع الكسبَ والولدَ، فتنزل الكتابة الفاسدة منزلة الصحيحة فيما ذكرناه. وعند ذلك يتضح تمييز الفاسد في هذا النوع عن الفاسد في سائر العقود؛ فإن الكتابة الفاسدة أفضت إلى تحصيل مقصود الكتابة الصحيحة وخاصّيتها، أما المقصود، فالعتق، والخاصية استتباع الكسب والولد.
وسبب [هذا] (2) ما نبهنا عليه في صدر الكتاب عند تمهيد القواعد، حيث قلنا: إن العتق إذا كان يحصل لا محالة عند فرض الأداء، والكتابةُ إنما تصح لأجل العتق.
وإلا فقياسها بالنسبة إلى قياس الأصول الفساد، فإذا كنا نصمحح صحيحها ذريعة إلى العتق، ثم حصل العتق في الفاسدة، فلا يبعد أن يثبت حكمُ الصحة لتتم الذريعة.
12503- ثم تمتاز الكتابة الفاسدة عن الصحيحة من وجوه: منها - أن الكتابة الصحيحة لازمة من جانب المولى، ما لم يَعْجِز المكاتَب، أو يُبْدِ امتناعاً، كما سيأتي إن شاء الله، والكتابة الفاسدة جائزة في حق المولى، فمهما (3) أراد فَسَخَها، وأثرُ فسخِه أن العتق لا يحصل بعد فسخها بصورة أداء النجم المسمى، وهذا قد يغمض تعليله؛ فإنا إن حصلنا العتق بطريق التعليق، ففسخ التعليق ممتنع، وإن بنينا الأمر
__________
(1) ر. المختصر: 5/275.
(2) زيادة من (ت 5) .
(3) مهما: بمعنى: (إذا) .(19/357)
على الجواز، فقد خرمنا التعليق، وتنعطف المسألة على نفسها، ولكن الممكن في ذلك ما قررناه في الأسلوب (1) وغيره من أن هذا تعليق في ضمن معاوضة، وكأن الحاصل يؤول إلى أن التعليق غيرُ مبتوت، والمعلِّق يقول: إن أديت، فأنت حر، ما لم أرجع؛ والعتق على هذا التقدير معلق بصفتين: إحداهما - الأداء، والأخرى - عدم الرجوع، ولسنا نطيل ذكر هذا، وقد استقصيناه في الخلاف على أقصى الإمكان.
ثم يترتب على ما ذكرنا أن السيد إذا مات في الكتابة الفاسدة، قبل حصول العتق، فالكتابة تنفسخ بموته، والأداء من الورثة (2) لا يُثبت العتق، [ولا] (3) حاجة إلى تعليل ذلك [بجواز] (4) الكتابة، والبناءِ على أن العقد الجائز ينفسخ بالموت، بل المعتمد أن العتق يحصل بالصفة، وقد قال المولى: إن أديت إليّ فأنت حر، أو " إن أديت " مطلقاً، والمطلق محمول على الأداء في حياة المعلِّق، وهذا سبيل جُملة التعليقات الصادرة من الأحياء؛ فإنها محمولة على مأ يوجد في حياة المعلِّق.
قال الشافعي في التعبير عن هذا المعنى: " إذا مات السيد المكاتِب كتابة فاسدة، فجاء العبد بالنجم المشروط، لم يحصل العتق؛ لأن الوارث ليس هو القائل: " إن أديت فأنت حر " (5) .
أما موت المكاتَب، فلا يغمض أمره، وسنذكر أن موته في الكتابة الصحيحة يوجب انفساخ العقد، فما الظن بالفاسدة.
12504- ومن خصائص الكتابة الفاسدة أن المكاتب إذا أدى النجم المشروط
__________
(1) الأسلوب: المراد به كتاب الإمام في الخلاف، المسمى بالأساليب، وسمي بذلك لأنه ينتقل من مسألة إلى مسألة بقوله: أسلوب آخر من كذا. وهو من كتبه المفقودة التي لما يعثر على أثره بعد.
(2) أي إلى الورثة.
(3) في الأصل: " فلا ".
(4) في الأصل: " لجواز " والمثبت من (ت 5) .
(5) ر. المختصر: 5/275. والعبارة هنا فيها شيء من التصرف، وليست بألفاظ المختصر.(19/358)
وعتق، فما أداه مردود عليه، والرجوع بقيمة رقبته عليه بعد حصول العتاقة، فالسيد والمكاتب بعد حصول العتاقة يترادّان، فإن كان ما قبضه المولى من جنس قيمة العبد، فقد تجري أقوال التقاص، كما ستأتي مشروحة إن شاء الله.
ثم ما ذكرناه من التراجع في هذا الطرف يضاهي الرجوع إلى مهر المثل، ورد العوض المقبوض في الخلع، فإن قيل: الخلع صحيح والبدل فاسد، والكتابة فاسدة في نفسها، قلنا: العتق نافذ هاهنا أيضاً، وتعليقه صحيح، فيصح تعليق العتق بالعوض الفاسد، ولا فرق، غير أن الخلع ثَمَّ إذا تم، نجز، ولا مستدرك، والكتابة لو انعقدت على الصحة، لم ينتجز فيها الغرض؛ وهي قابلة للفسخ بعد الصحة، فالوضعان مختلفان في البابين. والسبب في ذلك أن الكتابة تستدعي مَهَلاً وانشغالاً بالكسب، وهو عرضة للرفع، ومثل ذلك لا يتصور في الخلع.
12505- ثم الذي يجب البوح به أن الكتابة الفاسدة تُسلِّط العبد على الاستقلال بالكسب، وهذا معنى قول الأصحاب: إذا عَتَق، تبعه الكسب. أي ما حصّله من الكسب استحقه على اللزوم عند وقوع العتق، وترتب على هذا لا محالة سقوط النفقة عن المولى، كما في الكتابة الصحيحة، فاستقلاله بنفسه يعارض (1) سقوطَ نفقته عن مولاه، وهذا واضح في معناه.
وذكر الأصحاب استتباعَ الأولاد، كما ذكرناه في الكسب، وقال الشيخ أبو علي: رأيت للشيخ أبي زيد أن المكاتب كتابة فاسدة في استتباع الأولاد بمثابة المدبر والمعلَّق عتقه بصفة، وقد ذكرنا قولين في أن التدبير هل يتعدى من الأم إلى الولد، وهذا في ظاهر الأمر له اتجاه؛ فإن الكتابة الفاسدة إنما يحصل العتق فيها من جهة التعليق، فإذا كان يجري في ولد المعلَّق قولان، لزم جريانهما في المكاتب كتابة فاسدة.
وقد يعتضد هذا بأن الأولاد ما قيل فيهم: " أنتم أحرار إذا أدى أبوكم النجم "، وهذا يناظر ما حكيناه من قول الشافعي بعد موت السيد: إن الوارث ليس هو القائل: " إن أديت، فأنت حر ".
__________
(1) يعارض: أي يقابل.(19/359)
وهذا عندنا ذهاب عن سر المذهب في أولاد المكاتب؛ فإنا لا نحكم بعتق ولد المكاتب كتابة صحيحة إلا على مذهب استتباع الأكساب؛ فإن ولد المكاتب من جاريته بمثابة كسبه، غير أنه لا يبيعه، فإذا عَتَق المكاتَب واستتبع الكسبَ، استتبع ولدَه، وإذا استتبعه في زمان استقرار عتقه، عَتَق عليه، فإذا كان هذا مأخذ القول في ولد المكاتب -ثم الكسب يتبع المكاتب في الكتابة الفاسدة- فيلزم لا محالة أن يتبعه الولد، ويعتِق عليه، وسيأتي شرح هذا في أولاد المكاتبين (1) . ولم أر أحداً من الأصحاب تشبث بمنع استتباع الكسب في الكتابة الفاسدة.
ويترتب على استتباع الكسب أمران لا بد منهما: أحدهما - سقوط النفقة عن المولى كما قدمناه. والثاني - أن المكاتَب كتابةً فاسدة يعامِل المولى معاملة المكاتَب كتابة صحيحة، هذا من ضرورة استقلاله بنفسه.
وذكر الأئمة الخلاف في حكمين متعلقين [بالاستقلال] (2) : أحدهما - أن المكاتب كتابة صحيحة يسافر إن أراد الاستقلال، والمكاتب كتابة فاسدة هل يسافر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يسافر لاستقلاله بالكسب. والثاني - لا يسافر؛ فإن الخروج عن ضبط السيد بالكلية -والكتابة ليست لازمة في حقه- بعيدٌ، فإن أذن، لم يخفَ الحكم، وقد يملك العبد نوعاً من الاستقلال بالكسب، ثم لا يسافر كالعبد الناكح بإذن مولاه؛ فإنه يصرف أكسابه إلى المهر ومؤن النكاح، ولا يسافر.
12506- ومما اختلف الأصحاب فيه أن سهماً من الصدقة مصروف إلى المكاتبين على الصحة، وهل يجوز صرفه إلى المكاتب كتابة فاسدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجوز؛ بناء على استقلال المكاتب بالكسب؛ توصلاً إلى تحصيل العتق، والصدقاتُ من جهةٍ توصله إلى تحصيل العتق. والوجه الثاني - أنه لا تصرف الصدقة إليه؛ لأن الجهة غيرُ لازمة من جانب السيد، فلا تقع الثقة بقبض المكاتب.
__________
(1) من هنا بدأ خرم جديد في (ت 5) يقدّر بحجم كراسة كاملة من الأصل الذي أخذت عنه نسخة (ت 5) .
(2) في الأصل: " بالاستقرار " وأُراها سبق قلم.(19/360)
12507- ومما يتعلق بأحكام الكتابة الفاسدة أن الشافعي قال: من أعتق المكاتب كتابة صحيحةً عن كفارته، لم يقع العتق عن جهة الكفارة. وهذا مشهور من المذهب، ولو أعتق المكاتَب كتابة فاسدة عن كفارته، فالذي كنا ننقله مطلقاً، أن العتق ينصرف إلى كفارةِ المعتِق، وقد حكى الشيخ أبو علي قَطْع القول بهذا عن نص الشافعي؛ فحصلت الثقة التامة.
ثم قال الشيخ أبو علي: مهما (1) أعتق السيد المكاتب كتابة فاسدة، نفذ إعتاقه، وكان ذلك فسخاً منه للكتابة وقطعاً لها، حتى لا يستتبع كسباً ولا ولداً؛ فإنا لو قلنا: يتبعه الكسب والولد، لكان العتق منصرفاً إلى جهة الكتابة، ويستحيل على المذهب براءة الذمة بالإعتاق عن الكفارة مع وقوع العتق عن جهة الكتابة، فالوجه حمل العتق على فسخ الكتابة الفاسدة ورفعها.
والذي يحقق ما ذكره أن الكتابة الفاسدة عند حصول العَتَاقة تلتحق بالكتابة الصحيحة في لزوم الاستتباع، ويفارقها ما ذكرناه من الجواز، فلو استتبع الكسبَ مع انصراف العتق إلى الكفارة، للزم مثل ذلك في الكتابة الصحيحة لا محالة.
قال الشيخ: لما خطر لي ما ذكرته في الكتابة الفاسدة من أن الكسب والولد لا يتبعان عند الإعتاق، عرضت ذلك على الشيخ القفال، فاستحسنه، وأقرني عليه، ولم ير غيره.
وهذا نجاز الحكم في ذلك، وفي جنون المولى في الكتابة الفاسدة، وجنون المكاتب فصلٌ ذكره الشافعي على الاتصال بهذا.
فصل
قال: "ولو لم يمت السيد ولكن حُجر عليه أو غُلب على عقله ... إلى آخره" (2) .
12508- مضمون الفصل الكلام في الجنون إذا طرأ على الكتابة. فلا تخلو الكتابة
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا) .
(2) ر. المختصر: 5/275.(19/361)
إما أن تكون صحيحة أو فاسدة، فإن كانت صحيحة، فلا شك أنها لا تفسخ بالجنون، فإن جُن المولى، فالكتابة لازمة من جهته، فلا يؤثر الجنون في رفعها، وإن جن المكاتب، فالكتابة وإن كانت جائزة من جانبه، فهي مُفضية إلى اللزوم، والبيع في زمان الخيار لا ينفسخ بطريان الجنون على المتعاقدَيْن، أو على أحدهما؛ لإفضاء البيع إلى اللزوم.
ولكن يترتب على الجنون الطارىء في الكتابة ما نصفه، فنقول: إن قبض المولى في حال الجنون النجمَ، لم يصح قبضُه، ولم يترتب عليه العتق؛ فإنه لا يصح القبض منه، ولو تلف في يده ما أقبضه المكاتَب، فلا ضمان؛ فإن المكاتَب هو الذي ضيّع المال بوضعه في يد مجنون، ولو قبض القيّم النجمَ، تعلق الحكم بقبضه، وترتب على النجم الأخير حصولُ العَتاقة.
وإن سلّم المكاتب إلى المولى المجنون، فله أن يسترده منه؛ فإن حصوله في يده لم يُفده أمراً، بل هو متعرض للتَّوى (1) والضياع.
ولو جُن المكاتَب والمولى عاقل مستقل بقبض النجم من المجنون، قال الأصحاب: القبض صحيح، وعوّل المحققون في تعليل ذلك على أن قبض النجم مستحَق، ولو أخذه المولى من غير إقباضٍ من المكاتب، لوقع القبض موقعه، فوجود الإقباض وعدمِه من المكاتب بمنزلة.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان: فإن عسُر على السيد الوصولُ إلى حقه إلا من جهة قبض ما يصادِف، فله ذلك، وإن أمكنه مراجعةُ من ينصبه القاضي ناظراً للمكاتَب، فلا وجه لاستبداده بالقبض عندنا، ولو استبد، لم يصح، وإذا كان لا يصح استبداده، فلو أقبض المجنونُ، لم يكن لإقباضه حكم، وفي كلام القاضي وغيره ما يدل على أن المولى يقبض النجم من غير فرض قيّم؛ ولعل الأئمة أثبتوا للمولى في هذا المقام حقَّ القيام بما يُحصِّل العتاقة (2) ، وهذا بعيد إن ظنه ظان. ولا وجه إلا
__________
(1) التوى: الهلاك.
(2) عبارة الغزالي في البسيط: " وكأن الأصحاب رأوا كون السيد ولياً له؛ فلم يحوجوه إلى القاضي ".(19/362)
ما ذكرناه من مراجعة القاضي، أو نصب قيم من جهته. وهذا كله في طريان الجنون على الكتابة الصحيحة.
12509- فأما إذا كانت الكتابة فاسدة، وفرض طريان الجنون عليها، فظاهر كلام الشافعي في الجنون الطارىء على المولى أنه يتضمن انفساخ الكتابة كالموت، وقد ذكرنا أن موت المولى يوجب انفساخ الكتابة الفاسدة، وظاهر ما نقله على الاتصال بذلك أن المكاتَب لو جُنّ والكتابةُ فاسدة، لم تنفسخ الكتابة بجنونه، وهذان النصان متعاقبان على التضاد في سطر واحد من غير تنبيهٍ على التردد، واختلاف القول فيه، وهذا مشكل في نظم الكلام جداً.
والرأي أن نذكر المذهب في هذا، ثم نتكلم على النص، فنقول: إذا طرأ الجنون على أحدهما في الكتابة الفاسدة، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الكتابة لا تنفسخ، وهذا هو الأقيس والأصح؛ فإن الكتابة الفاسدة وإن كانت جائزة، فمصيرها إلى اللزوم، كما ذكرناه في البيع في زمان الخيار. والوجه الثاني - أن الكتابة تنفسخ بطريان الجنون إما على السيد وإما على المكاتب، فإنها جائزة من الطرفين، والعتق لا يحصل بها، وإنما يحصل بجهة التعليق.
والوجه الثالث - أن الكتابة تنفسخ بجنون المولى، ولا تنفسخ بجنون المكاتب، وهذا ظاهر النص (1) ، فإن الكتابة الصحيحة جائزة في جانبه، ثم لا تنفسخ الكتابة الصحيحة بجنونه. هذا تصرف الأصحاب في المذهب.
فأما الكلام على النص؛ فللأصحاب فيه طريقان: منهم من قال: النص محمول على الكتابة الصحيحة، ووجه الفرق بين المولى والمكاتب عند هذا القائل أن المولى لو قبض في جنونه، لم يصح القبض منه، كما قدمناه، ولو فرض الجنون من المكاتَب، فقبْضُ المولى منه صحيح. وهذا قد فصلناه.
وما ذكره هؤلاء مستقيم في المذهب. ولكنه بعيد عن نظم اللفظ؛ فإن الشافعي
__________
(1) هنا لحق في هامش الأصل غير مقروء كاملاً، ونصّه: " ووجهه أن الجواز في جانب المكاتب لا مبالاة بوضع القلم " ا. هـ.(19/363)
عطف هذا على أحكام الكتابة الفاسدة، فذكر الموتَ في الكتابة الفاسدة، ورتّب عليه الجنون، فبعُد حمل الجنون على ما جرى في الكتابة الصحيحة، فلا محمل للنص إلا الحكم بانفساخ الكتابة الفاسدة إذا طرأ الجنون على المولى بخلاف ما إذا طرأ الجنون على المكاتب، وهذا أحد الوجوه، والفرق عسير.
12510- ومن تمام الكلام في ذلك أنا إذا حكمنا بانفساخ الكتابة على معنى أن العبد لا يستقل إذا أفاق بكسبه، فلو أدى ما شُرط عليه، ففي حصول العتق وجهان ذكرهما الأصحاب: أحدهما - أن العتق لا يحصل؛ فإن التعليق في الكتابة الفاسدة تبعٌ للكتابة وحكمها، فإذا زالت قضية الكتابة، تبع زوالَها زوالُ التعليق، كما لو فسخ السيد أو المكاتب الكتابة من غير فرض جنون؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الكتابة الفاسدة إذا فسخت، لم يحصل العتق بالأداء بعد فسخها.
ومن أصحابنا من قال: يحصل العتق بالأداء بعد ارتفاع مقتضى الكتابة؛ فإن التعليق قائم، وليس كما لو فسخ؛ فإن فسخه يتضمن رفع التعليق؛ إذ حاصل التعليق في الكتابة الفاسدة تعليق على صفتين: إحداهما - الأداء. والأخرى - عدم الرجوع.
وإذا زالت الكتابة بالجنون، لم يحصل فيه الرجوع عن التعليق.
وهذا خيالٌ لا حاصل وراءه؛ فإن ما ذكرناه في التعليق على عدم الرجوع ضِمْن يحكم الفقيه به، وقد لا يهجس في نفس المولى، [وهذا الحكم يزول بالجنون.
فإن قلنا: العتق لا ينفذ، فلا كلام] (1) ، وإن قلنا: العتق ينفذ، فالوجه القطع بأنه لا تراجع، فإن التراجع يتلقى من مالية الكتابة الفاسدة، وقد زالت، فبقي التعليق المحض.
ومن أصحابنا من أثبت الرجوع على العبد بالقيمة، ومساقُه أن يتبعه الكسب، وهذا في حكم [البناء] (2) على ما مضى في الحكم بارتفاع الكتابة الفاسدة، فإنا إذا
__________
(1) عبارة الأصل هكذا: " وهذا الحكم يزول بالجنون إن كان يزول، إن قلنا: العتق لا ينفذ، فلا كلام " والتعديل بالحذف والإضافة من عمل المحقق.
(2) في الأصل: " الندم ".(19/364)
أبقينا فيها اتباع الكسب والرجوعَ بالقيمة -والعتقُ قد حصل- فلم نرفع من الكتابة الفاسدة شيئاً.
12511- ثم نقل المزني لفظاً عن الشافعي، فقال: قال الشافعي: " ولو كان العبد مخبولاً، عَتَق بأداء الكتابة، ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء " (1) . فظاهر ما نقله أن العبد كان مخبولاً وقت العقد.
وروى الربيع هذه الصورة بهذه اللفظة، وقال: يتراجعان بالقيمة، وهذا يتضمن كونَ الكتابة الجارية مع المجنون كتابة فاسدة يتعلق بها التراجع عند حصول العتق، وهذا على نهاية الإشكال؛ فإن المجنون لا عبارة له؛ وإذا لفظَ، فلا حكم للفظه، وقبوله لا يثبت قضيةً في [المعاوضة] (2) ، لا على الصحة ولا على الفساد.
وقد ذكرنا أن الكتابة الفاسدة هي التي تجري بين شخصين هما من أهل العبارة، ويتخلف عن العقد شرط من شرائط الصحة، أو يشترط فيه زائد مفسد، أو يفسد عوضُها، فأما إذا كان تعلق العقد بلفظ مجنون، فيستحيل أن يكون للفظه حكم.
وقد أوضحنا أن الكتابة الفاسدة تضاهي الكتابة الصحيحة في كثيرٍ من المقاصد، ولو أطلق الفقيه الصحةَ في تلك المقاصد، لم يكن لفظه حائداً عن سَنَن الصواب، [فالعتق] (3) يحصل صحيحاً، والاستتباع يقع صحيحاًً، [والاستقلال] (4) يثبت كذلك على صفة الصحة. فهذه أحكام صحيحة، فكيف يقتضيها لفظُ مجنون؟ نعم، لو حصل العتق بتعليق المولى، فليس ذلك بدعاً، ولكن النص الذي نقله الربيع صريح في إثبات الأحكام، نقله الصيدلاني، والعراقيون، وكلُّ موثوق به في المذهب، والذي نقله المزني على مخالفة منقول الربيع.
قال ابن سريج، فيما نقله الصيدلاني: والصحيح ما نقله الربيع، وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني.
__________
(1) ر. المختصر: 5/275.
(2) في الأصل: " المقاوضة ".
(3) في الأصل: " بالعتق ".
(4) في الأصل: " والاستقبال ".(19/365)
ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان.
وقد ظهر عندنا أن ابن سُريج لم يصحح ما رواه الربيع فقهاً، ولكنه [رآه] (1) أوثق في النقل. والمزني نقل ما [يستدّ] (2) في الفقه، فتبين أهل [العناية] (3) بالنقل أن ما نقله الربيع أصح، وما يستدّ على القياس -حتى لا يسوغ غيره- ما ذكره المزني.
12512- ثم أجمع الأصحاب النقلة منهم والفقهاء أن الكتابة إذا جرت مع الصبي المميز، فهي تعليق محض، لا يتعلق بعقباها تراجع، ولا يثبت لها حكم من أحكام الكتابة الفاسدة.
ثم أخذ متكلفون -فيما نقله الصيدلاني- في الفرق بين الجنون والصبا، ورأوا الجنون عارضاً متعرضاً للزوال، والصبا أصل الفطرة. ومن انتهى إلى هذا الحد، فقد خرج خروجاً لا يستحق فيه [المناطقة] (4) ؛ مع ما تمهد في الشرع من سقوط أقوال المجانين، وللصبي أقوالٌ تصح وفاقاً، وفي عباراته في العقود اختلاف العلماء، ولا شك في صحة عقله، وانتظام كلامه (5) .
وإنما أكثرت في ذلك ليثق الناظر إذا انتهى إليه بما نقلته.
ثم اعلم أن الشادي في الفقه لا يستريب في ميل منقول الربيع عن قاعدة الفقه.
وقال بعض أصحابنا: ما نقله الربيع محمول على الجنون الطارىء على كتابة فاسدة، وما نقله المزني محمول على الجنون المقترن بالعقد، وهذا الكلام منتظم في وضعه، ولكنه مخالف لما نقله الربيع نصاً.
__________
(1) في الأصل: " رواه ".
(2) في الأصل: " يستبدّ ". والمثبت من المحقق، ومعنى يستدّ: أي يستقيم، كما فسرناها مراراً.
(3) في الأصل: " العبارة ".
(4) في الأصل: " الماطقة ".
(5) أي أنه أولى من المجنون بقبول لفظه، وهو بهذا يردّ قولَ من يحاول توجيه نقل الربيع بجعله الصبا أسوأ حالاً من الجنون، لينقض بذلك توجيه نقل المزني بإبطال عبارة الصبي اتفاقاً، وما ينبني عليه من إبطال عبارة المجنون بطريق الأولى.(19/366)
فصل
قال: " ولو كاتبه كتابة صحيحة، فمات السيد، وله وارثان ... إلى آخره" (1) .
فصل
12513- صدْرُ هذا الفصل في منازعةٍ مفروضة بين عبدٍ يدعي الكتابة، وبين وارثين، ولا بد من تمهيد [أصل] (2) في مقدمة الفصل، ثم نرجع بعده إلى مقصود الفصل.
فنقول: إذا كاتب الرجل عبداً ومات، وخلّفه مكاتباً، وترك ابنين معترفين بالكتابة، فهذا يتعلّق بأطراف الكلام في مكاتبة بعض العبد، وسيأتي فيها باب معقود، [ولو لم] (3) نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) ، لأخرنا هذا الفصل إلى ذاك الباب؛ لانعطافه في جوانبه على مضمون ذلك الباب، ولكن نتبع الترتيب، ومسلكَ الشارحين، ثم ما نرى إضافته إلى ذلك الباب، أضفناه، فنقول:
العبد مكاتب بإقرار الوارثَيْن، وغرضنا من هذه الصور أن أحد الابنين [لو أعتق نصيبه من المكاتب] (4) ، نفذ عتقه إجماعاً (5) . ولو أبرأه أحد الابنين عن حصته من
__________
(1) ر. المختصر: 5/275.
(2) في الأصل: " فصل ".
(3) في الأصل: " ولم ".
(4) في الأصل: " لو أعتق فأبرأه نصيبه من المكاتب " وتعديل العبارة بالحذف من عمل المحقق؛ فإن الإبراء سيأتي بعد هذا مباشرة.
(5) إجماعاً: المراد إجماع الأصحاب من حملة مذهبنا.
ثم لم يستمر هذا الإجماع من الأصحاب، فقد ذهب البغوي (ت 516 هـ) إلى أن الأصح أنه لا يعتق بإعتاق أحد الابنين الوارثين، ونص عبارته: "إذا أبرأ أحد الابنين عن نصيبه، أو أعتق نصيبه، أو استوفى النجوم بإذن الآخر -وقلنا: يستبد به- وجب أن يكون في عتق نصيبه قولان: أصحهما - لا يعتِق نصيبه -وعليه يدل النص- بل يوقف، فإن الشافعي رضي الله عنه قال: " فأعتق أحدهما نصيبه، فهو برىء عن نصيبه " [المختصر: 5/275] ، ولم يقل عَتَق نصيبه، ثم ذكر -أي المزني- قوله: وقال في موضع آخر: " يعتق نصفه عجز أو لم يعجز " ففيه دليل على أن أحد الابنين إذا أبرأ عن نصيبه أو أعتق نصيبه، لا يعتق على أحد القولين، بل =(19/367)
النجوم برىء، وعَتَقت حصته المبرىء عندنا خلافاً لأبي حنيفة (1) ؛ فإنه لم يحكم بالعتق ما بقي عليه درهم، ووافق في نفوذ العتق فيه، فأما إذا استوفى أحد الابنين [بأداء] (2) حصته من النجوم، فتصوير الاستيفاء لا يتأتى شرحه الآن، فنضيف هذا الطرف إلى الباب الذي سيأتي في كتابة بعض العبد، إن شاء الله.
فإذا ثبت نفوذ العتق - إذا صرح به أحدهما - وثبت من مذهبنا نفوذُه بالإبراء، كما ذكرناه، فهل نحكم بسريان العتق إلى نصيب الابن الذي لم يُعتق ولم يُبرىء؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يسري؛ لأن العتق ينفُذ على حكم الكتابة، وكأن المعتِق هو المورِّث (3) ، والوارث نائب عنه، وصدَرُه عمن هو في مرتبة الخلافة والنيابة.
والقول الثاني - أن العتق يسري إلى نصيب الابن الذي لم يبرىء، ولم يُعتق؛ لأن المكاتب مملوك للورثة إلى أن يَعتِق، وعتقُ المعتِق صادرٌ عن ملكه، والخلافةُ تقتضي نزول الوارث في ملك رقبة المكاتب منزلة الموروث، ثم العتق اقتضاؤه الملك، والدليل على ثبوت الملك أن من زوّج ابنته من مكاتبه، ثم مات قبل عتق المكاتب، فالزوجة ترث شيئاً من رقبة الزوج، وينفسخ النكاح بذلك؛ ولولا حصول الملك في رقبة المكاتب للمولى، لما انفسخ النكاح.
ثم قال القاضي: الأَوْلى بناء القولين على أن الدَّين هل يمنع حصول الملك للورثة في عين التركة، وقد مهدنا هذا على بيان شافٍ، فالمكاتب [مستحَق] (4) العَتَاقة في
__________
= يكون موقوفاً.." (ر. التهذيب: 8/435) .
وقد أشار الرافعي إلى كلام البغوي قائلاً: " وقال صاحب (التهذيب) : " قضية سياق (المختصر) حصول قولين في عتق أحد الابنين نصيبه: أحدهما - العتق، وأصحهما - المنع، بل يوقف ... إلخ " (ر. الشرح الكبير: 13/491) ، وانظر أيضاً (روضة الطالبين: 12/241) .
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/424 مسألة 2116.
(2) في الأصل: " فأبرأه " والمثبت من المحقق، بناء على السياق.
(3) والمعنى أن العتق لا يسري، لأنه ينفذ على حكم الكتابة، والذي كاتب العبدَ هو المورّث، فالابن الوارث يعتق نيابة عنه، فكأن المعتق في الحقيقة هو الميت، والميت لا ذمة ولا ملك له، فهو معسرٌ، فكيف يسري عتقه.
(4) في الأصل: " يستحق ".(19/368)
حكم [المستغرَق] (1) باستحقاق العتق، فيجري قولان في أن الورثة هل يملكون رقبة المكاتب، كما جريا في أنهم هل يملكون أعيان التركة مع تعلق الدين بها؟
ثم قال القاضي: إذا منعنا سريان عتق أحد الابنين، فلا اتجاه لذلك إلا على نفي الملك، وصرفِ العتق إلى حكم النيابة (2) ، وهذا القياس يقتضي ألا ينفسخ نكاحُ بنت السيد مع المكاتب (3) ، ورأى هذا التخريجَ واقعاً في القياس، ثم قال: إنه مخالف للنص، وما أطبق عليه الأصحاب، فَردَّ نظره إلى بيان احتمالٍ في مسلك القياس.
وما ذكره متجه حسن، لو قلنا: إذا كاتب الشريكان عبداً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، فالعتق يسري، وقد رأيت الطرقَ متفقةً على ذلك، إلا شيئاً غريباً سأذكره في أثناء الفصل، حيث أرى ذكره.
فإذا كنا نقطع بتسرية عتق أحد الشريكين، وإن كان العتق لو سرى متعدياً إلى جزء من مكاتَب، ثم ذكرنا قولين في سريان عتق أحد الابنين، فلا محمل لترديد القول إلا التردد في أن الورثة هل يملكون رقبةَ المكاتب؟
فإن قيل: كيف يستقيم هذا، وقد نفذتم عتقَ الوارث وما استنيب في العتق، وإنما نفذ عتقه لصَدرِه عن ملكه.
قلنا: إذا لم يملك الوارث رقبة المكاتب، ورّثناه نجوم الكتابة، فإن أبرأ، فالإبراء يتضمن العتق، ولا نظر إلى بقاء بعض النجوم عليه للذي لم يبرئه؛ فإن المبرىء أسقط جميع ما يملك، فكان بمثابة المولى إذا أبرأ عن جميع النجوم.
فإن اعترض في هذا المنتهى السؤال عن استيفاء أحد الابنين حظّه، فهذا قد أحلناه
__________
(1) في الأصل: " المتفرق "، والمثبت من تصرف المحقق.
(2) المعنى أن الوارث لا يملك رقبة المكاتب، وإنما يرث نجوم الكتابة، فإذا أعتق، تضمن عتقه الإبراء عن نجوم الكتابة -كما سيبين ذلك بعد سطور- فكانه أعتق أو أبرأ - يتصرف في الكتابة نيابة عن مورثه، وليس عن تصرفه فيما يملك.
(3) لأنها لم تملك جزءاً من زوجها المكاتب، لأنا نفرع على نفي ملك الوارث للمكاتب، وإنما عتقه له بحكم النيابة عن المورّث. هذا كلام القاضي.(19/369)
مرّةً (1) ، ونحن [نجدد] (2) إحالته؛ فإن في تصوير انفراد أحدهما باستيفاء حصته عُسْراً، سيأتي كشفه، إن شاء الله.
فإن قيل: ما ذكرتموه في الإبراء، فما وجه تنفيذ عتقه؟ قلنا: وجه نفوذه تضمنه الإبراء، والإبراء يقتضي العتق.
12514- فإذا تبين القولان في سريان العتق، فالتفريع عليهما: إن قلنا: لا يسري، فقد حصل العتق في مقدار حصته، ويتعلق بهذا الآن الحكم في الولاء، وأنا أرى تأخيره، ونستوفي تفريع السراية نفياً وإثباتاً، ثم أنعطف على بيان الولاء في الصور، وأسوق ما يتعلق به حتى يُلفى منتظماً غيرَ مبدّد في أثناء المسائل.
ثم إذا لم يسر العتق، بقي الابن الثاني على حصته في الكتابة.
وإن حكمنا بأنه يسري عتقُ أحد الابنين إلى نصيب الثاني، فمتى يسري، وكيف وجه السريان؟
12515- نقدم على هذا أصلاً، وهو أن الشريكين في العبد إذا كاتباه معاً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، نفذ العتق، وسرى إلى نصيب صاحبه، قطع الأئمة بذلك، ثم في وقت السريان قولان في الشريكين: أحدهما - أنه لا يسري العتقُ في الحالة الراهنة؛ فإن في تسريته إبطال الكتابة، ولكنا ننتظر ما سيكون، فإن رق ذلك القدرُ، ولم [تَجْرِ] (3) الكتابة إلى منتهاها، فإذ ذاك يسري عتق الشريك وإن استمرت الكتابة، وأفضت إلى العتق، فلا سريان. والقول الثاني - إنّ عتق أحد الشريكين يسري في الحال.
وليقع التفريع على قول تعجيل السراية، وهذا القول موجه بمقتضى السراية؛ فإن
__________
(1) سبق أن أحاله في أوائل الفصل حيث قال: " ... فتصوير الاستيفاء لا يتأتى شرحه الآن، فنضيف هذا الطرف إلى الباب الذي سيأتي في كتابة بعض العبد - إن شاء الله" وهو هنا يجدد إحالته.
(2) في الأصل: " نحذر " هكذا تماماً رسماً ونقطاً (انظر صورتها) ، والمثبت من عمل المحقق.
(3) في الأصل: " تحبّر " هكذا تماماً، رسماً، ونقطاً، وتشديداً.(19/370)
العتق الساري مقطوع به، فلا يجوز أن يكون مقتضاه في السراية متأخراً على خلاف القياس.
التفريع:
إن حكمنا بأن العتق لا يسري ما لم يرِقّ نصيب الشريك، فالسريان على هذا القول لا يصادف كتابةً ولا ينقضها، فإن شرط نفوذ السراية على هذا القول تقدم ارتفاع الكتابة.
وإن رأينا أن نسرّي العتق في الحال، فهل تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، أم يسري العتق في نصيب الشريك على حكم الكتابة، من غير تقدير انفساخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الكتابة تنفسخ، ويترتب السريان على الانفساخ. والثاني - لا تنفسخ الكتابة، بل يسري العتق ويجري، ونصيب الشريك مُقَر على حكم الكتابة.
12516- ونعود إلى إعتاق أحد الابنين الوارثين المكاتَبَ، ونقول: إن نفذنا سراية العتق، فمتى يسري؟ فعلى قولين كما ذكرناه في عتق أحد الشريكين حَذْوَ القُذَّة بالقُذّة، ثم أحد القولين أن العتق لا يسري ما لم يرِق نصيب الابن الثاني. والقول الثاني - أنه يسري في الحال، ثم في انفساخ الكتابة في نصيب الابن الوجهان المذكوران في مسألة الشريكين.
12517- ونحن من هذا الموضع ننعطف على ما تقدم لبيان حكم الولاء، فإن قلنا: لا يسري عتق الابن، بل يقتصر على مقدار حصته في رقبة المكاتب، فالنصيب الثاني مكاتب لا محالة، فإن عتق ذلك النصيب بأداء النجوم، أو بإبراء، أو إعتاق، فالولاء في رقبة المكاتب للميت لا غير، ثم يرث الابنان بولاء الأب، كما مهدناه في قاعدة الولاء، هذا إذا عتق نصيب الثاني أيضاً.
فأما إذا رقّ نصيب الثاني -والتفريع على عدم السريان- فقد انفسخت الكتابة في المقدار الذي رَقَّ، وذكر الأصحاب وجهين في أن الولاء في النصف الذي عَتَق مصروف إلى من؟ فمن أصحابنا من قال: هو للمبرىء من الابنين، لا حظ فيه للذي رق نصيبه، ومنهم من قال: هو مصروف إليهما.
وهذا الذي نقلناه عن الأصحاب كلام مبهم لا بد من كشفه، فنقول: إذا انفسخت(19/371)
الكتابة في نصيب أحد الابنين بأن رَقَّ لما عجز، فهل نقضي بالانفساخ في نصيب المبرىء منهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نحكم بانفساخها في ذلك النصيب أيضاً. والثاني - لا نحكم.
وهذا إشكاله أعظم مما قدمناه؛ فإن العتق إذا نفذ على حكم الكتابة، أو بسبب الإبراء، فلا سبيل إلى استدراك ما نفذ، ولو قلنا: نتبين أن العتق صادف ملكَ المعتِق، والرقَّ المستحق له، لكان هذا خرماً عظيماً للقاعدة، وتبيُّناً في غير موضعه، فإن كل ما نتبيّنه من الأحكام، فلا بد وأن نتبين له فيما مضى مقتضياً، ولم يظهر لنا مقتضٍ [آخِراً] (1) يوجب تبين انفساخ الكتابة. [وإنما يجري ذلك في الكتابة] (2) ما لم يكن التبعيض بين الوارثين؛ فإن مبنى الكتابة في حياة السيد على نفوذ العتق، أو على ارتداد الجميع رقيقاًً، وكأنّ الإبراء عن بعض النجوم لا يوجب تحصيل شيء من العتق، والآن لما انقسم المكاتب بين الوارثَيْن، فيعتِق، ثم يضاف إلى أحدهما بإبرائه عن نصيب نفسه في النجوم، وهذا لا بد من احتماله، وقد يموت والكتابة منشأة في المرض، فيضيق الثلث، ويرق بعض المكاتب، فهذه التغايير لا بد من احتمالها.
فالوجه عندنا القطع بأن الكتابة لا يتبين انفساخها في نصيب من أبرأ من قبل أو أعتق، وإذا كان كذلك فالذي رَقَّ يخلص لأحد الابنين؛ إذ لو رددنا ذاك ميراثاً بينهما، [لجرّ] (3) ذلك محالاً؛ من قِبل أن الذي أبرأ عن نصيبه كان إبراؤه بمثابة استيفائه حقه، فيستحيل أن يستوفي أحدهما على الخصوص حقه من النجوم، ثم يشارك صاحبه فيما يرق.
فقد تحصل مما ذكرناه أن الرقيق مختص بالذي رق عليه، والعتق نافذ عن جهة
__________
(1) في الأصل: " أجزاء ".
(2) ما بين المعقفين مكان كلمة استحالت قراءتها، فقد رسمت هكذا: " نجرّد في الكتابة " (انظر صورتها) والمعنى أن تقدير الفسخ في الكتابة بعد أداء نصف النجوم -أو أقل أو أكثر- والعجز عن أداء الباقي، إنما يجري هذا الفسخ، ويكر راجعاً على ما أدّى من النجوم، إذا لم يوجد التبعيض بين الوارثين، كما بسطها الإمام.
(3) في الأصل: " يجر " والمثبت من المحقق.(19/372)
الكتابة في الذي عَتَق، وإذا كان كذلك، فيجب نسبة الولاء إلى الميت، وقد أوضحنا في قاعدة الولاء أنه لا يورث بل يورث به، وإذا كان كذلك، فالوارث بالولاء من ينتسب بالعصوبة إلى من له الولاء، والابنان جميعاً متساويان في جهة العصوبة من المولى.
ولكن وإن كان كذلك، فللأصحاب خلاف. فمنهم من يجري على القياس الذي نبهنا عليه؛ وقال: الابنان: من رق نصيبه ومن أبرأ مشتركان في الإرث بالولاء، وهذا إنما يُخرَّجُ على قولنا: مَن بعضه حر وبعضه رقيق موروث، وفيه الاختلاف والتفصيل الطويل المذكور في الفرائض.
فتحصّل مما ذكرناه أن الحكم بانفساخ الكتابة في الذي عتق محال، ويجب صرف الولاء فيه إلى الميت، ثم الأصح بعده أنهما يشتركان في الاستفادة بذلك الولاء [إن حصلت] (1) استفادة.
ومن أصحابنا من قال: يختص بتلك الاستفادة المبرىء؛ فإنا وإن كنا لا نورّث الولاء، فيبعد أن يكون أحد الابنين مستوفياً حقه من الرقبة رقاً، ومشاركاً للثاني في فائدة الولاء، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فمبناه على استبعاد محض لا حاصل له.
12518- ومما يتعلق بهذا المنتهى أن أحدهما إذا أبرأ -كما صورناه- ولم يتبين في النصيب الثاني بعدُ انقلابٌ إلى الرق، أو جريانٌ إلى العتق، فمن رأى في المسألة الأولى -وهي إذا رق نصيب أحدهما- أن يشتركا في فائدة الولاء، فلا شك أنه يحكم بهذا في هذه الصورة، ومن خصص المبرىء في الصورة الأولى بفائدة الولاء، فهاهنا ماذا يصنع؟ هذا فيه تردد عظيم.
وقد ذكر القاضي وجهين هاهنا، وليس ذلك على تثبت، والوقف بهذا المقام ألْيَقُ: فإن عَتَق النصيبُ الثاني على حكم الكتابة، فالولاء مشترك، يعني الاستواء في فائدته، وإن رَقّ النصيب الثاني، فقد مضى الحكم فيه، وتبين اختلافُ الأصحاب
__________
(1) في الأصل: " أن نصوّب " كذا رسماً ونقطاً، وتشديداً.(19/373)
ووجههُ، ولا يتجه عندنا إلا هذا، ولا فائدة في غيره؛ فإنا لا نعقل فيما نحن فيه فائدةً للولاء إلا الإرث -إذا قلنا به في الشخص المبعض- وإنما مجرى الإرث إذا مات الشخص الذي فيه نتكلم، وإذا مات في أثناء الأمر، انفسخت الكتابة في نصفه الثاني، ووقع القضاء بتحقق الرق فيه، فيعود الكلام لا محالة إلى صورة جريان الرق في أحد النصيبين.
فهذا تمام الكشف في ذلك. وجميع ما ذكرنا تفريع على أن العتق لا يسري.
12519- فإن حكمنا بأن العتقَ يسري، فقد ذكرنا في وقت السراية قولين: فإن قلنا: لا يسري العتقُ ما لم يرِقَّ النصيب الثاني، فلا شك أنه إذا رَقّ، ثم عتق بحكم السريان، فالولاء فيما رق للابن المعتِق، أو المبرىء؛ فإن الكتابة انفسخت في ذلك النصيب، وقدرنا نقل الملك فيه إلى المعتق، ثم نفذنا العتق عليه، فله فيه ولاء المباشرة، وأما الولاء في النصف الذي عتق على حكم الكتابة، فيجب القطع بانصرافه إلى المتوفى، ولا يَتَخَيّلُ انفساخَ الكتابة فيه تبيّناً من هو على بصيرة في درك حقيقة هذا الفصل.
ثم يعود خلاف الأصحاب في أن المعتق هل يختص بفائدة الولاء في ذلك النصف، أم يشترك الابنان فيها؟ والأصح اشتراكهما، لما ذكرناه من فصل الانتساب بالعصوبة، وفيه الوجه الآخر.
فأما إذا قلنا: يسري عتقُ المبرىء، أو المعتِق في الحالة الراهنة، فقد ظهر خلاف الأصحاب في أن الكتابة هل تنفسخ فيما يسري العتق فيه؟ فمنهم من قال: إنها تنفسخ، فعلى هذا يرِقّ ذلك النصف، ثم ننقل الملك فيه، ثم نعتقه على المعتِق، ويعود التفريع إلى القول الأول، وهو إذا رأينا انتظار الرق، فرَقَّ، ثم سرى، وأمرُ الولاء على ما مضى في ذلك القسم.
فإن قيل: كيف يتجه فسخ الكتابة، ولا سبيل إلى التسبب إلى فسخها من جهة السادة، ما لم يَعجِز المكاتَب؟
قلنا: إنما يقرب احتمال ذلك لمكان حصول العتق، وإذا حصل العتق، فهو(19/374)
مقصود الكتابة، فكأنا على هذا الوجه لا نمنع فسخ الكتابة بجهة الإعتاق عن غير الكتابة.
وهذا غير سديد، فقد يلزم عليه الحكم بأن إعتاقَ سيدِ المكاتب ابتداءً يوجب فسخَ الكتابة، ثم يجب احتماله لتحصيل مقصود الكتابة.
وقد ينقدح الانفصال عن هذا بأن يقال: الإعتاق تصرف في مقصود الكتابة بالتعجيل، فلا يتضمن فسخاً، والسريان من ضرورته نقل الملك، ورقبة المكاتب لا تقبل الملك مع اطراد الكتابة، والسريان لا بد منه، فنضطر إلى نقض الكتابة لتتصور السراية.
هذا إذا قلنا: تنفسخ في ذلك النصيب.
فأما إذا قلنا: لا تنفسخ الكتابة، ويسري عتق المبرىء على حكم الكتابة، فهذا قد يتطرق إليه السؤال؛ فإن السراية من ضرورتها نقلُ الملك إلى من عليه السريان، والمكاتب لا يقبل نقل الملك؛ وقد يُجاب عن هذا بأن كل فعل لا يؤدي إلى فسخ الكتابة، فهو محتمل، وإنما الممتنع تقدير فسخ الكتابة، وسنذكر قولاً قديماً في تصحيح بيع المكاتب على تقدير بقاء الكتابة واطرادها، حتى كأن البيع وارد على النجوم. وهذا مما سيأتي شرحه، إن شاء الله تعالى.
12520- فأما تفريع الولاء على قولنا: إن الكتابة لا تنفسخ مع سريان العتق، فالمذهب الذي يجب القطع به صرفُ الولاء إلى الميت، ثم اشتراك الابنين في فائدة الولاء، ولا يجوز إجراء خلاف؛ فإن الكتابة لم تتبعض بقاء وارتفاعاً، بل حصل العتق في الجميع على حكمها. هذا ما أردنا أن نذكره في الولاء.
12521- ثم مهما حكمنا بانفساخ الكتابة، فلا شك أن قضاياها تزول، ويظهر أمر هذا في الصورة الأخيرة؛ فإذا قلنا: يسري العتق بتقدير رد ذلك النصيب إلى الرق، وفسخ الكتابة، فلا يستتبع مَنْ عَتَقَ الكسبَ والولدَ في النصيب الذي رفعنا الكتابة فيه.
هذا لا بد منه.
فلو قال قائل: إذا قدَّرنا رقّاً في ذلك النصيب، فما يخص ذلك النصيب من(19/375)
الكسب والولد لمن؟ أهو لمن يسري عتقه، أم هو للثاني الذي لم يبرىء ولم يُعتِق؟ قلنا: هو للذي لم يبرىء ولم يُعتق؛ فإنا نقدر الرق أولاً، ثم نقدر نقله، وإذا تقدم الرق -وإن لم يكن له زمان محسوس- ثم يترتب عليه النقل، فما يقتضيه الرق لمن حصل الرق في حقه.
وقد تم ما نريد في ذلك. وقد حكينا اتفاق الطرق على أن الشريكين في العبد إذا كاتباه، ثم أعتق أحدهما نصيبه، سرى عتقه، وإنما تردد القول في وقت السريان، وحكينا اختلاف القول في الوارِثَيْن في أَنَّ عتقَ أحدهما هل يسري، كما مضى، وهذا هو المذهب المعتمد.
وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً -أراه مخرجاً- في أن عتق أحد الشريكين في العبد لا يسري؛ فإنا لو سرّيناه في الحال، لتضمن نقضاً للكتابة، وهذا بعيد، وإن توقفنا إلى انقلاب ذلك النصف رقيقاًً، فهذه سراية بعيدة؛ فإن السريان إذا امتنع حالة الإعتاق لم يجر بعده، والدليل عليه أن من أعتق حصته من العبد المشترك وكان معسراً، ثم أيسر من بعدُ، فالسراية التي رددناها بالإعسار المقترن بالإعتاق، لا ننفِّذْها باليسار الطارىء، فخرج من ذلك تعذر السراية. كيف فرض الأمر.
وهذا متجه في القياس، ولكنه ليس بالمذهب، فلا اعتبار به، ولذلك لم أذكره في أثناء المسائل، فأخرته إلى نجاز ترتيب المذهب.
وقد تم الآن ما أردنا ذكره في إعتاق أحد الورثة، وأحلنا على الباب المنتظر ما وجبت إحالته.
12522- ومما يجب ختم الفصل به أن أحدهما إذا حُمل على قبض نصيبه من النجوم إجباراً عليه -حيث يتصور ذلك، كما سيأتي- فالعتق إذا حصل بهذه الجهة لا سريان له بلا خلاف؛ فإن هذا عتق حصل بسببٍ لا اختيار فيه، وإذا كان كذلك، فلا سريان، والحالة هذه؛ ولذلك قلنا: من ورث البعض ممن يعتق عليه، وعَتَق عليه، لم يسر العتق إلى الباقي، وإن كان الوارث موسراً، فهذا تمام المراد.
12523- ونعود بعده إلى مقصود الفصل، فنقول: إذا مات رجل وخلف ابنين(19/376)
وعبداً، فادعى العبد عليهما أن أباهما كاتبه؛ فإن صدقاه، فالأمر على ما قدمناه.
وإن كذباه، فالقول قولُهما مع اليمين، يحلفان بالله لا يعلمان أن أباهما قد كاتبه، فإن حلفا، انتهت الخصومة إذا لم تكن بينة، وإن نكلا عن اليمين، حلف العبد، وحُكم بالكتابة.
وإن أراد العبد إثبات الكتابة بالبينة، فلا يخفى أنا نُحْوِجُه إلى إقامة شهادة عدلين؛ فإنه يبغي مقصودَ العتاقة، وليس يطلب مالية، فلا يثبت مقصوده إلا بعدلين.
وإن صدّقه أحدُ الابنين، وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق مكاتَب، والقول قول المكذب في نصيبه مع اليمين؛ فإن نكل وحلف العبد يمين الرد حُكم بالكتابة في الجميع، وإن حلف، فنصيبه قنُّ، فيستكسب العبدُ، فما يحصل من أكسابه يدفع نصفه إلى المكذِّب بحكم الرق، والنصفُ يبقى في يده يدفعه إلى المصدِّق عند حلول النجم، فيعتِق به، ثم هذا العتق لا يسري قطعاً؛ فإنه مرتب على [أداءٍ] (1) قهري لا يجد المصدق محيصاً، وقد ذكرنا أن الأمر إذا كان كذلك، فلا سريان.
فأما إذا أعتقه المصدق، أو أبرأه عن حصته، ففي سريان العتق الخلافُ المقدم، ورأى الأصحاب السريانَ هاهنا أقرب وأولى؛ لأن من يسري عليه معترف بالرق، فكانت السراية محتملة على موجب قوله.
وليس هذا ترتيباً معتداً به، ولكن إن كان العبد مكاتباً في علم الله تعالى، فالأمر في تسرية العتق على ما قدمناه، وإن سُئلنا عن حكم الظاهر، فمن كذب يظهر مؤاخذاً بموجب إقراره وهو المعني بالترتيب.
وهاهنا أمر يجب التنبه له، وهو أن المصدِّق إذا أبرأ ولم يُعتق، فالمكذب ينكر حصولَ العتق في نصيب المصدق المبرىء؛ فإن الإبراء في [القن] (2) لا معنى له، وعلى موجب تكذيبه يجب ألا يسري العتق إلى نصيبه، ولكن الاختلاف مع هذا قائم؛ فإن المصدِّق قولُه مقبولٌ في نصيبه، فإذا أتى بما يقتضي العتق، فالسريان بعده
__________
(1) في الأصل: " آداب ". والمثبت من المحقق.
(2) في الأصل: العين. والمثبت تقديرٌ منا.(19/377)
أمر قهري لا يُربط بالرضا. نعم، إذا أعتق المصدِّق، فيجب القطع بمؤاخذة المكذب بعتق نصيبه إذا سرَّينا عاجلاً، لأنه معترف بأن نصيبه قد عتق. وهذا نجاز الفصل.
12524- وقد قال الصيدلاني إذا ادعى العبد الكتابة، فصدقه أحدهما وكذبه الثاني، فشهد المصدِّق بالكتابة، وانضم إليه شاهد آخر، قال: تثبت الكتابة، وقُبل شهادة أحد الوارِثَيْن على الثاني.
وهذا مشكل؛ فإنه بشهادته يثبت لنفسه حقوقاً -في الكتابة أو النجوم- موروثةً، فإطلاق القول بقبول شهادةٍ بعقدٍ عوضه للشاهد محال، وإن فرضت شهادته بعد الإبراء، فيتصور له أغراض في السراية إن سرّينا، فقبولى الشهادة مطلقاً بعد الإبراء لا وجه له، نعم يجب تخريجه على نفي السراية حتى إذا لم يكن للوارث الشاهد غرض ينسب إلى جر، فإذ ذاك تقبل شهادته.
فصل
قال: " والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ... إلى آخره " (1) .
12525- إذا كاتب الشخص عبداً خالصاً على نجوم، ثم قبض معظمها، لم يعتِق من العبد شيء في مقابلة ما استوفى من النجوم. هذا مذهب معظم العلماء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " (2) .
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يوزع العَتاقة على النجوم، ويحكم بأنه يحصل من
__________
(1) ر. المختصر: 5/276.
(2) حديث: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال النسائي: هذا حديث منكر. وذكر الحافظ عن الشافعي قوله: " لا أعلم أحداً روى هذا إلا عمرو بن شعيب. ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبته، وعلى هذا فتيا المفتين " ا. هـ. والحديث رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر موقوفاً، ورواه ابن قانع عنه مرفوعاً، وأعلّه (ر. أبو داود: العتق باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، ح 3926، 3927، النسائي في الكبرى: ح 25026، 25027، الحاكم: 2/218، التلخيص: 4/398 ح 2728، 2729) .(19/378)
العتق مقدارُ ما قبض من النجوم على نسبة الجزئية، حتى إن جرى القبض في نصف النجوم، حصل العتق في نصف المكاتب (1) ، ولا قائل بهذا المذهب الآن.
