11352- ولو غنمنا زوجاً رقيقاً وزوجة رقيقة، كانا رقيقين في دار الحرب، فهل يرتفع النكاح بينهما؟ ذكر الأصحاب وجهين مشهورين والذي يبتدره الفقيه ارتضاءً واختياراً إبقاء النكاح؛ فإنّ تبدّل الملك عليهما بالاغتنام بمثابة تبدل الملك على الزوجين الرقيقين المسلمين بالبيع والإرث وغيرهما.
فإن قيل: فما وجه قول من يقول بارتفاع النكاح؟ قلنا: وجهه أن سيّد الأمة يَغْلِبُ قهراً على رقبة الأَمَة، ويمنعه بُضعها، وكان يترتب استباحة الزوج على ملك المولى، والانتقال بالأسباب الناقلة في الإسلام تجري على مذهب الخلافة، والسبيُ في حكم الإعدام للأول، وإخراجه من البَيْن، وليس القاهرُ بالاغتنام والسبي خلفاً للمقهور.
والأصح الوجه الأول.
ثم قال المحققون: لو كان الزوج والزوجة الرقيقان لأهل الحرب مسلمين، فغُنما، فالوجهان يجريان في انفساخ النكاح، كما ذكرناه.
ورأيت الأئمة قاطعين بأن المسلم إذا استأجر داراً استئجاراً صحيحاً من دور أهل الحرب، ثم غُنمت تلك الدار، وجرى عليها ملك الاغتنام قهراً، فحق إجارة المسلم لا ينقطع، وهذا يعضد الوجه الغريب الذي حكاه صاحب التقريب في منكوحة المسلم، ولكن المنكوحة تمتاز عن الدار المستأجرة بما ذكرناه من امتناع النكاح دواماً وابتداء على الأمة الكتابية، كما سبق تقريره، ومثل هذا لا يتحقق في الإجارة.
هكذا ذكره العراقيون.
وإذا قلنا: اغتنام االزوجين الرقيقين يوجب انقطاع النكاح بينهما، فلا يبعد أن نحكم بانفساخ الإجارة إذا غنمت الدار تحقيقاً لما ذكرناه من امتياز الملك بالقهر عن غيره من جهات التناقل.
11353- والذي يختلج في نفس الفقيه أن المسلم إذا نكح حربية، فقد أمّنها، والأمان يثبت العصمة، فكيف يجوز سبيها؟ [وهذا] (1) لا حقيقة له؛ فإن الأمان إن صح يستحيل أن يَثبُت مؤبداً، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى- في قاعدة الأمان على
__________
(1) في الأصل: " فهذا ".(17/468)
الاتصال بهذا- والنكاح مؤبدٌ، فإن ردّ السائل سؤاله إلى أنه هل يجوز سبي زوجة المسلم على الاتصال بالنكاح؟ أم تترك ولا تسبى إلى المدة التي يجوز امتداد الأمان إليها؟ قلنا: لا سبيل إلى هذا التفصيل؛ فإن من ينكح زوجة ليس يبغي عقد الأمان لها، وإنما يبغي له منكوحة أبداً، وليس في نكاحه إياها أمان إلى أمدٍ مع مزيد، بل القصد في النكاح على نسقٍ واحد، فإذا كان لا يمتنع السبي بعد مدة، فلا يمتنع السبي على الاتصال، وقد انتجز الغرض من الفصل.
فصل
قال: " وإذا أمّنهم مسلم حُرّ بالغ ... إلى آخره " (1) .
11354- الأمان نوعان: عام وخاص، والعام منه يختص بالولاة، وهو عقد الأمان لأهل بلدةٍ، أو ناحيةٍ، وسيأتي تفصيل ذلك في الباب المعقود لعقد المهادنات، إن شاء الله تعالى.
وأما الأمان الخاص، فمعناه عقد الأمان لشخص أو أشخاصٍ معدودين على ما سنقرر -إن شاء الله تعالى- في ذلك ضبطاً. وهذا مقصود الفصل، فنذكر من يصح أمانه، ثم نذكر حكمَ الأمان، ثم نذكر ما يحصل به الأمان، ثم نذكر أمد الأمان.
فأما من يصحّ منه عقد الأمان، فهو المسلم المكلف، فالإسلام لا بدّ منه لينفذ تصرّفه على المسلمين. والمكلف ذكرناه لتصحيح العبارة (2) ، ويصحّ الأمان من العبد المسلم، سواء أذن له مولاه أو لم يأذن، ومعتمد المذهب الذي عليه تنشأ المسائل والتفاريع أن [من] (3) كان من أهل الذب عن الإسلام بالقتال، فهو من أهل الأمان، إذا صحت عبارته، أو نفذت إشارته، والعبد من أهل القتال، ولكنه مستوعَب المنافع لحق المولى، ولو استمكن من تردية كافرٍ من شاهق في أثناء تردداته في مآرب السيد وحاجاته، فلا حرج عليه، وإذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد
__________
(1) ر. المختصر: 5/187.
(2) المعنى أن غير المكلف لا تصح عبارته.
(3) ساقطة من الأصل.(17/469)
نقول: يتعين على العبد الكائن في الناحية أن يستفرغ وُسعه في الذَّب.
ومما تجب الإحاطة به في تحقيق الأمان أن الكافر يستفيد أماناً من المسلم الذي أمَّنه، وأَمَنة المسلم أيضاً. والأمان نقيض الإرهاب بالقتال، ولو ترك القتال -إذا لم يكن متعيناً-[فالحاجات] (1) تمس إلى التردّدات في أقطار ديار الكفار إلى الأمان. ثم إذا انتظم الأمان، اقتضى ذلك العموم، فإن من يحرم على مسلم قتله، فالمسلمون أجمعون بمثابته، والمحجور عليه لسفه كالمطلق. والمجنون ليس من أهل الحل والعقد، والذي قطع به الأئمة أن الصبيّ كالمجنون في أنه لا يصح منه عقد الأمان.
وذكر بعض المصنفين أن الأمان يصح [من] (2) الصبي المميّز؛ فإنه لا ضرار فيه، ولا تبعة، فكان كالوصية والتدبير، وهذا بعيدٌ لا أصل له.
والمرأة كالرجل في صحة الأمان، فإنها على الجملة -وإن كانت لا تقاتل- من أهل إعانة الرجال على القتال بالرأي والمال. وكذلك القول في الزَّمْنى والشيوخ. وقد أجارت زينب زوجَها أبا العاص، وذكرت ذلك لما تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح، فقال صلى الله عليه وسلم: " أجرنا من أجرت " (3) . هذا تمام القول فيمن يكون من أهل الأمان.
11355- فأما حكم الأمان، فالذي انعقد له الأمان لا يُتعرض له، وللمال الذي معه، وأما أمواله الغائبة عنه، فمطلق الأمان لا يتضمن عصمتَها، فتغنم حيث تصادَف، وأما الأموال التي معه، فإن جرى لها تعرّض في الأمان، اشتمل عليها الأمان، وإن لم يجر لها تعرّض، وإنما قال المسلم: أمنتك، فالرأي الظاهر اختصاص الأمان بحقن دمه وعصمة رقبته من السبي، والأسر. وليس هذا كعقد
__________
(1) في الأصل: " والحاجات ".
(2) في الأصل: " في ".
(3) حديث إجارة زينب لزوجها العاص بن الربيع رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. المسند: 6/276. أبو داود: الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، ح 2962، الحاكم 3/236، البيهفي: 6/322، التلخيص: 4/203 ح 2244) . وقد حسنه الألباني في الإرواء: 5/43 ح 1216.(17/470)
الذمة؛ فإن مطلقه يتضمّن عصمة الأموال، كما سيأتي ذلك مشروحاً -إن شاء الله تعالى- في كتاب الجزية.
وشبّبَ بعض أصحابنا بأن الأمان يتناول الأموال التي هي مع الكافر، وسلك فيه مسلك التقرير، فقال: يبعد أن يجوز سلب ثياب من أمّنه مسلم، وإذا بعد ذلك، فالمال الذي في رَحْله بمثابة الثياب التي على بدنه، ولا خلاف في تصحيح عقد الأمان مع التصريح بالتخصيص بالدم والنفس، والذمةُ لا تعقد كذلك، كما سيأتي، إن شاء الله عزوجل.
وهذا التردد يرجع إلى حكم اللفظ وما يقتضيه إطلاق الأمان، والأصح أن مطلَقَه لا يتناول المال الذي معه، وأجرى الأئمة هذا التردّد في زوجاته، وذراريه الذين هم معه، ثم إذا حُقن دمُه بالأمان، فلو قتله قاتل، فالوجه عندنا القطع بأنه يضمن [بما] (1) يُضمن به المعاهَد والذمي، وليس حقن دم المؤمّن بمثابة تحريم قتل الحربية؛ فإن الحربية ذاتُ الشرع دفع القتلَ عنها في حالٍ، وبسط الأيدي إلى سبيها وإرقاقها، فليس ارتفاع القتل عنها للأمان. فهذا حكم الأمان.
11356-[فأما] (2) ما يصح به الأمان، فإن جرى لفظٌ مشعر، فذاك، وإن أشار مسلم، بإثبات الأمان لكافر، وأفهم بإشارته، جرت الإشارة مجرى العبارة -باتفاق الأصحاب- مع القدرة على العبارة. وهذا مبناه على الاتساع، وقد تمس الحاجة إلى إبدال العبارة بالإشارة، أو إلى الاكتفاء بالكتابة، ثم لم يُخصص هذا بقيام الحاجة، حتى يجري مجرى العلّة المطّردة المنعكسة.
ومما يجب الاعتناء به أن انعقاد الأمان يستدعي علمَ المؤمَّن به وقبوله، حتى لو أمّن المسلمُ كافراً، وهو جاهل بالعقد، لجاز لكل من ظفر به قتله واسترقاقه، ولو علم بإيجاب (3) عقد الأمان له، فلم يقبله، وردّ، فلا يصحّ الأمان، فإن قبله، انعقد الأمان حينئذٍ.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " فهذا ".
(3) بإيجاب: أي الإيجاب المقابل للقبول.(17/471)
ولو جرى الأمان من مسلم، ولم يبلغ الخبر الكافر، فابتدره هذا الذي أمّنه، جاز؛ فإن الأمان لا استقلال له قبل بلوغ الخبر.
وإن خاطب كافراً بأمانٍ، ولم يقبل ولم يردّ، فهذا فيه تردّد (1) ، والرأي الظاهر أنه لا بدّ من قبوله، ثم لا يشترط أن يعبر عن القبول، بل لو أشار له، أو بدت عليه مخايل القبول، كفى ذلك؛ فإن أصل الأمان إذا كان لا يفتقر إلى القول ممن هو من أهل القول، فالقبول في معناه.
ثم الأمان لا يلزم الكافر وإن قبله؛ فإنه لا يزيد على الذمّة، وللذمي أن ينبذ إلينا الذمة ويلتحق بدار الحرب، وكذلك القول في المؤمَّن، وهو لازم من جانب المسلم المؤمِّن، كما تلزم الذمّة من جانب الإمام.
11357- ومما يتصل بهذا أنا سنذكر -إن شاء الله تعالى- ما ينقض الذمةَ من الأمور الصادرة من الذمي في كتاب الجزية، ونذكر أن توقع الخيانة لا يوجب نبذَ الذمة، وإذا خاف المسلم المؤمِّن خيانةً ممّن أمّنه، نبذ إليه الأمان؛ فإن المبيح للأمان لآحاد الناس ما يتوقع من انتفاع المؤمِّن بأمان الكافر، فإذا كان لا يأمن الكافر، فلا خير في الأمان، وقد نصّ الرب تعالى على ذلك، فقال عز وجلّ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، والآية في المهادنة، كما سيأتي وصفها -إن شاء الله تعالى- فإذا جرى هذا في المهادنة، فأمان الآحاد بذلك أولى، وهذا يتم إذا ذكرنا المهادنة والذمة في موضعهما.
ولو أمن المسلم كافراً، فقبل أَمْنه، وقال: لست أؤمنك مني، فكن آخذاً حذرك مني، وقد قبلت أمانك لي، فهذا ردٌّ للأمان؛ فإن الأمان لا يصح في أحد الطرفين دون الثاني. ولعلّ سبب اشتراط القبول هذا.
ولا خلاف أن الأمان يقبل التعليق بالأعذار، وسيأتي من ذلك قدرٌ صالح في مسألة العِلْج إن شاء الله تعالى.
__________
(1) حكى النووي هذا التردد عن الإمام (ر. الروضة: 10/280) .(17/472)
11358- فإذا تمهدت هذه القواعد، انعطفنا على الأمان بالإشارة، لنذكر مسائل كانت تستدعي تقديم ما قدّمناه.
فلو أشار مسلم في الصف إلى كافرٍ، فانحاز ذلك الكافر إلى المسلمين؛ معوّلاً على إشارته، فإن قال المشير: أردت الأمان، وقال الكافر: فهمتُ الأمان، فهذا كافر مستأمن لا يُتعرض له.
ولو قال: ما أردتُ الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهو كافر وقع في قبضتنا بلا أمان، فنقتله أو نسترقه.
وإن قال المسلم: ما أردت الأمان، وقال الكافر: فهمت الأمان، بلغ المأمن، ولم نتعرّض له، فإن قال المسلم: أردت الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهذا في حكم أمانٍ غير مقبول، وقد ذكرنا أنه لا يصح، فيقتل أو يفعل به ما يفعل [بالأسراء] (1) .
هذا ما ينعقد به الأمان مع ما يتصل به.
11359- فإن قيل: جوّزتم لآحاد المسلمين أن يؤمنوا آحاد الكفار، فما قولكم فيه إذا وقع في الأسر كافر أو كفار، فأراد بعض الغانمين أن يمنن على بعض الأسارى؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك. والفرق بين المنّ والأمان أن المن يجري بعد تعلّق الحقوق بالأسرى، فلا ينفذ التصرف فيه إلا من ذي أمر، وهو الإمام، أو المستند إليه، والكافر [المؤمَّن] (2) الحربي لم يتعلّق به حق لمستحق.
فإن دخل بلاد الحرب طائفةٌ، وغنموا وأسروا، ثم إنهم أرادوا المن على الأسرى، قلنا: ليس لهم ذلك، فإن الإمام قد يرى إرقاقهم، [كما] (3) يتعلق برقابهم [حق] (4) الخمس. وهذا يعارضه أن الإمام إذا [من] (5) ، فقد أبطل حقوق الغانمين،
__________
(1) في الأصل: " الأمراء ".
(2) مكان بياضٍ قدر كلمة.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: " حتى ". والمثبت تقدير من المحقق.
(5) في الأصل: " أمن ".(17/473)
ولكن لا يبعد أن يرتبط هذا باستصواب ذي الأمر، ونظره، فإنهم بالوقوع في الأسر صاروا أموالاً، والتصرف في الأسرى من الأمور الخطيرة التي لا يدري فيها إلا ذو الأمر، ولا يستبد بها الآحاد.
11360- ومما نرى إلحاقه بهذا المنتهى أنا إذا صححنا أمان المسلم، فلا نشترط أن يرجع من أمانه مصلحة على أهل الإسلام، ولا يتصوّر اشتراط هذا في كافرٍ يؤمّن، ولكن كما لا نفع لأمانه، لا وقع لبقائه حربياً. وإذا كنا لا نرعى إظهار مصلحة في حق المسلمين، فلا نطالب المؤمَّن بغرض له يبديه في الأمان؛ فإن تكليف إظهار الأغراض الخاصة عسر؛ على أن هذا يجري غير متعلّق بمجالس الحكام وأصحاب الأمر. نعم، يشترط ألا يكون في الأمان المعقود ضرر عائد إلى المسلمين، فلو أمن طليعةَ الكفار، أو جاسوساً، كان الأمان باطلاً.
ثم الوجه ألا يُثبت هذا الأمان له حقَّ التبليغ إلى المأمن؛ فإن دخول مثل هذا في ديار الإسلام جناية (1) ، فحقُّه أن يغتال بها، والعلم عند الله تعالى.
11361- ومما أبهمناه وهذا أوان تقريب القول فيه أنا قلنا: إنما يؤمِّن المسلم محدودين، ولسنا نرى عدداً نقف عنده، فنقول: ما ذكره الأئمة في ذلك أن الأمان ينبغي أن يكون بحيث لا ينسد بسببه الجهاد في جهة من الجهات، وهذا يُبيِّن أن الأمان لو عُقد لأهل الناحية، فهو مردود، وإن فرض عقده لآحادٍ، أمكن فرض الغزو في الناحية، مع ترك التعرض للمؤمَّنين، هذا ما ذكره الأئمة، وسرّه أن الجهاد شعار الدين، والدعوة القهرية، وهو من وجهٍ من أعظم المكاسب للمسلمين، ومن أظهر مجالب الأموال لبيت المال، فينبغي ألا يَظهرَ بأمان الآحاد انحسامٌ ولا نقصان يُحَسّ (2) .
ولو أمن مائةُ ألف من المسلمين، مائةَ ألفٍ من الكفار، فكل واحدٍ لم يؤمن إلا
__________
(1) نقل النووي هذا عن الإمام، وتصحف إلى (خيانة) . (ر. الروضة: 10/281) .
(2) حكى النووي هذه المسألة عن الإمام، وأشار إلى التردد في صحة أمان الكل عند الانحسام أو النقص. (ر. الروضة: 10/278) .(17/474)
واحداً، ولكن إذا ظهر انحسامٌ أو نقصان، فأمان الكل مردود، وقد يختلف الأمر بأن يكون المؤمنون في قُطرٍ، أو يفرضوا متبدّدين (1) .
وقال قائلون: لو أمّن المسلمُ آحاداً على مدارج (2) الغزاة في المنازل والمناهل، ولولا الأمان، لانبسطت أيدي الغزاة، وإذا فرضت [هذه الصورة، وانكففنا عن] (3) الغنيمة، عسر [مَسير] (4) العسكر، واحتاجوا إلى نقل العلف والزاد، فالأمان على هذا الوجه مردود، وهو من الأمان المضرّ.
11362- فأما القول في المدة المرعية في الأمان، فعقد الأمان، بمثابة المهادنة، حيث لا ضعف بالمسلمين، وسنذكر أن المهادنة والحالة هذه من ذي الأمر تصح أربعةَ أشهر، ولا تجوز سنة، وفيما دون السنة ووراء الأربعة الأشهر قولان. فكذلك الأمان، فإن قيل: أليس للإمام إذا استشعر ضعفاً أن يهادن الكفار عشرَ سنين؟ قلنا: نعم. ولكن ذلك النظر إلى الإمام، ولا يرقى نظر الآحاد إلى دَرْك الضعف والقوة في أجناد المسلمين، فالأمان مبني على أقل الدرجات في المهادنة في المدّة.
فرع:
11363- إذا أمن المسلم امرأة، فقد قال القاضي: يخرج في ذلك جوابان، بناء على أنه إذا صالح صاحب الراية أهلَ حصن فيها (5) نسوان لا رجل بينهن، وقد أشرفن على أن نسترقهن، فبذلن مالاً، فهل يسقط حق الاسترقاق؟ فعلى وجهين: ووجه البناء أن النسوة يتبعن الرجال، ويبعد أن يفرض استقلالهن باستفادة الأمان من الرق. فإن أسقطنا حق استرقاقهن بمال، فلا يبعد أن يسقط حق استرقاق واحدة أو محصورات بأمان واحد من المسلمين.
__________
(1) متبدّدين: أي متفرقين.
(2) مدارج: المراد طرق ومنازل الاسترواح في الطريق.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: " مصير ".
(5) فيها بضمير المؤنث على معنى القلعة.(17/475)
وقد نجزت معاقد المذهب في الأمان. ولها مسائل ستأتي في فصل العلْج، على أثر هذا، إن شاء الله تعالى.
11364- ومما أغفلناه، ونرسمه [فرعاً] (1) : الأسير إذا أمّن كافراً، فهل يصح أمانه أم لا؟ فيه خلاف بين الأصحاب. والوجه أن نقول: إن كان مكرهاً على الأمان، فهو مردود، وإن كان مختاراً في إنشاء الأمان، فمن أصحابنا من قال: يصح ذلك منه؛ فإنه مسلم مكلف أنشأ الأمان اختياراً، ولم يجرّ ضرراً، فيصحّ.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، فإن شرط الأمان أن يكون المؤمِّن على أمان، ولا يتحقق الأمان في حق المأسور.
التفريع على الوجهين: إن قلنا: يصح أمانه، فلا كلام، وأمانه كأمان المطلَق، وإن قلنا: لا يصح أمانه في حق المسلمين، فهل يصير ملتزماً بحكم الأمان في حق نفسه، فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه حكم الأمان، كما لم ينفذ في حق غيره؛ فإن الأمان لا ينفذ على الخصوص (2) . الثاني - أنه ينفذ أمانه عليه في حق نفسه؛ فإن سبب الرّد في حق الغير أنه مقهور مأسور، فلا ينفذ أمانه على المطلقين، ولا يبعد من مقتضى هذا أن يصح إلزامه في حق نفسه.
والذي يجب الإحاطة به في تمام ذلك أن المأسور لو أمن من أسره، فالوجه ألا يصح ذلك، وجهاً واحداً، وإنما التردّد الذي حكيناه فيه إذا أمّن من ليس هو أَسَره من آحاد الكفار. وأطلق بعض من لا يعتاد طلب الحقائق، وجهاً في تصحيح أمانه لآسره إذا أنشأه ولم يُكرَه عليه. وهذا لا أصل له. فانتظم منه أن الإكراه على الأمان يُبطله لا شك فيه، وإذا لم يكن إكراه، فأمن غيرَ الآسر، فعلى الخلاف، وإن أَمَّن من أسره، فالمذهب البطلان، وفيه الوجه الضعيف الذي حكيناه.
__________
(1) في الأصل: " فرعان ".
(2) على الخصوص: يعني من جانب واحد.(17/476)
فصل
قال: " ولو أن علجاً دلّ مسلماً على قلعة ... إلى آخره " (1) .
11365- العلج يعبر به عن الكافر الغليظ الشديد، وهو من المعالجة، ومعناها المجالدة، وسمي العلاج علاجاً لدفعه الداء، والعلج يدفع بأيْده عن نفسه، وفي الحديث: " الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء " (2) أي يضطربان، ويتدافعان، فيدفع الدعاء البلاء.
وهذه المسألة نصوّرها أولاً، فنقول: إذا لجأ إلى المسلمين علجٌ من الكفار، وقال: أدلّكم على قلعة، وذكر فيها جاريةً، وشرط أن القلعة إذا فتحت، فهي له، فإذا قبلنا ذلك، والتزمنا استفراغ الطاقة والإمكان في الوفاء، فهذه المعاملة هل تصح؟ وكيف سبيلها؟ هذا تصوير المسألة.
وحكمها يستدعي تجديدَ العهد بتقديم أصول من الجِعالة، وقد نُجري فيها ما لم نُقدّم ذكره، فنقول: أولاً - لا خلاف أن عقد الجِعالة بين المسلمين لا يصح إلا على جُعل معلوم مقدرر على تسليمه، فكل ما يصح ثمناً وأجرة، وصداقاً، فهو الذي يصح أن يكون جُعلاً، فلو كان مجهولاً أو غير مقدورٍ على تسليمه أو غير مملوك للجاعل، لم يصح، حتى لو قال: إن رددت عبدي الآبق، فلك مما أصطاده كذا، ومما أحتطبه كذا، فالجعالة فاسدة، للجهالة، فإن عمل على حكم هذا العقد، لم يبطل عمله، وله أجرُ المثل؛ لأنه لم يخض في العمل على شرط التبرع به.
وإذا ثبت الجعلُ صحيحاً، وكان عيناً مملوكة، كائنة مقدوراً على تسليمها، فقال إن رددت عبدي الآبق، فلك هذا الثوبُ، جاز. والأصح أنه لا يتعلق
__________
(1) ر. المختصر: 5/187.
(2) حديث " الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء " رواه البزار والحاكم والطبراني من حديث عائشة.
قال الحافظ: وفي إسناده زكريا بن منظور وهو متروك. (ر. الحاكم: 1/492 وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: " زكريا مجمع على ضعفه ". الطبراني في الأوسط: ح 2519، كشف الأستار: 2165، التلخيص: 4/221 ح 2294، خلاصة البدر المنير: 2584) .(17/477)
استحقاق المجعول له بالجعل أصلاً، ما لم يتم العمل، وليس كالأجرة في الإجارة (1) ؛ فإن الإجارة معاوضة محضة، مبناها على اللزوم، وهو صنف من البياعات، ومبنى الجعالة على أن يتوقف استحقاق الجعل على إتمام العمل، ثم يجعل الاستحقاق بعقد العمل على أثره، ولا يستند إلى ما تقدم تبيّناً (2) .
11366- ثم إذا [تمَّ] (3) العمل لم يخلُ: إما إن كانت العين قائمة أو تالفة، فإن كانت تالفة، فلا يخلو: إما أن تتلف قبل الردّ، أو بعده، فإن تلفت قبل الردّ، فلا يخلو: إما أن يردّه عالماً بتلف المسمى، أو جاهلاً به؛ فإن علم بتلف العين، وأنشأ العمل بعد التلف والعلمِ، فلا شيء له؛ لأن المعاملة معقودة على استحقاق تلك العين، فإذا تلفت، وأنشأ العمل، فلا متعلق لعمله، وهو في حكم المتبرع.
وإن جهل العامل التلف، وعمل، فله أجرُ المثل؛ لأنه لم يتبرع بالعمل، هذا إذا تلف قبل العمل.
وإن تلف المسمى بعد الرد، فلا يخلو: إما أن يتلف بعد المطالبة، أو قبلها، فإن تلف قبل المطالبة بها، ففيما يرجع العامل إليه قولان، كالقولين في الصداق المعين، إذا تلف قبل القبض، وفيه قولان، عنهما يتشعب معظم مسائل الصداق. أحدهما - أنه مضمون بالعقد، فيجب عند فرض التلف مهرُ المثل، فعلى هذا في مسألتنا يُضمن الجعل بالعقد، فإذا تلف، فالرجوع إلى أجر المثل، وهذا يناظر مهرُ المثل، والقول الثاني - أن الصداق مضمون باليد، فتجب القيمة أو المثل إن كان مثلياً، وكذلك يخرج هذا القول في الجعل إذا تلف، والغرض تنزيله منزلة الصداق في جهة الضمان.
فإن قيل: ما وجه التشابه؟ قلنا: وجهه أن المنفعة في الجِعالة فائتة بعد تسليم العمل على وجهٍ يستحيل تداركها، كما أن البضع بعد العقد في حكم الفائت، فاقتضى ذلك جريان القولين في الأصلين، ولا يبعد عندنا القطع بأن الجعل مضمون ضمان
__________
(1) أي يستحق الأجير بكل جزء من العمل جزءاً من الأجرة بخلاف الجعالة.
(2) تبيُّناً: التبين مصطلح أصولي سبق شرحه.
(3) في الأصل: " سلّم ".(17/478)
العقد؛ من جهة أنه رُكن الجعالة، وليس الصداق رُكنَ النكاح، وهذا يوجب القطع هاهنا بضمان العقد. والعلم عند الله تعالى.
ولو تمم العامل العملَ، وطالب بالجعل، وهو قائم، فلم يسلّمه الجاعل، فقد تعدى، فلو تلف في يده، فإن قلنا: إنه مضمون باليد، فالجواب كما تقدم، وإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فقد قال القاضي: تلفه بعد الامتناع بمثابة إتلاف الجاعل الجعلَ بنفسه. ثم هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع، وفي المسألة قولان: أحدهما - أن حكمه حكمُ ما لو تلف بآفة سماوية، فينفسخ العقد، ويرجع العامل إلى أجر المثل، والثاني - حكمه حكمُ ما أتلفه الأجنبي، فعلى هذا هو بالخيار بين الفسخ والإجازة، ولا يخفى عاقبة الإجازة والفسخ.
والذي يجب فيه فضل تدبّر أن موجب ما ذكرناه، وهو بعينه كلام القاضي أن الحبس على عدوانٍ مع تصوّر التلف بالآفة السماوية ننزله منزلة الإتلاف، ويلزم على هذا المساق أن يقال: إذا توفر الثمن على البائع، وتوجهت الطِّلبَة بتسليم المبيع فأبى معتدياً، [وتلف] (1) المبيع، يكون هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع. وهذا فيه احتمال وفضل نظر، من جهة أن الإتلاف إذا لم يوجد، فاليد القائمة يد عقد، ولهذا لا يتصرف المشتري في المبيع الكائن في يد البائع، في الصورة التي ذكرناها. وإن وفّى الثمن واستحق الانتزاع، فإذا كانت اليد قائمة على هذا الوجه، فتغليب ضمان العقد أولى، حتى يقال: التلف بالآفة السماوية يوجب انفساخ العقد، ومقتضى هذا ألا يُخرَّج القولان في إتلاف البائع المبيع.
فهذه مقدمات ذكرناها في أحكام الجعالة.
11367- والآن نعود بعدها إلى مسألة العِلج، فنقول: كافرٌ في دار الحرب، قال: أدلكم على قلعة فيها أموال وغنائم، فإذا فتحتموها، فأعطوني الجارية الفلانية، ووصفها وسماها. فقد قال الأصحاب بأجمعهم: هذه الجِعالة جائزة، وإن كانت على جُعل غيرِ مملوك، ولا مقدورٍ على تسليمه، ولا شك أن مثل هذه
__________
(1) في الأصل: " وأتلف ".(17/479)
الجِعالة لا تصح بين المسلمين فيما لا يتعلّق بالكفار، وسبب تصحيح هذه المعاملة فيما يتعلّق بالكفار أن الإمام قد لا يتهدَّى في دار الحرب إلى القلاع، وربما لا يتهدّى المسلمون إليها في الغالب، فتمس الحاجة إلى دلالة كافر، فإذا لم يرض الكافر إلا بما سمَّى، فالحاجة تقتضي تصحيحَ المعاملة، إذا قيل: الجهالة تحتمل في الجعالة لمسيس الحاجة، فإذا اضطررنا إلى إثبات فعلٍ يخالف القياس الدائر بيننا، اتبعنا الحاجة.
ولو كان الدال على القلعة مسلماً وشرط مثلَ الشرط الذي حكيناه صادراً عن العلج، فالمذهب الأصح بطلانُ هذه المعاملة معه، إلا على شرط المعاملة بين المسلمين.
وفي بعض التصانيف أن هذه المعاملة تصح معه كما تصح مع العلج؛ فإن مبنى جوازها على مسيس الحاجة إليها، ولا يفرق في ذلك بين المسلم والكافر.
وهذا كلام مبهم عندنا، والوجه أن نقول: حكينا تردد الرأي في أن الوالي لو استأجر مسلماً على الغزو هل يصح؟ فإن منعنا الاستئجار، فلا معنى لهذه المعاملة مع المسلم، فإن ما يأتي به يقع جهاداً منه، فلا يستحق عليه أجراً. ثم كما لا يستحق الجارية المسماة في القلعة، لا يستحق أجر المثل.
وإن قلنا: يصح من الوالي استئجار واحد من المسلمين على الغزو، فهل تصح هذه المعاملة معه، كما تصح مع الكافر؟ فعلى وجهين قدمنا ترجيحهما.
11368- ثم إذا حضر الإمام بابَ الحصن، وحاصرها (1) ، فلم يتفق الفتح، نظر: فإن قال العلج الدال: إن فتحتموها، فلي الجارية، فلا يستحق إذا لم يتفق الفتح شيئاً؛ فإنه علّق استحقاقه بالفتح، فإن اشترط الجارية، ولم يقيد المعاملة بالفتح، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يستحق شيئاً؛ فإن رضاه بالجارية بمثابة التصريح بذكر الفتح؛ إذ لا يتعلق التوقع بتسليم الجارية إلا من جهة الفتح، فصار كما لو قيد بالفتح.
__________
(1) حاصرها: بضمير المؤنث على معنى القلعة.(17/480)
وفي بعض التصانيف وجه آخر أنه يستحق أجر المثل للدلالة؛ لأنه عمل لنا عملاً ولم يرض بأن يكون متطوعاً.
وهذا الكلام فيه اختلال، لا يبينه إلا تفصيل، وهو أنه لو دلّ، واكتفى بالجارية، وذكر الفتح صريحاً أو لم يذكره، ولكن اكتفى بالجارية، فإذا حصرنا الحصن، وكان القتال ممكناً، فلم نقاتل، فهل يستحق الدالّ والحالة هذه شيئاً؟ هذا محلّ التردد؛ فإنه يقول: دللتُ، وفعلتُ ما علي، فقصّرتُم. وينقدح أن يقال: لا شيء له، للتعلق بالفتح تصريحاً، أو تعريضاً. ويجوز أن يقال: يستحق الدالّ أجرَ المثل؛ من جهة أنه استتم عمله.
وإن حصرنا القلعة، فلم يكن القتال ممكناً، وكان بحيث لا يُطمع في افتتاحها إلا باتفاقٍ نادر، فالوجه هاهنا، القطعُ بأنه لا يستحق شيئاً؛ لأنه ما دلنا على ممكن.
وإن كان القتال ممكناً على الجملة، ولم يكن الفتح مقطوعاً به، فقاتلنا، فلم يتفق الفتح، فهذا يُبنى على ما إذا لم نقاتل أصلاً. فإن قلنا: إذا تُرك القتال أصلاً، مع إمكان الفتح، لم يستحق شيئاً، فلأن لا يستحق هاهنا أولى، وإن قلنا: الدّالّ لا يستحق، فإذا قاتلنا، فإن حصل اليأس، وبذلنا المجهود، فهذا يقرب منه، إذا بان لنا اليأس، كما (1) حصرنا، وإن لم يحصل اليأس، ولكن تبرّمنا بالقتال، أو استنفرَنا أمرٌ انزعج الجند له، فهذا محل التردد.
وبالجملة: ينبغي أن تؤخذ هذه المسألة من هذه المآخذ التي أشرنا إليها.
11369- وإن فتحنا القلعة ووجدنا الجارية التي شرطناها للعلج، فيجب تسليمها إليه، والوفاء به، ولا يسوغ منعُها.
وإن لم نجدها، نُظر: فإن كان أخطأ العلج في ظنه كونَ الجارية في القلعة، أو كانت، ولكن تقدم موتها، أو كانت ميتة يوم المعاقدة مع العلج، أو لم يخلقها الله تعالى، فقد قال الأئمة: لا شيء للعلج في هذه الصورة؛ فإنه اكتفى بجارية ظنها، وقد أخلف ظنه، فحبط عمله.
__________
(1) كما: بمعنى: عندما.(17/481)
وإن وجدناها لكنها ماتت بعد [المعاقدة] (1) فللأئمة طرق نسردها، ثم نجمعها على العادة في أمثالها.
قال قائلون: إن ماتت بعد الظفر بها، غرمنا القيمة للدلالة، وإن ماتت قبل الظفر، فقولان، والفرق أنه إذا ظُفِر بها، فقد دخلت في يد الإمام أو صاحب الراية، ووقعت في قبضته، [فيغرم قيمتَها] (2) .
وقيل: إنها تلفت من ضمانه (3) .
[والطريقة الثانية: أنها] (4) إذا ماتت قبل الظفر، فلا ضمان. وإن ماتت بعد الظفر، فقولان: أحدهما - أنه يجب الضمان لموتها تحت أيدينا، فينبغي أن تكون محسوبة علينا. والثاني - أنا لا نضمن شيئاً؛ فإن الجارية المذكورة ليست عوضاً في الحقيقة، وليست على حقائق الأعواض، وإنما أجرينا فيها عِدَةً؛ فإن اتفق الوفاء بها، فذاك، وإلا فلا ضمان. نعم يجب الوفاء إذا أمكن، وإن فرض تقصيرٌ، فمنتهاه المأثمُ، وتركُ الواجب.
وقال (5) العراقيون: لا فرق بين أن تموت قبل الظفر أو بعده، ففي الصورتين جميعاً قولان في أنا هل نغرم للعلج قيمة الجارية.
وإذا جمع الجامع الطرق (6) ، انتظم أقوال: أحدها - الضمان في الحالتين قبل الظفر وبعده. والثاني - انتفاء الضمان فيهما. والثالث - وجوب الضمان بعد الظفر، ونفيه قبل الظفر. هذا حاصل ما ذكره الأئمة.
__________
(1) في الأصل: " المعاملة "، والمثبت لفظُ الإمام الغزالي في البسيط.
(2) عبارة الأصل: " فغرم قيمتها، وقيل: إنها ما ".
(3) المعنى: يقال: تلفت من ضمانه، فيغرم قيمتها.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) هذا هو الطريق الثالث.
(6) والطريق هي:
أ- ماتت بعد الظفر: وجب الضمان، وقبل الظفر: قولان.
ب- ماتت بعد الظفر: قولان، وقبل الظفر: لا ضمان.
ج- ماتت بعد الظفر: قولان، وقبل الظفر: قولان.(17/482)
11370- وقد يتطرق إلى ما ذكرناه مزيد بحث، وهو أن يقال: إذا فتحنا القلعة، واستمكنا من تسليمها، فلم نسلّمها حتى ماتت تحت قبضتنا، فيظهر وجوب الغرم هاهنا.
ولو فتحناها، وماتت قبل تمكننا من تسليمها، فهذا فيه تردّد، من جهة أنها ماتت من وجهٍ بعد الفتح، وماتت من وجهٍ آخر قبل التمكن، وغايتنا أن نبذل كنه المجهود فيها، هذا لابد منه مع ما قدّمناه، ثم يعود فيه ما ذكرناه مقدمة في أحكام الجعالات، من تلف العين المجعولة جعلاً قبل الطلب وبعده، وقد ذكرنا في تلف العين قبل الطلب، وبعد العمل قولين في أن المضمون القيمة أو أجر مثل العامل، وهذا الخلاف يجري هاهنا إذا أثبتنا الضمان، وإن فرضنا الطلب والاستمكان، فهذا يناظر ما إذا كانت العين قائمة، وجرى التقصير في تسليمها، مع توجه الطلب بها، فلا بأس من التنبه لما ذكرناه.
11371- ومما يتصل بتقاسيم المسألة أنا إذا وجدناها، ولكنها كانت مُسْلِمة، فالذي ذهب إليه المحققون أنا نغرم قيمتها للدالّ سواء أسلمت قبل الظفر أو بعده، بخلاف الموت، فإنا فصلنا المذهب فيه كما تقدّم، والفرق أنها إذا أسلمت، فالإمام هو الذي يحول بين العِلج وبينها، بحكم الإسلام، وإلا فالتسليم بحكم المشاهدة (1) ممكن فيها، فيغرم قيمتَها بالحيلولة، وإذا ماتت، فليس صاحب الأمر هو الحائل بينهما، وإنما وقعت الحيلولة [بأمرٍ خارج] (2) .
وفي بعض التصانيف: في إسلامها وجهان: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنا ننزل إسلامها منزلة الموت، ثم في الموت التفصيل المقدّم، وهذا ضعيف، ووجهه على بعده، أن الإسلام صيرها كالمعدومة، وشرط الجارية للعلج وإن كان مطلقاً، فمعناه التقييد ببقائها على الكفر، فإنا إنما نتمكن لو بقيت كافرة، فإذا أسلمت فلا تَمَكُّن.
__________
(1) بحكم المشاهدة: أي حسّاً، كما عبر بذلك الغزالي في البسيط.
(2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى.(17/483)
ويمكن أن يقال: إذا أسلمت قبل الفتح، فهذا بمثابة الموت، لأنا لا نملكها إذا فتحنا القلعة، ولم نقدّر استحقاقها بالشرط، فكان ذلك بمثابة ما لو صادفناها ميتة، وإن أسلمت بعد الفتح؛ فإنها تبقى مملوكة، فيتجه هاهنا القطع بالغُرم للعلج، ولا يتجه غيره؛ فإن المنع يعود إلى مراعاة حكم الشرع والملكُ عليها ثابت، فإنها رقَّت لما وقع الفتح، ثم أسلمت من بعدُ.
11372- ولو فتحنا القلعة، فلم نجد غير تلك الجارية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نسلّم الجارية إلى العلج وفاء بالشرط، إذ لا مانع من التسليم. والثاني - لا نسلّم؛ فإن هذا في التحقيق فتحٌ للعلج، ولا أَرَبَ لنا فيه، وهذا التردد الذي ذكرناه فيه إذا لم نؤثر تملك القلعة أو لم نتمكن منها، لأنها محفوفة بالكفر، ويعسر تخليف جمع يقومون بحفظها عن الكفار. فأما إذا ملكنا القلعة، وأدمنا اليد عليها، فيجب القطع بتسليم الجارية.
11373- ولو حاولنا الفتح، فلم نستمكن، واستفزّنا أمرٌ، ورأينا أن مثل ذلك يُبطل حق العلج، فلو اتفق لنا عودٌ إلى القلعة في كَرّةٍ أخرى، فاتفق الفتح فيها واستمكنا من الجارية، فهل نوجب تسليمها إلى العلج؟ ذكر الأصحاب وجهين، ووجه التردد والاحتمال لائح.
ولكن لا بدّ من التفصيل، فإن عدنا واستمكنا في العودة بالأعلام (1) التي أقامها العلج، ولولا تقدم دلالته، لما عدنا، فيظهر هاهنا تسليم الجارية إليه، والمصير إلى أنه لا حكم لما تخلل من المحاولة، وترك المقاتلة. وإن اتفق ونحن نؤمّ بقعة أخرى وقوعنا على القلعة، من غير استمساك بأعلام استفدناها من دلالة العلج، فهاهنا يظهر الاحتمال في أنا هل نسلم الجارية إذا تمكنا منها والشرط مطلق، والأصح أنا لا نسلّمها؛ فإن المعاملة الجارية بيننا، وإن كانت مطلقة، فهي من طريق العُرف وفهم الخطاب متقيّدة باتصال الفتح بالدلالة، وهذا الظهور جرى منقطعاً.
وبالجملة ليس تخلو حالة من الأحوال التي فصلناها عن احتمال، ولا يعجِز الفطن
__________
(1) بالأعلام: أي بالعلامات التي دلنا عليها العلج، والمعلومات التي قدمها لنا.(17/484)
عن إجراء الخلاف فيها وترتيب البعض منها على البعض، ولسنا نطوّل بذكرها.
ولا خلاف أنه لو انتهى إلى القلعة طائفة أخرى لم تكن في المعاملة (1) ، فلا يلزمها شيء، وإن تمكنت من الجارية، وإن كانت هذه الطائفة تلتفت إلى الأعلام منا ونحن تلقيناها من العلج، فلا يلزمهم شيء؛ فإنه لم يجر منهم التزام وخوض في المعاملة.
ويبقى الكلام في أنا إذا لم نفتح -وربما كان الفتح ممكناً لو أطلنا المحاصرة- فهل نغرم للعلج؟ وهذا مما تقدم تفصيله.
ولو جاوز الإمامُ القلعة، ثم ردّ جمعاً من الجند الذين كانوا معه، فإن ردهم على القرب، واتفق الفتح؛ فالوجه تنزيل هذا منزلةَ ما لو أقام حتى فتح.
وإن جاوز القلعةَ، وانقطع عنها بحيث يبعد الرجوع إليها من غير استمساك بالدلالات التي ذكرها العلج، [فأبان] (2) للراجعين تلك [العلامات] (3) ، فانقلبوا، وفتحوها، فهذا بمثابة ما لو رجع هو بنفسه.
وإذا أحاط المرء بمقتضى اللفظ في هذه الجِعالة، لم يخف عليه محلُّ الوفاق والخلاف.
11374- ثم حيث يغرم الإمام للعلج أجر المثل، أو قيمةَ الجارية على التفاصيل التي تقدّمت، ففي المحلّ الذي يأخذ [منه] (4) ما يغرَمه للعلج الخلافُ الذي قدّمناه في محل الرضخ، ففي وجه يخرج ما يبذلُ للعلج من سهم المصالح، وفي وجه يُخرجه من رأس المغنم، ووجه ما ذكرناه بيّن.
11375- ولو جرت المعاملة كما وصفناه، وحاصر صاحب الراية أهلَ الحصن، واقتضى الرأي أن يصالحهم على أن صاحب القلعة وأهلَه في أمان، فلما فتحوا القلعة على موجب هذا الصلح؛ بان تلك الجارية من أهل صاحب القلعة، فقد تصدّى لنا
__________
(1) المعاملة: المراد المعاقدة مع العلج.
(2) في الأصل: " بان ".
(3) في الأصل: " المعاملات ".
(4) زيادة اقتضاها السياق.(17/485)
صلحٌ يجب الوفاء به، ومعاملة سبقت مع العلج يتعين تحقيق المقصود منها، فالوجه أن نقول لصاحب القلعة: قد شرطنا لفلان هذه الجارية؛ فإن رَضِيتَ تسليمَها إليه، غَرِمنا لك قيمتها، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا للدالّ: قد صالحناه على أن نؤمّن أهله، والجارية المشروطة من أهله، فإن رضيتَ [بقيمتها] (1) ، بذلناها لك، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا لصاحب الجارية: إما أن تسلم الجارية، أو تعودَ حرباً، فنردّك إلى القلعة، فاستوثق منها، وأغلق بابها، وارجع إلى ما كنت عليه، ثم نعود إلى القتال، فإن اتفق الفتح، سلمنا الجارية، وإن لم يتفق الفتح، فالكلام على ما مضى.
11376- ثم استنبط الفقهاء من هذه المسألة فوائدَ: إحداها - تصحيح جعالة جعل مجهولٍ غير مقدور على تسليمه. والثانية - أن الأمان مع الجهل بتفصيل العدد، في الذين يؤمنون جائز؛ لأن أهلَ صاحب الحصن مجهول العدد.
11377- قال الأصحاب: ويجوز الأمان مضافاً إلى عدد معلومٍ مع الجهل بالأعيان، وذلك أن يؤمِّن من أهل القلعة خمسين أو مائة فيكون التعيين إلى شخصٍ، وروي: " أن عمر صالح أهل قلعةٍ على أن مائة من أهل القلعة في أمان، وكان عمر يحب أن يظفر بصاحب القلعة من غير أمان، فأخذ صاحبُ القلعة يختار المائة من أهل القلعة، ويعدّهم، ويعينهم، وعمرُ يدعو ويقول: اللهم أنسِه نفسَه، فعدّ مائة، ونسي نفسه، فعرض عليه الإسلامَ، فلم يسلم، فحز رقبته " (2) .
11378- ومما يُتلقى من أطراف هذه المسألة: أن الصلح إذا عارضه عذرٌ يعسر الوفاء به معه، فيجوز للإمام ردّه ونبذه، كما ذكرناه في مصالحة صاحب القلعة، على أن يؤمّن أهله، ثم كانت المشروطة من أهله.
__________
(1) في الأصل: " بقيمته ".
(2) خبر " أن عمر صالح أهل قلعة على أن مائة من أهل القلعة في أمان ... ثم حزّ رقبة صاحب القلعة " لم نجد هذا عن عمر، وإنما هو مروي عن أبي موسى الأشعري حين حاصر مدينة السوس، والخبر رواه البلاذري في فتوح البلدان 2/466 ح 941. (ر. التلخيص: 4/223 2298) .(17/486)
فصل
قال: " وإن غزت طائفة بغير أمر الإمام ... إلى آخره " (1) .
11379- الذي يقتضيه الإذن ألا ينتهض جمعٌ من المسلمين للجهاد إلا صادرين عن رأي الإمام أو نائبه، فلو لم يراجَعوا، فدخلوا دار الحرب، فغنموا أموالاً، فهي مخموسةٌ، سواء كانت الطائفة ذاتُ نجدة وعُدّة، أو كانت طائفة يسيرة، وإن دخل رجل أو رجال دار الحرب مختفين، وسرقوا من أموال الكفار وأحرزوه، فالمذهب المشهور أنهم ينفردون بما سرقوه، ولا يخمّس ما ثبتت أيديهم عليه.
وقاعدة المذهب في ذلك تستدعي ثلاثةَ أشياء: أحدها - في أصل المغنم، والثاني - في المسروق على ما صورناه، والثالث - في المال المظفور به المحظور لكونه فيئاً.
أما المغنم، فهو ما يحصل في أيدي المقاتلة، بالمكاوحة، فاليد فيها ثابتة، ولكن الأملاك غير مقصودة؛ إذ الجهاد وملاقاة أعداء الدين، مع التغرير بالمهج لا يجوز لأجل المال، فلا يجوز إلا لإعلاء كلمة الله، والذب عن دين الله تعالى، ثم المغانم إن حصلت، فهي في حكم التبع، [ولذلك] (2) تسقط حقوق الغانمين بالإعراض؛ فإنهما لم تُقصد بالاستيلاء بالأيدي، وكل ما يملك بالاستيلاء، فللقصد فيه تأثير، وسنوضح هذا في فصلٍ معقودٍ في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى. ثم ما يكون مغنوماً، فهو مخموس لا محالة.
وأما المسروق، فمقصودٌ بالتملك في عينه، فيثبت فيه ملك السرّاق، والأصح أنه غير مخموس، وسبيل الأخذ على هذا الوجه من أموال الكفار كسبيل الاصطياد، وما في معناه من الجهات التي يُقصد الملك فيها باليد.
ومن أصحابنا من قال: المأخوذ على جهة السرقة مخموس كالغنيمة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ولكن حكاه شيخي، وكان يقول: يتميز المسروق عن المغنوم
__________
(1) ر. المختصر: 5/187.
(2) في الأصل: " وكذلك ".(17/487)
بتأكد الملك في المسروق كما (1) استقرت اليد عليه، حتى لو أراد السارق الإعراض عنه، لم يسقط حقه، بخلاف المغانم. ولعلنا نعيد هذا في الفصل المعقود في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى.
وأما المظفور به من غير قتال، فهو على ما تقدّم التفصيل فيه، وهو متميز عن المسروق من حيث إن المسروق حصله السارق بيده، وإن لم يكن قتال، ويده أقوى من يد الغانم؛ فإنها مقصودة. وذلك ما أردنا أن نبين.
11380- ثم ذكر الشافعي رحمه الله فصلاً في السرقة من الغنيمة، وهذا قد قدّمنا أصله، ومعظم ما يتفرع عليه في كتاب السرقة عند ذكرنا السرقة من المال المشترك، والأخذ من الأموال العامة، وفي هذا الفصل زوائد هينة، ولكنها متعلقة بحقيقة ملك الغانمين، فأخرتها إلى ذلك الفصل.
ثم ذكر إحياء الأرض الموات في بلاد الحرب، وقد قدّمناه مستقصى في إحياء الموات.
11381- وقال: " ما فعله المسلمون بعضهم ببعض في دار الحرب لزمهم حكمه ... إلى آخره " (2) .
قصد بهذا الفصل الرّد على أبي حنيفة (3) في مصيره إلى أن من قارف من المسلمين موجبَ حدّ في دار الحرب، لم يلزمه الحد؛ فإن الشافعي من مذهبه أن أحكام الله تعالى على المسلمين جاريةٌ في دار الحرب جريانَها في دار الإسلام، والحدود تجب على الذين يقترفون موجباتها، وكذلك القول في العقوبات التي يستحقها الآدميون كالقصاص، وحدّ القذف، ومما أجراه الردّ عليه في قوله: " من أسلم، ولم يهاجر، فقتله مسلم مع العلم بإسلامه عمداً، فلا قصاص عليه " (4) .
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) ر. المختصر: 5/188
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/473 مسألة 1627. البحر الرائق: 5/18، تبيين الحقائق 3/182.
(4) ر. الجامع الصغير: ص 314، مختصر اختلاف العلماء: 3/477 مسألة 1631، الغرة=(17/488)
ولا فرق في المغارم والعقوبات وقواعد التكليف بين الباب والباب، وكيف يستحسن الإنسانُ المصير إلى أن الصائرين إلى دار الحرب من دار الإسلام تنحلّ عنهم عُرى أحكام الإسلام، ولا يلتزمون منها ما يُلزِمُه أهلَ الحرب.
واختلف نص الشافعي في أن الإمام هل يقيم الحد على من استوجبه من المسلمين في دار الحرب، فاضطرب أئمتنا، فقال قائلون: في كراهة ذلك قولان، ولا أحد يصير إلى التحريم.
وقال قائلون: النصان منزلان على حالين، فإن كان لا يخاف افتناناً، أقام الحد، وإن خاف فتنة، فلا نؤثر إقامةَ الحد، وذلك بأن يتداخل المحدود مغيظةٌ، وقد تكون سبب انقلابه، وقد يكون شريفاً في قومه، فيحملهم ما يجرى على سيدهم على الانفلال (1) ، فالنهي عن الإقامة محمول على مثل هذه الصورة. وإن ظهر وقوع ما أشرنا إليه، وغلب على الظنّ كونُه (2) ، فالظاهر عندي، أنه يجب اجتنابه، وحد الكراهية لا ينتهي إلى المباح الذي وصفناه، ولكن إن كان التوقع على ندور، أو لم يكن غالباً في الظن، فهذا مظنة الكراهية، وإن غلب وظهر، فالأوجه الاجتناب.
ثم ذكر الشافعي رحمه الله كلاماً في الذين لم تبلغهم الدعوة إذا انتهينا إليهم (3) .
وهذا مما قدمته على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الديات، عند ذكري أبدال نفوس أهل الملل وأقدار دياتهم.
***
__________
=المنيفة: ص 174، طريقة الخلاف: ص 241 مسألة 97، إيثار الإنصاف: ص 244.
(1) الانفلال: الانهزام. من انفلّ القوم أو الجند: أي انهزموا (المعجم) .
(2) كونه: أي وجوده: كان هنا تامة.
(3) ر. المختصر: 5/188.(17/489)
باب ما أحرزه المشركون من أموال المسلمين
11382- صدّر الشافعي الباب بالمسألة المشهورة في الخلاف مع أبي حنيفة، وهي إذا استولى المشركون على أموال المسلمين، وأحرزوها بدار الحرب (1) ، فمذهبنا أنها باقية على ملك مالكها من المسلمين، فلا يملكها المشركون بالاستيلاء عليها، ومهما (2) وقع الظفر بها، فهي مردودة على ملاكها، ثم إن وقعت في أيدي الغانمين من المسلمين، فإن تبينا قبل القسمة، فالخطب يسير، فتردّ، وإن كان بعد القسمة، وسهل نقض القسمة، نقضناها، ورددنا الأعيان على أصحابها، وانتحينا القسمة بعد ردها.
وإن لم يكن نقضُ القسمة ممكناً، فالوجه استرداد تلك الأعيان من أيدي من وقعت في أيديهم، ثم يعوِّض الإمامُ من استُردّت العين منه من بيت المال، والخلاف في المحلّ الذي يخرج منه مثل ذلك، لا يجرى هاهنا حسب جريانه في الرضخ والمغارم التي تقع قبل القسمة، فالوجه أن يُغرم من المال العام، وهو مال المصالح. فأما الرجوع على الغانمين -وقد تبدّدوا- متعذّر (3) ، وجهات المصالح متسعة، والمسألة مشهورة مع أبي حنيفة (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/189.
(2) ومهما: بمعنى: وإذا.
(3) متعذر: جواب أما بدون الفاء.
(4) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 360، مسألة: 239، طريقة الخلاف: 239 مسألة: 96.(17/490)
فصل
قال: " وإذا دخل الحربي إلينا بأمان، فأودع وباع ... إلى آخره " (1) .
11383- إذا دخل الحربي دار الإسلام، وأودع عندنا ودائعَ، وبايع الناس، وثبت له قروضٌ وأثمان في الذمم، ثم إنه التحق بدار الحرب ناقضاً عهده، أو خرج إليه بإذن الإمام، أو لم ينقض عهده، ولكن خرج لشغلٍ ليقضيه، فإن خرج غيرَ ناقضٍ عهدَه، وترك أمواله، فلا شك أن تبقى الأموال في أمانه في زمان حياته، وإن مات، فسنذكر ذلك بعدُ في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
وإن خرج إلى دار الحرب ناقضاً عهده، فقد ذكر الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب ثلاثةَ أوجه في الأموال التي خلفها: أحد الوجوه- أنه لا يُنقض الأمانُ في أمواله، ما دام حياً، وربما كان يقطع شيخي بهذا الوجه، ووجهه أنه يثبت لماله حكم الأمان، كما ثبت له، ثم انتقض الأمان في حقه بالالتحاق بدار الحرب على قصد نبذ العهد، فنحكم في الأموال الباقية عندنا بالبقاء على حكم الأمان.
والثاني - ينتقض العهد في الأموال التي خلفها؛ فإن المال اكتسب الأمان من جهة المالك، فإذا لم يبق للمالك عهد وأمان، لم يستقل المال بحكم الأمان.
والوجه الثالث - أنه ينظر، فإن لم يَعقِد للمال أماناً على حياله، وإنما عَقَد الأمان لنفسه، ثم تعدى حكمُ الأمان إلى ماله، فإذا انتقض العهد في نفسه، انتقض العهد في ماله؛ فإنه ثبت تابعاً، فزال بانقطاع المتبوع وإن ثبت الأمانُ للمال مقصوداً، كما أثبته لنفسه، فإذا انتقض العهد في نفسه لم ينتقض العهد في ماله، والأولان يعممان في النفي والإثبات، ولا يفصلان بين أن يجري الأمان للمال مقصوداً وبين أن يثبت تبعاً. وهذه الأوجه الثلاثة يفرع عليها الحياة، وحكم الممات.
11384- ونبدأ بتفصيل الحكم في الحياة، فإن قلنا: الأمان باقٍ للمال، فلا
__________
(1) ر. المختصر: 5/189.(17/491)
نتعرض لماله، ولو دخل ديار الإسلام [واستردّ] (1) أمواله، كان له ذلك، ولم يجز التعرض له، وإن لم نجدد له عهداً، فماله هاهنا سببُ تَسلُّطِه على دخول دار الإسلام، وهو بمثابة ما لو دخل كافرٌ دارَ الإسلام ليسمع الذكر، ويبحثَ عن الدين، ويتقبَّله إن ظهر له، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} [التوبة: 6] ، فقال العلماء: ليس المراد أن يُعقَد له أمانٌ ثم يدخل، ولكن قصدُه هذا يؤمنه، وهو في أمان الله تعالى، ومقصود الآية إعلامُنا أنه مؤمّن. وكذلك لو دخل كافر ديار الإسلام رسولاً، فتصدّيه للرسالة يؤمِّنه، وإن لم يُعقد له أمانٌ، كذلك عود الحربي لأجل أمواله سائغ من غير تجديد أمان.
ثم قال الأئمة: ينبغي أن يعجل تحصيل أغراضه، ولا يعرّج على أمرٍ. وإن زاد على الحد الذي ذكرناه، تصدى للقتل والأسر.
وإن قلنا: لا أمان لماله، فهو مأخوذ فيئاً؛ فإنه مال كافرٍ مظفور به من غير إيجاف خيل وركاب، فالتحق بالفيء.
وهذا الطرف من الفصل فيه أدنى التباس. ونحن نفصله ونكشفه، فنقول: إذا أراد المستأمَن أن ينبذ إلينا العهد، فلا شك أنا نُبلغه المأمنَ، ولا نتعرض لأمواله التي يستصحبها؛ فإنه في علقة من الأمان بها استمساكه إلى أن ينتهي إلى مأمنه، فإذا استصحب أمواله، فحكمها حكم نفسه، وإذا التحق بدار الحرب، وخلّف عندنا أموالاً، ففيها الخلاف، ولو فارق الأموال المخلّفة، ولم يستصحبها ولم يلتحق بعدُ بالمأمن، فكيف سبيل أمواله المخلّفة؟ الوجه عندي أنها في أمان، فإن مالكها بعدُ في أمان، وإنما التردد إذا انقضت عُلقةُ الأمان في حقه بأن التحق بدار الحرب.
ويجوز أن يقال على بعدٍ: إذا فارق الدار، وانقطع عن الأموال، يجري الخلاف، بخلاف الأموال التي في صحبته؛ فإن من ينبذ إلينا العهد، وإن كنا نبلغه المأمن، فهو من وجهٍ خارج من الأمان؛ إذ لو أراد أن يرجع، ويتوطن من غير أمانٍ جديد، لم يكن له ذلك، فكأنّ ما يُطلَقُ من الأمان، يُبَذْرِقه (2) إلى دار الحرب.
__________
(1) في الأصل: " استردّ ".
(2) يبذرقه: يحرسه: فالبذرقة: الجماعة تتقدم القافلة للحراسة. قيل: معربة، وقيل: مولّدة.=(17/492)
ومما تجب الإحاطة به، فيما أَبهم الأصحابُ: إذا عاد بجميع ماله على الوجه الذي نقول فيه: يبقى الأمان في المال، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك المالَ، أماناً له يرجع إليه، ويأخذ البعض، ويُبقي البعض، ويتردّد في ديار الإسلام من غير أمانٍ يتجدد، ولو فعل ذلك، امتدت أيدي المسلمين إليه. نعم، لو دخل ولم يستمكن من استرداد الأموال، وانقلب ثم عاد، فلا بأس عليه. والغرض أنه يقتصر على قدر الحاجة، في استرداد الأموال.
فكل ما ذكرناه تفريع الحكم في حالة الحياة.
11385- فأما إذا خلّف عندنا أموالاً، ولحق بدار الحرب، ومات في دار الحرب، فإن لم ينقض العهد في خروجه وطروقه، وإنما خرج لبعض وطره في شغلٍ، ثم يعود، فلا شك أن ماله في أمان ما دام حياً، فهاذا مات، فهل يصرف إلى ورثته؟ ظاهرُ المذهب أنه مصروف إلى ورثته كما لو مات هاهنا في العهد على أمواله؛ فإن أمواله مردودة إلى ورثته، وإن كانوا حربيين لا عهد لهم، ولا أمان بيننا وبينهم.
هذا هو المذهب.
فأما إذا كان التحاقه بدار الحرب بعد نبذ العهد إلينا، فإن قلنا: أموالُه عندنا [فَيْء] (1) في حياته، فلا يخفى أنها تكون فيئاً بعد وفاته، وإذا كنا لا نصرفها إليه وهو حي، فلا [شك] (2) أنا لا نصرفها إلى ورثته بعد موته.
وإن قلنا: إن أمواله مردودة عليه في حياته، فإذا مات، وقد كان نبذ العهد إلينا، ففي أمواله حيث انتهى التفريع إليه قولان في الأصل: أحدهما - أنها تصرف إلى ورثته كما كانت تصرف إليه في حياته.
والقول الثاني - أنها تصير بعد موته فيئاً؛ وذلك أنا كنا نعلّق أمان ماله بعُلقة أمانه على معنى أنه يعود، فيأخذها. فإذا مات وقد كان نبذ إلينا العهد في الحياة، وانضم
__________
=وبعضهم يقول: بالذال، وبعضهم يقول: بالزاي. (المصباح) .
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " يشكل ".(17/493)
إليه مماته وفواتُه؛ فيضعف أثر الأمان في حكم المال، وقد أطلقنا هذين القولين الآن، وسنذكر -إن شاء الله تعالى- في أثناء الفصل وجهَ مأْخذ القولين، وتصرّفَ الأصحاب.
وقال قائلون: إذا خرج المعاهد إلى دار الحرب، ولم ينبذ عهده، ولكن أراد قضاء وطرٍ وعودةٍ بعدُ، فإنه إذا مات في دار الحرب، ففي أمواله التي عندنا قولان، كالقولين فيه إذا نبذ العهد، والتحق، فانتظم قولان، في الذين نبذوا، وطريقان في الذي خرج لشغل، ثم اتفق موته في دار الحرب.
11386- ومما يجب الاهتمام به في مسائلِ هذا الفصل أن الحربي إذا أمّناه، وأوح عندنا أموالاً -كما ذكرناه- ثم خلّف الأموال، ونبذ العهد، والتحق بدار الحرب، وسُبي، فضرب الرق عليه، وعاد إلى أيدي المسلمين رقيقاً، فكيف حكم الأموال التي كان أودعها عندنا قبل الالتحاق وقبل الاسترقاق؟ فنذكر في هذه الصورة حكمَ ماله في حياته، وهو في نفسه مسترق، ثم نذكر حكم ماله إذا مات رقيقاً.
فأما تفصيل القول في أمواله حالة حياته، فنقول: إن لم نر لأمواله أماناً إذا التحق بدار الحرب، فلا إشكال في أن أمواله المخلَّفة فينا فيءٌ. وإن فرّعنا على أنه يبقى لأمواله حكمُ الأمان إذا التحق بدار الحرب، ويبقى في قضية الأمان في حياة ذلك الملتحق النابذ للعهد، فهذا ما دام على نعت المالكين، فإذا وقع في الأسر، ورفَقْناه، فالذي يجب تحصيله ونقله -على قولنا: إن أمان المال يبقى لو لم نسترقّه- قولان: أحدهما - أنا نقف ماله، وننتظر عاقبةَ أمره، فإن مات رقيقاً، وقعت المسألة في القسم الذي التزمنا بيانه، وهو أن يموت رقيقاً، وإن عَتَق، رُدّ المال إليه، وجعلنا طريان الاسترقاق مع اتفاق العتاق بمثابة تماديه في نقض العهد، فإذا زال، عاد الأمر إلى ردّ المال إليه، فهذا قولٌ، وحاصله وقفٌ. وله عاقبتان بينا إحداهما، وأجلنا الأخرى.
والقول الثاني - أنه إذا استُرق، فالأموال التي خلّفها فيءٌ؛ فإنه انضم إلى نبذ العهد خروجُه عن كونه مالكاً، فوهى الأمان في المال وانبتَّ، وإن كان يبقى لو بقي مالكاً، وهو قولٌ متجه منقاس.(17/494)
فأما إذا استُرِق، ومات رقيقاً، فنقول: أولاً- لا مطمع لسيده في ملك الأموال، ولا تعلق له فيها، والمنصوص عليه في هذه الصورة أنها تصير فيئاً. هذا هو النص، وليس كما لو مات حراً بعد نبذ العهد؛ فإن الشافعي نص على قولين في أنا هل نصرف الأموال إلى الورثة، فأجرى قولين، ثم قطع هاهنا بأن تلك الأموال فيء، والفرق متضح؛ فإن التوريث ثَمَّ إن قلنا به، فهو توريث من حرّ، وهاهنا لو صرفنا المال إلى الورثة، لكنا صرفناه إليهم توريثاً عن رقيق، وهو غير جارٍ على القاعدة، فاتضح الفرق.
11387- ولكنْ للشافعي نصٌّ في مسألة تساوي هذه، والنص على المخالفة، وتلك المسألة مقصودة في نفسها، وقد أجلناها من كتاب الجراح إلى هذا الفصل، وقلّما يوجد في المعضلات مثلُها؛ فإنه يشترك فيها -كما سنُفصّلها- أصول متعارضة.
فالرأي أن نأتي بها ونبالغ في كشفها، وتنزيل فروعها على أصولها، ثم إذا لاحت المسألةُ، انعطفنا بعدها على غرضنا من الأموال التي استُرق مالكها.
وصورة المسألة أن يجني مسلمٌ أو ذمي على ذمي، فيقطع يديه مثلاً، ثم يلتحق الذميّ المجني عليه بدار الحرب، ويصير حرباً لنا، ثم يقع في الأسر، ويرى صاحب الأمر أن يضرب عليه الرق؛ فإذا رَقَّ -وتعيّن مالكه ضرْباً للمثل- والجراحة القديمة به، وسرايتها دائمة، فما الذي يجب على الجاني؟ وما يصرف إلى السيد؟ وإن فرض فاضل، فإلى من يصرف؟
فالذي يقتضيه الترتيب أن نذكر أولاً ما يلتزمه الجاني، ثم نذكر من يصرف إليه، والقول فيما يلتزمه الجاني يستدعي تجديد العهد بتراجم الأصول؛ فإن المسألة تلتفت إليها.
منها أن من قطع يدي عبدٍ قيمته مائتان من الإبل، ثم عتق ومات، فلا خلاف أن الجاني لا يلتزم أكثر من الدية نظراً إلى المآل، وهذا من الأصول الممهَّدة، وهو النظر إلى المآل في المقدار.
هذا مذهب الشافعي وأصحابه.(17/495)
وقال المزني فيما نقله عنه الناقلون: يجب على الجاني أرش اليدين، مائتان من الإبل، وقد نبهنا على هذا في الجراح، وذكرنا غائلتَه، وغرضُنا الآن الاقتصارُ على تراجم.
ومن الأصول المقدمة أن من قطع يدي مسلم ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات مرتدّاً، فالمذهب أنه لا يجب على الجاني إلا ديةٌ واحدة.
وقال الإصطخري: يجب عليه أروش الأطراف، وهذا مما مضى مبيَّناً.
ومما يُحتاج إليه في المسألة التي انتهينا إليها أن من جرح مسلماً، فارتد المجروح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات بتلك الجراحة مسلماً، ففي وجوب القصاص على الجاني تردّدٌ؛ فإن أوجبناه، فلا شك أن الدية تكمّل إذا آل الأمر إليها، وإن لم نوجب القصاص، فالمنصوص عليه أنه يجب تمام الدية، وخرّج ابن سريج قولاً أنه يجب ثلثا الدية، ويهدر ثلثها، فوزَّع الدية على حالتي الضمان، وحالة الإهدار، المتخللة، وذكر بعض الأصحاب قولاً آخر أنا نهدر نصفاً، ونوجب نصفاً.
11388- فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، عدنا إلى مسألتنا التي صورناها. وهي: إذا جرح مسلم ذمياً، فنقض المجني عليه العهدَ، والتحق بدار الحرب، والسرايةُ باقية، فاستُرِق، ومات في يد مالك رقّه بتلك السراية، فحاصل ما نقله الأصحاب فيما يجب على الجاني ثلاثةُ أقوال: الأولان منهما منتظمان: أحدهما - أن الجاني يلتزم أقلَّ الأمرين من أرش الجناية، أو قيمة الرقيق، ونقدر أرش الجراحة دية يهودي، والرجوع في القيمة إلى السوق، فيجب على هذا القولِ على الجاني الأقلُّ من الأرش أو القيمة. والقول الثاني - أنه يجب القيمة بالغةً ما بلغت، ولا نظر إلى الأرش.
وحكى القاضي، والإمام والدي قولاً ثالثاً، أن الجاني يلتزم أرش الجناية بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى مقدار القيمة. وهذا أضعف الأقوال توجيهاً.
[توجيه الأقوال] (1) :
11389- من قال: يجب أقلُّ الأمرين، احتج بأن قال: إن كانت القيمةُ أقلَّ،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(17/496)
فالاقتصار عليها خارج على اعتبار المآل، وهو من أصول المذهب، وقد صارت الجراح نقصاً، وإن كان الأرشُ أقلَّ، فلا وجه لإيجاب زائدٍ؛ لأن المجني عليه بعد الجناية صار مباحاً، والرق نتيجة الإباحة، ومن استحق الرقَّ، فاستحقاقه طارئٌ على إباحةٍ قاطعةٍ للعهد السابق، فيبعد أن يضمن الجارح قبل الإباحة مزيداً بسبب رقٍّ ترتب على الإباحة، وحق من يملك مباحاً أن يكتفي بما يصادفه. هذا توجيه هذا القول.
ومن أوجب القيمة، استمسك باعتبار المآل، وقال للقائل الأول: إنك تنظر إلى القيمة إذا كانت أقلَّ. فإذا توجه النظرُ إليها، تعين اعتبارها، وكان الرق بعد الحرية في العاقبة كالعتق فيه إذا جنى على عبدٍ ثم عتق ومات.
وأما من قال: يجب أرش الجناية بالغاً ما بلغ، فليس لهذا اتجاه إلا على المذهب الذي حكيناه للإصطخري فيه إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات، فإنه يوجب أرش الجراحات، وإن زادت على الدية؛ مصيراً إلى أن الإباحة بعد الجناية، تمنع اعتبار المآل؛ من حيث لو اعتبر المآل، للزم الإهدار، فعلى هذا يتجه إيجاب أرش الجراحات بالغاً ما بلغ.
فإن قيل: كيف وجه التشبيه؟ والذي ارتد في مسألة الإصطخري مات مرتداً، والمجروح في مسألتنا مات رقيقاً مضموناً؛ قلنا: وإن كان كذلك، فالرق مرتب على الإباحة وهو نتيجة الإباحة.
11390- وبقي وراء الأقوال مباحثة وإشكال [متلقى] (1) من أصلٍ من الأصول التي ذكرناها، وهو أن من جرح مسلماَّ، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، ومات في الجراحة، فإن قلنا: تجب الدية الكاملة، فلا إشكال في مسألتنا، وإن رأينا على التخريج أن نوجب بعض الدية، ونهدر بعضها، لمكان الإهدار الطارئ، فعلى هذا يجب إنعام النظر في مسألتنا، من جهة أن سراية الجراحة بقيت، وهو حر ثم استرق بعدها، فحقُّ تلك السراية ألا يُضمن موجبها، فنقول: يستعمل هذا الأصل على
__________
(1) في الأصل: " ملتقى ".(17/497)
الأقوال، فإن قلنا: الاعتبار بالقيمة، فلا نظر إلى أرش الجناية، فعلى هذا يخرج أن نقول: يجب ثلثا القيمة، أو نصف القيمة، كما ذكرنا هذا في مسألة طريان الرّدة.
وإن قلنا: الواجب على الجاني أرش الجراحة بالغاً ما بلغ، فلا يعترض هذا الإشكال على هذا القول، ولا نظر إلى الإهدار بعد الجراحة، ولا نظر إلى المآل بحال.
وإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من أرش الجراحة أو القيمة، فالوجه أن نقول: على الجاني أقلُّ الأمرين: من الأرش أو نصفُ القيمة في قولٍ، أو ثلثي القيمة في قول، فنعتبر المناسبة في استخراج الأقل على النسبة التي يقتضيها التخريج في القيمة إذا قلنا: الاعتبار بالقيمة.
هذا نجاز القول فيما يلتزمه الجاني.
11391- والكلام وراء هذا في أن ما يلتزمه الجاني إلى من يُصرف؟ نرسل في هذا ما ذكره المحققون، ثم نذكر مستدركا قريباً بيّناً: فإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من الأرش أو القيمة، فهو مصروف إلى ورثة المسترَق، هكذا نصّ الشافعي؛ فإن الأرش إن كان أقل، فقد جرى في حالة الحرية قبل الإباحة، وتولّج بينها وبين الرق إباحة فاصلة، فالأرش مصروف إلى الورثة، وإن كانت القيمة أقل، فهذا سمّي قيمة، وهو في التحقيق بعضٌ من الأرش، وكأن الأرشَ نَقَصَ بنظرتنا إلى المآل، فإذا كنا نصرف الأرشَ إلى الورثة بالتقدير الأول، وهو مثل الجناية، فالناقص أولى بالصرف إليه.
ووراء هذا غائلة، ولكن بيان المسألة عند نجازها.
وإن قلنا: الواجب قيمة المسترق بالغة ما بلغت، فمقدار الأرش من القيمة يصرف إلى الورثة؛ فإن ذلك ثبت بسبب الجناية، في الحرية، وأما الفاضل من القيمة، فإنه مصروف إلى المولى، وإن كانت القيمة مثلَ الأرش أو أقلَّ منه، فهي بجملتها مصروفة إلى الورثة، وإن قلنا: يجب الأرش بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى القيمة، فالوجه القطع بأنه مصروف إلى الورثة، لا حظ للسيد فيه.(17/498)
وقال القاضي: يصرف مقدار القيمة من الأرش إلى السيد، ويصرف الفاضل إن فضل شيء إلى الورثة، وهذا غلطٌ صريح؛ فإنا إذا أوجبنا الأرش بالغاً ما بلغ، فلسنا نلتفت إلى القيمة، ولكن صاحب هذا القول يعتقد أن طريان نقض العهد يمنع اعتبار المآل؛ فإن الرق وإن أحدث ضماناً، فهو مترتب على الإباحة كما سبق تقديره، فإذا كان مقتضى هذا القول قطعَ النظر عما بعد الجناية، وحق مستحق الرق يتعلّق بالرق، فإنا إذا لم نعتبر القيمة، ولم نلتفت إليها، فيستحيل صرف شيء من الأرش إلى السيد، بل يتعين صرف الأرش بكماله إلى الورثة على موجب النص.
فالوجه أن نقول: إن حكمنا بإيجاب الأرش، فهو مصروف إلى الورثة على مقتضى النص، وإن قلنا: الواجب القيمة بالغة ما بلغت، فإن كانت قدرَ الأرش، أو أقلَّ منه، فهو مصروف إلى الورثة، وإن كانت أكثر من قدر الأرش، فمقدار الأرش مصروف إلى الورثة، والفاضل مصروف إلى السيد.
هذا هو التفريع القويم على الأقوال.
وعلينا بقايا في هذه المسألة.
11392- ولكن حان أن نرجع من هذه المسألة إلى ما كنا فيه قبل الخوض في هذه من أحكام الأموال التي أودعها ثم استرِق: ظاهر النص أن تلك الأموال فَيْءٌ إذا مات المسترَق على رقه، وقبل أن يموت فيه قولان. هذا هو النص في الأموال.
ونصَّ في مسألة الجراحة أن الواجب على الجاني مصروفٌ إلى ورثة المسترَق أو بعض ما يجب، كما فصلنا في التفريع على الأقوال الثلاثة في مسألة الجناية، ولا فرق؛ فإن المجروح مات رقيقاً، والمسترَق الذي كانت له أموالاً مات رقيقاً، والتوارث من الرقيق بعيد، غير جارٍ على القولين في المواريث، وإن أسندنا الإرثَ إلى ما قبل جريان الرق، كان هذا توريثاً من حي، ويستوي فيما نبهنا عليه أرش الجراحة والمال.
فقال أصحابنا: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج -إذا اتصل (1) -: أحد
__________
(1) كذا. ولعل في ذكر عبارة الغزالي في البسيط مزيدَ توضيح، قال: " فإن قيل: كيف نصَّ=(17/499)
القولين- أن الأموال والأرش على ما تقدم التفصيل فيءٌ، فإنها أموالاً متلقاة من كافر من غير قتال، وقد عسر تقدير الميراث؛ من جهة أن التوريث من الرقيق غير ممكن، والتوريث في حالة الحياة، لا سبيل إليه، وهذا عندي أقيس القولين.
والقول الثاني - أن الأموال مصروفة إلى الورثة، وكذلك الأرش على ما فصلنا التفريع على الأقوال الثلاثة، ووجهه أن الأموال كانت مبقّاة فينا (1) على حكم أمانٍ ونقضُ مالكها العهد لم يُبطل الأمانَ في المال؛ فإن هذه التفريعات بجملتها مجراة على أن حكم الأمان يبقى في الأموال، ثم لو مات الحربي عليها، فقد ذكرنا قولين في أنه هل يورث، وصححنا التوريث منه، فالاسترقاق ينبغي ألا يحُلَّ (2) أمانَ المال، كما لم يحُلّ نبذُ العهد أمانَ المال، وإذا لم يحُل أمان المال، وتعيّن ألا يُصرفَ إلى جهة الفيء، ثم لا مسلك أخص به من مسلك التوريث، فاقتضى مجموعُ ذلك الصرفَ إلى الورثة.
فأما امتناع التوريث من الرقيق، فذاك من تفاصيل شرعنا، والكفار لا يتعبدون بتفاصيل الشرع إيقاعاً وابتداءً، ومن زعم أنهم مخاطبون عَنَى بذلك ربطَ المأثم بهم في ردّهم الشرع المشتمل على تفاصيل الأحكام، ثم يتعرضون لاستيجاب العقاب على كلّ محرّمٍ في الشرع اقتحموه، وكل واجب تركوه، فأما ربط ما يتعلق بهم بقواعد الشرع وشرائطها، فلا سبيل إلى التزامها، فقد جرى القولان في الأموال، والأروش الذي كنا نصرفه في مسألة الجناية إلى الورثة.
__________
=الشافعي على الصرف إلى الوارث، وقد مات رقيقاً، ونص في وديعة المستأمنَ إذا مات رقيقاً أنه فيء لعسر التوريث من الرقيق؟ قلنا: من ذلك قال الأصحاب: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج من غير فرق: أحدهما - أن المال في المسألتين مصروف إلى الفيء؛ فإن التوريث من الرقيق بعيد، وأبعد منه التوريث من الحي لو أسندنا الاستحقاق إلى ما قبل الموت.
والثاني - أنه للورثة، إذ جعلُه فيئاً نقضٌ لحكم الأمان، فلا بدّ من بقاء الأمان، ومنع التوريث من الرقيق حكمُ شرعِنا، فلا ننقض أمان الكفار بهذا العذر، وهم لا يؤاخذون بحكم شرعنا في الحال ". (ر. البسيط: 5/ورقة: 172 يمين) .
(1) فينا: أي في ديار الإسلام.
(2) ألا يحُل أمان المال: أي ألا يبطل أمان المال.(17/500)
11393- فإن قلنا: الأموال والأروش مصروفة إلى مصارف الفيء، فلا كلام.
وإن قلنا: هي مصروفة إلى الورثة، ففي طريق الصرف إلى الورثة تردد عندي، يجوز أن يقال: لا يصرف إليهم إرثاً، وإنما يصرف من حيث لا يؤخذ منهم، فالمال في أمانٍ غير منحلّ. وهذا يناظر ما إذا قلنا: من مات وبعضه حر وبعضه رقيق، فالأموال التي خلصت له بسبب الحرية مصروفة إلى مالك الرق في بعضه، وليس هذا توريثاً، وإنما هو صرف مال إلى أخص الجهات، حيث يعسر إجراء قوانين الميراث، ولذلك أقمنا السيد مقام العبد المقذوف بعد موته في طلب التعزير، وليس هذا من التوريث، ولكنه استمساك بأخص الطرق.
ولو استدّ نظر الناظر، استبان له أن التوريث بابٌ من التخصيص أيضاً؛ فإن الأموال إذا زال عنها مالكها المختص، ولا سبيل إلى تعطيلها، فالوجه إقامة من يختص بالميت مقامه في نسب أو بسبب كما تقتضيه قواعد الفرائض، هذا مسلكٌ.
ويجوز أن يقال: هذا توريث. وقد صرح بذلك النص، وأطلقه الأصحاب، ثم على هذا تردد سيأتي شرحنا عليه، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: ليس ما ذكرناه توريثاً، فلا محاشاة من المصير إلى أن المال يصرف إلى الأخصِّين يوم الموت، وإن قلنا: هذا توريث، فينقدح فيه وجهان: أحدهما - أن نقول: نتبين استناد استحقاق الورثة إلى ما قبل جريان الرق، فإن قيل: هذا توريث من حيٍّ. قلنا: هو كذلك. والعبارة القريبة من النظم أن نقول: هذا توريث يناظر مسألةً ذكرناها في الجراح، وهي أن من قطع يد مسلم ثم ارتد المجني عليه ومات مرتدّاً، فقد قال الشافعي: لوليه المسلم القصاصُ في الطرف، فهذا في التحقيق خلافةٌ أثبتها بين المسلم وبين المجني عليه لمّا كان مسلماً، فإنه لو اعتبر حالة الممات، لكان مورِّثاً مسلماً من كافر، ولا يرث المسلم المرتد عندنا.
والذي يحقق ما ذكرناه أن من استُرق ومات، فقد زالت أملاكه بالرق، كما يزول ملك الحي بالموت، فكان الرق المتقدم على موته في معنى الموت، فأثبتنا الخلافة متصلة بمُزيل الملك، وإن لم تكن متصلة بالموت نفسه.(17/501)
11394- وقد أجرينا في أصول هذه المسألة أموراً بديعة من أدناها: أنا قلنا: من جنى على عبدٍ ثم عَتَق، فالواجب الدية، ويصرف قسط منها، أو كلُّها إلى من كان مالكاً قبل الموت، وإن كان مستحق الرق [لا يستحق] (1) من بدل الحرية شيئاً، والدية بدل الحر.
ثم إنا خصصنا ما ذكرناه من الخلافة بحال الموت، لأن الرقيق، وإن لم يكن مالكاً، فالملك له متوقع، ولا إرث ما لم ينقطع التوقع.
هذا بيان هذه المسألة.
فإن قيل: أين يقع التوريث من الرقيق من صرف شيء من الدية إلى من كان مالكاً في مسألة طريان العتق؟
قلنا: شرط استحقاق الورثة حريةُ من يُتلقى الاستحقاق منه، كما أن شرط استحقاق المالك رقُّ المجني عليه، وقد تقدم الرقُّ في مسألة طريان العتق، ولم نجد سبيلاً إلى إبطال حقّ مُستحِق الرق، وإن زال الرق بالعتق؛ لأن العتق لا ينعطف على ما فات بالجناية. وفي مسألتنا ما فات في زمن الحرية أو مُلك في زمن الحرية، فالرق لا ينعطف عليه. والحكم السابق لا سبيل إلى إبطاله بما يَلْحق، على ما قررناه.
فالتقت المسألتان في التحقيق. وإن تقدّمت الحرية في أحدهما، وتأخرت في الأخرى، فالمسألتان مفترقتان من الصورة مجتمعتان في الحقيقة.
ومما كان يذكر شيخُنا متصلاً بهذا الفصل أنه لو أعتق الذمي عبداً، وثبت له الولاء عليه، ثم نقض العهدَ، والتحق بدار الحرب، فوقع في السبي، فأرققناه. فإن مات رقيقاً، فلا حظ للسيد في ولاء مواليه ومعتَقيه إذا كان ذمّياً، كما لاحظ له في المال، وهو لما رَقَّ خرج عن أن يكون مستحِقاً للولاء، فحكم ولاء المعتقين كحكم الأموال.
وقد ذكرنا مصارف أمواله.
وهذا الكلام مفهوم في نفسه. ولكن ليس على الحد الذي أُحبه، فإن غاية البيان لا يتأتى في الوَلاء إلا بعد الإحاطة بأصله، وقد تركت وخلَّفت فيما تقدّم غوامضَ من أحكام الوَلاء، وأنا أرجو من الله تعالى أن آتي بقواعد الوَلاء في بابٍ من كتاب العتق
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(17/502)
على وجهٍ لا يغادر مشكلة، إن شاء الله عز وجل.
ثم قال: لو أعتق مالكُ المسترَق، فهل ينجرّ الولاء إليه؟ فعلى وجهين. وهذا يستدعي الإحاطة بجر الولاء وموضعه، وسيأتي ذلك كله في موضعه من باب الولاء إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهينا إلى ذلك الباب أعدنا هذه المسائل في الولاء، وتداركنا ما فيها من إبهام، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ومن خرج إلينا منهم مسلماً ... إلى آخره " (1) .
11395- من خرج إلينا مسلماً من الكفار قبل الظفر به، عصم دمه وأحرز ماله ولا فرق بين العقار والمنقول، فلو كانت له أموال في دار الحرب لم نعرض لشيء منها، ولا فَصْل بين مالٍ ومال. فأما الأولاد، فإن كانوا صغاراً ثبت لهم حكم الإسلام تبعاً، وإن كانوا كباراً، فلا يلحقهم من عصمة إسلام أبيهم [شيء] (2) ؛ فإنهم مستقلون، فإن أرادوا العصمة، فليسلموا، والإسلام لا يجري مجرى العهود والمواثيق التي تعقد للواحد مرة والجمع أخرى، وإنما هو اتصافٌ بالدين، ثم مالُ المسلم معصوم كدمه، والمتعلقون به يُعصمون لإسلامهم لا لإسلام من ينتمون إليه.
وهذا على وضوحه يزداد بياناً بأن [نفرّق] (3) بين الإسلام والذمة، فنقول: من عقدنا له الذمة تعدّت قضية الذمة إلى زوجاته وبناته الكفار، كما تتعدى إلى أمواله؛ فإنه بذمته يبتغي أن نُقرّه مع أهليه في دار الإسلام، والبنت الكبيرة لا تقبل الجزية بنفسها، فاندرجت تحت الذمة المعقودة للذمي.
ومن أسلم من الكفار، وله بنت كبيرة حربية، فعصمة إسلام الأب لا تلحقها؛ فإنها متمكنة من الإسلام انفراداً، فلْتُسلم، وهي من طريق التقريب والتشبيه في
__________
(1) ر. مختصر المزني: 5/189.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: " فرّق ".(17/503)
الإسلام تنزل منزلة الابن الكبير في الذمة، فإن الذمّي لا يستتبع بنيه في الذمة، بل إن أرادوا العصمة، فليقبلوا الجزية بأنفسهم. فلما تُصوّر استقلالهم لم يتبعوا في الجزية، والبنت في الاستقلال بالإسلام كالابن، وهذا وإن أطلناه، فهو بينٌ عند الفقيه، لكنا نرى ألاّ نُغفل في تمهيد الأصول جليَّاً ولا خفيّاً.
11396- ولو بدت تباشير الفتح في القلعة التي حاصرناها، فمن أسلم قبل حقيقة الفتح، عصم نفسه وماله، وتعدّت العصمة إلى صغار أولاده، من حيث يلحقهم الإسلام على جهة التبعية. واحتج الشافعي في ذلك بقصة ابني سَعْية (1) ، كانا من بني قريظة، فخرجا مسلمين لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصما بإسلامهما أموالهما وصغار أولادهما، وابنا سَعْية هما: ثعلبة وأُسيد، وسبب إسلامهما معروف (2) .
ولو كان الذي أسلم زوجَةً حربية، فقد قدمنا الخلاف في أن زوجة المسلم هل تُسبى؟ فذلك الخلاف يعود، ولو كان للذي أسلم ولدٌ مجتنّ في بطن حربية، فإن كانت زوجتَه، فقد مضى الكلام فيها، وإن لم يكن عليها زوجية، فهي مسبية مسترقة، والجنين الذي في بطنها، لا يرق، من جهة أن الإسلام لحقه، وهو موصوف بالإسلام، فلا يلحقه السبي والرق، كالمولود المنفصل.
وخالف أبو حنيفة (3) في مسائل مما ذكرناه منها: أنه قال: من أسلم، فماله المنقول لا يغنم، وعقاره يغنم. وقال: لو اشترى مسلمٌ دخل دار الحرب عقاراً، فهو مغنوم، وإن كان مِلكَ المسلم. والجنينُ في بطن الأم يلحقه الرّق عنده إذا سبيت الأم.
__________
(1) سَعْية: بفتح السين وسكون العين، وقيل بضمها، وهو تحريف، وقيل بالنون بدل الياء المفتوحة، قاله الحافظ في تنبيهاته في التلخيص.
(2) الحديث رواه البيهقي في قصة طويلة (ر. السنن الكبرى: 9/114، وانظر التلخيص: 4/206 ح 2250) وراجع الإصابة: 1/33، 49 وفيه: أُسيد كما ذكره الإمام، وقال: " بضم الهمزة، وقيل بفتحها، وقيل أسد " أي بدون ياء كما في التلخيص.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 289، 290، فتح القدير: 5/231، 232، تبيين الحقائق: 3/253، ملتقى الأبحر: 1/645.(17/504)
وحكمُ الذمي، وحكم أمواله الكائنة في دار الحرب سيأتي مستقصىً في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى، وسنذكر أحكام المعاهدَ والفرقَ بينه وبين الذمي في هذه القضايا التي أشرنا إليها.
والإسلام بعد الأسر، ممّا سبق القول فيه في كتاب القَسْم، وبينا نص الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: " إذا أسلموا بعد الإسار رقّوا " وأوضحنا تأويل ذلك، وقد روي أن [عُقيلياً] (1) أُسر، فأسلم بعد الإسار، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو قيلت (2) قبل هذا، لأفلحتَ كل الفلاح " (3) .
فصل
قال الشافعي: " قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عَنْوة ... إلى آخره " (4) .
11397- حقيقة مذهبنا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة مستعداً للقتال لو قوتل؛ ولكنه لم يقاتل، فأمّن أهلَ مكة على جملةٍ، ثم على تفاصيلَ، وأمر بقتل رجالٍ مخصوصين كان عزم على قتلهم، وأمر بقتل القَيْنتين؛ فهذا ما جرى، وقتل خالدُ بنُ الوليد بين الصفا والمروة طائفةً من بني نُفاثة (5) ،
__________
(1) عقيلياً: أي من بني عقيل، وفي الأصل: " عقيلاً "، وهو تصحيف.
(2) في الأصل: " قتلت ". والتصويب من نص الحديث.
(3) حديث " لو قيلت قبل هذا لأفلحت كلّ الفلاح " رواه مسلم وأبو داود والشافعي من حديث عمران بن حُصين (ر. مسلم: النذر، باب لا وفاء لنذر في معصيته ولا فيما لا يملك العبد، ح 1641. أبو داود: الأيمان، باب النذر فيما لا يملك، ح 3316، ترتيب مسند الشافعي 2/404) .
(4) ر. المختصر: 5/190.
(5) قال الشافعي: والذين قاتلوا، وأذن في قتالهم بنو نفاثة قتلة خزاعة (ر. المختصر: 5/190) وبنو نفاثة هم من بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش يوم صلح الحديبية، وبنو نفاثة هؤلاء هم الذين بيتوا خزاعة ناقضين لعهد الحديبية مما كان السبب في انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم لخزاعة، بفتح مكة؛ إذ كانث قريش قد شاركت في نقض العهد والعدوان على=(17/505)
وقيل: كانوا بيتوا خزاعة المستجيرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقع الرضا، ولما رأى بريق السيوف على الميسرة، والمؤمرُ عليها خالد بنُ الوليد، قال: " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد "، وفي الحديث " أنه ودى القتلى من عند آخرهم، حتى ميلغة الكلب " (1) .
فمن قال: دخل مكة عَنوة على معنى أنه مُنع، فقاتل، فليس الأمر كذلك، ومن أراد بدخوله عَنْوة أنه دخلها بعُدّة على هيئة الاستمكان من القهر، فهذا حق لا ينكر، وما جرى من القتال فيه وصفناه. وليس في الخلاف في هذه المسألة كثير فائدة.
والذي جرى الرسم بذكره في أطراف هذه المسألة، القول في عقار مكة.
وعَقارُها وعِراصها المحياة كلها مملوكة، كالدور في سائر البلاد، يصح بيعها، وتنفذ جميع تصرفات الملاك فيها.
ومذهب أبي حنيفة (2) أن بيع عقار مكة مردود، ولهم اضطراب، لا حاجة بنا إلى نقله.
***
__________
=خزاعة. (ر. مغازي الواقدي: 2/612، 782، 783، واللباب في تهذيب الأنساب: 3/319 وفيه بنو نفاثة، وهو بطن من كنانة، ولا منافاة؛ فبنو نفاثة من بكر، وبكر من كنانة) .
(1) خبر قتال خالد يوم فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم " إني أبرأ إليك مما صنع خالد ... " رواه البخاري، والنسائي، وأحمد، والواقدي في المغازي، وابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق، وابن سعد في الطبقات (البخاري: المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، ح 4339، النسائي: آداب القضاء، باب الرد على الحاكم إذا قضى بغير الحق، ح 5407، المسند: 2/151، المغازي للواقدي: 3/881، 882، السيرة لابن هشام 4/72-74، طبقات ابن سعد: 2/148) .
(2) فيما رأيناه في كتب الأحناف فإنّ أبا حنيفة رضي الله عنه لا يرى بأساً ببيع بناء مكة، ويكره بيع أرضها، وكذا إجارة بيوتها في الموسم من الحاج والمعتمر. (ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/66 مسألة: 1146، مختصر الطحاوي: 439، الجامع الصغير: 481، بدائع الصنائع: 5/146، تكملة فتح القدير: 8/495) .(17/506)
باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسمة
قال الشافعي: "إن وقع على جارية من المغنم قبل القسيمة ... إلى آخره" (1) .
11398- مضمون هذا الباب يستدعي تقديمَ القول في أملاك الغانمين في المغنم قبل اقتسامه، ونحن نذكر في ذلك ترتيباً ضابطاً، ثم نفُضُّ عليه مسائلَ الباب. وقد استاق صاحبُ التقريب فصلاً جامعاً على أبلغ وجه في البيان، فقال: إذا غنم الغانمون النساء، ولم يقسموها، فهل يثبت الملك قبل القسمة للغانمين؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يثبت لهم الملكُ حقيقةً قبل القَسْم، وإنما يثبت له (2) حق التملك.
والدليل عليه أن من أعرض منهم، سقط حقه، كما سنصف ذلك، إن شاء الله تعالى، في أثناء الفصل، ولو ملكوا بالاستيلاء، لاستقر ملكهم، كما يستقر ملك المصطاد، والمحتش، والسارق من مال الكفار من غير مطاردة، وقال: فإن الأملاك إنما تنضبط بالجواز في العقود التي تلحقها الخيارات.
والوجه الثاني - أنه يثبت لهم ملكٌ ضعيف، كما يثبت الملك للمشتري في المبيع في زمان الخيار على القول الصحيح؛ فإن سبب الملك الاستيلاء؛ فاستحال أن يثبت السبب، ولا يثبت الملك، وأيضاً، فإن ملك الكفار زال، والأموال المغنومة أملاك محققة، ويبعد على مذهب الشافعي ملك لا مالك له.
والوجه الثالث - أن ملكهم موقوف، فإن سلمت الغنيمة حتى قسمت، تبين لنا أنهم ملكوها لمّا غنموها، وإن لم تتفق القسمة حتى تلفت الغنيمة، أو أعرض من يريد الإعراض، فيتبين لنا أن الغنيمة لم تُملك إن تلفت، وتبين أنه لم يملكها من أعرض
__________
(1) ر. المختصر: 5/190.
(2) الضمير يعود على الغانم.(17/507)
عنها. ووجه هذا: أن الاستيلاء على حكم تجريد القصد [للملك] (1) لا يتحقق في المغانم، لما أوضحناه من أن الغرض من قتال الكفار إعلاءُ دين الله تعالى، والذب عن الملّة، والمغانمُ في حكم التابع؛ فإذا فُرضت القسمة فيها، تبينا حقيقةَ الاستيلاء، وإن فرض تلفٌ أو إعراض، تبيّنا نقيضه. فهذا وجهُ الوقف.
ثم إذا فرعنا على قول الوقف، فقسمت الغنيمة، فالرأي الحق أنا لا نقول: نتبين أن حصة كل واحد من الغانمين كانت له على التعيين قبل القسمة، ولكن معنى التبيّن أنهم إذا اقتسموها، تبيّنا أنهم ملكوا المغنم لما استولَوْا عليها ملكاً شائعاً، وتمييز الحصص يحصل بالقسمة، كما يقسم الورثةُ التركة؛ فإن القسمة تُخَلِّص لكل واحد حصته بالقرعة.
وحكى صاحبُ التقريب وجهاً غريباً مفرعاً على قول الوقف؛ فقال: إذا اقتسم الغانمون، تبيّنا أن كل واحد منهم ملك الحصة التي أصابته عند الاستيلاء على المغنم، وهذا على نهاية البعد، ولكن نقله صاحب التقريب، وفرّع عليه، كما سنبين تفريعه، إن شاء الله تعالى.
ووجه هذا الوجه على بعده أن كل واحد منهم قبل القسمة كان على خِيَرةٍ من أمره، إن شاء أعرض، وإن شاء طلب حقَّه من المغنم، وليس كذلك الأملاك المشتركة بين الشركاء، فإذا حصل الاقتسام، فتمام الاستيلاء في حق كل واحد منهم يتحقق بالقسمة، فالغرض يتضمن الانعطافَ على أول السبب، وهذا وإن تكلفنا توجيهه ليس بشيء.
11399- ومما نذكره في أصل الملك أن من أعرض من الغانمين عن حصته قبل القسمة، سقط حقه من المغنم. وهذا يدل على عدم ملكه. أو على ضعف ملكه، أو على تردد على مقتضى الوقف.
ثم قال الأئمة: لو أفرزنا الخمس، وأفرزنا من رأس المغنم السّلَب على تفاصيلَ تامة جرت في القَسْم، وبقيت حقوق الغانمين، فلو أعرض واحد منهم بعد إفراز
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(17/508)
الخُمس، وما يخرج من رأس المغنم، فهل يسقط حق المُعْرِض بالإعراض والحالة هذه؟ ذكر صاحب التقريب أن المذهب أنه يَسقط حق المُعْرِض، وقال: وذكر ابن سُرَيج قولاً مخرجاً أن الإعراضَ بعد ما وصفناه من الإفراز لا يتضمّن إسقاطَ حق المعرض.
وحقيقة القولين ترجع إلى أن الملك هل يستقر بما وصفناه، من الإفراز حتى يصير الغانمون في حقهم الخالص بمثابة المشتركين في مالٍ؟ أم لا يستقرّ ملكهم ما لم يقتسموا حصصَهم؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه أنه لا يستقر ملكهم، والثاني -وهو المخرّج- أن ملكهم يستقر. والتوجيه بيّن. فمن مال إلى أن ملكهم لم يستقر احتج بأن إفراز الخمس لا يُثبت القسمة في حقوقهم. وهم فيما يُخصّ بهم (1) كما لو كانوا من قبل. وهذا يتأيد بالدلالة التي جعلناها عماد الباب، وهي أن الغنيمة في وضع الشرع ليست مقصودة، وإنما يتأكد القصد فيها بالقسمة، وإفراز الخمس يؤكد قصدَ الغانمين في حصتهم.
والذي أراه في تنزيل القول المخرّج أن الإمام لو استبدّ بإخراج الخمس، فحقوق الغانمين لا تحول عما كانت عليه؛ لأنهم لم يُحدثوا في المغنم أمراً يشعر بتجريدهم القصد إليه، وإن استقسموا الإمام، واستدعَوْا منه أن يميز الخمسَ، فأجابهم الإمام، فهذا يشعر باختيارهم تأكيدَ حقوق أنفسهم. وهذا التفصيل مني. والذي حكاه صاحب التقريب مطلق، لا تفصيل فيه.
11400- وينبني على ما حكيناه من المنصوص والمخرج أمرٌ، لا بدّ من التنبيه له: وهو أن ظاهر كلام الأصحاب أن من أعرض عن حصته، أُخرج من البَيْن، ويقدّر كأنه لم يكن، ويخمّس المغنم، ويصرف أربعة أخماسه إلى الذين لم يُعرضوا.
ويظهر مما حكاه صاحب التقريب من تخريج ابن سُريج أن نصيب المعرض ينقلب إلى الخمس، ولهذا يسقط أثر الإعراض بإفراز الخمس، وهذا يتأكد بشيء، وهو أن الخمس لا يتصوّر إسقاطه، وهو متأكد، لا يتطرق إليه الخِيَرةُ وإمكان الإعراض، فلا
__________
(1) من أَخصه به: أي خصّه.(17/509)
يبعد أن يكون [أصلاً] (1) يرجع إليه [ما يسقطه] (2) كل معرض، ويحسن [الاستئناس] (3) بعد ذلك بقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ، فالأصل أن تكون المغانم لله تعالى، ومن أعرض، رجعت حصته إلى أصلها.
وهذا استخراج وتكلّف، والمذهب الذي عليه التعويل ما قدّمناه من إخراج المُعرِض من البَيْن، والمصيرُ إلى أنه كالمعدوم، وتنزيلُ القسمة على الخُمس والأربعة الأخماس المصروفة إلى الذين لم يُعرضوا.
11401- ومما ظهر اختلاف أصحابنا فيه أن الغانمين بجملتهم لو أعرضوا، فهل يصح إعراضهم أم لا؟؟ فالذي ذهب إليه المحققون أنه تسقط حصصهم بإعراضهم، وينعكس الأربعة الأخماس على مصارف الخمس، وتتوزع عليها.
ومن أصحابنا من قال: إذا أعرضوا بجملتهم، لم يسقط بإعراضهم شيء من حقوقهم في المغنم؛ لأنه يبقى -لو قدّرنا الإسقاطَ- كالخمس ومصارفه، ولا وجه لصرف مال الغنيمة إلى هذه المصارف دون غيرها، فينبغي أن يكون المغنم مخموساً. قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، وهذا التردد مترتب على ما هو المذهب من أن حصة المُعرض تفضّ على الخمس أو الأربعة الأخماس.
ومما يتعلّق بما نحن فيه أن الغانمين إذا أعرضوا، فالأقيس سقوط حقوقهم، كما قدّمنا، فلو قالوا: اخترنا القسمة، فهل تلزم أملاكهم بالاختيار، كما تسقط بالإعراض؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا حكم للاختيار، ولا تستقر الحصص إلا بالقَسْم والإفراز. والثاني - أن حقوقهم وأملاكَهم تستقر، حتى لو فرض إعراضٌ لم يؤثر.
وقال شيخنا: لو أعرض القاتل عن سَلَب القتيل: هل يسقط حقه من السلب
__________
(1) في الأصل: رسمت هكذا " معـ ـصا " بدون نقط، ولم أُلْهم قراءتها.
(2) في الأصل: " وهو ما يسقطه ".
(3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، رسمت هكذا: " المر " بدون نقط.(17/510)
بالإعراض؟ فعلى وجهين: أحدها - يسقط كحصة الغانم من المغنم، والثاني - لا يسقط؛ لأنه يتعين له، فصار كتعين الحصة بالقَسْم. وهذا يضاهي الخلافَ في إعراض جميع الغانمين، فإن جملة المغنم متعينة لهم، ثم في إعراضهم من الخلاف ما قدّمناه.
وأصحاب الرضخ إذا أعرضوا، وكانوا مالكين لأنفسهم، فهو كإعراض أصحاب السهام، وإن رأينا أخذَ الإرضاخ من رأس المغنم، فلا نظر في ذلك.
والعبيد يصرف ما يقابلهم من الإرضاخ إلى مواليهم، ولا حكم لإعراض العبيد؛ فإنه لا حق لهم، وإذا أعرض سادتهم، سقط ما يصرف إليهم، وإن لم يكونوا من الغانمين؛ فإن إعراض الغانم مع اختصاصه بالاغتنام إذا أسقط حقه، فإعراض من يملك بواسطةٍ أولى بأن يسقط حقه.
11402- ولو أعرض ذوو القربى عن حصتهم من المغنم، فكيف حكمه؟ وإنما فرضنا الكلام فيهم، فإنهم يُستوعبون، بخلاف اليتامى على الرأي الظاهر، فليسوا في حكم الجهة المبنية على الصفة نحو (1) الفقراء في الصدقات، فإذا أعرضوا عن حقوقهم، فهل تسقط حقوقهم؟
الأظهر أنها لا تسقط؛ فإن هذا منحة أثبتها الله تعالى لهم من غير مقاتلة وشهود وقعة، فليسوا كالغانمين الذين يحمل شهودهم على إعلاء كلمة الله تعالى، ويمكن أن يقال: تسقط حقوقهم بالإعراض قبل القسمة كالغانمين، فإن ما يُصرف إليهم ملكٌ لا يرعى فيه الحاجة، فكانوا كالغانمين؛ وقد صح: " أن عمر التمس من عثمان وعلي والزبير، وجبير بنِ مطعم أن يتركوا حقوقهم من غنيمةٍ كانت وافت المدينةَ من الأهواز ". وهذا فيه سؤالان: أحدهما - أن يقال: لعله استقرض منهم. وفي بعض الروايات ما يدل على ذلك، ولكن قول الزبير لعثمان: " لا تطمعه في حقنا؛ فإنه إن أسقطه، لم يعد " (2) . يدل على أنه ما استقرض. هذا وجه.
__________
(1) نحو: أي مثل.
(2) خبر عمر مع عثمانَ وعليٍّ والزبير وجبير بنِ مطعم في ترك حقوقهم من غنيمة وافت المدينة من الأهواز، لم نصل إليه، والذي رأينَاه أن القصة جرت لعمرَ مع علي والعباس، فقد روى=(17/511)
والوجه الثاني - أنه استوهبهم، فوهبوه. وهذا هو الظاهر. وانتجز به ما حَضَرنا من أحكام الإعراض عن المغنم. وقد انتهى به الكلام الكلي في أملاك الغانمين.
11403- ونحن نخوض بعد ذلك في تخريج المسائل، فأول مسألة نُفَرِّعُها المسألةُ التي صدر الشافعي البابَ بها، وهي إذا كان في المغنم جاريةٌ، فوطئها أحدُ الغانمين، فلا يخلو: إما إن أحبلها، أو لم يحبلها. فإن لم يحبلها، فلا يخلو: إما إن وقعت تلك الجارية في قسمته، أو وقعت في قسمة غيره، لما قسمت الغنيمة، فإن وقعت تلك الجارية في حصة غيره، فلا يخلو: إما إن كان الغانمون محصورين، أو كان بحيث يتعذر ضبطهم لكثرتهم، فإن كانوا محصورين يتيسر ضبطهم، فحكم المهر يُخرَّج على الملك. فإن قلنا: لا يثبت لواحدٍ منهم ملك على الحقيقة قبل القسمة، فالواطىء يلتزم مهرها مكملاً، ويُردّ مهرُها على المغنم، ويقسم بين الغانمين كسائر الغنيمة.
وإن قلنا: يملك كلُّ غانم حصته، فالمذهب أن الواطىء يُغرَّم مهرَ الجارية إلا قدر حصته، فإنَّ وطأه صادف ملكه، وملكَ غيره، فسقط قدرُ حصته من الغنم.
ومن قال: إذا وقع شيء من المغنم في حصة واحد، تبيّنا أنه كان ملكاً له وقت الاغتنام، فعلى هذا إذا كانت الجارية واقعةً في حصة غير الواطىء، فتمام المهر يجب أن يصرف إليه.
هذا مقتضى هذا الوجه، والتفريع عليه أضعف منه.
__________
=الشافعي عن إبراهيمَ بنِ محمد عن مطر الوراق ورجل لم يسمه كلاهما عن الحكم بن عيينة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سأل عليّاً: ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهلَ البيت من الخمس؟ فقال علي: " أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس، وما كان فقد أوفاناه. وأما عمر فلم يزل يعطيناه حتى جاء مال السدس والأهواز، فقال (عمر لعلي) : في المسلمين خلّة، فإن أحببتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه.
فقال العباس لعلي: لا نطمعه في حقنا. فقلت: يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خلة المسلمين. فتوفي عمر قبل أن يأتيه مال فيقضيناه ". والحديث رواه أبو داود بألفاظ أخرى مقاربة (ر. الأم: 4/148، مختصر المزني: 151، أبو داود: الخراج، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، ح 2984) .(17/512)
ولو وقعت تلك الجارية في حصة الواطىء، فالمذهب في المهر كالمذهب فيه إذا وقعت في حصة الغير، ومن أصحابنا من قال: لا شيء على الواطىء بناء على أنا نتبين أنها كانت في ملك من وقعت في حصته، وهذا ساقط، ولكن نقله صاحب التقريب، وصرح بهذا التفريع. ولا عود إلى هذا الوجه بعد ذلك. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الجند محصورين.
فأما إذا عسر ضبطهم لكثرتهم، فقد قال الأصحاب: إذا رأينا تغريمه المهر، غرّمناه تمام المهر؛ فإن حصته من المهر ليس يتبين قدرها؛ فالوجه أن يُغرَّم تمامَ المهر ويردّ إلى المغنم، ثم إذا قسم ما غرمه مع المغانم يرجع إليه مِنْ عَينِه أو بدلِه ما يوجب سقوط الغرم في حصته.
هذا ما ذكره الأصحاب.
قلت: وهذا فيه إذا طابت نفس الواطىء بأن يغرم جميع المهر. فإن قال: لا تغرموني الجميع وأسقطوا مقدار حصتي، فلا بد أن يجاب؛ فإن الجند وإن كثروا، فلا بدّ من إمكان حصرهم، ولولا ذلك، لما تُصوّرت القسمة عليهم. ويستوي إذا كان المغنوم نزراً أو كثيراً، أو كان أقلّ من مهر الجارية في مسألتنا، ثم إذا تيسر الضبط، فنأخذ [المستيقن] (1) ، وإن تفرقوا وعسر الأمر، فلا يخفى الحكم في مثل هذه القضية، والوجه أن نحط عنه المستيقنَ، ونتوقفَ في الباقي، كما نفعله في الحقوق المشكلة، وكل ما ذكرناه إذا وطىء الجارية ولم يحبلها.
11404- فأما إذا وطىء جارية وأحبلها، فالذي ذكرناه قصداً ولم نفرّع عليه الكلامُ في الحدّ؛ فإن المذهب أنه لا يجب، ويخرَّجُ فيه القول القديم الذي ذكرناه في وطء أحد الشريكين الجارية المشتركة، وليس من الترتيب تطويل المسائل بالمكررات، وعلينا شغلٌ شاغل من الإطناب في البحث عن أعواص الفقه، فلو ضممنا إليه أدراج الوجوه البعيدة في التقاسيم، لطال الكلام، وتعدّى حدَّ الاعتدال. فنعرّج على أن الحدّ لا يجب، والقولُ في المهر كما قدّمناه إذا عري الوطء عن الإحبال، لا يختلف
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي عند الغزالي في البسيط.(17/513)
منه شيء بإفضاء الوطء إلى الاستيلاد، ولهذا قلنا: الأب إذا وطىء جارية الابن التزم مهرَها، سواء أحبلها أو لم يحبلها.
11405- فأما حكم الاستيلاد والولد، فإنا نذكره، وهو المقصود، والكلام يقع في فصلين: أحدهما - في الموسر إذا أحبل جاريةً من المغنم. والثاني - في المعسر.
فأما الموسر، فقد قال الأصحاب: أما الولد، فإنه نسيب حرُّ، وقال أبو حنيفة (1) : لا يثبت النسب، والولد رقيق، وفي حرّية الولد مباحثة سننعطف عليها بعد طرد ترتيب المذهب في الاستيلاد، فليثق الناظر بحرية الولد.
فأما ثبوت الاستيلاد، فلأصحابنا طريقان: قال صاحب التقريب: إن قلنا: الغانم لا يملك قبل القسمة، فلا يثبت الاستيلادُ في شيء من الجارية؛ فإن وطأه لم يصادف ملكه، ولكن لو وقعت الجارية في حصته، فهل تصير الآن مستولدة؟ فعلى قولين مشهورين، ذكرناهما في نظائر هذه المسألة. وإن قلنا: الغانم يملك ملكاً واهناً ضعيفاً، ففي ثبوت الاستيلاد وجهين في حصة الغانم؛ إذ الملك ضعيف، وهما كالوجهين في أن المشتري إذا استولد الجارية في زمن الخيار، وقلنا: الملك له، فهل ينفذ استيلاده؟ فيه اختلاف وتفصيل ذكرناه في موضعه. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قلب هذا الترتيب، وقال: إن قلنا: يُنسب الملك للغانم، فالاستيلاد يثبت، وإن قلنا: لا ملك له قبل القسمة، ففي ثبوت الاستيلاد قولان مرتبان على القولين في إحبال الأب جارية الابن، ولو رتب مرتب، وجعل الاستيلاد في جارية المغنم أولى بالنفوذ، لم يكن مُبعداً؛ فإن حق الغانم في المغنم لا ينكر، ولا حق للأب في جارية ابنه؛ إذ لو كان له فيها حق، [لحرمت] (2) على الابن، كما تحرم جارية المغنم على الغانم.
وعندي أن أخذ هذه المسألة من استيلاد الأب جاريةَ ابنه ليس بسديد؛ فإن نفوذَ الاستيلاد في حق الأب ليس بقياس بدليل ما ذكرناه من خلوص الجارية ملكاً تاماً للابن.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/474 مسألة رقم 1629.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.(17/514)
ثم إذا أطلقنا القولَ بالاستيلاد، فمن ضرورة هذا التسرية (1) ، وبها يكمل الاستيلاد، وليقع التفريع على أن [الشريك] (2) الموسر إذا أولد الجارية المشتركة، سرى استيلاده في الحال، غيرَ متوقف على أن يغرم لشريكه قيمةَ حصته.
ثم إن حكمنا بثبوت الاستيلاد، وهو المذهب الصحيح، فإن قيمة الولد تخرج على الترتيب الذي ذكرناه، فإن كان الجند محصورين، أسقطنا حصة المستولِد من المغنم، وغرمناه الباقي، [وخصصنا] (3) به من عداه من الغانمين. وإن كانوا غير محصورين، فقد أوضحنا أن وجه الرأي أن يغرم كمال القيمة، ثم نُلقي القيمة في المغنم فإذا فُضت، رجع إلى الغانم بتعديل السهام حصتُه من هذه القيمة أو من بدلها.
11406- ثم ذكر صاحب التقريب تفريعاً على هذا المنتهى، وقال: إذا قلنا لا يثبت الاستيلاد في حصته أيضاً، فقد قدمنا أن الولد حرٌّ على ما سنبحث عنه حق البحث، إن شاء الله تعالى. فالجارية في المغنم حبلى بولد حر من الواطىء، وأوضحنا في كتاب البيع أن الجارية الحبلى بالولد الحر لا يصح بيعها على ظاهر المذهب، ما دامت حبلى.
فعلى هذا يمتنع إدخالها في القسمة، ما دامت حاملاً. هكذا ذكر صاحب التقريب. ثم بنى عليه. وقال: يجوز أن يقال: تقوّم الجارية على الواطىء، فإن كانت قيمتها مقدارَ حصته أو أكثر، فتسلّم إليه الجارية من جملة المغنم، والغرض من ذلك أنها تتعين له من غير إقراع، وهذه المسألة فيها احتمال وتردد، فيجوز أن يقال: [توقف] الجارية إلى أن تلد، ثم تُلقَى في القسمة، ويجوز أن يقال: إنما تلقى في القسمة وإن كانت حاملاً، ونَفصل بين القسمة والبيع، ويَقْوى هذا إذا قلنا: القسمة إفراز حق وليست ببيع، وقد نُجيز القسمةَ حيث لا نُجيز البيع.
__________
(1) التسرية: سريان الاستيلاد، فتصير الجارية بجملتها أم ولد، وليس حصة الواطىء فقط.
(2) في الأصل: " شريك "، والمثبت من تصرف المحقق.
(3) في الأصل رسمت هكذا: وحمضا (تماماً رسماً ونقطاً) .(17/515)
قال صاحب التقريب: ويجوز أن يقال: يُغَّرمُ الواطىء قيمةَ الجارية، فتُلقى (1) في القسمة؛ لأنه أوقع بإيداع رحمها الولدَ الحرّ حيلولة بينها وبين الغانمين.
11407- فأما القول في قيمة الولد -وقد أجرينا الحكم بحرية الولد- ففي لزوم قيمة الولد قولان معروفان إذا أثبتنا الاستيلاد، كالقولين فيه إذا وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة وأولدها، وقضينا بنفوذ الاستيلاد، وهذا يرجع إلى أن الملك متى ينتقل إلى المستولد؟ وفيه قولان: أحدهما - أنه ينتقل إليه قبل العلوق. والثاني - أنها تنتقل إليه مع العلوق أو بعده، وقد ذكرنا حقيقة هذين القولين في كتاب النكاح، عند ذكرنا استيلاد الأب جاريةَ ابنه، فإن لم نوجب القيمة، فلا كلام، وإن أوجبناها، فإنما تجب حصةُ من عدا الواطىء من الغانمين، ثم يعود التفصيل إلى كون الجند
محصورين، أو غير محصورين، وقد تمهد ذلك في المهر، وفي قيمة الأم (2) ، فلا حاجة إلى إعادته.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الواطىء موسراً.
11408- فأما إذا كان الواطىء معسراً، وقلنا: لا يثبت الاستيلاد في حصة الموسر، فلا شك أنه لا يثبت في نصيب المعسر، وإن قلنا: يثبت الاستيلاد في حصة الموسر، فيثبت أيضاً في حصة المعسر، ولكن لا يسري، ثم إن كان الجند محصورين، يثبت الاستيلاد في حصة المعسر، والغرض يتبين بإيضاح حصته، فإن كانت الجارية جميعَ المغنم، فحصة المعسر بينة، وإن كانوا قد غنموا غيرها، فالمعسر غنيٌّ بما يزيد على حصته في هذه الجارية، فإن كانت حصته في سائر المغنم وافية بقيمة الجارية، أمكن أن يقال: يثبت الاستيلاد، تعويلاً على غناه بغير حصته من الجارية من سائر المغنم على [ترتيب] (3) سنبينه، إن شاء الله تعالى.
وإن كان ما يخصه من غير الجارية لا يفي بقيمة الجارية، فيثبت السريان في
__________
(1) أي تُلقَى قيمة الجارية في القسمة.
(2) أي الجارية المستولدة.
(3) في الأصل: " تدبّر ". والمثبت من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والسياق.(17/516)
الجارية بمقدار ملكه، كما سيأتي شرح ذلك في باب العتق، إن شاء الله.
ومنتهى البيان يقف على أمرٍ لا بدّ من التنبه له، وهو أن الأمر في الحكم بغناه بنصيبه من غير الجارية موقوف على ألاّ يُعرِض، ويستقرَّ ملكُه في غيرها، مما تفصل من قبل، فلو أعرض، تبينا أنه لم يكن غنياً، وأن [العتق] (1) يقتصر على حصته من الجارية، ولا نقول: حق سريان العتق يُلزمُه اختيارَ حصته؛ فإن الاختيار بمثابة ابتداء الاكتساب في الغرض الذي نطلبه، وينشأ من هذا أن الغانم إذا أفلس، وضرب القاضي عليه حجرَ الديون التي ركبته، فحقه من المغنم لا يلزم، بل هو على تردده في الإعراض، وطلب الحق.
ولو كان الغانم سفيهاً، فإعراضه هل يُسقط حقَّه من المغنم؟ هذا فيه ترددٌ، ولعل الأظهر أن حقه يلزم؛ فإنه حق ملك، والإعراض في حق المطلق (2) يُسقطه، فيبعد أن يملك السفيه إسقاطَ حق الملك.
وإن قلنا: لا ملك للغانم، وهو أضعف الوجوه، فقد ينقدح عليه تردد بأن حقه من المغنم هل يسقط بالإعراض؟ ولو تبين رشده قبل اتفاق قسمة المغنم، فأعرض، سقط، ولا نقول: كونه سفيهاً حالة الاستيلاد يقرر ملكه على وجهٍ لا سبيل إلى دفعه.
11409- ولو حضر المراهق، وثبت له الرضخ، باستيلاء جند الإسلام، وانفلال الكفار، فلم تتفق القسمة حتى بلغ الصبي رشيداً، فأعرض، سقط حقه، ولو ثبت حق الشفعة للطفل، فإن أخذ الولي الشقص المبيع بالشفعة على موجب الغبطة، ثم بلغ الصبيُّ، لم يملك الردَّ، ولو لم يتفق أخذ الشقص حتى بلغ الصبيّ رشيداً، فعفا عن الشفعة، سقطت الشفعة، وأَخْذُ الشقص بالشفعة من الولي يناظر ما لو قُسّم المغنم.
__________
(1) في الأصل: " المعتق ".
(2) المطلق: المراد غير المحجور.(17/517)
و [لو] (1) أخذَ نصيبَ المراهق أو السفيه، ثم رشد السفيه، وبلغ المراهق، فلا أثر لإعراضهما بعد القسمة (2) .
ولو كان اشترى الرجل شيئاً على شرط الخيار، ثم ضرب القاضي عليه حجراً بالفَلَس، وقلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري، فقد ذكرنا تردداً في [أصل] (3) المذهب في أن الخيار هل يبقي للمفلس المحجور عليه، حتى يملك الفسخَ، والغبطةُ في الإجازة، فإن خرّج الفقيه إعراض السفيه عن المغنم على تصرفه في الخيار بعد الحجر عليه، لم يبعد، وهذا الكلام نشأ من قولنا: الاستيلاد لا يُلزم المستولد تقريرَ الملك في المغنم، حتى يصير غنيّاً به، وهذا لامراء فيه، ثم تشعب الكلام في أساليبه.
هذا قولنا في الاستيلاد.
11410- فأما الولد وقد تبعض الاستيلاد، ففيه وجهان: أحدهما - أنه مخلوقٌ حراً بجملته. والثاني - أن الحرية مقدارُ ما يثبتُ الاستيلادُ فيه من الأم، فتقع الخلقة على التبعيض في الرق والحرّية.
توجيه الوجهين: من قال: جميعُ الولد مخلوق حراً، استدل بأن الشبهة تعم الجارية، وحريةُ الولد تثبت بالاستيلاد، وإن كان الاستيلادُ لا يثبت بها. والدليل عليه أن من وطىء جارية الغير، وظنها جارية نفسه، أو ظنها زوجته الحرة، فالولد ينعقد حراً، وإن كان الوالد معسراً، والاستيلاد لا يثبت في الحال، ولو ملك الجارية يوماً؛ فإذ ذاك يخرج قولان مشهوران في صور الاستيلاد، فإذا عمت الشبهة جارية المغنم على معنى أنها قد تكون حصتَه، وقد يُعرِض أصحابه، فتخلُص له: ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن الشبهة بالشركة عامة، ولهذا يَسقُط الحدّ عنه، ونشأ تفريع هذه المسألة على أن الحد لا يجب على أحد الشريكين بوطء الجارية المشتركة.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) المعنى: لو أخذ الولي نصيب المراهق أو السفيه ... إلخ.
(3) مكان بياض قدر كلمة.(17/518)
ومن قال بالوجه الثاني احتج بتبعيض الاستيلاد، وانفصل عن وطء الجارية بالشبهة، وقال: لا معترض على الشرع في تنزيل الظن منزلة الحقيقة، ثم إذا تمهد هذا، فالظن متعلّق بجميع الجارية، والأمر متبعضٌ في مسألتنا، والشبهة من الملك تؤخذ عمن هو (1) متبعض، فإذا زال الظن، ووقع وطؤه في ملكه وملكِ غيره، وجب تبعّض الولد في الحرية والملك.
وقد ذكر أصحابنا وجهين في أن الإمام إذا أراد أن يُرِق النصفَ من الأسير، ويُبقي نصفَه على الحرية، فهل له ذلك؟ وجهان: أحدهما - له ذلك، وهو القياس، والثاني - ليس له ذلك؛ فإن الرأي في الإرقاق وغيرِه في الخلال لا يكاد يتبعّض، وليس هذا خِيَرةً من الإمام، فلا وجه إلا الإرقاق، أو التعلّق بجهةٍ أخرى من الجهات.
وسئل القاضي عن وطء امرأة نصفها حرٌّ، ونصفها رقيق في نكاح أو زنا، فالولد الذي تأتي به كيف حكمه في الحرية والرق؟ فقال: يمكن أن يخرج ذلك على الوجهين في ولد الجارية المشتركة من الشريك المعسر، ثم استقر جوابه بعد أيام على أن الولد بمثابة الأم، تعلّقاً بقول الشافعي: " ولد كل ذات رحمٍ بمثابتها ".
ومعنى هذا الكلام أن حكم الولد إذا كان يؤخذ من ذوات الرّحم، فولدها بمثابتها، وليس هذا كالجارية المشتركة؛ فإن [الشركة] (2) قد تُظن شبهة عامة في الجارية، وهاهنا لا مجال لتقدير الشبهات، فإن الزوج إذا وطىء زوجته لم تأت حرية الولد إلا منها، فيجب القطع بما استقر عليه جوابه.
11411- فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه في الولد إذا ضُم إلى ما قدّمتموه فيه إذا كان المستولد موسراً، ينشأ منهما تناقض. وذلك أنكم قطعتم أن الولد حرٌّ بجملته، وذكرتم قولاً أن الاستيلاد لا ينفذ أصلاً إذا قلنا: لا ملك له. أو قلنا: يثبت الملك ولكنه ضعيف، بقي الاستيلاد لا أصل له، كما أن نَفْيَ الملك لا أصل له، فلا يؤاخذ بما لا حقيقة له.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة.
(2) في الأصل: " المشتركة ".(17/519)
وإذا تقرر هذا، فالوجه إثبات الاستيلاد في حصته، فإن سرَّينا، نقضي بأن الولد حر كله، وإن لم نثبت الاستيلاد في جميع الجارية وقوعاً [فإن] (1) اليسار إذا كان يوجب تكميل الاستيلاد بطرق السريان، فاليسار أيضاً يوجب تكميل الحرية في الولد بطريق منع الرق؛ إذ لا أصل في استيلاد الولد، غير أن طريق التكميل فيه بتقرير وقوع الخلقة في الحرية، كولد المغرور، ثم الغرم يناط به إن لم ينقل الملك في المستولدة إلى ما قبل العلوق، وإذا كان الوالد معسراً؛ فلا يثبت الاستيلاد في الجميع بجهة السراية، وينقدح خلافٌ في الولد؛ من جهة أن حرية الولد سببها انتفاء الرّق، وكمَّلها قومٌ، لأن السراية فيها غير مرعية، فتخلُّف السراية في الأم لا يؤثر في جهة الولد، ونزّل منزلون حرية الولد في جهتها منزلة عدم نفوذ الاستيلاد.
فلو قال قائل، إذا حكمتم بأن الاستيلاد لا يثبت في حق الموسر في نصيبه لضعف ملكه، فما قولكم في الولد؟
قلنا: هذا وجه ضعيف لا ينبغي أن نلتزم الكلام عليه في الفرق والجمع، ثم ظاهر النقل عن الأصحاب أن الولد حر، وذلك أن الشبهة ملكاً ويساراً [عامة] (2) في الجميع، فاقتضى ذلك تنزيل الولد في هذا المقام منزلته فيما إذا وطىء الرجل جارية الغير، وظنها جارية نفسه.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إذا وطىء الرجل جاريةَ الغير، وظنها زوجته المملوكة، وهو موطنٌ نفسه على أن الولد -إن اتفق العلوق به- فهو رقيق، فإذا فرض ولدٌ في الشبهة التي وصفناها، فهو رقيق؛ اعتباراً بصفة ظنه، والدليل عليه أن حرية الولد ورقه [مداران] (3) في نكاح المغرور [على الظن] (4) ، وإلا، فلا مقتضى للحرية سوى الظن.
ورأيت لغير شيخي ما يدلّ على أن من وطىء جارية الغير، وحسبها زوجته
__________
(1) في الأصل: " إن ".
(2) في الأصل: " عاماً ".
(3) في الأصل: " مدران ".
(4) زيادة من المحقق.(17/520)
المملوكة؛ فالولد حرّ، كما لو وطىء المغرور زوجته [الحرة على ظن أنه زانٍ بجاريةٍ رقيقةٍ للغير، فالولد حر] (1) ، وإن كان الواطىء غير بانٍ أمره على وطء حرّة.
وهو عندي غلط، والوجه ما ذكره شيخي، وذلك أن حرية الولد إذا كان تأتي من قبل الظن، وهو ما ظن ظنّاً لو تحقق، لاقتضى حرية الولد، فإذا كان الحكم يُتلقى من الظن، والظن كما وصفناه، فلا معنى للحكم بحرية الولد. وكون [الوطء] (2) محترماً لا يوجب حرية الولد، فإن ولد الزوج من زوجته الرقيقة رقيق، وإن ترتب على وطءٍ مستحق. وأما مسألة المغرور، فالظن فيها باطل، والوطء صادف مغرور زوجته، فقدّرنا كأن الظن لم يكن، وقضينا بحرية الولد بحصول العلوق به في نكاح المغرور.
فهذا تمام ما أردنا ذكره في أحكام الولد.
11412- ولو وطىء أجنبي من المغنم جاريةً من المغنم، نُظر: فإن مُيّز الخمس ولا شبهة للواطىء، فهو زانٍ لا يخفى حكمه في الحال والمآل.
وإن كان للواطىء أبٌ في المغنم، فوطؤه زناً أيضاً، فإنّ وطء الابن جارية أبيه زنا. وإن كان له ابن في المغنم فوطؤه جارية المغنم كوطء [جارية] (3) ابنه الغانم، فإن جارية الابن مستولدةُ الأب، كما تصير مستولدةً للابن. ثم تعود التفاصيل.
هذا إذا جرى الوطء بعد إفراز الخمس، ويتصل بهذا أنا نؤكد ملك الغانمين على
__________
(1) عبارة الأصل: كما لو وطىء المغرور زوجته التي يحسبها حرة، فوجدها جارية غيره، وقد زيفه لإتيانها فإن الولد حر، وإن كان الولد ... إلخ.
والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، التي لخص فيها كلام الإمام، فقال: " قال الشيخ أبو محمد: لو وطىء جارية الغير على ظن أنها زوجته المملوكة، فالولد رقيق لأن مستند هذا العتق الظن وظنه لو تحقق لم يوجب حرية.
ومن الأصحاب من خالف وقال: الولد حر هاهنا الأصل الشبهة، إعراضاً عن تفصيل الظن، كما إذا وطىء زوجته الحرة على ظن أنه زان بجارية رقيقة للغير، فالولد حر.
وهذا فاسد؛ لأن هذا الظن إذا قدر كالمعدوم، وحصلت حرية الولد بحرية الأم، وفي الرقيقة لا موجب للحرية إلا الظن، فليتْبع ظن لو تحقق لاقتضى حرية " (ر. البسيط: 5/ورقة: 165 شمال) .
(2) في الأصل: " الموطىء "، ومعنى كون الوطء محترماً أنه في نكاح صحيح.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(17/521)
أحد القولين إذا جرى إفراز الخمس، ولا يخفى التفريع بعد التنبيه.
وإن لم يفرز الخمس، فلبيت المال في الجارية حق. فإذا وطىء أجنبي جاريةً في المغنم، وفيها حق الخمس، وكان للأجنبي حقٌّ في بيت المال، فهذا يخرج على التردد الذي حكيناه في كتاب السرقة، فإنا نقول: السارق من بيت المال لا يقطع إذا كان له في بيت المال حق، على المذهب الظاهر، ولو وطىء مثلُ هذا الشخص جاريةً من بيت المال، ففي وجوب حدّ الزنا وجهان. وهما يعودان في جارية المغنم، إذا جرى الوطء فيها قبل إفراز الخمس، وجميع أطراف المسألة مجراة على أن الحدّ لا يجب بوطء الجارية المشتركة.
11413- ثم قال الشافعي: " وإن كان في السبي ابن أو أب ... إلى آخره " (1) .
نص الشافعي على أنه إذا وقع في المغنم من يَعْتِق على بعض الغانمين إذا ملكه بحكم القرابة، فلا نحكم بعتقه عليه قبل القسمة.
وقد نص الشافعي على أن الغانم إذا وطىء جارية المغنم، ثبت الاستيلاد، فمن أصحابنا من نقل جواب مسألة العتق إلى الاستيلاد، ومسألة الاستيلاد إلى العتق، وخرّجهما على قولين، ويكون مأخذ القولين في التوجيه ضعيف المُدرك كما قدّمناه.
ومن أصحابنا من حاول الفرق بين الاستيلاد، ونفوذ العتق بحكم القرابة، وقال: ينفذ الاستيلاد كما قدّمنا، ولا يَعتِق القريب على الغانم؛ لأن الاستيلاد ينفذ في محل امتناع العتق؛ فإن الأب إذا استولد جارية الابن، ثبت الاستيلاد، ولو ملك الابن من يعتق على الأب، لم يَعتِق على [الابن] (2) وذلك إذا ملك أخاه، وهو ابن أبيه، لم يعتق على الابن، وذلك لأن الاستيلاد في حكم الإتلاف بالفعل، والفعلُ لا مدفع له، وحصول العتق في القريب حكم محض.
واختيار المزني أن الجارية لا تصير أم ولد، واحتج بعدم عتق القريب أخذاً من
__________
(1) ر. المختصر: 5/190.
(2) في الأصل: " الأب ".
(3) وصورة المسألة -على وضوحها- أنه إذا ملك الابن أخاه لأبيه، فهو ابن أبيه، فلو ملكه الأب يعتق عليه للبعضيّة، ولو ملكه الابن لا يعتِق عليه.(17/522)
النص، وهو لا يرى النقلَ والتخريجَ، ويستشهد بالنص على النص.
وذكر بعض أصحابنا في عتق القريب مسلكاً آخر، فقال: القريب لا يعتق على الغانم إن لم يختره؛ فإن اختاره عَتَق حينئذٍ، على تفصيل اليسار والإعسار، ونزل اختياره فيه منزلة الاستيلاد، وهذا هو الذي نبهنا عليه في قاعدة الملك، إذا (1) قلنا: الاختيار عند بعض الأصحاب يؤكد الملك ويلزمه. أما إذا جرى الاستيلاد، فلا أثر للاختيار معه؛ فإنه أبلغ من الاختيار.
11414- وكنا أخرنا إلى تفصيل ملك الغانمين القولَ في السرقة، وهذا مما أوضحنا أصوله في كتاب السرقة عند ذكرنا سرقة أحد الشركاء المالَ المشترك، وإنما أعدنا هذا الفصل لزيادةِ فائدةٍ، وذلك أنا ذكرنا أن من أصحابنا من قال: إذا سرق أحد الشريكين من المال المشترك ما يزيد على حصته بالجزئية مثل أن يسرق ديناراً وربعاً من دينارين، له نصفهما، فالمسروق زائد على مقدار حقه، والزيادة بالغةٌ نصاباً، فمن أصحابنا من قال: يجب القطع، وذكرنا ما عدا هذا من كلام الأصحاب.
فإذا فرعنا على الوجه الذي حكيناه الآن، وسرق الغانم من المغنم ما يزيد على مقدار حصته، والتفريع على أن القطع يتعلق بالزائد على المال المشترك، ففي المغنم وجهان على هذا الوجه: أحدهما - القطع في المال المشترك. والثاني - لا يجب، لأن حقَّ كلِّ غانم ثابتٌ في جميع المغنم. وكذلك القول، لو أعرض الكلُّ إلا واحداً، قلنا: كأنه الغانم بنفسه، وكأنا نجعل الغانمين كالمزحومين، بمثابة الشفعاء، وهذا يوجب الدرء في الحد، ولا يقع الاكتفاء في إثبات الاستيلاد؛ فإن إثبات الاستيلاد يقتضي ملكاً محققاً، ثم إن اقتضت الحال سرياناً، وقع الحكم به، والمقدار الذي يدرأ الحد، لا يُثبت حقوق الأملاك. فهذا ما أردنا أن ننبه عليه.
وقد قال القاضي: إذا قلنا: يجب الحد على أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة، -وهذا قولٌ حكيناه- فإذا وطىء الغانم جارية المغنم، فهل يلزم الحد؟ فعلى وجهين منشؤهما ما ذكرناه من أن لكل غانم حظاً في جميع المغنم، كما نبهنا
__________
(1) إذا: بمعنى إذ.(17/523)
عليه، وهذا ضعيف؛ فإن [معتمده] (1) القول القديم. وهذا متحقق في جارية المغنم تحققه في الجارية المشتركة، والقول القديم في إيجاب الحد يجري على وطء الرجل أخته المملوكة من الرضاع.
وقد انتجز القول في أملاك الغانمين، وآثارها جملة وتفصيلاً.
فصل
قال: " ومن سُبي منهم من الحرائر ... إلى آخره " (2) .
11415- ذكر الشافعي سبي الزوجين، وسبي أحدهما، وترتب انفساخ النكاح على ذلك. وقد قدمنا ذكر هذا مستقصىً، وأجرى الأصحاب في أثناء الكلام أحكامَ الديون الثابتة للحربي، إذا استُرِق، وأحكام الديون الثابتة عليه، ونحن نأتي بما يتعلق بهذا على [أكمل] (3) بيان. وهو مما لم يعتن الأصحاب بجمع كلامٍ فيه على التواصل.
فنقول: لو كان للمسلم دينٌ على حربيّ، فاستُرق مَنْ عليه الدين. قال الأئمة: لا يسقط الدّين عن المسترَق، ورأيتُ أقوال أصحابنا متفقةً على هذا. ومذهب أبي حنيفة (4) أن الدّيْن يسقط عن المسترَق، وأورد الأصحاب هذا في مسألة سبي الزوجين، وشبب الخلافيون بموافقة أبي حنيفة في سقوط [الدين المحترم] (5) من حيث إنه انقلب عما كان عليه، حتى كأنه عُدم. ثم وجد (6) ، وهذا لا يلحق بالمذهب، [والمقطوع] (7) به أن الدين لا يسقط.
__________
(1) في الأصل: " معتمد ".
(2) ر. المختصر: 5/191.
(3) زيادة من المحقق على ضوء المعهود من كلام الإمام.
(4) ر. الجامع الصغير: 316، مختصر الطحاوي: 290، ملتقى الأبحر: 1/658، مختصر اختلاف العلماء: 3/451 مسألة 1603.
(5) عبارة الأصل: " في سقوط الدين من المحترم ".
(6) أي كأن المسترق مات ثم وجد بعد ذلك ثانية.
(7) في الأصل: " المقطوع " (بدوان الو او) .(17/524)
ثم ننظر: فإن أُرق الحربي، ولم يغنم ماله، فحق المسلم في عين ماله، والرق بمثابة الحجر، أو بمثابة الموت في المسلم المديون عليه. حتى لو ظفر به المسلمون وأخذوه -يعني المال- بعد تعلق الدين به يُقضى الدين من ذلك المال.
ولو غُنم أولاً، ثم سبي، أو غنم المال معه، فحق المسلم الغريم في ذمته، يتبعه بعد العتق. ولا يُقضى من عين المال؛ فإن المال إن غُنم قبلُ، فلا شك أن الدَّيْن لا ينعكس عليه، وإن غُنم المال معه، فقد تعقق ملك الغانمين بعين ماله. وحق صاحب الدين إن كان في الذمة [فالحق] (1) المتعلّق بالعين مقدّم على المتعلّق بالذمة؛ ولذلك قلنا: إذا جنى العبد المرهون يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن؛ فإن موجب الجناية لا يتعلق بذمة المولى، فكان تعلقه بالعين أقوى من تعلّق الرهن به.
وعندنا إذا غُنم ماله، ورَق، فالملك في الغنيمة سابق على جريان الرق إن كان المأسور رجلاً، فإن الرق [يُضرب] (2) بعد الأسر؛ فإن كان كذلك، فلا إشكال.
وإن فرض الكلام فيه إذا أسر أولاً، ثم غنم المال مع إرقاق الإمام، أو وقع الفرضُ في المرأة تسبى مع مالها، فيحصل الرق والاستيلاء على الغنيمة معاً، فليس يبعد على القياس تعلّق الدين المحترم بالمال في هذه الصورة، قياساً على ديون التركة، مع حقوق الورثة؛ فإن حق الورثة يتعلّق بعين التركة، والدين يتعلّق بالتركة في الوقت الذي يحصل الإرث فيه، ثم قُدِّم الدين، فلا يبعد أن يكون الأمر كذلك فيما نحن فيه.
وهذا متجه جداً. وما قدمناه من الاستشهاد بجناية العبد المرهون كلامٌ مُخيلٌ ظاهره؛ فإنا إنما قدّمنا حق المجني [عليه] (3) كما نُقدّم حقَّ المجني عليه على حق مالك العبد، إن صدرت الجناية من غير إذن السيد، ولا يزيد حق المرتهن على حق
__________
(1) في الأصل: " والحق ".
(2) في الأصل: " تصرف ". وهو تصحيف قريب المأخذ.
والمعنى أن الرق لا يكون في الرجال بمجرد الأسر، بل يضرب عليهم بعد ذلك.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
ومعنى العبارة: أننا قدمنا حق المجني عليه على حق المرتهن، كما تقدم حق المجني عليه على حق مالك العبد.(17/525)
المالك؛ فإذا كان يطرأ ملكٌ على المالك، فيطرأ على حق المرتهن، ولسنا نُلزَم الآن ذكرَ تعليل تعلق الأرش برقبة العبد، وقد أجريتُ -فيما أظن- في ذلك كلاماً كلياً في (الأساليب) .
وما يتعلّق بهذا الفصل أنه إذا كان للمسلم عليه دين مؤجل، فاسترق، ففي حلول الأجل وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا حُجر على الرجل بالفَلَس، وعليه ديون مؤجلة، ففي حلول الديون عليه جوابان. والرق أولى بأن يقتضي الحلول؛ فإنه أشبه بالموت؛ من جهة أنه يقطع النكاح، ويزيل الملك، بخلاف الحجر.
هذا كله فيه إذا كان لمسلم على حربي دين، فاسترق الحربي.
11416- فلو كان الدين لذمي، فالجواب كما ذكرناه؛ [فإن دين الذمي] (1) محترم بمثابة أعيان ماله.
11416/م- ولو كان لحربي عليه دين، فاستُرِق من عليه الدين، قال القاضي: يسقط الدين عن ذمته (2) . ولتكن هذه المسألة على الذكر حتى نعود إليها.
11417- ومما نذكره في ذلك أن المسلم لو استقرض من حربي شيئاً، أو اشترى منه شيئاً، والتزم الثمن، ثم استُرِق الحربيّ المستحِق الدين، فالدين لا يسقط عن ذمة المسلم. ثم سبيله كسبيل أموالاً الحربي المودعة عندنا على حكم الأمان. وقد ذكرنا مصارف أمواله، وهذا الدين من أمواله.
ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن الحربي إذا استقرض شيئاً من الحربي، ودخل المستقرض إلينا بأمان أو ذمة أو أسلم، قال العراقيون: نص الشافعي على أنه يلزمه ردّ ما استقرضه من الحربي، وحكَوْا نصّاً آخر عن الشافعي على خلاف ذلك في مسألةٍ وهي أنه إذا نكح حربي حربية على مهرٍ، ودخل بها، وماتت الزوجة، وأسلم الزوج، وهاجر إلينا، فجاء ورثة الزوجة، وطلبوا مهرها، قالوا: قال الشافعي ليس لهم
__________
(1) في الأصل: " فإن في دين الذمي ".
(2) عبارة الأصل: " قال القاضي: يسقط الدين عن ذمته، فإن ذلك الدين، ولتكن المسألة على الذكر ... " (ففيها خرمٌ، أو إقحام) .(17/526)
عليه طَلِبة. ثم تصرفوا في النصين، وقالوا: من أصحابنا من نقل وخرّج، وجعل المسألتين جميعاً على قولين: أحدهما - أنه لا طلبة على المستقرض، ولا طلبة على الزوج.
والقول الثاني - أنه تثبت الطلبة على من التحق بنا بأمان أو ذمة أو إسلامه.
وهذا الذي أطلقوه لا يصفو على ما أحب وأوثر إلا بمزيد شرحٍ وبيان. فنقول: إذا نكح حربي حربية على مهر يصح مثله في الإسلام، ثم أسلم، فلا خلاف أن الزوجة تطالب زوجها بمهرها المسمى، وإن التزم المهر حربي لا تجري عليه أحكامنا لحربية لا حرمة لها، لم يكن التزام الحربي كالتزام المسلم؛ فإن المسلم من أهل عقد الأمان للحربي، ويصح تخصيص الأمان بمال، وعلى هذا تخرّج المعاقدات التي تجري بين المسلم، وبين الحربي، وهذا متصور فيما يجري بين الحربيين، ولكن أجمع الأصحاب على أنهما إذا أسلما، فحكم العقد مستدام [فيهما] (1) ، ومن استدامته
توجهت الطلبة بموجبه وعهدته. ومسائل نكاح المشركات خارجة على هذا القانون.
كذلك إذا بايع كافرٌ كافراً ثم أسلما، والثمن المذكور مما يصح طلبه، فلا شك أن الطلب يتوجه، وكذلك إذا أسلم المستحَق عليه ثم أسلم المستحِق، فالأمر على ما وصفناه، وإن ترتب الإسلام.
11418- فأما إذا التزم حربي لحربي، ثم أسلم الملتزم، فتصوير الطلب من الحربي فيه بُعْدٌ، وقولنا يجب على هذا الذي أسلم أن يبذل ما التزمه، مع أن الإسلام يجُبّ ما قبله، وقد جرى الالتزامُ والملتزمُ حربي، فيعسر توجيه الطلب، وهذا منشأ القولين.
ثم إن أوجبنا، فالتعبير عنه أن ينزل المسلم على دوام العقد منزلة المسلم حالة ابتداء العقد. فإن قيل: ذلك المسلم من أهل عقد الأمان. قلنا: نعم، ولكن لو أسلما، لا خلاف أن العهدة تبقى بينهما للأصل الذي مهدناه قبلُ من قضاء الشرع باستدامة العقد.
__________
(1) في الأصل: " فيها ".(17/527)
ومن قال: لا طلبة على المسلم أو الذي عقدنا له الذمة، فلا يُسقط الدين؛ فإن المستحِقَّ لو أسلم طالب، وإنما هذا تَوقُّفٌ في الطلب، فليفهم الناظر ذلك.
ثم قال العراقيون: وقال ابن سريج في النص [الوارد] (1) في النكاح: ذاك فيه إذا أصدقها خمراً ثم ماتت، وقد أسلم الزوج، فلا طلبة للورثة؛ فإنها قبضت في الشرك تمام ما رضيت به.
فإن قيل: إذا ثبت دين لحربي على حربي، واستُرِقَّ من عليه الدين، فقد ذكرتم أن الدين يسقط، فهلاّ جعلتم الرق أماناً، ونقلتم الدين إلى ذمة الرقيق؟؟ قلنا: هذا لا ينكر توجه احتمال فيه، لما نبهنا عليه. والظاهر السقوط؛ فإن ملتزم الدين انتقل من كونه حربياً لا يجري عليه حكمٌ إلى كونه رقيقاً ليس له على نفسه حكم. والاحتمال مع هذا قائم، والله أعلم.
11419- ولو أتلف حربي على حربي شيئاً، ثم أسلم المتلف، لم يغرم شيئاً، وليس كما لو استقرض منه. ونزيد، فنقول: لو أسلم المتلف والمتلَف عليه، فلا طَلِبَةَ بينهما بخلاف الاستقراض، والمعاملات المقتضية إلزاماً؛ فإن الإتلاف ليس عقداً نقضي بدوامه، وإنما هو حالةٌ جرت حيث لا حكم، ثم جبّ الإسلام ما كان، وأيضاً؛ فإن الحربيَّ إذا قهر الحربيَّ على مَالِه، مَلَكَه، والهلاك باب من القهر. فهذا ما يجب القطع به.
وفي التعليق عن القاضي أن الحربي إذا جنى على مسلم، فاسترق، فأرش الجناية في ذمته، ولا تتحول إلى رقبته، ثم قال: وهذا بخلاف المكاتب إذا جنى، فالأرش في ذمته يؤدّيه من الكسب، فلو عجز وعاد قنّاً، [تحول] (2) الأرش إلى الرقبة، وفرّق، وقال: الرق الذي هو متعلق الأرش كان موجوداً في حال الكتابة المانعة من البيع، فإذا عجز، ارتفع المانع، وتعلّق الأرش بالرقبة بخلاف الحربي، لأنه لم يكن رق عند الإتلاف، وإنما حدث الرق من بعدُ، وهذا الفرق لا باس به.
__________
(1) في الأصل: " الممكن ".
(2) في الأصل: " وتحول ".(17/528)
ولكن المسألة في وضعها فاسدة؛ فإن الحربيَّ إذا جنى على مسلم، أو ماله، فلا ضمان، ولا تعلّق بموحَب الإتلاف بالذمة، فإنه فعل ما فعل، ولا حكم عليه، وليس عقداً يُستَدام، والرق وإن أدخله في حكمنا، فالذي مضى من الإتلاف لا يُعقب تبعةً يُتَّبع بها في أحكام الإسلام، ونحن وإن قلنا: لا يملك الحربي على المسلم بالاستيلاء، فإنا نقول: لو أتلف حربي على مسلم مالاً، لم يضمنه إذا أسلم، ولم يطالَب به، فهذا ما يجب القطع به.
وحكى بعضُ الناس [عن القاضي] (1) أن الحربيّ إذا أتلف، ثم عقدنا له ذمة أو أماناً، فهو مطالب بضمان ما أتلفه، ولو أسلم لا يطالب، وهذا لا يحل إلحاقه بمذهب الشافعي. والقاضي أجل قدراً في المذهب من أن يفرع على [مذهبه] (2) ذلك؛ فما أرى ما جرى إلا خللاً من ناقل، أو هفوة من ذلك الإمام في مسألة جريان الرق بعد الجناية.
فصل
" ولا يفرّق بينها وبين ولدها ... إلى آخره " (3)
11420- لا يجوز التفرقة بين الأم وولدها الطفل سواء كانا مسلمين أو كافرين، أو كان أحدهما مسلماً والآخرُ كافراً، على تفاصيلَ سيأتي الشرح عليها، إن شاء الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تولّه والدة بولدها " (4) وقال
__________
(1) زيادة للفائدة. وهي من عبارة الغزالي: " وحُكي عن القاضي " (ر. البسيط: 5/ورقة: 160 شمال) .
(2) في الأصل: " مذهب ".
(3) ر. المختصر: 5/191.
(4) حديث " لا تُوَلَّهُ والدة بولدها " رواه البيهقي من حديث أبي بكر، قال الحافظ: " بسند ضعيف، ورواه أبو عبيد في غريب الحديث من مرسل الزهري، وراويه عنه ضعيف، والطبراني في الكبير من حديث قتادة، وقال ابن الصلاح: روي عن أبي سعيد وهو غير معروف وفي ثبوته نظر ". والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، وفي سلسلة الضعيفة وعزاه للديلمي (4/11) من حديث أنس مرفوعاً. (ر. البيهقي: 8/5، غريب الحديث=(17/529)
صلى الله عليه وسلم: " من فرّق بين والدة وولدها، فرّق الله تعالى بينه وبين أحبته يوم القيامة " (1) .
واتفق علماؤنا على أن التفريق محرّم، وليس النهي الذي أطلقناه نهيَ كراهية، فإن فرّق المالك بينهما في البيع، فباع الأم دون الولد، أو الولد دون الأم، ففي انعقاد البيع قولان: قال في القديم: ينعقد، وهو مذهب أبي حنيفة (2) ، وقال في الجديد: لا ينعقد؛ لأن النهي متعلق بالمنهي عنه قصداً، وهو محمول على الفساد، وقد روي: " أن جارية بيعت دون ولدها، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع " (3) .
ولو كان للولد أم وجدة، فبيع مع الأم كفى، ولو بيع مع الجدة دون الأم، فعلى قولين. ولو لم يكن له أم، وكانت له جدّة. قال الأصحاب: الجدة كالأم، وقطعوا بهذا، ولفظهم: الجدة كالأم عند عدم الأم، وأرادوا بذلك أن الأم إن كانت رقيقة فالاعتبار بها، ولا حكم للجدة معها.
فأما التفرقة بين الوالد والولد، فهل تحرم؟ على قولين: أظهرهما - أنها لا تحرم؛ فإن الأخبار في الوالدة، وهي أيضاً تختص بنهاية التحنن والشفقة، وضعف
__________
=لأبي عبيد: 2/405، التلخيص: 3/36 ح 1170، مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/30، ضعيف الجامع الصغير: 6280، سلسلة الضعيفة: 4797، المجلد العاشر، القسم الأول، ص 338) .
(1) حديث " من فرّق بين والدة وولدها ... " رواه أحمد (5/413، 414) ، والترمذي وقال: حسن غريب: البيوع: باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين، أو بين الوالدة وولدها في البيع، ح 1283، الطبراني في الكبير: 4/217، والدارقطني: 3/67، والحاكم وصححه على شرط مسلم (2/55) كلهم من حديث أبي أيوب. قال الحافظ: وفي إسنادهم حي بن عبد الله المعافري: مختلف فيه، والحديث رواه الدارمي من طريق آخر (2479) ، والبيهقي أيضاً في الكبرى (9/126) من طريق آخر غير متصل، كما ذكر الحافظ (التلخيص: 3/36 ح 1171) .
(2) ر. مختصر الطحاوي: 85، 286، مختصر اختلاف العلماء: 3/162 مسألة: 1242، اللباب 2/30.
(3) حديث أن " جارية بيعت دون ولدها ... "، رواه أبو داود: الجهاد، باب في التفريق بين السّبي، ح 2696، والحاكم (2/155) وصححه وواففه الذهبي، والدارقطني (3/66) والبيهقي في الكبرى (9/126) ، والمعرفة (7/79) .(17/530)
المُنّة في التصبر. فإن قلنا: يجوز التفريق بين الولد والوالد، فلا كلام. وإن قلنا: لا يجوز، ففي غير الوالد من المحارم من القرابات قولان على هذا القول: أحدهما - لا يجوز التفريق بين كل شخصين بينهما قرابة ومحرمية. والقول الثاني - يجوز.
ويختص ما قدّمناه بالأم، أو من هو على عمود النسب. فإن قلنا: يجوز التفريق، فيصح البيع لا محالة. وإن قلنا: لا يجوز التفريق، ففي صحة البيع على حكم التفريق قولان.
ثم إذا كان للولد أبوان، فلا أثر للتفريق بين الولد والوالد، إذا كنا نرعى الجمع بين الولد والأم كما ذكرناه في الأم والجدة.
ثم ما ذكرناه من المنع من التفريق إلى متى؟ المذهب أنه إلى استقلال الصبي ببلوغ سن التمييز، وهو السبع والثمان. وذكر أئمتنا قولاً آخر أن التحريم وحكمه يمتدّ إلى البلوغ.
11421- وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن في التفريق ضرورة. فإن وقعت ضرورة، فالبيع جائز، وبيانه أن الأم إذا كانت حرة، فَبَيْعُ الولد جائز، فإن حسم البيع لا سبيل إليه، وكذلك لو كان الولد لزيدٍ والأم لعمرو، فيجوز لكل واحد منهما أن ينفرد ببيع ما يملك؛ فإن هذا التفريق واقع، ومن يبيع يُقيم غيره مقام نفسه، وليس بمحدث تفرقاً لم يكن.
ولو رهن جارية، ولها ولدٌ دون ولدها، جاز؛ إذ كان الرهن لا يوجب تفرقة؛ إذ الملك بعدُ واقع ولا حيلولة.
وإذا جاز (1) البيع، فقد قال الشافعي: تباع الجارية والولد، ويوزع الثمن عليهما. وقد ذكرنا هذا على الاستقصاء في كتاب الرهن، وما ذكرناه من [منع التفرقة في البيع يجري] (2) في منع التفرقة في الوصية والهبة، وكل جهة مملِّكة.
ومن باع جارية، فسلّمها قبل قبض الثمن، فولدت للمشتري ولداً رقيقاً، وفلس
__________
(1) كذا. والمراد إذا حُقَّ بيعُ الجارية المرهونة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(17/531)
المشتري، وعجز عن توفية الثمن، فكيف يرجع البائع إلى عين الجارية، ولو رجع فيها، لكان ذلك تفريقاً بين الأم والولد؟ قال العراقيون: في ذلك وجهان: أحدهما - أنه يقال للبائع: خذ الجارية وولدها بثمن المثل، وإن أبيت أخذ الولد، فليس لك إلا مضاربة الغرماء بثمن الجارية، ولا شك أن هذا مفرع على منع صحة البيع على حكم التفريق.
والوجه الثاني - أنه يرجع إلى عين الجارية، والضرورة تلجىء إلى ذلك، وقد قدّمنا أن التفرقة بسبب الضرورة جائزة.
11422- ثم قالوا على الاتصال بهذا: من اشترى جارية، وقبضها، فولدت له ولداً رقيقاً، ثم وجد بها عيباً قديماً، فلا سبيل إلى ردّها إذا منعنا التفريق؛ إذ لا سبيل إلى إلزام البائع بملك الولد حتى ينتظم الرد عليه.
ومن الممكن أن نقول: الراجع في عين ماله بعد الفلس يرجع في الجارية وحدها. هكذا ذكروه، وليس يبعد عندنا أن نسلّطه على ردّ الجارية وحدها لأجل الضرورة الداعية، وهذا إذا لم تعبها الولادة، ولا تُلحق بها نقصاً، فإن نقصت، وقعنا في تفصيل العيب الحادث مع الاطلاع على العيب القديم.
ثم ذكر الشافعي مسائل في حصول الإسلام بالتبعية، وقد ذكرنا [وجوه] (1) التبعية في كتاب اللقيط على أبلغ وجه في البيان، فلا نعيد منها شيئاً.
***
__________
(1) في الأصل: " وجوب ".(17/532)
باب المبارزة
11423- المبارزة في الجملة جائزة، وعن الحسن البصري (1) تحريم المبارزة.
والأولى ألا يبرز الغازي دون إذن صاحب الراية، وإن أراد المبارزة دون إذنه، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - يجوز، وقياسه ظاهر؛ فإنه فن من القتال، ولا سبيل إلى مراجعة صاحب الراية في تفاصيل القتال؛ فإن مراعاةَ هذا عسرٌ، سيّما إذا عظم الجند، واشتد القتال. والوجه الثاني - أنه لا يجوز؛ فإن له في تعيين المبارزين رأي واجتهاد فيهم. فلا بدّ من مراجعته. وبالجملة من لا يعلم في نفسه بلاءً وشجاعة، فلا يجوز له أن يبارز بطلاً من الكفار، لأنه ربما يصاب، فتنكسر قلوب المسلمين، وتتجرأ به الكفار.
ثم يتعلق بالمبارزة فصول من الأمان، فإذا برز مسلم، وتنصَّل (2) من الصف كافر، فلا أمان للكافر، ويجوز لجمع من المسلمين أن يغتالوه. وإن شرط أن ينفردا ولا يُعينَ المسلمون صاحبَهم، ولا الكفارُ صاحبَهم، فيجب الوفاء بموجب الأمان، ثم نَنظر إلى صيغته، فإن وقع العهد إلى أن يثخن أحد القِرنين صاحبَه، فإذا قتل الكافرُ المسلمَ، جاز قتلُ الكافر قبل الرجوع إلى الصف، وإن كان العهد ممدوداً إلى الرجوع إلى الصف، فلا نَتعرّض له.
وإن أثخن المسلمَ، ولم يبق فيه قتال، فأراد التذفيفَ عليه، ابتدرناه، ومنعناه، وإن كان العهد ممدوداً إلى تمام القتال، فإن القتال قد انتجز [بالإثخان] (3) ، فإن كان العهد ممدوداً إلى القتل، فالعهد -على هذا الوجه- باطل؛ فإنا إن رأينا في
__________
(1) الحسن البصري: الحسن بن يسار، من وجوه التابعين في العلم والعمل، وحيثما قيل: (الحسن) فقط فإياه يعنون.
(2) تنصل من الشيء: خرج منه.
(3) غير مقروءة في الاصل(17/533)
المبارزة وجهاً من المقاتلة، فلا تتم المبارزةُ إلا بأن يأمن كلُّ قِرنٍ في وقت المحاربة أن يُغتال من غير جهة قِرنه، فلئن اتجه هذا، فلا معنى لتسليط كافر على مسلم لا قتال فيه.
وإن كان العهد ممدوداًَ إلى القتال، فإذا ولى المسلم دُبره، فليس للكافر أن يتبعه، وقد ترك القتال، فإن تبعه، دفعناه وقتلناه، فإن ولّى الكافر دبره، فيجوز للمسلمين أن يقتلوه، لأن الأمان له ما داما يتقاتلان، وقد انتهى القتال بينهما.
وإن شرط البارز منهم ألا يتعرض له حتى يرجع إلى الصف، وجب الوفاء بالأمان. ولو أعان الكافرَ جماعةٌ من المشركين، فإن كان باستنجاد من برز منهم، قتلناه، ومن يعينه، فإن أعانوه من غير استنجاده، دفعنا من يعينه، ولم نقتل المبارز، وتركناه إلى قِرنه.
ولا فقه في هذه المسائل، والجامع لجميعها أن المرعي نصُّ الأمان وصيغتُه، فنفي به إذا وافق ما يجوز الأمان فيه.
وحظّ الفقه من جميع ما ذكرناه شيئان: ذكرنا أحدهما - وهو أن الأمان المسلّط على القتل بعد الإثخان باطل. والثاني - أنا إذا جوّزنا للواحد من الصف أن يبرز دون [إذن] (1) صاحب الراية، فلو أمّن المسلمُ البارزُ الكافرَ الذي خرج إليه على ألا يُتعرض له حتى يرجع إلى الصف، فيجب الوفاء بهذا الأمان، وإن لم يجر الأمان إلا منه.
وإذا قلنا: لا ينفرد بالبراز، فلسنا نعني به إذا كالح (2) كافراً لا يجوز، وإنما نعني به أن أمانه لا ينفذ، فلا تنتظم المبارزة والحالة هذه؛ فإن المسلمين يقصدون ذلك الكافر، ويقتلونه.
فهذا معنى تردد الأصحاب في الانفراد بالمبارزة دون الرجوع إلى صاحب الراية، فإن قيل: ألستم تنفذون أمان الواحد للواحد؟ قلنا: هذا إذا لم يكن المؤمَّن مقاتلاً، ووقوف الكافر في الصف قتال.
***
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) كالحه: واجهه بالخصومة. (المعجم) .(17/534)
باب فتح السواد
قال الشافعي: " ولا أعرف ما أقول في فتح السواد إلا بظنٍّ مقرونٍ إلى علم ... إلى آخره " (1) .
11424- وإنما قال الشافعي ما قال لاختلاف الروايات، في السواد، وكان أعرفَ خلق الله بهذا القسم، ولكن تحرّج حتى لا يُنسب إليه غريبُ الروايات كلها، واختار من جملتها: أن سواد العراق فُتح عَنوةً، وقد روي أنه فتح صلحاً، وروي أن بعضها فتح صلحاً، والبعض عَنوة، والأصح أن أرض العراق فتحت عَنوة بجملتها، وأريق على جوانبها دمُ آخر الأكاسرة يزدجرد وأعوانه، ولم يثبت صلحٌ في قطر من أقطار العراق، ثم استقسم الغانمون الأراضي، فقسمها عمر -رضي الله عنه- بينهم بعد أن قال: " أخشى أن يتعلقوا بأذناب البقر، ويتقاعدوا عن الجهاد " (2) فخاف أن يتعطل أمر الجهاد، فاستطاب أنفسهم عنها، فمنهم من طاب نفساً بردّ نصيبه، ومنهم من أبى، فعوّضه، واستخلص الكلَّ للمسلمين.
وفي رواية جرير بن عبد الله البجلي، وهي أصح الروايات في سواد العراق، قال: " كانت بَجِيلةُ (3) رُبعَ الناس، فأصابهم ربعُ السواد فاستغلوه ثلاث سنين أو أربعَ سنين، فقال عمر: لولا أني قاسم مسؤول، لتركتكم وما قسم لكم ... الحديث " (4) . وروي أن أم كُرز قالت: " إن أبي شهد القادسية وثبت سهمه، وإني لا أرضى حتى يملأ كفي
__________
(1) ر. المختصر: 5/192.
(2) أثر عمر في فتح السواد " أخشى أن يتعلقوا بأذناب البقر ... " لم نصل إليه.
(3) بجيلة: وِزان سفينة.
(4) أثر جرير بن عبد الله البجلي في فتح السواد رواه الشافعي في الأم 4/279، والبيهقي في الكبرى: 9/135 وفي المعرفة: 7/87. (ر. التلخيص: 4/212، ح 2274) .(17/535)
دنانيرَ وفمي لآلىء، ويُركبَني ناقة ذلولاً عليها قطيفةٌ حمراء، فأعطاها عمر ما سألت " (1) ، فثبت أن الفتح كان عَنوة.
ثم لما استخلص عمر أراضي العراق للمسلمين، ردّها على سكان العراق، ووقفها على المصالح، وضرب على الذين يستغلونها أموالاً رآها الشافعي أجرةَ الأراضي، والإجارةُ مؤبدة، وكانت [تتكرر] (2) بتكرر السنين. ثم أسلموا عليها، فلم تسقط عنهم الأموال الموظفة عليهم، فإنهما كانت أجرة، ولم تكن جزية.
والمأخوذ منهم يُسلك به مسلك مال المصالح؛ لأنه مستفادٌ من موقوفٍ على عامة المسلمين، ومثل هذه الجهالة محتملة لمسيس الحاجة في المعاملات العامة المتعلقة بالمصالح الكلية. قال الشافعي: من انتهت إليه قطعة من تلك الأراضي من آبائه وأجداد، فليس للغير أن يقول: أنا أستغلها، وأعطي الخراج؛ فإنهم استحقوا منافعها بإجارة لازمة، عقدها أمير المؤمنين، والأجارة لا تنفسخ بموت المستأجر، ولو أراد واحد منهم بيع رقبة الأرض، لم يصح؛ فإن رقاب تلك الأراضي محبسة، ولو أراد واحد منهم أن يكري تلك الأرض مدة معلومة بأجرة معلومة، صح. وإن أراد أن يكريها إكراء مؤبداً بمالٍ يَتفق عليه التراضي، ففي ذلك تردد من الأصحاب، والأصح المنع؛ فإنا حملنا تجويز التأبيد في إجارة عمر رضي الله عنه على تعلق تلك المعاملة بالمصلحة العامة، وإذا أراد الواحد أن يكري، فتصرفه مردود إلى قياس التصرفات الجزئية. ومن يجوّز الإجارة المؤبدة، لا يجوّزها إلا في [تلك الأراضي] (3) ، ويحتج بأنهم استحقوا منافعها على جهةٍ، فلا يبعد أن يملكوا إخراج أنفسهم من البَيْن، وإحلال غيرهم محالّ أنفسهم، فيقع جواز هذا تبعاً لما أجراه [لهم] (4) عمر.
وقال ابن سريج: باع عمر بن الخطاب تلك الأراضي من سكان العراق، وجعل الثمن مؤجلاً عليهم. وهذا غير صحيح، وهو يخالف النص، فإن نص الشافعي
__________
(1) أثر أم كرز في فتع سواد العراق رواه البيهقي في الكبرى: 9/135، وفي المعرفة: 7/90.
(2) مكان بياض بالأصل قدر كلمة.
(3) في الأصل: "ملك الأراضي".
(4) مكان بياض بالأصل.(17/536)
موجود في كتاب الرهون، على أن رهن السواد مفسوخ. أراد بالمفسوخ الفاسد، ولو كانت رقاب الأراضي مبيعة، لجاز بيعها، ولو جاز بيعها، لجاز رهنها. ثم ما ذكره غير صحيح، وذلك أن الأجرة إذا كانت تتجدد بانقضاء السنين، فهذا محمول على مقابلة كل سنة بأجرتها، والمنافع متجددة، ومثل هذا لا يتصوّر في البيع، فإن الموظف على أهل العراق لو كان ثمناً، فالثمن لسنا نرى له ضبطاً، ولا غاية، ولا مقابلة بما يتجدّد حالاً على حال.
وقال أبو حنيفة (1) : السواد فتح صلحاً، وردّها عمر عليهم بخراجٍ يؤدونه كلَّ سنة، وزعم أن الخراج لا يسقط بإسلامهم. وهذا مطرد على مذهبه؛ فإنه يقول: إذا ضرب الإمام الخراج على أراضي الكفار، وكان يأخذه منهم جزيةً، فإذا أسلموا على أراضيهم، لم يسقط عنهم الخراج الموظف، وعندنا أن الخراج المضروب على الكفار سبيله سبيل الجزية، فإذا أسلموا على أراضيهم، سقط الخراج عنهم كما تسقط الجزى عن رؤوسهم.
ومما يتصل بهذا الباب أنه لو وقع مثل هذه الواقعة، وعلم الإمام أنه لو ترك الأراضي في أيدي الغانمين، لتعطل الجهاد، ثم زاد (2) أصحابُ الأراضي بسطتَهم، فأَبَوْا، وعلم أنه لا خلاص إلا باقتهارهم، وأَخْذِ الأراضي منهم قسراً، فليس للإمام أن يفعل هذا، بل يقتهرهم على الخروج إلى الجهاد على حسب دعاء الحاجة إليهم.
وقد نقل المعتمدون: أن أمير المؤمنين استطاب قلوب المسلمين، وطلب المسلمون مرضاتَه، لما عرفوا نظره للدين وأهلِه، وروي: " أن بلالاً أبى عليه، فراجعه، فأغلظ بلال القولَ على عمر، فاحتمل عمر، ثم قال: اللهم خلصني من بلال وذويه، فما مرت سنة حتى لم يبق من آل بلال نافخ ضَرْمة (3) " (4) .
***
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/494، 495 مسألة: 1644، 1645.
(2) في الأصل: " ثم زادوا " على لغة: أكلوني البراغيث.
(3) ضرمة: أي جمرة وهي النار. (المعجم) .
(4) أثر عمر " اللهم خلصني من بلال ... " رواه البيهقي عن جرير بن حازم عن نافع مولى ابن عمر: 9/138، وقال: والحديث مرسل. ورواه أيضاً في معرفة السنن: 7/91.(17/537)
باب الأسير يؤخذ عليه العهد ألا يهرب أو على الفداء
11425- مضمون الباب الكلام على أحوال الأسرى إذا أطلقهم الآسرون، وأثبتوا عليهم عهوداً، ونحن نفصل الغرض فيما يجوز، وما لا يجوز.
فنقول: إذا خلَّوْا الأسير وشرطوا أن يتردّد فيما بينهم، ولا يخرج إلى دار الإسلام، فمهما (1) تمكن، فلا يسعه المقام، إذا كان يخاف أن يُفْتَنَ عن دينه، وإن كان لا يخاف ذلك، وكان متمكناً من إقامة شعائر الشريعة غيرَ مدفوع عنها، فالأصح أنه لا يحرم عليه المقام.
ومن أصحابنا من حرم المقام؛ فإن المسلم بين أظهر الكفار مقتهَرٌ مهانٌ، فإن انكفوا عنه، فلا تعويل عليه؛ فإنهم قد يؤذونه، أو يقهرونه، أو يفتنونه عن دينه.
وحق المسلم أن يكون مستظهراً بأهل دينه، قال علي رضي الله عنه: " أنا بريء من كل مسلم بين المشركين " (2) ، حتى قال الأصحاب، لو كانوا حلّفوه، فلا يسعه المُقام، فإن أكرهوه على اليمين، فلا حِنث عليه، وإن لم يتحقق الإكراه على اليمين، ولكنه
__________
(1) فمهما: أي: فإذا.
(2) أثر علي: " أنا بريء من كل مسلم بين المشركين " لم نصل إليه من كلام علي رضي الله عنه، وإنما هو حديث مرفوع، ومن عجب أن علياً ليس من رواته.
والحديث المرفوع رواه أبو داوَد، والترمذي، والطبراني من حديث جرير بن عبد الله، وصححه الألباني في الإرواء، ورواه النسائي مرسلاً عن قيس بن أبي حازم، قال الحافظ في التلخيص: وصحح البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم (ر. أبو داود: الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، ح 2645، الترمذي: السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، ح 1604، الطبراني في الكبير، ح 2264، 2265، النسائي: القسامة، باب القود بغير حديدة، ح 4784، التلخيص: 4/218 ح 2285، إرواء الغليل: 5/30 ح 1207) .(17/538)
يرى أن يحلف لتسكين قلوبهم، ولنفي التهم، فعليه الخروج، إذا تمكن، ثم يلزمه الكفارة.
ولو حلف بالطلاق أو العتاق طائعاً -غير مكره- فلا شك أنه لو خرج، وقع الطلاق والعتاق، ولا ينتصب توقع وقوعهما عذراً في جواز الإقامة، بل يتعين الخروج على الرأي الظاهر الذي هو المذهب.
ثم إن أمّنوه، فليس له إذا استمكن من الخروج أن يغتالَهم في دمائهم وأموالهم، وذراريهم، ونسائهم؛ فإن الأمان إذا ثبت على شرط، اقتضى الأمانَ من الجانبين، ولو أطلقوه، وخلَّوْا سبيله، ولم يتعرّضوا للأمان، فله أن يغتالهم، لأنه لم يجر أمان يتضمن الأمن، فإذا جرى أمان، منعناه من اغتيالهم، وأوجبنا عليه أن يهرب إذا استمكن، ولو هرب، فتبعه أقوام ليردوه، فله أن يقاتلَهم، ويغتالَهم، ولا يتعرّض لغير الذين اتبعوه.
ولو خلَّوه على أن يخرج إلى دار الإسلام، ويزور أقاربه، ثم يرجع إليهم، فلا يحلّ له الرجوع إليهم، ولو همّ به، منعه الإمام.
وقال الزهري والأوزاعي: يلزمه الوفاء بالعود إليهم حتى لا يصير امتناعه سبباً لامتناعهم عن إطلاق الأسرى.
11426- ولو باعوا منه فرساً أو غيره من الأمتعة بأكثرَ من ثمن المثل أو بثمن المثل، فإن كان مكرهاً عليه، فالبيع باطل. غير أنه يلزمه أن يردّ إليهم ما أخذه بعد الخروج إلى دار الإسلام؛ لأن تلك العين حصلت في يده على حكم المعاوضة؛ فإذا لم يلزمه الثمن، ألزمناه ردَّ العين.
وقال الشافعي في القديم: هو بالخيار بين أن يردّ عين مالهم، وبين أن يبعث إليهم بثمنها. وهذا شَرْعٌ (1) إلى [وقف] (2) العقود. وقد قررناه في كتاب البيع، وإذا جوزنا وقف العقد، فالمكره على البيع يملك الإجازة لو أرادها.
__________
(1) شَرْعٌ: أي طريق إلى وقف العقود.
(2) في الأصل: " وقت ". والمثبت تصرّف من المحقق.(17/539)
ولو جرى البيع على اختيار، واشترى ما اشترى طائعاً بثمن يصح مثله في الإسلام، فيلزمه الوفاء بالعهد، وبعث الثمن. وفي تعليقنا عن الأمام (1) أنهم إذا خلّوا الأسير على شرط أن يبعث إليهم مالاً، وفادَوْه به أنه لا يلزمه أن يفي بما وعد من المال، ولا يجوز أن يعود. قال: وحكى الشافعي عن بعض السلف: أنه يجب عليه أحد الأمرين: إما العود إلى الأسر، وإما بذلُ المال، وقيل هذا قول الشافعي في القديم. وهذا بعيد لا أصل له، ولم أره في غير تعليقنا، ولست أعدّه من المذهب.
فرع:
11427- قال العراقيون: لو كان في المغنم كلاب، فإن لم يكن منتفَعاً بها، خُلّيت، ويُقتل العقور منها فأما إذا كانت منتفعاً بها بحيث يجوز اقتناؤها للانتفاع بها. قالوا: لو أراد الإمام أن يسلّمها إلى واحدٍ من الغانمين لعلمه باحتياجه إليها، فعل ذلك، غيرَ محسوب عليه.
وهذا فيه احتمال؛ فإن الكلاب في الجملة منتفع بها، فلا يبعد أن نقول: يثبت لجميعهم حق اليد فيها. ومن مات وخلف كلاباً على الصفة التي ذكرناها، فلا يستبدّ بها بعض الورثة، وليس للقاضي تخصيص بعضهم؛ فليكن الأمر كذلك في كلاب المغنم.
فرع:
11428- إذا أراد الغزاة حمل رؤوس الكفار إلى بلاد الإسلام، فالمسألة ليست منصوصة للشافعي، والذي يقتضيه قياسه كراهيةُ ذلك، فإنه لم يعهد في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيها فائدة. وقد تعلق الأصحاب بما روي أن جماعة نقلوا رؤوس الكفار إلى المدينة في زمن أبي بكر، فقال: لا تنقلوا هذه الجيف إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
__________
(1) الإمام: المراد والده.
(2) أثر أن جماعة نقلوا رؤوس الكفار إلى المدينة في زمن أبي بكر فأنكره عليهم، رواه البيهقي (9/132) قال الحافظ: إسناده صحيح. ورواه النسائي في الكبرى: ح 8673. وفي الخبر أن أبا بكر رضي الله عنه أنكر ذلك فقال له عقبة بن عامر (راوي الحديث) : " يا خليفة رسول الله، فإنهم يصنعون ذلك بنا. فقال أبو بكر: أفاستناناً بفارس والروم! لا يُحمل إليّ برأس، إنما يكفي الكتاب والخبر " (التلخيص: 4/201) .(17/540)
قال شيخي: هذا يمكن أن يحمل على تنزيه الحرمين عن نقل جيف الكفار، حتى إذا كان نقل الرؤوس ناجعاً في الكفار، فهو ضربٌ من التنكيل، لو رآه الإمام، لم يكن في تجويزه مع نفي الكراهية بأسٌ.
فرع:
11429- إذا حاصر صاحب الراية قلعة، فرضُوا بأن ينزلهم على حكم رجل عيّنوه، فيجوز للإمام أن ينزلهم على حكمه إذا كان أميناً عدلاً.
قال العراقيون: ينبغي أن يكون مجتهداً، وما أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي، فإن عَنَوْا بالاجتهاد التهدِّي إلى طلب الصلاح والنظر للمسملمين، فهذا لا بد منه، وإن أرادوا استجماع شرائط الفتوى، فهو غلط غير معتدٍّ به، والأصل في ذلك ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تنزيل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ في قصة مشهورة (1) .
ثم إذا حكم المحكّم بالقتل وسبي الذرّية، فللإمام أن يمن عليهم، ويفاديهم، ولا يتعين على الإمام قتلُهم، نعم لو حكم المحكَّم بالمن، فلا يقتلهم الإمام، وإذا حكم بالقتل، فله المن. وتعليل ذلك بيّن، ولو حكم عليهم بالجزية، فإن قبلوها، اتبعها الإمام، وفاء بالرضا بحكمه، ولو رأى أن يمن، فلا حرج عليه، وبالجملة: إن الإمام لا يزيد على حكم المحكَّم ومقتضاه، وإن أراد التجاوز والتساهل، ورأى ذلك وجه الصلاح، فلا يُعتَرضُ عليه.
ولو حكم المحكّم بالجزية، فهل يلزمهم الرضا بحكمه، والتزام الجزية؟ ذكر ابن سريج وجهين فيما حكاه العراقيون: أحدهما - يلزمهم وفاءً بتحكيمه والنزول على رأيه.
والثاني - لا يلزمهم.
فإن ألزمناهم، فليس معناه أنا نوجب عليهم أن يلتزموا، ولكنا نقضي بأن الجزية
__________
(1) حديث تنزيل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (البخاري: المغازي، باب مرجع النبي من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ح 4121. مسلم: الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، ح 1768) .(17/541)
تلزمهم، فإن أبَوْا، كانوا بمثابة أهل الذمّة إذا التزموا الجزية، ثم امتنعوا عن أدائها.
وسيأتي حكم هؤلاء في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.
وإذا قلنا: لا تلزمهم الجزية، فلا يجوز التعرّض لهم، ولكنهم يُبَلَّغون المأمن، فإنهم نزلوا متمسكين بأمانٍ على الجملة، وهذا الوجه يفارق الوجه الآخر؛ من حيث أنا لا نغتالهم على الوجه الأخير وجهاً واحداً، وإذا ألزمناهم الجزية، وامتنعوا، فقد نغتالهم في وجه.
ولو حكم المحكَّم بالقتل، فأراد الإمام أن يسترق، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: له ذلك، لأن الاسترقاق دون القتل، والإمام لا يزيد على حكم المحكم، وله أن ينقص، والاسترقاق دون القتل.
ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يسبي، وهو اختيار الصيدلاني؛ فإن الاسترقاق نوع من العذاب، وقد يؤثر الإنسان الموت عليه، وليس كالمنّ، فإنه تركٌ للعقاب من غير بدل، فلو حكم بالقتل، ثم أسلم المحكوم عليه، امتنع القتل، فمن جوز للإمام أن يسترق في الكفر، جوّز ذلك بعد الإسلام، ومن لم يجوّز الاسترقاق، فلا يجوز هاهنا؛ فإن الاسترقاق زال بحكم القتل، ثم زال القتل بالإسلام.
فرع:
11430- ذكر الشيخ في أثناء كلامه في شرح التلخيص أن العبد المرتدّ مالٌ يُباع، ولو قتله مسلم، لم يلتزم بقتله ضماناً، ولو غصبه غاصب، فتلف في يده، لزمه الضمان؛ فإنه مالٌ تام قابل للتصرفات المتعلّقة بالملك التام، وما كان كذلك، فهو مضمون باليد العادية (1) ، ولا يضمن بالقتل؛ لأن قتله حكمُ إقامة الحد، فمن ابتدر قتله من المسلمين كان مقيماً حدّ الله تعالى، وإن لم يكن له ذلك؛ فإنه مفوّض إلى نائب المسلمين.
وهذا ممثل بعبدٍ مغصوب في يد الغاصب يقول مولاه: اقتله، فلو قتله، لم يضمنه، ولو تلف في يده، ضمنه، ولو قطع رجلٌ يدَ مرتدٍّ، واندمل، وأسلم المقطوع يدُه، فلا ضمان، وإن لم يكن قَطْعُ اليد قتلاً، ولم يكن واقعا حدّاً،
__________
(1) العادية: أي المعتدية بالغصب.(17/542)
ولا محمل لهذا إلا أنه لو قتله، لكان هدراً، والأطراف تهلك بالقتل، والذي يقرّب ذلك أن قطع الطرف لو أدى إلى التلف، لكان قتلاً، فإذا لم يُودَ، لم يخصص بالضمان، والوجه أن نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل هذا العبد، فلو قتله، لم يضمنه، ولو قطع يده، لم يضمن يده أيضاً، قياساً على قطع يد المرتد، والله أعلم.
فرع:
11431- ذكر الشيخ في أثر كلام أجراه في أحكام الكفار، أن الكافر إذا حلف وحنث، انعقد يمينه، ولزمته الكفارة، بالحنث، وهذا مشهور من أصلنا. ثم قال: فلو أسلم الكافر، فهل تسقط عنه الكفارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - تسقط، ولا يخاطب بها، والإسلام يجبها. الثاني - لا تسقط، كما لا تسقط عنه [القروض] (1) والديون التي التزمها في الشرك.
وهذا الذي ذكره يجرّ إشكالاً عظيماً على المذهب؛ فإن الكفارة إذا كانت تسقط بالإسلام، والطَّلِبة بها لا تتوجه على الكافر، وليست من الأحكام المتعلّقة بالحكام، حتى يُفرض فيها [إلزامٌ] (2) من الحاكم عند تقدير رضا الكافر بحكمه، سواء إذا كان الكافر في كفارة اليمين [أو غيرها] (3) ، فإذا لم يظهر طَلِبة، والإسلامُ المتضمن التزام الأحكام يُسقطها، فلا معنى للزومها.
ولو كانت الكفارة مفروضة في الظهار، والظهار نافذ من الكافر؛ فإنه يقتضي تحريماً، وإن كان لا يقطع الملك (4) ، فيتجه أن يقال: لا يرتفع التحريم إلا بالتكفير، وبالجملة إذا أسقطنا بالإسلام كفارة اليمين، فلا معنى لوجوبها على الكافر، والمصير إلى أن كفارة الظهار تسقط بالإسلام لا أصل له.
ويلزم على مساق هذا أن يقال: إذا آلى الكافر من زوجته، ثم أسلم، انقطع الإيلاء، لمصيره إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم بالوطء أمراً، وقد ذكرنا أن من علّق
__________
(1) في الأصل: " الفروض ".
(2) في الأصل: " التزام ".
(3) ما بين المعقفين تقدير من المحقق.
(4) المراد ملك النكاح.(17/543)
عتق عبده بوطء زوجته، وحكمنا بأنه مُولٍ موقوف بعدّ الأربعة الأشهر، فلو باع ذلك العبد، والتفريع على امتناع عود الحنث، فينقطع الإيلاء.
فإذاً يجب القطع ببطلان سقوط الكفارة بالإسلام؛ فإن في الذهاب إليه هدمُ القواعد. ووجوب كفارة اليمين على الكافر مشكل، وإن كان الفقيه يتكلف لإثبات الكفارة في الظهار تبعاً للظهار، وكذلك القول في الكفارة المتعلقة بالإيلاء.
فهذا منتهى المراد في ذلك.
***(17/544)
باب إظهار دين الله تعالى
11432- تكلم الشافعي في هذا الباب على آيةٍ وأخبارٍ ظاهرها التعرض لما سيكون، فأما الآية، فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ، وقد قيل: أراد إظهار دينه بالحجة، فعلى هذا انتجز الموعود، وظهرت الحجة، ووضحت المحجة.
وقيل: أراد ظهورَ الملة في جزيرة العرب، وهذا متجه أيضاً.
وقيل: أراد استيلاء ملوك الأمة على المشارق والمغارب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " (2) .
وقيل؛ ينتجز هذا الوعد عند نزول عيسى عليه السلام، وقصة نزوله مشهورة.
وأما الأخبار التي جمعها الشافعي، فهي، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقَن كنوزهما في سبيل الله " (3) . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمدٍ رسول الله إلى كسرى عظيم فارس " فلما بلغه الكتاب قال: عبدي يقدم اسمه على اسمي، ومزق كتاب رسول الله صلى الله
__________
(1) وهي في سورة الفتح أيضاً: 28، وسورة الصف: 9.
(2) حديث: " زويت لي الأرض ... " رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه: الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ح 2889. وأبو داود: الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، ح 4252. والترمذي: الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي ثلاثاً في أمته، ح 2176. ابن ماجه: الفتن، باب ما يكون من الفتن، ح 3952. والبيهقي: 9/181.
(3) حديث " إذا هلك كسرى ... " متفق عليه من حديث جابر بن سَمُرة، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/208 ح 1848، 1847) .(17/545)
عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمزّق ملكُه " (1) .
وكتب إلى قيصر: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: أما بعد، أسلم تسلم، الكتاب " وهو معروف. فلما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمه وطيبه وغلفه بالمسك والغوالي، وقبّله ووضعه على رأسه، وأمر حتى نثر عليه. فقال صلى الله عليه وسلم، لما بلغه الخبر: " ثبت الله ملكه " (2) .
أما الأخبار في هلاك الأكاسرة، وتمزق ملكهم، فلا اختلاف فيه، وأما حديث قيصر، فقد روي أنه قال: " إذا مات قيصر، فلا قيصر بعده " معناه: لا قيصر بعده بالشام، وكانت القياصرة تسكن الشام، وهي دار ملكها. وأما قوله: ثبت الله ملكه أراد امتداد ملك القياصرة، وهذا حق معاين، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " أي كنوز قيصر الشام، وقد أنفقت، وقيل: أراد جملة القياصرة، وهذا سيكون في آخر الزمان.
***
__________
(1) حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، رواه البخاري من حديث ابن عباس: المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، ح 4224.
(2) حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر متفق عليه من حديث أبي سفيان رضي الله عنه الطويل (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/219 ح 1162) .(17/546)
ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات إذا انتهى إلى مواقف تعارض النص، تخبط.
الإمام
في نهاية المطلب(18/4)
كتاب الجزية
11433- أمر الله تعالى لما افترض الجهاد بقتل المشركين كافة، فقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] ، وفي آية أحْرى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] ، فمن العلماء من قال: كان الأمر بالقتال عاماً في ابتداء افتراض الجهاد، ثم ثبتت الجزية، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وكانت آية الجزية ناسخة للأمر بقتلهم كافة.
