كل واحد منهما في مال الثاني؛ فإن فعليهما عمدان.
فأما إذا اصطدما مقبلين، ولم يعتمدا الصدمة، ولكن [اتفق الاصطدام] (1) فهذا ملتحق بشبه العمد، فأما الإهدار في النصفين، فعلى ما قدمنا، ويجب نصف دية كل واحد منهما مغلظاً على عاقلة صاحبه.
فأما إذا اصطدما مدبرَيْن ولم يشعر أحدهما بصاحبه، ولكن كانت الدابتان ترجعان القهقرى، فاتفق اصطدامهما، فهذا ملتحق بالخطأ المحض. أما الإهدار في النصفين فعلى ما مضى، ونصف دية كل واحد منهما مخففاً على عاقلة صاحبه.
هذا بيان الأحوال.
واصطدام الأعمش كاصطدام المدبرَيْن، واصطدام البصيرين في جنح الليل يشابه اصطدامَ الأعمش إن كان لا يبصر أحدُهما صاحبه.
والغرض مما ذكرناه التنبيهُ على الفصل بين العمد، والخطأ، وشبه العمد.
10714- والنوع الثالث [من] (2) الكلام فيه إذا غلبت الدابّةُ راكبها، وجرى الاصطدام وهما [مغلوبان] (3) ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا حكم لفعلهما، وإذا هلكا وهلكت دابتاهما، كان بمثابة ما لو هلكا بآفة سماوية، ولا ضمان، ولا تراجع.
والقول الثاني - أن حكم فعليهما غيرُ منفي؛ فإنهما نُسبا إلى ركوب الدابتين، وهذا لا ينحط عن حفر البئر في محل العدوان، فإن قلنا: لا حكم لفعليهما، فلا ضمان عليهما، ولا على عواقلهما، وإن حكمنا بأن لفعليهما حكماً، فنجعل الاصطدام بلا اختيار بمثابة الخطأ المحض.
10715- ثم قال الشافعي رضي الله عنه والأصحابُ: إذا فرض الاصطدام، فسقط
__________
(1) في الأصل: "اتفق الأصحاب اصطدام" ويبدو أن الناسخ أقحم لفظ (الأصحاب) من ذاكرته لما وجد أنه يسند إليه (اتفق) عادة.
(2) في الأصل: "في".
(3) في الأضل: "معلومان".(16/467)
به من سقط، فلا فرق بين أن ينكبَّا على وجوههما، وبين أن يستلقيا، وبين أن ينكب أحدهما، ويستلقي الثاني. وقال أبو حنيفة (1) : إن انكبا، فلا يجب الضمان على واحدٍ منهما، والسبب فيه أنا نتبين [أن] (2) من ينكب سببُ انكبابه تحاملُه وفرطُ قوته وكثرةُ [اعتماده] (3) على صاحبه، فإذا كان السقوط على هيئة الانكباب، دلّ هذا على أن فعل كل واحد منهما لم يؤثر في حق صاحبه، فنجعل كلَّ واحد منهما انفرد بإهلاك نفسه.
[أما لو استلقيا] (4) ، فيجب دية كل واحد منهما بكمالها على عاقلة صاحبه، وذلك أن وقوع كل واحد منهما على هذه الهيئة يدل على أنه سقط بتحمل صاحبه، وذلك أن سقوط كل واحد منهما [بتأثره بالمعنى الذي يؤدي إلى الاستلقاء] (5) ، فلم يقع الاستلقاء لواحد منهما إلا لتحامل الثاني عليه.
ولو انكب أحدهما واستلقى الثاني، فذهب الأصحاب إلى أن الغرم في حقهما جميعاً، ويهدر النصف من دية كل واحد منهما. ويجب النصف على عاقلة الآخر.
وحكى الشيخ أبو علي رضي الله عنه عن التلخيص أنه صار إلى مذهب أبي حنيفة وأهدر [المنكبَّيْن] (6) وأوجب كمال دية المستلقيين، وقال: إذا [انكب] (7) أحدهما واستلقى الثاني، فدية المنكب هدر، ودية المستلقي بكمالها على عاقلة المنكب (8) ،
__________
(1) ر. المبسوط: 26/190، 191، مختصر اختلاف العلماء: 5/152 مسألة: 2267.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "اعتماداته".
(4) في الأصل: "أو استلقيا".
(5) عبارة الأصل: "وأثره فالمعنى يده للآتي الاستلقاء" كذا تماماً. وفيها من التحريف ما لم نستطع تقويمه وردّه إلى أصله. فاكتفينا بما أثبتناه -مكرهين- إقامةً للنص.
(6) في الأصل: "المثلين".
(7) في الأصل: "أتلف".
(8) ما نسبه الإمام -نقلاً عن الشيخ أبي علي- إلى صاحب التلخيص ليس على وجهه تماماً، بل هو صحيح في جانب، ونصف صحيح في جانب آخر، والأولى أن نسمع الكلام من صاحب التلخيص نفسه، قال في باب الاصطدام: "ولو اصطدم ماشيان، فسقطا على القفا، فعلى عاقلة كل واحد منهما نصفُ دية صاحبه، وإن سقطا على الوجه، فالدية هدر، وان سقط =(16/468)
ثم قال الشيخ: ذهب معظم الأصحاب إلى [تغليطه ونسبتِه] (1) إلى الوقوع في مذهب أبي حنيفة.
وأبعد بعض أصحابنا، فصار إلى موافقته، وهذا غريب جداً مخالف [للنصوص] (2) مبطل لقاعدة الباب ومتعرض للمعنى الصحيح بالإبطال.
فإن قال قائل: ما ذكره أبو حنيفة [محتمل] (3) في الانكباب والاستلقاء، [فما الذي] (4) يدفعه؟ وما هو معتمد المذهب على مناقضه؟ قلنا هذا خيال لا أصل له؛ فإنه إن كان تُصوّر الانكباب منهما جميعاً، فهو من أثر الصدمة، ولو قوي أحدهما، لاستحال أن يقوى الثاني على مصادمه [فاعترافه بأن وقوعه هذا بسبب الصدمة] (5) أصدق شاهد على أن انكبابهما من فعليهما، ولو لم يكن كذلك، وقُدّر صحةُ ما قال، لكان هذا في معنى جمع نقيضين وضربين، فاستبان أنهما إذا سقطا، فسقوطهما محال على الصدمة والصدمة بينهما، وهي حاصلة [بقوتهما] (6) ثم ما يقع في الحركات والاعتمادات لا يدخل تحت الحصر، فقد يتحامل الإنسان ويتفق له [أثناء تحامله عثرةٌ] (7) ، وكذلك من يصادمه، فالبحث عن كيفيات الحركات لا معنى له، وليس إلا الإحالة على الصدمة، والصدمة بينهما، وكذلك القول فيه إذا استلقيا.
__________
= أحدهما على وجهه، والآخر على قفاه، فدية من سقط على وجهه هدر، وتجب دية من سقط على القفا على عاقلة صاحبه". (ر. التلخسص: 590) .
وواضح أن ما ذكره في دية ما إذا استلقيا يخالف المنقول عنه، فهو يقول بوجوب نصف دية كل واحد على عاقلة صاحبه، والمنقول أنه يقول بوجوب كمال الدية.
(1) في الأصل: "تغليط ونسبة".
(2) في الأصل: "للتصرف".
(3) في الأصل: "مختل".
(4) في الأصل: "فالذي".
(5) عبارة الأصل: "فاعرامه بوقوعه هذا سبب الصدمة" (هكذا تماماً رسماً ونقطاً) .
(6) في الأصل: "بقوليهما".
(7) في الأصل: "أثنا عامله غيره". (وفيها أكثر من تصحيف) .
وعبارة الغزالي تؤكد صحة تقديرنا بحمد الله، وتزيد المعنى وضوحاً، قال: "فإن المتحامل قد تتفق له عثرة وحركة، فينعكس ويستلقي، والضعيف قد ينكب". (ر. البسيط: 5/ورقة: 73 يمين) .(16/469)
قال أئمتنا رضي الله عنهم: قياس ما حَكَى عن صاحب التلخيص أن الرجلين إذا كانا يتجاذبان حبلاً بينهما، فينقطع الحبل، فإن استلقيا، فلا غرم، وقد هَدَرَ البدلان جميعاً، فإن هذه السقطة تحال على قوة المستلقي، فإنه كان يعتمد إلى وراءٍ في جذب الحبل، وهو على مناقضة الاصطدام في الإقبال، وقياس مذهبه أنهما لو انكبَّا، فيجب كمالُ دية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه.
وكل هذا خبط. والأصل ما قدمناه من رد هذه المذاهب بجملتها، واعتناق مذهب الشافعي في إحالة [السقطتين] (1) على الصدمة، والصدمة تقع بين المصطدمين لا محالة.
10716- ثم علينا تفصيل [مذهبنا] (2) في جذب الحبل، فنقول: إن تجاذبا حبلاً، فانقطع وماتا، نظر: فإن كان الحبل لأحدهما، وكان الثاني [يظلمه] (3) بجذبه، فإذا ماتا، فدية المالك [يجب] (4) نصفها على عاقلة الظالم، ودية الظالم هدَرٌ. أما إهدار دم الظالم، فبيّن؛ فإنه كان يجذب ما ليس له جذبه، فدُفع وصُدَّ، فإن أدى ذلك إلى إهلاكه، فليس هذا بأبدع من أن يقصد إلى إنسان، فيدفع عنه ويأتي الدفع عليه فيهلكه.
وأما قولنا: تهدر نصف دية مالك الحبل، فسببه أنه شارك في قتل نفسه، ففعله محسوس، فلئن كان [هدراً] (5) في حق الظالم (6) ، فوقوعه في حق المظلوم [لا يتخيل أن ينكر] (7) ، فتنخَّل منه الجواب الصحبح، وهو تشطير دية مالك الحبل، وإهدار الظالم.
__________
(1) في الأصل: "سقطين".
(2) في الأصل: "مذهبي".
(3) في الأصل: "يطلبه".
(4) في الأصل: "يحسب".
(5) في الأصل: "هذا".
(6) المعنى أن فعل المظلوم واقع محسوس، ولكنا أهدرنا نصفه الواقع في حق الظالم، فإنه مأذونٌ في دفعه، أما فعله في حق نفسه، فلا ينكر أثره، ولا سبيل إلى إهداره.
(7) في الأصل: "لا ـ ـحل مسكر". (كذا تماماً رسماً ونقطاً) والسياق مفهوم على أي حال، سواء وفقنا إلى ألفاظ الإمام أم أدينا المعنى بغيرها.(16/470)
ولو كان الحبل مشتركاً بينهما، وكانا غاصبين للحبل وتجاذبا، فانقطع الحبل وماتا، فهو كاصطدام الماشيين والراكبين، وقد سبق التفصيل فيه.
وإنما الذي أردنا التنبيه عليه تفصيل المذهب في الحبل وكونه مملوكاً لأحدهما على ما اقتضاه التصوير.
وقد انتجز القول في أصول الباب.
10717- ونحن بعد هذا نذكر تفصيل القول في المصطدمِين؛ فإن الحكم يختلف، فإذا اصطدم حرَّان راكبان أو ماشيان، فالتفصيل ما قدمناه.
10718- ولو اصطدم عبدان، فإن كانت القيمتان متساويتين يسقط أحدهما بالثاني على قول التقايض، وإن كانت القيمتان متفاوتتين، فيجري [التّقاصّ] (1) في قدر المساواة والمقدار الفاضل يسقط أيضاًً بسبب فوات المحل، وما ذكرناه من تقدير التقاصّ يجوز أيضاًً على تقدير [تعلق شطر القيمة بالرقبة] (2) ، وثمرة الكلام انتفاء الغرم، كيف فُرض العبدان.
10719- ولو اصطدم حر وعبد، فماتا، فالتشطير على ما قدمناه، فيسقط لا محالة نصف الدية ونصف القيمة.
ثم إذا فرعنا على أن العاقلة تحمل [قيمة] (3) العبد، فنقول: يجب نصف قيمة العبد على عاقلة الحر في قولٍ، أو في مال الحر في القول الآخر، وتجب نصف دية الحر في نصف القيمة، وقد يُفضي الأمر على هذا الترتيب إلى تفصيلٍ نذكره.
فنقول: إن قدرنا الوجوب في المال، فيتقاصّان في القدر الذي يستويان فيه، فإن كانت القيمة أكثر، فالفضل لمالك العبد، وإن أوجبنا على العاقلة نصفَ قيمة العبد،
__________
(1) في الأصل: "القصاص".
(2) زيادة اقتضاها السياق. والمعنى أننا لو قدرنا تعلق نصف قيمة كل واحدٍ منهما برقبة الآخر، لأهدر أيضاًً بموته، كيف ولم يتراخ موت أحدهما عن الآخر؟
(3) في الأصل: "تتمة".(16/471)
فنصف دية الحر تتعلق به (1) ، ويؤول حاصل الأمر إلى أن ورثة الحر يأخذون من عاقلته مقدار نصف الدية، وسبب ذلك وجوبُ نصف قيمة العبد أولاً من عاقلة الحر، [ثم نصف دية الحر متعلق بها، فرجع الحاصل إلى أن ورثة الحر يأخذون من تركة الحر بمقدار نصف الدية، ولكن السيد يطالب العاقلةَ أولاً بنصف قيمة العبد، ثم يؤدي إلى ورثة الحر؟ (2) نصفَ دية الحر، فإن شاء أخرجه من سائر ماله واستبقى لنفسه ما أخذه، وإن شاء، وفّر نصفَ الدية من نصف القيمة.
10720- وقد يتعلق بهذا المنتهى [مساءلةٌ] (3) عن أصلٍ، وهو أن العبد إذا جنى، وتعلق الأرش برقبته، فجاء أجنبي، وقتل هذا العبدَ، فلسيد العبد مطالبته بالقيمة، فلو امتنع عن مطالبته، فهل يثبت للمجني عليه مطالبةُ قاتل العبد الجاني بالقيمة؛ حتى تكون [وثيقةً] (4) بحقه؟ ولمالك العبد الجاني الخِيَرة؛ وكذلك لو قتل أجنبي العبد المرهون فللمالك مطالبتُه بالقيمة بحق الملك، وهل يثبت للمرتهن مطالبة القاتل؟ الوجه عندنا في هذه المسائل إثباتُ حق المطالبة للمجني عليه والمرتهنِ، والذي يحقق ذلك أن الراهن لو قتل العبد المرهون، فالمرتهن يطالبه ببدل القيمة ليكون رهناً، فإذا كانت المطالبة تتوجه على المالك نفسِه من جهة المرتهن، فلأن تتوجه على الأجنبي أولى.
ثم هذا القياس يُثبت لورثة الحر مطالبةَ عاقلة الحر بمتعلَّقهم من قيمة العبد، فإن نصف قيمة العبد وإن كان ملكاً لمالك العبد، فيتعلق به [حق] (5) توثق ورثة الحر.
فخرج من ذلك أن ما ضرب على العاقلة، فهو ملك مالك العبد، ولكن يتعلق به نصفُ دية الحر تعلّقَ الأرش برقبة الجاني.
__________
(1) تتعلق به: أي بنصف قيمة العبد.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل يقيناً، ولكن المثبت ليس من كلام الإمام يقيناً، وإنما هو من كلام الغزالي في البسيط في جملته، فهو خير من يعبر عن معاني شيخه.
(3) في الأصل: "مسائله".
(4) في الأصل: "موثقة".
(5) في الأصل: "حتى".(16/472)
10721- ولو اصدمت حرتان حاملان وماتتا، وانفصل الجنينان ميتين بسبب الاصطدام، فيهدر نصف دية كل واحدة من الحرتين، ويجب نصف دية كل واحدة منهما على عاقلة الأخرى، على القياس الممهّد في الباب.
وأما الجنينان فلا [يهدر] (1) شيء منهما، بل يجب الغرمان بكمالهما، والسبب فيه أن [تلف] (2) كل جنين حصل بسببين: أحدهما -[فعل أمه] (3) الحامل به، والآخر صدمة الأخرى، والسببان جميعاً مضمّنان. أما تضمين الصادمة الأخرى، فبيّن، وأما تضمين [الأم] (4) ، فلائح أيضاً، والأم لو جنت على نفسها، [وأجهَضَتْ جنيناً، وعالجت واستبلّت] (5) ، فعليها الغرة، وهي لا ترث والحالة هذه من الغرة شيئاً؛ فإنها قاتلة، وليس للقاتل من الميراث شيء.
فظهر أن كل واحد من الجنينين مضمون بكماله، غيرَ أن الجناية على الجنينين شبهُ عمد أو خطأ، على ما سيأتي تفصيل كمال [أحكام] (6) الأجنة -إن شاء الله تعالى- فيجب على عاقلة كل واحدة من الحرتين نصف غرة جنين تلك الحرة التي [تلزم] (7) عاقلتها بجنايتها على جنين نفسها، ويجب عليهم أيضاً نصف غرة جنين الحرة الأخرى بجناية هذه عليه بالصدمة، فنجمع على كل عاقلة غُرةً كاملة، وهي نصفا غرتين.
هذا بيان اصطدام الحرّتين.
وأما الكفارة، فإن رأينا إيجاب الكفارة على الإنسان بسبب قتله نفسه، فعلى كل واحدة من الحرتين أربعُ كفارات: كفارتان بسبب جنايتها على نفسها وعلى جنينها،
__________
(1) في الأصل: "يهرب".
(2) في الأصل: "يكف".
(3) في الأصل: "فعلامة".
(4) في الأصل: "الأمر".
(5) عبارة الأصل: "وأجهضت جنيناً أو عالجت واستخلصت" والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق، واستئناساً بعبارة الغزالي في البسيط.
ثم معنى (استبلّت: أي شفيت من أثر الجناية والإجهاض) .
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: "تتم".(16/473)
وكفارتان بسبب الجناية على الحرة الأخرى وجنينها.
وإن قلنا: لا يجب على الإنسان الكفارة بسبب قتله، فعلى كل واحدة ثلاث كفارات: واحدة بسبب جنايتها على جنينها، واثنتان بسبب الجناية على الحرة الأخرى وجنينها، وسنمهد في الكفارات أن طائفة لو اشتركوا في قتل إنسان، وجب على كل واحد منهم كفارة كاملة.
10722- ولو اصطدم أما ولد، فلا يخلو أن تكونا حاملين أو حائلين، فإن كانتا حائلتين وكانتا لسيدين، فيهدر نصف كل واحدة منهما، لما تقرر في الباب، فننظر: فإن كانت قيمتاهما متساويتين، والتفريع على قول التقاصّ، فيسقط حقاهما بالتقاصّ، ولا مرجع لكل واحد منهما على الآخر.
وإن كانت القيمتان متفاوتتين، مثل أن كانت قيمة واحدة مائة وقيمة الأخرى مائتان، فهذه المسألة وأمثالها هينة في مأخذ الفقه، ولكن قد [يُحْوِج] (1) النظر فيها إلى أدنى تأمل.
وليقع التفريع على ما هو المذهب، وهو أن السيد يضمن أم الولد إذا جنت بأقل الأمرين من القيمة وأرش الجناية، فسبيل الخوض في الكلام أن نقول: هَدَرَ النصفُ من كل واحدة، ثم على صاحب المستولدةِ القليلةِ القيمة مائةُ درهم، فقد استوت القيمةُ والأرش، فالواجب على السيد مائةٌ.
ومما يجب التنبه له أن المستولدة، وإن كانت مصدومة، فهي صادمة والصدمة مضافة إلى جملتها، وإن كان نصفها مضموناً، فهذا لا يمنع من إضافة الجناية إلى جملتها، فإن من جُرح، ثم إنه جَرح، فكونه مجروحاً لا يمنع تعرضه لحكم الجراحة التي صدرت منه.
ومن أسرار هذا الفصل أن العبد الذي قيمته خمسون وهو قيمته حالة جنايته، فإن خطر لناظر أن المستولدة القليلة القيمة قيمتها خمسون، لأنها قد صُدمت وأثرت الصدمة في بعضها، قيل: هذا خيال لا تحصيل له؛ فإن مسألة الصدمة تفرض في
__________
(1) في الأصل: "يخرج".(16/474)
وقوع الاصطدام بين شخصين من غير فرض تقدم وتأخر، ولما وجدت الصدمة بينهما كانت القيمة حالة الصدمة مائة، ولهذا قلنا تعتبر القيمة بالمائة.
وقد نعود إلى هذا [بكلام] (1) أبْينَ منه.
وأما سيد المستولدة الكبيرة القيمة، فإنه لا يغرم إلا خمسين؛ فإنه الأرش، فيجتمع مائة على واحد، وخمسون على الآخر، فيقع التقاص في مقدار خمسين، ويبقى لسيد المستولدة الكبيرة القيمة خمسون درهماً على سيد المستولدة القليلة القيمة.
ولو كانت قيمة إحداهما مائة وخمسين، وقيمة الأخرى مائة، فيهدر من [كل] (2) واحدة نصفها، وعلى مالك القليلة القيمة خمسة وسبعون درهماً إلى أن نذكر التقاصّ، وعلى مالك الكبيرة القيمة خمسون، وكما قدمنا، الأرشُ أقلّ في هذه المسألة من قيمة الجانية، ثم يقع خمسون بخمسين قصاصاًً، ويبقى لمالك الكبيرة القيمة على الآخر خمسة وعشرون درهماً.
هذا قياس الباب.
وإن كانت قيمة إحداهما مائة وقيمة الأخرى خمسون فهَدَرَ من كل واحدة نصفها على القاعدة المعلومة، وعلى مالك القليلة القيمة خمسون، وعلى مالك الأخرى خمسة وعشرون.
وعقْد الباب هو أنه مهما تفاوتت قيمتاهما، فإنا نوجب لسيد الكثيرة القيمة على سيد الأخرى نصفَ التفاوت، ويتقاصّان في الباقي، فإن كانت قيمة إحداهما مائة والأخرى مائتان، فالتفاوت بينهما بمائة، فحاصل الجواب أن لصاحب النفيسة نصفُ هذا المقدار الذي حصل التفاوت به.
وإن كانت قيمة إحداهما مائة وخمسين وقيمة الأخرى مائة، فالتفاوت خمسون، ولصاحب الكثيرة القيمة نصفُ هذا المقدار الذي وقع التفاوت به وهو خمسة وعشرون، ويقع التقاصّ في الباقي.
__________
(1) في الأصل: "الكلام".
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(16/475)
هذا كله إذا اصطدمت أما ولد، وكانتا حائلتين.
10723- فأما إذا كانتا حاملين بولدين حرين، واصطدمتا وهلكتا وأَجْهضَتا جنيناً، فلا يخلو إما أن يكون للجنين وارث سوى المولى، أو لم يكن له وارث سوى المولى، فإن لم يكن له وارث سوى المولى، وكانت المستولدتان متفقتي القيمة، فقد هَدَرَتَا وهَدَرَ الجنينان على أصل التقاصّ؛ لأن أرش جناية كل واحدة منهما كأرش صاحبتها وقيمتها، أما التساوي في القيمة، فبئن، وأما أرش الجناية، فنعني به [الغرة، والغرتان] (1) لا محالة متساويتان؛ فإن الجنينين حران.
وإن كانتا مختلفتي القيمة، فإن كانت قيمة إحداهما مائة وقيمة الأخرى مائتان، [فالأرش لا] (2) يتفق لا محالة، فالتي قيمتها مائة جنايتها على الأخرى مائة ونصف غرة، فنفرض قيمةَ نصف غرة عشرين درهماً مثلاً، والتفريع على أن السيد لا يلتزم إلا الأقل، وقيمة المستولدة القليلة القيمة مائة، وما يتعلق بجنايتها مائة وعشرون، فيستحق سيد الكبيرة القيمة على سيد القليلة القيمة مائةَ درهم، وهي قيمتُها؛ لأنها أقل من أرش الجناية، [وسيدها] (3) يستحق على سيد الكبيرة القيمة سبعين درهماً، خمسون نصف قيمة المستولدة، وعشرون نصف الغرة، والأرش أقل من قيمة الجانية في هذا الجانب، فيقع التقاص في سبعين، وبقي لسيد الكبيرة القيمة ثلاثون.
هذا كله إذا لم يكن للجنين وارث سوى المولى، فأما إذا كان للجنين من الجانبين [وارث] (4) سوى المولى، ولا يتصور [وارث للجنين] (5) مع الأب إلا أم الأم في هذه الصورة، وإذا كان لكل جنين أم أم، فإنها تستحق سدس الغرة، ولا يضيع من حقها شيء؛ فإن الجنين من كل جانب تلف بجناية [أمه] (6) إذا صَدَمت وبجناية
__________
(1) في الأصل: "العبدة والعبدتا". وهو تصحيف قبيح.
(2) مكان بياضٍ بالأصل.
(3) في الأصل: "وهي".
(4) في الأصل: "فاردى" (هكذا رسماً ونقطاً) .
(5) في الأصل: "إرث الجنين".
(6) في الأصل: "أمها".(16/476)
الأخرى (1) ، ويجب على السيدين أن يضمنا [لأم الأم] (2) سدسها: هذا يضمن نصف سدس غرة، وهذا يضمن نصف سدس، فيكمل [للجدة] (3) سدسها على الترتيب الذي ذكرناه.
10724- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو ركب صبيّان دابتين، واصطدما، وهلكا، وهلكت دابتهما، فلا يخلو إما أن يركبا بأنفسهما أو يُركبهما غيرُهما، فإن [ركبا بأنفسهما] (4) ، ثم جرى ما ذكرناه، فيهدُر من كل واحد منهما ومن دابته النصف، ويجب نصفُ قيمةِ كل دابة في مال الآخر، وأما نصف الدية، فإن اصطدما مدبرين، فالدية مخففة، فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه مخففاً، فإن اصطدما مقبلين، فحكم الدابة ما ذكرناه، وأما الدية فشطرها من كل واحد على القياس الذي قدمناه، والكلام في التغليظ والتخفيف.
وهذا ينبني على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ وفيه القولان المشهوران، فإن قلنا: لا عمد للصبي، فلا يقع فعله أيضاًَ شبهَ عمد؛ فإن شبهَ العمد إنما يتصوّر ممن يتصور منه العمد المحض، فالدية مخففة تجب على كل واحد منهما نصفُ دية الآخر مخففاً، كما قدمناه.
وإن قلنا: للصبي عمدٌ، فالاصطدام الواقع منهما على صفة الإقبال شبه عمد، فيجب على عاقلة كل واحد نصفُ دية صاحبه مغلظاً.
هذا إذا ركب الصبيان بأنفسهما، فيما بينهما.
10725- فأما إذا أركبهما مُركبٌ، لم يخل ذلك المُركب إما أن يكون وليّاً [أو أجنبياً] (5) فإن أركبهما أجنبي، فما يتلف أبداً منهما مضمون على الأجنبي، حتى لو
__________
(1) يعني أنه مضمون لا يهدر منه شيء.
(2) في الأصل: "الأم وللأم".
(3) في الأصل: "الحرة".
(4) في الأصل: "ترك أنفسهما".
(5) زيادة اقتضاها السياق.(16/477)
أركب أجنبيٌّ صبياً دابةً، فرفست إنساناً، أو [أتلفت] (1) شيئاًً، فضمانه على المُركب.
فإذا اصطدما، لم يهدر من الصبيين شيء، ونظر، فإن [كان] (2) المركب واحداً، فقيمة الدّابتين في ماله، ودية الصبيين على عاقلته.
وإن أَركب الصبيين مُركبان أجنبيان، فلا يهدُر (3) شيء من الدابتين والدّيتين، ويضمن كلُّ مُركب نصفَ الدابّة التي أركبها الصبي، وهذا هو النصف الذي يُنسب تلفه إلى صدمة الصبي؛ فإنه محال على إركاب من أركبه، والمُركب الآخر يضمن نصف هذه الدابة، [فتصير كل دابة مضمونة على المُركبين نصفاً نصفاً] (4) ، والديتان لا تَهدُِران أيضاًً، ويجب على عاقلة كل واحد من المُركبين نصفا ديتين، على حسب ما ذكرناه في القيمتين.
10726- هذا إذا كان المُركب أجنبياً وأما إذا كان أركبهما وليان، فإن كان على خلاف المصلحة، وقد تعدّيا فالتعدّي يضمِّنهما كما يضمّن الأجنبي، وإن كان [إركاب] (5) [الولي] (6) محموولاً على المصلحة، فاتفق منه ما ذكرناه، فهل يتعلق الضمان بالوليين؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعلق الضمان بالوليين، ويصير كما لو ركب صبيان بأنفسهما، وقد مضى التفصيل فيه إذا ركبا بأنفسهما، ووجه ذلك أن ما يفعله الولي، فهو محمول على المصلحة إذا أمكن الحمل عليها، فإذا أفضى إلى تلفٍ، فهو محمول على الوفاق.
والوجه الثاني - أن الضمان يتعلق بالوليين؛ فإن إركاب الصبيين، وإن كان لمصلحة مضمونة، [فالغررُ] (7) فيه بيّن، ولا يسوّغ مثل هذا إلا على شرط ضمان السلامة في العاقبة.
__________
(1) في الأصل: "قطبت".
(2) سقطت من الأصل.
(3) هدر يهدر من بابي (قتل) و (ضرب) : أي يبطُل.
(4) في الأصل: "فيصير نصف كل دابة مضمونة على المركبين نصفاً".
(5) زيادة لاستقامة الكلام.
(6) في الأصل: "المولى".
(7) في الأصل: "فالعذر".(16/478)
وهذا غير سديد، والأصح الأول.
ثم الوجهان عندي فيه إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركب الولي الطفلَ دابة شرسة جموحة، فلا شك أنه يتعرض للضمان.
وإن مست حاجة مرهقة إلى إركاب الصبي في [نقلة] (1) لا بد منها، فهذا -وإن أفضى إلى الهلاك- لا يوجب الضمان، وهو بمثابة ما لو عالج الولي الصبي بالفصد عند إشارة الأطباء بذلك، فإذا أفضى إلى الهلاك، فلا ضمان، والوجهان فيه إذا ظن السلامة، وكان لزينةٍ (2) أو حاجة قريبة، فينتظم إذ ذاك الخلاف، وما من مسألة من مسائل اختلاف الأصحاب إلا وفيها غائلة يتعين البحث عنها.
فصل
قال: "وكذلك لو رموا بالمنجنيق ... إلى آخره" (3) .
10727- إذا رَمى رجل بحجر المنجنيق إنساناً، وقصده بعينه، وكان مما يتأتى القصد فيه على التعيين، فهذا عمدُ قودٍ، وإن رمى بالحجر طائفةً وقصدَهم، وكان لا يتأتى قصد واحد منهم بعينه، ولكن كان يعلم أن الحجر يصيب واحداً منهم، فإذا أهلك واحداً منهم على الوجوه التي ذكرناها، فلا يجب القصاص عليه؛ لأنه لم يقصد شخصاً متعيناً، وإنما يتحقق العمد إذا قصد بفعله شخصاً معيناً وأماته، وكان ذلك الفعل إنما يقصد به ذلك المعيَّنُ، وهو يُفضي إلى القتل غالباًً.
ولهذا قلنا: إن من أكره رجلاً على أن يقتل رجلاً من رجالٍ، وقال: إن لم تقتل واحداً منهم، قتلتك، فإذا قتل واحداً منهم، لم يكن مكرِهاً، ولم يجب القصاص عليه، وكما خرج المكرِه عن حقيقة الإكراه الموجِب للقصاص، كذلك يخرج الرامي عن كونه عامداً إذا كان لا يقصد شخصاً بعينه.
__________
(1) في الأصل: "غفلة".
(2) كذا، وهي صحيحة، فقد نقلها الرافعي عن الإمام. (ر. الشرح الكبير: 10/444) .
(3) ر. المختصر: 5/138.(16/479)
وقد يختلج في نفس الفقيه من هذا شيء، سيما إذا كان القوم محصورين في موضع، وقد سدد الجاني عليهم، وكان على علم بأنه لو أراد، لأتى على جميعهم واحداً واحداً، فقصد ذلك واعتمده، وأتى عليهم، وحقق قصده فيهم، فإذا تُصورت المسألة بهذه الصورة، فالذي أراه وجوبَ القصاص على الرامي.
وإنما [يستدّ] (1) ما قدمته لو قصد أن يصيب واحداً منهم لا بعينه، أو عدداً مخصوصاً منهم، فإذ ذاك يتجه ما ذكره الأصحاب.
وعلى هذا أقول: لو أكره رجل رجلاً على أن يقتل جماعة، وأخبره أنه إن بقَّى واحداً منهم، قتله، فإذا قتلهم وحقق ما استدعاه المكرِه، فالقصاص يجب على المكرِه، وإن كان المكرَه في كل قتل يُقدم عليه غيرَ محمول في عينه على القتل، من جهة أنه كان يُقدم على من يريد منهم إلى الاستيعاب والإتيان عليهم أجمعين.
10728- ومما يتعلق بما نحن فيه أن عشرة لو اجتمعوا على حذف المنجنيق ورَمْي الحجر بالآلة العتيدة (2) للرمي، فرجع الحجر على الجانقين (3) وقَتَلهم، وقد اشتركوا في الرمي، فصار انقلاب الحجر عليهم مُحالاً على أفعالهم، فقياس الباب في ذلك أن نهدر [من] (4) دية كل واحد منهم [عُشرها] (5) [ويبقى] (6) تسعةُ أعشار دية كل واحد من الجانقين على عواقل أصحابه، ولو رجع ذلك الحجر على واحد منهم وقتله، فَهدَرَ (7) عُشرُ ديته بمشاركته إياهم في الرمي، [وبقي] (8) تسعة أعشار ديةٍ على عواقل الباقين وهذا بيّن لا غموض فيه.
__________
(1) في الأصل: "يستمر".
(2) "العتيدة": أي المعدّة المهيأة المتخذة للرمي.
(3) الجانقين: رماة المنجنيق.
(4) في الأصل: "عن".
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: "وينقص".
(7) فَهَدَرَ: أي بطل، كما مر من قبل.
(8) في الأصل: "ونقص".(16/480)
10729- قال: "وإذا كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فدية الصادم هدر، ودية صاحبه على عاقلة الصادم" (1) هذا نصه هاهنا، ونص على أنه [إذا نام في الطريق أو قعد] (2) ، فتعثر به إنسان وماتا فتجب دية الصادم بكمالها على عاقلة المصدوم، وتهدُر ديةُ المصدوم، فمقتضى النصين مختلف؛ فإنه جعل الصادم هدراً [والمصدوم مضموناً بكماله] (3) في نص، و [في نصٍّ آخر] (4) جعل المصدوم هدراً والصادم مضموناًً بكماله، ولكن إحدى المسالتين مفروضة في القائم الواقف، وفيها أهدر الصادم، والمسألة الأخرى في [النائم] (5) والقاعد، وفيها أهدر المصدوم.
فمن أصحابنا من جعل في المسألتين [قولين] (6) بالنقل والتخريج: أحدهما - أن دية الصادم هدر في المسالتين؛ فإنه المتحرك الفاعل، فيجب إحالة الهدَرَ عليه، فهَدَر هو في نفسه، ويجب ضمان المصدوم على عاقلته.
والقول الثاني - أن المصدوم يهدر؛ فإن [الجادّة للطروق] (7) ، فمن وقف بها، فموقفه بين أن يمتنع وبين أن يكون على [شرط] (8) السلامة؛ فإن الطرق مهيأة معدّة للطارقين، وما عدا الطروق في حكم ما لا يقصد.
ومن أصحابنا من أجرى النصين على ظاهرهما، وهو الذي صحّحه القاضي، والفرق أن وقوف الواقف إنما لا يخرج عن المقصود المطلوب في الطريق، وقد يقف الواقف لانتظار واحد، أو للاسترواح بعد إعياءٍ وكلالٍ، أو لنفض غبارٍ؛ فلا ينسب الواقف في وقوفه إلى الخروج عن مقصود الطريق.
__________
(1) ر. المختصر: 5/138.
(2) في الأصل: "إذا ناما في الطريق أو قاما" وفيه خلل واضح. والمثبت من معنى كلام الغزالي في البسيط والرافعي في الشرح الكبير.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "القائم".
(6) سقطت من الأصل.
(7) في الأصل: "إيجاده الظروف" وهو تصحيف قريب المدرك بعون الله لنا.
(8) في الأصل: "سط".(16/481)
وأما النوم والقعود، [فليسا] (1) من مقاصد الطرق، لأنها لم تهيأ لهما؛ فانتسب النّائم والقاعد بالنوم والقعود [في] (2) الطريق إلى التفريط، ثم يخرّج القعود والنوم على قياس نصب الأحجار في الطرق الواسعة والضيقة، على ما سيأتي تفصيل هذه الأجناس، وما يوجب الضمانَ منها وما لا يوجب، عند ذكر حفر الآبار، إن شاء الله عز وجل.
فهذا مجموع ما ذكره الأصحاب.
10730- وقد انتظم من كلام الأصحاب أن الفعل في التحقيق صادر من الصادم لا غير، ولكن تردد النظر في أن الوقوف والقعود والنوم من باب التعدِّي بنصب الأحجار واحتفار الآبار، حتى يضمن المصدومُ الصادمَ أم لا؟ فرجع التردد إلى هذا: فمن جعل المصدوم متعدّياً أو منتسباً إلى عدوان أهدره في نفسه، وأوجب ضمان [الصادم] (3) .
ومن الأصحاب من لم ينسب الواقف والنائم والقاعد إلى العدوان، والفعل على هذا صادر من الصادم، فعليه الضمان، فهو يهدر في نفسه.
فمضمون الفصل خارج عن مقتضى التصادم؛ فإن التصادم فعلان صادران من المصطدمَيْن هاهنا، فترتب عليه التشطير في الإهدار والضمان، وهذا المعنى لا يتحقق في مضمون هذا الفصل، [فليتنبه] (4) الناظر له.
ومن فرق بين القائم والقاعد، فهذا أيضاً خارج عن مقصود الباب، والغرض منه راجع إلى تفصيل من يكون معتدياً في حالاته ومن لا يكون معتدياً.
10731- ولما ذكرنا اصطدام المستولدتين لمالكين أشرنا إلى إشكال، ورمزنا إلى الجواب عنه، ثم رأينا أن نؤخر استقصاءه إلى انقضاء قواعد الاصطدام، حتى يكون
__________
(1) في الأصل: "قلنا".
(2) في الأصل: "وفي".
(3) في الأصل: "المقربه". (كذا تماماً) .
(4) في الأصل: "فليثبت".(16/482)
التعرض له بعد الإحاطة بأصول الاصطدام، وهذا أوان الوفاء بالموعود، فنقول: إذا اصطدم أمّا ولد لمالكين، وكانت قيمتاهما متفاوتتين، فلا شك أن النصف من كل واحدة يهدر لانتسابها إلى [الصدمة] (1) ، ثم بنينا تلك المسائل بأجمعها على أصل التقاصّ، وعلى أن الفداء يقع بأقل الأمرين على الأرش أو القيمة، ثم أنهينا الكلامَ إلى تضمين مالك المستولدة القليلة القيمة، وقلنا: إنه يمثل في ضمانه نصف قيمة المستولدة الكثيرة القيمة، وهو الأرش، والنصف ساقط لصدمها، فهذا هو الأرش، ثم قلنا: سيد القليلة القيمة يغرم [الأقل] (2) من الأرش أو تمام قيمة المستولدة القليلة القيمة، وعللنا ذلك بأن الصدمة جرت من جملة المستولدة لا من بعضها، فاعتبرنا في المعادلة بين الأرش وبين القيمة تمامَ قيمة المستولدة.
وهذا وضع ابتداء الإشكال، فنذكر الإشكال في صيغة سؤال، ثم نوضح الجواب عنه، فيتم الغرض في هذا الفن، إن شاء الله عز وجل.
فإن قيل: لم اعتبرتم تمام قيمة المستولدة القليلة القيمة في المعادلة بين القيمة والأرش، وهي كما (3) صدمت، فتحصل صدمتها مع النقصان فيها؟ وأصل الاصطدام يتضمن إسقاط النصف من كل صادم، وإذا كان يُسقط نصف القيمة [فكيف] (4) نعتبر تمام قيمتها غير مصدومة؟ ولا شك أن قيمة المستولدة الجانية [يهدر] (5) نصفها.
وهذا السؤال واقعٌ، والجواب عنه يوضح الغرض.
فنقول: الصدمة من طريق العقل صدرت من جملتها حساً، كما ذكرناه، وأما النقصان بالصدمة، فتجوّزٌ من جهة سيد الكثيرة القيمة، والنصف الذي يضاف تلفه إلى فعل الصادم لا يتغير الحكم بتلفه، وهو بمثابة ما لو جنت المستولدة، وماتت حتف أنفها، ولو فرض ذلك، لوجب الضمان على السيد، فإنه إنما يضمن الفداء لتقدم
__________
(1) في الأصل: "الفدية".
(2) في الأصل: "قليل".
(3) كما: بمعنى عندما.
(4) في الأصل: "وكبن".
(5) في الأصل: "يعتبر".(16/483)
الاستيلاد، والمنعُ حصل بذلك الاستيلاد المتقدم لا غير، فانتظم من هذا أن المستولدة جنت بجملتها، وضمن سيد المستولدة الكثيرة القيمة نصفها، وأهلكت المستولدة القليلة نصفَ نفسها، وإتلافها نفسها، لا يحط الضمان عن مولاها، فلم يبق إشكال؛ لأنه يجب عليه تمام قيمتها، وذلك ما أردنا أن نبين.
فصل
قال: "وإذا اصطدمت السفينتان فتكسرتا ... إلى آخره" (1) .
10732- إذا اصطدمت السفينتان، فلا يخلو إما أنهما اصطدمتا بفعل القائمين بهما المُجريَيْن لهما، أو حصل الاصطدام بدون فعليهما، فإن اصطدمتا بفعل المُجريَيْن، نُظر، فإن كانا متبرعَيْن بحمل الأمتعة والركبان، وما كانا أجيرين، فلا يخلو إما أنهما تعمدا الصدم، أو توانيا، أو اختبطا، فإن تعمدا الصدم، فلا يخلو: إما أن يتعمدا صدماً يغلب الكسر منه والغرر منه، أو يتعمدا صدماً لا يغلب الكسر منه.
فإن تعمدا صدماً يغلب الكسر منه، وكان في كل سفينة عشرة أنفس، فإذا اعتمدا، أو اصطدما قصداً اصطداماً يُفضي إلى الهلاك، فقد أهلكا عشرين نفساً إهلاكَ قصاص، وكان هذا كما لو اشترك رجلان في قتل عشرين نفساً، فيجب لأولياء [القتلى] (2) القصاص عليهما، ثم وقع الإهلاك معاً.
ونحن لا نرى القتل بالجميع، فنُقرع بين أولياء القتلى، فمن خرجت له القرعة سُلّم إليه القائمان بالسفينتين المُجريان لهما، وقُدِّرا كالقاتل الواحد، وقُتلا بشخصٍ واحد؛ فإنهما اشتركا في قتل واحدٍ من ركبان السفينة، ثم يجب عليهما [تسعةَ عشرَ] (3) دية فتؤدَّى الديات من تركتهما، فلكل واحد من القتلى سوى [القتيل] (4) الذي قُتل القائمان به نصف الدية في تركة كل واحد من القائمَين، فنجمع على تركة كل واحد
__________
(1) ر. المختصر: 5/138.
(2) في الأصل: "القتيل".
(3) في الأصل: "سبعة عشر".
(4) في الأصل: "القتلى".(16/484)
منهما [تسعَ] (1) ديات ونصف، وعلى كل واحد منهم في تركته عشرون كفارة، لأنهما اشتركا في قتل عشرين، وعلى كل واحد منهما نصفُ قيمة ما في السفينتين من الأموال، فلا يهدر من المال شيء؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا لم تكن الأموال للقائمَيْن [بالسفينتين] (2) . وهذا بيّن.
والسفينتان مملوكتان للمجريَيْن فَهَدَرَ (3) نصفُ كلّ واحد لانتساب مالكها إلى الصدمة، ويجب على كل واحد نصف قيمة سفينة صاحبه على القياس المعلوم في باب التصادم [وأقاويل] (4) التقاصّ، فإن استوت القيمة، وفرعنا على التقاص، سقط ضمان السفينتين، وإن تفاضلتا، فعلى الذي قيمة سفينته أقلُّ [الفضلَ للّذي] (5) قيمةُ سفينته أكثرُ.
هذا إذا تعمدا الصدم، وكان ذلك الصدم مما يغلب الإهلاك منه.
10733- فأما إذا تعمدا الصدم، وكان الغالب أنه لا يُفضي إلى الأهلاك، فالذي جرى منهما شبه عمد، فلا قود، ولا تجب الدية في مالهما، وإنما تجب مغلظة على العاقلة، ولا يَهدُُِر من الديات شيء، ولا من الأموال التي حملاها في السفينتين، وضمان المال على المُجريَيْن.
10734- فإن جرى ما جرى خطأ، فهو كما ذكرناه، إلا أن الديات تكون مخففة، وباقي التفريعات، كإيجاب الكفارات مجراةٌ على القواعد والأقيسةِ التي مهدناها.
10735- ولو كان [القائمان بالسفينتين أمناء أو أجراء،] (6) يعملان لمالكي
__________
(1) في الأصل: "سبع".
(2) في الأصل: للسفينتين.
(3) هَدَرَ: أي بطل.
(4) في الأصل: "أقاويل" (بدون الو او) .
(5) في الأصل: "القصاص الذي".
(6) في الأصل: "ولو كان للقائمين بالسفينتان امتياز أو أجراء" كذا تماماً بما فيها من أخطاء وتصحيف. والله المستعان.(16/485)
السفينتين، فحكم العاملَيْن بإذنهما حكم القائمَيْن (1) في الأقسام التي ذكرناها، من العمد المحض وشبه العمد والخطأ، ويتعلق بهما من الحكم ما يتعلق بالقائمَيْن لو كانا هما المجريين، والقصاص عليهما في حالٍ مع الديات، والديات على عواقلهما في حال، ويضمنان [شِحنة] (2) السفينتين بكمالهما، لا يضيع منها شيء، فإن شِحنة كل سفينة تلفت بإجرائها مجرى السفينة الأخرى، فلا يفوت من الضمان شيء، ويضمن [الأجراء] (3) السفينتين بكمالهما لا يضيع منهما شيء.
وفي هذا المعنى تنفصل مسألة الأجراء عن مسألة القائمَيْن المالكَيْن للسفينتين، فإن المالكَيْن يهدر نصف سفينة كل واحد منهما، فإن فعل المالك في ملكه [يهدُر] (4) على التفصيل الذي تقتضيه قاعدة الصدمة، [والأجيران] (5) ليسا مالكين للسفينتين، فإن قيل: إذا فرض من [الأجيرين] (6) خطأ، فلِمَ نُضمّنهما؟ قلنا: [الأجير] (7) يضمن العمدَ والخطأ، وإنما يختلف القول فيما يتلف تحت يد الأجير من غير فعل من جهته.
فإن قيل: أليس يختلف قول الشافعي في الأجير المشترك إذا قَصَرَ الثوب وخرقه؟
قلنا: إن تعدى، ضمن، وإن جاوز حد القِصارة المطلوبة منه، فأدى مثلُ تلك القِصارة إلى عيب، فهذا ليس إتلافاً غيرَ مأذون فيه، وما نحن فيه مفروض فيه إذا جرى الاصطدام منسوباً إلى فعليهما، وليس في استئجارهما ما يتضمن إذناً فيما جرى من الاصطدام، وهذا واضح لا خفاء به.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الاصطدام بسبب فعليهما، وكانا يُجريان السفينتين عمداً أو خطأً.
__________
(1) القائمين: المراد المالكين كما سيصفهما في السطور القريبة الآتية، وإنما استعمل لفظ القائمين للمالكين إحالة على المسألة السابقة التي قيدها بأن القائمين هما المالكان.
(2) في الأصل: "سجة".
(3) في الأصل: "الأحرار".
(4) في الأصل: "لهذا المالك".
(5) في الأصل: "الأحرار".
(6) في الأصل: "الآخرين".
(7) في الأصل: "الآخر".(16/486)
10736- فأما إذا جرى ما جرى وهما مغلوبان: غلبهما الرياح، وسقط [اختيارهما] (1) في الإجراء من كل وجه، فنفرض الكلام فيه إذا كان يتولى أمر السفينة مالكها، وهو مجريها، فاتفق ما وصفناه، ثم نذكر لو كان المجري أجيراً: فإن كان المجريان -كما ذكرناه- القائمَيْن المالكَيْن، وكانا متبرعين من غير أجرة (2) ، فهل يتعلق بهما الضمان إذا غُلبا، وسقط اختيارهما، والمسألةُ في ركبان السفينة وما فيها من [شِحنة] (3) حَسَب ما مضى، لم يتغير منه شيء إلا الغلبة، ففي المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أن الضمان لا يتعلق بهما أصلاً. والقول الثاني -[يتعلق بهما الضمان] (4) كما لو كانا مجريَيْن [باختيار فاختبطا] (5) .
ثم قال أئمتنا: قد ذكرنا قولين في اصطدام الفارسين إذا غلبهما فرساهما، فنرتّب السفينةَ على الدابة، ونجعل ما يجري [بغلبة] (6) الرياح أولى بإسقاط آثار الضمان؛ فإن البحر إذا هاج، فيغلب سقوطُ الاختيار، وليس ذلك أمراً نادراً، وهو وجه الخطر في ركوب البحر، وسقوطُ اختيار الراكب (7) بالكلية يعد من النوادر.
ثم ذكر العراقيون في تصوير الغلبة، وسقوط الاختيار وجهين: أحدهما - أن معناه أن تهيج الرياح حيث لا [يتسنّى] (8) مدفع [ولا يتأتَّى إمكان] (9) صرف ودفع الاصطدام [ولا يشترط] (10) في تصوير هذه الحالة ألا تتقدم حالة اختيار أصلاً.
[هذا وجه من الذي ذكره الأئمة] (11) .
__________
(1) في الأصل: "إجبارهما".
(2) أي متبرعين بنقل ما في السفينة من ركبان وشحنة.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: "يتعلق بالضمان".
(5) في الأصل: "بإجبار فاخبطا".
(6) في الأصل: "عليه".
(7) الراكب: المراد به هنا راكب الدابة.
(8) غير مقروءة بالأصل، ورسمت هكذا: "بينى" تماماًً رسماً ونقطاً.
(9) في الأصل: "والثاني وإمكان صرف".
(10) في الأصل: "أو لا يشترط".
(11) في الأصل: "وجه والذي ذكره الأئمة".(16/487)
وذكروا وجهاً ثانياً في تصوير الغلبة فقالوا: إنما يثبت حكم الغلبة إذا كانت السفينتان في المرسى، [فهيَّآ قلوعهما] (1) واقتلعا [الأوتاد] (2) ، وهمّا بالإجراء، فهاجت ريح غالبة لا تقابَل باختيار، وجرى ما جرى، فليس في هذه الصورة [لهما جَرْيٌ] (3) وتقدم اختيار، أصلاً، فيخرّج القولان والحالة هذه.
وأما إذا عُهد منهما فيما تقدم من الوفاق اختيار، ثم سقط الاختيار، وجرى هذا طارئاً، فهذا يلتحق بالخطأ، كما تقدم تصوير الخطأ.
هذا ما ذكره العراقيون في التصوير، [وطريقه] (4) أن يقال فيما يراعى في التصوير: ألا يتجاريا على مقتضى الاختيار، بحيث يفرض الاصطدام لو هاجت الرياح [واغتلم] (5) البحر، فإنهما إذا اختارا أن يتجاريا والبحر عرضة للهَيْج، فليس ذلك نادراً منه، فهذا منهما [تسبّب] (6) إلى الصدمة ظاهر.
فأما إذا لم يجر منهما اختيار في التجاري، وجرى ما جرى من اقتراب السفينتين واصطدامهما -بعد الاقتراب- ضرورياً (7) ، فهذا محل القولين، فينتظم أوجه في تصوير القولين، ويترتب عليهما اختلاف الأصحاب في الأقوال: [أحد] (8) الوجوه-[أن] (9) الغلبة مهما (10) جرت، [فلا] (11) حكم للاختيار قبل جريانها، وإنما الاعتبار بالحال. والوجه الثاني - أنا نشترط ألا يتقدم اختيار بالإجراء أصلاً، وهذا أحد
__________
(1) في الأصل: "فهذا ولوعهما".
(2) في الأصل كلمة غير مقروءة، ويقتضي السياق أنها اسم الآلة التي تمسك السفينة في المرسى، وهي قد رسمت هكذا (البحر) بدون نقط.
(3) في الأصل: "لها ما جري".
(4) في الأصل: "وطابق أن يقال".
(5) في الأصل: "واعلم".
(6) في الأصل: "نسب".
(7) ضرورياً: بمعنى أنه لا دفع له.
(8) في الأصل: "آخر".
(9) في الأصل: "فإن".
(10) مهما: بمعنى (إذا) .
(11) في الأصل: "ولا".(16/488)
ما ذكره العراقيون، وهو سرف، والوجه الثالث - ألا يتقدم اختيار في المجاري، ولو اقتربت السفينتان اقتراباً [يغلب من حاله] (1) سقوط الاختيار في الصرف [فلا] (2) يجوز أن يكون في مثل هذا اختلاف؛ [فإن] (3) الاقتراب المفرط سببٌ إلى الاصطدام، فهذا منتهى القول في تصوير الغلبة.
التفريع:
10737- إن قلنا: يجب الضمان وإن غلبت الرياح وسقط الاختيار، فهو (4) محمول على الخطأ المحض، فيجب.
وإن كان [المُجريان] (5) للسفينة أمينين متبرعين، فجرى ما صورناه من الغلبة، فتفصيل القول في سقوط الضمان وثبوته على المُجريَيْن كتفصيله فيه إذا كانا مالكين، ولا يخفى التفريع.
وإن [كان] (6) المجريان أجيرين، واتفق ما صورناه من سقوط الاختيار، فإن أثبتنا الضمان والمجريان مالكان للسفينتين أو أمينان، فيثبت الضمان، وهما أجيران، وإن قلنا: لا يتعلق الضمان والمجريان مالكا السفينتين، فإذا كان المجريان أجيرين -وليقع الفرض فيه إذا كانا أجيرين مشتركين- فهذا ينبني على أن الأجير المشترك يده يد ضمان أو يد أمانة، وفرّعنا على أن [الغلبة] (7) تُسقط أثر الاختيار، فلا شيء والحالة هذه على الأجير. وإن قلنا: يد الأجير يد ضمان حتى لو [تلف] (8) تحت يده ما سلم إليه بآفة سماوية يجب عليه الضمان، فهذا الحكم يقتضي أن نوجب الضمان عليهما في
الأموال المشحونة في السفينتين.
_________
(1) في الأصل: "لغلب من قاله".
(2) في الأصل: "ولا".
(3) في الأصل: "بأن".
(4) في الأصل: "فهذا فهو محمول".
(5) في الأصل: "المحدثان".
(6) في الأصل: "قال".
(7) في الأصل: "العلة".
(8) في الأصل: "أتلف".(16/489)
وهذا حيث انتهى التفريع إليه ضمانُ يدٍ، لا فعل.
ثم إنا [نوجب] (1) ما ذكرناه في الأموال التي ليس مُلاَّكها معها؛ إذ لو كان معها ملاكها، فلا يجب الضمان على الأجير بحكم اليد؛ فإن المالك إذا كان حاضراً، فاليد له في ملكه، ولا يد للأجير مع يده، ونحن نفرع على سقوط اختيار الأجير بالكليّة، [وإخراجِهِ] (2) عن كونه فاعلاً أو منتسباً إلى الفعل، وإنما يبقى الضمان على قاعدة تضمين الأجير ما يتلف تحت يده من غير فعل منه، وعلى هذا لا يجب عليهما ضمان النفوس، لأن اليد لا تثبت على الأحرار.
10738- ولو كان في السفينة عبيد، فهذا يختلف بالقصد والغرض، فإن حملهم [لنقلهم] (3) ، وما كانوا مستحفظين من جهة ملاك الأمتعة والأموال [، فهم تحت يد الأجير، وحكمهم حكم الأموال، وإن كان ملاك الأموال] (4) استحفظوا عليها العبيدَ في السفينة، فلا ضمان في الأموال؛ فإنها تحت أيدي العبيد، ويد العبد إذا استحفظ بمثابة يد المولى، وقد ذكرنا أن الملاك لو كانوا شهوداً، لم يجب الضمان على [الأجيرين، فكذلك عند وجود] (5) العبيد الحفظة؛ فإنهم نُصبوا مستقلين بالأيدي، ومن يثبت له يد على شيءلم يكن [تحت يد غيره] (6) .
هذا بيان الأجيرين، والتفريع على سقوط الاختيار وحكمه.
10739- فأما إذا جعلنا المغلوب في حكم الفاعل، فيتعلق الضمان بالأجيرين على حسب ما ذكرناه، فيما تقدم، ثم لا يبقى الضمان تمهيداً لعذر الأجير، ولا ينزل ما يُفرض من تلفٍ بمثابة ما لو خرق الثوبَ القصارُ، وقد قال أهل الصنعة: القِصارة
__________
(1) في الأصل: "نجوّز".
(2) في الأصل: "إخراجه" (بدون الواو) .
(3) في الأصل: "لنعريهم". (كذا رسماً ونقطاً) .
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: "تحديد".(16/490)
[المستدعاة] (1) في الثوب المسلَّم إليه تخرِق لا محالة [ومعنى ذلك] (2) أن التلف محالٌ على أمرٍ مأذون فيه، وهذا لا يتحقق بسببٍ فيما يتلف بالاصطدام؛ فإنه ليس في الإذن في [إجراء] (3) السفينة بما فيها ومن فيها إذن لأسباب الصدمة.
وهذا المقدار كافٍ في التفريع؛ فما لم نصرح به، فقد [نبهنا] (4) عليه بتمهيد الأصول.
10740- ومما يتعلق [بتمام] (5) هذا الكلام، أنا إذا رأينا إسقاط الضمان عند جريان الغلبة، فلو اختلف مُجري السفينة -وهو مالكها والقائم بها- وركبانُ السفينة، فقال الركبان: الاصطدام جرى بفعليهما، وادعى القائمون الغلبةَ [وسقوطَ] (6) الاختيار، فقد قال الأصحاب: القول [قول] (7) المجريَيْن، فإن الأصل براءة الذمة عن [إطلاق الضمان] (8) ، وليس ما ادعاه القائمون من الغلبة أمراً بدعاً في البحر.
ولو فرّعت الدعوى على الأجيرين، فإن قلنا: يد الأجير يد ضمان، فلا معنى لهذا الاختلاف فيما يتعلق بضمان اليد، وإن قلنا: لا يجب ضمان اليد على الأجير، وإنما يجب عليه [ضمان] (9) ما يتلف، فالقول قول الأجيرين أيضاًً؛ [فإن الأصل] (10) براءة الذمة كما ذكرناه في القائمَيْن المالكَيْن للسفينة.
__________
(1) في الأصل: "المسترعاة"، والمثبت تصرف من المحقق؛ رعاية للمعنى، فالمستدعاة: أي التي استدعاها وطلبها صاحب الثوب.
(2) في الأصل: "وذلك".
(3) في الأصل: "في أمر السفينة".
(4) في الأصل: "مهدنا".
(5) في الأصل: "بتمامه".
(6) في الأصل: "وسقوطها".
(7) في الأصل: "في ".
(8) في الأصل: "الطلاق للضمان".
(9) زيادة من المحقق.
(10) في الأصل: "إن براءة الذمة".(16/491)
فصل
قال: "وإذا عرض لهم ما يخافون به التلف ... إلى آخره" (1) .
10741- مضمون الفصل في إلقاء الأمتعة في البحر: إذا التطمت الأمواجُ، [وعلت] (2) السفينةَ، فإن ألقى مالك المتاع متاعَه في البحر بنفسه من غير استدعاء آخر منه، فلا ضمان على آخر، ولا يجد مرجعاً، ولا فرق بين أن يكون ذلك في حال خوفِ الغرق، وبين أن يكون في حالة السكون، وغلبة السلامة.
ولو اضطر إنسان في شدة المخمصة، فتقدم إليه مالك طعام، وأوجره من طعام نفسه، وأنقذه [مما به] (3) من الضرورة وشدة الخوف، فهل يرجع عليه بقيمة الطعام؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرَهما في أثناء الأبواب، وسنعيدهما في كتاب الأطعمة.
فإن قيل: إذا ألقى متاعه، وكان ذلك سبباً [لإنقاذ ركاب] (4) السفينة، فهلاّ كان هذا بمثابة إطعام المضطر في صورة الوجهين؟ قلنا: المسألة مصورة فيه إذا كان ملقي المتاع في السفينة، وكان يهلِك لو لم يُلق، كما كان يهلِك أصحابه، وحقٌّ عليه أن يخلِّص نفسه عما عرض من خوف الهلاك، فإذا ألقى المتاعَ والحالةُ هذه، فهو ساعٍ في تخليص نفسه، ومؤدٍّ أمراً واجباً عليه في نفسه لنفسه، فلا يرجع بالضمان على أحد، وهذا لا يتحقق في إطعامه المضطرَّ؛ فإن صاحب الطعام لا خوف عليه، فتمحّض الإطعامُ تنجيةً للمضطر، [وتخليصاً] (5) له، وهذا مما اتفق الأصحاب
عليه.
ولو كان صاحب [المتاع] (6) في سفينة أخرى، وكانت سفينته خفيفة،
__________
(1) ر. المختصر: 5/139.
(2) في الأصل: " وـعلـ " رسمت هكذا بدون نقط.
(3) في الأصل: "عما به".
(4) في الأصل: "لإيعاد كتاب".
(5) في الأصل: "وتخليطاً".
(6) في الأصل: "الطعام".(16/492)
[وثقلت] (1) سفينةٌ فيها أمتعته، فألقى منها متاعه، ونجا بسببه ركبان السفينة، فالذي دل عليه كلام الأئمة أنه لا يُضمّنهم وإن سعى في نجاتهم.
والفرق بين ما ذكرناه وبين ما لو أطعم مضطراً طعاماً من عند نفسه، وقد ظهر اختلاف الأصحاب في المضطر، وفرض الأئمة ذلك فيه إذا أوْجرَ المضطرَّ من غير إذنٍ [واستدعاءٍ] (2) من جهته، وليس يبعد من طريق القياس تنزيل مسألة [إلقاء زيادة الشِّحنة] (3) منزلة [الإيجار] (4) ، لكن ظاهر النقل يخالف هذا، وطريق الفرق أن الطعام وصل إلى المضطر قطعاً، ووقع منه الموقع وغذاه، وما ألقاه في البحر بخلاف ذلك.
وهذا [لا يستدّ] (5) مع انعدام الإذن في الموضعين جميعاً.
ولا خلاف أنه لو أطعم من ليس مضطراً ونفعه الطعام [لا يغرَم] (6) شيئاً.
10742- ولو قال لراكب سفينة: ألق متاعك في البحر، ولم يكن المستدعي في تلك السفينة، فإذا ألقى متاع نفسه باستدعائه، [فلا شيء] (7) على المستدعي، ولا ضمان أصلاً.
وإن قال: ألق متاعك وأنا ضامن، فالضمان لا يلزمه؛ إذ هذه المسألة لها صورتان: إحداهما - ألا يكون ثمَّ خوفٌ، فإذا قال: ألق متاعك وأنا ضامن، فهو بمثابة ما لو قال لإنسان: اخرق ثوبك، واقتل عبدك، وأنا ضامن، فإذا فعل المالك ذلك، لم نُلزم الضامن شيئاً؛ فإن المالك أتلف ملك نفسه باختياره، ولم يرجع منه نفع إلى الضامن، وهذا مغنٍ بوضوحه عن تكلف البسط فيه، وذلك صورة.
__________
(1) في الأصل: "وتغلب".
(2) في الأصل: "واسترعى".
(3) في الأصل: "الإلقاء وفيه شحنة".
(4) في الأصل: "الإلجاه".
(5) في الأصل: "لا يستند".
(6) في الأصل: "لا يعدم".
(7) زيادة من المحقق.(16/493)
والصورة الثانية - أن يكون راكب السفينة مشرفاً على الهلاك لو لم يُلق متاعَه، [فلو] (1) قال - والحالة هذه: ألق متاعك وأنا ضامن؛ فإنما استدعى منه أمراً هو واجب عليه؛ فإنه يجب عليه أن ينجّي نفسَه بإلقاء المتاع، فقد فعل ما هو واجب عليه نحو نفسه، فكان هذا بمثابة ما لو قال للمضطر: كل طعامك وأنا ضامن، فإذا أكله، لم يرجع على المستدعي بشيء.
ولو كان للإنسان متاع في سفينة وفيها راكب، وقد أشرفت على الغرق، فقال رجل لمالك المتاع -ولم يكن مالك [المتاع] (2) في تلك السفينة- فقال له رجل: ألق متاعك [الذي] (3) في تلك السفينة في البحر، وأنا ضامن، فإذا ألقاه، ضمن المستدعي في الصورة التي ذكرناها؛ فإن المستدعي التمس بذلك نجاة أقوام، فكان غرضاً صحيحاً، ولا يمتنع بذل المال لمثل هذا الغرض، والأجنبي [يختلع] (4) المرأة عن زوجها بمالٍ يبذله، وإن كان لا يحصل له في مقابلة ما يبذله شيء، ولكن يسوّغ الشرع ذلك الافتداءَ، وإفادةَ التخليص، فالذي يقبل التخليص من الهلاك أولى، وهذا متفق [عليه] (5) .
وقد صورنا المسألة فيه إذا لم يكن صاحب المال في السفينة المشرفة على الغرق، ورجعت النجاة على الركبان الذين ليس المتاع لهم.
10743- ولو كان صاحب المتاع في السفينة المشرفة على الهلاك، [فقال] (6) قائل ليس في السفينة: ألق متاعك في البحر، وأنا ضامن، فإن لم يكن في السفينة غيرُه، فإذا ألقى، لم يرجع بشيء على الضامن، وقد قدمنا ذكر هذا، وأوضحنا أنه فعلَ واجباً عليه، [ورفْعُ] (7) اللوم وتأديةُ الواجب عليه.
__________
(1) في الأصل: "ولو".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "يجب أم".
(5) زيادة لاستقامة الكلام.
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: "ورجع" والمعنى أنه رفع عن نفسه اللوم إذا ضن بماله وأغرق نفسه.(16/494)
وإن كان معه في السفينة رجل آخر، وقد استدعى المستدعي الإلقاء، وضمن، فقد ذكرنا أن ما يرجع إلى نجاة غير المالك، فهو مضمون، وقد اجتمع في هذه المسألة نجاة مالك المتاع ونجاة غيره، فإذا ألقى المتاع باستدعاء الضامن ما حكمه؟ قال القاضي رضي الله عنه: لا يجب على [المستدعي] (1) إلا ضمان نصف المتاع؛ فإنه قد رجع نصف الفائدة إلى مالك المتاع، ولو كان حقاً عليه أن يُلقي المتاع [وينجو، فما] (2) يرجع إليه لا يضمنه الضامن، كما لو كان منفرداً، ولو كان في [السفينة] (3) عشرة، وصاحب المتاع عاشرهم، فإذا قال: ألق متاعك، وأنا ضامن، فألقى، فالضامن [يلتزم] (4) تسعة أعشار المتاع، ويسقُط العُشر، وهو ما يرجع إلى المُلقي.
فقيل للقاضي: إن كان المسقط [للضمان] (5) في حصة المُلقي أنه يجب عليه أن يلقي، فينجو، فإذا [كان] (6) معه راكب آخر، فحقٌّ عليه أن يخلص نفسه، وهو لا يتخلص إلا بإلقاء جميع المتاع، فوجب ألا يضمن الضامن شيئاًً؛ فإن إلقاء جميع المتاع حتمٌ عليه لنجاة نفسه، فإن جاز أن يلتزم الضامن نصفَ المتاع، لأجل الراكب الذي ليس صاحب المتاع، فينبغي أن يلتزم تمام القيمة لأجله أيضاً، فإن ذلك لا ينجو إلابإلقاء تمام المتاع.
فقال القاضي: هذا محتمل، فنجعله وجهاً، ونقول: في المسألة وجهان: أحدهما - أن الضامن يلتزم الجميع، وهذا الذي ذكره وجهاً مجرداً، هو منصوص الشافعي، وإليه صار الأصحاب. ووجهه أن هذا الضمان يستقلّ بأدنى فائدة، وقد [تقرر] (7) في قاعدة الفصل أن الإلقاء إذا أفاد نجاة غير المُلقي يجوز ضمانه، وهذا
__________
(1) في الأصل: "المدعي".
(2) في الأصل: "يتخوف ما".
(3) في الأصل: "السفر".
(4) في الأصل: "ملزم".
(5) في الأصل: "للضامن".
(6) زيادة لاستقامة الكلام.
(7) في الأصل: "تقدر".(16/495)
الإلقاء يُفيد نجاة غير مالك المتاع، ولا يحصل نجاةٌ إلا بإلقاء الجميع [، فلهذا] (1) التعلق يجب أن يصح الضمان في الجميع؛ فإنه إن كان يُنظر إلى نجاة المُلقي، فيجب سقوط الكل؛ لأن نجاته تحصل بإلقاء الكل، هذا وجه.
قال: والثاني -وهو الأصل عنده- أن الضمان يقسط على المُلقي والركبان كما ذكرناه، وسبيل جوابه عما ذكرناه [في] (2) الوجه الأول أنا [إن أضفنا] (3) الإلقاء إلى صاحب المتاع، فموجبه سقوط الضمان، [وإن] (4) أضفناه إلى غيره، فموجبه تمام الضمان، وإذا تقابل الوجهان على النفي والإثبات، [فأصدق] (5) مسلك في ذلك التنصيفُ.
هذا بيان الوجهين وتوجيههما.
10744- ولو قال واحد من ركبان السفينة: ألق متاعك في البحر على أني ضامن، وكان مالك المتاع في السفينة، [فالضمان] (6) من المستدعي صحيح، كما أنه [صحيح] (7) ممن ليس في السفينة، بل هو بالصحة أولى، وغرض المستدعي إنقاذ نفسه، وتجويزه متجه لا يحتاج إلى تكلف.
وإذا قال من ليس في السفينة: ألق متاعك، فمأخذ تجويزه الحِسبةُ والسعيُ في إنقاذ الغير، وهو [وإن] (8) كان ظاهراً، فالسعي في إنقاذ النفس أولى وأقوى، ثم يرد في ذلك أنه يضمن الجميع [أو] (9) يضمن ما يخصه وغيرَه من الذين ليسوا ملاك المتاع؟ فيه الوجهان [المحرران] (10) الآن.
__________
(1) في الأصل: "فهذا".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "من صفتنا".
(4) في الأصل: "فإن".
(5) في الأصل: "فافرق".
(6) في الأصل: "فالضامن".
(7) زيادة يقتضيها السياق.
(8) في الأصل: "إن".
(9) في الأصل: "لو".
(10) في الأصل: "المجران".(16/496)
10745- ولو قال واحد من الركبان -بعد هذا- على ثبوت جميع الضمان: ألق متاعك في البحر على أني ضامن وركبانُ السفينة. قال الشافعي: "ضمنه دونهم" (1) قال المزني: وجب أن يضمن بحصته، وظاهر ما نقله عن الشافعي أنه إذا قال: إني ضامن وركبانُ السفينة، أنه يصير ضامناً بجميع المُلقَى على الكمال.
وأما إضافة الضمان إلى الركبان، فسنذكره بعد الفراغ من هذا الغرض، [فإنه] (2) إذا جرى من المستدعي اللفظُ المحكي، فقد أضاف الضمان إلى نفسه، وإلى الركبان، ويقتضي ذلك التقسيطَ، فلا [يلتزم] (3) إلا حصةَ نصيبه لو وزعت قيمة الملقَى عليه وعلى الركبان.
وسبيل الكلام في المسألة أن المستدعي إن صرح بما يقتضي انفرادَه بضمان الجميع، فلا شك أنه مطالَب بالجميع، وإن صرح بلفظٍ يقتضي التقسيط، فالأمر محمول على التقسيط، فالضمان إذاً يقبل التقسيط، ويقبل الانفراد، ولا يمتنع أن تُضمن جملةُ الدَّيْن الخاص على الانفراد، فيكون كل واحد منهم مطالَباً بجميع الدين، كما تقرر في كتاب الضمان، فإذاً لا نزاع في فقه المسألة، وإنما التردد في موجب الألفاظ، [فلو قال] : أنا وركبان السفينة ضامنون، فقدّم الركبان ونفسه على ذكر الضمان، فهذا لا يحمل على انفراد هذا الشخص بالضمان في جميع الملقَى، إلا أن يقول: أردت ذلك، فيؤاخذ بموجب إرادته؛ فإن الانفراد ممكن، واللفظ محتمل، وإن زعم أنه أراد التقسيط، وادُّعي عليه الانفراد، فالقول قوله مع يمينه، ولا يكاد يخفى فصل الخصومة فيه.
هذا إذا قال: أنا وركبان السفينة ضامنون.
فأما إذا قال: [أنا] (4) ضامن وركبان السفينة، واقتصر على هذا، أو قال: أنا ضامن وركبان السفينة ضامنون، ففي هاتين اللفظتين وجهان: أحدهما - أنه لو حمله
__________
(1) ر. المختصر: 5/139.
(2) في الأصل: "فإن المستدعي".
(3) في الأصل: "يلزم".
(4) زيادة من المحقق.(16/497)
على التقسيط قُبل منه، وهذا اختيار المزني. والثاني - أنه لا يُقبل منه، فإنه وصف نفسه بالضمان إضافة إلى الملقَى، ثم ذكر بعد ذلك الركبان وضمانَهم، فإذاً استقل الكلام الأول بإضافة الضمان، ولو فرض الاقتصار عليه، لكان متضمناً [ضماناً] (1) تاماً في الجميع، فذكْرُ الركبان بعد ذلك لا أثر له، وليس كما لو قال: أنا وركبان السفينة ضامنون، فإنه لم يفرد نفسه بالضمان.
هذا وجه الكلام فقهاً ولفظاً.
ثم من أصحابنا من جعل الوجه الآخر المنصوص عليه، ومذهبَ المزني مخرّجاً [معدودين] (2) من المذهب، ومنهم من قطع بما ذكره المزني وأوّلَ لفظ الشافعي، فقال: أراد أصل الضمان، ولم يتعرض للتقسيط ونقيضه، والقول في ذلك [قريب] (3) .
10746- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا أضاف الضمان إلى الركبان فإضافته تحتمل الإخبار عن ضمانٍ سبق [منهم] (4) ، فيكون إقراراً منه عليهم، فإن اعترفوا، كانوا مؤاخذين بالإقرار، وإن أنكروا، فالقول قولهم.
وإن [قال: أردتُ إنشاء] (5) الضمان عنهم، ولم أرد الإقرار، فقد أطلق الأصحاب أنهم إن رضوا، ثبت.
وهذا بعيد عن التحصيل إلا على مذهب الوقف، وقد ذكرنا أن من أصحابنا من يثبت وقف أبي حنيفة في العقود جُمَع، وقد قدمنا مراتب الوقف في كتاب البيع، فإن لم نصحح هذا النوعَ من الوقف، فلا [مساغ] (6) لهذا.
ولو قالوا: رضينا، لم يكن قولهم رضينا إنشاء ضمان، وإنما هو إجازة، وإذا منعنا الوقف، أبطلنا الإجازة.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "معدوداً".
(3) في الأصل: "ترتب".
(4) في الأصل: "فيه".
(5) في الأصل: "أرادا في إنسان".
(6) في الأصل: "امتناع".(16/498)
وذكر القاضي هذا الذي ذكرناه، ورأى ما رأيناه، فلا وجه لغيره.
ولو قال إلى رجل: طلقتُ زوجتك وأعتقتُ [عبدك] (1) ، فقال: رضيت، لم [ينفذ] (2) العتق والطلاق، مع سلطانهما، وهذا واضح من الوجه الذي ذكرناه، والضمان على إلقاء المال -وإن ذكر في فصل حاوٍ - فهذا [أصلٌ في نفسه] (3) ليس يضاهي سائر جهات الضمان إلا على تقريب، وكلّ ما كان كذلك يعظم الزلل فيه، وإنما ظن من ظن من أصحابنا [أن] (4) الرضا كافٍ؛ من جهة أنهم [لم] (5) يرَوْا لهذا الضمان معتمداً منقاساً، فإن معوّل الضمان على [التزام] (6) مال مستقر، وليس هذا النوع على هذا النسق، والأمر وإن كان كذلك، فأصل الضمان محمول على الحاجة الحاقة والضرورة، فإذا تمهد أصل الحاجة، [فخلاف] (7) الأصول [لا يحتمل] (8) ، و [كذا] (9) مخالفة القياس في التفصيل من غير حاجة (10) .
__________
(1) في الأصل: "عبدي".
(2) في الأصل: "يبعد".
(3) في الأصل: "حل نفسه".
(4) زيادة من المحقق.
(5) زيادة لاستقامة الكلام.
(6) في الأصل: "إلزام".
(7) في الأصل: "فخالف".
(8) في الأصل: "لا يحيط".
(9) زيادة من المحقق.
(10) نظراً لكثرة التحريف والتصحيف في المسألة، وما استتبعه من تغيير وتعديل رأينا أن نأتي هنا بعبارة الغزالي، وهي خلاصة قول شيخه، عسى ن يكون في ذلك تمام الفائدة وإضاءة للنص، قال الغزالي: " ... أما إذا قال: أنا ضامن وركبان السفينة ضامنون، ففي هاتين اللفظتين وجهان: أحدهما - أنه يحمل على التقسيط لو فسّر به، ويقبل منه فيه، وهو اختيار المزني.
والثاني - يلزمه الكل؛ لأنه أضاف إلى نفسه ما يستقلّ به، ثم أتبعه بما هو مردود عليه، فلا يتغير صدر الكلام به. ومن أصحابنا من قطع بمذهب المزني، وأوّل كلامَ الشافعي. ومنهم من جرى على النص، وجعل مذهب المزني مخرجاً.
فأما إذا قال: أردت بقولي: "ركبان السفينة ضامنون" إخباراً عن حالهم، فإن اعترفوا، فذاك، وإلا فالقول قولهم. ولو قال: أردت إنشاء الضمان عن جميعهم، فقد أطلق الأصحاب: أنهم إن رضوا ثبت. وهذا بعيد عن القياس، إلا على قول وقف العقود. ولكن =(16/499)
10747- ومما يجب الإحاطة به أن من ألقى متاعه، وقد ضُمن له، فالمتاع لا يخرج عن ملكه، حتى لو [لفظ] (1) البحرُ المتاعَ بعد النجاة، وألقاه بالساحل، واتفق [الظفر] (2) به، فهو على ملك مالكه الأول، فإن الذي جرى ليس تمليكاً وتملكاً، وإنما هو ضمان مال على مقابلة حيلولة [قريبة] (3) من أن تكون موئسة، ثم إذا رجعت عين المال إلى مالكها، فللضامن استرداد [ما بذل] (4) .
وهذا يناظر تضميننا الغاصب قيمة العبد المغصوب إذا أبق، فلو رجع بعد بذل القيمة، استرد ما غرم، وردّ العبدَ، ثم لو كانت القيمة بعينها باقية، فهل يسوّغ [لآخذها] (5) ردُّ بدلها، أم يتعيّن عليه ردُّ عينها، هذا مطردٌ في كل مال يناظر ذلك، وهو مستند إلى [القرض] (6) ؛ فإن من استقرض شيئاً، ثم أراد المقترض مطالبته بالقرض، فكانت العين المستقرضة قائمة وأراد المستقرض إبدالها بمثلها، وأراد المقرِض استرداد تلك العين، ففي المسألة اختلاف قدمناه في باب القرض.
10748- ومما يليق بالفصل أن من استدعى في الإلقاء لو قال: ألقِ متاعك، ولم يقل: على [أني] (7) ضامن، ولكن اقتصر على الاستدعاء في صورة لو صرح فيها بالضمان، لألزمناه، فهل يصير بمحض الاستدعاء ضامناً؟ فعلى وجهين مبنيين على ما لو قال من عليه الدين لإنسان: اقض ديني، ولم يقيد إذنَه بالرجوع عليه، فإذا امتثل
__________
= لما كانت القاعدة مبنية على الرخصة أثبت الأصحاب التساهل في المتصل للحاجة. وقطع القاضي بأن قولهم: "رضينا"، لا يُلزمهم شيئاًً، وهو المختار؛ فلو قال: طلقتُ نساءك، وأعتقتُ عبيدك، فقال: "رضيت"، لا خلاف في أنه لا ينفذ، مع ابتنائهما على الغلبة والنفوذ، فهذا أولى" انتهى بنصه. (ر. البسيط: 5/ورقة 76 شمال) .
(1) في الأصل: "التقط".
(2) في الأصل: "النظر".
(3) في الأصل: "مرتبة".
(4) في الأصل: "ما ترك".
(5) في الأصل: "لاجراها".
(6) في الأصل: "الفرض".
(7) زيادة يقتضيها السياق.(16/500)
أمره وقضى دينه، فهل يملك الرجوعَ عليه؟ فعلى وجهين، وقد نجز الفصل [وجيزاً، مع التنبيه] (1) على جميع أطراف الكلام.
فصل.
قال: "ولو خرق السفينة ... إلى آخره" (2) .
10749- مضمون الفصل ثلاث مسائل: إحداها - أن يخرق الرجل السفينة خرقاً يترتب عليه الغرق غالباً، فإذا اعتمد ذلك، لزمه القود في محله، والدية المغلظة في ماله إن سقط القود، ويلزمه الكفارة، وضمان الأموال التي في السفينة. المسألة الثانية - أن يخرق السفينة خرقاً لا يغلب الغرق في مثله، فاتفق الغرق منه، فهذا شبه العمد، ولا يكاد يخفى حكم شبه العمد.
المسألة الثالثة - ألا يتعمد الخرق، ولكن كان يُصلح السفينة أو يتعاطى فيها عملاً، فمال، فدفع قَدُومَه في يده إلى السفينة وخرقها، فغرقت وغرق من فيها، فهذا خطأ محض، [وحكمه] (3) : أما المال والسفينة، فالضمان فيهما ثابت في العمد وشبه العمد والخطأ المحض، والكفارة تجب بسبب إهلاك النفوس، فإن تعددوا، تعددت، والقود في العمد المحض (4) ، والدية تتغلظ في شبه العمد على العاقلة، وتخفف عليهم في الخطأ المحض.
فرع:
10750- السفينة إذا كانت مملوءة من الأمتعة، فجاء واحدٌ بِعِدْلٍ، ووضعه فيها، فغرقت، فالضمان واجب، وفي [تحديده] (5) وجهان: أحدهما - أنه يجب عليه كل الضمان، والثاني - يجب عليه قسط من الضمان، والوجهان مبنيان على أن من رمى صيداً، ولم يثخنه، ولكن أثّر الرمي فيه، وهو في امتناعه ينطلق، فرماه
__________
(1) عبارة الأصل: "وجيزاً وانتهينا مع التنبيه".
(2) ر. المختصر: 5/139.
(3) في الأصل: "وحكم".
(4) في الأصل: "في المحض".
(5) في الأصل: "تجدده".(16/501)
آخر، فأزمنه -ولولا ما لحقه من الرمي الأول، لما أزمنه الثاني-[ففي] (1) ملك الصيد وجهان: أحدهما - أنه ملك الثاني؛ فإنه هو الذي استعقب الزَّمَن. والوجه الثاني - أن الصيد ملكهما جميعاً، وهو الأقيس، والأصح.
إن حكمنا بأن تمام الضمان يجب على الذي وضع العِدْل الأخير، فلا كلام، وإن قلنا: يجب عليه بعض الضمان، ففي مقداره وجهان: أحدهما - يجب عليه نصف الضمان، والثاني - يجب عليه بحصته توزع على العِدل الذي وضعه، والأمتعةِ التي كانت فيها، ويقع التوزيع على مقدار الأوزان. والوجهان مبنيان على الجلاّد إذا كان يجلد قاذفاً ثمانين، فزاد سوطاً، [فالضمان] (2) يجب، وفي قدره قولان: أحدهما - أنه النصف. والثاني - أنه جزء من أحد وثمانين.
وإذا كنا نقسط [فيما] (3) نحن فيه، فينبغي ألا نغفل وزنَ السفينة في [نفسها] (4) ؛ فإن لوزنها أثراً في التغويص، وقد قدمنا هذا الفرع في أثناء الكلام، فإن زدنا بياناً، فهو المراد، وإن كررنا، فلا (5) .
***
__________
(1) في الأصل: "وفي".
(2) في الأصل: "والضمان".
(3) في الأصل: "مما".
(4) في الأصل: "صدمها".
(5) هنا خرم قدر جملة ضمن بياض قدره سطر، ولا داعي لمحاولة تقديرها، لأنه لا أثر له في السياق.(16/502)
[باب العاقلة] (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "لا أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ... إلى آخره" (2) .
10751- أجمع المسلمون على أن دية شبه العمد والخطأ مضروبة على العاقلة، والأصل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وتمام الحديث ماروي عن حمَل بن مالك بن ربيعة، قال: "كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وفي رواية بمِسْطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المقتولة على عاقلة القاتلة"، وفي الجنين غرة عبد أو أمة (3) .
والعاقلةُ مشتقة من العقل يقال: عقلت فلاناً إذا أدّيت عنه الدية، فالعقل مصدر عَقَلَ يَعْقِلُ، فالعقل الديةُ نفسها، وسميت الدية عقلاً لأنها تؤدّى من الإبل، فكانوا يعطونها بالعقال، وهو ما يعقل به.
وأجمع النظار وأرباب الأقيسة أن ضرب العقل على العاقلة [معدولٌ] (4) عن القياس، لأنه مؤاخذةُ الغير بجناية الغير، وموجب القياس إيجاب الدية على الجاني، وإن كان مخطئاً، فإنا نوجب عليه قيمة ما يتلفه من المال في ماله، مخطئاً كان أو عامداً.
__________
(1) سقط من الأصل ضمن بياض بقدر سطر. وهو موجود بالمختصر.
(2) ر. المختصر: 5/140.
(3) حديث حمل بن مالك رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والشافعي والدارمي وغيرهم، والحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة، والمغيرة (البخاري ح 6910 مسلم ح 1681، أبو داود: الديات، باب دية الجنين، ح 4572. النسائي: القسامة، باب دية الجنين والمرأة، ح 4820. ابن ماجه: الديات، باب دية الجنين، ح 2641. الأم: 6/107، الدارمي: ح 2381، هذا وقد نبه النووي في تهذيبه (2/376) على أن لفظ (جاريتين) تصحيف صوابه (جارتين) والمراد زوجتان.
(4) في الأصل: "معقول".(16/503)
والمقدار الذي ذكره العلماء في المعنى الذي فهموه من غرض الشارع -وإن كان [لا يستد] (1) على السبر اعتبارُه- أن العرب كانت تتناصر ويذبّ بعض العشيرة عن البعض، بالنفس والمال، ويناضل البعض دون البعض، فورد الشرع بإعانة المخطىء إذا ورد منه زلل، وقد كانوا يتعاطَوْن استعمالَ الأسلحة للتدرب بها، ولا يبعد إفضاء استعمالها في وجوهٍ من الخطأ، فهذا ما تخيله الناظرون على البعد، وإنما ذكرناه لأنا
في تفصيل المسائل قد نعتضد بأطراف هذا المعنى.
10752- ثم الدية المضروبة على العاقلة تجب على العاقلة أم يَلْقى وجوبُها [القاتلَ] (2) ثم العاقلة يتحملون عنه.
توجيه القولين: من قال: إنها تَلْقى العاقلةَ، احتج بظواهر الأخبار، فإنه روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة " (3) .
ومن قال: الوجوب يلقى القاتلَ، استدل بأنا إذا قلنا به، فقد استمسكنا بطرفٍ من قياس الأصول، وجعلنا التحمل في حكم الإعانة، كما يؤدّى الدينُ عمن تحمّل [بحَمالة] (4) في إصلاح ذات البين من سهم الزكاة، وقد قدمنا مثلَ هذا التردد في زكاة الفطر، إذا أدّاها الغير عن الغير، وأشرنا إلى قريبٍ منه في كفارة الوقاع في نهار رمضان [في حق المرأة] (5) تفريعاً على أحد القولين.
وما ذكرناه من تردد فى القول هاهنا من الملاقاة لسنا نُسنده إلى منصوص صاحب المذهب نقلاً صريحاً، وإنما نتلقاه من تصاريف كلامه في التفريعات، ومعناه الذي
__________
(1) في الأصل: "لا يستمر".
(2) في الأصل: "القائم".
(3) حديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة" جزء من حديث للمغيرة بن شعبة، ولأبي هريرة، وهو متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني، ح 1095- 1096) .
وانظر معرفة السنن والآثار (ح 2943-2946) . كما أنه جزء من حديث حمل بن مالك الذي تقدم قريباً.
(4) في الأصل: "بجهالة".
(5) زيادة من المحقق.(16/504)
يجريه في أثناء كلامه، ونظيرُه كثير؛ فإن النقل يقع تارةً لفظاً وتارة من جهة المعنى والاستنباط، وسيأتي في مسائل الباب أثرُ هذا الاختلاف.
10753- ثم لم يختلف المذهب أنا إذا تمكنا من ضرب العقل على العاقلة، فلا نضرب شيئاً منه على القاتل، وقال أبو حنيفة (1) : عليهما؛ [فهو أحد] (2) العواقل، [فلو] (3) كان الجاني صبياً، أو امرأة، أو مجنوناً؛ فلا شيء عليه، لأنه لا يعقل عن غيره مع نقص من النقائص التي ذكرناها، فلا يعقل عن نفسه، ومعتمد مذهبنا الحديثُ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، فأضاف جملة الدية إلى العاقلة، فكان هذا كما لو وصى [لزيد] (4) ولأولاد بكر [بمال، فلا يصرف] (5) من الوصية لأولاد زيد شيءٌ، ولا [إلى بكر] (6) .
ثم مذهبنا كما لا يضرب شيء من العقل على القاتل، كذلك لا يضرب شيء منه على عمودي نسبه، فليس على أبوي القاتل وأجداده شيء، وليس على ابنه وأولاده شيء، خلافاً لأبي حنيفة (7) ، وقد ذكرنا متعلَّقَ المذهب في هذه المسألة في (الأساليب) وغيرها من المجموعات.
10754- فإذاً العاقلة المتحملة هم الذكور البالغون العقلاء من عصبات القاتل، ما عدا عمودي النسب، ويُقدم الأقرب [فالأقرب] (8) ، وأقرب العصبات بعد استثناء
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي ص 233، مختصر اختلاف العلماء: 5/104 مسألة 2223، رؤوس المسائل: 474 مسألة 339، المبسوط: 26/84.
(2) في الأصل: "في أخذ".
(3) في الأصل: "ولو".
* تنبيه: تذكر أن نسخة الأصل وحيدة؛ فما تراه في الحواشي ليس فروقَ نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسال الله أن يلهمنا الصواب.
(4) في الأصل: "بني زيد".
(5) في الأصل: "بما لا يصرف".
(6) في الأصل: "إلى أولاد بكر".
(7) ر. تكملة البحر الرائق: 8/456، تحفة الفقهاء: 3/174.
(8) في الأصل: "فهذا أقرب".(16/505)
العمودين [الإخوةُ] (1) أولادُ الأب، وهل نقدم أخاً على أخ بقرابة الأمومة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يقدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب، كما يقدم عليه في عصوبة الميراث. والثاني - لا يقدم عليه؛ فإن قرابة الأمومة لا أثر لها في التحمّل، ولها أثر في الميراث، فلا يبعد أن تستعمل ترجيحاً في العصوبة (2) .
ثم بعد الإخوة بنوهم، وكما اختلف القول في الأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، كذلك اختلف القول في ابن الأخ من الأب والأم، وابن الأخ من الأب، والقولان يجريان على هذا النسق في الأعمام وبنيهم إن وجد من بعضهم إدلاءٌ بقرابة الأم مع قرابة الأب، وانفرد من في درجته بقرابة الأب.
10755- ثم بعد هذا نقول: ترتيب العصبات في تحمل العقل بالنسب كترتيب العصبات في الميراث إلا في شيئين: أحدهما -متفق عليه في المذهب- وهو استثناء عمودي النسب، والثاني - مختلف فيه، وهو الترجيح بقرابة الأمومة؛ فإن هذا معتبر في عصوبة الميراث، وهو مختلف فيه في تحمل العقل، والضرب على الإخوة للأب والأم، ثم [الإخوة للأب، ثم بني الإخوة للأب والأم، ثم بني الإخوة للأب، ثم] (3) على الأعمام [للأب والأم، ثم على الأعمام للأب] (4) ، ثم على بني الأعمام للأب والأم، ثم على بني الأعمام للأب، ثم على أعمام الجد، على الترتيب المذكور في عصبات النسب.
ثم سبيل التقديم في عصوبة الميراث تخصيصُ الأقرب، [وحرمانُ] (5) الأبعد
__________
(1) في الأصل: "الأخيرة".
(2) أي في الميراث. والقول الأول هو الجديد؛ لأنهما يتحملان بالعصبة، فيقدّم من يقدّم في الميراث، كالأخ مع ابن الأخ. والقديم أنهما يستويان، لأن النساء لا يتحملن العقل بحال؛ فلا تؤثر قرابتهن. والقولان هنا كالقولين في ولاية النكاح. (ر. الشرح الكبير للرافعي: 10/467) .
(3) زيادة من المحقق.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "وجريان".(16/506)
بالكلية، ولا يجري الأمر كذلك [فيما] (1) نحن فيه؛ فإنا نبدأ بالأقربين، فنضرب على كل واحد مقداراً من العقل، على ما سيأتي الشرح عليه من بعدُ -إن شاء الله عز وجل- فإن استوعب الواجبَ من العقل، فذاك، وإن بقي شيء، لم نفضّه على الأقربين، بل انتقلنا منهم [إلى من يليهم] (2) وهكذا نفعل إلى حصول الغرض. وعند أبي حنيفة (3) يسوي بين القريب والبعيد، ويضرب عليهم بالسوية.
10756- ثم نقول: إن عدمنا عصبة النسب، فالمعتِق، ثم عصبات المعتِق ثم معتِق المعتِق، ثم عصبات معتق المعتق، فإذا عدمنا -على هذا [الترتيب] (4) الذي ذكرناه في معتق الجاني- وإذا لم نجد من له نعمة الولاء على الأب، انتقلنا إلى من له نعمةُ الولاء على الجد، فنضرب على معتِق الجد ثم على عصباته، وهكذا الترتيب إلى حيث ينتهي.
ثم قال الأصحاب رضي الله عنهم: إذا لم نجد معتِق الجاني، ووجدنا عصباتِه [فلا] (5) نضرب على [أب] (6) المعتق، فإنه ثبت [أنا] (7) لا نضرب على عمودي نسب الجاني شيئاًً، وهذا خارج عن القياس عندنا؛ من جهة [أنا] (8) لم نضرب على الجاني نفسه، فلم نضرب على عمودي نسبه، ونحن نضرب على المعمَق لو كان حياً، فلا يبعد أن نضرب على أبيه وابنه، [وعن القفال وجهان] (9) : أحدهما - أنا نضرب
__________
(1) في الأصل: "فما".
(2) في الأصل: "إياه بينهم".
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/101 مسألة 2221، مختصر الطحاوي: 232.
(4) في الأصل: "التقريب".
(5) في الأصل: "ولا".
(6) في الأصل: "باب".
(7) في الأصل: "كما".
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) زيادة من الشرح الكبير، حيث سقطت من الأصل.
ونص عبارة الرافعي: "وهل يدخل في عصبات المعتق ابنه وأبوه؟ فيه وجهان رواية عن القفال وغيره:
أحدهما - نعم؛ لأنهما من العصبة، وانما لم يدخل ابن الجاني وأبوه للبعضية، ولا بعضية =(16/507)
عليهما. والثاني - لا نضرب عليهما، وإليه صار معظم الأصحاب. والمتعلق فيه ما روي: "أن مولىً لصفية بنت عبد المطلب جنى، فقضى عمر رضي الله عنه بأرش الجناية على علي رضي الله عنه ابن [أخيها] (1) ، وقضى بالميراث لابنها الزبير" (2) . 10757- ثم قال الشافعي: "ومن في الديوان، ومن ليس فيه سواء ... إلى آخره" (3) .
قصد بذلك الرد على أيى حنيفة (4) ؛ فإنه صار إلى أن الذين يجمع أسماءهم ديوانٌ، فإذا جنى بعضهم ضُرب العقل على أهل الديوان، وإن لم يكونوا على تواصل في النسب والولاء.
وهذا لا أصل له [من] (5) خبر ولا نظر، ولم يكن الديوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أبي بكر، وإنما أحدثه عمر رضي الله عنه في آخر عهده.
10758- ثم قال: "ولا أعلم مخالفاً بأن الصبي والمرأة لا يحملان شيئاًً ... إلى آخره" (6) .
الصبيان والمجانين والنسوان لا يضرب عليهم من العقل شيء، وإن كانوا موسرين، وهذا لا يُعرف فيه خلاف، ولعل المرعيّ فيه أنهم ليسوا من أهل النّصرة
__________
= بين الجاني وبين ابن المعتق وأبيه.
وأظهرهما - المنع، واعتمدوا فيه قضاء عمر في قصة مولى صفية" انتهى ملخصا. (ر. الشرح الكبير: 10/468) .
(1) في الأصل: "ابن عمها".
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى، قال الحافظ: وهو منقطع (ر. السنن الكبرى: 8/107، التلخيص: 4/70) .
(3) ر. المختصر: 5/140.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/100 مسألة 2221، مختصر الطحاوي: 232، المبسوط: 27/129.
(5) في الأصل: "في".
(6) ر. المختصر: 5/140.(16/508)
بالسيف، وهذا الباب في [التناصر] (1) مخصوص بأهل القتال.
وذكر العراقيون وجهين في الزّمِن الموسر إذا كان لا يُرجى [زوال] (2) ما به: أحد الوجهين - أنه يضرب العقل عليه؛ فإنه من جنس الرجال وهو عاقل بالغ. والثاني - لا يضرب عليه، لأنه ليس من أهل النصرة، والدليل عليه أنه [يرضخ] (3) [له، كما يرضخ] (4) للصبيان والنسوان.
فصل
قال: "وتؤدي العاقلة الديةَ في ثلاث سنين ... إلى آخره" (5) .
10759- العقل المضروب على العاقلة يكون مؤجلاً، لا محالة، وابتداء الأجل يكون -إذا كان المعقول دية النفس- من وقت الموت وزهوق الروح، خلافاً لأبي حنيفة (6) ، فإنه قال: ابتداء المدة من وقت قضاء القاضي، إذا فرض الترافع إلى مجلس [القضاء] (7) ، حتى قال: إذا مضت ثلاث سنون من وقت وقوع [القتل] (8) ، ولم يتفق الترافع إلى مجلس الحكم، [فلا] (9) شيء على العاقلة، بل يفتتح القاضي عند الارتفاع إليه ضَرْبَ المدة، ولا اعتبار بما مضى.
وهذا زلل لا أصل له، والمدد تنقسم: فمنها ما يثبت في العقود، وهو إلى ضرب العاقدَيْن، فإذا فرض ضرب أجل في عوض يقعُ، ثم [لو] (10) شرط الخيار
__________
(1) في الاصل: "البياض".
(2) في الأصل: "وقال".
(3) في الأصل: "يوضح".
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) ر. المختصر: 5/140.
(6) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/100 مسألة 2221، المبسوط: 27/129.
(7) زيادة من المحقق.
(8) في الأصل: "العقل".
(9) في الأصل: "ولا".
(10) زيادة من المحقق.(16/509)
فيه، فابتداؤه محسوب من وقت العقد أو انقضاء الخيار؟ فيه اختلاف مشهور بين الأصحاب، والظاهر أنه محسوب من وقت العقد، وهذا يضاهي اختلافَ الأصحاب في أن خيار الشرط يحسب ابتداؤه من وقت العقد أو من زمان خيار المجلس، وكل عقد لا خيار فيه، [فالأجل] (1) المضروب في عوضه محسوب من وقت العقد. ومن الآجال [آجال] (2) الزكوات، وابتداؤها من وقت حصول النصاب الزكوي في ملك من هو من أهل الزكاة، وتفاصيل القول في [الآجال] (3) مضت على الاستقصاء في كتاب الزكاة.
ومن المدد سنة [الجزية، وفيها] (4) تفصيل حسن ليس [بالهين] (5) وسيأتي في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل.
[والأجل] (6) الذي يتعلق بضرب القاضي عندنا هو [أجل] (7) العُنة لا غير، والسبب فيه ارتباطه بوجوب التعرف عن عُنّة الزوج، حتى نتبين أن الزوج يُقرّ بها أم ينكرها.
وهذه المقدمات لا تجري إلا في مجالس القضاة.
ومدة الإيلاء [من] (8) وقت الإيلاء، فإن ابتداءها لا يستند إلى معنىً مجتهد فيه يتعلق بمجلس القضاة.
ومدّة الجناية من وقت وقوعها، ولا حاجة إلى فرض اجتهاد في وقت المحسوسات.
10760- ولو قطع قاطع إصبعَ رجل، فسرت الجراحة إلى كفه، فسقطت،
__________
(1) في الأصل: "فالأصل".
(2) في الأصل: "أحوال".
(3) في الأصل: "الأحوال".
(4) في الأصل: "الحق به ومنها".
(5) في الأصل: "بالدين".
(6) في الأصل: "والأصل".
(7) في الأصل: "أصل".
(8) في الأصل: "في".(16/510)
[فلأصحابنا] (1) وجهان في ابتداء المدة المعتبرة في الطرف -على ما سيأتي تفصيل القول في أروش الأطراف، ومُددها إذا فرض ضربها على العاقلة- من وقت سقوط الكف، أم كيف الوجه فيه؟ فمنهم من قال: ابتداء المدة من وقت سقوط الكف؛ فإنه مستقرّ الجناية، وهذا ضعيف.
ومنهم من قال: أرش الإصبع يعتبر ابتداءُ مدته من وقت قطع الإصبع، وأرش الكف من وقت سقوط الكف، وهذا هو الصحيح.
ولا خلاف أن من قطع يد رجل أو يديه، فابتداء المدة من وقت القطع، ولا نتوقف إلى اندمال الجراحة، وإن كنا قد نقول: المطالبة بالدية قد لا تتوجه إلا بعد اندمال الجراحة، والسبب فيه أنا إن توقفنا في المطالبة بأروش الأطراف، فسبب توقفنا أن نتبين منتهى لجراحة.
وأما ابتداء المدة، فليس وقتَ طَلِبة، وإذا اندملت الجراحات، استبنا أن أروشها ثبتت من وقت القطع، ولا يجوز قياس المطالبة بضرب المدة، ولو انقضت والجراحة بعدُ سارية، ففي مطالبة العاقلة من الخلاف ما في مطالبة الجاني إذا كان عامداً.
[فصل] (2)
قال: "ولا يقوّم نجمٌ من الدية إلا بعد حلوله ... إلى آخره" (3) .
10761- مقصود هذا الفصل وفصول بعده يبنى على ما نوضحه، فنقول:
[الاعتبار] (4) بآخر السنة في صفة المتحمل، فإن كان في آخر الحول فقيراً، لم يُضرب عليه من العقل شيء في هذه السنة، وإن كان غنياً فيما مضى من السنة، فالاعتبار إذاً بالوقت الأخير الذي هو منقرض السنة، وكما نعتبر آخر الحول في أصل العقد،
__________
(1) في الأصل: "ولأصحابنا".
(2) سقط من الأصل هذا العنوان.
(3) ر. المختصر: 5/140. والنص غير واضح في الأصل. وأثبتناه من المختصر.
(4) في الأصل: "الاختيار".(16/511)
فكذلك نعتبر هذا الوقتَ فى المقدار المختلِف بالغنى والتوسط، كما سنصف ذلك على الاتصال [بهذا] (1) .
ولو مضى بعض السنة، ومات من هو العاقلة، لم نضرب على تركته شيئاً، وليس كما لو مات [الذمي] (2) في وسط السنة، فإن المسألة تخرج على قولين فيه: أحدهما - أنا نطالب بقسط من الجزية، والفرق أن الجزية لها شبهٌ بالأجرة، وكأن دار الإسلام هي المكراة منهم، كما سيأتي هذا في موضعه -إن شاء الله عز وجل- وهذا المعنى غير مرعيّ فيما نحن فيه.
ويخرج من هذا أنا لا نحكم بأن الدية تجب على العاقلة مؤجلة، بل نقضي أن ابتداء وجوبها في آخر السنة، وهذا فيه تعقيد؛ فإن الدية إن كانت واجبة، فلتجب على العاقلة، ولتكن مؤجلة عليهم، وإن لم تكن واجبة، فهذا يبعد عن قياس الأصول، فإن موجِبَ الدية القتلُ، وقد وقع، وكان الأصل وجوب الدية، وهذا أصل بدعٌ لا نظير له.
والأوجَه عندنا في ذلك [أن] (3) نقول: وجبت الدية بالقتل، وهي متأصِّلة، ولكنا لا نضيف وجوبها إلى العاقلة، فإن كانوا فقراء، تبينا أن وجوبها لم يتعلق بهم، ولكنها متعلّقة ببيت المال، والدليل عليه أنا [لا نتأنّى بها] (4) في حق بيت المال عند افتقار العاقلة في [الحول الأخير] (5) .
وإذا لم يكن في بيت المال مال، فقد نقول: العقل مأخوذ من [القاتل] (6) على ما سنذكر ذلك متصلاً بهذا.
فإذاً ما يجب تحصيله أن الدية وجبت بالقتل مؤجلةً، والتوقفُ في [الجهة] (7) التي
__________
(1) في الأصل: "فهذا".
(2) في الأصل: "الذي".
(3) في الأصل: "بأن".
(4) في الأصل: "لا نبتدىء بهذا".
(5) في الأصل: "الحر الأجرُ".
(6) في الأصل: "العاقل".
(7) في الأصل: "الجملة".(16/512)
يضاف الوجوب إليها، فالإبهام في هذا لا في أصل الوجوب.
ومن تمام القول في ذلك: أن العاقلة إذا كانوا أغنياء في آخر الحول، استقرت عليهم الحصص من الوظيفة الضرورية، فلو افتقروا بعد هذا، لم يسقط عنهم ما استقر في ذمتهم، ولم نعدل عنهم إلى بيت المال؛ فإن بيت المال لا يتحمل عن العاقلة ما استقر عليهم، كما لا يتحمل سائر الديون عمن استوجبها وأفلس بأدائها، ولو ماتوا بعد استقرار حصصهم، فهي مستوفاة من تركاتهم استيفاء الديون المستقرة. 10762- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لا نقوّم على العاقلة نجماً من الإبل إلا في آخر الحول ... إلى آخره" (1) وهذا بناه على ما هو الأصل المشهور في أن أصل الدية الإبل، والحاجة تمس إلى تقويم الإبل على العاقلة؛ فإن الحصة التامة على الواحد منهم نصفُ [دينار] (2) في كل سنة، فلا بد من تقويم ما يحلّ من الدية، حتى نتبين فض الدية عليهم، كما سنبين أقدارها، فأبان رضي الله عنه أنا في هذا التقويم نعتبر الوقت الذي نعتبر فيه اليسار [والافتقار] (3) ، والتوسط والغنى، وهذا جارٍ على القياس الذي مهدناه.
فصل
قال: "ولا يحملها فقير ... إلى آخره" (4) .