وما ذكرناه من تبعض العتق في الوارثَيْن سببه تعدد الشخصين، وسنعود إليه في باب تبعيض الكتابة.
12526- ثم ذكر الشافعي أن المكاتب كتابةً صحيحة إذا مات قبل العتق، انفسخت الكتابة بموته. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة (2) : إن خلّف وفاء، أُديت النجوم منه، والمسألة مشهورة في الخلاف، ومعتمد المذهب أن رقبة المكاتَب موَرِدُ العتق قبل القبض (3) .
فصل
قال: " فإن جاء بالنجم، فقال السيد: هو حرام ... إلى آخره " (4) .
12527- إذا أتى المكاتب بالنجم، فقال السيد هو حرام، وامتنع عن قبوله، أُجبر على القبول إلا أن يبرىء؛ فإن القول قولُ المكاتب في ملك ما في يده، وهذا بيّن.
ثم إن ذكر السيد لذلك المال مستحِقاً، أجبرناه على قبوله، ثم نؤاخذه بالإقرار بعد القبض، ونلزمه أن يسلمه إلى المقَر له. وإن لم يعيِّن (5) مستحِقاً، واقتصر على قوله: هو حرام، وأجبرناه على قبوله، فالمذهب أنه لا ينتزع من يده، لأنه [لم يعترف به لمتعين] (6) . ومن أصحابنا من قال: ينتزعه الحاكم من يده، ويضعه في بيت المال.
__________
(1) أثر علي رواه النسائي في الكبرى (العتق: باب ذكر المكاتب يؤدي بعض كتابته، ح 5003) ، والبيهقي (10/326) .
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/431 مسألة 2125، رؤوس المسائل: 546 مسألة 403، المبسوط: 7/216، طريقة الخلاف: 177 مسألة: 70.
(3) إلى هنا انتهى الخرم والسقط الذي أشرنا إليه من قبل في نسخة (ت 5) .
(4) ر. المختصر: 5/276.
(5) ت 5: "يعتق".
(6) في الأصل: " لو لم يعترف به، لتعين " والمثبت من (ت 5) .(19/379)
فإن قلنا: لا ينتزع من يده، فلو كذب نفسه، وقال: صدق المكاتَب في ادعاء الملك، وإنما ناكدته فيما قلتُ، فالمذهب أن ذلك مقبول منه، وتصرفه نافذ، بحسبه. وإن قلنا: الحاكم يزيل يده؛ فالظاهر أنه لو كذّب نفسه، لم يقبل منه.
12528- ومما يليق بهذا الفصل أن المكاتب لو جاء بالنجم عند محله، فالسيد مجبر على قبوله: كما قدمناه، ولو امتنع عن القبول ولم يبرىء، قَبَضَ القاضي عنه.
ولو جاء بالنجم قبل محله، ولم يكن للسيد غرضٌ في الامتناع عن القبول، فهو مُجبر على القبول، واختلف القول في سائر ديون المعاملات إذا كانت مؤجلة، فأتى بها من عليه الدين قبل المَحِل، فهل يجبر مستحق الدين على قبوله؟ فيه قولان تقدم ذكرهما في الأصول التي سبقت، ونجمُ الكتابة مما يقطع القول فيه بالإجبار على القبول، فقد رُوي: " أن سيرين كان مملوكاً لأنس بن مالك، فكاتبه على مال عظيم، فجاء بآخر النجوم معجلاً له على محله، فأبى أنس أن يأخذ إلا يوم المحل، فرفعه إلى عمر، وقال: إنه يريد أن أموت فيأخذ مالي وولدي، فقال عمر: تأخذه، أو أضعه في بيت المال، فأخذه أنس وعتق سيرين " (1) . ومعنى قول عمر أضعه في بيت المال، أحفظه عليك وأقبضه عنك قهراً، ولم يُرد أنه يصير مالاً للمسلمين.
وعلى هذا لو غاب السيد، فجاء المكاتب بالنجم قبل محله إلى الحاكم، قبلَه الحاكم عن الغائب، وحكم بعتق المكاتب.
وهذا كله إذا لم يكن على السيد ضرر في أخذ المعجل؛ فإن كان عليه ضرر في القبول، لم يجبره على القبول مذهباً واحداً، وذلك أن يكون الوقت وقتَ نهب وغارة، ولو قبل، خاف النهب، فلا يكلفه التعرض للضرر، اتفق الأصحاب عليه، وإنما يُجبر على القبول تشوّفاً إلى تحصيل العتق إذا لم يكن على القابض ضرر، ولو كان له غرض في ألا يقبل، ولم يكن عليه ضرر، فالغرض لا مبالاة به، وحديث أنس شاهد فيه.
__________
(1) أثر سيرين رواه البيهقي في الكبرى (10/334، 335) .(19/380)
ثم النجم الذي يأتي به - لا فرق بين أن يكون آخر النجم الذي يتعلق العتق بتأديته، وبين أن يكون أول نجم أو نجماً متوسطاً. فإن لكل نجم أثراً في تحصيل العتاقة.
ولو كان على إنسان دينٌ به رهن، والدين مؤجل، فأتى الراهن بالدين قبل المحل، فله غرض ظاهر في تعجيل الدين، لينفك الرهن، فقد قطع القاضي بأن مستحِق الدين يجبر على القبول إذا لم يكن عليه ضرر، كما يجبر السيد على قبول النجم قبل محله. ولم أر في ذلك خلافاًً في الطرق.
فصل
قال: " وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده ... إلى آخره " (1) .
12529- اتفق الأصحاب على أن المكاتب لا يتزوج إلا بماذن سيده، لأنه يتعرض في النكاح لغُرم المهر والنفقة، وهذا يتعلق بكسبه، وليست يده مطلقة في إكسابه حتى يصرفها إلى ما يشاء من مآربه، وإذا أذن له المولى في التزوج، ففي انعقاد نكاحه بإذن المولى قولان مبنيان على أن تبرعاته هل تَنْفُذ بإذن المولى؛ وفي ذلك قولان سيأتي شرحهما، مع استقصاء ما يكون تبرعاً من المكاتب وما لا يكون تبرعاً.
وذهب بعضر المحققين إلى أن نكاحه يصح بإذن المولى قولاً واحداً؛ فإنه يتعلق بحاجته، وإنما القولان في هباته وتبرعاته التي لا تتعلق بحاجاته، وهذه طريقة حسنة، والطريقة المشهورة طريقة القولين.
وقد نص الشافعي على أن المكاتبة لا تختلع نفسها بإذن مولاها، وذهب جمهور الأصحاب إلى أن هذا جواب من الشافعي على أحد القولين في أن المكاتب لا يتبرع بإذن المولى، وإلا فلا فرق.
وأشار بعض الأصحاب إلى القطع بأنه لا يصح منها أن تختلع وإن أذن المولى، وهذا وإن ذكره الصيدلاني، فليس له وجه، أعني أن قطع القول لا وجه له، ولم يصر
__________
(1) ر. المختصر: 5/276.(19/381)
أحد من الأصحاب إلى إلحاق اختلاعها بنكاح العبد، من جهة أنه يعدّ من حاجاتها، وهذا لا قائل به.
وأما المكاتبة هل تُزوّج؟ قال القفال - فيما حكاه القاضي عنه: لا تُزوَّج المكاتبة بحال قولاً واحداً، لأنها غيرُ مالكة للإذن، وإذنها لا بد منه، فصارت في تزويجها كالصغيرة.
وهذا غير مرضي، والذي ذهب إليه الجمهور أن تزويج المكاتبة بإذن المولى يُخَرّجُ على تزوج المكاتب بإذن المولى، فإن تزويجها من حاجاتها، كما أن تزوّج العبد من حاجته، بل إذا تزوجت المكاتبة، استحقت النفقةَ والمهرَ، وإذا تزوج المكاتب التزم المهر والنفقة.
ثم قال القاضي: الأظهر أنها تُزَوّج لما ذكرناه، ولفقهٍ آخر: وهو أنها بالنكاح لا يلزمها أن تُسلِّم نفسَها إلى الزوج تسليم الحرة، حتى يُقدَّرَ الزوجُ شاغلاً عن الاكتساب، بل سبيلها وسبيل. الزوج معها كسبيل الأمة إذا زوجها مولاها، لأنها محتاجة إلى الاكتساب، فمنفعتُها مستثناة كمنفعة الرقيقة.
وهذا في نهاية الحسن، فإن ظن ظان أنها إذا تزوجت، وصحّ ذلك، فقد التزمت التسليم التام، قيل: هلاّ لزم مثل هذا في تزويج السيد أمته؟ فلا وجه إلا ما ذكره القاضي.
12530- ثم تكلم الأصحاب في أن المكاتب هل يتسرّى جارية من جواريه؟ وهذا خارج على التبرعات. فليس له أن يتسرّى بغير إذن السيد، وفي التسرّي بالإذن القولان.
ثم ذكر الأصحاب ثبوت الاستيلاد، وطرفاً من أحكام الولد، ولا ينبغي أن نخوض في هذا الآن البتة؛ فإنا سنجمع أحكام الأولاد في باب إن شاء الله، ونذكر ولدَ المكاتب والمكاتبة. ثم نذكر أميّة الولد حتى نذكر تلك الفصول المتناسبة في موضع واحد.(19/382)
فصل (1)
قال: " ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئاً ... إلى آخره " (2) .
12531- مذهب الشافعي أنه يجب على المولى أن يؤتي المكاتبَ شيئاً. فالإيتاء مستحَق. وقال أبو حنيفة (3) : هو مستحب.
ومعتمد الشافعي ظاهر قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33] ، وأشار رضي الله عنه إلى الآثار، وهي المعتمدة عندنا في تأسيس الكتابة، ووضعِ أصلها، ولم يكاتِب أحد إلا وضع من مكاتبه شيئاً، أو آتاه شيئاً، وعن ابن عمر أنه كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألفَ درهم، ووضع منه خمسةُ آلاف درهم (4) ، فقد شبه الشافعي الإيتاء بالمتعة في مجاري كلامه، وإنما ذكرنا هذا لأن الحاجة قد تمسّ إليه في تفصيل المذهب.
وأول ما تذكره بعد ثبوت الأصل، اختلافٌ في أن الأصل في الإيتاء إعطاء شيء أو حطُّ شيء من النجوم؟ فمنهم من قال: الأصل الحط؛ فإن الغرض من الإيتاء الإعانة، وهي تحصل بالحط ناجزاً. ومنهم من قال: الأصل بذل شيء له. تعلقاً بظاهر قوله: {وَآَتُوهُمْ} ثم قالوا: أثر هذا الخلاف ماذا؟ ولا خلاف أن الغرض [يحصل] (5) بكل واحد منهما.
فقيل: من آثار الخلاف أن المكاتب كتابة فاسدة إذا عتق، ففي استحقاقه شيئاً على
__________
(1) من هنا بدأ سقط آخر من نسخة (ت 5) استغرق هذا الفصل والفصول الثلاثة التالية، وهو نحو خمس ورقات من ورقات (ت 5) ، ولكنها ليست من بداية الصفحات ونهاياتها.
(2) ر. المختصر: 5/276.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 384، مختصر اختلاف العلماء: 4/412 مسألة: 2099، المبسوط: 7/206، رؤوس المسائل: 547 مسألة 404.
(4) أثر ابن عمر رواه مالك في الموطأ، والبيهقي (ر. الموطأ: 2/788، البيهقي: 10/330، التلخيص: 4/440 ح 2735) .
(5) في الأصل: " يسقط ".(19/383)
المولى وجهان، فإن قلنا: الأصل الحط، لم يستحق؛ فإنه لا نجم على المكاتب كتابة فاسدة، حتى يجب حطُّ شيء. فإذا لم يثبت الأصل، لم يثبت [البدل] (1) ، وإن قلنا: الأصل الإعطاء والبذل، فلا يمتنع إيجاب شيء على المولى تشبيهاً للكتابة الفاسدة بالكتابة الصحيحة؛ فإنها شابهتها في معظم المقاصد، ثم إذا أوجبنا إعطاء شيء ومن موجب الكتابة الفاسدة استحقاق السيد قيمةَ الرقبة، فلو حط من قيمة الرقبة، كفى ذلك عن جهة الإيتاء؛ فإنا وإن جعلنا الأصل الإعطاء، فالإبراء يحل محله، وهذا إبراء عما وجب بسبب الكتابة الفاسدة.
وإذا أعتق الرجل عبده على مال أو باعه من نفسه -كما سنفصل سائر عقود العتاقة من بعد، إن شاء الله- فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا لا نوجب الإيتاء في غير الكتابة، وإنما ظهر تردد الأصحاب في إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة، فأما ما عداها من عقود العتاقة، فلا يجب الإيتاء فيها.
وحكى شيخي عن بعض الأصحاب المصير إلى وجوب الإيتاء في كل عقد عَتاقة فيه عوض، ولا خلاف أن من أعتق عبده من غير عوض لم يلتزم شيئاً، وإن كنا قد نوجب المتعة لكل مطلقة على قول بعيد، فالعتق المنجز لا ينزل منزلة الطلاق.
12532- ثم إنا بعد هذا نتكلم في فصول: منها - وقتُ وجوب الإيتاء، ومنها - الكلام في مقداره، ومنها - الكلام في جنسه.
فأما القول في وقت الوجوب، فالذي ظهر لنا من كلام الأصحاب، فيه مسلكان: أحدهما - أن الإيتاء يجب لحصول (2) العتق، ولكنا نستحب تقديمه عليه حتى يستعين المكاتَب به، ووجه ذلك أن المكاتب إذا عَتَق، فهو بمثابة الزوج (3) تُطَلَّق. وما يؤتيه المولى بُلْغةٌ يضطرب فيها العتيق إلى أن يكتسب مزيداً؛ فإن الغالب أنه يستفرغ ما في يده في النجوم.
__________
(1) في الأصل: " البذل ".
(2) أي لوقت حصول العتق.
(3) كذا: (الزوج) بدون علامة التأنيث، وهي اللغة الفصحى التي جاء بها القرآن، ولكن الفقهاء جَرَوْا على إثبات علامة التأنيث في كتابي النكاح والفرائض خاصة منعاً للبس.(19/384)
والمسلك الثاني للأصحاب - أن الإيتاء يجب قبل العتق، وهذا يعتضد بظاهر القرآن، فإنه تعالى قال: {فَكَاتِبُوهُمْ ... {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33] ، وقد يظهر للناظر أن المقصود الظاهر من الإيتاء الإعانة إما بإعطاء شيء وإما بتخفيفٍ بالحط. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إيجاب الإيتاء وقت العقد على التضييق، حتى تتوجه الطَّلِبةُ به قبل الانتهاء إلى النجم الأخير. [هذا قولنا] (1) في وقت وجوب الإيتاء.
12533- فأما الكلام فيما يتادى به واجب الإيتاء، فقد قال طوائف من الأئمة: يكفي منه ما يتموّل أو يجوز أن يكون عوضاً، فإن زاد، فهو تكرم وذهب ذاهبون إلى أنه لا يقع الاكتفاء بأقل ما يتمول، ومتعلق الأولين أنه [لم يُرَ] (2) في الشرع توقيف يرشد إلى تقدير أو تقريب، أما التقدير، فبين، وأما التقريب، فمثل ما اقتضاه ظاهر قوله تعالى: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] . فتلقى العلماء من المعروف التوسط بين التقليل والتكثير، كما مضى مشروحاً في بابه. والإيتاء ليس مقدراً ولا مقيداً بما يقتضي تقريباً، فإنه تعالى قال: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33] ، ومقتضى {مِن} التبعيض، وإذا نظمنا معناه، كان التقدير (وآتوهم بعض ما آتاكم الله) واسم البعض ينطلق على القليل والكثير.
ومن تمسك بالمسلك الثاني: احتج بأن الإيتاء مأمور به لغرضٍ لا يخرج من (3) الإعانة وتمهيد بُلغة بعد العتق، ومن أنكر ذلك من مقصود الشارع، فهو جاحد، والحبة فما دونها لا تسدّ مسدّاً في إعانة، ولا في بلغة، وليس هذا كالمهر؛ فإن الغرض من إثباته أن [لا] (4) يثبت البضع مجرداً عن مقابل، وهذا يتحقق بما يصح أن يكون عوضاً.
فإن اعتبرنا أقل ما يتمول، فلا إشكال يختص بما نحن فيه، وقد ذكرت في مواضع معنى ما يتمول، ومن اعتبر الغرض، فالأوجه معنى الإعانة، وهذا يختلف
__________
(1) في الأصل: " هذا قوله ".
(2) في الأصل: " لم يزل ".
(3) (من) : بمعنى: (عن) .
(4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.(19/385)
بقلة النجم وكثرته، فإن الحاجة إلى الإعانة تختلف باختلاف المَبالغ، ومن راعى بلغةً بعد العتق، فقد يخطر له تنزيل تلك البلغة منزلة المتعة، ولست أرى ذلك معتبراً، -وإن كنا قد نلتفت إلى المتعة- فإنا لو اعتبرنا ذلك في التفصيل، للزمنا إيجابُ الإيتاء في العتق المنجّز.
[ثم إذا راعينا الغرض، فلا ندري لذلك مردّاً يُرجع إليه إلا أن يجتهد القاضي] (1) عند فرض نزاع، ولا معدل عن هذا إذا تُصور اختلاف بين السيد والعبد. فإن قيل: فالقاضي إلى ماذا يرجع مع العلم [بأن] (2) الاحتكام لا سبيل إليه، قلنا: يرجع إلى ما له أثر في الإعانة، وعدمُه يورث تضييقاً أو كلفة. وهذا يختلف بقدر النجم وقوة العبد، وإن غيرنا العبارة قلنا: المقدار الذي يفرض العجزُ بفقدانه، ويترتب التعجيز عليه هو المُغني المؤثر، ثم مستند النظر فيه حدسٌ وتخمين، والمعلوم منه أن المكاتب على عشرة آلاف في سنتين لا يغني عنه حط المائة شيئاً، فما نستيقن أنه لا وقع له لا يكفي، وما نستيقن له وقعاً كافٍ، وما نتردد فيه فقدر التردد محتمل يتعارض فيه بقاء الإيتاء وبراءة ذمة المولى، ويلتحق بأطراف تقابل الأصلين. والذي نستيقن وَقْعَه يشتمل على زيادة قطعاً. هذا منتهى الإمكان في ذكر المقدار.
12534- فأما الكلام في الجنس، فإن حط من نجمٍ، جاز، وإن أعطى من عين ما أخذ جاز، وإن أعطى من مالٍ آخر غيرِ مجانس لما أخذ، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين فيه: أحدهما - أنه يتعين الإعطاء من عين ما أخذ؛ تعلقاً بقوله تعالى: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33] ، وهذا محمول عندنا على النجوم، وهي من مال الله في هذه الآية.
ثم قال الشيخ أبو علي: لو آتى من غير جنس النجم، لمِ يعتد به، وشبّه هذا بإخراج الدراهم من الدنانير في الزكاة، من حيث إن الإيتاء قُربة تثْبتُ تعبداً، وهي أبعد
__________
(1) عبارة الأصل: " ثم إذا راعينا الغرض، فلا ندري ذلك يرجع إليه إلى أن يجتهد القاضي " وهي كما ترى غير مستقيمة، والمثبت من تصرف المحقق؛ إقامةً للعبارة، ورعاية للسياق.
(2) في الأصل: " فإن ".(19/386)
عن المعني من الزكوات (1) ؛ إذ يتعلق بها سدّ الخلات، وهو معنىً كلّي تدركه العقول [بمباديها] (2) ، ثم غير الجنس لا يجري فيها.
ووجدت في كلام بعض الأئمة ما يدل على أن غير الجنس يجزىء، لأن هذا ملتحق بالمعاملات، فلا يُنحى به نحو العبادات.
ثم ما أراه أن ما ذكر الشيخ وحكى الوفاق فيه معناه أن السيد لو جاء به لم يجبر المكاتب على قبوله، فأما إذا قبله المكاتب، واعتاض عن حقه، جاز ذلك. وقد نقول: إذا منعنا نقل الصدقة وانحصر المستحقون أن لهم أن يعتاضوا عروضاً عن حقوقهم.
12535- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا لم يبق من النجوم إلا المقدارُ الذي لو حطه أو أعطاه، لكان كافياً، فقد قال الأئمة: لا يَسْقُط ذلك المقدارُ، فإنا وإن جعلنا الحط أصلاً، فللمولى أن يؤتي بدلاً عنه، هكذا ذكر الأئمة. وقالوا: يرفعه المكاتب إلى الحاكم حتى يرى رأيه، ويفصلَ الأمر في ذلك؛ وإن امتنع أجبره على منهاج الحق.
وإن جعلنا الإيتاء أصلاً، فقد قال القاضي: إذا بقي على العبد المقدارُ الذي لا اكتفاء بدونه، ولم يجده العبد، فللمولى أن يعجّزه، ثم في تعجيزه إياه، وعوده رقيقاً سقوطُ الإيتاء، وارتفاع العقد من أصله؛ وهذا عندي غيرُ صحيح؛ فإن المكاتب إن وجب عليه ما بقي، فعلى السيد مثله، ونحن قد نقول في مثل هذا بالتقاصّ، وأيضاً - فإن الإيتاء إنما شرع حتى لا يَعْجِز العبدُ بهذه البقية، وإذا شهد أخصُّ مقاصد الحكم في أمرٍ، لم تَسُغ مخالفتُه.
فقد انتظم أنا إن جعلنا الأصل الحط، فلا تعجيز، وإن جعلنا الأصل الإيتاء، فقد نقل عن القاضي التعجيز، وهو عندي وهم من الناقل. والوجه ما ذكرته، ويبعد كل
__________
(1) أي أن الإيتاء في النجوم أقرب إلى التعبد، وأبعد عن التعليل من الزكوات، فكان تعين الإعطاء من عين ما أخذ لهذا.
(2) مكان كلمة تعذرت قراءتها، حيث رسمت هكذا " بماديها ". (انظر صورتها) .(19/387)
البعد أن ينتهي التفريع التقديري الآيل إلى اللفظ إلى منتهى يناط به إثباتُ تعجيز ونفي تعجيز.
12536- ثم قال الشافعي: " ولو مات المولى بعد قبض جميع النجوم قبل الإيتاء، استحق العبد في تركته ... إلى آخره " (1) .
الوجه أن نذكر فقه الفصل، وما لا يجوز اعتقاد خلافه في قاعدة المذهب، ثم نذكر النص، والإشكال في فحواه، واضطراب الأصحاب بحسبه.
فأما ما يجب التعويل عليه، وهو أن الإيتاء حق مستحق، إذا عتق المكاتب بتأدية جميع النجوم، صار ما يستحقه ديناً، فإذا مات المولى قُدِّم ما يستحقه العتيق على الوصايا وحقوق الورثة كسائر الديون، وإن كثرت الديون، ضارب المكاتَب أصحاب الديون.
فإذا تبين هذا - فقد قال الشافعي فيما نقله المزني: " حاصّ المكاتَب الذي عتق أهلَ الوصايا " (2) ، وهذا يُشكِل، لما نبهنا عليه، واضطربَ رأي الأصحاب في هذا النص اضطراباً جرّ خبالاً عن أصل المذهب.
فحكى العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن واجب الإيتاء في مرتبة الوصايا، والديونُ مقدمة عليه؛ فإن الإيتاء مكرُمة وإن وجبت، وقال الشيخ أبو حامد: الوجوب في الإيتاء ضعيف، ورمز إلى ضعف متعلق المذهب في ذلك.
وهو غير سديد مع وجوب الإيتاء، والأصول لا تصَادم بأمثال هذا، ولو قدّمنا ديناً على دين، فقد نجد له نظيراً، فأما إيقاع الإيتاء في مرتبة الوصايا، فلا اتجاه له، ولا شك أن هذا القائل يقول: إذا ضاق الثلث، فلا مزيد، وهذا على نهاية البعد.
والوجه الثاني للعراقيين - أن ما يراه القاضي باجتهاده، فالقول فيه أن المتمول منه دين، والزائد عليه -وإن أوجبناه- في رتبة الوصايا، وهذا كقولنا فيمن أوصى
__________
(1) ر. المختصر: 5/276. وعبارة المختصر بنصها: " ولو مات السيد، وقد قبض جميع نجوم الكتابة، حاصَّ المكاتب بالذي له أهل الدين والوصايا ".
(2) ر. المختصر: السابق نفسه: العبارة ذاتها.(19/388)
بإحجاج رجل عنه من بلده وكان حَجُّ الإسلام دينا عليه، فمقدار أجر العمل من الميقات دينٌ، والزائد عليه وصية.
وهذا أيضاً ليس بشيء، فإن القاضي إذا أثبت واجباً، فليكن ديناً، وليس له أن يزيد على مقدار الواجب، ولا ينبغي للفقيه أن يحيد عن المسلك المستقيم ويُصغي إلى التخييلات، فالمذهب المقطوع به ما ذكرناه.
وتأويل النص أن المولى لو كان قدَّر مبلغاً في الإيتاء، ورأيناه أكثر من قدر الكفاية، فالزائد على قدر الكفاية في رتبة الوصايا، وفرض هذا فيه أولى من إضافته إلى القاضي.
ومما يجب أن يعتقده من ينتحل مذهب الإمام المطلبي أنه يبني فرعه على أصول الشريعة، وقد صح في منصوصاته أنه قال: إذا بلغكم عني مذهب، وصح عندكم خبر على مخالفته، فاعلموا أن مذهبي موجَبُ الخبر، والظن به أنه لو زل قلم ناسخ عنه عن أصلِ أنّ مذهبه موجَبُ الأصل، وما نُقل محمول على تحريف أو غفلة.
فصل
قال: " وليس لولي اليتيم أن يكاتب عبده ... إلى آخره " (1) .
12537- ليس لمن يلي أمر الطفل، قريباً كان، أو قيماً، أو قاضياً، أن يكاتب مملوكَ الطفل؛ فإن المكاتبة في حكم التبرع المحض؛ من حيث إنها إعتاق الرقبة بكسبٍ، لو اطرد الملك، لكان ملكاً للطفل.
وعند أبي حنيفة (2) لولي الطفل أن يكاتب عبده.
وليست الكتابة في معنى بيع مال الطفل نسيئة من مليء وفيّ على شرط الغبطة، مع الاستيثاق، كما تقدم في كتاب البيوع؛ فإن ذلك يعد مجلبةً للمال، ومكسبةً فيه، بخلاف المكاتبة، وسأذكر في تبرعات المكاتب قولاً جامعاً، فيما نعتبر في كل تبرع، ثم في حق كل واحد.
__________
(1) ر. المختصر: 5/276.
(2) ر. مختضر اختلاف العلماء: 4/415 مسألة: 2104.(19/389)
12538- ثم قال: " ولو اختلف السيد والمكاتب تحالفا ... إلى آخره " (1) .
ولو اختلفا في قدر النجوم وجنسها، أو في مقدار الأصل، تحالفا، ثم إن جرى ذلك قبل العتق، انفسخت الكتابة، أو فسخت، وينقلبُ المكاتب إلى الرق، ويخلص للسيد ما قبضه.
وقد يفرض الاختلاف بعد حصول الوفاق على الحرية، وذلك بأن يدعي السيد الكتابة بألفين، وقال العبد: بل كانت بألف، وكان قد سلم إلى سيده ألفين، وزعم أنه سلم أحدهما عن مال الكتابة، وسلّم الآخر وديعة، وقال السيد: بل سلمتَهما عن جهة الكتابة، فالعتق متفق عليه لا مرد له، وموجَب الانفساخ أن يرد المولى الألفين، ويرجع على العبد بقيمته.
فصل
قال: " ولو مات العبد، فقال سيده: قد أدى إليّ كتابته ... إلى آخره " (2) .
12539- إذا تزوج المكاتب معتَقَةً، فأتت منه بأولادٍ، فلا شك أنهم أحرار، لأن الحرة لا تلد إلا حراً، وعليهم الولاء لمولى الأم، فإذا عتق المكاتب، انجر ولاء الأولاد إلى معتِقه، فلو مات المكاتَب واختلف السيد وموالي الأم، فقال السيد عَتَق مكاتَبي قبل أن مات، وانجر إليّ ولاء الأولاد، وقال موالي الأم: بل مات رقيقاًً، والولاء على الأولاد مستدام لنا، فالقول قول موالي الأم؛ فإن الأصل استمرار الولاء، وبقاء الرق في المكاتب إلى الموت.
فصل
قال: " ولو قال: استوفيت مالي على أحد مكاتَبيَّ، أقرع بينهما ... إلى آخره " (3) .
12540- إذا كاتب عبداً في صحته، ثم اعترف في مرض موته بأنه قبض منه
__________
(1) ر. المختصر: 5/276.
(2) ر. المختصر: 5/276.
(3) ر. المختصر: 5/276.(19/390)
النجوم، فإقراره مقبول والحكم به نافذ؛ فإنه أقر بما لو أنشأه في مرض الموت يصح منه، وإقراره للمكاتب في معنى الإقرار للأجنبي، وليس كالإقرار للوارث.
12541- ولو كان كاتب عبدين في صحته، ثم قال: استوفيت مالي على أحدهما، فهذه المسألة لا اختصاص لها بالمرض والإقرار فيه، وحكمها أنه إذا أَبهم الإقرارَ، كان مطالباً بالبيان، مرفوعاً إلى مجلس القاضي، كما تمهد ذلك في نظائر هذه المسألة في إبهام الطلاق والعتق، فلو أبهمَ ثم عيّنَ، وقال: إني استوفيت نجومَ هذا، فيعتق الذي عيّنه، ولا تنقطع الطّلبة من جهة الآخر، فأقله أن يدّعي عليه، ولتكن دعواه: " إنك استوفيت نجومي "، فإذا ادعى كذلك، فالقول قوله (1) مع يمينه وبقي (2) الاستيفاء، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، رُدت اليمين على المكاتب، فإن حلف، حكمنا بعتقه، وقد عَتَق الأول بالإقرار.
ولو قال المكاتب الثاني: عنيتني بالإقرار الذي أبهمته، فالأصح أن دعواه مردودة على هذا الوجه؛ فإنه ليس يدعي حقاً ثابتاً، وإنما يدعي إخباراً، قد يكون صدقاً، وقد يكون كذباً، ولا اختصاص لما ذكرناه بهذه المسألة، بل لو ادعى إنسان على أحد، وقال: قد أقررتَ لي بألف، فالذي ذهب إليه المحققون أن الدعوى على هذا الوجه لا تسمع؛ فإنه لم يدع لنفسه حقاً. نعم، لو ادعى ألفاً، وأقام بينة على إقرار المدعى عليه بالألف، لكان ذلك منتظماً مفيداً يحصّل الغرض.
ولو مات هذا الذي أَبهم إقراره قبل البيان، طالبنا الورثة بالبيان. ولكن اليمين المتوجهة عليهم عند التداعي تكون على نفي العلم، فإذا حلفوا لا يدرون من عيّن موروثهم من المكاتبَيْن، انقطعت الخصومة عنهم.
ثم في المسألة قولان في أنا هل نقرع بين المكاتَبين؟ أشهرهما - أنا نقرع بينهما (3) ، والقول الثاني - أنا لا نقرع، حكاه الصيدلاني (4) .
__________
(1) قوله: أي السيد.
(2) (وبقي) : أي إذا حلف المولى تستمر الكتابة ويبقى استيفاء النجوم.
(3) لأنه عتقٌ استبهم، والقرعة وردت في العتق.
(4) لأنه دين استبهم، ولا قرعة في هذا.(19/391)
توجيه القولين: من منع الإقراع احتج بأنه لو كان له غريمان، وهو يستحق على كل واحد منهما مقداراً من الدين، فقال: استوفيت ما كان لي على أحدهما ومات قبل البيان، ولم يبين الورثة، فلا إقراع، فالإقرار باستيفاء النجوم بهذه المثابة.
ومن أقرع، احتج بأن قال: المطلوب العَتاقة، والاستيفاء يقع ضمناً، والقرعة تجري في استبهام العتق.
فإن جرينا على إجراء القرعة -وهو الأصح- هان التفريع، وإن فرّعنا على أن القرعة لا تجري، فالذي يقتضيه ظاهر القياس الوقفُ إلى اصطلاحٍ، أو بيانٍ، أو قيامِ بينة.
وقد ينقدح في التفريع على هذا القولِ الضعيف أن يقول الوارث: قد امتنع المكاتبان جميعاً، وإنما العتيق أحدهما بحكم إقرار المولى، والامتناع يثبت حق الفسخ، فلو قال: فسخت الكتابة فيكما، لم يمتنع نفوذ الفسخ في الكتابة الثانية في علم الله تعالى، وجاز أن يقال: هذا بمثابة ما لو قال من له حق التعجيز: للمكاتَبِ وعبدٍ قنٍّ معه أو حُرٍّ: عجزتكما، فالتعجيز ينفذ على من يقبل التعجيز، ويلغو في الآخر، ثم ترتب على ذلك أن أحدهما (1) حر، والثاني رقيق، وقد استبهم الأمر، فيقرع (2) بينهما.
وفي أصل المسألة غائلة عظيمة، وهي أن من أعتق عبداً من عبدين على التبيين، ثم استبهم الأمر، فلا يقرع، وإنما الإقراع في موضعين: أحدهما - أن المريض إذا استوعب التركة بالإعتاق، واقتضى الشرعُ إرقاقَ بعض العبيد وإعتاقَ بعضهم، فهذا أصل القرعة ومحلها، وفيه ورد حديث عمران، والمحل الثاني للقرعة أن يبهم السيد الإعتاق، ولا يعين بقلبه ويموت، فالإقراع يعمل إذا لم يَقُم الوارثُ مقام الموروث، على ما فصلناه في بابه.
فأما إذا تعيّن العتق وقوعاً، ثم استبهم، فلا جريان للقرعة، والحالة هذه،
__________
(1) أحد المكاتبين في أصل المسألة، وليس في المثال المضروب لبيان إلغاء العبارة فيما لا تصح فيه.
(2) أي أن الوارث فسخ الكتابة فيهما، وأحدهما لا بعيانه حرٌّ بإقرار المورّث، فيقرع الوارث بينهما.(19/392)
ولا انفصال عن هذا السؤال، لا بتخريجه على أصلٍ قدمناه، وهو أن المريض إذا أعتق عبداً، ثم عبداً، وتحققنا التقدم، واستبهم عينُ المتقدم، ففي الإقراع قولان، قدمنا ذكرهما، وبنيناهما على نظيرهما في الجمعة والنكاح، وهما جاريان حيث نعلم المتعيّن ونيئَس من الوصول إلى دركه.
فنعود بعد هذا التنبيه إلى المسألة ونقول: من أجرى القرعة، فهو مفرع على أحد القولين، ومن منع القرعة لأجل أن القرعة لا تجري في الاستيفاء، فلو صح التعجيز كما صورناه، التحق هذا بالقولين في أن القرعة هل تجري في مثل هذا المقام [وهذا نهاية] (1) كشف المسألة.
12542- ثم قال: " ولو ادعى أنه دفع، أُنظر يوماً ... إلى آخره " (2) .
إذا ادعى المكاتب أنه سلّم النجوم، وأنكر السيد، فالقول قول السيد، فإن قال المكاتب: إن لي بينة، أنظرناه يوماً، فإن استزاد، فمنتهى مدة الانتظار ثلاثة أيام، فإن لم يقم بينة، ولم يؤذ النجم عجّزه المولى، ثم يكفيه إقامةُ شاهدٍ وامرأتين؛ فإنه يبغي إثبات تسليم مال.
ولو كان يريد إثبات تسليم النجم الأخير الذي يستعقب أداؤه العتقَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنّه لا بد من عدلين، ولا يقبل شاهد وامرأتان؛ فإن المقصود والأغلب في النجم الأخير إثبات العَتاقة، وهذا قد سبق في كتاب الشهادات موضحاً.
فصل
قال: " ولو أدى كتابته، فعتق، وكان عَرْضاً ... إلى آخره " (3) .
12543- نجم الكتابة لا يكون إلا ديناً، وكل دين ثبت في عقد، فاستوفاه مستحقه، ولم يجده على النعت المستحَق، ردّه، ولا يرتد العقد برّه، ولكنه يعود
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 5/276.
(3) ر. المختصر: 5/276.(19/393)
إلى طلب حقه، ثم إن كان ما قبضه من غير جنس حقه، فالرضا به لا أثر له، وهو على حقه، وما قبضه لم [يملكه] (1) ، إلا أن يعتاض عن حقه ما قبضه، حيث يجوز الاعتياض.
ولو كان ما قبضه من جنس حقه، ولكن كان به عيبٌ، فإن رضي به، استمر الملك فيه، وإن رده، وأراد حقه الموصوفَ، فهل نقول: جرى ملكه فيما قبضه، ثم انتقض بالرد، أم نقول -إذا رد- تبيّنا أنه لم يملكه؟ فعلى قولين بنينا عليهما مسائلَ في البيع: منها - أن عقد التصارف لو ورد على الذمة، ثم جرى التسليم والتسلُّم في المجلس، وحصل الافتراق بعد ذلك، فوجد أحدهما بما قبضه عيباً، وردّه، فإن قلنا: ملك ما قبض، فالعقد (2) صحيح؛ فإن التفرق كان على ملك العوضين. وإن قلنا: نتبين أنه لم يملكه، فالعقد فاسد؛ فإن المتعاقدين تفرقا قبل التقابض.
ومما يبتني على هذا الأصل أن من أسلم في جاريةٍ، ثم قبض الجاريةَ، فلم يجدها على الصفات المذكورة؛ إن رضي بها، استمر العقد، وإن ردها، فالعقد قائم، وهو يطلب الجارية التي يستحقها، ولكن هل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدت عليه؟ فعلى القولين: فإن قلنا: ملكها قابضها، ثم زال الملك، استبرأها المسلَم إليه، وإن قلنا: لم يملكها، فالمسلم إليه لا يستبرئها؛ وقد تبين استمرار ملكه فيها.
ومما نُجريه في اطراد هذا الأصل -قبل الخوض في مقصود الفصل- أن من قبض موصوفاً -كما ذكرنا- ولم يكن على الصفات المشروطة، ورضي به، فمتى يحصل ملكه؟ هذا بعينه ما قدمناه، ففي قولٍ يحصل الملك عند الرضا، وفي قول يحصل الملك بالقبض، ويتأكد بالرضا.
وتتمة الكلام في ذلك أن من اشترى عيناً وقبضها، واطلع على عيب قديم بها، فحق الرد فيها على الفور، كما ذكرناه في كتاب البيع. وإذا قبض موصوفاً في الذمة، ولم يكن على كمال الصفة، واطلع على ذلك، فإن قلنا: إنه لا يملك بالقبض ما لم
__________
(1) في الأصل: " يملك ".
(2) ت 5: " فالملك ".(19/394)
يرض، فلا شك أن معنى الفور لا يتحقق، بل الملك موقوف على الرضا متى كان، وإن قلنا: يحصل الملك بالقبض، فاطلع على النقص، فيجوز أن يقال: حق الرد على الفور، والأوجه أنه ليس على الفور، وإن حكمنا بحصول الملك بالقبض؛ لأنه ليس معقوداً عليه، وإنما يثبت الفور فيما يؤدي رفعه إلى رفع العقد محاماة على بقاء العقد. فهذا مقدار غرضنا في مقدمة الفصل.
12544- ونحن نعود بعده إلى الغرض، ونقول: إذا قبض السيد النجم الأخير مثلاً، ولم يكن على الصفة المطلوبة، والمجلس جامع، ولو فرض الرضا والتساهل، لاستمر الملك، ونفذ العتق، فلا يخلو إما أن يرضى وإما أن يبغي الرد، فإن رضي، حصل العتق.
واختلف الأصحاب في وقت حصوله، فمنهم من قال: يحصل العتق عند الرضا، ومنهم من قال: يحصل العتق بالقبض، ولا يعسر على الفطن تلقي هذا مما مهدناه.
وإن [كان] (1) اطلع وأراد الرد والاستبدال، فهل نحكم بحصول العتق، أم كيف السبيل؟ هذا يبتني على القولين المذكورين في أنا هل نحكم بحصول الملك بالقبض، ثم نقضي بانتقاضه في المقبوض الموصوف، فإن قلنا: لا نحكم بالملك، بل نتبين أنه لم يحصل أصلاً. فإن قلنا: نتبين أن الملك لم يحصل (2) ، فالعتق غير حاصل، وإن قلنا: ارتد العتق، كان توسعاً وتساهلاً في الكلام، بل لم يحصل أصلاً. والمعنيّ برده الحكمُ بانتفائه أصلاً، وهذا متجه بيّن.
وإن قلنا: يحصل الملك في المقبوض، فلا ينسدّ على المولى باب الرد باتفاق الأصحاب، ولكن اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إذا ردّ، تبيّنا أن العتق لم يحصل. وهذا هو الذي لا يستقيم على قاعدة المذهب غيره؛ فإن العتق لو حصل، لامتنع ارتداده؛ إذ ليس هو من التصرفات التي يتطرق النقض إليها.
فإن قيل: إذا حكمتم بالملك في المقبوض، فلِم لَم تقضوا بنفوذ العتق؟ قلنا:
__________
(1) زيادة من (ت 5) .
(2) كذا في النسختين، وكأني بالجملتين، تغني إحداهما عن الأخرى، فالتكرار فيهما واضح.(19/395)
لأن العتق يحصل في الكتابة الصحيحة بقضية المعاوضة، والعتق مقابَل بملكٍ لازم متأكد، لا يتطرق إليه إمكان الرفع والقطع، فإذا ردّ، تبينا أن العوض على مقتضى العقد لم يَجْر فيه ملك، والعتق لا يكتفى في حصوله بجريان ملك جائز على عوض ناقص.
ومن أصحابنا من قال: ينفذ العتق على الجواز، كما حصل الملك في العوض على الجواز، فإن حصل الرضا، لزم الملك والعتق، وإن اتفق الردُّ، ارتد العتق بعد نفوذه، وهذا ضعيف لا أصل له، ولكن حكاه القاضي وزيّفه، وقد نجد له نظيراً في تفريعات العتق في العبد المشترى في زمان الخيار، ولا أحد يصير إلى تنفيذ العتق على اللزوم.
ومما يتصل بهذا الفصل أن القابض لو تلف ما قبضه، ثم اطلع على ما كان به من نقص، فإن رضي به، فقد قال الصيدلاني: ينفذ العتق، فإن لم يرض به وأراد الرجوع إلى الأرش، فنتبين أن العتق لم ينفذ.
هكذا قال الأئمة، حتى إن فرض عجز عن تأدية الأرش، فللمولى أن يعجّز المكاتب به، كما يعجزه بالعجز عن مقدارٍ من النجوم.
12545- وفي هذا مزيد بحث يستدعي تقديمَ أصل في ذلك. فنقول: من اشترى عيناً وتلفت في يده، واطلع على عيب، فالرضا والإغضاء إبراءٌ عن حق ثابت أم لا؟ ما دلّ عليه فحوى (1) كلام الأئمة أنه لا حاجة إلى إنشاء الإبراء، والرضا كافٍ، وتعليله أن الأرش في حكم العوض عن حق الرد، ثم حق الرد يكفي في [سقوطه] (2) الرضا، فليكن الأرش بمثابته، وإن طلب الأرشَ، تقرر حقه، ثم لا يسقط ما لم يسقطه، ولا يخفى أن طلب الأرش ليس على الفور، وإنما الفور في الرد.
فإذا تبين هذا في العين المبيعة المقبوضة إذا تلفت، فلو كان المقبوض عينَ ملتزم في الذمة، فإذا فات في يد القابض، فالذي ذكره الأئمة أنه إن رضي، استمر العتق، ولا إشكال.
__________
(1) ت 5: " مجرى ".
(2) في الأصل: " سقوط ".(19/396)
ومتى يحصل العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحصل عند الرضا. والثاني - أنا نتبين حصوله مستنداً إلى القبض، وهذا يناظر ما قدمناه من الرضا بالعيب عند بقاء العين، وإن لم يرض وطلب الأرش، تبين أن العتق لم يحصل، وقد يخرج الوجه الضعيف الذي حكيناه في أن العتق يحصل، ثم يرتد.
فإذا تمهد هذا، فالكلام بعده في الأرش، وقد اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: الأرش نقصان العين المقبوضة، حتى إن كان النقصان عُشراً، رجع بمثل عُشر ما قبض. ومن أصحابنا من قال: الأرش هو الرجوع بمثل نسبة ذلك النقص من الجانب الثاني. فإن كان عُشراً رجع بعُشر قيمة العبد، وهذا قياس الأروش في المعاوضات، كما مهدناه في كتاب البيع على الاستقصاء.
هذا ما ذكره الأصحاب.
فنوجّه الوجهين الأخيرين، ثم نذكر إشكالاً وجواباً عنه:
أما من أثبت الرجوع بجزء من قيمة العبد، فوجهه الجريان على قياس الأرش في البيع وغيره من المعاوضات. ومن لم يسلك هذا المسلك قال: المقبوض عن ملتزم ليس ينتصب ركناً، ولذلك لا يرتد العقد برده، فلا يسترد في مقابلة نقصه [جزءاً] (1) من العوض، كما لا يسترد المعوَّضَ إذا كان [باقياً] (2) عند ردّ العوض المعين.
وأما الإشكال، فلو قيل: إيجابُ جزء زائد في المقدار في مقابلة الصفة المعدومة تغييرٌ لتقدير العوض، وإن رجعنا في جزء من قيمة رقبة المكاتب، فهذا لا يليق بالكتابة الصحيحة؛ فإن الرجوع بقيمة الرقبة إنما يثبت عند فساد الكتابة، وتمام ذلك أنه لو قيل: يغرم هذا الذي قبض النجم مثلَ ما قبضه (3) ، ويطالب بالمسمى الموصوف، لكان أمثل مما قدمنا ذكره، سيّما إذا قلنا: القبض لا يملِّك ما لم يثبت الرضا، ثم قلنا: إذا ثبت الرضا، حصل الملك عنده. ولم يتعرض أحد من
__________
(1) في الأصل: " مجزوءاً "، والمثبت من (ت 5) .
(2) في الأصل: " نافياً ".
(3) أي يرد السيد ما قبضه من بدل النجم، ويطالب بالنجم السليم. كما عبر بذلك العز بن عبد السلام.(19/397)
الأصحاب لذلك. ولعلهم رأَوْا أن التلف إذا اتصل بالمقبوض، جرى الملكُ فيه لا محالة، وإنما يجري القولان إذا كانت العين قائمة.
ثم على هذا ذكروا وجهين في الأرش، كما قدمنا ذكرهما، وما وجهنا به كلام الأصحاب ليس بقاطع، والاحتمال الذي ذكرناه باقٍ، وهو يجري في قبض كل موصوف، فأما ما ذكرناه من الإشكال في الوجهين الذين ذكرهما الأصحاب، فلا يخفى الانفصال عنه: أما الزيادة في المقدار على وجهٍ، ففي مقابلة نقصان الصفة، وأما تقدير قيمة جزء من العبد، فهو على مذهب فوات المعوَّض، ويكثر نظير ذلك في المعاوضات.
وقد نجز الغرض، وتم النقل والتنبيه على وجوه الإشكال.
12546- ونحن نأخذ بعد هذا في فصلٍ يقرب مأخذه مما ذكرناه، فنقول: إذا قبض السيد النجمَ، فخرج مستحَقاً، وتبين أنه لم يكن للمكاتَب، فلا شك أن المقبوض مردود، والعتق غير حاصل؛ فإن حصوله موقوف على ثبوت الملك في المقبوض؛ والمستحَق لا يملكه القابض. وفي ذلك نظر وبحث، فنبيّنه في أثناء الكلام.
ولو قال المولى لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال: قبلت، ثم جاء بألف مغصوب، فالعتق قد وقع بالقبول، وطلبُ الألف بعد وقوع الحرية، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فإذا قبلت وكانت مُطْلَقة (1) ، وقع الطلاق، وهذا في الكتابة لا يتحقق؛ فإن القبول فيه لا يفيد العتاقة، بل لا بد من رعاية أحكام وقضايا، وبعد جميعها العتاقةُ.
ولو قال لمكاتَبه كتابة فاسدة: إن أديت ألفاً، فأنات حر، فلو جاء بألف مغصوب، فهل تحصل الحرية؟ فعلى قولين، وقد ذكرنا في نظير ذلك من الطلاق أن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، فجاءت بألف مغصوب، ففي وقوع الطلاق الخلاف، كما تقدم في الخلع.
__________
(1) مطلقة: أي غير محجورة.(19/398)
وسبب الخلاف أن الإعطاء من وجه يقتضي تمليكاً، فينبغي أن يكون الألف المعطى (1 بحيث يتصور من المعطي تمليكه، ولا يقتضي تمليكاً من وجه آخر؛ فإن المعطى 1) في الطلاق وفي الكتابة الفاسدة مسترد (2) ، ويجب الرجوع إلى غيره (3) عند قرار الغرم. فإذا كان كذلك، فلا أثر لكون الألف المُحضَر مما يتأتى التمليك فيه.
والضابط في الفصل أن الخلع إذا كان وارداً على التزام شيء في الذمة، اكتفي بالقبول الآتي جواباً عن الإيجاب، والطلاقُ يقع بالقبول نفسه، ولا أثر لكون الدراهم مغصوبة أو مستحقة، وإذا كان الخلع مُورداً على الإعطاء، مثل أن يقول: " إن أعطيتني "، فهل يشترط كون الدراهم مملوكة؟ فيه الاختلاف، ونظير ذلك من الكتابة، الكتابةُ الفاسدة؛ فإن عمادها التعليق، ووجهه أن يقول المولى للمكاتب: إن أعطيتَ كذا، فأنت حر، فتقع الكتابة على فسادها مناظِرة للخلع الوارد على الإعطاء، وإن صحت الكتابة، فمن ضرورتها ورودها على الذمة، فهي في الظاهر تناظر الخلع الوارد على الذمة، ولكنها تفارقه؛ من جهة أن الفراق يتعلق في الخلع بالقبول، ثم طلبُ العوض يقع وراء البينونة، والعتق لا يقع في الكتابة بالقبول، بل يقع بحصول الغرض في العوض على مقتضى المعاوضة، لا على اعتبار تحقيق التعليق. وهذا تفصيل هذه المسألة.
12547- ثم موجب ما ذكرناه [في] (4) الكتابة الصحيحة أن العوض المقبوض إذا خرج فيها مستحَقاً، فلا وجه للحكم بحصول العتق، وإن نحن أجرينا الحكم به ظاهراً، فالباطن مخالف للظاهر، وإذا ظهر الباطن، تبينا أن لا عتق ظاهراً، وزال ما كنا نظنه، وليس هذا كالرضا بالعيب؛ فإنه ممكن، واستقرار العوض به مُتصوّر.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(2) وذلك لأن فساد العوض في الخلع، وفساد الكتابة، يقرب عليه ردّ المقبوض عوضاً، والرجوع إلى مهر المثل في الخلع، وإلى قيمة العبد في الكتابة.
(3) غيره: أي مهر المثل، وقيمة العبد، كما أشرنا في التعليق السابق.
(4) في الأصل: " من ".(19/399)
وإنما أطلت الكلام في تفصيل هذه المسائل على ظهورها، لأن كلام الأصحاب يُلفى مختلفاً. وصاحب التقريب ينقل نصوصاً، بعضها في الكتابة الصحيحة، وبعضها في الفاسدة، وهي تعتمد التعليق، كالخلع الوارد على الإعطاء، فليردّ (1) المطلعُ على النصوص المختلفة تلك النصوصَ على التفاصيل التي ذكرناها، فلا وجه غيرها قطعاً.
ثم تمام الكلام أن المولى إذا قبض ما حسبه عوضاً، وقال بحسبه للمكاتب: قد عَتَقت، أو أنت حر، فإذا خرج المقبوض مستحَقاً، فقال المكاتب: أنت مؤاخذ بإقرارك، وقد قلت: إنك حر، فكيف السبيل في هذا؟
قلنا: القول في ذلك مبني على ما أجريناه في الدعاوى على قربٍ من العهد، فإذا اشترى الرجل عبداً وقبضه، فنُوزع فيه، فقال للمدّعي: لا يلزمني تسليم العبد إليك، فأقام المدعي بيّنة على استحقاقه؛ وتبين بطلانُ الشراء بحسبها، فللمشتري الرجوع بالثمن على البائع، وبمثله لو قال المشتري في أثناء النزاع: هذا العبد ملكي، ثم أفضت الخصومة إلى ثبوت استحقاق المدعي بالبينة؛ فلما أراد المشتري الرجوع بالثمن على البائع، قال البائع: قد أقررت بكون العبد ملكاً لك، ومن ضرورة إقرارك هذا -وقد تلقيت الملك مني- أن تكون معترفاً بأنه كان ملكي إلى أن بعتُه، فلا تملك الرجوع عليّ، ففي ذلك مذهبان: أظهرهما -وبه الفتوى- أنه يملك الرجوع، فإن قوله العبد ملكي مبني على ظاهر الحال، فإذا بيّنت البينةُ استحقاقَ المدعي، وزال الظاهر [المظنون] (2) ، فيزول بزواله قولُ المشتري.
ومن أصحابنا من قال: لا يملك الرجوع على البائع.
12548- عاد بنا الكلام إلى ما نحن فيه، فإذا قال المولى: قد عَتَقْتَ أو أنت حرّ، فهذا مأخوذ مما ذكرناه، فمن أجرى قوله على الظاهر، أبطل أثره عند زوال الظاهر [المظنون] (2) ، ولم نر مؤاخذته بموجب قوله، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي.
__________
(1) ت 5: " فلينزل ".
(2) في النسختين: " المضمون ".(19/400)
ومن قال في مسألة الشراء والنزاع فيه: إن المشتري لا يملك الرجوع على البائع عند ثبوت الاستحقاق، فلا شك أنه لا يدرأ الحرية، وإن ثبت الاستحقاق في المقبوض، ويرى مؤاخذة المولى بقوله؛ من جهة أنه كان مستغنياً عن التلفظ بما ذكر، مع تجويزه خروج ما قبضه مستحقاً.