وقيل: آيات القتال عامة، وآية الجزية مخصصة لها، مبينة للمراد بها. فالأصل في الجزية الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وسنذكر تفسير الصغار في أثناء الكتاب- إن شاء الله تعالى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " إنك سترد على قومٍ هم أهل كتاب، فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا، فاعرض عليهم الجزية، وخذ من كل حالم ديناراً، فإن امتنعوا، فقاتلهم" (2) والإجماع منعقد على أصل الجزية.
__________
(1) وهي أيضاً في سورة النساء: 91.
(2) هذا الحديث أجهدنا كثيراً، حيث لفت نظرنا في أول بحثنا عنه قول الحافظ في التلخيص: " وقال أبو داود: هو حديث منكر، قال: وبلغني عن أحمد أنه كان ينكره " ا. هـ ولما رجعنا إلى أبي داود لم نجد هذا الكلام عن حديث معاذ، مع أن أبا داود أتى بحديث معاذ في خمسة مواضع من السنن، ولكن لم يعقب أي موضع منها هذا التعليق.
فتشعّب علينا البحث، وأخذنا ننقّر ونفتش في كل ما استطعنا الوصول إليه من مصادر ومراجع، ونوجز ثمرة هذا البحث والجهد فيما يلي:
1- الحديث ورد عند أبي داود في خمسة مواضع: ثلاثة في كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة، ومن ثلاث طرق، وأرقامها: 1576، 1577، 1578. وموضعان في كتاب الخراج، باب في أخذ الجزية. وأرقامهما: 3038، 3039. وكما ذكرنا لم نجد في أي من هذه المواضع الخمسة إنكار أبي داود الذي نقله عنه الحافظ في التلخيص. =(18/5)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= 2- وجدنا البيهقي في السنن الكبرى ينقل إنكار أبي داود على حديث معاذ، حيث قال بعد أن ذكر روايات الحديث من طرقه المختلفة: " قال أبو داود في بعض النسخ: هذا حديث منكر ... ".
3- وجدنا هذا الإنكار عند أبي داود على حديثٍ لعلي رضي الله عنه يلي حديث معاذ في
آخر موضع ذكره فيه أبو داود (رقم 3039 في الخراج) وحديث علي رقمه (3040) وهو في موضوع آخر لا علاقة له بحديث معاذ.
4- ولا مجال للقول بأن هذا الإنكار انتقل عند الطباعة خطأً من حديث معاذ إلى حديث علي الذي يليه، فقد وجدنا هذا الإنكارَ على حديث علي مفسّراً في عون المعبود من خلال هذه الزيادة التي جاءت بعد إنكار أبي داود مباشرة ونصّها: " وهو عند بعض الناس شبه المتروك، وأنكروا هذا الحديث على عبد الرحمن بن هانئ " ا. هـ وعبد الرحمن بن هانئ هو أحد رجال حديث علي، لا حديث معاذ. وقد نقل عوّامة في نشرته لأبي داود هذه الزيادة المفسِّرة للإنكار عن إحدى النسخ الخطية للسنن. أيضاً ذكر المنذري في مختصر سنن أبي داود هذا الإنكار، وذكر رجالاً من حديث علي جاعلاً الإنكار بسببهم.
فتأكّد لدينا الآن أن العبارة في موضعها الصحيح عقب حديث علي، لا حديث معاذ، وهذا الواقع فعلاً في جميع طبعات أبي داود المختلفة، وكذا في النسخ الخطية المختلفة التي اعتمدها عوّامة في نشرته للسنن.
5- هذا ولم نجد أحداً من المحدثين الذين خرّجوا حديث معاذ، قدامى ومُحْدَثين كابن عبد البر، وابن حزم، والزيلعي، والعظيم آبادي، والشوكاني، والصنعاني، والألباني، وشعيب الأرناؤوط، ذكر إنكار أبي داود الذي وجدناه عند البيهقي، والحافظ في التلخيص.
6- وأعجب العجب في هذا الأمر أن نسخة الحافظ ابن حجر الخطية من سنن أبي داود، وقد كان حفياً بها، يعتمدها، ويرجع إليها، ويعلّق عليها حواشي وفوائد، كما ذكر محمد عوامة، وقد اعتمدها أصلاً في نشرته المحققة الجيدة لسنن أبي داود، نقول:
لم نجد فيها هذا الأنكار على حديث معاذ، فكيف حكاه في التلخيص؟ الله أعلم بالصواب وما كان.
7- وختاماً فالحديث كما ساقه الإمام ملفّق من حديثين، الأول في الصحيحين من حديث ابن عباس بأوله إلى قوله: " فاعرض عليهم الإسلام ". وأما الجزية فرواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وأحمد، والدارقطني، وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي من حديث مسروق عن معاذ. وله طرق أخرى عن معاذ.
(. سنن أبي داود: الزكاة، باب زكاة السائمة، ح 1576، 1577، 1578، والخراج: باب في أخذ الجزية، ح 3038، 3039، مختصر سنن أبي داود للمنذري: =(18/6)
والجزية مأخوذة من الجزاء، وهي اسم للمال المأخوذ، من أهل الذمة، وهي على وزن الفعلة، كالقِعدة، والجِلسة وبابهما.
ثم قال قائلون -من غير فكرٍ-: المأخوذ في مقابلة إسكاننا إياهم، وهذا غير سديد؛ لأن المرأة تقيم في دار الإسلام، ولا جزية عليها.
ومنهم من قال: جزاء حقن الدم. وهذا ليس مرضيّاً أيضاً؛ فإنه يثبت مع الحقن عصمة الأموال، والذراري، ووجوب الذب، فليس الحقن كلَّ المقصود، بل هو من المقاصد.
وقيل: الجِزَى (1) جزاءُ كفنا عن قتالهم في دار الإسلام سنةً، فصاعداً.
والوجه أن تُجمعَ مقاصد الكفار، ويقال هي مقابلة بالجزية، وسيكون لنا عودٌ إلى أن الجزية هل تنزل منزلة أجرة الدار المكراة أم كيف السبيل فيها؟
11434- ثم إن الشافعي صدر الكتاب بمن تؤخذ الجزية منه من أصناف الكفار، ومن لا تؤخذ منه الجزية، ولا يقَرّر في دار الإسلام (2) .
فنقول: الكفار على ثلاثة أقسام: قسم- ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب، فهؤلاء لا تؤخذ منهم الجزية، ولا يقرون في دار الإسلام بالجزية أصلاً، وهم عبدة الأوثان والنيران، وما استحسنوه من الصور الحسان، فلا تعقد لهم الذمة، بل نقاتلهم
__________
= 4/250 ح 2918، سنن أبي داود بتحقيق محمد عوامة: 3/488، 489 ح 3033، 3034، 3035، عون المعبود: 8/289، بذل المجهود: 13/380، 381، معالم السنن للخطابي: 3/22، سنن الترمذي: الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، ح 623، النسائي: الزكاة، باب زكاة البقر، ح2450-2453، مسند أحمد: 5/230، 233، 247، ابن حبان: 11/244-247 ح 4886 (طبعة شعيب الأرناؤوط) ، الدارقطني: 2/102، مستدرك الحاكم: 1/398، سنن البيهقي: 9/193، التمهيد لابن عبد البر: 2/275، المحلى لابن حزم: 6/11-16، نصب الراية: 3/445-446، خلاصة البدر المنير: 2/359 ح 2592، نيل الأوطار: 4/132، سبل السلام: 2/250، إرواء الغليل للألباني: 3/269 ح 787، التلخيص: 4/224، 225 ح 2300) .
(1) الجزى: جمع جزية، مثل سدرة، وسدر.
(2) ر. المختصر: 5/196، 197.(18/7)
حتى نستأصلَهم أو يسلموا، وحمل أصحابُ المعاني قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] ، على هؤلاء.
وقسم لهم حقيقةُ الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وهؤلاء تحقن دماؤهم بالجزية، وتحل ذبائحهم، ومناكحتهم بنصوص القرآن، فأما الحقن، ففي قوله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وحل الذبيحة في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] . والمراد الذبائح، وحل المناكحة في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] .
وقسمٌ ليس لهم كتاب، ولهم شبهة الكتاب، وهم المجوس، فتحقن دماؤهم بالجزية، ولا تحل ذبيحتهم، ولا مناكحتهم على ظاهر المذهب، فغلّبنا فيهم أمرين يقضي الشرع بتغليبهما: أحدهما - الحقن، وعليه أخذ الجزية. والثاني -[الحرمة] (1) في المناكحة والذبيحة، وقد روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر " (2) . وروجع عليٌّ فيهم، فقال: " أنا أعلم الناس بأمرهم. كان لهم كتاب يدرسونه، وعلم يتعلمونه، فواقع فيهم ملك ابنته، فاطلع عليه أهل مملكته، فهموا بقتله، فقال: هل تعلمون ديناً خيراً من دين أبيكم؟ (3) كان يزوج بناته من بنيه، فلما أصبحوا كانوا قد أُسري على كتابهم ومُحي ما كان في حفظهم " (4) .
__________
(1) في الأصل: " الحقن ". والمثبت تصرف من المحقق.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر رواه البخاري من طريق بجالة بن عبدة قال: كنت كاتباً لجَزء بن معاوية فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة " فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ". ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
ر. " البخاري: الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، ح 3156، 3157) .
(3) يقصد آدم عليه السلام.
(4) أثر علي " أنا أعلم الناس بأمرهم ... " رواه الشافعي (الأم: 4/173) ، وعبد الرزاق في مصنفه (6/70 ح 10029) ، والبيهقي في الكبرى (9/188) ، والمعرفة (7/115) .(18/8)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1) .
هذه قاعدة المذهب في الكفار، وتفصيل الحكم في أقسامهم.
ثم لا أثر عندنا في قبول الجزية وردها للعرب والعجم، وإنما التعويل في قبول الجزية على من قَبِل الكتابين، التوراةَ والإنجيلَ، أو للتمسك بشبهة كتاب المجوس، ثم لا فرق بين أن يكون الكتابي أو المجوسي عربياً أو أعجمياً.
فهذا تأسيس المذهب فيمن يكون من أهل الجزية، وفيمن لا يكون أهلاً لها.
11435- ولو جاءنا قوم من الكفار، وزعموا أنهم متمسكون بالكتب المنزلة على الأنبياء، وتعلّقوا فيما زعموا بتلك الكتب كالزبور المنزل على داود، والصحف المنزلة على إبراهيم، فهل نأخذ منهم الجزية؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا لا نأخذ الجزية إلا من الأصناف الثلاثة: اليهود والنصارى والمجوس؛ لأنا لا نثق بأقوال الآخرين، ولا ندري صدقَهم من كذبهم، ولم نر الأولين ينوطون أحكام أهل الكتاب إلا بأهل التوراة والإنجيل. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني- أن الجزية تؤخذ منهم؛ فإنهم بزعمهم أهل الكتاب وقد أُمرنا باعتماد أقوال الكفار إذا اعتَزَوْا إلى كتب الله تعالى.
ولو انتهينا إلى بلدة، ورأينا فيها جمعاً من الكفار، وزعموا أنهم يهود والتزموا الجزية، لزمنا قبولَها منهم، ولا نطالبهم بإقامة البينة على دينهم، فإنا لو كلفناهم ذلك وشهادتهم مردودة، والعلم بما ذكروه لا يأتي إلا من جهتهم، لجرّ ذلك عسراً في قبول الجزية، وإن كان هذا متفقاً عليه في الذين ينتحلون التهوّد والتنصر، [فكذلك] (2) إذا انتمى قومٌ إلى كتاب منزل على بعض الأنبياء، وجب إلحاقهم بأهل الكتاب في قبول الجزية منهم؛ تعويلاً على قولهم.
__________
(1) حديث " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " رواه مالك (الموطأ: 1/278 ح 42) ، والشافعي (الأم: 4/174) ، وابن أبي شيبة (12697) ، وعبد الرزاق (10025) ، والبيهقي في الكبرى (9/189) ، والمعرفة (7/114) ، والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (5/88 ح 1248) .
(2) في الأصل: " وكذلك ".(18/9)
والذي يوضح ذلك أن الجزية مقبولة من المجوس، وإن تحققنا أنه ليس بين أظهرهم كتاب، وإنما تعلقهم بشبهة الكتاب، كما قدمنا ذكره، ثم الجزية مقبولة منهم. فليكن الأمر كذلك فيما ذهبنا إليه.
ثم إذا ألحقناهم بأهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، فلا يحل مناكحتهم وذبائحهم؛ من جهة التردد الظاهر في تكذيبهم، ولو كان بقي من ينتمي إلى كتاب سوى التوراة والإنجيل، لرئي منهم حزب يعتزون إلى ملة، ويشتهرون بها، فمن هذا الوجه لا نبُيح المناكحة والذبيحة، ومن حيث إنه لا ينقطع الاحتمال يُحقن الدم بالجزية.
وهذا يناظر ما قدمنا ذكره في كتاب النكاح، حيث قلنا: المتهوّد الذي ينتهي جده العالي إلى التهوّد قبل المبعث، فالجزية مأخوذة منه، ومن ينتهي جده العالي إلى اليهود بعد مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ الجزيةُ منه، وقد انتوت (1) قبائل من العرب، فتهوّدت، وتنصّرت، وأشكل الأمر على نقلة التواريخ، فلم يحققوا أنهم تهوّدوا، أو تنصروا قبل المبعث أو بعده. وقد قال الشافعي نصاً: " الجزية مأخوذة منهم " (2) ، ولا تحل المناكحة والذبيحة.
11436- ومما يتعلق بهذه القاعدة أنا ذكرنا تردّداً في النصوص، واختلافَ أقوالٍ في أن من لا يكون من بني إسرائيل، ففي مناكحته كلام، فأما الجزية، فإنها مأخوذة. وإن كان [تمسكه] (3) بالدين بعد التغيير إذا كان الانتهاء إلى الدين قبل المبعث، فالجزية مأخوذة قولاً واحداً؛ تغليباً للحقن.
__________
(1) انتوت: أي تحوّلت: يقال: انتوى عن الأمر تحوّل عنه. (المعجم) .
(2) ر. المختصر: 5/196.
ونص عبارة الشافعي رضي الله عنه: " انتوت قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وينزل عليه القرآن، فدانت دين أهل الكتاب، فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من أكيدر دومة، وهو رجل يقال: إنه من غسان أو من كندة، ومن أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب، فدلّ ما وصفت أن الجزية ليست على الأحساب، وإنما هي على الأديان ".
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (انظر صورتها) .(18/10)
وفي بعض التصانيف أن من تهوّد أو تنصّر بعد تبديل الدينين وتغيّر الكتابين، وقبل مبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم، نظر: فإن تمسك بدين غير مبدّل، وحدث التبديلُ منه، ثم أدركه الإسلام، فلا تقبل الجزية منه، وإن كان ذلك قبل المبعث، وهل تقبل من أولاده؟ فعلى وجهين مبنيين على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدّين؟
وهذا كلام مختلط لا تعويل على مثله، والمذهب القطع بأخذ الجزية ممن تمسك بالدين المبدّل قبل المبعث إذا أدركه الإسلام؛ نظراً إلى تغليب الحقن، فإذا تعلق بالكتاب، فليس كله مبدّلاً، وغير المبدّل منه ينتصب شبهةً في جواز حقن دمه بالجزية؛ إذ ذلك لا ينحط عن الشبهة التي يتمسك بها المجوس؛ فلا ينبغي أن يعتد بهذا، بل الوجه القطع بقبول الجزية، كما قدّمنا ذكره.
11437- ومما يجب صرفُ الاعتناء إليه السامرة والصابئون، وقد اختلفت النصوص فيهم، فقال في موضع: تؤخذ منهم الجزية، وقال في موضع: لا تؤخذ، فاختلف طرق الأئمة، فذهب ذاهبون إلى أن النصين محمولان على تقديرين، فحيث ألحقهم باليهود والنصارى في قبول الجزية منهم أراد إذا كانوا لا يخالفونهم في أصول الدين الذي يجرى فيه التكفير بينهم، وإنما يخالفونهم في الفروع، أو ما يقع بمثله التضليل، وحيث قال: لا تؤخذ منهم الجزية، حُمل الأمر على أنهم يخالفونهم في أصل الدين، وسبب تردد النصين تردد الشافعي في عقدهم.
وقد ذكرنا في كتاب النكاح هذا التردد في المناكحة، واستحلال الذبيحة، والوجه أن نقول: إن جوزنا مناكحتهم، فلا شك أن ذلك محمول على ظاهر تعلقهم بالتهوّد والتنصّر، ورجوع مخالفتهم إلى ما لا يخرجهم من أصل الملّتين. ثم على هذا لا شك أن الجزية مأخوذة منهم، والتردد في أخذ الجزية يجري على ترتيبٍ سأصفه في آخر هذا الفصل، إن شاء الله.
والذي يعرض في الفكر من أمرهم، أنهم وإن خالفوا في الأصول، فلا يخرج السامرة والصابئون من التمسك بالتوراة والإنجيل، ثم لا ينحط تمسكهم بها عن تمسك المجوس بشبهة كتاب قدِّر لهم.(18/11)
والطريقة المرضية في ذلك، الناصّة على المقصود، ما ذكره صاحب التقريب.
قال: حكي عنهم القول بأن مدبر العالم الأنجمُ السبعة، ومدبّرها الفلك الأعلى، وهو الحيّ الناطق. وقال بعضهم: بِقِدَم النور والظلمة. ومن ينتحل هذا المذهب، فلا معنى [ولا صورة] (1) للكتب عنده، ولا أمل لتمسكهم بالكتاب، وإذا كان التردد في معتقدهم على هذا النحو، فهم بين أن يكونوا متمسكين بالكتابين، وبين ألا يكونوا متمسكين بهما، فيقع التنزيل على هذا الترتيب، لا على النظر في مخالفة الأصول والفروع.
ثم صاحب التقريب لم يذكر خلافاً، وإنما ترك النصين على الجهة التي ذكرها.
وهذا حسنٌ بالغ، وبه يزول الإشكال ويحصل التصريح بالغرض المطلوب في الفصل.
وأما العراقيون، فقد حكوا اختلافاً، فذكروا عن أبي إسحاق، وعامة الأصحاب أن ما سبق من الشافعي ترددٌ في اعتقادهم، ثم تبين له أنهم متمسكون بالكتاب، فقطع بأخذ الجزية منهم آخراً. وحكَوْا عن أيي سعيد الإصطخري أنه كان يفتي بأنه لا تؤخذ منهم الجزية، ولا تمسك لهم بالكتاب، وهم معطلة قائلون بانحصار تدبير العالم على الأنجم.
فهذا وجوه كلام الأصحاب.
وتمام البيان في ذلك أنا إن وقفنا على تعطيلهم، فلا شك أنا لا نأخذ الجزية منهم، وإن بقي الأمر مشكلاً فيهم، فالمناكحة محرّمة، وفي أخذ الجزية منهم احتمال؛ من جهة أن أصحاب المقالات نقلوا عنهم ما أوجب تعطيل التمسك بالكتاب. والمجوس على حالٍ متمسكة بنبوة نبي يسمّونه [زرادشت] (2) ، ويزعمون أنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يقال: تؤخذ الجزية مع التردد في السامرة
__________
(1) مكان كلمة مطموسة تماماً بالأصل.
(2) في الأصل: بنزادشت. والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/ورقة: 120 شمال) .(18/12)
والصابئين لأنهم على الجملة يدّعون التمسك بالكتاب، وينتمون إلى الملّتين، وإن كان الأمر على التردد، فلا مناكحة تغليباً للحظر.
هذا منتهى القول في السامرة والصابئين.
11438- ومما نذكره متصلاً بما نجزناه: أنه إذا تهوّد وثني قبل المبعث، وله ابن صغير، ثم بعث محمد صلى الله عليه وصلم، فقد ذكرنا حكم من تهوّد قبل المبعث، وتمسك بالتهوّد، فيقرّ بالجزية؛ فإنه ثبت له حكم التهوّد في ابنه قبل المبعث، وعلى هذا الوجه ينتسب الأولاد إلى الأجداد، حتى ينتهوا إلى الجد الذي تهوّد قبل المبعث.
ولو توثن نصراني في زماننا، وله أولاد صغار، نظر: فإن كانت أمهم نصرانية، فقد قال العراقيون: الأولاد الصغار يعدّون في دار الإسلام، تبعاً لأمهم، وإن كانت هي وثنية، ففي الأولاد الصغار قولان ذكرهما العراقيون: أحدهما - يُقَرّون؛ فإنهم لم يغيّروا، والدينُ الطارئ لا يستتبع الأولاد بعد ما ثبت لهم من قبلُ حكمُ التنصر، وإن أدنى الدينين لا يزيل عن الأولاد الصغار حكمَ أشرف الدينين، وإنما ينقل الأعلى من الأدنى.
والقول الثانى- أنهم يتبعون الوالد، فيضمون إليه، وحقيقة ما ذكروه راجع إلى أن الأب إذا توثن عنْ تهوّدٍ أو تنصّر، فهل يستتبع أولاده؟
ولو كان الأولاد من وثني ووثنية، فتهوّد الأب، فلا تثبت له حرمة التهود؛ فإن هذا التهوّد بعد المبعث، وإذا لم نثبت له حرمة أهل الكتاب، فلا شك أنا لا نثبتها لأولاده الصغار، وما ذكرناه في توثن اليهودي، وهو نقضٌ للحرمة، ويتصوّر من اليهودي نقض حرمته، وفي استتباع أولاده التردد الذي حكاه العراقيون.
والأَوْجَهُ الجاري على قياس المراوزة أن حرمة الأولاد في الانتماء إلى الكتاب لا تتبعض، وتوثن الأب لا يتضمن الاستتباع، وما ذكره العراقيون من الفرق بين أن تكون الأم كتابية أو وثنية سديد؛ فإن الأم إذا كانت يهودية يبقى انتماء الأولاد إليها، والتبعية في الدين أن يثبت، فلا اختصاص لها بالولد.(18/13)
هذا تمام الغرض.
11439- ثم قال العراقيون: من توثن من اليهود لا نغتاله، ونُلحقه بدار الحرب.
وهذا فيه نظر؛ فإنه بتوثنه قطع الأصل الذي هو معتمد الأمان والذمة، وقد ذكر المراوزة في اغتياله خلافاً، وهو الظاهر عندنا، لأنه لا يغتال كما ذكره العراقيون.
فأما أولاده الذين كانوا في زمن التهوّد، فالظاهر أن حرمة الكتاب تستدام لهم وإن حكمنا بانتقاضها، فالوجه القطع [بأنهم لا يغتالون] (1) في [صغرهم] (2) وتمام الشرح في هذا موقوف على ذكرنا موت الأبوين الكتابيين وتخليفهم فينا صغار أولادٍ، فكيف الحكم فيهم؟ وكيف نُبقِّيهم، وقد زالت التبعية، وليسوا من أهل التزام الجزية، وسيأتي هذا مستقصى في أثناء الكتاب، إن شاء الله.
وقد تمهدت القواعد فيمن تؤخذ الجزية منه من أهل الأديان، وفيمن لا تؤخذ، وإثبات التعرض للأديان، وما يمنع أخذ الجزية منها وما لا يمنع.
فأما القول في النساء والصبيان وأنهم لا يفردون، فذلك يأتي في الباب الثاني، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
11445- إذا أخذ الجزية من قومٍ زعموا أنهم يهود أو نصارى، ثم أسلم منهم اثنان، وظهرت عدالتهما في الدين، وشهدا عندنا بأن قومهما ليسوا يهوداً، ولا نصارى، وإنما هم عبدة الأوثان؛ فإنا نتبين أن الذمة غيرُ منعقدة، ونعاملهم معاملة عبدة الأوثان، ثم إذا أثبتنا أن لا ذمة لهم، فهل نغتالهم بسبب تلبيسهم علينا أو نلحقهم بدار الحرب؟
هذا فيه تردد. والظاهر أنا نغتالهم؛ لأن الأمان الفاسد إنما يثبت عُلقة الأمان إذا كان المؤمِّن على جهل لا [يقدّر] (3) أن يتمهد لأجله عُذره، فإذا كان الظن منا والكافر يدلّس علينا، فلا يتجه إلا الاغتيال.
__________
(1) عبارة الأصل: فالوجه القطع بأنهم لا نحكم لا يغتالون.
(2) غير مقروءة بالأصل، وأثبتناها من لفظ الغزالي في البسيط.
(3) في الأصل: " يتعذر ".(18/14)
11441- ومما نلحقه بالكتاب الكلام في أولاد المرتدّين. فإن حكمنا لهم بالردّة، فلا تقبل الجزيةُ منهم، وإن حكمنا لهم بالإسلام، طالبناهم به؛ فإن أبَوْا، فهم مرتدون. وإن حكمنا بأنهم كفار أصليون، وآباؤهم المرتدّون متهوّدون ومتنصّرون، فالمذهب أنا لا نأخذ الجزية منهم؛ فإنه لم يثبت لهم جَدٌّ دان بالدين قبل المبعث، ومن أصحابنا من قال: إذا أثبتنا لهم حكم الكفر الأصلي، فنأخذ الجزية منهم، ونجعلهم كالمنتمين إلى جدٍّ دان بدين اليهود قبل المبعث.
وهذا لا أصل له، فإن لم نأخذ الجزية منهم، فلا كلام، وإن أخذناها، ففي استحلال المناكحة، وحِل الذبيحة ترددٌ، والوجه القطع بالتحريم، وأفتى بعضُ الأصحاب بإحلال وطء سبايا [غَوْر] (1) [تهامة] (2) ، وقد ثبت منهم (3) أنهم ارتدّوا بعد قبول الإسلام، وهذا قولٌ صدر عن عَماية، وقلة دراية، وفيه خرم أصلٍ عظيمٍ اتفق الأصحاب عليه وهو أن الذين تهودوا بعد المبعث لا يُناكَحُ أولادهم. وأولاد المرتدّين شرٌّ منهم، ولم نذكر هذا لتخيل التحاقه بالمذهب، وإنما ذكرته للتنبيه على الغلط فيه، وظهور مناقضة الأصل المتفق عليه، فيجب القطع بالتحريم، بل يجب القطع بأن الجزية لا تؤخذ منهم؛ إذ ليس لهم جدٌّ قد دان بالدين قبل المبعث. ولو كان لهم جدٌّ دان بالدين قبل المبعث، ثم أسلموا وارتدّوا من بعد وحدث لهم أولاد، فالإسلام قطع الاعتصام بالجد العالي. وإنما يؤثر ذلك الجد، لو تواصل التهود، فإذا بطل أخذ الجزية من أولاد المرتدّين قطعاً، فما الظن بالمناكحة والذبيحة؟
ويبقى التردد في أن أولاد المرتدّين هل يسترقون؟ وهذا يجوز خروجه على أنهم كفار أصليون؛ فإن عبدة الأوثان لا يمتنع إرقاقهم على ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من منع إرقاق عبدة الأوثان؛ فإن هذا يتضمن أماناً مؤبداً على التوثن.
__________
(1) في الأصل: " يا غور "، والمثبت من البسيط والشرح الكبير، والغاية في اختصار النهاية للعز بن عبد السلام، وفي الشرح الكبير زيادة فائدة أنها (غور تهامة) .
(2) مزيدة من الشرح الكبير والغاية.
(3) منهم: من هنا مرادفة لـ (عن) ، ومثله قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] .(18/15)
11442- فرع: المتولد من بين وثني وكتابية، وكتابي ووثنية في مناكحته واستحلال ذبيحته قولان مشهوران: أحدهما - تغليب التحريم. والثاني - النظر إلى الأب، فعلى هذا المتولّد بين وثني وكتابية لا تحل ذبيحته قولاً واحداً. وإنما القولان فيه إذا كان الأب كتابياً والأم وثنية، فأما أخذ الجزية، فقد قال صاحب التقريب، والعراقيون طريقة مقتضاها أن التفصيل في قبول الجزية منه كالتفصيل في المناكحة وحل الذبيحة.
وهذا غير سديد عندنا. والوجه القطع بقبول الجزية منه؛ لأن شبهة الكتاب تَلحقه، وقد ذكرنا أنا نكتفي بشبهة الكتاب في قبول الجزية، وعليه أثبتنا قبول الجزية من المجوسي.
***(18/16)
باب الجزية على أهل الكتاب
11443- الأصل في الباب قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . والمراد بالإعطاء الالتزام لا صورةُ البذل يقال لمن أذعن لقبول الجزية: قد أعطى الجزية، أي استسلم لها.
واختلف العلماء في قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} : قال الشافعي: الصغار جريان أحكام الإسلام عليهم على خلاف عقيدتهم. وقيل: المراد بالصغار الأخذ باللحى والضرب في اللهازم، فيكلف الذمي أن يوفي الجزية بنفسه، ويطأطىء رأسه، ويصب ما معه في الكِفة، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته.
واختلف أصحابنا في أنه هل يجوز للمسلم بأن يوكَّل عن الذمي في إيفاء الجزية، فمنهم من لم يجوّز ذلك وسببه أن إجراء الصغار عليه في وقت تأدية الجزية من المقاصد، وكيف لا ونص الشافعي دالٌّ عليه، وهو قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ولو جوزنا استنابة المسلم، فيكون المسلم في صورة المستخدَم، والكافر يتودَّع في رحله، وهذا نقيض ما أمر الله تعالى، ومن أجاز التوكُّل، نظر نظراً كلياً في استيفاء الحقوق وإيفائها، وينشأ من هذا التردّد الإحاطة بأن إجراء الصغار على الذمي حالة التأدية حتم أم لا؟ فإن منعنا توكل المسلم، فهو قضاء منا بإيجاب إقامةِ الصغار.
وذكر الأئمة تردّداً في أن المسلم لو ضمن الجزية، فهل يصح ذلك؟ فإن أوجبنا الصغار، لم يصح الضمان، وإن لم نوجبه، صححناه. والأوضح عندي تصحيح الضمان؛ فان ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه، ونفي الضمان حتى لا يقال: إنه يُلزم الضامن شيئاً بعيدٌ.
ولو وكل ذمي ذمياً، فيتجه عندنا إجراء الخلاف؛ فإن كلَّ ملتزم بالذّمة معنيٌ بالصغار في نفسه.(18/17)
ولو وكل كافر مسلماً في عقد الجزية له، فهذا جائز؛ إذ ليس في نفس العقد صغار، وإنما الصغار في التأدية.
11444- ثم مقصود الفصل: الكلامُ في أقل الجزية، وفي التزام الكافر مزيداً على الدينار، فأما الأول، فدينار في السنة، أو اثنا عشر درهماً مسكوكة من النقرة الخالصة. ويقابَل الدينار بعشرة في القواعد إلا في الجزية، فإنه باثني عشر درهماً، ورأيت في كلام الأصحاب ما يدلّ على أن الأصل في الجزية الدينار، ولا يقبل الدرهم إلا بالسعر والقيمة، كما أنا نجعل نصاب السرقة ربع دينار، ولا اعتبار بالدراهم، وهي بمثابة السلع تقوم بالذهب وهذا متجه، ولولا قضاء عمر في الترديد بين الدينار والاثني عشر درهماً، لما كان لاعتبار الدراهم وجه. والأخبار كلها مشتملة على ذكر الدنانير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " خذ من كل حالم ديناراً أو عِدْله معافر " وهي ضرب من الثياب، " وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أيلةَ ثلثمائة دينار، وهم ثلثمائة نفر " (1) .
فأقل الجزية دينار ويستوي الغني والمتوسط والفقير المعتملُ الكسوب، والأولى للإمام أن يماكس من يضرب الجزية عليه حتى يزيد على الدينار، ولكن هذا إنما ينفع إذا لم يكن باذل الجزية عالماً بأن أخذ الجزية واجبٌ إذا بذلوها، مع العلم بأن الدينار لو اقتصروا عليه، لزم قبوله، فإذا علم الكافر ذلك، فلا معنى للمماكسة معه؛ فإنه استماحةٌ، ولو بذل الكافر أكثر من دينار، والتزم في السنة دينارين فصاعداً، لزمه الوفاء بما التزمه، وهذا يشبهه الأئمة بشراء الرجل المطلَق (2) المتاع بأكثر من ثمن المثل، وإذا جرى ذلك، لزم الثمن بكماله.
ثم قال الأئمة: من آثار المماكسة في الابتداء أن يلتزم الجزية إذا لم يكن عالماً بحكم الإسلام في أقل الجزية، وليس على الذي يعاقده أن يبين له ذلك، وإن جاء
__________
(1) حديث ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أيلة ثلثمائة دينار وكانوا ثلثمائة نفر، أخرجه الشافعي عن أبي الحويرث مرسلاً (ترتيب المسند: 2/427) ، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (9/195) .
(2) المطلق: غير المحجور.(18/18)
المسلم بأكثرَ مما يُستحق عليه في الزكاة، فحق على القابض منه أن يُعلمه أن الذي أتى به أكثرُ مما عليه، وإذا التزم أكثرَ من الدينار في السنة، وقضينا بأن الوفاء بالملتزَم واجب، فلو نقض العهد، فقد ذكرنا أنّا لا نغتاله، فلو أنه بعد نبذ العهد طلب منا تجديد العقد بدينارٍ، لزم إسعافه، فعلى هذا يَضْعُفُ أثر الالتزام أيضاً، ولكن إن لم يكن الكافر عالماً بما ذكرناه حتى تمر السنة، فلو نبذ العهد، طالبناه بالخروج عما التزمه في السنة الماضية، وإن مضى بعض السنة، فهذا يخرج على موته في أثناء السنة.
فإن قلنا: إذا مات الذمي في أثناء السنة يجب قسط من الجزية، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. فإذا التزم أكثرَ من الدينار، ومضت أيام، ثم نقض وعاد، فيلزمه لما مضى قسط من الجزية التامة التي التزمها.
وأوجب أبو حنيفة (1) على الفقير المعتمل ديناراً، وعلى الغني أربعة دنانير، وعلى المتوسط دينارين.
11445- فإن قيل: إذا كنتم لا تفرقون بين الغني والفقير والمتوسط فيما يقع الاكتفاء به من الجزية، فما قولكم في الكافر الفقير إذا كان لا يستمكن من أداء دينار؟ قلنا: الفقير الكسوب المعتمل القادر على أداء دينار، يُقرّ ويطالب بالدينار في السنة.
فأما إذا كان لا يستمكن من تحصيل الدينار، فقد نقل الأصحاب قولين في أنه هل يخرج من دار الإسلام؟ أحدهما - أنه يخرج، فإنه لا سبيل إلى شغل عرصات دار الإسلام بالكفار من غير جزية يبذلونها. والقول الثاني - أنه يقر.
ثم على هذين القولين قولان: أحدهما - أنه يترك في الدار من غير جزية، حتى لو انقضت سنون، وهو لم يملك فيها ما يؤديه، ثم ملك، فالمؤاخذة تقع من وقت الملك، ولا مطالبة عليه في مقابلة ما مضى. والقول الثاني - أنه يقرّ في دار الإسلام بجزية يلتزمها، وتستقر في ذمته، فإذا ملك يوماً طولب بما استقر في ذمته من السنين
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 294، المبسوط: 10/78، فتح القدير: 6/45، حاشية ابن عابدين: 4/196.(18/19)
الماضية. وهذا القول أمثلُ؛ فإن تقرير الفقير سنين كثيرة بلا جزية يخالف وضع الشرع.
والأصح أن الفقير الذي ليس معتملاً لا يتمكن من دخول دار الإسلام، والمقام فيها سنة. والفقير المعتمل إذا تراخى ولم يكتسب مع القدرة على الكسب، فلا يُقَر في دار الإسلام إجماعاً، وإذا فرعنا على القول الضعيف، وهو أن الفقير يُقرّ ولا يؤاخذ بجزية الأيام الماضية في الفقر، فلو ملك في أثناء سنةٍ شيئاً؛ تطرق إلى هذه الصورة احتمال، فيجوز أن يقال: تبدأ سنة الجزية من وقت ملكه، حتى إذا مضت سنة أدى ديناراً، ويجوز أن يقال: نضبط التواريخ، ونعطل منها سني الفقر، فإذا مضت من السنة الآخرة أشهر، فملك فيها واستغنى، فإذا انقضت هذه السنة، يطالب، ثم يتجه على المطالبة أن يطالب في آخر هذه السنة التي انقسمت إلى الغنى والفقر بالدينار الكامل.
فصل (1)
قال: " فإن صولحوا على ضيافة ... إلى آخره " (2) .
11446- إذا قبل الكفار ضيافةً سوى الدينار الملتزم، ضربها الإمام عليهم، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب: " أنه ضرب الضيافة على بني تغلب، وبَهْراء وتَنوخ، ثم ألزمهم أن يضيفوا من يطرقهم من أبناء السبيل " (3) .
وأول ما نصدّر الفصلَ به صفةُ الضيافة، ثم نتكلم في فقه الفصل، فالمعتمد في ضرب الضيافة قضاء عمر، ثم فيها مصلحة بيّنة، لا حاجة إلى تقريرها، فينبغي أن يبين لكل واحد عدداً معلوماً من الضيفان في كل شهر أو شهرين، أو في السنة، ويبين الطعام والأُدم، جنساً، وقدراً، ويوضح علف الدواب، ويذكر منازل الضيفان، ويفرق بين الفقراء من الكفار والأغنياء، وينبغي أن يقع التفاوت في عدد الضيفان،
__________
(1) من هنا بدأت نسخة مساعدة هي (هـ 4) .
(2) ر. المختصر: 5/197.
(3) خبر ضرب عمر الضيافة على نصارى العرب رواه الشافعي في الأم (4/282) .(18/20)
فيوظف على الغني عشرة مثلاً، وعلى المتوسط خمسة، وعلى الفقير ثلاثة، أو على وجه آخر يؤدي إليه اجتهاده. ولا ينبغي أن يكون التفاوت في صفات الطعام والإدام، ولو فعل ذلك، لمال الضيفان إلى أطايب الأطعمة، والمنازل الطيبة.
وُيبيِّن أن الضيفان يقيمون ليلة، أو يوماً وليلة، أو أكثر على ما يقع التوافق عليه.
ولعل الأشبه ألاّ تزيد المدة على الثلاث تأسياً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد صدقة " (1) وقال صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة أيام، والإجازة يوم وليلة " (2) [والإجازة] (3) إعطاء الجائزة، من قولهم: أجازه يجيزه، ومعناه أن يزوّد الضيف ليومٍ وليلة إذا رحل، ويضيفه في الإقامة ثلاثَ ليالٍ.
ولو حصل التوافق على مزيدٍ في الليالي، فلا معترض. ثم الضيافة التي ضربها عمرُ كانت للطارقين من غير اختصاصٍ بأهل الفيء، فإن هذا لو كان على الاختصاص، لأفضى إلى نزاع، فكان الأليق بالمصلحة المطلوبة تعميم الضيافة، وفي طروق أهل الذمة على المضيفين تردّد إن كان ضربُ الضيافة مطلقاً.
هذه صفة الضيافة.
11447- ثم يتصل بمنتهاها تردّدات للأصحاب في فقه الفصل: فمما اختلف الأصحاب فيه أن الضيافة هل يجوز احتسابها من الجزية، أم حقها أن تكون زائدة على الدينار المأخوذ من كل رأس؟ فمن أصحابنا من قال: يجوز احتسابها من الجزية حتى لا يوظف غيرها؛ فإن المقتدَى في هذا رأي عمر، والذي صح منه أنه لم يطالبهم بالجزية، فهو أحق متبوع؛ سيما فيما يتعلق بالإيالات، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز احتساب الضيافة من أصل الجزية؛ لأن التمليك لا بدّ منه في الجزية، وسبيل
__________
(1) حديث " الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد صدقة " متفق عليه من حديث أبي شريح العدوي (خويلد بن عمرو) رضي الله عنه (البخاري: الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ح 6019. مسلم: اللقطة، باب الضيافة ونحوها، ح 1726) .
(2) قوله صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة والإجازة يوم وليلة " من ألفاظ الحديث السابق.
(3) في الأصل: " والإعطاء ".(18/21)
الإطعام سبيل الإباحة، ولهذا لم تقم التغذية والتعشية مقام الإطعام في الكفارة، والجزية تختص بأهل الفيء، والضيافة لا تختص بهم.
التفريع:
11448- إن قلنا: يجوز احتسابها من الجزية، فينبغي أن نقابل ضربها بالدينار، فإن بلغته وزادت، فذاك، وإن نقصت، طالبنا المضروب عليه باستكمال الدينار، وإن قلنا: لا تحتسب، فالدينار مطلوب، والضيافة مطلوبة، ولا بد من طلب رضاهم في قبولها، ثم إذا تقبلوها في الذمّة، لزمت لزوم الزائد على الدينار.
ولو ضرب عليهم ضيافة ثم أراد نقل المؤن إلى الدينار، وأَخْذِه منهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك جائز؛ فإنه لا [إجحاف] (1) عليهم في ذلك، وأصل الأموال الملتزمة في الذمة الدنانير. والثاني - لا يجوز إلا أن يرضوا، لأنهم التزموا الضيافة بالرضا، فلا بد من طلب رضاهم.
والصحيح عندي أن الضيافة إن رأيناها محسوبة من الدينار الذي هو الأصل، فللإمام ردّها إلى الدينار، وإن كانت الضيافة زائدة على الدينار، فالوجه القطع بأنه لا يملك ردّها إلى الدنانير، [ثم إن قلنا: له الرجوع إلى الدنانير] (2) فهل تبقى الدنانير لعموم المصالح كالضيافة، أم تختص بأهل الفيء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تعود إلى أهل الفيء؛ إذ كان القياس في الضيافة أن تكون كذلك، إلا أنها أثبتت على العموم لمسيس الحاجة إلى تعميمها، وتعذّر رعاية تخصيص الطارقين، فإذا ردّت إلى الدنانير، زال السبب الذي كان يقتضي التعميم.
فصل
قال: " ولا تؤخذ من امرأة، ولا مجنون حتى يُفيق ... إلى آخره " (3) .
11449- النساء لسن من أهل التزام الجزية وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: " لا تأخذوا الجزية من النساء " ولأنهن لسن من أهل القتال، والجزية جزاءُ الانكفاف عن
__________
(1) في الأصل: " إحجار ".
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) ر. المختصر: 5/197.(18/22)
القتال، ولو بذلت امرأة مالاً باسم الجزية، كان حقاً على الإمام أن يخبرها بأنها غيرُ واجبةٍ عليها، وليس [التزامها] (1) لأصل الجزية بمنزلة التزام الرجل ما يزيد على الدينار؛ فإنه إذا كان من أهل الجزية، وهو في حكم العوض، فزيادته على الأقل بمثابة الزيادة في ثمن ما يقابَل بالثمن. هذا هو الأصل في الباب.
والصبيان لا يقابلون بالجزية، وكذلك المجانين، وكل من يرِق بنفس السبي بمثابة النسوان. والمجنون يرق كما يرق الصبي.
11450- ثم استيفاء مقصود الفصل يستدعي تقديم قاعدة بدّدها الأصحاب، فلفّقناها من كتبٍ، ولابدّ من ضبطها والإحاطة بها، ثم بعد هذا نخوض في المقاصد، فنقول: النسوان الحربيات لو دخلن ديار الإسلام، بلا أمان، سبيناهن على مكانتهن، وكذلك القول في الصبيان، وكل حكم نُجريه في القتال، فهو مُجْرى فيمن نظفر به من غير ذمة ولا أمان، كالقتل في المقاتلة من الحربيين، ولو وجدنا كافراً بلا أمان، اغتلناه، وقتلناه. وقد قال شيخي وغيره من المحققين: لو دخل الفقراء من الكفار دار الإسلام، لم نمكنهم قولاً واحداً، واغتلناهم، فلو عقدنا الذمة لمن يقدر على أداء الجزية منهم، فافتقر، فما ذكرناه من تردّد النصوص، واختلاف الطرق في هذا الفقير فإنا لو جوّزنا إقرار فقراء الكفار في ديار الإسلام ابتداءً، لزحفوا إلينا يطلبون الذمة، وهذا محال تجويزه.
فنعود إلى النسوان والصبيان، فنقول: إذا عقدنا للكافر ذمةً، فليس له أن يستتبع من الأجانب الذين لا يتصلون به ذراري ونسواناً، فإن ذلك يخرج عن الضبط، وإنما يستتبع الذمي من يتعلّق به بسبب أو نسب، كما سنفصله، إن شاء الله تعالى.
والترتيب الضابط فيه أنه لا يستتبع أجنبية منه لا نسب بينها وبينه، ولا سبب، ولو شرط إدخالَها في الأمان المؤبد، لم تدخل؛ فإنه لو دخلت واحدة، لدخل جمع منهن، ثمّ لا ضبط، وهذا يُفضي إلى استتباع الرجل نسوة لا يُحصَيْن كثرة من الحربيات اللواتي بينه وبينهن قرابة، إذا لم يكنّ على عمود نسبه، يندرجن إذا شرط
__________
(1) في الأصل: " إلزامها ".(18/23)
إدراجهن، ولا يندرجن في غير شرط، ثم إذا كن يدخلن بالشرط، فالذي أراه أنه لا يجوز ترك إسعافه بالشرط، ولكن لو لم يتفق منه الشرط، لم يدخلن، ولا يختص الحكم في هذا القسم بالمحارم من القرابات، بل يجري في جميعهن.
أما صبيان الذمي، فهل يدخلون من غير شرط؟ فيه وجهان: أحدهما - لا يدخلون كغيرهم من القرابات. والثاني - يدخلون، لقرينة الحال؛ فإن الرجل لا يتوطّن بلده إلا مع صغار أولاده في غالب الأمر، فصارت الحال كالتصريح بالشرط.
وأما الزوجات فيهن (1) طريقان: أحدهما - أنهن كالصبيان. والثاني - أنهن كالقرابات اللواتي يقعن على جانب (2) ، والأصهارُ والأحماء لا يندرجن مطلقاً، وفي اندراجهن مع الشرط خلاف. هذا قولنا في النساء اللواتي يتصلن بالذمي، والصبيانُ في معنى النساء.
ولا يخفى على المحصل أن الرجال المستقلّين من بنيه وآبائه وأجداده لهم أحكام أنفسهم، ولا يتصوّر أن يُتبَعوا؛ فإنهم من أهل الاستقلال، فإذا كنا لا نقر فقيراً من غير جزية، فلا نُتبعه أيضاً غنيّاً وإن كان قريبَه. وهذا متفق عليه.
11451- ومما ذكره الأصحاب عن النسوان أنا لو انتهينا إلى قلعة، ولم نصادف فيها إلا النسوان، فإن فتحناها، جرى الرق عليهن، وإن قلن: نبذل الجزية فانكفوا، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - لا حكم لالتزامهن؛ فإنهن لسن من أهل الجزية. والوجه الثاني - أنه يجب أن ننكف عنهن، فإن أصحاب القلعة لو كانوا رجالاً، وقبلوا الجزية، تركناهم، وأضربنا عنهم، فإذا كنا نحقن دماء الرجال منهم، فيجب أن نعصم رقاب حرائرهم عن الرق ببذل الجزية؛ فإن الاسترقاق دون القتل.
فهذان وجهان [يحسبهما] (3) من لا يتولعّ بالطلب جاريين في فرعٍ واقع نُبديه (4) ،
__________
(1) جواب أما بدون الفاء.
(2) كذا في النسختين، والمعنى على جانب عمود النسب.
(3) في الأصل: " بحثهما ".
(4) هـ 4: " نبذة ".(18/24)
وهو أصل؛ فإنا إذا رأينا صونهن عن الرق في الصورة التي ذكرناها، فيلزم لا محالة أن نقول: كل حربية بذلت الجزية، لزم عصمتها عن الرق، وعلى هذا الوجه يرجع نفي الجزية من النسوان إلى الصور التي نُتْبعهن فيها الرجلَ الذمي؛ فإن الرجل يُعصَم بالجزية، فيشمل الأمانُ أهلَه ومن يتصل به، وهذا على نهاية الضعف، وهو يخرم قاعدةً ممهدة لا سبيل إلى خرقها؛ فإن المرأة لو كانت من أهل الجزية بنفسها، لما تبعت، ولو كانت الجزية في حقها تصونها من الرق، كالجزية في حق الرجل تصونه من القتل، فلا وجه لقول من يقول: تقبل الجزية من النسوان إذا لم يكنْ في القلعة غيرهن.
وقد ذكر القاضي هذا الخلاف، ونقل عنه من يوثق به أنهن يبذلن على أحد الوجهين ما يبذلن، ثم لا يتكرر عليهن؛ فإنه لو تكرر، لكان جزية محققة.
وهذا الكلام، وإن كان صَدَرُه عن محاذرة إلحاق النساء بالرجال، فهو كلام مضطرب؛ فإن ما ذكره لا يكون جزية إذاً. وإنما يكون سبيله سبيل المفاداة، ثم يلزم منه ألا يستفدن بما يبذلن إلا الإعراض عنهن في هذه الكرّة؛ إذ من المحال ألا يتكرر عليهن البذل [ويتأبد] (1) لهن الأمان.
ثم الرجال لو بذلوا مالاً من جهة المفاداة، لم يُعصموا، فإن كان الأمر في هذا إلى رأي الإمام، فلا معنى إذاً لقول القائل: هل يجب علينا قبول المال منهن، بل يجب أن يقال: الأمر إلى الإمام. وسنذكر، إن شاء الله تعالى ما يبذله أهلُ المهادنة من الأموال لا على سبيل الجزية.
ومما ذكره الأصحاب في هذه المسألة، وهو كلام مختلط أيضاً أنهم قالوا: لو كان في القلعة رجل واحد، فبذل الجزية، كان ذلك عصمة لكل من في القلعة من النسوان، ولست أدري كيف يجري بمثل هذا لسانٌ أََنِس بالفقه؛ والرجل الواحد لا يستتبع إلا من يتصل به، كما ذكرناه في صدر الفصل.
وبالجملة إن كان المال من فن المفاداة قبل الظفر، فلا يختص به الرجال عن
__________
(1) في الأصل: " أو يتأبد " والمثبت من (هـ 4) .(18/25)
النساء، والأمر إلى رأي الإمام، ثم لا يجوز له أن يبذل لهم عصمة مؤبدة بدنانير يستعجلها، ولكن إنما تثبت العصمة إذا بذلوا المال على تفصيلٍ، سأذكره في المهادنة، إن شاء الله تعالى.
11452- وأما المماليك فأموالٌ، لا يتصور ضربُ الجزية عليهم، ويتبعون سادَتَهم من غير ذكر، وتشتمل العصمة عليهم اشتمالَها على سائر الأموال.
11453- وإذا قبل اليهودي الجزية، وكان له ابنٌ طفلٌ، وأتبعناه إياه، فإذا بلغ الطفل، فقد ذكر العراقيون وصاحب التقريب في حق ولده إذا بلغ وجهين: أحدهما - أنه لا بدّ من عقد ذمة معه؛ فإنه استقلّ بنفسه، والعقد الذي عقدناه على أبيه لا يكفيه؛ فإن التبعية قد زالت، والذي يحقق ذلك أنا أتبعناه إياه من غير غُرم، فليس على الأب إلا الدينار الموظف عليه. والابن إذا بلغ لا يقرّ من غير دينار، فلا بدّ من عقدٍ، والوجه الثاني - أنا نكتفي بعقد أبيه، وإذا بلغ استمر عليه حكم العقد غيرَ أنه لم يكن مقامه معه مقابلاً بغُرم، والآن بعد ما استقل تجري عليه الذمة، من غير احتياج إلى عقد، وظاهر النص يدلّ على هذا، والأقيس الأول.
وإن قلنا: لا بدّ من عقدٍ جديد معه، فلا يلزمه ما التزمه أبوه في حق نفسه، حتى لو كان التزم أكثر من دينار، وأبى هذا لما بلغ أن يلتزم الزيادة، فلا يلزمه إلا دينار، فإن هذا عقدٌ جديد، ولا حكم لما سبق من أبيه، وإن قلنا: إن عقد أبيه ينعقد في حقه، فيلزمه مثلُ ما التزم أبوه، حتى لو كان التزم أبوه في حق نفسه دينارين أو أكثر في السنة، فعلى الولد إذا بلغ مثلُ ذلك، فإن امتنع من قبول الزيادة كان بمثابة أبيه لو امتنع عن الزيادة بعد التزامها.
ثم إن قلنا: لا بد من عقد جديد في حقه، فلا نفرق بين أن يكون الأب قد قال ابتداءًَ: التزمت في حق ابني إذا بلغ مثل ما التزمت في حق نفسي وبين ألا يقول ذلك، فلا حكم لالتزامه عليه عند هذا القائل، فإن الجزية لا تثبت في حق الصبي، وإذا بلغ، فقد استقل بنفسه، وانقطعت عنه الولاية، ومن قال: الذمة تطّرد عليه إذا بلغ، ويلزمه مثل ما التزم أبوه، فعلى هذا لا أثر لالتزام الأب عنه، ولا يكفي أن يلتزم هذا(18/26)
القدر في حق نفسه، ثم الانتساب إليه يوجب مساواته في القدر الملتزَم، كما يوجب اطّراد الذمّة من غير تجديد.
ولو بلغ ابن الذمي سفيهاً غير رشيد، فلا بد من الجزية، ثم القول في اطراد الذمة كما سبق. فإن قلنا: لا بدّ من عقدٍ جديد، لم يختلف هذا بأن يكون سفيهاً أو رشيداً؛ فإن الاستمرار تحت [العهد] (1) ونبذه [مما] (2) لا يدخل تحت الحجر.
وسئل القاضي عما لو التزم (3) أكثر من دينار دون إذن الولي، فقال: تلزمه الزيادة، وإن لم يأذن فيها الولي، وبناه على أن عقد العهد ونبذه لا يدخل تحت الولاية. وهذا غير سديد؛ فإن أصل العهد كذلك، فأما التزام مال، بلا فائدة، فيجب أن يقبض فيه على يده، حتى لا ينفذ التزامَه الزائد على الدينار.
ولو وجب على السفيه قصاصٌ، فأبى مستحق الدم أن يصالح إلا على أكثر من الدية؛ فإن السفيه يبذلها لحقن دمه، ولو لم يبذلها السفيه، فالولي المتصرف في نفسه هل يبذل ماله لحقن دمه [إذا كان السفيه لا يطلبه، أو ينهى عنه؟ الوجه عندنا أن يقال: للولي أن يحقن دمه] (4) كما أنه يتدارك رمقه وإن احتاج إلى استيعاب ماله لطعام يحصله له.
فإن قيل: لو لم يفعل الولي ذلك؟ قلنا: يفعله السفيه. فهذا التصرف يجب أن يكون دائراً بينهما. والوجه أن يراجع الولي فيه إذا أمكنت مراجعته، فإن عسرت المراجعة أو امتنع الولي، فيستقل السفيه بحقن دم نفسه، وإن احتاج إلى بذل ديات، وليس هذا كالجزية التي نحن فيها؛ فإن حقن الدم ممكن بدينار، والصلح عن الدم مفروض فيه إذا كان مستحقه لا يرضى بمقدار الدية، والحق له، وقد يخطر للفقيه أن السفيه إذا أبى أن يصالح، فليس لوليه التصرّف في دمه، وهذا بعيد؛ فإن ماله صين عن الضياع بنصب الولي استصلاحاً، فدمه أولى بالحقن إذا حَقَّت الضرورة.
__________
(1) في النسختين: " الحجر ".
(2) في الأصل: " ومما ".
(3) أي من بلغ سفيهاً.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4) .(18/27)
11454- ومما نلحقه بمقصود الفصل أَخْذُ الجزية من أصحاب الصوامع والشيوخ الزمنى، والذين قلنا في قتلهم قولان، وللأصحاب طريقان: منهم من قطع بأخذ الجزية؛ فإنهم من جنس الرجال المقاتلة، ومنهم من خرّج في أخذ الجزية منهم قولين مبنين على جواز قتلهم، فإن قلنا: إنهم لا يقتلون، فهم ملتحقون بالنساء والذراري.
11455- فأما من يجن تارة ويُفيق أخرى، فقد اضطرب الأصحاب فيه في حكم الجزية، وحاصل ما وجدته أوجهٌ، آتي بها، وأذكر -على حسب الإمكان- وجوهَها، فنقول: أولاً لا يضرب على المجنون الجزية، فأما إذا كان يجن مرة، ويُفيق أخرى، فمن أصحابنا من قال: يعتبر آخر الحول في أخذ الجزية، فإن كان في ذلك الوقت مُفيقاً، ألزمناه الجزية، وإن كان مجنوناً قبل ذلك في جميع الأوقات، أو معظمها، وإن كان مجنوناً في ذلك الوقت لا جزية عليه، ولا اعتبار بالإفاقة من قبل، وهذا القائل يُشبِّه ما ذكرناه من اعتبار الفقر واليسار في حق العاقلة، فإنا نعتبر فيهما آخر الحول.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان يجن ويُفيق، فلا حكم للجنون المتخلّل، بل هو كالغشية تطْرأ، فتجب الجزية على هذا الشخص.
ومن أصحابنا من قال: النظر إلى الأغلب، فإن كان الأغلب زمان الإفاقة، وجبت الجزية، وهذا القائل يقول: إذا استوى الزمانان، نغلّب وجوب الجزية.
ومنهم من قال: تلفق أيام الإفاقة، وتهدر أيام الجنون، فمهما بلغت أيام الإفاقة سنة، وجبت الجزية.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً خامساً في الشرح، فقال: من أصحابنا من قال: إذا كان يجن ويُفيق، فلا جزية عليه أصلاً، وإن كان زمان الإفاقة أغلب، فجعل طروءَ الجنون مؤثراً في إسقاط الجزية، وهذا كما أن الرق لما نافى ضرب الجزية، فكذلك بعضه ينافي الجزية، فلا جزية على من بعضه حر، وبعضه رقيق، وهذا بعيد.
ثم قال: هذا إذا كان الجنون والإفاقة متعاقبين [يفيق يومين أو ثلاثة، ويجن(18/28)
يوماً، فالجنون، والإفاقة متعاقبان] (1) ، ثم لا نظر إلى زيادة زمان الإفاقة، فلو كان يُفيق يومين أو ثلاثة ويجن يوماً، فلا حكم [للإفاقة] (2) . فأما إذا كان يجن في الشهر يوماً واحداً، فلا يقال: الجنون والإفاقة متعاقبان (3) ، ولكن الجنون في حكم العارض يعرض، والحكم للإفاقة.
وهذا الذي ذكره من التفصيل لا بد منه، ولكنه كلامٌ غير منضبط، واضطرابه يدلّ على فساد أصله. ثم الممكن في التقريب أن يقال: إذا كان يجن يوماً ويُفيق يومين، فالإفاقة في اليومين غير موثوقٍ بها، وهو فيها بمثابة مجنون يغتلم (4) يوماً ويهيج، ويسكن ما به يوماً أو يومين، وللمجنون تارات قد يهداً ويسكن، وقد يغتلم ويتعدّى حدّ الاعتدال، فالوجه أن نقول: إذا كان زمان الإفاقة بحيث [يقع] (5) فيها آثار الجنون، فهو ملحق بالجنون، وإن طال بحيث لا يتوقع فيه آثار الجنون، فيجوز أن يقال: الحكم للإفاقة. وهذا في التحقيق تمسك بالغلبة، وقد ذكرنا عن بعض الأصحاب وجهاً: أنا ننظر إلى أغلب الزمانين، ولكن بين الوجهين فرق؛ فإن ما حكيناه في أثناء الأوجه المرادُ به أن يكون أحد الزمانين أكثر ولو بلحظة. وما ذكرنا آخراً، فالمراد به ما بيناه. والفرق بين الوجهين ظاهر لمن تأملهما.
وقد ذكرنا فيما ذكرنا وجهين متضادين: أحدهما - أن الجنون بين الإفاقتين كالغشية، والآخر أن الإفاقة بين جنونين كهدوء مجنون على اغتلامه. ولا بد من
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4) .
(2) في النسختين: الجنون، والمثبت من المحقق رعاية للسياق، فالمعنى أن التعاقب بين الجنون والإفاقة يغلب حكم الجنون أياً كانت أيام الإفاقة ونسبتها.
(3) لمزيد من الإيضاح ننقل هنا كلام الإمام الغزالي، الذي عبر به حاكياً كلام الشيخ أبي علي هذا، فقد قال: " قال الشيخ أبو علي: لا جزية عليه أصلاً، كمن نصفه حر، ونصفه رقيق، لأن الجنون يمنع الجزية كالرق، وقال: هذا فيه إذا كان الجنون والإفاقة يتعاقبان، فأما إذا كان يجن يوماً، ويفيق تسعة وعشرين يوماً، فلا تعاقب، والحكمُ للعقل، والجنون عارض " (ر. البسيط: 5/ورقة: 175 شمال) .
(4) يغتلم: أي يهيج ويشتد، والاغتلام أكثر ما يستعمل في شدة الشهوة للجماع، ويستعمل في الهيجان والثورة عامة، ومنه اغتلم البحر، إذا ثارت أمواجه وهاجت مياهه (المعجم) .
(5) في (هـ 4) : " يتوقع ".(18/29)
التفصيل في الوجهين جميعاً، أما تفصيل إلحاق زمان الإفاقة بالجنون، فقد قدّمناه، وأما إلحاق الجنون بالغشية، فبعيدٌ جدّاً إذا طال الزمان وتمادى بحيث تُخاف بوادره في زمان الإفاقة.
وإن كان زمان الإفاقة نقياً من بوادر [الجنون] (1) وتوقعها، فلست أرى الجنون غَشْيةً مع هذا إلا أن يكون على حدٍّ يمكن تقريبه من طريق التشبيه من اغتلام الرجل الصفراوي في هيج النفس وثوران الغضب، فإن لم يكن كذلك وكان جنوناً محققاً، فلا وجه لهذا الوجه.
هذا بيان ما يكاد يعضل. وأَقْصَد هذه الوجوه تلفيق أيام الإفاقة، واعتبار آخر الحول.
فإن قيل: لو كان مجنوناً في جميع السنة إلا في اليوم الأخير، فيبعد إيجاب الجزية. قلنا: هذا مجازفة في التصوير، فإن من يجن سنة ثم حسب مفيقاً في يوم، ثم طبق عليه الجنون في سنة مستقبلة، فليس في وضع الجبلّة تحقُّقُ الإفاقة في مثل هذا اليوم، وإنما يتصوّر هذا إذا اطردت الإفاقة في السنة المستقبلة، فيحتمل الجنون فيما تقدم.
11456- فإن قيل: هذا التردد الذي ذكرتموه في الجزية هل تطردونه في سائر الأحكام التي يؤثر الجنون والإفاقة فيها؟ قلنا: لا يجري في سائر الأحكام اعتبار آخر الحول ولا التلفيق، وإنما تغليب الجنون، أو تغليب الإفاقة، أو تخصيص الجنون في زمانه بحكمه، وتخصيص الإفاقة في زمانها بحكمها.
فإن قيل: إذا كان يجن يوماً، ويُفيق يوماً، فوقع في الأسر مثل هذا الشخص، فهل تقولون: إنه يُرقّ؟ قلنا: إن غلبنا الجنون، رُق، وإن غلبنا الإفاقة، لم يرق، ويتجه أن يعتبر يومُ السبي، وأما قبله وقد تحقق أنه [كان] (2) يجن ويُفيق، فإن غلبنا الجنون، لم يقتل، وإن غلبنا الإفاقة على التفصيل المقدم، فالظاهر الحقن، وقد
__________
(1) في الأصل: الحيوان. مع تأكيدها بوضع علامة الإهمال تحت (الحاء) .
(2) زيادة من (هـ 4) .(18/30)
يخطر للناظر اعتبار يوم الأسر، [وإنما] (1) إشكال هذه المسألة من جهة أنه لا يجتمع الجنون والإفاقة في شخص حتى يقال: اجتمع فيه ما يحظر القتل وما يُبيحه، فالتغليب للحاظر، [ولو] (2) صادفناه مفيقاً، فلسنا نقطع بأنه سيجن. فمن اعتبر الحال، فهذا [وجهه] (3) . والعلم عند الله تعالى.
وقد انتجز القول فيمن تقبل منه الجزية، [ويقرّ] (4) في الدار بها، وفيمن يُتبَع ولا يستقل بالتزام الجزية. ثم ذكر التغايير التي تلحق وتزول.
فصل
قال: " وأيهم أفلس أو مات ... إلى آخره " (5) .
11457- إذا مضت سنة على الذمي، فمات، استقرت وظيفتها في ذمته، تؤدى من تركته، من رأس المال مقدماً على الوصايا وحقوق الورثة، ولا تسقط الجزية بتداخل السنين.
وقال أبو حنيفة (6) : إذا مضت سنة، ولم نستأد الجزية، سقطت، ولو كان هذا قولَه، فلو مات بعد مضي السنة، فلا تؤخذ الجزية من تركته. وعندنا إن بقي بعد السنة، طولب في حياته، وإن مات أُخرج من تركته بعد مماته.
ولو أسلم بعد مضي السنة، فهو مطالب بالجزية التي استقرت عليه قبل الإسلام، ولو مات الذمي في أثناء السنة، وقد مضى شطرها، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يجب مقدارٌ من الجزية على قدر الزمان الماضي؛ فإن مضى شَطرُ السنة، وجب نصف
__________
(1) في الأصل: " فإنما ".
(2) في الأصل: " وإنما ".
(3) في الأصل: " في وجه ".
(4) في النسختين: ويرق.
(5) ر. المختصر: 198.
(6) ر. الجامع الصغير: 470، مختصر الطحاوي: 294، مختصر اختلاف العلماء: 3/487 مسألة 1637، فتح القدير: 5/297، الاختيار: 4/139.(18/31)
الجزية وإن مضى عُشرها، فالواجب مقداره من الجزية، هذا أحد القولين، والقول الثاني - أنه تسقط الجزية بكمالها، فلا يجب من جزية هذه السنة شيء.
قال المحققون: حقيقة القولين ترجع إلى أن الجزية هل تجب بأول السنة أم يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة؟ فمن قال: يدخل وقت وجوبها بدخول آخر السنة، يقول: إذا مات في أثناء السنة لم يجب من الجزية شيء، ومن أضاف وجوبها إلى أول السنة، قال: إذا مات في أثناء السنة، وجب من الجزية قسطٌ على قدر ما مضى من السنة.
11458- ثم اختلفت عبارة الأصحاب في إضافة الوجوب إلى أول السنة، فقال قائلون: تجب الجزية بأول السنة دفعة واحدة، ولكن يستقر الجزء بعد الجزء. وقال قائلون: معنى إضافة الوجوب إلى أول السنة انبساط الوجوب على جميع الأوقات.
فأما الحكم بوجوبها دفعة واحدة في أول السنة فلا. والوجهان محتملان، ثم يجب عليهما جميعاً، قسط من الجزية إذا فرض الموت في أثناء السنة، ولو أسلم، كان في حكم الجزية كما لو مات.
ومما يتعلّق بهذه المسألة أنا إذا قلنا: الموت في أثناء السنة لا يستعقب وجوب شيء من الجزية، فلا كلام، وإن قلنا: [يجب] (1) قسط من الجزية، فلو أراد الإمام مع استمرار الذمة أن يطلب نصف الجزية مع انقضاء نصف السنة، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ليس له ذلك، لأن الطلب في آخر السنة عند استمرار الأحوال، بذلك جرت سُنن الماضين، وسِيَر المتقدمين، ولعل الجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة.
ومما يتعلّق بالمسألة أنه لو مات، [فقد] (2) استقرت عليه الجزية: أما إذا مات بعد السنة قولاً واحداً، أو مات في أثنائها على أحد القولين، فالجزية تؤدى من تركته، وهي مقدمة على الوصايا، وحقوق الورثة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) في النسختين: وقد.(18/32)
ولو كان في تركته ديون للآدميين، فكيف السبيل؟ اختلف أئمتنا في أن الجزية يُنحى بها نحو حقوق الله تعالى، كالزكاة، أو يُنحى بها نحو حقوق الآدميين، فمنهم من قال: هي من حقوق الآدميين، فإن مصرفها إلى المرتزقة، وليست من القُرَب، فعلى هذا الجزية كسائر ديون الآدميين تُسْتَحق، ثم في تقديم حقوق الله تعالى على حقوق الآدميين ثلاثة أقوال: أحدها - أن المقدّم حق الله تعالى. والثاني - أن المقدّم حق الآدمي. والثالث - أنهما يتساويان ويتصادمان. وقد قدّمنا هذه الأقوال في مواضع من الكتاب؛ فلا نعيد توجيهها، وتفصيلها.
فصل
قال: " ويشترط عليهم أن من ذكر كتاب الله تعالى، أو محمداً صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره " (1) .
11459- المقصود الأظهر من الفصل، الكلام فيما ينقض الذمة، ولا ينقضها، ونحن نصدّر الفصل بنوعين من الكلام: أحدهما - كيفية عقد الذمة، والآخر - معنى جريان الأحكام على أهل الذمة.
فأما كيفية عقد الذمة، فقد قال العراقيون: إذا عقدت الذمة، فلا بدّ من ذكر الجزية؛ فإنها عماد الذمة [ومثلُها] (2) الاستسلام لجريان الأحكام. لا بد من ذكر هذين، ولو لم يُذكرا، لم يصح العهد، وصرّحوا باشتراط التلفظ بما ذكرناه.
وذكر القاضي ذلك أيضاً على هذا الوجه.
أما قياس المراوزة، فهو أن الجزية لا بدّ من ذكرها، وأما ذكر الاستسلام للأحكام، فيجب ألا يشترط، ولا يجب التعرض له؛ لأن استسلامهم من حكم الذمة، ولا حاجة إلى ذكره، واشتراط ذكره بمثابة اشتراط ذكر الملك في البيع.
__________
(1) ر. المختصر: 5/198.
(2) في النسختين: ومنها. والمثبت تصرف من المحقق، حتى يتحقق الفرق بين العراقيين والمراوزة.(18/33)
ومعتمد العراقيين أن كل ما يُنقض العهد به وجهاً واحداً، فلا بدّ من ذكره، وسنبين أن امتناعهم عن بذل الجزية، وعن جريان أحكامنا عليهم يوجب نقض عهدهم.
ثم استتم العراقيون التفريعَ على ما ذكرناه، وقالوا: يجب ذكر الجزية والاستسلام للأحكام وجهاً واحداً.
وهل يجب أن يذكر في الذمة ألا يتعرضوا للأنبياء بذكر السوء؟ ذكروا وجهين في اشتراط ذلك: أحدهما - أنه يشترط ذكر هذا؛ إذ بهذا تحصل المكافّة، وترك التعرّض منهم لنا، ومنّا لهم. والوجه الثاني - أن ذلك لا يشترط؛ فإنا إذا ذكرنا استسلامهم لأحكامنا، كفى ذلك، ومن أحكامنا أن نمنعهم عن التعرض، حتى إن تعرّضوا سيأتي حكم الإسلام فيه، إن شاء الله تعالى.
هذا بيان عقد الذمة.
ثم للأصحاب تردّدٌ في أن الذمة المؤقتة هل تنعقد؟ وسنذكر هذا في باب المهادنة، إن شاء الله تعالى عند ذكرنا وجوب التأقيت فيها، وعندها نذكر أن الذمة هل تنقضي باستشعار الخوف قبل تحققه، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
11460- فأما النوع الآخر الذي نريد ذكره، وهو أن الأصحاب أطلقوا أن أحكامنا جارية عليهم، وقد قدّمنا غير مرة اختلاف القول في أنهم إذا جاؤونا راضين بأحكامنا، فهل يلزمنا أن نحكم بينهم؟ فعلى قولين، فكيف سبيل الجمع بين هذا، وبين إطلاقنا القول بأن أحكامنا تجرى عليهم؟
قال العراقيون في ذلك: المراد بإجراء الأحكام عليهم أنهم إذا فعلوا ما هو محظورٌ في دينهم، وكانوا لا يستحلّونه، فيجري حكم الله عليهم، إذا كان لا يتعلّق بالدعوى، وهذا بمثابة ما لو زنى واحد منهم، وثبت زناه عند حاكم المسلمين؛ فإنه يقيم على الزاني حدّ الله تعالى، ولا حاجة إلى رضاه بحكمنا، وارتفاعه إلى مجلسنا، بل إذا شهد على زناه أربعة من عدول المسلمين، أقمنا الحد، وهذا الذي ذكروه حسن، ولم أر في طريق المراوزة ما يخالف هذا، وهو متجه.
فأما ما يستحلّونه، فهو منقسم إلى الخمر، وغيره، فأما إذا شرب الخمرَ واحدٌ(18/34)
منهم، فالمذهب أنا لا نقيم عليه الحدّ، وإن رضي بحكمنا، وفيه خلاف، وقد قدمنا في ذلك كلاماً بالغاً.
وأما غير الخمر، فإذا نكح واحد من المجوس واحدةً من محارمه، فلا نتعرّض له، وإن ارتفعوا إلينا، ورضوا بحكمنا، فهذا يخرج على القولين في أنه هل يجب الحكم؛ [فإن التزمناه، حكمنا عليهم بحكم الإسلام] (1) ؛ فإن القاضي يستتبع الخصوم في الحكم عليهم. وقد ذكرنا هذين القولين في أبوابٍ، وموضع استقصائهما أدبُ القضاء.
والغرض من ذكرهما الآن أنا حكينا من طريق العراقيين أن حد الزنا يقام عليهم، وكذلك حد السرقة، وهذا الذي ذكروه لا أنكر اتجاهه، بناء على أنا أقررناهم في دارنا على ألا نتعرّض لهم في موجَب دينهم على شرط ألا يتظاهروا به، ولا يظهروه، فأما إذا خالفوا دينهم، فالحكم جارٍ عليهم. هذا مسلكهم.
والذي أراه في ذلك أن من زنى منهم بمسلمة، أو سرق مال مسلم، فالحكم جارٍ عليهم؛ فإن الحكومات إذا تعلّقت بالكفار والمسلمين، فيجب على القاضي أن يحكم فيها على الكلفار أو لهم قولاً واحداً، وإذا اتصل الزنا بمسلمةٍ، أو فرضت السرقة في مال مسلم، [فإجراؤنا] (2) الحكمَ عليهم على قياس قطعنا القولَ بالتزامهم أحكامنا، إذا كان خصومهم المسلمين.
فأما إذا زنى كافر بكافرة، أو سرق كافر مال كافر، فالذي أراه يخرج على القولين؛ فإنهم كما حرموا الزنا في دينهم، والسرقة، فكذلك حرموا الغصب، وتغييب الودائع وجحدها، ثم الخصومات الدائرة بينهم في هذه المعاني تخرج على القولين، ولا فرق إلا أن ما يختص بالأموال يفتقر إلى تقدّم الدعوى، وثبوتُ الزنا لا يتوقف على فرض الدعوى، والسرقة قد تتعلق بالدعوى، فيجب تقريب الأمر على ما ذكرناه.
__________
(1) زبادة من (هـ 4) .
(2) غير مقروءة بالأصل، والمثبت من (هـ 4) .(18/35)
11461- ومما نذكره قبل الخوض، في نواقض العهود، أنا إذا عقدنا الذمة، التزمنا لهم كفَّ الأذى عنهم، وعدَم التعرض لهم فيما يرونه بين أظهرهم -ما أخفَوْها (1) - فلا نريق خمورهم ولا نقتل خنازيرهم، ولا نتعرض لبياعاتهم ومناكحاتهم فيما بين أظهرهم.
وهل يجب علينا أن نذب الكفار عنهم؟ يعني أهل الحرب؟ فإن كانوا في بلاد الإسلام؛ فإنا نضطر إلى الذب من غير قصدٍ ينصرف إليهم؛ فإنه يتعين علينا حمايةَ بلاد الإسلام عن طروق الكفار، وإذا نحن فعلنا هذا، فيحصل به الذب عنهم لا محالة.
ولو كان الذمي في دار الحرب لكنه التزم الجزية، وعقدنا له الذمة، فيستحيل أن نلتزم ذب الكفار عنهم؛ فإن هذا مما لا يحيط به الاستطاعة، والإطاقة.
ولو كان أهل الذمة في بلدةٍ متاخمة لبلاد الإسلام من جهةٍ، ولبلاد الكفار من جهة، وكان ذب الكفار عنهم ممكناً، فهل نلتزم ذلك لهم بمطلق الذمة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نلتزم ذلك؛ فإن الغرض بعقد الذمة أن يأمنونا ويؤمِّنونا، فإذا كفيناهم بوادر أجنادنا، وكففنا الأيدي عنهم، كفاهم ذلك، والدليل عليه أنهم لا يلتزمون، الذبَّ عنا إذا تغشانا جمعٌ من الكفار، ونحن لا نلتزم لهم ما لا يلتزمونه لنا.
والوجه الثاني - أنه يجب علينا الذب عنهم إذا تمكنا منهم؛ فإنا بالذمة التزمنا أن نُلحقهم في العصمة والصون بأهل الإسلام، فيجب علينا أن نذب عنهم كما نذب عن أهل الإسلام، وهذا مشهور في الحكاية، والأقيس الوجه الأول.
وما ذكرناه فيه إذا أطلقنا الذمة، ولم نتعرّض لالتزام الذب عنهم، فإن قلنا: لا يلزمنا الذب بحكم الذمة، فلو اشترطنا ذلك، والتزمناه، فالرأي أنه لا يلزمنا الوفاء؛ فإن ما لا يلزم بقضية الذمة، لا يلزم بالاشتراط؛ وفي كلام الأصحاب ما يشير إلى أن الذب يلزم بالالتزام.
__________
(1) كذا في النسختين بضمير المؤنث. والتأويل قريب.(18/36)
وإذا قلنا: مطلق الذمة يقتضي الذب، فلو شرطنا ألا نذب عنهم في محل الوجهين، ونكتفي بالانكفاف عنهم، فالظاهر أن الشرط يثبت، ولا يلزم الذب، وإن كان يلزم في الذمة المطلقة. ومن أصحابنا من أفسد هذا الشرط. ثم في فساد الذمة بالشرائط الفاسدة، كلام سيأتي الشرح عليها في باب المهادنة، إن شاء الله تعالى.
11462- وقد حان أن نخوض بعد ذلك في نواقض العهود. وتمهيد الكلام يقتضي رسمَ ثلاث درجات، هكذا رتبه الأئمة: المرتبة الأولى: ما يوجب نقض العهد من غير أن يفرض فيه شرط، ثم ذكر الأكثرون في هذا القسم ثلاثة أشياء: أحدها - منع الجزية. والثاني - الامتناع من إجراء الأحكام. والثالث - نصب القتال.
وقضَوْا بأن هذه الخلال الثلاث عماد الذمة، وتركُها نقضُ عقد الذمة.
وفي هذا أدنى تدبّر: أما القتال على ما نعهده من أهل الحرب، فهو مناقضة للذمة؛ فإن الغرض الأظهر منها الأمان المؤبد، فإذا قاتلونا، فقد تركوا موجَب العهد.
فأما منع بذل الجزية والامتناع عن جريان الأحكام، فقد أطلقها الأصحاب، ولم يأتوا فيها بالبيان الشافي، ومطلق ما ذكروه يدل على أن واحداً من أهل الذمة إذا سوّف، ومطل، وامتنع عن تأدية الجزية لما طولب بها مع القدرة على أدائها، فيكون ذلك نقضاً منه، وشرطوا في هذا التمكن من الأداء، فلو اعتراه عجز وأحوجه إلى استمهال في مدة قريبة، فما أرى الأصحاب يقضون بانتقاض العهد والحالة هذه. فأما المطل المحقق، والمدافعة من غير عذر، ففيها قالوا بانتقاض العهد، وليس يبعد أن يقال: امتناع الذمي عن أداء الجزية، ويد القهر ممتدة إليه لا يوجب نقضَ عهده، ولكنا نستأدي منه الجزية قهراً، ويكون امتناعه عن أدائها بمثابة امتناعه عن ديونٍ توجهت عليه للمسلمين، وهذا متجه.
وما ذكره الأصحاب حسن بالغ، لأن الجزية عوض ترك القتال، وهو [في حكم] (1) ما يتجدد حالاً على حال، فيجوز أن يقال: امتناع المقتدر عليها حطّ منه
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/37)
لعوض ترك القتال، [وتركُ] (1) القتال لا يستقل بنفسه دون عوض. فإن قال قائل: الجزية الواجبة تقابل ما مضى من الزمان، فما قولكم فيه إذا قال: الجزية المستقرة لا أؤديها، وأؤدي الجزى في مستقبل الزمان؟ قلنا: لم يفصل الأصحاب، ولم يفرّقوا، وإذا بدا منه امتناع، كفى ذلك.
هذا كلامنا في الامتناع من الجزية.
11463- وأما ما ذكره الأصحاب من الامتناع عن إجراء الأحكام، فذلك فيه نظر لا بدّ منه؛ فإن امتنع [من امتنع] (2) منهم عن الحكم شارداً، أو هارباً، فلست أرى ذلك نقضاً للعهد.
وإن كان الامتناع عن ركون إلى عُدّة، [وتقوٍّ] (3) بقوة، فالوجه أن ندعوهم حتى يستسلموا، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الخوارج، إذ قال لهم: " استسلموا نحكم عليكم " (4) فإن امتنعوا، هممنا بهم، فإن استسلموا، حكمنا عليهم، وإن قاتلوا، آل الأمر إلى القتال الناقض للعهد.
وما ذكرته من ترديد الرأي في منع الجزية [والامتناع] (5) مستند إلى كلام.
الأصحاب؛ فإن القاضي، لم يذكر في الذي ينقض العهد [إلا نصبهم القتال] (6) ، ولست أبعد أن الأولين ذكروا القتال، وعدّوا منعَ الجزية من أسبابه، وعبروا من (7) الامتناع (8) عن القتال، فإن كان كذلك، آل الأمر إلى أن الناقض بنفسه وذاته القتالُ فإنه منافٍ للأمان.
__________
(1) في الأصل: " ولو ترك ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: " وـ ـول " (انظر صورتها) (وهـ4) سقطت الصفحة كاملة.
(4) أثر علي " استسلموا نحكم عليكم " رواه الشافعي في الأم: 4/217.
(5) زيادة من المحقق رعاية للسياق.
(6) عبارة الأصل: إلا نصبهم في القتال. وتقع العبارة في صفحة ذاهبة من (هـ 4) .
(7) من: مرادفة للباء، وعليه قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] .
(8) الامتناع: المراد الامتناع عن أداء الجزية وعن التزام الأحكام، فمعنى العبارة: عبروا بالامتناع عن أداء الجزية والتزام الأحكام عن القتال.(18/38)
وإن أراد الأصحاب عدّ منع الجزية، والامتناعَ مغايرين لنصب القتال، فأقصى الإمكان فيه ما قدّمناه، وظاهر ما نقله الصيدلاني أن منع الجزية والامتناعَ متغايران، وهما ينزلان منزلة نصب القتال، ولفظه في الكتاب: " بعض ما يصدر منه نقضٌ للعهد شرط ذلك عليهم أو لم يشرط، مثل منع الجزية، والامتناع عن [إجراء] (1) أحكام الإسلام عليهم، ونصبِ القتال من غير شبهة " [ونصبُ القتال من غير شبهة] (2) أراد به أن يستعين بطائفة من أهل الذمة أهلُ البغي، وهذا فصلٌ ذكرته على أقصى الإمكان في التفصيل، وشفيتُ فيه الغليل.
ومما يتعلق بهذا القسم لإتمامه أن الأصحاب جعلوا ما يقع في هذا القسم ناقضاً للعهد بنفسه سواء شرط ذلك أو لم يشرط.
ثم القتالُ فعلٌ يعد ناقضاً، وكذلك ما ألحق به، إن كان يلتحق به غيره، والسبب فيه أن الذمّة جائزة من جانب الذمي، والعهد الجائز إذا انتفى مقصوده بالكلية، لم يبعد انقطاعه، وإن كان الصادر ممن انعقد معه فعلاً، وهذا بمثابة حكمنا بانقطاع الإيداع والائتمان بعدوان المؤتمَن، وإن كانت صيغة الأمن باقية (3) ، ولو قاتلناهم، وخالفنا العهد لم تنتقض الذمة؛ لأن الذمة في جانبنا واجبة لازمة، والوفاء بها حتم، ولو أردنا نبذها من غير سبب، لم نجد إليه سبيلاً. هذا منتهى ما حضرنا في هذا القسم.
11464- فأما القسم الثاني - فهو أن يصدر من الذمّي ما هو ممنوع عنه، وكان ممّا يظهر الإضرار بسببه بالمسلمين، فإذا كان فيه إلحاق مضرة عظيمة، فنذكر في هذا القسم ما ذكره الأئمة، وما ترددوا فيه، ونبين حكمه.
فمما اتفقوا عليه، وعدوه في هذا القسم أن يزني الذمي بمسلمة، أو يصيبها باسم النكاح، أو يؤوي عيناً لأهل الحرب، أو يكتب إليهم بأسرار المسلمين، ويطلعَهم على عوراتهم، أو يفتنَ مسلماً عن دينه، فالضرر يعظم بهذه الأشياء، فمنها ما يرجع
__________
(1) في الأصل: " جهات ". ولا أدري لها وجهاً ولا عن أي لفظة صحفت.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) صيغة الأمن: أي صيغة الائتمان وصورة الإيداع باقية.(18/39)
إلى الإسلام، ومنها ما يرجع إلى معنيين. فإذا صدرت هذه الأصناف منهم، فللأصحاب طريقان: قال العراقيون، وصاحب التقريب: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن العهد ينتقض، كما (1) منعوا الجزية، أو قاتلوا، أو امتنعوا عن إجراء الأحكام، والأوْلى أن نقول في إيضاح هذا القسم: إن العهد ينتقض بما يظهر ضرره، قياساً على ما اشتمل عليه القسم الأول. وقد مضى تفصيل القول في القسم الأول، وتوجيه هذا الوجه، أن ما صدر منهم من هذه العظائم ينافي الأمن والأمان، فشابه ما لو نصبوا القتال.
والوجه الثاني - أن العهد لا ينتقض، لأنهم بما فعلوا، لم يقاطعونا، ولكن صدر منهم منافاة وأسباب (2) هي بالإضافة إلى الذمة كالكبائر، بالإضافة إلى الإسلام.
والوجه الثالث - أنهم إن شرط عليهم انتقاض العهد لو قَدِمُوا (3) على ما وصفنا، انتقض العهد بها إذا صدرت منهم، وإن لم يجر شرط انتقاض العهد لا ينتقض العهد. والقائلان الأولان لا يغيّران ما اعتقداه بالشرط، أما من حكم بالانتقاض مطلقاً، لم (4) يجعل للشرط موقعاً، واعتقد هذه الأشياء منافية بأنفسها، كنصبهم القتال.
ومن قال: لا ينتقض العهد بها، يقول: لو فرض شرطٌ، حمل على التخويف، وتحقيق الزجر. وسيكون لنا في هذا الفن مزيد كشف في القسم الثالث. إن شاء الله.
وأما التفصيل فبيّنٌ. هذه طريقة.
وقال الصيدلاني، وغيره من محققي الأصحاب: إن لم يجر شرطٌ، لم ينتقض العهد بهذه الأشياء، وإن جرى شرطٌ، ففي انتقاض العهد وجهان. وهذه الطريقة إذا ضُمت إلى الطريقة الأولى، انتظم من تضامّهما أنّا في وجهٍ لا نحكم بالانتقاض أصلاً،
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) (هـ 4) : " هنات وسيئات ".
(3) قدِم على الأمر من باب (لعب) : أقبل عليه، وقدِم على العيب رضي به. (المعجم) .
(4) جواب (أما) بدون فاء.(18/40)
كان الشرط أو لم يكن. والثماني- أنا نحكم بالانتقاض، كان الشرط، أو لم يكن، والثالث - الفصل، فلا يزيد بالضم وجه.
وربما كان شيخي يقول: من أصحابنا من قال: إذا جرى شرط في الانتقاض، انتقض العهد، وإن لم يجر، فوجهان.
فهذا مجموع ما قيل، وعكس الطريقتين يُشعر بمزيد غَرضٍ في الترتيب، وإلا فلا يشذ على الأوجه الثلاثة شيء.
وما أطلقناه من الشرط أردنا شرطَ الانتقاض لا شرط الانكفاف عن هذه الأشياء؛ فإن نفس الذمة مُزجرة عن هذه الأمور، فلا معنى لذكرها، وهذا مما اتفق الأصحاب فيه، على أنا لا نشترط ذكره في عقد الذمة، وإنما تردُّدُ الأصحاب في التعرض لترك القتال والاستسلام للحكم، وقد قدّمنا فيه ما ينبغي.
11465- ومما يجب الاهتمام به أن طوائف من المحققين ذكروا قطع الطريق في هذا القسم، والقتل الموجب للقصاص، ولم يتعرضوا (1) لهذين آخرون، وتبين [لي] (2) أنه يسوغ أن يلحق بالمذهب تردّدٌ في القتل وقطع الطريق، فيقال: هما ملتحقان بالقسم الأول في وجهٍ؛ من جهة أنهم إذا قتلوا وقطعوا الطريق، وشهروا السلاح، لم يُبقوا من مناقضة الأمان شيئاً، فلا يبعد التحاق ذلك بالقسم الأول، وليس كالفواحش التي تجري في الاختفاء، ومن جملته السرقة، فإن السارق تحت القهر، وإنما ينتهز الفرص، ويرتاد أوقاتَ الغفلات، ويد القهر ممتدة إليه. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: قتل الواحد والآحاد من غير منابذة، ومحاولة مفارقة المسلمين في حكم الكبائر بالإضافة إلى الإسلام. وقطع الطريق، وإن كان فيه مكاوحة، فليس فيه منابذة المسلمين، وإنما هو توثب على الرّفاق، بعُدّة وقوة، مع ارتياد
__________
(1) كذا في النسختين: " ولم يتعرضوا لهذين آخرون " وهو جارٍ على لغة أكلوني البراغيث.
(2) في الأصل: " إلي ".(18/41)
ملازمة [الخِطة] (1) والدار، وهذا يحوج إلى مزيد تقرير في قطع الطريق؛ فإن القتل في الدم بمثابة السرقة في المال.
فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك، وقد يلتحق بهذا القسم شيء، ولكن الترتيب يقتضي ذكرَ القسم الثالث أولاً، ثم إذا انتجز، اشتغلنا به.
11466- فأما القسم الثالث - فهو في بيان أمور تصدر منهم، [ممّا] (2) لا يقع في القسم الأول، ولا يتعلّق به إضرارٌ بيّن، وذلك كإظهارهم الخمور، وإسماعنا النواقيس، وتركهم الغِيَار (3) ، وإظهارهم معتقدهم في المسيح، مما يُكفَّرون به، فهذه الأشياء في أعيانها لا تنقض العهد أصلاً باتفاق الأصحاب، ولكنا نمنعهم، وقد نُعزِّرهم.
وهذا كله إذا لم ينته الأمر إلى الإضرار، والامتناع، والتجمع، فإن هذا يلتحق بالامتناع عن جريان أحكام الإسلام، وقد مضى فيه البيان الشافي.
ولو شرط الإمام عليهم ألاّ يفعلوا هذا، ففعلوه، لم ينتقض عهدهم؛ فإن الشرط على هذا الوجه لا يُغيّر حكم الانتقاض ثبوتاً، وانتفاءً. ولو شرط الإمام عليهم انتقاض العهد، لو فعلوا ما وصفناه، فقد قال الأئمة: يحمل الشرط في هذا على التخويف. وهذا كلام مبهم، لا أستجيز الاكتفاء به.
وتفصيله أنا سنذكر بعد هذا -إن شاء الله تعالى- الاختلافَ في أن الذمة المؤقتة هل تصح؟ فإذا قال عاقد الذمة: إن أظهرتم خموركم، فلا عهد، أو انتقض العهد، فهذا تأقيت للذمة، فمن يُجوّزُ تأقيت الذمة إلى أمد، لا يبعد عنده تأقيت الذمة إلى إظهار فعلٍ، فعلى هذا يجب القضاء بالانتقاض.
ومن قال: الذمة المؤقتة فاسدة، فيجب عنده القضاء بفساد الذمة من أصلها، وليس للإمام أن يعقد مثل هذه الذمة على هذا الوجه، ولا بدّ مما ذكرناه إذا صرح
__________
(1) في الأصل: " الخطر " والمثبت من (هـ 4) .
(2) في الأصل: " فيما ".
(3) الغِيار للذمي كالزُّنّار للمجوسي علامة يتميز بها، وهو شيء كالحزام يشدّ على وسطه.
(المعجم والمصباح) .(18/42)
عاقد الذمة باشتراط انتقاض الذمة بهذه الأفعال، ويعود الكلام إلى أن شرطه هل يُفسد الذمة أم لا؟ فإن صححنا التأقيت، صحت الذمة إلى انتقاضها، وإن لم نصحح التأقيت، فسدت الذمة من أصلها.
وفي كلام الصيدلاني ما يشير إلى أن الذمة تتأبد، والشرط يفسد. وهذا فقيهٌ؛ من جهة أن الذمة لم ترتبط بوقتٍ [زماني] (1) ، وإنما أرسلت إرسالاً [يتصور] (2) أن تتأبد لو فرض عدم ما شرط انتفاؤه، فيؤول الفساد إلى الشرط، وهذا يخالف التأقيت؛ فإن العهد المؤقت ليس ذمة، وما ذكرنا في الصورتين يماثل تأقيت الوقف وتأبيده مع شرط فاسد، فقد نقول المؤقت منه مردود، وليس بوقف، وإنما هو إعارة، وإباحة، والمؤبد منه مع شرط فاسد وقف فيه شرط فاسد، وقد يرى بعض الأصحاب إحباط الشرط، وتصحيح الوقف.
هذا تمام المراد في قواعد الأقسام الثلاثة.
11467- ثم نحن بعد نجازها نذكر أمراً مهمّاً متردداً بين الأقسام، وهو أن أهل الذمة، لو تعرضوا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، بسوء، وقدحوا في الإسلام، وأظهروا ذلك، فقد اضطرب طرق أئمتنا، ونحن نسرد جميعها نقلاً، ثم نذكر المسلك المرتضى.
ذكر صاحب التقريب، والعراقيون وجهين في ذلك: أحدهما - أن قدحهم في الإسلام والتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم ملتحق بالقسم الأول، وقد مضى الحكم فيما اشتمل عليه القسم الأول.
والوجه الثاني - أن الحكم في ذلك كالحكم فيما يشتمل عليه القسم الثاني؛ فإن هذا مما يعظم الضرر فيه، ويقدح في قلوب أهل الإسلام، وذو الدين إذا قدح في دينه، جاز (3) وقعُ ذلك على التعرض لدمه وماله، فاتجه إلحاقُه بالمضرّات.
__________
(1) في الأصل: " بزمان ".
(2) في الأصل: " لا يتصور ". والمثبت من (هـ 4) .
(3) جاز وقع ذلك: أي زاد وتعدّى.(18/43)
وذكر الصيدلاني [في ذلك تفصيلاً حسناً] (1) ، فقال: إن ذكروا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يعتقدونه فيه ديناً مثل: أن يسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم أو يطعنوا في نسبه صلى الله عليه وسلم، فهذا يلحق بالقسم الأول أو الثاني. وأما إذا ذكروا رسولنا صلى الله عليه وسلم بما يعتقدونه فيه ديناً من أنه ليس برسول، والقرآن ليس بكلام الله تعالى، فهذا بمنزلة إظهارهم كفرهم من نحو قولهم في المسيح.
وهذا ترتيب حسن.
والذي أُحبُّه (2) أن نتخذ هذا الترتيب عماداً، ونبني عليه التعرض، ونقول: إن تعرّضوا للإسلام، وأساءوا لنبينا بما ليس هو من قاعدة دينهم، ففيه وجهان قدمنا ذكرهما، أحدهما - أن ذلك كالقسم الأول. والثاني - أنه كالقسم الثاني، وإن لم يتعرّضوا لديننا، ولرسولنا صلى الله عليه وسلم، ولكن أظهروا، قولهم في المسيح، وذكروا معتقدهم في التثليث، فهذا لا يوجب نقض العهد، ولكنا نؤدبهم لإظهارهم كفرَهم، كما نؤدبهم لإظهار الخمور، والخنازير وإسماعنا النواقيسَ، وإن أظهروا معتقدهم في القدح في الإسلام، وتكذيب نبينا، فهذا مختلف فيه: فمن أصحابنا من جعل هذا بمثابة ما لو قدحوا في الإسلام بما لا يعتقدونه، وهذا بعيد.
ومنهم من ألحق هذا بذكرهم المسيح، وإظهارهم التثليث.
هذا هو البيان التام في ذلك.
وكنت أحب لو قال قائل في القسم الثاني: لا ينتقض العهد بصدور المضرّات، ولكن للإمام أن ينقض عهدهم إن شاء. ولم يصر إلى هذا أحد في هذا الفصل، والقول به ممكن؛ فإن من أصحابنا من يجوز للإمام أن ينبذ الذمة، إذا ظهرت منهم تهمة تجر ضرراً، كما سنذكره. إن شاء الله. فكان لا يبعد أيضاً أن يصح من الإمام شرط النقض إن شاء، لست أعني شرط الانتقاض، فإن ذلك قضينا منه الوطر.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) (هـ 4) : " والذي يتجه ".(18/44)
11468- ثم إذا انتقض عهد الذمي، فقد أطلق الأصحاب قولين: في أنا هل نغتالهم أو نُبلغهم مأمنهم؟ وهذا لا يكشف الغطاء، فالوجه أن نقول: إذا كان انتقاض عهدهم سبباً لقتال علينا، فقد صاروا حرباً في دار الإسلام، [فلا] (1) نلبّث، وليس إلا البدار إلى اصطلامهم، وليس هذا محل القولين.
وإن أتَوْا بما اشتمل عليه القسم الثاني، وقلنا: بانتقاض عهودهم، فهل نقاتلهم، أو نبلغهم مأمنهم؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نغتالهم، فإنا إذ كنا نقضي بانتقاض عهدهم تغليظاً عليهم لما أقدموا عليه من الجرائم، فيليق بهذا المقام أن نستأصلهم، أو نغتالهم.
والقول الثاني - أنا لا نغتالهم؛ فإنهم لم ينابذونا، ولم يصيروا حرباً لنا. ويجوز أن يقال: انتقض عهدهم، فأما ألا تبقى عُلقة يتبلغون بها فهذا سرف.
ولو نبذ الذميّ العهدَ ورام الالتحاق، ولم يضر بأحد، فقد قطع المحققون بأنا نُبلغه المأمَن، وفي تعليق [معتمد] (2) عن القاضي إجراء القولين هاهنا أيضاً، وهذا هفوة.
والمسائل موزعة على ثلاث مراتب: إحداها - المنابذة، ونصب القتال، ومصيره حرباً، فهاهنا لا اختلاف في الاغتيال والاستئصال في النفس والذرّية والمال.
والمرتبة الثانية - في انتقاض العهد بالمضرات التي ليست منابذة، والقولان يجريان هاهنا في الاغتيال ووجوب تبليغ المأمن.
والمرتبة الثالثة - في نبذه العهد ليلتحق بدار الحرب، والوجه هاهنا القطع بوجوب تبليغه. ومن أجرى القولين في هذا القسم، فقد أبعد، ووجهه على بُعده أنه لو (3) نبذ العهد حربيٌّ بلا أمان، وكان يمكنه أن ينطلق إلى دار الحرب من غير نبذ العهد، فإذا نبذه أمكن على هذا التقدير إجراء القولين.
هذا منتهى الكلام في نواقض العهود وما يتعلق بأطرافها.
__________
(1) في الأصل: " ولا ".
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) في (هـ 4) : " بعد".(18/45)
11469- ونحن نختم هذا الفصل بأمر يتعلق بالمسلمين: قال الأئمة: من ذكر الله تعالى بسوء، وكان ذلك مما يوجب التكفير بالإجماع، فالذي صدر منه رِدّة، فإذا تاب، قُبلت توبته.
11475- ولو سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو قذفٌ صريح، كفر باتفاق الأصحاب، قال الشيخ أبو بكر الفارسي في كتاب الإجماع: لو تاب، لم يسقط القتل عنه؛ فإنّ حدّ من يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتلُ، فكما لا يسقط حدّ القذف بالتوبة، فكذلك لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة، وادعى فيه الإجماع، ووافقه الشيخ أبو بكر القفال.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: كفر بالسبّ، وتعرض للسيف تعرض المرتد، فإذا تاب، سقط القتل.
وقال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إذا سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، استوجب القتل، والقتلُ للردّة لا للسبّ، فإن تاب زال القتل الذي هو موجَب الردّة، وجُلد ثمانين، هذه طُرق الأصحاب في ذلك.
11471- والغرض لا ينكشف في هذا إلا بمباحثةٍ وغوصٍ فنقول: من سبّ محصناً وله ورثة قاموا بطلب الحدّ، ولو لم يكن للمقذوف ورثة، فهل نقول: يرث المسلمون الحدّ، وينوب الإمام عنهم، واشتهر القولان في أن من قُتل وليس له وارث خاص، فهل يجب القصاص على قاتله؟
ذهب بعض الأصحاب إلى أن نفي القصاص خارج على أن في المسلمين صبياناً ومجانين وغُيّباً، والعقوباتُ على الدّرء، ولعل الأصح أن القولين مخرجان على قاعدة أخرى، وهي أن المال مصروف إلى جهة المصالح؛ إذ لا سبيل إلى تعطيلها، وأَوْلى الجهات ما يعم الكافّة، وهي المصالح، وأما القصاص فلا ضرورة في إقامته؛ حيث لا يطلبه معين، وينشأ من هذا أن الإمام لو أقامه، لكان بين أن يتحتّم عليه الاقتصاص؛ فيلتحق بالحدود، وبين أن يتخير ويردّ الأمر إلى الاستصواب والاجتهاد، وهذا بعيد عن قياس القصاص.(18/46)
فإذا تمهّد هذا، قلنا: إذا قُذف المحصن، فلا يبعد خروج إقامة الحد على ما ذكرناه في القصاص، والمسلك الذي ذكره بعض الأصحاب في القصاص من أن المسلمين لا يخلون عن صبيان ومجانين لا [يستدّ] (1) في حد القذف؛ فإنه يستقلّ بطلبه كلُّ مَنْ يقوم به، هذا قولنا في سبّ من لا وارث له.
فلو سب شقيٌّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم تاب، فإن قلنا: لا يسقط القتل كما ذكره الفارسي، فلا بُعد، وللرسول صلى الله عليه وسلم عصبات من بني أعمامه، فلو سلكنا بهذا مسلك حد القذف، فيلزم سقوطه بإسقاط الورثة، وإن قيل لا ينحصر ورثته، فيجب أن يتوقف استيفاء الحد على طلب واحد؛ فإن ذلك ممكن، والاجتماع ليس شرطاً في الطلب، ويلزم أن يخرج هذا على الخلاف في قذف محصن ليس له وارث خاص.
وهذا خبط وتخليط، ولا يتجه عندنا إلا مسلكان: أحدهما - ما قاله الفارسي وهو في نهاية الحسن، ولكنه مبهم بعدُ؛ فإنه أطلق فقال: حَدُّ من يسبّه القتلُ، وهذا فيه نظر؛ فإن الحدود لا تثبت بالرأي، وقد ورد في الأخبار: " من سبّ نبيّاً فاقتلوه، ومن سبّ أصحابه فاجلدوه " (2) ولكن مع هذا لا يمكن القضاء بكونه حدَّ قذف، ولكنه هو قتلٌ بسبب هو رِدّة، وهو متعلق بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تصح التوبة عما يتعلق بحق الآدمي، وهذا مراد الفارسي. هذا مسلك.
والآخر - أنه ردّة، والتوبة عنه كالتوبة عن الردة، والوقيعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم كذكر الله تعالى بالسوء. فإن قال قائل: أحبطتم حكم قذفه بالتوبة قلنا: قدره أعلى من أن يجعل سبّه كسبِّ غيره، وإذا جعلنا سبّه ردّة، فليس بعد ذلك مرتبة،
__________
(1) في النسختين: يستمر. وهو تصحيف جرى في هذا اللفظ بصورة شبه دائمة.
(2) خبر " من سبّ نبياً فاقتلوه ومن سبّ أصحابه فاجلدوه " وجدناه بلفظ " ... ومن سبَّ أصحابي ... "، قال الهيثمي في المجمع: " رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه عبد الله بن محمد العمري، رماه النسائي بالكذب ". والحديث حكم عليه الألباني بالوضع (ر. الأوسط للطبراني: 6/305 ح 4599، والصغير: 137، المجمع: 6/260، كنز العمال: 32478، سلسلة الضعيفة للألباني: ح 206) .(18/47)
ثم إن عَظُم سقوطُ موجب الردّة على إنسان، عورض بالرّدة بذكر الله تعالى بالسوء، وما ذكره الصيدلاني من بقاء ثمانين جلدة تعرض منه لقياس جزئي في الفقه، وليس هذا موضعه، والدليل عليه أنه لو لم يتب، للزم أن يجلد، ويقتل: الجلد لقذفه والقتل لردته، هذا منتهى المراد في ذلك.
11472- قال شيخنا: من كذب عمداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر، وأريق دمه، أما التكفير بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزلّةٌ عظيمة، ولم أر ذلك لأحد من الأصحاب، وإنما ذكرت ذلك لأنه [كان] (1) لا يخلي عنه الدرسَ إذا انتهى إلى هذا المكان، وقد ورد خبر يعضد ما ذكره من إراقة الدم: " روي أن رجلاً انطلق إلى طائفة من العرب وأخبرهم أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرموه، ثم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [وأخبروه] (2) بأمره فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله إذا رجعوا إليه "، وفي الحديث أنه قال: " وما أراكم تدركونه، فلمّا رجعوا ألفوه هالكاً قد أهلكته صاعقة " (3) ووجه التعلّق بالقصة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
ونحن نقول: أما التكفير، فهفوة. وأما القتل، فلا وجه له أيضاً، والوجه حَمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معرفته بأن ذلك الرجل كان منافقاً، ولا وجه لإثبات كفرٍ لا أصل له، ولا لإثبات قتلٍ لا مستند له.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) في النسختين: " وأخبرهم ".
(3) حديث قَتْل الرجل الذي ادعى أنه رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البغوي في معجمه من حديث بريدة، ومُسدد في مسنده من حديث محمد بن الحنفية، ورواه أحمد، والطبراني.
قال الحافظ بعد أن ذكر الطُّرق: " وادعى الذهبي في الميزان أنه لا يصحّ بوجه من الوجوه.
ولا شكّ أن طريق أحمد ما بها بأس، وشاهدها حديث بريدة، فالحديث حسن " ا. هـ (التلخيص: 4/232 ح 2320، خلاصة البدر المنير: 2/364 ح 2611) .
هذا ونقل الحافظ في التلخيص عبارة الإمام قائلاً: قال إمام الحرمين: " هذا محمول على أن الرجل كان كافراً ". والإمام -كما ترى- حمل الأمر بقتله على أنه كان منافقاً.(18/48)
11473- ولو تعرض متعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوقيعةٍ ليست قذفاً صريحاً، ولكنه تعريضٌ موجَبُ مثله التعزير، فالذي أراه أنه كالسب الصريح؛ فإن الاستهانة بالرسول كفر.
ثم ينقدح فيه تحتم القتل حتى لا يسقط، ويجرى فيه السقوط بالتوبة، وقد ذكرت أن التعرض لحدّ القذف ركيك في هذا المقام. وقد انتجز الفصل.
فصل
قال: " ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ... إلى آخره " (1) .
11474- قال الأئمة: البلاد قسمان: بلدة ابتناها المسلمون وأثبتوا خِطتها، فلا يمكّن أهل الذمة من إحداث بِيعةٍ أو كنيسة فيها، وكذلك القول في بيوت النيران، فإن فعلوا، نقضت عليهم.
ولو كان البلد للكفار، فجرى عليهم حكم المسلمين، فهذا ينقسم قسمين: فإن فتحه المسلمون عَنْوة وملكوا رقاب الأبنية والعرصات، تعين نقض ما فيها من البيع والكنائس، وإذا كنا ننقض ما يصادَف من الكنائس والبيع، فلا يخفى أنا نمنعهم من استحداث كنائس. ولو رأى الإمام أن تبقى كنيسة ويقر في البلد طائفة من أهل الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب منعُ ذلك، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يجوز للإمام أن يقرّهم ويُبقي الكنيسةَ عليهم. والثاني - أنه لا يجوز له ذلك، وهو الأصح الذي قطع به المراوزة. وهذا إذا فتحنا البلدة عنوة.
فإن فتحناها صلحاً، فهذا ينقسم قسمين: [أحدها - أن يقع الفتح على أن رقاب الأراضي للمسلمين، فهم يقَرون فيها بمالٍ يؤدونه لسكانها] (2) سوى الجزية؛ فإن استثنوا في الصلح البيعَ والكنائس، لم تُنقض عليهم، وإن أطلقوا ولم يستثنوا بيعهم
__________
(1) ر. المختصر: 5/198.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(18/49)
وكنائسهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تُنقض عليهم، لأن المسلمين ملكوا رقاب الأبنية، والبيع والكنائس تُغنم كما تغنم الدُّور، كذلك تملك بالشرط المطلق في الصلح. والوجه الثاني - لا نملكها لأنا شرطنا تقريرهم وقد لا يتمكنون من المقام [إلا بتبقية مجتمع لهم] (1) فيما يروْنه عبادة.
وحقيقة الخلاف ترجع إلى أن اللفظ في مطلق الصلح هل يتناول البيع والكنائس مع القرائن التي ذكرناها.
هذا أحد القسمين في القسم الأخير.
القسم الثاني - أن يفتح المسلمون على أن تكون رقاب الأراضي لهم، فإذا وقع الصلح كذلك فلا نتعرض للبيع والكنائس، لأن البلد بلدهم ولنا عليهم الجزى وما يشترطه الإمام على الأصول المقدمة.
وإذا أرادوا إحداث كنائس، فالمذهب أنهم لا يمنعون؛ فإنهم متصرفون في أملاكهم، وأبعد بعض أصحابنا فمنعهم من استحداث ما لم يكن؛ فإن هذا إحداث بيعة في بلدة هي تحت حكم الإسلام.
11475- هذا بيان ما يتعلق بإبقاء البيع وهدمها، واستحداثها، والكلام بعد ذلك في تمكنهم من العمارة، فإن تصوّرت المسألة بحيث يقرون فيها على كنائسهم ويمنعون من استحداث كنائس وبيع، فقد قال الأصحاب: إذا استرمّت الكنائس، فلا يمنعون من مرمّتها؛ فإنهم لو منعوا من ذلك، لتهدمت الكنائس. ثم اختلف الأصحاب بعد ذلك: فقال قائلون: ينبغي أن يعمروا الكنائس بحيث لا يظهر للمسلمين ما يفعلون؛ فإن إظهار العمارة منهم تربيةٌ (2) منهم للكنائس قريبة من الاستحداث. وقال آخرون: لهم إظهار العمارة، وهو الأصح.
ثم من أوجب عليهم الكتمان قالوا: لو تزلزل جدار الكنيسة [أو] (3) انتقض،
__________
(1) في الأصل: " إلا ببيعة تجمع لهم ". والمثبت من (هـ 4) .
(2) تربية: أي زيادة وتنمية.
(3) في الأصل: " ولو ".(18/50)
منعوا من الاعادة؛ فإن الإعادة ظاهرة، فإذا لم يكن من الانهدام بد، فلا وجه إلا أن يبنوا جداراً داخل البيعة، ثم قد يفضي هذا إلى أن يبنوا جداراً ثالثاً إذا ارتج الثاني، وهكذا إلى أن تفنى ساحة البيعة، وهذا إفراط لا حاصل له، ولست أدري ما يقول هذا القائل إذا أمكن نقض الجدار وإعادته ليلاً، ولا تفريع على الضعيف.
فإن فرعنا على الصحيح وجوزنا العمارة إعلاناً، فلو انهدمت الكنيسة، فهل يجوز إعادتها كما كانت؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - المنع؛ لأن هذا استحداث كنيسة. والثاني - الجواز؛ لأنها وإن انهدمت فالعرصة كنيسة، والتحويط عليها هو الرأي حتى يستتروا بكفرهم، فإن منعنا إعادة الكنيسة، فلا كلام، وإن جوزنا إعادتها، فهل لهم أن يزيدوا في خِطتها؟ فعلى وجهين: أصحهما - المنع؛ لأن الزائد كنيسة جديدة، [وإن كانت متصلة بالأولى والتفريع فيه إذا كان لا يجوز لهم استحداث كنيسة جديدة] (1) .
وإن بقيناهم على كنيستهم، فالمذهب أنا نمنعهم من ضرب النواقيس، فإن هذا بمثابة إظهار الخمور والخنازير، وأبعد بعض الأصحاب فقال: يجوز تمكينهم من ضرب النواقيس؛ فإنها من أحكام الكنيسة، وهذا غلط لا يعتد به.
ولو وقع الشرط على أن تكون رقاب الأبنية في البلدة وعرصاتها لهم، فلا يمنعون من ضرب النواقيس، وإظهار الخمور والخنازير في مثل هذه البلدة؛ فإنها بحكمهم، ولو كان يخالطهم المسلمون، لم يكن لهم أن يعترضوا عليهم، والبلدة في الجملة والتفصيل بمثابة دار الذمي في بلاد الإسلام، ولا يخفى أنه لا يجب البحث -بل لا يجوز- عما يتعاطَوْن في دورهم، قال صاحب التقريب: لا يكلفون الغيار في البلدة التي وصفناها، والأمر على ما قال، وقد فُتحت قرى الشام صلحاً على أن تكون لأهلها، فكانوا يظهرون النواقيس في زمن معاوية وجرت له قصة مشهورة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/51)
فأما ناووس (1) المجوس فلست أرى أمراً يوجب المنع فإنها [حُوَطٌ] (2) وبيوت يجمع المجوس فيها جيفهم، وليس كالكنائس والبيع التي تتعلق بشعار أديان الكفار. والله أعلم.
فصل
11476- قال الأئمة: يمنع الذمي من مطاولة أبنية المسلمين ببنيانه، والتفصيل فيه أنه إن أراد أن يطوّل بنيانه المجاور لبنيان مسلمٍ، يمنع من ذلك، لما فيه من الاستكبار على المسلم بالازدياد عليه، وليس ذلك لإمكان اطلاعه، فإنه قد يقدر على الاطلاع وإن لم يطل. ثم ما ذهب إليه الأصحاب أن المنع من المطاولة في هذه الصورة حتمٌ، وليس من حق الجار المسلم حتى يقال: لو رضي به، لجاز له المطاولة، بل هذا من حق الدين.
وقال صاحب التقريب: من أصحابنا من رأى هذا أدباً، ولم يره حتماً؛ ذاهباً إلى أن دار الكفار ملكُهم، فمنعهم من التصرف في ملكهم لا ينقاس، وهذا بعيد غير معتد به.
ولو سوّى الكافر داره مع دار المسلمين ففي بعض التصانيف وجهان: أحدهما - أنه يمنع من المساواة، كما يمنع من المطاولة. والثاني - أنه لا يمنع من المساواة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أراد أن يستحدث بناء يطاول به، فلو اشترى داراً مطلة على
__________
(1) هـ 2: ناقوس، وكذلك في الشرح الكبير، والروضة نقلاً عن الإمام، وهو تصحيف أُراه من النساخ وليس من الرافعي والنووي، فليس للمجوس ناقوس.
والناووس: على وزن فاعول: مقبرة النصارى (قاله في المصباح) وفي اللسان، ومثله المعجم: هو صندوق من خشب أو نحوه يضع النصارى فيه جثة الميت، وهو مقبرة النصارى أيضاً.
وهو عند الإمام -كما ترى- مقبرة المجوس.
(2) في الأصل: " محوط " وغير مقروءة في (هـ 4) . وحُوَط: جمع حُواطَة: كل ما تحوطه بجدار ونحوه.(18/52)
الدور من جوانبها، وكانت لمسلم، فالذي رأيته متفقاً عليه للأصحاب أنه لا يمنع من سكون الدار التي اشتراها، ولا يكلف أن يحط من سمت أبنيتها، بل يتركها كما اشتراها، ويسكنها، والذي ذكرناه فيه إذا كانت دار الكافر بقرب دار أو دورٍ للمسلمين.
فأما إذا كان للذمي دار في طرف البلد لا تجاور أبنية المسلمين، فالذي قطع به الصيدلاني أنه لا يمنع الكافر من إطالة سَمْك (1) هذه الدار " فإن المطاولة هي المحرمة، وهذا المعنى إنما يتحقق في الدور المجاورة.
وقال أيضاً: لو كان للكفار حارة مخصوصة بهم لا يخالطهم فيها مسلم، فإذا أراد الكفار إطالة أبنيتهم في حارتهم، فلا يمنعون، وما ذكروه فيه إذا لم تكن (2) الحارة مجاورة للحارات، بل منفردة لا تجاور سائر المحال.
وحاصل ما ذكره أن الممنوع معنى المطاولة، وهو من قولهم: طاولته، فطلته، وإنما يتحقق ذلك عند فرض تناسب، ومن ضرورته أن يكون بين بنائه وبناء المسلم تقارب، وأطلق بعض الأصحاب المنعَ عن تطويل البناء، وليس له وجه يرتضى، فلا يحمل إطلاق من أطلق إلا على الغفلة عن التفصيل الذي ذكره الصيدلاني.
فإن اعتقد معتقِد تعميمَ المنع، فالممكن في تقريبه وتوجيهه أن الكافر إذا أظهر في تطويله البناء ما يبين منه التميّزُ بالخيلاء والسرف في الزينة والمسكن، فيمنع كما يمنع من مساواة المسلمين في ركوب الخيل واتخاذ السُّرُج والمراكب النفيسة، وهذا أصلٌ لا بأس به، ولكن لا ينبغي أن يلتزم صاحبه تقصير شأنه عن أقصر بنيان في البلدة، ولكن الممكن فيه أن يُمنع من إظهار الزينة بالإطالة، ولا يخفى درك ذلك.
ويبقى مع هذا الفرق بين المجاورة والانفراد، فإذا جاور دار مسلم أُمر برعاية مناسبة تلك الدار والانحطاط عنها، والاكتفاءِ بمساواتها، لظهور المطاولة، عند المجاورة، وهذا لا يراعى مع الانفراد.
__________
(1) السَّمك بفتح السين: البعد الثالث بعد الطول والعرض، وُيعنى به الارتفاع. (معجم) .
(2) هـ 4: " إذا كانت ".(18/53)
ولو كان الذمي في جوار حجرة لضعفة المسلمين على نهاية القصر، فهل يكلف الحط عنها، أو مساواتها؟ ظاهر ما ذكره الأصحاب أنه يكلف ذلك، وفيه نظر للناظر، والله أعلم.
فصل
في الغيار
11477- اتفق الأصحاب أنا نأمر الكفار بالتميز عن المسلمين بالغيار، وتفصيل ذلك إلى رأي الإمام، وقال الأصحاب يمنعون من ركوب الخيل، ويكلّفون ركوبَ الحمر، والبغالُ النفيسة التي يتزين بركوبها في معنى الخيل، وينبغي أن تتميز مراكبهم عن المراكب التي يتزين بها [الأماثل والأعيان] (1) من أهل الإيمان. وقيل: ينبغي أن تكون ركابهم الغَرْز وهو ركاب الخشب، ثم يضطرون إلى أضيق الطُرق، فلا يمكنون من ركوب سَرارة (2) الجادّة (3) إذا كان يطرقها المسلمون، وإن خلت عن زحمة الطارقين من المسلمين، فلا حرج.
ثم تكليفهم التميز بالغيار واجب؛ حتى لا يختلطوا في زيّهم وملابسهم بالمسلمين فيكرموا إكرامهم، ويفاتحوا بالسلام.
وما ذكرناه من تمييزهم في الدّواب والمراكب مختلف فيه: فقال قائل: تكليفهم التميّز بها حتم كما ذكرناه في الغيار، ومنهم من جعل ما عدا الغيار أدباً؛ ثم إذا رأى الإمام ومن إليه الأمرُ ذلك، فلا معترض لهم، وليس يسوغ إلا الاتباع.
وهل يجب على المرأة منهم أن تتميز بالغيار إذا برزت؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يجب، لأن بروز النساء محمول على النادر، وذلك لا يقتضي تميزاً في الغيار.
__________
(1) في الأصل: " المراكب والأغياد ". كذا تماماً.
(2) سَرارة: بفتح السين، أوسط الشيء وأحسنه، والمعنى هنا: وسط الطريق. (المعجم) .
(3) هـ 4: " الجواد " جمع جادّة: وهي الطريق.(18/54)
وإذا دخل الكافر حمّاماً فيه مسلمون، وكان لا يتميز عمن فيه بغيار وعلامة، فالذي رأيته للأصحاب منعُ ذلك، وإيجاب التميز في هذا المقام أولى؛ لأن الكافر ربما يلوث الماء ويفسده على حكم دينه، بحيث لا يُشعَر به.
ودخول الكافرة الحمام الذي فيه المسلمات من غير غيار يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه.
وكان شيخي يقول: لا يمنع أهل الذمة من ركوب خسيس الخيل، ولو ركبوا البراذين التي لا زينة فيها لخسّتها، والبغال على هذه الصفة، فلا منع، والحمار النفيس الذي يبلغ ثمنه مبلغاً إذا ركبه واحد منهم، لم أر للأصحاب فيه منعاً، ولعلهم نظروا إلى الجنس [ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذُل وركوب الخيل عِزّ، والعلم عند الله تعالى] (1) .
11478- ثم ذكر الشافعي " أن الأمام أَوْ مَنْ إليه الأمر من جهة الإمام في الناحية يأمر حتى يُثبت أسامي أهل الذمّة في ديوان، ويكتب فيه حُلاهم ويعرِّف عليهم عرفاء " (2) ؛ حتى لو مات واحد منهم بان بموته نقصان ما كان يخصه، ولو بلغ واحد منهم أثبتت جزيته في الديوان، ولا يخفى مضمون هذا الفصل، ومقصوده، ووجوب رعايته لشدة الاحتياج إليه في مراعاة الضبط.
فصل
يجمع مسائل في عقد الذمة خلت عنها الفصول
وهي تخامر فكرَ الفطن إذا لم تكن مجموعةً عنده، وتجرّ إليه إشكالاً، فنقول:
11479- على الإمام ألا يقبل الجزية ابتداءً مع ظهور توقع الشر ممن يَبْذلها، وهذا يظهر من وجوهٍ: منها أن جماعةً من أهل النجدة لو توسطوا الخِطّة، وطلبوا أن يُقَروا
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وهو في (هـ 4) ، ومنها أثبتناه.
(2) ر. المختصر: 5/199.(18/55)
فيها بالجزية، ولا يؤمن أن يناكبوا (1) ويتضامّوا، ولو فعلوا ذلك، لم يؤمن استيلاؤهم على الناحية، فحقٌّ على الإمام أن يرعى هذا ومثلَه، والرأي إن أراد قبول الجزية أن يبدِّدهم في البلاد، ويأمر من يراعيهم، ولو غلب على ظنه أن الرجل الفرد الذي يبتغي الجزية طليعةٌ أو جاسوس، فلا يقبل منه الجزية.
والمعتبر في القاعدة أنه إذا غلب على رأي الإمام وظنِّه توقّع الشر، فليس له أن يعقد الذمة، وإذا لم يظهر له ضرر، عقدها، وأثبتت الجزية، وذكر الأصحاب أنهم لو كانوا يضيقون المساكن والمرابع ومرافق البلدة بكثرتهم، وكانوا لا يحاذرون من جهة نجدتهم، فهذا محتمل، والجزية مقبولة.
11479/م- ولو عقد الوالي الذمة، ولم يذكر مقدار الجزية، فالأصح فسادُ الذمة، وأبعد بعض الأصحاب، فصحّحها، ونزّلها على أقل الجزية، وهو دينار في السنة. وهذا غير سديد.
11480- وذكر بعض الأئمة قولين في الذمة المؤقتة وأطلق بعضُهم وجهين فيها:
أحدهما - أنها فاسدة؛ فإن مبنى الذمة على التأبيد في وضعها، فلا يجوز تغيير وضع الشرع [ومخالفة العهود] (2) . والثاني - تصح الذمة. ولسنا نعني العهدَ؛ فإن العهد العريّ عن الجزية لا يجوز إلا مؤقتاً، على ما سيأتي التفصيل في المهادنة، إن شاء الله تعالى، وإنما المعنيُّ ذمةٌ مشتملة على ضرب الجزية فُرض تخصيصها بسنة أو سنتين، فالظاهر المشهور المنع، ومن صحح والتزم، لم يعدم القياس. ثم أثر التصحيح [الالتزامُ] (3) ، ووجوبُ الوفاء بموجب التأقيت.
ولو أفسدنا الذمة، قضينا بأنها غير لازمة، ولكنهم لا يُغتالون، ويُبْلغون المأمن، وإن طلبوا ذمة مؤبّدة أُسعفوا بها.
ولو أقت الوالي الذمةَ إلى وقت مجهول مثل أن يقول: أُقرّكم بالذمة ما شئت،
__________
(1) هـ 4: " ينالوا ". وناكب الطريق انحرف عنه.
(2) في الأصل: " وتخالف العهود ".
(3) في الأصل: " الإلزام ".(18/56)
فمن لم يمنع التأقيتَ، لم يمنع هذا، ومن منع التأقيتَ على صيغة إعلام الوقت اختلفوا في هذا، وسبب الاختلاف ما روي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل الكتاب في جزيرة العرب: أقركم ما أقرّكم الله " (1) والوجه منعُ هذا منا إذا منعنا التأقيت، وحملُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على توقع النسخ، وكانت جملة الأحكام القابلة للنسخ في زمنه على التردد من جهة إمكان النسخ، وهذا لا يتحقق من غيره.
ولو قال في عقد الذمة: أقركم ما شئتم، فهذا جائز لا منع فيه؛ فإنه مقتضى العقد؛ فلأهل الذمة المشيئة في نبذ العهد إلينا متى شاؤوا، فالتفويض إلى مشيئتهم تصريحٌ بموجب العقد.
11481- ولو عقد الإمام لهم الذمة، ثم رابه منهم أمر لو ظهر في الابتداء، لما عقد الذمةَ، ولكن لم يتحقق، فهل له أن ينبذ العهد إليهم والحالة هذه؟ ذكر المحققون وجهين: أحدهما - أنه يجوز بل يجب كما تجب رعاية ذلك في الابتداء.
والثاني - لا يجوز؛ فإن الذمة إذا لزمت، بَعُدَ [أن] (2) نجوّز الهجوم على نقضها من غير ثبت.
وهذا عندي فيه إذا كان الأمر المحذور مما يمكن تداركه، فأما إذا كان يتوقع أمر يعظم أثره، ويخاف منه ما يبعد تداركه، فيجب القطع بنبذ العهد إليهم في الدوام، وهذا بيّن في حكم الإيالة.
11482- ولو عقد الإمام ذمةً على الفساد وذكر الجزية، فمن مقتضى الفساد في الذمة ما قدمناه من أنه لا يلزمه الوفاء، قال الأئمة: إذا لم يصح عقد الذمة، فلا تثبت الذمة المسمّاة، وإنما الرجوع إلى دينار على كل حالم في السنة، حتى لو بقوا على
__________
(1) حديث " أقرّكم ما أقرَّكم الله " رواه البخاري من حديث ابن عمر، ومالك في الموطأ عن ابن المسيب (ر. البخاري: الحرث والمزارعة، باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله، ح 2338. وكتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك، ح 2730.
الموطأ: 2/703. التلخيص 4/225 ح 2302) .
(2) زيادة اقتضاها السياق حيث سقطت من النسختين.(18/57)
[حكم] (1) الذمة عندنا سنة أو أكثر، فالكلام على ما ذكرناه من مقابلة كل سنة بدينار في حق كل رجل، فقد قدمنا أن عقد الذمة إلى صاحب الأمر، ولو تولاّه آحاد المسلمين، لم يلزم، ولم يثبت ولكن سبيله كسبيل الأمان، فلا اعتبار، ويُبلغ المؤمن المأمن، كما نفعله في الأمان.
11483- ولو بقي الكافر سنة على حكم أمان الواحد من المسلمين، ففي وجوب الجزية عليه وجهان، ثم إن أوجبناها، فهي دينار في السنة.
ولو اندس واحد من الكفار فيما بيننا وبقي سنة أو سنتين، ثم شعرنا به وعثرنا عليه، فالذي رأيته للأصحاب أنا لا نأخذ منه شيئاً لما مضى، ولا نجعله بمثابة من سكن داراً سنة مغتصباً؛ فإن عماد ثبوت الجزية القبول، وهذا الداخل المتولّج فينا حَربي، لا أمان له، فلا يتحقق إلزامه من غير التزام، فإذا عثرنا [عليه] (2) فإن لم يبذل الجزية ولم نبذل الذمة، قتلناه على مكانه، وغنمنا ما معه؛ فإنه حربي لا أمان له، ولو بذل الجزية، يعني التزمها، وطلبَ الذمةَ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نبذلها له، وذكر شيخي وغيره في مثل هذا المقام وجهاً أن الجزية لا تؤخذ؛ فإنه مأسور مقدور عليه واقع في القبضة محفوف بنجدة الإسلام، فكان بذل الذمة كبذل الأسير، وقد ذكرنا هذا في حكم الأسرى، وهذا وجهٌ حسن، لا ينبغي أن يغفل الفقيه عنه فيما يجريه من التفاصيل.
11484- ولو دخل الحربي دارنا، وزعم أنه رسول، لم نكلفه إثبات الرسالة بحجة، ولا حجة (3) إلا تصديقُه فيها، وليت شعري ما أقول ولا كتاب معه، وقد غلب على الظن كذبه؛ فإن مخايل الرسل لا تخفى، هذا فيه احتمال، والعلم عند الله تعالى.
ولو ذكر الكافر أنه دخل مستجيراً ليسمع الذكر، فهو مصدّق، ولا تعرض
__________
(1) في الأصل: " عقد ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) هـ 4: "وجه".(18/58)
ولا اعتراض. ولو ذكر الحربي أن واحداً من المسلمين أمّنه، فهل يصدق في ذلك، أم يكلف إثباتَه بالحجة؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون: من أصحابنا من قال: لا يصدق؛ فإن الغالب على من يعتمد أماناً أن يستوثق فيه ببينة؛ إذ ذاك ممكن.
11485- ومما يدور في الخلَد أن الإمام لو أراد أن يبني الجزية على التبعيض في الأخذ في السنة، حتى يطالب في كل شهر بقسطه من الدينار، أو بما اتفق التزامه، فهذا فيه احتمال مأخوذ مما إذا مات الذمِّي في أثناء السنة، أو أسلم، فهل نقول: يستقر قسط من الجزية في مقابلة ما مضى من أيام السنة؟ فيه قولان ووجه البناء عليهما بيّنٌ.
فهذا ما حضرنا من المسائل التي شذت وانسلّت عن ضبط الأصول في أحكام الذمة.
فصل
قال: " وليس للإمام أن يصالح أحداً منهم على أن يسكن الحجاز ... إلى آخره " (1) .
11486- روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " (2) وقال: " لو عشت إلى قابل، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " (3) ثم لم يعش وانقلب إلى رضوان الله تعالى، ولم يتفرغ لذلك أبو بكر؛
__________
(1) ر. المختصر: 5/199.
(2) حديث " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " رواه مالك عن ابن شهاب، وعن عمر بن عبد العزيز مرسلاً، ورواه عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب مرسلاً أيضاً، ورواه أحمد موصولاً عن عائشة بلفظ " آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يترك بجزيرة العرب دينان " (ر. الموطأ: 2/892- 893، عبد الرزاق: ح 9984، المسند: 6/274-275، التلخيص: 4/227 ح 2307) .
(3) حديث " لو عشت إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " رواه أحمد والبيهقي من حديث عمر، وأصله في مسلم دون قوله: " لئن عشت إلى قابل " (ر. المسند: 1/32، البيهقي: 9/207، مسلم: الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من=(18/59)
للأمور المهمة التي وقعت في زمانه، فلما استخلف عمر ومضى صدرٌ من خلافته أجلاهم، وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام، وقيل إنما رجع إجلاؤهم إلى ذِكْره (1) لأنه كان بعث ابنه عبد الله إلى خيبر فسحروه، فتكوّعت (2) يده، وقيل: أخرج عمرُ من الجزيرة زهاء أربعين ألفاً من اليهود، فالتحقوا بأطراف الشام. هذا هو الأصل.
ثم مضمون الفصل فيه انتشار، فلا بد من [تفصيل] (3) الغرض، وإيقاعه في فصول. 11487- فليقع الكلام أولاً في ضبط الجزيرة وذكرها، فنقول: الطريقة المشهورة أن الجزيرة تعني مكة، والمدينة، واليمامة ومخاليفَها المنسوبة إليها، ثم قال الأئمة على هذه الطريقة: الطائف ووَجّ وما يعزى إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من الجزيرة، وألفيتُ في التقريب التهامة (4) ، والغالب على الظن أنها تصحيف اليمامة؛
__________
=جزيرة العرب، ح 1767، التلخيص: 4/228 ح 2308) .
(1) كذا في النسختين، وهي بمعنى تذكّره، أي رجع إخراجهم إلى تذكره، ويظهر هذا المعنى من سياقة البخاري للحديث، حيث ساقه على النحو الآتي: " عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فُدِعْت بخيبر، قام عمر رضي الله عنه خطيباً في الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالها، وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعُدي عليه في الليل، ففدعت يداه، وليس لنا عدو هناك غيرُهم، وهم تهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم ... الحديث " (ر. البخاري: كتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك، ح 2730. وأحمد: 1/15، والسنن الكبرى: 9/7) . ولكن ليس في الحديث أنهم سحروه، بل فيه أنهم عَدَوْا عليه.
(2) تكوّعت يده: أي اعوجّت، وهي من رواية الحديث بالمعنى، فلفظ الحديث: " فُدعتُ " والفدع هو عوج في المفاصل، كأنها فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم (المعجم) .
(3) في الأصل: " تفسير ".
(4) علق ابن الصلاح في (مشكل الوسيط) على قول الغزالي: " وفي بعض الكتب: (التهامة) " قائلاً: " وما ذكره من تصحيف اليمامة بالتهامة قد ذكره أيضاً شيخه، وهو غلط موشح بعجمة؛ فإن " التهامة " لا تدخلها الألف واللام، و" اليمامة " تدخلها الألف واللام، والله أعلم ".
ا. هـ بنصه (ر. مشكل الوسيط: 2/ورقة: 131/ب) عن هامش الوسيط: 7/66 هامش رقم (8) .=(18/60)
فإني لم أر لليمامة ذكراً، وهي من الجزيرة باتفاق الأصحاب، ولا شك أن خيبر من الجزيرة، ومنها الإجلاء في زمن عمر وهي من مخاليف المدينة.
وأما أهل العراق فقد قالوا: الحجاز: مكة، والمدينة، واليمن. والحجاز من الجزيرة، وجزيرة البحر تمتد إلى أطراف العراق من جانب، وأطراف الشام من جانب، وسميت هذه الرقعة المتسعة جزيرة لإطافة البحر بمعظم جوانبها واتصالها بالأنهار العظيمة كدجلة والفرات من جانب العراق، فكأنها مكفوفة عن البقاع بالمياه، ثم قالوا: والحجاز من جملة الجزيرة، ومعناه ما ذكرناه.
وكان شيخي يقول: " الحجاز والجزيرة واحد، والذي نقل في الأخبار: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم في اللفظ للحجاز " (1) .
وهذا تردد في اللفظ، والذي يدخل تحت الضبط ما نصفه (2) : فلا خلاف بين الأصحاب أن الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة فيه لا ينتهي إلى أطراف العراق والشام، سواء سمّي جزيرةً أو لم يسمّ، وإنما المواضع التي يُنهى الكفار عن المقام
__________
=قلت: وفي كلام ابن الصلاح تحامل واضح، غير غريب، بل هو معهود منه في حق إمام الحرمين؛ وذلك أن التصحيف يكون عند عجز الناسخ عن قراءة الكلمة، فيرسمها كما يتخيلها، أو كما يسبق ذهنه إليها، والكلمات المصحفةُ الشأنُ فيها أنها غير مقروءة، لا بعربية، ولا بعجمة.
بل إن إمام الحرمين علل لتغليب وقوع التصحيف تعليلاً جيداً، وذلك قوله: " فإني لم أر لليمامة ذكراً في الكتاب (التقريب) وهي من الجزيرة باتفاق الأصحاب " ا. هـ فإذا لم يذكر صاحب التقريب " اليمامة " المتفق عليها وذكر (التهامة) أليس ذلك يغلب على الظن أن الناسخ رسم الياء والميم تاءً وهاء، ولم يعنِّ نفسه بالنظر إلى (الألف واللام) تدخل أو لا تدخل، وربما كان في الناسخ عجمة ساعدته على الوهم والتصحيف. أليس ما توقعه الإمام " وغلب على ظنه من التصحيف " أقرب من أن يحمل الخطأ والنسيان على الإمام الجليل صاحب التقريب؟! ولكنه تحامل ابن الصلاح على إمام الحرمين، كما رأينا مظهره في مسائل أخرى من قبل.
(1) إلى هنا انتهى كلام شيخه أبي محمد.
(2) بعد أن عرض إمام الحرمين -كدأبه في كل مسألة- ما قاله الأصحاب، وكل ما روي عنهم يبدأ من هنا في مناقشة ما قيل، ويبين اختياره هو.(18/61)
فيها على طريقة المراوزة: مكة والمدينة واليمامة، وعلى طريقة العراقيين: مكة، والمدينة، واليمن، والمخاليفُ حكمها حكم البلاد في جميع الطرق، وقد يتجه [عدّ] (1) اليمن من الحجاز؛ لأنه مجتمع العرب وفيها العرب العاربة. هذا منتهى القول في بيان الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة به (2) .
وأما الطرق المعترضة التي لا تنسلك في أوساط البلاد المعدودة من الحجاز، ولكنها بين بلدة منها وبلدة، فمن أصحابنا من ألحقها بالحجاز، ومنع الإقامة فيها، وهذا سديد على رأي من يعين البقاعَ وانتساب البعض منها إلى البعض، ويخرِّج عليه [المنع] (3) من الإقامة بين مكة والمدينة، وإن لم يكن موضع الإقامة منسوباً إلى إحدى البلدتين، وكذلك القول في الطرق القاصدة إلى اليمامة.
__________
(1) في الأصل: " عندي ".
(2) مرة أخرى -وفي المسألة نفسها- نجد تحامل ابن الصلاح واضحاً على الإمام، فقد قال بعد أن علق على كلام الغزالي وإمام الحرمين في بيان المواضع التي يمنع أهل الذمة من الإقامة فيها، قال: وإنما أطلت في هذا الفصل بعض الإطالة؛ لإشكاله على الفقيه المجرد، ولأن كلام إمام الحرمين فيه اختلّ، ولم يستدّ على جاري عادته، والله سبحانه المسؤول أعلم " ا. هـ.
ومن يقرأ كلام ابن الصلاح هذا الذي أطال فيه يجده " موشحاً " بسخرية من الإمام، ظالماً إياه محملاً له تبعة ما لم يقله، وإنما نقله عن غيره وأسنده له صراحة، فاسمعه يقول: " وفيما ذكره ذهابٌ منه إلى أن الحجاز وجزيرة العرب واحد، وقد ذكره شيخه (يعني ذكره الغزالي عن إمام الحرمين) وغيره من المراوزة، وليس بشيء، والصحيح المعروف الشائع بين العلماء أن الحجاز غير جزيرة العرب، فالحجاز عبارة عن مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، نص عليه الشافعي ومن لا نحصيه من أصحابه " ا. هـ يعني أن إمام الحرمين يجهل الصحيحَ المعروف الشائع بين العلماء، والذي نص عليه الشافعي ومن لا يُحصى من أصحابه. وهذا كلام إمام الحرمين بين يديك، فهل قال إن الحجاز وجزيرة العرب واحد؟ إن إمام الحرمين -كما ترى- ْنقل هذا الكلام وردّه، ولم يقل به، ثم إن من قال هذا لا يقصد أن جزيرة العرب والحجاز شيء واحد في أصل الوضع والتسمية، وإنما يقصد أن المراد بجزيرة العرب في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحجاز، وهذا ما فاله ابن الصلاح نفسه، إذ قال: " إذا ثبت هذا، فالمراد بجزيرة العرب -في الأحاديث الواردة في إخراج أهل الذمة- بعضُ الجزيرة، وهو الحجاز " ا. هـ بنصه، فليتأمل. (ر. مشكل الوسيط: 2/ورقة: 131/ب، 1/132/أوذلك بهامش الوسيط: 7/67) .
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/62)
ومن أصحابنا من لم يلحق الطرق بالحجاز، وهذا قد يخرج على اعتياد مجتمع العرب؛ فإن الطرق ليست مجتمع العرب، وإنما هي جادّتهم، ومحل طروقهم، وقد انتجز الغرض في بيان الحجاز الذي يمنع الكفار من المقام فيه.
11488- ثم نأخذ بعد هذا في فن آخر قائلين: الحجاز ينقسم إلى حرم مكة [وغيره] (1) ، فأما حرم مكة، فيمنع الكفار من دخوله وتخطيه، وإن قصدوا التجاوز، والانتقال (2) ، حتى قال الأئمة: لو وفد رسولٌ، لم يجز أن يؤذن له في دخول الحرم، وإن كان يجوز أن يؤذن للكفار في دخول مساجد البلاد، بل يخرج الوالي إليه، أو يخرج إليه من يوثق به، وكذلك إن أتى مستجيرٌ يستمع الذكر، فسبيله كسبيل الرسول.
والمعتمد فيما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] ، والمراد إن خفتم انقطاع التجاير (3) عنكم، وخفتم لأجل ذلك عَيْلة، فاطردوهم واعتصموا بفضل الله تعالى، ثم لا يختص المنع بخِطة مكة، بل يتعلق بالحرم وفاقاً، وحرم المدينة ليس في معنى حرم مكة، وإن كنا قد نلحقه بحرم مكة في الصيود والمنع من عضد الأشجار، فسبيل المدينة كسبيل اليمامة في المقصود الذي نحن فيه.
فأما ما عدا حرم مكة، فلا يمتنع فيه على الكفار طروقها على هيئة الانتقال، ويحرم عليهم الإقامة، ولا يمتنع أن يؤذن لهم في دخولها مجتازين، وإن مكثوا في قرية أو بلدة، فلا يزيدنّ مكثُهم على مكث المسافرين، وهو ثلاثة أيام، من غير احتساب يوم الدخول ويوم الخروج، ولو كانوا يتناقلون من بقعة إلى بقعة ولو قيست أيام تردُّدهم، لزادت على مقام المسافرين، فلا بأس؛ فإن خِطة الحجاز لا يمكن قطعها بثلاثة أيام، حتى قال الصيدلاني وغيره: لا نكلفهم أن يجروا في انتقالهم على
__________
(1) في الأصل: " وغيرها ".
(2) هـ 4: " وإن قصدوا التجارة، ولم يرد الانتقال ". (وهو خلل واضح) .
(3) التجاير: التجارات.(18/63)
المنازل المعهودة، فلو قطعوها فرسخاً فرسخاً، وكانوا يقيمون على منتهى كل فرسخ ثلاثة، فلا منع ولا حجر.
11489- ويليق بذلك القول في المرض والموت، فمن مرض من الكفار في الحجاز وأراد الإقامة حتى يُفيق، ويستبلّ، نظر: فإن أمكنه أن ينتقل مع مرضه، كُلّف الانتقال، ولو كان يُخاف عليه الموت لو بَرِح، تُرك إلى أن يبرأ، ولو كان يناله مشقة عظيمة، وقد لا يغلب على الظن الموت، فوجهان: أصحهما - تكليف الانتقال.
ولو مات كافر في الحجاز، فإن كان في نقل جيفته مشقة عظيمة، واريناه مواراة الجيف، وإن كان على طرف الحجاز، نُقل، وإن كان دفنه أهلُه، ففي نبش قبره ولحده مع التمكن وجهين: أحدهما - أنه يترك لأنه كالمعدوم الممحَق وإلى البلى مصيره، وليس يبعد عندنا [ألا نمنع] (1) نبش قبره. ولو دخل كافر الحرم من غير إذن، ولكن كان معه تعلق بأمان، فمرض، أخرجناه من الحرم وإن أدى إلى هلاكه. ولو دفنه أهله على اختفاءٍ في الحرم، فكما (2) شعرنا به ننقله، وإن تفتت، جمعناه ونقينا الحرم منه. وهذا نجاز القول في هذا الفن، ونأخذ بعده في غيره، فنقول:
11495- ما أطلقناه من جواز الدخول مشروط بالأمان، ولا يخفى هذا على المحصِّل، ولكن لا يضر بيانه، فالحربي لو دخل الحجاز أو غيرَه من البلاد، نُظر: فإن كان مستجيراً، أو رسولاً، فحالتُه تؤمنه شرعاً، ولا حاجة إلى عقد الأمان، وإن لم تكن رسالة ولا استجارة، فدخل الحربي للتجارة، فالتجارة لا تؤمنه، فإن كان في أمان مسلم، لم نتعرض له اغتيالاً.
وإن أراد صاحب الأمر أن يؤمن التجار حتى يدخلوا بلاد الإسلام، فليفعل، فلا
__________
(1) عبارة الأصل: " وليس يبعد عندنا نبش قبره "، و (هـ 4) :، وليس يبعد عندنا أن لا يرفع نبش قبره "، والمثبت من تصرف المحقق تغيراً، وزيادة.
(2) فكما: بمعنى عندما.(18/64)
يتأتَّى الأمان العام إلا من جهة صاحب الأمر؛ فإن الواحد من المسلمين إذا قال: أمنت من يدخل دار الإسلام تاجراً، لم نصحّح ذلك منه؛ فإنا أوضحنا أن أمان الآحاد [للآحاد] (1) ، والأمن العام إلى الإمام، ومن ينصبه الإمام. ولو زعم الكافر أنه ظن التجارة أماناً، لم نبال به واغتيل، وأُخذ مالُه، ولا معوَّلَ على ظنه، إذا لم يكن له مستند.
ولو كان الكفار سمعوا واحداً من المسلمين يقول: من دخل تاجراً، فهو في أمان، فاعتمدوه، فلا شك في فساد الأمان، ولكن هل يثبت لهم حكم الأمان إذا ظنوه صحيحاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ لأن الأمن العام لا يُحتمل من الآحاد، ولو أثبتنا عُلقة الأمان، فقد أثبتنا فائدة الأمان، وإنما يحتمل إثبات العُلقة في الأمان الفاسد إذا كان ثابتاً على الخصوص. والوجه الثاني - لا يخفى وجهه.
ولو عَقدَ واحدٌ من المسلمين ذمةً لكافر، فلا شك في فسادها، والوجه القطع بأن عُلقة الأمان [تثبت للكافر؛ فإن هذا عقدٌ خاص، وإن كان فاسداً. وقد انتجز التنبيه على التشراط الأمان] (2) .
والذمي لا حاجة له إلى الأمان في دخول الحجاز إذا كان ينتقل فيها ولا يقيم، والذمة في حقه كافية.
[فنٌّ آخر] (3)
في تعشير أموال الكفار، وهذا غمرة الفصل.
11491- فنقول: لا يجوز توظيف مال على من دخل رسولاً أو مستجيراً، ولا فرق في ذلك بين الحجاز وغيره من البلاد، والسرّ فيه أن المال يثبت بالشرط، والرسول والمستجير لا يتوقف أمرهما على شرط، فلا ينتظم إلحاق مال بهما. فأما
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (هـ 4) .
(3) في الأصل: " من أحد ".(18/65)
غير الرسول والمستمع للذكر، فلا يجوز للإمام أن يأذن للحربيين حتى يدخلوا بلاد الإسلام، ويترددوا فيها من غير غرض فيه صلاح للمسلمين (1) ، والمستجير والرسول متعلّقان بغرض الإسلام؛ فإن الرسول لا بُد منه في الدول، والمستجير نأمل إيمانَه، فأما التردد لأغراض كافرٍ من غير حصول [مقصود] (2) ، فلا سبيل إليه، فيضرب الإمام على من يطرق منهم ضريبةً في تجايرهم، ونحن نذكر ما ذكره الأصحاب، ثم نحرص على الضبط.
قال الأئمة: المعاهد إذا دخل بلاد الإسلام تاجراً، أخذنا منه عُشر ماله، هذا ضربه (3) عمر رضي الله عنه (4) .
ولو دخل المعاهَد غيرََ الحجاز من غير تجارة، ولكن كان أمَّنه مسلمٌ، لم يطالَب بشيء، وإذا لم يكن بتجارة (5) [فإن] (6) دخل الحجاز على هذه الصورة، فهل يطالب؟ فيه وجهان، وسبب الاختلاف تعظيم الحجاز، وما ثبت له من الاختصاص، ثم إن أوجبنا شيئاً، فلا متعلّق غير الدينار، وهو أقل الجزية.
وهذا عندنا باطل، والوجه القطع بأنه لا يضرب على غير التاجر شيء، ولا أحد يصير إلى تعشير جميع ما معه من ثياب ومركوب.
هذا في المعاهد.
فأما الذمي فلا ضريبة عليه إذا اضطرب في غير الحجاز من بلاد المسلمين؛ فإن الجزية كافية في تثبيت الأمانِ والعصمةِ المؤبدة (7) في النفس والمال.
__________
(1) عبارة (هـ 4) : " فيه صلاح للمرسلين، والرسالة والاستجارة تتعلقان ... إلخ ".
(2) في الأصل: " بمقصود ".
(3) (هـ 4) : " هذه ضريبة عمر ".
(4) خبر عمر رواه مالك في الموطأ (1/281) والبيهقي في الكبرى (9/210) وانظر التلخيص: (4/233 ح 2327) .
(5) هـ 4: " إذا لم يكن تاجراً ".
(6) في الأصل: " وإن ".
(7) هـ 4: " المؤكدة ".(18/66)
ولو دخل الذمي أرض الحجاز تاجراً، ضربنا عليه نصف العشر، وهذا منقول من نص قضاء عمر (1) .
ومن أهم ما يتصل بهذا المنتهى أن نقول: لا يثبت العشر من غير شرط في أصل المذهب، لا خلاف في ذلك إنما التردد في المعاهد في غير الحجاز. (2 وإن دخلوا الحجاز بأمان تجاراً 2) ولم يتفق شرطُ ضريبة عليهم، فقد ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنه لا شيء عليه، جرياً على ما ذكرناه من اشتراط الضرب والتصريح بإثبات الضريبة، والوجه الثاني - أن العشر مأخوذ منهم، ووجهه عندنا اتباع قضاء عمر، حتى كأنا نعتقد قضاءه ضرباً على من سيكون بعده في حكم القاعدة المثبتة.
11492- ثم إذا وضح هذا، ألحقنا به فناً آخر، فنقول: صح أن عمر رضي الله عنه ضرب عليهم في تجايرهم العشر -يعني المعاهدين- وضرب عليهم في الميرة نصف العشر، وأراد بذلك تكثير الميرة، فقال الأئمة: إذا رأى الإمام حطّاً من العشر في صنف تمَس إليه حاجةُ المسلمين، فلا بأس تأسياً بعُمَرَ في قضائه، ثم إن رأى رَفْعَ الضريبة [حتى] (3) تتسعَ المكاسب، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك جرياً على ما ذكرناه من المصلحة. والثاني - لا يجوز ذلك، ولا بُدَّ من أخذ شيء وإن قل، ولعل هذا هو الأصح.
ثم قال الأئمة: لا مزيد على العشر؛ فإن عمر قنع به، مع ظهور سطوة الإسلام، فدل على أنه رآه الأقصى. وفي بعض التصانيف أن الإمام لو أراد أن يزيد على العشر، جاز له أن يزيد، وانتظم مما ذكرناه أن الأسقاط على المصلحة فيه خلاف، والأصح المنع، والحط من العشر جائز وفاقاً على شرط المصلحة، وفي الزيادة على العشر خلاف.
__________
(1) قضاء عمر في أن على الذمي نصف العشر إذا دخل بتجارته بلاد المسلمين رواه مالك والبيهقي (انظر الحديث السابق) .
(2) ما بين القوسين سقط من (هـ 4) .
(3) في الأصل: " حيث ".(18/67)
11493- فن آخر: قال الأئمة: إذا أخذ الإمام من تاجر ما يراه، فلو أراد أن يكرر عليه الأخذ من ذلك المال في تلك السنة، لم يكن له ذلك، فلتكن الضريبة على المال بمثابة الجزية في السنة الواحدة، ولو جاؤونا بتجارة فعشّرناها، فجاؤونا بأموالٍ أُخر في كرّة أخرى، فلا شك أنا نعشرها، وإنما نمتنع عن التثنية في المال الواحد، ثم إذا أخذنا الضريبة في مال وأراد المعاهد التردد، أعطيناه جوازاً مُؤرَّخاً حتى لا يتعرض له العشارون في السنة.
وذكر العراقيون وجهين في ترديد مالٍ إلى الحجاز في سنة مرتين فصاعداً: أحدهما - أنا نثني العشر لتعظيم الحجاز. وهذا رديءٌ، ثم شَرْط [هذا] (1) الوجه أن يخرج من الحجاز ويعود، فأما إذا كان يتردّد فيه، فلا نثنّيه.
قلت: من لم يضبط المأخوذ بعشرٍ، فلا يبعد على أصله تكريره العشر في سنةٍ أخذاً من تكثير الضريبة، لا من تكريرها، وإذا جاز تكثيرها، فالضريبة التي رأى الإمام ضربها هو بالخيار فيها إن شاء استوفاها دفعة واحدة وإن شاء استوفاها بدفعات.
فرع:
11494- المرأة المعصومة بذمة زوجها أو بذمة قريبها إذا كانت تتردد متّجرة، فحكمها في تعشير ما معها كحكم الذمي المعنيّ بالذمة، فلا يؤخذ من تجايرها شيء في غير الحجاز، وإن دخلت الحجاز، فهي بمثابة الرجل، كما قدمنا ذكره.
***
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/68)
باب نصارى العرب تضعّف عليهم الصدقة
11495- روي " أن عمر رضي الله عنه طلب من تنوخ وبهراء وتغلب، وهم نصارى العرب الجزية، فقالوا: نحن العرب، فلا نقبل الصغار، والجزيةُ صغار، فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض -يعنون الصدقة- فقال: إنها طهرة المسلمين، ولستم من أهلها، فقالوا خُذْ بذلك الاسم، وضعِّف ما شئت، فضعّف عليهم الصدقة " (1) هذا أصل الباب.
وأول ما يجب الإحاطة به أن المأخوذ منهم، وإن كان يسمى صدقة، فهو في الحقيقة جزية، ومصرفه مصرف الجزية، ولا يؤخذ من أموال النساء والصبيان، فإذا رأى الإمام أن يأخذ من قومٍ من الكفار عرباً كانوا أو عجماً، ضعفَ الصدقات، وغرضه من المأخوذ الجزيةُ، فليفعل ما بدا له، ولا ضبط، فلو أراد أن يأخذ ثلاثة أمثال الصدقة، ووقع التراضي بها، أو أخذ مثلها، أو مثل نصفها، فلا بأس، والمأخوذ منه يُقابَلُ بالجِزَى المفضوضة على الرؤوس: لكل رجل دينار، فإن وفَّى المأخوذ، فذاك، وإن زاد وقبلوا الزيادة، لزمهم الوفاء بها، كما تمهد، وإن نقص المأخوذ عن مقدار الجزية كلّفناهم بتكميل الجزية على حسب ما ذكرناه.
ولو أراد أن يأخذ منهم مقدار الصدقة، فإن كان أكثر من أقل الجزية، جاز وإن كان مثل الجزية، فالذي اقتضاه قول الأصحاب في الطرق أن ذلك جائز، إذا رآه الإمام؛ فإن الغرض استيفاء الجزية بأي حسابٍ فُرض، وعلى أي وجه قدر، ولا يبعد عندنا أن يقال: إذا لم يكن للإمام غرض ماليٌ فيما يأخذه، فتشبيهه أهل الذمة بالمسلمين في
__________
(1) خبر عمر مع نصارى العرب وقبولهم تضعيف الصدقة فراراً من اسم الجزية، رواه الشافعي (الأم: 4/281) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/198) ، وعبد الرزاق في مصنفه (ح 9974) ، والبيهقي (9/216) ورواه أبو عبيد في الأموال: (ص 33 ح 71) . وانظر التلخيص: (4/233 ح2326) .(18/69)
المأخوذ منهم ظاهراً حطٌّ للصغار المعتبر، والأمر في ذلك مفوّض إلى رأي الإمام.
ولو أراد أن يأخذ منهم نصفَ الصدقة، وألفاه زائداً على الجزية، فلا شك في جوازه، وإن كان قدرَ الجزية، فالذي ذكره الأصحاب الجواز، وما أشرنا إليه من ترديد الرأي في ملاحظة إبقاء الصغار عليهم جارٍ هاهنا.
والباب عريٌّ عن الفقه؛ فإن حاصله يؤول إلى أن المأخوذ جزية، فينبغي ألا ينقصَ عن الأقل المعتبر، وإن زاد، قبلنا الزيادة.
11496- ثم إذا جرى للإمام تضعيفُ قدر الصدقة عليهم، فللأصحاب تصرف في معنى التضعيف راجعٌ إلى التنازع في فحوى الصيغة، وإذا لم يكن مطلوب الباب فقهاً، فلا مبالاة.
ونحن نذكر الآن ما ذكره الأصحاب في معنى التضعيف، فإذا قال الإمام: ضعّفت عليكم الصدقة، فمعناه: ضعَّفتُ عليكم قدرَ الصدقة، وكل ما يجب في مال المسلم يؤخذ ضعفه من مال الكافر، فنأخذ بدل البعير بعيرين وبدل الشاة شاتين، وعلى هذا القياس يجري معنى التضعيف، فنأخذ من خَمسٍ من الإبل شاتين، ومن عشر أربعَ شياه، ونأخذ من خمس وعشرين بنتي مخاض، ولا نقول نأخذ منها حِقة نظراً إلى نصاب الحِقة؛ فإن معنى التضعيف هذا الذي ذكرناه، وكذلك نأخذ من عشرين ثماني شياه، لا بنت لبون، ومن ستين من البقر أربعة أتبعة.
ْوالأصل أن معنى التضعيف يحمل على [ما يجب] (1) ، ولا يحمل على الترقي بالسن؛ فإنا ذكرنا أن مطلوب هذا الباب يرجع إلى معنى اللفظ، فلو أخذنا من خمس وعشرين حقة، لم يسمّ هذا تضعيفاً للصدقة، وإنما هو [تضعيف لقدر المال] (2) والأخذ بحسبه، ونأخذ من مائتي درهم عشرة دراهم، ومن عشرين ديناراً ديناراً، ومن الزرع المسقي بالسماء خمساً، ومن الزرع المسقي بالنضح عشراً، وإن ملك
__________
(1) في النسختين: " ما يحسّ ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى، وعبارة الغزالي في البسيط.
(2) في الأصل: " تقرير تضعيف المال ".(18/70)
مائتين من الإبل، أخذنا منه عشرَ بنات لبون، أو ثماني حقاق.
قال الأئمة: لا نفرق، فنأخذ خمسَ بنات لبون، وأربع حقاق. كما لا نفرق الصدقة؛ فإن الغرض تقدير الصدقة وتضعيفها.
11497- واختلف الأئمة في وقص أموالهم وأنه هل يؤخذ منه شيء، مع العلم بأن الوقص لا يجب بسببه زيادة، وحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يؤخذ منه شيء من الكافر؟ فإن الصدقة هي المضعّفة، فإن لم يكن فيها صدقة، فلا معنى للتضعيف. والثاني - أنا نأخذ من وقص أموالهم على حساب التضعيف، فإنا لا نرعى في حقهم من التخفيف ما نرعاه في حق المسلم. والثالث - أن الأخذ من الوقص إذا كان يؤدي إلى التشقيص مع التضعيف، فلا نوجب، وإن كان لا يؤدي إلى التشقيص، [أخذنا من] (1) الوقص؛ فإن الذي أوجب منع الأخذ من وقص مال المسلم أنا لو أخذنا منه، لأوجبنا شقصاً، واعتباره عسرٌ في الحيوان، فنصبر إلى أن يكمل الواجب الزائد.
فعلى هذا إذا ملك سبعاً ونصفاً من الإبل، فعليه ثلاثُ شياه؛ إذ لا تشقيص على حسب التضعيف، وإذا ملك من الإبل ثلاثين ونصفاً، فعليه بنت مخاض، وبنت لبون، وفي خمس وثلاثين من البقر تبيع ومُسنّة، هذا ما يقتضيه حساب التضعيف، مع الأخذ من الوقص، واجتناب التشقيص.
وبيان ذلك أنه إذا ملك ثلاثين ونصفاً من الإبل فنقدر تضعيف ما يزيد على الخمس والعشرين والزائد على الخمس والعشرين خمس ونصف، فإذا ضعّفنا هذا الزائد تقديراً، بلغ المال ستاً وثلاثين؛ وواجبها بنت لبون، فنوجب بنت مخاض في الخمس والعشرين، ونوجب بنت لبون بتقدير بلوغ المال ستاً وثلاثين، فيتضعف واجب الخمس والعشرين، فإنه يجتمع عليه بنت مخاض وأجزاء من بنت لبون، ويتضعّف الوقص حتى لا يؤدي إلى التشقيص، وهذا ذكره القفّال.
__________
(1) في الأصل: " أخذ من "، (وهـ 4) : " أخذنا منه ". والمثبت اختيار المحقق من النسختين.(18/71)
11498- والأصلُ ألا نوجب في الوقص شيئاً، فانا ذكرنا أن مضمون الباب مدارٌ على معنى اللفظ، واللفظ المذكور تضعيف الصدقة، وإنما يُضعَّفُ كائن، وإذا كانت الصدقة لا تجب في الوقص، فلا معنى لتقدير التضعيف، ولولا أن البويطي روى عن الشافعي أنه قال: " إذا ملك مائة درهم أخذ منه خمسة دراهم، وإذا ملك عشرين شاة فعليه شاة، وإذا ملك بعيرين ونصفاً فعليه شاة " وكل ذلك مما نص الشافعي عليه في رواية البويطي، فاعتضد بالنص الإيجابُ في الوقص، وبقي النظر في التشقيص، ولولا النص، لحسمنا الباب، ولما أوجبنا في الوقص شيئاً.
ثم من لم يبال بالتشقيص، يقول: من ملك ثلاثين ونصفاً من الإبل، فيجب في الخمس والعشرين بنتا مخاض، ويجب في الخمس والنصف ما يجب في الأحد عشر من أجزاء بنت لبون إذا أضيفت إلى ست وثلاثين.
ومن يجتنب التشقيص ويفرع على الإيجاب في الوقص، فلا يجد [طريقاً لا يتعطل] (1) فيه الوقص، ويجتنب التشقيص إلا ما ذكره القفّال، على ما قدمنا [تقريره] (2) وتقديره.
وفيما ذكره أمر محذور، وهو تضعيف المال، ومساق (3) ذلك يتضمن إيجاب حقة في خمس وعشرين مثلاً، وقد ذكرنا أنا لا نفعل ذلك، بل نوجب بنتي مخاض، ولكن هذه الصورة تتميز عن الخمس والعشرين بما ذكرناه من ضرورة التشقيص، مع أنا لا نريد تعطيل الوقص.
فهذا منتهى المذكور في ذلك.
ومن أوجب في الوقص بعد النصاب زيادةً، أوجب فيما لا يبلغ نصاباً بحساب التضعيف.
__________
(1) عبارة الأصل: " فلا يجد طريقاً إلى ألا يتعطل فيه التشقيص ".
(2) في الأصل: " تقريبه ".
(3) هـ 4: " وسياق ".(18/72)
فهذا بيان الأَوْجُه، مع العلم بعرُوّ جميع ذلك عن الفقه، ورجوع الأمر إلى التصرف في لفظٍ.
وكل ما لا يناقش فيه مخالفٌ -لو صرّح به في عقد الذمة- يثبت؛ فإن ما يثبت في هذا الباب جزية، وفقه الجزية ألا تنقص عن دينار، والزيادة ممكنة، في الكل والشقص على حسب التراضي، وإن أشكل لفظ رجع إلى معناه من طريق اللسان.
11499- ولو ملك ستاً وثلاثين ولم يكن في إبله بنتُ مخاض، فالذي يقتضيه قياس التضعيف أنا نأخذ منه بنتي مخاض مع الجبران، وهل يضعّف الجبران؟ اشتهر الخلاف فيه، والصحيح أنا لا نضعفه؛ لأنا قد ضعفناه مرة؛ إذْ أوجبنا بنتي مخاض، وضممنا إلى كل واحدة شاتين أو عشرين درهماً، فلو ضعّفنا الجبران، لكان تضعيف التضعيف في مقدارٍ.
ومن أصحابنا من قال: يؤخذ مع كل بنت مخاض أربعُ شياه، أو أربعين درهماً، وهذا غلط لا نشك فيه، ولا ينبغي أن يعد هذا من المذهب، وإن اشتهر نقله، ولكنه نادرة من رجل مرموق ضَرِي الناقلون بنقلها.
ولو ملك ستاً وثلاثين وليس في ماله بنتُ لبون، وفي ماله حقاق، فنأخذ حِقّتين، ولا بد من ردّ الجبران، ولا خلاف هاهنا أنا لا نقابل كل حقّة بجبرانٍ واحد، فلا تضعيف فيما نردّه ونبذله وإنما التردد فيما نأخذه.
ثم الإمام إذا كان يردّ الجبران، فلا شك أنه يخرجه من الفيء لا من الصدقات؛ فإن المأخوذ من هذا مقصود الباب.
11500- وقد قدمنا أن الوالي لو أراد أن يزيد على الضعف، أو ينقص، فلا معترض عليه، وذكرنا أن المذهب أنه لا مزيد على العُشر المأخوذ من تجاير المعاهدين اقتداء بعمر، وهاهنا قطعنا بجواز الزيادة على الضعف، والسبب فيه أن الضِّعف ربما لا يفي بأقل الجزية، ولا بد من اعتبار أقل الجزية، والعشر المأخوذ من المعاهَد ليس جزية، ولو قبل المعاهدون أكثر من العشر، أخذنا منهم، كما إذا قبل الذمي أكثر من الدينار، غير أن الذي أراه أن الزيادة تلزم الذمي، كما اتفق الأصحاب عليه، لأنها(18/73)
ذكرت في عقدٍ، والجزيةُ فيه بمثابة العوض، والضريبة الموظفة على المعاهد ليست في عقد، فإذا بذل لسانُه بمزيد، فيظهر ألا يلزمه الوفاء به، ويلزم العشر؟ اتباعاً للقضاء.
ويجوز أن يقال: يلزم الزائد على العشر بالالتزام؛ فإن الجاري مع المعاهد أمان، وإن لم يكن ذمةً مؤبدة، وكأنا لا نؤمنهم ليحصّلوا أغراضهم من تجاراتهم إلا بمال، كما لا يقر أهل الذمة في خِطة الإسلام إلا بالجزية. هذا قولنا في الزيادة على التضعيف.
11501- فإن قيل: إنما فعل عمر هذا مع العرب لما أنِفوا من التصريح بقبول الجزية، فهلا قلتم هذا يختص بالعرب حتى لا يجوز مثلُ ذلك مع العجم؟ قلنا: قد ذهب إلى هذا بعض أصحابنا اتباعاً لعمر، وهذا ليس من ثمرات الفقه المحض، وإنما هو أمر سياسي، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن ذلك يجوز في العجم، كما يجوز في العرب، وهذا التردد سببه انحطاط الصَّغار، وهو قريب مما قدمناه من تردد الأصحاب في أن التوكيل في أداء الجزية هل يجوز أم لا؟ ولا يبعد أن يتخصص العرب بمزية عن العجم، وهذا كما أن الرّق يجري على العجم قولاً واحداً، وفي جريانه على العرب قولان.
11502- ثم أعاد الأصحاب في هذا الباب أصلاً قدمنا تمهيدَه، فقالوا: تُقابل الصدقات بالرؤوس، فإن كانوا أغنياء، اعتبرنا لكل رأس ديناراً، وإن كانوا منقسمين منهم الفقراء، فإن أخرجوا عن أنفسهم وعن الفقراء ديناراً ديناراً، وبلغت الصدقة هذا المبلغ أقررنا الفقراء، وإن بلغت الصدقة ما على رؤوس الأغنياء، ففي تقرير الفقراء الكلام المفصّل فيما مضى، ويتعلق بذلك أنهم أدَّوا عن الفقراء، فلا بد من تقدير الضرب على الفقراء وصدر الأداء عن إذنهم.
وما ذكره العراقيون أنهم قالوا: إذا قابلنا الصدقة بالرؤوس فوفت بالدنانير، أو زادت، فلا كلام، وإن كان يعسر علينا هذا التقدير في كل سنة، ولكن غلب على ظننا وفاء الصدقة بالدنانير، فهل نقنع بغالب الظن، أو نرد الأمر إلى التحقيق؟ ذكروا(18/74)
في ذلك وجهين ولست أرى لمثل هذا الكلام وجهاً مع العلم بأن أقل الجزية دينار، ولا بد من الخروج عنه على تحقيق، ولست أحمل ذلك إلا على نظر ناظر إلى إطلاق تضعيف الصدقة من عمر، فظن هؤلاء أنه كان لا يقيس ما نأخذ بجزية [الرؤوس] (1) في كل سنة، وهذا وَهمٌ وخطأٌ، ولا يليق بعمر رضي الله عنه المجازفة في الأمور.
***
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/75)
باب المهادنة
11503- إذا أراد الإمام أن يهادن جمعاً من الكفار، نُظر: فإن لم يكن بالمسلمين ضعف، فله أن يهادن الكفار أربعة أشهر، وهي مدّة التسييح، قال الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ، والذي قطع به الأصحاب أنه لا يجوز تبليغ مدة المهادنة سنة؛ فإنها مدة الجزية، فلا يجوز الكف عن الكفار في مدة الجزية من غير جزية، وذكروا قولين في جواز المهادنة أكثرَ من أربعة أشهر وأقلَّ من سنة: أحدهما - أن المهادنة تصحّ لقصور مدتها عن أمد الجزية، فأشبهت المهادنة على أربعة أشهر.
والثاني - أنها لا تصحّ؛ فإن الأربعة الأشهر منصوص عليها في كتاب الله تعالى، فاتبعناها، ولم نزد عليها.
ومن أصحابنا من قال: المهادنة على ما دون السنة محمولة (1) على ما إذا مات الذمي في خلال السنة، وقد اختلف القول في أنا هل نُلزمه قسطَ ما مضى من الجزية؟ فإن قلنا: لا يجب فيما نقص من السنة [قسطٌ من الجزية] (2) ، فالمهادنة جائزة، وإن قلنا: يجب فيما نقص من السنة قسطٌ من الجزية، فلا تصح المهادنة.
ثم قال هؤلاء: لو مضى من سنة الجزية (3) أربعةُ أشهر أو أقل، فمات الذمي، لا يجب في مقابلة الأربعة الأشهر شيء، فإنها مدة التسييح؛ وإن كان يجب ما يقابلها إذا زادت المدة.
وهذا تخليط لا أصل له، ولا فرق بين الأربعة الأشهر وبين الزائد عليها في الخروج على القولين إذا مات الذمي، أو أسلم في أثناء السنة، وينبغي أن يكون
__________
(1) أي مقيسة عليها.
(2) في الأصل: " جزية ".
(3) هـ 4: " الهدنة ".(18/76)
مأخذ القطع في الأربعة الأشهر في تجويز المهادنة، ومأخذ القولين في الزائد من نص القرآن وهو قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (1) .
وفي بعض التصانيف ذكر قولين في جواز المهادنة على سنة. وهذا غلط، لم أره لأحد من الأصحاب، وإنما الموقفُ السنةُ (2) ، فإذا خرج قول في جواز المهادنة سنة - ولا ضعف- فيجب خروج هذا القول في سنتين، فصاعداً، وهذا خرمٌ لقاعدة المذهب (3) ، فلا اعتداد به، وهذا ملتحق بالهفوات.
11504- هذا إذا لم يكن ضعفٌ، فأما إذا كان بالمسلمين ضعفٌ، فللإمام أن يهادن الكفارَ عشرَ سنين، والمتبع فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هادن أهلَ مكة عشرَ سنين على المكافّة، ثم إنهم نقضوا العهد، كما سنصف طرفاً من ذلك، إن شاء الله تعالى، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا مزيد على العَشْر.
هذا ما ذهب إليه المحققون.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً في جواز الزيادة، ودليل هذا القائل ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلاً للمهادنة على المصلحة اللائقة بالحال، فليتأمل كل ناظر ما يليق بالاستصواب والاستصلاح.
وهذا وجه مزيف لا تعويل عليه، ولا اعتداد به.
ولو عقد [الإمام] (4) المهادنة وأطلقها، ولم يذكر وقتاً، فإن كان في قوة الإسلام والمسلمين، ففي بعض التصانيف قولان: أحدهما - أن الهدنة تنعقد على أربعة أشهر؛ تنزيلاً لها على أقل المدة اللائقة بالحال. والقول الثاني - أنها تنعقد على سنة، تنزيلاً لها على الأكثر.
__________
(1) المعنى أن من منع الزيادة على الأربعة الأشهر أخذ بمفهوم الآية، ومن أجاز الزيادة إلى ما دون السنة نظر إلى نقصها عن سنة الجزية.
(2) المعنى أن الموقف الذي انتهى التفريع إليه هو السنة، كما يظهر في التعليق الآتي بعده.
(3) المذهب أنه لا تجوز الزيادة على سنة قطعاً، ولا سنة على القول المعتمد في المذهب، ولا يجوز ما بين السنة الأربعةً الأشهر على الأظهر (ر. الروضة: 10/335) .
(4) زيادة من (هـ 4) .(18/77)
وهذا خطأ من وجهين: أحدهما - تقدير الهدنة على سنة في قوة المسلمين، وقد أوضحنا هذا. والثاني - أن الهدنة لا تختص بالأربعة الأشهر ولا بالسنة، وإن كانت السنة مدةً للهدنة؛ فإنها قد تُعقد على عشرة أشهر فلا معنى للتّحكم بتنزيلها على الأربعة أو على السنة، والوجه القطع بفساد الهدنة.
وقد ذكر صاحب التقريب فيه إذا كان بالمسلمين ضعف وقد أطلقت الهدنة، فالهدنة المطلقة تحمل على عشر سنين، وهذا يناظر ما ذكرناه من حمل الهدنة على سنة إذا كانت القوة للمسلمين.
وكل ذلك باطل، والوجه إفساد الهدنة المطلقة في القوة والضعف جميعاً، لما أشرنا إليه من أن المدة لا يخصصها في الإطلاق لفظ ولا عُرف، ولا أمرٌ شرعي، فالوجه إفسادها، ثم إذا فسدت المهادنة، فأثر فسادها أنها لا تلزم.
ولكن لا يجوز المسير إلى الكفار بغتة من غير إشعارهم بأن لا عهد بيننا وبينهم، وهم ما داموا على ظن العهد آمنون.
ولو زاد الإمام على عشر، والتفريع على أن الزيادة ممتنعة، فلا شك أن الزيادة مردودة، وهل [تفسد] (1) المهادنة على العشر أم تلزم، وتنحذف الزيادة على العشر؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الزيادة منحذفة والهدنة لازمة على العشر. والثاني - أن الهدنة فاسدة، وقرّب الأصحاب القولين من قاعدة تفريق الصفقة، فإن العشر مدة الهدنة، فإذا ذكرت مع الزيادة عليها، كان ذلك جمعاً في عقدٍ بين ما يجوز وما لا يجوز. هذا مأخذ القولين.
ثم الأصح تصحيح المهادنة؛ فإنا حيث نُفسد الصفقة بالتفريق، فمعوّلنا ما يؤدي التصحيح إليه من جهالة العوض، وهذا المعنى لا يتحقق في المهادنة، وينضم إلى ذلك ابتناء المعاملة مع الكفار على ضرب من المساهلة لا يحتمل مثله في المعاملات الخاصة الجارية بين المسلمين.
11505- وممّا يتعلق بقاعدة الهدنة أن الكفار لو طلبوا الهدنة وليست تبعد عن
__________
(1) في الأصل: " تلزم ".(18/78)
المصلحة والنظر للمسلمين، فهل يجب إجابة الكفار إلى ما يطلبون؟ المذهب أن ذلك لا يجب؛ فإنه ليس للمسلمين منفعة حاقة، بل ينظر الإمام ويقدم ما يراه الأصلح، وليس ما نعلّقه باجتهاد الإمام معدوداً من الواجبات، وإن كان يتعين على الإمام إذا رأى صلاحاً أن يبتدره، ولكن الاجتهاد لا ينضبط، والرأي لا تنحصر مسالكه.
وهذا بمثابة قولنا: لا يجب على الإمام أن يقتل الأسرى من الكفار والمراد به أن الإرقاق، والمن، والفداء ممكن على الجملة، ولا تعيين من جهة الشارع يقطع نظر الناظر واستصواب المجتهد، فالمهادنة مع الكفار كذلك، فإن رأى المصلحة فيها، وإن كانت القوة للمسلمين، فحق عليه أن يُمضي ما يراه، ووجه المصلحة أن يطمع في اختلاط المسلمين بهم، واختلاطهم بالمسلمين وانتشار الدعوة فيهم، وانتشار الدعاة، فلعلهم يرشدون أو بعضهم.
وفي بعض التصانيف أنهم إذا طلبوا الهدنة، وجبت إجابتهم إذا لم يكن منهم مضرّة، وهذا خطأ محض؛ فإن تعيين إيجاب الهدنة والانكفاف عن الجهاد من غير منفعة ناجزةٍ للمسلمين لا معنى له.
11506- ولو طلب كافر أن يجار ويؤمن ليستمع الذكر، فالذي قطع به الأصحاب أنه تجب إجابته، وقد شهد النص بذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} الآية [التوبة: 6] ، وليس هذا من معنى الهدنة بسبيل؛ فإن الهدنة أمان عام لجيل (1) من الكفار، وما ذكرناه الآن استجارة من واحد أوآحاد ليسمعوا الذكر، ثم المستجير لما ذكرناه لو لم يشتغل باستماع الذكر، وبان إضرابه، نبذنا إليه الأمان، ولو استجار ليستمع حجة الإسلام، فهل نقول: إذا أخذ يتردد ويسأل ويجاب، فنمهله أربعة أشهر لهذا الغرض، أم نقول: إذا لم ينفصل الأمر بمجالس يُفرض في مثلها البيانُ التام، نبُذ إليه عهدُه، وقيل له: الحق بمأمنك، فلا فلاح فيك؟ فيه تردد، أخذته من فحوى كلام الأصحاب: منهم من قال: يمهل أربعة أشهر مدة التسييح. ومنهم من قال: لا يلزمنا إلا البيان له، ولعل هذا هو الظاهر، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) الجيل: الأمة والجنس من الناس، فالروم جيل، والترك جيل. (المعجم) .(18/79)
وليس على المستجير بذلُ مال، كما قدمناه. ولو جاء كافر، وطلب أن نعقد له الذمة ونُلزمه الجزية، ففي بعض التصانيف أن الإمام يلزمه أن يجيبه، وفيه وجه آخر أنه لا يلزمه، ولكن ينظر إلى الأصلح، وهذا فيه إذا كان لا يظن ضرراً، وقد أجرى هذا المصنف طلب الذمة وطلب المهادنة، ثم قال: المذهب أن الإجابة إلى الهدنة لا تجب، وفيه وجه أنها تجب. وإذا طلب الكافر الذمة، فالمذهب أنه تجب إجابته، وفي المسألة وجه أنه لا تجب إجابته.
وما ذكره في الأمرين جميعاً ليس على وجهه، فالوجه القطع بوجوب الإجابة إلى الذمة، إلا أن يفرض [ضرر] (1) متحقق أو مظنون. وقد ذكرتُ هذا. ومن قال: لا تجب إجابة الكافر إلى عقد الذمة، فقد رد أصلاً عرفه فقهاؤنا متفقاً عليه، وذُكر وجه في إيجاب الإجابة إلى الهدنة، وهذا في الفساد كالوجه المحكي في أن الذمة لا تجب.
فإن قيل: ألستم ذكرتم في فصل تعشير أموال الكفار أنهم لا يمكنون من دخول دار الإسلام إلا بشيء يؤخذ منهم، ثم جوزتم الانكفاف عن الكفار من غير شيء؟ قلنا: ما نضربه على من يدخل منهم دارنا في مقابلة تخطّيهم خِطة الإسلام، واختلاطهم بالمسلمين، والمهادنة معناها تقرير الكفار في ديارهم، وكف القتال عنهم، فلا يبعد أن يطالَبوا بمالٍ على ترك مقاتلتهم مدة معلومة، قدمنا وصفها، ومقدارها.
فهذا الذي ذكرناه أصول (2) في باب المهادنة.
11507- ونحن بعدها نخوض في مسائل من الهدنة، هي مقصود الباب، ونقدم عليها طرفاً من المهادنة التي جرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تمس الحاجة إليه في المسائل:
لما صُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلَ بنَ عمرو، وكان رسولاً من أهل مكة، ثم أجرى رسول الله صلى الله
__________
(1) في النسختين: ظن. والمثبت من المحقق
(2) هـ 4: " فصول ".(18/80)
عليه وسلم في الهدنة أن من جاء إلى الكفار منا، فسحقاً سحقاً، لا نسترده، ومن جاءنا من الكفار، رددناه، هكذا جرت المهادنة وهي قصة معروفة.
ثم رُوي أن المهادنة، لما انعقدت جاء أبو جندل بنُ سُهيل مسلماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيه، فولّى معه باكياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يجعل لك مخلصاً، قال عمرُ: فأخذ سهيلُ ابنَه أبا جندل، واستمسك بيساره، فأخذت بيمينه وأشرت إلى سيفي، حتى ضربت كفّه بقائمته، وقلت: لا تبال -تحريضًا على قتله- فإن دم الكافر عند الله كدم الكلب، قال: كنت أُعرّض له بقتل أبيه، فعرف مرادي، وتبسم في وجهي وضنّ بأبيه، ولم يقتله.
ثم ورد أبو بصير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه إلى المدينة فجاء في طلبه رجلان، فردّه عليهما، فلما أدبرا به راجعين قال صلى الله عليه وسلم: " مِسعرُ حربٍ لو وجد أعواناً " يُعرِّض له ألا يرجع إن أمكنه، فلما كان ببعض الطريق قتل أبو بصير صاحبيه، وانضم إليه ممّن كان يريد الالتحاق بالمسلمين جمعٌ، ثم دخل المدينة في جماعة شاكين في السلاح، ثم هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فنزل قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] ، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردّها. هذا ما جرى والقصة طويلة " (1) ، ونحن نقلنا منها ما تمس الحاجة إلى نقله في مسائل الباب.
11508- والآن إن اتفقت مهادنة، فيجوز شرط رد الرجال عليهم على الجملة، ولا يجوز شرط رد النساء عليهم إذا جئن مسلمات مهاجرات.
ومما يجب تقديمه على الخوض في المسائل أن أصحابنا اختلفوا في أن النسوة هل
__________
(1) قصة صلح الحديبية رواها البخاري في حديثٍ طويل عن المِسْوَر بنِ مَخْرَمة، ومروانَ، (البخاري: الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، ح 2731، 2732) .
هذا وليس في رواية البخاري قول عمر " ... فإن دم الكافر عند الله كدم الكلب " وإنما ورد هذا في رواية الإمام أحمد في مسنده من حديث المسور (المسند: 4/223، 326) . وانظر التلخيص: 4/241 ح 2341.(18/81)
اندرجن تحت عقد المهادنة إذ أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: من جاءنا، فهو مردود عليكم؟ فمن أصحابنا من قال: دخلن تحت العقد، واقتضى موجبُه ردَّ النساء، ثم نسخ ذلك بآية المهاجرات المؤمنات، ثم ذكر الفقهاء في هذا المقام طرفاً من نسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب، واختبطوا فيه على غير بصيرة، ولسنا له؛ فإن مقدار غرضنا التردد في أنهن هل دخلن؟
وقال قائلون: ما دخلت النسوة في مطلق العقد في حكم الرّد، وكان قوله صلى الله عليه وسلم: " من جاءنا " عامّاً، والمراد به الرجال، ثم تبين بنزول آية المهاجرات تخصيص ذلك اللفظ العام بالرجال، ثم من سلك هذا المسلك اختلفوا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل علم أنهن مستثنيات حالة إطلاق اللفظ، أو لم يعلم ذلك ثم تبيّنه عند نزول الآية؟ فقال قائلون: كان عالماً بأنهن غيرُ داخلات، ولكن لم يتعرض لذكرهن، وذكر لفظاً عاماً، ورأى في ذلك استصلاحاً. وقال قائلون: ما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن غير داخلات حتى عرّفه الله تعالى.
وهذا كلام مضطرب؛ فإن صاحب اللفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ينتظم أن يقال: لم يعرف معنى لفظ نفسه حتى نزلت آية المهاجرات؟ والممكن في ذلك أن يقال: لم يخطر له التخصيص وتحقيق التعميم، وهذا لا يشفي الغليل، فالوجه أن يقال: أُمر بأن يقول قولاً، ولم يعرف معناه؛ فما كان صلى الله عليه وسلم مستقِلاً بإنشاء ذلك القول حتى يتّجه السؤال الذي ذكرناه، وهذه مقدمات اضطرب الأصحاب فيها، ونحن رأينا أن نذكر منها قدر الحاجة.
11509- والآن قد حان أن نخوض في المسائل، فنقول: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد المسلمات، وأوجب عليه أن يغرم لأزواجهن ما أنفقوا، وأجمع العلماء على أن المراد بما أنفقوا ما ساقوا من مهور النساء. هذا حكم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو جرت منا مهادنة، ثم امتنعنا من ردّ النسوان تأسّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجب علينا أن نغرم ما ساقه الأزواج من المهور، كما كان يجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فعلى قولين: أحدهما -(18/82)
أنه يجب علينا، [كما كان] (1) يجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني - لا يجب علينا غرامة المهور، واختص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزامها.
ثم، قال الأئمة: القولان فينا مبنيان على تردد العلماء في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التزم المهور، وفيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي (2) : أحدهما - أنه التزم المهور لطريان النسخ، وقد كان ثبت اندراج النساء، ثم نسخ الحكم، فالتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدال مهور النساء، لمّا تعذر عليه ردّهن بالنسخ.
والقول الثاني - أنه التزم مهورهن، لأنه صلى الله عليه وسلم أوهم بلفظه العام التزام ردّ النسوان، ثم تبين الأمر على خلاف ما ظنوه، فغرم لهم الأعواض.
فقال الأصحاب: القولان في أنا هل نغرم ما غرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيان على القولين في علة غرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلنا: إنه صلى الله عليه وسلم غرم بسبب النسخ الذي جرى، فلا غرم علينا، إذ لا يتصور النسخ بعد انقلابه صلى الله عليه وسلم إلى رضوان ربه عز وجل. وإن قلنا: علة غرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى من إبهام اللفظ، فهذا يتصور، كما يتصور منه صلى الله عليه وسلم، فنلتزم المهر، على تفاصيل سيأتي الشرح عليها الآن، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: لا غرم، فلا كلام، وإن قلنا: يجب علينا أن نغرم المهر، فهو المعني بغرم ما ينفقون في نص الكتاب.
11510- ثم الكلام في تمهيد المقصود يتعلق بفصول توضح القواعد، ونحن نأتي بها مفضلة، ثم نذكر بعدها مسائل تحوي ما يشذ عن ضبط القواعد وتردها إلى القواعد.
فأول ما نذكره سببُ الغرم، فإذا جاءتنا مسلمة، وجاء الزوج طالباً لها، مطالباً بردها، فقد اختلف الأئمة في سبب الغرم: فمنهم من قال: سببه أنا شرطنا في
__________
(1) في الأصل:" ما كان ".
(2) هـ 4: " من قول الشافعي ".(18/83)
المهادنة أن نردّ عليهم من يأتينا منهم مسلماً، فإذا لم نف بموجب اللفظ، كنا في مقام الغارّين، والغرورُ سببٌ في الضمان، ولا معاب في الإبهام إذا دعت الحاجة إليه، وكان يتطرق الاحتمال إلى اللفظ، وفي الحديث: " إن في المعاريض مندوحة عن الكذب " (1) وصح: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلان إذا أراد سفراً ورّى بغيره " (2) ؛ فلنا أن نوهم ونُبهم، ولكن لا نصرّح، ونُبقي لإمكان الصدق وجهاً، ثم نلتزم الغرم على مقابلة ما نأتي به من الإبهام (3) ، وهؤلاء يقولون: لو صالحناهم ولم نتعرض لِرَدّ من يأتينا منهم، فإذا أتتنا نسوة مهاجرات، لم نغرم لأزواجهن شيئاً؛ فإن سبب الغرم على هذه الطريقة، التعرضُ لِردّ من يأتينا؛ فإذا لم يجر ذلك، فلا غرم.
وذهب صاحب التقريب وأئمة العراق، وكل من ينتسب إلى التحقيق أن ثبوت الغرم لا يتوقف على التعرض لردّ من يأتينا منهم، ولكن نفس المهادنة تقتضي الغرمَ إذا امتنعنا عن ردّ النسوة، ووجه هذا أن متضمّن المهادنة (4) عقدُ الأمان، وإزالة التعرض عن الأهل والمال، فإذا جاءت امرأة مسلمة مهاجرة، فمنعناها، فقد حلنا بينها وبين الزوج، وكان ذلك مخالفة لما اقتضته المهادنة، وإن لم يجر لردّ من يأتينا ذكرٌ، وهذا حسن فقيه.
فينتظم من مجموع ما أشرنا إليه مراتب: إحداها - أنا لو هادنّاهم، وشرطنا ألا نرد من يأتينا مسلماً، فإذا أتانا رجال ونساء مسلمين، فلا نرد ولا نغرم شيئاً، وكذلك لو صرحنا بالامتناع عن ردّ النساء. ولو ذكر في المهادنة أنا نرد من يأتينا منهم، ولم
__________
(1) حديث " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " رواه البيهقي عن عمران بن الحصين مرفوعاً، وموقوفاً. قال البيهقي: الصحيح موقوف. (ر. السنن الكبرى: 10/199) .
(2) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورّى بغيره " هذا جزء من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته وصاحبيه، وهو متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/246 ح1762) .