10763- دية الخطأ وشبهِ العمد لا تحمل على الفقراء عندنا، ولا فرق بين أن يكون معتملاً وبين أن يكون غيرَ مُعتَمِلٍ، خلافاً لأبي حنيفة (5) ؛ فإنه حكم بضرب العقل على الفقراء وهذا مذهبه في ضرب الجزية، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/140. والمذكور هنا معنى كلام الشافعي وليس بلفظه.
(2) في الأصل: "اخر".
(3) في الأصل: "الاقتصاد".
(4) ر. المختصر: 5/140.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 233، المبسوط: 27/129.(16/513)
والضريب مضروب على الغنيّ والمتوسط، وقد استعمل الأصحاب هذه الألفاظ، وأطلقوها: [أما الفقر فأقرب مُدرك له الفحصُ عن مقدار المضروب، فنعتبر الغنى عنه، ونعتبر الاحتياج إليه] (1) ، فأما الغنى والتوسط، فلفظان مطلقان لم يتعرض [لبيانهما] (2) أحد، ولا يمكننا أن نقول: الغني من تجاوز حد الفقر، فيسقط المتوسط من الوسط، وإن رددنا المتوسط والغني إلى أسماء النِّسب حتى نقول: هؤلاء متوسطون بالإضافة إلى من فوقهم، فهذا وإن كان تَحْويماً على المقصود، فليس فيه شفاء، وليس الغنى والتوسط من الألفاظ التوقيفية حتى نسلك فيها طريق الاتباع، فما الوجه؛ وكيف السبيل؟
أما الفقير، فلا يمكن وصفه بالذي يستحق سهمَ المساكين، فإذا أخرجنا [المعتمِل] (3) من التحمل مع العلم بأن المكتسب الذي يرد كسبُه عليه بُلغتَه وحاجتَه لا يأخذ من سهم الفقراء والمساكين شيئاً، ولا يُضرب عليه من العقل شيء؛ إذ يبعد أن يكلف أن يكتسب ويؤدي أرش جناية غيره، والتحملُ موضوع على فضلات أموال العاقلة، لا على طاقتهم واستمكانهم من تحصيله، هذا أصل الشافعي رضي الله عنه، والفِطرة لا تجب على [الكسوب] (4) عن نفسه، ثم عمن يفرض التحمل عنه، فكيف نقدّر الضربَ على من لا يملك ويقدر على الكسب، وإن قلنا: الفقير الذي لا مال له، اعترض علينا النظر فيمن يملك مسكناً وخادماً، وانتشرت أطراف الكلام في الأمور التي قدرناها في الكفارات المرتبة.
فالوجه أن نقول: ما تتحمله العاقلة، فسبيله المواساة، وهذا الضرب يجب أن يكون واقعاً وراء حاجةِ تحمّل المُواسي، ويجب ألا يكون لما يقدّر له أرش أثر وموقع في الباذل، ويخرج من هذا الأصل [أنا] (5) لا نكلفه أن يبيع شيئاً من مسكنه الذي
__________
(1) عبارة الأصل لم يتيسر لنا إقامتها، فقد جاءت هكذا: "والفقر من دركه على ما فيه من عاقلة في مقصودها" والمثبت في جملته من كلام الغزالي في البسيط: 5/ورقة: 82 يمين) .
(2) في الأصل كلمة كير مقروءة رسمت هكذا: (اسا ـهما) بدون نقط.
(3) في الأصل: "المعتمد".
(4) في الأصل: "السكوت".
(5) في الأصل: "أن".(16/514)
يؤويه وأهله، ويجب أيضاً ألا نكلفه أن يبيع من عبده الذي تمس حاجته إلى خدمته، كما قدمنا ذلك في الكفارات المرتبة، وبيان الانتقال فيها من الأصل إلى البدل، والأصل المرعيّ ما ذكرناه من رعاية المواساة من غير أن تكون مجحفة.
وهذا هو الذي فهمه الأولون من العلماء الذين قربت أعصارهم، حتى حملهم على ما نصفه في مقدار ما يحمل كل واحد من العواقل، فقالوا: على [الغني] (1) في آخر كل سنة نصفُ دينار، ولا مزيد، وعلى المتوسط ربعُ دينار، ولا نعرف في ذلك أثراً [ثابتاً] (2) ولا خبراً، ولكنهم علموا على الجملة المعنى الذي أشرنا إليه من رعاية المواساة، واستبانوا أنها لا تليق إلا بفضلات الأموال التي لا يحيف بها هذا المقدار. 10764- وأنا أقول الآن والله المستعان: لست أعرف ضبطاً من جهة التوقيف - لفظاً ولا معنىً- يشير إلى بيان [الغِنى] (3) أو إلى تقريب قول فيه؛ فإن الغنى والتوسط من أسماء النِّسب، وهي لا [تنحصر] (4) ولا تنقصر، فالرجل ذو الثروة الضخمة بالإضافة إلى من فوقه قد يكون متوسطاً، وهو بالإضافة إلى من تحته غنيّ.
فأقصى ما يتخيله الإنسان في ذلك على الجملة أمور نشير إليها، ثم أذكر ما يتعلق بمقتضى العقل في ذلك، فأقول: قد يخطر للناظر أن المتوسط هو الذي يقع في الدرجة العامة والطبقة العليا من طبقات المتصرفين في البلاع الذي يرقيهم عن رتبة الفقر، والغنيّ هو الذي يقع في رتبة الاختصاص، ويعدّ من [الأفراد] (5) ، فيقع المحتاجون طرفاً، والمخصوصون [يقعون طرفاً إذا قرّبنا القول فيه] (6) ، والغنيّ من أشرنا إليه.
هذا وجهٌ، وهو بعيد لا سبيل إلى اعتقاده؛ فإن ضرب العقل إنما هو في التحقيق
__________
(1) في الأصل: "القرب".
(2) غير مقروءة في الأصل.
(3) في الأصل: "الفن".
(4) في الأصل: "شخصين".
(5) في الأصل: "الإقرار". ومعنى الأفراد: أي الآحاد المعدودين المرموقين.
(6) في الأصل: "الواقعون إذا إذ قربنا القول فيه".(16/515)
يغرِّم عصبات القاتل أروشاً، وتقسيمهم إلى الأغنياء والمتوسطين من الأمور العامة، فحمل الأغنياء على [المتوحدين] (1) في الناس الذين يُرْمَقون بالاختصاص بالرتبة العليا لا وجه له، وليس لنصف دينار من المقدار في استدعاء اليسار ما يجب الحمل على المنفردين في كل قُطر، فهذا لا سبيل إلى اعتقاده، وإنما ذكرناه في صدر المباحثة على عادتنا في هذا المجموع، حتى يزول عن الفكر ما لا حاجة إليه.
وإن قال قائل: ننسب عاقلة كل إنسان، ونجعل أفرادهم مرتبةً، ونسميهم الأغنياء، ونجعل المنحطين عنهم بالإضافة إليهم متوسطين إذا لم يكونوا أصحاب حاجات، فهذا لا أصل له؛ [فإطلاق] (2) الغنى يشير إلى ما الناس عليه، وقد يكون الأغنياء على التقريب الذي أشرنا إليه في العصبات دون أوسط الخلق، فلا وجه إذاً لذلك، فلا يُفضي التعلق به إلى وجهٍ شافٍ.
10765- والأقرب عندي أن نأخذ رتبة الغنى [مما] (3) بلغنا من قول الأصحاب في المقدار الموظف على الغني في الزكاة، والمقدارُ نصف دينار، [وأقل ما] (4) نعتبر في المقام الذي انتهينا إليه الزكاة؛ فإنها على التحقيق مواساة، فالوجه أن نقول: من فضل عن جهات حاجاته: من المسكن والمملوك وغيرها، مما يتعلق به الاعتبار في الكفارات المرتَّبة - مقدارُ عشرين ديناراً، فيجوز أن يكون هو المعنيّ بالغني.
فإذاً سنعيد التفصيل: [فالتحكم] (5) بهذا المقدار نسبةً [متلقى] (6) من مقدار المأخوذ، ومضاهاة هذا الباب [بباب] (7) الزكاة في التحمل والمواساة، وقد شهد لذلك اعتبار النسبة، وإن كانت القاعدتان تختلفان في التفاصيل.
__________
(1) في الأصل: "المتوخرين".
(2) في الأصل: "بإطلاق".
(3) في الأصل: "فما".
(4) في الأصل: "وأقلها".
(5) في الأصل: "بالتحكم".
(6) في الأصل: "التلقي".
(7) في الأصل: "بأن".(16/516)
فإذا لم نجد ضبطاً واضطررنا إلى التمسك بتقريبٍ، فأقرب الأمور أن يتلقى محل الإشكال في المسألة ممّا وجدناه فيها، وهو مما نصصنا عليه، غير أنا نوجب الزكاة على من ملك عشرين ديناراً، وإن كان في اختلالٍ من حاله، وضعف من عياله؛ نظراً إلى مقدار الملك ونشترط في الزكاة أموالاً مخصوصة، حتى لو ملك الرجل من العقار أموالاً لها مقدار في النفوس، فلا تستوجب الزكاة، والسبب في ذلك أن الزكوات من حقوق حالاتهم وحاجاتهم، وصفة الزكاة على الضبط، وأما ضرب العقل على العاقلة، فمواساة بعد استغناء، فلا نكتفي فيه بملك، بل نشترط أن يفضل من جهات الحاجات هذا المقدار، ثم لا نشترط تملك الأجناس المخصوصة الزكاتية؛ فإن المواساة تعلقت بعين الباذل المُواسي، وليست من حقوق أمواله، والوظائفِ الشرعية المتعلقة بأعيان الأموال.
فينتظم من ذلك أن الغني المخاطبَ بإخراج نصف دينار هو الذي يفضل من حاجاته هذا المقدار، والمتوسط هو الذي [ترقّى] (1) عن الحاجة، ويقع ملكه دون المقدار الذي ذكرناه.
10766- ثم الذي ذكره الأصحاب أن نصف الدينار مأخوذ من أقل الزكاة، وربع دينار مأخوذ من نصاب السرقة، ولست أنسب ربع دينار إلى حساب العشرين، حتى يقال: المتوسط من يكون على شطر الغنيّ في فاضل ماله، هذا لا سبيل إلى التحكم به، ولكن يكفي في رتبة التوسط أمران: أحدهما -[التعلِّي] (2) عن الحاجة، والانحطاط عن رتبة الغنى، على ما شرط ألا يصير ببذل الربع إلى درجة الحاجة؛ فإن مبنى الباب على المواساة من غير تعريض من يواسي للضرار، والاقتصارُ على هذا المقدار النزر أصدق شاهد فيما ذكرناه.
فهذا هو الذي اعتلقه فهمي، وليس عندي فيه نقلٌ، ولا تحويم عليه، وإنما ذكرتُه أخذاً من المقدار الذي صادفته منصوصاًً عليه للاصحاب، وعلمتُ قطعاً أنهم لم يُعنَوْا ببيان ما تورطنا فيه، وفوّضوا الأمر فيه إلى درك الفاهم، فهذا منتهاك، والرأي
__________
(1) في الأصل: "يوفي".
(2) في الأصل: "التعلق".(16/517)
بعده للموفّقين، المستجمعين لاستحقاق النظر في مضايق الشريعة. والعلم عند الله. فهذا ما أردنا [ذكره] (1) في ذلك.
10767- ثم [مما يجب] (2) الاعتناء به إذا فضضنا على الأغنياء الواقعين في الدرجة من أغنياء العاقلة ما ذكرناه، ثم انحططنا، ففضضنا على المتوسطة ما ذكرناه، فإن وفّى ما نأخذه من الواقعين في الدرجة العليا بمقدار الأرش، فهو المُنى، وإن لم يفِ رَقَيْنا منه إلى من هو أقرب إليه من العواقل، ونحن في ذلك كله نضرب على الغنيّ والمتوسط ما ذكره الأصحاب، ثم نرقى منهم إلى من هو أبعد منهم، ولا نزال نفعل ذلك ونرقى من درجة إلى درجة، حتى نستوعب الأقارب، ثم نرقى إلى أصحاب الولاء، ثم إلى عصباتهم.
فإذا لم يبق من العاقلة الخاصة أحدٌ على الترتيب الذي ذكرناه، وفضل من الوظيفة المطلوبة في آخر السنة شيء، فإنا نضربه على بيت المال على السهم المرصد للمصالح؛ فإن هذه الجهة هي الجهة التي تنصبّ إليها تركات الذين لا يخلّفون من خواصّ الورثة أحداً، [وكل جهة تُثبت الوراثة، يتعلق بها تحصيل مواساة] (3) إذا كانت تضاهي جهة العصوبة، وهكذا تكون جهة التوريث بالإسلام؛ فإن العصوبة معناها استغراق آخر ما يفضل عن الفرائض من غير تقدير، فقد تحققت جهة العصوبة، [إن] (4) نظرنا إلى قاعدة موضع الشرع على التناصر بين المسلمين.
10768- وإن لم نجد في بيت المال مالاً [يفي] (5) به السهم المُرصد للمصالح العامة، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أنا نضرب العقل على القاتل. والثاني - أنا
لا نضرب عليه أصلاً.
__________
(1) في الأصل: "بذكره".
(2) في الأصل: "ما يجب".
(3) عبارة الأصل: "وكل جهة تثبت للورثة، ولا يتعلق بهذا تحصيل مواساة" والمثبت من تصرّف المحقق.
(4) في الأصل: "وإن".
(5) في الأصل: "يغني".(16/518)
قال الأئمة: والوجهان مبنيان على أن الوجوب هل يلاقي القاتلَ، ثم العاقلة تحتمل عنه، أم الوجوب لا يلاقيه أصلاً؟ وفيه قولان قدمنا ذكرهما في تأصيل الباب.
فإن قلنا: الوجوب لا يلاقيه، فإذا عدمنا العاقلة، ولم نجد في بيت المال مالاً، [لم] (1) نضرب عليه شيئاً، وإن قلنا: الوجوب يلاقيه، فإذا [عدمنا] (2) من يتحمل عنه، طالبناه، والوجهان على هذا الترتيب مذكوران في [الطرق] (3) .
وقد قطع القاضي رضي الله عنه بأنه لا يطالب القاتل إذا [عدمنا] (4) العاقلة، أو صادفناهم محتاجين، وأخذ يفرق بين هذا وبين ما إذا لم يجد الزوج ما يخرجه عن فطرة زوجته، فهل يجب عليها أن تخرج الفطرة عن نفسها؟ [فيه] (5) اختلافٌ مذكور في صدقة الفطر، وأتى بكلامٍ لا استقلال له في طلب الفرق بين هذا وبين القاتل خطأ.
وهذا الذي ذكره غير سديد، والأصحاب كلهم على ذكر الخلاف كما أوردناه.
التفريع:
10769- إن حكمنا بأن القاتل لا يؤاخذ بالدية أصلاً، ولم نجد في بيت المال مالاً، فلو حدث مالٌ في بيت المال لهذا المصرف، فهل يؤدَّى منه العقلُ؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحد الوجهين - أنا لا ناخذ من المال الحادث في بيت المال شيئاً، وذلك أنّ سبيل تحمل بيت المال كسبيل تحمل العاقلة الخاصة، [فمن] (6) كان فقيراً من العواقل المختصين في [آخر] (7) السنة المضروبة، [لم] (8) نضرب عليه شيئاًً، فإن استغنى بعد ذلك، لم نضرب عليه ما فات ضَرْبُه بسبب الفقر؛ فإن
__________
(1) في الأصل: "ثم".
(2) في الأصل: "علمنا".
(3) في الأصل: "الظرف".
(4) في الأصل:، علمنا".
(5) في الأصل: "في".
(6) في الأصل: "فقد".
(7) في الأصل: "أجزاء".
(8) في الأصل: "ولم".(16/519)
[الاعتبار] (1) بآخر السنة، ومن كان غنياً في آخر السنة، ثم افتقر، فما ضربناه عليه دينٌ مستقر في ذمته يطالَب به إذا وَجَد في حياته، ويؤدَّى من تركته بعد وفاته. فإذا كان فقيراً في [الجزء الأخير] (2) في السنة [فطريان] (3) الاستغناء بعده لا يرد إليه ضرباً أسقطناه عنه تعلُّقاً بآخر السنة في النفي والإثبات.
فكذلك إذا لم نصادف في آخر السنة مالاً في بيت المال يصلح لهذا المغرم، فقد سقط ذلك عن هذه الجهة، فإذا فرض بعد ذلك وجدان مال، لم يعد التعلّق ببيت المال. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أنا ناخذ من بيت المال العقلَ مهما (4) حدث مالٌ للمصالح صالحٌ للمغارم، وليس بيت المال في ذلك كسبيل العواقل المختصين إذا كانوا فقراء، ثم استغنَوْا؛ وذلك لأن سهم المصالح لا اختصاص له بمصلحةٍ، وكذلك لا اختصاص له بوقتٍ وأوان، ولا يجري فيه من التأقيت والتخصيص ما يجري في حقوق العواقل المختصين، وكذلك نضرب في كل سنة جميع ما يبقى عن التزام الخواص بالغاً ما بلغ، ولا نقدّره بمقدار، فكما لا يتقدّر المضروب على بيت المال، فكذلك وجب ألا يسقط عنه التحمل بالمسلك الذي [يُسقط] (5) التحمل عن العاقلة الخاصة.
وهذا قد يعارضه أن أصل التأقيت مرعيٌّ في بيت المال؛ فإن من قتل خطأ، ولا عاقلة له على الاختصاص، فالدية مضروبة على بيت المال، في ثلاث سنين، كما أنها تضرب على العواقل [المختصة] (6) -لو كانوا- في ثلاث سنين.
ويمكن أن يقال: إذا لم نجد في بيت المال مالاً، [فما] (7) ذكرناه من الخلاف في
__________
(1) في الأصل: "الإعسار".
(2) في الأصل: "الحريم الأخير".
(3) في الأصل: "وطريان".
(4) بمعنى إذا.
(5) في الأصل: "يسقطه".
(6) في الأصل: "المختصرة ".
(7) في الأصل: "فيما".(16/520)
أنا هل نضرب على [القاتل] (1) يُوجَّه من الخلاف الذي ذكرناه في أنه لو تجدد في بيت المال مال، فهل نأخذ العقل منه؟ فإن قلنا: نأخذ العقل مما تجدد، فلا نغرِّم القاتل؛ فإن جهة [التحمل مرقوبة] (2) ، وإن قلنا: لا نضرب العقل على ما تجدد في بيت المال، فلا يبعد أن نضرب على القاتل؛ فإنا لو لم نفعل ذلك، لأدى إلى تعطيل [العقل] (3) وإهدار الدم، وإسقاط حقوق أولياء الدم.
10770- ومما يتصل بذلك أنا إذا رأينا تغريم القاتل حيث ذكرنا ذلك تتأجل [الدية] (4) عليه بأجلها على العاقلة؛ من جهة أن [دية] (4) الخطأ وشبه العمد، لا تجب شرعاً إلا مؤجلة، ثم إذا مضت سنة، ولم نجد من يحمله سوى القاتل؛ فإنه يؤدي هذه الوظيفة وهي ثلثٌ، فنُجري القاتل في رجوعنا عليه عند فقدان جهات التحمل مجرى ببت المال، وقد ذكرنا أن بيت المال يتحمل ما يفضل عن تحمل المختصين، وذلك أنا لو لم نضرب على القاتل، لعطّلنا [العقل] (4) ، والذي [نحاذره] (5) التعطيلَ، إذا ضربنا البعض وتركنا البعض، فالذي تركناه [تعطيلٌ، وتعطيله ما نحاذره] (6) .
10771- ومما يتصل بتمام الكلام لبيان المراد في ذلك أن من أقرّ أنه قتل خطأً، فإن [أنكرت] (7) العاقلة، [فإن] (8) لم تقم بينة، فالعاقلة لا يكلّفون العقلَ، وإقرار الجاني غير مقبول عليهم، وهذا [مستدٌّ] (9) على قواعد الأصول، وقال الرسول عليه السلام: "لا تحمل العاقلة عمداً، ولا اعترافاً" (10) وفي بعض الروايات: "لا تحمل
__________
(1) في الأصل: "العاقل".
(2) في الأصل: "التحرّم موقوفة".
(3) في الأصل: "القتل".
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "نجاوزه".
(6) عبارة الأصل: "تعطل تعطيله ما نجاوزه".
(7) في الأصل: "اعترف".
(8) في الأصل: "وإن".
(9) في الأصل: "مستمر".
(10) حديث "لا تحمل العاقلة عمداً ولا اعترافاً" سيأتي الكلام عليه قريباً.(16/521)
العاقلة الخاصة" وكذلك لا نضرب على بيت المال؛ فإنّ إقراره كما لا يُقبل على عواقله المختصين به، فكذلك لا يقبل على بيت المال.
ثم اتفق الأصحاب وراء ذلك على أن العقل مأخوذٌ من المُقرِّ، ولم يخرّجوا هذا على الخلاف في أنه هل يلاقيه الوجوب، ثم العاقلة تتحمل، أم لا يلاقيه الوجوب أصلاً.
وكان لا يبعد عن القياس أن يقال: إذا قلنا: الوجوبُ لا يلاقي القاتلَ، فهو لم يقر على نفسه بشيء، وإنما أقر على عواقله، وإقراره [عليها مردودٌ] (1) ، وليس القتل لو ثبت عليه موجباً أمراً، حتى يُفرضَ التحمل عنه، وهذا المذهب لا بد منه عندي لو صح المصير إلى أن القاتل لا يلاقي الوجوب، وقد ذكرنا في البناء على هذا أنا لو غرّمنا العاقلة، لم نغرم القاتل، فلا بد أن نخرّج قولاً أن المُقِر بالقتل الواقع خطأً غيرُ مطالب بالعقل بناء على ما ذكرناه. ولست أحمل [تَرْكَ] (2) الأصحاب لهذا إلا على ظهوره عندهم، وطلبهم أن يفرّعوا على القول الآخر.
ثم إذا طالبنا المقر، فالدية مؤجلة عليه كما تتأجل على العاقلة لو اعترفوا، فيطالَب في منقرَض كل سنة بثلث الدية.
10772- ثم ذكر صاحب التقريب وجهين في أن المقر على أي وجه يطالَب؟ أحد الوجهين - أنه يطالب على تقديره أصلاً في الالتزام. والثاني - أن سبيل مطالبته كسبيل مطالبة من [يعدِم] (3) الأصل، ولا يجد بداً من إقامة [بدل] (4) مقامه، واستشهد لبيان الوجهين، فقال: إن قدرناه أصلاً، فهو بمثابة المستقرض يطالَب بالقرض، والمتلِف يطالَب بقيمة ما أتلفه، وإن أحللناه محل البدل، فهو بمثابة الغاصب إذا أبق العبد المغصوب من يده؛ فإنا نطالبه بقيمة العبد للحيلولة الواقعة، والقيمة تقع بدلاً عن المطلوب الأصلي، حتى إذا رجع العبد، ردّ العبدَ واسترد القيمة، ولا يظهر لما
__________
(1) هذه عبارة الشرح الكبير (482) أما عبارة الأصل: "مردود عليها".
(2) في الأصل: "قول".
(3) في الأصل: "يغرم".
(4) في الأصل: "بد".(16/522)
ذكرناه من التقدير كبيرُ أثرٍ في حق القاتل المقر إذا أنكرت العاقلة، فإنه يغرم من كل وجه، على [أي] (1) تقدير.
[وأثر] (2) ما ذكرناه يظهر في صورةٍ، وهي أن العاقلة لو أنكرت لمّا أقرّ القاتل، فإذا غرّمنا القاتل كما تقدم، فلو عادت العاقلة واعترفت، فلا شك أنهم يغرمون، ولكن الكلام [يختلف] (3) على التقدير، فإن جعلنا القاتل [الأصلَ] (4) في الغرم، [فولي] (5) القتيل لا يرد ما أخذه من القاتل أصلاً؛ فإنه أخذه منه، وهو أصلٌ لا بدل، نعم، القاتل عند اعتراف العاقلة يرجع عليهم بما غرم، لا وجه غيره.
وإذا أحللنا القاتل محل البدل، فولي القتيل يرد ما أخذه من القاتل عليه، ويبتدىء، فيطالب العاقلةَ بحقه، وهذا أثرٌ ظاهر إذا تُصوِّرت المسألة بالصورة التي ذكرتُها.
10773- وقد قدمت في أثناء الكلام أنا إذا حكمنا بأن الوجوب لا يلاقي القاتل، فإذا أقر، لزم أن يخرّج على ذلك قولٌ أنه لا يطالب، ولم آت بهذا على ثبتٍ [من] (6) النقل، وإنما قلته قياساً، لكنه [احتمالٌ لم أذكره وجهاً] (7) ، والذي ظننته (8) من كلام الأصحاب ما يظهر.
فأقول: إذا أقر بالقتل وأنكر العاقلةُ، فالدية مأخوذة [منه] (9) قولاً واحداً؛
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: "أثر" بدون الواو.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "الأصلي".
(5) في الأصل: "فقول".
(6) في الأصل: "في".
(7) في الأصل: "لكنه حلو لم أر لها لفنه وجهاً" كذا تماماًً رسماً ونقطاً، والمثبت من كلام المحقق، وقد أخذنا هذا من كلام للإمام في آخر هذا الفصل. ثم المعنى أن الإمام عندما يخالف الأصحاب يجعل ما يراه احتمالاً وليس وجهاً، فمن المعروف أن الإمام ليس من أصحاب الوجوه في المذهب، ولكن له احتمالات.
(8) كذا، ولعلها: "حققته".
(9) في الأصل: "فيه".(16/523)
[فإنا] (1) لو لم نقل ذلك، لتعطلت الدية، وأفضى نقيض ذلك إلى إهدار الدم -وقد عسر الضربُ على العاقلة- فلا وجه إلا مؤاخذة المُقر.
وكان الأصحاب يقولون: الوجوب لا يلاقيه إذا وجدنا مسلكاً في التحمل عنه، فأما إذا لم نجد متحمِّلا، فلا وجه إلا تنزيل الدية على المقر، ووجهه أن التحمل ينزل منزلة ما لو كانت المرأة في حِبالة الزوج وهو من أهل تحمل الفطرة، فيخرج في هذه الحالة اختلافٌ في أن الوجوب هل يلاقيها؟ وإذا كانت خليّة عن الأزواج، فعليها أن تُخرج الفطرة عن نفسها؛ إذ لا متحمِّل عنها، فإذا ثبت القتل بالإقرار وأنكر العواقل، كان ذلك مشبّهاً بحالة المرأة الخليّة عن الزوج. هذا مساق كلام الأصحاب.
وإن افتقر العواقل ولم يكن في بيت المال مال هل نضرب عليه العقل؟ فلما لم ينقطع الترقب بفقدان [المتحمل] (2) ، ترددنا في الضرب على القاتل. هذا مقتضى النقل، وما ذكرته احتمال لائح، وإشكالٌ قائم.
10774- والذي يوضح ذلك أن الأصحاب قالوا: لو قتل الذمي إنساناً خطأ، ولم نجد له عاقلة خاصة، [فلا] (3) سبيل إلى ضرب العقل على بيت المال، فإن قيل: هلا ضربتموه، فإنه لو مات ولم يخلّف وارثاً خاصاً، فماله موضوع في بيت المال، فاضربوا العقل الذي يلزم [بالقتل] (4) الصادر منه خطأً على بيت المال، كما وضعتم مالُه في بيت المال؟ قلنا: مالُه ليس يؤخذ إرثاً، وإنما يؤخذ فيئاً، ويصرف إلى [أهل] (5) الفيء، كما يصرف إليه كل مال يُتلقى من الكفار من غير إيجاف خيل وركاب، والغرم من [جهة] (6) التحمل يتبع جهة الوراثة على طريق العصوبة، وهذا
__________
(1) في الأصل: "وإنا".
(2) في الأصل: "التحمل". والمعنى: لما لم ينقطع الأمل في أن يحدث مال في بيت المال فيصير متحملاً.
(3) في الأصل: "ولا".
(4) في الأصل: "بالعقل".
(5) في الأصل: "هذا".
(6) في الأصل: "جهته".(16/524)
المعنى [مفقود] (1) في الذمي؛ فإن جهة الإسلام [لا يرث بها إلا موتى الأشخاص] (2) المسلمين.
ثم إذا لم نضرب العقل اللازم بالقتل الصادر منهم خطأ على بيت المال [وأيسنا] (3) من تقدير ذلك، فالعقل [مأخوذٌ] (4) منه، لم يختلف الأصحاب فيه، وكذلك لو كان للذمي أقارب مسلمون، وقد صدر منهم قتل على سبيل الخطأ، فالدية مأخوذة [منهم] (5) .
10775- وإذا اتفق الأصحاب على ما ذكرناه، تبين منه أن العقل [لا يعطَّل] (6) : أما القاتل، فإذا انحسم مسلك التحمل، فإن كان مأيوساً [منه] (7) ، فليس في المذهب تردد في أخذ الدية من القاتل، كما ذكرناه في الذمّي، وإن كان تعذر التحمل لفقدان المال في بيت المال، ففي هذا تردد متلقًّى من أنه لو حدث في بيت المال مال، فهل يُضرب عليه العقل أم لا؟
وإذا ثبت القتل بالإقرار، فهذا بين مسألة الذمي وبين [فقدان] (8) المال في بيت المال؛ من جهة أن العاقلة إذا [أنكروا وأصروا على ذلك] (9) مالَ جوابُ الأصحاب إلى أن القاتل المقر مطالَب بالدية، ثم ردّدوا الجواب في أن العاقل أصل في الغرم أو هو في حكم البدل، وقد ذكرنا ذلك. ولما أمكن فرض الإقرار بعد الإنكار، تطرق إليه احتمالٌ من غير نقلٍ أشرت إليه في أن المقر يجوز ألا يطالب على قولنا لا يلاقيه
__________
(1) في الأصل: "مقصود".
(2) في الأصل: "لا يرثه موتة أشخاص المسلمين"، ومعنى ما أثبتناه أن بيت المال لا يرث إلى موتى المسلمين.
(3) في الأصل: كلمة مطموسة، وقدرناها هكذا على ضوء خيالات الحروف وظلالها.
(4) في الأصل: "موجود".
(5) في الأصل: "منه".
(6) مكان بياضٍ بالأصل.
(7) في الأصل: "عنه".
(8) في الأصل: "مقدار".
(9) عبارة الأصل: "أنكروا أصروا قل زلل".(16/525)
الوجوب، والمذهب ما نقلتُه لا الاحتمال الذي أبديته، فهذا سر الفصل أتينا به بادياً معلناً.
ثم مهما طالبنا القاتل بدية الخطأ، فهو مؤجل عليه على حسب تأجيله على العاقلة، غير أنه يؤاخذ بثلث الدية على الكمال في آخر كل سنة، والواحد من العاقلة لا يطالَب بأكثرَ من نصف دينار.
فصل
قال: "وتحمل العاقلة كلَّ ما كثر أو قل ... إلى آخره" (1) .
10776- المذهب الصحيح الذي عليه التعويل؛ أن العاقلة تحمل أروش الأطراف، كما تحمل دياتِ النفوس، وحكى العراقيون قولاً غريباً أن العاقلة
لا تحمل أروش الأطراف -كما لا تحمل [متلفات الأموال] (2) - أصلاً؛ فإن التحمل يختص بأبدال النفوس إذا هلكت، وكأن هذا القائل يجعل التحمل من خصائص أبدال النفوس [كالقسامة،] (3) ووجوب الكفارة، وقد يعتضد بأن ضرب العقل معدول عن القياس، وليس فيه إلا الاتباع، والشرع لم يرد إلا بتحمل أبدال النفوس، وهذا قول مهجور، لم يعرفه المراوزة، ولا أصل له، فلا نعود إليه.
10777- وإذا تبين أن أروش الأطراف تحملها العاقلة، كما تحمل دياتِ النفوس، فالأصح أنهم يحملون ما يقلّ وما يكثر، [ولا يختص] (4) التحمل بمقدارٍ، هذا هو المنصوص عليه في الجديد.
ونَصَّ الشافعيُّ في القديم على أن العاقلة تحمل ثلث الدية الكاملة، فما فوقه، ولا تحمل ما دون الثلث، لأن ما دون الثلث قليل، وإذا بلغ الثلث، فهو على حد الكثرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد: "الثلث، والثلث كثير" والمذهب
__________
(1) ر. المختصر: 5/141.
(2) في الأصل: "ديات النفوس". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى والسياق.
(3) في الأصل: "بالقسامة".
(4) في الأصل: "ولا يتخصص".(16/526)
الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن العاقلة تحمل ما قلّ وما كثر [من] (1) مقدارٍ في طرف القلة والكثرة.
وعند أبي حنيفة (2) تتحمل العاقلة أروش الموضِحة [إلى] (3) الدية الكاملة فما فوقها، فأما ما دون الموضِحة، فلا تحمله العاقلة.
10778- ثم من أصول الباب التعرض لبيان الآجال المرعية في ضرب أقدار الأروش على العاقلة، والنظر في أن الآجال هل تزيد بزيادة الأقدار، وهل تنقص بنقصانها، وفي [الطرق اختباط ظاهر] (4) ، ونحن نسوق المسلك البين في ذلك على وجهه، ثم نذكر ما نراه خارجاً عن القانون.
فنقول: دية الحر هي الدية الكاملة، وهي مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثُ الدية، على الترتيب الذي ذكرناه في الأغنياء والمتوسطين، [والضرب على الأقربين الأدنَيْن] (5) ، ثم الترقي منهم إلى ألا يبقى أحد من عصبات النسب، ثم الترقي إلى الموالي وعصباتهم، كما مضى، فإن فضل من الثلث شيء، ضربناه على بيت المال.
10779- ثم اختلف أصحابنا، فقال قائلون: المرعي في ذلك أن يكون المضروب على العاقلة ديةَ نفس محترمة مضمونة معقولة، ولا نظر إلى لمقدار (6) .
ومن أصحابنا من عدّ الدية الكاملة المقدار المعتبرَ المرعيَّ.
ثم ينبني على هذا الاختلاف مسائلُ، وهي تنقسم: فمنها ما يتعلق بأبدال النفوس، ومنها ما يتعلق بأروش الأطراف، فأما ما يتعلق بأبدال النفوس، فدية المرأة
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/113 مسألة 2231، رؤوس المسائل: 473 مسألة 338.
(3) في الأصل: "من".
(4) عبارة الأصل: "وفي الطرف احتياطاً ظاهراً".
(5) عبارة الأصل: "والنص على الأمرين للأدنين".
(6) أي لا نظر إلى مقدار الدية، فقد يكون نصفاً، كدية المرأة مثلاً.(16/527)
نصف دية الرجل، [فمن] (1) اعتبر في إثبات الأجل الأقصى كونَ المضروب على العاقلة بدل نفس، فهذا المعنى موجود في دية المرأة، فتُضرب عليهم في ثلاث سنين.
ومن اعتبر المقدار، حطَّ من الأجل لانحطاط المقدار، ثم قال: [مقدار ثلث الدية] (2) الكاملة مضروب على العاقلة في سنة، وهو ثلثا دية المرأة، فيبقى ثلث ديتها، وهو مقدار سدس دية الرجل الكامل، فنضرب ذلك في سنة أخرى.
[ومن] (3) الأصول المتفق عليها أن المقدار المضروب وإن قل في نفسه [فلا بد] (4) من تأجيله، ولا يتصور أن ينقص أجل في الضرب [على] (5) العاقلة عن سنة.
وما أجراه الأصحاب رضي الله عنهم في صور الخلاف -من اعتبار المقدار أو اعتبار بدل نفس محترمة- لا بد وأن يكون له مأخذ محقق؛ [فإن الأصول] (6) وعواقد مذهب الإمام تعتضد وتتأيد بأصل في الشرع لا يدافَع، وقد صح في حديث الجاريتين لما ضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، فأجْهَضَتْ وماتت، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم العقل على العاقلة، وروي مطلقاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالعقل على العاقلة في ثلاث سنين، [فقال الشافعي] (7) في بعض مجاري كلامه:
لم تنقل مسألة واقعة قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب العقل على العاقلة إلا واقعة الجاريتين، فأمكن من ذلك أن نضرب عقل المرأة على العاقلة في ثلاث سنين، ثم إذا ثبت ذلك، اطرد منه أن بدل كل [نفسٍ] (8) مضروبٌ في ثلاث سنين.
ويمكن أن يقال: قول الراوي: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم" تأسيسُ
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة الأصل: "مقداره فى ثلث الدية".
(3) في الأصل: "وفي".
(4) في الأصل: "ولا بد".
(5) في الأصل: "عن".
(6) في الأصل: "فإن من الأصول وعواقد".
(7) في الأصل: "فقال له الشافعي".
(8) في الأصل: "نقص".(16/528)
شرع منه، وليس تنفيذَ حكم في قضية للمسلمين، على أن الدية الكاملة مضروبة في ثلاث سنين، فينشأ من التردد في الأخبار اختلافٌ اتخذه الفقهاء رسماً مرجوعاً إليه في إجراء الخلاف والوفاق.
ثم إذا لاح ما ذكرناه نخرّج عليه أن دية المجوسية -وإن كانت أقل الديات- خارجة [على] (1) الخلاف: فمن راعى في تكميل الأجل ثلاثَ سنين النفسَ المحترمةَ ضرب هذه [الدية] (2) في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثها.
ومن اعتبر المقدار جعل [شَوْفَه] (3) الديةَ الكاملة، وضرب هذه الدية في سنة، فلا أقل من سنة، وإن قل قدرُ المحمول، ويطّرد الخلاف الذي ذكرناه في غرة الجنين، فإنها بدل نفس، فلا [نُحلُّها] (4) في الترتيب الذي نُجريه محل أرش الطرف وفاقاً.
10780- ومما نرى إلحاقه بهذا المنتهى [شيئاًن] (5) : أحدهما - أن جماعة لو اشتركوا في قتل نفس، فقتلوه خطأ أو على شبه العمد، وكانت حصة كلِّ مشارك أقلَّ من ثلث الدية، فكيف السبيل؟ ظاهر المذهب أن حصة كل واحد مضروبة على عاقلته في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلث [قيمتها] (6) ، وذلك، أنهم بمثابة القاتل الواحد، فنجعل جميعَهم في حكم القاتل الواحد، ونجعل عواقلهم كعواقل شخص واحد، ولو كان كذلك، لكنا نقضي بثلث الدية في آخر كل سنة على جميعهم، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه.
وذكر أئمة الخلاف وجهاً آخر أنا نعتبر في حق كل شريك ما يلزم، فإن كان ثلثاً أو أقل من الثلث، ضربناه على عاقلته في سنة، وهذا يتضمن [استقضاء] (7) الدية واستيفاءها من العواقل في سنة واحدة، وغالب ظني أني سمعت شيخي يذكر هذا
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2) في الأصل: "المدة".
(3) في الأصل: "سرفه".
(4) في الأصل: "يحملها".
(5) في الأصل: "سببان".
(6) في الأصل: "ديتها".
(7) في الأصل: "باستضاف".(16/529)
الوجه، وقياسُه ليس بعيداً إذا قلنا: الاعتبار بالمقدار، وكل شخص متميز [عن] (1) مشاركيه، وعاقلته متميزون عن عواقل أصحابه، والأصحُّ ما صح نقله عن أئمة المذهب.
هذا آخر ما أردنا أن نذكره.
10781- الثاني - أن رجلاً لو قتل نفوساً، فكيف السبيل في تأجيل دياتهم على عاقلته؟ قال الأئمة: إن قلنا: الاعتبار بالمقدار، فقد [زاد] (2) الملتَزم على الدية الكاملة، فإذا كان [قَتَل] (3) ثلاثةَ أنفس، فالملتزم [مضروب] (4) على العاقلة في [تسع] (5) سنين على ما نبين تفريعَه.
وإن قلنا: الاعتبار بالنفس، [فلو] (6) قتل نفساً واحدة، لكان الملتزم مضروباً على العاقلة في ثلاث سنين؛ فإذا قتل نفوساً، فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - وهو الأفقه أنا نضرب جميع الديات على عاقلته في ثلاث سنين، فإن كل [نفس] (7) متميزة عن غيرها، وبدل كل نفسٍ متأجل بثلاث سنين، وهذا بمثابة ديون مجموعةٍ على شخص، فإذا انقضى كلّ الأجل [تصرّم] (8) بانقضائه آجال [كل] (9) الديون، وهذا ما لا ينساغ في مسلك الفقه غيره.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت دية نفس في ثلاث سنين، فدية [ثلاث] (10) نفوس في تسع سنين.
__________
(1) في الأصل: "عنه".
(2) في الأصل: "زال".
(3) في الأصل: "مثل".
(4) في الأصل: "مصروف".
(5) في الأصل: "سبع".
(6) في الأصل: "ولو".
(7) في الأصل: "من".
(8) في الأصل: "تصرف".
(9) في الأصل: "من".
(10) زيادة من المحقق.(16/530)
وهذا رديء، لا اتجاه له.
والذي أوثره الترتيبَ على هذا، فأقول: إن قلنا: الاعتبار بالنفس، فالنفوس [الثلاث في] (1) ثلاث سنين من غير التفات إلى المقدار، وإن قلنا: الاعتبار بالمقدار ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نزيد على ثلاث سنين في قدر الديات على الاعتبار بالمقدار، والثاني - أن كل نفس متميزة عن غيرها، فلا وجه لضم البعض إلى البعض [وتكثير] (2) المقدار بها؛ فإن كل نفس متميزة عن غيرها، وليس هذا كما سنذكره في قطع اليدين والرجلين؛ فإن الأروش متعلقة بشخص واحد، وزادت مقاديرها، [فنفصل] (3) المذهب فيها، وهو بين أيدينا.
10782- ولو قتل رجلٌ امرأتين، فالذي يقتضيه الترتيب الذي أجريته أنّا إن اعتبرنا النفس، فالديتان في ثلاث سنين كدية المرأة الواحدة، وإن اعتبرنا المقدار، فوجهان: أحدهما - أنا نضرب الديتين في سنتين، فإن مقدار كل دية نصف الدية الكاملة، ولا نضم دية إلى دية.
والوجه الثاني - أنا نضم دية إلى دية في المقدار، ونضربها في ثلاث سنين؛ فإن دية امرأتين كدية رجل. ومن سلك الطريقة الأولى قال: إن قلنا: باعتبار المقدار، فالدية في ثلاث سنين، وإن قلنا باعتبار النفس، فوجهان: أحدهما - أنهما في ثلاث سنين.
والثاني - أنهما في ست سنين.
ولا يخفى على كل من اعتلق طرفاً من الفقه سقوط هذا الترتيب. وهذا يوضح وجوب الجريان على ما ذكرته.
ثم إذا قتل ثلاثة رجال كوامل، وفرعنا على الأصح، وهو أن الديات مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين، فعلى العاقلة في آخر كل سنة الثلث من دية كل نفس، فيجتمع عليهم في منقرض كل سنة مقدار دية كاملة من النفوس الثلاث.
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: "وتكثر".
(3) في الأصل: "فتفصيل".(16/531)
وإن قلنا: إنها مضروبة عليهم في تسع سنين، فنضرب على العاقلة عند انقضاء كل سنة التُسع من كل دية، فيجتمع الثلثُ وهو ثلاثة أتساع ثلاث ديات.
10783- ومما لا يضر التنبيه له أنه لو قتل جماعةً في حالة واحدة مثلاً، فالأمر على ما وصفناه، فإن قتلهم على ترتيب في ثلاثة أيام مثلاً، فإن أقررنا كلَّ نفسٍ بحكمها، فدية كل نفس مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين. وابتداء الأجل في كل ديةٍ من وقت اتفاق القتل.
والجملةُ المُغنية أن كل نفس تعتبر على حالها، وإن قلنا: إذا قتل النفوس زادت آجال الديات على ثلاث سنين؛ فإن تفاوتت تواريخ القتل، فقَتَلَ ثلاثَ أنفس في ثلاثة أيام، كما صورنا، فإذا انقضت سنة من القتل الأول، التزم العاقلةُ من ديته ما يلتزمونه من تلك الدية، لو وقع القتل في النفوس معاً، ثم إذا تم الحول بمضيّ يومٍ آخر، التزموا من الدية الثانية مثلَ ذلك، فإذا مضى يوم آخر، التزموا من الدية الثالثة ما التزموه من الأولى، وهكذا إلى انقضاء الأجل [الثالث] (1) .
10784- ولو قتل عبداً خطأ، فقد اختلف القول في أن العاقلة هل تحمل قيمة العبد؛ أحد القولين - أنها تحملها وهو الأقيس؛ لأن نفس العبد بمثابة نفس الحر في القصاص والكفارة، فلتكن بمثابة نفس الحر في كون بدلها معقولاً.
والقول الثاني - أن العاقلة لا تحمل قيمة العبد؛ فإنها بدلُ مال، وهذا يقرب مأخذه من إيجابنا في أطراف العبد ما ينقص من قيمته، وقد روى الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا اعترافاً" (2) وغالب
__________
(1) في الأصل: "الزائد".
(2) حديث "لا تحمل العاقلة عبداً ... " وارد بغير سياقة إمام الحرمين من حديث عمر مرفوعاً بلفظ: "العمد والعبد، والصلح، والاعتراف لا تعقله العاقلة" قال الحافظ: (وهو منقطع وفي إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف. قال البيهقي: والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله، وروي أيضاً عن ابن عباس: لا تحمل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولا ما جنى المملوك" ا. هـ فتعليق إمام الحرمين الحكم على صحة الحديث في العبد له وجه.
(ر. الدارقطني: 3/177، البيهقي: 8/104، التلخيص: 4/61 ح 1950، وقد نقل كلام الإمام هنا) .(16/532)
ظني أن الصحيح الذي أورده أئمة الحديث: "لا تحمل العاقلة عمداً ولا اعترافاً" فلو صح النقل في العبد عسُر التأويل.
فإذا قلنا: قيمة العبد غيرُ معقولة، فهي مضروبة في مال القاتل عاجلاً تامّاً لا ننحو بها نحو الديات، بل نسلك بها مسلكَ قِيمِ البهائم إذا أتلفها المتلف.
وإذا قلنا: معقولة، فإن كانت على قدر الدية الكاملة، فلا شك أنها مضروبة عليهم في ثلاث سنين، على اعتبار المقدار والنفس، وإن كانت القيمةُ أكثرَ من دية الحر [فإن نظرنا إلى النفس، اعتبرنا] (1) ضرب القيمة على العاقلة في ثلاث سنين من غير مزيد، فإن النفس متحدة، ولئن كان في هذا إجحاف، فيعارضه أن المجوسية (2) مضروبة عليهم في ثلاث سنين.
ومما يتمسك به هذا القائل أنا لا ننقص الأجل قط عن سنة، وإن قلّ قدر الأرش، اتباعاً للتوقيف، فينبغي أن لا يزيد على ثلاث سنين؛ ليعتدل القول في الطرفين، ويتسق الاعتبار في الأدنى والأكثر.
وإن قلنا: الاعتبار بالمقدار، فقد قال هؤلاء: نزيد على ثلاث سنين، حتى إن كانت قيمة العبد ديتين كاملتين، ضربناها في ست سنين، وهكذا على هذا القياس: نزيد في [الأجل] (3) إذا زاد المقدار.
وإن زادت القيمة على الدية الكاملة بمقدارٍ يسير، فذلك الزائد مضروب في سنة كاملة؛ لما ذكرناه من وفاق الأصحاب على أنا لا [نضرب شيئاًً في شقص من السنة قط، ويمكن أن يقال: سببه أن مكاسب الإنسان تسير إلى الأثمان في كل سنة] (4) ،
__________
(1) عبارة الأصل: "أكثر من دية الحر، فلهذا اعتبر ضرب القيمة ... " والزيادة والحذف والتعديل من عمل المحقق.
(2) " المجوسية " المراد دية المجوسي.
(3) في الأصل: "الأصل".
(4) ما بين المعقفين تصرف واسع في الأصل بالزيادة والحذف والتغيير، طلباً لاستقامة العبارة مع محاولة الحفاظ على أقرب صورة لألفاظ الأصل وعبارته التي كانت هكذا: "لما ذكرناه من وفاق الأصحاب على ألا نبقي تصرفاً في السنة بالحط قط، ولا يمكن أن يقال: سببه أن مكاسب الجاني تسير إلى الأيمان في كل سنة".=(16/533)
فاعتبرت هذه المدة في التحمل عن القتل حتى نقدّر امتدادَ يد العاقلة إلى ما يواسون به، [وذلك] (1) لا يختلف بقلة المحمول.
وقد نجز الكلام في النفوس وأبدالها.
10785- ونحن الآن نستفتح القول في أروش الأطراف، ونقول: أولاً هي معقولة محمولة، فإن انحطت عن النفوس [بانتفاء] (2) الكفارة عنها، وعدم جريان القسامة فيها، [فهي] (3) في معاني النفوس في [الاحتياج] (4) إلى المواساة، والجِراحُ دون النفس [يكثر بكثرتها] (5) العقلُ، هذا هو المذهب الذي عليه التعويل، وحكى العراقيون قولاً عن القديم أن العاقلة لا تحمل أروش الأطراف أصلاً، وهذا إن كان يتأتى تكلُّفُ توجيهه، فليس معتداً به.
ثم إذا تبين أن الأروش مضروبة على العاقلة، [فلا] (6) فرق بين ما يقل وما يكثر، والمقدارِ [النزر والكثير] (7) هذا مذهبنا.
وقال مالك (8) رضي الله عنه: لا تحمل العاقلة من الأروش ما يبلغ ثلث الدية الكاملة، فإن زادت حملوا حينئذ، وعُزي إلى الشافعي قول في القديم مثلُ مذهب
__________
= ولعل من المناسب أن نأتي هنا بعبارة الرافعي في المسألة نفسها، فقد قال: "تضرب دية اليهودي والنصراني في سنة، فإنها قدر الثلث، ودية المجوسي، وغرة الجنين كذلك، وإن كانتا أقلَّ من الثلث، لأن السنة لا تتبعض، وكأن المعنى فيه أن الزروع والثمار، وسائر الفوائد تتكرر كل سنة، فاعتبر مضيها، ليجتمع عندهم ما ينتظرونه ويواسون عن بسطٍ وتمكن".
(ر. الشرح الكبير: 10/488) .
(1) في الأصل: "ولكن".
(2) في الأصل: "بانتقال".
(3) في الأصل: "ولكنها".
(4) في الأصل: "الأصابع".
(5) في الأصل: "تكثر بكثرة".
(6) في الأصل: "ولا".
(7) في الأصل: "النزع الكثير".
(8) ر. المدونة: 4/485، الإشراف: 2/835 مسألة 1611، المعونة: 3/1325، عيون المجالس: 5/2051 مسألة 1480، القوانين الفقهية: 342.(16/534)
مالك، وهذا بعيد غير معتد به، وقد كررت مراراً أن القول القديم لا يحل عدّه من مذهب الشافعي، مع رجوعه عنه.
ثم التفريع عليه أن مقدار الثلث المحمول على الجاني لا يُحمل منه شيء، فإن زاد الأرش على هذا المقدار، فالكامل محمول على العاقلة، وكان يليق بالقياس أن يقال: قدر الثلث أبداً على الجاني، والزائد عليه معقول محمول؛ وهذا يخالف وضعَ الشافعي في الجديد، فإنه لم ير ضربَ شيء على الجاني لما رأى ضرب ما قل وما كثر على العاقلة، فلا تعويل على هذين القولين الغريبين: أولهما - أن الأروش لا تضرب على العاقلة، والثاني - أن مقدار الثلث لا يضرب على العاقلة.
ومن لم يضرب أروش الأطراف على العاقلة فما عندي أنه [يخالف] (1) [في إثباتها] (2) معجّلةً، كقيم المتلفات، فلا ينبغي أن نفرع على الأصول الضعيفة.
10786- وقد عدنا إلى [المسير] (3) ، فأول ما نذكره أن من قطع يدي رجل مسلم حر، فموجب اليدين دية كاملة، فالذي رأيت لمعظم الأئمة القطعُ بأنها مضروبة على العواقل في ثلاث سنين قولاً [واحداً] (4) ؛ فإنا إن اعتبرنا المقدار، فالواجب بالغٌ مقدار دية كاملة، وإن اعتبرنا كونه بدل نفس -والأرش ليس بدل نفس، ولكنه مشبه به قدراً وكيفية [وجنساً] (5) - فلما أثبتنا في اليدين دية النفس، وجب أن يثبت لها جميع أحكام الدية، وهذا هو الذي لا يستقيم في مساق الفقه غيره.
وذكر شيخي أبو محمد وجهاً عن بعض الأصحاب أنا لو اعتبرنا كون الواجب بدل نفس، فنضرب الأروش -وإن بلغ ديةً، أو زاد- على العاقلة في سنة واحدة، وهذا
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) في الأصل: "في تثبتها".
(3) في الأصل: "اليسير". وهذا أقرب لفظٍ إلى الأصل يمكن أن يؤدي معنى مفيداً مناسباً. أي عدنا إلى السير فيما كنا فيه.
(4) في الأصل: "واجباً".
(5) في الأصل: "وحسناً".(16/535)
وإن تكرر سماعي [له] (1) [منه] (2) ، فلست أرى الاعتداد به.
ولو قطع يد مسلم كامل؛ والتزم نصف الدية، فإن اعتبرنا المقدار، فالأرش مضروب على العاقلة في سنتين: نضرب مقدار ثلث الدية في آخر السنة الأولى ونضرب السدس الباقي في آخر السنة الثانية، وليس الواجب بدل [نفس] (3) ، فنخرّجَ وجهاً آخر أنه مضروب في ثلاث سنين (4) .
ولو قتل امرأة، فديتها مضروبة في ثلاث سنين على أحد الوجهين، إذا اعتبرنا النفس ولم نعتبر المقدار.
ولو قطع يدي امرأة، فالأرش مضروب في ثلاث سنين، [على] (5) هذا الوجه الذي نفرع عليه، فإن الواجب في يدي المرأة ديتها.
ولو قطع رجل [يدَ] (6) المرأة، فأرشها مضروب في سنة واحدة، بلا خلاف، فإن أرش الطرف إذا انحط عن مبلغ دية المجني عليه، فليس إلا اعتبار المقدار، [فهذا] (7) ما يجب الإحاطة به.
10787- ولو قطع يدي رجل كاملٍ ورجليه، فمن اعتبر [المقدار، ضرب الأروش] (8) في ست سنين، ومن اعتبر حرمة النفس أجرى وجهين: أحدهما - أن الأرش وإن زاد على بدل النفس، فهو مضروب في ثلاث سنين؛ لأن الأطراف وإن كثرت أروشها لا [تزيد] (9) حرمتها على حرمة النفس. والوجه الثاني - أنا نضرب
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "فيه".
(3) في الأصل: "سن".
(4) أي أنه ليس هنا معنى بدل النفس، فلا مجال لضربه في ثلاث سنين.
(5) في الأصل: "وعلى".
(6) في الأصل: "يدي". وقد انتهى الكلام في صورة قطع اليدين.
(7) في الأصل: "لهذا".
(8) عبارة الأصل: "المقدار في ضرب الأروش".
(9) في الأصل: "تؤثر".(16/536)
الأروش في ست سنين، لأنها بلغت ديتين، فإذا كنا نضرب ديةً في ثلاث سنين، وجب أن نضرب مقدار ديتين في ست سنين.
وقد ذكرنا أن من قتل رجلين كاملين، فنضرب ديتيهما في ثلاث سنين، وهذا الذي نحن فيه من وجهٍ يشابه قتلَ نفسين، نظراً إلى وجوب ديتين، ومن وجهٍ ينقطع عنه، لأن من قتل نفسين، فكل نفس متميزة عن غيرها، وموجب القتل فيها ضرب الدية -من وقت وَقَع القتلُ- في ثلاث سنين.
وإذا قَطَع [من كاملٍ] (1) يديه ورجليه، فالأروش وإن بلغت ديتين، فهي متعلقة بشخص واحد مجنيٍّ عليه، فيجوز أن يؤثر مقدار الكثرة في إيجاب الزيادة في الأجل؛ فإن المجنيّ عليه إذا كانت الأروش في حكم الموجَب الواحد لا تميز فيه، فاتجه المزيد في الأجل عند المزيد في المقدار.
وهذا فيه لطفٌ، من جهة أنا إنما نفرعّ على اعتبار بدل النفس، لا على اعتبار المقدار، وإذا أحللنا مقدار ديةٍ محل بدل نفس، فيحتل مقدار ديتين [محلّ] (2) نفسين، ثم لا تميز؛ فإن المجني عليه واحدٌ، بخلاف ما إذا قتل نفسين.
10788-[وقد] (3) ذكرنا عن شيخنا أبي محمد وجهاً أن أروش الأطراف مضروبة في سنة واحدة بالغة ما بلغت، فيجتمع في قطع اليدين والرجلين من كاملٍ -إن كان يُعتد بما حكاه- أوجه ثلانة: أحدها - أن الأروش مضروبة في ثلاث سنين.
والثاني - أنها مضروبة في ست سنين.
والثالث - أنها مضروبة في سنة واحدة، وهذا بعيد جداً.
وقد اجتمع في الفصل أقوال غريبة: أحدها - أنا لا نضرب أروش الأطراف على العاقلة، حكاه العراقيون. والثاني - أنا لا نضرب مقدار ثلث الدية، حكاه أبو علي وغيره. والثالث - أنا نضرب أروش الأطراف في سنة واحدة بالغة ما بلغت (4) .
__________
(1) في الأصل: "ما بكامل".
(2) في الأصل: "على".
(3) في الأصل: "فقد".
(4) حكاه أبو محمد.(16/537)
فصل
قال: "ولا تحمل العاقلة ما جنى الرجل على نفسه ... إلى آخره" (1) .
10789- إذا كان الرجل يتعاطى أمراً، فأفضت آلةٌ كانت في يده إلى طرفٍ من أطرافه، وأفسدته، فهذه جناية منه على نفسه، وهي هَدَرٌ، وقال أحمد (2) وإسحاق: إذا جنى على طرف نفسه جناية خطأ، وجب الأرش على عاقلته له، [يستوفيه] (3) منهم لنفسه، وإن قتل نفسه مآلاً، وجبت الدية على عاقلته للورثة. وحكى صاحب التقريب قولاً مخرجاً قديماً في الغريب (4) عن الشافعي أنه قال: جناية الرجل على طرف نفسه خطأٌ مضروب على عاقلته يستوفي أرشَها لنفسه، وهذا على نهاية البعد، لم أره منقولاً إلا [عن] (5) طريق صاحب التقريب، والممكن في توجيهه أن العاقلة ألزمت أرش جناية الإنسان، حتى كأنهم جَنَوْا بأنفسهم، فموجب الشرع أنه لا يغرم إلا من تعلق به سبب الغرم، فإذا كانوا يتحملون أرش جنايته على
غيره، حتى كأنهم جنَوْا بأنفسهم، فإذا فرضت الجناية من الإنسان على نفسه، قُدّر كأنها صدرت من العاقلة، ولو كان هذا القول منقولاً في قتل الإنسان نفسه خطأ، لكان أوقع إذا فرعنا على أن الدية للقتل تجب للورثة ابتداء، فيكون في قتله نفسه في حكم جانٍ على ما هوحق غيره.
ولكن صرّح صاحب التقريب بنقل القول في الطرف، ولا شك أنه إذا أجراه فى الطرف يجريه فيه إذا قتل نفسه، بل هذا أولى.
__________
(1) ر. المختصر: 5/141.
(2) ر. رؤوس المسائل الخلافية للعكبري: 5/523 مسألة 1764، المغني: 12/33.
(3) في الأصل: "يستوفها".
(4) كذا. ولعلها "في التقريب"، ولم يحك هذا الوجه أحدٌ من أئمة المذهب الذين اطلعنا على كتبهم، لا الغزالي في (البسيط) ، ولا الرافعي في (الشرح الكبير) ، ولا النووي في (الروضة) ، ولا البغوي في (التهذيب) ، ولا العِمراني في (البيان) .
(5) في الأصل: "في".(16/538)
ولا تعويل على ما ذكرناه، والمذهب القطع بأن جناية الإنسان على نفسه مهدرة؛ فإنا إنما نقدّر التحملَ بعد اعتقاد وقوع الفعل [مضموناً] (1) ، ويبعد أن تكون جناية الإنسان على نفسه مضمونة.
10790- ثم ظهر اختلاف الأصحاب أن من قتل نفسه هل تجب الكفارة في تركته؟ وهذا الخلاف متجه؛ لأن الكفارة تجب للجناية على حق الله، [وحقُّ الله] (2) في دم من قتل نفسَه ثابت [فلا] (3) يمتنع أن يلتزم الكفارة، ومن لم يوجب الكفارة اعتصم بأن الفعل في وضعه مهدَر، وضمان الكفارة يتبع فعلاً مضموناًً. وهذا قولٌ لا يتجه؛ فإنا قد نوجب الكفارة المحضة، وسيأتي شرح هذا في باب الكفارة.
[باب عقل الموالي] (4)
قال الشافعي: "ولا يعقل الموالي المعتقون ... إلى آخره" (5) .
10791- اسم المولى ينطلق على المعتِق مستحق الولاء، وعلى المعتَق الذي عليه الولاء، وللمولى معانٍ لسنا لاستقصائها في وضع اللسان، ثم سمى الفقهاء المعتِق الذي هو مستحق الولاء المولى الأعلى، وسمَّوْا المعتَق الذي عليه الولاء المولى الأسفل، ولا خلاف أن المولى الأعلى يتحمل العقل عن المولى الأسفل، ولا خلاف -إذا أفضى التحمُّلُ إليه- على الترتيب الذي ذكرناه من قبلُ، ولست أضمن الآن بيان وجوه الولاء والأحكام المتعلقة بها في هذا المقام، ولا فيما قدمنا، وسيحصل كمال الوضوح وشفاء الغليل في باب الولاء من كتاب العتق.
والمولى الأسفل هل يتحمل العقل عن المولى الأعلى؟ على قولين: أحدهما - أنه
__________
(1) في الأصل: "مضروباً".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "ولا".
(4) عنوان الباب هذا غير موجود بالأصل، ويبدو أنه كان مكتوباً بالحمرة، فلم يظهر في التصوير.
(5) ر. المختصر: 5/141.(16/539)
لا يتحمل عنه، كما لا [يرثه] (1) ، وهذا مذهب أبي حنيفة (2) . والثاني - يتحمل؛ لأن المولى الأعلى إذا كان يتحمل عن الأسفل وهو المنعِم، فلأن يتحمل المنعَم عليه عن المنعِم أولى، قالوا إذا ثبت التحملُ في حق الأعلى وتحمله عن الأسفل، ثبت تحملُ الأسفل عن الأعلى، وليس كذلك الميراث؛ فإن استحقاق الإرث -إن استحق- يختص بمن يستحق الولاء، [أما العقل] (3) ، فالتحمل من قبل المواساة والإعانة والنصرة، ويبعد أن تثبت النصرة على الأعلى للأسفل، ولا تثبت النصرة على الأسفل للأعلى.
10792- ثم ذكر الأئمة رضي الله عنهم جملاً من الكلام في تحمل من يستحق الولاء، فنأتي بما أوردوه، ونُتبع إحالة البيان التام على باب الولاء، إن شاء الله.
فمما ذكره الأصحاب أنه إذا أعتق العبدَ المشتركَ الشركاءُ فيه، ثم جنى المعتَق، فلا نضرب على المعتِقين إلا ما نضربه على معتِقٍ واحد ينفرد بإعتاق العبد الخالص؛ وذلك أنه لم ينفرد واحد منهم باستحقاق الولاء التام، بل الولاء مفضوض عليهم، كما كان الملك مشتركاً بينهم، والتحمل في حق المعتِق يتبع الولاء، فإن كانوا أغنياء ضُرب عليهم نصف دينار في آخر السنة، وإن كانوا متوسطين، ضرب عليهم ربع دينار، وإن كانوا مختلفين: منهم الموسر ومنهم المتوسط، فنضرب على الموسر قسطاً من نصف دينار، ونضرب على المتوسط قسطاً من ربع دينار.
ولو انفرد الإنسان بالملك والإعتاق، ثم مات وخلف عَصبةً، فإذا جنى المعتَق جنايةً، فأفضى [ترتيبُ] (4) العصبات إلى ضربها على عصبة المعتِق، فنضرب على كل واحد منهم حصةً تامة على حسب يساره وتوسطه: نصف دينار، أو ربع دينار.
وقد يعترض في هذا سؤال، وهو أن المعتِق لو كان حياً، لما ضربنا عليه إلا حصةً واحدة، والضرب على عصباته جاء من قِبله، فهلا ضربنا ما كان يخصه لو كان حياً
__________
(1) في الأصل: "يرث".
(2) ر. فتح القدير: 8/163.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) في الأصل: "في بيت".(16/540)
على جميع عصبته، كما لو أعتق الشركاء عبداً مشتركاً؟ وسبيل الجواب عن ذلك أن الولاء في حق [عصبة المعتِق] (1) ليس أمراً موروثاً حتى [نُقدّر فضَّه] (2) على الورثة، أو على العصبات منهم، وينزلون حينئذٍ منزلة المشتركين في الإعتاق، ولكن العصبة يرثون بالولاء، ولا يرثون الولاء، وكان السببُ المورّث لهم انتسابَهم إلى من له الولاء، فيصير الولاء في حقهم مشابهاً للنسب، ومن يتحمل لأجل النسب [يتحمل] (3) نصف دينار، ولو خلف ورثةً تحمَّل كلُّ واحد نصفَ دينار إذا كانوا موسرين.
وإن أردنا قولاً ضابطاً في ذلك، قلنا: كل واحد من عصبات المعتِق يتحمل ما كان يتحمله المعتِق، إذا اتفقا في اليسار والتوسط، وإن اختلفا في هذه الصفة، تغير المقدار لاختلاف الحال.
ولو أعتق جماعة عبداً مشتركاً بينهم، ثم مات واحد منهم، أو ماتوا جميعاً، وخلّفوا عصبات، فتَحْمِل كلُّ واحدة من العصبات ما كان يتحمله المعتِق لو كان حياً، حتى إذا كان يخصه نصف سدس دينار تحمل كلُّ عصبته هذا المقدار، مع الاستواء في التوسط واليسار.
10793- ومما يجب التفطن له في هذا المقام أنا إذا كنا نضرب على عصبات الجاني، فنبدأ بالأقربين منهم، فإذا فضل المضروب عن حصصهم، صرنا إلى الذين يبعدون، ثم هكذا، حتى لا نغادر من الأباعد أحداً، فإن فضل شيء، ضربناه على بيت المال.
فلو كان للجاني عصبات من جهة النسب، فاستوعبناهم على مراتبهم، وكان على الجاني ولاءٌ، نضرب على مُعتِقه حصةً إذا [فضلت] (4) من أصحاب النسب، فلو قال قائل: إذا ضربنا على المعتِق لمّا أفضى الضرب إليه حصته، فهل نضرب على عصباته حصصاً على مراتبهم في القرب والبعد؟ قلنا: قيّد الأئمة الضرب على عصبات المعتق
__________
(1) في الأصل: "عصبته العتق".
(2) في الأصل: "نفوت قصر".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "حصلت".(16/541)
بموت المعتِق، وهذا يمكن تعليله بأن العصبات لا حق لهم في الولاء، ولا حق لهم بالولاء [فيقعون] (1) من المعتَق في حياة المعتِق [موقع] (2) الأجانب، فإذا مات، ورثوا بالولاء، وصار الولاء لهم لحمة كلحمة النسب، فإذ ذاك نضرب عليهم.
ولا يتجه إلا هذا، والأصول وإن كانت تدل على أن الولاء لا يورث، بل يورث به، فهو من حقوق الأملاك، وإنما يثبت الاختصاص به بعد موت المعتِق.
ثم الاختصاص على وجوه: قد يكون اختصاصاً يسمى ملكاً، وقد يكون اختصاصاً لا يوصف بالملك، وعلى أي وجه فرض الحق، فالحق يثبت متجدّداً للعصبة بعد موت المعتق، ثم إذا لم يكن (3) معتِقٌ، وضربنا على عصباته، فهل نخصص بالضرب الأقربين ولا نتعداهم أم نتعداهم [إلى] (4) الأباعد على ترتيب الرُّتب، كصنيعنا في عصبات النسب؟ هذا فيه تردد ظاهر: يجوز أن يقال: يُستَوْعبون استيعاب عصبات النسب؛ فإن الولاء كالنسب منهم، [ويجوز] (5) أن يقال: نخصص الأقربين؛ فإنهم المختصون بالولاء والإرث.
والمسلك الأول أوضح؛ فإن مسائل الولاء دالّةٌ على أن الولاء لا يورث، بل يورث به، وهو كما ذكرنا بمثابة النسب، ويرث ابن المعتِق لا لأنه وارث، ولكن لأنه منسوب إلى الولاء بجهة مورثه.
فرع:
10794- ذكر ابن الحداد فصلاً في تحمل العقل يتعلق [بجرّ] (6) الولاء - والقول في الجرّ سيأتي في موضعه -إن شاء الله- ولكنا ننجز ما يتعلق بباب التحمل، فنقول: إذا نكح العبد معتَقَةً، فولدت في حالة رقه ولداً، ثبت الولاء عليه لموالي
__________
(1) في الأصل: "فيتفقون".
(2) في الأصل: "فرفع".
(3) كان تامة.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "ولا يجوز".
(6) في الأصل: "بحق".(16/542)
الأم، فلو أعتق مالك الأب الأبَ، انجرّ الولاء من موالي الأم إلى معتِق الأب. هذا أصل [الجرّ] (1) .
قال ابن الحداد: لو قتَل هذا الولدُ في حال [رق أبيه] (2) إنساناً خطأ، فالدية على موالي الأم، فلو فرض عتق الأب بعد ذلك، وجرى الحكم بانجرار الولاء [كما] (3) تقدم من الحكم به، [فالضرب] (4) على موالي الأم لا يتغير.
وهذا فيه سؤال، في الانفصال عنه إبداءُ تحقيق: وذلك أن القتل إذا جرى في حالة رق الأب، فابتداء المدة من وقت القتل، ولكن قد قدمنا في أصول ضرب العقل أنا نعتبرآخر السنة في [افتقار] (5) العاقلة ويسارهم وتوسطهم.، وهذا يعني أن الوجوب إنما يتقرر في آخر الحول، ولو كان كذلك، وجب ألا نضرب على موالي الأم؛ فإن آخر السنة يوأفيهم ولا ولاء لهم، بل الولاء ينجرّ عنهم، وما ذكرنا [من] (6) أن الضرب عليهم يتحقق من وقت القتل، ثم يكون المضروب مؤجلاً، وهذا يخالف ما قدمناه، ويلزم على مساقه أن يصح من مستحق الدية إبراء العواقل قبل انقضاء السنة، وهذا
منقاس حسن. وإنما المسلك اعتبار اليسار عند منقرض السنة.
وإذا أردنا أن نقدر اعتبار اليسار في آخر السنة ونحكم في هذه المسألة على موالي الأم، والولاءُ مجرور [عنهم] (7) ونفرق بين المسألتين؛ [فلا] (8) نجد إلى الفرق سبيلاً، ولم يتعرض الشيخ أبو علي لهذا بل صرح باعتبار القتل في حالة الولاء، فالوجه تقرير ما أطبق عليه الأصحاب في الطرق من اعتبار اليسار في آخر الحول، وترديد الكلام في صورة الجرّ؛ فإن الاعتراض على مذهب إمامٍ في فرعٍ أهون من
__________
(1) في الأصل: "آخر".
(2) في الأصل: "روايته". وهذا من غرائب التصحيف وعجائبه.
(3) في الأصل: "فيما".
(4) في الأصل: "والضرب".
(5) في الأصل: "اعتبار".
(6) في الأصل: "على".
(7) في الأصل: "عليهم".
(8) في الأصل: "ولا".(16/543)
التعرض لما [رئي] (1) متفقاً عليه. فهذا منتهى ما في ذلك.
ثم [يستدّ] (2) بعد هذا التنبيه [إتمام] (3) التفريعات.
10795- وما ذكرناه فيه إذا قتل ذلك المولود قتل خطأ، ثم يفرض عتق الأب، فلو جَرَحَ والولاء لموالي الأم جرحاً على سبيل الخطأ، ثم أُعتق الأب، وتقدر موتُ المجروح بعد انجرار الولاء، فنقول: أرش الجرح مضروب على موالي الأم، وما بعده إلى تمام الدية [لا يضرب] (4) على موالي الأم؛ فإن الموت وقع بعد انجرار الولاء عنهم، ولا يضرب على معتِق الأب؛ لأن الموت وقع بجراحةٍ تقدمت على انجرار الولاء، والسرايةُ منتسبة إلى الجراحة، فمن حيث وقع الموت بعد الجرّ، لم يحتمل تمامَ الدية موالي الأم، [ومن] (5) حيث ترتب القتل على جراحةٍ قبل الانجرار، لم يحتمل الديةَ موالي الأب.
ثم إن كانت الجراحة الجارية قبل الجرّ مقدرةَ [الأرش كالموضِحة] (6) وقطع إصبع أو يد أو جائفة، فالأرش المقدر مضروب على موالي الأم، وما زاد عليه إلى تمام الدية يضرب في مال الجاني.
هكذا ذكره الأصحاب، وقطع به الشيخ في الشرح، وفيه إشكال نورده في معرض السؤال.
فإن قيل: إن تعذر ضرب ما يزيد على الأرش على موالي الأم، وموالي الأب للمعنى الذي ذكرتموه من وقوع الموت بعد الجرّ من وجهٍ، واستنادِهِ إلى الجرح الواقع قبل الجرّ من وجهٍ آخر، مع أن الضرب على العاقلة معدول عن القياس مُعرَّضٌ للسقوط بأدنى شيء، كما تتعرض العقوبات للاندفاع بالشبهات، فهلا قلتم: ما زاد على
__________
(1) في الأصل: " رأى ".
(2) في الأصل: "يستمر".
(3) في الأصل: "على إتمام".
(4) في الأصل: "ولا يضرب".
(5) في الأصل: "من".
(6) في الأصل: "بالأرش بالموضحة".(16/544)
الأرش مضروب على [بيت المال] (1) ؛ فإنه إذا تعذر الحمل على موالي الأم والأب، فإن هذا التعذر بمثابة [إعسارهم] (2) ، وبيت المال معتمدٌ لتحمل الدية إذا عسر ضربها على الأخصّين، ومن إثبات العسر في الضرب على الموالي في الجانبين ما ذكرتموه؟ قلنا: هذا السؤال متجه جدّاً، ووجهه ما أوردناه في أثناء السؤال، ولست أُبعد أن يكون ما جاء به الشيخ جرياً منه على ظاهر الكلام (3) في مسألة سنشير إليها بعد الفراغ من هذه.
10796- وهي أن ذمياً لو أوضح رأسَ إنسان، ثم أسلم [وسرت] (4) الجراحة، ومات المجروح، فالأرش مضروب على العاقلة الذمية، وما عداه مضروب على مال الجاني، لا نضربه على الذميين لوقوع القتل بعد الإسلام، ولا نضربه على المسلمين [لانتساب] (5) القتل إلى جُرح مضى في الشرك، ولا سبيل إلى ضربه على بيت المال؛ فإن بيت المال لا يتحمله للعلّة التي لا يتحمله [لأجلها] (6) الأقربون المسلمون؛ فإن بيت المال لا يتحمل أثر جراحة جرت في الشرك، كما أن الأقارب المختصين من المسلمين لا يتحملون أي جناية جرت في الشرك.
وهذا لا يتحقق في مسألة جرّ الولاء؛ فإنه لا مانع من تحمل [بيت] (7) المال إلا [تقديرُ] (8) الولاء، وقد تعذر الضرب على أهل الولاء أو كانوا معسرين.
__________
(1) في الأصل: "مذهب المال".
(2) في الأصل: "انحسارهم".
(3) هكذا انتهى الإمام إلى عدم التسليم لابن الحداد بمنع الضرب على بيت المال. ولكن الرافعي قرر غير هذا، فقال: "ساعد الأصحابُ والإمامُ ابنَ الحداد" (ر. الشرح الكبير: 10/472) ، وأكاد أجزم بحمل هذا على خلل النسخة المطبوعة من الشرح الكبير، فهي طبعة سقيمة لا خير فيها.
(4) في الأصل: "وجرت".
(5) "لايسار".
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) زيادة من المحقق.
(8) في الأصل: "تقديم" والمعنى: أن الذي يمنع من الضرب على بيت المال هو وجود المعتق، أي المولى، وليس المنع لمعنىً كالإسلام في حال جناية الذمي.(16/545)
ثم إنْ تكلف متكلف توجيه ما ذكره الشيخ، فالممكن فيه تدافع جهتي الولاء فيما فيه الكلام، مع أن الشخص ممن يُتَحمل عنه، فإذا لم تتحمل الجهة الخاصة، لم يتعدها التحمل إلى الجهة العامة، وهذا تلفيق عبارة، ثم يجب أن نطرد هذا في المقدار الذي نقدّر ضربه على الموالي لو ضرب عليهم، ولا يُتمارى في ضرب الزائد على ذلك المقدار على بيت المال.
ولو كانت الجراحةُ الجارّةُ [قتلاً جراحةَ] (1) حكومة، فالذي أطلقه الأصحاب أن المضروب على موالي الأم حكومةُ تلك الجراحة، وكيف تنضبط الحكومة من غير اندمال؟ [فلو قلنا: نقدر الرقَّ والتقويمُ على ما أفضت الجراحة إليه، ولا نقدر قيمة العبد إن اعتبرنا المآل فهو في التحقيق ضربُ الدية عليهم، فإن اعتبرنا الاندمال في الجرح، كان تقديراً على خلاف الحس] (2) ، فالوجه أن نقول: إن كانت الجراحة مقدّرة الأرش، فنستمسك بالمقدّر الشرعي، وإن كانت غير مقدرة، فنجعل الانجرار كالاندمال في الجرح، ونعني أن نفرض وقوف الجراحة حيث انتهت إليه من النقص من
غير زيادة.
ويترتب على هذا لطيفة عظيمة الوقع في الفقه، وهو أن الجراحة لو كانت مقدرة الأرش، فسرت بعض السراية، ثم فرض الجرّ، [فلا] (3) يفرض على موالي الأم إلا المقدّر، ولا أثر لتلك السراية إذا لم يسقط [بها] (4) عضو.
وإن كانت الجراحة غير مقدرة الأرش، فسرت بعضَ السراية، ثم فرض الجرّ، اعتبرنا الجراحة وسرايتها إلى وقت الانجرار، وليس ما جاء به بدعاً؛ فإن السراية تتبع الجراحات المقدرة الأروش. وقد ذكرنا أن سراية الجرح الذي لا يقدر أرشه هل
__________
(1) في الأصل: "قبل الجراحة".
(2) ما بين المعقفين فيه تعديل وحذف من عبارة الأصل التي كانت هكذا: "ولو قلنا: نقدر الرقَّ والتقويم على ما أفضت تلك الجراحة إليه، ولا نقدّر العبدَ قيمة إن اعتبرنا المال وهو في التحقيق ضرب الدية عليهم، فإن اعتبرنا الاندمال في الجرح، والاندمال كان تقديراً على خلاف الحس".
(3) في الأصل: "ولا".
(4) في الأصل: "به".(16/546)
يتبع؟ وهو الأصل المعروف بالجرح والشين، وظاهر القياس أنا لا نتُبع السرايةَ جرح الحكومة قط.
10797- ومما فرعه الشيخ، [ولزم] (1) فيه الكلام لو قطع يدي رجل خطأ، ثم فرض جرُّ الولاء، وسرت الجراحة وأفضت إلى الموت، فالدية بكقالها مضروبة على موالي الأم؛ فإن مقدار اليدين دية كاملة.
ثم يعترض هاهنا كلام من طريق التقدير عريٌّ عن فائدة ترجع إلى المغارم، وهو أن المضروب على موالي الأم أرش اليدين أم دية النفس؟ وهذا لا يتجه وقد قَطَع إحدى اليدين، [فإنا] (2) نقول: الواجب ديةٌ [أو بعضها] (3) على موالي الأم، وهاهنا إذا أوجبنا الدية على موالي الأم، والقتلُ وقع بعد الجرّ، لكان ذلك خارجاً عن القاعدة، وهذا قريب.
والوجه عندنا أن نقول: المضروب عليهم دية النفس؛ فإنهم إنما يمتنعون عن التحمل إذا كان الموجَب يزيد بالموت.
ونقول على هذا الأصل: لو قَطَعَ [من] (4) الحر اليدين والرجلين، ثم فرض الجرّ والموت بتلك الجراحات، فالواجب ديةٌ واحدة، وهي مضروبة على موالي الأم.
ومما يتفرع على هذه النهاية أنه لو قطع اليدين قبل الجرّ، ثم فرض الجرّ، فعاد، وقتل ذلك الشخصَ خطأ، فإن فرعنا على ظاهر النص، فلا يجب إلا دية واحدة، وهي مضروبة على موالي الأم، ونجعل القتل الواقع بعد الجرّ بمثابة الموت المترتب على سراية تلك الجراحة، ولو سرت الجراحة التي موجَبها ديةٌ إلى الموت بعد الجرّ، لكنا نوجب تمام الدية على موالي الأم، وهذا متضح لا يعارضه إشكال.
وإن فرعنا على مذهب ابن سريج، وأوجبنا ديتين، فيجب دية على موالي الأم ودية على موالي الأب إن اتسع عددهم لتحملها.
__________
(1) في الأصل: "لزم" بدون الواو.
(2) في الأصل: "فإنه".
(3) في الأصل: "وبعضها".
(4) في الأصل: "يد".(16/547)
ولو قطع يداً قبل الجر ويداً بعد الجر، ووقع القطعان خطأ، وفرض الموت من الجرحين، فيجب نصف الدية على موالي الأم ونصفها على موالي الأب، والتعليل بيّن؛ فإنه جرى قبل الجر وبعده ما يقابل دية، ولا نظر بعد ذلك إلى السرايات.
10798- ولو أَوْضَح قبل الجر، وقطع يداً بعد الجرّ، وفرض الموت من الجرحين، فلا يجب على موالي الأم إلا أرش المُوضِحة، ولا يجب على موالي [الأب إلا أرش] (1) اليد، والباقي [كما] (2) ذكره الشيخ في مال الجاني، وتعليل ذلك بيّن أيضاًً، فإنا ندير هذه التفريعات على مبالغ المقدرات.
ولو قطع يداً قبل الجرّ وقطع يداً ورجلاً بعد الجرّ، وفرض الموت، فقد يظن الظان أن الدية توزع أثلاثاً على موالي الأب والأم؛ فإنه قد وجد قبل الجرّ ما أرشه نصف الدية، ووجد بعد الجرّ ما أرشه دية، ولو اندملت الجراحات، لضربنا على موالي الأم نصف الدية، وعلى موالي الأب دية، فإذا فرض الموت، وجب توزيع ديةٍ على دية ونصف (3) .
وهذا الظن زلل؛ من جهة أن الجراحات إذا أفضت إلى الموت، فلا معنى لتخيل مزيد على دية، حتى يقع التوزيع عليه، بل تبيّنا أن الواجب دية، ثم استقر على موالي الأم نصفها، فيجب على موالي الأب نصفها.
وستأتي مسائل لابن الحداد في آخر الكتاب -إن شاء الله- فيها يبين حقائق التوزيعات على الجراحات من جانٍ واحد، ومن جناةٍ.
هذا منتهى القول في [جرّ] (4) الولاء.
10799- وما ذكرناه فيه يجري في طريان الاسلام على الجاني مع فرض جرح في
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: "فما".
(3) على دية ونصف: أي بنسبة دية ونصف، أي يجب توزيع الدية -التي لا يجب غيرها عند الموت- أثلاثاً، كما توزّع دية ونصف عند الاندمال، وهذا الظن خطأ كما سيشرح الإمام في العبارة الآتية مباشرة.
(4) في الأصل: "آخر".(16/548)
الشرك، والنظر يتردد فيما على عاقلة المسلمين، والفروع التي قدمناها والصور التي أوردناها تعود في طريان الإسلام، غير أنا لا نستريب في أن ما لا نضربه على العاقلة المسلمة لا نضربه على بيت المال، وقد تقدم تقرير هذا بما فيه مَقْنَع. وقد ذكرنا في كتاب الجراح طرفاً من الكلام في طريان الردة بعد نفوذ السهم، وزوالِها قبل وقوع السهم في المرض، وهو كاملٌ في فنه، ولا نعيده.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا جنى رجل بمكة وعاقلته بالشام ... إلى آخره" (1) .
10800- نقل المزني في هذا الباب مسألتين: إحداهما - أن من جنى وله عواقل غُيَّب هم الأقربون، ولو فرض [الضرب] (2) عليهم، [لاستوعب] (3) الضرب عليهم المبلغَ المطلوب، ولكن في الضرب عليهم وهم غُيّب مسيسُ حاجةٍ إلى انتظار زمان، وللقاتل من الأقارب طائفةٌ حضور، فهل للسلطان أن [يضرب] (4) على الحضور؟ في المسألة قولان: أحدهما - وهو الأقيس أنا لا نضرب على الحضور، ونجعل وجودهم كعدمهم، ونسعى في الضرب على الغُيَّب، والقاضي إن أراد قضى عليهم، وإن أراد أثبت القتل، وكتب إلى قاضي الناحية التي بها الغيّب، حتى يكون هو القاضي عليهم. هذا هو الوجه، وهو طريق السعي في إثبات الحق عليهم.
والقول الثاني - أن للسلطان أن يضرب على الحضور؛ فإن هذا الباب مبناه على المواساة، وعلى تحصيل الغرض بطريق التناسب، ولهذا يتعدى الأقارب إلى الأباعد إذا فضل من الواجب شيء بعد حصص الأقربين، فإذا كان يعسر الوصول إلى الغيّب، فلا يمتنع على قاعدة الباب الضربُ على الحضور.
__________
(1) ر. المختصر: 5/141.
(2) في الأصل: "القرب".
(3) في الأصل: "لا نستوعب".
(4) في الأصل: "يصرف".(16/549)
وتمام البيان في ذلك يتعلق بشيئين: أحدهما - أنا إن جرينا على القياس، لم يخف الحكم، و [إن] (1) قلنا بجواز الأخذ من الأباعد الحضور، فيجب ألا نُجري هذا في كل غَيْبةٍ، وإن كانت مسافة القصر، فإن الضرب سهل على من يبعد عن مكان القتل بمرحلتين، وكذلك لو زادت المسافة، فلا بد من رعاية التعذر، وأقرب معتبر في هذا التعذر عندي متلقّى من الأجل الشرعي، فإن كان يمكن تحصيل الغرض من الغيّب في مدة سنة، فليس الأمر متعذراً، وإن كان لا يتوصل إلى الضرب عليهم في سنة، فيمكن أن نقضي عند ذلك بالتعذّر، ويجري فيه القولان.
ومما ينشأ من هذا الموضع أن العواقل لو لم يشعروا بالجناية حتى مضت سنة، أُخذ العقل منهم إذا وجدناهم عند منقرض السنة على الصفة المرعية في الضرب.
ومما يترتب على هذا -وهو الأمر الثاني- أنا إذا فرّعنا على [الأخذ] (2) من الأباعد، فليس لأولياء القتيل [الانفراد به] (3) ، بل يجب صدَرُ ذلك عن الإمام؛ فإن مبناه على تعذر يدٍ، [ومُدرَك هذا] (4) يقتضي [إثباتاً] (5) كإثباتنا رَفْع النكاح بالإعسار بالنفقة.
هذا بيان إحدى المسألتين. [وفي] (6) تحقيقها بقية سأذكرها على إثر المسألة الثانية إن شاء الله.
10801- وهي (7) أن الأرش إذا قل قدره، وكثرت العواقل، ولو فضضنا ذلك المقدار على عددهم، لاحتجنا إلى تعب في التقسيط والجمع، [ففي] (8) المسألة
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "الآخر".
(3) في الأصل: "الاسرادية".
(4) في الأصل: "ومدركه وهذا".
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "في".
(7) وهي: أي المسألة الثانية.
(8) في الأصل: "في".(16/550)
قولان: أحدهما - أنه يُفضّ عليهم، كما لو اجتمعوا، فأتلفوا ما قيمتُه نصفُ دينار، وإذا ثبتت الحقوق، لم يختلف الأمر فيها بتقدير الفضّ والقسمة. [والقول] (1) الثاني - أن الإمام [يُحصّل] (2) ذلك من بعضهم؛ فإن الباب مبنيٌّ على التيسير، فله أن يسلك المسلك الأيسر. وقد يتجه عندنا في هذا القول أن نقول: الواجب نصف دينار، أو ربع دينار، وهو على واحد منهم لا بعينه، فيعيّنه من إليه التعيين.
ثم إذا تبين هذا، فإن فرّعنا على القول الأقيس، فلا كلام، وإن فرعنا على القول الأخير، فهل نقول: لوليّ القتيل أن يطالب من شاء منهم، أو لابد من تعيين السلطان؟ هذا فيه تردد، ويجوز أن يقال: يجب أن يكون صَدَرُ التعيين من السلطان؛ حتى يكون أقطع للخصومة [وأنفى] (3) للنزاع.
ويجوز، أن يقال: لولي القتيل أن يطالب من شاء؛ فإن المسألة إذا فرضناها في كونهم موسرين لا تستند إلى اجتهاد؛ [فالسلطان] (4) إذا عين، لم يكن تعيينه عن اجتهاد، وإنما يكون عن وفاق، وبهذا يضعف هذا القول.
وقد قال الأصحاب لما فرعوا على القول القديم في أن جماعة لو قتلوا واحداً لا نقتل إلا واحداً منهم: إن ولي القتيل يعين من شاء منهم.
10802- والذي وعدته من تمام البيان ما نصفه الآن، فنقول: إذا [وظف] (5) الإمام على بعض العواقل، فقد انقطع الأمر، ولا تبعةَ، ولا رجوعَ، وإذا ضربنا على الأباعد الحضورِ، ثم حضر الغُيّب، فليس يبعد أن يرجع الأباعدُ عليهم، ويكون ما بذلوه مُنزَّلاً على حكم النيابة، ويجوز أن يقال: انفصل الأمر بتقديمهم، فلا مراجعة ولا تبعة.
__________
(1) في الأصل: "والقسم".
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) في الأصل: "وأبقى".
(4) في الأصل: "السلطان".
(5) في الأصل: "وصف".(16/551)
[باب عقل الحلفاء] (1)
قال الشافعي: "ولا يعقل الحليف إلا أن يكون مضى بذلك خبر ... إلى آخره" (2) .
10803- وليس هذا ترديد قول منه، ولكن لما كان مدار هذه الأبواب على الأخبار، لم يُبعِد [لمتانة دينه] (3) -مع وفور حظه في الحديث- أن يصحَّ خبرٌ لم يبلغه، فقدّر الكلامَ كما أشعر به ما ذكرناه، ومضمون الباب أن [التحالف] (4) لا حكم له [لا] (5) في ثَبَتِ (6) الإرث، ولا في ضرب العقل، وإنما يُتلقى ضرب العقل من القرابة، كما سبق تفصيلها، أو الولاء، أو الجهة العامة، ولا مزيد.
فصل
ْقال الشافعي: "إذا كان الجاني نوبياً، فلا عقل على أحد من النوبة ... إلى آخره" (7) .
10804- قد ذكرنا أن التعويل في ضرب العقل على [النسب] (8) أو الولاء، فإن لم يكونا، فالرجوع إلى بيت المال، فإذا جنى رجل مجهول غريبٌ جنايةً، ولم نعرف له مناسباً (9) ولا مولىً، [لم] (10) نضرب العقل على أهل بلده، ولا على الجنس الذي
__________
(1) يبدو أن الباب كتبت بالحمرة في نسخة الأصل، فلم تظهر في التصوير، وظهرت مسافة سطر خالية كأنها بياض، والمثبت من " مختصر المزني".
(2) ر. المختصر: 5/142.
(3) في الأصل: "لما به ديته" فانظر رعاك الله أين طوّح بنا التصحيف، ولا تنسنا من دعوةٍ بخير.
(4) في الأصل: "الكالف".
(5) في الأصل: "إلا".
(6) " ثَبَتَ الإرث": أي ثبوت الإرث. وهذا دأبُ الإمام في مثل هذه المصادر، فيقول: صَدَرَ، ويعني صدور، ويقول: حَدَثَ، ويعني حدوث.
(7) ر. المختصر: 5/142.
(8) في الأصل: "السبب".
(9) مناسباً: أي قريباً من النسب.
(10) في الأصل: "فلم".(16/552)
يعود هو إليهم، كالنوبي إذا جنى -وهو كما وصفناه مجهول الحال- فلا نضرب أرش جنايته على النوبة، كذلك القول في طبقات الخلق، وإذا لم نجد له من هو مختص به، فالضرب على بيت المال، ثم على السلطان نظرٌ في البحث [عن] (1) المختصين به، فإن لم يجدهم، [ضرب] (2) في بيت المال.
ثم لو انتسب هو إلى أقوام، راجعناهم، فإن اعترفوا، ففي ثبوت الانتساب بالاعتراف تفاصيل قدمناها في كتاب الأقارير، فإن من ادعى أنه ابن فلان، فاعترافه مع الإمكان يُثبت النسب، وإن ادعى [أخوّة] (3) [معين] (4) واعترف ذلك المعيّن، لم يثبت النسب إلا أن يكون كلَّ الورثة، ولا معنى للخوض في ذلك.
ومنشأ هذا المنتهى أن النسب إذا لم يثبت بالإقرار بالعمومة [والأخوة] (5) ، فهل نضرب عليهم العقلَ مؤاخذة لهم بالأقارير؟ هذا يُخرَّج على أن أحد الورثة إذا قال: هذا أخونا، هل يؤاخذ بإقراره في تسليم حصة ما في يده إليه، أم لا؟ فيه كلام بيّنٌ مقرر في موضعه، وإذا كنا نُحوَجُ إلى [تطويل] (6) الكلام بالمباحثات في مواضع الحاجات، فينبغي أن نقبض الكلام إذا لم تكن حاجة.
فصل
قال: "وإذا حكمنا على أهل العهد ألزمنا عواقلهم ... إلى آخره" (7) .
10805- إذا قتل الذمي مسلماً خطأ، فالعقل مضروبٌ على عاقلته الذمية، وإن قتل ذمّي ذميّاً، تعلق التفصيل بأنا هل نحكم عليهم إذا ترافعوا إلينا؟ ثم إذا ضربنا على
__________
(1) في الأصل: "على".
(2) في الأصل: "ضور".
(3) في الأصل: "آخر".
(4) زيادة يقتضيها السياق.
(5) في الأصل: "والأجرة".
(6) في الأصل: "تطويح".
(7) ر. المختصر: 5/142.(16/553)
عواقلهم، فلا نطالب كلَّ واحد منهم إلا بما نطالب به الواحد من المسلمين، فإن فضل [من] (1) الأرش فاضلٌ، فهو [مضروب] (2) [في مال الذمي] (3) الجاني، ولا مطمع [في] (4) ضربه على بيت المال، وهذا تمهد [قبلُ] (5) ، وذلك أنه لو مات ولا وارث له، فماله مأخوذ لا على سبيل الخلافة عنه والوراثة، بل نأخذه [كمالٍ انجلى الكفار] (6) عنه من غير قتال، حتى قال المحققون: ما نأخذه من تركة الذمّي الذي لا وارث له مخمّس كالأموال التي نظفر بها من غير قتال، فنصرف خمسَه إلى أهل الخمس، وأربعة أخماسه إلى أهل الفيء، كما تقررت مصارف الفيء في كتابها، وهذا لا شك فيه.
ولو كان للذمي الجاني أقارب حربيون، فهم [كالمعدومين، وإن قَدرَ الإمامُ على الضرب عليهم، فينبني على أن اختلاف الدار هل يمنع التوارث؟ إن قلنا: نعم، فيمتنع الضرب أيضاًً. وإن قلنا: لا، ففيه وجهان، لانقطاع المناصرة باختلاف الدار، (7) [وإن كان له أقارب ذميون غُيَّباً] (8) ، فإن تيسّر الرجوع إليهم، فذاك، وإن تعذّر لطول المسافة، فهل نأخذ من الذمي الجاني؟ فعلى قولين، كما ذكرناه في الأباعد الحضور والأقارب الغُيّب. وإن كان تعذر الضرب عليهم عن امتناع، فليسوا أهل الذمة (9) .
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "مصروف".
(3) في الأصل: "في بيت مال الذمي".
(4) في الأصل: "على".
(5) في الأصل: "هذا".
(6) عبارة الأصل: "كما لا نجلى الكفارة".
(7) ما بين المعقفين زيادة من الشرح الكبير للرافعي: 10/477.
واضطررنا لوضع هذه الزيادة تقديراً منا أنها سقطت من الأصل، حيث خلا كلام الإمام من الحكم فيما إذا كان له أقارب حربيون، وبنحو هذا قال الغزالي في البسيط أيضاًً.
(8) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها، حيث ذكر الإمام حكم الغُيّب من غير أن يسبق ذكره لهم، فتأكد أن في الكلام سقطاً وهو ما زدناه إن شاء الله.
(9) هذا يؤكد أن حديث الإمام وحكمه في أقارب ذميين، فقد فرض تعذر الضرب عليهم لسببين: =(16/554)
ولو فرض ما ذكرناه في المعاهدين -وهم أصحاب العهود المؤقتة- فهم كأهل الذمة إذا كانت مدة عهودهم لا تقصر عن أهل الضرب، وإن كانت مدتهم سنة والعقل في ثلاث سنين، أخذنا منهم حصة السنة، ورجعنا في الباقي إلى القاتل.
ولو كان القاتل يهودياً وأقاربه نصارى أو على العكس، فللشافعي رضي الله عنه قولان: أقيسهما - أنا نضرب عليهم -وإن اختلفت مللهم- إذا (1) جمعهم الكفر، كما نورث البعض من البعض [وإن] (2) اختلفت أديانهم، والقول الثاني - أنا لا نضرب موجَب جنايةِ كافرٍ على من ليس من أهل ملته؛ فإن ضرب العقل مبناه على التناصر، وهذا [مفقود] (3) عند اختلاف الملل.
ومما فرعه الأئمة في ذلك أن الذمي إذا جنى، ولم نجد له عاقلة من الكفار، [حيث] (4) تجب الدية، [فالدية مأخوذة] (5) من ماله، ثم هي تتأجل عليه حَسَب التأجل على العاقلة، وليس لقائل أن يقول: الآجال أثبتت في حقوق العواقل تخفيفاً عليهم، فإذا طالبنا القاتل، فلا أجل؛ لأن أصل الأجل ثابت، وهذا كما أن الدية إذا تغلظت [بشبه] (6) العمد، ضربت على العاقلة، وإن كانوا لا يستحقون التغليظ عليهم.
10806- ثم قال الأئمة: إذا كنا نضرب العقل على الذمي، فلو وجدنا له أباً أو ابناً، فهل نضرب عليهما؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنا لا نضرب عليهما؛ فإنهما
__________
= أحدهما - لبعد المسافة، وهذا حكمه معروف.
والثاني - الامتناع عن قبول الحكم بالضرب، وحينئذ يكونون قد نقضوا عهد الذمة، وليسوا أهلها.
* تنبيه: تأمل في هذه الحواشي، لتتأكد أنها ليست فروف نسخ، فنسخة الأصل وحيدة، وإنما المثبت في الصلب هو من ثمرة المعاناة في استكناه الصواب وتوسمه.
(1) بمعنى"إذ".
(2) في الأصل: "فإن".
(3) في الأصل: "مقصود".
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل: "فالدية هي مأخوذة".
(6) في الأصل: "بستون".(16/555)
ليسا من العواقل. ومن أصحابنا من قال: نضرب عليهما، [فإنا بنينا] (1) منع الضرب على [أب] (2) القاتل وابنه على منع الضرب على [القاتل] (3) نفسه، فإذا كنا نضرب على القاتل، لم يبعد أن نضرب على أبيه وابنه، وهذا ضعيف لا أصل له.
فإن قلنا: لا يضرب عليهما شيء، فلا كلام، وإن قلنا: يضرب عليهما، اختلف أصحابنا في المقدار المضروب: فمنهم من قال: لا يزيد ما نضربه على كل واحد منهما على نصف دينار على قياس الضرب على العواقل.
ومنهم من قال: الدية مضروبة على القاتل وابنه وأبيه أثلاثاً؛ فإن هذا ليس على قياس الضرب على العواقل.
ومما يبلغ مني المبلغَ التام حاجتي إلى نقل كلام رجل كبير (4) مع القطع ببطلانه، كرأيٍ في هذه المسألة، فإن الضرب على الأب والابن في نهاية البعد، ثم الضرب على الجاني وعليهما أثلاثاً لا تخييل فيه، فضلاً عما عليه التعويل، ولا وقع للتلفيقات اللفظية.
فرع:
10807- قد قدمنا في أصول المذهب أن الابن لا يضرب عليه شيء من العقل، فلو كان الرجل ابنَ الجاني وكانَ ابنَ عمه (5) أو كان معتقه، فهل يُضرب عليه شيء من العقل [لجهة] (6) العمومة أو للولاء؟ ذكر العراقيون والشيخ وجهين: أقيسهما - أنه يضرب عليه، ويجعل كأن البنوة لم تكن، وهذا كما أن الابن يزوِّج أُمَّه بالقضاء
__________
(1) غير مقروء في الأصل هكذا " انا د ـ ـا ".
(2) في الأصل: "أن".
(3) في الأصل: "العاقل".
(4) الرجل الكبير الذي يشير إليه الإمام هو الإمام أبو علي الطبري، ولم يصرح الإمام باسمه إجلالاً له. ولكن الإمام الرافعي صرح باسمه في الشرح الكبير 10/482. هذا، وقد سبق التعريف بالإمام أبي علي الطبري.
(5) يتصور بأن يكون الجاني امرأة تزوجت ابن عمها، فابنها هو ابن ابن عمها، فهنا اجتمعت جهة البنوة وجهة العمومة في شخص واحد، ولا يضرب عليه بالبنوة، فهل يضرب عليه بالعمومة؟ هذا تصور المسألة.
(6) في الأصل: "لهداية".(16/556)
والولاء، ويزوجها إذا كان ابنَ عمها (1) ، ويقال: البنوة لا تقبل الولاية، ولكنها لا تنافيها بجهةٍ أخرى.
والوجه الثاني - أن الابن لا يتحمل؛ فإنه بعضُ الجاني، ويعظم عليه الضرب على بعضه، كما يعظم عليه الضرب في نفسه، وهذا لا يختلف بأن يكون ابن عم أو لا يكون كذلك، فرجع حاصل الخلاف إلى أن البنوة تنافي تحمل العقل أم لا تقتضي تحمل العقل؟
***
__________
(1) أي ابن ابن عمها.(16/557)
[باب] [وضع الحجر حيث لا يجوز وضعه، وميل الحائط] (1)
[قال الشافعي رضي الله عنه: "لو وضع حجراً في أرضٍ لا يملكها ... إلى آخره" (2) .
10808- القتل قد يقع بالمباشرة من القاتل، وقد يقع بالأسباب] (3) ، فأما الواقع منه بالمباشرة، فقد تقدمت أقسامه، وغرض هذا الباب الكلام في الأسباب، ونحن نجعل حفر البئر في صدر الباب معتبراً، ثم نلحق به ما في معناه بذكر ضابطٍ جامع.
فإذا احتفر الإنسان بئراً، لم يخل من أحوال: إما أن يحفرها في ملك الغير غصباً واعتداء، [وإما أن يحفرها في ملك نفسه] (4) ، فإن حفرها في ملك نفسه، فتخطّى الملك متخطٍ وتردى فيها، [فلا] (5) ضمان إذا لم يكن من صاحب الملك دعاء إلى الطروق.
ولو احتفر البئر في ملكه، ودعا إنساناً إلى تخطي ملكه، والدخول فيه، فإذا دخله، فتردى في البئر، لم يخل: إما أن تكون البئر محتفرة في طريق [ضيقة] (6) ، لا مدخل إلى الملك غيرُها، ولا محيص للداخل عن التردِّي في البئر، وإما ألا تكون
__________
(1) هذا العنوان من عمل المحقق، ففي الأصل بياض قدر سطر كامل، وقد أخذنا هذا العنوان من (المختصر) للمزني حيث التزم الإمام الجري على ترتيبه.
(2) ر. المختصر: 5/143.
(3) كل ما بين المعقفين من تصرف المحقق، على ضوء منهج الإمام في افتتاح الأبواب والفصول، وعلى ضوء مضمون الباب الآتي، فقد جاء شرحاً وتفصيلاً لعبارة الشافعي هذه.
أما عبارة الأصل، فقد جاءت بعد سطرٍ بياضٍ هكذا: "قال رضي الله عنه إذا العقل فأما الواقع منه بالمباشرة ... ".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "ولا".
(6) في الأصل: "صنعة".(16/558)
البئر محتفرة في مضيق، ويمكن الازورار عنها، مع دخول الملك، فإن لم يكن الازورار ممكناً مع الدخول، ولا يتم الغرض في هذا التصوير إلا بفرض تغطية [البئر؛ كي] (1) لا يرى رسمَها الطارق، أو تقدير الدعاء في ظلمة، فإن كان كذلك، فهو بمثابة [تقديم] (2) الطعام المسموم [إلى الضيف] (3) وقد مضى القول فيه مفصلاً. ومن أصحابنا من جعل الصورة التي ذكرها الآن أولى بوجوب الضمان [من] (4) تناول الطعام المسموم؛ فإن التناول والازدراد تعاطٍ بفعلِ المتلف، بخلاف الطروق، فإن التردي يقع لا عن اعتمادٍ (5) إليه.
ولو كانت البئر مائلةً وأمكن تقدير الازورار عنها، فإذا فرض من المالك الدعاء إلى دخول الملك، فدخلها المدعو وتردّى، فللأصحاب طريقان: منهم من قطع بانتفاء الضمان؛ فإن أصل الاحتفار لم يكن مستنداً إلى عدوان، وكان حق الداخل أن يتحفظ أو يتصوّن في أحواله، وهذا هو المسلك الأصح.
ومنهم من جعل في الضمان قولين على الترتيب الذي سيأتي في البئر المحتفرة في الطريق الواسعة إذا تردى فيها المتردي.
وتمام البيان في ذلك أن البئر إذا غُطِّي رأسُها، ثم فرض الدعاء إلى التردد (6) ، فالضمان في هذه الصورة قريب، والأوضح إيجابه؛ لأنه يناسب تقديم الطعام المسموم، فلئن كان يفرض من الداخل ميل وانحراف عن منهج السير، فتقرر على الوفاق (7) تخطي البئر، فالحالة على الجملة حالة إلباس. ولو قدم الرجل أطعمة إلى إنسان، وفي بعضها سم، وكان من الممكن ألا يتعاطى المسموم، ويكتفي بغيره، فإذا تعاطاه، فأمْر الضمان مرتب على ما إذا قدم إليه طعاماً مسموماً متّحداً، والصورة
__________
(1) في الأصل: "التردي".
(2) في الأصل: "تقرع".
(3) في الأصل: "اذا لضعيف".
(4) في الأصل: "في".
(5) اعتمادٍ: أي قصدٍ.
(6) أي إلى الدخول.
(7) أي حدث وفاقاً، والمعنى أن احتمال الضمان قائم.(16/559)
التي ذكرناها آخراً أولى بانتفاء الضمان إذا نسب إلى تقديم الطعام الفردِ المسموم.
10809- ثم إنا نذكر في هذا القسم ما يتعلق بتصرفات المُلاّك في أملاكهم الخاصة فيما يتعلق بالضمان، فنقول: إذا احتفر بئراً في داره وكانت مَفيضةً للفضلات، فانهارت البئر، وأفضت إلى تردي أساس جدار دار الجار، وترتب على ذلك انتقاض الجدار، فلا ضمان، وهذا مما اتفق أصحابنا عليه.