12549- وقد أورد الصيدلاني -على أنه لا يؤاخذ بموجب لفظه إذا جرى الاستحقاق في مقبوضه (1) - فرعاً في الطلاق، ننقله على وجهه ونبين اختلاله:
وذلك أنه قال: إذا قالت المرأة لزوجها: أطلقتني؟ فقال الزوج: نعم، فهذا إقرار منه بالطلاق ظاهراً، فلو قال بعد ذلك: كنتُ أطلقتُ لفظاً حسبته مقتضياً لوقوع الطلاق، فأجريت إقراري بحسبه، ثم راجعت العلماء فأفتَوْني بأنه لم يكن طلاقاً، قال: هذا مقبول من الزوج، وقد وجدته كذلك في بعض المصنفات.
وفيما نقله الصيدلاني مزيد تأكيد؛ فإنه قال: إذا قال القائل للزوج: طلقتَ امرأتك؟ فقال: نعم طلقتها، ثم ادعى ما وصفناه، فالقول قوله.
وعندي أن هذا وهم وغلط؛ فإن الإقرار جرى مقصودًا بصريح الطلاق، فقبول خلافه حملاً على ظن يدعيه، ويتعارض فيه صدقه وكذبه، محال. ولو فتحنا هذا الباب، لما استقر إقرار بمقَرّ به، وليس هذا كما ذكرناه من إطلاق السيد لفظ الحرية على أثر قبض النجوم؛ فإنه محمولٌ ظاهراً على الإخبار عما يقتضيه القبض، فإذا انتقض القبض، تبعه القول المحمول عليه، على المسلك الظاهر، وليس هذا كما لو سئل الزوج عن الطلاق مطلقاً، من غير إشارة إلى واقعةٍ، ولفظةٍ فأقر المسؤول بالطلاق على الإطلاق، ثم رام فيه تأويلاً وحملاً على ظن ادعاه في لفظ خاص ذكره، ولم يقع السؤال عنه، فلا وجه إذاً إلا القطع بالمؤاخذة في مسألة الطلاق.
ولو قال في الكتابة: حرّرتُكَ، أو أعتقتك، وهو يبغي بذلك تحقيق الغرض، لو فرض استحقاق في المقبوض، كالذي يضم سبباً إلى سبب، طالباً تأكيداً، فهذا لا مردّ له، والمولى مؤاخذ به، وإن خرج العوض مستحَقة.
__________
(1) من هنا بدأ السقط مجدداً في (ت 5) وهو نحو خمس ورقات.(19/401)
فصل
قال: " ولو عجز أو مات وعليه ديون بُدىء بها على السيد ... إلى آخره " (1) .
12550- هذا الفصل نجمع فيه تفصيل المذهب في الديون المجتمعة على المكاتب: عن معاملة، أو جناية، أو نجم كتابة، ونوضح ما نقدّم منها وما نؤخر وننظم اختلاف طرق الأصحاب بعون الله تعالى.
ومقصود الفصل كثيرُ التداور في مسائل الكتاب شديدُ المخامرة لها، فإذا أوضحناه، زالت عنا مؤنةٌ عظيمةٌ، فنذكر أولاً ديونَ السيد إذا انفردت، ثم ننعطف على اجتماع ديون الغير مع دين السيد.
فأما السيد إذا اجتمع له على مكاتبه نجومُ الكتابة، وأرشُ جنايةٍ كانت صدرت منه على السيد، أو على ماله؛ فإن كان الذي في يد المكاتب وافياً بالديون كلها، فلا إشكال، والمكاتب يوفّر حقوق السيد عليه، فلو أدى نجوم الكتابة أولاً، ورضي السيد بتقديمها فيعتِق بأداء النجوم لا محالة، وهل يبقى عليه أرشُ الجناية؟ هذا يُبنى على أن القِنَّ إذا جنى، وتعلّق الأرش برقبته، ثم عتق، فهل يطالب بالأرش، أو بالفاضل منه عن الفداء؟ فيه اختلاف قدمنا ذكره وبنيناه على أن العبد هل له ذمة في الجناية أم لا؟ هذا قولنا في الرقيق.
فأما المكاتَب إذا عتق، ففي بقاء الأرش عليه مسلكان: أحدهما - التخريج على القولين المذكورين في القِنّ. والثاني -وهو الأصح- أن الأرش لا يسقط مذهباً واحداً، فإنه عند ثبوته، اقتضى توجيه الطَّلِبة به على المكاتَب على حسب توجيه الطَّلِبة في ديون المعاملة، فإذا عَتَق، دامت المطالبة، وليس ذلك كما ذكرناه في القن؛ فإنه لم يطالب في استمرار الرق عليه.
هذا إذا رضي السيد بتقديم نجوم الكتابة.
ولو كان الذي في يد المكاتب بحيث لا يفي بالنجم والأرش جميعاً، فقد ذكر
__________
(1) ر. المختصر: 5/276.(19/402)
الصيدلاني في ذلك طريقاً - نحن نطرده على وجهه، وذلك أنه قال: إذا كان الذي في يده وافياً بالنجوم، ولم يكن وافياً بها وبالأروش جميعاً، فلو أراد المولى -وقد تحقق ذلك-[أن يعجِّز] (1) المكاتب؛ بناء منه على علمه بقصور ما في يده عن النجوم والأرش، فليس له تعجيزه، ولكن له أن يقول: أطالبك بدين الجناية أولاً، ولا أقبل منك شيئاً من مال الكتابة، حتى توفر عليّ الأرش كَمَلاً، فإذا استوفى منه أرش الجناية، فلم يبق في يده شيء، أو قَصَرَ ما في يده عن النجم المستحَق الحال، فيعجّزُ السيد حينئذ.
فإن قيل: هلا قلتم أن الخِيَرة إلى المكاتَب في تسليم ما في يده، فله أن يقول: أبدأ بتأدية النجوم، وعلى السيد موافقته فيما يبغيه من [إيفاء] (2) النجوم؛ بناء على ما سبق تمهيده من أن المكاتب إذا جاء بالنجم قبل محِلّه، فيتعين على السيد قبوله؟ قلنا: إنما يجبر السيد على القبول، إذا لم يكن عليه ضرر في قبول النجم قبل المحِلّ، ولو كلفنا السيد فيما نحن فيه قبول النجوم قبل أرش الجناية، لعتق المكاتب، ثم لا يجد السيد مرجعاً على مفلس في أرش الجناية، ففي هذا إسقاط حقه. هذا كلامه.
12551- ثم فرعّ على هذا، وقال: لو أدى المكاتب ما في يده إلى سيده مطلقاً، ولم يتعرض واحد منهما للجهة، فإذا قال المكاتب: نويت به أداء النجوم، وأنكر السيد ذلك، فقد قال الصيدلاني حكايةً عن القفال: إن القول في ذلك قول المكاتب مع يمينه، أنه قصد ذلك، كما لو كان على الحرّ نوعان من الدين، فأدى أحدَهما مطلقاً، ثم زعم أنه أراد به الدينَ الذي به الرهن، ورام فكاكه، فقوله مقبول. هكذا حكاه من قول القفال.
ثم قال الصيدلاني: القياس عندي في مسألة المكاتب، إذا أطلق الأداء أن القول قول السيد أني قبضته عن الأرش، بخلاف سائر الديون؛ فإن الاختيار في هذه الصورة
__________
(1) في الأصل: " أن تعجيز ". والتصويب من المحقق.
(2) في الأصل: " إبقاء ".(19/403)
إلى السيد في قبض ما شاء، فينبغي أن يكون القول قوله، وهذا حسن بناء على ما تقدم.
وحقيقة القول فيه أن العبد لو نوى بأدائه النجومَ، والسيد نوى القبضَ عن جهة الأرش، وأقر كل واحد منهم بصورة الحال من غير نزاع، فالذي ذكره القفال يقتضي أن يقع عما يراه المكاتب، وهو النجم؛ فإنا وإن جوّزنا للسيد المطالبةَ بالأرش ابتداء، والامتناعَ عن قبول غيره، فإذا كان الأداء مطلقاً، فالعبرة بقصد المؤدِّي، وما ذكره الصيدلاني يقتضي أن يكون المؤدى يقع على حسب قصد السيد القابض، والعبرة بقصده في القبض، لا بقصد المؤدِّي.
فعلى موجب ذلك قال القفال: القول قول المكاتب في الإطلاق. وقال الصيدلاني: القول قول السيد، فإذا صدّق كل واحد صاحبه فيما نواه، وحصل التقارّ عليه، فمذهب القفال الرجوعُ إلى نية المكاتب المؤدِّي، وما اختاره الصيدلاني الرجوع إلى نية السيد القابض، وكل ما ذكرته محكي الصيدلاني وطريقه.
وذهب غيره من الأئمة في أصل الكلام إلى أنه مهما (1) علم السيد أن الذي في يد المكاتب قاصر عن الأرش والنجم على الاجتماع، وتحقق ذلك، فله تعجيزه وردُّه إلى الرق، ولا يتوقف جواز التعجيز على أن يأخذ ما في يده عن الأرش.
وهذا متوجه عندي جداً؛ فإنه لو طالبه بالدينين معاً، لكان له ذلك، ثم هو يعجِز لا محالة في قسطٍ من النجوم، وإذا كانت الطَّلِبة يمكن توجيهها بالدينين، ثم من ضرورة ذلك العجز، فينبغي أن يملك التعجيز؛ بناء على طلبهما جمعاً، وعدمِ وفاء ذات اليد بهما، فأما تكليف السيد أن يطالب بالأرش أولاً، ثم يطلب النجوم بعده، فلا وجه له، مع تصوير المطالبة بهما، فهذا مقدار غرضنا الآن في ديون المولى.
12552- فأما إذا ثبتت عليه ديونُ الأجانب، وعلى المكاتب بقيةُ النجوم، فنقول: إذا اجتمع عليه النجم، ودين المعاملة للأجنبي، ودين جناية للأجنبي أيضاً، وليس للسيد إلا النجم، فحسب، فإن كان الذي في يد المكاتب يفي بجميع ما عليه،
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.(19/404)
فلا إشكال، وإن كان لا يفي بجميعها، بل ضاق عنها، نُظِر: فإن لم يحجر القاضي عليه، وكان المكاتب مطلقاً، فأراد أن يقدم ديناً من الديون، فله ذلك، كما يكون ذلك للحر المعسر، الذي أحاطت به الديون، ولا حجر بعدُ، وليس هذا من التبرعات، حتى يمتنعَ على المكاتب؛ فإن تقديم دين على دين ليس بتبرعٍ إجماعاً.
ولو اجتمع غرماء المكاتب، واستدعَوْا من القاضي أن يحجر عليه -ولسنا نعني بالحجر ردّه إلى الرق، وإنما نعني تَفْليسه ليصرف ما في يده إلى غرمائه، على موجب الشرع، ويقصُر يده عن التقديم والتأخير- فإذا اتفق ذلك، وحجر القاضي عليه، فقد قال الشافعي: " إن لم يعجّز المكاتب -على ما سنذكر التفصيل في تعجيزه على أثر هذا إن شاء الله- وقد اجتمع عليه الأرشُ، والنجم، ودين المعاملة، فيقسم ما في يده بالسوية، لا يقدَّم دين على دين، والتقسيط على أقدار الديون ". هذا هو النص.
والذي صار إليه معظم الأصحاب أن دين المعاملة للأجنبي مقدم على النجم، وعلى أرش الجناية -إن ثبت الأرش للأجنبي- فإنه يتعلق دين المعاملة بما في يده، ولا متعلق له سواه أصلاً، ولأرش الجناية متعلق آخر، وهو الرقبة، وكذلك حق السيد عند العجز يتعلق بالرقبة، فإن المكاتب يرتد رقيقاًً، فصاحب دين المعاملة مقدم.
ثم أرش الجناية على الأجنبي مقدم على النجم أيضاً؛ فإن أرش الجناية ألزمُ، والنجم بعرض السقوط مهما (1) شاء المكاتب، وأيضاً فإن أرش الجناية على الأجنبي أقوى من حق مالك الرقبة؛ فإن العبد إذا جنى بِيع في الجناية، إن لم يَفْده السيد.
فهذا ما ذكره الأصحاب.
وقد حكى صاحب التقريب هذا. ثم قال صاحب التقريب: الأصح عندي الجريان على ظاهر النص، وهو أن ما في يده يقسم على النجم، والأرش، ودين المعاملة، على أقدارها ومبالغها؛ فإن جميع الديون متعلقة بما في يده، بدليل أن كل واحد لو
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.(19/405)
انفرد، لتعلق به، والجناية إنما تتعلق بالرقبة إذا لم يكن في يده كسب؛ فينبغي أن يتضاربوا.
هذا اختيار صاحب التقريب. وهو ظاهر النص، وفيما حكاه العراقيون، إشعار بمصير بعض الأصحاب إلى موافقة النص، كما حكيناه، وسنذكر في التعجيز كلاماً على الاتصال.
12553- وإذا عجّز المكاتب نفسه، فلا شك في سقوط النجم بالتعجيز، فإذا بقي في يده من كسبه شيء، وعليه دين معاملة، وأرش جناية على أجنبي، فالذي صار إليه الأئمة، أن دين المعاملة أولى بذلك الشيء الذي في يده، إذا كان لا يفي إلا بأحدهما؛ فإنه لا تعلق لدين المعاملة سواه؛ وأرش الجناية يتعلق بالرقبة؛ فلا يسقط بتقديم دين المعاملة.
وذكر صاحب التقريب في هذه الحالة أن المكاتب إذا عجّز نفسه، فالذي في يده مقسوم على أهل الجنايات، ودينُ المعاملة يتأخر عن أرش الجناية، واحتج بأن قال: دينُ المعاملة ثبت بالمراضاة، فكان مؤخراً عَن الدين الثابت قهراً، من غير رضا المجني عليه؛ فإنا نقول لأصحاب ديون المعاملات، قد رضيتم بذمته، وعلمتم حاله وماله، فكنتم مؤاخذين بحكم ضعف الدين، وأرشُ الجناية لم يثبت بالرضا، وله تعلق بما في اليد مقدم.
وهذا قاله صاحب التقريب صريحاً (1) ، وهو غريب، لم أرَه لغيره، ومقتضى هذا أنهم لو ازدحموا ولم يعجّزوه، وقلنا بتقديم بعض الديون على بعض، أن دين الجناية يقدم على دين المعاملة، لما ذكره من قوة دين الجناية. والذي ذكره الأصحاب تقديم دين المعاملة، وما ذكره صاحب التقريب فرضه في الكسب الباقي بعد التعجيز، فأما قبل التعجيز، فلم يحكِ إلا مسلكين: أحدهما - أنهم يتضاربون بالسوية، وهو ظاهر النص، والثاني - أن دين المعاملة مقدم، وقياسه يقتضي تقديم دين الجناية [بعد] (2) التعجيز، وإن لم يقله.
__________
(1) كذا، ولعلها: تخريجاً.
(2) في الأصل: " قبل "، والمثبت من المحقق رعاية للسياق.(19/406)
فأنتظم بعد التعجيز نقلاً وحكاية أن النجوم تسقط لا محالة، وكذلك ديون معاملة السيد، وفيما بقي عليه من ديون معاملةٍ لأجنبي، وأرش جناية على أجنبي أوجه: أحدها -وهو ما مال إليه معظم الأصحاب- أن دين المعاملة مقدم، والثاني - وهو الذي ذكره صاحب التقريب -أن أرش الجناية مقدم- وحكى شيخي وجهاً ثالثاً- أنهما سواء.
وكل ذلك في التعلق بما صادفناه من كسبه بعد التعجيز، والوجه الثالث الذي حكاه شيخي رأيته في طرق العراق، وكان شيخي يقول: لا يصح عندي غيره.
12554- ولو مات المكاتَب، فقد رق بالموت، فإن كان خلف كسباً، وعليه دينُ معاملة لأجنبي، وأرشُ جناية -والتفريع على مذهب الجمهور في أن دين المعاملة مقدم في الحياة بعد التعجيز- فعلى هذا؛ إذا مات، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن دين المعاملة أولى استصحاباً لهذا التقديم في حالة الحياة، والوجه الثاني - أنهما سواء. وذلك لأن لكل واحد منهما تعلقاً بالكسب، وكنا نؤخر أرش الجناية في التعلق بالكسب لتعلقه بالرقبة، وقد فاتت الرقبة بالموت، فاستويا، وإن جمعنا اختيار صاحب التقريب إلى ما ذكرنا جرى وجهٌ ثالث في أن أرش الجناية مقدم.
وإنما غرضنا بالتصوير فيما بعد الموت التنبيهُ على الفرق الذي ذكرناه، وتخريج وجهين بعد الموت. وإن قطعنا على مذهب الجمهور بأحدهما في حالة الحياة.
12555- ومن تمام البيان في هذا الفصل شيئان: أحدهما - بيان من له حق التعجيز، فنقول: السيد له حق التعجيز لأجل النجوم، ولو جنى على سيده، فضاق ما في يده عن الأرش والنجوم، فهل للسيد حق التعجيز؟ قد ذكرت هذا ونقلت طريقة الصيدلاني، ومسلكَ غيره، ودينُ معاملة السيد في هذا المعنى كأرش الجناية عليه، هذا في السيد.
فأما الأجانب، فنقول: إذا جنى على أجنبي، وضاق ما في يده عن أرش الجناية، فقد قال الأصحاب: للأجنبي حقُّ تعجيزه، لتباع رقبته في جنايته، وأطلق الأصحاب ذلك، وظاهر قولهم أنه يعجِّزه بنفسه من غير قاضٍ، ولا يبعد عندنا أن(19/407)
يقال: يرفعه إلى القاضي [ليفسخ] (1) ؛ فإنه ليس هو العاقد، فانفراده بالفسخ بعيد.
ثم لو همّ بتعجيزه، فأراد السيد أن يفديه، فهذا فيه احتمال ظاهر، متلقى من قول الأصحاب؛ من جهة أن السيد إنما يفدي إذا تعلق الأرش بالرقبة، وهذا لا يتحقق ما دامت الكتابة، وليس السيد في المكاتبة بمثابة مولى المستولدة، حتى يُجعل بالكتابة مانعاً، كما جُعل مولى المستولدة بالاستيلاد مانعاً. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: له أن يفديه؛ فإنه رقيقه، وقد يكون له غرض في تتميم العتاقة فيه.
والظاهر أن الفداء لا يجب قبوله ما دامت الكتابة.
ولو ثبت دين المعاملة لأجنبي، فقد قال الصيدلاني وغيره: ليس له التعجيز بسبب دين المعاملة؛ فإنه لا يستفيد بالتعجيز شيئاً؛ إذ لا يتعلق حقه إلا بالكسب قبل التعجيز وبعده، والمجني عليه يستفيد بالتعجيز تعلقَ حقه بالرقبة، فهذا أحد الشيئين.
والثاني - أنه إذا اجتمع على المكاتب ديون الأجانب من الجهات التي قدمناها، فكلها مقدمة على النجوم في الرأي الظاهر، فلو كان للسيد على مكاتبه ديونُ معاملة؛ فقد قال بعض الأصحاب: يضارب بها ديون المعاملات للأجانب، وإن لم يضارب بالنجم؛ فإن دين المعاملة للسيد إذا سقط، لم يستبدل عنه، والنجمُ إذا سقط، عاد السيد إلى الرقبة.
وقال بعض أصحابنا: لا يضارب السيد بدين المعاملة إذا قلنا: لا يضارب بالنجم؛ فإن ديون السيد عرضة للسقوط بالتعجيز، بخلاف ديون الأجانب.
فهذا تمام المراد، ونهاية الكشف في ديون المكاتب في حالاته: في الحياة، والممات، وما قبل التعجيز، وبعده.
12556- ثم حكى صاحب التقريب في أثناء الكلام شيئاً غريباً، لم أوثر حكايته في ترتيب المذهب، ولم أر تركَ ما حكاه إمام عظيم، قال رضي الله عنه: إذا ثبت لأجنبي
__________
(1) في الأصل: " لينفسخ ". والمعنى يفسخ القاضي عقدَ الكتابة، فالأجنبيُّ ليس هو العاقد حتى ينفرد بالفسخ.(19/408)
دين معاملة على مكاتب، ثم ارتفعت الكتابة بالتعجيز، وليس ثمَّ كسبٌ، فالمذهب المقطوع به أن دين المعاملة لا يتعلق برقبة المكاتب كدين الجناية، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من صار إلى ذلك. ثم قال: ولست أعرف له وجهاً، وما حكاه مجانب لمذهب الشافعي وقياسِه، ولا نعرف خلافاً بين الأصحاب في أن ديون معاملات العبد المأذون لا تتعلق برقبته إذا زادت الديون على ما في يده، فإن سلم صاحب الوجه الغريب ذلك، لم نجد فرقاً، وإن طرد مذهبه في هذه الصورة، كان تاركاً لأصل المذهب.
وأبو حنيفة (1) يحكم بتعلق ديون المعاملة برقبة المأذون. والله أعلم (2) .
***
__________
(1) سبقت هذه المسألة في كتاب المأذون.
(2) إلى هنا انتهى الخرم الذي أشرنا إليه في نسخة (ت 5) .(19/409)
باب كتابة بعض عبد، والشريكين في العبد يكاتبانه
قال: " ولا يجوز أن يكاتب بعض عبد إلا أن يكون باقيه حراً ... إلى آخر الباب " (1) .
12557- الكلام في مضمون الباب يتعلق بفصول: أولها -
[الفصل الأول]
القول في ذكر مواضع الوفاق والخلاف في مكاتبة بعضٍ من شخص، فنقول:
من نصفه حر، ونصفه عبد، إذا كاتبه مالك رقه في نصفه الرقيق، صحت الكتابة، بلا خلاف، فإن غرض الكتابة استقلالُ المكاتب، وهذا المعنى يحصل فيمن ذكرناه؛ فإنه يستفيد الاستقلال في نصفه الرقيق، وله حقيقة الاستقلال في نصفه الحر.
وإذا كان بين رجلين عبد مشترك، فكاتباه جميعاً على نجوم، ولم يختلفا في مقدار النجوم، والآجال، بل أثبتاها على استواء في النصيبين، فهذا صحيح وفاقاً، ولم نعن بالاستواء أن يكونا مستويين في الحصتين، بل إذا كان أحدهما مالكَ ثلثه والثاني مالكَ ثلثيه لم يؤثر ذلك. ولكن ينبغي أن يكون لصاحب الثلث ثلث النجوم المذكورة والآجال لا تختلف، فهذا ما أردنا بالاستواء.
ولو أراد أحد الشريكين أن يكاتب نصيبه، ولم يكاتب الثاني، فإن جرى ذلك بإذن الشريك، ففي صحة المكاتبة قولان منصوصان: أحد القولين - أنها صحيحة، اعتباراً بالعتق، والتعليق، والتدبير؛ فإن هذه التصرفات مقصودُها العَتاقة، ثم جرت في
__________
(1) ر. المَختصر: 5/276. والعبارة في الأصل: " ولا يجوز أن يكاتب عبداً إلا أن يكون باقيه حراً " والتصويب من نص المختصر.(19/410)
بعضها جريانَها في الكل، فلتكن الكتابة كذلك، وأيضاً؛ فإنه يستقل في نصفه استقلالَ من عَتَق نصفُه، فإذا كان لا يمتنع عتقُ البعض، وجب ألا يمتنعَ عقدُ العَتاقة في البعض.
والقول الثاني - أن الكتابة فاسدة. فإنه لا يملك المسافرة، وهي إحدى جهات الاستقلال، وتتعلق بها جهة ظاهرة في المكاسب، وأيضاً فإن صرف الصدقة إليه لا يجوز، فإن ما يأخذه إذا لم تكن مهايأة ينبسط على نصفيه، وذلك مستحيل في النصف الرقيق.
فقد ذكرنا صورتين في صحة الكتابة قولاً واحداً، ونصصنا على الصورة التي أجرى الشافعي قولين فيها.
12558- ونحن نذكر بعد ذلك صوراً تردد فيها طرق الأصحاب: منها - أن من ملك عبداً خالصاً، فكاتب بعضه؛ فالذي ذهب إليه الأكثرون وهو ظاهر النص أن الكتابة فاسدة، لما أشرنا إليه من نقصان الاستقلال، والسيد مقتدر هاهنا على الإكمال؛ فإن العبد خالص.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً مخرجاً في تصحيح الكتابة قياساً على التدبير والتعليق، ثم هذا يعتضد بحصول الاستقلال في ذلك المقدار، ونحن لا نشترط فيه دَرْكَ الكمال.
ومن الصور - أن أحد الشريكين إذا كاتب نصيبه من غير إذن صاحبه، فالذي ذهب إليه الأكثرون فسادُ الكتابة في هذه الصورة، وتخصيصُ القولين بما إذا فرض من أحد الشريكين عقد الكتابة بإذن صاحبه، وذهب طائفة من المحققين إلى تخريج القولين في هذه الصورة؛ وهذا منقدح؛ من جهة أن إذن الشريك لا يغيّر قضيةَ الكتابة في النصف، ولا يتضمن تكميل الاستقلال؛ حتى يقال: إذن الشريك تسليط له على المسافرة، أو يتضمن تجويزَ صرف الصدقة إليه؛ فإذا كان إذنه لا يؤثر في مقتضى الكتابة، فلا يبقى إلا تخيل تضرر الشريك إذا فرض نفوذ العتق، وهذا لا حاصل له مع نفوذ عتق الشريك.(19/411)
وإن قيل: العتق المجرد له سلطان، والكتابة تتعرض للفساد والصحة، ثم للاستمرار والنقض، فلا يكاد يتضح بهذا فرق؛ فالتخريج في الكتابة بغير إذن الشريك أوضح من التخريج في كتابة بعض العبد الخالص للمكاتب.
ومن الصور التي نذكرها - أن الشريكين إذا كاتبا معاً على الصحة والاستواء، فلو عجز المكاتب، فارقّه أحد الشريكين، وأراد الثاني أن يُنظره إلى ميسرةٍ ومقدرة، فقد اختلف أصحابنا على ثلاث طرق: فقال بعضهم: تنفسخ الكتابة في نصيب المُنْظِر قولاً واحداً.
وقد أورد المزني هذه المسألة واستشهد بها في نصرة منع الكتابة في صورة القولين، ووجه هذه الطريقة أن الإرقاق يرد الشريك الذي رام التعجيز إلى حقيقة الملك، ونقض ما جرى الإذن به، أو التوافق عليه، فكان صاحبه في الإنظار كمن يكاتب نصيبه من غير إذن الشريك.
وقد قطع الشافعي جوابه بهذا ونص على القولين فيه إذا كاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن شريكه.
ومن أصحابنا من قال: نصيب من يريد الإنظار يبقى على القولين، فإن التوافق على الكتابة رضاً من كل واحد بما يصنعه صاحبه، وإذا وقع الرضا به، فهو رضاً بتمام أحكامه، ومن أحكامه جواز الإنظار عند العجز.
ومن أصحابنا من ذكر طريقة ثالثة - وهي أن الكتابة تبقى في حق المنظر قولاً واحداً، وهذا التبعض محتمل في الانتهاء، وإن كنا لا نحتمله في الابتداء؛ لأن دوام العقود أقوى من ابتدائها، وهذا وإن أمكن توجيهه؛ من جهة أن الشرائط لا تُرعى في الدوام، وإنما تعتبر في ابتداء العقود، والطريقة غريبة مخالفة للنص.
ومما نذكره متصلاً بهذا: أن من مات، وخلف مكاتباً ووارثَيْن، فعجَز المكاتبُ، فارق أحدُهما نصيبه، وأراد الثاني إنظاره، فما ذكرناه من الطرق يجري في حق الوارث المُنظِر، ولعل الانفساخ أظهر في الوارثَيْن؛ لأن الكتابة جرت على جميع العبد ابتداء، فيبعد بقاؤها على البعض انتهاء.
ووجه تخريج الطرق أن الكتابة بعد الموت بين الوارثَيْن بمثابة كتابةٍ تصدر من(19/412)
شريكين، ولذلك يعتق نصيب أحد الابنين بإبرائه عن حصت من العموم، وهذا حكم حدث بعد موت المولى لتعدد الورثة، ولو أعتق أحد الوارثَيْن نصيبَه، وقلنا: لا يسري عتقه، فلو رق نصيبُ الثاني، ولم يُنظره، فهذا لا يعطف الفسخَ على ما عتق على حكم الكتابة؛ فإن العتق لا يُستدرك، وإذا نفذ على جهةٍ لم نغيّر الجهة.
ومما يتعلق بالكلام في هذا الفصل: أن العبد إذا كان مشتركاً بين الشريكين مناصفةً، فلو كاتبه أحدهما في نصيبه على ألف، وكاتبه الثاني على ألفين، أو غايرا بين نجوم الكتابة، أو لم تنشأ الكتابة معاً، فكل ذلك يخرّج على القولين، وإنما يتفق على صحة الكتابة، إذا حصل الاستواء في النجم مقداراً، وتأجيلاً، وحصل الإنشاء معاً، ولو أنشآ على الاختلاف معاً، فقبل المكاتب، فهذا بمثابة ما لو انفرد أحدهما بمكاتبة نصيبه بإذن شريكه؛ فإن الشريك وطّن النفس على الكتابة، فلم يبق له حق مُتخَيَّل يُرعى فيه إذنه.
هذا نجاز الكلام في الفصل الأول، وقد وضح فيه ما يصح ويفسد، وما يختلف فيه في إيراد الكتابة على البعض من العبد.
الفصل الثاني
12559- فيه إذا كاتب الشريكان العبد على الصحة حيث يمطع بها، والمقصود بيان كيفية الأداء إلى الشريكين، فنقول:
ينبغي أن لا يسلّم إلى واحد حصته من نجمٍ، حتى يسلّم حصة الثاني إليه، فإذا وفّر الحصتين من النجوم على الجمع والاقتران، حصل العتق، ولو أراد أن يقدم أحدهما بحصته لم يكن له ذلك من غير إذن من يؤخِّرُه، وليس هذا كالديون المجتمعة على معسرٍ لم يُحْجَر عليه؛ فإنه قبل الحجر يقدم من يشاء، والمريض في مرض موته يقدم [من غرمائه] (1) من يشاء.
أما الشريكان في المكاتب، فحقهما يتعلق بكسبه، ولكل واحد منهما حقُّ الملك
__________
(1) في الأصل: " من غير ما به "، والمثبت من (ت 5) .(19/413)
في الكسب، والمكاتب بينهما كعبد مشترك بين شريكين، ولو سلم المكاتب إلى أحدهما تمام حصته من غير إذن صاحبه، لم يعتق منه شيء؛ لأن أداءه لا يصح، ونزيد، فنقول: لو سلّم إلى أحدهما تمام النجوم، فالمذهب أنه لا يعتق منه شيء، ولو سلّم الكل إلى أحدهما وقال له: وكلتك بتسليم حصة شريكك مما قبضت، فلا يَعْتِق منه شيء، والسبب فيه أن الشريك لم يملك ما لم يسلم إليه، ويستحيل أن يملك القابض شيئاً ما لم يملك شريكُه مثلَه.
هذا هو المذهب المعتمد.
وحكى العراقيون وجهاً بعيداً أنه إذا سلّم إليه التمامَ عَتَق منه نصيب القابض، ووجّهوا هذا بأن قالوا: لا يجب عليه أن يرفع يده إلا عن نصف ما قبض، فليقع الحكم باستقرار ملكه في حصته.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الأصحاب مجمعون على أنه لا يحصل للقابض ملك في شيء مما قبض، حتى يحصل لصاحبه الملك، ولا ينفع مع هذا تلبيسٌ [برفع] (1) اليد -إذا كان الملك يحصل عند رفع اليد- فليقع النظر إلى حالة حصول الملك.
ولو وكل أحد الشريكين صاحبه بأن يقبض حصته من النجوم، ثم جاء المكاتب بالنجوم وسلمها إلى الشريك الوكيل، فيحصل العتق، ويجري ملك الشريكين في المقبوض.
ولو أذن أحد الشريكين للمكاتب في تقديم شريكه، فجرى على إذنه، ووفّر على الشريك حصته، ففي صحة الأداء قولان. واختلف أصحابنا في أصلهما: فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين في مكاتبة أحد الشريكين بإذن صاحبه، فالإذن في التبعيض آخراً كالإذن في التبعيض أولاً. ومن أصحابنا من قال: أصل القولين تبرع المكاتب إذا جرى بإذن السيد، وهذا البناء أوضح وأفقه. فإذا لم يصح التبرع بالإذن، فلا يحصل الملك، وإذا لم يحصل الملك، لم يترتب العتق.
وكل ما ذكرناه في الكتابة الصحيحة.
__________
(1) في الأصل: " لرفع ". والمثبت من (ت 5) .(19/414)
12560- فأما إذا فسدت الكتابة بوجه من الوجوه التي ذكرناها، فالعتق يحصل على الجملة، ويثبت التراجع بين المقبوض والقيمة، على ما تمهد ذكره في أحكام الكتابة الفاسدة.
وإن كاتب الشريكان على الفساد وجاء المكاتب إلى أحدهما ووفر عليه نصيبه، فالذي جاء به لا يتأتى التمليك في كله، فهو كما لو جاء المكاتب بمغصوب وقبضه السيد، وفي حصول العتق قولان، قدمنا ذكرهما، وسبب جريان القولين اعتمادُ الكتابة الفاسدة الصفةَ (1) ، وقد ذكرنا أصل هذا وتفصيله مستقصى فيما سبق.
وإذا كاتب أحد الشريكين نصيبه حيث يُقطع في بعض الطرق بالفساد لو كاتب مالك العبد بعضه وحكمنا بالفساد، فإذا وجدت الصفة، حصل العتق. واستتباع الكسب بحسبه، وجرى فيه التراجع. وهذا لا يضر ذكره على وضوحه.
الفصل الثالث
12561- مقصوده السراية، فنقول: إذا كاتب الشريكان العبد وصحت الكتابة، فلو أبرأ أحدهما عن حصته، أو أعتق حصته، سرى العتق إلى نصيب صاحبه على مذهب الأصحاب.
وقال صاحب التقريب: ذهب بعض أصحابنا إلى أن العتق لا يسري؛ فإن الباقي منه مكاتب، والمكاتب لا يقبل نقلَ الملك، وإن أجزنا السراية يبطل نظمُ المذهب في السراية.
وقد قدمنا هذا وزيّفناه، وبنينا المذهب على القطع بتسرية عتق أحد الشريكين، وإجراءِ القولين في تسرية عتق أحد الوارثَيْن؛ من حيث إن ذلك تصرف من الوارث في مُكَاتَب الميت، وقد شببنا فيه بأن الملك لا ينتقل إلى الورثة في رقبة المكاتب على قول، فالبناء إذاً على سريان عتق الشريك، إذا حصل عتق حصته بالإبراء أو الإعتاق.
فإن قيل: لو قبض أحدُهما حصتَه، وعتق نصيبُه، فهل يسري العتق الحاصل بجهة
__________
(1) الصفة: المراد الصفة المعلق عليها، وهي في الكتابة الفاسدة الأداءُ.(19/415)
الأداء، قلنا: هذا مُرتَّبٌ على صحة الأداء، وقد ذكرنا تفصيلاً طويلاً في قبض أحد الشريكين، وأوضحنا أن ذلك لو لم يكن بإذن الشريك، لم يصح أصلاً، فإن فرضنا تقديمه بإذن الشريك، ونفذنا ذلك، فيعتق حينئذ نصيبه، وإذا عتق سرى.
ْفإن قيل: هلا قلتم: لا يسري العتق؛ فإنه مجبر على قبول ما يسلّمه المكاتب إليه، وإذا حصل العتق بسبب لا اختيار فيه، فالوجه ألا يسري، كما إذا ورث الرجل النصف من أبيه، وعتق عليه؛ فإن العتق لا يسري إلى الباقي. قلنا: الأداء وإن كان يقترن به الإجبار على القبض، فالسيد بالمكاتبة جر هذا إلى نفسه، فكان كالمختار فيه وهو كما لو قال أحد الشريكين للعبد المشترك: إذا طلعت الشمس، فنصيبي منك حُر، فإذا طلعت عَتَق نصيبه، وسرى كذلك. نعم، لو مات المولى وخلّف وارثَيْن، وصححنا على حسب ما ذكرنا تخصيص أحدهما بحصته، فإذا قبض حصته بإذن صاحبه وعتق، لم يسرِ قولاً واحداً؛ فإنه مجبر على القبض، والكتابة لم تصدر منه، فلا جَرَمَ لم يسر عليه.
ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن أحدهما إذا قبض حيث يصح القبض، وعتق نصيبه، فإن سرّينا، فلا كلام، وإن لم نُسرِّ، لم تنفسخ الكتابة في الباقي، ولا يخرج هذا على القياس الذي ذكرناه فيه إذا أرَقَّه أحدُهما وأَنْظر الثاني؛ فإن صاحب الإرقاق متمسك بملكه، وضرر التبعيض ينجرُّ عليه، وهذا لا يتحقق فيه إذا عتق نصيب أحدهما، فإنه لا يبقى لمن عَتق نصيبه تعلُّق. وأيضاً؛ فإنا نصحح [عتق] (1) من نصفه حر ابتداءً، فجرى التبعيض على هذا الوجه اتتهاء، وهذا واضح لا خفاء به.
الفصل الرابع
في الإقرار والإنكار
12562- فلو ادعى العبد المشترك على الشريكين أنهما كاتباه، فإن أقام البينة، فلا كلام، والبينةُ شاهدان عدلان؛ فإن مقصود الكتابة العتقُ، وصفةُ البينة تُتلقَّى من المقصود، وفصل هذه الخصومة بيّن.
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، وسقطت من النسختين.(19/416)
ولو كاتباه جميعاً، واعترفا بالكتابة، فقال المكاتب وَفَّرت عليكما حصتكما، فصدقه أحدهما دون الآخر، فنصيب الجاحد رقيق إذا حلف أنه ما قبض، ونصيب المُقِر عتيق بحكم إقراره، ثم الجاحد بالخيار: إن شاء، رجع على صاحبه بنصف ما اعترف بقبضه؛ فإنه يقول: قد اعترفتَ بقبض هذا المقدار، فو بيننا، وإن أراد أن يطالب المكاتب بتمام نصيبه، فله ذلك؛ فإنه يقول: وضعتَ الحق في غير موضعه، وأنا على طلب حقي منك بكماله.
فإن ناصف صاحبَه، وأخذ منه نصف ما قبضه، فيأخذ من المكاتب باقي حقه [ليتم له نصف النجوم ثم المقرّ لا يرجع على المكاتب بشيء] (1) ؛ لأن المكاتب يقول له: ظلمك الشريك، بأن أخذ نصف ما في يدك، فلا ترجع على غير من ظلمك، وإن رجع [بجميع] (2) حقه على المكاتب، لم يرجع المكاتب على المقر بشيء أيضاً للعلة التي ذكرناها؛ فإن الشريك المقِر يقول للمكاتب: أنت مظلوم من جهة شريكي، فلا ترجع عليّ بما ظلمك به غيري. وهذا بيّن.
ولكن يتصل به كلام في السراية، وهو أن الذي اعترف بقبض حصته ينفذ العتق في حصته، فهل يسري هذا العتق إلى نصيب صاحبه؟ اختلف نص الشافعي. وذكر الأصحاب مسألتين، ونصين مختلفين، والذي تحصّل لنا قولان في السراية: أحدهما - أن العتق يسري لحصوله في حصة المقر، فصار كما لو أنشأ أو أبرأ.
والثاني - لا يحصل السريان؛ فإنا إنما حكمنا بالعتق في حصة المقر تمسكاً بإقراره، وهو أقر بعتق النصيبين، [ولو نفذ] (3) العتق في نصيب الشريك، لما كان للسريان معنى، فليس في إقراره ما يوجب السراية عليه، ولا ينبغي أن يزيد على موجب إقراره، فعلى هذا يقف العتق على حصته، ويبقى الحكم ببقاء الرق في حصة الشريك.
__________
(1) عبارة الأصل: " ليتم له نصف النجوم عن المقر، ثم لا يرجع على المكاتب بشيء " والمثبت عبارة (ت 5) .
(2) في الأصل: " فجميع ". والمثبت من (ت 5) .
(3) في الأصل: " ولم يُفد ".(19/417)
فرع:
12563- إذا أذن أحد الشريكين للمكاتب في تقديم صاحبه بحصته، وجوّزنا ذلك، فإذا وفّر عليه نصيبه، وكان بيده وفاءٌ بحصة الآخر، فكيف الحكم فيه؟ ولو عجز عن أداء حصة الآخر، فكيف الوجه؟
فنبدأ بما إذا عجز، فقد قال الأصحاب: للشريك الآذن أن يناصف صاحبه فيما قبض، لأن ما قبضه كسبُ عبدهما، وما تبرع الآذنُ بتمليكٍ، وإنما تبرع بتقديمٍ، فلا يخلص المقبوض للقابض بالإذن في التقديم، وسنبين نتيجة هذا في التفريع.
وقال ابن سريج: لا يستردّ الآن مما في يد القابض شيئاً؛ فإن القابض يقول: لما قدمتني، فقد رضيتَ بوقوع حقك من النجم في ذمته، فجرى ملكي جرياناً لا يُنْقَض، فهذا فيه فقه.
التفريع:
إن فرّعنا على مذهب ابن سريج، عتق نصيب القابض، وفي السراية من التفصيل ما قدمنا.
وإن قلنا: للشريك الآذن أن يأخذ نصف ما في يد القابض، فنتبيّن أنه لم يعتق منه شيء، فإن واحداً منهما لم يقبض حصته، فيخرج منه أن العتق موقوف.
وبهذا الفرع يتهذب ما قدمناه مجملاً في الأصول. هذا إذا عجز، وقد أدى حصته بالإذن.
فأما إذا كان في يده وفاء بحصة الآن، فالذي رأيت للأصحاب القطعُ بأنه لا يسري العتق، بل يؤدي حصةَ الآخر، وذلك لأن الإذن إنما جرى بالتقديم، ومن ضرورة التقديم توفير نصيب الآخر مع الإمكان، واتساع الوفاء. وهذا حسن فقيه.
فخرج منه أن قبض أحد الشريكين نصيبَه على وجه يُسَرِّي إلى نصيب صاحبه عسِر التصور، وإنما يجري على مذهب ابن سريج في صورة العجز، وقد يجري فيه إذا عجز المكاتب، وأرقه أحدهما، وأنظره الثاني، وصححنا ذلك، فيكون نصفه مكاتباً ونصفه رقيقاًً، وأكسابه منقسمة، فإذا وفّر على المنُظِر حصته، وأدى بحق الرق مثله إلى الشريك، فيعتق نصيبُ المنظِر، ويسري كما قدمناه.
ولو كاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن الثاني، وصححنا ذلك، فيتصور أن يتوفر(19/418)
عليه النجم، مع توفير مثله على الشريك، ثم يحصل العتق، كما قدمناه ويسري.
فرع:
12564- قد ذكرنا أن المكاتَب بعضُه لا يأخذ الصدقة، هذا ما نقله الجمهور. ورأيت في بعض كلام الأصحاب ما يدل على جواز أخذ (1) الصدقة، وما قيل من وجوب انقسام المقبوض على المكاتب والرقيق لا يتجه، بل يجوز أن يقال: يختص ذاك بالقدر المكاتب منه، فإن ذاك لا يجوز أن يكون كسبَ رقيق.
وقد تفصل الباب بما فيه تأصيلاً وتفصيلاً.
***
__________
(1) ت 5: " بعض الصدقة ".(19/419)
باب ولد المكاتبة
قال الشافعي: " ولد المكاتبة موقوت ... إلى آخره " (1) .
12565- نجمع في هذا الفصل تفصيلَ القول في ولد المكاتبة، وولد المكاتب.
فأما ولد المكاتبة، فنبدأ به، ونقول: إذا أتت المكاتبة بولد من زناً أو نكاح، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه قِنٌّ للسيد لا تسري إليه الكتابة. والقول الثاني - إن الكتابة تسري إليه، على ما سنفصله في التفريع.
والقولان في ولد المكاتبة، كالقولين في ولد المدبَرَّة، غيرَ أن حكم ولد المكاتبة يخالف حكم ولد المدبرة وولدَ أم الولد، فإن موت الأم في الكتابة يوجب رقَّ الولد؛ لأنه كان لحقها في حق عقد، [وإذا ماتت، ارتفع العقد وماتت قناً] (2) ، وموت المدبَّرةِ وأمِّ الولد لا يوجب بطلانَ الحق في الولد.
وولدُ المكاتبة يخالف ولدَ المدبرةِ وولدَ أم الولد في شيء آخر، وهو أن عتق المكاتبة يوجب عتقَ الولد، وإذا أعتق السيد المدبرة، أو أم الولد، لم يعتِق الولدُ، بل لا يعتقان إلا بإعتاق السيد إياهما أو بموته، والسبب في ذلك أن إعتاق المكاتبة يُحَصِّل عتقَها على حكم (3) الكتابة، وهذا قد يتجه مثله في المستولدة، ولكن الأمر على ما وصفناه.
فنعود إلى التفريع على القولين:
فإن قلنا: الكتابة لا تسري إلى ولد المكاتبة، فهو رقيق قِنٌّ للسيد، كسائر مماليكه، لا يتبع الأم في العتق. وإن قلنا: الكتابة تسري إلى الولد، فلسنا نعني به
__________
(1) ر. المختصر: 5/278.
(2) في الأصل: " وإذا مات ارتفع العقد، ومات قناً ". والمثبت من (ت 5) .
(3) ت 5: " على حسب الكتابة ".(19/420)
أنه مكاتب في نفسه مطالَبٌ بالنجوم، ولكن المَعْنِيّ به أن الأم إذا عَتَقَتْ على حكم الكتابة، عَتَق ولدها.
ثم على هذا القول حق الملك في الولد قبل اتفاق العَتاقة لمن؟ فعلى قولين آخرين: أحدهما - أن حق الملك فيه للسيد، وإن كان قد يعتق بعتق الأم، والقول الثاني - إن حق الملك فيه للأم.
12566- وأهم ما نذكر في التفريع على هذين القولين الأخيرين ثلاثة أشياء: أحدها - حكم كسب الولد. والثاني - حكم النفقة. والثالث - حكم إعتاقه إنشاءً.
فأما الكسب، فنقول: إن قلنا: حق الملك فيه للسيد، فالصحيح على هذا أن الكسب لا يصرف إلى السيد، ولا يصرف إلى المكاتبة، ولكن يوقف كسب الولد؛ فإن عتقت الأم وعتق الولد تبعاً، تبعه كسبُه، فيصرف الكسب إذ ذاك إلى الولد. وإن رق الولد، لمّا رقت الأم، فيصرف الكسب إلى السيد حينئذ.
ووجه هذا، أنا وإن جعلنا حق الملك في الولد للسيد، فليس للسيد أن يتصرف في الولد بالبيع وغيره، بل يتوقف فيه إلى أن يتبين أنه يعتِق أو يرِق، فليكن كسبه بمثابة نفسه.
وذكر العراقيون قولاً آخر بعيداً أن كسبه يصرف إلى السيد عاجلاً من غير توقف، وهذا ضعيف جداً حكَوْه وزيّفوه، والقياس تنزيل كسبه منزلَة رقبته، فإذا لم ينفذ تصرف المولى في رقبته، لم ينفذ تصرفه في كسبه، هذا كله إذا فرعنا على أن حق الملك في الولد للمولى.
وإن قلنا: إن حق الملك فيه للأم المكاتبة، فعلى هذا القول يصرف كسبه إلى المكاتبة يوماً يوماً من غير توقف؛ لتستعين به في الكتابة، وتتصرف فيه بما تتصرف في سائر مالها، وهذا اتفاق على هذا القول.
ولو عتقت وعتق الولد وفي يده بعض كسبه، فهو للأم، وليس للولد أصلاً، وكسب ولدها بمثابة كسب عبيدها.
12567- ومما فرّعه الأئمة أن قالوا: إذا قلنا كسب الولد موقوف -تفريعاً على أن(19/421)
حق الملك للمولى- فإن عتق، صرف إلى الولد، كما مضى. فعلى هذا لو فرض الرق في الأم، فلا يخلو: إما أن تُعجِّز نفسها، (1 وتُبطلَ الكتابةَ من غير عجز، وإما أن تَعْجِز، ويضيقَ كسبها. فإن أرقت نفسها 1) ، وفسخت الكتابة من غير عجز، فتعود رقيقةً، ويعود ولدها رقيقاً للسيد، والكسبُ الموقوف للسيد.
ولو قال الولد عند ذلك: قد أبطلت أمي حقَّها، ولستُ أبطل أنا حقي فأؤدي نجومَ أمي من كسبي لتعتِق، حتى إذا عَتَقتْ عَتَقتُ، فليس للولد ذلك؛ إذ لا اختيار له في العتق، وتأديةِ النجوم، وإنما هو تابع لعتق الأم ورقها، والاختيار في الإرقاق لها؛ فلا يُلتفت إلى قول الابن: " أؤدي عنها "؛ فإن النجوم ليست مضروبة عليه، وما وظفت النجوم عليه، فكيف يتصور أن يؤدي إذا أَرَقَّت الأم نفسَها اختياراً مع القدرة.
فأما إذا عَجَزَتْ عن أداء النجوم، وللولد كسبٌ موقوف، فهل لها على هذا القول أن تأخذ من كسب ولدها الموقوف وتستعينَ به على أداء النجوم؟ فعلى قولين: ذكرهما العراقيون: أحدهما - ليس لها ذلك؛ إذ لا حق لها في الكسب على هذا القول، وإنما هو للسيد، أو حق الولد لو عتق.
والقول الثاني - لها أن تأخذه قهراً إذا عجزت؛ فإن الأولى للولد ذلك، إذ لو عجزت لرَقّت ورَقّ الولد، وصار كسبه للسيد، ولو استعانت بالكسب، لعتقت وعتق، وربما يبقى له فضل كسب.
[والأصح] (2) أنه ليس لها أن تستعين بكسب الولد؛ فإن ما نذكره تفريع على أن حق الملك للمولى، فإذا كان الكسب موقوفاً عن المولى، وجب أن يكون موقوفاً عن الأم. هذا كله كلام في الكسب.
12568- فأما النفقة: فالترتيب المستحسن فيه للعراقيين. قالوا: إن قلنا: إن كسب الولد للأم، فهو مصروف إليها من غير توقف، فالنفقة على الأم وإن لم يكن
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(2) في الأصل: " فالأصح ".(19/422)
كسب، ولو كان كسبٌ فالخِيَرةُ إليها: إن شاءت، أنفقت من كسبه، وإن شاءت، أنفقت من سائر مالها.
وإن قلنا: إن الكسب مصروف إلى السيد في الحال من غير توقف فيه -وهو القول الضعيف الذي حكيناه- فالنفقة على السيد على كل حال، سواء كان للولد كسب أو لم يكن.
وإن قلنا: إن كسبه يوقف، فإن كان له كسب، فهو مصروف إلى نفقته على قدر الحاجة قولاً واحداً، فما فضل عن نفقته، فيوقف حينئذ، وهذا متفق عليه، على هذا القول، لا يسوغ فرض خلاف فيه، ولو لم يكن له كسب أصلاً، أو كان كسبه لا يفي بنفقته، فنفقته في هذه الصورة إذا لم يكن كسب، أو الزائد على الكسب على من؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها على السيد؛ فإنا إنما نقف كسبه على قولنا: إن حق الملك فيه للسيد، فعليه النفقة؛ إذ حق الملك له.
والوجه الثاني - أن النفقة لا تكون على السيد؛ إذ من الإجحاف [به] (1) ألا يُصرفَ إليه الكسبُ عاجلاً لو كان كسبٌ، وتلزمه النفقة، فعلى هذا تكون النفقة في بيت المال، وهذا ضعيف جداً، وقد نجز القول في النفقة متعلقاً بالكسب مفرعاً عليه.
فأما الفصل (2) الثالث وهو إعتاق الولد
12569- فهذا رتّبه العراقيون على ما قدمناه في الكسب. فقالوا: إن قلنا: الكسب يصرف إلى السيد من الوقت من غير توقف، فإذا أعتقه، نفذ عتقه فيه؛ فإن حق الملك له في رقبته وكسبه جميعاً. وإن قلنا: إن كسبه مصروف إلى الأم، فلا ينفذ عتق السيد فيه؛ فإنا إنما نصرف الكسب إلى الأم إذا جعلنا حق الملك للأم، فالولد بمثابة سائر أكسابها.
وإن قلنا: كسب الولد موقوف، وقلنا لو عجزت الأم، لم تستعن به أصلاً، فينفذ
__________
(1) في الأصل: " فيه ". والمثبت من (ت 5) .
(2) لم يعنون الإمام لهذه القضايا الثلاث من قبل بالفصول، وإنما قال: نتكلم في ثلاثة أشياء: 1- كسب الولد 2- نفقته 3- إعتاقه.(19/423)
عتق السيد في الولد؛ فإنا على وقف الكسب نجعل حق الملك في الولد للسيد، ولا حقّ للأم في رقبته، ولا في كسبه.
وإن قلنا: إن الكسب يوقف، ولكن لو عجزت الأم، فلها الاستعانة به، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - وهو ما قطع به العراقيون أنه لا ينفذ عتق السيد في الولد؛ فإن للأم حقاً في كسبه على الجملة؛ وفي تنفيذ عتقه قطعُ حقها من كسبه، عند تقدير العجز.
والوجه الثاني - أن عتق المولى ينفذ؛ فإنا نفرعّ على أن حق الملك في الولد للمولى.
12570- فإذا تمهدت هذه الفصول الثلاثة - الكسب والنفقة والإعتاق، فمما نفرعه بعدها على القولين، الكلام في أروش الجناية على الولد، فإذا جنى جانٍ عليه، لم يخل: إما أن يجني على طرفه، أو يقتله، فإن كانت الجناية على الطرف، لم تنته إلى القتل، فتفصيل المذهب في أرش الجناية كتفصيل المذهب في كسبه حرفاً حرفاً، وقد سبق.
وإن قتله الجاني، فلا يتأتى في هذه الصورة وقفُ قيمته؛ فإنا إنما نقف كسبه، وأروش أطرافه لتوقع عتقه في ثاني حاله، فإذا قُتل لم يتحقق هذا، ولكن في قيمته قولان: أحدهما - إنها للسيد. فيصرف إليه من غير وقف. والثاني - أنها للمكاتبة، فيصرف إليها، لتتصرف فيها بما تتصرف به في سائر مالها.
وذكر الصيدلاني وجهاً أنه إذا قُتل ولدها، فالقيمة مصروفة إلى السيد قولاً واحداً؛ لأن القتل والهلاك قطع أثر الكتابة في الولد، فعاد التفريع إلى قولنا: إن ولدها رقيق قن للسيد.
وهذا غير سديد، والصحيح إجراء القولين؛ فإن ولدها في قولٍ بمثابة عبد اشترته، غير أنها [لا تبيعه] (1) . فلا وجه لقطع القول بصرف القيمة إلى السيد.