(3) وجه الإبهام والغرور أنا ذكرنا لفظ (من) في شرطنا ردّ من يأتينا منهم، وهو صالح لإرادة الرجال والنساء جميعاً، ولكنا أردنا به الرجال دون النساء فهذا من المعاريض.
(4) هـ 4: " أن المهادنة تتضمن ".(18/84)
[نفصّل] ، (1) فلا نردّ النسوة المسلمات، ونغرم للأزواج ما سنفصله إن شاء الله تعالى. وإن عقدنا المهادنة، ولم نتعرض لمن يأتينا منهم مسلماً بالنفي والإثبات، فهذا موضع اختلاف الطرق: فمن أئمتنا من أوجب الغرم، وهم الجماهير؛ أخذاً من مخالفتنا موجب الأمان، ومنهم من قال: لا نغرم المهور؛ لأنا، لم نلتزم ردّ من يأتينا.
11511- وهذا الفصل [يصفو عن الكدر بما نصفه] (2) ، فنقول: إذا شرطنا ردّ من يأتينا منهم مسلماً، فيجب الوفاء بذلك، فمن يأتينا من الرجال الأحرار أصحاب العشائر نردّه، كما سيأتي، إن شاء الله، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل على أبيه، وردّ أبا بصير على طالبيه؛ وفاءً بالشرط، هذا إذا شرطنا أن نرد من يأتينا منهم.
فإن لم نشترط ذلك، فالذي أراه أن من أتانا من رجالهم مسلماً لا نردهم بحكم المهادنة، فإنا شرطنا ألا نتعرض لهم في دمائهم وأموالهم، فمن أتانا منهم مسلماً، فقد صار منا، وانسلّ عن مقتضى المهادنة، ونحن أثبتنا المهادنة على الكفار، ويجيء (3) على هذا ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ردّ للوفاء بالشرط، لا لاقتضاء المهادنة ذلك، وإذا جاءتنا امرأة مسلمة، فلا شك أنا لا نردها، لما ذكرناه، ولمزيد أمرٍ فيها، وهي أنها محرمة على الكفار متحرمة بحرمة الإسلام، وفي ردّها السعي في إثبات الفواحش، وهي أيضاً لضعفها عرضة لأن تفتن عن دينها، وسبب الغرم فيها عند الأكثرين حق الزوج فيها، وليس كالرجل يسلم، ويتعلق بنا؛ فإنه لا حق لهم فيه، فلا نكون بمنعه [معتدين] (4) على حقوقهم، بخلاف الزوج (5) .
ثم ثار الخلاف في هذا المنشأ، فاكتفى طائفة بالمهادنة في إثبات الغرم لحق الزوج
__________
(1) في الأصل: " نفعل ".
(2) في الأصل: " لم يصف عن الكدر على ما نصفه ".
(3) هـ 4: " ولهم وعلى هذا ".
(4) في النسختين: " معترضاً ". والمثبت تصرف منا بناء على السياق.
(5) بخلاف الزوج: أي للزوج حق في زوجته إذا منعناها ولم نردّها.(18/85)
في الزوجة، ولم يكتف آخرون؛ لأن حق الزوج ينقطع بإسلامها، فيجب أن يكون مستند الغرم الإبهام الذي يشعر به مطلق شرط الرد، فإن قيل: لم يجوز رد الرجل المسلم إلى الكفار؟ قلنا: الخبر فيه كافٍ، وسنذكر مأخذه من المعاني من بعدُ إن شاء الله.
وكل هذا تفريع على أنا نغرم المهور فإن قلنا: لا نغرم، فلا تفريع، وقد ذكرنا ذلك مرةً ونبهنا عليه ثانياً، ولا عود إلى ذلك. فليعلم الناظر أن تفريعاتنا واقعة على أحد القولين.
11512- ولو شرط الإمام في المهادنة أن نرد عليهم الرجال والنساء، فالشرط فاسد في النساء، ولا سبيل إلى ردّهن إذا جئن مسلمات، ولكن هل تفسد المهادنة بالشرط؟ فيه تردد بين الأصحاب ممثّلٌ بنظائر كالشرائط الفاسدة في الوقف؛ فإن في إفسادها الوقفَ تردداً، والأصل في ذلك أن عقود المعاوضة تفسد بالشرائط الفاسدة؛ لأنها تجرّ إلى عوض العقد جهالةً، فكأن البائع إذا شرط شرطاً فاسداً قد باع عبده بألف وتحكّم بأمرٍ لا يُستحق.
فأمّا ما مبناه (1) على اللزوم والنفوذ، ولا عوض فيه، فإذا جرى فيه شرط فاسد، فقد يتجه فيه خلاف: فمن أصحابنا من يفسد العقد بالشرط، ومنهم من يفسد الشرط ويصحح العقد دونه، وما نحن فيه من ذلك. ثم إذا أمسكنا المرأة وقد شرطنا أن نردها، فنغرم؛ فإنا إذا كنا نغرم بذكر لفظٍ مطلق، أو بمهادنة مطلقة، فلأن نغرم إذا صرّحنا أولى. وقد انتجز هذا الفن.
11513- نوع آخر في تفصيل القول في المرأة التي نغرم المهر بسببها، فنقول: إذا دخلت دارنا وهي مسلمة، وجاء الزوج مطالباً، فلا نردها، ونغرم، ولو جاءت إلينا كافرة؛ فإنا نردها؛ لأنها لم تتحرم بالإسلام، وليس في ردّها تسليط كافر على غشيان مسلمة.
ولو دخلت إلينا كافرة، ثم أسلمت بين أظهرنا، فلا نردها إذا طُلبت؟ وهل نغرم؟
__________
(1) هـ 4: " بناؤه ".(18/86)
فيه اختلاف، والأوضح أنا نغرم؛ لأنا نمنعها بسبب الإسلام، فلا فرق أن يوجد المانع فينا، وبين أن تأتينا معه متصفةً به، فإن عماد الغرم المنع.
ولو جاءت وكانت أسلمت وارتدت والتحقت بنا مرتدة، فإذا جاء الزوج مطالباً، فهل نغرم له؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نغرم لمنعنا إياها، والتعويل عليه، لا على صورة الإسلام. والوجه الثاني - أنا لا نغرم، لأنها كافرة، وإنما يجب الغرم إذا منعناها بسبب الإسلام. ويمكن أن يقال: سبب منعنا إياها أن نقتلها إن أصرّت، وهذا وجه ضعيف. والصحيح وجوب الغرم.
ولو جاءتنا مجنونة، فإنا لا نردها؛ لجواز أن تكون مسلمة وكانت أسلمت، ثم جنّت، وإذا جاء الزوج مطالباً، فهل نغرم له شيئاً لجواز أن تكون كافرة؛ فيبنى أمرها في المنع والغرم على مقتضى الاستيقان، فما لم نعلم كفرها، فلا نردها تغليباً لحرمة الإسلام، والأصل براءة الذمة، فلا نغرم من غير ثبت.
ولو جاءتنا صبيّة تصف الإسلام، وكانت مميّزة، فإذا أظهرت الإسلام، انبنى هذا على الخلاف في صحة إسلام الطفل، فإن حكمنا بصحته، فهي كالبالغ؛ فنمنعها، ونغرم مهرها، قياساً على البالغة. وإن قلنا: لا يصح إسلامها، فلا نردها لحرمة الكلمة، وهل نغرم؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نغرم كما لو كانت مجنونة.
والثاني - نغرم، لأن ظاهر حالها أن تستمرّ على الإسلام إذا أصدرت قولها عن تمييز.
هذا هو الترتيب.
وأبعد بعض أصحابنا وقال: إنها ترد؛ فإن ما جاءت به ليس بإسلام، وليست كالمجنونة البالغة التي نظن أنها أسلمت ثم جُنت، وهذا له اتجاه في القياس، ولكنه مطّرح غير معتدٍّ به، وقد أجمع أصحابُنا على أن الصبي إذا كان يصف الإسلام يحال بينه وبين أبويه الكافرين؛ فإنّ صَدَر (1) ذلك عن مميز يُغلّب على الظن تعلق قلبه بالهدى؛ وظنُّ توقّع الإيمان إذا غلب، لم يعطل.
11514- نوع آخر في بيان من نغرم له، فإذا جاءتنا امرأة وأسلمت، فجاء أبوها،
__________
(1) صَدَر: أي صُدُور، كما نبهنا على ذلك مراراً.(18/87)
وأقرباؤها يستردّونها، فلا نردها، ولا نغرم لهم شيئاً؟ فإنهم لا يستحقون منها أمراً، حتى نكون (1) منتسبين إلى منعهم من حقوقهم؛ فلا غرم إلاّ للزوج. نعم، لو جاءتنا أمةٌ مسلمة، فإنا نمنعها عن سيدها، ونغرم للسيد قيمتها؛ لإيقاع الحيلولة بينها وبين من كان مالكاً لها، فنقول: إنها تَعتِق بالمراغمة، والاتصال بدار الإسلام. فإن قيل: لم تغرمون قيمتها وقد عَتَقَت؟ قلنا: كما نغرم مهر المسلمة وقد بانت، والسبب فيهما أن الحكم بالعتق والبينونة من مقتضى الإسلام، ومن ظنّ من الفقهاء أن غرم المهر [يستدّ] (2) على قواعد الأقيسة في المغارم، فليس على بصيرة، ومعتمد الغرم نصُّ القرآن، ثم استعملنا طرفاً من المعنى ليكون رابطة للمسائل، ولم نبُعد أن يكون هو المعنى الكلي في ذلك.
11515- نوع آخر فيما يتعلق به الغُرم: ذكرنا من نغرم لأجله، ومن نغرم له، ونحن الآن نذكر السبب الخاص الذي يتعلق الغرمُ به، فنقول: إذا أتتنا مسلمة ذاتُ زوج، ولم يأتنا زوجها، ولا أحد من جهته، فلا غرم، وإن أتانا، ولم يطلب ردّها، فلا غرم، وإن طلب ردها، فامتنعنا للإسلام، تعلق الغرم بذلك؛ حتى قال الأصحاب لو أتتنا مسلمة، وماتت، ثم لحقها الزوج بعد الموت، فلا نغرم له شيئاً، فإنا لم ننتسب إلى المنع بعد الطلب.
وقد وضح أن السبب الأخص في الغرم الطلبُ والمنعُ. ولو طلبها الزوج، فقتلها قاتلٌ من المسلمين، فقد قال الأصحاب على القاتل ما يتعلق بالقتل من القصاص والدّية، ولا حق للزوج في ذلك؛ فإنه لا يرث الكافرُ المسلمةَ، ويجب الغرم؛ فإن القتل جرى بعد الطلب، واستقرار الحق به. ثم قال الأصحاب: غرم المهر على القاتل؛ فإنه المانع بالقتل.
وهذا عندي مفصل، فأقول: إن طلبها، فقتلها المسلم على الاتصال، فغُرم المهر على القاتل، لما ذكره الأصحاب، وإن طلب الزوج، فمنعناها، فقد استقر
__________
(1) هـ 4: " لا نكون ".
(2) في الأصل: " يستمر ". وهو تصحيف يتكرر في هذه الكلمة كثيراً. وفي (هـ 4) : " يسلم ".(18/88)
الغرم علينا، فإذا وجد القتل بعد ذلك، لم يتعلق غرم المهر بالقاتل بعد استقراره بالطلب وظهور المنع، فالغرم لا يسقط بموتها، فكذلك لا يتحول الغرم إلى القاتل.
ولو جرحها مسلم قبل الطلب، فبلغت حركة المذبوحين، [وجاء الزوج طالباً، فهذا طلبٌ بعد الموت، فلا يتعلق به استحقاق الغرم، ولو جاء الزوج] (1) وبها حياة مستقرة وطلبها، استحق الغرم. واختلف أصحابنا فيمن عليه الغرم: فمنهم من قال: الغرم على الجارح؛ فإن فواتها مستند إلى الجرح. والثاني - أن الغرم على بيت المال؛ فإن الإمام منعها، وبها حياة مستقرة، وهذا هو الصحيح، ولا حاصل للوجه الأول.
11516- نوع آخر في بيان المغروم، فنقول: إذا جاءنا الزوج مطالباً، وما كان ساق إليها صداقها، فلا نغرم له شيئاً؛ فإن المعتمد في أصل الغرم وتفصيله نص القرآن، وقد قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ، معناه: اغرموا لهم ما بذلوا في مهور الزوجات، فالتعويل على ذلك، فلو أصدقها خمراً، وساقها، فلا نغرم شيئاً وفاقاً، ولو ساق بعض صداقها، فلا نغرم إلا المقدار الذي ساقه.
ولو كان ساق الصداق إليها، ثم إنها وهبت منه ما قبضته، ففي المسألة قولان كالقولين المذكورين فيه إذا وهبت المرأة ما قبضت من الصداق لزوجها وسلمته إليه، ثم طلقها قبل المسيس، ففي رجوعه إليها بنصف الصداق قولان، كذلك القول فيما نحن فيه.
فإن قيل هلاّ غرمتم للزوج مهر المثل كما تغرم المرضعة (2) مهر المثل، وكذلك الشهود على الطلاق إذا رجعوا عن شهادتهم؟ قلنا: هذا الذي نحن فيه لا يلائم [تلك] (3) الأصول؛ فإنها مجراة على إفساد النكاح، وتفويته على الزوج، أو على إيقاع الحيلولة بشهادة الزور، والنكاحُ يرتفع في الأصل الذي نحن فيه باختلاف
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. والمثبت من هـ 4، وقد كان بها تصحيف أصلحناه، حيث كانت العبارة: " فهذا طلبُ هذا الموت ".
(2) أي المرضعة التي أرضعت الزوجة الصغيرة، فحرَّمتها على زوجها.
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/89)
الدين، فليس قطع النكاح مضافاً إلينا، ولكنا ضمنا للزوج بإطلاق المهادنة، أو شرط رَدّ من جاءنا إليهم، ثم لم ينتظم الوفاء على موجب الشرط (1) ، فغرمنا للزوج ما بذله لها من المهر على مقابلة تعذّر الوفاء [لا] (2) على مقابلة إفساد النكاح، وهذا واضح.
والأصل في ذلك أن مقتضى القياس ألا نغرم شيئاً، وحقُّ الفرق [أن] (3) يُوضّح في النفي والإثبات، فرجع أصل الغرم إلى الكتاب ونص القرآن لا غير.
ولو جاءنا الزوج مطالباً والزوجة بعدُ في العدة، وكانت مدخولاً بها، فإنا نغرم للزوج المهر الذي ساقه، فلو وفّيناه المهر، فأسلم في العدة، واقتضى ذلك ردّ الزوجة إليه، فما غرمناه له مسترد منه، فإن الزوجة سَلِمتْ له، وإنما نغرم له ما نغرم إذا فاتت الزوجة.
ولو لم يسق الصداقَ إليها، وهي ممسوسة، وتخلف الزوج حتى انقضت العدة، أو أصر على كفره، ولكن التزم الذمةَ، أو أسلم بعد العدة، فهو مطالب بمهر النكاح، فلو كان طلب ردّ الزوجة عليه في زمان العدة، وهو كافر، فمنعناه إياها [لم نغرم] (4) له شيئاً؛ لأنه لم يسُق الصداق، [فإذا غرم الصداق] (5) لما أسلم أو التزم الذمة، فهذه الغرامة مستندة إلى التزام المهر بالنكاح. ولقد كان ملتزماً عند المطالبة، وهذا الغرم مستند إلى التزامه في تلك الحالة.
فيتجه أن نقول: نغرم له ما غرمه؛ نظراً إلى ما ذكرناه من الاستناد (6) ومصيراً إلى أن هذا الغرم مقدم على حالة الطلب، ويجوز أن يقال: لا نغرم له شيئاً؛ لأنه لما طلب الطلب المعتبر، لم يستحق شيئاً ساعتئذٍ، والآن قد أسلم أو التزم الذمة، وخرج
__________
(1) هـ 4: "الشرع".
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) سقطت من الأصل وأثبتناها من (هـ 4) .
(4) في النسختين: ولم.
(5) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4) .
(6) المعنى أن وجوب الصداق واستقراره مستندٌ إلى النكاح، وقد كان ذلك قبل مجيئها إلينا مسلمة، فإذا أداه الزوج بعد منعنا إياها، فيتجه أن نغرم له ذلك المهر، لأنه حق ثبت قبل مجيئها، وإن تأخر أداؤه.(18/90)
عن المهادنة التي كان الغرم من حكمها، وهذا يقوَى بضعف طريق القياس في هذا الغرم، ونص الكتاب ليس متناولاً لهذه الصورة. هذا قولنا في المغروم.
11517- نوع آخر: إذا قال الزوج قد سقتُ مهرها، وذكر قدر ما ساق، فلا نغرم له بمجرد قوله شيئاً؛ فإن المسلم العدلَ الرضا إذا ادّعى، لم يثبت له بمجرد الدعوى ما ادعاه، وإن شهد للكافر عدلان مسلمان على أنه ساق ما ادعاه إليها، غرمنا له، وإن أقرت المرأة المهاجرة فقد قال العراقيون: إقرارها بمثابة البينة واعتلّوا بأنا لو طالبناه بالبينة، والذي جرى من السَّوق بزعمه كان بين أظهر الكفار، ويعسر تقدير تحمل مسلمَيْن الشهادة على ذلك، فيُفضي ردُّ إقرار المرأة ومطالبة الزوج بالبينة إلى التعطيل.
وهذا الذي ذكروه في الإقرار لست أراه كذلك؛ فإن قولها ليس حجةً علينا، وليس من الأقارير التي تُقبل لانتفاء التهمة عنها كإقرار العبد بالسرقة ونحوها مما يوجب عليه عقوبة، وإذا كان كذلك، فلا وجه لقبول قولها. والعلم عند الله تعالى.
هذا نجاز الأصول التي تجب رعايتها في هذا الفصل، ونحن نلحق بما ذكرناه فروعاً تأتي على الأطراف التي شذت في ضبط الأصول، ثم نستفتح أصلاً آخر متصلاً بهذه القاعدة.
فرع:
11518- إذا جاءتنا مسلمة وكان طلقها زوجها طلاقاً رجعياً، فجاءت إلينا في عدة الرجعة، وتبعها الزوج، فقد نقل الرواة عن الشافعي أنه قال: " إذا جاء الزوج مطالباً، فلا نغرم له شيئاً ما لم يراجعها، وإذا راجع، لم نغرم له بمجرد الرجعة [ما لم يطلبها] (1) ، ولا بُد من اجتماع الأمرين الرجعة والطلب، وخرّج المحققون قولاً آخر، ورأوه القياس، فقالوا: يستحق المهرَ بمجرد الطلب من غير رجعة؛ لأن رجعة الكافر للمسلمة فاسد، كما أن نكاح الكافر للمسلمة فاسد، فلا معنى لاشتراط فاسد.
وعندي لا يتوجه النص إلا بأن نقول: لا يتحقق من الزوج توجيه الطلب، ما لم يراجعها؛ فإنه إذا طلب وتركها، فهو في حكم المعرض عنها، فإنها إلى البينونة
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/91)
مصيرها، وإذا راجع، فقد حقق الطلب، وهذا تكلّف، ووجه القياس ما ذكرناه، فإن الرجعية زوجة.
ولو جاءتنا مسلمة قبل المسيس، فهي بائنة، ونحن نغرم للزوج، فلا تعويل على ما وجهنا النص به.
فرع:
11519-[إذا جاءتنا أمة مسلمة] (1) ، فقد ذكرنا أنا نغرم لسيدها قيمتها إذا جاء مطالباً، ولا نعتبر ما وزنه (2) السيد في ثمنها، وإنما نعتبر القيمة لا غير، والفرق قد يعسر؛ فإن الأمة عتقت [بالمراغمة] (3) ، كما بانت المرأة بالإسلام، ولا وجه إلا إجراء قيمة الجارية على القياس، وربط غرم المهر بنص القرآن، فلينتبه الناظر لما يُنبّه له.
ولو جاءتنا أمةٌ مسلمة مزوّجة، فقد قال الأصحاب: نغرم قيمتَها لمولاها ومهرَها لزوجها، لو جاءا، وطلبا معاً.
ولو جاء أحدهما مطالباً، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنا نغرم لكل من أتانا منهما حقه، ولا نقف إلى أن يأتي الثاني؛ لأنه لا تعلق لأحدهما بالثاني، وحق كل واحد منهما متميز عن حق الثاني. والوجه الثاني - أنا لا نغرم لأحدهما ما يطلب حتى يحصل طلبهما؛ فإن الحق مشترك بينهما، يعني حق الرد بحكم الشرط، أو بحكم المهادنة، والأقيس الوجه الأول. ومن (4) أصحابنا من قال: نغرم للسيد القيمة إذا انفرد بالطلب، ولا نغرم للزوج إذا انفرد. والفرق أن حق اليد للسيد ولهذا يسافر سيد الأمة بها وإن كانت مزوجة، فيتأكد من هذا الوجه حقه، والزوج إذا انفرد بالطلب؛ فإنما يبغي رد الزوجة عليه، وليس لزوج الأمة حق الانفراد
__________
(1) عبارة الأصل: " إذا جاءتنا أمة مسلمة قبل المسيس ". وفي هـ 4: " إذا جاءتنا مسلمة قبل المسيس ". والذي يظهر أن عبارة (قبل المسيس) مقحمة في النسختين، فالكلام في الأمة، وليس فى الزوجة. وقد سقطت كلمة (أمة) من (هـ 4) .
(2) ما وزنه: المراد النقد الذي بذله في ثمنها.
(3) في الأصل: " بالإسلام ".
(4) هذا هو الوجه الثالث.(18/92)
باليد على الزوجة المملوكة، وهذا الوجه اختاره صاحب التقريب، وفيه على كل حال فقه (1) .
فرع:
11520- إذا جاءنا عبد مسلم هل نرده عليهم؟ هذا مما يجب الاهتمام به، فمن جاءنا منهم وكان حراً مسلماً، فكيف يتجه رده، وهو يقول: أنا رجل مسلم لا أحب مخامرة الكفار قلنا: جوابه إنك أسلمت، والتزمت حكم الإسلام، وحكمُ الإسلام أن تُرد؛ فإن هذا الملتزمَ مما يجب الوفاء به، وإن زاد في مرادَّته، أحلْناه على رَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير.
ثم قال الأئمة: إنما يردّ إذا كان له عشيرة يضنّون به، ولا يهينونه، وإن كانوا يؤذونه بالتقييد وغيره، فلا تعويل عليه، ولا يختلف الحكم به، فإن أبا جندل ردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر سلاسله ويرسف في قيده، ثم إن كان المطالب به مستقلاً برده، فلا كلام، وإن لم يكن، فلا نلتزم أن نرده بأنفسنا.
وقصة أبي بصير شاهدة في ذلك؛ فإنه لما ردّه على رجلين جاءا في طلبه، قال كالمعرّض: " مِسْعرُ حرب لو وجد أعواناً "، فلما كان ببعض الطريق واستأنسا به، تحدّثوا في سيوفهم، فقال أحد الرجلين: إني جربت سيفي فوجدته ماضياً، فقال أبو بصير: أرنيه أنظر إليه، فلما سلّه من يده، فعل هكذا فرمى برأسه ناحيةً، فإذا هو كالأمس الذاهب، وهرب الآخر راجعاً إلى المدينة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، قال: أما هذا فقد جاء به أمر، فلما دنا أََخْبر بالحادثة، فلم يُحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً، وامتنع أبو بصير فيما بين مكة والمدينة، وانضمّ إليه جماعة من المسلمين من مكةَ وغيرِها، فجعل يقطع الطريق على أهل مكة، حتى بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضمه معه إلى نفسه، فاستُدْعي فأتاه في سبعين شاكين في السلاح (2) .
__________
(1) هـ 4: " وفيه على حالٍ بُعدٌ " وأشار في الهامش إلى أن في نسخة أخرى (فقه) مكان (بُعْد) .
(2) قصة أبي بصير، في البخاري من حديث المسوربن مخرمة الطويل في قصة الحديبية: الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، ح 2731، 2732.=(18/93)
وهذه القصة مما يجب [التشبّث بها] (1) ؛ فإن الرد لو كان واجباً ديناً، لما جاز لأبي بصير أن يمتنع، ولأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة حرسها الله تعالى من غير تعرّض لهم، وقد تبيّن أنه لم يُوبخ أبا بصير، بل سرّه ما فعل، وعرّض في أول الأمر؛ إذ قال: مِسْعَر حرب لو وجد أعواناً.
ويخرج من هذا أن الرجوع ليس حتماً ديناً، وكيف يتحتم هذا في وضع الشرع، ولا حق للكفار على هذا الذي أسلم، وإنما يجب الردّ للوفاء بما قلنا؛ حتى تقع الثقة بما يجري العهد عليه؛ والمردود في نفسه ليس معاهداً، فعلينا الوفاء، وذلك المسلم المردود يفعل ما بدا له.
11521- والذي يتم البيان به أنه لو وضع الشرط على أن نرد عليهم من جاءنا، فليس في موجب هذا الشرط التوقف في الرد إلى أن يطلبوه، وليس هذا مقام غُرم حتى يُرعَى فيه طلبٌ ومنعٌ، فكيف الوجه؟ أيجب رده من غير أن يطلبوه؟ قلنا: الذي يقتضيه الرأي أنه لا يُرد من غير طلب؛ فإن الغرم إذا وقف على طلب الزوج، فنفس
__________
=ولكن سياق الإمام للقصة جعل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بصير: " مِسْعَرَ حربٍ لو وجد أعواناً.." عندما ردَّه مع الرجلين وقبل أن يقع منه ما وقع، والصحيح المروي هو أنَه قال هذا القول بعد ما قتل أبو بصير أحدَ الرجلين وكرَّ راجعاً إلى المدينة.
وقد نبّه ابن الصلاح على هذا قائلاً: هذا غلط؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك عند ردِّه عليهما، والذي رواه البخاري في صحيحه -وغير البخاري- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فقتل أحدَ الرجلين وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: " لقد رأى هذا ذعراً "، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل -والله- صاحبي، وإني ْلمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهما ثم أنجاني الله منهم فقال النبي: ويل أمِّه، مسعر حرب ... إلخ القصة.
(مشكل الوسيط 7/93 بهامش الوسيط) . هذا ولم يعلِّق الحافظ في التلخيص على ما وقع في سياق الإمام للقصة.
(1) في النسختين: " التثبت فيها ". والمثبت من تصرف المحقق، فإن القصة في الدرجة العالية من الصحة، كما ظهر في التعليق السابق.(18/94)
الرد يقف على الطلب، كما أن غرم المهر يقف على الطلب، هذا هو الظاهر المفهوم من القصة التي جرت في المهادنة.
ولو صرح مهادن بأن يردَّ من جاء إلى بلاد الكفر بأعوانه، فلا يمتنع لزوم الوفاء بهذا، وإنما حَمَلْنا ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب؛ لأن من جاء فهو مردود عليكم معناه: إذا جئتم، فهو ردٌّ عليكم، ولا تعويل عليه، فالمتبع قصة المهادنة.
11522- عاد بنا الكلام إلى العبد وفي ردّه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يرد؛ لأنه مسلم، والظاهر أنه يُستذلّ ويُهان، ويسترقّ بعد ما عَتَقَ بالمراغمة، فصار ردّه كردّ المرأة. ومن أصحابنا من قال: هو مردود، بخلاف المرأة، فإن المحذور منها فاحشة الزنا، وإتيان كافر مسلمة، وهذا معدوم في العبد.
ولو جاءنا حُرّ لا عشيرة له، وغلب على الظن أنه يهان لو رُدَّ، فلأصحابنا طريقان في ردّه: منهم من ألحقه بالعبد، ومنهم من قطع بأنه يرد؛ نظراً إلى جنس الأحرار، وليس يبعد عندي أن يقال: على الإمام أن يشترط عليهم ألا يهينوا المسلم المردود عليهم، حتى إن أهانوه، كان ذلك نقضاً للعهد، وهذا متجهٌ؛ فإن الردّ إن كان ملتزَماً بالعهد، فيجب استفراغ الوسع في نفي الإهانة عن المسلم.
11523- ومما نذكره متصلاً بهذا أن عمر عَرَّض لأبي جندل بقتل أبيه تعريضاً يقرب من التصريح، فلا بد من التصرف في هذا؛ فإن دماء من هادناهم مصونةٌ محقونة، وفي هذا تردُّدٌ لا بُد من إنعام النظر فيه، والمقصود منه يبين بما نصفه، فنقول: إذا هادن الإمام جماعة، ووادعهم، وذكر أنهم في أمنٍ من المسلمين، فلو أسلم من المعاهدين أقوامٌ وثاروا من بين أظهرهم، فهل لهم أن يقتلوهم؟ هذا عندنا فيه احتمال ظاهر؟
يجوز أن يقال: لهم أن يقتلوهم ويغتالوهم؛ فإن الإمام لم يلتزم إلا أن ينكف ويكف جنود الإسلام والمسلمين عنهم، فأما الذين يُسلمون من بعدُ [وينبِّتون] (1)
__________
(1) غير واضحة بالأصل، والمثبت من (هـ 4) .(18/95)
منهم، فلا يبعد ألا يكونوا ملتزمين للعهد وبموجبه، ويشهد لذلك ما كان يفعله أبو بصير من قَطْع الطريق على أهل مكة، ولو نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لانتهى، ويشهد لذلك تعريض عمر.
ويجوز أن يقال: من أسلم منهم لم يكن له أن يتعرض لمن عصم الإمام دمَه ومالَه.
ومن جاءنا منهم، ولم يُطلب، ولم نردّه، فلا خلاف أنا نُلزمه من الحكم ما يلزمنا؟ فإنه صار من جملتنا. وأما تعريض عمرَ، فلا يبعد أن يحمل على حِدّته وتصلّبه في الدين، وقد جرى له من هذا الجنس عام الحديبية أمور مشهورة، لا حاجة بنا إلى ذكرها.
وقد نجز المراد تصريحاً، وتنبيهاً.
فرع:
11524- إذا قال الإمام: من جاءنا فهو ردّ عليكم، ثم اتصلت امرأة بطرف من أطراف بلاد الإسلام، فهل للإمام أن يغرم للزوج؟ أم كيف السبيل؟ قال العلماء: إن قال: من جاءنا وأراد من جاء (1) المسلمين، فيلزمه أن يغرم؛ فإن المرأة قد جاءت المسلمين. وإن قال: من جاءني، فإذا تعلقت بطرفٍ من أطراف بلاد الإسلام، فهل يغرم الإمام؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يغرم؛ فإنها ما جاءته.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يغرم؛ فإن من جاء المسلمين، فقد جاءه؛ فإنهم رعيّته، وتحت حكمه.
ولو تعلّقت بديار البغاة حيث لا ينفذ أمر الإمام، وقد كان قال: من جاءني، فلا يغرم للزوج المطالِب شيئاً؛ فإن الفئة الباغية ليسوا تحت حكم الإمام، ولو قال: من جاءنا، ثم جاءت إلى البغاة، لم يضمن الإمام أيضاً، فإنه غير متمكِّن من ردها، والغرم يتبع طلباً مع إمكان الردّ صورةً.
وقد انتجز ما أردنا تمهيداً وتفريعاً.
11525- ونحن نعقد فصلاً متصلاً بهذا. فنقول: من جاء الكفارَ منا مُرتداً عن
__________
(1) هـ 4: " من جاء من المسلمين ".(18/96)
دينه وصفةُ المهادنة ما قدمناه، فسُحْقاً سُحْقاً، وإذا التحقت بهم مرتدة، فعليهم أن يردوها، وإن قلنا: من جاءكم، فلا تردوه؛ فإن النسوة مستثنيات من هذه الإطلاقات، وكما لا ترد المسلمة المهاجرة- وإن قلنا: من جاءنا، فهو ردٌّ - فكذلك نسترد المرتدة وإن قلنا: من جاءكم، فلا تردوه.
ثم لو جاءتنا مهاجرة مسلمة، وجاءتهم مرتدة، فالإمام يغرم لزوج المرتدة ما ساقه من صداقها، والأصل فيه قوله تعالى في آية المهاجرات: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] والسبب فيه أن المهادنة هي التي جرّت هذا الأمر، وهذا مشكل مع ما ذكرناه من أن المرتدة مستردة منهم، ويلزمهم ردّها، فمصيرها إليهم كمصيرها إلى أهل الحرب، ولكن أهل الإسلام منحجزون منه بسبب المهادنة على الجملة إلى أن يتفق نبذها، وما ذكرناه تكلّفٌ مع نص القرآن.
" وليس وراء الله [للمرء] (1) مذهب ".
ثم أجمع أصحابنا على أنها إذا جاءتنا مسلمة، وجاء الزوج مطالباً، وجاءتهم مرتدة، فالذي كنا نغرمه لزوج المسلمة نسلمه إلى زوج المرتدة إن تساوى المهران في المقدار، وإن كان مهر المسلمة أقل، صرفناه إلى زوج المرتدة، وأكملنا له ما كان ساق إلى زوجته. وإن كان مهر المسلمة أكثر، صرفنا مقدار مهر المرتدة إلى زوجها، وصرفنا الفاضل إلى زوج المسلمة، [ولا يتهدّى المعنى إلى هذا] (2) ؛ فإن زوج المسلمة يقول: لا ذنب لي في التحاق تلك المرتدة بدار المهادنين، فلم منعتموني حقي، والممكن أن يقال: ليس لك حق متأكد على قياس أعواض المتلفات، وإنما نغرم [لك] (3) بحكم المهادنة، وأهلُ المهادنة في موجب المهادنة كالشخص الواحد، وقد انتهى الغرض.
__________
(1) في الأصل: " لكم ". ثم إن هذا عجز بيت للنابغة الذبياني، وصدره:
حَلَفْتُ فلم أترُك لنفسكَ ريبةً.
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) في الأصل: " لكم ".(18/97)
فصل
11526- لا ينبغي للإمام أن يبذل للكفار مالاً، فإن ذلك ذلٌّ، لا سبيل إلى التزامه، والأصل في ذلك ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبر تألّب العرب، واجتماع الأحزاب، جمع السعودَ: سعدَ بنَ عبادة، وسعدَ بن معاذ، وأسعد بن زرارة، وقال لهم: إن العرب قد كالبتكم ورمتكم عن قوس واحدة، فهل ترون أن ندفع إليهم شيئاً من ثمار المدينة؟ وروي هل ترون أن ندفع شيئاً من ثمار المدينة إلى غطفان. فقالوا: إن قلت عن وحي، فسمعاً وطاعة، وإن قلت عن رأي، فرأيك متبع، وإن كان مكيدة من مكائد الحرب، فحتى ننظر، فقال صلى الله عليه وسلم: بل مكيدة، فقالوا: كنا لا ندفع إليهم ثمرة إلا شراءً أو قِرِّى ونحن كفار، وقد أعزنا الله تعالى بالأسلام؛ فلا نقبل الدنيّة، فَسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم " (1) وهذا إذا لم يَخَفْ الإمامُ اصطلاماً، واستئصالاً؛ فإن خاف ذلك، فلا خلاف أن البذل سائغ، ذكره الصيدلاني وغيره، وهو مقطوع به.
__________
(1) قصة بذل ثلث ثمار المدينة في مصالحة الأحزاب، واستشارة النبي صلى الله عليه وسلم معروفة مشهورة، لكن الخلاف فيمن هم السعود الذين استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم.
اتفق كل من روى القصة على سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما (وسماهما البزار في روايته: السعود) . ولكن كثر الوهم في رواية القصة، فقد ذكر الإمام أسعدَ بنَ زُرارة رضي الله عنه والمعروف أنه مات قبل بدر، باتفاق أهل المغازي والتواريخ، كما قال الحافظ في الإصابة (1/34) .
وجعل الطبراني السعودَ خمسة، وتُعقب في ذكر اثنين منهما: سعد بن خيثمة، وقد استشهد ببدر، وسعدُ بنُ الربيع، وقد استشهد بأحد.
كما اختلف لفظ رواة القصة، فقال البزار والطبراني: السعود، وقال ابن كثير: السعدين، وعزاه لابن إسحاق، وآخرون ذكروا الأسماء من غير وصف سعدين ولا سعود.
(ر. الطبراني الكبير: 6/ح 5409، البزار: 163/1-2 زوائد، مجمع الزوائد: 6/132، 133، السيرة لابن هشام: 3/174، طبقات ابن سعد: 2/73، تاريخ الطبري: 2/573، أسد الغابة: 2/294، 295، الكامل: 2/180، البداية والنهاية: 4/106، الإصابة: 2/36) .(18/98)
ثم ذكر الأئمة مسائلَ في أثناء الكلام لو اطلعنا عليها لذكرناها في مواضعها فنثبتها الآن.
فرع:
11527- قال صاحب التقريب إذا أسلم عبد في يد كافر، فنكلفه بيعَه، فإن أبى ودبّره، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبيعه عليه، فإن بيع المدبّر جائز.
والثاني - أنا لا نبيعه، ونحول بينه وبين مولاه، كما نفعله في المستولدة؛ فإن عقد التدبير عقد عتاقة؛ فلا ينبغي أن نهجم على نقضه؛ فإن نَقَض التدبيرَ مِنْ دُبر، فلا معترض عليه.
ولو علّق الكافر عتقَ ذلك العبد بصفةٍ، فللأصحاب طريقان: منهم من قال: يباع وجهاً واحداً، ومنهم من جعله كالتدبير، وما ذكرناه في هذا من كلام صاحب التقريب.
وما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أنا إذا منعنا بيع المصحف من الكافر، فنطرد هذا في كتب الأحاديث، قال العراقيون: وكذلك القول في حكايات الصالحين، وطردوا في صحة البيع قولين في الجميع، ولست أرى لردّ البيع في حكايات الصالحين وجهاً.
فرع:
11528- إذا قارض المسلم ذمياً واشترط عليه ألا يشتري محرماً، فلو اشتراه بمال القراض، وأدّى الثمن، ضمن الثمن الذي بذله، لأنه خالف الشرطَ.
ولو قارض المسلم ذمياً مطلقاً، ولم يتعرض لنهيه عن شراء المحرمات، فلو اشترى خمراً وما في معناها بمال القراض وأدى الثمن، فهل يضمن الثمن للمقارِض المسلم؟ ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنه يضمن الثمن الذي بذله. والثاني - لا يضمن؛ فإن المسلم قَصَّر لما لم يشترط عليه الانكفافَ وأطلق القراض مع علمه بأن الذمي يتموّل الخمرَ، ويبيعُها ويشتريها.
ثم عقد الشافعي باباً في تبديل أهل الذمة دينهم وقد مضى هذا مستقصىً في النكاح.
ثم عقد باباً في الحكم بين المعاهدين إذا رضوا بأحكامنا، وقد مضى ذلك في مواضع، وبيّنا ما قيل في وجوب الحكم من الخلاف؛ فلست أرى لإعادة ذلك وجهاً.(18/99)
فصل (1)
11528/م- إذا هادن الإمام على الترتيب الذي ذكرناه على مدةٍ لضعفٍ بالمسلمين، فيجب الوفاء وإن تقوّى المسلمون.
فإن خانوا، وأتَوْا بما يخالف العهد، وعلموا ذلك (2) ، فقد انقضت المهادنة، فنسير إليهم، ولا نُعلمهم.
وإن فعلوا ما تُنتقض المهادنة به، ولم يعلموا أن العهد ينتقض به، فلا حاجة إلى علمهم، ولكن هل يجوز المسير إليهم من غير إعلامٍ؟ فعلى وجهين.
ولو استشعر الإمام منهم تهمة الخيانة، ولم يتحقَّقها، فله أن ينبذ إليهم عهدَهم، بخلاف ما إذا بدت تهمة من أهل الذمة؛ فإن الأصح أنه لا يجوز نبذُ العهد إليهم.
ولو بدت خيانة من بعضهم، وسكت آخرون، ولم ينكروا، فللإمام أن ينبذ إليهم العهد؛ هكذا كانت قصة أهل مكة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادنهم، وكان بنو خزاعة مستجيرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوثبت عليهم طائفة من أهل مكة وقتلوهم، والباقون سكوت، فسار النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ... (القصة) . وسكوت الساكتين مع التمكن من الرد على الخائنين ينزل منزلة التهمة، أو هو أظهر منها.
وفي هذا الآن مزيد نظر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، ولم يُعلمهم ودعا الله أن يطمس أخباره عليهم، فانحسمت الأخبار عنهم وصارت مكة على أهلها كالوطيس (3) حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ ظهرانَ، وظاهر هذه الحالة أنه أراد أن يتغفلهم، ثم جرت قصة لأبي سفيان وحكيمِ بنِ حزام، فظاهِرُ سير الرسول صلى الله عليه وسلم دالٌّ على أنه أراد أن يفاجئهم، وهذا فيه إشكال من جهة
__________
(1) في (هـ 4) : فرع مكان (فصل) .
(2) أي وعلموا أن العهد ينتقض بذلك الذي أتَوْه.
(3) الوطيس: من وطس الأرض: أي أحدث فيها حفرة (المعجم) ، فالمعنى أن أهل مكة صاروا كأنهم في غيابة الجب لا يدرون ما حولهم.(18/100)
أنه لم يوجد من أهل مكة إلا السكوت عن وقوع بني نُفاثة ببني خزاعة. وإذا ألحقنا السكوت بالتهمة، وذكرنا أن أصحاب التهمة لا يُبدؤون بالقتال من غير نبذ العهد إليهم، ففي هذا تردد.
ويجوز أن يقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقدم النذير من المنزل الأخير، ويجوز أن يقال: اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريشهم على قتل بني خزاعة، فلم يكن ذلك تهمة في حقه، والعلم عند الله تعالى.
ومما تجب الإحاطة به أن المَضَرّات في حق أهل الذمة يختلف المذهب فيها، في أنها هل تكون نقضاً للعهد، ولا خلاف أنها من أهل الهدنة ناقضةٌ للعهد؛ فإن الهدنة ضعيفة ليست متأكدة ببذل الجزية.
فرع:
11529- إذا أظهر أهلُ الذمة خمورهم، أرقناها عليهم، وإن لم يظهروها، فأرقناها لهم، لم نضمنها لهم، ولكن لا يجوز ذلك.
ولو غصب غاصب خمراً لهم من بيوتهم، فقد كان شيخي يقطع بأنه يجب ردّها، ويجب التزامُ مؤنة الرّد، وقال غيره من المحققين: لا يجب ذلك، ولكن لا يراق، ولا يحال بينها وبين الذمي إذا أراد استردادها.
ولو غصب مسلم خمراً محترمة لمسلم، فالوجه عندنا وجوب ردّها عليه، وفيها احتمال على حال.
ولو باع ذمي خمراً من مسلم، فسلمها إليه، فالخمر مراقة؛ لأن الذمي تعدّى بإظهارها، ولا شيء له في مقابلة إراقتها.
***(18/101)
كتاب الصيد والذبائح (1)
11535- الأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] ، والجوارح جمع الجارحة، وهو الحيوان الصَّيُود، وقيل: اشتقاقها من الجرح، وقيل اشتقاقها من قولهم: جرح واجترح أي اكتسب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: " إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت عليه اسم الله، فكل ممّا أمسكه عليك، وإن أكل فلا تأكل " (2) وقال لأبي ثعلبة الخُشني: " إذا أرسلت كلبك المعلّم، وذكرت عليه اسم الله، فكل ممّا أمسكه عليك وإن أكل " (3) .
والإجماع منعقد على أصل الاصطياد.
والشافعي صدر الكتاب بتفصيل القول في الكلب المعلم وتحليل ما يصطاده، فلتقع البداية بمعنى التعلم، وبيان الكلب المعلم، فنقول أولاً: إذا لم يكن الكلب معلَّماً، فما اصطاده وقتله، فهو ميتة بلا خلاف، وإن أدركنا ما أخذه، وصادفناه على حياة مستقرة، وقطعنا حلقومه ومريئه، فلا خلاف في التحليل، وهذا يطرد في فريسة السباع كلها، إذا صادفناها على حياة مستقرة، وتمكنا من ذبحها في المذبح، وهذا
__________
(1) يستمر العمل كما هو على نسختين. هـ 2 أصلاً، هـ 4 نصاً مساعداً.
(2) حديث عدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك المعلَّم ... " متفق عليه (البخاري: الذبائح والصيد، باب التسمية على الصيد، ح 5475. مسلم: الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، ح 1929) .
(3) حديث أبي ثعلبة الخُشني " ... فكل مما أمسك عليك وإن أكل، رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (ر. أبو داود: الصيد، باب في الصيد، ح 2852. النسائي: الصيد والذبائح، باب الرخصة في ثمن كلب الصيد، ح 4296. ابن ماجه: الصيد، باب صيد الكلب، ح 3207. التلخيص: 4/246 ح 2352.(18/103)
[الكتاب] (1) تنتظم مسائله لبيان [تحليل] (2) ما يموت بجرح الجارحة، أو يقرب من حركة المذبوح.
11531- فإذا تمهّد هذا، فالمعلَّم فيما ذكره الأصحاب هو الذي يجيب إذا دُعي، والمراد بذلك أن ينطاع للدّاعي، ويسترسل إذا أرسل على الصيد. وذكر الأصحاب أن ينزجر إذا زجر، وينكف عن الأكل مما أخذه. هذه هي الصفات المرعيّة في تعلّم الكلب، والفهد، وما في معناهما مما يقبل التعليم.
وهذا يستدعي مزيد كشف: فأما الإجابة، فمعناها عندي أن يسترسل نحو الصيد إذا أُرسل، هذا هو الإجابة، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف، والمعنى: أنه إذا أُغري بالصيد، هاج، وإذا [آسده (3) ] (4) صاحبه اتّبع صوبَ الصيد، وهذا لا بدّ منه. والانكفاف عن الأكل مرعيٌّ أيضاً.
وأما الانزجار عند الزجر، فهذا فيه نظر: فإن أُريد به أن ينزجر بعد الإطلاق، وهو في حِمِرَّة (5) العَدْو فاشتراط هذا صعب، وفي كلام أصحابنا ما يُشعر به، بل ما يصرح به، وقد تحصّل لنا وجهان في اشتراط ذلك بعد العدو، فأما في ابتداء الأمر، فالذي يجب القطع به أن ينزجر إذا زجره صاحبه، ولا ينطلق إلا بإطلاقه، ولا يتبع الصيد إلا بإشارته، فإن كان ينطلق بانفراده، فليس معلَّماً.
وهذا فيه نظر؛ فإن الكلب وإن كان معلّماً، فإذا رأى صيداً على القرب، وهو على كَلَب الجوع، فيبعد تصوير انكفافه، ولكن ظاهر المذهب هذا.
فأما شرط ترك الأكل، فقد شرطه الكافة في الكلب، وما يتعلم من الفهد وغيره.
__________
(1) في الأصل: " الكلام ".
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) في الأصل: أسنده والمثبت من (هـ 4) .
(4) آسده: أي هيجه، وأغراه بالصيد، ومثلها أوسده. (ر. اللسان: مادة: و. س. د، والمعجم: ما دة: أ. س. د) .
(5) الحِمِرّ: بكسر الحاء والميم وتشديد الراء: من كل شيء شدّته: غيثٌ حِمِرّ: شديد يقشر الأرض. (المعجم) .(18/104)
فإذا ثبتت هذه الشرائط، فقد أجمع العلماء على أنا نشترط تكررها من الكلب، ثم لا ضبط للأعداد، والمتبع أن يحكم أهلُ الدراية بأنه صار معلَّماً متدرباً في هذه المعاني المطلوبة منه، ولا سبيل إلى التعبير عن هذا بضبطٍ؛ فإنه إنما يدرك بأحوال تُحس منه، والكرّاتُ قد تحمل على اتفاقات، فالرجوع إذاً إلى أهل المعرفة بهذا الشأن. وكل ما ذكرناه في غير الطيور.
11532- فأما جوارح الطيور كالبزاة والصقور وغيرها، فيشترط فيها أن تسترسل إذا أرسلت في جهة الصيد، كما ذكرناه في الكلب، أما انزجارها بعد الطيران، فلا مطمع فيه، ويبعد أيضاً أن يشترط انكفافها في أول الأمر وقد لمح لها الصيد، وهي جائعة، والله أعلم.
واختلف قول الشافعي في أنا هل نشترط انكفاف جوارح الطيور عن أكل ما أمسكته؟ فأحد القولين أنا نشترط ذلك قياساَّ عَلى جوارح السباع، والقول الثاني - أنا لا نشترط ذلك؛ فإن الكلب إنما ينكف عن الأكل عن فريسته بالضرب، والدق العنيف، وجوارح الطيور لا تحتمل هذا، ولا سبيل إلى زجرها من غير ضرب، بل قيل: سبيل تعليمها بالإطماع في الإطعام.
هذا منتهى ما ذكره الأصحاب [في ذلك] (1) .
والإشكالُ عندي [بجُمامه (2) ، وأنا وراء استفراغ الوسع] (3) في الكشف والبيان، فنقول: الذي ظهر لنا من قول الأصحاب أنهم اعتقدوا أن الكلب المعلّم يمسك ما يأخذه لصاحبه، وعلى صاحبه، وفي بعض الأخبار ما يشير إلى هذا، أما الخبر، فمتلقىً بالقبول، ولكنه معرض للتأويل وقوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، وإن لم يصرح تصريحَ الخبر، فهو مُشعر بذلك أيضاً.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) الجمام: بضم الجيم ملء الإناء، ومن الإناء والمكيال: ما تجاوز رأسه بعد امتلائه (المعجم) فالمعنى: أن الإشكال ما زال قائماً عنده بتمامه.
(3) عبارة الأصل: " والإشكال عندي قائم ثم هو وراء استفراغ الوسع ".(18/105)
والذي يعترض في النفس بعد هذا التنبيه أن الجارحة التي تصيد لو كانت على شِبع، لم تبرح في صَوْب الصيد قِيد فِتْر، وإن أشلاها صاحبها، وإنما تنتهض على الجوع، فلا يخفى أيضاً أنها إذاً تتشوّف إلى ما تطعم، والطبيعة تحركها لذلك، [وإذا هي] (1) أمسكت الصيد، فالداعية التي تحملها على الإمساك ما قدّمناه من تشوفها إلى مَطْعم تسدّ به الكَلَب وسوْرةَ الجوع، غير أنها إذا ضُربت على الأكل، تذكرت عند إمساك الصيد الضربَ، فانكفت من خيفة الضرب، لا لتسلّم الفريسة إلى صاحبها.
والكلْبُ أيسر الجوارح وأفطنها وأحراها بأن يتذكر ما سبق من ضربه، وقيل: إن الكلب الحارس يُجدع أنفه ليلاً، فلا يجنّ الليل إلا ويتذكر ما جرى عليه، فيدأب طول الليل حارساً، مستشعراً كلما سمع حساً تذكّر ما ألمّ به من ألم الجدْع.
هذا هو التحقيق، فليقطع المرء بأن الكلب [لا يمحِّض] (2) قصده في الصيد لصاحبه، بل لو قيل: لا ينطوي على ذلك إلا فكرُ عاقلٍ، لكان سديداً؛ إذ ليس في البهائم وإن كانت على حظٌّ من التمييز إلا ما يحركه من الطباع، ثم إنها تتعلق بطرف ضعيف من المَيْز، ثم (3) تَصوّرَ الآدميُّ فيما تطلبه الجارحة وتحاذره إمساكَ الصيد والانكفاف.
فيجب -على القطع- تأويلُ السنة والكتاب وتنزيلهما على ما ينزل عليه معظم الظواهر المتعلقة بأغراض الخلق، فالرحمة في [حق الإله] (4) ليست [رقةً] (5) ولا ميلاً، والغضب ليس التهاباً وتلظِّياً، ولكن من يرحم منا ينعم، ومن يغضب
__________
(1) في الأصل: " وإذا هش ". وهو تصحيف غريب من مثل هذا الناسخ الذي تميز بالفهم والوعي بما يكتب.!!
(2) في الأصل: لا " يخص ".
(3) هـ 4: " ثم يأتلف للآدمي مما تطلبه الجارحة، وتحاذره ... إلخ " والمعنى واحد. وهو أن الجارحة لا تمحض قصد الصيد لصاحبها، ولكن الإنسان يتصوّر ذلك منها، لما يراه من تصرفها بين تحريك الطباع لها، وخوفها من معلِّمها، ولكنها لا تمسك لصاحبها على الحقيقة، فوجب تأويل النصوص.
(4) في النسختين: " حكم الإله " والمثبت تصرّفٌ من المحقق، لمناسبة المعنى والسياق.
(5) زيادة من (هـ 4) حيث سقطت من الأصل.(18/106)
يعاقب (1) ، فجرت مخاطبة المكلفين على أقدار حظوظهم وأغراضهم، كذلك (2) الجارحة وإن كانت لا تنطوي على قصد الإمساك على الصاحب، فإذا حضل بتأديبها من فعلها ما يحصّله ذو العقل القاصد إلى تحصيل مراد الآمر، سُمّي ذلك إمساكاً عليه.
11533- ثم يتنشأ من هذا مأخذٌ في الفقه واقعٌ، وهو أن الذبح مبناه على قصد الذابح -كما سنعقد في ذلك فصلاً- إن شاء الله تعالى- والصُّيود الأيّدة لا تنالها آلات الذابحين على اختيار، فمهد الشرع آلاتٍ تنالها على شِرادها، كالنشاشيب وغيرها، وكأن السرَّ فيه أن ارتياد (3) المذبح محمول على سفك الدم بأسهل الطرق، وأَوْحاها (4) وأنجزها؛ رفقاً بالذبيحة، فإن شردت، لم يعارض فواتُها طلبَ الرفق بذبحها، وكان إدامةُ [الانتفاع] (5) بها أليقَ بمحاسن الشريعة من المصير إلى فواتها إلى أن يُقْدر عليها.
ثم الرمي يتخصص به من يحسنه، وذلك في أفراد من الناس، فأثبت الله تعالى في
__________
(1) معنى العبارة أن الرحمة في جانب الإله -جلّ وعلا- ليست على حقيقتها، من الرقة والميل، وإنما هي منه سبحانه الإنعام والجزاء. وكذلك الغضب ليس على حقيقته في ذات الله، فليس هو التهاباً وتلظياً، وإنما غضبه سبحانه عقوبته. هذا هو معنى العبارة، والإمام في هذا جارٍ على مذهب الأشاعرة في التأويل.
(2) أما مناسبة هذا الكلام -بيان حقيقة الرحمة والغضب في جانب الإله سبحانه، ووجوب تأويلهما- مناسبة هذا الكلام أن الإمام يضربه مثلاً، لوجوب تأويل ما يأتي من النصوص مخاطباً المكلفين على قدر حظوظهم وأغراضهم، فكما وجب تأويل نصوص الرحمة والغضب، فكذلك يجب هاهنا تأويل نصوص الإمساك على الصائد والصيد له. والله أعلم.
(3) ارتياد: أي طلب وقصد المذبح، ووجوب الذبح منه.
(4) أَوْحاها: أسرعها، وأيسرها في الإجهاز على الذبيحة وأرفقها بها.
(5) في النسختين: الامتناع. والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى والسياق. وقد يشهد لهذا الاختيار كلام الغزالي في البسيط، وهو مأخوذ من كلام إمامه، قال: " ... وهذا لسرٍّ، وهو أن الحيوان يحلّ بذبح الذابح وقصده، دمانما يذبح بآلته، ولا تنتهي كل آلة إلى الصيد، وعظُم تفويت لحمه على الآدمي، فجُوّز أن يقصد بآلةِ الحيوانات، وشُرط أن يصير الحيوان معلَّماً ليكون في معنى الآلة، ولما كان الاسترسال بالإيساد (أي الإغراء كما سيأتي) والانكفاف بالزجر من طباع الحيوانات، شُرط على خلاف طبعه أمرٌ ليتبين أنه صار آلة، وهو الكف عن الأكل ". (ر. البسيط: 6/ورقة رقم 5 يمين) .(18/107)
محكم كتابه الاصطياد بالجوارح المعلّمة، وإن كانت ذواتَ اختيار، فإذا [اتبعت] (1) صاحبَها، في الانتهاض نحو الصيد، وتَرْك الأكل منه، نزلت منزلة الآلة يستعملها الذابح.
ويفهم الفطن مما ذكرناه ثلاثَ مراتب: إحداها - في الحيوان المقدور عليه، وعنده يحسن تعبّد الشرع بارتياد المذبح، واختيار أوحى الطرق. والمرتبة الثانية - في الشوارد مع فرض الرمي وما في معناه، فيسقط في هذه المرتبة طلبُ المذبح، ويمكن صَدَرُ الآلة من الاختيار، بَيْد أنها تخطىء وتصيب. والمرتبة الثالثة - في إقامة الكلب مقام السهم، وإن كان مختاراً إذا تشوف، ثم روعي تقريبها من الآلة الصادرة عن الاختيار بتجميع صفات الانطياع فيها، ثم لما كانت البهيمة غيرَ عاقلة، فسقط اعتبار اختيارها، ولذلك لا يصح أن يكون المجوسي آلة المسلم في الذبيحة؛ فإنه ذو اختيار صحيح، فهذا تمهيد الأصل في الكتاب.
11534- ثم ننعطف بعد ذلك على تفاصيلِ الصفات: فمما لا يُشكّ في اعتباره الذهابُ نحو الصيد عند الإيساد (2) والإغراء، والانكفاف عن الأكل. فهذان وصفان لا بد منهما في غير الطيور.
وذكر أئمتنا الانزجار عند الزجر، وزعموا أن الانطياع به يتحقق، وقد صادفتُ خلافاً في الانزجار بعد الأخذ في العدو الشديد؛ فإن هذا قد لا (3) يتأتى، ووجدت الطرق متفقة على أن المعلَّم هو الذي يعنّ له الصيد ورباطه محلول [، فيزجره صاحبه، فيقف، ولم يشترط أحد من الأصحاب ألا ينطلق إذا رأى الصيد ورباطه محلول] (4) منتظراً إغراء وإيساداً، فقد وضح اشتراط الانطلاق بالإغراء، واشتراط [الانزجار] (5) عند الزجر في الابتداء، واشتراط الإمساك عن الأكل في الانتهاء،
__________
(1) في الأصل: " انبعث ". والمثبت من (هـ 4) .
(2) الإيساد: أي الإغراء والتهييج، يقال: أوسد الكلبَ: أي أغراه بالفريسة. وأرسله عليها، ومثلها: آسده. ر. اللسان: ما دة (و. س. د) ، والمعجم الوسيط: ما دة (أ. س. د) .
وفي هامش الأصل: " الإشلاء ". في نسخة أخرى.
(3) هـ 4: " قلما يتأتى ".
(4) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4) ؛ حيث سقط من الأصل.
(5) في الأصل: " الانتظار ".(18/108)
وفي الانزجار بعد الأخذ في العدو تردد قدمنا ذكره.
وذكر كثير من أصحابنا الإجابة عند الدعوة، ولم يتعرض لهذا ذوو التحقيق وأصحاب المعاني، وأنا أقول: إن أريد بالإجابة عند الدعوة أن يجيب إلى الانطلاق عند الإغراء، فهو ما ذكرناه، وإن أريد بها أن يجيب في غير وقت الحاجة إلى الصيد، فلمست أرى لهذا وقعاً. نعم، الكلب المعلّم لا بد وأن يجيب إذا دعي، إذا ألف صاحبه، وتمرن على الصفات التي ذكرناها، ولكن إذا لم يكن هذا مختصاً بالصيد، فذكره بمثابة قول القائل: لا يهِرّ (1) في وجه صاحبه، ولا يعقِره، إلى غير هذا مما يحصل بأوائل الإلف قبل التعليم.
11535- ومما يتعين الاهتمام به شيئان: أحداهما - في الفهد والثاني - في جوارح الطيور: أما الفهد، فلا يتم فيه الانطياع أصلاً، ولا ينبغي أن يُظَن أنه ينزجر إذا زجر، ولا يتوقف استسلاؤه على الإيساد، ولا يمتنع من الأكل. [نعم، ربما لا يبتدر] (2) الأكلَ حتى يستوثق من فريسته، ويحط حركاته، ثم يأخذ في الأكل، ولا يتأتى منه الكف عن الأكل بالضرب؛ فإنه لو ضرب؛ عاد إلى استيحاشه، فإن تُصوّر [فهدٌ] (3) ينطاع انطياع الكلب، فحكمه حكم الكلب المعلم، وإن لم يتصور -ولا يتصوّر- فمطلوب صاحب الفهد أن يزول نِفاره ويألف، ثم يخادَع، ويخاتَل، فيذبح الفريسة [تحت ضبطه] (4) ولا يترك الفهد يعدو ويتمطى إلى الصيد وحده، بل يتبعه فارس أو فارسان (5) ، وبناء الأمر على إدراك الفريسة وفيها حياة مستقرة، وأما إدراكها وقد ماتت، [فمما] (6) يندر في المتصيد.
فحق الفقيه ألا يغفل عن هذه الدقيقة؛ فإن في الجوارح ما ليس معلماً، ولكنه
__________
(1) الهرير: صوتٌ من أصوات الكلب، وهو دون النباح، يقال: هر الكلب يهر هريراً - من باب ضرب - (المصباح) .
(2) عبارة الأصل: وربما لا يبتدر الأكل.
(3) في الأصل: " فهو "، وفي (هـ 4) : فهذا. والمثبت اختيار منا رعاية للسياق.
(4) في الأصل: تحته بضبطه. ومعنى ضبطه: أي إمساكه وتقييده والسيطرة عليه.
(5) هـ 4: " أو فرسان ".
(6) في الأصل: " فما ".(18/109)
أَلِفٌ أنيس ثم يدرك فريسته قبل الموت، وهذا الكتاب مبني على الفريسة التي تموت تحت الجارحة.
11536- وأما الكلام في جوارح الطيور، فليس من الممكن تعليم البازي الانكفافَ عن الأكل، وليس من الممكن أن ينزجر إذا تشوف إلى الصيد على جوع، فانتهاضُه بطباعه لا بالإغراء، والانزجارُ غير ممكن، ولكنها تألف ولا تنفر من صاحبها، فيأخذها أو يدعوها فتجيب، فالبزاة والعقبان والصقور والفهود إنما يحصل منها الإلف والعَوْد، ثم أصحابها يتمكنون مما أخذت وفيها حياة، فهذا ما عليه مبنى الصيد.
فإن صور متكلف جارحةً من الطير منطاعة، أو صور فهداً كذلك، فما تصطاده هذه الأشياء ويموت، ولم يُدرك، فهو حلال.
فإذا لم يوجد الإلف، فما يموت من صيدها، فهو حرامٌ.
وقد نجز ما أردنا تمهيده في المعلَّم وغير المعلم.
11537- ثم إذا استجمع الكلب شرائط التعليم، ولا تكاد تجتمع صفات التعليم إلا فيه؛ فإنه على كيسٍ لا يقاس به كيس بهيمة، وهو أَلِفٌ بطبعه يتشوف إلى التعليم، فإذا ضبط الكلب صيداً، وجرحه، ولم يأكل منه -وذلك بعد ثبوت كونه معلماً- فإذا مات ذلك الصيد، فهو حلال.
واختلف قول الشافعي في موضع عض الكلب، فنص على قولين، كما حكاه الصيدلاني: أحدهما - أنه يُعفى عن النجاسة في موضع عضه لمسيس الحاجة. والثاني - أنه لا يُعفى. فإن قلنا: إنه يُعفَى، فلا غسل في الموضع ولا تعفير. وإن قلنا: لا يعفى، فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - أنه يكفي الغسل في الموضع وتعفيره.
والثاني - لا بد من قطع جِلْفة (1) من موضع عضه، فإن ذلك الموضع قد يغوص فيه لعاب الكلب بعضَ الغوص، فيستتر به ولا تتأتى التنحية والإزالة إلا بالقطع. وهذا القائل يطرد هذا في كل لحم أو ما في معناه يَعضّ عليه الكلب.
__________
(1) الجِلفة: القطعة من كل شيء. (المعجم) وفي (هـ 4) : فلقة مكان جلفة.(18/110)
وإذا نال لعابه موضعاً من غير عض، فالغسل يكفي بلا خلاف مع التعفير.
وحكى بعض أصحاب القفال أن ناب الكلب إذا أصاب عرقاً نضاخاً بالدم، فيسري حكم النجاسة في جميع الصيد ولا يحل أكله. وهذا عندي غلط غيرُ معتد به؛ فإن النجاسة إن فرض اتصالها بالدم، فالعرق كالوعاء للدم وهو حاجز بين اللحم والدم، ثم الدم إذا كان يفور امتنع غوصُ النجاسة؛ فإذا كان الماء يتصعد من [عينٍ] (1) فوارة، فوقعت على أعلى الماء نجاسة، لم ينجس ما تحته، كما إذا لاقى الماء المنحدر من الإبريق نجاسة، فلا ينجس ماء الإبريق، فهذا إذاً غلط من الحاكي، وأنا لا أورد مثله إلا لبيان وجه الغلط فيه.
11538- ولو ضبط الكلبُ الصيدَ، ولم يجرحه، فمات تحته ضغطاً، فهل يحل والكلب معلم؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يحل؛ إذ لا بد من سفح الدم، ولا خلاف أنه لو أصاب صيداً بعُرض السهم أو بمثقّل وقتله، فهو حرام إذا لم يوجد جرح. والقول الثاني -وهو الأصح- أن الصيد حلال؛ فإن الكلب لا يمكن أن يُعلَّمَ الجرحَ، والغرض أن يكون متمرناً على الطاعة، وانكفافه عن العض نهاية الانطياع.
وأما السفح، فلسنا ننكر أنه من مقاصد الشريعة؛ فإن الميتة إنما تحرم بسبب احتقان الدم فيها؛ فإن الدم إذا احتقن، وفارقت الروح خَبُث اللحم باحتقان الدماء المحتقنة، وقد تبين لنا أن الخبائث محرمة، وإذا حصل نزف الدم بالذبح -وسائرُ الفضلات منحصرة في المصارين- يطيب اللحم. هذا لا ننكره. وإن حصل السفح في المقدور عليه لا بالجهة الشرعية، فيستحق مخالفُ الشرع أن يحرم عليه ما خالف الأمر فيه، وعليه أن يقصد الجَرْحَ بالآلات الجارحة في الصيود، وُيؤْثر ما يجرح على المثقلات، وهذا ممكن. ثم اعتراض النشّابة (2) نادر، وليس مما يعم. أما تعليم الكلب الجرحَ، فبعيد ولكنه يَعَض بطباعه، ولا يتأتى تعليمُه تركَ العض، فإذا لم
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) اعتراض النشابة: أي أن تقتل بعرضها، ولا تجرح بسنها.
والمعنى أن هذا نادر، والنادر لا حكم له.(18/111)
يَعض في بعض الصور تردّد هذا بين ندور الأمر وبين استحالة تعليم العض؛ فثار القولان كما وصفناه.
والذبح بالعظم في المقدور عليه محرم كما سنصف الآن، إن شاء الله تعالى الذبح، والكلب لايَعضّ إلا بأسنانه، فيتبين من هذا بناء الأمر على مراتب الحاجات.
فصل
11539- إذا أكل الكلب المعلم من فريسته مرّة وماتت تحته، ففي حلّ تلك الفريسة قولان مشهوران: أحدهما - أنها محرمة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت عليه اسم الله، فكل، وإن أكل، فلا تأكل " ووجه هذا القول من جهة المعنى أنه إذا أكل، تبين أنه لم يمسكه على صاحبه، هكذا ذكره الأصحاب.
والأولى أن نقول: الكلب المعلم إذا استرسل بنفسه، فما يأخذه في هذا الاسترسال محرم؛ لأنه أخذ ما أخذ على خلاف شرائط التعليم، وكذلك الانكفاف عن الأكل شرط التعلّم، فإذا فرض اصطيادٌ على خلاف ذلك، وجب أن يحرم، والفقه فيه أنا إذا رأينا الانكفاف عن الأكل شرطَ الانطياع، فإذا تخلف الشرط، بان أن أخذ الصيد على هذا الوجه، لم يكن على حكم الانطياع. ومن نصر القول الثاني، احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخُشني: " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل " وهذا القائل يقدر أخذه الصيدَ على حكم الطاعة، ويحمل ما اتفق من الأكل على فرط الجوع وسَوْرة نهمه، والأكل يقع بعد الأخذ.
ثم إن أبا حنيفة (1) قال: الفريسة تحرم إذا أكل الكلب منها، ونتبين أن جميع
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 297، مختصر اختلاف العلماء3/201 مسألة 1298، المبسوط: 11/223، 243، حاشية ابن عابدين: 6/467، تبيمِن الحقائق: 6/53.(18/112)
ما ماتت من الصيود ولم تدرك بالذبح، فهي محرمة [فيما] (1) تقدم.
ونحن إذا حرمنا الفريسة التي اتفق الأكل منها، لم نعطف التحريم على ما تقدم، لم يختلف أصحابنا فيه، فإذا لم تحرم الفريسة الأولى التي أكل منها على القول الثاني، فلو أكل من الثانية أيضاً، ثم من الثالثة، واعتاد الأكل، خرج عن كونه معلماً، ثم تحرم الفريسة التي وقع القضاء عند الأكل منها بالخروج عن التعلم، وهل نعطِف التحريم إلى أول فريسة أكل منها إلى الأخيرة؟ اختلف أصحابنا في المسألة وهذا اختلاف فقيه حسن محتمل، والتوجيه فيه بين.
وإذا انكف الكلب عن الأكل أول مرة، فلا يقع القضاء بكونه معلماً، وقد لا يقع بالمرتين والثلاث، والرجوع إلى أهل البصيرة، كما قدمنا ذكر ذلك.
فإذا تكرر الانكفاف وتبين التعليم، فلا نعطف الحل إلى أول فريسة حصل الانكفاف من أكلها بلا خلاف، والفرق بين هذا وبين ما ذكرناه من تكرر الأكل تغليب التحريم، وهذا فرق في الصورة وجمعٌ في الحقيقة.
ولو لعق الكلب الدمَ، ولم يأكل من اللحم، فالأصح أن لعق الدم لا يضر بخلاف أكل اللحم، وكنت أود لو فصل فاصل بين أن ينكف الكلب زماناً ثم يأكل، وبين أن يأكل كما (2) أخذ، فإن الزمان إذا تمادى، فيندر أن ينكف الكلب عن الأكل، ولكن لم يتعرض لهذا أحد من الأصحاب.
فصل
قال: " وإذا أرسل كلبه أحببتُ أن يسمي الله تعالى ... إلى آخره " (3) .
11540- التسمية عند الذبح سنة مؤكدة ويلتحق تركها عندنا بما يكره، وقال أبو حنيفة (4) : التسمية مشروطة وتركها قصداً يحرّم الذبيحة. والمسألة مشهورة في
__________
(1) في الأصل: " كما ".
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) ر. مختصر المزني: 5/206.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 297، مختصر اختلاف العلماء: 3/198 مسألة: 1292، رؤوس=(18/113)
الخلاف، فإذا أرسل الصائد كلبه أو سهمه، فينبغي أن يسميَ الله تعالى عند الإرسال؛ فإن هذا هو الذي يتعلق بالاختيار، والإصابة قد تغيب عن الصائد، وكان شيخي يتردد في أنه لو سمي عند الإصابة -وهذا ممكن في الكلب؛ فإن إدراكه محسوس- فهل تسقط التسمية المشروعة بذلك؟ وهذا موضع التردد.
فصل
قال: " ولو أرسل مسلم ومجوسي كلبين ... إلى آخره " (1) .
11541- إذا اشترك مسلم ومجوسي في ذبح حيوان مقدور على ذبحه، فإن تحاملا على حد السكين أو على الطعن في منحر البعير، فلا خلاف في التحريم، فإنه مغلَّب، وهذا أصل متفقٌ عليه.
فلو أرسل مسلم كلباً، وأرسل مجوسي كلباً، أو أرسلا سهمين، نُظر: فإن سبق كلبُ المسلم أو سهمُه، وحصل قتل الصيد أو تصييره إلى حركة المذبوح، ثم أدرك كلبُ المجوسي، فالصيد حلال، ولا حكم لما جرى من كلب المجوسي، ولو كان الأمر على العكس، فلا شك في التحريم؛ فإن القتل حصل بالكلب الذي أغراه المجوسي.
فلو أخذ الكلبان الصيد معاً، أو على الترتيب، ولم يحصل التذفيف بواحد منهما، وإنما حصل الموت بهما، فلا شك في التحريم؛ لأن هذا بمثابة اشتراك المسلم والمجوسي في الذبح. ولو حاش (2) كلب المجوسي الصيدَ، وردّه على كلب المسلم، ولم ينله، ثم أخذه كلب المسلم، فالصيد يحل؛ فإن الصيد حصل بكلب المسلم، وكلبُ المجوسي في حكم المعين، وحكم الملك لو فرض إرسال
__________
=المسائل: 510، المبسوط: 11/236، طريقة الخلاف للأسمندي: ص 280 مسألة 117.
(1) ر. المختصر: 5/206.
(2) يقال: حاش القوم الصيدَ: نفره بعضهم على بعضٍ ليصيدوه، ويقال: حاش الصيد عليه.
(المعجم) .(18/114)
الكلبين من مسلمين لا يتلقى مما ذكرناه فحسب، بل يستعمل فيه هذا الأصل ويستعمل فيه أصول سوى ذلك، وسنستقصي الجهات كلها -إن شاء الله تعالى- في مقدمة المسألة المترجمة بمسألة الكسر.
أما في مسألة المجوسي والمسلم، فلا إشكال في الملك؛ حيث يحل الصيد؛ فإنا إنما نحلله إذا اختص الكلب الذي أرسله المسلم بالأخذ، فلو شاركه كلب المجوسي في الأخذ، فهو محرم. ولو أرسله كلب المسلم، ثم أدركه كلب المجوسي، وبه حياة مستقرة، فعقره، فمات من الجرحين، فالمجوسي يفسد على المسلم ملكه، فهو بمثابة ما لو ذبح شاة مسلم، ولو فعل ذلك، فالشاة ميتة، وعليه الضمان، وإذا انتهى التفريع إلى الملك والضمان، فلا وجه إلا الإحالة على مسألة الكسر، وهي بين أيدينا، ولا شك أن الاعتبار في الكلب بالمرسِل.
فصل
قال: " وإذا رمى أو أرسل كلبه على الصيد فوجده قتيلاً ... إلى آخره " (1) .
11542- إذا رمى إلى صيدٍ، ولم يدر أأصابه السهم أو لم يصبه، فاتبعه وأدركه ميتاً، فلا يحل الصيد؛ فإنا لم نتبين جرحاً يستند الموت إليه.
ولو جرح صيداً، فولى هارباً، ثم اتبعه الرامي، فوجده ميتاً، نُظر: فإن كان بمرأى من الرامي، ولم يطرأ ما يحال الموت عليه، فلا خلاف في حِل الصيد، وإحالة موته على الرمي، وإن غاب عن الناظر، فاتُّبع وأُدرك ميتاً، نُظر: فإن كان به أثر خدش ظاهر يحال على عثرةٍ، أو وثبة سبع، فالصيد حرام، فإن الموت يحال على الجرحين والسببين، والجرح حصل من غير قصد صائد، ولو فرض مثله مجرداً، لحرم الصيد، فإذا وجد مع الجرح الاختياري الجرح الثاني، فقد تقابل الجرحان، وكأن لا جرح؛ ولو لم يحصل جرح من الصائد، أو شككنا فيه، فلا خلاف في التحريم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/206.(18/115)
وإن لم يوجد سبب آخر، ولكن غاب عن البصر ثم أُدرك ميتاً ولم يُلفَ عليه جرح وتكسر، يحال على عثرةٍ أو سقطةٍ، فهذا محل القولين: قال الشافعي في أحد القولين: إنه محرم، والدليل عليه ما روى ابنُ عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي موقوفاً عليه، أنه قال: " كل ما أصميت، ودعْ ما أنميت " (1) والتفسير: كل ما يموت بجرحك وأنت تراه، وما أنميت ما غاب عنك مقتله، والقياس تغليب التحريم للتردد الظاهر. والقول الثاني - أنه يحل؛ لأنه لم يتحقق سببٌ سوى الجرح الذي ناله من الصّائد، فالوجه إضافة الموت إليه، وحملُه عليه، ونحن قد نثبت القصاص إذا تقدم جرح عمد، ودام أثره إلى اتفاق الموت وكذلك تُشغل الذمة، والأصل براءتها، وأقرب ما يشهد لهذا القول تحليل الجنين، فإنا نحيل موته على انقطاع [رَوْح] (2) الروح عنه بذبح الأم، وإن أمكن تقدير موته بسبب آخر.
فصل
قال: " وإذا أدرك الصيدَ لم يبلغه سلاحه ... إلى آخره " (3) .
11543- إذا أرسل كلبه أو سلاحه، فإن أصاب مذبحَ الصيد ما أجهزه وأنجزه، فلا كلام، فهو حلال. وإذا أدركه، وهو في حركة المذبوح، فلا نتعرض له ونتركه يهدأ. وكذلك لو أصاب موضعاً آخرَ منه صار به إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه، وإن لم يصر إلى حركة المذبوح، حتى أدركه الصائد، فينبغي أن يقطع حلقومَه، ومريئه، ولو تركه مع علمه بما به، ولكن كانت فيه حياةٌ مستقرة، فلو مات، فهو حرام؛ فإنه تمكن منه وفيه حياةٌ مستقرّة، فإذا لم يذبحه الذبحَ المتعبد به في المقدور عليه، لم نحكم بحِلّه.
ولو كان الجرح كما ذكرناه غيرَ منجز، واستعقب حياةً مستقرّة، ولكن مات الصيد
__________
(1) حديث ابن عباس " كل ما أصميت " رواه البيهقي موقوفاً، وقال: وروي مرفوعاً وسنده ضعيف (ر. البيهقي في الكبرى: 9/241، التلخيص: 4/247 ح 2358) .
(2) في الأصل: " خروج ". والمثبت من (هـ 4) .
(3) ر. المختصر: 5/206.(18/116)
قبل أن يدركه الصائد، فإن لم يقصِّر على ما سنصفُ -إن شاء الله تعالى- فالصيد حلال. وإن قصّر، فالصيد حرام، واختلف أئمتنا في أنا هل نكلفه -إن رام الحِلّ- أن يعدوَ، أم يكفيه أن يمشي؟
ومنشأ هذا الخلاف من قاعدة قد يتردد النظر فيها: وهو أنا نكلفه (1) الطلب المعتاد، والتردُّدُ في وجه الاعتياد من جانبه، فمن كلفه العَدْوَ، فقد تخيل اعتيادَه في هذا المقام، ومن لم يكلفه العدوَ اعتبر ذلك بالمشي إلى الجماعة يوم الجمعة، مع ظهور أمارات التحرّم بالصلاة.
ثم على الوجهين تصرفٌ فمن كلف العَدْوَ، لم يكلف الإيغال فيه حتى [يبتهر] (2) أو ينالَه ضرر ظاهر، ومن اكتفى بالمشي، وهو الذي ذكره الصيدلاني، فالوجه عندي أن يتشوف إلى الإسراع في المشي قليلاً؛ فإن الماشي في هَيْنة خارجٌ عن عادة الطلب تحقيقاً، وظاهر ما ذكره الصيدلاني أنه يلزم عادته القديمة، ولفظه: " فلا نُلزمه أن يعدوَ، وأن يَحْمِل على نفسه ليدركه، بل على عادة مشيه ". وهذا بعيدٌ إلا أن يُحمل على عادة المشي في المتصيّد. وهذا التأويل بعيد عن لفظه.
ثم إذا أدرك الصيد وبه حياة معتبرة، فلم يكن معه مدية، فمات الصيد، حرم. وحق من يعاني هذا الشأن أن يكون مُعِدّاً، ولو كان معه السكين، فنشب في الغمد، ففات الصيدُ بالموت، فهو حرام، فإنه مقصر في تهيئة مدية تنطاع إذا ابتدرها. وكذلك لو كانت بحالة لا تَفْرِي، فسبق موت الصيد، فهو حرام، وإن دهِش، فأعمل ظهر السكين، فمات الصيد، حرم.
ولو كان معه سكين متغلغل في الغمد، فانسلّ، فأدرك الصيد كذلك ومات، فقد فات الحل؛ فإن جميع ما وصفناه ينتهي إلى التقصير، وتركِ الاستعداد.
ولو كان يتبع الصيدَ، فاعترض له إنسان، وسلّ السكين من حيث لا يشعر، فأفضى إلى إدراك الصيد حياً ثم مات، فهو ميتة، لانتسابه إلى عدم التحفظ.
__________
(1) في الأصل: " قد نكلفه ".
(2) ابتهر: تتابع نَفَسُهُ. وانبهر: مطاوع بهره: إذا أجهده حتى تتابع نفسه (المعجم) .(18/117)
ولو اعترض له أيّد وهو في الطلب، فغصبه السكينَ، فقد ذكر الأصحاب وجهين من حيث لم ينسب إلى التقصير، والوجه عندي القطع بالتحريم؛ فإنه وقف على حيوانٍ فيه حياة، ولم يذبحه.
وقد يمكن فرض صورة الخلاف في الحيوانات الأهلية، إذا أوفت على الفوات، ويبعد كل البعد أن يفرض فيها خلاف. وإن فرق فارق بأن ما نال الصيد ذبحٌ بدليل أنه لو هلك قبل الإدراك، لحل الصيد، ولو ابتدر الصيدَ بالسكين، فقطع بعض الحلقوم، فمات الصيد، فهو حلال قطعاً، فإنه [لو لم] (1) يقصر، فاتفق سبق الموت، لحل؛ إحالةً على الجرح السابق، فكذلك إذا حصل القطع في البعض.
هذا إذا هدأ. فإن كان الصائد متردداً في حاله، فليستمر الذبح. وإن علم أنه انتهى إلى حركة المذبوح، فهذا فيه فضل نظر. وسنذكره في الذبائح عند ذكرنا اشتراط قطع الحلقوم والمريء مع فرض الانتهاء إلى حركة مذبوح قبل تمام القطع. وسنعيد هذا الطرف ثمَّ، إن شاء الله تعالى.
ولو كان الصيد منكساً، فاحتاج إلى قلبه، فلم يصل إلى مذبحه حتى مات، فهو حلال، كما ذكرناه في نظائر ذلك، فإنه لم ينتسب إلى التفريط.
فصل
قال: " لو أرسل كلبه أو سهمه، وسمى الله تعالى، وهو يرى صيداً ... إلى آخره" (2) .
11544- مقصود هذا الفصل: القول في بيان القصد الذي نشترطه من الصائد ليحلّ الصيد. والقصد على الجملة معتبرٌ. ويتعلق طرف صالح من الكلام فيه بالقصد في الذبح، وعنده نذكر ذبح الصبي والمجنون، وهذا مؤخر.
__________
(1) في الأصل: " لم يقصر ".
(2) ر. المختصر: 5/206.(18/118)
والذي ننجزه الآن التفصيل في القصد المرعي في الصيد، فنقول أولاً: إذا كان بيد الإنسان سيف، فانسلّ منه من غير فعل يُؤْثره، ووقع على صيد في شِعْبٍ أو مغارة، وهلك الصيد، فهو حرام؛ لأنه لم يوجد من صاحب السيف فعل، فضلاً عن أن يفرض منه قصدٌ إليه. ولو رمى سهماً في الهواء، أو كان يبغي الرمي غَلْوةً، ولم يخطر له الصيد، فاتفق أنه أصاب صيداً، وقتله، فهو محرم، وكذلك لو كان يجيل سيفه، فأصاب غِرارُ سيفه حلقوم شاة، ومَرِيَّها، فقطعهما من حيث لم يشعر المدير، فالشاة ميتة.
11545- ولو رمى صيداً، وخطر له أنه قد يصيب، وذلك يفرض في جنح الليل، والمسألة فيه إذا لم يتخيل صيداً، ولكنه رمى على تردد متسع، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه- إذا اتفقت إصابة الصيد: أحدها - أن الصيد ميتة؛ فإن هذا القصد غير صحيح وصاحبه يعدّ عابثاً هازئاً. والثاني - يحل، لأنه بنى رميه على قصد الصيد، واتفقت الإصابة، والوجه الثالث - أنه ينظر: فإن رمى في موضع يغلب على ظنه الصيد فيه، وإن لم يعنّ له في الحال، فاتفقت الإصابة، حلّ الصيد. وإن كان لا يغلب على الظن الصيد فيه، فالقصد لا أصل له، وحكمه حكم الهازىء.
11546- ولو اطلع على سرب (1) من الظباء، فأرسل سهمه فيها، ولم يسدّد النشابة على واحدة بعينها، فأصاب السهم ظبية، وماتت به، فهي حلال، ولو سدّد النشَّابة على ظبية عيّنها من السرب، فمالت إلى ظبية أخرى من السرب، ففي المسألة أوجه ثلاثة: أحدها - وهو الأصح، وقد قطع به طوائف من الأئمة أن الظبية حلال، وذكروا في هذه الصورة خلافَ مالك (2) ، فإنه قال: لا تحل تلك الظبية، لأنه لم يقصدها. وهذا هو الوجه الثاني. ذكره بعض الأصحاب، وتوجيهه ما أشرنا إليه.
__________
(1) (هـ 4) : " ولو عن سرب ".
(2) ر. الإشراف: 2/918 مسألة 1836، عيون المجالس: 2/970 مسألة 677.(18/119)
والوجه الثالث - أن الظبية المصادة إن كان رآها لما رمى، وكانت في السرب، فهي حلال. وإن لم يرها أو ثارت بعد مروق السهم، فأصابها السهم، لم تحل.
11547- ولو لاح له [شيء] (1) شاخص، فرماه، وهو يحسبه حجراً أو جرثومة، فتبين أنه كان صيداً، فقد قطع الأئمة بحلّه، لأنه قصد وأصاب، ولم يعتقد في مقصوده ما يناقض الحل. وقد قال الشافعي: إذا اشتملت يد الإنسان في ظلمةٍ على شيء ليّن، فحسبه حشية لينة -وقرأ بعض الأئمة خشبة لينة- فقصدها وقطعها، ثم استبان أنه قطع حلقوماً ومريّاً على الشرط الذي ورد التعبد به، فالشاة ذكية مستباحة.
كذلك إذا لاح له شاخص، فقصده، فإذا هو صيد، فلو حسب الشخصُ الشاخصَ حيواناً محرّم اللحم، فلما أصابه السهم، فإذا هو ظبية، فالأصح أنه حلال لتوجه القصد، ووقوع الإصابة على نحو القصد، فإن كان من خطأٍ هاجسٍ في النفس، فهو خطأ في جنس المرمي، فيجب ألا يكون له أثر، ومن أصحابنا من قال: لا يحلّ، لأنه لم يقصد صيداً حلالاً، وفي بعض مجاري كلام شيخي وجه ثالث، وهو أن الحيوان الذي حسبه إن كان جنساً يحلّ أن يقصد بالرمي، فإذا تبيّن صيداً، حلّ، وإن حسبه آدمياً مثلاً محقون الدم، فتبين أنه صيدٌ مستحلّ الجنس لم يحل، لأنه قصد محرماً، والقصد في نفسه محرّم.
ولو ذبح حيواناً في ظلمة حسبه خنزيراً أو حيواناً آخر محرماً، فتبين أنه ذبح شاةً، فالوجه عندي القطع هاهنا بالحل، لقوّة الفعل، فإنه في حكم التعاطي والرمي لا يحكم عليه بالإصابة. والعلم عند الله تعالى. والناظر يتنبه لمواضع التنبيه.
ولو رمى إلى شاخص، ولم يغلب ظنه في المرمي، ولكن استوت عنده [الجائزات] (2) ، فإذا تبين كونَه صيداً، فقد أشار شيخي إلى وجهين، ورتبهما على ما إذا ظنّه خنزيراً، ولست أرى للخلاف في هذه الصورة وجهاً، بل الوجه القطع
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) في الأصل: " الحالات ".(18/120)
بالحل، كما لو حسبه حجراً شاخصاً. هذا إذا قصد شاخصاً، فأصابه، والمسائل منوعة في ظنه.
فأمّا إذا قصد شخصاً، فأصاب ظبية، ففي حلّها خلاف مرتب على ما لو قصد ظبية، فأصاب ظبية أخرى، والتحريم هاهنا أغلب؛ من جهة أنه لم يسدّد قصده على صيد، وهذا فيه إذا قصد حجراً، فمال السهم عنه.
ولو قصد شيئاً ظنه حجراً، وكان صيداً، فمال السهم عنه إلى صيدٍ آخر، فوجهان، وهذه الصورة أولى بالحلّ من التي قبلها، ولو قصد خنزيراً، وكان خنزيراً، فمال عنه إلى ظبيةٍ، فعلى الخلاف. وهذه الصورة أولى بالتحريم، مما إذا كان المقصود حجراً، ولو ظن المقصود خنزيراً، ولم يكن خنزيراً، ومال السهم، فالخلاف جارٍ، وتفاوت الترتيب في بُدوّ جنس المقصود، ولا معنى للتطويل، وقد لاح منشأ الخلاف في إصابة المقصود في المسائل، وإذا مال السهم، فهذا في أصله مختلفٌ فيه، والمقصود صيد، ثم تختلف صور المقصود، ويقوى ويضعف القصد بحسبها، وينضم إلى ذلك ميل السهم، فترتب المسائل على حسب ضعف القصد وقوته.
11548- ثم ما ذكرناه في الرمي، فلو أرسل كلباً أو أغراه بصيدٍ، فمال عنه إلى آخر، نُظر: فإن أخذ صوباً آخر نابياً عن مقصود المغري، وتبيّن أن الكلب انتحاه بطبعه، ولم يكن استرساله في صوبه بسبب الإغراء، فهو حرام، لا شك فيه، ويظهر الذي أردناه فيه إذا اشتد في الصوب الذي أراده المغري، ثم ثار صيدٌ آخر، فاستدبر الكلبُ الأولَ، وأعرض عنه، وتمطى في صوب صيدٍ آخر بدا له، فأما إذا أغراه على صيدٍ، وكان على السنن صيود، فقد ذكرنا التردّد في ميل السهم المسدّد على صيدٍ منه إلى غيره، وإذا فرض مثل هذا في الكلب، فالخلاف جارٍ، واختلف أصحابنا في الترتيب، فرتب الأكثرون الكلب على السهم، وجعلوا مأخوذ الكلب أولى بالتحريم، فإنه على الجملة حيوان ذو اختيار، وقَصْدُ المغري فيه ضعيف، ما لم يظهر انطياعه، فإذا فرضت مخالفة، ظهر بناء الأمر على اختيار الكلب، بخلاف السهم؛ فإنه لا اختيار له.(18/121)
هذا مسلكٌ لبعض الأصحاب.
ومن أصحابنا من عكس ذلك، وقال: مأخوذ الكلب أولى بالحل؛ لأن تسديد النشابة على معيّن من سربٍ ممكن، وإغراء الكلب على ظبية من سربٍ غير ممكن إذا لم يختلف الصوب والجهة، والدليل على ذلك أن من رمى نشابة، فانقلبت وأصابت بعرضها الطائرَ وقتلته، فهو ميتة؛ لأن ذلك محمولٌ على خُرق الرامي، وإذا ماتت فريسة الكلب تحته ضغطاً، ففي المسألة قولان؛ من جهة أن الكلب لا يمكن أن يعلّم ترك الضغط، [ولا يمكن أن يعلّم الجرح] (1) . وهذا لا بأس به على شرط التثبت في الفرق بين ما ذكرناه وبين أن يأخذ الكلب صوباً آخر بحيث يظهر اختياره، ويسقط انطياعه للإغراء.
فرع:
11549- إذا أخذ الرامي في نزع الترس، فأفلت الوتر، وصدم الفُوقَ، فمرّت النشابة، وأصابت الصيد، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يحلّ، نظراً إلى ابتداء الرمي، واستداده، على وفق القصد.
ومن أصحابنا من قال: لا تحل؛ فإن الرمي جرى، ولم يكن عن قصد، ومثل هذا السهم غير محسوب في أرشاق المناضلة كما سيأتي شرحه. إن شاء الله تعالى.
فرع:
11550- ولو رمى سهماً، وكان السهم مقصراً، ويقع دون الصيد، فصرفته ريح عاصفة فلحق، ففي بعض التصانيف أن الصيد يحلّ، وهذا فيه نظر.
وفي هذا الكتاب على الاتصال: لو أصاب السهم حجراً، فارتد منه، فبلغ الصيدَ بقوة الصدمة، فهل يحل؟ فعلى الوجهين. والفرق أن السهم إذا وقع، فكأنه انتهى، فارتداده أمر مبتدأ، وإذا لم يقع السهم، فصدمته الريح، فهذا محمول على الرمي، والفرق ممكن، والاحتمال مع ذلك قائم في مسألة الريح.
__________
(1) عبارة الأصل: من جهة أن الكلب لا يمكن أن يعلم ترك الضغط ويمكن أن يعلم الجرح. وفي (هـ 2) : من جهة أن الكلب لا يمكن أن يعلّم الجرح، وهذا لا باس به.(18/122)
فصل
قال: " ولو خرج الكلب إلى الصيد من غير إرسال صاحبه ... إلى آخره " (2) .
11551- إذا استرسل الكلب بنفسه، فما يمسكه ويقتله حرام. وإن كان معلَّماً؛ فإنه إذا لم يصدر عن قصد صاحبه، لم يكن آلة له، وتجرّد اختياره، ولو استرسل كما وصفناه، وانطلق، فزجره صاحبه، فلم ينزجر، فأغراه فلم يَزْدَذ حَمْواً، ولم يتأثر، فما يمسكه ويقتله حرام.
فإن زجره فانزجر، ثم أغراه فانتهض وأمسك وقتل، فمأخوذه حلال؛ فإن استرساله انقطع بانزجاره. وانطلاقُه بعد هذا بإغراء صاحبه أمرٌ مبتدأ.
ولو زجره، فلم ينزجر، فأغراه فازداد عدواً، فأمسك وقتل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه حرام نظراً إلى ابتداء [الاسترسال] (3) ، ثم لم ينقطع بالزجر، واشتداده في العدو ليس انطياعاً، وقد يصدر مثله مما ليس معلَّماً من الجوارح.
والثاني - أنه يحل؛ لأنه معلَّمٌ، وقد أثر فيه الإغراء، وهذا التردد له التفات على أن الانزجار بالزجر في أثناء العدو هل يُعتبر في أصل التعليم.
ولو لم يزجره، بل أغراه، فازداد عدواً وحَمْواً، ففي المسألة وجهان، وهذه الصورة أولى بالحِلّ؛ إذ لم يوجد فيها زجر واستعصاء مترتب عليه، ثم إغراءٌ بعده.
وإذا جمعنا إحدى الصورتين إلى الأخرى، انتظم منهما ثلاثة أوجه: أحدها - التحليل، والثاني - التحريم. والثالث - الفصل بين الصورتين، كما أشار إليه الترتيب.
__________
(1) من هنا بدأ العمل معتمداً على ثلاث نسخ، حيث أضيفت نسخة (ت 6) في جزئها الأخير الذي ينتهي بنهاية الكتاب -إن شاء الله- وقد جاء في افتتاح هذا الجزء قوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر ولا تعسر، وتمم بالخير
وما زال الاعتماد على (هـ 2) أصلاً، والنسختان الأخريان مساعدتان.
(2) ر. المختصر: 5/206.
(3) في الأصل (هـ 4) : الإرسال. والمثبت من (ت 6) .(18/123)
11552- وإذا تبين هذا الذي ذكرناه في هذا الحكم، ترتمبا عليه أحكامٌ مماثلة له: منها- أنه إذا أرسل إنسان كلبه، فزجره غيره فانزجر، ثم أغراه، فانطلق، وأمسك، فالقول في أن الممسَك ملك مَنْ؟ ينبني أولاً على اختلافٍ للأصحاب نذكره في أن من غصب كلباً لغيره واصطاد به فالصيد لمن؟ من أصحابنا من قال: هو للغاصب، وهو الصحيح، فإن الاصطياد منسوب إليه، والكلب في حكم الآلة، وكان بمثابة ما لو غصب قوساً ونشاشيب، فاصطاد بها، أو غصب أُحبولة، فنصبها على مدارج الصيود فتعقّل بها الصيد.
ومن أصحابنا من قال: الصيد ملك صاحب الكلب؛ فإنه حيوان ذو اختيار، فكان إمساكه للصيد بمثابة اصطياد العبد، ومن غصب عبداً وأمره بالاصطياد، فاصطاد، فالصيد ملكٌ لمالك العبد.
فإذا تبين الوجهان، بنينا عليهما الترتيب الذي طردناه في الحكم المتقدم، فإذا أغرى الإنسان كلبه، فزجره الغير، فانزجر، فأغراه، فانطلق وأمسك: فإن قلنا: مأخوذ الكلب المغصوب ملك صاحبه، فلا أثر لما جرى من الانزجار والانطلاق، والصيدُ لصاحب الكلب، وإن قلنا: ما يصطاده الكلب المغصوب للغاصب الصائد به، وهو الصحيح، فالصيد في مسألة الانزجار والإغراء ملك الثاني، وليقع التفريع بعد هذا على هذا الوجه الصحيح. فإن زجره الثاني، فلم ينزجر، فأشلاه، فازداد عدواً، أو لم يزجره بل أغراه، فازداد عدواً، ففي الصورتين الأوجه الثلاثة، غير أنها في تعيين المالك (1) ، والأوجه الثلاثة في الحكم الأول في الحل والحرمة.
فإن قيل هلا ذكرتم [وجهاً] (2) أنهما يشتركان؟ قلنا: لا يمتنع في القياس خروج هذا الوجه في الملك، ولا ينتظم في الحل والحرمة إلا أحدهما، فإن فرض اجتماع سبب الحل والحرمة نوجب الحرمة، فيعود الكلام إلى التحليل والتحريم. وإذا كان
__________
(1) أي يكون الملك لصاحب الكلب في الصورتين في وجه، وللصائد في وجه، ويفرق بين الصورتين في الوجه الثالث.
(2) في الأصل: " وجهين ".(18/124)
الكلام في تعيين المالك، اتجه التشريك بإثبات الأثرين، والجمع بين المقتضيين.
وممَّا يتفرع على هذه القاعدة أن المسلم لو أرسل كلباً، فأغراهُ في أثناء العدو مجوسي بعد الزجر أو قبله، فتنتظم الأوجه، وكذلك لو أرسل المجوسي أولاً، ثم أغراه المسلم، فهذه المسائل تتناظر، ولا معنى للتطويل بإعادتها؛ فإن مأخذ جميعها واحد.
والذي يتعلق بفقه هذا الفصل أن الكلب لو استرسل بنفسه ثم أغراه صاحبه في أثناء العدو، فإن قلنا: الاعتبار باسترساله، فلا كلام. وإن قلنا: الاعتبار بازدياد العدو منه عند الإغراء في الأثناء، فلو أكل الكلب من الفريسة -والتفريع على أن الفريسة لا تحرُم بالأكل إذا لم يتكرر- فالاحتمال يظهر في هذه الصورة، فإنه تبين أنه لم يلتفت على صاحبه، ويضعف بهذا أثر إغرائه في الأثناء.
ولو استرسل الكلب بنفسه، وأثبت الصيدَ وأكل منه، لم يؤثر هذا في خروجه عن التعلم وإن تكرر؛ فإنه استرسل بنفسه، وإنما يُرعى انكفافه إذا كان استرساله بإرسال صاحبه على حكم الانطياع له، وهذا واضح لا شك فيه.
فصل
قال: " وإذا ضرب الصّيد، فقطعه قطعتين ... إلى آخره " (1) .
11553- مقصود هذا الفصل الكلام فيه إذا ضرب الصيدَ بسيف أو غيره، فأبان منه عضواً؛ فإن صار بالإبانة إلى حركة المذبوح، فنحكم بتحليل الصّيد، والعضوِ المبان منه، وتعليلُه بيّن؛ فإن الإبانة صارت [ذبحاً] (2) مجهزاً.
ولو أبان عضواً، فبقي الصّيد حيّاً، وذُبح لَمَّا قُدر عليه، فالعضو المبان بالضربة الأولى محرم؛ فإنّه أبين من حيٍّ، وما أبين من الحيّ، فهو ميّت، وقد تبين أن الإبانة لم تكن ذبحاً، ويستحيل فرض جُرح لا يكون ذبحاً للأصل، ويكون ذبحاً للعضو.
__________
(1) ر. المختصر: 5/206.
(2) في الأصل، (هـ 4) : منحراً منجزاً.(18/125)
ولو حصلت الإبانة في العضو وفي الصيد حياة مستقرة، ثم مات الصيد قبل أن يُدرك من غير فرض تقصير في الطلب، أمَّا الصّيد دون العضو، فمباح، وفي العضو وجهان: أصحهما - التحريم؛ فإن الإبانة [لم تُفد حلّ] (1) العضو لما وجدت، وإن تمَّ التذفيف في العضو، فيستحيل أن ينعكس من موت الصيد عليها حكمٌ.
والوجه الثاني - أن العضو المبان حلال [فإنا تبّينا] (2) أن الإبانة ذبحٌ للحيوان، فيجب أن يكون ذبحاً للعضو.
ولو أبان العضو في الصورة التي إليها الانتهاء، ثم رمى إلى الصيد بنشَّابة أخرى.
فإن كانت مذفِّفةَ، حلّ الصيد، إذا لم يَصر مُزمَناً بالإبانة الأولى، والعضو المبان محرّم؛ فإن الرمي ذبح إذا كان مجهزاً في نفسه، لو فرض وحده، وقد ذكرنا أن الصَّيد لو ذبح، فالعضو المبان أولاً حرام، ولو لم تكن الجراحة بالسَّهم مذفّفة، بل استعقبت الجراحة الواقعة به حياةً مستقرةً، ثم حصل الموت بالإبانة الأولى وبالإصابة الثانية، ولا إزمان بالجرح الأول، أما الصّيد فيحل، وفي العضو المبان وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا لم يُحدث بعد الإبانة جَرحاً، والصورة الثانية أولى بتحريم العضو؛ فإنّ الأبانة لم تتجرّد ذبحاً للصيد، بل انضمّ إليها جرح آخر، بخلاف ما إذا تجردت الإبانة، فإنها بانت ذبحاً في الصيد آخراً، فيجوز أن تكون مُحِلةً [للعضو] (3) .
وغائلة هذا الفصل أنا إن حكمنا بتحريم العضو، وهو القياس، فلا كلام، وإن حكمنا بإحلال العضو عند إفضاء الإبانة إلى موت الصيد، ففي ذلك وقفة: أنقول: يحل العضو عند موت الصيد وكان حراماً قبلُ، أم نقول: نتبين عند موت الصيد حِل العضو استناداً إلى حالة الإبانة؟ وهذا مشكل؛ [فإنا] (4) لو لم نستند، وحكمنا بأن الحل يحصل عند موت الصيد، فموته لا يُغيّر صفة العضو، وإن حكمنا بالاستناد،
__________
(1) في الأصل: " لم يتداخل ".
(2) في الأصل: " فإذا تبينا ".
(3) في الأصل: " في العضو ".
(4) في الأصل: " فأما ".(18/126)
بعُد جدّاً أن [يحل] (1) عضوٌ مبان من حيوان، وفي الحيوان بعدُ حياة مستقرة، وغموض هذا الإشكال في التفريع يُشعر بفساد الأصل.
ثم إذا حصل التنبيه للتردد الذي ذكرناه، فالوجه الحكم بتحليل العضو عند موت الصيد؛ فإن الذبح يحصل عند زهوق الروح، فإذ ذاك نُثبت للجزء حكمَ الجملة، هذا هو الذي يصح، والإشكال قائم، وهو داعٍ إلى فساد الأصل الذي عليه التفريع.
فصل
قال: " وأي أبويه كان مجوسياً ... إلى آخره " (2) .
11554- هذا فصل قدمنا ذكره في النكاح في أحكام المناكحة، والقول في تحليل المناكحة يجاري القولَ في تحليل الذبيحة، فهما متواخيان لا يفترقان، إلا في الأَمَة الكتابية؛ فإن نكاحها حرام وذبيحتها حلال، والسبب فيه أن للرق أثراً في المنع من النكاح، فأثَّر انضمامُه إلى الكفر، ولا أثر للرق في الذبيحة أصلاً، فكانت الرقيقة في الذبيحة كالحرة.
ومقصود الفصل الآن تفصيل القول في المتولد بين كتابي ووثنية، أو من بين وثنيّ وكتابية، والتفصيل المُبِين فيه أن المتولد من بين وثني وكتابية لا تحل ذبيحته، ولا يحل نكاحه، وفي المتولد من بين كتابي ووثنية قولان. وإن أردنا العبارة عن القولين في الصورتين، قلنا: أحد القولين أن التوثن في أي طرف فُرض أو التمجس - على الرأي الظاهر- يثبت حرمة المناكحة والذبيحة. والقول الثاني- أن الاعتبار بالأب: فإن كان كتابياً، فحكم الولد حكمه في المناكحة والذبيحة، وإن كان وثنياً، فحكم الولد حكمه. وهذا ذكرناه في النكاح.
والذي نُريده أنا إذا ألحقنا الولد بالوثني قولاً واحداً، فقد بان حكمه في الحال، فلو بلغ ودَان بدين أهل الكتاب، واتبع أمه الكتابية، ففي المسألة وجهان: أحدهما -
__________
(1) في الأصل: " يحصل ".
(2) ر. المختصر: 5/207.(18/127)
أنا نحكم الآن له بحكم أهل الكتاب. والثاني -وهو الأصح- أنا لا نحكم له بحكم أهل الكتاب؛ فإنّا قضينا له بالتوثن، فيدوم هذا الحكم له، فإذا دان بالكتاب بعد البلوغ، كان كوثنيّ يتهوَّد، أو يتنصّر، ولا شكّ أن التَّهَوُّدَ والتَّنَصُّرَ بعد مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يثبت حُرمة. والقائل الأول يقول: إن حكمنا له في حالة الصغر بالإلحاق بالأب فَلدِين الأم من الحرمة ما يثبت له حكمَ الاستمساك بالكتاب بعد البلوغ، ثم إذا وقع التفريع على هذا، فلا وجه إلا الاستناد، والقضاء بأن الأمر كان موقوفاً إلى أن نتبين ما يدين به بعد البلوغ. وهذا ضعيف غير متجه.
فصل
قال: " ولا يؤكل ما قتلته الأحبولة ... إلى آخره " (1) .
11555- إذا نُصب في الأحبولة مِنجَل، فقد يتعقل الصيد بالأحبولة، ثم يتعقر الصّيد بالمنجل، فإذا فرض ذلك، ثم أفضى العَقْر إلى هلاك الصّيد، فهو حرام، لم يختلف الأصحاب فيه، والسبب في ذلك أنه لم يتّصل بالعَقْر الحاصل فعلٌ يُنسب العقر إليه، وليس وضع المنجل عقراً به، بل الصيد هو الذي يتعقر بحركات نفسه، والمنجل ينحط ويرتفع. ومن أحاط بما ذكرناه من اشتراط الفعل، ثم اشتراط القصد بعده لم يخف عليه تعليل ذلك.
فعلى هذا قال الأئمة: إذا كان في يد الإنسان سكّين حادٌ، فانتحرت به بهيمة، ولم يحرّك صاحب السكّين يدَه، فالبهيمة تحرم وإن حصل القطع في حلقومها ومَريئها، ولو كان صاحب المُدْية يحركها، وكانت البهيمة تحك حلقَها، فحصل قطع الحلقوم والمرّيء بتحاملها، وتحريك صاحب السكين يده، فالوجه التحريم لاشتراك البهيمة والذابح.
وقد يرد على ما ذكرناه أن من أضجع شاةً ليذبحها، فإذا أمرّ السكين، فقد يضطرب المذبح تحت السكين اضطراباً يؤثر في القطع، ولو قيل قد لا تخلو شاة عما
__________
(1) ر. المختصر: 5/207.(18/128)
وصفناه، لم يكن بعيداً، ففتح هذا يوجب تحريماً في معظم الذبائح؟ قلنا: هذا في التصوير غير سديد؛ فإن الشاة إذا رُبطت فمسّها حدّ السكين، فإنها تَخنِس الحلقومَ بطباعها، ولعل من يغفل عن التحرّز إذا أصاب عضواً منه مؤلمٌ انزوى عنه، فإذا [كان] (1) الأمر كذلك فلا يمكن ادعاء عموم حركتها في استقبال المُدْية، وما يفرض من اضطراب فهو بعد فَرْي الحلقوم والمريء، فلا أثر له.
فإن صوّر مصور اضطراباً يُعين على القطع قبل تمام القطع، فهذا مما يجب التحرّز منه، فإن ظهر فعل الذابح [وقُدر أمر خفيٌّ] (2) يجري مثله في الوساوس، فالتعويل على فعل الذابح، وإذا ذكرنا فصول الذبح، انكشف تمامُ الغرض.
11556- والصبيّ الذي لا يميّز إذا أمرّ سكيناً على حلقوم طائر وقطع ما يجب قطعه، فهو ميتة، ولا حكم لفعله؛ إذ لا قصد له، والمجنون الذي لا قصد له بهذه المثابة، والصبي المراهق إذا ذبح، فالأصح تحليل ذبيحته، وفي بعض التصانيف ذكر خلاف فيه من حيث إن الشرع سلب حكمَ قصده، ويمكن تقريب هذا من اختلاف القول في أن الصبي هل له عمد في القتل، حتى يجب بسببه الديةُ في ماله، والقصاص على شريكه في القتل.
وأما المجنون، فلا قصد له، فلو انتظم منه الذبحُ على موجَب الشرع، فالوجه القطعُ بتحريم ذبيحته لسقوط قصده، كما ذكرناه في الصّبي الذي لا يميز، وفي بعض التصانيف أن المجنونَ إذا نظم الذبحَ على وجهه، كان ذبحه مبيحاً، وهذا لم أرَه إلا في هذا الكتاب، ووجهه على بعده أن ما يصدر منه لا ينقص عن قطع الإنسان شيئاً ليناً يحسبه حشيَّةً أو خشبة، ثم يتبين أنه حلقوم شاة، وقد ذكرنا أن هذا يُحل الذبيحة. ثم إن فرض مثلُ هذا عن الصبي الذي لا يميز، وقد ينتظم فعلاً كما صوّرناه من المجنون، فسبيله سبيل المجنون.
__________
(1) زيادة من المحقق، ومما يحيك في الصدر سقوطها من النسخ الثلاث.
(2) في الأصل: " وقد رام أمر خفي ".(18/129)
فصل
قال: " والذكاة وجهان ... إلى آخره " (1)
11557- قسَّم الشافعيُّ الذكاة إلى ما يقع في المقدور عليه، وإلى ما يفرض في الشوارد، وهذا الانقسام بيّن، فالذبح في المقدور عليه في الحلقوم والمريء، كما سنعقد في ذلك فصلاً، إن شاء الله.
فأمَّا الحيوان الذي لا يُقدر عليه، فإن كان صيداً، فالذكاة فيه بآلة وحيوان صَيُودٍ معلّم، كما تمهّد.
ولو شردت بهيمةٌ إنسيّة الجنس، فقاعدة المذهب أنها قد تلتحق إذا شردت بالصيد الأَبِد (2) ؛ حتى تكون إصابتها بالجرح في غير المذبح ذكاة كما في الصيد، وقال مالك (3) : الاعتبار بجنسها، ولا تحصل ذكاتها إلا في الحلقوم والمريء، وقد رد الشافعي عليه بأن قال: لو كان المعتبر الجنس، لوجب أن يقال: الظبية الآنسة تحل بالجرح من غير قطع الحلقوم، والمريء، وهذا لا قائل به، فليقع التعويل على صورة القدرة، والإفلات، فالحيوانات في الحكم الذي نطلبه مذبوحات، ونحن نتبع أحوالها في القدرة والشِّراد، ثم الغرض التعذر لتعذّر الوصول إلى مذبح الحيوان الآنس في جنسه.
ونحن نذكر في ذلك صورتين: إحداهما- أن البهيمة لو تنكست في بئر وعسر الوصول إلى مذبحها، وتعذر إخراجها، ولو تُركت، لهلكت، فيجوز الطعن في الأجزاء الظاهرة منها، ويكون ذلك ذبحاً فيها، والسبب فيه تحقّقُ التعذّر، ولهذا المعنى حلّت الصُّيود بهذه الجراح، ثم يعتمد المذهب بما هو الأصل في تمهيد غرض الفصل، وهو ما رُوي: " أن رجلاً يعرف بأبي العُشراء تردّى له بعير في بئر، وهلك،
__________
(1) ر. المختصر: 5/207.
(2) الأبد بالموحدة التحتية: من أَبِد إذا توحش، فهو أبد. (المعجم) .
(3) ر. حاشية العدوي: 1/522، حاشية الدسوقي: 2/103.(18/130)
فرُفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي العُشَرَاء (1) : " وأبيك لو طعنت في خاصرتها، لحلّت لك " (2) ثم ما ذهب إليه المحققون، وهو اختيار القفال أنه لا بد من جرح مُذفِّف، وينزل منزلة قطع الحلقوم والمريء في الحيوان المقدور عليه، وليس يخفى أن قطعهما لا يعقب حياة معتبرة، فليكن الجرح بمثابة قطعهما.
ومن أصحابنا من قال: يكفي الجرح المدمي الذي يجوز وقوع القتل به. وهذا القائل يستمسك بظاهر الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وأبيك لو طعنت في فخذها، لأجزأتك " ولم يفصل بين طعن وطعن، والقائل الأول ينفصل عن هذا، ويقول ذِكْر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة (3) يدل على اعتبار التذفيف؛ فإن الخاصرة مقتل.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث جعل إمام الحرمين المخاطَب أبا العشراء، وهو وهم نبّه إليه الحافظ في التلخيص قائلاً في تنبيه له حول هذا الحديث: " وقع لإمام الحرمين وهمٌ؛ فإنه جعل المخاطب بذلك أبا العشراء الدارمي (والحديث لا يعرف إلا عن أبي العشراء عن أبيه) ثم قال الحافظ: ويجوز أن يكون ذلك من النساخ، كأن يكون سقط من النسخة " عن أبيه " ا. هـ (ر. التلخيص: 4/148) طبعة الكليات الأزهرية ".
قلت- عبد العظيم: وهذا عجيب من الحافظ، فقد وقع لإمام الحرمين أوهام دون ذلك فكان يعنف بسببها على الإمام، ويستخدم أقسى الألفاظ وأعنفها، مع أن الحمل على خلل النساخ كان فيها أشد ظهوراً، مثلما وقع في نسبة أم سليم أم أنس حين جاء في إحدى النسخ من كتابنا هذا أنها جدة أنس، فأغلظ الحافظ للإمام الإغلاظ كله هناك ولم يحملها على خطأ الناسخ -مع أنها كانت كذلك- كما فعل هنا. وسبحان علام الغيوب الذي يحيط وحده بأسرار القلوب.
(2) الحديث أخرجه أصحاب السنن وأحمد من حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه، وقد ضعفه الألباني (ر. أبو داود: الأضاحي، باب ما جاء في ذبيحة المتردية، ح 2825، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في الزكاة في الحلق واللبة، ح 1481، النسائي: الضحايا، باب المتردية في البئر التي لا يوصل إلى حلقها، ح 4408، ابن ماجه: الذبائح، باب ذكاة النادّ من البهائم، ح 3184، المسند: 4/334، التلخيص 4/148، الإرواء: 8/168 ح 2535) .
(3) تعقب ابنُ الصلاح الغزالي في الوسيط، وأنكر عليه لفظ الخاصرة، فتعقب الحافظ ابن الصلاح، فقال: (أنكر ابن الصلاح لفظ الخاصرة على الغزالي، والغزالي تبع فيه إمامه، ولا إنكار؛ فقد رواه الحافظ أبو موسى في مسند أبي العشراء له بلفظه: لو طعنت في فخذها أو=(18/131)
هذا كلامنا في هذه الصورة.
ويتصل بما ذكرناه أمرٌ في الصّيد، وهو أن من رمى صيداً ولم يذفف، فهل يلزمه أن يرمي وهكذا إلى أن ينتهي إلى التذفيف أو يعجز؟ هذا أولاً في تصويره عُسرٌ؛ لأن الطلب وقطع الحلقوم والمريء أيسر من إتباع الرّمي الرَّميَ، والصيدُ منطلق؛ فإن تصور امتناع الطلب في الحال وإمكان الرّمي، فهذا موضع الكلام، وفيه اختلاف: من أصحابنا مَن قال: لا يجب (1) إتباع الرّمي الرَّميَ، ومنهم من أوجبه للانتهاء والتذفيف، وهذا مرتَّب على البهيمة المتنكسة. والصورة الأخيرة أولى بألا يجب طلب التذفيف فيها؛ فإن التمكن لا يتم مع الصَّيد المنطلق، بخلاف الحيوان المتنكس.
فهذا بيان صورة مما وعدناه.
11558- الصورة الأخرى وهي إذا نَدَّ بعيرٌ أو شردت شاةٌ، نُظر: فإن كان شرادها يُفضي بها إلى مهلكة أو مسبعة، فسبيل الشارد -والحالة هذه- كسبيل الصّيد، فيجوز أن يقصد بالآلات، ويجوز أن تُغرى به الجارحة المعلَّمة، ولو كان لا يُفضي شرادها إلى مهلكة، وربما كان تسكن، فتدرك، فالظاهر عندي أن الذبح لا يحصل بالجرح في غير المذبح؛ فإن هذا القدر إلى زوال، فلا حكم له. وفي كلام أصحابنا ما يدل على أنه إذا تحقق الشراد، فيجوز ذبحه بالجرح حيث يُصيبه؛ فإنه رُبَّما يبغي الذبح في الحال، فلا نكلّفه الصبر إلى أن يزول الشراد.
ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه من الشراد، لم نَعن به أدنى إفلاتٍ يتصوّر معه
__________
=شاكلتها، وذكرت اسم الله لأجزأ عنك، والشاكلة: الخاصرة، وقال الشافعي: " تردي بعير في بئر، فطعن في شاكلته، فسئل ابن عمر عن أكله، فأمر به ... ".
وروى ابن الجارود وابن خزيمة من حديث رافع بن خُديج في حديثه المشهور الآتي، قال: " إن ناضحاً تردى في بئر بالمدينة، فذكي من قبل شاكلته، فأخذ منه ابن عمر عشيراً بدرهم ".
ا. هـ (ر. تلخيص الحبير: 4/149 طبعة الكليات الأزهرية) .
قلت: ولا يسلم من الوهم أحد، فابن الصلاح يتعقب أوهام الإمام والغزالي، فيقع في أخطرَ منها.
(1) هـ 4: " لا يجوز ".(18/132)
لُحوقُ المُفلِت بعدوٍ أو استعانة بمن يستقلّ على الاعتياد في مثله. وإذا قُلنا: مجرد الشراد لا يجعل الجَرْح في غير المذبح ذبحاً إذا كان لا يُفضي بالشارد إلى الهلاك، فلو كان يُفضي به إلى الوقوع بين ظهراني لصوص مترصدين أو غُصاب، فعلى هذا الوجه وجهان. وقد نجز الغرض في الصورتين وتمَّ ببيانهما مقصود الفصل.
فصل
قال: " ولو رمى صيداً فكسره ... إلى آخره " (1) .
11559- إذا رمى صيداً فكسره، وأَثبتَه، وأبطل امتناعه بشدة العدو، أو رمى طائراً، فكسر جناحه، فقد ملكه، ولا يتوقف ثبوت الملك فيه على الانتهاء إليه، وإثبات اليد عليه، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ثم من حكمه وقد صار مُثْبَتاً أن يقال: إن انتهى إلى حركة المذبوح لمَّا أُثبت، فهو حلال، وإن كانت فيه حياة مستقرة، فينبغي أن يطلبها من أثبتها وملكها، على ما تفصّل ذلك فيما مضى، وإذا أدركه، ذَبَحه بقطع الحلقوم والمريء.
11560- فإذا تمهّد ذلك، فلو أثبته وصار مذبوحاً، فرماهُ آخر فَرمْيُه صادف ذكياً، ويعود النظر إلى أثر هذا السّهم في جلده بالتمزيق أو ما شابه هذا، ولا معنى للتشاغل بمثل ذلك.
وإن كان في الصيد المثبَت حياةٌ مستقرة، فرمى الثاني، نُظر: فإن أصاب الحلقوم والمريء بالآلة التي رماها وقطعها (2) ، فهذا ذبح على التحقيق، ولكنه جناية على ملك غيره، فنقول: كم قيمة هذا الصَّيد مثبتاً فيه حياة؟ وكم قيمتها إذا ذبحت؟ فإن كان بين القيمتين تفاوت، ألزمنا الرامي الثاني ذلك التفاوت.
وعندي أن الحيوان إذا كان لما به من الجرح ولو لم يذبح، لهلك وفات، فالذبح
__________
(1) ر. المختصر: 5/207.
(2) كذا في النسخ الثلاث (وقطعها) بضمير المفرد المؤنث، وهو صحيح على معنى الجمع.(18/133)
لا ينقص منه شيئاً. نعم، يمكن فرض إثبات تُتَصور الحياةُ معه، فإذ ذاك يظهر (1) التفاوت. هذا إذا أصاب الحلقوم والمريء وقصده.
وقد ينشأ من هذا الكلام تردّد في شيء، وهو أن من رمى إلى شاته الربيطة آلة جارحة، فأصابت الحلقوم والمريء وفاقاً وقطعتهما، ففي حِل الشاة نظر، مع القدرة على إمرار السكّين على الحلقوم والمريء، ويجب أن يفرق بين أن يقصد المذبح بالآلة التي يرميها وبين أن يقصد الشاة فيُصيبَ المذبح، والاحتمال يتطرق إلى جميع ذلك، "فالصّيد المُثبَت إذا رماه إنسان، فقطع حلقومَه ومريئه، فهو يقع في التردّد الّذي نَبّهنا عليه.
ولو أثبت الأولُ الصّيد، كما صوّرناه، وفيه حياة مستقرة، فرماه الثاني، ولم يُصب المذبح، فهذا يفرض على صورتين: إحداهما- أن تكون الجراحة الثانية على غير المذبح منجزة مهلكة، والأخرى ألا تكون منجزة، فإن كانت منجزة، فيصير الصّيد ميتة، لأن هذا جرح في غير المذبح مع القدرة على المذبح.
ولو لم يكن الجرح منجزاً، واتفق تركه حتَّى مات بالجرحين، فهو ميتة أيضاً، ويترتب على ذلك أن الأول ملك الصّيد بالإثبات، والثاني أفسده بالجرح، وحكم الإفساد التزام الضمان.
11561- ولا مطلع على المقدار الذي يلتزمه إلا بعد تقديم أصل مقصود في نفسه، ونحن نذكر ما يتعلق به، ثم نعود إلى مسألة الصّيد من حيث قطعنا الكلام.
فأما ما نقدمه فنقول: إذا جنى رجل على بهيمة أو عبد والقيمة عشرة، وقد نقص بالجرح دينار، ورجعت القيمة إلى تسعة، ثم جاء جانٍ آخر، وجنى عليه جناية أرشها دينار، فسرت الجراحتان وأفضيتا إلى هلاك الصّيد، فما الّذي يجب على كل واحد منهما؟ اضطرب أصحابنا في هذه المسألة، وذكروا أوجُهاً مشهورة.
والرأي عندنا أن نذكر ما قيل نقلاً، ثم نبحث بعد النقل عن الحقائق: فأحد الوجوه -أن الأول يغرم أرش جراحته، وهو دينار، ويغرم الثاني أيضاً أرش جراحته، وهو
__________
(1) ت 6: " فإن ذلك قد يُظهر التفاوت ".(18/134)
دينار فيما قرّرناه، ثم ما يبقى من القيمة بعد حط الأرشين عنهما يقسم على الجارحَيْن نصفين، فيخرج منه أن الأول يلتزم ديناراً، وهو أرش جراحته، والثاني يلتزم ديناراً وهو أرش جراحته، والباقي وهو ثمانيةُ دنانير عليهما نصفان، فيغرم الأول إذاً خمسة دنانير عن حساب الأرش وما يصيبه من القيمة، وكذلك الثاني.
ووجه هذا الوجه أن جراحة كل واحد منهما أثرت في تنقيص [القيمة] (1) فاستبد كل واحد بأرش النقص المحال على جراحته، ثم القتل بعد هذا الاعتبار يقع بسراية الجراحتين على مقتضى الاشتراك، فيقتضي استواءَهما فيما يقابل الموت.
11562- والوجه الثاني - أنه يجب على الأول خمسةُ دنانير، ويجب على الثاني أربعة دنانير ونصف، ووجهه أن اعتبار الأرش والجراحتان ساريتان أفضيتا في العاقبة إلى الهلاك باطل؛ فإن النظر إلى الأرش إنما يتجه عند فرض الاندمال وخروج الجراحات عن كونها قتلاً، وهذا أصل متمهد في الجنايات على الأحرار والعبيد والبهائم، فإذا بطل اعتبار الأروش، لم يبق إلا النظر إلى انتسابهما إلى القتل، وإذا كان كذلك، فالأول صدرت منه الجناية وقيمة العبد عشرة، فألزمناه نصف القيمة بحساب العشرة، والثاني جنى وقيمة العبد تسعة -وقد أبطلنا اعتبار الأرش- فنُلزمه نصف قيمة العبد يوم الجناية، وهي أربعة ونصف، وما ذكره هذا القائل من إسقاط الأرش وإبطال اعتباره فقيهٌ، ولكن أداء الوجه إلى إسقاط نصف دينار من قيمة العبد، وهما الجانيان، ولا سبب سوى جنايتهما محالٌ، على ما سيصرح البحث إن شاء الله.
11563- والوجه الثالث -وهو منسوب إلى اختيار القفال- أنا نوجب على الأول خمسة دنانير ونصفاً، ونوجب على الثاني خمسة دنانير، وتعليل ذلك أن جناية الأول نقصت من القيمة ديناراً، وكذلك جناية الثاني، وانتسب كل واحد منهما إلى قتل نصف العبد، فقلنا: يسقط نصف الأرش في حق كل واحد باعتبار انتسابه إلى قتل النصف، والقاتل لا يغرم بحساب الأرش، ولا يندرج نصف الأرش في حق كل واحد
__________
(1) زيادة من المحقق، وسقطت من النسخ الثلاث.(18/135)
منهما تحت ما يُنسب من القتل إلى صاحبه، والحساب على التنصيف بينهما، فاقتضى هذا تثبيت نصف الأرش على كل واحد منهما، ثم يضم إلى ذلك إيجاب نصف القيمة على الأول، نظراً إلى قيمة يوم الجناية، فيجتمع عليه خمسة دنانير ونصف، ونضمُّ إلى ما ألزمنا الثاني من الأرش نصف القيمة باعتبار يوم الجناية، فيجتمع عليه خمسة دنانير، ويتحصل من المجموع ما ذكرناه.
وهذا الوجه ضعيف أيضاً لما سنذكره في المباحثة إن شاء الله، وهو مؤدٍّ إلى غلط في الحساب؛ من جهة الزيادة؛ إذ قيمة العبد عشرة، وقد ألزمناهما عشرةَ دنانير ونصفاً، واعتذر القفال عن هذه الزيادة بأن قال: ترتيب الجنايات يجري مثل ذلك، فإن من قطع يديْ عبدٍ -والتفريع على أنه يلتزم تمام قيمته- فإنا نُلزمه القيمة التامة، ثم لو جاء جانٍ ثانٍ وقتله تجهيزاً، فنلزمه قيمته مقطوع اليدين، فيحصل للسيد من الجنايتين قيمة العبد وزيادة.
11564- وحكى العراقيون وجهاً رابعاً ناشئاً من المباحثة التي رَمزنا إليها في استنكار وجوب الزيادة، ونسبوه إلى أبي الطيب بن سلمة، [قال أبو الطيب] (1) فيما حكوه:
نقدّر على الأول نصفَ القيمة يوم الجناية ونصف الأرش، وكذلك على الثاني، كما ذكرناه في الوجه الثالث، ثم نجمع ما عليهما تقديراً ونقسم قيمة العبد على ذلك المبلغ، بعد البسط الذي يقتضيه مسلك الحساب، ونوجب على كل واحد من العشرة بنسبة تلك القيمة، فيتفاوت ما عليهما، ولا مزيد على العشرة.
وبيان ذلك أن أرش جناية الأول إذا كان ديناراً، وكذلك أرش جناية الثاني، فالذي يخرجه حساب الوجه الثالث عليهما عشرة ونصف، على الأول خمسة ونصف وعلى الثاني خمسة، فنبسط المبلغ أنصافاً، فيصير أحداً وعشرين، فنقسم العشرة على أحدٍ وعشرين، ونقول على الأول أحد عشر جزءاً من أحد وعشرين جزءاً من عشرة وعلى الثاني عشرة أجزاء من أحد وعشرين جزءاً من العشرة.
وهذا الوجه فيه اعتبار لطيف في فنّه مُؤَدٍّ إلى ترك الزيادة على القيمة.
__________
(1) زيادة من: (هـ 4) ، (ت 6) .(18/136)
ولا حجة فيما استشهد القفال به من قطع اليدين، والقتل بعده؛ فإن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، [والقتلُ] (1) بعد قطعه مُلحِقٌ قطعه بالاندمال، فليست تلك الصُّورة نظيراً لمسألتنا.
11565- وذكر صاحب التقريب وغيره من المحققين وجهاً خامساً لا يصح عندنا على السبر غيره -وفتواه- (2) أنه يجب على الأول خمسة دنانير ونصف، ويجب على الثاني أربعة دنانير ونصف، ولا يتوجه هذا الوجه إلا بمسلك المباحثة وإنعام النظر في الوجوه المتقدمة.
وسبيل افتتاح الكلام أن نقول: إذا جرحا وسرت الجراحتان، فهما قاتلان، والجراحتان قتلٌ، ولا ينتظم على القواعد الالتفاتُ إلى الأرش مع كون الجارح قاتلاً.
ولو ذهبنا نبسط هذا، لكان تطويلاً، ولا ينتهي إلى هذا الموضع ناظر مدركٌ إلا وقد أحاط بهذا [الأصل] (3) وإن خطر للفطن تفاوت الأرشين، من جهة أن أرش النقص الأول عُشرٌ بالإضافة إلى العشرة، وأرش الجرح الثاني تُسع بالإضافة إلى قيمة العبد بعد الجرح الأول، فلا حاصل لذلك؛ فإن هذا نظر في تفصيل الأرش، وأصلُه باطل مع انتسابهما إلى القتل.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنهما لو جرحا معاً، وكان جرح أحدهما بحيث لو انفرد، لنقص من القيمة عشرها، أو كان أرشها عشراً، وكان جرح الثاني أفظعَ وأفحشَ بحيث لو انفرد، لنقص من القيمة خَمْساً، فإذا أفضى الجرحان إلى الهلاك، فلا نظر إلى [الجرحين] (4) وتفاوتهما في المقدار، ولكنا نجعلهما قاتلين، غير أن الجرحين وَقَعَا معاً، وصارا قتلاً، فالقيمة موزَّعة على الجارحين بالسّوية، فيجب إخراج اعتبار الأرش من البين، وكل وجه مبناه على اعتبار الأرش، فهو ساقط.
__________
(1) سقطت من الأصل وحدها.
(2) كذا في النسخ الثلاث، وهي مستقيمة صحيحة، فلا يذهب الظن أنها مصحفة عن (وفحواه) .
(3) في الأصل، و (هـ 4) : " الفصل ". والمثبت من (ت 6) .
(4) في النسخ الثلاث: الأرشين. والمثبت من نسخة أخرى أثبتت بهامش (هـ 4) .(18/137)
ولكن إن وقع الجرحان معاً، جعلنا الجارحين كالقاتل الواحد، وقسطنا القيمة عليهما، وإن وقع الجرح الثاني مرتباً على الأول، فينشأ من هذا أنا نعتبر في حق كل واحد القيمةَ التي كان العبد عليها عند اتصال الجرح به مع إحباط النظر إلى الأرش.
ولكن يعترض مع هذا إشكال هو منشأ الاضطراب، وهو أنا لو وفينا هذا القياس حقَّه، لأوجبنا على الأول خمسة وعلى الثاني أربعة ونصفاً، وهذا يُفضي إلى إسقاط جزء من قيمة العبد، وهو محالٌ؛ فإنَّ فوات العبد محال على الجرحين، فالوجه أن نتأنق في طلب نصف دينار من غير أن نحوّم على الأرش، فنقول: الأول لو انفرد بالجرح، وصار جرحه قتلاً، لالتزم العشرة، فلما جرح الثاني، وقد ظهر نقصٌ في القيمة، استحال أن نلزمه أكثر من نصف القيمة التي كان العبد عليها يوم جنايته، هذا ما يقتضيه حكم القيمة، والعبد يختص عن الحر بارتفاع القيمة وانحطاطها؛ فإنَّ الشرع تولى تقديرَ بدل الحر، فلا يفرض انحطاطه.
فنقول: أوجب القياس ألا نوجب على الثاني إلا نصف القيمة [الناقصة، وكأن الأول منتسب إلى القتل والتفويتِ إلا في المقدار الذي يفرض لالتزامه الثاني] (1) .
فذاك مقتطع عن الأول والثاني منسوب إليه، وليس ما التزمه من الزيادة أرشاً، وإنما هو يترتب على شيئين: أحدهما - زيادة القيمة يوم جنايته والثاني - نقصانها يوم جناية الثاني، وامتناع إضافة الزيادة إلى جناية الثاني؛ فإنه يشارك في قتل عبدٍ قيمته تسعة، فتحصّل من مجموع ذلك أن التفاوت بين النصفين على الأول وما اقتضاه الحساب من قسمةٍ، فهو في عهدة الأول، فعلى الثاني نصف قيمة العبد مجروحاً الجرح الأول، وعلى الأول ما تتم القيمة به.
11566- ثم ينشأ من هذا التوجيه وجه النظر في الوجوه التي قدمناها: أمَّا من قال: على الأول دينار، وعلى الثاني دينار، والباقي بينهما، فهذا الوجه يتضمن إثبات الأرش مع حصول القتل بالجرحين، وهذا مصادمة أصل عظيم، لا سبيل إلى مخالفته، وهو أن الأروش يسقط اعتبارها مع إفضاء الجرح إلى زهوق الروح.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من نسخة الأصل وحدها.(18/138)
والقول الوجيز في تحقيق ذلك أن الأرش معناه تمييز مقدارٍ واجبٍ بالجناية على الجملة، وهذا من ضرورته أن ينفصل الجرح عن الإزهاق، فإذا أدى إليه، كان الجرح مع السراية بمثابة حزّ الرقبة، فإن فرضت شركة، فالشركاء كالقاتل الواحد.
هذا وجهٌ بيّنٌ في ضعف هذا الوجه، ثم النظر في العاقبة يوضح فساد الأصل؛ فإنَّ الثاني التزم ما التزمه الأول مع أن الجناية الأولى صادفت كمالاً في القيمة، والجناية الثانية صادفت نقصاناً فيها، ولا سبيل إلى اعتقاد الصحة في هذا على الجملة إلى أن نسبر. فإن ظن ظانّ أن استواءهما من قبل أن أرش أحد الجرحين تُسعٌ، وأرش الجرح الثاني عُشر، فهذا التفاوت لا يُوجب الاستواء، مع أنا ذكرنا في توجيه الوجه المرتضى أنا لو فرضنا جرحين واقعين بالعبد معاً، وأحدهما أعظم من الثاني، فلا يتفاوت الأمر باختلاف الجرحين إذا وقعا معاً، كذلك إذا ترتبا، وإنما الأثر لنقصان القيمة بالجرح الأول، ومصادفة الجرح الثاني عبداً ناقص القيمة.
وأما من قال: يجب على الأول خمسة، وعلى الثاني أربعة ونصف، فهذا الوجه ليس فيه التعرض للأرش والالتفات إليه، ولكن فيه إسقاط شيء من القيمة وسببه أنه دقيق المُدرك مع إسقاط الأرش، ووجهه ما ذكرناه في توجيه الوجه المختار.
وأما من أوجب على الأول خمسة ونصفاً، وعلى الثاني خمسة، فقد بنى مذهبه على أن كل واحد منهما بانتسابه إلى القتل قاطع نصف سراية جرح صاحبه، وهذا يقتضي أن يثبت ذلك المقدار من الأرش، فإن من قطع يدي رجلٍ ورجليه، فلو سرت جراحته، لصارت الجراحة نفساً. ولو قتل الغيرُ ذلك المجني عليه، فتستقر الأروش على الجاني الأول؛ فإن القتل من الثاني قطع سراية الجارح الأول وهذا فيه تدقيق، ولكن لا حاصل له مع حصول القتل منهما، والقطع بنزول اشتراكهما في القتل منزلة انفراد الرجل بالقتل، ثم دلّ فساد التفريع على فساد الأصل إذا اقتضى الوجه أكثر من القيمة.
وما ذكره القفال من الاستشهاد بما إذا قطع رجل يدي عبدٍ ورجليه، ثم قتله آخر، فهو فقيه غائص؛ من جهة أن كل واحد من الشريكين في حكم المخرج لنصف جرح(18/139)
صاحبه عن كونه قتلاً، وإذا خرج جرحُ الجارح عن كونه قتلاً بقتلٍ يقع عن (1) غيره، فهذا يقتضي تثبيت الأرش للجرح الخارج عن القتل، وإذا كان كذلك، انتظم فيه تشطير الأرش، ولا [يُنكر] (2) ما يتفق من زيادة في مساق الفقه كما استشهد به، ولكن فَصْلُ فعل أحدِ الشريكين عن الثاني يخالف بابَ الاشتراك ووضعَه، ولو قطع رجل يد عبدٍ وقطع معه رَجلٌ آخر يده الأخرى، فلا نتعرض لأرش جرحهما إذا وقعا معاً ولكن نجعلهما كرجل واحد قطع يدي عبدٍ، ثم أفضى قطعه إلى زهوق روح العبد.
هذا وجه البحث عن هذا الوجه.
وأمَّا ما حكاهُ العراقيون عن أبي الطيب بن سلمة من توزيع القيمة على المبلغ الذي أثبته القفال ومن انتحى نحوه، فهو حسن دقيق، ولكنه التفات إلى الأرش، ولو صح الالتفات إليه، لم يصح إلا مذهب القفال؛ فإن الزيادة لا مبالاة بها إذا صححها قياس، فإذا كُنّا نُبطل ذلك الوجه لتعلقه باعتبار الأرش، فإذا بطل تحقيقه، بطل تقديره. هذا هو الممكن في البحث عن هذه الوجوه.
11567- ولسنا من الصّلف على حدٍّ ندعي انتهاء النظر نهايته في أمثال هذه المعاصات، غير أنا نستفرغ الوسع فيما ننتهي إليه وطريقُ الفقه (3) مذلّل لكل ذي فطنة.
وقد نجز منتهى مرادنا في هذه المقدمة، فإذا أردنا تقريبها من مسألة الصّيد صوّرنا الجارح الأول مالك العبد، وصورنا الثاني أجنبياً، ثم الأوجه الخمسة تجري في وضع التقسيط، غير أن ما يقابل الأول وهو مالك العبد يُهدر، وما يقابل الثاني يثبت.
وصَوَّر المتكلفون [جناةً على العبد مترتبين] (4) ، ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخفَ
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث: عن، وهي بمعنى (مِن) . (ر. البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين: 1/فقرة: 102) .
(2) في الأصل: " نكير " (بدون نقط) ، وبهذا الرسم تماماً في (هـ 4) ، وفي (ت 6) : يكبر (بهذا الرسم والنقط) .
(3) ت 6: " الفكر".
(4) في الأصل: " جناية على العبد مترتبة ".(18/140)
عليه ما يورد عليه من الصور، إن شاء الله تعالى.
11568- وقد حان أن نعود إلى مسألة الصّيد فنقول: إذا رمى الأولُ وأزمن الصّيد وملكه، ثم رمى الثاني، ولم يُصب المذبح، فيصير الصّيد ميتة، فإن كانت الجراحة الثانية مذففة في غير المذبح، فالإماتة مضافة إليها بالكلية؛ فإنا تحققنا أن الموت حصل بها، وانقطع بها سريان الجرح الأول المزمن، فنقول: أفسد الثاني الصّيد المزمَن، فعليه قيمة الصّيد مزمَناً، ولا يجوز تقدير الخلاف في هذه الصورة.
فأما إذا لحق الجرح الثاني، ولم يكن مذففاً، وحصل الموت في ظاهر الظن بالجرحين، غير أن الأول ملك الصَّيد، فلا يُتصور في حقه غرم، والثاني جانٍ ملتزم للغرم.
وحاصل ما ذكره الأئمة بعد تحقيق التصوير أوجهٌ، نسردها، ثم نوجه البحث عليها: فمِن أصحابنا من قال: على الجارح الثاني في الصورة الأخيرة تمام قيمة الصَّيد مزمَناً مجروحاً الجرح الأول، وليس ذلك كما لو جنى السَّيد على عبد نفسه، ثم جنى أجنبي عليه من بعدُ؛ فإنا قسطنا القيمة في تلك المسألة، وذكرنا الأوجه الخمسة في كيفية التقسيط، والأصل متفق عليه، والفرق أن الجراحة الأولى وإن صدرت من المالك، فلا خير فيها ولا صلاح، وإنما هي جراحة من المالك يُتلف ملكَه، فساوت جراحةَ الأجنبي في الإفساد، وإن خالفته في أن المالك لا يضمن شيئاً، والجراحة الأولى في الصَّيد مملِّكة مفيدةٌ، ولو أفضت إلى الموت، لم يفت الصّيد بها على الجملة، وجرحُ الثاني هو المفسد على الحقيقة المفيت، والغرم يتبع الإفاتة والإفساد، وهو بجملته من الثاني. هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من قال: لا يغرم الرامي الثاني تمام القيمة، ولكن تُوزّع القيمة على الجرحين؛ فإن الموت حصل بهما، فيتنزل هنا منزلة جرح المالك للعبد مع جرح غيره له بعده، وهذا القائل مكتفٍ بظاهر التشبيه، والوجه الأول مستمسك بالفقه، وإن كان يحتاج إلى مزيد تفصيل.
ومن أصحابنا من قال: نفصل، وننظر: فإن رمى الثاني، ومات الصيد قبل أن يقدر الرامي الأول على ذبحه في المذبح مع جِدّه في الطلب، فعلى الرامي الثاني تمامُ(18/141)
قيمته مجروحاً الجرح الأوَّل؛ فإنّه المُفسد حَقّاً، ولولا جرحه، لكان الصَّيد حلالاً، وإن لم يدرك ولم يذبح.
وإن تمكن الأول من ذبحه، فقصد أو انتهى إليه، فلم يذبحه حتّى مات من الجرحين، فتفريطه يُلْحق جرحَه الأول بالمفسدات، فإنه لو تفرد بجرحه ثم قَصَّر في الذبح مع التمكن، فالصّيد ميتة، وهذا يُوجب الحكم باشتراكهما في إفساد الصَّيد.
11569- هذا ما نقله المحققون في الصَّيد بعد تمهيد المقدمة في الجناية على العبد، وفيما نقلوه بحث: أما من أطلق التقسيط، ولم يتفطن لاختصاص الرامي الثاني بالإفساد في بعض الصور، فقد أصدر ما قاله عن غفلة. ومن أطلق نسبة الإفساد [إلى] (1) الثاني ولم [يفصِّل] (2) ، فقد غفل من وجه آخر، وإنما استتم النظر من فَصّل. والأصحاب ينقلون الأوجه مرسلة، ونحن نؤثر ألا يُعدّ أمثال هذا اختلافاً؛ [من جهة أن المسألة إذا كانت عائصةً ذاتَ أصول، ويشوبها رعاية نِسبٍ تقديرية، هي منشأ التقسيط،] (3) فقد يبتدر بعض العلماء جواباً [مبنيّاً] (4) على طرف صحيح، ولكنه يستدعي مزيد نظر، ثم كذلك قد يستدرك زائد على الأول في النظر عليه ما غفل عنه، وهو في نفسه تلحقه غفلة عن طرف آخر، حتى يستتم من يُنعم النظر والفكر في أطراف المسألة، ويستعين بالمذكور ويضمه إلى ما يستجده، فذاك هو الجواب.
ولو شهد أصحاب الوجوه وتنبّه [الأولون] (5) وأنصفوا، لنزلوا على منتهى النظر، وإنما الخلاف الحقيقي أن تلوح وجوه الظنون وتتعارض الأقوال فيها، فالذي نحكم به على المذهب القطعُ بالتفصيل.
11570- ونحن الآن نفرّع عليه، ونقول: إن لم يفرط الرامي الأول، فلا حظ لجرحه في الإفساد، وإنما الفساد كله يتعلق بجرح الثاني وهذا يقتضي أن نلزمه تمامَ
__________
(1) في الأصل وحدها: " في ".
(2) في الأصل، (وهـ 4) : " يغفل ".
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحدها.
(4) في الأصل: " مثبتاً ".
(5) ساقطة من الأصل.(18/142)
قيمة الصّيد مزمَناً أو مجروحاً الجرحَ الأول، وهذا واضح.
ولكن استدرك صاحب التقريب دقيقةً لم يقصِّر في التنبه لها والتفريع على أن الفساد محال على الثاني، وذلك أنه قال بعد حكاية قول الأصحاب: الفسادُ وإن كان مضافاً إلى الثاني بموجب قول الأصحاب: إنَّ الصَّيد لو كان يساوي غير مزمَن عشرة، وكان يساوي مزمَناً تسعة، فالتسعة تجب على الرامي الثاني؛ فإنَّه المفسد.
وهذا فيه مستدرك؛ من جهة أنا وإن كنا لا نستعمل الجرح الأول في حساب الإفساد، فيجب أن نستعمله في تقدير الذبح؛ فإنا لا ننكر أثره في حصول الموت، والصيد المزمَن لَوْ لم يمت، كان يساوي تسعة، ولو مات بالجرح الأول ذكياً حلالاً، فربَّما كان يُساوي ثمانية، فيجب أن نقول: أما الثمانية، فعلى الثاني، وأما الدرهم الآخر، فبين الأول بتقدير الذبح وبين الثاني، فيجب أن يهدر نصف درهم لما يقتضيه الذبح من حط القيمة، فيجب على الثاني ثمانية ونصف.
وهذا حسن بالغ، ولكن للنظر فيه مجال؛ فإنَّ المفسد يقطع أثر الذبح، ويرفعه من كل حساب، والمسألة محتملة، والأوضح ما ذكره صاحب التقريب وإن أحلنا الفساد على الثاني. فهذا منتهى التفريع.
وإن وزّعنا -والرأي عندي أن نقطع بالتوزيع- عند تقصير الأول في الذبح، كما اقتضاه التفصيل. ثم إذا وزعنا، فالأول مالك مُفسد على نفسه، والثاني أجنبي متلف، فإذا قيل لنا: كيف التوزيع؟ قلنا: المسألة في هذا المنتهى تضاهي العبد يجرحه مالكُه، ثم يجرحه بعده أجنبي، ويموت العبد من الجرحين، وفي كيفية التوزيع خمسة أوجهٍ، قدمنا ذكرها.
هذا منتهى البيان في مسألة الكسر لم نغادر فيها ممكناً عندنا، وسنلحق بها مسائل مقصودة في أنفسها، وهي تهذب ما قدمنا ذكره في المسألة المتشعبة.
وقد رأيت للعراقيين في مسألة العبد التي ذكرناها في مقدمة كَسْر الصيد مسلكاً في رجوع الجاني الأول على الجاني الثاني بنصف الأرش بعد تقدير تمام الأرش عليه، لم أُحب ذكره، فإني لم أرَ له ضبطاً من جهة التعليل، وقد جرت مسألة الكسر بيضاءَ نقية، فالوجه الاكتفاء بما ذكرناه.(18/143)
فصل
يجمع صوراً في الاشتراك في الصّيد
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو رمياه معاً، فقتلاه، كان بينهما نصفين ... إلى آخره " (1) .
11571- فنقول: لو رمى رجلان صيداً، نظر: فإن رمياه معاً، انقسم الأمر:
فإن كان جرح أحدهما مذففاً مجهزاً لو انفرد، وجرح الثاني كان لا يزمِن، ولا يذفّف، وتحققنا ذلك من صفة الجرحين، فالصيد لمن جُرحه مذفف؛ فإن الإثبات حصل بجرحه، ولا أثر لجرح الثاني.
وإذا وقع الجرحان معاً كما وصفناه، فالمذفِّف مملِّكٌ ذابح، ولا أثر للثاني في التحريم، وإنما يتعلق به أنه لو جرح (2) إهاباً أو مزق لحماً، وكان ذلك يؤثر في التنقيص، فلا يجب على الجارح (3) بذلك الجرح شيء، فإنَّ المسألة مفروضة فيه إذا وقع الجرحان معاً عن غير ترتيبٍ، فيصادف الجرح الذي لم يكن مذففاً [صيداً مباحاً، فاستحال إثبات الضمان عليه.
وإن كان كل واحد من الجرحين مذففاً] (4) لو انفرد، فالصَّيد مباح، وهو بين الجارحَيْن نصفان، وكذلك لو كان كل جرح مزمناً لو انفرد، فالصيد بينهما، [فإن] (5) لم يدركاه، فهو حلال بينهما، [وإن أدركاه وذبحاه، فكذلك.
وإن كان أحد الجرحين مزمناً مثل إن كان كاسراً للجناح والثاني كان مذففاً] (6) ، فالصَّيد حلال، وهو بينهما؛ فإن التذفيف إثباتٌ للصّيد مملك لو انفرد، والإزمان
__________
(1) ر. المختصر: 5/208.
(2) ت 6: " خرق ".
(3) ت 6، و (هـ 4) : " على صاحب ذلك الجرح شيء ".
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحدها.
(5) زيادة من (ت 6) ، (هـ 4) .
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. ومكانه قوله: " وإن كانا أدركاه ".(18/144)
كذلك مملكٌ لو انفرد، فقد انتسب كل واحد منهما إلى ما يملك، والصَّيد حلال، ولا يتصوّر في [إصابة الجرحين معاً] (1) تحريم يأتي من جهة الجرح.
نعم، قد يفرض تقصير في ترك الذبح، فلا يخفى حكمه، ولا (2) يختلف الحكم بأن يكون كل واحد من الجرحين مملكاً أو أحدهما مملك. ولو قيل: حصل الإثبات بهما جميعاً، فالصّيد بينهما؛ فإنّهما اشتركا حقّاً في الإثبات، فاتجه التشريك.
11572- ولو أشكل الأمر؛ فجوزنا أن يكون الإثبات حاصلاً بهما، وجوزنا أن يكون حاصلاً بأحدهما، ثم لم نَدْرِ لو حصل بأحدهما فَبِمَن؟ فإذا التبس الأمر كذلك واعترفا بالالتباس، فالحل لا شك فيه على القواعد الممهدة، والصيد بينهما في ظاهر الحكم. وقد يطرأ في مثل ذلك أن يتحرج كل واحد منهما، ثم يجرّ ذلك وقفاً واصطلاحاً بعد ذلك واستحلالاً، ونظائر هذا كثيرة.
ولو كان أحد الجرحين مذففاً ولا ندري أن الثاني هل أثر في الإزمان والتذفيف؟ نقل (3) أصحاب القفال عنه أن الصَّيد بينهما، فأُلزم على هذا ما لو تمالأَ رجلان على رجل وجرحه أحدهما جراحة تذفف لو انفردت، وجرحه الثاني جراحة لا يُدرَى هل تذفف لو قدر انفرادها، فهل يجب القصاص عليهما؟ فارتكب وقال: يجب القصاص عليهما، وهذا بعيد، وهو إيجاب القصاص مع الشك والتردّد في الموجِب، فالوجه تخصيص القصاص بمن صدر المذفف منه، وليس كما لو كان كل جرح مذففاً لو انفرد، وذلك بأن يشيرا بسيفيهما معاً، فيحُزّ أحدهما الرقبة، ويقده الثاني بنصفين، ويقع الأمران معاً، فليس أحدهما بالتزام القصاص أولى من الثاني.
ثم إذا ظهر عندنا نفي القصاص عمن شككنا في وجوبه عليه؛ من حيث وجدنا شيئاً نحيل عليه القصاص حقاً، فماذا نقول في مسألة الصيد وأحد الجرحين مذفف والثاني مشكوك فيه؟ هذا عندنا يَجُرُّ تردُّداً أيضاً، ولعلَّ الوجه أن يقال: نصف الصَّيد يسلم
__________
(1) في الأصل: " الجناية بالجرحين ".
(2) ت 6، هـ 4: " وإنما يختلف الحكم ".
(3) ث 6: " فقد حكى أصحاب القفال ".(18/145)
لمن جرحه مذفف، والثاني يوقف بينهما. وإن عجلنا ولم نقف خلصنا لصاحب الجرح المذفف نصفاً، وجعلنا النصف الثاني بينهما نصفين، فيخلص لأحدهما ثلاثة أرباع الصيد. والعلم عند الله. هذا كله إذا رميا وأصابا معاً.
11573- فأما إذا ترتب الأمر -والاعتبار بوقوع الجرح في هذا الباب لا بوقت الرمي- فإن وقع جرح أحدهما، ثم وقع بعده جرح الثاني، نُظر: فإن أزمن الأولُ، ثم أصاب الثاني، فهذا جرح ورد على جلد ولحم.
فإن لم يكن الجرح الأول مذفّفاً ولا مُزمناً، وكان الجرح الثاني مذففاً، فالصَّيد للثاني، ولا أثر للجرح الأول في حكمٍ من الأحكام.
وكذلك إن كان الجرح الثاني مزمناً بنفسه، من غير أن نقدر الجرح الأول، فالصَّيد للثاني، وحقه أن يدرك ويذبح إن كانت فيه حياة مستقرة.
ولو جرى الجرحان وترتب الثاني على الأول، وأشكل الأمر، فلم ندر أن الأول أزمن، ثم لحق الثاني وهو غير مذفف، فأفسد الصَّيد، أوْ كان الأول غيرَ مزمن، وكان الثاني مُزمناً، ولو كان كذلك، لم يفسد الصَّيد، فإذا اعتاص الأمر وأشكل، وكان حكم الصَّيد أن يفسد في أحد الاحتمالين، ولا يفسد في الثاني، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: في حِل الصَّيد قولان مبنيان على القولين في مسألة الإصماء والإنماء، ووجه التشبيه أن الصَّيد إذا غاب، فقد تعارض احتمالان في سبب موته: أحدهما - مصلح، والثاني - مفسد، كذلك في مسألتنا. هذه طريقة.
ومن أصحابنا مَن قطع بالتحريم فيما نحن فيه، وفرَّق بين هذه الصورة، وبين صورة الإنماء، وقال: قد وجد في صورة الإنماء جُرح يحال الموت عليه، وإحالة الموت على الجرح السابق أصل في الشريعة، ولم يُوجد في المسألة التي نحن فيها أصل في التحليل، والأصل استبقاء الحظر والتحريم. ثم قال الصَّيدلاني في نصرة طريقة القولين: إنما يأتي الفساد من كون الجرح الأول مُزمناً، والأصل أنه غير مزمن، فليقع البناء على هذا، ولا بأس بما ذكره، ولكن الفقه في الفرق بين المسألتين.(18/146)
11574- ومما يتعلق بصور الفصل أن الجرحين لو وقعا على الترتيب، ولم يزمن الأول، ولم يكن الثاني بحيث لو انفرد لأزمن، فإذا استعقب الثاني الإزمان، فالذي أطلقه الأئمة في الطرق أن الصَّيد للثاني؛ فإنّ جرحه استعقب الإذعان، وذكر الصيدلاني قولاً مخرجاً أن الصَّيد مشترك بينهما، ومن تأمَّل ما قدمناهُ من الفصول وما مهدنا فيها من الأصول، لم يَخْفَ عليه اتجاهُ كون الصَّيد مشتركاً بين الجارحَيْن (1) ، والوجه المشهور عن الأصحاب [أن الصَّيد للثاني،] (2) إذ الجرح الأول أصابه والمصاب صيدٌ بعدُ، فطاح الجرح وسقط أثره، وصادف الجرح الثاني صيداً فأزمنه، فقيل هو للمزمن، والذي سبق وفاقٌ، " ورُبَّ ساع لقاعدٍ " (3) .
ثُمَّ فرَّعوا على ما رأوه المذهبَ، وقطعوا به، فقالوا: إذا جعلنا الصَّيد للثاني كما ذكرناهُ، فلو عاد الأول والمسألة بحالها ورمى الصَّيد مرة أخرى بعد الإزمان، فمات الصَّيد من الجراحات كلها، ولا إجهاز في شيء منها، فعلى الذي رمى أولاً وثالثاً الضمانُ، فإنه برمْيه الثاني -وهو الجرح الثالث - تسبب إلى إفساد الصَّيد، إذ الصَّيد صار مزمَناً بالجرح الثاني.
ثم الكلام في مقدار ما يجب من الضمان، وقد اختلف أصحابنا فيما يجب عليه، وأحسن ترتيب في تأدية الخلاف أن نقول: في وجهٍ يجب على المفسد قيمة الصيد مجروحاً جرحين: الجرح الأول؛ فإنه كان هدراً، والجرح الثاني، فإنه صدر من المثبت المالك.
وفي وجه نقول: يجب على هذا المفسد قسط، ولا يلزمه تمام القيمة. فإن أوجبنا القيمة، فذاك بيّن، وإن أوجبنا قسطاً، ففي التقسيط اختلاف الأصحاب،
__________
(1) يصرح الإمام هنا أنه يرجح وجهاً غير الوجه المشهور المعتمد مذهباً، وقال النووي عن هذا الوجه " إنه الأصح " ثم أشار إلى ما اختاره الإمام، فقال: " وقيل: هو مشترك بينهما، ورجحه الإمام والغزالي " (ر. الروضة: 3/267) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) مثل مأثور.(18/147)
وهذه المسألة تناظر ما إذا جرح مسلم عبداً مرتداً، وأسلم، فجرحه مالكه، ثم عاد الأول وجرحه جراحة أخرى، فمات من الجراحات كلها، وقد ذكرنا طرق الأصحاب في ذلك في آخر الديات من فروع ابن الحداد، وحاصل القول على الإيجاز: أن من أصحابنا من يوزع على الجراحات، وهي ثلاثة، فعلى هذا نوزع في مسألة الصَّيد قيمةَ الصَّيد على الجراحات الثلاث، ونهدر ما يقابل الجرح الأولَ والثاني، ونوجب ما يقابل الجرحَ الثالث، وهو الثلث، فيجب على الذي جَرَحَ أولاً وثالثاً ثُلثَ القيمة.
والوجه الثاني -في مسألة العبد المرتد- أنا نُوزّع القيمة على الجارحَيْن، ولا نتعرض لأعداد الجراحات أولاً، فيقتضي ذلك التنصيفَ، ثم يسقط نصفُ القيمة، وهو ما يقابل الملك، والنصف الآخر موزع على الجرحين، إذ أحدهما في حالة الردّة، فيهدر نصف النصف، ويبقى نصف النصف، وهو الربع، فعلى هذا نقول في الصَّيد: نسقط نصف القيمة مقابلة جرح المالك المثبت للصيد، وننظر في النصف الثاني ونوزّعه على الجرح الأول والثالث، فنهدر ما يقابل الجرح الأول، فإنه أصاب صيداً مباحاً، لا حق لأحد فيه، ونوجب النصف، فيخرج منه إيجاب ربع القيمة.
ثم إذا أوجبنا قسطاً، وقلنا: إنه ثلث، أو ربع، فهل نضم إليه اعتبار الأرش؟ فيه التردد والاضطراب الذي مهدناه في مسألة كسر الصّيد.
11575- ومما نلحقه بآخر هذا الفصل أمر لا خفاء به، وهو أنه لو رمى الصَّيد رجلان، ثم اختلفا، فقال أحدهما: أنا المزمن، والصَّيد مِلكي، وقال الثاني: بل أنا المزمن، وليقع الفرضُ فيه إذا أُدرك وذبح، فإذا استبهم الأمر، وكان صدق كل واحد منهما ممكناً، فظاهر الأمر أن الصَّيد في أيديهما، [وهما يتنازعان فيه، وهما بمثابة ما لو تنازعا في دار في أيديهما] (1) .
__________
(1) سقط من الأصل.(18/148)
فصل
قال: " ولو رمى طائراً، فجرحه، ثم سقط على الأرض ... إلى آخره " (1) .
11576- إذا رمى طائراً فإن أصاب مذبحه أو جرحه جرحاً مذففاً، فلا تفصيل في سقوطه، فإنه يُذكى في الهواء، فليقع بعد هذا على الأرض، أو على الماء، وقد تمهد الحِلُّ.
فلو لم يذففه الجرح، فسقط ومات بأثر الجرح والصدمة، فقد قال الشافعي:
يَحِلّ؛ فإنَّها ضرورة الاصطياد، وإن ظهر عندنا موته بالجرح والصدمة، وهذا بمثابة ما لو جرح الرجل صيداً، وجَدَّ في طلبه، فلم يدركه إلا بعد الموت، فالصَّيد حلال، وإن أزمنه الجرح ووقع موته في مقدور عليه من غير ذبح، ولكن لما كان وقوع هذا غالباً في الصَّيد، احتُمل، ومبنى الصَّيد على احتمال مثل ذلك فيما يعم وجودُه.
فأما إذا وقع الطائر غيرَ مذفَّف في ماء، أو وقع على جبل، ثم تدهور منه، ولم يزل يتدهور من حجرٍ إلى حجر ويصادمها، فلا نقضي بحِله؛ فإن أمثال هذه الصورة ليس مما يحكم عليه بالغلبة في الوقوع، وإنما يحتمل الخروج عن القياس فيما يعم فيه الحاجة.
هذا ما ذكره الأئمة رضي الله عنهم، ولو قال قائل: الصَّيد في الجبل ليس من النوادر، ثم وقوع الطير في الجبل على هيئة التدهور ليس نادراً، وكذلك إذا توسّط الرجل البحر، وكان يرمي طير الماء، فلا يبعد السقوط على الماء، فإذا كان كذلك، فيتطرق إلى الصورتين إمكان احتمال ما يجري، ولكن الأصحاب أطلقوا القول، ويمكن أن يظن أنهم قالوه في الأمر الأعم.
ومما ذكروه أنه لو رمى طيراً على رأس شجرة، فانحط منه، وكان يقع من غصن على غصن، فهو حرام، وهذا مما يمكن أن يحكم عليه بالغلبة؛ فإن إصابة الطيور
__________
(1) ر. المختصر: 5/208.(18/149)
على الأشجار أغلب من إصابتها في الهواء، فهذا توجيه الاحتمال، مع تسهيل طريق تأويل كلام الأصحاب، وذلك بعد الوفاء بالنقل على الصحة.
ولو رمى طائراً في الهواء، فلم يجرحه، ولكن كسر جناحه، فسقط ومات، فهو حرام؛ فإنه لم يصبه جرح يحال عليه تأثيرٌ في الموت، والجرح لا بد منه.
ولو أصاب الطائر جرحٌ ضعيف لا يؤثر مثله في الموت، ولكنه عطل جناحه، فإذا وقع على الأرض، فالذي أراه أنه حرام؛ فإن إحالة الموت على الوجبة (1) والصدمة، وذلك الجرح عديمُ الأثر في الموت، والله أعلم.
فرع:
11577- إذا رمى صيداً بسهم أو غيره، فلم يجرحه، بل قتله بثقله، فهو حرام؛ إذ الجرح لا بد منه، وكذلك لو صار بالثقل إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه؛ فإن القطع بعد المصير إلى حركة المذبوح بمثابة القطع بعد سقوط (2) الحركات، ولو أصاب الصيد طرفٌ من النصل، وجرح، وثقل السهم عليه عرضاً في مرِّه، فحصل الموت بالجرح والثقل، فهو حرام، وهو بمثابة ما لو أصاب الطائر من رجلين [سهم] (3) وبندقة، وحصل الموت بالثقل والقطع، فهو ميتة لاشتراك المحرِّم والمحلّل في القتل.
وإذا أشكل الأمر، فلم ندر كيف حصل القتل، فالتحريم هو المحكوم به، فإنا تردّدنا في الحِل، وقد جرى السببان، فليس أحدهما أولى بأن يُعتقَد من الثاني، والتحريم أغلب.
وإنما اختلف قول الشافعي في فريسة الكلب إذا ماتت تحته ضغطاً وغمّاً، كما تقدم ذكرها، ومذهب أبي حنيفة (4) رحمة الله عليه، أنها تحرم، لأنها منخنقة، وقد حرّم الله المنخنقة، كما حرم الموقوذة. والله أعلم.
__________
(1) الوجبة: السقطة. (المصباح) .
(2) ت 6: " سكون ".
(3) في الأصل: " جرح ".
(4) ر. المبسوط: 11/225.(18/150)
فصل
قال: " ومن أحرز صيداً فأفلتَ منه ... إلى آخره " (1) .
11578- هذا الفصل مشتمل على ما يُملَك به الصَّيد، والأصل فيه أنه إذا امتنع [على الصَّيد] (2) ما به امتناعه عن التطلق والإفلات بسببٍ يُقصد مثله عُرفاً، فيصير الصَّيد ملكاً للصائد، فلو نصب شبكة قصداً، فتعقَّل بها صيدٌ، ملكه، ولو رمى صيداً، فأزمنه، ملكه، ومبنى الملك في المباحات على صورة اليد، وكان قد يظن الظَّانّ أن الملك في الصّيد لا يستقر إلا بإثبات اليد عليه، ولكن إثبات الصَّيد إثباتٌ لليد عليه، والآلة -[إن] (3) كانت- بمثابة اليد (4) .
هذا قولنا في الأسباب المقصودة.
ولو حاش الرجل صيداً، واضطره إلى مسلك، [فقبض] (5) عليه مترصّد، فهو ملك القابض، إذا كان للصّيد مسلك ينطلق فيه، وليس كما لو لو أدخله بيتاً؛ فإنه يملكه؛ إذ هو بإدخاله إياه البيتَ سقط امتناعه.
ولو سقى الرجل أرضاً له، أو وقع الماء على أرضه من غير قصده، فتخطى فيها صيدٌ وتوحَّل، وصار مقدوراً عليه، فالذي رأيته للأصحاب أن صاحب الأرض لا يصير مالكاً بما جرى له؛ لأن مثل هذا ليس مما يقصد به الاصطياد، والقصودُ مرعيَّة في أمثال هذه التملّكات. وذكر الصَّيدلاني وجهين: أحدهما - ما ذكرناه وهو الذي اختاره وصحَّحه، والثاني - أن مالك الأرض يملك الصَّيد، كما لو نصب شبكة أو رمى صيداً، فأثبته.
وهذا الاختلاف فيه إذا لم يكن سقي الأرض مما يقصد به توحّل الصيود وتعقله،
__________
(1) ر. المختصر: 5/208.
(2) سقط من الأصل.
(3) في الأصل: " وإن ".
(4) عبارة (ت 6) ، (هـ 4) : " وإن بان بمثابة البراجم ".
(5) في الأصل: " قعد ".(18/151)
فإن كان ذلك مما يقصد به هذا، فهو بمثابة نصب الشبكة.
والأصل المرعي في ضبط محل الوفاق والخلاف ما قدمناه من كون الشيء مقصوداً في الاصطياد وخروجه عن كونه مقصوداً، فكلّ ما يقصد مثله، فإذا أثبت الصَّيد به ملكه المُثْبت، وما لا يقصد مثله، ولكن اتفق ثبوت الصَّيد به عن وفاق، ففي حصول الملك فيه الخلاف.
11579- وهذا يتضح بصُور نأتي بها، فلو دخلت ظبيةٌ دار إنسان، ولم يشعر صاحب الدار بها، فاتفق منه إغلاق الباب من غير شعور بالظبية، فمن راعى القصد، حكم بأن الظبية ليست مملوكة لصاحب الدار، ومن لم يُراع القَصْدَ، قضى بأنها مملوكة له؛ إذ لا خلاف أنه لو شعر بالظبية وأغلق البابَ قصداً فيصير مالكا لها.
ولو عشش طائر في ملك إنسان، وباض، وفرخ، فالدُّور لا تُبْنى لذلك، فإذا اتفق ما ذكرناه، فالبيض في العش مقدور عليه من غير تسبب إليه، وكذلك الفرخ مقدور عليه إلى أن ينتهض ويملك جناحيه، فمن راعى القصد، لم يُثبت الملك على البيض [والفرخ، ومن لم يراع القصد، حكم بالملك، ثم بنى عليه أنه إذا طار، فهو ملك صاحب الملك] (1) وهو بمثابة طائر مملوك له يفلت وينحل رباطه، وبمثل هذه الصورة نتبيّن فساد قول من يثبت الملك من غير قصد، فإن الطيور تعشش وتفرخ على الأشجار التي تحويها الحدائق والبساتين، (2 ثم تملك الفراخُ أجنحتها، وتطير، ولا يخطر لأحد أنها كانت مملوكة لأصحاب البساتين 2) .
ومما يجب الاعتناء بدركه أن من انسلت منه شبكة، وثبتت، ثم اتفق تعقل صيد بها، فهذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه، وهذا يناظر إغلاق الباب على الظبية إذا دخلت الدار؛ فإنّ هذا إن كان عن قصد، فيحصل ملك الظبية، وإن كان عن غير قصد، ففيه الخلاف.
ولا بد من الإحاطة بصورتين في إثبات الملك: إحداهما - أن يتفق ثبوت الصَّيد بما
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من نسخة الأصل وحدها.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 6) .(18/152)
يقصد بمثله إثباته، ولكن يحصل ذلك السبب من غير قصد إليه، كما ذكرناه من إغلاق الباب من غير شعور بكون الصَّيد في الدار، ومن ذلك انسلال الشبكة من مالكها من حيث لا يشعر وثبوتُها في مَدْرجة الصيود، وقد ذكرنا أن الصيد لو ثبت بما لا يقصد بمثله إثباته، فهل يقضى بالملك فيه؟ فعلى الخلاف. والصورة التي جدّدناها الآن من إغلاق الباب وانسلال الشبكة من غير قصد، فالخلاف يجري فيها، ولكنا نرى أن نُرتّب هذه الصورة على ما إذا ثبت الصيد نادراً بما لا يقصد إثباته.
والصورة الثانية - أن السبب إذا كان لا يقصد بمثله إثبات الصيود، وسبب ذلك أنه يبعد ثبوت الصّيود به، فلو قصد به الإثبات، فثبت، فقد أجرى الأصحاب الخلاف في هذه الصورة أيضاً، وسبب جريان الخلاف أن القصد فيه لا يصح؛ فإذا ضعف القصد، جرى الخلاف، وحق هذه الصورة أن ترتب على ما إذا اتفق الثبوت على الندور من غير توجه قصد إليه، فهذا ما أردنا أن نوضّحه.
11585- ثم تمام التفريع في ذلك أنا إن قلنا: لا يحصل الملك في الصّيد، فقد قال الأصحاب: صاحب الملك أولى به، وعَنَوْا به أنه ليس للغير تخطي ملكه والتوصّل إلى الصَّيد، فلو أخذه آخذٌ، فهل يملكه؟ فيه تردد مأخوذٌ من قول الأصحاب، وهو عندنا قريب المأخذ مما لو تحجّر الرجل مواتاً ليُحْييَه- فابتدر البقعة مبتدرٌ وأحياها، ففي تملكه وقد تم الإحياء خلافٌ قدمتُه في كتاب إحياء الموات، ووراء هذا نظر عندي؛ فإنَّ المتحجّر قصد بالتحجّر أن يتملك، فكان حقه آكد والذي حصل الصيد في ملكه لم يقصد تنجيز تملكه، ولا التسبب إليه؛ [فكان الحكم لآخذ الصّيد بالملك أقربَ هاهنا] (1) والله أعلم.
وسأذكر صورة تنطبق على التحجّر، فأقول: إذا دخلت سمكة في بركة إنسان، فإن كانت البركة ضيقة وقد سَدَّ صاحبها بعد الشعور بالسمكة مَثْعبيها (2) ، وصارت السمكة منحصرة في مضيق بحيث يسهل أخذها، فهي مملوكة لصاحب البركة؛ فإنه
__________
(1) عبارة الأصل: " فكان أخذ الصيد بالملك أقرب هاهنا ".
(2) المَثْعبُ: وزان مفعل، بفتح الأول والثالث، مجرى الماء من الحوض وغيره (المعجم) والمراد سدّ مجرى الماء إلى البركة، ومخرجه منها.(18/153)
تسبب إلى ضبط السمكة بمسلك معتاد. ولو كانت البركة واسعة، وقد سد المنفذين، ولكن أخذ السمكة من البركة فيه عسرٌ لاتّساع البركة، فلا نحكم له بالملك في السمكة، إن لم يوجد فيها ما يضبطها. ولكن إذا استفتح التوصل إلى أخذها، وقد سدَّ المنافذ، فقد حصل فيها نوعٌ من الانحصار، فهذا الآن يُضاهي [صورة التحجّر، و] (1) فرْض الإحياء من غير التحجّر.
ومن دخل بستان إنسانٍ واصطاد فيه طائراً ممتنعاً، فلا خلاف أنه يملكه؛ لأن البُستان لم يَتَضمَّن ضبطاً للطائر، وليس اقتناؤه تسبّباً إلى الضبط، وما ذكرناه من التردد في صيد منضبط في ملك إنسان بجهةٍ لا يقصد بمثلها الضبط.
فرع:
11581- إذا أفلت من إنسان طائر مملوك له، لم يخرج عن ملكه بالإفلات، ولو حرّره قصداً، وحاول بذلك رفعَ اختصاصه به عنه، ورَدَّه إلى ما كان عليه من الإباحة قبل الاصطياد، فالذي ذهب إليه المحققون أن الملك لا يزول عنه، وذكر شيخي وغيره من الأئمة وجهاً آخر أن الملك يزول عنه، ويعود الصّيد كما كان؛ فإن سبب ملكه اليد، فإذا قطع اليدَ وأعرض عنها، أمكن أن يقال: عاد كما كان، وهذا ضعيف، وإن كان مشهوراً [في الحكاية] (2) .
ولو ألقى كِسرة خبز، وأعرض عنها، فأخذها عاثر عليها، فهل يملكها؟ ذكر الأصحاب في ذلك خلافاً، ورتّبوه على مسألة الصيد، وقالوا: [الأولى] (3) في هذه الصورة ألا يحصل الملك للقابض؛ فإنه يخالف الصَّيد، من حيث إن سبب الملك في الصّيد اليدُ، وقد أزالها قصداً.
وتمام البيان في هذا أن ما فعله إباحةٌ للطاعم في ظاهر المذهب؛ فإن القرائن الظاهرة كافية في الإباحة، ولكن إن رام الآخذ تملكاً، ففي ثبوت الملك ما ذكرناه.
ولو ألقى الرجل إهاب ميتة غيرَ مدبوغ، وأعرض عنه، فأخذه آخذ ودبغه، ففي ثبوت الملك له وجهان مرتبان على الخلاف في كسرة الخبز، وهذه الصورة الأخيرة
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) زيادة من (ت 6) ، و (هـ 4) .
(3) سقطت من الأصل.(18/154)
أولى بأن يحصل الملك فيها للآخذ، فإن الأعراض يقوى عما ليس بملك، وتملك الدابغ يقوى على حسب قوة إعراض المعرض.
فصل
قال: " ولو تحوّل من برجِ إلى بُرجِ ... إلى آخره " (1) .
11582- إذا تحوّلت حمام من بُرجٍ، وهي مملوكة له إلى بُرجِ آخرَ (2) مملوكة (3) للغير، واختلط الحمام بالحمام، فليس للمالكَيْن أن يتهجما على التصرف مع اختلاط الملكين، والمسألة في الاشتباه وعُسْر التمييز، فإن باع أحدهما حمامة من صاحبه، أو وهبها منه، فالبيع والهبة خارجان عن القياس المرعي في بابهما، ولكن إذا عسر التمييز، وامتنعت القسمة، وانحسم التصرف، فهل يصح التمليك بالبيع والهبة للضرورة الداعية؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح لأنا قد نرفع التعبدات بالإعلام عند تعذره، ولذلك صححنا الجعالة والقراض، ومعاملاتٍ سواهما مشتملة على ضروب من الجهالة.
ولو باعا الحمام المختلطة، وهما لا يدريان أعيان ما لكل واحد منهما من الحمام؛ فإن كانت متساويةَ القيمة، وكانت الأعداد معلومة لكل واحد منهما، مثل إن كان لهذا مائة، ولهذا مائتان، فإذا اتفقا على بيع الحمام وتوزيع الثمن على الأعداد، فقد أطبق الأئمة على تصحيح ذلك، ووجهه بيّن.
وإن كان يجهل كل واحد منهما الأعداد التي هو مالكها، فإذا باعا الحمام المختلطة، فالوجه عندي الحكم بفساد البيع؛ فإن الصّفقة تتعدّد بتعدد البائعَيْن، ولا يدري واحد منهما ما يستحقه من الثمن؛ وإزالة الجهالة متعذّرة، وقد ينشأ من ذلك وجه في جواز البيع، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 5/208.
(2) برج آخر: مضاف ومضاف إليه، فليست آخر صفة للبرج. قاله ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط (7/121) .
(3) كذا بالتأنيث في النسخ الثلاث.(18/155)
ولكنّ السّبيل فيه أن يقول كل واحد منهما: بعتك الحمام التي (1) في هذا البرج بكذا، فيكون الثمن معلوماً، وعدد الحمام مجهولاً، فيُحْتَمل الجهل في المبيع للضرورة؛ إذ لا سبيل إلى دفعه. ولو قالا: بعنا منك الحمام بكذا، فهذا ما لا أرى تصحيحه؛ فإنَّ دفْع الجهل عن الثمن بالطريقة التي ذكرتُها ممكن، فلا معنى لاحتمال جهل لا تلجىء إليه الضرورة.
11583- ثم قال الأئمة: إذا أفلتت حمامة أو حمامات معدودة، واختلطت بحمام [ناحية] (2) وكانت مباحة للصائدين، فلا يحرم الاصطياد على أهل الناحية بسبب اختلاط حمامة أو حمامات معدودات؛ فإن حمام الناحية فيما نُصوّره ليست متناهية، ولا يتغير حكم ما لا يتناهى باختلاط ما يتناهى به، وهذا يناظر التباسَ أخت الإنسان من الرضاعة بنسوة لا يحصين؛ فإنه إذا اتفق ذلك، لم ينسدّ على الإنسان بابُ التزوج، مع ابتناء الأمر في الأبضاع على التغليظ.
والذي ذكرناه مفروض في اختلاط حمام محصورة بحمام غير محصورة.
ولو انتقلت حمامة أبراج مملوكة من بلدة إلى أخرى، فهذا في حكم اختلاط ما لا ينحصر بما لا ينحصر، والتصوير فيه إذا كان الحصر متعذراً، وإذا اختلطت المملوكات التي يتعذر حصرها بالمباحات التي يتعذر حصرها، ففي كلام الأئمة تردد في ذلك؛ فإن ما لا ينحصر بالإضافة إلى ما لا ينحصر كما ينحصر بالإضافة إلى ما ينحصر.
هذا وجهٌ.
ويجوز أن يقال: لا ينحسم باب الاصطياد في المباحات التي لا حصر لها استصحاباً لما كان، وهذا ما إليه صغو معظم الأصحاب، والأقيس الأول. [وقد نجز ما أردناه في ذلك] (3) .
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث.
(2) في الأصل: " مباحة ".
(3) سقط من الأصل.(18/156)
11584- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه فريسة السبع، إذا انتهينا إليها، وبنى الأمر على أنا إذا صادفناها واستلبناها من السبع، وهي في حركة المذبوح، فهي ميتة، وإن كانت فيها حياة مستقرة، فذبحناها، حلّت، وهذا مما تكرر مراراً في أحكامٍ، والمزني لما حكى ما ذكرناه، ظنّ أنّ الشافعي رضي الله عنه أثبت الذبح وإن كانت الفريسة في حركة المذبوح، فأخذ يعترض، والأمر على خلاف ما ظن؛ فإنه إنما أثبت الذبح إذا كان في الفريسة حياة مستقرة.
فصل
في الحيوانات البحرية
11585- وحق هذا الفصل أن يذكر في الأطعمة عند تفصيل ما يحل وما يحرم، ولكن جرى رسم الأئمة بذكره هاهنا، فنتأسى بهم، ونقول: أما السمك فميتته حلال بكل حالٍ، سواء مات طافياً أو راسباً، أو مات بسبب أو غير سبب، فلا نشترط في إماتة السمكة تسبباً، ولا نشترط في موته سبباً ظاهراً، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه، والمعتمد عندنا ما روي عن النبي صلوات الله عليه أنه قال: " أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد والدمان الطحال والكبد " (2) .
ولو اقتطع رجل فلذة من سمكةٍ حيةٍ، فلا شك أن ذلك غير سائغ؛ فإنه في معنى التعذيب، ثم لو جرى ذلك، فالمذهب تحليل تلك الفِلْذة؛ فإن الذي يُحرّم المقطوعَ من الحيوان أن ما أبين من الحي فهو ميتة، وميتة السمكة حلال.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 299، مختصر اختلاف العلماء: 3/214 مسألة: 1315، رؤوس المسائل: 512، بدائع الصنائع: 5/36، المبسوط: 11/247.
(2) حديث " أحلّت لنا ميتتان ودمان ... " رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر. وقد صحح البيهقي إسناده، كما صححه الألباني في الإرواء (ر. المسند: 2/97، ابن ماجه: الأطعمة، باب الكبد والطحال، ح 3314، والصيد، باب صيد الحيتان والجراد، ح 3218، الدارقطني: 4/272، البيهقي: 1/254، إروإء الغليل: 8/164) ".(18/157)
ولو بلع سمكة حية، فالمذهب أنها حلال. ومن أصحابنا من حرم ذلك، وجعل الموت في السمكة بمثابة الذكاة في الذكية من الحيوانات البرية، وإذا بان أنا لا نحرمها وهي حية، فإن مست حاجة إلى بلعها، فلا حرج، وإن لم تكن حاجة فبلعها حية، فهو من تعذيب الحيوان، فالأصح منع ذلك، ومن أصحابنا من أحلّه، ولم يجعل لحياة السمك حكماً، وكأنها ميتة في نفسها.
واختلف أئمتنا في نجاسة خُرئها ودمها، وسبب الاختلاف تمييز السمكة عن الحيوانات لحل ميتتها.
هذا قولنا في السمك.
11586- فأما ما عدا السمك من حيوانات البحر، فللشافعي أولاً قول غريب: أن شيئاً منها لا يحل، إذا كان اسم السمك لا يتناولها، وهذا قول غريب ضعيف، في حكم المرجوع عنه، ولا نرجع إليه، والمذهب [أنها تحلّ] (1) على تفصيلٍ نذكره في حيوانات البحر سوى السمك.
ثم الترتيب المرتضى فيه أنها منقسمة إلى ماله نظير في البر، وإلى ما لا نظير له: فإن لم يكن له نظير في البر لا مما يحل ولا مما يحرم، فهوحلال في نفسه، ويشهد له أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قفلوا من بعض الغزوات، فأصابهم المجاعة، واشتد بهم الأمر، وكانوا يأكلون الخَبَط (2) ، حتى تقرّحت أشداقهم، وكانوا على سِيف البحر، فلفظ البحر حيواناً عظيماً يُسمى العنبر، فأكلوا منه زمناً، وتَزَوَّدُوا منه، ثم قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه، فلم يُنكر عليهم، وقال: " هلا حملتم لي منه " (3) هذا في الحيوان الذي لا نظير له.
__________
(1) في الأصل، و (ت 6) : " أنا نحيل ".
(2) الخَبَط: أوراق الشجر، كانوا يخبطونها حتى تسقط، فإذا سقطت، فهي خَبَط، فَعَل بمعنى مفعول.
(3) حديث الصحابة الذين أكلوا العنبر، فأقرّهم الرسول صلى الله عليه وسلم، متفق عليه من حديث جابر رضي الله عنه (البخاري: الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، ح 2483. مسلم: الصيد والذبائح، باب في إباحة ميتات البحر، ح 1935) .(18/158)
ثم إذا أحللناه، ففي اشتراط ذبحه قولان: أحدهما - أنا نشترط ذبحه قياساً على سائر الحيوانات البرية، وحلُّ ميتة السمك مستثنى عن القياس بحكم الخبر، فلا مزيد عليه.
والقول الثاني - أنا لا نشترط الذبح اعتباراً بالسمك؛ فإنه يساوي السمك في القرب من حالة الذبح (1) كما (2) أُخرج من البحر، ولعل السبب المُحِل لميتة السمك أن الوصول إلى السمك وهو في الماء عسر، بخلاف الصُّيود البرية، فإذا هي اصطيدت وأخرجت من الماء، اضطربت اضطراب المذبوح، [وهذا المعنى] (3) يتحقق فيما عدا السمك.
فأما الحيوانات التي لها نظير في البر، فهي منقسمة: فمنها ما نظيره حلال في البر، فهو حلال في البحر، والقولان جاريان في اشتراط ذبحه، وتحليل ميتته.
وإن كان نظيره في البر حراماً ككلب الماء، وخنزير الماء، ففي حل هذه الأجناس قولان: أحدهما - أنها محرمة ككلب البر وخنزير البر؛ فإنّ أقصى ما يُتَعلَّق به الاشتباهُ في هذا [المحل] (4) ، ثم أقرب مسالك الاشتباه الخِلقة، فإذا شابه ما ذكرناه الكلبَ أو الخنزير، وجب القضاء بتحريمه. والقول الثاني - أنه يحلّ؛ فإنه ليس كلباً ولا خنزيراً.
ثم إن قلنا: إنه يحلّ، فهل نشترط الذبح؟ فعلى القولين المقدمين. قال الأئمة: القولان في اشتراط الذبح مبنيان على أن جميع حيوانات البحر هل تدخل تحت اسم السمك أم لا؟ فإن قلنا: إنها سمك، وإن اختلفت صورها، حلت، ولم يشترط ذبحها، وإن قلنا: لا تدخل تحت اسم السمك، ففي حلها التفصيل المقدم.
ثم هل يشترط الذبح فيما يحلّ أم يحل ميتتها من غير ذبح؟ فعلى ما قدمنا.
وكل ذلك في الحيوانات المائية، وهي التي لا عيش لها في البر.
__________
(1) ت 6: " في العرف من حالة المذبوحين ".
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) سقط من الأصل.
(4) في الأصل: " المجال ".(18/159)
11587- فأما ما يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان، فالمذهب التحريم؛ قال الشافعي: هما من مستخبثات العرب. وقيل: حضر الشافعي مجلساً، فذكر بعض الحاضرين من مذهب ابن أبي ليلى أنه أباح الضفدع والسرطان، فأخذ الشافعي ينصر مذهبه، وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من عَدَّ هذا قولاً للشافعي رضي الله عنه (1) .
***
__________
(1) إلى هنا تم الموجود من نسخة (هـ 2) ، وجاء في خاتمة هذا الجزء ما نصه:
" تم كتاب الصيد والذبائح. يتلوه في الذي يليه -إن شاء الله تعالى- كتاب الضحايا. والحمد لله على عونه وإحسانه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه ".(18/160)
كتاب الضحايا (1)
11588- الأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] ، وقوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] ، وقال صلى الله عليه وسلم: " عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم " (2) . واتفق المسلمون على أن التضحية من الشعائر البيّنة، والقُربات الأكيدة، واختلف العلماء في وجوبها، فمذهبنا أنها سُنة مؤكدة، وليست واجبة إلاّ بنذر والتزام، على ما سيأتي تفصيل ذلك في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى.
11589- ثم إن الشافعي صدر الكتاب بما يستحبُّه للعازم على التضحية، فقال: " ينبغي لمن يريد التضحية ألا يأخذ من شعره وظفره شيئاً في عشر ذي الحجة " واختلف الأصحاب في تعليل ذلك، فقال قائلون: سبب هذا التشبُّهُ بالمحرمين؛ فإنهم الأصلُ، وهم أصحاب الهدايا والقرابين.
وهذا غيرُ سديد؛ فإنا لا نأمر العازم أن يجتنب الطيب ولبس المخيط، فتبيّن فسادُ هذا الاعتبار، ومن أصحابنا من قال: سبب ذلك أن التضحية في مشهور الأخبار سببٌ في استجلاب الغفران والعتق من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن
__________
(1) يبدأ من هنا اعتماد النسخة (ت 6) أصلاً، والنسخة (هـ 4) نصّاً مساعداً، والله سبحانه المسؤول أن ييسّر ويعين على الإتمام والسلامة من الخلل، والهداية إلى الصواب.
والحمد لله جل وعلا، فبينما الكتاب ماثل للطبع جاءنا جزء من نسخة أخرى، من مكتبة الأقصى، فك الله أسره، وطهره من رجس الصهاينة الغادرين، ويبدأ هذا الجزء من أول الضحايا وينتهي بباب الامتناع من اليمين من كتاب الأقضية والشهادات، وقد راجعناه، ولم نر فروقاً تستحق التسجيل، اللهم إلا مواضع قليلة أثبتناها، وقد رمزنا لهذه النسخة بـ (ق) .
(2) حديث " عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم " قال الحافظ: لم أره، وقال ابن الصلاح: هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه (ر. التلخيص: 4/250 ح 2236) .(18/161)
كان [يحرِّضه] (1) على التضحية: " أكبر ضحيتك، يعتق الله بكل جزء منها جزءاً منك من النار " (2) وقد رُوي صريحاً أنَّ رسول الله صلى النه عليه وسلم قال: " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يُضحِّي فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئاً " (3) .
فصل
قال: " ويجوز في الضحايا الجَذَع من الضأن والثنيّ من الأبل والبقر والمعز ... إلى آخره " (4) .
11590- هذا الفصل يشتمل على ذكر الأجناس التي يتعلق التضحية بها، وعلى ذكر الأسنان المعتبرة في الضحايا، وعلى ذكر الصفات المرعيّة فيها: أما الأجناس، فلا تضحية إلاّ بالنَّعم، وهي الإبل، والبقر، والغنم.
وأما السّنّ المعتبرة، فالمجزىء من الضأن الجذع، وهو الذي استكمل السنة الأولى، وطعن في الثانية، والذكر والأنثى سواء في الإجزاء، إذا استجمعا الصفات المعتبرة، كما سنذكرها.