والسبب فيه أن الأملاك لا تستقل دون البالوعات والآبار، ولو أوجبنا الضمان بسبب ما تُفضي إليه المرافق لعظُمَ الأمر، ثم يعارض إسقاطَ الضمان أن الجار لا يُمنع من مثله في ملك نفسه، فاقتضى الشَّرَع (1) بينهم الإرفاقَ، وتمهيدَ الارتفاق، والتسويةَ بين الناس، ثم كل مالك في الغالب ضنين بملك نفسه، والخلل من ملكه يتعدى إلى ملك غيره، فهذا الشَّرَع يعوِّل على الثقة بالملاك من الاحتياط لأملاكهم، مع ما قررناه.
ثم اتفق المحققون على أن هذا مشروط بمراعاة الاقتصاد، وردّ الأمر إلى الاعتياد، فلو ملك الرجل حجرة متضايقة الخط (2) ، فاتخذ من عرضها بئراً، وسيّبها، [وفي فِنائها] (3) الحجرة وحواليها، فهذا ما نمنع منه، ولو فعله، كان متعدياً، ولكن الرجوع فيه إلى العادة ولا يبعد ضبطه؛ فإن ذلك لا يعد ارتفاقاً، وقد يجري فيه أن ملك المالك يتلف به، فهذا إتلاف الملك وليس ارتفاقاً بالملك.
وعلى هذا إذا [أجّج ناراً لطبخٍ] (4) أو إيقاد تنّور أو ما أشبهها مما يُعتاد، واتفق طيران شرارٍ إلى [كوخ] (5) أو إلى دار [وشبّب] (6) حريقاً، فلا ضمان.
__________
(1) الشَّرَع: السواء والمساواة. (المعجم) .
(2) الخط: المساحة، فالخط كل مكان يخطه الإنسان لنفسه. (المعجم) .
(3) في الأصل: "وفيها".
(4) عبارة الأصل: "احتج بأن الطبخ" تأمل كيف تم التصحيف.
(5) في الأصل: "كوس". ولعلها من عامية خراسان بمعنى آخر، والله أعلم.
(6) في الأصل: "وجب"، و"شبب" يعدى بالتضعيف. (مصباح) .(16/560)
وإن أجج [ناراً ضخمة] (1) لا تحتمل تيك الدارُ مثلَها، فأفضت إلى [حريق] (2) يجب الضمان.
وكذلك القول في سقي البساتين، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من هذا في حفظ حريم القنوات، ومجموع ذلك يرجع إلى اتباع العادة.
فإن وقعت صورة من الصور على تردد في أنها على [الاعتياد] (3) أم ليست عليه، فهي مردودة إلى نظر النظار، فقد يتحد وجه الرأي فيها وقد ينشأ خلاف، كما يجري مثل ذلك فيما يُبنى على العادات، وانتهى كلام الأصحاب في ذلك إلى أن قال القفال: لو أوقد النارَ في السطح، أو في مكان قريب منه [واليوم] (4) ريح، وقد يغلب على الظن انتشار شرار من النار، فالاعتياد غالب في التحريم من إيقاد النار في مثل هذا المكان والزمان، فإذا تساهل، ولم [يَتَحرَّ] (5) عُدّ مقصّراً.
وإن أشعل النار والهواءُ مطمئن، ثم هاجت الرياح قبل استمكانه من إطفاء النار، وكان [تهيجها] (6) على هذا النسق نادراً، فلا ضمان.
وإن احتفر بئراً في أرض خوارة، ولم يطوها بالطوب، فهي إلى الانهيار، ولا يفعل ذلك إلا مسرفٌ أو أخرقُ.
وكل ما لا يفعله القيِّم في ملك الطفل نظراً له، ولو فعله وأفضى إلى تلف ملك الطفل يضمن، فإذا فعله المالك المُطْلَق، فأفضى إلى تلف ملك جاره، كان ذلك مبنياً على الخروج عن العادة، غيرَ أن القيّم يقصُر فعله على حد الحاجة، والمالك لا يؤاخذ بهذا. وإنما غرضنا في الاستشهاد والتسوية أن الحاجة لو مست، وترك الاحتياط في طريق التمهيد والتحري، فإذ ذاك يضمن، كما أشرنا إليه، وبدون ما ذكرنا يتبين الفطن المراد.
__________
(1) في الأصل: "فإذا حجمه".
(2) في الأصل: "حزير".
(3) في الأصل: "الإعسار".
(4) في الأصل: "والرم".
(5) في الأصل: "يتجدد".
(6) في الأصل: "سحها". كذا.(16/561)
وعليه بنى الأئمة ما لو وضع حجراً على سطحه، أو حُرْديّاً (1) فأسقطتها الريح، فإن كان ما فعل على الاعتياد، فلا ضمان فيما يتولد من سقوطها، وإن كان على خلاف الاعتياد، وجب الضمان.
10810- ولا ينبغي أن يظن الفقيه أن منفعة المتصرف تُرعى، فقد يفعل ما لا منفعة له فيه، ثم لا ضمان إذا أفضى إلى التلف، إذا لم يكن في طريق التلف مقصراً.
10811- ومما يتصل بهذا القسم أنه لو بنى جداراً على ملكه ولم يُمله، فسقط الجدار من غير انتسابه إلى تقصير، فلا ضمان أصلاً، وإن مال الجدار إلى جانب ملكه، فتركه مائلاً، فسقط في ملكه، ثم طارت رأسه إلى خارج الملك، وأفسدت شيئاًً، فلا ضمان.
ولو بنى الجدار مائلاً إلى الشارع أو بناه مستنداً، فمال إلى الشارع، ثم سقط، فسنذكر هذا في القسم المشتمل على التصرف في أرض الشارع وهوائه، فانتظم مما ذكرناه أن التصرف المقتصد في الملك لا [يوجب] (2) الضمان ولا مثنوية (3) في ذلك إلا في الصيد الحرمي إذا تردى في بئر محتفرة في ملك، فإن من أصحابنا من أوجب الضمان، وقد مضى ذلك في كتاب المناسك.
10812- فأما إذا احتفر بئراً في موات، فليس احتفاره تعديّاً، ولو تردّى فيها [متردٍّ] (4) ، فلا ضمان، ولا فرق بين أن يقصد باحتفار البئر تملكها وبين ألا يخطر له ذلك، فلا مؤاخذة عليه فيما يتصرف به في الموات، كاحتفار بئر، أو [أخْذ ترابٍ] (5) أو جمع أحجارٍ، ونصب [صُوىً] (6) وأعلامٍ، وإذا احتفر في موات
__________
(1) الحرديّ بضم الحاء وسكون الراء: حزمة من قصب تلقى على خشب السقف. (كلمة نبطية) .
(المصباح) .
(2) في الأصل: "يجب".
(3) بمعنى استثناء.
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل بياض في هذا المكان.
(6) في الأصل: "صور".(16/562)
الحرم [بئراً] (1) ، وتردى صيد، ضمنه إجماعاَّ.
10813- فأما إذا احتفر في ملك الغير غاصباً، أو نصب فيه حجراً، فهو معتدٍ بفعله، ولو فرض ترتب التلف على ما صدر منه، وجب الضمان، وقد ذكرنا احتفار البئر في الأرض المغصوبة وما يتعلق به أمرُ المالك بطمِّها، ورضاه بتركها، ولم نغادر من أطراف الكلام شيئاً إلا أتينا عليه في كتاب الغصوب.
10814- فأما الكلام في الشوارع والمواضع المشتركة [التي] (2) تحقق تعلّقُ حقوق العامة بها، [فالكلام] (3) ينبسط في هذا الطرف، وقد يمتزج بالأملاك، فنذكر احتفار البئر أولاً، ثم نذكر ما يلتحق به.
فنقول: إن كانت الطريق [أو] (4) الشارع ضيقةً على الساكن، فاحتفر بئراً فيها، وقد يجري في الظنون جرياناً ظاهراً التردي فيها، أو التأذي [بها] (5) فهذا اعتداء، وإذا ترتب عليه تردي الطارق -على ما سنصف ذلك بعد نجاز الكلام في ذكر أسباب العدوان - تعلّق الضمان به، فإن استبد الحافر، ضمن، وإن راجع فيه من [إليه] (6) [الرأي] (7) ضمن؛ فإن الحفر في صورته عدوان، وإذن الوالي فيه مخالف لموجب الشرع، فإن
اعتمده (8) ، فقد ظلم وإن ظن ظناً جائزاً، فقد أخطأ.
وإن كانت الطريق واسعة لا يشق على الطارقين -مع الاتساع-[حفرُ] (9) البئر، فإذا فرض الاحتفار على هذا الوجه، لم يخل: إما أن يكون لمنفعة عامة [تعود] (10) إلى
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) في الأصل: "الذي".
(3) في الأصل: "والكلام".
(4) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل رسمت هكذا: (المـ ـا) تماماً. (انظر صورتها) .
(5) في الأصل: "منها".
(6) في الأصل: "اليد".
(7) زيادة من المحقق.
(8) أي الوالي، واعتمده أي تعمده، والمعنى تعمد مخالفة الشرع.
(9) في الأصل: "مرمى" هكذا تماماً.
(10) زيادة اقتضاها السياق.(16/563)
عامة الخلق، وإما أن يكون لمنفعة [يبتغيها] (1) الحافر.
وإما أن يفرض الاحتفار في غير منفعة، فإن كان الاحتفار لمنفعة المسلمين، مثل أن يفرض احتفار بئر [ليستقي] (2) الناس منها، أو يفرض احتفار بئر يتسرب إليها فضلات المرازيب (3) ، [يُصوّر] (4) بإذن الوالي ومن غير إذنه، وللأصحاب طريقان: منهم من قال: إن كان بإذن الوالي، فليس عدواناً، ولا يتعلق به ضمان، وإن كان بغير إذن الوالي، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه عدوان يتعلق به عند فرض ترتب التلف عليه الضمانُ، والثاني - أنه ليس بعدوان.
توجيه القولين:
10815- من قال: إنه ليس بعدوان وجه ذلك بانتفاء الضرر، وتحقق النفع، وألحق ذلك بوجوه المعروف التي يُستَحَثُّ العامة عليها، ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن حقوق العامة ثابتة على الاشتراك، ووجوه النفع والضرر لا ينضبط فيها وجه الرأي، والتصرف في الشارع على الجملة تصرفٌ في محل حق الناس عامة؛ فليس للأفراد حق الاستبداد. هذا مسلكٌ.
ومن أصحابنا من عكس هذا الترتيب، وقال: إن انفرد بالاحتفار من غير مراجعة مَن إليه الأمر، ثم فرض التردي، وجب الضمان، وإن راجع الوالي، وفرض الاحتفار بإذنه، ثم تردى في البئر المحفورة متردٍّ، ففي وجوب الضمان قولان.
والطريقة الأولى أمثل؛ فإن الحفر إذا كان للمصلحة، وكان صَدَرُه عن إذن الناظر في المصالح نظراً في الرأي الكلي والجزئي، [فيبعد] (5) تقدير الضمان، ولو أقر الإمام ابتداء باحتفار بئر، ثم فُرض التردي فيها، فلا يصير إلى إثبات الضمان -والحالة هذه-
__________
(1) في الأصل: "يتبعها".
(2) في الأصل: "ما يستقي".
(3) المرازيب جمع مرزاب، لغة في الميزاب (المصباح) .
(4) في الأصل: "تضرر".
(5) زيادة اقتضاها السياق.(16/564)
[إلا جسورٌ] (1) ، غير خبير بوضع الإيالة الكلية، والمصلحة الجزئية، ولا نأمن أن صاحب الطريقة الثانية يجعل احتفار الإمام -إذا أفضى إلى تلف متردٍّ- من الأسباب التي تضرب مثلاً [لما يُفضي] (2) إلى هلاكٍ من غير استحقاق. وفي غلطات الأئمة كلامٌ طويل، وترتيب وتفصيل، وهو يأتي، إن شاء الله عز وجل.
ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه من الترتيب فيه إذا كان الغرض [من] (3) الاحتفار مصلحة عامة، فأما إذا قصد الحافر مصلحة نفسه في احتفاره، فأفضى إلى تردٍّ وهلاكٍ، فإن انفرد، لم يختلف العلماء في وجوب الضمان، وإن استأذن الوالي، ثم فرض التردي، فالذي قطع به الأئمة، أنه يجب الضمان عليه، وفي بعض التصانيف حكايةُ وجه في نفي الضمان إذا كان [الحفر] (4) بإذن الوالي في الطريق الواسعة، فإن رجع الحفر فيها إلى الحافر، [ثبت الضمان] (5) . [وهذا] (6) بعيد عن التحصيل.
فإن قيل: إذا أثبتم الضمان، فهل يجوز للوالي أن يأذن فيه؟ قلنا: لا بأس عليه لو أذن فيه، إذا كان الغالب على الأمر أنه لا يجر ضرّاً، وهذا بمثابة ما لو أذن للإنسان أن يهىء لنفسه مقعداً في وسط الشارع، [وأن يرفع دِكّة] (7) ، وقد يضع حجراً أو قد يحفر زُبية (8) ، فيردّ فيها الأمتعة، وكل ذلك سائغ.
أما البناء الذي إذا تطاول [إلى أعلى] (9) أوشك أن يُظَنّ مستحَقاً، فلا يسوّغ، وقد مهدنا معظمَ هذه القواعد في كتاب الصلح.
__________
(1) في الأصل: "للأجور".
(2) في الأصل: "ويفضي".
(3) في الأصل: "في".
(4) في الأصل: "الحقه".
(5) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(6) في الأصل: "فهذا".
(7) في الأصل: "فأن يرفع دركه".
(8) زبية: أي حفرة. وعبارة الغزالي في البسيط: "كما يجوز له ذلك في حفرة يقصُر فيها الأمتعة ". (البسيط: 5 ورقة 69 شمال) .
(9) في الأصل: "إلى من عليه". وفيها تصحيف لم يقدّر لنا أن ندرك وجهه.(16/565)
فأما إذا [احتفر] (1) حفرة لا غرض فيها للناس ولا له، [وتؤذي] (2) الطارقين، فهو عدوان لا شك فيه.
والتحقيق الجامع للفقه يجري بعد نجاز الرسم للمسائل.
10816- ومما يليق بهذا المنتهى تصرف الناس في [هواء] (3) الشارع، وذلك بإخراج القوابيل (4) من الأملاك، وإخراج المرازيب: إن لم يكن على العامّة ضرر من إخراج الأجنحة والقوابيل، [فلا نَمْنَع] (5) من إخراجها.
وقد ذكرنا تفصيل الضرر المرعي باعتبار الفرسان والركبان في كتاب الصلح، فلا نعيده، ونكتفي [بإجمال] (6) القول، والإحالةُ في التفصيل على ما تقدم.
ثم من [أخرج قابولاً] (7) مضرّاً على المارة [مضيّقاً] (8) عليهم، فهو منقوض عليه، وإن لم يكن مضرّاً، فلا اعتراض عليه، ولا حاجة [تُحْوِجُه] (9) إلى مراجعة الوالي بخلاف التصرف في الشارع نفسه؛ فإنه محل الطروق، ومتعلق استحقاق الاستطراق، ولا استحقاق للطارقين في الهواء، وإنما المرعي فيه أن لا يجرّ عليهم ضرراً في طروقهم.
__________
(1) في الأصل: "احتفرنا".
(2) في الأصل: "وتؤثر في".
(3) في الأصل: "هذا".
(4) القوابيل: جمع قابول. وهو الساباط، والساباط هو سقيفة تحتها ممرٌ نافذ، والجمع سوابيط.
أما القابول بمعنى الساباط، فيقول عنه الفيومي في المصباح: "هكذا ذكره الغزالي، وتبعه الرافعي، ولم أظفر بنقلٍ فيه".
قلت: هكذا استعمله إمام الحرمين، ثم تبعه الغزالي، ثم الرافعي، ولعل هناك من استعمله قبل إمام الحرمين، ولما نصل إليه.
(5) في الأصل: "ولا يتبع".
(6) في الأصل: "بإكمال".
(7) في الأصل: "إخراج بولا".
(8) في الأصل: "مصرّفاً".
(9) في الأصل: "تخرجه".(16/566)
ثم من كان معتدياً في إخراج فسقط خراجُه (1) وأتلف شيئاًً، أو أهلك حيواناً، فلا شك في وجوب الضمان، فإن لم يكن [معتدياً] (2) بإشراع الجناح، فانقضّ وسقط على شيء فأتلفه، فالذي أطلقه الأصحاب وجوب الضمان، وأجمعوا على قولٍ جامعٍ في هذه الفنون، [فقالوا] (3) : [من تصرّف] (4) في هواء الشارع بما يرجع إلى غرضه ومقصوده الخالص ضامن لسلامة العاقبة، وإن كان فعله [مشروعاً] (5) .
ثم قالوا: إذا أخرج ميزاباً، فاتفق سقوطه وإفضاؤه إلى تلفٍ، ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - لا يجب الضمان أصلاً. والثاني - يجب.
ووجه قول من قال: يجب الضمان: القياسُ على [الجناح] (6) المشترع، والجامع رجوع [شغل] (7) الهواء إلى منفعة المتصرف فيه.
ومن نفى الضمان، [قال] (8) : الحاجة ماسة إلى إخراج المرازيب، ولا تستقل الأبنية المزاحمة للشوارع المتخللة بين الأملاك من مرافق الأملاك، وإنما هي ازدياد في اتساع [أرفقة] (9) البيوت والعرصات، ولا يمتنع أن يكون تجويزها مشروطاً بسلامة العاقبة، فإن قلنا: لا يجب الضمان، فلا كلام.
وإن حكمنا بإيجاب الضمان، فلو تقطّع القدر [البارز] (10) في هواء الشارع وأُبين وسقط، وبقي المقدار الذي كان ثابتاً في الملك، فما يَتلفُ في ضمانه (11) على هذا
__________
(1) خراجه: أي ما أخرجه.
(2) في الأصل: "مضموناًً".
(3) في الأصل: "وقالوا".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "مسوّغاً".
(6) في الأصل: "الجراح".
(7) في الأصل: "متصل".
(8) في الأصل: "فإن".
(9) في الأصل: "أوقفة".
(10) في الأصل: "النادر".
(11) أي في ضمانه كاملاً، لأن الجزء الذي وقع الإتلاف بثقله كان كله في هواء الشارع، أي في غير ملكه.(16/567)
الوجه. [وإن] (1) تقلع المرزاب وسقط بجملته، وأفضى إلى التلف، فالذي ذكره الأصحاب أنه يجب بعض الضمان في مقابلة ما كان بارزاً، ويسقط ما يقابل الذي كان في الملك.
ثم اختلفوا في كيفية التقسيط، فذهب الأكثرون إلى التنصيف كيف فرض الأمر، وعلى أي قدر صوّر البارز والداخل في الملك، وهذا هو القياس المرتضى في هذا المنتهى.
ومن أصحابنا من قال: نضبط وزن الخارج ونردّ ما كان داخلاً في الملك ونوزع الثبوت والسقوط عليهما.
وهذا بعيد؛ فإنه إذا ضرب رجلان رجلين بعمودين متفاوتين في [الرزانة والثقل وأفضت] (2) الضربات إلى الهلاك، فالدية نصفان، فإن كان صاحب الوجه الأخير يسلم هذا، فلا جواب له عنه، وفي هذا الرمز تنبيهٌ للفطن، وهذا يشير إلى زيادة [أسواطٍ] (3) في الحد، وقد تقدم خلافٌ فيه، وسيأتي مستقصًى في الحدود، والذي لا ننظر فيه إلى أعداد الجراحات، فإنها غائرة غير مضبوطة الآثار.
10817- ومن التصرفات في الشوارع [جمع الكناسات] (4) ، وطرح قشور البطيخ، ورش الماء: أما طرح قشور البطيخ، وما في معانيها، فللأصحاب فيه طرق: منهم من قال: لا ضمان فيها على الطارح؛ لأن الشوارع كما قررنا من مرافق الأملاك، ولو مُنع الملاك من طرح الكناسات والفضلات في [الشوارع] (5) الواسعة، لضاقت عليهم الأملاك، وقد تمس الحاجات إلى تكلّف صور لا استقلال بها.
ومنهم من قال: يتعلق الضمان بها، لأن المقصود الذي ينسب الشارع إليه
__________
(1) في الأصل: "إن".
(2) في الأصل: "الوراثة والثقل واقتضى".
(3) في الأصل: "أشواط".
(4) في الأصل: "جميع العمارات".
(5) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(16/568)
الاستطراقُ، وكل ما يؤثر فيه إن كان ظاهراً، [فهو ممنوع] (1) ، وإن كان خفياً، [يجرّ] (2) على الندور ضرراً [على طارقٍ، فهو] (3) مقرون بشرط سلامة العاقبة.
ومنهم من قال: إن جمعت هذه الفضلات في الزوايا أو في الأوساط التي لا ينتهي إليها المارة غالباًً، فلا يتعلق بها ضمان، إذا أفضى إلى تلف نادرٍ، فإن طرحت على متن الطريق وسَرَارةِ (4) الشارع، فهي من أسباب الضمان.
والوجه عندنا القطع [بأن] (5) الإلقاء على متن الطريق سببُ الضمان، وردّ التردد إلى الإلقاء على الأطراف، والمواضع التي لا ينتهي إليها المارة في الغالب.
وأما [رش الماء] (6) ، فإن كان لغرض صحيح [كتر طيب] (7) التراب، حتى لا يثور الغبار، فهو وجه في مصالح المارة، إذا لم ينته إلى [التزلّق] (8) ، فلو خَرَّ بعير -والحالة كما وصفناها- ففي تعلق الضمان به خلاف، وإن انتهى إلى حد [التزلّق] (9) ، فهو في معنى طرح قشور البطيخ، والعادة المألوفة فيها أنها تجمع في الزوايا، ثم إذا [كثرت] (1) ، نُقلت.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي من لفظ الغزالي في البسيط، ونص عبارته: " ... لأن مقصود الطرق الاستطراق، وما عداه إن جرّ ضرراً، فهو ممنوع، هان كان ضرره خفياً، فقد يجوز بشرط سلامة العاقبة". (ر. البسيط: 5 ورقة: 70 شمال) .
(2) في الأصل: "ممر".
(3) في الأصل: "على طار ونهر".
(4) سرارة الطريق: وسطه وأفضله. (المعجم) .
(5) زيادة لاستقامة الكلام.
(6) في الأصل: "إلى مى". كذا تماماًَ رسماً ونقطاً. وهذا من مستبشع التصحيف. والعبارة التي اخترناها بين المعقفين، مأخوذة من كلام الإمام آنفاً، حيث أجمل الارتفاق بالطريق في: جمع الكناسات، وطرح القشور، ورش الماء، ثم أخذ يفصلها، وهذا أوان الكلام عن رش الماء، كما يفهم من كلامه الآتي بعده.
(7) في الأصل: "كتنضيد".
(8) في الأصل: "الرفاق".
(9) في الأصل: "القولين".
(10) في الأصل: " الـ ـوـ ". كذا.(16/569)
والضابط في هذه الأجناس أن ما يجاوز الاعتياد عدوان، وما يقع على حد الاعتياد، ففيه تردد في وجوب الضمان عند الإفضاء إلى التلف.
10818- وممّا [تشتدّ] (1) الحاجة [إليه] (2) ويظهر فيه إسقاط الضمان، ولا يخلو عن خلافٍ في إيجابه [هو إتلاف البهائم] (3) .
والوجه عندنا أن نقول: البهائم الطارقة إذا كانت تبول وتروث، ثم فرض تزلق بعض المارة بأبوالها وأرواثها، فلا ضمان على أصحاب الدواب؛ فإن هذا مما لا يمكن التصون منه، وفي إثبات الضمان فيه - منعٌ من المرور والطروق، فإن كان يتجه [نفي الضمان في اشتداد الحاجة، فهذا] (4) أولى الصور، وقد ذكر الأصحاب فيها وجوب الضمان على من يستاق البهائم (5) ، والذي ذكرته مأخوذ من كلام الأئمة عند اعتبارهم الضرورة الخاصة، والحاجة البيّنة في إسقاط الضمان، وإذا كانوا يُسقطون الضمان في المرازيب لحاجات الأملاك؛ فلأن يسقطوا الضمان في [هذه الحالة أولى.
وأما ضمان ما يَتْلَف إذا كان يركب] (6) الدابة، فجفلت أو عضت، فهذه الأشياء تُنسب إلى [خُرْق] (7) الفارس، فإنه بين أن لا يحسن صون مركوبه، وبين أن يركب
__________
(1) في الأصل: "تستند".
(2) في الأصل: "فيه".
(3) زيادة من المحقق. وسوّغ لنا هذه الزيادة أن التفصيل يأتي بعدها لأحكام إتلاف البهائم، على حين لم تسبق إشارة إلى ذلك من قبل.
(4) في الأصل: "ففي ضمان اشتداد الحاجة هذا".
(5) الذي استقر عليه المذهب هو ما رآه الإمام: "لا ضمان" ونص عبارة النووي في الروضة: " ... وإذا راثت الدابة، أو بالت في سيرها في الطريق، فزلق به إنسان، وتلفت نفس أو مال، أو فسد شيء من رشاش الوحل بممشاها وقت الوحول والأنداء، أو مما يثور من الغبار، وقد يضر ذلك بثياب البزازين والفواكه، فلا ضمان في كل ذلك؛ لأن الطريق لا يخلو عنه، والمنع من الطريق لا سبيل إليه" (ر. الروضة: 10/198) .
(6) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها، حيث سقط ما يؤدي معناها من الأصل.
(7) في الأصل: "جزء". هكذا تماماًً رسماً ونقطاً، واخترنا أقرب الألفاظ صورة إلى اللفظ =(16/570)
دابة نَزِقة لا تنقاد لمثله، وعلى أي وجه فرض، فهو مقصر.
10819- فهذه جمل في أسباب الضمان، ولكنها مرسلة لا تثبت في حفظ الفقيه ما لم تنخرط في سلك الفقه، والضبطِ الجامع المعروف المشتمل على تبيين المنازل والمراتب، ونحن نقول والله المستعان: ما [يشرع] (1) من تصرفات الملاك في أملاكهم لا [يجرّ] (2) ضماناً قط، وليس مقروناً بشرط سلامة العاقبة.
وما يجري في الموات [لا يجري] (3) عدواناً، ولا يتضمن ضماناً.
وأما ما يجري في الشوارع إن كان ممنوعاً، ثم أفضى إلى تلفٍ، [فهل يجب] (4) الضمان به؟ حاصل المذهب فيه أقوال: أحدها - يتعلق الضمان به. والثاني - لا يتعلق، والثالث - يفصل بين أن يكون صادراً عن إذن الوالي وبين ألا يكون صادراً عن إذنه.
فأما ما يجري من المارة في أنفسهم كبول البهائم وروثها في أنفسها، فقد سبق الكلام فيه: نقلاً وتنبيهاً، والرَّمحُ والرَّفسُ والعضُّ يتعلق بالراكب والسائق والقائد، وفي هذا باب [يأتي] (5) .
وأما ارتفاق الملاك بالشوارع، فالممنوعُ منه سببُ الضمان، والمجوَّز منه ينقسم إلى الارتفاق من غير اشتداد الحاجة، وإلى ما تشتدّ الحاجة فيه، فأما الارتفاق المحض، فإن كان مسوّغاً، فهو على مذهب الأصحاب مقرون بشرط السلامة [كالأجنحة والقوابيل] (6) إذا سقطت، وما اشتدت فيه حاجات الأملاك، ففي ثبوت أصل الضمان فيه خلاف كالمرازيب، وعلى هذين القسمين [إخراج القمامات] (7) وطرح القشور.
10820- ويتعلق بهذا المنتهى كلام متردد بين تصرف الملاك في أملاكهم، وبين
__________
= الموجود بالأصل، كدأبنا في هذا الحال.
(1) في الأصل: "يسوغ".
(2) في الأصل: "يسوّغ".
(3) في الأصل: "يجرّ".
(4) في الأصل: "أوجب".
(5) في الأصل: " ما ـ ـه ".
(6) مكان كلمتين غير مقروءتين بالأصل " رسمتا " هكذا: " والرحن والتواليل ".
(7) في الأصل: " أخرجنا الضمانات ".(16/571)
ارتفاقهم بالشارع: فمن بنى جداراً على ملكه، وأمال طرفَه إلى الشارع، فالطرف الممال بمثابة الجناح.
ولو بناه غير مائل، فمال وسقط من غير استمكان من الاستدراك، فلا ضمان؛ فإن [الباني] (1) تصرف في ملكه على الاعتياد.
وإن بنى الجدار مستوياً، فمال وأمكن تقويم الجدار؛ فإنه [إن] (2) بقي مائلاً زمناً، ولم يتفق تقويمه ولا نقضه حتى تهدّم [وخرّ] (3) ملقى، ففي وجوب الضمان على صاحب الجدار وجهان: أصحهما - وهو الذي يدل عليه ظواهر النصوص أن الضمان لا يجب؛ نظراً إلى أصل البناء، فإنه كان ارتفاقاً بالملك على ما يجب. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان؛ لأنه كما (4) [مال أمكن] (5) استدراكه، [وإن] (6) كان في حكم ما يبني كذلك، وقد ذكرنا أنه لو بُني مائلاً، كان المقدار [المائل] (7) الشاغل لهذا الشارع بمثابة الجناح، وهذا مذهب أبي حنيفة (8) ، غيرَ أنه يُفصِّل
تفصيلاً لا يساعده عليه أصحاب هذا الوجه الثاني، ويقول: إذا أشهد على صاحب الجدار إنسانٌ شاهدين، ونبهه على صورة الحال ثم فرض السقوط بعده، وجب الضمان، وإن لم يجر إشهاد، لم يجب الضمان، وهذا لا يصير إليه أحد من أئمتنا.
وكنت أود لو فرق فارق بين أن يعلم صاحب الجدار، ثم يفرض انتسابه إلى [التقصير] (9) وبين ألا يعلم، ولم أر هذا لأحد من أئمة المذهب.
__________
(1) في الأصل: "الثاني".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "وجد".
(4) كما: بمعنى عندما
(5) في الأصل: "قال وأمكن".
(6) في الأصل: "فإن".
(7) في الأصل: "الملك".
(8) ر. مختصرالطحاوي: 253، مختصر اختلاف العلماء: 5/168 مسألة 2279، و5/164 مسألة 2277.
(9) في الأصل: "النقص".(16/572)
وقد انتهى رسم المسائل في أسباب الضمان، وذكر معاقد المذهب في كل مرتبة والتنبيه على تعاليل التفاصيل.
10821- ونحن نختم هذا الفن بنوع آخرَ مجموعٍ وجيزٍ، فنقول: اللائق بالفقه بالكلتاب [أنه لا يجب بسبب] (1) فعل مباح على التحقيق ضمانٌ، والذي أطلقه الفقهاء من أن تعزير الزوج زوجته، والمؤدب تلميذه مباح، مشروط بسلامة العاقبة، كلام عري عن التحصيل؛ فإن التعزير المباح هو المقدار الذي لا يفضي إلى الهلاك، فإن أفضى إليه، تبين أن المعزِّر جاوز الحد: إما في قدر الضرب، وإما في [توقِّي ما] (2) يجب أن يتوقى من البدن، وإما في ترك النظر في زمان أو حال المضروب المؤدَّب، فنتبين أن فعله ليس مباحاً، ولكنه خطأ، ولو علمه واعتمده، لكان عدواناً على التحقيق، وقد أجرينا أن إخراج القابول مباح مشروط بسلامة العاقبة.
والذي يجب تنزيل هذا [عليه] (3) أن من تصرف في [ملكه] (4) لا يجب عليه من التحفظ الحدُّ الذي يجب على من يُخرج القابول، ثم يتعين أن [يرعى في دوامه] (5) ما يصونه عن السقوط، فماذا فرض سقوطه، [دلّ] (6) ذلك على تقصير في البناء، أو تقصير في مراعاة الصَّوْن في الدوام، فإذا تعلق الضمان به، أفضى إلى العلم بمجاوزة حد الأباحة المحضة ابتداء أو دواماً.
وهذه الحدود غير مرعية في الأملاك، ولو قال الملاك: هذا وضع الشرع، وتبينا من هذا المنتهى أن من أخرج القابول، وتناهى في الاحتياط، فجرت حادثة
__________
(1) في الأصل: "ولا يجب نصيب".
(2) مكان بياضٍ بالأصل.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "ملك".
(5) في الأصل: "يدعى في دوانه".
(6) في الأصل: "عمل".(16/573)
لا تُتوقّع من وجه، أو صاعقة [تندر] (1) وسقط القابول، فلست أرى إطلاق القول بالضمان.
فلينظر من أدرك هذا المغاص في ذلك. واللهُ العليمُ.
وهذا نجاز الأسباب التي هي أسباب العدوان على الجملة.
10822- ونحن نعقد بعد هذا فصلاً في تفصيل الضمان وما يوفيه بما يُكمل البيان - إن شاء الله عز وجل- فنقول: إذا حفر حافرٌ بئراً فى محل عدوان، فإذا أطلقنا هذا اللفظَ، فالمراد به الحفرُ الموجب للضمان، فإذا تردى متردٍّ في مثل هذا البئر، وجبت ديته على عاقلة الحافر، ووجبت الكفارة على الحافر.
فإن تردت بهيمة، فالضمان في مال الحافر، ولو كان مات الحافر وقسمت تركته، فالضمان الذي كان يتعلق بماله لو كان حياً يتعلق بتركته بعد وفاته، ولو كانت قُسِّمت وتطاول الزمان، فالضمان يتبعها، ثم لا يؤاخذ [المتردّي] (2) بتخطيه، [وإن] (3) كان سببُ [الهلاك] (4) تردّيه، بل يحمل الضمان على الحافر.
وهذا يكاد يخرم قاعدة السبب والمباشرة؛ [فإنا] (5) مهدنا في الأصول المتقدمة أن المباشرة مقدمة على السبب، إذا لم يكن السبب [غالباً] (6) ، أو في معنى الملجىء، ولا محمل لهذا في الأقيسة الجزئية إلا تغليظ الأمر على المعتدين، وزجرهم عن أسباب العدوان، ثم لم يفرق أحد من الأئمة بين أن يتفق التردي ليلاً أو نهاراً.
ولا ينضبط هذا الأصلُ، ما لم نجدد العهدَ بمسألة ذكرناها في باب الاصطدام، ولا نُخلي إعادتها عن إفادةٍ وذكر زيادة.
__________
(1) في الأصل: "تهد".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "فإن".
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل: "فإذا".
(6) في الأصل: " عا ـ ـا ". ومعنى غالباً أي يغلب المباشرة بأن يخرجها عن كونها عدواناً مع توليده لها (ر. الروضة: 9/132) .(16/574)
10823- قال الشافعي: "إذا صدم الماشي واقفاً، فمات الصادم والمصدوم، فالصادم ضامن لدية المصدوم" (1) وهو في نفسه [هدرٌ] (2) في حق المصدوم، ولسنا نعني بإضافة الضمان إلى الصادم الضرب على ماله، وإنما نعني ارتباط الضمان بعاقلته، ولكن التحفظ عسر في أثناء الكلام، وقال الشافعي: "لو تعثر ماشٍ بقاعد على الطريق فدية الصادم على عاقلة القاعد والقاعد المصدوم هدر" وقد قدمنا اختلاف أصحابنا في ذلك، وذكرنا أن منهم من نقل وخرّج وأجرى في المسألتين قولين: أحدهما - أن الضمان على الصادم منهما، والثاني - أن الضمان على المصدوم منهما على التأويل الذي ذكرناه في إضافة الضمان. ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق [بين حالين] (3) كما سنعيد على حسب حاجتنا في هذا الفصل.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً في أنه يجب تمام دية الصادم، وتمام دية المصدوم، ولم يصر أحد إلى تنزيلهما منزلة المصطدمَيْن؛ فإن المصطدمين مشتركان في فعلين [متماثلين] (4) ، وهذا متحقق في الصادم والمصدوم في مسألتنا، وكان هذا القائل (5) يجعل الصادم متعدياً على نوعٍ، ويجعل المصدوم متعدياً على نوع آخر، ولم يجعل النوعين بحيث يتحقق الاشتراك بهما، وهذا على بُعده لطيف المأخذ، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى تنزيلهما منزلة المصطدمين.
10824- فإذا تجدد العهد بهذه المسألة؛ فإنا نقول بعدها: الظاهر في قانون المذهب الفرق بين أن يكون المصدوم قائماً أو قاعداً، وكيف لا نقول هذا، والنص مصرح بهذا، والنقلُ والتخريج عندي تكلف، وسبب الفرق أن المنفعة المقصودة في
__________
(1) ر. المختصر: 5/138. هذا. والمذكور هنا معنى العبارة، وإلا، فلفظها في المختصر: " إذا كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فماتا، فالصادم در، ودية صاحبه على عاقلة الصادم " ا. هـ.
(2) في الأصل: "ملكه".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "بمالكين".
(5) أي القائل بوجوب تمام دية الصادم، وتمام دية المصدوم.(16/575)
الطريق المرور والطروقُ، ويغلب على المار أن يقف لانتظارٍ، أو تأمل، أو نفض ثوبه، أو [للاسترواح] (1) ، فبالحري أن يكون الوقوف في حكم الجزء من المرور، فإذا كان كذلك، فلا اعتداء فيه أصلاً.
وأما القعود، فإنه يبعد أن يكون ملتحقاً بالمرور، بل هو قطع المرور، والوقوف [أناةٌ] (2) في المشي، على أن من قال القائم كالقاعد، قال: رب مارّ يعيا ويكلّ، ويحتاج إلى انتظار، ويؤئر القعود، فمن سلك هذا المسلك ألحق القعود بحاجات المرور.
وإنما قدمنا جميع ذلك لغرض، وهو أن من نصب حجراً، فتعقّل به إنسان من المارة، وجب الضمان على ناصب الحجر، والتعقل بالقاعد كالتعقل بالحجر، ثم لا خلاف أن نصب الحجر [مُضمِّنٌ] (3) وفي القعود التردد الذي ذكرناه، والسبب فيه أن القعود مما يطرى على المارة، ونصب الحجر لا تعلق له بأغراض المرور والطروق.
10825- ثم إنا نندفع بعد هذا في تفاصيل أسباب الضمان، وتقديم البعض منها على البعض، والتسوية بين ما يجب فيه التسوية، فلو احتفر إنسان بئراً في محل عدوان، ونصب ناصب على شفير البئر حجراً، فتعقل المارّ بالحجر، وتردّى في البئر، فقد أجمع الأصحاب على أن الضمان على صاحب الحجر؛ فإنه سبب دفعه إلى البئر، والسبب كالمباشرة، فنجعل كأن مباشرَ نَصْبِ الحجر [باشر] (4) دفعَه، ولو فرض ذلك، لكان الضمان على الدافع، وإن كان الهلاك لا يحصل لولا البئر، [ودَفْعُ] (5) الدافع، فإن البئر يصير بمثابة الآلة [يصادفها] (6) مباشر القتل، [فيقتل
__________
(1) مكان كلمةغير مقروءة. وأخذنا ما أثبتناه من كلام الإمام في المسألة نفسها، عندما عرض لها قبلُ، كما أشار إلى ذلك هنا.
(2) في الأصل: "إياه". والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط.
(3) في الأصل: "متضمن".
(4) في الأصل: "مباشر".
(5) في الأصل: "فدفع".
(6) في الأصل: "يصادمها".(16/576)
بها] (1) ، ولولاها لما تأتى القتل، ولا ضمان على من هيّأ الآلة.
ولو نصب ناصب حجراً، ونصب آخر [أمام] (2) الحجر سكيناً، فتعقّل المار بالحجر، ووقع على السكين، وهلك بسبب ما ناله من جرح السكين، فالضمان على ناصب الحجر (3) .
وقال الأئمة: لو استمسك الرجل بنصاب (4) سكين، وكان بين يديه إنسان واقف، فجاء آخر من ورائه، فدفعه على السكين، فإن لم يحرك صاحب السكين يده في صوب المدفوع، بل أثبتها، أو اكتنّت (5) يده، فالضمان على الدافع، هكذا قال الأصحاب، وإن حرك يده قدُماً في صوب الملقَى عليه، فيجب الضمان عليه حينئذ. ونحن نرسل هذه المسائل، ثم ننعطف عليها بالبحث والتنبيه على أغلب الوجوه، إن شاء الله.
ولو ألقى رجل رجلاً من عُلوّ، فتلقاه إنسان واقفٌ بالسيف، وقدَّه نصفين، فالذي أطلقه الأصحاب أن الضمان والقصاص على القادّ.
ومما ذكروه أن من حفر بئراً معتدياً، ونصب ناصب في أسفل البئر سكيناً، فتردى وصار في البئر، وهلك بالسكين، فالضمان على حافر البئر، وهذا جارٍ على قياس الدفع الذي ذكرناه في الحجر إذا فرض التعثر والوقوع في البئر، أو فرض التعثر به والتعثر بالسكين، المنصوب أمامه.
ولو حفر حافر بئراً وجعلها عشرة أذرع (6) ، فجاء آخر وعمقها، فتردى المار في
__________
(1) في الأصل: "فيقل لها".
(2) في الأصل: " أم ".
(3) عبارة الأصل هنا: "فالضمان على ناصب الحجر. السكينة التي ذكرنا في الدفع، وقال الأئمة ... " وقدرنا أن هذه العبارة مقحمة، جاء بها رجع البصر في الفقرات الآتية بعد سطور.
(4) نصاب السكين: هو مِقبضه أي الموضع الذي يقبض عليه منه. (مصباح) .
(5) اكتنت: من كنّ الشيء كنوناً أي استتر (المعجم) . والمعنى هنا أن يده -عندما دُفع الإنسان الذي أمامه إلى السكين- رَجَعَت إلى الخلف، ولم يواجهه بالسكين، وخنسها عنه.
(6) كذا " عشرة أذرع " بكل وضوح. ولا شك أن فيها تصحيفاً، فعشرة أذرع لا تضرب مثلاً لقرب =(16/577)
البئر، وهلك، فما ذكره الأصحاب من قياس الدفع ينبغي أن يكون الضمان على المبتدىء بالحفر، فإنه في محل الدافع، وذهب بعض الأصحاب إلى أن الضمان مشترك، وهذا وإن كان يمكن توجيهه، فهو هادم لما قدمناه في الحجر والسكين، والحجرِ والبئر، والسكينةُ التي ذكرناها في الدفع قوية (1) .
فإذا بيّنتُ هذه المسائل، فلا نأخذ [في] (2) غيرها حتى ننعطف عليها بالتنقيح والتصحيح، ثم نأتي بعدها بما يليق بالترتيب:
10826- فمما ذكرناه الحجر والبئر، وتقدير الحجر كالدافع، وهذا وإن كان متفقاً عليه، ففيه سؤال: [فالحجر] (3) سببٌ في الدفع وليس دفعاً، والبئر سبب في الهلاك وليس إهلاكاً، فلا يبعد من طريق القياس أن يقال: اجتمع السببان، فيشترك [المتسببان] (4) في الضمان، وليس من الإنصاف أن نجعل الحجر كالدافع المباشر، ونجعل البئر على حقيقة السبب، فإن قدرت سبب الدفع دفعاً، فقدِّر سببَ الهلاك إهلاكاً.
__________
= العمق، فعشرة أذرع بمقاييس عصرنا تدور بين أربعة أمتار ونصف، وبين سبعة أمتار ونصف، وكلاهما عميق مهلك. وتعبير الغزالي والرافعي والنووي: "فجعلها قريبة العمق" ولعل صوابها: وجعلها أربعة أذرع، أو عشرة أشبار أو أفتار.
(1) الكلام هنا في تقديم أحد سببي الهلاك على الآخر، وإحالة الهلاك عليه دون الآخر. فالهلاك وقع في الصور الثلاث بوجود سببين معاً: البئر والحجر، السكين والحجر، السكين والدفعُ من الخلف، ولولا اجتماع السببين في كل صورة ما كان الهلاك، ولكن قدم أحد السببين على الآخر ونُسب الهلاك إليه وحده، فجعل نصب الحجر الذي تعثر به المتردي في البئر كأنه باشر دفْعه وألقاه في البئر، وكذلك جعل الحجر الذي نصب أمام السكين كانه هوِ الذي دَفَع وألقى من هلك على حد السكين، وأما الصورة الثالثة فظهور الدفع (أقوى) فهو دَفعٌ في الحقيقة وإلقاء على حد السكين.
هذا معنى قوله: "والسكينة التي ذكرناها في الدفع قوية" أي في الدلالة على (قياس الدفع) كما سماه الإمام.
وأخيراً نقول: ربما كانت العبارة: "وصورة السكينة التي ذكرنا في الدفع قوية" والله أعلم.
(2) في الأصل: "من".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "المنتسبان".(16/578)
ولو ألقى ملقٍ إنساناً على سكين بيد إنسان، فتلقاه صاحب السكين، فالهلاك منهما، والضمان عليهما، فهذا وجهٌ في الإشكال بيّن.
وما ذكره الأئمة رضي الله عنهم من إلقاء الواقف على السكين القائم أظهر إشكالاً من هذا؛ فإن [رَمْي] (1) السكين وإسقاطَه ممكن، والاستمساك به والتحامل عليه ليدوم منتصباً كيف محطُّه، فإن كان هذا مفضياً حيث يتفق الدفع [والاعتمادُ] (2) على وجهٍ لا يمكّن صاحبَ السكين فيه من طرح السكين، فإذ ذاك يجوز أن يُكفَى الضمان، وهذا مما لا أستريب فيه، ولست أردّ على من مضى ولكن أحمل كلامهم على الصورة الأخيرة - ومن أعظم الدواهي ما وقع من الخلل في نقل النقلة.
أما مسألة الحجر والبئر، فلا شك أن المذهب [فيها] (3) ما ذكره الأصحاب، والشافعي [صوّر] (4) تلك المسألة (5) ، فلا مزيد على ما قال الأصحاب، والإشكال قائم في التعليل إلى أن يحلّه ذو فكر صائب.
وأما مسألة القد، فقياسها بيّن؛ فإن القتل على الحقيقة إنما صدر من القادّ، وليس الملقي في حكم المشارك له، بل هيأ له القتل، فكان الملقي كالممسك، الذي [يقرّب الشخص بإمساكه لسلاح من يقتله] (6) .
وفي بعض التصانيف حكاية وجه غريب أن القاتل هو الملقي، وهذا بعيد لا أصل له، ولم [يقل أحد باشتراكهما] (7) .
__________
(1) في الأصل: "مل".
(2) في الأصل: "والاعتقاد".
(3) في الأصل: "منها".
(4) في الأصل: "صدّر".
(5) ونص عبارة الشافعي: "ولو وضع حجراً في أرض لا يملكها وآخر حديدة، فتعقل رجل بالحجر، فوقع على الحديدة فمات فعلى واضع الحجر، لأنه كالدافع، ولو حفر في صحراء أو في طريق واسع محتمل، فمات به إنسان ... فلا شيء فيه" (المختصر: 5/143) .
(6) عبارة الأصل: "يهرب من الشخص بإمساكه السلاح من يقتله"، والمثبت تصرف من المحقق.
(7) في الأصل: "بخل أحد اشتراكهما".(16/579)
وقد انتهى غرضنا في هذا الفن نقلاً وبحثاً.
10827- ثم قال الأصحاب: لو احتفر إنسان بئراً في محل عدوان، ثم جاء السيل بحجر، فانتصب على شفير البئر، فتعقّل به متعقل، وتردّى، فالمتردي هدرٌ؛ لأن الحجر كالدافع، وليس انتصابه مضافاً إلى ضامن، فلا وجه إلا الإهدار، ويلزم من هذا المساق أن كل من احتفر بئراً [فجاء آخر وجعل على حافة البئر أيَّ نتوءٍ، ولو كان هذا البئر] (1) في مضيق من الطريق، فمن تعثر [بالنتوء] (2) ، وسقط في البئر، فلا ضمان على حافر البئر، ونُرتِّب عليه أن الضمان إنما يجب على الحافر إذا تردى المتردِّي بخطوه في البئر، هذا لا بد منه، إذا تمهد الأصل المقدم، وكذلك إذا وضع الحجر على شفير البئر، وفرض التعقل والتردي، فلا ضمان أصلاً.
فرع:
10828- إذا طرحت قشور البطيخ في الطريق وجرينا على أنها سببُ الضمان على الجملة، فقد ذكر صاحب التلخيص تفصيلاً نستاقه على وجهه، ثم نذكر وجه الصواب، قال: "قشر البطيخ إذا طرح، فإن كان الوجه المطعوم منه يلي الأرض والوجه الآخر يلي الهواء، فإذا وضع المارّ رجله عليه [وتعثر] (3) ، نظر: فإن لم يتحرك القشر، فلا ضمان، والتعثر [والتكفؤ] (4) محمول على عثرة المار؛ فإن الوجه الذي لا طعام عليه لا يُزلّق، والوجه الذي عليه الطعام لم يتحرك حتى يُحملَ التزلقُ عليه، فكان سقوط المارّ غيرَ مضاف إلى القشر.
وإن تحرك القشر، وهو على هذه الهيئة تحت القدم، وسقط المار، وجب الضمان؛ لأن كل ذلك محمول على [مزلّة] (5) تحت القدم، ثم التعثر مرتَّب عليه.
ولو كان الوجه المطعوم بحيث يلي الهواء، والوجه الآخر يلي الأرض، فوضع
__________
(1) مكان بياض بالأصل، وقدرناه على ضوء السياق، حيث لم نجد هذه المباحثة عند الغزالي، ولا الرافعي، ولا النووي.
(2) غير مقروءة في الأصل.
(3) في الأصل: "وتغير".
(4) في الأصل: "والتكثر".
(5) في الأصل: "منزلة".(16/580)
المارُّ قدمه عليه، فإن تحرك القشر تحت القدم، وسقط المار، فلا ضمان، والأمر محمول على [عثرةٍ وِفاقيّة] (1) ؛ فإن القشر إذا تحرك مع القدم -والذي يلي الأرض لا ينزلق- فلا مزلق من جهة القشر، وإنما الرجل [انساق] (2) للحركة [متعرضاً فيها] (3) .
وإن [كثر] (4) القشر -وهو على الهيئة التي ذكرناها آخراً- وانملس (5) القدم، فهو محمول على تزلق الطعام البادي للهواء".
هكذا ذكر صاحب التلخيص وطائفة من طوائف الأصحاب (6) .
[وذهب] (7) معظم المحققين إلى إبطال هذا التفصيل في الصورتين والمصير إلى أنَّ الضمان يجب، فإن القشر سبب [التعثر] (8) حيث فرض الأمر، ولا يُنْكر ظهور الإحالة عليه، وما ذكره في الصورة الأخيرة من أن القشر إذا تحرك، فلا ضمان في ذلك، فإنه في الغالب يتحرك بوطأة الواطىء، وينعصر من الرطوبة عليه ما يزلق الجلد، فلا خير في هذا التفصيل.
وما ذكره في الصورة الأولى أمثل قليلاً إن كان الوجه البارز للهواء خشناً لا يفرض التزلق عليه، والغالب أنه مما يفرض التزلق عليه، إما [لملاسته] (9) -فإن ذلك غير منكر في أجناس البطاطيخ- وإما لكونه رَخْصاً حاوياً رطوبة.
__________
(1) في الأصل: "غيره وما فيه" وزاد من بشاعة التصحيف أن الناسخ قسم كلمة (وفاقية) بين السطرين، فجعل آخر السطر: (غيره وما) ثم بدأ السطر بعده بنصف الكلمة الآخر مصحفاً إياه (فيه) .
(2) في الأصل: "إنسان".
(3) كذا بالأصل.
(4) في الأصل: "يكثر".
(5) انملس: أفلت ولم يستمسك.
(6) لم نجد هذا في التلخيص المطبوع الذي بين أيدينا، فلعل فيه سقطاً.
(7) في الأصل: "ذهب" (بدون الواو) .
(8) في الأصل: "التغير".
(9) في الأصل: "لملابسه".(16/581)
فإن كان نشفاً خشناً والوجه المطعوم مما يلي الأرض، [فلا] (1) يبعد اعتبار التحرك.
10829- وخرج من مجموع ما ذكرناه طرقٌ: منها ما حكيناه عن صاحب التلخيص في التفصيل.
والطريقة الثانية - وهي التي ذهب إليها معظم المحققين أنا لا نفصل بين التحرك وعدمه، وبين أن يكون الوجه بادياً أو كان مما يلي الأرض.
والذي (2) ذكرناه [قبلُ من] (3) تصويبه في اشتراط التحرك إن كان الوجه البادي نشفاً، فهو لو تفصل على هذا الوجه، لم [يبعد] (4) .
[ويتعلق] (5) بتمام البيان أن من رش الماء، حتى انتهى إلى مبلغ تزلُّقٍ، فهو من أسباب الضمان، كما تقدم، ولكن يشترط أن يضع المتعثر قدمه على موضع الزلق من حيث لا يشعر، فإن وضع قدمه عليه وهو [يعاين] (6) الأثر المزْلق فتزلّق، فلا ضمان أصلاً، وهذا يجري في وطء [القشور] (7) كيف فرضت، وهو بمثابة ما لو وضع [الساقط] (8) قدمَه على شفير البئر وهو [معاين] (9) فإذا تردى، فلا ضمان على الحافر، وإن كان الرش غير منته إلى الزلق، وكان فيه منفعةٌ ظاهرة، فهو كاحتفار البئر لمنفعة المسلمين، وقد مضى التفصيل فيه [وانتجز] (10) بهذا القول في مضمون الباب.
__________
(1) في الأصل: "ولا".
(2) هذه هي الطريقة الثالئة، وخلاصتها التفصيل بين التحرك وعدمه، أو بالأحرى: اشتراط التحرك إذا كان الوجه البادي نشفاً.
(3) في الأصل: "متضمن في تصويبه".
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "تعلق" (بدون واو) .
(6) في الأصل: "مقام".
(7) في الأصل: "النسور".
(8) في الأصل: "الثاني".
(9) في الأصل: "معافر".
(10) في الأصل: "فلا ينجر".(16/582)
فصل
10830- إذا احتفر رجل بئراً في محل عدوان، فتردى فيها متردٍّ، [وانجرّ عليه ثانٍ] (1) ، ثم سقط ثالث على الثاني، إلى أي عدد يُفرض.
فلا يخلو إما أن يتفق التساقط من غير جذب، وإما أن يتفق بين المتساقطين جذب، وذلك بأن تزل قدم الأول، فيجذب ثانياً، ثم يجذب الثاني ثالثاً.
فإذا تبين الغرض في هذا العدد، نبني في الزوائد عليه.
[فإذا] (2) كانوا ثلاثة - وقد جذب الأول الثاني، والثاني الثالث، وانهاروا في البئر، فإن تفاوتت مساقطهم، ولم يقع أحد على أحد، وماتوا بسبب التردي - فالجواب بيّن: أما الأول فديته على عاقلة الحافر، ودية الثاني على الأول؛ فإنّ جذبه عمدٌ محض، ولولا فوات الأول، لتكلمنا في القصاص عليه، وتجب دية الثالث على الثاني.
10831- وأول ما تجب الإحاطة به قبل الخوض في نقل المذاهب أنه قد [اجتمعت] (3) أسبابٌ في إهلاك هؤلاء، يجمعها البئر [والجذب] (4) .
ثم اختار الأئمة المعتبرون في هذه المسألة مذهبَ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وذلك أنه قال: الأول مات بسبب صدمة قعر البئر، وسببِ سقطةِ الثاني ووقوعِه عليه، وسببِ سقطة الثالث، فإنه وإن وقع على الثاني، فلا شك أن ثقله يؤثر في الأول، فهلاكه مضاف إلى ثلاثة أشياء: أحدها - صدمة البئر، والثاني - ثقل الثاني، والثالث - ثقل الثالث، وقد انتسب الأول إلى سبب واحد من هذه الأسباب الثلاثة، وهو سقوط الثاني عليه؛ لأنه جذبه وكان سقوطه بسببه، فخرج منه أن الدية
__________
(1) عبارة الأصل: "فتردى فيها متردي انجر عليه ثم سقط ثالث..".
(2) في الأصل: "وإذا".
(3) في الأصل: "أجمعت".
(4) في الأصل: "والحرب".(16/583)
تثلّث، فالثلث فيها على عاقلة [الحافر] (1) ، ويهدر الثلث، ويجب الثلث الثالث على عاقلة الثاني؛ لأنه جذب الثالث، [فكان] (2) تثقيلُ الثالث الأولَ مضافاً إلى جذب الثاني.
وكأنا نؤثر أن نصوّر ذلك على وجه شبه العمد، حتى ينتظم الكلام على نسق واحد.
وأما الثاني، فهلاكه مضاف إلى جذب الأول إياه، وإلى جذبه الثالث، فهدر النصف من ديته لمكان جذبه، ويجب النصف من ديته على الأول بجذبه إياه.
والأمر يطول في الفرق بين العمد وشبه العمد، [والضرب] (3) للعاقلة وخاصّ مال الجاذب، وليس ذلك من غرضنا الآن.
وأما الثالث، فهلاكه مضاف إلى جذب الثاني لا غير، فيجب تمام ديته على الثاني إن تعمد.
هذا مذهب علي.
وإن زاد العدد، لم يخف التفريع، فلو كانوا أربعة ووجد الساقط على الصورة التي ذكرنا من الجذب ووقع البعض على البعض، فقياس ما ذكرناه أن هلاك الأول مضاف إلى البئر وإلى ثقل الثاني والثالث والرابع، وإذا تخيلنا هذه الأسباب الأربعة، فننظر ما يضاف فيها إلى الأول فإذا هو جذبه الثاني، فنهدر ربع ديته، ويجب ربع ديته على عاقلة الحافر، وربعها على عاقلة الثاني لجذبه الثالث، وربعها على عاقلة الثالث لجذبه الرابع.
وهلاك الثاني بجذب الأول إياه، وبثقل [الثالث والرابع] (4) وهي ثلاثة أسباب، واحد منها مضاف إليه، وهو جذبه الثالث، [فهدر] (5) ثلث ديته، ويجب ثلثها على الجاذب الأول، وثلثها على الثالث لجذبه الرابع.
__________
(1) في الأصل: "الجاني".
(2) في الأصل: "وكان".
(3) في الأصل: "والبعض".
(4) في الأصل: "الثاني والثالث".
(5) في الأصل: "فهذا".(16/584)
وأما الثالث، فهلاكه مضاف إلى سببين: أحدهما - جذب الثاني إياه، والثاني جذبه الرابع، وهذا [يقتضي] (1) التنصيف، فنُهدر نصفاً لجذبه الرابع، ونوجب نصفاً على الثاني.
وأما الرابع فسبب هلاكه شيء واحد، وهو جذب الثالث إياه، فلا مهدر في حقه، وتمام ديته على الثالث.
هذا بيان مذهب علي (2) وهو مختار أئمة المذهب.
10832- وذهب أكثر الأصحاب إلى وجهين آخرين سوى ما أوضحناه من مذهب علي وهو اختيار الجمهور، ونحن نذكر الوجهين كما وجدناهما، ثم نُتبع [ذلك] (3) تحقيقَ ما نحكي.
من أصحابنا من قال: إذا كان [الفرض] (4) في ثلاثة فَهَدَرَ (5) الأول والثاني جميعاً،
__________
(1) في الأصل: "نقيض".
(2) هكذا قال إمام الحرمين، إن هذا الوجه هو مذهب علي، وتبعه الغزالي، ولكن المروي عن علي غير هذا، وسنذكره بعدُ.
والرافعي حكى في المسألة أربعة أوجه، ووافق الإمامَ والغزالي من وجه، وخالفهما من وجه، وافقهما في أن هذا هو الأصح، وخالفهما في أنه هو المروي عن علي رضي الله عنه، (ر. الشرح الكبير: 10/438، 439) . والوجه الذي حكاه الرافعي عن الإمام علي، ولم يجعله (الأصح) ، بل قال: " والناصرون للأصح في المسألة، لم يثبتوا قصة علي كرم الله وجهه، وربما تكلفوا تأويلها " هذا، والمروي عن الإمام علي هو ما حكاه الرافعي، وليس ما نسبه الإمام والغزالي، وفيه: "أن ناساً باليمن حفروا زبية للأسد، فوقع الأسد فيها، فازدحم الناس عليها، فتردى واحد، فتعلق بواحد فجذبه، وجذب الثاني ثالئاً، والثالث رابعاً، فرفع ذلك إلى علي، فقال: للأول ربع الدية، وللثاني الثلث، وللثالث النصف، وللرابع الجميع، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمضى قضاءه"
(رواه أحمد: 1/77، 128، 152، والبيهقي في الكبرى: 8/111، وانظر تلخيص الحبير: 4/58- ح 1943) .
(3) في الأصل: "لطلب".
(4) في الأصل: "الغرض".
(5) فَهَدَرَ: أي بطل: من باب ضرب وقتل (المصباح) ومعنى بطل: أي هدر دمه، وذهبت ديته هدراً.(16/585)
[فأما] (1) دية الثالث، فإن نصفها يضاف إلى الأول، ونصفها يضاف إلى الثاني.
والذي ذكره الأصحاب في توجيه ذلك: أن الأول لا يضاف هلاكه إلى البئر، فإنه لما جذب الثاني، فقد جنى على نفسه جناية مباشرة، وحفر البئر تسبُّبٌ بعيدٌ، وإن وجدنا مباشرة، أسقطنا معها أثر السبب، وإذا خرج النظر إلى البئر من البئر، فهلاكه مضاف إلى ثقل الثاني، وإلى ثقل الثالث، أما ثقل الثاني، فهو الذي جذبه [وحوّله] (2) إلى نفسه، وأما ثقل الثالث، فهو من وجه مضاف إلى الأول، فإنه جذب الثاني، وجذب مجذوبه، فصار الأول هالك أيضاًً، لأنه جذب الثالث، فكان هذا مباشرة منه، فسقط جذب الأول له، وأما الثالث، فإنه مضاف هلاكه إليهما جميعاً: إلى الثاني؛ من حيث إنه جذبه، وإلى الأول من حيث جذب جاذبه.
وهذا الوجه ليس مما يضعف فيه وجه الظن والرأي، بل هو خطأ على تحقيق؛ من جهة أنه أهدر الثاني بالكلية، [وهلاكه] (3) بجذب الأول له، وجذبه الثالث، ولئن كان يخطر لذي نظر إسقاط أثر البئر بمباشرة الجذب، فإسقاط أثر جذب الأول، وهي مباشرة [بجذب] (4) الثاني الثالثَ غيرُ معقول (5) .
ثم قال هذا القائل: الثالث يضاف هلاكُه إلى [جذبين] (6) ، فكيف [يستدّ] (7) إضافة هلاكه إلى [جذبين] (8) مع أنه لا يضاف هلاك الثاني إلى [جذبين] (8) ، فلا حاصل لهذا. وقد نجز أحد الوجهين الزائدين على مذهب الجمهور.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. رسمت هكذا: (وحومله) تماماً.
(3) في الأصل: "وكونه".
(4) في الأصل: "فجذب".
(5) وعبارة الغزالي: " ... ولكن مساقه يقتضي ألا يهدر الثاني، لأن هلاكه بجذبه وجذب الأول، فإن قدم الجذبَ على البئر، فلم يقدم الجذبَ على الجذب؟ " (ر. البسيط جزء (5) ورقة: 72 يمين) .
(6) في الأصل: "إلى خدش". (كذا بكل وضوح رسماً ونقطاً) .
(7) في الأصل: "يستند".
(8) في الأصل: "خدش".(16/586)
والوجه الثاني - أن حفر البئر لا يُحْبط اعتباره، ولا نُخرج [البئر من] (1) الإحالة عليه، [فأما الأول] (2) ، فهلاكه بصدمة البئر، وثقلِ الثاني والثالث، غيرَ أن ثقل الثاني حصل بجذبه، وثقلُ الثالث حصل بجذبه اتصالاً به، فجذْبُ الثاني جاذبُ مجذوبه وهو الثالث، فديته بين الحافر وبين الإضافة إليه نصفان، فهدر نصفها، ويجب على عاقلة الحافر نصفها.
وأما الثاني فيهدر نصف ديته بجذبه الثالث، ويجب نصف ديته على الأول بجذبه إياه.
وأما الثالث فقد قال (3) : إن تمام ديته على الثاني لأنه جاذبه.
وهذا فيه خلل ظاهر، [فإنه] (4) في تنصيف دية الأول أضاف إليه [جذبه] (5) الثاني والثالث، ولما انتهى إلى الثالث أضافه إلى الثاني بالكلية. وهذا متناقض (6) ، فهذا ما تلقيناه على تثبت.
وبقي [بعد النقل والبحث الثقةُ] (7) بأن المذهب ما نقله الناقلون عن علي بن أبي طالب (8) ، وهو الذي اختاره جماهير الأصحاب.
10833- وقد ذكرنا ما هو باطل قطعاً في مجال الوجهين المحكيين بعد قولِ
__________
(1) عبارة الأصل: "ولا نخرج من البئر الإحالة عليه ".
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) قال: القالْل صاحب هذا الوجه.
(4) في الأصل: "وإنه".
(5) الأصل: "تجدد".
(6) عبارة الغزالي: "وهذا يناقض حكمه في الأول، لأنه أضاف انجذاب الثالث إلى الأول في حق تنصيف دية الأول، ثم لم يضفه إليه حتى خُصص بالإضافة إلى الثاني في حق تكميل دية الثالث " (ر. البسيط: 5/ورقة: 72 شمال) .
(7) عبارة الأصل: "وبقي بعد النقل والبحث بعد الثقة بأن المذهب.. ".
(8) سبق أن أشرنا أن هذا (الأصح) ليس هو المروي عن علي رضي الله عنه، وإن كان المتفق عليه أنه هو المذهب.(16/587)
الجمهور، وعلينا أن نتعرض [لما] (1) هو بمحل الظن، ثم نبني عليه ما يجب أن يقال لو ثبت ذلك المظنون، وحدث ما هو باطلٌ قطعاً.
فمما يتعلق [بهذا] (2) القسم أن الأول لما جذب الثاني - والمسألة في ثلاثة- وجذب الثاني الثالثَ، فمن قال: الأول جذب الثاني، وجذب مَنْ جذب [الثالث] (3) ، فهو منتسب إلى جذبهما، فقوله غيرُ بعيد عن الظن، ولكن لا بد من تفصيلٍ فيه، فإنْ جذب الأول الثاني، فهوى الثاني هُويّاً لا يملك التماسك، فانتساب التعلق بالثالث بعد أن زلت به القدم ونسبة الثالث إلى الأول محال، فإنه تمم جذب الثاني وأزاله عن اختياره، ثم افتتح هو بعد ذلك جذبَ الثالث، وكان جذب الثالث محالاً [على] (4) [محض] (5) قوة الثاني.
وإن تعلق الثاني بالثالث، ثم جذب الأولُ الثاني، وهو متعلق أبه، (6) ، فهذا
محل النظر؛ من [جهة] (7) أن الأول أنشأ جذب الثاني وهو متعلق بالثالث، فأثرت قوتُه في جذبهما، ولكن إحالة انجذاب الثالث على الثاني أولى، لاستمساكه به، مع إمكان تركه إياه، وهو على حالٍ محتمَلٌ؛ سيّما إذا فرض نفيه [عن] (8) الأول، فيقع الثاني والثالث قبل أن يفرض إعمال الاختيار في حلّ اليد، فهذا مما يجول [فيه] (9) الظنُّ.
ومما يتعلق بالمظنونات بعضَ التعلق ما أحدثناه في سياق أحد الوجهين المذكورين بعد مذهب الجمهور من قولنا: إن أثر البئر يسقط بالجذب، وقد أشرنا إليه
__________
(1) في الأصل: "ما".
(2) في الأصل: "بعد".
(3) في الأصل: "الثاني".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "فمحض".
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: "وجهه".
(8) في الأصل: "من".
(9) زيادة من المحقق.(16/588)
[إذ] (1) قلنا: البئر في حكم السبب، [والجذب] (2) المفضي إلى سقوط المجذوب في حكم المباشرة تغلب السبب، وهذا تخيّلٌ، والأولى إلحاقه بما يُقطع ببطلانه، وذلك لأن وقوع الأول في البئر وما يناله من أثر الصدمة ليس مما ينكر، وهو واقع حساً، وقد حكم الشرع بأن حافر البئر في حكم [المُردي] (3) للمتردي، فكيف نحكم بانعدام أثر الصدمة بسبب جذبةٍ ننظر إليها؟ فهذا إذاً خبالٌ لا حاصل له.
10834- وتنخّل [مما] (4) ذكرنا أن المذهبَ الأولُ، ولا يصح على السبر غيرُه.
والذي يختلج فيه الظن [نسبة] (5) الثالث إلى جَذْبةِ الأول في صورة واحدة ذكرناها، [وهي] (6) أن يجذب الأول الثاني وهو متعلق بالثالث على مفاجأة، [فصار] (7) الظاهر أن الأول تسبب إلى جذب الثالث، فإن جعلنا [متسبِّباً] ، (8) وقد أبطلنا ما عدا ذلك، فوجه التفريع- مع الاقتصار على هذا المظنون، وإسقاط ما سواه، [فيما] (9) قدمناه- أن نقول- والفرض في ثلاثة: الثاني والثالث في حق الأول كشخص واحد يُقْتل، ولو جذب شخصاً واحداً، لقلنا ديته (10) نصفان نصفه على عاقلة الحافر، ونصفه مهدر.
وأما إذا أردنا النظر إلى الثاني والثالث، فهلاك الثاني بجذب الأول، وبثقل [الثالث] (11) ، والثالثُ على كل حال مجذوب الثاني، وإن كان مجذوب الأول،
__________
(1) في الأصل: "أو".
(2) في الأصل:: "فالجذب".
(3) في الأصل: "المتردي".
(4) في الأصل: "ما".
(5) في الأصل: "تسبب".
(6) في الأصل: "وبين".
(7) في الأصل: "وبقية"، ولم أعرف وجه التصحيف فيها، فأثبتنا لفظة تؤدي المعنى بحسب السياق.
(8) في الأصل: "منتسباً".
(9) في الأصل: "فما".
(10) أي دية الأول، حيث يهدر النصف بسبب جذبه الثاني والثالث.
(11) في الأصل: "الثاني".(16/589)
فمضاف (1) بثلاث إلى تسببين، وهو كما لو جرح الرجل رجلاً جرحين، وجرح ذلك المجروح نفسه جرحاً واحداً، [فالهلاك] (2) مضاف إلى مهدر [ومُضمِّن] (3) وهذا يقتضي التشطير لا محالة.
وأما الثالث، فيضاف إلى جذب الأول والثاني، [فتكون] (4) ديته نصفين، يضاف نصفٌ إلى الأول، ونصفٌ إلى الثاني.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
وكل هذا والمسألة [مفروضة] (5) في جذب البعض بالبعض.
10835- فأما إذا تهافتوا في البئر من غير جذب، وسقط الثاني على الأول، والثالث على الثاني، فهذا فيه فقهٌ [غائص] (6) ، والوجه ذكرُه في شخصين أولاً، ثم لا يخفى ما بعده، فإذا سقط متردٍّ، وتبعه الآخر، فلا شك أن هلاك الأول في ظاهر الحال يضاف إلى صدمة قعر البئر، وإلى سقوط من سقط عليه، ولكن يتعارض في سقوط الثاني كلامان: أحدهما - أن سقوط الثاني مضاف إلى حفر البئر، حتى كأن حافر البئر أسقطه، وآيةُ هذا أن ضمانه واجب على حافر البئر، [وموجَب] (7) ما ذكرناه إيجاب دية الأول بكمالها على حافر البئر، ويعارض هذا أن [المتردي] (8) الأول يقول: هذا الثاني أسقط نفسه في البئر لما وضع القدم على هواء البئر، ولو كان
__________
(1) أي الثاني، حيث هلاكه بجذب الاْول له، وبجذب الأول للثاك، وجذبه هو للثالث، فهذه ثلاث جهات ترجع إلى سببين: جذب الأول وجذب الثاني، وجذبُ الثاني مهدر، وجذب الأول مضمّن، فاقتضى الحال التنصيف للدية، وإن كان جذب الأول من جهتين: جذبه للثاني، وجذبه للثالث، فالأمر كما لو جرح جارح رجلاً جرحين، ثم جرح المجروح نفسه جرحاً واحداً، فالدية نصفان لا محالة.
(2) في الأصل: "والهلاك".
(3) في الأصل: "ويتضمن".
(4) في الأصل: "تكون".
(5) في الأصل: "مضروبة".
(6) في الأصل: " غامض".
(7) في الأصل: "موجب" (بدون واو) .
(8) في الأصل: "المردي".(16/590)
عامداً لم نشك في ذلك، فسقوط العمد لا يغير حكم التلف، ومقتضى الضمان المترتب عليه، نعم، قد يختلف الأمر في متعلق موجب الخطأ والعمد، وليس ذلك [من] (1) غرضنا الآن.
والأولى أن نقول: إذا كان تردّيه مضموناً على الحافر ضماناً مستقراً، فكيف يصير سبباً للضمان في حق هذا المضمون، والمسألة محتملة، والإشكال فيها بالغ.
وفي كلام الأصحاب ما يشير إلى التردد، فيجوز أن يقال: لا ضمان على الثاني
الساقط على الأول، لا تعلقاً، ولا قراراً، لما ذكرناه آخرأ، ويجوز أن يقال: الثاني
في [منزلة] (2) المغرور بالإضافة إلى الحافر، وهو فاعل [متسب] ، (3) لتلف، فتعلق الضمان به لفعله، ويثبت الرجوع على حافر البئر، كما تقدّم [في] (4) المكرَه على إتلاف المال إذا طولب في وجهٍ، ثم يرجع على المكرِه، والأولى الوجهُ الأول، وهو قطع الطّلبة بالكلية، فإنه مضمون ضمان قرار على صاحب البئر، فهو في [حركته] (5) غير منتسب إلى تردية بوجه، وقد ضمن له تردّيه فكيف يصير ترديه مضمّنه؟
ولكن رأيت للأصحاب تردداً في هذا، فأتيتُ بالممكن فيه، وإلا فلا استرابة بأنه [لا تعلق] (6) بالمتردِّي، لا طلباً، ولا قراراً.
ثم لو قدرنا الطلب على عاقلته ولا عهد لنا بتغريم العاقلة، ثم إثبات الرجوع لهم، فإنهم لا يغرمون قط إلا غرم قرار.
فرع:
10836- لو أن رجلين كانا يتخاصمان، فانتهى الأمر إلى أن شهرا سيفيهما، وتقاتلا، وماتا مقتولين، ثم ادّعى [ورثة] (7) كل واحد من القتيلين أن
__________
(1) في الأصل: "في".
(2) مكان كلمة غير مقروءة.
(3) في الأصل: "تسببا".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "تركته".
(6) في الأصل: "يتعلق".
(7) في الأصل: "ودية".(16/591)
صاحبه كان دافعاً، والآخر كان قاصداً [فمآل الأمر] (1) يتحالفان، ولا يستفيدان إذا [حلفا] (2) شيئاًً بتحالفهما، وإنما يفرض اليمين لتقدير نكول أحدهما، وحلف الثاني.
ولو سئلنا عن حكم وقوع هذه المسألة التي سنصفها وقيل لنا: إذا التقى رجلان بسيفيهما، وظن كل واحد منهما أن صاحبه قاصدُه، فقصَدَ كل واحد منهما الدفعَ، وانتهت الحال إلى منتهىً يغلب على الظن [أنه الهلاك] (3) [إن لم يبادر دفع] (4) سيف صاحبه- ومعلوم أن ما نطلقه من العلم نتجوّز به، فإذا قلنا: إذا علم المقصودُ أن سيف القاصد لا يندفع عنه إلا بالسيف، لم نعن بهذا حقيقة العلم، وإنما أردنا ظنّاً غالباًً- فإذا تبين أن الظن الغالب يكتفى به، وعليه يخرج تصوير الإكراه على القتل أيضاًً، وإن كنا لا نقطع بأن المتوعد بالقتل كان يقتل لا محالة، ولكن إذا غلب الظن، كان ذلك إكراهاً، والغرض مما ذكرناه أن كل واحد منهما يظن ظناً غالباًً أن صاحبه سيبادره، ولم يكن البيان ممكناً.
فأول ما نذكر في ذلك أنه: هل يجوز لكل واحد منهما أن [يدفع] (5) سيفَ صاحبه عنه كما صورناه والحالة هذه، والذي نراه أن لكل واحد منهما أن يبذل جهده في دفْع سيف صاحبه عن نفسه؛ فإن الاستسلام لا يجب أصلاً، ويجوز دفع السيف إن لم يجب، وليس الغرض من تجويز دفع السيف منعَ الظالم عن ظلمه، وإنما الغرض أن يصون روحَ نفسه عن السيف الواقع به، والسيف كما صورنا يقع به عن قصد، [إما] (6) على طريق الابتداء أو عن إرادة دفع.
والذي يحقق هذا أن مجنوناً لو قصد إنساناً بسيفه، دَفَعه المقصودُ وإن كان المجنون لا يوصف بكونه ظالماً، فيخرج منه أن للإنسان أن يدفع السيفَ عن نفسه، ثم يترتب عليه أنه إذا كان لا يتأتى دفعٌ إلا بوضع السيف، فيجوز وضعه، ثم يخرج من
__________
(1) في الأصل: "قال الآخر".
(2) في الأصل: "خلفا".
(3) زيادة من المحقق لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: "أن من لم يبادر وضع".
(5) في الأصل: "يرفع".
(6) في الأصل: "كما".(16/592)
ذلك أنه لا ضمان أصلاً، ويصير كل واحد منهما-[وقد الْتبس] (1) الأمر- في حق صاحبه كبهيمة [صائلة] (2) .
ثم إذا قلنا: لكل واحد منهما أن يبتدر [صاحبه] (3) [فدية] (4) كل واحد منهما هدر.
هذا ما نراه في ذلك، وغالب ظني أني وجدت لبعض الأصحاب نصّاً في هذه المسألة، وسأحرص على طلبه، وإلحاقه.
على أن الكلام [استقرّ] (5) في هذا على حدٍّ لا يجوز تقدير الخلاف فيه، ولو فرض شيء على خلاف ذلك، فهو هفوة من قائله.
[باب دية الجنين] (6)
قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الجنين المسلم بابويه أو بأحدهما غرّة ... إلى آخره" (7) .
10837- من جنى على حامل بجنين حرٍّ محكومٍ بإسلامه تبعاً، فأجهضت بسبب الجناية الجنينَ، فأصل الباب أنا نوجب عليه غرّةً عبداً أو أمةً، والأصل في ذلك ما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمة" (8) وعن
__________
(1) غير مقروء بالأصل، وقد رسمت هكذا: "وـدلسى الأمر".
(2) في الأصل: "مائلة".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "فيتجه".
(5) مكان بياضٍ بالأصل.
(6) العنوان في "مختصر المزني"، حيث لم يظهر في الأصل، ومكانه بياض، فلعله كان بالحمرة فلم يظهر في التصوير.
(7) ر. المختصر: 5/143.
(8) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة" جزء من حديث المغيرة بن شعبة، وأبي هريرة رضي الله عنهما المتفق عليه، وقد تقدم. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1095، 1096) . وهو جزء من حديث حَمَل بن مالك الآتي. وقد تقدّم أيضاًً.(16/593)
حَمَل بن مالك بن النابغة أنه قال: " [كنت] (1) بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وفي روايةٍ بمِسْطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقتولة [بالدية] (2) وفي الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمةٍ، فقالوا: كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهلّ، ومثل ذلك يُطلّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجعاً كسجع الجاهلية، وروي أسجعاً كسجع الكهان، وقضى بالدية والغرة على العاقلة " (3) وأصل الغرة متفق عليه.
وذكر من يحرص على ذكر معاني القواعد أن المعنى في إيجاب الغرة أن الجنين شخصٌ كان يرجى له كمال الحال بالحياة، فإذا فوته الجاني، لم نوجب كمال الدية [لأنه] (4) لم تتحقق الحياة للجنين؛ فنوجب على مقابلة هذا التفويت حيواناً (5) كامل العمل يثبت عوضاً عما فوت.
فهذا هو الأصل في إثبات قاعدة الباب، ولا حاجة عندنا إلى المعنى الذي ذكره [المتكلّفون] (6) في إيجاب الغرة، والإجماعُ والنص الوارد كافيان.
فصل
قال: "وأقل ما يكون جنيناً أن يفارق المضغة ... إلى آخره" (7) .
10838- قال الأئمة: الأحكام المتعلقة بالأجنة خمسة: الغرة، والكفارة، [وأمية] (8) الولد، وانقضاء العدة، والإرث منه.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) زيادة من المحقق.
(3) حديث حمل بن مالك " كنت بين جاريتين " سبق تخريجه. هذا وبعض ألفاظ الرواية التي ذكرها الإمام هي جزء من حديث المغيرة وأبي هريرة السابق.
(4) في الأصل: "إليه".
(5) حيواناً: أي حيّاً.
(6) في الأصل: " المكلفون".
(7) ر. المختصر: 5/143.
(8) في الأصل: "وأجر".(16/594)
أما الجنين إذا انفصل ميتاً، فلا يرث في نفسه، فإنه إنما يرث من ثبتت [له] (1) الحياة يقيناً، وإذا أسقطت المرأة جنيناً بدا فيه التخليق والتخطيط، فيثبت به وجوب الغرة، والكفارة، وأمية الولد، وانقضاء العدّة، ثم الغرة تكون مضروبة على الورثة على فرائض الله، ولا يشترط أن يبدو جميع التخليق أو معظمه، ولكن إن بدا منه شيء في طرف من أطراف الجنين، كفى ذلك، ومن جملته الظفر والشعر، والتخليق بُدُوُّ صور الأعضاء، ولو كان لا يتبين تميّز الأعضاء، ولكن بدت مراسمها بخطوط، فذلك كافٍ.
ولو قال [القوابل] (2) : التخطيط بادٍ، وقع الحكم به، إذ هو [يعدّ من العلامات التي مهرن] (3) في معرفتها، وهي [كافية] (4) .
ولو أسقطت المرأة لحماً، ليس عليه تخطيط، وقالت القوابل: إنه ليس لحم ولد، فلا حكم له، وإن قال [القوابل] (5) : إنه لحم ولد، فهذا فيه اختلاف
النصوص، وقد ذكرتها في كتاب [العدّة] (6) ، وذكرت اختلاف طرق الأصحاب فيها، فلا أُعيد ما قدمته.
والذي نزيده مسألتان: إحداهما- أنها لو ألقت عَلقة أو مُضغة، لم تنتظم انتظام اللحم، فلا حكم لما ألقته، ولا يتعلق به أمية الولد، ولا وجوب الغُرة عند فرض الجناية، ولا وجوب الكفارة، وإن قالت القوابل: ما ألقته أصل الولد.
ولكن إن قطعن بذلك ولم نُثبت شيئاًً من الأحكام التي ذكرناها، فهل يعلّق بقطعهن
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "العواقل".
(3) ما بين المعقفين مأخوذ من كلام الغزالي، ونص عبارته: "وإذا قالت القوابل: التخطيط بادٍ، وعرفن ذلك بعلامات اختصصن بدركها حكم بالغرة" (ر. البسيط: جزء (5) ورقة: 87 يمين) .
وعبارة الأصل: "ولو قال القوابل: التخطيط باد، وقع الحكم به؛ إذ هو يعد في علامات......... في معرفتها" (ومكان النقط كلمتان غير مقروءتين) .
(4) مكان بياضٍ بالأصل.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "الغرة".(16/595)
انقضاء العدة فحسب؟ فعلى وجهين نقلهما بعض من [يوثق] (1) به عن القاضي، وهذا بعيد؛ فإن ما ألقته أصلُ الولد [وأصلُ الولد] (2) لا يسمّى حملاً. هذا إذا [ألقت] (3) علقة أو مضغة.
فأما إذا ألقت لحماً وقلنا: الرجوع إلى قول القوابل، [فلو] (4) قلن: ليس لحم [ولد] (5) ، لا يتعلق به حكم، [ولو] (6) قلن: لا ندري، [فلا] (7) تعلَّق به أمية الولد، ولا وجوب الغرة، ولا الكفارة، وهل يتعلق به انقضاء العدة؟ [قيل: لا] (8) ، وهو الأصح؛ لأنا نفرع على اتباع قول القوابل، ولو قلن: إنه ليس لحم ولد [فلا] (9) يتعلق به انقضاء العدة، فإذا قلن: لا ندري، فالأصل بقاء العدة.
فخرج مما ذكرناه في هذا الفصل أن القوابل لو قلن في العلقة: إنها أصل ولد، ففي انقضاء العدة بوضعها خلاف، ولو شككن في اللحم، ففي تعلق انقضاء العدة به وجهان للعراقيين، والخلاف في المسألتين جميعاً بعيد، والوجه أنه لا يتعلق به انقضاء العدة.
فصل
قال: "وكذلك إن ألقته من الضرب بعد موتها ... إلى آخره" (10) .
10839- إذا جنى على حامل، فألقت جنينها ميتاً وهي [حيّة] (11) ، فلا شك في
__________
(1) في الأصل: " يؤثر ".
(2) سقط من الأصل.
(3) في الأصل: "علقت".
(4) في الأصل: "ولو".
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: " فلو".
(7) في الأصل: "ولا".
(8) زيادة من المحقق.
(9) في الأصل: "ولا".
(10) ر. المختصر: 5/143.
(11) في الأصل: " فيه ".(16/596)
وجوب الضمان، ولو ماتت الأم بالجناية أولاً، ثم ألقت جنينها بعد الموت من أثر الجناية، [فالضمان] (1) واجب، خلافاً لأبي حنيفة (2) رحمه الله، فإنه قال: إذا ألقت بعد موتها كان كما لو لم تُلْق أصلاً، ولو لم تلق الجنين وماتت والحمل بها في ظاهر الظن، فلا يجب على مقابلة الجنين شيء اتفاقاً، والمسألة مشهورة في الخلاف.
فصل
قال: "ولا شيء لها في الألم ... إلى آخره" (3) .
10840- إذا جنى على حامل، فألقت جنينها، فالجنين مضمون إذا كان إلقاؤه
بسبب الجناية، وينظر إلى الأم التي بقيت، فإن كان قد جرحها الجاني، [فعليه أن يقدم] (4) لها حكومة الشين، كما مضى استقصاء ذلك في الحكومات والديات، وإن جرى جرح بها، ثم اندمل، ولم يبق شينٌ، فهذا ما مضى في كتاب الديات، ولا اختصاص له بالجناية على حاملٍ؛ فلا معنى لإعادته وذكْرِه.
وإن ضربها ولم يجرحها، ولم يوجد إلا إيلامٌ [مجرّد] (5) ، ثم زال، فالظاهر أنه لا يجب بسبب ما جرى عليها شيء.
ومن أصحابنا من أجرى الإيلام بلطمة أو غيرِه إذا زال [أثره] (6) بمثابة الجرح يندمل ويزول أثره، وهذا بعيد لا أصل له، ولا معوّل عليه.
ولست أقصد [إلى] (7) الإعادة، وإن رمزت إلى معاد، فللجريان على (السواد) أو لمزيد تبيين.
__________
(1) في الأصل: " والضمان ".
(2) ر. مختصر الطحاوي: 243، مختصر اختلاف العلماء: 5/174 مسألة 2284.
(3) ر. المختصر: 5/143. هذا وفي نص المختصر خطأ على ندرة ذلك. ففيه: "لا شيء لها
في الأم".
(4) في الأصل: " أن يعدم ".
(5) في الأصل: "مجدد".
(6) في الأصل: "البنوة".
(7) في الأصل: "إلا".(16/597)
فصل
قال: "ولمن وجبت له الغرة ألا يقبلها دون سبع أو ثمان ... إلى آخره" (1) .
10841- هذا الفصل يشتمل على تحقيق القول في الغرة، ومعناها، وصفتها، وبدلها عند تقدير عدمها، ونحن نأتي في مضمون الفصل بما نراه أقربَ إلى البيان، وإن قدمنا فصلاً في (السواد) أو أخرناه، فلا بأس به:
أولاً - ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غرةٌ عبدٌ أو أمة"، فاتفق الأصحاب على أن [الاختيار] (2) في تعيين عبد أو أمة إلى الجاني، ولا [اختيار] (3) في الذكورة والأنوثة لمستحق الغرة.
ثم أول ما يجب ذكره بعد هذا ترددٌ عظيمُ الوقع في قيمة الغرة، مع أن الغرة هي المؤداة -[ولسنا نريد بدلَها عند عدمها] (4) - فالذي دل عليه كلام معظم نقلة المذهب أنا لا ننظر إلى قيمة الغرة، [ولا] (5) نشترط فيها شيئاً مخصوصاً [سوى] (6) البراءةِ من العيوب على ما سنصفها، ولا يبعد بعد ذلك أن تكون عبداً قيمتُه خمسة دنانير، [ولا نخصص جنساً عن جنس] (7) ، ولا نعتبر ما يغلب في البلد أو يُعدّ [وسطاً] (8) ، وهؤلاء يتمسكون بإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة عبد أو أمة.
ومن تتبع كلام الأئمة، لم يخْفَ [عليه] (9) ذلك من نصوصهم الصريحة.
__________
(1) ر. المختصر: 5/143.
(2) في الأصل: "الأخبار".
(3) في الأصل: "اجتراح".
(4) عبارة الأصل: "ولسنا نريد عدمها بعدلها عند عدمها" والتصرف في العبارة من المحقق.
(5) في الأصل: "ولكنا". والمثبت من معنى كلام الغزالي، ونصُّه: "أما صفة الغرة، فالمرعي فيها السلامة من العيوب فقط" (ر. البسيط: 5 ورقة: 91 يسار) .
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: "ولا تحصصاً حسّاً عن حسّ".
(8) في الأصل: "قسطاً".
(9) في الأصل: "عليهم".(16/598)
وقال القاضي: الرقيق المخرَج غرةً يجب أن يكون على مقدار خمسٍ من الإبل، أو على مقدار خمسين ديناراً، واحتج على ذلك أولاً بما روي من لفظ الغرة، والغرة من كل شيء خياره، وغرة مال الإنسان خير ما فيه، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين عبد أوْ أمة، ولكنه قال: "غرة عبد أو أمة" [ثم] (1) قال: مبلغ الشيء يعرف ببدله عند فقده، وإذا كنا نرجع إلى خمسٍ من الإبل، كما [سنصف] (2) ، فيستحيل ألا يكون العبد على مقدارٍ من الإبل، حتى يقال: الأصلُ الغرة، ونجوِّز أن تكون قيمتُه ديناراً، فإذا عُدِم، فلا بد من خمس من الإبل، ولهذا الأصل عَضَدُ تأييدٍ
لا يمكن ذكره الآن، وسيبين في أثناء هذا الفصل، وإذا انتهينا إليه، نبهنا عليه على ما يجب -إن شاء الله عز وجل- وهذا [معرفته] (3) من المقاصد الجلية، ولم يهتم به أصحاب المذهب على ما ينبغي.
10842- فإن أخذنا بقول الأصحاب، [واشترطنا] (4) أن يكون الرقيق المخرج سليماً عن العيوب على سَنَنٍ مخصوص، وإن شرطنا ما ذكره القاضي في التقريب لا ينفع [ما] (5) ذكر، بل الوجه أن نبوح بأن الغرة ينبغي أن تكون بحيث يؤخذ بها خمس من الإبل المجزية في الدية، فإنّ الكلام في الأعواض لا ينتجز بالتقريبات إذا لم ينزل على أقل اقتضاء الأسماء المطلقة. هذا لا بد منه.
10843- ثم إنا نخوض بعد هذا في تفاصيل معنية في ذواتها، وهو ينبني على ما مهدناه، فنقول: الجنين الحر المحكوم له بالإسلام، هو أكمل [الأجنة] (6) ، والغرة ثابتة فيه، فلو كان الجنين محكوماً له بالكفر والحرية، كجنين نصرانية من نصراني، فإذا فرضت الجناية المفضية إلى [القتل] (7) ، فقد اضطرب الأصحاب في
__________
(1) في الأصل: "وإنما".
(2) في الأصل: "نصف".
(3) في الأصل: "لعرفهم".
(4) في الأ صل: "ونشترط".
(5) في الأصل: "مما".
(6) في الأصل: "للأحسم" (تماماً) .
(7) في الأصل: "القاتل".(16/599)
طرقهم في أن الغرة هل تجب فيه؟ فالذي قطع به شيخي والصيدلاني وصاحب التقريب وبعض المصنفين (1) أن الغرة لا تجب فيه أصلاً، ويختص وجوب الغرة بالجنين الحر المسلم، فإن لم يكن، فلا غرة، وإنما الواجب فيه عُشر دية الأم على ما سنفصله في التفريع.
ونقل من يوثق به عن القاضي أن الغرة هي الواجبة في الجنين الحر المسلم، فإن
فرض الجنين حراً كافراً، فيجب فيه جزء من الغرة، نسبته من الغرة كنسبة دية [أصل] (2) الجنين من الدية الكاملة، فإن كان الجنين الكافر نصرانياً فدية النصراني ثلث ديهَ المسلم، ففي الجنين النصراني ثلث الغرة، وإن كان الجنين مجوسياً، فدية المجوسي خُمس دية النصراني، وقد ذكرنا أن الواجب في الجنين النصراني ثلث الغرة، فالواجب في الجنين المجوسي [خُمس] (3) ثلث الغرة؛ فإن الديات هكذا تجري نِسبُها.
وهذه الطريقة منقاسة؛ فإن الغرة من الجنين بمثابة الدية من الشخص التام، وإذا تناسبت الديات على نحوٍ، لم يبعد تناسُب الغرة على ذلك النحو.
ولكن لم أر هذا لأحد من الأصحاب، ووجه الخلل فيه أنه هجوم على القياس في [أمور الدّية] (4) من غير ثَبَتٍ من طريق [التعبد] (5) ، والأصل في الديات التعبّد.
وذكر العراقيون مسلكاً ثالثاً، وقالوا: يجب في الجنين النصراني عبد كامل قيمته من دية النصراني كنسبة خمسة من الإبل إلى مائة من الإبل.
فقد حصل مما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الغرة لا مدخل لها في بدل الجنين الكافر أصلاً، فلا يجب فيه عبد ولا جزء من عبد، وهذه الطريقة هي التي
__________
(1) بعض المصنفين: المراد به (أبو القاسم الفوراني) كما أشرنا مراراً، ومن لطيف الملاحظة أن الإمام لم يذكره هنا بالحطّ عليه وتخطئته، بل قرنه مع والده والمحققين من أئمة المذهب.
(2) في الأصل: " أقل ".
(3) سقطت من الأصل.
(4) في الأصل: " أول المرتبة ".
(5) في الأصل: "البعد".(16/600)
يعرفها المراوزة. والوجه الثاني - إيجاب جزء من الغرة، حكيناه عن القاضي، والوجه الثالث - أنه يجب في الجنين الكافر عبدٌ ناقص القيمة، نسبته إلى دية الكافر كنسبة خمس من الإبل إلى دية المسلم الكامل.
وما ذكره العراقيون من إيجاب عبد في الجنين الكافر منسوبٍ إلى دية الكافر تصريحٌ منهم بأن العبد الذي [يجب في] (1) الجنين المسلم، يجب أن يكون منسوباً إلى الدية الكاملة؛ إذ لو لم يكن ذلك كذلك، لكان الواجب في الجنين المسلم مثلَ الواجب في الجنين الكافر، ويمكن أن يقال: لو لم ترع النسبة، فقد يُخرِج الجاني على الجنين المسلم عبداً خسيس الجنس، قليلَ القيمة، يقل قدره عن عُشر دية النصرانية، وهذا لا سبيل إلى اعتقاده.
فصار ما ذكره العراقيون عضداً وتاييداً لما حكيناه في وجوب المناسبة بين الغرة الواجبة في الجنين [المسلم] (2) ، ولا نُلْزَمُ التفريعَ المستتبع الذي ذكرناه في التسوية بين الجنين المسلم والكافر، لأجل هذا لم نجعل لوجوب الغرة مدخلاً في الجنين [الكافر] (3) .
10844- وقد يرد سؤال يعسر دفعه، وهو أن عشر دية النصرانية قد يكون أكثر من [عبد] (4) عند من يفرض إجزاءه (5) في بدل الجنين المسلم، فيجب من هذا التسوية أو تفضيل الجنين الكافر.
وهذا سؤال واقع، والممكن [في] (6) دفعه أن الغرة للجنين بمثابة الدية، وإيجاب جزء من دية الأم بنسبة الغرة [التفاتٌ] (7) إلى الغرة، وإخراج له عن أن يكون معتبراً في
__________
(1) في الأصل: "تحت يد غير" (تماماً) .
(2) في الأصل: "الكافر" وهو مخالف للسياق، ولما حكاه قبلاً في أوائل الفصل.
(3) في الأصل: "بالكافر".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) إجزاءه: أي إجزاء العبد السليم من العيوب من غير اشتراط قيمة له.
(6) في الأصل: "من".
(7) زيادة لاستقامة العبارة.(16/601)
نفسه. وهذا يوجب انحطاطاً عن اعتبار الشيء في نفسه. ولا نظر إلى التفاوت في المالية، وهذا بمثابة إيجاب دياتٍ قيمةَ مملوك، ولكنه غير مقدر، بل هو مقوّم معتبر بغيره، والحر معتبر في نفسه، وهذا [واضح] (1) ، فإن الغرة إذا [عدمت] (2) ، فقد نرجع في بدل الجنين المسلم الحر إلى خمس من الإبل، وهو عبد (3) ، وجزء من دية الأم.
وإذا نظر الناظر فيما نقلناه، ثم فرعناه، لاح له أن الغرة التامة في الجنين الكامل بالإسلام والحرية يجب أن تكون منسوبة إلى الدية (4) ، ولا يجوز الاكتفاء بأي عبد كان، وإن كان بريئاً عن العيوب في جنسه. فهذا من أركان الفصل، وقد نجز.
10845- ومما نتكلم فيه القولُ في سن العبد، وفي سلامته من العيوب، وليقع التزامه باشتراط السلامة من العيوب، فنقول: اتفق الأصحاب على أنّ العبد المعيب غير مجزىء [إلا] (5) أن يرضى المغروم له، ثم المرعي في [العيب] (6) الذي يُثبت حق الرد كالمرعي فيما يثبت الردّ بالعيب في البيع، وهذا على هذا الوجه متفق عليه في الطرق.
فإن قيل: إذا كنتم تنسبون الغرة إلى الدية، فاحكموا بإجزاء معيب قيمته واقعة من الدية على النسبة المطلوبة. قلنا: لا حاصل لهذا السؤال، فإن الرد بالعيب وإن كان مبنياً على اعتبار الأغراض المالية، فلا يقع الاكتفاء باعتبار القيمة المجردة، فإن من اشترى عبداً واطلع منه على عيب، وكانت قيمته مع العيب الذي به زائدة على [الثمن] (7) بأضعاف، فللمشتري الرد واستردادُ الثمن، وإن كان ذلك العبد المعيب
__________
(1) في الأصل: "يضيع".
(2) في الأصل: "غرمت".
(3) أي الغرة بدل الجنين.
(4) وهذا الوجه هو الذي استقر عليه المذهب، فهو الأصح عند الرافعي، (ر. الشرح الكبير: 10/523) (وكذا النووي في الروضة: 9/376) .
(5) في الأصل: "إلى".
(6) في الأصل: "المعيب".
(7) في الأصل: "التمييز".(16/602)
[مطلوباً منه] (1) بأضعاف الثمن. وهذا أصل متفق عليه، نعم، قد تتمحض المالية في بعض المواضع، وذلك إذا اشترى قيّم الطفل له عَرْضاً، ثم اطلع على عيب قديم به، وكان مع ما به من العيب مطلوباً بأكثر من الثمن، فليس له الرد، بل يجب رعاية الغبطة للطفل.
وإذا لم تكن المسألة مصورة كذلك، فالرد لا يتوقف ثبوته على القيمة، فإن الإنسان استحق سلامة المشترى [مغبوناً] (2) كان أو مغبوطاً، فإذا لم يحصل له المستحَق، فله حق الرد، كذلك الغرة تثبت عوضاً فلا يُلزَم مستحِقُّها الرضا بمعيب، وإن كان حق المالية حاصلاً، والدليل عليه أنه لو بذل [بدلَ] (3) الغرة، مع القدرة على تحصيل الغرة، لم يقبل منه.
10846- فإن قيل: إن كان ما ذكرتموه دفعاً للسؤال على اعتبار نسبة الغرة إلى الدية الكاملة، فماذا تقولون على قولكم يُجزىء أي عبد فرض من غير أن تنسب قيمته إلى الدية، ولو اطلع مستحق الغرة على عيب فرده، فالمردود عليه يشتري عبداً لا عيب به، وهو [أخس] (4) من المسترد، وأقل قيمة منه؟
قلنا: هذا غير متجه، لما قدمنا ذكره من [أن] (5) الأغراض المالية لا يتمحض اعتبارها في العيوب، وتصوُّر كون البدل أقلَّ من المعيب المردود بمثابة كون الثمن المسترد أقلَّ من العبد المعيب، وقد ينطبق على هذا في التمسك أن من استحق شيئاً [موصوفاً في ذمة] (6) إنسان، فجاء به معيباً، فللآخر رده، وإن كان المردود شريف الجنس، وكانت قيمته مع ما به أكثرَ من قيمة ما سيأتي به سليماً من العيب.
فإذا ثبت الفرض على [المسلكين] (7) ، فالمشكل في ذلك أن اسم العبد ينطلق على
__________
(1) في الأصل: "منه مطلوباً".
(2) في الأصل: "معيوباً".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "أحسن".
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "موضوعاً في دية".
(7) في الأصل: "الملكين".(16/603)
المعيب انطلاقه على السليم، فإذا لم يكن العبد على قدر من المال معتبر، فاستنباط اشتراط السلامة عسر. وقد قيل: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم العبد باسم الغرة، والغرة اسمٌ [للبريء] (1) السليم، وهذا يعارضه أن الغرة اسم للخيار في الجنس والنوع، لا أنه اسم للبريء، ثم القواعد متفاوتة في [النقائص] (2) المانعة من الإجزاء، [فالمرعيّ] (3) في النقص المانع من الإجزاء في الكفارة ما يؤثر في العمل تأثيراً ظاهراً، فإن لم يكن مؤثراً، لم يمنع الإجزاء وعليه خرج في النقائص المانعة من الإجزاء في الضحايا ما يؤثر في اللحم، أو [فقد] (4) العين والأذن، كما سيأتي في الضحايا، والمعتبر هاهنا ما يؤثر في إثبات حق الرد في [المعاوضات] (5) ، وقد أوضحنا ذلك في كتاب البيع.
وقد نجز القول في العيب.
10847- فأما الكلام في السن، فإنه يقع في [الطرفين] (6) .
ونحن نوضح القول في العبد الصغير، ثم نبين المذهب في العبد الكبير: فأما الصغير الذي لم يظهر تمييزه، ولم يبلغ سبعاً أو ثمانياً؛ فإنه لا يجزىء، وذلك أنه مأخوذ عوضاً، وأخذه يُلزم صاحبه التزام مؤنة خاصته، وهو مشقة بيّنة، فنزل [الصغر] (7) منزلة العيوب.
ومما يجريه الأئمة في الكلام أن آخذ الغرة ينبغي أن يكون متمكناً من الانتفاع باستخدامه، فإذا لم يحصل له هذا الغرض، كان الماخوذ كلاَّ ووبالاً عليه، والعبد في الكفارة يخالف في أصله وضعَ الغرة، فإن من أعتق عبداً رضيعاً ليس به عيب
__________
(1) في الأصل: "لترى".
(2) في الأصل: "النقائض".
(3) في الأصل: "فالمدّعى".
(4) في الأصل: "فقع".
(5) في الأصل: "المعلومات".
(6) في الأصل: "الطريقين".
(7) في الأصل: "الصغير".(16/604)
يمنعه من العمل إذا استقلّ، فإعتاقه مجزىء؛ فإن الغر تخليصه من الرق حتى يستقل، ولا يكون كلاًّ على غيره.
وأما الغرة، فإنها [عوض تُبتغى] (1) المالية منه، فالصغر المُحوِج إلى المؤنة في حكم العيب، وقد ذكرنا تفصيل القول في العيب. فهذا كلام في هذا الطرف.
10848- فأما العبد الكبير، فقد قال بعض الأئمة: لا تجزىء جارية في الغرة استكملت عشرين، ولا يجزىء غلام استكمل خمسة عشر، فإن الجارية يظهر تغيّرها بسبب أثر السن إذا أبرّت (2) على العشرين، والغلام يظهر تغيره باستكمال الخمسة عشر، فهذا ما ذكره العراقيون. وقال قائلون: نعتبر العشرين في [الجنسين] (3) ، فإن النمو والازدياد إلى هذا الحد، وبعده التراجع والانحطاط. وقال الشيخ أبو حامد: [الكبر] (4) المانع هو الهرم المؤثر في حل القوى، وتضعيف المُنّة، وتابعه جماهير الأصحاب.
ومن أراد الغاية، لم يخف عليه أن الكلام في هذا الطرف من السن مضطرب؛ فإن الهرَمَ إن كان يؤثر في العمل، فليس العمل معتبراً في هذا الباب، وإنما نعتبر العمل [ووفورَه وسقوطَه في عبد] (5) الكفارة، وليس ذلك معتبراً في الغرة، والدليل عليه أن العيب المانع من الإجزاء في الغرة [ما لا يكون] (6) مؤثراً في العمل بشين في الوجه [والطرف] (7) وما أشبهها.
فالذي يجب اعتباره في السن على الطريقة المرعية اتخاذ العيبِ والسلامةِ منه حَكماً في الباب.
__________
(1) في الأصل: "عرض سعى".
(2) أبرّت: أي زادت.
(3) في الأصل: "الجنين".
(4) في الأصل: "الكبير".
(5) في الأصل: "ووفوده وسقوط عبد في".
(6) في الأصل: "ولا يكون".
(7) مكان كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا " ـهى ".(16/605)
ونحن نطرد غرضنا في ذلك على ما لاح [وظهر] (1) من وجوب كون الغرة مناسبةً للدية بالجزئية التي قدمناها، فكل سن كان عيباً، فليس كذلك، فإن اطراد [الإنسان من نشوئه] (2) إلى انقضائه بمثابة أنواع الآدميين.
ثم لا يتعين في الغرة نوع، فالملتحي نوعٌ وقد لا يصلح لما يصلح له الأمرد، ويصلح [الأمرد لما لا يصلح له الملتحي] (3) وهذا يتحقق في أنواع العبيد. ثم تقاعُدُ نوعٍ غير مقصودٍ عن النوع الآخر لا يُلحقه بالمعيب، فاقتضى ذلك ألا نعتبر ما اعتبره بعض الأصحاب من استكمال العشرين والخمسة عشر، وكذلك الكهل الذي وخَطه الشيب، يصلح لما لا يصلح له مَنْ دونه من الأمور الخطيرة التي تنافي [نَزَقَ] (4) الشباب.
والهَرَمُ لا يمنع إجزاءه ما لم ينته الهرم إلى العيب، ولا ضبط لما ينتهي إلى العيب إلا ما يُظهر الضعفَ وسقوطَ المُنة؛ فإن هذا نقصٌ وراء التنويع والتجنيس، ولا يتصور أن يكون مقصوداً (5) ، والصغر دون سن التمييز يلتحق بالعيب؛ من حيث إنه يُلزم مؤنةً.
فلينظر الناظر إلى ذلك يَرشُد.
وليعلم أن العبد إذا كانت قيمته منسوبة إلى الدية، فلا ضرار من جهة المالية، ولا عيب في الصنف (6) ، وإن فرض انعدامٌ [في غرضٍ خِلقةً ووجودُ غرضٍ، فالأطوار
__________
(1) في الأصل: " فظهر ".