وقد نجز منتهى غرضنا في ولد المكاتبة.
__________
(1) في الأصل: " لا تتبعه ". والمثبت من (ت 5) .(19/424)
12571- فأما المكاتب إذا استولد جارية، فأتت منه بولد، فلا خلاف أن الولد يتبعه، يعتِق بعتقه، ويرِق برقه، ولا يُخَرَّج فيه قولٌ أنه رقيق للسيد، وليس كولد المكاتبة، والفرق أن هذا الولد ولدته أمتُه المحكوم بأنها ملكُ المكاتب، فيقدَّر كأنها أتت به من نكاح أو سفاح، فيكون حقُّ الملك للمكاتب، وولد [المكاتبة] (1) من نفسها، وهي ما ملكت نفسها، ولو ملكت نفسها، لعَتَقَت.
ثم إنا نقول في ولد المكاتب من أمته: حق الملك فيه للمكاتب قطعاً، ولو اكتسب، فلا يوقف كسبه، بل يصرف إلى المكاتَب؛ ليعمل به ما يعمل بسائر أكساب نفسه وعبيده، تعجيلاً من غير وقف، وهذا واضح بعد ما وقعت الإحاطة بما ذكرناه من أن ولد المكاتب من جاريته في حق الملك كولد جاريته من نكاح أو زناً، غير أنه لا يبيع ولدَ نفسه، فيعتق بعتقه ويرِق برقه، ولو عَتَقَ المكاتب وتبعه ولده في العتق، فصادف في يد ولده فضلَ كسب، كان قد اكتسبه في الكتابة، فهو مصروف إلى الوالد، لا حظ فيه للولد، ولو كان يُصرف إلى الولد إذا عتق، لوُقف له، وهذا لا شك فيه.
ويترتب على ما ذكرنا أن نفقة الولد على المكاتب على كل حال، والجملة أنه بمثابة سائر عبيده، غير أنه يبيع عبيدَه، ولا يبيع ولده، ولا ينفذ فيه عتقُ السيد، كما لا ينفذ عتقه في عبيد المكاتب، وهذا لا خفاء به.
12572- وقد ذكر العراقيون مسألة في الجناية، واضطربوا فيها، ونحن ننقل كلامهم على وجهه، قالوا: لو جنى الولد جناية، فتعلقت برقبته، إن كان له كسب، كان له (2) أن يفديه من كسبه، وإن لم يكن له كسب، باعه في الجناية.
وهذا عندنا غلط ظاهر، وزلة تُفضي إلى هدم أصل المذهب.
والذي قطع به المراوزة أنه لا يملك فداء ولده، وإن كان في كسب ولده ما يفي بالفداء؛ فإن الفداء في معنى الشراء، ولم يختلف الأصحاب في أنه لو صادف ولده
__________
(1) في الأصل: " المكاتب ". والمثبت من (ت 5) .
(2) الضمير يعود على الأب المكاتب.(19/425)
رقيقاً، لم يكن له أن يشتريه؛ فإنه يبذل في شرائه مالاً يملك التصرف [فيه ولا يملك التصرف] (1) في رقبة ولده، فهذا يلتحق بتبرعه، وما ذكروه من جواز الفداء في كسب الولد لا خير فيه، فإن كسب الولد التحق بسائر أموال المكاتب، من جهة أنه يتصرف فيه تصرفه في سائر ماله.
ثم قال العراقيون: إذا جنى ولد المكاتب، ولا كسب، وأراد بيعه في الجناية، فله أن يبيع كله، وإن كانت قيمته تزيد على الأرش، ثم قالوا: يبيعه ويصرف قدر الأرش إلى المجني عليه ويأخذ الباقي، وهذا خطأ أيضاً.
والذي قطع به أئمتنا المراوزة أنه لا يباع [منه] (2) إلا بقدر الجناية؛ إذ لولا الجناية، لما جاز بيع شيء منه، فليقع البيع على قدر الجناية، وهذا كما أن المرهون إذا جنى، فإنه يباع منه بقدر الجناية، فقد اختلف أجوبة العراقيين في الجناية من ولد المكاتب. واستدوا (3) في كل ما قدمناه من القواعد.
وهذا نجاز الكلام في ولد المكاتبة والمكاتب.
12573- ونحن نختتم ما قدمناه بذكر تحقيقٍ. فنقول: أما ولد المكاتبة، فمأخذ اختلاف القول فيه في الأصول من اختلاف القول في ولد المدبرة؛ من جهة أن الكتابة عرضة للرفع كالتدبير، وليست هي مالكةً لنفسها، حتى يكون ولدها مستفاداً من
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وفي (ت 5) : " فإنه يبذل في شرائه ما لا يملك بالتصرف في ولد رقبته ".
هذا وقد استأنسنا في تعديل العبارة، بصياغة الغزالي في البسيط، حيث قال: " ... فليس له أن يفديه وإن كان للولد كسب، لأنه لا يتصرف في رقبة الولد، ويتصرف في الكسب، فيكون كشرائه" (ر. البسيط: 6 ص 442 مخطوطة مرقمة الصفحات) .
وكذلك بعبارة العزّ بن عبد السلام، فقد قال: " ولا خلاف أن المكاتب والمكاتبة لا يشتريان ولدهما، فإنه إبدال ما يجوز التصرف فيه بما لا يقبل التصرف، فإذا جنى ولد المكاتب، لم يملك فداءه، لأن فداءه كشرائه " (الغاية في اختصار النهاية: 5/ورقة: 454 ش) .
(2) في الأصل: " فيه "، والمثبت من (ت 5) .
(3) كذا في النسختين " استدّوا " أي استقاموا، والمعنى أنهم استدوا في كل ما تقدم من القواعد غير هذه.(19/426)
ملكها. وولد المكاتب من جاريته في حكم أكساب المكاتب، وإلا فلا وجه لإتباعه إياه في العتق والرق؛ فإن صفة الولد في الرق والحرية تُتَلَقَّى من صفة الأم، والأم رقيقة، فكان ولدها في معناها، غير أن المكاتَب لا يقدر على بيعه.
وقد خرج مما ذكرناه أن الولد لا يكون مكاتباً على التحقيق؛ إذ لا يتعلق به طَلِبةٌ في النجم، وخرج مما مهدناه أن المكاتب لا يشتري ولده (1) ، وكذلك المكاتبة لا تشتري ولدَها، لِما أشرنا إليه من أن هذا بذل مال، هو عرضة التصرف في مقابلة ما لا يتأتى التصرف فيه. نعم، لو قبلا الوصيةَ بالولد، أو هبةَ الولد، صح ذلك، ثم يمتنع بيعُه، ولكنهما ينتفعان بكسبه وبأروش الجناية عليه، وسيأتي في هذا فضل بيان عند خوضنا في تبرعات المكاتب.
وخرج مما ذكرناه أن قول العلماء ولد المكاتَب مكاتبٌ عليه محمولٌ على أنه يعتق بعتقه ويرِق برقه، فأما أن تثبت له حقيقة الكتابة فلا.
12574- ومما نختتم به الفصل - القولُ في أمية الولد، فنقول: المكاتب إذا أحبل جارية من جواريه بإذن السيد، أو من غير إذنه، فحكم الولد ما قدمناه، فأما الأم، فهل تصير أمّ ولدٍ له؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها لا تصير أم ولد؛ لأن الاستيلاد إنما يثبت إذا علقت الأمةُ بولد حر، وهذه علقت بولد رقيق، فهي كسائر الجواري، يتصرف فيها بالبيع، وغيره من الجهات المُنَفَّذة، ئم إذا لم يثبت الاستيلاد في الحال، فلو عَتَق المكاتب، وتلك الجارية في يده، فلا تصير الآن أم ولد أيضاً؛ فإنها علقت برقيق، فصار كما لو نكح الحر أمة، فولدت منه ولداً رقيقاًً، ثم اشتراه الزوج، فلا تصير أم ولد له.
والقول الثاني - أنها تصير أم ولد، فيثبت لها في الحال من الحرمة ما يثبت للولد، فلا يبيعها، ولو عَتَق المكاتب، استقر الاستيلاد فيها، ولو رق وعجز، رقَّت أم الولد، وحرمتها لا تزيد على حرمة الولد.
__________
(1) ت 5: " لا يسري أم ولده ".(19/427)
فرع:
12575- إذا استولد المكاتب جارية من جواريه، وقلنا: لا تصير الجارية أم ولد، فلو عتق المكاتب، وولدت الجارية ولداً آخر بعد العتق بزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به بعد العتق، ويحتمل أن يكون في حال الكتابة؛ فإن أقر بوطءٍ بعد العتق يمكن ترتيبُ العلوق عليه، تثبت أميةُ الولد على الاستقرار، وإن لم يوجد من المكاتب إقرار بوطء بعد العتق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تصير أمَّ ولد؛ فإن الولادة التي سبقت في الكتابة، لم يثبت لها حكم أصلاً، وقد ارتفعت الكتابة بالعتق، ولم يثبت إقرار جديد بالوطء بعد تغير الحكم بالعتق.
والثاني - تصيرُ أمَّ ولدٍ له؛ فإن الولد يَلحق المكاتَب، وهذه وإن لم تصر أمَّ الولد بما جرى في الكتابة، فقد صارت فراشاً له، فإذا أتت بولد بعد العتق، وقد صارت مفترشة حقيقة وحسّاً بما مضى، فيلحقه الولد، وتصير أم ولد بعد العتق.
وقد ذكرنا نظائر لذلك في كتاب العِدد، إذا اشترى الحر زوجته الأمة، وأتت بولد بعد ارتفاع النكاح لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في ملك اليمين، ولم يوجد منه إقرار بالوطء في ملك اليمين.
***(19/428)
باب المكاتبة بين اثنين يطؤها أحدهما أو كلاهما
قال: " وإذا وطئها أحدهما، فلم تحبل ... إلى آخره " (1) .
12576- المكاتبة المشتركة بين اثنين، إذا وطئها أحدهما - فلا يخلو إما أن يتصل الوطء بالإحبال، وإما أن يعرى عن الإحبال.
فإن لم يُحبلها، التزم مهر المثل لها، وسلمه إليها، فكان من جملة أكسابها. وإن أحبلها، نُظر: فإن كان معسراً، فيصير نصيبه أم ولد، ولا منافاة بين أمية الولد والكتابة، وسنبين أن مكاتبة أم الولد ابتداءً صحيحة، ثم لا سريان؛ لكونه معسراً، وفي الولد قولان حكاهما الصيدلاني: أحدهما - أن النصف منه حر، والنصف رقيق؛ فإن الوطء المُعْلِق صادف مشتركة، وانتفى السريان، فكما اقتصرت أمية الولد على النصف، وجب اقتصار الحرية على نصف الولد.
والقول الثاني - أن الولد يعلق حراً؛ فإن الرق لا يتبعض ابتداءً، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم مع نظائرَ وأمثلةٍ.
ثم إن حكما بتبعيض الحرية، فالنصف الرقيق سبيله سبيل ما لو كان جميع الولد رقيقاً، وقد مضى التفصيل في ولد المكاتبة، فإنه رقيق، [وتسري] (2) الكتابة إليه، إلى آخر التفصيل.
وأما النصف الذي وقع الحكم بحريته، فإن قلنا: ولد المكاتبة من زنا أو نكاح رقيق للمولى، فهذا النصف الذي انعقد حراً لا يضمن الواطىء قيمتَه؛ فإنه لو كان رقيقاًً، لكان له، وإن قلنا: لو كان رقيقاً، لسرت الكتابة إليه، فإذا انعقد حراً، فَمَنْع الرق بمثابة إتلاف الرقيق، وقد تقدم التفصيل في أن ولد المكاتبة إذا قتله أجنبي،
__________
(1) ر. المختصر: 5/278.
(2) في الأصل: " إذ تسري ".(19/429)
فقيمته لمن؛ فإن قلنا: القيمة للمولى، فلا قيمة في مسألتنا على المولى في النصف الذي انعقد حراً، وإن قلنا: القيمة للمكاتبة، غرم لها نصفَ القيمة، ومنعْ الرق كالإتلاف.
ولو حكمنا بأن الولد حر كله، فالقول في النصف، كما مضى، والنصف الآخر لا شك أنه يجب على الواطىء قيمته، والكلام في أنه يصرف إلى المكاتبة أو إلى الشريك، ولكن الواطىء معسر، فيقع ذلك النصف في ذمته إلى أن يجد.
هذا كله إذا كان الواطىء معسراً.
فأما إذا كان الواطىء المعْلِق موسراً: أما الولد، فلا خلاف أن الولد يعلق حراً؛ لأنا نعلّق بهذا الوطء الاستيلاد في الجارية، وإنما الخلاف في وقت السريان، وكل وطء يتعلق به أمية الولد عاجلاً أو آجلاً، فالولد يكون حراً، لا محالة.
وقد يعلق الولد حراً إذا جرى الوطء بشبهة في ملك الغير، ولا يثبت الاستيلاد في الجارية (1) ، وقد نقول: لا يثبت أيضاً إذا ملك الموطوءة، فإذا تعلقت حرمة (2) الاستيلاد بالوطء، فلا يخفى أن الولد يعلق حراً.
ثم أول ما نذكره إذا كان المُعْلِق موسراً، تفصيل القول في وقت سريان الاستيلاد، فنقول: إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من المكاتب، ففي سريان العتق -والمعتق موسر- قولان: أحدهما - أنه يتنجز في الحال. والثاني - أنه يتأخر إلى عجز المكاتب في باقيه. وقد مضى هذا مفصلاً.
12577- ونعود بعد تجديد العهد إلى الاستيلاد. وقد اختلف أصحابنا في وقت سريانه على طريقين: فمنهم من قال: في الاستيلاد ووقت سريانه قولان كالقولين في العتق. ومنهم من قطع بتأخر سريان الاستيلاد إلى عجز المكاتبة في باقيها ورقها، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي قطع جوابه بتأخير سريان الاستيلاد، وردّد القول في العتق.
__________
(1) ت 5: " ولا يثبت الاستيلاد في الحال ".
(2) كذا في النسختين " حرمة الاستيلاد " وهي بمعنى حقيقة الاستيلاد.(19/430)
والفرق أن تسرية العتق في الحال يقتضي نقلَ الملك، ونقلُ الملك في المكاتب في ظاهر القياس يتضمن فسخ الكتابة، كما ذكرنا طرق الأصحاب في ذلك، ولكنا نحتمل هذا -في قولٍ- من جهة أن الكتابة إن كانت تزول، فالعتق الناجز يخلفُها، فلو قلنا: يثبت الاستيلاد ناجزاً، لاقتضى سريانُه نقلَ الملك في حصة الشريك إلى المستولد، وهذا يتضمن لا محالة رفعَ الكتابة على الطريقة الظاهرة، فلو صرنا إليه، لكنا رافعين للكتابة بأمية الولد، وأمية الولد ليست تنجيز عتق، وإنما هي توقع عتق، والكتابة لازمة من جهة المولى، فلا يسوغ رفعها من غير أن يخلفها عتقٌ ناجز.
فإن قال من أجرى القولين: أمية الولد أثبتُ (1) من الكتابة؛ فإن الكتابة عرضةُ الفسخ بخلاف الاستيلاد، قيل له: الأمر كذلك، ولكن حصول المقصود مربوط بالموت، وأداءُ النجوم أقرب إلى التوقع من الموت في شخص، والبقاء في شخص، وقد يُظن ذلك ثم ينعكس الأمر.
هذا قولنا في الاستيلاد ووقت سريانه.
12578- فأما الكلام في قيمة الولد: فإن جرينا على المسلك الأصح، وقلنا: يتأخر سريانُ العتق إلى العجز في الباقي، فالكلام ينقسم في شطري -الولد- وإن كان كله حراً- أما النصف الذي يقابل حصةَ المستولد، فقد جرى فيه منعُ الرق.
فإن قلنا: حقُّ الملك للمكاتبة في ولدها، فلا شك أن السيدَ المستولدَ يغرَم لها نصفَ القيمة ناجزاً. وعلى هذا لا توقف في النصف الثاني؛ فإن حق الولد -على القول الذي نفرع عليه- للمكاتبة، والكتابة بعدُ قائمة؛ فإن النصف الذي ثبت الاستيلاد فيه لم ترتفع الكتابة عنه، ولم يَجْرِ الاستيلاد في النصف الآخر، فليغرَم تمامَ القيمة لها.
وإن قلنا: ولد المكاتبة رقيق، فلا يغرم المستولد على مقابلة حصته شيئاً، ويغرم في الحال قيمة النصف الآخر لشريكه، وسريان الاستيلاد منتظر.
__________
(1) ت 5: " أمية الولد من الكتابة " (سقطت كلمة " أثبت ") .(19/431)
ومن أحاط بما قدمناه في ولد المكاتبة، لم يخف عليه تخريج هذه المسائل على ما تقدم.
ولا شك أن ما نذكره فيه إذا انفصل الولد حياًً، هذا هو التفصيل البين المفرّع على تأخير سريان الاستيلاد.
فإن قلنا على الطريقة البعيدة: ينفذ الاستيلاد في الحال، ثم قلنا: تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، للاحتياج إلى نقل الملك، فلا شك أنا على ذلك نقول: بقيت الكتابة في نصفه منهما، وانفسخت الكتابة في النصف الذي كان لشريكه، وخَلَفَت الكتابةَ أميةُ الولد.
فأما قيمة الولد، فالكلام يقع في شقي الولد، فأما النصف الذي يقابل نصيب المستولد، فهو مخرج على أن الحق في ولد المكاتبة لمن؟ وأما النصف الآخر الذي حكمنا بانفساخ الكتابة، فالقول فيما يقابل ذلك النصف -وقد انفسخت الكتابة فيه- مأخوذ من استيلاد أحد الشريكين الجارية القِنَّة -والتفريع على تعجيل السريان- فالولد حر.
وفي قيمة الولد قولان: أحدهما - أنها لا تجب. والثاني - أنه يجب نصف قيمة الولد للشريك، وهذا مبني على أن العلوق على الحرية هل يقترن بنقل الملك، أم يقع بعده، أم يتقدم على النقل؟ وكل هذا مما مضى.
ومن انتهى من هذا الكتاب إلى هذا الموضع وطلب الإحاطة بما فيه، لم تخف عليه أمثال ذلك. هذا تمام البيان.
12579- وقد خلط الصيدلاني هذا الفصل، وأتى بكلام متهافت، وأنا أرى نقلَ كلامه بلفظه، ثم نتتبعه.
قال: "والولد حر ثابت النسب، وينظر في قيمة الولد، فإن جاءت به قبل أن عجزت، فنصف قيمة الولد واجب عليه، وإن جاءت به بعد أن عجزت وأدى القيمة، فلا يلزمه من قيمة الولد شيء، وإن جاءت به بعد أن عجزت، وقبل أن أدى القيمة - فإن قلنا: السراية تقع يوم الإحبال في سائر المواضع -وهاهنا يوم التعجيز- فلا(19/432)
يلزمه من قيمة الولد شيء، وإن قلنا: يوم أداء القيمة، غرم نصف قيمة الولد".
ْهذا لفظ الصيدلاني في كتابه. وهو خطأ صريح. ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه أن ما سواه غلط، ومعنى ما ذكره أن الولد حر لا محالة، وهذا سديد، ثم قال: " فإن جاءت به قبل (1) أن عجزت "، أراد إن ولدته، فنصف قيمة الولد واجب على المستولد. وأين هذا من التفصيل المطلوب في قيمة الولد: وأنها للمكاتبة، أو للمولى، وما وجه الاقتصار على نصف القيمة؟
ثم قال: إن جاءت به بعد العجز وأداء القيمة عند السريان، فلا يلزمه من قيمة الولد شيء - أراد بذلك أنها إذا عجزت في باقيها ورقت، وربما فرض عجزها في النصف الذي يثبت الاستيلاد فيه ابتداء، فإذا أتت بالولد وهي مستولدة، وقد زالت الكتابة بالتعجيز، فقد تحقق الولاد في ملكه، والاعتبار بحالة الولادة؛ ولهذا قلنا لو انفصل الولد ميتاً، لم يجب الضمان، فإذا وقعت الولادة في حالة خلوصها له، فلا ضمان أصلاً.
هذا ما فهمتُه من كلامه، وانقدح لي من توجيهه، وهو ليس بشيء؛ فإنا ذكرنا في قيمة الولد عند جريان الاستيلاد من أحد الشريكين في الجارية المشتركة قولين: أحدهما - أنه يجب مقدار حصة الشريك من القيمة، وهذا مبني على تقدم العلوق على انتقال الملك، ثم الولادة تقع بعد هذا الحكم، وبعد الانتقال بأشهر، وكذلك الأب إذا استولد جارية الابن، وأوجبنا عليه قيمة الولد على قولٍ، فهو جارٍ على القياس الذي ذكرناه في الجاربة المشتركة، وإن كانت الولادة تقع بعد انتقال الملك.
وذاك الذي خيّلنا به من تشبيه انفصال الولد في ملكه بانفصاله ميتاً ليس بشيء؛ فإن الحرية إذا تحققنا تقدمها؛ ثم علمنا حياة الولد -والحر وإن انفصل في حالة كون الأم مملوكة- فلا حق في الحر لمالك الأم، وإذا انفصل الولد ميتاً، فلم تتحقق حياته، فكان [كالعديم] (2) الذي لا حكم له في موجب الغرم، فلم يتحصل مما ذكره شيء.
__________
(1) ت 5: " بعد ".
(2) في الأصل: " كالغريم " والمثبت من (ت 5) .(19/433)
وباقي كلامه مختبط؛ فإنه بناه على ما ذكرناه، ولا يلتبس على من شدا طرفاً من الفقه أن المسلك الحق في ترتيب المذهب ما قدمناه، وما عداه خبط وخيال.
12580- ومن تمام الكلام في هذا الفصل أنا رأينا الاستيلاد وسريانه أولى بالتأخير من العتق، والذي ذهب إليه [معظمُ المرتبين] (1) أن أحد الشريكين إذا أعتق الجارية المشتركة، ففي سريان العتق الأقوالُ المعروفة.
ولو استولدها، وقلنا: العتق يتعجل سريانه، فالاستيلاد أولى بالتعجيل. ومن أصحابنا من قال: لا فرق. وقد ذكرنا في هذا الفصل أن الاستيلاد أولى بالتأخير من العتق. والفرق بين القاعدتين أن الاستيلاد في الرقيقة القنة يصادف ملكاً يقبل النقل، بخلاف ما إذا جرى في المكاتبة. ثم احتملنا تعجيل سريان العتق في المكاتبة على قولٍ؛ لأن العتق يعجل مقصود الكتابة، والاستيلاد توقع المقصود، وهذا على ظهوره لا يضر ذكره (2) .
فصل
قال: " فإن وطئاها ... إلى آخره " (3) .
12581- قد ذكرنا في الفصل المتقدم وطء أحد الشريكين إذا عَرِيَ عن الاستيلاد، أو أفضى إليه، وهذا فيه إذا وطئاها جميعاً، فإن لم يثبت استيلاد، فعلى كل واحد منهما مهرُ مثلِ المكاتبة لها؛ فإن المهر عوضُ منفعة البضع، فهو مصروف إليها، فإن لم يتفق منهما غرم المهرين حتى ماتت المكاتبة، وجرى الحكم برقها، أو لم يغرما حتى عجَّزت نفسَها، فإن استوى مقدار المهرين، جرى بين الشريكين التقاص، وسنذكره مفصلاً على القرب، إن شاء الله، وإن تفاوت المقدار بسبب تفاوت الزمان، واختلاف صفة الموطوءة فيما يلحقها من التغايير، لم يَخْفَ التفصيلُ.
__________
(1) زيادة من (ت 5) .
(2) من هنا بدأ خرم جديد في (ت 5) استغرق فصلاً بتمامه من أوله إلى آخره.
(3) ر. المختصر: 5/278.(19/434)
ولو وطئا وأتت بولد، وأمكن أن يكون منهما على البدل، فحكم النسب لا يخفى، فإن ادعياه، أَرَيْنا الولدَ القائفَ، وإنما غرضُنا من الفصل بيانُ الاستيلاد والغُرم، وليقع الغرض فيه إذا كانا موسرين، وادعى كلُّ واحد منهما أن الولدَ ولدُه، والجارية أمُّ ولده، فإذا تنازعا كذلك، وأَرَيْنا الولدَ القائفَ، فألحقه القائفُ بأحدهما، التحق النسب، وقدّرنا كأنه المنفرد بالاستيلاد، ويصير قول القائف حجةً في الواقعة؛ فإن النسب إذا ثبت، فلا شك أن الولد ولدها، فإذا انتسب إلى أحدهما، فهي أم ولده، وهذا بمثابة إثباتنا الولادة في النكاح بشهادة نسوةٍ [والفراش] (1) يلحق النسب، وإن كان النسب لا يثبت بشهادة النسوة المجردات.
ولو فرضنا هذه المسألة في الرقيقةِ القِنة، لكان ذلك أقربَ إلى إيضاح الغرض، حتى لا نحتاج إلى تأخير الاستيلاد وفرض العجز، فليقع الكلام في الرقيقة، والحكم ما ذكرناه من نفوذ الاستيلاد، ولحوق الولد.
ثم إذا نفذنا استيلادَه، فلا يغرَم لشريكه قيمةَ نصيبه؛ لأنه ادعى أن الجارية مستولدتُه، وهو مؤاخذ بموجَب إقراره، ولو صح ما قاله، لما وجب على شريكه غُرم، هذا إذا وجدنا القائف.
فأما إذا لم نجد وعسُر الأمر، والمتداعيان موسران، فنحكم بثبوت الاستيلاد في نصف كل واحد منهما، فيعم الاستيلادُ الجاريةَ، ولكن يضاف إلى كل شريك نصفُ الاستيلاد، والسبب فيه أنهما مستويان، وليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، ويدُ كل واحدٍ ثابتة على النصف، والملكُ مترتب على [اليد] (2) ، وليس أحدهما أولى بالسراية من الثاني. فالوجه عند إشكال النسب ما ذكرناه، ثم لا تراجُعَ بينهما لما نبهنا عليه.
ولو أقرا بالوطأين، ولم يتعرضا للتداعي في الولد [بل] (3) سكتا عنه (4) ، فالولد
__________
(1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق، فهي في الأصل: " الفراش " بدون (واو) .
(2) في الأصل: " السيد ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) المعنى أنهما لم يتنازعا الاستيلاد، بل سكتا.(19/435)
نُري القائفَ، فإذا ألحقه بأحدهما، التحق به، وثبت الاستيلادُ وسريانُه في حقه، ثم يلزمه أن يغرَمَ لصاحبه قيمةَ نصيبه، والأمر في الولد على ما ذكرناه في الجارية المشتركة إذا انفرد أحدهما بوطئها واستيلادها، والغرض من هذه الصورة أن قول القائف، اقتضى ذلك كلَّه، ولم يوجد من الشريك إقرارٌ ينافي الغرم، فجرى الأمر على ما وصفناه.
ومما يتعلق بهذا الفصل، أنا إذا لم نجد القائفَ، راجعنا الولد بعد بلوغه، كما تفصل في موضعه، فإذا التحق بأحدهما لحقه.
فليت شعري: ماذا نقول في الغرم، والشريكان ساكتان؟ أنثبته بقول الولد، كما أثبتناه بقول القائف؟ أو نقول لا يثبت الغرم بقول الولد؟ هذا فيه احتمال وتردد بيّن، والأصحابُ وإن لم يصرحوا به، ففي قواعد كلامهم ما يشير إلى التردد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانا موسرين.
فأما إذا كانا معسرين، فلا سريان في الاستيلاد، فإذا تردد الولد بينهما، ثم فرض إلحاقٌ من القائف، لم يخفَ التفريع، فيثبت الاستيلاد في حصة من لحقه النسب، ولا سريان، ويثبت الاستيلاد في نصيب الثاني لإقراره، وإذا وضحت الأصول، وتكررت الفروع، لم يكن في إعادتها معنى.
فصل
قال: " ولو ادعى كل واحد منهما أن ولده وُلد قبل صاحبه ... إلى آخره " (1) .
12582- صورة المسألة: أن تأتي الجارية بولدين من الشريكين، والتحق بكل واحد منهما ولد، فقال كل واحد منهما: ولَدَتْ مني هذا الولد قبلَ أن وَلَدَتْ منك الولدَ الذي لك، والولدان متقاربان في السن، وأشكل الأمرُ، فالاستيلاد ثابت، ولا ندري أن الجارية أُتمُ ولد مَن منهما؟ وليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، والفرض في القِنة، والشريكان موسران، والتفريع على تعجيل السراية، ثم هما
__________
(1) ر. المختصر: 5/279.(19/436)
جميعاً مؤاخذان بالإنفاق عليها، فإذا مات أحدهما، عَتَقَ نصفُها في ظاهر الحكم؛ فإن كل واحد منهما مؤاخذ بإقراره فيما هو تحت ملكه ويده، ولو ماتا، عَتَقَت ظاهراً وباطناً، وولاؤها موقوف؛ فإنا لا ندري من المعتِق منهما.
ولو كانا معسرين وجرى ما وصفناه وماتا، فلا شك أنها تعتِق، ولكن لا إشكال في الولاء (1) ، فيثبت لكل واحد نصفُ الولاء.
وحكى الربيع في المعسَرَيْن، حيث انتهى التصوير إليه أن الولاء موقوف. وهذا غلطٌ بإجماع الأصحاب، لا يعد مثله من المذهب، وذلك بيّن. وإنما نذكر أمثاله حتى نوضح وجهَ الزلل فيه. والله أعلم.
***
__________
(1) ت 5: " الإشكال في الولاء ".(19/437)
باب تعجيل الكتابة
12583- مضمون الباب شيئان: أحدهما - القول في تعجيل المكاتَب النجمَ، وهذا مما قدمناه، ولكنا نزيد فضلَ تفصيل حتى لا يَعْرَى البابُ عن مزيد: فإذا عجل المكاتبُ النجمَ قبل حلوله، تعين على السيد قبولُه، إذا لم يكن على السيد في قبوله ضرر، وقد فصلنا هذا فيما مضى، والذي نَزِيدُه أن ابتداء الكتابة لو كان في زمان نهب وغارة، ثم استمرت تلك الحالة، فجاء المكاتَب بالنجم، فقال السيد: لا أقبله للضرر، وقال المكاتَب: لقد كانت هذه الحالةُ مقترنةً بالعقد، ولم يتجدد أمر لم يكن، ففي هذه الصورة وجهان للأصحاب: أحدهما - أن السيد لا يُجبر على قبول النجم المعجَّل. والثاني - أنه مُجبر عليه؛ لاستواء الحال.
فصل
قال: " ولو عَجّل بعضَ الكتابة على أن يبرئه من الباقي ... إلى آخره " (1) .
12584- صورة المسألة: أن السيد إذا استدعى من المكاتب أن يُعجِّل له نجماً، فقال المكاتب: أُعجل لك بشرط أن تَحُطَّ عني بعضَ النجم، فقد نقل المزني في هذا ترديداً في النص، وجعل المسألة على القولين في أن الإبراء هل يصح على هذا الوجه [، وهل يصح الأداء] (2) على هذا الوجه؟
وقد ذهب المحققون من الأصحاب إلى تغليط المزني ونسبتِه إلى الوهم والزلل؛ فإن الإبراء المعلَّقَ بالشرط باطلٌ، وتعجيلُ أداء النجم -إذا عُلق بشرطٍ- غيرُ صحيح، وليس هذا مما يجوز التماري فيه.
وذهب الأكثرون إلى حمل كلام الشافعي على غير الشرط، وقالوا: المسألة
__________
(1) ر. المختصر: 5/280.
(2) في الأصل: مكان بين المعقفين " قبل الأداء ".(19/438)
مفروضة فيه إذا عجّل المكاتب، فتفضّل السيد من تلقاء نفسه وأبرأ عن مقدارٍ، فأما إذا جرى الشرط على حقيقته، فليس إلا الفساد، فإن جرى الإبراء معلَّقاً بشرط التعجيل، فسد، والدَّينُ بكماله باقٍ، وإن عجل المكاتَب الأداءَ، وشرطَ الإبراء، فأداؤه باطل.
ولست أستجيز أن أنقلَ جملةَ ما اختلف الأصحاب فيه في هذا الفصل؛ فإني لست أرى فيه مزيد فقه، ولا كلاماً مُخيلاً تَمَسُّ الحاجةُ إلى نقله ليعتمد، هذا مضمون الباب.
12585- ثم نقل الأصحاب عن الشافعي شيئاً، إذا أفسدنا الأداء المشروط وهو مذكور في (السواد) قال: " إن أراد أن يَسْلَم له مقدارٌ من النجم، فليقل للمكاتَب: عجِّز نفسك وأنا أُعتقك على المقدار الذي أبغيه منك " (1) .
وهذا الذي ذكره الشافعي مشكل، فإنه إذا عجّز نفسه، انقلب إلى السيد جميع ما في يده، فمن أي موضع يؤدي المشروط أولاً؛ ثم السيد بعد جريان التعجيز يستبد بجميع ما في يده، وتنقلب رقبته إليه رقيقاًً، ولا يلزمه الوفاء بإعتاقه على مال، فذلك العوض يقع في ذمته، وقد فاز السيد بجميع ما كان منسوباً إلى مِلْكه قبل التعجيز، فكيف ينتصبُ هذا ذريعة إلى تحصيل التعجيل، مع تحقيق غرض المكاتَب في التخفيف عنه في مقدارٍ من النجم، وهذا استئصالُ جميعِ ما في يده مع إلزامه مزيداً في ذمته.
ووراء ما ذكرناه نوعان من الإشكال آخران: أحدهما - أن غرض المكاتَب استتباعُ أكسابه وأولاده، وإذا عجّز نفسَه، وانقطعت المكاتبة، لم يتبعه الكسب والولد بعد انقطاعها. هذا وجه. والوجه الثاني - نورده جواباً عن سؤال، قال صاحب التقريب: إن أراد المكاتب أن يثق بموعد السيد، لم يُسعفه بما قال، حتى يقول المولى: إذا عجَّزت نفسك، ثم أعطيتني ألفاً، فأنت حر، فتحصل الثقة بعد حصول التعليق.
__________
(1) ر. المختصر: 5/280. والذي نقله الإمام هنا ليس لفظ المختصر، بل بمعناه.(19/439)
وهذا فيه نظر؛ من جهة أن تعليق العتق بالأداء يقع إنشاؤه في حالة استمرار الكتابة، وما لم ترتفع الكتابة، لم يصح إثبات عقد عَتاقة آخر على مال، فكأنه أوقع تعليق عقد في وقت لا يملك إنشاءه، ومن مذهب الشافعي أن ما لا يصح تنجيزُه في وقت لا يصلح تعليقُه فيه، وهذه أمور مضطربة، لا يشك الفقيه في خروجها عن ضبط المذهب على أي وجه قُدِّر، ثم إن جُوِّز مثلُ هذا التعليق، تعويلاً على استمرار الملك، فكيف الجواب عن استتباع الكسب والولد.
وقد قال شيخي أبو محمد رضي الله عنه: من أصحابنا من قال: إذا أدى بعد التعجيز ما شرط عليه، استتبع الكسبَ والولدَ، فإن هذا شرطٌ جرى في كتابةٍ لتحصيل غرض المولى.
وهذا عندي لا مساغ له، وهو هدمُ أصل المذهب، وإثبات ما لا يليق مثلُه بقاعدة الشافعي، وإن لم يكن من مثل هذا بدٌ؛ رعايةً لغرض المولى والمكاتب، فما ذكره المزني من نقل قولٍ في صحة الأداء والشرط أمثلُ من هذا، ولا خير في شيء منه.
والوجه أن يقال: في نقل ذلك خلل، أو بادرةٌ صدرت من غير فكر من ناقلٍ على قياس مذهب الشافعي. والله أعلم. ثم المعلَّقُ عتقه بالأداء إذا أدى ما لا يملك، ففيه كلام طويل وتفصيل، ثم عاقِبتُه أن يغرم قيمةَ نفسه، ويفوزَ السيد بما يأتي به من حساب ارتداد الأكساب إليه بسبب تعجيز المكاتب نفسه، وبالجملة هذا سوء تدبير العبد.
***(19/440)
باب بيع المكاتب وشرائه (1)
قال: " وبيعُ المكاتَب وشراؤه ... إلى آخره " (2) .
12586- مقصودُ الباب ضبطُ المذهب فيما ينفذ من معاملات المكاتَب، وفيما لا يصح منه الاستقلال به، ولو فعله بإذن المولى، ففيه قولان.
فنقول: بيعُه بثمن المثل من غير أجلٍ نافذٌ، وشراؤه إذا لم يتضمن التزامَ غَبْن، صحيحٌ، وانفرادُه بما هو تبرع من المريض محسوب من الثلث مردودٌ، وإذا تبرع بإذن السيد، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن تصرفه ينفذ؛ فإن الحق لا يعدوهما. والثاني - أنه لا ينفذ؛ لأن المكاتب باستقلاله خرج عن التعرض لإذن المولى، فضعف من هذا الوجه إذنُه، وامتنع انفراده بالتبرع؛ فانتظم من ذلك انحسام التبرع عليه؛ فإن الإذن إنما يقع الموقع ممن يملك الاحتكام، وليس السيد كذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة (3) .
ثم ألحق الأصحاب بما يمتنع على المكاتب التسري؛ بما فيه من الإفضاء إلى الإعلاق، وتعريض الموطوءة لخطر الطَّلْق، وهذا بمثابة منعنا الراهنَ من وطء الجارية المرهونة. وكان شيخي لا يُبعد إجراءَ الوجهين في وطء الجارية يُؤْمَنُ حَبَلُها.
وهذا غير مرضيٍّ -وإن أجرى الأصحاب هذين الوجهين في الراهن والمرهونة- من جهة أن المكاتب عبدٌ، وهو بالوطء يتصرف في نفسه بما يوهي القوة ويُضعف المُنَّة، ولا ضبط يُتخذ مرجوعاً للمذهب فيما يجوز من ذلك ويمتنع، والوجه الحسم، وإن أراد التسري بالإذن، ففيه الخلاف المذكور، كما تقدم في جميع التبرعات.
__________
(1) ت 5: " باب نكاح المكاتب وشرائه ".
(2) ر. المختصر: 5/280.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 5/63، الفتاوى الهندية: 5/6.(19/441)
12587- ومما ألحقه الأصحاب بقبيل التبرع البيعُ نسيئة من المليء الوفى، وإن فُرض تأكيد الثمن بوثيقة الرهون، وهذا فيه بعض الغموض؛ فإن مثل هذا مما نجوّزه للقيّم، أو للأب، في مال الطفل مع شدة العناية بالنظر له، ورعايةِ نهاية الغبطة.
والذي أراه أن هذا لا يُخَرَّجُ على قانون المذهب في منع الوكيل المطلق عن البيع نسيئة؛ فإنا نُدير أطراف تلك المسألةِ على العادة إذا اطردت، وعليها إذا اضطربت، والمالك للأمر هو الموكِّل، وليس المكاتَب متصرفاً للسيد، حتى يُحمَلَ تصرفُه على ما يقترن بالإذن المطلق من العادات، ولكن الوجه فيه أن رفع اليد عن المبيع غررٌ في الحال، والكسبُ حقُّ السيد، وإنما أثبت الشرع للمكاتب التصرفَ فيه على شرط ألا يركب غرراً ناجزاً، ورفعُ اليد عن المبيع غرر، وفيه تحقيق للضرر على ارتقاب فائدةٍ في العاقبة، وهذا تصرف من المكاتب في الكسب، حقُّه أن يكون للمولى بما يقطع السلطان عنه في الحال، ويستبدل عن النقد وعداً قد يُخلف.
وليس تصرفه كتصرف الولي في مال الطفل؛ فإنه محمول على ما يعدّ مصلحة، والبيع الموصوف يُعدُّ مصلحةً، والمكاتب لم ينصبه الشرع ناظراً، والكسب في الحقيقة ليس له؛ فلينحصر تصرفه على أمر ناجز يكون ذريعةً إلى تحصيل العتق، والدليل عليه أن المريض إذا باع نسيئة طال نظر الفقيه في اعتبار تصرفه من الثلث، على تفاصيلَ قدمناها في الوصايا، والسبب فيه أنه في الثلثين متصرفٌ في حق الورثة، فلم ينصبه الشرع ناظراً لهم، فهذا تحقيق ما أردناه.
والذي أراه القطعُ بأنه يبيع العَرْضَ بالعَرْض؛ إذ لا [غرر] (1) والمالية هي المرعية، بخلاف الوكيل؛ فإن أمره مفارقٌ لأمر المكاتَب، والمريض ينفذ منه بيع العَرْض إذا عريت الصفقة عن غبينة.
12588- وأما إذا أراد أن ينكح، فلا شك أن النكاح يجر إليه مؤناً، ويُلزمه في الحال المهر، وليس مستبدِلاً عنه مالاً على الحقيقة، ولكن الحاجة قد تمسّ، فاضطرب أصحابنا: فمنهم من نزّل نكاحه منزلةَ التبرعات في الاستقلالِ، والصدورِ
__________
(1) في الأصل: " غرض " وفي (ت 5) : " عرض ".(19/442)
عن الإذن، وهذا هو القياس المعتمد. ومنهم من قطع القول بصحة النكاح، إذا صدر عن إذن المولى؛ للحاجة التي أشرنا إليها.
وهذا ليس بشيء؛ من وجوه: منها - أن أحداً من الأصحاب لم يُطلق انفرادَه بالنكاح، ولو تحقق التعويل على الحاجة، لوجب إلحاق نكاحه بأكله وشربه حتى يستبدَّ به، ولم يصر إلى هذا أحد. والآخر - أن التسري يلزم إخراجُه على قياس النكاح، وإن كان فيه تعريضُ الجارية لخطر الطَّلْق. والآخر - أن مدة الكتابة متناهية، فلا يبعد تكليفُه الصبرَ، وارتقابَ الخلاص من الرق.
وأما تزويج المكاتبة، فالنظر فيه على وجه آخر، فإنه ليس من التبرع، حتى يُلحقَ بما قدمناه، ولكن عَسُر مُدرك تصحيحه؛ من جهة أنها لا تستقل، والسيد لا يليها، وليس مالكَها المستقل؛ فمن هذا الوجه التحق تزويجها في ظاهر الأمر بتزوج المكاتب، وإن بَعُد المأخذان، وإنما يتشابهان في ظاهر الحال (1) ، ومن الأصحاب من يقطع بالمنع، لما نبّهنا عليه.
12589- ومما ذكره الأصحاب أن المكاتب إذا باع بنقدٍ لم يبدأ بالتسليم للمبيع؛ فإن هذا رفعُ اليد من (2) المال على غرر، فكان في معنى البيع نسيئة.
واختلف أصحابنا في أن المكاتب هل يُسْلمُ في أجناس الأموال على شرط الغبطة؟ فمنع منه الأكثرون، على القياس الممهد؛ فإن مقتضى السَّلَم تسليمُ رأس المال في المجلس، وانتظار المسلَم فيه بعده، سيّما إذا كان السلَم مؤجلاً، وجوّز بعض أصحابنا السلَم، وهذا هوسٌ مع منع البيع نسيئة، وكنا نود لو وُجد مذهب في تجويز البيع نسيئة، لما قدّرنا فيه من الغبطة، فإذا لم نجده، وجب طرد قياس الباب، ولم أر هذا القياس إلا في بعض التصانيف، ولست أعتدّ به.
ولا يهبُ المكاتب بالثواب المجهول، وإن كنا قد نصحح الهبةَ كذلك من الحر المطلَق، والسبب فيه أن من العلماء من يُنزل الهبة بالثواب المجهول -إذا صحت-
__________
(1) ت 5: " في ظاهر الخلاف ".
(2) (مِن) : بمعنى (عن) .(19/443)
على ما يسمى ثواباً، وقد يجري بهذا حكم حاكم، وأيضاً فلا وصول إلى استحقاق الثواب إلا بتسليم الموهوب أولاً، وهذا لا نسوّغه.
ولو وهب بثواب معلومٍ على شرط الغبطة، فإن قلنا: هذه الهبةُ بيعٌ، ولا يشترط في إثبات الملك فيها الإقباض (1) ، فهي مُجْراةٌ على قياس البيع، وإن شرطنا الإقباض، ففيها من النظر ما ذكرناه مع سؤالٍ، وهو أن من شرط الإقباض لا يوجبه، فلا يمتنع أن يصحح الهبةَ، وَيمْنعَ من الابتداء بالإقباض، حتى يسبق قبض العوض، وهذا لا يبعد عن وجه الرأي، وليس كالبيع نسيئة؛ فإن موجَبَه وجوبُ تسليم المبيع قبل القبض في الثمن.
12590- فإن قيل: ذكرتم هذه المسائل المرسلة، فهل من ضابط؟ قلنا: الأصل المتبع فيها ألا يرفع يدَه عن جزء من كسبه، لا بتبرع، ولا بركوب خطر، ويحصر تصرفه على ما لا يزيل يدَه عن عوضِ ما يُخرجه من غير قبول حطيطة وغبن لا يتساهل في مثله طلابُ الأموال؛ فإن الكسب في الحقيقة للمولى، وإنما ملّكه الشرع التبسط فيه على شرط الاقتصار على ما ذكرناه.
وكان شيخي رضي الله عنه يقول: لا يُحلّ له أن يتبسط في الملابس والمآكل، ولا نكلفه أيضاً الإقتار المفرط، بل ليكن ما أشرنا إليه لائقاً بحاله، من غير سرف ولا تقتير.
12591- ومما نذكره أن هباتِه وتبرعاتِه إذا صدرت عن إذن المولى، خرجت على القولين في سائر التبرعات.
[ولو أذن له المزني في إعتاق عبد من عبيده، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من خرَّج ذلك على القولين في سائر التبرعات] (2) ، ومنهم من قطع برد العتق لمكان الولاء، ولو قدر العتق، لاضطرب الرأي في الولاء، على ما سنصفه الآن في التفريع.
__________
(1) عبارة (ت 5) : " فإن قلنا: هذا بيع، ولا نشترط الهبة في إثبات الملك فيها الإقباض ".
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 5) .(19/444)
فإن حكمنا بأن العتق مردود وإن صدر عن الإذن، فلا كلام. وإن نفذنا العتق: ففي الولاء قولان مشهوران: أحدهما - أن الولاء يكون لسيد المكاتب؛ فإن إثباته للمكاتب محال، وهو رقيقٌ بعدُ، وتعليق الولاء ووقفُه إلى أن يَبينَ أمرُه في المستقبل بعيد، (1 وتعرية العتق عن الولاء لا وجه له. وإذا كنا نجعل ولاء المكاتب للمولى إذا عَتق 1) ، فلا يبعد أن نجعل ولاءَ معتَقه للمولى أيضاً. هذا قول.
والقول الثاني - أن الولاء موقوف؛ فإنْ عَتَقَ المكاتب، فولاء معتَقه له، وإن رقَّ فالولاء موقوف بعدُ؛ فإنا نرتجي عتقه بعد العجز من أوجه، فإن مات رقيقاًً فيكون الولاء حينئذ لسيده.
وهذا فيه بعضُ النظر، فلا يمتنع أن نقول: إذا رق المكاتب، فولاء معتقه لمولاه من غير أن نرتقب عتقاً آخر، فإنا نتبين إذا رق أن تصرفه على حكم استقلال الكتابة قد انقطع، فإن فُرض عتقه بعد الرق من وجه آخر، لم يتعلق ما تقدم في حال الكتابة بهذا العتق الواقع بعد انفساخ الكتابة. والله أعلم.
وذكر صاحب التقريب في الولاء أنا إذا نفذنا العتق، وقلنا: الولاء للسيد في الحال، فلو عتق المكاتب، فهل ينجر الولاء إليه من سيده؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا ينجر، وهو القياس.
[وجرّ الولاء ليس أمراً منقاساً] (2) ، والواجب اتباعُ موضع الإجماع فيه، ومحل الوفاق جرّ ولاء السراية من موالي الأم إلى موالي الأب، إذا فرض إعتاق الأب، فأما الجر من السيد إلى المكاتب بعد العتق، فليس في معنى ما ذكرنا.
والوجه الثاني - أنا نجر؛ لأنا أثبتنا الولاء للسيد إثباتَ ضرورة؛ من حيث لم نجد بداً من إثباته، ولم نجد من نضيف الولاء إليه غيرَ السيد، فإذا عتق المكاتب، جررنا إليه؛ فإنه المباشر، وقد انتهى إلى حالةٍ يُتَصَّور منه إنشاء الإعتاق فيها، واستحقاق الولاية.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(2) عبارة الأصل: " وهو أن جر الولاء ليس أمراً منقاساً "، والمثبت من عبارة (ت 5) .(19/445)
وحقيقةُ الجرِّ صرفُ الولاء إلى جهةٍ قوية بعد ثبوته لجهة دونَها في القوة.
12592- ومما يتعلق بتفصيل القول في ولاء معتِق المكاتَب، أنا إذا حكمنا بكونه موقوفاً، فلو مات معتَق المكاتب قبل عتق المكاتب، ولم يخلّف من يتقدم على المولى، فما حكم ميراثه؟
قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقف إلى أن نتبين أمرَ الولاء. والثاني - أنا نصرفه إلى بيت المال، وذلك لأن المكاتب لو عَتَق مثلاً، فإنا نُثبت له الولاء الآن، ولا نُسند ثبوتَه إلى ما تقدم، هذا لا شك فيه إذا فُرض عتقه، وإنما يتردد نظر الفقيه إذا مات المكاتب رقيقاً، وأثبتنا الولاء للسيد، فقد يظن الظان أنا نتبين ثبوت الولاء حالة الإعتاق، ويعارضه ألا نقول ذلك مصيراً إلى أن استقلال المكاتب في حالة الكتابة ينافي ثبوت الولاء للمولى، فيجب صرف الولاء إليه من وقت موته رقيقاًً على التفاصيل التي ذكرناها، وهذا فيه احتمال بيّن، وكأن الولاء معلق، وليس على قياس الموقوفات التي يستند الأمر فيها إلى ماضٍ على طريق التبين، وإذا كان كذلك، فالوجه صرف الميراث الناجز إلى بيت المال.
وعن اضطراب القول في الولاء ذهب ذاهبون من الأصحاب إلى قطع القول بأن العتق لا ينفذ من المكاتب قولاً واحداً -وإن أذن المولى-.
ومما نذكره من حكم الولاء أن المكاتب إذا عَتَقَ، فولاؤه لمولاه، لم يختلف الأصحاب فيه.
ولو باع السيد عبدَه من نفسه بمالٍ في الذمة، وصححنا هذه المعاملة، على ما سيأتي شرحها في فروع الكتابة، عند ذكرنا عقودَ العتاقة إن شاء الله، فيعتق العبد إذا قبل البيع، والأصح أن ولاءه لمولاه؛ قياساً على ولاء المكاتب. ومن أصحابنا من قال: لا ولاء عليه، فإنه يملك بالابتياع نفسَه، ويعتق على نفسه، فلو ثبت الولاء، لثبت له. وهذا محال، فالوجه نفي الولاء في هذه المعاملة.
ولا خلاف أن من اشترى من يعتق عليه، فالولاء للمشتري؛ فإن الولاء ترتب على ملكه، وهذا القائل يفرق بين شراء العبد نفسه وبين الكتابة، ويقول: موضوع الكتابة(19/446)
على تحصيل العتق بملك السيد، فكان هو المعتِق في الحقيقة، وليس كذلك بيع العبد من نفسه؛ فإن العوض يقع في الذمة يؤديه بعد الحرية، وسيأتي شرح الكلام في بيع السيد عبدَه من نفسه، وإنما ذَكَرْنا هذا المقدارَ لأجل الولاء.
فرع (1) :
12593- إذا كاتب المكاتب عبداً من عبيده، فهذا من تبرعاته، فيمكن أن يُلحَق بهباته، ويمكن أن يلحق بتنجيز العتق في ترتيب المذهب، ثم إن صححنا منه الكتابة بالإذن، نظرنا، فإن عتق المكاتب الأول، ثم عَتَق الثاني، فولاء المكاتب الثاني للمكاتب الأول، وإن عتق المكاتب الثاني قبل الأول؛ ففي ولائه القولان المذكوران.
فرع:
12594- لا يشتري المكاتب من يعتِق عليه مستقلاً؛ فإن هذا بذل مالٍ في مقابلة ما لا يملك التصرفَ فيه، فإن جرى ذلك بإذن المولى، فهو بمثابة سائر التبرعات.
ولو وُهب للمكاتَب من يعتق عليه، أو أوصي له به، فقبل: نُظر. فإن كان زمِناً غير كسوب، لم يصح انفراده بالقبول، لأنه يستجرّ بهذا القبول مؤناً إلى نفسه، وليس فيما يفعله غرضٌ مالي، وإن كان الموهوب كسوباً، بحيث يفي كسبُه بمؤنه؛ فقد قال الأصحاب: يصح منه القبول؛ فإنه ليس باذلاً مالاً، ولا جارّاً إلى نفسه مؤنةً.
ثم إذا قَبِلَ، فمَرِض المقبولُ في يده، فلا بد من الإنفاق عليه من المال الذي في يده؛ إذ لا سبيل إلى قطع ما ألزمناه وحكمنا بثبوته.
وقد حكى الشيخ أبو علي عن أبي إسحاق المروزي أنه جوّز للمكاتب أن يشتريَ أباه بذن مولاه قولاً واحداً إذا كان كسوباً؛ قد يستفيد من كسبه مالاً جماً، وفيه صلة الرحم.
وهذا فاسد لا أصل له.
ثم إذا اتهب المكاتب أباه الكسوب، أو قبل الوصيةَ فيه، وصححناه على التفصيل المقدم، فلا يجوز للمكاتب أن يبيعه.
__________
(1) سقط من (ت 5) هذا الفرع والفروع التي تليه وفصلان بعدها.(19/447)
وحكى الشيخ أبو علي عن ابن أبي هريرة أنه يصح من المكاتب بيع أبيه وولده، وهذا غريب، لم أره إلا للشيخ في شرح الفروع، ولا يجوز الاعتداد بذلك، وفيه هدمُ أصلٍ عظيم في المذهب، وهو تكاتب الولد (1) -على ما تقدم التفصيل فيه- ولو صح هذا للزم على قياسه تجويز بيع الولد الذي تأتي به جاريته منه، فإن طرده كان خارقاً للإجماع، وإن لم يطرده كان ناقضاً لمذهبه.