والمجزىء من المعز والبقر والإبل الثنيّ، والثنيّ من المعز والبقر ما استكمل سنتين، وطعن في الثالثة، ويُسمى ما كان على هذه السّنّ من البقر المُسن والمسنّة، والثنيّ من الإبل ما استكمل الخمس وطعن في السادسة، وقد ذكرنا أن الذكر والأنثى في الإجزاء سواء، وإنما اختلفت أسنان الثنايا لغرضٍ جامعٍ لجميعها، وهو التهيّؤ
__________
(1) في الأصل: " يعزمه ".
(2) حديث " أكبر ضحيتك يعتق الله بكل جزء منها جزءاً منك من النار " قال ابن الصلاح: (هذا حديث غير معروف، لم نجد له سنداً يثبت " وقال الحافظ: لم أره هكذا. (ر. التلخيص: 4/252 ح 2368، مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/132) .
(3) حديث " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي ... " رواه مسلم، والترمذي، والحاكم.
(ر. مسلم: الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً، ح 1977. الترمذي: الأضاحي، باب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، ح 1523. الحاكم: 4/221. التلخيص: 4م 251 ح 2366) .
(4) ر. المختصر: 5/211.(18/162)
للحمل والطروق والنَّزَوان في الغالب، قيل: إنما يغلب هذا المعنى في الثَّنِيّ والثَّنِيَّة من الإبل، وهو غالب في الثني والثنية من المعز والبقر، والصفة التي ذكرناها من التهيؤ للحمل والنزوان تضاهي معنى البلوغ في الإنسان، ولا يحمل في الغالب إلا ثَنِيَّة من الإبل، وهي التي استكملت خَمْساً وطعنت في السادسة، وهذا المعنى بعينه يحصل على العموم والغلبة في الجَذَع والجَذَعَة من الضأن.
ثم كما أن ما دون البلوغ من الإنسان صغير، فما دون هذه الأسنان من النَّعم في حكم الصغر.
هذا بيان الأسنان وهي منصوص عليها في الأخبار.
11591- أما الكلام في الصفات، فقد قال الشافعي " ولا يُجزىء في الضحايا العوراء البيّن عورُها ... إلى آخره " (1) روى البراء بن عازب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أربع لا تجزىء في الضحايا: العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء الّتي لا تُنقي " (2) وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه " أنه نهى عن الشَّرقاء، والخرقاء، والمقابَلة، والمدابَرة " وعنه رضي الله عنه أنه قال: " أمرنا أن نستشرف العين والأذن " (3) أي نتأملها ونطّلع
__________
(1) ر. المختصر: 5/211.
(2) حديث " أربع لا تجزىء في الضحايا ... " رواه مالك، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي (ر. الموطأ: 2/482، المسند: 4/300، أبو داود: الأضاحي، باب ما يكره من الضحايا، ح 02802 الترمذي: الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، ح 1497، النسائي: الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحي، ح 4369، ابن ماجه: الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به، ح 3144، ابن حبان: ح 5889، الحاكم: 4/223، البيهقي: 9/274، التلخيص: 4/254 ح 2374) .
(3) حديث علي " أمرنا أن نستشرف العين والأذن " وأنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن الشرقاء، والخرقاء ... " رواه أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان والحاكم والبيهقي (ر. المسند: 1/80، أبو داود: الأضاحي، باب ما يكره من الضحايا، ح 2804، الترمذي: الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، ح 1498، النسائي: الضحايا، باب المقابلة وهي ما قطع طرف أذنها، ح 4372، ابن ماجه: الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به،=(18/163)
عليها؛ كيلا يكون بها نقص أو عيب. أما الشرقاء فهي المشقوقة الأذن، والخرقاء هي المخروقة الأذن، والمقابَلة هي التي قطعت فِلقة من أذنها، ولم تفصل، بل تركت متدلية من قُبالة الأذن، والمدابرَة هي التي تدلت فِلقة مقطوعة غير مفصولة من دبر الأذن. وفي بعض الألفاظ النهي عن التَّوْلاء، وهي المجنونة التي تستدير في المرعى، ولا ترعى رعياً به احتفال، والعجفاء الهزيلة، وقوله: " لا تُنقي " معناه لا نقيَ لها، والنِّقيُ المخُّ، وأما العرجاء، فمعناها بيّن، وذِكْرُ البيّن فيها، وفي العوراء يأتي مشروحاً في تفصيل المذهب، إن شاء الله.
11592- ثم ترتيب القول والضبط في الصفات أن نقول: هي منقسمة إلى ما يتعلق باعتبار اللحم، وإلى ما يتعلق بالاستحسان في الصورة والهيئة، فأما ما يتعلق باللحم، فينقسم: فمنه ما هو صريح في هذا المعنى، وهو المعنيُّ بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجفاء، والعجفاءُ الهزيلة، ثم إن المصطفى صلى الله عليه وسلم تعرض للمبالغة في هذه الصفة؛ إذ قال: " العجفاء التي لا تُنْقي " أي لا تنيل ولا تعطي نِقياً، ويجوز أن يكون المعنى لا تنقي الأكل، أي لا تكسبه نِقْياً.
وتبيّن من مضمون الحديث أن السِّمن البالغ غيرُ معتبر في الإجزاء؛ فإن ابتداء الوصف بالعجف يناقض الوصف بالسِّمن، وابتداء العجف غيرُ مانع من الإجزاء حتى يبلغ مبلغاً ينافي الإنقاء، وهذا لا ضبط فيه؛ إذ لا يمكننا أن نقول: العجفاء التي لا تجزىء هي التي بلغت نهاية العجف، وغاية الهزال، ولعل أقرب معتبر في هذا أن تصير بحيث لا يرغب في تعاطيها والتناول منها طبقة غالبة من طلبة اللحوم في سني الرخاء. فهذا أقرب معتبر، والناس على اختلافٍ بيّن في طلب السمن، فمنهم من يبغيه ومنهم من يطلب لحماً ليس بالسمين، ولكنه رخْصٌ لطيف المطعم.
11593- فأما ما يتعلق بصفة اللحم على تقريب، فالمريضة والتَّوْلاء والجَرباء والعرجاء والعوراء، فأما المريضة، فقد ورد تقييد المرض فيها بالبيّن، وهذا يرجع
__________
=ح 4143، مسند البزار: 2/321، ابن حبان: ح 5890، الحاكم: 1/468، البيهقي: 9/275، التلخيص: 4/255 ح 2376) .(18/164)
إلى اللحم؛ فإن المرض إذا بان وظهر، ظهر بحسبه العَجَف والهزال، وهذا صريح في أن عدم المرض لا يؤثر، والجرباء وإن ورد ذكرها في الخبر في معنى المريضة.
ثم لو فرضَ فارضٌ مريضة مرضها بيّن، ولم تبلغ بعدُ في الهزال مبلغاً لا تُنقي البهيمة المتصفة به، فالوجه القطع بأنها لا تُجزىء، ولو كان المرض يعني العَجَفَ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتصر على العجفاء من بين هذه الصفات، فإذا ذكر العجفاء وذكر المريضة، تضمن تعديدُ هذه الصفات أن كل صفة في نفسها معتبرة معنية في المنع عن الإجزاء، ويمكن أن يقال: إذا بان المرض، فسد اللحمُ، وصار مضراً، فلحم المريضة إذا بان مرضها، كلحم العجفاء التي لا تُنقي.
وأما الجرباء، فقد قال شيخي: أدنى الجرب يُفسد اللحم، فهو في معنى المرض البيّن، وهذا أراه متروكاً عليه؛ فإن أدنى الجرب لا يظهر أثره [في اللحم] (1) ومهما (2) بدا شيء منه في طرف من أطراف البهيمة، لم يظهر أثره في اللحم. نعم، إذا عم، أو ظهر ظهوراً فاحشاً، فهو يُهزل إهزال المرض، ولا يبعد أن يفسد اللحم، فلا بد وأن يكون بيّناً، كما ذكرناه في المرض.
وأما التولاء، فإنها لا ترعى رعياً معتبراً، وإذا استحكم ذلك بها، بان هزالها على القرب.
وأمّا العرجاء، ففي الحديث التقييد بالعرج البيّن، وهذا دليل ظاهر على أن أدنى منازل العرج لا يمنع الإجزاء، كما ذكرناه في المرض. ثم قال العراقيون: العرجاء التي لا تُجزىء، هي التي لا تقدر على المشي، وهذا اللفظ فيه تجوُّز؛ فإنّ الّتي لا تقدر على المشي هي الزَّمِنة التي لا تعمل إحدى قوائمها، وإنما تزحف، ولا يشترط انتهاء العرج إلى هذا الحد، ولكن العرج البيِّن هو الّذي يؤثر أثراً بيّناً في المنع من التردد على المرعى، والنَّعم لا تأخذ حظوظها إلا بالتداور؛ فإن ما بالقرب منها ينفد على القُرب، وقد لا تصادف في كل وقت في مراعيها رياضاً أُنفاً، بل الغالب احتياجها إلى التردد، فإذا ظهر العجز عن التردد، ظهر بحسبه نقصان العَلف،
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) مهما: بمعنى إذا.(18/165)
وأفضى ذلك إلى الهزال، وليس ما ذكرناه مخالفاً لما ذكره العراقيون، بل لم نشك في أنهم أرادوا بالعجز عن المشي العجزَ عن المشي الذي يُراد لاستيفاء العلف.
وأما العوراء، فهي التي بفرد عين، وهذا يؤثر في تنقيص الرعي، فإنها لا ترعى من أحد الشقين، ولا ترعى إلاَّ من الشق الذي ترى فيه، فهذا يؤثر في اللحم، ولو كان على إحدى عينيها نكتة، وكانت ترى على حال، أجزأت، وإن كان البصر في تيك العين ضعيفاً، وتأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم العوراء بالعور البيّن نصٌّ في ذلك.
فهذا كلام على الجملة في تقدير رجوع هذه الصفات إلى اللحم.
15941- ثم العجفاء على البيان الذي قدمناه لا تجزىء، والمريضة إذا هجم عليها مرض بيّن، وهي كأسمن ما يكون أمثالها لو ابتدرت وضُحيت (1) ، فلا وجه للحكم بإجزائها وإن كانت سمينةً، وكذلك القول في الشاة السمينة التي انكسرت رِجلها، فابتدرت على وفورها وسمنها، فلا تُجزىء التضحية بها، وقد نص الأصحاب على ذلك، وردّدوا القول في أنها إذا أُضجعت على سلامتها، وشُدَّ منها اليدان والرجلان، فاضطربت وانكسرت تحت السكين قبل جريان الذبح، فقال بعضهم: لا أثر لهذا التكسير، وقال قائلون: يمتنع إجزاؤها، فوضح بهذا أنَّا لا نشترط في هذه الصفات أن تنتهي إلى العجف، وقد أوضحتُ أنا لو كُنا نشترط ذلك، لكان في ذكر العجفاء مَقْنع، فلا نستريب إذاً أن هذه الصفات لا يقتصر اعتبارها ومراعاتها على ظهور أثرها في اللحم، ولا بُد من اعتقاد التعبد فيها.
ولو قال قائل: إنما منعت هذه الصفات لإفسادها اللحم، لجرى هذا في المرض ولم يجرِ في العرج.
وقد نقل الأئمة عن أبي الطيب بن سلمة أنه قال: العوراء التي لا تُجزىء هي [البخيقة] (2) التي فسدت حدقتها، والحدقة من الشاة مقصودة بالأكل، فأما إذا ذهب
__________
(1) هـ 4: وصحت.
(2) في الأصل: " النحيفة ". والمثبت من (هـ 4) . والبخيقة: فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي=(18/166)
بصر إحدى العينين من غير اختلال في الجِرم، فلا امتناع من الإجزاء، وهذا لا يُلزمه أن يعتبر وقوع العجف بسبب المرض، أو حصول رداءة اللحم؛ فإنه اعتقد أن العور على طول الزمان لا يؤثر في العجف، بخلاف المرض والعرج؛ فإنهما يؤثران على امتداد الزمان، فلا يمتنع أن يكون النهي عنهما محمولاً على الجسم؛ فإن استبانة العجف قد يختص بها ذوو المعرفة. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم العجف البيّن الظاهر لكل واحدٍ، والأسبابَ التي تؤدي إلى العجف، ولم يعتبر وقوع العجف (1 بها، فلم ير أبو الطيب العور مما يؤدي إلى العجف 1) ، وإنما رآه مانعاً إذا فسد به جِرم العضو، وقد قال بعض الأئمة: امتناع إجزاء العجفاء يلتحق بالقسم الذي سنذكره من الاستحسان والاستشراف، كما قال علي رضي الله عنه: " أُمرنا بأن نستشرف العين والأذن ".
والأنثى التي ولدت مرة أو مراراً قد يظهر فساد لحمها بالولادة، أو [بتكررها] (2) ، ولم يُلحِق أحد من الأصحاب التي تكرّر الولادة منها بالمريضة البيّن مرضها، واللحم قد يخبث من الفحل بكثرة النزَوان، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أن الفحل يمتنع إجزاؤه، وإذا تطرق التعبد إلى قاعدةٍ، لم تجر المعاني فيها على حسب المراد في الطرد والعكس، فالأنثى إذا انتهت إلى العَجَف لا تجزىء، يعني العجف البيّن، وكذلك الفحل، وإن حدث بهما مرض، وبان، ألحقناهما بالمريضة، ولا نعتبر سوى العجف البين والمرض البيّن أمراً، ولئن كان لحم الأنثى الولود مضرّاً، ففي الناس من يضرّهُ لحم البقر والإبل، وإن كان لا ينهري (3) ، ففي لحم البقر هذا المعنى، وليتنبه الناظر لما يجب الوقوف عنده حتى لا يقع في انتشار لا يعنيه.
هذا مجموع الكلام في قاعدة هذا القسم.
11595- وإذا تناثرت أسنان الشاة، فالذي ذهب إليه المحققون أن ذلك بعينه
__________
= بخقت عينها: أي فقئت. (المعجم) .
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 4) .
(2) في الأصل: " بتردده ".
(3) ينهري: أي ينضج أشد النضج، يقال: هرأ فلان اللحم أنضجه جيداً (المعجم) .(18/167)
لا يمنع الإجزاء. نعم، إن كان هذا المرض بيّناً، فالمنع بسبب المرض، وإن أفضى إلى عجف بيّن، امتنع الإجزاء للعجف، ولفظ الأئمة المعتبرين أن الأصح أن سقوط الأسنان لا يمنع الإجزاء، وهذا تشبيب بذكر خلاف، وقطع بعض المصنفين بأن سقوط الأسنان لا يمنع الإجزاء، فأما إذا سقط سن أو سنّان لا (1) يمتنع الإجزاء، ولو كان ما ذكره هذا الرجل مذهباً معتبراً، لقلنا في ضبطه: ما يؤثر في تعذر الرعي والاعتلاف، فهو المؤثر.
ولكن في ذلك سرٌّ يجب التنبُّه له وبه يتهذّب الفصل، فالأمر البيّن المعنوي العجفُ البيّن؛ فإن اللحوم مقصودة من الضحايا، والغالب على الأوصاف الأُخر -وإن ضممناها إلى العجف- التَّعبّدُ، ويشهد لهذا ما ذكرناه من هواجم الأمراض والتكسر مع تصوير تعجيل الضحية (2) ، وليس لساقطة الأسنان ذكر، حتى نتبع الشارعَ فيه تعبداً، فليس إلا رَدُّ الأمر إلى العجف، ولم يتصل ما نحن فيه بالقسم الثاني، وهو الاستحسان والاستشراف، فكان الأصح إخراج سقوط الأسنان عما يؤثر في الإجزاء، ومن شبب بخلاف فيه من غير اشتراط إفضائه إلى العجف، فهو ذهول منه عن مأخذ الكلام؛ إذ متعلق هذا القائل التشبيه بالعرج وما في معناه، وليس هذا من مواقع القياس؛ فإن اعتبار المعنى متقاعد، والغالب إذا تقاعد المعنى اعتبار الأشباه الخلقية.
فهذا منتهى الكلام فيما أردناه، وإذا مهدنا مضمون القسمين، ألحقنا بكل قسم مسائل تليق به، إن شاء الله.
11596- وقد حان أن نتكلم فيما نراه في قسم الاستشراف، فلتقع البداية بالشَّرقاء والخَرْقاء، وما في معناهما، فنقول: أولاً المصطلمة الأذن لا تُجزىء وكذلك إذا
__________
(1) سقطت الفاء من جواب (أما) .
(2) المعنى أن الضحية إذا كانت سليمة من جميع العيوب مستكملة جميع الصفات، ثم عندما هممنا بالتضحية وذبحها هاجمها مرض أو انكسرت رجلها، فلا تجزىء حينئذ مع أن المرض أو كسر الرجل لم ينقصها شيئاً، فدل ذلك على التعبد.(18/168)
أبين من الأذن فِلقة ظاهرة، بحيث تبدو للناظر من غير تأمل، والذي تحصّل لنا في ترتيب المذهب طرقٌ: أصحها وأحسنها ترتيباً أن نقول: إذا أبين جزء من الأذن امتنع الإجزاء، وإذا شَرَقَ وخَرَق، ففي امتناع الإجزاء وجهان: ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا يمتنع، إشارةً إلى أن الأذن مأكولة على الرؤوس، فإذا لم يُبَن منها شيءٌ، فالعضو باقية مهيأة للأكل، وإذا أبين منها شيء، فقد نقص ما يؤكل من العضو، وذهب القفال إلى منع الإجزاء واعتل فيما نقله الصيدلاني وغيره بأن قال: الأذن إذا شَرَقَت، فما يبرز بالخَرَق والشَّرَق ثم يلتئم، يصير موضع الالتئام جلداً، وكان في التواصل الخلقي في معنى اللحم، فكان ذلك مؤثراً.
هذا ما نقله أصحاب القفال عنه، وللبحث انعطاف عليه، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
وقال قائلون من الأصحاب: الشَّرقاء والخرقاء، والمقابَلة والمدابَرة، إذا لم يُبن شيء من آذانها لا يمتنع إجزاؤها، ولكنا نؤثر ألا يكون كذلك، فأما إذا أُبين من الأذن جزء كبير بالإضافة إلى الأذن، فلا إجزاء، وإن قلَّ، فوجهان، وهؤلاء يعتبرون اللحم، ويقولون: الفلقة الصغيرة تحذف من الرؤوس المشويّة وترد الآذان إلى ما يُعتاد ويستطاب أكله، والأطراف تصير كالمستحشفة الجاسية (1) ، ومضمون هذا يقتضي ألا يؤثر في الإجزاء إلا القطعة الكبيرة.
ولا يتصور ضبط القول فيه إلا بالتنبه لأصل عظيم، وهو أن النهي عن العجفاء والمذكورة معها في القسم الأول منقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلزم اتباع ما صح النقل فيه، والنهي عن الشرقاء والخرقاء موقوف على عليٍّ رضي الله عنه، وقوله: " أمرنا باستشراف العين والأذن " كلامٌ مبهم لا يمكن [أن يَستدَّ على تحقيق] (2) وقد ورد في الحديث النهي عن المصلومة، والمستأصلة، وهذا يشعر إشعاراً بيّناً بالإجزاء مع قطع البعض.
__________
(1) الجاسية: من جسا يجسو إذا صلب، ويبس. (المعجم) .
(2) في الأصل وفي (هـ 4) : " أن يسند إلى تحقيق " والمثبت من (ق) .(18/169)
وقد نحوَجُ في المضايق (1) إلى نقل مذاهب العلماء. قال أبو حنيفة (2) رضوان الله عليه: المانع من الإجزاء قطع الثلث، واعتبر أبو يوسف رحمة الله عليه النصفَ، ويترتب مما نبهنا عليه أن النظر إلى الأذن لا يجري مجرى النظر إلى العجفاء، والعرجاء، والعوراء، لما أشرنا إليه من وقوف النهي عن علي رضي الله عنه وأرضاه، ثم تحصّل من مذهبنا أن المقدار الكبير بالإضافة إلى الأذن [إذا أبين] (3) ، مَنَعَ الإجزاء، وهذا ينقدح فيه مسلكان صرح بهما الأئمة: أحدهما - النظر إلى اللحم، وفي هذا سرٌّ، وإن كنا لا نرتضي هذه الطريقة، فإن قائلاً لو قال: لو قطعت فِلقة على حجم الأذن من عضو كبير، فقد لا يؤثر ذلك في المنع من الإجزاء على ما سنصفه -إن شاء الله تعالى- فما الوجه في ضبط هذا؟ قلنا: كأن كل عضو مقصودٌ في نفسه، والأعضاء متفاوتة في الصغر والكبر، فهذا هو المعتبر، وإلى قريب منه أشار أبو الطيب بن سلمة.
ومن أصحابنا من راعى التحسين في الأذن؛ فإن العين تبتدر إلى الأذن من النَّعم ابتداراً ظاهراً، ولكن إذا حمل هذا على هذا المحمل، فاشتراط الحسن في الإجزاء بعيد، وإنما يليق بالاستحسان الاستحبابُ.
فإن قيل: من فصل بين القطعة الكبيرة والفلقة الصغيرة، فإلى ماذا يرجع؟ قلنا: لسنا نرى التحكم بمقدارٍ كما يعتاده أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ولكن مسلك الكلام في هذا عند القائل كمسلك الكلام في الفرق بين اليسير والكثير في دم البراغيث، وما يتطرق العفو إلى اليسير منه، وأقرب العبارات أن نقول: كل نقصان يلوح على البعد، فهو مانع، وكل نقصان لا يلوح على البعد، فليس مانعاً.
ونقل الأئمة اختلاف نصٍّ في التي لا أذن لها، وهذا عند ذوي التحصيل ليس تردُّدَ قول وتمثيلَ مذهب، ولكن إن كانت البهيمة صغيرة الأذن، وكانت أذنها لا تعدِم
__________
(1) في الأصل: " الضائقة "، والمثبت من (هـ 4) ، وآثرنا لفظها على لفظ الأصل -مع صحته- لأنه هو المعهود في كلام الإمام.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 303، المبسوط: 12/15، 16، تكملة فتح القدير: 9/515.
(3) في الأصل: " أو العين ".(18/170)
شكل الأذن في الجنس، فلا تعويل على الصّغر والكبر، وإن كانت سكّاء (1) ، لا أُذن لها، أو كان على موضع الصّماخ فلقة نابتة ليست على هيئة الأذن، فهي غير مجزئة.
هذا تمام القول في الأذن. وسبب التردّد فيها ما ذكرنا من جريانها في الأثر دون الخبر، وانضمّ إليه أنها عضو بادٍ وإن كانت صغيرة، ثم تردد الرأي في الاستحسان وطلب الأكل، فانتظم من مجموع ذلك اختلاف الطرق، وإذا نحن رددنا القطع من الأذن إلى اعتبار الأكل، فيلتحق هذا القسم بالقسم الأول أيضاً، وما قدمناه من رسم التقسيم يرجع إلى إرادة التفصيل والتقريب من الأفهام.
11597- ولم يبق من مضمون القسمين إلا مسائل نُرسلها ونلحقها بالأصول التي مهدناها، فمما نذكره إجزاء الخَصِيّ، فإن أبينت الخُصية منه، فإن الخُصية ليست معنيةً الأكل، ولا يتعلق بها خيالُ الاستحسان، وفقدُها يكسب اللحم من الوفور والمزيد ما لا يناسب الخصية فأجزأ الخَصِي لذلك وفاقاً.
فأما عدم الأَلية فنقول: قد تكون الشاة في جنسها عديمة الألية، وقد تكون ذات ألية في جنسها، فيتفق اقتطاع الذئب الأليةَ منها، وفي الصورتين تردد الأصحاب، منهم من قال: التي لا ألية لها في جنسها مجزئة، والتي سقطت أليتها على وجهين: أحدهما - المنع؛ للنقصان البيّن في اللحم المقصود، والثاني - الإجزاء قياساً على ما إذا كانت عديمة الألية في الجنس.
ومن الأصول المعتبرة أن سقوط الشيء قد لا يؤثر إذا كان عدمه في الخلقة لا يؤثر، وعلى هذا قال الأصحاب: الخَصِيّ مجزىء؛ فإنّ الأنثى مجزئة ولا خُصية لها خلقةً، وقال قائلون من أصحابنا: سقوط الألية بحالة أوآفة يمنع الإجزاء وجهاً واحداً، وهل تجزىء التي تكون عديمة الألية؟ فعلى وجهين، وينتظم في التي لا ألية لها بسبب السقوط أو كانت كذلك خلقةً في جنسها ثلاتة أوجه: أحدها - المنع فيهما.
والثاني - الإجزاء فيهما. والثالث - الفرق بين ما يرجع إلى الجنس وبين ما يسقط للآفة.
__________
(1) سكاء: أي صغرت أذنها، ولزقت برأسها وقل إشرافها (المعجم) .(18/171)
ولم يختلف الأصحاب في إجزاء الثنيّة من المعز وإن كانت عديمة الإلية في جنسها وهذا يكاد يقطع عذر من يمنع الإجزاء في الشاة العديمة الإلية في جنسها، ولكن الخلاف مذكور فيها، وكان شيخنا أبو محمد إذا روجع في الفرق بين الشاة العديمة الألية وبين الثنية من المعز يقول: صح عندنا أن شحم المعز يخلف ألية الضان، وبين الجنسين تفاوت بيّن لا ينكر في هذا المعنى، وإذا كانت الضانية عديمة الألية، فالشحم منها كالشحم من صاحبة الألية وهي فقيدة الألية.
وعندي أن الفقيه لا يلتفت إلى أمثال هذا، فالوجه القطع بإجزاء الفقيدة الألية في جنسها، والعلم عند الله تعالى.
وأما ما يتعلق بالقرن، فلا أثر له في المنع من الإجزاء: فالجمَّاء خلقةً مجزيةٌ، وكذلك الجلحاء والعقصاء وهي المكسورة القرن (1) ، فلا يتعلق بالقرن غرض معتبر، فإن القرن لا يعنى للأكل، ولا تعويل عليه في الاستشراف، وقد بان أن الغرض الأظهر من الأذن يؤول إلى اللحم.
والصغيرة الضرع مجزية، وكذلك الصغيرة الألية، وإذا قطع ضرع الشاة، فللأئمة تردد: منهم من ألحقه بقطع الألية، وفيه التفصيل المقدم، ومنهم من قطع بالإجزاء، فإن لحمة الضرع قريبة الشبه من الخُصية في معنى أنها لا تعنى بخلاف الألية، وإنما مثار الخلاف في الضرع مع حصول الوفاق في الخُصية من قِبل أن سلّ الخُصية مقصود لتوفير اللحم وتطييبه، وهذا لا يتحقق في الضرع، والأذن يؤثر قطعها بلا خلاف، وإن كان غضروفاً غير معدود من أطايب اللحوم، ولكن لا يلفى فقيده في الجنس الغالب والضرع يلفى فقيداً في غير الأنثى.
ونذكر وراء هذا مسألة ثم ننظم بعد ذكرها مراتبَ، فإذا اقتلع الذئب قطعةً صالحةً من فخذ الشاة، وظهر النقصان البيّن، فهذا مانع من الإجزاء وكذلك الأعضاء التي لا تخلو البهيمة عنها.
__________
(1) فسّر العقصاء بالمكسورة القرن، والمنصوص في المعاجم (اللسان والمصباح والمعجم) أنها التي التوى قرناها حول أذنيها. أما مكسورة الخارج فهي (القصماء) ومكسورة القرن الداخل هي (العضباء) (ر. اللسان) .(18/172)
11598- ومن أحاط بهذه المسائل نظمناها له في مراتب: إحداها - نقصانٌ بيّن في لحم مقصود لا يخلو عنه جنس، فما كان كذلك أثَّر في المنع. والمرتبة الثانية - نقصان في عضو مقصود معدود من الأطايب قد يخلو عن ذلك العضو جنس، وهذا كقطع الألية. والثالثة - نقصان في عضو غير معدود من الأطايب لا يخلو عنه الجنس الغالب، وهو الأذن. والرابعة - نقصان في عضو ليس من الأطايب وقد يخلو عنه جنس ولا [يقطع] (1) لتطييب اللحم، وهو كقطع الضرع. والمرتبة الخامسة - في نقصان يخلو عنه الجنس، وهو يقصد لتطييب اللحم، كنقصان الخُصية.
هذا بيان المراتب، ويعترض في أثناء الكلام خيالُ الاستحسان في الأذن، وخبطٌ للأصحاب في الشاة العديمة الألية في جنسها.
وهذا منتهى البيان في تأصيل الصفات وتفصيلها، وبيان محل التعبد والمَعْنَى منها، وفي بعض التعاليق عن الإمام (2) أن المرض الهاجم إذا لم ينته إلى الهزال، وفُرض ابتدار التضحية مانعٌ من الإجزاء على الأصح، ومن أصحابنا من قال: لا يمتنع إذا لم يظهر أثره في اللحم، وهذا غلط غير معدود من المذهب، ولذلك أخرته؛ فإن التعبد غالب في هذه الصفات، ولذلك قطع الأصحاب بأن رِجل الشاة إذا انكسرت قبل البطح للذكاة، لم تجزىء والله المستعان.
فصل
11599- تعرض الشافعي رضي الله عنه لما هو الأولى من الضحايا فقال: " الضأن أحب إلي من المعز؛ لأن لحمها أطيب " وقال قائلون: سبع من الغنم أحب إلينا من بقرة أو بدنة؛ لأن جنسها أطيب، والبدنة مقامة مقام سبع من الغنم، وكذلك البقرة، وقد تحقّق أن السبع في محل البدنة، وهي مختصة بطيب اللحم، ولم أر هذا مجمعاً عليه بين الأصحاب، ولست أرى القطع بهذا، وكيف أقطع به والبدنة
__________
(1) في الأصل: " يقصد ".
(2) الإمام: يقصد والده.(18/173)
مخصوصة بالذكر في كتاب الله، معدودة من الشعائر، وإذا ذكرنا البدنة في بعض الكفارات في المناسك صادفنا ذكرها مُصدَّراً، والبقرة بعدها، والسبع من الغنم بعد البقرة، وإن كنا قد نحمل هذا على التخيير.
11600- قال الشافعي في كتاب الحج " الأنثى أحب إلي من الذكر " (1) وإنما قال هذا في القرابين والهدايا، وقد تردد أصحابنا في هذا النص، فقال قائلون: إنما ذكر هذا في إجزاء الصيد عند تقويمنا الحيوان للرجوع إلى مقدار قيمتها من الطعام، والأنثى أكثر قيمة، وقال قائلون: أراد الأنثى التي لم تلد، فهي أولى من الذكر؛ لأن لحمها أرطب، وإنما يذهب الطيب من الأنثى إذا ولدت، وكذا من الذكر إذا أكثر النزوان، وإنما عمّ في الناس تفضيل الذكر على الأنثى في الطيب، لأنهم يعتادون أكل لحوم الخِصيان، ولحومها أطيب.
والوجه عندنا تقديم الذكر على الأنثى من طريق الأولى، وحمل نص الشافعي على التقويم، كما قدمناه، ثم لا ينبغي أن يُعدّل الشيء إلا بما يساويه، فالفحل الذي أكثر النزوان لا يقاس بالأنثى الرخْصة الرطبة التي لم تلد، ولكن يعتبر بالتي ولدت؛ فإن النزوان في الذكور كالولادة في الإناث، وإذا فرضنا ذكراً لم ينزُ وأنثى لم تلد، فالذكر أولى، وهذا مستبين في العرف، وما يشار إليه من رطوبة الأنثى ليس أمراً يحس ويُبالَى به، وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشين أملحين " (2) والأملح الأبيض، وفي بعض الأحاديث " أنه صلى الله عليه وسلم قال: لَدَم عفراءَ أفضل عند الله تعالى من دم سوداوين " (3) والرجوع في هذا إلى التعبد المحض.
وروي: " أنه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين يمشيان في سواد، ويأكلان في
__________
(1) ر. المختصر: 2/110.
(2) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين " متفق عليه (البخاري: الحج، باب من نحر هديه بيده، ح 1712. مسلم: الأضاحي، باب استحباب الأضحية، ح 1967) .
(3) حديث " لدم عفراء أفضل ... " رواه أحمد، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة (ر. المسند: 2/417، المستدرك: 4/227، البيهقي في الكبرى: 9/273، التلخيص: 4/259 ح 2387) .(18/174)
سواد، وينظران في سواد " (1) : معناه: أن قوائمهما، ومشافرها، ومحاجرها كانت سُوداً، وهذا محمول على الوفاق، لا يتعلق به استحسان. وفي الجملة استحسان الضحية واستسمانها مستحب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم " (2) قيل: تُهيأ مراكب للمضحّين يوم القيامة، وقيل: المراد إن التضحية بها تسهل الجواز على الصراط، وقيل في قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] ، المراد به استحسان البُدْنِ، واستسمانها، وفي قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، معنىً لطيف، وهو أن إقامة مراسم الشريعة قد يَستحِتُّ عليه المرونُ والاعتياد والنشوء (3) ، واعتماد التعظيم والاستحسان لا ينشأ إلا من تقوى القلوب.
فصل
قال: " ولا وقت للذبح يوم الأضحى إلا في قدر صلاة النبي عليه السلام ... إلى آخره " (4) .
11601- الضحايا والهدايا مؤقتة، ودماء الحيوانات في المناسك لا وقت لها، فمهما (5) وجبت، ساغ إراقتها، ولا اختصاص لها بزمانٍ، والضحايا المنذورة
__________
(1) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين يمشيان في سواد ويأكلان في سواد ... " لم نجد الحديث بلفظ (كبشين) على التثنية، وإنما ورد بلفظ (كبش) على الإفراد عند مسلم وأبي داود من حديث عائشة، وعند أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي سعيد الخدري (ر. مسلم: الأضاحي، باب استحباب الضحية، ح 1967، أبو داود: الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، ح 2792، 2796، الترمذي: الأضاحي، باب ما جاء فيما يستحب من الأضاحي، ح 1496، النسائي: الضحايا، باب الكبش، ح 4390، ابن ماجه: الأضاحي باب ما يستحب من الضحايا، ح 3128، التلخيص: 4/250 ح 2363) .
(2) حديث " عظموا ضحاياكم ... " سبق تخريجه في أول كتاب الضحايا.
(3) كذا. والمعنى الدربة والعادة والنشأة تستحث على إقامة مراسم الشريعة، أما التعظيم والإتقان والإحسان فلا ينشأ إلا من تقوى القلوب.
(4) ر. المختصر: 5/211.
(5) مهما: بمعنى إذا.(18/175)
سنصف القول فيها في أثناء الكتاب، وإنما غرض هذا تفصيل الكلام في وقت الضحية المقطوع بها، وجواب الأئمة متردد في أول وقت التضحية، وقد ذكر العراقيون فيه وجهين جامعين لما فرقه الأئمة: أحدهما - أن أول وقت التضحية يدخل بأن تطلع الشمس، ويزول وقت الكراهية، وقد وصفنا ذلك في كتاب الصّلاة، فإذا زال وقت الكراهية، ومضى بعده ما يسع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبته، فقد دخل أول وقت التضحية، و" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة: ق، وفي الثانية بالفاتحة وسورة الساعة " (1) فنعتبر ركعتين على هذا الحد، وكان يخطب خطبتين طويلتين. هذا أحد الوجهين.
فإذا انقضى بعد زوال الكراهية ما يسع ما وصفناه، دخل أول الوقت.
قالوا: والوجه الثاني - أنا نعتبر ركعتين خفيفتين، واعتل هؤلاء بأنا نعلم، أو نظن ظناً غالباً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خفف الصلاة والخطبة، لكان يضحي بعد ذلك، أو كان يأذن في التضحية، ثم إن اعتبرنا ركعتين، كما نقلنا عن رسول الله عليه السلام، فلا يخفى تقريب القول فيهما، وما ذكروا من اعتبار الخطبتين الطويلتين، فهو مما اختص به العراقيون، وقطع المراوزة باعتبار خطبتين خفيفتين، وردّوا الخلاف إلى اعتبار ركعتين طويلتين أو الاكتفاء بركعتين خفيفتين؛ فإنه لم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يطوّل الخطبة، وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى تخفيف الخطبتين في الجمعة، وهما ركنان، فقال: " قِصرُ الخطبة، وطول الصلاة مَئِنةٌ من فقه الرجل " (2) فكيف يصح منه تطويل الخطبة يوم العيد والناس على وِفاز (3) وشتات من الرأي في إقامة الضحايا.
__________
(1) رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، كلهم من حديث أبي واقد الليثي (ر. مسلم: صلاة العيدين، باب ما يقرأ في صلاة العيدين، ح 891، الترمذي: أبواب العيدين، باب القراءة في العيدين، ح 534 النسائي: صلاة العيدين، باب القراءة في العيدين، ح 1568، ابن ماجه: الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين، ح 1282، التلخيص: ح 693) .
(2) سبق هذا الحديث في كتاب الجمعة.
(3) وفاز: وزان سهام، جمع وَفْز كسهم. والوفَز بفتح الفاء: السفر وزناً ومعنىً. وسكون الفاء=(18/176)
ومما نذكره في التفريع على اعتبار الركعتين الخفيفتين والاكتفاء بهما أن نقول: من صار إلى ذلك فما أراه يكتفي بركعتين مشتملتين على أقل ما يجزىء في الصلاة، وكذلك ما أراه يعتبر ركعتين مع إسقاط شعار صلاة العيد، والعلم عند الله. وفي بعض التصانيف أنه إذا زال وقت الكراهية، ومضى بعده من الزمان ما يسع ركعتين، كفى ذلك، ولا نعتبر الخطبتين؛ فإن الشعار هو الصلاة، والخطبتان بعد الصلاة واقعتان بعد الفراغ عن شعار اليوم، ولهذا لم تكونا ركناً في صلاة العيد. وهذا ضعيف لا أصل له، وهو مخالف للنص.
فخرج من مجموع ما ذكرنا أن الأئمة اتفقوا على اعتبار خروج وقت الكراهية، ثم اعتبر بعضهم ركعتين طويلتين، واعتبر بعضهم ركعتين خفيفتين، واتفق المعتبرون، الذين على نقلهم تعويل، على اعتبار الخطبتين، وقطع المراوزة بوصف الخطبتين بالخفة، وذكر العراقيون وجهاً في اعتبار خطبتين طويلتين، وهذا وجه ضعيف.
ولا اعتداد بما نقلناه عن بعض التصانيف من إسقاط اعتبار الخطبتين.
11602- فإذا بان أول وقت التضحية؛ فإن زمانها يمتد إلى انقضاء أيام التشريق، فإذا غابت الشمس في اليوم الثالث وهو المسمَّى النفر الثاني، فقد فات وقت التضحية.
ويجوز التضحية في ليالي هذه الأيام، والأحسن الاتباع، وإيقاع التضحية نهاراً.
فإن قيل: التضحية عندكم سنة مؤقتة والسنن المؤقتة إذا انقضت أوقاتها، فلكم في قضائها قولان، فهلا أخرجتم قضاء التضحية على هذا الخلاف؟ قلنا: إن أراد تدارك التضحية، فلينتظر وقتها في قابل، والسنن التي تفوت مواقيتها لو لم يجر القضاء فيها، لتحقق الفوات فيها وانقطع المستدرك.
وكل ما نذكره في التضحية المسنونة التي لم يتعلق بها التزام النذر، ثم إذا فاتت التضحية وفُرض قصد التدارك عند دخول وقت التضحية في السَّنة القابلة، فهذا القصد
__________
=لغة، هي التي جاء عليها كلام الإمام. ويقال: على وفز وأوفاز، أي على عجلة من أمرهم.
(المصباح، والمعجم) .(18/177)
عندي لا معنى له؛ فإن ما يُوقعه من التضحية يكون أداءً، ويتصوّر من الرجل أن يتقرّب بأضاحيَّ في نوبة واحدة، فلا يكاد ينقدح معنى القضاء فيما هذا سبيله، وإذا كان الرجل يعتاد صوم أيام تطوعاً، فترك الصومَ، فليس يتحقّق عندي قضاؤه، وكذلك لو أفسدهُ بعد التحرم به؛ فإنَ الّذي يأتي به يكون ابتداء تطوع، والأيامُ الّتي رغَّب الشارع في التطوع بصيامها إذا لم يصمها المرء، فلا معنى بتقدير القضاء فيها، ولو تحرّم بالضوم، ثم أفسده، فقد يتخيّل المرء إمكان القضاء، ولست أراه أيضاً، والعلم عند الله.
والذي بقي من الفصل الكلام في الأضحية المنذورة وأنها هل تتأقت؟ وسنذكر هذا في فصلٍ جامع هو غمرة الكتاب، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وأحب ألا يذبح المناسك إلا مسلم ... إلى آخره " (1) .
11603- ذكرنا من هو من أهل الذكاة ومن ليس من أهلها، وأوضحنا أن من يحل مناكحته تحل ذبيحته، وأخرجنا من حكم التجاري (2) الأمة الكتابية، ثم مقصود هذا الفصل أن المستحب أن يتولى الرجل التضحية بنفسه إن استمكن منها، ولم يستشعر ضعفاً وانخناساً في [المُنّة] (3) ، وإن عجز، فالأولى أن يشهد ضحيته وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته: " يا فاطمة اشهدي ضحيتك؛ فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها " (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/212.
(2) كذا. والمراد أخرجنا من حكم جريان القاعدة: " من يحل مناكحته تحل ذبيحته " أخرجنا من ذلك الأمة الكتابية، فلا يحل نكاحها، وتحل ذبيحتها.
(3) في الأصل: " الجثة ". ثم المعنى: أنه إذا استشعر انخناساً، أي انقباضاً ونقصاً في القدرة على الذبح، فليشهد الذبح، ويذبح غيره.
(4) حديث " يا فاطمة، اشهدي ضحيتك ... " رواه الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، وعمران بن حصين، وعلي. ورواه البيهقي من حديث علي. وقد ضعّف الحافظ سند كل تلك الطرق (ر. الحاكم: 4/222، البيهقي: 5/239، 283، التلخيص: 4/261 ح 2396) .(18/178)
فإن استناب مسلم كتابياً، لم يمتنع ذلك إذا لم يفوض النية إليه، بل تولى النية بنفسه. ولو وكل الكافرَ بالنية، لم يصح؛ فإن النية لا تصح منه، وكذلك لو وكل كتابياً بتأدية الزكاة، وفوض إليه النية، فتفويض النية باطل، ولو تولى النية بنفسه، وفوض إليه التفرقة، جاز.
وبالجملة كل من تصحّ ذبيحته وتحل، يجوز أن يكون وكيلاً في التضحية، والذبيحة إنما تحل من مسلم قاصد، أو من كتابي قاصد، وقد ذكرنا القصد وتفصيله، وحكينا خلافاً في المجنون، وكنا على تلوّمٍ وتردد فيه حتى رأينا قولين حكاهما الصيدلاني وغيره في أن المجنون الذي يتصوّر منه نظمُ الفعل، إذا نظم الذبحَ وأقامه على حد الشرع، فهل تحلّ الذبيحة؟ أحد القولين - أنها لا تحل، ولعله الأصح، فإن قصد المجنون ساقط الأثر. والقول الثاني - أن ذبيحته تحلُّ لوجود حقيقة القصد منه، وذكرنا التفصيل في الصبي، والأصح فيه إذا انتظم تمييزه أنه من أهل الذكاة، فإن جمعنا المجنون والصبي المميز، طردنا فيهما ثلاثة أقوال: أحدها - الفصل بين الصبي والمجنون.
والسكرانُ إن جعلناه كالصاحي، فلا كلام، وهو من أهل الذكاة، وإن جعلناه كالمجنون، فقد مضى تفصيل القول في المجنون.
وفي بعض التصانيف ذكر خلاف في أن الأعمى لو أرسل كلباً أو سهماً، فاتفقت إصابة صيد، فهل يحل؟ وهذا في الصّيد، وهو عندنا مفروض فيه إذا استشعر رِكْزاً (1) من الصّيد وأدركه بحسّ نفسه، وبنى الإرسال عليه، ولا خلاف في أنه من أهل الذبح في الحيوان المقدور عليه.
فصل
قال: " وأحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة ... إلى آخره " (2) .
11604- مضمون الفصل في كيفية الذبح في الحيوان المقدور عليه، والغرض يتعلق بما يجب مراعاته، وبما يستحب: فأمّا ما يجب مراعاته، فقَطْعُ الحلقوم
__________
(1) الركز: الصوت الخفي. (معجم) .
(2) ر. المختصر: 5/212.(18/179)
والمريء، ثم الأوداج المطبقة بهما، ولا بد من انقطاعهما إذا حصل قطع الحلقوم والمريء بإمرار المُدية على الاعتياد في إمرارها، فإن تكلّف متكلف آلة تهيأ بها قطع الحلقوم والمريء مع ترك الأوداج، فالذبح يكمل عندنا بقطع الحلقوم والمريء.
واعتبر مالكٌ (1) قطع الأوداج مع قطع الحلقوم والمريء.
وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: الأوداج والحلقوم والمريء محل الذبح، فينبغي أن يحصل قطع معظم هذه الأشياء، ولا يشترط أن يقطع الذابح من كل شيء معظمه، ولكنه يعتبر معظم هذه الأعداد فقطْعُ الحلقوم والودجين كافٍ، وقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين كافٍ. هذا أصله.
والاعتبار عندنا بالحلقوم والمري، ولو أبقى الذابح من الحيوان المقدور عليه جزءاً من الحلقوم أو من المريء، فهو ميتة، ولو لم يَبْقَ من المريء إلا مقدارٌ نزرٌ، والحيوان -على القطع- إذا قطع منه الحلقوم والمريء إلا هذا المقدار، فينتهي إلى حركة المذبوح، فالحِلّ لا يحصل إلاَّ بقطع الجميع؛ فإن التعبُّد غالب في الباب، فلزم الاتباع.
ولو أمرّ السكين فويق الحلقوم والمريء ملتصقاً باللّحيين، وأبان الرأس، ولم يقطع الحلقوم والمريء، فهذا ليس بذبح يُحلُّ؛ لعُروِّه عن قطع الحلقوم والمريء، فالذي جاء به قطع الرأس، وهو متعبّد بقطع الحلقوم والمريء.
ومن الأركان المرعية في الذبح أن يحصل فري الحلقوم والمريء، بطريق القطع، حتى لو رمى بندقة إلى عصفورة، فاختطف رأسها، فهي ميتة؛ فإن قيل: قد حصل القطع، فهلا أحللتم؟ قلنا: هذا ليس بقطع، وهو بمثابة ما لو اعتمد رأس عصفورة واقتلعها، والتعبد بالقطع لا بالقلع.
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/912 مسألة 1821، شرح الخطاب: 3/210.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 295، مختصر اختلاف العلماء: 3/209 مسألة 1308، رؤوس المسائل: 516 مسألة 375، المبسوط: 12/1، 2، البدائع: 5/41، تكملة فتح القدير: 9/493، 494.(18/180)
ومن المعاني الكليّة التي فهمها العلماء إراحة الذكيّة، ولا يخفى أن خطف الرأس وقلعها في معنى الخنق، لا في معنى القطع.
ثم كل آلة حادة تفري، فهي صالحة للذكاة إلا السن والظفر؛ فإن الذبح إذا وقع بواحد منهما -وإن كان حادّاً فارياً- فالمذبوح حرام، ولا اختصاص بالسنّ والظفر، بل ما ذكرناه في كل عظم، حتى لو كان نصل النشابة من عظم، فأصابت صيداً، ومرقت فيه، وقتلت الصيد، فهو حرام، وإن كان غير مقدور عليه، والتعويل في هذا على نهي النبي عليه السلام عن الذبح بالعظم، فروي هذا مطلقاً، وروي أنه نهى عن الذبح بالسن والظفر، وقال: " إنهما من مدى الحبشة " (1) .
11605- وأهمّ ما يجب الاعتناء به في هذا الفصل ذبح البهيمة التي أصابته (2) نكبة من افتراس أو تردٍّ من موضعٍ [عالٍ] (3) ، أو وقوع شيء على الحيوان يقرّبه من حركة المذبوح، أو يُبقي فيه حياة مستقرة، فالتعرض لهذه الفصول حتى ينتظم ويتضامّ ما فيه من نشرٍ لا بُدّ منه، والوجه أن نذكر صوراً أرسالاً، ونوضح في كل صورة ما يليق بها، ثم نعقّبها بما هو الضابط:
فمن الصور أن يقطع رأس شاة من قفاها، فأَمَرّ الآلة الجارحة من جهة القفا، وانتهى إلى المريء، (4 فقطعه، وقطع الحلقوم، فكيف الوجه؟ قال الأصحاب: إن انتهت الشاة إلى حركة المذبوح، فانتهى إلى المريء 4) ، فهي ميتة، وقطْعُ الحلقوم والمريء بعد هذا لا ينفع، ولا يُحِلّ؛ فإنه ذبحٌ في ميتة.
ولو لم تنته إلى حركة المذبوح، وكانت فيه حياة مستقرة، فأمرّ السكين من الجهة
__________
(1) حديث النهي عن الذبح بالسن والظفر وأنها من مدى الحبشة، متفق عليه من حديث رافع بن خديج (البخاري: الذبائح والصيد، باب ما ندّ من البهائم هو بمنزلة الوحش، ح 5190.
مسلم: الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظم، ح 1968) .
(2) كذا بضمير المذكر في النسخ الثلاث والتأويل قريب، على معنى الحيوان، مثلاً.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ما بين القوسين سقط من (هـ 4) .(18/181)
التي انتهى إليها، فكيف السّبيل؟ قال الأصحاب: تحلّ الشاة؛ فإنه أخذ في قطع الحلقوم، وفي الحيوان حياة مستقرة، فجرى الذبح مُحلاً، [وطردوا] (1) هذا المسلك في جملة الأسباب التي تتقدّم على ابتداء القطع في المذبح الذي ورد التعبد به.
والذي يختلج في النفس في هذا المقام أن قائلاً لو قال: السكين الذي يفري من جهة القفا لو انتهى إلى المريء لا تصير الشاة بها في حد المذبوح، ولكن لو فرض - وحالتها هذه- قطْعُ المريء وبعض من الحلقوم، لصارت إلى حركة المذبوح قبل استتمام إبانة الحلقوم، وهذا لما نالها بسبب قطع القفا من قبل، فماذا ترون في ذلك؟ قلنا: إذا تحقق عندنا أنها لم تصر إلى حركة المذبوح عند ابتداء قطع المريء، فلا ننظر إلى التفاصيل التي وقع السؤال عنها، بل نفري المريء والحلقوم ونستحلّ، وأقصى ما تُعبّدنا به في الباب أن نبتدىء القطع في المحل المعين، وفي الحيوان حياة مستقرة، ولو فتحنا هذا الباب، لم نأمن أن يتوجه مثلُ هذا التقدير من غير قطع يتقدم على الأخذ في فري المذبح، ولكن لا مبالاة بهذا.
ومما يوضح الغرض في ذلك أن الذي يذبح الشاة لو قطع الحلقوم وبعض المريء على أناةٍ مجاوِزةٍ للعادة، حتى نتبين مصيرَ الشاة إلى حركة المذبوح قبل استكمال القطع فيما يجب قطعه، ثم فرى البقية، فالشاة تحرم.
ويخرج مما ذكرناه وجوب الإسراع في الفري على حدٍّ لا يُحَسُّ فيه ما ذكرناه من تفصيل الأمر وانتهاء الذكية إلى حركة المذبوح. وهذا واضح لمن صرف الدَّرَك إليه.
11606- ومما نلحقه بما ذكرناه أن الذابح لو أخذ في قطع الحلقوم والمريء، وأخذ [آخرُ] (2) معه في إخراج الحُِشْوة (3) والنخس في الخاصرة، بحيث يخرج قطعُ الحلقوم والمريء عن أن يكون هو المذفِّف، فلا شك في التحريم، ولا فرق بين أن يكون ما يجري مع قطع الحلقوم مما يذفف لو انفرد، أوكان يُعين على التذفيف.
__________
(1) في الأصل: " وطرحوا " والمثبت من (هـ 4) و (ق) .
(2) في الأصل: " آخذ ".
(3) الحُِشوة (بضم الحاء وكسرها) : الأمعاء.(18/182)
وقطع رقبة الشاة من قفاها إلى المريء لو اقترن بقطع الحلقوم، بأن كانت آلة تجري من جانب القفا، وأخرى تجرى من جانب الحلقوم، حتى التقت المديتان، فالوجه التحريم في هذه الصورة.
ولو تقدم قطع القفا والحياة مستقرة عند انتهاء المدية إلى المذبح، ثم أسرع الذابح في القطع، فالذكية مستحلّة، وهذا الذي نذكره على شريطةٍ، وهي أن يكون للقطع الجاري مع قطع المذبح أثر في التذفيف متحقَّق أو مظنون، فإن تبينا أن الأثر كله في التنجيز والتذفيف لقطع المذبح، فلا مبالاة بما يقترن به، إذا تحققنا أن التذفيف يقطع المذبح لا غير.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أمران واقعان في مساق الفصل: أحدهما - رعاية الإسراع في قطع المذبح إذا فرض الانتهاء إليه والحياة مستقرة. وحدّ الإسراع ألا يُحسّ ولا يدرك انتهاء الشاة قبل استتمام (1) قطع المذبح إلى حركة المذبوح، والآخر ألا يقترن بقطع المذبح ما يعين على التذفيف، وإن كان لو تقدّم مثله لا يضر، وهذا على نهاية اللطف.
ومن محاسن كلام صاحب التقريب في ذلك ومنه تلقينا ما ذكرناه أنه قال: لو أشار ذو سيف بسيفه القاطع إلى رأس شاة من قفاها، وأبان الرأس بضربةٍ، نحكم بالحل، وقد نُعمل سكيناً في القفا أو في إحدى صفحتي العنق، فلا نحكم بالحل إذا كان ينفصل لنا مصير الشاة إلى حركة المذبوح قبل استكمال المذبح، وليس هذا مما يؤثر فيه أن نجهل، ولكن القطع بسرعة يمنع التذفيف، فهذا ما يجب التنبه له.
11607- ونحن نبتدىء بعد هذا الخوضَ فيما هو مقصود الفصل، فنقول: إذا استللنا فريسة من براثن سبع، وترددنا في أنها هل صارت إلى حركة المذبوح، وقطعنا مذبحها ابتداراً من غير تقصير، أو انهدم سقف على شاة، فلم ندر أنها صارت إلى حركة المذبوح أم لا، وقطعنا منها الحلقوم والمريء، ونحن على تردد من أمرنا، أو قطع قاطع رقبة الشاة من قفاها، ثم أشكل الأمر، فلم ندر هل صارت إلى حركة
__________
(1) في (ق) : " انتهاء".(18/183)
المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح أم لا، فكيف السبيل، وما المسلك الذي نعتمده في التحريم والتحليل؟
فالذي نقله المزني، وذهب إليه جمهور الأصحاب اعتبار الحركة، ومعناها أنا نقطع الحلقوم والمريء بعد تقدم ما صوّرناه من الأسباب المفضية إلى الإشكال، وننظر: فإن تحركت الشاة بعد استكمال قطع الحلقوم والمريء، تبيّنا أنها لم تكن منتهية إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح، وإن لم تتحرك بعد قطع الحلقوم والمريء، تبينا أنها كانت ماتت أو انتهت إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح.
هذا ما اعتمده المزني وطوائف من الأصحاب واعترض عليه صاحب التقريب محقاً، فقال: لا تعويل على التحرك بعد قطع المذبح بدليل أن الشاة التي لا آفة بها إذا قطعنا منها الحلقوم والمريء وأخذت في الاضطراب الشديد، فلو بقرنا على الفور بطنها وأبنّا حُِشوتها، فقد تتحرك بعد ذلك، وإن كان إبانة الحُِشوة مذففاً كقطع الحلقوم والمريء، فإذا كان كذلك، فلا تعويل على الحركة؛ فإن البهيمة قد تنتهي إلى حركة المذبوح بسببٍ يوجب ذلك، ثم يقع بها مذفف، فتتحرك بعده.
ولا تعويل قطعاً (1) على إنهار الدم وإن ضري به عوام الناس؛ فإن البهيمة بعد انتهائها إلى حركة المذبوح بقطع الحلقوم والمريء يتدفق منها الدم زمناً طويلاً، ورقبة الإنسان تحزّ بالسيف المرهف ثم ينذرف الدم من بعد [زمان] (2) منفصلٍ محسوسٍ، فلا وجه لاعتماد الحركة، واتخاذها معتبراً في النفي والإثبات.
وإذا كان كذلك، فالوجه أن نقول: إذا استيقنا حياة مستقرة عند ابتداء الأخذ في القطع، قطعنا بالتحليل على الترتيب الذي ذكرناه في رعاية الإسراع، وإن استيقنا مصير البهيمة إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح، قطعنا بالتحريم. وإن لم نعلم حالها، طلبنا غلبة الظن بعلاماتٍ لا تدخل تحت الوصف، بل تنزل منزلة قرائن الأحوال التي لا يضبطها الوصف، كعلامات الخجل والوجل والغضب ونحوها،
__________
(1) هـ 4: " أيضاً ".
(2) في الأصل: " بزمانٍ ".(18/184)
ومنها ما يقتضي العلم، ومنها ما يُغلِّب على الظن؛ فإن حصلت علامةٌ مغلّبة على الظن في أن البهيمة لم تنته إلى حركة المذبوح حتى أخذنا في قطع المذبح، فنحكم بالحِل؛ فإن الأصل بقاء الحياة.
فإن غلب على الظن سقوط الحياة قبل الأخذ في قطع المذبح بعلامةٍ [لا نكيِّفها] (1) ، فنحكم بأنها ميتة، وإن قطعنا الحلقوم والمريء.
وإن استوى الاحتمالان، فالتحريم أغلب؛ إذ ليس التذفيف بأن يُحال على الأول أولى من أن يحال على الثاني، وفي ظن بقاء الحياة قبل الأخذ في قطع المذبح أدنى تردد، وفي كلام صاحب التقريب إشارة إليه؛ التفاتاً إلى مسألة الإنماء.
فهذا غاية البيان في ذلك.
ويخرج مما ذكرناه أنا لا نُبعد تلقِّي ظنٍّ من الحركة، إذا كانت شديدةً، ولكن الذي ننكره اتخاذ الحركة عَلماً في الباب يَثبت الحلُّ بها وينتفي بانتفائها.
11608- والذي ندعو المحقق إليه ألا ينصّ على جنس من الأعلام، ثم حاله فيما شاهدَ لا يخرج عن درك اليقين، وغلبة الظن، واستواء الأمرين، وقد ذكرنا في كل قسم ما يليق به: فاليقين لا يخفى حكمه، والظن إن غلب في التحريم حكم به، وإن غلب في التحليل، فالظاهر الحكم به، وفيه شيء، وإن استوى الأمران، غلب التحريم، ولا التفات على استصحاب الحياة؛ فإنا إنما نستمسك بالاستصحاب في غير هذا المقام؛ فإن التمسك بالحظر مع وقوع الشك أولى، ولو كان معنا توقيفٌ في التمسك بعلامةٍ، لاتبعناه، فإذا لم يكن، ورُددنا إلى ما نعلم، أو نظن، فلا نستريب في أن الوجه ما ذكرناه لا غير.
وتنخّل من مجموع المذكور أن من الأصحاب من اتبع الحركة عموماً، ومنهم من سلك المسلك الذي ذكرناه، وهو الذي قطع به صاحب التقريب، ولا وجه غيره.
وقد نجز القول فيما يجب الاهتمام به في الذبح المذفف المحلِّل، وفيما لا يكون كذلك.
__________
(1) في الأصل: " لا يكفيها ".(18/185)
11609- ونحن نذكر الآن أموراً تتعلق برعاية الآداب في الذبح: فمن أهمها تحديد الشفرة، والتحامل عليها بالقوة، وإراحة الذبيحة، ونؤثر أن توجه بالمذبح قِبل القبلة، ويتوجه الذابح أيضاً، والتسمية من أهم المسنونات. ثم قال الشافعي إن صلى الذابح على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا كراهية، ولو قال الذابح: باسم محمد، لم يجز هذا على هذه الصيغة، فليقع الذبح باسم الله تعالى، والصّلاة إن جرت، فهي من الأذكار المحبوبة، وليس الغرض من إجرائها إيقاع الذبح باسم محمد عليه السلام.
ومما ورد استحبابه عند التضحية أن يقول المهدي أو المضحِّي: " اللهم منك وإليك، فتقبّل مني ".
ثم الشاة والبقرة مذبوحتان، والبعير منحور في اللَّبة، والمقطوع من البعير الحلقوم والمريء أيضاً، ولو ذبح البعير حل، ولكنا نكره هذا؛ فإن الأمر قد يعسر عليه لطول العنق، وقد تبيّن أنا أمرنا بالسعي في الإنجاز والإيحاء جهدنا.
فصل
يجمع قواعد القول في نذر الضحايا، وتعيين البهائم لها،
وما يتعلق بأحكام التعيين والنذر
11610- فنقول أولاً: الضحيةُ ملتزَمة بالنذر، والقول فيها كالقول في كل منذور ملتزم، فإن جرى النذر فيه تبرّراً، ثبت، ولزم، وإن كان النذر مطلقاً غيرَ معلق بطلب نعمة، أو دفع مضرة، ففي المسألة قولان، كما سيأتي ذكرهما في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
ثم أول ما نصدر الفصل به أن نقول: إذا ابتدر الرجل، وقال: جعلت هذه الشاة ضحية، صارت ضحية بهذه الصيغة التي تضمنت تعييناً محضاً، وما أشعرت بالتزام في الذمة. وهذا متفق عليه. ثم ليس تعيينها مما يتصور الانفكاك عنه، حتى يسوغ للمعيِّن أن يخرجها عن قضية الضحية، وشبه الأئمة تعيين الشاة للتضحية بتوجيه العتق(18/186)
تنجيزاً على العبد، وتشبيه التعيين للتضحية بتعيين الشيء للحبس والوقفِ أقرب؛ فإن الضحية لا تخرج عن المالية -وإن تعيّنت- كالعين المحبسة، والعبد الذي وجّه مالكُه العتقَ عليه يخرج عن المالية بالكلية.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بشاة، فالتزم في الذمة، لزمه الوفاء بالنذر، على التفصيل الذي أشرنا إليه، فلو قال: عيّنتُ هذه الشاة لنذري، أو جعلتها عن نذري، فهل تتعيّن للانصراف إلى جهة النذر؟ فعلى وجهين هما قاعدة الفصل: أحدهما - أنها تتعين؛ فإن التعيين إذا كان يلزم الوفاء بمقتضاه من غير التزام، فكذلك إذا جرى التعيين صَرفاً إلى جهة الالتزام يجب الوفاء به.
والوجه الثاني - أن التّعيين لا يعمل عملاً بعد تقدم الالتزام؛ فإن الملتَزَم في الذمة دَينٌ، وتعيين شاة للدَّين بمثابة جعل الدَّين عيناً، وهذا متناقض، والدَّيْن لا يتعيّن إلاّ بالإيفاء، وليس التعيين إيفاءً.
ولو كان نذر الرجل أن يعتق عبداً، ثم قال: عيّنت هذا العبدَ لنذري، ففي المسألة وجهان كالوجهين في الضحية.
ولو قال الرجل مبتدئاً: لله علي أن أضحي بهذه الشاة، فالتضحية تلزمه، ولكن هل تتعين الشاة؟ فعلى وجهين مرتبين على ما إذا قدم النذر التزاماً، ثم ابتدأ بعده التعيين، والصورة الأخيرة أولى بثبوت حكم التعيين لها؛ فإنه لم يجرد الالتزام، بل قرنه بالتعيين، فرجع الالتزام إلى الإخبار عن لزوم التعيين، والتعيينُ مما يثبت لو تجرّد.
ولو قال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد، فيلزمه العتقُ على الجملة، ولكن هل يتعين العبد المعيّن للوفاء؟ فعلى وجهين، قال المحققون: العتق أولى بالتّعيين؛ من جهة أن للعبد حقاً، وحظاً في العتق؛ فإذا عيّنه للاستحقاق، ظهر وجوب الوفاء، والضحية لا حق لها في تعيينها.
ولو عيّن دراهم فقال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها وجهان مرتبان على الأضحية، وهي أولى بألا تتعين؛ فإنه لا فائدة في تعيينها، والشاة قد يفرض في تعيينها فائدة، من حسنٍ، وكبرٍ، وسمن، فيجوز أن يؤثر التّعيين فيها،(18/187)
ولسنا نذكر هذه الأسباب حتّى يظنّ الظان أنا نشترطها لتعيّن الشاة، ولكنا ذكرناها ليتبيّن المتبيّن أن للتعيين مساغاً ومساقاً على الجملة.
ولو كان على الرجل دراهم مطلقة عن جهة من جهات القربة، فقال: عيّنت هذه الدراهم لما عليَّ، فقد وجدت الطرق متفقة على أن التّعيين يلغو في هذه الحالة.
11611- فإذا ثبت ما أرسلناه من المسائل، فلا بد من ضبطها، وفي التضحية ثلاث صور: إحداها - التعيين المجرد من غير التزام مقترن أو سابق، وهو موجبٌ ملزم على ما سيأتي أحكام التعيين.
والصورة الثانية - أن يتقدم التزام مطلق غيرُ متعلِّق بعينٍ ثم يُفرض تعيين ضحية عن جهة النذر، ففي حصول التعيين وجهان، ولو فرض مثل هذا في العتق ففي التعيين وجهان أيضاً، والعتق أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه من استحقاق العبد حق العتاقة.
والصورة الثالثة - الجمع بين صيغة الالتزام والتعيين، وفي التعيين في هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الثانية، والأخيرة أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه. والخلاف يجري في نظير هذه الصورة من العتق، ولكن العتق يترتب على التضحية، وهو بالتعيين أولى.
ولو قال الرجل: لله عليَّ أن أتصدق بدراهم على هذا الشخص، فلا يبعد أن ينزل هذا منزلة ما لو قال: لله عليَّ أن أعتق هذا العبد، وهذه الصور الثلاث التي أجريناها في التضحية والعتق نجريها في الدراهم وغيرها، فلو قال مالك الدراهم: جعلت هذه الدراهم صدقة، فالتضحية في مثل هذه الصورة تتعيّن وجهاً واحداً، وفي تعيين الدراهم خلافٌ للأصحاب إذا جرى التعيين المحض على الصيغة التي ذكرناها.
ولو قال: عيّنت هذه الدراهم لزكاتي أو نذري، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا يلغو؛ لأن التعيين ضعيف في الدراهم، والتعيين ضعيف في معنى الصرف إلى الملتزِم المطلق، فإذا جمع الأمران، اقتضيا إلغاء (1) التعيين، وهذه الصورة ليست خالية عن
__________
(1) في (هـ 4) : فساد.(18/188)
احتمال بعيد؛ من جهة أن الدراهم قابلة للتعيين على الجملة عند بعض الأصحاب.
ولو قال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها الخلاف المشهور، وهو مرتّب على تعيين الضحية في مثل هذه الصورة، فالعتق أولى بالتعيين، والضحيةُ تليه، والدراهم تلي الضحية، والفروق واضحة. فهذه قواعد كلية فيما يتعلق بالتعيين، والكلام بعد هذا يختص بتعيين الضحايا.
ونحن بعد ذلك نذكر أنواعاً تتعلق مقتضياتها بالتعيين وعدم التعيين، ونُعيد فيها الصورة الثالثة التي ذكرناها في التعيين، ونذكر في كل صورة ما يليق بها من ذلك المقتضى.
11612- النوع الأول في النية، فنقول: إذا [لم يجب] (1) التعيين، فعماد التضحية التقرب إلى الله بالنية، [ولذلك] (2) لو جرى نذر مطلق، ثم أراد الناذر تأدية المنذور بالذبح، فلا بد من النية. ثم النية في التضحية كالنية في تأدية الزكاة، وقد مضى القول فيها، وفي جواز تقديمها، وفي الاستنابة فيها مفصلاً، ولا فرق بين البابين.
فأما الصور الثلاث في التعيين، فإن قال: جعلت هذه الشاة ضحيّة، فالمذهب أنه لا حاجة إلى النية، كما إذا قال لعبده: أعتقتك، ومن أصحابنا من شرط النية عند الذبح أو قبله. ولو نذر مطلقاً ثم قال: هذه الشاة عن نذري، فهذا يتفرع على الوجهين في أن الشاة هل تتعين؟ فإن قلنا: لا تتعين، فلا بد من النية إن أراد انصراف الذكيّة إلى نذره، وإن قلنا: بتعيين الشاة، فحكم النية على هذا كحكمها إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية. ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه الشاة، فالنية تخرج على الوجهين في التعيين وعدم التعيين كما ذكرنا.
11613- النوع الثاني -في التلف والإتلاف- نذكر حكمها في الصور الثلاث: فإن
__________
(1) في الأصل: " لم يجز ".
(2) في الأصل: " وكذلك ".(18/189)
قال: جعلتها ضحية، فلو تلفت (1) ، فلا ضمان؛ فإنه لا مستند لهذا القسم إلى التزامٍ في الذمة، بل تعلق بالمعيّنة حقٌّ، وقد فات بفواتها. ولو أتلفها المضحي أو غيره، التزم القيم، ثم إن كان المتلف أجنبيّاً، لم يلتزم إلا القيمة، وإن كنا لا نجد بها ضحية -ولا يخفى تصوير ذلك على من أراده- ولا نقول: فوّت الجاني ضحيةً، فعليه تحصيل ضحية، لأن الجناية لا تَرِد إلا على محل التقويم، وكونها ضحية يتعلق بالقُربة والقُربة لا تُضمن، ولو كان المتلِف صاحبَ الضحية، فإن وجدنا بالقيمة ضحية من غير زيادة ولا نقصان، فذاك، وإن قصرت القيمة عن ثمن ضحية، فهل على صاحب الضحية أن يبلّغها ثمن ضحية؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه كالأجنبي. والثاني - يلزمه؛ لأنه التزم التضحية، فعليه الوفاء بها، وقد فوّتها، فعليه تحصيل ضحية.
ونستتم القول في القيمة إذا انتهى الكلام إليها، فإن كانت القيمة ثمن ضحية، فلا كلام، وإن زادت على ثمن ضحية، ولم يجد ضحيَّةً كريمةً بها، فيشتري ضحية، وفي الفاضل وجهان: أحدهما - أنه يُشترى بها شقصٌ من شاة؛ فإن الشاة وإن كانت لا تتبعض في التضحية ابتداءً، فإذا أفضت الحاجة إلى التبعيض فيها، احتمل التبعيض، ثم البعيدُ إثباتُ بعضٍ في الضحية ابتداء. والوجه الثاني - أن الفاضل نصرفه مصرف الضحايا، حتى إن أراد أن يتخذ منه خاتماً يقتنيه ولا يبيعه، فله ذلك، فأما ابتياع بعض ضحية به، فلا، وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في بعض الصور في الزكاة، حيث تجتمع الحِقاق، وبنات اللبون، فقد تُفضي التقاسيم إلى تقدير صرف فضلٍ من القيمة إلى جزء من الحقاق، أو بنات اللبون، ثم فيه الاختلاف على حسب ما يليق بقاعدة الزكاة.
فإن قيل: إذا كان لا يبعد صرف القيمة مصرف الضحايا، فالبعض من الشاة أقرب إلى الضحية من الدراهم، وليس ذلك كالزكاة؛ فإن للدراهم مدخلاً فيها على الجملة، ويشهد لذلك بَذْلُ الدراهم في الجبران. قلنا: هذا سؤال متجه يقتضي ترتيب الخلاف فيما نحن فيه على الخلاف في الزكاة. ومقتضى الترتيب أن التبعيض
__________
(1) أي بآفة سماوية.(18/190)
أَوْجهُ في التضحية منه في الزكاة، ثم إذا فاتت الضحية، ولم ينقطع الحق، صارت القيمة التي يتعذر صرفها إلى الضحية بمثابة الضحية نفسها. هذا إذا فضل من القيمة فاضل، وتعذر ابتياع ضحية كريمة بجملة القيمة.
ولو قصرت القيمة عن الضحية وملتزمُها أجنبي، فالقول فيها كالقول في الفاضل من القيمة.
وما ذكرناه من الإتلاف أردنا به إهلاكاً بإحراق أو غيره، فأما إذا ذبح الأجنبي الضحية في وقت التضحية، فهذا يخرج على أن النية هل تُشترط في التضحية بالشاة المعينة، التي قال صاحبها: جعلتها ضحية؟ فإن قلنا: لا يشترط النية، فالضحية تقع موقعها، وإن قلنا: لا بد من النية، فالضحية لا تقع موقعها؛ فإن صاحب الضحية لم يستنب هذا الأجنبي في التضحية، فقد فاتت النية، وفات بفواتها القُربة.
التفريع:
11614- إن حكمنا بأن التضحية تقع موقعها، فنفرض فيه إذا لم يفرق اللحم على مستحقيها، ونقول: هل يجب على هذا الذابح ما بين هذه الشاة حية وبينها مذبوحة؟ في المسألة قولان: أحدهما - يجب؛ لأنه اعتدى بالذبح. والثاني - لم يجب، وهو الأقيس، لأن الذبح وقع مستحقاً، ولم يتعلق به تفويت، والقيمة تلزم على مقابلة التفويت.
ولو ذبح الأجنبي الضحية، وفرق لحمها، فالتفريق لا يقع موقع الاعتداد، واللحم محرّمٌ على آخذه؛ فإن تعيين الآخذ إلى صاحب الضحية.
ويخرج من ذلك أنه بتفرقة اللحم يكون مفوّتاً للحم، فيلتزم بسبب تفريق اللحم العوضَ لا محالة.
ثم إذا كنا نفرع على أن الأجنبي الذابح لا يُغرّم بالذبح لوقوع الذبح مستحقاً، فإذا انضم إلى الذبح تفريق اللحم، فالذي رأيته للأصحاب القطع بأنه يُغرَّم في هذه الحالة النقصَ الذي يقتضيه الذبح، وإنما القولان فيه إذا اقتصر على الذبح، وترك [تفرقة] (1) اللحم على صاحب الضحية.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/191)
هذا ما وجدته، وليس يبعد عن القياس طرد القولين في صورة تفريق اللحم؛ فإن الضحية بالذبح وقعت موقعها، وتفرقة اللحم جناية على ضحية قد بلغت محلها.
ثم إذا قلنا: يجب الضمان بسبب تفرقة اللحم وبسبب الذبح، فكيف السبيل في الجمع بين الغرمين؟ فعلى قولين حكاهما صاحب التقريب: أحدهما - أنا نغرمه الشاة حيةً؛ فإنه بالذبح والتفريق فَوَّتها. والقول الثاني - أنّا نغرمه ما نقصه الذبح، ثم نغرمه قيمة اللحم، فإن الذبح والتفريق فعلان مختلفان، فيتعلق بكل واحد منهما غرم على حياله، والمسألة محتملة حسنة.
والوجه عندي طرد القولين فيه إذا ذبح رجل شاة إنسان، ثم أتلف لحمها من غير فرض في الضحية؛ فإنا لا نرى لجريان القولين اختصاصاً بمقتضى الضحية، والمسألة محتملة، لطيفة.
وكل ما ذكرناه تفريع على الأصح وهو أن الشاة تقع ضحيةً إذا ذبحها الأجنبي.
فإن قلنا: لا تقع ضحية، فاللحم كيف حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما - أن الضحية انفكت، واللحم مملوك لصاحب الشاة، فعلى هذا يتوجه على الذابح ما نقصه الذبح. والوجه الثاني - أن اللحم مستحق لجهة الضحية؛ فإن قول صاحب الشاة: جعلتها ضحيّةً لا يغير استحقاق جهة الضحية، -وإن لم يقع الاعتداد- فمصرف اللحم إذاً مصرف الضحية المستحقة، كما سنصفه إن شاء الله، ثم لا يجب على الذابح إلا ما نقصه الذبح، وإن فوّت الاعتداد بالضحية، فإن تفويت الضحية لا يغرمه الأجنبي كما قررناه.
فإذا ثبت ما ذكرناه فيه إذا قال: جعلتها ضحية، فلو نذر ضحية، ثم قال: عيّنت هذه الشاة لنذري، ثم فُرض تلف أو إتلاف، فهذا يتفرع على أنَّ الشاة هل تتعيّن؟ فإن قلنا: إنها لا تتعيّن، فالتعيين لغوٌ، فإن تلفت الشاة، فالشاة مملوكة تلفت أو أتلفت، ولا يخفى الحكم، والذمةُ مشتغلة بالنذر، وإن قلنا: الشاة متعينة لجهة النذر، فلو تلفت، فهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى وجهين: أحدهما - تبرأ كما لو قال ابتداء: جعلت هذه الشاة ضحية. والثاني - لا تبرأ لتقدم النذر، فكأن فائدة التعيين وجوب صرف الشاة المعينة إلى جهة النذر، فإن فاتت، فالنذر قائم، فهذا هو الذي(18/192)
زدناه في هذه الصورة. فإن قلنا: الذمة تبرأ بالتلف، فلو فُرض الإتلاف، فتفريع الإتلاف على هذا كتفريع الإتلاف إذا قال: جعلتها ضحية، وقد مضى.
فأما إذا قال: لله عليَّ أن أضحيّ بهذه الشاة، فهذه الصورة أولى بالتعيين وحكمه كما إذا قال: لله عليّ ضحية، ثم ابتدأ فَعيّن شاة عن نذره، وهذا القدر الذي نريد.
ثم التفريع في التعيين وعدم التعيين ما ذكرناه.
11615- النوع الثالث - في تعيّب الضحية، وهذا يدور على الصور الثلاث، فإن قال: جعلتُ هذه الشاة ضحية، ثم عابت عيباً يمنع مثله الإجزاء ابتداء، فالشاة مستحقة كما كانت، ولا ينفك التضحية عنها، وليس على صاحبها شيء بسبب طريان العيب؛ فإن التعيب لا يزيد على التلف، ولو تلفت في هذه الصورة، لم يجب على صاحبها شيء، فالتعيب لا يُلزم شيئاً.
ولو نذر، ثم عيّن عن النذر، فإن قلنا: التعيين باطل، فلا أثر له، وإن قلنا: التعيين صحيح، فإذا عابت تيك الشاة، فهل يجب الإتيان بسليمة؟ فعلى وجهين، وهذا الاختلاف يناظر ما ذكرناه في التلف في هذه الصورة، ثم إن لم نُوجب الإبدال، فهذه المعيبة مجزئة، وإن أوجبنا الإتيان بسليمة، فهذه المعيبة هل ينفك الاستحقاق عنها؟ فعلى وجهين: وسنذكر لهما نظيراً في ضلال المعيّنة من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
ونستتم القول في التعيب الطارىء. قال الأصحاب: إذا شدّ الرجل قوائم الشاة، ونوى التضحية بها، فاضطربت وانكسرت رجلها، فهل يجزىء التضحية بها والحالة هذه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يجزىء؟ فإنها كالمسلّمة (1) إذا اتصل به (2) الذبح، ومنهم من قال: لا تجزىء؛ فإن التضحية إنما تحصل بالذبح ولا تضحية قبله (3) .
__________
(1) كذا في النسختين. والشدّة على اللام من (هـ 4) وفوقها علامة (صح) تأكيداً لصحة الرسم.
(2) به: أي بالتسليم.
(3) كما سيظهر من شرح باقي المسألة خصّ الإمام الوجهين فىِ صورة ما إذا عين هذه الشاة عن نذرٍ سابقٍ في الذمة، وسيذكر الإمام ذلك صراحة في هذه الفقرة.(18/193)
وكان شيخي أبو محمد يقول: هذا التردد قبل قطع شيء من الحلقوم، وكان القفال يقول: إذا ساق الرجل هدياً، فتعيّب قبل الانتهاء إلى الحرم، أثر في الإجزاء، وإن دخل الحرم، ثم تعيب أجزأ؛ فإن الهدي قد بلغ محِله، وهذا مما اختصّ به القفال، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن التعيب في الحرم كالتعيب قبل البلوغ إليه، والدليل عليه أن من أراد أن يهدي هدياً في الحرم نفسه، فتعيب، فهذا هدي في المحل، ويجب القطع بأن التعيب يؤثر، ولا نرى للسَّوْق من الحل إلى الحرم أثراً في الإجزاء، ومَنْعه.
وما ذكره الأصحاب من التعيب بعد شد القوائم إذا اتّصل الذبح به. وما ذكره القفال من التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم مبهم بعْدُ، فإن كان الكلام مفروضاً في المتطوَّع به من غير نذر ولا تعيين، فالذي أراه أن التعيُّب قبل الذبح يخرجه عن الإجزاء، وهذا في التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم أظهر؛ فإن النية المجردة لا أثر لها، والدليل عليه أنه لو نوى وانتهى الهدي إلى الحرم، أو نوى بعد شد القوائم، ثم أراد بيع ما انتهى إلى الحرم وبيع الشاة بعد شد القوائم، فهو جائز، والتعيب إذا جرى في وقت يجوز البيع فيه يستحيل أن يقع التضحية بعده مع قيام العيب، فالوجه فرض ما ذكره الأصحاب فيه إذا عين الضحية والهديَ عن نذر سابق، وقلنا: التعيب بعد التعيين والحكم بالتعيين يمنع الإجزاء، فلو فرض التعيب بعد الوصول إلى الحرم، أو بعد شدّ القوائم، فعلى هذا الوجه تردد الأصحاب.
11616- وقد نجز القول في التعيب الطارىء، ونحن نُلحق بهذا المنتهى توجيهَ التعيين على شاة معيبة، وهذا نذكره في الصور الثلاث، فإن قال: جعلتها ضحية، ومثلها لا يجزىء، فالذي أطلقه الأصحاب أنه يلزمه إجراؤها مجرى الضحايا، وإن كان بها عيب، وهو بمثابة ما لو قال لعبدٍ لا يجزىء إعتاقه عن الكفارة: أنت حر عن كفارتي، فالعتق ينفذ، والذمة لا تبرأ عن واجب الكفارة، ولو أشار إلى ظبية وقال: جعلتها ضحية، لغا لفظه، ولم يلزمه صرفها إلى حكم التضحية. ولو أشار إلى حُوارٍ أو فصيل، وقال: جعلته ضحية؛ ففي المسألة وجهان، هكذا رتب الأئمة، ونقصان السّنّ مردّد بين العيب وبين الجنس المخالف للنَّعم، ورأيت للأصحاب رمزاً في تعيين(18/194)
المعيبة إلى خلافٍ، من حيث إنها لا تُجزىء، كما أن الفصيل لا يُجزىء، ثم إذا جرينا على الأصح، فلا يلزمه في المعيبة المعينة غيرها؛ فإنه لم يلتزم شيئاً، بل عين، وتعيينه بين أن يصح، وبين أن يلغو.
ولو كان نذر ضحية، ثم عيّن عن نذره معيبة، فلا شكّ أن الذمة لا تبرأ بهذه المعيبة، وهل تتعيّن هذه المعيبة مع بقاء اشتغال الذمة بضحية مجزية؟ فعلى وجهين.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحيّ بشاة عرجاء، أو عجفاء، لا تنقي، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يلزمه صحيحة، ومنهم من قال: لا نلزمه شيئاً؛ فإنه التزم ما لا أصل له في الشرع، ومنهم من ألزمه ما التزم، ولم يُلزمه صحيحة، وجعل الالتزام في المعيبة، والظبية، والفصيل، على الترتيب الذي ذكرناه في التعيين الذي لا التزام فيه.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه، وكانت معيبةً، فهذه الصورة الثالثة يغلب التعيين عليها، لأن الالتزام مقرون بالتعيين فيها، وقد ذكرنا التعيين المحضَ، وذكرنا الالتزام المطلق والتعيين بعده، والالتزامُ المقرون بالتعيين بينهما. ومن انتهى إلى هذا الموضع بفهم ودركٍ، لم يخف عليه كيفية الترتيب.
11617- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا التزم في الذمة صحيحةً، ثم عين معيبةً عن جهة النذر، فقد ذكرنا أن ذمته لا تبرأ عن الضحية المطلقة، وهي محمولة على السليمة عن العيوب المانعة من الإجزاء، فإذا قلنا: المعيبة تتعين لجهة التضحية وإن كانت الذمة لا تبرأ بها، فلو زال العيب قبل التضحية والذبح، فقد قال الأصحاب: لا تبرأ الذمة بها؛ فإنها تعينت وهي غير مجزئة، وطريان السلامة لا حكم له.
وهذا فيه تردد عندي؛ فإنا قلنا: إذا عين عن النذر المطلق شاةً سليمة، وقضينا بتعيينها، فلو غابت، فمن أصحابنا من يقول هي مجزئة مع العيب الطارىء؛ فإذا كان العيب الطارىء عند بعض الأصحاب يؤثر في المنع ولا يؤثر عند البعض، فلا يمتنع تخريج السلامة الطارئة على الخلاف؛ اعتباراً بالعيب الطارىء. وقد نجز القول في التعيب.(18/195)
11618- النوع الرابع - في ضلال الشاة المعيّنة فنقول: لو عين من غير نذر ضحيةً، فقال: جعلتها ضحية، فَضَلَّت، فلا نُلزم المعيِّن شيئاً؛ فإنّها لو تلفت، لم نُلزمه شيئاً، وإن نذر، ثم عيّن شاةً عن نذره؛ فإن قلنا: التّعيين لاغٍ، فالشاة الضالة كانت مملوكة والنذر باقٍ، وإن قلنا: تتعيّن الشاة المضافة إلى جهة النذر، فلو ضلت، فهو كما لو تلفت، وفي وجوب البدل وجهان، فإن أوجبنا البدل وضحى بالبدل، فوجد الأصل، فهل نلزمه التضحيةَ بالأصل؟ فعلى قولين: أحدهما - لا نلزمه؛ لأن الفرض قد سقط، وانفك الاستحقاق. والثاني - نُلزمه الأصلَ؛ لارتباط الاستحقاق به أوّلاً.
ولو عين شاة عن جهة النذر، فضلّت، والتفريع على التعيين، فعين بدلاً لمّا أوجبنا عليه البدل، فيتعيّن، فلو وجد الأصل قبل ذبح البدل، فحاصل ما ذكره الأصحاب من مجموع الأصول أربعة أوجه: أحدها - أنه يضحي بالأصل. والثاني - يضحي بالثاني؛ لأن الوجوب انتقل إليه، وانفك عن الأول. والثالث - يضحي بهما لتعلق التعيين بهما، والرابع - يلزمه التضحية بإحداهما، والخِيَرةُ إليه، ولا معدل عنهما.
ومن لطائف المذهب أنه إذا عين عن نذره شاة، وقضينا بتعيّنها بالتعيين، فلو ضحّى بشاةٍ أخرى، ونوى صرفها إلى النذر، فهذا يخرج على أن الشاة المعينة لو ماتت هل تبرأ الذمة كما لو قال: جعلتها ضحية من غير نذر والتزام؟ فإن قلنا: تبرأ الذمة -وهو ضعيف جدّاً- فعلى هذا لا تنصرف الشاة الثانية بالنية إلى جهة النذر، فإنا نصرف النذر إلى العين، ونقطع أثره من الذمة، ونجعله كما لو قال: جعلتها ضحية.
ولو قال ذلك ابتداء، لم تكن الشاة الثانية عن تعيينه، وإن قلنا: لو ماتت الشاة المعينة عن جهة النذر، لم تبرأ الذمة، فإذا ضحّى بشاة أُخرى، ففي وقوعها عن النذر تردُّدٌ بسبب التمكن من الضحية بالشاة المعينة، وهذا محتمل، ثم إن أجزأت الشاة المنوية، وأبرأت الذمة، فهل ينفك الاستحقاق عن المعينة؟ فيه الخلاف المشهور.
ولو قال من عليه كفارة: عينت هذا العبدَ للإعتاق عن الكفارة، ففي تعيينه خلاف، ولو أعتق عبداً آخر عن كفارته مع التمكن من إعتاق المعين، فالظاهر أن الذمة(18/196)
تبرأ، ولا خلاف أنَّ العبد المعين لو مات قبل إعتاقه، فاشتغال الذمة بالكفارة باقٍ، كما كان، والفرق بين مسألة الكفارة وبين ما نحن فيه أنَّ النذر وإن كان التزاماً، فهو تبرّع بالالتزام، فإن قَبِلَ النقلَ إلى عين، كان له وجه على بُعد، والكفارة الواجبة شرعاً لا تحتمل هذا المعنى.
11619- النوع الخامس - في بيان الوقت، وقد ذكرنا وقت الضحية المتطوع بها من غير تعيين ولا التزام، وذكرنا أن دماء الجبرانات في المناسك لا وقت لها من أيام السنة، ومهما وجبت أمكن أداؤها وإقامتها.
ولو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فيتعيّن التضحية بها في يوم النحر وأيام التشريق، كما ذكرنا في المتطوع به.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحّي بشاةٍ، فهل تتأقت التضحية بالأيام الأربعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعينّ لها وقت، كدماء الجبرانات ووجه المشابهة الوقوع في الذمة. ومنهم من قال: يلزمه إيقاع ما التزمه في الأيام الأربعة؛ فإنه التزم ضحية، والضحيّة مؤقتة. ثم إذا قلنا: تتأقت المنذورة المطلقة، فلا كلام، وإن قلنا: لا تتأقت فلو قال: جعلت هذه الشاةَ عن جهة نذري، وفرّعنا على أنّ التعيين يؤثر، فهل تتأقت التضحية، كما لو قال: جعلتها ضحيةً، من غير التزام. فعلى وجهين: أحدهما - أنها لا تتأقت كالمنذورة المطلقة؛ فإنها مصروفة إلى النذر. والثاني - تتأقت تغليباً لحكم التعيين ولا يخفى منشأ هذا.
11620- النوع السَّادس: في الأكل من لحم الضحية، ونحن نبدأ بتفصيل القول في الأكل من الضحية المتطوع بها بالنيّة، فنقول: أولاً لا خلاف أن للمضحِّي المتطوع الأكلَ من ضحيته، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ، وفي الخبر: " فكلوا وائتجروا " (1) معناه اطلبوا الأجر بالتصرف.
ثم قاعدة المذهب أن الأئمة اختلفوا في أن المضحي لو أراد أن يأكل جميع لحم الأضحية، ولا يتصدق بشيء منها، فهل له ذلك؟ أم يلزمه التصدق بشيء؟ فمنهم من
__________
(1) حديث " فكلوا وائتجروا " سيأتي تخريجه بعد قليل.(18/197)
قال: يلزمه التصدّق بمقدارٍ، تعلّقاً بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، ومنهم من قال: له أكلُ الكُلّ؛ إذ لو امتنع أكل الكُلِّ، لامتنع أكل البعض، والدّعاء إلى الإطعام استحثاث على مكارم الأخلاق. فإن قلنا: يجب التصدُّق بشيء، لم يختلف أصحابنا في أن الغرض يسقط بما ينطلق عليه الاسم وإن قلَّ، ويجب التثبت في هذا؛ فإنه على ظهوره مزِلّةٌ، وما ذكرناه مقطوع به، فلتقع الثقة به.
ثم لا شكَّ أنَّه لو تصدّق بالجميع، لكان أفضل، غير أن ما يقتضيه شعار الصالحين أن يأكل من ضحيته مقداراً وإن قلَّ، وكان شيخي يرى ذلك مكرمةً وإحياءً للشعار، وقيل: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل يوم الأضحى من كبد أضحيته " (1) وروي قريب منه عن عليٍّ رضي الله عنه: إذ قال في أثناء خطبته بالبصرة في أيام خلافته: " أما أن أميركم هذا رضي من دنياكم بطِمْريه لا يأكل اللحم في السنة إلا الفِلْذَة من كبد أُضحيته " (2) .
ثم من أئمتنا من قال: لو تصدق بالنصف، فقد أقام شعار الدين في الإطعام.
ومنهم من قال: لو تصدّق بالثلث، فقد أكمل القُربة.
فمن راعى التنصيف، تعلّق بظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] ، وتقابلُ الجهتين يُشعر بالتنصيف، ومن مال إلى الثلث، احتج بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأضحية، وكان نهى عن الأكل منها، فقال بعد نهيه:
__________
(1) حديث أكل الرسول صلى الله عليه وسلم من أضحيته رواه مسلم من حديث ثوبان قال: " ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته، ثم قال: " يا ثوبان! أصلح لحم هذه " فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ". والحديث رواه أيضاً أبو داود، وأحمد، والدارمي، والحاكم، والبيهقي. أما خبر أكله صلى الله عليه وسلم من كبد أضحيته فرواه البيهقي من حديث بريدة. (ر. مسلم: الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي ... وبيان نسخه وإباحته ... ، ح 1975، أبو داود: الأضاحي، باب في المسافر يضحي، ح 2814، المسند: 5/277 - 278، الدارمي: 2/79، مستدرك الحاكم: 4/230، البيهقي: 3/283، 9/291) .
(2) أثر علي قال عنه الحافظ في التلخيص: " لم أجده، وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط: إن صح فمعناه أنه رضي بثوبيه الخلقين ". (ر. التلخيص: 4/267 ح 2414) .(18/198)
" أما إني نهيتكم للدافّة التي دفّت إلى المدينة -وأراد طائفة من الفقراء والمحاويج كانوا دخلوا المدينة لإضاقة أصابتهم- ثم قال: ألا، فكلوا وادّخروا، وائتجروا " (1) . فذكر ثلاثَ جهات، وأشعر قوله بأن التصدق بالثلث.
ثم هذا الفصل وإن كان من الجليات، فيجب التحفظ فيه عن الزلل. ونحن نقول: لم يصر أحد من الأصحاب إلى وجوب التصدق بالثلث أو النصف، ومنهم من لم يوجب التصدق أصلاً، وجوّز أكل الكل، ومن أوجب التصدق، اكتفى بما ينطلق عليه الاسم، وإن قل، ثم تلك الصدقة التي نراها مفروضة يجب صرفها إلى المساكين، ويكفي صرفها إلى مسكين واحد، فإنَّا لا نرى في الشرع لذكر الجمع في هذا الباب أصلاً، والتردد في الثلث والنصف آيل إلى إحياء الشعار، وبيان المستحب، وذكرنا استحباب أكل شيء، ولا ينتهي القول فيما نستحبه إلى نصف ولا إلى ثلثين، ولكن كلما قَلَّ المأكول، وكثر المتصدق به، كان أحسن وأفضل.
فإن قيل: ما وجه جواز أكل الكل؟ قلنا: نحن في المتطوع به، وقد يبعد في نفس الفقيه وجوب التصدق من غير نذر.
ومن تأمل هذا، غمض عليه وجه وجوب التصدق بمقدار، ولا خلاف أن الضحية إذا ذبحت وكانت منوية غير متعيّنة لفظاً ولا منذورة، [فليست] (2) هي شاةَ لحم، حتى يجوز بيعها، كما سنصف ذلك في فنٍّ مفرد، ثم ما يجوز أكله يجوز صرفه إلى الأغنياء على جهة الإطعام، ولا نحسب ما يُطعمه الأغنياء مما يُستَحَب
__________
(1) حديث نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل من الأضحية للدّافّة التي دفّت إلى المدينة ثم الإذن فيه وقوله " فكلوا وادّخروا وائتجروا " رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه (فكلوا وتصدقوا، وادخروا) وفي الباب عن جابر، وسلمة بن الأكوع، متفق عليهما، وعن بريدة وأبي سعيد عند مسلم، أما برواية (وائتجروا) فمن حديث نبيشة الهذلي، رواه أحمد، وأبو داود. (ر. مسلم: الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي، ح 1971-1977، البخاري: الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزوّد منها، ح 5567، 5569، أحمد: 5/75، أبو داود: الأضاحي، باب في حبس لحوم الأضاحي ح 2812، التلخيص: 4/265 ح 2408) .
(2) في الأصل: " وليست ".(18/199)
التصدق به إذا تصرفنا في الاستحباب، وإذا أوجبنا التصدق بمقدارٍ، فالصدقة على محتاج.
11621- ثم في بقية الفصل ثلاثة أشياء ببيانها يتم الغرض: أحدها - أنه لو وَهَب من غني شيئاً من الضحية هبة تمليك حتى يتصرف فيه المتهب بالبيع، [وما يراه] (1) الملاك، فالذي يظهر لنا أن ذلك ممتنع؛ فإن الهبة ليست صدقة، والضحية ينبغي أن تكون مرددة بين التطعّم والإطعام، وبين الصدقة. فكأن الأغنياء ضيفان الله على لحوم الضحايا، وللفقراء حظ من الصدقة على وجه، والضيف لا [يوهب] (2) ، ولكن يطعم.
ولو أتلف المضحِّي شيئاً من اللحم، وقال: إذا كان لي أن آكله، والأكل إتلافٌ، فَلِي أن أُتلفه، فالذي نراه أنَّ ذلك لا يسوغ؛ فإن المضحّي موسَّعٌ عليه في الانتفاع بالضحية، وليس مخيّراً بين الانتفاع والإتلاف. ولو جاز هذا، لكان جوازُ البيع أقربَ منه.
وأما التصدّق، فلست أعرف خلافاً أن تمليك الفقير اللَّحمَ تصدُّقاً عليه جائز، ويشهد له قصة بريرة إذ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرْمةً تفور، فقدم إليه خبز قفار، فقال عليه السلام: " ألم أر البرمة تفور باللحم؟ فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها صدقة على بريرة، فقال: " هو عليها صدقة، ولنا منها هدية " (3) .
ولو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء وأضافهم من غير تمليك، فقد تمهَّد من أصل الشافعي أن إطعام المساكين في قوله عز وجل: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ،
__________
(1) في الأصل: " وما لا يراه " والمثبت من (هـ 4) و (ق) .
(2) في النسخ الثلاث: لا يهب. والأصل أن الفعل وهب يتعدى لمفعوله الأول باللام، ولا يتعدى إليه بنفسه: تقول: وهبتُ لزيد مالاً. ولا تقول: وهبت زيداً مالاً. ولكن الفقهاء يقولونه. (المصباح) وعليه جاز لنا أن نقول: الضيف لا يوهب لحماً ولكن يطعم.
(3) حديث " هو عليها صدقة، ولنا منها هدية " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (البخاري: الهبة، باب قبول الهدية، ح 2577، والزكاة باب إذا تحولت الصدقة، ح 1495، مسلم: الزكاة باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم، ح 1074) .(18/200)
تمليك، ولكن قد يخطُِر للفقيه أن الإطعام في كتاب الله مقابل بالأكل؛ فإنه قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] ، فيظهر أن المراد كلوا ومكّنوا البائسين من أكل، وقد ورد في ماثور الأخبار: " النهي عن مأدبة يدعى إليها الأغنياء ويحرم الفقراء "، ولكن هذا ينصر قولَ من لا يوجب التصدق ويوضّحه، فإذا أوجبنا صرف شيء إلى الفقراء، لم ينقدح عندي فيه إلا التمليك.
وقد نجز الكلام في أكل من الضحية المنوية المتطوع بها.
ولا خلاف أنه لا يحل الأكل من دماء الجبرانات.
11622- والضحية المنذورة إذا أداها الناذر بالنية، ففي جواز الأكل منها وجهان: أحدهما - المنع؛ من جهة أنها ملتزمة في الذمة، فشابهت دماءَ الجبرانات. والثاني - أن الأكل منها كالأكل من الضحية المنوية، وهذا هو الأفقه؛ فإنه نذرَ الضحية، والضحية يجوز الأكل منها، فلا تتميز المنذورة عن المتطوع بها، إلا من جهة أن الإقدام على الوفاء بالنذر واجب، ولا يجب ذلك دونها.
ولو قال: جعلت هذه الشاةَ ضحيةً، ولم يتقدم نذر والتزام، فهل يحل الأكل منها؟ إن قلنا: يحل الأكل من المنذورة المطلقة المصروفة بالنية إلى النذر، فلأن يجوز أكل من المعينة من غير التزام أولى، وإن منعنا أكل من المنذورة، ففي الأكل من المعينة وجهان: والأصح - جواز الأكل؛ فإن اللفظ كما عين المعينة، فالذبح على نية التطوع بالتضحية يعيّن اللحم لجهة الضحية الشرعية، فلا فرق إذاً، وإذا فرضنا تعييناً بعد نذر، لم يخف التصرف بعد الترديدات التي ذكرناها في ترتيب المنازل، وقد نجز الغرض في هذا النوع.
فرع:
11623- إذا ضحى المتطوع وأوجبنا التصدق، فأكل الكل، ففي مقدار ما يغرمه لجهة التصدق وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يلزمه ما يقع الاسم عليه، والثاني - يلزمه الثلث، أو النصف.
وهذا عندنا زلل؛ فإن هذا القبيل من الخلاف ذكره الأصحاب فيه إذا حرم المزكي واحداً من المساكين، وصرف السهم إلى مسكينين، وذلك لا يناظر ما نحن فيه؛ فإن(18/201)
التصدق بالكل حتم، فإذا حرم واحداً ثار منه خلاف، وفي التضحية لا يجب التصدق إلا على واحد بأقل ما يجوز التصدق به، والأصح في الزكاة أنه لا يغرم إلاَّ أقل القليل.
11624- النَّوع السَّابع - في جهات التصرف في الضحية المتطوع بها، وقد قدمنا القول في الأكل والإطعام والتصدق، فأمَّا البيع، فلا مساغ له في شيء من أجزاء الضحية، ومنع الأئمة أن يصرف جلد الضحية إلى أجرة القصاب؛ فإن ذلك تعويض، وهو ممتنع، وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً منصوصاً للشافعي في جواز بيع جلد الضحية، وصرف ثمنه إلى الجهة التي يصرف لحم الضحية إليه، وهذا بعيد لم أره إلاّ له. ثم ذكر في الجلد كلاماً مستفاداً، فقال: إذا أوجبنا التصدق، واكتفينا بما ينطلق الاسم عليه، فالظاهر أن التصدق بالجلد لا يكفي، وهذا حسن، وفيه احتمال كما ورد جوابه فيه.
11625- النوع الثامن - في ولد الأضحية: إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فولدت، فولدها بمثابتها، وهو تبعٌ على التحقيق؛ فإن التضحية بالحمل غير جائز على الابتداء، ولكنا قدرنا الولد جزءاً من الأم وسلكنا به مسلكها، ثم ذكر صاحب التقريب فيه كلاماً، فقال: من أئمتنا من جعله كالضحية المنفردة، وفائدة ذلك أنَّا لا نجوّز أكله كله على مذهبٍ كالأم، ومن أصحابنا من قال: هو بمثابة عضوٍ من الأم، فيجوز أكله كله، والتصدق بشيء من الأم، وهذا التردد لطيف حسن.
ولبن الشاة المعيّنة بمثابة لحمها لو ضحيت. ولعلّ الظاهر جواز اسعتيعاب اللبن بالتعاطي إذا جوزنا الأكل من لحمها، وقدّرنا أنها ضحية.
11626- ثم قال الشافعي: " ولو أن مضحيين ذبح كل واحد أضحية صاحبه ... إلى آخره " (1) وهذا مما قدمنا ذكره، إذ قلنا: لو ضحّى الإنسان بضحيةِ غيره، فكيف السبيل فيه؟ والفرْضُ في مضحيين لا يزيد حكماً، فلا نعيد ما قدمناه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/213.(18/202)
وقال الشافعي: " وأكره بيع شيء منه، والمبادلة به " (1) وهذا كراهية تحريم، والشافعي والأئمة الماضون كثيراً ما يطلقون الكراهية، ويريدون به التحريم، وهذا من ذلك.
ثم قال: " ولا يجوز التضحية لعَبدٍ " (2) وهذا مفرع على الجديد، وهو أن العبد لا يملك بالتمليك، فلا تقع الضحية عنه وإن فرعنا على القديم، فإذا ملكه مولاه شاة، وأذن له في التضحية بها، فيقع التضحية عنه، كما لو أذن له في التصدق.
وفي المكاتب قولان إذا أذن المولى مبنيان على تبرعاته.
ثم ذكر الشافعي: " أن البقرة تجزىء عن سبعة، وكذلك البدنة " (3) وهو مبيّن مذكور، والشاة لا تقبل الشركة، ولو ضحَّى رجلان بشاتين، وكان لكل واحد منهما النصف من كل شاة، فهذا مختلف فيه بين الأصحاب، وله التفات على إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة.
فرع:
11627- إذا اشترى الرجل شاة ونوى التضحية بها، فهي مملوكةٌ بعدُ، ولا أثر للنية المقارنة في إزالة الملك، ثم الّذي قطع به المراوزة أنّ مجرد نية التضحية عند الذبح، أو قبله، على أحد الوجهين، يحقق الضحيّة، ويُوقع القُربة، وهذا ما صححه العراقيون، وحكَوْا وجهاً آخر أن مجرد النية لا يثبت القربة، ثم ذكروا على هذا الوجه وجهين: أحدهما - أنه لا بُدّ من اللفظ، وهو أن يقول: جعلتها ضحيّة.
والوجه الثاني - أن اللفظ لا بُدّ منه، أو تقليد الضحية، وهذا بعيد عن مذهب الشافعي.
وظاهر كلامهم القطعُ بأن النية مع الشراء لا أثر لها، وإن جوزنا تقديم النية على الذبح، إذا قلنا: النية بمجردها كافية في إيقاع القربة، وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا: البيع لا ينقل الملك بمجرده. وإن قلنا: إنه ينقل، فيقع الكلام في الملك الجائز، فإن البيع لا يخلو عن خيار المجلس، والتنبيهُ في ذلك كافِ، ولا شكَّ أن
__________
(1) السابق نفسه.
(2) ر. المختصر: 5/213.
(3) السابق نفسه.(18/203)
النية بين الإيجاب والقبول لا تكفي، وإنما الذي عَنَوْه بالنية مع الشراء أن ينوى مع الفراغ عن القبول.
فرع:
11628- إذا اشترى الرجل شاة، ولزم ملكه فيها، فقال: جعلتها ضحيةً، فقد تعينت فلو وَجَدَ بها عيباً قديماً يُثبت مثلُه الردَّ، ولا يمنع الإجزاء، فلا سبيل إلى الرَّد، وهو كما لو اشترى عبداً وأعتقه، ثم وجد به عيباً، وله الرجوع بأرش العيب.
ثم قال العراقيون: إذا أخذ الأرش، صرفه في مصرف الضحايا، كالذي يفضل من قيمة الضحية. والذي يقتضيه قياس المراوزة أن ذلك الأرش يملكه ولا يلزمه صرفه إلى مصرف الضحية؛ فإن التعيين للتضحية ورد عليها، وهي معيبة؛ فلا ينعكس الاستحقاق إلى ما تقدم، ولا يصح على السبر إلاَّ هذا.
***(18/204)
باب العقيقة
11629- العقيقة عندنا سنة، وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: بدعة. وقال داود (2) : هي واجبة. قال الشافعي رضي الله عنه: " أفرط في العقيقة رجلان رجل قال: إنها بدعة، ورجل قال: إنها واجبة " ولعله أراد رجلاً غير داود؛ فإن داود كان بعد الشافعي.
ثم لا يُرعى في العقيقة انتظار وقت التضحية، والمستحب ذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة. قال الأئمة: يستحب ذبح العقيقة في السابع، وفيه يستحب أن يحلق رأس الغلام، وفي السابع يسمى المولود، وفي الحديث: " يُعَقُّ عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة " (3) ، والشاة الواحدة عقيقة عن الغلام كافية، والمستحب شاتان، وروي: " عن الغلام شاتان مكافئتان " أي تكافىء كل واحدة الأخرى وتماثلها.
ومن السنن التي تقام يوم السابع أن يتصدق بزنة الشعر المحلوق فضةً أو ذهباً، وقيل العقيقة اسم لذلك الشعر الذي يكون على الصبي، فسميت الشاة باسم ذلك الشعر، فإن الحاج يحلق ويضحي، والشعر يحلق في السابع، ويتقرب إلى الله بالعقيقة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 299 وفيه أن العقيقة تطوّع، من شاء فعلها ومن شاء تركها، وانظر مختصر اختلاف العلماء: 3/232 مسألة: 1336.
(2) ر. المحلّى: 7/523.
(3) حديث " يُعقّ عن الغلام بشاتين ... " رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وأما رواية " عن الغلام شاتان مكافئتان " فهي عند ابن ماجه (ر. الترمذي: الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة، ح 1513، ابن ماجه: الذبائح، باب العقيقة، ح 3163، ابن حبان: ح 5286، البيهقي: 9/301، الثلخيص: 4/268 ح 2415) .(18/205)
ثم دلَّ مضمون الأخبار على أنَ الشاة تُعَضَّى (1) ، ولا تكسر عظام الأعضاء، بل تفصل من مفاصلها، وهذا كالفأل بسلامة أعضاء الصبي.
ثم يتعين القطع بإجراء العقيقة مجرى الضحية في الأكل من اللحم، والتصدق، وامتناع البيع والاستبدال، واشتراط السلامة المؤثرة في إجزاء الضحية، فلا فرق إلا أنَّ الضحية تتأقت بالأيام الأربعة، والعقيقة يدخل وقتها بولادة المولود، وهذا في التعلق بالسبب بمثابة دماء الجبرانات المتعلقة بأسبابها الموجبة، ثم دماء الجبرانات كالضحايا في اشتراط سلامتها من العيوب المؤثِّرة في الضحايا، إلا في جزاء الصّيد، فإنا نقابل المعيبة من الصّيود بالمعيبة؛ فإن مبناها على اعتبار المماثلة في الصورة.
ونعود إلى العقيقة قائلين: إذا أوجبنا التصدّق بمقدارٍ، فيجب إجراء التمليك فيه، وتنزيل الصدقة على اللحم النيَّيء، وأطلق الصيدلاني في مجموعه أنَّ الشاة تعضَّى كما ذكرنا، وتطبخ، ويفرق اللحم طبيخاً مع المرق، وهذا سديد إذا لم نُوجب التصدق، وهو مستقيم فيما لا نوجب التصدّق به.
فأما المقدار الذي يجب التصدّق به، فلا وجه فيه إلا ما ذكرته.
ومما أجراه أن تفرقة اللحم أولى من دعاء الناس إليه. هذا مقصود الباب.
ثم روى الشافعي حديث أمّ كُرز، وتكلم عليه، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن لحوم الأضاحي فسمعته يقول: " عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم ذكراناً كُنَّ أو إناثاً " وسمعته يقول: " أقروا الطير على مَكِناتها " (2) .
وفي الحديث ما يدل أنها ما افتتحت سؤالها، فانها لو سألت عن لحوم الأضاحي لما كان تفسير العقيقة جواباً لها ولكن جاءت لذلك، ثم سمعت ما سمعت، فلم تبُح بسؤالها وقوله عليه السلام: " أقروا الطير على مَكِناتها " مما اختلف العلماء في تفسيره
__________
(1) تعضَّى: تقول: عضَّيت الذبيحةَ بالتشديد إذا جعلتها أعضاءً (مصباح) .
(2) ر. المختصر: 5/214.
ومكناتها بفتح الميم وكسر الكاف. المعنى على بيضها. والمكنات في الأصل: بيض الضباب ثم استعيرت للطير. وقيل: المكنات الأمكنة. (النهاية في غريب الحديث: مادة: م. ك. ن) .(18/206)
قيل: معناه النهي عن الصيد ليلاً، كأنه نهى عن ذلك نهي كراهية، وقال لا تنفروا الطير (1) بياتاً.
وقيل: أراد النهي عما كانت العرب تفعله إذا أراد أحدهم الخروج إلى سفر، فإنه كان يبكر إلى عش طائر ويهيج الطير، فإن طار يمنة تفاءل وإن طار يسرةً تشاءم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفاؤل والتشاؤم.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه في بعض كلامه: كانت العرب تلطخ رأس الصبي بدم العقيقة، وهذا مكروه في الدين لا أصل له. والله أعلم.
***
__________
(1) هـ 4: " الصيد ".(18/207)
كتاب الأطعمة
11630- قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... } الآية [الأنعام: 145] .
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ،. تكلم الشافعي على الآيتين، ورأى تنزيل قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} على تحقيق الرد على المشركين الذين كانوا يُبيحون الموقوذةَ، والمذبوحةَ على أسماء الأصنام، والدمَ، ولحمَ الخنزير، فقال تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً " إلا ما أحللتموه ويشهد لذلك قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ولا يخفى على المنصف أن الحشرات والقاذورات ليست من الطيبات التي أحلها الله، وتخيّرها لمطاعم عباده تكريماً لهم.
11631- ثم قال الأئمة: فيما يحل ويحرم أصول يُرجع إليها: أولاها - كتاب الله وما يصادف فيه محلَّلاً ومحرَّما.
والآخر - سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى ما يصرح بالتحريم والتحليل، وإلى ما يرشد إليه: فأما المصرح من السنن، فهو كنهيه عن أكل كلّ ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ فكان ذلك نصّاً منه على تحريم العوادي التي تسمَّى السباع كالأسد، والفهد، والنمر، والذئب، وألحق الأئمة بذلك الدبّ من الوحوش، والفيلة.
ونص بذكر ذوات المخالب على تحريم البازي، والشاهين، والعُقاب، وغيرها من جوارح الطيور، وإن كان فيها ما يصطاد سوى ما ذكرناه، فهذا ما يصرّح بالمقصود من السنن.
وأما ما يدلّ ويُرشِد، فقد قال الأئمة: إذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل حيوان، دلَّ ذلك على تحريم لحمه؛ من جهة إشعاره باستبقائه، وهذا كنهيه عن(18/209)
قتل النملة، والنحل، والخطاف والصُّرد، والهدهد.
ومما يُرشد أمره بقتل بعض الحيوانات. قالوا: ما أمر بقتله، فالأصل تحريمه، كأمره بقتل الفواسق، لأنه إنما يأمر بقتل المستخبثات التي لا تُقْتنى، ولو كانت مأكولة، لجاز إعدادها واقتناؤها، وتسمينها للأكل.
ومن الأصول التي يُرجع إليها في التحليل والتحريم ما يستطاب ويستخبث، وقد رأى الشافعي ذلك الأصلَ الأعظم، وأثبته بقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} .
[لكن الرجوع] (1) إلى طبقات الخلق عسر، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام، وهذا يُخالف وضع الشرع في حمل الناس على متبوعٍ واحد إليه يرجعون، وبه يعتبرون، فكان الأقربُ تنزيلَ هذا على ما تستخبثه العرب وتستطيبه، ثم في ذلك متسع؛ فإنَّ العرب ليست أمة عائفة، وليس في مراجعتها ما يؤدي إلى ما يضيّق المطاعم، ولا بُد من حمل قوله سبحانه: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} على الاستطابة، وإلا يؤدي إلى الإجمال، ثم قد نراجَع في حيوان، فالأصل عرضه على هذه الأصول، فإن وجدنا له ثَبَتاً في أصلٍ، حكمنا فيه بموجب ذلك الأصل، وإن لم نجد ثبتاً (2) في التحريم والتحليل، فَمَيل الشافعي إلى أنها على الإباحة إلى أن يلوح محرِّمٌ.
وميل أبي حنيفة (3) رضي الله عنه إلى أنها على التحريم إلى أن يثبت محلّل.
هذا ذكر الأصول على الجملة.
11632- ونحن نذكر بطريق التفصيل ما يبيّن ويحوي إن شاء الله تعالى. فنقول: الكلام يقع في أقسام البهائم، والطيور، والحشرات، والجمادات. أما البهائم، فإنها تنقسم إلى الأهلي والوحشي، أما الأهلي من البهائم، فالحلال من جملتها النَّعم
__________
(1) عبارة الأصل: " والرجوع إلى طبقات الخلق عسر ". والمثبت عبارة (هـ 4) .
(2) هـ 4: "سبباً".
(3) ر. شرح الأشباه والنظائر لابن نجم: 1/223-225 وفيه أن الأحناف كالشافعية في هذه المسألة، لكنه أشار إلى أن الشافعية ينسبون إلى أبي حنيفة القول بالتحريم، وهو -كما ترى- ما ذكره الإمام.(18/210)
والخيل، فحسب. وقيل: كان لحم الحمر الأهلية في ابتداء الإسلام مباحاً فحرم، واستقرّ الشرع عليه، والأحاديث في ذلك معروفة.
وأما الوحوش، فيحرم منها كل ذي نابٍ عادٍ من السباع، والضبعُ مباحٌ بنص حديث جابر (1) ، والثعلب ملحق به عند الشافعي، وحكى العراقيون في ابن آوى خلافاً، وقطع المراوزة بتحريمه، وترددوا في ابن عرس، فحرمه محرمون تشبيهاً بجنس الفئران، وأحله الأكثرون إلحاقاً له بالثعلب.
واختلف الأصحاب في الهرة الوحشية، إن صح أنها جنس من الوحوش، فقد ظن الظانون أنها الهرة الأهلية تستوحش عند انجلاء أهل القُرى، وتتوالد، فإن كان كذلك، فلا شك في التحريم. أمَّا الدُّلدُل (2) فقد كان شيخي يقطع بتحريمه ويلحقه بالخبائث، ولست أعرف فيه أصلاً يُرجع إليه على ثبت.
11633- أما الطيور، فيحرم كل ذي مخلب منها، ويحرم ما نهى الرسول عن قتله، كالخَطاف، والصُّرَد، وورد النهي عن قتل الهدهد، وقد نصّ الشافعي على أنه مفدّى بالجزاء في حق المحرم، وكل ما يفديه المحرم، فهو حلال الجنس، فتردد الأصحاب في تحليله لما نبهنا عليه. والبُغَاثة ألحقها الأصحاب بالحدأة، وهي ذات مخلبٍ ضعيف ولكنها حرية بأن تلحق بالحدأة. والنسور (3) ملحقة بالعقبان، وإن قيل: إنها لا تصيد، فانها ذات مخلب.
وأما الغربان فقد عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفواسق، وقد ذكرنا أن
__________
(1) حديث جابر في إباحة أكل الضبع رواه الشافعي وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وابن الجارود، والدارقطني، وابن حبان، وقد صححه الألباني في الإرواء.
(ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/173 ح 609، أبو داود: الأطعمة، باب في أكل الضبع، ح 3801، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع، ح 1791، النسائي: الحج، باب ما لا يقتله المحرم، ح 2836، والصيد والذبائح، باب الضبع، ح 4323، الدارمي: 1942، المنتقى لابن الجارود: ص 115، الدارقطني: 2/246، صحيح ابن حبان: 3965، الإرواء: 8/145) .
(2) الدُّلدُل: حيوان شائك قارض من آكلات الحشرات، وهو نوع من القنافذ (المعجم) .
(3) هـ 4: " والنسور والعقبان، وإن قيل: إنها لا تصيد ... ".(18/211)
الفواسق محرمة، فأجمع الأصحاب على تحريم الأبقع منها، وظهر التردد في تحريم غراب الزرع، والذي ذكره المعتبرون إلحاق الأسود الكبير بالأبقع، وفي طريق العراقيين طرد الخلاف فيما عدا الأبقع، وغراب الزرع منها غُبرٌ ليست كبيرة، ومنها المحمّرة المناقير والأرجل، وهي خارجة عن الخلاف.
وجنس الحمام حلال، والزرزور ملحق بالعصفور، وطير الماء حلال، والصَّعْوة (1) من العصافير.
فهذا ما إليه الرجوع في الطائر، ولا يخفى تحليل النعام؛ فإنها مَفْديةٌ بالبُدْن، فأما اللَّقْلَق؛ فقد كان يتردد فيها شيخنا، وميله الأظهر إلى تحليلها، وإلحاقها بالكَرَاكِيّ.
11634- وأما الحشرات، فمحرمات، ما يدرج منها وما يطير، والضبُّ مستثنى من جملتها، وهو حلال أَكَلَه خالدُ بنُ الوليد على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه (2) ، وتردد الأئمة في أم حُبَيْن (3) ، وفي أخبار الجزاء أنها مفدية بحُلاّن (4) ، وما يُفْدَى محلل الجنس، وكان شيخنا يقول: ما أراها إلا ولد الضب، ولا ينبغي أن تُتَخَيَّل من العظاة؛ فإنها مستخبثة.
والفئرانُ من الفواسق، وهي محرمة: الكبير منها والصَّغير، وظاهر المذهب، تحليل اليربوع، وهو مفدَّى في أخبار الجزاء، وألحق أئمتنا السمّور والسنجاب
__________
(1) الصعو: صغار العصافير، الواحدة صعوة، مثل تمر وتمرة، وهي حمر الرؤوس، وتجمع الصعوة أيضاً على صعاء: مثل كلبة وكلاب (المصباح) .
(2) حديث أكل خالد بن الوليد الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه (ر. البخاري: الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يُسمى له فيعلم ما هو، ح 5391، وكتاب الصيد والذبائح، باب الضب، ح 5537، مسلم: الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، ح 1945، التلخيص: 4/279 ح 2439) .
(3) أم حُبين: دويبة كالحرباء عظيمة البطن، منتنة الريح (المصباح، والنهاية في غريب الحديث) .
(4) الحُلاّن: وهو الحلاّم (فالميم والنون يتعاقبان) : والحلاّم هو الجدي، وقيل: إنه يقع على الجدي والحمل حينما تضعه أمه. (النهاية من غريب الحديث) .(18/212)
وما في معناهما بابن عُرس، وقد ظهر ميلنا إلى إلحاقهما بالثعلب.
وذواتُ الأجنحة من الحشرات كالذباب محرمة، ولا يخفى تحليل الجراد وفي الصّرَّارة (1) تردد، والأظهر إلحاقها بالخنافس والذِّبّان، وفي الأصحاب من ألحقها بالجراد، وهذا مزيف لا تعويل عليه.
وأما السلحفاة، فهي من المستخبثات، والقنفذ مما تردد الأصحاب فيه، وقد روي: " أن ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عنه، فأباحه، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} ، فقام شيخ في القوم، وقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها من الخبائث " فقال: إن قال، فهو كما قال " (2) وهذا يشعر بتردد منه في قبول رواية ذلك الشيخ.
وقد استقصينا الكلام في الحيوانات المائية في آخر الصَّيد.
11635- أما الجمادات، فالنجس منها حرام، والطاهرات منها تنقسم إلى مستقذر وإلى غير مستقذر. فأمَّا ما لا يُستقذر، فينقسم إلى السموم وغيرها، فأما السموم؛ فإنها محرمة؛ من جهة أنها قتالة، ومتعاطيها ساعٍ في إهلاك نفسه، فلو تصوَّر شخص لا يضره تعاطي السم، فلا يحرم عليه، وغير السموم مباحة، وأما المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط، وما في معناهما، فالمذهب تحريمها وحكي عن أبي زيد قال: هذا استقذار، وليس بتحريم.
وقد انتهت مجامع المذهب فيما يحل ويحرم.
__________
(1) الصرّارة: الصرَّار على فعّال مثقل، ما يصرّ: أي يصوّت، ونقل أبو عبيد قال: الصرى طائر يصرّ بالليل، ويقفز ويطير، والناس تظنه الجندب، والجندب يكون في البراري.
(المصباح) .
(2) أثر ابن عمر في أكل القنفذ رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، قال الخطابي في معالم السنن: " ليس إسناده بذاك "، وقد ضعفه البيهقي. (ر. المسند 2/381، أبو داود: الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض، ح 3799، معالم السنن: 4/157، البيهقي: 9/326، التلخيص: 4/286 ح 2462. وضعفه في إرواء الغليل: 8/144) .(18/213)
فصل
معقود في الجلالة
11636- وهو كل حيوان يتعاطى العَذِرة والأعيانَ القذرة، وهو مباح في جنسه، فإن لم يظهر أثر ما يتعاطاه على اللحم، ولا تَبينُ فيه رائحةٌ مستكرهة، فالحيوان (1) حلال. وإن ظهرت الرائحة الكريهة على اللحمَ، فالمذهب تحريم اللحم، وفيه آثار تدل على التحريم، ولا تعويل على الاستكثار من النجاسة والاستقلال منها، وإنما التعويل على ظهور الرائحة، وذلك يبين عند الذبح.
والزروع إذا زُبِّلت بالزِّبل ودُمّلت (2) بالعُرَّة (3) ، فقد يقدّر نمو الزرع من الأعيان النجسة، ولا أثر لذلك؛ من جهة أن أثر النجاسة لا يظهر.
وحكى الصيدلاني وجهاً عن طريقة القفال أن لحم الجلالة لا يحرم، وإنما يكره، وهذا ما قطع به العراقيون.
ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا رأينا تحريم الجلاّلة، فلو منعت من تعاطي القاذورات، ورُدت إلى العلف النقي، فقد يزول ما بلحمها من أثر النجاسة، فإذا طاب لحمها، عادت إلى الحل باتفاق الأصحاب؛ فإن جنسها مستباح، وإنما التحريم بسبب ظهور أثر النجاسة، وإذا زال الأثر، فالحلُّ مستمر.
ولو ذبحت الجلالة، وقد نَتُن لحمها، فطبخ اللحم، وأزيلت الرائحة الكريهة، فلا تحل، وأثر الاغتذاء لا يزيله إلا الاغتذاء بالعلف الطيب في الحياة، والطرق متفقة على ذلك في التفريع على تحريم الجلالة.
ولو ذبحت الجلاّلة، ووقع الحكم بتحريم لحمها، فقد قال الصيدلاني: يطهر جلدها بالدباغ؛ فإن جلدها لا يزيد على جلد الميتة، فإن قيل: هلا حكمتم بطهارة
__________
(1) هـ 4: " فهو حلال "
(2) دُمّلت: من قولك: دمَّلتُ الأرضَ إذا أصلحتها بالسرقين. (المصباح) .
(3) العُرّة: القَذَر. (المعجم والمصباح) .(18/214)
جلدها بالذكاة قياساً على جلد الشاة المسمومة؟ قلنا: إن ظهرت الرائحة على الجلد، فهو محكوم بنجاسته على المذهب الأصح، نازل منزلة اللحم، وإن لم تظهر الرائحة على الجلد، وإنما ظهرت على اللحم -وهذا بعيد عن التصور- فإن تصوّر ذلك، احتمل أن يقال: يطهر الجلد بالذكاة، كما يطهر جلد الشاة المسمومة. ثم إن ظهرت الرائحة، ووقع الحكم بالنجاسة، فلو شمّس الجلد أو تُرِّب، فالرائحة تزول بهذه الأسباب، فلا يقع الحكم بالطهارة، كما لا يطهر اللحم بالقلي، وإن زالت الرائحة؛ فإن النجاسة التي تثبت مع الذكاة لا يزيلها إلا الدباغ الشرعي كما عرف وصف الدباغ.
فخرج (1) من مجموع ما ذكرناه أنه إذا وقع الحكم بنجاسة اللحم، نظر في الجلد، فإن ظهرت الرائحة عليه، حكم بنجاسته، ثم لا يطهره إلا الدباغ، وإن لم تظهر الرائحة على الجلد، ففيه تردد ظاهر مأخوذ من كلام الأصحاب، والأظهر الحكم بالنجاسة؛ لأنه جزء من اللحم مأكول على المسموط، فالحكم الواقع للحم ثابت له، وفيه الاحتمال الذي ذكرناه.
11637- ثم ذكر الأصحاب كلاماً في بيع الأشياء النجسة، وتفصيل الانتفاع بالنجاسات، وذكروا من جملتها الاستصباح بالزيت النجس وتصور غسله [وكل ذلك] (2) مما تقصيناه في كتاب البيع والصّلاة، والقول في صحة البيع وفساده مذكور في كتاب البيع، والتعرض لكيفية غسل الزيت النجس، وتردد القول في إمكان غسله مذكور في كتاب الصلاة.
***
__________
(1) هـ 4: " فقد خرج ".
(2) زيادة من (هـ 4) .(18/215)
باب كسب الحجام
11638- كسب الحجام حلال، ولو امتنع الاكتساب به مع مسيس الحاجة إليه، لجر ذلك ضراراً عظيماً، ولأفضى الأمر إلى احتياج ذوي المروءات إلى تعاطي ذلك لمسيس الضرورات، وتفاوت الناس في الدرجات مع اشتمال نفوسهم على القناعة بها مما منَّ الله تعالى به على عباده، في سياق قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] الآية. وقد صَحَّ: " أن أبا طيبة كان يحجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الرسول عليه السلام يعطيه أجرته " (1) ونقلُ جواز ذلك تكلّفٌ، ولكن وَرَد في الخبر والأثر ما يدل على الكراهية. وروي: " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام، فنهاه، فراجعه، فقال: أطعمه عبيدك، وأعلفه ناضحك " (2) وروي: " أن عثمان رضي الله عنه سأل رجلاً عن معاشه، فذكر كسب حجام أو حجامين، فقال عثمان: إن كسبكم هذا لوسخ " (3) وعن أحمد بن حنبل أنه قال: " هو حرام على الأحرار وإنما يطعم العبيد وتعلف الدواب به، كما ورد في الخبر " (4) .
__________
(1) حديث " أن أبا طيبة كان يحجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. (البخاري: البيوع، باب ذكر الحجام، ح 2102. مسلم: المساقاة، باب حلّ أجرة الحجام، 1577) .
(2) حديث " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ... " رواه مالك، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث محيصة، ورواه أحمد عن جابر (ر. الموطأ: 2/974، أبو داود: الإجارة، باب في كسب الحجام، ح 3422، الترمذي: البيوع، باب ما جاء في كسب الحجام، ح 1277، ابن ماجه: التجارات، باب كسب الحجام، ح 2166، المسند: 5/435، التلخيص: 4/292 ح 2466) .
(3) أثر عثمان رضي الله عنه في النهي عن كسب الحجام رواه الشافعي في اختلاف الحديث، باب كسب الحجام ص 557، وعنه المزني في المختصر ص 286.
(4) قول أحمد عن كسب الحجام أنه حرام على الأحرار، قال ابن قدامة في المغني: وليس عن=(18/216)
وحظ الفقه (1) من الباب أن الاكتساب بهذا وإن كان حلالاً، فلا ينبغي للإنسان أن يرغب فيه مع قدرته على نوعٍ آخر من الكسب، ولو لم يكن فيه إلا مجانبة المروءة، لكان في هذا مَقْنع في تثبيت الكراهية، وما ذكرناه لا يختص بكسب الحجام، بل تعاطي القاذورات ومخالفة المروءات كلها بهذه المثابة.
***
__________
=أحمد نصّ في تحريم كسب الحجام ولا الاستئجار عليها وإنما قال: نحن نعطيه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ونقول له كما قال النبي عندما سئل عن أكله، نهاه وقال: " أعلفه الناضح والرقيق " ... ويتعين حمل نهيه على الكراهة دون التحريم. (ر. المغني: 6/136، الإنصاف: 6/48، كشاف القناع: 4/13) .
(1) هـ 4: " الفقيه ".(18/217)
باب ما لا يحل أكله، وما يجوز للمضطر من الميتة (1)
11639- أكل الميتة حرام على المختار، وليس محرماً على المضطر. والميتة هي البهيمة التي ماتت من غير اتصال ذكاة شرعية بها، فلو ذكاها من ليس من أهل الذكاة، فهي ميتة، ومن أحاط بالأصول التي قدمناها، لم يحتج إلى تفصيلٍ في ذلك.
وإذا ذُكيت الأم ذكاةً مبيحة، وكان في بطنها جنين، فالجنين مستحَلّ، لا كراهية في أكله، والمعتمد في تحليله الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري، قال: " قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها جنيناً، فنلقيه أم نأكله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوه؛ فإن ذكاة الجنين ذكاةُ أمه " (2) ثم الجنين في الحل والحرمة يتبع الأم، وإن كان لا يختلف حاله: ذكيت الأم أو وُقذت. ولو بقر بطن الأم بعد الذكاة والجنين في حركة المذبوح، فهو حلال، وإن كان فيه حياة مستقرة، فلا بد من ذبحه.
وكان شيخي أبو محمد يقول: لو كان الجنين لا يحل بذكاة الأم، لما جازت ذكاة الأم مع ظهور الحمل، كما لا تقتل المرأة قصاصاً وفي بطنها ولد، فأُلزم عليه ذبحَ رَمَكة (3)
__________
(1) هـ 4 (ق) : " باب ما يحلّ ". ونسخة الأصل هي الموافقة لمختصر المزني الذي التزم الإمام ترتيبه.
(2) حديث أبي سعيد الخدري المرفوع عن ذكاة الجنين وأنها ذكاة أمه، رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وقد صححه الحافظ بمجموع الطرق (ر. الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين، ح 1476، أبو داود: الضحايا، باب ما جاء في ذكاة الجنين، ح 2827، ابن ماجه: الصيد، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه، ح 3199، ابن حبان: ح 5889، الحاكم 4/114، الدارقطني: 4/274، التلخيص: 288/4 ح 2464) .
(3) الرمكة: وزان رقبة: الأنثى من البراذين تتخذ للنسل. (المصباح والمعجم) .(18/218)
في بطنها بغلة، فمنع ذبحها (1) ، وهذا محتمل. وما ذكره رضي الله عنه ظاهر.
11640- فإذا نجز هذا، خضنا بعده في تفصيل مقصود الباب، فنذكر الضرورة التي يجوز استباحة الميتة بسببها، ثم نذكر ما يستباح عند الضرورة، فلا خلاف أن الحاجة لا تكفي، والجوع المفرط، وإن انتهى إلى السغب لا يبيح المحرّمَ، وأطلق الفقهاء الضرورة، وفسّروها بخوف الموت، وهذا التفسير مستقيم حسن، ولكن الغرض لا ينكشف بهذا المقدار.
وقد فصَّل المحققون على وجه آخر، فقالوا: إن كان يخاف من ترك الأكل الموتَ، أكل، وإن كان يخاف من ترك الأكل مرضاً يخاف منه الموت لا لطوله ولكن كان جنسه مخيفاً، فيسوغ أكل الميتة، وإن كان يخاف من ترك الأكل مرضاً طويلاً، ثم طولُه وتماديه يفضي إلى الخوف، ففي استباحة الميتة -والحالة هذه- قولان، وهذا ترتيب حسن.
ويخرج من مجموعه أنا لا نشترط العلم بالموت لو ترك الأكل، بل غلبة الظن كافية، والدليل على ذلك أن المكره على أكل الميتة يأكلها إذا ظن وقوعَ ما به التخويف به، ولا يشترط أن يعلم هذا، فإنه لا مطلع على الغيب. وجملةُ جهات الإكراه مستندها ظنٌّ غالب.
فخرج منه أنه إن ظنّ الموت، أو ظنّ مرضاً يظن منه الموت، فيستحلّ، وإن خاف مرضاً طويلاً والخوف في طوله، فليس الخوف هاجماً، وإذا طال المرض، لم يبعد علاجه، وإنما المخوف الأمراض الحادة.
ولا حاجة مع ما نبّهنا عليه إلا إلى مزيدٍ به التمام، فنقول: لا يشترط أن ينتهي إلى حالة يكون فيها مشرفاً على الموت؛ إذ لو أشرف عليه، لم ينعشه الطعام، ولم ينجع فيه ما يتعاطاه، فينبغي أن نبيح له الأكل وهو على حالة لو أكل [لاستبلّ] (2) وانتعش،
__________
(1) وجه الإلزام أن الرمكة مأكولة، ولكن البغل الذي في بطنها غير مأكول، ففي ذبحها إتلافٌ لما في بطنها. فالتزمه الشيخ أبو محمد، ومنع ذبح الرمكة التي في بطنها بغل.
(2) في النسختين: " لاستقلّ ". والمثبت من المحقق على ضوء المألوف من عبارات الإمام، والمناسب للسياق.(18/219)
وإذا لم يكن من هذا بد، فلا يكون المضطر مشرفاً على الموت، بل يكون مشرفاً على الإشراف على الموت لو لم يأكل، فهذا بيانٌ كامل في الضرورة ومعناها.
ثم الذي ذهب إليه المحققون أن الضرورة إذا تحققت، وجب أكل الميتة، وما ذكرناه من الاستحلال جريانٌ منا على ما يتداوله الفقهاء فيما بينهم ومن [دأبهم] (1) إذا ذكروا ما يحرم، ثم طرأت حالة تناقض التحريم، عبروا عن نفي التحريم بالحل، وإلا فالواجب لا يوصف بالحل.
وذكر العراقيون ما ذكرناه، واختاروه، ثم ذكروا وجهاً غريباً أنه يجوز للمضطر أن يمتنع عن أكل الميتة، ويستسلم للمهلكة، وزعموا أن هذا يُخرَّج على أحد القولين في جواز الاستسلام.
وهذا بعيد جدّاً، ووجهه على بعده أن المضطر قد يتردد في درك حد الضرورة، فلا يأمن أنه لم ينته إليها، ولا يزال كذلك حتى يموت، أو يقع في حالة لا ينجع معها أكلُ الميتة، ولو اتفق ذلك لا يحل أكل الميتة؛ فإنه غير ناجع، وأكل الميتة إنما يحل لدفع الضرورة، فيكون تردد صاحب الضرورة في أمره كتردد من صال عليه إنسان في القدر الذي يدفعه به، مع حكم الشارع بوجوب الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع.
11641- ثم يتنشأ من هذا المنتهى أمر تناهينا في تقريره في كتاب الأشربة، وهو الكلام في التداوي بالنجاسات، ووجه ربطها بهذا المنتهى أن الضرورة إذا وقعت وغمض (2) مُدرك اندفاعها بتعاطي النجاسة، فهل يحل تعاطيها، أم كيف السّبيل فيها؟ فقد تقرّر هذا على أحسن وجه، والخمر حيث تستيقن [لدفاع] (3) الضرر كالميتة، فإن من غُصّ بلقمةٍ، ولم يكن معه ما يُسيغها، فوجد جرعة من خمرٍ؛ فإنه يتعاطاها.
والوجه البعيد الذي حكيته عن العراقيين في أن تعاطي الميتة لا يجب، لا يخرج هاهنا عندي؛ فإني وجهت ذلك الوجه بالتردد في دفع الضرر، وإساغة اللقمة معلومة وإن
__________
(1) في الأصل: " ومن دوابهم ".
(2) هـ 4: " وعسر".
(3) في الأصل: " اندفاع ".(18/220)
كان لا تسوغ إلا بتبلع الخمر أيضاً. هذا ما أراه، ولا تفريع على الضعيف.
وإن كنا لا نستيقن اندفاع الضرر بتعاطي الخمر، فعند ذلك ذهب الجمهور إلى منع استعمال الخمر [علاجاً] (1) وقد ذكرت هذا؛ فلا أعيده.
ومن انتهى به العطش إلى الضرورة، تعاطَى الخمرَ؛ فإنها تُسكِّن العطش، ولا يكون استعمالها في حكم العلاج. ومن قال: الخمر لا تُسكِّن العطش، فليس على بصيرة، ولا يعد مثل هذا مذهباً، بل هو غلط ووهم آيلٌ إلى الحس، ومعاقر الخمر يجتزىء بها عن الماء.
11642- فأما الكلام فيما يستباح عند الضرورة، فالأشياء النجسة إذا كانت تدرأ الضرورة، تستباح عندها، وإن تحققت الضرورة، ووقع النظر في اندفاعها عند استعمال النجاسة، وقع الكلام في العلاج، وقد تقدم شرحه.
ويجوز تعاطي ميتة الآدمي، وإن تُعبدنا باحترامها؛ فإن مهجة الحي أولى بالاحترام من جثة الميت.
ولا يجوز للمسلم المضطر أن يقتل ذمياً ويأكله، لأنه معصوم الدم على التحقيق، وكذلك المعاهد، ولا يجوز له أن يأخذ طعامهما في حالة الضرورة، وهما مضطران إليه، وله أن يقتل حربياً ويأكله، وكذلك القول في الزاني المحصن، والمرتد، وتارك الصلاة، ومن تعين عليه القتل، وكنا نمنعه من تعاطي قتل هؤلاء تفويضاً إلى الإمام، وتعلقاً بتعظيمه، وهذا القدر لا يستقلّ بإثارة التحريم عند تحقق الضرورة.
ولو وجد حربية، وهو مضطر، فالظاهر عندنا أنه يقتلها ويأكلها؛ فإنَّ منع قتلها في غير حالة الضرورة ليس لحرمة روحها؛ بدليل أن قاتلها لا يلتزم الكفارة، بخلاف قاتل الذمي والمعاهد.
ولا يقتل السيد المضطر عبدَ نفسه؛ لأنه يلتزم الكفارة بقتله، والعصمة ثابتة له عن السيد قطعاً.
ولو أراد المضطر أن يقطع فِلقة من نفسه ليأكلها ويسدَّ بأكلها رمقه، نظر: فإن كان
__________
(1) في الأصل: " عاجلاً ".(18/221)
يتعرض بذلك القطع لما هو متعرض له في ضرورته أو لخوفٍ أشد منه، فليس له ذلك، وإن كان لا يظهر الخوف في القطع، ففيه وجهان: أحدهما - لا يجوز ذلك، كما لا يجوز أن يقطع فِلقة من غيره في مثل هذه الصورة، وهو معصوم. والثاني - يجوز؛ لأن حرمة بعضه ثابتة لحرمة نفسه، فإذا قصد تداركَ الجملة بالبعض، فهو قريب من مصالح الشرع، وليس هذا كقطعه من غيره؛ فإن الغير ليس منه، وهو معصوم عنه، [وما يُفرض] (1) من القطع مما يوجب القصاص لو أفضى إلى الهلاك.
وليس للإنسان أن يقطع من نفسه فِلقة ويؤثر بها رفيقَه المضطر.
11643- ومما يستبيحه المضطر مالُ الغير، فله أن يأكل عند الضرورة طعامَ الغير، إذا لم يكن صاحبه مضطراً؛ فإن منعه صاحب الطعام، فله أن يغالبه عليه، ثم ينتهي الكلام بينهما إلى الأصل المشهور في أنه في قصده محقٌّ، وصاحب الطعام في منعه مبطل، فلو تناوشا قصداً ومنعاً، فأدّى ما يجري بينهما إلى هلاك صاحب الطعام، فهو هدر؛ فإنه مقتول بحق. ولو أدى المنع إلى هلاك القاصد، فهو مضمون بالقصاص؛ من جهة أنه مقتول ظلماً.
ولو كان صاحب الطعام حاضراً، وكان لا يدفع عن طعامه، فلا شك أن الذي يقتضيه أدب الشرع أن يستأذن، وهل يشترط ذلك في الاستباحة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يشترط؛ لأنه إنما يظهر اشتراط الإذن، حيث يقدّر التحريم لو عدم الإذن، وإذا كان هذا الطعام مأخوذاً على كل حال، فلا معنى لاشتراط الاستئذان فيه.
والوجه الثاني - أنه يجب الاستئذان، ويحرم الطعام دونه، كما لو ظفر الرجل بمال من يستحق عليه الدين، فليس له أخذه ما لم يظهر له امتناعُ مَنْ عليه الدين من أدائه، فإذا امتنع أو كان غائباً، فقد يتسلّط على أخذه.
ولو قال صاحب الطعام: أنا أبيع منك طعامي هذا، نُظر: فإن باعه بثمن المثل، فلا يأخذه إلا بالبيع، وإن باع بثمن غالٍ، فهل له أن يأخذ قهراً؟ قال الأئمة: له
__________
(1) في الأصل: " وما تعرض ".(18/222)
ذلك؛ فإن الزيادة على الثمن لا تنضبط وقد يبيع -لو فتحنا هذا الباب- ما يساوي درهماً بألف أو أكثر.
ولو تمكن من سلب الطعام منه قهراً، فاشترى منه بالثمن الغالي، فالبيع صحيح، وإن لم يمكنه أن يقهره، فاشترى بالثمن الغالي، هل يكون مكرهاً، حتى لا يصح الشراء؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه لا يكون مكرهاً، وهو الأقيس، لأنه لم يجر إكراه حقيقي على البيع، بل حَمَله على الإقدام عليه ضرورةٌ ناشئةٌ منه. والوجه الثاني- أنه مكره؛ لأنه لا محيص له من طلب الطعام، ولا وصول إليه إلا بالابتياع، فهو محمول عليه قهراً، والمصادَرُ إذا باع على الضرورة (1) لدفع الضرار الذي يناله، ففي صحة البيع الخلاف الذي ذكرناه.
وقد يظن الظان فرقاً من جهة أن الإرهاق على المصادَر من جهة مطالبة، والضرورة في المضطر ناشئة من جبلته، وهذا قد يوجب ترتيب مسألة على مسألة، ولكن صاحب الطعام بالامتناع عن البذل بثمن المثل في حكم المصادر، ومع هذا يبقى خيالُ الفرق.
11644- ولو اضطر الإنسان، فأوجره صاحب الطعام طعامَه، فهل يستحق عليه قيمتَه، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يستحق؛ لأنه لم يوجد من الموجَر المضطر طلبٌ، ولا تناول. والوجه الثاني - أنه يرجع عليه بالقيمة، لأنه خلصه عن الهلاك، فصار كما لو عفا عن القصاص، وفي إثبات القيمة له تحريض على تدارك المضطرين، وفي إحباط طعامه منع لذلك.
11645- فأما الكلام في المقدار الذي يتعاطاه المضطر من الميتة، فالوجه أن ننقل ما ذكره الأصحاب، ثم نجري على عادتنا في البحث، ذكر الأئمة ثلاثة أقوال في
__________
(1) في (هـ 4) : " على المصادَرة " والمعنى: " أن المصادَر من جهة السلطان الظالم إذا باع ماله للضرورة، ولدفع الأذى الذي يناله في صحة هذا البيع الخلاف الذي في صحة شراء المضطر الطعام بأكثر من ثمنه، والأصح: صحة البيع؛ لأنه لا إكراه على البيع، ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان " ا. هـ نقلا عن النووي بتصرفٍ يسير، حيث نقل كلام الإمام وزاده بسطا وإيضاحاً. (ر. الروضة: 3/287) .(18/223)
المقدار الذي يتعاطاه المضطر: أحدها - أن يقتصر على سَدِّ الرمق، ومعناه أن ينتهي إلى حالة لو كان عليها في الابتداء، لما جاز له الإقدام على أكل الميتة، ووجهه أن الضرورة تزول بما وصفناه، والتمادي في أكل الميتة مع زوال الضرورة بعيد، وكل لقمة يتعاطاها في حكم أمرٍ منشأ يبتديه، والإقدام من غير ضرورة على ابتداء أكل الميتة بعيد.
والقول الثاني - أنه يجوز له أن يشبع من الميتة، وتوجيه هذا عسر على هذا الترتيب إلى أن نبيّن وجه الحق، ثم هذا القائل لا يعني بالشبع أن يمتلىء حتى لا يبقى للطعام مساغ، ولكن إذا انكسرت سورة الجوع بحيث لا يطلق عليه اسم جائع، فينتهي وينكف.
والقول الثالث - أنه إن كان في مهمهٍ بعيدٍ عن العمران، فيشبع، ليقطع المهمه، وإن كان يقرب من البلد، فيقتصر على سد الرمق.
11646- هذا ما أطلقه نقلةُ المذهب، واعتقدوا المسألة مختلفاً فيها، وجَروْا على سجيتهم في توجيه قول على قول، والذي يجب القطع به عندنا أنه إذا صار في دوام أكل إلى حالةٍ لو كان عليها في الابتداء، لما جاز له الأكل من الميتة، فلا يجوز والحالة هذه تجويز استدامة الأكل، ومن تخيّل فرقاً، فليس على حظٍّ من الفقه، وحق الإنسان أن يرد فكره وطلبه إلى المَيْز بين ما يمكن تقدير الخلاف فيه، وبين ما يجب القطع به، فالوجه أن نقول: أكلُ الميتة إنما أثبت للخلاص، وليس سبيله كسبيل الترفّه والتلذذ، أو كسبيل طلب الزيادة في الأَيْد والقوة، ثم يجب أن يتصور الناظر ما منه الخلاص؛ فإذا فهمه على وجهه، فهم الخلاص.
فلسنا ننكر أن الموت مما يتعلق به الفكر في المعنى المطلوب، وقد أوضحنا في الفصل الأول أنا لا نشترط العلم بالموت ووقوعِه لو فرض تركُ الأكل، بل يكفي الظن، فهذا ما قدمناه، وفصّلناه، ونحن نضم إلى ما تقدم ما لا بد منه، ولا يتم الكلام إلا به فنقول: ظن الموت إذا وقع على وجهه، فصَدَرُه (1) عن معرفةٍ بأسباب
__________
(1) هـ 4: " نصدر".(18/224)
الموت وعلاماته، وربما لا يحصل الظن على هذا الوجه إلا لأفرادٍ يرجعون إلى حاصلٍ في الأَعْلال، وفي علامات الحال، وفيما يشير إليه من متوقّعات المآل، فما أرى الظن على هذا الوجه شرطاً، وبعد ذلك أمران يجب الإحاطة بهما: أحدهما - أن الظن قد يستند إلى مبادىء الأمور من غير بصيرة، فإذا فرض مثله، وجب القطع بجواز تعاطي الميتة، فإنَّ البصيرة في ذلك يختص بها خواص الناس، فلا نُهْلِك عوامهم بسبب الخلو عن البصيرة. هذا أحد الأمرين.
والثاني - أنَّ الظنّ من ضرورته أن يميل فيه العقد إلى أحد المعتقدَيْن، ويترجح تعلقه به على تعلقه بالثاني، وهذا يستدعي سبباً لا محالة؛ فإنَّ الظنَّ لا يغلب من غير سبب، فلو اعترض حال، وكان صاحبها يجوّز أداءها إلى الموت، إن لم يأكل الميتة، ويجوّز السلامة، ولم يترجح أحدُ المعتَقَدين على الثاني، فالتردد مع ما جبلت النفوس عليه من حب البقاء يجرّ خوفاً، وهذا الخوف لا مستند له من ظن، فالذي أراه القطع بأنه يجوز لمن هذا وصفه أن يأكل الميتة، وهذا شخص لم يعلم إفضاء ما به إلى الموت لو ترك الأكل، ولم يظن أيضاً، والرأي إطلاق الأكل له؛ فإنا لو منعناه من الأكل حتى يعلم أو يظن، فربّما يهلك في تربّصه، وطلبِه العلمَ أو الظن، ومحاماة الشرع على المُهَج عظيمة.
فإن طلب طالب تلقِّي هذا من قول المشايخ، فهو صريح في كلامهم، فإنهم جوّزوا أكل الميتة عند الخوف من الموت، وهذا خائف حقاً، والأكل منوط بالخوف، وقد ظهر اختلاف القول في أن من رأى سواداً فحسبه عدواً، وصلى صلاة الخوف، ثم تبيَّن له أن الأمر على خلاف ما ظنه، فهل يلزمه القضاء، والذي نحن فيه ليس من ذلك القبيل؛ فإن أثر البناء على حقيقة الحال في إيجاب قضاء الصلاة، ومثل هذا لا يفرض في المُهَج؛ فإنّها إذا فاتت، لم تستدرك، بل ما نحن فيه يناظر جواز الإقدام على الصلاة راكباً إذا ظهر الخوف، وذاك لا خلاف فيه، إنما الخلاف في وجوب القضاء، وإذا جوزنا الإقدام على أمر، ولم يكن بعده مستدرك، فليس إلاَّ الحكم بالإباحة.
فإذا تبيّن ما ذكرناه، فالإقدام في الابتداء موقوف على العلم، أو على الظن، أو(18/225)
على الخوف؛ فإن انقطعت هذه الأسباب في دوام الأكل، فلا يجوز أن يكون في تحريم التّمادي خلاف.
11647- وقد يطرأ وراء ذلك كلِّه أمرٌ آخر، وهو أن هذه الأسباب لو انقطعت، وكان الرجل في مهمهٍ لا يملك بما أكله قدميه، ولا يستقل في جَوْب البرّية، وهذا يجر خوفاً آخر؛ فإذا كان يخاف من البقاء في البرّية الهلاكَ من وجه من الوجوه، فليأخذ من الميتة ما يقوّيه على الخلاص من الهلاك، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف، ولا يجوز أن يكون في هذا فرق بين الابتداء والدوام.
ولو لم يكن عليه في المقام خوف من جهة، ولكن علم أنه لو اقتصر على ما يزيل الخوف، لما استقل، وسيعود إلى الخوف، ثم يأكل على الحد الأول، ثم يعود كذلك، حتى يستنفد الميتة، ثم يضيع، ويهلك، فهذا يُحوج إلى مزيد تفصيل: فإن كان الحاضر من الميتة بحيث يزيل خوفه مرتين، ولا يقيم أودَه، ولا يُقلّه، ولو تعاطى جميعه، لاستقلّ ومضى، فلا يجوز أن يكون في هذه الصورة خلاف أيضاً، والوجه أن يستوعب ويستقلّ وينهض.
وإن كان الحاضر من الميتة بحيث يكفي لسد الرمق مراراً، ويفضل في الكرة الأخيرة ما يفيد الإقلال والاستقلال، وكان يخطر له معونة -على بعد- وطروق طارق لو اقتصر على سد الرمق، وكان الظاهر أن يحتاج إلى عودات إلى الاستيعاب، فهل يأخذ في أول الأمر أكلةً يستقل بها ويمضي، أم يقتصر على سد الرمق حتى ينتهي إلى مقدار أكلة مقلّة؟ هذا موضع التردد: يجوز أن يقال: يأخذ أكلة ويستقل، ولا يبني على توقع طارق على بعد، ويجوز أن يقال: يقتصر على سد الرمق، فعساه يتخلص، ثم إذا لم يبق إلا أكلة مقلة، فيجب القطع بأنه يتمادى فيها؛ فإنه لو قطعها، لفاته الاستقلال، فهذا منتهى البيان في ذلك.
ولست أدري على ماذا تحمل الأقوال المطلقة المحكية عن الأصحاب، ولا يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما رتبناه، ونزّلناه، وما نصَّ الشافعي على قولين، ولا على أقوال مجموعة، ولكن نظر الناظرون في تردُّدٍ صادفوه في كلامه، فحسبوه ترديد قول، وإنما هو ترديد حال.(18/226)
11648- ثم إن الأصحاب ذكروا طرقاً في وجدان الرجل طعاماً مملوكاً للغير، فقال قائلون: نقطع بأنه يقتصر منه على سدّ الرمق؛ فإن الحق فيه للآدمي، والحق في تحريم الميتة لله تعالى، وحق الله على المساهلة. ومنهم من قلب الترتيب، وقال: يزيد على سد الرمق في الطعام المملوك للغير؛ فإنه مباح الجوهر، ولا يفوت حق الآدمي من المالية، ومنهم من أجرى الأقوال [كلها] (1) . وكل ذلك تخليط ما لم يُنَزَّل على الترتيب الذي ذكرنا، حتى إذا انتهى الترتيب إلى صورةٍ قدرنا فيها خلافاً، فيجوز أن يختلف الرأي في طعام الغير على حسب ما نقلناه.
فرع:
11649- إذا وجد المضطر ميتة وطعامَ الغير، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يتعاطى طعامَ الغير. والثاني - أنه يتعاطى الميتة، والوجهان مأخوذان من التردد الذي حكيناه للأصحاب في ترتيب المذهب، وهما مستندان إلى القول في اجتماع حق الله وحق الآدمي. والوجه الثالث - أنهما يستويان، والمضطر بالخيار فيهما، وهذا يخرج على مذهب للأصحاب في أنه إذا اجتمع دَيْنُ الله ودَيْنُ الآدمي، فهما مستويان لا يتقدم أحدهما على الثاني، وهذا يُخَرَّج على مذهب من أجرى الخلاف في طعام الغير على حسب إجرائه في الميتة.
11650- ولو كان المضطر مُحْرِماً وقد استمكن من صيد، وبالحضرة ميتة، قال الأئمة: إن قلنا: المحرِم لو ذبح صيداً يكون ميتة، وفيه قولان مشهوران، فهاهنا حق عليه أن يجتزىء بالميتة، ولا يذبح الصيد؛ فإنه لو ذبحه، لكان ميتة، وهو يحتاج في التوصل إلى تحصيل هذه الميتة إلى ارتكاب محظور القتل.
وإن قلنا: الصيد لو ذبحه المحرم، فهو ذكية، وإن كانت محرّمة على المحرِم، فقد قال الأصحاب: الميتة والصيد على هذا القول بمثابة الميتة وطعام الغير، وهذا فيه نظر؛ فإنّ التردّد أي في طعام الغير من جهة تردد النظر في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي، وهذا المعنى مفقود في هذه الصورة؛ فإن الحق في الصيد لله تعالى، ولو كان قَتَل المحرمُ قبل الضرورة صيداً، فاضطر ولحم الصَّيد عتيدٌ، وعنده ميتة،
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/227)
فلا يجوز أن يكون في تقديم الصَّيد على الميتة خلاف، إذا كان التفريع على أن الصَّيد ليس بميتة، فإذا كان الصَّيد حيّاً، بقي النظر في أن الميتة مجزئة سادَّة أو مقلّة، وهو يحتاج في الصيد إلى قتلٍ هو من المحظورات، فإن كان يفرض تردد، فمن هذه الجهة، وهو عندي باطل أيضاً؛ فإن قتل الصيد مع التزام الجزاء محتمل إذا كان التفريع على أنَّه ذكية وليس بميتة.
ولو وجد طعام الغير وصيداً، وهو محرِم، فقد قال الأصحاب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يتعاطى طعام الغير، ويجتنب قتل الصّيد. والثاني - أنه يقتل الصَّيد، والتفريع على أنه لا يصير ميتة، وهذا الخلاف ينقدح تخريجه على اجتماع حق الله وحق الآدمي، ويظهر فيه التخيير تخريجاً على التسوية بين حق الله وحق الآدمي.
وإن فرعنا على أن الصيد يصير ميتة بذبح المحرِم، فيقع هذا في اجتماع الميتة وطعام الغير، مع زيادة ارتكاب القتل، ثم بعده وصول إلى الميتة، وهذا يخرج أيضاً على الأوجه الثلاثة على نسق قريب مما تقدم.
ولو وجد المحرِم صيداً وطعامَ الغير وميتةً، فلا يكاد يخفى تخريجُ هذه المسألة على الأصول التي ذكرناها، ولكن إذا انتظم في شيئين ثلاثةُ أوجه، فإذا صوّرنا اجتماع ثلاثة أشياء، جرى فيها أوجه زائدة، وقد [بلغت] (1) سبعة: وأصولها أنا نقول في وجهٍ: الميتة أولى، وفي وجهٍ الصَّيد، وفي وجه طعام الغير، فهذه الأوجه هي الأصول، ثم يتفرع جهات من الخِيرة، فنقول: وفي وجه هو مخَيّر بين الميتة ومال الغير، ويترك الصَّيد، وفي وجه هو مخيّرٌ بين الصيد ومال الغير ويترك الميتة، وفي وجهٍ يتخير بين الصيد والميتة، ويترك مال الغير، وفي وجهٍ يتخير بين الكل. وهذا سهل المدرك على من أحكم الأصول.
وقد انتجز القول فيما يتعاطاهُ المضطر على مساق في الإيجاز والبيان لا يعهد مثله.
***
__________
(1) في الأصل: " بلغ " وفي (هـ 4) : " تبلغ ".(18/228)
كتاب السبق والرمي
11601- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبْق إلاَّ في خُف أو حافر أو نصل " (1) . والسبْق المال الذي يُخرج في [مقابلة] (2) المسابقة والمناضلة. والسبْق بسكون الباء مصدر سَبَقَ. والسَّبَقُ بفتح الباء بالإضافة إلى السبْق بسكونها قريبٌ من القبْض والقبَض والنَّقْض والنقَض والخَبْط والخَبَط، وإن لم [يكنه] (3) .
ومذهب الشافعي أن المالَ المخرج -على تفاصيلَ ستأتي مشروحة إن شاء الله- مستحق بالسبْق والنضْل، وخالف في ذلك أبو حنيفة (4) رضوان الله عليه وأرضاه في رواية مشهورة، ولا شك أنه راغم (5) الأخبار الصحيحة، وروي أنه قال بأصل المعاملة، واختار أنها جائزة، وهذا قريب، وهو قولُ الشافعي (6) ، وللكتاب ركنان: أحدهما - المسابقة، والثاني - المناضلة.
وقد صدر الشافعي الكتاب بالمسابقة، وذكر أصولها، ثم اندفع في المناضلة وأحكامها، ولا يكاد تتمحض واحدة عن الاستشهاد بالأخرى، ونحن نحاول الجريان
__________
(1) حديث " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، والحاكم من حديث أبي هريرة، ونقل الحافظ تصحيحه عن ابن القطان، وابن دقيق العيد، وصححه الألباني في الإرواء.
(ر. الأم: 4/229، المسند: 2/474، أبو داود: الجهاد، باب في السبق، ح 2574، الترمذي: الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق، ح 1700، النسائي: الخيل باب السبق، ح 3585، ابن ماجه: الجهاد، باب السبق والرهان، ح 2878، التلخيص: 4/297 ح 2480، إرواء الغليل: 5/333 ح 1506) .
(2) في الأصل: " معاملة ". والمثبت من (هـ 2) ، ومختصر العز بن عبد السلام.
(3) في الأصل: " نكبته ".
(4) ر. بدائع الصنائع: 6/206، الفتاوى الهندية: 5/324، حاشية ابن عابدين: 5/258.
(5) هـ 4: " خالف ".
(6) في (هـ 4) : " قولٌ للشافعي ".(18/229)
على ترتيبه بعد أن نُمهِّد أصلاً فيهما يتعلق ببيان الخبر والاستنباط منه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبْق إلا في خُف أو حافر أو نصل " وأراد بالخُفّ الإبل، وبالحافر الخيل في ظاهر ما يظن، وأراد بالنصل السهم في ظاهر الظن، والمعنى الذي تخيله الأصحاب التحريض على تعلم الفروسية والرماية كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، قيل: القوة هي الرَّمي. ولا غَناءَ في إعداد القسيّ والسهام مع الخُرق، وعدم العلم بكيفية الرماية، وكذلك لا غناء في إعداد الخيل من غير معرفة بالفروسية، فالإعداد يُشعر بالتوصّل إلى ما لا غنى عنه في التعلم، فهذا ما ذكره الأصحاب.
ثم لا خفاء بأن الإبل معيّنة، وهي ذات الخفاف، والخيل كذلك، وهي ذات الحوافر، فيجوز المسابقة على الإبل، ويجوز على الخيل، وتفارق الإبل الخيلَ في استحقاق السهم في المغنم؛ فإن استحقاق السهم لا يتحقق إلا بالخيل، نعني الزائد على سهم الرجّالة، واستوت الخيل والإبل في جواز المسابقة عليها، وهذا قد يختلج في الصدر؛ فإن المسابقة عليهما [قد أثبتتهما] (1) عدتين للقتال، ولكن لا مطمع في تقريب أحد الحكمين من الثاني، ولا خلاف بين الأصحاب في افتراق القاعدتين.
والممكن في الفرق أن الخيل متهيئة (2) للانعطافات التي هي عماد القتال، وبها يتم الكر والفر والتدْاور، وسهم القتال يليق بعُدد القتال، وليس في الإبل ما أشرنا إليه، وإن كان فيها غناءٌ على حال، وما فيها كافٍ في التحريض على تعلم ركوبها وإجرائها.
11652- ثم يطرأ في التفريع ما يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج ويبعد عن مسلك المعنى.
وهذه الأقسام نبتديها بعد شيئين: أحدهما - الاكتفاء بجنس الخيل وجنس الإبل، وإن لم يكن فيما يقع التسابق عليه كثير عَدْوٍ وركْض؛ تعويلاً على الجنس،
__________
(1) في الأصل: " فإن المسابقة عليهما أثبتا عدتين للقتال " و (هـ 4) : " قد أثبتتا ". وما في اللفظ من تصرفٍ هو من عمل المحقق.
(2) هـ 4: "متهيبة".(18/230)
وقد نسلك هذا المسلك في جنس الخيل في استحقاق السهم. هذا أحد الأمرين.
والثاني - أنا نظن ظنّاً غالباً أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالحافر إلا الخيل وبالخُفّ إلاَّ الإبل.
فإذا تَمَهَّدَ هذا قلنا: الفِيَلة ذوات خفاف، وقصْدُ القتال فيها ظاهر، ولكن من حيث يبعد أنها خطرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذُكر الخُفَّ، ذكر الأصحاب فيها خلافاً، وقالوا الأصح جواز التسابق عليها؛ لاندراجها تحت الاسم واشتمالها على المعنى المطلوب، والمسابقة على البغال والحمر على الاختلاف، وهي أبعد من الفِيَلة، من جهة المعنى، فإنها لا تُغني غناء الخيل في القتال، وإنما المطلوب (1) منها تعلم الرِّكبة والهيئة في الثبات، وهذه الصفات هي الأصول، وقد لا يتأتى الهجوم على ركوب الخيل دون تعلم ما ذكرناه على الحمر والبغال، ولا شك أنَ ما ذكرناه بالإضافة إلى ركوب الخيل يخالف غَناء الفيلة بالإضافة إلى الإبل، ولكن اسم الحافر يتناول الحمر والبغال، فاقتضى ما ذكرناه ترتيب الحمر والبغال على الفيلة، ووجه الترتيب ما نبهنا عليه.
وقد ذكرنا في استحقاق السَّهم قولين في الفرس الرَّازح (2) الذي ليس فيه إلا الشهود والإرعاب، ولا يبعد على مذهب تتبع المعنى أن يجري مثله في المسابقة، فإن كانت الخيل معيّنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر الحافر هاهنا ذكر الفارس ثَمّ، واسم الفرس (3) يشتمل الجنس.
فهذا وجه التصرف فيما يدخل تحت الاسم لغةً مع غلبة الظن، [بأنه] (4) لم يخطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذْ أطلق لفظه في الخُف والحافر.
والترامي بالزانات والمزاريق بالإضافة إلى السّهام يقرب من الفيلة بالإضافة إلى
__________
(1) هـ 4: " المقصود ".
(2) الرازح: الهزيل. (المصباح) .
(3) هـ 4: " الفارس ".
(4) في الأصل: " فإنه ".(18/231)
الإبل، وهي دون الفيلة إذا نسبت إلى الإبل، إذا قُدِّرَ نسبتُها إلى السَّهم، وفوق الحمر إذا نسبت إلى الخيل، وإنما ألحقناها بالسهام لاندراجها تحت اسم النّصل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يخطر للإنسان في إمكان قصد التعميم عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل والخيل إلى الخف والحافر، وهذا في النصل أظهر؛ فإنَّ الكناية عن الإبل والخيل في الخف والحافر أشهر من الكناية عن السهام بالنصل.
وقد نجز القول في مرتبة من المراتب الثلاث التي ذكرناها.
11653- فأمَّا المسابقة بالأقدام وبالزواريق في الماء، فإنَّها خارجة عن الإرادة المظنونة، وعن الاسم من طريق اللفظ، ولكن تخيل الأصحاب إلحاقَ ذلك من طريق المعنى بالخف والحافر، وأظهروا خلافاً، وهو مرتب على ما يقع في المرتبة الأولى، وهذا أولى بألا تصح المعاملة فيه من جهة خروجه عن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان شيخي يقرب التدْوَارَ بالسيوف من النصال، ويحرص على أن يدرجها تحت الاسم؛ فإن اسم النصل يتناول السيف، كما يتناول الزانات ولا يخفى غَناءُ السيف، فهو الآلة الكاملة في لسان أهل النجدة. وهذا الذي ذكره ظاهر في الغَناء، ولكن يبعد إدراج السيوف تحت اسم النصل المطلق.
والترامي بالأحجار والمقاليع يقع في المرتبة الثانية؛ فإنها على غناء ظاهر، وليست تدخل تحت الاسم.
11654- وأما ما يقع في المرتبة الثالثة، فهو بمثابة التسابق على الطيور والحمامات الهادية وهي خارجة عن الاسم، وغناؤها نزر، وإذا تكلفناه، أشرنا إلى الكتب وفيها نقل الأخبار في الاستنفار.
فهذا بيان قواعد المذهب.
وألحق شيخي الصراع بالمرتبة الثانية وهو عظيم الوقع عند تَواخُذِ (1) الرجال في
__________
(1) تواخذ الرجال: المعنى عندما يأخذ الرجال بأعناق بعضهم البعض عند التحام القتال.(18/232)
ضيق العناق، وقيل: هو الأصل الطبيعي، والسكين نِفَارٌ (1) منه، والسيف نِفَارٌ من السكين، والرماح نِفارٌ من السيف، وبعدها الرمي.
وأنواعُ القسي ملحقة بالنصول (2) لا تردد فيها، كالجروخ (3) والنازك (4) ورمي المسلات والإبر، ولئن شذت مسألة بالضوابط التي ذكرناها ننبه عليها.
11655- ونحن نختتم الكلام بسؤال وجواب عنه، فإن قيل: من أدخل من الأصحاب كلّ ما فيه غناء في القتال تحت جواز المعاملة قياساً على المسابقة والمناضلة فكيف اعتذاره عن ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقسيمه المُدار بين النفي والإثبات؛ إذ قال: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل "؟ وهذا السؤال واقع سيّما على من أجرى الخلاف في المرتبة الثالثة، ثم الممكن فيه أنه أخرج كلامه عليه السلام على الغالب المعتاد، وقصد التنصيص على المعظم من آلات الجِدّ، لنفي (5) ما عداها من التقامر على الهُزء واللعب، وما لا خير فيه، والعلم عند الله، وقد تمهد الأصل المطلوب، ونحن نعقد بعده فصلاً في السَّبَق ومن يخرجه ومن يستحله.
__________
(1) النفار: النفور والفرار والفزع، والمعنى: أن الأصل في القتال هو الصراع (المصارعة) ثم فزعاً منها كان اللجوء إلى السكين، وفزعاً من السكين كان السيف؛ فهو أبعد عن الخصم، ثم نفاراً من السيف كان الرمح، ثم يأتي الرمي. والغرض من هذه العبارة وهذا الترتيب إثباتُ جواز السبق في المصارعة، فإنها الأصل في القتال.
حمداً لله جل وعلا، فقد رأينا ابن الصلاح في مشكل الوسيط فسر العبارة بهذا التفسير عينه ثم عقبه بقوله: " فاعرف الكلمة (نِفار) ؛ فإنها قد خفيت، وصحفت في النسخ بوجوه من التصحيف أضاعت المعنى " ا. هـ (ر. مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 7/176) .
(2) هـ 4: " بالمنصوص، لا مردّ فيها ".
(3) الجروخ: من أدوات الحرب ترمى عنها السهام، والحجارة، مشتقة من جرخ، ومعناها الفلك، وتطلق على جميع الآلات التي تدور، كالدولاب والبكرة، وغيرهما، ومنها جرخ بالكردية والتركية (ر. معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة) .
(4) النازك: النيزك، وهو الرمح القصير، فارسيٌّ معرّب، وتكلم به الفصحاء في الجاهلية (اللسان، والمصباح، والمعجم) وهي في (ق) : (الناوك) وهو أيضاً بنفس المعنى، واستعمله الغزالي في الوسيط.
(5) هـ 4: " ليبقى ".(18/233)
فصل
11656- السبَق هو المال المخرج، ثم يفرض فيه ثلاث صور: إحداها - أن يُخرج الإمامُ من مال المصالح ما يراه، ويقول للمتسابقَيْن وللمتناضلَيْن: من سبق منكما أو من فاز بالنضال، فله هذا المال، فهذا جائز على هذا الوجه، لا خلاف فيه، ولا حاجة إلى فرض محلِّل؛ فإنَّ جملة المتسابقين والمتناضلين على صورة المحلِّل، فإنَّ المحلل من يستحق لو فاز، ولا يُستَحق عليه لو تخلف، وجملتهم بهذه المثابة.
11657- ولو أخرج المال واحدٌ من عُرض (1) الناس، وقال: من سبق منكم، أو فاز، فهذا المال له، فذلك جائز وفاقاً، [كما يجوز] (2) من الإمام، وهذان الوجهان لا خلاف فيهما على المذهب.
ثم نذكر حكماً من أصول الكتاب متعلقاً بهذين القسمين، ثم نذكر القسم الثالث، ونذكر ما يليق به.
فإذا شرط من يُخرج السبَق جميع المال للسابق، جاز، وهو الأصل، وإن شرط بعضه للسابق، وبعضه للمصلِّي وهو الذي يلي السابق، نظر: فإن شرط الكل للمصلي، فالمذهب أن ذلك باطل، لوجهين: أحدهما - أنَّ المطلوب السبْق، والآخر - أن السبَق مأخوذ من السبْق وهو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مشعر بالسبْق.
ومن أصحابنا من قال: يجوز شرط السبَق بكماله (3) للمصلي، لأن ضبط الفرس في شدة العدو على مقام المصلّين حِذقٌ في الفروسية. وهذا الوجه ضعيف، وقد يؤدي إلى أن يطلب كل واحد الانخناس، فلا يحصل الغرض من الركض.
ولو قسم مخرج السبَق المالَ على السابق والمصلّي، وجعل نصيب السابق أكثر، فالمذهب الذي قطع به معظم الأئمة جواز ذلك، ووجه المصلحة فيه لائح. وذكر
__________
(1) عرض الناس: بضم العين وسكون الراء: عامتهم.
(2) في الأصل: " كما لا يجوز ". والمثبت من (هـ 4) ، و (ق) .
(3) هـ 4: " الأكثر ".(18/234)
صاحب التقريب وجهاً آخر أن ذلك لا يجوز والسبَق للسابق، فإذا شرط لغيره، لم يصح، ولم يستحقه.
فإذا كان ما شرط للمصلّي أكثر مما شرط للسابق، فهو كما لو كان الكل مشروطاً للمصلي، ولو سوَّى بين السابق والمصلِّي (1) في الترتيب، كان كما لو فضّل المصلي على السابق.
وكل ما ذكرناه فيه إذا اشتمل مكان التسابق وهو المسمى الحَلْبة على فرسانٍ، فلو كان يتسابق رجلان فالمصلي فِسْكِل (2) ، ولا خلاف أنه لا يجوز تخصيص الفِسكِل بالسبَق، فإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا اشتمل المكان على السابق والمصلّي وغيره.
ولو كان يرى مُخرج المال فضَّ ما أخرجه عليهم على التفاضل، والفضل للسابق، ثم للمصلي ثم للذي يليه، هكذا، فالأصح جواز ذلك إلا فيمن يأتي فِسْكِلاً؛ فإن في صحة اشتراط شيء له -وإن قل قدره- خلافاً بين الأصحاب متجهاً، فمنهم من منع؛ فإن أحداً لا يعجِز عن مقام الفِسكِل، فقد يكتفي بالقليل ويضن بفرسه، فيتخلف، ومنهم من جوّز، لأنه على حال يتعب ويدأب، فلا يبعد ألا يخيب على قدر كدِّه وجهده (3) .
فخرج من مجموع الترتيب أن الفِسكِل لا يخصص بالسبَق، ولا يفضّل على متقدمٍ عليه، ولا يسَّوى بينه وبينه وفاقاً، وصرْفُ (4) شيءٍ إليه على شرط أن يكون أقل من حصص كل سابق عليه ففيه الخلاف. ويجوز تخصيص السبَق بالسابق، بلا خلاف، فإذا أُثبت للمصلِّي شيء، والفضل للسابق، فالمذهب الجواز، وفيه شيء بعيد حكاه صاحب التقريب.
__________
(1) المصلّي: فسره الإمام بأنه الذي يلي السابق، ونزيد التسمية وضوحاً، فنقول: سُمي المصلي لأنه يأتي ورأسه عند (صلا) السابق. والصلا: وزان العصا: هي مغرز الذنب من الفرس.
ومن هنا قيل للذي يلي السابق المصلي (القاموس. والمصباح) .
(2) الفِسْكِل: بكسر الفاء والكاف: الفرس يجيء آخر الخيل (المصباح) .
(3) هـ 4: " وحدّه ".
(4) هـ 4: " وفي صرف ".(18/235)
وإن خصص المصلِّي بالكل أو بالأكثر، أو سوى بينه وبين السابق، فالمسألة على الخلاف، والأقيس المنع [وإن] (1) اشتهر الخلاف.
ولو فرض ما ذكرناه في الثالث الذي يسمى التالي، أو الرابع الذي يسمى المُرتاح (2) ، فهو على الخلاف، على شرط ألا يكون فِسْكِلاً.
وقد تَمَّ المرادُ فيما قصدنا إلحاقه.
11658- والقسم الثالث في إخراج السَّبَق أن يُخرج أحد المتسابقين مالاً، وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يكون المخرِج أحدَهما، على تقدير أنه إن سبق أحرز ما أخرجه، وإن سبقه صاحبه، فاز بالمال. والقسم الثاني - أن يخرج كل واحد منهما مالاً على تقدير أن من سبق أحرز ما أخرجه، واستحق ما أخرجه صاحبه.
فأما الصورة الأولى في القسم الثالث، فهي مجوّزة بلا خلاف، فإن من لم يخرج يستحق، ولا يُستحق عليه، وهذا هو المعتمد في تصحيح المعاملة، وسبب اعتماده أنه يخرجها عن صور القمار؛ إذ ليس فيها استحقاق على هذا [النّسق] (3) .
فأما الصورة الثانية من القسم الثالث: وهي أن يخرج كل واحد منهما مالاً، ويقع التشارط على أن من سبق أحرزَ ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، فهذا قمار باطلٌ لا خلاف فيه.
فلو أدخلا بينهما ثالثاً، وشرطا أنه إن سبق، استحق المالين، فهذا هو المحلِّل، ثم يُنظر: فإن وقع الشرط على تخصيص المحلّل بالاستحقاق إن سبق، وعلى ألا يستحقَّ أحدُهما مالَ صاحبه، بل لا يستفيد بسبقه، إلا إحراز ما أخرجه، فهذه المعاملة جائزة وفاقاً، وهي على حكم الصورة الأولى من القسم الثالث، وهو إذا أخرج أحدهما المال دون الثاني، فلا فرق بين أن يُخرج رجل واحد وبين أن يُخرج رجلان إذا كان المستحِق من لم يُخْرجِ.
__________
(1) في الأصل: " فإن ".
(2) المُرتاح: بضم الميم: الفرس الخامس من خيل الحلبة (كذا في المعجم الوسيط، وجعله الإمام الرابع) .
(3) في الأصل: " السبق "، والمثبت من (هـ 4) .(18/236)
فلو [وقع] (1) التشارط على أن المحلِّل إذا سبق، استحق السبَقَين [وإن سبق] (2) أحد [المُسبِقَين] (3) أحرز ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، ففي جواز المعاملة على هذا الوجه قولان: أحدهما - أنها تصح على هذا الوجه، ويجب الوفاء بالشرط؛ لأن الغالب في تعامل الناس هذا.
فإن قال قائل: يجب تخصيص المعاملة بغرض (4) التعليم والتعلّم، وهذا يحصل بأن يكون أحدهما مسبَّقاً (5) . قيل: التسابق قد يجري بين المتكافئين، بل يشترط أن [يكونا] (6) متقاربين، كما سيأتي شرح ذلك في الفرسين، والراميين، فإذا كانا متكافئين، لم يسمح أحدهما أن يخرج المال دون الثاني، فهذا يؤدي إلى تعطيل المعاملة، ولكن إذا لم يكن محلِّل، كانت المعاملة على صورة القمار، وإن تخلل المحلِّل، مالت المعاملة عن مضاهاة القمار؛ إذ ليس في جنس القمار دخول محلل.
والقول الثاني - أنه لا يجوز تقدير استحقاق كل واحد منهما على صاحبه؛ فإنه لو اتفق سبق أحدهما، كان استحقاقه على صورة القمار، فوجب تخصيص الشرط بالمحلِّل إذا أخرج كل واحد [منهما] (7) مالاً، وعبّر الأئمة عن القولين بعبارة تصلح للضبط والتحقيق فيما قدمناه، فقالوا: " المحلل يحلِّل لنفسه، أم يحل لنفسه وللمستبقَيْن إن فرض السبق من أحدهما"؟ فعلى ما ذكرنا من القولين.
__________
(1) في الأصل: " يقع ".
(2) في الأصل: " فإن ".
(3) في الأصل، و (ق) : " المسنبقين " وفي (هـ 4) بها أثر تصويب ويغلب على الظن أنها " المستبقين " وهو خطأ فإن المراد أحد اللذين أخرجا السبَقَ، فهما مُسبقان. أما صفة الاستباق، فيشاركهما فيها المحلل. وهذا واضح يدرك بشيء من التأمل. وقد نبه إليه ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط (ر. 7/179) .
(4) هـ 4: " بفرض ".
(5) المسبّق: مثقّل: اسم مفعول، وهو الذي يسبقه غيره كثيراً. (المصباح) .
(6) في الأصل: " أن يكون ".
(7) زيادة من (هـ 4) .(18/237)
11659- ثم إذا فرض [مُسبقان] (1) ومحلِّل، فيقع التسابق على صورٍ (2) ، وأحكامها تتلقّى من الأصل الذي قدمناه، وقد يتعلق التفريع بأمر (3) آخر يتعلق باللفظ، ونحن نذكر المراد في صورة ثم نخوض في التفاريع:
فإذا قيل: لا سبَق إلا للمحلِّل، وقد أخرج المُسْبقان ماليهما، فسبَقَ أحد المُسْبقين، وصلّى (4) المحلِّل وجاء المسبق الثاني فِسكِلاً، فالسابق يحرز [ما أخرجه] (5) ، ولا يستحق (6) ، وهل يستحق المحلل سَبَق الفِسكِل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يستحق؛ فإن السبَق للسابق، والسابق هو الذي ليس مسبوقاً، والمحلِّل مسبوق بأحد المُسْبِقَين، فخرج منه أن المُسْتقَيْن أحرزا سَبقَيهما، الأول لسبْقه، والثاني لأن المحلل مسبوق بالأول.
والوجه الثاني - أن المحلل يستحق سبَق المُسْبِق الفِسكِل؛ لأنه جاء سابقاً له، متقدماً عليه، فهو بالإضافة إلى الفِسكِل سابق. وهذان الوجهان مأخوذان من مطلق شرط السبَق للسابق، فرجع التردد إلى موجب اللفظ، وما ينشأ من الخلاف عن الأصل الأول يرجع إلى الفقه والحكم، وهو أن المُسْبق هل يستحق مال صاحبه؟ أم يختص بالاستحقاق المحلِّلُ؟
11660- ثم تتفرع الصور، وتتركب الوجوه المختلفة من هذين الأصلين، والغرض يبين بثمان صور: فإذا تسابق مُسْبقان ومحلِّل، نظر: فإن أتَوْا الغاية معاً على التساوق: من غير سَبْق، فلا استحقاق، وقد أحرز كل مُسْبق [ما أخرجه] (7) . هذه صورة.
__________
(1) في النسخ الثلاث: " مستبقان " وقد تكرر هذا الخطأ في بعض المواضع، وسنقوم بتصويبه حيثما وقع بدون أن نشير إلى ذلك في الحاشية.
(2) هـ 4: " صورة ".
(3) هـ 4: " بأصل آخر ".
(4) صلّى: أي جاء ثانياً، وهو المصلّي، كما شرحنا سابقاً.
(5) زيادة اقتضاها السياق، وصرح بها الغزالي في البسيط.
(6) ولا يستحق: أي لا يستحق السبَق؛ لأنهما شرطا أن السبَق للمحلل.
(7) في الأصل: " ما أحرزه ".(18/238)
والثانية - أن يسبق المحلِّل، ثم يأتي المسبقان وراءه متساوقين، فالمحلل يأخذ السبَقين.
والثالثة - أن يأتي المسبقان معاً، ثم يأتي المحلل، فلا استحقاق؛ وقد أحرز كل واحد [ما أخرجه] (1) .
الرابعة - أن يسبق أحد المُسبقين، وتلاه الثاني، وجاء المحلل فِسْكِلاً، فيحرز السابق ما أخرجه، ويخيب المحلل، وهل يستحق السابق ما أخرجه صاحبه؟ فعلى قولين ذكرناهما في الأصل الأول.
الخامسة - إذا سبق المحلل، وتلاه أحد المستبقين، وجاء الثاني فِسكِلاً، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنَّ المحلل يستحق السبَقَيْن؛ فإنه سبقهما جميعاً، وهذا هو الأظهر. والثاني - أن المحلل يستحق سبَق المصلّي، والمصلّي يستحق سَبَق الفِسكِل؛ فإنه سابقه، وهذا ضعيفٌ لا أصل له، فإنه وإن كان سابقاً للفِسكِل، فالمحلل أيضاً سابقٌ له، فلا معنى لتخصيص سَبق الفسكل بالمصلي. والوجه الثالث - وهو أمثل من الثاني - أن سَبق الفِسكِل بين المحلل والمصلي، وهذا رديء أيضاً؛ فإن فيه تسوية بين السابق والمصلي أخذاً من مطلق اللفظ، وهذا لو صُرح به، كان بعيداً، فما الظن بالتلقي من مطلق اللفظ؟
فخرج من ذلك أن المحلل يستحق سبَق المصلي بلا خلاف، وفي سبَق الفِسكل أوجه: أصحها - أنه للمحلل، ويلي ذلك أنه بين المحلل والمستبق الذي جاء مصليّاً.
والثالث - أنه للمصلي، وهذا ساقط لا اتجاه له.
والسادسة - إذا جاء المحلل مع أحدهما متساوقين والآخر فِسكِلٌ. فإن قلنا: المحلل يحلّل المال لنفسه، فالسبَق له، وإن قلنا: إنه يحلّل لنفسه وللمستبق فسبَقُ الفِسكِل بينهما؛ فإنهما سابقان.
السَّابعة - إذا سبق أحدهما، ثم جاء المحلّل مع الآخر معاً، فلا يستحق المحلّل شيئاً، وهل يستحق المستبق السابق سَبق صاحبه؟ فعلى قولين.
__________
(1) في الأصل: " ما أحرزه ".(18/239)
الثامنة - إذا سبق أحدهما، وصلى المحلل، وجاء الآخر فِسكِلاً، فقد أحرز (1) السابق ما أخرج. وفي سبَق من جاء فسكلاً أوجه: أحدها - أنه للسابق، وهو على قولنا أن المُسبق يستحق السبَق، وعلى حملنا للسْبق على حقيقته. والوجه الثاني - أنه لا استحقاق [وهذا] (2) يَخرجُ حسناً على قولنا: لايستحق المُسْبق السبَق، والمحلِّل مسبوق، وليس بسابق، فينقطع الاستحقاق عنهما (3) . والثالث - أن سبَق الفِسكِل بين السابق وبين المحلل فإنّ كُل واحد منهما سابق للفسكل، وهذا يخرج على تحليل السبَق للمسْبق وعلى أن المصلّي له حكم السبْق بالإضافة إلى الفِسكِل، وهذا الطريق ضعيف.
وفي المسألة وجه رابع، وهو أن سَبَقَ الفِسكِل للمحلِّل، وهذا ضعيف؛ فإنا نثبت له حكم السبق وهو مسبوق، وله خروج إذا ضُمَّ إليه أن المُسْبِق لا يستحق شيئاً، فكأنه لا أثر لسبقه في الاستحقاق، فإنما أثره في الإحراز. وهذا بيان الصور ويتهذب [به] (4) ما قدمناه من الأصول، ونحن بعد ذلك نعقده فصلاً في جواز المعاملة ولزومها.
فصل
11661- ظهر اختلاف القول في أن المعاملة التي الكتاب معقود لها جائزة أم لازمة؟ أحد القولين - أنها جائزة كالجعالة، والثاني أنها لازمة كالإجارة، ثم اختلف طرق الأئمة في تنزيل القولين، وبيان محلهما، فقال الإمام شيخي وطبقة من الأئمة لو كان المُسْبِق (5) أحدَهما، فالعقد لا يلزم في جانب من لم يضع سبَقاً أصلاً قولاً واحداً، ومهما (6) أراد أن ينكف، فلا معترض عليه؛ فإنه المستحِق ولا يُستحق عليه، وهذا
__________
(1) هـ 4: " فقد أخرج ".
(2) في الأصل: " هنا ".
(3) فيبقى للمتسابق الثاني الذي جاء فسكِلاً ما أخرجه.
(4) زيادة من (هـ 4) .
(5) المُسْبِق: الذي يعطي السبق.
(6) مهما: بمعنى إذا.(18/240)
كما أنَّ العقد يكون جائزاً من جانب المرتهن والمكاتب، فإنما القولان في حق من وضع السبَق لو أراد الامتناع بعد العقد، ورام الفسخَ، فهل له ذلك؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. هذا مسلك.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في لزوم المعاملة في حق من أخرج السبَق وفي حق من لم يخرجه؛ فإن الذي وضع السبَق، رام أن يستفيد من عمل صاحبه في الرّمي والفروسية، فكأنه في مقام مستأجر يبذل الأجر، والذي يُطلب عملُه في مرتبة الأجير، فإن سلكنا الطريقة الأولى، فالمحلل بين مُسْبقين لا يلزمه الوفاء، وإن عممنا القولين فيمن يخرج السبَق وفيمن لا يخرجه، فقد أجرينا قولي اللزوم والجواز في المحلل؛ فإن من لم يخرج السبَق، فهو على صورة المحلِّل.
هذا بيان القولين.
وتنزيلهما، وتوجيههما: [هو أن] (1) من حكم بالجواز، اعتبر بالجعالة؛ فإنَّ المقصود من هذه المعاملة لا ينضبط؛ إذ لو كانت في المناضلة والمشروط القرعات (2) ، فلا ضبط، فقد تتوالى من الأخرق، وقد يعرى عنها أرشاقٌ (3) من الحاذق، والجواز لائق بالعقد الذي مقصوده مجهول.
ومن نصر قول اللزوم، احتج بأن هذه معاملة مقصودة، ومبناها على اشتراط الضبط في المبدأ والمنتهى، والأرشاق وكيفية الفوز بالمبادرة أو المحاطة (4) ، فيبقى وراء ذلك اتفاق القرعات، وهذا القدر محتمل؛ فإن الجهالة اللائقة بمقصود العقد لا تلحق العقد مما يشتمل على المجاهيل، ولذلك قضينا بلزوم المساقاة وإن كان الجزء المشروط من الثمار للعامل المساقي مجهولاً.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) القرعات: من قرع السهم القرطاس قرعاً، من باب نفع- إذا أصابه (المصباح) . والمعنى أن المشروط للفوز بالسبَق عدد القرعات أي النجاح في الإصابة بالسهم. وسيأتي مزيد تفصيل من الإمام لمعاني هذه الألفاظ في فصل الرمي.
(3) أرشاق: أي رميات من قولك: أرشقته بالسهم. ورشقته به (المصباح) . وسيزيدها الإمام إيضاحاً وتصويراً في فصل الرمي.