(2) في الأصل: " الانسان من تسربه " تماماً.
* تنبيه: نذكر أن ما تراه أمامك من الحواشي ليس فروقَ نسخ، فنسخة الأصل وحيدة، والمثبت في الصلب بدلاً من هذا الخلل هو من توسّم المحقق وتقديره، بحثاً عن صواب العبارة وإقامة النص.
(3) عبارة الأصل: "ويصلح لأمور لا يصلح لها المرء " وفيها تكرار وركاكة، فلعل الصواب ما أثبتناه.
(4) في الأصل: "برق".
(5) مقصوداً: أي مطلوباً مرغوباً.
(6) الصنف: المراد به هنا: المرحلة من عمر العبد من الشباب والكهولة ونحوها.(16/606)
والتارات] (1) كالأصناف، ومن تخيل مجاوزة نضارة الشباب عيباً، فليس على بصيرة؛ فإن ذاك إن كان كذلك إنما يتحقق في عبد معيّن ونوع مخصوص، فأما إذا كان تعيين النوع والصنف إلى المخرِج، والماليةُ مرعية، والأطوار [كالأصناف] (2) ، فلا وجه لما تخيله أولئك.
هذا حاصل الكلام في قيمة الغرة، في عَيْبه وسلامته، ثم في [سنه] (3) .
10849- ثم نحن نذكر بعد هذا التفصيلَ فيه إذا عُدِمت الغرة، فإن الرجوع عند عدمها إلى ماذا؟ أولاً-[نعتبر] (4) في العبيد [ما] (5) يعم في البلد أو يكثر في يد الغارم، بخلاف ما ذكرناه في الإبل الواجبة في الدية، ومطلق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "غرةٌ عبد أو أمة" يدل على ذلك، وتصوير [العدم] (6) كتصوير [العدم] (6) في إبل الدية، وقد قدمت ذلك مشروحاً في أول كتاب الديات.
ولا معدل عن الغرة مع وجودها، كما لا معدل عن إبل الدية مع وجودها، إلا أن يرضى به الباذل والمستحِق، ثم يكون ذلك اعتياضاً، والقول في هذا كالقول في إبل الدية حرفاً حرفاً.
وقد ذكرنا ثمَّ أن المنصوص عليه في الجديد أن إبل الدية إذا فقدت، قوّمت ووجبت قيمتها بالغة ما بلغت، وذكرنا قولاً آخر أن الرجوع إلى مقدرٍ، وهو من الدنانير ألفُ دينار، ومن الدراهم المسكوكة من النُّقرة الخالصة اثنا عشر ألفاً.
وقد اختلف أئمتنا في ترتيب المذهب في الغرة. فمنهم من قال: الترتيب هاهنا
__________
(1) عبارة الأصل: " من عرص خلفه وجوب عرص الأحوار والتارات " والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: "بالأصناف".
(3) في الأصل: "شبه".
(4) في الأصل: "نتغير".
(5) في الأصل: "بأن".
(6) في الأصل: "الغرم".(16/607)
كالترتيب إذا فقد [إبل الدية] (1) ، حتى يكون الرجوع إلى قيمة الغرة في قولٍ مصحح، وإلى مقدّرٍ سنصفه في القول الآخر.
ومنهم من قال: الترتيب يجب على العكس. والأصح هاهنا الرجوع إلى [مقدّر] (2) إذا فقدت الغرة.
وفي المسألة قولٌ بعيد أن الرجوع إلى قيمة الغرة.
هذا ما ذكره الأصحاب.
10850- وأنا أقضي العجب ممن يستمر على مثل هذا الكلام، ولا يخطر له [اختلاج] (3) فكر يجاذبه إلى طلب [الحقيقة] (4) ، ونحن نقول: إن كان العبد المأخوذ غرةً، منسوباً إلى الدية بالجزئية المقدمة، فلا يتصور إلا [التقدير] (5) في إثبات البدل، وليس كالإبل؛ فإنها أصل [لا نستبدلها] (6) ، فإن اعتبرت قيمتها، فُهِم ذلك، واختلف بارتفاع الأسعار وانحطاطها، وإبل الدية مضبوطةُ النوع والسن مشروطةٌ بالسلامة، فأما العبد، فلا صنف له، [فإن نسبت قيمته، فقيمته] (7) مقدرة أبداً، وإن قيل لا ينسب العبد إلى الدية، ولا ضبط [للعبد بالإبل] (8) ، فلست أرى لرد الأمر إلى رأي الغارم [ليقدّم] (9) أي عبدٍ شاء معنىً.
10851- ووراء ما ذكرناه نوعان من الكلام، بهما تمام البيان: أحدهما - أنا إذا أوجبنا قيمة عبد، ولم ننسبها إلى الدية، فنعتبر قيمة عبد ابن سبعٍ، سليم عن العيوب، من أخس جنسٍ يفرض.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "مقدار".
(3) في الأصل: "خلاج".
(4) في الأصل: "حقيقة".
(5) في الأصل: "تقرير".
(6) في الأصل: "لا مستند لها".
(7) في الأصل: "فإن سبب قيمه وقيمته مقدرة أبداً".
(8) في الأصل: "لإبل عبدٍ".
(9) في الأصل: "ليقوّم".(16/608)
وإن اعتبرنا نسبة العبد إلى الدية، فقد يعترض فيه سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: تقويم العبد مذكور مشهور، وهو قول معزي إلى الشافعي، فما وجهه؟ هلا قطعتم بالرجوع إلى المقدر؟
وهذا سؤال واقع، [والجواب] (1) عنه أن الإبل إذا عدمت، فالأصح أن الرجوع إلى قيمتها، والخلاف يؤول إلى أنا إذا أردنا القيمة، فنقوّم عبداً يؤخذ به خمس من الإبل، ونرجع إلى خمس من الإبل (2) ، ويكون هذا التردد بسبب كون العبد أصلاً في الباب، ويستفيد به الباذل أنه يبذل الدراهم، فتؤخذ منه مع وجود الإبل، ولسنا نعتقد على هذا المسلك الأصحِّ أن التقدير المالي يختلف، وإنما يرجع أثر التقويم إلى ما ذكرنا من جواز الرجوع إلى القيمة مع وجود الإبل.
فلو فقدت الإبل، فلا أثر لقولنا: إنا نقوّم العبد بالإبل. نعم، إنما صححنا الرجوع إلى البذل عند عدم الإبل، لأنا نقع في الدراهم والدنانير، مع انضباط [القيمة] (3) ، فبعُدَ هذا، وكان الرجوع إلى الإبل أقرب منه بخلاف الإبل إذا فقدت في الدية؛ فإن القيمة غير منضبطة، وكان الأصل فيها [التقويم] (4) ؛ فإن الألف دينار لا أصل لها، وإنما صار إليها صائر من حيث رأى في [الواقع] (5) تقويم الإبل بألف دينار، وإنما يُحمل ذلك على وفاق في القيمة، والرجوع إلى خمس من الإبل مضبوطة شرعاً، وهذا منتهىً لا يفضي إليه إلا فَهِمٌ ومَنْ شاركنا في مأخذ الكلام في الفقه.
وتمام البيان فيه أنا إذا صححنا أن الرجوع إلى الإبل، انقلب هذا إلى الترتيب الذي ذكرنا في فقدان الإبل في أصل الدية، فالقول الأصح أنا نرجع إلى قيمتها بالغة ما بلغت. وفي المسألة قول في القديم أنا نوجب نصف عشر ألف دينار وهو خمسون ديناراً، وقد نجز مقصود الفصل منقحاً كما ينبغي.
__________
(1) في الأصل: "والسؤال".
(2) أي نرجع إلى قيمتها.
(3) في الأصل: " القسمة ".
(4) في الأصل: "التقوّم".
(5) مكان بياض قدر كلمة بالأصل.(16/609)
فصل
قال: "فإن كانت أمه مجوسية وأبوه نصرانيّاً ... إلى آخره" (1) .
10852- قد ذكرنا التفصيل في الجنين المحكوم بإسلامه الحرّ، وذكرنا موجب الجنين الكافر، إذا تمحض الكفر فيه، [بأن] (2) كان متولداً من نصرانيّ ونصرانية، أو يهودي ويهودية، والغرض لا يختلف، بأن كان متولداً من بين نصرانية ويهودي؛ فإن دية اليهودي كدية النصراني.
وهذا الفصل مقصودٌ فيما إذا كان متولداً من بين من يقل ضمانه ويكثر ضمانه كالمتولد من مجوسي ونصرانية، فإذا فرض الجنين كذلك، [فأسقطته] (3) الجناية فالمذهب الظاهر أنا نعتبره بأكثر الأبوين ديةً، وأغلظهما في الضمان. وقال أبو الطيب بن سلمة: نعتبر [بأخسّ] (4) الأبوين ضماناً، وحكى صاحب التقريب وجهاً آخر أنا نعتبره [بدية الأب] (5) ، فإن الانتساب إليه.
10853- وقد ذكر الأئمة في مسالك إتباع الوِلْدان جامعة نذكرها ونختتمها بتوجيه الاختلاف.
قالوا: من الأحكام ما يتبع المولود فيه الأبوين، [أيَّ] (6) واحد منهما، وهو الإسلام، لأنه عالٍ مغلَّب يثبت من أي جهة أتى، ويلتحق بذلك [أخذ الجزية] (7) في أصلهما، فإذا كان الشخص متولداً من بين من تؤخذ الجزية منه ومن لا تؤخذ الجزية منه، فالجزية مأخوذة من المتولد؛ تغليباً [لحقن] (8) الدم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/144
(2) في الأصل: "فإن".
(3) في الأصل: "فأسقطت".
(4) في الأصل: "بأحد".
(5) في الأصل: "بأكثر الأبوين دية" وهو خلل واضح.
(6) في الأصل: "وكل".
(7) في الأصل: " احرا ـحزية " (كذا تماماً) .
(8) في الأصل: "لتحقق".(16/610)
ومن ذلك [تحريم] (1) اللحم، فالمتولد من بين [من تحرم ذبيحته ومن تحلّ محرّمٌ] (2) ، لما صح من تغليب الحظر.
ويلتحق بهذا سقوط الزكاة فالمتولد من بين الظباء والأغنام لا زكاة فيه.
[ومنه] (3) وجوب الجزاء في المتولد كما مضى في موضعه، ويلتحق به امتناع جزاء الصيد بالمتولد [وامتناع التضحية] (4) وعدم استحقاق السهم من [المغنم] (5) بسببه [كالبغل] (6) فهذا قسم، وتجمع مسائله بما يثبت في الشرع تفصيله.
ومن الأقسام ما يتبع المولود فيه الأبَ، وهو [النسب] (7) وكل ما يتلقى من النسب، وذكر الأئمة من ذلك قدرَ الجزية إذا كان الأب قد ألزم أكثر من دينار، فالغلام مطالب إذا بلغ بمثله، وسيأتي ذلك في موضعه من الجزية، إن شاء الله عز وجل.
ومما يتصل بهذا القسم الكفاءة؛ فإن المرعيّ فيها نسب الأب.
ومن الأقسام ما يتبع المولود فيه الأم وهو الملك والحرية، وغير ذلك، قال الشافعي: ولد كل ذات رحم بمثابتها [يكون] (8) ملكَ مالك الأم، لا حظ منه لمالك [الفحل] (9) .
ومن الأقسام ما يراعى فيه الأغلظ، ويتصل بذلك سن اليأس من الحيض إذا فرعنا على أن الاعتبار نساء العشيرة، حتى لو كانت نساء العشيرة من قبل الأب ينقطع حيضتهن على رأس الستين، وينقطع حيض نساء العشيرة من قبل الأم على رأس السبعين، فيعتبر السبعين، ولو كان الأمر على العكس، فالمعتبر الأغلظ، كما ذكرنا.
والسبب فيه أنا نعتبر أقصى امرأة في العشيرة، وهذا يجمع الجانبين، فمنه انتظم
__________
(1) في الأصل: " بحري ".
(2) في الأصل عبارة غير مقروءة، رسمت هكذا: حران يحرم وحران يحل محرم (كذا تماماً) .
(3) في الأصل: " ومنهم ".
(4) في الأصل: " واتساع النصيحة ".
(5) في الأصل: "الغنم".
(6) في الأصل: "كالنعل".
(7) في الأصل: "السبب".
(8) مكان بياض بالأصل.
(9) في الأصل: "العجل".(16/611)
تصوير الأغلظ، وفي مهر المثل نعتبر نساء العصبات، وقد مضى في ذلك باب مفرد.
وفي مناكحة [المتولد بين] (1) من يحل مناكحة جنسه وبين من لا يحل مناكحة جنسه قولان، وكذلك القولان في استحلال ذبيحة أحدهما أنا نعتبر أغلظ الجانبين، فتحرم المناكحة والذبيحة.
والقول الثاني - أنا نعتبر في الحُكْمين المذكورين جانبَ الأب فقط، وقد قدمنا القولين بما فيهما من توجيه وتفريع في كتاب النكاح.
[أما القول في] (2) توجيه الاختلاف الذي ذكرناه في بدل الجنين المتولد بين من تخف ديته وبين من تغلظ ديته، فمن قال بظاهر المذهب، وهو أن الاعتبار [بأغلظ] (3) الجانبين أو أكثرهما دية، احتج بأن الغرض الأظهر من إيجاب هذه الأعواض الزجر عن الإقدام على الإتلاف. وهذا المعنى إذا كان متضمناً [حقنَ] (4) الدم، والمنعَ من الإهلاك، [فيليق] (5) به التغليظ.
ومن قال بمذهب أبي الطيب، احتج بأن الأصل براءة الذمة، والوجه ألا نوجب إلا الأخف والأقل.
ومن قال نعتبر جانب [الأب قال] (6) : إذا تعارض اعتبار براءة الذمة والاحتياط [لحقن الدم] (7) وجب بعد تعارضهما النظر [إلى] (8) من نسب المولود إليه [وإنما] (9) ينسب [إلى] (10) الأب.
فهذا مجموع القول في هذا الفصل.
__________
(1) في الأصل: "المتولدين".
(2) مكان بياض بالأصل.
(3) في الأصل: "بخلط".
(4) في الأصل: " حفي ".
(5) في الأصل: "فبطلق".
(6) سقطت من الأصل.
(7) في الأصل: "والاحتياط الخفي وجب".
(8) في الأصل: "أما".
(9) في الأصل: "وأما".
(10) زيادة من المحقق.(16/612)
فصل
قال: "ولو جنى على أمةٍ حامل ... إلى آخره" (1) .
10854- مقصود هذا الفصل أن الاعتبار بيوم الإلقاء إذا فرضت تغايير، وكان الجنين حرّاً في أصله، وكان حرّاً يوم الإلقاء.
وبيان ذلك أن من جنى على ذمية، وهي حامل بولدٍ كافر، فأسلمت، ثم ألقت الجنين بسبب الجناية، فنوجب فيه غرة تامة باعتبار يوم الإلقاء، وهذا قياس مطرد، وهو اعتبار المآل في استقرار [الأقدار في الأروش] (2) ، وقد مهدنا هذا الأصل في كتاب الجراح.
ولو جنى على أمةٍ وكانت حاملاً بولد حربي، فأسلمت، ثم ألقت جنينها، وقد جرى الحكم بإسلامه، فلأصحابنا طريقان: [منهم] (3) من قطع بأن الضمان لا يجب، وهو طريق أبي علي، ومنهم من ذكر وجهين في وجوب الضمان في الجنين: أصحهما - أن الضمان لا يجب، والثاني - أن الضمان يجب.
وتحقيق القول في ذلك يستدعي رمزاً إلى تجديد الذكر بأصولٍ قدمناها في أول الجراح، فنقول: ما يجب القطع به من أن من جرح حربياً وأسلم ومات، فلا ضمان على الجارح لمصادفة الجرح المجروحَ في حالة كونه [هدراً] (4) [إذا فرض النزاع في موجب الغرة، فإن سلم الجناية، وسلّم الإجهاضَ، ولكن قال: لم يسقط بسبب الجناية، فإن اتصل الإجهاض بالجناية] (5) ، قُطع [بصدقها] (6) . والقول في ذلك
__________
(1) ر. المختصر: 5/144.
(2) في الأصل: "الإيراد والأروش". والمثبت من معنى كلام الإمام وألفاظه في أوائل كتاب الجراح.
(3) في الأصل: "فيهم".
(4) سقطت من الأصل.
(5) هنا خرمٌ في نسخة الأصل وهي وحيدة، فالكلام هنا عن الاختلاف بين الجاني والولي في سبب الموت، وهل كان من السراية أم بسبب غيرها، وهو يشبه صورة لم يسبق ذكرها، مما يؤكد وجود الخرم؛ فما بين المعقفين رتقٌ لهذا الخرم، وهو بألفاظ الغزالي تقريباً (ر. البسيط: 5/88 شمال) .
(6) في الأصل: "بصدمتها".(16/613)
كالقول فيه والمجني عليه إنسان [اتصل موته] (1) بالجناية، وكانت تلك الجناية مما يفرض الموت بها، فالقول قول ولي المجني عليه أنه مات بالجناية، وإن لم يتصل الإلقاء بالجناية (2) ، نظر: فإن كانت المرأةُ المجنيُّ عليها [زوجةً صاحبةَ] (3) فراش [وظلت] (4) متألمة حتى ألقته، فالقول قولها، وعليها اليمين.
وإن لم تكن صاحبةَ فراش وتخللت المدة، وكانت سليمة في تلك المدة، فالقول قول الجاني.
والصور كثيرة، ولست أرى في تكثيرها فائدة؛ فإنّ [فَرْض] (5) الاختلاف في سقوط الجنين وإضافته إلى الجناية، كفرض الاختلاف بين الجاني وبين المجني عليه، إذا فرض الاختلاف في أنه مات بالجناية أو مات بسبب آخر، وقد مهدنا تلك الصور على أكمل وجه في البيان.
ولم أر بين فرض النزاع في إلقاء الجنين وبين فرض النزاع في أداء السراية إلى [موت] (6) المجني عليه فرقاً، ولو أردت البيان التام، لأعدت تلك الصور، ولا سبيل إلى إعادتها، فأنا ذاكرٌ [هاهنا] (7) ما أراه مختصاً بهذا الأصل.
10855- فلو جنى عليها، فألقت [جنيناً] (8) على الاتصال، فقد ذكرنا أن الإلقاء مضاف إلى الجناية، وإن فرض نزاع، فالقول قول المرأة، ولو قالت القوابل: [ألقت الجنين إذْ كان حان] (9) وقت الولادة، وقد [اتصل] (10) الانفصال بالجناية، فلا أثر
__________
(1) في الأصل: "فاصل قربه". (كذا تماماً) .
(2) هذا تفصيل لصورة لم تذكر من قبل، وهي لا شك من الخرم الذي أشرنا إليه في التعليق قبل السابق.
(3) في الأصل: "ذمية صاحب".
(4) زيادة اقتضاها السياق. والمعنى أنها ظلت متألمة من الجناية حتى ألقت جنينها.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "قرب".
(7) في الأصل: "ذاكرها هذا".
(8) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(9) عبارة الأصل: " العر الجنين إذا كان جانٍ وقت الولادة ".
(10) في الأصل: "انفصل".(16/614)
لقول القوابل إذا قلن: إنما انفصل الولد لأنه كان قد حان وقت الولادة، لأن هذا أمر لا يطلع عليه القوابل؛ من قِبل أن الولد قد ينفصل عند انقضاء [أمده] (1) وقد-[لسبب- يتأخر] (2) انفصاله، ثم يتفاوت الأمر في هذا تفاوتاً عَظيماً، فسقط قولهن، ووجب الرجوع إلى [اتصال الانفصال] (3) بالجناية، كما قدمنا ذكره.
ولو سلم الجاني أنها ألقت الجنين بسبب الجناية، ولكنه ادّعى أنها ألقته ميتاً، وقالت المرأة: بل ألقيته حياً عليه أثر الجناية، ثم مات، فالقول في هذه الصورة قول الجاني؛ فإن الأصل عدم الحياة وبراءة الذمة.
ولو سلم لها أنها ألقته حياً بجنايته، وادعى أنه مات بسبب آخر، فهذا مما يجب التأنّي فيه، فنقول: إذا ثبتت الجناية، واتفق [اتصال موت] (4) المجني عليه بالجناية التي [يُفضي] (5) مثلُها إلى الهلاك، فالموت مضاف إلى الجناية. ولو ادعى الجاني أن الموت حصل بسبب آخر، فعليه إثبات ذلك السبب، وهذا من الصور التي لم نذكرها، وأحلناها على تقريرنا لهذا الأصل على كتاب الحرابة.
ولو اعترف في مسألتنا بالجناية عليها، وأقر باتصال انفصال الولد، وحصل موت الولد بعد أن انفصل حيّاً متصلاً من غير تخلُّل مدةٍ، [فتجب الدية كاملة.
10856- وإذا لم ينفصل] (6) الجنين، لم يختلف العلماء في أنه لا يجب بسبب الجنين شيء، فإنا لم نتحقق وجوده، والأصلُ براءة الذمة، وإنما نتحقق وجودَه بانفصاله.
فلو انفصل بعضه وبقي [ناشباً] (7) - والمعنيّ بالانفصال الخروج لا الانقطاع -فقد
__________
(1) في الأصل: " مده ".
(2) في الأصل: "نسب آخر".
(3) في الأصل: "الاتصال للانفصال".
(4) في الأصل: "الاتصال فوت".
(5) في الأصل: "يقتضي".
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: " ناسياً ".(16/615)
تحققنا وجود الجنين، وظهر استناد الأمر إلى الجناية، فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا ضمان أصلاً، لأن الجنين لم ينفصل، وخروج بعضه لا حكم له، وقد نستيقن الحملَ واضطرابه في البطن، ثم إذا لم ينفصل لا نوجب شيئاًً، كذلك إذا ظهر [بعضه] (1) وهذا نسبه بعض المعتمدين إلى القفال.
وذهب المحققون من الأصحاب إلى إيجاب الغرة؛ لأنا تحققنا تلف الجنين، مع استيقان وجوده، ولا أثر للانفصال إلا استيقان الوجود، وقد تحقق هذا في خروج البعض.
ولا خلاف أنا لا نحكم بانقضاء العدة؛ فإن انقضاء العدة مربوط بفراغ الرحم، وإنما يتحقق الفراغ إذا تم الانفصال.
وهذا الذي ذكرناه في انفصال بعض الجنين ميتاً. فلو ظهر بعضُه واستهلّ ثم مات وجمد، فمن [يعتبر] (2) الانفصال لا يوجب في هذه الصورة شيئاً، والمسألة فيه إذا بقي [ناشباً] (3) وماتت الأم، فإن الانفصال مشروط في أصل الضمان، فإذا لم يتحقق الانفصال، لم يجب شيء.
ولو استهل [وطرف] (4) كما (5) ظهر البعض، ثم جَمَد (6) وانفصل ميتاً، فهذا يخرّج على الخلاف الذي قدمناه: فمن اعتبر الانفصال، قال: لا حكم لذلك الاستهلال الذي جرى، ومن اعتبر التيقن يقول: قد تيقنا الحياة، فتجب الدية الكاملة إذا كان الموت بعد الظهور والاستهلال، ولو سمعنا صراخ الجنين في البطن، فلا حكم له وفاقاً.
ومما يتصل بهذه الجملة أنه إذا ظهر بعضُ الولد -وكان يستهلّ- فجاء إنسان فاحتز
__________
(1) في الأصل: "بعده".
(2) في الأصل: "يعين".
(3) في الأصل: "ناسياً".
(4) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، رسمت هكذا: (سى) تماماً.
(5) كما: بمعنى عندما.
(6) جاء في الأساس للزمخشري: "ما زلت أضربه حتى جمد" وسيف جمّاد: أي يُجَمِّد من يضرب به.(16/616)
رقبته، فإن قلنا: الاعتبار بحصول الانفصال، فلا نوجب على [الذي قتل] (1) القصاص والدية الكامل. وإن بنينا على التيقن، أوجبنا القصاص عليه، إذا كانت الحياة [مستقرّة] (2) .
[ومن] (3) الصور المرتبة على ما قدمنا أنه إذا قدّ امرأةً حاملاً بنصفين، ومر السيف على الجنين وقدّه في الرحم، وبدا ذلك لنا، ولم ينفصل، فمن اعتبر الانفصال، لم يوجب بسببه [الغرة] (4) ، ومن اعتبر [الاستيقان] (5) أوجب (6) فهذه المسائل كلها مدارة على طلب اليقين في طريقة واشتراط الانفصال في طريقة (7) .
فصل
قال: "ولو خرج حياً لأقل من ستة أشهر ... إلى آخره" (8) .
10857- إذا جنى على امرأة حامل، وانفصل الجنين حيّاً وعليه أثر الجناية، ومات، فتجب الدية الكامل على الجاني، ولا فرق بين أن يكون انفصاله [لزمن يعيش] (9) الولد إذا انفصل في مثله كالستة الأشهر، [فأكثر] (10) ، وبين أن يكون انفصاله لزمنٍ يقول القوابل: لا [يعيش] (11) الولد بمثله.
__________
(1) في الأصل: "الذمي قبل".
(2) في الأصل: "مشعرة".
(3) في الأصل: "وفي".
(4) في الأصل: "اليمين".
(5) في الأصل: "الاستيفاء".
(6) أي أو أوجب الغرة.
(7) لم يرجح الإمام أيَّ طريقة من الطريقتين، والأصح في المذهب أن المدار في الحكم على اليقين، والانفصال علامة عليه، فإذا تحقق اليقين بغير الانفصال، فقد وجبت الغرة. (ر. الشرح الكبير للرافعي: 10/505، والروضة: 9/366) .
(8) ر. المختصر: 5/144.
(9) في الأصل: "من تعسر".
(10) في الأصل: "فصار مرا" (كذا تماماً) ولعل ما أثبتناه هو الصواب.
(11) في الأصل: "يعسر".(16/617)
واعترض المزني وقال: " هذا عندي سقَطَ [من الكاتب] " (1) ، والوجه (2) ألا نوجب إلا غرة؛ فإن هذه الحياة فانية لا حكم لها، والجاني يلتزم الغرة لمنع الحياة المستقرة (3) .
وقد أجمع أصحابنا على مخالفته؛ فإن الحياة إذا ثبتت [فالنظر] (4) إلى أنها تبقى لهذا الزمن أم لا تبقى- كلامٌ عريّ عن مأخذ الفقه، لا مستند له من تحقيق، وفي لفظ [السواد تردد] (5) ، ونحن نذكره على وجهه، ونذكر القدر الذي يقع الاستقلال في شأنه.
قال الشافعي: "لو خرج حيّاً لأقلّ من ستة أشهر وكان في حال لم يتم لمثله حياةٌ [قط] (6) ، ففيه الدية تامة" أما الكلام الذي ذكره، فمصرح بوجوب الدية، وإن قيل: لا يتم للجنين في مثل تلك المدة حياة. وقولُه بعده: "وإن كان في حال يتم فيه لأحد من [الأجنة حياة] (7) ، ففيه الدية" (8) [فوافق] (9) الكلامَ الأول. وحاصل الكلامين أن الدية تجب سواء انفصل لمدة تتمّ في مثلها [الحياة] (10) ، أو انفصل في مدة لا يتم في مثلها الحياة، فوقع الكلامان من غير رابط، [مصرّحَيْن] (11) بالتسوية [ولا مِرْية] (12)
__________
(1) في الأصل: "من كانت"، والتصويب من نص المختصر.
(2) الكلام من أول قوله: والوجه بمعنى كلام المزني، وليس بنصه.
(3) إلى هنا انتهى كلام المزني المنقول بمعناه.
(4) في الأصل: "بالنظر".
(5) في الأصل: "السرامردود" وهو تصحيف غريب عجيب. والله وحده المستعان على كل هذا العناء.
(6) سقطت من الأصل.
(7) في الأصل: "الاخر خيرة". (فانظر كيف يكتب هذا الناسخ. غفر الله لنا وله) .
(8) ر. المختصر: 5/144.
(9) في الأصل: "موافق".
(10) سقطت من الأصل.
(11) في الأصل: "فطرحه".
(12) في الأصل: "ولا مرح".(16/618)
فيه، فإنه رضي الله عنه ذكر القسمين، وحكم [فيهما] (1) بحكم واحد، فاقتضى ذلك التسوية.
واستدل المزني بمفهوم الكلام الأخير، وقال: لما قال: "إن كان في حال يتم فيه لأحدٍ من الأجنّة حياة، ففيه الدية" فمفهومه أنه إذا كان لا يتم في مثله الحياة لا تجب الدية.
ولا معنى لهذا التَّطريق، وصَدْرُ الكلام صريح في إيجاب الدية، [وإن] (2) كانت الحياة لا تتم، [فما الذي يُطرِّقُ] (3) إلى الكلامين خروجهما عن صيغة التسوية مع اشتمالهما على مقصود التسوية؟
10858- ثم استكمل أصحابنا الكلام في ذلك، فقالوا: إذا جنى جانٍ، فأسقطت المرأة جنيناً [حيّاً] (4) عليه أثر الجناية، ثم مات، وظهر انتساب موته إلى الجناية، وجب دية كاملة على عاقلة الجاني.
ولو كانت المسألة بحالها، فانفصل الجنين حيّاً، فابتدره إنسان وقتله، نُظر: فإن كانت الحياة مستقرة، وجب على القاتل القصاص، أو الدية الكاملة؛ فإن الذي صدر منه عمدٌ محضٌ.
وإن انفصل وهو في حركة المذبوح، وعليه أثر الجناية، فابتدره إنسان وحزّ رقبتَه، فلا شيء على هذا الثاني، والدية بكمالها على عاقلة الجاني الأول، والذي هو في حركة المذبوح في حكم الميت، وقد قدمنا استقصاء هذا في كتاب الجراح.
ولو كان في الجنين المنفصل حياة مستقرة، وأوجبنا القصاص على من قتله، فهل نوجب على الجاني حكومة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يجب عليه الحكومة، كما لو جرح إنساناً جرحَ حكومة، فجاء آخر، فاحتز رقبته، فعلى الجارح حكومة.
__________
(1) في الأصل: "منها".
(2) في الأصل: "فإن".
(3) في الأصل: "والذي يتطرق".
(4) في الأصل: "جنى".(16/619)
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني شيء، فإنه لم يتحقق [من] (1) جنايته على الجنين أثر للجناية. قلنا: نعم، ولكن لا مطلع على اتصال الجناية به، ولا أثر يوجد عليه، ويمكن تقديره من جهة الخلقة أو بسبب آخر، غير أنا إذا لم نجد من نحيل عليه، فلا سبيل إلى التعطيل.
10859- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن الجنين لو انفصل حياً، ولم تفرض جناية من جانٍ، فلو ابتدره إنسان وحز رقبته، فإن كانت فيه حياة مستقرة، فلا شك في وجوب القصاص على القاتل.
وإن كان في مثل حركة المذبوح، فاحتز إنسان رقبته، ولم تتقدم جناية، فيجب القصاص أيضاًً، وهو بمثابة ما لو حز رقبة إنسان مشرفٍ على الموت [واقعٍ في السكرات] (2) وقد تقدم ذلك كله.
والغرض الذي يجب التنبه له في هذا المقدار أن خروجه لدى الولادة وما يلقَى من عُسر في [الانفلات] (3) والانفصال، والحملُ كجناية متقدمة مفضية إلى [الهلاك (4) .
10860- ولو جنى على حربية حاملٍ، ثم أسلمت، وألقت بجنينٍ بلا] (5) حراك، فإن الذي عليه مجرى الظنون أنه مباح الدم، وقد ذكرنا في ذلك خلافاً بعيداً، حيث ذكرنا هذه المسائل أوائلَ الجراح، فالتفريع الآن على أن الضمان لا يجب على الجارح.
__________
(1) زيادة اقتضاها استقامة الكلام.
(2) في الأصل: "واقعة في السكران".
(3) في الأصل: "الانقلاب".
(4) مناسبة هذا الكلام عن أخطأر الحمل والولادة، هو بيان صحة الفرض في الصورة المتقدمة، حيث صور فيها الجنين ينفصل حياً ولكن في مثل حركة المذبوح، أي مشرفاً على الموت صائراً إليه لا محالة وذلك بغير أن تتقدم جناية، وإنما بعُسْر الانفصال وتعسر الولادة.
قال الغزالي: "إن الولادة من الأخطأر التي يغلب معها الهلاك من غير تقدير سبب، فإذا كان موت الجنين متصلاً بالولادة، وقد ألقته عقب الجناية، وليس عليه أثر الجناية، فلا يوجب ذلك حمله على الجناية لما ذكرناه من خطر الولادة".
(5) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، قدرنا أن كلاماً بمعناها سقط من الأصل، وذلك واضح من السياق حيث يشير إلى جنين حربي مباح الدم، ويفصل المسألة، مما أكد هذا السقط.(16/620)
فلو رمى إلى حربي، فأسلم الحربي، وأصابه السهمُ مسلماً، ففي وجوب الضمن وجهان- على قولنا: لو جَرحَ الحربيَّ ثم أسلم، ومات لا يضمنه، وسبب الاختلاف أن [الرَّمْي] (1) إنما يصير جناية عند مصادفة السهم المجني عليه، ولقد كان مسلماً إذ ذاك، وليس كذلك إذا وقع الجرح بالحربي، ثم فرض الإسلام من بعدُ.
وإذا تبين ما ذكرناه في [الرّمْي] (1) والجرح، عدنا إلى جرح الحربية الحامل وإفضاء الجرح إلى الإجهاض بعد إسلام الحامل (2) ، وجريان الحكم للجنين بالإسلام تبعاً، فمن أصحابنا من أهدر الجنين، فإن الجراحة وقعت بالحربية وهي مهدرة، فصار كسريان الجراحة الواقعة بالحربي إلى روحه، فالسريان إلى الجنين كالسريان إلى روح المجروح.
ومن أصحابنا من جعل الجناية المتصلة بالأم في حق الجنين بمثابة [الرمي] (1) ، وقد ذكرنا في [الرمي] (1) إذا جرى في حالة الإهدار [وحدوث] (3) الإصابة في حالة الضمان وجهين، فرجع حاصل الكلام إلى تردد الأصحاب في إلحاق هذه المسألة في حق الجنين بالجراحة أو بالرمي، كما قدمنا (4) ، والأصحُّ انتفاء الضمان.
ولو جرح مرتدة حاملاً، فإن كان ولدها مسلماً، فألقته بالجناية، وجب الضمان إذا كان مسلماً حالة الجناية.
10861- وإن كانت علقت بولدها من مرتد، ففي ولد المرتدة من مرتد قولان: أحدهما - أنه مسلم، فإنه جرت الجناية والجنين مسلم، فيجب الضمان، ولا حاجة إلى تصور إسلام المرتدة قبل الإجهاض، فإن قلنا: ولد المرتدة من المرتد مرتد، فإذا
__________
(1) في الأصل: " الذمي ".
(2) هذه هي المسألة المفروضة التي سقطت وزدناها، كما أشرنا في التعليق قبل السابق.
(3) في الأصل: " وجوب ".
(4) واضح أن الفرق بين الجراحة للحربي الذي يسلم بعدُ ثم يموت مسلماً ورَمْي السهم إليه وهو حربي، فيسلم قبل أن يصيبه السهم، ثم يموت مسلماً- ففي حالة الجراحة اتصلت الجراحة وتمت وهو في حالة الإهدار، أما في حالة السهم فلم تحدث إلا وهو مسلم معصوم. هذا هو الفرق. وفي مسألتنا (جرح الحربية الحامل) هل أُلقي الجنين بجناية اتصلت به عند الإلقاء فتكون كحالة الرمي أو اتصلت به عند الجناية على الأم، فتكون كحالة الجرح والسراية؟(16/621)
ضُربت حتى أَجْهَضَت جنينها، فلا ضمان، فإن أسلمت ويثبت الإسلام للولد تبعاً، كانت كالحربية الحامل إذا اتصلت [الجناية] (1) بها وأسلمت، ثم ألقت، وقد مضى تردد الأصحاب فيها.
فصل
"ويغرَمها من يغرَم ديةَ الخطأ ... إلى آخره" (2) .
10863- والمراد أن بدل الجنين مضروب على العاقلة أبداً، فإنه ترتب وجوبه على خطأ أو شبه عمد، ولا يتصور اعتماد الجنين بالجناية عليه، فإن قيل: لم لا يتصور ذلك؟ قلنا: لأن حياة الجنين غير معلومة في الأصل، بل وجوده غير معلوم، ثم ليس مباشراً بالجناية، فاتفق العلماء على أن العمد المحض لا يتصور فيه.
ثم إن كان الواجب غرة، فهي مضروبة على العاقلة، وقد تقدم أنها مضروبة عليهم في سنة أو سنتين، والذي جدده الشافعي في هذا الفصل أن قال: إذا كانت أعداد العاقلة وافية [بالتزام] (3) الغرة، فالإمام يضرب عليهم الغرة.
فلو قالوا: نبذل قيمتها، أفهل يقبلها، (4) مستحقها، قيل: لابد من تحصيل
الغرة، ثم الإمام بالخيار: إن أحب أن يلزمهم أن يحصّلوها بالحساب المعلوم
بالتوظيف عليهم، وكل واحد يبذل حصته، ثم يسعَوْن أفي ابتياع، (5) الغرة، فإنه إنما
يضرب على العاقلة ما وجب بالجناية، وكذلك نقول أفيما وجب، (6) إذا ضربنا الدية
عليهم، فيتقسط عليهم قيمة الإبل، ثم عليهم أن يجمعوها ويحصّلوا بها الإبل.
(2)
(3)
(6)
في الأصل: "بجناية ".
ر. المختصر: 5/144 وهذا الفصل قبل الفصل السابق في ترتيب (السواد) وقد أشار الإمام
إلى هذه المخالفة في الترتيب في الفصل السابق.
في الأصل: "قالتزم ".
في الأصل ت " فليقبلها ".
في الأصل:، من اتساع ".
في الأصل: "ما وجب ".(16/622)
فإن أراد الإمام أن يتولى [شراء] (1) الغرة، فهذا من جهات إعانته، والأصل أنهم مطالبون بالغرة، إذا وفت أعدادهم، ولو قال الإمام: [إليَّ] (2) بالدنانير وأنا أشتري بها الغرة، فلهم أن يقولوا: الإبل نحن نشتريها، وهذا بعينه يجري في الإبل.
ولو كانت أعدادهم لا تفي إلا بنصف الغرة، فالواجب عليهم نصف قيمة الغرة، لا قيمة نصف الغرة، بين العبارتين بون عظيم (3) ، فإنا لو أوجبنا عليهم نصف قيمة الغرة، وقد يؤخذ نصف العبدبما [يقل] (4) عن نصف قيمته، فيكون هذا عيباً وتنقصاً، وإذا أوجبنا نصف قيمة الغرة، فمعناه أن نعرف قيمة غرة مجزئة، كما تقدم [وصفها] (5) ، ثم نضرب نصف ذلك المبلغ على العاقلة، ثم إذا كان في بيت المال مال، فيُكَمَّل من بيت المال، ونحصّل غرّة مما ضربناه على العاقلة، ومما ضربناه على بيت المال.
فصل
قال: "وإن أقامت البينة أنها لم تزل ضمنة من الضرب ... إلى آخره" (6) .
10863- إذا جنى على حاملٍ، فأتت بولد ألقته مجهضاً، وقالت: هذا الولد ألقيته بجنايتك، فقال المدَّعى عليه: استعرتيه، أو لقطتيه، فالقول قوله مع يمينه، وعليها البينة؛ لأن الأصل براءة الذمة.
ولو سلم لها أنه ولدها، ولكن [أنكر] (7) الجناية عليها، فالقول قوله، وعليها البينة؛ فإن الأصل براءة الذمة وعدم الجناية، فإن سلم لها الإلقاء، وسلم الجناية،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) زيادة اقتضاها السياق، واخترنا هذا اللفظ نظراً لوجود (الباء) في قوله: بالدنانير.
(3) الفرق واضح فقد تكون قيمة العبد ألف دينار، ولكن إذا أردنا أن نشتري نصفه لا يصل إلى أربعمائة، فإن التنصيف من العيوب، كما هو معروف، وعليه فنصف القيمة خمسمائة، وقيمة النصف أقل من أربعمائة.
(4) في الأصل: "يؤخذ".
(5) في الأصل: "وضعها".
(6) ر. المختصر: 5/144 وضمنة: من قولك: ضَمِن فلانٌ إذا أصيب بعاهة أو علة أو ألم (المعجم) .
(7) زيادة من المحقق.(16/623)
وادعى أنها ألقته بسبب آخر، فإن ألقته عقيب الجناية، فالقول قولها؛ إذ الظاهر معها، ولا بد من يمينها؛ إذ لا (1) [يقبل القول بغير يمين، وإذا ألقته بعد مضي مدة من وقت الجناية، فهو المصدق باليمين؛ لأن الظاهر معه، إلا أن تقيم بينة أنها لم تزل ضَمِنة متألمة من الجناية حتى أسقطت، ولا تقبل هذه الشهادة إلا من رجلين] (2) .
[فإن سلّم أنه ولدُها، وأنه جنى عليها، وأنها ألقته بسبب جنايته، ولكن اختلفا: فادعت أنه مات بعد أن انفصل حياً حياة مستقرة؛ فتجب الدية كاملة، وادعى هو أنه انفصل ميتاً، فتجب الغرة، فالأصل عدم الحياة، ولها إقامة البينة، ويكتفى بأربع نسوة إذا ادعت الموت على القرب، لأن اطلاع الرجال عليه عسير.
ونقل الربيع قولاً آخر أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين، أما إذا اعترف بدوام الحياة إلى وقتٍ لا يعسر اطلاع الرجال عليه؛ فلا تقبل شهادة النسوة] (3) ذلك أن خروج الولد وانسلاله في السبيل الذي يسّره الله له، بمثابة تردّدات الأحياء في مداخلهم ومخارجهم (4) ، فهذا ما ينبني الأمر عليه.
فصل
قال: "ولو ضربها، فألقت يداً ... إلى آخره" (5) .
10864- إذا جنى على حامل، فألقت يداً أو عضواً آخر وماتت، وجبت الغرة على
__________
(1) هنا بياض قدر كلمة، بعد قوله: "إذ لا" والمؤكد أن هذا بياض يشير إلى وجود سقط في هذا الموضمع، فالمسألة لم تتم، وما ذكره بعد البياض واضح أنه كلام لا يمكن وصله بما قبله بكلمة أو كلمتين، بل متعلق بصورة أخرى غير الصورة التي فيها الكلام.
(2) ما بين المعقفين تكملة للصورة مكان السقط، وهو مأخوذ من نص كلام الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 10/527) .
(3) ما بين المعقفين تكملة لصور النزاع التي قدرنا أنها سقطت من الأصل، وهي في جملتها من كلام الغزالي في (البسيط: 5/ورقة: 88) .
(4) هذه العبارة -بعد المعقفين- في مقام التعليل لاشتراط الرجال في الشهادة عندما تكون الوفاة بعد مدة لا يعسر اطلاع الرجال على حياة الجنين فيها.
(5) ر. المختصر: 5/145.(16/624)
الجاني في محل الغرة، وهذا من معاقد المذهب، لم يختلف الأصحاب في وجوب الغرة بكمالها، وإن لم ينفصل جنينٌ تام؛ فإنا استيقنّا كون (1) الجنين، إذ اليد الواحدة لا تخلق، ثم انضم إلى [الاستيقان ما هو انفصال] (2) ، وليس كما [لو ظهر] (3) من الجنين شيء، ولم ينقطع ولم ينفصل [فإنا] (4) ذكرنا اختلاف الطرق فيه، والأصح في القياس إيجاب الغرة، ثم أيضاًً لما ذكرناه من الاستيقان.
ولا تنفصل الصورة التي ذكرناها [عن التي تقدمت إلا بتحقق الانفصال] (5) في هذه الصورة، وهذا ليس فرقاً قويّاً؛ فإن الانفصال لم يتحقق في الجنين بجملته، وإنما تحقق في عضو من أعضائه، ولو كنا نوجب قسطاً من غرة، لظهر الفرق، فأما وقد أوجبنا بسبب انفصال إصبع غرة تامة، فلا وجه لذلك إلا التعويل على الاستيقان، وهذا يوجب التسوية بين أن يظهر عضوٌ ولا ينقطع، وبين أن ينقطع وينفصل.
ولو ألقت المرأة يدين أو أربعة أيدي أو أكثر، فلا نوجب إلا غرة، [لأنا لا نبعد] (6) أن يكون للجنين أربعة أيدي، وكذلك لو ألقت رأسين، فلا نوجب إلا غرة، وقيل: كان ببغداد امرأة لها رأسان، فنكحها الشافعي بمائة دينار، وأنسأ (7) صداقها، ونظر إليها، وطلقها. ولو ألقت [بدنين] (8) ، فغرتان، فإنه لا يبقى للاحتمال وجه، ولا طريق إلا الحكم بتعداد الجنين.
ولو ألقت يداً ثم ألقت الجنين، لم يخل إما أن يكون حيّاً أو ميتاً، فإن كان ميتاً، فالواجب غرة واحدة، سواء كان على الجنين [أثر] (9) انقطاع اليد عنه أو لم يكن عليه؛
__________
(1) كون: أي وجود؛ فإن كان هنا تامة.
(2) في الأصل: "الاستيفاء وما هو انفصال".
(3) في الأصل: "لو ردّ".
(4) في الأصل: "فأما".
(5) في الأصل: "إلا عن التي تقدمت، ولا يتحقق الانفصال".
(6) في الأصل: "لا فالا نبعد".
(7) عندالغزالي: "وسلم صداقها" كذا جاء في البسيط.
(8) في الأصل: "يدين".
(9) في الأصل: "أي".(16/625)
[إذ] (1) قد يفرض الاتصال به ثم الالتحام وانمحاء الأثر في [البطن] (2) .
10865- ولو انفصل حياً تامّ الخلقة واستمرت الحياة، فيجب في اليد المنفصلة حكومة، ويحمل الأمر على تقدير يد زائدة.
ولو انفصل حياً، وليست عليه [إلا] (3) يد واحدة، فنوجب على الجاني نصفَ الدية، يعني على عاقلته.
ولو ألقت يداً، ثم ألقت جنيناً بفرد يد، ومات من أثر الجناية (4) ، فيجب دية كاملة، ويندرج أرش اليد تحته.
ولو ألقت يداً، ثم انفصل الجنين بعده حياً بفرد يد، فقد قال صاحب التقريب: نرجع إلى القوابل فإن [قلن] (5) : لا تتصوّر اليد إلا بعد الحياة، فنوجب على عاقلة الجاني نصف الدية (6) ، وإن [قلن] (7) : يخلق الله [اليد] (8) ، ثم تنسلك فيها الروح (9) ، أو شككن في ذلك، فنوجب حينئذ في اليد نصف غرة، وهذا التفصيل لصاحب التقريب، والذي عليه الجمهور أنه لا معنى لمراجعة القوابل، ولا مطلع على حقيقة هذا، وإنما نربط حكمنا بجنين [حيٍّ] (10) أسقطت الجناية يده، فيجب نصف الدية.
__________
(1) في الأصل: "اصرار" (كذا) .
(2) في الأصل: "الظن".
(3) زيادة من المحقق.
(4) أي بعد ما ألقته حياً حياةً مستقرة.
(5) في الأصل: "يكن".
(6) يجب نصف: أي أرشاً لليد التي انفصلت بالجناية.
(7) في الأصل: "يكن".
(8) في الأصل: "الأرواح".
(9) المعخى أننا إذا تحققنا -بقول القوابل- من أن اليد انفصلت بعد أن خلقت فيه الحياة، فيجب نصف الدية، وإلا، فيجب نصف الغرة، هذا كلام صاحب التقريب والجمهور على خلافه.
(10) في الأصل: "حتى".(16/626)
[باب جنين الأمة] (1)
10866- هذا الباب مقصود في نفسه، ونمهد به قاعدةَ القول في الأجنة، فنقول أولاً: إذا جنى على أمةٍ حامل بجنين رقيق، فالواجب في الجنين عُشر قيمة الأم عند الشافعي رضي الله عنه، ولا فرق بين أن يكون ذكراً أو أنثى إذا انفصل ميتاً. وإن انفصل حياً ومات من أثر الجناية، اعتبرت قيمته يوم الانفصال.
ثم أطلق الأصحاب القولَ في أن الواجب في الجنين الرقيق المنفصل ميتاً مأخوذٌ مما يجب في الجنين الحرّ، [فإنا] (2) إذا رجعنا إلى الإبل، فإنا نوجب خمساً من الإبل، وهي عُشر دية الأم الحرة المسلمة.
وقال قائلون: الجنين في حكم [الجزء من الأم] (3) ، وقد ذكرت في الأساليب وغيرها من المجموعات المشتملة على [التشوّف] (4) إلى الحقائق: أن الجنين الرقيق ليس جزءاً من الأم الحرة، ولكن المقدار الذي وجب بالشرع فيه مثلُ عشر قيمة الأم، أو مثل عشر دية الأم، فكيف يستدّ اعتقاد الجزئية مع القطع بأن ما يجب في الجنين الحر ليس مصروفاً إلى الأم، [كما] (5) نصرف إليها أرش أطرافها. ولكن الواجب موروث مقسوم على الورثة، وقد ذكرنا ميراث الأجنة، ومن يتصور أن يرثهم في كتاب الفرائض.
فخرج مما ذكرناه أن الواجب في الجنين لو انفصل حياً ومات على الفور، فقد تكون قيمته ديناراً، [وإذا] (6) انفصل ميتاً، فقد أوجبنا مثل عشر قيمة الأم، فقد تبلغ خمسين ديناراً، فيؤدي مجموع ما ذكرناه أن يكون الواجب في الجنين المنفصل ميتاً أكثر من الواجب في الجنين المنفصل حياً، وسبب ذلك أنا لم نتمكن من اعتبار
__________
(1) في الأصل: "فصل"، والمثبت من " مختصر المزني ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "الحر ومن الأم".
(4) في الأصل: "التشويف".
(5) في الأصل: "وكما".
(6) في الأصل: "فإذا".(16/627)
الجنين في نفسه إذا انفصل ميتاً، ولم يرد في الجنين الرقيق نصٌّ نتبعه، ووجدنا تقدير الحياة عسراً، [فكان] (1) أقربُ معتبر أن ننظر في الجنين الحر، وإلى بدله المنسوب إلى دية الأم، فأفضى [التقدير] (2) إلى ما ذكرناه.
وإنما كان يبعد تفضيل [الميت على الحي] (3) لو كنا نعتبر الميت بنفسه، ومن هذا ظن ظانون أن الواجب في الجنين الرقيق عُشر قيمة الأم، على التحقيق. وهذا محال؛ فإنه إنما يجب جزء من بدل الأصل فيما هو جزء من الأصل، ويستحيل أن نعتقد أن الجنين مقدر على هذا التقدير، لما أشرنا إليه من أن الأمر لو كان كذلك، لاختصت الحرة [الحامل] (4) بغرة جنينها اختصاصها بأروش أطرافها لو قطعت.
10867- ومما يتعلق بتحقيق أصل الباب أن الجنين لو كان حراً والأم رقيقة، فالواجب في الجنين غرة، كما لو كانت الأم حرة، فإن قيل: كيف التقدير والتعلق به، وقد ذكرتم أن بدل الجنين معتبر ببدل الأم [تقديراً] (5) وإن لم يكن جزءاً منها تحقيقاًَ؟ قلنا: قد أبان الشرع بدل الجنين الحر المسلم، فاعتبرنا بيان النسبة التي ذكرناها، فجعلنا بدل الجنين المملوك من الأم الرقيقة كبدل الجنين الحر من الأم الحرة.
وتكلّف الأصحاب في هذا المقام أمراً أغناهم الله عنه، فقالوا: إذا خالف الجنين الأمَّ بالحرية، لم يمكننا أن نوجب فيه جزءاً من القيمة؛ فنقدّر [الأم حرّة] (6) حتى تكون مساويةً للجنين في [الحرية] (7) ، ثم نوجب ما ذكرناه من عُشر الدية.
وهذا لا حاجة إليه؛ فإن ما وجدنا نصاً فيه، وجب الاكتفاء به، [واعتبارُ] (8) غير
__________
(1) في الأصل: "وكان".
(2) في الأصل: "التقرير".
(3) في الأصل: "الحي على الميت".
(4) في الأصل: "الحاصل".
(5) في الأ صل: "تقريراً".
(6) في الأصل: "الأجرة" (تماماً) .
(7) في الأصل: "الجزئية".
(8) في الأصل: "وأخبار".(16/628)
المنصوص بالمنصوص، فالأصل ما قدمناه من اتباع النص، وإذا كان الواجب غرةً، فلتكن دية الأم غرراً إذا كانت حرة، فليس الانتساب بالجزئية أصل الباب. وفي هذا القدر مقنع.
ولو كانت الأم نصرانية، والجنين مسلماً بإسلام الأب، فنوجب في الجنين الحر المحكوم بإسلامه غرة للنص، ومن اعتبر تقدير المساواة (1) يزعم أنا نقدّر الأم مسلمة -كما قدمناه في تقدير الأم الرقيقة حرة- وهذا من باب تلقِّي [الأصول] (2) عن المفرَّع عليه. والمنهجُ [الحق] (3) تأصيل النصوص وإلحاق المسكوت عنه بها، كما قدمناه.
10868- ولو كان الجنين المنفصل كامل الخلقة، وكانت الأم زمنة، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: نقدر الأم كاملةً، ونقوّمها، ثم ننسب بدل الجنين إليها بجزئية العُشر، كما فصلنا ذلك في [الحرّيّة] (4) والإسلام.
ومن أصحابنا من قال: لا نقدر سلامة الأم، بل نقوّمها على ما هي عليه، ونوجب في الجنين عُشرَ قيمتها.
وهذه المسألة والتي بعدها [بهما غموض] (5) ، فليتدبر الناظر مأخذ الكلام فيهما؛ وذلك أنا وجدنا في الجنين الحر نصاً متبعاً، فلم [نتخذ] (6) التقدير أصلاً معتبراً، وإذا كان الكلام في الجنين الرقيق، فنضطر إلى التصرف في النسبة المأخوذة من [القيمة] (7) ، هذا وجه من الغموض.
والوجه الآخر- أن سلامة [خلقة] (8) الجنين لا معوّل عليها إذا انفصل ميتاً؛ فإن
__________
(1) تقدير المساواة: المعنى تقدير مساواة الأم للجنين في حالة فضله عليها بالحرية أو الإسلام مثلاً.
(2) في الأصل: "النصوص".
(3) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(4) في الأصل: "الحربية".
(5) في الأصل: "مهما عرض".
(6) في الأصل: "ينجر".
(7) في الأصل: "القسمة".
(8) في الأصل: "حكومة".(16/629)
[خلقة] (1) الجنين لا تعويل عليها، [ما لم] (2) نتحقق [اتصال الروح بها] (3) ، وإنما تتعلق سلامة الأعضاء بكمال منافعها لا بصورها، ولو [انسلكت] (4) الروح ربما كانت لا تنفذ في [عضوٍ أو أعضاء، فتَسْلم صورُ الأعضاء وتنفكّ عن اللطائف والمقاصد، ولا مطّلع عليها] (5) ، فلا تعويل على خلقة الجنين.
وإذا أحاط المحيط بما ذكرناه أجرينا بعده خلاف الأصحاب، فمن راعى سلامة الأم، تمسك بما قدمناه في الحرة، وعضَّده بأن الجنين ليس جزءاً منها، بل هو معتبر بها، وإنما يصح اعتباره بها، إذا كانت الأم مساوية للجنين.
والأصح عندنا ما قدمناه من أن خلقة الجنين لا تعتبر، وإذا كان في الرق والدين بمثابة الأم، فلا نظر إلى الخلقة، وليس كذلك الحرية والإسلام؛ فإنهما حكمان ثابتان (6) ، وقد [يعارض] (7) هذا أن الإسلام إنما يتصف به ذو روح [ثم يرفع] (8) حكمه بعد الموت (9) ، والحريةُ كذلك، فإذا لم نتحقق انسلاك الروح، لم يثبت حريةٌ ولا إسلام.
وهذا غير سديد، فإنا إذا كنا نثبت الإسلام لمن نعرف قطعاً أنه لا يعرف (10) ، فلا
__________
(1) في الأصل: "خلق".
(2) في الأصل: "ولم".
(3) في الأصل: "انفصال الروح منها" وعبارة الأصل فيها تكرار وتداخُل حذفناه، وأقمنا العبارة، ولم نسجله في الهامش تفادياً للإملال والإطالة.
(4) في الأصل: "انسلت".
(5) عبارة الأصل: "في عضو وأعضاء السدد في النواظر لا مطلع عليها" ... والتغيير والتعديل مأخوذ من ألفاظ الغزالي فى البسيط.
(6) في العبارة شيء من القلق والاضطراب. فإن الحرية والإسلام هما الرق والدين، فكيف يشبه الثيء بنفسه.
(7) في الأصل: "يعرض".
(8) في الأصل: "لم تدمع".
(9) عبارة الأصل استعصت على الاستقامة بدون حذف أربع كلمات، وتغيير كلمتين (في التعليق السابق) فقد كانت العبارة هكذا: "لم ندفع حكمه من طريق السر والحرية بعد الموت".
(10) كما نثبته للجنين، واللقيط، والوليد الذي يستهلّ صارخاً ويموت لساعته، ونحوهم.(16/630)
يبقى بعد هذا للروح أثر، والحرية عدم الرق، فهذا منتهى الكلام في صورة واحدة (1) .
10869- الصورة الثانية مفروضة فيه إذا كان الجنين زمناً. والأم سليمة الأطراف، وقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة على نحو ما ذكرناه، وقد ذهب بعضهم إلى أنا نوجب عُشر قيمة الأم، ولا اعتبار بزمانة الجنين، وهذا هو الوجه عندنا.
وذهب آخرون إلى أنا نقدر الأم زمنة بمثل زمانة الجنين، ثم نقوّمها على هذا [التقدير] (2) ، ونوجب في الجنين عُشر القيمة والأم زمِنة رعايةً للتسوية.
وفي هذه الصورة مزيد إشكال؛ من قِبل أن ما يفرض من نقصان في [الجنين يمكن إحالته] (3) على الجناية، وإذا كان [ذلك] (4) ممكناً، فلا يصفو الكلام في تصوير زمانة الجنين، فإن أمكن التصوير، فالوجه مع ذلك ألا نعتبر خِلْقة الجنين لما مهدنا.
فإن جرينا على ترك اعتبار خلقة الجنين، فلو انفصل من الأم عضو فماذا نوجب، ونحن لا نُبعد أن يكون الجنين المجني [عليه] (5) في البطن على زمانة ونقصان خِلقة؟
__________
(1) هذه الصورة هي ما إذا كانت الأم زمنة، فألقت جنيناً سليماً، ولكثرة التصحيف والتحريف في عبارات المسألة مما جعلنا نشعر بقلق العبارة فيها، رأينا أن ننقل المسألة كاملة بعبارة الإمام الغزالي وألفاظه، قال: "ولو كانت الأم زمنة مقطوعة الأطراف، والجنين سليم، فمنهم من قال: نقدر للأم السلامة، كما قدرنا لها بسبب حرية الجنين وإسلامه صفة الحرية والإسلام، فإنه بدل الجنين، وإنما ذاك معياره، وتقدير هذا الوصف ممكن.
ومنهم من قال: لا نقدّر السلامة، فإن سلامة الجنين، لا يوثق بها، وربما تسلم صورة الأعضاء وتنفك عنها اللطائف والمقاصد.
وأما حريته وإسلامه، فمعلوم موثوق به، ولأن هذه صفة خلقية لا سبيل إلى التقدير فيها، فإنا لا نقدر ذكورة الأم إذا اختلفت القيمة بالذكورة".
(2) في الأصل: "التقرير".
(3) في الأصل: "في الجنس يمكن إزالته".
(4) في الأصل: "كذلك".
(5) زيادة اقتضاها السياق.(16/631)
[ولئن] (1) كان هذا السؤال لا ينقدح في الجنين الحر -فإن أبدال الأحرار لا تختلف بالزمانة والسلامة- فهو منقدح في الجنين الرقيق.
والذي أراه أن الأمَة إذا أسقطت بسبب الجناية، [استحقت] (2) القطع والإعراض عن تقدير خلقة الجنين في هذه الصورة، [فلو] (3) أُلزمنا ذلك، وقلنا: لا نوجب إلا الأقل، [ولا نسفل درجة] (4) من غيرثبت، فأين الموقف؟ وإلى أي حد يصور [نقص] (5) الجنين؟
وهذا لو خضنا فيه، أفضى إلى ألا نجد مبلغً في واجب الجنين، وقد أسقطت الأم يداً، فلا وجه إلا تقويم الأم، وإيجابُ عُشر قيمتها، ثم كما لا نعتبر الصفة من السلامة إلى نقيضها، والأم سليمة، فكذلك لا نعتبر في هذه الصورة سلامة الأم، والأم زمنة، بل [نترك] (6) هذه التقديرات، ونقوّم الأم على ما نصادفها عليه (7) .
ولا يتجه إلا هذا، والملقى عضو.
10870- ومما يتعلق بتمام البيان في فقه الباب أنا إذا اعتبرنا قيمة الأم، أوجبنا في الجنين الرقيق عشرها، فظاهر النص " أنا نعتبر قيمة الأم يوم الجناية " (8) وقال المزني: ["يوم تُلقيه"] (9) ، وقد وافق المزني طائفةٌ من الأصحاب، منهم الإصطخري، واحتج المزني في توجيه ما اختاره، [بأن] (10) الاعتبار بيوم الإلقاء في مقدار القيمة أيضاًً.
__________
(1) في الأصل: "ومن".
(2) في الأصل: "افتتحت".
(3) في الأصل: "فالوا".
(4) في الأصل: " نستقل دحـ ـه " كذا تماماً.
(5) في الأصل: "بعض".
(6) في الأصل: " ينزل ".
(7) الأصح في المذهب أن تقوّم الأم الزمنة كاملة الأطراف، أما في الصورة الثانية، فالمذهب على ما اختاره الإمام (ر. الشرح الكبير: 10/516) .
(8) ر. المختصر: 5/145.
(9) في الأصل: "قد يجب". والمثبت من المختصر: (5/145) .
(10) في الأصل: "فإن".(16/632)
ومن نصر ما عليه الجمهور -وهو ظاهر النص- احتج بأن قال: من جنى على عبد قيمته بالسوق يوم الجناية مائة، فمات من تلك الجناية، وقد تراجعت قيم العبيد، ولو فرضناه سليماً يوم الموت، لكان لا يساوي إلا خمسين، فالواجب على الجاني مائة، وسبب ذلك أنا نغرِّم الغاصب أقصى قيمةً من يوم الغصب إلى يوم التلف، لمكان يده العادية، واتصال الجناية في هذا المعنى أقوى من اتصال اليد، فإن اليد ليست [سبب] (1) الهلاك، والجناية سبب الهلاك.
وإذا ثبت ذلك في العبد، فليكن حكمُ الجنين المنسوب إلى الأم مُجرىً على هذا القياس. وهذا القائل يفصل بين ما يفرض من التفاوت في القيمة وبين ما يطرى من الجناية أو الإسلام على الجنين، ويقول: إذا عَتَق الجنين، فقد [كمُل] (2) بنفسه واختص بصفة لا توصف الأم بها، فنقطع حقيقة التبعية، ويجب اعتبار الحرية يوم الإلقاء، وهذا لا يتحقق في الجنين المملوك.
وما أطلقه الأصحاب في هذه المسألة لا يغني ولا يَشفي الغليل، ونحن نوضح حقيقة المسلكين، ونستعين بالله.
10871- أما من اعتبر يوم الجناية، فيعارضه سؤال، وفي الجواب عنه بيان حقيقة المسألة؛ وذلك أن قائلاً لو قال: إذا كنا نجعله بالجناية [كصاحب] (3) العدوان باليد، فلا معنى لتخصيص يوم الجناية؛ فإنا لا نخصص في حق الغاصب يوم الجناية بالذكر والحكم، بل نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التلف، والجواب: أن الأمر كذلك في الجراحة، ولم يقصد الشافعي بذكر يوم الجناية قَطْعَ الاعتبار عما بعده، فلا نظن يتحقق إسقاط اعتبار قيمته يوم الوضع إذا كانت تلك القيمة أكثر من قيمة يوم الجناية، وغرض الشافعي بذكر يوم الجناية بيان ابتداء وقت الاعتبار، فمبتدؤه من وقت الجناية ومنتهاه يوم الإلقاء، والمعتبر أعلى قيمة من يوم الجناية إلى يوم الإلقاء.
هذا بيان هذا المذهب.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "تأمل".
(3) في الأصل: "لصاحب".(16/633)
وأما ما ذكره المزني وتابعه عليه شرذمة من الأصحاب، فيترتب عليه أن الأم لو ماتت، ثم انفصل الجنين بعد الموت، فلا سبيل إلى اعتبار يوم الانفصال؛ فإن الأم لا قيمة لها، [بتقدم يوم] (1) الموت، [والأحرى] (2) أن نعتبر حياتها يوم الإلقاء، وننظر محل القيمة على هذا التقدير، والعلم عند الله تعالى.
وهذه المسألة تبين نهايتها بفروع لابن الحداد في أحكام الأجنة، ونحن نأتي بها على الاتصال، إن شاء الله تعالى.
فصل
10872- إذا جنى جان على حامل بجنين حر، فظهر الجنين وبه حياة، فأبرزه إنسان وحز رقبته، واحتمل أنه صار بجناية الأول إلى حركة المذبوح، واحتمل أنه لم يصر بجنايته كذلك، والثاني صادفه في حياة مستقرة، فإذا احتمل الأمران كذلك، فننظر إلى الدعوى، فإن ادعى مستحق البدل أن الأول [صيّره] (3) إلى حركة المذبوح، فهذ إبراء منه للثاني، وإن ادعى [أن الأول خلّفه] (4) مستقراً، فقد أبرأ الأول [إلا عن] (5) الحكومة، وفيها خلاف قدمناه.
وإذا أبرأ الثاني وادعى على الأول أنه [صيّره] (6) إلى حركة المذبوح، فأنكر الأول، فالقول قول الجاني؛ فإن أصل الحياة متفق عليها عند الانفصال، وقد جرى من الجاني ما يمكن إحالة القتل عليه، فلا وجه إلا تحليف الجاني، فإن حلف برىء، وقد برىء الثاني، وإن نكل ردت اليمين على المدعي.
فإن أبرأ الأول وادعى على الثاني أنه جنى على المولود وفيه حياة مستقرة، وقد أبرأ
__________
(1) في الأصل: " ويتقدم رسوم ".
(2) في الأصل: "والأخرى".
(3) في الأصل: "نعتبره".
(4) في الأصل: "الثاني خلافه".
(5) في الأصل: "الأعنى".
(6) في الأصل: " يصير ".(16/634)
الأول إلا عن الحكومة، وفيها خلاف ثَمَّ-[فالقول] (1) قول هذا الثاني؛ فإن استقرار الحياة غير معلوم، وقد جرى من الأول ما يمكن إحالة القتل عليه.
هذا هو الأصل إن أجرينا الدعاوى على قياسها المطرد.
ولكن إذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فقد تردد قتيلٌ بين شخصين، والحالة حالة اللوث؛ فلمن يستحق البدل أن يُقسم على من يعيّن [منهما] (2) ، فإن اللوث قد تحقق منهما، وسنذكر في كتاب القسامة أن ظاهر اللوث إذا ثبت في حق جماعة في مجلس القاضي، فلا يشرط أن يثبت عند القاضي [تعيين] (3) اللوث في المدعى عليه منهم.
فهذا مقر المسألة. ولولا اللوث وأصل القسامة، لكانت الدعوى تُفْصل على حسب ما قدمنا ذكره.
فصل
10873- إذا كان بين زيد وعمرو جاريةٌ مشتركة، وهي حامل من الزنا أو النكاح، فجنيا عليها معاً، وأعتقاها بعد الجناية معاً، فألقت الجنين من الجناية، فقد قال ابن الحداد: يغرَم كل واحد منهما ربع غرةٍ للجنين، فإن جناية كل واحد صادفت ملكه وملك شريكه، فهَدَر جنايتُه في نصيبه، ويكون سبب الضمان [جنايتُه] (4) في ملك صاحبه، وقد وقعت جناية زيد سابقةً على ملك نفسه وملك عمرو، كذلك وقعت جناية عمرو.
ثم إذا غرم زيدٌ ربعَ الغرة، وكذلك عمرو، فقد قال: يصرف الثلث مما تحصّل من الغرامة إلى الأم العتيقة؛ فإنها ترث الجنين، فتستحق مما غرمه السيدان الثلث ويصرف الباقي إلى عصبة الجنين، [ولا] (5) يستحق واحد من السيدين شيئاً، فإنه إنما
__________
(1) في الأصل: " القول ".
(2) في الأصل: " فيهما ".
(3) في الأصل: "تغيير".
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "ولأن".(16/635)
يغرم كل واحد منهما بجنايته على ملك صاحبه، ويستحيل أن يغرم الجناية على ملك الغير، ثم يرجع إليه منه شيء.
وتمام الجواب في المسألة أن يقال: قد غرم زيدٌ بسبب الجناية على ملك [عمرو] (1) ، فينبغي أن يقال: إن الذي غرمه زيد وهو ربع [الغرة] (2) ، فلعمرو منه الأقل من ربع عشر قيمة الأم أو [ربع الغرة] (3) ، وهذا أصح القولين في كيفية رعاية ما يستحقه السيد إذا صادفت الجناية رقاً ثم يعقب العتقُ، وليقع الاختصار على هذا القول، وكذلك القول فيما يغرمه عمرو لزيد، فلزيد منه الأقل كما قلناه، فإن لم يفضل شيء فلا شيء للأم، ولا لورثة الجنين، وإن فضل شيء مما ذكرناه، فالثلث من الباقي للأم والباقي لعصبة الجنين، وإن لم يكن له عصبة من الأقارب، فلا نصرف ما يورث من الغرة إلى المعتِقَيْن، فإنهما قاتلان، فلا يرث القاتل.
وهذا الذي طردناه سديد حسن، ولكنه تفريع على أن ما يصادف الجنينَ المملوك من جناية المالك، فهو هَدَرَ.
ولبعض الأصحاب مذهب أن المالك إذا جنى على مملوكه ثم أعتقه، ضمن السراية، وهذا الوجه يجوي لا محالة في الجنين المملوك.
فإذا قلنا: لا يهدر جناية المالك عليه، فإذا جنيا على الجارية المشتركة كما صورناه وأعتقاها، فألقت الجنين حراً ميتاً، فيغرم كل واحد منهما نصف الغرة، [ثم لا استحقاق] (4) منهما على سبيل الإرث [نسباً] (5) ، ولكن يجب أن يقال: إن زيداً غرم نصف الغرة، ونصف ما غرمه في مقابلة ملك نفسه، وهو ربع الغرة، [وهو
__________
(1) في الأصل: "زيد".
(2) في الأصل: "الغرم".
(3) في الأصل: "ربع عشر الغرة" وإيجاب ربع عشر قيمة الأم على اعتبارنا حالة الجناية وهي الرق، فالواجب في الجنين عشر قيمة الأم. أما إيجاب ربع الغرة فعلى اعتبارنا بحالة إلقاء الجنين، وهي الحرية، فالواجب في الجنين غرة. فالمستحق لكل شريك من الشريكين الأقل من التقديرين.
(4) في الأصل: "ثم الاستحقاق".
(5) في الأصل: "سببا".(16/636)
لا] (1) يستحق منه شيئاً، لأنه ملزَم غارم، وكيف يستحق ما غرمه، ولا يستحق شريكه منه، فإنه على مقابلة جناية ملك نفسه، فيخلص ذلك للورثة، وهو ليس منهم، وأما الربع، الذي غرمه على مقابلة الجناية على ملك الثاني، فليغرم منه الأقل من ربع عشر قيمة الأم أو ربع الغرة، كما قدمنا ذكره، وهذا يجري في حق كل واحد منهما.
وهذا الوجه ضعيف، لا أصل له، والصحيح إهدار الجناية فيما يقابل ملك الجاني.
فصل
10874- إذا مات رجل، وخلف زوجة [وأخاً] (2) لأب وأم، وكانت الزوجة حاملاً بولد من الميت، وخلف عبداً، فلو ضرب العبد بطن الزوجة، وألقت الجنين ميتاً، [فلا] (3) ميراث للجنين؛ فإنه انفصل ميتاً.
ثم تلخيص القول في هذه المسألة أن يقال: لو قدرنا الغرة واجبة على جانٍ، لكان ثلثها للأم، وهي زوجة الميت والباقي وهو ثلثان [للعم] (4) وهو أخو الميت.
فإذا كان الجاني هو [العبد] (5) ، وهو مشترك بين مستحقي الغرة لو قدرناها واجبة، وليقع الفرض فيه إذا لم يكن مستحق غيرهما، فنقدر كان الغرة تعلقت برقبة العبد، فللأم ثلث الغرة، وللأخ ثلثاها، فأما الأم، فقد ملكت ربعَ العبد فسقط ربع الغرة؛ إذ لا تستحق على ملكها شيئاًً، ويبقى نصف سدس الغرة فاضلاً عن قدر ما ملكت من العبد.
وأما الأخ فقد استحق من العبد ثلاثة أرباعه، وكان يستحق على التقدير ثلثي الغرة، فما ملكه من العبد أكثر من قدر استحقاقه من الجنين، فيسقط استحقاقه ويبقى في رقبة العبد ما فضل للأم، من الغرة، وهو نصف سدس الغرة، فيفدي الأخ نصيبه
__________
(1) في الأصل: "ولا هو".
(2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها، وهي مفهومة من عرض المسألة وتفصيلها فيما يأتي.
(3) في الأصل: " ولا ".
(4) مطموسة في الأصل. والمراد عم الجنين.
(5) في الأصل: "العدو".(16/637)
من العبد على قياس الفداء وإنما انتظمت المسألة كذلك لاختلاف الحصتين من ميراثين، والازدحام على رقبة العبد.
ولو كان بين رجلين عبد مشترك، وهو بينهما نصفان، فقتل عبداً آخر بينهما، وهو نصفان أيضاًً، فلا طلبة لواحد منهما على الآخر.
ومثله لو كان العبد بينهما نصفين، فكان بينهما عبد آخر مشترك [بينهما] (1) ثلثاه [لزيد وثلُثه] (2) لعمرو، فقتل العبد المنصف بينهما هذا العبد. فيتفاوت الأمر باختلاف حصص الشركة في العبدين، فلنقِسِ [المثال] (3) ، ولننظر ولا خفاء.
وقد نجزت مسائل الأجنة. وذكر ابن الحداد فروعاً أخرناها إلى كتاب الديات، ونحن نأتي بها مبينة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
نقدّم على المسألة التي حكاها ابن الحداد نصاً للشافعي عن مسألةٍ، قال رضي الله عنهء: "لو قصد رجل مال رجل أو نفسَه [فدفعه] (4) بضربةٍ، فولّى القاصد هارباً، فاتبعه المقصود، وجرحه وهو مولٍّ جراحة أخرى، فرجع عليه القاصد مرة أخرى، فضربه على حدِّ الدفع ضربةً ثالثة، ومات القاصد من الجراحات الثلاث" قال الشافعي: يغرم الدافع ثلث الدية، ويهدر ثلثاها؛ فإنه وجدت منه ثلاث ضربات: اثنتان منها [هدر] (5) ، وقد توسطتهما جراحة مضمونة.
قال الأصحاب: هذا الذي ذكره الشافعي إذا توسطت ضربة مضمّنة بين ضربتين، فأما إذا جرح الدافعُ القاصدُ جرحين متواليين على حد الدفع، ثم ولى فضربه ضربة ثالثة، فالدية على تنصيف، والجرحان المتواليان كالجرح الواحد، فهدر نصف الدية ويجب نصفها. هذا ما حكاه الشيخ أبو علي عن الأصحاب.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "لزيد منهما وثلثه..".
(3) في الأصل: "القتال".
(4) في الأصل: "يرفعه".
(5) في الأصل: "ضرب".(16/638)
ثم قال الأئمة على قياس النص لو جرح مرتداً جراحة، ثم أسلم المجروح، فجرحه ذلك الجارح في إسلامه جراحة، ثم ارتد، فجرحه في الردة جراحة أخرى، ثم أسلم فمات من الجراحات [الثلاث] (1) فينبغي أن يُلزَمَ ثلث الدية ويُهدر ثلثاها.
ولو جرح مرتداً جرحين في دوام الردة ثم أسلم، فجرحه جراحة أخرى ومات من الجراحات، فهدَرَ نصف الدية، ويجب نصفها، وهذا عن قياس قول الشافعي في مسألة الدفع.
10875- ثم ابن الحداد ذكر مسائل، ونحن نأتي بها واحدة واحدة منها: أنه لو قطع رجل يد مرتد، ثم أسلم ذلك المرتد، فعاد ذلك القاطع، مع ثلاثة من الجناة، وقطعوا في الإسلام يده الأخرى فمات.
قال ابن الحداد: هؤلاء أربعة من الجناة جَنَوْا في حالة الإسلام، فأقول: أقدر قيمة الدية بين الأربعة، فعلى الثلاثة الذين لم يجنوا إلا في الإسلام ثلاثة أرباع الدية على كل واحد ربعها، ويقابل الذي جنى في الردة والإسلام ربع، ولكن قد صدرت منه جنايتان: إحداهما - هَدَر فيوزع الربع عليهما، فيهدر نصفه، وهو الثمن، ويلزمه ثمن الدية.
هذا مسلك ابن الحداد وهو حسن متجه، ووجهه بيّن.
ومن أصحابنا من قال: توزع الدية على الجراحات والجنايات في هذه المسألة، دون الجناة، وقد ثبتت خمسُ جنايات: واحدة في الردة وأربع في الإسلام، وواحدة من الخمس هدر، وأربع مضمونة [فتكون] (2) الدية أخماساً ويهدر خمسها عن [الكافة] (3) ، ونوجب على كل واحد خمس الدية، وهذا القائل يضرب الإهدار [على] (4) جميعهم، ويسوِّي بينهم في الالتزام، ووجهه أن جراحة الردة سارية وسرايتها مُحبَطة، وكأن كلَّ واحد جنى على من فيه حكم الإهدار.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "فتحول".
(3) في الأصل: "الكافر".
(4) في الأصل: "إلى".(16/639)
10876- وبمثله (1) لو جنى عليه ثلاثة في الردة فقطعوا يده، فأسلم، فعادوا مع رابع وقطعوا يده الأخرى، فعلى مذهب ابن الحداد تقسم الدية في تأسيس المسألة على رؤوس الجناة وهم أربعة، فيخص كل واحد منهم ربع الدية، فأما الذي انفرد بالجناية في الإسلام، فعليه الربع الكامل؛ إذ لم يصدر منه جناية في حالة الإهدار، وأما الباقون، فيقابل كل واحد منهم الربع، ولكن صدر من كل واحد جرحان: هَدَرٌ ومضمون، فيتوزع الربع عليهما، فيهدر نصفه، ويبقى نصفه، وهو الثمن.
ونقول على المذهب الآخر: الجنايات سبعٌ ثلاث في الردة، وأربع في الإسلام فنجعل الدية أسباعاً، ونهدر منها ثلاثة أسباع الدية وتبقى أربعة أسباعها، وهم أربعة على كل واحد منهم سبع الدية.
10877- وبمثله لو جنى أربعة في الردة، ثم عاد واحد منهم مع ثلاثة آخرين وجنَوْا في الإسلام وهم أربعة، فأما على طريقة ابن الحداد، فتوزع الدية تقديراً أولاً على عدد الجناة، وهم سبعة، فنجعل الدية أسباعاً، فأما الذين لم يجنوا إلا في الردة، فيقابلهم ثلاثة أسباع الدية وتهدر، فتبقى أربعة أسباع الدية، فعلى الثلاثة الذين جَنَوْا في الإسلام دون الردة ثلاثة أسباع الدية، على كل واحد سبعها، ويقابل الذي جنى في الإسلام والردة سبع، فنهدر نصفه، ويبقى عليه نصف السبع.
وعلى مذهب الآخرين نقول: التوزيع على الجنايات وهي ثمانٌ، أربعٌ في الشرك وأربع في الإسلام، فيهدر من الدية ما يقابل الأربع في الردة، ويجب على الذين جَنَوْا في الإسلام، وهم أربعة أربعة أثمان الدية، والمجموع نصف الدية.
10878- ويمثله لو جنى أربعة على مرتد، فلما أسلم [عاد] (2) واحد منهم وجنى [عليه] (3) جناية أخرى لم يشاركه فيها أحد: فعلى مذهب ابن الحداد نوزّع الدية على الجناة، وهم أربعة، فنقابل الذين جنَوْا في الردة بثلاثة أرباع وتهدر، فيبقى الربع
__________
(1) في الأصل: " ووجهه وبمثله ".
(2) في الأصل: " وغاب ".
(3) زيادة من المحقق.(16/640)
مقابلاً للذي جنى في الردة والإسلام، فيوزع على الجرحين، فنهدر نصفه ونبقي نصفه، وهو الثُّمُن.
وعلى مذهب [الآخرين] (1) توزع الدية على الجنايات، وهي خمسٌ: أربع مضت في الردة، فهدر أربعة أخماس الدية، ويجب خمسها على الذي جنى في الإسلام.
فإن جرحه اثنان في حالة الردة، فأسلم، فعادا وجرحاه في الإسلام، فيتفق المذهبان في هذه الصورة: أما ابن الحداد، فيعتبر التوزيع على الجناة، وهما اثنان، فيقابل كل واحد منهما نصف الدية، ولكن صَدَرُه في كل واحد جناية مضمونة وجناية مهدرة، فيلزمه ربع الدية، وعلى المذهب الآخر يقسم على الجنايات، وهي أربع: جنايتان في الردة، وهما مهدرتان، وجنايتان في الإسلام، فيتفق قياس المذهبين.
وهذا بيان ما ذكره ابن الحداد في مسائله.
10879- ثم ذكر الشيخ أبو علي تفريعاً على هذا الأصل الذي مهدناه وحكاه عن الأصحاب، قالوا رضي الله عنهم: لو جنى على حر خطأً، ثم جنى عليه عمداً، ومات من الجرحين، فتجب دية نصفها مغلّظ: مثلث، ونصفها مخفف: مخمس.
ولو جنى على حر خطأ، ثم عاد وهو مع ثانٍ وجنيا عليه عمداً، فمات من الجراحات، فقياس مذهب ابن الحداد أن الدية توزع عليهما نصفين، نصفها مغلّظ على الذي لم يجن إلا عمداً، والنصف الثاني يقابل من جنى خطأ وعمداً، ثم ينقسم ذلك على حالته فيكون النصف منه وهو ربع الدية مغلظاً والنصف منه مخففاً.
ولم يذكر الشيخ قياس مذهب الآخرين، وقياسُهم أن يقال: أما الدية فتنصف بينهما بلا خلاف فيه، ولا معتبر بصدور جنايتين من أحدهما وجناية من الثاني؛ [فإن] (2) جميع الجنايات مضمونة، ولو جنى مائة جناية مضمونة والآخر جناية واحدة، فالدية بينهما نصفان، وإنما يُفضي التفريع إلى التوزيع على الجنايات إذا كان
__________
(1) في الأصل: " الباقينخ ".
(2) في الأصل: " إن ".(16/641)
بعضها هدراً، ولكن قياس هؤلاء في التغليظ أن يتغلظ ثلث الدية على كل واحد منهما، ويكون الثلث الباقي مخففاً عليهما، فعلى كل واحد نصف الدية ثلثاه مغلظ وثلثه -وهو سدس الدية- مخفف.
فإن قيل: فكيف يستفيد الذي لم يجن إلا عمداً تخفيفاً فيما التزمه، ولم يصدر منه إلا العمد؟ قلنا: كما أنه استفاد في مسائل الردة عند هذا القائل الإسقاطَ عنه كما تقدم.
فصل
10880- إذا قطع عبدٌ يدَ حر في رقه، فأعتق السيد العبدَ الجاني، فعاد بعد الحرية مع جانٍ آخر، وقطع يده الأخرى، فمات من الجنايات، فتجب الدية الكاملة، ثم يجب نصفها على الذي جنى في الحرية، وذلك أنه مهما صورت الجنايات من جانِيَيْن، والجناياتُ كلها مضمونة، فتوزع الدية على الجانيين، ولا نعتبر عدد الجنايات أصلاً، وإنما يضطرب (1) المذهب إذا كان بعض الجنايات هدراً، فإذا ثبت أن نصف الدية على الذي جنى في الحرية، فالنصف على العتيق، ثم نصف النصف في مال المعتَق، والباقي قد تعلق برقبته ابتداءً، [فلما] (2) أعتقه السيد، التزم الفداء، ثم فيما يلزمه عند الإعتاق كلام فصلناه، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل
10881- لو جنى عبدعلى حر جناية، ثم جاء إنسان وقطع يد العبد، ثم إن العبد بعد ما قطعت يده، جنى على حرٍّآخر، وماتوا عن آخرهم في الجنايات. فأما الذي جنى على العبد، فيلتزم تمام قيمته، وأما الحران، فالقيمة تصرف إليهما، ولكن قال ابن الحداد: يسلّم [أرش اليد] (3) إلى ولي الحرّ الأول، لا يشاركه فيه
__________
(1) يضطرب: المراد يختلف، كما ظهر في مسائل ابن الحداد التي فرعنا منها آنفاً.
(2) في الأصل: "قلنا".
(3) في الأصل: "يد الأرش".(16/642)
الثاني، ثم يتساهمان في بقية القيمة، والأمر على ما ذكره؛ فإنه جنى على الأول بجميع يديه، فقطعت يده، وجنى على الثاني ولا يد له، فيستحيل أن يستحق وليُّه شيئاً من أرش تلك اليد، ولم تكن موجودة وقت الجناية.
ثم الأصح في هذه المسألة [أن] (1) ما يعتبر في أرش اليد ما نقص من قيمة العبد (2) ، فنصرف إلى الحر الأول ما نقص [من] (3) قيمة العبد بسبب قطع [اليد] (4) ثم يشتركان في بقية القيمة، فيضارب ولي الحر الأول بما بقي له من الدية، ويحسب عليه أرش اليد لا محالة [ويضارب] (5) وفيُ الحر الثاني في بقية القيمة بتمام الدية.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يصرف إلى ولي الأول نصفُ القيمة جواباً على أن جراحه [تتقدّر] (6) أروشها (7) ، ثم يتضاربان في الباقي، قال الشيخ أبو علي هذا غلط في هذه الصورة، فإنا لو قلنا به، لزمنا أن نقول: إن العبد لو جنى، ثم قطع قاطع يديه معاً، ثم جنى مرة أخرى على [حرٍّ آخر] (8) كما نسبوه، وماتوا [جميعاً] (9) ، إن تمام قيمة العبد [تصرف] (10) للأول، وليس للثاني منها شيء؛ لأن تمام القيمة أرش اليدين، وهذا ما لا سبيل إليه. فيتعين في هذا المقام اعتبار نقصان القيمة.
ولو كانت المسألة بحالها، فجنى على حر، ثم قطعت يده، فجنى على حر آخر،
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) وذلك بأن يقدر العبد كامل اليدين، ويقدر بعد فقد اليد، والفرق هو أرش اليد، على الأصح في هذه الصورة، وليس أرش اليد هنا نصف القيمة، لما يترتب على ذلك من مفارقات، كما سيشرح الأمام.
(3) في الأصل: "في".
(4) في الأصل: "اليدين".
(5) سقطت من الأصل.
(6) في الأصل: "تتقرر".
(7) والمعنى أن أرش اليد يتقدّر هنا نصف القيمة.
(8) في الأصل: "جراحه".
(9) زيادة من "المحقق".
(10) في الأصل: "تضرب".(16/643)
ثم جاء إنسان وقتل العبد، [تذفيفاً] (1) ، ففي هذه الصورة [ندفع] (2) إلى الحر الأول نصفَ القيمة (3) ، ويستقيم التفريع.
ولو قطعت يداه، ثم جاء آخر وقتله بعد الجناية الثانية، فنسلم إلى الأول تمام قيمته (4) ، ثم على الذي قتله تجهيزاً قيمته، [ويستقيم الجواب] (5) .
وفي المسألة الأولى إذا مات بالسراية، فلا يجب إلا قيمة واحدة، فيؤدي إلى استحالة في التفريع كما سبق.
فرع:
10822- قد تقدم حكم الجنين المسلم والذمي، فإذا اشترك مسلم وذمّي في وطء ذمية، فأتت بولد، فإن ألحقه [القائف] (6) بالمسلم، ضمنه الجاني بكمال الغرة؛ لأنه انتفى عن الذمّي، وإن ألحقه بالذمي، لم يلتزم الجاني إلا بدلَ الجنين الذمي، وإن التبس الأمر وتوقفنا إلى انتساب المولود، لم يلزم الجاني في الحال شيئاً حتى يتبين المستَحَق، وهذا واضح لا خفاء به.
***
__________
(1) في الأصل: "تجهيزاً".
(2) في الأصل: "نرجع".
(3) جاء نصف القيمة هذا من حيث جنى على العبد جانيان الأول قطع يده، وفي قطع يد العبد نصف قيمته، والثاني قتله تذفيفاً، فعليه قيمته كاملة، مع ملاحظة أن الشيخ أبا علي يجعل هذا غلطاً في هذه المسألة.
(4) جاء تمام القيمة هذا أرشاً لقطع اليدين كما هو معلوم، ثم على قاتله قيمة أخرى.
(5) في الأصل: "ويستقر الجواز".
(6) في الأصل: "القاذف".(16/644)
ولسنا من الصلف على حدٍّ ندعي انتهاء النظر نهايته في أمثال هذه المعاصات.
غير أن نستفرغ الوسع فيما ننتهي إليه، وطريق الفقه مذلل لكل ذي فطنة.
الإمام
في نهاية المطلب(17/4)
[كتاب القسامة] (1)
10883- القسامة من القَسم (2) ، وهو اسم استعمل مصدراً للإقسام على خلاف القياس الجاري بين الفعل والمصدر، فإن المصدر المنقاس كقولك: أفعلَ يُفعل الإفعال، فإذا زادت حروف الفعل على الثلاثة، اطرد قياس مصدره، وإنما تضطرب مصادر أبنية الأفعال الثلاثية، فمصدر أقسم يُقسم الإقسامُ، واستعملت القسامة، وهذا تُسميه النحاة الاسم المقام مقام المصدر، ونظيره أكرم إكراماً وكرامة، والفَعالة تقع في أبنية مصادر الأفعال الثلاثية [المجرّدة] (3) ، وهو يكثر في مصادر فعُل يفعُل كالعبالة، [والضخامة] ، (4) ، والقسامة، والوسامة حسنُ الوجه مع الوضاءة والتلألؤ.
ولا اختصاص في اللغة والشرع للقسامة بالأيمان الجارية في الدماء، ولكن تواضع الفقهاء على استعمال هذه اللفظة في الأيمان المتعلّقة بالدماء، واستعملها أصحابنا في الأيمان التي تقع البداية فيها بالمدّعي.
10884- واعتمد الشافعي رضي الله عنه في الكتاب بقصة عبد الله بن سهل، روى بإسناده عن سهل بن أبي حَثْمة أن عبد الله بن سهل [ومُحَيِّصة بن مسعود] (5) خرجا إلى خيبر نهاراً، وتفرقا في حوائجهما بعد العصر، فأخبر محيصة أن عبد الله بن سهل قتل
__________
(1) هذا العنوان لم يظهر بالأصل. ومكانه بياض بمقدار سطر واحد، مما يجعلنا نرجح أن الناسخ كان أحياناً يكتب العناوين بالحمرة، وهذا سرّ عدم ظهورها عند تصوير المخطوط.
(2) عبارة الأصل فيها تكرار، هكذا: القسامة من القسَم، وهي من القسم، وهو اسم ...
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: "والصحابة".
(5) سقط من الأصل.(17/5)
وطرح في فقير (1) أو عين، ورآه يتشحط في دمه، فأتى اليهود [وقال] (2) : إنكم قتلتموه، فأنكروه، وقالوا: ما قتلناه، فرجع إلى قومه وأخبرهم [بالقصة] (3) فقام حُويِّصة ومُحَيِّصة وهما عمّا المقتول ومعهما عبد الرحمن بن سهل أخو المقتول ولقوا النبي صلى الله عليه وسلم في رجال من قومهم، فذهب مُحَيِّصة ليتكلم، لأنه كان صاحب القصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كبِّر كبِّر " يريد السنَّ، أي يتقدم الأكبر منكما، فتكلم حُويّصة، ثم أخوه محيّصة، ثم عبد الرحمن بنُ سهل، فقال النبي عليه السلام: " إما أن يدوا صاحبكم أو يؤذَنوا بحرب " فكتبوا إلى اليهود، فكتبوا في الجواب: " والله ما قتلناه "، فقال صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة: " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " فقالوا: كيف نحلف على أمرٍ لم نشاهده؟ فقال عليه السلام: " تبرئكم اليهود بخمسين يميناً " فقالوا: إنهم ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، قال سهل لقد ركضتني منها ناقةٌ حمراء " (4) .
فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن القتل إذا وقع وظهر اللوث كما سنصفه، فالبداية في التحليف بالمدعي، [وكانت البداية بالأيمان] (5) مشروطة بالعلامات الدالة على صدق المدعي، وهذا هو الذي يسمى اللوث؛ [والمرعيُّ] (6) في ذلك حقنُ الدماء، وكفّ أيدي المغتالين، وأكثر ما يقع القتل -والرعايا تحت الإيالة والسياسة- اغتيالاً، وَيعزّ إثباته بالشهادة، فاحتاط الشرع، وأثبت البداية [بالأيمان] (7) مشروطة
__________
(1) الفقير: البئر القريبة القعر، الواسعة الفم، وقيل: هو الحفيرة التي تكون حول النخل. (ر. شرح مسلم للنووي) .
(2) زيادة من نص الحديث.
(3) في الأصل: " بالنص ".
(4) حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب القسامة، باب القسامة، ح 1085) .
(5) في الأصل: " والأيمان كانت البداية ".
(6) في الأصل: " والمدعى ".
(7) زيادة من المحقق على ضوء السياق.(17/6)
بظهور اللوث المصدِّق، ثم غلّظ الأمر بتعديد الأيمان، حتى [لا يجازفَ] (1) المدَّعي [ولا يهجم] (2) .
10885- وهذا يناظر في قاعدة الشريعة اللعان، وقد ذكرنا في كتابه أن اعتماد الزوج في القذف واللعان بَعدَه على لوثٍ يظهر عنده تلطيخ المرأةِ الفراشَ، وألفاظ الملاعن على صيغ الأيمان، وقد وقعت البداية بمن هو في مقام المدَّعي.
ولكن بين القسامة وبين اللعان فرقٌ، وذلك [أن لا ابتداء] (3) بالمدعي ما لم يظهر اللوث عند القاضي، ولا يشترط إظهار [الأسباب] (4) الدالة على الزنا عند القاضي، والسبب فيه أن الإقدام على الخبائث يخفى غالباً، ولا يطلع عليه إلا مُداخل، فوقع الاكتفاء باطلاع الزوج، ثم بَعُدَ أن يفضح الزوج نفسَه، فحلّ ذلك محل ظهور اللوث عند القاضي، حتى يحل في حق المدعي محل اليد، في حق المدعى عليه في الخصومات المالية.
وكان اللوث بيّناً في قصة عبد الله بن سهل، فإن اليهود ما زالت [تضمر غوائلها] (5) للمسلمين، وقد جرى القتل في حيطتهم المحيطة بهم.
10886- ثم ذكر أصحابنا صوراً في اللوث نرسلها حتى يتعلق بها فهم الطالب تعلقاً كلياً، ثم [نستقبل] (6) تفصيلها وضبطها جهدنا، فمما ذكره الأصحاب في صور اللوث أن يتفرق جماعة [فينحصرون عن قتيل] (7) ، فيغلب على القلب أنهم قتلوه، أو بعضهم. ومن دخل على جماعة من الأعداء [ضيفاً] (8) فوُجد قتيلاً فيما بينهم، كان
__________
(1) في الأصل: " يحاد ـ ". وجازف في كلامه: إذا أرسله إرسالاً من غير قانون، وعلى غير روية. (المعجم والمصباح) .
(2) في الأصل: " ولا يغرم".
(3) في الأصل: " أن الابتداء بالمدعي".
(4) في الأصل: "الأنساب".
(5) في الأصل: " تضم عواقلها".
(6) في الأصل: " نستقلّ".
(7) في الأصل: " فيحصرون عن قتل".
(8) في الأصل: " صفاً ".(17/7)
ذلك لوثاً. وإذا تقابل صفان فوجد قتيل في أحد الصفين، فهذا لوث في لواء الذين كانوا يقاتلون هؤلاء.
وقال بعض المتصورين: إذا وجدنا قتيلاً في سكة [منْسَدّة] (1) الأسفل وفيها أعداء
للقتيل، فهذا لوث، وإذا وجدنا قتيلاً في صحراء، وعلى رأسه رجل قائم متشحط (2) بالدم وبيده سكين، فهذا لوث.
وإذا وجدنا قتيلاً في شارع [منفتح] (3) ، أو في صحراء، ولم نجد بالقرب منه أحداً، فلا لوث في هذا القتل.
10887- فإذا فهم اللوث على الجملة، فإنا نخوض بعد هذه التوطئة في إيضاح اللوث، وأول ما نرى البداية به أنه إذا ظهر عند الحاكم لوثٌ مع جماعة محصورين، وكان المدعي يدعي القتل على واحد منهم، فالقاضي يبدأ بالمدعي ويحلّفه، ولا يشترط أن يظهر عند القاضي [عين] (4) المدعى عليه بالقتل، [بل] (5) يكتفى أن يكون العين من جملة اللوث، والسبب فيه أن اللوث الذي أطلقناه آيل إلى علامة ظاهرة في تصديق المدعي، ولا يشترط أن يبلغ مبلغ التحقيق؛ فإن القاضي لا يتحقق عنده أمرٌ إلا [ببيّنة] (6) أو إقرار، فلو قامت بينة، لثبت القتل بها، [وكذلك] (7) الإقرار من
القاتل.
وإذا كاِن كذلك وقد شملت العلامة المسماة باللوث جماعة، ففي حق كل واحد قسط من اللوث، وذلك كافٍ، والتعيين [تخصيص] (8) ، والأيمان مشروعة لإثباته.
__________
(1) في الأصل: "مستدة".
(2) عبارة الغزالي في البسيط، والنووي في الروضة، متلطخ. ومعنى تشحّط في دمه: أي اضطرب (المعجم) .
(3) في الأصل: "ميتاً".
(4) في الأصل: "من".
(5) في الأصل: "أن".
(6) في الأصل غير مقروءة: ورسمت هكذا: (بمينه) تماماً.
(7) في الأصل: " وذلك".
(8) في الأصل: "تنصيص".(17/8)
والذي يحقق ذلك أن اللوث لو تعلق بواحد، فلا يقين، [والبداية] (1) بالمدعي، [فكذلك] (2) إن اشتمل اللوث جماعة.
ووراء ذلك سر مصلحي (3) ، وهو أن تعيين واحدٍ من جمع مما يعسر إظهار اللوث فيه على التخصيص، وإذا ثبت أصل اللوث -والتغليظ على المدعي، [بتعدد] (4) اليمين- كفى [وأقنع] (5) ، وهذا ذكرناه نقلاً من كلام صاحب التقريب، وصرح به القاضي، ودل عليه فحوى كلام الأئمة، والتعليل ظاهر فيه [ممّا] (6) أوضحناه، والقتلُ الذي جرى في خِطة اليهود [لوث تعلق] (7) بجمع، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت التحليف بدايةً بالمدعين، ولو آل الأمر إلى الحلف وإقامة الخصومة، لعينوا. هذا ما يقتضيه ترتيب الخصام، وكان اللوث معلوماً مع جمع اليهود القاطنين [لتلك الحِلّة] (8) .
10888- فإذا تمهد ما ذكرناه، فلو علم القاضي اللوثَ بنفسه بأن [عاين] (9) بعضَ ما نصصنا عليه في تصورات اللوث، [بنى] (10) عليه، ولا يخرّج هذا على اختلاف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه؛ فإن هذا ليس قضاء منفذاً، وإنما هو إقامة حجة معتضدة بظاهرٍ مغلِّب على الظن.
10889- ثم قال الأئمة: لو شهد جمع من النسوان والعبيد عند القاضي بوقوع
__________
(1) في الأصل::والدراية".
(2) في الأصل: "وكذلك".
(3) كذا تماماً. وقدرت أنها (مصطلحي) ، ولكن هذا اللفظ لم يسبق من قبل على طول الكتاب.
(4) في الأصل: "تعدد".
(5) في الأصل: "واقع".
(6) في الأصل: "فما".
(7) في الأصل: "لوثة فتعلق".
(8) في الأصل: "لذلك الحيلة".
(9) في الأصل: "على".
(10) في الأصل: "كفى".(17/9)
القتل، على حسب ما يدعيه المدعي، فهذا لوث، وإن كانت شهاداتهم لا تقبل، وهذا الذي ذكره الأصحاب فيمن يعتمد [قولهم من] (1) النسوة والعبيد.
ولو أنهى القتلَ إلى القاضي جمعٌ من الصبيان، وظهر من [كثرتهم] (2) [وإتيانهم] (3) من كل صوب أنهم ليسوا محمولين على مقالهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا إظهار اللوث والثاني - أنه لا عبرة بأقوالهم، فإنا [لو] (4) كنا نكتفي بالغلبة على الظن من غير ضبطٍ في المسلك المغلِّب، للزم أن يقال: العدل الرضا [المرموق] (5) بالأمانة الذي لم نجرب عليه [خيانة] (6) على طول الزمن إذا ادعى وعيناه [منهملتان] (7) ، فقد يغلب على الظن صدق مثله، ومن أحاط [بما ذكرناه] (8) في قرائن الأحوال من كتاب الأخبار (9) لم يخف عليه ما رمزنا إليه. ولكن لا تعويل على هذا.
ولا ينتهي الأمر إلى الاكتفاء بكل ظن.
وتردد الأئمة في جمع من الفسقة لا يفرض [منهم التواطؤ] (10) على الكذب، فقال بعضهم: إذا [أخبروا] (11) القاضي بوقوع القتل، ثبت اللوث وجهاً واحد؛ فإن
__________
(1) في الأصل هكذا: "ولوهم بين". والمثبت اختيار منا على ضوء ألفاظ الغزالي في البسيط.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها) .
(3) في الأصل: " وإثباتهم ".
(4) في الأصل: " إن ".
(5) في الأصل: " المرفوق ".
(6) في الأصل: " جناية "، ولا معنى لها في هذا السياق.
(7) في الأصل: " مـ ـهاسان " (كذا تماماً) وعبارة الغزالي: تذرفان. والمثبت اختيار منا لأقرب صورة تؤدي المعنى. فعسى أن تكون هي لفظة الإمام.
(8) في الأصل رسمت هكذا: يميناً لكنا. (تماماً) .
(9) ليس للإمام كتاب بهذا الاسم، وإنما هو يشير إلى كتاب الأخبار من كتابه (البرهان في أصول الفقه) وفيه حديث وافٍ عن قرائن الأحوال وأثرها في صدق المخبرين. (راجع على سبيل المثال الفقرة: 530 من البرهان وما بعدها) .
(10) في الأصل: " من النواظر ".
(11) في الأصل: " أخبر ".(17/10)
أقوالهم على الجملة معتبرة، وعباراتهم صالحة [للعقود] (1) والحلول، والصبي [مسلوب] (2) العبارة، لا حكم للفظه، ولا أثر لقوله.
ومن أصحابنا من ذكر في إخبار الفسقة وجهين.
[وإذا] (3) جمعنا الفسقة إلى الصبيان، انتظم [فيهم] (4) ثلاثة أوجه: الأول - القبول. والثاني - الرد. والثالث - الفصل بين الفسقة وبين الصبيان.
10889/م- وهذا الفصل عندي يحتاج إلى مزيدٍ في الكشف، فأقول: إن [أخبر القاضي عدلٌ] (5) واحد -تقبل شهادته- بوقوع القتل على صيغة الإخبار، فهذا يُثبت اللوث؛ فإنا لا نشترط في ثبوته مراسم الخصومات، ورعايةَ ترتيبها، وكنت أود لو قيل: كل من تقبل روايته يَثْبت اللوث بقوله، ويخرج منه الاكتفاء بقول امرأة ثقة، وعبدٍ موثوق به، فإن لم يظهر الثقة ولا نقيضها، [فنُحْوَج] (6) إلى تظاهر الأخبار على وجه يغلِّب انتفاءَ التواطؤ، هذا [إذا ما] (7) أطلق أصحابنا في النسوة والعبيد العددَ، والبعدَ عن إمكان [التواطؤ] (8) ، ولم يأتوا بالتفصيل الذي ذكرته.
وليس فيما ذكروه أيضاً الاكتفاء بإخبار عدلٍ، فإنهم ذكروا شهادة شاهد، والشهادة تختص بصفة وترتيب محل مخصوص في المنازعة، وإذا كان [التسامع بصدور القتل من] (9) شخصٍ عند وجود [القتيل] (10) بالقرب منه لوثاً كافياً، فإخبار عدل واحدٍ عن
__________
(1) في الأصل: " العقد ".
(2) في الأصل: " مسألة ".
(3) في الأصل: "إذا".
(4) في الأصل: "منهم".
(5) في الأصل: "أخر القاضي عزل".
(6) في الأصل: "فنخرج".
(7) في الأصل: "ما إذا".
(8) في الأصل: "النواظر".
(9) ما بين المعقفين مكان عبارة مضطربة هكذا: " السامع يصد رآه مع شخص ... ".
(10) في الأصل: " القتل ".(17/11)
وقوع القتل في عينه ليس ينحط [عنه] (1) ، ولو روى [خبراً أجرى فيه حكما قُبل، واعتمد] (2) في تأسيس الشرع (3) .
وينتظم من مجموع ما ذكرناه مسلكٌ أحببتُه واخترتُه، ومسلك الأصحاب شهادة ولو من واحدٍ، أو ما يقرب من حد التواتر من جمع ليسوا من أهل الشهادة والله أعلم بالصواب.
10890- ثم قسم الأصحاب اللوث قسمين: فقالوا: قسم يظهر اللوث في معين، وهذا بمثابة أن يرى القاضي شخصاً متضمخاً بالدم، قائماً على قتيل وبيده سلاح فالذي ثبت مختص بمعين، كما قدمنا تصويره، وبنينا عليه أن القاضي يكتفي به ولا يُحوِج المدعي إلى إثبات ظهور اللوث مختصاً بمن يدعي عليه.
ولو شهد شاهدان على أن فلاناً قتل أحد هذين المقتولين، لم يكن ذلك لوثاً يسوِّغ اليمين للمدعي، ولو شهدا أنه قتل القتيلَ أحدُ هذين الرجلين، فقد قال القاضي: هذا لوث يسوّغ للمدعي القسامة فيه، إذا عين أحدهما.
وهذا فيه نظر، وفي الطرق ما يخالف هذا؛ من جهة أنهما لم يثبتا للرجلين سبباً حاملاً على القتل، بخلاف ما لو ثبتت عداوةٌ منهما [ثم] (4) استبهم القتل بينهما؛ فإنهما شهد الشاهدان على قتل [منهما] (5) : من أحدهما، وهذا لا يظهر لوثاً ثابتاً [حيالهما] (6) ، والمسألة محتملة.
__________
(1) في الأصل: " فيه ".