ومما يتصل بذلك أنه إذا جُوّز للمكاتب بيع أبيه وولده، فينبغي ألا يُمنع الشراء فيهما؛ فإنهما ينزلان منزلة سائر العبيد، وهذا تخليط لا سبيل إلى التزامه.
ولو اتهب نصف ما يعتق عليه، ثم عَتَق المكاتب، فيعتِق عليه ذلك النصفُ الذي ملكه، وهل يسري الآن إلى النصف الثاني؟ قال ابن الحداد: يسري العتق إلى النصف الثاني إن كان المكاتَب موسراً يوم العتق، فإنه يملك نصفه قصداً، فاقتضى ذلك السراية، وقال القفال: لا يسري العتق. فإن السراية لم تثبت ابتداء، فلا تثبت بعدها. قال الشيخ أبو علي: الصحيح ما قاله ابن الحداد، فإن السراية ما تأخرت عن العتق، ولكن العتق حصل يوم العتق للمكاتب.
فرع:
12595- ظهر اختلاف الأصحاب في أن العبد إذا وُهِب له شيء، فقَبِله من غير إذن سيده، فهل يصح منه قبوله؟ فعلى وجهين سبق ذكرهما في مواضع، وإذا صح قبوله، دخل ما قبله في ملك السيد، فلو وُهب للعبد أَبُ سيده، فإن كان السيد فقيراً بحيث لا يلزمه نفقَةُ القريب، فقبِل العبد الهبة -والتفريع على تصحيح قبوله للهبة- فيدخل أب السيد في ملك السيد، ويعتق عليه.
وإن كان السيد موسراً، وكان أبوه القن كسوباً بحيث لا تجب نفقته -والتفريع على صحة قبول الهبة- فيصح، ويدخل في ملك السيد، ويعتِق عليه.
ولو كان الأب زمِناً بحيث لو عَتَق على ابنه الموسر، لاستوجب النفقة بالقرابة.
فإذا قبله العبد منفرداً بالقبول، فلا يصح منه القبول؛ لأن فيه إضراراً بالسيد، ولو قبل
__________
(1) يشير إلى أن ولد المكاتب -على المذهب- يتبع أباه في عقد الكتابة، ويعتق بعتقه. هذا معنى قوله: " تكاتب الولد ".(19/448)
العبد نصفَ أبيه وسيدُه موسر والأبُ بحيث لا تلزم نفقتُه، فهل يصح القبول تفريعاً على تصحيح قبول الهبة؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - يصح ويعتق على السيد النصفُ، ولا يسري العتق؛ فإنه لم يدخل في ملكه بقصده، فصار كما لو ورث نصفَ أبيه.
والوجه الثاني - أنه لا يصح قبولُ العبد نصفَ أب سيده، فإنه لو صح، لعتق على السيد، ولسرى؛ فإن قبول العبد كقبول السيد. وهذا ضعيف في القياس.
قال الشيخ: تفصيل القول في قبول العبد بعضَ من يعتق على سيده، كتفصيل القول في أن وليَّ الطفل هل يقبل له نصفَ أبيه، والطفلُ موسرٌ، فعلى وجهين: أحدهما - يقبله، إذا كان لا تجب نفقتُه ولا يسري، والثاني - لا يصح قبوله أصلاً.
فرع:
12596- المكاتب إذا اشترى أبَ سيده، صح ذلك منه؛ فإنه لا ضرار على المكاتب، ولا نقصَ، فلو أنه باعه بابن سيده، ثم عاد المكاتَب رقيقاًً فابن السيد يَعتِق على السيد، لا شك فيه. فلو أنه وجد بابنه عيباً قديماً، فلا يرده، فإنا حكمنا بعتقه عليه، ولكن يثبت له الرجوع بالأرش، والأرش قسط من الثمن، فإذا كان العيب ينقص من قيمة ابنه عُشراً، فله أن يرجع بعشر [أبيه] (1) ، وهو الثمن، ثم إذا رجع بعُشر [أبيه] (1) أرشاً، فذلك العشر يعتق عليه.
وهل يسري العتق إلى الباقي؟ قال الشيخ: إن كان المكاتَب هو الذي عجّز نفسَه ولم يكن للسيد فيه اختيار، فيعتِق عليه عُشر أبيه أرشاً، ولا يسري العتق أصلاً؛ فإنه لم يوجد من السيد في ذلك قصد، ولو أن السيد عجّز المكاتَبَ، ثم حكمنا بعتق العُشر، فهل يسري؟ فعلى وجهين سبق لهما نظائر.
والذي يتم بيان الفرع به أنه إذا عتق الابن على السيد، وثبت له الرجوع بقسطٍ من أبيه أرشاً -كما قدمنا- فهل ينقلب إليه ذلك الأرش قهراً، أم لا بد من اختياره فيه، حتى لو لم يُرِدْه، لم يرجع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينقلب إليه من غير اختياره ويعتق عليه، وهذا اختيار الشيخ أبي علي. والثاني - أنه لا ينقلب إليه من غير
__________
(1) في الأصل: " ابنه ".(19/449)
اختياره. وقد ذكرت طرفاً من ذلك في خروج النجم المقبوض معيباً فيما تقدم من الفصول.
فإن قلنا: ينقلب قسطٌ من الأب من غير اختيارٍ، والسيدُ هو المعجّز، فعلى وجهين. وإن قلنا: لا بد من اختياره في استرجاع الأرش، فالظاهر السريان في هذه الحالة.
فرع في بقية تصرفات المكاتب:
12597- اختلف القول في أن المكاتب هل يسافر من غير إذن مولاه؟ فيما حكاه صاحب التقريب والعراقيون: أحد القولين - أنه لا يسافر؛ إذ لو سافر يخرج عن مراقبة السيد، وانسلّ عن حكم ضبطه بالكلية.
وهذا سرفٌ ومجاوزة حد.
والقول الثاني -وهو القياس- أنه يسافر، لِما له من حق الاستقلال، وإذا قلنا: له الانفراد بنفسه ومسكنه في البلد، لم يغادر من الضبط شيئاً؛ فإن العبد المخلّى قد يخرج ويسافر، ثم قال العراقيون: اختلف أصحابنا في محل القولين، فمنهم من خصصهما بالسفر الطويل، وقطع القول بجواز السفر القصير، وهو القاصر عن مسافة القصر، ومنهم من طرد القولين في السفر الطويل والقصير.
فرع:
12598- قد ذكرنا قولين في نفوذ تبرعات المكاتب بإذن المولى، وكان شيخي يقول: لو وهب المكاتب لمولاه شيئاً، صح قولاً واحداً، ولم يخرج على القولين. وذكر العراقيون في ذلك طريقين: إحداهما - ما ذكره شيخي. والأخرى - طرد القولين، وهو القياس.
ويتجه القطع بمسألة لا خلاف فيها، وهي أن المكاتب لو عجّل ديناً مؤجلاً عليه لأجنبي، لكان متبرعاً، فإن استقل، لم يجز، وإن كان بإذن السيد، فقولان، و [أما] (1) تعجيلُ المكاتب للسيد النجم، فيصح مذهباً واحداً، ولا فرق في ذلك بين النجم الأخير والنجم الأول، وقد ينقدح في ذلك فرق ظاهر، والمسألة على الجملة -أعني الهبة من السيد- محتملة، كما نبهنا عليه.
__________
(1) زيادة من المحقق.(19/450)
فصل
12599- للمكاتب أن يعامل مولاه كما يعامل الأجانب، فيبايعه ويشاريه، ويأخذ الشفعة من مولاه، ويأخذ المولى الشفعة منه، ولو ثبت- له دين على المولى، وثبت للمولى دين عليه، فيتصل هذا الفصل من هذا الموضع بالتقاصّ؛ وقد أحلنا استقصاءه على هذا الكتاب، ونحن نخوض الآن فيه، ونستعين بالله تعالى، وهو خير معين، فنقول:
في غير المكاتب والمولى، إذا ثبت لزيد على عمرو دينٌ، وثبت لعمرو على زيد مثلُه، واتحد الجنس والنوع، وكان الدينان حالّين، ففي التقاصّ أربعة أقوال، نص الشافعي عليها في كتب متفرقة: أحدها - أن التقاص لا يقع، ولو رجعنا به، لم يصح أيضاً؛ فإنه إبدال دين بدين، وهو لو صح على حقائق المعاوضة، وبيع الدين بالدين ممتنع.
والقول الثاني - أن التقاص يصح إذا تراضيا به، ويسقط الدينان، ولا يكون ذلك معاوضة محضة، ولكنه إسقاط دين بإزاء دين، وهو قريب الشبه من الحوالة؛ فإنها ليست معاوضة محضة وإن كان فيها معنى التقابل.
والقول الثالث - أن التقاص يثبت إذا دعا إليه أحدهما، وإن أبى الثاني، وهذا بمثابة ما لو دعا أحد الشريكين إلى قسمة الدار القابلة للقسمة؛ فإن الثاني مجبر على الإجابة، كذلك القول في التقاص.
والقول الرابع - أن الدينين إذا تساويا: قدراً، ونوعاً، وحلولاً، تساقطا من غير احتياج إلى فرض رضاً من أحد الجانبين؛ وذلك لأن أحدهما لو طلب عين ما طلب منه لكان ذلك في حكم العبث الذي لا يجزىء ولا يفيد، والمعاملات الشرعية مبنية على الإفادة.
قال صاحب التقريب: التقاص على الاختلاف الذي ذكرناه يجري في الدراهم والدنانير إذا اتحد النوع، وهل يجري في غيرهما من ذوات الأمثال؟ فعلى وجهين،(19/451)
وسبب الاختلاف أن ما عدا النقدين قد يظهر التفاوت فيه بعضَ الظهور، ولو أجرينا التقاص في ذوات الأمثال -وهو الأصح- فهل يجري التقاص بين عَرْضين موصوفين في الذمة على قضية واحدة؟ هذا أولاً يستند إلى أن التقاص ليس معاوضةً محضة؛ إذ لو كان معاوضة، لامتنع إجراؤه في المسلم فيه، والعَرْضُ إنما يثبت في الذمة مسلماً فيه أو حالاً محله، وقد ذكرنا في الحوالة على السلم والحوالة به تفصيلاً، والتقاص عندي أبعد من المعاوضة من الحوالة، فإن التقاص تساقط ليس فيه إيفاء واستيفاء.
فإذا حصل التنبيه لما ذكرناه ففي التقاص بين العَرْضَين المتساويين نعتاً ووصفاً وجهان، مرتبان على الوجهين في ذوات الأمثال.
ولا تقاص بين مؤجل وحالّ، ولا بين مكسر وصحاح، وإن فرض منهما تسامح، فليس هذا من التقاص في شيء، وإنما يقع تعاوضاً لو وقع، وذلك ممنوع في الدينين.
ولو فرضنا دينين مؤجلين، فهل يجري التقاص بينهما، ولا طلبة في واحد منهما؟ هذا فيه احتمال عندي، والأوجه إجراء ثلاثة أقوال. فأما القول الرابع -وهو التساقط من غير رضاً- فلست أرى له وجهاً، والأجل عتيد والمَهَل كائن، وليس يبعد جريان هذا القول أيضاً.
وقد نجز ما أردناه في حقيقة التقاص.
فصل
" ولا يكفِّر في شيء من الكفارات إلا بالصوم ... إلى آخره " (1) .
12600- لا يستقل المكاتب بالتكفير بالمال، كما لا يستقل العبد القن بالتكفير بالمال، وإن ملّكه المولى، وفرّعنا على أن العبد يملك، فلو أذن المولى في التكفير بالإطعام والكُسوة، نفذ ذلك من الرقيق المملَّك على القول القديم، أما المكاتب، فهل يكفِّر بالمال إذا أذن المولى؟ فعلى قولين مبنيين على تبرعاته.
__________
(1) ر. المختصر: 5/280.(19/452)
فإن قيل: هلا رأيتم التكفير بالمال ديناً على المكاتب حتى يؤديَه من غير مراجعة؟ قلنا: هو في ماله كالمعسر، ولذلك لا يتبرع -كما قدمناه- مستقلاً بنفسه.
ثم ذكر الصيدلاني طريقةً، فقال: إذا قلنا: العبد لا يملك، فالمكاتَب لا يكفِّر بالمال -وإن أذن المولى- قولاً واحداً، وإن قلنا: العبد يملك؛ فإذا ملّكه المولى، وأذن له في التكفير، كفر، والمكاتَب هل يكفِّر بالإذن؟ فعلى قولين، وهذا فيه فقه؛ من جهة أنا وإن حكمنا للمكاتب بالملك، فهو ملك ضرورة، وكأنه على ترتيب الرقيق فيما يتعلق بالتبرعات، حتى يقالَ: إذا قلنا: الرقيق لا يملك، فالمكاتب لا يتبرع قولاً واحداً، وإذا قلنا: الرقيق يملك، فحينئذ في المكاتب القولان.
وهذه الطريقة غير مرضية؛ فإن القولين في تنفيذ تبرع المكاتب وردّه منصوصان في الجديد، وما ذكره الصيدلاني يقتضي تفرعهما على القديم، فلا وجه إلا أن يقال: المكاتب من أهل الملك على الجملة، بخلاف القن. وفي تبرعاته قولان، سواء قلنا: يملك القن أو قلنا: لا يملك. فإنا وإن منعنا تمليك القن، فلسنا ننكر ثبوت الملك للمكاتب.
ثم في (السواد) مسائل تقدم ذكر جميعها، فلا نعيد منها شيئاً (1) .
فصل
قال: " وبيع نجومه مفسوخ ... إلى آخره " (2) .
12601- المنصوص عليه في الجديد أن بيعَ رقبة المكاتَب فاسدٌ، ونص في القديم على جواز بيعه.
توجيه القولين: من منع البيعَ احتج بأن الكتابة لازمة من جهة السيد، فبيعه إياه لا يخلو: إما أن يرفع استحقاق العَتاقة، فإن كان كذلك، فهذا انفراد منه برفع حقٍّ لازم بجهة البيع، ومن أجار إعتاق الراهن، لم يُجز بيعه، وإن بقيت الكتابة، فيجب
__________
(1) إلى هنا انتهى الخرم الذي أشرنا إليه من (ت 5) منذ عدة صفحات.
(2) ر. المختصر: 5/280.(19/453)
رد البيع؛ فإن استحقاق العَتاقة يمنع البيع، كحرمة الاستيلاد.
ووجه القول القديم أن المكاتب ينتقل إلى الورثة مملوكاً إرثاً، فلا يمتنع بيعه على هذا النحو. وهذا مدخول؛ فإن الإرث بابه أوسع، وهو يجري فيما لا يصح البيع فيه، إذ طريقه طريقُ الخلافة، وتنزيلُ الوارث منزلةَ الموروث، حتى كأن الحكم مستدام والمستحِق متبدِّل.
التفريع:
12602- إن منعنا البيع، فلا كلام، وإن جوّزناه، فمعناه أنه في حق المشتري بمثابته في حق البائع قبل البيع، فيملك رقبته مكاتباً، ويستحق مطالبتَه، ومعتمد هذا القول حديثُ بريرة، فإنها جاءت إلى عائشة تستعين في كتابتها، فقالت رضي الله عنها: " إن شاء أهلك، صببت لهم ثمنك، وأعتقتك "، فرجعت إلى سادتها، ثم عادت وقالت: إن أهلي أبَوْا أن يبيعوني إلا أن يكون الولاء لهم، فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: " اشتري واشترطي لهم الولاء ". ثم أصبح خطيباً، فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من شرط شرطاً ليس في كتاب الله، فهو باطل. كتاب الله أحق وشرطه أوثق. والولاء لمن أعتق " (1) .
وفي الحديث إشكال إن صح. فإنه عليه السلام قال لعائشة: " اشترطي "، ثم أبان أن لا حكم لشرطها، وهذا يكاد يكون تغريراً، والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن خائنة الأعين، فضلاً عما يضاهي التلبيس.
ْثم المشكل في التفريع على القديم أمر الولاء، فإنا لم نقطع الكتابة، ولم نفسخها، بل شبهنا انتقال الملك في المكاتب إلى المشتري بانتقاله إلى الوارث، ثم إذا عتق المكاتب على حكم الكتابة بعد موت المولى، فالولاء للمولى، وهذا في الشراء متردد مشكل؛ فإن الوارث خلف الموروث في استبقاء الأمر كما كان، والمشتري بخلاف ذلك، وحديث بريرة -إن صح- شاهد على أن الولاء للمشتري،
__________
(1) حديث بريرة واستعانتها بعائشة في كتابتها، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. البخاري: الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، ح 456، مسلم: العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504) .(19/454)
فالأمر في الولاء متردد، والظاهر أنه للمشتري.
ولو كان عقد الكتابة فاسداً، فبيعه مع العلم بفساد الكتابة صحيح، وهو فسخٌ للكتابة.
وإن ظن البائع أن الكتابة صحيحة، فباعه على اعتقاد الصحة [أو وصى به] (1) على هذا الاعتقاد، فحاصل ما ذكره الأصحاب في البيع والوصية ثلاثةُ أقوال: أحدها - الصحة فيهما؛ فإن الظن لا يغير موجَبَ الحقيقة، والكتابةُ الفاسدة لا تمنع التصرف.
والقول الثاني - أنهما يفسدان، نظراً إلى موجَب العقد، وهذا يقرب من بيع الإنسان مالَ أبيه على ظن بقائه وهو حالةَ البيع ميتٌ في علم الله، والقول الثالث - أن الوصية صحيحة، والبيع مردود؛ فإن الوصايا تثبت مقترنة بالأغرار والأخطار، والبيع لا يحتملها، هذا في بيع المكاتب.
12603- فأما بيع نجوم الكتابة: فقد منعه الأصحاب؛ من جهة أنها ليست لازمة، وللمكاتب أن يسقطها متى شاء، والبيع يستدعي ملكاً ثابتاً، فإذا كان لا يصح بيع المبيع قبل القبض، لبقائه في ضمان البائع، فبيع النجم -وهو غير متصف باللزوم- أولى بالامتناع.
وخرّج ابن سريج قولاً في جواز بيع النجوم إذا جوزنا بيع الديون، وفي بيعها قولان، تقدم شرحهما.
12604- قال الأئمة: الاستبدال عن النجوم يخرج على بيع النجوم، فإن جوزنا بيعها، جوزنا الاستبدال عنها، وإن لم نجوّز بيعها؛ ففي الاستبدال عنها وجهان، والمذهب الذي عليه التعويل منعُ ضمان النجوم، وهذا يؤكد منع (2) الاستبدال، وإنما يترتب الاستبدال على البيع؛ من جهة جواز الاستبدال عن الديون اللازمة قولاً واحداً،
__________
(1) في الأصل: " إذا وصى به "، وفي ت 5: " وأوصى به ".
والمثبت من كلام العز بن عبد السلام. (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/459 - مخطوطة مرقمة الصفحات) .
(2) سقطت من (ت 5) .(19/455)
مع اختلاف القول في بيعها. وسبب ذلك أن المبيع مقصود ملكاً وتوفية، وما يستبدل عنه، فالمقصود عوضه، وسقوط المستبدل عنه.
فإن جرينا على المذهب، ومنعنا بيع النجوم، فلو قبض المشتري النجومَ بتسليط البائع إياه على قبضها؛ ظاناً أنه يقبضها لنفسه، فهل يَعتِق المكاتب بقبضه إياها؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يعتق. لأنه سُلِّط من جهة سيد المكاتب على قبضها، فكان بمثابة الوكيل. والقول الثاني - أنه لا يعتِق؛ لأنه قبضها لنفسه، ولم يقبل الوكالة، بل لم يعمل بها، ونحن إن لم نشترط القبول في الوكالة، اشترطنا العمل بموجبها؛ فإن قلنا: يعتِق المكاتب، انقطعت الطَّلِبةُ عنه، وعلى المشتري رد ما قبض بعينه إلى البائع، وإن قلنا: لا يعتِق المكاتب، فبائع النجوم يطالب المكاتب بالنجوم، وهو يسترد من المشتري ما قبضه منه.
فإن قيل: قد ذكر بعض الفقهاء أن بيع المكاتب إذا صححناه، فمقصوده آيل إلى بيع النجوم، فكيف الوجه في ذلك؟
قلنا: المبيع في القديم رقبة المكاتب. والنجوم ثابتة تبعاً، ولا يرعى بين ثمن العبد وبين نجوم الكتابة تعبدات الربا.
***(19/456)
باب كتابة النصراني
12605- الذمي والحربي إذا كاتب عبده على شرط الإسلام (1) ، فإذا أدّى، حصل العتق، ولكن لو قهر الحربيُّ مكاتَبه الكافرَ، انقلب رقيقاً (2) ، فلا يقع الحكم بلزوم الكتابة في حقه، وإذا كان يرِقّ الحرُّ الكافرُ بالقهر، فعُلْقة العتاقة في المكاتب تزول بالقهر.
وإن كانت الكتابة فاسدة على موجب الشرع: مثل أن تُفرض بخمر أو خنزير، فإن حصل قبض العوض بكماله في الشرك، نفذ العتقُ، ولا مراجعةَ بعد الإسلام، وانقطعت الطلبة.
ولو جرى الإقباض في معظم العوض، واتصلت الكتابة بالإسلام، أو بالتزام الأحكام، والنزول على حكم حكام الإسلام، فإذا جرى القبضُ في البقية بعد ذلك، رجع المولى على العبد بقيمته، ولا حكم لما جرى القبضُ فيه من قبل، ولا نوزِّع القيمةَ على المقبوض قبل الإسلام والالتزام وعلى ما جرى الإقباضُ فيه في الإسلام؛ حتى يسقط ما يقابل المقبوض في الشرك، نظراً إلى ما لو جرى قبض الكل في الشرك.
والسبب فيه أن النجوم في الكتابة لا تثبت لها حقيقة العوضية إلا عند التمام؛ إذ لو
__________
(1) أي على شروط الكتابة الصحيحة في الإسلام.
(2) يشير بقهر مكاتَبه إلى أن عقد المكاتبة -الذي في أصله اللزوم من جهة السيد- ليس لازماً من جهة السيد الحربي؛ فإنه لا يلتزم الأحكام، ودارُهم دار قهرِ ومغالبة، يُسترق فيها الحر بالقهر والغلبة، فما بال المكاتب، بل لو غلب العبد سيده، وقهره، لاسترقه، وصار هو السيد.
هذا معنى هذه العبارة من كلام الإمام.
وقد صرح بما قلناه الرافعي حين قال: " ثم لو قهره السيد بعد ما كاتبه، ارتفعت الكتابة، وصار قناً، ولو قهر المكاتب سيدَه، صار حرّاً، وصار السيدُ عبداً؛ لأن الدار دار قهر، ولذلك لو قهر الحر حراً هناك ملكه، بخلاف ما لو دخل السيد والمكاتب دار الإسلام بأمان، ثم قهر أحدهما الآخر لا يملكه؛ لأن الدار دار حق وإنصاف " (ر. الشرح الكبير: 13/465) .(19/457)
فُرض عجزٌ في المكاتبة الصحيحة، بأن أن ما قبض من قبلُ لم يكن عوضاً؛ وإنما [كان] (1) كسبَ رِقٍّ مستَحَقٍّ لمالك الرق، فإذا تم القبضُ [عَتَق] (2) الكلُّ من غير تبعيض عوض، فلم يقبل التقسيط، والأعواض إجراؤها على حكم العوضية في المعاوضات، فانتظم فيها التوزيع. وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح وغيره.
12606- ثم قال: " فإن أسلم العبد ... إلى آخره " (3) .
إذا أسلم العبدُ الكافرُ تحت يد الذمي، حملناه على بيعه، فإن أبى، بعناه عليه، فإن كاتبه، فهل تسقط الطَّلِبةُ بالكتابة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تسقط، وتفسخ الكتابة، ويباعُ العبدُ؛ فإن الفسخ ممكن بخلاف أمية الولد، والثاني - ننكف عنه؛ فإن الكتابة توجب استقلالَ المكاتب، وانقطاعَ سلطان المالك، وهي أجدى على العبد من حيث تُفضي إلى عتقه.
ولو كاتب الكافر عبدَه الكافرَ، فأسلم المكاتَب، فهذا يُبنى على ما قدمناه: فإن قلنا: الكتابةُ بعد الإسلام [تقطع] (4) الاعتراض على المولى، وتوجب الاكتفاء بها، فالإسلام إذا طرأ على المكاتَب، لم يؤثر. وإن قلنا: لا يُكتفَى في العبد المسلم بأن كاتبه مالكه. فإذا طرأ الإسلام على المكاتب، فهل تنفسخ الكتابة، ونبيعه؟ أم نديم الكتابة؟ فعلى وجهين، والفرق قوة الدوام.
ولو أسلم عبدُ الكافر، فطالبناه بالبيع؛ فدبّره، لم نكتف بذلك؛ فإن سلطانه باقٍ.
وإن دبر عبدَه الكافر، فأسلم، فهل نبيعه، أم نستبقي التدبير؟ ونضرب الحيلولة بينه وبين مولاه، كما نفعل ذلك في المستولدة، فعلى وجهين: أصحهما -على القياس- أنه يباع؛ فإن المدبر رقيق في جميع أحكامه. والذي يقتضيه القياس أن يباع على الكافر ما يصح بيعه. والله أعلم.
***
__________
(1) في الأصل: " بان ". والمثبت من (ت 5) .
(2) في النسختين: " قبل " ولم أر لها وجهاً؛ فكان هذا المثبت منا.
(3) ر. المختصر: 5/281.
(4) في الأصل: " لا تقطع ". والمثبت من (ت 5) .(19/458)
باب كتابة الحربي
12607- المعاهد أو الذمي إذا كاتب عبداً، ثم نقض العهد، ورام الالتحاقَ بدار الحرب، فللمكاتب أن يمتنع عن الخروج معه؛ لأن عقد الكتابة يقتضي هذا، ومما يجب التنبه له أن هذا العبد وإن كان كافراً، فله الامتناع، لأنه تعلق بذمة دار الإسلام، فنقره على موجَب الإسلام، ونجعل السيد معه، وإن جمعهما الكفر، بمثابة السيد المسلم إذا أراد المسافرة بمكاتبه، ورام المكاتَب التخلفَ عنه.
ثم ذكر الشافعي حكمَ المعاهد يُودِع عندنا، ويلتحق بدار الحرب فيموت، أو يسبى ويرِق، فكيف سبيل أمواله؟ وقد استقصينا هذا على أبلغ وجه وأحسنه، في كتاب السير.
1608- ثم عقد بابا في كتابة المرتد (1) ، وكتابتُه خارجة على أقوال الملك، وهي بمثابة تصرفاته، وقد ذكرناها، وذُكر الحجر عليه على قول بقاء ملكه، فلا خفاء بشيء من مضمونه.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/282.(19/459)
باب جناية المكاتب على سيده
12609- ذكر المزني أحكام جناية المكاتب وأحكام الجناية عليه في أبواب، ولو نظم جميعَها في تقسيمٍ، لكان أضبط، ولكنا نتيمن بالجريان على مراسمه.
أما إذا جنى على سيده جنايةَ قصاص، وجب القصاص، وإن جنى عليه، أو على ماله، فهو مطالب بالأرش، كما لو جنى على أجنبي، وغَمْرةُ هذه الأبواب التعرضُ لاجتماع النجم، وديون المعاملة، وأروش الجناية للسيد والأجانب، وقد استقصينا هذا.
ومما نزيده أن المكاتب إذا جنى على سيده، أو على أجنبي، فبكم يطالب إذا كان أرشُ الجناية أكثرَ من قيمته؟ فعلى قولين، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يطالَب بتمام الأرش؛ فإنه فيما يطالب به -ما دامت الكتابة- كالحرّ، والأرش لا يتعلق برقبته ما استمرت الكتابة.
والقول الثاني - أنه لا يطالب إلا بمقدار قيمة رقبته إذا زاد الأرش عليها؛ لأنه يملك تعجيز نفسه، وإذا فعل، فلا مرجع إلا إلى رقبته. هذا فيه إذا كان هو الجاني.
فأما إذا جنى عبدٌ من عبيده، فأراد أن يفديه، وكان الأرش أكثر من قيمته، فليس له أن يفديه بالأرش -وإن قلنا: الحر يفدي عبده بالأرش بالغاً ما بلغ -والسبب فيه أن الحر لا يلزمه الفداء. نعم، لو أراد الفداء، فأحد القولين أنه يفديه بالأرش التام، وإن أبى سلّمه للبيع.
فنقول: للمكاتب: ليس لك أن تفديه إذا قلنا: الفداء بالأرش التام، بل سلِّمه ليباع؛ فإنّ بذل الزيادة تبرعٌ، وهو ممنوع منه.
ولو قال: أبذل مقدار القيمة، فاتركوه، ولا تبيعوه -والتفريع على أن الفداء بالأرش- لم يُجَب إلى ما يبغيه.(19/460)
12610- ولو جنى المكاتَب على سيده جناية توجب مالاً، فأعتقه السيد، نُظر: فإن لم يكن في يده شيء، فقد قال الأصحاب: سقط الأرش؛ فإن السيد هو الذي أزال ملك الرقبة، وكانت متعلَّقاً للأرش؛ إذ لا مال غيرُ الرقبة، ويتطرق إلى هذا احتمال؛ أخذاً من استقلال المكاتَب ما دامت الكتابة والأرش متعلق بالذمة، والمملوك القن لو جنى على مولاه، فأعتقه، فلا خلاف أنه لا يستحق عليه شيئاً؛ فإن المولى لا يستحق في ذمة العبد شيئاً إذا كان قناً، حتى يفرض اتباعه به، بخلاف المكاتب؛ فإنا أوضحنا فيه احتمالاً على بعد.
ولو أعتق السيد المكاتبَ الجانيَ عليه وفي يده شيء، فهل يتعلق أرش الجناية بما في يده؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعلق؛ فإن الأرش لا يتعلق إلا بالرقبة عند ارتفاع الكتابة. والوجه الثاني - أنه يتعلق بما في يده، وفوات الرقبة بالعتق كفواتها بالموت، ولو مات المكاتب بعد ما جنى على سيده، وخلف وفاء، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في ذلك.
ولو جنى المكاتب على أجنبي، ثم عَتَق بأداء النجوم، فلا يلتزم السيد فداءه بسبب حصول العتق؛ فإن الكتابة تقدمت على الجناية، والأداء حصل. مترتباً على الكتابة السابقة، ولو أعتق السيدُ المكاتبَ بعد الجناية أو أبرأه، فيصيرُ ملتزماً للجناية، فإن هذا اختيار منه لإزالة الرق بعد الجناية، فصار كما لو جنى رقيقه فأعتقه؛ فإنه يصير بالإعتاق ملتزماً لأقل الأمرين.
12611- ولو جنى ابن المكاتب، لم يفده؛ فإنه إنما يفدي من يملك شراءه، والفداء بمنزلة الشراء، ولا يملك شراء من يعتق عليه؛ لأنه لا يملك بيعَه إذا ملكه.
ولو جنى ابنُه على عبده، فهل يملك بيعَه؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يملك بيعَه، وهو الصحيح؛ فإنه لا يثبت في رقبته مالٌ؛ لأنه عبده، والأصل منع بيع الابن. والثاني - أنه يملك بيعه إذا (1) كان الأرش على قدر الرقبة؛ لأن
__________
(1) ت 5: " وإذا ".(19/461)
عبد المكاتب إذا قتل عبده، لم يتعلق بالعبد القاتل شيء، إلا (1) القصاص على ما سنصفه؛ فإنه كان قبل الجناية يملك بيعه واقتناءه، وهو على ما كان عليه. والابن كان لا يباع قبل الجناية، فيجوز أن تفيد الجنايةُ بيعَه.
12612- ولو قتَل عبدٌ للمكاتب عبداً آخر قَتْلَ قصاص [أو قتل عبدٌ لأجنبي عبداً للمكاتب قَتْل قصاص] (2) فالذي أطلقه الأصحاب أنه يثبت للمكاتَب حق الاقتصاص، وإن كان فيه [إسقاطُ] (3) المالية.
وخرّج الربيع قولاً، أنه لا قصاص للمكاتَب، إذا لم يُرد السيد ذلك، بل عليه أخذ الأرش؛ رعايةً لحق المولى في استبقاء المالية، وهذا مردود متروك عليه، وقد أجرى الربيع قوله هذا في قتل عبد المكاتب عبداً آخر، وفي قتل عبد لأجنبي [عَبْده] (4) ، وفي بعض التصانيف تخصيص هذا التخريج بما إذا قتل عبد لأجنبي عَبْده. وهذا التخصيص لا أصل (5) له، والأئمة نقلوا التخريج على العموم.
12613- ولو جنى السيد على يد مكاتبه، فأبانها، وقلنا: يجوز طلب الأرش قبل الاندمال -وفيه قولان ذكرناهما في الديات- فإذا كان ذلك الأرش على مقدار النجم، وكان من جنسه، وفرّعنا على وقوع التقاص من غير تراضٍ مثلاً، أو شرطنا التراضي، وتراضيا، حصل العتق، فلو سرت الجراحة، وأدت إلى الهلاك، وجب على السيد الجاني الديةُ الكاملة.
فإن قيل: الدية إبل، ولا يجري التقاص بين الإبل والدراهم، وقد بأن آخراً أن الواجب الإبل، فكيف حكمتم بالعتق، وهلاّ تبينتم أن لا عتق لبطلان التقاص؟
قلنا: إذا أوجبنا الأرش، أجرينا الملك فيه، فإذا بان آخراً وجوب الدية، نقضنا الملك بعد ثبوته، ولا نتبيّن أنه لم يقع الملك في الأرش المبني على الرق ودوامه.
__________
(1) ت 5: إذ القصاص.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 5) .
(3) في الأصل: " إثبات المالية ". والمثبت من (ت 5) .
(4) في الأصل: " عنده ". والمثبت من (ت 5) .
(5) ت 5: " لا أثر له ".(19/462)
وهذا بمثابة ما لو أبق العبد المغصوب [وغَرم] (1) الغاصب للمغصوب منه قيمته، ثم عاد العبد فالغاصب يرده، ويسترد القيمة، ويكون ذلك نقضاً للملك في القيمة، لا رفعاً له من أصله، فالتقاص يبتني على هذه القاعدة، ويترتب العتق عليه، ثم إذا وجبت الدية، فلا مردّ للعتق.
ثم أعاد الأصحاب فصولاً في الجنايات، لم أرَ ذكر شيء منها. وقد أتيت على كل ما رأيت فيه فائدة من أبواب الجنايات.
ثم ذكر المزني أبواباً في إعتاق السيد المكاتب في مرض موته. وفي إنشاء المريض الكتابة، وفي وصيته بالكتابة، وقد أتيت على هذه الأبواب فقهاً وحساباً في كتاب الوصايا، ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفس، ومهدت الأصول، ونظمت المسائل تترى، " وعند الصباح يحمد القوم السرى " (2) .
ثم ذكر باباً في موت سيد المكاتب، ولست أرى فيه مزيداً.
***
__________
(1) في الأصل: " غرم ". (والواو) زيادة من (ت 5) .
(2) مثل سائر (ر. الأمثال، لأبي عبيد: 170) .(19/463)
باب عجز المكاتب
12614- قال الأئمة: الكتابة جائزة من جانب المكاتب، مهما (1) أراد فسخها، سواء كان قادراً على أداء النجوم أو عجز عنها.
وذكر العراقيون طريقةَ تخالف طريقةَ المراوزة، فقالوا: لا ينشىء المكاتَب فسخَ الكتابة، ولكن له الامتناع عن أداء النجوم مع القدرة، ثم إذا امتنع، فللسيد الفسخ، إذا لم تصل يده إلى النجوم، وهذا كرّروه مراراً، وصرحوا به.
وهذا بعيد؛ فإن الامتناع عن أداء النجوم مع أنه لا يملك الفسخ كيف يسوغ؟ وما ذكروه على الحقيقة عكسُ الصواب؛ فإنهم ألزموا الكتابة في جانبه، وجوزوا له ألا يفي (2) بها. وهذا كلام متناقض، والذي به العمل والفتوى أن المكاتب يفسخ الكتابة متى شاء، وما ذكروه يداني مذهب أبي حنيفة (3) .
فأما السيد، فالكتابة في جانبه لازمة لا يملك فسخها، إلا إذا حل النجم، وعجز المكاتب، أو امتنع، فيثبت له حقُّ الفسخ، ويتصف العقد بالجواز في هذه الحالة من الجانبين.
فلو حلّ النجم، فاستنظر المكاتبُ، لم يَلْزمه إنظارُه إلا ريثما يخرج النجم من مخزن، أو دكان، ولو كان ماله غائباً، عجّزه المولى، ولم يَلْزمْه الإنظار.
فأما إذا كان المكاتب غائباً بنفسه، وحل النجم، فالمذهب أن للسيد أن يعجِّزه بنفسه، ولا حاجة لرفع ذلك إلى حاكم، وذكر العراقيون هذا وصححوه، وحكَوْا وجهاً آخر - أنه يجب رفع الواقعة إلى مجلس الحاكم؛ فإنه نائب عن كل غائب، ثم
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا) .
(2) ت 5: " أن يفي ".
(3) ر. الفتاوى الهندية: 5/17.(19/464)
مهما (1) رفع السيد الأمر إلى القاضي واستدعى منه أن ينشىء الفسخَ، فالقاضي لا يجيبه، ما لم يتحقق عنده الأمر من حلول النجم، وظهورِ الامتناع، أو العجزِ، ولو فسخ السيد بنفسه، لكفاه ذلك.
وليس هذا حقاً ثابتاً على الفور، فلو أخره أياماً، ثم فسخ، جاز له الفسخ، ولو أنظره ثم بدا له، جاز له الفسخ.
12615- ومما يجب التنبه له أن المكاتب لو امتنع عن أداء النجوم، وقدر السيد على رفعه واستيداء النجم منه، ولكن آثر الفسخ لما امتنع المكاتب، فكيف الوجه؟ وهذا غمرة الباب، والغرض منه يبين بذكر أصلٍ بيّن، وهو أن من عليه الدين إذا امتنع وقدر المرتهن على استيفاء الدين منه، فليس له مبادرة بيع الرهن، وإن لم يكن له رهن، فليس له أخذُ غير جنس حقه، نعم إذا تحقق التعذر، ففيه الكلام.
رجعنا إلى غرضنا، فإن ما قدمناه قد قررناه في موضعه، فنقول: لا يجب على العبد أداءُ النجم، فلا يتأتى توجيهُ الطّلبة عليه، وهذا واضح على طريق العراقيين، وهو على طريقنا بيّن؛ فإنَّ طلب الجائز (2) حملاً على تحصيل المطلوب محال، ولهذا لا يطالَب المشتري بالثمن في زمان الخيار، وإذا كان كذلك، فلا يتوقف الفسخ على تعذر الاستيفاء، بل إذا لم يوفِّ المكاتَب، فسخَ السيد.
ولو حل النجم، فجاء المكاتَب، فأنظره المولى، وخرج المكاتبُ بإذنه، فلو أراد الفسخَ كما (3) بدا له، لم يكن له ذلك. نعم، يُعلمه أنه ندم على ما قدم، ثم على المكاتب أن يسرع الكرة، فإن أخر بحيث يقال: قصّر، فللسيد الفسخ حينئذ. وهذا الطرف يضاهي عَوْد الشفيع على قول الفور للطلب، كما قدرناه في موضعه.
12616- فلو جن المكاتب، وقلنا لا تنفسخ الكتابة على الرأي الظاهر، فإن عرف السلطان له مالاً -وقد حلّ النجم- أداه عنه.
__________
(1) مهما: بمعنى: إذا.
(2) ت 5: " الجاني ".
(3) كما: بمعنى (عندما) .(19/465)
وهذا فيه تأمل على الفطن؛ لأنه في حكم ولاية على مملوك، ولو كان مفيقاً ربما كان يفسخ، [أو لا يؤثر الأداء] (1) .
ولو لم يصادف القاضي له مالاً، فإن فسخ السيد بنفسه، فلا كلام، وإن أفاق، وأقام بينة على أنه كان قد أدى، حكمنا ببيّنته، وتبيّنا فساد التعجيز.
ولو أفاق، وعرفنا أنه كان له مال؛ إذ عجّزه السيد، نُظر: فإن كان له مال في يد السيد، فالتعجيز مردود، وإن كان له مال لا يعرفه السيد، فالتعجيز نافذ بناء على قاعدة الباب، والسر الذي كشفناه في مأخذ الكلام في التعجيز.
ولو حل النجم، وفي يد المكاتب عَرْضٌ، والنجم من نقد البلد، فإن تأتى بيع العَرْض على الفور (2) ، [لم يكن] (3) للسيد أن يفسخ. وإن كان ذلك العرض كاسداً، ولا يتأتى بيعه إلا بعد زمان، فظاهر ما ذكره الصيدلاني أن السيد لا يفسخ، ولست أرى الأمر كذلك، لما مهدته من أن المكاتب إذا لم يأت بالنجم، فهو المقصر، ويثبت للسيد عنده سلطان التعجيز، وقيمة العرض غائبة، فيتجه أن نجعلها كمالٍ غائب. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
12617- المولى إذا استسخر المكاتب مدةً، فموجب الواقعة أن يغرم له أجرة مثله في تلك المدة، (4 فإذا حل النجم، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يعجزه إن لم يكن معه وفاء؛ فإن المدة 4) التي استخدمه فيها عَوَّضه عنها، وقيمةُ المتلفِ تخلُف المتلفَ. وهذا هو القياس. والقول الثاني - أنه يلزمه أن يُنظره في مثل تلك المدة؛ فإنه ربما كان يتفق له في مدة الاستسخار تحصيلُ النجم، ولا يمكن سد باب التعجيز، فأقصى الإمكان أن يمهل مثلَ تلك المدة؛ فإنه لم يفته إلا ظنٌّ فيعوّضه عنه فسحةً للظن، تضاهي الفسحة الأولى.
ثم إذا أمهله على هذا القول، لم يستردَّ الأجرة؛ فإن الأجرة بدلُ متلف، وهذه
__________
(1) في الأصل: " إذ لا يؤثر الأداء "، وفي (ت 5) : " أو لا يؤثر الإباء ".
(2) ت 5: " الغرر ".
(3) في الأصل: " ولم يكن ".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 5) .(19/466)
الفسحة لمقابلة ظن بظن. وما دامت الكتابة قائمة، فليست المنافع للسيد، حتى يقال: هذا جمعُ عوضين عليه، أحدهما: الأجرة والثاني: الإمهال. والأقيس القول الأول.
وقد ذكرنا لهذا نظائر في كتاب النكاح إذا استخدم السيد العبد، وامتنع عليه الاكتسابُ للمهر والنفقة، وهذا تشابه في المأخذ.
ثم تفريع كل أصل على حسب ما يليق به.
ولو حبس غاصبٌ المكاتَبَ، وقلنا: إن حبسه المولى، لأمهله، فهل يمهله المولى؛ ذكر العراقيون على هذا القول وجهين. ومساق هذا يلزمهم أن يقولوا: لو مَرض لجرى هذا الخلاف أيضاً، وهذا بُعدٌ عظيم عن سَنَنِ المذهب، يجر خبالاً لا يرتضيه المحصل، ولكل أصل مأخذ، والفقيه من يحوّم عليه.
وقد ذكرنا مأخذَ التعجيز ومقتضاه مصرِّح ببطلان ما قالوه، وقد يلزمهم أن يقولوا: إذا كسد عملُ المكاتب، ولم يكن منه تقصير، أو لم تتفق الصدقات، فإنه يمهل وهذا خُرْقٌ لا ينتهى إلى ارتكابه فقيه. والله أعلم.
***(19/467)
باب الوصية بالمكاتَب والوصية له
قال: " وإذا أوصى به لرجل وعَجَز قبل الموت ... إلى آخره " (1) .
12618- إذا أوصى برقبة المكاتب لإنسان، وأطلق الوصية، ولم يقيدها بعجز المكاتب وانقلابه إلى الرق، فالوصية باطلة، حتى لو عجز المكاتب ورَقَّ قبل موت الموصي، فلا ننفذها عند موته، كما لو أوصى بعبد إنسان، ولم يعلق الوصية بدخولها في ملكه؛ فإن الوصية تبطل.
ولو قال: إن ملكت هذا العبدَ، فقد أوصيت به لفلان، أو قال: إن عجز مكاتبي هذا، فقد أوصيت به لفلان، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أقيسها - بطلان الوصية اعتباراً بحالة التعليق، وقياساً على ما لو قال إن ملكت هذا العبد، فهو حر، وإن نكحت هذه المرأة، فهي طالق. والوجه الثاني - أن الوصية تصح؛ فإنها تقبل ما لا يقبل غيرُها، ووقت نفوذها وقت زوال ملك الموصي، يعني أنها تنفذ عند موت الموصي، وهو وقت انقطاع الملك.
والوجه الثالث - أن الوصية تصح في المكاتب، إذا تقيدت بعجزه وَرِقِّه؛ من جهة أنها تعتمد في الحال ملكاً، ولا تصح الوصيةُ المضافة إلى ملك الغير، وإن تقيدت بتقدير ملك الموصي؛ فإنها لم تعتمد ملكاً في الحال. ولا فقه في هذا الوجه.
وكل هذا مما أجرينا ذكره في تعليق الطلاق قبل الملك، ولم يخل كتاب الوصايا عنه أيضاً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/285.(19/468)
فصل
قال: " ولو قال: ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه ... إلى آخره " (1) .
12619- الوصية بنجوم الكتابة جائزة إذا خرجت من الثلث، فإذا صحت الوصية، وأداها إلى الموصى له عَتَق. وإن خرج بعضها من الثلث أدى ذلك القدر إلى الموصى له، وأدى الزيادة إلى الورثة، ويعتِق.
فإن عجز، فقال الموصى له: أُنظره حتى يجدَ، وقال الوارث أعجّزه، ثم في تعجيزه رده إلى الرق، وسقوط جميع النجوم، فللوارث أن يعجزه، وإن أدى تعجيزه إياه إلى بطلان الوصية، وتعليل ذلك بيّنٌ، وليس إلى الموصى له تعجيزه في هذا المقام إذا لم يعجِّزه الوارث.
ولو كان أوصى برقبة المكاتب على تقدير عجزه، وصححنا الوصية، ثم إنه عجز بعد موت السيد، فقال الوارث: أُنظره، لم يكن له ذلك، بل يُعجَّز وتُسلّم رقبته إلى الموصى له، وإنما يتعاطى ذلك القاضي إذا تحققت الواقعة في مجلسه.
ولو قال: ضعوا عن هذا المكاتب أكثرَ ما بقي عليه، ووفى الثلثُ واتسع، فالورثة يضعون عنه أكثر من نصف النجوم، ولو بزيادة حبة؛ فإن هذا أكثر ما عليه.
والمسألة فيه إذا لم يكن أدى شيئاً، وعلة ما ذكرناه أن الوصايا تنزل على أقل موجب اللفظ، والنصف وأدنى زيادة ينطلق عليه اسم الأكثر، وإن زاد الورثة على ما ذكرناه وبلّغوا الزيادة دراهم فصاعداً، فقد قال الصيدلاني: كل ما يضعونه محمول على الوصية. ولا يكون ذلك منهم ابتداءَ تبرع؛ فإن اسم الأكثر، كما يمكن تنزيله على النصف وأدنى زيادة، فهو محتمل لما يزيد على هذا المبلغ، فإلى الورثة أن يحملوا اللفظ على محتملاته، ولهم تنزيلُه على أقل معانيه.
وهذا الذي ذكره مأخوذ عليه؛ فما يزيد على الأقل المجزىء، فهو تفضل من الورثة على الابتداء، إذ لو اقتصروا على الأقل المجزىء، لقيل: لم ينقصوا من
__________
(1) ر. المختصر: 5/285.(19/469)
الوصية شيئاً، وإن كان الثلث متسعاً لأضعاف الوصية، وليس إلى الورثة تكثير الوصية وتقليلها، وإنما المستحق بها ما يجوز الاقتصار عليه، وهذا الذي ذكرناه يجري في كل وصية مرسلة لا تتقدر لفظاً بمقدار.
ولو قال: ضعوا عن المكاتب أكثر مما عليه، فمقتضى هذا اللفظ أن يوضع عنه الكل وزيادة. ولفظ الزيادة لغو، فوضعنا الكل، وألغينا الزيادة.
ولو قال: ضعوا عن مكاتبي ما شاء من الكتابة، فشاء الكل؛ لم نضعه، بل نبقي شيئاً وإن قلّ، لأنه قال: " من الكتابة "، وهذا يقتضي التبعيض.
ولو قال: ضعوا عنه ما شاء، ولم يقل من الكتابة، فشاء الكل، والثلث متسع، فهل نضع الكل عنه؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نضع عنه؛ فإنه لا تبعيض في اللفظ. والثاني - لا بد من تبقية شيء؛ فإنه لو أراد الكل، لقال: ضعوا عنه الكل إذا شاء.
فرع:
12620- إذا حل النجم على المكاتب، فجاء متبرع وأدى النجم عن مكاتَبه، فالسيد لا يلزمه قبوله؛ قياساً على مثل ذلك في جميع الديون، ولو قبله السيد، فهل يقع عن المكاتَب إذا كان ذلك بغير إذن المكاتب؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين أحدهما - أنه لا يقع عن المكاتب، وليس كالرجل يتطوع بأداء دين غيره بغير إذن من عليه؛ وذلك أن الكتابة الصحيحة -وإن كانت على حكم المعاوضة، وغلبت المعاوضة فيها- فلا بد من رعاية طرف من الاختصاص، والتعلّق بحكم التعليق، ولا تعلّق للعبد بهذا الأجنبي، ولم يرتبط به أيضاً إذن من المكاتب، فلا أثر لأدائه إذا كانت الحالة هذه.
والوجه الثاني -وهو القياس- أن العتق يحصل إذا قبل السيد؛ اعتباراً بجميع الديون. وإذا حكمنا بالعتق عند الإبراء عن النجوم -وإن كان معلقاً على أدائها- لم نبق للتعليق أثراً أصلاً (1) .
فرع:
12621- إذا جُن المكاتب، وحل النجم، وعجَّزه السيدُ، وكان ينفق عليه
__________
(1) من هنا بدأ خرم آخر في نسخة (ت 5) بقدر ورقتين من قياس النسخة نفسها.(19/470)
بعد التعجيز إنفاقَه على المماليك، فأفاق المجنون، وأقام البينة على أنه كان أدى النجم، فهل يرجع بما أنفقه؟ قال العراقيون: لا يرجع بما أنفقه؛ فإنه في حكم المتبرع.
ولو ادعى أنه جهل الأداء أو نسيه، وأنفق على تقدير الرق -فالذي قاله ممكن- فهل يملك الرجوع بما أنفق -والحالة هذه-؟ فعلى وجهين، والذي قطع به أئمتنا أنه لا يرجع؛ فإن إنفاقه عليه مطلقاً فمَحْمَلُه الظاهرُ التبرعُ لا غير.
[من عقود العتاقة التي تردد فيها الأصحاب] (1)
12622- ذكر الشيخ أبو علي في [شرح] (2) التلخيص ما يشكل من عقود العتاقة، ويتعلق به تردد الأصحاب.
فمما ذكره أن السيد إذا قال لعبده: بعتك من نفسك بألف درهم، فقال: قبلت، فالمذهب الصحيح أن العقد يصح، ويَعتِق العبدُ بالقبول، والألف يقع في ذمته، وخرّج الربيع قولاً أن ذلك لا يصح ويلغو، ولا يترتب عليه عتق، ولا حكم له أصلاً؛ [فإنه لا يعامل رقيقه بالبيع المحقق] (3) ، وهذا وإن كان له وجه في القياس، فهو مزيف مردود، غير معدود من متن المذهب.
فإذا فرعنا على الأصح -وهو الصحة- فإذا ابتاع نفسه، فالوجهُ تنزيل ذلك منزلة ما لو اشترى الإنسان من يعتِق عليه حتى يخرَّجَ الكلامُ، فإن خيار المجلس هل يثبت؟ وهل يصح فيه شرط الخيار؟ وقد ذكرنا هذا في شراء الإنسان قريبه.
وحكى الشيخ أن الأصحاب خرّجوا عتق العبد على ما إذا اشترى الإنسان عبداً، ثم أعتقه في زمان الخيار. وهذا ذكره ما دام في المجلس، وهو تفريع منه على أضعف
__________
(1) هذا العنوان من وضع المحقق.
(2) زيادة اقتضاها تصويب الجملة؛ فإن الشيخ أبا علي صاحب شرح التلخيص، وليس التلخيص.
(3) عبارة الأصل: " فإنه لما قبل رقيقه بالبيع المحقق ". والمثبت من المحقق، رعاية للسياق، واستئناساً بما قاله الغزالي في البسيط، والرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة.
وقد حاولنا -كدأبنا- أن نؤدي المعنى بأقل تغييرٍ ممكن في اللفظ الموجود بالأصل.(19/471)
الوجهين في شراء الرجل من يعتِق عليه، وهو منسوب إلى أبي بكر الأُودَني، فإنه أثبت خيار المجلس في شراء الرجل مَنْ يعتق عليه.
وبالجملة شراء العبد نفسه أقرب إلى مقصود العَتاقة من شراء الرجل من يعتِق [عليه] (1) .
12623- ولو قال السيد لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال العبد: قبلته، صح ذلك، ونفذ العتق في الحال، وهو بماثبة ما لو قال الزوج لزوجته: أنت طالق على ألف، فقبلته.
فأما إذا قال لعبده: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حر، أو إن أديت ألفاً، فأنت حر، فإذا أحضر ألفاً، فهذا -أولاً- فيه غموض؛ من جهة أنه لا يأتي بألف هو له؛ إذ لا ملك للعبد، ويقع هذا فيما إذا قال الرجل لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأتت بألف مغصوب. ولكن نفرع على العتق، ونقول بعده: ما سبيل هذه المعاملة وكيف تنزيلها؟
ذكر الشيخ ثلاثه أوجه: أحدها - أن حكمه حكم الكتابة الفاسدة في التراجع: رداً ورجوعاً إلى القيمة، ثم يتبع الكسب.
والوجه الثاني - أنه لا يتبعه الكسب والولد، ولكن نغرمه قيمتَه.
والوجه الثالث - أنه لا نغرمه قيمتَه أيضاً.
وفي وضع هذا الكلام اضطراب لا بد من كشفه، ونحن نقول: الكسب والولد الحاصلان قبل هذا التعليق لا يتبعان بلا خلاف، وإنما هذا التردد فيما حصل بعد التعليق من كسبٍ أو ولد، وكأن حاصل الكلام فيه يرجع إلى أن هذا اللفظ من السيد هل يكون كتابة فاسدة؛ فإن جعلناه كتابة فاسدة، يقع ما بعده من كسب وولد كما ذكرناه من كتابة فاسدة.