(4) المحاطة والمبادرة، اقرأ شرح الإمام لها في فصل الرمي الآتي قريباً.(18/241)
التفريع بعد التنزيل والتوجيه:
11662- فنذكر ضمان السبَق إن كان مالاً موصوفاً في الذمة، ونذكر الرّهن به، فالذي ذهب إليه الجماهير أنا إن حكمنا بلزوم المعاملة، صححنا الضمانَ والرهنَ إذا كان المشروط ملتزماً في الذمة، وإن حكمنا بجواز المعاملة، فالسبَق فيها بمثابة الجعل في [الجعالة] (1) وفي جواز ضمان الجُعل في الجعالة قبل تمام العمل قولان مشهوران في الترتيب الجديد، فإن قلنا: لا يصح الضمان، فلا يصح الرهن، وإن قلنا: يصح الضمان، ففي صحة الرهن بالسبَق وجهان، والرهن أبعد قليلاً عن الثبوت، ولذلك صححنا ضمان العهدة (2) على النص، ولم نصحح الرهن بها على مذهب الجمهور.
فينتظم في الضمان والرهن ثلاثة أوجه: أحدها - أن الرهن لا يثبت والضمان يثبت، والوجه عندنا التسوية بين الرهن والضمان في هذه المسألة، بخلاف ضمان العهدة، فإن ضمان العهدة أُثبت لمصلحة بيّنة لا تنفك عنها حاجة مشترٍ، ثم لا ضرار على الضامن؛ فإنه لا يتوجه عليه المطالبة قبل بَدْو (3) الاستحقاق، ولو جوزنا الرهن، لاحتبس المرهون عن التصرفات، وكان ذلك حَجْراً مستداماً على المالك، فلا سبيل إلى احتمال هذا، ولا يتضح على هذا الوجه فرق بين الرهن والضمان في السبَق، وليس من شيم الفقهاء أن يعتقدوا الفرق بين أصلين لافتراقهما في مسألة، بل الوجه اتباع المعاني.
وذكر القفال طريقة فقهية مرضية في الضمان نستاقها على وجهها، ثم نذكر بحثاً يتم البيان به، قال رضي الله عنه: نحن وإن حكمنا بلزوم المسابقة، فإذا كان المُسبِقُ أحدَ الرجلين، فلا يجب عليه تسليم المال إلى صاحبه قبل ظهور فوزه به، لم يختلف أصحابنا في ذلك، وليس كالأجرة المسماة في الإجارة المطلقة، فإنه يجب تسليمها
__________
(1) في الأصل: " الجهالة ".
(2) العهدة: تطلق على وثيقة البيع، لأنه يرجع إليها عند الالتباس، وضمان العهدة يراد به ضمان التزام كل من المتبايعين بما يلزمه به عقد البيع.
(3) الضبط بفتح وسكون من (هـ 4) ، وهو صحيح.(18/242)
إلى المكري إذا سلم المكري الدار، وإن كانت المنافع توجد شيئاً فشيئاً، ولا يجب تسليم السبَق إلى الذي وضع له السبَق إن فاز وسبق، حتى يبين فوزه، وهذا يشعر بأن السبَق لا يُستحق إلا بالشرط الذي نيط الاستحقاق به، فإذا لم يكن السبَق واجباً، ففي ضمانه قولان مبنيان على أن ما لم يجب وثبت سبب وجوبه هل يصح ضمانه؟ والذي نحن فيه أبعد من ضمان نفقة الغد، فإن الأمر محمول على استمرار النكاح واطراد الطاعة (1) ، وهذا لا يتحقق في المسابقة؛ فإنَّ سَبْق من شُرط له السبَق ليس أمراً معلوماً ولا مظنوناً، ولكنه غيب.
هكذا قال رضي الله عنه. وهو حسن بالغ.
[وإنما انْقطعت] (2) هذه المعاملة عن مشابهة الإجارة؛ لأن مبناها على الخطر الذي يضاهي القمار لولا المحلل، ومعنى الخطر يؤول إلى تحقيق التعليق، فالاستحقاق معلق بما شرط.
11663- ويتصل بهذا البحثُ الموعودُ، فنقول: لا يبعد عندنا أن يكون استحقاق السبَق موقوفاً مراعىً، فإذا سَبَق [من] (3) شُرط له السبَق، تبيّنا أنه استحق ذلك بالعقد، [وهذا هو الذي] (4) يليق بلزوم المعاملة، ثم إذا تبيّنا الأمرَ على الوقف، فيمكن أن يقال: ضمان السبَق كضمان العهدة، ولكن هذه عهدة تنجز (5) الرهن؛ فإنها ستبدو على القُرب، وليست كعهدة المبيع، ثم إذا ردّدنا القولَ في جواز الضمان على قول اللزوم، فلو قال قائل: إذا لم يكن السبَقُ مستحقاً، فيجب ألا يكون العمل مستحقاً، وإذا انتفى تنجّزُ الاستحقاق، التحق هذا بالجواز، وهذا السؤال هو الذي حملنا على تقريب الأمر بالحمل على الوقف، وهذا لا يشفي الغليل، والوجه أن
__________
(1) المراد طاعة الزوجة التي تستحق بها النفقة. وفي هامش (هـ 4) : نسخة أخرى: اطراد العادة.
(2) في الأصل: " وإن من قطعت ". وهذا من عجائب التصحيف، وسببه هنا الاستماع؛ فإن الناسخ كان يكتب ما يسمعه من المملي عليه؛ فالأداء الصوتي واحد للصواب والخطأ.
(3) زيادة من (هـ 4) .
(4) في الأصل: " وهذا والذي ".
(5) هـ 4: " تقبل ".(18/243)
نقول: إن لزم الشيء، فلزومه على حسب ما يليق بوضعه، ووضعه الخطر، فاللزوم فيه يرجع إلى الوعد، ووجوب الوفاء به.
وقد نجز تفريع الضمان على اللزوم والجواز.
11664- ومما يبنى على القولين القبولُ: فإن ألزمنا المعاملة، فلا بد من القبول؛ إذ لا سبيل إلى إلزام الإنسان عملاً [بقولٍ] (1) يصدر من غيره.
وإن قلنا: العقد جائز، فالمذهب أنه لا حاجة إلى قبول الغير (2) العمل، وفيه وجه ضعيف أنه لا بُد من القبول، وقد أجرى أصحابنا هذين الوجهين في الجعالة المعلّقة بمعيّن، وهي أن يقول لمعين: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا، فلا خلاف أن الجعالة المبهمة لا يُتخيلُ فيها [قبول] (3) ، وهي أن يقول (4) : مَنْ ردَّ.
والسبَقُ يجب أن يكون معلوماً، سواء حكمنا بلزوم المعاملة، أو بجوازها، فإنا إن ألزمناها، فالسبق مشبه بالأجرة، [وإن] (5) حكمنا بجوازها، فالسبَق مشبه بالجُعل في الجعالة.
وقد انتهى الغرض من هذا الفصل.
ونحن نرى أن نعقد فصلاً في حكم هذه المعاملة إذا فسدت.
فصل
11665- إذا فسدت المعاملة فكيف سبيلها؟ الوجه أن نفرض فسادها من فساد السبَق، ثم نُلحق به وجوهَ الفساد، فنقول: إذا فسد السبَق لكونه مغصوباً، أو مجهولاً، أو خمراً، واستتم المشروط له العملَ، وأتى بما هو سبب الفوز [لو] (6)
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) هـ 4: " المعين ".
(3) سقطت من الأصل.
(4) عبارة الأصل: " وهي أن يقول: إذا قال: من ردّ " وعارة (هـ 2) : لا إذا قال: من ردّ ".
(5) : " فإن ".
(6) في الأصل: " أو ".(18/244)
صح السبَق، فأول ما نبدأ به اختلاف الأصحاب في أن الفائز بفعله هل يستحق شيئاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا يستحق شيئاً أصلاً، ووجهه بيّن؛ فإنّ مقتضى العقد التعليق والغرر، فلينحصر الاستحقاق على السَّبَق إن أمكن استحقاقه، وإن لم يمكن، فلا شيء له، وهذا يتأكد بأن العامل يستحق بعمله، والعمل في المسابقة يرجع معظم نفعه إلى السابق؛ فإنه يتمرّن بعمله، كما يستفيد مَن يجاريه من مجاراته، فرجع الاستحقاق إلى الشرط والمشروط، وخرج المستحَق عن قياس الأبدال حتى يرجعَ عند فسادها إلى عوض شرعي. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أن العوض -وإن فسد- إذا تمم المشروطُ له العملَ الذي به يستحق، فيثبت له العوض؛ فإنَّ عمله إذا تم، يلتحق بالأعمال المقابَلة بالأبدال، والدليل عليه أن القراض إذا فسد، استحق المقارض أجر مثله، وإن كانت المعاملة على الغرر في إصابة ربح إن اتفق. وللأول أن يجيب عن القراض، ويقول: رجوع النفع من عمل المقارض ظاهر بخلاف المسابقة.
التفريع:
11666- إن حكمنا بأنَّ الفساد يوجب الرجوع إلى بدل، فينظر في السبَق: فإن كان غير قابل للتقويم، فالرجوع إلى أجر مثل السابق، ثم لا يعتبر المقدار الذي يسبق به، بل يعتبر ركضُه أو رميُه؛ فإنه بمجموع عمله، توصّل إلى السّبْق والفوز.
وإن كان السبَق مما يقبل التقويم، [بأن كان] (1) مغصوباً، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بالرجوع إلى أجر المثل قياساً على الإجارة إذا فسدت بفساد العوض وتوفرت المنفعة، وهذا القائل يفصل بين ما نحن فيه وبين الصداق وبدل الخلع؛ فإن مبنى النكاح والخلع على ألا يفسدا بفساد العوض، وإذا لم يفسدا، بَعُد الرجوعُ إلى قيمة ما لم يفسد. ورأى (2) الشافعي في قولٍ الرجوع إلى قيمة الصداق أولى. والمسابقة تفسد بفساد العوض، فيتعين الرجوع إلى أجر المثل؛ فإن
__________
(1) في الأصل: فإن. والمثبت من (هـ 4) ، ولعل الأولى: (وكان) . كذا تصرفنا في العبارة ثم جاءتنا نسخة (ق) وقد أسقطت هذا الخلل، حيث جاءت عبارتها هكذا: " وإن كان السبَق مما يقبل التقويم، فقد اختلف أصحابنا ... ".
(2) هـ 4: " وكان ".(18/245)
المنفعة مستوفاة على الفساد، وهذا فقه لا بأس به.
وقال آخرون: إذا أمكن تقويم البدل، خرّجنا المسألة على قولين: أحدهما - أن الرجوع إلى أجر المثل. والثاني - أن الرجوع إلى قيمة السبَق، والقولان كالقولين في بدل النكاح والخلع، ووجه ذلك أنَّ الصداق ليس على حقائق الأبدال؛ لما لا يخفى في موضوع الصداق، كذلك السبَق ليس على حقائق الأعواض، ولهذا تخيل بعض الأصحاب أنه لا مرجع إلى شيء بعد فساد الشرط، فكان الرجوع إلى قيمة المسمى متجهاً؛ من حيث إن منفعة السابق لم تتلف عليه، ولم يظهر انتفاع الغير بها، وكان حَصْرُ النظر في البدل أفقه وألْيق بوضع هذه المعاملة.
فهذا تفصيل القول في فساد المعاملة وحكمها إذا تم العمل فيها.
11667- ولو فسدت المعاملة لا من جهة العوض، ولكن من جهالة في الأمد، أو غيرها مما سنصف، فإذا فرض السبْق على الجهالة من أحدهما، فيعود الترتيب الذي ذكرناه حرفاً حرفاً من غير تباين، وليس هذا كفساد الصداق بما يرجع إلى العقد؛ فإنا قد نقطع ثَمَّ بالرجوع إلى مهر المثل، وذاك الفقه أبديناه في موضعه، ولا ينقدح مثله فيما نحن فيه؛ فإن الذي يحملنا على اعتبار البدل تعذرٌ أبديناه في اعتبار المنفعة، وهذا لا يختلف، وتستوي الصور فيه.
فصل
يشتمل على ما يجب الإعلام فيه في المسابقة
11668- فنقول: لا بُد من إعلام المدى، ولو وقع التعاقد على أن يتساوقا إلى أن يتفق سَبْقُ أحدهما، فالمعاملة فاسدة؛ فإنهما قد يتساوقان الفرسخ والفرسخين حتى ينقطعا، ولا يسبق أحدهما، فلم تصح المعاملة من غير ضبط في المنتهى.
وأما المبتدأ، فحيث يتفق الوقوف فيه والوجوه في تلقاء الغاية المُعْلَمة، ويشترط استواؤهما في الموقف، فلو وقع التشارط على أن يتقدم أحدهما بمقدارٍ، فالشرط فاسد وفاقاً.(18/246)
فإن قيل: قد يتفاوت الفرسان في الفراهة ونقيضِها فإذا وقع التراضي على التعديل بتقدم الفرس الذي هو دون الجواد الفاره، فما المانع من ذلك؟ قلنا: هذا لا يدخل تحت الضبط، وليس من الممكن أن يستبان تفاوت الفرسين بخطوات، فالوجه طلب الضبط بالتساوي في العَيان (1) .
11669- ثم لو كان أحد الفرسين بحيث يغلب (2) على الظن سبقُه، فلا يجوز إيراد المسابقة مع هذا التفاوت، وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في المحلِّل، فقال: " من أدخل فرساً كفئاً بين فرسين لا يؤمن أن يسبق، فهو حلال " (3) وإذا تبين أن المحلِّل لو كان بحيث يغلب استئخاره لرداءة فرسه، فليس محلِّلاً، وإن كان يظن أن يسبق؛ إذ لا يبعد سبقُه، فهو المحلِّل، وإن كان المحلل بحيث يَغْلِب لا محالة، بأن كان على جواد من العِتاق والمُسْبِق على بِرْذَوْن لا يُدرك [شأْوَ المحلِّل] (4) ؛ فلا تصح المعاملة؛ فإن هذا العقد مبناه على الخطر، ومن ضرورة الخطر التردد.
قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: " التعامل والحالة هذه من باب بذل المال بالباطل " والمراد بذلك أن الغرض المطلوب المخاطرةُ، وشرطها التردد والاحتمال،
__________
(1) هـ 4: " العنان ".
(2) هـ 4: " بحيث لو غلب على الظن ".
(3) حديث: " من أدخل فرساً بين فرسين ... " رواه من حديث أبي هريرة مرفوعاً أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وقال في البدر المنير: " وأقر البيهقي في خلافياته مقالة الحاكم ". ورواه الدارقطني، والبيهقي في الكبرى، وابن حزم في المحلى محتجاً به.
ورجح ابن الملقن في البدر المنير وقفه على سعيد بن المسيب، نقل هذا عن ابن أبي حاتم، وابن معين، وابن عبد البر. والحديث ضعفه الألباني مرفوعاً وصحح وقفه.
(ر. المسند: 2/505، أبو داود: الجهاد، باب في المحلل، ح 2579، 2580، ابن ماجه: الجهاد، باب السبق والرهان ح 2876، الحاكم: 2/114، البيهقي: 10/20، المحلى لابن حزم: 7/354 التمهيد لابن عبد البر: 14/87، البدر المنير: 9/429، التلخيص: 4/300 ح 2485، إرواء الغليل: 5/340 ح 1559) .
(4) في الأصل: " شيئاً والمحلل ".(18/247)
والذي يحقق ذلك أن من يُسْبَق لا محالة ليس بمسابق، وإنما هو في حكم الراكض بنفسه.
وفي المسألة وجه آخر أن المحلِّل إذا كان بحيث يَسبق، صح. وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله.
11670- ولو أعلمنا المنتهَى الذي لا حكم للسبْق وراءه، ولكن وقع التشارط على أن السبْق إن اتفق في خلال الميدان، كفى، وكان فوزاً، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - أنه يجوز؛ فإن المعنى المحذور في ترك إعلام الغاية، وهو إمكان التساوق إلى أمد بعيد زائلٌ هاهنا؛ فإن الميدان مضبوط، ومنتهاه معلوم.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هذا؛ فإن الفرس النَّزِق قد يظفر في أول الميدان، ثم يقف أو تنكسر حِمِرَّته (1) ، والجواد يتمطى (2) ويضبِر (3) في أواخر الميدان، فالاكتفاء بالسَّبْق قبل الغاية يوجب تقديم برذون نَزِقٍ على جواب.
ومما ذكره الأصحاب أن المُتَسابِقِين لو شرطوا غاية وعينوها، ثم قالوا إن اتفق السبق عندها، فذاك، وإلا تعديناها إلى غاية أخرى، عيّنوها، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - الصحة لتحقق الإعلام. والثاني - الفساد؛ لتردد المعقود عليه وتميُّله (4) ، ولعل الأصح الصحة؛ لأن ما وصفناه ليس مناقضاً لمقصود العقد، وحق الفقيه أن يفهم مقصودَ العقد، وُينْزل عليه ما يطرأ من شرط، فقد تبين وجوب إعلام السبَق، ووجوب إعلام الغاية.
وقد تجري مسائل في أثناء الكتاب تلتحق بمضمون هذا الفصل، وفيما ذكرناه مَقْنع في تمهيد القاعدة. وهذا هو الذي نبغيه بعدُ.
__________
(1) حِمِرَّته: أي شدته وقوته (المعجم) .
(2) يتمطى: يتبختر في مشيته. (المعجم) .
(3) يضبر: يقال ضبر الفرس يضبِر (من باب ضرب) إذا جمع قوائمه للوثب والعدو.
(المصباح) . وهذا التفسير مقحم في صلب (هـ 4) .
(4) كذا. والضبط من (هـ 4) .(18/248)
11671- ثم ذكر الأصحاب ما يقع السبق به، ونحن ننقل ما ذكروه على وجهه، ثم ننظر: وقد ظهر تردد الأصحاب في أن السبق يعتبر بتقدم الرأس والعنق والهادي (1) ، أو يعتبر بمواقع الأقدام والكتف، وهذا التردد مشهور، وقد نسبه بعض الأئمة إلى النصوص، وجعل في المسألة قولين.
وذكر العراقيون في ذلك تفصيلاً وقالوا إن كان عنق أحد الفرسين أطول، فسبق بذلك القدر من الطول، من غير زيادة، فلا يكون سابقاً، وإن استويا في الطول، فهو موضع الخلاف، ونقل العراقيون أيضاً عن الشافعي أنه قال: الاعتبار في الخيل بالعنق والهادي، والاعتبار في الإبل بالكَتَد (2) والخف، ثم قال: ذلك لأن الإبل تَمُدُّ أعناقها إذا عَدَت، والخيلُ ترفع رؤوسها في وقت العدو، وهذا الذي ذكروه من التعرض لطول الرقبة فيه إشكال؛ من جهة أن المتسابقين [لا يتعرّضان] (3) لتساوي العنقين وتقديرهما، مع العلم بأنَّ تفاوت الأعناق من الأمور الشائعة الظاهرة، فترك التعرض لهذا دليل على أنه لا اعتبار به، وأيضاً؛ فإن الفرسين إذا استويا في طول الرقبة وقصرها، وكانا يمدّان عنقيهما في العدو، فالسابق بالهادي يكون سابقاً بمواقع السنابك لا محالة، فلا يبقى للتردد بين العنق وموقع القدم وجه، والتردد في اعتبار ما به السبق معروف.
وقد كثرت إشارات الشافعي إلى اعتبار الهادي، ومما يشهد لذلك أنَّ أصحاب التسابق (4) ربما يمدّون خيطاً في المنتهى المعلوم، والغاية المشروطة، ويبين السبْق بخرق الخيط، ومعلوم أن رأس الفرس ينتهي إلى الخيط الممدود فيخرقه. هذا بيان ما ذكره الأصحاب.
__________
(1) الهادي: العنق. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: كتاب السبق والرمي) فالعطف هنا عطف بيان.
(2) الكَتَد: مجتمع الكتفين، وبعضهم يقول: ما بين الكاهل إلى الظهر. (المصباح، والمعجم) .
(3) في الأصل: " يتعارضان ".
(4) هـ 4: " السابق ".(18/249)
والوجه في ذلك أن التردد إنما يظهر من حيث إن من الخيل ما يعتاد مدّ العنق في العدو، والتمطي، وذلك مما يستحسن ويستحب، وقد يكون له أثر في استعمال الأسلحة، ومن الخيل ما يكون شائلاً رأسَه صُعداً، وهذا غير محبوبٍ في العدو، وإنما يؤثر ويستحَب في السير الهملجة (1) ، وقد يصدم وجهَ الفارس إذا كان يستعمل سلاحاً في عدوه.
فمن اعتبر السبق بالهادي، فمأخذه ما ذكرناه، والأقيس اعتبار السبق بالقدم؛ فإنه السبق حقّاً، والهادي لا يحصل السبق به؛ إذ العدو بالقدم. وما ذكره العراقيون من اعتبار الأعناق في أقدارها متجه إذا كان الفرسان يمدّان أعناقهما، فيتعيَّنُ والحالة هذه اعتبار التساوي في الطول والقِصر، وما ذكرناه من أن أصحاب التسابق ما اعتبروا ذلك، فهو على وجهٍ، ولكن سببه أنَّهم كانوا يعتبرون القدم، فلم يلتفتوا إلى طول العنق وقصره.
11672- فانتظم مما ذكرناه أن الفرسين إن تفاوتا في مد العنق، اتسق خلافٌ في اعتبار العنق والقدم، ولا نظر إلى أقدار الأعناق.
وإن كانا يمدان الأعناق، وقلنا: الاعتبار بالأقدام، فلا نظر إلى الأعناق، وإن قلنا: الاعتبار بالأعناق، فيتجه اعتبار التساوي في العنقين.
وأما ما حكاه العراقيون من أن الاعتبار في الإبل بمواقع الخفاف، فلم يتعرض لهذا المراوزة، والذي بلغنا ما نقلناه، وما نقله العراقيون فالثقة حاصلة بمنقولهم، وهذا قليل النَّزَل (2) والفائدة.
وكان شيخي يقطع بأن الاعتبار في التساوي في ابتداء الميدان بالأقدام لا غير، وإنما التردد في آخر الميدان، وهذا حسنٌ متجه لا يجوز غيره، فإنَّا إذا اعتبرنا السبق
__________
(1) الهملجة: المشي في سهولة وسرعة (المصباح) .
(2) قليل النَّزَل: يقال: رجل ذو نَزَل (بفتح الزاي) : كثير الفضل والعطاء. ويقال: أرض نَزْلة (بالسكون) زاكية الزرع (ر. القاموس والمعجم) فلعل المعنى هنا من أحدهما: أي أن هذا الخلاف لا طائل وراءه. هذا وقد تكرر هذا اللفظ في كلام الإمام من قبل.(18/250)
بالعنق من جهة استحباب مد الفرس عنقه، فهذا لا يتحقق في ابتداء الموقف؛ فيتعيّن اعتبار الأقدام؛ إذ بها السبق في الحقيقة، ولو اعتُبر الهادي، لجرّ ذلك تفاوتاً في السبْق مهما اختلفت الأقدام.
هذا تمام المراد في قواعد المسابقة، وستأتي مسائل ممتزجة بالمناضلة، ونحن نتبع ترتيب كلام الأصحاب فيها.
فصل
في قاعدة المناضلة
11673- نقول: إخراج المال فيها كإخراج المال على المسابقة، ويجري في إخراج المال الصور الثلاث: فقد يُخرج الإمام المالَ، ويتناضل المتناضلون، ولمن فاز المالُ، وقد يخرجه أحدٌ من عُرض الناس، وهو ملتحق بالقسم الأول، وقد يخرج المالَ أحدُ المتناضلين، وقد يخرج كلُّ واحد منهما. وإذا كان كذلك، فلا بُد من محلِّل، على الترتيب الذي ذكرناه في المسابقة.
ثم في المناضلة ألفاظٌ يستعملها الرُّماة، ويتداولها الفقهاء، ونحن نذكرها ونبيّن معانيها، ثم نخوض: فمما أطلقوه الرّشق، وهو نوبةٌ من الرمي، تجري بين الرَّاميين أو الرُّماة سهماً [سهماً] (1) ، أو على ما يتشارطان، هذا هو الرشق.
والهدفُ في بلاد العرب مثل الترس، يُنصب ويعلّق من وسطه شَنٌّ صغير، والتراب (2) للعجم في محل الهدف للعرب، والشَّنُّ للعرب في محل القرطاس للعجم، ثم ينصبون الغرض على جريدة [وهي الغصن من النخل] (3) والإصابة تسمى القَرْعة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) التراب: المراد التراب الذي يُجمع لينصب فيه الغرض، كذا قال الرافعي. (الشرح الكبير: 12/200) .
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/251)
ومن الأسماء المستعملة الخارق، والخاسق، والخازق، ومعانيها قريبة، لا تكاد تختلف (1) . والزاهق هو الذي يعلو أو يمرُّ وراء الهدف، والمارق هو الذي ينفذ في الهدف، ولا يخفى القريب (2) .
11674- ثم للنضال سبيلان مسوّغان: أحدهما - المبادرة. والثاني - المحاطّة، أمَّا المبادرة، فمعناها أن يتشارطا قرعات معلومة، على أنَّ من يتبدر إلى الفوز بها، فهو فائز، وذلك -لا محالة- إذا ساواه صاحبه في أعداد الأرشاق، فلو رمى كل واحد خمسين، وحصل لواحد عشر قرعات، وللثاني تسع قرعات، فالفوز لصاحب العشر، هذا معنى المبادرة على الجملة.
وأما المحاطة، فمعناها أن من أصاب قرعة حطها من قرعات صاحبه، وإنما يقع الفوز إذا خلصت القرعات لواحد، وهذا قد يطول ويعسر، ولكن المعاملة مع اشتراطها جائزة وفاقاً.
ثم أول ما نذكره بعد تصوير المبادرة والمحاطّة تردُّدُ الأصحاب في أن إعلام الأرشاق هل يشترط؟ وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: أحدها - أن إعلام الأرشاق يشترط في المبادرة والمحاطة جميعاً؛ فإن الترامي قد يطول؛ فلا بُد من ضبط مبلغٍ، والأرشاق في المناضلة بمثابة الميدان في السبق.
والوجه الثاني - أنا لا نشترط إعلام الأرشاق، ويكفي إعلام القرعات، فإن الرَّمي لا يجري على نسق واحد، فقد تتوالى القرعات، وقد تندر، فليقع التعويل عليها، لا على الأرشاق، وليس كذلك السبق على الخيل، فإنه لا يختلف اختلاف الرَّمي.
والوجه الثالث - أنا نفصل بين المبادرة والمحاطة، فنشترط إعلام الأرشاق في المحاطَّة، حتى ينفصل الأمر؛ فإن اتفق فوزٌ فيها، فذاك، وإلاَّ حكم بأنَّ العقد قد انتهى نهايته. ولا استحقاق، وكلٌّ يُحرز ما أخرجه، كما إذا تساوق الفرسان إلى
__________
(1) هـ 4: "تخفى".
(2) القريب: وهو ما يقع قريباً من الهدف.(18/252)
الغاية المذكورة، وأما المبادرة، فلا نشترط إعلام الأرشاق فيها، فإن نَيْل القرعات على حكم المبادرة ليس عسيراً على الرّماة.
11675 - ومما يتصل بما ذكرناه أنهما لو كانا يتناضلان والمشروط عشر قرعات، وقد توافقا على مائة رشق، ونحن وإن لم نشرط إعلام الأرشاق، جوزنا إعلامها، فلو رمى كلُّ واحد خمسين، وبادر أحدهما فأصاب القرعات العشر، فقد أصاب وفاز، وهل يلزمه أن يستتم المائة أم لا؟ فيه وجهان، وليس الغرض من هذا التردُّدَ في استرداد المال من المبادر، فذاك حكمٌ لا ينقض، ولكن أثر الاختلاف أن من أصحابنا من لم يُلزمه الاستكمالَ؛ من جهة أنه استتم العمل الذي به الاستحقاق، فلا معنى لإلزامه عملاً بعد ذلك، ومنتهى العمل في هذا الكتاب ما يتعلق الاستحقاق به.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه استتمام الأرشاق؛ فإنَّ صاحبه إنما بذل المال لينتفع بالمناضلة، ويستفيد من رمي صاحبه، وإذا فاز صاحبه بالقرعات، قال له من استحق المال عليه: قد فزتَ بالمال، فوفّر العمل (1) ، وهذا التردد قريب المأخذ مما ذكرناه في أنا عند فساد المعاملة هل نرجع إلى أجر المثل، ووجه التلاقي أنا نقول في وجه: لا أجرة؛ فإنَّ كُلاً يعمل لنفسه، وإنما استحقاق المال بالشرط على حكم المخاطرة، فعلى هذا لا نكلفه إتمامَ الأرشاق بعد استحقاق المال، وإن أثبتنا أجرة المثل عند فساد المعاملة، فقد اعتبرنا العمل، وقدرناه كالمنافع المستحقة، فعلى هذا لا يبعد أن نكلفه استكمال العمل بعد الفوز بالمال هذا في المبادرة.
فأما في المحاطة إذا وقع التشارط على أن يخلص للفائز عشر قرعات، وتوافقا على مائة رشْق، فإذا أصاب أحدهما عشر قرعات خالصة من خمسين، فهل يستحق السبَق؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يستحقه كما في المبادرة؛ فإنهما استويا في الأرشاق، وتحقق خلوص العشر لأحدهما، والخلوص في المحاطة كحصول القرعات العشر في المبادرة.
__________
(1) وفّر العملَ: أي أكمله وأتمه.(18/253)
ومن أصحابنا من قال: لا يستحق المال حتى يستتم الرّمي؛ فإن صاحبه يقول: قد [أُصيبُ] (1) في الأرشاق الباقية ما أحطه عن العشر التي خلصت لك، وهذا لا يمكن تصويره في المبادرة؛ فإن الشرط وقع فيها على الاستحقاق بالمبادرة، فمن ابتدر وفاز، فما يقع بعد ابتداره لا يناقض ابتداره السابق.
التفريع:
11676- إن قلنا: لا يستحق المال ما لم تكمل الأرشاق، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق المال، حتى لو فرض استكمال الأرشاق، فلا حطَّ بعد الخلوص، فيتصل تفريع المحاطة من هذا المنتهى بتفريع المبادرة، فقد وقع القضاء باستحقاقه على وجهٍ لا يُنقض، ولكن هل لصاحبه أن يكلفه إتمام العمل، واستكمال الأرشاق؟ فعلى الوجهين المذكورين في المبادرة.
ومما يجب الاعتناء به أن أحدهما في المبادرة لو رمى خمسين، وأصاب العشرة المشروطة، وصاحبه رمى تسعة وأربعين فأصاب تسعة، فلا بُد من ردّ السهم إليه، فلعله يصيب، وليس من المبادرة أن يتقدم أحدهما بقرعة إذا كان صاحبه غير مساوٍ له في أعداد الأرشاق، وهذا واضح لا خفاء به.
ولو أصاب أحدهما من الخمسين عشراً، وأصاب الثاني من تسع وأربعين ثماني قرعات، فقد فاز من أصاب العشر؛ فإن أكثر ما في الباب أن يرد السهم إليه، فيرمي ويصيب، ولو أصاب، فهو على تسعٍ، وصاحبه فائز بالعشر، وهذا متضح. وإذا لم تكن أرشاق معلومة، أو كانت، وقلنا: لا يجب استكمال الأرشاق، فللفائز ألا يرد السهم إلى صاحبه؛ فإنه يقول: قد استحققت المال، وليس عليَّ بعد استحقاق المال عمل، ولو كانت المعاملة محاطّة، فخلص لأحدهما من الخمسين عشر قرعات وهي المشروطة، وقد رمى صاحبه تسعاً وأربعين ولم يصب فيها، فله أن يقول: ردوا علي السهم، فلعلي أصيب، فلا بد من رد السهم إليه؛ فإنه قد يصيب، فيحط عن عشر صاحبه، ويبطل خلوصها له، فهذا ما أردنا تأصيله في النضال.
__________
(1) في الأصل: " أصبت ".(18/254)
فصل
يشتمل على تمهيد أصل عظيم تستند إليه مسائلُ جمّة
11677- نقل الأئمة تردد الشافعي في أن المتبع في النضال القياسُ، أو العادة التي تجري بين الرُّماة، وهذا مشهور على هذه الصيغة، وهو مشكل؛ فإن القياس حجة في الشرع، فإن كانت العادة موافقة لموجب الشرع، فلا معنى للتردد، والمتّبعُ الشرعُ وقياسُه، وإذا كان للرماة عادة يناقضها [القياسُ] (1) المعتبرُ في الشرع، فلا معنى لاتباع عادتهم، والوجه القطع بالتعلق بالحجة الشرعية، قال الصَّيدلاني: أراد الشافعي عادة الفقهاء. وهذا [كلام] (2) غير متين؛ فإن الفقهاء الذين تعتبر مذاهبهم أوّلاً هم المجتهدون، والمجتهد الرامي مُعْوِز (3) ، وقد يوجد في القطر الواحدُ فحسب، فما معنى العادة مع الاتحاد (4) ، ثم هذا الفقيه بماذا يأخذ؟ فإن أخذ بالقياس، فالرجوع إلى مأخذه، وإن كان يستجيز مخالفة القياس، فما وجهه؟
وقال شيخنا أبو محمد: المعنيُّ بالرجوع إلى العادة أنه لو أطلقت في المناضلة لفظة، والرماة يفهمون منها معنىً، فعادتهم تُتَّبع، وهذا الذي قاله ليس مما نحن فيه، بسبيل؛ فإن الأمر إن كان كذلك، وصح فَهْمُ الرُّماة من الألفاظ التي يطلقونها، فلا يجوز أن يكون في اتباع العادة خلاف إن تحقق اطرادها، وهذا بمثابة حملنا الدراهم على النقود الجارية في العقود، وإنما الذي نطلبه قياسٌ في مقابلة عادة، والذي يقتضيه القياس تنزيل اللفظ على حسب التفاهم، وهذه قاعدة ممهدةٌ في جميع العقود، فلا يبقى إذاً لتنزيل القولين في تعارض القياس والعادة وجه سديدٌ.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) سقطت من الأصل: وزدناها من (هـ 4) .
(3) المعنى أن الفقيه الذي بلغ مرتبة الاجتهاد، وهو في الوقت نفسه من الذين بلغوا مرتبة المناضلة والرمي، الذي جمع بين الدرجة العليا في الفقه والرمي نادر الوجود.
(4) المعنى: أن الفرد الواحد لا تثبت به عادة، مهما درج عليها، والتزمها.(18/255)
وأقصى الإمكان في ذلك أن نقول: إذا رأى الرُّماة أمراً فيما بين أظهرهم (1 من مصالح المعاملة 1) ، وليس ما رأوه مما يشهد له قياس، فهل نتبع ما رأوه مصلحةً، أم نرد المعاملة إلى موجب القياس؟ هذا محل التردد، وبيانه بالمثال أن للرماة مناقشة فيمن يبدأ بالرمي، ولهم في ذلك غرض: فالذي يبتدىء يصادف القرطاس نقياً سوياً، ويكون هو على جمام قوته، فيطلب الرمي، وحكم القياس أنه ليس البعض أولى بهذا من البعض.
والذي رآه الرماة مصلحةً أن يفوضوا الحكم في ذلك إلى من يُخرج المال، وهذا يحرّض على إخراج المال، فالاعتبار بالقياس الذي إليه الإشارة في أحد القولين، ولا احتكام لأحدٍ، كما سنفرع عليه. والاعتبارُ بما يعتاده الرماة في القول الثاني، فلا مرجع لما يتردد فيه المذهب من ذكر القياس والعادة إلا ما ذكرناه.
ثم لست أرى ذلك أمراً مطرداً يُهتدى إليه كالمآخذ التي تبنى المسائل عليها، وإذا عظم وقع القياس، وبعُد ما يُرعى من عادة الرماة عن القياس بُعداً ظاهراً مصادماً للفقه والمعنى، فليس إلا اتباع القياس، وإنما يحتمل مجانبة القياس إذا قرب الأمر، كالبداية التي ذكرناها، فإن الأمر فيها وإن كان مقصوداً ليس [واقعاً] (2) ، وهذا قريبٌ من التردد في أن إعلام المعاليق هل يجب في الدّابة المكتراة، أم يُقْتَصَرُ فيه على ما يجري العرفُ به؟ هذا هو الممكن في ضبط ذلك وسيزداد أُنْس الناظر به إذا تكررت المسائل.
11678- والآن إذا ذكرنا البداية، فنستتم القول فيها ونقول: إن وقع التعرّض لمن يبدأ ذكراً، فهو متبع، وإن لم يتعرض المتعاقدان لمن به البداية، ففي المسألة قولان: أحدهما - ينزل العقد على ما يراه الرماة، وقد نقل الناقلون أنهم يحكِّمون مُخرِج السبَق، كالوالي والواحدِ من عُرض الناس، ومن حكمهم المتعارف بينهم، هذا الذي ذكرناه، والأمر فيه قريب، والعقدُ عقد خطر، لا يبنى الأمر فيه على نهاية الإعلام.
هذا قولٌ، وهو ضعيف.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 4) .
(2) في الأصل: " واقفاً ".(18/256)
والقول الثاني - أنا نتبع القياس، ولا نحكّم أحداً فيما يفرض التنافس فيه.
التفريع:
11679- إن حكمنا باتباع المعنى والقياس -ولم يجر في العقد للبادئ ذكر- فعلى هذا القول قولان: أحدهما - أنَّ العقد يفسد لاشتماله على ما يجرّ تناقشاً، لا سبيل إلى التحكم بقطعه.
والقول الثاني - أنا نُقرع بين الرماة بعد انعقاد العقد؛ فإن البداية إذا جُهلت، لم ينته الجهل بها إلى حد منافاة الصحة، والقرعةُ مرجوعٌ إليها في أمثال ذلك.
ومما يتعلق بذلك أنهم لو شرطوا من يقع البداية به، أو اقتضت القرعة -كما ذكرناه في التفريع- تقديمَ واحدٍ، فإذا وقعت البداية في الرشق الأول، فما السبيل في سائر الأرشاق بعده؟
أمَّا إن اتبعنا آداب الرماة، فالرجوع عندهم إلى تحكّم مُخرج المال مرةً ومراراً، إلى نجاز مقصود المعاملة. ولكن هذا إنما ينقدح إذا كان [المُسْبِق] (1) واحداً، فأما إذا أخرج الرماةُ أسباقاً (2) وتخلّلهم محلِّلٌ، فليس البعض منهم أولى بالتحكم من البعض، والتفريع يرجع والحالة هذه إلى اتباع القياس.
ثم إن أفسدنا، فذاك، وإن أقرعنا ووضعنا القُرعةَ على تأسيس البداية في كل رشق فهذا الحكم متبع، وإن وقع الإقراع مطلقاً، ففي المسألة وجهان. وكذلك لو جرى ذكر من يُبدأ به، نُظر: فإن وقع التصريح بتمهيد البداية أبداً، اتبعناه، وإن جرى ذكر البداية مطلقاً من غير تعرض للتخصيص بالمرة الأولى، ففي المسألة الوجهان المذكوران في القرعة: أحدهما - أنا نطرد ما جرى في المرة الأولى إلى انتهاء المقصود. والوجه الثاني - أنا نعود إلى الإقراع في كل مرة أو نقطع اللبس، فنُجري الإقراعَ على الاطراد تصريحاً به.
وفي كلام بعض الأصحاب ما يدلّ على أن البداية لا تمهد بالقرعة في جميع المعاملة، بل لا بد من إنشاء القرعة في كل رشق إذا تنافسوا، وهذا بعيد لا اتجاه له،
__________
(1) في الأصل: " السبق ".
(2) أسباقاً: جمع سَبَق.(18/257)
والأمر يطول به، وتبردُ أيدي الرماة ويزيد ضُرُّ هذا على نفعه، فهذا ما أردنا ذكره.
ثم يُتصوَّر في المناضلة عادةً عامة تنزل المعاملة عليها، على قياس تنزيل الإجارة على منازل معتادة، وكذلك القول في كيفية تزجية البهيمة واستحثاثها على السير، فإذا جرت المناضلة وألفينا أمراً (1) لا يشكل، نزلنا المعاملة عليه، وإن تردد الرأي ترتب عليه اختلافٌ (2) في الحكم.
11680- ونحن نختتم هذا الفصل بمسائلَ توفي بالناظر على استيفاء الغرض في ذلك: فمما تردد الأئمة فيه إعلامُ المسافة التي تكون بين مواقف الرماة وبين الغرض، وقد ذكر الأئمة قولين في ذلك، ومال شيخي إلى إعلامها؛ فإنهما من أصول الأمر، ويختلف الغرض فيها بالقصر والطول، وقوة القسي والرماة وضعفها، ولا يمكن التحكم فيها بمسافة.
وأما إعلام مقدار الغرض في اتساعه، فقد ذكر الأصحاب فيه قولين مرتبين على المسافة، ورأوا هذا أهونَ وأولى بأن ينزل على العادة.
وكذلك ذكروا قولين في مقدار ارتفاع القرطاس من الأرض وجعلوا هذا أهون من الذي يليه، ورتبوه على ما قبله، وإنما ترتبت هذه المسائل على حسب ترتب الأغراض فيها ظهوراً وخفاءً، ثم العادات في اطرادها، وتطرق [المناقشة] (3) إليها تجري على حسب ظهور الأغراض وخفائها، فاقتضى ما نبهنا عليه ترتب هذه المسائل: [فأظهر] (4) الأغراض المسافة، ويليها اتساع الغرض المطلوب، ويلي ذلك ارتفاعه من الأرض. والبداية في الرماية لا تقع على هذا السنن؛ فإن ما ذكر من تحكيم المُسْبق لا أراه منتهياً إلى الحد الذي خرَّجنا هذه المسائل المتسلسلة عليه، ولولا ضعف الغرَض فيه، لما احتملنا فيه تحكماً، وكذلك لم نقطع القول بالفساد عند إبطالنا التحكم، ورأينا فصل النزاع بالقرعة.
__________
(1) هـ 4: " الأمر لا يشكل ".
(2) هـ 4: " نرتب عليه اختلافاً في الحكم ".
(3) في الأصل: " المسافة ".
(4) في الأصل: " فالأظهر ".(18/258)
فصل
فيما يطرأ على الرماة من النكبات
11681- قاعدة الفصل أنَّ السهم إذا أفرط تباعده أو سقط دون المقصود بمسافة بعيدة، فهذا يحمل على سوء الرمي، فهو محسوب على الرامي في الرشق، ولا يرد السهم إليه ليرميَه مرة أخرى؛ مَصيراً إلى أن ما أساء فيه غيرُ معتد به، وما يحمل على نكبةٍ لا ينتسب الرامي فيها إلى تقصير، فذلك السهم غير محسوب عليه. هذه قاعدة الفصل، وهي تبين بتفصيل المسائل.
فإن سلمت الآلة والْتوت يد الرامي، فهذا من تقصيره، والسهم محسوب عليه، وقال الأصحاب: إذا انقطع الوتر أو انكسر القوس، فهذا من النكبات. والتفصيلُ الحسن فيه للعراقيين قالوا: إن تجانب السهم على إفراط (1) ، لم يحسب على الرامي، كذلك إن وقع دون الغرض بمسافةٍ بعيدة، ولو وقع بالقرب من الغرض، بحيث لا يستبعد إصابة مثله، فهل يحسب السهم من أرشاق الرامي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه غير محسوب عليه؛ لأجل النكبة المعترضة. والثاني - أنه محسوب لوقوعه على حدٍّ غير بعيد عن توقع الإصابة، فكأن النكبة لم تكن، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
ثم إن كان السهم محسوباً عليه إذا لم يُصب، فلو أصاب، فلا شك أن الإصابة محسوبة له معدودة من القرعات المشروطة، وإن قلنا: لا يحسب السهم عليه من الرشق لو لم يُصب، فإذا أصاب [السهم] (2) فهل تحسب الإصابة له؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه محسوبة له، وهو الذي قطع به المراوزة؛ لأن الإصابة مع النكبة تدلُّ على نهاية الحَذاقة، وأيضاً فالإصابة مشروطة، وقد وقعت، والتوجيه بهذا أولى.
__________
(1) أي بسبب نكبة معترضة، كما يظهر من التفصيل الآتي.
(2) زيادة من (هـ 4) .(18/259)
والوجه الثاني - أنها لا تُحسب له كما لا تُحسب عليه لو لم يُصب، وأيضاً فإنَّ الإصابة مع انكسار الآلة تُحمل على الوفاق؛ فإن الرمي [لا ينبني] (1) إلا على سداد الآلة وبقائها.
16682- هذا بيان حظ الفقه من هذا الفصل، وبعده نظر لا بُد من التنبه له، وذلك أن الأئمة عدّوا انقطاع الوتر وانكسار القوس نكبةً وبنَوْا عليها التفصيل الذي ذكرناه، والوتر لا ينقطع إلا بعد مروق السهم على الموضع الذي يسدده الرامي عليه، وكذلك لا ينكسر القوس إلا بعد نفوذ (2) السهم، وسبب انكسارها صدمةُ الرجوع، فإن انقطع الوتر في النزع، وأفلت السهم من غير حل الرامي شِصَّه، أو انكسر القوس في النزع (3) فذلك نكبة لا شك فيها، ومن لم ينتبه لهذا، فهو جاهل بالرماية، ولم نأت بما ذكرناه مخالفةً للفقهاء، ولكنهم ذكروا فقه النكبة وجنسها، ولم يفصّلوها، ولو تبيّن لهم ما ذكرناه، لحكموا فيه بأن ما يقع بعد نفوذ السهم لا يُعدّ نكبة، وقلما ينقطع الوتر بعد حل الشص من رامٍ ماهرٍ إلا ويقرب السهم أو يصيب، فهذا ما يجب التنبه له.
وانكسار السهم ينقسم فإن كان لِوَهاءٍ فيه غير محسوب، فهو نكبة، وإن كان لسوء الرمي، فهو خُرقٌ، والسهم محسوب، وذلك بأن يخلي الفُوقَ في النزع عن الوتر، فهذا ترك تحفظ، وسوء رمي، وهو مُخْطِر، وكذلك إذا أفرط في النزع حتى انتهى النصل إلى كبد القوس، ونشب فيه وتكسَّر وتشظى، فهذا قلة تحفظ، وسوء رمي، وإذا بان فقه الفصل، فلا معنى للإطناب.
11683- ولو رمى فاعترض بين السهم في مَرّه وبين الغرض بهيمة، فأصابها السهم، فهذا عارض، والسهم غير محسوب، ولو مرق السهم، وأصاب الغرض، فوجهان، ولعل الأصح أنَّ الإصابة محسوبة له؛ فإنَّ السهم لا يمرق ولا يصيب إلاَّ مع
__________
(1) في الأصل: " لا يبقى ".
(2) نفوذ السهم: المراد هنا انطلاقه، لا إصابته الهدف ونفوذه منه.
(3) النزع: المدّ، يقال: نزع في القوس: مدّها. (المصباح والمعجم) .(18/260)
رعاية السداد في الرمي على أبلغ وجه في الإمكان.
وأما هبوب الرياح، فالتفصيل فيه أن هبوب الريح إن اقترن بابتداء (1) الرمي، فلا مبالاة به، والسهم إن زهق (2) أو مال محسوب عليه، لأنه ابتدأ الرمي مع الريح، فكان هو المقصر، وللرماة نيقة (3) في تسديد السهم مع جريان الريح، وذلك بوضع النصل في المنظر (4) مائلاً قليلاً، حتى إذا انضم إلى الميل صَرْفُ الريح السَّهمَ استدَّ على الغرض.
ولو نفذ (5) السهم، فهجمت ريح، فإن كانت رُخاءً ليّنة؛ فلا أثر لها؛ فإنَّ السهم لا يميل بمثلها، وإن هجمت ريح عاصفة بعد نفوذ السهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه معدود من النكبات، وقد مضى تفصيلها.
والثاني - أنه لا يعدّ من النكبات؛ فإنا لو فتحنا هذا الباب، لطال المراء والنزاع، ولا يخلو عن الريح الهواءُ، ويندر هجوم الريح الشديدة؛ فإنه تظهر (6) مباديها، ثم تشتد، والسهم أسرع مَرّاً من الريح، فالوجه حسم ذلك.
ولو انقطع السهم حيث يُعَدُّ ذلك نكبةً، وأصابتْ قطعة منه الغرض، فإن انقلب وأصاب الغرض بفُوقه (7) أو بعَرْضه، فلا يحتسب هذا؛ فإن الإصابة هي التي تجري على استدادٍ في السهم، فإذا انقلب، فلا احتفال بالمماسة التي جرت.
ولو حصلت الإصابة بقطعة مستدّة على سمت طول السهم، فهل تحتسب الإصابة؟ فعلى الوجهين المذكورين في النكبات المعترضة.
__________
(1) هـ 4: "بانتهاء".
(2) زهق السهم: أي جاوز الهدف من غير أن يصيبه، ويسمى الزاهق. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: باب ما جاء في الرمي والسبق) .
(3) نيقة: النِّيقة: المبالغة في التجويد. (المعجم) .
(4) في المنظر: أي في النظر. يعني فيما يراه الرائي. (المعجم) .
(5) نفذ السهم: أي انطلق، هذا هو المراد هنا.
(6) هـ 4: "تبدو".
(7) الفُوقُ من السهم حيث يثبت الوتر منه، جمع فُوَق وأفواق مثل قفل وأقفال. (المعجم والمصباح) .(18/261)
ثم اختلف أصحابنا وراء ذلك، فقال قائلون: إن أصاب الجانبُ الذي فيه النصل بل أصاب النصلُ، فهو الإصابة التي فيها الخلاف، ولو أصابت القطعة التي فيها الفوقُ من غير انقلاب، ولكن أصاب موضع الانقطاع، فلا (1) يحسبُ ذلك وجهاً واحداً.
ومن أصحابنا من عكس هذا، وقال: إن أصابت قطعةٌ الفُوقَ مستدةً، فهذه إصابة، وفي احتسابها خلاف؛ فإن هذه القطعة هي المقروعة بالوتر، ولا معنى للرمي إلا قرع الفوق بالوتر، والقطعة التي فيها النصل إذا باينت السهم، لم يبق فيها تحامل اعتمادات الوتر على سداد، فإصابتها وفاق، والمسألة محتملة كما وضحناها.
فصل
في بيان الإصابة المشروطة
11684- إذا شرط أصحاب النضال إصابة القرطاس، فليست الإصابة خافية، ولكن لا تُحسب الإصابة عَرْضاً، وكذلك إذا انقلب السهم وأصاب فُوقُه، فهذا غير محسوب؛ فإن ذلك لا يُعد إصابةَ السهم المرمى، ولو أصاب السهم شجرة مائلة عن قُبالة الغرض، أو جداراً، ثم ارتد، وردّته الصدمة إلى سنن الغرض، وأصاب فهذا فيه تردّدٌ، والأصح أنه لا يعتد به، فإن سبب الإصابة الصدمة، وإلا فالسهم في مَرِّه مائل عن سنن المطلوب، ولولا الصادم، لبعد موقعه عن القرطاس.
ولو كان السهم على السنن، ولكن صدم الأرضَ قبل الوصول، وارتد من الأرض، وأصاب، فقد اختلف الأصحاب في ذلك أيضاً، وجعلوا الاعتداد بالإصابة في هذه الصورة أولى؛ فإنَّ السهم واحتكاكه بالأرض يدل على انخفاض ممره، وطلب خفض السهم نهاية الحَذاقة، وهو أول الرماية وآخرها.
والأصح عندنا أنَّ الإصابة غيرُ معتد بها، فإنَّ السهم إذا احتك بالأرض، فقد انتهى أثر رَمْي الرامي، وبان أنه سدَّد سهمه على هذا الموضع، ولم يشعر، وما كان من ارتدادٍ، فهو بعد انتهاء السهم.
__________
(1) هـ 4: " فهل يحسب ذلك ".(18/262)
ولا خلاف بين الرماة أنَّ ذلك غير محسوب، وإنما التردد للفقهاء، ويمكن أن يخرج هذا على العادة وأنها هل تُتّبع؟ فإن اتبعناها، فلا يُحتسَب بها، وإن لم نتبعها، فهذا يُسمى إصابة، وعلى الرامي القصاص إذا قصد إنساناً وأصاب كذلك.
ولو أصاب السهمُ وارتد من الغرض، فالإصابة محسوبة بلا خلاف، ولا يشترط الخزق والثبوت والمشروط الإصابة.
وإذا كان المشروط الإصابة -كما ذكرنا- فأصاب السهمُ طرف الغرض، وخزقه، نظر: فإن تفطّر الطرف وجِرمُ السهم في حيز الغرض بكماله، فهو محسوب، فإن كان بعض جِرم السهم في حيز الغرض، والبعض منه خارج، ففيه خلاف بين الأصحاب، ولعل الأوجه أنه إصابة.
11685- ولو وقع التشارط على الخوازق والخواسق، فالإصابة لا تكفي حتى يحصل الخروج المشروط، ولو وُجد الخَزْق على الطرف، فهو كما ذكرناه إذا كانت الإصابة هي المشروطة، وكان شيخي يقول: " إذا كان المشروط الخازق، ولم يكن كل السهم في حيز الغرض، فهذا أولى بالا يحتسب ممّا إذا كان المشروط الإصابة؛ فإن هذا قد لا يُسمى خزق الغرض، وإنما هو شق طرفه ". وهذا خيال لا حاصل له، والذي يعترض في الخاسق المشروط شيئان: أحدهما - أن السهم لو أصاب الغرض وخرقه ومرق منه لحموته وقوته، فقد ذكر صاحب التقريب والإمام (1) قولين في أن هذا هل يحتسب خاسقاً: أحدهما - لا يحتسب ما لم يثبت في الغرض، وهذا لا أعرف له وجهاً، ولكني رأيت الرماة يميلون إلى هذا، فالاعتداد به؛ فإن الخزق قد حصل، والمروق بعده زيادةٌ تُشعر بالقوة.
والثاني - أن السهم يحسب، وهو القياس الذي لا دراء له، وهو منطبق على مقتضى اللفظ ومعناه.
ولو كان المشروط الخاسق كما ذكرناه- فأصاب السهم سهماً كان في الغرض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من احتسبه، وربما كان يقطع به شيخي.
__________
(1) الإمام: يقصد والده.(18/263)
ومنهم من قال: لا يحتسب، وهو مقتضى اللفظ، وعلى هذا إن أصاب خَزْقاً في الغرض، وثبت فيه، فمنهم من احتسبه، ومنهم من لم يحتسبه؛ فإن النصل صادف هواء الثقب، ولم يؤثر في خزق، والمشروط الخزق. والأفقه عندنا الاعتداد به إذا كان السهم في قوته بحيث يخرق لو أصاب موضعاً صحيحاً؛ فإن الغرض من ذكر الخَزْق ألا ينبو السهم، ومن ضرورته الإصابة، وليس معنى اشتراط الخاسق أن يرجع الغرض في حق الرمي إلى مواضع لم تُصبها السهام من الغرض؛ فإن هذا في التحقيق قد يرد الغرض إلى نصفه، وهذا يستبينه الفطن، إن شاء الله تعالى. والمسألة محتملة.
11686- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أصاب الجريدة، وهي السعفة التي ينتصب الغرض عليها، فقد فصل العراقيون ذلك؛ فقالوا: إن شرطا إصابة الشَّن الذي على وسط الهدف، فلا تحسب إصابة الجريدة.
وإن شرطا إصابةَ الهدف، وهو الترس الذي الشَّن في وسطه، فإصابة الجريدة محسوبة؛ فإنها متصلة بالغرض اتصال إثبات، وهي بمثابة جزء من الغرض، وذكر شيخي قولين في هذه الصورة الأخيرة، وهما متجهان: أحدهما - وهو الذي ذكره العراقيون- أنه إصابة إذا كان المشروط إصابة الغرض.
والثاني - أنه غير محسوب؛ فإن الجريدة تُسمى عماد الغرض وقائمته، وليست من الغرض. والمسألة محتملة. والأوجَهُ ما ذكره العراقيون؛ فإن قائمة السرير من السرير، ويجوز أن ينفصل عن ذلك فيقال: قائمة السرير من الخشب الذي منه السرير.
فصل
11687- إذا وقع التشارط على احتساب القريب، جاز، فإن أبانوا مقدار القرب بشبرٍ أو فترٍ، أو قِيدَ سهم، ولم يعتدّوا بما يقع وراء ذلك، فشرطهم متبع، وكأن الحد الذي راعَوْه من القُرب هو الغرض المطلوب، والقرطاس في وسطه لتسديد النظر، فلو شرطوا الاحتساب بالقريب على الجملة من غير تعرض لضبط، ففي صحة(18/264)
المعاملة وجهان: الأصح - أنها لا تصح؛ للجهالة، والقرب لا ضبط له. والثاني - أنها تصح.
ثم في تفريع ذلك وجهان: أحدهما - أنه يحمل على قِيد سهم، وهذا كلام سخيف، لا أعرف له قياساً، ولا أمراً يرجع إلى عادة الرماة، وصاحبه يدعي أن هذا حد القُرب في عادة الرماة. ومنهم من قال: مطلق القرب محمول على الاعتداد بالقرب، فالأقرب، بتأويل أن القريب يُخرج البعيد، ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين آخرين: فقال بعضهم: إذا اتفقت سهام قريبة لأحدهم، والبعضُ أقرب من البعض، وأبعدها أقرب من أقرب صاحبه، فالسهام بجملتها محسوبة له.
ومنهم من قال: أقربه يُسقط أبعده أيضاً.
وكل ذلك خبطٌ، والذي يجب القطع به أنه لا بد من ذكر ذلك وضبطه بالشرط، والرماة يعتادون إبانة ذلك.
ولو ذكروا مقدار القرب، وتعرضوا للغرض والقرب منه، فالسهم الذي يثبت أسفل الغرض على الحد المشروط من القرب، أو على جانبه قريب محسوب، والسهم الذي يقع فوق الغرض، ويثبت على حد القرب المشروط محسوب على الأصح.
وذكر شيخي قولين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الذي يجب القطع به، والثاني - أنه لا يحسب، فإنه يشير إلى الزهوق والسهم الزاهق لا يعتد به، وكان يشير في هذا إلى عادة الرماة، ولا أصل له؛ فإن القُربَ محقّق، والسهمُ سديد ثابت، وفي الرماة من يستحسن ما يقع فوق القرطاس.
وإذا شرط القريب، فوقع السهم بالقُرب من الغرض، ولم يثبت، فهذا غير محسوب؛ فإن القريب وجب أن يثبت أو يصيب ثم يرتد، فإذا لم يُصب، فهو ساقط، والمعنى يُحسب القريب احتساب السهم المصيب لحيّز القُرب، فقد ذكرت أن القُرب إذا ضبط، فكأن الغرض قد اتّسع.
11688- وممَّا كان يذكره شيخي أن المناضلة إذا عقدت على احتساب القريب، ووقع التعرض لمنتهى القُرب ضبطاً بالشرط، فمقتضى المعاملة أن يُخرج قريبُ أحد(18/265)
المتناضلين ما هو أبعد منه من سهام صاحبه، إن كان ذلك البعيد في حد القُرب المضبوط المشروط.
وأنا أقول: إن شرطوا أن يُخرج الأقرب ما وراءه، فالشرط متّبع، وإن لم يكن (1) لهذا تعرض، فليس في معنى احتساب القريب ما يشعر بإخراج الأقرب ما فوقه؛ فإن لم يثبت للرماة في ذلك عادة مستمرة، فالوجه الاحتساب بكل ما يقع على حد القُرب المعتبر، وإن ثبت في ذلك عادة للرماة، فيجتمع موجب اللفظ وحكم العادة، فإن اعتبرنا العادة، حكمنا بإخراج الأقرب ما فوقه.
وفي هذا يتبين أمرٌ به انكشاف أغراضٍ، وهو أن القُرب لو كان مفهوماً في عادة الرماة معتبراً بِقِيد سهم، فإخراج القريب يحمل على العادة الجارية، وهذا لا يُدرج تحت القولين، بل هو في معنى حمل الدراهم المطلقة على النقد الغالب، من جهة أن القريب لا ضبط له في اللسان، واللفظ المبهم تبيّنه قرينة الحال، كذلك القول في القريب؛ فإنه لا ضبط له في وضع اللغة، فإن صح ضبط في العادة على اطرادٍ، كانت العادة قرينة اللفظ، فأما إخراج الأقرب لما فوقه، فليس من باب تفسير لفظ مبهم، فلا يصح أن يكون هذا قرينةً للّفظ مفسرةً له، فيثبت القريب مضبوطاً والمسألة مفروضة في الضبط، فالكلام مستقلٌّ إذاً، ولكن يعارضه عُرفٌ يليق بالاستصلاح، فخرج القولان، وهذا كالقولين فيمن يُبدأ به؛ إذ ليس في اللفظ تعرض للبداية، ولا يصير اللفظ مع العادة مشعراً بها، فبقي لفظٌ مستقلٌّ (2) وعادة تعارضه.
11689- ومما نذكره في فصل القريب أن التناضل إذا وقع على احتساب القريب، فقرب سهم من القرطاس، ولم يلق ما يثبت فيه، فهذا قريب، ولكن أهم أمر فيه التصوير، فإن كان القرطاس مفرداً، ولم يكن وراءه ترس أو تراب، فاشتراط القريب لا يحمل على ما يقرب في مرِّه، فاذا وقع التشارط كذلك (3) ، اتبعناه، ولكن هذا
__________
(1) هـ 4: " يقع ".
(2) هـ 4: "مستعمل".
(3) هـ 4: " على ذلك ".(18/266)
لا يراه أحد، ولا يعتاده جيل (1) من الرماة، غير أن شرط القرب -والحالة كما وصفناها- تصريح بوضع المعاملة على خلاف العادة، ونحن إنما نتبع العادة في قولٍ إذا كان اللفظ مطلقاً، فأما إذا صرح اللفظ بمناقضة العادة، ولم يخالف مقتضىً شرعيّاً، فلا تعويل على العادة. وهذا بمثابة البيع بدراهم غريبة موصوفة، غير الدراهم الجارية في عرف المعاملة، ولو كان القرطاس أمام تراب أو ترس، فلا يتصور الاحتساب بقريب لا يلقَى الترابَ في مرِّه، فإن وقع الشرط كذلك، عاد التفصيل الذي ذكرناه، وإلا فالقريب لا بُد وأن يثبت فيما وراء القرطاس، ثم القول في القرب والبعد ما ذكرناه.
فصل
مشتمل على أنواع القسي والسهام، والتعامل عليها
11690- فنقول: تقدم أنَّ التناضل على جميع أجناس القسيّ والسهام جائز، ونحن نصدر هذا الفصل بأمور متفق عليها: أجمع الأصحاب على جواز التناضل مع اختلاف أجناس القسيّ، فلا يمتنع أن يرمي البعضُ عن القوس العربية، والبعض عن الفارسية، وهذا بمثابة المسابقة بين البراذين والعتاق العربية، وسنختم هذا الفصلَ، إن شاء الله تعالى بطرف من الكلام في هذا، ونعطفه على أصول المسابقة، [وإذا كان لا يمنع المسابقة] (2) بين البرذون والعربي، مع أن التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في الرماية على الرامي، فاحتمال اختلاف الأنواع في القسي أقرب، والمسابقة بين الفرس والحمار والبغل -إذا جوزنا التسابق على الحمر والبغال- بعضها مع بعض مختلف فيه:
فمن أصحابنا من منع المسابقة بين الفرس والحمار والبغل؛ لاختلاف الجنس والتفاوت العظيم، ثم ذكر الفقهاء في مناظرة الفرس والحمار، السهم والمزراق،
__________
(1) الجيل: الأمة والجنس من الناس، فالترك جيل، والروم جيل. (المعجم) فالمعنى أن هذا شيء لا يعتاده أحد من الرماة.
(2) زيادة من (هـ 4) .(18/267)
وأَجْرَوْا وجهين في جواز التعامل بينهما في إصابة مُعيَّنٍ شاخص، ورأَوْا هذه المعاملة أقربَ إلى الجواز؛ لما أشرنا إليه من ظهور التعويل على الرمي والرامي فإن قيل: لم قلتم التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في المناضلة على الرامي؟ قلنا: لسنا ننكر أثر الفارس، ولكن الأثر الأغلب محال على الفرس، وليس المقصود من الركض تعلم الفروسية، فإن الفروسية لا تتعلم بهذه الجهة، وإنما تتعلم بمعرفة الرياضة ثم كيفية الرِّكْبة (1) والهيئة، وضبط العِنان في الخبب والهرولة، والإدارة على الحلقة المسماة (آورد) (2) ، والغرض الأظهر من ركض الخيل تضميرها وتمرينها على العدو، وهذا لا يحصل إلا بالركض، وأما القسي فلا تصلح بالرمي، وإنما يصلحها القواس، والغرض تمرن الرامي على الرمي، والعبارة القريبة في الفرق: أنَّ الفرس حيوانٌ يعدو باختياره، وليس على الفارس إلا تزجيته، والاختيار كله في الرمي للرامي.
11691- ومما نقدمه أنَّ التعامل إذا وقع على القسي العربية، فأراد أحد المتناضلين أن [يُبدّل] (3) القوس العربية بالفارسية (4) ، لم يكن له ذلك لما بين الفارسية والعربية من البَوْن البعيد، والفارسية أشدّ، والرمي منها أسدّ، ومدى سهمه أبعد، ونحن لا ننكر أثر الآلة، وإن كان التعويل على الرامي.
ولو وقع التناضل على القسي الفارسية، فأبدل أحدُهما القوسَ بعربية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك جائز؛ فإنه انتقل من الأجود إلى ما دونه، فليس فيما فعل إجحاف.
والثاني - لا يجوز ذلك حسماً لإبدال الجنس بالجنس، وقد يكون أعرف بالرمي
__________
(1) هـ 4: " الركضة ".
(2) كذا في النسخ الثلاث، وفي بسيط الغزالي (أورد) بهذا الرسم. ولم أجد في المعاجم هذا المعنى. وأخيراً وجدناها في المعجم الذهبي (فارسي- عربي) للدكتور محمد التونجي، ومعناها: ميدان الحرب.
(3) في الأصل: " يقول ".
(4) الباء هنا لم تدخل على المتروك، وذلك جائز عند أمن اللبس، كما في عبارتنا هذه والعبارة التي بعدها.(18/268)
على القسي العربية وأمهر فيها، فالوجه حسم ذلك بالكلية.
ولو وقع التناضل من غير (1) تعرضٍ لتعيين نوع من القسي: نُظر، فإن كانت الناحية تشتمل على الأنواع والترامي غيرُ نادرٍ بالجميع، فقد اختلف أصحابنا: فقد ذهب بعضهم إلى أن المناضلة المطلقة فاسدة في مثل هذه البقعة؛ فإنها أنشئت على الجهالة، مع تفاوت الغرض، واختلاف المقصد، وهذا ما مال إليه صاحب التقريب، ووجهه بيّن. وذهب الأكثرون من الأصحاب في طرق العراق وغيرها إلى تجويز المناضلة المطلقة.
فإن أفسدنا، فلا كلام، وإن حكمنا بالصحة، وهو الذي صار إليه الجمهور، فقد قال العراقيون: لا بُد وأن يقع الترامي على نوع واحد، فإذا أخذ واحدٌ العربية، امتنع على الآخر أَخْذُ الفارسية، ثم قالوا: الخيرة إليهما في تعيين نوعٍ يريدانه.
وهذا كلام مبهم، لا أقنع بمثله، وإشكاله يبين بسؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا اختار أحدهما العربية، واختار الثاني الفارسية، وتنازعا، فكيف التفاصيل؟ وليس أحدهما أولى من الآخر، وهذا يُفضي إلى تعذر إمضاء العقد. هذا هو السؤال. والجواب عنه عسرٌ.
[والوجه] (2) بعد بيانه أن نقول: إن حكمنا بلزوم هذه المعاملة، فالوجه أن نحكم بأن الإطلاق فيه مفسدٌ؛ لإفضائه إلى ما وصفنا، وليس ذلك كفرض اختلاف المتبايعين في الثمن والمثمَّن؛ فإن اختلافهما في حكم النادر الذي يطرأ، وليس من مقتضيات العقد، والمعاملة التي نحن فيها تُفضي لو صحت إلى الخيرة التي ذكرها العراقيون، ثم ينشأ منها التنازع لا محالة، فقد أدت المعاملة بمقتضاها إلى ما يوجب رفعها. وإن حكمنا بأن هذه المعاملة جائزة، فلا يمتنع على ذلك الحكمُ بانعقاد العقد، ثم إن توافقا على نوع، فذاك، وإن تمانعا، فالمعاملة عرضة الفسخ، وليس جريان الفسخ فيه مناقضاً لوضعه.
__________
(1) هـ 4: " من ذكر جنس من القسيّ ".
(2) في الأصل: " فالوجه ".(18/269)
فهذا إيضاح الخلاف، وتنزيله على الأصل الذي لا بُد منه.
ومما نقدمه أن الأنواع إذا اختلفت ووقع التراضي من المتناضلين على الترامي على الأنواع المختلفة، فهو جائز.
11692- وانتظم من مجموع ما قدمناه أنَّ التوافق على نوع يمنع العدول إلى ما هو أعلى منه، وفي العدول إلى ما دونه خلاف.
ولو وقع التوافق على التناضل على نوعين، جاز بلا خلاف، وفي الإطلاق -وفي الناحية نوعان، أو أنواع- خلافٌ منزل على الوجوب والجواز، فلو اتحد النوع في الناحية، فالعقد المطلق منزل عليه، كما أن الدراهم المطلقة منزلة على النقد الغالب.
ولو كان الترامي على نوع معلوم، فتشارطا على ألا يُبدل واحد منهما قوسَه، فنقول: أولاً إن لم يجز في ذلك ذكر، فالإبدال سائغ بلا خلاف، سواء فرض اختلال في القوس أو لم يفرض، وعند ذلك يظهر (1) انفصال النضال عن السباق؛ فإن الفرس المتعين للمسابقة لا يبدل بغيره، والقوس المتعينة تبدل بغيرها من نوعها، والمعتمد في الفرق ما قدمناه، من أنَّ التعويل في المسابقة على الفرس وفي النضال على الرامي.
فإذا وضح هذا في القوس، فلو شُرط تعيين القوس، ومُنع إبدالها، فالأصح أن هذا الشرط فاسدٌ؛ فإن الرامي قد تطرأ عليه أمور خفية، هو أعرف بها، فتُحوجه إلى إبدال القوس، [وفي حسم هذا تضييق] (2) وإرهاق لا فائدة فيه، وهو قريبٌ من تعيين الصاع في السلم.
ومن أصحابنا من قال: يصح الشرط، ويجب الوفاء به، على ما سنصفه في التفريع، إن شاء الله تعالى، ويحتج هذا القائل بأنه قد يظهر غرض بيّن في تعيين القوس؛ فإن إبدال القوس اللينة بالشديدة يتفاوت تفاوتاً قريباً من إبدال العربية بالعجمية.
__________
(1) هـ 4: " يفرض ".
(2) في الأصل: " وفي هذا حسم تضييق ... ".(18/270)
التفريع:
11693- إن حكمنا بإفساد الشرط، فهل تَفسد المناضلة أم يُلغى الشرط، ويقدّر كأنه لم يكن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب ومهد ضبطاً حسناً في ذلك، وقال: كل شرط لو فرض طرُحه لاستقل العقد بإطلاقه، فيجري فيه الوجهان إذا فسد، وكل ما لو طُرح، لم يستقل العقد، فإذا فسد، فلا بُد من فساد العقد، فهذا مثل ألا يذكر في المسابقة غاية، ولا في المناضلة قرعات، فالمعاملة فاسدة، لا وجه إلى تصحيحها مع تقديرها، وسبيل طلب الصحة ابتداء عقد على شرط الشرع.
وإن قلنا يصح تعيين القوس، فتقديره ألا يبدل القوس ما بقيت، فإن انكسرت، فكيف الوجه؟ إن وقع الشرط على أن لا إبدال إلا إذا انكسرت، فيصح العقد وينزل على هذا المقتضى، وإن وقع الشرط على أن لا إبدال، وإذا (1) تكسرت القوس، انقطعت المعاملة، فيجب الحكم بفسادها، فإن هذا إبلاغ في تعيين الآلة، وحقها ألا تتعيّن.
11694- هذا منتهى الغرض في ذلك، وقد وعدنا أن نذكر مسائل في المسابقة من هذا النمط، فنقول أولاً: إذا تعينت الأفراس في التسابق، فلا إبدال بوجه على ما تمهد من ارتباط المعاملة بالخيل أو الإبل، وهي العمدة والعماد، ولو تعاقدا المسابقة من غير إحضار الأفراس، واعتمدا الوصف فقد قال العراقيون: يجوز ذلك، ثم قالوا إذا كان التعويل على الوصف، فيجب أن يحضرا فرسين من نوع واحد، إما من العتاق أو البراذين، قالوا وهذا إذا [لم يجر لها] (2) ذكر، وجرت المسابقة على الإطلاق، والمسابقة المطلقة مع وجود البراذين والعتاق في الناحية، كالمناضلة المطلقة مع وجود القوس العربية والعجمية في الناحية.
ولو لم يُحضرا فرسين ورضيا بالتسابق على البرذون والعربي، جاز ذلك كما يجوز ذلك في النوعين من القوس إذا وقع التراضي بالتناضل عليهما.
__________
(1) هـ 4: " فإذا ".
(2) في الأصل: " لم يجر لهذا ".(18/271)
وهذا الذي ذكروه سديد لو صحت المسابقة من غير تعليق بأعيان الخيل. وكان شيخي يقطع باشتراط تعيين الخيل في المعاملة؛ فإن المعول في المسابقة على أعيانها، وفي هذا احتمال ظاهر، والأوجه ما ذكره العراقيون. والعلم عند الله تعالى.
واختلاف السهام وإن اتّحد نوعُ القسي (1) كاختلاف نوع القسي (2) ، وبيانه أن الرمي بنبال الحُسْبان (3) التي تسمى نازك (4) إنما يكون على القوس الفارسية، ولكن لا بُد من إلحاق آلةٍ بالقوس، فيخرج القوس عن طريق الرمي باليد، ويصير مع الآلة المتصلة بها كنوع آخر من القوس وكذلك قوس الجَرْخ مع قوس اليد، والجَرْخ مع النازك (5) مختلفان، وهذا مستبين عند أهل المعرفة، وكان شيخي يُلحق بهذه المسائل المسابقة بين الإبل والخيل، ويقول: هي أقرب من المسابقة بين الخيل والحمر؛ من جهة اجتماع الخيل والإبل في كونهما أصلين في المسابقة.
ومع هذا الخلافُ قائم في جواز المسابقة؛ لمكان اختلاف الجنسين، وليس كاختلاف النوعين، نحو اختلاف البراذين والعتاق، وكان يتردد بين البغال والحمر، وليس يخلو ذلك عن خلاف. وهو أقرب من الخيل والحمر.
فصل
مشتملٌ على إلحاق الزوائد في المسابقة والمناضلة
11695- ومقصود هذا الفصل يترتب على القولين في أن هذه المعاملة جائزة، أو لازمة؛ فإن حكمنا بلزومها، فلا يلتحق بها الزيادة طرداً لقياس المذهب في أن العقود
__________
(1) هـ 4: " القوس ".
(2) هـ 4: " القوس ".
(3) الحُسْبان: نوع من السهام، وهي سهام صغار يرمى بها عن القسي الفارسية، الواحد حسبانة (المصباح) .
(4) في (ق) : " ناوك ".
(5) سبق تفسير الجرخ والنازك.(18/272)
اللازمة لا تلحقها الزوائد والتغايير التي تشبه إلحاق الزوائد، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى.
ولا فرق بين أن يتراضيا عليه، وبين أن ينفرد بالإلحاق أحدهما، فإن أرادا ثبوت الزيادة، فالوجه فسخ العقد الأول عن تراضٍ، وإعادتُه على حسب المراد، ثم قد قدمنا التفريعَ على قول اللزوم، وحكينا عن القفال: أنا وإن ألزمنا المعاملة، فلا يجب تسليم السبَق؛ فإن استحقاقه موقوف على تمام العمل المشروط، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، وفي بعض التصانيف أنه يجب تسليم السبَق إذا قضينا بلزوم المسابقة والمناضلة قياساً على تسليم الأجرة في الإجارة، وهذا غلط بيّن، وذهول عن درك مقصود هذه المعاملة ومغزاها؛ فإن مبناها على الخطر والتوقع، وليس ذلك كتوقع انهدام الدار المستأجرة؛ فإن الأصل بقاؤها، والنفوس مطمئنة إلى استمرار وجودها، وفوز السابق ليس في هذا المعنى.
وقد يعترض وضع سبَقين من شخصين وبينهما محلِّل، فالتسليم إلى من؟ وكيف الحكم إذا فرّعنا على أن مخرج (1) السبَق يستحق السبق؟ ومما يتفرع على هذا القول أن المناضل إذا مات، فالمعاملة تنقطع، وإن حكمنا بلزومها؛ فإن المناضلة تتعلق بعين الرامي، فموته كموت الأجير المعيّن. ولو مات المسابق والفرس قائم لم يعطَب. والتفريع على اللزوم، فيتجه إيجاب الوفاء على الورثة؛ لأنَّ التعويل على الفرس، كما تقرر من قبل.
هذا إذا حكمنا بلزوم المعاملة.
11696- فأما إذا حكمنا بجوازها فلو تراضيا بإلحاق زيادة بالعقد، مثل أن يُلحقا مزيد قرعات، أو أرشاق، أو مزيداً في السبَق، فالمذهب أنَّ الزيادة تلحق، لمكان جواز العقد.
وقد ظهر اختلاف الأصحاب في أنَّ الزيادة هل تلحق الثمن أو المثمن في زمان
__________
(1) هـ 4: "شخوص".(18/273)
الخيار أو مكانه، فخرّج بعض أئمتنا (1) وجهاً على البُعد (2) في إلحاق الزوائد بالمعاملة التي نحن فيها وإن فرعنا على جوازها، وهذا قد يتجه بأن يُعتبر العقد غير معقول (3) ، ولا بُد في الزيادة من عقد، والعقدُ لا يلحق العقد، ولا عَوْد إلى هذا الوجه البعيد، ويتّضح الفرق بين البيع في زمان الخيار -والعقدُ مبناه على اللزوم- وبين المعاملة التي نحن فيها، ومقصودُها غررٌ مغيّب، ولولا الشرع، لكانت على مضاهاة القمار.
وما ذكرناه فيه إذا تراضيا على الزيادة وإلحاقها.
11697- فأما إذا انفرد أحدهما بإلحاق الزيادة، فإن قلنا: لو ألحقناها لحقت.
فإذا انفرد أحدهما ولم يقبل الثاني، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أنها لا تلحق وإن لحقت بالتراضي؛ تخريجاً على أن أصل العقد لا بُد فيه من القبول، وإن جعلناها كالجعالة، فإذا اشترطنا القبول في أصل المعاملة، وجب اشتراطها في الزيادة.
والوجه الثاني - أن الزيادة تلحق، وإن لم يقبلها من لم يَزِدْ لجواز العقد وقبولها (4) لفنون التغايير.
والوجه الثالث - أنا ننظر إلى الزائد، فإن كان فاضلاً، أو مساوياً لصاحبه، فالزيادة تصح، وإن كان مفضولاً، فلا يصح منه الانفراد بإلحاق هذه الزيادة من غير رضا صاحبه، فإنه بزيادته يفوّت على صاحبه حقَّه، ولو فتحنا هذا البابَ، لاتّخذه كل مفضول دأْبه مهما (5) أحسَّ بكونه مفضولاً.
والوجهُ الثاني الذي ذكرناه ساقط ضعيف؛ لأنَّ مضمونه التسوية بين الفاضل والمفضول.
__________
(1) هـ 4: " أصحابنا ".
(2) وجهاً على البعدَ: المعنى خَرَّجَ وجهاً يستبعد جواز إلحاق الزيادة وإن حكمنا بجواز العقد.
(3) هـ 4: " غير مشروعٍ ولا معقول ".
(4) وقبولها: أي المناضلة، أو المعاملة.
(5) مهما بمعنى إذا.(18/274)
11698- وينشأ من هذا المنتهى سرٌّ في المذهب، وهو أنا إذا فرقنا بين الفاضل والمفضول، فلو أراد المفضول أن يفسخ العقد بعد ما ظهر استيلاء (1) صاحبه عليه، فليس له ذلك؛ فإنا إذا كنا نمنعه من الزيادة لما فيها من تفويت حق المناضل الفاصل، فالفسخ أولى بأن يمتنع، وقد أفضى ما ذكرناه إلى أنا في التفريع على قول التفضيل إنما نحكم بجواز العقد إذا لم ينته الأمر إلى مصير أحدهما مفضولاً، فإذا صار مفضولاً، لزم العقد في حقه، وبقي الجواز في حق الفاضل؛ فإنه إذا كان يجوز للمساوي أن يفسخ، فلأن يجوز ذلك للفاضل أولى.
ومن تمام التفريع أنا إذا قلنا: ينفرد أحدهما بالزيادة، وتلتحق بالعقد، فلا ضرار على الذي لم يرض؛ فإنا نجوز له أن يفسخ العقد، فإن ثقلت الزيادة عليه، فليفسخ.
11699- ومن بقية الكلام في هذا [المنتهى] (2) الكلام في المفضول، وقد اختلف أصحابنا فيه، فقال بعضهم: إذا زاد صاحبه عليه بسهم واحد، فهو مفضول، والكلام فيه ما سبق.
ومن أصحابنا من قال: القَرْعة والقرعتان قد لا يتحقق كون المفضول بهما متهماً في الزيادة وإنما تظهر التهمة إذا بلغ ما اختص به صاحبه [مبلغاً يعدُّ بذلك] (3) مستعلياً على مناضله، فعند ذلك يصير المفضول متهماً، ثم الحكم ما قدمناه.
ويتصل بهذا المنتهى أن من عقد جعالة على عوض ثم إن الجاعل زاد في العمل، فثبوت تلك الزيادة -وإن كانت الجعالة جائزة في وضعها- بمثابة زيادة المتّهم المفضول، فإنَّ الجاعل يبغي حظ نفسه فيما يزيده من العمل، كما أنَّ المفضول يبغي حظ نفسه، ثم الذي يقتضيه القياس أنَّا إنْ قُلْنا: لا تلحق زيادة العمل في الجعالة، فلا كلام، وإن قُلنا: إنَّها تلحق، وقد عَمِل المجعول له [بعضَ] (4) العمل الأول، فلم
__________
(1) كذا في النسختين: وهي بمعنى ظهر فوزه عليه.
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) في الأصل: " مثل ما يعد بذلك ".
(4) في الأصل: " بعد ".(18/275)
يرض بالزيادة وأراد الفسخ، فالوجه أن يستحق على مقابلة ما عمله أجر المثل، فإنَّه ما تركَ إتمام العمل مختاراً حتى زيد عليه؛ فكان معذوراً في الفسخ، وليس كما لو عمل بعض العمل، حيث لا زيادة، ثم اختار الفسخ بنفسه؛ فإنه لا يستحق على مقابلة ما قدمه من العمل شيئاً.
11700- ومما يتصل باستكمال الغرض فيما نحن فيه أنَّهما لو تعاقدا عقد المناضلة، ثم بدا لأحدهما أن يترك الرمي ويُعرض عنه، فإن قُلنا العقد لازم، فلا سبيل إلى الإعراض من غير اعتراض عذرٍ مانع من الرمي، وإن قُلنا المعاملةُ جائزة في وضعها، فإن كان المُعرِض غيرَ مفضول على ما سبق تفصيل المفضول، فله أن يُعرض من غير فسخٍ، وله أن يفسخ. وإن كان المُعرِض مفضولاً متهماً، فهل له الفسخ؟ فعلى قولين مبنيين على ما تقدم ذكره من أن الزيادة على القرعات هل تلحق المعاملة إذا صدرت من المفضول المتهم، وعلى هذا لو شرط في الجعالة جُعلاً لإنسان، فعمل المجعول له بعضَ العمل، وهو مقدم على إتمامه، ولو فسخ العقد الجاعل، لكان أجر مثله بمقدار عمله أقلَّ من حصة ذلك المقدار من المسمى، فانفراد الجاعل بالفسخ يُخرّج على الخلاف الذي قدمناه. وقد نجز الغرض في الزيادة في مضمون المناضلة.
11701- فأما إذا أراد المتناضلون النقصان من القرعات أو من الأرشاق، فهذا يخرج لا محالة على التردد الذي ذكرناه في الزيادة؛ فإنَّ سبيل إلحاق النقصان بمقتضى العقد كسبيل إلحاق الزيادة، ولا يخطر للمحصّل تشبيهُ الحط في مسألتنا بإبراء البائع عن بعض الثمن؛ فإن ذلك نافذ بعدَ اللزوم، غيرُ ملتحق بالعقد، بل سبيله سبيل استيفاء الثمن؛ فإن الإبراء تصرفٌ من المستحق في الدَّيْن، وهو يجري في قيم المتلفات والعروض وحيث لا يتوقع إلحاق الزوائد، وحط شيء في هذه المعاملة من القرعات أو الأرشاق ليس في هذا المعنى، نعم لو حط من شُرط السَّبَق له قبل الفوز بالعمل المشروط، كان ذلك إبراء عن شيء قبل وجوبه، وهو في معنى ضمانه قبل وجوبه، وقد ظهر سبب وجوبه. وقد تم المراد.(18/276)
فصل
11702- ذكر المزني مسألة أخطأ فيها حُكماً وتعليلاً؛ فإنه قال: " لو أخرج مُخرج مالاً وقال لرامٍ: ارم عشرة، فإن كانت قرعاتك أكثر، فلك السَّبَق الذي أخرجته " (1) .
قال المزني: " لا يجوز ذلك؛ لأنه ناضل نفسه "، وهذا الذي نقله عن الشافعي خطأ؛ فإنه نص على أن ذلك جائز؛ إذ لا مانع منه، والمقصود من إخراج السبَق التحريضُ على الرمي، ولا فرق بين أن يفرض صدوره عن رامٍ واحد، وبين أن يفرض عن جماعة. هذا خطؤه في النقل عن الشافعي.
وأما خطؤه في التعليل، فهو أنه قال: " لأنه ناضل نفسه "، وهذا خطأ لا شك فيه، فإنَّ الغرض أن يجدّ هذا الرامي ويحرص على تكثير القرعات، وهذه العلة التي ذكرها إنما ذكرها الشافعي في صورة أخرى، وهي أنه: لو قال: ارم عشرةً عن نفسك وعشرةً عني، فإن كانت القرعات في عشرتك أكثر، فلك ما أخرجت، فهذا غير جائز؛ فإنه قد يقصر في العشر المشروطة للمُسْبِق، فيكون مناضلاً نفسه، ولا يصح العمل على هذا النسق، فقد ظهر غلطه في الفتوى والتعليل.
وذكر العراقيون في المسألة التي ذكرها المزني وجهاً بعيداً موافقاً لمذهبه وفتواه، وقالوا: من أصحابنا من أفسد المعاملة؛ من جهة أن الكثرة التي ذكرها في القرعات مجهولة، وهذا ليس بشيء؛ فإن قوله: إن كانت قرعاتُك أكثرَ محمول على ما إذا أصاب من العشرة ستة، فتتحقق الكثرة بهذا، واللفظ صريح في اقتضاء الاكتفاء بست قرعات.
والوجه عندنا أنه إن أصاب ست قرعات وِلاءً، فقد بان أنه استحق المال، وإن لم يصب الأربعة الباقية، فلو قال: أقتصر على ما كان مني، فإني استحققت المال، وقال الشارط: استكمل العشرة؛ فإني علقت الاستحقاق بعشرة إصاباتها أكثر، فالظاهر أنا نلزمه استكمال العشرة؛ فإنَّ لفظ الشارط: " ارم عشرة "، فلا استحقاق دون رميها، والخلاف جارٍ في المسألة، على ما مهدنا من الأصول قبل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/221.(18/277)
فصل
11703- لو كان يتناضل جمعٌ، فمرّ بهم مارٌّ، وقال لمن انتهت النوبة إليه، وكان على أن يفوّق ويرمي: إن أصبت بهذا السهم، فلك دينار، قال الشافعي نصّاً: " إذا رمى وأصاب استحق الدينار وتلك الإصابة محسوبة له من المعاملة التي هو فيها " وهذه المسألة لا يُؤثر فيها خلاف عن أحد من الأصحاب، وهي دالة على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة الإجارة؛ من جهة أنها لو كانت بمثابتها، لاستحال أن يستحق بعمل واحدٍ مالين عن جهتين، ووجه الفصل أن سبب استحقاق الأسباق الشرطُ لا رجوع العمل إلى [الشارط] (1) وهذا يؤكد أن المعاملة إذا فسدت، فالرجوع إلى أجر المثل عَسِر، فإنَّ العامل ليس يعمل لغيره، وإنما استحق المالَ المشروط عند عمله على الشارط وفاءً بالشرط.
وقال الأصحاب قياساً على ما ذكره الشافعي: لو كان يناضل رجلاً والمشروط عشر قرعات، فشرط أن يناضل بها رجلاً آخر، ثم ثالثاً إلى غير ضبط، حتى إذا فاز بالقرعات كان ناضلاً لمن يراميه وإن تعددوا، فهذا جائز جرياً على ما مهده الشافعي، وتعليله تنزيله على موجب الشرط، وقطعه عن قياس الأعمال المقابلة بالأعواض.
ثم قال الشافعي: إذا انتهت النوبة إلى رامٍ، فأخذ يُطوّل، وقد تبرد بهذا السبب يدُ الرامي قبله، فإن قضينا بأن المعاملة جائزة، فلا اعتراض، ولا طلب على المطوّل، وإن قضينا بلزوم [المعاملة] (2) على التفصيل المقدم، فهو مطالب بالجريان على موجب العادة في الرمي بلا إرهاق ولا استعجال [في الرمي] (3) يحمله على ترك الحصافة والتأنق، ولا تطويل يخالف العادة، وهذا واضح.
__________
(1) في الأصل: " الشرط ".
(2) في الأصل: " المناضلة ".
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/278)
فصل
في اختلاف المواقف
11704- الرماة يقفون صفّاً في قبالة الغرض، ووضع المعاملة على استوائهم في القرب والبعد من الغرض، ولكن لا يخفى عن ذي الفطنة أن مقابل الغرض على المسامتة الحقيقية أقربُ ممن على يمينه ويساره، وبرهان هذا برسم خطوط من طرفي الصف مع رسم خط من موقف المقابل، ولا شك أن الخطوط تتفاوت، ثم ينضم إليه أن الغرض في حق المقابل أكبر، والمنحرف عن المقابلة يضيق الغرض في حقه، ولكن أجمع الفقهاء والرماة على احتمال ذلك، ولم يشترط أحد أن يتناوب الرماة على الموقف المقابل؛ فإن القيام والقعود عسر، ولو فرض تنافس في المقعد، فهو بحق، وسبيله كسبيل التنافس في البداية، بل التنافس في البداية أهون، والغرض فيها أخفى مما ذكرناه، ثم الفقه يُلحق المواقفَ بالبداية، وقد [تفصّل] (1) القول فيها.
ولو وقع التشارط على أن يكون موقف البعض أقرب حتى يتقدم، وموقف البعض أبعد، فلا سبيل إلى ذلك، كما لا سبيل إلى ذلك في المسابقة، ولو لم يشترطا هذا، ولكن أراد أحدهما أن يتقدم، مُنع، وإن رضي بذلك أصحابه، فإن كان قريباً، فلا بأس، وهذا القدر يحتمل بالرضا، لما قدمته من أن المواقف تقع متفاوتة في صف الرماة لا محالة.
ولو أفرط في القُرب ورضي بذلك مناضلوه، فهذا تفاوت لا يحتمل -وإن جوزنا إلحاق النقصان والزيادة بالعقد- لأن هذا تفاوت يخالف وضعَ العقد، وهو بمثابة ما لو وقع الرضا في أول العقد أوفي أثنائه بأن يفوز بعض المناضلين بتسع قرعات، والمشروط على كل واحد غيرِه عَشْرٌ عَشرٌ (2) . فهذا غير سائغ. نعم، لو رضوا بأن يتقدموا جميعاً وينقصوا من المسافة، فهذا تغيير للعقد على معنى النقصان.
__________
(1) في الأصل: " تفسّر ".
(2) في (هـ 4) : على كل واحد غيره عشر عسر (بالسين) وفوقها علامة الإهمال، وكلمة (صح) وهذا ما جعلنا لا نحملها على أنها سهو من الناسخ. هذا وجاءت (ق) تؤيد الأصل.(18/279)
ولو كانت المسألة بحالها، فوقعت المناضلة على شرط الصحة، ثم أراد بعضهم أن يتأخر عن الموقف الثابت، فهل له ذلك، وقد زاد على نفسه؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: له ذلك، ولا معترض عليه، ووجهه بيّن؛ فإن سهمه يمر على المسافة المشروطة والزيادة عليها من شأنه.
ومنهم من قال: لا يجوز ذلك، فإن القوس الشديدة قد تتحامل على الرامي فيزهق سهمه في الموقف المشروط، وإذا بعُد انخفض السهم وحبا، فإذا كان هذا الفرض ممكناً، فليس إلا الحسم والمنع.
وعلى هذا الترتيب لو جرت المعاملة (1) على المسابقة صحيحةً، فأراد أحدهما أن يتقدم، مُنع ولو وقع الرضا به، فلا وجه له، ولو أراد أن يتأخر عن الموقف المعيّن، فعلى ما قدمناه، وقد يكون من طباع فرسه إذا تأخر ورأى متقدماً عليه أن يحتدّ يبغي إدراك المتقدم، ثم يتمادى كذلك في حُمُوَّته.
ومن أسرار هذا الفصل أن من تأخر عن الموقف في المسابقة أو المناضلة، فالباقي على الموقف المشروط في حكم المتقدم عليه، وقد ذكرنا أن التقدم ممتنع، ولكن تتميز صورة الوفاق على المنع عن صورة الخلاف بأنَّ الممنوع منه وفاقاً فيه إذا لزم قوم الموقف المشروط، فتقدّم من تقدّم، وصورة الخلاف فيه إذا لزم قوم الموقف، وتأخر باختياره من تأخر، والفرق وإن كان مُخيلاً في الظاهر، فلا فرق في الحقيقة إلا أنَّا نحتمل المقدار اليسير الذي لا يظهر لمثله أثر في الحس الظاهر بناءً على ما جعلناه قاعدة الفصل من تفاوت المواقف لا محالة، وهذا لا يفرق فيه بين التقدم والتأخر.
فصل
في المعاقدة على الأمور البعيدة
11705- إذا وقع التناضل على ما لا يبعد مدركه، حكمنا بالصحة على وفق الشرع (2) ، وإن جرى شرط لا يُدرك، فالعقد باطل، وهو بمثابة اشتراط مائة رشق مع
__________
(1) هـ 4: " المعاقدة على مسابقة صحيحة ".
(2) هـ 4: " الشرط ".(18/280)
الإصابة في جميعها، وهذا يجري من وجوه: قد يكون سبب التعذّر كثرة القرعات، وقد يكون سببه صغر القرطاس، وقد يكون سببه طُول المسافة، فإذا اجتمعت، تناهى التعذر.
وإن كان المشروط أمراً بعيداً، ولكن قد يتفق وقوعه على الندور، ففي جواز المناضلة على هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنها تصح لإمكان تحصيل المشروط.
والثاني - أنها لا تصح لبعد الحصول، وإنما جوز الشرع بَذْلَ المال في هذه المعاملة تحريضاً على الرمي، فإذا كان المشروط أمراً بعيد المستدرك، تبرّمت النفوس [وانخنست] (1) .
ثم تعرض الشافعي لإجراء ذكر المسافة، وقال: " لو تناضلوا على المائتين "، فاختبط العراقيون في هذا على ما نَصِف ما ذكروه، ثم نذكر المسلكَ الحق الذي ذكره المراوزة، إن شاء الله تعالى.
قال العراقيون: إن زادت المسافة على ثلثمائة وخمسين ذراعاً لم يجز، وإن كانت المسافة مائتين وخمسين، فوجهان.
وهذه تحكّمات، لا أصل لها في توقيف، ولا قياس، ولا مصلحة تتعلق بالمعاملة، ولا شك في بطلانها، والمرعيُّ عند أئمتنا أن المسافة إذا كانت بحيث لا يقطعها السهم، فالمناضلة باطلة، وإن كانت بحيث يقطعها السهم، ولكن تندر الإصابة، ففي المسألة الخلاف الذي ذكرناه، وإن كانت الإصابة تقرب، فالقطع بالجواز، فأما تقدير المسافات، فلا أصل له.
11706- ومما يتعلق بهذا المنتهى أن التناضل لو كان على بعد المسافة من غير إصابة، وهو الغَلْوة (2) واسمها بالفارسية (بَرْتاب) (3) ، ففي التناضل- والمقصود
__________
(1) في الأصل: " وانحبست " بالحاء المهملة (تحتها علامة الإهمال) والمثبت من (هـ 4) .
(2) الغلوة: الغاية، وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه، ويقال: هي قدر ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة، والجمع غلوات، مثل شهوة وشهوات. (المصباح) .
(3) بَرْتاب: " بالباء الموحدة المفتوحة ثم راء ساكنة بعدها تاء مثناة من فوق، بعدها ألف مد، بعدها باء موحدة، ومعناها الإبعاد في الرمي على حسب قوته، لا إلى غاية معينة، وهو الذي=(18/281)
الإبعاد- وجهان: أحدهما - الجواز؛ فإنه من الأغراض الظاهرة عند الرماة، ومن يطول أمدُ سهمه يتوصل إلى إيقاع السهم في القلاع، وإيصاله إلى مواقف الكفار وإن بعدت، وهذا ظاهر. والثاني - المنع؛ فإن التعويل على الإصابة، وإذا كان لا يتجرد إليها قصدٌ، فلا تعويل على السهم بعُد أو قرُب.
ثم إن صححنا المعاملة على هذا الوجه، فالوجه الذي أراه أنه يجب أن يستوي القوسان في الشدة، فإن التفاوت في الشدة في القوس يجر تفاوتاً عظيماً في القُرب والبُعد يخفى معه الخُرق والدراية، ويجب أيضاً اعتبار خفّة السهم ورزانته، وينتهي الأمر عند المضايقة إلى اشتراط الرماة الرمي عن قوس واحدة بسهم واحد، فإنَّ القوسين قد يتساويان في الشدة، وإحداهما تفضل الأخرى في الحدة فضلاً لا ينكر، وبالجملة امتنع من امتنع من تصحيح هذه المعاملة لما يتطرق إليها من الجهالة، ولم يشترط أحد في المناضلة على إصابة الغرض التساوي في شدة القوس. نعم، إذا أفرطت شدة القوس وجلس صاحبه على مسافة تليق بقوسه، فقد يقع صاحب القوس اللين في مثل هذه المسافة على حد البعد في الفوز، ويتصل إذ ذاك بالخلاف المذكور فيه.
ومما يجب التنبه له في طباع النُّضَّال (1) أنه يتفق فيه أمور [بعيدة] (2) عن التوقع، ولا يجري مثلها في التسابق؛ فإن البرذون البليد لا يسبق الفرس العربي النجيب، إلا عند فرض نكبة في الجواد، وقد يَفْضُل الأخرقُ في الرمي الماهرَ به، فهذا مما يجب أن يكون على الذُّكر والبال.
ومما أنشأه الأئمة من ذلك أنهما لو تناضلا على سهم واحد على أن يرمي كلّ واحد منهما فردة، فالأصح الصحة، وقال بعض أصحابنا: لا يصح ذلك، لما أشرنا إليه
__________
=يقال فيه بالعربية: غلا بالسهم غلوة إذا رمى به بقدر ما يقدر عليه " هكذا ضبطها وفسرها ابن الصلاح في مشكل الوسيط، وقال: إنها أشكلت على مَنْ لا يعرف الفارسية، ثم هي تعرّب بالفاء في أولها، فيقال: (الفرتاب) (الوسيط: 7/189) .
(1) الضبط من (هـ 4) .
(2) في الأصل: " بديعة ".(18/282)
من سجية النضال؛ فإن الأخرق قد يصيب في تلك المرة والحاذق لا يصيب، وإذا تعددت الأرشاق، زال هذا المعنى.
فصل
11707- هذا الفصل يشتمل على مقدمةٍ لتحزب الرماة، وهي مقصودة في نفسها، بل هي بقية أسرار الكتاب، وقد أجملناها وأحَلْناها (1) وهذا أوان الوفاء بالشرح، فنقول: إذا تسابق رجلان أو تناضلا، وأخرج كل واحد منهما سبَقاً، والتفريع على أن المُسْبق يستحق سبَق صاحبه، وهذا هو الأصح، وعليه تجري مسائل [هذا] (2) الكتاب، وَلا بد من فرض المحلِّل، وإلا (3) كانت المعاملة على صورة القمار، فإذا فرضنا محللاً، وكنا نعلم أن فرسه في المسابقة يتخلف لا محالة، وإن كنا في النِّضال عرفنا أنه لا يُفلح، فهو ليس بمحلل، والمعاملة عريّة عن التحليل.
ونص الحديث والمعنى شاهدان على ذلك، كما تقدم.
ولو أخرج رجلٌ سبَقاً، وكان يسابق أو يناضل رجلاً على أن صاحبه إن فاز، فله السبَق، وإلا أحرز المخرج ما أخرج، ولا شيء على صاحبه، فإن كان ذلك المشروط له بحيث لا يُفلح، فهذه المعاملة لا أصل لها، وهي مسابقة أو مناضلة محضة من غير مال، وإن كان المشروط له بحيث يفوز لا محالة، ففي صحة المعاملة والحالة هذه وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن من أخرج مالاً، وقال لصاحبه: ارمِ كذا، فإن أصبت كذا، فلك هذا المال، فذلك جائز. وإذا جاز هذا، فأقصى الأمر أن يسبق المشروط له، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنه إذا كان يناضله أو يُسابقه، فهذه الصورة تقتضي أن يكونا (4) على حد المخاطرة، حتى يُحرِز المخرِجُ إن فاز، ويستحق عليه صاحبه إن كان الفوز منه.
__________
(1) كذا في النسختين بالحاء المهملة، مع التأكيد على إهمالها برسم حاء صغيرة أسفلها في النسختين، وزيادة علامة الإهمال أعلاها في (هـ4) .
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) هـ 4: وإذا.
(5) هـ 4: "يكون".(18/283)
ولو تسابق رجلان، فأخرجا سبَقين، وبينهما محلِّل، وكان المحلل بحيث يسبق، فالخلاف الذي ذكرناه الآن جارٍ، ولا فرقَ، ولو أخرج رجلان سبَقين، وكان أحدهما بحيث يسبق لا محالة ولا محلل بينهما، فالذي يسبق لا محالة على صورة محلل يسبق لا محالة؛ فإن الذي أخرجه لا حكم لإخراجه؛ فإنه لا يستحق عليه، وتسميتُه لاغية، ولو أخرجا سبَقين، وبينهما محلل، وكان المحلل يساوي أحد المُسْبِقَيْن، أو يدنوَ منه، والمُسْبِق الآخر يتفَسْكل لا محالة، فالمسبق السابق والمحلل في حقه محللان، والخلاف المقدم جارٍ.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن الّذي يقف محللاً إن كان بحيث لا يتخلف لا محالة، فلا معنى للمعاملة، وإن كان بحيث يسبق، فالظاهر تصحيح المعاملة، وفيه خلاف.
فهذا ما أردنا أن نقدمه على فصل التحزب.
فصل
في تحزب الرماة
11708- ومعظم التناضل يقع كذلك، ونحن نصوّره، ثم نندفع في حكمه، فإذا تحرب الرماة حزبين أو أكثر على أن ما يصدر من القرعات من أحد الحزبين يكون بمثابة صدورها من رامٍ واحد، وإذا فازوا (1) ، فالسبَق بينهم، فهذا صحيح، ولكن لا بد من استواء الحزبين في الأرشاق والقرعات المشروطة، ولا اعتبار بعدد الرماة، فلو كان أحد الحزبين ثلاثة، والحزب الثاني أربعة، والأرشاق مائة على كل حزب، فلا بأس، فلو رامى رجل رجلين، جاز على هذا التنزيل، فيرمي كل واحد من الرجلين سهماً، ويرمي المناضل لهما سهمين، وكذلك لو رامى رجل رجالاً على شرط أن يكون على حد الإطاقة، فإن كان لا يفي، ولو رمى، لتخلف لا محالة، فهذا يقع في النظائر المقدمة في ذلك.
__________
(1) هـ 4: " وإذا فاز فاز بالسبق بينهم ".(18/284)
ومما ذكر الأئمة في اعتبار التعديل أنهم إذا كانوا يقتسمون الأعوان، فلا ينبغي أن يحكّموا القرعة؛ فإن القرعة تَعْدِل وتَجُور؛ فقد يجتمع الحذاق في جانب، والخُرْق (1) في جانب، بل الوجه أن يقتسموا على اعتدالٍ، فيُضَمَّ حاذق إلى أخرق، وكذا في الجانب الثاني، حتى إن أرادوا بعد ذلك القرعة، فلا بأس؛ فإن القرعة تستعمل في القَسْم بعد تعديل الحصص والأقساط، وما ذكرناه أمر كلي بَعْدُ، والبيان بين أيدينا.
[فلو] (2) تعاقدوا عقد النضال على التحزب قبل تعيين الأعوان، فالعقد باطل، لا أصل له؛ فإنه لم يرد على مَوْرِد معيّن، ولا وجه لالتزام الرماة في الذمة؛ فإنَّ الرماة هم المقصودون، فيجب أن يتعينوا، وهذا يؤكد ما ذكرناه من الرد على العراقيين في تجويزهم عقدَ المسابقة على الإطلاق، من غير إحضار الفرس.
ومما يجب الاعتناء بدركه، وبَعْدَه المسائل أن رجلين لو أخذا في النضال، وعقدا العقد، ونحن لا ندري أنهما متدانيان في الصنعة أم متفاوتان، فهذا يُبنى على أن أحدهما لو كان بحيث يفوز لا محالة، فهل تصح المعاملة؟ وليقع التفريع على الأصح، وهو الصحة، ثم نقول: التعاقد مع الجهالة بمبلغ الدراية في الرماية لم يمنعه أحد، وهكذا يكون النضال في الغالب، فلم يشترط أحد جريانه بين المعارف، ومسألة الغريب الطارق سنصفها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى، وهي شاهدة لما ذكرناه، ثم إذا تعاقدا وبانا متدانيين، فلا كلام، وإن بانا متفاضلين، لم يخف تفصيله.
ونقول بعد ذلك: لو اجتمع أخرقون في حزب، وحذاق في حزب، فهذا كما لو رامى ناضلٌ أخرقَ، وقد مضى التفصيل فيه، ولأمثالِ هذا قدّمنا المقدمة.
11709- ونحن الآن ننعطف على ما ذكرناه من فصل القرعة، فنقول: إن اقترعوا ثم أنشؤوا رضاً بما اقتضته القرعة، فلا بأس، ولا منع؛ فإنهم لو تحكموا
__________
(1) الخرق: جمع أخرق مثل أحمر وحمر.
(2) في النسختين: " ولو ".(18/285)
بذلك، جاز. وإن قالوا: رضينا بما اقتضته القرعة، ثم فرض رجوعٌ عن هذا الرضا، جاز. وإن استمروا على الرضا، ولم يُنشئوا رِضاً بعد انفصال الأمر بالقرعة، فالظاهر أن ذلك الرضا غير صحيح، فإنه في حكم المعلق بما سيكون، وتعليق الرضا باطل، ولا يمتنع أن يُحتمل في معاملة مبناها على الخطر، والأوجه المنعُ، وذلك الاحتمال بعيد؛ فإنّ الخطر في مقصود العقد إن احتمل، فلا ضرورة في غيره.
ووراء ما ذكرناه تأنق في التصوير يُسقط هذا؛ فإن ذلك إن فرض بعد العقد، فالعقد باطل لما قدمناه من اشتراط نزول العقد على معينين، وإن فرض قبل العقد، فالعقد يقع على معينين، فلتكن القرعة إذا كان التراضي يقع بعدها، ومن ضرورة إنشاء العقد الرضا بالذين تقع الإشارة إليهم.
11710- ومن أغمض ما يجب الاعتناء به في التحزب تصوير المحلِّل، فلو تحزب الرماة حزبين، وأخرج كل واحد سبَقاً، وكان مع الحزبين حزب محللون، فهذا جائز، والأحزاب كالأشخاص، وإن سبق أحد الحزبين، ولم يسبق الحزب الثاني، فجائز، وهو كما لو ترامى رجلان وأحدهما مُسْبِق دون الثاني.
ولو تحزب حزبان، وقال أحد الحزبين لواحد منهم: أنت ترمي وتستحق إن فُزنا (1) ، وإن فاز أصحابنا، فلا سبَق عليك من بيننا، ونحن نغرم السبَق دونك، فهذا الشخص من هذا الحزب على صورة المحلل، والحزب الثاني أخرجوا أسباقهم، فهل يقع الاكتفاء بما صورناه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنَّ ذلك كافٍ لوجود المحلل، والأصح - أن ذلك لا يكفي؛ فإنَّ المحلل هو الّذي إذا فاز، استبد بالأسباق، وليس الأمر كذلك في الصورة التي ذكرناها، فإن حكمها (2) أن هؤلاء الذين فيهم المحلل لو فازوا، فأسباق الآخرين موزّعة عليهم، فليس يستبدّ المحلل؛ إذاً فليس محللاً.
ولو شرط الحزب الثاني لواحد منهم ما شرطه هؤلاء، فانطوى كل حزب على
__________
(1) أي تستحق كواحد منا، والمعنى يقسم لك في الفوز، ولا يقسم عليك في الغرم.
(2) هـ 4: "حكمنا".(18/286)
محلل، على الصورة التي ذكرناها، ففي هذه الصورة وجهان مرتّبان على الأولى، وهذه الصورة أقرب إلى الصحة، لاشتمال كل حزب على محلِّل، والوجه المنعُ؛ فإنَّ المحلل من يفوز بالأسباق، ولو شرط كل حزب [كلَّ] (1) الفوز لمحللهم، فهذا ممتنع على كل وجهٍ؛ لأنه يكون فائزاً برميٍ من غيره، ولا سبيل إلى احتمال هذا.
وقد نجز الغرض في تصوير المحلل في الأحزاب، وذكر محل الوفاق والخلاف.
11711- ومما يليق بحكم التحزب أن أحد الحزبين إذا فازوا، فسبَقُ الآخرين مقسوم عليهم بالسوية، وإن لم يصب بعضهم شيئاً؛ فإنهم كالشخص الواحد، وعلى هذا الوجه يتفق الترامي، ولو شرط رجال كل حزبٍ أنهم إن فازوا، فالسبَق مقسوم بينهم على أعداد إصاباتهم، حتى يأخذ كل واحد من السبَق بنسبة ما أصاب، لم يجز؛ لأنه لو جُوّز يُفضي إلى أن يُتمم بعضُهم الأرشاق ولا يستحقَّ شيئاً؛ إذ لم يصب، ويكون المصيبون مستحقين بأرشاقٍ ناقصة عن أرشاق الحزب الثاني، فإذا تُصور هذا، فالمسألة محتملة مع هذا، بناءً على الغرر الذي هو عماد المعاملة، وليس يُنكِر هذا الاحتمالَ فقيه، مع أنه لا خلاف أن مطلق المعاملة مع التحزب لا يقتضي ذلك، بل يقتضي تنزيلَ كل حزب محل شخص. وإذا اتفق إحراز السبَق، فهو في العقد المطلق مقسوم على رجال الحزب الفائزين بالسويّة.
ولو تحزّبوا وتعاقدوا، فمرَّ رجلان، فاختار أحدَ الحزبين أحدُهما، واختار الحزبَ الثاني الثاني، ثم خرج أحدهما أخرقَ، والثاني حاذقاً، فلا خيار، وقد جرى التعاقد على الإبهام، فلا تتبُّعَ، ولا نقضَ، وهذا فيه إذا كانا في التحزب، فجرى ما جرى، ثم أنشىء العقدُ بعده؛ فإن هذا لو خطر بعده، لم يحتمل بحكم العقد، وخرج على الإلحاق بالعقد، وقد مضى.
ولو جرى ما وصفناه على الحد الذي ذكرناه، ثم تبيّن أنَّ أحدهما ليس برامٍ أصلاً، فقد قال الأصحاب: نتبين أنَّ ذلك الأخرق ساقط، فإذا سقط، سقط مقابله، وهذا فيه مستدرك عندي؛ فإن كان الأخرق بحيث لا يتمكن من أخذ قوس ونزع وتر، فالأمر
__________
(1) في الأصل: " على ".(18/287)
على ما ذكرناه من السقوط، وإن كان يتمكن من نزع الوتر وإرسال السهم، ولكن كان ما اعتاد الرمي قط، ولا يُعد مثله رامياً، فهذا فيه احتمال، وقد يتطرق احتمال إلى أن مثل هذا هل يُرامَى مع العلم بحاله، فيجوز أن يقال: يُرامَى لتصوّر الرمي منه، ويجوز أن يقال: لا يرامَى؛ فإن إقدام مثله على الرمي خطر لا فائدة له فيه، وقد يجر عليه ضرراً بيّناً، فلا ينبغي أن يسوغ مثله. وقد نجز الغرض.
فصل
11712- إذا كان يتناضل رجلان، ففضل أحدهما صاحبه بقرعات، فقال المفضول: حُطّ فضلك، ولك عليَّ كذا، فهذا لا يسوغ، سواء جوزنا إلحاق الزيادة أو منعناه؛ فإن مقابلة الفضل بالمال لا مجيز له، سواء قدرت المعاملة جائزة أو لازمة وهذا بيّن.
[فصل] (1)
11713- إذا تعاقدا على احتساب القريب وشُرط أن يُخرج الأقربُ ما هو أبعد منه، فهذا جائز، وكذلك لو شَرطا أن تُبطل الإصابةُ القريبَ، جاز ذلك.
وإذا كان في وسط القرطاس الذي هو المطلوب علامة، فوقع التشارط على أن إصابتها تُخرج إصابة ما حواليها من القرطاس، قال العراقيون: في جواز ذلك قولان: أحدهما - لا يجوز؛ فإن من أصاب القرطاس، فقد أبلغ في الحذق، والرميُ خَوّانٌ، فقد يصيب تلك العلامةَ أخرقُ على وفاقٍ، فيحبَطُ عملُ الحذاق، وهذا يضبطه أن تكون تلك العلامة بحيث يندر قصدها، وإذا اتفقت إصابتها حملت على الاتفاق (2) ، فينشأ منها الخلاف الذي ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: " فرع ".
(2) هـ 4: " الوفاق ".(18/288)
ثم ذكر الشافعي الصلاة في المضَرَّبة والأصابع (1) ومقصود هذا الفصل يتعلق بالصلاة والطهارة. والله المستعان.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/223 وعبارة الشافعي: " والصلاة جائزة في المضرَّبة والأصابِع إذا كان جلدُهما ذكيا مما يؤكل لحمه " والمضربة معروفة، أما الأصابع، فلعلها ما يعرف الآن بالقفاز والله أعلم.(18/289)
كتاب الأيمان
11714- الأصل في الأيمان الآيات المشتملة على ذكرها وبيان كفارتها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: " يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة؛ فإنَّك إن أُوتيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُوتيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإذا حلفت يميناً، ورأيت غيرَها خيراً منها، فكفّر عن يمينك ثم ائتِ الَّذي هو خير منها " (1) . واليمين تحقيقُ الشيء وتقريره بذكر الله تعالى، أو باسم من أسمائه، أو بصفةٍ من صفات ذاته، نفياً وإثباتاً في الماضي، وإقداماً وإحجاماً في المستقبل.
يقول الرجل: " بالله ما دخلت الدَّار " يقرر به نفْي الدخول- ويقول: " والله لقد دخلتُ الدَّار "، فيقرر به إثبات الدخول، وفي المستقبل يقول: " واللهً لأدخُلَنَّ الدَّار "، ويقول: " والله لا أدخلُ ".
وحقيقة مذهب أبي حنيفة (2) رحمة الله عليه في تحقيق اليمين أنها تحقيق الوعد بما يكفر بضدِّه، وقيد بالوعد؛ فإنَّ اليمين على الماضي لا تنعقد عنده، ومعنى قولهم بما يكفر بضده أن قوله: والله لأفعلن كذا فيه تعظيم الرب تعالى، والإنسان يكفر بضده.
وإذا قال: إن دخلت الدَّار، فأنا يهوديٌّ، ففيه تعظيم الإسلام، والإشعار بامتناع الخروج منه، والمذكور في اليمين ضده المجتنب.
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن سمرة متفق عليه (ر. البخاري: الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] ، ح 6622. مسلم: الأيمان، باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفّر عن يمينه، ح1652) .
(2) ر. مختصر الطحاوي: 305، مختصر اختلاف العلماء: 3/235 مسألة 1337، المبسوط: 12618، الهداية: 2/355.(18/291)
ثم إن الشافعي ذكر في صدر الكتاب (1) ما يُقسَم به، والألفاظَ المستعملة في القسم، وما يقع منها صريحاً، وما يقع منها كنايةً.
فصل
11715- قال: " من حلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه ... إلى آخره " (2) . قال الأئمة: الألفاظ الدائرة في الأيمان تقع في أربعة أقسام، ونحن نذكرها، ونمهد قواعدها، ونوضح طُرق الأصحاب فيها، ثم إذا نجزت، نذكر مسائلَ مرسلةً في الألفاظ، ونُلحق كل مسألة بقسمٍ من الأقسام، إن شاء الله تعالى.
فالقسم الأول- إذا قال: بالله، أو قال: والله، أو ذكر اسماً آخر من أسماء الله تعالى: ما يرجع منها إلى ذاته، أو إلى صفات ذاته، أو إلى صفات أفعاله، كالخالق، والرازق، فهذا هو القسم الأعلى في ترتيب الألفاظ. قال الأصحاب: إذا نوى يميناً بما ذكره، أو أطلق، ولم ينو شيئاً، فهو حالف على التحقيق، ولو زعم أنه نوى غير اليمين، على ما سنذكر -إن شاء الله تعالى- وجهَ التورية ومحملَها (3) - فلا يُقبل ذلك منه فيما يتعلق بحق الآدمي، وهل يُقبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى؟ قطع القاضي بأنه لا يُقبل بينه وبين الله تعالى أيضاً، وفي بعض التصانيف [ذكر وجهين في أنه هل تُقبل التورية بينه وبين الله تعالى] (4) وذكرهما شيخي على هذا الوجه أيضاً.
توجيه الوجهين: من قال: تقبل، احتج بأن التورية إذا كانت محتملةً ممكنةً، فالأصل قبولها وثبوتها باطناً، بدليل (5) ما لو قال لزوجته: أنتِ طالق، ثم زعم أنه
__________
(1) ر. المختصر: 5/224.
(2) ر. المختصر: 5/223.
(3) هـ 4: "ومحلها".
(4) عبارة الأصل: " وفي بعض التصانيف في أنه هل تقبل التورية بينه وبين الله تعالى، فيه وجهان ".
(5) هـ 4: " كما لو قال لزوجته ".(18/292)
أراد طلاقاً عن وثاق، فهو مُديَّنٌ في الباطن، وإن لم يُقبل منه ذلك في الظاهر، والطلاق أولى بالوقوع والنفوذ.
ومن نصر الوجه الثاني، احتج بأن الكفارة تتعلق باللفظ المحترم الذي أظهره، ثم خالف، وإضمار ما يخالف اللفظ لا يُسقط ما ذكرناه من إظهار اللفظ ومخالفته، وهذا لا يتحقق في لفظ الطلاق، وقد ذكر الأصوليون أن من صرّح بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر تورية، فإنه يكفر ظاهراً وباطناً.
وذكر العراقيون في طريقهم أن من قال: " بالله لأفعلنَّ "، ثم زعم أنه أضمر " وثقت بالله "، ثم ابتدأ قوله " لأفعلن " فهذا مقبول منه، ولم يفصلوا بين الظاهر والباطن، وحق الله تعالى وحق الآدمي، وهذا زلل لا يعتمد مثله، ولا يعتد به أصلاً، ولا آمن أن يكون الخلل في نقله من ناسخٍ. هذا بيان أصل المذهب في القسم الأول.
11716- والقسم الثاني - إذا حلف بصفة من صفات الله، فقال: وقُدرة الله، وعلمِ الله وكلامه -والصفاتُ الأزليّة [معلومة] (1) - ومن الألفاظ الملتحقة بذكر الصفات أن يقول: وجلالِ اللهِ وكبريائه وعزته، وما في معنى ذلك، مما يدل على الذات، أو على صفة أزلية من صفات الذات (2) .
قال الأئمة: إن نوى الحلف بهذه الصفات، أو أطلق ذكرها، ولم ينوِ ولم يُوَرِّ، فهو حالف، وإن نوى غير اليمين وورَّى، قُبل بينه وبين الله تعالى، وهل يُقبل في حق الآدمي [ظاهراً] (3) ؛ فعلى وجهين.
وإذا أطلقنا حق الآدمي، أردنا الإيلاء عن المرأة وما يُثبته لها من طَلِبة. هذه الطريقة المشهورة.
ومن أصحابنا من ألْحقَ هذا القسم بالقسم الأول في كل تفصيلٍ تقدم، وهذا
__________
(1) زيادة من (هـ 4) و (ق) .
(2) في (هـ 4) ش " مما يدل على الذات، أو على صفة الذات، أو على صفةٍ أزلية من صفات الذات " وفي (ق) مثل الأصل تماما.
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/293)
متجه؛ فإنَّه صرح بما يصح الإقسام به، وذكر صلةً تُعَدُّ صَرِيحاً في القَسَم، فلا يبقى فرق.
وذكر العراقيون طريقة ثالثة، وقالوا: إذا ذكر القدرةَ، والعلم، والكلام، وزعم أنَّه ورَّى، قُبل منه ظاهراً، وباطناً، ولو أطلق، كان حالفاً، ولو قال: وجلال الله وكبريائه، فهذا يلتحق بالقسم الأول، والفرق أنَّ الصفات التي ذكرناها متعلقة بمتعلقاتها، وقد تُطلق ويراد المتعلقات، فيقول القائل: رأيت اليوم قدرة الله تعالى، وهو يريد مقدوره، وقد لا يتحقق هذا الوجه في الجلال والكبرياء.
وهذا تخييل لا حاصل وراءه؛ فإن الإنسان قد يقول: عاينتُ كبرياء الله، كما يتجوز بمثل ذلك في القدرة وكلِّ متعلق من الصفات الأزلية.
11717- القسم الثالث - إذا قال: أقسمت بالله، أو قال: أقسم بالله لأفعلن، أو قال: حلفت، أو أحلف، فقد قال أرباب اللسان: الجالب للباء في قول الحالف: (بالله) إضمار أقسمت، أو أقسم، أو لفظٍ في معناهما، فإذا قال: أقسمت بالله، أو قال أقسم بالله، فهذا تصريح بجالب الباء، أما حكمه في غرض الفقه، فالطريقة المشهورة أنه إذا قال: نويت بقولي: " أقسمت " إخباراً عن قسم مضى، وقصدت بقولي: " أقسم " إشعاراً بقَسَمٍ سيكون مني في مستقبل الزمان، فهذا مقبول منه ظاهراً، وإذا صدق، فلا شك في قبوله باطناً، وإن قصد إنشاء يمينٍ، كان حالفاً على التحقيق، وإن أطلق، ولم ينو شيئاً، ولو يُورِّ بالوجه الذي ذكرناه، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يكون حالفاً، ووجهه أن أقسمت صريحٌ في الماضي، وأقسم صريح في الصلاح للمستقبل؛ فلم يأت بلفظٍ صريح في الإنشاء.
والوجه الثاني - أن مطلق لفظه يمين؛ فإن العرف جارٍ مطرد باستعمال هذه الألفاظ في إرادة الإنشاء لليمين، والعرف يقيد الألفاظ المترددة.
(1 وقال صاحب التقريب: من أصحابنا من فرق بين قوله: أقسمت، وبين قوله: أقسم 1) ؛ فإن قوله: أقسمت صريح في الإخبار عن الماضي لا يصلح للإنشاء،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 4) .(18/294)
وأقسم يصلح للحال والاستقبال جميعاً، وهذا بعيد، لا حاصل له؛ فإن هذا التردد كله فيه إذا أطلق ولم ينو، وإذا سلم صاحب هذا الوجه أن " أُقسم " متردد، فالتردد كافٍ في افتقاره إلى النية، ثم العرف هو المعتمد عند من يجعله يميناً في الإطلاق، وهذا يجري في " أُقسم " و" أقسمت "، وما ذكره المراوزة أنه لو قال: " أشهد بالله "، أو " شهدت بالله "، فهو كما لو قال: " أقسمت لا، و" أقسم ".
وقال العراقيون: " أشهد " و" شهدت " كناية لا تعمل من غير النية وجهاً واحداً؛ فإن الشهادة لا تستعمل في الأيمان عموماً، بخلاف " الإقسام " وما يصدر منه من صيغ الألفاظ، وهذا حسن متجه.
وذكر صاحب التقريب أن المُلاعن إذا قال في لعانه: أشهد بالله، ثم كان كاذباً، فهل تلزمه الكفارة؟ فعلى وجهين، وهما يقربان عندي من اختلاف القول في أن المُولي هل يلتزم الكفارة، ووجهُ الشبه أن الإيلاء من مقتضيات الفراق، وكأنه -في قولي- خارجٌ عن الأيمان المحضة، واللعان بهذه المثابة؛ فإنه يبتُّ النكاح، ويوجب الفراق ويوقعه، وهذا فيه إذا زعم أنه نوى اليمين، أو قلنا: مطلقهُ يقتضي اليمين إذا لم يكن تورية، ففي الكفارة ما ذكرناه.
ومن لطيف القول في ذلك أنه وإن ورّى يمكن أن يقال: الوجهان جاريان في الكفارة، فإن الألفاظ معروضة عليه في مجلس الحكم، وسنوضح أن التورية لا أثر لها في الأيمان الجارية في مجلس الحكم، إن شاء الله تعالى.
11718- ومما يتم به مقصود هذا القسم سؤال وجواب عنه: فإن قيل: قد ذكرتم [أن الجالب للباء في الحلف إضمار أقسمت أو أقسم] (1) ثم ألحقتم قوله: " بالله " بالقسم [الأول] (2) وألحقتم قوله: " أقسم بالله " بالقسم الثالث، والصريح حقه أن يتقدم على المنوي المضمر.
__________
(1) عارة الأصل: " أن الجالب للباء في قول الحالف. أقسمت أو أقسم ".
(2) في الأصل: " الأعلى ".(18/295)
قلنا: إذا قال: " أقسمت "، فهو موضوع للماضي، وإذا فسَّر مُطلِق اللفظ لفظَه بالإخبار عما مضى، كان التفسير منطبقاً على ما مضى، وكذلك القول في " أُقسم "، وإذا قال: " بالله "، فهذا في صريح اللغة عقد يمين في الحال لا تردّد فيه بين الماضي والمستقبل، فكأن حذف المضمر الجالب أوجب تخصيص اللفظ بالإنشاء، ثم يُفرض فيه جالب يليق بهذا الغرض، وهذا بيّن لاخفاء به، وكم من مضمَرٍ يقدره النحوي، واللفظ دونه أوقع، وهذا بمثابة قولهم: " ما أحسنَ زيداً " تقديره: شيء (1) حسّن زيداً، وهذا التقدير لو صرح به، لأفسد معنى التعجّب أصلاً، ونظير ذلك كثير، ومهما (2) أطبق العرب على مضمر يحذفونه، فذلك لاعتقادهم أن الحذف أولى في إفادة المقصود.
وحكى العراقيون نصاً عن الشافعي أنه قال: إذا قال: أقسمت بالله. أو أقسم بالله، أو أطلق كان مطلقه يميناً، وهذا غريب، ولذلك أخّرته عن ترتيب الطرق.
11719- القسم الرابع - إذا قال: أقسمت أو أقسم، ولم يذكر المقسم به، ولم يُجرِ في كلامه اسماً معظماً من أسماء الله تعالى، فلا يكون حالفاً وإن نوى؛ فإنّ التعويل في اليمين على ذكر اسم معظم من أسماء الله تعالى، أو من أسماء صفاته، فإذا أخلى كلامه عنه، لم ينعقد يمينه وإن أضمر الحلف بالله تعالى، وقد اتفقت الطرق على ذلك، وقال أبو حنيفة (3) : إذا أضمر ذكر الله تعالى، ونوى الإقسام به، وقد قال: أقسمت، كان حالفاً، وذكر العراقيون أنه لو قال: والموجود، أو الشيء، وزعم أنه أراد الرب تعالى، فلا يكون حالفاً، لأنه لم يذكر اسماً معظماً، وقد أوضحنا أن التعويل في اليمين على تأكيد الكلام بذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفةٍ من الصفات الأزلية.
وقد تمهدت الأقسام الأربعة، وهي القواعد.
__________
(1) هـ 4: " أي شيء حسن زيداً ".
(2) ومهما: بمعنى: وإذا.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 305، المبسوط: 8/126، الهداية: 2/457، حاشية ابن عابدين: 3/54.(18/296)
11720- ونحن نبتدىء بعد هذا ببيان المسائل الزائدة على ذكرنا، ونبدأ بتفصيل القول في الصِّلات التي يقع الإقسام بها، فنقول أولاً: الأصل في صلة القسم الباء، والجالب لها لفظ يصدر (1) من الحلف أو الإقسام أو الإيلاء، ثم الواو تخلف الباء وتبدلها، فيقول المقسم: واللهِ، والبدل لا بد وأن يقصُر عن المبدل قصوراً لا يظهر في مجاري الكلام، وقصور الواو أنه لا تتصل في القسم بالضمير بخلاف الباء، فإنك تقول به لأفعلن، ولا تقول: وه لأفعلن.
ثم أقاموا التاء مقام الواو، لأصلٍ قريبٍ من الاطراد عندهم في إقامة التاء مقام الواو؛ فإنهم قالوا: تخمة، وتراث، وتهمة، من الوخامة، ومن قولهم: ورث، والتهمة من الوهم، فلما وقعت التاء بدل البدل، ظهر قصورها، فلا تُلفَى متصلةً بغير قولهم " الله " فيقولون: تالله، قال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ، فإذا قال القائل: تالله، فالذي نص عليه هاهنا أنه بمثابة قوله بالله ووالله، وهذا ما نص عليه في الإيلاء أيضاً. ونص في القسامة على أنه ليس بيمين.
فمن أصحابنا من جعل في المسألة قولين: أصحهما - أن التاء كالباء، والواو، والثاني - أنها ليست صريحاً؛ لأن العادة لم تجر باستعمالها، وقال المحققون: نقطع القول بأن قوله تالله كقوله بالله، فإن الضِّلتين في هذا الاسم مستويتان باتفاق مذاهب العرب، وما ذكره في القسامة محمول على تصحيف القراء والناسخين، وفي كلام الشافعي ثَمَّ ما يدل على هذا؛ فقد (2) قال الشافعي رضي الله عنه: " يا الله " لا يكون يميناً، ثم قال في سياق الكلام: وليس بيمين بل هو دعاء، وأراد بالدعاء النداء، ولا يتجه إلا ما ذكرناه (3) ، فإن جرينا على قطع القول -وهو الأصح- فلو قال القاضي
__________
(1) يصدر: أي يشتق. وفي (هـ 4) : لفظُ مصدرٍ.
(2) هـ 4: " قيل ".
(3) زاد الغزالي في تعليل الخطأ في نقل كلام الشافعي، فقال: " أو أراد ما إذا قال القاضي: قل: " بالله " فقال: "تالله" لا يكون يميناً، ويجري ذلك في كل صيغة ". (ر. البسيط: جزء6- ورقة: 40 شمال) .(18/297)
لمن يستحلفه: قل بالله، فخالفه وقال: تالله، قال الأصحاب: لا يحسب ما جاء به، واليمين معروضة عليه بعدُ، وليس هذا من جهة أن التاء في هذا الاسم لا تقوم مقام الباء، ولكن السبب فيه أنه خالف القاضي، وحق المستحلَف أن يحلف على موافقة الاستحلاف.
ولو قال القاضي: قل بالله، فقال: بالرحمن، لم يكن حالفاً حلفاً محسوباً، لما ذكرناه. ولو قال: قل بالله، فقال: والله، فهذا لم أجد له ذكراً، وفيه تردد؛ من جهة أن الواو والباء لا يكادان يتفاوتان في مجاري الكلام. وهما متساويتان في الظهور.
ولا يمتنع ألا يُجعل حالفاً؛ من جهة المخالفة، كما لو استعمل التاء، والعلم عند الله تعالى.
ولو قال: قل بالله العلي الذي لا إله إلا هو، فقال المستحلف: بالله واقتصر، فهل يكون ناكلاً عن اليمين؟ فيه خلاف سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى، وسبب الخلاف أنه وافق في الحلف بالله، وامتنع عما بعده مما يُعدّ تغليطاً في اللفظ.
وإن قلنا: تالله بالتاء ليست بمثابة قول القائل بالله بالباء، فالمراد أن هذا يلتحق بالقسم الثالث، وهو إذا قال: أقسمت، أو أقسم بالله، وهذا ضعيف لا وجه له، وما تكلفه بعض الأصحاب من ندور هذه الصلة في الاستعمال، فهو غاية الإمكان.
11721- ولو قال: الله لأفعلن، فهذا يُذكر على وجوه: منها أن يقول: اللهُ بالرفع، فيقع الاسم المعظم مبدوءاً به، وليس معه صلةُ قسم، والجواب أنه لا يكون حالفاًَ إلا أن ينوي الحلف، ولو أطلق لا تكون يميناً.
ولو قال: اللهِ، بخفض الهاء، فلو نوى اليمين، كان يميناً، ولو أطلق، فوجهان، وظاهر النصّ يشير إلى فرض المسألة في الرفع، ولذلك قال: لا يكون يميناً إلا أن ينويها، ثم قال: لأنه كلام مبتدأ، وهذا إنما يتجه في الرفع، فإذا خفض، أشعر بالصلة الخافضة وإن لم يأت بها، وقد تفعل العرب ذلك، ولسنا نطوّل بذكر الشواهد فيها.(18/298)
ولو قال: اللهَ بنصب الهاء، فإن نوى اليمين، كان يميناً وإن أطلق، فوجهان مرتبان على الخفض، والأَوْلى هاهنا أن يكون يميناً في الإطلاق، ومن صار إلى أنه يمين في الإطلاق حمل النصبَ على نزع الخافض، وهذا غير متجه، وقد نطقت العرب بهذا أيضاً.
11722- ولو قال بلّه، يأتي بلامٍ مشدّدة، ولم يأت بعدها بألفٍ؛ فالذي ذكره معناه الرطوبة (1) [وصورتها بلّه] (2) وليس ذاكراً اسمَ الله، وكان شيخي يقول: إن نوى يميناً، كان يميناً، وحُمل حذف الألف على اللحن، وهذا يعضده جريانه على الألسنة على هذا الوجه على ألسنة المحصلين، فضلاً عن العوام، وقد يستجيز العرب حذفَ الألف في الوقف؛ فإن الوقف يقتضي إسكانَ الهاء، فيجتمع ساكنان، وقد يستجيز العرب حذف أحدِ الساكنين، والوجه الإتيان بالألف؛ فإن اجتماع السّاكنين في الوقف سائغ.
ولو قال: وحقِّ الله تعالى أو قال: وعظمةِ الله تعالى، فقد تمهد تفصيل المذهب في الحلف بصفات الله، ولا يخفى أنه لو قال: وخَلْق الله وإحياء الله، ورزق الله تعالى، فليس حالفاً لأنه أقسم بخلق، والخلق والمخلوق واحد.
ولو قال: وحقِّ الله، فالذي صار إليه أئمة المذهب أن ذلك كناية؛ فإن قوله:
وحق الله متردد بين الواجبات التي تجب لله تعالى على عباده وبين استحقاقه الألوهية، وموجب التردد الالتحاق بالكنايات، وإنما تردد القول في هذا اللفظ مضافاً، وإلا فالحق من أسماء الله تعالى، وأبعد بعض أصحابنا، فألحق قولَه: وحقِّ الله بالحلف بصفات الله تعالى، وهذا لا أصل له.
وإذا قال: وعظمة الله، فالأصح أنه بمثابة الحلف بصفات الله تعالى، ومن أصحابنا من نزّله منزلة قوله " وحق الله تعالى "، وهذا لا اتجاه له، ومتعلق (3) هذا
__________
(1) الرطوبة: أي من البلل.
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) هـ 4: " ولكن يتعلق هذا القائل ".(18/299)
القائل أن الشافعي جمع بين قول القائل: " وحق الله تعالى " وبين قوله: " وعظمة الله ".
وإذا قال: " وحرمة الله "، فقد قال بعض الأصحاب: هو كقوله: " وحق الله " ومال طوائفُ من المحققين إلى أنه بمثابة الحلف بصفات الله تعالى.
11723- ولو قال: " لعمرُ الله " فهذا مما اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم من جعله إقساماً ببقاء الله تعالى، فيلتحق بالإقسام بصفات الله تعالى، ومنهم من جعله كناية.
وكان شيخي يفصل بين أن يقول: وعَمرُ الله وبين أن يقول: لعمرُ الله، ويقول: الصلة المشهورة في القَسَم الواو، والباء، واللامُ في قولهم لعمرُ الله ليس من صلات القسم، حتى قال أهل التحصيل (1) : تقدير الكلام إذا حمل على القسم أن يقال لعمرُ الله ما أُقسم به، وهذا التفصيل حسن.
ومن أصحابنا من ألحق اللفظين بالكناية: ما يستعمل بالواو وما يستعمل باللام؛ لأن العَمْر بمعنى البقاء ليس بالشائع.
ولو قال: " وايم الله " فهذا مما اختلف الأصحاب فيه؛ فذهب طوائف إلى أنه يلتحق بالحلف بصفات الله تعالى؛ فإن قوله " ايم الله " [أصله] (2) أيمن الله، والأيمن جمع اليمين، فكأنه قال: حلفت بالله، وغلا غالون؛ فقالوا: هو كما لو قال: بالله؛ فإن هذا شائع مستفيض في العرف، ولا معنى له إلا ما ذكرناه.
ومن الأصحاب من ألحقه بالكناية.
__________
(1) أهل التحصيل: هم النحاة كما صرح بذلك الغزالي في البسيط.
وقد علق ابن الصلاح على مسألة (عمر الله) قائلا: " وجه من قال: إنه كناية: أنه ليس من الشائع في العرف استعماله في صفة البقاء، لأنه ليس فيه شيء من أدوات القسم. وتقرر في علم العربية أن تقدير (لعمر الله) : ما أقسم به، أو قسمي، أو نحو هذا، وليس ذلك الوجه بشيء؛ فإن استعماله في القسم شائع في لسان العرب، حذف الخبر منه تخفيفاً؛ لكثرة الاستعمال، كما حذف في قولهم: (بالله) الفعلُ، وهو: (أحلف) ، أو (أقسم) . والله أعلم ". (ر. هامش الوسيط: 7/207) .
(2) في النسختين: صلة. والمثبت من البسيط للغزالي. وأيدته (ق) .(18/300)
ولو قال: " عليّ عهد الله " أو قال: " وعهد الله "، فهذا كناية محضة باتفاق الأصحاب.
11724- ومما بقي من الكلام في الألفاظ أنه لو ذكر اسماً من أسماء الله تعالى لا يختص به كالعليم والرحيم والجبار، فقد كان شيخي يقول: في القلب من هذا شيء، ثم كان يميل إلى أنه كناية، وليس كقوله: والموجود؛ فإنه ليس من أسماء الله تعالى، ولا تعظيم في لفظه، وألحق بما ذكرناه ما لو قال: والحقِّ؛ فإنه مشترك، وإن ذكر في أسماء الله تعالى.
وقد نجز الكلام في ألفاظ الأيمان تمهيداً أولاً، وتفريعاً لآحاد المسائل.
فصل
قال: " ومن حلف بغير الله تعالى، فهو يمين مكروهة ... إلى آخره " (1) .
11725- يكره الحلف بغير الله، فلا ينبغي أن يقول من يريد تأكيداً: " وحق محمد، والكعبة " وما أشبه ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفاً، فليحلف بالله أو فليصمت " (2) وروي " فليسكت " وقال عمر رضي الله عنه سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي فقال: " ألا إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " (3) فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العُشَراء: " وأبيك لو طعنت في خاصرته لحل لك " (4) قلنا: جرى هذا في كلامه صلى الله عليه وسلم من غير قصدٍ كما يقول الواحد منا: لا والله وبلى والله من غير أن يجرد إلى الحلف قصداً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/223.
(2) حديث " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه (البخاري: الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم ح 6647، مسلم: الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى ح 1646) .
(3) حديث " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " هذا جزء من حديث عمر السابق.
(4) سبق هذا الحديث في الصيد والذبائح.(18/301)
ثم قال الشافعي في الحلف بغير الله: " أخشى أن يكون معصية " فتردد أصحابنا، فقال قائلون: هذا ترديد قولٍ من الشافعي، وقد يشهد لكونه معصية مطلق قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " والأصح القطع بأنه مكروه وليس بمحرّم، ولفظ الشافعي محمول على مبالغات المتحرجين.
11726- ومما ألحقه الأصحاب بذلك أن قالوا: الاستكثار من اليمين بالله تعالى من غير حاجة مكروه، ولفظ الشافعي: " وأكره الأيمان على كل حال " قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] ، فلا ينبغي أن يحلف إلا عند حثّ على طاعة الله أو زجر عن معصية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأغزون قريشاً".
فصل
قال: " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها ... إلى آخره " (1) .
11727 - مذهبنا أن الأيمان لا تغير الأشياء عن موضوعها وحقائقها، فالمحظور على الحظر، والواجب على الوجوب، والمندوب على الندب، وسنذكر في المباح كلاماً شافياً، إن شاء الله تعالى. وقاعدة المذهب أن الأيمان لا أثر لها في تغيير الأحكام.
وأما أبو حنيفة (2) رحمة الله عليه، فإنه صار إلى أن الأيمان إذا انعقدت، أثرت وغيرت حتى انتهى إلى أن من قال: والله لا أصلي، فقد حرمت الصلاة عليه وإن كانت واجبة شرعاً، فهي مفروضة محرمة، ولو حلف ليكفرن، قالوا: وجب ذلك، وبنى على هذا الأصل مسائلَ: منها التكفير قبل الحنث مَنَعه؛ مصيراً إلى أن اليمين مُحرِّمة مانع من الحنث، والمانع من الشيء لا يوجب ما يوجبه ذلك الشيء.
__________
(1) ر. المختصر: 5/223.
(2) ما قاله الإمام عن تأثير الأيمان عند الأحناف وأنها إذا انعقدت أثرت وغيرت موجود عند الأحناف، ولكن لم نر الصلاة مثالاً على ذلك، كما ذكر الإمام (ر. المبسوط: 8/134، 139، مختصر الطحاوي: 305، 316، مختصر اختلاف العلماء: مسألة 1343، الهداية: 2/376) .(18/302)
ومما بناه على ذلك قوله: لا ينعقد اليمين الغموس، لأن شأن اليمين أن تؤثر، وما انقضى لا يقبل التأثير، فلا تنعقد اليمين عليه، وقال بناء على ذلك: إذا قال: حرّمت هذا الطعام، التزم الكفارة، كما لو قال: والله لا آكل هذا الطعام؛ فإن مقتضى اللفظين التحريم، وحَكَم بأن من قال: إن دخلت الدار، فأنا يهودي فهو كما لو حزم دخول الدار على نفسه، وزعم أن يمين الكافر لا تنعقد، لأنه لا يخاطب بالتحريم الشرعي.
وعندنا اليمين لا يحرِّم ما ليس محرّماً، ولا يحلل محرماً، ثم إذا حلف لا يفعل طاعةً، فعلها، ولا يخفى موجَب الحنث، والندب لا يزول بسبب يمينه.
11728- ولو عقد يمينه على مباح، فكيف السبيل فيه؟ حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الأَوْلى ألا يُقدّم على ذلك المباح؛ فإن اليمين على حالٍ محترمة، فتحقيقها، وتصديقها والمحلوف عليه مباح أقرب إلى التعظيم، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى ذلك؛ فإنه قال: " أما إني لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير " (1) فخصص صلى الله عليه وسلم حلّ اليمين بما لو كان حَلُّها خيراً وطاعة، مثل أن يحلف لا يتصدق، فدل مفهوم الحديث على أن الحَلَّ إذا لم يكن طاعة، فلا ينبغي أن يختاره ويؤثره الحالف (2) .
وقال العراقيون: ينبغي أن يحنث نفسه وهو محثوث على ذلك، ليتبين أنه بيمينه لم يغير حكمَ الله تعالى، وقد يشهد لهذا صدر سورة التحريم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1] ، ثم استحثه على الحل، فقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، وهذان الوجهان متناقضان الأول لصاحب التقريب، وهو اختيار الصيدلاني، والثاني للعراقيين قطعوا به، وهو اختيار شيخي.
وذهب (3) ذاهبون إلى أنا لا نحث على الحَل، ولا ننهى عنه، ونرى المباحَ مباحاً كما كان، وقد أشار القاضي إلى هذا، فقال: المباح بعد اليمين مباح، ولو كرهنا
__________
(1) هـ 4: " بما إذا كان كلها خيراً وطاعة ".
(2) هذا هو الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة.
(3) هذا هو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة.(18/303)
الإقدام [عليه] (1) ، لما بقي مباحاً، وهذا يعضَّدُ بالقاعدة الكلية في أن الأيمان لا تغير الأحكام.
ثم اتفق الأصحاب على أن من حلف عن الامتناع مما يقتضي الشرع الامتناعَ عنه، فلا تستحثه اليمين على المخالفة، وإنما التردد فيه إذا كان متعلَّق اليمين مباحاً، وأفرط العراقيون فذكروا وجهاً أن اليمين تستحث على الهجوم على ما يكون مكروهاً لولا اليمين، ومثال ذلك: أنا نكره دخول بلدة فيها بدع وأهواء، فلو قال: والله لا أدخل بلدة فيها بدع، قالوا: فنؤثر له في وجهٍ أن يدخل بلدة كذلك، وذكروا وجهاً أنه لا يدخلها، والوجه القطع بأنا لا نحمله على أن يدخلها ويبقى المكروه مكروهاً كما كان، والتردد الذي ذكره العراقيون على نهاية الفساد.
فصل
قال: " ولو قال: والله لقد كان كذا وكذا، ولم يكن، أثم وكفَّر ... إلى
آخره" (2) .
11728/م- أراد بذلك اليمين الغموس، وهي اليمين المعقودة على ماضٍ نفياً كان أو إثباتاً، فاليمين منعقدة عندنا، على معنى أنها توجب الكفارة، ولم نعن بانعقادها أنها تنعقد انعقاد العقود ثم تنحل، وهذا يُستقصى في الخلاف. وقال أبو حنيفة: ليس على صاحب اليمين الغموس إلا المأثم.
11729- ثم قال الشافعي: ولو قال: " أسألك بالله، أو أعزم عليك بالله، لتفعلنّ ... إلى آخره " (3) إذا قال لواحدٍ: أقسم عليك بالله، أو أحلف عليك، فإن أراد عقد اليمين على صاحبه، لم ينعقد عليه، ولغا، وإن أراد به المناشدة لتقريب غرضٍ، فالذي جاء به ليس بيمين، وإن أراد أن ينعقد اليمين في حق نفسه، انعقدت
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 5/223.
(3) ر. المختصر: 5/224. وفي النسختين: أو أقسم عليك بالله لتفعلن ". والمثبت نص عبارة المختصر.(18/304)
اليمين في حق نفسه، وإذا أطلق اللفظ، فمطلق اللفظ محمول على المناشدة، فلا يكون يميناً.
ثم عقد المزني باباً في الاستثناء عن اليمين، وقد استقصيناه تمهيداً وتفريعاً على أحسن الوجوه في الطلاق، فلا نعيده.
***(18/305)
باب لغو اليمين
قال: " لغو اليمين ما يجري على لسانه ... إلى آخره " (1) .
11730-قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، أراد ما قصدت قلوبكم، وقال تعالى في سورة المائدة [89] : {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ} وعقّدتم بالتشديد والتخفيف، والمعنى القصد أيضاً، فلغو اليمين عندنا ما يجرى في أثناء اللِّجاج، كقول القائل: لا والله، وبلى والله، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله " (2) وهذا الباب على صغر حجمه يحتاج فيه إلى ثَبَت؛ فإن مثل هذا لو كان طلاقاً، لوقع الحكم بوقوعه، وكذلك لو جرى العِتاق على هذا الوجه، جرى الحكم بنفوذه، وليس القائل لا والله على خبل، أو في حال زوال عقل، وليس يلتف لسانه، فيجري بهذه الكلمة من غير قصد.
وقد نصّ الشافعي وأجمع الأصحاب على أن لغو اليمين ما يُجريه الإنسان في أثناء الكلام في هيْج غضب أو احتدادٍ في لجاج، فيقول: لا والله وبلى والله، والوجه في ذلك أن الناس يجرون أمثال ذلك إجراءً عامّاً، ولا يجردون القصدَ إلى عقد يمين،
__________
(1) ر. المختصر: 5/225.
(2) حديث عائشة " لغو اليمين.. لا والله، وبلى والله " رواه أبو داود، والبيهقي وابن حبان من حديث عطاء بن أبي رباح عنها مرفوعاً، ورواه البخاري والشافعي ومالك وعبد الرزاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفاً، وقد صحح الدراقطني الوقف. (ر. البخاري: التفسير، تفسير سورة المائدة، باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] ، ح 4613، الموطأ: 2/477، الأم: 7/242، أبو داود: الأيمان والنذور، باب لغو اليمين، ح 3254، البيهقي: 10/49، مصنف عبد الرزاق: 8/474 ح 15952، صحيح ابن حبان: ح 4318، معرفة السنن والآثار: ح 5804، التلخيص: 4/308 ح 2501) .(18/306)
ولكنهم يتكلمون به اعتياداً من غير قصد في عقد يمين، وما جرى اعتيادٌ بإجراء الطلاق والعِتاق.
والباب مُدار على ما يصدّقه العرف، فلو ادعى مطلِق اللفظ في الطلاق أنه أجراه لغواً، فالظاهر يكذبه، ومن كذبه الظاهر، لم يصدَّق، واللفظ صريح في وضعه، حتى لو جرى ممن يقول لا والله ما يدل على قصده في اليمين، فالذي جاء به ليس لغواً.
وخرج من مجموع هذا أن اللغو هو الذي يجري من غير أن يخطر فيه عقدُ اليمين، والجريان فيه على هذا الوجه عامّ.
***(18/307)
باب الكفارة قبل الحِنث
قال الشافعي: " ومن حلف على شيء، وأراد أن يحنث، فأحبُّ إلي لو لم يكفر حتى يحنث ... إلى آخره " (1) .
11731- ما ذهب إليه أئمة المذهب أن الكفارة لا تجب قبل الحنث، وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من قال: تجب الكفارة باليمين، ووقتُ إخراجها الحِنث، وهذا كلام سخيف، لا يجوز عدُّه من المذهب، على أنه لا جدوى فيه ولا فائدة، وهو هجوم على المخالفة.
ثم من حلف وأراد التكفير قبل الحِنْث، نُظر: فإن كان التكفير بمالٍ، فالحنث لا يخلو: إما أن يكون محظوراً، وإما أن لا يكون محظوراً، فإن لم يكن محظوراً، فالتكفير قبل الحنث جائز مجزىء عندنا، وإن كان محظوراً محرماً، مثل أن يقول: والله لا أشرب الخمر، فإذا أراد التكفير قبل الحِنث، ففي إجزائه وجهان: أقيسهما - الإجزاء، طرداً للقياس.
ومن أصحابنا من قال: لا يجزىء التكفير قبل الحنث في هذه الصورة؛ لأن الحكم بتجويزه يُشابه تثبيت ذريعة إلى الإقدام على المحظور؛ والأول أصح؛ لأن الحظر في الفعل ليس من [حَيْثُ] (2) اليمين، ولكنه محظور في نفسه، فإذا وقع النظر في اليمين وكفارتها، ولم نجد لليمين أثراً في اقتضاء التحريم، فكما لا يتغير المحلوف عليه باليمين، لا يتغير حكم اليمين بالمحلوف عليه.
11732- والذي ذهب إليه أئمة المذهب أن الحالف لو أراد التكفير بالصوم قبل الحنث لم يجزئه ذلك، بخلاف التكفير بالمال؛ فإن الصوم من العبادات البدنية،
__________
(1) ر. المختصر: 5/225.
(2) في الأصل: " جنس ".(18/308)
والمقصود بها امتحان الأبدان، فيجب اتباع موارد النصوص فيها تأقيتاً وقدْراً، وكيفيةً، فلذلك لا يجوز تقديم الصيام المفروض على وجوبه، ويجوز تقديم الزكاة على وجوبها بحولان الحول.
وذكر الخلافيون وجهاً في تجويز تقدم الصوم على الحنث، وهذا متجه بعضَ الاتجاه تعلقاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير"، ولم يفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكفير بالمال وبين التكفير بالصوم، وما ذكره بعض المصنفين من أن الكفارة تجب باليمين نفسِه يؤكد هذا، ومن نظر في تصاريف كلام نقلة المذهب، اطلع على رمزهم إلى ما حكاه الخلافيون، ولكن المذهب المعتمد ما قدمنا ذكره، وهو معتضد بترتيب الصوم في كفارة اليمين على الخصال المالية، ومعنى ترتبه عليها ألا يتحول المكفر إليه ما لم يتحقق عجزه عن الخصال الثلاث، وإنما يتحقق العجز عند وجوبها، فإذ ذاك يستبان العجز والقدرة.
11733- والصائم في نهار رمضان إذا قدّم التكفير ثم واقع، فالمذهب المبتوت أن الكفارة لا تقع الموقع، كذلك القول في المُحْرِم إذا قدم كفارةً على موجِبها، ولا فرق بين أن يكون التكفير بالمال وبين أن يكون بالصوم، وذكر أئمة المذهب في المناسك وجهين آخرين مع ما ذكرناه.
فتجمع مما نقلوه ثلاثةُ أوجه: أحدها - المنع، كما قدمنا، والفرق بين هذه الكفارات وكفارة اليمين أن الإحرام ليس سبباً خاصاً في الكفارة، وكذلك الصيام، بل الإحرامُ والصيام بالإضافة إلى الكفارات عند ارتكاب المحظورات بمثابة الإسلام في التزام الأحكام، والدليل عليه أن الكفارة في لسان الشرع منسوبة إلى اليمين قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] ، وفي قوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} إشعار بأن التكفير جائز كما (1) تحقق الحلف؛ فإنه عزّ من قائل لم يقل: " إذا حنثتم ".
والوجه الثاني - أن تقديم الكفارة جائز في الإحرام والصيام، قياساً على كفارة اليمين.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.(18/309)
والوجه الثالث - أن موجِب الكفارة إن كان بحيث يجوز الإقدام عليه لحاجةٍ، فتقديم الكفارة عليه جائز، وهذا بمثابة حلق الرأس لأجل الأذى، أو لبس المخيط للضرورة الملجئة إليه في برد شديد أو مكاوحة (1) قمال (2) .
وكان شيخي يقول: المذهب المعتمد تجويز التكفير قبل الحِنث بالمال، وذكر الخلافَ فيه إذا كان الحِنث محظوراً، والمذهب القطع بمنع تقديم الكفارة في الإحرام والصوم إلا إذا كان موجِبُ الكفارة سائغاً، ففيه الخلاف، وكان يقول: إذا جوزنا تقديم الكفارة في الإحرام مثلاً عند جواز الإقدام على موجِب الكفارة، فلو كانت الكفارة على التخيير لا يترتب الصوم فيها على المال، فعند ذلك يظهر تخريج الخلاف في تقديم الصوم أيضاً وكأنَّ منع تقديم الصوم في كفارة اليمين معلل بعلتين: إحداهما- أنه بدني، والثانية - أنه مترتب، فإذا فقد أحد المعنيين، ظهر جريان الخلاف، فهذا ما أردنا أن نذكره.
11734- ولو جرح رجل رجلاً، وكان المجروح لما به (3) ، أو لم يكن كذلك، ولكن اتفق سريان الجرح إلى زهوق الروح، فلو قدم الجارح الكفارةَ على زهوق الروح، فالذي قطع به الأصحاب تجويز ذلك؛ فإن الجرح سبب ظاهر، وقد نسميه
__________
(1) كاوحه: قاتله (المعجم) .
(2) هـ 4: قتال. وهو تصحيف واضح. وقِمال: جمع قملة مثل نملة ونمال، ولم أر هذا الجمع منصوصاً في المعاجم. والله أعلم بالصواب.
(3) هكذا تماماً في النسخ الثلاث، وهي كلمة بمعنى " محتضراً " وإخالها: " وكان المجروحُ منزولاً به " فقد عبر بها إمام الحرمين عن معنى الاحتضار، فقد روى البخاري حديثاً عن نافع أن ابن عمر ترك الجمعة، وذهب إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل -وكان بدرياً- لما بلغه ما به من مرضٍ؛ فعدّ إمامُ الحرمين ذلك من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة قائلاً: لأن ابن عمر كان يطَّيب للجمعة، فتركها وذهب إلى سعيد بن زيد بن عمرو لما بلغه " أنه منزولٌ به، هذا، وقد مرّ هذا اللفظ (لما به) بهذا الرسم تماماً عدة مراتٍ من أول ربع الجراح، ودائماً كان يأتي في هذا السياق مؤدياً هذا المعنى.
فهل من المعقول أن يتصحف هذا اللفظ في هذه المواضع كلها، وفي أكثر من نسخة، ومن بينها نُسخ في غاية الصحة؟؟ أم أن للفظ بهذه الصورة قراءة صحيحة لم نلهم إياها؟ الله أعلم.(18/310)
قتلاً، وقال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من خرج تقديم الكفارة على زهوق الروح على الخلاف الذي ذكرناه في تقديم الكفارة على السبب المحظور في الحنث، وهذا لا اتجاه له؛ فإن وقوع القتل ليس فعلاً مبتدأً يوصف بالحظر، وإنما يتعلق الحظر بالجرح الذي سبق الإقدام عليه، وقياس ما ذكره الشيخ أنه لو حلف: لا يقتل فلاناً، ثم جرحه، وقدّم تكفير اليمين على وقوع الزهوق، فيُخرَّج إجزْاء الكفارة على الوجهين، وهذا بعيد.
وأحسن الطرق في ذلك ما كان يذكره شيخي قال رضي الله عنه: يجوز تقديم التكفير على زهوق الروح مذهباً واحداً إذا كان التكفير بالمال، وهو الإعتاق، وإن أراد تقديم الصوم، ففي المسألة وجهان مع جرياننا على أن الصوم لا يقدم على الحنث، وكان يبني الوجهين في التكفير بالصوم في مسألة الجَرْح على الخلاف الممهد في أن صفات الكفاءة إذا ثبتت بعد الجرح قبل زهوق الروح، فهل يجب القصاص؟ وقد مهدنا (1) ذلك في كتاب الجراح عند ذكرنا طريان الإسلام والحرية بعد الجرح قبل الزهوق، وهذا حسن متجه، ولا يبعد في مثل ذلك مذهبُ التبيّن عند وقوع الزهوق، حتى نقول: نتبين وجوبَ الكفارة قبل الزهوق.
ومما يتصل بهذا المنتهى الظهارُ والعود، والذي رأيته للأصحاب أن الظهار والعود بمثابة اليمين والحنث في كل تفصيل، والأمر على ما ذكروه، والذي يحقق ذلك أن الكفارة منسوبة إلى الظهار، كما أنها منسوبة إلى اليمين.
11735- ثم عماد المذهب بعد ذكر المسائل من طريق المعنى أن اليمين سبب خاص في إيجاب التكفير، والتكفير معزيٌّ إليها، كما أن الزكاة معزيّة إلى المال؛ فتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين كتقديم الزكاة على حولان الحول بعد انعقاد الحول، ولا يخفى أن التكفير قبل اليمين غيرُ معتدّ به، كما أن الزكاة قبل كمال النصاب، أو قبل ملك المال أصلاً غير معتدٍّ بها.
__________
(1) في (هـ 4) : ذكرنا.(18/311)
11736- وقد تفرقت مذاهب العلماء في الزكاة والكفارة، فجوز أبو حنيفة (1) تعجيلَ الزكاة، ومنع تقديم الكفارة على الحِنث وعكس مالكٌ (2) الأمرَ، فمنع تعجيل الزكاة، وحمل ما ورد فيه على استقراض الإمام من أرباب الأموال، وجوز تقديم التكفير للخبر الصحيح، وقد نقل الأثبات استسلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، وجوز الشافعي التقديم في البابين، ثم قال الفقهاء: من عجّل الزكاة، ثم تغيرت حال آخذها، فقد لا تقع الزكاة موقعها، والأمر في الكفارة على هذا النحو، فلا فرق بين البابين.
ولا وجه لإعادة تلك التغايير، فإنها عويصة، وقد جرت على أحسن مساقٍ في كتاب الزكاة.
ثم ذكر الشافعي باباً في الحلف بالطلاق على ألا يتزوّج على امرأته، وليس هذا من مقاصدنا، وأبان أنه إذا تزوج عليها وهي رجعية، كان كما لو تزوج عليها قبل الطلاق. ومقصود الباب مذكور في قواعد الطلاق.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 307، مختصر اختلاف العلماء: 3/246 مسألة 1350، المبسوط: 8/147، الهداية: 2/358.
(2) للمالكية في المسألة -كما ذكر القاضي عبد الوهاب- روايتان، إحداهما الجواز، والأخرى المفع. انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/884 مسألة 1750، عيون المجالس له: 3/996، مسألة 699، القوانين الفقهية لابن جزي: 163، 164، الكافي لابن عبد البر: 198.(18/312)
باب الإطعام في الكفارة
11737- جرى الشافعي رضي الله عنه في كفارة اليمين على ترتيب ذِكْرِها في كتاب الله تعالى، وقد قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، الآية وكفارة اليمين مختصة بمزية لا توجد في غيرها من الكفارات، وهي الاشتمال على التخيير والترتيب؛ فإن الكفارات سوى هذه منقسمة: فمنها ما يبنى على التخيير، ومنها ما يبنى على الترتيب، وكفارة اليمين فيها تخيير؛ فإن الحالف يتخير بين الإطعام والكسوة والإعتاق، وفيها ترتيب؛ فإنه لا يعدل إلى الصيام ما لم يتحقق عجزه عن الخلال الثلاث، ثم وجد الشافعي الإطعام مبدوءاً به، وبعده الكسوة وبعدها الإعتاق، وبعد الخلال الثلاث الصوم على صيغة الترتيب؛ فخاض في الطعام، وأعاد مسائله، وقد استقصينا جميعها، فلا فرق إلا أن الأمداد عشرة هاهنا، وهي ستون في كفارة الظهار والوقاع، فلسنا نعيد شيئاً، وذكر بعد الكسوة الإعتاقَ، فاندفع فيما يُجزىء من الرقاب وفيما لا يجزىء منها، وقد قررنا جميع ذلك في الظهار، فلا نعيد شيئاً منها، وعقد بين الطعام والعتق باب الكِسوة، وعقد باباً في الصوم بعد الخلال الثلاث، ونحن نذكر الباب المعقود في الكسوة، ونتعدى بابَ العتق، ونذكر بعده باب الصوم، ثم نعود إلى ترتيب الأبواب والمسائل، إن شاء الله تعالى.
***(18/313)
باب ما يجزىء من الكسوة في الكفارة
قال الشافعي: " أقل ما يجزىء في الكِسوة كل ما وقع عليه اسم الكِسوة ... إلى آخره " (1) .
11738- الكِسوة إحدى الخلال الثلاث في كفارة اليمين، فإذا اختارها المكفر، فيجب التمليك لا محالة، ثم الإطعام مقدّر بالأمداد، والكِسوة لا تقدير فيها، ويستحيل التعرض للتقدير فيها؛ فإن المدّ في الطعام سِدادُ الرَّغيب، وكفاية المقتصد، ونهاية الزهيد، والكِسوة لا سبيل إلى ضبطها، ولما رأى الشافعي تقدير النفقة في النكاح، لم يقدّر الكسوة، فإذا امتنع التقدير، ولم يختلف العلماء في أنا لا نوجب لكل مسكين دَسْتَ (2) ثوب، [فلم يبق بعد ذلك إلا الاكتفاء بالاسم، فكل ما يحصُل اسم الكسوة به، فالغرضُ يتأدى به] (3) ويكفي ثوب واحد: قميصاً كان، أو سراويل، أو منديلاً، أو جبة، أو رِداءً، أو إزاراً؛ فإن من سلم شيئاً من ذلك إلى إنسان يقال: كساه عمامةً، أو رداءً أو كذلك في جميع ما ذكرنا.
ثم لم يختلف أصحابنا في أنه لو تخير أطفالاً رُضعاً تواريهم الخرق، وسلم إلى قوّامهم [ما يكون كِسوة في حقوقهم تمليكاً، فذلك جائز، والفرضُ ساقط؛ فإن الاسم محقَّق، ولو أعطى الرجلَ التام] (4) ما لا يكون كِسوة في حقه، ولكنه كسوة في حق الطفل، فالذي ذكره القاضي أن ذلك يكفي، ولا يشترط أن يكون المملَّك بحيث يكتسى بما يتسلمه، فلو أعطى رجالاً كسوة أطفالٍ، جاز، ولا يؤاخذ بمراعاة حال
__________
(1) ر. المختصر: 5/228.
(2) الدست من الثياب ما يلبسه الإنسان، ويكفيه لتردده في حوائجه، والجمع: دسوت.
(المصباح) .
(3) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4) .
(4) ما بين المعقفين لحق بهامش الأصل، استحالت قراءته، وأثبتناه من (هـ 4) ، (ق) .(18/314)
من يعطيه، وهذا عنده كما إذا أطعم الرغيب مدّاً، وهو لا يستقل إلا بأمداد؛ فالمعتبر هاهنا أقلُّ الاسم في أقل من يُكسَى، والمعتبر ثَمَّ مقدّر [بالمد] (1) فأقل ما يُسمى كسوة بمثابة المد.
وقطع شيخي وغيره بأن ذلك يختلف باختلاف الآخذين، فليكن المسلَّم إلى الآخذ كِسوة له، ليقال: إنه كسا عشرة، وهذا يعتضد بقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ، فأضاف الكسوة إلى من يُكسى، والذي يحقق ذلك أن الخرقة تواري ابنَ ساعة، ويبعد كل البعد أن يكتفي الكاسي بعشرِ خِرق يعطيها عشرةً من الرجال، وسنذكر تردّد الأصحاب في إجزاء التُّبَّان (2) ، ولا يستقيم هذا الخلاف إلا بنسبة التّبان إلى الرجل الذي يأخذه، وإلا فالتُّبَّان يكسو الطفل الصغير، فقد تبين التردد فيما ذكرناه، والاحتمال فيه لائحٌ.
ثم لا يشترط أن يكون الثوب مخيطاً في نفسه، ولكن لو أعطى خرقَة (3) كِرباسٍ يتأتى منها اتخاذ كسوة، كفى ذلك، وفيه سرٌّ، سنشير إليه في الفصل.
11739- والكلام يقع بعد هذا في الجنس المعتبر، والعيب المانع من الإجزاء، والصور التي اختلف الأصحاب فيها.
فأما الجنس، فيكفي كل ما يكتسى به، سواء كان رديء الجنس، أو فائق الجنس، أو متوسطاً، اتباعاً للاسم الذي هو أصل الباب.
قال القاضي: لو قلنا: تعتبر الكُسوة الغالبة في أهل البلد، لم نبُعد، قياساً على الطعام؛ فإنا قدمنا ذكر هذا الوجه في الطعام، وهذا الذي ذكره متجه، والمذهب المشهور ما قدمناه.
ولا فرق بين جنس وجنس، فالمتخذ من القطن، والكتان، والإبريسم، والخز، والقز، والصوف مجزىءٌ إذا كان يُكتَسى به، والكساء كسوة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) التُّبَّان: فُعّال شبه السراويل، وهي قصيرة إلى الركبة، أو ما فوقها (المعجم والمصباح) .
(3) هـ 4: "قطعة".(18/315)
ومما يليق بذلك الدروع المسرودة، فهي ملبوسة، والمُحرم يلتزم الفدية بلبس الدرع، لأنه مُحيط بالبدن، فكان كالمَخيط، فلو ألبس مسكيناً درعاً وملّكه إياه، ففيه احتمال. والأظهر المنع؛ فإن هذا لا يسمى كُسوة، وإن كان يسمى ملبوساً، والإحرام مدار على اللبس واتباع هيئةٍ في الملبوس، والشرط تقرير كل بابٍ على أصله، والمتبع فيما نحن فيه اسم الكسوة.
ولو أعطى قلنسوة، أو مِكْعَباً (1) وهو الشُّمُشْك، أو خفين، أو تُباناً، ففي المسائل وجهان، وسبب الاختلاف أن اللُّبس مطلقٌ في هذه الأشياء، ولا يطلق فيها الكُسوة، فهذا منشأ الخلاف، وإذا أعطى تِكّة (2) ، أو مِنطقة، لم يجزئه لانعدام اسم الكسوة واللبس جميعاً، فكان المدار على هذا، فكل مكتسٍ لابس، فإذا تحققت الكُسوة فالوفاق، وإن لم تتحقق الكسوة ولا اللبس، فلا إجزاء وفاقاً، وإن كان (3) مطلق اللبس ولا مطلق الكسوة، ففيه الخلاف.
واختلف أصحابنا في النعل على طريقين: فمنهم من ألحقه بالخف والمِكْعب، ومنهم من قطع بأنه لا يجزىء كالمِنطقة، والأشبه تخريجه على الخلاف، فإنه يقال: لبس فلان نعليه، كما يقال لبس خفيه.
وقال مالك (4) ينبغي أن يُعطى كل إنسان ما يستر به عورته، وتجوز صلاته معه، فهذا هو الستر الواجب الشرعي، فاتجه حمل الكُسوة الشرعية عليه، وهذا قولٌ للشافعي حكاه البويطي عنه، ومن ضرورة التفريع على هذا القول الاختلاف على حسب اختلاف الآخذين، فنعتبر في كل آخذ ما يستر عورته وأبو حنيفة (5) أوجب
__________
(1) المِكْعَب: وزان مقود: المداس، لا يبلغ الكعبين. وهو غير عربي. قاله الفيومي في (المصباح) .
(2) التِّكة: رباط السراويل، جمعها: تِكك.
(3) كان بمعنى وجد؛ فهي تامة هنا.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/901 مسألة 1796، عيون المجالس: 3/1003 مسألة 706.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 306، مختصر اختلاف العلماء: 3/246 مسألة 1349، الهداية: 2/358.(18/316)
كسوة سابغة كالقميص والجبة، وما في معناهما.
11740- فأما الكلام فيما يمنع الإجزاء من الصفات، فلا اعتبار بالعيوب المؤثرة في المالية التي يُثبت مثلها الردَّ بالعيب، وهذا كما أنا لا نعتبر إعتاق الرقاب في الكفارات أن تكون بريئة من العيوب المؤثرة في المالية، وإنما يعتبر ما يؤثر في العمل تأثيراً بيناً، كما تفصّل في موضعه، فاللائق بما نحن فيه النظر إلى ما يؤثر في الانتفاع؛ فإن الغرض انتفاع المكتسي بالكُسوة مع التمليك.
فلو كان الثوب بالياً، أو موفياً على البلى، لم يجز؛ فإنه قد انسحق وامّحق، وسقط معظم منافعه، وكذلك الثوب المخرق بطول البلى، وإن كان قد انخرق طرف منه بجَذْبةٍ، والانتفاع بالثوب باقٍ قائمٌ، فلا منع، والثوبُ الغسيل إن كان متماسكاً قويّاً لم ينته إلى حدّ الانسحاق، فهو مجزىٌ، نصّ عليه الشافعي والمحققون، ولا يشترط أن يكون الثوب جديداً، ويمكن أن يعتبر بقاء معظم التمتع به، والأسلم أن نقول: ما لا يعد خَلَقاً، فهو المجزىء، فهذا هو المعتمد في الباب.
وإن كان الثوب مرقعاً، فإن كان الترقيع للبلى، فلا إجزاء، وإن كانت الأرقعة متماسكة جديدة؛ فإن أطرافها لا تثبت على ثوب أُنهج (1) بالياً، وستتقطع مواضع الخياطة على قربٍ، وإن كان الترقيع لغرض آخر لا للبلى أجزأت الكسوة، ولو كسا مسكيناً ثوباً لطيفاً مهلهل النسج غير بالٍ في حينه، ولكن مثله إذا لبس لا يدوم إلا دوام الثوب البالي، فيظهر أن نقول: لا يجزىء؛ نظراً إلى الإمتاع والاستمتاع.
فهذا بيان ما حضرنا، وخطر لنا في الكُسوة، والله أعلم وأحكم.
***
__________
(1) أُنهج: من قولك: نهِج الثوب نَهَجاً: بلِيَ وأخلق، فهو نهِج، وأنهجه: أخلقه.
(المعجم) .(18/317)
باب الصيام في كفارة الأيمان
قال: " ومن وجب عليه صوم ... إلى آخره " (1) .
11741- إذا عجز الحانث عن الخلال الثلاث المالية، وقد ذكرنا حد العجز، ومعتبره في كتاب الظهار؛ فإنه يصوم ثلاثة أيام بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وهل يجب رعاية التتابُع فيها أم يجوز الإتيان بها مفرقة؟ فعلى قولين: قال في القديم: لا بد من رعاية التتابُع، وقال في الجديد: لا يشترط التتابُع، بل له أن يفرق الصيام في الأيام، وقيل: كان ابن مسعود يقرأ: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وهذه القراءة لم يصححها القراء، فلا تعويل عليها.
وتوجيه القولين بعدها: من قال: لا يشترط التتابع، احتج بأن التتابع غيرُ مذكور في كتاب الله تعالى، فلا يجب إلا صيام ثلاثة أيام، ومن شرط التتابع، احتج بمسلك الشافعي في حمل المطلق على المقيد، فالصيام مطلق في هذه الآية مقيد بالتتابع في كفارة الظهار والقتل، والمطلق محمول على المقيد، ومن نصر القول الجديد أجاب بأن القضاء في الكتاب محمول على جواز التفريق (2) ، وصوم الكفارة متردد بين مقيد بالتتابع وبين محمول على التفريق، فالوجه الاكتفاء بالاسم.
ولناصر القول القديم أن يقول: حمل الكفارة [على الكفارة] (3) أولى من حملها على. القضاء؛ فإن القضاء تِلو (4) الأداء، وليس في الأداء تتابعٌ مستحق، وقد غلط
__________
(1) ر. المختصر: 5/229.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، والمعنى أن حمله على التتابع في الظهار ليس بأولى من حمله على آية القضاء.
(3) زيادة من (هـ 4) .
(4) تِلو الأداء: أي تبعٌ له، وتِلْو كل شيء ما يتلوه ويتبعه. (المعجم) .(18/318)
مالك (1) لما أوجب التتابع في القضاء، مَصيراً إلى أن التتابع مرعيٌّ في الأداء، والقضاءُ تِلوه؛ لأن ما تخيله في الأداء تتابع الزمان، لا تتابع [معتبراً] (2) شرعاً؛ بدليل أن من أفسد اليومَ الأخير لم يفسد صومه فيما مضى.
هذا بيان القولين.
فإن لم نشترط التتابعَ، فلا كلام، والخِيَرةُ إلى الصائم، وإن شرطنا التتابع، فقد قدمنا في كتاب الظهار ما يُبطل التتابع قولاً واحداً، وما لا يبطله، وما اختلف الأصحاب فيه: كالمرض والسفر، ونحن نقول هاهنا: ما يقطع تتابع الشهرين فهو بأن يقطع تتابع الصيام في الأيام الثلاثة أولى؛ فإن إيقاع الأيام الثلاثة بعيدةً عن أسباب القطع ممكن، وإن كان قد يتعذر في الشهرين.
وقد قطع الأصحاب بأن الحيض لا يقطع التتابع في الشهرين، واختلفوا في أنه هل يقطع التتابع في الأيام الثلاثة؛ والسبب في ذلك أنها تتمكن من تبعيد الأيامِ الثلاثة من نوبة حيضها؛ فإن لم تفعل، انتسبت إلى التقصير، والشهران لا يخلوان في الغالب في حق ذات الحيض من الحيض، ولعل الأصح أن الحيض يقطع التتابع؛ فإنها متمكنة من تخيّر أيامٍ لا يفرض فيها حيض، بأن تترك نوبتها من الحيض حتى تنقضي، ثم تصوم الثلاثةَ الأيام في مدّة لا يتوقع فيها معاودة الحيض.
وقد يتجه أن نقول: الحيض على هذا التقدير والتصوير أولى بقطع التتابع من المرض، وإن كان الحيض يقطع تتابع الشهرين وفي المرض قولان؛ فإن المتبع المعاني لا الصور.
***
__________
(1) التتابع في الصيام في كفارة اليمين مستحب وليس بواجب عند مالك (ر. المدونة: 2/43، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/902 مسألة 1800، حاشية العدوي: 2/23، الشرح الصغير: 2/214، حاشية الدسوقي: 2/133، الفواكه الدواني: 1/429) .
(2) في الأصل: لا تتابع معنى شرعاً. وكذلك كانت (هـ 4) ثم صوّبت إلى: " لا تتابع معتبراً شرعاً ".(18/319)
باب الوصية بكفارة اليمين والزكاة
قال الشافعي: " من لزمه حق للمساكين في زكاةٍ أو كفارة ... إلى آخره " (1) .
11742- ذكر في صدر الباب اجتماع الديون في التركة، وما كان فيها لله تعالى، وما كان للآدمي، وقد قررنا ذلك في مواضع واستقصينا الأصول وتفاريعها في كتاب الوصايا، فلا نعيد شيئاً مما تقدم مقرراً، والذي رأيته لشيخي هاهنا، فأحببت نقله: أنَّا وإن ذكرنا ثلاثة أقوال في تقديم دَين الله تعالى على ديون الآدمي بعد الوفاة، فلا خلاف أن من ضرب القاضي عليه الحجرَ بالفلس، فديون الآدمي مقدمةٌ لا يزاحمها دين الله تعالى إذا كانت مرسلة غير متعلقة بالأعيان، كالكفارات والنذور المطلقة، وإنما قلنا ذلك؛ لأن ديون الله تعالى تقبل التأخير ما دام الإنسان في قيد الحياة، بخلاف ديون الآدميين، فإذا مات الإنسان، فلا تاخير في تأدية ديون الله، فتجري الأقوال في التقديم والتسوية، وهذا بيّنٌ.
11743- ثم الذي نرى ذكره هاهنا وإن كان الظن الغالب أنا ذكرناه في الوصايا أن من مات وعليه كفارة -والتفريع على أنه لا حاجة إلى الوصية في تأديتها- فإن كانت الكفارة مرتبة مبدوءة بالعتق، فالوارث يعتق عن الميت حتماً، ويقع العتق عن الكفارة، وينصرف الولاء إلى المتوفى.
وإن مات وعليه كفارة اليمين وفي التركة وفاء، فللوارث أن يطعم، وله أن يكسو، وهل له أن يعتق؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن له ذلك، كما ذكرناه في الكفارة المرتبة التي لا تخير فيها، ثم الولاء للميت.
__________
(1) ر. المختصر: 5/230.(18/320)
ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يعتق عنه؛ فإن الغرض يحصل، والحق يتأدى بالإطعام أو الكسوة، وليس يُعقب واحدٌ منهما ولاءً، وصرف الولاء إلى غير المعتِق وإلى غير الآذان في العتق بعيد، لا اتجاه له.
ولو لم يخلف تركةً، فأراد الوارثُ في كفارة اليمين أن يُطعم أو يُعتق، فقد قال الأصحاب: الإطعام والكسوة من الوارث يقع الموقع، وفي الإعتاق خلاف كما ذكرناه، والأولى ترتيب الخلاف على ما إذا خلّف التركة؛ فإن التركة عُلقة قائمةٌ، حتى كأنها بقيةٌ من الحياة، ويتعلق بها من الطلباتِ ما كان يتعلق بالحي في حالة الحياة، وإذا لم تكن تركة، [كان] (1) الإعتاق من الوارث في حكم التبرع المحض.
ولو كانت المسألة بحالها، فأطعم أجنبي عمن مات وعليه كفارة يمين، أو كسا عنه أو أعتق، فالترتيب المشهور إجراؤه، على عكس الوارث، فنقول: إن أعتق الأجنبي، لم يقع العتق عن الميت وجهاً واحداً؛ فإن أطعم عنه أو كسا، ففي وقوعه عنه وجهان، والفرق أن الوارث على الجملة له رتبة الخلافة، بخلاف الأجنبي، وفي العتق المزية التي أشرنا إليها، وهي استعقاب الولاء، وصرفُ الولاء إلى الغير من غير إذنه بعيد.
قال صاحب التقريب: لا يمتنع أن يخرّج العتق في حق الأجنبي على الخلاف أيضاً ونُرتبه على الوارث، والدليل عليه أن الوارث والأجنبي يستويان في حالة الحياة في أن واحداً منهما لا ينفرد بإعتاق ولا إطعام عمن عليه الكفارة من غير إذنه.
وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى ذكر خلافٍ في إطعام الوارث وكُسوته إذا لم يكن تركة؛ فإن الدين على الميت، فإذا لم يخلّف تركة، فالوارث كالأجنبي، وهذا الخلاف فقيه، وإن كان غريباً؛ فإن ما يطلق من خلافة الوراثة قد لا يتحصل إذا لم يكن مال، وإنما يتصرف الوارث إذا كانت تركة ليخلّص التركة، فإن استحقاقه يتعلق بعينها، فإذا لم يخلّف الميت شيئاً، فلا أثر للوراثة، وبالجملة إنه إذا لم يرث شيئاً للميت، ولم يجب عليه ما على الميت، فلا تعلق له.
__________
(1) في الأصل: " نخال ".(18/321)
وعلى هذا التردّد خرّج الأصحاب خلافاً في أن الوارث لو أدّى دين المورث وما كان خلف شيئاً، فهل لمستحق الدين أن يمتنع عن قبوله؟ هذا خارج على الخلاف الذي حكيناه.
[ولو لم يخلف مالاً والتمس من وارثه أن يُعتق عنه، أو استدعى من أجنبي] (1) ذلك، ومات، فالذي أطلقه الأصحاب وقطعوا به أنه يصح إيقاع ما أوصى به كما يصح ذلك في حالة الحياة؛ فإن التماس هذه الأشياء بعد الوفاة بالوصاية لا يقطعه الموت، وما ينفذ على سبيل الوصاية في حكم الملحق بما يجري في حالة الحياة، والوصية تتمة معاملات الحياة، فهذا ما أردنا ذكره.
11744- ومما [أراه] (2) متصلاً بذلك أن من مات وعليه صوم، وفرعنا على أن الولي يصوم عنه، فقد قال الأئمة: لو أوصى إلى أجنبي حتى يصوم عنه، صح ذلك، ويصير الأجنبي بالإذن بمثابة الوارث، ولو عجز عن الصوم في الحياة عجزاً لا يتوقع زواله، فالتمس من الغير أن يصوم عنه، فقد قال قائلون: بجواز ذلك؟ قياساً على الاستئجار في الحج؛ فإن النيابة لما تطرقت إلى الحج، جاز الاستئجار عليه بعد الموت، وجاز ذلك في الحياة عند العضب، فليكن الصوم كذلك.
وقال قائلون: لا سبيل إلى ذلك في الصوم؛ فإن المعتمد في تجويزه خبرٌ رواه الرواة، وهو مقيّد بما بعد الموت.
وقال شيخي أبو محمد: إذا جوّزنا للأجنبي أن يكفر عن الميت من غير إيصاء، فلا يمتنع أن يصوم عنه أيضاً من غير إيصاء، ولكن الصوم أبعدُ من وجهين: أحدهما - أنه بدني والقُرَبُ المالية تقبل ما لا تقبله القرب البدنية، وأيضا فإن الاعتماد على الخبر، وفيه: " من مات وعليه صوم صام عنه وليه ".
__________
(1) ما بين المعقفين عبارة (هـ 4) ، بما فيها من زيادة وتبديل.
أما عبارة الأصل فقد كان فيها سقط، إذ جاءت هكذا: " ... الذي حكيناه، ولو أوصى بشيء لو لم يخلف ذلك ومات ... ".
وقد جاءت (ق) تؤيد المثبت من (هـ 4) .
(2) في الأصل: " أردناه ".(18/322)
ومما ذكره الأصحاب أن من عليه كفارة اليمين إذ أوصى بأن يُعْتَق عنه -ومعلوم أن الفرض يسقط بالطعام- فإذا زادت قيمة الرقبة على قيمة الطعام، فمن أصحابنا من قال: يتعين العتق، ولا يكون تبرعاً، وكذلك لو أعتق هو في مرض الموت؛ فإن العتق أحدُ ما يجب.
ومنهم من قال: ما فيه من الزيادة تبرع، إذ من الممكن إسقاط الواجب بغيره، فإذا وقع التفريع على هذا، ففي كيفية اعتبار الفَضْلة من الثلث وجهان، فنقول أولاً: إن وفّى الثلث، فلا كلام، وإن ضاق الثلث، فإذ ذاك يبين الوجهان، فمن أصحابنا من قال: يعتبر خروج جميع قيمة العبد من الثلث، فإن خرجت، فلا كلام، وإن لم تخرج القيمة من الثلث، انتقلنا إلى الإطعام والكسوة، وعليه يدلى ظاهر النص، وهذا الظاهر خارج عن القياس.
والوجه الثاني -وهو القياس- أنا نحط قيمة الطعام مثلاً من رأس المال، وننظر إلى المقدار الذي يزيد على قيمة الطعام إلى قيمة العبد، فيحسب ذلك من ثلث الباقي، فإن خرجت تلك الزيادة، أعتقنا العبد، وإن لم تخرج، انتقلنا إلى الإطعام، أو إلى الكسوة.
وقد مهّدت هذه الأصول في كتاب الوصايا على أبلغ وجه في البيان.
ونحن وإن كنا نجتنب المكرّرات جهدنا، فقد نقع في الإعادة بسببٍ، وهو أن لا نذكر مُضيَّ شيء، ونرى الأولى أن نذكر ما يتردد فيه.
***(18/323)
باب كفارة يمين العبد
قال الشافعي: " ولا يجزىء العبدَ في الكفارة إلا الصوم ... إلى آخره " (1) .
11745- إذا حنث العبد ولزمته الكفارة، فيتصور منه الصيام، وأما التكفير بالمال، فإنه يترتب على أن العبد هل يملك بالتمليك، فإن قلنا: لا يملك، فلا يصح منه التكفير بالمال أصلاً، وإن قلنا: إنه يملك، فلو ملكه مولاه طعاماً أو كسوة، فلا يملك إخراجه في الكفارة دون إذن السّيد، فإن أذن في التكفير بالإطعام والكسوة، صح منه باتفاق الأصحاب؛ فإن تبرّعه بما ملَّكه مولاه نافذ بإذن المولى، والملك الذي يتهيأ فيه التبرع يُتصوّر أداء الفرض به على الوجه الذي يتصور التبرع به.
ولو ملَّك عبده عبداً، وأذن له في أن يعتقه عن كفارته، فهل يصح منه التكفير بالعتق أم لا؟
هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ وهو أنه لو ملَّك عبده عبداً، وأذن له في إعتاقه تبرعاً، فإذا أعتقه، فلا شك أن العتق ينفذ؛ فإن الحق لا يعدو السيدَ والعبدَ، وما حكم الولاء؟ ذكر الأصحاب قولين مشهورين: أحدهما - أن الولاء يكون للسيد في الحال والمآل؛ فإن ثبوت الولاء للعبد الرقيق محال، كما سنصفه.
والقول الثاني - أن ولاء ذلك المعتَق موقوف: فإن عَتَق هذا العبدُ الذي أعتقه، فيكون ولاء ذلك المعتَق له تبيناً، وإن مات رقيقاً، فيكون ولاؤه لسيده.
وذكر صاحب التقريب في المسألة قولاً غريباً أن الولاء يكون للعبد المعتِق في حال رِقِّه؛ فإذا لم نُبعد أن يثبت له ملك، لم نبعد أن يثبت له الولاء، وهذا وإن كان متجهاً على ظاهر القياس، فهو بعيد في الحكاية، وسبب بعده تعليلاً أن الولاء لو ثبت،
__________
(1) ر. المختصر: 5/230.(18/324)
للزم، ويبعد أن يثبت للرقيق حقٌّ لازم لا يمكن قطعه، وليس هذا كالنكاح، فإن النكاح وضعه أن يلزم للعبد والولاء تبع الملك، فإذا كان الملك لا يلزم، فيبعد أن يلزم ما هو تابع للملك.
فإذا ثبتت هذه المقدمة في الولاء، رجعنا إلى التكفير، فإن قلنا بالقول الغريب الذي حكاه صاحب التقريب، وهو أن الولاء يثبت للعبد الرقيق في حال رِقه، فإذا أذن له مولاه في إعتاق العبد الذي ملّكه عن كفارته، فإذا أعتقه، وقع عن الكفارة، ولا إشكال.
وإن قلنا: الولاء موقوف، فمن أصحابنا من قال: يقع العتق عن كفارته ناجزاً في الحال وإن قضينا بوقف الولاء، هكذا حكاه الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب، وقال الصيدلاني: الوجه عندي أنا إذا حكمنا بوقف الولاء، فينبغي أن تكون الكفارة موقوفة أيضاً، فإن الإجزاء في هذه المسألة يتبع الولاء، ويبعد أن نقطع بالإجزاء مع التوقف في الولاء، وهذا الذي قاله من تلقاء نفسه واختاره لم يذكر القاضي غيرَه، وقطع به، ووجهه بيّن.
ولو أعتق المكاتَب عن كفارته بإذن السيد على قولنا بنفوذ تبرعاته إذا صدرت عن إذن السيد، قال (1) : فالذي ذكره الأصحاب أن ذمته تبرأ عن الكفارة، والذي عندي فيه أن الأمر موقوف؛ فإن المكاتب ربما يعجِز فيَرق، ثم إذا عاد رقيقاً، فيجب أن يكون الولاء موقوفاً، وإذا كان موقوفاً، وجب وقف الكفارة. هذا كلام الصيدلاني نقلاً واختياراً.