(2) ما بين المعقفين مكان كلام غير منتظم، وصورته هكذا: " قتلا أجرى فيه حكما قاتلا راد بالاعتمد " كذا تماماً.
(3) المعنى هنا أننا إن جعلنا التسامع بوجود فلان بالقرب من القتيل لوثاً، فكيف لا نجعل قول العدل: إنه شاهد القتل لوثاً، مع أن هذا العدل لو روى خبراً في حكم من الأحكام، لقبل واعتمد في تأسيس الشرع.
(4) في الأصل: " لم ".
(5) في الأصل: "منهم".
(6) في الأصل: "فلأنهما".(17/12)
[وذكر] (1) العراقيون وجهين فيه إذا ثبت أصل اللوث في القتل، ولم يثبت لوث في وقوعه عمداً، وذلك بأن نرى مزدَحماً، ثم يفرض تفرقهم عن هلاك، ولم يتحقق منهم عداوة، وجوزنا أن يكون القتل عن ضغط وزحمة من غير عمد: أحد الوجهين -[أن له أن] (2) يحلف على أصل [القتل] (3) والثاني - ليس له ذلك؛ فإن القتل يتردد [بين أن] (4) يغرم الدية فيه، كما يتردد [هو] (5) في نفسه [بين أن] (6) يكون عمداً أو خطأ، فعلى هذا يعسر منه إثبات القتل المطلق؛ فإن الضرب على العاقلة مشروط بنقيض العمد، كما أن الضرب على القاتل مشروط بالعمد المحض. و [يردُّ] (7) الوجهَ الثاني - أن أصل القتل يثبت لتحقق اللوث.
ولا خلاف أنه لو أراد أن يحلف على العمد، ولم يظهر في العمد لوث لم يمكن [من] (8) ذلك.
وفي هذا الفصل بقية سنشرحها عند ذكرنا صفات الدعوى.
10891- ثم إن ادعى المدعي القتل خطأ، وحلف، فالدية على العاقلة، وإن ادعى العمدَ المحض، فالدية مغلظة في مال المدعى عليه إذا حلف.
وهل يُسلَّط [على] (9) الدم بأيمان القسامة إذا حلف المقسِم على العمد المحض؟ فعلى قولين: المنصوص عليه في القديم أن القود يثبت بأيمان القسامة إذا حلف المقسِم؛ لأنها حجة من المدعي في إثبات القتل، فأشبهت البيّنة، وهذا قد يعتضد
__________
(1) في الأصل: " ذكر ". (بدون واو) .
(2) مكان كلمات غير مقروءة، رسمت هكذا: (إدا ـاـ ود) كذا تماماً.
(3) في الأصل: "القتيل" والمراد بأصل القتل القتلُ المطْلَق أي غير الموصوف بعمدٍ ولا غيره، وهذا لا موجَب له، كما ظهر من الشرح في الوجه الثاني.
(4) في الأصل: "من".
(5) في الأصل: " وهو ".
(6) في الأصل: " بأن ".
(7) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.
(8) في الأصل: " في ".
(9) زيادة من المحقق.(17/13)
بأن الغرض من إثبات حق البداية عصمةُ الدماء عن اغتيال المغتالين، وإنما تتحقق العصمة بإيجاب القصاص، وإذا كنا نوجب الرجم على المرأة بلعان الزوج، لم يبعد أن يناط القصاص بأيمان القسامة.
والمنصوص عليه في الجديد أن القود لا يثبت، ولا ينبغي أن ننتهي في الاحتياط للدم إلى سفكٍ من غير ثَبَتٍ، وليس ما نحن فيه كاللعان؛ فإنها [بامتناعها] (1) عن اللعان حققت من نفسها الزنا، مع ما تحقق من لعان الزوج، ولو ثبت القصاص بأيمان القسامة، لم يجد المدَّعى عليه ما يدرؤه.
وقد [ينتهي] (2) الكلام في قواعد اللوث [إلى القضاء] (3) على الخصم بقول المدعي من غير أن نُثبت للمدعى عليه ما يدرؤه (4) .
وقد انتهى الكلام في قواعد اللوث، وموضع البداية.
10892- فإن لم يظهر لوث عند القاضي، جرينا على قياس الخصومات، وحلّفنا المدعى عليه، ثم اختلف قول الشافعي في أنا نحلّفه خمسين يميناً، أو نكتفي بيمين واحدة قياساً على سائر الخصومات التي تجري الأيمان فيها.
[أحد القولين - أنا] (5) كما نجري على القياس في البداية بالمدعى عليه، وجب أن نجري على القياس في الاكتفاء باليمين الواحدة، وليس هذا كما إذا بدأنا بالمدعي؛ فإن اليمين [حادت عن] (6) ترتيبها، وصورتُها تصْديقُ المدعي بقول المدعي، فاحتيج فيه إلى تغليظ وتأكيد.
والقول الثاني - أنا وإن بدأنا بالمدعى عليه، فإنا نحلّفه خمسين يميناً، ونطرد هذا العدد في الخصومات المتعلقة بالدماء، سواء يجري التكليف على ترتيب سائر الدعاوى أو وقعت البداية بالمدعي.
__________
(1) في الأصل: " مساغها ".
(2) في الأصل: " انتهى ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في العبارة نوعُ قلق وتكرار، ولكن حاولنا إقامتها بقدر المستطاع حتى يستقيم المعنى.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: " جارت على ".(17/14)
وإذا حلّفنا المدعى عليه، فنكل عن اليمين، فاليمين مردودة على المدعي، واختلف القول في أنا هل نكتفي بيمين واحدة إذا هي رُدت على المدعي، أم نقول: لا بدّ وأن يحلف خمسين يميناً على نحو ما تقدم؟ والضابط أن اليمين متعددة على المدعي إذا وقعت البداية [به] (1) ، فإن البداية مخالفةً في وضعها ترتيبَ الخصومات، وفي تعددها والاكتفاء بواحدة منها قولان، وهذا يجري في اليمين الموجهة على المدعى عليه، وفي اليمين المردودة على المدعي بعد [نكول] (2) المدعى عليه.
ولو كان القتل المدعَى خطأ، فأقام المدعي شاهداً عدلاً، فأراد أن يحلف معه لإثبات الدية؛ فإن المال يثبت بالشاهد واليمين، فإذا كان القتل خطأ، فالمقصود منه المال، وإذا أراد أن يحلف مع الشاهد، فيحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً؟ فعلى القولين المقدّمين.
10893- وذكر الأصحاب على الاتصال [بهذا] (3) أمراً في ظاهره اختلاط، ونحن نورده على وجهه، ثم نبين طريق التحقيق فيه. قالوا: إن أقام المدعي شاهداً واحداً وأراد أن يحسبه ويقدرَه لوثاً [وما] (4) كان ثبت اللوث عند القاضي بجهةٍ أخرى، فإنه يحلف بعد ظهور اللوث بالشاهد الواحد خمسين يميناً، وإن أراد ألا [يُقيمه] (5) لوثاً، ويحلف معه على قياس اليمين مع الشاهد، فله ذلك.
فهذا فيه اضطراب: فأما إن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد الواحد خمسين يميناً، فلا فائدة في هذا التقسيم، ولا معنى لإرادته إثباتَ اللوث، أو إقامة اليمين مع
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " أن يكون ".
(3) في الأصل: " فهذا أمرا في ظاهر ".
(4) في الأصل: " ما " (بدون واو) .
(5) في الأصل: " يقيم ".
* تنبيه: ليس ما تراه من حواشٍ -من أول ربع الجراح- فروقَ نسخ، وإنما هو العناء في إقامة النص عن نسخة وحيدة، فالمثبت في مقابلة هذه الحواشي من اسثكناه المحقق وتوسُّمِه.(17/15)
الشاهد؟ فإذا كانت الألقاب [تتم] (1) ولا تقبل مزيداً، فلا حاصل لها ولا معنى لنفيها وإثباتها (2) ، فإن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد يميناً واحدة والقتل خطأ، فلا معنى لتقسيم إرادته، ويكفيه يمين واحدة، فإذا [رغب في مزيد] (3) ، لم يحلِّفه القاضي؛ فإن الحجج إذا قامت، ثبت نتائجها، ولم يختلف الأمر بمقصود المدعين إذا كانوا مصرّين على الدعوى. نعم، إن كان المدعَى قتلاً عمداً، وقلنا: القصاص يناط بأيمان القسامة، فيثبت اللوث بالشاهد الواحد، فإن أراد القصاص حلف خمسين يميناً، وإن اقتصر على يمين واحدة، لم يثبت القصاص.
ثم من ادعى قتلاً عمداً، وأقام شاهداً وامرأتين، أو أقام شاهداً وحلف يميناً واحدة تفريعاً على [أن] (4) اليمين الواحدة كافية مع الشاهد، فالقصاص لا يثبت، وفي ثبوت المال تردد، سيأتي في باب الشهادة على الجناية.
فهذا مما يجب تحصيله في ذلك، ووضوحه مغنٍ عن الإطناب فيه.
10894- ثم ذكر الأصحاب على الاتصال بنجاز القول في اللوث ومعناه أصلاً، ونحن نذكره موضّحاً، فنقول: إذا أقام اللوثَ، ونكل المدعي عن أيمان القسامة لما عُرضت عليه، فيحلف المدّعى عليه، وفي تعديد اليمين عليه قولان، فإن حلف، انقطعت الخصومة إلا أن يقيم المدعي بيّنة، فنقدم البينة العادلة على اليمين الفاجرة.
وإن نكل المدعى عليه في اليمين، فهل ترد اليمين على المدعي؟ فعلى قولين - أطلق الأصحاب حكايتهما: أحدهما - أنا لا نرد عليه؛ فإنه قد نكل عن اليمين في هذه الخصومة، ولو رددنا عليه، لكانت صيغة يمين الرد كصيغة أيمان القسامة، والخصومة متحدة، والمقصود واحد.
__________
(1) في الأصل: " لا تتم ".
(2) المعنى إذا المدعي سيحلف مع الشاهد الواحد، فلا معنى للفرق بين أن نجعل شهادته لوثاً، فيكون القضاء باللوث واليمين، وبين أن نجعل شهادته شهادة يُقضى بها مع اليمين.
(3) في الأصل: " ادعت في مرتد ".
(4) زيادة اقتضاها السياق.(17/16)
والقول الثاني - أنا [نرد] (1) عليه اليمين، فإنه نكل عن اليمين عن تكلف، وهذا مقام آخر، فصار تعدد المقام كتعدد الخصومة وتعدد المقصود.
وكان شيخنا يقول: هذان القولان مبنيان على أن يمين الرد هل تتعدد أم لا؟ فإن قلنا: إنها لا تتعدد، فاليمين مردودة عليه، فإن نكوله عن أيمان القسامة محمول على [رغبته] (2) عن كثرة الأيمان، وطلبِه الاقتصارَ على يمين واحدة.
وإن قلنا: إن يمين الرد تتعدد كما تتعدد أيمان القسامة، [فلا] (3) ترد اليمين عليه لما ذكرناه من اتحاد المطلوبِ والخصومةِ، [واستواءِ] (4) كيفيات الأيمان.
وقال قائلون: [إن] (5) قلنا: [يمين] ، (6) الردّ [يتعدد] (7) فالقولان جاريان.
ثم هؤلاء سلكوا مسلكين: أحدهما - أن المقام يتعدد كما ذكرناه في توجيه القولين. والثاني - أن المدعي معتمده في أيمانه اللوث، فربما يبغي استظهاراً بنكول المدعى عليه، فإن نكوله من العلامات الواضحة على صَدَرِ القتل منه.
فانتظم مما ذكرناه مسلكان: أحدهما - تطبيق القولين في الرد على القولين في أن يمين الرد هل تتعدد.
والمسلك الثاني - أنا إن قلنا: يمين الرد تتّحد فَتُردُّ، وإن قلنا: [تتعدّد] (8) فعلى قولين.
وقال قائلون: إن قلنا: يمين الرد تتعدد، فلا رد قولاً واحداً، وإن قلنا: تتحد، ففي الرد قولان: أحدهما - أنها تُرد [لغرض] (9) الاتحاد. والثاني - أنها لا ترد؛ فإن
__________
(1) في الأصل: " لا نرد ".
(2) في الأصل: " ترغيبه ".
(3) في الأصل: " ولا ".
(4) في الأصل: " فاستوى ".
(5) في الأصل: " وإن ".
(6) سقطت من الأصل.
(7) في الأصل: " لتعدد ".
(8) في الأصل: " تتردّد ".
(9) في الأصل: " لفرض ".(17/17)
تكرير الأيمان على الصدق لا يضر، وإن فرض ردٌّ، فاليمين الواحدة في معنى الأيمان.
10895- والذي أراه في هذا -وفيه تحقيق واضح يستدعي تقديم مقدمة- وهو أن المدعى عليه في سائر الخصومات إذا ظهر نكوله عن اليمين، فاليمين مردودة على المدعي، ولو أظهر النكول، ثم رغب في اليمين -قبل اتفاق الرد- لم نبال برغبته، وسيأتي معنى ظهور النكول في موضعه، إن شاء الله، فإن رددنا اليمين، وأظهر المدعي النكولَ عن يمين الرد، ثم رغب فيها، فهل نحلّفه؟ فيه اختلاف بين الأئمة.
والضابط الذي تمس الحاجة إلى ذكره أن كل نكول يتعلق به حق حلف حالف بعد النكول، فذلك النكول إذا ظهر، فلا عوْد من الناكل، وكل يمين لا يمين بعدها في مراتب الخصومات، فالنكول عنها هل يُبطل حقَّ الناكل؟ فيه خلاف.
10896- عدنا إلى غرضنا من المسألة فنقول: تُعدّ أيمان القسامة يمين المدّعي [فإذا نكل عنها، رُدت إلى] (1) المدعى عليه، فينفذ حكمُ النكول عن أيمان القسامة [بتحليف] (2) المدعى عليه، وإذا نكل المدعى عليه، فترتيب الخصومة يقتضي أن يكون بعد نكوله ردٌّ، فهل نعود للمدعي وقد جرى [منه] (3) النكول أولاً؟ والردُّ آخراً إلى من ترد عليه اليمين فينكل، ثم يحلف، والسر فيه أن الشرع لما حلَّف المدعي، فكأنه ردّ اليمين عليه، ولكنه يحمل نكوله [لحق] (4) حلف المدعى عليه، فإذا أسقط المدعى عليه حقَّه، فهل يعود إلى حقه؟ فيه الخلاف الذي قدمته، ولولا هذا، لما استقام إلى اليمين بعد النكول عنها.
ولو ادعى القتلَ حيث لا لوث، ونكل المدعى عليه عن اليمين، وعرضنا اليمين على المدعي، فنكل عن يمين الرد، ثم ظهر اللوث، فهل له أن يحلف يمين الابتداء؟ ذكر الأصحاب في ذلك قولين، ووجهوهما على ما تقدم.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " كتحليف ".
(3) في الأصل: " من ".
(4) في الأصل: " بحق ".(17/18)
ولو أقام شاهداً واحداً في دعوى مال، فلم يحلف معه، وحلّفنا المدعى عليه، فهل ترد اليمين على المدعي، وقد امتنع عن اليمين مع الشاهد؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا لم يكن في دعوى المال شاهدان، رددنا اليمين على المدعي بعد نكول المدعى عليه، فنكل عن يمين الرد، ثم أقام شاهداً وأراد أن يحلف مع شاهده، فهل له ذلك؟ فعلى ما تقدم من القولين.
قال الأصحاب: الأصل في هذه المسائل أن من نكل عن يمينٍ في خصومة لا يحلف تلك اليمين بعينها، في ذلك المقام من تلك الخصومة، وهل يحلف في مقامٍ آخر من تلك الخصومة مع اتحاد المقصود؟ فعلى الخلاف المقدم.
هذا ما ذكروه ولا يحيط الناظر بحقيقة القولين في هذه المسائل، ما لم يُحط علماً بما قدمته، وسيأتي ما رمزت إليه موضّحاً في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وللولي أن يقسم على الواحد وَالجماعة ... إلى آخره " (1) .
10897- إذا عين المدعى عليه في دعوى القتل، استمرت الخصومة على نحو ما تقدم، واستمر الأمر إلى ظهور اللوث [وثبوته] (2) ، ووضعُ الباب على أن تعيين المدعى عليه لا بد منه، وقال أبو حنيفة (3) لا يشترط تعيين المدعى عليه في صحة القسامة ويُحضر خمسين من صلحاء المَحِلة في خبطٍ لسنا نذكره.
فإن ادعى على جماعة، وزعم أنهم اشتركوا في القتل، عيّنهم؛ إذ نيطت الدعوى بهم.
ولو ادعى القتل على جمع لا يتصور اجتماعهم على القتل، فالدعوى باطلة؛ لأنه ادعى ما يحيله الحس.
__________
(1) ر. مختصر المزني: 5/148.
(2) مكان كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: (وعرمه) تماماً.
(3) ر. تكملة فتح القدير: 9/306، 307، تحفة الفقهاء: 3/131.(17/19)
ولو ادعى وقد أشار إلى جمع محصورين- أعلم أن قاتل أبي منكم، [ولا] (1) أدري [أيكم] (2) ، فأحلفكم واحداً فواحداً، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن اليمين تترتب على الدعوى، وإذا لم تتعلق الدعوى الجازمة بالمحلَّف، لم ينتظم تحليفه، والثاني - له أن يحلفهم كذلك، لأنه يتطرق به إلى إظهار غرضه، ومن كان صادقاً منهم، فلا عليه لو حلف.
وقال بعض المصنفين: إن قال: قاتل أبي واحد منهم، فليس له أن يحلّف أحداً منهم، فإن قال: قتل أبي هؤلاء أو واحد منكم، ففي المسألة وجهان حينئذ. وهذا لا أصل له، ولم يصر إلى هذا التفصيل أحد من الأصحاب، بل اتخذ الوجهين فيه إذا قال: قاتل أبي واحد منهم، والذي يُبطل التفصيل الذي حكيناه [أنه] (3) إذا لم يعلق دعواه جزماً، بل رددها بين الجمع والواحد، فلا فائدة في ربط الدعوى بالجمع، إذا كان على الترديد.
10898- ثم طرد الأصحاب هذا الخلاف في غير الدم، على تفصيل سنذكره الآن، فإذا قال: استلف مني واحد من هؤلاء ديناراً أو ثوباً وَصَفَه، وأعلم أنه فيهم، ولست أعرفه بعينه، فهل له أن يحلِّفهم؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
وكذلك إذا أضلَّ متاعاً بين جماعة [فاختزله] (4) واحد منهم، فأراد أن يدعي على الإبهام، فهو على الخلاف.
فأما إذا أقرض ماله إنساناً، ثم سها عنه، فقال: المستقرض منِّي في هؤلاء، وقد
__________
(1) في الأصل: " لا ".
(2) مكان بياض بالأصل.
(3) في الأصل: " وأنه ".
(4) مكان كلمة مطموسة بالأصل، والمثبت تقدير منا على ضوء خيالات وأطراف الحروف الباقية.
واختزله: اقتطعه خيانة، ويقال: اختزل الوديعة خان فيها، ولو بالامتناع عن ردها، وفي الأساس للزمخشري: اختزل شيئاً من المال، والمعنى أنه اقتطعه (المصباح والأساس) ثم وجدت هذا اللفظ (الاختزال) عند الغزالي (في البسيط) بهذا المعنى.(17/20)
نسيت عينه، فليس له أن [يخصّ] (1) واحداً منهم؛ فإن القتل، والإتلاف، والغصبَ [والاختزال] (2) مما لا يتعلق باختياره، ولا يبعد ألا يحيط [بعي] ، (3) من فعل، فأما الإقراض [فصدوره] (4) عن اختياره، وكذلك المبايعة وما في معناهما، فإذا نسي وهو المقصر؛ فليس له أن يحلّف من غير تعيين.
هذه هي الطريقة المرضية.
وذكر الأئمة طريقين أُخريين: إحداهما- أن ما ذكره من التحليف والدعوى [لهم] (5) مختص بالدم؛ لأن للشرع اعتناء [بصيانة الأنفس لتعرضها للاغتيال وعِظم قتلها] (6) واشتداد العناية بحفظها؛ ولهذا بدأنا بالمدعي عند ظهور اللوث، ولا نبدأ بالمدعي في مالٍ عند ظهور اللوث، وتصوير اللوث في الأموال ممكن.
ومن أصحابنا من أجرى الخلاف في الخصومات المتعلّقة بالأموال، كما أجراه في الدم، وطرد هذا الخلاف فيه إذا قال: استقرض واحد منهم وأنسيت عينَه؛ فإن النسيان ليس بدعاً.
فانتظم مما ذكره الأصحاب طرقٌ: إحداها - طردُ الخلاف [في الخصومات الأخرى] (7) [والثانية -] (8) إجراء الخلاف في الدم فحسب، والأخرى - (9) إجراء الخلاف في الدم وغيره إلا في الإقراض، وما يتعلق بالاختيار من المعاملات، وما حكيناه عن بعض التصانيف مزيف غير معتد به.
__________
(1) في الأصل: " يخلص ".
(2) كذا قرأناها بصعوبة أيضاً.
(3) في الأصل: " بغيره ".
(4) في الأصل: " بصدوره ".
(5) في الأصل: " منهم ".
(6) في الأصل: "بإظهار الدمار لعرصها الاعسار وعطم ـلها" (كذا رسماً ونقطاً) .
(7) في الأصل: "في الأيام الأخرى".
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) هذه هي الطريقة الثالثة.(17/21)
10899- ونعود إلى تفريع الخلاف في الدم، فنقول: إذا أبطلنا الدعوى، فلا كلام، وإن جوزنا تحليفهم واحداً واحداً، فإن حلف الكل، انتهت الخصومة من هذه الجهة، وإن حلف الكل إلا واحداً منهم، فقد أطلق الأصحاب القول بأن للولي إظهار اللوث (1) ، ولو أراد المدعي أن يقسم على [الناكل] (2) ، أقسم عليه، وليس هذا [ردّاً لليمين؛ حتى يجيء القولان في تعديد يمين الرد] (3) ، لأن يمين الرد إنما تفرض في الدعوى الجازمة، إذا توجهت على المدعى عليه، وهذا المعنى [مفقود] (4) في هذه الصورة.
ولو نكلوا من عند آخرهم، فلا يتبين اللوث في حق المدعي؛ فإنه ذكر أن القاتل واحد منهم، وقد استوَوْا في النكول، فإن ظهر عنده على الاختصاص لوثٌ في حق واحد، وعجز عن إظهاره في مجلس الحكم، فله أن يقسم بأن النكول الصادر منهم لوث في حق الجميع، وإذا ظهر لوث في حق [جمع] (5) ، فلا نشترط ظهورَه في حق من يعينه المدعي، وهذا فيه احتمال (6) ، لأنه في الابتداء أبهم الدعوى، ولم يظهر ما يوجب تعيّن واحد منهم للاختصاص بلوث، ولا يبعد أن يقال: ليس له أن يقسم على واحد منهم، ما لم يُظهر عند القاضي لوثاً مختصاً به، وليس كما لو عين المدعى عليه ابتداء، وكان اللوث شاملاً للجميع. وهذا الذي ذكرناه فيه إذا تعيّن عنده لوث في حق واحد، وقد نكلوا، فماذا يفعل هذا المدعي؟
فإن قلنا: لا يقسم المدعي، فلا فائدة في عرض الأيمان عليهم؛ فإنهم
__________
(1) أي أن نكوله عن اليمين يعتبر لوثاً في حقه.
(2) في الأصل: " المأكل ".
(3) عبارة الأصل: " ردّ اليمين وحق القولان في تعين اليمين الرد " والمثبت تقدير من المحقق.
هذا. ومعنى مجيء القولين في تعدد يمين الرد، أن المدعى عليه إذا نكل عن أيمان القسامة، فردت على المدعي فهل ترد يميناً واحدة، أم متعددة، وإنما القطع هنا بتعدد اليمين.
(4) في الأصل: " معقود ".
(5) في الأصل: " جميع ".
(6) قال النووي: " ولو نكل الجميع، ثم عين الولي أحدهم، وقال: قد بان لي أنه القاتل، وأراد أن يقسم عليه، مُكّن منه على الأصح " (ر. الروضة: 10/12) .(17/22)
لا يعجزون عن النكول (1) ، إذ ليس [في] (2) مذهب الأيْمان الإجبار [على] (3) اليمين، والقضاءُ بالنكول لا وجه له، وقد عسر الرد، فلا يبقى لفرض اليمين فائدة. وإن كان الأمر كذلك، [فنتبيّن] (4) من هذا المنتهى في التفريع بطلانَ أصل المذهب في عرض اليمين، ولاح وجوب القطع بأن المدعي إذا لم يعيّن المدعى عليه، بطلت دعواه [فيما إذا] (5) قال قائل: إذا نكلوا، فللمدعي أن يقسم على من شاء منهم، فهو (6) ناكل.
وإن قال: كنت أظن أن القاتل منهم واحد، فإذا نكلوا، [كان] (7) نكولهم لوثاً عندي في أنهم مشتركون في القتل، فهذا يخالف قولَه الأول، ويجوز أن يقال: دعواه جرت على الترديد، وأشعرت بإشكال الأمر عليه، ولا يمتنع أن نقول: يُثبت الآن نكولُهم أنهم مشتركون، وهذا بعيد جداً. ولكن لا يستقيم التفريع على الوجه الضعيف في قبول الدعوى على الإبهام إلا على الالتزام. هذا منتهى التفريع.
10900- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " وسواء كان به جرح أو لم يكن ... إلى آخره " (8) .
لا يشترط وجود الجراحة في ثبوت القسامة، فإذا صوروا هالكاً لا جرح به، ثبت للولي أن يقسم عليه، إذا ظهر اللوث. وأبو حنيفة (9) يشترط وجود الجراحة ليحلف رجال المحِلة، وإياه قصد الشافعي بالرد.
__________
(1) المعنى أن التفريع انتهى بهذا إلى عدم صحة عرض اليمين عليهم، فإذا كان بإمكانهم النكول، وقلنا: إنه لا يحلف، فما معنى لدعواه إذاً؟ ولهذا صح قوله الآتي: " فتبين من هذا المنتهى في التفريع بطلان القول بعرض اليمين، ووجب القطع بأن المدعي إذا لم يعين المدعى عليه بطلت الدعوى ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: " عن ".
(4) في الأصل: " ونتبين هذا المنتهى من هذا المنتهى في التفريع ". وفيها تداخل وتكرار.
(5) في الأصل: " فإذا ".
(6) فهو: أي الذي يحلف عليه واحد من جميع الناكلين.
(7) في الأصل: " فإن ".
(8) ر. المختصر: 5/148.
(9) ر. مختصر الطحاوي: 247، الهداية مع تكملة فتح القدير: 9/311.(17/23)
ومعتمد المذهب أن القتل ممكنٌ من غير جرح، ولو كان يقول: إن لم يكن عليه أثر من جرح، أو ضغطٍ في مجرى النفس، أو [تورّم] (1) في الخصيتين، فالهلاك محمول على الموت حتف الأنف، لكان ذلك مذهباً يجب البحث عنه، فأما مذهبه إنه (2) لو بدا أثر التعلّق والتخنيق في رقبته، فلا حكم لذلك ما لم نجد جرحاً.
فإن قيل: ما قولكم فيه إذا صودف ميتاً، ولا أثر أصلاً؟ وقد قيل: الأخذ على الفم والأنف إلى انخناق النفس [يسوّد] (3) وجه الميت [ويثور] (4) الدم صُعُداً، فإذا لم نفرض أثراً أصلاً، فالحمل على الموت الوفاقي ممكن. قلنا: هذا فيه بعض النظر، ولم أر انتهاء تفصيل الأصحاب إليه، والموت فجأة ليس أمراً بدعاً، فيخرّج على هذا الاحتمال أن اللوث في القتل [شرطُه] (5) ظهورُ أثرٍ، [والمعنى] (6) المتلقى من فحوى كلام الأصحاب حملُ الأمر على القتل (7) ، ولئن كان الدم [قد ينعكس إلى مقرّه، بعد أن فاضت الروح، فالأمر] (8) محتمل، والعلم عند الله.
__________
(1) في الأصل: " تورح ".
(2) جواب أما بدون الفاء.
(3) في الأصل: " برد ". (كذا تماماً) .
(4) في الأصل: " ويثرد ". والمعنى أن الدم يثور صاعداً إلى الوجه فيسودُ الوجه، هذا وقد وجدنا ما أثبتناه (ويثور) منقولاً عن الإمام، نقله الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 11/24) وذلك من فضل الله وحسن توفيقه.
(5) في الأصل: " شرط ".
(6) في الأصل: " والمال ".
(7) عبارة الغزالي هنا أكثر إيضاحاً، فقد قال: " ومساق كلام الأصحاب في التجاوز عن هذا التفصيل يدلّ على أن اللوث قائم، فإن القتل مع اندراس أئره ممكن، والعداوة ظاهرة، فأمكنت الإحالة عليها " (ر. البسيط: 5/ورقة: 97 شمال) .
(8) في الأصل: " الدم إلى مقره والأمر " والمثبت تصرّف من المحقق أداءً للمعنى بعبارتنا.
والمعنى: إذا كان أثر الجراحة أو أثر القتل قد يذهب أثره، فيحتمل أن نقول باللوث، ولا أثر أصلاً، وهذا هو المتلقى من فحوى كلام الأصحاب، ثم معنى ينعكس الدم إلى مقره مرتبط بقوله آنفاً: "ويثور الدم صعداً " فالمراد أنه يذهب أثر الجناية، فلا يشترط في اللوث ظهور أثر.
ولعل من المناسب أن نذكر نص عبارة الرافعي في هذه المسألة، إيضاحاً للمعنى،=(17/24)
فصل
قال: " وإن أنكر المدعى عليه أن يكون فيهم ... إلى آخره " (1) .
10901- مقصود الفصل أنه إذا ثبت اللوث على الحدّ الذي ذكرناه، فقال المدعَى عليه: كنت غائباً في الوقت الذي عينتَه للقتل، فقد قال الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم: لا يقسم المدعي ما لم يَثْبُت حضور المدعى عليه، فإن أقام بينة على حضوره [ساعة قد ظهر] (2) اللوث، أقسم حينئذ، والسبب فيه أن اللوث وإن كان ظاهراً، فالغَيْبة ممكنة، ومن نيط به لوث لا يقتضي ذلك اللوثُ استمرارَه على الإقامة والحضور.
وفي هذا سؤال: فإن قائلاً لو قال: إذا كان بحيث يبعد [تقدير] (3) القتل إلا من جهة المدعى عليه، لاختصاصه بمعاداته، فينبغي أن يكون ذلك لوثاً في [غيابه] (4) أيضاً، هذا [المقيسُ] (5) ، فأدنى ما يلزم عليه أن يقال: إذا [وجدنا] (6) في مَدْرجةٍ أو شارعٍ ميتاً [فنحيل] (7) قتله على من عهد معادياً له.
وليس الأمر كذلك وفاقاً؛ فإن الحكم بأن هذا لا يقتله إلا من يُعرف معادياً له
__________
=وعلاجاً لما قد يكون من قلقٍ في العبارة، ثم لنرى كيف يتصرّف الرافعي في عبارة الإمام، قال الرافعي رضي الله عنه: " وقال الإمام: إذا صودف ميتٌ لا أثر عليه أصلاً، وقد قيل: الأخذ على الأنف إلى انخناق النفس يُسوّد الوجه، ويثور الدم صعداً، فإذا لم يظهر أثر، فالحمل على الموت الوفاقي ممكن، فهذا فيه بعض النظر، وإذا فاضت النفس، ففد ينعكس الدم إلى مقرّه، والأمر محتمل والعلم عند الله، وهذا السياق يشعر بأن الظاهر أنه لا يعتبر ظهور الأثر أصلاً، وكذلك ذكر القاضي الروياني، والمتوجه ما مرّ " (ر. الشرح الكبير: 11/24) .
(1) ر. المختصر: 5/148.
(2) في الأصل: " ساعته وقد ظهر اللوث ".
(3) في الأصل: " تقرير ".
(4) في الأصل: " حضوره ".
(5) غير مقروءة بالأصل، ورسمت هكذا: (المتبس) كذا تماماً رسماً ونقطاً.
(6) في الأصل: " وجد ".
(7) في الأصل: " فتخلل".(17/25)
لا معنى له؟ إذ [قد] (1) يتفق القتل من سكران، أو ممن يتهمه على أمر، وقد يحاول إنسانٌ سلبَ ثوبه فيمتنع، فيأتي عليه بسلاح، ووجوه القتل شتى، وإنما تخصيصه بأهل المعاداة في محلّهم الخصّيصة بهم لاقتضاء اللوث هذا المعنى، والغيبةُ والحضور أمران يجريان على التناوب [من] (2) الناس.
وخرج من مجموع ذلك أن القاضي لا يتركه يقسم، [وإن] (3) ظهر اللوث حتى يظهر عنده حضور المدعى عليه، [فإن صرّح] (4) بدعوى الغَيْبة أُحوج المدعي إلى إثبات الحضور، وإن لم يكن مع المدعي بينة على حضوره، فالقول قول المدّعى [عليه] (5) في الغيبة مع يمينه، فإن حلف، فلا قسامة، ولكن دعوى الدم قائمة واليمين معروضة على المدعى عليه (6) .
10902- ولو ادعى رجل على رجل قتلاً في [غير] (7) مقام اللوث، فقال المدعى عليه: أَثْبت حضوري، ثم حلّفني، ليس له ذلك؛ فإن الدعوى المرسلة يجب الجواب عَنها، والجواب عنها إذا لم يكن إقراراً، كان إنكاراً مضاداً للدعوى، فليحلف. نعم، لا بد من إثبات الحضور في القسامة ليثبت اللوث.
ولو أقام المدعي في مقام اللوث بينة على الحضور، فأقام المدعى عليه بينة على الغيبة، فقد قال الأصحاب: بينة الغيبة مقدمة، واعتلّوا بأن بينة الغيبة معها مزيد علم، وبينة الحضور يحمل قولها على دوام الحضور.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الغيبة معناها [كونٌ] (8) في مكان آخر، والحضور معناه
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " عن ".
(3) في الأصل: " فإن ".
(4) في الأصل: "فاصرح".
(5) سقطت من الأصل.
(6) أي على ترتيب الدعوى من غير لوث.
(7) زيادة لتصحيح العبارة، فالدعوى المرسلة هي الدعوى بغير لوث.
(8) في الأصل: " لوث ".(17/26)
[كونٌ] (1) في هذا المكان، ومن ضرورة [لكون] (2) في مكان تعيّن انتفاء [لكون] (3) في غيره، فإذاً كل بينة تشتمل على إثباب من ضرورته نفيٌ، فلا يجوز ترجيح بيّنة الغيبة لذلك.
نعم، يجوز أن يقال: لو تداعيا حضوراً وغيبة، فالقول قول من يدعي الغَيبة مع يمينه.
ومهما (4) أقام متداعيان بيّنتين -ولو لم تكن البينة، لصَدَق أحدُهما- فبينة [من] (5) يُحلَّف ويصدَّق تقدم، كبينة الخارج والداخل، ثم سنذكر اختلاف الأصحاب في بينتي الخارج والداخل: فمنهم من يرجح بينة الداخل لقوة جانبه، ومنهم من يحكم بتساقط البينتين، ومرد الأمر إلى تحليف المدعى عليه، وهذان الوجهان جاريان في الغيبة والحضور من مسألتنا، وترتب على جريانهما أن المدعى عليه هل يحلَّف على الغيبة مع قيام البينتين؟ فعلى وجهين كما ذكرناه في الداخل والخارج.
10903- ومما يتصل بهذا أن المدعى عليه لو كان محبوساً أو مريضاً، لا حراك به، سيما في مثل القتل، إذا [أظهر] (6) المدعي اللوثَ، وكان المدعى عليه في ذلك الوقت على ما وصفناه، ففي هذا طريقان: من أصحابنا من قال: إن اقترن هذا والعلمُ به بأيمان القسامة، فلا قسامة، فإن اللوث يضعف بها جداً.
وإن فرضت القسامة، ثم تبين بعد جريان الأيمان أن المدعى عليه كان محبوساً، فهل نحكم ببطلان القسامة تبيُّناً؟ ذكر الأصحاب في ذلك [وجهين] (7) : أصحهما - أنا نتبين بطلان القسامة. ومن أصحابنا من أجرى الوجهين [وإن] (8) اقترن العلم بكونه [محبوساً] (9) بإنشاء الأيمان.
__________
(1) في الأصل: " لوث ".
(2) في الأصل: " اللوث ".
(3) في الأصل: " اللوث ".
(4) ومهما: بمعنى: " وإذا ".
(5) في الأصل: " في ".
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) سقطت من الأصل.
(8) في الأصل: " فإن ".
(9) في الأصل: " محتوماً ".(17/27)
ولسنا نعني بهذا العلم تحققَ بقائه في الحبس؛ فإن ذلك لو كان كذلك، لانتفى القتلُ قطعاً، ولكن المعنيّ به أن يكون [حبسه] (1) ظاهراً في تلك [اللحظة] (2) ، كما نطلق أن فلاناً محبوس، ويجوز أن يكون [معلناً بالحبس] (3) في وقت إطلاقنا لذلك، فليفهم ذلك على هذا الوجه.
فإن لم يكن من إجراء الخلاف بدٌّ، فلا معنى للفرق، والوجه طرده في الصورتين؛ فإن ما يمنع من الإقدام على الأيمان يوجب بطلانَها إذا تبين من بعدُ.
هذا والوجه القطع بسقوط اللوث بهذا؛ فإن ما يظهر من لوث فالبقاء في الحبس أظهر منه، وإذا ظهر ذلك [يسقط] (4) اللوث بمعارضة ما يضاده.
ومن أسرار الفصل أنه إذا ادعى -واللوث ظاهر- القتلَ على الشخص، فلم يتعرض المدعى عليه للحضور والغيبة بالنفي والإثبات، ولم يتعرض المدعي للتصريح بذكره، فكيف الوجه في ذلك؟ أولاً - إذا ادعى أنه قتله، فقد ادعى حضوره، [وإنما] (5) النظر في سكوت المدعى عليه عن دعوى [الغيبة] (6) [وهل] (7) يُظهر حضورَه، فلو كان غائباً لذكر [ذلك،] (8) وفي المسألة احتمال على حال.
10904- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أنظر إلى دعوى الميت ... إلى آخره" (9) .
أراد بذلك الرد على مالك (10) فإنه قال: لو وجدنا جريحاً متشحِّطاً في الدم،
__________
(1) في الأصل: " حسنه ".
(2) في الأصل: " الليلة ".
(3) في الأصل: " معلناً من الحبس "، أي باعتبار ما سيكون.
(4) مكان كلمة استحالت قراءتها.
(5) في الأصل: " فإنما ".
(6) في الأصل: " القسمة ".
(7) زيادة لاستقامة الكلام.
(8) زيادة من المحقق.
(9) ر. المختصر: 5/148.
(10) ر. المدونة: 4/488، 492. الإشراف: 2/841 مسألة: 1629، المعونة:=(17/28)
مشرفاً على الهلاك، فقال: خذوا فلاناً بدمي، فإنه قاتلي. قال: يقبل قوله، ويؤخذ ذلك الشخص بقوله، ونحكم عليه بالدم، فإنه لا يكذب في هذه الحالة.
وهذا كلام عري عن الإحاطة بقواعد الشرع " فإن الكذب ممكن، والحكم على الغير بالدعوى المجردة محال، ولو كان يقول: هذا لوث، فيقسم الولي، لكان أمثل، على أنه لو قُتل به، فهو باطل، [فإن اللوث لا يثبت] (1) بالدعوى (2) .
10905- ثم قال: " ولورثة القتيل أن يقسموا وإن كانوا غُيّباً ... إلى آخره " (3) .
إذا كان الولي المقسم غائباً، ثم حضر وأراد أن يقسم عند ظهور اللوث، فله ذلك " لأن معتمده اللوث، ولا يشترط أن يكون [فرعاً] (4) من القتيل، وإذا كان كذلك، فقد يثبت عنده بقول الأثبات والثقات ما يقسم عليه، أو باعتراف القاتل، وغيرِ ذلك من الوجوه، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن المقسم لا يكتفي باللوث الذي يكتفي القاضي به، بل ينبغي أن يعتمد أمراً أقوى من اللوث.
ثم الذي يمكن ضبط هذا الكلام به أن يثبت عنده ما لو كان قاضياً، لقضى بالقتل به، وهذا إقرارٌ أو قولُ عدلين، ولا يشترط مقامُ الشهادة، فإن الشهادة لا تقوم إلا في مجلس القاضي، ولا يشترط لفظُ الشهادة أيضاً، [وإن] (5) كنا قد نشترط لفظ الشهادة
__________
=3/1347، القوانين الفقهية: 343، حاشية الدسوقي: 4/288.
(1) في الأصل: " وإن اللوث يثبث بالدعوى ".
(2) المعنى: إن اللوث لا يثبت بالدعوى -عندنا- وعبر الغزالي عن ذلك قائلاً: " لو عاش الجريح زماناً، وقال: قتلني فلان، لم يكن لوثاً، لأنه صاحب حق، فلا معتبر بقوله، بل قوله كقول المدعي الوارث، خلافاً لمالك رحمه الله، فإنه جعل ذلك لوثاً " (ر. البسيط: 5/97 شمال) ، وأما النووي، فقد قال: " ولو قال المجروح: جرحني فلان، أو قتلني، أو دمي عنده، فليس بلوث؛ لأنه مدّعٍ " (ر. الروضة: 10/11) .
ومعنى هذا الكلام مع الذي قبله: أن مالكاً لو جعله لوثاً، لكان أمثل، ومع ذلك، فهذا اللوث لا يقتل به، أي لا يثبت به القود، خروجاً من عهدة الخلاف، فهو غير ثابت عندنا، كما أكدنا ذلك آنفاً.
(3) ر. المختصر: 5/148.
(4) في الأصل: " ورعاً ".
(5) في الأصل: " فإن ".(17/29)
في الإشهاد على الشهادة، فليتأمل الناظر هذه المضايق.
فإن قيل: هلا قلتم: يقع الاكتفاء باللوث الذي تبنى عليه [البداية] (1) ؟ قلنا: البداية نقلُ حجة من جانب إلى جانب، والأمر فيه [قريب] (2) ، والإقدام على الإقسام تعرّضٌ لإثبات القتل.
هذا ما لاح لي في كلام الأصحاب.
وفي كلام بعضهم ما يشير إلى الاكتفاء باللوث، وهو ساقط غيرُ معتد به.
ثم ألحق الأئمة بهذا الوليَّ لو كان جنيناً وجرى القتلُ، أو كان نطفةً قارّةً في الرحم، لم تتخلق، ثم انفصل وأراد الإقسام، فله ذلك، ثم البناء فيه على ما قدمناه.
10906- ثم قال رضي الله عنه: " وينبغي للحاكم أن يقول: اتق الله ... إلى آخره" (3) .
إذا أردنا البداية بالمدعي، ينبغي أن يحذِّره القاضي ويقول: اتق الله، ولا عليه لو استقرأ قارئاً قولَه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... } الآية [آل عمران: 77] ونؤثر في اللعان [تحذير المتلاعنين] (4) ، وذكرنا [من قبل] (5) تخصيصَ كلمة اللعن والغضب [بالأخذ] (6) على فم من يريد الجريان [بها] (7) .
فأما ما عدا هاتين الخصومتين، فهل نؤثر للقاضي أن يحذر الخصم من الإقدام على اليمين الفاجرة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا نؤثر ذلك في كل يمين معروضة. والثاني - أنا نؤثر للقاضي ذلك في الدماء، والفروج، [والأمور] (8)
__________
(1) في الأصل: " السراية ".
(2) في الأصل: " مرتب ".
(3) ر. المختصر: 5/148.
(4) في الأصل: " تجويز المقدم ".
(5) في الأصل: " في مجلس ".
(6) في الأصل: " بالآخر ".
(7) في الأصل: "فيها".
(8) في الأصل: " الأموال ".(17/30)
الخطيرة، والضابط أن تكون الأيمان مغلّظة (1) ، على ما سيأتي كيفية التغليظ في موضعه من الدعاوى إن شاء الله، وما قل قدره من الأموال بحيث لا يسوغ التغليظ فيه [فلا] (2) خلاف أنا نؤثر للقاضي التحذير من اليمين (3) ، وهذا على ظهوره فيه [جريان] (4) التحذير من اليمين في الأمر الحقير [مما] (5) قد يراه الناظر أهمّ، ولكن التحذير ركن (6) التغليظ، وهو في معنى التفخيم والتعظيم (7) ، وإلا فلا منع للإنسان من حجته التي أثبتها الشارع له، بحيث لا [يسوغ] (8) إلا شرع التحذير من اليمين.
فصل
10907- إذا ادعى على رجل أنه قتل موروثه مع عدد لم يذكر مبلغهم، فإن كان القتلُ قَتْلَ مالٍ، فلا خلاف أن دعواه مردودة، فإنه لم يبيّن [ما يخص] (9) المدعى عليه من المال، وإن كان القتل قتل [عمد] (10) ، بحيث يوجب القود لو ثبت بالإقرار أو البينة، فإن قلنا: [لا يُستحق] (11) الدم بأيمان القسامة، فلا تسمع الدعوى؛ فإنه لا غرض والحالة هذه إلا إثبات المال، [والقدر] (12) المدعى مجهول.
__________
(1) المذهب تغليظ الأيمان فيما ليس بمالٍ، ولا يقصد به مال، كدعوى دم، ونكاح، وطلاق، ورجعة، وإيلاء، وعتق، وولاء، ووصاية، ووكالة. وفي مالٍ يبلغ نصاب زكاة. (ر. شرح المنهاج لجلال الدين المحلي - بهامش حاشيتي قليوبي وعميرة: 4/340) .
(2) في الأصل: " ولا ".
(3) وهذا هو الوجه الأول مما حكاه العراقيون.
(4) في الأصل: " سريان ".
(5) زيادة من المحقق.
(6) أي مقتضى التغليظ ومتمم له.
(7) المعنى أن التحذير ليس منعاً من اليمين الذي هو حجة مشروعة، ولكنه تفخيم وتعظيم لشأن الأيمان.
(8) في الأصل: " يشرع ".
(9) في الأصل: " ما يحضر ".
(10) في الأصل: " عم ".
(11) في الأصل: " لا يساط " تماماً.
(12) في الأصل: " والقتل ".(17/31)
وإن قلنا: يثبت القود، فهل تُقبل الدعوى والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن الدعوى مسموعة، فإن [القصاص] (1) يثبت على هذا للمدعي كثر الشركاء أو قلّوا، عُرف عددهم أو جُهل. والوجه الثاني - أن الدعوى لا تسمع؛ فإن الأمر قد يؤول إلى المال.
والوجه عندي في هذا أن ينبني الخلاف على أن موجب العمد القود المحض، أو القود أو الدية: أحدهما - لا بعينه؟ فإن قلنا: موجبه القود المحض، فالوجه القطع بقبول الدعوى؛ فإن الموجب هو القود لا غير، فإن ثبت المال، فعن تصرّفٍ في القود، وإن قلنا: موجب العمد أحدهما لا بعينه، فيحتمل الوجهان حينئذ.
فصل
10908- إذا قال المدعي: جرح فلانٌ موروثي فلاناً، ومات من جرحه، فاعترف المدعى عليه بالجرح، وزعم أنه مات بسبب آخر، فإن سلّم قصر الزمان، فعليه أن يثبت سبباً، وإن لم يُثبت، قضي عليه بالقتل.
وإن ادعى طولَ زمان [لا يكون] (2) فيه الجرح [سبباً] (3) ، فلا يخلو إما أن يكون الجرح في محل اللوث، وإما ألا يكون، فإن لم يكن الجرح في محل اللوث، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القول قول المدعي؛ فإن الجرح سبب الموت على الجملة، فمن ادعى [تعليقه] (4) به، ظهر صدقه مع يمينه. والوجه الثاني - أن القول قول المدعى [عليه] (5) ، فإن الأصل عدم الموت وبراءة الذمة.
وإن كان اللوث ظاهراً، فقد قطع العراقيون بأن المدعي مصدَّق، وهذا عندي [هَوَسٌ] (6) ؛
__________
(1) في الأصل: "النقصان".
(2) في الأصل: "لم يكن".
(3) في الأصل: "ضما".
(4) في الأصل: "تعجيله".
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: " هو بيّن " وهو تصحيف يقلب المعنى رأساً على عقب.(17/32)
فإن الجرح متفق عليه (1) ، وليس المدعي يدعي غيرَه، ويدعي إفضاء الجرح إلى الموت، وقصر الزمان وطوله لا يختلف بقيام اللوث، فلو قال عدل واحد: مات على قرب من الزمان، [ثبت] (2) اللوث في موضعه، ولا يثبت قرب الزمان إذا قلنا: القول قول من يدعي التراخي، فلا وجه لهذا التفصيل كيف فرض، والوجه إجراء الخلاف من غير تفصيل.
وهذا الذي ذكروه طرفٌ من اختلاف الجاني والمجني عليه في هذه الأنواع، وقد مضت هذه الفصول مستقصاة في موضعها على أبلغ وجه في البيان، فلا حاجة إلى الإعادة.
فصل
10909- إذا ادعى رجل على رجل أنه انفرد بقتل أبي في الوقت الفلاني، فأقام المدعى عليه بينة أنه كان غائباً في ذلك الوقت، اندفعت الدعوى عنه، فلو أقر أحدٌ: بأني كنت شريكه في القتل، أو قال: أنا كنت المنفرد بقتله دون من ادعى عليه، فلو أن المدعي صدق هذا المقِرّ، وأراد مؤاخذته، بإقراره، وزعم أنه غلط في دعواه الأولى، فهذا ينبغي أن يدرج في تمهيد قاعدةٍ، فنقول: إن ادعى عليه أنه منفرد بالقتل، ثم ادعى مشاركةً أو انفراداً على خلاف دعواه الأولى، فالدعوة الثانية مردودة.
ولو أقر شخص بما يخالف الدعوى الأولى، فصدَّقه المدعي ونسب نفسه إلى الزلل أو تعمد الكذب، فالمذهب أن له مؤاخذة المقر؛ فإنهما اجتمعا على التصادق، وكذبه ليس أمراً بدعاً.
ومن أصحابنا من قال: ليس له مطالبة المقر؛ لأن دعواه إقرار منه ببراءة هذا المقر، فنؤاخذه بموجب قوله الأول، وسيأتي استقصاء ذلك في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) المعنى أن الجرح متفق عليه ومعترف به، ولا يدّعي المدعي غير السراية، وإفضاء الجرح إلى الموت، فأي لوث هنا؟
(2) في الأصل: " فسد ".(17/33)
فصل
قال: " ولسيد العبد القسامة من عبده ... إلى آخره " (1) .
10910- اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن العبد إذا قُتل، فهل للسيد أن يقسم عليه إذا كان القتلُ قَتْلَ لوث، فقال في أحد القولين: لا يقسم عليه؛ لأن مطلوبه المال. وقال في القول الثاني: يقسم عليه؛ فإن القسامة أثبتت تغليظاً لأمر الدم، واحتياطاً فيه، ودم العبد مضمون بما يصان به دم الحر؛ فإنه يتعلق القصاص به، ويُثبت خاصية النفس وهي الكفارة.
والقائل الأول قد يعارض ما ذكرناه بالأطراف؛ فإن القسامة لا تجري فيها وإن كانت مصونة عن الجناة بالقصاص، وسبيل الجواب عن الأطراف ما ذكرناه، من تعلق الكفارة بقتل العبيد.
وهذان القولان يقربان من القولين في أن [قيمة] (2) العبد المقتول خطأ هل تضرب على عاقلة القاتل؟ وقد مضى ذكر ذلك.
ويجوز أن يقال: ليس هذا مأخوذاً من الضرب على العاقلة؛ فإن العواقل يتحملون أروش الأطراف، وإن كانت القسامة لا تجري فيها.
وذهب بعض أصحابنا إلى القطع بإجراء القسامة في قتل العبيد، نظراً إلى تعلق الكفارة بقتلهم.
ثم القول في الإقسام على بدل المدبّر، وأم الولد إذا قتلا كالقول في العبد القنّ، والمكاتبُ إذا قُتل، فإنه يموت رقيقاً والكتابة تنفسخ.
10911- ثم قال الشافعي: " ويُقْسم المكاتب في عبده ... إلى آخره " (3) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/148.
(2) في الأصل: " قسمة ".
(3) ر. المختصر: 5/148.(17/34)
إذا فرعنا على الأصح، وهو أن القسامة تجري في قتل العبد، [فالمكاتَب] (1) إذا قُتل عبدُه [قَتْل] (2) لوثٍ، كان له أن يقسم، فإن أقسم ثم عجز ورَقَّ، اكتفى سيده بأيمانه وأخذ [القيمة] (3) ، وإن نكل المكاتب عن اليمين، ثم عجز، لم يكن له أن يُقسم، ولو لم يتفق منه إقدام على الإقسام [ولا نكول] (4) ، فقد قال الأصحاب: للسيد أن يقسم، وشبهوا ما ذكرناه من الأحوال بنظائرها في الوارث والموروث، فقالوا: إذا قُتل عبد لإنسان، فأقسم عليه، فقد ثبتت قيمته، فإذا مات المقسِم، قام ورثته مقامه في استيفاء ما استحقه. وإن نكل السيد عن أيمان القسامة ومات، وأراد
ورثته أن يقسموا، لم يكن لهم ذلك، ولو لم يتعرض السيد حتى مات، [فللورثة] (5) أن يبتدروا القسامة.
وعلى الناظر في ذلك أدنى توقف؛ فإن القسامة مقصودها إثبات القتل، ولقد جرى القتل ولا حق للورثة يُنزلهم منزلة الموروث لو بقي، وعلى هذا الأصل أثبتت عُهد العقد، فإن وارث المشتري يرد المشترَى بالعيب، وإن لم يكن هو المشتري، وإنما استفاد الملك بالإرث، [وملكُ] (6) الإرث لا مرد له، ولكن الحقوق تورث كالأملاك على تفاصيلَ يعرفها أهلها، والمشتري كما يورّثهم الملكَ ورثهم حقوق العقد، كذلك كانت القسامة حقاً للموروث، [فإذا] (7) مات قبل الإقدام عليها ورث الورثةُ حق القسامة، وإذا كان هذا في المواريث، فالسيد في عبد مكاتَبه أقربُ إلى خلافة الموروث؛ فإن المكاتب رقيق السيد قنّاً، فإذا عجز، قام السيد مقامه، وليس كذلك إذا نكل، فإن الحق بطل بنكوله حيث كان الحق له.
10912- ومما يجب التعرض له ضبط ما يساوي العبد فيه الحر، وما يختلف فيه
__________
(1) في الأصل: " والمكاتب ".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: " القسمة ".
(4) في الأصل: " ولا نقول ".
(5) في الأصل: " وللورثة ".
(6) في الأصل: " ملك " (بدون واو) .
(7) في الأصل: " فأما إذا ".(17/35)
فيما يتعلق بالقتل، والغرض التساوي في القواعد لا التكافؤ في الأشخاص، فنقول: قتل العبد كقتل الحر في القصاص والكفارة، والعبد كالحر في أن إقراره مقبول فيما يوجب القصاص عليه، وأطرافه في القصاص كأطراف الحر، واختلف القول في ضرب قيمته على العاقلة، وكذلك اختلف القول في جريان القسامة، وظاهر النص أن أطراف العبد من قيمته، كأطراف الحر من ديته، وفيه قول خرجه ابن سريج أن الواجب في أطرافه نقصان القيمة، وبدله غير مقدّر شرعاً، بخلاف بدل الحر، فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
فصل
قال: " ولو قُتل عبد لأم ولدٍ ... إلى آخر الفصل " (1) .
10913- نُقَدِّم على الغرض تجديدَ العهد بأن العبد هل يملك بالتمليك؟ وفيه قولان ذكرناهما توجيهاً وتفريعاً في كتاب البيع، ونحن نفرع على القولين في غرضنا، ثم نخوض في مقصود الفصل، فنقول: إذا ملّك السيد عبده عبداً فقُتل العبد الثاني قتلَ لوثٍ، فإن قلنا: لا يملك العبدُ، [فإذا] (2) ملّك السيد عبدَه عبداً يُقسم (3) على القول الأصح، [فمن] (4) قُتل عبدٌ من عبيده.
وإن قلنا: العبد يملك بالتملّك، فأول ما نذكره أن من ملّك عبده عبداً أو عَرْضاً من العروض، فأُتلف ذلك الذي يملكه العبد، والتُزِمت القيمة بالإتلاف، فهل نقول: يزول ملك العبد المملّك، وتكون القيمة ملكاً للسيد؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو الأفقه أن القيمةَ ملكُ السيد، [فإنه لم يملك عبده] (5) إلا العينَ، وقد [فاتت] (6) العين، والقيمةُ مملوك آخر تَخْلُفُ العينَ المتلَفة، وملك العبد عُرضةُ
__________
(1) ر. المختصر: 5/148.
(2) في الأصل: " وإذا ".
(3) الذي يقسم هو السيد.
(4) "وقد".
(5) عبارة الأصل: " فإنه إذا لم يملك عبده ".
(6) في الأصل: " ماتت ".(17/36)
الاسترداد (1) ، فلو لَحِق العبدَ تغيّر [بعتقٍ] (2) أو بزوال الملك إلى متملك آخر، فما كان ملّكه مولاه يتخلّف عنه، وينقلب إلى ملك المولى (3) ، فقياس هذا أن [التغير] (4) في العين [بالإتلاف] (5) والرجوع إلى القيمة يوجب انقطاع ملك العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا ينقطع ملك العبد، وحقه قائم في قيمة العين المتلفة إلا أن يرجع السيد فيها.
فإن قلنا: لا ملك للعبد في قيمة العبد المقتول، فيثبت للمولى حقُّ القسامة؛ فإن القيمة تثبت له، وانقطع ملك العبد عنه.
وإن قلنا: القيمة ملكُ المالك (6) ، فهل له أن يقسم؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقسم لبقاء ملكه في القيمة، والثاني - أنه لا يقسم لضعف ملكه، والقسامة تستدعي ملكاً قوياً وسلطنة واستيلاءً، وليس القِنّ في هذا بمثابة المكاتب؛ فإن المكاتب له حق الاستقلال في تصرفاته، وإنما يمتنع عليه التبرعات على تفاصيلَ مشهورة.
ثم فرع العراقيون على الوجهين وقالوا: إذا قلنا: لا يقسم، فالسيد لا يقسم أيضاً، فإن [حصل] (7) القتل كما ذكرناه، فاسترجع المولى القيمة، فإنها تنقلب إلى ملكه، فإذا عادت [القيمة] (8) إلى ملكه، فقد قالوا: لا يقسم السيد؛ فإن العبد لما قتل، لم يكن ملكاً للسيد، فلم تنقلب [القيمة] (9) إليه، ولما رجعت، فهذا حق جديد يثبت له، فلا يقسم.
__________
(1) أي ملك ضعيفٌ كما عبر بذلك الغزالي، وهذا هو العلة الثانية مع ما قبلها من أن القيمة ملك جديد.
(2) في الأصل: " العتق ".
(3) المعنى أن العبد لو أعتقه سيده أو باعه سيرجع ما ملّكه إياه إلى السيد.
(4) في الأصل: " التعين ".
(5) في الأصل: " بإيلام ". والمراد إتلاف المملّك للعبد عَرْضاً، أو عبداً.
(6) المراد العبد المملك.
(7) زيادة لاستقامة الكلام.
(8) في الأصل: " القسمة ".
(9) في الأصل: " القسمة ".(17/37)
وفي المسألة أدنى احتمال، فيجوز أن يجعل السيد كالخَلَف عن العبد كما ذكرناه في الوارث والموروث. وهذا فيه نظر: يجوز أن يقال: إن جوزنا للعبد أن يقسم، فإذا استرد السيد [القيمة] (1) ، فله أن يقسم على مذهب الخلافة، وإن قلنا: ليس للعبد أن يقسم، فليس للسيد أن يقسم أيضاً؛ فإن هذا الحق لم يثبت للعبد، فكيف يخلفه السيد فيه بخلاف الوارث والموروث، وليس من الفقه أن نصور موروثاً ليس من أهل القسامة [يورث] (2) ، فإن حق القسامة ثابت له، ولكنه عاجز عن استيفائه (3) ، فيخلفه الوارث ويستوفيه إذا كان أهلاً للاستيفاء، فإذا ثبتت هذه المقدمة، عدنا إلى
مسألة الكتاب.
10914- لو قتل عبدٌ لأم الولد، ولم نُرد عبداً تملكه أمُّ الولد؛ فإنه على الجديد نُفرّع، ومذهبه أن أم الولد لا تملك، وإن ملّكها المولى، فالمعنيُّ بقوله: لو قتل عبدٌ لأم الولد أن يقتل [عبدٌ] (4) هو برسم أم الولد يُدعى بها ويعزى إليها، فإذا قتل مثل هذا العبد -والتفريع على الجديد- فإنها لا تقسم، ويقسم المولى؛ فإن العبد مملوكُه، وإن قتل عبد من عبيد المولى -ولا أثر لكونه برسم أم الولد إذا قلنا: إنها [لا] (5) تملك -[فلو] (6) أوصى السيد بقيمة ذلك العبد لأم الولد، والثلث وافٍ، فالوصية صحيحة؛ لأنها تستحقها بوفاة المولى، [وهي] (7) تَعتِق بالوفاة، فلو أقسم المولى، ثم مات، صرفت [القيمة] (8) إليها.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " ـحوز " (كذا تماماً) والمثبت تصرف من المحقق.
(3) المعنى: كيف يخلف السيد العبدَ في أيمان القسامة، وهو غير قادرٍ على استيفائها، فالأصل في الميراث أن يحل الوارث محل الموروث، فإذا كان الموروث لا يُقسِم فكيف يصور الفقه وارثاً يقسم؟
(4) في الأصل: " عدد ".
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: " ولو ".
(7) في الأصل: " وهو ".
(8) في الأصل: " القسمة ".(17/38)
وإن لم يقسم حتى مات، ولم يفرض منه نكول، قال الشافعي: والأصحاب معه: للورثة أن يقسموا، وإذا أقسموا، صرفت القيمة إليها.
فإن قيل: كيف يقسم الورثة وأم الولد إذا قبلت الوصية، ملكت القيمة، والورثة إذا [أقسموا بالوراثة، كانوا مقسمين] (1) على قيمة هي ملك غيرهم، فكيف ينتظم هذا؟
وهذا السؤال ليس مما يستهان به، وسبيل الجواب عنه أن الورثة خلفوا الميت، ولا تختص خلافتهم عنه بما يملكون إرثاً (2) ؛ فإنه لو مات ولم يخلف تركة، وكان عليه دَيْنٌ فإذا قضاه الوارث، فعلى مستحق الدين أن يقبله، بخلاف ما لو تبرع أجنبيّ بقضاء دين الميت؛ فإنه لا يجب على مستحق الدين قبوله.
وغالب ظني أني رأيت لبعض الأصحاب خلافاً في الوارث أيضا -إذا لم يخلِّف مَنْ عليه الدين شيئاً- وينزله منزلة الأجنبي المتبرع بقضاء الدين.
فيرجع تحصيل القول في تعليل إقسام الورثة [إلى] (3) أن الموروث إذا أوصى، فيظهر في غرض الوارث [التشهِّي] (4) في تحقيق مراده، وتنفيذ وصيته، فثبت لهم - لظهور هذا الغرض بحق خلافة الوراثة- الإقسامُ، والدليل عليه أنهم يقسمون إذا لم تكن وصية، مع القطع بأنهم لم يكونوا ملاك العبد لما قتل في حياة الموروث، ويقسمون [ويستحقون، وما كان ثبت شيء من استحقاقهم بالقتل] (5) ، وإذا ثبت
__________
(1) عبارة الأصل: " أنشؤوا الوراثة كانوا منقسمين ".
(2) أي لا تختص الخلافة بالملك فقط، بل هناك حقوق تورث، كما هو معروف في علم الفرائض.
(3) في الأصل: " إلا ".
(4) في الأصل: " التشفي ".
(5) في الأصل: " ويستحقون وما كان أكثر من استحقاقهم بالقتل " والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى -على أية حال- أنهم لم يكونوا يملكون العبد لما قتل، والقيمة لم تكن ثبتت لمورثهم؛ فإنها لا تثبت إلا بثبوت القتل بأيمان القسامة، فإذا أقسموا، أثبتوا القتل، وأثبتوا ضمناً حق مورثهم مستنداً إلى حالة القتل، فاستحقوا -بناء على ذلك- خلافته.(17/39)
القتل، [تضمّن] (1) ثبوتُه استنادَ ثبوت حق الموروث إلى حالة القتل، وكأنهم تم ترتيب [إرثهم] (2) على ثبوت حقه، وهذا لا يحال إلا على حق الخلافة. هذا هو الممكن في تعليل إقسام الورثة.
10915- وأمُّ الولد وإن كانت قد قبلت الوصية، وملكت [القيمة] (3) لا تقسم ابتداء، لأنه ليس تستحق [القيمة] (4) بخِلافةٍ، [وإنما] (5) تستحقها بوصية، وقتُ نفوذها الموتُ، ولسنا ننكر أن الوصية يترتب نفوذها على ثبوت ملك الموصي، ولكن انتفت الخلافة، فلو حلفت [حلفت] (6) على أمرٍ ناجزٍ لا استناد له.
ومن ظن أن إقسام الورثة يؤخذ من ثبوت الملك لهم في الموصى به أولاً، فقد أبعد، فإنّ الشافعي قطع القول بإقسام الورثة، واتفق الأصحاب على ذلك، وأقوالهم مختلفة في ملك الموصى به قبل قبول الوصية، ثم يلتزم هذا القائل أن يقسموا قبل القبول، ولا يقسموا بعده (7) ، وهذا [لا] (8) صائر إليه، ولا قائل به.
ثم لو فرعنا على أن الملك للورثة قبل القبول، فهو أضعف الأملاك حتى قيل: إنه تقدير ملك، وليس يتحقق، وسبب التقدير أنا لا نجد بداً من إسناد الملك إلى مالك قبل القبول، والإقسام على تقدير الملك بعيد، ولم نذكر هذا ليكون مذهباً، ولكن [كشفنا] (9) إمكاناً وأبطلناه، وانتظم اتفاق الأصحاب على أن الورثة يقسمون قبل القبول وبعده.
__________
(1) في الأصل: " فضمن ".
(2) في الأصل: " إذنهم ".
(3) في الأصل: " القسمة ".
(4) في الأصل: " القسمة ".
(5) في الأصل: " وإن لم ".
(6) في الأصل: " طلقت ".
(7) المعنى أن الورثة يُقسمون قبل قبول أم الولد للوصية بالقيمة، لأنها عندما تقبل تنتقل القيمة إلى ملكها، فلو أقسموا بعد القبول، كانوا يقسمون على ما يملكه غيرهم، وهذا لا قائل به، فإن القيمة لا تثبت أصلاً إلا بالإقسام.
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) في الأصل: " كشفا ".(17/40)
فإن قيل: لو أوصى رجل لرجل بعين من أعيان ماله، ثم مات الموصي، وادعى مدَّعٍ استحقاقاً في العين الموصى بها، فهل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية، أم كيف السبيل فيه؟ قلنا: هذا فيه تردد، وفضل نظر: يجوز أن يقال: الوارث يحلف حتى إذا انتهت [الخصومة] (1) ، [استُحقّت] (2) الوصية.
ويتجه أن يقال: إذا قبل الموصى له الوصية، ثم ظهرت الدعوى، [فالخصومة] (3) تتعلق بالموصى له؛ فإنه مَلَك العين، واستبدَّ بها في ظاهر الحال، فيتعلق النزاع به، وتتوجه الدعوى عليه، وليس كصورة القسامة [، فإنها] (4) من خواص القتل (5) ، وحقها أن تستند إلى القتل، ولا ترتبط [دعوى] (6) [الاستحقاق] (7) إلى ما تقدم، فيحمل الأمر على الحال، وهذا فقيهٌ حسن (8) .
وإذا قلنا: تتعلق الخصومة بالموصى له بعد القبول، فيتردد الرأي في تعلق الخصومة بالورثة قبل القبول. وهذا الآن يُحوج إلى مزيد نظر، وستأتي الدعاوى في
__________
(1) في الأصل: " الوصية ".
(2) في الأصل: " استمرت ".
(3) في الأصل: " بالخصومة ".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) الكلام ما زال في صورة أم الولد، وهل تقسم، ولذا فقوله: " وتتوجه الدعوى عليه، وليس كصورة القسامة ... إلخ " معناه أن الموصى له هنا تتوجه الدعوى عليه، وتتعلق الخصومة به عندما يدعي مدعٍ حقّاً في العين الموصى بها له، وهذا بخلاف أم الولد الموصى لها فلا تتوجه الدعوى عليها، ولا تُقسم أيمان القسامة؛ لأن حقها يستند إلى القتل، فما لم يثبت القتل، لا تثبت القيمة الموصى بها، فكيف تقسم ولم يثبت لها ملك في القيمة بعدُ، بل لم تثبت القيمة نفسُها.
(6) زيادة اقتضاها السياق، والمراد دعوى من ادعى استحقاق العين الموصى بها.
(7) في الاستناد.
(8) وجه الفقه والحُسن هو إدراك الفرق بين الصورتين، ففي الصورة الأولى تعلق ملك الموصى له (أم الولد) بقيمة العبد القتيل، وهي لم تثبت بعد، وأم الولد ليست خليفة الميت الموصي حتى تقوم مقامه في أيمان القسامة.
أما في الصورة الثانية، فيتعلق ملك الموصى له بعين قائمة مملوكة ملكاً حالاًّ، فتكون الدعوى موجهة عليه، فهو الذي يقسم إذاً، وليس الورثة.(17/41)
الوصايا وغيرها في موضعها -إن شاء الله عز وجل- وإنما نجّزتُ هذا القدرَ لتميز مسالة القسامة عما عداها.
10916- ويعود -الآن بنا- الكلامُ إلى القول في القسامة، فإن أقسم الورثة، صرفت القيمة إلى أم الولد، ولو نكل الورثة عن أيمان القسامة، فهل لأم الولد أن تُقسم وتأخذ القيمة؟ فعلى قولين: أحدهما - ليس لها ذلك؛ لأنها تأخذ ما يثبت ملكاً للموصي وليس إليها إثبات ملك الموصي. والثاني - لها أن تحلف؛ [لأن] (1) مآل الاستحقاق إليها.
وهذان القولان يجريان فيما لو أقام الوارث شاهداً واحداً على إنسانٍ بدين لأبيه، وكان الأب [مديناً] (2) ، فإذا لم يحلف الوارث، فهل يحلف الغرماء؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يحلفون؛ لأن إثبات الملك ليس إليهم، والثاني - أنهم يحلفون؛ لأن مصير الملك إليهم؛ فإن ما يثبت تركةً للمديون، فهو مصروف إلى ديونه، فإن قيل: هلا رتبتم تحليف أم الولد على تحليف الغرماء، وجعلتم أم الولد أولى بالحلف من جهة أن استحقاقها تعلق [بعين القيمة] (3) ، فهي تقسم على ما ملكته، وهذا لا يتحقق في التركة وحقوق الغرماء؛ فإن الغرماء لا يملكون التركة، بل للورثة أن يؤدوا ديونهم من أموال أنفسهم ويستخلصوا التركة؟
قلنا: هذا على حالٍ وجهٌ في الفرق، ولكن لا فقه فيه؛ فإن حصول الملك في القيمة لا يوجب حق الإقسام، ولو كان على هذا معول، لأقيمت أم الولد ابتداء دون الورثة، ولكن القسامة تُثبت القتل؛ إذ هي من خصائصه، ولا حق للمستولدة حال أثبتنا للورثة القسامة، فليس يتحتم عليهم أن يحلفوا، وإن كانوا على بصيرة وعلم (4) ، ولا تجب الأيمان قط.
ولو ظن ظان أن في إقسامهم تنفيذَ وصية، وعليهم القيام بتنفيذها، كان ذلك كلاماً
__________
(1) في الأصل: " الآن ".
(2) في الأصل: " عرضاً ". (كذا تماماً) .
(3) في الأصل: " بغير القسمة ".
(4) أي بحق مورّثهم في القيمة.(17/42)
مضطرباً، فإن الذي على الورثة ألا يمنعوا ولا يمتنعوا، فأما أن يسعَوْا ويبذلوا من عند أنفسهم أمراً بالتنفيذ، فهذا غير محتومٍ عليهم.
10917- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو لم يقسم الورثة، لم يكن لهم ولا لها شيء إلا أيمان المدعى عليهم " (1) هذا لفظ الشافعي مست الحاجة إلى إيراده لتعلق الأصحاب به لاستتمام الكلام في المسألة: فإذا لم يقسم الورثة، وقلنا: لا تقسم أم الولد، أو قلنا إنها تقسم، فمن الذي يوجه اليمين على المدعى عليه، ويثبت له حق الانتصاب في مقام الدعوى والطلب؛ فإن القسامة وإن لم تجر، فالخصومة لا تتعطل؟ ظاهر النص أن لأم الولد الطلبُ، وللورثة الطلب، ونصُّ الشافعي في صدر الفصل يدل على أن أم الولد لا تقسم، وإن نكل الورثة عن القسامة، فليفهم الطالب هذين من كلام الشافعي.
10918- وإذا ثبت هذا، عدنا إلى تصرف الأصحاب في الدعوى وتوجيه الطلب، قال طوائف من المحققين: الدعوى وتوجيه اليمين على المدعى عليه مأخوذ من القسامة، وقد قلنا: للورثة أن يقسموا، فلهم أن يطلبوا اليمين من المدعى عليه؛ فإنهم إذا تسلطوا على أيمان القسامة للعلّة التي ذكرناها، فلهم حق الدعوى وطلب اليمين لتلك العلة، هذا قولنا في الورثة.
فأما أم الولد، فإن قلنا: إنها تقسم لو نكل الورثة، فيثبت لها حق الدعوى والطلب، [وإن] (2) قلنا: إنها لا تقسم، فليس لها حق طلب اليمين؛ فإن طلب اليمين إنما يثبت لمن نحلِّفه يمينَ الرد لو فرض نكول المطالَب، فإن قلنا: أم الولد لا تحلف، لم يكن لطلبها اليمين معنىً، فإنها لو طلبت، لنكل الخصم، ثم لا يُقضى بالنكول، ولا ترد اليمين.
وإن قلنا: اليمين مردودة عليها، فينبغي أن تكون من أهل أيمان القسامة أيضاً.
هذا مسلك الأصحاب.
__________
(1) ر. المختصر: 5/148.
(2) في الأصل: " فإن ".(17/43)
والمسلك الحق عندنا أنه يثبت حق الطلب لأم الولد، وهذا نصّ الشافعي، فإنه قال: " ليس لها ولا لهم إلا أيمان المدعى عليهم " وقد ذكرنا أن النص دال على أن أم الولد لا تقسم، فاقتضى مجموع ذلك أنها وإن كانت لا تقسم، فلها طلب اليمين من المدعى عليه، وتعليل ذلك من جهة المعنى أن القسامة مقصودها إثبات القتل، وهي من خواص القتل لا يثبت بها غيره، وأما إذا استقر الملك في القيمة، فادعته أم الولد بعد قبول الوصية، فإنما تدعي ملكاً لها محققاً، ولا حاجة في تجويز الدعوى إلى إثبات جهة الاستحقاق، ثم الوجه إذا جوزنا لها أن تحلّف المدعى عليه أن تردّ اليمين عليها إذا نكل المدعى عليه، وليس تحليفها يمين الرد بمثابة أيمان القسامة؛ لما أشرنا إليه من أن القسامة لا تُثبت إلا القتل، ويمين الرد يثبت الملك الناجز من غير حاجة إلى الالتفات على سابق.
والذي يكشف الحق فيه أن الدعوى في الملك تُسمع مطلقة، ودعوى [الدم] (1) لا تسمع مع أيمان القسامة مطلقة، بل يجب التعرض في أيمان القسامة [للتفصيل] (2) ، وإذاً الصحيحُ عندنا أن أم الولد تطلب يمين المدعى عليه، وإذا نكل، ردت اليمين [عليها] (3) ولا تعلق لهذا بالقسامة؛ فإن أيمان القسامة من خصائص القتل، وطلب يمين المدعى عليه والإقدام على يمين الرد بعد نكوله من أحكام الخصومات المتعلقة بالملك الناجز وهي المالك للقيمة.
ثم من تمام الكلام في هذا أن من بنى حق طلبها على أنها تقسم، لزمه أن يقول: إنما تدعي المستولدة وتطلب اليمين إذا لم يطلب الورثة، حتى يترتب طلبها على تركهم، كما أنها لا تحلف أيمان القسامة ابتداء، وإنما تحلف إذا نكل الورثة، هذا لابد منه.
وإذا قلنا: لها حق الطلب، وإن كانت لا تقسم، وهي الطريقة المرضية، فتبتدىء
__________
(1) في الأصل غير مقروءة، والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط.
(2) في الأصل: " للقتل ". والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط.
(3) في الأصل: " عليهما ".(17/44)
الطلب والدعوى من غير حاجة إلى انتظار إعراض الورثة [عن] (1) الطلب.
10919- والذي يغمض في هذه الطريقة طلب الورثة ودعواهم، وليس الملك لهم، وقد ذكرنا أن هذه الخصومة متعلقها الملك الناجز، ولا ملك لهم، وإنما الملك للمستولدة، ولكن الشافعي رضي الله عنه نص على أن لهم أن يدّعوا ويطلبوا، واتفق الأصحاب على ذلك، وأنا أذكر وجهه بتوفيق الله.
فأقول: دعواهم تصدر منهم على وجه لو أرادوا الإقسام لأقسموا، فإذا نكلوا، بطلت اليمين [لتتميم] (2) خصومة القسامة، فلهم أن يقسموا للخصومة، حتى لو كان القتل بحيث لا تثبت القسامةُ فيه، فيبعد حينئذ أن يثبت لهم ابتداء الدعوى إلا على تأويل السعي في تنفيذ الوصية، وتحصيل غرض الموروث، وهذا الطرف في نهاية الاحتمال؛ فإن الورثة إذا لم يقسموا في محل القسامة، وقلنا أم الولد لا تقسم، فقد قال الشافعي بعد ذلك: " لهم ولها أن يحلِّفوا المدعى عليه " وإذا فرض النكول عن أيمان القسامة، التحقت الخصومة بصورة لا قسامة فيها. هذا وجه، ويحتمل غيره وقد نبهنا على جميع المسالك.
فصل
قال: " ولو جرح رجل، فمات مرتداً ... إلى آخره " (3) .
10920- إذا جرح مسلم مسلماً، فارتد المجروح ومات، أو قتل مرتداً، بطلت القسامة هكذا نقل المزني، وهو صحيح، ولكنه اعتل بعلة فاسدة، فقال: بطلت القسامة، لأن ماله فيء، وهذا التعليل غير سديد، والقسامة لا تبطل [به] (4) ، والمعنى المعتمد في إبطال القسامة أنه إذا مات مرتداً، فقد مات وروحه مهدرة غير
__________
(1) في الأصل: " على ".
(2) في الأصل: " بقية ". والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، وذلك قوله: (فإذا نكلوا بطلت اليمين بالاستتمام لخصومة القسامة " (ر. البسيط: 5/ورقة: 103 يمين) .
(3) ر. المختصر: 5/148.
(4) زيادة اقتضاها السياق.(17/45)
محترمة، وإنما يجب الضمان بالجرح، والقسامة لا تجري في أروش الجراحات، فهذا تعليل بطلان القسامة.
ولو جرح مسلماً، فارتد، ثم عاد إلى الإسلام ومات مسلماً من سراية الجراحة، فالقول في وجوب القصاص، ثم في وجوب الدية تقدم مستقصىً في أول الجراح.
والقدر الذي تمس الحاجة إلى إعادته أنا إن أوجبنا القصاص في النفس، فلا شك في وجوب تمام الدية، ثم لا ريب في جريان القسامة، وإن لم نوجب القصاص، ففي كمال الدية خلاف، وإن لم نوجب الدية الكاملة، ففي مقدار ما نوجب خلاف.
فإن أكملنا الدية، جرت القسامة في محلها على شرطها، وإن أوجبنا بعضاً من الدية، ففيما نقله بعض الأثبات عن القاضي أن القسامة لا تجري، وهذا صحيح عندنا، والوجه إجراء القسامة، لأن الواجب ضمان الروح، فإن أهدرنا البعض بسبب اقتضى الإهدار، فالذي أوجبناه هو في مقابلة الروح.
وإن طلب طالب لما حكيناه عن القاضي وجهاً، فالممكن فيه أن القسامة تثبت مائلة عن سَنَنِ القياس، وإنما صح النقل فيها إذا كانت الروح محترمة مضمونة بكمالها، وإذا تطرق الإهدار، وكان البعض من الروح هدر، والبعض مضمون، وهذا غضٌّ ظاهر من حرمة النفس، فيلتحق هذا الضمان بالأطراف.
فإن قيل: ماذا ترون في الكفارة في هذه الصورة؟ قلنا: الظاهر وجوب الكفارة؟ فإنا نقول: إذا اشترك جماعة في قتل إنسان، فيجب على كل واحد منهم كفارة تامة، وإن لم ينتسب إلى تمام القتل، فيجب أن يكون الأمر كذلك هاهنا، وقد يَفْصِل الفاصل بأن جملة الروح محترمة في مسألة الشركاء وتبعيضها عسر، وهاهنا جملة الروح ليست محترمة، وإيجاب الكفارة والحرمة غير تامة بمثابة تقدير الكفارة في الأطراف وهذا بعيد.
والوجه إيجاب الكفارة. نعم، سنذكر قولاً بعيداً في أن الشركاء تلزمهم كفارة واحدة مفضوضة عليهم، فعلى هذا إذا تبعضت الدية إهداراً [وإيجاباً] (1) ، أمكن أن
__________
(1) في الأصل: " وانحارا " (كذا تماماً) .(17/46)
نقول على القول البعيد: يجب بعض الكفارة على قدر الواجب من الدية، وكل ذلك بيان الطرق، والأصل ما قدمناه.
ولو جرح رجل مرتداً ثم أسلم، فجَرحَه بعد الإسلام جراحة أخرى، ومات من الجرحين، فالدية تتبعض، وفي القسامة من الكلام ما [تقدّم] (1) والكفارة تساوق القسامة في موجب هذه القاعدة، فلو قال قائل: إذا مات مسلماً، فهو محترم حالة ثبوت الموت، قلنا: [ومع ذلك يجب] (2) قسط من الدية، ولو لم يُجدّ (3) جرحاً بعد الإسلام، ومات من الجرح الذي جرى في الردة فهو هدر، وإن مات مسلماً [فهذا] (4) منتهى القول في ذلك.
فصل (5)
قال: " فإن جرح وهو عبد، ثم أعتق، ثم مات حراً ... إلى آخره " (6) .
10921- هذه المسألة تستند إلى أصولٍ: منها - إن القسامة هل تجري في العبيد، وقد قدمنا في ذلك قولين. ومنها - إن الأيمان هل توزع على المدّعين، أم يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً؟ وهذا سيأتي مستقصىً في بابٍ، إن شاء الله. ومنها - إن العبد إذا جرح فعَتَق، ثم مات، فكم يستحق السيد من ديته؟ وقد مضى هذا مستقصًى في كتاب الجراح.
10922- فنعود ونقول: عبدٌ قطعت يدُه، ثم عَتَق ومات، فعلى الجاني ديةُ النفس؛ نظراً إلى [المآل] (7) ، ثم إذا كانت الدية مثلَ نصف القيمة، أو أقل، فالكل للسيد، [ولا] (8) حق للورثة.
__________
(1) مكان بياض بالأصل.
(2) في الأصل: " وقع ذلك تحت ".
(3) يُجدْ: من أَجدّ بمعنى استحدث.
(4) سقطت من الأصل.
(5) من أول هذا الفصل بدأ عندنا نص مساعد، هو (هـ 2) .
(6) ر. المختصر: 5/148.
(7) في الأصل: " الحال "، والمثبت من (هـ 2) .
(8) في الأصل: " فلا "، والمثبت من (هـ 2) .(17/47)
فإن جرت الجناية مع اللوث، ومست الحاجة إلى إثباتها بأيمان القسامة، فالمذهب الظاهر أن السيد يقسم ويستحق.
والأَوْلى في الترتيب أن نقول: إن أثبتنا للسيد حقَّ القسامة على عبده المقتول على رقه، فلا شك أنه يُقسم فيما نحن فيه، [وإن] (1) قلنا: لا يقسم السيد على عبده الرقيق، فهل يقسم إذا جرت الجناية في الرق وأفضت إلى الهلاك في العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقسم؛ لأنه إنما يستحق بجهة الرق، فلا نظر إلى حصول العتق في المآل، ولو كان بالعتق معتبر، لقطعنا استحقاقه؛ فإن السيد يبعد أن يستحق من دية حرٍّ بحق الرق السابق، وإن أثبتنا الاستحقاق، كان ذلك استدامةً لحكم الرق، فتكون القسامة على هذا الشخص بمثابة القسامة على العبد القِنّ.
ومن أصحابنا من قال: يقسم؛ فإن القتيل حر، ثم لا نظر إلى السبب الذي به يستحق المولى ديته، وإنما الاعتبار بالحال التي مات عليها.
وهذا التردد للأصحاب يشير إلى غامضة في المذهب قد تناهينا في بيانها، وهي أن الواجب دية، والدية بدل حر، والرق قد زال بالعتق، [وأخْذ] (2) أرش جزء من الرقيق من [دية] (3) حر مشكلٌ، والقدر الذي يتعلق بهذا الكتاب ما أتينا به، والباقي مذكور في موضعه من كتاب الجراح.
هذا إذا كانت الدية مثل أرش الجناية على الرقيق أو أقل منها، [والتفريع] (4) على أصح القولين فيما للسيد، فلا معنى للتطويل بذكر القول الآخر.
10923- ولو كانت الدية أكثرَ من حق السيد، فالفاضل من حق السيد مصروف إلى ورثة هذا العتيق، والتفريع على أن السيد يقسم، والورثة لا شك يقسمون، وينشأ من هذا الموضع اختلاف القول في أن كل واحد منهم كم يحلف؟ وفيه قولان: سيأتي ذكرهما في بابٍ مفرد: أحدهما - أن كل واحد يقسم خمسين يميناً، قلّت حصته أو
__________
(1) في الأصل: " إن " بدون الواو.
(2) في الأصل: " فآخر "، والمثبت من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " ديته ".
(4) في الأصل: "فالتفريع".(17/48)
كثرت، والقول الثاني - أنهم بجملتهم يقسمون خمسين يميناً، وسيأتي كيفية الفضّ وما يقتضيه من بيان.
ولو نكل بعض من أثبتنا له حقَّ القسامة عن اليمين، فإن كان التفريع على أن كل واحد يحلف خمسين يميناً، فلا إشكال، ويحلف من يريد خمسين يميناً، ويستحق حصته، وإن قلنا: نفُضُّ خمسين يميناً عليهم، فإذا نكل بعضهم، فأراد الباقون أن يقتصروا على ما كان بحصتهم من أعداد الأيمان لو توافقوا على الإقسام، لم يكن لهم ذلك، بل إن أرادوا إثبات حصصهم، فليُخرجوا الناكلَ من الاعتبار، ولْيحلفوا فيما بينهم خمسين يميناً، حتى لو نكل الورثة وأراد الولي أن يقسم، فليقسم خمسين يميناً؛ [فإنه] (1) لا سبيل إلى إثبات استحقاق شيء من بدل الدم بدون الخمسين، وكل
ذلك يأتي مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فاصل
قال: " ولو لم يقسم الولي حتى ارتد ... إلى آخره " (2) .
10924- الولي إذا ورث دية القتيل، ثم ارتد، فأراد أن يقسم وهو مرتد، فهذا ينبني على أقوال ملك المرتد، فإن قلنا: ملك المرتد لا يزول بالردة، وإنما يزول إذا قتل أو مات مرتداً، فيُقسم في ارتداده، وتثبت الدية.
وإن قلنا: ملكه زائل، فإذا عاد إلى الإسلام، تجدد ملكه بعد الزوال، فلا يتصور منه أن يقسم في ردّته.
وإن فرعنا على أن ملكه موقوف، والشافعي في معظم مسائله يفرع على قول الوقف، وظاهر النص أنه يحلف، ثم إن عاد، فالملك [له] (3) في الدية، فإن أصر "حتى مات أو قتل على ردته، تبينا أن ماله فيء، وصرفنا الدية مع جميع أمواله إلى أهل الفيء.
__________
(1) في الأصل: " وإنه ". والمثبت من (هـ 2) .
(2) ر. المختصر: 5/148.
(3) زيادة في (هـ 2) .(17/49)
وهذا فيه إشكالان: نبدأ بأوقعهما - ظاهر النص يدل على أن الدية تثبت لأهل الفيء بأيمان المرتد، وهذا إن كان تفريعاً على قول الوقف، فهو مشكل جداً؛ فإنه إذا مات مرتداً، تبيّنا أن ملكه زال بنفس الردة، والأيمان التي أجراها في الردة وقعت بعد زوال ملكه، فيبعد كل البعد أن تثبت الدية لأهل الفيء بأيمانه، وظاهر النص يدل [على] (1) التفريع على قول الوقف؛ فإنه إذا ارتد وأقسم [وُقفت] (2) الدية، ثم ذكر مصرف الدية في [العاقبتين] (3) .
فمن أصحابنا من قال: هذا تفريع من الشافعي على أن الملك لا يزول بالردة، وقوله: وُقفت الدية محمول على حجر السلطان على المرتد، وإن قلنا: لا يزول ملكه والعلماء يطلقون الوقف، ويريدون به ضرب الحَجْر، فتستمر المسألة، وتخرج على سَنَن القياس في العاقبتين: عاد إلى الإسلام أو مات على الردة.
ومن أصحابنا من أجرى هذا على قول الوقف، ثم حاول الانفصال عن الإشكال، فقال: الولي وإن ارتد، فهو الوارث أولاً، والقسامة تستند إلى حالة القتل، [وليست] (4) خصومة ناجزة، ويشهد لهذا قولنا: للورثة أن يقسموا على قيمة العبد المقتول، وإن كانت موصى بها لأم الولد.
وهذا على حالٍ مشكل؛ فإن ما قدمناه في ورثة السيد محمول على سعيهم في تنفيذ وصيته، ويبعُد حملُ الأيمان للمرتد على تثبيت شيء لأهل الفيء. هذا أحد الإشكالين.
10925- الثاني أنه لو أقسم -والتفريع على قول الوقف- ثم عاد إلى الإسلام، فقد يعترض في هذه الحالة أنا إذا كنا نفرع على قول الوقف، فكيف يجوز للمرتد أن يقدم على القسامة، وهو على التردد في أنه مالكٌ للدية أم لا؟ وهذا أهون.
__________
(1) في الأصل: " في ". والمثبت من (هـ 2) .
(2) في الأصل: " وقعت ". والمثبث من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " القياس ". والمثبت من (هـ 2) .
(4) في الأصل: " والسبب ".(17/50)
والأصحاب مجمعون [فيما] (1) أظن على أنه يقسم في حالة الردة ولا بُعد في جريان الأيمان على التردد في الاستحقاق، وسيأتي لهذا نظائر في إقسام الورثة وفيهم [خنثى] (2) أو بعضهم غُيّب، فإنا قد نحلّف الشخص خمسين، وهو على تردد في استحقاق بعض ما أقسم عليه، والأمر على الجملة محمول على استدامة ملكه، وعدّ الردة الطارئة عارضاً مُزالاً بالسيف؛ فإن المرتد [لا يترك على إصراره] (3) .
وسيكون لنا إلى هذا عودة إن عدنا لما [استشهدنا] (4) به من أحكام الورثة.
[فصل] (5)
قال: " والأيمان في الدماء مخالفة لها في الحقوق ... إلى آخره " (6) .
10926- قد ذكرنا [اختلاف] (7) القول في أن القتل إذا لم يكن مقترناً بلوثٍ ظاهر، واقتضى الحال البداية بالمدعى عليه، فإنا نحلّفه يميناً واحدة، أو خمسين يميناً؟ فأحد القولين أنا نحلّفه [خمسين يميناً] (8) ، تغليظاً لأمر الدماءِ، وتفخيماً لشأنها على أي وجه فرضت البداية، فإنا إن كنا نرى التغليظ على المدعي إذا وقعت البداية به احتياطاً حتى [لا يقدم] (9) على الأيمان مجازفاً، فيجب أن نحتاط للدماء في تحليف المدعى عليه؛ حتى لا يُقدم على اليمين الواحدة مستهيناً بها، وقد نص الشافعي على هذا القول هاهنا.
والقول الثاني - أن اليمين الواحدة كافية، والعدد في أيمان القسامة في مقابلة إمالتنا
__________
(1) في الأصل: " عما ". والمثبت من (هـ 2) .
(2) في الأصل: " حي ".
(3) في الأصل: " لا ينزل على إقراره "، والمثبت من (هـ 2) .
(4) في الأصل: " استشهدا "، والمثبت من (هـ 2) .
(5) غير موجود بنسخة الأصل. وهو في (هـ 2) .
(6) ر. المختصر: 5/148.
(7) زيادة من (هـ 2) .
(8) في الأصل: " يميناً واحدة ". والمثبت من (هـ 2) .
(9) في الأصل: " لا يغرم ".(17/51)
للأيمان عن منصبها وجانبها الثابت في الحكومات، فإذا جرت الأيمان على قياس الخصومات، [فلا] (1) معنى لتعديدها، فإن عدد اليمين قريب من عدد الإقرار، وقد ذكرنا أن الأقارير لا يشترط تعددها، وقد يتوجه هذا أيضاً بأن العدد في أيمان القسامة مأخوذ من النصّ معدول عن القياس، ولا يتعدى بها موضعها.
10927- ومما ذكره الأئمة أن المدعى عليه لو اعترف بالقتل وأنكر كونه عمداً وأقر بصَدَر القتل منه خطأ أو على صورة شبه العمد، فإذا أراد المدعي تحليف المدعى عليه على نفي العمد، فهل تتعدد الأيمان؟ قالوا: إن قلنا: لا تتعدد اليمين على أصل القتل، فلا تتعدد على صفة القتل، وإن قلنا: اليمين تتعدد على أصل القتل لو أنكره، ففي تعدد اليمين في صفة القتل وجهان؛ فإن الموصوف آكد وأحرى بالتعظيم من الصفة.
وهذا فن من الكلام لا أرغب فيه ولا أقيم لمثله وزناً؛ فإن الصفة إذا كانت تُثبت القصاص لو ثبتت، فقدرها عظيم، وأصل القتل لو ثبت خطأ، فماَله الدية والكفارة، ولو اعترف المدعى عليه بالقتل، وقلنا: القود [يناط] (2) بأيمان القسامة، وقد جرى اللوث مقترناً بالقتل، فلا خلاف أن المدعي يقسم خمسين يميناً على إثبات كون القتل عمداً، فإن قيل: كيف يقوم اللوث على العمد؟ قلنا: وهل يقوم اللوث إلا على العمد؟
ثم إذا كان يقسم على أصل القتل وكونه عمداً، فإقرار المدعى عليه بالقتل [وادعاء] (3) الخطأ لا يمنعه من الإقسام، وهذا بيّن لا خفاء به.
فإن لم يكن لوثٌ وقد اعترف المدعى عليه بالقتل خطأ، فإن اعترفت العاقلة [أيضاً] (4) فالدية مضروبة عليهم، وإن أنكروا، فالدية مضروبة على المدعى عليه في ماله، فلو أنكر الدعوى ولم يقر، وعرضنا عليه اليمين فنكل، ورددنا اليمين على
__________
(1) في الأصل: " ولا ". والمثبث من (هـ 2) .
(2) في الأصل: " نشاط ".
(3) في الأصل: "ادعاه ".
(4) زيادة من (هـ 2) .(17/52)
المدعي [فحلف] (1) يمين الرد، فالدية تثبت. والمسألة مفروضة فيه إذا كان المدعَى خطأً.
10928- ثم الدية تضرب في مال المدعى عليه، أو على عاقلته؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في المسألة قولان مبنيان على أن يمين الرد تنزل منزلة البينة أو تنزل منزلة إقرار المدعى عليه، فإن قلنا: إنها كالبينة، فالدية مضروبة على العاقلة، كما لو شهدت بينة عادلة على وقوع القتل خطأ، وإن قلنا: يمين الرد بمثابة إقرار المدعى عليه، فالدية مضروبة على المدعى عليه إذا أنكرت عاقلته، كما لو أقرّ.
هذه طريقة أيضاً مشهورة.
والذي ذهب إليه المحققون أن الدية لا تضرب على العاقلة، وإن قلنا: يمين الرد تنزل منزلة البينة؛ والسبب فيه أن يمين الرد لا يجوز أن تقدّر مشبهة بالبينة في حق [غير المستحلَف] (2) ، وسر ذلك أن الخصومة لا تعلق لها بالعاقلة، فيبعد تنزيل غير البينة منزلة البينة في حقوقهم، ولا يمتنع أن يكون المدعى عليه عالماً بأنه لو أقر، لضربت الدية على ماله، [فينكر] (3) ، ثم ينكل ليحلف المدعي يمين الرد، فيكون ذلك تذرعاً منه إلى ضرب العقل على العاقلة من غير بينة حقيقية، مع إصرارها على الإنكار.
فإن قيل: إذا كنتم [ترون] (4) أن يمين الرد لا يكون كالبينة في حق العاقلة، فهل لتنزيلها منزلة البينة حكم؟ وهل ينتج ذلك فائدة؟ قلنا: نعم، سنبين ذلك في الفصل المتصل بهذا؟ فإذ ذاك نجمع بين ما أنكرناه الآن وبين ذكر الفائدة.
10929- ثم قال الشافعي: " وسواء في النكول المحجور عليه وغير المحجور عليه ... إلى آخره " (5) .
أراد الشافعي بالمحجور عليه السفيه الذي اطرد الحجر عليه. فنقول: إقراره
__________
(1) في الأصل: " يحلف ".
(2) في الأصل: " المستحان ". والمثبت من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " فينكل ".
(4) في الأصل: " ترتضون ".
(5) ر. المختصر: 5/149.(17/53)
بموجبات العقوبات من القصاص والحدود مقبول، كإقرار المطلَق الرشيد.
ولا يقبل إقراره بالأموال في المعاملات، وفي قبول إقراره بإتلاف الأموال قولان، وقد ذكرنا ذلك معقوداً مجملاً، ثم مبيّناً مفصلاً في كتاب الحجر، وإنما أعدنا هذا [الطرف] (1) لغرض سنوضحه، إن شاء الله.
وقال العراقيون: إقراره بديون المعاملات مردودة في الحال، وبعد انطلاق الحجر عنه، فلا [يؤاخذ] (2) به إلا أن يجدد بعد الرشد إقراراً.
وإقراره بالإتلاف على قولين: فإن لم نقبله في الحال، فإذا انطلق الحجر عنه، فهل يؤاخذ به؟ فعلى قولين.
وهذا كلام ركيك، فإنه لو كان يؤاخذ إذا رشد، لكان مؤاخذاً به في سفهه؛ فإن المطلوب حقه في السفه والرشد.
فلو ادعى ماع على السفيه قتلَ خطأٍ، فأنكر، فعرضنا اليمين عليه، فنكل وحلف المدعي يمين الرد، فإن قلنا: إن إقراره بالقتل خطأً مقبولاً، فلا شك أنه يثبت عليه، والدية مأخوذة من ماله إذا لم تعترف العاقلة.
وإن قلنا: لا يقبل إقراره في القتل الواقع خطأ، فهل يثبت القتل بيمين الرد أم لا؟ قال الأصحاب: هذا يخرج على أن يمين الرد بمثابة الإقرار أو بمثابة البينة: فإن أحللناها محل الإقرار، [لم] (3) نثبت القتل بها، فإن التفريع على أن القتل لا يثبت بإقراره إذا كان خطأ؛ [فإنه] (4) في معنى إتلاف المال.
وإن قلنا: يمين الرد ينزل منزلة البينة، فالقتل خطأ يثبت على المحجور.
10930- وهذا أوان الوفاء بما وعدنا من تحقيق هذين القولين وإبانة فائدتهما، فنقول: القولان جاريان في حق المحجور؛ فإن يمين الرد يجوز أن تكون حجة في
__________
(1) في الأصل: "الفرق ".
(2) في الأصل: " مؤاخذة ".
(3) في الأصل: " ولم ". والمثبت من (هـ 2) .
(4) زيادة من (هـ 2) .(17/54)
حق المدعى عليه؛ فإن الخصومة متعلقةٌ [به] (1) ، وفي هذه الصورة بعينها يبعد أن تضرب الدية على العاقلة مصيراً إلى أن يمين الرد كالبينة، وقد صار صائرون إلى تخريج الضرب على العاقلة على القولين، وهذا هو الذي زيّفه المحققون، فقد لاح الغرض في هذه الصورة لاشتمالها على مدعى عليه يحلف، ولا يقبل إقراره [على] (2) العواقل الذين لا تتعلق الخصومة والطلب بهم، فجرى القولان في حق المحجور عليه، واضطرب الأصحاب في حق العاقلة.
فإن قيل: إذا كنا لا نقبل إقرار المحجور عليه، [فلم] (3) نحلّفه؟ قلنا: إقراره [غير] (4) مقبول بالاتفاق، والتحليف تحقيق الإنكار، وقد يستفيد [بحلفه] (5) انقطاعَ الخصومة عنه.
ثم إذا اقتضت هذه المقدمات عرضَ اليمين عليه، فللعرض عاقبتان: إحداهما - الحلف والأخرى -النكول- فيبعد أن تثبت إحداهما دون الأخرى- والوكيل بالخصومة، كان من أهل الإنكار، وقد يكون إنكاره سبباً لثبوت الحق، إذا كان القاضي لا يقبل الشهادة إلا مترتباً على إنكارٍ مقبول، [ولكن لا نظر] (6) إلى هذا، فإن قاعدة الخصومة الإنكار، ثم ينشأ من نكول المحجور عليه التردد في أن يمين الرد هل تكون كالبينة أم لا؟
هذا منتهى القول في ذلك، وهو طرف لم نجد بداً من ذكره، وأصلُه وقاعدتُه تأتي على الاستقصاء في الدعاوى والبينات -إن شاء الله عز وجل- نعم، إن قلنا: يمين الرد بمثابة الإقرار، فتعرض اليمين على المحجور عليه عساه يحلف، وإن نكل، لم ترد اليمين على المدعي، لأنه لا فائدة في الرد؛ إذ لو حلف يمينَ الرد، لم يستفد بها
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) في الأصل: " وعلى ".
(3) في الأصل: " ولم ".
(4) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(5) في الأصل: " تحليفه ".
(6) في الأصل: " ولا يطرد ".(17/55)
شيئاً، ثم إذا قلنا: لا ترد اليمين، فهل [يحلف] (1) المحجور عليه؟ ما ذهب إليه أهل التحقيق أنه [لا يحلّف] (2) ، إذ لا يستفيد المدعي [بتحليفه] (3) فائدة، فلا معنى في تحليفه؟ من أصحابنا من قال: الحق للمدعي، فإن قنع بيمينه، فلا معترض، وإن لم يُرد تحليفَه، فلا حرج عليه. والظاهر أنه إنما يحلف إذا قلنا: إنه يقبل إقراره، أو قلنا: يمين الرد كالبينة، فأما إذا لم يقبل إقراره، ولم نجعل يمين الرد بمثابة البينة، فالتحليف [ملغى] (4) لا فائدة فيه، ولا أصل له.
ثم ذكر المزني (5) طرفاً من المحاجّة بين الشافعي وأصحاب أبي حنيفة في قاعدة القسامة، ولسنا له.
***
__________
(1) في الأصل: " يعرف ".
(2) في الأصل: " يختلف ".
(3) في الأصل: " تحليفه ".
(4) في الأصل: " لمعنى ".
(5) ر. المختصر: 5/149.(17/56)
باب ما ينبغي للحاكم أن يفعله
قال الشافعي رضي الله عنه: " وينبغي أن يقول: من قتل صاحبك ... إلى آخره" (1) .
10931- مقصود هذا الباب فنٌّ واحد من الكلام، وهو أن المدعي للقتل إذا أتى بالدعوى تامة متعلقة بمتعيّن مشتملة على كمال الوصف المرعي في الدعوى، فالدعوى مسموعة، [ومن الأوصاف] (2) المرعية بعد تعيين المدعى عليه أن يذكر كون القتل عمداً أو خطأً، وإن وصفه بكونه عمداً يذكر صفة العمد، ويذكر انفراد المدعى عليه بالقتل إن كان يدعي ذلك [فإذا صحت] (3) الدعوى، قبلها القاضي، وبنى عليها ما يقتضيه ترتيب الخصومة.
وإن لم يأت الخصم بدعوى تامة، ففي كلام الشافعي ما يدل على أن القاضي يستوصفه، حتى إذا قال: قُتل أبي، يقول له: من قتله؟ فإذا عين القاتلَ، قال له: أقتل عمداً أو خطأ؟ فإن ادعى العمدَ، استوصفه، فإن أحسن وصف العمد، قال له: انفرد بالقتل، أم يشاركه غيره؟ فلا يزال يستفصل حتى يُفضي إلى دعوى صحيحة.
وهذا في ظاهره تلقينُ الدعوى، وفي هذا إشكال، فإن العقوبات على الدرء، والمدافعةُ أليق بدرئها من الاستنطاق بالدعوى الشديدة التي قد تفضي بما بعدها إلى ثبوت الدم.
10932- وقد اضطرب الأصحاب في هذا، فصار صائرون إلى الجريان على النص، وقالوا: ما يذكره القاضي استفصال، وليس تلقيناً، وإنما التلقين أن يقول:
__________
(1) ر. المختصر: 5/149.
(2) زيادة من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " فاصحت ".(17/57)
قل كذا وكذا، والذي يوضح ذلك أنه إذا استفصل، فقد يُفسد المدعي دعواه بتفصيله، إذا لم يبيّن له وجه الصحة والفساد، ولو لم يستفصل وأطلق المدعي الدعوى، فرَدُّ دعواه مع إمكان صحتها بعيدٌ.
هذا مسلك.
وقال قائلون: إن لم يكن المدعي [غبيّاً] ، (1) ، فلا يتعرض القاضي له حتى يتم الدعوى، وإن كان غبيّاً، فله أن يستفصل، فإن غباوته لو ترك، لانتصبت سبباً في إبطال حقه؛ فإنه لا يدري ما تصح به الدعوى، فإذا ردت دعواه مطلقاً، نبا (2) عن حقه، وأفضى رد الدعوى إلى نِفاره، وإشكال الأمر عليه، من حيث لا يدري محيصاً.
وقال قائلون من أصحابنا: ليس للقاضي أن يستفصل أصلاً. وهذا يخالف النص، فلا يعتد به.
وقال قائلون: إن أشار المدعي إلى جمع فقال: قاتل أبي منهم، فقال له القاضي: من قتله منهم؟ وإن لم يكن كذلك لم يستفصل.
وكل ذلك خبطٌ، والوجه الجريان على النص، والدليل عليه أن صاحب الواقعة لو جاء مستفتياً، وسأل عما تصح به الدعوى، فلا نغادر المعنى بياناً وإن كان ذلك تلقيناً للدعوى، أو تعليماً لتصحيحها، فهذا ما يجب الجريان عليه.
ولكن لا يليق بأدب القضاء أن يعلَّم [المدعي] (3) كيفية الدعوى بأن يقول: قل: كذا وكذا، ولا يليق بمصلحة الحال أن يسكت حتى يتخبط، بل يستفصل ليعلَمَ، لا ليعلِّم.