ومن الأصحاب من لم يجعله كتابة فاسدة، ثم هؤلاء اختلفوا: فقال بعضهم: تعليق محضٌ، لا يتضمن الرجوع بالقيمة أيضاً. وقال آخرون - لا بد من ثبوت
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(19/472)
الرجوع عليه بالقيمة، كما لو قال الزوج لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأعطته مغصوباً؛ فإنه يرجع عليها عند وقوع الطلاق، والقائل الأول يقول: كانت المرأة من أهل الالتزام لما خوطبت، بخلاف العبد القن، فحُملت المعاملة مع العبد على التعليق المحض.
وقد نجزت مسائل السواد في الكتاب. واتفق أن ابن الحداد بعد نجاز ترتيب الكتب ذكر مسائل [من مولَّداته أشتاتاً] (1) ، وعطفها على الكتب من غير ترتيب، ولو أوردها في مواضعها، لكان ذلك أولى، ولكن إذا لم يتفق، فنحن نأتي بما نعلم أنه لم يَسبق له ذكرٌ أو تردُّدٌ فيه، فإن اتفقت إعادة، لم تضر، وهي أولى من الإخلال.
مسائل مشتتة لابن الحداد
فروع في البيع:
12624- منها - إذا اشترى جاريةً مزوّجة، وشرط أن تكون بكراً، فلو خرجت ثيباً، ففي ثبوت الخيار له وجهان: أحدهما - أنه لا خيار له؛ فإن بُضع الجارية مستحَقٌّ للزوج، لا حظ للمشتري فيه، فلا يتخلف عنه بالثيابة غرض، والوجه الثاني - أنه يثبت له الخيار؛ فإن الثيابة نقصٌ بالإضافة إلى البكارة، وقد يتوقع موت الزوج أو تطليقه إياها قبل الافتضاض.
فرع:
12625- إذا اشترى الرجل جاريةً، وكانت وضعت قبل البيع ولداً، ووضعت بعد البيع ولداً، لأقل من ستة أشهر من انفصال الولد الأول، فنعلم أنهما حمل واحد، فظاهر نص الشافعي أن الولد من البائع، وهذا خلاف القياس؛ فإن الجارية وإن ولدت في يد البائع أحد التوأمين، فالثاني مجتن حالة البيع متصل، فينبغي أن يتناولَه العقدُ، ولا أثر في هذا المقام لكونهما توأمين.
قال الشيخ أبو علي: كان الشيخ الخِضري يحكي قولين في المسألة، أحدهما - ما
__________
(1) في الأصل: " من مولداتها شتاتاً " والمثبت من المحقق، فقد سبق للإمام أن عقد فصلاً بعنوان مسائل من مولدات ابن الحداد.(19/473)
نسبناه إلى النص. والثاني - ما رأيناه الصواب الذي لا يسوغ غيره، ثم إذا حكمنا بأن الحمل للبائع، فيجب أن نحكم بفساد البيع في الأم على ظاهر المذهب، كما لو باع جارية حاملاً بولد [منه و] (1) كما لو باع جاريةً حاملاً فاستثنى.
فرع:
12626- إذا اشترى الرجل جارية، فأتت الجارية بولد فقال المشتري: ولدت هذا الولد بعد الشراء، وقال البائع: بل ولدته قبل البيع، فهذه المسألة كتبها الحليمي إلى الشيخ أبي زبد يستفتيه فيها، فأجاب بأن القول قول البائع؛ فإن الأصل ثبوت ملكه في الحمل، والأصل عدم البيع في وقت الولادة، هكذا حكاه الشيخ أبو علي، ولم يزد عليه.
فرع:
12627- إذا باع رجل عبداً بثوب، ثم إن من أخذ الثوب فصّله وقطعه، فوجد الثاني بالعبد عيباً قديماً، فله ردُّه بالعيب، ثم إذا ردّه، فقد حكى الشيخ وجهين: أحدهما - أنه يسترد الثوب مقطوعاً، ويسترد أرش النقص، وهذا هو القياس؛ فإن الثوب لو تلف في يد آخذه، ثم رد عليه [عبده] (2) بالعيب، لكان يغرم تمام القيمة عند تلف الثوب، فكذلك يجب أن يغرم أرش النقص مع رد الثوب، وليس هذا كما لو تعيّب المبيع في يد البائع؛ فإنا نقول للمشتري: إما أن تفسخ البيع، أو ترضى به معيباً، وليس لك طلب الأرش، وذلك لأن المبيع غير مضمون على البائع بالقيمة. ولو تلف المبيع قبل القبض، لم يغرم قيمته؛ فلما لم يكن المبيع مضموناً عليه بالقيمة لو تلف، لم يكن بعضه مضموناً عليه بالأرش.
والوجه الثاني - أنه إذا رد العبدَ، وصادف الثوب مقطوعاً معيباً، فهو بالخيار: إن شاء رضي بالثوب معيباً، واسترده من غير أرش، وإن شاء ترك الثوبَ، ورجع بقيمته غيرَ معيب؛ فإن اختار الثوب، فلا أرش له.
قال الشيخ رضي الله عنه: اشتهر من كلام الأصحاب أن المتبايعين إذا تحالفا،
__________
(1) كلمة " منه " مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. و" الواو " زيادة من المحقق. (انظر صورة عبارة الأصل) .
(2) في الأصل: " عَرْضه ".(19/474)
وكان عاب المعقود عليه في يد أحدهما، فإنهما يترادان، ويُرجَع على من نقص العوض في يده بأرش النقص عند التفاسخ، ولا فرق بين هذه المسألة وبين مسألة العبد والثوب. فإن طرد صاحبُ الوجه الثاني مذهبَه في مسألة التحالف، كان ذلك قُرْباً من خرق الإجماع، وإن سلّمه، بطل هذا الوجه في المعيب أيضاً، وشبب الشيخ أبو علي بإجراء الخلاف في مسألة التحالف.
فروع في الوكالة
12628- أحدها - إذا وكّل إنساناً ببيع متاعه مطلقاً، فباعه وشرط الخيارَ للمشتري وحده، أو لنفسه، وللمشتري، فالبيع باطل؛ فإن الوكيل المطلق لا يبيع عندنا بأجلٍ؛ لما فيه من تأخر الطلب، والخيار شرّ من الأجل؛ فإنه يمنع الملكَ، أو لزومَ الملك.
ولو باع وشرط الخيار لنفسه، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما - يصح؛ فإن الخيار للبائع مزيدُ حق، وليس يقتضي جوازاً في جانب المشتري. والوجه الثاني - أنه لا يصح؛ لأن الوكيل أثبت مزيداً لا يقتضيه مطلقُ البيع، ولو صح الشرط، لثبت للوكيل الخيار، وهذا حق أثبته لنفسه من غير إذن موكله.
ولو وكّله بشراء عبد، فاشتراه بثمن مثله مؤجلاً، وكان ذلك المبلغ بحيث لو قدر نقداً، لما كان المشتري مغبوناً؛ ففي صحة الشراء عن الموكِّل خلاف، والأصح الصحة؛ فإن الأجل في هذه الصورة زيادةٌ محضة. ومن منع انصراف الشراء إلى الموكل، احتج بأن التوكيل المطلق بالبيع والشراء يجب تنزيله على ما ينزل العقد عليه إذا كان مطلقاً، والعقد المطلق لا يقتضي أجلاً.
فرع:
12629- إذا وكل رجلاً ببيع شيء، ولم يصرح بتوكيله بقبض الثمن، فهل له قبضُ الثمن بمطلق الوكالة؟ فعلى وجهين مشهورين، وليس للوكيل تسليم المبيع قبل قبض الثمن، فلو سلم المشتري الثمنَ إلى الموكل، فالوكيل يسلم المبيعَ لا محالة، ولفظ التسليم مستعار في هذه الصورة؛ فإن المشتري إذا وفر الثمن، فله الاستقلال بأخذ المبيع من غير تسليمٍ من البائع.(19/475)
فرع (1) :
12630- إذا قال لرجل: وكِّل فلاناًً بأن يبيع ثوبي، فهذا المخاطَب موكّل بالتوكيل، وليس له أن يبيع؛ فإنه لم يفوِّض إليه البيعَ، فإذا وكل المأمورُ وكيلاً، فالوكيل بالبيع وكيل الموكِّل الأول، وليس وكيلاً للوكيل؛ حتى لو أراد عزله، لم يملكه، وإنما يعزله الموكِّل الأول، والسبب فيه أنه وكّل الأول بأن يوكل، وقد وكل، وتم ما فُوِّض إليه وانقضى تصرفه. [فمآله العزل] (2) .
وهو كما لو وكل رجلاً ببيع متاع، فإذا باعه، لم يكن له بعد البيع نقضُ البيع، وبمثله لو وكل رجلاً، وجوز له أن يستنيب ويوكل في البيع المفوض إليه، فإذا فعل ذلك، فالوكيل الثاني وكيل صاحب المتاع أم هو وكيل الوكيل الأول؟ فعلى وجهين، وفائدة ذلك أن الوكيل الأول -على أحد الوجهين- يعزل الوكيل الثاني، وكأنا نجعل الثاني فرعاً للأول، والفرق بين هذه الصورة والأولى؛ أن الوكيل الأول إذا كان موكلاً بالبيع، فوكل من يبيع، فسلطان الوكيل الأول باقٍ في البيع لو أراده، فما انقضى تصرفه، بخلاف المسألة الأولى.
مسألة في الإقرار بالنسب
12631- قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن من مات، فأقر بعضُ ورثته المناسبين بوارث، لم يثبت النسب، حتى يتفق الورثة. وذلك بيّن ممهّدٌ في موضعه.
فلو أقر الكافة إلا زوجاً، أو زوجة، فالمذهب الأصح أن النسب لا يثبت حتى يوافق الزوج، أو الزوجة، فإنهما من الورثة، وجملة الورثة ينزلون منزلةَ الموروث؛ فإقرار جميعهم بمثابة إقرار الموروث في حقوقه.
وحكى الشيخ وجهاً ثانياً أن النسب يثبت وإن أنكره أحد الزوجين، لأنهما ليسا من أهل النسب، وإن كانا من جملة الورثة، والأصح الأول.
ولو مات رجل، وخلف بنتاً، فأقرت بابن لموروثها، لم يثبت نسبه؛ فإن البنت ليست مستغرقة للميراث، بل نصف الميراث لها، والباقي مصروف إلى المسلمين.
__________
(1) من هنا عادت نسخة (ت 5) بعد انتهاء الخرم الذي أشرنا إليه آنفاً.
(2) في النسختين: " فما له والعزل " والمثبت من تقدير المحقق.(19/476)
فلو أقرت بنسب ابنٍ وساعدها على الإقرار الإمامُ، فقد ذكر الشيخ وجهين: أحدهما - أن النسب يثبت بموافقة الإمام، وهو لسان أهل الإسلام، فكأنهم أقروا مع البنت. والوجه الثاني -وهو الذي لا يجوز غيره- أن النسب لا يثبت؛ فإن الإمام في حكم النائب، وإقرار النائب في هذا المقام لا ينفع؛ فإن من خلف ولدين أحدُهما طفل، فاعترف البالغ منهما بنسب ابن ثالث، وساعده قيّم الطفل، لم يثبت النسب حتى يبلغ الطفل، فينظر: أيساعِد في الإقرار، أم يخالِف، فإذا خلف بنتاً في ظاهر الحال - فلو جاء ابن وادعى أنه للمتوفى، فإقرار البنت لا يكفي؛ لأنها ليست مستغرِقة، ولو فرضنا إنكارها، فقد قال الشيخ: إذا أنكرت، لم تحلّف؛ فإنا لو حلّفناها ونكلت، ورددنا اليمين، فلا حكم لما يجري من ذلك.
وعندنا أن يمين الرد لو جعلناها بمثابة البينة، فيتجه تحليفها رجاء أن تنكُل، فترد اليمين، ويتنزل حلف المردود عليه منزلة بينة تقوم على النسب، وهذا ضعيف؛ من قِبل أن القضاء بالنسب لا يقع على البنت، وإنما يقع على الميت، وقد ذكرنا أن يمين الرد لا تنزل منزلة البينة في حق غير المستحلف (1) .
مسائل في المواريث
12632- إحداها - إذا مات رجل وخلّف ابني عم، أحدهما أخ لأم؛ فالمذهب المشهور للشافعي أنا نفرض سدس المال للذي هو أخ لأم، والباقي نقسم بينهم للعصوبة.
وقال عمرُ، وابنُ مسعود (2) : يدفع تمام المال إلى الذي هو أخ لأم، ويقوى تعصيبه بزيادة القرابة، قياساً على الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب.
قال الشيخ رضي الله عنه: من أصحابنا من خرج للشافعي قولاً مثل مذهب عمر
__________
(1) بدأ سقط آخر من (ت 5) وهو نحو ثلاث ورقات من قياس النسخة ذاتها.
(2) مذهب عمر وابن مسعود رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي (ر. مصنف عبد الرزاق 10/249، 287، 288، مصنف ابن أبي شيبة: 2/180، 181، السنن الكبرى: 6/255، موسوعة فقه عمر: ص 46، موسوعة فقه ابن مسعود: ص 70) .(19/477)
وابن مسعود، وهذا غريب غيرُ معتد به.
ولو كان للمعتِق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فللشافعي قولان - هكذا قال الشيخ: أحدهما - أن أخوة الأم تَسقُط، ولا يبقى لها أثر، وإذا سقطت بقي ابنا عم المعتق، فالميراث نصفان بينهما. والقول الثاني - أن ابن العم الذي هو أخ من الأم أولى بالميراث ويسقط الآخر. وهذا القول مذكور في عصبات الولاء.
قال ابن الحداد: لو خلف المتوفى بنتاً وابني عم، أحدهما أخ لأم: فللبنت النصف. وباقي المال للذي هو أخ لأم. قال: وليس هذا تفريعاً على مذهب ابن مسعود. وهذا جواب ابن الحداد.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك. فقال قائلون: للبنت النصف والباقي بين ابني العم، لأن أخوة الأم صارت محجوبةً بالبنت، وصارت كأنها لم تكن، فقُسم باقي المال بينهما، ومن أصحابنا من قال: الصحيح ما قاله ابن الحداد؛ فإن أخوة الأم لم يمكن التوريث بها مع البنت، فلما تعذر استعمالها في التوريث بها وحدها، أعملناها في الترجيح، وتقوية العصوبة.
وهذا الخلاف بعينه هو الذي ذكرناه في ابني عم المعتق إذا كان أحدهما أخاً لأم.
والجامع أن الأخوة محققة في المسألتين، وامتنع إعمالها في الولاء وحدها لاستحالة التوريث [بها] (1) ، والبنت في المسألة التي كنا فيها حجبت أخوة الأم، فأنتظم قولان في الصورتين.
مسألة:
12633- إذا اجتمع في الشخص قرابتان، يحل في الإسلام التسبب المؤدي إلى جمعهما، فيجوز التوريث بهما جميعاً، وذلك مثل أن يكون ابن العم أخاً من أم.
فأما إذا اجتمع في الشخص قرابتان لا يحل التسبب المفضي إليهما في الإسلام، وإنما يجتمعان بسبب شبهة وغلط في الإسلام، ويتصور اجتماعهما على خلاف الملة، كما يقدّر بين المجوسيين؛ فإذا اجتمعت قرابتان كذلك، فيقع التوريث عند
__________
(1) في الأصل: " بهما ".(19/478)
الشافعي رضي الله عنه بأقربهما، ويسقط أضعفهما، ولا يقع التوريث بهما جميعاً.
وذهب ابن سريج إلى التوريث بالقرابتين في بعض الصور، على ما سنصفه في أثناء الكلام.
فلو وطىء المجوسي ابنته، فولدت بنتاً، فهذه البنت الصغرى بنت الكبرى وأختها من أبيها، فإنها ولد أبيها. فلو ماتت الكبرى، ولم تخلّف سوى بنتها التي هي أختها من أبيها، فقد اجتمع فيها البنوة والأخوة، فمذهب الشافعي أنها ترث بالبنوة، ولا ترث بالأخوة أصلاً. فلها نصف الميراث بالبنوة.
وقال ابن سريج -في هذه الصورة- إنها ترث بالقرابتين، فلها النصف بكونها بنتاً، والباقي لها بكونها أختا (1) .
وحقيقة أصله: أنه إذا اجتمع قرابتان، كل واحدة منهما لو انفردت، لاقتضت فرضاً مقدراً، فإذا اجتمعتا، لم يقع التوريث إلا بإحداهما، وهي أقواهما، ولا سبيل إلى الجمع بين فرضين. وإن كانت إحدى القرابتين بحيث تقتضي فرضاً والأخرى تعصيباً، فيثبت التوريث بالفرض والتعصيب جميعاً، فعلى هذا لو ماتت الصغرى في الصورة التي قدمناها، ولم تخلف إلا أمها وهي أختها من الأب أيضاً، فلا نورثها إلا بكونها أماً؛ فإن الأمومة أقوى، ولا ترث بالأخوة؛ لأنها لو ورثت بها، لاجتمع لها فرضان.
12634- فإذا تمهد ما ذكرناه، فنذكر صوراً لابن الحداد في ذلك:
فإذا وطىء المجوسي بنته، فولدت بنتاً، ثم هو بعينه وطىء البنت الصغرى، فولدت ابناً، فماتت البنت الصغرى أم الغلام، ثم مات الابن، فنقول: لما ماتت البنت، فقد خلفت أبوين وابناً، فللأبوين السدسان، والباقي للابن. فلما مات الابن، فقد خلف أباً وجدة: هي أم الأم، وهي أيضاً بعينها أخت الابن المتوفى،
__________
(1) استحقت بالأخوة -على مذهب ابن سريج- باعتبار الأخت عصبة مع البنت، وهذا أصل ابن سريج الذي سيأتي بيانه الآن، وأنه يجوز الجمع بين الفرض والتعصيب، ولا يجوّز الجمع بين فرضين.(19/479)
فللجدة السدس، والباقي للأب، ولا ترث الجدة بكونها أختاً؛ فإن الأب يسقط الأخت، فورثت بالجدودة المحضة.
ولو كانت الصورة كما ذكرناها، ولكن مات الأب أولاً، ثم مات الابن، وبقيت البنتان: فأما الأب لما مات، فقد خلف ابناً وبنتين، فالمال بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا توريث إلا بهذه الجهة. فلما مات الابن، فقد خلف أما هي أخت -وهي الصغرى- وجدة -وهي أخت أيضاً- وهي الكبرى؛ فأما الأم، فترث بالأمومة الثلث، ولا ترث بالأخوة، وأما الجدة، فلا ترث بالجدودة؛ فإن الأم تُسقط أمَّ الأم، ولكنها ترث بالأخوة، فللأم الثلث، وللجدة بالأخوة النصف، والباقي لبيت المال، هذا جواب ابن الحداد، وافقه الأئمة فيه.
وبمثله، لو مات الأب أولاً، ثم ماتت البنت الصغرى -أم الغلام- ثم مات الغلام، فنذكر ميراث الغلام -فهو المقصود- ونقول: قد خلّف الغلام جدة، هي أخت من الأب، قال الشيخ: ذكر ابن اللبان (1) في هذه المسألة وجهين: أحدهما - أنا نورثها بالأخوة، فتأخذ نصف الميراث؛ فإن نصيبها بالأخوة أكثر. والثاني - أنا نورثها بالجدودة سدساً، وهو الصحيح، لأن الجدودة أقوى بدليل أن الجدة أم الأم لا يحجبها الأب، ولا أحد من الأولاد، والأخ يسقطه هؤلاء، فلا نعتبر الكثرة، وإنما نعتبر القوة.
مسألة في قسم الصدقات
12635- إذا دفع من عليه الزكاةُ شيئاً من سهم ابن السبيل إلى إنسان ليسافر، ولم تكن له أُهبة، فورث مالاً، أو اتهبه، أو أُوصي له به، فقبله قبل أن يسافر، فالذي أخذه يردُّه؛ فإنه أخذه لحاجته وقد زالت. والسفر أمر متوقّع في ثاني الحال.
ولو دَفَع إلى فقيرٍ أو مسكين شيئاً من الصدقة، فاستغنى بعد ذلك بمالٍ أصابه، فلا
__________
(1) ابن اللبان: محمد بن عبد الله بن الحسن، الإمام أبو الحسين بن اللَّبَّان، البصري الشافعي.
إمام عصره في الفرائض وقسمة التركات، توفي ببغداد سنة 402 هـ. (طبقات السبكي: 4/154، العبادي: 100، الشيرازي: 99، الإسنوي: 2/362، وتاريخ بغداد: 5/472) .(19/480)
يرد ما أخذه؛ فإنه استحقه بوصف قائمٍ متحقَّق، فزواله لا يوجب الرد، وابن السبيل استحق لاْمر سيكون منه في الثاني، ولو أخذ ليسافر، ثم بدا له، فعليه ردُّ ما أخذه مذهباً واحداً.
وما ذكرناه في ابن السبيل يجري في الغازي، فلو أخذ ليخرج غازياً، فلم يخرج، ردّ ما أخذ.
قال الشيخ: لو سلمنا إلى ابن السبيل شيئاً، فخرج وعاد، وقد فضلت فضلة مما أخذه مع انقضاء وطره في سفره، فيلزمه ردُّ الفاضل، والغازي لو خرج وعاد مع فضلة، فلا يردها، هكذا قال الشيخ؛ فإن خروجه يرجع إلى مصلحة المسلمين، فكأنه كالمستأجر في خَرْجَته، وهذا لا يتحقق في ابن السبيل.
ولو دفع شيئاً إلى الغارم، فأبرأه مستحق الدين، فهل يستردُّ منه ما دفعه إليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسترد كما يسترد من ابن السبيل. والثاني - لا يسترد، كما لا يسترد من الفقير إذا استغنى بعد الأخذ.
وعلى حسب ذلك اختلفوا في أنا إذا سلمنا إلى المكاتب شيئاً من سهم الرقاب، فأعتقه سيده، فهل نسترد منه ما أخذه من الصدقة؛ فعلى وجهين.
ومما ذكره الشيخ أنه لو كان الدين مؤجلاً على الغارم أو المكاتب، فهل يجوز صرف الصدقة إليهما، فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - لا يجوز؛ فإنهما غير مطالَبَيْن.
والثاني - يجوز لثبوت الدين؛ فإن عين المطالبة لا تشترط؛ إذ الفقير لا يطالب بالدين. والثالث - أنه يصرف إلى الغارم، دون المكاتب؛ فإن المكاتب مهما شاء عجّز نفسه، وهذا الوجه الثالث بالعكس أولى، فإن ما ذكرناه يتحقق في النجم الحالّ أيضاً؛ فالوجه أن نقول: المؤجل في حق المكاتب كالحالّ؛ فإنه لو جاء بالنجم قبل حلوله لأجبر السيد على قبوله، مذهباً واحداً.
مسألة من النكاح
12636- إذا ادعى الرجل على أبِ بنتٍ أنه زوّج منه بنته، فلا تخلو البنت: إما أن تكون ثيباً وقت الدعوى أو بكراً، فإن كانت بكراً، لم يخل إما أن تكون صغيرة أو(19/481)
كبيرة، فإن كانت صغيرة بكراً، فلا يخلو الأب المدعى عليه إما أن يقر بأنه زوجها أو ينكر، فإن أقر للمدّعي، فيقبل إقراره، ويثبت النكاح؛ فإنه لو أنشأ تزويجها، لنفذ، فإذا تصور منه الإنشاء، قُبل منه الإقرار.
ولو أنكر، وقال: ما زوّجتها أصلاً، فتتوجه عليه اليمين، فإن حلف، انتفى النكاح، وإن نكل ردت اليمين على المدعي، فإن حلف، ثبت النكاح.
12637- ثم فرعّ الشيخ على ذلك. وقال: لو ادعى أجنبي على الأب: أنك بعت مني هذا العبدَ من مال طفلك، فإن أقرّ به، قُبل إقراره اعتباراً بالإنشاء، فإذا ثبت أنه يصح منه [الإنشاء، يصح منه] (1) الإقرار.
فلو أنكر البيعَ، قال الشيخ: يحلّفه المدعي، كما ذكرناه في النكاح، ويجري حكم الرد والنكول على القياس المتقدم.
ثم قال الشيخ: كان يجري بيني وبين الشيخ القفال كلام، فقال: الأب لا يحلّف في هذه الصورة إذا تعلقت الخصومة بمال الطفل، ولكن يوقف الأمر حتى يبلغ الطفل ويحلف أو ينكل؛ فإن اليمين لا تدخلها النيابة؛ وهذه اليمين متعلقة بحق الطفل، قال الشيخ: الوجه عندي القطع بأنه يحلف اعتباراً بالإقرار، فيتخذ قبول الإقرار أصلاً في جواز التحليف عند الإنكار؛ وقياس ما ذكره القفال أن لا يحلّف الأب في التزويج أيضاً؛ إذ لا فرق. وهذا فيه بُعْد.
ولو اختلف الأب ومن اشترى منه شيئاً من مال الطفل في مقدار الثمن، تحالفا عند الشيخ، وقياس ما ذكره القفال أن لا يتحالفا.
هذا كله إذا كانت البنت صغيرة بكراً.
12638- فأما إذا كانت بالغة بكراً، فادعى على الأب تزويجها منه، فإن أقر بتزويجها، قبل إقراره عليها -وإن أنكرت هي- فإنه يملك إجبارها، فيملك الإقرار بها.
ولو أنكر الأب، فهل يحلّفه المدعي؟ قال الشيخ: اختلف أصحابنا في ذلك:
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.(19/482)
منهم من قال: إنه يحلّف الأب، كما يحففه لو كانت صغيرة بكراً؛ إذ الإجبار والإقرار يجريان في الصورتين، والتحليف مأخوذ من قبول الإقرار. وهذا ما أجاب به ابن الحداد.
فعلى هذا: إذا حلف الأب، لم يخفَ حكمه، ولو نكل وحلف هو يمين الرد، ثبت النكاح.
ولو حلف الأب، فله أن يدعي على البنت بعد سقوط الدعوى عن الأب بالحلف؛ فإن أقرت، قُبل إقرارها على الصحيح، وإن أنكرت، حلّفها، فإن نكلت، حلف يمين الرد، وثبت النكاح، وإن كان حلف الأب، فلا يقدح ذلك في يمينه المبنية على نكولها، ولو حلفت، سقط حقه حينئذ لاجتماع حلف الأب والبنت.
والوجه الثاني - في الأصل أنه ليس للمدعي تحليف الأب، وإن كان يُقبل إقراره؛ فإنه قادر على تحليف المرأة البالغة، فهي باليمين أولى.
هذا كله إذا كانت المرأة بكراً.
فأما إذا كانت ثيباً، فادعى على الأب تزويجها، فليس له تحليف الأب؛ فإنه لو أقر، لم يُقبل إقراره، إذ لو أنشأ تزويجها في صغرها ثيباً، لم ينفذ، والإقرار معتبر بالإنشاء.
مسائل في الجراح
12639- منها - مسألة نقول في مقدمتها: من قطع طرف رجل، فطلب المجني عليه الأرش، ففيه اختلاف النصوص، والأقوال، وطرق الأصحاب.
ولو طلب القصاص، فالمذهب أن له ذلك.
وحكى الشيخ أن من أصحابنا من جعل في القصاص قولين، وهذا بعيد، لا أعرف له وجهاً.
ومما نذكره في المقدمة: أن الرجل لو قطع يدي رجل، فمات المظلومُ، ثم قطع وليُّه يدي الجاني، فاندمل، فأرادوا طلب المال في النفس، فليس لهم ذلك؛ فإنهم قد استَوْفَوْا ما يقابل ديةَ النفس، وهذا معلوم في أصول المذهب.(19/483)
ولو قطعت امرأة يدي رجل، فمات المظلوم، فقطع الولي يديها، ثم أراد المطالبة بمال، قال: في المسألة وجهان: أحدهما - لا يجب شيء من المال؛ فإن يديها في مقابلة نفسها، ولو ماتت، لكان نفسها بنفسه، فكذلك يداها تقعان في مقابلة دية الرجل، فلا مطالبة بالمال بعد قطع يديها.
والوجه الثاني - أنه يجب عليها نصفُ دية الرجل؛ فإن الولي استوفى ما يقابل نصف دية الرجل، فتبقى الطلبة في نصف الدية.
رجعنا بعد ذلك إلى مسألة ابن الحداد، قال: لو قطع رجل يدي رجل، فاندملت الجراحة ظاهراً، فقطع المجني عليه إحدى يدي الظالم قصاصاً، وأخذ أرشَ الأخرى، ثم انتقضت جراحة المظلوم، وسرت إلى نفسه، والظالم باقٍ، فليس لورثة المظلوم طلبةٌ على الجاني في قصاص ولا دية، أما سقوط القصاص في النفس، فسببه أن في إتلاف النفس إتلاف الطرف، وقد عفا عنه؛ إذ أخذ الأرش، ولا دية أيضاً؛ فإنه قد استوفى ما يقابل ديةً كاملة. وهو القصاص في يدٍ والأرش في الأخرى.
12640- ثم ذكر ابن الحداد صورة أخرى، فقال: لو قطع يدي رجل ظلماً، فاندملت جراحةُ المظلوم حقيقةً، ثم إنه قطع إحدى يدي الظالم قصاصاًً، وأخذ أرش اليد الأخرى، ثم سرت يد الظالم إلى نفسه ومات، قال: لا يسترد ورثة الظالم من المظلوم أرش اليد الذي أخذه أصلاً.
قال الشيخ: هذا يخرّج على قولين مبنيين على أن الطرف إذا فات بسراية القصاص، فالسراية في الأطراف هل يقع بها القصاص؟ فعلى قولين سبق ذكرهما في الأصول: أحدهما - أن السراية في الأطراف لا يقع بها القصاص، كما لا يجب بها [الدية] (1) والثاني - يقع بها القصاص.
فإن قلنا: لا يقع بها القصاص، فالجواب ما قاله ابن الحداد؛ فإن المظلوم اقتص عن يد واحدة، ثم سرى القصاص إلى النفس، وفي موت النفس ضياع الطرف، ولا مبالاة به. وإن قلنا: السراية في الطرف يقع بها القصاص، فنقول: قد استوفى
__________
(1) في الأصل: " القصاص ".(19/484)
طرفاً وسرى إلى الطرف الآخر، فإنه لما مات، فقد فات ذلك الطرف، فوقع القصاص في الطرفين قطعاً وسراية، فعليه حينئذ أن يرد ما أخذه من الأرش. والصحيح من القولين ما فرعّ عليه ابن الحداد (1) .
مسألة أخرى من الجراح
12641- إذا قطع عبد يد عبد، واستوجب القصاص، ثم إن المظلوم عَتَق، وسرت الجراحة إلى نفسه، فعلى العبد الظالم القصاص في النفس والطرف، وحق القصاص في الطرف يثبت للسيد؛ فإنّ قطعَ اليد اتفق في ملكه، وحقُّ القصاص في النفس يثبت لورثته الأحرار؛ فإنه هلك حراً. فلو أن السيد استوفى القصاص من طرف العبد الظالم، فمات الظالم منه، فقد وقع النفس بالنفس؛ فإن الظالم مات بعد موت المظلوم بالقصاص. وهذا حسن.
وقد يخطر للفقيه فيه إشكال؛ من جهة أن السيد المقتص من الطرف لا حقَّ له في قصاص النفس، ومن له الحق في النفس، لم يستوف القصاص في الطرف. ولكن لا وجه إلا ما ذكرناه؛ فإن النفس فاتت بطريق القصاص، وكأن السيد وإن لم يملك القصاص في النفس، ملك ما هو استيفاء للنفس، ونحن قد نصرف إليه من دية هذا الذي مات حراً جزءاً، وإن كان مالك الرق لا يستحق بدل الحرية، وهذا حسن بالغ، لا وجه غيره.
ولو أن ورثته الأحرار عفَوْا عن القصاص في النفس، قبل أن يستوفي السيد القصاص في الطرف، قال الشيخ: سألت القفال عنه. فقال: ينبغي أن يسقط القصاص في الطرف أيضاً؛ فإن ورثته الأحرار، ثبت لهم إتلافُ الأطراف باستيفاء النفس، فلهم من هذا الوجه شركة في الطرف، فإذا عَفَوْا عن النفس، وجب أن يسقط القصاص في الطرف.
قال الشيخ: القياس عندي أن السيد له حق الاقتصاص في الطرف؛ فإن ذلك ثبت
__________
(1) إلى هنا انتهى السقط الأخير من نسخة (ت 5) .(19/485)
له مقصوداً، ولا خلاف أنه لو أراد استيفاء الطرف، لم يحتج إلى استئمار ورثته الأحرار، ولو كانت لهم شركة معتبرة، لوجب استئذانهم.
مسألة من الحدود
12642- قال رضي الله عنه: العبرة في الحدود وصفتُها ومبالغُها بوقت الوجوب، وبيانه أن الحر [الذمي] (1) إذا زنى، ورضي بحكمنا، فحكمنا عليه بالرجم؛ إذ كان محصناً، فلو أفلت، ونقض العهد، ولحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وأَرَقَّه الإمام، فإنا نرجمه رقيقاً بالزنا السابق، وهذا على أن الحد لا يسقط بالهرب؛ فمانَّ نقض العهد زائد على الهرب.
ولو قذف ذمِّيٌّ مسلماً محصناً، واستوجب بقذفه ثمانين جلدة، ثم نقض العهد، واستُرِق؛ فإنا نحده ثمانين جلدة، وإن كان حدُّ الرقيق أربعين جلدة.
مسائل من السير
12643- منها: إذا أسر الإمام رجالاً من الكفار، فأسلم بعضُهم، فالأصح أنه يبقى له الخيار فيمن أسلم بين المن، والفداء، والاسترقاق، ولا شك في سقوط القتل.
ومن أصحابنا من قال: من أسلم، فقد رَقَّ، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي رضي الله عنه قال: " لو أسلموا بعد الإسار رَقّوا " وقد أوضحنا [هذا] (2) في الأصول.
فلو قبل أسيرٌ الجزيةَ بعد الإسار، وكان كتابياً، ففي تحريم قتله وجهان مشهوران: فإن قلنا: لا يحرم قتله، تخير الإمام بين خمسة أشياء: إن شاء منّ، أو فادى، وإن شاء قتل، أو استرق، أو قبل الجزية.
وإن قلنا: يحرم قتله بقبول الجزية، فقد قال الشيخ: إن حكمنا بأن من أسلم
__________
(1) زيادة من (ت 5) .
(2) زيادة من المحقق.(19/486)
رَق، فهذا هل يرق بقبول الجزية؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرِق، كما لو أسلم، وهذا ضعيف، لا اتجاه له.
مسألة أخرى من السير
12644- إذا نكح المسلم حربية، فهل تسبى زوجته؟ فعلى وجهين مشهورين.
تقدم ذكرهما: فلو نكح مسلم حربية، وقلنا: إنها تسترق، فسُبيت واسترقت، فلا يخلو، إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون، فإن لم تكن مدخولاً بها، فكما (1) رقت، ارتفع النكاح لمعنيين: أحدهما - أنه ارتفع (2) ملكها عن نفسها، فلأن يرتفع حق الزوج عنها أولى، وأيضاً، فإنها صارت أمةً كتابية، فلا يدوم النكاح عليها.
ولو كانت مدخولاً بها، فَرَقَّت لما سبيت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: ارتفع النكاح، وانبت من غير توقف، حتى لو عَتَقَت بعد ذلك، والعدة باقية، أو أسلمت، فلا حكم لشيء من ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إذا اتفق العتق والإسلام قبل انقضاء العدة، فالنكاح قائم، كما لو ارتد أحد الزوجين بعد الدخول، فعلى هذا إذا عَتَقَت وأسلمت في العدة، دام النكاح؛ فإنها عادت حرة مسلمة.
وإن عتقت في العدة، ولم تُسلم، فكذلك؛ فإنها حرة كتابية، والتصوير فيه إذا كانت يهودية أو نصرانية لا محالة.
ولو أسلمت في العدة، وثبتت رقيقة، فإن كان الزوج ممن يحل له نكاح الإماء، دام نكاحه عليها، وإن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، فهل يحل له استدامة النكاح على الأمة المسلمة؛ ذكر الشيخ وجهين في هذا المنتهى: أحدهما - ليس له ذلك، والثاني - له الاستدامة، وهو الصحيح إذا فرّعنا على هذا الوجه.
وقد أطلق الأصحابُ القولَ بأن الزوج إذا اشترى زوجته الأمة، انبت النكاح، حتى لو أعتقها في زمان العدة، لم نتبين دوامَ النكاح. وما ذكره الشيخ من الاختلاف في
__________
(1) فكما: بمعنى: فعندما.
(2) سقطت من (ت 5) ، فعبارتها: أنه ملكها عن نفسها.(19/487)
تغير حال المسبيّة قد يُطرِّق احتمالا إلى شراء الزوجة، ولكن لا سبيل إلى مخالفة ما اتفق الأصحاب عليه.
فإن قيل: لا معنى لهذه المسألة؛ فإن الزوجة إذا ملكا الزوج، فلا عدة، قلنا: العدة ثابتة، لو فرض تزويجها من الغير.
12645- ثم أجرى الشيخ في أثناء الكلام أن الحربية إذا وطئها مسلم، وعلقت منه بولد مسلم، فإذا سبيت، وجرى الرق عليها، فلا يجري الرق على حملها، ثم لا تباع ما دامت حاملاً بالولد الحر على القياس المعلوم، وإذا وَضَعت، جاز بيعها، ولا يكون ذلك تفريقاً بين الأم والولد؛ فإن قولي التفريق فيه إذا كان الولد رقيقاً، بحيث يتصور بيعه مع الأم، فإذا بيعت الأم وحدها، كان على قولين، فأما إذا كان الولد حراً، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى منع بيع الأم حتى يستقل الولد.
ومما جرى في أثناء الكلام زلل وقع لابن الحداد؛ فإنه قال: لو أن المسلم سُبي ولده الصغير، فالحكم كذا وكذا، وهذا غلط؛ فإن المسلم ولده الصغير مسلم، فلا يتصور أن يغنم.
مسألة أخرى من السير
12646- نقول في مقدمتها: ما يغنمه المسلم بالقتال مخموس، وأهل الذمة إذا قاتلوا أهل الحرب منفردين، لا مسلم معهم، فما يغنمونه لا يخمس، بل ينفردون به، وحكى الشيخ وفاق الأصحاب فيه، وسببه أن الخمس يصرف إلى تدارك خلاّتٍ عامة في المسلمين، على ما لا يخفى مَصرِف الخُمس، وذلك من الجهات الغالبة، والذمي لا يكلَّف القيامَ بسدّ خلات المسلمين في الجهة العامة، ولذلك لا تضرب الزكاة عليه، وإن كانت الكفارة قد تجب عليه.
فإذا ثبت هذا، فلو خرج مسلم وذمي، وغنما، فهل يخمس المغنوم بجملته، أم يخمّس نصيب المسلم دون نصيب الذمي؟ فعلى وجهين، ذكرهما الشيخ.
وهذا فيه اختلاط، والكشف فيه أن يقال: ما ذكره مأخوذ من أصل مضى تمهيده في قَسْم الفيء والغنيمة، وهو أن الذمي حقُّه الرضخ، وهو دون السهم، ثم الرضخ(19/488)
في حقه، وفي حق صبيان المسلمين من أي موضع يؤخذ؟ فيه اختلاف أوضحته في موضعه: من أصحابنا من قال: الرضخ من سهم المصالح، فعلى هذا: لا حق لصاحب رضخٍ في مغنم، حتى لو كان في الجند مسلم واحد، والباقون أهل ذمة، فلا حظ لهم في شيء من المغنم، وإنما المغنم للمسلم وجهة الخمس (1) . وهذا الوجه مائل عن القاعدة وإن كان مشهوراً.
والصحيح أن أصحاب الرضخ يستحقون من المغنم.
ثم اختلف الأصحاب بعد ذلك: فمنهم من قال: يؤخذ الرضخ من رأس المغنم قبل التخميس، وكأنه كالمؤنة تلحق المغنمَ، بمثابة نقل المغانم إلى المكان الذي تتأتَى القسمة فيه.
ومنهم من قال: يخرج الخمس من جملة المغنم، ثم يزدحم أصحاب الرضح وأصحاب السهام في الأربعة الأخماس.
فما ذكره الشيخ من أن نصيب الذمي هل يخمس؟ هو بعينه الاختلاف الذي ذكرناه في أن التخميس بعد الرضخ أو قبله.
ولو غنم طائفة من الصبيان بالقتال، فلا خلاف أنه مخموس، فإنا إذا كنا نوجب الزكاة في أموالهم، فلا يبعد أن يُخَمَّس ما يغنمون.
مسألة أخرى من السير
12647- نقول في مقدمتها: إذا قهر أهل الحرب بعضهم بعضاً، فالمقهور يصير مملوكاً للقاهر، ولو كان للحربي عبد، فقهر العبدُ مولاه، عتَقَ العبد، وصار السيد رقيقاً له، ولا يكفي في ذلك قصدُ القهر، بل لا بد من صورة القهر، ثم لا بد من قص الاستعباد.
ثم لو قهر حربي رجلاً حربياً، مَلَكه، والمسلم لو أسر حربياً [لم يُجرِ] (2) الرقَّ عليه، حتى يَرِقَّه الإمام أو نائبه، وسبب ذلك أن في أسير الكفار اجتهاداً في خصال،
__________
(1) ثم يأخذ أصحاب الرضخ من سهم المصالح، وهو أحد الأسهم التي يقسم إليها الخمس.
(2) في النسختين: " لم يجز ".(19/489)
ولا يتحقق مؤاخذة الحربي بها، فتعين قهره للرق.
ثم قال الأصحاب: إذا قهر حربي حربياً، لم يُشترط قصدُ الإرقاق، بل يكفي صورة القهر. وهذا فيه نظر عندي؛ فإن القهر قد يجري استخداماً، فلا يتميز قهر الرق إلا بقصد الارقاق.
رجعنا إلى مقصود المسألة، فنقول: إذا باع الحربي زوجته من مسلم، فإن لم يقهرها، لم يصح البيع؛ فإن التملك (1) إنما يجري بالقهر، وإلا فبيع الحرة باطل، والتراضي لا يصححه.
وكذلك لو قهر ابنه، وباعه من مسلم، فهل يصح ذلك، أم لا؛ إن لم يكن قهرٌ، فلا. وإن قهره، فهل نقول: إنه يعتق عليه، فلا يستقر له عليه ملك؛ فعلى وجهين: أحدهما -وبه أجاب الشيخ أبو زيد- أنه يصح (2) منه بيعُ ولده إن قهره، ولا يعتِق عليه؛ لأن القهر سبب الملك، وإذا دام القهر، فقد دام السبب، فإن تخيلنا عتقاً على الأب، فالقهر يزيل العتق، بل دوامه يمنع حصولَه.
والوجه الثاني - أنه لا يجوز له بيع ولده، ولا يبقى له عليه ملك، وهذا اختيار ابن الحداد.
والمسألة من المسائل التي أرسلها الحَليمي إلى الشيغ أبي زيد يستفتيه فيها.
وإن فرعنا على ما اختاره ابن الحداد، فيتجه أن نقول: لا يملك الأب ابنه بالقهر، لاقتران السبب المقتضي للعتق بالقهر. فلو قال قائل: فامنعوا شراء الأب ابنه، لما ذكرتموه! قلنا: إنما جاز ذلك ذريعةً إلى تخليصه من الرق، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من امتناع جريان الرق بالقهر.
وكل ما ذكرناه في الأب إذا قهر ابنَه، يجري في الابن إذا قهر أباه.
مسألة أخرى من السير
12648- إذا وقع طائفة من رجال الكفار في الأسر، فقد ذكرنا أن صاحب الأمر
__________
(1) ت 5: " الملك ".
(2) ت 5: " لم يصح ".(19/490)
يتخير فيهم بين القتل، والمن، والفداء، والإرقاق.
فلو لم يُمضِ فيهم رأيه، فابتدر مسلم، وقتل واحداً منهم، فقد أساء، وللإمام تعزيره، ولا يستوجب شيئاً؛ فإنه قتل كافراً لا أمان له، ولم يجر الرق عليه، ولا يلتزم بمنع الرق ضماناً، بخلاف ولد الغرور؛ فإن الرق يجري لولا الغرور، والرق لا يتعين في الأسير.
ولو أسلم واحد منهم، فقتله مسلم حر، فإن قلنا: من أسلم رَق، فلا قصاص على الحر، وإن قلنا: لا يرِق بالإسلام، فيجب القصاص على قاتله؛ فإنه قتل حراً مسلماً.
وفي هذا أدنى نظر؛ من جهة أنه يجوز إرقاقه، فكأنه مستحق الإرقاق، ولكن لا التفات إلى هذا؛ فإن القتل يخرجه عن إمكان ذلك، والاعتبار بصفته حالة القتل.
مسألة أخرى
12649- قد ذكرنا في القواعد من كتاب السير أن المعاهد إذا أودع عندنا أموالاً، ثم التحق بدار الحرب، فيبقى على تفصيل عُلقة الأمان في ماله، ثم قال الأصحاب: له أن يعود ليأخذ مالَه من غير أن نجدد له أماناً.
قال الشيخ: الذي أراه أنه لا يفعل ذلك، ولو فعله، اغتلناه في نفسه؛ لأن أمانه في نفسه قد انتقض، فلا بد من تجديد ذلك.
وإنما رسمت هذه المسألة لحكاية هذا، وإلا فالمسألة مستقصاة بجوانبها.
ثم قال الشيخ: لا أعرف خلافاً أن المسلم لو دخل دار الحرب، فسلم إليه حربي بضاعةً، ثم أراد الحربي أن يبيع البضاعة، ويدخل دار الإسلام من غير أمان، لم يكن له ذلك، ولو فعل اغتيل في نفسه. هكذا قال.
وفي المسألة احتمال على طريقة الأصحاب.
***
وقد نجزت المسائل المشتتة التي ذكرها ابن الحداد في آخر المولَّدات، وقد أعدت فيها أشياء كثيرة، ولم أُخلها عن زوائد وفوائد.(19/491)
[فصل] (1)
12650- وأنا أذكر الآن فصلاً ذكره صاحب التلخيص (2) ، وجمع فيه مسائل يفترق فيها الحر والعبد، وأنا أذكر منها ما أرى فيه مزيداً.
فمما ذكره أن العبد إذا نذر لله حجاً، فهل يُلزمه النذرُ شيئاً؟ تردد فيه، واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: لا يلزمه بالنذر شيء في الحال، ولا في المآل إذا عتق، وليس كنذر الصوم والصلاة؛ فإنه يُتَصَوَّر الوفاء بهما في الرق.
والمذهبُ صحةُ النذر في الحج، فعلى هذا، لو وفى بنذره في رقه، فهل يبرأ، أم لا يبرأ ما لم يعتق؟ فعلى أوجهٍ: أحدها - أنه يبرأ؛ لأن الأداء لا يمتنع وقوعه في وقت الالتزام؛ فإذا لم ينافِ الرقُّ الالتزامَ، لم يناف الأداء. والوجه الثاني - أن أداءه لا يصح في الرق، كما لا يصح منه حجةُ الإسلام في الرق. والوجه الثالث -وهو الذي ذكره صاحب التلخيص ولم يذكر غيره- أنه إن حج بذن مولاه، برئت ذمته (3) ، فإن حج دون إذنه، لم تبرأ ذمته، وهذا ساقط لا أصل له.
12651- ومما ذكره في أحكام العبد؛ أن العبد لا يجوز أن يكون وكيلاً في التزويج للولي (4) . وفيه وجه ذكرناه في النكاح أنه يجوز.
وهل يصح أن يكون وكيلاً في قبول نكاح الغير؟ إن كان بإذن السيد جاز؛ فإنه من أهل التزوج لنفسه، فلا يمتنع وكالته في هذا الشق.
وإن قبل النكاح بغير إذن السيد، فقد قال أبو زيد: يجوز ذلك؛ إذ لا عهدة فيه، وقال القفال: لا يصح منه هذا دون إذن السيد، كما لا يصح منه قبول النكاح لنفسه.
__________
(1) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من عبارة الإمام الآتية.
(2) ر. التلخيص: 675.
(3) ر. التلخيص: 676.
(4) السابق نفسه.(19/492)
ولا خلاف أنه يجوز أن يكون وكيلاً في تطليق زوجة الغير، وهذا بسبب جواز انفراده بتطليق زوجته من غير مراجعة المولى.
12652- ومما ذكره في أحكام العبد ضمانُه (1) ، فنقول: إذا ضمن مالاً، لم يخلُ: إما أن يضمن بإذن السيد، أو بغير إذنه، فإن ضمن بغير إذنه، لم يصح ضمانه على المذهب المشهور. وفيه وجه آخر، ذكره ابن سُريج أنه يصح الضمان منه، ويتعلق المضمون بذمته يُتبع به إذا عَتَق، والأصح فساد الضمان، وأنه لا يلتزم شيئاً في الحال ولا في المآل.
ولو ضمن بإذن السيد، صح، ثم ننظر، فإن لم يكن مأذوناً له في التجارة، صح ضمانه، وبماذا يتعلق المضمون؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يتعلق بكسبه، وهو الأصح، كما لو نكح بإذن سيده؛ فإن المهر والمؤن تتعلق بكسبه.
ومنهم من قال: يتعلق المضمون بذمته -وإن كان الضمان بإذن السيد- يتبع إذا عتق؛ إذ لا مال له في الرق، وليس الضمان من حاجاته، بخلاف النكاح.
وذكر الشيخ وجهاً ثالثاً: أن دَيْن الضمان يتعلق برقبته، وهذا مزيف، ولولا تصريحه به لما حكيته.
هذا إذا لم يكن مأذوناً (2) ، فإن كان مأذوناً، وفي يده شيء، فلا يخلو إما أن يكون عليه دين، وإما ألا يكون، فإن لم يكن دين؛ فيصح الضمان، وفي وجهٍ يتعلق بذمته، ومعناه معلوم، وفي وجه بعيد يتعلق برقبته، وفي وجه يتعلق بكسبه، فعلى هذا: يتعلق بما سيكسبه من ربح، وهل يتعلق بما في يده من المال؟ فعلى وجهين ذكرناهما في النكاح.
وإن كان عليه دين، نُظر؛ فإن كان مستغرِقاً، فيصح الضمان، ويتعلق بالذمة في وجه، وبالرقبة في وجه، وبالكسب في وجه، والدين السابق هل يقدم على دين الضمان؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - يقدم الدين المتقدم. والثاني -
__________
(1) السابق: 677.
(2) أي في التجارة.(19/493)
أنهما سواء، [كديني] (1) معاملة أحدهما متقدم والثاني متأخر. وكل ذلك قبل الحجر عليه.
12653- ومما ذكره في أحكام العبيد: قبول الهبة (2) . فلو قبل العبد هبةً بغير إذن المولى، ففي صحته وجهان مشهوران: فإن قلنا: يصح، دخل الموهوب في ملك السيد قهراً، وهل للسيد رده بعد ما قبله العبد؟ فعلى وجهين ذكرهما: أحدهما - له رده، فإن قلنا بذلك، فنقول: انقطع ملك السيد من وقت رده، أو يتبين لنا أنه لم يدخل في ملكه؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التلخيص (3) .
ويظهر أثرهما فيه إذا كان الموهوب عبداً، وقد أهلّ هلال شوال بين قبول العبد ورد السيد، [ففي] (4) وجوب زكاة الفطر على (5) الذي ردّه الخلاف (6) . ووجه التبيين في التحقيق يكاد يكون على وقف الهبة على إذنه، ولكن من جوّز الرد، لم يشترط القبول.
12654- ومما ذكره (7) : أنه لو وكل السيد عبده حتى يؤاجر نفسه، صح، ولو وكله حتى يبيع نفسه، المذهب أنه يصح.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، ولا وجه له.
ولو وكّله أجنبي بأن يشتري نفسه من سيده (8) ، فالأصح الجواز. ومن أصحابنا من منعه.
__________
(1) في الأصل: " كدين " والمثبت من (ت 5) .
(2) ر. التلخيص: 677.
(3) السابق نفسه.
(4) في النسختين: " وفي " والمثبث من تصرف المحقق.
(5) (على) بمعنى (عن) .
(6) مبنى الخلاف على تحقق الملك للسيد وانقطاعه بالرد، فتجب زكاة فطرة العبد المردود، وإذا قلنا: تبين أن الملك لم يحصل للسيد، فلا تجب الفطرة حينئذِ.
(7) السابق نفسه.
(8) السابق نفسه.(19/494)
فهذا ما رأيت ذكره من كلام صاحب التلخيص.
وكنت وعدت أن أجمع أحكام مَنْ بعضه رقيق وبعضه حر. ثم بدا لي، ولم أر الإطالة [بالتكرير] (1) ؛ فإن أحكامه جرت على الاستقصاء في الكتب. والله الموفّق للصواب.
***
__________
(1) مزيدة من (ت 5) .(19/495)
كتاب عتق أمهات الأولاد
قال الشافعي: "وإذا وطىء أمته، فولدت ما يبين أنه من خلق الآدمي ... إلى آخره" (1) .
12655- معظم مسائل هذا الباب مكرر في الكتب من غير إحالة، ونحن لا نعيد مما جرى ذكره مستقصى شيئاً، ونقتصر على ما يليق بتمهيد القاعدة، ونذكر من المسائل ما لم يسبق ذكره، أو لم نستقصِ جوانبَه.
فإذا أولدَ الرجل جاريتَه، وانتسب الولدُ إليه، كما تمهد وجه انتساب أولاد الإماء إلى السادة، فالمذهب الذي يجب القطع به ثبوتُ حرمة العَتاقة استحقاقاً على وجه لا يفرض زوالُها، ثم حُكْمُ الاستيلاد على الجملة أنه يمتنع بيع المستولدة، وإذا مات مولاها، عتقت عتقاً مستحقاً، مقدماً على حقوق الغرماء، فضلاً عن الوصايا، وحقوق الورثة، وهذه الحرمة المتأكدة تنزل منزلة الاستهلاك الحكمي الذي لا يفرض له مستدرك.
ولو استولد المريض جاريته في مرض الموت، تأكدت الحرمة غيرَ محتسبة من الثلث، وكان (2 استيلاده كاستيلاد الصحيح المطلق، وهذا يحقق كون 2) الاستيلاد استهلاكاً حكمياً.