وحكى الإمام شيخي قولاً غريباً أن العبد إذا أَعتق بإذن مولاه العبدَ الذي ملّكه إياه، ينفذ العتقُ والولاء للسيد، ويقع العتق عن كفارة العبد.
11746- هذه طرق الأصحاب، وبعدها بحثٌ قريب: وهو أنا إذا حكمنا بأن الولاء للسيد، فالعتق عمّن؟ ينقدح فيه من قول الأصحاب وجهان: أحدهما - أن العتق يقع عن السيد، وكأن الملك ينقلب إليه، وينفذ العتق عنه، ولذلك انصرف
__________
(1) أي الصيدلاني، كما سيصرح باسمه بعد قليل.(18/325)
الولاء إليه، ولهذا قلنا: إن العتق لا يقع عن كفارة العبد. والوجه الثاني - أن العتق يقع عن العبد، ولكن يتعذر صرف الولاء إليه، ولا بُدّ من الولاء، فكان السيد أولى من يُصرف إليه الولاء، وهذا يتضح على القول الغريب الذي حكاه شيخي في أن العتق يقع عن كفارة العبد والولاء [للسيد] (1) .
ومما يُبحث عنه أن التردد الذي حكاه الصيدلاني على قول وقف الولاء في أن العتق يقع ناجزاً عن الكفارة أو يتوقف فيه إنما يظهر أثره في مثل كفارة الظهار، فإن تحليل المظاهَر عنها موقوف على براءة الذمة عن الكفارة، فإن نجّزنا الحكم أحللناها، وإن لم ننجز توقفنا في إحلالها حتى نتبين الأمر، ولا خلاص إن أراد أن يستحلها إلا الصيام.
ومن لطيف ما نفرعه أن السيد إذا أذن لعبده في الإعتاق عن الكفارة المرتبة وقلنا العتق يقع عن كفارته في قولٍ من الأقوال التي قدمناها، فلو أراد العبد أن يصوم ولا يكفر بالمال، فهذا فيه احتمال عندنا؛ من جهة أن ملكه ضعيف، وليس العبد موسراً به، بدليل أن نفقته على زوجته نفقة المعسرين، وإن ملكه السيد مالاً جمّاً، وأذن له في صرفه فيما يشاء؛ إذ لا ثقة بإذن السيد، وله أن يرجع متى شاء، ويجوز أن يقال: ليس له أن يصوم مع التمكن من الإعتاق، والعلم عند الله تعالى.
11747- وكل ما ذكرناه تفريع على قولٍ ضعيف، وهو أن العبد يملك بالتمليك.
فإن فرعنا على الجديد وهو أنه لا يملك أصلاً، فلا يكفِّر إلا بالصيام، وفي صيامه تفريع لابد منه، فإن كان العبد أيِّداً، لا ينهكه الصوم، ولا ينقص عنه (2) ، ولا يُعجزه عن القيام بخدمة السيد، فله أن يصوم متى شاء، ولا معترض عليه، فإن الصوم إذا كان لا يؤثر فيه بمثابة إدامة ذكر الله تعالى، أو قراءة القرآن في متصرفات أحواله، وأجمع أئمتنا على أن للعبد أن يتطوع بالصوم إذا كان لا يؤثر الصوم في رقبته وقوته، وإن كان الصوم يؤثر فيه، ويعجزه عن القيام بتمام الخدمة، نُظر: فإن كانت
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) كذا في النسختين. ولعلها: ولا ينقص قيمته. وعبارة الغزالي في البسيط: " إن كان قوياً لا يضر به الصوم ". وجاءتنا (ق) وفيها: " عينه " مكان عنه.(18/326)
اليمين والحنث جميعاً بإذن السيد، فليس له منعه من الصوم، وحمله على تأخيره، وإن كانت الكفارة على التراخي، هذا هو المذهب الصحيح، ولو دخل عليه أول وقت الصلاة، فأراد إقامة الصلاة في أول وقتها، فهل له ذلك؟ في المسألة وجهان مشهوران، والفرق بين الحمل على تأخير الكفارة وبين محل الوجهين في الصلاة أن العمر محل الكفارة، وهو مجهول الآخر، فكان في تأخيرها غررٌ، ووقت الصلاة مضبوط.
ومن أصحابنا من قال: يجوز للسيد حمل العبد على تأخير الصوم وإن كان الحلف والحنث صادرين عن إذنه، تخريجاً على أن للزوج أن يمنع زوجته عن حجة الإسلام على قول؛ لأن أداء الحج على التراخي، وحق الزوج ناجزٌ في الحال، وكان شيخي يقول: هذا القول وإن جرى في الحج موجهاً بما ذكرناه، فالوجه القطع بأن العبد لا يُحمل على تأخير الصوم في الكفارة إذا جرى الحلف والحنث بإذن السيد؛ لأن موجب الكفارة تعلّق بالمولى ووجوب الحج لا تعلق له بالزوج، ولا يمتنع أن يقال: لا تتم استطاعة الزوجة حتى يأذن الزوج لها، وهذا لا بأس به، وكل ذلك ناشىء من تردّد الأصحاب في أن من أخر الحج، ومات هل يأثم؟ وكيف يأثم ولو أخر الصلاة من أول الوقت إلى وسطه فاخترمته المنية، فهل يأثم؟ وكل ذلك مما مضى مقرراً في الكتب السابقة.
وكنت أحب أن يقال في الكفارة: إنْ ظَاهَرَ العبدُ وعاد بإذن المولى، فليس له أن يمنعه من التكفير؛ لأن في منعه إضراراً به وإدامةً للتحريم، وإن فرض في كفارة اليمين ما ذكرناه، فقد يُخرّج فيه الوجه البعيد الذي ذكرناه في أن السيد يحمل عبده على تأخير الصوم.
وما قدمناه من جواز الصوم تبرعاً أو فرضاً، حيث لا يؤثر الصوم في القيمة (1) والقوة، فهو في العبد، أما الأمة، فللسيّد أن يفطرها في صوم التبرع، وفي صوم الفرض إن لم يكن سبب وجوبه بإذنه، وهذا واضح.
__________
(1) هـ 4: " الرقبة ".(18/327)
لو حلف العبد وحنث بغير إذن المولى، وكان الصوم يؤثر، فالسيد يمنعه من الصوم، وإن فرضنا المسألة في الأمة، كان له أن يمنعها ويقضي مستَمْتَعه منها.
ولو حلف العبد من غير إذن السيد، وحنث بإذنه، فهل له أن يمنعه من الصوم؟ فعلى وجهين مشهورين مُفرّعَيْن على أن اليمين والحنث لو كانا بالإذن، فلا يُمنع العبد من الصوم، والفرق لائح، ولو كانت اليمين بإذن السيد والحنث بغير إذنه، فالذي ذهب إليه المحققون أن للسيد أن يمنعه من الصوم إذا حنث، والسبب فيه أنه إذا حلف بإذن مولاه على الامتناع من دخول الدار، ودخل الدار من غير إذن، فالذي جاء به مبالغة في مخالفة المولى، فإنه أذن له في أن يمتنع عن الدخول، ويؤكد ذلك باليمين، فإذا دخل الدار مع اليمين، كان أبلغ مما إذا دخلها من غير يمين.
ومن أصحابنا من قال: يجري الوجهان إذا كانت اليمين بإذن المولى، وإن لم يكن الحنث بإذنه؛ فإن اليمين إحدى سبَبَي الكفارة، فإذا صدرت عن إذن المولى، كانت كالسبب الآخر، وهو الحِنث، وقد ذكر الوجهين العراقيون، وصاحب التقريب.
11748- وكل ما ذكرناه من تفريع التكفير بالمال والصوم مصوّر في حياة العبد، فلو حلف العبد، وحنث، ومات أو استوجب الكفارة بجهة أخرى، فقد قال الأصحاب: للسيد أن يُطعم ويكسوَ عن عبده بعد موته، وإن كان لا يجد إلى ذلك سبيلاً في حياته إذا فرعنا على أن العبد لا يملك بالتمليك، والسبب فيه أن التكفير عنه بالمال موقوف على دخول المال في ملكه، وخروجه عن ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي هذا، فانا وإن كنا [نقدر للميت ملكاً، فلا تحقيق له، والميت أبعد خلق الله عن الملك، وكيف] (1) يتحقق له ملك، وهو في حكم المعدوم في أحكام الدنيا؟ ثم جاز التكفير عن الميت بعد موته على التفاصيل المقدمة، فالعبد والحر بعد الموت بمثابةٍ، هذا ما ذكره شيخي وهو الذي قطع به القاضي، وتحقيقُه أن العبد يخرج بالموت عن كونه عبداً، فلا معنى للنظر إلى التفاوت بين الحر والعبد بعد الموت.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/328)
هذا ظاهر المذهب، ويتطرق إليه احتمالٌ من أصلٍ نقدّمه، ثم نذكر وجه إشعاره بالاحتمال، فإذا التزم العبد كفارةً، والتفريع على أنه لا يملك بالتمليك، ولا يتصور منه التكفير بالمال، فلو أُعتق، وأراد أن يكفر بالمال -والتفريع على أن الاعتبار في صفة التكفير بحالة الوجوب- فالمذهب أنه لو أراد التكفير بالمال بعد العتق، أمكنه، فإن من لا يلتزم إلا البدل لو تكلف إخراج المبدل، كان مقبولاً منه، كما لو كان معسراً عند التزام الكفارة، ثم أيسر قبل أدائها، وفرعنا على أن الاعتبار بحالة الوجوب، فلو أدّى ما يليق بحال الموسرين أجزأه ذلك.
ومن أصحابنا من قال: العبد لا يجزئه إلا الصوم؛ فإنا نسند حالة الأداء إلى حالة الالتزام، ولقد كان في حالة الالتزام بحيث لا يتصور منه التكفير بالمال بوجهٍ، فعلى هذا يظهر المصير إلى أن السيد لا يكفر عن عبده بعد موته بمالٍ يخرجه؛ فإن ما يعترض بعد الموت لا بدّ من تقدير استناده إلى حالة الحياة، وهذا الوجه (1) في هذا المقام ظاهر؛ نإن ما بعد الموت استدراك أمر مشرفٍ على الفوت، فيجب الالتفات إلى حالة الحياة.
ثم فرع الأصحاب على الوجه الظاهر، وقالوا: إذا جوزنا للسيد أن يطعم ويكسو عن مملوكه بعد موته، فهل يجوز له أن يُعتق عنه، فعلى وجهين، وهذا التردد لمكان الولاء، وما فيه من الاضطراب للأصحاب، ثم المعتمد في السيد أنه في التصرف في عبده حالّ محل الوارث لما بينهما من العُلقة، وقد مضى لهذا نظائر في المسائل.
ثم الذي يقتضيه الترتيب أن ينزل السيد في حق عبده الميت منزلة الوارث في حق صاحبه الذي لم يخلّف شيئاً، وقد قدمنا تفصيل المذهب في حق الذين لم يخلفوا شيئاً، ثم السيد أبعدُ عن الخلافة من الوارث، والعبد أبعد عن قبول التكفير من الميت المعسر، لما نبهنا عليه، وكل ذلك يقتضي ترتيب محالّ الخلاف في السيد [على] (2) أمثالها في الوارث.
__________
(1) هـ 4: " وهذا الغرض ".
(2) في الأصل: في.(18/329)
فصل
قال: " ولو حنث ونصفه عبد ونصفه حر ... إلى آخره " (1) .
11749- من بعضه حر وبعضه رقيق إذا خلص له مال بطريق المهايأة، أو القسمة، فمِلكُه تام فيما خلص له، وتصرفاته نافذة من غير احتياج إلى استئذان ومراجعة من يملك رقَّ بعضه، ولا معترض عليه في التبرع إن أراده؛ فإذا لزمته كفارة مرتبة، وأراد التكفير بالمال، فالمنصوص عليه للشافعي أنه يطعم ويكسو لكمال ملكه.
وقال المزني (2) : يجب ألا يصح منه إلا التكفيرُ بالصوم؛ لأنه لو كفر بالمال، وقع ذلك عن جملته؛ إذ يستحيل أن يختص لزومُ الكفارة ببعضه، والأداء على حسب اللزوم، فإذا كان اللزوم يكفي جملته من غير تبعيض، فالأداء بحسبه، فلو كفر بالمال، كان مخرِجاً عن بعضه الرقيق مالاً، ثم أكد هذا، فقال: إذا كنا لا نحتمل التبعيض بين أصلين، ونقول: لو أطعم الحر خمسةً، وكسا خمسة، أو أطعم خمسة، وأعتق نصف رقبة، لم يجزئه، فالتبعيض في المودِّي أولى بذلك. هذا مذهب المزني.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى موافقته، وإلحاق مذهبه بالقاعدة، فانتظم خلاف؛ إذ المنصوص التكفير بالمال والمُخَرَّج وهو مذهب المزني أنه لا يجزئه التكفير بالمال.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/230.
(2) ر. المختصر: 5/230.(18/330)
باب جامع الأيمان
قال الشافعي: " وإذا كان في دار وحلف أن لا يسكنها ... إلى آخره " (1) .
11750- التصرف في الألفاظ ومقتضياتها ممّا تمهّد تحقيقه في كتاب الطلاق على وجوهٍ يكتفي الطالب بها، واليمين بالله تعالى في معنى اليمين بالطلاق والعَتاق في تعلّقها بالألفاظ، ورجُوعُنا في فحواها إلى اللسان، ثم إلى العرف، والذي يتجدّد في هذا الكتاب أن اليمين بالله تعالى إن تعلّق بحق الآدمي مثل أن يُفرضَ إيلاء، فلا فرق بينها وبين اليمين بالطلاق في المؤاخذة بالظاهر، وإجراء أحكام التديين في الباطن.
وإن لم تكن اليمين متعلقة بحق الآدمي، وإنما حلف الرجل على الابتداء بالله تعالى على ماضٍ أو مستقبل في نفي أو إثبات، فلا يتحقق الفرق بين الظاهر والباطن مؤاخذةً وتدييناً، [فإن كل ما يُقبل] (2) في منازل التديين إذا أضمره الحالف، فيمينه منزلة عليه وباطن أمره وظاهره سواء.
وإن أطلق اللفظ، ولم يضمر أمراً، فمسائل الأيمان مما يدار على هذا المقام، ثم يعترض فيه ما نصفه، وهو أنه إذا زعم أنه لم ينو شيئاً، بل أطلق اللفظ، فالقول في ذلك ينقسم: فإن ادّعى أنه كما لم ينو لم يطلع على معنى لفظه، فهذا لا حاصل له؛ إذ لا سبيل إلى إلحاق ما جاء به باللغو؛ فإن اللغو إنما يحتمل في كلمة يخرجها في أثناء الكلام على اعتيادٍ في الناس مطّرد: مثل أن يقول: لا والله، وبلى والله، وأما عقد يمين مع تجريد القصد إليه، وقد يكون هو الكلام أو هو المقصود من الكلام الّذي أجراه، فحمله على اللغو لا معنى له. فهاذا قال: لم أدر ما قلت، وصدقناه، حملنا
__________
(1) ر. المختصر: 5/231.
(2) في الأصل: " فإن كان ما يقبل ".(18/331)
هذا على خطور المعنى له عند اللفظ، وذهوله عنه لتغاييرَ لحقته من هَيْج وسكون بعده، لا يجوز (1) لما جرى محمل إلا هذا؛ فإن العاقل الفاهم لمعنى اللفظ لا يقصد به إلا معناه إذا لم يضمر شيئاً سواه، فهذا ما أردنا تقديمه على مسائل الباب.
وسنذكر إن شاء الله تعالى قاعدةً أخرى عظيمة الوقع ظاهرة الأثر في صدر بابٍ آخر بعد هذا مترجمٍ بجامع الأيمان أيضاً. وعندي أن من أحاط بالقاعدة، وعرف معنى اللفظ، اكتفى بما ذكرناه وتصدى لما يُسأل عنه من الألفاظ؛ فإن مسائل سائر الكتب تذكر للإيفاء بها على ضبط مقصود الكتاب إذا كان مقصوده فقهاً وحكماً، ولا مطمع في ضبط (2) ما يمكن تقديره من الألفاظ؛ فمسائل الكتب اللفظية تذكر لتمهيد معاني القواعِد والإيناس بها.
11751- وقد عاد بنا الكلام إلى مسائل الباب: فإذا قال الحالف وهو في دارٍ: والله لا أسكن هذه الدّار؛ فإن فارقها على الفور والبدار، برّت يمينه، وإن سكنها مطمئناً إلى السكون، ولو في ساعة، حنث. واعتبر أبو حنيفة (3) فيما يحنث به السكون في مدة يوم وليلة، وأمثال هذه التحكمات تشعر [بضجر] (4) المتكلم بها في محاولة ضم نشر الكلام والتقريب فيه مع خروجه عن الضبط الحاصل.
ولو خرج بنفسه، وخلّف الأهلين [والضِّنَّ] (5) ، والأموال، برَّ؛ فإن اليمين معقودة على ألا يسكن، وقد فارق، ولو سكن، وأخرج المال، والأهلَ، فهو حانث، والتعويل عليه -سكن أو فارق- في البرّ والحنث، ولو قال: والله لا أسكن،
__________
(1) هـ 4: " يكون ".
(2) هـ 4: "ذكر".
(3) ر. المبسوط: 8/162، مختصر الطحاوي: 308، مختصر اختلاف العلماء: 3/267 مسألة 1376.
(4) في الأصل: " بضم".
(5) الضِّن: ما يضن به (المعجم) ، والمراد هنا النفائس. وهي غير مقروءة في الأصل. وفي (هـ 4) : " الضبن " ولم أجد لها وجهاً. وفي (ق) : والصبي.(18/332)
ثم قام يجمع أمتعته وشمَّر في نقلها، والانتقالِ معها، فالذي ذكر المراوزة أنه لا يحنث، والذي ذكره العراقيون القطعُ بتحنيثه، وقالوا: إن أراد البرّ، فليبتدر خارجاً، ولْيكل نقلَ الأمتعة إلى مستناب يثق به، وهذا نقلناه على ثبت وثقةٍ، واستقراءِ نُسَخٍ.
ووجه ما ذكره العراقيون بيّن، ووجه ما قطع به المراوزة أن السكون (1) ليس الكون نفسه، وإنما هو ركون إلى الكون، أو تمهل وانحلال من غير تشمير للاشتغال بالانتقال، فإذا ابتدر النقلَ والانتقالَ سُمّي كائناً في الدار، ولم يُسمَّ ساكناً فيها، والدليل عليه أنه لو ابتدَرَ الخروج والمفارقة من صدر الدار الفيحاء، فقد يحتاج معها إلى خطوات، وهو معها كائن في الدار، ولا احتفال بها؛ فإنه لا يُسمى في تخطّيه ساكناً، ولا يكلف أيضاً خروجاً عن العادة في العدو والهرولة، ولا يقال: من حلف كذلك، فقد ربط برّه بمستحيل.
ولو قال: والله لأخرجن في لمحة عين، وأراد تحقيق الوفاء بهذا، ثم لم يتمكن منه؛ فإنه يحنث، كما لو قال: لأصعدنّ السماء، فإذا لم يؤاخذ بهذه الدقائق، تبين أن اليمين منزلةٌ على ترك الرّكون إلى السكون، واستشهد الأئمة بما هو مبني على الفور، كالرد بالعيب، ثم من اطلع على عيب، فاشتغل برفع صاحبه إلى مجلس القاضي، فلا يعد مقصراً مؤخِّراً، كما بيناه في موضعه.
وسرّ كلام المراوزة يُتلقى من الأصل الذي جعلناه قاعدة الباب؛ فإن الحالف لو زعم أنه نوى أمراً، فإن قوله منزل على ما نواه وما يتصور فيه التورية فيه متسع على النهاية، فإذا قال: لم أنو، فلا محمل له إلا أنه قصد أمراً، ثم ذَهِل عنه، والغالب أنه [لم يقصد] (2) إلا ما يقصد مثله في العرف، وتجويز ما لا يجري في التعارف لا حكم له؛ إذ لا نهاية للممكنات، فالوجه التنزيل على ما ذكرناه، وسيتضح هذا، إن شاء الله تعالى بالمعاودات وتكرير التقرير في المسائل، إن شاء الله.
__________
(1) السكون: أي السَّكن في الدار.
(2) في الأصل: " لا يقصد ".(18/333)
فصل
قال: " وإن حلف ألا يساكن فلاناً ... إلى آخره " (1) .
11752- ذكرنا اليمين المعقودة على السكون، والمساكنةُ قريبة المأخذ من السكون، فإذا قال: لا أساكن فلاناً، وكان معه في بيت، أو دارٍ على حقيقة المساكنة، فابتدر وفارق المكان، برّ، ولو شمّر ليفارق، فهو على التفصيل المذكور في الحلف على نفي السكون.
ولو حلف لا يساكن فلاناً، فابتدر ذلك الإنسان وفارق، برّ الحالف بمفارقته، كما يبر بمفارقته في نفسه.
والذي نزيده في هذا الفصل تفصيلُ القول في الأماكن ومعنى المساكنة فيها، فنبدأ بالخان وما فيه من البيوت: فإذا قال واحد ممن يسكن بيتاً من بيوت الخان: [والله لا أساكن فلاناً، وكان المذكور في اليمين ساكناً بيتاً من بيوت الخان] (2) فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه، جمعها صاحب التقريب: أحدها - أن الحالف إذا كان منفرداً ببيت عن الشخص الذي ذكره، وكان ذلك الشخص منفرداً ببيت، فلا حِنث؛ إذ لا مساكنة بينهما، واجتماع سكان الخان في الخان كاجتماع سكان المَحِلّة فيها، والدليل عليه أن الذي لا يساكن عدواً له في حجرة [أو دار، قد يسكن بيتاً] (3) في خان وممقوته في بيت آخر من ذلك الخان، فلا مساكنة إذاً.
ومن أصحابنا من قال: الكائنان في بيتين من خانٍ متساكنان؛ فإن الضرورة تلجىء إلى الازدحام على المرافق، والبيوتُ في الخان كالأبنية في الدار.
ومن أصحابنا من قال: إذا حلف وهو مع صاحبه المذكور في بيتٍ واحد، فيمينه تقتضي أن يفارق ذلك البيت؛ فإن انحاز إلى بيت آخر من الخان، لم يكن مساكناً.
__________
(1) ر. المختصر: 231.
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) في الأصل: " أو زاوية يسكن بيتاً ". وهو تصحيف مزج كلمتين في كلمة.(18/334)
وإن أنشأ اليمين وهما في بيتين، فاليمين تقتضي الخروج من الخان، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يُحدث الحالف بعد يمينه أمراً مما ذكرناه، ثم اجتمعت المراوزة على أن الدار الواحدة إذا اشتملت على بيوتٍ، فليست بيوتها بمثابة بيوت الخان.
11753- ولو قال: لا أساكن فلاناً، فاختص ببيت من دار، وصاحبُه ببيت آخر، فهما متساكنان وإن (1) لم نجعل سكان البيوت في الخان متساكنين، والتعويل على العرف في الموضعين.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أن بيوت الدار كبيوت الخان، وهذا بعيد، وإن كانت البيوت في الصورة كالبيوت، ولكن الأيمان محمولة على العرف.
وكل هذه المسائل (2) مفروضة في الإطلاق.
فإن نوى الحالف بنفي المساكنة ألا يساكنه في بيت من الدار، فاللفظ يحتمل، والحالف مصدَّق، والله مطلع على السرائر. وإن فرعنا على طريقة المراوزة، وهي الأصح في بيوت الدار، فلو كان في الدار حجرة، فانحاز الحالف إليها لمّا حلف وترك من ذكره في الدار، نظر: فإن لم تكن الحجرة مستبدّة بمرافقها، وكان لا يستغني ساكن الحجرة عن الارتفاق بمرافق الدار، فالحجرة في الدار بمثابة بيت من بيوت الدار، وإن كانت الحجرة مستقلة بمرافقها، وكان بابها إلى السكة، ولا ممرَّ منها على عَرْصة الدار، فإذا أوى الحالف إليها، فقد خرج عن المساكنة قطعاً.
وإن كانت الحجرة منفردة بمرافقها كبيت الماء، والمطبخ، وما في معناهما، ولكن كان باب الحجرة لافظاً في الدار، وكان صاحب الحجرة لا يحتاج إلى شيء من الدار إلا المرور والطروق، فقد اختلف أصحابنا المراوزة في ذلك، فذهب المحققون إلى أنه ليس بمساكن والاشتراك في الممرِّ كاشتراك سكان الدور في الممر في السكة.
ومنهم من قال: هذه مساكنة: فإن مثل هذه الحجرة تعد من الدار، كما تعد بيوتها منها.
__________
(1) هـ 4: " ومن لم ".
(2) هـ 4: " الأيمان ".(18/335)
ولم يختلف أصحابنا أن الخان لو كان فيه حُجرٌ منفردة المرافق، ولكنْ مَمَرُّها على عرصة الخان، فلا مساكنة بين سكان الحُجَر، واشتراكهم في طروق الخان كالاشتراك في طروق السكة، والفرق بين الخان والدار يرجع إلى العرف في عَدِّ كل ساكن حجرة منفرداً بنفسه، والحجرة في الدار قد تعد من الدار بمحل البيت منها.
ولو قال ساكن حجرة من خان: والله لا أساكن فلاناً، وكان ذلك المسمى ساكن حجرة أخرى، وكل حجرة منفردة بمرافقها؛ فإن كان اللفظ مطلقاً، فلا حِنث عند الأصحاب.
وذهب بعض أصحابنا فيما حكاه القاضي إلى أنه إذا حلف وهو منفرد بالحجرة، فيبنغي أن يحدث بعد اليمين مفارقة، فيخرج من تلك الحجرة، ومن خِطة الخان، وهذا يخرج على الوجه المفصّل الذي حكيناه عن صاحب التقريب: إذْ قلنا: لو كان مع إنسان في بيت من الخان، فقال: والله لا أساكن فلاناً، فإذا خرج من ذلك البيت إلى بيت آخر، كفاه ذلك، ولو حلف وهو منفرد ببيت، فليزد مفارقةً، وهي أن يخرج من الخان. وهذا القائل يقول: لو كان في بيت وصاحبه في بيت آخر، والمرافق مشتركة، فلو انحاز إلى حجرة ذات مرافق [برَّ في يمينه؛ فإنه فارق المرافقَ والاشتراك فيها، ولو كان في حجرة ذات مرافق] (1) لما حلف، فلا بد من إحداث أمر آخر، وهو الخروج من الخان. وما ذكرناه في البيوت جارٍ على حدٍّ من الاعتدال، فأما إيجاب المفارقة وكلٌّ في حجرة منفردة بمرافقها، فلا أصل لهذا، وهو على نهاية الضعف.
وحكى القاضي هذا الوجه في الدور التي أبوابها لافظةٌ في السكة، وقال: إذا حلف لا يساكن فلاناً، فصاحب الوجه الضعيف يقول: إن كان منفرداً بدارٍ لما حلف، فعليه أن يخرج من المحلة، وحق هذا الوجه أن لا يُحكى إلا للمبالغة في تضعيفه؛ فإن صاحبه يقول ما يقول واليمين مطلقة، وكون رجلين في دارين من سكة واحدة لا يعد مساكنة، إلا على تقييد، والمساكنة مطلقة في اليمين معرّاة عن النية.
11754- وتمام الغرض في هذا يبين بصنفٍ آخر من الكلام، هو أن الرجل لو
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/336)
قال: والله لا أساكن فلاناً، وكانا في بلدة واحدة لا يجمعها سكة ولا مَحِلَّة، وزعم أنه نوى نفي مساكنته في البلدة، فلا خلاف أن مطلق اللفظ لا يحمل على هذا، فإن نوى هذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا ليس مساكنة، فإن نوى أمراً لا يطابق اللفظ، فالنية بمجردها لا تعمل عملاً، كما لو قال: لا أساكن فلاناً، وزعم أنه لا يساكنه في خراسان، أو في إقليم بعينه، والمعتبر في الباب أن ذلك لا يكون مساكنة، فإن نوى بذلك مساكنة، فهذه نيةٌ لا لفظ معها، فإن قلنا: تنعقد اليمين في البلدة اتباعاً للنية، فلا شكّ أنها تنعقد على المحلّة، وإن قلنا: لا تنعقد على البلدة، ففي المَحِلّة تردد وإن كانت مفتوحة، ثم السكة المنسدة يظهر القطع فيها باتباع النية مع الانفراد بالدار.
هذا تفصيل القول في المساكنة.
ومن تمام الكلام فيها أنه إذا قال: لا أساكن فلاناً، ثم شمّر لتأسيس جدار يميز النصف الذي يسكنه من الدار عن النصف الذي يسكنه صاحبه، فالظاهر أنه مساكن إلى اتفاق الجدار، والحنث يحصل، بخلاف التشمير لنقل الأمتعة [على الاعتياد فيه.
وفي بعض التصانيف وجه أن الاشتغال بذلك ابتدار إليه بمثابة التشمير لنقل الأمتعة] (1) ، وهذا بعيد لا أصل له؛ فإن أهل العرف يعدونه مساكناً في الحال متأهباً لقطع المساكنة إذا تهيأ له السبب.
فصل
قال: " ولو حلف لا يدخلها، فرقَى فوقها، لم يحنث ... إلى آخره " (2) .
11755- إذا حلف لا يدخل داراً إن كان خارجاً منها، فدخلها، حَنِث، وإن كان فيها لما حلف، فاستدام المقام، فالصحيح أنه لا يحنث؛ فإن استدامة الكون في الدار لا يُسمّى دخولاً، بخلاف ما لو قال: لا أسكن الدار، فاستدام المقام؛ فإن هذا السكونُ بعينه.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .
(2) ر. المختصر: 5/231.(18/337)
ولو قال: والله لا ألبس ثوباً، وكان لابسه لما حلف، فإن نزعه على الفور، لم يحنث وإن استدامه، حَنِث، والاستدامة في الثوب على قياس السكنى في الدار.
ولو كان راكبَ دابّة، فقال: والله لا أركبها، فاستدام ركوبها، حَنِث وفاقاً، وعبر الأصحاب عن غرض الفصل في الفرق والجمع فقالوا: ما يعبّر عن استدامته بما يعبر به عن ابتدائه، فالاستدامة فيه كالابتداء في اليمين، وما لا يعبر عن استدامته بما يعبر به عن ابتدائه فليست الاستدامة فيه كالابتداء في البِرّ والحِنْث، وخرجوا على ذلك مسألة اللبس، والركوب، والدخول، فقالوا: يقال للابس الثوب: البسه إلى غروب الشمس، ويقال لراكب الدابة: اركبها إلى المنزل، أي استدم ركوبها، ولا يقال للكائن في الدار: ادخلها أي استدم الكون فيها، وأقرب من هذا أنه لا يقال للكائن في الدار: استدم دخولها، ويقال للراكب واللابس: استدم الركوب واللبس.
ومن أصحابنا من قال: إذا قال الكائن في الدار: والله لا أدخلها، فأقام فيها، حَنِث، قياساً على اللبس والركوب، وهذا ضعيف جداً، ولا خلاف أن المتطهر لو قال: والله لا أتطهر، فلا يحنث باستدامة الطهارة واجتنابه الحدث.
وسرّ هذا الفصل أن مقصود اللُّبس والركوب في الدوام كمقصودهما في الابتداء واللفظ صالح، فحمل اللفظ المطلق على المقصود العام؛ فإن الألفاظ إذا استقامت عُني بها في الإطلاق مقاصدُها العامة، وإذا قال الرجل: لا أدخل الدار، فليس يبعد أن يقال: مقصوده اجتناب الدار، وعن هذا تخيل صاحب الوجه البعيد أنه لو أقام، حَنِث، ولكن لفظ الدخول لا ينطبق على هذا المقصود، ومجرّد المقصود لا يكفي حتى ينطبق لفظ اليمين عليه، سيّما إذا كان اللفظ مطلقاً. نعم، إذا فرعنا على الأصح، [وهو أنه لا يحنث بالمقام إذا قال: لا أدخل واللفظ مطلق] (1) فلو نوى اجتناب الدار، فالأصح أنه يحنث بالمقام.
ومن أصحابنا من قال: لا يحنث وإن نوى؛ لأن اللفظ إذا لم يطابق المقصود، تجردت النية، والنية المجردة لا تُلزم أمراً.
__________
(1) زيادة من (هـ 4) .(18/338)
11756- ولو قال: والله لا أدخل الدار، فرقى فوقها وانتهى إلى سطحها، ولم يدخل الدار؛ فإن كان السطح أجمَّ (1) ، لم يحنث لأن هذا لا يُسمَّى داخلاً، وإن كان السطح محوطاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث؛ [فإنه على سطح الدار، وإن كان السطح مستَّراً] (2) والثاني - أنه يحنث؛ لأن السطح إذا كان محوطاً، فهو كِنٌّ من الدار، وقد يكون سور الدار من معظم الجوانب محيطاً بالعرصة المحضة من غير بناء، ولو كانت الحيطان مسقّفةٌ، فهذه غرف، وهي من الدار، فمن انتهى إليها، فقد دخل الدار.
ولو كان السطح مستَّراً من جانب، فما أرى ذلك مؤثِّراً، ولو كان مستَّراً من جانبين، أو من ثلاثة جوانب، ففي هذا تردد، والعلم عند الله تعالى، والأصح أن الحاصل على السطح المحوط من جميع الجوانب لا يكون داخلاً، والتفريع على الضعيف ضعيف.
ولو حلف على الخروج، فصعد السطح، فقد قال القاضي: إذا قلنا: الحاصل على السطح ليس داخلاً، فالذي رقى من الدار إلى السطح خارج في حكم البر والحِنث. وكان شيخي يقطع بأنه ليس بخارج، ويقول: الحاصل على السطح ليس داخلاً ولا خارجاً، وهذا متجه، وكان يشبه هذا بما لو قال: لا أخرج فأخرج بدنه والبعض في خِطَّة الدار، فليس خارجاً، ولو قال: لا أدخل، فأدخل بعض بدنه، والبعض خارج، فليس داخلاً، كذلك الحصول في السطح.
11757- ولو قال: لا أدخل الدار، فدخل الدهليز، فالوجه أن نذكر قاعدة المذهب، ثم ننقل نصاً فيها، قال أصحابنا: إن دخل ما يقع وراء باب الدار، وكان لا يُسكن ووراءه منفذٌ إلى العرصةِ والأبنيةِ المسكونة، فالدِّهليز الذي يغلق الباب عليه من الدار، فمن دخله، فقد دخل الدار.
ولو كان أمام الدار طاقٌ يسكن به من أراد، والباب عند منقطعه، فالحالف على
__________
(1) أجمّ: أي بغير سُترة. (المعجم) .
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(18/339)
نفي الدخول هل يحنث بالحصول في هذا الطاق؟ فعلى وجهين. هكذا ذكره الأصحاب، وقالوا: الأظهر أنه لا يحنث؛ فإن الدار وراء الباب، ووجه من قال: يحنث أنه يدخل تحت اسم الدار إذا بيعت الدار. والذي أراه أن محل الخلاف الطِّيقان أمام أبواب العظماء، فأما الآزاج (1) التي تُخرَج قوابيلَ إلى الشارع، وليست من تربيع الدار، فالحصول فيها لا يكون حصولاً في الدار وجهاً واحداً، وكأن الطاق الذي يبنى أمام الدار من خِطة الدار، ولكنه مهيأ للأتباع الذين يشهدون، ولا يُحجبون (2) ، وكأن ذلك الكِنَّ قطعةٌ مسلمة لا غلق عليها من الدار، ووراءها الدِّهليز، وهو فوق الطاق ودون العرصةِ، ومواضعِ السكون، وبعد ذلك مواضع السكون.
هذا بيان المذهب، وقد نقل الأئمة عن الشافعي أنه قال: " إذا حلف لا يدخل داراً، فدخل الدِّهليز، لم يحنث " وحمل الأئمة هذا على الطاق أمام الباب، وليس يبعد عندنا أن يحمل هذا على الدِّهليز وراء الباب؛ فإن الإنسان قد يقول: دخلت الدِّهليز، ولم أدخل الدار، وليس في نص الشافعي تفصيل، ولكن ما رآه الأصحاب حملُ النص على الطاق، كما قدمناه.
فصل
قال: " وإن حلف لا يسكن بيتاً، وهو قَروي أو بَدوي، ولا نية له ... إلى آخره " (3) .
11758- هذا الفصل قطب الباب، وبه يتضح معظم الغرض، إن شاء الله تعالى.
قال الشافعي: " إذا حلف لا يسكن بيتاً، فدخل بيتاً مبنياً مسقّفاً أو بيتاً مضروباً من شَعرٍ
__________
(1) آزاج: جمع أَزَج، مثل سبب وأسباب، وتجمع أيضاً على أُزج، والأزج بناء مستطيل مقوس السقف. والقابول: سقيفة بين حائطين تحتها ممر نافذ، جمعها قوابيل. (المصباح والمعجم) .
(2) هـ 4: " يشهدون ويحجبون ".
(3) ر. المختصر: 5/231.(18/340)
أو غيره مطنَّباً (1) ، حَنِث سواء كان بدوياً أو قروياً، إذا كان اللفظ مطلقاً، ولا نية للحالف " فدل كلامه على أن اسم البيت ينطلق على الخيام والأخبيةِ وبيوتِ الشعر والكِرباس انطلاقه على البيوت المبنية، واستشهد في بعض مجاري كلامه بقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} [النحل: 80] ، أراد البيوت التي تضرب من الأدَمِ، هذا كلام الشافعي، وبيان ظاهره، وبيان ادعائه أن اسم البيت ينطلق على هذه الأصناف.
واضطرب أصحابنا بعد ذلك، وحاصل ما قالوه يحصره ما نصفه إن شاء الله تعالى، قالوا: إن كان الحالف بدوياً، فالأمر على ما ذكره الشافعي سواء حلف في البادية أو حلف في القرى والبلاد؛ فإنه لا يطلق لفظه إلا ويعنى به التعميم، ولا نشك أن اسم البيت في حقيقة اللغة ينطلق على جميع هذه الأجناس، فإذا أَطلق هذا الاسم من يليق به إطلاقَه على حقيقة اللسان، فمطلقُ لفظه محمول على موجَب اللغة، فأما القَروي إذا ذكر البيتَ، ففي المسألة ثلاثةُ أوجه: أحدها - أن لفظه محمول على البيت المبني؛ فإنه لا يعني في الغالب إلا ذلك، فيحمل مطلق لفظه على ما يغلب على الظن أنه المراد باللفظ.
والوجه الثاني - أنه يحنَث بما يحنَث به البدوي؛ تعلقاً بموجب اللسان.
والوجه الثالث - أنه يفرق بين أن يكون من قرية قريبة من البادية يطرقها البدويون، ويناطقونهم فيها، فإن كان كذلك، يحنث القروي، وإن كانت القرية بعيدة عن البادية، فالبيت من أهله محمول على المبني، والبدوي إذا قطن البلد، وأطال الثواء به، وصار يناطق أهل البلدة بما يتعارفونه، فحكمه حكم البلدي، والقروي إذا تبدّي، وصار يناطق أهل البادية بلغتها، فهو كالبدوي. هذا ما ذكره الأصحاب في ذلك.
11759- ومن هذا المنتهى نضطر إلى ذكر أصلٍ ذكره المزني في بابٍ بعد هذا،
__________
(1) مطنَّباً: الطُّنُبُ بضمتين، وبضم وسكون أيضاً: الحبلُ. وطنّب الخيمة ونحوها: جعل لها أطناباً وشدها بها. (المصباح، والمعجم) .(18/341)
وهو أنه قال: " من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان، ومن حلف لا يأكل الرؤوس، لم يحنث بأكل رؤوس الحيتان والطيور ونحوها مما لا يفرد في العادة بالشيِّ والأكل " (1) ، واسم الرأس في حقيقة اللسان ينطلق على رؤوس الحيتان والطيور، كما ينطلق اسم البيت على الخيام، والأخبية.
قال الشيخ القفّال: سمعت الشيخ أبا زيد يقول: " لست أدري على ماذا بنى الشافعي مسائل الأيمان؟ فإن كان يتبع الاسم اللغوي، وجب أن يحنَث من يأكل رؤوس الطير والحيتان، وإن كان الاعتياد لا يجري بإفرادها بالاكل، وإن كان يبني المسائل على العرف، فأصحاب القرى لا يعدون الخيام بيوتاً. وقد قال الشافعي: لا فرق بين البدوي والقروي ".
وقد حوم الصيدلاني على ما هو المقصود بعضَ التحويم، وإن لم يستكمل البيان، ونحن نسوق كلامه على وجهه، قال: " إذا كثر الشيء وتقاعد الاسم عنه، تبين أنه غير معني بالاسم في الوضع، وبيان ذلك أن لحوم الحيتان كثيرة في بلاد العرب، وهم لا يعنونها إذا ذكروا اللحم، فكان خروجها عن مطلق اسم اللحم غيرَ محمول على عزّة الوجود، بل هو محمول على أن اسمَ اللحم لم يوضع لها، وأما البيوت، فحيث تكثر الخيام والأخبية، فيفهم من إطلاق البيوت الخيامُ، فإذا ندرت في بقعة، فالاسم متناول، ولكن عدم البيوت والأخبية أو قلتها يخرجها عن القصد. هذا منتهى كلامه.
وخرّج عليه خبزَ الرّز قائلاً: لو حلف في بلاد طبرستان: والله لا آكل الخبز، حنث بخبز الرّز، ولو عقد اليمين في بلادٍ غيرها على الخبز، فيبعد أن يعني خبز الرّز.
هذا منتهى كلامه، وليس عرياً عن الفائدة وإن لم يشف الغليل.
11760- والمقصودُ عندنا يبين ويتضح بأن نقول: ما لا يفهم من الاسم مع عموم وجوده كلحوم الحيتان، فيعلم أنه ليس معنيّاً، فلا يحمل عليه الاسم المطلق، وإن نواه الحالف، نزلت يمينه على نيته؛ فإن الرّب تعالى سماها لحماً، فقال عز وجل:
__________
(1) ر. المختصر: 5/235.(18/342)
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] فهذا بين، فأما البيت، فهو في وضع اللغة حقيقةٌ في بيت الشعر وما في معناه، ومنه شبه الخليل بن أحمد (1) بيت الشِّعْر ببيت الشَّعَر وقطعه في العَروض على الأسباب والأوتاد، والفواصل والفواضل (2) المقرونة والمفروقة (3) ، فشيوع البيت في الأخبية والخيام ظاهر في اللغة، وهو مأخوذ من بات يبيت، وهو الموضع الذي يبات فيه، فإذا تمهّد هذا في اللسان، فإذا أطلقه من يغلب منه إرادة بيت الشعر، فقد [اجتمع] (4) الوضعُ وغلبةُ الإرادة، فحمل مطلق اللفظ عليه.
وإذا نطق القروي، فحكم اللسان ما ذكرناه، ولكن الغالب أنه يريد بالبيت البيوتَ المعروفة المبنية، فإن نواها، نزل لفظه على نيته، وإن أطلق اللفظ، انقدح فيه مسلكان: أحدهما - أن يقال: لا يطلق اللفظ إلا عن قصد، ولعله ذَهل عنه بعد ما صدر منه، والقصد اللائق به الكلامُ على المتعالَم المتعارف في المكان الذي هو ساكنه، فعلى هذا يحمل على بيوت المدر.
والمسلك الثاني - أن يقال: إذا قال: لم يكن قصدٌ، فقد قصد إلى اللفظ، ولم يُنزله على شيء فأُخذ باللفظ ونحن إنما نُزيل وضعَ اللفظ بالقصد، فإذا لم يوجد منه قصد إلى ما يزيل اللفظ واللفظ صريح، كان مؤاخذاً باللفظ، وكأنه حلف على معنى اللفظ.
ولو قال الرجل: والله لا آكل ما يسمّى تفاحاً، وكان لا يدري التفاح، انعقدت يمينه على ما يُسمّى تفاحاً، وعلى هذا إذا قال: لا آكل اللحم، فلحم الحيتان خارج، والتحقيق أنه لحم، ولكنه خرج عن عرف اللسان وأحَدٌ لا يترك العرفَ في اليمين، ولكن الكلام في أن المرعي عرف اللفظ، أو عرف اللاّفظ.
__________
(1) الخليل بن أحمد الفراهيدي: إمام العربية، وواضع علم العروض، مذكور في الروضة، توفي بالبصرة سنة 170 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 1/177) .
(2) الفواضل هي الفواصل (كشاف اصطلاحات الفنون: باب الفاء فصل اللام) .
(3) لا يحتاج إلى شرح ما أراده الإمام من بيان وجه الشبه بين بيت الشَّعْر وبيث الشِّعر؛ فكل من لديه أدنى إلمام بمبادىء علم العروض يدرك ذلك.
(4) في الأصل: " احتمل ".(18/343)
ولو أردنا بسطاً، لَزدنا، وفيما ذكرناه مَقنَع للطالب الفطن.
ولم أتعرّض للكلام فيما يضاهي اللحم من البيض وغيرها؛ فإنها بين أيدينا.
ولستُ أجد بداً من ذكر طرف من الكلام في الرؤوس، فإذا حلف لا يأكل الرؤوس، لم يحنث برؤوس الطير، وفي تحنيثه برؤوس البقر والإبل ثم برؤوس الصيود وبرؤوس الحيتان إذا كانت تفرد بالشيّ كلام وتفصيلٌ سيأتي في الجامع الثاني، إن شاء الله تعالى. وهذا أشبه المسائل بالبيت.
وإذا انتهينا إليها أعدنا طرفاً من فصل البيت، وحكمنا على نَصَفَةٍ وعَدْلٍ بين المسألتين، إن شاء الله.
ولم يختلف أصحابنا أن الألفاظ المطلقة لا تحمل على المجازات في اللسان إذا لم يشتهر التجوّز اشتهار الحقيقة، فالبساط لا يحمل على الأرض، والوتد لا يحمل على الجبل، وإن سمى الله الأرض بساطاً والجبال أوتاداً.
وقد انكشف في هذا الفصل معظم مشكلات الباب وتبين بالضبط الأخير الذي ذكرناه أنّ التردد يعود إلى التعلق بعادة اللافظ أو بعرف اللفظ عند أهله، وحكى أصحاب القفال عنه أنه كان يقول: لو عقد اليمين في فصل البيت بالفارسية، فقال- (اندرخانه تشوم) ، فاليمين ينعقد والحالة هذه على البيوت المبنية دون الخيام والأخبية، وهذا حسن متجه؛ من قِبل أنا إن راعينا عرف اللفظ، فمقتضاه الاختصاص بالبيوت المبنية، وإن راعينا اللفظ، فاللفظ أعجمي لا يراد به الخيام إلاّ على استكراهٍ وتشبيهٍ بالبيوت المبنية.
11761- ولو قال لا أدخل بيتاً، فدخل مسجداً مسقّفاً، أو دخل الكعبة، فالذي دخله على صورة البيت ولو فرض مسكناً أو مخزناً وهو على ما هو عليه يحنث، فإذا كان مسجداً، فالذي مال إليه جماهير الأصحاب أنه لا يحنث؛ فإن هذا لا يُعنى بالبيت المطلق، ولا يُسمّى بيتاً ما لم يُضف ولم يقل بيت الله تعالى، وهذا بمثابة ما لو عقد اليمين على الامتناع عن أكل الرأس، فرأس الطائر رأس، ولكن لا يُعْنَى بإطلاق الرأس حتى يضافَ، وقال بعض أصحابنا: يحنث داخلُ البيت وإن كان(18/344)
مسجداً؛ لأنه كان يحنث قبل أن جُعل مسجداً، والتحبيس والصرف إلى جهة الخير لا يغير الاسم، وهذا التردّد لا يتحقق في رؤوس الطير؛ فإنها لا تعهد إلا وهي غير معنية بإطلاق الرؤوس.
وما حكيناه من الظاهر والتردد يجري عندي في الحمام والبيت الذي فيه الرحى، فإنها بيوت من طريق الصورة، ولكنها اختصت بأسماء شاعت فيها، فصارت لا تراد بإطلاق اسم البيوت.
فصل
قال: " ولو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان ... إلى آخره " (1) .
11762- إذا حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان، فورثه فلانٌ أو اتهبه، أو قبل الوصية فيه، فلا حِنث، ولو أسلم ذلك المعيّن في طعامٍ واستوفاه، فهذا طعام اشتراه فلان؛ فإن السلم صنف من البيوع، ولم يغلب عليه لقب السلم غلبةً تمنع اندراجه تحت مطلق الشراء، ولو كان باع فلان طعاماً وسلّمه، ثم رُدَّ عليه، فليس هذا مما اشتراه، ولو استقال البيعَ فأُقيل، فالطعام الذي ارتد إليه بالاستقالة ليس مما اشتراه، ولا يخرج هذا على القولين في أن الإقالة فسخ أو بيع؛ فإنا وإن حكمنا بكونها بيعاً، أردنا أنها من طريق الحكم بيعٌ، والأيمان تؤخذ من موجبات الألفاظ في عرف التفاهم، والمستقيل لا يُسمّى مشترياً.
ولو قال: لا أدخل داراً اشترى بعضها فلان؛ فأخذ ذلك المعين شقصاً من تلك الدار بالشفعة، فلا يحنث الحالف بدخولها؛ فإن الأخذ بالشفعة لا يُسمّى شراء، وإن كان في معناه، ولو كان بين المعيّن وبين إنسانٍ طعامٌ مشترك فاستقسم، وتحصل على حصة معينة، فليس ما حصل له مما اشتراه، وإن جعلنا القسمة بيعاً حكماً.
ولو كان لذلك الرجل المعين دَين على إنسان، فصالح عنه على طعام، فقد قال الصيدلاني: ليس ذلك الطعام مما اشتراه في حكم اليمين، فإن الصلح لا يسمّى
__________
(1) ر. المختصر: 5/231.(18/345)
شراءً، وهذا لست أراه كذلك؛ فإنه شراء على الحقيقة مشتمل على الإيجاب والقبول، وثمنه الدَّين الذي في ذمة البائع، وغلبة اسم الصلح عليه بمثابة غلبة السلم والصرف.
ولو ملك ذلك المعين عن الاشتراك والتّولية، فالحاصل مشترىً عندي لا شك فيه؛ لأنه تملك اختياري مبني على الإيجاب والقبول، ولو أخذ طعاماً عن أجرة داره، فلست أراه مشترياً لبعد الإجارة وعوضها -في حكم اللسان والعرف- عن اسم البيع، وإن قال الشافعي: الإجارة صنف من البيوع.
وقد يليق بهذا المنتهى ذكرُ شيئين: أحدهما - أن يكون المعين وكيلاً في شراء الطعام لغيره أو موكِّلاً غيره بالشراء، وقد يشتري شراء فاسداً، والقول في هذين النوعين مذكور في أثناء الباب، فأخرناه.
11763- ولو قال: لا آكل طعاماً اشتراه فلان، فاشترك فلان وفلان في ابتياع الطعام أو اشترى ذلك المعين طعاماً ثم خلطه بطعام اشتراه غيره خلطاً يتعذر الميْز معه، فهاتان الصورتان استدَّ فيهما المحققون، وتخبط طوائف من الأصحاب، فنذكر ما لا يجوز، غيره، ثم نذكر وجوه الخبط.
قال الشافعي وفقهاء أصحابه إذا اشترك فلان وفلان في الشراء، لم يحنث الحالف بالأكل، وإن أتى على جميع الطعام؛ فإنه لا يقال: إنه أكل طعاماً اشتراه فلان، بل لا ينص على جزء منه وإن قلّ قدره، فيقال: هذا مما اشتراه فلان، بل يقال في الكل والجزء: هذا طعام اشترى بعضه فلان، وموجب اليمين الامتناع عن طعام اشتراه فلان، فلا يكفي أن يقال: اشترى بعضه، وخالف أبو حنيفة (1) ، فحنَّث الحالف بأكل جزء مما اشتراه فلان وفلان، وإن قل قدره، ووافق أنه إذا قال: لا أدخل داراً اشتراها فلان، فاشترك فلان وفلان في شرائها، لم يحنث الحالف بالدخول، ولا فرق، وإن تخيل الإنسان فرقاً ببوادر الوهم، [لم يستدّ] (2) له إذا تثبّت، هذا هو المذهب في هذه الصورة.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/259 مسألة 1363، المبسوط: 9/3، البد ائع: 3/57.
(2) في النسختين: لم يستمر.(18/346)
فأما الصورة الثانية وهي إذا انفرد فلان بالشراء، ثم خلطه، مثل أن يشتريَ دقيقاً ويخلطَه بدقيق الغير، فالذي يجب القطع به أن الحالف إن أكل من المختلط ما يعلم قطعاً أنه أتى على شيء مما اشتراه المعين في اليمين فيحنث؛ فإن فيما أكلهُ طعاماًً اشتراه فلان، وما ذكرناه من رعاية اليقين لا يقف على أن يأكل من الطعام المختلط مقداراً زائداً (1) على المقدار الذي اشتراه شريك فلان؛ فإن اليقين يحصل دون ذلك؛ إذ لو خلط صاعاً من دقيق كان اشتراه منفرداً بشرائه بصاعٍ من دقيق، وأنعم الخلط وقلّب، فقد يستيقن الحِنث بالحِفنة يتعاطاها، وهذا يختلف بالقلة والكثرة، وإنعام الخلط، ونحن نتبع اليقين، ولا يحنَث الحالف إلا به.
11764- فإذا تبين المذهب في الصورتين، خضنا بعدهما في تخليط طوائفَ من الأصحاب. قال بعض المصنفين: إذا قال: لا آكل طعاماً اشتراه فلان، فاشترى فلان وفلان طعاماًً على الاشتراك، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - ما ذكرناه، ورأيناه المذهب، وهو أنه لا يحنث بأكل الجزء، ولا بأكل الكل.
والوجه الثاني - أنه يحنث بأكل مقدارٍ قليل من ذلك المشترى، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، ولست أنكر دخول هذا الوجه تحت الإمكان المعتبر في مسائل البرّ والحنث في الأيمان، ولكنه ليس مذهبَ الشافعي، وليس ناقلُه معتَمَداً، وليس على مقامٍ يُقبل تخريجه. ووجهه -على بعده- اتباعُ المقصود مع أن اللفظ ليس نابياً عنه؛ فإن غرض الحالف الامتناعُ عما يثبت للمعيّن فيه شراء، وقد تحقق هذا المعنى.
والوجه الثالث -وهو سخيف في الحقيقة- أنه إن أكل أكثر من النصف، حَنِث، وإن أكل النصف فما دونه، لم يحنَث؛ أخذاً من أنهما لو اقتسما، لأخَذَ كل واحد منهما نصفاً، وكان يجوز أن يكون المأكول واقعاً في حصة من لم يحلف عليه.
وهذا هذيان، لا التفات إلى مثله، ثم هذا الرجل إذا حكى الأوجهَ الثلاثة، لم يذكر مثلها في الدار، ولم يتعرض لها، ولا وجه إلا القطع بما ذكره أبو حنيفة
__________
(1) هـ 4: "شاملاً".(18/347)
رضي الله عنه، وهو أنه لا يحنَث الحالف بدخول الدار التي اشتراها فلان وفلان إذا كانت اليمين معقودة على ذكر فلان وحده، فأما إذا اشترى فلان طعاماًً وخلطه بطعام آخر، فقد ذكر بعض الأصحاب في هذه الصورة أوجهاً: أوجهها وما يجب القطع به - ما قدمناه من اتباع اليقين، فإذا أكل مقداراً يستيقن أن فيه مما اشتراه فلان، حَنِث.
والوجه الثاني - أنه لا يحنَث وإن أتى على الكل؛ فإن الاختلاط ينافي التعيين، واليمين معقودة على انتحاء طعامٍ اشتراه فلان بالأكل قصداً إليه، وهذا ممتنع في المختلط، وهو رَديءٌ، لا أصل له.
والوجه الثالث - أنه يحنث إذا أكل أكثر مما اشتراه شريك فلان، وهذا إشارة إلى أن الاستيقان يحصل عند ذلك، ولا ينبغي أن نستجيز عدّ هذا من المذهب، مع تحقق اليقين دونه.
فتحصّل في الصورتين: أنا نقول في مسألة الخلط: المتبع اليقين، وكل ما عداه غلط غير معتد به، ونقول في مسألة الاشتراك في الشراء: مذهب الشافعي أن الحالف لا يحنث وإن أكل الكل، وما سواه ليس بمذهب، ولكن ما حكي موافقاً لمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لو صح النقل فيه، ليس يبعد توجيهه، كما أشرنا إليه.
ولو كان في يد إنسان تمرة، فسقطت واختلطت بصُبْرةٍ من التمر، فقد قال الأصحاب: إذا حلف الإنسان ألا يأكل تلك التمرة، لم يحنث حتى يأتي على جميع الصُّبرة، واثقاً بأنه لم يغادر منها تمرة، ولم ينسلّ من جملتها واحدة، حتى لو بقي تمرة واحدة، لم نحكم بأنه يحنث، وهذا بناه الأصحاب على طلب اليقين.
وقد يعترض صورة يحصل اليقين فيها دون ذلك، وذلك بأن تقع التمرة في جانب من الصُّبْرة، ولا شك أنها لم تغص فيها، فإذا أخذ الحالف يلقط التمرة ويأكلها من الجانب الذي وقعت التمرة عليه، حتى استيقن أنه أتى عليها، فالمتبع اليقين لا غير.(18/348)
فصل
" إذا حلف لا يأكل مما طبخه فلان ... إلى آخره " (1) .
11765- فالطبخ هو الإيقاد تحت الآلة التي فيها الطبيخ، فلو هيّأ رجلٌ اللحمَ وقطّعه قِدداً، وصبّ الماء على قَدَرٍ في القِدْر، وجمع التوابل، وأخذ غيرُ هذا الشخص في الإيقاد، فالطابخ الموقدُ، هذا ما ذكره الأصحاب، وقد يتطرق إلى هذا تفصيل عندي فأقول: إن تُصورت المسألة بالصورة التي ذكرنا، ثم انفرد الموقد بالإيقاد، فكان لا يراجع في إيقاده جامعَ الأخلاط في القدر، فهو الطابخ حقاً، وإن جمع (2) الحاذق بالطبخ (3) العليم به، وجلس بالقرب، وكان يستخدم صبياً في الإيقاد على قِدْرٍ، وهو فيه يأمر ويزجر ويستقلّ ويستكثر، فليس من يتعاطى قَطْعَ الحطب مستقلاً بالإيقاد، فهذا فيه تردد، فقد يُعزى الطبخ إلى الأستاذ والحالة هذه، فلا يبعد أن يقال: الطابخ هو الحاضر الآمر.
وقد صار بعض أصحابنا إلى قريب منه، وإن كان مأخوذاً من أصلٍ آخر، فقالوا: من حلف على الامتناع من فعلٍ وكان مثله لا يتعاطاه، وإنما يأمر به إذا أراده مترفعاً عن مباشرته، فإذا أمر ولم يباشر واليمين معقودة على إضافة الفعل إليه، ففيه كلام سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
ولو قال: لا آكل مما طبخه فلان، وكان فلان وفلان يوقدان على اشتراك تحت القدر، فهذا خارج على الاشتراك في شراء الطعام، والمذهب القطع بأنه لا يحنث.
ولو كانت المسألة بحالها، فأوقد المحلوف عليه حتى انتهى الطعام إلى حد يُسمى طبخاً، ثم انكفّ وجاء موقد آخر، وزاد الإيقاد، فتأثر الطبيخ مزيد تأثر، فالمذهب أنه يحنَث، فإنه تعاطى طعاماً طبخه فلان، وليس الطبخ على التصوير الذي ذكرناه على حكم الاشتراك.
__________
(1) لم أصل إلى هذه العبارة في المختصر.
(2) هـ 4: " حضر".
(3) هـ 4: "بالطبع ".(18/349)
ومن أصحابنا من ألحق هذا بالاشتراك في الطبخ من أول مرة إلى نهاية الطبخ، وهذا بعيد، فلو أوقد الأول فتسخن الماء، ولم يتأثر ما في القدر وانكفّ، فهذا ليس بشيء، فالطابخ من أتى بعده، وإذا فرعنا على المذهب، وقلنا: إذا طبخ الأول بعض الطبخ، وحصل الاسم، فيحصل الحِنث، فلو كان الحلف معقوداً على طبخ من أتى ثانياً، فهذا محتمل جداً، يجوز أن يقال: يحصل الحِنْث بطبخ الثاني أيضاً في حق من حلف عليه؛ فإن إيقاده مؤثر، والطعام به متأثر، ويجوز أن يقال: لا يحصل الحِنث في اليمين المعقودة على طبخ الثاني، فإن اسم الطبخ إذا حصل من الأول، فما يصدر من الثاني لا يُسمى طبخاً، بل يسمى استتماماً واستكمالاً.
ولو قال: لا آكل مما طبخه فلان، وكان ذلك المعين يوقد وبالحضرة من يقطع له الخشبة ويناوله إياها، فلا أثر لهذا، والتعويل على إدخال قطع الحطب تحت القدر.
فصل
" ولو حلف لا يسكن دارَ فلان هذه فباعها ... إلى آخره " (1) .
11766- إذا حلف لا يسكن دار فلان، أو لا يدخلها، فاللفظ مطلق، فهو محمول على الدار التي يملكها فلان، فلو دخل داراً استأجرها فلان أو استعارها، أو أوصى له بمنفعتها لم يحنث، فإن الإضافة المطلقة مقتضاها الملك، ولو قال: لا أدخل مسكنَ فلان، ثم دخل الموضع الذي يسكنه بإعارة أو إجارة أو وصيّة، حَنِث، ولو قال من في يده الدار: هذه الدار مسكن فلان، فالذي يقتضيه قياس قول الأصحاب أنه لا يكون مقراً برقبة الدار لذلك الإنسان.
فلو قال: لا أدخل دار فلان، فدخل داراً مملوكةً له، وهو لا يسكنها، حَنِث؛ تعويلاً على الملك. ولو قال: لا أدخل دار فلان، وكان لفلان دار مملوكة، فباعها، ثم دخلها الحالف، لم يحنث بناءً على ما ذكرناه، ولو قال: لا أدخل دار فلان هذه، فجمع بين الإضافة والإشارة، وكانت الدار إذ ذاك ملكَ فلان، فباعها،
__________
(1) ر. المختصر: 5/231.(18/350)
وأزال ملكه عن رقبتها، فإذا دخلها الحالف بعد زوال الملك، فظاهر المذهب أنه يحنث تغليباً للإشارة.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه (1) : لا يحنث تغليباً لاعتبار الإضافة، وخرّج بعض الأصحاب قولاً موافقاً لمذهب أبي حنيفة، ووجهه أنه اعتمد الإشارة والإضافة، فكأنه ربط اليمين بهما، فلا يحصل الحنث بأحدهما، وناصر المذهب يغلّب الإشارة، ويجعل الإضافة معها كالتأكيد الذي لا يُعتنى به؛ من جهة أن الإشارة إذا اعتمدت وحدها فهي لا تزول والإضافة تتبدل وتزول.
وهذا الفصل مفروض في الإطلاق، فلو نوى الحالف اعتبارَ الملك والإشارة، فلفظه مُنزّل على نيته، ومسائل الأَيْمان مجراةٌ على الإطلاق؛ فإن جهات الاحتمال متسعة [إذا كنا نعتبر الظاهر] (2) ، ونكتفي بما نكتفي به في التّديين، ومسائلُ الباب تُخرَّج على قواعدَ، فإذا كانت منويّة، اتبعنا النية [إذا كنا نجد بين اللفظ] (3) والنية ارتباطاً وإن كان على بعد، وإن لم يكن بين اللفظ وبين النية ارتباطٌ أصلاً، فلا تعويل على النية، وإن كان قد يطلق مثلُ ذلك اللفظ على بعد (4) في التجوز، وهذا كقول القائل: والله ما ذقت لفلانٍ ماءً، فهذا قد يستعمله المُبَالغ وغرضه أني لم أذق له طعاماً، فلو كان أكل طعامه ولم يشرب له ماء، لم يحنث؛ فإن حَمْلَ الماء على الطعام ميلٌ عن صريح اللفظ، وإزالةٌ لحقيقته، وإذا لم يكن من اللفظ بد، فلا سبيل إلى تعطيل أصله.
وإن ذكر الحالف لفظاً له عرف عند أهل اللسان وعُرْفُ اللاّفظ خلافَه، فإن قصد تنزيله على عُرفه ينزل عليه، وإن لم يقصد تنزيله على عرفه، وتحقق أنه لم يقصد شيئاً، فهذا موضع التردد: فمن أصحابنا من اعتبر اللفظ وعُرفه، ومنهم من اعتبر
__________
(1) وهو قول أبي يوسف أيضاً، وقولُ محمد وزفر كالشافعي، ر. المبسوط: 8/165، مختصر اختلاف العلماء: 3/269 مسألة 1379.
(2) في الأصل: " إذا كنا لا نعتبر الظاهر ".
(3) زيادة من (هـ 4) .
(4) هـ 4: " إبعاد ".(18/351)
اللافظ وعرفه، وميْلُ النص إلى اعتبار اللفظ إذا تحققنا أنه لم يكن للاّفظ قصد، وهذا غائصٌ حسن؛ لأنه لم يصرفه عن موضوعه بقصد، وليس هو من لغة الحالف، ولا سبيل إلى إبطال اللفظ، وعلى هذا أَلْزمنا المقرَّ بالدراهمِ الوازنةَ الخالصةَ، غير أنه إذا ادّعى تغيير اللفظ لم يقبل منه، ومن راعى عرف اللاّفظ نظر [إلى الملتزِم] (1) واللائقِ بحاله، وجعل كأن التلفظ منه لغته، ولفظ العرب يعتبر فيه عرف العرب، فكذلك لفظ هذا اللاّفِظ [ينبغي أن يعتبر فيه عرف اللاّفظ] (2) ولو اعتبر عرف غيره، لكان هو خارجاً عن طريق تخاطب أقرانه، وهذا يبعد، فلا يحمل على البعد إلا بقصد، وهذا فيه إذا أخبر أنه لم يقصد شيئاً.
فلو قال: قصدت، ثم ذَهِلت، فالظاهر هاهنا اعتبار (3) عرف اللافظ؛ فإن الغالب أنه يخاطب على موجب العرف الغالب إذا كان يقصد إجراء الكلام على حد التفاهم بين بني جنسه، والأصحاب طردوا الخلاف في هذه الصورة أيضاً.
وفي هذا بقية ستأتي في أول الجامع الثاني إن شاء الله تعالى.
11767- ثم قال: " ولو حلف لا يدخلها، فانهدمت " (4) .
إذا حلف لا يدخل دارَ زيد، فانهدمت، وصارت فضاءً، فطرقها، لم يحنث عندنا؛ فإن الموضع الذي تخطَّى فيه لا يُسمَّى داراً، والمسألة مفروضة فيه إذا لم يُشر، فإن أشار، فسيأتي شرحه على إثر هذا، إن شاء الله تعالى. ولو خربت السقوف، وبقيت الجدران، أو انهار من الجدران أقدار وبقيت جراثيمُ شاخصة، فالذي يجب اعتماده في ذلك أن البقعة التي دخلها إن كان يقال فيها إنها دارٌ خربة، فيحنث الحالف، وإن قيل: كانت داراً، فلا حنث، وإن قيل هذه رسوم دار فلان، فلا حنث، فالمتبع في النفي والإثبات هذا. وقال أبو حنيفة يحنَث بطروق العرصة،
وإن لم يبق شيء من الأطلال في مناقضاتٍ لهم، لا حاجة إليها.
__________
(1) في الأصل: " نظراً إلى المسلتين ". (كذا) .
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) هـ 4: "اتباع ".
(4) ر. المختصر: 5/232.(18/352)
فصل
قال: " ولو حلف لا يدخل من باب هذه الدار ... إلى آخره " (1) .
11768- الفصل يشتمل على صور نذكرها واحدة واحدة: فإن قال الحالف: لا أدخل هذا الباب من هذا الموضع، نظر: فإن قُلع البابُ، وفُتح موضعٌ آخر من جدار الدار، وعُلِّق الباب عليه، فلو دخل المنفذَ الجديد الذي عُلّق الباب المقلوع عليه، لم يحنث؛ فإنه قال: لا أدخل هذا الباب من هذا الموضع، فنص على تعيين الموضع، وعلق اليمين بالمنفذ المعين، [وتعرض] (2) للباب أيضاً.
ولو دخل المنفذ الذي عينه بعد قلع الباب، فهل يحنث؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يحنث؛ لأن اسم الباب ينطلق على ما يُردّ ويفتح، ويقلع وينصب، والمنفذ مدخل عليه باب، فإذا علق اليمين على الباب والمدخل، ثم قلع الباب، وجب ألا يحنث بأحد الأمرين، واليمين متعلقة بهما.
والثاني - يحنث، لأن المقصود هو التعرض للدّخول، والدخول هو الذي يليق بالمنفذ، ولو قال: لا أدخل هذا الباب مطلقاً، ولم يقل من هذا الموضع، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالباب حتى لو قلع وعلّق على منفذ آخر، ودخل الحالف المنفذ الجديد الذي عليه الباب، حنث، ولو دخل المنفذ الأول الذي كان الباب معلقاً عليه، لم يحنث؛ فالمعتبر عند هذا القائل الباب نفسه.
والوجه الثاني - أن الاعتبار بالمنفذ، فلو دخل المنفذ الأول، حنث وإن قلع الباب منه، ولو دخل المنفذ الثاني، لم يحنث، وإن كان الباب معلقاً عليه.
والوجه الثالث - أنا نعتبر الباب والمنفذ جميعاً -إذا قال: لا أدخل هذا الباب- فلو قُلع الباب وعُلّق على منفذ آخر، لم يحنث؛ لأن الأول منفذ تعلقت اليمين به قد زايله
__________
(1) ر. المختصر: 5/232.
(2) في الأصل: " ويفرض ".(18/353)
الباب، والثاني عليه باب، ولكن ليس المنفذ الأول، والحنث يحصل باجتماعهما.
ولو قال: والله لا أدخل باب هذه الدار، ولم يُشر إلى المنفذ، ولا إلى الباب، ثم فَتحَ باباً جديداً غير الباب الموجود حالةَ اليمين، فهل يحنث بدخول الباب الجديد؟ فعلى وجهين، والمسألة مفروضة فيه إذا لم يُشر، وسبب الخلاف التردد في أن اليمين هل تنزل على المنفذ والباب الموجودين حالة اليمين.
ولو قال: لا أدخل باب هذه الدار، فَرقى، وأتى من جهة السطح، ونزل من باب السطح، فهل يحنث؟ فعلى وجهين.
وكل ما ذكرناه واليمين مطلقة.
فأما إذا نوى المنفذ، وعين الدار، أو جهةً من الجهات التي ترددنا فيها، فيمينه منزلة على نيته.
11769- ولو قال: لا أدخل مسكن فلان، فدخل مسكنه المستعار أو المستأجَر، حَنِث، كما تقدم، ولو دخل مسكنه الذي يأوي إليه، وكان مغصوباً، ففي تحنيثه وجهان: أحدهما - يحنث؛ لأنه دخل موضع سكونه.
والثاني - لا يحنث؛ فإن المسكن إذا أضيف، وجب أن تكون سُكناه مستحقة للمضاف إليه، ومسوّغة له، فإضافةُ الرقبة في قوله: " دارَ فلان " تقتضي استحقاقَ الرقبة، وإضافةُ المسكن يقتضي استحقاقَ السكنى.
ولو كانت له دار لا يسكنها، وقد قال الحالف ": لا أدخل مسكن فلان، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنه يحنث؛ لأن الدار رقبتها وسكناها مستحقتان للمضاف إليه.
والثاني - لا يحنث، والمسكن من السكنى ولا سكنى للمضاف إليه في الدار.
ومن أصحابنا من قال: إن سكنها في أقل زمان يتحقق اسم السكنى فيه، حَنِث الداخل، وإن لم يسكنها أصلاً لم يحنث.(18/354)
فصل
قال: " ولو حلف لا يلبس ثوباًً وهو رداء ... إلى آخره " (1)
11770- إذا قال: لا ألبس ثوباًً، ثم لبس ثوباً أيَّ ثوبٍ كان، حَنِث، فإن اللُّبس مطلق، والثوب مطلق، ثم قال الأصحاب: إذا كان لفظ الحالف كذلك، فلو لبس شيئاً على الاعتياد فيه، أو لبس على خلاف الاعتياد في لبسه، حنث، والمتبع في هذا الفصل تحقق اسم اللّبس والثوب، ولا يتوقف الحِنث على وقوع اللُّبس على مقتضى الاعتياد في الثوب الذي لبسه، فلو كان لفظه كما ذكرناه، فاعتمد قميصاً، فاتزر به أو توشّحَ به، أو تَعَمَّمَ به، أو ارتدى، حنث، وإن كان القميص لا يُستعمل على هذه الجهات.
ويجب أن يكون في هذا بحثٌ، فلو جمع القميص وطواه، أو لفّه ووضعه على رأسه، أو على عاتقه، فهذا حملٌ وليس بلُبس، وقد مضى في كتاب المناسك في إيجاب كشف الرأس فصولٌ، والوجه أن يتفطن الإنسان لتميز اللبس عن الستر، فرب سترٍ يوجب الفدية ولا يُسمى لُبساً، فالذي يضع قميصاً على رأسه مطوياً ساترٌ مفتدٍ وليس بلابسٍ في حكم اليمين المعقودة على اللُّبس، فإن قيل: المرتدي بالقميص ليس لابساً، وإنما هو ساتر بدنه، كالذي يضع الثوب المطوي على رأسه، قلنا: لو ارتدى بالقميص مثلاً، فالطاقة التي تلي بدنه لو كانت وحدها، لكان المرتدي بها لابساً، فاتصال طاقة [أخرى] (2) بها لا يخرجها عن اسم اللُّبس، والدليل عليه أنه يقال: ارتدى فلان بالقميص، والمرتدي لابسٌ، وكذلك المتزر لابسٌ، ولو فرش ثوباًً، ورقد عليه، لم يكن لابساً، ولو تدثر به، ففيه خلاف الأصحاب (3) ، وهو محتمل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/232.
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) هـ 4: تردّد للأصحاب.(18/355)
هذا إذا قال مطلقاً: لا ألبس ثوباًً، ولو قال: لا ألبس قميصاً، فأخذ قميصاً، وفتقه، وخاط من مفتوقه رداء، فهل يحنث؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يحنث؛ فإنه ليس قميصاً.
ولو كانت صيغة اليمين كما ذكرنا، فأخذ قميصاً وارتدى به، فهذا فيه خلاف أيضاً؛ لأنه لما ذكر القميص أشعر ذلك بلبسه على هيئة القمصان، والقميص لا يلبس كذلك.
ولو قال: لا ألبس هذا القميص، ثم فتقه، وخاط قَطْعه، واتخذه إزاراً أو رداءً، ففي المسألة وجهان مرتبان على ما لو قال: لا ألبس قميصاً ولم يُشر، وهذه الصورة أولى بالحِنث؛ من جهة أنه أشار إلى القميص، فقال: هذا القميص، وليس كما لو أطلق اسم القميص، ولم يخصص تعليق اليمين بمعين.
ولو قال: لا ألبس هذا الثوبَ وكان قميصاً، ففتقَ وخاطَ، كما وصفنا، ثم لبس، فوجهان، وهذه الصورة أولى بالحنث من التي قبلها؛ لأنه قال: لا ألبس هذا الثوب، وليس في لفظه تعرض لذكر القميص، حتى يفهم منه لبس مخصوص يليق بالقميص، ولكن سبب الخلاف أنه أشار إلى الثوب وكان قميصاً.
ولو قال: لا ألبس هذا القميص قميصاً، ثم غيّره، وأخرجه عن كونه قميصاً، فلا شك أنه لا يَحْنَث، ووجهه بيّن.
ولو قال: لا ألبس هذا القميص قميصاً، فلم يغيّره وارتدى به، ففيه احتمال من جهة بقاء اسم القميص.
11771- فإذا ثبتت هذه [الصور] (1) وتميز البعض منها عن البعض، فهي مع الإشارة مُدارة على أصلٍ، وهو أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا، ثم زالت التسمية بالتغيير، فكيف الحكم؟ فيه تردد مشهور للأصحاب نطلقه في المسائل، ثم نذكر ما يلتحق بها من الصور التي ذكرناها.
فإذا قال: لا أكلم هذا وأشار إلى عبد، فَعَتَق، فكلمه، حنث.
__________
(1) في النسختين: الصورة. وبمثلهما جاءت (ق) . والأمر قريب.(18/356)
وإن قال: لا أكلم هذا العبد، فَعَتَق، فكلمه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث لزوال اسم العبد، والثاني - يحنَث، لأن عين الشخص قد ارتبطت الإشارة بها، والإشارة لها غلبة وسلطان.
وإذا قال: لا آكل لحم هذا، وأشار إلى سَخْلة، فكبرت وزايلها اسم السخلة، فأكله، حنث.
وإذا قال: لا آكل لحم هذه السَّخْلَة، فكبرت، وزال الاسم، فأكل من لحمها، ففي الحنث وجهان.
وإذا قال: لا آكل هذا وأشار إلى حِنْطة، [فإذا أكلها كما هي: قَضْماً (1) فالحنث حاصل وفاقاً، ولو قال: هذه الحنطة] (2) وغيّرها بالطَّحْن أو بالطحن والخبز، فوجهان.
وإذا أشار إلى رطب فقال: لا آكل هذا، فصار تمراً، فأكله، حنث، وإن قال: هذا الرطب، فصار تمراً، فوجهان.
وجمع بعض الأصحاب هذه المسائل، وذكر فيها ثلاثة أوجه: وجهان ذكرناهما، والثالث - أن التغير إن كان من جهة الخلقة من غير صنع آدمي كالسخلة تكبر والرطب يجف، فالحنث يحصل، ولا حكم للتغير، وإن كان زوال الاسم بصنعة آدمي كطحن الحنطة وخبزها، لم يحصل الحنث.
ولو قال: لا أدخل هذا، وأشار إلى دارٍ، فانهدمت، وصارت فضاء، حنث بالطروق؛ لأنه لم [يذكر] (3) الدار، ولم يجر اسمها، ولو قال: لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاء وطرقها، فالوجهان جاريان؛ لمكان الإشارة، وزوال التسمية، والذي ذكرناه خلافاً مع أبي حنيفة رضوان الله عليه فيه إذا قال: لا أدخل داراً، ولم يُشر، فإذا طرق عرصةً كانت داراً، لم يحنث؛ فإن تعويلَ اليمين على
__________
(1) هنا كلمة غير مقروءة، صورتها هكذا: (عر ـما) انظر صورتها.
(2) زيادة من (هـ 4) .
(3) في الأصل: " لم يدخل ".(18/357)
التسمية المحضة، وقد زالت وقد ذكرنا في مسائل الثياب أنه لو قال: والله لا ألبس هذا الثوبَ، وكان قميصاً، ففتقه، وسواه رداءً وارتدى به أنه هل يحنث؟ والخلاف في هذه الصورة ضعيفٌ؛ لأنه لم يسمّ القميص، واقتصر على الإشارة.
ولو أشار إلى سخلة فقال: لا آكل من لحم هذه، ولم يسمها سخلة، ثم كبرت وصارت كبشاً، يحنث بأكل لحمها، وإن زال الاسم، والسبب فيه أن التغير إذا كان من حيث الخِلقة، ورجع إلى ازدياد أجزاءٍ خلقها الله تعالى، أو إلى نقصان أجزاءٍ نقصها الله تعالى، فذاك التغير في نفسه ضعيف، وانضم إليه أنه لم يجر اسم الجنس، وإنما جرت الإشارة المحضة، وفي المسألة التي ذكرناها في الثوب إشارة ولم يسم القميص، ولكن التغيير بالفتق والرتق أقوى، والإشارة نزلت على الثوب بصفته، ومع هذا الأصحُّ- أنه يحنث إذا أشار ولم يسم، وإنما يظهر الخلاف إذا أشار وسمّى، فقال: لا ألبس هذا القميص، ثم فتق ورتق، وعلى هذا لو قال: لا أدخل هذا، وأشار إلى دار، ثم صارت فضاء، فهو كما لو قال: لا ألبس هذا الثوب وكان قميصاً فتخرق ثم سوّى منه رداءً، أو إزاراً، فهذا ما أردنا أن نذكره.
11772- ومن تمام البيان في هذا الفصل أنه إذا قال: لا أدخل دار فلان هذه، فقد ذكرنا أن المذهب أن ملك فلان لو تبدل، فيحنث الحالف بالدخول، تغليباً للإشارة، فإن قيل: أشار وأضاف، وإذا قال: لا آكل من لحم هذه السخلة، فقد سمّى وأشار، فهلا جعلتم زوال الإضافة بمثابة زوال التسمية؟ قلنا: قد صار إلى هذا صائرون من أصحابنا وقالوا: زوال التسمية في كبر السخلة ونظائرها كزوال الإضافة، فيجري الخلاف في الأصلين والفرق عسير على التحقيق.
ولو قال في البيع: بعتك هذه السخلة، وأشار إلى فرس، فقد أشار وغلط في التسمية، ففي صحة البيع وجهان، فمن اعتمد الإشارة، صححه، ومن اعتمد التسمية أفسد البيع، وهذا ذكرناه في مسائل البيع.
ولو قال: لا آكل من لحم هذه البقرة، وأشار إلى سخلة، فالذي رأيت من دلالة كلام الأصحاب القطع بانعقاد اليمين وتحنيث الحالف بالأكل مما أشار إليه، وإن جعلنا المسألة على وجهين في صورة البيع في هذه الصورة، لأن علينا تعبدات في(18/358)
تهذيب ألفاظ العقد، واليمين إذا عقدت على قضيةٍ، فلا يتطرق إليها في مثل هذا الموضع الانقسام إلى الصحة والفساد، ووضوح ذلك مغنٍ عن بسطه.
11773- وألحق القاضي مسائلَ مستفادةً بآخر الفصل منها أنه قال: سئل القفال، وهو يتكلم على العوام (1) عمن حلف بطلاق زوجته لا يأكل البيض، فلقيه إنسان، وفي كُفه [شيء] (2) فقال: إن لم آكل مما في كم فلان، فامرأته طالق، وكان في كُمه بيض، فما الحيلة في ألا يقع طلاقه؟ فتفكر ولم يحضره الجواب، فلما ترك، قال المسعودي من تلامذته: الوجه جعل ذلك البيض الذي في كُم ذلك الرجل في القُبَيْطاء (3) ثم يأكله، ولا يقع الطلاق؛ لأنه عقد اليمين الثانية على الإبهام، واكتفى بالإشارة من غير تسمية؛ إذ قال: إن لم آكل مما في كُمه، فإذا جعلت البيض في القبيطاء، فقد أكل ما في كمه، ولا معوّل على تغير التسمية؛ فإنه أشار إلى ما في الكم، ولم يسمّ، وهذا بيّن.
ومما ألحقه أنه إذا قال: لا ألبس ما غزلته فلانة، انصرف ذلك إلى ما غزلته في الماضي، فلو غزلت في المستقبل، لم يتعلق الحنث به، ويحنث بلبس ما نسج من غزلها الماضي، سواء غزلته للغير بأجرة، أو غزلته لنفسها، فالتعويل على الغزل لا غير، ولو حلف لا يلبس من غزلها، ولم يذكر فعلاً موضوعاً للماضي والمستقبل، فاسم الغزل ينطلق على ما غزلته، وعلى ما ستغزله في المستقبل، ولو قال: لا ألبس مما تغزله، انصرف هذا إلى المستقبل، ولم يدخل تحت اليمين ما غزلته بالزمان الماضي، وإذا قال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوباًً خيط بخيوط غزلتها، لم يحنث، هكذا قال القاضي، ووجهه بيّن؛ فإن الخيوط لا حظ لها من اللُّبس في الاسم.
ولو كانت المسألة بحالها، فقال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوباًً لُحمته من
__________
(1) يشير إلى أن مثل هذه الأيمان بالطلاق تكون من العوام والدهماء.
(2) في الأصل: بيض. والمثبت من (هـ 4) و (ق) .
(3) القُبَّيطى: بضم القاف وفتح الباء مشددة، فيقصر، وتخفف، فيمدّ (القبيطاء) وهو نوع من الحلوى، ويسمى الناطف.(18/359)
غزلها، وسَداه من غزل غيرها، أو على العكس، قال القاضي: لا يحنث، وذلك أن اسم الملبوس ينطلق على الثوب، وليس البعضُ يسمى ثوباًً على حيالِه، واللبس يتناول الثوب، فإنه لو التف بالغزل، لم يكن لابساً.
وهذه المسألة فيها نظر: من جهة أنه يقال: لبس فلان من غزلها، وذِكْرُه الغزل من غير تعرض للثوب أصدق شاهدٍ في هذا.
ولو قال: لا ألبس من غزل نِسوتي، فغزلن ونسج النّاسج، فالثوب من غزلهن، فلو قلنا: لا يحنث، كان بعيداً، وإذا قلنا: يحنث وهو الوجه، فواحدة منهن لم تهييء من غزلها ثوباً على حياله. نعم، لو قال: لا ألبس ثوباً من غزل المرأة، فإذا لبس ثوباًً فيه غزلها وغَزْلُ غيرها، فالوجه أن لا يحنث قطعاً، فإنه لم يلبس من غزلها ثوباًً.
فصل
قال: " ولو حلف لا يلبس ثوباًً منّ به فلان عليه ... إلى آخره " (1) .
11774- إذا حلف لا يلبس ثوب فلان، فاتّهبه، أو اشتراه، واللفظ مطلق، لم يحنث؛ فإنه ما لبس ثوب فلان، وإنما لبس ثوب نفسه إذا (2) ملكه.
ولو قال: لا ألبس ثوباًً منّ به فلان عليّ فوهبه منه، فلا شك أنه يحنث بلبسه، فلو باعه بثوب آخر، ولبس الثوب الثاني، لم يحنث؛ فإن الملبوس ليس ممنوناً به، فلو باع فلان منه ثوباً مسامحةً، كأن يساوي مائة، فباعه منه بدرهم مثلاً، فإذا لبسه، لم يحنث؛ فإن المن لم يحصل بالثوب، وإنما حصل بالحط من ثمنه.
ولو قال: لا ألبس مما وهب فلان، لم يحنث بما سيهبه بعد اليمين؛ لأن قوله: " وهب " للماضي لا غير وهو كما ذكرناه في قوله لا ألبس مما غزلت، والباب وقياسه بينان.
__________
(1) ر. المختصر: 5/232.
(2) إذا: بمعنى (إذ) .(18/360)
فصل
يجمع القول في الإكراه والنسيان الواقعين حالة الحنث
11775- فنقول: عماد الحنث ثلاث صور، والمسائل بعدها ملحقة بها، فإذا حلف لا يدخل داراً، فحمل مكرهاً، وأدخل الدار، فالمذهب الذي قطع به المعتمدون أنه لا يحنث؛ لأن الذي جرى لا يُسمى دخولاً، وليس هذا من صور الإكراه، بل هو من باب عدم الحِنْث صورةً؛ إذ لا يُسمى ما وجد به دخولاً، وإنما هو إدخال، وينتظم النفي والإثبات فيه؛ فإنه يقال: فلان ما دخل بل أُدخل.
وذكر صاحب التقريب عن بعض الأصحاب مسلكاً بعيداً في تخريج هذه الصورة على قولي الإكراه، واعتل هذا القائل بان قال: لو أَمَر حتى حُمل وأُدخل، حَنِث، فاستبان أن هذه الصورة ملحقة بالدخول مشياً في حالة الاختيار، وكل صفة تقتضي الحنث وحَلَّ اليمين لو صدرت عن اختيار، فإنها تقتضي الخروج على القولين لو اقترن بها الإكراه.
وهذا الذي حكاه بعيد، وفيه غفلة عن مُدرك المعنى، وذلك أنه إذا أمر حتى حمل وأدخل، فهذا في الحقيقة ليس دخولاً، ولكن غلب في العرف والصورة هذه النظرُ إلى المقصود، وهو الحصول في الدار، وكثيراً ما يميل العرف الغالب إلى المقصود، فإذا حمل مكرهاً، فلا قصد له حتى نجعل الدخول في الدار مقصوده، ولم يوجد منه فعل، فاليمين في ظاهرها معقودة على الفعل، فالوجه القطع بما قطع الأصحاب به، وإذا حمل بإذنه، فهذا بمثابة ما لو ركب دابّة ودخل الموضع المحلوف عليه راكباً، فحركات الدّابة مضافة إلى الراكب، فلو حمل من غير أمره وأدخل، ولكنه كان قادراً على أن ينسلّ ويتراخى ويزجر الحامل، فسكت، فهذا فيه تردد ظاهر للأصحاب: ألحقه الأكثرون منهم بحالة الاختيار والأمر؛ فإن الحال يشعر برضاه، والمتبع صدور الحصول في الدار عن الرضا، ومن أصحابنا من ألحق هذه الصورة بما إذا حمل مكرهاً. هذه صورة.(18/361)
11776- الصورة الثانية - أن يقول: لا أدخل، ثم يحمل على الدخول، ويتحقق الإكراه -على ما مضى تفصيل الإكراه في كتاب الطلاق- فإذا دخل بنفسه مكرهاً واليمين مطلقة، ففي حصول الحنث قولان ذكرناهما في الطلاق.
11777- الصورة الثالثة - أن يحلف، ثم ينسى اليمين، ويقدم على ما هو صورة الحِنث ناسياً ليمينه، ففي حصول الحِنث قولان تقدم ذكرهما، وللأصحاب خلاف في ترتيب الناسي على المكره: فمنهم من [يجعل] (1) الناسي بالحنث أولى لاختياره في المحلوف عليه، ومنهم من يجعل المكره بالحنث أولى [لذكره] (2) اليمين، وعموم قوله لا أدخل، وهذا مما تقدم أيضاً.
11778- فإذا تمهدت هذه الصور ألحقنا بها مسائل، وهي مقصود الفصل، فلو قال: " والله لأشربن ماء هذه الإداوة غداً "، فأريق ذلك الماء قبل مجيء الغد من غير اختيار الحالف، فهل يحنث؟ ذكر الأصحاب قولين في الحنث، وقربوهما من المكره، وكان شيخي يقول: هذه الصورة أولى بألا يتحقق الحنث فيها من قِبل أن الشّرب في الغد -وقد أريق الماء في اليوم- غيرُ ممكن، والمكره على الدخول يتصوّر منه أن يمتنع من الدخول. فإن قيل: ما وجه تخريج القولين والحالة كما وصفتموها؟
قلنا: إذا قال: لا أدخل، فالبِرّ في ترك الدخول، فإذا [دخل، فقد] (3) تحقق عدم البرّ اسماً ولفظاً إلى أن يحكم الفقيه بما يقتضيه الحكم، وأما إذا قال: لأشربن غداً، فبرّه في مقتضى الاسم، وهو أن يشرب، فإذا لم يشرب، فلا برّ، فقد تحقق عدم الشرب، كما تحقق الدخول، فهذا هو الوجه. والذي ذكرناه سؤالاً يقتضي ترتيب القولين في مسألة الشرب على أصل القولين في الإكراه.
ومما يتعلق بأصل القول في الإكراه أن اليمين يصح عقدها بما لا يدخل تحت اختيار
__________
(1) في الأصل: " فعل ".
(2) في الأصل: " لردّه ".
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/362)
الحالف، ولا يعد من فعله، كاليمين تُعلّقُ على طلوع الشمس وغروبها، هذا صحيح غير ممتنع.
11779- ولو علّق اليمينَ بفعل الغير مثل أن يقول: والله لا يدخل فلانٌ الدارَ، ثم وجد منه الدخول مخالفاً للبر في اليمين، فاليمين تنحلّ، وتجب الكفارة، ولا فرق بين أن يكون ذلك الدخول على اختيارٍ من ذلك الشخص، أو كان مكرهاً فيه، فلا أثر للإكراه والاختيار في حق من لم يحلف، وإنما يقع الفصل بينهما إذا تعلّقت اليمين بفعل الحالف. هذا أصل متمهّد.
وقد ذكرت في كتاب الطلاق مسائل فيه إذا جرى الحلف متصلاً بعلم من ذكر فعله، أو عدم فعله، وكان يتوقع أن يكفه اليمين، فإذا جرى إكراه في حق ذلك الشخص، والحالة هذه، ففي هذا تفصيل قدّمته، فلا أعيده، والذي ذكرناه فيه إذا لم يقصد الحالف أن يمنع ذلك الشخص بيمينه عن الفعل، وإنما أراد عقد اليمين على الإخبار عن وجودٍ أو عدمٍ في الغيب، وعداً (1) ذكره ثم أكده باليمين. وقد قال صاحب التقريب: لو حلف على غريمه، فقال: بالله لا يفارقني غريمي حتى أستوفي حقي منه، ثم فرّ الغريم ففارقه، قال: في المسألة قولان، واليمين معقودة على فعل الغير.
وهذا مأخوذ على صاحب التقريب؛ من جهة أنه أطلق إجراء القولين، ولم يفصل، والوجه أن يقال: إذا لم يقصد منع الغريم، فالحنث يحصل إذا وُجدت المفارقة منه؛ حملاً لعقد اليمين على الوعد وتأكيده، وإن أراد أن يمنعه بما أسمعه من يمينه؛ فإذا فرّ كما ذكرناه، فهو في فراره مختار، والمفارقة موجودة على اختيار، فتخريج القولين والحالة هذه لا وجه له أيضاً، وإن قيل: قصده بالحلف أن يمنعه من ْمفارقته، فإذا فر وهو قادر على مساوقته، أو على ردِّه وضبطه، فالحنث يحصل أيضاً، قولاً واحداً.
__________
(1) هـ 4: أو عدمٍ في الغيب، وهذا عد ذكره ثم أكده باليمين ".(18/363)
وإن أفلت منه على وجهٍ لا يُنسب فيه إلى التقصير، فلا يبعد في هذا الطرف إجراء القولين إذا تخيلنا [مقصود] (1) اليمين منعه من المفارقة، وقد يجري مثل هذا في العرف، فللمسالة إذاً محامل: أحدها - عقد اليمين على الوعد، والآخر - عقد اليمين ليمتنع الغريم بسبب اليمين، واستقصاء هذا في مسائل الطلاق، والوجه القطع بالحنث، والصورة الأخيرة عقد اليمين والمراد منعه، ولو أطلق ولم يذكر محملاً، فاللفظ في الإطلاق محمول على الوعد لا غير.
11780- ومن الصور التي نلحقها بما مهّدناه من الأصل، وهو من مسائل الكتاب أنه إذا قال: لا أسلم على زيد فلو سلم عليه في اختلاط الظلام، وهو ذاكر ليمينه، ولم يعلم أنه زيد، بل حسبه شخصاً آخر، ففي الحنث قولان مرتبان على ما لو نَسِيَ يمينه، وهذه الصورة -وهي إذا جهل زيداً عند تسليمه، وكان ذاكراً لليمين- أولى بالحنث، والدليل عليه أن من نَسِي الصوم، وأكل، لم يفطر، ومن كان يأكل ظاناً أنه في بقية من الليل، وهو ذاكر للصوم، أفطر على ظاهر المذهب، فرقاً بين أن يجهل الصوم على ذكر له وبين أن ينسى الصوم، فكذلك القول في الحنث.
ولو سلم على قوم وزيدٌ فيهم، ولم يعلم أنه فيهم، وهو ذاكر ليمينه، ففي هذه الصورة قولان مرتبان على القولين فيه إذا سلم عليه قصداً، ظاناً أنه غير المحلوف عليه، والصورة الأخيرة أولى بألا يحنث فيها؛ لأنه لم يقصد زيداً بعينه، ولم يسلم عليه تعييناً.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، وهو فيه مع جماعة، ولم يعلم به الحالف، ففي الحنث قولان مرتبان على القولين في السلام، وهذه الصورة أولى بالحنث من نظيرتها في السلام؛ فإن دخول البيت فعل لا يقتضي التخصيص، والسلام قول ذو صيغة قابلة للتخصيص والتعميم.
ولو قال: لا أسلم على فلان، فسلم على قومٍ والمحلوف عليه فيهم، وعلم أنه
__________
(1) في الأصل: " معقود ".(18/364)
فيهم، ولكنه استثناه بالنية، وقصد السلام على الباقين، فقد قال العراقيون: إنه لا يحنث، وقطعوا القول به، ووجهه بيِّن، لأنه وجه سلامه على من أراد منهم، واللفظ محتمل للتخصيص كما قدمناه، قال شيخي: في المسألة احتمال إذا لم يستثنه لفظاً؛ فإن مخاطبة جمعٍ بالسلام توجهاً إليهم في حكم النص في إرادتهم؛ فإنه إذا أشار [إلى عَبيد، وقال: هؤلاء] (1) لفلان، ثم زعم أني استثنيت واحداً منهم، فالوجه ألا يقبل ذلك منه، قال العراقيون: لو سلّم عليهم، مع علمه بأن المحلوف عليه فيهم، ولم يستثنه بالنية، ولا قصد إدراجه تحت عموم السلام، قالوا: في
الحنث قولان: أحدهما - أنه لا يحنث؛ فان اللفظ يحتمل التعميم والتخصيص، وهذا ساقط على قياس طريقنا.
والوجه القطع بأنه يحنث عند الإطلاق، إذا كان عالماً بصورة الحال، ولم يستثن لفظاً، ولا عقداً، واللفظ العام يجري على عمومه ما لم يُخصص، قال صاحب التقريب إذا حلف لا يسلم على فلان، فسلم على قومٍ، وهو فيهم، وعزله بالنية، لم يحنث، وهذا لعمري منقول الأصحاب وما قطعوا به، وفيه الاحتمال الذي أبداه شيخنا، وهو غير معتد به.
11781- ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً فيه قوم (2) ، وهو فيهم أيضاً، وعلم ذلك، ولكنه عزل المحلوف عليه بالنية، وقصد الدخول على غيره، فهل يكون هذا بمثابة ما لو عزل المحلوف عليه عن السلام في مسألة السلام؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه لا يكون كذلك، بل يحنث في مسألة الدخول؛ لأن الدخول فعل، فلا يتصور منه تخصيصه بواحد، أو بجمعٍ من الكائنين في البيت، والسلام لفظ معرض للتخصيص [والتعميم.
والوجه الثاني - أن التخصيص] (3) ممكن بالقصد في مسألة الدخول أيضاً؛ إذ قد
__________
(1) عبارة الأصل: " إذا أشار إلى عينه، وقال: هو لفلان ". والمثبت من (هـ 4) و (ق) .
(2) هـ 4: " فيه قوم وفيهم المعين ".
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/365)
ينتظم أن يقول الداخل إذا روجع: ما دخلت على هذا، ولم أقصده، بل (1) دخلت على هؤلاء المشايخ، فلا يمتنع هذا، والنيات إذا وَجَدَتْ مساغاً في الأيمان، فاحتمالها متسع.
وفي هذه المسألة سِرٌّ، لا بد من التفطن له، وهو أنه في ابتداء العقد لو أراد بقوله: لا أدخل على فلان، أني لا أقصد الدخول عليه، ولا أقصده بالدخول، ثم اتفق دخوله على حسب ما صوره صاحب التقريب، فالوجه القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه عقد اليمين على هذا الوجه، فاتبعنا عَقْده، وقصده؛ فإنا ذكرنا أن ما يتسع لقبول التديين، فهو مقبول في اليمين بالله تعالى، والذي ذكره صاحب التقريب فيه إذا أطلق يمينه، ولم يُخصصها بقصدٍ ثم وُجد منه هذا التخصيص عند الحنث، ولا تخصيص في عقده وحلفه الأول، فهذا ما أردنا ذكره.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، ثم دخل البيت، وهو فيه عالماً بمكانه، وكان في البيت وحده، فعزله بنيّته، وقصد شغلاً آخر سوى الدخول عليه، ففي تحنيثه وجهان ذكرهما القاضي مبنيان على ما ذكرنا عن صاحب التقريب، وهذا يبُنى على أن التخصيص بالدخول هل يمكن في ذلك؟ والمسألة مُحتملة، وهذا كما إذا دخل البيت لشغل من حمل شيء أو وضع شيء وقصد ذلك، وعزل المحلوف عليه، أو قصد الدخول مع عزله، ليقعد أو يرقد، كل ذلك خارج على الخلاف.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، ولم يعلم أن فيه فلاناً، فظاهر المذهب أنه لا يحنث، والسبب فيه عدمُ قصده، وإن الدخول عند بعض الأصحاب مما يقبل التخصيص قصداً؛ فإذا انضمّ عدم علمه إلى تعرض هذا المقصود لقبول التخصيص، ظهر منه انتفاء الحنث، وقال الربيع: يحتمل أن يقال: سبيله كسبيل [الناسي] (2) ليمينه، وهذا تخريج صححه معظم الأصحاب، ووجهه بيّن.
__________
(1) هـ 4: " إنما دخلت ".
(2) في الأصل: " الباقين ".(18/366)
فصل
قال: " ولو حلف ليأكلن هذا الطعام غداً ... إلى آخره " (1) .
11782- مقصود هذا الفصل يتعلق بالأصول التي مهّدناها في الإكراه والنسيان، فإذا قال: لآكلن هذا الطعام غداً، فلا يخفى تصوير وجهِ البرّ، فلو فرض تلف الطعام، أو تلف الحالف، نظر: فإن جاء الغدُ والطعام باق، والحالف متمكن، فأخّر الأكلَ، فتلف الطعامُ، أو مات الحالف -وفي النهار بعدُ بقية- فظاهر المذهب القطع بتحنيثه؛ فإنه تمكن من تحقيق البرّ فأخّر.
ومن أصحابنا من خرّج تلف الطعام وموت الحالف في أثناء الغد على خلاف الأصحاب في أن من أخّر الصلاة عن أول وقتها، ومات في أثناء الوقت، فهل يعصي، ووجه التشبيه أن الصلاة مؤقتة بوقت مُتّسع، والبرّ مؤقت أيضاً، فقرب مأخذ الكلام في المسألتين، والأصح عندنا القطع بالتحنيث، والصحيح الحكم بأنه لا يعصي بتأخير الصلاة إذا مات في أثناء الوقت، والفرق أن الأيْمان معتمدها اللفظ، والذي أخر عن أول وقت الإمكان يسمى من طريق اللفظ مخالفاً تاركاً للبرّ، والتأقيتُ في الصلاة مبناه على إثبات الفسحة والتخفيف، فاللائق به ألا نُعصِّي المؤخِّر.
ولو تلف الطعام الذي حلف على أكله غداً قبل مجيء الغد، فقد ذكرنا إجراء الأصحاب القولين في ذلك؛ فإن حكمنا بأنه لا يحنث -وهو الأصح- فإن الحنث إنما يتجه عند تصوّر البرّ، واليمين ليست معقودة على وعد غيبي، وإنما المقصود بها تأكيد الإقدام على أمرٍ، فالوجه ألا يحنث إذا لم يتصوّر البرّ، وإن قلنا: يتعلق الحنث بهذه الصورة، فمتى يحنث؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يحنث غداً، فإن اليمين مضافة إلى الغد، فكأن لا يمين قبله.
والثاني - أنه يحنث في الحال؛ لأن البرّ صار مأيوساً منه؛ فلا معنى [للتوقف] (2)
__________
(1) ر. المختصر: 5/232.
(2) في الأصل: " التوقع ".(18/367)
والحالة هذه، وقد ذكرنا هذا النوع مستقصىً في كتاب الطلاق، إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل قيّده بوقت منتظر، مثل أن يقول: إن لم أصعد السماء غداً، فعبدي حُر، أو امرأتي طالق، فهل يعجل الطلاق، أو العتاق في الحال؟ فيه خلاف مشهور، وهذا ذاك بعينه.
التفريع:
11783- إن حكمنا بأنه يحنث في الحال، فلا كلام، وإن أخرنا الحنث إلى الغد، فمتى يحنث غداً؟ فعلى وجهين آخرين: أحدهما - أنه يحنث كما (1) مَرّ وقت يسع الأكل، لو كان المأكول باقياً.
والثاني - أنه لا يحنث ما لم تغرب الشمس من الغد؛ فإن الوقت أُثبت للاتساع في طلب البرّ، وهذا الوجه ضعيف في هذا المقام؛ فإنا إن أخرنا الحكم بالحنث إلى الغد، فسببه أنا نعتقد انعقاد اليمين في الغد، فأما انتظار غروب الشمس بناء على الفسحة، وقد فات الإمكان، فبعيد لا أصل له.
11784- ولو قال: لآكلن هذا الطعام غداً، ثم إنه أكله في يومه؛ فإنا نحنّثه؛ فإنه المتسبّب إلى تفويت البرّ، ثم متى يحنث؟ فيه الخلاف الذي قدمناه.
ولو أكل بعض الطعام وبقَّى بعضه، حَنِث أيضاً؛ لأن البرّ إنما يحصل بأكل جميع الطعام في الغد؛ فإذا تعذّر هذا باختياره، كان كما لو أكل الجميع (2) .
ولو قال قائل: إن كنتم تؤخرون الحنث إلى الغد، فلا تعتبروا بالأكل في اليوم، وإن كان عن اختيار، فإنه اختيار في غير الوقت المعتبر، قلنا: حقُ هذا السؤال أن يستمسك به في تضعيف ذلك الوجه، والمذهب الحكم بحصول الحنث في الحال، ثم فائدة الاختلاف في تعجيل الحنث وتأخيره النظر في صفة الحانث في التفريع على [أن] (3) الاعتبار بحالة الحنث في صفة الكفارة، أو بحالة الأداء، ولو صام وقد حكمنا بالحنث أجزأه، وإن لم نحكم، لم يجزئه؛ فإن الصوم لا يقدم على وجوبه.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) أي أكل الجميع قبل الغد.
(3) زيادة من (هـ 4) .(18/368)
فصل
قال: " ولو حلف ليَقضينه حقه ... إلى آخره " (1) .
11785 - إذا قال: لأقضين حقك غداً، فمات صاحب الحق قبل دخول الغد، فالبرّ ممكن بأن يؤدي ما عليه إلى ورثته، والمسألة فيه [إذا قال] (2) لأقضين حقك، فأما إذا قال: لأقضينّك حَقّك، فإذا مات، فقد عسر الأمر لكونه (3) علق القضاء بالمخاطب، ثم التفصيل فيه، كما تقدم في مسألة الأكل، فإذا قال: لأقضبن (4) حقك غداً، فمات الحالف قبل دخول الغد، ففد تعذّر منه القضاء، واليمين معقودة على فعله في القضاء، فقال الأصحاب: موت الحالف قبل الغد كفوت الطعام المحلوف عليه قبل الغد، ووجه التماثل بيّن، ولكن تصوير الحنث -وقد مات الحالف- أبعد، ولا خروج لهذا إلا على الخلاف في أن الحنث يتعجل أو يتأخر، فإن قلنا: يحصل الحنث غداً، فلا وجه لتحنيث ميت. وإن قلنا: يحصل الحنث في الحال، فإذ ذاك يجري الخلاف، والأصح في فوت الطعام وفوت الحالف قبل الغد ألاّ يحصل الحنث.
11786- ثم ذكر صوراً في الاستثناء بيّنةً نرمز إليها: فإذا قال: لأقضينّك حقّك غداً إلا أن تشاء، فمعناه إلا أن تشاء تأخيره، فإذا جاء الغد وشاء تأخيره، لم يحنث بالتأخير، وإن لم يشأ، أو مات، وحصل اليأس من مشيئته، تحقق الحنثُ على التفاصيل المقدمة.
ثم نَقل (5) عن الشافعي أنه قال: إذا قال: لأقضينّك حقّك إلا أن يشاء زيد، فمات
__________
(1) ر. المختصر: 5/233.
(2) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام ونظمه.
(3) هـ 4: "لكنه".
(4) في هـ 4: " لأقضينك".
(5) ضبطت خطأ في الأصل بالضم (نُقل) والناقل هو المزني، والحكاية عنه. (انظر النقل وتغليط المزني في المختصر: 5/233) .(18/369)
زيد، لا يحنث، قال المزني: عَطْفُ هذه المسألة على المسألة المتقدمة غيرُ صحيح؛ فإن المسألة المتقدمة على هذه مفروضة في موت صاحب الحق قبل مجيء الغد، وقد قال: لأقضينّك حقّك غداً، فإذا مات قبل مجيء الغد، تعذّر الوفاء بالبرّ، وإذا قال: إلاّ أن يشاء زيد، فمات، فإنما يتعذر بموته المشيئة، فإذا تعذّر الاستثناء، اتجه البرّ والحنث، فالوجه أن نقول: إذا مات زيد، فقد زال بموته الاستثناء، فإن قَضى حقه غداً، بز، وإن لم يقض حَنِث.
قلنا: هذا الذي ذكره المزني صحيح، لا يجوز غيره، ولكن لم نر هذا العطفَ في شيء من كتب الشافعي، والخلل في النقل، ووضع المسائل، وقيل: قال الشافعي: إذا مات زيد وصاحب الحق قبل مجيء الغد، فلا حنث، فحذف المزني ذكر صاحب الحق.
فصل
قال: " ولو حلف ليقضينّه عند رأس الهلال ... إلى آخره " (1) .
11787- قال الأصحاب: إذا قال: لأقضينّك حقّك عند رأس الهلال، فشرْطُ برّه أن يقضيه مع الاستهلال، فلو قدم، كان ساعياً في منع البرّ، فإن البرّ منوط بإيقاع القضاء مع الاستهلال، فإذا قدم، فقد فات البرّ، وإن أخر على اختياره، تحقق الحنث، فليقع مع أول جزء من الهلال، وهذه المسألة فيها انتشار من قِبل أن إيقاع القضاء مقترناً بأول جزء من الوقت الذي ذكره عسير، ومراعاة ذلك لا تفي بها القوة البشرية، فما الوجه والأمر كما ذكرناه؟ وعُسْر ضم النية إلى أول النهار تضمّن جَعْلَ جملة الليل وقتاً للنية، ولم يُكلّف الخلقُ إيقاعَ النية في وقت يعسر عليهم إيقاعها فيه، وقيل: لا يتأتى تمام الصوم إلا بأخذ طرف من الليل، كما لا يتأتى استيعاب الوجه إلا بأخذ أجزاء من الرأس.
وهذا الذي تخطاه الأصحاب من أعسر مواقع الكلام، وأنا أقول فيه: عماد اليمين تنزيلها على العُرف، وإذا قال: لأقضين عند رأس الهلال، فالمعنيُّ به بذل المجهود
__________
(1) ر. المختصر: 5/233.(18/370)
في ضم القضاء، وذلك يتأتى بإحضار الحق عند مستحقه ومبادرة التأدية عند الاستهلال، فإذا فرض أدنى استئخار مع استفراغ الوسع، فما أرى ذلك حنثاً؛ فإن الناس لا يطلقون هذا، وهم يكلفون أنفسهم دركَ الأولية التي لا اطلاع على حقيقتها بالمُنّة البشرية، وإذا كنا نُنْزل اسمَ الرؤوس على الرؤوس المعتادة ونَحيد عن حقيقة اللغة، فما ذكرناه أولى في حكم العُرف، ولكن غاية الاحتياط ما ذكرناه من إحضار المال عند مستحقه ومراقبة الاستهلال، وإن لم نعن رؤية الهلال، فقد يَغُم الهلال على الناس، فيستكملون الشهر الماضي ثلاثين يوماً، فالمعني بالهلال أول جزء من الشهر، وهو أول جزء من الليل، ثم سبيله ما ذكرناه.
وقد ذهب ذاهبون من العلماء إلى أنا نوسّع الأمرَ على الحالف الليلة ويومها، وهذا خارج عن الاعتدال، وقد لاح أنه قصد الضم، فهذا ما عندنا في ذلك.
11788- ثم نقل المزني عن الشافعي أنه قال: " لو حلف لأقضينه عند رأس الهلال، أو إلى رأس الهلال " والجمع بين هاتين الجملتين مشكل؛ فإن ظاهر قوله: إلى رأس الهلال، إيقاع القضاء قبل رأس الهلال، ومعناه بسط الأداء على الأوقات المتقدمة على رأس الهلال وقوله: (عند) يقتضي الضم، والتقديمُ يفوّت البرّ.
وقد تعرض المزني بعد نقل الجمع بين الكلمتين للاعتراض الذي ذكرناه، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فقال المحققون: إن كانت المسألتان مطلقتين، فلا شك أن الفقه ما ذكره المزني، وإن زعم أنه أراد بقوله: " إلى رأس الهلال " مع رأس الهلال، ففي قبول ذلك وجهان: أحدهما - أنه لا يقبل، فإنَّ (إلى) صريح في المدّ والبسط والتأقيت والحدّ، وهي مناقضة للضم والجمع. والثاني - أن ذلك مقبول منه؛ فإنَّ (إلى) لا يمتنع إطلاقها بمعنى الجمع إذا لم تكن قرينة، قال الله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] معناه مع الله وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] معناه مع أموالكم.
وهذه الطريقة غير مرضيّة؛ فإن (إلى) محتملة لمعنى مع؛ فإذا نوى الحالف ذلك، فلا معنى للاختلاف في القبول؛ فإنا نكتفي في محامل الأيمان بالله تعالى بمواقع التديين في مسائل الطلاق والعتاق.(18/371)
وقد ذكر بعض أصحابنا وجهاً أن مُطلَق هذا اللفظ محمولٌ على معنى (عند) لما ذكرنا، وقد أشار القاضي إلى هذا الوجه، وكل ذلك خبط، فالوجه القطع بالفرق بين المسألتين في الإطلاق، والمصيرُ إلى أنه لو نوى الجمع، نزلت يمينه على نيته، وما سوى ذلك وإن ذكره الأئمة، فلا وجه له.
ومما يبلغ منّي المبلغ التّام استشعاري أن تجري الوجوه على نسق واحد، ويكثر فيها الهفوات وترك نقلها إخلال بالمبسوطات، وترك التنبيه على ما ذكرتُه خبط وتخليط.
11789- ثم قال: ولو قال: " إلى حين، فهذا ليس بمعلوم " (1) ، والأمر على ما قال، فإذا قال: لأقضين حقّك إلى حين، انبسط هذا على منتهى أمَد الإمكان من غير تحديد.
ولو قال: إلى دهرٍ، أو إلى حِقَبٍ، أو إلى عصرٍ، أو إلى وقتٍ، فكل ذلك منبسط على الأبد وأقصى الأمد، وإنما يتحقق الحنث عند تحقق التعذر، وفي الفصل على ظهوره غائلةٌ، لا بد من التَّنْبيه لها، والتوصُّلِ إليها [مع أن إيضاح الغرض] (2) يحصل بسؤال وجواب: فإن قيل: قد ذكرتم في مسائل الطلاق أنه إذا قال الرجل لامرأته: إذا مضى حين، فأنت طالق، فإذا مضى أقل زمان قُضي بوقوع الطلاق، فإذا قال: لأقضينّ حقك إلى حين، وجب أن ينبسط القضاء على الحين الذي إذا انقضى وقع الطلاق بانقضائه في قوله: " إذا مضى حين، فأنت طالق " والدليل عليه أنه إذا قال: إذا مضى شهر، فأنت طالق، فيقع الطلاق إذا مضى شهر كامل، فلو قال: لأقضين حقك إلى شهر، انبسط القضاء على شهر، فَليَكُن القول [إلى] (3) حين على هذا النسق.
وهذا مشكل جداً، ويمكن فرض لفظ المضي في اليمين بالله تعالى، فإذا قال:
__________
(1) ر. المختصر: 5/233.
(2) في الأصل: " مع اتضاح الغرض ".
(3) في الأصل: " في ".(18/372)
إذا مضى حينٌ، لأقضين حقك، فيجب القضاء بأن البرّ في إيقاع [القضاء] (1) بعد أدنى وقت، كما أن الطلاق يقع بعد أدنى وقت إذا قال: " إذا مضى حين، فأنت طالق " وليس ينقدح في هذا جواب يستقيم على موجَب اللّسان، إلا أن الأيْمان منزّلة على العرف، فإذا قال: لأقضين حقك إلى حين، اقتضى هذا فُسحةً من غير ضبط في النهاية، وإذا ثبتت فسحة عرفية من غير نهاية، [اقتضى] (2) ذلك أبد الأبد، والمعنيّ بالأبد مدّة البقاء، وتصوّر القضاء، ولو طلب طالب أن يحمل لفظ الطلاق على أمثال ذلك، لم يقبل منه، وللتعبد في صريح الطلاق أثر بيّن، فهذا ما نراه.
ووراء هذا سؤالان: أحدهما - أنه إذا قال: إذا مضى حين لأقضين حقك، فمقتضى ما ذكرناه الفسحة بخلاف الطلاق، فإذا قال: والله لأقضين حقك إذا مضى حين، كان ذلك على الأبد، وهذا مما لا يجوز غيره، فقد اتضح الغرض في اليمين، وارتدّ الإشكال إلى الطلاق.
فإن قيل: هلا قلتم: إذا قال: " إذا مضى حين، فأنت طالق " لا يقع الطلاق بأقل وقتٍ يمضي؟ قلنا: هذا الآن إشكال في الطلاق، والممكن في الانفصال عنه أن الطلاق إيقاع، والبرّ والحنث تحقيقُ موعد أو إخلاف موعد، وفي الطباع عدم القطع بالخلف ما أمكن محملٌ في التصديق، والطلاق إيقاع، فيعتمد أوائل الصفات، والمشكل في الطلاق أنه إذا قال: " إذا مضى دهرٌ، فأنت طالق "، يقع الطلاق بانقضاء أقل وقت، وهذا أمرٌ لا أهتدي إليه، وقد أبديت فيه خبطاً في كتاب الطلاق.
فصل
قال: " ولو حلف لا يشتري، فأمر غيره ... إلى آخره " (3) .
11790- إذا حلف لا يشتري، أو لا يتزوج، أو لا يطلق، أو لا يبيع، فلو وكل بهذه الأشياء، فتعاطاها الوكيل بإذنه، لم يحنث الموكِّل.
__________
(1) في الأصل: الطلاق.
(2) في الأصل: " انتظم ".
(3) ر. المختصر: 5/233.(18/373)
ولو قال: " لا أضرب فلاناً "، وكان ممّن يتعاطى مثلُه الضربَ، فأمر غيره حتى ضرب، لم يحنث، وإن كان محتشماً لا يتعاطى الضرب بنفسه، فأمر غيره حتى ضرب، فالنصّ، وما إليه مصير الأصحاب أنه لا يحنث، إذا كان اللفظ مطلقاً، وقال الربيع: إذا حصل الضرب بأمر من لا يتعاطى الضربَ، كان ذلك بمثابة صدور الضرب منه.
وهذا وإن ألحق بالمذهب بعيدٌ، لا تعويل عليه، [ثم] (1) إنما يجري في الفعل الذي وصفناه وأمثاله، فأما العقود، فيتعاطاها العظماء والأماثل.
ولو قال الرجل: لا أبني بيتاً، وكان لا يحسن البناء، أو لا أطين السطح، وهو ممن لا يُحسنه، فتخريج الربيع في أمثال هذه الصورة أظهر.
ولو قال: لا أتزوج، فانتصب وكيلاً، وقبل نكاح امرأة لموكله، لم يحنث، وليس ما جاء به تزوّجاً منه، وإنما هو سفارة، والنكاح مضاف إلى الموكل، وسِرُّ الفصل أنه عقد اليمين على التزوج المطلق، ولا يصح من الوكيل بالتزوج مطلقُ لفظ التزوج حتى يضيفَه، وما لا يستقل إلا مضافاً لا يندرج تحت المطلق الذي لم يضف.
والغرض من هذا يبينُ بصورتين، فإذا قال زيد: لا أتزوج، وقال عمرو لا أتزوج، ثم وكل زيد عمراً حتى يقبل له نكاح امرأة، فلا يحنث الموكل، ولا الوكيل، أما الموكِّل؛ فلأنه، لم يتعاط التزوّج، بل تزوّج الوكيلُ له، وأما الوكيل لم (2) يتزوج مطلقاً، فلم يحنث واحد منهما، وقد قطع الأصحاب بهذا في الطرق.
11791- وذكر الصيدلاني هذا على هذا الوجه، فوافق الأصحابَ، ولكن وقع في كتابه ما يخالف هذا صريحاً، وأنا أذكره على وجهه، وأُنبه على الزَّلل فيه: قال: ولو قال: " والله لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فقبل وكيل زيد له امرأةً، فكلمها الحالف، حنث ". هكذا قال، ثم أكّد وعَلَّل، وكرّر، وأنا أسوق معنى كلامه،
__________
(1) في الأصل: " له ".
(2) جواب أما بدون (الفاء) ، واردٌ عند الإمام كثيراً، جرياً على لغة الكوفيين.(18/374)
قال: المعني بالتزوج التسبب إلى تحصيل الزوجة، ولا أثر للتعاطي فيه، والموكِّل قد حصل على زوجةٍ إذا (1) قبل الوكيل النكاح له، ثم قال: التزوج في مجرى العرف بمثابة [التَملُّكِ] (2) ، ولو قال: لا أكلم عبداً ملكه زيد، فوكل زيد وكيلاً حتى اشترى له عبداً، فإذا كلمه الحالف، حَنِث؛ بخلاف ما لو قال: لا أكلم عبداً اشتراه زيد، فإذا وكل وكيلاً حتى اشترى له عبداً، لم يحنث الحالف بمكالمته.
هذا كلامه، وهو على القطع خطأ على المذهب، والأصحاب بأجمعهم [نصّوا] (3) على خلاف ذلك، وقَضَوْا بأنه إذا حلف لا يكلم امرأة تزوجها فلان، فوكل فلان من يقبل له نكاح امرأة، لم يحنث الحالف بمكالمتها، ولست أنكر أن ما ذكره الصيدلاني وجهٌ من الكلام، ولكنه مذهب أبي حنيفة (4) رضوان الله عليه؛ فإنه فصل بين لفظ التزوج ولفظ الشراء، فقال: التزوج في اليمين محمول على تحصيل الزوجة إما بتعاطي القبول، وإما بالتوكيل به إذا قبل الوكيل، بخلاف الشراء، والعجب أن الصيدلاني ذكر [بعد] (5) هذا الردّ على أبي حنيفة رضي الله عنه في التزوج، وجاء بما يناقض هذا الكلام، فلا اعتداد إذاً بما ذكرناه له، وهو هفوة أطلنا الكلام في بيانها، فإنا (مجموعه) في المذهب معتمد؛ فما يندر فيه من زَللٍ يوشك أن يُعتمد، فأبلغنا في التنبيه لذلك.
11792- ولو قال: " والله لا أشتري " فاشترى له وكيله، لم يحنث وفاقاً، ولو قال الوكيل: والله لا أشتري، ثم توكل واشترى لموكله مطلقاً، ولم يسم الموكِّل، ولكنه نواه، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحنَث، وإن لم يملك ما اشترى، لأنه يُسمّى مشترياً، وقوله: " اشتريت " يناقض قوله: " والله لا أشتري " ويمينه مطلقة، وقوله في إنشاء العقد مطلق.
__________
(1) إذا: بمعنى (إذ) .
(2) في الأصل: " الملك ".
(3) في الأصل: " قضوا ".
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/274 مسألة 1392، المبسوط: 9/9.
(5) في الأصل: " بغتة ".(18/375)
وذكر القاضي هذا الوجه كما ذكره الأصحاب، وذكر من طريق التخريج وجهاً آخر أنه لا يحنث؛ لأنه مستناب، وليس مشترياً لنفسه، والعقد ينصرف إلى موكله، فكان انصرافه إليه شرعاً بمثابة صرفه العقد إليه لفظاً.
ولا شك أن الكلام مفروض في اليمين المطلقة، وهذا التردد في الوكالة بالشراء، وما في معناه من العقود التي لا يشترط ذكر الموكِّل فيها، والوكيل بالتزويج خارج عن ذلك؛ لأنه يسمي موكله لا محالة. نَعم، لو قال: " والله لا أزوج فلانة " ثم توكل وزوجها وكيلاً تزويجاً صحيحاً، حَنِث في يمينه؛ لأنه زوجها حقاً، والتزويج بالوكالة كالتزويج بالولاية في الصيغة وحكم الاسم، والوكيل بالتزويج بمثابة الوكيل بالبيع، وإنما يختلف البابان في الوكيل بالتزوج والوكيل بالشراء.
فصل
قال: " ولو حلف لا يفعل فعلين ... إلى آخره " (1) .
11793- قد تبين في مسائل الطلاق أن من علق الطلاق بشرطين فصاعداً، لم يقع الطلاق إلا باجتماع الصفات والشرائط، والسبب فيه أن الشرائط إذا عُقّبت بالجزاء، اقتضت صيغةُ الشرط ارتباط الجزاء بجميع ما تقدم شرطاً، وما يسميه الفقهاء تعليقاً هو الشرط بعينه.
فإذا وضح هذا، رجعنا إلى غرضنا في اليمين، فإذا قال مشيراً إلى رغيفين: " والله لا آكلهما " أو صرّح، فقال: " لا آكل هذين الرّغيفين "، لم يحنث ما لم يأت عليهما جميعاً، لأنه علق يمينه على التثنية، فتعلّق البر والحنث بهما.
ولو قال: والله لا آكل هذا الرغيف، وهذا الرغيف، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يحنث إلا بأكلهما، كَمَا لو عبر عنهما بصيغة التثنية قائلاً: لا آكل هذين الرغيفين.
وهذا قد يعترض فيه إشكال من جهة أن المعطوف إذا ارتبط بفعلٍ صُدّر الكلام به،
__________
(1) ر. المختصر: 5/233.(18/376)
كان صدر الكلام في حكم المستأنف مع المعطوف، فإذا (1) قال الرجل: رأيت زيداً وعمراً كان التقدير رأيت زيداً ورأيت عمراً، فإذا قال: والله لا آكل هذا الرّغيف، وهذا الرغيف، أو قال: والله لا آكل هذا الرغيف ولا أكلم زيداً، فالتقدير: والله لا آكل هذا الرغيف، والله لا أكلم زيداً، ولو كرر اليمين تحقيقاً، لانفردت كل يمين عن الأخرى، ولاستقلت كل واحدة بمعقودها ومقصودها، ثم ترتب عليه أنه يحنث بأحد المذكورين في اليمين المربوطة به، وليست صيغ الأيمان بمثابة صيغة الشرط، هذا هو السؤال، وأقصى ما ذكره الأصحاب أن الاسم المعطوف على الاسم بمثابة الاسمين المجموعين في صيغة التثنية، هذا وجه التنبيه، والإشكالُ قائم في المسألة، وما قطع به الأصحاب ما نقلته، والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال: " ولو قال: والله لا أشرب ماء هذه الإداوة ... إلى آخره " (2) .
11794- إذا قال: لأشربن ماءَ هذه الإداوة، فالبر في شرب الكل، وإذا قال: لا أشرب ماء هذه الإداوة، لم يحنث إلا بالنزف، وشُربِ الكُلِّ، وإن قال: لأشربن من ماء هذه الإداوة، فالبر يحصل بشرب البعض؛ فإن (مِنْ) صريح في اقتضاء التبعيض، ولو قال: لأشربن ماء هذا النهر، فلا شك أن استيعاب ماء النهر بالشرب غير ممكن، فإذا كان لفظه مطلقاً على هذا الوجه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: هذا عقد يمين على غير ممكن، ولا يتأتى طلب البرّ فيه، كما لو قال: لأصعدن السماء، هذا وجهٌ، وهذا القائل يقول: لو شرب من ماء النهر، لم يبرّ.
ومن أصحابنا من قال: قوله لأشربن ماء النهر معناه لأَرِدَنَّه، ولأشربن من مائه، ومن شائع الكلام: فلانٌ [شرب] (3) الدِّجلة، معناه شرب منها.
__________
(1) هـ 4: " فأما إذا قال ".
(2) ر. المختصر: 5/234.
(3) في الأصل: " يشرب ".(18/377)
11795- ثم جمع الأئمة فصولاً في الباب متماثلة قريبة المأخذ، ونحن نذكرها ونستعين بالله تعالى، فإذا قال: لأصعدن السماء، فقد قال محالاً، ولكن يلزمه الكفارة على الفور، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحكم بانعقاد يمينه، ثم يحكم بانحلالها، وسبب الانعقاد أنها معقودة على المستقبل، والله تعالى قادر على أن يُقدر عبده على الرُّقي في السماء، ولكنا أَيسنا من حصوله، فانعقدت اليمين بما قدمناه من انتظام اللفظ، وانتجز الحِنث لليأس من البرّ.
وقال قائلون: تجب الكفارة، ولا نحكم بانعقاد اليمين؛ فإن سبب حَلِّها مقترن بها لو قُدّر حَلٌّ وعَقْد، وهذا القائل يقول: الكفارة إنما تلزم إذا حَنِث الحالف في اليمين المنعقدة على ممكن، لمخالفة المحلوف عليه الحلف، ومن قال: لأصعدن، فمعنى الحنث (1) قائم، والرجل منتسب إلى ترك التعظيم (2) .
ولو قال: " لأقتلنّ فلاناً "، وهو عالم بأنه ميت، فقد قال أصحابنا: هذا بمثابة ما لو قال: لأصعدن السماء، وبمثله لو قال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة، ولم يكن فيها ماء، فقد اختلف أصحابنا (3) في المسألة: فمنهم من قال: اليمين لا تنعقد، بل تلغو، ولا تجب الكفارة، وليسَ كالحلف على الصعود؛ فإن في مقدور الله تعالى الإقدار على ذلك، وكذلك قتل الميت مقدور لله تعالى، بتقدير أن يحييه ليقتله الحالف، وأما شرب ماء الإداوة ولا ماء، فمستحيل كيف قدر.
وذهب الأكثرون إلى أن الكفارة تلزم، ثم اختلفوا في أن اليمين هل تنعقد أم لا.
11796- ولم يختلف الأصحاب في أن من قال: " والله ما قتلت وما فعلت " وكان قد فعل أن الكفارة تلزم، وهذه يمين الغموس، وليس من الحزم أن نسلم للخصم انتفاء الكفارة إذا قال: لأشربن ماء الإداوة بناء على أن الماء معدوم، ولو فتحنا هذا الباب، ونفينا الكفارة إذا كان المحلوف عليه بحيث يستحيل تصويره، فيلزم منه أن
__________
(1) هـ 4: " الحلف ".
(2) هـ 4: " التعاظم ".
(3) هـ 4: "أئمتنا".(18/378)
نقول: إذا قال الحالف على الماضي: " والله ما فعلت "، وكان فعل، لا يلزمه الكفارة؛ لأن ما فعله يستحيل أن يقدّر عدمه بعد وجوده، وليس ذلك من المقدور، فيجب انتفاء الكفارة. وقد أجمع الأصحاب على وجوب الكفارة في يمين الغموس.
فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه وجوب الكفارة في يمين الغموس، ثم لا يتجه عندنا الحكم في الغموس بالانعقاد، فإنا إن كنا نمنع انعقاد عقد لاقترانه بما يحله، فالغموس في عينه خُلف، فيستحيل فرض الانعقاد فيه، ولكن وجوب الكفارة لا يتوقف عندنا على تقدير عَقْدٍ وحَل، كما قررناه في (الأساليب) .
وإذا حلف ليفعلن ما لا يستريب أنه ممتنع، ولكنّ وقوعَه ليس خارجاً عن قبيل المقدورات، فالكفارة تلزم، وفي الحكم بالانعقاد خلاف أشرتُ إليه، ومعظم الأصحاب على أن اليمين تنعقد، وتنحل، كما انعقدت على الفور، وهذا كقوله: لأصعدن السماء، أو لأقتلن فلاناً، وكان ميتاًً، وإن كان الحلف على محال ليس فيه إمكان، فالمذهب وجوب الكفارة، ثم لا يتجه الحكم بانعقاد اليمين بل يجب صرف وجوب الكفارة إلى مخالفة التعظيم -على حكم الخُلْف- لاسم الله تعالى المذكور تأكيداً على صيغة الحلف.
ومن أصحابنا من لم يوجب الكفارة، لانحسام مسلك الإمكان من كل وجه.
ولو قال: " والله لأصعدنّ السماء غداً " ففي تحنيثه في الحال خلاف مشهور بين الأصحاب، وقد قدمنا توجيه الخلاف بما فيه مقنع.
ومن الصور المعترضة أنه لو قال: لأقتلن فلاناً، وكان يحسبه حياً، ثم تبيّن أنه كان ميتاً حالة الحلف، فقد قال الأئمة: في وجوب الكفارة قولان مأخوذان من تحنيث الجاهل والناسي، ووجهه أنه عَقَد اليمينَ وهو يعتقد الإمكان، فخرج الخلاف على ما قدمناه، وليس كما لو كان على علم من موته، فإنه يكون مجرداً قصده إلى عقد اليمين على ممتنع.
***(18/379)
باب من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه
قال الشافعي: " من حلف على غريمه ألا يفارقه ... إلى آخره " (1) .
11797- إذا حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفيَ حقَّه، فلا يخفى ما يتعلق من البر، والحنث بفعل الحالف إن فارقه مختاراً ذاكراً، أو ناسياً، أو مكرهاً، ولا يخفى الحكم لو اختُطف، وحُمل، وفرّق بينه وبين الغريم، وغرض الفصل الكلام فيه إذا كانت المفارقة (2) من الغريم المحلوف عليه، ولأصحابنا طريقان: فذهب الأكثرون إلى أن الغريم الذي ذكره الحالف لو فارق، لم يحنث الحالف؛ لأنه لم يعقد اليمين على فعل الغريم، وإنما عقد اليمين على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل في المفارقة، ثم صور الشافعي فرار الغريم وترك المسألة على العادة، فإن من يبغي ملازمة غريمه لا يترك غريمه يفارقه على اتئادٍ، وإنما تقع المفارقة فيه على هيئة الفرار، ولكن لو لم يتفق فرارٌ، وفارق الغريمُ على التؤدة، والحالف ماكث لا يبرح، فلا يحنث أيضاً على هذه الطريقة، لما ذكرنا من أنه لم يوجد منه فعل، ثم لا نظر إلى فرار الغريم، ولا إلى اتئاده، فإن فعله ليس محلوفاً عليه. هذه طريقة.
وذكر صاحب التقريب، وبعض المصنفين أن الغريم إذا فارق مكان الحالف متمكناً من مساوقته، فمكث، ولم يساوقه، كان ذلك بمثابة فعله في الفراق؛ فإنّ ترك المصاحبة مفارقة، والشاهد لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام علق لزوم البيع بتفرق المتبايعين عن مجلس العقد، إذ قال: " ما لم يتفرقا " ثم لو فارق أحدهما المجلس، ومكث الثاني، كان ذلك تفرقاً منهما بمثابة ما لو أخذ كل واحد منهما صوباً، وافترقا بأبدانهما، ثم قال هؤلاء: هذا فيه إذا كان الحالف الناكث على استمكان واختيار،
__________
(1) ر. المختصر: 5/234.
(2) من هنا بدأ خرمٌ في (هـ 4) حيث فقدت ورقة.(18/380)
فتَرَكَ المساوقَة، فأما إذا فرّ غريمه، وعجز عن مساوقته، فهذا يُخرّجُ على قَوْلَي الإكراه.
وهذه الطريقة مستهجنةٌ لا أصل لها، والمعتمد المسلكُ الأول، لما قدمناه.
11798- ثم إذا فرعنا على الطريقة الأولى، فلو كان الحالف وغريمه يتماشيان مصطحبين، وصورة الحلف كما تقدم، فوقف الحالف، والغريم على سجيته في المشي، فقد نقل عن القاضي أنه يحنث بالوقوف في هذه الصورة، وليس كما لو كانا ساكنين في مكان، ففارق الغريمُ، واستدام الحالف السكونَ، وذلك لأن الحالف إذا سكن في المكان الذي كان فيه، فإنه ليس مستحدثاً صنفاً من الفعل يصير به منتسباً إلى الفراق. وإذا كانا يتماشيان، فوقف عن المشي، كان ذلك إحداثَ فعلٍ مؤثر في الفراق، فلا يبعد أن يسمّى فراقاً؛ فإن الواقف عن المشي قد يقول: كنت أماشي فلاناً، فوقفت، وفارقته، وقد لا يتحقق هذا فيه إذا كانا في مكان ساكنين فمشى أحدهما وسكن الثاني.
وهذا عندنا تخييل لا حاصل له، ولا يجوز أن يكون بين وقوفه عن المشي، وبين استدامته السكون في المكان؛ [فرقٌ] (1) ؛ فإنه في الموضعين [تارك] (2) مصاحبة الغريم مع التمكن منها.
ومما نفرعه على الطريقة الأولى أنه لو قال: " لا أفترق أنا وأنت أو نفترق ". فعقد اليمين على هذه الصيغة، ولم يقل: لا أفارقك، فإذا فارق الحالفُ، حَنِث، وإن سكن الحالف، وفارق الغريم، ففي المسألة وجهان: أظهرهما -وهو الذي لا يتجه غيره- أن الحالف يحنث؛ لأنه عقد اليمين على فعليهما، إذ قال: لا نفترق، ومكثه مع مفارقة غريمه يسمى افتراقاً، وعليه يخرّج قول الرسول صلى الله عليه وسلم في خيار المجلس: " ما لم يتفرقا "، فيجتمع في هذه الصورة ارتباط المحلوف عليه بهما، وتمكن الحالف من المصاحبة، ويتسق لذلك انطلاق (3) اسم التفرق أو الافتراق.
__________
(1) زيادة من المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق) .
(2) زيادة اقتضاها السياق. وقد صدقتنا (ق) .
(3) انتهى هنا الخرم الموجود في (هـ 4) .(18/381)
ومن أصحابنا من قال: لا يحنث إذا لم يكن الفراق من جهته، وهذا بعيد وإن كان مشهوراً في الحكاية؛ إذ لا خلاف أن هذا لا ينزل منزلة قول القائل: " والله لا نتناظر "؛ فإنه لو نزل هذه المنزلة، لاشترط في تحقيق الحنث أن يتفرقا بأبدانهما حتى يقال: على موجبه لو فارق الحالف، ومكث الغريم، لا يحنث؛ فإن قيل: إنه يحنث مذهباً واحداً، تبين بذلك انفصال التفرق والافتراق عن التناظر لو فُرِضَ محلوفاً عليه.
هذا مقصود الفصل.
11799- ثم وصل الأصحاب بذلك صُوراً تستند إلى الأصول المقدمة، فقالوا: إذا حلف لا يفارق غريمه، فقضى القاضي بفَلَس الغريم، وألزم الحالفَ مفارقته، فهذا يلتحق بوجود المحلوف عليه على صفة الإكراه، وفيه القولان، ولو فَلَّسه الحاكم، أو تحقق للحالف فَلَسُه، ورأى ملازمته محظورة، وما ألزمه القاضي مفارقته، فإذا فارقه، حَنِث، ولا نجعل علمَه بفَلَسه بمثابة ما لو أجبر على مفارقته.
ولو حلف كما وصفنا، فاستوفى في ظاهر الحال حقّه، وكان دراهم، فتبيّن أنها مستحقة، أو خرجت زُيوفاً، فهذه مفارقة قبل استيفاء الحق؛ فإن كان عالماً، فهو حانث، وإن كان جاهلاً بحقيقة الحال، ففي المسألة قولان مأخوذان من الجهل والنسيان.
ولو حلف لا يفارق حتى يستوفي حقه، فاعتاض عن حقه عوضاً وفارق، فقد نقل المزني عن الشافعي أن العوض الذي أخذه إن كان يساوي مقدار حقه، لم يحنث، ثم أخذ يعترض ويقول: أخذ عوض حقه ولم يأخذ حقَّه، واليمين معقودة على استيفاء الحق، وقد أجمع الأصحاب على أن المذهب ما ذكره المزني، والحالف يحنث، ثم اتفقوا على أن الخلل جاء من جهته، والشافعي حكى ما ذكره مذهباً لمالك (1) ، ولم يقل به، ولم يصر إليه.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/891 مسألة 1768 و2/984 مسألة: 1996، عيون المجالس: 4/1595 مسألة 1123.(18/382)
ولو أبرأ غريمه عن حقه، حنث بنفس الإبراء، وكذلك لو أبرأه عن بعض حقه، حنث وإن قل قدره، لتسببه إلى تفويت البرّ.
11800- ثم قال: " لو حلف ليقضينه حقه غداً، فقضاه اليوم، حِنَث ... إلى آخره " (1) .
إذا حلف من عليه الحق ليقضينه غداً، ثم إنه ابتدر، وقضى في اليوم -واليمينُ مطلقة- حَنِث لتفويته البرَّ بتعجيله القضاء، وهذا بيّن، وكذلك لو قضى مما عليه بعضه، فالبر يفوت.
ولو قال: لأقضين حق فلان غداً، فأبرأه مستحق الحق، والتفريع على الأصح - وهو أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول- فقد تعذر البرّ في الغد على حكم الإكراه، فيخرج القولان، وإن قلنا: لا يصحُّ الإبراء ما لم يقبل المبرأ عنه، فقبل الحالف، حَنِث قولاً واحداً بتسببه إلى الحنث بسبب القبول، ولا معنى لتكثير الصور، بعد ذكر خاصية الباب.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/234.(18/383)
باب من حلف على امرأته لا تخرج إلاّ بإذنه
11851- مضمون هذا الباب من مسائل الطلاق، ولكن المزني وضعه في هذا الكتاب، وفي الباب مسألتان إحداهما- أنه إذا قال لامرأته: إن خرجت من الدار إلا بإذني أو بغير إذني، فأنت طالق، فلا يخفى حكم المسألة في البر والحنث، فلو أذن لها، فخرجت بالإذن، لم تطلق، ثم قال الشافعي: " إذا خرجت مرة بالإذن، انحلت اليمين على البرّ، فلو عادت، وخرجت مرة أخرى مراغِمةً، من غير استئذان، لم تطلق.
وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: لا تنحل اليمين بخروجها الأول مع الإذن فيه، وهذا هو القياس؛ فإن اليمين إنما تنحل إذا جرت صورة الحنث، حيث لا يجد الطلاق نفاذاً، مثل أن يعلّق طلاق امرأته بدخول الدار، ثم يُبينها، ثم تدخل الدار بعد البينونة، وفي هذا خبط وتخليط، ذكرته في موضعه، فإذا خرجت بالإذن، فليس ما أتت به مُخالفة، فاليمين باقية في خروجها بغير الإذن، فإذا خرجت بغير الإذن، فهذا أول مخالفتها.
وتوجيه مذهب الشافعي عسرٌ عندي، وحكى شيخي قولاً مُخرَّجاً مثلَ مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يُفتي به، وَوَدِدتُ لو وجدتُ هذا القول في طرق الأصحاب، وهو على اتجاهه في القياس غريب، لم أره إلا لشيخي.
11802- ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار لابسةَ حرير، فأنت طالق، فدخلتها ولا حرير عليها، لم تطلق فلو دخلت بعد ذلك، لابسةَ حرير، طلقت، هكذا ذكره الأصحاب، ثم طلبوا الفصل بين هذه المسألة، وبين ما إذا قال: إن دخلت الدار بغير إذني، فأنت طالق، ولا فرق عندنا قطعاً بين المسألتين؛ فإن الدخول في المسألة
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 322، المبسوط: 8/173.(18/384)
الأولى إنما كان متعلقاً بالطلاق إذا كان موصوفاً بالمراغمة، فكأن الطلاق علق بالدخول وصفةٍ منضمّةٍ إليه، وهو بمثابة ما لو قال: إن دخلت الدار لابسةَ حريرٍ، فدخلتها ولا حرير، ثم دخلتها ثانية لابسةَ حريرٍ، وإذا لم يكن للشافعي نص في مسألة الحرير فأي حاجة (1) إلى تصويرها وتسليمها وتكلف فرق لا ينتظم قط.
هذا أحد مقصودي الباب.
11803- المقصود الثاني - أنه إذا قال: إن خرجت من الدار بغير إذني، فأنت طالق، ثم أذن لها، ولم تشعر، فخرجت على قصد المراغمة مثلاً غيرَ شاعرة بجريان الإذن من الزوج، فهذا عند المحققين يقرب مأخذه من بيع الوكيل ما وكل ببيعه، وقد عزله الموكِّل من حيث لا يدري، ولكنْ توجيه هذا الخلاف في اليمين على نسق آخر، والظاهر أنها لا تطلق؛ فإنها خرجت بعد الإذن.
ومن أصحابنا من قال: إنها تطلق؛ فإن ظاهر اليمين منعها عن الاستبداد بالخروج والمراغمة به، وإذا لم يبلغها الإذن، فخروجها على نعت المراغمة وقصد المخالفة.
هذا مأخذ الكلام.
ويمكن أن يقال: هذا الخلاف يقرب مما إذا قال لها: إن خرجت، فأنت طالق، وظهر أنه قصد منعها من الخروج، فلو نسيت اليمين وخرجت، ففي وقوع الطلاق قولان.
وقد ذكرتُ هذا وأمثاله في كتاب الطلاق، ووجه التشبيه أنها إذا خرجت ناسية، فليس خروجها على حكم المخالفة، ويمكن أن يقال: قصد الزوج بالطلاق أن يمنعها مما يدخل في وسعها، وليس يدخل في الوسع طرد النسيان.
هذا منتهى المراد من ذلك.
***
__________
(1) هـ 4: " فأي وجهٍ ".(18/385)
باب من يعتق عليه من مماليكه إذا حنث
قال الشافعي: " من حلف يعتق ما يملك ... إلى آخره " (1) .
11804- إذا قال: مماليكي أحرار، دخل تحت لفظه العبيد، والإماء، والمدبرون، وأمهات الأولاد، والظاهر أن المكاتب لا يدخل، لما ثبت له من الانحياز والاستقلال بالنفس، وفي المسألة قول آخر أنه يَعتِق؛ لأنه مملوكٌ ما بقي عليه من النجم شيء، والمستولدة وإن ضعف الملك فيها، فاحتكام السيد (2) جارٍ عليها، وإنما ينحسم من تصرفاته فيها البيع والرهن.
وإذا قال: عبيدي أحرار، لم يدخل الإماء على ظاهر المذهب، وهذا هو الذي يجب القطع به.
وذهب ضعفة الأصحاب إلى إدخالهن؛ من جهة أن العبودية تشمل الإماء، ويسوغ أن يقول الرجل: استعبدتها، كما يسوغ أن يقول: استرققتها، وقد نطقت العرب بتسمية الأمة عبدة، وهذا وإن كان جارياً في فنه، فليس على مأخذ الأيمان، فإن الإماء [لا] (3) يُرَدْن في العرف بإطلاق اسم العبيد، والتعويل الأظهر في اليمين على غلبة العرف.
ثم ذَكَر في الباب مسائل من عَوْد الحِنْث، ولَسْنا لها، وذكر فيه أنه لو قال لعبده: إن بعتك، فأنت حر أنه إذا باعه، عَتَق أخذاً من القول في خيار المجلس، وكل ذلك مما تمهد وتقرر في الأصول السابقة.
__________
(1) ر. المختصر: 5/235.
(2) هـ 4: " فأحكام السيد جارية عليها ".
(3) سقطت من الأصل.(18/386)
فصل
قال: ْ " ولو قال: إن زوّجتك، أو بعتك، فأنت حر ... إلى آخره " (1) .
11805- إذا عقد اليمين على عقدٍ وأطلق، فاليمين محمولة على العقد الصحيح، فلو قال: لا أبيع، أو لا أشتري، أو لا أتزوج، ثم صدرت منه صورة عقد من هذه العقود على الفساد، لم يحنث، فإن الفاسد ليس عقداً، وكذلك لو قال: " لأبيعن " لا يبرّ إلا بالبيع الصحيح، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ولو قال الزوج: لا أبيع مالَ زوجتي، أو قالت الزوجة ذلك في مال زوجها، ثم انفرد الحالف بالبيع من غير إذن، فلا شك في فساد البيع، ثم ما صار إليه الأصحاب أنه لا يتعلق به الحِنث؛ بناءً على ما مهدناه، وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهاً بعيداً أن الحنث يحصل، لأن أحد الزوجين قد يتبسط (2) في مال الثاني، فإذا أطلق اليمين على ما وصفناه، ظهر أنه عنى بذلك ترك الانبساط بالبيع، وإن كان على الفساد.
وهذا بعيد، لا أصل له، ولا يسوغ خرمُ المذهب بمثله.
ولو قال: والله لا أبيع مال فلان، فهذا محمول على البيع الصحيح، ولو قال: لا أبيع ماله بغير إذنه، فباعه بغير إذنه على الفساد، فالذي قطع به الأصحاب أنه لا يحنث، وصاحب التقريب يُجري الوجهَ الضعيفَ في ذلك؛ فإنه قد يظهر من غرض الحالف الانكفاف عن صورة التصرف من غير إذن.
ولو قال: والله لا أبيع الخمر، فقد قال الأئمة: إذا قال: بعت هذه الخمر، لم يحنَث لأن البيع في اليمين محمول على الصحة، وبيع الخمر فاسد، ولو قال: لأبيعن الخمر، لم يبرّ بصورة البيع، فهو كما لو قال: لأصعدن السماء.
وقال المزني: إذا قال: لا أبيع الخمر، حنث ببيعها؛ فإنه لا يقصد إلا الامتناع
__________
(1) ر. المختصر: 5/235.
(2) هـ 4: "يتسلط".(18/387)
عن صورة البيع، وإلا فالخمر لا يصح بيعها، وهذا الذي ذكره منقاس متجه، ولا شك أن الوجه الضعيف الذي ذكرناه عن صاحب التقريب في بيع مال الغير يجري هاهنا؛ فإنه إذا قال: لا أبيع مال الغير بغير إذنه، فصاحب الوجه الضعيف يحمله على صورة البيع، وهذا في الخمر أوجه وأظهر.
ولو قال: لا أشتري شراءً فاسداً، أو لا أبيع بيعاً فاسداً، فلا وجه عندنا، إلا القطع بأنه يحنث بصورة البيع والشراء، وإن جرت على الفساد؛ لأنا إن حملنا مطلق العقد على الصحيح، فمقيده بالفساد كيف يتوقع حمله على الصحيح، وإذا امتنع تقدير خلاف في هذا، فيظهر معه مذهب المزني في منع بيع الخمر (1) .
***
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة (هـ 4) وجاء في خاتمتها ما نصه:
" آخر الجزء السادس والعشرين من نهاية المطلب ويتلُوه في الذي يليه بمشيئة الله تعالى:
باب جامع الأيمان
قال الشافعي إذا حلف ألا يأكل الرؤوس إلى آخره.
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين.
قوبل لجميعه وما قبله ".(18/388)
باب جامع الأيمان [الثاني] (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: " إذا حلف لا يأكل الرؤوس ... إلى آخره " (2) .
11806- إذا حلف لا يأكل الرؤوس، فالذي أطلقه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب معه أنه لا يحنث بأكل رؤوس الطير والحيتان، وبناءُ الفصل على اتباع العرف، ومن قال: أكلت الرأس، أو لم آكله، لم يُفهم من مطلق كلامه التعرض لرؤوس الطير والحيتان، وسبب اطراد هذا العرفِ أن الناس في جميع البلاد لا يعتادون إفراد رؤوس الطير بالشيّ، أو الطبخ، أو الأكل، وإنما اتسق ما ذكرناه لاطراد العادة بأكل رؤوسٍ تفردُ بالشيّ والطبخ، فكان انتظام ما ذكرناه متلقى من [اعتياد] (3) أكل رؤوس على الإفراد، وعدم ذلك في رؤوس [الطير والحيتان] (4) فلا يُنكِر أحدٌ أن اسمَ الرأس ينطلق في صريح اللغة على رأس الطائر والحوت، ولكن لما لم يفرد بالأكل، لا يفرد بالذكر، والتعويل على العرف إذا غلب، وهذا هو المذهب.
وذكر صاحب التقريب ما ذكرناه، وجعله معوّل المذهب، وحكى قولاً آخر أن اسم الرأس يحمل على رأس الطائر والحوت تمسكاً بحقيقة اللغة، وليس اسم الرأس مزالاً مماتاً (5) عما عدا النَّعم، ولكن ما اعتاد الناس إفراد رؤوس [غيرها] (6) ، وهذا
__________
(1) هكذا العنوان بنصه في "مختصر المزني " ومن هنا بدأ الاعتماد على نسخة وحيدة هي ت 6. والله المستعان. وأشرنا من قبل إلى أنّ جزءاً من نسخة أخرى جاءنا والكتاب ماثلٌ للطبع، فعارضنا نسخة الأصل عليها وهي التي رمزنا لها بـ (ق) وهي مستمرة إلى باب الامتناع عن اليمين.
(2) ر. المختصر: 5/235.
(3) في الأصل: " اعتبار ".
(4) زيادة من (ق) .
(5) كذا تماماً (رسماً ونقطاً) ولعل المعنى: أن اسم الرأس ليس مزالاً، فلم يَمُت استعماله في غير رؤوس النعم. وهذا اللفظ (مماتا) ساقط من (ق) .
(6) في الأصل: رؤوس. والمثبت تصرف من المحقق. كنا قدرناها [رؤوسها] فجاءت (ق) باللفظ الساقط، فاعتمدناها.(18/389)
لا يغير اللغة الشائعة الحقيقية. ولم أر هذا القول لغير صاحب التقريب، ولا عود إليه بعد ذلك.
فإذا قال: لا آكل الرؤوس، حَنِث بأكل رؤوس الغنم، فإنه معتاد بكل مكان، وأطلق الشافعي التحنيث بأكل رؤوس البقر والإبل، وإنما بنى هذا على اعتياد طوائِفَ من الناس أكلَها في بعض البلاد. والذي يتحصل من هذا الفصل بعد حط القول الذي حكاه صاحب التقريب في جميع الرؤوس طرقٌ: أحدها - أن الحنث يحصل برؤوس النَّعم في جميع البقاع، ولا يحصل الحنث بغيرها.
والثاني - حكاه صاحب التقريب أن الحنث لا يحصل إلا برؤوس الغنم؛ فإنها هي المفهومة من إطلاق الرؤوس المفردة على الإطلاق.
والطريقة الثالثة -وهي أعدل الطرق- أن كل بقعة يُعتاد فيها إفراد رؤوس بالأكل، فمطلق اسم الرؤوس فيها محمول على ما يُعتاد في تلك البقعة، حتى لو اعتاد طائفةٌ أكلَ رؤوس الظباء وغيرِها من الصيود -حيث تكثر الصيود-، فإذا أطلق الحالفُ منهم اسم الرؤوس، دخل تحتها ما يعتادون إفراده بالأكل من تلك الرؤوس. هذا قولنا فيهم.
فأما غيرهم من أهل البلاد والقرى إذا كانوا لا يعتادون إفراد تلك الرؤوس التي ذكرناها بالأكل؛ فاسم الرؤوس في أيمانهم هل يتناول تلك الرؤوس التي يعتاد أكلها أهل ناحية؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الاسم في حقهم لا يتناولها اعتباراً بعادتهم.
والثاني - اسم الرؤوس في حق الكافة (1) يحمل في الإطلاق على الرؤوس التي يأكلها أهل ناحية. والترتيب للعراقيين، استاقوه كذلك، وهو حسن.
والوجهان مأخوذان من الخلاف فيه إذا حلف القروي لا يدخل بيتاً، فدخل الخباء والخيام، ووجه التقريب لائح؛ فإن اسم البيت حقيقة في وضع اللسان للخيام والأخبية، وقد جرى بذلك عرفٌ على حسب اللسان، فإذا استعمل أقوام اسم البيت، وهم لا يساوون أهل اللسان في عرفهم، فينشأ الخلاف المقدم، كذلك اسم الرؤوس
__________
(1) في (ق) : "الله".(18/390)
في أصل الوضع يتناول كل رأس، فإذا انضم إليه عرف أهل ناحية، التحق بإطلاق اسم البيت، فهذا بيان الطرق من جهة النقل.
ولا بد من عطف البحث عليها.
11807- أما من أدرج رؤوس النعم وأخرج ما سواها، فهذا محمول على اعتقاد هؤلاء أن رؤوس الإبل مأكولة في بعض البلاد، ورؤوس البقر أعم من رؤوس الإبل، ورؤوس الغنم يعتاد أكلها في طَبَقِ الأرض، فبنى هؤلاء المذهب على ما وجدوه في الاعتياد، ولم يتكلموا على التقدير.
ومن قدّر أكل رؤوس الصيود، استوعب الكلام على الموجود والمقدر، وما عندنا أن أهل الطريقة الأولى ينكرون الكلام على هذا التقدير لو روجعوا فيه، وما حكاه صاحب التقريب من التخصيص برؤوس الغنم مخالفة، وكأنَّ صاحب [هذه] (1) الطريقة يعتبر العموم، ولا [يعتبر] (2) الحكم بما يندر من الأكل في رؤوس الإبل والبقر. ولو روجع هذا القائل في تقدير عموم الأكل في بعض النواحي، لم ينكر نزول الاسم على ما يعم أكله. والذي يختص هذا القائل به أنه لا يحكم على أهل البلاد بما يندر فيهم، وغير هؤلاء يقولون: إذا كان الشيء مفرداً مأكولاً -وإن كان لا يعم- كان بمثابة لحم الإبل بالإضافة إلى لحم الغنم في كثير من البلاد. وعلى الجملة لا معنى لاعتبار العموم، ورَجَع حاصلُ الكلام إلى المنهج الأعدل الذي ذكرناه للعراقيين في الخلاف والوفاق.
11808- وإذا قال الحالف: " لا آكل اللحم "، لم يحنث بالحيتان، وإن كانت تعم؛ فإنها حيث تعم لا تسمى لحماً مطلقاً، فمأخذ الكلام فيها من الاسم لا من الاعتياد، وأما الرؤوس، فالاسم لجميعها حقيقة، ومأخذ الكلام فيها من اعتبار الإفراد حتى ينزل عليها مطلق اسم الرؤوس إفراداً.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " ولا يغيّر ". والمثبت تقدير من المحقق. ونحمد الله فقد صدقتنا نسخة (ق) .(18/391)
11809- ومما يضاهي الرؤوسَ، البيض. قال الشافعي (1) : إذا حلف لا يأكل البيض، حمل لفظه المطلق على كل بيض يزايل البائض: كبيض الدجاج، والوز، والبط، ونحوها وأراد إخراج بيض الحيتان؛ فإنها لا تُلقى مزايلةً، فتؤكل، وإنما توجد في بطونها، واسم البيض على الإطلاق لا يتناول بيضَ الحيتان، كما لا يتناول اسم اللحم عند الإطلاق الحيتان.
ثم قال الأئمة: البيض التي لا تفرد بالأكل اعتياداً، وإن كانت تزايل البائض كبيض العصافير والحمام ونحوها، فهي بالنسبة إلى البيض التي يعتاد أكلها كرؤوس الطير بالإضافة إلى الرؤوس التي تفرد بالأكل اعتياداً، وإنما ذكر الشافعي مزايلة البيض البائضَ ليُخرج بيضَ الحيتان، لا ليدخل بيض العصافير، هذه الطريقة المرضية.
وفي كلام بعض الأصحاب رمز إلى إجراء نص الشافعي على حقيقته في كل بيض يزايل بائضه، وهذا يضاهي طريقةَ صاحب التقريب في إدخاله جمنة الرؤوس تحت اسمها المطلق في الأيمان.
فصل
قال: " ولو حلف لا يشرب سويقاً، فأكله ... إلى آخره " (2) .
11810- مضمون هذا الفصل الكلام على الأكل والشرب والذوق. فإذا كان الحلف على الأكل، لم يقع الحنث بالشرب، وإذا كان على الشرب، لم يقع الحنث بالأكل. وإذا كان اللفظ الجاري شاملاً لهما، وقع الحِنث بالأكل والشرب.
وبيان ذلك بالتفصيل: أن من قال: لا آكل السويق، فلو استفّه، حَنِث. وكذلك لو لتّه بسمن أو ماء، ولم ينته إلى الانمياع، وكان يتعاطاه أكلة أكلة، فهذا الأكل، ولو ماثه (3) وخلطه بالماء الكثير حتى انماع وتحسّاه شرباً، فهذا شرب، وليس بأكل،
__________
(1) ر. المختصر: 5/235.
(2) ر. المختصر: 5/236.
(3) ماثه: أذابه ومرسه بيده، وألانه. (المصباح، والمعجم) .(18/392)
والذي يتردد الرأي فيه أن يكون خاثراً يتأتى تعاطيه بالملاعق، ويتأتى تحسّيه على ثخونته، فكيف الوجه؟ هذا محتمل عندي: يجوز أن يقال: تحسّيه شربٌ في حكم البر والحنث، ويجوز أن يقال: يتناوله اسم الأكل والشرب جميعاًً. والإهالة (1) الخاثرة وإن كان تتحسى لا يبعد انطلاق اسم الأكل فيها، والعلم عند الله.
ولو قال في يمينه: لا أطعم أو لا أتناول، عمّ ذلك الأكلَ والشربَ. ولو قال بالفارسية " نخورم " تناول الأكل والشرب. ولو قال: والله لا آكل، فإذا أدرك الطعم وازدرد منه المقدار الذي يزدرده الذائق، فهذا ليس أكلاً ولا شرباً، هذا ذكره القاضي الأصحاب.
ولو حلف لا يذوق، فأدرك الطعم، ثم مجّ ما ذاقه ولفظه، بحيث لا يفطر الصائم، ففي حصول الحنث وجهان: أحدهما - لا يحصل؛ فإن الذوق لا يطلق حقيقة إلا عند وصول شيء نَزْرٍ إلى الباطن، فإذا مج، ولفظ، يقال: أدرك الطَّعْم، والأصح أنه ذائق وإن لم يزدرد.
ولو قال: لا أذوق، فأكل وشرب، فالأصح أنه يحنث؛ فإنه ذاق وزاد، وأبعد بعض الأصحاب فيما نقله بعض المصنفين، وقال: لا يحنث إذا أكل وشرب؛ فإن اسم الذوق يستدعي اقتصاراً، فإذا استتم الإنسان أكلاً، لا يقال ذاق، وهذا [تخييل] (2) لا حاصل له.
ولو قال: لا آكل السكر والفانيذ، فوضع سكرة أو فانيذة في فيه، وترك حتى ذاب، وابتلع الذائب؛ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا ليس بأكل؛ فإن الأكل إنما يجري فيما يمضغ ويردّد ويزدرد.
ومن أصحابنا من قال: هو أكل، وهذا متجه؛ فإن الذي فعل ما وصفناه لا يقال: شرب السكر، ولو مضغ وازدرد الرضاض، فهو آكل، وإن مضغ حتى انماع بمضغه، ففيه الخلاف، والحنث هاهنا أولى لجريان المضغ.
__________
(1) الإهالة (بالكسر) : الشحم، والزيت، وكل ما يؤتدم به (المعجم) .
(2) في الأصل: تحصيل، والمثبت من تصرف المحقق، على ضوء المعهود من عبارات الإمام.
والحمد لله فقد صدقتنا (ق) .(18/393)
ولو قال: لا آكل العنب والرمان، فاحتوى بفيه على المحلوف عليه ولم يزدرد من الثُّفْلِ شيئاً، فقد قال القاضي: لا يحنث، وفيه الاحتمال الذي ذكرته، في انمياع السكر والفانيذ؛ فإن من كان يمجّ الثُّفْلَ يسمى آكلاً للرمان والعنب، والمتبع في الأيمان خاصةً العرفُ والإطلاقُ [لا] (1) حقاًئقُ الصور. نعم، لو جمع ماء الرمان والعصير وشربهما، فليس أكلاً، ولو قال قائل: ليس المصّ شرباً، ولا آكلاً، كما أن الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، لكان ذلك قولاً، ولم يصر إليه أحد فيما أظنه.
11811- وفيما قدمته من المسائل دقيقة، يجب التنبيه لها، وهي أن من قال: لا آكل، فالحنث يحصل بالقليل والكثير، وإذا كان كذلك، فالمقدار الذي يتجرعه الذائق، لم [يخرج] (2) عن الأكل والشرب مع قول الأصحاب؛ فإن الحنث يحصل بالقليل حصولَه بالكثير، وإذا جمع الجامع بين هذا وبين ما ذكره الأصحاب من أن ما يحصل به الذوق ليس حنثاً في الأكل، ولا في الشرب، تنشّأ (3) له بعد هذا التنبيه مسلكان: أحدهما - أن المقدار الذي هو على حد الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، وإنما يحصل الأكل والشرب بعد ذلك. ثم ينقسم إلى القلة والكثرة.
والمسلك الثاني - أن يقال: الزائد على حد الذوق لا يعتبر فيه القصد، وهو أكل أو شرب، والقدر الذي يحصل الذوق به قد يختلف الأمر فيه بالقصد؛ فإن قصد الأكل ولم يَبغْ درك طعمه، فهو آكل أو شارب، وإن قصد به درك الطعم، فهو ذائق، وليس بآكل ولا شارب. فهذا هو الممكن عندنا في ذلك.
فصل
قال: " ولو حلف لا يأكل سمناً، فأكله بالخبز ... إلى آخره " (4) .
11812- إذا حلف لا يأكل سمناً، وكان ذائباً فتحسّاه، لم يحنث، لأنه شرب
__________
(1) في الأصل: " إلا ". وقد صدقتنا (ق) .
(2) في الأصل: " خرج ".
(3) تنشأ لحاجته: إذا نهض ومشى لها (المعجم) والمعنى هنا ظهر له بعد هذا التنبيه مسلكان.
(4) ر. المختصر: 5/236.(18/394)
وما أكل، وإن كان جامداً، فأكله على جموده، فهو آكل، ولا يشترط في اسم الأكل المضغُ والترديد، بل لو بلعه على جموده فهو أكل.
ولو قال: لا آكل السمن، فأكله في العصيدة [أو] (1) الفالوذ، فهذا يستدعي تمهيدَ أصل يتضح به ما انتهينا إليه وأمثالِه، فنقول: من عقد اليمين على جنسٍ، فاختلط ذلك الجنس بغيره؛ فهذا يفرض على وجوه: أحدها - أن يختلط اختلاطاًً يصير مستهلكاً بحيث لا يظهر أثره في الحسّ، فإن كان كذلك، فلا يحصل الحنث، فإذا قال: لا آكل السمن، فاستعمل السمن في الدقيق والماء، وكان يُعَصِّد ويُلوي على النار، حتى لم يبق جرم السمن محسوساً، ولم يبق له أثر مدرك، فالحكم ما ذكرناه.
ولو بقي أثره كالطَّعم واللون، ولكن استجد ذلك المختلط اسماً، وكان لا يفرد أركانه المختلطة بالاسم، ففي حصول الحنث وجهان، إذا كان يتحقق الأكل فيه، والحلف على الأكل، أو كان يتحقق الشرب فيه، والحلف على الشرب. ولو كان ما حلف عليه ممتازاً في الحسّ، كالسمن الممتاز عن العصيد، فإذا أكل العصيد والسمن معه، فالمذهب أنه يحنث. وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: لا يحنث؛ لأن الأكل إذا أضيف في صيغة اليمين إلى جنس، اقتضى إفرادَه بالأكل، وهذا ضعيف مردود عليه.
ونقل القاضي والعراقيون عنه أنه لو حلف لا يأكل السمن، فأكله مع الخبز لا يحنث، وهذا على نهاية البعد، فإن السمن لا يؤكل إلا كذلك، ولا يُتَعاطى وحده فيُبلع، وقوله في أكل السمن بالخبز أبعدُ من قوله في أكل العصيد مع السمن الظاهر.
ولو قال: والله لا آكل الخل، وكان يروغ اللقمة فيه، فهذا أكلٌ، وإن كان الخل مائعاً في نفسه، ولكن إذا تشربه الخبز تناوله اسمُ الأكل.
ولو حلف لا يأكل الخل، فاتخذ منه مرقة وأكلها بالخبز، فقد نص الشافعي أنه لا يحنث في يمينه، وأطلق ذلك. ولم يفصّله، فصار معظم الأصحاب إلى أنه إن كان
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(18/395)
طعمه ظاهراً في المرقة، فالحنث يحصل، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من يجري على ظاهر النص، ويقول: لا يحنَث؛ لأن الاسم قد تغير باتخاذ المرقة، فلا يقال لمن أكل السّكباج (1) : [إنه أكل] (2) الخل، بخلاف السمن المتميز الحائر على العصيد، وهذا ذكره صاحب التقريب وزيّفه، وفي المسألة احتمال على حال.
فصل
قال: " ولو حلف لا يأكل لحماًً، فأكل شحماً ... إلى آخره " (3) .
11813- إذا حلف لا يأكل لحماً، لم يحنث بأكل الشحم، نعني ما على الثِّرب، والمِعَى، والكُلى، ولا نعني سَمن اللحم.
ولو حلف لا يأكل الشحم، لم يحنث بأكل اللحم الأحمر، ولو حلف لا يأكل اللحم، فأكل الأَلْية؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث، كما لا يحنث بأكل الشحم؛ فإن الألية تتميز عن اللحم تميّز الشحم.
ولو قال: لا آكل الشحم، فأكل سَمْن اللحم، وهو ما يعلو اللحم الأحمر، وقد يوجد في خلله أيضاً، فهذا يستدعي بيانَ مقدمة: فإذا قال: لا آكل الشحم، هل يحنَث بأكل سمن اللحم؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين: أحدهما - أنه يحنث؛ فإنهما يقربان صورة وطعماً. والثاني -وهو الأصح- أنه لا يحنث؛ فإن اسم [الشحم] (4) لا ينطلق عليه عرفاً. ثم قال الشيخ: من أدرجَه تحت اسم الشحم يقول: لو قال: لا آكل اللحم، لم يحنث بأكل السمن. وهذا بعيد.
وحكى الشيخ عن أبي زيد المروزي أنه قال: إن قال ذلك عربي، فالسمن في حقه شحم، وإن قاله أعجمي، فهو لحم، ثم لا يخفى التفصيل إذا اختلف عُرف أهل
__________
(1) السكباج: بكسر السين لا غير: طعامٌ يعمل من اللحم والخل، مع توابل وأفاويه، أعجمي معرب (المعجم والمصباح) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) ر. المختصر: 5/236.
(4) في الأصل: " اللحم ". والمثبت تقدير منا، وجاءت (ق) مثل الأصل.(18/396)
اللسان، وأصحاب القرى والبلاد، وهذا فيه إذا استعمل القروي لغة العرب.
فأما إذا عقد اليمين على الاسم الأعجمي للشحم، فقال: " بيه نخورم "، فهذا لا يتناول سمن اللحم. والأصحُّ من بين ذلك أن سمن اللحم جزء من اللحم، لا يتناوله اسم الشحم، فيرجع الخلاف إلى الأَلْية بالإضافة إلى اللحم، ولا تكون الألية شحماً على الطريقة المرضية. وسنام البعير فيه بمثابة الألية من الشاة، وليس كالشحم.
ولو حلف لا يأكل لحماًً، فالمذهب أنه لا يحنث بأكل الكرش والأمعاء والكبد والطِّحال والرئة؛ فإن شيئاً من ذلك لا يسمى لحماً. وحكى الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد أنه حكى في هذه الأشياء كلِّها قولين عن ابن سريج: أحدهما - أنها بجملتها تُعدّ في حكم اللحم. وهذا غريب جداً، لم يحكه غيرُ الشيخ، ولم يتعرض في هذه الطريقة للشحم. وقد وجدت اتفاق الأصحاب على أن اللحم لا يتناول الشحم.
وإذا حلف على اللحم وجرينا على ما هو المذهب في إخراج الأصناف التي ذكرناها عن اسم اللحم، فالحالف على اللحم هل يحنث بأكل القلب؟ فيه وجهان: أحدهما -وهو الذي ذكره الصيدلاني- أنه يحنث؛ فإن القلب لحم. والثاني -وهو الذي قطع به العراقيون- أنه لا يحنث بأكل القلب، كما لا يحنث بأكل الكبد؛ فإنه لا يسمى لحماًً، والمسألة محتملة، والكُلية عندي في معنى القلب، وقد قدمنا أن الكبد خارج عن اسم اللحم.
11814- ولو حلف لا يأكل اللبن، حَنِث بالرايب، وإن صار قارصاً؛ فإن العرب تسميه لبناً تحقيقاً.
ولو حلف على اللبن، فأكل الزُّبْد، فإنه لا يحنث على المذهب، وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يحنث؛ لما في الزُّبد من الرغوة، وهذا ليس بشيء؛ فإن المتبع الاسم، كما قدمناه، ولو حلف على اللبن، لم يحنث بالسمن، ولو قال: لا آكل زُبداً، أو لا آكل سمناً، فأكل اللبن، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين، وهذا ليس بشيء، والوجه القطع بأنه لا يحنث.(18/397)
ولو ذكر اللبن ثم تعاطى المَخيض الذي انتزع السمن منه، ففي المسألة وجهان، وسبب الخلاف أن العرب في بلادها تسمي المخيض لبناً، وتسمي اللبن -قبل أن يُمْخَضَ- الحليبَ، والصريف.
ولو حلف لا يأكل الزُّبد، لم يحنث بالسمن، ولو حلف لا يأكل السمن، فالمذهب أنه لا يحنث بالزبد، وفيه وجه غير معتد به، ولو حلف لا يأكل السمن، لم يحنث بالأدهان. ولو عقد اليمين على الدّهن، فهل يحنث بالسمن؟ تردد فيه جواب القاضي، والمختار عندنا أنه لا يحنث.
وإن قال بالفارسية: " روغن " تناول السمن والأدهان.
11815- وإن حلف على الجوز [قال القاضي] (1) يحنث بجوزنا، ويحنث بالجوز الهندي، وإذا حلف على التمر، لم يحنث بالتمر الهندي- هكذا قال، وهو حسن؛ فإن اسم التمر لا يطلق فيه ما لم يضف إلى الهند، ولهذا اتجاه في الجوز الهندي أيضاً، ولكنه في التمر الهندي أظهر.
والعرب لا تسمي التمر الهندي تمراً، وإنما تسميه [الحُمَر] (2) ، فإن عورضنا بتسمية الجوز الهندي الرانج، فالعرب لا تعرف ذلك، وأنا أراه اسماً معرباً؛ وليس في الأبنية الأصلية ما يتركب من الراء والنون والجيم.
ومما ذكره القاضي أنه إذا حلف لا يأكل لحم البقر، حَنِث بأكل بقر الوحش.
ولو قال: لا أركب حماراً، فركب حمار الوحش، ذكر القاضي فيه تردداً، وليس يبعد إجراء هذا التردد في بقر الوحش.
ثم قال: " ولو كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً ... إلى آخره " (3) .
11816- إذا حلف لا يكلم فلاناً، فرمز رمزاً مُفهماً، وأشار إشارة مفيدة، فقد ذكر الأصحاب في تحنيثه قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في القديم- أنه
__________
(1) زيادة من (ق) .
(2) في الأصل: " الجمر ". والتصويب من المعجم الوسيط.
(3) ر. المختصر: 5/236.(18/398)
يحنَث؛ لأن هذا كلامُ قومٍ، والعبارات دلالات كالإشارات، واحتج على ذلك باستثناء الرمز من الكلام في قوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام.
والقول الجديد أنه لا يحنث بالرمز؛ فإنه لا يسمى كلاماً، ومن فرّع مسائل الأيْمان على غير اتباع الاسم والعرف، فهو حائد عن وضع الكتاب، وإذا فرّعنا على الجديد، [فقد يتردد الفطن] (1) في إشارات الخُرس؛ من جهة أنا نقيم إشاراتهم مقام عبارات الناطقين، فيما يفتقر إلى النطق، وهذا مما [حذرت] (2) منه الآن؛ فإنه تمسك بالأحكام التي قد تبنى على الضرورات ومسيس الحاجات.
والوجه القطع بأن الخرس إذا ترامزوا، لم يكن ذلك منهم كلاماًً، فإنما إشاراتهم خَلَفٌ عن العبارات، وعلى هذا إذا أشار الأخرس في الصلاة، فمن جعل الإشارة كلاماًً وحنَّث بها، فلا يبعد أن يقضي ببطلان صلاة الأخرس إذا باع في الصلاة، أو طلّق بالإشارة.
والكتابةُ في جميع ما ذكرناه في معنى الإشارة؛ فإنها وإن كانت تُفهم، فليست كلاماًً، فيجري فيها القولان والتفصيل.
وقال الأصحاب: المهاجرة التي حرّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين -وهي قطع المكالمة- لا تزول بالمكاتبة. ولو حلف ليهاجرن فلاناً، ثم كتب إليه، لم يحنث وفاقاً، وهذا بيّن للمتأمل. وإذا رمز إلى صاحبه، ففي قطع المهاجرة بالرمز تردد عندنا، والعلم عند الله.
فإن قيل: من ألحق الكتابة بالكلام، كيف لا يقطع المهاجرةَ بها؟ قلنا: رب شيء يكون كلاماً، فلا يقطع المهاجرة، كالشتم والسب، وكل ما يوغر القلب بشيء من ذلك لا يقطع المهاجرة، وإن كان كلاماًً، ولو قال: لا أكلم فلاناً، فزجره على إثر اليمين، كان ذلك مكالمة مُحْنِثة. وقال أبو حنيفة (3) رضي الله عنه: إن اتصل الزجر
__________
(1) في الأصل: " فهو تردد النظر ". والمثبت من (ق) .
(2) في الأصل: " صدرت " والمثبث من (ق) . والمعنى أنه حذر من الحيد عن وضع الكتاب بأخذ أحكام الأيمان من غير اتباع الاسم والعرف، فقد أخذها من أحكام الضرورات.
(3) لم نصل إلى قول أبي حنيفة في كتب الأحناف.(18/399)
بالحلف، لم يقع الحِنث به، وإن انفصل عنه، حَنِث.
ولو قال: لا أتكلم، فقرأ القرآن، أو سبّح، وهلّل، فقد قال الأصحاب: لا يحنث- وهذا ظاهر في قراءة القرآن، ولو قال: لا أتكلم، فأخذ يردد شعراً، كان ذلك كلاماً، ومذهب أبي حنيفة (1) رضي الله عنه أنه يحنث بالتسبيح والتهليل، وفيه احتمال، أخذاً مما ذكرناه من إنشاد الشعر وما في معناه.
فصل
قال: " ولو حلف لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي ... إلى آخره " (2) .
11817- إذا قال لا أرى منكراً إلا رفعته إلى فلان القاضي، فإذا رأى منكراً وأراد البر، فليرفعه إليه إذا تمكن، وإن أخر الرفع، ثم رفع إلى من عَيَّنَ مع اطراد الولاية، برّ في يمينه؛ فإنه ليس في لفظه ما يتضمن [تعقيب] (3) رؤية المنكر بالرفع، ولو تمكن من الرفع، ولم يرفع إلى من عَيَّنَ حتى مات [ذلك الشخص، يحنث حينئذٍ. ولو رأى المنكر ولم يتمكن من الرفع حتى مات] (4) ، فقولان.
ولو رأى وابتدر الرفع غير مؤخِّرٍ، فمات القاضي قبل انتهاء الرفع إليه، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بأنه لا يحنث، ومن أحاط بما جمعناه في فصل الإكراه والنسيان، وذكرناه في ترتيب المسائل بعضِها على البعض، لم يخف عليه أمثالُ ما نحن فيه.
ولو عُزل القاضي ورأى منكراً بعد عزله، فهل يتعلق البر برفعه إليه بعد العزل؟ إن كانت له نية في تخصيص الرفع بحالة القضاء أو في تعميم الرفع في الأحوال، فلا
__________
(1) ر. المبسوط: 9/22، حاشية ابن عابدين: 3/104.
(2) ر. المختصر: 5/236.
(3) زيادة من المحقق، استئناساً بلفظ الغزالي في البسيط، حيث قال: " ... فإن أخره مع التمكن يوماً ثم رفعه، فقد حصل البر، إذ ليس في لفظه ما يوجب التعقيب " (البسيط: 6/ ورقة: 79 شمال) . وقد صدقتنا (ق) .
(4) زيادة من نسخة (ق) .(18/400)
خلاف أن نيته متبعة. وإن كان لفظه مطلقاً، ففي المسألة قولان مأخوذان من تمييل (1) الشافعي قوله، فإنه قال: " إذا لم يكن له نية، خشيت أن يحنث "، يعني إذا لم يرفع بعد العزل، وهذا الاختلاف مأخوذ من الإشارة والوصف في قول القائل: [لا آكل] (2) لحم هذه السخلة، فإذا كبرت، ففي الأكل من لحمها الكلامُ المقدم. فإذا قال: إلى فلان القاضي، فتسميته بمثابة الإشارة، والقضاءُ وصفه.
ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى قاضٍ، لم يتعين عليه قاضٍ، ولا أثر لموت من مات، وفوت من فات، ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى القاضي، فهل يتعين لهذا الشأن القاضي الذي في البلد وقتَ التلفظ؟ فعلى وجهين مذكورين في بعض التصانيف.
وفي المسألة احتمال إذا كان اللفظ مطلقاً؛ من جهة اقتضاء الألف واللام التعريف، والتعريف يتردد بين صاحب الأمر المنتصب في المكان والزمان، وبين الجنس، وهذا أغلب وأوقع. وهو كقول القائل: القاضي لا يداهن، ولا يفضل خصماً على خصم، فليس المراد بهذا معيناً. ولكن المراد الكلام على جنس القضاة، ولو قال: " إلى فلان القاضي "، فعُزل، رأينا أن الرفع إليه بعد العزل لا يدخل تحت مطلق اليمين.
فلو كان رأى منكراً في حالة قضائه، ولم يرفعه حتى عزل، فلو وُلّي بعد العزل، رفعه إليه؛ فإن الشخص [ذاتُ] (3) الشخص، والولاية محققة، على هذا إذا عُزل لا نقطع بالحنث، ونحن ننتظر أن يولَّى مرة ثانية.
وإن قال: [أرفعه] (4) إلى القاضي، فلو مرّ القاضي بمنكر وعاينه، فهل يرفعه إليه؟ نُظر: فإن كان مع القاضي، فيبعد أن يقال: يرفعه إليه؛ فإنهما مشتركان في الاطلاع على المنكر، ولو رآه القاضي وحده، أو رفع إليه لا من جهة الحالف، فهل
__________
(1) تمييل: أي عدم قطع؛ فإنه قال: " خشيت " وفي (ق) تمثيل.
(2) في الأصل: " لا أكلم ".
(3) في الأصل: " ذلك ". والمثبت من تصرف المحقق.
(4) في الأصل: " ارفعوا ". وصدقتنا (ق) .(18/401)
يرفعه الحالف؟ فيه تردد للأصحاب: منهم من قال: يرفعه للبرّ. ومنهم من قال: لا معنى لرفعه؛ فإن معنى الرفع إعلامُه بما ليس عالماً به، ثم إن قلنا: يرفعه، فلا كلام، وبرّه في الرفع، وإن قلنا: لا ينفع رفعُه، فهذا مما تعذر البرّ فيه، فكأنه كما لو قال: لأشربنّ ماء هذه الإداوة، ولا ماء فيها.
فصل
قال: " ولو حلف ما له مالٌ ... إلى آخره " (1) .
11818- إذا حلف على المال انصرف إلى كل ما يتمول، ويتهيأ للتصرفات التي تستدعي الملك، وهل ينصرف لفظ المال إلى أمهات الأولاد والمكاتبين -واللفظ مطلق- فعلى ثلاثة أوجه: وجهان عامّان في النفي والإثبات. والثالث - أن المكاتب لا يدخل؛ لاستقلاله، وأم الولد تدخل، والمدبر عبد يعتق كسائر العبيد، وما ذكرناه في كتاب السرقة من سرقة أمهات الأولاد يدنو مما نحن فيه، وإن كان معتمدُ اليمين الاسمَ، وحكم المالية في السرقة معتبرٌ على نسق آخر.
وأجمع الأصحاب في الطرق أن المنافع لا تندرج تحت مطلق اسم المال، فلو كان لا يملك إلا منافعَ بقعة استأجرها، فهي خارجة عن اسم المال، إلا أن تُعنى وتُنوى، [و] (2) إذا كان للحالف على المال شيءٌ موقوف عليه، فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه رقبةَ الوقف، فلا حِنث إذا قال [ما قال] (3) . وإذا قلنا: الموقوف مِلكُ الموقوف عليه، فهذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في أمهات الأولاد.
والديون أموال وإن كانت على معسرين أو مماطلين، وهي بمثابة العبد الآبق، ولم يختلف الأصحاب في الآبق، وإن ترددوا في المكاتب، والعَوْد إلى الرق في المكاتب منتظر، حسب انتظار إياب الآبق.
وردّد بعض الأصحاب الجواب في الدين المؤجل أخذاً من إبعاد بعض الناس في أن
__________
(1) ر. المختصر: 5/237.
(2) الواو زيادة اقتضاها السياق، وهي موجودة في (ق) .
(3) في الأصل: " إذا قال ما لو قال ".(18/402)
الدين المؤجل هل يكون مملوكاً؟ وهذا هوس لا يعتدّ به. وكيف لا يكون المؤجل مملوكاً، وهو يثبت عوضاً في البيع مع استحالة تعرّيه عن العوض المملوك.
ثم لا يختص المال عندنا بأموال الزكاة، ولْتدخل تحته جميع الأصناف، حتى الثياب التي على الحالف، وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: المال في اليمين محمول على الأموال الزكاتية، وربما يقول: إنه محمول على الدراهم والدنانير.
فصل
قال: " ولو حلف ليضربن عبده مائة سوط ... إلى آخره " (2) .
11819- إذا قال لعبده: " إن لم أضربك مائة سوط فأنت حرّ " فكيف الحكم فيه؟ هذا الفصل خارج عن قياس الكتاب بعضَ الخروج على ما سننبّه عليه في أثناء الكلام، فإذا حلف ليضربنه مائة خشبة، فيبرّ في يمينه بأن يضربه بشمراخ عليه مائة من القضبان، وإن كانت دِقاقاً، وهذا متفق عليه، والأصل المعتمد قوله تعالى في قصة أيوب عليه السلام- وكان حلف ليضربن امرأته مائة خشبة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
واتفق العلماء على أن هذا معمول به في ملّتنا، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ، وفيما يقع برّاً وحنثاً، ثم تأكد ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المخدَج الذي خَبَث بامرأة؛ فإنه قال: " خذوا عثكالاً عليه مائة شمراخ، فاضربوه به " (3) ، ولا يكاد يخفى أنا كنا لا نطلق القول على هذا الوجه لولا ما ثبت من التوقيف فيه، ولو لم نجد إلا حديث المُخْدَج، لما بنينا عليه أمر اليمين، فقد تأكد الغرض بقصة أيوب، كما ذكرناها.
ثم إذا كان قال: لأضربن مائة خشبة، فالوضع لا يكفي، فإنه لا يسمى ضرباً،
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 307، مختصر اختلاف العلماء: 3/255 مسألة: 1361.
(2) ر. المختصر: 5/236.
(3) سبق في حد الزنى.(18/403)
ولا يشترط ضرباً يؤلم مثله ألماً [محتفلاً] (1) به، بل يكفي ما يسمى ضرباً.
ثم إذا تحقق اسم الضرب، فلا بد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً، ثم إن كانت القضبان منبسطة [فلاقت] (2) بجملتها الجلد إذا وقع الضرب بها، فقد حصل البرّ، وإن لقي البشرةَ بعضُها، ولم يتكابس الباقي عليها بحيث تثقل التي لاقت البشرة، فلا يحصل البِرُّ، وإذا تكابست القضبان العالية على التي لاقت البشرة، وثقَّلتها بعضَ التثقيل، ففيه خلاف مشهور بين الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن البِرَّ لا يحصل، لأن أدنى درجات الضرب أن [تلقى] (3) الآلةُ المضروبَ. وقال آخرون: يكفي التكابس، والتثقيل، وهذا القائل يستشهد بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} والغالب أن قضبان الضِّغث لا تنبسط، فجريان الاكتفاء في الضرب بالضغث يدل دلالة ظاهرة على أن المماسّة في الجميع ليست شرطاً.
ومما يجب التنبه له أنا أجرينا في أثناء الكلام ذكر مماسّة القضبان البشرة، ولم نعن بها حقيقة المماسّة، ولكن لو صادف الضربُ المضروبَ وبين القضبان والبشرة قميص أو ما في معناه، فالضرب يحصل على شرط أن [لا يمنع] (4) الحائل تأثر البشرة، وإن لم يعظم [أثره] (5) .
ومن حلف ليضربن رجلاً، فلا يشترط أن ينال موضعاً بارزاً منه، ولكن لو ضرب المحلوفَ عليه بيده أو بآلة، وتأثر المضروب، كفى ذلك، وإن كان بينه وبين ما يقع الضرب به حائل.
11820- وإذا اكتفينا في مسألة الشمراخ بأن يَلْقَى البدنَ بعضُ القضبان، وينكبس البعض على ما لقي المضروب انكباس تثقيل، فوقع الضرب، وأشكل الأمر، فلم ندر أحصل الانكباس أم لا؟ وإن شرطنا المماسّة، لم ندر أحصل المماسةُ أم لا؟ فالذي
__________
(1) في الأصل: " مختلفاً به ". وقد وافقتنا (ق) والحمد لله.
(2) في الأصل: " فماتت ".
(3) في الأصل: " لقى ".
(4) في الأصل: " يمتنع ". وأيدتنا (ق) .
(5) زيادة من (ق) .(18/404)
نص عليه الشافعي (1) هاهنا أنه لا يحنث، ونص في مسائل الاستثناء على أنه لو قال: لا أدخل الدار إلا أن يشاء زيد، فمات زيد ولم يدر أشاء أم لا؟ وكان دخل الحالف: قال الشافعي: يحنث.
واختلف أصحابنا على طريقين: منهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج والجامعُ الإشكال. ومنهم من أجرى النصين، وفرّق، فقال: إذا حصل الضرب، فالغالب الانكباس إن اكتفينا به، فوجدنا لوقوع المقصود أصلاً نتخذه مستنداً للظن، والتعويل في مسألة المشيئة على أن يشاء زيد، ولم يتحقق أنه شاء أم لم يشأ؟ والأصل عدم المشيئة، ولا مستند لما نظنُّ، [أما] (2) مسألة المشيئة، فقد استقصيناها في موضعها من كتاب الطلاق، وذكرنا حقيقتها.