ولو ذكر المدعي أن القتل عمد، فلما استوصفه القاضي العمدَ، ذكر ما لا يكون عمداً، [بطل دعواه في العمد، وهل تبطل] (4) دعواه في أصل القتل؟ اختلف أصحابنا
__________
(1) في الأصل: " غافلاً ". والمثبت من (هـ 2) .
(2) نبا عن حقه: بعد عنه، ولم يصل إليه.
(3) في الأصل: " القاضي ". والمثبت من (هـ 2) .
(4) زيادة من (هـ 2) سقطت في الأصل، ومكانها " فتبطل ".(17/58)
في المسألة: فمنهم من قال: بطلت دعواه [لتناقض القول فيها، ومنهم من قال: دعواه] (1) في أصل القتل مسموعة؛ فإن التناقض جرى في صفة القتل، لا في أصله.
10933- ومما يجب التعرض له في الدعوى اتحاد المدعى عليه، أو وقوع القتل [على] (2) اشتراك، فإن ذكر أنه قتل أباه وحده، صحت الدعوى، وإن ذكر أنه يُشارك جماعةً ولم يحصرهم، فإن كان المقصود المال، لم تقبل الدعوى، وقد تقدّم ذكرُ هذا، وإن كان المقصود القصاص، فالدعوى مسموعة إذا ذكر أن المشتركين عامدون على الحد المعتبر [في العمد] (3) الموجب للقود.
هذا هو المذهب الصحيح.
ومن أصحابنا من لم يسمع الدعوى، وإن كان المقصود القصاص؛ [فإن الأمر قد يؤول إلى المال. وهذا الوجه ضعيف] (4) ، وقد أوضحته من قبلُ، وإذا جرى التحليف قبل صحة الدعوى لسهوٍ من الحاكم، فاليمين مردودة، وإن أتى في اليمين بما تصح الدعوى به؛ لأن صحة اليمين مشروطة بتقدم الدعوى الصحيحة، وهذا بيّن.
***
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: " إلى ". والمثبت من (هـ 2) .
(3) سقطت في الأصل.
(4) زيادة من (هـ 2) .(17/59)
باب عدد الأيمان
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويحلف الورثة على قدر مواريثهم ... إلى آخره " (1) .
10934- إذا وقعت البداية بالمدعي في [أيمان] (2) القسامة، فإن اتحد المدعي حلف خمسين يميناً، وإن تعدد المدعون، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً، قلّت حصته، أو كثرت. والقول الثاني - أنا نوزّع عليهم خمسين يميناً، وعلى (3) أقدار حصصهم في الدية لو ثبتت، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي، وفرّع مسائل الباب عليه.
توجيه القولين: من قال: يحلف كل واحد خمسين يميناً، احتج بأن قال: لا يثبت الدم إلا بخمسين يميناً، فلو حلف كل واحد بعضَ الأيمان، لاستحق حصته بأيمان نفسه، وأيمان صاحبه، وهذا بعيد في قواعد الخصومة؛ فإن الإنسان لا يستحق بيمين غيره شيئاً، والذي يحقق هذا أنه لو نكل أصحابه، لاحتاج إلى أن يحلف خمسين يميناً، ولا يكفيه في إثبات حصة نفسه أعداد من الأيمان دون الخمسين، فإذا كان كذلك، فأيمان الورثة أثبتت له إذاً مع أيمانه حصته، [وهذا خروج] (4) بالكلية عن القياس المرعي.
ومن قال: [نفُض] (5) الأيمان عليهم، احتج بأن المدعي لو كان واحداً، لكفت خمسين يميناً، فإذا تعددوا، فإضافة الاستحقاق إليهم، كإضافته إلى واحد.
__________
(1) ر. المختصر: 5/149.
(2) في الأصل: " إبجاب ".
(3) كذا (بالواو) في النسختين، ووجهها على تقدير تكرار الفعل (نوزع) .
(4) زيادة ليست في الأصل. من (هـ 2) .
(5) في الأصل: " بعض ".(17/60)
وهذا لا حاصل له، والذي أعتقده على مبلغ إحاطتي بتصرف الشافعي أنه عوّل في هذا على الحديث، فإنه عليه السلام قال: " تبرئكم اليهود بخمسين يميناً "، وهذا يشعر بتعددهم مع اعتبار عدد الخمسين في جانبهم، وقد نص الشافعي على تعدد الأيمان في جانب المدعى عليه، ولا تعلق بقوله: " تحلفون خمسين يميناً "، فإن الوارث فيهم كان واحداً، وإنما خاطبهم على الاعتياد. وعلى حالٍ في الحديث تعلُّقٌ، ومن [يزلّ] (1) عنه، لم يجد مضطرباً في المعنى.
فإن قلنا: يحلف كل واحد خمسين يميناً، فلا إشكال ولا تفريع.
10935- وإنما تتفرع مسائل الباب على القول الثاني، فلا عود إلى القول الأول.
فأول ما نذكره أن القتيل إذا خلّف ابنين مثلاً، والتفريع على توزيع الأيْمان، فيحلف كل واحد منهم خمساً وعشرين يميناً، فإن نكل أحدهما، وأراد الثاني أن يحلف، فليحلف خمسين يميناً، ثم لا يثبت إلا حصته. فإن أراد صاحبه أن يكتفى بأيمانه، ويطلب حصته، لم يكن له ذلك، وهذا يُضعف هذا القولَ، كما نبهنا عليه.
ولو أراد قسمةَ اليمين، [فجرّت القسمة كسراً] (2) مثل أن يخلّف القتيل ابناً وبنتاً، فالابن يحلف ثلثي الخمسين، وثلثا الخمسين على تعديل الجزئية ثلاثة وثلاثون وثلث، ولكن اليمين لا تتبعض، فلا بد من جبر الكسر، ولا سبيل إلى إسقاطه؛ فيحلف الابن أربعة (3) وثلاثين يميناً والبنت يخصها من جهة التجزئة ستة عشرَ يميناً وثلثاً؛ فتحلف سبعةَ عشرَ، هذا لا بد منه.
ولو كثر عدد الورثة فبلغوا مائة، فلا بد من تحليف كل واحد منهم يميناً، إذا استوت حصصهم.
__________
(1) في الأصل: " بدل ".
(2) في الأصل: " فجرى في القسمة كسراً "، والمثبت من (هـ 2) .
(3) المنصوص فيما رأيناه من كتب اللغة أن اليمين مؤنثة، ولكن ما رأيناه في المخطوط الجري على التأنيث حيناً، والتذكير غالباً، وقد اتفقت النسختان على ذلك، ولذا آثرنا التنبيه وعدم التعديل.(17/61)
ولو كان القتيل امرأة وقد خلفَها ابنٌ، وزوجٌ، فالزوج يخصه اثنا عشر يميناً ونصف فيحلف ثلاثة عشرَ يميناً، والابن يخصه سبعة وثلاثون ونصف، فيحلف ثمانية وثلاثين، وعلى هذا البابُ وقياسُه.
والغرض الإحاطة بوجوب جبر الكسر الواقع في أعداد الأيمان إذا قسمت.
ولو كان الورثة جدّاً، وأخاً لأبٍ وأمٍ، وأختا لأبٍ وأم، فالمال بينهم من خمسة للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم (1) فيحلف الجد [خُمْسَي] (2) الأيمان، وكذلك الأخ، وتحلف الأخت خُمسَها.
ولو كان في المسألة جد، وأخت لأبٍ وأمٍّ، وأخ لأب، فهذا من صور المعاداة والأخ [يفوز] (3) فيه بالعشر، هكذا يقع تقدير القسمة بالمعاداة (4) ، وتكميل النصف
__________
(1) هذه المسألة من صور ميراث الجد مع الإخوة، حيث لا أصحاب فروض معهم، وحكمها أن الجد له الأحظ من مقاسمة الإخوة كأخ ذكر، للذكر مثل حظ الأنثيين تعصيباً، ومن ثلث التركة كلها فرضاً، أي أن الجد يختار بين أن يقاسم الإخوة تعصيباً، وبين الثلث فرضاً، ويتقاسم الإخوة فيما يبقى (بعد ثلث الجد) إن اختار الجد ذلك. وطبعاً الجد يختار الأحظّ له.
وفي هذه الصورة نجد أن الأحظ للجد هو المقاسمة، فيصير للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم: للذكر مثل حظ الأنثيين.
وصورة المسألة بالحساب هكذا جد أخ شقيق أخت شقيقة = الأصل.
2 2 1 = 5
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: " يعود ". والمثبت من (هـ 2) .
(4) المعاداة والمعادة: بمعنى احد، وهي من اصطلاحات علماء الفرائض في ميراث الجد مع الإخوة، ويعنون بالمعاداة أن الإخوة الأشقاء يعادون الجد بالإخوة لأب، فيعدونهم ويحسبونهم على الجد، ويثبتون لهم نصيباً، ثم يعود الأشقاء فيأخذون هذا من الإخوة لأب، ويحجبونهم.
والفقه في ذلك هو أن مناط إرث الجد والإخوة هو الإدلاء بالأب، فالجد يدلي به إلى الميت، وكذلك الأشقاء والإخوة لأب، فكلهم يدلون إلى الميت بالأب، ويتساوَوْن في القرابة، ولذلك يثبت للإخوة لأب نصيبُهم، حيث يثبت للأشقاء نصيبُهم، ويأخذون حكمهم.
ولكن يعود الإخوة الأشقاء -بعد أن يعدّوا الإخوة لأب على الجد- إلى القاعدة العامة في الحجب فيحجبون الإخوة لأب وينتزعون منهم ما ثبت لهم، مثال ذلك: إذا كان في المسألة:=(17/62)
للأخت بعد تقدير القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين، فتقع القسمة من عشرة للجد خمسان: أربعة، وللأخت النصف: خمسة، وللأخ سهم، فيحلف الجد خُمْسي الأيمان، والأخ نصفَها والأخ عشرها؛ فإن الأيمان توزع على نسبة القسمة التي تستقر بها الحصص، ولا تقع الأيمان على تقدير القسمة أولاً.
10936- فلو كان في الورثة خنثى فيحلف كل واحد من الورثة على أكثر ما يتوهّم [أنه يستحقة] (1) من الدية، ويعطى أقل ما يتوهم أنه يستحق منها؛ أخذاً بالاحتياط في [البابين] (2) .
وبيان هذا بالأمثلة أنه لو خلّف القتيل ولداً خنثى، وأخاً من أب، فيحلف الخنثى خمسين يميناً، لاحتمال أن يبين ذكراً، ويعطى نصف الدية؛ لاحتمال أن يكون أنثى، والأخ لا توجه عليه اليمين، ولكن الخيار إليه، فإن حلف خمسة وعشرين يميناً في الحال، وقفنا نصف الدية، فإن [بان] (3) الخنثى ذكراً أخذه بالأيمان السابقة، والأخ ساقط، وإن [بان] (3) الخنثى أنثى، أخذ الأخ النصف [الموقوف بالأيمان التي
__________
=جد وأخ شقيق، وأخت لأب، فالأحظ للجد المقاسمة، فيكون للجد سهمان، وللأخ الشقيق سهمان، وللأخت للأب سهم، هذا بالمعادة، ثم يعود الأخ الشقيق فينزع من الأخت للأب سهماً (لأنه يحجبها) فتصبح الأسهم: اثنان للجد، وثلاثة للأخ الشقيق. (ر. فريضة الله في الميراث والوصية - للمحقق: ص 97-120) وفي المسألة التي معنا يكون للأب سهمان، وللأخت الشقيقة سهم، وللأخ لأب سهمان، فتصح المسألة من خمسة، ثم تعود الأخت الشفيقة لتأخذ من الأخ لأب ما يكمل نصيبها إلى النصف، لأنها لا تحجب الأخ لأب، ولذا تستكمل نصيبها نصف المال، فنصحّح المسألة، فتصير الأسهم عشرة للجد خمساها -كما كان لا يتغير- 4 أسهم، وللأخت نصف المال: 5، فيبقى للأخ لأب سهم. وصورتها بالحساب هكذا:
جد أخت شقيقة أخ لأب
2 1 2 الأصل الذي تصح منه:5
تستوفي الأخت
نصف المال: 4 5 1 الأصل المصحح: 10.
(1) زيادة ليست في الأصل.
(2) في الأصل: " الناس ".
(3) في الأصل في الموضعين (كان) ومثلها (هـ 2) . والمثبت من المحقق.(17/63)
سبقت، ولا يحتاج إلى إعادة يمين. هذا إن أراد الأخ أن يحلف، فإن لم يرد أن يحلف، لم ينزع نصف الدية من مال المدعى عليه؟ فإذاً الوقف ثابت في نصف الدية، ولكن إن حلف الأخ خمسة وعشرين يميناً أخذ ذلك النصف] (1) ، ووُقف، وإن لم يحلف، لم يؤخذ ذلك النصف.
فإن قيل: [هلا] (2) قلتم: يؤخذ النصف بأيمان الولد الخنثى، فإنه حلف خمسين يميناً، قلنا: يجوز أن يكون أنثى وإنما حلف خمسة وعشرين يميناً بحق، والباقي فضلةٌ منه غير معتد بها، وانتزاع المال من يده لا يثبت إلا بحجة، وإنما يعلم قيام الخمسين يميناً حجة في الواقعة إذا حلف الأخ خمسة وعشرين. فإن قيل: فلو حلف الخنثى خمسة وعشرين، وحلف الأخ خمسة وعشرين، فاكتفوا بهذا؟ قلنا: قد يكون الخنثى ذكراً، فتقع أيمان الأخ لاغية، ووضوح ذلك يغني عن بسطه.
ولو كان الوارث ابناً، وولداً خنثى، حلف الابن ثلثي الأيمان لاحتمال كون الخنثى أنثى، وأخذ نصف الدية لاحتمال أن يكون الخنثى ذكراً، وحلف الخنثى نصف الأيمان لاحتمال كونه ذكراً، وأخذ ثلث الدية ويوقف السدس الباقي. وإذا حلف الابن الثلثين والخنثى النصف، فينتزع السدس في هذه الصورة من يد المدعى عليه، ونقفه، لأن الأيمان تمت على المدّعَى (3) ، وهذا السدس موقوف بين [لابن] (4) وبين الخنثى.
فإن كان في المسألة خنثيان، وأخ من أب، حلف كل واحد منهما ثلثي الأيمان لاحتمال أن يكون ذكراً وصاحبه أنثى، ويعطيان ثلثي الدية لاحتمال أن يكونا أنثيين، والعصبة (5) بالخيار بين أن يحلف ثلث الأيمان في الحال وبين أن يؤخر إلى أن يبين
__________
(1) ما بين المعقفين سقط في الأصل، وهو موجود في (هـ 2) .
(2) في الأصل: " فهلا ".
(3) المدّعَى: أي المطلوب الذي يدعيه كل منهما، فالابن يدعي الثلثين وأنوثة الخنثى، والخنثى يدعي النصفَ والذكورة.
(4) في النسختين: " الأنثى ". والمثبت تصرف من المحقق، نرجو أن يكون هو الصواب.
(5) العصبة: أي الأخ لأب.(17/64)
[أمرهما] (1) ، فإن حلف في الحال، انتزعنا الثلث الباقي من يد المدعى عليه، ووقفناه بين الخنثيين والعصبة، فإن بانا أنثيين دُفع إلى الأخ، وإن بانا ذكرين، دفع إليهما، وإن بان أحدهما ذكراً والآخر أنثى، دفع إلى الذكر منهما.
وإن لم يحلف الأخ في الحال [وأخر] (2) ، لم يؤخذ الثلث من المدعى عليه، لاحتمال أن يكون المستحق هو الأخ، ولم يحلف، فلا نزيل يدَ المدعى عليه عن طائفة من ماله من غير يمين مستحقة.
10937- ولو كان في المسألة ولد خنثى، وبنت، حلف الخنثى ثلثي الأيمان وأخذ ثلث الدية، وحلفت البنت نصف الأيمان وأخذت ثلث الدية، ووقف الثلث الباقي، وإنما يحلف الخنثى الثلثين أخذاً بتقدير الذكورة، وتحلف البنت النصف لجواز أن يكون الخنثى أنثى، ولو كان كذلك، فالثلثان لهما والباقي لبيت المال (3) ، ثم إذا أرادتا أن تقسما، حلفتا خمسين يميناً، فإن القسامة في حصة بيت المال محال - فلو قتل رجل قَتْلَ لوث وليس له وارث خاص، فلا وجه إلا تحليف المدعى عليه، وإقامة الخصومة على ترتيب سائر الخصومات- وإذا كان كذلك، فنقدّر الخنثى أنثى،
وتحلف البنت على هذا التقدير نصفَ الأيمان، ثم تستحق الثلث.
فإن قيل: كيف تحلف النصف وتستحق الثلث؟ قلنا: لو نكل الخنثى، لحلّفنا البنت خمسين يميناً، ولا تستحق من حصتها شيئاً -والحالة هكذا- ما لم تحلف خمسين يميناً، فكذلك تحلف خمسة وعشرين تكميلاً للأيمان المعتبرة، ويحلف الخنثى ثلثي الأيمان، وأما الثلث الباقي، فلا ينتزع من يد المدعى عليه، فإن ذلك
__________
(1) في الأصل: " أمرها "، وكذا في (هـ 2) .
(2) في الأصل: " وأخذ ". والمثبت من (هـ 2) .
(3) هذا -كما هو معروف- على مذهب الشافعية بعدم الرد في الميراث، ومثلهم المالكية، ويشترط الشافعية في الرد إلى بيت المال أن يكون منتظماً، وقد قال متأخرو المالكية بهذا الشرط أيضاً، فإن لم يتحقق الشرط بانتظام بيت المال، قالوا بما قال به الحنابلة والأحناف، وهو الردّ على أصحاب الفروض ما عدا الزوجين، فإن لم يكونوا ردّوا على ذوي الأرحام، ثم من بعدهم الردّ على الزوجين ثم من بعدهم الردّ على المقرّ له بنسب حملاً على الغير ... إلى تفاصيل تطلب في مظانها.(17/65)
الثلث لم يتحقق استحقاقه من الولدين، وبيت المال لا يتصور أن ينوب عنه حالف.
10938- ولو قُتل رجل، وله ثلاثة من البنين: بالغ حاضر، وصغير حاضر، وبالغ غائب، فالبالغ الحاضر إن أراد حلف في الحال خمسين يميناً، ويعطى ثلث الدية، ولا يُنتظر في إثبات حقه بلوغُ الصغير، ورجوعُ الغائب؛ فإن تأخير اليمين منهما ينزل منزلةَ نكول بعض الورثة، ولو نكل بعض الورثة، فللبعض أن يثبت حصة نفسه، وسبيل إثباته حصة نفسه أن يحلف خمسين يميناً، كذلك إذا كان التأخّر بالصغر في أخ وبالغيبة في أخٍ.
ثم إذا رجع الغائب، فإذا كان يحلف، حلف نصف الأيمان واستحق ثلث الدية، وجعل كما لو كان حاضراً مع أخيه، ولو كان كذلك، لحلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يميناً، والأيمان في الأخ الأول اشترطنا فيها كمالاً [لتكمل] (1) حالة الحلف، ولما حضر الثاني وأيمانه مسبوقة بأيمان أخيه، فيبتني الأمرُ على رغبتهما في اليمين ونكول الصغير.
فإذا بلغ الصبي، حلف ثلث الأيمان، واستحق ثلث الدية. ولو صبر الأول حتى يرجع الغائب ويبلغ الصبي، فيحلفون خمسين يميناً أثلاثاً مع جبر الكسر والجبر يقتضي مزيداً على العدد، ولهذا نظير في [الشفعة] (2) ، فإذا ثبت في الشقص المشفوع حق الشفعة لثلاثة، فحضر واحدٌ منهم أخذ الجميع باليمين، ثم لا يخفى تفصيل المذهب لو حضر الباقيان.
وإنما غرضنا أبداً [التناظر] (3) .
10939- ولو كان في المسألة: جد، وأخت لأبٍ وأم، وخنثى هو أخ من أب، أو أخت من أب، فنقول: لو كانت الخنثى أنثى لم يخلص إليها من التركة شيء، ولو كان ذكراً، لاستحق عُشر المال، والأخت من الأب والأم في التقديرات كلها تستحق
__________
(1) في (هـ 2) : " كمال التفرد حالة ".
(2) في الأصل: " الشفقة به".
(3) في الأصل: " النظر ".(17/66)
نصف المال؛ لمكان المعادة، والجد استحق النصف لو كان الخنثى أنثى، ويستحق أربعة من عشرة لو كان ذكراً، فإذا أثبتت هذه التقديرات، [فالتحليف] (1) يجرى على الأخذ بالأكثر، ثم لا يسلّم من المال إلا الأقلُّ المستيقن.
ثم الخنثى في هذه المسألة (2) لا يخلو إما أن يحلف، أو لا يختار الحلف، فإن اختار الحلف، حلف عُشرَ الأيمان، وحلفت الأخت نصفَ الأيمان، وحلف الجد نصف الأيمان، وهذا خارج على الأصول التي مهدناها؛ فإن أقصى ما نفرض على الجد خمسة وعشرين يميناً، ولا مزيد في حق الخنثى على العُشر بتقدير الذكورة، والأخت لا يتصور في حقها تقدير يقتضي أكثر من نصف الأيمان، مع حلف هذا الخنثى.
وفي هذا احتياج إلى فضل بيان وسنذكره الآن، فإن لم يحلف الخنثى، فنقول الجد يحلف خمسة وعشرين يميناً، كما ذكرناه، ويأخذ أربعة أعشار الدية، وإنما حلفناه أكثر مما يأخذ لجواز أن يكون هو مستحق النصف، والأيمان تبنى على الأكثر، وأما الأخت، فينبغي أن تحلف عند نكول الخنثى خمسة أتساع الأيمان؛ فإنا لو قدرنا
__________
(1) في النسختين: " بالتحليف ".
(2) صورة هذه المسألة بالحساب هكذا:
جد أخت شقيقة أخ لأب خنثى (على تقديرالذكورة)
2 1 2 تصح من: 5 (أصلها الأول)
4 5 1 تستكمل الشقيقة نصف المال فتصح من: 10
(أصلها المصحح)
جد أخت شقيفة أخت لأب (على تقدير أنوثة الخنثى)
2 1 1 تصح من: 4 (أصلها الأول)
2 2 لا شيء- تستكمل الشقيقة نصف المال بالمعاداة، فتصح المسألة
من: 4 أيضاً.
فأقصى ما يأخذه الجد النصف، وأقصى ما تأخذه الشقيقة النصف، وأقصى ما يأخذه الخنثى العشر.
وأقل ما يناله الجد خمسان، والشقيقة النصف أبداً.(17/67)
أخاً من أب على التحقيق، وجدّاً، وأختاً من أب وأم، ثم فرضنا نكول الأخ عن اليمين، لكان الجد في هذه الحالة مع البيان يحلف أربعة أتساع الأيمان؛ فإن الأمر بيّن، وكانت الأخت تحلف خمسة أتساع الأيمان، وإن زادت أيمانها على ما تأخذ، فلا مبالاة بذلك، مع ما قدرناه من الأخذ بالأكثر في باب الأيمان.
فإذا كان هذا التصوير يقتضي أن تحلف الأخت خمسة أتساع اليمين، فإذا نكل [الخنثى] (1) فنأخذ بالأكثر في الأيمان، وذلك بأن نقدره وأخاً ناكلاً، ولو كان كذلك، لكان الحساب يقتضي أن يكون حَِلْف الأخت والجد على نسبة ما يأخذان والنسبة بالأتساع، والأخذ بالأكثر في الأيمان [يوجب] (2) أن نحلفها خمسة أتساع الأيمان، ثم لا تأخذ إلا نصف المال.
فانتظم من هذا أن الخنثى إذا لم يحلف، حلفت الأخت خمسة أتساع خمسين يميناً مع جبر الكسر، ويحلف الجد نصف الأيمان.
فإن قيل: لم اكتفيتم إذا حلف الخنثى بنصف الأيمان من الأخت؟ قلنا: لأن الخنثى إذا حلف لم يخل إما أن يكون أنثى أو ذكراً، وعلى التقديرين لا يخص الأخت من قسمة الأيمان أكثر من النصف، [وكذا] (3) ينشأ حساب الأتساع عند تقدير نكول الأخ عن الأيمان. هذا بيان هذه المسألة.
ورأيت في الطرق خبطاً هو محمول على الزلل الذي يأتي [من] (4) قلة الفكر، [ومثل] (5) ذلك لا يعتد به غلطاً أيضاً مع الاتفاق على أصلين: أحدهما - رعاية الأكثر في الأيمان، والآخر رعاية الأقل في الأنصباء.
10940- وذكر الشيخ أبو علي في المسألة الأخيرة المشتملة على ذكرِ الخنثى أن الخنثى لا يحلف في هذه المسألة، ولو حلف لم يقع الاعتداد بأيمانه، واعتلّ
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: " يجوز "، والمثبت من (هـ 2) .
(3) في (هـ 2) وإنما.
(4) في النسختين " في "، والمثبت من المحقق.
(5) في الأصل: " وقبل ". والمثبت من (هـ 2) .(17/68)
[بأنّا] (1) نجوّز أن يكون محروماً (2) غير مستحق، والأيمان الصادرة منه على هذا التقدير مردودة.
وهذا الوجه متجه، ولكنه [يكرّ] (3) على معظم ما ذكرناه بالهدم، وبيان وجهه أن الأيمان من غير دعوى مردودة، والدعوى مع الإشكال محال. فهذا وجهٌ ظاهر، [وكان] (4) يجب على موجبه أن نقول: لو كان في المسألة ولد خنثى وعصبة، فالعصبة لا تحلف؛ لأنا لم نعلم له استحقاقاً، فلا تصح دعواه، ولا بد من تخريج هذا الوجه في العصبة وهو إذاً وجهٌ منقاس مطرد في كل من لا نعلم له استحقاقاً.
ويرد سؤال آخر وفي الجواب عنه تمام الغرض، وهو أن قائلاً لو قال: حلّفتم الجد في هذه المسألة خمسةً وعشرين يميناً، ثم لم تسلموا إليه إلا أربعة أعشار المال، فدعواه إلى تمام النصف مردودة، ثم لو بان الخنثى أخاً، أخذ الباقي، واحتسب بتلك الأيمانِ التي تقابل تكميلَ النصف، فهذه الأيمان إلى تتمة النصف غيرُ مرتبة على دعوى؟
قلنا: نعم هذا مقام يجب الاعتناء بدركه وفهمه [وقد تقرّر] (5) أنا نزيد الأيمان لإثبات المستحق في بعض الصور، وقد يحلف الإنسان خمسين [يميناً] (6) ويستحق عُشراً، فهذه الأيمان صحت لإثبات القدر المستيقن، فإذا [بان مزيد] (7) في الاستحقاق، كفت تلك الأيمان الصحيحة.
__________
(1) في الأصل: " فإذا "، والمثبت من (هـ 2) .
(2) محروماً: أي إذا بان أنثى (أخت الأب) فتأخذ الشقيقة كل سهمها ليكتمل لها النصف، فالمسألة من أربعة: اثنان للجد، وواحد للشقيقة، وواحد للأخت لأب (بتقدير أنوثة الخنثى) ، ثم تعود الشقيقة لتستكمل نصيبها النصف، فتأخذ نصيب الأخت لأب، فيكون الخنثى في هذه الحالة غيرَ مستحق للإرث، فليس له أن يدعي إذاً. هذا هو الإشكال الذي ذكره الشيخ أبو علي.
(3) في الأصل: " يعلم ". وهـ 2: يعكر، والمثبت من المحقق.
(4) في النسختين: " ولكن ".
(5) في الأصل: " قد تقدر ". والمثبت من (هـ 2) .
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: " كانت مزيداً " وفي هـ 2: بانت مزيداً، والمثبت من المحقق.(17/69)
ومن لطيف القول في هذا أن تلك الأيمان الزائدة لا تفتقر إلى دعوى على قدرها من المال الذي [ثبت في المآل] (1) .
10941- ونحن نبيّن صورة أخرى لبيان هذا الذي انتهينا إليه، فنقول: خلف القتيل ولداً [خنثى] (2) ، فالجواب أنه يحلف خمسين يميناً، ويستحق نصف المال، فلو [بان] (3) ذكراً، أخذ النصف الباقي، [بلا] (4) مزيد.
ولو قيل هذه المسألة [عديمة] (5) [النظير] (6) في الدعاوى، لم يكن هذا القولُ مجازفةً؛ فإن الأيمان صحت لغرضٍ آخر، ثم تبين الاستحقاق، فيكفي ما تقدم، والسبب فيه أن القتل ثبت بالخمسين، وأتبعنا بعض الأيمان البعضَ، ولهذا لا يتصور ثبوت القتل إلا بالخمسين، [فهذا نهاية البيان] (7) في هذه الأصول.
وعندي أن بعض هذا الاضطراب إنما أتى [من] (8) التفريع على قولٍ لا أصل له في القياس، والتفاريع إنما تنتظم في سلك المقاييس، فإذا لم يستقم الأصل على القياس، اختبط التفريع.
10942- ثم قال: "ومن مات من الورثة قبل أن يُقسم قام ورثته مقامه ... إلى آخره" (9) .
إذا قتل رجل وله ابنان -والتفريع على قول التوزيع- فيحلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً، فلو مات أحد الابنين عن ابنين قبل جريان الإقسام، قام ابناه مقامه، ووزعنا عليهما خمسة وعشرين من العدد، فيحلف كل واخد منهما مع جبر الكسر ثلاثةَ
__________
(1) في الأصل: " في بيت المال ".
(2) في الأصل: " أنثى ". والمثبت من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " كان "، والمثبت من (هـ 2) .
(4) في الأصل: " فلا ".
(5) في الأصل: " عليه تتمة " والمثبت من (هـ 2) .
(6) في النسختين: " النظر ".
(7) في الأصل: " فهذا بمثابة النيابة في هذه الأصول ".
(8) في النسختين "في ".
(9) في المختصر: 5/151.(17/70)
عشرَ يميناً، ولو مات أحد [الحافدين] (1) قبل الحلف [عن ابنين] (2) قاما مقامه في ثلاثة عشر مع جبر الكسر، فيحلف كل واحد منهما سبعة، وهذا قياسٌ واضح، لا غموض فيه.
10943- ومما يليق بتمام البيان أن القتيل إذا خلف وارثاً واحداً مستغرقاً، فأقسم خمسين [يميناً] (3) ، ثم مات، فالدية لورثته، ولو نكل هو عن أيمان القسامة بعد التعرض لها، ثم مات، لم يكن لورثته أن يقسموا؛ فإن حق القسامة بطل بنكوله، وورثتُه ليسوا أصلاء، وإنما لهم الخلافة، فإذا بطل الأصل، فقد انقطعت الخلافة وتقديرها.
10944- ولو حلف وارث القتيل بعضَ الأيمان، ومات في خلالها قبل أن يستكملها، فالذي قطع به أئمة المذهب أنه ليس للورثة أن يبنوا [على أيمانه، بل يستأنفون] (4) خمسين يميناً، لأن الأيمان الخمسين في حكم اليمين الواحدة، فإذا انقطعت بموت الأول، بطل حكمها.
وذكر الشيخ أبو علي أنه رأى في مكتوب عن الشيخ الخِضْري أن الورثة يبنون على تلك الأيمان، وهذا وإن كان بعيداً في الحكاية، فله وجهٌ مأخوذ من الخلافة، وهو منطبق على التوزيع، ويمكن تخريجه على بناء حَوْل الوارث على حَوْل الموروث، وفيه قولٌ [بعيد.
10945- ولو حلف] (5) المقسِم بعضَ الأيمان وغُلب على عقله وجُنّ في خلال الأيمان، ثم أفاق، فقد قال الأصحاب: له البناء؛ لأنه إنما يبني على أيمان نفسه.
وفي هذا تدبر ينبني على تمهيد أصلٍ، وهو أن المقسم لو أتى بالأيمان في مجالس
__________
(1) في الأصل: " الحاضرين ". والمثبت من (هـ 2) .
(2) سقطت من النسختين.
(3) الزيادة من (هـ 2) .
(4) في الأصل: " على أن يبنوا على أيمانه، بل نقول خمسين يميناً ". والمثبت من (هـ 2) .
(5) في الأصل: " العبد فلو حلف ". والمثبت من (هـ 2) .(17/71)
أو مجلسين، فقد ذكر القاضي في ذلك وجهين، وأجرى مثلهما في [تفريق] (1) كَلِم اللعان، ووجْهُ التجويز بيّن، ووجه المنع [أن الغرض] (2) من تعديد الأيمان التشديدُ والتغليظُ [والزجرُ] (3) عن الإقدام عليها لا على وجه الصدق، ويعظم وقعها إذا توالت. وإذا تفرقت في المجالس، لم تكن على حدّها في إفادة الرجوع والزجر، وكذلك القول في اللعان، ولعل تواصل الزمان مع اتّحاد المجلس يدخل في هذا التردد، بل هو أولى بالاعتبار، فإنه لو كان يحلف أيماناً ويخرج ويعود على الفور وقُرْب العهد، فأثر الردع لا يسقط، ولو تطاول الزمن وتخللت الفصول، ظهر سقوط الأثر.
وإذا فهم الناظر المقصود، لم يخف عليه التفريع.
ونعود إلى طريان الجنون، فنقول: إذا طرى الجنون، وزال، خرج هذا على التفرق الذي ذكرناه من التردد.
10946- ولو حلف المقسم بعض الأيمان، فعُزل ذلك القاضي الذي ارتفعت الخصومة إلى مجلسه، وولي آخر، فعليه أن يستأنف الخمسين في مجلس هذا الصارف، [ولا يبني على الأيمان التي جرت في مجلس المصروف] (4) ؛ فإن هذا المولّى لا يحكم إلا بما جرى في زمن ولايته، ورأيت الأصحاب متفقين على هذا، ووجهه بيّن.
***
__________
(1) في الأصل: " تقرير "، وسقطت من (هـ 2) .
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: " والوجد ".
(4) زيادة من (هـ 2) .(17/72)
باب ما يسقط القسامة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ادعى أحد الابنين على رجل من أهل هذه المَحِلة ... إلى آخره " (1) .
10947- مضمون الباب ليس يفي بترجمته؛ فإن ما يُسقط القسامةَ كثير، وقد تقدم فيما نفينا وأثبتنا معظمُ ما يؤثر في القسامة، ومقصود الباب أصل واحد، وهو بيان الحكم في تكاذب الوليين أو الأولياء في ظهور اللوث بالجهات التي ذكرناها، وأنه هل يؤثر في إبطال القسامة. عذا غرض الباب.
ثم تمام بيانه يقتضي تفريعَ مسائل الصورة الأولى التي ذكرناها: إن القتيل إذا خلّف ابنين، أو أخوين، فقال أحدهما: إن فلاناً قتل موروثي وحده، وقال الآخر: ما قتله فلانٌ [هذا] (2) ، هذا تكاذبهما، وقد قيد الشافعي كلامه بلفظٍ، فقال: " وقال الآخر -[وهو عدل] (3) - ما قتله ".
وما يناط بالتكاذب لا يختلف بكون المكذب عدلاً أو خارجاً عن العدالة، ولكن قال الأصحاب: أراد بالعدل أن يكون المكذِّب من أهل القول، فلا يكون صغيراً ولا مجنوناً.
وهذا التأويل سخيف عندي، ولكن غالب الظن أنه لم يجر شرطاً، وإنما ذكره فرضاً للكلام في أظهر الصور؛ فإن غرضه أن يبيّن أن التكذيب يوهي أثر اللوث ويثير خلافَ المظنون المتلقَّى من اللوث المطلق. ومن أراد تقرير مذهبٍ قد [يفرض] (4)
__________
(1) ر. المختصر: 5/150.
(2) سقط من النسختين.
(3) زيادة من (هـ 2) .
(4) في الأصل: " يظهر "، والمثبت من (هـ 2) .(17/73)
الكلام في أظهر الصور، فالصورة إذاً كما ذكرنا: رجل قُتل وله ابنان ادعى أحدهما على واحد أنه قتله، وكذبه أخوه، وقال: ما قتله أو [كان] (1) هو غائباً عن المَحِلّة يوم قُتل [أبونا] (2) ، أو قال: بل قتله فلان وحده، وذكر رجلاً آخر، فهذا هو التكاذب والتجاحد.
10948- وقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في ذلك، فقال في أحد القولين: تبطل القسامة بالتكاذب؛ لأن مستندها الغلبة على الظن عند وجود اللوث، وقد وَهَى الظن بتكاذب الوليين؛ إذ لو كان من يدعي أن فلاناً قتَل صادقاً، لأوشك ألا يكذبه أخوه. وقال في القول الثاني: لا تبطل القسامة بهذا، فإن اللوث قائم، وللأولياء في التكاذب أغراض، واليمين مع الشاهد إنما تسمع [للتقوِّي] (3) بالشاهد، ثم لو ادعى أحد الابنين دَيْناً للموروث، وأقام عليه شاهداً، فكذبه أخوه، فللمدعي أن يحلف مع الشاهد، واللوث في اقتضاء البداية بيمين المدعي كالشاهد الواحد فيما
يثبت بالشاهد واليمين، وهذا [اختيار المزني.
فإن قلنا: تبطل القسامة، فلا يُقسم المدعي، كما لا يقسم المكذب، وإن قلنا:] (4) التكاذب لا يمنع القسامة، فإذا ادعى أحدهما أن فلاناً قتل أباه، وقال الثاني: ما قتله، فللمدعي أن يقسم خمسين يميناً، ويستحق على المدعى عليه نصفَ الدية إذا آل الأمر إلى المال، ولو كان القتل المدّعى قتلَ قودٍ، فليس للمدعي طلبُ القصاص؛ فإن القصاص إذا ثبت مشتركاً، لم يكن لبعض الشركاء الانفرادُ بطلبه واستيفائه، بل إذا عفا بعضهم، سقط حقُّ الباقين، وكذلك إذا أنكر وجوبَ القصاص.
10949- ولو ادعى أحدهما على رجل اسمه زيد، وقال: قتل هذا أبانا، ورجل آخر معه لا أعرفه، فقال الآخر: قتل أبانا عمرو، ورجل آخر لا أعرفه، فلا تكاذب
__________
(1) في الأصل: " قال ". والمثبت من (هـ 2) .
(2) غير مقروءة بالأصل. والمثبت من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " بالتقوّي "، والمثبت من (هـ 2) .
(4) زيادة من (هـ 2) .(17/74)
في هذه الصورة بينهما لجواز أن يكون ما جهله كل واحد منهما هو الذي [عرفه] (1) صاحبه، ونحن لا نشترط على هذا القول -وهو بطلان القسامة بالتكاذب-[التوافق] (2) بينهما على التحقيق، بل نكتفي بأن لا يتجاحدا.
والسبب فيه أن التصريح بالتكاذب يوهي اللوث، فأما الجهل بمن يشارك في القتل لا (3) يضعف اللوث، فإذا ثبت أن القسامة تجري في الصورة التي ذكرناها، فيحلف كل واحد منهما على من عيّنه خمسين يميناً ويستحق عليه ربعَ الدية؛ لأنه مقرٌّ بأن صاحبه شريك في المستحَق على هذا [المعين] (4) ، وقد ذكر أنه لم يكن منفرداً بالقتل، فعلى المعيَّن بزعمه نصف الدية، وحصته من النصف الربعُ.
ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ هذا، ورجل آخر معه، لا أعرفه، ولكني أعرف أنه ليس عمراً، وقال [الآخر: قتل] (5) أبانا عمرو، ورجل آخر لا أعرفه، وأعلم أنه ليس زيداً، فهذا تكاذب في الحقيقة، ولا يخفى التفريع.
ولو كانت المسألة بحالها، فقال أحدهما: زيد هذا قتل أبي ورجل آخر لا أعرفه، [وأعلم] (6) أنه ليس عمراً، وقال الآخر: قتل أبانا عمرو ورجل آخر لا أعرفه، ولا أُبعد أن يكون زيداً، فالذي عين زيداً مكذبٌ للذي عيّن عمراً؛ فإنه قال: أعلم أن شريك زيد لم يكن عمراً [والذي عيّن عمراً] (7) لم يكذب أخاه في زيد، فقد اشتمل قولاهما على التكاذب في عمرو، وليس في أقوالهم ما يوجب تكاذباً في زيد، فنقول: أما زيد فلا تكاذب [فيه] (8) ، فيحلف المدَّعي عليه خمسين يميناً، ويستحق ربع الدية، وأما عمرو، فقد حصل التكاذب [فيه] (9) .
__________
(1) في الأصل: " غرّبه ".
(2) في الأصل: " الموافق ".
(3) جواب (أما) بدون الفاء.
(4) في الأصل: " المعنى ". والمثبت من (هـ 2) .
(5) في الأصل: " الآخرون ". والمثبت من (هـ 2) .
(6) زيادة من (هـ 2) .
(7) زيادة من (هـ 2) .
(8) سقطت من (هـ 2) .
(9) في الأصل: " منه ". والمثبت من (هـ 2) .(17/75)
فإن قلنا: القسامةُ تبطل بالتكاذب، فللّذي ادّعى على عمرو أن يحلِّف عمراً، وقد بطلت البداية بالمدعي، فإن حلف المدعى عليه، برىء [من الخصومة] (1) وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين على المدَّعي، فإذا حلف يمين الرد، استحق عليه ربعَ الدية أيضاً، والتكاذب لا يسد باب التحليف والرد، وإنما يؤثر في إبطال القسامة [فحسب] (2) .
10950- ولو ادعى أحدهما على زيد وعمرو، وقال: هما قتلا أبانا لم يشاركهما غيرهما [وقال الآخر: بل قتل أبانا بكر وخالد] (3) ، فهما متكاذبان [والمسألة] (4) مفرعة على القولين: إن قلنا: تبطل القسامة بالتكاذب، ارتدت الأيمان إلى المدعى عليهم، وحَلَّف كلُّ واحد من الابنين اللذَيْن ادعى عليهما، ولم يخف الحكم.
وإن قلنا: لا تبطل القسامة بالتكاذب، حلف كل واحد من الابنين على اللذين عينهما خمسين يميناً، واستحق عليهما نصفَ الدية.
ولو قال أحدهما: قتل أبي زيد، وانفرد بقتله، لم يشاركه غيره، وقال الآخر: شارك زيداً في قتل أبينا عبدُ الله، فقد اتفقا على توجيه الدعوى بنصف الدية على زيد، واختلفا في النصف الآخر، فإن حكمنا ببطلان القسامة بالتكاذب، حلفا على زيد خمسين يميناً، واستحقا عليه نصف الدية، ثم القول قول زيد مع من ادعى انفراده بالقتل أنه لا يلزمه النصف الآخر من الدية، فيحلف، ولا يخفى جريان الخصومة على نظمهما. فأما عبد الله، فلا يقسم عليه من ادعى مشاركته تفريعاً على أن التكاذب يُبطل القسامة، ولكن القول قول عبد الله مع يمينه، ولا يخفى سوْقُ الخصومة.
وإن قلنا: لا تبطل القسامة بالتكاذب، حلف الذي ادعى انفراد زيد خمسين يميناً، واستَحق عليه نصفُ الدية، وحلف أخوه على زيد خمسة وعشرين، واستحق ربع الدية، ويحلف على عبد الله إن أراد خمسين يميناً، ويستحق عليه ربع الدية،
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: " بحسب ".
(3) سقطت من الأصل.
(4) سقطت من الأصل.(17/76)
فيحصل لكل واحد منهما نصف الدية: ثلاثة أرباع الدية مأخوذة من زيد، وربعها مأخوذ من عبد الله.
وإن أراد الذي ادعى المشاركة [التقليل] (1) في الأيمان، أمكنه أن يقتصر على خمسين يميناً، وذلك بأن يجمع بين زيد وعبد الله في خمسة وعشرين يميناً، ويفرد عبد الله في خمس وعشرين يميناً.
10951- ولو كانت المسألة بحالها، وكان عبد الله غائباً، فمن ادعى الاشتراك يحلف على زيد، [ولا بدّ أن يكون] (2) في يمينه [قَتَله] (3) مع آخر، هذا لا بد منه؛ لأن اليمين على حسب الدعوى، وهو لم يدّع انفراد زيد بالقتل، وإنما يدّعي عليه نصف الدم، فليحلف على القدر الذي يدعيه.
ثم إذا حلف كما ذكرناه، وحضر عبد الله، فيحتاج إلى [أن يحلف] (4) عليه خمسين يميناً، ولا يقع الاعتداد بما قدمه من الأيمان. هكذا حكى من يوثق به عن القاضي، وجرى في كلامه ما يدل على أن المدعي لا يقسم على الغائب، حتى لو اتحد المدعي والمدعى عليه (5) ، وكان المدعى عليه غائباً، ولا بينة للمدعي، فلا تسمع دعواه إذا قال: لا بينة لي؛ فإنه لا يحلف.
وهذا فيه نظر، ومن مسالك الأقيسة الجلية، الحكمُ بأن أيمان المدعي (6) مسموعة على الغائب إذا ثبت حضوره وقت القتل؛ فإن الأيمان من المدعي بمثابة البينة في سائر الخصومات، والبينة مسموعة على الغائب، والقضاء مرتبط به إن استدعاه المدعي.
وما حُكي عن القاضي فليس ينقدح فيه وجه جلي، ولكن الممكن [فيه] (7) أن
__________
(1) في الأصل: " التعليل ". والمثبت من (هـ 2) .
(2) في الأصل: " ولا وأن يكون ".
(3) في الأصل: " مثله ".
(4) في الأصل: " تحليفه "، والمثبت من (هـ 2) .
(5) أي يكون المدعي واحداً، والمدعى عليه واحداً.
(6) في الأصل: " المدعى عليه ".
(7) في الأصل: " ديه "، والمثبت من (هـ 2) .(17/77)
اليمين إذا تجردت ينبغي أن تكون موقوفة على مستحلِفٍ قياساً على اليمين في جانب المدعى عليه، فإذا لم يحضر من يستحلِف، والمعتمد اللوث المجرد، فتقيُّدُ القضاء على الغائب باعتماد لوث مجرد وأيمان لا مستحلِف فيها بعيد، والتعويل على ضعف الحجة وضعف مستندها. هذا هو الممكن، وكأن اللوث إنما يستقر إذا سلم عن القدح فيه.
ومن يجوّز الإقسام على الغائب يقول في الجواب عن الاستحلاف: لا حاجة إلى الاستحلاف في أيمان القسامة، فإنها تجري والمدعى عليه يأباها بخلاف يمين المدعي.
ولا ينبغي أن يكون في جواز القضاء بالشاهد واليمين على الغائب خلاف بين الأصحاب؛ فإن مستند اليمين شهادة عدل، والقاضي يستفرغ الوسع في البحث عن الشاهد، واللوثُ أمر منتشر.
والوجه مع ذلك كلِّه القضاءُ على الغائب بأيمان القسامة، ثم إن [أبدى مطعناً] (1) في حضوره، فليس القضاء أمراً لا يتبع، وكل ذي حجة على حجته، وقد قال الشافعي على الاتصال بهذا: " لو أقسم المدعي على الخصم الحاضر، فقامت بينة أن المدعى عليه كان غائباً، فالدية مستودة والقضاء منقوض " (2) .
فصل
قال: " ولو قال المدعي ظلمتُه في هذه الخصومة ... إلى آخره " (3) .
10952- إذا أقسم المدعي على الشرط المعلوم، وجرى القضاء له بالدية، ثم قال المدعي: ظلمتُه، فإن سئل عن معنى قوله، فإن قال: كذبت عليه، وكان القاتلُ غيرَه، استرددت الدية منه، فإن فسر قوله بأن قال: صدقت في دعواي،
__________
(1) في الأصل: " أبدى قطعنا "، والمثبت من (هـ 2) .
(2) هذا معنى كلام الشافعي. وليس بلفظه. ر. المختصر: 5/151.
(3) لم أصل إلى هذه العبارة في المختصر في مظانها، فلعل الشافعي قالها في موضع آخر، أو في كتاب آخر، أو بلفظ غير هذا اللفظ.(17/78)
[ولكن] (1) لست أعتقد البداية بالمدعي؟ قلنا له: لا تعويل على عقدك، وقد جرى الحكم لك واستحقاقُك الديةَ باطناً لا يتوقف على قيام حجة، ولو قضى قاضٍ حنفي لشافعي بشفعة الجوار، وكان المقضي له مصرّاً على عقده، ففي ثبوت الشفعة له ظاهراً وباطناً أو ظاهراً خلاف بين الأصحاب.
ونستجمع في هذه الأصناف ونستاقها في نظام من التقسيم يحوي أطراف الكلام في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) في الأصل: " وكدى ".(17/79)
باب كيف يمين مدعي الدم
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا وجبت لرجل قسامة ... إلى آخره " (1) .
10953- غرض الباب مقصور على كيفية اليمين وعلى ذكر احتياط في ذكر المحلوف به وعليه.
فأما القول في أعداد الأيمان، فقد سبق. وأما لفظ كل يمين، فإن غلّظ القاضي، قال: قل: " بالله الذي لا إله إلا هو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " أو ما يراه من الصيغ المعظِّمة، وهذا لا اختصاص له بأيمان القسامة، بل كل يمين في أمر مخطرٍ يغلّظ بالمكان، والزمان، والألفاظ، على ما يراه القاضي، ثم إن الكلام في أن هذه التغليظات مستحقة أو مستحبّة يأتي في باب مفرد في كتاب الدعاوى، وقد قدمنا صدراً منها في كتاب اللعان.
والغرض من ذلك هاهنا أن تعدد الأيمان لا يُسقط التغليظَ في ألفاظ كل يمين، ثم القول في تغليظ كل يمين كالقول في تغليظ سائر الأيمان، فلو قال له القاضي: قل: والله، فقال: والرحمن، لم يكن حالفاً، ولو قال القاضي: قل: بالله العظيم الطالب، فقال: بالله، واقتصر عليه، ففي الاعتداد باليمين خلاف مبني على أن التغليظ مستحق أم لا؟ وهذه الأحكام على ظهورها فيها أسرار وغوامض، ستأتي في موضعها، إن شاء الله.
وإذا لم يكن هذا مختصاً بالباب، فلا معنى للإطناب فيه.
ثم يحلفه القاضي ويحتاط في التصريح بالمدَّعى، وقد وصفنا الدعوى، فليقع اليمين بحسبها.
__________
(1) ر. المختصر: 5/151.(17/80)
ومما أجراه الشافعي أنه إذا حلف أن فلاناً انفرد بقتل [أبي وأتى بالدعوى] (1) على شرطها، فيقول: " ما شركه في القتل غيره " (2) .
وهذا بالاتفاق احتياط غير مستحَق؛ فإنه إذا حلّفه على انفراده بالقتل، [فقد] (3) نفى الاشتراكَ، وإذا كانت اليمين معروضة على المدَّعى عليه، فيحلف بالله ما قتله ولا تسبب إلى قتله، ويصرح بما ينفي عنه جهات الضمان؛ [لأن] (4) معظم الناس لا يرون المتسبب في حكم القاتل، ولو فرض الاقتصار على نفي القتل، ففي هذا فضل نظر، فإن ادعى [على] (5) المدعى عليه القتل، فَنَفَى القتلَ، جاز الاكتفاء بهذا، وإن ادعى عليه سبباً مضمّناً كحفر بئر، فلا يكفيه نفي القتل؛ فإن نَفْي القتل صريح في نفي المباشرة.
ومعظم هذه الأصناف تأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) في الأصل: " أمي وأبي فالدعوى ".
(2) ر. المختصر: 5/152.
(3) في الأصل: " وقد ".
(4) في الأصل: " إلا أن ".
(5) زيادة من المحقق.(17/81)
باب دعوى الدم [في الموضع الذي ليس فيه قسامة] (1)
10954- مقصود الباب أن القتل إذا لم يكن قتلَ لوث، فالبداية بالمدعى عليه، وهو المحلَّف، وفي تعدد اليمين القولان المشهوران، والغرض الآن أنا إذا رأينا تعدد اليمين على المدعى عليه، فإن كان واحداً، حلفناه الخمسين، وإن ادعى على اثنين الاشتراك في القتل، فهل توزّع الأيمان عليهما أم يحلف كل واحد منهما خمسين يميناً؟ فعلى القولين المذكورين في جانب المدعي؛ فإنه إذا تعدد المدعي فكل واحد يدعي مقداراً من الدم لنفسه، ثم في توزيع الأيمان الخلافُ المقدم.
فإذا تعدد المدعى عليهم، فكل واحد منهم يُدّعى عليه مقدارٌ من الدم فتبعُّض الدم في حق المدعي كتبعّضه في حق المدعى عليه، غير أن المدعين قد تتفاوت حصصهم، فتتفرع المسائل في تقسيط الأيمان عليهم، والمشتركون في القتل لا يتفاوتون في الالتزام؛ فيجري التفريع على قول القسمة [والفضِّ] (2) على حكم التسوية.
10955- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه طرفاً من إقرار العبد بالجناية الموجبة للقصاص، والموجبة للمال، وقد مضى جميع ذلك مستقصىً مفرّعاً على أن موجب العمد ماذا؟ وذكر إقرار العبد، وهذا سيأتي في كتاب السرقة، إن شاء الله، وشرْطُنا في هذا المجموع أن نجتنب الإعادات، إذا لم تمس إليها حاجة.
10955/م- وذكر الشافعي السكران وأنه لا يحلف حتى يفيق، وهذا يخرّج على أن السكران هل له قول؟ فإن لم نجعل له قولاً، لم يدّع ولم يحلف، وإن جعلناه كالصاحي في عقوده وحلوله، فقد قال الشافعي: لا يحلفه القاضي حتى يُفيق؛ فإن الغرض من الأيمان الزجر عن التمادي في الكذب، والأيمان لا تزجر السكران، وهذا
__________
(1) الزيادة في ترجمة الباب من " مختصر المزني " (5/152) .
(2) في الأصل: " والبعض ". وهـ 2: " والقصر ". والمثبت من المحقق.(17/82)
لا يختص بأيمان القسامة، بل يجري في كل يمين.
ثم اضطرب أئمتنا في أن القاضي لو حلفه هل يقع الاعتداد بحلفه؟ منهم من قال: يُعتد به، ولكن أساء القاضي، وحاد عن المسلك المرتضى، لأنه من [أهل] (1) الأقوال جُمَع، ْ ولذلك صحّحنا رجوعه عن الردّة في السكر، كما صححنا ردته. ومن أئمتنا من قال: لا يعتد باليمين؛ فإنه ليس يحصل باستحلافه المقصودُ المنوطُ بالحلف، والقائل الأول يقول: الزنديق يحلف وإن كان يستهين باليمين، ويجوز أن يجاب عنه بأن السكر إلى انقضاء، وارتقابُ زواله ليس أمراً بعيداً، بخلاف الزندقة والعقود (2) الفاسدة.
فصل
قال: " وهكذا الدعوى فيما دون النفس ... إلى آخره " (3) .
10956- قد أجمع الأصحاب على أن القسامة لا تجري في الأطراف، والمعنيّ بالقسامة في النفي والإثبات البداية بالمدعي، ولا فرق بين أن يفرض قطعها (4) مع اللوث، أو منْ غير لوث، وهذا مما يغمض فيه مُدرك التعليل؛ فإن الأطراف مصونة بالقصاص صَوْن النفوس، وكان لا يبعد من طريق المعنى أن تُتْبَعَ القسامةُ محالَّ القصاص، ثم كان لا يفرق بين ما يقع خطأ وبين ما يقع عمداً، ولكن الإجماع كما ذكرنا.
فإذا نفينا القسامة لم يبق [تحالف] (5) ، وأقصى ما ذكر في الفصل بين الأطراف والنفوس أن الكفارة لا تتعلق بالأطراف، وتتعلق بالنفوس، وهذا لا يقع الاكتفاء به مع الاستواء في القصاص، ومع الاتفاق على أن العاقلة تحمل أروش الأطراف. هذا هو الذي عليه التعويل.
__________
(1) في الأصل: " أصل ".
(2) العقود: أي الاعتقادات.
(3) ر. المختصر: 5/153.
(4) أي الأطر اف.
(5) في الأصل: " مخالف "، وهـ 2: تخالف.(17/83)
10957- ثم إذا تبين أن البداية في الأطراف بالمدعى عليه، فقد اختلف القول في أن الأيمان هل تتعدد؟ ويمكن أن يُرتَّب الطرف على القتل الذي لا لوث فيه؛ فإن الطرف تقاعد عن النفس في وضع الباب في ثبوت القسامة وانتفائها، ثم إذا فرعنا على أن اليمين تتعدد في أرش الطرف، فإن كان الأرش كالدية، فقولان: أحدهما - الاكتفاء بيمين واحدة. والثاني - أن المدعى عليه يحلف خمسين يميناً.
فإن كان الأرش أقلَّ من الدية وقلنا: يكفي يمينٌ في مقدار الدية، فلا كلام، وإن [قلنا] (1) : خمسين يميناً، ففيما ينقص عن مقدار الدية قولان: أحدهما - أنا نوزع الخمسين على مقدار الدية، وفي نصف الدية خمس وعشرون، وفي ثلثها ثلث الخمسين، وهكذا إلى حيث تنتهي المقادير. والقول الثاني - أنه لا بد من خمسين يميناً، وإن قل الأرش، وكذلك لو كان حكومة غير متقدرة.
ولو بلغت الأروش مقدار ديتين أو أكثر، فهل تزيد أقدار الأيمان بزيادة مقدار الأروش؟ فعلى قولين. وهذا قريب المأخذ من الخلاف المذكور في أنا هل نزيد على ثلاث سنين في مدة الضرب على العاقلة إذا زادت الأروش.
10958- ومما يجب رد النظر إليه أن الأئمة اختلفوا في أن دية المرأة تضرب في ثلاث سنين أو في سنتين، ثم تردد الأصحاب في أن الاعتبار بالنفس أو بالمقدار؟ فهل يجري هذا التردد [في النفوس] (2) الناقصة (3) إذا كان المستحلَف المدعى عليه؟ هذا فيه احتمال، والأشبه تعظيم النفوس في باب الأيمان والتسوية بين ما يكمل بدله وبين ما ينقص بدله، ولا يبعد إجراء الخلاف.
أما إذا فرضنا الإقسام على النفوس والبداية بالمدعي، فلا شك أنا لا نفرق بين نفس ونفس؛ فإن حجة المدعى خمسون يميناً، ولو كانت القسامة تجرى في الأطراف تقديراً، لما اختلفنا في تعدد الأيمان. وإن قلّت الأروش.
__________
(1) هـ 2: " رأينا ".
(2) في الأصل: " أو في "، والمثبت من (هـ 2) .
(3) النفوس الناقصة: مثل الذمي والمجوسي.(17/84)
10959- ثم ذكرت الأئمة فرعاً مقتضباً من أصول جامعة لا غموض فيه، ولكنه يذكرها ويهذبها، فنقول: إذا ادعى على شخصين قطع يد فيخرّج فيه أربعة أقوال: أحدها- أنهما يحلفان يميناً يميناً، وهذا يخرّج على أن الأيمان لا تتعدد في الأطراف. والقول الثاني - أنه يحلف كل واحد منهما خمسين خمسين، وهذا على قول التعدد، وعلى نفي التوزيع على الرؤوس وعلى قدر الدية. والقول الثالث - أنه يحلف كل واحد خمسة وعشرين، وهذا على قول التعدد، وعلى أن لا توزيع على مقدار الدية وعلى أن الأيمان موزعة على الرؤوس. والقول الرابع - أنه يحلف كل واحد منهما ثلاثة عشر يميناً، وهذا على أصل التعدد، وعلى التوزيع على المقدار، والتوزيع على الرؤوس. فنقدّر لنصف الدية خمساً وعشرين، ثم نوزعها على اثنين مع جبر الكسر، فيحلف كل واحد منهما ثلاث عشرة يميناً، ولا يخفى على من أحاط بالأصول ما ذكرناه وأمثاله، إذا ألقاها السائل.
***(17/85)
باب كفارة القتل
قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية ... إلى آخرها [النساء: 92] (1) .
10960- القتل إذا صادف آدمياً محترماً لعينه، ولم يكن مباحاً، اقتضى الكفارة على من هو من [أهل] (2) التزامها، ثم إن كان القتل مضموناً بالقود والدية، فتجب الكفارة به، وتمسك الشافعي رضي الله عنه بآية الكفارة وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ورأى التقييد بالخطأ [دالاً] (3) من طريق الفحوى على أن القاتل عمداً بالتزام الكفارة أَوْلى، وخلاف أبي حنيفة (4) في ذلك مشهور.
ثم لا فرق بين أن يكون القتل عمداً أو خطأ، أو شبه عمد.
ولا فرق بين أن يكون القاتل مكلَّفاً أو غير مكلف.
ولا فصل بين أن يحصل القتل بالمباشرة أو بالسبب.
والذمّي من أهل التزام الكفارة كالمسلم.
ولم يختلف الأئمة في إيجاب الكفارة [في] (5) مال الصبي والمجنون، إذا قَتَلا أو تَسبَّبا، وإن اختلفوا في إيجاب كفارات محظورات الإحرام.
والسبب فيه أن تيك الكفارات متعلقة بالعبادات، ولا يتحقق في حق الصبيان تأكدُ العبادات على مبلغ التأكد في حق المكلف. وكان شيخي أبو محمد يقول: إذا جامع
__________
(1) ر. المختصر: 5/153.
(2) زيادة من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " أولاً ".
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/172 مسألة 2282، رؤوس المسائل: 477 مسألة 342، طريفة الخلاف 509 مسألة 202، المبسوط: 26/67.
(5) في الأصل: " من ".(17/86)
الصبي الصائم في نهار رمضان، لم يلتزم الكفارة وجها واحداً، بخلاف كفارات الإحرام؛ فإن كفارات الإحرام إنما تثبت على مذهبٍ لتأكد الإحرام، ثم إذا أثبتنا الكفارة في حق الصبي، فالإعتاق عنه في صباه سائغ. وأما الصوم، فهل يصح من الصبي؟ وإذا جاء به هل يقع موقع الإجزاء في الكفارة؟ هذا فيه تردد مأخوذ من قول الأصحاب، مبني على أنه إذا أفسد الحجَّ هل يصح منه قضاؤه في الصبا؛ فإن قيل: إذا كان متعبداً بصوم رمضان ووظائف الصلوات الخمس، فما وجه التردد في صوم الكفارة؟
قلنا: الوظائف الشرعية لا تقع منه فرضاً، والكفارة لا تقع قط إلا فرضاً، وإنما تردد الأصحاب في قضاء الحج؛ لأن وجوبه يدوم بعد البلوغ، ولو أفسد الصبي الصلوات وصيام أيام رمضان، ثم بلغ، لم يخاطب بقضائها.
وما ذكرناه كله في القتل المضمون بالقصاص أو الدية.
10961- فأما إذا لم يكن القتل مضموناً، فهو ينقسم إلى محظور وإلى غير محظور، فأما ما لا يوصف بالحظر، فلا نوجب الكفارة مثل قتل المرتد، والزاني المحصن، والقاتل في الحرابة، والقتل قصاصاً، والقتل الواقع في الدفع.
وأما القتل المحظور، فإنه ينقسم إلى محظور بالإيمان كدم العبد في حق السيد، فإذا قتل السيد عبدَ نفسه، التزم الكفارة، وكأن الدم مضمون للآدمي ولله تعالى، وبدل الدم للسيد لو قتل العبدَ، فإذا كان هو القاتل، امتنع ثبوت [القيمة] (1) ، وبقي محل حق الله تعالى مضموناً عليه بالكفارة.
وأما [نساء الكفار] (2) وأطفالهم، فإنا نحرم قتلهم، كما سيأتي في السِّير، ولا كفارة على من قَتَل منهم، والسبب فيه أن الكفارة إنما تتعلق [بقتل يصادف آدمياً] (3) محترماً في عينه، والامتناع عن قتل الذراري والنسوان ليس على حرمة ثابتة،
__________
(1) في الأصل: " القسمة ".
(2) في الأصل: " ينسار الكفارة "، والمثبت من (هـ 2) .
(3) في الأصل: " على تضارب ذمياً ". والمثبت من (هـ 2) .(17/87)
وإنما هو مأخوذ من [استصواب] (1) الشرع في استبقائهم خَوَلاً والاشتغال برجال القتال، فآل أمر [الكفارة] (2) إلى ما ذكرناه.
وقال بعض المحققين في حدّ القتل الموجب للكفارة إذا صادف القتلُ مَنْ دمه محقون بأمانٍ أو إيمان، ولم يكن مباحاً، فنقْضُ بِنْيةِ مَنْ هذا وصفُه يوجب الكفارة، وفيما ذكرناه احتراز عن الذراري والنسوان من أهل الحرب.
ولا حاجة إلى هذه التقييدات والتعويل على ما قدمناه من ثبوت الحرمة، ويخرّج عليه العبد في حق السيد، وعبدُ الذمي في أمان الذمي، فهو محترم وإن كان كافراً كالذمّي نفسه.
10962- ثم تكلم الأصحاب على الآية المشتملة على الكفارة فقالوا: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما تقيّد [للتنبيه] (3) على أن الكفارة تجب وإن وقع القتل من غير مأثم، والكفارات كاسمها ممحّصات، قال الشافعي رضي الله عنه: " هذا التقييد يدل على أن القاتل عمداً بالتزام الكفارة أولى " وتقرير هذا في الخلاف.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] والمراد الذمّي أو المعاهد إذا قُتل.
وقال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] وفي ذلك مسائل: إحداها - أن يرمي إلى صف الكفار، ويقصد كافراً بعينه، ولا يعلم [بمكان] (4) مسلم في الدار، فمال السهم وضاف (5) ، وأصاب مسلماً جهل الرامي مكانه، فلا قود [عليه ولا دية] (6) ، وتجب الكفارة، وهذا هو الذي سماه الفقهاء: قتيل سهم الغَرْب.
[وشرط] (7) التصوير في هذه المسألة أن يكون المسلم في القطر الذي فيه موقف
__________
(1) في الأصل: "استضراب".
(2) في الأصل: "الكفاءة".
(3) في الأصل: "البينة".
(4) في الأصل: "ثم كان".
(5) ضاف: أي مال وانحرف".
(6) في الأصل: "والدية".
(7) في الأصل: "اشترط".(17/88)
الكفار، وقد يكون أسيراً فيهم، أو تاجراً من المسلمين، عَسُر عليه الالتحاق بالمسلمين؛ فإن السهم لو مال إلى بعض من في صف المسلمين في ازورار الصفوف والتحام الفئتين وقتله، كان مضموناً بالدية.
ولو علم أن في الدار مسلماً، فقصد كافراً، فأخطأ السهمُ وأصاب المسلم، فلا قود، وتجب الدية والكفارة، ولو لم يعلم مسلماً في الدار، وقصد شخصاً قدّره كافراً، [بأن] (1) كان في صفهم أو على زيّهم، فبان مسلماً، لم يلتزم القود، ولزمت الكفارة، وفي الدية قولان، وكان شيخي يطرد القولين في الدية إذا مال السهم إلى أسير مسلم، وكان يعلم أن فيهم مسلماً، ونزّل هذا منزلة ما لو قصد شخصاً ظنه كافراً، فكان مسلماً، وهذا منقاس حسن.
وإذا قتل في دار الإسلام شخصاً علمه كافراً من قبلُ مباحَ الدم، فتبين أنه كان أسلم -والقاتل نجهل ذلك من حاله- فالدية تلزم، وفي وجوب القود قولان، وذلك لأن دار الإسلام دار حقْنٍ، فيجب أن يكون [القتل فيه] (2) على تثبت بخلاف دار الحرب، وإذا جرى قتلٌ على الصورة التي قدمناها في دار الحرب فلا ينسب القاتل -بترك التعرف- إلى تفريط.
هذا مجامع القول فيما يوجب الكفارة، وفيمن يلتزمها.
10963- ثم نختتم الباب بأوجه غريبة في مسائل: [منها] (3) ما ذهب إليه أئمة المذهب أن من قتل عمداً، واقتُصّ منه، فالكفارة تجب في تركته، وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً نقله وزيّفه أن القصاص يُسقط الكفارة، وتقع النفس في مقابلة النفس، والسيفُ محّاء الذنوب. وهذا غير معتد به.
ومما ذكر غريباً في الباب أن جماعة من أهل الالتزام إذا اشتركوا في قتل إنسان مضمونٍ بالكفارة، فيجب على كل واحد منهم كفارةٌ بكمالها؛ فإن تعطيل الكفارة
__________
(1) في الأصل: " فإن ".
(2) في الأصل: " ديه "، والمثبت من (هـ 2) . والضمير يعود على (الدار) بتأويلٍ لا يعسر عليك.
(3) زيادة من المحقق.(17/89)
لا سبيل إليها، وهي لا تتبعض، وحكى بعض الأئمة قولاً غريباً أن الكفارة الواحدة تُفَضُّ على المشتركين، حكاه شيخي والعراقيون، وتوجيهه على بعده قياسُه على جزاء الصيد، فإن جماعة من المحرمين إذا اشتركوا في قتل صيد، لزمهم جزاءٌ واحد، وهو غير سديد؛ فإن بعض الجزاء يجب في بعض الصيد، فلا يمتنع تبعيض الجزاء بالقسمة، بخلاف كفارة القتل.
ومما ذُكر غريباً أن كفارة القتل في الأصل مرتّبة ترتب كفارة الظهار: أصلها الإعتاق، فإن فرض العجز عنه، فصوم شهرين متتابعين، ثم صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الظهار إذا فرض عجزٌ عنه، فإطعام ستين مسكيناً بدلاً عن الصيام، دل عليه نص القرآن، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى [الإطعامَ] (1) في كفارة [القتل] (2) [بدلاً] (3) .
هذا هو المذهب.
وحكى بعض الأئمة قولاً غريباً: أن الإطعام يَبْدُل (4) الصيام ويخلُفه، عند فرض العجز عنه قياساً، على كفارة الظهار.
وهذا غريب حكاه صاحب التقريب، وهو غير معتد به (5) .
ثم مما يجب التثبت فيه أن من لزمه صوم شهرين في كفارة القتل، ثم مات، فإنا نوجب في تركته ستين مُدّاً، وليس هذا كفارة، ولكنه بدل كل صومٍ واجب، ونحن نثُبتها بدلاً عن صوم شهر رمضان، وعن الصوم المنذور، كما تقدم شرحه في كتاب الصوم.
ومن انتهى إلى هَرَمٍ وكان لا يطيق الصوم، فقد نقول [يفدي] (6) الصوم الواجب
__________
(1) في النسختين: " الصيام ".
(2) في الأصل: " الظهار "، والمثبت من (هـ 2) .
(3) زيادة من (هـ 2) .
(4) يبدُل: من باب قتل.
(5) أنكر القفال حكاية القولين على صاحب التلخيص، وقال: هما وجهان، وقال الرافعي: أظهرهما المنع (ر. الشرح الكبير: 10/529) .
(6) في الأصل: " يبدي ".(17/90)
عليه قضاء، أو نذراً بأمداد الطعام، ولو أثبتنا [الأمداد بدلاً] (1) ، لم يتوقف الانتقال إليها على الانتهاء إلى الهرم، وقد ذكرنا الحدّ المعتبر في العجز عن الصيام الذي يجوز لأجله الانتقال إلى الإطعام.
فرع:
10964- إذا قتل الرجل نفسه، ففي وجوب الكفارة في تركته وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يجب وهو الأصح لمصادفة القتل بِنْيةً محترمة في عينها، والكفارة لله تعالى، فصار كما لو قتل السيد عبد نفسه.
ومن أصحابنا من قال: لا تجب الكفارة أصلاً، لأن الكفارة لو وجبت، لوجبت بالموت، وهو بالموت يخرج عن أن يكون من أهل الالتزام.
ونحن الآن نمهد أصلاً، فنقول: إذا جرى في الحياة سببٌ كحفر بئر أو نصب شبكة، ومات المتسبب، وحصل القتل بذلك السبب بعد موته، فالضمان يجب في تركته إن كان المتردي بهيمة، وإن كان آدمياً، فالديةُ على عاقلته، وفي الكفارة تأمل؛ من جهة أنها عبادة، والعبادات يبعد إيجابها بعد الموت، وهذا يخرّج على قولٍ حكيناه في أن من لم يوصِ بأن يُكفَّر عنه هل تسقط الكفارة بموته؟ فإذا قلنا: [إنها تسقط] (2) ، فلا شك أنها لا تجب بعد الموت.
وأما غرامات الأموال، فإنها تتعلق بالتركة، وإن حصل الهلاك بعد الموت إذا جرت الأسباب المضمِّنة في الحياة، وليس ما ذكرناه بمثابة قتل الإنسانِ نفسَه، فالأصح وجوب الكفارة.
ثم إذا اصطدم رجلان، وماتا، فقد ذكرنا حكم الدية في باب الاصطدام، فأما الكفارة، فإن أوجبنا الكفارة على من يقتل نفسه، فيجب على كل واحد منهما كفارتان؛ لأنه مشارك في قتل نفسه وقتل صاحبه. وإن فرعنا على أن الكفارة لا تجب على من قتل نفسه، فتجب على كل واحد منهما كفارة لمشاركته في قتل صاحبه، وإن
__________
(1) في الأصل: " الأمر إذ لا بد ".
(2) في النسختين: " فإذا قلنا: لا تسقط " وهو مخالف للسياق، والتصويب من المحقق. وقد تأكد بعبارة الغزالي في البسيط حيث قال: " إن قلنا: تسقط إذا لم يوص بها، فتسقط هنا " (البسيط: 5/ورقة: 93 شمال) .(17/91)
قلنا: يجب على الشريك بعض الكفارة، ولا يجب على من قتل نفسه كفارة، فيجب على كل واحد منهما نصف كفارة، وهذا يتفرّع على قولٍ بعيد ووجه ضعيف.
وإذا اصطدمت امرأتان حاملتان وأجهضتا جنينيهما، وماتتا، وفرعنا على الأصح، وقلنا: على من يقتل نفسه كفارة، فيجب على كل واحدة منهما أربع كفارات، لسعيها في قتل نفسها، وقتل جنينها [وقتل صاحبتها وقتل جنينها] (1) ولا يخفى التفريع على الوجوه الفاسدة. ثم ذكر الشافعي باباً في أن القاتل خطأ لا يرث، وقد استقصينا ما يوجب حرمان الميراث في كتاب الفرائض (2) .
***
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) نهاية الجزء الذي اتخذناه أصلاً من نسخة ت3، أو بالتحديد كان النسخة الوحيدة من أول الجراح إلى أواخر القسامة. حيث بدأت نسخة (هـ 2) كنص مساعد إلى هنا. وستستمر (هـ 2) إلى آخر (الصيد والذبائح) . وقد جاء في خاتمة هذا الجزء ما نصه:
" تم الجزء ... يتلوه في الذي يليه باب الشهادة على الجناية.
والحمد لله على عونه وإحسانه، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه (كذا) غفر الله لكاتبه وصاحبه ومن نظر فيه ودعا لهما وجميع المسلمين، آمين ".(17/92)
باب (1) الشهادة على الجناية
قال الشافعي: " ولا يقبل في القتل وجراح العمد ... إلى آخره " (2) .
10965- صدر الشافعي رضي الله عنه الباب بطرف من الكلام فيما يقبل فيه شهادة الرجل والمرأتين، وفيما لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين، ولسنا [نلتزِم ثَمَّ ضبط] (3) ذلك وتحرير كلام جامع فيه؛ فإن هذا يأتي مستقصىً في كتاب الشهادات -إن شاء الله عز وجل- والقدْر الذي نذكره هاهنا تمهيداً وتفريعاً، القول في الجراح والجنايات المتعلقة بالنفوس والأطراف.
فنقول: القصاص لا يثبت إلا بشهادة عدلين في النفس والطرف، والجناية التي موجَبها القصاص لو ثبتت لا تثبت في نفسها إلا بشهادة عدلين، وليس ما ذكرناه تكريرأ؛ فإنه قد يظن ظان أن الجناية إذا كانت موجِبةً للقصاص، فإذا شهد عليها رجل وامرأتان، فالقصاص لا يثبت والمال يثبت، وليس كذلك، فإنا لا نثبت بالرجل والمرأتين القصاصَ، ولا الجنايةَ الموجبةَ للمال، وسنعلّل هذا؛ فإنا في نقل المذهب [نَعُدّ الجناية التي لا يتعلق] (4) بها وجوبُ القصاص: إما لوقوعها خطأ، أو شبهَ عمد، أو لصدورها من صبيّ أو مجنون، أو لمصادفتها من لا يكافئ القاتل- تثبت بشاهد وامرأتين، وهذا يبتني على اتباع المقصود، والجناية التي لا يتعلق بها
__________
(1) يبدأ العمل من هنا متخذاً نسخة هـ2 أصلاً، نسخة (ت 4) نصاً مساعداً، ويستمر هذا إن شاء الله إلى نهاية (ت 4) بباب قطاع الطرق، وعندها تنفرد (هـ 2) بدءاً من كتاب الأشربة، والله المستعان.
(2) ر. المختصر: 5/154.
(3) في الأصل: " ننتظم ضبط ذلك "، والمثبث من (ت 4) . ويلاحظ أنه استعمل كلمة (ثَمَّ) للقريب على غير المعهود، فهو يقول: ولسنا نلتزم ضبط ذلك (هنا) على حين لفظ (ثم) معناه (هنالك) .
(4) في الأصل: " بعدُ بجناية ألا يتعلق " والمثبت من (ت 4) .(17/93)
القصاص مقصودها المال، وما كان المقصود فيه المال، فهو يثبت بالشاهد والمرأتين.
والجناية التي توجب القصاص مقصودها القصاص، وما لا يكون المال مقصوداً فيه، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا يثبت بشاهد وامرأتين.
وهذا يرد عليه نوعان من السؤال: أحدهما - أن قائلاً لو قال: هلا خرّجتم ذلك على موجب العمد، واختلاف القول فيه حتى تقولوا: إن قلنا موجَبُ العمد القود، فالجناية لا [تثبت] (1) أصلاً، فإن قلنا: موجبها القود أو الدية، فليس أحدهما أن يكون مقصوداً أوْلى من الثاني، فلا يبعد أن يقال: تثبت الجناية مقتضية للمال، ولا يثبت القصاص؟
قلنا: نحن لا نشك أن المقصود الذي هو الأصل في جراح العمد القصاصُ؛ وليس المعنيُّ بقولنا: المالُ أحدُ الموجَبين (2) أنه يضاهي القصاص؛ فإنّ غرض الشرع إثبات ما يزجر المعتدين، ولا يقع الزجر -فيما فهمناه من مقصود الشرع- بالغرم المالي، والدية حيث يفرض القصاص إنما تثبت حتى لا تتعطل الجناية ولا تقع هدراً، وهذان [الأمران] (3) مفهومان من غرض الشرع، فيخرج منه أنا وإن قلنا: المال موجب، فلسنا ننكر كون القصاص مقصوداً، فهذا ما يضبط به أصل الباب.
10966- ويتصل بهذا المنتهى أن المدعي لو عفا عن القصاص أولاً، ثم أراد إقامة شاهد وامرأتين، فهل يثبت المال والجناية في أصلها موجبةٌ للقصاص؟ فعلى وجهين مذكورين في الطرق: أحدهما - أن المال يثبت؛ فإن القصاص خرج عن كونه مقصوداً بالعفو، وتعيّن المال، وإذا صار المال مقصوداً، وجب ألا يمتنع ثبوته بالشاهد والمرأتين.
والوجه الثاني - أن الجناية لا تثبت إلا بشهادة عدلين، فإن الشاهد يسند شهادته إلى ما كان، والعفو جرى بعد مستند الشهادة، فكأن (4) أحد القائلَيْن ينظر إلى أصل
__________
(1) في الأصل: " توجب ".
(2) ت 4: " الوجهين ".
(3) في الأصل: " الإقراران ".
(4) ت 4: " وكأن ".(17/94)
الشهادة (1) ، وهذا فيه فقه غائص [يعضده] (2) أن المال لا يثبت قبل العفو.
وإن قلنا: المال مع القصاص متقابلان، والبدل أحدهما، والقائل الثاني يعتبر حالة قيام الشهادة ولا قصاص إذ ذاك، ويعتذر هذا القائل عما قبل العفو، بأن المال وإن كان بدلاً غير معيّن فثبوته معيناً، والجناية عمد بعيد.
فهذا قاعدة الباب.
ومهما (3) قلنا تثبت الجناية بشاهد وامرأتين، فإنها تثبت بشاهد ويمين المدعي، وهذا مطرد إلا فيما ليس بمالٍ ويعسر اطلاع (4) الرجال عليه، فإنه يثبت بالشاهد والمرأتين، ولا يثبت بالشاهد واليمين؛ والسبب فيه أن النسوة متأصلات فيما لا يطلع عليه الرجال منهن، فامرأتان مع رجل كرجل مع رجل، ولهذا تقبل شهادة أربع نسوة منفردات، لا رجل معهن، فلم يكن قبول شاهدٍ ويمين بمثابة قبول شاهد وامرأتين في الأموال بالإضافة إلى ما ليس بمال ولا يؤول إلى مال، وهو مما يطلع عليه الرجال، فإنا حططنا رتبة المال وقنعنا فيه ببيّنة منحطة عن شهادة الرجلين العدلين، وما يتعلق بأبدان النساء خطير في نفسه، وليس شهادة الرجل والمرأتين فيه لانحطاطه.
فصل
قال: " وإن كان الجرح هاشمة أو مأمومة ... إلى آخره " (5) .
10967- قد ذكرنا في كتاب الجراح أن القصاص لا يتعلق من شجاج الرأس إلا بالموضحة، فإذا كان المدَّعَى الموضِحةَ الواقعةَ على وجه يقتضي القصاص، فلا شك
__________
(1) ت 4: " الجناية ".
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) مهما: بمعنى إذا.
(4) ت 4: " إطلال ".
(5) المختصر: 5/154.(17/95)
أنها لا تثبت بشاهد وامرأتين، ولو فرضت هاشمة، لم يتقدّمْها إيضاح، وكانت هي المدعاة تثبت بالشاهد والمرأتين، وكذلك القول في كل جراحة لا يتعلق بها القصاص، كالجائفة وما أشبهها.
فأما إذا ادعى موضحة متصلة بالهشم، فالجناية مشتملة على ما يوجب القصاص وعلى ما لا يوجب، فإنها لو ثبتت ببيّنة كاملة، أو بإقرار المدعى عليه، جرى القصاص في الإيضاح، وثبت المال في مقابلة الهشم.
فإذا تصورت المسألة، فالمنصوص عليه للشافعي أن هذه الجناية إذا شهد عليها رجل وامرأتان قبل العفو عن القصاص، لم يثبت منها شيء، لا موجَبُ الموضِحة، ولا أرشُ الهاشمة، ونص الشافعي على أن من ادعى أن فلاناً اعتمد رجلاً بالرمي وأصابه، ونفذ السهم منه إلى أبيه -يعني أب المدعي- فأصابه خطأ، فلا يثبت العمد برجل وامرأتين، ويثبت ما وراءه مما وقع خطأ، وهو نفوذ السهم إلى أب المدعي، وهذه الصورة تناظر الموضحة المؤدية إلى الهاشمة؛ من جهة أن الموضحة جرح قصاص وما وراءها جرح مال، كذلك القول في السهم المرسل عمداً النافذ من المقصود المعمود إلى من لم يُقصد.
فاختلف أصحابنا في المسالتين: فمنهم من جعل فيهما قولين بالنقل والتخريج: أحدهما - أن المال يثبت فيما لا قصاص فيه في المسالتين، وهو أرش الهاشمة في مسألة الهاشمة، ودية من أصابه السهم النافذ خطأ في الأخرى.
ووجه ذلك أن الدعوى اشتملت على أمرين: أحدهما - منفصل عن الثاني، فإن رُدت البينة الناقصة في أحدهما، فلا معنى لردها في الثاني، ولو أفرد الهاشمة ووقوعَ السهم خطأ بالدعوى، وأقام على ما يدعيه بينة ناقصة، لقبلت، فإذا جمع بين دعوتين، وقامت البينة عليهما، واقتضى الشرع ردَّ البينة في أحدهما، فلا معنى لردّها في الثاني.
والثاني - لا يثبت أرش الهاشمة، ولا موجَب الخطأ؛ لأن الفعل واحد، وله أثران، وموجبان، فإذا كانت البينة مردودة في بعض موجَب الفعل، ردت في(17/96)
الجميع، بدليل أنها مردودة في الدية والجراح العمد (1) [وإن] (2) قلنا: الموجب القود أو الدية: أحدهما لا بعينه.
10968- ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق بين الموضحة المؤدية إلى الهاشمة، وبين الرمي الواقع عمداً لشخص والنافذ منه خطأ إلى غيره، وقال: الموضحة المؤدية إلى الهاشمة تعدّ جناية واحدة ومحلها متحد، وإنما تختلف الآثار، والمحلُّ متعدد متميز في الشخصين المذكورين في مسألة الرمي.
وهذا يحتاج إلى بحث، ثم إلى تمهيد: أما البحث، فقد ذكرنا في مسألة الشخصين والسهم النافذ من أحدهما [أن المدعي] (3) لو قال: سهمه الذي رماه عمداً [تخطى] (4) مقصودَه، ثم نفذ إلى أبي، ولم يكن الرجل الأول متعلّق حق المدعي، فيجب القطع بأن الخطأ يثبت بالبينة الناقصة، وأن ما ذكره من عمده لا يتعلق بدعواه، وكأنه نقص [قضيته] (5) ولا يدعيها، ومبتدأ الدعوى بعد نجاز ذكر العمد. نعم، لو كان الشخص الأول من المدعي بسببٍ بحيث يثبت القصاص له لو ثبت، فهذا مراد النص، وما ذكرته من كون المعمود منقطعاً عن المدعي فيه احتمال على حال؛ فإن الجناية في نفسها عمد مُفضٍ إلى خطأ، والعلم عند الله.
ولو ادعى أنه أوضح الرأس، ثم عاد وهشم، وانفصل الهشم عن الإيضاح، فموجب الهاشمة يجب أن يثبت؛ فإنها لم تتصل بالموضحة، ولم تنتظم معها انتظام آثار جناية واحدة، فهذا [نتيجة] (6) البحث.
وأما التمهيد، فلو ادعى رجل قصاصاً، وادعى مع القصاص مالاً في جهة لا تعلق لها بدعوى القصاص، فالجمع بين الدعوتين سائغ، فلو أقام شاهداً وامرأتين على
__________
(1) ت 4: "عمداً".
(2) في الأصل: " إن ". (بدون الواو) .
(3) في الأصل: " أنه ".
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: " قيمته "، وفي (ت 4) " قصة " والمثبت من المحقق.
(6) في الأصل: " متجه ".(17/97)
الدعوتين، فالمذهب المبتوت أن المال يثبت وإن لم يثبت القصاص، [واشتمال] (1) الشهادة على أمرين منفصلين غير ضائر، والرد في أحدهما لا يوجب الرد في الثاني.
وأبعد بعض من لا حقيقة معه، فقال: إذا ردت الشهادة في شيء لو أفرد بالذكر، لردت فيه، فترد أيضاً [فيما] (2) لو أفرد بالذكر، لقبل فيه، وإن لم يكن أحدهما متصلاً بالثاني ومفضياً إليه، وهذا هَوَسٌ لا يعتد بمثله، فليقع التعويل على أنهما إذا كانا منفصلين فردُّ الشهادة في أحدهما لا يوجب الردّ في الثاني إنما التردد الذي قدمناه بين النصين في أمرين يتصل أحدهما بالثاني كالسهم النافذ من شخص إلى شخص، وكالجراحة المتعدية من الإيضاح إلى الهشم. وقد نجز الغرض من تحقيق هذا الفصل.
10969- وافتتح صاحب التقريب بعد هذا تفريعاً فقال: إذا قلنا: تثبت الهاشمة وأرشها على قول، فهل يثبت القصاص في الموضحة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يثبت ويكون في حكم التابع، كما أن الولادة إذا ثبتت في الفراش بشهادة النسوة، ترتب عليها النسب، وإن كان النسب لا يثبت مقصوداً بشهادة النسوة.
وهذا الذي ذكره على نهاية الضعف، وقد حكاه الشيخ أبو علي على هذا الوجه، وهو عكس ما قدمناه في تمهيد المذهب، فإنا أتبعنا الهاشمةَ قصاصَ الموضِحة في الإسقاط؛ من حيث رأينا القصاص أولى بالاعتبار، وهذا الذي ذكره تأصيل أرش (3) الهاشمة وإتباع القصاص إياه في الثبوت، وهو عكس الواجب، وليس من ضرورة الهاشمة تقدّم موضحة أو وجوب القصاص في موضحة، والولادة إذا ثبتت، فالولد للفراش لا محالة، قال الشيخ أبو علي: إن لم يكن من التفريع بد، فالأقرب أن نقول: إذا أثبتنا أرش الهاشمة، لم يثبت قصاصُ الموضِحة، ولكن هل يثبت أرش الموضحة من حيث وجدنا فيه متعلقاً لثبوت المال؟ فعلى وجهين، وليس كجناية موجبة القصاص، غيرِ مفضيةٍ إلى ما يوجب المال المحض؛ فإنه ازدحم القصاص
__________
(1) في الأصل: " وإثبات " والمثبت من: (ت 4) .
(2) في الأصل: " كما ".
(3) ت 4: " أصل ".(17/98)
والمال، ولا سبيل إلى جمعهما، فكان النظر إلى القصاص.
وإذا اشتملت الجناية على الهاشمة والموضحة، فقد [يثبت مال حيث لا قصاص فقد] (1) يحتمل أن نستتبع مالية الموضحة. فأما استتباع قصاص الموضحة، فبعيد عن التحقيق، كيف والنص قاطع بأن أرش الهاشمة لا يثبت، وإن (2) كل ما فرعه صاحب التقريب على قولٍ مُخرج من مسألة الرمي، ولم أر لما ذكره من التردد في قصاص الموضحة نظيراً إلا شيئاً حكاه من يوثق به عن القاضي في مسألةٍ نذكرها، ونصف ما نقل عنه فيها: لو شهد رجل [وامرأتان على سرقة موجبة للقطع، قال: يثبت المال، وفي القطع وجهان، وهذا على نهاية البعد، فإن إثبات القطع وهو حق لله بشهادة رجل] (3) وامرأتين محال.
ثم قال: هذا بمثابة ما لو أقر بسرقة مال، فالقطع يثبت، وفي المال قولان.
ولا سواء؛ فإنا إنما قبلنا الإقرار فيما يوجب القطع لانتفاء التهمة، وهذا المعنى يشمل المال والقطع، فجرى التردد لهذا، فأما إثبات القطع تبعاً للمال، فلا سبيل إليه. نعم، الوجه إثبات المال؛ فإن ضمانه يثبت بإثبات اليد عليه، وهو في حكم التميّز عن السرقة [بماهية] (4) مخصوصة كتصرف السارق في المال، وسيكون لنا إلى هذه المسألة عود في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو شهدا أنه ضربه بالسيف، وَقَفْتُهما ... إلى آخره " (5) .
10970- إذا ادعى على واحد قتل أبيه، وأقام شاهدين على أنه ضربه بالسيف، لم يثبت بهذا شيء، فإن السيف قد ينبو عن الضربة، وقد يقع عرْضاً، وقد لا ينفذ.
__________
(1) زيادة من (ث 4) .
(2) ت 4: " وإنما".
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، والمثبت من (ت 4) .
(4) في الأصل: " وإنما هية ". و (ت 4) : " فإنها بينة "، والمثبت تصرف من المحقق.
(5) ر. المختصر: 5/154.(17/99)
ولو قالا: ضربه بسيف وأنهر الدمَ، واقتصرا على ذلك، لم يثبت القتل بهذا، وتعليله بيّن، فإنهما لم يتعرضا للقتل، ولا لما يحصل به القتل لا محالة.
ولو قالا: نشهد أنه ضربه بالسيف، فمات، أو قالا: ضربه بالسيف فمات، فالذي قطع به أهل التحقيق أنه لا يثبت بهذا شيء، فإنهما ذكرا الضرب بالسيف والموت ولم يتعرضا لحصول القتل به. وفي طريق العراقيين ما يدل على أن القتل يثبت إذا قالا: نشهد أنه ضربه بالسيف، فمات، وهذا -إن لم يكن خلل في النسخة- غلطٌ منهم ظاهرٌ، غير معتد به.
ولو قالا: ضربه بالسيف وأنهر دمه ومات مكانه بتلك الجراحة، أو قالا: مات بعده من تلك الجراحة، فيثبت القتل حينئذ.
10971- ومما يتعلق بهذا الموقف أنه هل يجوز تحمل الشهادة على القتل إذا نظر الناظر، فرأى سيفاً يقع بشخص، وينهر الدمَ منه، ثم يراه ميتاً على الاتصال، فهل له أن يشهد والحالة هذه على القتل؟ هذا مما يجب إنعام النظر فيه، فنقول: لا خلاف أنه لو فرضت الجناية واتصال الموت بها على الوجه الذي وصفناه، وفرض تنازع الجاني وولي المجني عليه، فقال ولي المجني عليه: حصل الموت بالجناية، وقال الجاني: بل مات فجأة بسببٍ هجم عليه، فالقول قول ولي المجني عليه.
وهل يجوز تحمل الشهادة على القتل ثم نجعل فيه القولَ قولَ من يدعي القتل مع يمينه؟ الرأي أن نقول: إن انضم إلى ذلك دركٌ متلقّىً من قرائنَ تفيد العلم، فيجوز الشهادة على القتل، وإن لم يجد الشاهد إلا ظهورَ الجرح، وإنهارَ الدم واتصالَ الموت، فهذا عندي بمثابة الشهادة على الملك تعويلاً على اليد في أصل الوضع، وفي جواز الشهادة على الملك لمجرد اليد كلامٌ، سيأتي في الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
والوجه عندي -وإن كانت مسألة الجرح في الصورة كمسألة اليد- ألا يتحمل الشهادة على القتل؛ فإن معاينة القتل ممكنة وتلقِّي (1) العلم من قرائن الأحوال ليس
__________
(1) ت 4: " ويكفى".(17/100)
بعسير، والأملاك لا مستند لها من [يقين] (1) ، وغاية المتعلّق بها مخايل وعلامات.
ثم الرأي الظاهر أن مجرد اليد لا يسلّط على تحمل الشهادة على الملك، ما لم ينضم إليها تصرف المُلاك.
هذا ما أردناه في ذلك.
10972- ولو ادعى موضِحة وأقام [شاهدين] (2) على أنه أوضحه، فقد قال الأصحاب: لا يثبت [الغرض] (3) حتى يصف الموضحة، ويشير إليها من رأس المجني عليه، فإن الشجاج أقسام، وقد يشتبه على الناس في الغالب تفاصيلُ مراتبها، ويختلط عليهم ألقابها، فلا بد من المباحثة.
وتحقيق هذا يرجع إلى أن الموضِحة إن كانت تجري على لفظها في اللغة، فهي من الإيضاح، وليس فيها تعرض لإيضاح العظم، والمطلوب إثبات إيضاح العظم، وإن كانت تُحمل على تعارف الفقهاء، فلا يمكن حمل لفظ الشاهد على ألقابٍ تواضع الفقهاء عليها، [واللفظ] (4) متردد في نفسه، والذي يخطر للفطن في هذا المقام أن الشاهد لو كان فقيهاً، وقد علم القاضي منه ذلك، وتبين له أنه لا يطلق الموضحة إلا على ما يوضح العظم، وفهم القاضي ذلك منه، فهذا موضع التردد: يجوز أن يقال: لا بد من كشف الأمر لفظاً؛ فإن للشرع تعبدات في ألفاظ الشهادات، وإن كان العلم يحصل بغيرها.
ولو صرح الشاهد بإيضاح العظم، ولم يُبق إشكالاً، وقَرُب العهد، فعاينَّا رأس المشجوج، فلم نجد عليه أثراً، فالشهادة مردودة؛ فإن الاندمال إن كان يفرض على قربٍ، فانقطاع الأثر غير ممكن.
وإن وقعت الشهادة وعسر على الشاهد تعيين محل الجراحة، فالوجه إثبات
__________
(1) في الأصل: " تعين ".
(2) في الأصل: " شاهدا ".
(3) في الأصل: " الفرض "، وفي (ت 4) طمست تماماً، والمثبت مأخوذ من فحوى كلام الغزالي في البسيط.
(4) سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 4) .(17/101)
الموضحة، وإمضاء الحكم بها، ثم يعسر إجراء القصاص، إذا لم يدرك المحل، وهذا يظهر تصويره فيه إذا كان برأس المدعي المشجوج شجات، والشهود يزعمون أن ما شهدوا عليه واحدة منها، وعسر عليهم تعيينها، (1 فهذا موضع النظر.
والوجه عندي أن الموضحة المدعاة إن كانت خطأ، فلا يضرّ عُسْرُ 1) تعيينها في الصورة التي ذكرناها، ويثبت أرشها.
وإن كانت الموضحة المدعاة بحيث توجب القصاص لو ثبتت، فإذا عجز الشهود عن تعيين محلها والتبست بشجاج على الرأس، فهذا محل التردد؛ فإن المقصود من هذه الجراحة -لو ثبتت على صفتها- القصاصُ، وإثبات القصاص عسرٌ، فلا يبعد ألا تثبت الجناية أصلاً، كما لو شهد رجل وامرأتان على موضحة معيّنة موجبها القصاص، فإن أرش الموضحة لا يثبت لامتناع ثبوت القصاص، وهذا الذي ذكرناه اختيار القاضي، ويجوز أن يقال: يثبت أرش الموضحة؛ فإن الشهود رجال عُدول، أو رجلان عدلان، وهم من أهل إثبات القصاص، فلم يأت العُسر من نقصان البينة، وإنما أتى من خللٍ آيلٍ إلى الالتباس، وكان شيخي يميل إلى هذا، والمسألة فقيهة حسنة.
فصل
قال: " ولو شهدا على رجلين أنهما قتلاه ... إلى آخره " (2) .
10973- يجب الاهتمام في مضمون هذا المفصل بتفضيل الصور، وتمييز البعض منها عن البعض، وتوفير حظ كل مسألة من وجوه البيان: نقلاً، وتعليلاً، وبحثاً.
والمسألة الأولى مفروضة فيه إذا شهد شاهدان على رجلين بالقتل، فشهد المشهود عليهما على الشاهدين بأنهما قتلا ذلك الشخص المعيّن، فلا يخلو إما أن يكون المدعي هو الذي تولى الدعوى بنفسه أو وكل وكيلاً لينوب عنه في الدعوى، فإن كان قد تولى الدعوى بنفسه، فإن ادعى على والآخرَيْن وشهد الأوّلان عليهما على وفق الدعوى،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) ر. المختصر: 5/154.(17/102)
استحق دعواه عليهما، ولم يتعلق بشهادة الآخرين حكم.
ولو ابتدر الأولان، فشهدا من غير دعوى من المدعي، ثم شهد المشهود عليهما على الأولين من غير دعوى، فالذي ذهب إليه المحققون أن شهادة الكل مردودة؛ لأنها مشروطة بتقدم الدعوى، وإنما تقبل الشهادة ابتداء على طريق الحسبة فيما يغلب فيه حق الله تعالى، كما سيأتي، مواضع شهادة الحسبة في موضعها، إن شاء الله تعالى.
وقال قائلون: شهادة الحسبة مقبولة في حُقوق الآدميين من غير تقدم دعوى، وهي مجراة مجرى الإعانة والإرشاد والتنبيه على استحقاق الحقوق، ثم من سلك هذا المسلك افترقوا: فمنهم من قال: شهادة الحسبة إنما (1) تقبل إذا لم يكن ذو الحق عالماً بحقه، فتجري الشهادة مجرى الإعلام والإثباتِ لحقٍّ مُشرفٍ على الضياع.
فأما إذا كان ربُّ الحق عالماً بحقه، فشهادة الحسبة مردودة.
ومن أصحابنا من قال: إذا لم نشترط تقدم الدعوى، وقبلنا شهادة الحسبة، لم نفرق بين أن يكون صاحب الحق عالماً بحقه، وبين ألا يكون عالماً به، وهذا الوجه أقرب في التفريع على هذا الوجه الضعيف.
والمذهب المعتمد ردُّ الشهادة التي لا تتقدمها الدعوى.
وكان شيخي يقرّب الخلاف في شهادة الحسبة من أصلٍ في المغصُوب، وهو أن من رأى مالاً مغصوباً في يد الغاصب، فهل له أن يأخذه من يده ويحفظه على مالكه، من غير إذنٍ من المالك، ولا نصبٍ من الوالي؟ فيه اختلافٌ. ووجه المناظرة بيّنٌ.
ثم ما ذكرناه لا يختص بالقصاص، بل يجري في الأموال، ولو قال قائل: هذا الخلاف يختص جريانه بالمال دون القصاص، لم يُبعد، والوجه التسوية؛ فإن القصاص مع تعرضه للسقوط بالشبهات خُصّ بمزيد في الإثبات لا يثبُت مثله في الأموال، وهو أيمان القسامة.
فهذا منتهى ما أردناه.
__________
(1) ت 4: "لا تقبل".(17/103)
10974- ثم فرع صاحب التقريب على الوجه الضعيف في أن الشهادة تقبل قبل الدعوى، فقال: إذا ابتدرك أربعة إلى مجلس القاضي، وشهد اثنان منهم على الباقيَيْن، أنهما قتلا فلاناً، وشهد الباقيان أن الأولين قتلا ذلك الشخص، ولم يسبق من الولي دعوى، فما حكم ما جرى والتفريع على قبول شهادة الحسبة؟ قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أن الشهادتين باطلتين، وليست إحداهما أولى بالقبول من الثانية، وقد تصادمتا.
والوجه الثاني - أنا نراجع مستحقَّ الدم، فإن لم يصدقهم، بطلت شهاداتهم، وإن صدق اثنين منهم وقع القضاء بشهادتهما، وتبطل شهادة الآخَرَيْن؛ وذلك أنا وإن كنا نقبل الشهادة قبل الدعوى، فإذا تأيدت إحدى الشهادتين بتصديق المدعي، سقطت الأخرى، كما لو ادعى، فشهد اثنان على وفق الدعوى، ثم شهد آخران على هذين الشاهدين من غير دعوى، فالشهادة الثانية مردودة، لتأكد الشهادة الأولى بالدعوى، وإن كنا نقبل الشهادة من غير دعوى. هذا منتهى كلام صاحب التقريب في هذا التفريع.
وقال قائلون من أصحابنا: إذا شهد اثنان من الأربعة على الباقيَيْن منهم أنهما قتلا فلاناً، فشهد الباقيان على الأولين أنهما قتلاه، فشهادة الباقيَيْن مردودة لعلتين: إحداهما- لأنهما يدفعان عن أنفسهما ما قرب ثبوته عليهما، وإذا تضمنت الشهادة دفعا، رُدت.
والمعنى الثاني - أنهما صارا عدوين للشاهدين الأولين لما جرى لهما، وشهادةُ العدو على عدوه مردودة، وهذا الوجه حسنٌ فقيه، والأولى الاكتفاء بتعليل ردّ شهادة الباقيين لكونهما دافعين؛ فإن العداوة التي تردّ بها الشهادة لا تثبت بهذا المقدار، والقولُ فيها من غوامض أحكام الشهادات، وسنذكر بتوفيق الله تعالى في تلك القواعد المنتشرة ما يقربها من الضبط، ويسهل مأخذَها على الطالب، إن شاء الله تعالى.
10975- ومما نرى تقديمه على الاتصال في المسألة والخوضِ فيها اختلافٌ مشهور للأصحاب في أنا إذا فرّعنا على الأصح، وقلنا: لا تُقبل الشهادة في حقوق الآدميين(17/104)
من غير تقدّم (1) الدعوى، فلو ابتدر الشاهد وشهد، ورددنا شهادته لوقوعها قبل الدعوى، فإذا ادعى المدعي، فلا شك أنه لا نكتفي بالشهادة المتقدمة، ولكن لو استعادها فأقامها الشاهد مرة أخرى، أو أعادها، فهل تقبل الشهادة المعادة منه؟ فعلى وجهين مشهورين، ولأصحابنا في إيرادهما مسلكان:
أحدهما - وهو الذي ذهب إليه الجمهور أنا إن قبلناها -وهو القياس- فقد لغا ما تقدم، وإن لم نقبلها معادةً، فالسبب فيه ما ظهر من تشوّف الشاهد إلى الشهادة، وهذا يُلحق به تهمةً في مقصود الواقعة.
ثم استتم هؤلاء التفريع وقالوا: إذا رددنا الشهادة المعادة، فالمخلِّص من هذا التعذر أن يتوب الشاهد عما جرى له، ويذكر أنه لا يعاود مثله، ولا يبادر الشهادة قبل الاستشهاد، ثم الفاسق إذا تاب، لم تقبل شهادته حتى يُستبرأ شهراً (2) . قال الأصحاب: هذا المبتدر يُستبرأ أيضاً، ولا يبلغ استبراؤه مبلغ استبراء الفاسق يتوب؛ فإن الغرض يحصل بأن يتبين لنا [تنبهه] (3) لإقامة الشهادة في حقها ووقتها [وترك] (4) ما يدل على (5) غرضه من التشوّف والابتدار.
وهذا المسلك وإن كان ظاهراً، فليس على ما أوثره وأحبه.
(6) وقال قائلون من أئمتنا: سبيل (7) ردّ الشهادة المعادة أنها جرت، فرُدَّت ممن كان على الجملة متمكناً من شهادة مقبولة، ومن رُدّت له شهادة مقبولة على هذا النعت، فإذا أعادها، لم تُقبل منه، كما لو شهد الفاسق في حالة فسقه، فرُدت شهادته، فلو تاب وظهرت عدالته، فأدى تلك الشهادة، لم تُقبل منه، فكذلك القول
__________
(1) ت 4: " تعرص ".
(2) في ت 4: " أشهراً ". ولم أصل إلى تحديد مدة الاستبراء هذه في البسيط، ولا الشرح الكبير، ولا الروضة، ففيها كلها إشارة موجزة إلى الاستبراء، بدون ذكر الشهر والأشهر.
(3) في الأصل: " شبهه "، في (ت 4) لا تكاد تقرأ.
(4) في الأصل: " ترك "، وفي (ت 4) : " ونزل ".
(5) ت 4: "عليه ".
(6) هذا هو المسلك الثاني.
(7) سقطت من (ت 4) .(17/105)
في ابتدار الشهادة قبل الدعوى مع إعادتها بعد الدعوى، وهؤلاء يقولون: لا تقبل منه تلك الشهادة أبداً، فلا ينفع قبول (1) توبته، ولا استبراؤه، وهذا تباين عظيم بين المسلكين.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه ظاهر، و [قد قلتم] (2) الأظهر قبول الشهادة المعادة من غير توبة ولا استبراء؟ قلنا: الفرق ظاهر بين ما نحن فيه وبين الفاسق ترد شهادته، وذلك أن الفاسق إذا ردت شهادته يلحقه غضاضة تبلغ [به] (3) الأنفة، فقد يتهم في إعادة تلك الشهادة (4) ، وسيأتي تقرير هذا في موضعه، إن شاء الله.
وأما من ردَّت شهادته المقامة قبل الدعوى، فلا غضاضة عليه، بل يقال له: ابتدرت الشهادة وأنت من أهلها، فاصبر حتى يدخل وقت إقامة الشهادة، فإذا دخل بصدور الدعوى من المدعي، فأقمها، وليس هذا كما لو ردت شهادة الفاسق لاتصافه [بنقيصة] (5) الفسق، والفسق مما يكتم ولا يتظاهر به، وإذا نسب الشخص إليه حرص [على] (6) إظهار نقيضه.