هذا هو الأصل، وبه الفتوى، واتفق عليه علماء الصحابة في زمن عمرَ وعثمانَ، ثم رأى عليُّ في زمانه بيعَ المستولدة، وقال: " اتفق رأي ورأي عمر على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا الآن أرى أن يُبَعْن ". فقال عبيدةُ السلماني: "يا أمير المؤمنين:
__________
(1) ر. المختصر: 5/286.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .(19/497)
رأيك في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة" (1) .
واشتهر من نقل الأثبات إضافُة قولٍ إلى الشافعي في جواز بيع أمهات الأولاد، نص عليه في القديم، وهو في حكم المرجوع عنه، فلا عمل به، ولا فتوى عليه.
وسنذكر في خاتمة الباب اختلافاً في الأخبار والآثار، ونعلِّق بها سببَ اختلاف القول، وإنما لم نقدمها ليكون اختتام الكتاب بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن رُمنا التفريع على القول القديم؛ فللأئمة طريقان: قال صاحب التقريب، والشيخ أبو علي، وطوائف من أئمة المذهب: من جوّز بيع أم الولد، قضى بأنها رقيقة، ولا حكم للاستيلاد فيها، ولكنها اشتملت على الولد، ثم نَفَضَتْه، وقالوا: إذا مات المولى، لم تعتِق، ولا يفيدها الولدُ استحقاقَ العَتاقة في الحياة، ولا حصولَها عند الممات، وليست كالمدبرة؛ فإن عتقها معلق بالموت، والشرع صحح ذلك التعليق.
[و] (2) قال شيخي والصيدلاني ومعظم حملة المذهب: المستولدة تعتِق بموت المولى، ولكن لا يمتنع بيعُها في حياة المولى.
ثم لعلّ هؤلاء يقولون: تحصيل العَتاقة من رأس المال، ولا يمتنع أن يكون كعتق المدبر، ولا ثَبَتَ عندنا في هذا الطرف من طريق النقل.
12656- ومما نذكره في تمهيد القول في الاستيلاد أنا إذا منعنا بيعَ المستولدة، فلو قضى قاضٍ ببيعها، فقد ذكر الأئمة اختلافاً في أن قضاءه هل ينفذ، أم هو منقوض؟
وهذا التردد بناه الشيخ أبو علي على مسألة أصولية في الإجماع، وذلك أن العلماء اعتقدوا حصولَ إجماع الصحابة في مَنْع بيع المستولدة، ولكن كان خلافُ عليٍّ قبل
__________
(1) أثر علي رضي الله عنه رواه عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في الكبرى، قال الحافظ عن إسناد عبد الرزاق: وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد. (ر. مصنف عبد الرزاق: 7/291 ح 13224، البيهقي: 10/343، 348، التلخيص: 4/403) ، وسيق كلام عبيدة السلماني على نحو آخر سيأتي قريباً.
(2) الواو زيادة من (ت 5) .(19/498)
انقراض العصر، وقد اختلف الأصوليون في أنا هل نشترط في تحقق الإجماع انقراض العصر؟ فمن لم يشترطه، نقَضَ القضاءَ بالبيع، وقدره حائداً عن مسلك القطع، ومن شَرَطَ في انعقاد الإجماع انقراضَ العصر رأى المسألةَ مظنونةً، والقضاء لا ينتقض في مظان الظنون.
ومما نستكمل به، ما ذكرناه في تأكد حرمة الاستيلاد على القول الصحيح أنه لو شهد على إقرار السيد بالاستيلاد شاهدان، وجرى القضاء بشهادتهما، ثم رجعا؛ قال الشيخ أبو علي: لا يغرمان شيئاً؛ فإنهما لم يُفسدا المالية، ولم يحققا العتق في الحال، وإنما امتنع البيع بشهادتهما، هكذا قال، وقطع بذلك قوله، ولست أدري ماذا يقول إذا مات المولى، وفات الملك بسبب الشهادة؟
والذي نراه أن الغرم يجب في هذه الحالة، ثم يغرم الشهود [للذين] (1) كانت الرقبة تصرف إليهم لولا الاستيلاد، إذا كانت تلك الجهة في الاستلحاق قائمة بعد الموت؛ إذ الشهادة على الاستيلاد لا تنحط عن الشهادة على تعليق العتق. ولو شهد شاهدان عليه (2) ، ووجدت الصفة، وجرى القضاء بالشهادة، فعلى شهود التعليق الغرم، ثم لا يُغَرَّمون قبل وجود الصفة.
ولو فرق فارق بين التعليق وبين الاستيلاد، وقال: لا يمتنع بالتعليق المجرد قبل وجود الصفة شيء من التصرفات، ويمتنع بالاستيلاد البيعُ، والرهنُ، والتمكنُ من الاعتياض، وهذا إيقاع حيلولة بين المالك وبين التصرفات، فينبغي أن يتضمن التغريمَ، كما لو أبق العبد من يد الغاصب؛ فإن الغرم يجب، وإن كان لا يمتنع على المغصوب منه ضروب من التصرفات في الآبق كالعتق، وقد يتوصل بإعتاقه إلى إبراء ذمته عن الكفارة.
قلنا: لا اغترار بهذا، والمستولدة على حقيقة الملك، وامتناع البيع لا يتقوّم، والغاصب يغرم، لأنه في عهدة ضمان يده إلى عَوْد الملك إلى مستحقه.
__________
(1) في النسختين: " الذين ". والمثبت من تصرف المحقق.
(2) عليه: أي على التعليق.(19/499)
12657- وقد نجز ما أردنا ذكره في تأسيس الاستيلاد، ثم الكلام بعد هذا يقع في فصولٍ: منها - انتساب الولد، وقد مضى، ومنها - صفة الولد، فإن كان تَخَلَّقَ، حصل الاستيلاد بانفصاله، وإن لم يتخلق، فقد مضى القول فيه مستقصى، ونقلنا النصوص في انقضاء العدة، ولزوم الغُرّة، وحصول أمية الولد. وذكرنا اختلاف الطرق، فلا عود ولا إعادة.
ومنها - التفصيل في الجهات التي يحصل العلوق بها، فنقول: من نكح أمة، فعلقت منه في النكاح، فالولد رقيق، فلو ملك الأمَّ، لم تصر أمَّ ولدٍ عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة (1) ، وعماد المذهب أن أمية الولد تتبع حريةَ المولود، فإذا كان علوق المولود على الرق، فلا تتعلق به حرمة الاستيلاد.
ولو وطىء جاريةً بشبهة: حسبها مملوكته، فالولد حر، ولا شك أن الاستيلاد لا يثبت في الحال لمصادفته ملكَ الغير، فلو ملكها الواطىء، ففي حصول الاستيلاد عند ملكها قولان مشهوران للشافعي رضي الله عنه: أحدهما - أنها لا تصير (2) مستولدة لوقوع العلوق في ملك الغير، ولو كان هذا العلوق يثبت أمية الولد، لما بَعُد (3) أن يقتضيها على الفور إذا كان المولِّد (4) موسراً، وكنا ننقل الملك إليه، كصنيعنا في تسرية العتاقة على القول الأصح، إذا فرعنا على التعجيل، فإذا لم نفعل ذلك، فلا أثر للعلوق فيها في المآل، كما لا أثر له في الحال.
والقول الثاني - أن الحرمة تثبت إذا ملكها، لحرمة الحرية في الولد، وهذه العُلقة [تتشبّه] (5) باقتضاء البعضيةِ العتقَ عند حصول الملك، فالأب يعتِق على ابنه، والابن يعتِق على أبيه.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 377، المبسوط: 7/154، تبيين الحقائق: 3/104، الاختيار: 4/33.
(2) في ت 5: " أنها تصير ".
(3) ت 5: " أبعد ".
(4) في الأصل: " الولد ". والمثبت من (ت 5) .
(5) في الأصل: (تُنشئيه) بهذا الرسم، والنقط، والضبط، بل بوضع الهمزة على الياء، ولم نر همزة غيرها في النسخة كلها. والمثبت من (ت 5) .(19/500)
12658- وإذا أردنا ضبطَ المذهب، أثبتنا ثلاث رتب: إحداها - حصولُ العلوق في الملك، وهذا يستعقب حرمةَ الاستيلاد. والثانيةُ - حصول العلوق على الرق، وهذا لا يثبت الاستيلاد ولا يُفضي إليه، ولو اشترى ولده وأمّه، عَتَقَ الولد، والأم رقيقة، أجمع الأصحاب عليه.
وإن حصل العلوق على الحرية، ولم يصادف الإعلاقُ الملكَ، فهذه المرتبة الثالثة. وفيها القولان، وهذا لا يتم إلا بذكر صورة:
فإذا غُرّ الرجل بحرية أمةٍ، وعلقت منه على الغرور بولدٍ حر، فلو ملك الأم: فهذا موضع التردد، فلا يمتنع طرد القولين بحصول العلوق في الولد على الحرية، والأفقه عندنا القطع بأنه أمية الولد لا تثبت بحصول العلوق في النكاح، ومقتضاه لولا الظن، رق الولد، فالغرور مقصور على المولود في نكاح الغرور. فإذا وطىء جارية الغير، وحسبها جاريَته، فالظن شامل للأم والولد.
ومن أحاط بمسالك الكلام، استبان ضعفَ القول بحصول الاستيلاد في وطء الشبهة، فلا ينبغي أن يلحق به صورة الغرور.
12659- ومما يتعلق بأصول الباب الكلامُ في أولاد المستولدة، فنقول: إذا أتت أم الولد بولدٍ من سفاح أو نكاح -إن صححناه- فولدها بمثابتها: لا يباع، ولا يرهن، ويَعتِق بموت السيد، كما تعتق الأم، ولو أُعتقت الأم، لم يعتِق الولد، فإن ولدها يعتق بما تعتِق به، ولا يعتِق بعتقها، فالمستولدة وولدها كمستولدتين وليس (1) هذا كحكمنا بعتق ولد المكاتب إذا عتق المكاتب؛ فإنه تبع المكاتب تبعية الأكساب.
ولو ماتت المستولدة، فقد فات العتق [فيها] (2) ، وهو منتظر في ولدها، بناء على ما قدمناه من أن الولد يعتِق بما تعتِق الأم به.
وإذا فرّعنا على أن الموطوءة بالشبهة إذا ملكها الواطىء، صارت أمَّ ولد، فلو كانت أتت بأولاد على الرق قبل أن ملكها، ثم إن الواطىء اشتراها، واشترى
__________
(1) ت 5: " هذا لحكمنا " بدون (وليس) .
(2) في الأصل: " منها ". والمثبت من (ت 5) .(19/501)
أولادها، وقلنا: إنها أم ولد، فلا خلاف أن أولادها، لا تثبت لهم حرمة الاستيلاد؛ فإن حرمة الاستيلاد تثبت بعد الملك، ولا تنعطف، والأولاد حصلوا على الرق المحقق، قبل ملك الأم.
فلو اشتراها، وهي حامل بولد رقيق، فهذا وضع النظر: يجوز أن يقال: تَعدِّي الحرمة إلى الولد يخرّج على القولين في تعدي حرمة التدبير إلى الولد.
وفي كلام الصيدلاني رمز إلى ذلك، ووجهه أن هذا ولد لم يحصل العلوق به بعد الاستيلاد، ويتجه عندنا القطع بتعدية حرمة الاستيلاد لوجهين: أحدهما - أن الحرمة تأكدت فيها تأكداً لا يرفع، والولد متصل، والتدبير عرضة الارتفاع. ثم قد ذكرنا -في التدبير (1) - ترتيب المذهب في الولد المتصل حالة التدبير، وفي الولد الذي يحصل العلوق به بعد التدبير. فهذا تمام البيان في ذلك.
12660- ومما يتعلق بأصول الباب: التصرفُ في المستولدة، أما جنايتها والجناية عليها، فمما مضى مستقصىً؛ والوصية لها قدمناها في الوصايا، والقسامة (2) .
ْوأما ما يملكه المولى؛ فلا يمتنع عليه الوطء والاستخدام والإجارة.
وفي التزويج ثلاثة أقوال: أصحها - جواز التزويج، فإنه يستحلها بالملك، وله مهرها إذا وطئت، فيزوجها قهراً تزويجَ الرقيقة، وهذا اختيار المزني، وهو القياس الحق.
والقول الثاني - أنها لا تزوّج إلا برضاها؛ فإنها مستحَقَّة العتاقة، والتزويج لو ثبت، للزم إذا عتَقَت، وهذا تصرلث عليها بعد العتاقة المستحقة؛ فعلى هذا: لو رضيت، صح النكاح؛ فإن الحق لا يعدوهما.
والقول الثالث - أن النكاح لا يصح -وإن رضيت- فإنه لا حق لها في استقلال الحرية قبل حصولها، فلا حكم لإذنها، ولا سبيل إلى إثبات النكاح قهراً عليها، وهي
__________
(1) عبارة ت 5: " وقد ذكرنا ترتيب المذهب في الولد المتصل في التدبير ".
(2) سقط من (ت 5) : والقسامة.(19/502)
إلى الحرية مصيرها، ولمصيرها إليها أثر بيّن؛ فلأجله امتنع بيعها بخلاف الذي عُلِّق عتقُها. هذا بيان الأقوال.
قال الشيخ أبو علي: إذا قلنا: لا يزوجها السيد، فهل يزوجها القاضي؟ فعلى وجهين. وهذا حائد بالمرة عن السَّنن؛ فإن القاضي لا مجال له في التصرف في الأملاك، ثم محل الوجهين فيه إذا رضي المولى، ورضيت المستولدة، فإذ ذاك ذهب ذاهبون إلى أن القاضي يزوج بالولاية العامة عند (1 رضاها، كما يزوّج المجنونة عند مسيس الحاجة، غير أنا قد لا نراعي ثمَّ رضا الإخوة، وها هنا لا بد من رعاية 1) رضاهما، أما السيد، فلأن له حق الوطء (2) ، وأما المستولدة، فلو لم نَرعْ رضاها، لأجبرها مولاها، وهذا وإن نزلناه على ما ذكرناه، فلا أصل له، ولا مدخل للقاضي في مثل ذلك قطعاً.
ومما يُذكر في الباب: القولُ في أم ولد الكافر إذا أسلمت، فلا شك أنها تحرم ولا تعتق، بل يحال بينها وبين مولاها؛ وقد مضى ذلك على الاستقصاء في مواضع.
فصل
12661- قد قدمنا في صدر الباب تباين المذاهب واختلافَ قول الشافعي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد. وسببُ التردد اختلافُ الأخبار والآثار. ونحن نذكر منها ما فيها مَقنع من مسموعاتنا.
أخبرنا الشيخ أبو سعد (3) عبدُ الرحمن بنُ الحسن الحافظ رحمه الله، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر العدل الدارقطني قال: أخبرنا محمدُ بنُ إسماعيل الفارسي
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5) .
(2) عبارة الرافعي: " لأن المهر له " (الشرح الكبير: 13/588) .
(3) في (ت 5) : " أبو سعيد ". وأبو سعد، عبد الرحمن بن الحسن هو الإمام الحافظ الحجة، المشهور بابن عَلِيك النيسابوري، روى عن الدارقطني وأبي بكر بن شاذان وخَلْق، وحدّث عنه أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين. توفي سنة 431 هـ (ر. سير أعلام النبلاء: 17/509.
ولضبط اللقب انظر: الإكمال: 6/262، وتبصير المنتبه: 3/966) .(19/503)
قال: أخبرنا أحمدُ بنُ محمدِ بنِ الحجاج ابنِ رِشْدِين، قال: أخبرنا يونسُ بنُ عبد الرحيم العسقلاني، قال: وسمعه مني أحمدُ بنُ حنبل - حدثني رِشْدِين بنُ سعيد المَهْري، قال: أخبرنا طلحة بن أبي سعيد، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن يعقوب ابن أبي الأشج، عن بشر بن سعيد، عن خوات بن جبير: " أن رجلاً أوصى إليه، وكان فيما ترك أمُّ ولد له وامرأةٌ حرة، فوقع بين المرأة وبين أم الولد بعضُ الشيء (1) فأرسلت إليها الحرة، لتباعَنَّ رقبتك يا لَكْعاء، فرفع ذلك خواتُ بنُ جبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع، وأمر بها، فأعتقت " (2) .
أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا ابن مبشر، قال: أخبرنا أحمدُ بنُ سنان، قال: حدثنا يزيدُ بنُ هارون، قال أخبرنا شَرِيكُ عن الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولدت منه أمتُه، فهي حرة من بعد موته " (3) .
أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا عمرُ بنُ أحمدَ الجوهري، قال: أخبرنا إبراهيم بنُ الحسن الهمذاني قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الجعفري، قال: أخبرنا عبد الله بنُ سلمة عن حسين بنِ عبد الله بنِ عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أم إبراهيم أعتقها ولدها " (4) .
__________
(1) في (ت 5) : الشَّر، والمثبت من نص الحديث، وهو ما في نسخة الأصل.
(2) حديث خوات بن جبير رواه الدارقطني، والبيهقي، وفي إسناده رِشْدِين بنُ سعد، نقل في التعليق المغني الاختلاف فيه (ر. الدارقطنىِ ومعه التعليق المغني: 4/133 ح 28، البيهقي: 10/345) .
(3) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولدت منه أمته ... " رواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وفيه الحسين بن عبد الله الهاشمي، قال عنه الحافظ: هو ضعيف جداً. وقال: والصحيح أنه من قول ابن عمر. (ر. أحمد: 1/317، ابن ماجه: العتق، باب أمهات الأولاد، ح 2515، الدارقطني: 4/130 ح 17، الحاكم: 2/19، البيهقي: 10/346، 347، التلخيص: 4/401 ح 2738، 2739، ضعيف ابن ماجه للألباني: ح 547) .
(4) حديث " أم إبراهيم أعتقها ولدها " رواه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وقد ضعفه =(19/504)
أخبرنا الشيخ أبو سعد، قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن بشر، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: " كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ، لا يرى بذلك بأساً " (1) .
وعن عطاء عن جابر قال: " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر، نهانا، فأنتهينا (2) ".
أخبرنا الإمام ركن الإسلام والدي أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين (3) القطان، قال: أخبرنا عبد الله ابن جعفر، قال أخبرنا يعقوب بن سفيان (4) ، قال حدثني سعيد بن عفير قال حدثني عطاف بن خالد، عن عبد الأعلى ابن أبي فروة عن ابن شهاب -في قصة ذكرها- قال ابنُ شهاب: قلت لعبد الملك بنِ مروان: سمعت سعيدَ بن المسيب يذكر: "أن عمر بن الخطاب أمر
__________
= الحافظ بالحسين بن عبد الله (ر. ابن ماجه: العتق باب أمهات الأولاد، ح 2516، الدارقطني: 4/131 ح 22، البيهقي: 10/346، التلخيص: 4/401، 402 ح 2740، ضعيف ابن ماجه للألباني: ح 548) .
(1) حديث أبي الزبير عن جابر " كنا نبيع سرارينا ... " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وصححه الألباني (ر. أحمد: 3/321، النسائي في الكبرى: العتق، باب في أم الولد، ح 5039، 5040، ابن ماجه: العتق، باب أمهات الأولاد، ح 2517، الدارقطني 4/135 ح 37، البيهقي: 10/348، التلخيص: 4/402 ح 2742، إرواء الغليل: 6/189) .
(2) حديث عطاء عن جابر " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ... " رواه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه الألباني (ر. أبو داود: العتق، باب في عتق أمهات الأولاد، ح 3954، ابن حبان: 4308، 4309، مستدرك الحاكم: 2/19، البيهقي: 10/347، التلخيص: 4/402 ح 2742، إرواء الغليل: 6/189 ح 1777) .
(3) وكنيته أبو الحسين، فهو أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ت 415 هـ (سير أعلام النبلاء: 17/332) .
(4) إلى هنا انتهى الموجود من نسخة الأصل حيث ذهب من آخرها مقدار ورقة إلا قليلاً، والمثبت بدءاً من هنا من (ت 5) من منتصف لوحة 210 ش.(19/505)
بأمهات الأولاد أن يقوّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل، ثم يعتقن، فمكث بذلك صدراً (1) من خلافته، ثم توفي رجل من قريش كان له ابن أم ولد، قد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمر ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا بن أخي بأمك؟ قال: قد فعلت يا أمير المؤمنين خيراً حين خيّرني إخوتي بين أن يسترقّوا أمي أو يخرجوني من ميراثي من أبي، فكان ميراثي من أبي أهون عليّ من أن تُسترقّ أمي. قال عمر: أو لستُ إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل؟ [ما أتراءى رأياً، أو آمر بشيء إلا قلتم فيه!! ثم قام فجلس على المنبر، فاجتمع إليه الناس، حتى إذا رضي جماعتَهم، قال: يأيها الناس، إني كنت أمرتُ في أمهات الأولاد بأمرٍ قد علمتموه، ثم قد حدث لي رأي غير ذلك] (2) فأيما امرىءٍ كانت عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات، فهي حرة لا سبيل عليها " (3) .
وروى الحسن الزعفراني تلميذُ الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وقدس روحه، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر، عن عبيدة السلماني، قال: قال علي رضي الله عنه: " استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها عتيقة، فقضى بها عمرُ حياتَه، وعثمانُ بعده، فلما وَليتُ أنا رأيت أن أرقهن ".
قال: فأخبرني محمد بن سيرين أنه سأل عبيدة عن ذلك، فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: " رأي عمر وعلي أحب إليّ من رأي علي حين أدرك الاختلاف " (4) .
__________
(1) رقم المخطوط هنا لنسخة (ت 5) حيث انقطعت نسخة الأصل.
(2) ما بين المعقفين زيادة من السنن الكبرى.
(3) حديث عمر في منع بيع أمهات الأولاد، رواه البيهقي بهذه السياقة بعينها، بهذه الألفاظ ذاتها، لم يخرم منها حرفاً واحداً. (ر. السنن الكبرى: 10/343) .
(4) حديث علي ورجوعه عن منع بيع أمهات الأولاد، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، على نحو ما ساقه الإمام حرفاً بحرف، ورواه عبد الرزاق في مصنفه على نحو آخر: حيث جاء فيه: " قال عبيدة: فقلت له (أي لعلي رضي الله عنه) : " فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال في الفتنة- قال: فضحك علي " (ر. السنن الكبرى: 10/343، ومصنف عبد الرزاق: 7/291) .
ورواه البيهقي على نحو ما ساقه عبد الرزاق أيضاً. (الكبرى: 10/348) . وقد أشرنا =(19/506)
12662- الكلام على تأليف الروايات، وتلفيقها، وتنزيلها على مأخذ الشريعة وتطبيقها، فنقول: ليس في قضايا الأخبار منعُ بيع أمهات الأولاد، وقوله عليه السلام: " أعتقها ولدها "، مُزالُ الظاهر مؤولٌ، ومعناه استحقاق العَتاقة عند الممات. وهذا [لا يشهد] (1) بمنع البيع في الحياة، ولكن متضمن الأحاديث حصول الحرية عند حلول المنية مقدمة على الديون والمواريث والوصية.
وهذه القضية في المعاني الكلية تميز المستولدةَ عن المدبرة، والمعلَّقِ عتقُها بالصفات المرعية، وإذا تقدم العتقُ على الأسباب جُمَع، آذن ذلك بامتناع الانقطاع بالابتياع وغيره من مقتضيات الارتفاع. وأما حديث جابر فليس فيه صدور بيع أمهات الأولاد عن تقرير المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى بذلك بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فتركناها. هذا هو الممكن.
وفي النفس بقايا من الإشكال لأجلها اختلف قولُ الشافعي رضي الله عنه، ثم أجاب في كتبه الجديدة في خمسةَ عشرَ موضعاً بمنع البيع، واعتمد إضرابَ علماء الأمصار عن المصير إلى مذهب من يجبز البيعَ، والقولُ في ذلك يتبلق بمسألة أصولية، وهي أن العلماء إذا اتفقوا بعد الاختلاف، فهل نقضي بانعقاد الإجماع؟ وتحقيقُ ذلك يطلب من مجموعاتنا في الأصول.
فإن قيل: هلا تلقيتم ذلك من اشتراط انقراض العصر في انعقاد الإجماع؟ قلنا: [لا يستدّ] (2) هذا مع قول جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه.
__________
= إليه آنفاً، وقد صحح الألباني الحديث في الإرواء: 6/189، 190، ح 1778.
(1) في المخطوطة -وهي وحيدة- " لا يشع ".
(2) في نسخة (ت 5) ، وهي الوحيدة في هذا الموضع: لا يستمر. والمثبت من تصرف المحقق.(19/507)
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. حسبنا الله ونعم الوكيل.
***
يقول محققه العبد الفقير إلى رحمة ربه، الراجي عفوه ورضوانه:
الحمد لله، له الحمد كله، والشكر كله، سبحانه جل جلاله، لا حول ولا قوة إلا به، أنعم علينا وحقق أملنا، وأمدنا بعونه وقوته، فانتهينا من قراءة هذا الكتاب الجليل وتحقيقه بعد عملٍ دائب استمر أكثر من عشرين عاماً، وكان الفراغ منه في وقت السحر، من الليلة الثالثة من ليالي العشر الأواخر من رمضان المعظم وهي الليلة التي صبحها الخميس الثالث والعشرين من شهر رمضان لسنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وذلك بمدينة الدوحة عاصمة دولة قطر حماها الله وكلَّ بلاد المسلمين، وطهرها وكل جزيرة العرب، وكل دار الإسلام من رجس الكافرين الخائنين، وكل الكائدين الماكرين، وأعاد المسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وردّ لهم مجدهم الغارب، وعزّهم الضائع، وجعل الصولة لهم على عدوهم، وطهر المسجد الأقصى من دنس الصهاينة، وأعاد الأرض المباركة حوله لأهلها طاهرة مطهرة، ظافرة منصورة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وهو نعم المولى ونعم النصير.(19/508)
الكتاب من غير فهرس كنز مغلق، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء
شيخ العربية
شيخنا العلامة محمود محمد شاكر (أبو فهر)(20/5)
فلو كان الأمر بيدي، لمنعت تداول أي كتاب بدون أن تصنع له الفهارس العلمية المناسبة، صغر هذا الكتاب أو كبر، محققاً أو مؤلفاً، عدا القصص والمسرحيات.
عبد العظيم الديب
إن إصدار أي كتاب بدون فهارس تحليلية يعتبر جناية على الكتاب وعلى القارئ.
الدكتور عبد المجيد دياب
من كتاب: تحقيق التراث العربي، منهجه وتطوره(20/7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذه كلمات عن الفهرسة والفهارس، نقدمها بين يدي هذا المجلد، وهي كلمات ثلاث موجزة:
الأولى - عن نشأة الفهارس وعناية أمتنا بها.
الثانية - عن قيمة الفهارس العلمية وضرورتها.
الثالثة - عن عملنا في صناعة فهارس النهاية.(20/9)
-1-
تاريخ الفهارس وعناية أمتنا بها
رأى الناس أول ما رأَوْا الفهارس العلمية في مطبوعات المستشرقين المحققة، حيث وجدوهم يُلحقون الكتب بألوانٍ وأفانين من الفهارس مرتبةً على حروف المعجم، فمن فهرس للأعلام، ومن فهرس للشعراء، ومن فهرس للقبائل، ومن فهرس للأسانيد، ومن فهرس للألفاظ التي فسّرها المؤلف ... إلى غير ذلك بحسب ما يليق بكل كتاب.
رأى الراؤون ذلك، فظن منهم كثيرون أن هذا أمرٌ عن بِدْع المستشرقين، أو (إبداعهم) -كما يحلو لهم التعبير بذلك- حتى وقع في وهم الكثيرين -وبعضهم من أهل العلم- أن صناعة الفهارس شيء لم يعرفه علماؤنا وأئمتنا.
وهذا خطأ كبير، ووهم غليظ، أوقعهم فيه خضوعهم وخنوعهم لكل ما يجيء من الغرب؛ فإن صروف الزمان التي أزرت بنا، وجعلتنا في ذيل الأمم، جعلت الكثيرين منا -للأسف- مقهورين مهزومين، عيونهم على الغرب البازغ دائماً، يَعْمَون عما كان من أُمتنا وأئمتنا في أيام ازدهار حضارتنا، أيام أن كان لنا القيادة والريادة للبشرية نحو ألف عام.
نعم، سبقت أمتنا إلى الترتيب المعجمي (الألفبائي) سبقاً بعيداً؛ "فإن أول معجم هجائي إنجليزي لم يظهر إلا في القرن السابع عشر، ولم يكن معجماً بالمعنى المعروف، إنما كان مجموعة كلمات صعبة دراسية، وأول معجم لطيني (1) (لاتيني) ظهر في أوربة كان في القرن الثالث عشر أو بعده" (2) .
__________
(1) يرى شيخنا العلامة الشيخ أحمد شاكر أن هذا هو الرسم الصحيح لكلمة (لاتيني) .
(2) عن مقدمة الشيخ أحمد شاكر لسنن الترمذي: 46.(20/10)
سبقُ المسلمين إلى الفهارس وابتكارهم لها
تجلى سبقُ المسلمين إلى الفهارس واختراعهم لها في مجالات ثلاثة هي:
1- معاجم اللغة.
2- كتب الحديث.
3- كتب الطبقات والرجال.
***
1- ففي مجال اللغة:
رأينا إمام اللغة والعربية مخترعَ علم العروض، الخليل بنَ أحمد الفراهيدي في أواسط القرن الثاني الهجري يؤلف كتاب (العين) مرتباً على حروف المعجم، ولكنه رتب حروفَ المعجم ترتيباً عجيباً يليق بعبقريته؛ إذ رتب الحروفَ بحسب مخارجها من أقصى الحلق، وصنع معجمه الذي سُمي كتاب (العين) لأنه الحرف الذي بدأه به؛ فهو الحرف الذي يخرج من أقصى الحلق (1) .
وتتابع العلماء بعد الخليل، فوضعوا كتب اللغة على حروف المعجم ولكن بترتيب (ألفباء) ؛ إذ وجدوا أن ترتيب الحروف على ما صنع الخليل فيه عنت وإرهاق، لا يتقنه إلا من كان مثل الخليل ... وكلهم اعتبر أصل الكلمة، بعد نفي الزوائد عنها، ثم رتبوا:
فمنهم من رتب على أوئل الكلمات، فبدأ بما أوله همزة، ثم باء وهكذا، وذلك كصنيع ابن دُريد المتوفى 321هـ في كتابه (جمهرة اللغة) ، والفارابي أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم المتوفى 350 هـ في كتابه، أو معجمه (ديوان الأدب) .
والزمخشري، أبي القاسم، جار الله، محمود بن عمر المتوفى 538 هـ في معجمه الفذ الذي لم ينسج على منواله ناسج: (أساس البلاغة) .
__________
(1) اقرأ قصة هذا الكتاب كاملة وما قيل في كيفية ابتكاره وبنائه في مقدمة الشيخ شاكر نفسها ص 47.(20/11)
ويدخل في هذا الباب أيضاً صنيع أبي بكر محمد بن عُزير السجستاني المتوفى 330 هـ في كتابه (غريب القرآن) .
وأيضاً ما صنعه الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المتوفى 502هـ في كتابه (المفردات في غريب القرآن) .
وأما من رتب معجمه على أواخر الكلمات فمشهورون منهم:
الجوهري، أبو نصر، إسماعيلُ بنُ حماد، المتوفى 398هـ في كتابه؛ (تاج اللغة وصحاح العربية) ويشتهر بـ (صحاح الجوهري) .
ومثله ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمدُ بنُ المكرَّم المتوفى 711هـ في معجمه الشهير (لسان العرب) .
وكذلك الفيروزآبادي مجد الدين أبو الطاهر محمدُ بنُ يعقوب المتوفى 817هـ في معجمه المعروف (القاموس المحيط) .
ومما يستحق أن يذكر هنا أن الفيروزآبادي سمى كتابه (القاموس المحيط) ، فوقع في الأوهام أن القاموس هو المعجم، وصار كثيرون يعبرون عن المعاجم: بقولهم (القواميس) وهذا وهم غليظ، جاء من تسمية الفيروزآبادي لمعجمه بالقاموس، مع أنه يقول في مقدمته "وأسميته القاموس المحيط" لأنه البحر العظيم، وكلمة (القاموس) معناها البحر. فكأنه سمى معجمه: (البحر المحيط) .
* ويمكن أن يلحق بهذه الأعمال في مجال اللغة معاجم البلدان والمواضع، مثل (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) للبكري، أبو عبيد، عبد الله بن عبد العزيز، المتوفى 487هـ.
ومثل (معجم البلدان) لياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله، ياقوت بنُ عبد الله، الحموي الرومي. المتوفى 626هـ.(20/12)
2- في مجال الحديث:
مبكراً منذ القرن الأول، وقبل الإذن بتدوين الحديث (1) بدأ تدوين الأطراف، وقد جمع العلامة المحدّث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله - عشرةَ نصوص شافية كافية شاهدة بالسبق المبكر إلى تدوين الأطراف، نكتفي منها بشاهد واحد:
"جاء في سنن الدارمي: 1/99 في (باب من لم ير كتابة الحديث) قولُ الإمام الدارمي: أخبرنا إسماعيلُ بنُ أبان، حدثنا ابنُ إدريس، عن ابن عون، قال: رأيت حمادَ بنَ أبي سليمان الكوفي التابعي المتوفى سنة 120هـ شيخُ الإمام أبي حنيفة- يكتب عن إبراهيم (2) فقال له إبراهيم: ألم أنهك -يعني عن كتابة الحديث-؟! قال: إنما هي أطراف".
فهذا نص ناطق مبين يشهد بأن كتابة الأطراف بدأت في القرن الأول؛ فقد كتب حمادُ بنُ أبي سليمان أطرافاً عن إبراهيم النخَعي المتوفى سنة 96هـ على حين كان دأبهم النهي عن كتابة الحديث في تلك الحقبة.
وقد عقب العلامة أبو غدة على هذه النصوص قائلاً:
"فهذه عشرةُ نصوص -وغيرها كثير- تُفيد أقدمية كتابة الأطراف، التي هي نوع من الفهرسة، وتفيد شيوعَها وانتشارها في ذلك العهد القديم بينهم، وقد كانت في القرن الأول والثاني من الهجرة عملاً خاصاً جزئياً، يقوم به المحدّث لنفسه، ليستذكر به الأحاديث.
ثم غدا هذا العمل في القرن [الثالث] (3) الهجري وما بعده من القرون المتأخرة
__________
(1) كان شيوخ الحديث وحملته ينهَوْن تلاميذهم الذين يحضرون مجلس السماع عن اصطحاب أدوات الكتابة، ويحذورنهم من كتابة الحديث؛ لئلا ينصرفوا عن الحفظ والاعتماد على الذاكرة؛ حيث كانوا يَرَوْن الحفظَ أدقَّ وأضبطَ من الكتابة، ولكنهم مبكراً أذنوا بتدوين الأطراف، إلى أن أذنوا بتدوين الحديث في مطلع القرن الثاني أو قبله بقليل.
(2) هو إبرهيم النَّخَعي، الكوفي، التابعي المتوفى سنة 96هـ.
(3) في الأصل: "الرابع" وأظنه سبق قلم، كما هو ظاهر من السياق، وكما سترى في التأريخ والاستشهاد بعمل من توفي سنة 401هـ.(20/13)
عِلماً قائماً بنفسه، وأُلفت فيه تآليف كثيرة (1) ".
ثم ساق الشيخ أمثلة ونماذج لهذه الأطراف التي نَضِجت وصارت علماً قائماً بنفسه فذكر منها -ناقلاً عن (الرسالة المستطرفة لبيان كتب السنة المشرّفة) -:
* (أطراف الصحيحين) : لأبي مسعود، إبراهيم بن محمد بن عُبيد الدمشقي الحافظ المتوفى 401هـ، ولأبي محمد خَلف بن محمد بن علي بن حمدون الواسطي المتوفى 401هـ، ولأبي نُعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430هـ، وللحافظ ابن حجر المتوفى 852هـ.
* (أطراف الكتب الخمسة) ، وهي البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي - لأبي العباس، أحمد بن ثابت بن محمد الطَّرقي الأصبهاني الحافظ المتوفى بعد سنة 520هـ.
* (أطراف الكتب الستة) ، وهي الخمسة المتقدمة، ومعها كتاب سنن ابن ماجة، لمحمد بن طاهر المقدسي المتوفى 742هـ، وقد اختصره الحافظ الذهبي المتوفى 748هـ.
* (أطراف الكتب الستة) أيضاً للحافظ بن حمزة الحسيني الدمشقي المتوفى 765هـ، وهو المسمّى: (الكشاف في معرفة الأطراف) .
* وكتاب (الإشراف على معرفة الأطراف) ، أي أطراف السنن الأربعة، لأبي القاسم بن عساكر المتوفى سنة 571هـ.
وكتاب (الإشراف على الأطراف) أيضاً، لسراج الدين، عمر بن علي، الأندلسي، ثم المصري القاهري، المعروف بابن الملقن -شيخ الحافظ بن حجر- المتوفى 804هـ.
* في (أطراف الكتب العشرة) للحافظ بن حجر، وهو المسمى إتحاف المهرة بأطراف
__________
(1) من تتمة رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) استخرجها الشيخ من مقدمة شيخه الشيخ أحمد شاكر لتحقيق سنن الترمذي، وعلق عليها، وأتمها بنحوٍ من نصفها. انظر الصفحات من 87-90.(20/14)
العشرة، وهي الموطأ، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند الدارمي، وصحيح ابن خزيمة، ومنتقى ابن الجارود، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، ومستخرج أبي عوانة، وشرح معاني الآثار، وسنن الدارقطني.
وإنما زاد العدد واحداً، لأن صحيح ابن خزيمة لم يوجد منه إلا قدر رُبعه.
وذكر أمثلة كثيرة نشُير إليها مجرد إشارة؛ طلباً للإيجاز، منها:
أطراف مسند الإمام أحمد لابن حجر، وأطراف الأحاديث المختارة للضياء المقدسي، لابن حجر أيضاً، وأطراف الفردوس له أيضاً.
وأطراف المسانيد العشرة للكناني البوصيري، أحمد بن محمد الكناني المتوفى بالقاهرة سنة 840هـ.
وتحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للمزي (مطبوعة متداولة) ، ومثلها (ذخائر المواريث) لعبد الغني النابلسي الدمشقي المتوفى 1141هـ (1) .
فهذه نماذج حية شاهدة ناطقة بسبق المسلمين إلى ابتكار الفهرسة، والترتيب على حروف المعجم.
بابةٌ أخرى في صنع فهارس الأحاديث:
يقول العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر، بعد أن ذكر طرفاً من جهود المسلمين في ابتكار فهارس الأطراف، قال:
"ولم يكتف العلماء بهذا أيضاً، فاخترع الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ نوعاً آخر من الفهارس لكتب الحديث، رتب الأحاديث فيه على حروف المعجم، باعتبار أوائل اللفظ النبوي الكريم، وعمل في ذلك كتباً كثيرة أشهرها (الجامع الكبير) أو (جمع الجوامع) والجامع الصغير....
ومنذ بضع عشرات السنين صنع محمد الشريف بن مصطفى النوقادي من علماء
__________
(1) السابق نفسه من 91 - 94، واقرأ أيضاً الرسالة المستطرفة: 167 وما بعدها.(20/15)
الآستانة، كتابين هما (مفتاح صحيح البخاري) ، و (مفتاح صحيح مسلم) فرغ من تأليفهما سنة 1312هـ ... " (1) .
عمل ابن الأثير:
الإمام مجد الدين، أبو السعادات، المبارك بن محمد -أحد الكَمَلة الثلاثة أبناء الأثير- صاحب (النهاية في غريب الحديث) المتوفى 606هـ.
هذا الإمام الجليل ألف كتابه (جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي جمع فيه بين البخاري، ومسلم، والموطأ، وأبي داود، والترمذي، والنسائي.
وقد تفنن في ترتيبه، وأبدع في تبويبه.
اختراعه لفهرسة الألفاظ:
وجد ابن الأثير أن جملة كبيرة من الأحاديث لا يخلص معناها، لتدخل في باب معين تطلب منه، فاخترع لها فهرسة أخرى، وطريقة للدلالة عليها، وهي طريقة الفهرسة على الألفاظ، يستهدي الطالب للحديث بمعرفة اللفظ المشهور فيه، فيطلبه في حرفه ومادته.
كان ذلك قبل ثمانية قرون من عمل المستشرقين (للمعجم المفهرس لألفاظ الحديث) .
وقد وفَّى أخونا وصديقنا وشيخنا الشيخ أبو غدة وصفَ عمل ابن الأثير، وشرحه، وذكر نماذج له، وبين قيمته في تتمته لرسالة (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) التي أشرنا إليها آنفاً" (2) ، فارجع إليها تفد علماً غزيراً.
3- كتب الرجال والطبقات:
وهذا جانب آخر تجلى فيه سبق المسلمين إلى ابتكار الفهرسة والترتيب على حروف
__________
(1) ر. مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي: 59، 60 بتصرف يسير.
(2) اقرأ الصفحات من 76 - 87 من الرسالة المذكورة.(20/16)
المعجم، وقد كان هذا مبكراً جداً، فأقدم كتاب معروف في رجال الحديث مرتب على الحروف صنعه الإمام البخاري المتوفى سنة 256هـ، وهو كتاب (الضعفاء الصغير) وهو مطبوع على الحجر طبعة قديمة (1) .
وبعده (كتاب الضعفاء والمتروكين) للنسائي المتوفى 303هـ.
ثم ألف العلماء ما لا حصر له من الكتب في التراجم على اختلاف أنحائها ومراميها، مرتبة على حروف المعجم، وأول من عُني بذلك علماء الحديث، فقد صنعوا ما لم يصنعه أحد، ووصلوا إلى ما لم يصل إليه أحد.
وها هي كتب رجال الحديث وضعت على معنى الفهارس؛ فإنك تجدهم يذكرون الراوي المترجم، ويذكرون أين روايته من الكتب، أي تقع في أي كتاب، واخترعوا لذلك رموزاً تؤدي هذا بإيجاز عبقري، فمن وُضع أمام اسمه (ع) معناها أن له رواية في جميع الكتب الستة، ومن وضع أمام اسمه (4) معناه أن روايته في السنن الأربعة، وهكذا.
بل إنهم يذكرون موضع حديث الراوي من الكتاب الذي روى فيه إذا لم يكن للراوي إلا حديث أو حديثان، مما يدلك على أنهم يتشوّفون للفهرسة، ولكن قلة الأدوات والآلات والإمكانات لم تسمح بغير ذلك القدر، فلم تكن الطباعة معروفة بعدُ، وكان الكاغد باهظ الثمن، وكانوا يصنعون الأقلام والأحبار لأنفسهم (1) .
ابن الأثير الثاني:
وفي هذا الباب أعني فهرسة الأعلام، وجدنا إبداعاً يستحق التنويه لواحدٍ آخر من الكَمَلة الثلاثة أبناء الأثير، وهو عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد المتوفى 630 هـ؛ فقد ألف كتابه الشهير (أُسد الغابة في معرفة الصحابة) ورتبه على حروف المعجم، ولكن المعجب في العمل هو شرحه لمنهجه في الترتيب، فقد جاء في مقدمته قوله:
__________
(1) اقرأ تفصيلاً لهذا في مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي من ص 53-58.(20/17)
"أما ترتيبه ووضعه (أي كتاب أسد الغابة) فإني جعلته على حروف (أ. ب.
ت. ث) ، ولزمت في الاسم الحرفَ الأول والثاني والثالث، وكذلك أيضاً في اسم
الأب والجد، ومَن بعدهما، والقبائل أيضاً، مثاله:
إنني أقدم (أبان) على (إبراهيم) ؛ لأن ما بعد الباء في (أبان) ألف، وما بعدها في (إبراهيم) راء، وأقدم إبراهيم بن الحارث على إبراهيم بن خلاد، لأن (الحارث) بحاء مهملة و (خلاد) بخاء معجمة، وأقدم (أبان العبدي) على (أبان المحاربي) .
وكذلك أيضاً فعلت في التعبيد (يعني فيما بُدىء بعبد من الأسماء) فإني ألزم الحرف الأول بعد (عبد) وكذلك في الكنى، فإني ألزم الترتيب في الاسم الذي بعد (أبو) ؛ فإني أقدم (أبا داود) على (أبي رافع) . وكذلك في الولاء فإني أقدم (أسود مولى زيد) على (أسود مولى عمرو) .
وإذا ذكر الصحابي ولم يُنسب إلى أبٍ بل نسب إلى قبيلة، فإني أجعل القبيلة بمنزلة الأب، مثاله: (زيد الأنصاري) أقدمه على (زيد القرشي) ، ولزمت الحروف في جميع أسماء القبائل....".
ثم ذكر شيئاً من الخلاف بينه وبين من سبقه قائلاً:
"وقد رأيت جماعة من المحدِّثين إذا وضعوا كتاباً على الحروف يجعلون الاسم الذي أوله (لا) مثل (لاحِق) و (لاهز) في بابٍ مفرد عن حرف اللام، وجعلوه قبل (الياء) ، فجعلته أنا من حرف اللام، في باب اللام مع الألف، فهو أصح وأجود ... إلخ " (1) .
هذا المنهج الواضح المفصل الذي وضعه ابنُ الأثير في مقدمة كتابه، والتزمه بكل دقة شاهدٌ من الشواهد الكثيرة الناطقة بسبق المسلمين وابتكارهم في مجال الفهارس.
* وأبلغ من ذلك أيضاً أنهم عرفوا نظام الإحالات، تجد هذا عند النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) ففي باب الكنى والألقاب، يذكر بعضها قائلاً:
__________
(1) اقرأ منهجه كاملاً في مقدمة (أسد الغابة ص 5-8) .(20/18)
سبق فيمن اسمه كذا، وتجده أيضاً عند ابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) في المجلد الخاص بالكنى.
وأكثرَ العلماءُ من تأليف كتب الرجال والأعلام المرتبة على حروف المعجم حتى بلغت حداً يفوق الحصر، ويكفي أن ترى بين يديك اثنين وثلاثين مجلداً (32 مجلداً) لمؤلِّفٍ واحد، هو ابن حجر العسقلاني هي: [الإصابة في تمييز الصحابة + تهذيب التهذيب + تقريب التهذيب + لسان الميزان + الدرر الكامنة + تعجيل المنفعة] .
4- في مجال القوائم البيبلوجرافية:
لم يقتصر ابتكار المسلمين وسبقهم إلى الفهرسة على مجال اللغة، والحديث، والتراجم والأعلام، بل كان ذلك في مجال الفهارس البيبلوجرافية، أو ما يسمى (بالضبط البيبلوجرافي) فها هو كتاب (الفهرست) لابن النديم المتوفى سنة 380هـ (على أرجح الأقوال) .
فهذا الكتاب فهرسة علميةٌ دقيقة، وبتعبير عصرنا نشرةُ إحصاءٍ بيبلوجرافي للمؤلفات التي صدرت حتى زمان المؤلف.
ومن الطريف أنه سمى كتابه: (الفهرست) .
أي أن المسلمين ابتكروا (الفهارس) بلفظها، ومعناها.
*- ويدخل في هذا الباب ما تواترت به الأخبار عن فهارس الخزانات الكبرى مثل دار الحكمة في بغداد، والقاهرة، ومكتبة قرطبة، تلك الفهارس التي كانت تبلغ عشرات المجلدات.
لماذا هذه المجالات دون غيرها:
ولسائل أن يسأل: هذه الجهود التي وضعتموها، وعرّفتم بها ألوانٌ من الفهارس المعجمة لا شك في ذلك، ولكن لماذا اقتصرت هذه الجهود على معاجم اللغة والرجال، وكتب الحديث؟ ولماذا لم نجد فهارس لكتب الفنون الأخرى؟
والجواب أن الابتكارات والاختراعات تكون دائماً بقدر الحاجة، بل هي دائماً بنت(20/19)
الحاجة، فالحاجة أم الاختراع، كما يقولون!، وأنت ترى أن مفردات اللغة، وأسماء المواضع والبلدان، وكذلك أسماء الأعلام والرجال ليست مما يُحفظ -عادة- وتنشط الذاكرة إلى احتوائه، والاستمتاعِ بحفظه، ولذلك كانت الحاجة ماسة لتدوينه وترتيبه، لتيسيره وتقريبه.
أما متن الحديث، فإنه وإن كان من أعز وأحب ما يُحفظ وتنشط له الذاكرة، إلا أنه منذ نهاية القرن الأول، ومطلع القرن الثاني، اتسعت الرواية، وكثر الرواة، فاحتيج إلى تدوين الحديث وفهرسته لتيسير مراجعته، وتحرير الفرق بين رواية ورواية، فظاهروا الحفظ بالكتابة والفهرسة، بعد أن ظلوا يَنْهون عنها طول القرن الأول.
أما العلوم والفنون الأخرى، فلم ينشطوا لفهرستها اكتفاءً بالحفظ واحتواء الذاكرة عليها، فقد كانت صدورهم بحق أوعيةَ العلم، وكانت أخبارهم في ذلك عجباً من العجب.
ولولا أننا أدركنا من مشايخنا من يملك مثل هذه الحافظة اللاقطة، لقلنا: إن أخبارهم هذه -في الحفظ- مبالغات مدعاة لا يقبلها عقل.
لكنا أدركنا بعضاً من مشايخنا يملك مثل هذه الذاكرة الحافظة اللاقطة، منهم شيخنا الجليل، (الشيخ محمد أبو زهرة) فقد رأيناه يجلس لمناقشة الأطروحات الجامعية، وليس بيده ورقة، وليس أمامه نسخة من الأطروحة، ويأخذ في المناقشة فيحدد -من ذاكرته- للطالب الصفحة والسطر، والعبارة موضع المناقشة والمراجعة.
وأحياناً لا يهتدي الطالب -لارتباكه- إلى الموضع الذي أشار إليه الشيخ، فيرفع رأسه ناظراً للشيخ بما معناه أن الشيخ قد يكون وهم في تحديد الموضع، فيأتيه صوت الشيخ متصنعاً الحدة: يا بني دقق النظر وأعد القراءة، العبارة أمام عينيك في السطر رقم كذا!! ويعاود الطالب النظر، فيكون الأمر كما قال الشيخ!!!
لولا هذه النماذج التي أدركناها ورأيناها بأعيننا، لَرَدَدْنا أخبار أئمتنا الماضين، وقلنا: إن هذا من المستحيل عقلاً!! فكيف يستطيع إنسان أن يحيط بعشرات المجلدات، ويحفظها في ذاكرته؟ ويستعيدها، وكأنها بمرأى منه أمام عينيه.
نعود فنقول: من أجل هذا لم يحتاجوا إلى فهرسة فنٍّ غير الفنون التي أشرنا إليها.(20/20)
اعتراف وإنصاف:
ونحب في ختام هذا الفصل أن نؤكد أننا لا نبخس المستشرقين حقهم، ولا ننكر جهدهم، فإذا كان المسلمون الأجداد قد سبقوا إلى الفهارس، فابتكروها، وصنعوا منها هذه الألوان والأفانين، على ضآلة إمكاناتهم، وقلة آلاتهم، وبساطة أدواتهم- إذا كان الأجداد قد فعلوا هذا، فإن الأحفاد قد قعدوا عن متابعة أجدادهم، والنسج على منوالهم، حتى سبقهم المستشرقون.
نعم، أخذ المستشرقون فكرة الفهارس عن المسلمين الأولين، فهم -لا شك- قد اطلعوا على ما وصفناه لك من هذه الآثار؛ فبَنَوا عليها، وزادوا فيها، وتفننوا في ألوانها وأصنافها، فهذا فهرس للأعلام، وذاك للمواضع والبلدان، وآخر للفرق والطوائف، و ... و ... وألحقوا ذلك بما ينشرون من كل كتاب.
وأعانهم على ذلك أمران:
الأول - ظهور المطبعة، ووفرة الآلات والأدوات.
والثاني - أنهم يعملون في ظل مؤسسات، تكفل لهم كل عون، وتقدم كل مساعدة، وهم يعملون كفريق متكامل متعاون، لا يشغلهم إلا العمل الفني وحده، أما تدبير المصادر والمراجع، وتصوير المخطوطات، وإعداد الأدوات، وشؤون الإدارة والطباعة والنشر فكل ذلك لهم مكفول، ووراءهم أجهزة تعمل بغاية الدقة، والتنظيم والتخطيط لتوفر لهم كل ما يساعد على إنجاز أعمالهم.
ويكفيك مثالاً على ذلك "أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي تعاقبت عليه جماعاتهم لمدة ثلاث وخمسين سنة" (1) .
ولكن سبقهم هذا لم يدم طويلاً، فقد لحق بهم وبزَّهم أعلام المحققين: مثل أحمد زكي باشا شيخ العروبة، وأحمد تيمور باشا، وآخرون.
خلاصة القول: أننا نقول بقول الشيخ أحمد شاكر: إن للمسلمين فضل السبق
__________
(1) ر. رسالة تصحيح الكتب: 86.(20/21)
والابتكار، وللمستشرقين فضل التفنن، والتأنق، والتنويع والاستكثار، أو بنص عبارة الشيخ شاكر: "الشرق دائماً ابتكار وإنشاء، والغرب دائماً تقليد وتنظيم" (1) .
ولا نقول بقول العلامة الشيخ أبي غُدة: "ليس للمستشرقين إلا الاختلاس أو الاقتباس" (2) .
ولأخينا العلامة المرحوم الدكتور محمود الطناحي، نظر جيد في عمل المستشرقين، وتقييم متوازن لجهودهم، في كتابه الفذ: (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) ، فاقرأه تفد خيراً كثيراً (3) .
***
__________
(1) مقدمة الشيخ أحمد شاكر لسنن الترمذي: 46.
(2) رسالة: تصحيح الكتب 42 تعليق رقم 1 بهامشها.
(3) من ص206 إلى 283.(20/22)
-2-
قيمة الفهارس العلمية وضرورتها
إهمال الفهارس ومسخها:
ما كان من المناسب ولا اللائق أن نتكلم عن ضرورة الفهارس، وأن نبين قيمتها لولا ما رأيناه شائعاً من إهمال شأنها، وعدم الاهتمام بها في كثير من الكتب التي تصدر من المطابع الآن.
حتى فهرس المحتويات:
حتى هذا الفهرس الوحيد الذي لا ينكر أحد فائدته، ولا يماري مجنون ولا عاقل في قيمته، حتى هذا الفهرس أصابه الإهمال والمسخ، فأصبحت ترى كتباً تخرج من المطابع زاهية مذهبة، تحمل أسماء ذات ألقاب، ونجد فهرس المحتويات، قد أصابه المسخ والخسف، فاقتصر على الأبواب والفصول، فجاء لا يسمن ولا يغني من جوع، والكتاب مليء بالمسائل والقضايا، والخلافيات، والمُعْوِصات، التي تحتاج إلى ما يرشد إليها، ويدل على موضعها.