وأما هذه المسألة، فالنص فيها، [يقتضي] (3) أنا نبني الأمر على حصول المقصود، فالوجه عندنا أن يقع الضرب على حالة يغلب على الظن حصولُ المطلوب فيها، فلو لم يغلب على الظن، فيبعد اعتقاد البِرّ من غير ظن.
ثم من جرى على النص، ولم يذكر قولاً آخر، لم يتوجه ما قاله بإسناد المقصود إلى ظاهر الضرب، وإنما يتوجه بظاهر كتاب الله تعالى إذا (4) قال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] ، فأثبت الضرب، ونفى الحنث؛ والمسألة مبنية على طرفٍ صالح من التخفيف والرخصة. وإذا كان المعتمد في ذلك الكتاب، فينبغي أن يقع الاقتصار على ما يُشعر به ظاهر الكتاب، فأما تعليل ذلك بالظن مع القطع بأن البر لا يتحصل في قياس الباب إلا بالقطع، فلا وجه له.
فإن قيل: إن كان كذلك فلم اشترطتم غلبة الظن؟ قلنا: لا أقل منها، والضغث إذا تحقق الضرب به وقضبانه لدنة لينة المَهْصَر والمِعْطف، فيغلب على الظن -إذا كان ما جاء به الحالف ضرباً، ولم يكن إمساساً محضاً- أن المقصود يحصل إذا كانت الآلة
__________
(1) ر. المختصر: 5/237.
(2) في الأصل: " أنها ".
(3) زيادة من (ق) .
(4) إذا: بمعنى إذ. وجاءت (ق) بـ (إذ) .(18/405)
مُتهيِّئة لما ذكرناه، [وكل] (1) هذا، ولفظ الحالف لأضربنه مائة خشبة.
11821- فأما إذا قال: لأضربنه مائة سوط، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه لا يكفي -واللفظ ما ذكرناه- الشمراخ ذو القضبان الضعاف، فإنه لا يسمى سياطاً، وهذا بيّن.
وذكر شيخي وجهاً آخر أن لفظ السياط ولفظ الخشبات لا يختلف، فإن السوط منه دقيقٌ ومنه متوسط، والباب مبني على التخفيف كما ذكرناه، وليس في معتمد الباب - وهو ظاهر الكتاب- ما يُشعر بالفصل بين لفظ الخشب والسوط.
فإن اكتفينا بالشمراخ، فذاك، وإن لم نكتف واشترطنا ما يسمى سوطاً، فلو جمع مائة سوط، وضرب بها دفعة واحدة، كان هذا بمثابة الضرب بالشمراخ، حيث يكون اللفظ الخشبة، ثم يعود التفصيل في أنا هل نشترط الإمساس في جميع السياط -على ما فسّرناه- أم نكتفي بمماسة البعض وانكباس البعض على وجه يثقل؟ وكل هذا إذا قال: مائة خشبة، أو مائة سوط.
11822- فلو قال: لأضربنه مائة ضربة، فقد قال الأصحاب: لا بد من الضربات المتوالية؛ فإن الرجل اعتنى بإضافة العدد إلى الضرب، فلتقع الضربات على الاعتياد فيها متوالية: الضربة بعد الضربة، حتى تنتجز الضربات المذكورة.
وذكر العراقيون وجهين - حيث انتهى الكلام إليه: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه لو أوقع الضربات بالسياط معاً كفى.
ثم كيف فرض الأمر، فلا يشترط الإبلاغ حتى يحصل الألم الناجع، ولا بد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً حتى يتميز الضرب عن الإمساس المحض والوضع.
ولو قال: لأضربن ضرباً شديداً، فلا بد من الإيلام الناجع، ثم لا حد يقف عنده في تحصيل البِرِّ، والرجوعُ إلى ما يسمى شديداً [في العرف] (2) ، وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال المضروب، والله أعلم.
وهذا نجاز مقصود الفصل.
__________
(1) في الأصل: " ولكل ".
(2) زيادة من المحقق.(18/406)
فصل
قال: " ولو حلف لا يهب له هبة، فتصدق ... إلى آخره " (1) .
11823- إذا حلف على الهبة حنث بالرُّقبى والعُمْرى والنِّحلة والتصدق، وإن كان التصدق يمتاز عن الهبة التي ليست تصدقاً، ولكن لفظ الهبة يتناول التصدق في أصل اللسان.
ولا يحنَثُ الحالف على الهبة بالعارية؛ لأنها ليست تمليكاً.
وإن وقف على الشخص المذكور، ابتنى هذا على أن الوقف هل يتضمن تمليك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف؟ فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه الرقبة، لم يحصل الحنث بالوقف، وإن قلنا: يملك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف، فيقع الحنث بالوقف.
وهذا فيه احتمال عندي ظاهر؛ من جهة أن الوقف (2) لا يسمى هبة في وضع اللسان وعرُفه، وإن تردد الفقهاء في أنه هل يقتضي تمليكاً أم لا؟ والمعتمد في الأيْمان العرف واللسان، فيجب (3) تخريج خلاف على قولنا يملك الموقوفُ عليه رقبةَ الوقف، وليس الوقف كالرقبى والعمرى؛ فإنها من الهبات تحقيقاً، وإن أُفردا بلقبين، وسبيلهما كسبيل اختصاص [ثمرة] (4) التفاح باسمها، وهذا لا يخرجها عن تناول اسم الثمار لها (5) . والله أعلم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/237.
(2) في الأصل: " الواقف ".
(3) المعنى أننا إذا قلنا: الموقوفُ عليه لا يملك رقبةَ العين الموقوفة، فلا يحنث قولاً واحداً. وأما على قولنا: بملك العين الموقوفة فيجب تخريج قولٍ آخر بعدم الحنث؛ لأن الوقف ليس هبة في وضع اللسان وعرفه.
(4) زيادة من المحقق على ضوء السياق.
(5) المعنى: أن الرقبى والعمرى من جنس الهبات، فلفظ الهبة يشملهما، كما أن لفظ الثمار يشمل التفاح، وإن أفرد باسم خاص.(18/407)
وإذا حلف لا يهب، فوهب وقبِل المتهب، فهل يتوقف الحنث على الإقباض؟ اختلف أصحابنا فيه على ما حكاه القاضي: فقال بعضهم: يحنث؛ لأن اسم الهبة يتم بهذا القدر، وقال آخرون: لا حقيقة للهبة حتى يتصل بها القبض؛ لأن القبض هو الركن، وبه حصول المقصود، والألفاظ تعنى لمقاصدها.
وقد ذكر العراقيون الخلاف على وجه آخر، فقالوا: إذا حصلت الهبة والقبول، فالذي جرى هبة في حكم الحنث والبر، بلا خلاف، وإنما التردد فيه إذا قال الحالف وهبت، فهل نقول: يحصل الحنث بمجرد قول الواهب قبل القبول؟ قالوا المذهب أن هذا ليس بهبة، وحكَوْا عن ابن سريج وجهاً أنه إذا قال: لا أهب، ثم وهب، حصل الحنث، وإن لم يقبل المتهب، مصيراً إلى أن الإنسان قد يخبر عما جرى، ويقول: وهبت لفلان، فلم يقبل مني، ولا شك أنهم يطردون هذا الخلاف في البيع وغيره من العقود المشتملة على الإيجاب والقبول.
ولو قال: لا أهب، ثم أضاف الشخص المذكور، وقدم إليه الطعام؛ فإن لم يأكله، فلا حنث، وإن أكله، فهذا يخرج على أن الضيف هل يملك ما يأكله؟ إن قلنا: إنه لا يملكه، فالذي جرى ليس بهبة، وإن قلنا: إنه يملك، ففيه تردد واحتمال، من جهة حصول الملك من وجه، وبُعد ما جرى عن اسم الهبة من وجه، والوجهُ القطع بأن الحنث لا يحصل.
11824- ولو كان المحلوف عليه التصدق مثل أن يقول: لا أتصدق، فلو وهب، ولم يقصد التصدق الذي يقع التقرب به، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يحنث؛ لأن الهبة لا تسمى صدقة، وإن كانت الصدقة تسمى هبة.
ومن أصحابنا من قال: يحنث بالهبة؛ فإنها تمليك من غير عوض، وهي في الاسم قريبة المأخذ بالإضافة إلى الصدقة، وهذا لا وجه له، والوجه ألا يحنث بالهبة إذا كان المحلوف عليه الصدقة. واختار القاضي التحنيث بالهبة مصيراً إلى أن الهبة لا تخلو عن ثواب كالصدقة، وهذا الاختيار لا يليق بمنصبه مع القطع بتحليل الهبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريم الصدقة عليه.(18/408)
11825- ثم قال: " ولو حلف لا يركب دابة العبد ... إلى آخره " (1) .
إذا حلف لا يركب دابة العبد، وقلنا: يملك العبد بالتمليك، وكان ملّكه سيّده دابة، فيحصل الحنث بركوبها؛ فإن الإضافة متحققة، كما ذكرناها.
وإن قلنا: لا يملك العبد بالتمليك، وكانت الدابة مختصة بالعبد، والعبدُ مختصٌّ بها، فالمذهب أن الحِنث لا يحصل بركوبها.
ولا يخفى أن ذلك في اللفظ المطلق. فلو أراد الحالف بالإضافة التي ذكرناها إضافة الاختصاص، فلفظه منزل على نيته، وقد أكثرنا ترديد ذلك في المسائل، وغرضنا أن يقف الناظر على أن مسائل الأيمان مفروضة في الإطلاق، وإنما حكمنا بأن الحنث لا يحصل إذا كان اللفظ مطلقاً، من جهة أن الملك يتوقع لذلك الشخص على الجملة، إما بتقدير أن يَعْتِق، وإما بتقدير أن يكاتَب، وإذا كان كذلك، توقف حصول الحنث على الملك المنتظر.
ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة أو لا أبيع جُلّها، وكان ما ذكره مضافاً إلى الدابة عن اعتيادٍ غالب وتخصيصٍ جارٍ، فيحصل الحنث إذا كان اللفظ مطلقاً؛ فإن الملك إذا لم يكن متصوراً، فالإضافة محمولة على الاختصاص الجاري. وهذا مستبين.
فصل
معقود فيما يسمى يمين اللجاج والغضب، ويسمى يمين الغَلَق (2)
11826- وتصويره يستدعي ذكر تقاسيم:
فما يلتزمه المرء ينقسم إلى ما يكون نذراً، وإلى ما لا يكون نذراً. والنذر ينقسم إلى ما يكون على طريق التبرّر والنُّسُك، وهو المعلّق بشرط، والالتزام معه في حكم
__________
(1) ر. المختصر: 5/237.
(2) يمين الغَلَق: أي يمين الغضب، قال بعض الفقهاء: سميت بذلك، لأن صاحبها أغلق على نفسه باباً في إقدام أو إحجام، وكأن ذلك مشبه بغلق الباب إذا أغلق، فإنه يمنع الداخل من الخروج، والخارج من الدخول، فلا يفتح إلا بالمفتاح، وغَلَقُ الباب جمعه أغلاق مثل سبب وأسباب (المصباح) وسيأتي قريباً شرح الإمام لهذا اللفظ.(18/409)
الاستسعاف بالطّلِبة، أو الاستدفاع لبلية محذورة، وذلك كقول القائل: إن شفى الله مريضي، أو ردّ غائبي، أو رزقني ولداً، أو ما في معناه، فلله عليّ كذا، فإذا ذَكَر على هذا المعرض ما يصح التزامه، كما سيأتي مشروحاً في كتاب النذر، إن شاء الله عز وجل؛ فإنه يلزمه ما سماه، إذا تحقق ما سأله وطلبه، وهذا إذا قال: إن شفى الله مريضي، فعليّ صدقة لله.
فإن لم يُضف ما التزمه إلى الله تعالى، فقد ذكر القاضي وجهين حكاهما: أحدهما - أنه نذر ملزم يجب فيه الوفاء بالمسمى، وهذا هو الأصح، لأنه لا يلتزم بالنذر إلا القربات، وأجناسُ القربات مُشعرة بوقوعها لله تعالى، فصار ذلك كالمصرح به.
والوجه الثاني - أن الالتزام لا يصح، ما لم يُضَف الملتزَم إلى الله تعالى؛ فإن القربات إنما تصير قربات بالإضافة إلى الله تعالى لا بألقابها.
والضرب الثاني - النذر المطلق الذي لا يُعلّق باستدفاع أو استسعافٍِ وسؤال، وهو أن يقول القائل: لله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو غيرها، مما يلتزم. وفي هذا القسم قولان: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء؛ فإنه تبرع، فلا يلزم بالالتزام، كما لو التزم أن يهب لزيد شيئاً، بخلاف الملتزَم في القسم الأول، فإنه مذكور عوضاً، وسيأتي شرح ذلك في كتاب النذور، إن شاء الله.
ثم قال القاضي إذا قال: عليّ عتق رقبة، واقتصر على هذا القدر، ولم يضفه إلى الله تعالى، فلا يلزمه مذهباً واحداً، وإنما الوجهان في ترك الإضافة في نذر التبرّر.
ولا وجه للقطع الذي ذكره؛ فإن النذر المطلق إذا جعلناه ملزماً بمثابة نذر التبرّر عند وجود الشرط، فإذا جرى الخلاف عند ترك الإضافة في نذر التبرّر، وجب لا محالة إجراء مثله في النذر المطلق. على أن الأصح عندنا أن الإضافة ليست مشروطة، وإنما يظهر الخلاف في الإضافة في نيّات (1) العبادات كما تقدم ذكره في أبواب النيات- وما ذكرناه كلام في النذر.
__________
(1) في (ق) : "باب".(18/410)
فأما الغَلَق، فصورته أن يقول: إن دخلت الدار، فعليّ صدقة أو عتق، أو ما أراد مما يُلتزم بالنذر، وشرط تصوير الغلق أن يقصد بذكر الملتزَم منع نفسه من الإقدام أو الإحجام، على حسب صيغة اليمين، فإذا ذكر ما ذكر على حكم اليمين، ثم حنِث، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها -وهو المنصوص الظاهر- أنه يلتزم كفارة اليمين بالله تعالى إذا حنِث، ولا يلتزم الوفاء بالملتزَم، وقال الشافعي في بعض المواضع في المسألة قولان: أحدهما - أنه يلزم كفارة اليمين، وسكت عن القول الآخر، فقال الأصحاب: الظاهر أن القول المسكوت عنه إيجاب الوفاء، فحصل قولان. والقول الثالث - أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين المذكور الملتزَم، وهذا القول مأخوذ من لفظ الشافعي في مسألة من كتاب الإيلاء، وقد ذكرناها.
فانتظم بما أشرنا إليه ثلاثة أقوال نوجهها على قدر الحاجة:
من قال: الواجب كفارة اليمين، وهو مذهب عائشة وعطاء، فمعتمده أن وضع اليمين على ألا يلتزم الحالف ما صرح به؛ من جهة أنه لا يذكر الالتزام [تقرباً] (1) ، وإنما يذكره ليمتنع بسببه أو [ليُقْدم] (2) ، وحكم الشرع فيما هذا سبيله الكفارة، والملتزَم في اليمين بالله الامتناعُ أو الإقدام، ولا يجب واحد منهما عندنا.
ومن أوجب الوفاء، احتج بأنه التزم أمراً يمكن التزامه، فإذا ألزمناه شيئاً، فالوفاء أقرب لازمٍ.
ومن قال بالتخيير -وإليه ميل القاضي- احتج بتردد الصيغة بين اليمين والنذر، وهذا التقاوم يقتضي تردداً بين الأصلين، ونتيجتُه التخيير (3) .
11827- ثم سميت الصيغة بيمين اللِّجاج لجريانها غالباً حالة اللِّجاج، وسميت يمين الغَلَق، لأن صاحبها يُغلق على نفسه باباً في إقدام أو إحجام، ثم قد يختلط يمين الغَلق بنذر التبرّر في كثير من الصور، ويختلف ذلك بقصد القائل، ثم الحكم أنه إن
__________
(1) في الأصل: " مقرّاً ". والمثبت من (ق) .
(2) في الأصل: ليجد. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق. عسى أن يكون هو الصواب. والعبارة: مطموسة في (ق) .
(3) عبارة (ق) : " يقتضي تردداً بيّناً، ويتجه التخيير ".(18/411)
قصد التبررَ، التزم الوفاء قولاً واحداً وكان ناذراً، ولم يكن حالفاً. وإن لم يقصد التقرب، ولكن قصد منع نفسه، فيكون حالفاً يمين الغَلَق، وفيه الأقوال الثلاثة.
ثم أطنب القاضي في التصوير في ازدحام التبرر واليمين، وقال: المذكور ثلاثة أضرب: واجب، ومحظور، ومباح. فالواجب يتصور في إثباته التبرر والغلق مثل أن يقول: إن صليت الظهر، فعليّ كذا. هذا محتملٌ للتبرر، وتأويله: إن وفّقني الله لفعلها، فعليّ كذا، ويحتمل الغلق بأن يمتنع الرجل عن الصلاة، فيقول له القائل مثلاً: صلّها، فيقول في جوابه: إن صليتها، فعلي كذا.
وأما إذا كان المذكور محظوراً، مثل أن يقول: إن لم أشرب الخمر، فعليّ كذا، فالتبرّر ممكن، وتأويله إن عصمني الله تعالى عن شربها، فعليّ كذا. ومحتمل للغَلَق على تقدير أن يقال له: لا تشربها اليوم. فيقول: إن لم أشربها اليوم، فعلي كذا.
ولو قال: إن شربتها، فعليّ كذا، فلا يتصور التبرر في هذا القسم، والغَلَق متصوّر.
وإن كان المذكور مباحاً تصور في نفيه وإثباته التبرر والغلق، ومثاله، أن يقول: إن أكلت هذا الرغيف، فعليّ كذا، واحتمال التبرر فيه إن شهَّاني الله وقوّاني، وأنعم بإدامة إمكاني، فعليّ كذا- والغلق لا شك في تصوره. وإن نفى، فقال: إن لم آكل هذا الرغيف، فعلي كذا- فالتبرر ممكن. وتأويله: إن وفقني الله لقهر النفس، وقلعها من نَهْمَة الأكل، فعليّ كذا. ولا حاجة إلى التكلف في تصوير الغلق. فهذا بيان يمين اللجاج والغضب.
وكان شيخي يقول: [إذا قال] (1) : إن دخلت مكة، فعليّ كذا، انقسم فيه إمكان التبرر والغلق، والغلق وجهه بين. وإن قال: إن دخلت نيسابور، فعليّ كذا، فهو غَلَق محض، وما ذكره القاضي [يقتضي] (2) تصوير التبرر في جملة المباحات، وكان شيخي يخصص التبرر بما يظهر كونه مقصوداً وحصوله على غرر، وقد وافقه على هذا طائفة من الأصحاب.
وحاصل الطريقة أن لا تبرر في النِّعم المعتادة، كما أنا لا نستحب سجود الشكر
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. ثم وجدناها في (ق) .
(2) زيادة من (ق) .(18/412)
لها، وإن كانت نِعَماً، وما ذكره القاضي أفقه وأَوْقع. والمتبع في سجود الشكر التعبد، وقد وردَ خاصاً، فاتبعنا مورد الشرع، ونذرُ التبرر ورد مسترسلاً غير مختص، فالتعويل فيه على المقصود، فمهما (1) انتظم القصد إلى مقابلة نعمة [بشكر] (2) ، فهو صورة التبرر.
وإذا قال الرجل ابتداء: " مالي صدقة "، فالذي قطع به القاضي أن هذا لغوٌ من الكلام؛ لأنه ليس بالتزام، والصدقة جهة لا بد من إيقاعها، وهي التصدق والقبول، وكذلك إذا قال: مالي في سبيل الله، فهو لغو، وتعليله بما ذكرناه.
وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يذكر طريقتين: إحداهما- حمل ما ذكره على النذر المطلق. والثاني - تصحيح ذلك منه إيقاعاً، كما لو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، وهذا بعيد، ولا قياس على الضحية؛ فإن المتبع فيها أخبار وآثار، حتى انتهى الأمر إلى الاكتفاء بمخايل الأحوال كالإشعار والتقليد، فهذا ما أردناه.
ولو قال: إن دخلت الدار فعبدي حر، فلا شك في حصول العَتاقة عند الدخول؛ فإن هذا تعليق على صفة. ولو قال: إن دخلت الدار، فمالي صدقة، فهذا لغو عند القاضي. وهو على طريقة شيخنا تعليق إيقاع في طريقة، أو غَلَق في طريقة، وفيما قدمناه إيضاح هذا.
11828- وكان شيخي يتردد فيه إذا ذكر صاحب الغَلَق أجناساً من القُرَب؛ مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فلله علي حج، وعتق، وصدقة، فربما كان يقول: إن فرعنا على قول الكفارة، عدّدناها بتعدد الأجناس، وهذا أبداه في معرض الاحتمال، ثم استقر جوابه على اتحاد الكفارة، وهو الذي يجب القطع به؛ فإنا إذا كنا لم نوجب الوفاء، فلا حاصل للنظر إلى الملتزَم تعدّدَ أو اتَّحَدَ، بل التعويل على الالتزام فيما يصح التزامه، ثم يُحاد عنه إلى الكفارة، وما قدمناه غير معتد به، ولا خلاف أنه لو ذكر حِجَجاً لم تتعدد الكفارة.
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: تُشكرُ (بهذا النقط والضبط) .(18/413)
ومما نذكره متصلاً بهذا أنا إذا قلنا: الواجب الكفارة، فلو وفى هل يخرج عما عليه؟ ذكر الأصحاب وجهين: وهذا زلل عظيم؛ فإنه قول التخيير بعينه، فلا معنى لاعتقاد مزيد في التفريع على قول التخيير.
فرع (1) :
11829- إذا قال: إن فعلت كذا، فعلى نذرٌ، نصّ الشافعي على أن عليه كفارة يمين، قال القاضي: عندي أن هذا يبتني على موجَب يمين الغَلَق، فإن قلنا: موجَبها الكفارة، فالجواب ما ذكره الشافعي. وإن قلنا: موجبه الوفاء، فيلزمه قُربة من القُرَب، وعليه تعيينها، وحق تلك القُرْبة أن تكون ملتزَمة بالنذر.
ولو قال: إن فى خلت الدار، فعليّ يمين، اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو لغو، وهو الصحيح؛ فإنه لم يأت بنذر، ولا بصيغة اليمين، ومنهم من قال: عليه ما على الحالف إذا حنث، والوجه عندنا على هذه الطريقة أن يلحق هذا بالكنايات المحضة، ويُرجع إلى نيته وقصده.
فإن قيل: ألستم ذكرتم أن الأيمان لا بد فيها من ذكر اسمٍ معظّم؟ قلنا: نعم، وإنما اتجه الخلاف هاهنا لتصريحه بالالتزام.
ولو قال: إن دخلت الدار، فعليّ كفارة يمين، فإذا دخل الدار، لزمته كفارة يمين، ثم هي كفارة يمين أم وفاء؟ فعلى ما ذكرنا من الأقوال.
فرع:
11830- إذا قال: والله لا أصلي، فتحرّمَ بالصلاة، فالمذهب أنه يحنث بالتحرم، وإن بطلت الصلاة عليه. ومن أصحابنا من قال: لا يحنَث حتى يأتي بصلاة صحيحة، وأقلُّها ركعة، حتى لو صح تحرمه، أو صحت ركعات من صلاته، ثم أفسدها، فلا كفارة عليه.
فإن فرعنا على هذا الوجه، فإذا تمت الصلاة على الصحة، فيحنث عند نجازها، أو يتبين أنه حنث بالتحرم؟ فعلى وجهين. وما ذكرناه في الصلاة يجري في الصوم إذا قال: لا أصوم وأصبحَ صائماً.
ولو قال: والله لا أحج، وتحرم بالحج على الفساد- فالذي أراه أنه يحنث؛ فإن
__________
(1) في (ق) : " فصل ".(18/414)
الحج الفاسد حج موصوف بالفساد، وهذا يناظر مذهب أبي حنيفة (1) رضي الله عنه في
البيع الفاسد، فإنه اعتقده بيعاً وناط به الحنث والبر.
فرع:
11831- ولو قال: لا آكل الفاكهة، حنث بالرَّطْب منها واليابس، ويحنث بالعنب، والرمان، خلافاً لأبي حنيفة (2) رضي الله عنه، والفواكهُ اليابسة أراها أجناساً يُتفكه بها، ولا تستعمل أقواتاً، والعلم عند الله، ولو كان يتعاطى اللبوب، كلُبّ الفستق وما يعتاد التفكه به، فيه تردد عندنا، والقِثاءُ ليس من الفاكهة، وفي البطيخ تردد، حكاه الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد. والثمار لا تحمل إلا على الرَّطْب بخلاف الفاكهة.
فرع:
11832- إذا قال: والله لا أحمل خشبة، فحملها مع غيره، لم يحنث؛ فإنه شاركه ولم يستقل، ولو قال: لآكلن هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة، لم يحنث، ولو قال: لآكلن هذا الرغيف، فخلف فتاتاً محسوساً، لم يحنث إذا كان لا يبعد جمعه والإتيان عليه في حق من يريد الاستيعاب، فأما الفتات التي لا يتأتى جمعها، ولا يَعتاد جمعَها من يريد الاستيعاب، فلا معتبر بها. وكان شيخي يقول: ما يمكن جمعه وإن عسر لا بد منه، وهذا فيه نظر، لأن صاحب الواقعة يسمى آكلاً للرغيف.
فرع:
11833- لو قال: لأُثنين على الله تعالى بأحسن الثناء، فلا بد أن يقول: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
فإن قال: لأحمدن الله بمجامع الحمد، فقد قيل: مجامع الحمد ما ذكره جبريل لآدم عليه السلام، إذ قال آدم: علمني مجامعَ الحمد، فقال: قل: " الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده " (3) .
__________
(1) ر. الاختيار: 4/75.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 320، الاختيار: 4/64.
(3) حديث، قال آدم (لجبريل) : علمني مجامع الحمد ... " قال عنه ابن الصلاح في مشكل الوسيط: ضعيف الإسناد غير متصل روّيناه عن محمد بن النضر، وقال الحافظ: وجدته عن ابن الصلاح في أماليه وهو مفصل (ر. مشكل الوسيط (بهامش الوسيط) : 7/247) ، التلخيص: 4/316 ح 2524) .(18/415)
فرع:
11834- إذا قال لا آكل الرطب فأكل المصنَّف (1) ، فنصفه رطب، ونصفه بُسر، فإذا أكله، حنث إلا على مذهب الإصطخري؛ فإنه لا يرى التحنيث بالخلط.
فرع:
11835- إذا حلف لا يأكل لحماً، فأكل لحم ميتة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه يحنث، وهو القياس، فإن اسم اللحم ينطلق في حقيقة اللسان على لحم الميتة انطلاقه على لحم الذكيّة.
والوجه الثاني - أنه لا يقع الاعتداد به؛ [من] (2) جهة أنه لا يُعنى ولا يقصد، ومطلق الألفاظ محمول على المقصود الذي يخطر للاّفظ، وهذا متلفِّت على الأصول الممهدة في التعلق بحقيقة اللسان، أو عرف اللافظ.
ولو قال: لا آكل الميتة، وأكل السمك، ففي تحنيثه وجهان إذا كان اللفظ مطلقاً، ومأخذهما قريب مما ذكرناه الآن، فمن اعتبر موجَبَ الاسم، حَنَّث، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد ". ومن اعتبر تنزيل اللفظ على العرف [فالسمك لا يسمى ميتة] (3) ، ولو اتبعنا حقيقة الموت، فالذكية ميتة أيضاً، ولا تعلق بما رويناه؛ فإنه عليه السلام، كان يتكلم بوجوه لا تنزل الأيمان عليها، والدليل عليه أنه سمى الكبد والطحال دمين، ومن حلف لا يأكل الدم، لم يحنث بأكل واحد منهما.
فرع:
11836- ومن حلف لا يشم الريحان، فأطلق لفظه فهو محمول على الريحان الفارسي المسمى الضَّيْمران، وهو " شاه اسْبَرَم ". ولو حلف لا يشم الورد، لم يحمل على الأزهار، وإنما يحمل على الورد المعروف. فلو قال: لا أشم البنفسج فشم دهن البنفسج فالوجه القطع بأنه لا يحنث، وإن أدرك رائحة البنفسج، فإن يمينه معقودة على شم البنفسج؛ وذكر صاحب التلخيص وجهاً أنه يحنث بشم دهن
__________
(1) المصنف: يقال: صنف التمر إذا أدرك بعضُه دون بعض، ولوّن بعضه دون بعض.
(المصباح) .
(2) في الأصل: " في ".
(3) في الأصل: " والسمك لما يسمى ميتة ".(18/416)
البنفسج، ولا سبيل إلى توجيه هذا بإدراك رائحة البنفسج، فإن من قال: لا أشم المسك، ثم أدرك ريحه العابق بثوبِ إنسان، لم يحنث، وقيل في توجيه ما ذكره إن الناس قد يسمون دهن البنفسج بنفسجاً، وهذا شيء لا يروج على مُحصِّل، ثم هذا الوجه مخصوص بدهن البنفسج من بين الأدهان.
***(18/417)
باب (1) النذور
11837- الأصل فيها قوله تعالى: ( {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] ، وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ،. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أوف بنذرك " (2) والنذرُ ملزِم إجماعاً، والملتزَم به لازم على الجملة، والخلاف في التفاصيل.
ثم الذي يقتضيه الترتيب الذي وضعنا عليه الكُتب أن نقدم قواعدَ، منها منشأ المسائل، حتى إذا تمهدت، خُضنا بعد تمهيدها في المسائل.
وأول ما رأينا الاعتناءَ به بيانُ ما يلتزم بالنذر، ولم يتعرض للاهتمام به، ومحاولة ضبطه غيرُ القاضي، وأجرى الأئمة الماضون كلاماًً دلّوا به على مقاصدهم، ولم يحرّروه، ونحن نستعين بالله ونذكر ما تحصل لنا من كلام الأئمة.
كان شيخي يقول: إنما يُلتزم بالنذر ما له أصل في الوجوب الشرعي، كالصلاة والصوم، والصدقة والحج، وما لا أصل له في إيجاب الشرع لا يُفتَتَحُ بالنذر [التزامه] (3) ، ثم كان يُعترض بالاعتكاف على هذا الأصل؛ فإنه ملتزم بالنذر وفاقاً، ولا أصل له في [الوجوب] (4) الشرعي، وكان يحكي في محاولة الجواب عنه أن الاعتكاف حصولٌ في بقعة مخصوصة، وهو يناظر الحصول بعرفة. والغرض من ذكر ذلك أنه ملتزم بالنذر إلحاقاً بإيجاب الشرع الحصولَ بعرفة.
وهذا كلام لا ينتظم، وليس الاعتكاف مضاهياً للحصول بعرفة، فلا حاجة إلى
__________
(1) في (ق) : كتاب.
(2) حديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أوف بنذرك ". متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: الاعتكاف، باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف، ثم أسلم، ح 2043، مسلم: الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، ح 1656) .
(3) في الأصل: " والتزامه ". والمثبت من المحقق. ثم صدقتنا (ق) . (4) في الأصل: " وجوب " (بدون الألف واللام) .(18/418)
تقدير هذا. وكان يقول: لا يُلْتزَم تجديد الوضوء بالنذر؛ من جهة أنه لا أصل لإيجاب الوضوء من غير حدث فلا يُلْتزَم، في كلامٍ لا حاجة إلى ذكره على وجهه.
11838- والذي [أرى] (1) التعلُّقَ به في ضبط كلام الأصحاب الأولين منهم والمتأخرين أن أقول: العبادات المقصودة التي شرعت عباداتٍ، وتحقق اهتمام الشرع بتكليف الخلق إيقاعَها على حقيقة العبادة ملتزَمةٌ بالنذر، ولا حاجة إلى تقدير وقوعها في واجبات الشريعة، فُتُعْمد (2) ، على أن الاعتكاف لا أصل له في واجبات الشريعة، ولكنه شرع عبادةً مقصودة، فاتجه التزامه بالنذر، ولا فقه تحت اشتراط وقوع مثل المنذور واجباً في الشريعة؛ فإن الملتزَم يثبت وجوبه ابتداء، فانتظم هذا الأصل؛ من غير احتياج إلى الاعتذار عن الاعتكاف بما لا يتجه.
ثم هؤلاء يقولون: لو نذر الرجل عيادة مريض، أو زيارة قادمٍ، أو إفشاء السلام، فهذه الأشياء لا تلتزم بالنذور؛ فإنها لم تثبت عبادات، وإنما هي من القُربات التي إذا أخلص المرء فيها، وابتغى وجه الله، ارتجى ثواباً. ولسنا بعدُ في التزام التوجيه، وإنما [نحن] (3) في ضبط [المذهب] (4) .
[وأما] (5) المتأخرون؛ فإنهم ذهبوا إلى أن القربات بجملتها تلتزم بالنذر التزام العبادات؛ فإن ما أُثبت قربةً بمثابة ما أثبت عبادة، واستثنى القاضي من هذا المسلك، وقال: كلُّ قربة ملتزمةٌ بالنذر، إذا كان لا يفضي الأمر إلى إبطال رخصة، وبيانه أن من نذر أن يُتم الصلاة، ويصوم في السفر في رمضان، ثم أراد أن يَقْصُر، كان له ذلك، وإذا أراد أن يُفطر، فله أن يفطر، وإذا نذر المريض الذي يجوّز له الشرع الصلاة قاعداً -مع القدرة على القيام- أن يقوم، ويتكلف المشقة، فلا يلزمه الوفاء
__________
(1) في الأصل: " أدنى " والمثبت من المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق) .
(2) كذا. والمعنى أنه لا حاجة لاشتراط وجوب العبادة حتى تُعْمَد وتُقْصَد بالنذر، بل كل عبادةٍ مشروعة يصح أن تُلتزَم بالنذر.
(3) في الأصل و (ق) : " نحرص ".
(4) في الأصل: " المذاهب ". والحمد لله فقد صدقتنا (ق) فيما قدرناه.
(5) في الأصل: " وإنما ".(18/419)
به، وكذلك القول فيه إذا نذر أن يصوم مع المرض المبيح للفطر، وسبب ذلك أنا لو أَلزمنا النذر، لكان ذلك تعطيلاً للرخصة، ومصيراً إلى أن الواجب بالنذر يزيد على الواجب شرعاً، ومعلوم أن الصوم الذي هو ركن الإسلام يسوغ تركه بعذر المرض والسفر، فيبعد أن يزيد تأكد المنذور على ما هو ركن الإسلام.
ومما يجب تأمله أن العبادات التي تُلتزم أصولها بالنذر لو فرض التزام صفات مستحبة فيها -ورد الشرع بالاستحثاث عليها- بالنذر، فالوجه القطع بأنها تُلتزم، وهذا بمثابة إطالة القيام، والركوع، والسجود، وإكثار قراءة القرآن، وإنما رأينا القطعَ بذلك؛ من جهة أنا رأينا نصَّ الشافعي دالاً على التزام المشي في الحج بالنذر، إذا حكمنا بأن المشي أفضلُ من الركوب، فإذا كانت هذه الصفة تلتزم، فكل صفة مستحبة في العبادات المفروضة ينبغي أن تُلتزم بالنذر، فلا يجوز أن يختلف الأصحاب في هذا.
11839- ومما نذكره في ذلك التعرضُ لالتزام ما هو من فرائض الكفايات. قال صاحب التلخيص: من نذر لله الجهاد في جهةٍ عيّنها، وجب عليه الوفاء بنذره، والجهاد من فروض الكفايات، ولم يخالفه الأصحاب في تعيُّن الجهاد عليه على موجَب نذره.
ولو نذر الرجل أن يصلي على ميت، فهذا فيه تردد، والأظهر أنها تتعين بالنذر قياساً على الجهاد.
والذي تحصل لنا في هذا الفن أن كل فرض من فروض الكفايات تمسّ الحاجة في تأديته إلى بذل مال ومعاناة مشقة، وقطع شُقة، فيلتزم بالنذر، كالجهاد وتجهيز الموتى، وما في معناه، وما لا يتعلق بتأديته بذلٌ -قال- فهو على تردد. والأوجه ما ذكرناه.
وإذا نذر الرجل أن يأمر بالمعروف، فهذا ملتحق بنذر الصلاة على الميت.
ثم ظاهر كلام صاحب التلخيص أن الجهة التي عيّنها للجهاد تتعيّن، ولا يقوم الجهاد في جهة أخرى مقامَ الجهاد في تلك الجهة.
وقد قال الشيخ أبو زيد: لا تتعين الجهة، بل عليه أن يجاهد، وليقع الجهاد في(18/420)
أي جهة تفرض، ثم صرح بأن الجهة التي ينتهض لها لو كانت أقرب وأسهل، فلا بأس.
والذي إليه ميل الشيخ أبي علي أن الجهة لا تتعين، ولكن إذا عيّن جهة، فلتكن الجهة التي أمّها مجاهداً قريبةً من الجهة التي عينها في المؤنة، ومكابدِة المشقة، وتكون مسافاتُ الجهاد كمسافات المواقيت في النسك، وقد ذكرنا أن الميقات لعينه لا يُعنى، وإنما [المطلوب] (1) مسافة الميقات.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه: أحدها - أن تلك الجهة تتعين، وهذا مذهب صاحب التلخيص. والثاني - أنها لا تتعين. ويخرج الناذر عن عهدة النذر بجهادٍ وإن قرب وسهل. والوجه [الثالث] (2) - أن تلك الجهة لا تتعين، ولكن لا يخرج الناذر عن موجَب نذره [إلا] (3) بالجهاد فيها أو في مثلها.
وهذا منتهى ما أردنا أن نذكره نقلاً عن الأصحاب.
11840- ونحن نذكر بعد ذلك ضبطاً وتقريباً يجمع مسالك الأصحاب، فنقول: الأعمال والأقوال ثلاثة أقسام: منها العبادات التي شرعت عبادات، وهي ملتزمة بالنذر وفاقاً. ومنها قربات لم يقع اعتناء الشرع بإثباتها على حقاًئق العبادات، كعيادة المريض وغيرها، وفيها خلاف الأولين والمتأخرين، والقسم الثالث - مباحات في وضع الشرع يتصوّر إيقاعها قربةً بالقصد والإخلاص، كالاكل على قصد التقوِّي على العبادة، والنوم على قصد طرد الغفوة حتى إذا أنشأ (4) في [جوف] (5) الليل، كان حاضر القلب
__________
(1) في الأصل: " المكروه " والمثبت اختيار من المحقق، وهو بعينه لفظ الغزالي في البسيط، حيث قال: إذا نذر الجهاد في جهة، فهل تتعين تلك الجهة؟ قطع صاحب التلخيص بتعينها، وقال الشيخ أبو زيد: لا تتعين، بل له أن يجاهد فيها أو في جهة توازيها في المسافة وحاجة المؤنة، كما ذكرناه في مواقيت الحج، فإنها لا تراد لعينها، والمطلوب مثل مسافتها (ر. البسيط: 7 ورقة: 83 ظهر) . والحمد لله، فقد جاءت (ق) مؤيدة لما اخترناه.
(2) في الأصل: " الثاني ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) أنشأ: أي تهجد، أخذاً من قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] .
(5) في الأصل: " جوز ".(18/421)
متيقظ النفس، فهذه الفنون لا تلتزم بالنذر بلا خلاف.
والصفاتُ المحبوبة في العبادات تُلتزم بالنذر، إذا التُزمت مع الموصوف، مثل أن يقول: لله عليّ أن أحج ماشياً -إذا جعلنا المشيَ أفضلَ- وكذلك لو نذر صلاةً، وذكر تطويلها بالقراءة و [مدّ] (1) ركوعها وسجودها.
فأما إذا التزم صفة في واجب شرعي كالمشي في حَجة الإسلام، أو تطويل الصلاة في المفروضة، ففي المسألة وجهان؛ لأن الصفة لا تستَقِلُّ بنفسها.
وفرائض الكفايات منقسمة كما ذكرناها، وما كان يذكره شيخي من أن تجديد الوضوء لا يلتزم بالنذر، [لا وجه] (2) له؛ فإنه عبادة مقصودة، فالوجه القطع بأنه يلتزم بالنذر إلحاقاً له بالعبادات المحضة.
ولو التزم بالنذر إقامةَ النوافل الراتبةِ، كركعتي الفجر والوتر وما أشبههما، فالظاهر عندنا أنها تلتزم بالنذر، كما يتعين فرض الكفاية بالنذر. ومن أصحابنا من لم يُلزمها؛ لأن الشارع أثبتها نوافلَ راتبةً، ولم يوجبها رخصةً، فإلزامها يخالف وضعَ الشرع فيها.
والجماعة تلتزم بالنذر؛ فإنها من صفات العبادة.
ولا يلتزم بالنذر انكفافٌ قط، حتى لو نذر ألا يفعل مكروهاً، لم يلزمه الوفاء بنذره.
11841- هذا هو الإمكان في الضبط والتفصيل، ولم يبق إلا الرمز إلى توجيه طرق الأصحاب.
أما ما صار إليه المتأخرون، فوجهه بيّن، وما ذهب إليه المتقدمون من تخصيص المنذورات بالعبادات [فتوجيهه] (3) ضعيف، وَيرِدُ عليه التزامُ الجهاد؛ فإنه لم يشرع شرع الصلاة والصوم، ولا نعرف خلافاً في أنه يُلتزَم بالنذر، كما حكيناه عن صاحب
__________
(1) زيادة من (ق) .
(2) في الأصل: " ولا ".
(3) في الأصل: " وتوجيهه ".(18/422)
التلخيص، فإن منع مانعٌ ذلك، اطرد قياس اعتبار العبادات، وإلا، فلا جواب عن الجهاد. وقد يقول المتقدمون: عيادة المرضى لو كانت تلتزم بالنذر، فلا طريق في لزومها إلا التزام التقرب بها إلى الله، ثم يلزم من الحكم بذلك أن يجب على الناذر أن ينوي التقرب، [بالعيادة] (1) ؛ إذ الأداء على حسب الالتزام، وفي هذا إلحاقها بالعبادات، ولا حاصل في هذا الكلام؛ فإن المتطوع بالعيادة إن أراد الثواب، قصد التقرب، فإذا التزم بالنذر، وجب ما كان متطوعاً به من الفعل والقصد.
ثم الذي أراه في مذهب المتأخرين أن من عاد مريضاً، ولم يتفق منه إنشاءُ قصدٍ - ولعله ما كان ذاكراً للنذر- ففي خروجه عن موجَب النذر نظر، والله أعلم.
وقد نجز ما أردنا ذكره فيما يلتزم بالنذر.
11842- ثم مما نذكره في صدر الباب التقاسيم التي ذكرناها في مقدمة يمين الغَلق، فالنذر ينقسم قسمين: أحدهما - نذر التبرر، وقد سبق تفصيله، وهو مُلزِم إذا صادف ملتزَماً قولاً واحداً.
والقسم الثاني - النذر المطلق، وهو الذي لا يرتبط بشرط نعمة، أو دفع بليّة، وفيه قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا يُلتزَم؛ فإنه تبرعٌ لا استناد له إلى واجب، وليس كالضمان؛ فإنه يستند إلى دين واجب، فبعُد الالتزام ابتداء، وليس كنذر التبرع؛ فإنه أثبت على صيغة الأعواض تشكّراً، فلم يبعُد وجوبه.
11843- ثم نذكر بعد هذا أصلاً آخر: وهو بيان المقدار الملتزم بالنذر المطلق، ولسنا نلتزم الوفاء بتفصيل ذلك؛ فإن مسائل الباب [تفصّله] (2) ولكنا نمهد فيه قولاً كافياً، فإذا نذر الناذر، وأطلق الالتزامَ، وتسميةَ الملتزَم، فللشافعي قولان مأخوذان من معاني كلامه: أحدهما - أن المنذور المطلق يُنزَّل على أقل مراتب الواجب في قبيله، والقول الثاني - أن يُنزل على أقل ما يصح.
وهذا هو الأصح، فمن نزّله على أقل مراتب الواجبات الشرعية تعلّق بتنزيل
__________
(1) في الأصل: " فالعبادة ". وفي ق (بالفعل) . والمثبت من تقدير المحقق.
(2) في الأصل: " تفصيله ".(18/423)
الواجب بالنذر منزلة الواجب بالشرع، فإنه بالواجبات أشبه. ومن سلك المسلك الثاني، اعتمد لفظ الناذر، واكتفى بأقل ما يصح في قبيل المنذور؛ فإن الزائد عليه لم يتحقق تناول اللفظ له؛ فإلزام الناذر ما لم يتناوله لفظه لا يتجه، فإذا نذر صلاة وأطلق، فيُلزمه القائلُ الأول ركعتين مع القيام، ويُلزمه القائلُ الثاني ركعة واحدة، ويصححها منه قاعداً مع القدرة على القيام؛ فإن الصلاة تصح على هذا الوجه.
وإذا نذر صوماً، كفاه صوم يوم، وهل يلزمه [تبييت] (1) النية؟ إن نزلناه على أقل مفروض في الباب، فالتبييت واجب، وإن اكتفينا بما يصح، فلو أنشأ النية نهاراً، فعلى هذا القول وجهان مبنيّان على أن المتطوع بالصوم إذا نوى نهاراً، فهو صائم من وقت نيته، أم هو صائم من أول النهار؟ وفيه اختلاف قدمناه في كتاب الصيام.
فإذا تجدد العهد بهذا، نظرنا في لفظ الناذر، فإن قال: لله عليّ صومٌ -والتفريع على تنزيل المنذور على أقل ما يصح- فإذا نوى نهاراً، صح -وإن جعلنا المتطوع صائماً من وقت النية- لأن الذي أتى به صوم.
وإن قال: لله عليّ صوم يوم -وحكمنا بأن المتطوع صائم من أول النهار- فيصح منه أن ينوي نهاراً (2) ، وإن قلنا: المتطوع صائم من وقت النية، فلا يخرج الناذر عن موجب نذره، ما لم يبيّت النية، فإنه التزم صوم يوم، ولا يتحقق على هذا الوجه صوم يوم إلا بنية منبسطة على اليوم، والنية لا تنعطف، فالوجه تقديمها على قياس الصوم المفروض شرعاً.
ولو نذر صدقة، لم يخصصها بخمسة دراهم، ولا بنصف دينار، مصيراً إلى أن ذلك أقل الصدقات المفروضة، فإن الخلطاء قد يشتركون في نصاب واحد، فيجب على أحدهم أقل من الخمسة، فلا ضبط لمقدار الصدقة، وهي مُنَزَّلَة على أقل ما يتصدق به. ولم يختلف أصحابنا في أنه لا يتعين على ناذر الصدقة أن يتصدق بشيء
__________
(1) في الأصل: " تثبيت ".
(2) سيعرض الإمام هذه الصورة ثانيةً -بعد صفحات- ويقطع بأن النية نهاراً لا تكفي ولا يقع ما جاء به عن نذره صيام يوم.(18/424)
من أجناس الأموال الزكاتية. وهذا يعضد القول الصحيح، وهو تنزيل المنذور على الأقل.
ولو نذر اعتكافاً، فلسنا نجد لهذا أصلاً في واجبات الشريعة، فلا وجه في هذا القسم إلا القطع باتباع اللفظ وتنزيله على أقل المراتب، وقد ذكرنا خلافاً في كتاب الاعتكاف في أن [الحصول] (1) في المسجد مع النية هل يكون اعتكافاً شرعياً من غير فرض مكث؟ وإذا نذر الاعتكاف وفرعنا على أن الحصول في المسجد اعتكاف، فهذا فيه تردد عندي؛ لأنا إن اتبعنا اللفظ [فالاعتكاف] (2) مشعر بالمكث، فيحتمل أن نوجب المكث تعلقاً باللفظ، ويحتمل أن نجعل الاعتكاف في لفظ الناذر لفظاً شرعياً كالصلاة والصوم.
ثم نكتفي فيه بما يصح في الشرع.
وهذا منتهى المراد في هذا الأصل. وإذا بان ما يلتزم بالنذر والمقدار الذي يلزم بالألفاظ المطلقة، فنعود بعد هذا إلى ترتيب مسائل الباب.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن نذر أن يمشي إلى بيت الله لزمه إن قدر على المشي ... إلى آخره " (3) .
11844- إذا نذر أن يحج ماشياً، أو يمشي حاجاً، فالحج ملتزم بالنذر، وهل يلتزم المشي وفاء بالنذر؟ في المسألة قولان مبنيان على أن الحج ماشياً أفضل أم راكباً؟ وفيه قولان ذكرناهما في المناسك. فإن قلنا: لا فضيلة في المشي، لم يُلتَزَم بالنذر. وإن قلنا: المشي أفضل، فيجب المشي وفاءً بالنذر، وعلى هذا الأصل خرّجنا التزام صفات العبادات.
فإذا ألزمناه المشي، فلو ركب وحج، لم يخلُ: إما أن يكون معذوراً عاجزاً عن
__________
(1) في الأصل: " الدخول ". والمثبت من (ق) .
(2) في الأصل: " بالاعتكاف ".
(3) ر. المختصر: 5/238.(18/425)
المشي، أو غيرَ معذور، فإن لم يكن عذر، فهل يقع الحج الذي أتى به عن النذر، وهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى قولين: أحدهما - لم يحسب ما جاء به عن النذر؛ لأنه التزم حجاً موصوفاًً بصفة، فإذا لم يأت بالحج على تلك الصفة، لم يكن ما جاء به وفاء بالنذر، واللزوم باقٍ في الذمة، والحج يقع تطوعاً، ولا يتصور على مذهب الشافعي تطوع يسبق الفرضَ في الحج إلا في هذه الصورة على هذا القول.
والقول الثاني - أن الحج يقع عن نذره، وهذا هو الذي ارتضاه معظم الأصحاب، ولكن الشافعي فرّع على القول الأول، وقال: لو مشى في بعض الطريق، وركب في البعض، قضى، ومشى فيما ركب، وركب فيما مشى، وسنذكر بيان هذا في موضعه إن شاء الله. وإنما كان غرضنا أن نبيّن تفريع الشافعي على هذا القول، هذا إذا لم يكن معذوراً.
فإن كان معذوراً في ترك المشي، فحج راكباً، وقع الحج موقع النذر بلا خلاف، وبهذا يقوى أحد القولين في وقوع حج القادر راكباً عن جهة النذر.
التفريع على القولين:
11845- إن حكمنا بأن الحج لا يقع عن جهة النذر، فليس إلا القضاء. وإن حكمنا بأنه يقع عن جهة النذر، فهل يجب بسبب [ترك] (1) المشي فدية؟ حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا تجب الفدية، وليس على الناذر إلا الانتساب إلى المعصية في ترك واجب المشي؛ فإن الفدية إنما تجب بترك أبعاض النسك المرتبة فيه، وليس المشي من الأبعاض.
والوجه الثاني - أن الفدية تجب، وهو الأصح؛ لأن النذر ألحق المشي بالأبعاض لما وجب، ولم يكن ركناً، ولا معنى للبعض [المقابل] (2) بالفدية إلا هذا، ولو أوجبنا المشي، ثم أوقعنا الحج عن الناذر من غير فدية، لكان هذا إحباطاً للملتزَم بالنذر، فلا يتجه إلا القضاء والفدية.
__________
(1) في الأصل: " ذلك ". والمثبت من (ق) .
(2) في الأصل: " القابل ".(18/426)
والوجه الثالث - أنا نفصل بين المعذور وغيره، فلا نوجب على المعذور فدية؛ فإنه إنما يلتزم بالنذر على شرط الإمكان، وليس كالأبعاض المرتبة في النسك؛ فإن الشرع كما رتبها رتب أبدالها، وإن لم يكن معذوراً، لزمت الفدية، وقد روي أن أخت عقبة بن عامر نذرت لله تعالى أن تحج ماشية حافيةً غيرَ مختمرة، فجاء أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك. فقال عليه السلام: " مُرها، فلتركب، ولتختمر " (1) ، ثم اختلفت الرواية، فروي أنه قال: " ولْتهدِ هدياً " (2) ، وفي بعض الروايات الأمر بالركوب من غير تعرض للفدية، وحديثها محمول على العجز؛ فإن المرأة لا تستقل بالمشي في غالب الأمر، ولذلك قال رسول الله عليه السلام: " فلتركب ".
11846- ومما نفرعه على قول وجوب المشي الكلامُ في أن الناذر متى يأخذ في المشي، ومتى يقطع المشي؟ فنقول: لو صرح بالتزام المشي من دُوَيْرَته إلى الفراغ من الحج، فهل يلزم المشيُ قبل الإحرام؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلتزم المشي؛ فإن هذا مشي في غير الحج، فلا يلتحق بصفات النسك، ومنهم من قال: يلزم الوفاء بالنذر في ذلك، والأجر على قدر النصب، وهذا له التفات على أن الأجير على الحج إذا مات في الطريق قبل الإحرام هل يستحق شيئاً من الأجرة؟ فإن قلنا: لا يلتزم الناذر المشيَ قبل الإحرام، فلا كلام. وإن قلنا: يلتزم المشي قبل الإحرام إذا صرح بالتزامه، فللأصحاب تصرف في لفظ الناذر. فلو قال: لله عليّ أن أحج ماشياً، أو قال: لله عليّ أن أمشي حاجاً -والتفريع على أن المشي قبل الإحرام يُلتَزَم لو وقع التصريح به- فما حكم هذين اللفظين؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يأخذ في المشي من مخرجه من دُوَيْرَتِه؛ حملاً لكلامه على العادة؛ فإن
__________
(1) حديث " أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية حافية غير مختمرة ... " أخرجه أبو داود: الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، ح 3296، 3297، 3303، والبيهقي في الكبرى (10/80) والحديث في الصحيحين دون ذكر الاختمار والفدية (اللؤلؤ والمرجان: النذور، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، ح 1065) .
(2) الأمر بالهدي ورد في إحدى روايات أبي داود (ح 3296) .(18/427)
من قال: حججت ماشياً يعني به المشي في جميع الطرق.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه المشي من وقت الإحرام. إذا قال: أمشي حاجاً أو أحج ماشياً، فإن المشي حالةٌ وصفةٌ في الحج، ولا حج قبل الإحرام.
ومن أصحابنا من فرق بين أن يقول: أمشي حاجاً، وبين أن يقول: أحج ماشياً، فقال: إن قال: أمشي حاجاً، فيمشي من مخرجه إلى المنتهى الذي سنصفه؛ لأن هذا يقتضي أن يمشي في القصد إلى الحج، وإن قال: أحج ماشياً اقتضى هذا أن يكون ماشياً في حالة حجه. وهذا وجه ضعيف صادر عن الجهل بالعربية ومقتضى الألفاظ؛ فإنه لا فرق بين قول القائل: أمشي حاجاً وبين قوله: أحج ماشياً، واللفظان جميعاً يقتضيان اقتران الحج والمشي، فالوجه الاقتصار على الوجهين المقدمين: أحدهما - يتعلق باللفظ، والثاني - يتعلق بالمفهوم من هذا اللفظ في العرف الغالب.
هذا قولنا في ابتداء المشي.
فأما الكلام في انتهائه، فلأصحابنا فيه وجهان: أحدهما - أنه يستديم المشي إلى أن يتحلل [التحللين] (1) ؛ فإنه في بقية الحج ما بقي من الإحرام عُلقة، وقد قال: أحج ماشياً. والوجه الثاني - أنه يترك المشي كما (2) تحلل [التحلل] (3) الأول؛ فإن اسم الحاج على الإطلاق يزول بأحد التحللين، وأيضاً تخف تكاليف النسك، ويدخل وقت الحَلْق والقَلْم، ولُبس المخيط.
وإن نذر أن يعتمر ماشياً، فيستديم المشي إلى إتمام التحلل؛ فإن العمرة ليس فيها تحللان.
11847- ومما نُلحقه بالفصل أنه لو شرع في الحج، ففاته الحج، فلا بد وأن يلقى البيت [بطواف وسعي] (4) ، ثم كما (5) فات الحج، انصرف عن جهة نذره، وعلى
__________
(1) في الأصل: " المتحللين ".
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) في الأصل: " المتحلل ".
(4) زيادة من (ق) .
(5) كما: بمعنى عندما.(18/428)
الناذر حَجةٌ يأتي بها، وهل يجب على الحاج استدامةُ المشي في الحجة الفائتة إلى التحلل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يجب؛ فإن مبنى الحج على أنه يدوم حكمُه فيما يُلتزم فيه، وإن فات أو فسد. والوجه الثاني -وهو الأقيس عندنا- أنه لا يجب استدامة المشي بعد الفوات؛ لأن المشي ليس بعضاً راتباً شرعاً من أبعاض الحج، وإنما لزم بسبب النذر، وقد انصرف الإحرام عن النذر، وليس الجاري فيه في إحرام منذور، ولو أفسد الحج، فالخلاف في استدامة الحج على نحو ما ذكرناه.
11848- ومما يليق بإتمام المقصود أن من نذر المشي إذا ركب في البعض، ومشى في البعض، وفرّعنا على أنه يجب عليه حَجةٌ يُمَحِّض المشي فيها، فإذا اتفق الأمر على ما وصفنا، فظاهر النص أنه إذا قضى الحج، فله أن يركب حيث مشى، ويجب أن يمشي حيث ركب. وقد اختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: يجب تمحيض المشي، وهذا متجه؛ لأن الحج الأول لم يقع عن النذر؛ إذ لو وقع عنه، لم يجب إعادته، فهذا الحج الثاني هو المنذور، فليأت به على موجَب النذر. ويعسُر على هذا القائل تأويل النص.
ومن أصحابنا من قال بظاهر النص، وكأن هذا القائل يصير إلى أن الحج الأول وقع عن النذر، ولكن يجب استدراك ما ترك من المشي، ولا يتأتى ذلك إلا في الحج- فعلى هذا يستقيم أن يبعّض المشيَ والركوبَ على الترتيب الذي اقتضاه النص- وهذا بعيد- وقد ذكرنا في كتاب الصلاة ما يناظر هذا في إيجابنا إقامةَ الصلاة في الوقت مع إيجابنا قضاءها، وقد حققت قريباً من ذلك في الصلاة المؤدّاة والمقضيّة.
ولو قال: لله علي أن أحج راكباً- فإن قلنا: المشي أفضل من الركوب، فالركوب لا يلتزم وإن قضينا بأن الركوب أفضل من المشي، فالقول في التزام الركوب تفريعاً على هذا كالقول في التزام المشي، تفريعاً على أن المشي أفضل.(18/429)
قال: " ومن نذر المشي إلى بيت الله ... إلى آخره " (1) .
11849- قد تقدم القول في نذر الحج إذا وقع التصريح به، وهذا الفصل [فيه] (2) إذا نذر إتيان مكة من غير تعرض للحج والعمرة، ونحن نرتب في ذلك قولاً على ما ينبغي.
فنجدد العهد أولاً بالقولين في أن من أتى مكة من غير نذر، وأراد دخولها، فهل يلزمه أن يدخلَها محرماً، أم له أن يدخلها من غير إحرام؟ وقد ذكرنا في ذلك قولين في كتاب الحج، ومما نحتاج إليه في هذا الفصل اختلاف القول في أن المطلَقَ في النذر هل يتقيد بواجب الشريعة أم لا؟ وقد مهدنا هذا على القرب.
ومما أرى تقديمَه -وهو مقصود في نفسه- تفصيل القول فيه إذا نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى المسجد المحرم، قال العلماء: إذا أطلق النذرَ، [و] (3) عيّن مسجداً سوى المسجد المحرم؛ فإن كان المسجدُ الذي عيّنه غيرَ مسجد المدينة ومسجدِ القدس، فلا يلتزم بالنذر شيئاً أصلاً؛ فإنه ليس في قصد مسجد بعينه غيِر المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومشجد المدينة، ومسجد إيليا- قُربةٌ مقصودة، وما لا يكون عبادةً، ولا قربة مقصودةً، فهو غير ملتزَم بالنذر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا ومسجد إيليا " (4) أراد المسجد الأقصى، وكان شيخي يفتي بالمنع عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد، وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم تعلّقاً بظاهر
__________
(1) ر. المختصر: 5/23.
(2) في الأصل: " منه ".
(3) (الواو) زيادة اقتضاها إقامة العبارة والمعنيُّ بإطلاق النذر عدمُ تقييده بشيء آخر غير الإتيان.
(4) حديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهما. ر. اللؤلؤ والمرجان: الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2/287 ح882.(18/430)
النهي. وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم ولا يكره- ولكن أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القُربةَ المقصودةَ في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة، وهذا حسن لا يصح عندي غيره.
فأما إذا نذر إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إتيان المسجد الأقصى، فهل يلتزم بالنذر الوفاءَ؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يلتزم؛ إذ لا يتعلق بالمسجدين نسك، فصارا كسائر المساجد. والثاني - أن النذر يلزم الوفاء في المسجدين؛ لأنهما مخصوصان من بين المساجد بمزيّة، كما سنبيّن شرحَها في التفريع، إن شاء الله؛ فأشبها المسجد الحرام.
التفريع على القولين:
11850- إن قلنا: لا يلتزم الناذر شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يلتزم الوفاء بالنذر، فهل يلزمه أمر سوى إتيان [المسجد] (1) ؟ فعلى وجهين: ذكرهما الشيخ أبو علي في الشرح: أحدهما - أنه يلتزم قربةً؛ فإن إتيان المسجد من غير قربة زائدة على الإتيان ليس قربة، ولا يستقل النذر ما لم يتعلق بالقربة.
والوجه الثاني - أنه لا يلتزم شيئاً سوى الإتيان؛ فإنه لم يذكر غير الإتيان، فلا معنى لإلزامه ما لم يذكره، ولم يلتزمه، ومبنى النذر على الاقتصار على المذكور.
التفريع:
11851- إن حكمنا بأنه يجب ضم قربة من المسجد المأتيّ إلى إتيانه، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه تتعين الصلاة، فليصل الناذر في المسجد الذي أتاه صلاة صحيحة. ومن أصحابنا من قال: يعتكف فيه لحظة، ومنهم من قال: يتخير بين الصلاة والاعتكاف.
وذكر الشيخ أبو علي في الذي أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاء بالنذر أنه لو زار قبر النبي عليه السلام -وهو في خِطة المسجد- وقال: كفاه ذلك؛ فإنه أتى بقربة، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن زيارة قبر الرسول عليه السلام ليست من
__________
(1) في الأصل: " المشي ". والمثبت من (ق) .(18/431)
خصائص المسجد، وليست قربة يعظم قدرها بالمسجد، ولكن اتفق كونها في المسجد.
توجيه الأوجه وتفريعها:
11852- أما من عيّن الصلاة، فمتعلقه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلياء تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره" (1) فإذا كان إلزام النذر بسبب تميز المسجدين -وإنما ميّزهما الشارع بالصلاة- فينبغي أن تكون القُربة المضمومةُ إلى الإتيان صلاةً.
ومَنْ عين الاعتكاف رآه آخصَّ القُرَب بالمسجد؛ فإن الصلاة تصح في غير المسجد، بل الأولى لمن يكون بالمدينة أن يتنفل في منزله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُرى متنفلاً في المسجد إلا في ثلاث ليالٍ [من رمضان] (2) فإنه صلى التراويح في المسجد، وكان سببُ ذلك اعتكافَه فيه.
ومن خيّر بينهما جمع بين متعلقي الوجهين.
11853- فأما التفريع: فالذي أراه أن الصلاة إذا أوجبناها، فلا تتقيد في هذا المقام بواجب الشرع قولاً واحداً، بل تكفي ركعة؛ فإن الصلاة ليست مقصودة بالنذر في هذا الموضع، ولا يمتنع أن تجري الصلاة مجرى الصلاة المنذورة؛ من جهة أنها وجبت، فلا تنحط عن أقل درجات الواجب.
__________
(1) حديث " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلياء ... " قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: ما ذكره في فضيلة الصلاة في المساجد الثلاثة قد ساقه مساق حديث واحد، وهو هكذا بتمامه غير ثابت فيما نعلم. ا. هـ وقال الحافظ متعقباً: معناه في معجم الطبراني الكبير من حديث أبي الدرداء رفعه " الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة بمسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة " ورواه ابن عدي عن جابر، وإسناده ضعيف ا. هـ (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/278، التلخيص الحبير: 4/329 ح 2549) .
(2) زيادة من (ق) .(18/432)
وأما إذا أقام الشيخ (1) الزيارة مقام الصلاة والاعتكافَ، فقياسه أنه لو تصدق في مسجد المدينة، أو صام يوماًً أنه يخرج عن موجَب نذره، ويجوز أن يقال: الزيارة تنفصل عما ذكرناه لكون المزور في رقعة المسجد، فهو مختص من هذا الوجه.
ومما نفرعه في نذر إتيان المسجدين أنا إذا قلنا: يكفي الإتيان المجرد، فليت شعري- ماذا يقول صاحب هذا الوجه إذا أتى باب المسجد وانصرف؟ فإن قال: يكفيه ذلك، فهذا بعيد؛ فإن إتيان المسجد والانصراف عنه على هذا الوجه ليس بقربة، ولا يبعد أن يُلحق بأصناف العبث، وإن قال هذا القائل: لا بد من دخول المسجد، فالدخول من غير قصد الاعتكاف ليس بقربة، وقد ورد النهي عن [إطراق] (2) المساجد من غير حاجة، وإن شرط ضمَّ الاعتكاف، فقد أبطل قاعدة مذهبه في الاقتصار على إتيان المسجد، وتبين بهذا الخبط فسادُ أصل الوجه- ولا يبقى إلا أن يقول صاحب هذا الوجه الضعيف: إتيان المسجد تقرب وتبرك، واستجلاب يُمن، وهذا نازل منزلة زيارة العلماء، وهذا بعيد. وإن تعلق بقصد الاعتكاف، فقد صرح بنقض مذهبه.
ومما فرّعه الشيخ في الشرح أن قال: إذا أَلْزمنا إتيان المسجدَيْن بالندر، فلو نذر إتيان أحدهما ماشياً، ففي التزامه وجهان، بناهما الشيخ على التزام المشي قبل الميقات، ووجه البناء أن كلا المشيين وإن لم يقع في عبادة؛ فإنه واقع في القصد إلى بقعة معظمة.
ولو نذر أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في مسجد إيلياء، فالذي قطع به المراوزة أن النذر مُلزِم قولاً واحداً؛ فإنه التزم قربة، وصرح بالتزامها، وضم إليها مزيّةً تُعظِّمُها، فكان ذلك كالتزام الجماعة في الصلاة المنذورة.
وذكر العراقيون ما ذكرناه، وطريقة أخرى - وهي إجراء القولين في هذه الصورة.
فهذا ما أردنا أن نذكره في سائر المساجد إذا نذر الناذر إتيانها.
__________
(1) المراد الشيخ أبو علي، وقد مضى قوله هذا آنفاً.
(2) في الأصل: " أطراف ".(18/433)
11854- ونحن بعد ذلك نذكر نذرَ إتيان الحرم. فنقول: إن حكمنا بأن إتيان الحرم من غير نذر يوجب نسكاً، وقلنا: المطلق في النذر يتقيد بواجب الشرع، فإذا نذر الناذر إتيانَ مكة أو إتيان الحرم، يلزمه أن يأتيَ الحرم ناسكاً بحج أو بعمرة، وإن قلنا: ليس على من يأتي مكةَ إحرام، أو قلنا: الملتزَم بالنذر لا يتقيد بواجب الشرع، فكيف حكم النذر في هاتين الصورتين؟
أما الصورة الأولى - وهي إذا وقع التفريع على أن من يأتي مكة لا إحرام عليه، فإذا نذر إتيان مكة، كان كما لو نذر إتيان مسجد المدينة، أو مسجد القدس، وقد مضى التفصيل فيه. ولكنا إن أوجبنا هاهنا الإتيان، وفرّعنا على ضم قُرْبة إلى الإتيان، فمن أصحابنا من قال: تلك القربة حج أو عمرة، فإنهما يختصان بالحرم، ومن أصحابنا من قال: تلك القربة الصلاة؛ تعلقاً بالحديث الذي رويناه، ومنهم من خيّر، ولا يتجه ذكر الاعتكاف على التعيين؛ لأنه لا يختص. وإن سلكنا مسلك الاختصاص، فالنسك أخص، ولو ذكر ذاكرٌ الطواف المجرد لم يبعد، والمخيِّر يخيِّر بين النسك، والاعتكاف، والطواف والصلاة.
ولو عين بقعة من بقاع الحرم لا يتعلق به نسك كدار الخيزران ودار أبي جهل ونحوهما، فهو كما لو نذر إتيانَ مكة أو إتيانَ الحرم.
ولو قال: لله علي أن آتي بيتَ الله تعالى، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلزمه شيء؛ لأن هذا الاسم لا يختص بالكعبة، وكل مسجد يشار إليه، فهو بيت الله.
ومن أصحابنا من قال: يُحمل مطلقُه على الكعبة؛ لجريان العرف بإطلاقه والمراد به الكعبة، والأصح الأول.
ولو نوى بذكر بيت الله الكعبةَ، نُزِّل لفظُه على نيته، وكلامنا في اللفظ المطلق.
11855- ولو نذر إتيان عرفة، فالذي قطع به أئمتنا في الطرق أنه لا يلتزم بهذا شيئاً؛ فإن عرفة من الحل، وليس في إتيانها قُربة، وإنما الوقوف بها ركن من عبادة، فذِكْرُ مكان ذلك الركن لا يُلزم شيئاً.(18/434)
وقال القاضي إن خطر له شهودُ عرفةَ يومَ عرفة، لزمه، كما لو نذر المشيَ إلى البيت الحرام، وإن لم يخطُِر له ذلك، لم يلزمه شيء. وقال في بعض أجوبته: يلزمه الحج إذا أطلق التزامَ إتيان عرفة، وجواباه مخالفان لما قاله الأصحاب.
والذي يجب تحصيله أنه إن أراد التزامَ الحج، وعبّر عنه بشهود عرفة، لزمه ما نواه. وإن قصد الإتيان فحسب، أو قصد الإتيان، ولم يخطر له الحج، ولكن نوى الإتيان يومَ عرفة، فلا يلتزم شيئاً على مذهب جماهير الأصحاب. وللقاضي جواباه كما ذكرناه. [ولو لم] (1) يُرد بذكر يوم عرفة التزامَ الحج، ولكن اعتقد الوقوفَ في ذلك اليوم قُربة، [فالأمر] (2) على خلاف ما [ذكره] (3) ؛ فإن الوقوف ممّن ليس مُحْرِماً لا قربة فيه.
ثم اعتاد الفقهاء ذكر عبارات في إتيان الحرم، منها الإتيان، والمشي، والذهاب، وجميعها سواء.
وإذا نذر أن يضرب بثوبه حَطِيم الكعبة، فهو بمثابة نَذْر إتيانها.
11856- ومما يلتحق بالفصل أنا إذا أَلْزمنا إتيانَ مسجد المدينة، ثم فرعنا على أنه لا بد من ضم الصلاة، لو صورنا فيه إذا قال: لله علي أن أصلي في مسجد المدينة، فلو أراد أن يصلي في مسجد آخر من مساجد الدنيا سوى المسجد الحرام ومسجد إيليا، لم يخرج عن نذره؛ للحديث المنقول عن الرسول عليه السلام في ذلك.
ولو التزم الصلاة في المسجد الحرام، فصلى في مسجد المدينة، لم يخرج عما عليه؛ للتفاوت البيّن المنقول فيه.
ولو قال: لله عليّ صلاة في مسجد المدينة، فصلى في مسجد إيلياء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يخرج عما عليه؛ لاستوائهما في التعديل المروي عن المصطفى عليه السلام؛ فإنه قال: " صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في
__________
(1) في الأصل: " ولم ".
(2) في الأصل: "والأمر".
(3) في الأصل: " ذكرناها. والمثبت من (ق) .(18/435)
مسجد إيليا تعدل ألف صلاة في غيره " ومن أصحابنا من لم يخرجه عن موجَب النذر؛ تعلُّقاً بالتعيين المذكور في النذر.
ولو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في المسجد الحرام، فالأصح أنه يخرج عن النذر، وفيه شيء؛ أَخْذاً من الالتزام.
ولو قال: أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ألفَ صلاة [في مسجد آخر] (1) ، لم يخرج عما عليه؛ فإن التفصيل الآيل إلى الصفة لا يقابله العدد، ولو نذر ألفَ صلاة، لم يخرج عن نذره بصلاة في مسجد المدينة. وفي بعض الأخبار: " صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد الحرام " (2) . وكان شيخي يقول: هذه الزيادة لم يصححها الأثبات، فلا تعويل عليها. فلو نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أرجاء المسجد الحرام أجزأه ذلك، هذا ما كان يقول، والعلم عند الله.
وهذا منتهى الكلام في نذر إتيان المساجد وما يتعلق به.
فقال: " ولو نذر أن يُهدي متاعاً، لم يجزئه ... إلى آخره " (3) .
11857- معظم المقاصد في نذر الهدي الضحايا، وقد مضى في كتاب الضحايا، والمقدارُ الذي نذكره هاهنا أنه إذا نذر أن يسوقَ شاةً أو بدنة، أو ما يذكره إلى حرم الله
__________
(1) زيادة أفدناها من (ق) .
(2) حديث: " صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد " الحديث بغير هذه الزيادة التي قال فيها الإمام: " لم يصححها الأثبات " رواه ابن ماجه وأحمد من حديث جابر، والطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء.
أما الزيادة فلم تصح فعلاً كما قال الإمام، بل ليس لها أصل كما قال الحافظ في التلخيص (ر. ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1406، وصحيح ابن ماجه للألباني: 1/236، المسند: 3/397، التلخيص: 4/329-331 ح 2549) .
(3) ر. المختصر: 5/239.(18/436)
تعالى ويتقربَ به، فيجبُ الوفاء، ويلزمه تبليغُه مكة، ولا خلاف في التزام ذلك، وكل ما نذكره يؤكد التزام القربات، فإن الهدي في نفسه قُرْبة، وتبليغُه الحرمَ مزيّة، ثم إذا صرح كما ذكرناه، وبلَّغ يلزمه أن يذبح أو ينحر في الحرم، والأصح أنه يلزمه تفرقةُ اللحم ثَمَّ، فلو نقله من الحرم، وفرقه في موضعٍ آخر، لم يُجْزه.
ومن أصحابنا من يقول: إذا نحر أو ذبح في الحرم، فلا حجر عليه، ولا حرج لو نقل اللحم إلى موضع آخر؛ فإن الذبح قُربة، وهو لم يقيد نذره بتفرقة اللحم، والأصحُّ الأولُ؛ فإن الذبح إنما يتقيد بالحرم حتى يكون اللحم المفرقُ على أهله غضاً طرياً، وإلا فلا أَرَبَ في اتخاذ الحرم مذابح ومجازر.
وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظاً يُشعر بذكر قربة، كالضحية وما في معناها، فلو قال: لله علي أن أذبح بمكة [أو أنحر] (1) بمكة، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا بمثابة نذر التضحية؛ لأن لفظ الذبح محفوف بالنذر من أحد جانبيه، والإضافة إلى مكة [من الجانب الآخر] (2) ، وكل واحد منهما يشعر بالقربة، [فصار] (3) بمثابة ما لو ذكر لفظ التضحية.
وقال بعض أصحابنا: لا يلتزم بهذا اللفظ شيئاً؛ فإنه لم يذكر عن الملتزَم عبارةً مشعرة بالقُربة، وإنما تثبت القربة بما هو عبارة عنها.
فإن ألغينا اللفظ، فلا كلام، وإن أثبتناه، فهو بمثابة ما لو ذكر التضحية، أو غيرها مما يدل على القُربة، وقد مضى التفصيل فيه.
11858- ولو قال: لله علي أن أضحي بشاة بنيسابور، وأفرق لحمها بها، فالنذر مُلزِم؛ فإن اللفظ صريح عن القربة، وهل يجب تفرقة اللحم بالبلدة التي عينها أم لا؟ فعلى قولين مأخوذين من تفرقة الصدقة ونقلِها، فإن لم نجوز نقل الصدقة، لم نجوز النقل عن البقعة المعينة؛ فإنا إن نظرنا إلى تنزيل المنذور على موجب الواجب في الشريعة، فالنقل ممتنع، وإن تمسكنا باللفظ، فاللفظ صريح في التخصيص.
__________
(1) في الأصل: " وأنحر ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: " وصار ".(18/437)
وإن جوزنا نقلَ الصدقة والنذرُ مخصوص لفظاً بأهل البلدة المعينة، ففي جواز النقل على هذا القول وجهان: أحدهما - أن النقل ممتنع، وإن جاز نقل الصدقة، تعلقاً باللفظ وموجبه، وليس في ألفاظ الشارع ما يخصص صدقة الرجل بأهل بقعة، والأخبار التي يتعلق بها من يمنع النقل عُرضةٌ للتأويل؛ إذ لو كانت نصوصاً، لوجب اتباعها، واللفظ القابلُ للتأويل إذا أوّله محقق، واعتضد في التأويل بالدليل، فيصير الظاهر مع ما ذكرناه كالمجمل، ولفظ الناذر في مسألتنا نص صريح غير قابل للتأويل.
والوجه الثاني - أن النقل جائز؛ فإن المنذور يتعلق بحقوق الله تعالى، وليس لمن يلتزم حقوق الله تعالى تحكم فيه، والذي يعضد ذلك أنه لا قربة في تخصيص أهل بلدة، وما يبعد عن مسالك القربات، فذكره لغو في النذور- ولم يختلف الأصحاب في أن ما يقيد بالحرم يتقيد به؛ فإنه محل الهدايا، ونهايات القُصود في التقرب بالهدايا أن تبلغ الحرم، كما قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . فصار تبليغها وتفريقها على أهلها من الصفات التي تقتضي مزية في القربة.
فيخرج منه أن التقييد وإن كان نصّاً لغو.
ولو قال الرجل: لله علي أن أتصدق على زيد هذا، وكان فقيراً فتعيّنه يُخرَّجُ على تَعيُّن أهل البلدة.
ثم مهما (1) أبطلنا تقييده، فقد يخطر للفقيه أن النذر يبطل، ويعارضه أن الشرط يبطل، والقُربة تثبت، وهذا يظهر في النذور جدّاً، ويجوز أن يقال: لا يثبت النذر، لا لفساده بفساد شرط مقترن به، ولكن لأن ما التزمه لم يلزمه، وهو لم يلتزم إلا التصدق على زيد أو على أهل البلدة التي عينها، فإن قلنا: لا تتعين البلدة لتفرقة اللحم، فلا تتعين لإراقة الدم فيه، بخلاف الحرم؛ فإن الشرع جعله منحر الهدايا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمنى: " هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" (2) .
__________
(1) مهما: بمعنى: (إذا) .
(2) سبق هذا الحديث في الحدود.(18/438)
وإن قلنا: تتعين البلدة لتفرقة اللحم إذا عينها -والمسألة مفروضة فيه إذا نص على تفرقة اللحم على أهل البلدة المعينة- فهل تتعين تلك البلدة لإراقة الدم بها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تتعين. والثاني - أنه لو أراق الدم بالقرب، ونقل اللحم غضاً طرياً، جاز، والترتيب جرى على حدّ ما ذكرناه في الحرم؛ فإن الذبح يتعين إيقاعه في الحرم إذا خصصه كما تقدم تفصيله.
11859- ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بنيسابور، ولم يتعرض لتفرقة اللحم بها، وفرعنا على أنه لو قيد النذر بالتفرقة بتلك البلدة، لوجب الوفاء بموجب تقييده.
فإذا أضاف التضحية إلى تلك البلدة، فهل تتضمن إضافةُ التضحية تفرقةَ اللحم على التخصيص؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يتضمن ذلك تخصيصَ أهل البلدة بالتفرقة، فعلى هذا هل تتعين البقعة للتضحية وإراقة الدم؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين، فإن قيل: كيف يثبت الضِّمن (1) ، ولم يثبت اللفظ المصرِّح به؟ قلنا: لأن تفرقة اللحم على أهل بقعة مستندة إلى أصلٍ في الشريعة، والتضحية في غير الحرم لا أصل لها. ومن خصص التضحية، فلا محمل لتخصيصها إلا ابتغاء طراوة اللحم إذا فرقت. وإن صور مصور إخراجاً، ونقلاً على القرب، أجبنا عنه بقاعدة الحسم في أمثال ذلك.
وكل ذلك تفريع على أن التضحية تُشعر بتعيين تفرقة اللحم.
ومن أصحابنا من قال: لا تشعر إضافة التضحية بتخصيص تفرقة اللحم على أهل البقعة [لو] (2) فرعنا على أنه لو صرح بتخصيص البقعة باللحم، لم يتخصص، فتخصيص التضحية على هذا لا أثر له؛ إذ لا تعبد في البقعة، وليست متعيَّنة لتفرقة اللحم، وكل ذلك فيه إذا قال: أضحي بنيسابور.
11860- فأما إذا قال: أذبح أو أنحر، ولم يذكر لفظة مشعرة بالقربة، فالذي صار إليه المعتبرون أنه لا يلزمه بهذا اللفظ شيء، وذكر العراقيون وجهاً أنه يلزمه ما يلزمه
__________
(1) الضِّمن: المراد به تفرقة اللحم على أهل البقعة، مع أنه لم يصرح به.
(2) في الأصل: " أو ".(18/439)
لو ذكر التضحية، وهذا بعيد. ووجهه على بعده اتصال لفظ النذر به، وهو يقتضي القربة، فالمذكور بعده متقيد بلفظ النذر.
11861- وإذا جمع الجامع هذا إلى ما ذكرناه من نذر الذبح والنحر في مكة من غير لفظ التضحية والهدي، ثبت عنده وجهان إذا فرضت المسألة في مكة: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء. والثاني - يلزمه لعلتين: إحداهما - لفظ النذر، والأخرى - الإضافة إلى المكان المهيأ لهذا النوع، ثم إذا فرضت المسألة في تسمية بلدة أخرى مع لفظ الذبح، انتظم فيها وجهان مرتبان على الوجهين المذكورين في مكة، فإن قلنا: لا يلزم بالنذر وإن أضيف إلى مكة شيء، فلأن لا يلزم في غير مكة أولى، وإن قلنا: يلزم ثمَّ، ففي غير مكة وجهان. والفرق تعدد السبب الدّال على القربة في مسألة مكة واتحاد النذر في غيرها.
فصل
يجمع مسائل تتلقى من مقتضى ألفاظ الناذر في التضحية وما يليق بها
11862- إذا قال: عليّ أن أضحي ببدَنة، فاسم البَدَنة في اللغة ينطلق على البعير، وجمعها البُدْن. قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] هذا حكم اللسان. ثم أقام الشرع بقرة مَقام بَدَنةٍ، وكدلك أقام سبعة من الغنم مقام بدنة، وهذا واضح في قواعدَ معروفةٍ، وأقربها إلينا أن البدنة تُجزىء عن سبعة، وكذلك البقرة، والشاة الواحدة تجزىء عن واحد، ولا تقبل الشركة، فالسبع من الغنم تَعْدِل فيما ذكرناه بدنة، كل شاة في معادلة سُبعها.
فإذا نذر التضحية ببدنة، فهل له أن يقيم مقامها بقرة، أو سبعاً من الغنم؟ اختلف أئمة المذهب في ذلك، فأحسن ترتيب يجمع الغرض ويحويه أن نقول: إن لم يجد الناذر بدنة، فله العدول إلى بقرة، أو سبعٍ من الغنم، وإن وجد بدنة، ففي جواز العدول عنها إلى البقرة والسبع من الغنم قولان. وقد سبق ما يناظر ذلك في كتاب المناسك.
توجيه القولين: من لم يجوز العدول عن البدنة استمسك باللفظ، ومن جوّز(18/440)
العدول تعلّق بموجب الشرع في إقامة [البقرة] (1) والسَّبع من الغنم مقامَ البدنةِ.
ومعظم الاختلاف في هذه المسائل يلتفت إلى أن النذر هل ينزل على موجب الشرع، أم يُتمسك فيه بمقتضى اللفظ؟
[هذه طريقة] (2) وأبعد بعض الأصحاب فقلبها، وقال: لا يعدل عن البدنة مع وجودها؛ فإن لم يجدها، ففي إجزاء البقرة والسبع من الغنم قولان، وهذا [غلوٌّ] (3) في التعلق باللفظ، وتشوف إلى منع إخراج الأبدال عما تعين بالنذر، كما يمتنع إخراج الأبدال عن الزكوات المتعينة بتنصيص الشارع، وهذا الذي نحن فيه اشترك فيه اتباع اللفظ، وموجَب الشرع، والالتفات على منع إخراج الأبدال.
ولو قال: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم، لم يُقبل منه صنف آخر في المال على قياس منع الأبدال في الزكوات.
ثم إذا جوزنا إخراجَ البقرة والسبعِ من الغنم، فلا يُرْعَى أن يكون المخرج على قيمة البدنة، كما لا ينظر إلى القيم في إخراج الجبرانات عند تفاوت الأسنان انخفاضاً وارتفاعاً. هذا هو المذهب.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من اشترط أن تكون البقرةُ والسبع من الغنم على قيمة البدنة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ثم فرع عليه فرعاً هو أضعف منه، فقال: إذا جوزنا إخراج البدل، وشرطنا رعاية التعديل في القيمة، فلو أخرج خمساً من الغنم تَعْدِل قيمتُها بدنةً، فهل يقبل؟ فعلى وجهين، وكذلك إن تُصوِّر هذا في شاة واحدة، والمصيرُ إلى أن الخمس أو الشاة الواحدة تجزىء عن بدنة بُعدٌ عظيمٌ عن القاعدة، ولولا عظم قدر الناقل -وهو صاحب التقريب- لما استجزت ذكر هذا، ويلزمه على المساق الذي ساقه أن يصير إلى إجزاء [المعيبة] (4) نظراً إلى القيمة، وهذا يجرّ أُموراً مضطربة، لا سبيل إلى احتمالها.
__________
(1) في الأصل: " البدنة " وهو سبق قلم واضح.
(2) زيادة من (ق) .
(3) في الأصل: " تعلق ". والحمد لله فقد صدقتنا (ق) .
(4) في الأصل: " المعينة ".(18/441)
11863- وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر البدنة في نذر التضحية، وسننعطف على هذا بذكر خلاف من [فنٍّ] (1) آخر:
[فلو] (2) قال: لله عليّ أن أضحي ببعير، أو بشاة، أو بقرة؛ فالذي قطع به القاضي ومعظم المحققين أن مطلق اللفظ محمول على البعير المجزىء وهو الثنيُّ السليم عن العيوب المانعة من الإجزاء، وكذلك القول في البقرة التي سماها، والشاة.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أن اللفظ منزّل على الاسم، فلا يشترط السن ولا السلامة، نعم، لا يجزىء الحوار، والفصيل؛ لأنه لا يسمى بعيراً، ويجزىء الحِقّ، وابن اللبون، وابن مخاض، والمتبع في كل جنس الاسمُ؛ فلا يقبل العِجْلُ، والمذكور البقرة، كما لا تقبل السَّخلة والمذكور الشاة، وهذا مأخوذ من اتباع اللفظ، والمسلك الأوضح مأخوذ من موجب الشرع، وهو متأكد في هذا المقام بذكر التضحية، والتضحية لفظة شرعية مقتضاها أن تنزل على قواعدَ مرعيةٍ في الشريعة، ولو نذر صلاة، لم تقع منه بدَعْوة، نظراً إلى أصل الوضع في اللغة. وهذا التردد في ذكر البعير والبقرة والشاة.
فأما إذا ذكر البدنة، وعبّر بالتضحية أو الإهداء، فالمذهب اعتبار حدود الشريعة في السن والسلامة؛ فإن اسم البدنة مشهور مستفيض بالقرابين، ويندر استعماله في غيرها، فلما ازداد التقييد بَعُدَ الخلاف. وذكر العراقيون في ذكر البدنة خلافاً أيضاً في اعتبار السن والسلامة، وهذا بعيد.
والحاصل من مجموع ما ذكرناه ترتيبُ الخلاف في البعير والشاة على الخلاف في البدنة، أو جمعُ الكل وإجراءُ ثلاثةِ أوجه على ما لا يكاد يخفى.
ويخرج بعد ما ذكرناه وجهٌ أن الحيوان المجزىء لا يلزم ما لم يَنُصَّ على صفاته المرعية في النذر المطلق، ولو نواها، كان كما لو صرح بذكرها، ولو قال: لله علي
__________
(1) في الأصل: " في".
(2) في الأصل: " ولو ".(18/442)
هديٌ، فخروج هذا على أصل القولين ظاهرٌ بيّنٌ: من اعتبر اللفظ لم يوجب حيواناً مجزئاً في الضحايا؛ بل اكتفى بأقل المَنْح من أي جنس كان من أجناس الأموال، ومن اعتبر الشرعَ وحكمَه، أَلزم بمطلق هذا اللفظ شاةً؛ فإن أقلَّ اسم الهدي الشرعي يتناول شاةً على السن المعتبر والسلامةِ المشروطة.
التفريع:
11864- إن ألزمنا الناذر ما يجزىء في الضحايا، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه يجب تبليغه الحرم؛ فإن الضحايا في البلاد لا تسمى هدياً، والهديُ المطلق هو الذي مَحِلُّه الحرم، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
وفي كلام بعض الأصحاب على هذا القول ما يشير إلى أنه لا يجب تبليغُ المنذور الحرمَ ما لم يقع التصريحُ به؛ فإن دماء الحيوانات هي الواجبةُ شرعاً، ولا يجب تبليغُها الحرم، وهذا وهم؛ فإنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع، والهدي ظاهر في ألفاظ الشرع في اقتضاء التبليغ إلى مكة.
وإن لم نُلزم بلفظ الهدي حيواناً، واكتفينا بأقل المَنْح أخذاً من الهدية، فقد قطع الأصحاب على ذلك بأنه لا يجب تبليغُه مكةَ، وكان شيخي في دروسه يقطع بأنه يجب تبليغه مكةَ، وهذا تناقض.
فأما إذا لم نعتبر جنس النَّعم في الهدي، فلأن لا نعتبر التبليغ -وهو تابع لجنس القرابين- أولى وأحرى، فلا [اعتداد] (1) بهذا إذاً.
11865- ومما يليق بما نحن فيه أنه لو نذر أن يهدي ظبية، وصرح بتبليغها الحرم، وجب التبليغ، وهذا مما يجب العلمُ به على ثقة، فكل قُربة مالية التُزمت، وأضيفت إلى مكة، وجب تبليغها الحرمَ، ولا يختص ذلك بالقرابين.
ثم قال المحققون: إذا ذكر ظبية، لم يذبحها، ولكن تصدق بها حيّة؛ فإن الذبح يَنْقُصُها، وليس في ذبحها قُربة، وكذلك القول فيما عدا جنس النَّعم من الحيوانات.
وإذا قال: لله علي أن أهديَ بعيراً، وأوجبنا التبليغ، وجوزنا المعيب، فهل يكون كالظبية حتى لا يُنحر، بل يتصدق به حياً أم ينحر؟ فيه تردد للاصحاب: فمنهم من
__________
(1) في الأصل: "اعتدال".(18/443)
راعى الجنس؛ ورأى الذبح. وهذا رديء؛ ومنهم من قال: إذا كان لا يجزىء في الضحايا لنقصان شيء أو اتصافٍ بعيب مانع من الإجزاء، فهو كالظبية.
ولو قال: لله علي أن أُهديَ هذا، وأشار إلى ثوب، أو غيره من صنوف المال، والتفريع على وجوب التبليغ- فإن كان ما ذكره شيئاً لا يُنقل، بيع، ونقلت قيمته إلى مكة، وتصدق بها، وإن كان ذلك الشيء منقولاً في نفسه، فإن عسر نقله، كحجر الرحا وما في معناه، فهو كالعقار، وإن كان ذلك الشيء مما ينقل مثله، فينقله ويتصدق به على أهل مكة.
ولو كان ثوباًً يتأتى ستر الكعبة به، فالستر من جملة القربات، وفي اعتياد الناس ذلك في العُصر الخالية، وعدم النكير من علماء الشريعة ما يوضح ذلك، وفي بعض ألفاظ الرسول عليه السلام ما يدل عليه، وكذلك تطييبُ الكعبة من هذه الجملة.
ولكن إن نوى من جَعَلَ الثوبَ هدياً ستْرَ البيت، نُزّل لفظه على نيته- وكذلك لو صرح بهذه الجهة، ولو نوى التصدق، فلا معدل عنه.
ولو أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون وجوبُ حمله على الصدقة، ومَنعْ العدول عنها؛ فإن الصدقة هي المفهومة من ظاهر لفظ الإهداء، وهي أصل القربات في الباب، فلا عدول عنها من غير لفظ أو قصد.
وفي بعض التصانيف أن الثوبَ الصالحَ [للستر] (1) يحمل مطلق اللفظ فيه على الستر، وهذا كلام سخيف، لا أصل له، ولا اعتداد به.
ثم إذا كان عيّن ثوباًً أو غيره من صنوف الأموال، وبلّغه مكة، فأراد بيعه، وتفرقة ثمنه، فالذي ذكره الأئمة -وهو قياس المذهب- أن بيعه يمتنع، لتعلق لفظ الإهداء بعينه، وإمكانِ التصدق به، ومصيرِ ما عيّنه بمثابة ما يعيّنه الشارع في الزكوات، وهذا كتعيين الضحايا، أو كتعيين إهداء حيوان ليس من قبيل النَّعم، ولو كان يعسر التصدق بعينه، ولا يتأتى جَمْعُ المساكين وتسليم المعين إليهم، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الزكوات، فلا معدل عن المعين.
__________
(1) في الأصل: " التستر ".(18/444)
وكل ما ذكرناه من الصرف إلى الستر عند اللفظ أو القصد، والصرف إلى الطِّيب، فهو يقوي مذهب المتأخرين في التزام القربات التي لم تشرع للعبادات، ولا جواب للمتقدمين عن هذه الفنون.
ولو فرض تقييد اللفظ بتطييب مسجد المدينة أو مسجد إيلياء، أو مكان الصخرة، أو غيرهما من المساجد، فالأمر متردد عندنا: لا يمتنع ألا يلزمَ ما أشرنا إليه، ويختص ما ذكرناه بالمسجد الحرام، والكعبة، والعلم عند الله.
11866- وذكر الشيخ في شرح التلخيص كلاماًً ظاهره أن من نذر الصوم بمكة يلزمه الصوم بها، ولو صام بغيرها، لم يُجْزه، وقد قرن بين الصلاة والصوم في هذا المعنى، وقد نص الأصحاب في الطرق على مخالفته في ذلك؛ فإن الأخبار والآثار إنما وردت في الصلاة، فلا مزيد عليها، والستر والتطييب ملحق بها.
ولا خلاف أن التصدق إذا أضيف إليها، وجب الوفاء أخذاً من القرابين، فأما الصوم، فلم يَرِد فيه ثبتٌ، ثم من أوجب الوفاء بإقامة الصوم بمكة ترددوا في غيره من العبادات بعد استثناء ما استثنيناه، ولا يخفى أن الاعتكاف إذا أضيف إلى المسجد الحرام، تعين له؛ فإنا قد نعيّن بعض مساجد البلاد للاعتكاف إذا عيّنه الناذر. وقد نجز الغرض في هذا الفن.
فصل
قال: " ولو نذر عدَدَ صومٍ، صامه متفرقاً ومتتابعاً ... إلى آخره " (1) .
11867- لا خلاف أن الصيام يُلتزم بالنذر، ولو نذر صوم أيام، ولم يتعرض للتتابع، فهو بالخيار في الإتيان بها متتابعة أو متفرقة. وكذلك لو نذر صوماً إلى شهرٍ أو سنة، فإن شاء فرّق وإن شاء والى وتابع.
ومن مقاصد هذا الفصل أن من عيّن يوماً [لصومه] (2) المنذور، فالمذهب الأصح
__________
(1) ر. المختصر: 5/239.
(2) في الأصل: " بصومه ".(18/445)
أنه تتعين تلك الأوقات للصوم على حسب تعيينه، وقال بعض أصحابنا: تعيين الزمان في الصوم كتعيين المكان له، فإذا عيّن، لزمه الصومُ (1) ، كما لو أطلق النذرَ من غير التعيين، وهذا الوجه -على بعده- منقاس، ذكره طوائفُ من أئمة المذهب، منهم الصيدلاني.
ومن آثار الخلاف أنه إذا عيّن أن يصوم يوم الخميس، فأراد أن يصومَ يوماً قبله، فوقوعه عن النذر خارج [على] (2) الخلاف، وإن انتهى إلى ذلك اليوم، [ولم يصمه] (3) ، فيلزمه صوم يوم بعده بلا خلاف، ثم هو أداء أم قضاء؟ فعلى ما ذكرناه في الخلاف.
ولا خلاف أنا وإن عيّناه، فلو أوقع فيه قضاءً أو صومَ كفارة، صح، ولا يبلغ تعيينه مبلغاً ينافي صوماً غيرَه بخلاف تعيين أيام رمضان لصيامها، ولا يثبت في اليوم [المعين] (4) -تفريعاً على الأصح- خواصُّ صوم رمضان من الكفارة عند الإفطار بالوقاع، ووجوب الإمساك بعد الإفطار.
ولو نذر صوم أيامٍ وقيدها بالتفريق، ففي التزام التفريق بالنذر وجهان بناهما بعض الأصحاب على اختلاف القول في أن التفريق بين الأيام الثلاثة والأيام السبعة في صوم التمتع هل يُستَحق شرعاً، وفيه خلاف ذكرته، والأولى عندنا تقريب الوجهين -في وجوب التفريق- من تردد الأصحاب في أن الأوقات هل تتعين للصيام إذا عُيّنت له؟ فإن قلنا: إنها تتعين، فلا يبعد حمل استحقاق التفريق على هذا الأصل، كما لو قال: لله علي صوم الأثانين، فلا شك أنه يأتي بالصوم على صفة التفرق.
وهذا تكلف؛ فإن الذي يعيّن الأوقات [يجرد] (5) قصدَه إلى تعيينها، والذي يذكر
__________
(1) لزمه الصوم: أي لزمه الصوم فقط، ولم يلزمه زمان ولا مكان، كما لو أطلق لفظه.
(2) في الأصل: " عن ".
(3) في الأصل: " لم يصمه ".
(4) زيادة من (ق) .
(5) في الأصل: " مجرد".(18/446)
التفريق ليس تعيين الأزمنة من باله وعزمه؛ ولذلك كان الأصح أن التفريق لا يُلتزَم، والأصح أن الأوقات تتعين إذا عيّنت.
11868- ولو عيّن الناذر للصوم المنذور شهراً أو سنةً، وجرينا على الأصح في تعين الوقت، فالصوم يقع في الشهر تباعاً، لا لكون التتابع مستحَقاً في نفسه، ولكن تعيّن أيام الشهر يقتضي هذا المعنى لا محالة.
ولو أفطر الناذر يوماًَ من الشهر لم يَفْسُد عليه ما مضى، والقول في هذا كالقول في تعين أيام رمضان لصيامها.
ولو عين للصوم شهراً، وقضينا بتعيّنه، وضمّ إلى تعيينه ذكر التتابع، فقال: لله علي أن أصوم شهر شعبان من السنة الفلانية متتابعاً، فللأصحاب في ذكر التتابع وفي التعيين خلاف: فمنهم من يلغيه، ولا يُثبت حكمَه، ولا يُثبت إلا موجَبَ التعيين، ومنهم من يُثبت مقتضى التتابع قائلاً: لو أفطر في اليوم الأخير مثلاً، فسد عليه جميعُ ما تقدم، ولزمه القضاء على صفة التتابع، ولو التزم التتابع، ولزمه من غير تعيين، فقد ذكرنا ما يقطع التتابع، وما لا يقطعه، ومحلَّ الوفاق والخلاف في كتاب الظهار، والتتابع اللازم نذراً كالتتابع اللازم شرعاً.
11869- ولو قال: لله عليّ أن أصوم سنة، لم يخل: إما أن يعينها، أو يطلقها، فإن عيّن، وفَّى، ولم يجب عليه أيام رمضان والعيدان، وأيام التشريق، وكفاه ما سوى هذه الأيام؛ فإن الشرع قد استثنى بعضَها للصوم، وبعضَها للفطر، وإذا طرأ على السنة المعيّنة عذرٌ يجوز الإفطار بسببه في أيام رمضان، كالمرض، والحيض، فله الإفطار. وفي لزوم القضاء خلاف، ذكره الإمام (1) وغيره.
ومن أصحابنا من أوجب القضاءَ قياساً على الصوم المفروض شرعاً، وتنزيلاً للمنذور على المشروع، ومنهم من لم يوجِب القضاء، [وجعل] (2) هذه الأيام مستثناةً بالرخصة كأيام رمضان، حيث استثناه الشرع لجهة أخرى.
__________
(1) الإمام: يعني به والده.
(2) في الأصل: " وجهل ".(18/447)
ولو سافر الناذر، فله الإفطار، والظاهر وجوبُ القضاء، بخلاف الأعذار المنافية للصوم، كالحيض أو المسوِّغة للفطر عن حاجة حاقّة كالمرض.
ولو نذر صومَ سنة وأبهمها، ولم يعينها، صام اثني عشر شهراً بالأهلّة، فلو استفتح الصومَ من أول المحرم من سنةٍ، ثم تمادى إلى انقضاء السنة، وصام رمضان شرعاً، وأفطر في الأيام التي يُستحق الفطر فيها، فالذي قطع به الأصحاب أنه يلزمه أن يصوم في مقابلة شهر رمضان شهراً آخر، وفي مقام أيام الفطر أياماً؛ فإن تنكير السنة يقتضي إتمامَ الصيام. وذكر الصيدلاني أنه وإن نكّر السنةَ إذا استقبل سنة، وافتتح الصوم من المحرم إلى المحرم، كفاه ما أتى به.
وهذا زللٌ وهفوة من هفوات الكتّاب. والممكن في توجيهه أن من فعل هذا يقال صام سنة، وهذا تكلف بعيدٌ لا أصل له.
فصل
قال: " ولو قال: لله علي أن أحج عامي هذا ... إلى آخره " (1) .
11870- إذا نذر حَجّةً وعيّن لها عاماً، فالقول في تعيين [العام] (2) لها وفاءً بالنذر، كالقول في تعيين اليوم للصوم.
فإذا جرينا على المذهب الصحيح، ألزمناه إيقاع الحج في العام المعيّن وفاءً بالنذر؛ ولو حج قبل ذلك العام، لم يُعتَدَّ بما جاء به عن نذره، كما قررناه في الصوم، فلو صُدّ بعد الإحرام وتحلَّلَ أو امتنعَ عليه الإحرام لمكان [الصدّ] (3) ، فالمنصوص عليه، وهو ظاهر المذهب أنه لا يلزمه قضاءُ الحج.
وخرّج ابنُ سريج قولاً آخر أنه يلزمه القضاء، كما لو عيّن يوماًً للصوم المنذور، ثم طرأ فيه عذر، وهذا التخريج مع النص يقربان من الخلاف الذي ذكرناه في الأعذار الطارئة في أثناء السَّنَةِ المعيَّنةِ.
__________
(1) ر. المختصر: 5/239.
(2) في الأصل: "اليوم ".
(3) في الأصل: " الصيد ".(18/448)
ولو امتنع عليه الحج للمرض، أو لعدم الاستطاعة، فقد خرّج أصحابُنا هذا على الخلاف أيضاً، وفرق فارقون بين الصد بالعدو وبين الامتناع بهذه الأسباب، وينتظم من الصد وغيرِه من الأعذار ثلاثُ طرق: أحدها - وجوب القضاء.
والثاني - نفي القضاء.
والثالث - الفصلُ بين الصد بالعدوّ، وبين غيره من المعاذير، والفارق أن للصدّ مزيدُ وقعٍ ليس لغيره، ولذلك اختص جواز التحلل به.
فصل
قال: " ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم فلانٌ ... إلى آخره " (1) .
11871- نُقدِّم على مقصود الفصل تفصيلَ المذهب في تبعيض الصوم بالنذر، فإذا أصبح الرجل صائماًً متطوعاً، ونذر إتمامَ الصوم في بقية اليوم، لزمه الوفاء بالنذر وفاقاً، ولو أصبح ممسكاً، وما نوى ليلاً، فالتطوع بالصوم ممكن منه بأن ينوي قبل الزوال أو بعده، على الخلاف المشهور في ذلك، فلو نذر أن يصوم [هذا اليومَ] (2) على هذا الوجه، وقيد النذرَ، ولم يُطلق التزام صوم يوم، فهل يلزمه الوفاء؟ فعلى قولين مأخوذين من تنزيل المنذور على واجب الشرع؛ فإن نزلناه عليه، لم يصحَّ النذرُ كذلك، وإن نزلناه على ما يصح -وإن لم يكن فرضاً- صح هذا ولزم.
والذي أراه أن الأصحَّ اللزومُ؛ فإني صوّرت [النذرَ] (3) مقيَّداً، والقولان جاريان في لفظٍ مُطْلَقٍ على الصلاة التي تتردد بين الركعة والركعتين.
ولو قال: لله علي أن أصليَ ركعة واحدة، فقد قال الأصحاب: لا يلزمه غيرها، وقالوا: لو قال: علي صلاة أقيمها قاعداً، يلزمه القيام إذا قيدنا المنذور بواجب الشرع، وتكلفوا فرقاً، ولا فرق؛ فيجب تنزيلها على الخلاف، وكيف لا يكون
__________
(1) ر. المختصر: 5/239.
(2) زيادة من المحقق على ضوء السياق، وأخذاً من عبارة الغزالي في البسيط.
(3) في الأصل: " النية ". والمثبت من الشرح الكبير، حيث نقل الرافعي عبارة الإمام بنصها (الشرح الكبير: 12/372) ثم جاءت به (ق) .(18/449)
كذلك- وقد ذكرنا الخلاف في نذر الصوم نهاراً، حيث يجوز التطوع بالصوم، وهذا بالإضافة إلى الصوم الواجب شرعاً بمثابة الركعة إلى أقلِّ واجبٍ في الصلاة، وانتظم الصوم والصلاة على قضية.
ولو قال: لله علي صومُ يومٍ، لم يكفه أن ينوي نهاراً لاسم اليوم-[وإن] (1) قلنا: المتطوع لو نوى نهاراً، انعطفت النية- فلا يقع الاكتفاء (2) بهذا، والمنذور يومٌ.
[ولعِلّةِ] (3) مَنْعنا نذرَ صومِ بعضِ يوم، فلو قال: لله علي صومُ بعضِ يوم، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أن النذر يلغو؛ فإنه [التزم] (4) ما لا يمكن الوفاء به. ومنهم من قال: يلزم صوم يوم كامل بنية مُبَيَّنة.
ويُخرَّج على هذا أنه لو قال: لله علي أن أركع أو أسجد -والركوع الواحد لا يلتزم بالنذر- فهل يلزمه ما يلزم ناذر الصلاة؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه آنفاً.
وكان شيخي يقطع بأن السجدة الفردة لا تلتزم بالنذر -وإن كان التالي يسجد- فإن السجدة الفردة من غير سبب ليست قربة على الرأي الظاهر كما قررته في كتاب الصلاة.
فهذا ما أردنا تقديمه.
11872- والآن نعود إلى مقصود الفصل: فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم (5)
__________
(1) في الأصل: " فإن ". والمثبت من تصرّف المحقق، رعاية للسياق.
(2) سبق أن عَرَضت هذه المسألة، وقال الإمام: يكفيه نية صوم هذا اليوم، ويقع عن نذره، مخالفاً ما قاله هنا.
وقد سجل الغزالي ذلك في البسيط، حين عرض لهذه المسألة، حيث قال: " ولو قال: لله علي صوم يومٍ، فنوى نهاراً -والتفريع على تنزيل النذر على الممكن، لا على الواجب، وقلنا: إن الناوي نهاراً صائم من أول اليوم- فالقياس أنه يكفيه، كما ذكرنا من قبل. وقد ذكر الأمام هاهنا القطع بأنه لا يكفيه، وذكر في الفصل السابق أنه يكفيه، وأحدهما غلط لا محالة، أو فيه وجهان. والذي أظنه أنه يكفيه، والآخر بعيد، لأنه التزم صوم، وهذا صوم يوم، وإن جرت النية نهاراً " (ر. البسيط: الجزء السادس/ورقة 85 وجه) .
(3) في الأصل: " ولعل ".
(4) في الأصل: "التزام".
(5) يقدم: من باب تعب.(18/450)
فلان، فإن قَدِم ليلاً، لم يلتزم شيئاً؛ لأنه قيد القدوم باليوم، وإن قدم نهاراً، فالوفاء بالنذر غيرُ ممكن في يوم القدوم مذهباًً واحداً.
فإن قيل: هلاّ خرّجتموه على جواز تبعيض اليوم في نذر الصوم؟ قلنا: ما قدمناه فيه إذا خصص النذر ببعض اليوم، وهذه المسألة التي نحن فيها مفروضة فيه إذا سمى اليوم، فقال: يومَ يقَدُم فلان، فيلزم بموجب اللفظ صوم جميع اليوم، فإذا تعذر الوفاء في هذا اليوم، فلا يجب الإمساك أصلاً، ولو كان أصبح صائماًً متطوعاً، فلا يلزم إتمام الصوم؛ فإن ما يأتي به لا يقع وفاء، فلا وجه لإلزامه.
وهل يجب قضاء يوم بسبب ما تعذر؟ في المسألة قولان مشهوران، ومأخذهما مما هو متفرِّع عليهما، وهو من باب التفاف الأصل بالفرع والفرع بالأصل- وذلك أنه إذا قدم نهاراً، فتقدير وقت الوجوب يعقب القدوم أم يستند إلى أول النهار؟ فيه قولان، وعليه يخرج الأصحاب الطلاق والعَتاق إذا عُلق بيوم القدوم.
فإذا قال مالك العبد: أنت حر يوم يقدَم فلان، ثم باعه بكرةً، وقدِم فلان ضَحْوةً، فإن قلنا بالتقدم، حكمنا ببطلان البيع ومصادفته حراً، وإن حكمنا بالاستعقاب، فالبيع على نفوذه، والصفة لم تصادف محلاً (1) ، وفرض ذلك في الطلاق ظاهر.
ووجه بناء غرضنا من الصوم أننا إن أسندنا (2) ، أوجبنا قضاء يوم؛ فإن يوم القدوم يوم تبيّنا استحقاق صومه بالنذر، وقد عسر أداؤه، فلزم قضاؤه. وإن لم نقل بالإسناد، فالقدوم يستعقب تقدير الوجوب، فكأن الناذر نذر إيقاع الصوم في بعض يوم، وذلك مستحيل لا يلتزم. هذا وجه البناء.
فإن قيل: ذكرتم خلافاً بأن من نذر صوم نصف يوم هل يلزمه صومُ يوم تكميلاً لما بعّضه، وتنزيلاً للفظ البعض على الكل. قلنا: ذاك فيه إذا أطلق التزام صوم نصف يوم، وصوم نصف يوم صحيح مع نصفٍ آخر، وكان التكميل على هذا التأويل. فأما
__________
(1) المراد بالصفة الصفة التي علق العتق عليها، وهي قدوم فلان، فحين وقعت الصفة لم تصادف محلّ العتق المعلق عليها، فلم يكن يملك الناذر عبداً يعتق.
(2) أسندنا: أي حكمنا بأن الوجوب يستند إلى أول نهار القدوم.(18/451)
إذا نذر صومَ يوم مُوقَعاً في بعض يوم، فهذا مستحيل، والمستحيل لا يُلتزَم، وليس [يُكمّل] (1) ، وقد قال الأصحاب لو قال: لله علي أن أحج في هذه السنة، وقد بقي يومٌ، وهو على مائة فرسخ، فالنذر باطل، وإذا بطل هذا لِعُسْر التوصل، فلأن يبطل ما لا يتصور أولى.
ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يقدَم فلان، وجرينا على مذهب الإسناد، فنوى صوم يوم، وبيت النية بناء على وعد كان [يثق به] (2) في مقدَم ذلك الشخص، ثم صدق الموعد؛ ففي صحة الصوم عن النذر وجهان: أحدهما - المنع لتردد النية.
والثاني - الصحة للبناء على أصل مظنون، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صوم يوم الشك.
فصل
قال: " ولو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان أبداً ... إلى آخره " (3) .
11873- قال الأصحاب: غرض الفصل التزام صوم يوم معيّن من الأسبوع أبداً، فلا معنى للفرض في القدوم، فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم الإثنين أبداً، لزمه الوفاء بنذره.
والتفريع على التعيين ووجوب الوفاء به، فإن صُوّر هذا في يوم القدوم، [ساغ] (4) ، فيلزم صوم ذلك اليوم من كل أسبوع في المستقبل، وفي يوم قدومه التفصيلُ الذي ذكرناه.
ثم إن صادف اليومَ المعيَّنَ، عُذرٌ، ففي وجوب القضاء الخلافُ الذي ذكرته في اعتراض المعاذير في السنة المعيّنة.
__________
(1) في الأصل: " تكميل ".
(2) في الأصل: " بناء على وعدٍ كان منويه " وهو تصحيف واضح. والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام.
(3) ر. المختصر: 5/240.
(4) في الأصل: " شاع ".(18/452)
ولو صادف ذلك اليومَ يومُ حيضٍ، وما كان غلبت لها عادة في ذلك اليوم، ففيه الخلاف المقدم.
ولو كانت تحيض عشرةَ أيام، فالمذهب أن ما يتعطل في نوبة حيضها لا يُلتزم قضاؤه، وإن كان الصوم في يوم الحيض مقضياً في رمضان؛ لأنه إذا غلب على الظن فساد يومٍ في نوبة، فهي في مفتتح أمرها لا تكون ملتزمةً لصوم اليومِ في تلك النوبة، ولو قدرناها ملتزمةً، لكانت ناذرةً صوم يوم من الحيض، وإذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض، لم يلزمها قضاء.
ومن أصحابنا من أوجب القضاء؛ لأن امتداد نوبة الحيض مظنون.
ولو صادف اليومُ المعينُ يومَ العيد، ففي القضاء وجهان، وليس كما لو نذر الناذر صوم سنة معينة، فلا قضاء في مقابلة العيدين، وأيامِ التشريق، وأيامِ رمضان؛ لأن هذه الأيام تقع في السنة المعينة لا محالة؛ فهي مستثناة شرعاً، وموافقة اليوم المعين يوم عيد ليس مما يقع قطعاً.
ومن لم يوجب القضاء قال: إذا وقع، فقد تبين أنه مما لا بد منه؛ فإن معلوم الله لا يتغير.
قال الأصحاب: الأثانين الواقعة في رمضان لا يقضيها؛ [فإنها تقع] (1) لا محالة إلا الخامسة منها، [فإنه] (2) يقِع في كل شهر كلُّ يومٍ أربعَ مرات قطعاً، والخامس على التردد، وما يقع على التردد يُخرَّج على الخلاف.
ولو نذر صوم الإثنين أبداً، ثم التزم بكفارة صوم شهرين متتابعين بعد النذر، فإذا أراد صوم الشهرين، جاز له ذلك، ووقع عما نوى، ويلزمه قضاء تلك الأيام الواقعة في الشهرين؛ فإنه أدخل على نفسه بعد النذر التزام الشهرين، ولم يكن هذا كالمعاذير التي تطرأ، ولو كان لزمه صوُم الشهرين من قبلُ، فنذر صوم الأثانين بعد ذلك، فالأصح أنه إذا صام الشهرين، لم يلزمه قضاءُ ما يقع في الشهرين من الأثانين
__________
(1) في الأصل: " فإنها لا تقع ".
(2) في الأصل: " فإنها ". والمثبت من (ق) .(18/453)
لا محالة، كما يقع منها في شهر رمضان، والجامع تقدم الوجوب على نذر صوم الأثانين.
وأبعد بعض أصحابنا فأوجب القضاء، وإن تقدم وجوب الشهرين بخلاف رمضان، وتشوف إلى الفرق بين ما يجب بإيجاب الله تعالى، وبين ما يجب بفعل الناذر. وهذا ليس بشيء.
فصل
11874- إذا نذر صوم يوم العيد، لم يلزمه شيء، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها، فإن الصوم لا يلزمها.
ومعتمد المذهب أن يوم العيد لا يقبل الصوم كأيام الحيض، والخلاف مع أبي حنيفة (1) رضي الله عنه مشهور. وفي [نذر] (2) صوم يوم الشك خلاف، وكذلك في نذر الصلوات في الساعات المكروهة، وقد تقدم ذلك كلُّه مع زوائدَ ومزايا.
فرع:
11875- من نذر صوم الدهر، لزمه الوفاء، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام الدهر، فلا صام " (3) محمول على صوم العيدين، وأيام التشريق وفاءً بالاستغراق، وهذا مُحَرَّمٌ.
ثم إذا أفطر الناذر في يومٍ من غير عذر، لم يُتصور منه قضاؤه؛ فإن سائر الأيام مستحقة للنذر أداءً، فالوجه أن يبتدر، ويتصدق بمُدٍّ؛ فإن الصوم المنذور يقابَل بالفدية التي يقابل بها صوم رمضان على المذهب الظاهر.
ولو أفطر يوماً بعذر، فلا قضاء، ولا فدية. كما لو أفطر في رمضان بعذر، ومات قبل التمكن من القضاء.
ولو أفطر يوماًً من غير عذر، ثم نوى قضاء ذلك اليوم، فهل يصح -وإن كان
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 325، رؤوس المسائل: 522 مسألة: 381.
(2) زيادة من (ق) .
(3) حديث " من صام الدهر فلا صام " متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: الصيام، باب حق الأهل في الصوم، ح 1977، مسلم: الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، ح 1159) .(18/454)
الواجب غيرَ ما فعل-؟ الوجه أن يصح ثم يلزمه بدلُ ما تركه من الأداء في ذلك اليوم، المُدُّ الذي ذكرناه.
ولو تمادى على هذا النسق، فلا يستفيد بهذا إلا تَرْكَ الواجب، والانتسابَ إلى المعصية، والتزامَ مُدٍّ في آخر الأمر.
وإذا قلنا: يصوم عن الميت وليّه، فإذا أفطر يوماً عمداً، فهل يصوم عنه وليه في حياته؛ من جهة تعذر القضاء منه؟ الظاهر عندنا جواز ذلك، وهذا فيه احتمال؛ من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له ويتصور تكلف القضاء عنه.
فرع:
11876- إذا نذر فعلاً مباحاً، لم يلتزمه، مثل أن يقول: " نذرت أن أدخل الدار "، ولكن هل يَلْتزِم الكفارةَ؟ قال القاضي: يلتزمها، وتعلق بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نذر وسمّى فعليه ما سمى، ومن نذر ولم يسمّ، فعليه كفارة يمين " (1) . وهذا (2) غير صحيح عندنا. بل قوله نذرت [أن أدخل] (3) كناية في اليمين، كما ذكرته في موضعه، فإلحاق هذا بالأيمان مطلقاً لا وجه له، والخبرُ فيه إجمالٌ. وهو مردد بين الغَلَقِ وبين النذر.
ولو نذر معصيةً مثل أن يقولَ في نذره: أشرب الخمر، أو تقول المرأة: أصوم أيام حيضي، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك، وقطع في المباحات بلزوم الكفارة، وهذا خبطٌ. والوجه تخريج ذلك على أن النذر هل يكون كناية في اليمين؟ ولا معنى لتخصيص المباحات عن المعاصي؛ فإن المباح لا يلتزم عينُه بالنذر.
ومما يجب التنبه له أنا إذا حملنا هذا على اليمين، فالكفارة تقف على الحِنث،
والقاضي ألزم الكفارة من غير حِنث؛ تمسكاً بالخبر، وقطع في المباح، وردّد الجواب في المحظور مَصيراً إلى أن لفظ النذر يناقض المعاصي، وقد رأيت لصاحب التقريب قولاً حكاه عن تخريج الربيع موافقاً لما ذكره القاضي، نقله وزيّفه.
__________
(1) حديث " من نذر وسمّى فعليه ما سمّى ... " رواه البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً، وذكر أنه روي أيضاً عن ابن عباس موقوفاً (السنن الكبرى: 10/72) .
(2) " وهذا غير صحيح ": الإشارة إلى كلام القاضي، لا إلى الحديث.
(3) في الأصل: أن لا أدخل.(18/455)
ويخرج على ذلك ما إذا نذر أن يذبح ولده، فإنه نَذْرُ معصية، ففي الكفارة الترتيب الذي ذكرناه. وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه يوجب على ناذر ذبح الولد ذبحَ شاة.
فرع:
11877- إذا قال: لله علي صوم، إن شاء الله- فقد قال القاضي: لا يلزمه بالنذر شيء. وهذا صحيح.
ولو قال: لله علي صوم إن شاء زيد، فشاء زيد، قال القاضي: لا يلزمه شيء؛ فإن الناذر يجب أن يجزم النذر لله تعالى، فإذا ردد، لم يكن متقرباً.
وهذا عندي خطأ؛ فإن تقديره إن شاء، فلله علي صوم، وهو بمثابة ما لو قال: إن قدم زيد، فلله علي كذا من صوم أو غيره.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 316، رؤوس المسائل: 523 مسألة: 382، الغرة المنيفة: 186، الاختيار: 4/78.(18/456)
كتاب أدب القضاء (1)
11878- قال الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] ، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... } [المائدة: 44- 45- 47] ، وقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] .
وقال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ ... } [الأنبياء: 78] ، فهذه وأمثالها آيات مشتملةٌ على مخاطبة الأنبياء بالحكم كما خوطبوا بتبليغ الرسالة.
وذم تعالى أقواماً يمتنعون عن الحكم، ومدح آخرين يأتونه مذعنين- فقال في الأولين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] .
وقال في المذعنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] .
ومن هذا استحب بعض أصحابنا أن يقول المدعوّ إلى مجلس القاضي: سمعاً وطاعةً تأسياً بقوله تعالى؛ فإنه عز من قائل عدَّ هذا من سبيل المؤمنين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أحكم بالظاهر " (2) .
__________
(1) منذ باب جامع الأيمان لم يكن عندنا إلا نسخة وحيدة هي (ت 6) ، وعليها استمر العمل في هذا الجزء إلى أن جاءتنا نسخة (ق) والكتاب ماثل للطبع، فكان لابد من مقابلتها، والحمد لله وافقتنا غالباً فيما قدرناه من تصويبات وتقديرات لما كان من خلل في هذه النسخة الوحيدة. وقد نبهنا على هذه الموافقة أحياناً.
(2) حديث " إنما أحكم بالظاهر ... " قال الحافظ: هذا الحديث استنكره المزني فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه ... وقد ثبت في تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي سبب وقوع هذا الوهم من الفقهاء في جعلهم هذا حديثاً مرفوعاً، وأن الشافعي قال في كلام له: " وقد أمر الله نبيّه أن يحكم بالظاهر، والله متولي السرائر ". وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد. وفي الباب حديث عمر " إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى اله عليه وسلم وأن الوحي قد انقطع، وانما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ". أخرجه البخاري: الشهادات، باب =(18/457)
وقال: " إنكم تختصمون إليّ " الحديث (1) .
والقيامُ بالقضاء بين المسلمين والانتصاف للمظلومين من الظالمين، وقطع الخصومة الناشبة بين المتلازِمَيْن من أركان الدين، والقيامُ به من أهم الفروض المنعوتة بالكفاية.
ثم روى الأئمة أخباراً في الترغيب في القيام بفصل القضاء [وما فيه من مصلحة المسلمين] (2) .
والمنصب الأعلى من صاحب الولاية الإمامةُ والزعامةُ العامة، وقد خلا هذا المجموع الموضوع للاحتواء على جميع القواعد، ومعظم الفروع عن مبالغ عظيمة في أحكامِ الولايات؛ لانقباضنا عن الخوض في الإمامة؛ فإن الفقهاء لم يذكروها، وألموا بأطرافٍ منها على نهاية التقصير، وشرطُ خَوْضنا في فنٍّ أن نستتمه أو نوفي على التمام فيه (3) . فمن أراد أحكام الإمامة، فليطلبها من مجموعاتنا (4) فيها.
__________
=الشهداء العدول، ح 2641) وحديث أبي سعيد رفعه " إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس " رواه البخاري: المغازي، باب بعث علي وخالد إلى اليمن، ح 4351. ومسلم: الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ح 1064. وحديث أم سلمة " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ". [وقد سبق تخريجه] . وحديث ابن عباس " لو كنت راجماً أحداً من غير بيّنة رجمتها " رواه مسلم: اللعان، ح 1497. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. التلخيص 4/352 ح 2605) .
(1) حديث " إنكم تختصمون إليّ ... " متفق عليه من حديث أم سلمة (البخاري: المظالم، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، ح 2458، مسلم: الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن والحجة، ح 1713) .
(2) في الأصل: " ومما فيه مصلحة المسلمين ".
(3) يعتذر عن إخلاء هذا الكتاب من الكلام عن الإمامة، بأنه لا يريد أن ينحو نحو الفقهاء، فيذكر منها أطرافاً لا تفي ولا تكفي، فهذا ليس من دأبه. ومن ثَمّ أحال على كتابه الذي استتم فيه الحديث عن الإمامة والزعامة. ويعني به كتابه (الغياثي= غياث الأمم في التياث الظلم) وقد وفقنا الله لتحقيقه وإخراجه في صورة نرجو أن تكون على الصورة التي أرادها مؤلفه، أو أقرب ما يكون إليها.
(4) مجموعاتنا: المراد مؤلفاتنا ويعني هنا كتاب (الغياثي) كما أشرنا في التعليق السابق، وما ذكره أيضاً في كتابه (الإرشاد) ولعلّ له كلاماً عن الإمامة في غير هذين من مؤلفاته التي لم تصلنا.(18/458)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيومٌ واحد من إمام عادل أفضلُ من عبادة ستين سنة، وحدٌّ يقام في أرض بحقِّه أزكى من مطر أربعين خريفاً " (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله " (2) الحديث.
وقال: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّط عليه الإنفاقَ بالحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فعلَّمها الناس، وقضى بها " (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " أتدرون مَن السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وإذا حكموا للناس حكموا لهم كحكمهم لأنفسهم " (4) إلى غير ذلك من الأخبار.
11879- ووردت أخبار في التحذير من الخوض في التزام القضاء.
قال صلى الله عليه وسلم: " من ولي القضاء، فكأنما ذبح من غير سكين " (5)
__________
(1) حديث " ليوم واحد من إمام عادل ... " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، قال في مجمع الزوائد: (وفيه سعد أبو غيلان الشيباني، وبقية رجاله ثقات " ا. هـ. وحسّن إسناده الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/157) . وقال ابن الصلاح: "روي من حديث أبي سعيد الخدري، ولم أجد له إِسناداً ثابتاً، ولكن أحاديث القضاء يتساهل في أمرها".
(ر. المعجم للطبراني: 11/267، ح 11932، والأوسط: 5/384، ح 4762، مجمع الزوائد: 5/197، مشكل الوسيط- بهامش الوسيط: 7/287، المقاصد الحسنة: 531، ح 858) .
(2) حديث " سبعة يظلهم الله ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. اللؤلؤ والمرجان: الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، 1/216 ح 610) .
(3) حديث: " لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله مالاً فسلط عليه الإنفاق بالحق ... " متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه "رجلٌ أتاه الله مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/156 ح 467) .
(4) حديث "أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة ... " رواه أحمد، وأبو نعيم، من حديث عائشة (ر. المسند: 6/67، الحلية: 1/16، 2/187، التلخيص: 4/333 ح 2554) .
(5) حديث " من ولي القضاء فكأنما ذبح من غير سكين " رواه أصحاب السنن والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة، وله طرق، وقد صححه الحافظ في التلخيص (ر. أبو داود: الأقضية، باب في طلب القضاء، ح 3571، الترمذي: الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله=(18/459)
قيل: معناه وقع في أمر عظيم، وقيل: تصدى لأمر لو وفى حقَّه، لأمات شهواته، وقهر نفسه عن الانبساط، وانكف عن المخالطة، فكأنه ذُبح من غير سكين.
وقال علي رضي الله عنه في خطبته: يا أيها الناس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من أمير، ولا والٍ، ولا قاضٍ إلا يؤتى به يوم القيامة ويوقف على الصراط، فينشر له الملائكةُ سيرته، فإن كلان عدلاً، نجاه الله، وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة حتى يصير ما بين كل عضوين من أعضائه مسيرة مائة عام، ثم ينخرق به الصراط، فلا يلقى قعر جهنم إلا بُحرّ وجهه وجبينه " (1) .
وقال عمر رضي الله عنه: " ما من أمير ولا والٍ إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، أطلقه عدلُه، أو أوثقه جورُه " (2) .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن طلب الولاية. قال صلى الله
__________
=عليه وسلم، ح 1325، النسائي في الكبرى: القضاء، باب التغليظ في الحكم، ح 5923- 5926، ابن ماجه: الأحكام، باب في ذكر القضاة، ح 2308، الحاكم: 4/91، البيهقي: 10/96، التلخيص: 4/338 ح 2559) .
(1) خطبة علي رضي الله عنه لم نجد لها أثراً في كتب السنة، وإنما وجدناها في شرح أدب القاضي للخصاف (1/138) "أن صعصعة بن صوحان قال: خطبنا علي بذي قار ... ". والذي رأيناه في كتب السنة قريباً من هذا، ما روي عن عمر رضي الله عنه إذا كان يوم القيامة أتي بالوالي فقذف على جسر جهنم، فيأمر الله الجسر فينهض به انتهاضة يزول عنه كل عظم منه عن مكانه، ثم يأمر الله العظام فترجع إلى مكانها، فإن كان لله عز وجل مطيعاً أخذ بيده وأعطاه كفلين من رحمته، وإن كان عاصياً خرق به الجسر فهوى في جهنم سبعين عاماً". رواه أحمد بن منيع، وعبد بن حميد (ر. إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري: 8/192، 193 ح 6727، 6728) .
(2) أثر عمر رضي الله عنه لم نصل إليه، والذي وجدناه، وهو قريب منه، حديث أبي هريرة مرفوعاً " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً يده إلى عنقه، أطلقه الحق أو أوبقه الجور " رواه أحمد، والدارمي، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم، والطبراني في الأوسط، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (ر. أحمد: 2/431، الدارمي: السير باب التشديد في الإمارة، ح 2515، أبو يعلى: 11/443 ح 6570، البزار: 2/253 ح 1638، 1640، البيهقي: 3/129، 10/95، صحيح الجامع الصغير: 5696) .(18/460)
عليه وسلم: " من طلب القضاء وُكل إليه، ومن ولِّي من غير طلب ولا استعانة، بعث الله إليه ملكاً يرشده ويسدده " (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: " لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها " (2) .
[وإنما] (3) قدمنا هذه الأخبار لمسيس الحاجة إليها فيما نصدر به الكتاب من طلب القضاء وتقليده وتقلّده، وللأصحاب فيه خبط لا أنزله منزلة اختلافهم في تفاصيل الأحكام. ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات، إذا انتهى إلى هذه المواقف تخبّط.
11880- ونحن ننقل عيون ما ذكره الفقهاء، ثم نوضح المسلك الحق إن شاء الله. قال القاضي: إن كان في الناحية من هو أصلح للقضاء ممن يطلبه، فالطلب من الطالب حرام، ويكره للإمام أن يوليه القضاء، وإن ولاّه، انعقد، ويكره له التقلّد إن أمكنه أن [يتعذّل] (4) وينسلّ.
ولو كان في الناحية من هو مثله يكره له طلب القضاء، وإن ولاّه الإمام، انعقد، والأولى ألا يتقلد.
__________
(1) حديث " من طلب القضاء وكل إليه ... " رواه من حديث أنس أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط، والبزار (ر. أبو داود: الأقضية، باب في طلب القضاء والتسرع إليه، ح 3578، الترمذي: الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح 1323، 1324، ابن ماجه: أبواب الأحكام، باب ذكر القضاة، ح 2309، الحاكم: 4/92، الطبراني في الأوسط: 5955، التلخيص: 4/335، ضعيف الترمذي للألباني ح 223،222، الضعيفة للألباني 1154) .
(2) حديث عبد الرحمن بن سَمُرَة: " لا تسأل الإمارة ... " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 2/241 ح 1197) .
(3) في الأصل: " وإن ".
(4) في الأصل: " يتعدل ". والمثبت بالذال المعجمة، وهو ترجيح من المحقق، ومعناه أنه يتلوّم، ويلوم نفسه وينسحب من هذا التقليد. وفي لفظ الغزالي في (البسيط) يتعلّل.
(المعجم والمصباح) .(18/461)
وإن لم يكن في الناحية أصلح منه، فلا كراهية في الطلب، بل يستحب أن يتعرض ويطلب، ولو لم يكن في الناحية من يصلح غيره، افترض عليه أن يتعرض، هذا منتهى كلامه.
11881- وذكر العراقيون تفاصيل نستعملها في الطريقة المرضية، فنقول والله المستعان: التصدي للقضاء من فروض الكفايات، ولو فرض القيام به على حقه، كان في مرتبة الجهاد في سبيل الله؛ فإن الجهاد دعوة قهرية لتأسيس الإسلام بدءاً في أقوام، والقيامُ بمصالح المسلمين ضبطٌ لما تحصّل. والأمرُ الذي يُطلب ازدياده، فضبط الحاصل منه إذا قيس بالازدياد أعظمُ الركنين، والأجرُ على قدر النَّصَب، والدرجات العلا لا تنال بالهوينات. هذا كذلك.
وموجب ما ذكرناه التعرض لهذا المنصب، ولكن يعارضه أن الاستمكان من مناصب الولايات يورط النفوس الزكية في الورطات، ويستخرج منها خفايا البليات، حتى كأنها على سكونها في الطيِّ ما لم تُنْشَر، ومن العصمة ما لا يُقْدَر، وهي تنطوي على الأموال والحكم في تصاريف الأحوال، والميل للصديق على العدوّ والتشوف إلى أغراض الانتقام في أدراج الأحكام، والسلامةُ عن جميع هذه الخلال مُعوزةٌ (1) ، وواحدة منها تزعزع أركان الدين.
11882- فإذا [تعارض] (2) هذان الأمران كما وصفنا، فسبيل الكلام بعد ذلك: أن الرجل إذا كان لا يصلح للأمر غيره، فإذا ولاّه الإمام ابتداءً، لم يحلّ له الامتناع، بل تعيّن عليه التقلُّد.
ولو كان كذلك، ولم يولّه الإمام، لم يخل: إما أن يكون مشهوراً عند الإمام، [وإما] (3) أن يكون خاملَ الذكر، فإن كان خاملَ الذكر، ولم يصلح [للأمر] (4) غيره،
__________
(1) معوزةٌ: أي نادرة.
(2) في الأصل: " تعارضه ".
(3) في الأصل: " أو إما ".
(4) في الأصل: " الأمر ".(18/462)
فحق عليه أن يُشهر أمرَ نفسه، ويبيّن محِلَّه من الصلاح للأمر، ولو مست الحاجة إلى الطلب، تعيّن عليه الطلب؛ فإنه لا يصلح غيره، وقد تعين (1) عليه، وفروض الأعيان لا تسقط باستشعارٍ يتعلق بالعواقب والمغيَّبات، بل حكم الله أن يتصدى لما تعين عليه، ثم حق عليه أن يراقب الله فيما لَه وعليه. وهذا كأحكام الإسلام، فالخلق منها على خطر، ولكنهم مدعوّون إلى المراشد مزجورون عن نقائضها، وكلٌّ ميسّر لما خلق له.
هذا إذا كان لا يصلح غيره، ثم يتعين عليه الطلب، ويتعين على الإمام النَّصْب والتقليد.
11883- وإن كان ثَمّ من يصلح للأمر، ولكنه أفضلهم وأصلحهم، فقد اضطرب أرباب الأصول في إمامة المفضول، وإذا منعناها مع القدرة على نصب الفاضل، فلو أراد الإمام أن ينصب قاضياً مع القدرة على نصب من هو أفضل عنه، ففيه تردُّدٌ للأصوليين.
والذي ذهب إليه الأكثرون -وهو المختار- أن نصب المفضول في القضاء جائز، وإن منعناه في الإمامة؛ فإن نصب المفضول للإمامة مع القدرة على نصب الفاضل تفويتٌ لمزية فضل الفاضل على المسلمين، والنظر الكلي من الفاضل عظيم الغناء، وإذا نصب الإمام مفضولاً، ونظرُه من ورائه، وهو يرعاه بالعين الكالئة، فلا تفوت المزية، والعلم عند الله، والتفريع على جواز نصب المفضول للقضاء. فإن ابتدأ الإمام ونصب مفضولاً، فلا معترَض عليه.
11884- وغرضنا الكلامُ في الطلب وقد تصدى لنا فاضل ومفضول، فنتكلم في طلب المفضول، ثم نتكلم في طلب الفاضل:
أما المفضول إذا طلب القضاء، فقد قال القاضي: يحرم عليه الطلب، وهذا مع تصحيح نصب المفضول خطأ، وقد قال: يكره للإمام أن ينصبه، وحكم الطلب يُتلقى من حكم النَّصْب.
__________
(1) تعين عليه: أي صار فرضُ الكفاية فرضَ عين بالنسبة له.(18/463)
والقول الوجيز فيه: أنه إذا جاز النصب وصحّ، فطلبُ الجائز الصحيح كيف يحرم؟ فالوجه الاقتصار على كراهية الطلب مع [وجود] (1) الفاضل، وسيأتي في هذا [مزيد] (2) شرح عند ذكر استواء المناصب. وقد تبيَّن المقصود.
11885- فأما الفاضل إذا طلب، فالقول في طلبه لا يستدّ إلا بعد ذكر استواء مناصب الرجال، فنقول: إذا تصدى للأمر طائفة متماثلون في الصلاح للأمر، فيقع الكلام في فصلين: أحدهما - في نصب الإمام من غير طلب، والآخر - في الطلب.
فأما إذا نصب الإمام واحداً من المتماثلين، فلا يكره له التقلّد إلا إذا كان يغلب عليه استشعارُ الميل عن مواقف الشريعة، فإن كان كذلك، وتمكّن من مقابلة تقليد الإمام بعذرٍ، فلا شك أن الذي يقتضيه الدين الاجتنابُ، والسببُ فيه أن الأمر وإن كان عظيمَ القدر بالغَ الأجر، فالخطر أعظم، ومن تصدى له فرض كفاية، وكان يغلب على ظنه غررٌ ينال نفسَه، فحق عليه أن يجتنب. وبيانُ الفصل عند نجازه.
وإن لم يغلب عليه استشعار المخالفة من نفسه، وقد قلده الإمام بدءاً من غير طلب منه، فينبغي أن يتقلد؛ جرياً على قول المصطفى عليه السلام: " إن أوتيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها ".
وذكر العراقيون وجهين في وجوب التقلّد عند تقليد الإمام، وهذا فيه إذا كان تقليده جازماً، فأما إذا كان على خِيَرة، فلا وجوب؛ فإن الشيء إنما يجب إذا أوجب الإمام القيامَ به، وجزم الأمرَ فيه، ثم الوجهان فيه إذا لم يستشعر من نفسه المخالفة، فإن استشعرها، فالحِذارُ ما وجد إليه سبيلاً.
هذا قولنا في النَّصْب مع تساوي الدرجات.
11886- فأما الطلب -وهذا أوان الكشف التام فيما سبق وبقي- فنقول: للطالب ثلاثة أحوال: إحداها - أن يعلم من نفسه اغتلامَ الشهوات وثورانَ القوى الغضبية والتشوّفَ إلى تعدي المواقف، فمثل هذا تشتد الكراهية في حقه في الطلب، وإن
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " مرية ".(18/464)
قيل: أيرقى الكلام إلى التحريم؟ قلنا: إن كان يطلب ويُضمر ما ذكرناه، فالتحريم؛ فإنه طلب أمانةً مع قصد الخيانة، والمودَع إن قصد بقبض الوديعة الخيانةَ، فهو ضامن، ومن التقط لقطة، وهو يقصد [تغييبها] (1) ، فهو ضامن لا يَتَوصَّل إلى تملكها وإن عرّفها.
وإن طلب ولم يقصد الخيانة، وقصد أن يتوقَّى جهدَه، فالكراهيةُ، وليس كما لو كان يقتحم إلى فرض كفاية مخاوفَ محسوسةً كأُسدٍ ضارية أو ما في معانيها؛ فإن ما يتوقع من الأخلاق الرديئة لا ينتهي إلى ما يحسّ من أسباب التلف. هذه حالة.
الحالة الثانية - ألا يحسَّ من نفسه هَيْجاً وسَرَفاً في الأخلاق، وما كان اختبر نفسه في مخامرة [الأمور] (2) العظيمة، فهو على خطر من أمره.
فإذا أضمر التقوَى، فله حالتان: إحداهما - أن يكون فقيراً محارَفاً (3) يبغي كَفافاً من رزق يُدَرُّ عليه، فلا نطلق الكراهية والحالة هذه، وإن كان معه كفاف وبُلغة، وهو على غرر، ولم يغلب على ظنه الميل، فلا تشتد الكراهية، ولكنا نطلقها.
الحالة الثالثة - أن يكون قد اختبر نفسه في عظائم الأمور ولم ينقِم هَيْجاً ومجاوزةَ حد، فهذا تصدَّى له منصب عظيم في فروض الكفايات، وظنٌّ غالب في اقتحام المخالفات، وهو في التقاسيم كلها مستقل بالأمر: فمن أصحابنا من يطلق الكراهية، [والرأي عندنا] (4) نَفْيُ الكراهية في هذا المقام، ثم إذا نفيناها، فهل يُستَحَب الطلب؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه يستحب؛ لأنه طلبُ تلبّسٍ بكفايةِ مُهمٍّ عظيم.
ولولا عموم الأخبار في التحذير، لصححنا هذا الوجه، والعلم عند الله.
فإن قيل: إذا كنتم تطلقون التحذير ولا تخصصون بشخص، فهذا يؤدي إلى
__________
(1) في الأصل: " تعيينها ".
(2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى. ثم جاءتنا بها (ق) .
(3) محارَفاً: بفتح الراء. هو الذي حورف كسبه، فميل به عنه، كتحريف الكلام يعدل به عن جهته. (المصباح) .
(4) في الأصل: " والثاني عنده " والمثبت تقدير منا، وجاءت (ق) لا تكاد تقرأ فيها هذه اللفظة.(18/465)
انكفاف الناس قاطبة عن هذا الأمر المهم؛ فإنهم يتخاذلون ويتواكلون، فيتعطل الأمر؟ قلنا: لا مخافة من هذا، والمحذور التكالبُ على العمل، والازدحامُ عليه؛ فإن النفوس تستحث أربابها على طلب أسباب الاستعلاء، فمن حِكْمة الشرع تغليبُ التحذير، والجبلاتُ تغالبه، حتى يتوقع منه اعتدالٌ في الإقدام.
وهذا يناظر من أصول الشرع [قولنا] (1) : لا يجب على الزوج أن يستمتع، وإن قطعنا بأن الغرض الأظهر من النكاح إعفافُ الزوجين عن السفاح، وهذا فيها بمثابته في جانب الزوج، ولكن اكتفى الشرع في جانب الزوج باستدعاء الجبلّة بحكمةٍ بسيطة ذكرناها في موضعها.
11887- وقد كنا أبهمنا قولاً في طلب الفاضل، وفيما ذكرناه بيانه، فإن كان يغلب على الظن أمنُه من العدوان، فالطلب أفضل له، ومزية الفضل تمحو الكراهية، وإن كان يعلم من نفسه التعدي والهيج، فالحِذار؛ فهذا لا يكافئه مطلوبٌ في الباب، ولا فرق في هذا المقام بينه وبين واحد، والمناصب مستوية، وإن لم يعرف من خُلقه محذوراً، ولم يختبر نفسه في العظائم، فالقول فيه كالقول في واحد مع استواء الرتب، إلا أن الكراهية إن أطلقناها، فهي أخف. وإن ذكرنا خلافاً، فهو على استواء الرتب.
وقد انتجز القول في طلب القضاء وتقلُّده وتقليده، واستعمالنا ما ذكره الأصحاب حيث رأينا استعمالَه.
فصل
قال: " وأن يكون في غير المسجد لكثرة الغاشية ... إلى آخره " (2) .
11888- ظاهر ما نقله المزني أن التصدي للقضاء في المسجد لا يلتحق برتبة المكروه، ولكن الأَوْلى تركُه، وكلام الشافعي في مجموعاته ناص على الكراهية.
__________
(1) في الأصل: " ما قلنا ".
(2) ر. المختصر: 5/241.(18/466)
قال في الكبير: " إذا كنت أكره القضاء في المسجد، فأنا لإقامة الحد في المسجد أكره ".
والقول في إثبات الكراهية ونفيها مع المصير إلى أن الأولى غيرُ ما فيه الكلام مما يكثر فيه خبط الفقهاء، ولا يحيط به من لم يقف على مسالك التحقيق في ذلك من فن الأصول. ونحن نقول: كلُّ ما جُرّد إليه قصدٌ في النهي عنه، وثبت [أنه] (1) ليس نهيَ تحريم، فهو نهيُ كراهية.
ثم المكروه له رتب، كما أن المندوب له رتب، وإنما نشأ الاضطراب من [سؤالٍ] (2) ونحن نؤخر الجواب عنه، وهو أن استغراق الأوقات بالخيرات مستحب، ولا يوصف ترك الاستغراق مع الإتيان بالمندوبات المشروعة بكونه مكروهاً، والسبب فيه أنه لم يرد نهيٌ مقصود عن ترك استغراق الأوقات.
والتعويل في ثبوت الكراهية على ثبوت نهي على [فعلٍ] (3) من غير تحريم، كما أن التعويل في ثبوت التحريم على ثبوت نهي مقصود يجري على حقيقته.
والتردد الذي في نص الشافعي في اتخاذ المساجد مجالسَ القضاء أتى مما ذكرناه؛ فإنه لم يرد في ذلك نهي مقصود، ولكن متعلَّق القضاء أمور ورد فيها النهي المقصود، كرفع الأصوات وإدخالِ الصبيان المساجدَ، ومنعِ النسوة الحُيَّض مع مسيس الحاجة إلى رفعهن إلى مجلس القضاء، فكان التردد لهذا.
والأصح إطلاق الكراهية؛ فإن الأمور التي أشرنا إليها من أركان القضاء.
ثم ما ذكرناه في اتخاذ المسجد مجلساً على اعتياد، فلو اتفق فصل قضيةٍ أو قضايا معدودة في [بعض] (4) الأيام من غير اعتياد، فلا بأس، وكثيراً ما كان يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومَحْمَلُه ما ذكرناه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " سؤاله ".
(3) في الأصل: " فضل ".
(4) زيادة من المحقق.(18/467)
11889- ثم قال: " لا حجاب دونه ... إلى آخره " (1) .
ذكر الصيدلاني وجهين في أن القاضي هل يتخذ حاجباً؟ ثم ذكر طريقين في محمل الوجهين: إحداهما - أنه إذا لم يجلس للحكم، فله ذلك، وإن جلس للقضاء فوجهان.
والطريقة الثانية - عكس هذه، ولا معنى عندنا للخلاف في ذلك، ولكن إن كثرت الزحمة، وكانت المصلحة في اتخاذ حاجب ليمنع الزحمة، اتخذه، وإن كانت المصلحة على خلاف ذلك، اتبعها، وكذلك إذا استخلى بنفسه لحاجته الخاصة، فلا بأس لو أجلس بواباً، فلا مساغ للخلاف في ذلك.
11890- قال: " وجلس في أرفق الأماكن ... إلى آخره " (2) .
ينبغي للقاضي أن يرتاد للقضاء موضعاً رفيقاً، إن كان في الصيف تخير ظلاً في مهبّ الرياح، وإن كان في الشتاء ارتاد كَنيفاً (3) . وليكن المكان متسعاً لا يضيق من الخصوم والمتصلين بهم من غاشية المجلس. وإنما رأينا اختيارَ مكانٍ موافقٍ للزمان حتى لا تُسرع الملالةُ ولا تظهر بسببه المَضَرّةُ على القاضي والمرتفعين إليه.
11891- ثم قال: " ومعقول في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقضي القاضي ... الخبر ".
روى الشافعي رضي الله عنه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " أو قال: " لا يحكم الحاكم " (5) شك الشافعي.
__________
(1) ر. المختصر: السابق نفسه.
(2) السابق نفسه.
(3) كنيفاً: أي ساتراً. وفي بسيط الغزالي: " اختار كنّاً كنيناً " ثم جائتنا (ق) بعبارة البسيط.
(4) في الأصل: " عبد الرحمن بن أبي بكر " والتصويب من كتب السنة.
(5) حديث " لا يقضي القاضي وهو غضبان " رواه الشافعي كما قال الإمام (الأم: 6/199) وهو
في الصحيحين (اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، ح 1119) .(18/468)
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان " (1) .
والغرض من الفصل أن كل معنىً يورث مللاً، أو حدّة في الخُلق، أو خللاً في البصيرة مانعاً من التثبت والتأمل، وتوفية الاجتهاد حقَّه، فلا ينبغي أن يقضي القاضي وهو به، كالجوع، والعطش، والمرض، والغضب، والحزن البيّن، فإن احتد احتداداً لا يمنعه من [الاستداد] (2) ، فإن كان احتداده لله تعالى، فهذا لا ينافي ما ذكرناه مع مَلْكه نفسه فيما يتعلق بحظِّه (3) ، وذكر الأصحاب في ذلك تغير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام، إذ ارتفع إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع جارٍ له في سقي بساتين من وادٍ بالحرّة، وكان بستان الزبير أعلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك "، فقال: ذلك أن كان ابن عمته، فتغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ في الحديث أنه قال ذلك ولوى شدقه، فقال صلى الله عليه وسلم: " اسق أرضك حتى يبلغ الماء الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " (4) .
11892- ثم قال: " وأكره له الشراء والبيعَ ... إلى آخره " (5) .
لا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه: لأنه لو فعل، فربما يحابَى استحياء منه، أو طلباً لاستمالة قلبه ليميل في حكمه. ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر -وكان تصدق بفرس- فرآه معروضاً على البيع، فأراد
__________
(1) حديث " لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان " رواه الدارقطني (4/306) ، والبيهقي: (10/105- 106) والطبراني في الأوسط (ح 4600- 5/305) . قال الحافظ: " وفيه القاسم العمري، وهو متهم بالوضع" (ر. التلخيص: 4/347 ح 2584) .
(2) في الأصل: " الاستبداد". وهو تحريف واضح.
(3) أي بحظ نفسه، فلا يكون غضبه ثأراً لنفسه، وانتقاماً لها. فيدفعه ذلك إلى الزلل.
(4) حديث " خصومة الزبير مع جارٍ له في سقي بساتين وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو غضبان " متفق عليه، وتقدّم في إحياء الموات.
(5) السابق نفسه.(18/469)
شراءه: " لا تَعُد في صدقتك " (1) . أراد أن المتصدَّق عليه ربما يستحيي فيحابي، فيكون كالراجع في مقدار مما تصدق به.
وإن وكل القاضي وكيلاً، فينبغي ألا يكون وكيلُه معروفاً به لما ذكرناه.
11893- ثم قال: " ولا أحب أن يتخلف عن الوليمة ... إلى آخره " (2) .
إجابة الداعي مسنونة، وفيها الأخبار التي رويناها في باب الوليمة من كتاب الصداق، والقاضي يجيب الداعي على شرط ألا يخصص بعض الدعاة عن بعض، فيورث التخصيصُ تهمةً في الميل وضعفاً في قلوب الذين لم يجبهم؛ فإنهم قد يرتفعون مع الذين أجابهم إلى مجلسه على انكسار في قلوبهم.
ثم كما لا يخصص داعياً، فكذلك لا ينبغي أن يحضر مأدبة هُيّئت لأجله؛ فإن ذلك يورث المعنى المحذور.
وكذلك لو دعي مع طائفة من المعتَبرين لا يشوبهم (3) من عامة الخلق أحد؛ فإن الداعي يبغي بما يفعله من ذلك الاستظهارَ والتجملَ بحضور القاضي دارَه، ولكن يشهد مأدبةً يشهدها من عامة الخلق من يبطل بسببه معنى التخصيص.
11894- ثم قال: " فإذا بان له من أحد الخصمين لدَدٌ ... إلى آخره " (4) .
من أساء الأدب في مجلس الحكم أو جاوز الحد المشروع في الخصام وانتهى إلى اللدد، فالحاكم ينهاه، فإن عاد زَبَرَه، فإن أصر عليه عزّره، ويجري في ذلك على سجيّة الزوج في زجر امرأته على النشوز، كما قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] ، الآية.
__________
(1) حديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: " لا تعد في صدقتك " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدّق به ممن تصدّق عليه، ح 1045، 1046) .
(2) السابق نفسه.
(3) لا يشوبهم: أي لا يخالطهم.
(4) السابق نفسه.(18/470)
فصل
قال: " ويشاور ... إلى آخره " (1) .
11895- المشورة مستحبة. وقد أثنى الله تعالى على أقوام يعتادودن ذلك. فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، وأمر رسوله عليه السلام بالمشورة، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، قيل: جمع سياقُ الآية مكارمَ الأخلاق.
ثم قال: " قال الحسن البصري: " إن كان صلى الله عليه وسلم من مشاورتهم لغنيّاً " (2) ، ولكنه أراد أن يستنَّ به الحكامُ بعده ". والأمر على ما ذكره.
ثم اندفع الشافعي لبيان الاجتهاد، وذكر مجامعَ من طُرقه، حتى انتهى إلى الرد على أصل الاستحسان، وتقسيم الأقيسة وذكر مدارك الأحكام، والفصل بين قياس المعنى، وقياس الشبه (3) ، ولو خضنا في هذا المخاض، لكنّا حائدين عن شرط هذا المجموع الذي مبناه على ألا يخرج بالفقه فيه شيء إلا على قدر الحاجة، والذي أشار إليه معظم أصول الفقه، ولو طلبنا حقائقه، لزاد ما نأتي به على الفقه من كتاب أدب القاضي، ولو اقتصرنا على المبادىء، لم ننته إلى الحقائق، وهي المطلوبة من الأصول، فمن أرادها، طلبها من مجموعاتنا في الأصول موفقاً إن شاء الله.
11896- ثم انتهى مساق كلام الشافعي إلى القول في نقض القضاء. وهذا مقصودٌ من هذا الكتاب، نضطر فيه إلى فضلِ بيان. وقد اضطرب أرباب المذاهب فيها، حتى انتهى الأمر إلى عدّ مسائلَ والطمعِ في حصرها، ولا يصدر هذا إلا عن قلة البصيرة، وعدم الاطلاع على أصل الفصل، ولا حاجة إلى ذكر ما ذُكر؛ فإن الكلام في هذا من محض الأصول، وإذا تولينا معانيها وما فيها، فقد تولّى القوسَ باريها (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/241.
(2) هذا أيضاً من كلام الشافعي في المختصر. الموضع نفسه.
(3) ذكر الشافعي ذلك موجزاً في الموضع السابق نفسه من المختصر.
(4) إشارة إلى المثل المشهور.(18/471)
فنقول: كل مسألة يتعلق القول فيها بالقطع، فمن حاد عن مُدرك الصواب نُقض عليه حكمه، وكل مسألة لا مستند لها من قاطع فإذا جرى حكم الحاكم فيها بمذهبٍ، وهو في محل التحري، ومساق الظن، فلا سبيل إلى نقض الحكم فيه، ثم حقيقة القول في هذا يستدعي الإحاطة بمدارك القطع، ولا طمع في الخوض فيها إلا على قدر الحاجة.
فنقول: إذا خالف الحكمُ نصَّ الكتاب، أو نص السنة المنقولة قطعاً، أو إجماع الأمة، فلا شك في النقض. فإن خالف خبراً صحيحاً نقله الآحاد، أو خالف القياس الجلي، فقد يُفضي الأمر إلى النقض.
والضابط فيه أن كل مسألة مبناها بعد الأصول الثلاثة التي ذكرناها يرجع إلى ترتيب الأدلة -والكلامُ [فيما يُقدَّم] (1) منها- فالمسألة قطعية، وهذا كاشتمال المسألة على خبر لا يُؤَوَّل، وقياسٍ في معارضته، كمسألة خيار المجلس، والمصراة، والعرايا، وإباحة الجنين إذا تذكى بذكاة الأم، وفي المسألة حديث أبي سعيد الخدري، فالقول فيها وفي أمثالها يؤول إلى مراتب الأدلة، فنحن نقدم الخبرَ، والخصمُ يقدم القياس غيرَ متشوّف إلى تأويل، ووجوب تقديم الخبر مقطوع به، وهو من جليّات مسائل الأصول.
ومما نذكره عند هذا المنتهى أن من لا يرى تقديم القياس، ولكن يعتمد تأويلاً عند نفسه -وهو باطل عند الأصوليين- فلا مبالاة بتأويله، والمذهب المبني عليه باطل قطعاً.
والقول في مراتب التأويلات جمعناه في كتاب من كتب الأصول (2) ، وكل مسلك يختص به أصحاب الظاهر على القيَّاسين فالحكم بجنسه منقوض، وبحقٍّ قال حبرُ الأصول القاضي أبو بكر: إني لا أعدّهم من علماء الأمة، ولا أبالي بخلافهم ووفاقهم.
__________
(1) في الأصل: " فيها يقدر " والمثبت من (ق) .
(2) بسط الإمام قضيةَ التأويل في كتابه البرهان في أصول الفقه، حيث عقد لذلك باباً باسم (باب التأويلات) (ر. البرهان: الفقرات- 424- 486) .(18/472)
وصرح الشافعي بما [يتضمّن] (1) إبطالَ الحكم المستند إلى الاستحسان، والقولُ فيه: إن أصحاب الاستحسان ربما يُسندون ما يَرَوْنه إلى خبر، كمصيرهم إلى أن الناسي لا يُفطر الأكل؛ لخبر أبي هريرةَ فيه، وكلُّ مذهبٍ مستندٍ إلى خبر، فهو متلقى بالقبول، وعبارة صاحب المقالة عن هذا بالاستحسان على نهاية السخافة والغثاثة؛ فإن قبول الخبر لا محيد عنه، والاستحسانُ يشعر بتردد وميلٍ خفي إلى جانب (2) .
ومعظمُ قواعد الاستحسان استصلاح جلي أو خفي لا أصل له في الشريعة، ومعنى قول صاحب المقالة: الاستحسان مقدم على القياس: أن القياس الجاري على وفق قواعد الشريعة مؤخر عن استصلاحٍ لا أصل له في الشريعة.
وقد عبّر الشافعي عن غور هذا الفصل بكلمات وجيزة، إذ قال: " من استحسن فقد شرَّع".
11897- ومما يتعلق بغرضنا أن المسألة إذا كان مستندها في النفي والإثبات القياس من الجانبين، فإذا اتجه في أحدهما قياس جليّ تقضي قواطعُ الأصول به، وفي الجانب الآخر متعلَّق خفي، فالمسألة من مسائل النقض إذا صادف الحكم المدركَ الخفي، ويجمع هذا النوعَ أن الجانب الجلي يسترسل في أقيسة الشريعة، والجانب الخفي يستمسك بشواذَّ ونوادرَ، يتكلف صاحبه ربطَ الكلام بها، وينتظم له فن من التعقيد سببه شذوذُ متعلقاته، وهذا كحكمنا بأن المأذون له في التجارة يقتصر على النوع المأذون فيه؛ فإنه عبد مملوك يتصرف فيما ليس له بذن مالكِه ومالكِ رأس المال.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يبني مذهبه على أنه يتصرف لنفسه، وقد يعتضد بالعهدة، وغاية الكلام فيها تعقيد لا يناسب مسالك الأقيسة الجلية.
ومما يجري النقض [به] (3) إذا تردد مذهبان بين موافقة قاعدة كلية وبين مجانبتها
__________
(1) في الأصل: " يتضم".
(2) كذا، بدون ذكر المضاف إليه، ولعلها: " إلى جانب التشهي أو الاستصلاح ". وجاءت (ق) : " إلى جانبه ".
(3) في الأصل: " بينه ".(18/473)
والتزام [جزئها] (1) كمسألة المثقّل، ومعظم مسائل الحدود والغصوب.
فإن قيل: ما من مسألة مبناها على القياس إلا ويشتمل أحد المذاهب فيها على قياسٍ مقدم في المرتبة، وقد ذكرتم أن ما يتعلق بترتيب الأدلة، فالنقض متسلط عليه.
وتمام البيان في ذلك أنه إن تقاوم المسلكان وعرف الأصولي تقاومَهما، ثم حُكْم الله في تقاوم المآخذ بيّنٌ، فقد يكون تخييراً، وقد يكون تغليباً، إذا ثبت التغليب في الفن، فإذا لم يكن تقاوم، فلا تميّز إلا بالرتبة.
ثم القواطع منها جلي، ومنها خفي يتوصل إليه بمزيد فكر. وعلى ذلك تجري المعقولات.
قلنا: هذا الآن سرف ومُجاوزة حد، ويلزم منه جريان النقض في جميع المسائل، والقول المقرّب إلى الضبط أن الكلام إذا تعلق بالترجيح، فلا يكاد يُفضي إلى القطع، فقد يتعارض قياسان لا يَتَوصَّل الأصولي إلى إيقاعهما في مرتبتين لازدحام مسائل الفقه، وتداني الأقدام في ادعاء الجلاء والخفاء، وهذا يعرفه الفقيه.
ولا ينفصل فيه أمر يقطع به الأصولي. وهذا القسم الذي إليه الانتهاء موضعُ تصويب المجتهدين على رأي، والحكم بأن المصيب واحد لا بعينه في رأي.
ولو قال قائل: كل ما لا يتعين فيه مصيب، أو يصار فيه إلى تصويب المجتهدين، فلا يجري فيه نقض القضاء، لكان كلاماً مستقيماً راجعاً إلى ما اعتبرناه من ثبوت القطع وعدمه.
11898- وقد ذكر الشافعي مسائل في نقض القضاء، فنذكرها تيمناً؛ قال: من فرّق بأكثر كلمات اللعان، وأقامها مقام الكل نقضتُ قضاءه.
وقال: من حكم بأن امرأة المفقود إذا تربصت أربع سنين، واعتدت عدة الوفاة، نكحت، نقضتُ قضاءه، وإن قال به عمر.
__________
(1) في الأصل: " جرمها ". والمثبت تصرف من المحقق، وفي عبارة الغزالي في (البسيط) ما يؤيده؛ إذ قال: " ما يتقاوم فيه قياس جزئي، وقانون كلي، فالحكم المخالف للقانون الكلي منقوض كحكمهم في مسألة المثقل، ومعظم مسائل الحدود والغصب " (ر. البسيط: الجزء السابع/ورقة 99 شمال) .(18/474)
وروي أن مَخْلدَ بن خُفَات ابتاع غلاماً واستغله زماناً فأراد أن يرده بالعيب، فقضى عليه عمر بن عبد العزيز برد العبد والغَلَّة، فروى عروةُ عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قضى في مثل ذلك أن الخراج بالضمان، فنقض عمر قضاءه (1) .
وقضى شريح في امرأة ماتت وخلفت زوجاً وابني عم أحدهما أخ للأم: بالنصف للزوج، وبالباقي لابن العم الذي هو أخ لأم، فأخبر به عليٌّ رضي الله عنه، فقال عليّ بالعبد الأبظر -أو قال بالعبد الأشط- والأبظر العظيم الشفتين، والأشط (2) معلوم، وكانت له شعرتان ممتدتان إلى سرته، فأُتي به. فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: كتاب الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، فنقض علي قضاءه.
وكتب عمر إلى أبي موسى لا يمنعك قضاء قضيتَه ثم راجعت نفسك، فهُديتَ الرشد أن تنقضه؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وقضى عمر في مسألة المشرّكة بإسقاط الأخ من الأب والأم بعد أن كان شرك، فقيل له: شرّكت في العام الأول، فقال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي (3) . فلم ير مسألة المشتركة مما يجري النقض فيها لتعارض الاجتهاد. وهذا حق كما رآه.
ثم روى الشافعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد وأصاب فله أجران " (4) .
__________
(1) أثر مخلد بن خُفاف: " أنه ابتاع غلاماً واستغله زماناً ... فقضى عليه عمر بن عبد العزيز برد العبد ... " رواه الشافعي (ترتيب المسند: 2/144 ح 482) ، وأبو داود الطيالسي: ح 1464، والبيهقي في الكبرى 5/321، وفي معرفة السنن: 5/359 ح 3482.
(2) الأشط: الجائر يقال: أشط في حكمه: جار. (المعجم) .
(3) ما أثبته الإمام هنا يخالف ما قاله في كتاب الفرائض، ويخالف المشهور في قضية المشرّكة، وهو أن عمر أسقط الإخوة للأب والأم، ثم عاد فشرّكهم لما روجع في العام بعده عندما قال له الأخ للأب والأم: هب أن أبانا كان حماراً. أفلا يزيدنا إلا قرباً.
هذا وقد تابع الغزالي شيخه في الوسيط والبسيط، وقد استدرك عليه ابن الصلاح والحموي في تتبعهما لمشكلات الوسيط. (ر. الوسيط: 7/304)
(4) حديث " من اجتهد وأصاب فله أجران ... " متفق عليه من حديث عمرو بن العاص، =(18/475)
وقد أثنى الله تعالى على داود باجتهاده مع خطئه في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] الآية، قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت أن الحكام قد هلكوا.
ثم قال بعض العلماء: أجر المخطىء على مقابلة قصده في طلب الصواب، وقال آخرون: هو على مقابلة استداده في بعض النظر، والمخطىء في الغالب يستدّ أولاً، ثم يزورّ، والمسلك الأول أقرب؛ فإنه قد يحيد في أول نظره عن سنن الصواب، وهو مأجور بحكم الخبر المأثور، حملاً على قصد الثواب. ولو أخطأ القاضي، وتعيّن له الخطأ، فحق عليه أن يُتْبع خطأه بالنقض، ويستفرغ في استدراكه الجهد.
ولو علم أنه أخطأ في قضيته، لكنها استبهمت عليه واختلطت بالأقضية، فيتعيّن عليه البحث، فإن بذل الجهد ولم يعثر، فلا عليه، وإذا كان [قبله مصروفٌ قضى به] (1) . فليس عليه أن يتَّبع أقضيتَه، ولكن ما رفع منها إلى مجلسه وادُّعي فيها شططٌ، قضى فيها بموجَب الشرع، وسيأتي في الصارف والمصروف وصفات القضاة فصولٌ منتظمة في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وإذا تحاكم إليه أعجمي لا يعرف لسانه لم يقبل الترجمة عنه إلا بعدلَين ... إلى آخره " (2) .
11899- القاضي لا يتصور أن يكون أعجمياً؛ فإن الشرط أن يكون مجتهداً على المسلك الأصح، كما سيأتي إن شاء الله.
ومن ضرورة ذلك أن يكون عليماً بلغة العرب، فإن الشريعة عربية. فإن كان أحدُ الخصمين أو كلاهما أعجمياً، والقاضي لا يعرف لسانهما، فلا بد من الرجوع إلى قول المترجم.
__________
= وأبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد: فأصاب أو أخطأ، ح1118 (2/195)) .
(1) في الأصل: " وإذا كان مثله مصروف به ".
(2) ر. المختصر: 5/242.(18/476)
ثم نَجري على عادتنا في نقل ما ذكره المعتبرون من أئمة المذهب، ثم ننعطف على المنقول بالبحث.
قال الأئمة في الطرق: لا بد من مترجمَيْن؛ فإنهما ينقلان أقوال المتداعِيَيْن إلى القاضي، فكانا بمثابة الشاهدَيْن.
ولو كان بالقاضي وَقْر وطرش، وقد لا يسمع في مجلسه كلام المتداعِيَيْن الجالسَيْن [بدنو] (1) منه، فلا بد من المُسْمِع.
11900- ثم اختلف الأصحاب في اشتراط العدد فيما ذكره القاضي، فقال بعضهم: لا بد من اثنين كالترجمان، والثاني يُكْتَفى بمُسمع واحد، لأنه لو غيّر المسمع بالزيادة والنقصان، لاعترض عليه الخصمان. فإن كان أحد الخصمين أصم، اكتفى بمسمع واحد على هذا الوجه؛ لأنه لو غيّر والقاضي سميع، لأنكر عليه القاضي، وإن كانوا كلهم -الخصمان والقاضي- صُمّاً، فلا بد من مسمعَين.
وهذا كلام مختلط، فيجب أن نعتقد أن المترجم كالمُسْمِع قطعاً؛ فإن كل واحد منهما ناقلٌ للقاضي: أحدهما ينقل معنى اللفظ، والثاني ينقل اللفظَ بعينه، فلا معنى للقطع باشتراط العدد في الترجمان وترديد الخلاف في المسمع، بل الوجه أن نقول: إن كان الخصمان عارفين بالعربية لا يغيب عنهما مُدْرَكُها، ولكنهما لا يحسنان النظم؛ فهذا بمثابة ما لو كان الخصمان سميعين والقاضي أُطروشٌ (2) ، والحكم في الصورتين أن القاضي إذا احتاج إلى التلقي من المتوسط بالترجمة أو الإسماع والخصمان مُدركان؛ فالوجه أنهما إذا أدركا ما جرى، [وقرّرا] (3) المترجِمَ، كفى
مترجم واحد، وحق القاضي أن يعتمد تقريرهما، ولو استظهر بإشارتهما، فحسن.
وأطلق الأصحاب ذكر الوجهين في هذا المقام التفاتاً إلى قاعدة التعبد بالعدد، وهذا لا وجه له.
__________
(1) في الأصل: " بنده ".
(2) الأطروش: الأطرش. (المعجم) .
(3) في الأصل: " وقرر ".(18/477)
ولو كان القاضي والخصمان صماً، أو كان الخصمان أعجميين، وليس بالحضرة غيرُهم ومن يترجم أو يسمع فالوجه القطع باشتراط العدد.
وذكر بعض أصحابنا وجهين في المُسمع، وهذا إن [اتجه] (1) ، وجب إجراؤهما في المترجم، وإلا فلا فرق.
ولو كانوا صماً، أو كان الخصمان أعجميين لا خبرة لهما بلسان القاضي، وكان بالحضرة عدول يسمعون، أو يعرفون لسان القاضي، ولغة الخصمين، فإذا ترجم المترجم، أو أسمع المسمع -والحالة هذه- فينقدح في هذه الصورة وجهان؛ من قبل أن الحضور لا تتعلق الخصومة بهم، والأظهر الاكتفاء بمترجم واحد، ومُسمِع واحد؛ فإن الذين شهدوا المجلس لو سمعوا تغييراً لأبدَوْا نكيراً.
وعندي أن هذا الخلاف فيه إذا لم يكن الشهود موصَّين من القاضي بالإصغاء ومراقبة الحال، وهذا هو المسلك الحق.
ولو كان القاضي سميعاً والخصمان أصمان، أو أحدهما، فلا بد من مسمع بينهما، فيكفي المسمع الواحد، والقاضي رقيب عليه. وكذلك القول في المترجم؛ فإن القاضي موصىً شرعاً بالمراقبة ومطالعة حقيقة الحال.
11901- ثم ينشأ من هذا المنتهى أن الترجمة والإسماع ليسا على حقائق الشهادات، وإنما يجريان واسطتين بين قول الخَصْم ودَرْك القاضي، ولذلك اختلف التفصيل باختلاف الأحوال كما رتبناها. وعدد الشهود لا يختلف.
ومن الدليل على ذلك أنهما في الخصومات المتعلقة بحقوق الآدميين يجريان من غير تقدم دعوى؛ فصار العدد حيث نرعاه استظهاراً أو شهادة؛ ولهذا قال الأئمة: إن اكتفينا بمترجم واحد، أو مُسْمِعٍ واحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، فإن شرطنا العدد، ففي اشتراط لفظ الشهادة وجهان، وهذا لطيف؛ فإن النقل من غير قرينة تؤكد الثقة يقتضي الاستظهار بالعدد، والخروج عن رتبة الشهادة وما يُرعى فيها من تقدم
__________
(1) في الأصل: " اتحد ".(18/478)
الدعوى يوجب ألا يشترط لفظ الشهادة، ولا أعرف له نظيراً في الشريعة، والأوجه اشتراط لفظ الشهادة إذا اشترطنا العدد.
وعلى الوجهين لا بد من اعتبار صفات الشهود بعد العدالة والثقة من الحرية وغيرها، فإذا اكتفينا بواحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، وفي اشتراط الحرية خلاف يداني خلافَ الأصحاب في قول المخبر عن هلال رمضان.
والأصح أن نُجريَ المترجمَ والمُسمعَ -إذا لم يُشترط العدد- مجرى الراوي (1) .
11902- فإذا أردنا نظم مجامع الكلام؛ فالمترجم والمسمع على ما قدمنا. وقطع الأصحاب باشتراط العدد في المقوّم إذا اتصل القضاء به؛ فإنه مَناطُ الإلزام، وهو أمس للّزوم وأخص به من الترجمة.
ولا يشترط العدد في القائف تأسّياً بالحديث، وعليه معوّل القيافة.
واختلف الأئمة في القاسم والخارص، فقال قائلون: هذا بمثابة الحاكم، فلا عدد، ومنهم من اشترط العدد، وهو القياس كالمقوّم، وليس يتجه بين المقوم والخارص فرق؛ فإن كل واحد منهما يبني قوله على التخمين والحَدْس مع الاستمساك ببصيرةٍ عنده. ولولا حديث عبدِ الله بن رواحة بالخرص، لقطعنا بإلحاق الخارص بالمقوّم، وفيه فقه خفي المُدرك- وهو أن الخرص لا يخلو من نوع مجازفة، فالحكم به يقع اتباعاً لمورد الشرع، ولو فرضنا خارصين، لبعُدَ اتفاقهما، وفيه تعطيل التعويل على الخرص، فيبقى بعد ذلك النظر إلى القسمة والتقويم.
فنقول: إذا كان القسمة لا تستقل إلا بتقويم؛ فلا بد من اشتراط العدد، وإن كانت القسمة مرجعها إلى درك الأقدار المحسوسة، فهي من وجه كالتقويم، ومن وجه يُكتفى فيها بالواحد الخبير الموثوق به، فإنه ليس يشهد بشيء، وإنما يمهّد أمراً وينشئه، ولو كانت كالشهادة، لما قُبلت شهادة قسّام وإن كثروا؛ فإنهم عن أفعالهم يُخبرون.
هذا تنزيل القول في هذه القواعد.
__________
(1) أي في عدم اشتراط الحرية، والعدد.(18/479)
فصل
قال: " وإذا شهد الشهود عند القاضي، كتب حِلْيَة كلِّ رجل ... إلى آخره" (1) .
11903- مضمون الفصل من أقطاب القضاء وأركانه، ونحن بعون الله تعالى نأتي بالمقصود منقحاً مصححاً إن شاء الله، فنصدِّر الفصل قائلين: الاستزكاء (2) حق الله تعالى. وحقٌّ على القاضي أن يرعاه، ولا يقفَ وجوبَ رعايته وبذلَ المجهود فيه على طلب الخصم، وإذا أحاط علمُ القاضي بعدالة الشهود، لم يَحْتفل بطلب الخَصم الاستزكاء؛ فإن القضاء بظاهر العدالة من غير بحث عنها لا مساغ له، وعماد الشهادة تحصيل الثقة، وتغليب الظن بالصدق، وهذا لا يحصل إلا بقول العدل الرضا، ثم وراء الثقة تعبدات، مُدْرَكُها [توقيفات] (3) الشرع. وما ذكرناه يطرد في الأموال والعقوبات، وما يقل ويكثر.
ولو قال المشهود عليه: الشهود عدول ولكنهم زلّوا في شهادتهم، فلا يكون التعديل منه إقراراً بالحق المدعى، وهل يقضي عليه القاضي بتعديله شهودَ الخَصم؟ ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أنه لا يقضي عليه بشهادتهم، بل يستزكيهم، لما حققناه [من] (4) أن الاستزكاء حق الله تعالى.
والوجه الثاني - أنه يقضي عليه، وهو مذهب أبي حنيفة (5) رضي الله عنه؛ لأنه اعترف بما إذا ثبت، ثبت الحكم عليه؛ فوجب القضاء بموجَب اعترافه.
ووراء ذلك لطيفة، وهي أن القاضي لو [عرفهم] (6) فَسَقَةً، لم يقض وجهاً
__________
(1) ر. المختصر: 5/242.
(2) الاستزكاء: طلب التزكية.
(3) في الأصل: " توليفات " والمثبت من المحقق. وقد أكدته (ق) .
(4) في الأصل: " في ".
(5) ر. مختصر الطحاوي: 328.
(6) في الأصل: " عرَّفهم " بتشديد الراء.(18/480)
واحداً، وإنما محل التردد فيه إذا لم يُحِط القاضي ببواطن أمور الشهود.
11904- ومما نرى ذكره على الاتصال بهذا أن الشهود لو كانوا عدولاً أو زكّاهم المزكّون -كما سنصف إن شاء الله- فارتاب القاضي لنظرٍ له في الواقعة، وخيالٍ قد يُدركه الفطن. قال الشافعي: في هذه الحالة إذا ارتاب القاضي بحال الشهود، فرّقهم، ويسأل كلَّ واحد منهم على حدته: يسأله عن المكان الذي تحمَّلَ فيه الشهادة؛ والوقتِ الذي تحمَّل فيه الشهادة، وعمن كان معه. وهو في هذا كله يبغي الاستدلال على عورةٍ -إن كانت- وليس ما ذكرناه استظهاراً محبوباً، بل هو حتم.
ثم ليس على الشهود أن يذكروا المكان والزمان، وإنما ينفع ما ذكرناه مع الأغبياء وذوي الغِرّة، فأما الفقهاء إذا روجعوا لم يزيدوا على إعادة الشهادة، ولو قالوا: لا نذكر الزمان والمكان، ولكنا نتحقق ما شهدنا به، فليس للقاضي -والحالة هذه- أن يجبرهم على التعرض لما ذكرناه، ولكن لو بقيت ريبة القاضي وازداد ارتياباً من إصرار الشهود على ترك ما يراجَعون فيه؛ فللقاضي أن يبحث عن جهات أخرى، فعساه يطَّلع على مطعن، فإن لم يكن، تحتم عليه إمضاء القضاء، مع انطوائه على الريبة لقيام البيّنة العادلة.
فإن قيل: لو ابتدر القضاء والإمضاء؟
قلنا: لم ينفذ قضاؤه؛ فإن حقه ألا يقضي إلا بعد بذل المجهود في التبيّن وطلب غلبة الظن.
فإذا وضح ذلك، فالبحث عند الارتياب من حق الله أيضاً، لا يتعلق بطلب الخصم، لما ذكرناه في أصل الاستزكاء.
نعم، قد يكون قول الخصم سبباً في وقوع الريبة، فإذا وقعت، شمّر لإزالتها، طلبَ الخَصْم إزالتها، أو لم يطلب. فهذه مقدمة في أصل التزكية.
11905- ثم إنا نذكر بعدها مراسمَ الحكم في الاستزكاء بكَتْب الرقاع إلى المزكين، فليأخذها الناظر على وجهها، والفقه وراءها، فمِنْ رَسْم القضاة أن يكتبوا إلى المزكي حِلْيَة الشهود، ويرفعوا في أنسابهم، ويذكروا أسماء آبائهم وأجدادهم،(18/481)
[وأن] (1) الشاهد مولى فلان -إن كان عليه ولاء- ويذكر صناعتَه وسكنَه ومُصلاه إن كان يعتاد [أداء] (2) الصلاة في مسجد، ويذكر حلية المدعي والمدعَى عليه ونسبَهما، وما يؤدي إلى تفريعهما على النسق المذكور في الشاهد، ويذكر قدر المشهود به وحليتَه ونوعه.
والمقصودُ من ذكر الخصمين والشهود إعلامُ المزكي، حتى إذا عرفهم بدون ما ذكرناه من المبالغات، فالغرض تعريفه ليكون على بصيرة من الواقعة وأصحابها والشهود فيها، ويُخفي عن كل واحد من المزكين ما كتب إلى صاحبه، ويُخفي عن الخصم الاستزكاء.
11906- قال الشافعي: " المستحب أن يكون أصحاب مسائله جامعين للعفة في النفس والمطعم، وافري العقول، بُرآء من الشحناء ومماطلة الناس " (3) .
فمن أصحابنا من قال: أراد بأصحاب المسائل المزكِّين، وقال بعضهم: أراد الرسل الذين يحملون الرقاع إلى المزكين للبحث عن أحوال الشهود.
قال: ينبغي أن يكون المزكون غيرَ مشهورين للناس بهذا المعنى؛ فإنهم لو شُهروا، فربما تتطرق إليهم الخديعة.
ولا ينبغي أن يكونوا من أهل الأهواء، فإنهم ربما يعتقدون ضلالةَ عِصابةِ الحق [فيجرّحُونهم] (4) أو يتوقفون في تعديلهم، فهذه مراتب ذكرها الأصحاب للقضاة.
11907- ونحن نذكر على الاتصال بها فقهَ الفصل، ثم ننعطف على هذه المراتب، ونذكر ما فيها من مستحب ومستحق، ومختلف فيه ومتفق عليه.
والذي نبتديه الآن التعرض لبيان الاكتفاء بالكِتْبة (5) ، أو اشتراط التصريح بالجرح
__________
(1) في الأصل: " فإن ".
(2) في الأصل: " أزمان ".
(3) ر. المختصر: 5/242.
(4) في الأصل: " فيخرجونهم ".
(5) الكِتبة: الكتابة مصدر كتب، وتطلق الكِتبة على المكتوب.(18/482)
والتزكية، ثم إذا نحن ذكرنا بعده اشتراطَ العدد في المزكين، [نذكر] (1) بعدها كيفية التزكية وشرطَها، والجرحَ ومعناه، ونصل به تعارضَ الجرح والتعديل، وبعد ذلك كله نعطِفُ البحثَ على المراسم.
فأما الغرض الأول: فقد ذكر العراقيون طريقين في التزكية وما يقع به تعديل الشهود: إحداهما- لأبي إسحاق، وذلك أنه قال: لا يثبت التعديل ما لم يصرح المزكّيان بالتعديل أو الجرح، ولا تعويل على الرقاع وأجوبتها، ولا على أقوال الرسل المترددين بين القاضي وبينهم. وهذا قياس بيّن لا حاجة إلى إيضاحه.
قالوا: وقال الإصطخري: إذا أخبر الرسلُ عن أقوال المزكّين، كفى. ولا يكلف حضور المزكّين في كل تعديل، ثم قال: لا يقع الاكتفاء بأجوبة الرقاع أصلاً، بل لا بد من تصريح رسولين بما سمعاه من قول المزكين، فيخبران عن كلِّ مُزَكٍّ، والقدرُ الذي احتمله الإصطخري الاكتفاءُ بأقوال الرسل، وإن كانوا في مقام الفروع، مع القدرة على السماع من الأصول، [وإنما] (2) احتُمِل هذا القدرُ حتى لا يشتهرَ المزكّون، ولا يكثر ترددهم، وزعم أن الذي يقتضيه مجلس القضاء هذا. والذي ذكرناه هو القول في اشتراط السماع من الأصول أم الاكتفاء بأقوال الرسل؟
11908- فأما العدد، فأحسن ترتيب فيه أن المزكِّي لا يخلو إما أن يكون مولّىً من جهة القاضي في البحث عن العدالة والجرح، ويكون حاكماً في هذا النوع، وإما أن يكون مستشهَداً في التزكية والجرح، فإن نصب القاضي حاكماً في التزكية والجرح، جاز ذلك.
ويتفرع على صورة [كونه حاكماً] (3) أن له أن يراجع مَنْ رآه أهلاً للمراجعة في التزكية والجرح ويُصغي إلى الشهادة في هذا المقتضى ويحكم به بعد بذل الوسع في الاحتياط.
__________
(1) في الأصل: " ونذكر ".
(2) في الأصل: " وأما ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.(18/483)
ويبتني على هذه الحالة أن قوله مقبول وحده؛ فإنه حاكم، وقول الحاكم مسموع في استمرار ولايته.
فاما إذا لم يُنَصِّب حاكماً في التزكية، ولكن يراجعُ معيَّنين مراجعةَ الشهود، فعلى هذا يشترط العدد بلا خلاف؛ فإن عماد القضاء الجرحُ والتعديل، فلا بد من الاستظهار الأكمل فيه.
ثم إذا اشترطنا العدد، وضممنا إليه اشتراط السماع من المزكين، فلا بد من لفظ الشهادة، وإن اكتفينا بقول الرسل، فقد ذكر صاحب التقريب على قياس مذهب الإصطخري وجهين في اشتراط لفظ الشهادة. وسببُ التردد ميلُ أقوال الرسل عن القاعدة في أنها مقبولة مع إمكان الوصول إلى الأصول، ولكن العدد لا بد منه وفاقاً، كعدد المترجِم حيث يُقطع باشتراطه، ثم يُتردد في لفظ الشهادة، كما ذكرناه في المترجم.
11909- فأما الكلام في صفة التزكية والجرح: فالقول فيها يتعلق بمأخذهما، وكيفية العبارة عنهما.
فأما مأخذهما، [فإن] (1) كان المرء يزكي بنفسه، ويشهد بناء على ما ظهر له، فلا يكفي النظرُ إلى ظاهر العدالة والبناءُ على تحسين الظن؛ فإن الشاهد لو اكتفى بظاهر العدالة، لما احتيج إليه، ولاكتفى القاضي بظاهر العدالة، فلا بد إذاً أن يكون الشاهد على العدالة خبيراً بباطن من يزكيه مخالطاً له في الأحوال التي يظهر فيها مكنون الأسرار، وتكون مخالطته في الأحوال التي وصفناها على امتدادٍ في الزمان.
والأصل في ذلك ما روي أن رجلاً شهد عند عمر بن الخطاب، فقال: " أما إني لا أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك فأتني بمن يعرّفك، فجاء رجل فعدّله، فقال عمر رضي الله عنه: هل كنت جاراً له فتعرف إصباحه وإمساءه؟ فقال: لا، فقال: هل عاملته على الدينار والدرهم؟ وفيهما تعرف أمانات الرجل، فقال: لا. فقال: هل
__________
(1) في الأصل: " بأن ".(18/484)
صحبته في السفر؟ وفيه تمتحن أخلاق الرجال. قال: لا. قال: فإذاً أنت لا تعرفه، فائتني بمن يعرّفك " (1) .
والمعنى -مع الجوامع التي ذكرها عمر- أن الناس يخفون عوراتهم ويغطونها جهدهم، ولا يتحقق الاطلاع على نقاء السريرة، ولكن لا أقل من التوصل إلى ما يُغلِّب على الظن، وذلك يحصل بما ذكرناه من الخبرة الباطنة.
وأما الجرح فمأخذه الاستيقان والعيان، أو ما جرى مجراه. هذا قولنا في مآخذ الجرح والتعديل.
ومما يتصل بهذا أن المزكي إذا عدّل، فحقُّ القاضي أن يبحث عن علمه بباطنه بَحْثَ عمرَ في الأثر المروي. والسبب فيه أنه قد يعتقد جوازَ البناء على الظاهر والأخذَ بتحسين الظن؛ فإذا بحث القاضي أزال الشك ببحثه.
وإن علم أن المزكي خبير بالتزكية عالم بأن التعويل على البواطن، وقد ألف ذلك منه [وراجعه فرآه خبيراً بصيراً] (2) غيرَ مكتفٍ بالظاهر، فإذا أطلق مثلُ هذا المزكي التعديلَ؛ فالأصح أن القاضي لا يحتاج إلى مراجعته في إسناد تزكيته إلى الباطن.
ومن أصحابنا من شرط هذه المراجعة في كل تزكية؛ تمسكاً بأثر عمر؛ وهذا غير سديد، والأثر محمول على علم عمر بأن المعدِّل لم يكن خبيراً بمأخذ التعديل، وقد تحقق ذلك لما [راجعه] (3) كما روينا الأثر.
11910- فأما لفظ التزكية، فإن قال المزكي: هو عدلٌ رضاً، لم يكفِ ذلك، حتى يقولَ: مقبولُ الشهادة؛ فإن العدل الرضا، قد يكون مغفلاً. نعم، تثبت العدالة بما قال، ثم يُستخبر بعد هذا عن الأسباب المانعة من قبول الشهادة، كما سنصفها إذا انعطفنا، إن شاء الله، على المراسم التي ذكرناها أولاً.
__________
(1) أثر عمر رواه البيهقي في السنن الكبرى، والعقيلي في الضعفاء، والخطيب في الكفاية (ر. البيهقي: 10/125، الضعفاء للعقيلي: 3/454، تلخيص الحبير: 4/360 ح 2629) .
(2) في الأصل: " وراجعْتَه فيه خبيراً بصيراً ". (بهذا الضبط والنقط) .
(3) في الأصل: " راجع ".(18/485)
[ومن] (1) عبارات المزكين، وهو من أبلغها وأوقعها: " عدلٌ عليَّ ولِيَ " وهذه العبارة شائعة على ممر الدهور، وقد يقدرها من كان مبتدئاً في سماعها مجملة.
والأصحاب مجمعون على حملها على موجب ما يتفاهمون منها. هذا كيفية التعبير عن العدالة.
فأما الجرح فلا يكفي الإطلاق فيه، ولا بدّ من التنصيص على سبب الجرح؛ فإن الناس مختلفون فيما يقع الجرح به، واتفق أئمة المذاهب لذلك على أنه لا بد من التصريح بسبب الجرح؛ فإن نسَبه إلى الزنا، فلا بد وأن يقول: رأيته يزني، أو سمعته يقر بالزنا، وهكذا القول في كل ما ينسبه إليه، فلا بد من التصريح فيه، والإضافة إلى الرؤية أو سماع الإقرار.
ومن أصحابنا من قال: لا يشترط هذه المبالغة، بل يكفي ما ينبّه على ما يقع به الجرح لا محالة، وهذا خرّجه بعض العراقيين على طريقة الأصطخري؛ فإن مبناها على طرف من المسامحة، ووراء هذا سرٌّ، وهو أن المزكّيَيْن إذا صرحا بالنسبة إلى الزنا، ففي العلماء من يجعل الشاهدين على الزنا إذا لم يساعدهما شاهدان آخران قاذفين، فحقيقة هذا التردد تعود إلى من يجعل الشاهدين والثلاثة على الزنا قَذَفَةً، فهم مترددون في هذا المقام، فمنهم من يستثني مقام الجرح، ولا يجعل نسبة الزنا في هذا المقام قذفاً، والسبب فيه الحاجة، وأن المزكي مُراجَع مستخبَر، والقاذف من يبتدىء من غير مراجعة.