ومما يتعلق بذلك أن صاحب الحق إذا تولى الدعوى بنفسه بعد تقدم شهادة الأولَيْن على الآخَرَيْن، وشهادة والآخرين على الأولَيْن وقلنا: تقبل [شهادة الحسبة] (7) قبل الدعوى والاستشهاد، فإن صدّق الأولَيْن، ثبت الحق على والآخرَيْن، من غير حاجة إلى استعادة الشهادة، وإن صدق والآخرَيْن، تفرع ذلك على ما قدمناه من أن شهادتهما هل تقبل مع اشتمالها على الدفع، وتعرضهما للعداوة؟ فإن قبلناها، ثبت الحق على
__________
(1) ت 4: " فلا ينفع فيه توبة ولا استبراء ".
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) في الأصل: " بها ".
(4) المعنى أنه إذا ردّت شهادته فتلحقه غضاضة بانكشاف فسقه، فإذا تاب، وقبلنا شهادته، فإذا أعاد تلك الشهادة المردودة، فهو في موضع التهمة لإزالة الغضاضة التي لحقته بسبب تلك الشهادة.
(5) في الأصل: " بنقيض ".
(6) في النسختين: " في ".
(7) في الأصل: " الشهادة حيث ".(17/106)
الأولَيْن من غير استعادة شهادة، وإن رددناها، وقد رد (1) المدعي شهادة الأولين، فيخرج من ذلك بطلان شهاداتهم.
ولو كان قد قدم الدعوى على والآخرَيْن، فلما شهد الآخران قَبْل الاستشهاد، صدقهما، فقد أبطل دعواه الأولى بهذا التصديق، وهذه الدعوى الجديدة باطلة [بتقرّر] (2) الدعوى الأولى، فإنه إذا سبق منه قول، فهو مؤاخذ بمقتضاه، ومقتضى قوله الأول بطلانُ قولهِ الثاني، وهذا واضح.
وأما الغرض المطلوب في هذا ما قدمناه في هذا الفصل.
هذا كله إذا تولى المدعي الدعوى بنفسه قبل الشهادات أو بعدها.
10976- ولو كان قد وكل المدعي وكيلاً في الدم، وما كان قد عين المدَّعى عليهما، فادعى الوكيل على رجلين قَتْلَ الشخص المطلوب، وأقام شاهدين عليهما، ثم شهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلا ذلك الشخص، فلم يوجد ممن له الحق بعدُ دعوى.
فإن صدق الوكيلَ والشاهدين الأولين، فقد استمرت الخصومة، وإن صدق والآخرين، فله الدعوى على الشاهدين الأولين، وبطلت الدعوى على الآخرين، ويبقى في شهادة الآخرين التفصيلُ الطويل المترتب على أصولٍ: منها شهادة الحسبة، ومنها تعرضهما للدفع عن أنفسهما، ومنها أن من ابتدر الشهادة قبل الاستشهاد، فردت شهادته، فإذا أعادها بعد الدعوى هل تقبل؟
فإن قلنا: شهادة الحسبة مقبولة، فقد شهد الآخران قبل الدعوى، ولكن يبقى النظر في أنهما دفعا عن أنفسهما، فإن لم نُقم لذلك وزناً في المسألة المتقدمة، يقع القضاء بشهادة والآخرين إذا اتصل بها تصديق صاحب الحق، من غير حاجة إلى الإعادة، وإن قلنا: الشهادة مردودة لتضمنها الدفعَ فيه إذا تولى المدعي الدعوى بنفسه، فترد الشهادة في هذه الصورة، لأن دعوى الوكيل في ظاهر الحال مسموعة،
__________
(1) ت 4: "يرد".
(2) في الأصل: " بتعذر "، و (ت 4) : " يتعزر ". والمثبت من تصرف المحقق.(17/107)
وقد ادعى عليهما وشهد شاهدان على حسب الدعوى، فتضمنت شهادتهما دفعاً.
ومن أحاط بما قدمناه، لم يخف عليه تفريع المسائل عليه، وإن رددنا شهادة الحسبة، فشهادة والآخرين مردودة ابتداء، فلو أعادا الشهادةَ لمّا ادعى صاحب الحق حقّه على وفق شهادتهما، فهل يقبل ذلك الآن؟ فيه التفصيل المقدم. واختلاف الطرق.
وقد أضربت عن استيعاب التفاصيل لعلمي بوضوح الغرض، وظهور ابتناء الفروع على ما مهدناه من الأصول.
10977- ومن مسائل الفصل: إن شهد شاهدان على رجلين بأنهما قتلا الشخص المطلوب، وشهد المشهود عليهما على أجنبي أنه القاتل، [ولم يشهدا على الشاهدين] (1) ، فإن كان صاحب الحق يتولى الدعوى بنفسه، فإن صدّق الأوّلَيْن، تفصّل الكلام، وقيل: شهادتهما لا تخلو إما أن تكون حسبةً، أو بعد الدعوى على وفق الشهادة الأولى [فإن كانت بعد الدعوى، وأصرّ على تصديق الأولَيْن، ترتب الحكم عليه، فإن عاد، فصدق المشهود عليهما، فقد] (2) تناقض قوله (3) ، وإن
__________
(1) في النسختين: وشهدا على الشاهدين. والمثبت من كلام الغزالي في البسيط، حيث عرض المسألة، وقال فيها: " فشهد المشهود عليهما على أجنبي آخر أنه القاتل، لا على الشاهدين " (ر. البسيط: 5/ورقة: 107 يمين) ، وطبعاً أثبتنا كلام الغزالي، وإلا سيكون ما في النسختين تكراراً للمسألة السابقة.
(2) ما بين المعقفين زيادة من عمل المحقق، استكمالاً للتفريع، وإقامة للعبارة، فقد كانت العبارة في النسختين هكذا: " إما أن تكون حسبة أو بعد الدعوى على وفق الشهادة الأولى، ثم غيرها وقد تناقض قوله ... ".
هذا والزيادة والتعديل على ضوء كلام الغزالي في البسيط، والأولى أن نذكر المسألة بتمامها، قال: " إذا شهد رجلان على رجلين بأنهما قتلا شخصاً معيناً، فشهد المشهود عليهما على أجنبي آخر بأنه القاتل، لا على الشاهدين، فإن سبق الدعوى، عاد النظر إلى شهادة الحسبة، وإن سبق الدعوى من المستحق، وأصر على الأول، ترتب عليه الحكم، فإن عاد فصدق الثاني، تناقض قوله، وبطل بالجملة حقه.
وإن جرى من وكيل لا يؤاخذ بالتناقض، فإن صدق الآخرين، فيتصدّى النظر إلى أنهما دافعان ومبتدئان، ولا يخفى التفريع والاستعادة في بعض الصور ". (ر. البسيط: 5/ ورقة: 107 يمين) .
(3) ولهذا التناقض يبطل حقه جملة.(17/108)
جرت شهادة والآخرَيْن حسبةً ثم جرى تصديق أو تكذيب، لم يخْفَ [دركُ] (1) التناقض وما يقبل وما لا (2) يقبل.
ولو كان [وكل] (3) وكيلاً ولم يعيّن المدّعى عليه، ثم صدق الأولَيْن ووافق الوكيلَ في دعواه، فقد ثبت الغرض، وإن صدق الآخرين واستعاد الشهادة -[إن] (4) لم نقبل شهادة الحسبة- ففي قبول شهادة الآخرين تردد مبني على ما تمهد، فإن لم نردّ (5) الشهادة لما تخيلناه من قصد الدفع، فشهادة الآخَرَيْن مقبولة، وإن رأينا القبولَ، وقد ابتدر الشهادة في واقعة الوكيل، ففي قبول شهادتهما الكلام المقدم إلى تمام التفريع.
10978- ومن مسائل الفصل: إن شهد شاهدان على رجلين، كما ذكرنا، [فشهد] (6) أجنبيان على الشاهدين بأنهما قاتلان، فإن كان صاحب الحق هو المتولي للخصومة، فإن صدق شاهدَيه الأولَيْن، بطلت شهادة الأجنبيين، وإن صدق الأجنبيين، بطلت شهادة الكلّ لتناقض الدعوى.
وإن أردنا فرضاً في شهادة الحسبة من الأوليين ثم من الآخرين، لم يخف التفريع.
ولو (7) فرضت المسألة في الوكيل، هان مُدرك الكلام، والأجنبيان غير متعرضين للدفع عن أنفسهما، ولكنهما شهدا قبل الاستشهاد، فيتفرع عليه ما يليق به.
ومما نختتم به أن الشافعي رضي الله عنه صور شهادة شاهدين على شخصين، ثم شهادة المشهود عليهما على الأولين، ثم قال: يُراجَعُ صاحبُ الحق في التصديق والتكذيب، فاختلف أئمتنا: فمنهم من قال: هذا دليل من كلام الشافعي على قبول شهادة الحسبة، فإنهما لو كانت مردودة، فالشهادتان باطلتان، فلا معنى للمراجعة،
__________
(1) في الأصل: " ترك ". والمثبت من (ت 4) .
(2) ت 4: " فلا يقبل ".
(3) زيادة من (ت 4) .
(4) زيادة من (ت 4) .
(5) ت 4: " نردد ".
(6) في الأصل: " فذكر ".
(7) ت 4: " وقد ".(17/109)
ومنهم من قال: شهادة الحسبة باطلة، وإنما ذكر الشافعي مراجعة صاحب الحق لرجاء أن تبطل دَعْوَاهُ الأولى بتصديق الأخرى.
وهذا نجاز الفصل وأطرافه واضحة إذا فهمت الأصول. فلم أر استقصاءها لعلمي بوضوحها، وتبرم الفطن بتكثيرها وتكريرها.
فصل
10979- ذكر الشافعي رضي الله عنه أنه لو ادعى القتل على واحدٍ وأقام شاهدين، فشهد أحدهما على إقراره بأنه قتله عمداً، وشهد الآخر على إقراره بأنه قتله، ولم يقل عمداً، وجرت الشهادتان من الشاهدين على ما وصفناه، فشهد أحدهما على العمد، وشهد الثاني على القتل المطلق، فأصل القتل يثبت، ويبقى توجيه الدعوى بكونه (1) عمداً، فإن لم يكن لوث، فالقول قول المدعى عليه أنه ما قتله عمداً مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف المدعي يمين الرَّد، وثبت القود، وإن أقمنا شهادة أحد الشاهدين لوثاً -على ما تقدم تفصيل القول في اللوث- فيقسم المدعي على إثبات
العمد.
ولو ادعى القتلَ العمدَ أولاً، فشهد أحد شاهديه على وفق دَعْواه، وشهد الثاني على أنه قتله خطأ، فقد اختلف جواب القفال في ذلك، فقال في أحد جوابيه: لا يثبت القتل بشهادتهما لاختلافهما في صفته على حكم التصادق؛ فهما متكاذبان، وإذا تكاذب الشاهدان، فالوجه سقوط الشهادتين، وقال في الجواب الثاني: يثبت أصل القتل؛ فإنهما تصادقا عليه، ورجع اختلافهما إلى الصفة، فصار كما لو شهد أحدهما على القتل عمداً، وشهد الآخر على القتل مطلقاً.
ولو شهد أحد الشاهدين أنه قتله غُدوةً، وشهد الآخر أنه قتله عشية، أو قال أحدهما: قتله بالسيف، وقال الآخر: قتله بالعصا؛ فلا خلاف أن القتل لا يثبت بشهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعلين مختلفين، وهذا يؤكد أحدَ الجوابين في ذكر
__________
(1) ت 4: " وكونه ".(17/110)
أحدهما العمد والآخر الخطأ، فإن الشاهدين إذا اختلفا في الوقت أو الآلة، فأصل القتل متفق عليه، والتردد راجع إلى شيء آخر، فكان هذا بمثابة ما لو اختلفا في العمد والخطأ.
فإن قيل: لا فصل بين المسألتين، فما وجه قول من يقول بثبوت أصل القتل إذا ذكر الشاهدان العمد والخطأ؟ قلنا: شهادتهما إذا اختلفا في الزمان أو الآلة متكاذبتان في أمر محسوس، وإذا تعرضتا لذكر العمد والخطأ، فهما مطلقان، فقد يحسب أحدهما العمد خطأ، وقد يحسب الثاني الخطأ عمداً، وهذا تكلف، والأصح أن أصل القتل لا يثبت في تلك المسألة، ولو شهد أحدهما أنه قتله بمكان كذا، وشهد الثاني أنه قتله بمكانٍ آخر، فلا يثبت القتل، كالاختلاف في الزمان، والآلة، والمكان.
ثم قال المزني: " ومثل هذا يوجب القسامة " (1) ، نقل ذلك بعد ذكر الاختلاف في الزمان والآلة والمكان.
وقد ذهب المراوزة إلى تغليطه؛ إذ قال (2) : هذا يوجب القسامة؛ من جهة أن الشاهدين متكاذبين، وشهادتهما متعارضتان، ولا يثبت بالشهادتين المتناقضتين لوث.
وحكى العراقيون نصين في ذلك عن الشافعي رضي الله عنه منقولين في الكتب: أحدهما - أن اللوث يثبت على ما نقله المزني، فلا وجه إذاً لتغليطه وقد صح النقل، ووجهه أنهما اتفقا على أصل القتل، ولا يبعُد أن يغلط أحدهما لا بعينه في الوقت، وقد تقع واقعة لا يُشك في وقوعها، [ويتمارى] (3) الناس في الوقت، واختلافهما إن أثر في القضاء [حتى] (4) لا يقطع بثبوت القتل، فلا ينحط أثرهما عن [تغليب] (5) الظن في وقوع القتل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/155.
(2) ت 4: " وقالوا ".
(3) في النسختين: " ويتمادى ".
(4) زيادة من المحقق. ثم (ت 4) : " يقع " مكان يقطع.
(5) في الأصل: " تغليط"، (ت 4) : " تغليطه ". والمثبت من تصرّف المحقق.(17/111)
ومن قال: لا يحصل اللوث، فوجهه ما قدمناه.
فالوجه إجراء القولين على ما نقله العراقيون.
10980- ولو شهد شاهد على أن فلاناً قتله على حسب ما ادَّعَاه المدعي، وشهد شاهد آخر أنه أقرّ بقتله، فالقتل لا يثبت [في هذه الصورة] (1) ، [فلا تتفق] (2) الشهادة على الإقرار والشهادة على نفس القتل لاختلاف المشهود به، واللوث يثبت في هذه الصورة وفاقاً، فإن الشاهدين ليسا متكاذبين، ولا تناقض بينهما، واللوث يثبت بشهادة أحدهما على الإقرار أو على القتل، فإذا اجتمعا قوي اللوث.
ولو شهد شاهدان أن هذا قتله زيد أو عمرو، فلا شك أن القتل لا يثبت مع التردد في المشهود عليه، ولو أراد المدعي أن يقسم [مسنداً إقسامه إلى اللوث المترتب على شهادتهما، فالذي ذهب إليه أئمة العراق وغيرهم] (3) أن اللوث شامل لهما، ثم إذا شملهما اللوث، فهذا القدر كافٍ في حق القاضي، وللمدعي أن يدعي على أحدهما، وهو مؤاخذ في حكم الله تعالى بأن لا يدعي إلا على ثَبَت، وليس عليه بعد شمول اللوث للرجلين أن يحقق لوثاً خاصاً في حق من يعينه منهما.
وقد مهدنا هذا فيما تقدم.
وقد يعترض في هذه المسألة شيء يوجب التردد في اللوث، وهو أن اللوث الذي يعم طائفةً تصويره ظهور العداوة بين القتيل وبينهم، مع وقوع القتل في موضع مختص [بهم] (4) فهذا لوث شامل على التحقيق.
فأما إذا قال الشاهدان: قتله هذا أو هذا، فالشهادة تعلقت بهما على التردد، وموجب التردد يخصص الأمر بأحدهما، فهذا إشكال شامل، وليس لوثاً شاملاً، ويناظر هذا ما لو ظهر عند القاضي أن أحد الرجلين عدو القتيل، ولم يتبيّن العدوَّ منهما، ولو كان كذلك، لم يقطع بحصول اللوث، فالوجه ألا يقطع بحصول اللوث
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) في الأصل: " ولا تلغو الشهادة على الإقرار "، و (ت 4) : " ولا تتفق ".
(3) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .
(4) في النسختين: " به ".(17/112)
في مسألة الشهادة (المقامة على التردد، والذي نقلته عن أئمة العراق ثبوت اللوث في مسألة الشهادة على التردد) (1) ، فلا يبعد أن يرتكبوا حصول العداوة على الإبهام.
والله أعلم.
فصل
قال: " ولو شهد أنه ضربه ملفَّفاً ... إلى آخره " (2) .
10981- إذا ادعى على واحد قَتْلَ أبيه، وأقام شاهدين على أنه كان ملفوفاً في ثوب، فقدّه المدعى عليه بنصفين، ولم يثبتا كونه حياً حالة القد، فالقتل لا يثبت بهذا؛ فإن الشهادة [شرطها] (3) أن يَجزم وُيشعر بالمقصود على قطع، والشاهدان لم يتعرضا إلا للقد (4) ، ولكن إذا ثبت القدّ المشهود به، فلو قال الولي: كان حياً، وقال المشهود عليه بالقدّ: كان ميتاً، فهذا ملتحق بتقابل الأصلين؛ فإن الأصل حياةُ الملفوف المقدود من وجهٍ، والأصل براءة ذمة القادّ من وجهٍ، فجرى القولان فيه.
فإن قلنا: القول قول القادّ، فلا يكون المدعي مستفيداً شيئاً من الشهادة المقامة، وإن قلنا: القول قول المدعي فقد أفادته الشهادة قوة أوجبت تصديقه مع يمينه، ويتنزل هذا منزلة ما لو شهدت البينةُ للمدعي باليد، فقد تفيده الشهادة أن نجعل القولَ قوله مع يمينه.
وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً: أن الملفوف إن كان على رباط على هيئة الأكفان، لم يصدق المدعي، وإن كان المقدود ملفوفاً في ثياب الأحياء، فيصدق حينئذ مع يمينه، وهذا ضعيف لا أصل له.
ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن رجلين عدلين لو رأيا رجلاً ملفوفاً بثوب،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) ر. المختصر: 5/155.
(3) في الأصل: " طريقها "، والمثبت من (ث 4) .
(4) ت 4: " للقتل ".(17/113)
فقدّه إنسان على القرب، فهل لهما أن يشهدا على أنه قده حياً حالة التلفف؟ هذا محل التردد وفي كلام الأصحاب ما يدل عليه.
والذي ذكره القاضي أن لهما أن يشهدا على الحياة، بناء على ظاهر الأمر، كما يشهدان على الملك المبتوت؛ بناء على ظاهر اليد والتصرف، ويجوز أن يقال: ليس لهما أن يشهدا، (1 فإن الموت1) بعد التلفف ممكن، والاطلاع على الحياة بعد التلفف بالثياب ممكن، وليس كالأملاك؛ فإنه لا مستند لها إلا الظواهر.
ولم يختلف الأصحاب في أنهما لو قالا: رأيناه تلفّف بالثوب ثم قدّه فلانٌ، فالقاضي لا يقضي بالحياة، كما لو شهدا على اليد والتصرف، ولم يتعرضا للملك، فالقاضي لا يقضي بالملك، كما سيأتي ذلك مفصلاً، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو شهد أحد الورثة أن أحدهم عفا ... إلى آخره " (2) .
10982- إذا قُتل رجل وثبت القصاص على قاتله، وكان له طائفة من الورثة، فقد ذكرنا في كتاب الجراح أنه إذا عفا واحد منهم عن القصاص (3 سقط حقوقُ الباقين في القصاص، وآلت حقوقهم إلى الدية، ثم القول في العفو عن القصاص 3) دون المال، وفي العفو عن المال قد تقدم مستقصىً.
وغرضنا الآن أمر يتعلق بالإقرار والشهادة: فإذا شهد بعض الورثة على بعض أنه عفا عن القود، حكمنا بسقوط القود، وإن اتحد الشاهد أو كان فاسقاً مردود الشهادة، فلم يثبت العفو بطريق الشهادة، ولكن قوله: عفا بعضُ الورثة إقرار منه بأن القصاص ساقط في حقه، وإن اعترف بعض الأولياء بسقوط القصاص في حقه، نفذ القضاء بسقوطه في حق الكافة.
وهذا يناظر ما لو قال أحد الشريكين في العبد لصاحبه: قد أعتقت نصيبك من
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) ر. المختصر: 5/155.
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .(17/114)
العبد وأنت موسر، فإذا فرعنا على تعجيل السراية، حكمنا بنفوذ العتق في حصة هذا المدعي القائل، فإنه يؤاخذ بحكم قوله، وله دعوى المال على شرطه والقول قول الشريك مع يمينه، ثم يعتق نصيب هذا القائل المدعي في ظاهر الحكم بطريق السراية، ولا يقع الحكم بعتق نصيب المدعى عليه؛ فإنا إنما حكمنا بالسراية في نصيب المدعي مؤاخذةً له بقوله في حق نفسه، والسراية لا تسري، قال الأصحاب: قد يتضرر الإنسان بدعواه على غيره، وإن كان الضرر لا ينال المدعى عليه.
ولو قال واحد من الورثة: عفا واحد من شركائي عن القصاص، ولم يبين العافي، حكمنا بسقوط القصاص، جرياً على إقرار هذا القائل؛ فإن موجب قوله سقوط القصاص في حقه، وإذا سقط في حقه استحال بقاؤه في حقوق الباقين.
ولو ادعى الجاني على واحدٍ منهم العفوَ عن القصاص، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، ردت اليمين على الجاني، وثبت العفو بيمين الرد.
ولو أقام بيّنة على عفوه، ثبت العفو، ولا بد من رجلين عدلين؛ فإن القصاص ليس مالاً، وما لا يثبت إلا بعدلين لا يثبت سقوطه إلا بعدلين.
ولو آل الأمر إلى المال، فادعى الجاني على بعض الورثة العفو عن حصته من المال، فهذا يثبت بشاهد وامرأتين؛ فإن الجناية الموجبة للمال تثبت بشاهد وامرأتين، فيثبت سقوط أرشها بما يثبت به أرشها، وكل ذلك يأتي مفصلاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو شهد وارث أنه [جَرَحه] عمداً أو خطأ ... إلى آخره " (1) .
10983- إذا جُرح رجل وكان [مهلكاً له] (2) أو أمكن أن يسري ويُفضي إلى
__________
(1) ر. المختصر: 5/155، وفي النسختين: " جرح " والتصويب من لفظ المختصر.
(2) في النسختين: " لما به " والمثبت تصرف منا مع الالتزام بأقرب صورة لما هو في الأصل.
وستأتي هذه اللفظة بهذا الرسم في باب (قطاع الطريق) وفي مثل هذا السياق أي بمعنى المفضي إلى الهلاك.(17/115)
الهلاك، فلو شهد اثنان من وَرَثة المجروح أن فلاناً هو الذي جرحه، فلا يثبت الجرح بشهادتهما، فإنهما تعرّضا لإثبات ما يؤول إليهما، وأثبتا السبب المفضي إلى توريثهما، وهو الجرح، وكانت شهادتهما متضمنة جرّاً، والشافعي رضي الله عنه ذكر في هذا الفصل الشهادة التي تُرد لتهمة الجرّ، والتي ترد لتهمة الدفع، ونحن [الآن] (1) [نأخذ] (2) قي تفصيل الشهادة الجارّة.
فلو مرض الموروث مرض الموت، وشهد له باستحقاق عينٍ أو دينٍ اثنان من الورثة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يثبت المشهود به إذا لم يكن بين الشاهد وبين المشهود له بعضية بخلاف ما ذكرناه في الجرح، والفرق أن الجرح المشهود به سببٌ لموت الموروث، ولا يتحقق مثل ذلك في الشهادة بحقٍّ للمريض.
ومن أصحابنا من قال: شهادة الورثة للمريض مردودة، فإن المرض ملتحق بالموت في حكمه، ولهذا حُصرت تبرعات المريض في الثلث ضماً إلى وصاياه الموقعة بعد الموت.
ولو (3) شهد اثنان على الجرح، ولم يكونا من الورثة حالة الشهادة، ثم صارا من الورثة بموت من يحجبهما -قبل موت المجروح- قال الأصحاب: الشهادة في أصلها مقبولة، فإذا التحقا بالورثة، نظر: فإن كان بعد نفوذ القضاء، (4 لم ينقض الحكم، وإن كان قبل نفوذ القضاء 4) لم يقض القاضي بشهادتهما، وشبهوا هذا بما لو فسق الشاهدان قبل (5) نفوذ الحكم، أو فسقاً بعد النفوذ، فالفسق (6) لا يوجب نقضَ القضاء، وهو قبل القضاء [يمنع] (7) تنفيذ الحكم، ولو عمي الشاهدان أو جُنّا قبل نفوذ
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) في ت 4: " ولهذا ".
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(5) ت 4: "بعد ".
(6) ساقطة من (ت 4) .
(7) في الأصل: " ممتنع "، و (ت 4) : " يمتنع ". والمثبت تصرف من المحقق.(17/116)
القضاء، لم يمتنع التنفيذ بشهادتهما، بخلاف الفسق؛ فإن ظهوره يورث [ريباً] (1) في الاستناد إلى ما تقدم، وانطواء الضمير على الاجتراء على مخالفة الله تعالى، ولكن إذا ظهر هذا بعد القضاء، لم ينقض؛ فإن القضاء لا ينقض بالظنون، وإذا ظهر قبل القضاء، امتنع القاضي من تنفيذ الحكم، فإن اعتراض الظنون يمنع تنفيذ الحكم، وإن كان لا يوجب نقض الحكم، وليس هذا كطريان العمى والجنون؛ فإنهما [لا يُسندان] (2) إلى ما تقدم تهمة، فكان طريانهما في معنى طريان الموت بعد الشهادة، وقبل القضاء، فإذا شهد اثنان محجوبان، ثم صارا من الورثة قبل القضاء، فلا يُنكر أنهما أضمرا جواز مصيرهما وارثين، فإذا تحقق مظنونهما، جَرّ ذلك تهمة تمنع القضاء، ولم توجب النقض.
وفي بعض التصانيف أنهما إذا شهدا وهما محجوبان، ثم صارا [وارثين] (3) قبل القضاء، خرج ردّ شهادتهما على قولين: أحدهما - ما قدمناه، والثاني - الاعتبار بحالة إقامة الشهادة ولا حكم لما يطرى، وهذا وإن كان غريباً، فتوجيهه ممكن؛ فإن تقدير الإرث فيهما محمول على موت الحاجب، والموت مستبعد لا تتلقى من توقعه التهمُ، ثم من يقول: الاعتبار في شهادته بالمآل، فلو صار وارثاً بعد نفوذ القضاء، فالوجه عندي القطع بأن الحكم لا ينقض، وفي هذا التصنيف ما يدل على أن شهادته موقوفة، والقضاء به كذلك إلى ما يتبين، وهذا بعيد لا أصل له.
10984- ولو شهدا، وهما وارثان في ظاهر الحال، ثم حدث للمجروح المشهود له ولد يحجب الشاهدين، فالذي ذكره جماهير الأصحاب أن الشهادة مردودة، ولا حكم لما يطرى من بَعْد، وفيما نقله بعض المصنفين ما يدل على أن الشهادة موقوفة، وهذا في هذا الطرف على نهاية السقوط مع اقتران التهمة بالشهادة، ومبنى الشهادات على اعتبار حالة الإقامة، وأما الإقرار للورثة، فلا يتجه فيه من اعتبار التهمة ما يتجه في الشهادة ردّاً وقبولاً فإذا ثبت هذا، فالوجه القطع بأن شهادتهما مردودة.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة.
(2) في النسختين: لا يستندان.
(3) في النسختين: شاهدين.(17/117)
فإذا صارا محجوبين، فإذا أعادا تلك الشهادة -وقد رددناها أولاً- فنردها معادة، كما لو شهد رجل، فردت شهادته للفسق، ثم تاب، وظهرت عدالته، فأعاد الشهادة فالشهادة المعادة مردودة.
وقد يخطر للفقيه في هذا المقام أن الفاسق إذا تاب، لم نتحقق تغير حاله باطناً، وقد تحققنا أن الوارث صار محجوباً. ولكن لا حكم لهذا والأصحابُ مجمعون على ما قدمناه؛ لأن الذي رُدّت شهادته يُتهم بترويج الشهادة بعد طريان الحجب. هذا بيان الغرض في ذلك.
ومن تمامه أنه لو شهد وارثان على جرح بالموروث، فبرىء المجروح [واستبلّ] (1) ، فهل يثبت الجرح؟ ما صار إليه معظم الأصحاب أن الجرح لا يثبت لاقتران التهمة بالشهادة حالة الإقامة. ومن أصحابنا من قال: لا ترد الشهادة؛ فإنها لم تكن شهادة على سبب الموت، وهذا التردد يشهد (2) بما حكيناه في طريان الحجب واعتبار المآل، ولكنه يؤدي إلى إلزامه، فإن القياس الحق [أن] (3) من كان متهماً في شهادته عند إقامتها، فلا أثر لما يطرى من بعدُ.
هذا مقدار غرضنا في الشهادة التي تجرّ نفعاً.
10985- فأما الشهادة التي تتضمن دفعاً، فمسائلها كثيرة ستأتي في مواضعها، إن شاء الله تعالى. والمقدارُ الذي أراده الشافعي هاهنا ما نصفه، قال رضي الله عنه (4) : " إذا ادعى رجل قتلَ خطأ، وأقام شاهدين على ما يدعيه، فلو شهد اثنان من عاقلة المشهود عليه بالقتل على جرح الشاهدين، فلا شك أن شهادتهما مردودة، فإنهما يدفعان عن أنفسهما تحمّل العقل، والشهادة الدافعة مردودة " ولو شهد اثنان من فقراء عاقلة المشهود عليه، فقد نص الشافعي رضي الله عنه على أنه لا تقبل شهادتهما، وإن كانت الدية لا تضرب على الفقراء، ونص على أن اثنين من أباعد العصبات الذين
__________
(1) في الأصل: " واستقلّ ".
(2) ت 4: " أشهر مما ".
(3) زيادة من (ت 4) .
(4) ر. الأم: 6/15.(17/118)
لا يخلص التحمل إليهم لكثرة الأدْنَيْن لو شهدا على جَرْح الشاهدين على القتل، قبلت شهادتهما.
واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: فمنهم من جعل في المسألتين قولين نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن الشهادة على الجَرْح مقبولة من الفقير والبعيد؛ لأنه ليس من أهل (1 التحمل حالة الشهادة.
والثاني - أن 1) الشهادة مردودة؛ فإنهما متعلقان بسببٍ يُفضي إلى تحمل العقل، والإنسان [ينظر لحاله ومآله] (2) .
ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق بين الفقير والبعيد، فقال: تهمة الفقير متلقاة من توقع الغنى، وليس طريان الغنى، أو التوسط الذي يقتضي تحمل نصف أو ربع (3) بعيداً عن الإمكان، فتظهر التهمة في الحال (4) وأما تهمة البعيد، فمأخوذة من موت الأقربين وخلوص العقل إليهم، والموت مستبعد في العرف، فلا تُتلقى التهم منه. وهذا المعنى استعملناه (5) في مواضع، وفيه إشكال؛ فإن العقل يتوهم خلوصه إلى البعيد بموت الأقربين، ويتوهم خلوصه إليه بافتقار الأقربين، فإن القريب إذا افتقر، ضُرب العقل على البعيد، فإن كان لا يبعد غنى الفقير في النص
الأول، لم يبعد افتقار الغنيّ (6) في النص الثاني، فالوجه طريقة القولين.
ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه الوكالة في إثبات القصاص وفي استيفائه وطرفاً من أحكام الإكراه، وأَمْر السلطان، وكل ذلك مستقصىً في موضعه.
***
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) في الأصل: " منتظراً لحاله ومآله " والمثبت من (ت 4) .
(3) المراد نصف دينار أو ربع دينار، وهو المقدار الذي يضرب على أفراد العاقلة.
(4) ت 4: " الحسم ".
(5) ت 4: " استكملناه ".
(6) ت 4: "الغير".(17/119)
باب الحكم في الساحر والساحرة
10986- السحر كائن، والشاهد له سورة الفلق، واشتمالها على الاستعاذة بالله من النفاثات في العقد، وقد ورد في الحديث: " أنه سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشط ومُشاطة، تحت راعوفة في بئر ذَرْوان " (1) والقصة مشهورة. وقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] . وفي بعض الألفاظ: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: السحر حق " (2) وروي أنه قال: " العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر " (3) .
ثم تكلم الفقهاء في تعلم السحر، وقالوا: إنه ليس بكفر إذا لم يعتقد المرء ما يوجب كفراً، والقول فيما يوجب الكفر وما لا يوجبه لا يليق بهذا الفن، ثم قالوا: هل يكره تعلم السحر لطلب الإحاطة به تشوّفاً إلى مدارك العلوم؟ وقد يخطر
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر في مُشْطِ ومُشَاطة ... " جزء من حديث عائشة المتفق عليه في قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم (البخاري: الطب، باب هل يستخرج السحر، ح5765، مسلم: السلام، باب السحر، ح2189) . هذا (والراعوفة) صخرةٌ تترك في أسفل البئر إذا احتفرت تكون هناك ليجلس عليها المستقي حين التَّنقية، أو تكون على رأس البئر يقوم عليها المستقي. (القاموس: ر. ع. ف) .
(2) حديث " السحر حق "، لم نقف عليه.
(3) حديث " العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر " أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/90) ، والخطيب في تاريخه (9/244) ، وأبو بكر الشيرازي في (سبعة مجالس من الأمالي: 8/2) من حديث جابر، وقد ضعفه السخاوي في المقاصد، وحسّنه الألباني في الصحيحة.
وحديث (العين حق) بدون هذه الزيادة متفق عليه من حديث أبي هريرة، وسيأتي قريباً (البخاري: الطب، باب العين حق، ح5740، مسلم: السلام، باب الطب والمرض والرقى، ح2187) . وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي: 470 ح726، السلسلة الصحيحة: 3/250 ح1249.(17/120)
لمن يطلبه أن يميز بينه وبين المعجزات؟ (1 اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يكره تعلمه، وفي الدين شغل يلهي عن مثل ذلك، وفي الإحاطة بحقائق المعجزات 1) ما يغني عن تعلّم السحر.
ومنهم من قال: لا يكره، كما لا يكره تعلم مذاهب الكفرة للرد عليهم، وقد يبغي المتعلم بتعلم السحر درءَ ضرار عن نفسه.
ثم انتهى الشافعي رضي الله عنه في إثبات السحر، والحكم بكونه حقاً إلى تعليق القصاص به، فقال: إذا زعم زاعم أنه سحر رجلاً، وذكر أن (2) سِحْره يقتلُ لا محالة، أو يؤدي إلى القتل غالباً، فهذا إقرار منه بما يوجب القصاص، فيتوجه القصاص عليه وإن قال: قد سحرته ومات من سحري، ولكن سحري لا يقتل غالباً، واتفق الهلاك منه، فهذا اعتراف منه بشبهة العمد، والدية لا تضرب على عاقلته، إلا أن يقروا بما أقر به.
وإن زعم أنه أخطأ من اسم إلى اسم، فهذا اعتراف منه بالخطأ، والقول كما ذكرناه.
والفرق بين القسمين التغليظ والتخفيف في الدية. هذا مذهب الأصحاب.
وتبين مما ذكرناه أن لا سبيل إلى إثبات السحر القاتل ببينة؛ فإنه لا مُطلع عليه إلا من جهة الساحر، فلا يتلقى ثبوته إلا من إقرار الساحر. وهذا قانون المذهب.
وحكى العراقيون عن أبي جعفر الإستراباذي (3) قال: السحر تخييل لا أصل له،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) عبارة (ت 4) : " وذكر أنه زعم أنه سحره بقتل لا محالة ".
(3) في (ت 4) : أبو جعفر الترمذي، وفي نسخة الأصل صوّبت من أبي جعفر الترمذي إلى أبي جعفر الإستراباذي، وهذا هو الصواب؛ فهو صاحب هذه المسألة، وعُرف بها، حكاها عنه من ترجم له كالإسنوي، وابن قاضي شهبة، وابن الملقن، ونسبها إليه صاحب المهذب، وصاحب التهذيب، والرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة، وقال ابن قاضي شهبة في طبقاته: " حكاها الإمام عن رواية العراقيين عن أبي جعفر الترمذي ".
وقد تابع الغزالي في الوسيط الإمامَ فنسبها لأبي جعفر الترمذي.
ولا يُدرى هل صُحِّفت في نسخ النهاية، أم وهم من نقلها من العراقيين وأخذها عنه الإمام، والله أعلم بما كان.=(17/121)
ولا يناط به قصاص، ولا غرم، وهذا غريب غير معدود من المذهب.
10987- والذي يجب إنعام النظر فيه الإصابة بالعين وقد توافت الحكايات فيها، حتى بلغت مبلغاً لا يقصر عن الخبر الذي ينقله المعتمدون، وصح أن الرسول عليه السلام قال: " العين حق " (1) وبلغنا أن في الناس من يعتمد ذلك ولا يخطئ.
ولست أرى له حكماً، بخلاف السحر؛ فإن العين إن أصابت، لم تلتحق بالأسباب التي تعد من أسباب الهلاك، وقد ذكرنا أن من صاح ببالغٍ عاقلٍ، فسقط من سطح، لم يلتزم ضماناً، وليس اتفاق هذا من المنكرات، ومن نظر وهو صائم إلى من تتوق نفسه إليه فأمنى، لم يفسد صومه، فهذا ما يجب القطع به.
10988- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " لو قال الساحر: أمرضه سحري، ولم يمت به، وإنما مات بسبب آخر "، قال الشافعي: " أقسم أولياؤه، وصار ما أقرّ به من المرض لوثاً في القتل " (2) ، وهذا مشكلُ يُحْوِج إلى البحث؛ فاللوث إنما يتعلق به إذا ثبت أصل القتل، هذا وجه.
__________
=والإستراباذي هو أحمد بن محمد المعروف بأبي جعفر الإستراباذي، من أصحاب الوجوه في المذهب، ومن كبار الفقهاء والمدرسين، وأجلة العلماء المبرزين، وهو من أصحاب ابن سريج، وعلّق عنه تعليقاً في غاية الإتقان. والإستراباذي منسوب إلى بلدة معروفة بخراسان، وقد ضبطه النووي في التهذيب بكسر الهمزة وبسين مهملة ساكنة ثم تاء مثناة من فوق مكسورة، وكذا السمعاني في الأنساب وضبطه ياقوت في معجم البلدان بالفتح ثم السكون ثم فتح التاء، أما ابن باطِش فضبطه في غريب المهذب بكسر فسكون ثم فتح التاء.
أما وفاة الإستراباذي فلم نجد من ترجموا له ذكروا سنة وفاته، بل وجدنا الإسنوي يقول: لم أقف له على تاريخ وفاة.
ومما يلفت النظر أن من ترجموا له لم يذكروا له اسماً، إلا ابن هداية وعنه أخذنا اسمه واسم أبيه، وكانوا يقتصرون على الكنية واللقب. ومما يلفت -أيضاً- أن السبكي لم يترجم له، على جلالته ومنزلته في المذهب.
(ر. طبقات العبادي: 85، تهذيب الأسماء: 2/202، الإسنوي: 1/48، ابن قاضي شهبة: 1/134، ابن هداية: 84، المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء لابن باطيش: 4/432) .
(1) حديث " العين حق " مرَّ قريباً.
(2) ر. المختصر: 5/156.(17/122)
وقد يعترض عليه أن الذي مات وعلى بدنه أثر قد يمكن تقدير موته (1) حتف الأنف، ثم القسامة تثبت.
والسؤال الذي يجب التدبر فيه أنا قدمنا في مسائل الجراح أن من جرح رجلاً ومات المجروح، ثم اختلف الجاني وولي الميت، فقال الجاني: مات بسبب آخر، وقال الولي: مات بالجراحة، فالتفصيل فيمن يصدق منهما مقرر في موضعه، ولم يجر فيه ذكر القسامة.
فإن كان إقرار الساحر بترتّب المرض على سحره لوثاً في القتل، يسلِّط المدعي - وهو الولي- على الإقسام، فيجب مثله في الجرح، وادعاء سرايته لا محالة، فإن امتنع الإقسام في مسألة الجرح، فلا شك في امتناعه هاهنا.
10989- وينتظم من هذا المجموع نصّ وتخريج في أن الاعتراف بسبب القتل مع ادعاء وقوع الموت بسبب آخر هل يُثبت حقَّ القسامة للمدعي؟ النصُّ أنه يُثبت، وفي المسألة قول آخر مخرّج أنه لا يثبت حق القسامة.
وهذه المسألة إنما تصفو إذا تجدد العهد بالصور المذكورة في اختلاف الجارح وَوَلي المجني عليه، والفصل بين أن يقصر (3 الزمان، وبين أن يطول وإذا طال، فالفرق بين أن يبقى زَمِناً صاحب فراش (2) ، وبين ألا يكون كذلك، ثم في 3) بعض الصور لجعل القول قول الولي، وعند ذلك يقوى جانبه، وإذا قوي جانبه حتى أوجب ذلك تحليفَه، فيقوى جداً أن يكون هذا قسامة؛ حتى تتعدّد الأيمان، ومن لم يجعله قسامة، فإن كانت اليمين في جانب مدعي الدم، ففائدته القطع بوجوب القصاص، وترديد الرأي في أن اليمين تتحد أم تتعدد، والظاهر أنه مظنة القسامة.
ثم يؤول تحصيل هذا إلى أن اللوث إذا ثبت في أصل الجرح أو في أصل القتل من غير تصادق على سبب، فهذا موضع القسامة قطعاً، ويتحقق هذا بأن مثله لو وقع في مالٍ، لم يجر فيه البداية بالمدعي.
__________
(1) في الأصل: " تقدير فرض موته ".
(2) صاحب فراش: أي طريح الفراش.
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .(17/123)
وإذا صار السبب المفضي إلى الهلاك [متفقاً] (1) عليه، وأمكن تقدير سبب آخر، وهذا يتميز [بأن مثله] (2) يفرض في المال، فإن من جرح بهيمة، واعترف بجرحها، وادعى أنها هلكت بسبب آخر، فقد يُصدَّق مالك البهيمة، والتفاصيل كلها كالتفاصيل في الآدمي المجني عليه، ولو كان هذا من صور القسامة، لما جرى في المال؛ فإذا ثبت مثل هذه الصورة في الدم (3) اعترض فيه النص والتخريج، ثم على التخريج وهو القياس إذا حلف يحلف خمسين أم لا؟ فعلى الخلاف، وهذا يخرج في كل خصومة، والدليل عليه أنا حيث بدأنا بالمدعى عليه في الدم نذكر قولين في تعديد اليمين، وإن جرينا على قياس سائر الخصومات، وإذا كنا نجعل القول [قول] (4) الجاني في بعض الصور، فهو مدعى عليه، وفي تعدد اليمين على المدعى عليه قولان.
والذي يجب القطع به تنزيل الاعتراف بالإمراض بالسحر منزلة الاعتراف بالجرح. والله أعلم بالصواب.
***
__________
(1) في الأصل: " سفقاً ".
(2) في الأصل: " بأمثلة ".
(3) الصورة المشار إليها هي إذا صار السبب المفضي إلى الهلاك متفقاً عليه، وأمكن تقدير سبب آخرَ، وفيها قد يُصدَّق المدعي ويجعلُ القول قوله مع يمينه -فعلى القول المخرج بأن هذا لا يُعدُّ لاثاً- فهل إذا حلف يحلف يميناً واحدة، أم نُراعي تعظيمَ أمر الدماء؛ فيحلف خمسين يميناً؟ فيها خلاف.
(4) في الأصل: " القول من الجاني ".(17/124)
[كتاب الجنايات الموجبة للحدود والعقوبات] (1)
باب قتال أهل البغي
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية [الحجرات: 9] (2) .
10990- هذه الآية تنبه على أحكام البغاة، وإن كان الكتاب في الخارجين على الإمام، ومضمون الآية في الطائفتين تبغي إحداهما على الأخرى، والإمام يرد الباغية منهما وليس بغيها على الإمام، وإذا كانت الباغية [طائفة تقاتل أخرى] (3) ، فالباغية على الإمام [أولى بذلك.
ومقصود الكتاب بيان أحكام الله تعالى في فئة تفارق الجماعة، وتسل اليد عن ربقة الطاعة، وتبغي على الإمام الحق] (4) ولا مطمع في ذكر أوصاف الأئمة وما تنعقد
__________
(1) هذا العنوان من عمل المحقق أخذاً من صنيع الغزالي في البسيط، ومراعاة للتفصيل والتبويب للفقه؛ فليس قتال البغاة باباً من الكتاب الذي قبله.
ثم نلفت النظر إلى أن الإمام أخرج الردّةَ من الحدود؛ لأنه سيضع كتاباً للحدود بعد الفراغ من الردة مباشرة.
وبهذا التقسيم تكون الجنايات قسمت إلى كتابين: كتاب الجنايات الموجبة للقصاص والديات، ثم كتاب الجنايات الموجبة للحدود والعقوبات.
(2) ر. المختصر: 5/156.
(3) في الأصل: " طائفة تقاتل أهل البغي " و (ت 4) : طائفة تقاتل البغي. والمثبت عبارة الرافعي في الشرح الكبير.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .(17/125)
الإمامة به؛ فإن القول في هذا يتعلق بفنٍّ مقصود، والقدر الذي يجب الاكتفاء به ذكرُ الإمام العادل، والخروج عن طاعته الواجبة.
ثم أول ما نصدر الكتاب به نقلُ ما ذكره الأصحاب في صفة البغاة، وقد نُحْوَج (1) في هذه التوطئة إلى الخروج عن ترتيب مسائل (السَّواد) حتى إذا انتظمت القاعدة، عدنا بعدها إلى الترتيب.
وقد قال الفقهاء: البغاة هم الذين يستجمعون أوصافاً: إحداها - التمسك بتأويل مظنون يزعمون أنه حاملهم على الخروج على الإمام والانسلال عن متابعته، هذا لا بد منه. والثاني - أن يرجعوا إلى شوكة ومَنعة، فهذان معتبران.
وقال معظم الأئمة في الطرق: يشترط أن ينصبوا إماماً بينهم، ويُسندوا إليه أحكامَهم، ويصدر عنه نصبُ القضاة والولاة، وذكر العراقيون هذا وحكَوْه عن بعض الأصحاب، ثم زيّفوه، وزعموا أنه لا يشترط أن ينتهى بَغْيُهم إلى نصب إمام.
وذكروا وصفاً آخر فقالوا: من أوصاف البغاة ألا يكونوا في قبضة الإمام، ثم فسروا ذلك بألا يكونوا بمكان يحيط بهم جند الإمام من جوانبهم، والشرط أن يكونوا على طرفٍ لا يحيط به نَجْدة الإمام. هذا ما ذكروه.
10991- ولا بد من تتبع ما ذكره الأصحاب: فأما النجدة، فقد اعتبرها الكافة، ولا احتفال بفئة باغية، لا شوكة لها، فإن فرض ذلك، فهم معرضون لعقابٍ يرّدهم إلى سمت الطاعة، ولا اطلاع على ما نحاول أو نُنجز الفصلَ؛ فإنا في ذكر أوصافٍ مرسلة. [ونحن نتعرض بعدُ للأحكام] (2) التي يتميز بها البغاة عن غيرهم، وإذا أشبعنا القول في الأوصاف أتبعناها جملاً من أحكام البغاة، فإذ ذاك يتمهد أصل الكتاب.
ثم الشوكة المرعيّة عُدّةٌ يفرض مقاومة الإمام بها، ومن أحاط بالسياسات، لم يخف [عليه] (3) أنه إذا تجمع آلاف من أهل النجدة (4) ، فإن القتال والظفر والهزيمة فيه
__________
(1) ت 4: نخرج.
(2) في الأصل: " فلسنا نتعرض لنقض الأحكام ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) وعبارة (ت 4) : " لم يحقر آلاف من أهل النجدة ".(17/126)
لا تجري مجرى سياقة رجلين في صراع أو غيره من وجوه التقاوم؛ فإن ذلك في الآحاد على قدر القوى [والجرأة] (1) والنصرة، وإذا التقى الجند، لم تكن النصرة والهزيمة على قياس تقاوم الآحاد، سيّما إذا اتفقت طائفة ضخمة ذات شوكة، واتحدت كلمتها، وصحت طاعتها لمتبوعها. هذا معنى الشوكة.
ثم الذي يجب القطع به أن الشوكة لا يعقل ثبوتها إذا لم يَقْدُم القوم متبوعٌ مرجوع إليه؛ فإن رجال النجدة وإن كثروا، فلا شوكة لهم إذا كانوا لا يجتمعون على رأي، فهذا معنى الشوكة.
10992- وأما التأويل فينبغي أن يكون [محتملاً] (2) ، ثم تحقق [عندنا اضطراب المحققين من أهل الأصول] (3) في أن ذلك التأويل يجب أن يكون مظنوناً لا يتطرّق إليه قطع (4) ، ويقع في مثله اختلاف الأصوليين في تصويب المجتهدين أم يجوز أن يكون بحيث نعلم (5) بطلانه، ولكن وجه القطع مشتبه عليهم.
فقال قائلون: إذا كان التأويل باطلاً قطعاً، فليسوا بغاة، وإن كان يتوصل القطع إلى بُطلانه فهم بغاة، وقال آخرون: يثبت لهم أحكام البغاة وإن كان ما استمسكوا به من التأويل باطلاً قطعاً.
وهذا يلتفت الآن إلى مقام عظيم، فيما كان معاوية وأصحابُه مستمسكين به، مع إطلاق العلماء أقوالهم بأنهم بغاة، وهذا مخاض [لا نخوض] (6) ، ولسنا للتشاغل
__________
(1) ساقطة من (ت 4) .
(2) في النسختين: " مختلاً "، والمثبت تقدير منا على ضوء التفصيل الآتي، وقوله: " يجب أن يكون مظنوناً ".
(3) في الأصل: " عند رأي واضطراب السير المحققين " كذا تماماً، والمثبث من (ت 4) .
(4) ث 4: " لا يتطرق إلى قطعه قطع ".
(5) ت 4: " أم يجوز بحيث أن يعلم ".
(6) في الأصل: " ـ حـ ـص " (بدون نقط) ، (ت 4) : " وهذا محلص لا ـ حـ ـص " (بدون نقط) . والمثبت مما نقله الرافعي عن الإمام (ر. الشرح الكبير: 11/79) ثم الفعل (خاض) أصل ألفه الواو، فكيف رُسم في النسختين " تخيض " (على ما هو ظاهر من أنّ التصحيف هو في إهمال المعجم) .(17/127)
به. فإن قلنا: يشترط أن يكون التاويل مظنوناً لا يتطرق العلم إلى درك فساده وصحته، فيلزم لا محالة الحكم بأن ما تمسك به معاوية في [سلّ اليد] (1) عن الطاعة كانت إصابته مظنونة فيه.
وإن جوزنا أن يكون التأويل باطلاً قطعاً، فيشترط أن يكون البغاة المتمسكون به على اعتقاد الصحة فيه، (2 ولا يمتنع اجتماع فئةٍ 2) كثيرة على معتقدٍ باطل.
فلو تبين لنا أن أهل البغي عالمون ببطلان ما يظهرونه، فليسوا متمسكين بالتأويل.
وأما ما ذكره العراقيون من اشتراط كون البغاة على طرفٍ (3) ، فلست أرى لذلك تحصيلاً، إلا أن يحمل على وَهاء الشوكة؛ فإن إحاطة الأجناد ببلدة البغاة قد توهي شوكتهم من حيث إنهم يؤتون من جوانبهم، ولو كانوا على طرفٍ، لم يتأتَّ هذا، فيؤول ذلك إلى اعتبار الشوكة، فهي المعتبرة إذاً.
10993- ولو بلغ عددهم مبلغاً كثيراً بحيث لا يبعد مقاومتهم أجناد البلاد من جوانبهم، فيجب الحكم بثبوت الشوكة وإبطال أثر الإحاطة.
وينشأ من هذا المنتهى مسألة اضطرب فيها رأي الخائضين في أحكام الإمامة والبغاة، والخارجين على الأئمة، وهي أن طائفة لو بغَوْا، وكانو في عدد لا يقاومون به أجناد الإسلام الحالّين (4) تحت راية الإمام، ولكنهم تقوَّوْا بمكانٍ حصين يعسر استنزالهم منه، فهل يثبت لهم حكم الشوكة على قلة عددهم، لاعتضادهم بحصونهم وصياصيهم؟ فقال قائلون: يثبت لهم حكم الشوكة لتصور استقلالهم بأنفسهم، ولا فرق بين أن يعتضدوا بكثرة في العدد وبين أن يستمسكوا بمكان، وقال آخرون: لا يثبت لهم حكم البغاة؛ نظراً إلى قلّتهم.
والتحقيق فيه أنهم إذا قلّوا في أنفسهم لم يعظم خطر ما يتعطل فيهم من الأحكام،
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .
(3) المعنى أن يكونوا في طرفٍ أي ناحية من نواحي الدولة، وليسوا في وسطها، بحيث يحيط بهم جند الإمام.
(4) ت 4: " الجارين ".(17/128)
وإنما غرضنا بإثبات مرتبة البغاة تنفيذ الأحكام والأقضية، على ما سيأتي في أثناء الفصل، وإنما ينفذ ذلك منهم إذا عظم العدد، واستولَوْا على قُطر (1) كبير من الخِطة يحوي أمماً، فلو تعطلت أحكامهم، لعظم الضرر، وتفاقم الخطر على من لا يتصف بالبغي من الرعايا الواقعين في قبضة المستَوْلين.
والأولى عندنا أن نفصّل القولَ في ذلك: [ونقول] (2) : إن تحصنوا بحصن على فوهة الطرق، وهم [يحوون ما وراءهم من القطر المتسع] (3) ، فالحصن نجدةٌ عظيمة نازلة منزلة العدد والقوة والعدة، والنظر إلى إثبات الضرار في جمع من المسلمين، وإذا وقع ما تحصنوا به ببلدة من البلاد، وكانوا لا يستولون على خِطة بسبب الحصن [فلا] (4) يثبت لهم حكم البغاة، وسنذكر أحكام أمثالهم (5) إن شاء الله تعالى، ولا خلاف أنه لو [تحزّب] (6) من رجال القتال المرموقين (7) عدد يسير، وكانوا [يقوون] (8) بفضل القوة على مصادمة الجموع الكثيرة، فهم على عدة تامة.
هذا قولنا في التأويل والشوكة.
10994- فأما اشتراط نصبهم إماماً فهذا فيه اضطراب عظيم لأرباب الأصول، وقد حكيت اختلاف الفقهاء فيه، ولا مطمع في إنهائه إلى الحدود التي ينتهي الكلام إليها في هذا الكتاب، ولكنا نذكر مقداراً يقع الاستقلال به: فأما من شرط أن ينصبوا إماماً، فمعتمده في ذلك أن الإمام إذا لم يكن، فتولية الولاة والقضاة لا مصدر لها؛
__________
(1) قُطر: أي ناحية وجانب.
(2) في النسختين: " ويقال ".
(3) في الأصل: " يجدون ما وراءهم من القطر المنيع " والمثبت من (ث 4) .
(4) في النسختين: " ولا ".
(5) ت 4: " البغاة ".
(6) في الأصل: " عرف "، (ت 4) : " حدث "، والمثبت من الشرح الكبير ناقلاً إياه عن الإمام. هذا وقد كانت نسخة الأصل: (تحدب) فصوّبت في الهامش إلى (عرف) .
(7) نقلها الرافعي: المنعوتين بالشجاعة.
(8) في الأصل: " يقعون ".(17/129)
فإن القاضي لا ينتصب بنصب الرعايا، وإنما إلى الناس نصب إمام، ثم تصدر (1) التفاصيل عن رأيه، فانعقاد الإمامة بطريق التبعية، ولا يتصور [تولية] (2) قاضٍ ببيعة، وهذا [القائل] (3) يلتزم أمراً تثور فيه نفوس الخائضين في الإمامة، وهو أن يدعي أن معاوية كان تصدّى للإمامة في زمن علي رضي الله عنه. وقد استفاض أنه ما باح بالتصدي لإمرة المؤمنين إلا بعد قتل علي رضي الله عنه.
ومن قال: لا يشترط أن ينصبوا إماماً، احتج بأنهم ربما لا يَلْقَوْن بين أظهرهم من يستجمع شرائط الإمامة، فيؤدي اشتراط نصب الإمام إلى تعطيل حقوق المسلمين، ثم هذا القائل يحمل جميع أحكامهم وقضاياهم على ما تحال عليه الأحكام عند شغور الدهر عن الإمام، وفيه كلام طويل، فيجب الانكفاف عنه، والاكتفاء بهذا المقدار.
هذا قولنا في طوائف البغاة، والمقصود بعدُ منهم لا يتبين إلا بأن نذكر مجامع أحكام البغاة، ثم يتبيّن مجاري تلك الأحكام عند اختلال الشرائط المرعية في البغاة، ثم نذكر بعد ذلك تفصيلَ الكلام فيمن يقاتلهم الإمام، ثم نبين الأسباب المثبتة للقتال.
10995- فأما جوامع القول في أحكام البغاة، فمنها أنه ينفذ قضاء قاضيهم إذا وافق الشرع، وإذا استوفَوْا حدوداً وأقاموها على مستحقيها بحقها، وقع الاعتداد بها، وإذا استوفَوْا الزكوات، وقعت موقعها، وكذلك إذا استوفَوْا الجِزَى (4) والأَخْرجة، فالحكم ما ذكرناه، وكذلك استيفاء أخماس الغنائم، والفيء.
أما الحدود، فلا تثنّى بعد إقامتها، والزكوات مصروفة إلى مستحقيها، فلا كلام فيها، والأموال المرْصدة للمصالح إذا صرفت إلى وجوهها بحقها، فهي واقعة موقعها، وأما المغانم والزكوات، فأربعة الأخماس منها للغانمين، لا تعلّق لها بالولاة، والخمس منها، ومن الفيء ينقسم القول في مصارفها، فما يصرف إلى مستحقين موصوفين في كتاب الله تعالى، فسبيله سبيل الزكوات، وأما ما يصرف إلى
__________
(1) في الأصل: " ثم نصدر إلى التفاصيل ".
(2) في الأصل: " برأيه ".
(3) زيادة من (ت 4) .
(4) الجِزى: جمع جزية.(17/130)
المرتزقة إذا فرقها والي البغاةِ على جنود أهل البغي، فقد اختلف العلماء فيه، وللفقهاء تحويمٌ على هذا التردد، فقال قائلون: لا تقع تلك الأموال موقعها؛ فإنا لو حكمنا بوقوعها الموقع، لكان ذلك إعانة على البغي، وتمهيداً للاستعداد لمخالفة الإمام.
ومنهم من قال: إنها تقع الموقع؛ فإنهم جنود الإسلام، ولو ثارت طائفة من بلاد الكفر، لطاروا إليها، والرعب (1) منهم قائم في نفوس الكفار. وهذا في نهاية الاحتمال [وقرّب] (2) بعضُ المحققين القول فيما يتلفونه (3) على أنفسهم على ترتيب صرف المال إلى المرتزقة من القول فيما يتلفون على الإمام [وجنده] (4) في الحروب، فإنا بإسقاط الغرم [عنهم] (5) في حكم [من] (6) يقرّرهم على ما هم فيه، ويخفف عنهم عناء المغارم. فهذه جمل من أحكامهم.
10996- ثم إنا نذكر بعد ذلك [بيان] (7) ثبوت هذه الأحكام وانتفائها إذا اختل شرط من الشرائط المعتبرة، فنقول: إذا تمسك قوم بتأويل ولا نجدة لهم، فلا يثبت لهم القتال بالأمور التي ذكرناها أصلاً. نعم، لو كان منهم من يصلح لأن يحكم فحكّموه، فهذا مما اختلف القول فيه، وهو جارٍ في آحاد المسلمين الذين هم تحت الطاعة، والفقه فيه إذا لم يكن لهم نجدة، فالطاعة مستمرة عليهم، وما يبدونه إذا استخلَوْا بأنفسهم هذيان [يُعزَّرون] (8) عليه.
وغرضنا الآن أن نبين انتفاء الأحكام عنهم وسنذكر ما يتصل بهم من رأي الإمام.
فأما إذا عظمت الشوكة، ولم يكن لهم تأويل أصلاً، فالذي أطلقه الفقهاء أنه
__________
(1) (ت 4) : " والركب ".
(2) في الأصل: " وخرّج ".
(3) يتلفونه: أي ينفقونه. كما هو في (ت 4) .
(4) في الأصل: " وحده ".
(5) في النسختين: " منهم ".
(6) زيادة من (ت 4) .
(7) في الأصل: " أن ".
(8) في الأصل: " يصفعون "، وفي (ت 4) : " يصيعون " (كذا بهذا الرسم والنقط) ، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء كلام الرافعي في مثل هذه المسألة.(17/131)
لا تنفذ أحكامهم؛ فإن عماد البغي التأويل، وكأنهم إلى أن يُكشف الحق لهم معذورون [فيما] (1) أضمروه من التأويل، وليس هذا الطرف مضطرب (2) الفقهاء، فإنا إذا فرضنا خلوّ ناحية عن نظر الإمام بسبب [استيلاء] (3) أصحاب العُدَد، فلو عطلنا أحكامهم، لتفاقم الضرر، وهذا في القطر بمثابة ما لو خلا العصر عن صالحٍ للإمامة، وقد مهدنا أصول ذلك في المجموع الملقب (بالغياثي) .
فأما إذا لم ينصبوا إماماً، فقد أشرنا إلى ما فيه مقنع في هذا الطرف.
فهذا بيان أحكام الذين لا يستجمعون الشرائط المعتبرة في أهل البغي.
10997- ثم نذكر بعد هذا تمهيد القول في الذين يقاتلهم الإمام من طوائف المسلمين، أما أهل البغي، فإنه يقاتلهم على تدريجٍ نَصفُه، فالوجه أن يبعث إليهم عاقلاً فطناً رقيقاً، ويقول لهم عن الإمام: ماذا ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمةً ردّها، ولا يألوهم نصحاً، ويقول: عودوا إلى الطاعة، تكن كلمتكم وكلمة أهل الدين واحدة، فإن فاؤوا، فذاك، وإلا آذنهم بقتال، ولا يحل له أن يَبْغَتَهم به، لما سنصفه.
وهذا الترتيب بيّن في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9] والمراد إن طلبت مزيداً بعد وضوح حجة الله، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، على ما سيأتي الشرح في دفع الصائل، في بابٍ، إن شاء الله، ومن آثار قتال الدفع (4) الاقتصارُ على الأدنى (5) فالأدنى، فإذا أمكن الدفع بالقول، فلا معدل عنه، وإذا أمكن الدفع باليد من غير شهر السلاح، فيجب الاقتصار على الأقل.
وظاهر هذا قد يخيّل إلى المبتدي أنا لا نسير لهم، وليس كذلك؛ فإن الإمام إذا
__________
(1) في الأصل: " ما ".
(2) ت 4: " من مضطرب ".
(3) في الأصل: " أثبته ".
(4) في هامش الأصل: " قتال دفع الصائل ". في نسخة أخرى.
(5) ت 4: " الأخرى ".(17/132)
آذنهم بالحرب، سار إليهم، والسبب، فيه أنه يدفعهم عن (1) القطر الذي استولَوْا عليه. هذا وجهٌ ظاهر، فإن انكشفوا عنه -وكلمتهم واحدة بعدُ- اتبعهم بنفسه أو بجنوده، فإن قيل عن ماذا يدفعهم وقد انكشفوا؟
قلنا: الطاعة محتومة عليهم، وهم مطلوبون بها، وعليهم بذلُها للإمام، فإذا أبدَوْا صفحة الخلاف، كانوا منزَلين منزلة مانعٍ أمراً للإمام طلبه منهم، وإذا فرض الامتناع فيما هذا (2) سبيله، فليس إلا أن يستسلموا أو يقاتلوا، وقد جعل الرب سبحانه وتعالى منتهى القتال مع الفئة الباغية الفيئة إلى الطاعة، فقد قال عز من قائل: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وسنعقد فصلاً مفرداً في كيفية مقاتلتهم، وإنما نحن الآن في عقد الجُمل وتوطئة الضوابط.
10998- والذي يقتضي الترتيب ذكرَه الآن القولُ فيما (3) تتلفه الفئة العادلة في القتال على البغاة، وفيما تتلفه (4) الفئة الباغية على أهل العدل، فنقول: لا خلاف أن ما يتلفونه على أهل العدل في غير حالة القتال، فهم ضامنون له مطالبون به بعد تقدير الفيئة والرجوع به إلى الطاعة؛ فإنهم ملتزمون للأحكام، وليسوا كأهل الحرب، وكذلك ما يتلفه أهل العدل في غير حالة القتال، فالسبيل فيه ما ذكرناه؛ فإن الطائفتين لا يرَوْن إتلاف الأموال (5) في غير حالة القتال، وإنما تعتقد كل طائفة أنها محقة في القتال غيرُ ضامنة لما يُفضي إليه ترتيب المقاتلة، فإذ ذاك يظهر الوفاق والخلاف على ما سنفصله.
فأما ما تتلفه إحدى الطائفتين على الأخرى في حالة القتال، فلا تضمن الفئة العادلة؛ فإنها مقاتلة بحق، وهل تضمن الفئة الباغية ما تتلفه على الفئة العادلة؟ فعلى قولين: أظهرهما - أنه لا ضمان عليهم، وهذا مذهب أبي حنيفة (6) ، وتعلق الشافعي
__________
(1) ت 4: "على".
(2) في الأصل: " هذه ".
(3) ساقطة من (ت 4) .
(4) ت 4: "يتلفونه".
(5) ت 4: " المال ".
(6) ر. مختصر الطحاوي: 257، بدائع الصنائع: 7/141.(17/133)
بما روى ابنُ شهاب الزهري أنه قال: " كانت في تلك الفتنة دماءٌ يُعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلفت فيها أموال، ثم سكنت الحرب، وجرى الحكم على الممتنعين، فما علمته اقتص من أحد، ولا غرّم أحداً ما أتلفه " (1) .
وهذا القول يتوجه بمصلحة كلية، وهو أن الفئة الباغية مدعوون إلى الطاعة رفقاً وعنفاً (2) ، والذي تقتضيه الإيالة تقديم الرفق وتأخير العنف، وهو ترتيب الدفع، وإذا جرت معارك واقتتال جنود، فلو (3) علم الممتنعون أنهم مطالبون بالتبعات إذا فاؤوا واستسلموا، فقد يكون هذا داعيةً لهم إلى الاستمرار على العصيان (4) ؛ ولهذه الحكمة حُطت الطلبات عن أهل الحرب إذا أسلموا، وإذا كان جريان الكلام في الإيالات، فهذه الفنون أحرى بالتمسك [بها من] (5) الأقيسة الجزئية، وبمثل هذا نفذنا (6) أحكام البغاة حتى لا يعظم الضرار (7) .
والقول الثاني - أنهم يضمنون ما يتلفون في حالة القتال؛ فإنهم ليسوا محقين في إقامة القتال وما أتلفوه [يوصف] (8) بأنه متلَفٌ بغير حقّ، صَدَر إتلافُه من ملتزمِ الأحكامِ، والذي يُعارِضُ به هذا القائلُ ما قدمناه من الأمر الكلي: أن ما أتلفته الفئة الباغية [في] (9) غير القتال في بَيَاتٍ وشن غارات من غير فرض قتال، فهم مطالبون به، وإن كان قد يؤدى هذا إلى ما ذكرناه في نصرة القول الأول.
وهذا القائل يقول: إنما قبلنا شهاداتهم، لأن ردها يأتي [من] (10) ناحية تمكّن
__________
(1) أثر الزهري رواه البيهقي في السنن الكبرى: 8/175.
(2) ت 4: "عصفاً".
(3) ت 4: "فلم".
(4) ت 4: " الصعان ".
(5) زيادة من (ت 4) .
(6) نفذنا أحكام البغاة: أي أننا باسم قاعدة الإيالة الكلية، حكمنا بنفوذ أحكام البغاة فيما يقيمونه
من حدود، ويجمعونه من زكوات، وفيما يحكم قاضيهم فيه من دماءٍ وفروج.
(7) ت 4: " الصولة ".
(8) في الأصل: " موصف بأنه ".
(9) في الأصل: " من ".
(10) في الأصل: " في ".(17/134)
التهمة، والتهمة تأتي من ناحية ارتكاب محظور العقيدة (1) .
وأما تنفيذ قضاء قاضيهم، فليس فيه كبير متعلّق؛ فإنا في الرأي الأظهر قد نصحح التحكيم من الذين هم تحت الطاعة.
والأصح القول الأول.
10999- ثم إن لم نوجب ضمان الأموال، فلا شك أنا لا نوجب القصاص لأنه أولى بالاندفاع.
وهل نوجب الكفارة على الباغي بقتل من يقتله من أهل العدل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجب؛ طرداً للإهدار وقطْع التبعات، والوجه الثاني - أنها تجب؛ إذ هي أسرع وجوباً من القصاص والدية؛ ولذلك أوجبناها على القاتل بسهم الغرب، كما تفصّل في موضعه، وإن لم يلتزم قصاصاً ولا دية، فإن قلنا: يجب على البغاة الضمانُ فوجوب الكفارة ظاهر.
وفي القَوَد وجهان: أحدهما - لا يجب لتعرضه للسقوط بالشبهات، وما تمسكوا به من التأويل شبهة.
ثم إن أوجبنا القصاص وآل الأمر إلى المال، فالدية في مال القاتل. وإن لم نوجب القصاص لمكان التأويل، فلا شك في وجوب الدية على هذا القوله الذي نفرع عليه، والدية سبيلها سبيل دية العمد التي لا تتأجل وتتعلق بمال القاتل، أو سبيلها سبيل دية شبه العمد، حتى تتأجل وتضرب على العاقلة؟ هذا أصل مهّدته في كتاب الجراح والديات، وهو يناظر ما لو قتل الرجل إنساناً على زيّ (2) الكفار رآه في دار الإسلام،
__________
(1) محظور العقيدة: يُقصد به مَنْ يعتقد أنه يشهد لموافقيه، وهم الخطّابية، فمن عقيدتهم أنهم يشهدون لمن يوافقهم في العقيدة؛ اعتماداً على أن أبناء طائفتهم لا يكذبون، فهم يشهدون لموافقيهم على كل ما يدّعون. ثم معنى العبارة أن قبولنا شهادة البغاة لا يصلح دليلاً على عدم تضمينهم ما أتلفوه على أهل العدل أثناء القتال، فإن الحكم بعد التهم وقبول شهادتهم، لا يعني أنهم محقون في بغيهم ويدفع عنهم ضمان ما أتلفوه. وأخيراً أقول: إن العبارة هنا فيها شيء من الاضطراب، ولعل فيها خرماً، وما قلناه مأخوذ من كلام الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 11/82) .
(2) ت 4: " راى ".(17/135)
ففي القصاص قولان، فإن لم نوجبه، ففي ضرب الدية على العاقلة قولان، فإن ضربنا عليهم، فلا شك في تأجيلها.
والرأي الظاهر أنها مغلّظة كدية شبه العمد. ومن أصحابنما من ألحقه بالخطأ المحض.
وهذا بعينه -يجري حيث انتهى التفريع إليه- في قتل [العادلِ الباغيَ] (1) .
ولا خلاف في أن ما حصل بأيديهم من أعيان أموال البغاة مردود عليهم.
ومما يجب الاعتناء به أن أصل التردد في الضمان مختص (2) بما يجري إتلافه بالقتال، حتى لو فرض إتلافٌ في القتال ليس من ضرورة القتال، فهو ملتحق بما يجري إتلافه قبل القتال.
فهذا بيان جملة من مقاتلة أهل البغي وأحكام ما يجري حالة القتال من إتلافٍ وقتلٍ.
11000- وقد ضمِنّا أن نذكر وجوه قتال الإمام مع طوائف المسلمين، فنذكر مقاتلة أبي بكر رضي الله عنه مع أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي: " أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان: قسمُ (3) مانعي الزكلاة أهل ردّة، لا من جهة ارتدادهم عن الدين، ولكن من جهة ارتدادهم عن الطاعة " (4) وتأسى في إطلاق لفظ الردة بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
__________
(1) في الأصل كما في (ت 4) : " قتل الباغي العادْلَ "، والتغيير من المحقق؛ ذلك أن صورة ضمان الباغي قد سبقت، وهي المُحال عليها والمشبه بها في عبارة الإمام.
هذا، ونحب أن نؤكد أن العبارة الأولى كان لها وجه من الصواب، فالمصدر المضاف يعمل مضافاً إلى فاعله، ويعمل مضافاً إلى مفعوله والفاعل ضمير مستتر، أما أن يعمل مضافاً إلى مفعوله والفاعل اسم ظاهر، فهذا قليلٌ غير شائع، مثل قوله: " في قتل الباغي العادلُ " والمراد أن العادل هو القاتل. فهذا هو القليل، الذي غيرناه، ولذا قلتُ: التغيير من المحقق، ولم أقل: التصويب.
(2) ت 4: "يختص".
(3) ث 4: " قسمي ".
(4) ر. المختصر: 5/157 والمذكور معنى قول الشافعي، وليس لفظه.(17/136)
" مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات، لهاضها " (1)
ولقد كان الذين سُموا أهلَ الردة قسمين: قسم كفروا بالله عز وجل بعد إيمانهم، مثل طليحة، والعنسي، ومسيلمة، وأصحابهم، وقسم ارتدوا عما لزمهم من حق أداء الزكاة، والردة لفظة عربية، وأطلقها المتقدمون على مانعي الزكاة. ثم الذين منعوا الزكاة ما كانوا خارجين عن الإيمان، وقاتلهم أبو بكر، والمناظرة التي جرت بينه وبين عمر رضي الله عنهما مشهورة، إذ قال عمر: كيف تقاتل أقواماً يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم " فقال أبو بكر: " أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا بحقها " والزكاة من حقها، والله لا أفرق بين ما جمع الله، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} والله لو منعوني عقالاً وفي بعض الروايات عَناقاً مما أدوا إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه " (2) .
ثم استدَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي أبي بكر، وتبين أنه قاتلهم، وهم مؤمنون، وقال بعض من وقع في الأسر منهم: والله ما كفرنا بعد إيماننا، ولكن شححنا على أموالنا، وأشعارهم وأراجيزهم في هذه المعاني (3) .
وكان يقول بعضهم: أدينا الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت (4) صلاته سكناً لنا، وليست صلاة غيره سكناً لنا.
__________
(1) حديث عائشة " مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ... " رواه البيهقي في الكبرى (8/200) وذكره الشافعي في الأم مختصراً (6/166) .
(2) حديث مناظرة أبي بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة، متفق عليه من حديث أبي هريرة. (البخاري: الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، ح25، والزكاة، باب وجوب الزكاة، ح1399، 1400. مسلم: الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ح20، 21) .
(3) ر. المختصر: 5/157، فقد روى الشافعي رضي الله عنه هذه العبارات، مع شيء من أشعارهم. منها على سبيل المثال:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا عجباً ما بال ملك أبي بكر
(4) ت 4: " لأن صلاته ".(17/137)
وترتب على هذا الأصل أن كل من امتنع عن أداء حقٍّ إلى الإمام استيفاؤه، فالإمام يستوفيه منه، وإن لم يكن فيه امتناع (1) ، حبسه وأرهقه إلى أداء الحق. وإن تجمع قوم وامتنعوا عن أداء ما إلى الإمام استيفاؤه، فالحال يُفضي إلى دعائهم إلى الطاعة، فإن أصروا، فليس إلا القتال؛ إذ لا سبيل إلى تركهم على تمردهم وتفردهم وخروجهم عن الطاعة.
وكذلك إذا توجهت تبعات وغرامات، ففُرض الامتناع.
11001- فالقول الضابط: أن من يمتنع عن بذل الطاعة فإن لم يكن ذا منعة، قهره السلطان وحَمَله على توفية ما عليه، فإن تجمعوا وصاروا أصحاب شوكة ومَنَعة، فلا سبيل إلى الترك. ولا طريق إلى تحصيل الطاعة إلا بالقتال، وإنما يُقاتَل أهل البغي لهذا؛ من حيث إنهم امتنعوا عن الانقياد، وأبدَوْا الاستقلال والاستبداد.
ثم لو فرض: الامتناع من أقوام، وأفضى الأمر إلى القتال، نُظر: فإن لم يكونوا أصحاب امتناع، ولكنهم استجرؤوا، واستقتلوا بلا تأويل، أو تمسكوا بتأويل، فما أتلفوه في القتال مضمون عليهم، والقصاص (2) واجب إذا [استدّت] (3) الطاعة، فعلى من يقتل منهم القصاص، وهذا مقطوع به في قاعدة المذهب؛ قال الشافعي رضي الله عنه: قتل ابنُ ملجم عليّاً متأولاً، فاقتُص منه، وقيل: تأويله أن امرأةً ذكرت له- تسمّى قطام- أن علياً قتل طائفة من أقربائها، ووكّلته بالاقتصاص منه وبنى عبد الرحمن [ابنُ ملجم] (4) على مذهب مشهورٍ لأهل المدينة في أن طلب القصاص
لا يتوقف على رضا جميع الأولياء- هذا معنى تأويله.
وإن كان في الفئة الممتنعة مَنَعة، فما يتلفونه في القتال، إن كان عن تأويل، فهم بغاة، وقد مضى التفصيل فيهم، وذكرنا أن الأصح أنا نكتفي بالتأويل والمنعة، ثم من
__________
(1) امتناع: أي منعة وشوكة وقوة.
(2) ت 4: " والاستقلال ".
(3) في النسختين: " استمرّت "، والمعنى: إذا استدّت (أي استقامت) الطاعة، وتغلب عليهم جند الإمام، فيجب الاقتصاص منهم.
(4) زيادة للإيضاح فقط.(17/138)
ضرورة المنعة [اتباع] (1) مُقدّم، فأما نصب الإمام، فالرأي الظاهر عندنا أنه ليس من شرائط البغاة.
وإن لم يكونوا متمسكين بتأويل به مبالاة، ولكن كانوا أصحاب شوكة، [ففيما] (2) يتلفونه في القتال على أهل القتال طريقان: من أصحابنا من قطع بأنهم يضمنون، إذ لا تأويل معهم، ومن أجرى القولين، وهو ظاهر النص، فإن المعتمد من جهة المعنى في إسقاط الضمان عنهم تسهيلُ الأمر عليهم، وتيسيرُ طريق الدعوة (3) بقطع التبعات، وهذا متحقق في أهل المنعة دون شرذمة لا منعة لهم.
11002- وأجرى الشافعي رحمه الله ترديد القول في أهل الردة إذا اجتمعوا واستمسكوا بعُدة، فأتلفوا في القتال ما أتلفوا، فإذا أسلموا واستكانوا، ففي تضمينهم ما أتلفوه قولان.
ثم قال قائلون: هم أولى بنفي الضمان عنهم لمضاهاتهم أهل الحرب، وهذا وإن ذكره طوائف من الأئمة غيرُ مرضيّ؛ فإن المرتد في التزام الأحكام كالمسلم، ولم يوجد منهم إلا المنعة، ولو صح التعويل على ما ذكرناه، لوجب أن يقال: ما يتلفونه في غير حالة القتال لا يضمنونه كأهل الحرب، وليس الأمر كذلك، فلا خلاف أنهم يضمنون ما يتلفون في غير حالة القتال، فالوجه تلقي هذا من عُدّة أهل الردة، لا من كفرهم.
ثم ينقدح طريقان: أحدهما - القطع بأنهم يضمنونه. [والثانية - إجراء القولين، ومانعوا الزكاة لم يكونوا على تأويل، ولا حاصل لما نقل عن بعضهم] (4) أنه لا سكن في صلاة أبي بكر؛ فإن أخْذ الزكاة لا يعتمد سكون قلب المؤدِّي إلى صلاة الآخذ.
11003- ونحن الآن ننظم قولاً وجيزاً، فنقول: القتالُ يتبع (5) الامتناعَ عن الطاعة.
__________
(1) في الأصل: " إمام ".
(2) في الأصل: " فما "، (ت 4) : " فيما ".
(3) في النسختين: " الدعوة "، ولعلها: العودة: أي إلى الطاعة.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(5) ت 4: "يمنع ".(17/139)
وتنفيذُ القضاء، والأحكامِ التي قدمنا ذكرها يتبع الشوكةَ والتأويلَ.
وإجراءُ الخلاف في ضمان ما يُتلَف في حالة القتل يتبع الشوكة المحضة، فإذا لم تكن شوكة، قطعنا بالضمان مع التأويل، وعليه استشهدنا بقتل ابن ملجم علياً.
ومن أبدى من آحاد الناس طعناً في الإمام، عُزِّر على قدر سوء أدبه، وإن شبب بذلك ولم يَبُح، فهل يعزّر؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: للإمام أن يعزره إذا أدى اجتهاده إليه، حسماً للمادة وردّاً لأوائل الأمور، والدليل عليه أنه يحرم عليه أن يشبب، وإذا حرم عليه، ساغ منعه (1) .
ومن أصحابنا من قال: لا يعزره ما لم يصرح، واستدل بما روي " أن رجلاً قال وعليٌّ في الصلاة: لا حكم إلا لله ولرسوله " (2) وشبب بإسقاط طاعة عليّ رضي الله عنه، فلما تحلل عن صلاته، قال: " كلمة حق أريد بها باطل " ولم يعزره.
وأما الخوارج إذا أظهروا آراءهم، وأكفروا الإمام وأتباعَه، فإن لم يكن لهم منعة، فالكلام فيهم، وفي أهل الأهواء ليس بالهيّن، وهو من أعظم [أركان] (3) الإيالة الكبيرة، ولعلنا نجمع فيها قولاً، وإن نابذوا الإمام، فقد اختلف أصحابنا فيهم: فمنهم من جعلهم كأهل الردة، ومعناه أنا لا نقيم لما استمسكوا به من عقدهم وزناً، ولا نقول: إنهم متعلقون بتأويل حتى تَنفُذَ أحكامُهم، كما تنفُذ أحكامُ البغاة، وهذا هو الأصح.
ومنهم من جعل ما تعلقوا به بمثابة تأويل البغاة، وهذا ساقطٌ لا أصل له؛ فإن فساد عقدهم كفساد عقود أهل الردة، وإن كنا لا نكفرهم على الرأي الظاهر.
وقد انتجز ما أردنا أن نصدّر الكتاب به من التوطئة وتمهيد الأصول.
__________
(1) ت 4: " أمره ".
(2) خبر " أن رجلاً قال وعليٌّ في الصلاة لا حكم إلا لله ولرسوله ... " رواه مسلم، وابن أبي شيبة، والبيهقي (مسلم: الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، ح1066، مصنف ابن أبي شيبة: ح19776، السنن الكبرى: 8/184) ورواه الشافعي بلاغاً (الأم: 6/217) . وانظر التلخيص: 4/85 رقم 1998.
(3) ساقطة من الأصل.(17/140)
11004- ثم إنا نعود إلى ترتيب (السواد) (1) قال الشافعي رضي الله عنه في فصل المرتدين: " وسار إليهم أبو بكر بنفسه حتى لقي أخا بني بدر الفزاري، فقاتله ومعه عمر، وعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2)
وإنما أراد عيينةَ بنَ حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، واختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: كان هو من جملة الموافقين لأبي بكر، ولما سار أبو بكر يريد قتال أهل الردة، التقى به، فقال له: أنت إمام المسلمين، فإن صدرت (3) فلا إمام بعدك، فارجع أنت لنقاتلهم دونك، فمن قال [بهذا قرأ (4) : فقاتل ومعه عمر: أي قاتلهم عيينة مع عمر، ومنهم من قال: كان عيينة من المخالفين المانعين الزكاة، ومن قال بهذا، قرأ: فقاتله ومعه عمر: أي قاتل أبو بكر عيينة ومعه عمر (5) ] (6) .
فصل
قال الشافعي: " والفيئة الرجوع عن القتال ... إلى آخره " (7) .
11005- وهذا مما قدمناه، فالقتال مع الفئة الباغية مردود إلى رجوعهم إلى أمر الله، واستمساكهم بالطاعة، والغرض من عقد هذا الفصل الكلامُ في كيفية
__________
(1) ت 4: " الشواذ ". والسواد هو مختصر المزني كما نبهنا مراراً.
(2) ر. المختصر: 5/157.
(3) كذا في النسختين، والمعنى -على المجاز- فإن ذهبت، أي استشهدت.
(4) قرأ: أي قرأ عبارة المختصر، المذكورة آنفاً.
(5) عبارة الأصل: " فمن قال فهذا إقرار من عيينة، ومنهم قال كان عيينة من المخالفين المانعين الزكاة "، وفيها خلل واختزال، والمثبت، وهو كل ما بين المعقفين من نسخة (ت 4) .
(6) والمشهور من أمر عيينة أنه كان ممن ارتد في عهد أبي بكر، ومال إلى طليحة الأسدي، فبايعه، ثم عاد إلى الإسلام. كذا ذكر ابن حجر في الإصابة، ولكنه عاد فقال في آخر ترجمته: وقرأت في كتاب الأم للشافعي في باب من كتاب الزكاة أن عمر قتل عيينة بن حصن، ولم أر من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظاً، فلا يذكر عيينة في الصحابة، لكن يحتمل أن يكون أمر بقتله، فبادر إلى الإسلام، فترك، فعاش إلى خلافة عثمان. (ر. الإصابة: 3/54، 55) .
(7) ر. المختصر: 5/158.(17/141)
مقاتلتهم، وقد تمهد أن قتالهم مبنيٌّ على الدفع.
ومن آثار هذا الأصل أن من انهزم منهم، لم يتبع، ومن أثخن بالجراح، لم يذفّف عليه، وقال أبو حنيفة (1) : يتبع مدبرهم ويذفف جريحهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود يوماً: " يا ابن أم عبد! أتدري ما حكم الله تعالى فيمن [بغى من] (2) هذه الأمة؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فقال عليه السلام: ألا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ولا يقتل أسيرهم " (3) . ودخل حسين بن علي على مروان فقال له ما رأيتُ أكرم من أبيك: [ما ولَّينا] (4) ظهورنا يوم الجمل حتى نادى مناديه: " ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفّف على جريح ".
ومعتمد المذهب أن القتال للامتناع، ولا امتناع في منهزم، ولم يصدر منه ما يوجب القتل، ولذلك لا امتناع في مثخن.
ولو انهزم البغاة في ظاهر الأمر، وقصدُهم التحرّف للقتال، فإن القتال قائم، وحكمه دائم، وإن قصدوا التحيّز إلى فئة، فهذا مما يجب إنعام النظر فيه: فنقول: ما قدمناه من أنه لا يتبع منهزم أردنا به الأفراد إذا تبدّدوا مفلولين، فأما إذا ولّى الجند تحت الراية، وما انفلّوا، ولكنهم ولّوْا ظهورهم، فلا ينكف الإمام عنهم، [ولكن لا ينكأ فيهم] (5) بالسلاح، بل يطلبهم إلى أن يؤوبوا إلى الطاعة، والواحد إذا انفلّ، فقد سقطت منعته وشوكته، واعتضاده بالجمع، وكذلك [لو تشتّتوا] (6) بدداً،
__________
(1) المذهب عند الأحناف أنه يتبع المدبر ويذفف الجريح إذا كان لهم فئة يتحيزون إليها (ر. المبسوط: 9/126، فتح القدير: 5/337، بدائع الصنائع: 7/140-141) .
(2) في الأصل: " نفر في " والتصويب من لفظ الحديث.
(3) حديث: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود يوماً: يا ابن أم عبد، أتدري ما حكم الله ... " رواه الحاكم، والبيهقي من حديث ابن عمر. قال البيهقي: ضعيف، وقال الحافظ: " في إسناده كوثر بن حكيم، وقد قال البخاري: إنه متروك ". (ر. مستدرك الحاكم: 2/155، السنن الكبرى: 8/182، التلخيص: 4/83 ح1994) .
(4) في الأصل: " لما ولينا ". والمثبت من (ت 4) .
(5) في الأصل: " ولا ينكيهم بالسلاح ".
(6) في الأصل: " لو استرسلوا ".(17/142)
وارفضّ (1) الجمع حتى لا يتوقع اجتماعهم، فلا يتبعهم.
فانتظم مما ذكرناه أن التعويل على ردّهم إلى الطاعة، أو فلّ شوكتهم وإبطال عُدتهم.
ولو ولّوْا متحيزين إلى فئة، فإن كانت قريبةً منهم، اتبعناهم، وإن كانوا أفراداً وأسرناهم، فلا يتعرض لهم بالأسلحة، كما ذكرناه، وإذا كنا نتبعهم وهم متحيزون إلى فئة قريبة، فلأن نتبعهم وهم مجتمعون تحت رايةٍ أولى، فإنا جعلنا تفرقهم في الانهزام وصوبُهم فئة يتحيزون إليها بمثابة استمرارهم على القتال.
ولو بعدت الفئة التي إليها التحيز، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنهم يتبعون (2 كما لو قربت الفئة، والثاني - لا يتبعون 2) ، والوجهان يجريان فيه إذا تفرقوا مفلولين. وإذا كانت الصورة كذلك، فلا يكادون يلتامون (3) إذا بعد المُعَرِّي (4) .
11006- ونحن من هذا المنتهى نذكر كيفية المقاتلة، فقد يظن من لا يطلب حقائق الأشياء أنا نصطف في مقابلتهم، فإذا قصدونا، ندفعهم، وقد رأيتُ هذا لطائفة من المعتبرين، وهذا زلل منهم، لم أذكره لبعده من المذهب، وذلك أنا وإن أطلقنا أن قتالهم دفعٌ، فالمراد دفعهم عن العصيان، والاستعدادُ له؛ فإذا رأيناهم مُعدِّين، سرنا إليهم (5 وزحفنا إليهم، ومن ضرورة هذا مفاجأتهم.
ومما يتصل به أنا لو اصطففنا حتى يلْقَوْناْ) ، فقد يُفضي [هذا] (6) إلى أن
__________
(1) ارفضّ: أي انفضّ، وزناً ومعنىً.
(2) ما بين القوسين ساقط في (ت 4) .
(3) يلتامون: أي يلتئمون ويجتمعون، بتسهيل الهمزة، والإمام ناظرٌ في هذا اللفظ إلى قول الشاعر:
جراحات السنان لها التئامٌ ... ولا يلتام ما جرح اللسان
(4) " المُعَرِّي ": المخلِّص: يقال: عراه من الأمر: خلّصه منه. (المعجم) هذا وفي (ت 4) : تعدّى المفدي.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .
(6) زيادة من (ت 4) .(17/143)
يتغشَّوْنا، [وقد ذكرنا أن القتال ليس على] (1) صورة قتال رجل ودفعه، وربما يكون تارك البداية معرِّضاً نفسه [للهلاك] (2) ، وإليه أشار عليّ رضي الله عنه إذ قال: " حدِّدوا سيوفكم، وقاربوا بين الخطى، ولاحظوا شذراً، وعليكم بالرواق والمقيت " (3) .
والذي يجب مراعاته أنه إن أمكن الأسر، فلا قتل، وإن أمكن الاقتصار على الإثخان، فلا تذفيف، وهذا الفن من التدريج تجب مراعاته، وإذا التحمت الفئتان، فلا ضبط، وهذا المعنى يتحقق في تساوي الصائل والمصول عليه، فما الظن بالتحام فئتين عظيمتين.
وخرج مما ذكرناه أن المنهزم ينقسم إلى من يُتبع وإلى من لا يُتبع، وهم مستوون [في] (4) أنهم لا يقصدون بالأسلحة، وترتيبُ القتال على ما بيّناه.
فإن قيل: [كيف قتل عليّ أهل النهروان؟] (5) قلنا: " كانوا خوارج نابذوه وانسلّوا عن طاعته وتوثبوا على [واليه] (6) ، وقتلوه، فبعث إليهم أن يسلموا قاتله، فقالوا: كلنا قتلة، فبعث إليهم، فقال استسلموا، نحكم عليكم، [فأبَوْا] (7) ، فسار إليهم بنفسه، وقتل أكثرهم " (8) قيل: لم يفلت منهم أكثر من اثنين، وبلغ القتلى أربعة آلاف وقتل ذا الثُّدَيَّة، وصدق الله وعد رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ قال في القصّة المشهورة: " سيخرج من ضِئْضِئ هذا الرّجل (9) أقوام ...
__________
(1) عبارة الأصل: " لأن القتال ليس على قتال رجل ودفعه ". والمثبت من (ت 4) .
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) أثر علي " حددوا سيوفكم وقاربوا بين الخطى ... " لم نقف عليه بعد.
(4) في الأصل: " إلى ".
(5) في الأصل: " كيف فعل علي بأهل النهروان ".
(6) في الأصل: " رجل ".
(7) زيادة من (ت 4) .
(8) هذا من كلام الشافعي في المختصر: 5/160.
(9) ضئضئ هذا الرجل: الضئضئ: الأصل (معجم) والمراد هنا الصلب.
أما الرجل المشار إليه، فهو الرجل الذي أفحش في الاعتراض على قَسْم رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدقاتٍ جاءته، واسمه ذو الخويصرة، رجلٌ من تميم، كما صرحت بذلك بعض روايات البخاري (ح3610) .(17/144)
الحديث " (1) إلى أن قال: " وأنت قاتلهم يا عليّ وآياتهم أن فيهم رجلاً ذا ثُدَيّة عليها شعيرات تتدَرْدر (2) فلما [صُرع القتلى] (3) أمر عليّ بطلبه، فطلبوه، فلم يجدوه، فنزل عليّ بنفسه، وكان يفتش القتلى، فوجد ذا الثديّة على طرف وادٍ، فكبّر وكبّر المسلمون معه ".
11007- ومما يتصل بذلك أن طائفة إذا خرجوا عن طاعة الإمام وقتلوا [واليه] (4) فالقاتل مقتول، والذي ذهب إليه الجماهير أنه يقتل قصاصاً، وذكر العراقيون وجهاً أنه يقتل حدّاً، لأنه لم يجن على رجل واحدٍ، بل خرق حجاب الهيبة، ومقامه هذا فوق مقام من يقتل في المحاربة.
وتمام البيان في هذا أن من قاتل الوالي، ولم يقصد استبداداً بالنفس ورجوعاً إلى [عُدَّة] (5) المخالفة، فسبيل مثله سبيل القصاص، وإن انضم إلى ذلك الخروج عن الطاعة والرجوع إلى استعداد المخالفة، ففيه الخلاف، والأصح القطع بأن القتل الواجب قصاصٌ.
__________
(1) هذا الحديث بهذه السياقة موجز من حديثين في صفات الخوارج وقتالهم، وهما عن أبي سعيدٍ الخدري، وعليٍّ بن أبي طالب. أما حديث أبي سعيد، فهو عند البخاري برقم 3344، وأطرافه كثيرة منها: 3610، 4351، 6163، 7432. وهو عند مسلم أيضاً برقم 1064 عام= أرقام (143، 144، 145، 148) من كتاب الزكاة.
وأما حديث علي، فهو عند مسلم برقم 1066 عام = أرقام (155، 156، 157) من كتاب الزكاة. أما لفظ " وأنت قاتلهم يا علي " فليس في روايات البخاري ومسلم، فلعله في روايات أخرى، فالحديث عند أبي داود السنة قتال الخوارج ح 4764، عن أبي سعيد وأنس، وح 4768 عن علي، وعند النسائي في الزكاة، وعند أحمد: 3/56، 65، 72.
(2) تتدَرْدر: أي تتحرك، وتترجرج، والمعنى أن الثديّة هي التي تتحرك وتترجرج، وليس الشعيرات.
(3) في الأصل: " فرغ من القتلى ".
(4) في الأصل: " إليه ".
(5) في الأصل: " عزة ".(17/145)
فصل
في أَسْر البغاة
11008- إذا أسرنا منهم أسيراً، لم نقتله صبراً، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، ولكنه يحبس حتى تضع الحرب أوزارها، فإن بايع الإمامَ خُلِّي، وإن أصر على غُلَوائه، فرجعت الفئة الباغية إلى الطاعة، خلّينا سبيل هذا الأسير؛ فإنه لا يتأتى منه الاستقلال بالمخالفة بعد تفرق كلمة الفئة الباغية، ولو أسرنا منهم أسيراً، فانجلى ذلك القتال، وما زالت شوكتهم، وكنا على اتباعهم، وعلى انتظار الكرّة منهم، فلا يُخلَّى الأسير والحالة هذه.
ولو ظفرنا بنسائهم، لم نتعرض لهن بالأسر، وإن وقعن في ضبط (2) الجند، خلّينا سبيلهن، هذا هو المذهب الظاهر.
وذهب أبو إسحاق المروزي فيما نقله العراقيون إلى أنّا نحبسهن؛ فإن في حبسهن كسر قلوبهم، وحملهم على الطاعة.
ولو انهزم البغاة متحيزين إلى فئة، فإن كانت كلمتهم واحدة، وكان مسيرهم تحت الراية الجامعة، فقد ذكرنا أنا لا نخلّي الأسرى، وإن تحيّزوا إلى فئة قريبة، فكذلك، وإن تفللوا أفراداً وتحيزوا إلى فئة بعيدة، ففي وجوب تخلية الأسرى وجهان، وذكر العراقيون وجهاً عن بعض الأصحاب أنه مهما انقضى القتال خُلِّي الأسرى من غير فرق، وهذا بعيدٌ، لا أصل له، ولا بد من التفصيل الذي ذكرناه.
ولو وقعت بأيدينا أموال، لم تكن من قِبَل الأسلحة، فهي مردودة عليهم، وإن ظفرنا بخيلهم وسلاحهم، لم نردها حتى ينقضي القتال، كما ذكرناه في تخلية الأسرى، والعبيدُ من أقوى العُدد، فسبيلهم كسبيل الأسرى والأسلحة.
والمراهقون إن كانوا يقاتلوننا، فسبيلهم كسبيل العبيد، وإذا لم يبلغ الصبيان مبلغ
__________
(1) ر. المبسوط: 9/126، فتح القدير: 5/337، البدائع: 7/140-141.
(2) ضبط الجند: أي أمسك بهن الجند وسيطروا عليهن.(17/146)
القتال، فهم ملتحقون بالنسوان، وقد سبق القول فيهن، ولا يطلب من الصبيان بيعةٌ؛ إذ لا قول لهم، وليس على النسوان بيعة إلا بيعة الإسلام.
فصل
قال: " ولو استعان أهل البغي بأهل الحرب ... إلى آخره " (1) .
11009- مضمون الفصل مسألتان: إحداهما- استعانة أهل البغي على أهل العدل بأهل الحرب، واستعانتهم بأهل الذمة على أهل العدل.
فأما إذا استعانوا بأهل الحرب علينا، فلا أمان لأهل الحرب في حقوقنا؛ فإنا وإن كنا ننفذ أحكام البغاة، فشرط تنفيذها أن تكون موافقة لموجب الشرع والدين، ولا أمان مع القتال، فيستحيل أن ينفُذ أمانهم علينا.
ثم ما يتلفه أهل الحرب لا تضمين به؛ لأنهم في حقوقنا أهل حرب، ثم قال الأئمة المراوزة: يُتبع منهزمهم يعني أهل الحرب، ويذفّف على جريحهم، وتُغنم أموالهم، وحكي عن القاضي أنه قال: لا يتبع مدبرُهم ولا يذفّف على جريحهم، لأنهم صاروا من أهل البغي بالأمان، فيثبت لهم حكمُ أهل البغي، وهو عندنا زلل ولا يثبت لأهل الحرب في حقوق أهل العدل أمان، ولا عُلْقة أمان، وهم بمثابتهم لو انفردوا بمقاتلة المسلمين.
واشتهر اختلاف الأصحاب في أنه هل ينعقد لهم أمان في حق أهل البغي: فمنهم من قال: ينعقد لهم الأمان؛ فإنهم أمّنوهم، ومنهم من قال: لا ينعقد الأمان على الصحة في حقوق البغاة أيضاً؟ فإنه معقود على الفساد، والأمان لا يتبعّض، ثم إن صحّحنا الأمان لهم، فلا كلام، وإن لم نصحّحه، فليس للبغاة أن يغتالوهم؛ فإن ما جرى منهم أمان فاسد، والأمان الفاسد يمنع الاغتيال لهم، فهم مردودون إلى مأمنهم.
ولو قال أهل الحرب -وقد وقعوا في الأسر-: ظننّا أنه يحل لنا مقاتلتكم والاستعانةُ
__________
(1) ر. المختصر: 5/160.(17/147)
بنا، وهؤلاء حسبنا أنهم الفئة المحقة، وقالوا: ظننا أنهم استعانوا بنا في مقاتلة الكفار، وما حسبناكم مسلمين، فهذا موضع الخلاف المشهور: قال قائلون من أئمتنا: نصدّقهم إذا احتمل ما قالوه، ونعاملهم معاملة البغاة، فنقتلهم مقبلين ولا نقتلهم مدبرين، ونُبلغهم المأمن، وهذا هو الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: نقتلهم حيث ثقفناهم، ومجرد ظنون الكفار لا يؤمّنهم، وقد ذكرنا أنه لا أمان على أهل العدل.
هذا كلامنا (1) في استعانة أهل البغاة بالكفار الحربيين.
11010- فأما إذا استعانوا بجماعة من أهل الذمة، فإن قالوا: قد علمنا حقيقة الحال، ولم نرد بالقتال إلا أن ننال منكم [ونستأصلَ] (2) شأفتكم، فينتقض العهد بهذا، ويُقتلون مدبرين ومقبلين، وتُغنم أموالهم، ولا يُبْلَغون المأمن، ولا يضمّنون ما أصابوا؛ فإنهم أهل حربٍ.
وإن قالوا: ظننا أنه يحل لنا مقاتلتكم، وذكروا حالةً يمكن صدقهم فيها، فللأصحاب في هذا تردد: أولاً - قالوا: إن ادّعَوْا أنهم كانوا مكرهين على حضور المعركة، فلا نحكم بانتقاض عهدهم، ونقاتلهم مقاتلةَ البغاة: مقبلين غير مدبرين، وإن لم يدَّعوا الإكراه، وزعموا أنا اتبعنا هذه الفئة على علم، ولم نخرج عن متابعة المسلمين كلهم، فحاصل ما ذكره الأئمة في ذلك يستدعي تقديم أصولٍ.
وهذا فصل ألحقه معظم الأصحاب بالظواهر، وفيه تشعيث (3) وغوص في أعماق الفقه، لا يتأتى الانتهاء إليه من غير تمهيد أصول، وتفصيل فصول، [فنقول] (4) : الكلام فيما يوجب نقض عهود أهل الذمة يأتي مستقصىً في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى، ونحن نذكر من ذلك المقدارَ الذي تَمَس إليه حاجتنا في بيان ما يختص بهذا الكتاب:
__________
(1) ت 4: " كلام ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) ت4: "تشعيب".
(4) في الأصل: " فيعود ".(17/148)
فما يصدر منهم ينقسم أولاً (1) قسمين: أحدهما - أن يؤثروا الالتحاقَ بدار الحرب، ونبذَ العهد إلينا، فلهم ذلك ولا نجبرهم على الوفاء بالذمة، هذا متفق عليه، وكان من الممكن من طريق المعنى أن نقول: الذمة إذا انعقدت فكما يلزمنا إدامتها لهم واستدامتها عليهم، فيلزمهم الوفاء بها، حتى إن حاوبوا نقضها، لم يُمكَّنوا، ولكن اتفق الأئمة على أنه لا مُعتَرض عليهم إذا نبذوا العهود، وسنذكر شرّ ذلك في الجزية، إن شاء الله عز وجل.
ثم من أثر رفع الحجر عنهم ألا نغتالَهم، ولا نتعرضَ لأموالهم وذراريهم، ونبلغهَم في حكم الأمان مأمنهم، فإذا انتهَوْا إلى مكانٍ يقطنه ذوو نجدة من الكفار فتنقطع آثار الأمان حينئذ. هذا قسم.
11011- والقسم الثاني - ألا ينقضوا العهود، ولكن يأتوا بأمرٍ يخالف العهد، وهذا ينقسم قسمين:
أحدهما - أن يخرجوا عن الطاعة، ويُبدوا صفحة الخلاف، وذلك بأن يمتنعوا عن إجراء الأحكام عليهم، ونهايتُهم في هذا أن يجتمعوا وينصبوا علينا قتالاً، ويلتحق بهذا القسم امتناعُهم عن أداء الجزية، وليس هذا من غرضنا الآن.
والطرف الذي هو مقصودنا من هذا القسم خروجُهم عن المؤالفة والاستسلام لما يجري عليهم من الأحكام، والمشاقّةُ نهايتها أن يبدوا القتال، فلا خلاف أن هذا ينقض العهد.
والقسم الثاني - جنايات عظيمة تصدر منهم متعلقةً بأهل الإسلام، كالزنا بالمسلمة، أو قتل مسلم، أو جرحه، ففي انتقاض عهدهم بصدور هذه أوجه، وغرضنا أن نذكر ما يضبطها، فإذا أتَوْا بجرائم عظيمة، ولما ينتهوا بسببها إلى سلّ اليد عن ربقة الطاعة، ولم يُبدوا امتناعاً عن إجراء الأحكام عليهم، [فهذا محل] (2) التردد في انتقاض العهد، وما لا يبلغ هذا المبلغ من سوء أدب، وإظهار خمر، وتظاهر
__________
(1) ساقط من (ت 4) .
(2) في الأصل: " فهل يحلّ ". والمثبت من (ت 4) .(17/149)
بإبداء شعار، فلا ينتقض العهد به على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله.
فإن كان انتقاض العهد بالجهاد والخروج عن الطاعة، ونصب القتال، فالمذهب الذي عليه التعويل أنا نقاتلهم على أماكنهم، ونغنم أموالهم ونقتلهم، ولا نبلغهم مأمناً، ولا خلاف أنهم إذا استشعروا ظلال السيوف، ووقعَ الحتوف، [فطلبوا] (1) ذمةً مبتدأة، عقدناها لهم، وسنعطف على هذا القسم.
11012- ولو انتقض عهدهم بسبب لا يمكن نسبتهم فيه إلى قصد الهتك والتهجم على حريم الإسلام، كما سنصفه من بعدُ، إن شاء الله ولكنهم على الجملة أوصلوا أذى إلى المسلمين عن جهل؛ فإذا نفذ الحكم بانتقاض الذمة، فهل نغتالهم أو نبلغهم مأمنهم؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما في الجزية إن شاء الله.
ولو انتقض عهدهم -على مذهبٍ - بسببِ عظائمَ صدرت منهم في آحاد المسلمين، فلا خلاف أن موجب تلك القضية يجري عليهم، حتى إن قَتلوا، اقتصصنا منهم، وإن أتلفوا، غرّمناهم.
وكان لا يبعد من طريق القياس أن يقال: إذا حكمنا بانتقاض عهدهم، صاروا حرباً لنا، ولا حُكم على الحربي وقد حصل نقض العهد مع موجِب القصاص، ولكن أجمع الأصحاب على استيفاء حقوق المسلمين منهم، ولو لم نسلك هذا المسلك، وفرعنا على المذهب الذي انتهينا إليه، للزم ألا يستوجب ذمي قصاصاً بقتل مسلم، فإذاً إجراء الموجبات والقضايا في الجرائم من أحكام الذمة السابقة، وإن كان لا يبعد أن نبلغهم المأمن -وقد نبذوا العهد- لآثار الأمان السابق، وإجراء الأحكام -وإن انتقض العهد- من بقاء الذمة السابقة، وهذا مما يلزم، فلا سبيل إلى دفعه. نعم، لو نبذوا العهد وأظهروا الخلاف ونصبوا القتال، فصاروا (2) حرباً لنا، ثم قتلوا، فلا قصاص حينئذ ولكن نتبعهم ونقتلهم حيث نثقفهم.