بل الأدهى من ذلك أن كُتباً تراثية صدرت من عشرات السنين، وبها فهرس مفصل للمحتويات، يكشف إلن حدٍّ بعيد عن مسائل الكتاب وفروعه، وييسّر التعامل معه والاستفادة منه، ثم صدرت منه طبعات خَلُوب تخطف الأبصار بتذهيبها وبريقها، ثم تجدها لم تحسن الاستفادة بفهرس الطبعة القديمة.
وأقرب مثالٍ لذلك كتاب (روضة الطالبين) للإمام النووي، فقد كنت أراجع فيه كثيراً من المسائل أثناء العمل في تحقيق (النهاية) ، حيث تحوي الروضة أقوال إمام الحرمين في كل صفحاتها تقريباً، وقد تعذر التعامل مع الطبعة الجديدة، ولقيت العنت كله، بسبب قصور الفهرس، فعُدت إلى الطبعة القديمة، ومن عجبٍ أني وجدتها -مع(20/23)
وفاء فهرسها- هي الأصح نصاً، والأقوم عبارة، والأبعد عن التصحيف والتحريف.
* والسر في إهمال الفهرس أن كثيراً من الناس للأسف يعدونه تكملة أو حلية، بل فضلة يمكن أن يستغنى عنها.
ومن أجل ذلك يتركونه لعمال المطبعة، يصنعونه كيفما اتفق، على حين أن صياغة الفهرس عمل علمي يقوم به المحقق أو المؤلف بعد قراءة الكتاب صفحة صفحة؛ ليحسن التعبير عن مضمونها، ويكشف عن مكنونها في ألفاظٍ قليلة، واضحة مبينة.
ثم ينسق ذلك في صورة تبين الأصل، وفروعه بمجرد النظر إليه؛ فصناعة الفهرس عمل علمي ليس بالهين، يقوم به المحقق أو المؤلف، أو من هو قادر على الفهم والتعبير، أعني فهمَ نص الكتاب، والتعبير عما فهم.
ومما لا أنساه أنني أنفقت وقتاً ثميناً وبذلت جهداً مضنياً في صناعة فهرس المحتويات لكتاب (الغياثي) : وهو يقع في مجلد لطيف؛ قلت في مقدمته: "لقد أجهدني هذا الفهرسُ لياليَ وأياماً، حتى جاء صورة واضحة للكتاب، ييسِّر المعنى الذي يريده الباحث بالتحديد، وعسى أن يكون التوفيق حليفنا".
* ولو دققت النظر في فهرس (المجموع شرح المهذب) للنووي -الطبعة القديمة- لرأيت كيف عُني العلماء الذين أشرفوا على هذه الطبعة بصناعة هذا الفهرس، وكيف أحسنوا تفصيله، وأجادوا ترتيبه وتبويبه، فجاء معيناً للباحث، ودليلاً للطالب، يشهد لصانعه بأنه يعرف غايةً لما يصنع، ويعرف كيف يصل إليها.
كانت هذه الطبعة منذ أكثر من ثمانين عاماً، فماذا جرى؟ وما بال حالنا اليوم؟ قارن فهرس هذه الطبعة من المجموع بفهرس (فتح العزيز للرافعي) التي صدرت في أيامنا هذه!! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو وحده المستعان على كل بليِّة.
الفهارس العلمية:
إذا كان هذا هو حال فهرس المحتويات، فما بال مجموعة الفهارس، التي عرفت باسم الفهارس العلمية، أو الفهارس الفنية؟
إن هذه الفهارس برغم أن جذورها وبذورها كانت عند أئمتنا منذ أكثر من ثمانمائة(20/24)
عام، وأن الرعيل الأول من المحققين في العصر الحديث اهتم بها، وأخذ في صناعتها بصورة كاملة منذ 1914 م، وبرغم كل الدعوات والنداءات من أئمة الفن، فن التحقيق - نجد كثيراً من الناس لا يعرف لهذه الفهارس قيمتها، ولا يدرك فائدتها.
وتقديري أن هذا يرجع إلى قصورٍ في مناهج التعليم، التي تخلو من التدريب العملي على البحث، وتترك من يقدر له أن يكون من أهل البحث أن يشق طريقه في الصخر بأظافره، ويظل يضرب يمنة ويسرة بالمحاولة والخطأ، حتى يصل إن قدر له أن يصل.
* أذكر عندما خرج كتاب (البرهان في أصول الفقه) أن ضمَّنَا مجلس من أهل العلم، وكان الثناء على تحقيقه موضوعَ الحديث، إلا أن أحد كرام الحاضرين -وهو في منزلة شيوخي- سألني بصوتٍ عالٍ: ما معنى هذه الفهارس والصفحات الكثيرة في آخر الكتاب؟ ما قيمة أن أعرف أن القاضي الباقلاني تكرر في (البرهان) مائة مرة؟
ولمنزلة الشيخ ومكانته لم أشأ أن أردَّ، أو بالتحديد لم أستطع أن أجيبه، فأنا من جيل يعرف للشيوخ منزلتهم، ويقدرهم ويهابهم.
لم أستطع أن أنصِّب نفسي معلِّماً للشيخ الجليل، فأقول له: إن قيمة هذا الفهرس أنه يأخذ بيدك، ويضع أصبعك على كل ما نقله إمام الحرمين عن القاضي الباقلاني، وتعرف فيما وافقه وفيما خالفه.
ثم تجد بين يديك نصوص (القاضي) وهي مفقودة، لم تصل إلينا بعد.
ثم نعرف جذور الأفكار وأصولها، فما نقرؤه في كتاب فلانٍ وفلان، من المتأخرين، نعرف مصدره.
ثم قد نصحح شيئاً من الأوهام في النقل، فقد نجد فيما نقله إمام الحرمين في البرهان ما يخالف بعضَ ما هو منسوب للباقلاني في كتب المتأخرين.
لم أستطع أن أقول ذلك، وهو بعضٌ مما يقال عن قيمة الفهارس العلمية وفوائدها.
* وشيخنا هذا ليس وحده بل بعض أهل الفضل من المشتغلين بالتحقيق، ولهم فيه باع، قد يغفل أحياناً عن قيمة الفهارس، فقد عارض قولي أحدهم ذات يوم -مع أنه من(20/25)
أهل الصناعة- قائلاً: إن النشر الإلكتروني الآن، أغنى عن الفهارس، فلم يعد لها كبير فائدة.
وهذا لا شك كلام لا ثبات له، فالباحث في الشبكة الإلكترونية ينطلق من شيء يعرفه، ويسأل عنه، ومعه مفتاح، أو كما يسمونه مدخل يدخل به، أو منه.
والفهرس من الوسائل التي تضع في يد الباحث هذه المداخل، وإلا فكيف يعرف الباحث أن مؤلف هذا الكتاب تميز بمعجم خاص من الألفاظ، وباستعمالات غير مألوفة من الأساليب؟ من أين يعرف الباحث في الشبكة الإلكترونية هذا، ما لم يبذل المحقق جهده في صناعة مثل هذه الفهارس، ويضعها بين يدي الباحث أولاً؟
* وإذا كان هذا رأيَ بعض الشيوخ وأهل الصناعة في الفهارس، فما بالك بغيرهم؟ الناشرون والفهارس:
يتضجر الناشرون من الفهارس أحياناً، يعرف ذلك من مارس التعامل معهم، وأشار إلى شيء من ذلك العلامة الشيخ أحمد شاكر (1) ، وأخونا العلامة النابغة الدكتور محمود الطناحي -رحمه الله ونور ضريحه- فقد قال في مقدمة الجزء الخاص بالفهارس من الطبعة الثانية لطبقات السبكي: " ... وقد صدرت الطبعة الأولى وقرين كل جزءٍ فهارسه ... وقد صنعنا هذا الصنيع لأمرين: الأول - خشية أن يصيبنا الكلال والوهن، فلا نستطيع بعد ظهور الكتاب في أجزائه العشرة أن نتُم عملنا بإصدار فهارسه مجمعة.
الثاني- أن يُحجم الناشر وقتها عن إصدار جزء ضخم مكلِّفٍ للفهارس العامة خشية عدم رواجه " اهـ.
الناشرون معذورون:
الناشر مهما كان من أهل العلم، أو الذين يعرفون للعلم قيمته، فهو في النهاية تاجر محترف -وهذا ليس عيباً- والتجارة تعتمد على دورة رأس المال ومدى سرعتها، فأن يسجن الناشر رأس ماله في كتابٍ يطبعه، وينتظر مدة شهر أو شهرين، أو أكثر في انتظار
__________
(1) مقدمة سنن الترمذي: 44.(20/26)
إعداد الفهارس الفنية وطباعتها، فهذا أمرٌ ضد طبيعة الأشياء في نظره (1) ، وشيء لا يحتمله إلا أولو العزم الذين يستعدون للتضحية في سبيل العلم.
نداء ورجاء:
ومن هنا أنادي وأرجو الجهات والمؤسسات الرسميةَ التي تعمل في مجال الثقافة والعلم، وإحياء التراث أن تنظر في صيغةٍ ووسيلةٍ ما لدعم الناشرين، ولو كان ذلك بالإنفاق على طباعة الكتاب التراثي، في صورة قرض للناشر إلى أن تتم طباعة الكتاب، ويبدأ عرضه في الأسواق، أو بالوعد بشراء كمية مناسبة دفعة واحدة بسعرٍ مُجْزٍ تَرُدّ للناشر قدراً صالحاً من رأسماله فور ظهور الكتاب.
وأهل المال والإدارة، لا شك يعرفون من الوسائل أكثر وأفضل من هذا الذي نقول.
فإذا تم شيء من هذا، فهناك من الناشرين من هو من أهل العلم، وعندها سيرحب بالعمل على نشر الفهارس، ولن يتبرم بها.
قيمة الفهارس وفائدتها:
كتب العلم -أي فن كان من فنونه- كنزٌ مغلق، بعبارة شيوخنا، وهي (مكنز) من مكانز المعلومات بعبارة المختصين في أوعية المعلومات، والخبراء في المعلوماتية ونظم المعلومات، ومفتاح ذلك هو الفهارس.
فالفهارس العلمية بألوانها المختلفة هي التي تدلك على هذه الكنوز المخبوءة في تضاعيف هذه الكتب، "ذلك أن كتب التراث متداخلة الأسباب، متشابكة الأطراف وقلما تجد كتاباً منها مقتصراً على فنٍّ بعينه، دون الولوج إلى بعض الفنون الأخرى؛
__________
(1) لقد ظهر كتاب (الوسيط) للغزالي في طبعة جيدة محققة متقنة، أضاف المحققان إلى حواشيها أربعة مؤلفات مخطوطة بها تعليقات واستدراكات لأربعة من الأئمة الكبار: ابن الصلاح، والنووي، والحموي، وابن أبي الدم، فأعلى ذلك من شأن هذه الطبعة، وقد قال المحققان في المقدمة: إنهما صنعا فهارس فنية للكتاب، ولكنا لم نرها مع مجلدات الكتاب السبعة، نرجو ألا يكون هذا من تبرّم الناشر بالفهارس.(20/27)
لدواعي الاستطراد والمناسبة، وهذا يؤدي إلى أن نجد الشيء في غير مظانه" (1) .
فأنت تجد كتاباً مثل (معجم البلدان) لياقوت حوى كثيراً من الفنون، ففيه من التراجم، وأسماء الكتب، والأخبار، والوقائع، والأيام، والأشعار، والنوادر، والأساطير، وغير ذلك.
وانظر إلى كتابٍ مثل طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، ففيه من نوادر الفنون والعلوم ما قد لا يوجد في غيرها: من أصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والتفسير، والحديث وعلومه، والتاريخ والجغرافيا، وغيرها.
وقد شغل فهرس مسائل الفنون في كتاب الطبقات هذا قريباً من مائة صفحة، حصراً لعناوين المسائل فقط.
فهل كان الباحث بمستطيعٍ الوصول إليها لولا هذا الفهرس الذي صنعه المحققان، ثم إن جملة هذه المسائل من النوادر والأوابد غير المتداولة والمعروفة.
* ولا يسبقن إلى الوهم أن هذا أمر تختص به كتب الطبقات والمعاجم ونحوها، ولا يوجد في كتب الفن الواحد ككتب التفسير، وكتب النحو، والفقه، ففي كتب التفسير نحوٌ كثير، وفقه كثير، وشعر كثير، وفنون أخرى، مثل القراءات، واللغة، والمغازي، والأخبار، وفي كتب الفقه: نحوٌ، ولغة، وأصول، وقواعد، وضوابط، وكتبٌ ومؤلفات.
* بل لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن الفهارس ليست ضرورية لكتب التراث وحدها، بل لكل كتابٍ يؤلف، صغر حجمه أو كبر، وإن كنتَ في شك من ذلك، فانظر في كتاب العلامة الطناحي (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) وتأمل فهارسه، لترى كيف تضيء لك مسائله، وتنثر لين يديك لآلئه ودررَه.
ومما يستحق أن يذكر هنا أني أفدت شخصياً من هذه الفهارس، حين كنت أدون
__________
(1) من كلام المرحوم العلامة الدكتور الطناحي، في مقدمته لفهارس الشعر واللغة لكتاب (غريب الحديث) لأبي عبيد، مقال في مجلة (البحث العلمي والتراث الإسلامي) -كلية الشريعة- جامعة أم القرى سنة 1401هـ ص 577.(20/28)
بيانات أحد المراجع المطبوعة قديماً، والتي سطا عليها الساطون، وأخفوا بيانات النشرة التي صوروا عنها، فقرأت الخاتمة، ومنها عرفت الناشر وتاريخ النشر، ولكني لم أعرف المكان، ما دلني عليه إلا فهرس المطابع في هذا الكتاب.
وانظر في كتاب شيخنا العلامة عبد السلام هارون (تحقيق النصوص ونشرها) وهو رسالة لطيفة لا تزيد عن مائة صفحة، ولكنه ألحقها بفهارس علمية مبتكرة، فتأمل أي فوائد تفيدها".
* ولقد أشار المرحوم العلامة الطناحي إلى بعض فوائد الفهارس قائلاً:
"وأستطيع أن أوجز بعض الفوائد التي يجنيها الباحث من الفهارس فيما يلي:
أولاً - معرفة المدى الزمني الذي عاشته كتب التراث، وذلك يظهر من فهرسة الكتب المذكورة أسماؤها في داخل الكتاب.
وتأمل أسماء الكتب ودواوين الشعراء التي ذكرها البغدادي المتوفى 1093هـ في مقدمة (الخِزانة) وفي أثنائها، وكذلك الكتب التي أوردها المرتضي الرَّبيدي المتوفى سنة 1205هـ في (تاج العروس) (1) .
وسيصحح هذا كثيراً من المعلومات والمقولات التي سادت وذاعت، كالقول بأن معظم كتب التراث قد ضاع أيام فتنة التتار في القرن السابع. وإذا كان هذا صحيحاً، فإنه صحيح أيضاً أن كثيراً من الكتب قد ضاعت بسبب غفلة المسلمين.
ثانياً - ضم النظير إلى نظيره، وبخاصة في الموسوعات، وسيؤدي هذا إلى اكتشاف بعض الأخطاء وتصحيحها.
ثالثاً - جمع آراء العلماء المنثورة في ثنايا الكتب، والتي لا يجمعها كتاب واحد، كأن نجمع آراء نحوي من النحاة من المطوّلات، (كالهمع) (والأشباه والنظائر) للسيوطي، و (خزانة الأدب) و (شرح شواهد الشافية) و (شرح شواهد المغني) للبغدادي.
__________
(1) ومثل هذا الكتب التي ذكرها النووي المتوفى 676هـ في (المجموع) ، والتي ذكرها التقي السبكي المتوفى 756هـ في أول تكملته للمجموع، وفي أثنائه، والتي ذكرها السيوطي المتوفى 911هـ في كتبه، ومنها (المزهر) و (الإتقان) . عبد العظيم.(20/29)
رابعاً - جمع شعر الشعراء الذين ليس لهم دواوين، ونسبة الشعر المجهول النسبة، فإذا أضيف إلى ذلك ذكر بحر البيت، أمكن معرفة أكثر البحور دوراناً على ألسنة الشعراء.
خامساً - جمع نصوص بعض الكتب المفقودة، وهناك بعض الكتب المطولة، تنقل نصوصاً كثيرة من هذه المفقودات، ويحضرني الآن من هذه المطولات: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وكثير من تصانيف السيوطي كالإتقان، والمزهر، والأشباه والنظائر النحوية، وكتب البغدادي السابقة، وتاج العروس للزبيدي.
سادساً - يفيد فهرس اللغة في حصر بعض الألفاظ التي لم ترد في المعاجم المتداولة، وقد جاء شيء من هذا في (مجالس ثعلب) ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس [راجع فهارسها] كذلك يفيد مثل هذا الفهرس اللغوي في نسبة الشعر الذي اختلفت قوافيه، أو لم تعرف قوافيه، حين يكون معك صدر البيت فقط، فإذا فهرست اللغة التي في البيت، اهتدي إليه في يسر وسهولة.
وأيضاً يفيد هذا الفهرس في توثيق كلام أئمة اللغة، وأذكر من تجاربي في هذا المجال: أني كنت ألتمس مرة كلاماً لأبي العباس ثعلب، فلم أجده في (مجالسه) ، ولا في (فصيحه) ثم كان أن وجدته في شرحه لديوان زهير بن أبي سُلمى.
وما دلني على هذا إلا فهرس اللغة الذي صنعه مشايخ دار الكتب المصرية الفضلاء، رحمهم الله ورضي عنهم.
هذا ما يحضرني الآن، ولا شك أن هناك فوائد أخرى كثيرة للفهارس، تدرك بالحاجة والممارسة، والتتبّع" (1) اهـ.
وإذا كان هذا ما رآه العلامة الطناحي من موقعه في قلب علوم اللغة، فإننا نستطيع أن نضيف إليه في مجال الفقه ما يأتي:
سابعاً - جمع فقه السلف من الصحابة، والتابعين، والأئمة الذين لم تدون
__________
(1) من مقال في مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي -كلية الشريعة- جامعة أم القرى سنة 1401هـ ص: 579، 580.(20/30)
مذاهبهم، والفقهاء الذين لم تعرف لهم كتب مدونة بأسمائهم.
وقد ظهرت مجموعات لفقه بعض الصحابة والتابعين مثل فقه عمر وفقه ابن عباس، وفقه ابن مسعود، وفقه عبد الله بن عمر، وفقه إبراهيم النخعي، ومن بعدهم مثل فقه الأوزاعي، ولكن يظل ذلك في حاجة إلى مراجعة، وتكميل، ولا يكون ذلك إلا بفهرسة كتب الفقه، وعرض ما في هذه الفهارس على ما في هذه المدونات.
ثامناً - جمع المسائل الخلافية، وتصنيفها وتبويبها، ووضعها في صعيد واحد بين يدي الباحثين. ثم مقارنتها بما هو مذكور في كتب الخلاف، فما هو بين أيدينا من هذه الكتب الخلافية لا يحوي كل هذه المسائل.
تاسعاً - يفيد فهرس المسائل الخلافية في أمرٍ آخر، رأيناه في كتابنا هذا، حيث يحكي عن المخالفين قولاً أو رأياً لا نجده في كتبهم المشهورة والموجودة بين أيدينا، بل قد نجد عكسَ الحكم المحكي عنهم. مما يفتح المجال أمام البحث لتفسير ذلك.
عاشراً - تفيد فهرسة كتب الفقه -للمتقدمين والمتأخرين- في معرفة فقه الأئمة الذين
نسمع بكتبهم، ولم نرها، كما تفيد تصحيح هذه النقول بمقارنتها بعضها ببعض.
حادي عشر - تفيد فهرسة الكتب الفقهية فهرسة تحليلية في معرفة التطوّر الفقهي، فكلما ارتقينا إلى القرون المتقدمة، ونشرنا نصوص أئمتها، وعرفنا مصادرهم، أمكننا أن نتتبع جذور المسائل والأحكام الفقهية، ونعلم مَنْ أخذ عمن، ونعرف الأقوال المهجورة، ونبحث عن أدلتها، ووجه ضعفها، ولماذا هُجرت؟
ثاني عشر - مما يفيده فهرس الكتب بالإضافة إلى ما ذكر، أنه يؤكد أو ينفي صحة نسبة كتابٍ ما إلى هذا الإمام أو ذاك. وبالنسبة لي لقد أكدت نسبة بعض مؤلفات إمام الحرمين من فهارس بعض الكتب التراثية، أذكر منها على سبيل المثال: أني أكدت أن لإمام الحرمين تفسيراً للقرآن الكريم بواسطة فهرس الكتب لكتاب (الإتقان) للسيوطي، فقد ذكره السيوطي، ونقل عنه.
ثالث عشر - وهو من البدائه، أعني به سهولة الدلالة على مضامين الكتاب وفوائده، وهذا أمر قد ينظر إليه ناظرٌ باستخفاف، ولكن: "لا يعرف الشوق إلا من يكابده"،(20/31)
"ومن ذاق عرف" فلو كانت هناك فهارس لمجموع النووي، والروضة، والشرح الكبير للرافعي، لو كان هناك فهارس لهذه الكتب -التي كانت مراجع أصيلة لتحقيق هذا الكتاب- لخففت كثيراً من العناء الذي لقيناه أثناء البحث فيها عن النقول عن إمام الحرمين، وتدقيق الأعلام، وأسماء الكتب، بل وضبط المسائل.
ولقد خففت شيئاً من هذه المعاناة حين قمتُ بما يشبه الفهرس، إذ تتبعت الأعلام الواردة في هذه الكتب وميزتُها وأظهرت مكانها بلونٍ فاقع من ذلك (الماركر) الفسفوري وكذلك ميزت كل موضع ذكر فيه إمام الحرمين بلونٍ آخر، مما خفف بعض المعاناة، وساعد نوعاً ما في الوصول إلى المراد.
وانظر إلى ما كان من العلامة الطناحي حين كان يحقق (الغريبين) للهروي، واحتاج إلى مراجعة (غريب الحديث) لأبي عبيد، فما تيسّر له ذلك إلا بعد أن تجشم صنع (فهرسٍ للألفاظ والمواد اللغوية) لهذا الكتاب (1) .
صناعة الفهارس في ميزان العمل العلمي:
يظن بعض من لم يتمرس بالبحث، ويتدرب على استخدام وسائله وأدواته، ومنها الفهارس العلمية- أن صناعة الفهارس هي مجرد جمع وترتيب، ولا تتصل بالعمل العلمي، ولا تمت إليه بسبب، ولكن من له أدنى تأمل يدرك أن هذا عمل علمي جاد، فصناعة الفهارس في حقيقة أمرها تحليلٌ للنص المفهرس، ولا يكون هذا التحليل إلا بعد فهمٍ عميق للنص -أي الكتاب- المراد فهرسته، فهمٍ يدرك مراميه، ويحيط بمغزاه، ويتذوّق لغته، ويفقه منهجه ... عندها يستطيع أن يصنع فهارسه.
ْ ويدلك على هذا ما يكون من التفنن في الفهارس وابتكار أنواعها، مما يشهد بفقه مضمون الكتاب المفهرس، وإحاطة المحقق به.
ويتحدث شيخنا العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عن صناعة الفهارس، وأنها ضرب من التأليف، فيقول: "هذا العمل فيه بَذْلُ جهد كبير، وتحمل مشقاتٍ كثيرة؛ فقد صار نوعاً من أنواع التأليف، والإتقان فيه صعبٌ وعَسِر، ويحتاج إلى حَبْس النفس عليه
__________
(1) من معنى كلامه في المقال الذي أشرنا إليه في التعليق السابق.(20/32)
مدة طويلة، ولذا يتردد طالب العلم بين الإقدام عليه، لتقريبه المطلوب بيسر وسهولة، والإحجام عنه لما يأكل من الذهن والزمن ... " (1) .
أما أخونا العلامة الطناحي، فيقول:
"لو كان لي من الأمر شيء، في الدراسات العليا بالجامعات العربية، لجعلتُ موضوع الماجستير والدكتوراه فهرسة كتاب من كتب التراث، فهرسة تفصيلية كاشفة.
وسوف يكون هذا العمل مجدياً على الطالب، وعلى الدراسات العليا نفسها، بدلاً من الموضوعات التي تهرّأت واستُهلكت، وأصبحنا بها ندور حول أنفسنا.
فإذا فُهرست كتب كل فن من فنون التراث على هذا النحو الكاشف الجامع، أمكن لنا أن نقدم صورة حقيقية لفكرنا العربي الإسلامي، بدلاً من أن نُغرق في مدحه ببلاهة، أو نُسرف في ذمه بجهل." (2) .
ثم في مقام آخر يغضب غضبة مُضرية على الذين يجهلون قيمة الفهارس؛ فيردّونها على صاحبها؛ ولا يقبلونها سنداً للترقية في السلك (الأكاديمي) الجامعي، فيقول: "وأمر عجيب، وهو ما سمعناه أخيراً، من أن لجان الترقيات، في بعض الجامعات العربية، وقد رفضت -ضمن ما قدم لها من أعمال- فهرسةً علميةً لفنٍّ من فنون التراث، من داخل كتاب كبير، من أمهات الكتب، بحجة أن الفهرسة عملٌ آليٌّ ميكانيكي، لا يمثل جهداً علمياً! ".
فيغضبه هذا التصرّف أشد الغضب، فيقول ثائراً:
"وأستطيع أن أردّ هذا القولَ وأمحقه، لولا الغم الذي أطبق على القلب من سماع هذا الكلام العجيب".
وقد مر بك في أثناء الحديث عن أعمال المستشرقين، أنهم قد عُنوا بفهرسة كتب التراث، عناية فائقة، وأن من ذلك فهرسَ أمالي أبي علي القالي، الذي صنعه
__________
(1) ر. الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة: 352.
(2) من مقالٍ له بمجلة (البحث العلمي والتراث الإسلامي) سبقت الإشارة إليه آنفاً (ص580) .(20/33)
المستشرقان الكبيران (بيفان) و (كرنكو) ، فهل يجرؤ أحد على وصف عمل المستشرقين بأنه آلي ميكانيكي؟
ثم أفضى هذا العبث كلُّه، إلى أمر أشدَّ نُكراً، وهو: "أن التحقيق لا يكوِّن شخصية علمية".
هكذا يقولونه بدون تقييد، أو وصف، أو استثناء، ومعنى هذا بوضوح أن دارساً مسكيناً توفَّر على موضوع مستهلك، فأكثر فيه الثرثرة، وقَمَشَ له عِلماً من هنا، وسلخ له علماً من هناك، ثم انتهى به إلى نتائج هزيلة شائهة، يَفْضُل رجلاً مثل عبد السلام هارون، الذي قضى من عمره خمسين عاماً أخرج فيها كنوزاً، وأضاء صفحاتٍ مشرقةً من تراثنا العظيم!
اللهم إنا نستدفع بك البلايا، ونسألك أن تهوّن علينا المصائب والنوائب" (1) انتهى بنصه.
وهذا كلامٌ واضح مبين يدرك من لديه أدنى درجة من تذوق الأسلوب والبلاغة أيَّ مرارة يعانيها الطناحي، وأيَّ ألمٍ يمزقه، وأي غضب يفور بداخله على هؤلاء الذين ينكرون قيمة الفهارس، ويجهلون قيمة التحقيق، وكان قد قال قبلاً: "إن التحقيق عمل من الأعمال العلمية، جيده جيد، ورديئه رديء".
علماء أعلام صناعتهم الفهارس:
لو كانت صناعة الفهارس عملاً ميكانيكاً آلياً -كما يقول ذلك الذين لا يعرفون- لما شغل بها علماء أعلام أنفسهم، ولتركوها لأتباعهم، ولما نسبوها إلى أنفسهم، ولما تمدّحوا بها.
فمن هؤلاء الأعلام الذين ارتادوا هذا الطريق، ووطؤوه العلامة أحمد زكي باشا، شيخ العروبة (1284-1353هـ - 1867-1934م) وهو أول من عُني بهذا الفن حين حقق (كتاب الأصنام) لابن الكلبي، نشرته دار الكتب المصرية 1924م، وهو كتاب لم
__________
(1) ر. مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي 281، 282.(20/34)
يصل إلى مائة وخمسين صفحة، ومع ذلك صنع له فهارس علمية مبتكرة، وأتبعه بكتاب (أنساب الخيل) في سنة 1931م، وهو في حجم الكتاب الأول، وصنع له فهارس علمية أيضاً.
ومن هؤلاء الأعلام العلامة أحمد باشا تيمور (1288-1348هـ - 1871-1930م) الذي صنع فهارس شافية كافية (لِِخزانة الأدب) للبغدادي، وقد سمى هذه الفهارس اسماً طريفاً ظريفاً هو: (مفتاح الخزانة) وتشمل هذه الفهارس اثني عشر فناً من فنون العلوم المبثوثة في الخِزانة.
وقد أضاف العلامة عبد العزيز الميمني إلى (مفتاح الخزانة) فهرساً آخر للكتب التي أوردها البغدادي في الخزانة، وسمى هذا الفهرس (إقليد الخزانة) .
وتفنن العلماء في صنع الفهارس العلمية القائمة على فقه ما في الكتاب المحقق واستكناه أسراره.
فمن ذلك فهارس طبقات فحول الشعراء لابن سلام، وفهارس مسائل اللغة والنحو في تفسير أبي جعفر الطبري. من صنع شيخنا أبي فهر شيخ العربية محمود محمد شاكر برد الله مضجعه.
وفهارس كتاب (الحيوان) ، وكتاب (البيان) وهما للجاحظ من صنع شيخنا عبد السلام هارون ويقول أخونا العلامة الطناحي عن فهارس كتاب (الحيوان) : "وهي إلى الطراقة والابتكار ما هي".
وفهارس سمط اللآلي للعلامة عبد العزيز الميمني.
وفهارس شواهد سيبويه لعلامة الشام الشيخ محمد راتب النفاخ.
وفهارس كتاب سيبويه لفضيلة الشيخ العلامة محمد عبد الخالق عضيمة، "وهو فهرس جامع، دخل به الشيخ كل دروب سيبويه" على حد تعبير العلامة الطناحي.
وفهارس طبقات الشافعية الكبرى للسبكي التي صنعها العالمان الجليلان محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، وهي فهارس جامعة نافعهَ، أجزل الله مثوبتهما على ما قدما وأجادا وأفادا.(20/35)
ماذا بعد:
كان المأمول بعد هذه الجهود الرائدة، وما تلاها من أعمالٍ علمية جادة، أن تنضج صناعة الفهارس، وتتضح مناهج التحقيق، وألا يخرج كتاب بغير فهارس، ولكن للأسف عم الفساد وطم، وكما قال شيخنا أبو غدة: "كُسر سياج العلم، فغدا كل متفرج على كتب الحديث محدثاً، وكل مشتم لشمَّةٍ من العلم عالماً محققاً، واندلقت الكتب الغُثاء من المطابع، واختلط الجيد بالرديء، والضار بالنافع. فإنا لله" اهـ (1) .
وأخيراً نقول: مع كثرة هذا الغثاء الذي شكا منه الشيخ العلامة أبو غدة، ومع قولهم: إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، مع كل هذا ستظل الأعمال الجادة -وهي ليست بالقليلة- علامات على الطريق.
ولقد حاولت منذ سنوات أن أصنع شيئاً لوقف هذا البلاء، وكاتبت علماء كباراً، أصحابَ رأي وقرار، واقترحت عليهم الإعداد لمؤتمر علمي ينظر في قضية التراث، تراث الأمة، ويضع الضوابط للعمل في إحيائه، ويبحث في وسائلَ قانونية وإجرائية للضرب على أيدي العابثين بالتراث؛ فإن دار نشرٍ واحدة عبثت بمئات الكتب الأمهات، وأخرجتها تحت أسماء غِلْمة لا يعرفون كيف يقرؤون صفحة واحدة فيها. مكنت هؤلاء الغِلمة من العبث بالحواشي والتعليقات والفهارس التي أضنى محققون كبار، وعلماء أعلام أنفسهم في وضعها.
أقول: حاولت ذلك منذ سنوات، ولم يتم ما أردنا؛ فإلى أن يتم ذلك ندعو الناشرين الجادين أن يعلموا أن صناعة النشر علمٌ، وأن العلم عندنا دين وعبادة، فلينظروا ماذا ينشرون وكيف ينشرون.
تنبيه:
وهناك أمر لا بدّ من التنبيه إليه، وهو أن بعض أهل العلم قرأ كلمةً للشيخ أبي غدة على غير وجهها، وحملها على غير محملها، وذلك حين قال الشيخ "وقد ترددت كثيراً
__________
(1) من تعليقه على رسالة (تصحيح الكتب وصنع الفهارس ص 41) .(20/36)
في صنع فهارس هذا الكتاب (1) ، نظراً لما يذهب من الوقت في تأليف فهارسه وضبطها وإتقانها ... ، فقد أخذ مني صُنع هذه الفهارس وضبطها ... ومقابلتها بالكتاب أكثر من ثلاثة أشهر -مع بعض أعمال صغرى خفيفة- فتمنيت لو كنت صرفت ذلك الزمن في خدمة كتابٍ آخر، ولكن ما كل الأماني تُرتضى! ".
فظن أن الشيخ قد ندم على إنفاق هذه المدة في صنع هذه الفهارس، وأن الأولى، أو الأصوب، كان إنفاق هذا الوقت في خدمة كتاب آخر، ولكن هذه قراءة غير صحيحة لعبارة الشيخ؛ فالشيخ يقول: "وما كل الأماني تُرتضى" أي هناك ما يتمناه المرء، وتنازعه إليه نفسه، ولكنه ليس مقبولاً، ولا مرضياً.
وربما ساعد على هذا الفهم الخاطىء تعليقُ الشيخ أبي غدة على عبارة العلامة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد؛ إذ قال: "وصدق الشيخ" أي صدقه في جوابه للأستاذ فؤاد سيد عندما سأله: لماذا لا تهتم بفهرسة ما تنشر يا مولانا؟ فأجاب: أمن أجل خمسةَ عشرَ مستشرقاً أُضيِّع وقتاً هو أولى بأن يُصرف إلى تحقيق كتاب جديد؟ "
فعلّق الشيخ أبو غدة قائلاً: "وقد صدق الشيخ؛ فإنها -أي الفهارس- تذهب
بالوقت الثمين، ولا يشعر به القارىء" انتهى
ولكن الشيخ أبا غدة -في الواقع- يُصدّق الشيخَ (محمد محيي الدين عبد الحميد) في "أن الفهارس تأكل الوقت الثمين، ولا يشعر به القارىء" ولكنه لم يوافقه على منهجه في ترك الفهرسة.
وقد قطع الشيخ أبو غدة هذا الوهمَ في فهم كلمته، بما كان من عمله حتى وفاته، فلم يخرج له كتاب من غير فهارس علمية شافية كافية، ليس الكتب التراثية فقط بل حتى كتبه المؤلفة مثل كتاب (تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي) .
بل إن العلامة الطناحي الذي نقل عبارة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عن الفهارس هو الذي قال عنه في كتابه نفسه:
"على أن الشيخ محيي الدين لم يهمل الفهارس بمرة، فقد صنع فهرساً جامعاً لألفاظ
__________
(1) يقصد كتاب (الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء) ، لابن عبد البر.(20/37)
كتاب (جواهر الألفاظ) لقدامة بن جعفر، وفَهْرسَ شواهد كل كتب النحو والبلاغة التي أخرجها، وشواهد (شرح الحماسة) للتبريزي منسوقة على حروف الهجاء.
كما أنه صنع فهارس جيدة لكتاب وفيات الأعيان، شملت: فهرس التراجم بإحالاتها، وفهرس الطبقات الزمنية: علماء كل قرن على حدة، وفهرس الطبقات العلمية: الخلفاء والوزراء، القضاة، وسائر علماء كل فنٍّ وعلم، وفهرس الألفاظ التي نص ابن خلكان على ضبطها، أو شرح معناها، وسماه (فهرس التقييدات) . وهذا من أنفع الفهارس؛ لأن لابن خلكان كَلَفاً وعناية بضبط الأعلام والأنساب والبلدان، يذكره في آخر الترجمة" (1) .
***
__________
(1) مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي الإسلامي: 73، 74.(20/38)
-3-
عملنا في فهارس النهاية
الفهارس -كما أثبتنا- عملٌ علمي، فمثلها مثل كل عمل جيدُه جيد، ورديئه رديء، فليست صناعة الفهرس مجرد جمعٍ آلي، ورص كلمات، ولكنه عمل وراءه فكرٌ، وخُطة، وله هدف محدّد وغاية، و"الإتقان فيه صعب وعَسِر" على حد ما قاله الشيخ أبو غدة فيما نقلناه عنه آنفاً.
وأعتقد أن الذي يعصم من الخلل في هذا الميدان أن يسأل صانع الفهرس نفسَه: لماذا هذا الفهرس؟ فإذا عرف الغاية التي يتغياها، استطاع أن يسلك الطريق التي توصله إلى تلك الغاية.
ولذلك تعجب إذا وجدت محققاً فاضلاً صنع فهرساً للأعلام في مائة وخمسين صفحة كاملة، رتبه على حروف المعجم، وقال عن منهجه في هذا الفهرس: إنه ضم إلى الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب "بعضَ التراجم طالما تذكر في كتب فقه الشافعية، ولو من المتأخرين من غير إشارة إلى ذلك".
وقال أيضاً: "وضعت ترجمة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أول التراجم طلباً لليمن والبركة، واتباعاً لسلفنا الصالح".
وقال أيضاً: "فاتني بعض التراجم التي لم أقف على ذكرها" ولم يحددها لنا، ولم يذكر لنا كيف بحث عنها، وأين، لنتابع البحث إذا استطعنا.
إذاً هو قد جمع بين الأعلام الذين في كتابه، وزاد عليهم غيرَهم من المتقدمين على المؤلف والمتأخرين عنه.
ثم انظر كيف صنع هذا الفهرس!! لقد شغل الصفحات المائة والخمسين بترجمة هؤلاء الأعلام مرتبين على حروف المعجم. وانتهى الأمر.(20/39)
لم ندرِ ما علاقة ذلك بالكتاب المحقق؟ فلم يذكر لنا في أي صفحة جاء هذا العلم؟ ولماذا جاء؟ وماذا أخذ عنه المؤلف؟ ومدى اعتماده لقوله أو مخالفته له؟ وفي أي الأبواب كثر اعتماده له وأخذه عنه.
كل ذلك مما يدلك عليه فهرس الأعلام.
لكن فهرسنا المطول هذا لا يدلنا على شيء من ذلك، فقط يعرّفنا بتراجم هؤلاء الأعلام، أعلام المذهب الذين ذكروا في الكتاب وغيرهم.
والترجمة للأعلام عمل علمي -لا شك- لكن أهذا موضعه؟ ولمن نقدمه؟ إن الباحث في كتابك أيها المحقق الفاضل، إما أن تسعفه بترجمة موجزة في حاشية الكتاب، لمن يحتاج إلى التعريف به من الأعلام، وإما أن تتركه وكتب الطبقات والتراجم، ومثل هذا الباحث لا يعجز عن الوصول إليها، وليس في حاجة إلى من يدله عليها.
إن هذا في حقيقته ليس فهرساً للأعلام، ولكنه غير ذلك، أو أكبر من ذلك، إنه كتاب لطيف بعنوان (من أعلام المذهب الشافعي، وبعضٌ من غيرهم) .
وفهرس الكتب أيضاً:
والذي حدث في فهرس الأعلام حدث مثله في فهرس (الكتب) حيث صنع المحقق الفاضل فهرساً سماه (فهرس موارد المؤلف) وذكر تحته أسماء الكتب الواردة في نص المؤلف، وعرف بها تعريفاً جيداً. وانتهى الأمر.
لقد ضن علينا المحقق الكريم بذكر المواضع التي ورد فيها كل كتابٍ من هذه الكتب؛ لنعرف ماذا أخذ منه المؤلف، ولنراجع النصوص والنقول التي نقلها المؤلف عن هذه الكتب، ونصحح بعضها من بعض، ونقضي على ما في مثل هذه النقول من تصحيف وتحريف، ولو كانت المواضع التي ذُكر فيها (نهاية المطلب) محددة محصورة، لأعانتني كثيراً في تقويم نص النهاية، أو تقويم نقل المؤلف.(20/40)
* وفي كتابٍ آخر (1) أجاد فيه المحقق أيّما إجادة، وصنع له فهارس مبتكرة، تشهد بفقهه للكتاب، وإدراكه روحه وسره، وبلغت الفهارس التي صنعها ستة وعشرين فهرساً، ومع كل تلك الإجادة، وذلك النجاح، إذا به يفاجئنا في أول فهرس الأعلام بقوله: "وقد أسقطنا منه أسماء المترجمين" سبحان الله!! لماذا تسقط أسماء المترجمين من فهرس الأعلام؟ إن فهرس الأعلام يدلنا على مدى دوران العَلَم في الكتاب، والمترجمون في كتاب الطبقات هم أعلام الأعلام، فلماذا نضن عليهم أن يذكروا في فهرس الأعلام؟ أليسوا هم الأولى بأن تعرف مواضع دورانهم في الكتاب، أساتذة وشيوخاً، أو تلامذة وناشئين، أو أصحاب كتب مؤثرين، أو متأثرين؟!!
وهناك من يصنع فهرس الأعلام على النمط السليم الصحيح، ولكنه يكتفي بذكر رقم الصفحة التي ترجم للعلم فيها فقط دون غيرها من كل الصفحات التي ورد فيها العلم، يفعل ذلك عن عمد قائلاً: "اكتفيت بذكر الصفحة التي ترجمت فيها للعلم لأدلك على موضع الترجمة" يا سبحان الله!! وكأن الباحث يعجزه أن يمد يده لأي كتاب من كتب الطبقات أو التراجم ليقرأ فيه ترجمة العلم الذي يحتاج إلى ترجمته.
هذه بعض ملاحظات، لم نرد بها -علم الله- ذكر المعايب، فلا يتتبع المعايب إلا معيب، ولكنا أردنا أن نبرهن على صدق المعيار الذي وضعناه للإجادة في عمل الفهارس، وهو: أن يسأل صانع الفهرس نفسه: لماذا هذا الفهرس.
عن فهارس النهاية:
طالت صحبتنا لهذا الكتاب، وطال انقطاعنا ل [، على نحو ما وصفناه في موضع
آخر من خطبة الكتاب، فأحطنا به -فيما نقدِّر- وعرفنا مسالكه ودروبه، وأدركنا
أسراره، ومراميه، وتفتحت لنا -بحمد الله- مغاليقه، ولانت لنا مُعْوِصاتُه، ولذا
وضحت أمام أعيننا أنواعُ فهارسه، فكان منها ما استطعنا إنجازه، ومنها ما ضاق عنه
الوقت، وقصر عنه الجهد، فلم نستطع القيام به، ولكننا أحببنا أن نعرف بها، عسى أن
يَنْهد لها باحث، أو يتخذ أحد الدراسين واحداً منها أطروحةً لدرجة علمية]
__________
(1) هو كتاب طبقات الشافعية للإسنوي، تحقيق الدكتور عبد الله الجبوري.(20/41)
فمن هذه الفهارس:
1- فهرس القواعد الأصولية.
2- فهرس القواعد والضوابط الفقهية.
3- فهرس المسائل التي أعلن إمامُ الحرمين خلافه للأصحاب فيها.
4- فهرس المسائل التي تمنى الإمام أن لو كان المذهب فيها مثل المذاهب المخالفة.
5- فهرس المسائل التي نقل فيها الإمام عن المذاهب المخالفة أقوالاً غير الموجود في مصادرهم المتاحة الآن.
6- فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين والده.
فهذه جملة من الفهارس أعجلنا الوقت، وقعد بنا الجهد -مع معوقات أخرى- عن الوفاء بها، وبعض هذه الفهارس قد تعد مسائله على أصابع اليد الواحدة، ولكن ليس بالكثرة تقاس قيمة الفهارس.
أذكر أنني صنعت فيما صنعت (للبرهان) ثلاثة فهارس، هي: فهرس للمسائل التي خالف فيها الإمامَ الشافعي، والثاني للمسائل التي خالف فيها الإمام أبا الحسن الأشعري، والثالث للمسائل التي خالف فيها أبا بكر الباقلاني، وجميع الفهارس الثلاثة قد لا يزيد عدد صفحاتها عن عدد أصابع اليد الواحدة.
ولكن هذه الفهارس الثلاثة بالذات وقعت عند العلماء موقعاً حسناً، وأثنَوْا على هذا العمل، وقدّروه بما لم أكن أتوقع بعضَه؛ وذلك أن الباحث وهو يقلب في البرهان عن قضية أصولية يكن مشغولاً بها غير ملتفتٍ إلى غيرها، فحتى لو وقع على مسألة مما خالف فيه إمام الحرمين الشافعي أو الأشعري أو الباقلاني لن يقف عندها، ولن يلتفت إليها، فهو ليس لها الآن.
أما أن يضعها المحقق في فهرس خاص أمام عينه، ويضع أصبعه عليها، فهذا يجعلها بمرأى منه دائماً، ويدفعه إلى بحثها والإحاطة بها، إن كانت تقع في اهتماماته.
* ومثل هذه الفهارس الثلاثة فهرس الوقائع والأيام الذي صنعته ضمن فهارس الغياثي، فلم أكن أريد أن أصنعه، وما كان لازماً للكتاب، فالكتاب ليس به من الوقائع(20/42)
والأيام ما يحتاج إلى ضبط وفهرسة، ولكني صنعته من أجل وقعةٍ واحدة، هي موقعة (ملاذ كرد) تلك الموقعة التي لا تقل خطراً في تاريخ الإسلام عن موقعة اليرموك، وفتح القسطنطينية، ولكنها مغيَّبة تماماً عن مناهجنا الدراسية، فقلما تجد من يعرف عنها خبراً حتى من مدرسي التاريخ في مدارسنا المتوسطة والثانوية وأخشى أن أقول في جامعاتنا، من أجل هذه الموقعة، وإبرازها، والتعريف بها، صنعتُ هذا الفهرس الذي لا يتجاوز بضعة أسطر.
***
نعود إلى صنعنا لفهارس النهاية، وما كان من جهدٍ وصلنا فيه الليل بالنهار، فهذا العمل كما قال الشيخ أبو غدة رحمه الله، "فيه بذل جهد كبير، وتحمل مشقاتٍ كثيرة، يأكل الذهن والزمن في معاناة ضبط الأسماء، وتمييزها، وتصنيفها، وعدم تعددها، أو تداخلها سهواً أَو خطأ" (1) .
وحقاً لقد أضنانا العمل في ضبط الأسماء وتمييزها، وعانينا من ذلك كثيراً، ذلك أن الإمام يذكر العلم مرة باسمه، ومرة بكنيته، ومرة بلقبه، والألقاب تتشابه، والكنى تتشابه، بل حتى الأسماء قد تتشابه.
ولقد حاولنا أن نصل -بالمتابعة والمقارنة- إلى اصطلاح الإمام في إيراده الأعلام، وحدّدنا ذلك وضبطناه بصورة قاطعة.
ولكن الإمام لا يفتأ يخالف هذا المصطلح الذي دققناه، ووصلنا إليه بعد لأْي وعناء، ومثال ذلك أنه إذا قال (الشيخ) مطلقاً، فمراده الشيخ أبو علي السنجي، ولكنه يخالف ذلك أحياناً، مثلما تجده في الجزء الخامس ص 310 حيث أطلق لفظ الشيخ مريداً به والده، وما عرفنا ذلك إلا من السياق.
وأحياناً كان يطلق (الشيخ) ويريد به القفال.
ومن هنا كان علينا أن نراجع مواضع الأعلام موضعاً موضعاً، وننظر في السياق على ما "يأكل ذلك من الجهد والزمن".
__________
(1) الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء - تحقيق الشيخ أبي غدة: 352.(20/43)
ولقد عبرت عن هذا العناء الدكتورة بنت الشاطىء، حين صنعت فهرساً للأعلام لمقدمة ابن الصلاح، حيث قالت: "أعترف أنني لم أقدّر حدود جهدي وطاقتي حين استجبت لرغبة زميل كريم ... في فهرسة أعلام النص المحقق لمقدمة ابن الصلاح ... " (1) .
فبهذا الأسلوب الأدبي تصور عناءها في صنع فهرس الأعلام، وأنه كان فوق حدود جهدها وطاقتها.
ومثل ذلك عانيناه في فهرس الكتب.
وإذا كان شيخنا العلامة أبو غدة قد سلخ نحو ثلاثة أشهر في فهرسة (الانتقاء) وهو في مجلد لطيف لا يزيد عن نصف مجلد من النهاية إلا قليلاً، فماذا نقول نحن أمام هذا الكتاب الكريم الذي يقع في عشرين مجلداً.
***
* ثم إننا قد ابتكرنا فهرساً جديداً -لم نره من قبل في أي كتابٍ- وهو فهرس الكلمات التي تحتمل أكثر من قراءة في المخطوط، فقد صورنا قدراً صالحاً من هذه الكلمات، وألحقناها بالمجلد الذي وردت فيه -وليس في مجلد الفهارس- لتكون تحت نظر القارىء، ولتُقرأ في سياقها.
وغرضنا من ذلك أمران:
أ- أن نشُرك الكرام القارئين معنا في تقويم النص، آملين أن يُلهم أحدُهم قراءة صحيحة لهذه الكلمات.
ب- أن نؤكد معنىً خطيراً، وهو حرمةُ النصوص التراثية، وعدم الجرأة على اقتحامها، وقراءتها، كيفما اتفق.
وننبه أن هذا الفهرس ليس في كل المجلدات، وإنما هو في المجلدات التي حققت عن نسخة وحيدة، أو اتفقت النسخ الموجودة على هذا الرسم غير المقروء تماماً بالنسبة لنا.
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح: 995.(20/44)
وقد يبدو للبعض أن الكلمات المصورة في هذا الفهرس قليلة، ولا تستحق هذا العناء وهذا التنويه!! ولكننا نكرر أن إصلاح كلمة واحدة، وقراءتها قراءة صحيحة يستحق كل هذا الجهد وزيادة، وفي تراث أئمتنا أن منهم من كان يشد الرحال، ويقطع المسافات من أجل تصويب لفظة، أداء لأمانة الرواية، والنقل عن الأئمة.
* ومن الفهارس التي نظنها مبتكرة أيضاً:
فهرس المسائل الملقبات
فهذه المسائل مبثوثة في ثنايا أبواب الفقه، يصعب الوصول إليها عند إرادة الرجوع لها، مع أنها -في جملتها- تعتبر أصولاً، وقواعد يقايس عليها الفقهاء، ويضبطون بها الأحكام.
وقد اشتهرت المسائل الملقبات في علم الفرائض، أما الجديد في هذا الفهرس، فهو ذلك القدر الصالح من المسائل الملقبات في غير الفرائض، وحصرها، والدلالة إلى موضعها في أبواب الفقه وقضاياه.
* أما فهرس:
(المسائل الفقهية التي جاءت في أبوابٍ لا تكشف تراجمها عنها)
هذا الفهرس أقرب إلى محاولة التكشيف، لتيسير الدلالة على المسائل التي ترد في غير مظانها -وما أكثر ذلك في كتب الفقه بعامة، وكتب المتقدمين بصفة خاصة- ولا يحتاج إيضاح ذلك إلى كلام.
* لم نفهرس للطوائف والجماعات؛ لأنها إما متكررة بكثرة في كل صفحة تقريبا، فلا معنى لحصرها في الفهرس، وذلك مثل: (الأصحاب) و (الأئمة) و (المراوزة) و (العراقيون) .
وإما لا يتعلق بها معنىً أو حكم يتصل بالفقه، والبعض الذي يتعلق به حكم فقهي مثل (أهل الذمة) و (المرتدين) يسهل الوصول إلى معرفة الحكم المراد لهم عن طريق فهرس المحتويات.(20/45)
* وكذلك لم نفهرس الأماكن، فهي في جملتها لا يتعلق بها حكم فقهي، بل تذكر للتمثيل فقط، مثل: استأجر دابة من مَرْو إلى بَلْخ.
والقليل الذي يتعلق به حكم فقهي مثل حكم من يلوذ بالحرم هرباً من قصاصٍ أو حد يمكن الوصول إليه أيضاً عن طريق فهرس المحتويات.
* تكشيف نهاية المطلب:
كان وما زال أملنا أن يُصنع لهذا الكتاب كشافات تحليلية مرتبة ألفبائياً، تجمع ما تفرق من مسائله، وتوزَّع بين أبوابه وفصوله، فأنت تجد مسائل من الرهن تعالج في أبواب الصداق، وأبواب الوصية، ومسائل العتق والكتابة، والغصب وهكذا، ولا منجى من ذلك إلا بتكشيف كتب الفقه.
إن تكشيف هذا الكتاب -وغيره من أمهات كتب الفقه- سيفتح أمام الدراسات الفقهية والإسلامية بعامة فتحاً جديداً.
إن العقبات التي تحول بين علماء القانون، والاقتصاد، والاجتماع، والتربية، وعلماء البيئة وغيرهم -إن العقبات التي تحول بين هؤلاء والاستفادة من تراثنا الفقهي ترجع بالدرجة الأولى إلى عدم ترتيب المعلومات ترتيباً يسهل معه استرجاعها.
ومنذ ما يزيد على نصف قرن (في الخمسينات والستينات من القرن الماضي) تنبه علماء أجلاء إلى قضية تقريب التراث الفقهي للباحثين، عن طريق التكشيف والفهرسة، كان ذلك في (دمشق) الفيحاء عندما بدأت المحاولات لعمل موسوعة فقهية، وتكونت لجنة لذلك برئاسة المرحوم المجاهد الدكتور مصطفى السباعي، ثم في أيام الوحدة مع مصر برئاسة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، ولم تستمر تلك الجهود للأسف، وكان مما أسفرت عنه تكشيف الفقه الظاهري، وصدر في مجلد باسم (معجم فقه ابن حزم الظاهري) وهو عمل علمي جليل، حبذا لو استمر النسج على منواله لكل كتب الفقه.
ثم انتقل الاهتمام بأمر الموسوعة إلى مصر (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية) ، ولكن الأمور سارت ببطء، فتصدّت للمهمة (دولة الكويت) فأحسنت وأجادت وسبقت، ويعنينا في هذا المقام ما قامت به لجنة الموسوعة من تكشيف لمجموعة من(20/46)