ومن أصحابنا من يجعلهم قذفة لو صرحوا، إذا نقصوا عن عدد شهود الزنا، فعلى هذا لا يكلفون التصريح، ثم يجب احتمال ما يأتون به إذا عرّضوا، وحتى لا يقضى بتعرضهم لاستيجاب التعزير، وهذا تمهيد عذر المراجَع المستخبَر، وعليه يحمل قول الرسول عليه السلام " اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس " (2) .
__________
(1) في الأصل: " من " (بدون واو) .
(2) حديث " اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس " رواه الطبراني في الكبير والأوسط والصغير. قال الهيثمي في المجمع (1/149) : " وإسناد الأوسط والصغير حسن، ورجاله موثقون واختلف في بعضهم اختلافاً لا يضر " ا. هـ. ورواه البيهقي في الكبرى (21080) وضعفه، ورواه ابن=(18/486)
فهذا تمهيد القواعد في التزكية والجرح، ونحن نذكر بعدها فروعاً شذّت عن ضبط الأصول.
فرع:
11911- لا تثبت العدالة إلا باثنين، كما لا يثبت الجرح إلا باثنين. فلو عدّل اثنان وجرح اثنان، فالجرح أغلب؛ فإن الجارح ينص على ثابت، ومستند شهادة المعدلِّ انتفاءُ الجَرْح بظن غالب تلقاه من طول المخالطة والمعدِّلُ لا يكلَّف سبب التعديل؛ فإن أسباب العدالة لا تنضبط.
ولو عدّل رجلان وجرح واحدٌ، فلا مبالاة بالجرح؛ فإن البينة لم تكمل بتعددها في الجرح، [وكمُل] (1) عددُ البينة في التعديل.
قال أبو إسحاق المروزي: إذا عدل اثنان وجرح واحد، قال القاضي للمدعي: " زِدْ في شهودك ". وهذا إن كان استظهاراً منه غيرَ واجب، فهو محتمل، وإن كان حتماً؛ لم يخلُ إما أن يكتفي بشاهدٍ أو يشترط شاهدين. وعلى أي وجهٍ أدار، فلا وجه لما اختار، والظنُّ به أنه أراد الاستظهارَ، ولم يُلزم ما ذكره من الازدياد والاستكثار.
فرع:
11912- أجمع علماؤنا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والجرح، حتى إن علم أحدَهما بالمسلك الذي يعلم الشاهد به [بنى] (2) قضاءه على علمه -قالوا- وهذا متفق عليه. وإن اختلف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه؟
ورأيت لبعض المحققين في هذا كلاماًً لطيفاً، وذلك أنه قال: إن علم القاضي الجرح، قضى بعلمه، ولم يبال بشهادة المعدِّلَيْن على التعديل، وإن ظهر عنده سببُ التعديل ظهوراً يجوز الشهادة به، فهل له أن يكتفي بعلمه أم يستزكي؟ فعلى وجهين، والأظهر ما قدمناه.
__________
= أبي الدنيا في ذم الغيبة، وابن عدي في الكامل (2/260) ، والعقيلي في الضعفاء (72) .
وانظر تخريجه بالتفصيل في سلسلة الضعيفة للألباني (2/52 ح 583، وقال: موضوع) وحاشية محقق الطبراني الكبير (19/418 ح 1010) وكشف الخفا (1/114 ح 305) .
(1) في الأصل: " وكمله ".
(2) في الأصل: "مما " والمثبت من (ق) .(18/487)
فرع:
11913- إذا توقف المزكون في التعديل، [توقف] (1) القاضي إذا لم يكن عنده علم، وليس للمزكي أن يجرح بفعل لم يعاينه، ولا بقولٍ لم يسمعه، والقول والفعل لا تجوز الشهادة عليهما بالتسامع، والجرح شهادة. نعم، يتوقف عن التعديل. وإذا توقف المزكون، توقف القاضي.
ولو تحقق عند القاضي الفسقُ بالتسامع، ولم يشهد عنده شاهدان، فلو شهد معدلون على العدالة، فالرأي الذي يجب القطع به أنه لا يقضي بالشهادة؛ لأن ما تحققه أقلُّ مراتبه أن يقتضي توقفاً. والقاضي قد يتوقف لريبة، كما ذكرناه في صدر الفصل.
فرع:
11914- إذا قضى القاضي بعدالة شاهد، ثم شهد ذلك الشاهد في واقعة أخرى، فإن طالت المدة، وكان القاضي غيرَ خبير بحاله في المدة المتخللة، فهل للقاضي أن يقضي بشهاته؛ بناء على العدالة التي ثبتت في القضية الأولى؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقضي ويستصحب ما ظهر عنده إلى أن يثبت عنده جرح. والثاني - أنه لا يقضي إذا بعُد العهد بالبحث، فلا بد من استزكاء جديد، وهذا ما مال إليه جمهور الأصحاب.
ووجهه أن الأحوال حُوّلٌ، والإنسان عرضةُ التغايير والحَدَثان، ويعز في الناس المقيمُ على الخير، المستقيمُ على طاعة الله تعالى، وهذا القائل يقول: ينبغي ألا يغفل القاضي المسألة عن صفة الشهود الذين ينتابون مجلسه للشهادة. ثم قال العراقيون: إذا راعينا البحث على الإدامة، فلو ترك البحث عمن ثبت عدالته عنده ثلاثة أيام كان ذلك محتملاً، وفحوى كلامهم إيجاب البحث وراء ثلاثة أيام.
ولست أرى أن يتقدر ذلك، ولكن المرجع في قرب الزمان وبعده إلى العرف الغالب، فكل مدة يتوقع في مثلها طريان تغايير، فإذا خلت عن المسألة، فلا بد من تجديد البحث بعد هذه المدة عند إقامة الشهادة، ولا ضبط لذلك، ولا سبيل إلى تقدير، والرجوع إلى ما يغلب على ظن القاضي.
__________
(1) في الأصل: " موقف ".(18/488)
فرع:
11915- في قبول تزكية الوالد ولدَه، والولدِ والدَه، وجهان: أحدهما - لا تقبل؛ فإنها شهادة بإثبات فضيلة، والثاني - تقبل؛ لأنه [لم يُثبت له حقّا] (1) .
وفي قضاء القاضي بشهادة ابنه للغير أو على الغير وجهان مأخوذان من المأخذ الذي ذكرناه؛ فإن القضاء بالشهادة حُكْمُه (2) بالتعديل.
والأصح عندنا أنه يقضي بشهادة ابنه إذا عدَّله شاهدان، كما يقضي لابنه على خصمه إذا أقام البينة، فأما إذا عوّل في تعديل ابنه وتنفيذ القضاء بشهاته على علم نفسه، فهذا موضع التردد. وهو بمثابة الشاهد بتزكية ابنه.
فرع:
11916- ظهر اختلاف الأصحاب في أن المزكين إذا رجعوا عن التزكية بعد نفوذ القضاء هل يغرّمون غُرْم الشهود إذا رجعوا؟
وهذا الخلاف قريب من اختلاف القول في رجوع شهود الإحصان في الزنا.
والجامع أن كل واحد من الشاهدين يتعرض لفضيلة، وإن لم يكن منها بد في نفوذ القضاء.
فرع:
11917- حق على القاضي أن يرتب المزكين والمترجمين، وإن كان بأُذنه وقر، فينبغي أن يرتب المُسمِع.
ثم إن كان لا يترتب هؤلاء إلا بمُؤْنة، فقد ذكر أئمتنا وجهين في مؤَنهم:
أحدهما - أنها على طالب الحق؛ فإن قيام هؤلاء يتعلق بحقه، والمترجِم هو الذي يتمم الدعوى في مجلس القضاء، وكذلك المسمع والمزكي يوضح البينة ويتمّمها.
ومن أصحابنا من قال: ليس على المدعي ذلك، كما ليس عليه أن يبذل للقاضي شيئاً، وإن كان هو الناظر الأكبر وبنظره تتم المقاصد. ولو كان مستقلاً بمعرفة اللغات أو كان حادّ السمع أو مطلعاً على حال الشهود، لما احتاج إلى هؤلاء المزكّين. فإن أوجبنا المؤنة على طالب الحق، فعلى كلٍّ مقدارُ أجر المثل فيما يتعلق بحقه صومته.
__________
(1) في الأصل: "لم يثبت أن حقاً".
(2) حكمه بالتعديل: أي حكم منه بتعديل ابنه.(18/489)
فرع: (1) :
11918- لا تقبل التزكية إلا من رجلين، وإن كان الشهود شاهدين على مال، وكذلك إذا شرطنا العدد في الترجمة، فلا بد من رجلين، وإن كانا يترجمان شهادةً في مال. وهذا بمثابة الشهادة على الوكالة في المال، فإنها مشروطة بالذكورة؛ نظراً إلى الوكالة في نفسها.
فصل
متصل بما نحن فيه.
قال: " ويسأل عمن جَهِلَ [عدالته] سراً، اذا عُذل سأله تعديله علانية ... إلى آخره " (2) .
11919- إذا جرى التعديل سراً، وكان لا يُبعد القاضي أن يوافق اسمٌ اسماً ونسبٌ نسباً، فينبغي أن يطلب تعديل العلانية، ومعناه أن يكلف المزكي الإشارة إلى من عدّله، حتى يزول الرَّيْب. وما قدّمناه من التعديل سراً، لم نعن به الرقاعَ وأجوبتَها، وإنما عنينا اللفظ، ولو مست الحاجة بعد ذلك إلى الإشارة إلى الشاهد، فهذا هو الإعلان، وإن كان الأمر لا يتمّ إلا بالإعلان، فلا بأس لو اقتصر سراً على أجوبة الرقاع تعويلاً على طلب الإعلان، وهو ابتداء التزكية المعتبرة.
ومن أسرار هذا الفصل أن اللَّبس لو كان لا يزول إلا بالإشارة، فلا بد منها، وإن كان يزول اللَّبس بالتسمية لاشتهار الشاهد باسمه، فليست الإشارة شرطاًً؛ فإن الإشارة إنما تشترط إلى مشهود عليه تعلقت الدعوى به أو إلى مشهود له- وهو الطالب، ولا يتحقق في التزكية هذا؛ فإن الشاهد ليس يدعي شيئاً حتى يَشهد المزكي له به، ولا يُدَّعَى عليه حق حتى يَشهد عليه.
__________
(1) هذا الفرع بجملته كان لحقاً بهامش الأصل، من غير إشارة إلى مكانه من الصلب بين الفروع السابقة؛ فآثرنا إلحاقه بآخر الفصل. ثم جاءتنا (ق) والكتاب ماثل للطبع وقد وضعته قبل الفرع السابق والأمر قريب.
(2) ر. المختصر: 5/243، وفي المختصر الذي بأيدينا: " عَدْله " مكان عدالته، واللفظة ساقطة من المخطوطة.(18/490)
11920- وإذا وضح هذا، فقد حان من هذا المنتهى أن ننعطف على المراسم التي قدمناها في صدر الفصل. فنقول: أولاً، لا يشك الفقيه في حسن تقديم الرقاع على الترتيب الذي ذكرناه؛ فان المرتَّب للتعديل والجرح [ربما] (1) يحتاج إلى البحث، وإطالة الفكر، وأحسن مسلك يمهِّد إمكان ذلك من غير شَهْر تطرق اللهم إلى المزكين ما ذكرناه.
فقد قال سَوّار بن عبد الله (2) : اثنان لم أُسبق إليهما، ولا يتركهما حاكم بعدي: المسألة في السر، ثم المسألة في العلانية، ولا يستريب فقيه أن ترتيب الرقاع ليس أمراً مستحَقاً، ولو اتفق الهجوم على السؤال قطعاً، لما امتنع، ثم إن كان عند المسؤول علم [أعربَ] (3) عما يراه، ولو لم يكن عنده علم، استمهل ونظر، غيرَ أن الأحسن ما قدّمناه.
وقد يقول القائل: هذه المراسم لم تُعرف في زمن الخلفاء المهديّين. قلنا: أجل، ولكن كانت العدالة في الذين يشهدون غالبة. وأهل العصر برآء عن التعرض
__________
(1) في الأصل: " ومما ".
(2) سَوّار بن عبد الله، القاضي سَوّار بن عبد الله بن قدامة العنبري، البصري، قاضي أبي جعفر المنصور، ت 156 هـ.
ولسَوّار هذا حفيدٌ بنفس الاسم، وقاضٍ أيضاً (سوّار بن عبد الله الفاضي المتوفى سنة 245 هـ) . مما أدى إلى الخلط بينهما، كما وقع لابن الجوزي إذ نقل حكم سفيان الثوري على الجدّ بالتضعيف، فحكم به على الحفيد، وقد تعقبه الحافظ في تهذيب اللهذيب.
والقول الذي نسبه إمام الحرمين لسَوّار، رأينا الخلات في نسبته إلى غير الجد، ففي الحاوي للماوردي، وشرح أدب القاضي للخصاف أن القائل هو ابنُ شبرمة (ت 144) . قاله محيي هلال السرحان محقق أدب القضاء لابن أبي الدم. وقد راجعنا هذين المصدرين، فوجدنا الأمرَ كما قال.
(ر. أخبار القضاة لوكيع: 2/55، مشاهير علماء الأمصار: رقم 1246، تاريخ الثقات للعجلي: 210، تهذيب اللهذيب: 4/269، أدب القضاء لابن أبي الدم: 2/398، أدب القضاء للماوردي: 2/15 فقرة 1869، شرح أدب القاضي للخصاف: 3/23) .
(3) في الأصل: " أعرف ".(18/491)
للتهم. وما ذكره الأئمة من الترتيب لائق ببني الزمان، والماضون -وإن لم يفعلوا ما ذكرناه- مهّدوا لنا بَذْل الاحتياط على أحسن الإمكان في كل زمان.
هذا قولنا في كَتْب الرقاع.
والتعرضُ للمدعي والمدعَى عليه والشهود لأقصى غايات الإمكان في الإعلان ركنٌ عظيم: أما الشهود، فكيف يبحث المزكي عنهم إذا لم يعلمهم؟ أما المدعي، فلا بد من إعلامه أيضاً، وقد يستبين المزكي بينه وبين الشهود حالة توجب ردَّ شهادتهم له، من أبوة أو شركة في الواقعة، أو ما جرى هذا المجرى، مما سنصفه في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
وأما المدعَى عليه، فقد يدرك المزكي بين الشهود وبينه عداوة أو لدداً في خصومة يوجب مثلُها ردَّ الشهادة، فإن لم يقع التعرض لما ذكرناه، فالتعديل في الشهود يَثْبت، ولكن يبقى على القاضي نظرٌ فيما وراء التعديل من المعاني التي ذكرناها.
ومما قدمناه في المراسم ذكر مقدار الحق، وفي هذا فقه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك احتياط وليس باشتراط؛ فإن التعديل عندنا في اليسير والكبير على نسق واحد. وأبعد بعض أصحابنا فقال: لا يمتنع أن يزكي المزكي الشاهد في المقدار النزر، ويتوقف في المقدار الخطير؛ فإن المشهود به إذا عظُم خطره أَحْوَجَ إلى مزيد فكر. وهذا كتخصيصنا تغليظَ الأيمان بالأمور المُخْطرة والعظيمِ من المال، وهذا غير سديد، ولا لائقٍ بمعتبرنا الواضحِ وقياسِنا البيّن في طلب التعديل من الخبير ببواطن الشهود، وإذا كان كذلك؛ فلا معنى لاشتراط ذكر المدعَى. ولا يُنْكر كونُه احتياطاً.
فهذا نجار القول في التزكية. وقد اشتمل ما ذكرناه على المراسم أولاً، وبعدها تمهيد الأصول، وبعدها استدراك ما لم يندرج تحت ضبط الأصول برسم الفروع، وبعدها البحث المميِّز بين الاحتياط وما لا بد منه.(18/492)
فصل
قال: " ولا ينبغي أن يتخذ كاتباً حتى يجمع أن يكون عدلاً عاقلاً ... إلى آخره " (1) .
11921- إذا اتخذ القاضي كاتباً، فينبغي أن يكون وافرَ العقل، عدلاً، ثقة، بعيداً عن الغباوة، نَزِهاً عن الطمع.
قال الله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] ، وهذا يدل على أن التعرّض لطلب الولاية جائز إذا يوجد الطالب [الصالح] (2) لها. ثم نجري على الترتيب المقدم في طرد المراسم [وفي] (3) الانعطاف عليها بالبحث.
11922- قال الشافعي: " ويتولى القاضي ضم الشهادات ... إلى آخره " (4) .
على القاضي أن يعقد محضراً لما يجري فيه بين الخصمين في مجلسه، ويُثبت فيه الدعوى والإنكارَ والبيّنةَ -إن كانت- ويثبت أسماءَ القوم، وإن احتاج أثبت حُلاهم (5) ، ثم يجمع محاضرَ كلِّ يوم في إضبارة (6) ، ثم يكتب عليها اليومَ، ويوضحُ التاريخَ، ثم يضم محاضرَ الأسبوع في قِمَطْر، ويكتب عليه ما يوضح التاريخَ، ولو ختم على كل إضبارة وقمطرٍ كان حسناً. ثم إذا اجتمعت محاضرُ شهر، جعلها في قمطرٍ كبير، ثم كذلك يفعل في السنة، ويجعلُها في خَريطة، ويحرص على التمييز.
ويُثْبت في المحاضر نهايةَ التفصيل، وينبغي أن يتولى ذلك بنفسه، أو يُفعلَ بين
__________
(1) ر. المختصر: 5/243.
(2) في الأصل: " للصلاح ".
(3) في الأصل: " في " (بدون الواو) .
(4) السابق نفسه.
(5) حلاهم: نعتهم وصفتهم، وهي بالكسر أيضاً (القاموس المحيط، واللسان) .
(6) يقال: ضبر الكُتُب وغيرَها جمعها وجعلها إضبارة، والإضبارة الحُزمة من الصحف يضم بعضها إلى بعض، جمعها أضابير. (المعجم) .(18/493)
يديه، وحسنٌ أن يدفع نسخة إلى صاحب الحق؛ فإن فاتت نسخته، رجع إلى ما خُلّد في مجلس الحكم، وهان عليه الوصول إلى خريطة السنة، ثم إلى الشهر، ثم إلى الأسبوع، ثم إلى اليوم.
هذا ذكر المراسم، ووجه الاحتياط فيها بيّن.
وإن امتنع القاضي من الكِتْبة، وكان صاحبُ الحق يستدعيه، ويبغي التوثقَ بالسجل المكتوب؛ فهل يتعيّن على القاضي إجابته إلى ملتمسه؟ وهل له أن يمتنع عن الكِتْبة؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا يجب عليه الإجابة إلى الكِتْبة؛ فإنه لا تعويل على المكتوب، وإنما المعوّل على التذكُّر عند مسيس الحاجة، والثاني - أنه يجب إسعافُ الخَصم؛ فإن الخطوط وإن كان لا تُعتَمد فهي مذكِّراتٌ، وما كتَبْتَه تقيّد، وما أهملته تشرّد.
ثم إذا أراد القاضي أن يكتب، فالكاغد من طالب الكِتْبة؛ فإنه الذي يبغيها، ولو أراد كَتْب المحضر، فإن كان يعرف الخصمين بأسمائهما وأنسابهما بين المحضرَ عليها، ولا بأس لو ضم إلى الأسماء والأنساب الحِلْيَة تأكيداً، وإن كان لا يعرف نسبهما واسمهما، فيكتب في المحضر حضر المجلس خصمٌ، وذكر أنه فلانُ بنُ فلانٍ، وادعى على من زعم أنه فلانُ بنُ فلانٍ، ويعوِّل على الحلية؛ فإنه ليس يعرف الاسم والنسب، هذا صيغة المحضر.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه لا يعقد المحضر مع الجهل بالأنساب والأسماء؛ فإن التعويل على الحِلْية، والحِلْية تحول، ولا تثبت.
وهذا ليس بشيء، والمذهب ما قدمناه.
ونشّأ الأئمة من فصل الكِتْبة خلافاً شهّروه في أن القاضي لو كان أمياً هل يجوز؟ فذهب الأكثرون إلى جواز ذلك، وكان سيد البشر صلى الله عليه وسلم أمياً، [وهذا] (1) يعتضد بما ذكرناه من ترك التعويل على الخطوط، كما سنوضحه من بعدُ.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يكون القاضي أمياً لكثرة الحاجة إلى الكِتْبة،
__________
(1) في الأصل: " وهو ".(18/494)
والنظر في المكتوب، وكل ما يظهر أثره ويتضمن نقصاً بيّناً، فيجب ألا يتصف القاضي به. وسنجمع في ذلك قولاً ضابطاً عند ذكرنا شرائطَ الولاة.
فصل
قال: " ولا يقبل من ذلك ولا مما وَجَدَ في ديوانه إلا ما حَفِظ ... إلى آخره" (1) .
11923- غرض الفصل بيان ما أجريناه من أن الخط لا معول عليه، وبيانُه في حق الشاهد أنه لو رأى خطَّ نفسه في تحمُّل الشهادة، ولم يتذكر تحمّله لها، فليس له اعتماد الخط في إقامة الشهادة، وكذلك القاضي إذا رأى خطَّه متضمناً إمضاء القضاء، فإن تذكره، جرى عليه، تعويلاً على الذكر دون الخط، وإن لم يذكره، توقف، وسنذكر في كتاب الدعاوى -إن شاء الله- أنه يجوز للإنسان الاعتماد على الخط في الحلف، وقد يسوغ أن يعتمد خط أبيه إذا كان معتمَداً عنده، ويبني عليه الحلف، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
وإنما غرضنا الآن بيانُ حكم الشاهد والقاضي، وليس لواحد منهما أن يعتمد الخط، وكنا نراجع شيخَنا فيمن يتحمل الشهادة، ويثبتُها في ديوانٍ عنده، ثم يضعها حيث يقطع بأنه لا وصول إليه من جهة أحد، ويعلم على اضطرار أنه لا يُثبت في ذلك الديوانَ إلا ما تحققه، فإذا اطلع عليه، فكيف السبيل فيه؟ فربما كان يقول بعد تردد: هذا تذكر، وإنما نمنع اعتمادَ الخط إذا لم يجر مثلُ ما ذكرناه، فكأنّا نقول: صورةُ الخط لا تعتمد مع إمكان التزوير وتشبيه الخط بالخط.
فأما إذا تحقق واضطر إلى الدَّرْك، جاز الاكتفاء بذلك.
ورأينا الأصحاب في الطرق لا يسمحون بهذا، ويطردون اشتراط التذكر، وقيامَ الواقعةِ في وجدانِ النفس، وهذا على هذا الحد قد يحسم إقامةَ الشهادة، سيّما إذا
__________
(1) ر. المختصر: 5/243.(18/495)
[كثر] (1) الأشهاد، وازدحمت الخصوم، فهذا ما أردناه.
ومما يليق بهذا المنتهى أن الشاهد لو نسي التحمل، فذكّره عدول، وقطعوا أقوالهم بتحمله، فإن تذكر لما ذُكِّر، عوّل على ذكره، لا على أقوال المذكّرين.
والتذكير منصوص عليه في الكتاب، فقال عز من قائل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ، وإن ذكِّر فلم يذكر، فلا حكم للتذكير، وهذا متفق عليه من الأصحاب.
11924- وكذلك قالوا من عند آخرهم: لو قضى القاضي بأمرٍ، فروجع فيه، فلم يتذكّر قضاءه، فلا شك أنه لا يعوِّل على الخط، كما قدمنا ذكره، فلو شهد عنده عدلان على أنك قضيت لفلان بموجب خطك هذا، أو لم يتعرضا للخط، وشهدا على القضاء، فالقاضي لا يعوّل على شهاتهما؛ بل إن تذكّر واستيقن، فذاك، وإلا وقَفَ الأمرُ، وتوقف القاضي.
ولو شهد الشاهدان بعد عزل هذا أو موته عند قاضٍ آخر، وقالا: نشهد أن فلاناً قضى لفلان، فيثبت القضاء على هذا الوجه. والسبب فيه أن الإنسان يطلب من نفسه اليقين، ولا يكتفي بالظاهر. ولا يثبت قوله في حق الغير إلا بطريق الظاهر، فكان كل مسلك مبنيّاً على الممكن فيه.
فإن قيل: أليس الشيخ في الحديث يقول: " حدثني فلانٌ عني " إذا كان روى، ثم نسي ما روى، كما قال سهيل ابن أبي صالح: حدثني ربيعةُ عني أني حدثته عن أبي حديث القضاء بالشاهد واليمين. قلنا: للأصوليين كلام في هذا وتفصيلٌ، وقد شرحناه في مجموعات الأصول.
ثم التعويل في الروايات على الثقة المحضة، ولهذا لا يشترط فيها العدد والحرية، والشهادات والبينات مبنية على أقصى الإمكان في كل باب؛ فلم يقع الاكتفاء فيما نحن فيه بخط ولا بشهادة الشهود.
__________
(1) في الأصل: " كنى".(18/496)
وقد اشتهر عن أبي يوسف (1) -رحمة الله عليه- التعويل على الخط وعلى شهادة الشهود بالقضاء عند ذلك القاضي.
ثم قال الأئمة: إذا قال شاهدان للقاضي: قد قضيتَ لفلان، فإن تذكّر عوّل على تذكّره، وإن لم يتذكر، لم يتعرض للشهود بالتصديق ولا بنقيضه، فإنه إن صدقهما، كان قاضياً بموجَب قولهما، وإن أبدى مراءً، كان ذلك قادحاً في شهادتهما عند قاضٍ آخر، فلا يسوغ له أن يقدح ويسد بابَ الإثبات.
ومما ذكره الفقهاء أن المحدِّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع كتاباً، وضبطه جهده، وكان ذلك الكتاب عنده، بحيث يعلم أنه لم يتسلط عليه أحد بالتغيير، فلما أراد روايته، لم يتذكر سماعه لأعيان تلك الأحاديث؛ فإنه ما كان حفظها ولا استظهرها حديثاً حديثاً، فالذي ذكره معظم الأصحاب أنه يجوز له التعويل على الكتاب، وقطْع الرواية [بما] (2) فيه تعويلاً على الثقة التي هي معتمد باب الرواية.
وقال الصيدلاني: [سبيله سبيل الشهادة] (3) ؛ فلا بد أن يتذكر عين ما يرويه على تفصيله، وإلا فلا يروي. وهذا تعمق [منه] (4) يخالف ما اتفق عليه علماء الأمصار.
11925- ومما ذكره القاضي أن الخصم المحكوم له إذا ادعى على القاضي أنك قضيت لي، فرفعه إلى قاضٍ آخر، وأراد أن يحلّفه، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يملك ذلك.
قال القاضي: يُبنى هذا على أن النكول مع اليمين المردودة يجري مجرى البينة، أو مجرى الإقرار؟ فإن قلنا: يجري مجرى البينة، فلا حكم لها؛ فإن البينة لو قامت، لم يقع بها حكم. وإن قلنا: يجري مجرى الإقرار، فيحلّف، وإذا نكل رُدّ، ثم يمين الرد ينزل منزلة إقراره.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 2329، المبسوط: 16/93، 94.
(2) في الأصل: "مما".
(3) في الأصل: " سبيله سبيل الرواية الشهادة " والمثبت من (ق) .
(4) في الأصل: "فيه".(18/497)
وهذا الذي ذكره كلام مختلط، والظن أن الخلل من الناقل؛ فإنه ذكر أن قضاءه لا يثبت بالبيّنة، والمراد بذلك أنه لو شهد عنده عدلان بأنك قضيتَ، لم يثبت القضاء ما لم يتذكر، ويتصور إثبات القضاء بقامة البيّنة في مجلس قاضٍ آخر، وطريق البيان فيه أنه إن عُزل، فلا حكم لإقراره بالقضاء، كما سيأتي، ولو قامت بيّنة عند من هو القاضي بأنه قضى في زمن ولايته، نفذ الحكم.
وإن كانت المسألة مفروضة فيه إذا كان قاضياً، فإن شهد شاهدان على قضائه في موضع ليس هو محل ولايته يثبت القضاء (1) ، ولو انتهى القاضي إلى ذلك الموضع، لم يقبل إقراره بالقضاء.
فإن صحّحنا قاضيين في بلدة وحُكْمُ كل واحد منهما نافذ فيها، فلو شهد شاهدان على قضاء القاضي عند القاضي الآخر؛ فهذا محل النظر. والظاهر أن البيّنة مسموعة، فلو أراد الخصم أن يحلّف هذا القاضي عند ذلك القاضي أنك قضيت، فالذي أراه أن القاضي (2) تكلّم في هذه الصورة.
[وحكى] (3) عن الأصحاب أنه لا يحلف، وقال من عند نفسه: يجوز أن يحلف في مجلس القاضي الآخر.
ثم التحليف ينبغي أن يقع على التذكر، فإن حلف: لا أذكر أني قضيت له، انقطع الكلام. وإن نكل، وحلف من يدعي القضاء، فقد يتخيّل أن يمين الرد كإقرار القاضي، وهذا بعيد. والوجه ما ذكر الأصحاب من أنه لا يحلّف؛ فإنه لا خصومة معه، وإنما قوله حجة كقول الشهود، فإذا لم تقم الحجة من جهته، فالتحليف لا أصل له. والله أعلم.
***
__________
(1) أي بالبينة. وحكى الرافعي هذه المسألة عن الإمام، وزادها بسطاً. (ر. الشرح الكبير: 12/493) .
(2) المراد القاضي حسين.
(3) في الأصل: " حكى " (بدون الواو) .(18/498)
باب كتاب القاضي إلى القاضي
11926- مضمون الباب ومقصودُه بيانُ القضاء على الغائب وسماعِ الشهادة عليه، ثم يتصل بأطراف الكلام قواعدُ في القضاء على الحاضر، ويتعلق الكلام لا محالة بكيفية الدعوى، وأصولُ الدعاوى مستقصاةٌ في كتابها، ولكن القدر الذي يتصل الكلام به لو لم يُوفّر حقه من البيان، لاستبهم غرضُ الباب.
والذي أراه من الترتيب أن أذكر الدعوى على الغائب والقضاءَ عليه وإقامةَ البيّنة، ثم أذكر طرفاً يقتضي البابُ ذكرَه من القضاء على الحاضر.
فأما الكلام في القضاء على الغائب، فالدعوى عليه تنقسم قسمين: أحدهما - في دعوى شيء في الذمة، والأخر - دعوى عين من الأعيان.
فأما إذا تعلقت الدعوى بموصوفٍ في الذمة كالنقدين، وذوات الأمثال، فالدعوى مسموعة، وشرطها أن تكون معلومة. والعبارة الوجيزةُ عن إعلام الدعوة المتعلقة بما في الذمة أن يشتمل على الإعلام المرْعي في السلم.
وقد وضح طرق الإعلام في المسلَم فيه، والدراهمُ المطلقة في العقود محمولة على النقد الغالب، ولا يقع الاكتفاء في الدعوى بإطلاقها؛ كما لا يقع بإطلاقها لو كانت مسلماً فيها، وصححنا السلم في الدراهم، وليس يبعد الاكتفاء بالإطلاق في الدراهم إذا كانت مُسْلماً فيها؛ فإنها تثبت عوضاً، والمعاوضات منزلة على العادات.
وقد رأيت في كلام الأصحاب أن إطلاق الدراهم رأسَ مال (1) ، -والدراهم غالبةٌ- جائزٌ، ثم تُعيّن بالتسليم في المجلس. وإطلاق الدراهم، وهي مسلم فيها إن صح ذلك على وجهين، والدعوى لا تنزل على العادة، كما أن الإقرار بالدراهم لا ينزل على العادة؛ فإذاً المعتمد ما ذكرناه.
__________
(1) رأسَ مالٍ: أي رأس مالٍ في السلم. هذا، وقد ضبطت في الأصل بالرفع (رأسُ مالٍ) .(18/499)
ثم قال العراقيون: لو شهد الشاهد بمجهول لا تقبل الشهادة بمثله، فالقاضي لا يرشده إلى الإعلام بالمساءلة والبحث؛ فإن هذا تلقينُ الحجة، ولو شبب المدعَى عليه بما يكاد أن يكون إقراراً لم ينبّهه القاضي، ولم ينهه، بل يتركه يسترسل في كلامه، ثم يقضي بموجَب قوله.
11927- والمدعي إذا ذكر دعوى مجهولة لا يصح مثلها، فهل للقاضي أن يستفصل الصفات حتى يأتي بدعوى معلومة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يعرض له، بل يترك المدعي وشأنَه، فإن استتم الكلام مشتملاً على دعوى صحيحة، بنى عليها حكمها، وإن لم تصح دعواه، لم يقبلها.
ومن أصحابنا من قال: له أن يستفسر، وإن كان الاستفسار يؤدي إلى إرشاده إلى إعلام الدعوى- فإذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، وقال يلزمه تسليمها إليّ، فالقاضي يقول: أي الدنانير؟ نَيْسابورية، هَرَوية، عتيقة، مكسرة، صحاح، أم البعض مكسر والبعض صحاح، فلا يزال كذلك حتى يأتي المدعي بتمام الإعلام، أو يقول: لا أدري.
وظاهر النص يميل إلى هذا الوجه، ووجهه أن الدعوى ليس بحجة، فالإرشاد فيها على صيغة الاستعلام غيرُ ضائر، ولا ينبغي أن يقول له القاضي: قل كذا وكذا، وكيف يقول ذلك، ولا علم عنده بصفة الدعوى، فإن انتهى الاستفصال إلى إزالة الإشكال، قرّت الدعوى، وإن وقف المدعي قبل تمام الإعلام، فالدعوى مجهولة مردودة.
هذا قولنا في إعلام الدعوى، فإذا أعلمها المدعي، فلا تُسمع دعواه ما لم يجعلها خصاماً.
وبيانه أنه لو قال: لي على فلان كذا، فهذا خبر، وليس بمخاصمة، وإنما تصير الدعوى مخاصمة، إذا قال: عليه كذا ويلزمه تسليمها إليّ، ثم تبيّن للقاضي أنه يبغي استيداءَها منه، ولو اقتصر على هذا القدر، ففيه نظر للفطن، يوضحه ما نذكره.(18/500)
فلو قال بعد الإعلام: يلزمه أداؤه، وأنا أبغي أن يؤديه الآن، فهذا تمام الخصام بعد الإعلام، ولو لم يقل: إني طالب مطالِب، وقوله " يلزمه " فيه تردد، وقد اكتفى الأصحاب بقوله: " يلزمه أداؤه "؛ فإن الأداء لا يلزم إلا مع الطلب، وقد يقول الفقيه: من عليه دَين حالٌّ يلزمه أداؤه، وإن لم يطلبه صاحبه، وإنما يسقط وجوبُ الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره، فينشأ من مجموع ما نبّهنا عليه ترددٌ بيّن في أنا هل نشترط التصريح بالطلب، وهذا محتمل [جداً] (1) .
11928- فإذا وضح الغرض من الدعوى، وهي متعلقة بالغائب، فإنّا في هذا القسم نتكلم: [فالدعوى] (2) المجردة على الغائب، لا خير فيها إذا لم يكن للمدعي بينة، وإنما تفرض الدعاوى على الغُيّب ممن يبغي إقامةَ البيّنة.
فإذا فهمت الدعوى، فلا استقلال بعدُ، ولا استمكان من إقامة البينة حتى يدعي جحودَ الغائب، أو معنىً يَحِلّ محلّ الجحود، كما سنصفه، إن شاء الله.
فإذا ادعى على الغائب، وزعم أنه جاحد، فلا حاجة به إلى إثبات جحوده، ولكن يكفيه ذكر الجحود متصلاً بالدعوى. هذا ما ذكره الصيدلاني وأئمة المذهب.
ولو قال: لي على فلان الغائب ألفٌ، وهو معترفٌ به، ولكني أبغي أن أقيم بيّنةً استظهاراً بها [وأنتجزُ كتاباً، فعساه ينكر إذا أتيتُه] (3) ، قالوا: لا تقبل البينة كذلك، فقد شرطوا دعوى الجحود، واتفقوا على أنه لا يكلف إثبات الجحود بالبيّنة. وكأنهم شرطوه لانتظام الدعوى والبيّنة؛ فإن الدعوى لا ترتبط بالبيّنة إلاّ على تقدير الجحود.
وهذا من مشكلات الباب؛ فإنه إن ادعى جحودَه في الحال، فهذا محال؛ وكيف يدعي جحودَ من لا يعلم حياته، وإن كان يدعي جحوده لمَّا كان حاضراً، وقد مضت سنة، فالبينة في المآل لا ترتبط بجحودٍ ماضٍ، وعن هذا قال قائلون من
__________
(1) في الأصل: " خلافاً " والمثبت من (ق) .
(2) في الأصل: " بالدعوى ".
(3) ما بين المعقفين فيه كلمتان مصحفتان في الأصل (انظر صورة الجملة الكاملة) . والمثبت تقدير من المحقق. والحمد لله جاءت بصحته (ق) .(18/501)
الأصحاب: لا تشترط دعوى الجحود، ويكفي أن يدعي ويُعلِم ويبغي إقامةَ البيّنة، ولا يتعرض للجحود ولا لنقيضه.
وهذا متجه؛ فإنه إن كان مقراً، فلا مضادة، وإن كان منكراً، فالبينة قائمة في محلها، والقضاء على الغائب هُيّىء شرعاً لإثبات الحقوق على غررٍ، لا على تحقيق.
والذي حكيته عن الأصحاب مبناه على دعوى جحود سابق، والبقاء على إصرار عليه؛ فإنه الظاهر ما لم يثبت نقيضه. وهذا وإن كان كذلك، فهو جحود منقضٍ، والذي عليه دوران المذهب أن المدعى عليه إذا كان حاضراً، فلا يشترط في إقامة البيّنة عليه إنكاره، بل يشترط عدم إقراره؛ فإنه لو سكت أقيمت البيّنة عليه.
وقولنا: شرط قيام البيّنة عدمُ الإقرار [فيه] (1) طرفٌ من التوسع؛ فإن الإقرار يُغني عن البينة، فإذا بان الحقُّ بالإقرار، فلا معنى للتشاغل بالبينة، وحق على القاضي أن يراجع المدعى عليه عند صحة الدعوى، وسببه طلبُ إقراره؛ فإن ذلك إن أمكن، فهو أقرب، وحق على القاضي أن يسلك أقربَ الطرق في إيصال الحق إلى المستحِق، فإذاً البينة تقام عند عدم الإقرار، فإذا غاب الخصم، فعدم الوصول إلى إقراره بمثابة سكوت الخصم في الحضور. هذا قياس المذهب. وإن كان ميل الأصحاب إلى اشتراط دعوى الجحود. هذا معنى ذكر الجحود.
فأما ما يحلّ محله، فهو بمثابة ما لو اشترى الرجل من رجل شيئاً، ووفّى الثمن، وغاب البائع، ثم استُحِقّت (2) العين المبيعة، وأُخذت، فللمشتري أن يقيم البينة على الغائب بقبض الثمن، ولا حاجة به إلى فرض الجحود؛ فإن إقدامه على بيع ما لا يملك كافٍ في معنى الجحود، وهذا الطرف لا مراء فيه، وإنما التردد في الطرف الأول.
فإذا ترتبت الدعوى، ولاح الخصام، وظهر الغرض من التعرض للجحود، فإذا أراد المدعي أن يقيم بينة على الغائب أقامها، ثم يستفرغ القاضي الوسع في
__________
(1) في الأصل: "منه".
(2) استحقت: أي ظهر أنها حق لغير البائع، وأنه باع ما لا يملك.(18/502)
الاستزكاء، والبحث الأكمل. حتى يغلب على ظنه أنه لم يبق للخصم الغائب مضطرباً، فإذا فعل ذلك، انقسم النظر بعده، فإن طلب المدعي القضاء بالبينة على الغائب، فلا بد من الإسعاف به، والقضاء على الغائب نافذ على شرائط سنصفها الآن، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه.
وحكى صاحب التقريب في مواضعَ من كتابه قولاً غريباً للشافعي في منع القضاء على الغائب، قال: رواه حرملة عنه. وهذا حكيناه ولا عَوْدَ إليه.
11929- فإذا أراد القضاءَ على الغائب بالحق، فلا بد من تحليف المدعي، ثم يستظهر بالاحتياط التام في تحليفه: فيحلّفه: ما أبرأ عن حقه، ولا عن شيء منه، ولا أحد بأمره، ولا [استوفاه] (2) ولا شيئاً منه، ولا أحدٌ بأمره، ولا اعتاض عنه، ولا عن شيء منه، ولا أحدٌ بأمره. ولا أحال به ولا بشيء منه، ولا أحدٌ بأمره، وأنه يلزمه تسليمُ المدعَى إليه وأن شهوده شهدوا بالحق.
فال القاضي رضي الله عنه: اختلف أصحابنا في أن هذه اليمين احتياط أم وجوب، فمنهم من قال: هي احتياط، فليقع القضاء بالوجوب تعويلاً على البينة، ثم إن ادعى الخصم عند الانتهاء إليه شيئاً مما تحالف المدعي عليه، فهو خصومة مستفتحة، وهذا حسن منقاس؛ فإن القضاء، وإن نفذ على الغائب، فليس المراد به أنه إذا بلغ كتاب القاضي إليه يُؤخذ بتلبيبه، ويُستأدى الحق منه من غير أن يُستنطق، بل القاضي المكتوبُ إليه يُحضره ويراجعه ولا يسد عليه بابَ الدعوى، كما سنصف إذا انتهينا إليه، هذا أحد الوجهين.
والثاني - أن الاستحلاف حق، وهو ركن القضاء على الغائب؛ فإن القاضي يتمسك بكل ممكن يقدِّر تمسُّكَ الغائب به لو كان حاضراً. هذا وضع القضاء، وفيه فقه، وهو أن القضاء ينفذ بوجوبٍ ناجز، وكيف [يصح] (3) هذا مع إمكان الإبراء،
__________
(1) ر. المبسوط: 17/39، رؤوس المسائل: 524 مسألة 283، مختصر اختلاف العلماء: 3/386 مسألة 1531، طريقة الخلاف: 397 مسألة: 163، إيثار الانصاف: 351.
(2) في الأصل: " استوفى ".
(3) في الأصل: " يتضح ".(18/503)
غير أنا لم نتعرض لهذا [والمدعى عليه] (1) حاضر؛ فإنه منطلق اللسان بالدعوى، فليدّع.
وقد قال الأئمة: من ادعى على صبي أو مجنون، أو ميت، ولا نائب لهم، فإذا أقام البينة، فلا بد من التحليف، كما ذكرناه في القضاء على الغائب.
والذي أراه أن التردد الذي ذكره القاضي في أن اليمين احتياط أم وجوب، لا يجري في هذه المنازل؛ فإنا نتوقع من المدعى عليه إذا انتهى كتاب القاضي إلى موضعه أن يدعي بنفسه، وهذا لا يتحقق في الصبي والمجنون والميت، وحكم نفوذ القضاء إيصال الحق إلى مستحقه.
فإن فرّعنا في الغائب على الأصح -وهو اشتراط اليمين- فالتعرض لتصديق الشهود فيه بُعد عندنا، نعم قد نشترط على المدعي إذا كان يحلف مع شاهد واحدٍ أن يصدّق شاهده -على مذهبٍ- في يمينه (2) ؛ وذاك سببه أن الشاهد الواحد ليس ببيّنة. والبيّنة في مسألتنا كاملة.
فقد يعترض في التفريع على هذا الوجه الاكتفاءُ بتحليفه على أنه مستحق الحق الآن من غير بسط في ذكر [الجهات] (3) .
11930- ومما نرى وَصْلَه بهذا المنتهى من أمر التحليف أن مستحق الحق لو وكّل وكيلاً، فأتى موضع الخصم الغائب، وأثبت الوكالة بالخصومة وأقام البينة، فلو قال المدعى عليه: إن موكِّلك برأني، أو استوفى منه، فلا يلزمني تسليمُ ما أقمتَ البينةَ عليه ما لم يحلف موكلُك، والوكيل لا يتصور أن ينوب عن موكله بالحلف.
قال القاضي رضي الله عنه: وقعت هذه الصورة بمرو في كتاب ورد من قاضي بخارى على قاضي مَرْو في إثبات وكالة بالخصومة، ثم انتهى الأمر إلى المسألة التي ذكرناها، فقال المدعى عليه ما وصفناه، وتوقف فقهاء مَرْو من الفريقين، فاستدرك
__________
(1) في الأصل: " المدعى عليه " (بدون واو) .
(2) المعنى أن يَشتمل اليمين التي يحلفها المدَّعِي على تصديق شاهده، فيحلف أنه صادق في شهاته.
(3) في الأصل: " الجهاد ".(18/504)
عليهم الشيخ القفال، وقال: يقضى على المدعى عليه بموجب البينة. ثم إن كانت دعوى فلْيَسْعَ في توجيهها على الموكِّل.
وهذا لا يستدرك بمبادىء النظر؛ فإن صاحب الحق لو كان حاضراً، وقد أقام البينة، وقضى القاضي بها، فلما أراد إلزام المدعى عليه قال: لقد أبرأني عن حقه، فلا يلزمه ما لم يفصل هذه الخصومة؛ فإن نكوله عن اليمين ممكن، فالوجه فصل هذه الخصومة الثانية، ثم النظر بعدها في مقتضى الحال، فإذا كان كذلك، فصِدْقُ المدعى عليه في مسألة الوكيل ممكن.
ولو حضر مستحِق الحق، لَمَا كُلِّف توفيةَ الحق حتى يحلف المدعي أنه ما أبرأ، فكيف سبيل إلزام المدعى عليه توفية الحق في مسألة الوكيل، وهلا توقفنا؟
وسبيل الجواب أنا لو سلكنا هذا المسلك، لانقطعت الوسائل والذرائع إلى استيفاء الحقوق بطريق التوكيل والاستنابة، والوكيل لا يتمكن من الحلف ولا حكم ليمينه، فاستوفينا الحق في الحال، والمدعى عليه على دعواه في الإبراء. هذا منتهى الإمكان في ذلك.
وفيه فضلة للناظر.
11931- ونعود إلى ترتيب الخصومة بعد الفراغ عما اعترَضَ. فإذا قامت البينة، وحلف المدعي، واستدعى من القاضي الذي أقام البينة عنده أن يقضي له، فلا بد وأن يسعفه، ثم إذا قضى له، فيكتب كتاباً إلى القاضي الذي هو في المكان الذي به الخصم.
والكلام الآن يتعلق بصورة الكتاب، ولا بد فيه من ذكر المراسم، ثم إن اشتمل الكلام على ما يُحْوِج إلى البحث، جرينا على عادتنا في الانعطاف.
فإذا كان القاضي يكتب بقضاء مبرم، فإنه يكتب بعد تصدير الكتاب: " حضرني فلانُ بنُ فلانِ بنِ فلان " فيرفع في نسبه، ويذكر اسمه، واسم أبيه وجده، ويذكر حِلْيتَه، وصفاتِه، ومسكنَه وصنعتَه، وما يشتهر به، واليومَ الذي ادعى فيه من الشهر والسنة، ويقول: " وادعى على فلانِ بنِ فلانِ بنِ فلان " -فيجري في إعلامه على نهاية(18/505)
الإمكان- كذا. وكذا، فيذكر الجنسَ المدّعَى والقدرَ، فأَصْغيتُ إلى دعواه، وأقام بينةً عادلةً، يجوز القضاء بمثلها، وحلّفته مع بينته، وطلب القضاء، فقضيت له بحقه، وطلب أن أكتب إليك هذا الكتاب؛ لتُحضر خصمه، وتلزمه الخروج عن حقه، فأجبته إلى ملتَمسه على موجَب الشرع، وُيعَنْوِن الكتابَ، ويختم عليه، ويَشهدُ عليه شاهدان، ويقرأ الكتاب على الشاهدين، ويكون قضاؤه بمرأى منهما ومسمع، ويعلمهما مضمونَ الكتاب، ويدفع إليهما نسخة ليطالعاها في الطريق؛ حتى لا يزلّ عن ذكرهما مقصودُ الكتاب.
ثم مذهب كافة أصحابنا أن التعويل على ما شهد به الشاهدان والكتاب رسمٌ أو استظهار، فلو لم يكن عندهما علم بمضمون الكتاب، فالكتاب ضائع لا منفعة فيه.
ولو قال القاضي الكاتب للشاهدين: هذا كتابي، ومضمونه قضائي، والختم ختمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يطلعهما على تفصيل القضاء، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن ذلك لا يُجدي ولا يفيد، فليقع التعويل على تحمل الشاهدين لتفصيل القضاء.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا وقع الإشهاد مجملاً كما وصفناه، عمل المكتوب إليه بمضمون الكتاب؛ فإن الثقة تتم بماجمال الشهادة، والتفصيل يُتلقَّى من الكتاب. وهذا متروك عليه غيرُ معدود من المذهب.
وإذا تحمل الشاهدان تفصيل القضاء، ثم ضل الكتاب، أو انمحى فلا تعويل عليه، والمكتوب إليه يعتمد شهادة الشاهدين، حتى قال الأصحاب: لو شهد الشاهدان على تفصيل في القضاء، ففكَّ المكتوبُ إليه الكتابَ، فوجد بين مضمون الكتاب وبين شهادة الشاهدين تفاوتاً واختلافاً، فلا مبالاة بالكتاب، وليقع الحكم بشهادة الشاهدين.
ومما ذكره الأصحاب على هذا النسق، أن المكتوب إليه لا بد وأن تثبت عنده عدالة شاهدي الكتاب، فإن كان يعرفهما عدلين، وإلا استزكاهما.
ولو كان كتب القاضي في الكتاب: إن الشاهدين حاملي كتابي عدلان من أهل الشهادة، فهذا لغو، لا فائدة فيه، فإن التعويل على الكتاب لا سبيل إليه؛ فالمعتمد(18/506)
قولُ الشاهدين، فإن نقلا عن القاضي تعديلهما، فكأنهما في التحقيق يشهدان على عدالة أنفسهما، أو على تعديل الغير إياهما، وهذا محال غير منتظم.
وقال الققال الشاشي: تثبت عدالة حاملَيْ الكتاب بتعديل القاضي الكاتب في كتابه، وهذا غلط باتفاق الأصحاب؛ فإن الإصطخري وإن عوّل على الكتاب، فمستند الكتاب شهادة عدلين على أن هذا الكتاب للقاضي، فإذا توقفنا في عدالة الشاهدين، فكيف يثبتُ الكتاب حتى يعوَّل على مضمونه؛ فإذاً هذا معدود من هفوات هذا الإمام.
11932- وليس ما ذكرناه تمامَ الغرض، واستيفاءَ المقصود في بيان حقيقة القضاء المبرم على الغائب، لكن قد اعترضت مراسم وأوفينا على المسائل بعدها، فننعطف بالبحث على ما تقدم، ثم نفتتح المسائل، فأصل الكتاب رسمٌ، ولو ترك، فلا بأس. والتعويل على ما يتحمله الشاهدان، ثم إن اطلع شاهدان على تفصيل القضاء عند الإنشاء، فذاك، وإن جرى القضاء ثم أشهدهما القاضي على اعترافه بالقضاء المفصل، جاز ذلك، وهو واضح.
وأما مذهب الإصطخري ومخالفة الأصحاب إياه، فالكلام فيه ليس بالهيّن، وأنا أقول: إن قال القاضي: هذا كتابي وختمي وقد أشهدتكما على ذلك؛ فإن كان الإصطخري يقول في هذا المقام: يُعوِّل المكتوبُ إليه على الكتاب، فهذا غلط لا شك فيه؛ فإن الكتاب لا يعوَّلُ عليه، والخط لا معتبر به.
ولو قال القاضي: مشيراً إلى خط نفسه في سجلّ: هذا خطّي، وكان مضمونه تسجيلاً، فلا يكون هذا خطيّ اعترافاً منه بالقضاء، وإن كان الإصطخري لا يجيز هذا، بل يشترط أن يقول القاضي للشاهدين: مضمون هذا الكتاب قضائي وحكمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يتعرض لتفصيل القضاء، فهذا موضع النظر.
ومذهب الإصطخري يتجه بعضَ الاتجاه إذا كانت الحالة هذه؛ لأن القاضي أقر بالقضاء؛ ولكنه لم يفصّله للشاهدين، وأحال تفصيلَه على الكتاب، والإقرارُ يثبت مع الإجمال، كيف وبيان مجمله محالٌ على كتابٍ أشار إليه القاضي.(18/507)
ولو كتب كاتب إقراراً، أو كُتب عنه بإذنه، فأشار إلى مجموعه وقال: الإقرار المثبت في هذا الذِّكر (1) إقراري وأنا معترف بجميع ما أُثبت في هذه الأسطر، فالوجه عندنا ثبوت الإقرار وجواز تحمل الشهادة، ثم إذا أشار الشهود إلى الذِّكر، كان المشهود مؤاخذاً بتفصيل المكتوب فيه. فإذا قال القاضي أشهدتكما على قضائي وحكمي المكتوب في هذا الكتاب، فالوجه جواز ذلك. والذي حكاه معظم الأصحاب خلافه.
فهذا مواقع البحث من المراسم التي ذكرناها.
11933- ونحن بعد ذلك نخوض في المسائل وتفاصيلِ الأمر، بعد تمهيد قاعدةٍ: وهي أن القاضي إذا قضى بالبينة واليمين، وأبرم القضاء، فقد تم الأمر، ولا يتعلق بالمكتوب إليه إذا ثبت القضاء عنده عُلقة من الحكم، وإنما هو مستعان في إيصال حق ثابت إلى مستحقِه؛ وإذا بان أنه ليس إلى المكتوب إليه من الحكم الأول شيء، فيترتب على هذا أمور: منها - أن القاضي الكاتب لا يلزمه أن يفصّل البينةَ القائمةَ في أصل الخصومة، وليس عليه أن يرفع أسماءهم ويتشوَّفَ إلى إعلامهم، بل يكفيه أن يقول: قضيت لفلان بحجة شرعيةٍ تقتضي القضاء.
ولو قال قائل: المكتوب إليه -إذا كانت البينة مبهمة- مقلِّد. قلنا: ليس مقلداً في الحكم؛ إذ ليس إليه من الحكم شيء، ولا بيان بعد الوضوح.
11934- ومما يتعلق بما ذكرناه أن الكاتب (2) لو مات قبل انتهاء الكتاب، لم يضرّ موته؛ فإن الحكم منفَّذ، وهو مقيَّدٌ مؤزَّرٌ بتحمل شهادة الشهود، فإذاً كتاب القاضي وأقضيته تثبت بعد موته، وكذلك لو عُزل القاضي الكاتبُ، فالقضاء المبرَمُ باقٍ كما كان.
ولو مات المكتوب إليه، فلا أثر لموته، ولكن إذا شهد الشاهد على قضاء القاضي الكاتب عند قاضٍ من قضاة المسلمين، فهذا قضاء ثابت من قاضٍ أُثبت عند قاضٍ
__________
(1) الذِّكْر: الصك، يقال: هذا ذِكر الدَّيْن: أي صكه. (المعجم) .
(2) المراد القاضي الكاتب الذي قضى على الغائب.(18/508)
آخر، فهل يلزمه إمضاؤه على موجَب الشرع، سواء كان إلى القاضي الثاني كتاب أو لم يكن؟ فقد ذكر صاحب التقريب عند ذلك أصلاً مقصوداً في نفسه، وبه يتهذب ما مهدناه، ونحن نذكره على وجهه، فنقول:
11935- لو كان في جانبي بغداد قاضيان، وقد خُصت ولاية كل [شِقٍّ] (1) بقاضٍ، فهذا جائز لا إشكال فيه. فلو دخل أحدهما الجانبَ الثاني، فأخبره قاضي الجانبِ الثاني المنتقَلِ إليه بأني حكمت على فلان بكذا بحجةٍ قامت، فإذا رجعت إلى جانبك، فاستوفِ منه ما حكمتُ به عليه، فإذا رجع إلى جانبه، فقد قال الأصحاب: له أن يستوفي الحقَّ منه.
وعندنا أن هذا مبني على أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ فإن جوزنا له ذلك، استوفى ذلك إذا رجع إلى جانبه، وإذا منعنا القضاء بالعلم، فليس له أن يستوفيَ؛ فإنه وإن تحقق من قول القاضي في ولايته، فهو في نفسه لم يكن في محل الولاية، فكان سماعه من القاضي في محل ولايته مفيداً له علماً.
ولو دخل ذلك القاضي الذي هو المبرِمُ للحكم الجانب الآخر، وأخبر القاضي الذي في هذا الجانب بأني قضيتُ على فلانٍ، فلا يعوِّل قاضي هذا الجانب على ما سمع؛ فإنه قولٌ صدر من قاضٍ في غير محل ولايته، فلم يكن له حكم.
ولو عَبَرَ هذا القاضي إلى الجانب الآخر، فسمع من قاضي الجانب الآخر -وهو في محل ولايته- إني سمعت بينةً على فلان، ووصفها، فإذا رجَعتَ إلى جانبك، فاقض بها عليه، فإنه لم أُبقِّ إلا القضاء؛ فإذا رجع السامع إلى جانب نفسه، لم يقض بتلك البينة؛ وذلك أن تنفيذ القضاء متعلق به، وقد سمع قولَ القاضي في مكانٍ لا ولاية له فيه، فلا حكم لذلك السماع، وهو بمثابة ما لو شهد عنده شهود في ذلك الجانب، ولا ولاية له فيه، فلا حكم لسماعه؛ فإن السماع في البينات إنما يصح من والٍ، وقول القاضي: سمعت على فلان بينة بمثابة بينة تقام.
ومما يتعلق بذلك أن القاضي في الجانب الشرقي لو كتب إلى قاضي الجانب
__________
(1) في الأصل: " بشيء " والمثبت من تقدير المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق) .(18/509)
الغربي، وهما قارّان في ولايتيهما بأني سمعت بينة على فلان، ووصفها على شرطها، فاقض بها، فإن كان ذلك بعد ما غاب الشهود أو ماتوا، فيقضي المكتوب إليه إذا شهد شاهدان على موجب الكتاب كما ذكرناه، وإن كانوا حضوراً بعدُ في البلدة -أعني شهود الخصومة- فالمكتوب إليه لا يقضي أصلاً، بالكتاب والشهادةِ على مضمونه؛ فإن استحضار الشهود سهل، وهم الأصل، وقول القاضي في حُكم شهادة الفرع على الأصل، فيستحضرهم القاضي، ويستعيد الشهادةَ، بأن تقام الخصومة في مجلسه من ابتدائها على شرطها، فهذا معنى الاستعادة.
وكذلك لو كان سمع شهادةَ قوم، ولم يخض القضاءَ، وكتب إلى قاضٍ في بلدة أخرى، فاتفق أن الشهود كانوا صحبوا الكتاب، أو سبقوه، أو أتَوْا بعده على القرب قبل أن يُمضي المكتوبُ إليه القضاءَ؛ فإن المكتوب إليه يبتدىء الخصومة، ويستعيد الشهادة؛ لتمكنه من الوصول إلى قول الأصول، وسماعُ القاضي وكتابُه في حكم الفرع.
ولو كان في جانبي بغداد قاضيان، كما صوّرنا، فسمع أحدُهما في جانبه بينة، وغاب الشهود أو ماتوا، ثم وقف كل واحد من القاضيين على طرف ولايته، لم ينفصل عنها، ونادى من سمع البينة الآخر: بأني سمعت شهادة فلان، وفلان، على فلان، وحلّفته على موجَب الشرع، فاقض بالبينة في جانبك، فيقضي ذلك القاضي؛ فإن كل واحد منهما كان في محل ولايته لما تناديا، فصحّ ذلك، ووقع الموقع.
فإن قيل: إذا كان التنادي والإعلامُ في طرفي الولايتين ممكناً -على ما صورتموه- فإذا كتب أحدهما، وأشهد على كتابه، وكان قادراً على أن يشافه القاضي ويناديه، فهلاّ كان هذا ممنوعاً؛ لأن كتاب القاضي وشهادةَ الشهود على سماعه بمثابة الفرع للقاضي؟ وقوله في نفسه أصل، فكيف يقع القضاء بالفرع مع التمكن من الوصول إلى الأصل.
ويخرج من موجَب هذا السؤال أن يتعين أن يُعلم أحدُ القاضيين الآخرَ بسبيل التنادي في طرفي الولايتين. وهذا وجه بيّن في القياس.
ولكن الذي دل عليه كلام الأصحاب أنا لا نشترط ذلك؛ فإن فيه الغض من منصب(18/510)
القاضي [وتكليفه] (1) ما لو تكلفه، لكان قريباً من خَرْم المروءة وحطها.
وقد نقول: إذا مرض شهود الأصل قبِل القاضي شهادة الفروع، مع قدرته على أن يدور على مساكن الشهود المرضى، ويسمع منهم أصل الشهادة، ولكن لا نكلفه ذلك على تفصيلٍ سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
فهذا ما أردنا ذكره من أحكام القاضيين في الجانبين.
11936- والغرض الأظهر التنبيه على ما جعلناه معتمد الكلام في أن القاضي إذا نفذ قضاؤه، فقد تم الأمر، ولم يبق على المكتوب إليه من القضاء عُلقة، وإنما بقي إعانة الخصم المستحِق على استيفاء الحق.
فإن قيل: إن كان كذلك، فليكتب القاضي بعد إبرام القضاء إلى واحدٍ من عُرض الناس في البلدة التي فيها الخصم، وليأمره باستيفاء حق المستحق.
قلنا: هذا الآن غفلة عن القواعد؛ فإن هذا لا يتأتى إلا بسماع شهادة شهود الكتاب، وهذا لا يصح إلا من قائمٍ بالقضاء، حتى لو [كان] (2) ذا ولاية وليس إليه القضاء، فلا يملك أيضاً استيفاء الحق؛ من حيث إنه لا يتوصل إلى سماع الشهادة، فلو وقف القاضي في شرقيّ بغداد على طرفِ ولايته، ونادى واليَ الغربي -وليس قاضياً - بأني قضيت على فلان ببينة أو إقرار، فاستوف ذلك الحق منه، فالوجه عندنا أن لا يستوفي أيضاً؛ فإنه ليس إليه سماع قول القاضي، كما ليس له سماع شهادة الشهود.
ويتجه أن يستوفيَه؛ من جهة أن القضاة قد يستعينون بالولاة المرتبين باستيفاء الحقوق من الممتنعين. ولا خلاف أن القاضي في محل ولايته لو استعان بالوالي في ذلك المحل، لأعانه الوالي تعويلاً على قوله، وينقدح في ذلك فرقٌ؛ فإن القاضي إذا استعان بالوالي في محل ولايته، فحتم على الوالي أن يطيعه ويتبعه، فحكمه نافذ على الوالي، فإذا كان الوالي في غير ولايته، فلا حكم له عليه، وإنما هو إسماع وإبلاغ،
__________
(1) في الأصل: " وتكليمه ".
(2) في الأصل: كانت ".(18/511)
وذلك الوالي ليس من أهل السماع، والمسألة على الجملة محتملة.
وقد بان أن القضاء المبرم لم يبق منه إلا القيام بالاستيفاء ممن يتصور منه الوصول إليه كما أوضحناه.
11937- ومما يتعلق بهذا القسم وهو قسم إبرام القضاء أن الخصم إذا ارتفع إلى مجلس القاضي، وادعى على زيدِ بنِ عمرو بنِ بكر حقاً، وذكر حِلْيَته، وصِفَتَه، وصناعتَه، ومسكنَه من بلد آخر، وأتى باقصى الإمكان في الإعلام والبيان، وأراد أن يقيم عليه بينة ليقضي القاضي بها على موجَب الشرع، وكان القاضي الذي رُفع الأمر إلى مجلسه لا يعرف ذلك الشخصَ مع الإطناب في الجهات التي ذكرناها، فكيف السبيل في هذا؟ ولو قضى القاضي على المسمَّى الموصوفِ، لكان قاضياً على من لم يعرفه.
هذا من أصول الباب؛ فيجب الاهتمام بدرك معانيه، والإحاطة بما فيه، فنقول أولاً: القضاء نافذ على الوجه الذي صورناه، وإن كان القاضي لا يعلم المقضيَّ عليه؛ إذ لو شرطنا أن يكون القاضي عالماً به، لانحسم مسلك القضاء، على معظم الغُيّب، ولاختص بأقوام معدودين يعرفهم القاضي، وربما كان القاضي [لا يعرف] (1) من أهل بلدته إلا أقواماً محصورين.
فإذا حصل التنبه لهذا، فالوجه أن يكتب القاضي ما يحصل الإعلام به في المحل الذي الخصم به، وذلك في أوساط الناس بذكر الاسم والارتفاع في النسب، والاعتماد على الحِلْية، وتعيين المسكن والصناعة، وذلك يُتلقَّى من قول الشهود، فينبغي أن ينتهي الإعلام إلى حدٍّ يغلب على الظن أن من وُصف بهذه الجهات لا يلتبس بغيره، ولو فرض مساوٍ مع ما ذكرناه من المبالغة، لكان من النوادر، فهذا ما يجب رعايته.
ثم فائدة هذا الإبلاع أن يتوصل المكتوب إليه إلى تمييز المقضيّ عليه؛ فإن الحاجة تظهر ثَمَّ، وعدمُ علم القاضي الكاتب لا أثر له، نعم لو قصّر في الإعلام والضبط
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(18/512)
بالصفات التي ذكرناها، مثل أن يقول: قضيت على محمدِ بنِ أحمدَ -فهذا لغوٌ؛ فإن التمييز لا يحصل به، وإذا لم يحصل التمييز به، فليس القضاء معتمداً، فكان لغواً مطَّرحاً. وسيكون لنا انعطاف على هذا بعد بيان ما هو الأصل.
فنقول: إذا سمى وارتفع في النسب، وأبلغ في الإعلام وأبرم القضاء، ونقل كتابه مع شهود الكتاب، فإن رُفعَ الخَصمُ صاحبه إلى مجلس القضاء، واعترف بأني أنا المعيّن المسمّى الموصوف، فيقول له القاضي: فما قولك؟ فإن أقر بالحق، كلفه الإيفاء، وإن أنكر سُمِّعَ بيّنة الكتاب والشهودِ عليه، وألزمه الإيفاء. ولو قال: لست مسمّىً بهذا الاسم، ولا معيّناً بالكتاب، وليست الأسماء المذكورة أسماءَ آبائي وأجدادي، فعلى حامل الكتاب أن يثبت أنه مسمّىً بهذه الأسماء ببيّنة يقيمها، فإن فعل، اطرد القضاء عليه، وإن لم يجد بينة يقيمها على ما أنكره من الأسماء، تعطّل الأمر. فلو قال: أحلِّفُكَ على ما أنكرت، فله ذلك، فإن حلف انصرف القضاء عنه، وإن نكل، رُدت اليمين على حامل الكتاب، فإن حلف ثبت غرضُه، واطرد القضاء على المرفوع إلى مجلس القاضي المكتوب إليه.
11938- ولو أنكر الخصم المرفوعُ الاسمَ، ولم يجد ناقلُ الكتاب بينةً، فطلب اليمين، فقال الخصم المرفوع: لا أحلف على نفي الاسم، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليمُ شيء إليك، فقد قال الصيدلاني: تقبل اليمين منه على هذا الوجه، ويُدْفَع القضاء، [ويشهد لهذا] (1) الأصلُ المعروف في ذلك، وهو أن الرجل إذا ادعى جهةً في الاستحقاًق على شخص، فلم يتعرض المدعَى عليه لها، واقتصر على قوله لا يلزمني تسليمُ شيء إليك. فهذا مقبول، واليمين بِحَسَبه مسموعةٌ، وهذا كالرجل يقول: أقرضتك ألفاً، وكان المدعى عليه اقترض الألف ولكن أداه، ولو اعترف بالأصل لا يقبل قوله في دعوى الأداء.
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير منا بناء على السياق، واستئناساً بعبارة الغزالي إذ قال: " قال الصيدلاني: له ذلك؛ بناء على الأصل المعروف وهو ... " (ر. البسيط: جزء 6 ورقة: 110 يمين) .(18/513)
[وقد يستحلفه المدعي] (1) ، فيحلف، فللمدعى عليه ألا يتعرضَ للجهة، وسيأتي هذا ونظائره في الدعاوي، إن شاء الله، فبنى الصيدلاني على ذلك، وجوّز للخصم المرفوع أن يسلك هذا المسلك، ويحلف على نفي الحق.
وهذا عندي خطأ؛ فإنه إنما يمتنع عن اليمين على نفي الاسم والنسب لثبوتهما، ولو ثبتا، فالحجة قائمة عليه، والقضاء مبرم، وليس كالدعوى المحضة في الإقراض؛ فإن الدعوى ليست حجةً، فأثبت الشرع للمدعَى عليه مسلكاً في الخصومة يوافق الحق عنده، ويضادّ مقصودَ المدعي، والمسألة محتملة مع ما ذكرناه.
11939- ولو قال الخصم المرفوع: كل مذكور في هذا الكتاب فأنا موصوف به من الاسم والنسب وغيرهما، ولكن لست معنياً بالكتاب. ففي هذه البلدة من تجتمع فيه هذه الصفات- هذا محل الكلام.
فإن كان القاضي الكاتب قد أبلغ في الإعلام إبلاغاً لائقاً بالمقصود -وحدُّه ما ذكرناه من ندور التوافق [فيه] (2) - فنقول للخصم: أثبت ذلك موافقاً، فإن فعل، وُقف القضاء، وقال المكتوب إليه للخصم: ارجع، وميّز خصمك؛ وأزِل اللبس، وإن لم يأت الخصم المرفوع بمن يساويه في جهات الإعلام، نفذ القضاء عليه.
ومن هذا المنتهى ننعطف على ما قدّمناه: فلو كان القاضي أخلّ بما ينبغي أن يُرعى في الإعلام، مثل أن كان قضى على محمدِ بنِ أحمدَ -فقال الخصم المرفوع آخراً: أنا محمدُ بنُ أحمدَ، ولست معنياً بالكتاب، والبلاد مفعمة بمن يساويني في اسمي واسم أبي؛ فيقال للخصم: ارجع وميّز، ولا تُجشِّم الخصمَ المرفوعَ أن يُثبت هذا. ولو قال الخصم المرفوع: أنا المعنيُّ بالكتاب، وقد كذب الشهود عليّ، أو تحيّف القاضي في قضائه، فلم يبحث حق البحث، فالقضاء لا ينفذ على هذا الخصم؛ فإن الدعوى من غير إعلام لا ثَبَت لها، والشهادة من غير إعلام المشهود عليه لا صحة لها، ثم القضاء بعدها هذيان، وهو بمثابة القضاء على رجل تعويلاً على معرفة الخصم، وهذا ظاهر.
__________
(1) في الأصل: " وقد يستحيل المدعي ".
(2) في الأصل: " منه ".(18/514)
ولكن إنما ذكرته لما صدّرتُ الفصلَ به من أن القاضي لو لم يكن عالماً بالمقضي عليه مع التناهي في الإعلام من الشهود، لجاز، فقد يظن الظان أن الإعلام إذا لم يحصل واعترف الخصم المرفوع بأنه المعني كفى، وليس الأمر كذلك؛ فإن القضاء ليس إنشاءَ أمر، وإنما هو إظهارُ أمرٍ على ترتيب الشرع، فإذا لم يكن على الترتيب المرعيّ، فهو لغو، لا مبالاة به، وقد اتضح هذا الأصل، وهو الإعلام، ووجهه وفائدته.
ولو أقام الخصم المرفوعُ بعد تمام الإعلام بيّنة على مساواة ميت إياه في الصفات التي وصف بها، كفاه ذلك في صرف القضاء عن نفسه.
وقد تم مقصودنا في قسم من قسم في الدعوى على الغائب- وهو ادعاءُ دَيْن على غائب، ووضعُ نفوذ القضاء به.
11940- فأما إذا سمع القاضي البينة على الغائب، ولم يقض بها، وكتب إلى قاضي الناحية التي بها الخصم المشهود عليه: إني سمعت البينة، ووكلت القضاء إليك، فقد قال الأصحاب: يجوز ذلك، واتفقوا عليه في الطرق، وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه وإن منع القضاء على الغائب جوّز هذا.
وفيه إشكال نبيّنه. وهو أن سماع البينة تعلق من القاضي بركنٍ من أركان القضاء وعليه بعده نظرٌ، فإذا لم يقض، وأراد نقلَ البينة، فسبيل الواقعة كسبيل الشهادة على الشهادة، فكان يجب أن يَشْهدَ على شهادة الأصول شهودٌ يكونون فروعاً، على الشرط الذي سيأتي مشروحاً في الشهادة على الشهادة، إن شاء الله. ثم كان القاضي على ذلك شاهداً على شهادة الأصول، ولا تثبت بالشاهد الواحد شهادة الأصول، وهذا بيّن من هذا الوجه.
قال القاضي: هذا الطرف غير منصوص عليه للشافعي، والقياس ألا يثبت بقول القاضي وحد شهادة شاهدين؛ إذ الشهادة على الشهادة لا تثبت بواحد.
وهذا الذي ذكره القاضي ليس مذهباً ولا وجهاً مخرجاً، وإنما هو إبداء الإشكال
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 7/7.(18/515)
وإيضاح وجهٍ في الاحتمال، والذي أجمع عليه الأصحاب ما قدمناه.
ثم ما اعتمده الأصحاب أن قالوا: سماع البينة من القاضي حكم منه بقيام البينة، والحكم على مذهبنا ليس افتتاحَ أمر أو إنشاءَ شأن، وإنما هو إظهار ما تقرر ممن هو مطاع متبع إذا لم [حد] (1) عما أُثبت وشرح- فإذا حكم لزيد على عمرو، فمعناه: [ظهر وجوبُ] (2) حقٌّ لأحدهما على الثاني، والشرع ألزم اتباعه، كذلك إذا ظهرت البينة وأظهرها، كان ذلك حكماً منه في هذا الحكم.
وفي هذا الوجه تمسك الأصحاب على أبي حنيفة (3) رضي الله عنه بسماع الشهادة على الغائب، وردوا عليه قولَه: أن سبيل ذلك سبيل نقل الشهادة، وقالوا: لو كان كذلك، لكان القاضي فرعاً، والشهود أصول، ولا تثبت شهادة الأصول بقول فرع واحد.
ثم فيما أجراه الأصحاب من التفريعات ما يدل على أن سماع القاضي- وكتابُه على موجَب السماع- في حكم النقل، وفي التفريعات ما يدل على أنه حكم مبتوت.
ونحن نفضّ المسائل على هذا التردد، ونستجيز إطلاق القول باختلاف الأصحاب في أن هذا حكم أو نقل؟ فإذا اقتضى هذان الأصلان حكمين، وصادفنا المسائل مختلفة في التفرع، ساغ الإطلاق [الذي] (4) ذكرناه.
وإن أحببنا، قلنا: قضاءٌ مشوب بالنقل، أو نقلٌ فيه شَوْبُ القضاء.
وأسدّ العبارات في ذلك أن نقول: هو قضاء بالنقل، وهذا يضاهي تردُّدَ الأصحاب في أن القاضي إذا زوّج المرأة في غيبة الولي القريب، وحضور البعيد، فهذا التزويج من القاضي نيابة عن القريب، أو هو على حكم الولاية؟ فيه تردد.
والأصح أنه نيابة اقتضتها الولاية.
__________
(1) في الأصل: " يجد ".
(2) في الأصل: " ظهر أن وجوب ".
(3) هذه المسألة سبقت الإشارة إلى مصادرها آنفاً.
(4) في الأصل: " والذي ".(18/516)
وإذا تمهّد هذا قلنا: الاكتفاء بالقاضي وحده في البيّنة يوضِّح شَوْب الولاية، وهذا متفق عليه.
11941- وأجمع الأصحاب على أن القاضي إذا لم يقضِ، وضمَّن كتابه سماع الشهادة، فلا بد من ذكر الشهود وتعريفِهم. ولا يكفي أن يقول: سمعت بينة توجب الحكم. ولو كان هذا حكماً باتاً، لأوشك أن يجوز هذا، فلما قلنا: يجب ذكرُ تفصيلِ البينة وأسماءِ الشهودِ، على نهاية الإمكان والإعلام، فالسبب فيه نقل البينة إلى المكتوب إليه ليرى فيها رأيه، فإذاً هذان حكمان متعارضان: اتحاد القاضي، ووجوب نقل تفصيل البيّنة، ولمن يغلّب النقل أن يجيب عن الاتحاد ويقول: أقام الشرع القاضي -وهو شخص واحد- مقام شاهدين لرتبة الولاية، وهذا كإقامة الرجل مقام امرأتين لفضيلة الذكورة. ومن يغلّب الولاية يحمل تفصيل النقل على أمرٍ، وهو أن المكتوب إليه لا يقلِّد في مستند حكمه، وقد لا يرى القضاء ببيّنة يراها الكاتب، فامتنع الإبهام لذلك.
وتردد أئمتنا فيما يخرج على التقديرين - فقالوا: لو كان في بلدة واحدة قاضيان -إن جاز ذلك على ما سنذكره في الفروع على أثر هذا- فلو سمع أحدهما شهادة شاهدين ولم يقض، والتقى بالقاضي الثاني وأخبره، وتمكن القاضي الثاني من استعادة الشهادة فإن قلنا: ما صدر من القاضي [لسامع] (1) حكم، فليس على القاضي الثاني استعادةٌ، وإن قلنا: سبيله سبيلُ النقل، فالقاضي فرعٌ إذاً، فإذا قَدَر القاضي الثاني على السماع من الأصول، لم يكتف من السماع من الفرع- وهذا هو الذي أجريناه مقطوعاً به فيما تقدم، وهو مختلَفٌ فيه كما ذكرناه الآن، وكأن القاضيين على الوجه الآخر يتعاونان على القضية الواحدة، فيسمع أحدهما البيّنة، ويقضي الثاني. فلو كان يجب على الثاني استعادة الشهادة، لبطل ما أشرنا إليه.
ومما يؤكد أصلَ النقل أن القاضي الكاتب لو سمع ولم يعدّل، جاز، وهذا يكاد أن يكون نقلاً محضاً؛ فإنه لم يظهر كون ما سمعه بيّنة؛ ليقال إن هذا حكم، بل رجع
__________
(1) في الأصل: " الثاني ".(18/517)
ما صدر منه إلى السماع الحِسّي، ولا مزية في هذا للقاضي.
ثم اتفق الأصحاب على أنه إن عدّل الشهودَ، وحكم بعد التهم، فهو سائغ، وإن فوّض النظر في العدالة والجرح إلى المكتوب إليه، فهو سائغ أيضاً، ولكن العادة جارية بأن يعدّل الكاتب؛ لأن الشهود قد يكونون من أهل بلدته، ولا يعرفهم المكتوب إليه، ولا المزكون المرتّبون في مجلسه، فالنقل من غير تعديل قريبٌ من التعطيل، ولكنا مع ذلك نجوّز تفويض التعديل إلى المكتوب إليه، على شرط الإبلاغ في الإعلام، بناء على أن أهلَ بلدة المكتوب إليه ربما يعرفون الشهود، ويتوصلون إلى الغرض بالسؤال والبحث.
ثم الإعلام الذي كررناه مؤكّداً بالاسم، والرفع في النسب، وغيرهما من الأسباب، لم نَعْن بما ذكرناه فيه أن الأسباب مقصودة في أنفسها، بل الغرض الإعلام، فلو حصل الإعلام بالاسم المحض إذا كان الشاهد مذكوراً في البلاد بعيد الصِّيت، كفى ذلك.
فإذا تبين هذا، فصفة الكتاب في نقل البينة تصديراً وسياقاً كصفة الكتاب في القضاء المبرَم، غير أن الكاتب الناقلَ يصف الواقعة موثقة بالإعلام على الوجوه المقدمة، فإذا انتهى إلى سماع البينة، أو تعديلها بعد السماع، قال: " ثم فوّضت القضاء إليك بهذه البينة المنقولة إلى مجلسك فانظر نظرك، [ورَهْ] (1) رأيك موفقاً مسدداً، إن شاء الله ".
11942- فإن عيّن شخصاً، فمات المعيَّن الذي إليه الكتاب، لم يضر، ولم يؤثر في الواقعة، ورُفع الكتاب إلى غيره، كما ذكرناه في القسم الأول.
فإن قيل: إن استقام في القسم الأول ما ذكرتموه، فقولكم تمّ القضاء، ولم تبق منه عُلقة، فهذا المعنى لا يتحقق إذا فَوَّض القضاء؟
قلنا: ما فعله إن كان حكماً، فيجب على حكام الأرض متابعتُه على وفق الشرع،
__________
(1) في الأصل: ورأ. والمثبت من مختار الصحاح.(18/518)
وإن كان ذلك نقلاً للشهادة، فالشهادة تنقل إلى كل قاضٍ، ولا معنى للتخصيص إذا كانت الحالة هذه.
وما تشتمل عليه الكتب من التخصيص إقامة الرسوم. فهي غيرُ ضائرة، ولا قادحة، والدليل عليه أن التخصيص إنما يتخيّل من تولية واستنابة، وليس لهذا القاضي أن يولّيَ أحداً في غير مكان ولايته، ولا أن يستنيب بحكم الولاية. وقد غلط أبو حنيفة (1) -رضوان الله عليه وأرضاه- لما قال في نقل البينة إذا عيّن قاضياً، تعيّن، فلا يعرض الكتاب على غيره، ولو عُرض على غيره، لم يعمل به، وقال: إن أراد الخصم في ذلك تعميماً، فليكن في الكتاب " كتابي هذا إلى فلان القاضي، وإلى من يبلغه كتابي من قضاة المسلمين ".
وهذا زلل بيّن، اقتضاه اعتقادُ الكتاب تفويضاً، أو تولية واستنابة، وذلك محال. وإذا انتجز الرجل كتاباً من حاكم مرو إلى حاكم نيسابور، فبدا لشهود الكتاب أن يقيموا بسَرَخْس، أو ينعطفوا إلى مرو (2) ، فالمدعي بالخيار: إن شاء أشهد على شهاتهم جماعة يصحبونه في الطريق إلى نيسابور، وإن شاء أوصل الكتاب إلى حاكم سرخس، واستدعى منه القضاء بالبيّنة المنقولة إليه، ثم [ينتجز] (3) كتاباً منه إلى قاضي نيسابور. وهذا بعد تمهيد الأصول واضح.
وقد ذكرنا أن الكتاب لا معول عليه، وإنما التعويل على قول شاهدي الكتاب، فليقع الاعتناء بهما وبشهاتهما وذكرهما.
11943- ومما يتصل بهذا المنتهى أن المدعي إذا نقل البينة، وقد حكم القاضي الكاتب بالتعديل، فلو قال الخصم عند الانتهاء إليه: شاهدا الأصل مجروحان، قلنا: أَبِنْ جرحَهما بشاهدين، فالقاضي الكاتب عدّل بناء على ظاهر الحال، وسوّغ
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 330، المبسوط: 16/96، مختصر اختلاف العلماء: 3/389، مسألة 1435.
(2) كذا ولعلها: إلى بلخ، أو نحوها. وإلا فالكتاب في المسألة من قاضي (مرو) .
(3) في الأصل: " يتجه ".(18/519)
لكل من يطلع على جرح أن يثبته، فافعل، وإن استمهل في ذلك، فقد نمهله ثلاثة أيام. وسنذكر أصلاً لهذا في نظائر هذا.
فإن قال: أتمكن من جرح الشهود إذا وردتُ البلدةَ التي بها القاضي الكاتب، وقد يُبدي في ذلك عذراً مُخيلاً؛ فإن أهل تلك الناحية أخبرُ ببواطن شهودها. فإن قال ذلك، لم يبالَ به؛ فإن الأمر يطول لو فعلنا هذا، والظن بالقاضي أنه لم يألُ جهداً ولم يقصر، ولو أمهلنا الخصم، لبطل أثر القضاء على الغائب. نعم، يقضي عليه المكتوب إليه، ويُلزمه الخروج عن عهدة الدعوى، ثم إن أمكنه إبداء جرحٍ إذا رجع إلى بلده، فليفعل.
11944- ومن لطيف ما ينبه عليه -وهو ختام هذا الفصل- أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين على حاضر، ثم تبيّن أن الشاهدين كانا فاسقين حالة القضاء، ففي نقض القضاء قولان، سيأتي شرحهما، إن شاء الله.
وإذا كان القضاء على غائب، فلو تبين كونُ الشاهدين مجروحين حالة القضاء، فلا خلاف في نقض القضاء، فإنا لو لم نقل ذلك، لجرّ هذا حَيْفاً على الغائب المقضي عليه.
وإذا كان المقضي عليه حاضراً، فهو المقصر لما لم يبحث.
ْوقد نجز القول في قسمٍ واحد من الدعوى المتعلقة بالغائب، وهو تفصيل القول في دعوى مالٍ في الذمة.
11945- فأما إذا ادعى عيناً غائبة على غائب، فتلك العين لا تخلو إما أن تكون عقاراً أو منقولاً، فإن كان المدعى عقاراً، فقد أجمع الأصحاب على تصحيح الدعوى، ثم شرطوا المبالغة في الوصف، وذلك هيّن في العقار، وهو بذكر المَحِلة من البلدة، وذكر السِّكّة منها، فيذكر موقعَ الدار من السِّكة، وأنها الدارُ الأولى، أو غيرها، على يمين الداخل، أو على يساره، أو في صدر السكة، إن لم تكن نافذة، ثم التعرض للحدود، وينتهي الأمر إلى غايةٍ تفيد اليقين في التعيين.
فإن ادعى داراً كذلك في يد غاصب، وزعم أنه اغتصبها منه، وأقام البينة على(18/520)
ما يليق بموافقة دعواه، كما سيأتي شرح ذلك كلّه في مواضعها، إن شاء الله، فإذا صحت الدعوى كذلك، وقامت البيّنة على الوصف والتحديد، فإن استدعى المدعي القضاء بالبيّنة، أسعفه القاضي إذا صحت البينة، وقضى بالعين الغائبة، وكتب الكتاب على حسب ذلك.
فإن قيل: كيف يقضي ببقعة ليست في محل ولايته؟ قلنا: هذا غفلة عن القضاء، فلئن كان يقضي على رجل ليس في ولايته، فليقض ببقعة ليست في محل ولايته.
وعن هذا قال العلماء بحقائق للقضاء، وقضاء حاكم قريةٍ ينفذ قضاؤه في دائرة الآفاق، ويقضي على أهل الدنيا، ثم إذا ساغ القضاء على غائب، فالقضاء بالدار الغائبة قضاء على الغائب، والدار مقضي بها.
ثم سرّ هذا الفصل أن الكتاب إذا انتهى إلى البلدة التي بها العقار، فالغالب أن الشهود على الدار لا يصحبون الكتابَ وإنما يصحب الكتابَ شهودُ الكتاب. فلو قال الخصم: لا تزيلوا يدي من غير إشارة إلى الدار، قلنا: يقين التعيين كالإشارة، فكأن الشهود على بُعْد الدار أشاروا إلى الدار، وهذا واضح بيّن.
1946- فأما إذا كان المدعى منقولاً، فلا يخلو: إما أن يكون مملوكاً، أو غيره من العروض، [فإن] (1) كان المدعى عبداً أو أمة، ففي سماع البيّنة بالنعت والصفة والحلية قولان: أحدهما - أنها لا تُسمع؛ فإن الضبط في ذلك عسير، ومعتمد الشهود الإشارة في المنقولات، وليس ذلك كالعقار الذي يدرك فيه يقين التعيين. والقول الثاني - أن الشهادة تسمع بناء على نهاية الإعلام، كما سنصفه، إن شاء الله؛ لأن القضاء على الغائب وبالغائب مستند إلى الحاجة، وإلى إفضاء الامتناع عن القضاء إلى تعطيل الحقوق، وهذا مما يستوي فيه المنقول والعقار.
التفريع:
11947- إن حكمنا أن البينة مسموعة، فعمادها غاية الوصف؛ فينبغي أن ينتهي الوصف إلى مبلغٍ يحصل التمييز به، ويبعُد التوافق معه، وذلك في الغالب
__________
(1) في الأصل: "وإن".(18/521)
يحصل بنهاية الوصف، وذكر الشامة والعلامة -إن كانت- عظيمُ الغَناء في ذلك.
ولم نر الاكتفاء بذكر أوصاف السَّلم والمدَّعى عينٌ، وإنما يُكتفى بأوصاف السلم إذا كان المدعى ديناً؛ فإنه لا تمييز في الديون، [ومقصود التمييز] (1) في الأعيان يخالف مقصودَ الإعلام في السلم؛ فإن الإعلام في السلم إذا أَفرط وتناهى، فقد ينتهى إلى عِزّة الوجود، وذلك ممتنعٌ في السلم؛ فإن شرط الموصوف في السلم أن يكون على حدٍّ لا يعجز وجود أمثاله في العادة، ومن ضرورة ذلك تركُ الإطناب؛ فإن الوصف عند أهل المعرفة معناه التخصيص، فإذا قلت " رجل " شاع هذا في جنس الرجال، وإذا قلت " طويل " اقتضى ذلك تخصيصاً، فلا تزال تزيدُ وصفاً ليزداد الموصوف اختصاصاً، وكلما يزيد الوصف قلّ الموصوف. والغرض من وصف العبد المدعى الوصول إلى تعيين شخص من بين جنس، فالعماد إذاً الإعلام الذي أوضحناه.
ثم إذا جوزنا سماعَ البينة بالعبد على الوصف الذي ذكرناه، فهل يجوز القضاء به وهو غائب؟ فعلى قولين:
أحدهما - يجوز القضاء، اعتماداً على الوصف، كما يجوز القضاء على الغائب تعويلاً على الإعلام.
والقول الثاني -وهو الأصح- أنه لا يجوز تنفيذ القضاء به في الغَيْبة؛ فإن التمييز لا يكاد يتحقق، وليس كالمقضِيِّ عليه، فإن عماد تميزه النسبُ والارتفاعُ فيه، وهذا غير متصور في العبد، والوصف لا يبلغ مبلغاً يفيد التعيين.
التفريع:
11948- إن قلنا: لا يجوز القضاء به، والبينة مسموعة على الوصف والحلية، فكيف الطريق؟ وما وجه الوصول إلى الغرض؟ القول المشهور أن المدعي أو وكيله ينقل الكتاب مع شهود الكتاب، وهو مشتمل على أسماء شهود الأصل، والأوصاف مذكورة على الاستقصاء، فإن صادف القاضي المكتوبُ إليه عبداً على صفات الكتاب في يد المدعى عليه، جاء بذلك العبد، وقال للمدعي: أهذا
__________
(1) في الأصل: "والمقصود التمييز".(18/522)
العبد الذي تدعيه؟ فإذا قال: نعم، لم يقضِ به، فإنا نفرع على أن القضاء لا يعتمد إبرامُه الوصفَ. ولو جاز إسنادُ الإبرام إلى الوصف، لقضى القاضي الكاتبُ بالوصف والعبدُ غائب، فإذا لم يقض الكاتبُ ولا المكتوبُ إليه، فكيف الطريق؟
ظاهر النص، حيث انتهى التفريع إليه، أن القاضي يختم على رقبة هذا العبد ليكون أمانة من الإبدال، ويسلّمه إلى المدعي، ويأخذ منه كفيلاً ببدنه -يعني بدن المدعي- إذا صححنا كفالة الأبدان. ثم إن المدعي يرفع ذلك العبد إلى البلد الذي به [شهوده] (1) ، فيستعيد القاضي شهاتهم على عين ذلك العبد، فإذا شهدوا، افتتح القضاء له بالملك فيه، ثم يبرأ المتكفِّل بالبدن.
وحاصل القول يؤول إلى أن سماع البيّنة على الوصف في ابتداء الأمر لا يسلط القاضيَ الكاتبَ على القضاء ولا المكتوبَ إليه، ولكن يفيد إيجابَ نقلِ العبد وإحضارِه.
ثم يترتب على ذلك كلِّه القضاءُ إن أشار الشهود إلى عين العبد، فلا فائدة في سماع البينة الأولى إلا النقلَ، كما ذكرناه. وما ذكرناه من الختمِ وأخذِ الكفيل احتياطٌ في الواقعة، فلو تركه القاضي المكتوبُ إليه، فترتيب القضاء ونظْمُه لا يختلف.
ولكن اختلف أئمتنا في أن المكتوب إليه هل يكون تاركاً واجباً، أم يكون تاركاً احتياطاًً مؤكداً مأموراً به من غير إيجاب؟ وهذا الاختلاف أجرَوْه في كفالة البدن، وإيجاب كفالة البدن ضعيف. هذا قول.
وفي المسألة قول آخر، وهو أن العبد لا يسلَّم إلى المدعي حتى يبتاعَه بثمنه -على تقدير أن الملك لو لم يثبت فيه، فيكون الثمن في ذمته، وهذا بيع مستند، ووقف (2) عظيمٌ ظاهر، ولكن أجريناه احتياطاً للمدعَى عليه، ثم نأخذ منه كفيلاً بالثمن، وينقل هو العبدَ إلى مكان الشهود على الترتيب المقدَّم، فان أشار الشهود إليه، بان فساد العقد، وظهر أنه ملك المدعي، وبرىء من الثمن، وبرىء الضامن، وإن لم يشر
__________
(1) في الأصل: "شهود" والمثبت من (ق) .
(2) ووقف عظيم: أي وقف لعقد البيع. والشافعية لا يقولون بوقف العقود، ولكن احتمل هنا احتياطاً، كما قال الإمام.(18/523)
الشهود، جرى البيع على اللزوم، وتوجهت الطّلبة عليه وعلى الضامن عنه بالثمن، فحصل في كيفية تسليم العبد إلى المدعي قولان، وقد ذهب إليهما علماء السلف.
وما ذكرناه في العبد.
11949- وأما إذا ادعى الرجل جارية فلا تسلّم الجارية إلى المدعي وإن رأينا تسليم العبد إليه؛ احتياطاًً للفرج، وهذا محتوم لا شك فيه- ولكن إن رأينا التسليم، فالوجه تسليمها إلى أمين في الرفقة.
وإن قيل: " قد يكون المدعي أميناً "، [قلنا:] (1) لكنه يدعي الملك، وهو خصم، فلا سبيل إلى ائتمانه.
وما ذكرناه من ضمان الثمن على قول البيع واجب المراعاة مذهباًً واحداً، بخلاف كفالة البدن على القول الأول؛ فإن فيها التردد المتقدم.
11950- وقد حصل مما أجريناه قولان، أولاً - في سماع البينة، فإن لم يسمعها، فالدعوى لاغية؛ فإن الدعوى على الغائب لا حاصل لها إذا عسر إقامة البيّنة. ولنا على هذا انعطاف، نوضح فيه أمراً بِدْعاً هو سرّ الباب.
والقول الثاني - أن البيّنة مسموعة، فعلى هذا قولان في أن القضاء هل يجوز تنفيذه؟ فإن نفذناه، وصادفنا على وصف الكتاب عبداً في يد [المدعى عليه] (2) متميزاً، سلمناه إلى المدعي ملكاً ظاهراً، وإن أرانا المدعى عليه على وصف الكتاب عبدين أو عبيداً، وقف القضاء، وقلنا للمدعي: ارجع وميّز. كما ذكرنا مثل ذلك في المدعى عليه إذا قضى القاضي الكاتبُ عليه.
وإن قلنا: لا ينفذ القضاء عليه، والبيّنة مسموعة، [ففيما] (3) يفعل قولان ذكرناهما يجمعهما التوصل إلى إحضار العبد مكان الشهود، وفي كيفية ذلك القولان
__________
(1) زيادة للإيضاح.
(2) في الأصل: "المكتوب إليه" والمثبت تقدير منا؛ فالمكتوب إليه هو القاضي في بلدة الغائب المدعى عليه. ثم جاءت (ق) موافقة لعبارة الأصل.
(3) في الأصل: "وفيما".(18/524)
المذكوران، وكل ما ذكرناه في قسم المنقول مخصوص بالعبيد والإماء.
11951- فأما إذا كان المدعى عَرْضاً من العروض ادعاه بعينه، وبالغ في وصفه، فقد يفرض فيه ما لا يتصور تمييزه بالوصف أبداً، وهو كادعاء أَذْرُع من كِرباس، فلا مطمع في انتهاء الوصف إلى مبلغ إفادة التمييز، ولا يقع القضاء قط بالعين، ولا يتصور تكليف النقل إلى مكان الشهود؛ إذ لا كرباس إلا ويساويه كرباس على شيوع الوجود، فالقضاء بالعين مأيوس منه، إذا كانت الحالة هكذا، فلا يبقى وجه إلا أن يدعيَ الكرباسَ، ويصفَه، ويذكرَ قيمتَه، ويردَّ دعواه إليها، ويقع سماع البينة بحسب ذلك، والشهود يشهدون، ومعوّلهم القيمة، وإن أطنبوا في الوصف [لا يتميز المدعَى] (1) ، وإن كان يستحق في علم الله كرباساً معيناً، فهذا ملتبس لا وصول إليه، ولكن لا تعطيل.
فالوجه ربط الخصومة بالمالية، ثم ينفذ القضاء بالثوب المشهود به والغرض ماليته، فإذا أُبرم القضاء ونُقل الكتاب إلى مكان الخَصم، فالمدعي لا يمكنه أن يكلفه بحكم القضاء إحضار كرباسه؛ فإن القضاء يعتمد التعيين ولكنه يُلزم قيمةَ الثوب. وقد قال الأصحاب في هذا المقام: يتعين ذكر القيمة؛ فإنها عماد القضاء كما بيّنا.
فأما إذا ادعى عبداً، وجوزنا القضاءَ بعينه، أو سماعَ البينة، كما تفصّل من قبل، فقد ذكر بعض أصحابنا قيمة العبد في الإعلام، وهذا محتمل.
والأظهر عندنا أنه لا يشترط ذلك إعلاماً؛ فان القيمة لاضبط لها في هذه المنازل، إذا كان المطلوب ربطَ القضاء بعين.
11952- وهذا أوان الوفاء بالانعطاف على العبد حيث وعدنا، فإذا لم نر للقضاء بعين العبد وجهاً؛ ولم نجوز سماع البينة،. فقد قدمنا أن الدعوى لا معنى لها- وهذا فيه إذا أراد العينَ، فإن أراد أن لا تتعطل ماليته، فليعتمد قيمة العبد، ويربط دعواه بها، وإن وصف، فلا بأس، وتسمع الدعوى والبينة، وينفذ القضاء في المالية، كما ذكرنا في الكرباس.
__________
(1) في الأصل: " لا التمييز والمدعى ".(18/525)
ثم إذا كان المطلوب الماليةَ كما ذكرناه، فالاعتماد قطعاً على القيمة، والأوصاف إنما [يذكرها] (1) المدعي وشهوده لترتبط الدعوى بالقيمة، فلو قال: غصب مني ثوباًً قيمته عشرة، وليس يبغي الوصول إلى عينه، فالظاهر قبول الدعوى على هذا الوجه، فإن قيل: دعوى مجهولة بمجهول؟ قلنا: لا، بل المدَّعَى القيمة -فهي العماد- وهي معلومة، ويترتب عند ذلك القول في القيمة.
أما العقار، فلا خلاف أنه لا يشترط فيه التعرض للقيمة؛ فإن المطلوب فيه العينُ، والوصول إلى التعيين ودركِ اليقين ممكن، وحيث لا مطمع في التعيين والتمييز، فالمعتمد القيمة، وإذا أثبتنا في العبد وما في معناه إمكانَ التمييز، وعوّلنا على الوصف، طمعاً في الوصول إلى العين، ففي ذكر القيمة وصفاً وإعلاماً خلاف، والأظهر عندنا أنه لا يشترط.
ثم ما ذكرناه في العبد والأمة لا يختص بهما، بل كل ما تعذّر تميّزه بالوصف، فالتفصيل المذكور في العبد جارٍ فيه، كما لو ادعى فرساً، فإن تمييزه بالأوصاف الكلية، ثم بالشِّيات الخفية مما يُطمع فيه، وهو أبعد قليلاً من العبد، لأن التشابه في البهائم أغلب منه في الآدمي.
فإذاً الأعيان الغائبة عقار، ولا خلاف في القضاء به، وعينٌ [لا يطمع] (2) في تميزها، والدعوى فيها ترجع إلى المالية، ومنقولات يطمع في تميزها بالوصف، وفيها الخبط وازدحام الخلاف، ثم إن رأينا التمييز متعذراً في هذا القسم، رددناه إلى المالية المذكورة في القسم الذي لا تميّز فيه.
وقد انتجز الكلام في الدعوى على الغائب.
وكنا ذكرنا في صدر الباب أن الكلام يقع في القضاء على الغائب وسماعِ البيّنة عليه وفي الحاضر. وقد انتجزت مجامع الكلام وأصوله في حق الغائب.
__________
(1) في الأصل: " نذكره ".
(2) ما بين المعقفين ذهبت به آفة البلل من أطراف السطور. وأثبتناه من عندنا على ضوء السياق.
والله أعلم. والحمد لله فقد صدقتنا نسخة (ق) .(18/526)
11953- ونحن نذكر الآن الدعوى على الحاضر على مقدار غرضنا، ولسنا نلتزم بيان جميعِ أحكام الدعوى على الحاضر؛ فإنا لو التزمنا ذلك، لذكرنا كتاب الدعاوي.
وقد يلزمنا الآن شيئان: أحدهما - الكلام في حاضر في البلد غائبٍ عن مجلس القضاء، والآخر - بيان القول فيه إذا كان المدعى عليه حاضراً مجلس القضاء، ولكن المدعى عينٌ غائبة عن مجلس القضاء.
فأما التفصيل في القضاء على الغائب عن مجلس القضاء مع الحضور في البلدة -فقد قال الأصحاب إن غيّب وجهه وتوارى، أو تعزز وامتنع، وعسُر إحضاره، نفذ القضاء عليه حَسَب نفوذه على الغائب، وهذا يجب أن يكون متفقاً عليه.
فأمّا إذا لم يتعذر إحضاره، فهل يجوز سماع الدعوى عليه قبل حضوره، ثم سماع البينة؟ فعلى وجهين مشهورين ذكرهما الصيدلاني وغيره: أحدهما - أنه لا يجوز، ويتعين إحضاره وإقامةُ الشهادة في وجهه إن أمكن؛ فإنا وإن كنا لا نرى الإنكار عماداً وركناً في سماع البينة، فالغرض من الإحضار توقع الإقرار، وحقٌّ على القاضي أن يسلك أقرب الطرق وأَقْصدَها في فصل القضاء، والسبب فيه أنه لو طوّل، فقد يكون مؤخِّراً حقَّ مستحقٍّ مع القدرة على تعجيله، وهذا لا سبيل إليه.
ثم هذا القائل يرد سماع البينة والدعوى؛ فإن كل ما يتعلق بعكس الترتيب المستحق في الخصومات آنذاك يُخرج البينة عن أن تكون مسموعة.
والوجه الثاني - أن الدعوى مسموعة، والبينة مسموعة؛ فإن المدعى عليه إذا تعين وتميز، كفى، والبينة بيان، والمدعى عليه بيْن أن يقرّ أو ينكر حضر أو غاب.
التفريع:
11954- إن رددنا الدعوى والبينة، فليس إلا الإعداءُ على الخصم عند [السلطان] (1) وإحضارُه مجلسَ الحكم، ثم الخصومة تقام في وجهه.
وإن حكمنا بسماع البينة مع القدرة على الإحضار، فالمذهب الذي يجب القطع به
__________
(1) مكان كلمة مطموسة في الأصل، والمثبت على ضوء السياق، والاستئناس بعبارة الرافعي في الشرح الكبير: 12/513.(18/527)
أن القضاء عليه لا يجوز؛ فإنه قد يعرف مطعناً في البينة يمنع به نفوذَ القضاء وهو حاضر، فالهجوم على تنفيذ القضاء محال؛ فإن القضاء يقع وراء كل احتياط ممكن، وليس هذا كالقضاء على الغائب؛ فإن حضوره غيرُ حاصل، ومراجعته في مطعن إن كان يعرفه غيرُ ممكنة، والحاجة ماسة، فنفذ القضاء، والمقضي عليه على حقه في التتبع إذا وجد مطعناً. هذا ما قطع به الصيدلاني، وهو الحق عندنا.
ومن أصحابنا من جوّز القضاء على الحاضر الغائب عن مجلس الحكم؛ طرداً لقياس ظاهر في أن من تُسمع البينة عليه يجوز القضاء عليه، وهذا غفلة عن مسالك القضاء.
ولو أحضر المدعي خصمَه مجلسَ الحكم، فهل يجوز سماع البينة عليه من غير مراجعته؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما الصيدلاني وغيره. ثم قال الأئمة: هذه الصورة أولى بامتناع سماع البينة، والفرق لائح.
قال الصيدلاني: في هذه المسألة والتي تقدمت -وهي إذا كان في البلد، [ولم] (1) يحضر مجلس القضاء مع القدرة على إحضاره- ثلاثةُ أوجه:
أحدها - أن البينة لا تسمع ما لم يراجع الخصم؛ فإن أقر، فذاك، وإن أنكر أو سكت، قامت البينة عليه.
والوجه الثاني - أن البينةَ مسموعة من غير مراجعة في المسألتين.
والوجه الثالث - أنا نفصل بين الصورتين، كما أشرنا إليه.
ثم يبعد كل البعد إذا جوّزنا سماع البينة على الحاضر من غير مراجعته، أن يقضي عليه من حيث لا يشعر.
هذا غرضنا في الحضور والغيبة في المدعَى عليه.
11955- فأما القول في المدعى، فإن كان شيئاً في الذمة، فلا يخفى إعلامه، وإن كان يدعي على خصمه عيناً غصباً، أو وديعة، أو عارية، فهذا ينقسم إلى العقار وغيره، على حسب ما ذكرناه في أقسام الكلام في الغائب.
__________
(1) في الأصل: "وإن".(18/528)
فإن كان المدعى عقاراً، فالدعوى مسموعة، والاعتماد على الوصف والتحديد، وقد ذكرنا إمكانه، بل انتهاءه إلى اليقين، فإذا قامت بينة على دار معلومة من سكّة معلومة، فلم يبق في الإعلام شيء، ثم ينفذ القضاء بالدار من غير إشارة إليها، إذا استمكن الشهود من البيان التام، الذي لا يبقى معه لَبْس.
وإن قال شهود المدعي: لسنا نستقلّ بحدود الدار، ولكنا نشير إليها، أو إلى الأرض -إن كان المدعى أرضاً- فلا بد -والحالة هذه- من التعيين في الشهادة.
ثم إن حضر القاضي بنفسه، سمع الشهادة مع الإشارة والتعيين، وإن استخلف خليفة ليحضر البقعة، ويسمع الشهادة، جاز.
وسأفصل القول في خلفاء القضاة، ومنازلِهم، وصفاتِهم بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
ثم من تمام البيان في ذلك أن المدعي إن وصف العقار وحدَّه في دعواه، وامتنع الشهود من ذكر الحدود، صحت الدعوى، ثم إذا وافق تعيينُ الشهود المدعى المحدود، حصل الغرض، وإن لم يستتم المدعي ذكر الحدود، وإعلام المدعى، فدعواه مجهولة، والدعوى المجهولة لا تسمع، ولا تعطيل في هذا، فليتعرف الحدود؛ فإنّ تعرُّفَها سهلٌ إذا كان المدعى حاضراً بالقرب. هذا قولنا في العقار.
11956- فأما ما عداه من الأعيان المنقولة، فهي تنقسم حسب أقسامها في الغائب، فإن ذكر عبداً حاضراً في البلد، وادعاه على الوصف، فالذي نقدمه أنا على القول البعيد في الغائب إذا جوّزنا القضاء بالعبد الغائب -وهو قول ضعيف- أو جوّزنا سماع البينة على الوصف، على قولٍ ظاهر، فإذا كان العبد حاضراً، وأمكن إحضاره، فلا يجوز سماع البينة بالوصف أصلاً، وليس كسماع البينة على الخصم الحاضر في البلد قبل أن يحضر مجلس القضاء؛ لأن سماع البينة على الشخص مرتبط بعلم وتحقق، بخلاف العبد.
وأنا أقول وراء ذلك: إنما يسمع القاضي البينة على الحاضر في البلد إذا كان يعرفه ويتعيّن له، فإن لم يكن كذلك، لم يسمع، بخلاف البينة على الغائب؛ فإن القاضي(18/529)
يسمع البينة على الغائب، [وإن] (1) كانت نهايات التسمية والتَّحْلية [لا تُعرِّفه] (2) عنده؛ لأن المعتمد الأظهر في الغائب [تمييز] (3) المقضي عليه في مكانه عند إيصال الكتاب، وهذا في الحاضر في البلد لا يتحقق. نعم، لو تعيّن العبد المدعى للقاضي، فيجوز سماعُ البينةِ عليه -وإن لم يكن حاضراً في مجلس القضاء- وجهاً واحداً.
والفقه فيه أن الخصم المتعيَّن إذا لم يحضر لسماع البينة، لم يمتنع لجهالة، وإنما امتنع لترك المسلك الأقرب، وهذا لا يتحقق في العبد المعين الذي يعرفه القاضي والشهود، وليس يبعد اشتراط الحضور فيه أيضاً؛ فإن الإشارة أوجز من الوصف، وأنفى للتهمة، فإذا كنا لا نسمع البينة بالوصف على عبدٍ لم يتعين للقاضي -[وغمرة] (4) الإشكال من هذا الموضع- فإن الدعوى على الوصف [مسموعة] (5) لا محالة؛ إذ لو لم نسمعها، ما قامت الخصومة، ثم ينبغي أن تكون معلومة على الحد الذي يتأتى الإعلام فيه، ثم يقول القاضي للخصم: ماذا تقول؟ فإن زعم أن العبد الذي ادعاه في يدي وهو مِلكي، فالقاضي يلزمه إحضاره حتى يسمع البينة على عينه إشارة إليه، فإن قيل: هذا تكليفه تصرفاً فيما هو ملكه في الظاهر. قلنا: ليكن كذلك، فليس تكليفه إحضارَ العبد بأبعدَ من تكليفه الحضور بنفسه، وقد يكون المدعي مبطلاً.
هذا إذا قال: هذا الموصوف في يدي، ولو قال: هذا الذي وصفه ما ثبتت عليه يدي، فلا يمكننا أن نكلفه إحضاراً، فعند ذلك نقول للمدعي: إن كنت تبغي العبد، فأثبت بالحجة كون هذا الموصوف في يده.
ثم للمدعي مسلكان: أحدهما - أن يقيم بينة على أن هذا العبد الموصوف رأيناه
__________
(1) في الأصل: "فإن".
(2) تقدير من المحقق مكان المطموس في أول السطر. والحمد لله فقد جاءت به نسخة (ق) .
(3) في الأصل: "يمين". وقد أفدنا هذه من "ق".
(4) كذا قدرناها على ضوء أطراف الحروف التي بقيت بعد أن ذهب البلل بأطراف الورقة. ثم جاءتنا (ق) فأكدت صحة تقديرنا والحمد لله.
(5) في الأصل: "مسموعاً".(18/530)
في يده، ثم هذا يحصل على وجهين: أحدهما - أن يشهد شهود المدعي بذلك أيضاً، كما يشهدا بالملك له. والآخر - أن يشهد شاهدان على وجدان ذلك العبد في يده، [ولا] (1) علم عندهما بملك المدعي، فإن كان كما صورناه آخراً، فيثبت كون العبد الموصوف في يد المدعى عليه على الجملة وهذا القدرُ كافٍ في أن يقال له: أحضر هذا الموصوف ليعرف أن شهود الملك هل يشيرون إليه أم لا؟ وإن تعرض شهود الملك لذلك، لم تفد شهاتهم في الحال إثبات ملك المدعي، ولكنها تفيد تكليفَه الإحضارَ.
ثم الشهادة المثبتة للملك تنشأ مقيّدةً بالإشارة. هذا مسلك واحد.
والمسلك الآخر - ألا تكون له بينة على كون عبدٍ على الصفات المذكورة في يده، ففال: أحلّف المدعى عليه أن يده لم تثبت على عبد على هذا الوصف، فإن حلف، فذاك. وإن نكل؛ حلف المدعي وألزمه القاضي أن يحضره، فإن امتنع حبسه ليُحضر العبد الموصوف.
وفي الكلام بقايا، وتمام البيان عند نجاز الفصل.
11957- هذا إذا كان المدعى مما يمكن تمييزه بالوصف.
فإن لم يكن كأذرع من كرباس- فلو قال المدعي لي في يد هذا عشرة أذرع من الكرباس، وأطنب في الوصف، فلا وصول إلى التمييز، ولا معنى لتكليف الخصم إحضارَ كرباس؛ فإنه لو قال: في يدي ألفُ ذراع من الجنس الذي ذكرتُه، [فليُحضِر] (2) منها أتمها، فهذا قسم لا يتصور فيه الوصول إلى العين، ولا [يكلّفُ] (3) إحضار العين، إلا أن يصادف المدعي عيناً في يد المدعى عليه فيدّعيها. هذا تفصيل بالغ.
1958- والبيان بعدُ موقوف على معرفة شيئين: أحدهما - أنا حيث نُلزم الخصم
__________
(1) في الأصل: " فلا ".
(2) في الأصل: "فأحضر".
(3) في الأصل: "ولا تكليف".(18/531)
إحضار العين، ونحبسه لو امتنع، فقد يختلج في نفس الفقيه أن تلك العين ربما كانت تالفة، والجواب عن هذا سهل؛ فإن أمثال هذه الأمور تبنى على استصحاب البقاء، وعليه يتصرف الوكيل على ألف فرسخ من موكله، إلى غير هذا، مما يتسع الكلام فيه، فإن عظم وقع دوام الحبس على المحبوس، فالبينة لا تكذَّب، فإن كانت تلفت العين، فلينجُ بدعوى تلفها؛ فإن قوله مقبول في هذا.
والفصل الثاني - أن المدعي إذا عسر عليه استحضارُ العين؛ بأن لا يجد بيّنة على كونها في يد المدعى عليه، ولما حلّفه، حلف، فسبيله أن يرد الدعوى إلى المالية إذا استشعر ذلك منه؛ فإن المالية ترجع إلى قياس ضمان الذمم، فتبقى مرتَبَطه في الحق على ما ذكرنا.
ولو كان المدعي على تردُّدٍ في أن تلك العين في يد المدعى عليه أم فاتت في يده، فلو قال: أدعي عليه عيناً صفتها كذا أو قيمتها إن فاتت في يده، فقد اختلف الأصحاب في أن الدعوى هل تُسمع كذلك؟ فقال القيّاسون لا تسمع الدعوى على هذا الوجه؛ فإنها مترددة غير مجزومة.
وقال قائلون: الدعوى تسمع كذلك؛ فإن الحالة ربما تكون كذلك. قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى ورأَوْا في سماعها مصلحة.
ثم إن سمعنا الدعوى على هذا الوجه، فلا كلام، وإن لم نسمعها، فالوجه رد الدعوى إلى المالية، كما وصفناها، ثم البيّنة لا تسمع على الوصف في هذا النوع، فإذا كانت الدعوى مالية سُمعت، فيصف الشهود [ويذكرون] (1) القيمة، وتتوجه الطلبة بمالية المدعى.
وهذا أقصى ما في الوسع من بيان هذا الفصل.
11959- ومن الأمور البينة التي يجب أن لا يُغفَل عنها، أنا إذا كلفنا المدعى عليه إحضار العين، فالتزم مؤونة إحضارها، فإن ثبت استحقاق المدعي، فالمؤونة على المُحضر، وإن لم يثبت استحقاق المدعي، فقد قال الأصحاب: يُغرّم المدعي مؤونة
__________
(1) تقدير منا مكان بياض بالأصل. والحمد لله جاءت بصحته (ق) .(18/532)
النقل، ومؤونة الرد إلى المكان الذي كان المتاع فيه.
وهذا فيه [أدنى نظر] (1) يَقْدُمُه شيء، وهو أن الخصم المستحضَر قد يناله كدٌّ في الحضور، وربما ينقطع به عملٌ مقابَلٌ بأجر، فهل نقول: إذا بان كونُ المدعي مبطلاً، يلتزم المستحضِر أجره؟ الذي نراه أنه لا يلتزم بهذا؛ فإن الغالب في استحضاره حقُّ القاضي، والدليل عليه أنه يستحضره من غير ثبوت حق عليه، هذا ما يجب القطع به؛ فإن مراتب الولايات لا تستتب إلا باحتمال أمثال هذا.
فإذا بانت هذه المقدمة، فلست أبعد أن يكون إحضارُ المال منها؛ فإنها متعلقة بالإيالة وأسباب الولاية. [وهذا] (2) الاحتمال حسن بالغ، ولا آمن أن يكون التسامح في إحضار الخصم لقرب الزمان الذي لا يكون لمثله حظٌّ من الأجرة، وإن كان، فنزرٌ لا يحتفل به، وأقصى ما عَلَيَّ البينة والآراء السديدة، تشترك في النظر، والله المستعان.
وقد كمل الغرض والبيان بعون الله وتوفيقه، وشذت مسائلُ وفصولٌ عن ضبط الأصول، ونحن نتداركها إن شاء الله، فنرسم المسائل فروعاً، ونعقد فيما يَتَفَصَّل فصولاً.
فصل
11960- كل حق تقبل فيه الشهادة على الشهادة يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، والأموال بجملتها كذلك.
وما يختلف القول في قبول الشهادة على الشهادة فيه، فكتاب القاضي إلى القاضي يجري فيه على مثل ذلك الاختلاف، ففي القصاص قولان؛ وفي حدود الله قولان مرتبان، وسيأتي شرح ذلك في موضعه من كتاب الشهادات، إن شاء الله.
والأصحاب شبّهوا شيئاً بشيء، وعندي أن كتاب القاضي إلى القاضي ليس مشبهاً
__________
(1) ما بين المعقفين مما أفادتنا به (ق) .
(2) هكذا قدرناها على ضوء ما بقي من آثار الحروف. ثم هي مطموسة في (ق) .(18/533)
بالشهادة على الشهادة، بل هو عينها؛ فإن القضاء إذا كان مبرماً، فقول القاضي بمثابة الأصل، وشهود الكتاب فروعه. وإن سمع القاضي بينة، ولم يقض بها، فهذا بعينه نقل البيّنة.
فصل
11961- قد ذكرنا التفصيل في نصب قاضيين في شِقَّين من البلدة، ولو فرض نصب قاضيين في جميع البلدة بحيث ينفذ قضاء كل واحد منهما في البلدة بكمالها، ففي جواز ذلك وجهان - ذكرهما الشيخ أبو علي والقاضي: أحدهما - أن ذلك يجوز؛ فإن المحذور فيه اجتماع ولايتين وذلك متحقق في كل بلدة بها قاضي. فإن ولاية الإمام نافذة فيها مع ولايته.
والوجه الثاني - أن ذلك ممتنع، لأنه يؤدي إلى تخيُّر الخصوم والتجاذب في الارتفاع إلى المجلسين إذا دُعي خصم من جهة القاضيين، ويغلب اختلافهما في الحُكمين؛ فيجر هذا نزاعاً دائماً، والمقصود من القضاء قطع النزاع. فان جوّزنا ذلك، فإذا سبق داعٍ من أحد المجلسين، فهو المجاب. وإن [توافى] (1) الداعيان، فليس أحدهما بالإجابة أولى من الثاني، فلا وإلا الإقراع، والجريان على موجب خروج القرعة.
والذي أراه أنه إذا كان الإمام قي البلدة، وبها القاضي المرتب، فالمقدم داعي الإمام (2) .
وإذا منعنا اجتماع ولايتين -كما قدمنا- فلا يمتنع هذا، لما أشرنا إليه من تقديم الإمام عند تصور [التوافي] (3) من الداعيين، وكذلك القول في القاضي وخليفته، كما سنذكر تفصيلَ الخلفاء ومنازلَهم، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: " توانى " والمثبت تقديرٌ منا، فهو أقرب صورةً للمرسوم، وأوفق معنى للسياق، فمعنى توافى الداعيان أي جاءا معاًً. وهي بعينها ألفاظ الغزالي والرافعي والنووي في المسألة نفسها. وأخيراً جاءتنا (ق) لتؤكد صحة تقديرنا، فالحمد لله ملهم الصواب.
(2) أي عندما يجىء الداعيان معاً.
(3) في الأصل: "التواني".(18/534)
وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا كان كل واحد من القاضيين نافذَ الحكم على الاستقلال.
فأما إذا نَصب من إليه الأمر قاضيين على ألا ينفرد كل واحد منهما بالقضاء ما لم يوافقه الثاني، فهذا مردود؛ فلا مساغ له؛ فإن اختلاف المجتهدَيْن مطرد غالباً؛ فإذا كان لا ينفرد أحدهما بالقضاء أدّى هذا إلى توقف الخصومات وحيرةِ الخصوم، وأيضاً فإن تكليف المجتهد بعد تمام اجتهاده أن يقف أمره على رأي غيره محال لا وجه له.
قال صاحب التقريب: إذا نصب من إليه الأمر قاضيين، ولم يصرح بأن كل واحد منهما يستقل بالقضاء أو يراجع صاحبه، فمطلق التولية يقتضي انفراد كل واحد منهما بالقضاء.
ولو نصب المريض وصيّين وأطلق نصبهما، فمطلق نصبهما يقتضي ألا ينفرد واحد منهما بأمر دون صاحبه، وفرّقَ بأن قال: نَصْبُ الوصيين كذلك مع التصريح بتوافقهما جائز، فمطلق نصبهما يقتضي ارتباط أمرِ أحدهما بالثاني، ولا يجوز التصريح بنصب قاضيين على اشتراط توافقهما، فالمطلق محمول على ما يجوز، وهو الاستقلال.
ومن أصحابنا من قال: إطلاق توصية رجلين يقتضي انفراد كل واحد منهما بالأمر، وإنما يراجع أحدهما صاحبه إذا تقيدت الوصاية باشتراط ذلك، وهذا لا أصل له، ولا اعتداد به.
ومن أصحابنا من قال: نَصْبُ قاضيين في بلدة يقتضي ارتباط أمر أحدهما بالثاني، والتوليةُ على الفساد، ما لم تُقيَّد بانفراد كل واحد منهما بالأمر.
وهذا الوجه في هذا النسق أمثل مما ذكرناه في الوصاية.
فصل
11962- إذا استحضر الرجلُ خصماً مجلسَ القضاء، فيجوز له أن يأبى عليه إن لم يعرف له حقاًً، فإن عرف له حقاً، فعليه توْفيتُه، ولا يلزمه حضورُ المجلس. هذا إذا كان المستحضِر [الخصمَ] (1) نفسَه.
__________
(1) في الأصل: "للخصم".(18/535)
وإذا استدعى الخصمُ من القاضي أن يستحضر الخصمَ له، أجابه القاضي، وأمر صاحبَه بالحضور، وإذا دعاه القاضي، وجبت عليه الإجابة، سواء كان عليه حق أو لم يكن. والقاضي يُعدي عليه [ولا يُشترط] (1) في الإعداء أن يُثبت الخصمُ حقَّه، فإنا قد نقول: إذا كان حاضراً، فلا سبيل إلى إثبات الحق قبل حضوره مجلس القضاء، فلو توقف إحضاره على ثبوت الحق، وتوقف ثبوت الحق على إحضاره، فكان ذلك دائرةً سادّةً بابَ إثبات الحقوق.
ثم إنما يُعدي القاضي على الخصم [إذا كان ذلك على] (2) مسافة العَدْوَى، وهي أن يكون بمكان لو انطلق الرسول إليه بُكْرة، لأمكنه الذهاب والرجوع إلى منزله قبل أن يجنّ الليل، هذه مسافة العَدْوَى.
فإن كانت المسافة أبعدَ من ذلك، [فلا يخلو] (3) إما أن يكون الخصم في موضع به قاضٍ أو لا يكون في الناحية التي هو بها قاضٍ، فإن كان [ثَمَّ] (4) قاضٍ فيكتب إليه بما يقتضيه الحال، على ما فصّلنا القول في كتاب القاضي إلى القاضي، وإن [لم يكن ثَمَّ] (5) قاضٍ، وكان ذلك المكان من ولاية القاضي، فالقاضي لا يُعدي عليه، ولا يستحضره أصلا من غير بيّنةٍ يقيمها الخصم؛ فإن المسافة إذا بعدت، عظم الإحضار من غير ثَبَت، وإذا أقام البينةَ، فإن أراد القضاء، قضى، وإن تعذر استيفاء الحق دون حضور الخصم، استحضره بعد قيام البينة من المسافة الزائدة على مسافة العدوى، وإن بعدت تلك المسافة، وبلغت مسافة [القصر] (6) وكانت من ولاية القاضي؛ فإنه يُحضره ولا يبالي به.
والغرض مما ذكرناه أن القاضي يعدي في مسافة العدوى، من غير حُجة، فإذا
__________
(1) تقدير منا مكان انمحاء بالأصل.
(2) مكان كلمات انمحت من الأصل، والمثبت هنا وفي أمثاله تقدير منا. ونسجد لله شكراً، فقد صدقتنا (ق) في جميع ما قدرناه، فالحمد لله ملهم الصواب.
(3) اختيار منا.
(4) مكان بياض قدر كلمة.
(5) تقدير من المحقق.
(6) اختيار من المحقق مكان ما ذهب من أطراف الحروف.(18/536)
زادت المسافة، فلا إعداء من غير حُجّة، وما ذكرناه متفق [عليه] (1) ذكره العراقيون وغيرُهم.
ومما يجب التنبه له إذا كان في جانب من ولاية القاضي ناحيةٌ آهلة، فلا يجوز له إخلاؤها عن مُستخلَف، وذلك بأن يقيم بالقرب منها حاكماً بحيث يقع بين المستخلفين أو بين المستخلَف والقاضي مسافةُ العدوى.
فرع:
11963- إذا أقام الرجل بيّنته على خصمه الغائب، وجرى القضاء بها على الشرط المقدم، ووجد القاضي للغائبِ مالا في بلد القضاء، فإذا استدعى الخصم [تأدية] (2) حقه من ذلك المال، لزمه إسعافُه به. وهل يتعين عليه أن يأخذ منه كفيلاً بذلك المال؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - فَعَل ذلك لتقدير عود الخصم واستمكانه من مدفع.
والوجه الثاني - أنه يستدعي منه كفيلاً، فإن أبى، لم يلزمه؛ فإن القضاء قد نفذ، وتوقع النقض والاستدراك يتطرق إلى كل قضاء، فلا معنى لإيجاب الكفيل والضمين.
فرع:
11964- إذا أقيمت بيّنة في مجلس القاضي، فغاب القاضي قبل القضاء بها، وخرج عن مكان ولايته، ثم عاد، فهل يبني القضاءَ على البيّنة التي سمعها، أم يستعيد البينة؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يستعيد؛ فإن الولاية كانت ثابتة له، وخروجه عن مكان ولايته لش بمثابة انعزاله. والوجه الثاني - أنه يستعيد، كما لو عُزل ووُلِّي ثانياً.
ولا خلاف أن الأمر لو كان كذلك، لاستعاد البينة، واستجد سماعاً جديداً، كذلك إذا خرج من مكان ولايته، فقد انتهى إلى حالة لو أراد الحكم فيها لم يتمكن، وفي المسألة احتمال على الجملة.
فرع:
11965- إذا كان في مكان ولاية القاضي مالٌ ليتيم، وكان ذلك اليتيم غائباً خارجاً عن مكان ولاية هذا القاضي، فلو أراد القاضي أن ينصب قيّماً، وهذا المال
__________
(1) اختيار من المحقق مكان ما ذهب من أطراف الحروف.
(2) في الأصل: "بإذنه".(18/537)
الموجود في مكان ولايته، فكيف حكمه؟ تردد القاضي في هذه المسألة، وقال: لست أبت فيها جواباً؛ فإنا لو جوّزنا نصب قيّم في هذا المال، فصار اليتيم مَوْليّاً عليه، وليس ذلك اليتيم في مكان ولاية هذا القاضي، فكيف يُدرجه ولايةَ نفسه؟ هذا وجه.
ويجوز أن يقال: يملك هذا؛ فإنه يتصرف في مال الغُيّب المُطْلَقين؛ نظراً لهم، واستصلاحاً لأموالهم، وإن كان الغائب الخارج عن محل ولاية هذا القاضي ليس موليّاً عليه من جهة هذا القاضي.
هكذا قال رضي الله عنه.
والوجه عندنا أن يقال: النوع الذي يملكه القاضي من التصرف في مال الغُيَّب يجب أن يملكه في مال اليتيم؛ فإن خروج اليتيم عن ولايته كخروج الغائب المطلق، وتصرف القاضي في مال الغائب لا يسلّطه على بيعه في طلب الغبطة، وإنما يتصرف فيه إذا أشرف على الهلاك، وقد قدّمت في ذلك كلاماً بالغاً؛ ولعلي أعيد فيه تقريراً من بعدُ، فأما نصب قيّم في مال اليتيم ليتصرفَ فيه تصرف القَوَّام في الاستصلاح وتزكيةِ المال، فهذا زائد على ما ذكرناه من التصرف في مال الغائب، وفي هذا الزائد تردَّدَ القاضي، وهو لعمري محتمل.
فرع:
11966- لصاحب الأمر أن يولّي القضاء على الخصوص، بأن ينصب قاضياً في الأموال، وقاضياً في تزويج الأيامى، وله أن ينصب قاضياً في الرجال، وقاضياًً آخر في النساء، وإذا اختصم رجل وامرأة لم يفصل واحد منهما الخصومة، ولا بد من ثالث يولّى القضاء بين الرجال والنساء، وهذا مُعْترِضٌ، وموضع الاستقصاء بعد باب القسام، وعنده نذكر هذه القضايا في أحكام القضاة والمستخلَفين، والله المستعان.
***(18/538)
باب القسام
قال الشافعي رضي الله عنه: " ينبغي أن يُعْطى أجر القسام من بيت المال ... إلى آخره " (1) .
11967- الإمام كما لا يخلي نواحي الإسلام عن حُكام يقومون فيها باستيفاء الحقوق، وقطع الخصومات، فكذلك لا يخليها عن قُسّام؛ فإن الحاجة في الأملاك المشتركة ماسّة إليهم، وينبغي أن يُدرّ عليهم أرزاقاً كما يُدرّها على القضاة، حتى لا يأخذوا من أصحاب الأملاك أجوراً. هذا إذا كان في بيت المال متسع.
فإن لم يكن في بيت المال مال، فأصحاب الأملاك المشتركة يستأجرون من يقسمها لهم، والاستئجار على القَسْم جائز.
وقد ذكرنا في صدر كتاب الصداق ما يجوز الاستئجار فيه وما لا يجوز، وذكرنا في قَسْم الفيء والغنائم أرزاقَ الولاة ومصارفَ أموال بيت المال.
11968- ثم القول في أن [القاسم] (2) الواحد هل يكفي أم لا بد من قاسمَيْن مما تقدم عند ذكرنا عدد المترجمين والمُسْمعين والمزكّين، [والذي نجدده] (3) الآن أنّا ذكرنا أن القاضي لو نصب حاكماً في التزكية، لجازَ، ثم من آثار ذلك الاكتفاء [بقاسم واحد] (4) ، وقد ذكرنا أن القيمة لا تثبت إلا بمقوّمَيْن، وحكينا الخلاف في الخارص والقاسم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/244.
(2) مكان ما ذهب من أطراف السطور، والمثبت كما ترى ليس فروق نسخ، وإنما هو تقدير مكان الذاهب المخروم. والحمد لله جاءت (ق) مصدقة لنا في كل ما قدرناه.
(3) مكان ما ذهب من أطراف السطور.
(4) تقدير من المحقق مكان الذي ذهب من أطراف الحروف.(18/539)
فلو قال [قائل: لو] (1) نصب الإمام حاكماً في التقويم، فهل يسوغ، وإن ساغ، فهل يُكْتَفى به على اتحاده على ما مهدناه [في] (1) المزكي؟ قلنا: هذا مشكل.
وكذلك لو فرض مثلُه في القاسم، فإن كان المنصوب [للقسمة] (2) منصوباً ليشهد عنده مُقَوِّمان، فهذا سائغ، وكذلك المزكي إن نُصب ليشهد عنده العدول على الجرح والتعديل [على] (3) الشرائط المعلومة، فهذا جائز.
فأما إن كان المنصوب للتقويم يُعوِّل على علم نفسه، على اجتهاده [وبصيرته] (3) ، فما أرى ذلك جائزاً، وأطْرُد هذا في التزكية؛ فإن التزكية لا تستقل بنفسها ما لم تُنْهَ [إلى] (4) القاضي، وهو الذي يقضي بها.
فإثبات اسم الحاكم للمزكي، والاكتفاء ببصيرته لا حاصل له إلا رد مزكيين [إلى] (4) واحد، وهذا غير محتمل فيما يشترط العدد فيه.
وقد ذكرت في التزكية كلاماً فيه طرف من الإبهام وهذا إتمامه، فليجمع الناظر هذا إلى ما تقدم.
ولو بنى القاضي الأمر على بصيرته في التزكية، لجاز ذلك، كما قدمناه، مذهباً واحداً، وإن اختلف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه.
ولو كان القاضي خبيراً بمعرفة القيم، فأراد بناء الأمر على بصيرته في التقويم؛ فالذي تلقيته من كلام الأصحاب شيئان: أحدهما - أن ذلك لا يسوغ؛ فإن التقويم اجتهاد، وليس له في المجتهدات الاكتفاء ببصيرة نفسه، وإنما اختلاف القول في قضائه بالعلم واليقين المستدرك، والقضاء في العدالة مستثنى عن قياس الأبواب؛ لاتساع النظر في التعديل والجرح، وخروجهما عن الضبط، وليس التقويم كذلك؛ فإنه أمر قريبٌ من الضبط، والرجوع فيه إلى معرفة قِيَم الأمثال مع تداني الصفات.
__________
(1) تقدير من المحقق مكان الذي ذهب من أطراف الحروف.
(2) في الأصل: " للقيمة ".
(3) اختيار من المحقق.
(4) تقدير منا على ضوء السياق.(18/540)
ومن أصحابنا من جعل علم القاضي بما يرجع إليه في القيم خارجاً على القولين في القضاء بالعلم.
فهذا ما رأيت ذكره ملتحقاً بعدد القُسّام.
وزاد صاحب التقريب طريقة أخرى، فقال: إن كان في الشركاء طفل أو مجنون، فلا بد من قاسمَيْن، وإن لم يكونا، فعلى قولين.
وهذا ليس فقهاً متيناً، فإن ما يُرعى من العدد في البينات لا يختلف بأمثال ما ذكره هذا القائل.
وقد انتهى ما أردناه من نصب القسام وإدرار الأرزاق عليهم من بيت المال إن كان فيه مال، وذكرنا ما يتعلق بالعدد.
11969- ونحن بعد ذلك نذكر استئجار الملاك مَنْ يقسم الملك المشترك بينهم، فنقول: إن تفاوتت الحصص، ووُجد منهم الاستئجار على القسمة مطلقاً، فللأصحاب طريقان: منهم من قال: نقطع بأن أجرة القسّام مفضوضة على الملاك على أقدار الأقسام، فعلى صاحب النصف منها النصف، وعلى صاحب السدس السدس، وهكذا.
ومنهم من قال: في كيفية توزيع الأجرة قولان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أنها على رؤوس الشركاء بالسوية وإن تفاوتت حصصهم، فهؤلاء يَرَوْن أن القسمة، وأجرَ القاسم يجريان مجرى الشفعة عند ازدحام الشركاء في طلبها، وفي الشفعة القولان المشهوران في أنها تفضّ على الرؤوس، أو على حصص الأملاك؟
ومن سلك الطريقة الأولى فرّق بين أجرة القاسم وبين الشفعة؛ بأن قال: أجرة القاسم على مقابلة عمله. [وتردُّدُه] (1) في الحصة الكبرى، وعملُه إلى تحصيل الإفراز أكثر من تردده وعملِه في الحصة القليلة، والشفعة لدفع الضرر، ولا يكاد يظهر تفاوت في الضرر على حسب تفاوت الأملاك، وهذا يوجب الفرقَ بين البابين. [ولمن
__________
(1) في الأصل: " ويرد به ".(18/541)
يُجري] (1) القولين في أجرة القسام أن يقول: ما اعتمده الأصحاب (2) يقع [في] (3) مؤونة القسمة؛ فإذا كنا نفاوت في أجرة القسام، فقد تفاوت الغرض في أول مرتبة.
وهذا يوجب تطبيق القولين على القولين (4) . ولهذا قال أبو حنيفة (5) رضي الله عنه بأجرة القسّام على الرؤوس.
وما ذكرناه من التردد فيه إذا استأجر الشركاء قاسماً أو قاسمين استئجاراً مطلقاً، وهذا بعينه يجري إذا كانت القسمة جَبْرية، وكان نصب القاسم من جهة القاضي، فالكلام في إلزام المُلاّك مؤونةَ القسمة على النسق الذي ذكرناه في الاستئجار المطلق.
ولو عقد الملاّك عقوداً مع القاسم، فانفرد كل واحد باستئجار للعمل في نصيبه، فهذا على حكم التراضي، فإن استأجر القليلُ النصيبِ بأكثرَ، واستأجر صاحب الكثير بأقلَّ، فهو صحيح، لا غموض فيه.
ولو تبرع القاسم على بعضهم، لم يَخْفَ دركُ مثل هذا.
11970- ولكن لا بد من ذكر صورتين بعد هذا، إحداهما - أنهم لو عقدوا عقوداً معاً، وكانوا ثلاثاً، صحت العقود على ما وقع التراضي عليها، ولو عقد واحد من الثلاثة، ثم عقد الثاني، فالعقدان صحيحان، فإذا أراد الثالث أن يعقد إجارة في نصيبه، فهذا فيه إشكال يبرزه سؤال، وهو أنه التزم إفراز نصيبين، وهم ثلاثة، ومن
__________
(1) في الأصل: " ولم يجر ".
(2) أي في الطريقة الأولى.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) ولمزيد الإيضاح نثبت هنا عبارةَ الغزالي في البسيط، وهذا نصها: "إذا استؤجر القسام مطلقاً بمالٍ معلوم، ففيه طريقان: منهم من قطع بأن الأجرة على قدر الحصص. ومنهم من قال: قولان. في القول الثاني تقسم على عدد الرؤوس، كما في الشفعة، والأول يفرق بأن تردد القسام وعمله في المساحة على الحصة الكثيرة يكثر. فيجاب عنه بأنه إذا كثرت مؤنته فقد كثرت ضرورة الشفعة لرفع ضرر المقاسمة، فينبغي أن يجريا مجرى واحداً، ولذلك قال أبو حنيفة: تقسم على عدد الرؤوس في المسألتين" (ر. البسيط: جزء 6/ورقة: 114 ش) .
(5) ر. مختصر الطحاوي: 331.(18/542)
ضرورة إفراز نصيبين تميز نصيب الثالث، فكأن الأَوَّلين (1) استحقا عليه ما يؤدي إلى إفراز نصيب الثالث، فإذا أراد الثالث أن يبتدىء استئجاراً، فكأنه يبغي بهذا الاستئجار عملاً هو مستحَق لغيره، أو مستحق على الأجير من جهة غيره، هذا هو الإشكال.
وقد أجاب القاضي عنه كما (2) وجه عليه بأن قال: لا بد في [إفراز] (3) النصيبين من عمل في النصيب الثالث [، كالمساحة] (4) ، والتخطي لأجلها، وإثبات الأسماء، والقرعة، فيصح الاستئجار من الثالث على هذه الأعمال.
وهذا الذي ذكره لا يَشفي الغليل ولا يدرأ الإشكال.
وسبيل الجواب أن استئجار الأوّلَيْن لا يتم الغرض منه ما لم يستأجر الثالث؛ فإن هذا مفروض في غير الإجبار. وكيف يتأتى تمييز الحصتين إلا بالتصرف في حصة الثالث، فإن فرضنا التراضي (5) ، فالامتناع للتصرف في ملك الغير من غير رضاه.
وإن فرضنا [الإجبار] (6) من جهة السلطان، فهو يُنزل المؤونةَ عليهم على اجتماع.
فالمشكل أنَّ انفراد كل واحد بالاستئجار بعيدٌ عن التصور؛ فإن القسمة من ضرورتها بسط العمل على الحصص، فكما أن المِلك قبل القسمة غير متميز، فعمل القسّام في القسمة غير متميز، فإن كان الشركاء على الاستئجار من غير تسامح، ووجدوا أجيراً يتبرع على أحد، فانفراد بعض الشركاء بالاستئجار محالٌ غير متصور.
ولو قال بعض الشركاء: أنا أستأجر القسام، ورضي شريكه أو شركاؤه، فهو متبرع على شركائه، وقد أذن له شركاؤه أن يُعْمِل قاسماً، وليس هذا ما نريد. نعم، لو استأجروا قاسماً دفعة واحدة، وتفاوتوا في الملتزَم مع التساوي في الحصص، أو تفاوتوا على خلاف نسبة الحصص المتفاوتة، فهذا جائز؛ فإن عمله يستحق دفعة
__________
(1) كذا. وهو صواب، فإذا تقدم المعدود تجوز الموافقة في التذكير والتأنيث.
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) في الأصل: " إقرار".
(4) في الأصل: " كالمساجد".
(5) أي قسمة التراضي.
(6) في الأصل: "الإخبار".(18/543)
واحدة لهم، وكلٌّ قابلَ حظَّه من عمله بما أراد، فهذا سائغ لا منع فيه، وغايته حصول شيوعٍ في العمل المستحَق.
فأما إذا [ترتبت] (1) العقود من غير تراضٍ ولا إجبار، فلا معنى له؛ فإن الأول يكون مستأجِراً على عمل يعم الأملاك، وليس إليه هذا، ولا يتصور أن يستحِق فيه مقدارَ عمله في حصته قبل أن يتمكن القاسم من العمل العام.
ومن فهم هذا لم يعُدّ ما قدمناه إشكالاً، ورد الإشكال على هذا، ثم دفعه في التصوير، ويتحصل منه أن انفراد كل واحد بالاستئجار محال. وإن أذن أصحابه في انفراده نُظر: فإن أراد أن يستأجر ليغرم تمام الأجرة، فهذا متبرع عليهم، [موكَّل] (2) عنهم في الاستئجار، وإن أذن له في الانفراد، لا على هذا التقدير، فهو باطل.
فصل
فال: " وإذا تداعَوْا إلى القسم ... إلى آخره " (3) .
11971- إذا كان بين أقوام ملكٌ يمكن فرضُ القسمة [فيه] (4) ، فإن تراضَوْا على القسمة، صحت القسمة، على ما سيأتي هذا في أثناء الباب، إن شاء الله.
وإن طلب بعض الشركاء القسمةَ، وأبى آخرون، فقد يجبر على القسمة، وقد لا يجبر عليها.
فإن كان الكلام مفروضاً في إفراز الحصص من ذوات الأمثال، فلا إشكال، والقسمة ممكنة، والممتنع عنها يُجبر عليها، فإن لم يكن المشترَك من ذوات الأمثال، ولكن كانت القسمة ممكنة، كالأراضي، والدور، وما في معناها، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب النظر إلى المقصود من الملك المشترك، فإن كان جنس ذلك المقصود يبقى في كل حصة، فهذا ملكٌ قابل للقسمة، والممتنع عنها مُجبر عليها،
__________
(1) في الأصل: " ترتيب".
(2) في الأصل: " فوكل ".
(3) ر. المختصر: 5/244.
(4) في الأصل: " فيها ".(18/544)
وهذا كقَرَاحٍ (1) يزرع، ولو قسم، لأمكنت الزراعة في كل حصة، أو كمسكن مشترك، ولو قسم لتأتى السكون (2) في كل حصة.
ويستبين الغرض بتصوير يقتضي ذلك، فإذا كان المشترك حماماً أو طاحونة، فقسمة الحمام ممكنة حِسّاً، ولو فرضت، لكانت كلُّ حصةٍ منتفعاً بها، بأن تتخذ مخزناً أو مسكناًً، ولكن يختلف جنسُ الانتفاع، فلا إجبار على القسمة، فإن القسمة تُبطل جنسَ المنفعة الكائنة حالةَ الشركة، هذا مذهب الجمهور.
وقال قائلون من الأصحاب: إذا أمكنت منفعةٌ وإن خالفت الجنسَ الأول، فالإجبار على القسمة جارٍ، وهؤلاء يُجبِرون على قسمة الحمام والطاحونة، وهذا ذكره القاضي وغيره، ولم يذكره أحد إلا زيّفه، فلا عَوْد إليه.
وللأصحاب تصرف في الطريقة المشهورة، ففالوا: الحمام الصغير لا يقبل القسمة؛ لأنه لو قسم، فكل حصة لا تكون حماماً، ولا يتأتى اتخاذها حماماً، بأن يفرض لها أسباب مجردة من أتون ومستوقد وغيرهما، فهذا تعطيل منفعة الحمام بالكلية.
وإن كان الحمام كبيراً، وقد هيىّء على أتون واحد ومستوقد واحد، ومِرجل واحد، ولو قسم، أمكن اتخاذ حمام صغير من كل حصة بإحداث أسبابٍ لها، فهل هذا مما يقبل القسمة؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو غير قابل للقسمة؛ فإن كل حصة لا تكون حماماً، وقد كانت الجملة حماماً، وإمكان اتخاذ حمام استحداث منفعة بعد تعطل الأولى.
11972- ومن تمام البيان في ذلك أن الدار إذا كانت مشتركة بين شريكين لأحدهما عُشرها، وللثاني تسعة أعشارها، وكان عُشر الدار لا يصلح للمسكن وتسعة الأعشار تصلح -لو ميّزت- للسكون، فلو جاء صاحب العُشر طالباً للقسمة، فالطريقة المشهورة أنه لا يجاب، لأنه متعنِّتٌ في طلبه ساعٍ في إبطال المنفعة من حصة نفسه،
__________
(1) القراح: الأرض التي لا بناء ولا غراس بها.
(2) السكون: المراد السكن، أي اتخاذها مسكناً.(18/545)
وإنما [يُسْتَعَفُ] (1) الطالب إذا كان لطلبه وجه في تحصيل المنفعة، ثم قد لا يُنْظَر إلى الكثير [والقليل] (2) ؛ فإن الإنسان قد يؤثر الانفراد بالقليل على الاشتراك في الكثير، فأما إذا كان الطلب يتعلق بالتعطيل، فلا إجابة.
فأما إذا جاء صاحب الكثير مطالباً، فهل يجبر صاحب العشر؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجبر؛ لأن الطالب ينتفع إذا أجيب، وله أن لا يبالي بتعطل منفعة صاحب العشر، فإنه يقول: أُتيتَ من قلة نصيبك، وكان يتهيأ لك الانتفاع بضم نصيبي إلى نصيبك. هذا وجهٌ. والوجه الثاني - أنه لا يُجاب، لأنه يبغي تعطيل منفعة صاحبه، وليس له أن يضر بالغير، كما ليس له أن يطلب قسمة تضرّ به، هذه هي الطريقة المشهورة.
قال العراقيون والقاضي: من أصحابنا من جعل في كل واحد منهما وجهين إذا طلب القسمة. أما إجراء الوجهين في حق صاحب الكثير، فعلى ما ذكرنا، وأما إجراؤهما في حق صاحب القليل، فمن جهة أنه يقول: لي أن أُبطل حق نفسي، وأنت لا تتضرر تضرراً معتبراً فما عليك، فأجبني ولا تشفق عليّ، فإنني مطلق في حصتي.
وهذه الطريقة لا بأس بها. والأشهر الأول.
11973- ثم بنى الأصحاب على الترديد الذي ذكروه أمرَ الشفعة. ففالوا: إن باع صاحب العشر نصيبه، وقلنا: لا يملك الاستقسام، فليس لصاحب التسعة الأعشار الشفعة؛ فإن المعوّل في إثبات الشفعة على توقع طلب القسمة من الدخيل الجديد، ولهذا لا تثبت الشفعة فيما لا ينقسم على القول الجديد.
ولو باع صاحب الكثير نصيبه، فهل يثبت لصاحب العُشر الشفعة؟ هذا يخرج على الوجهين في أن صاحب الكثير هل يُجبِر على القسمة؟ فإن ملكناه الإجبار، فلصاحب
__________
(1) كذا بالأصل (بزيادة التاء) استعف، ومن معاني هذه الزيادة المبالغة في معنى الفعل، فالمعنى يُسعفُ الطالب ويجاب إذا كان لطلبه وجه.
(2) في الأصل: "والتقليل".(18/546)
العُشر الشفعة؛ دفعاً لطلب القسمة، وإن لم نملّكه الإجبار، فلا شفعة لصاحب العشر، وكأن انقسام الدار على هذه الصفة يلحقها بما لا ينقسم على هذا الوجه من الجانبين.
وإذا كنا نُتْبع الشفعةَ القسمةَ وطلبَها، وضممنا طريقة في القسمة إلى طريقة، انتظم من المجموع أوجه في الشفعة: أحدها - أنها لا تثبت لواحد من الشريكين، تفريعاً على أن واحدا منهما [لا يطلب] (1) القسمة. والثاني - أنه تثبت الشفعة لهما على البدل، تفريعاً على أن كل واحد منهما يطلب القسمة، فيجاب إليها، والثالث - أن الشفعة تثبت لصاحب القليل، ولا تثبت لصاحب الكثير، ولا يكاد يخفى خروج هذا الوجه على التفاصيل المقدمة في الإجابة إلى القسمة.
11974- ومما نصوّره من هذا الجنس أن الدار لو كانت بين ستة، لواحد منهم نصفها، ولكل واحد من الباقين عُشرها، وكان العشر لا يصلح للسكون، فلو اجتمعوا -أعني أصحاب الأعشار- وطلبوا من صاحب النصف القسمة، أجيبوا.
وهذا على تقدير رضاهم بالشيوع في النصف الذي يبقى لهم، وكذلك لو أراد صاحب النصف أن يميّز نصفه [من حصص شركائه] (2) على تقدير أن يبقى النصف شائعاً فيهم، فيجب أن يجاب.
فلو بيع النصف، وأراد أصحاب الأعشار أن يأخذوه بالشفعة، والتفريع على أن صاحب كل عشر لو استقسم، لم يُجَب، ولو استقسم صاحب الكثير أجيب، فتخرج الشفعة على هذا المسلك، فنقول: لهم الشفعةُ في النصف طلباً لدرء القسمة من الدخيل، وإن باعوا حصصهم، فصاحب النصف يأخذها بالشفعة.
والغرض أن نبين أن الشفعة لإمكان الاستقسام من الدخيل، فليتَّبع الناظر هذا الأصلَ في النفي والإثبات.
11975- ثم المذهب الصحيح أن الحكم قد يختلف في تقسيط المؤنة في إجبار
__________
(1) في الأصل: "لا يبطل".
(2) في الأصل: "من حصص من شركائه".(18/547)
الممتنع عن القسمة عليها بأن يكون واحد من الشركاء طفلاً أو لا يكون.
وذكر صاحب التقريب والقاضي وجهاً ضعيفاً في الفرق: فإن كان الشركاء مطلَقَيْن بالغين، [فالحكم] (1) على ما ذكرناه، وإن كان الملك بين بالغ وطفل، فإن كانت الغبطة في القسمة، فابتداً قيّم الطفل، واستقسم، أجبر البالغ على القسمة، وقسطت المؤنة: إما على التسوية، وإما على قدر الملك بين الطفل والبالغ، ولو لم يكن في القسمة غبطة، فلا شك في أن القيّم لا يطلبها، ولو طلبها ردّ عليه القاضي.
وإن طلب الشريك القسمة، لم يختلف أئمتنا في أنه يجاب، وإن كان في إجابته تنقيص لقيمة نصيب الطفل، ولكن الظاهر أن المؤنة تقسط على القياس الممهّد في الباب.
[وفي ذلك وجه ضعيف] (2) ، وهو أنا نقول [للبالغ] (3) : المؤنة عليك إن أردت القسمة وحدك، وهذا ضعيف لا أصل له؛ إذ لو كان يستدّ المصير إلى هذا، لوجب أن يقال: لا يجاب طالب القسمة إليها، رعايةً لحق الطفل، حتى لا يتطرق إلى ملكه نقصان، وكان من الممكن أن يقال للبالغ: اصبر حتى يبلغ الطفل ويستقل، ثم اطلب القسمة، فلما لم يصر إليه أحد من الأصحاب، [وقطعوا] (4) بإثبات القسمة، وجب القطع [بفض] (5) مؤنة القسمة على الملكين؛ فإن القسمة إذا كانت جبرية، فالأمر فيها إلى الوالي، فكأنه موقعها عند الاستدعاء، وهو الذي يُنزل المؤنة على الأملاك.
ثم من حكى الوجهَ الضعيفَ، اختلفوا فيه؛ فمنهم من حكاه حيث تنتقص قيمة حصة الصبي، ومنهم من علق الوجه بالطلب، ففال.: إذا ابتداً طلبَ القسمة البالغُ، فالمؤنة عليه. وإن لم يكن في القسمة ضرر على الطفل، وهذا على نهاية الضعف.
ومنهم من حكى هذا الوجه الضعيف فيه إذا كانت القسمة مضرة بالطفل، وإن لم يكن من هذا الوجه بد، فيجب أن يكون محله هذه الحالة. وهو حيث يُحكَى ضعيف.
__________
(1) في الأصل: "والحكم".
(2) في الأصل: "وعند ذلك الوجه الضعيف".
(3) في الأصل: "للبائع".
(4) في الأصل: " وبلغوا " والمثبت من (ق) .
(5) في الأصل: "بعض".(18/548)
فصل
11976- نجمع في هذا الفصل تفصيلَ القول في أصناف الأموال، وتحقيقَ المذهب في ماهية القسمة إذا وقعت، على وجوهها المختلفة.
فأما القول في أصناف الأموال، فنقول: لا يخفى أن ذوات الأمثال معرضة للقسمة الجبرية، فمن دعا من الشركاء إليها أُجبر صاحبه عليها.
وإن لم يكن المال من ذوات الأمثال، فإن كانت القسمة تتأتى فيها بالتقدير، وكانت السهام تتعدَّل به من غير تقويم، ولا احتياج إلى ردٍّ -على ما سنصف الرد- فالقسمة الجبرية تجري في هذا، كقسمة المزارع والعَرْصات، إذا كانت لا تختلف قيم أطرافها، فسبيلها في مقصود القسمة كسبيل ذوات الأمثال، لإمكان التعديل بالقَدْر المحض.
فلو قال قائل: لو كان غرض الشركاء مختلفاً في الجوانب، فكان يبغي بعضهم الجانب الشرقي لاتصاله بملكٍ له، فما القول فيه؟ قلنا: لا نظر إلى الأغراض، مع ما ذكرناه ولا يختلف بها حكم.
[فلو] (1) مات الرجل، وخلف عبيداً بين الورثة، وأمكن أن تعدّل السهام من غير حاجة [إلى الرد، وذلك مثل] (2) أن يخلف ثلاثة أعبد بين ثلاثة بنين، قيمة كل عبد مائة، فجَعْلُ العبيد ثلاثةَ أسهم ممكن، فإذا دعا داعٍ إلى هذه القسمة، فهل يُجبر عليها من يشاركه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فالذي ذهب إليه الأكثرون الإجبارُ؛ فإنها قسمة معدلة، يترتب عليها [التفاصُل] (3) من غير ردّ، فصار [ذلك] (4) كأطراف الأرض.
ومن أصحابنا من قال: لا إجبار؛ لأن العبيد متعددون، وليسوا في حكم الشيء
__________
(1) في الأصل: "ولو".
(2) في الأصل: " إلى الردة، ذلك مثل ".
(3) في الأصل: "تترتب عليها التفاصيل". والمثبت تصرف من المحقق.
(4) مكان كلمة ذهب بها البلل من أطراف الأسطر.(18/549)
الواحد المشترك، ونحن وإن كنا لا نعتبر الأغراض في القسمة إذا لم ترجع إلى مقصودٍ مالي، [فإذا تفاحشت] (1) ، تعين اعتبارها، وهي في الغالب ظاهرة في أعيان العبيد (2) .
هذا إذا أمكن تعديل القسمة مع استواء الرؤوس والعدد.
فإن كان خلف الميّت بين ثلاثة بنين أربعة أعبد، قيمة عبد [مائة] (3) وقيمة عبد مائة، وقيمة عبدين مائة، فإذا أمكنت القسمة على هذا التقدير، ففي الإجبار عليها، في هذه الصورة وجهان مرتّبان على الأولى، وهذه أولى بألا يجبر عليها؛ لظهور التفاوت في العدد، وإذا ضممنا الأولى إلى هذه، [انتظم] (4) فيها ثلاثة أوجه.
11977- ولو كان بين الشركاء حمّاماتٌ، أو طواحينُ، فكل واحد [منها] (5) لا ينقسم في نفسها، ولكن إذا أمكن التعديل بالقيمة بأن يجعل كل حمام سهماً، فالقول في الحمامات كالقول في العبيد، والخلاف في الإجبار كما مضى.
وقال العراقيون: لا إجبار في الأبنية والبقاع على التصور الذي ذكرناه بخلاف العبيد، فرأوا تفاوتَ الأغراض في البقاع أوضح.
11978- ومما ينبغي أن يفهمه الناظر في الفصل أن قسمةَ العبيد، وقسمةَ الحمامات على الصورة التي ذكرناها تسمى قسمة النقل والتعديل، فإذا أمكنت قسمة
__________
(1) تقدير منا على ضوء ما بقي من خيالات وظلال لبعض الحروف.
(2) المعنى أن الأغراض لا اعتبار بها إذا تساوت القيمة، ولكن قد تبلغ الأغراض مبلغاً به احتفال، وهذا كما يحدث أحياناً في أعيان العبيد، فقد يكون فيهم الكاتب، والحاسب، وصاحب الحرفة، وهي أغراض بها اعتبار، تجعل العبيد -عند هذا القائل- يلتحقون بما لا يقسم، فلا إجبار، فلا تكون القسمة إلا بالتراضي.
(3) أثبتناها من بسيط الغزالي، فقد عرض الصورة نفسها، وفي الأصل ذهبت فيما ذهب من أطراف الحروف.
(4) في الأصل: "لينتظم".
(5) في الأصل: " منهما ".(18/550)
شيء واحد سميت القسمة إفرازاً. وهذا اصطلاح لا فقه فيه، ولكن ذكرناه لنستعمله في المسائل.
11979- ولو خلف الميت طاحوناً، وحماماً، وعبداً، فاختلفت الأجناس، وأمكن التعديل بجعل [كل] (1) صنفٍ سهماً، ففي الإجبار وجهان مرتّبان على ما إذا لم تختلف الأصناف، وهذه الصورة أبعد عن الإجبار.
ومن ضم جميع هذه الصور نظم فيها وجوهاً لا يخفى طردها.
والرابط الفقهي أن من أصحابنا من يعتبر التعديل وإمكانَه، ومنهم من يلتفت على الأغراض بعضَ الالتفات، ثم فيها التفاوت والترتّب والاختلاف [جارٍ] (2) بحسبها.
ولو خلف قِطعاً من الأرض متميزة، وكانت كل قطعة قابلة للقسمة على انفرادها، فإن طلب الشركاء قسمة الإفراز في كل قطعة، تعيّنت الإجابة على الباقين، وإن طلب بعضهم قسمة التعديل، وهو جعل كل قطعة سهماً، فلا إجبار على التعديل، مع إمكان الإفراز، وهذه الصورة متفق عليها بين الأصحاب، ولذلك صوّرنا الطواحين والحمامات في القسم الأول لمّا أردنا الكلام في الأبنية على حسب ما يجري في العبيد.
11980- ومما يتعلق بما نحن فيه صورة: نذكرها؛ وهي أنه إذا [خلف] (3) حماماً صغيراً وآخر كبيراً، ونحن نحتاج إلى سهمين، وكانا لا يعتدلان إلا بأن يجعل الحمام الصغير مع ثلث الحمام الكبير سهماً، ونجعل ثلثي الحمامِ الكبير سهماً، فالأصح أنه لا إجبار على هذا النوع؛ فإن القسمة كذلك لا تميِّز ولا تفْصل، بل تُبقى اشتراكاً؛ فلا إجبار عليها.
وقال بعض أصحابنا: في الإجبار على هذا النوع خلاف، وهذا بعيد.
__________
(1) في الأصل: " ذلك ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق.
(2) في الأصل: " وجاري ".
(3) في الأصل: " خلفه ".(18/551)
11981- ومن أراد [جمع] (1) المسائل، وصورة الخلاف والوفاق قال: إذا أمكنت قسمة الإفراز في كل صنف، [فعليها] (2) الإجبار، ولا إجبار على تعديل الأصناف سهاماً، هذا متفق عليه.
وإن أمكن النقل والتعديل في السهام، [ولم يمكن] (3) الإفراز في كل صنف، فالخلاف يجري على ترتب بحسب تفاوت الأغراض.
وإن كانت القسمة النقلية تُبقي شركةً في صنف كالحمام الصغير والكبير، فهذا أبعد الصور عن الإجبار، مع جريان الخلاف عند بعض الأصحاب، وظاهر النص يميل إلى نفي الإجبار في القسمة المسماة النقل والتعديل.
11982- هذا أحد مقصودي الفصل، وبعد نجازه شيء، وذلك أن الأصحاب أطلقوا قسمة الدور، وأجْرَوْا فيها قسمةَ الإفراز إجراءهم إياها في العرصات، وهذا فيه نظر؛ فإن الدّور تشتمل على أبنيةِ صُففٍ، وبيوت، وأروقةٍ، وهي ذوات أشكال مختلفة، والأغراض في السكون تتفاوت تفاوتاً بيناً، وهذا زائد على الأغراض النفسية التي تفرض في العبيد، بل هي راجعة إلى تفاوت المنافع، فكيف يُطْلَق الوفاق في الإجبار على قسمة الدور مع ما وصفناه؟
والوجه أن يقال: إن استوت الأبنية، فكان في شرقيّ الدار صُفّة وبيت، وكذلك في غربيّها، ويتأتَّى التعديل بتبعيض العرصة، فتشتمل كل حصة على مثل ما تشتمل عليه الحصة الأخرى من الأبنية، فيجوز أن يقال: يجري الإجبار على مثل هذه القسمة، ولا يختلف الأمر باختلاف الجهة، وليست الأبنية المتساويةُ والدار واحدة بمثابة دارين متقابلتين في سكة متساويتين في وضع الأبنية والأشكال؛ فإن ذلك يخرج على الخلاف، بخلاف أبنية الدار إذا تساوت.
فأما إذا اختلفت أشكال الأبنية، فيتعين عندي قطعاً تخريج الخلاف في إجراء
__________
(1) في الأصل: "جميع".
(2) في الأصل: " فعليهما ".
(3) في الأصل: " ولم يكن ".(18/552)
القسمة فيها، لما أشرت إليه من تفاوت الأغراض واختلاف المنافع.
11983- فأما الكلام في ماهية القسمة، فنقول: أولاً: اشتهر القولان في أن القسمة بيع، أو إفراز حق: أحدهما - أنها بيع، وكأن كلَّ واحد من الشريكين باع ما كان له فيما صار إلى صاحبه، بما كان لصاحبه فيما صار إليه، وهذا التقدير لا بدّ منه؛ فإن حق كل واحد كان شائعاً في جميع المال قبل القسمة، ولا محمل لاختصاص كل شريك إلا ما ذكرناه.
والقول الثاني - هو إفراز حق، فكأن حق كل شريك لم يكن متعيناً قبل القسمة، فتعين بالقسمة، وهذا كالمال الثابت في الذمة، يتعين بالقبض، وإذا لم تكن العين المقبوضة ديناً، فلا نجعلها عوضاً عن الدين أيضاً؛ إذ لو قدرنا ذلك، لما صح قبض المسلَم فيه من جهة امتناع الاعتياض عنه، وإذا ثبت القولان مرسلين كذلك، فالمقصود تبيينُ محل القولين وتمييز صورٍ من الوفاق إن كانت.
فنقول: إن كانت القسمة قسمة إفراز، وكانت بحيث يجبر عليها، ومن ضروراتها أن لا [يكون فيها] (1) ردٌّ، كما سنصفها الآن، فالقولان جاريان في مثل هذه القسمة.
وإن أجْبرنا على قسمة النقل في الأعيان المنفصلة كالعبيد، فللأصحاب طريقان: أحدهما - القطع بأنها بيعٌ، لانفصال العين عن العين، وتمييز المشترك عن المشترك، فإذا جرى مع هذا تخصيصٌ يعتبر حمله على البيع. ومن أصحابنا من أجرى القولين واعتمد الإجبار على القسمة؛ فإن التفريع على إجراء الإجبار.
وإن قلنا: لا إجبار على هذا النوع من القسمة، فلا بد وأن يكون صَدَرُها عن التراضي، فالمذهب الذي يجب القطع به أن القسمة إذا جرت، كانت بيعاً قولاً واحداً.
وأبعد بعض الأصحاب، فأجرى القولين في ذلك أيضاً، وقال: نجريهما، ونقول في أحدهما: إفراز مشروط بالتراضي، كما أنا نقول: إن القسمة الجبرية بيعٌ جارٍ جبراً من غير تراضٍ، وإن لم نُبعد الإجبار على البيع، لم نُبعد الإفراز على التراضي.
__________
(1) تقدير من المحقق مكان الذاهب من أطراف الأسطر.(18/553)
ومن صور الفصل أن العرصة لو كانت مقسومة بين شريكين، وكانت القسمة تختلف بسبب قُرْبِ شقٍّ من الماء، وبُعْدِ الشق الآخر منه، فلا تتأتى القسمة تعويلاً على مجرد التقدير المساحي، بل لا بد من تعديل القيمة مع التفاوت في المقدار، فقد يقع النصف ثلثاً بالمساحة، والنصف الآخر ثلثين، فهل يجري القولان في هذه الصورة، أو لا يجري الإجبار فيها، والاحتياج إلى التفاوت في المقدار مع التعديل في القيمة لا يمنع الإجبار على القسمة، هكذا قال الأصحاب. ثم ترددوا في إجراء القولين، فأجراهما بعضهم، وقال قائلون: نقطع بأن القسمة تكون بيعاً؛ فإن التمييز مع اختلاف [الأقدار] (1) يبعد، فقد تنشّأ (2) تردد الأصحاب في القدر والقولين من أصولٍ منها الإجبار واشتراط الرضا، ومنها تعدد الأصناف والاتحاد، ومنها تفاوت الأقدار لاختلاف القيم.
11984- وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن في القسمة رد، ومعنى الرد على الجملة أن لا يتأتى تعديل السهام إلا بأن يرد بعض الشركاء على البعض دراهم، أو ما يتواضعان عليه من عوض، وكانت السهام لا تتعدل دون ذلك، وهذا قد يتفق في الدور، ويتفق في العبيد وغيرها، فإذا كان بين رجلين عبدان قيمة أحدهما ألف وقيمة الثاني ستمائة، وإن أرادا أن يتفاصلا ويقطعا الشركة في العبدين، فلا وجه لهذا إلا أن يأخذ أحدهما العبد الذي يساوي ألفاً ويغرم لصاحبه مائتي درهم؛ حتى يعتدلا.
فإذا كانت القسمة على هذه الصورة، فالكلام في ماهيتها فرعٌ للكلام في الإجبار عليها، قال الأصحاب: لا سبيل إلى الإجبار على بذل العوض أصلاً، وهل يجري الإجبار على القدر الذي لا حاجة فيه إلى ردّ؟ فيه اختلاف قدمناه، وذلك بأن نجعل العبد المساوي ستمائة سهماً، ونجعل ستمائة من العبد المساوي ألفا سهماً، ويبقى الشيوع في مقدار أربعمائة. وقد مضى أن الإجبار على مثل هذا هل يجري أم لا؟
فإذا تمهد هذا، قلنا بعده: أطلق الأصحاب القول بأن القسمة المشتملة على الرد
__________
(1) في الأصل: "الإفراز".
(2) كذا. والإمام استعمل هذا الفعل أكثر من مرة بهذه الصيغة من صيغ الزيادة، ومن معانيها التدريج، كأن التردد نشأ رويداً رويداً، وشيئاً فشيئاً.(18/554)
بيعٌ، ولم يُفَصِّلوا، والذي نراه تنزيلُ هذا على ما قدمناه من الإجبار ونفيه، فنقول: القدر الذي يقابل العوضَ لا شك أنه مبيع وما يجري فيه بيع، ومن سمّى هذا القدر قسمة، فهو متجوّز أو غافل، فأما ما لا يقابله العوض المردود، فالوجه [بناؤه] (1) على الإجبار والتراضي، فإن قلنا: يجري الإجبار فيه، ففي ذلك المقدار قولان: الإفراز والبيع مذهباً واحداً، وإن قلنا: لا يجري الإجبار فيما وراء ذلك، ففي القسمة [المفتقرة] (2) إلى التراضي طريقان قدمنا ذكرهما، فليجريا هاهنا. وقد بطل إطلاق القول بالقطع بأن القسمة المشتملة على الرد بيع. وبان أن هذا التفصيل الذي ذكرناه لا بد منه، [ولم] (3) نذكره حتى رأينا في كلام الأئمة ما يدل عليه.
11985- وكل ما ذكرناه بعدُ ليس على البيان الذي نطلبه، ونحن نختتمه بما يوضح الغرض؛ فنقول: إذا كانت القسمة جبرية، فالسهام تعدّل، والقرعة تعمل، كما سيأتي كيفيةُ القسمة وتمييز الحصص، ولا حاجة إلى لفظ، وإن قلنا: إن القسمة الجبرية بيعٌ، [فكان] (4) لا يمتنع أن يجبر كل واحد، على أن يقول: بعت مالي في نصيبك بمالِك في نصيبي، وهذا لم يشترطه أحد من الأصحاب.
فأما القسمة التي لا إجبار عليها؛ فالتعويل فيها بعد التعديل على التراضي، فإن عُدِّلت السهام، وأُجريت القرعة، وقالوا: رضينا بهذه القسمة، وصدر الرضا منهم قبل التفصُّل والتميُّز، فهذا القدر كافٍ، ولا حاجة إلى إجراء لفظ البيع.
ولو تراضَوْا بحكم القرعة قبل إخراجها، وليست القسمةُ جبريةً، ثم بدا لبعضهم، فرجع، بطل الرضا وفاقاً، ولا جبرَ. وإن استمروا على الرضا حتى خرجت القرعة، ولم يُحدثوا بعد خروجها رضاً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - وهو الذي قطع به المراوزة أن ذلك الرضا لا حكم له، ولا بد من إحداث رضا بعد خروج القرعة.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أنهم إذا استمروا على الرضا حتى خرجت
__________
(1) في الأصل: " بناء ".
(2) في الأصل: " المفترقة ".
(3) في الأصل: "ولا".
(4) في الأصل: "وكان".(18/555)
القرعة، لزمهم حكمها، كما لو أحدثوا رضاً بعد القرعة.
ثم الذي وجدت في الطرق أنهم إذا أنشؤوا الرضا بعد القرعة، فلا حاجة إلى لفظ البيع، واختلفوا في أنا هل نشترط التلفظ بالقسمة؟ قال قائلون: لا بد من ذلك فليقولوا رضينا بهذه القسمة، أو ليذكروا عبارةً عن مقصود القسمة من التمييز والتفاصل وما أشبههما، ثمّ تشعر القسمة بمعنى البيع؛ من حيث تفيد اختصاص كلٍّ بحصة، وانقطاعَ حقه عن حصص الباقين.
وقال قائلون: لا يشترط لفظ القسمة، بل يكفي أن يقولوا رضينا بهذا، ولا بد من لفظ يدل على الرضا، إذا كان صَدَرُ القسمة على التراضي.
11986- ثم رتّب الأئمة على أن القسمة بيع أو إفراز مسائلَ من الربويات، تقدمت مشروحة في البيع، ويجمعها: [أن] (1) ما جاز بيع البعض منه بالبعض، فالقسمة جارية فيه، وما امتنع بيع البعض بالبعض، ففي إجراء القسمة فيه قولان مبنيان على أن القسمة بيع، أو إفراز حق، ولا حاجة إلى إعادة تلك المسائل.
11987- ولو كان نصف الدار مملوكاً ونصفها مُحَبَّساً، فالقسمة فيها مبنية على القولين: إن جعلنا القسمة بيعاً، لم نجوّزه؛ لأن في تجويزها تجويز بيع الموقوف وإن قلنا: القسمةُ إفراز، فهي تجري في الموقوف والمملوك.
وإن كانت الدار بجملتها موقوفة على أقوام، فأرادوا اقتسامها، لم تصح القسمة وإن حكمنا أن القسمة إفراز؛ لأن في إجرائها مخالفةَ شرط الواقف، وقد جرى التحبيس منه على الشيوع، والقسمة تغيّر وضعَ الوقف.
فإن قيل: هذا يتحقق في إجراء القسمة بين المالك والموقوف عليه، قلنا: ذاك التغيير بمثابة تغيير الأملاك إذا كانت شائعة، فأُفرزت، فالإفراز تغيير لها، والمحذور تغيير شرط الواقف من الذين عليهم الوقف. وكان شيخي يقول: أبعد بعض الأصحاب، فأجرى القسمة في الموقوف عند مسيس الحاجة والإشرافِ على الخراب،
__________
(1) تقدير من المحقق على ضوء ما بقي من ظلال وخيال (حرف النون) .(18/556)
فإذا ظهر هذا المعنى ولو تُرك الوقفُ فَوْضَى (1) بين الأرباب، لا نمحق، ونحن قد نجري القسمة لأجل الضرورة، وحيث يقتضي القياس منعَها، وعليه خرّجنا مسائلَ في كتاب الزكاة إذا اجتاحت الثمار جوائح واقتضت قطافاً قبل الأوان، ولو جففت، لما كانت منتفعاً بها، وإخراج العشر فيها قسمة، ونحن قد نجيزها، وإن منعنا قسمة الرطب، فالضرورة في الوقف تنزل هذه المنزلة. وهذا بعيد لا أصل له.
فرع:
11988- إذا كان بين اثنين لَبِنٌ (2) مشتركة، فإن كانت شُكِّلَت بقاِلب واحد، فقد أجراها القاضي مجرى المتماثلات في إجراء القسمة فيها جبراً، وإن تفاوتت الأشكال، لتفاوت القوالب، صارت كالعروض في قسمة التعديل والنقل، وخرجت عن قسمة الإفراز. وقد تمهدت الأصول.
فصل
في كيفية القسمة
11989- القسمة في ذوات الأمثال بيّنة، والتعويل فيها على الوزن أو الكيل، فإن وقع التراضي على القسمة وزناً، وكان المقسوم من أموال الربا، وقد ورد التعبد بالكيل في بيع البعض منها بالبعض، فإذا أرادوا القسمة وزناً، خرج هذا على القولين في ماهية القسمة، فإن قلنا: القسمة بيع، فهي ممتنعة، لامتناع بيع البر بالبر وزناً بوزن.
وإن قلنا: القسمة إفراز حق، فهي جائزة؛ فإن الوزن أَحْصر، وهو إلى تحصيل تمييز الأقدار أقرب.
وإن كانت القسمة في الأراضي، فلا بد من المساحة، والتكسيرِ، بطريق الضرب، وإذا اختلفت حصص الشركاء، فكان لواحد النصف، ولواحد الثلث،
__________
(1) فوضى: المراد: مشاعاً.
(2) لَبِن: جمع لبنة. بفتح وكسر.(18/557)
ولواحد السدس، فالساحة تُقَسَّم أسداساً، وتفرز بالتقدير المساحيّ على هذا الوجه؛ فإن النصيب الأقل لا يتميز إلا كذلك، وقد تمس الحاجة إلى التعديل بالقيمة، وترك اعتدال المقدار المساحي، فإذا تميزت الأقدار، وتعدلت بالقيمة، فالذي نص عليه الشافعي أنا نكتب أسامي الملاّك في الرقاع، وهم ثلاثة في الصورة التي ذكرناها، ثم تخرج الرقاع على الأجزاء المعينة كما سنفصله.
ونصَّ في كتاب العتق على أن المريض إذا أعتق عبيداً لا يملك غيرَهم، واحتجنا إلى رد العتق إلى الثلث، فنكتب رقعة الرق ورقعة الحرية، ولم يذكر كِتْبة أسامي العبيد وأسامي الورثة، وقياس ذلك يقتضي في قسمة الساحة بين الشركاء أن يكتب على الرقاع أعيان الأجزاء المعدّلة، ثم تُخرَج إلى الأسماء؛ فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أنه يكتب أسماء العبيد في العتق، وأسماء الشركاء في قسمة الملك المشترك. والثاني - أنه يكتب أسماء الأجزاء هاهنا، والرق والحرية ثَمّ.
ومن أصحابنا من قال: ليمست المسألة على قولين، ولكنا نقر النصين قرارهما، ونفرق فنقول: الوجه كِتْبة الحرية والرق إذا كنا نميز الوصية عن حق الورثة، فإن الحرية حق الله تعالى، وليس من حقوق العبيد، فإنهم لو أسقطوه، لم يسقط، فكانت كِتبة الحرية أولى، والعين المقسومة فى هذه المسألة ملك الشركاء حقيقة، فكِتْبة أسمائهم أولى.
وقد اتفق الأصحاب أن هذا التردد في الأَوْلَى، ومن اختار مسلكاً [لم] (1) يمنع صحةَ الآخر إذا أفضى إلى مقصود التمييز، والتردُّدُ فيما هو الأَوْلَى.
11990- والتفصيل في الكيفية نبتديه الآن: فإذا كتبنا أسماء المالكين فيما نحن فيه، وهم ثلاثة، فقد اختلف الأصحاب على ما ذكره العراقيون، وصاحب التقريب: فمن أصحابنا من قال: يكتب أسماء الثلاثة في ثلاث رقاع، وإن تفاوتت حصصهم، ومنهم من قال: يكتب اسم صاحب السدس في رقعة، ويكتب اسم صاحب الثلث في
__________
(1) في الأصل: " لما ".(18/558)
رقعتين، ويكتب اسم صاحب النصف في ثلاث رقاع، قال العراقيون: وهذا أصح؛ فإن من كثر نصيبه، فهو أولى بأن تصيبه القرعة لعظم حظه، وقد يكون له غرض في أن يخرج اسمه أولاً على طرف الدار، فإذا كثرت الرقاع باسمه قرب خروج الرقعة له.
وقال صاحب التقريب: الصحيح الاكتفاء برقعة واحدة في حق كل واحد، ولا معنى لرعاية غرضه في طرف الدار؛ إذ ليس هو بالطرف أولى من صاحب السدس، ولو كان أولى بالطرف لكثرة نصيبه، لكان أولى بما يعيّنه من غير قرعة، والفقه ما ذكره صاحب التقريب.
وقد تأملت كلام الأئمة فاستبنت أن منهم من يجعل هذا الخلاف موضوعاً فيما يجب؛ حتى لو ترك، لم يجز. والعراقيون يثبتون الرقاع على أقدار الأملاك، وصاحب التقريب يختار أن ذلك غير جائز، وكلٌّ [يُفسد] (1) القسمة إذا جرت على خلاف ما اختاره. وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على تنزيلِ الخلاف على المستحب وتجويزِ الأمرين جميعاً.
فإذا كتبنا أسماء المالكين، فيقول القاسم: أخرجوا على هذا الطرف، ويعين باختيار نفسه طرفاً، وليس ذلك تحكماً، والقرعة مَغيبة، فإن خرجت قرعة صاحب النصف، فله ذلك الجزء والثاني على التوالي، ويكفيه قرعةٌ واحدة، ولو لم نفعل ذلك، وأخرجنا له القرعة في كل سدس، فربما تفرقت أجزاؤه في الأسداس، ويتخلل فيها ملك صاحبيه، وهذا ضرر بيّن، لا غرض فيه للشركاء، فإن خرجت قرعة صاحب السدس، فله الجزء الرابع، ثم لا فائدة من إخراج القرعة الثالثة، بل الخامس والسادس لصاحب الثلث، وإن خرجت أولاً قرعة صاحب السدس، فله الجزء الأول من الطرف المعيّن، ثم يُخرج قرعةً أخرى، فإن خرجت قرعة صاحب الثلث، فله
الثاني والثالث، ثم الباقي لصاحب النصف من غير قرعة.
والغرض أن لا يتفرق ملك من له سهام.
ولو كتبتَ الأجزاء وأخرجْتها باسم المالك، فقد يتطرق إليه [تغرير] (2) ، ولكنه
__________
(1) تقدير من المحقق بتوفيق من الله. وقد صدقتنا (ق) فلله الحمد والمنة.
(2) في الأصل: " تعذير ". وكنا قدرناها " تحذير " والمثبت من (ق) .(18/559)
سائغ إذا أفاد المقصود، وسيق على وجهه، والمحذور منه أنك لو قلتَ: أخرج رقعةً باسم صاحب النصف، فلو خرجت رقعةُ القطعة الثالثة، [فالاحتساب] (1) من أي طرف -وتصويره ممكن من وجهين- فلو حسبناها في الشرقي، وفيها الطرف الأول، تواصل النصف، ولو حُسبت في الغربي، لخلّفت جزأين في الشرقي وجزءاً في الغربي، فينبغي أن يقطع هذا الخيار، بأن يشترط أن الحَسْب في الجانب الذي لا تتقطع الأجزاء فيه، فإذا وقع التوافق على هذا، فالحَسْب في الشرقي، ولا يخفى درك أمثال ذلك.
11991- ثم أطنب الشافعي في تسوية الرقاع ثلاثاً، وذكر أنها تدرج في بنادق من طين، أو شمع حتى تبعدَ عن الاطلاع، وقال: تسوَّى البنادق، وتجفف، وتطرح في حِجْر من لم يشهد تفصيلَ الأمر، حتى يرجع الخروج إلى الوفاق المحض، من غير تخيل قصد في الإخراج، والتسويةُ إنما راعاها؛ لأن البندقة الكبيرة تسبق إلى اليد، وإذا فرض ذلك، تطرق إلى تحكيم اتفاق الخروج خلل، وكان شيخي يقول: لا نمنع إيجاب هذا؛ لما نبّهنا عليه.
ويجوز أن يقال: إن أظهرناها، وقلنا [لمن] (2) يخرجها: لا فرق بين الصغار والكبار، فخذ على وفقاف ما عنّ لك -وهي بارزة- فلا أثر للصغر والكبر، وإن كان يطرحها في الحجر أو الكم، ويخرج ما يقع في يده، فيجوز أن يؤثر التفاوت، وحيث نسلّم تخيّل التفاوت، فاشتراط التسوية بعيد، والأولى عدّ هذا من الاحتياط، لا من الاشتراط.
فصل
قال: " وإذا استُحِقَّ بعضُ المقسوم ... إلى آخره " (3) .
11992- إذا جرت القسمةَ في الصورة على حقها، ثم تبين أن البعض من الملك المشترك مستَحقٌّ، فأحسن ترتيبٍ في هذا الفن للعراقيين، وقد فالوا: إذا استُحِق
__________
(1) في الأصل: " بالاحتساب ".
(2) في الأصل: " لم ".
(3) ر. المختصر: 5/245.(18/560)
شيء، فلا يخلو إما أن استحق عينٌ معيّنة في يد واحد من الشركاء بعد التفاصل، وكانت الشركة موضوعةً على التعديل والنقل، كما قدمنا تصويرها. أو استُحِق جزء مشاع مما في أيديهم، وكذلك يقع الاستحقاق في البعض إذا جرت القسمة في صنف واحد، غيرِ مشتمل على أشخاص متميزة.
فإن استحق معين في حصة إنسان، أو استُحِق جميع حصته، فيبين لنا بطلان القسمة في حق الجميع؛ فتعاد القسمة بعد رد المستحَق.
ثم قالوا في هذه الصورة: لو كانت القسمة قد جرت بين شريكين في أعيانٍ، فاستُحِق من يد أحدهما عين، واستُحِق من يد الآخر عين أيضاً، وهما متساويتان في القيمة، فلا تنقص القسمة في بقية ما في أيديهما؛ فإنهما استويا فيما استُحق وبقي، وهذا متجه حسن.
وفي بعض الطرق ما يدل على بطلان القسمة في البقية، ووجهه بيّن أيضاً؛ فإن القسمة لم تنشأ على البقية أولاً، وقد تغير وضعها بالاستحقاق، فلا يمتنع الحكم ببطلانها.
ولو كان الاستحقاقُ في جزءٍ شائع قبل أن يقتسما أرضاً قدّراها نصفين بينهما، ثم بان أن الثلث من الأرض مستَحَق لغيرهما، فلا شك في بطلان القسمة في المستَحَق، وهل تبطل في الباقي ليعاد بين الشركاء، أو يبقى نصيبُ كل واحد من الأَوّلَيْن منفصلاً عن نصيب الثاني، وللمستَحِق في كلِّ نصيبٍ شَركةٌ؟ ذكر العراقيون في ذلك قولين، وخرجوهما على تفريق الصفقة.
ومن هذا التصرف يظهر ما ذكرناه في استحقاق عينين متساويتين من يدي الشريكين.
هذا تفصيل الاستحقاق بعد القسمة.
11993- ولو قسم الورثةُ التركةَ، ثم ظهر دين على الميت، أو وصيةٌ مطلقةٌ بعينٍ، قال العراقيون: إن قلنا: إن القسمة إفرازُ حقٍّ، فتصحُّ بشرط أن يقضوا الديون أو يُوفّوا الوصيةَ المستحقة. وإن قلنا: إن القسمة بيعٌ، ففي صحة القسمة قولان(18/561)
مبنيان على أن الورثة لو باعوا التركة، وقد تعلق بها دين، فهل يصح بيعهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يصح أصلاً، كما لا يصح بيع المرهون. والثاني - يصح إن قَضَوْا الدين من مال آخر. وهذا يبتني على تردد الأصحاب في أن تعلق الدين بالتركة هل يمنع الميراث أم لا؟ إن قلنا: يمنع، فالقسمة مردودة، والبيع باطل، وإن قلنا: لا يمنع الإرثَ فتعلقه كتعلق الدين بالمرهون، أو كتعلق الأرش برقبة الجاني. وفيه قولان: فإن قلنا: هو كتعلق الدين بالرهن، فالقسمة مردودة، والبيع باطل، وإن قلنا: هو كتعلق الأرش، ففي بيع العبد الجاني قولان. هذا [قولنا في] (1) البيع.
وما ذكره العراقيون من تصحيح القسمة على قول الإفراز قولاً واحداً ليسوا مساعَدين عليه؛ فإن الإفراز تصرفٌ في متعلَّق الدين، فيظهر إفساده كالبيع، ولما ذكرناه التفاتٌ [عندي] (2) على أصلٍ، وهو أن المفلس لو تصرف في الأموال التي اطرد الحجر عليها، فنقطع ببطلان تصرفه، [أم نقفه] (2) قائلين: إن سقطت الديون، فقد نفذ التصرف، وإن بقيت، ومست الحاجة إلى تأديتها [من] (3) الأعيان أُدِّيت [منها] (4) .
فالوارث كالمحجور عليه المفلس، والمال كمال المحجور، والدين محصور.
وإذا صححنا بيعَ العبد الجاني، فلم يؤدّ السيدُ الأرشَ، نُقض بيعه، فقد انتظم في التركة الفسادُ، [للقسمة] (5) ، والصحةُ مع التعرض للنقض لو لم يؤدوا الدين، والوقف، حتى إن أَدَّوْا، تبيّنا الصحةَ، وإن لم يؤدوا، تبيّنا الفسادَ، وعدمَ الانعقاد، ثم إذا فُرضت القسمةُ مع الجهل، ثم بَدَا الدين، فالأمر على ما ذكرناه، ولو أنشأ القسمة على علمٍ، لم يختلف الحكم، وترتبت الأقوال [نازعةً] (6) إلى الأصول التي قدّمناها.
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير من المحقق على ضوء السياق.
(2) المثبت من (ق) مكان كلمة لم يبق منها أثر يدلّ عليها.
(3) مكان كلمة ذهبت تماماً وانمحى أثرها. والمثبت من (ق) .
(4) في الأصل: " فيها ".
(5) اختيار من المحقق بناء على السياق.
(6) في الأصل: " نازفة ".(18/562)
فصل
11994- إذا قُسم ملك مشترك بين الشركاء، ثم ادعى بعضهم أن القاسم غلط في التعديل وتحيّف عليه، فهل يقبل ذلك؟ نُظر: فإن كانت القسمة قسمة إجبار، [واتصلت] (1) بالحاكم، ونَصَبَ القاضي فيها قاسماً، أو قاسمين، ثم ادعى شريكٌ نقصاناً من حقه، [لم يُقْبل] (2) قوله فيه، وهو كما لو ادعى المحكوم عليه على القاضي أنه ظلمني، وقضى عليّ مبطلاً، فلا يقبل قوله، إلا أن يقيم بيّنة عادلة على ما يدعيه من الغلط على القاسم، فيقبل حينئذ.
ولو لم تكن بينة، فدعواه على القاسم مردودة، ولو رام تحليفه لم يبالَ به، ولم يحلّف القاسم، كما لا يحلّف القاضي، والشاهد. هذا إذا كانت القسمة قسمةَ إجبار.
فأما إذا كانت القسمة بحيث لا يجري فيها إجبارٌ، ولكن الشريكين نصبا قاسماً، وقسم عن رضاً منهما، ثم ادعى أحدهما حَيْفاً، قال العراقيون: إذا رضي الشريكان بابتداء القسمة، ثم رضيا بعد خروج القرعة رضاً جديداً، ثم ادعى أحدهما أنه قد نقص من حقه، فلا تُسمع دعواه، ولا تقبل بينتهُ؛ فإن أقصى ما فيه أن يكون منقوص النصيب، فإذا رضي لم ينفعه بعد ذلك شيء، وهو كالذي يشتري شيئاً [بما] (3) يحسبه ثمن المثل، ثم يتبيّن كونَه مغبوناً.
هذا إذا أنشأ الرضا بعد خروج القرعة، فأما إذا رضيا بالقسمة عند إنشائها -وقلنا: يعتبر الرضا بعد خروج القرعة- ولم يجْر رضاً في آخر الأمر، فلا حكم لما جرى، والقسمة لم تثبت بعدُ، ومن أراد الرجوع، فله الرجوع، وإن لم يكن حيف، فما الظن إذا كان حيفٌ.
__________
(1) المثبت مما أفادتنا به (ق) .
(2) تقدير من المحقق.
(3) في الأصل: " فيمن ".(18/563)