__________
(1) في الأصل: " وطلبوا ".
(2) ت 4: " وصاروا ".(17/150)
ثم إذا حصل انتقاض العهد، [بهذه] (1) الأمور الخاصة، فهل [نغتالهم] (2) أو نبلغهم المأمن؟ فعلى قولين مرتبين على القولين فيه إذا انتقض عهدهم بسبب أبدَوْا فيه جهلهم عذراً كما سنصفه إن شاء الله، وهذه الصورة أولى بألا يُبلغوا فيها المأمن لما ارتكبوه من الجرائم، وإن كانت في وقائع خاصة.
فانتظم من ذلك أنهم لو نبذوا (3) إلينا العهد من غير أذى، فنقطع بتبليغهم مأمنهم، ولو نقضوا العهد وآذنوا بقتالٍ وأمرٍ (4) يشعر بالخروج عن الطاعة الكلية، فالمذهب أنا لا نبلغهم مأمنهم ونغتالهم وأموالهم. وأبعد بعض أصحابنا فذكر هاهنا قولاً أنا نبلغهم إذا انكفوا عن الأذى، وهذا [أخذوه] (5) من أنهم لو طلبوا الذمة (6) نجيب إليها.
وإن حكمنا بانتقاض عهدهم بسبب أظهروا فيه عذراً ممكناً، ففي تبليغهم مأمنهم قولان، (7 وإن نقضنا عهدهم لجرائمَ خاصة فأحكام تلك الجرائم مجراة عليهم في حقوق المسلمين، وفي تبليغهم مأمنهم قولان 7) . هذه مقدمات مست الحاجة إليها.
11013- ونحن نعود بعدها إلى استعانة البغاة بأهل الذمة في مقاتلة أهل العدل، ولا بد من ذكر الأقسام وباستيعابها يحصل استيفاء الأحكام، فنقول: إن كانوا مكرهين، فالذمة لا تزول، ولكنا نقاتلهم مقاتلةَ البغاة، وينقدح في هذا القسم غامضةٌ لا يتأتى شرحها الآن.
وإن قالوا: علمنا بأن الذين استعانوا بنا بغاة، وما كنا مكرهين، فلا شك أنه ينتقض عهدهم لِما أظهروا من القتال على علم من غير عذر.
__________
(1) في الأصل: " فهذه ".
(2) في الأصل: " لنا لهم "، والمثبت من (ت 4) .
(3) ت 4: " فانتظم من ذلك لم نبذوا إلينا العهد ".
(4) ت 4: " وآذوا بقتال، ولم نشعر ".
(5) مكان بياضٍ بالأصل. وهو في (ت 4) .
(6) ت 4: " الدهر ".
(7) ما بين القوسين سقط في (ت 4) .(17/151)
وإن قالوا: ظننا أن الفئة المستعينة بنا هي العادلة، وقدّرنا أنهم المحقون -ومن الممكن أن يخطر ذلك لهم؛ فإن الفئة العظيمة من بغاة المسلمين على هذا العقد- فهل ينتقض عهدهم وهم على جهلهم؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه ينتقض بصورة القتال، وهذا هو الذي وعدنا أن نذكره؛ إذ أجرينا في المقدمات إمكانَ انتقاض العهد مع التمسك بعذر، وكذلك لو قالوا: ظننا أنهم استنجدوا بنا على الكفار، وما حسبناكم مسلمين -وأمكن صدقهم- ففي انتقاض عهدهم قولان: فإن قلنا: ينتقض العهد لصورة القتال، فلو كان الإمام شرط عليهم ألا يقاتلوه، فإذا قاتلوه عن جهلٍ، فهل ينتقض عهدهم؟ فعلى وجهين: أحدهما - ينتقض؛ لأن العهد كان مشروطاً بشرط؛ فلا يبقى مع تخلف الشرط. والثاني - لا ينتقض؛ فإنّ شرطَ الانكفاف عن القتل محمول على الإقدام عليه عمداً على علم.
ولو قالوا: ظننا أن المسلمين إذا تفرقوا واستعان بنا فئة منهم على فئة، فعلينا أن نذب عن الناحية التي نحن قاطنوها، ولم نعتقدهم (1) مبطلين، فهذا الاحتمال أبعدُ؛ فإن في النفوس التمييزَ بين المحق والمبطل.
وإن [كان فئة] ، (2) لا يقاتلون، وإنما يقاتل البعض دون البعض، فإذا ذكروا مثل هذا، فالأوجه انتقاض العهد، وأجرى بعض أصحابنا القولين في الانتقاض على التفصيل الذي ذكرناه.
11014- ونعود الآن إلى أوائل الكلام، فنقول: إن انتقض عهدهم على علم من غير عذر، فلا خلاف أنا نقتلهم مقبلين ومدبرين، وقد ذكرنا أن القول (3) الذي عليه التفريع أن هؤلاء يُبلغون المأمن، ثم ما أتلفوا بعد إظهار القتال لا يضمنونه، لأنهم أهل حربٍ، وقد انتقض عهدهم قبل صدور الإتلاف منهم، وإن حكمنا بانتقاض العهد في صور الجهل -حيث يقيمون عذراً- فقد ذكرنا قولين في أنهم هل يُبلغون المأمن؟
__________
(1) ت 4: "نعتقدكم".
(2) في الأصل: " وإن كل فئة ".
(3) ساقطة في (ت 4) .(17/152)
فإن قلنا: لا يبلغون المأمن على أحد القولين، فنقتلهم مقبلين ومدبرين، ونذفِّف على جرحاهم، فإنه يُفعل ذلك بهم بعد انقضاء القتال.
وإن قلنا: نبلغهم مأمنهم، فهل نقتلهم منهزمين؟ اختلف أصحابنا في المسألة؛ فمنهم من قال: لا نقتلهم منهزمين، كما لو انقضى القتال، والتفريع على أنا لا نغتالهم، ومن انهزم، فقد ترك القتال، ومن أصحابنا من قال: نقتلهم منهزمين، ونذفّف؛ فإن هذا من بقايا القتال، وكأنه عقوبة لهم في مقاتلتهم، وقد ذكرنا أن العقوبات تقام عليهم، وما أتلفوه في القتال -والتفريع على أنهم يبلغون المأمن- فهل يضمنونه؟ الظاهر عندنا أنهم يضمنونه؛ فإنهم في بقية من الأمان؛ ولهذا نبلغهم مأمنهم؛ ويستحيل أن نلتزم أمانهم، ولا نلزمهم ما يتلفون، فيخرج من ذلك أنهم ما صاروا أهل حرب على الإطلاق، وقد نرى في بعض المجموعات أنا إذا حكمنا بانتقاض عهدهم لا يضمنون ما يتلفون، وهذا لا يعد من المذهب، ويحمل على هفوة صادرة عن قلة الفكر.
وإن قلنا: إن عهود أهل الذمة لا تنتقض في صورة الجهل، فهم على ذمتهم إذا انقضى القتال، والكلام في أنهم هل يلتزمون ما يتلفون في حالة القتال؟ قال الأئمة رضي الله عنهم: يلزمهم ضمان ما يتلفونه حالة القتال ولا يخرج فيهم القولان المذكوران في أهل البغي، فإنا حططنا الغرم عنهم في قولٍ؛ استعطافاً لقلوبهم؛ وقَطْعاً للتبعات الثقيلة التي تمنع من الرجوع إلى الطاعة، وهذا المعنى لا يتحقق فيهم، وبالجملة ليسوا من المؤمنين، والله أمرنا بالإصلاح بين المؤمنين، ولم يذكر تَباعةً بدمٍ ولا مال، فيختص هذا التخفيف بهم، ولكنا لا نقتلهم مدبرين؛ فإنا نفرّع على أن ذمتهم باقية، والذمة حاقنة للدم، فسبيلهم في القتل كسبيل أهل البغي لا نتبع مدبرهم ولا نذفف على جريحهم، ولكنا نضمّنهم ما يتلفون.
ثم إن أوجبنا القصاص على أهل البغي، ففي إيجابه على أهل الذمة -والتفريع على أن ذمتهم غير منتقضة- وجهان: أحدهما -[أنا نوجب القصاص عليهم، كما قطعنا بإيجاب الغرم فيما أتلفوه. والثاني - أنه لا يجب القصاص عليهم لمكان الشبهة المقترنة بأحوالهم.(17/153)
فهذا نجاز الفصل في أحكام أهل الذمة] (1) إذا أعانوا البغاة على أهل العدل.
وقد انتهى بانتهاء هذا الفصل مقصود الكتاب، ونقل المزني فصولاً سهلة المُدرك قريبة المأخذ نجمعها في فصل واحد.
فصل
قال الشافعي رحمه الله: " ولو أتى واحد منهم تائباً، لم يقتص منه ... إلى آخره" (2) .
11015- هذا عَطَفه على أهل الذمة، وأراد المسلمين من أهل البغي، والدليل عليه أنه علّل فقال: " لأنه مسلم محرم الدم "، ثم ذكر سؤالاً وناظر به مناظرةً، وليس فيه أمر يتعلق بمقصودنا، وذكر طرفاً من الكلام في كيفية دفع الواحد يصول على الإنسان في نفسه أو ماله، هذا يأتي في باب الصيال، إن شاء الله.
11016- ثم قال: " لا ينبغي أن يستعين الإمام على أهل البغي بمن يرى قتلهم مدبرين " (3) -كأصحاب أبي حنيفة (4) ومن يوافق مذهبه مذهبهم-.
إذا كان الإمام يرى رأينا ويذهب إلى ما نذهب إليه، فلا ينبغي أن يستعين بمن يخالفه في كيفية مقاتلة أهل البغي، فإنهم لا يتحاشَوْن إذا احمرّ البأس أن يتجرؤوا على ما يستحلون، وكذلك لا يستعين الإمام بالكفار عليهم، لأنهم يستحلون قتلهم على الوجوه كلها، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] ولهذا لا يجوز للإمام أن يتخذ جلاّداً مشركاً لإقامة الحدود على المسلمين.
وأما الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين، فهي جائزة على الجملة، وفي تفصيلها كلام سيأتي في السِّيَر، إن شاء الله.
__________
(1) كل ما بين المعقفين سقط من الأصل. وهو مثبت من (ت 4) .
(2) ر. المختصر: 5/160.
(3) ر. المختصر: 5/161.
(4) راجع تعليقنا على مذهب الأحناف آنفاً.(17/154)
ثم قال رضي الله عنه: " لا يُرمَوْن بالمنجنيق ولا بالنار ... إلى آخره " (1)
11017- منع الشافعي مقاتلتهم بالأسباب العظيمة الفاحشة (2) التي تصطلمهم، وتأتي عليهم من غير بُقيا، وإنما يجوز نصب المنجنيق وما في معناه والمقاتلة بالنيران مع الكفار؛ فإنا نستحل قتل الكفار جرياً على موجب قوله عز من قائل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] والمقاتلة مع أهل البغي ينبغي أن تكون مع الإبقاء عليهم.
وهذا مما يجب التنبه له، فإنا ذكرنا فيما تقدم أنا إذا اصطففنا في مقاتلتهم، لم يكن القتال على حد دفع صائل على مصول عليه، حتى لا نبدأ بهم، وإن بدؤوا بنا، اقتصرنا على حد الدفع، هذا مما لا يمكن، ولو فرضنا افتتاح ذلك، كان استقتالاً، وتعرّضاً للهلاك، ولكن للقتال مع محاولة الاستيلاء والإبقاء عليهم مبلغاً يُنْتَهى إليه، ويوقف، فلا يزاد عليه. ولقصد الاستئصال والاصطلام حد يعرفه أهله، فرأى الشافعي رضي الله عنه نصبَ المنجنيق وإرسالَ السيل على معسكرهم يبعد أن يقاتلوا به، وإضرامُ النيران فيهم من قصد الاصطلام.
فإذن ليتخيل الفقيه مراتب: إحداها - الاصطلام، وهو مع الكفار، [والأخرى -] (3) الاقتصار قدر الحاجة في الدفع، وترك الابتداء (4) ، هذا بين الصائل والمصول عليه، كما سيأتي، إن شاء الله. والآخر - القتال مع أهل البغي، وفيه الإبقاء، وفيه (5) قصد كسر شوكتهم لردهم إلى الطاعة، ولو ابتدؤوا فنصبوا علينا مثل ذلك، قاتلناهم، ولو أحاطوا بنا وعلمنا أنهم يقعون بنا إن لم ندفعهم، فندفعهم، فإنا نبيح هذا في دفع الصائل الواحد إذا كان لا يندفع إلا به.
__________
(1) ر. المختصر: 5/161.
(2) ساقطة من (ت 4) .
(3) في الأصل كلمة غير مقروءة والمثبت من (ت 4) .
(4) ت 4: " الإهدار ".
(5) ساقطة من (ت 4) .(17/155)
ومما يتعلق بهذا أنهم لو تحصنوا ببلدة مسوّرة (1) وكان لا يتأتى الاستيلاء عليها إلا بالأسباب التي ذكرناها، فنقول: إن كان في البلدة رعايا والأسباب التي [ذكرناها] (2) تأتي عليهم، فلا نستحل إقامةَ الأسباب المصطلمة.
وإن لم يكن في البلدة إلا المقاتلة، فإن تمكن الإمام من هدم السور، فليفعل، وإن (3) كان لا يتأتى ذلك -وهم يدافعون على السور- إلا بأن يقتلوا بأسباب [تنافي] (4) المعنى الذي ذكرناه من الإبقاء، فالذي أراه أنه لا يجوز قتلهم بهذه الأسباب العظيمة، كالإحراق ونصب المنجنيق، وفتح السيول الجارفة؛ فإن الإمام إنما ينظر للمسلمين فيما يفعل، وتركُ بلدة في أيدي طائفة من المسلمين -وقد يستمكن من حيل في محاصرتهم، والتضييق عليهم- أقربُ إلى الإصلاح العام من اصطلام أمم.
فإن قيل: كان عليّ رضي الله عنه يقاتل البغاة مقاتلة من يصطلم، فلا يُبقي، وقيل: إنه قتل ليلة الهرير بنفسه ألفاً وخمسمائة. قلنا: كان البغاة على حد من الجد في القتال لو لم [يقابلوا] (5) بما كان يفعله علي رضي الله عنه لاصطُلم وأتباعه، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: ومعاوية جاد في القتال منتصفاً أو مستعلياً.
11018- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه تنفيذ أقضيتهم، وقد قدمنا هذا، والقولُ الجامع فيه أن ما وافق من قضائهم إجماعاً، أو مذهباً مجتهداً فيه مظنوناً، فهو منفّذ غيرُ مردود.
والذي نزيده تفصيلُ القول في كتب قُضاتهم، والذي يعتمد في ذلك أنهم إذا أبرموا قضاء، وكتبوا إلى قاضينا باستيفاء ما ثبت عندهم، فإنا نقبل الكتاب، ونعمل بموجَبه على وفق الشرع.
وإن سمع قاضيهم بينةً وكتب إلينا يلتمس تنفيذ الحكم بها، ففي قبول كتابهم على
__________
(1) ت 4: " مشهورة ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) ت 4: " فإن ".
(4) في الأصل: " ما في ".
(5) في الأصل: " يقابله ".(17/156)
هذا الوجه قولان: أحدهما - أن قاضينا يقبل، ويحكم على حسب ما يعمله القاضي من أهل العدل إذا كتب إليه قاضٍ من أهل قضاة بلاد أهل العدل، وهذا هو القياس؛ فإنا إذا (1) نفّذنا أقضيتهم، فلا معنى بعد ذلك [للتلوّم] (2) والتردد (3) والامتناع في التفاصيل.
والذي يوضح ذلك أن الكتب إنما ترد في الذين يتصلون بديارنا، فإذا كنا ننفّذ أقضيتهم حتى لا تتعطل أحكام الرعايا في ديار البغاة، فلو رددنا كتب قضاتهم، لتعطلت أحكام المتصلين بنا.
والقول الثاني - أنا لا نقبل كتب قضاتهم إذا لم يكونوا قد أبرموا الأحكام، فإنا لو قبلناها، لكنا معهم متعاونين، وليس لأهل العدل أن يعاونوا أهل البغي فيما يقيم مناصب قضاتهم وولاتهم، والأقيس الأول.
وذهب بعض أصحابنا إلى طرد القولين فيما أبرموه واستعانوا فيه بالاستيفاء، وهذا ذكره شيخنا وصاحب التقريب
[وكنت أودّ] (4) لو فصل فاصلون بين الأحكام التي تتعلق بالبغاة وأصحاب النجدة والامتناع، وبين ما يتعلق بالرعايا.
11019- ثم ذكر الشافعي أن شهادة أهل البغي مقبولة، فإنهم يعتقدون بتأويل، كما تقدم ذكره، واستثنى الخطّابية، ولا تعلق لهذا بأحكام البغاة، والخطابية يرون الكذب كفراً، ويعتقدون أن من أخبرهم من أهل دينهم باستحقاق شيء، فلهم أن يشهدوا له جزماً، والقول في ذلك يأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله، وفيه نتكلم في أهل البدع والأهواء.
11020- ثم قال الشافعي: " وإن قُتل باغ في المعترك غُسّل وصُلِّي عليه " والأمر
__________
(1) ساقطة من ت 4.
(2) مكان بياضٍ بالأصل. والتلوّم معناها التأخر والترقب.
(3) عبارة الأصل: " فلا معنى بعد ذلك للتردد ".
(4) زيادة من (ت 4) .(17/157)
على ما ذَكر، أنا إذا ظفرنا بقتيل من البغاة، غسلناه وصلينا عليه ودفناه، ولا نُثبت له رتبة الشهادة. وأبو حنيفة (1) لا يرى غسلَهم والصلاةَ عليهم؛ تغليظاً عليهم، وأما القتيل من أهل العدل، ففيه قولان: أحدهما - أنه تثبت له مرتبة الشهادة كقتيل المشركين. والثاني - لا تثبت له مرتبة الشهادة المسقطة للغسل والصلاة. وقد ذكرنا [هذا] (2) في كتاب الجنائز عند ذكرنا الشهداء ومراتبهم.
11021- ثم قال: " يكره لأهل العدل أن يتعمدوا قتل ذوي الأرحام " والأمر على ما ذكر، فحقّ على الإنسان أن يجتنب قتل ذوي الأرحام ما وجد إليه سبيلاً، ولا فرق بين أن يكونوا من المحارم، أو لا يكونوا منهم، ونحن نكره ذلك في الكفار، فلا نرى للمسلم أن يختار قتل من هو من ذوي أرحامه، " وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه عتبة، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه يوم أحد " (3) .
وما ذكرناه كراهية متأكدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته " (4) ، وروي أنه عليه السلام كان يقول يوم دخل المدينة على بعير: " يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. فسمع عبد الله بن سلام ذلك فأسلم، وقال: هو نبي حق " (5) .
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 257.
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه ... " رواه الحاكم (3/223) والبيهقي (8/186) وضعفه الحافظ بالواقدي، وقال ابن الصلاح: في ثبوته نظر (ر. التلخيص 4/191 ح 1212، مشكلات الوسيط - بهامش الوسيط (7/19) .
(4) حديث " أنا الرحمن خلقت الرحم ... " سبق تخريجه.
(5) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم دخل المدينة " يا أيها الناس أفشوا السلام " رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي، والحاكم من حديث عبد الله بن سلام (الترمذي: صفة القيامة، باب حديث أفشوا السلام، ح 2485، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب ما جاء في قيام الليل، ح 1334، والأطعمة، باب إطعام الطعام،=(17/158)
فإن قيل: خصصتم تغليظ الدية بقتل ذي الرحم المحرم، وهاهنا علقتم الكراهية بقتل ذي الرحم؟ قلنا: ما قدمناه في التغليظ تفصيل المذهب، ثم ذلك أمرٌ محتوم مخالف للقياس، اتبعنا فيه آثاراً، وهذا بيان كراهية في [التوقي] (1) ، ربطناه بالأخبار الواردة في صلة الأرحام. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]
ثم ذكر التوارث بين من يقتل من إحدى الفئتين قتيلاً من الفئة الأخرى، وقد استقصينا هذا في الفرائض فلا نعيده.
ثم ذكر فصولاً تتعلق بالأمان، وهذا يأتي في كتاب السير على أبلغ وجه، إن شاء الله عزوجل.
***
__________
=ح 3251، أحمد: 5/451، الدارمي: 2/275، الحاكم؛ 3/213، 16014، إرواء الغليل: 3/239 ح 777) .
(1) في الأصل: " التوثق ".(17/159)
باب حكم المرتد
قال الشافعي رضي الله عنه: " من ارتد عن الإسلام إلى أي كفر كان ... إلى آخره " (1) .
11022-[كلمة] (2) الردة إذا صدرت ممن ليس بمكلَّف كالصبيان والمجانين، فلا حكم لها، وسبيلها كسبيل صدور الإسلام منهم على ما تقدم ذكرهم (3) في كتاب اللقيط.
فأما المكلف من المسلمين إذا صدرت منه الردة، أُجبر على الإسلام بالسيف، فإن امتنع، ضربت رقبته، ولا فرق بين الرجل والمرأة، والحر والعبد. وخلاف أبي حنيفة (4) في ردة المرأة مشهور.
11023- والسكران إذا ارتد، فردته مُجراة على قياس أقواله في العقود والحلول، وقد ذكرنا طرق الأصحاب فيها.
والحاصل المتعلق بغرضنا قولان على طريقة مشهورة: أحدهما - أن ردته كردة الصاحي. والثاني - أن ردته ملغاة. والقولان جاريان في جميع أقواله.
ومن أصحابنا من رأى التغليظ [عليه] (5) ، وخصص القولين بما لا يتعلق بالتشديد والتغليظ، فعلى هذا تثبت الردة منه إذا تلفظ بكلمة الردة، ثم الصحيح إجراء القولين
__________
(1) ر. المختصر: 5/165.
(2) سقطت من الأصل.
(3) كذا في النسختين: " ذكرهم ".
(4) ر. مختصر الطحاوي: 259، مختصر اختلاف العلماء: 5/471 مسألة 1624، الجامع الصغير: 251.
(5) في النسختين: " عليهم ". والمثبت من المحقق.(17/160)
في عوده إلى الإسلام. ومن أصحابنا من قال: لا يصح منه ما لَه، ويصح منه ما عليه، فلم يصحّح إسلامه وصحّح ردته.
ثم قال الشافعي رحمه الله: إذا حكمنا بردته، فينبغي ألا نقتله (1) حتى يُفيق، ونعرض الإسلام عليه، فعساه يرجع، فلو تاب ورجع في السكر، فإن قلنا: لا تصح توبته، فوجودها كعدمها. وإن قلنا: تصح توبته، فلو أفاق، عرضنا عليه التوبةَ مرة أخرى حتى يأتي بها على ذُكر وخُبْر وبصيرة.
فلو ابتدره إنسان وقتله؛ فقد ذكر بعض الأصحاب خلافاً في أنه هل يضمنه كما يضمن به المسلم إذا قتله؟ فالذي ذهب إليه المحققون: أنه يضمنه؛ فإنه قتله بعد التوبة المحكوم بصحتها، وذكر بعض الأصحاب قولاً في إهداره، وزعم أنه مأخوذ من مسألة، وهي إذا حكمنا بإسلام مولود، وكان علوقه على الكفر، ولكن أسلم أحد الأبوين أو كلاهما، فإذا بلغ فقتله إنسان قبل أن يعرب عن نفسه بالإسلام، ففي وجوب الضمان، خلاف ذكرناه في كتاب اللقيط، ووجه التقريب عند هذا القائل أن الإسلام الحاصل بالتبعية إسلام حُكميّ، وكذلك الإسلام الحاصل في السكران إسلام
حُكميّ، لم يصدر عن ثَبَتٍ في الاعتقاد.
وهذا ليس بشيء. فإنا إذا صححنا إسلامه، [فهو متأصل في الإسلام ليس تابعاً لأحد، فإن قيل: لم يصدر إسلامه] (2) عن عقد ثابت، قيل: كذلك صدرت الردة منه في سكره، فلا فرق بينها وبين التوبة عنها، وإن ذكر هذا القائلُ [هذا القولَ] (3) البعيد فيه إذا كان قد ارتد صاحياً، ثم سكر وأسلم، فقد يتضح الكلام هاهنا بعض الاتضاح، ولكن لا معول عليه مع حكم الفقيه بتصحيح الإسلام من السكران، وتنزيل أقواله وأفعاله منزلة أقوال الصاحي وأفعاله، ولسنا نفرع على هذا القول الضعيف؛ فإنه لا مستند له من القوانين.
__________
(1) ت 4: " لا يقتل ".
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 4) .
(3) الزيادة من (ت 4) .(17/161)
وقد نجز الكلام فيمن تثبت الردة بقوله (1) .
11024- ولا حاجة إلى تفصيل القول فيما يكون ردة من الأقوال، وإنما يغمض الكلام في تكفير المتأولين من أهل البدع، وليس ذلك من فن الفقه.
ونحن نقول بعد هذا: الأفعال إذا دلت على الكفر، كانت كالأقوال، وذلك إذا رأينا من كنا نعرفه مسلماً في بيت الأصنام وهو يتواضع لها تواضع العبادة، فهذه عبادة (2) كفر. وقد يُجري الأصوليون الأفعالَ المتضمنة استهانةً عظيمة مجرى عبادة الأصنام، كطرح المصحف في الأماكن القذرة، وما في معناه. والقول في ذلك يطول، وهو من صناعة الأصول.
وفي بعض التعاليق عن الأمام شيخي: أن الفعل المجرد لا يكون كفراً، وهذا زلل من المعلِّق، أوردته للتنبيه على الغلط فيه (3) .
11025- وسبيلنا بعد ذلك أن نتكلم في التوبة على (4) الردة، فنقول: أولاً التوبة مقبولة عن كل كفرٍ، وتقبل توبة الزنديق، ومن كان يُظهر مذهب الباطنية، وإن كان يبوح بوجوب التقيّة، وما يظهره من التوبة يمكن تنزيله على قاعدة التقية، ولكن
__________
(1) ت 4: " بوجهه ".
(2) ت 4: فهذا كفر.
(3) ذكر الإمام هذه القضية في كتابه (البرهان في أصول الفقه) حينما أورد ما حُكي عن أبي هاشم الجبائي من " أنه كان لا يرى السجود للصنم محرّماً، وإنما المحرم القصد " وأنكر نسبة هذا إليه، وأنه لم يجده في مصنفاته مع طول بحثه عنه، ثم قال: والذي ذكره من نقل مذهبه: أن السجود لا تختلف صفته، وإنما المحظور المحرم القصد، وهذا يوجب ألا يقع السجود طاعة، من جهة تصور وقوعه مقصوداً على وجه التقرب إلى الصنم. ومساق ذلك يخرج الأفعال الظاهرة قاطبة عن كونها قُرَباً، وهذا خروج عن دين الأمة، ثم لا يمتنع أن يكون الفعل مأموراً به مع قصدٍ منهياً عنه مع نقيضه. (ر. البرهان: 1/فقرة: 213) .
(4) كذا في النسختين: (على) . وهو صحيح، إذ تأتي على بمعنى (عن) قاله ابن هشام في المغني، واستشهد له بقول الشاعر:
في ليلة لا نرى بها أحداً ... يحكي علينا إلا كواكبُها
أي لا يحكي عنا إلا كواكبها. (ر. مغني اللبيب: 191) .(17/162)
مذهب الشافعي أن توبة الزنادقة والباطنية مقبولة، ولا يبقى بعد الحكم بإسلام الكفار تحت السيف لمفصِّل رأيٌ في التفصيل، مع أن الظاهر القريب من اليقين أن الكفار لم يحدثوا اعتقاد الحق، [إذ يغشاهم] (1) المسلمون.
وكذلك من ارتد إلى دين اليهود أو النصارى، ثم عصبناه لنضرب رقبته، فتاب، فتوبته مقبولة، والظاهر أنه جاء بها لِما استشعره من الخوف، وقد روي أن أسامة أشرف على جمع من الكفار في العُدّة التامة، فأسلم واحد منهم لما سلّ السيف عليه، فقتله أسامة؛ فاشتد نكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة؛ فقال: إنما قاله فرقاً مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلا شققت عن قلبه؟ " (2) .
وقال مالك (3) : توبة الزنديق مردودة، وأضاف الأصحاب هذا إلى الأستاذ أبي إسحاق رضي الله عنهما، والصحيح عندنا من مذهبه: أن الزنديق إن حُمل على التوبة، فتوبته مردودة. وإن رأيناه في استخلائه يظهر تخضُّعاً للإسلام وتعظيماً له وتندماً عما كان تقدم منه من انتحال (4) الزندقة، وتبين بقرائن الأحوال، والأمر كذلك أنه لا غرض له، إلا الرجوع إلى المسلك الحق، فالتوبة مقبولة على هذا الوجه إذا اطلعنا عليه منه.
وهذا التفصيل حسن؛ فإنه لو رُدّ رجوع الزنديق من كل وجه، فلا يبقى له طريق إلى الرجوع. وليس يمتنع أن يظهر الحقُّ لزنديق، كما لا يمتنع أن يتزندق مسلم.
ومذهب الشافعي قبول توبة الزنديق وإن كان مجبراً عليها اعتباراً بتوبة كل مرتد، فلو ارتد المسلم، ثم عاد، ثم ارتد مرة أخرى؛ فمذهب الشافعي وأصحابه قبول
__________
(1) في الأصل: ويغشاهم.
(2) حديث " هلا شققت عن قلبه " متفق عليه من حديث أسامة بن زيد (البخاري: المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحُرَقات من جهينة، ح 4269، والديات، باب قول الله تعالى: (ومن أصابها ... ) ، ح6478، مسلم: الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، ح 96) .
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/846 مسألة 1646، عيون المجالس: 5/2081، مسألة: 1502، القوانين الفقهية: 357، الكافي: 585، المعونة: 3/1363.
(4) ت 4: الأعمال.(17/163)
توبته، وإن تكرر ذلك منه، ولا ضبط في أعداد المرات.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إنما تقبل التوبة في الكرة الأولى، فإذا ارتد مرة أخرى، لم تقبل توبته أصلاً. وهذا من هفواته الفاحشة، ولا مبالاة بها.
11026- ونحن نذكر بعد ذلك استتابةَ المرتد، والتفصيلَ فيها. فنقول: الوجه مراجعتُه وعرضُ التوبة عليه، وهل نمهله ثلاثة أيام لعله يتوب؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا لا نمهله، وهو مذهب المزني؛ فإنه محمول بالسيف على الإسلام، وإسلامه يناقض هذا المعنى، ولا حياة في لحظة في الإصرار على الردة. والقول الثاني - أنا نمهله ثلاثة أيام، وهو فيها محبوس، ولا نمنعه الشراب والطعام.
ومعتمد هذا القول مذهب عمر رضي الله عنه، روي أن رجلاً قدم عليه من الشام، فقال له: هل من مَغْرَبَةِ خبرٍ؟ (1) فقال: لا، إلا إن نصرانياً أسلم، ثم ارتد، فقتله أبو موسى الأشعري. فرفع عمر يديه نحو السماء، فقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل أبو موسى، هلا حبستموه (2) في بيت ثلاثاً تلقون إليه كل يوم رغيفاً، لعله يتوب "؟ (3) ، ووجهه من جهة المعنى أنا نرجو عوده إلى الإسلام، وهو أقرب إلى الصلاح من ابتدار قتله.
ثم التقييد بالثلاث مأخوذ من قول عمر، ثم هي مدة ثابت بها خيار الشرط، ومال إلى التأقيت بها أقوال في مسائل: كإمهال تارك الصلاة، وكالفسخ بسبب العتق تحت
__________
(1) مغربة خبر: أي خبر جديد، ثم هي بفتح الميم وسكون الغين وكسر الراء وفتحها مع الإضافة. وقال الرافعي: " شيوخ الموطأ فتحوا الغين وكسروا الراء وشدّدوها ". وهو في الموطأ كما قال (2/837) .
(2) ت 4: " خليتموه ".
(3) أثر عمر رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ (2/837) ، والشافعي (ترتيب المسند: 2/87 ح 286) وعبد الرزاق في المصنف (18695) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/599) ، والبيهقي في الكبرى (8/206) ، وفي المعرفة (5032) ، وانظر التلخيص: (4/94 2016) .(17/164)
الزوج المملوك، ونفي المولود، وإمهال المُولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق، وإمهال المعسر بالنفقة. هذه المسائل يجرى فيها قول في الإمهال ثلاثاً.
11027- فإذا تبين أصل القولين؛ فقد اختلف أصحابنا في تنزيلهما، ونحن نذكر ترتيباً يجمع مسالك الأصحاب، فنقول: القولان في وجوب الاستتابة، فإن أوجبناها، فلا كلام، وإن لم نوجبها، فهل نستحبها، أم لا يجوز الإمهال أصلاً؟ فعلى وجهين. وعلى الأقوال كلها لو ابتدر مبتدر وضرب رقبة المرتد، فهو هدر، وإن أنّبنا (1) المبتدر. كذلك لو قتله قاتل قبل الاستتابة. وإذا لم نر الإمهال، ففي وجوب الاستتابة تردد عندنا.
ولو حُق قتله على الطرق كلها (2) ، فقال: اعترضت لي شبهة فأزيلوها، فهل [نناظره فيها ساعين] (3) في إزالة الشبهة وإظهار الحق؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن ذلك واجب. فإن إقامة الحجاج على كل ذي شبهة سهل. والثاني - أنا لا نفعل ذلك؛ فإن مسالك الشبهة (4) قد تدقّ مداركها، فيطول الكلام في المرادّات، وقد يذكر شُبهاً كثيرة من أول العَقْد إلى آخره ولا يُفصل الاعتراض (5) فيها في سنة، فلا معنى لالتزام ذلك. فإن قيل: كيف طريقه إذا اعترضت له شبهة؟ قلنا: يمكنه أن يبقى على إظهار الإسلام، ثم يستفيد الأجوبة عن الشبه من أئمة الصناعة؛ فإن ذلك معتاد في أهل الإسلام وطلبةِ العلم منهم.
وقد نجز القول في التوبة عن الردة.
__________
(1) كذا في النسختين: أنبنا: أي عزَّرنا، كما هو لفظ العز بن عبد السلام، والرافعي (ولعل فيها تصحيفاً) .
(2) ساقطة من (ت 4) .
(3) في الأصل: " يناظر فيها ساعياً ".
(4) ت 4: " الشبه ".
(5) ت 4: " ينفصل الأعراض ".(17/165)
فصل
قال: " ويوقف مالُه إذا ارتد وله مال ... إلى آخره " (1) .
11028- اختلف قول الشافعي في أن من ارتد هل يزول ملكه بنفس الردة، أم كيف السبيل فيه؟ وحاصل ما تلقاه الأئمة من كلام الشافعي ثلائة أقوال: أحدها - أن الملك يزول بنفس الردة، كما يزول استحقاق النكاح قبل الدخول. والقول الثاني - أنه لا يزول ملكه إلى أن يموت، أو يقتلَ مرتداً، وليس ملك اليمين كالنكاح، فإن إدامة نكاح المرتد على المسلمة يتضمن غضاً من الحرمات، وإن فرضنا ارتداد الزوجين فالمرتدة في المعنى كالمسلمة في هذا المأخذ. والقول الثالث - أن الملك موقوف، فإن عاد إلى الإسلام، تبثنّا أنه لم يزل بالردة، وإن قتل مرتداً أو مات على الردة، تبيّنّا أن الملك زال بنفس الردة، والردة في العمر في ملك اليمين كمدة العدة إذا فرض طريان الردة بعد تقيد النكاح بالمسيس (2) .
11029- فإذا ثبتت الأقوال، فالتفريع عليها: فإن حكمنا بأن الملك يزول بالردة فالتصرفات التي تستدعي ملكاً مردودة من المرتد، ولو كان التزم دَيْناً قبل الردة بجهة من الجهات، فديونه الثابتة قبل الردة مؤداة من الأموال التي ارتد عليها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب؛ فإن الردة وإن أزالت الملك، فحقها أن تكون كالموت؛ إذ الموت مزيل للملك، ثم الديون الثابتة في حالة الحياة تتعلق بما يخلّفه الميت، وهي متقدمة على حقوق الورثة، فلتقدم على حقوق أهل الفيء (3) ، بل هذه الديون أولى
__________
(1) ر. المختصر: 5/165.
(2) المعنى أن الملك يوقف إذا ارتد، فإذا هلك مرتداً، تبيّنا زوالَ ملكه، وإن عاد إلى الإسلام، تبينا أن ملكه لم يَزُل، وهذا كالنكاح بعد الدخول، فإن ارتدّ الزوج ومات مرتداً، تبينا ارتفاع النكاح بالردة، وإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، تبينا أن النكاح لم يَزُل، ومدة العمر في الملك كمدة العدة في النكاح.
(3) المعنى: أن مال المرتد الذي يزول ملكه عنه يكون فيئاً، وأصحاب الديون أحق من أهل الفيء.(17/166)
بالتعلق بالمال من جهة أن الزوال بالردة [عرضة للارتفاع] (1) ؛ لأن المرتد إذا أسلم عاد ملكه، والموت يزيل الملك على البتات، ويثبت حق الورثة على اللزوم. ولا خلاف [أنّا] (2) ننفق على المرتد من ماله ما بقّيناه.
وهل يتعلق بماله نفقات أقاربه الذين يلتزم المسلم نفقاتهم؟ ما ذهب إليه جماهير الأصحاب أن نفقاتهم تؤدى من ماله في حياته، فإن مات مرتداً أو قتل، فإذ ذاك يصرف الباقي إلى أهل الفيء.
وذهب الإصطخري إلى أن نفقات الأقارب لا تتعلق بماله على هذا القول، فإن سبيلها أن تتعلق بالملك، [ولا] (3) ملك للمرتد على القول الذي عليه التفريع، [والدليل] (4) عليه أنها تسقط بالموت، وإن كانت علائق الديون تتعلق بالتركة، وهذا الذي ذكره هو القياس الجلي.
ولو أتلف المرتد مالاً، فهل تؤدى قيمة المتلف من ماله؟ والتفريع على زوال ملكه - قال القاضي: يجوز أن يخرج ذلك على الخلاف في أن نفقة الأقارب هل تتعلق (5) بماله إلى اتفاق بيان أمره.
ولو اكتسب المرتد على هذا القول -بأن احتش أو احتطب- فالوجه: تثبيت الملك، ثم ظاهر القياس أن الملك يثبت لأهل الفيء ابتداءً، كالعبد يكتسب بهذه الجهات؛ فإن الملك يحصل فيما يحصل بالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد للمولى، ويجب أن يكون القول في شرائه كالقول في شراء العبد بغير إذن المولى، وكذلك الكلام في قبول الهبة كالكلام في قبول العبد الهبة من غير إذن السيد.
ثم إذا عاد إلى الإسلام عاد ملكه، كالعصير تزول المالية بانقلابه خمراً، فإذا عاد خَلاً عاد مالاً، وكالبيضة تبطل المالية فيها بانقلابها مَذِرةً، فإذا صارت فرخاً، عادت
__________
(1) في الأصل: " عن نفسه بالارتفاع ".
(2) في الأصل: " أنما ".
(3) في الأصل: " فلا ".
(4) في الأصل: " فالدليل ".
(5) ت 4: " هل تتعلق بماله يوماً يوماً إلى اتفاق أمره ".(17/167)
يوماً، وجلد الشاة تبطل المالية فيه إذا ماتت الشاة، ثم إذا دُبغ، عاد مالاً.
فإذا قلنا: الدين السابق يؤدَّى من المال، فلو كان قد رهن عيناً من الأعيان، فالرهن لا ينفك بردته حتى يقضي الدين، وكل ذلك متفق عليه، هذا تفريعٌ على قول زوال الملك.
11030- وإن قلنا: الملك باق مع الردة، فللسلطان أن يضرب عليه حجراً لأهل الفيء على الجملة، واختلف أصحابنا في أنه هل يصير بنفس الردة محجوراً عليه من غير احتياج إلى ضرب الحجر؟ فمنهم من قال: لا يصير محجوراً عليه ما لم يحجر عليه الوالي.
وبنى أصحابنا هذين الوجهين على أن الرجل الرشيد إذا صار سفيهاً، فطريان هذا المعنى عليه بعد الرشد هل يوجب اطراد الحجر عليه، أم هو مطلق إلى أن يحجر القاضي عليه؟ فيه خلاف مشهور في كتاب الحجر، فإن قلنا: لا يصير محجوراً بنفس الردة، فجملة تصرفاته نافذة من غير أن يُتعقب بالنقض، وإن قلنا: يصير محجوراً عليه لو ضرب السلطان عليه حجراً، فما الذي يمتنع عليه من التصرف؟ اختلف أصحابنا في منزلة الحجر في حقه؛ فمنهم من قال: سبيله إذا جرى الحجر عليه كسبيل المبذر السفيه؛ لأنه أتاه الحجر من صفة في نفسه، فالتعويل على رعاية حقه. ومنهم من قال: سبيله سبيل المحجور عليه بالفَلَس، وقد مهدنا في الكتب (1) تصرفَ السفيه وتصرفَ المفلس، [وتشبيهُه] (2) بالمفلس موجَّهٌ، [بأن] (3) المرعي حقوق أهل الفيء.
وتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: لا يصير محجوراً عليه في الحال، فالمذهب أن تصرفاته نافذ، كما قدمناه، وقال بعض أصحابنا: تصرفاته كتصرفات المريض مرض موته؛ لأن [السيف قريب] (4) منه.
__________
(1) ت 4: " الكبير "، وقد مضى ذلك في (كتاب الحجر) أصلاً، وفي مواضعَ أخر عَرَضاً.
(2) في الأصل: " بتشبيهه ".
(3) في الأصل: " فإن "، والمثبت من (ت 4) .
(4) في النسختين: " السفيه قرب ". والمثبت تصرف من المحقق نرجو أن يكون صواباً. والمعنى=(17/168)
وهذا مأخوذ مما قدمناه في كتاب الوصايا، وهو أن من قُدّم للاقتصاص منه، فأعتق ووهب، فهل يكون ما صدر منه بمثابة التبرعات في مرض الوفاة؟ فيه اختلاف.
وهذا الوجه عندي باطل هاهنا، فإن دفع السيف متعلق باختيار المرتد، وهو متمكن من إظهار كلمة الإسلام، ولتمكنه من إظهارها نقتله إذا أصر، ولم يظهرها.
ثم من ألحقه بالمريض، فلا ينبغي أن يقدر له ثلثاً؛ فإن حقوق أهل الفيء كحقوق الغرماء، ولا تفريع على الوجوه الضعيفة.
11031- وإن فرعنا على قول الوقف؛ فالحجر على ما ذكرناه، فإنا إذا كنا [نثبت] (1) الحجر على التفاصيل المتقدمة تفريعاً على أن الردة لا تزيل الملك، فالحجر -وهو وقفٌ- بقول الوقف أليق (2) ، ولو فرض منه تصرف قبل حكمنا باطراد الحجر عليه، فكل تصرف لا يقبل الوقف، فهو غير صحيح منه على قول الوقف، وكل تصرف يقبل الوقف يصح منه موقوفاً، فإن قُتل مرتداً بان بطلانه، وإن عاد إلى الإسلام، بانت صحته، وكل تصرف يختلف القول في قبوله الوقف، فهو خارج على الخلاف في هذه المسألة، وقد نجز الكلام في أملاكه وتصرفاته.
11032- والمرتد لا يرث أحداً، لا كافراً ولا مسلماً ولا مرتداً، ولا يرثه أحد فيه كفر أو عُلقة للإسلام، فيمتنع توريث المسلم منه وتوريثه من المسلم، بما فيه من الكفر، ويمتنع توريث الكافر منه وتوريثه من الكافر لما فيه من عُلقة الإسلام.
11033- ثم قال الشافعي رحمه الله: " ويقتل الساحر إن كان ما يسحَر به كفراً "، وهذا كما قال. واستقصاء القول فيما يوجب التكفير لا يليق بهذا الفن. وعن عمر
__________
= أن السيف قريب من عنق المرتد، ويرشح هذا المعنى قوله الآتي: إن من قدم للاقتصاص، فأعتق ووهب، فهل يكون ما صدر منه بمثابة التبرعات في مرض الموت؟.
(1) في الأصل: " نفصل "، والمثبت من (ت 4) .
(2) ت 4: " فالحجر وهو موقوف بقول الوقف، ولو فرض ... إلخ ".(17/169)
أنه قال: " اقتلوا الساحر والساحرة "، وروي أنه أمر بقتلهما (1) ، وقَتلت أم سلمة جاريةً لمّا سحرتها بسُمّ (2) .
11034- قال: " ومن قتل مرتداً قبل أن يستتاب ... إلى آخره " (3) أراد أنا وإن أوجبنا الإمهال أياماً، فلو ابتدر مبتدر، فقتل المرتد، فلا قود، وعُزّر (4) .
وكذلك إذا قتله كما (5) بدرت منه كلمة الردة قبل الاستتابة فنحكم بالإهدار، ويعزر من فعل ذلك للافتيات على الإمام، وكل هذا مما سبق تمهيده.
فصل
إذا شهد شاهدان على ردة شخص؛ فقال المشهود عليه: كَذَبا في شهادتهما، أو قال: ما ارتددت، فالشهادت مسموعة، والحكم بالردة نافذ، ولا يقبل تكذيب الشاهدين، ويقال: الخطب يسير؛ فجدد الإسلام، فإذا فعل، زال حكم الردة بعد انقضائها. وأثر ما ذكرناه أنه لو كانت له زوجة غيرُ مدخول بها، فقد بانت بالشهادة.
وتجديدُه الإسلام لا يرفع الحكم الطارئ (6) ، ولكن سبيله سبيل المرتد.
فلو شهد الشاهدان كما ذكرناه، فقال المشهود عليه: كنت مكرهاً فيما صدر مني، نُظِر؛ فإن كانت قرائن الأحوال تصدقه في دعوى الإكراه: مثل أن كان في
__________
(1) أثر عمر " اقتلوا الساحر والساحرة " رواه أبو داود، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأحمد، والبيهقي (ر. أبو داود: الإمارة، باب في أخذ الجزية من المجوس، ح 3043، مصنف عبد الرزاق: 10/179-181، مصنف ابن أبي شيبة: 10/136، سنن سعيد بن منصور: ص 90-91، المسند: 1/190، 191، البيهقي: 8/136) .
(2) خبر " وقتلت أم سلمة جارية لما سحرتها بسمّ " لم نصل إليه عن أم سلمة وإنما المعروف أنه عن حفصة، وخبر حفصة رواه مالك (الموطأ: 2/871 كتاب: العقول، ح 14) ، والشافعي (ترتيب المسند 2/89 رقم 290) ، وعبد الرزاق (10/180-181) ، وابن أبي شيبة: (9/416) ، والبيهقي: (8/136) .
(3) ر. المختصر: 5/165.
(4) ت 4: " كان هدراً ".
(5) كما: بمعنى عندما.
(6) ت 4: الجاري.(17/170)
أسر، أو محفوفاً بجمع من الكفار [يظهر] (1) الاستقصاء (2) منهم، فإذا كان الأمر كذلك؛ فالقول قول المشهود عليه مع يمينه، وإنما نصدقه لظهور الأحوال، ثم نحلّفه؛ لأنه لا يبعد اختياره للتلفظ بكلمة الردة مع ما وصفناه من الأسباب التي تغلّب على الظنون الإكراه، وإن لم يُظهر المشهود عليه الأحوالَ الدالة على الإكراه؛ فظاهر المذهب أن دعوى الإكراه لا تُسمع منه.
وهذا يستدعي مزيد كشف سيأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله عز وجل؛ إذ الشهادة المطلقة على العقوبة (3) مسموعة محمولة على الصحة كالشهادة على البيع ونحوه، وذكر بعض الأصحاب قولاً مخرجاً ضعيفاً: أن الشهادة لا تقبل ما لم تشتمل على ذكر الشرائط المرعية في الصحة، فالشهادة على الردة تخرج على هذا، فإن ما تحصل الردة به عَسِر المُدرك، لا يستقل به إلا خواص العلماء، فإذا أطلق الشاهد لفظ الشهادة في الردة، فهل يقع القضاء بها؟
الظاهر أنه يقع القضاء بها، ويخرج في المسألة القول الذي ذكرناه، وخروجه في هذا المقام أوضح وأولى؛ لما في التكفير وأسبابه من اضطراب العلماء، فإذا لم تُقبل الشهادة، لم نحكم بالردة، والوجه قبولها، والحكم بالردة. وسيأتي استقصاء ذلك في كتاب الشهادات، إن شاء الله عز وجل.
11035- فلو قال الشاهدان: نشهد بأنه تلفظ بالردة، ولم يطلقا الشهادة بأنه ارتد، فلو قال المشهود عليه: صدقا، ولكني كنت مكرَهاً، قال شيخي أبو محمد: قوله مقبول؛ فإنه ليس يناقض الشهادة، ولا يتضمن تكذيبها؛ فإن المكره يتلفظ، والذي يشهد عليه الشاهدان التلفّظ بالردة، ثم قال: الحزم أن يجدد الشهادتين.
فإن قتله قاتل والحال كما وصفناها قبل أن يجدد الشهادتين، فهل يضمنه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يضمنه؛ لأن لفظ الردة قد ثبت، ولم يتعرض الشاهدان للإكراه ولا للاختيار، والأصل في أحوال الناس الاختيار، فكل لافظ فهو في إنشاء
__________
(1) في الأصل: " فظهر ".
(2) ت 4: " الاستشعار ".
(3) ت 4: " العفو ".(17/171)
لفظه مختار، والأصل براءة ذمة القاتل، وقد وجدنا مستنداً للإهدار. والقول الثاني - أنه يضمنه بالقصاص أو الدية؛ فإن الردة لم تثبت، والأصل حكم الإسلام. وهذا يقرب من القاعدة المسماة تقابُل الأصلين.
وفي هذا فضل نظر؛ فإن ادعى المشهود عليه أنه كان مكرهاً، وحلف على ذلك، فالوجه عندنا: القطع بأنه مضمون؛ فإن اللفظ وإن ثبت- فقد ثبت الإكراه بالحجة، وإن لم يحلف أو لم يدّع، وجرت الشهادة على اللفظ، ثم فُرض القتل قبل تجديد كلمة الإسلام، فهذا فيه احتمال، والذي أراه: تنزيل القولين على هذه الصورة.
فصل
11036- لو مات رجل كنا عهدناه مسلماً، وخلف ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات أبي كافراً، وقال الثاني: مات مسلماً، ولا بينة، فالذي قال: مات مسلماً، تسلم إليه حصتُه من الميراث، والذي قال: مات أبي كافراً، نظر فيه: فإذا ذكر لفظاً في الكفر لا يُتمارى فيه، وزعم أنه سمعه في آخر العهد يذكره، فلا شك أنه يكون محروماً من الميراث، وتكون حصته مصروفة إلى الفيء؛ فإنه مؤاخذ بإقراره، ولو أنه قال: مات كافراً ولم يذكر تفصيلَ كفره، فما حكم حصته؟
ذكر الصيدلاني والإمام والدي قولين في المسألة: أحدهما - أنه تصرف حصته إلى جهة الفيء؛ فإنه أقر بكفره، فيؤاخذ بإقراره، فأشبه ما لو فَصَّل الكفر. والقول الثاني - أنا لا نحرمه الميراث، بل نصرف حصته إليه، هكذا ذكر شيخنا هذا القول، وهو فحوى كلام الصيدلاني، ووجهه: أنه لم يفصل الكفر، ولم تثبت الردة بقوله، إذ لو ثبتت، لصرفت حصته إلى أهل الفيء؛ فإذا لم تصرف، فلا وجه إلا التوريث، وإلغاء اللفظ الذي جاء به [ومن] (1) ورث مالاً، لم يمكنه إسقاط حقه مما ورثه بالامتناع عن قبوله.
وذكر صاحب التقريب هذين القولين على وجه آخر، فقال: أحد القولين - أن
__________
(1) في الأصل: من (بدون واو) .(17/172)
حصته تصرف مصرف الفيء، والقول الثاني - إنه لا يصرف إلى الفيء، وقد أطلق الكفر ولم يفصله، ثم قال: كما لا نصرفه إلى الفيء لا نصرفه إليه، بل نقِفه، فإن فصّل وذكر كفراً محقَّقاً، صرفنا الحصة إلى أهل الفيء، فإن لم يتعرض للتفصيل، فيبقى المال موقوفاً إلى أن نتبين. وهذا الذي ذكره صاحب التقريب أقيس، وأشبه بالأصول، وهو الذي ذكره العراقيون.
فرع:
11037- قال صاحب التقريب إذا أسر الكفار مسلماً، وأكرهوه على التلفظ بالكفر، فتلفظ به، فلا نحكم بكفره. فلو ثبت ذلك عندنا من حاله، ثم بلغنا أنه مات ولم يتجدد علمٌ آخر؛ فحكمه حكم المسلمين، يرثه المسلمون ويرثهم.
فلو عاد إلى بلاد الإسلام -وقد وضح منه ما قدمناه- فإن الوجه: أن نعرض عليه الدينَ وإظهار الإسلام، فإن أتى بما نطلبه، فلا كلام، وإن أبى، ولم يظهره، قال: فنحكم بردته، فإنه قد انضم امتناعه الآن إلى ما سبق منه من لفظ الكفر، فيدل ذلك على أنه كان مختاراً في ابتداء لفظه. ومن أكره على شيء، فخطر له أن يأتي به مختاراً، فلا حكم للإكراه، فإذا سبق منه اللفظ ولحق الامتناع عن التلفظ بالإسلام، كان ذلك آية بينة في أنه كان مختاراً عند اللفظ، قطع به صاحب التقريب، وهو الذي ذكره العراقيون.
وفيه احتمال عندي ظاهر، فإنه لم يسبق منه اختيار، والأمر محمول على ظاهر الإكراه، ويلزم منه دوام حكم الإسلام، ومن كان حكم الإسلام له مستمراً، فامتناعه عن تجديد الإسلام لا يغير الحكم بالإسلام.
فرع:
11038- قال العراقيون: إذا أسر الكفار مسلماً، فارتد فيهم مختاراً، وتحقق ذلك عندنا، ثم صح عندنا أنه كان يصلي صلاة المسلمين في دار الحرب، قالوا: نجعل ذلك إسلاماً منه، بخلاف ما لو صلى كافر في ديار الإسلام؛ فإن ذلك لا يكون إسلاماً؛ إذ الصلاة في دار الإسلام قد تشوبها مراعاة المراءاة بخلاف دار الحرب، وهذا الذي ذكروه غير صحيح.
والوجه في قياس المراوزة القطع بأنا لا نحكم له بالإسلام كما لو صلى في دار الإسلام. ثم ما ذكروه يقتضي أن يقولوا: إذا رأينا كافراً أصليّاً في دار الحرب يصلي(17/173)
على هيئة صلاة الإسلام، فنحكم بإسلامه، لما ذكروه في حق المرتد. ولو قال قائل بهذا، لكان صائراً إلى مذهب أبي حنيفة (1) ، فإنه يجعل الصلاة من الكافر إسلاماً، وهذا ما لا سبيل إلى القول به.
وتلك المسألة فيها غموض، وإن تناهينا في تقرير حقيقتها، فإنا ذكرنا أن من الأفعال ما يوجب الكفر، كالتقرب إلى الصنم، فالذي ذكره العراقيون في أن الصلاة تكون إيماناً في الصورة التي ذكروها في البعد كما حكيناه عن شيخنا في أن التقرب إلى الصنم لا يكون كفراً، ولا تعويل على الأمرين جميعاً.
فصل
قال: " ولا يُسبى للمرتدين ذرية ... إلى آخره " (2) .
11039- مضمون هذا الفصل الكلام في أولاد المرتدين. فنقول أولاً: إذا التحق المرتدون رجالاً أو نساء بدار الحرب، لم نثبت لهم حكمَ أهل الحرب بوجه، ومهما (3) ظفرنا بهم ولم يُسلموا، ضربنا رقابهم، ولا نسترقهم، ولا نسبي النساء منهم.
فأما أولادهم، فالولد الذي حصل العلوق به في الإسلام، فالردة الطارئة لا تغير حكمه، سواء فرض ارتداد الأبوين بعد الانفصال، أو قدر ذلك والجنين مجتن، فحكم الإسلام لا يزول؛ إذ الإسلام يستتبع الولد لقوته وسلطانه، والردة لا تستتبع المولود.
ولو حصل العلوق بالولد في حالة الردة -وذلك بأن تعلق مرتدة من مرتد، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن للولد حكم الردة، نظراً إلى الأبوين، والقول الثاني - أن الولد في حكم الكافر الأصلي، فإنه لم يباشر الردة ولا الإسلام،
__________
(1) ر. حاشة ابن عابدين: 1/235، الاختيار: 4/150.
(2) ر. المختصر: 5/165.
(3) مهما: بمعنى: إذا.(17/174)
وأبواه ليسا مسلمين. والثالث - أن حكمه حكم الإسلام لما في أبويه من عُلقة الإسلام، ولذلك يجبران على العَوْد إلى الإسلام، وما أتلفه المرتد في حالة الردة، فهو مطالب به، والصلوات التي تمر عليه مواقيتُها- مقضيةٌ، وكل ذلك من آثار علائق الإسلام، والمغلّب في المولود حكم الأصل.
فإن قلنا: أولاد المرتدين بمثابتهم، لهم حكم الردة؛ فلا يُسبَوْن كما لا يسبى آباؤهم، وإن حكمنا لهم بالإسلام، فلا شك أنهم لا يُسبَوْن، وإن قلنا: هم بمثابة الكفار الأصليين، فلا يمتنع أن يُسبَوْا ويُسترقوا، أو تقبل منهم الجزية إذا بلغوا، وأحكامهم أحكام الكفار الأصليين في كل معنى، ولا فرق عندنا بين أولاد المرتدين وبين أولاد أولادهم، خلافاً لأبي حنيفة (1) ؛ فإنه قال: أولاد أولاد المرتدين يُسبَوْن، وأولادهم لا يُسبَوْن.
11040- ومما ذكره الأصحاب على الاتصال بهذا أن المعاهدين والذميين إذا نقضوا العهود، والتحقوا بدار الحرب، ولهم أولاد في دار الإسلام، فحكم العهد مستدام فيهم؛ فإن الآباء لما عوهدوا أو عقدت لهم الذمة، ثبت حكم الذمة للأولاد. ثم لا تنتقض حرمة العهد والذمة في حقهم، وإن نقضه الآباء. فإذا بلغوا، فإن قبلوا الجزية، أقررناهم بها في دار الإسلام، وإن أبَوْا أن يقبلوا، لم نقتلهم، وألحقناهم بمأمنهم، ولا نُلزمهم الجزية [بهذا] (2) ، خلافاً لأبي حنيفة (3) .
وهذا الفصل سيعود مستقصى في كتاب السير، وفيها نذكر أحكام ما يخلّفون عندنا من الأموال، والتفصيلَ فيه إذا صاروا حرباً لنا، فأرققناهم كما (4) وقعوا في الأسر، وهو من الفصول المعروفة، والقدرُ الذي ذكرناه في أحكام أولادهم رمزٌ هاهنا، واستقصاؤه بين أيدينا، والله المستعان.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 259.
(2) في الأصل: فهذا.
(3) ر. البدائع: 10/4386، الفتاوى الهندية 3/584.
(4) كما: بمعنى عندما.(17/175)
كتاب الحدود
11041- الحد في اللغة: المنع، ومنه سُمي البواب حداداً، وحدود الأشكال أطرافها؛ لأنها فواصل يُمنع بها اختلاط المحدود بغيره، ولما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] أبدى المنكرون هراء، وقالوا: لم نسمع بهذه العِدّة في الحدَّادين، أي في البوابين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقاس الملائكة بالحدَّادين "، فأرسله مثلاً (1) . ومنه سميت العبارات عن الحقائق حدوداً، وبه يسمى الحديد حديداً لامتناعه عن تولّج شيء فيه، والحدّ مصدر حدّ يحُد ولا يجمع، وهو اسم للعقوبة المقامة على مستوجبها، فإن جُعل اسماً جُمع حدوداً، وهي مأخوذة من المنع، فإنها زواجر عن ارتكاب الموبقات.
11042- ثم الحدود في قواعدها ثلاثة أصناف؛ الجلد، والقطع، والقتل.
وأما الجلد؛ فيقع حداً في الزنا، والشرب، والقذف. فحد الزنا مائة جلدة مع التغريب، كما سيأتي الوصف عليه، وحد الشرب على أصل المذهب أربعون جلدة، وحد القذف ثمانون. وحد الزنا والشرب لله عز وجل، وحد القذف للمقذوف.
والعبد في الحدود الواقعة في الجلد على النصف من الحر.
وأما القطع فحد السرقة، وحد قطع الطريق، وهما لله تعالى، والعبد والحر فيهما بمثابة.
وأما القتل فينقسم إلى الرجم والقتل، فأما الرجم، فحد المحصن في الزنا.
__________
(1) حديث " لا تقاس الملائكة بالحدادين " لم نقف عليه على أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل المشهور في كتب الأمثال وغريب الحديث نسبة هذا القول إلى الصحابة، والمثل مشهور بلفظ " تقيسُ الملائكة بالحدادين! " (ر. غريب الحديث لابن الأثير، جمهرة الأمثال: 1/217 رقم 372 ومجمع الأمثال: 1/90) .(17/177)
والقتل يقع في قطع الطريق حداً على من قَتل، وهو واجب على المصرّ على الردة.
ثم وَضْعُ الحدود على التنكيل، والمعاقبةُ على ما سبق، والزجر عن احتقاب أمثال تيك الكبائر في المستقبل. فإن لم يكن قتلاً، أفاد زجر المحدود وزجرَ غيره، وإن كان قتلاً، فهو عقوبة على المحدود وزجرٌ لغيره، وقيل: المرتد وإن لحق بالحدود، فليس في معناها؛ فإنه دعاء بالسيف إلى الإسلام، وهو بمثابة دعاء الكفار إلى الإسلام، إلا أنهم قد تقبل منهم الجزية، والمرتد مدعو إلى الإسلام، فإن التزمه، فذاك، وإلا فالسيف واقع به.
11043- ثم إن الشافعي أفرد لكل صنف من أصناف الحدود كتاباً، وافتتح الكلام في حد الزنا، وقد ورد في حد الزنا آيتان، إحداهما: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] والأخرى قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا} [النساء: 16] فظاهر الآية الأولى يدل على اكتفاء النساء بالنساء، وظاهر الآية الثانية يدل على اكتفاء الرجال بالرجال، وقد قيل: الآيتان في الجنسين جميعاً، ولكن المراد بمضمون الآية الأولى التعرض للثُّيَّبِ، فجرى فيها تخصيص النساء بالذكر، لأنهن أحرص على الزنا من الثيب من الرجال، والآية الثانية في الأبكار، والأبكار من الذكور أحرص على الزنا من الأبكار من النساء.
وبالجملة الآيتان ليستا مشتملتين على بيان حكم الزنا افي الجنسين جميعاً، الأولى تضمنت الأمر بالحبس وانتظار حكم الله تعالى. والثانية اقتضت الإيذاء مطلقاً من غير تفصيل.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبادة بن الصامت: " خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجمٌ بالحجارة " (1) وظاهر الحديث الجمع بين الجلد والرجم، في حق الثيب، وقد صار إلى ذلك أصحاب الظاهر، واتفق العلماء المعتبرون من الصحابة رضي الله عنهم
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت أن النبي قال: " خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً ... " رواه مسلم: الحدود، باب حد الزنا، ح 1690. وانظر التلخيص: 4/96 ح 2020.(17/178)
وغيرهم على أن المحصن لا يجلد ويقتصر على رجمه.
ثم اختلف هؤلاء، فذهب الاكثرون إلى أن هذا كان فنُسِخ. وقال بعض أصحابنا: الحديث فيمن زنى بكراً، فلم يُجلد حتى ثاب وزنى ثيباً، فنجمع عليه بين الجلد والرجم، وهذا وجه سيأتي ذكره، إن شاء الله، فإن الزنا إذا تكرر من الشخص، ولم يتخلل بينهما استيفاء الحد، اقتصرنا على حد واحدٍ.
وإن اختلف جنس الحد باختلاف الحالتين في زنيتين، فزنى بكراً ثم زنى ثيباً، ففي التداخل وجهان: أصحهما - الاكتفاء بالرجم. فإن جرينا على الوجه الآخر، لم يصح حمل الحديث عليه من وجهين: أحدهما - أن حمل الألفاظ العامة المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس الأصول لا يسوغ حمله على الشواذ، هذا وجه.
والثاني - أنه ذكر البكر صنفاً وذكر الثيب صنفاً، وما ذكره هؤلاء جمع حالتين لشخص واحد، وهذا استكراه في التأويل، لا يسوغ مثله. وقال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .
والأصل في الرجم ما روي عن عمر أنه قال: " لولا أني أخشى أن يقال: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لأثبتُّ على حاشية المصحف ما كنا نقرؤه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، إن الله كان عزيزاً حكيماً " (1) .
ورُوي أن رجلين كانا يتساوقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل واحد منهما فئام (2) من الناس، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله تعالى وأذن لي في أن أتكلم، فأذن له في الكلام، وقال: إن ابني كان عسيفاً لهذا، فزنا بامرأته، فسألت من لا يعلم، وقال: على ابنك الرجم، ففديته بمائة شاة ووليدةٍ، ثم سألت رجالاً من
__________
(1) أثر عمر " لولا أني أخشى أن يقال زاد عمر في كتاب الله ... " متفق عليه من حديث ابن عباس عن ابن عمر مطولاً، وليس فيه: في حاشية المصحف. ورواه البيهقي بتمامه وعزاه للشيخين. قال الحافظ: ومراده أصل الحديث. (ر. البخاري: الحدود، باب الاعتراف بالزنا، وباب رجم الحبلى، ح 6829، 6830. مسلم: الحدود باب رجم الثيب الزاني، ح 1691. البيهقي في الكبرى: 8/210، 211، التلخيص: 4/96 ح 2021) .
(2) فئام: جماعة من الناس.(17/179)
أهل العلم فقالوا: على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فقال صلى الله عليه وسلم: " لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: أما الشاء والوليدة فرَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " (1) . وقصة ماعز مشهورة، وكذلك قصة الغامدية.
وأجمع المسلمون على أصل حدّ الزنا، وإن اختلفوا في التفاصيل.
11044- نبتدىء فنقول: الزنا قسمان: زنا البكر وزناً الثيب. فزنا البكر موجَبه الجلد والتغريب، والجلد مائة والتغريب عام. وإنما يستوجب المائةَ وتغريبَ العام البالغُ العاقل الحر الذي لم يُصِب في نكاح صحيح. والتغريب من الحد، والأصل فيه الأخبار والنصوص، وليس في القرآن باتفاق علماء المعاني ما يثبت استقلالاً في بيان الحد، وإذا كان كذلك، لا يظهر منه الحكم بالاقتصار على المذكور، ويتعين الرجوع إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونحن نذكر التغريب، وما يتعلق به. فالحر يُغرّب، وفي تغريب العبد قولان: أحدهما - أنه يغرب كالحر، والثاني - لا يغرب. فإن في تغريبه رفعُ يد السيد عنه، أو اضطرارُه إلى أن يتغرب معه، والعبد جليب (2) لا يؤثر فيه التغريب.
التفريع:
11045- إن حكمنا بأنه لا يغرب، فنقتصر على جلده خمسين، وإن قلنا: إنه يغرب، فللتغريب مسافة نذكرها وزمان، فأما المسافة، فالعبد فيها كالحر، وأما الزمان، فمدة تغريب الحر سنة، وفي العبد قولان: أصحهما - أنه على النصف من الحر، فنغرّبه ستة أشهر، كما أنه على النصف منه في الجلد. والقول الثاني - أنه يغرب سنة؛ فإن ما يتعلق بالمدد والطباع لا يُفرَّقُ فيه بين العبد والحر كمدة العنة والإيلاء.
__________
(1) حديث: " أن رجلين كانا يتساوقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني. (البخاري: الحدود، باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم والناس، هل على الحاكم أن يبعث إليها فيسألها عما رميت به، ح 6842، 6843. مسلم: الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا، ح 1697، 1698) .
(2) جليب: بمعنى مجلوب، فهو غريب لا يؤثر فيه التغريب.(17/180)
وهذا كلام سخيف؛ فإن امتحان العُنة ودركَ الضرار يتعلق بالجبلات، وهي لا تختلف بالرق والحرية، والتغريب تعذيبٌ، والعبد في الجلد على النصف من الحر، وإن كانت جبلّته في استدعاء الزجر كجبلة الحر، [فليكن في التغريب] (1) بهذه المثابة. هذا قولنا في العبد والحر (2) .
11046- فأما الحرة، فإنها تغرب كالرجل إذا زنت بكراً، فإن ساعدها الزوج أو واحد من محارمها، أُخرجت، وإن لم يساعدها زوج ولا محرم، فهل نغربها وحدها مع ظهور الأمن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نغربها؛ لأن هذه سَفْرة واجبة، فكانت كسفرة الهجرة إذا أسلمت حربية، وخافت أن تفتتن عن دينها؛ فإنها تخرج وحدها، كما سيأتي في كتاب السير، إن شاء الله. والثاني - أنها لا تغرب وحدها؛ فإن الغرض من التغريب تأديبها بأدب الله تعالى، وإذا خرجت وحدها، تهتكت، وكشفت جلباب الحياء عن وجهها (3) ، فإن أمكن استئجار واحد من محارمها ليخرج معها، فعل ذلك.
ثم اختلف أصحابنا، فقال بعضهم: الأجرة مأخوذة من مالها، وقال آخرون: هو من بيت المال (4) . والوجهان في ذلك كالوجهين في أن أجرة الجلاّد على المحدود أم هي في بيت المال؟ وسيأتي ذكر ذلك، إن شاء الله تعالى.
ولو لم يرغب واحد من محارمها في الخروج معها، وقلنا: إنها لا تخرج
وحدها، فهل للسلطان أن يجبر واحداً من محارمها على الخروج بأجرة معها؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه ليس له ذلك (5) ، فإنه في الحقيقة تغريبُ مَحْرَمٍ غيرِ مجرم، والتغريب عذاب على الزانية.
__________
(1) في الأصل: " فليكن كالحر في التغريب بهذه المثابة "، وهو خلل لا يتفق مع السياق.
(2) الأظهر أن العبد يغرب نصف سنة كما قرره الإمام. (ر. الروضة: 10/87) .
(3) الأظهر أنها لا تغرّب وحدها. قاله النووي (ر. الروضة: 10/87) .
(4) الأصح أن الأجرة من مالها. (ر. الروضة: 10/88) .
(5) وهذا هو الأصح، كما قال النووي (ر. الروضة: 10/88) .(17/181)
والثاني - أن له أن يُجبره؛ وذلك استعانة منه فيما لا بد منه. والإمام إذا استعان بأحد من المسلمين، لزم الانقياد له.
وقد نجز القول في أصناف من يغرب.
11047- ويلتحق بما ذكرناه أن الغريب يغرّب إذا زنا، قطعاً لوهم من يتوهم أن التغريب في حقه غير مؤثر، فإنه إذا لم يكن في وطنه، فالبلاد كلها في حقه بمثابة واحدة؛ وذلك أن قواعد الحدود لا تنقض بما يفرض في آحاد الأشخاص؛ على أن الغريب قد يألف بقعةً، ويشق عليه مفارقتُها، والغرض الأظهر من التغريب التنكيل، وهذا المعنى يستوي فيه المتوطن والغريب.
11048- ثم نتكلم الآن في مسافة التغريب. اتفق الأئمة على أنها تبلغ مسافةَ القصر؛ إذ لو قصرت عن هذا المبلغ، لتردد عليه أخبار الأهلين والمخلَّفين، ولم يحصل به إيحاش الغربة، ولا ضبطَ وراء المرحلتين.
ثم وراء ذلك تردّد: [ففي] (1) بعض التصانيف أن الإمام إذا عيّن تغريبه إلى بلد، لم يسيبه فيها حتى ينفلت حيث يشاء، وهذا تصريح بأنه [يمنع] (2) من الانتقال عن البلدة التي عُيّنت له، ولم يذكر ذلك أحد من أئمة المذهب. وإنه عندي باطل؛ فإنه جَمْعُ حبسٍ إلى تغريب، ولم يشهد لهذا سُنَّةٌ ولا قياس، وإذا غُرِّب في جهة وأظهر التنكيل به، فلا مانع من أن يتطوح في البلاد.
ثم في كلام الأصحاب تردد من وجه آخر، وهو أن الإمام لو عين لتغريبه صوب الشرق، فقال المغرّب: غرِّبوني في صوب الغرب، فمن أئمتنا من قال: إذا عيّن الإمام صوباً، فلا معدل عن الجهة التي يعينها، وهذا غير سديد (3) . والغرض أن يبعد عن الموضع الذي غربناه فيه مرحلتين، فليأخذ أيَّ صوب شاء.
وإذا زنا الغريب، غربناه من موضع الزنا، فإن فرعنا على أن الإمام لا يعيِّن
__________
(1) في الأصل: " في "، والمثبت من (ت 4) .
(2) في الأصل: " لا يمنع ".
(3) الأصح اتباع رأي الإمام (ر. الروضة: 10/88) .(17/182)
صوباً، وأبطلنا حبسه في الموضع الذي يُغرَّب إليه، وهو مارٌّ على وجهه، فلا يكاد يظهر أثر التغريب، ولا يكاد [يظهر] (1) -والحالة هذه- إلا إظهار التغريب والإرهاق (2) إليه.
وقد قال الأصحاب: لو كان بينه وبين وطنه مرحلتان لا نغرّبه إلى وطنه؛ فإن هذا ضد التغريب، ولكن نغرّبه إلى جهة أخرى، [فإن غربناه إلى بلدةٍ، فانتقل إلى وطنه] (3) فهذا موضع وقوف الناظر، ولا وجه إلا ما ذكرناه (4) ، وإن كان يؤدي إلى تغربه من الوطن سنة ووجهه إلى الوطن (5) .
11049- وفيما يعترض في الفكر أن المُغرَّب لو عاد إلى مكان التغريب قبل انقضاء السنة ومكث مدة من حيث لا يُشعر به، فإذا اطلع الوالي عليه غربه، وفي بطلان ما مضى من زمان التغريب قبل العود نظرٌ للمفكر؛ فإن الغرض الأظهر من التغريب الإيحاش بالغربة، وهذا إنما يحصل إذا تواصل الإيحاش والتغرب، يحققه أن الجلاد لو جلد الزاني مائة جلدة في عشرة أيام، لم يُعتدّ بما تقدم من الجلدات؛ فإن الإيلام الحاصل بالمائة المتواترة لا يحصل إذا فرقت الجلدات، وتخللت الفترات المريحة، وسنذكر هذا عند ذكرنا كيفية الجلد ونعت السياط، إن شاء الله. والمسألة في التغريب محتملة على الجملة (6) ، والعلم عند الله تعالى، وقد نجز بيان حد الأبكار إذا زنَوْا على الجملة، وستأتي مسائل على ترتيب الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) الإرهاق إليه: أي الحمل عليه والإزعاج به، عن محل الفاحشة، كما عبر بذلك في البسيط.
(3) زيادة اقتضاها السياق، وهي من الوسيط للغزالي، ثم هي في هامش نسخة الأصل، منسوبة للوسيط، وليست لحقاً. (ر. الوسيط: 6/438) .
(4) الأصح أنه يمنع من الانتقال إلى وطنه. (ر. الروضة: 10/89) .
(5) العبارة هنا فيها نوع قلق، مع اتفاق النسختين فيها، ولذا كان من المناسب أن نشدّ عضدها بعبارة الغزالي، قال: " الغريب إذا زنا أزعجناه، وإن كان هذه البلدة كسائر البلاد، ولكن الغرض التنكيل بالإزعاج عن محل الفاحشة، وقد يألف الغريب بقعة. فلو كان إلى وطنه مرحلتان، فلا نغرّبه إلى وطنه؛ لأنه ضد التغريب، فإذا غربناه إلى بلدةٍ، فلو انتقل إلى بلده هل يمنع؟ هذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يمنع ". (ر. البسيط: 5/ورقة: 117 يمين) .
(6) قال الرافعي: " الأشبه أنه يستأنف " (ر. الشرح الكبير: 11/137) .(17/183)
11050- وأما زنا الثيب، فموجبه الرجم بالحجارة، والثيب هو الذي أصاب في نكاح صحيح، فإذ ذاك يلتزم الرجم إذا زنا.
والإسلام ليس من شرائط الإحصان عندنا، فالذمي إذا استجمع الصفات التي ذكرناها ورضي بحكمنا رجمناه، وقصة اليهوديين ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم مشهورة.
ثم لا يحصل الإحصان بالوطء في ملك اليمين وفاقاً، أما الوطء في نكاح فاسد، أو على وجه الشبهة، ففي حصول الإحصان قولان: أصحهما - أنه لا يحصل. ثم الصفات الثلاث -البلوغ، والعقل، والحرية- لا ترتب فيها، والمقصود اجتماعها.
فأما الإصابة، فقد اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: يشترط أن تحصل ممن تجمعت فيه الصفات الثلاث حتى لو حصلت الإصابة في الصغر أو في حالة الجنون، أو في حالة الرق، فلا اعتداد بها، ولا تحصل الثيوبة بها. وكما نشترط وطئاً كاملاً في جهةٍ كاملة نشترط حصول الوطء من كاملٍ لاستجماع الصفات الثلاث.
ومنهم من قال: لا ترتيب فيه كما لا ترتيب في سائر الصفات. (1 وإذا اجتمعت الصفات 1) الثلاث في أحد الزوجين وعُدِمت في الثاني، فالتحصين يحصل. وهذا كما إذا كان الزوج حراً بالغاً عاقلاً، وقد أصاب زوجته الرقيقة، فيحصل التحصين فيه.
وذكر صاحب التقريب في إصابة الصغير وجهين، وكذلك في تمكين المرأة الزوج الصغير، وهذا ليس بشيء إذا تم الوطء؛ [فإن المراهِقة] (2) مطلوبة بالوطء، [وإذا] (3) وطئت في نكاحٍ، عدّ ذلك من أكمل الوطء في أكمل الجهات. فإن أراد من يظهر الخلاف وطءَ صغيرةٍ لا يُشتهى مثلُها، أو صغيرٍ لا تشتهيه النساء، فهذا فيه احتمال، وقد ذكرت في باب التحليل من كتاب النكاح طرفاً صالحاً في هذا.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) في الأصل: " ثم المراهقة ".
(3) في الأصل: " إذا " (بدون واو) .(17/184)
ولا خلاف بين أصحابنا أن الثيب إذا زنا ببكر رُجم، وإن كانت تيك تجلد، وكذلك لو كان الأمر على العكس من هذا.
وقد نجز توطئة حد الزنا في الثيب والبكر.
11051- ثم قال الشافعي: " إذا رجم الزاني غُسل وصُلي عليه ودفن في مقابر المسلمين؛ فإنه مسلم، فكان كالمقتول قصاصاً " ثم قال: " ويجوز للإمام أن يحضر رجمه، ويتركَ ... إلى آخره " (1) .
الوالي بالخيار، إن شاء حضر موضع الحد، رجماً كان أو جلداً، وإن شاء لم يحضر. وكذلك إذا ثبت الزنا بالشهود، لم يلزمهم أن يحضروا (2) . وقال أبو حنيفة (3) : إن ثبت الزنا بالإقرار، فعلى الوالي أن يحضر، وإن ثبت بشهادة الشهود، فعليهم أن يحضروا.
ثم اشترط إذا حضر الوالي أن يبدأ بالرجم، وإذا حضر الشهود أن يبدؤوا، ونحن نستحب الحضورَ من الشهود لنفي التهمة، ولا نوجبه، وقد ثبت الحد على ماعز، فلم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجْمَه، وذلك بيّن في قصته إذ روي أنه لما مسه ألم الأحجار، قال: " ردوني إلى محمد، فإن قومي غرّوني وقالوا: إن محمداً ليس بقاتلك، وولّى هارباً، فأدركه رجل بلَحْي جمل، فأثبته، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " هلا تركتموه يفر من عذاب الله تعالى "، وفي رواية: هلاّ رددتموه إليّ لعله يتوب " (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/166.
(2) أي: يحضروا إقامة الحد على المشهود عليه المرجوم بشهادتهم.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 263، مختصر اختلاف العلماء: 5/284 مسألة 1400.
(4) قصة ماعز التي ورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: " هلا تركتموه " وفي رواية " هلا رددتموه.. " وردت من حديث نعيم بن هزّال عن أبيه، أخرجها أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي وصححها الألباني، كما وردت قريبة من سياق الإمام -من حديث جابر بن عبد الله من طريق محمد بن إسحاق، أخرجها أبو داود وابن أبي شيبة وأحمد (ر. أبو داود: الحدود، باب رجم ماعز، ح 4419، 4420، النسائي في الكبرى: ح 7205، الحاكم: 4/363 وصححه ووافقه الذهبي، البيهقي: 8/228، أحمد 3/323، إرواء الغليل: 7/354، 357-358) .(17/185)
فصل
قال: " وإن أقر مرة حُدّ ... إلى آخره " (1) .
11052- إذا أقرّ بالزنا مرة واحدة -كما سيأتي وصف الإقرار، إن شاء الله تعالى- ثبت الحد، ولا يشترط التكرار في الإقرار، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
ثم أجمع أصحابنا على أنه مهما (3) رجع عن الإقرار، لم نحده. وإن رجع في أثناء الحد، انكففنا عنه، ورجوعه أن يقول: كذبت فيما قلت، أو رجعت، وهو يريد تكذيب نفسه. ولا يشترط في قبول رجوعه عن الإقرار أن يذكر سبباً في الإقرار والرجوع. وقال مالك (4) : لا يُقبل الرجوع المطلق عن الإقرار، فإن ذكر شيئاً ممكناً، قُبل حينئذ، وذلك مثل أن يقول: حسبت الإتيان دون المأتى زنا، ثم تبين لي. ونحن لا نشترط هذا.
واختلف القولُ في أن من أقر بسرقة توجب القطع، ثم رجع عن إقراره، فهل يسقط القطع عنه بالرجوع عن الإقرار أم لا؟ والأصح أنه يسقط قياساً على حد الزنا.
ووجه القول الثاني أن السرقة متعلقة بحق الآدمي، والرجوع فيه غير مقبول، ونحن قد نتبع [الحدَّ الحقَّ] (5) في موجَب الإقرار، والدليل عليه: أن العبد إذا أقر بسرقة مال،
__________
(1) ر. المختصر: 5/166.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 263، 264، المبسوط: 9/92، مختصر اختلاف العلماء: 5/283، مسألة 1398.
(3) مهما: بمعنى إذا.
(4) ر. المدونة: 6/238، الإشراف: 2/858 مسألة 1681، عيون المجالس 5/2093 مسألة 1512، القوانين الففهية: 349.
(5) في الأصل: " قد تتبع الحق الحق في موجب الأقرار ".
وفي (ت4) : " قد نتبع الحق في موجب الإقرار " والمثبت من تصرف المحقق على ضوء السياق والمعنى. (ر. الشرح الكبير: 11/229) .
والمعنى: أنه يوجب عدمَ سقوط الحد بأن سقوطَه قد يستتبع سقوطَ الحق (أي غرم المال المسروق) وحقوقُ الآدميين لا تسقط بمثل هذا.(17/186)
فإقراره مقبول في إيجاب القطع عليه، وقد يقبل إقراره في المال المسروق على أحد القولين، وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
ولو أقر بالزنا ثم لم يرجع عن إقراره مصرحاً بتكذيب نفسه، بل قال: دعوني، لا تحدّوني، فهل يجعل ذلك بمثابة الرجوع عن الإقرار؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب، والأظهر أن هذا لا أثر له؛ فإنه صرح بالإقرار، ولم يصرح بالرجوع عنه. هذا إذا ثبت الحد بالإقرار.
فأما إذا ثبت بشهادة الشهود فالحد يقام على المشهود عليه.
11053- ولو تاب (1) ، ففي سقوط الحد عنه بالتوبة قولان للشافعي: أصحهما - أنه لا يسقط؛ إذ لو أسقطناه، لصار ذلك ذريعة إلى إبطال حكم الحد؛ إذ الغرض منه الردع، ولا يعجز مرتكب ما يوجب الحد عن إظهار التوبة، ثم الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والقول الثاني - أن الحد يسقط بالتوبة؛ فإنه عقوبة تثبت حقاً لله، وحقوق الله تعالى تبنى على أن تسقط بالتوبة.
ولا خلاف في سقوط الحدود عن قطاع الطريق إذا تابوا قبل الظفر بهم، وفي قبول توبتهم بعد الظفر بهم قولان، كما سيأتي ذكره في سائر الحدود. وهذا [يذكره الفقيه أخذاً] (2) من نص القرآن عظيم الوقع؛ فإنه عز من قائل قيّد توبة أهل المحاربة بما قبل الظفر، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] .
ولو وجب الحد، وثبت وجوبه، فهرب من تقرر الحد عليه؛ فقد ذكر أصحابنا في سقوط الحد وجهين. واستشهدوا في نصرة أحد الوجهين بقصة ماعز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من اتبعه وأثبته، وأحَبَّ أن لو كان تُرِك.
فإن قيل: في الحديث " هلا تركتموه يرجع إليّ لعله يتوب " وقد زيّفتم قول من يقول التوبة تُسقط الحد؟ قلنا: نعم، ذلك القول في نهاية الضعف، وإن كان مشهوراً، وليس يليق بمذهب الشافعي مع محافظته على حفظ القواعد أن يثبت إظهارَ
__________
(1) الكلام في التوبة وأثرها في إسقاط الحدود يتعلق بالإقرار والشهادة معاً.
(2) في النسختين: " يذكر الفقيه أمراً " والمثبت من تصرف المحقق.(17/187)
التوبة ذريعة إلى إسقاط الحدود كلها، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز " لعله يتوب " حمله بعض الحذاق على الرجوع عن الإقرار، وأصل التوبة في اللسان الرجوع، وكان قد ثبت الحد على ماعز بإقراره.
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله " (1) . ولو كان الحد لا يسقط بالتوبة، لكان فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريض على كتمان حقٍّ واجبٍ لله تعالى. قلنا: لا يمتنع أن تكون توبة المستتر الذي لا يبدي صفحته بمثابة توبة قاطع الطريق قبل الظفر به.
وفيما ذكرناه احتمال؛ فإنّ سبب قبول توبة المحاربين عطفُهم على الطاعة، وردُّهم بالاستمالة إليها. وهذا المعنى لا يتحقق فيما ذكرناه، والمسألة محتملة.
وتمام الحديث يدل على أن التوبة بعد ظهور وجوب الحد لا تنجع، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في تمام الحديث: " فإنه من يبدي لنا صفحته نقيم عليه حد الله تعالى " (2) . وهذا نص في أن التوبة لا تنفع.
11054- وقد عاد بنا الكلام إلى تفصيل القول في الهرب، وقد ذكرنا فيه اختلافاً، واضطرب أئمتنا في تنزيله: فقال قائلون: الخلاف في الهرب إنما يجري إذا كان الحد ثابتاً بالإقرار، فأما إذا ثبت بالبينة، لم ينفع الهرب.
وقال قائلون: الخلافُ جارٍ سواء ثبت الحد بالبينة [أو بالإقرار] (3) .
وذكر بعض الأئمة مسلكاً حسناً في ذلك، فقال: الخلاف في أن الهارب هل يتبع؟ فأما المصير إلى أن الحد يسقط به، فلا، ولو امتنع من عليه الحد عن
__________
(1) حديث " من أتى من هذه القاذورات شيئاً.. " رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، والشافعي عنه، وقال: هو منقطع. وقد روي مسنداً من حديث ابن عمر بلفظ (اجتنبوا هذه القاذورات) رواه الحاكم في المستدرك (ر. الموطأ: 2/825، المستدرك: 4/244، 383، التلخيص: 6/106 ح 2039) .
(2) تمام الحديث، أي حديث " من أتى من هذه القاذورت ... ".
(3) في الأصل: " أولاً بالإقرار ".(17/188)
الاستسلام لإقامة الحد عليه، فقد ألحقه الأصحاب بالهرب؛ فإن كل واحد منهما امتناع، وقد قيل: " رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب خمر، فهمّ بإقامة الحد عليه، فولى ولاذ بدار العباس، فلم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) . وحكاية الأحوال عرضةُ الاحتمال، فلا يبعد أن يقال: كان ثبت عليه الحد بإقراره، ثم رجع وولى.
فرع:
11055- إقرار الأخرس بالزنا مقبول، وإشارته كعبارة الناطق. وقد ذكرنا تحقيق ذلك في كتاب اللعان، ولو قامت عليه البينة بالزنا، حُدّ عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2) . وله بدائع في الأخرس يقضِّي اللبيب منه العجب؛ فإنه قال: لو زنى وهو ناطق، ثم خرس، سقط الحد. ولو زنى بخرساء وهو ناطق لا يحدّ، وسنجمع في آخر الكتاب، إن شاء الله مسائل الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة. وغرضنا بذكرها إذا انتهينا إليها أن نضبط ما يؤثّر في إسقاط الحد وما لا يؤثّر، وعندها نتبين مجامع الشبهات، ومحلَّ الوفاق والخلاف، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وصفة الرجم أن يضرب بالحجارة والمدر ... إلى آخره " (3) .
11056- الرجم بيّن المعنى (4) ، ولو ضُربت رقبة من يستحق الرجم، وقع ما جرى حداً، ولكن فعل (5) ما فيه ترك الواجب؛ فإنّ غرض الشارع المَثُلةَ بالزاني بالجهة التي نص عليها، وقتله بالسيف تخفيف عنه، وعلى هذا لو قُصد بصخرة عظيمة من فوقه،
__________
(1) حديث شارب الخمر الذي لاذ بدار العباس فلم يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقد ضعفه الألباني. (ر. أبو داود: الحدود باب في الحد في الخمر، ح 4476، وضعيف أبي داود للألباني (ص 447) ، الحاكم: 4/373، البيهقي: 8/314، 315) .
(2) ر. المبسوط: 18/172.
(3) لم أصل إلى هذه العبارة في المختصر.
(4) ت 4: والمعنى.
(5) ت 4: ولكن فيه ترك الواجب.(17/189)
فالواحدة تذفِّف عليه، ولا يجوز ذلك، ولو كان يُرمى بحصى الخذف؛ فيطول الأمر عليه، وهذا أيضاً غير جائز؛ فإنه زيادة في عذابه، فلْنرْمه بالأحجار التي [يُرمى] (1) بأمثالها للقتل.
ثم يختلف الأمر في هذا؛ فقد تصيب الأحجار مقاتله، فيموت في قرب من الزمان، وقد يتمادى، وذلك لا يدخل تحت الضبط.
ثم الرجم يقام في الحر الشديد، والبردِ المفرط، والمرضِ المدنف؛ فإن الرجم إهلاكٌ؛ فلا وجه للإبقاء على مرجوم. وإنما يَرعَى الإمامُ التحرز عن أسباب الهلاك، إذا كان الحد جلداً.
قال الأئمة: إذا ثبت الزنا بالإقرار، فينبغي أن يؤخر رجمه عن شدة الحر والبرد، والسبب فيه [أنه] (2) ربما يرجع عن إقراره إذا (3) مسه حر الحجارة. ولو اتفق هذا، فقد يهلك [ببوادر] (4) الأحجار التي أخذت منه مأخذها؛ فيتحتم رعاية هذا.
وهذا لا يتحقق إذا ثبت الزنا بالبينة؛ فإنا لا نبني الأمرَ على رجوع الشهود.
11057- ولو كان الحد جلداً، فحقٌّ على الإمام أن يرعى جهةَ المحدود، والزمانَ الذي يقام الحد فيه، فلا يقيمه في شدة حر، ولا في شدة برد، ويحبسه إلى أن يعتدل الزمان.
وأما مراعاة المحدود في نفسه؛ فلو كان مريضاً مرضاً يُرجى برؤه، أُخّر إقامة الحد حتى يبرأ، ويستبلّ (5) ، وإن كان لا يرجى برؤه، وقد يكون مُخدَجاً ضعيف الخَلق، لا يحتمل الجلد أصلاً، فكيف السبيل فيه؟ اعتمد الأئمة في ذلك حديثاً نرويه، ثم نتبعه تفصيل المذهب، روي: " أن رجلاً مُخدَجاً رُئي على امرأة، وكان يخبُث بها،
__________
(1) في الأصل: " يرجم "، والمثبت من (ت 4) .
(2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(3) ت 4: فإذا مسته الحجارة.
(4) في النسختين رسمت هكذا: (سواد) بدون نقط، والمثبت من المحقق. والمراد ببوادر الأحجار: أوائلها التي أصيب بها قبل الرجوع عن الإقرار.
(5) يستبلّ: أي يشفى ويصح.(17/190)
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجلد مائة. فقالوا: يا رسول الله هذا لو جُلد مات. قال صلى الله عليه وسلم: " خذوا عِثْكالاً عليه مائة شِمْراخ، فاضربوه به " (1) .
وقد اضطرب كلام الأئمة في هذا الفصل، ونحن نذكر ما ذكروه، ثم ننبه على غامضة المذهب، ثم نوضح ما عندنا، إن شاء الله.
11058- قال الصيدلاني: نأخذ غصناً عليه مائة فرع، ونضربه به. ولا يشترط أن تمسه الفروع كلُّها، بل يكفيه أن ينكبس بعضها على بعض بحيث يثقل بسببها الغصن على المضروب، ويناله بهذا السبب أدنى التثقيل، ولو كان على الغصن خمسون فرعاً، ضربناه مرتين، فاقتضى كلامه رعاية إلحاق الأذى به، كما ذكرناه.
وفي بعض التصانيف أنه لا يؤلم بالضرب، واتفقت الطرق على أن الوضع عليه ليس كافياً، ولا بد من المقدار الذي يسمى ضرباً. هذا ما وجدناه من كلام الأئمة.
ومما نُقضِّي العجب منه مجاوزتهم أمثال ذلك من غير مباحثة، مع ظهور الإشكال فيه.
وأنا أقول: الأسواط التي تقام الحدود بها سيأتي وصفها، إن شاء الله، في باب مفرد في آخر الأشربة، فإن كان مستوجب الحد مستقلاً بالضرب بها، فلا كلام.
__________
(1) حديث: " أن رجلاً مخدجاً رُئي على امرأة ... " رواه الشافعي، والبيهقي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مرسلاً، قال البيهقي: " هذا هو المحفوظ عن أبي أمامة مرسلاً ". ورواه أحمد وابن ماجه عن أبي أمامة عن سعيد بن سعد بن عبادة، ورواه أبو داود عن أبي أمامة عن رجل من الأنصار، ورواه النسائي والدارقطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، والطبراني عن أبي أمامة عن أبي سعيد الخدري. قال الحافظ: فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة، وأرسله مرة. (ر. مسند الشافعي رقم 258، أحمد: 5/222، أبو داود: الحدود، باب في إقامة الحد على المريض، ح 4472، ابن ماجه: الحدود، باب الكبير والمريض يجب عليه الحد، ح 2574، النسائي في الكبرى: الرجم، باب الضرير في الخلقة يصيب الحدود (4/311-313 الطبراني في الكبير 6/38 ح 5446، سنن الدارقطني: 3/99-101 التلخيص: 4/108، 109 ح 2048) .(17/191)
وإن كان لا يستقل بالضرب بها، وكان قد يستقل بأسواط خفيفة- (1 دون ما سنصفه من سوط الحد- فليت شعري أنوجب الضرب بالأسواط الخفيفة 1) ؛ فإنها أقرب إلى صورة إقامة الحد من الضرب بالعِثكال أو الغصن ذي الفروع؟ وهذا محل النظر، والذي أراه أنه يجب الضرب بالأسواط الخفيفة (2) .
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا ضعف عن احتمال سياط الحد، فليس يجب إلا الضرب بالعِثكال، كما تقدم وصفه.
ومما يجب التنبيه له أن المقدار الذي ذكروه من الضرب بالعثكال ما أراه زاجراً إذا لم يكن فيه إيلام يتوقع مثله من بدن المُخدَج، كموقع السياط الموصوفة من بدن الأيِّد المحتمِل، هذا لا بد منه، وإلا يبطل حكم الحد.
وقد قال الأئمة: من حلف ليضربن فلاناً مائة سوط، فضربه بعِثكال عليه مائة شمراخ، كفاه ذلك، وبرّ في يمينه. وهذا ذكروه والمحلوفُ عليه قوي، واتبعوا فيه سنة الله تعالى في قصة أيوب عليه السلام، إذ قال عز من قائل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
ولا يمكن أن يُتَلقَّى ما نحن فيه من ذلك الأصل، مع ما ذكرناه من جريانه على الصحيح ذي المِرّة، فالوجه أن نعتبر الأسواطَ وما ينال القويَّ من الضرب (3) بها، ثم نعتبر في كل شخص ما يحتمله، مع رعاية النسبة التي فهمناها في الأصل.
وأما الحديث الوارد في المُخْدَج في الحد؛ ففي آخره ما يدل على أنه كان في نهاية الضعف، [إذ قالوا: لو ضربناه] (4) لتفتّت، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المقتضى.
وقد نجز ما أردناه نقلاً وتنبيهاً.
أما الاكتفاء بانكباس بعض الأغصان على بعض مع ما فيه من التثقيل، فالأمر
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) ت 4: "الحقيقة".
(3) ت 4: " الضعيف ".
(4) في النسختين: " إذ لو قالوا لو ضربناه ... ".(17/192)
بالضرب بالعكثال مصرِّح بالاكتفاء بما ذكره الأصحاب؛ فإن انبساط الشماريخ والغصون يبعد وقوعاً ويندر كوناً، فالأمر الظاهر يقتضي ما ذكروه.
ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المريض لو كان بحيث يحتمل مائة جلدة ولكن لو فرقت عليه في أيام، فلا يصير أحد إلى إيجاب ذلك، ولكن يجب إقامة الممكن وتخليةُ سبيله وإراحتُه عن انتظار العقوبة.
هذا منتهى القول في ذلك، وتمام البيان سيأتي في باب صفات [سياط] (1) الحدود، إن شاء الله عز وجل.
11059- ثم إن كان به مرض مرجو الزوال؛ فالوجه ارتقاب زواله، ثم لا سبيل إلى تخليته.
وهذا فيه فضلُ نظر، فإن ثبت الحد بالبينة، فيتجه حبسُه، كما تحبس الزانية الحامل. وإن ثبت الحد بالإقرار، فالحبس محتمل عندي؛ لأنه إن كان لا يستسلم لحد الله، يهون عليه الرجوع عن الإقرار، ويشهد لذلك حديث الغامدية، فإنها لما أقرت بالزنا وكانت حاملاً، لم يحبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خلاّها حتى تضع ... الحديث. [و] (2) هذا يقوى جداً إذا قلنا: من هرب عن حد الله تعالى، لم نتبعه.
ويجوز أن يقال: يُحبس المقِرُّ حتى يستقلَّ باحتمال الحد، فإن رجع عن إقراره، خلّينا سبيله.
ولا خلاف أن القصاص لو ثبت، واقتضت الحالةُ تأخيرَ الاستيفاء، فإنا نحبس من عليه القصاص، (3 كالذي ثبت عليه بالبينة 3) ، والذي تلقيته من كلام الأئمة أن المشهود عليه يحبس، والعلم عند الله تعالى.
ثم إن ظهر لنا أن المرض لازم يبعد زواله، وانتقلنا إلى الضرب بالعِثكال، كما
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .(17/193)
وصفنا، فلو اتفق البرء من ذلك المرض على الندور، [فالذي] (1) قطع به الأصحاب أن ما مضى كافٍ، ولا نعيد الحد بعد البرء والاستقلال، وقد ذكرنا تردداً في أن المعضوب إذا برأ على الندور بعدما استأجر أجيراً، وحج عنه، فهل يسقط فرض الإسلام عنه أم لا؟ وليس الحد كذلك؛ فإن مبناه على الاندفاع بالشبهة، والمُقام منه كافٍ معتد به، لا يتغير موجَب الاعتداد به.
11060- ثم قال الشافعي وأصحابه: إذا كان الحد جلداً، فينبغي ألا يقيمَه الإمام في شدة الحر والبرد، [ولكن] (2) يرعى في ذلك زمانَ الاعتدال، وهذا مما يجب صرف الاهتمام إليه، ولا وصول إلى الغرض منه إلا بذكر ما قاله الأصحاب على وجهه، ثم الرجوع بالمباحثة.
قالوا: إذا أقام الحدَّ في شدة الحر والبرد، فهلك المحدود، فلا ضمان على الإمام، هكذا نص الشافعي هاهنا، وقال فيمن امتنع من الاختتان: " لو ختنه الإمام، فأفضى إلى هلاكه، يجب الضمان " فاختلف أئمتنا على طريقين: منهم من قال: في المسألتين قولان، نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن الضمان يجب؛ فإن الإمام ترك ما أُمر به من تأخر الحد، وارتقاب اعتدال الهواء، فكان ذلك تقصيراً منه.
والثاني - أنه لا يجب الضمان؛ فإن الهالك قتيلُ الحد، والحقُّ قتله.
ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرّق بينهما، فقال: استيفاء الحدود إلى الأئمة، فإذا أقاموها، لم يؤاخذوا بمواقعها، والختان لا يتولاه الولاة، وإنما يتعاطاه المرء من نفسه، أو يقوم به في صباه وليّه (3) ، فإذا خاض الإمام فيه، فهذا كان على شرط سلامة العاقبة، هذا ما ذكروه.
11061- وطريق المباحثة فيه أنا إذا قلنا: لا يجب الضمان إذا مات المحدود، فلا شك أنا لا نوجب على الإمام تأخير إقامة الحد إلى اعتدال الهواء؛ فإنا لو أوجبنا
__________
(1) في النسختين: " فقد " والمثبث من المحقق رعاية للسياق.
(2) في الأصل: " وكان ".
(3) سقطت من (ت 4) .(17/194)
ذلك، لكان معتدياً إذا لم يؤخر، وكان الضمان يجب، فإن أوجبنا الضمان، فينقدح وجهان: أحدهما - لا يجوز إقامة الحد فى الحر والبرد، ولأجل هذا يضمن إذا أفضى التعجيلُ إلى الهلاك.
ويجوز أن يقال: إذا أوجبنا الضمان لم (1) يُمنع الإمام من التعجيل، ولكنا نكره ذلك، ونقول: إن فعلته، تعرضت [لفَرْض] (2) الضمان، كما نطلق ذلك في التعزيرات، وتأديبِ الأبِ ولدَه، والأستاذِ تلميذَه، والفقهُ ربط الضمان بالمنع عن الفعل، وقد ذكرنا أن الموجب للضمان في التعزير أنا نتبيّن أن التعزير المهلك لم يكن على الاقتصاد المأمور به؛ إذ لو كان كذلك، لما أهلك.
ومما يجب الاعتناء به -وهو سر الفصل- (3 أن التعزير 3) هو على قدرٍ يغلب على الظن أنه لا يُهلك، فأما جلد مائة، فلا يمكن إطلاق هذا الاعتبار فيه، فإن من ضرب إنساناً مائة جلدة على الحد الواجب فى الحد، فقد نقول: إنه مما (4) يُقصد به القتل، فإذا وقع عمداً، وأفضى إلى الهلاك، لم ينقص عن قطع أنملة، وهذا مقام يجب التثبت فيه.
ويحتمل أن أقول: الحد هو الذي لا يغلِّب على الظن إهلاكَ المحدود، وإن كان لا يغلِّب السلامةَ منه، وكأن المقصودَ من الحد إيقاعُ عذاب بالمحدود: إن كان (5) يسلم منه، فذاك، وإن هلك، فالحق قتله؛ ولهذا نص الشافعي على تجويز إقامة الحد في شدة الحر والبرد.
فالضعيف هو الذي يقتله الجلد لا محالة، والقوي هو الذي لا تندر سلامته، وليس الشرط أن يندر هلاكُه.
ويجوز أن يقال: ينبغي أن يكون الحد بحيث لو صدر من جانٍ عامد، لما
__________
(1) ت 4: " يمنع الإمام من التعجيل ".
(2) في النسختين: " لعرض " وعبارة الغزالي: " تعرضت لتقرير الضمان ".
(3) ما بين القوسين سقط من: (ت 4) .
(4) ت 4: "إنما".
(5) سقطت من (ت 4) .(17/195)
استوجب القودَ به؛ من حيث إنه لا يقصد به القتل غالباً، والتردد في الضمان بسبب إقامة الحدّ في الحر والبرد جاء من هذه الجهة، ومن لم يحط بذلك، فليس على بصيرة من فقه الفصل.
وينتظم مما ذكرناه من العقوبات: منها قتلٌ، ولا نظر فيه، ومنها تعزير ويجب فيه نهاية التوقّي مما يتوقى منه الهلاك، ومنها الحد بالجلد، وهو على التردد الذي ذكرناه في أنه هل نشترط أن تغلب السلامة منه أو لا نشترط ذلك. ولا بُعْد لو قُدِّر حدٌّ ليس قتلاً، ومثله لو فرض من جانٍ، وأفضى إلى الهلاك، لكان قتلاً موجباً للقود، وهذا كقطع اليد والرجل في السرقة. وقد انتهى المقصود من الفصل موضَّحاً مستوفىً، والله ولي التوفيق.
فصل:
قال: " ولا يجوز على الزنا واللواط وإتيان البهائم إلا أربعة ... آخره " (1) .
11062- مقصود الفصل بيان حكم اللواط وإتيان البهائم، فنقول: ظاهر النصوص على أن الحد يجب على من يأتي الذكور.
وذكر الأئمة قولاً مخرجاً أنه لا يجب الحد باللواط، وإنما الواجب فيه التعزير.
ومن أوجب الحد، احتج بمذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه اشتهر عنهم التغليظَ على اللائط، حتى لو ادعى مدعٍ انتشار ذلك في أكثرهم، لم يكن مجازفاً، وإنما خلافهم في كيفية العقوبة- على ما سنذكر ما تمس الحاجة إليه في التفريع.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اللائط والمأتي: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " (2) .
__________
(1) ر. المختصر: 167.
(2) حديث: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه،=(17/196)
ومن أراد توجيه قول التعزير تمسك بطريقٍ من الشبه، وهو مذكور في مسائل الخلاف، وإن قلنا: واجب اللواط التعزير، [فسنفصل] (1) التعزيرات في باب الأشربة، إن شاء الله عز وجل.
وإن قلنا: واجب اللواط الحد، فعلى هذا القول قولان: أحدهما - أن سبيله كسبيل الزنا، يرجم فيه الثيب المحصن، ويجلد البكر، وقيل هذا مذهب ابن الزبير، ووجه القياس فيه لائح. والقول الثاني - أن اللواط يوجب القتل على البكر والثيب؛ إذ لم يفصل الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " وكذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأقدمون رضي الله عنهم لم يفصلوا، وأوجبوا القتل. واختلف في كيفيته، فروي عن علي أنه قال في اللائط: " يُردَّى من شاهق، ويُعلى بالأصخار " (2) ، ولم يفصل. وروي قريب من ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه.
فإن قلنا بالفرق بين المحصن وغيره، فالوجه اعتبار ذلك في الفاعل، ولا معنى لاعتباره في المفعول به، ولعل الوجه قتْلُه على كل حال، هذا تنبيه (3) ، وقد يخطر أنه لا يقتل، ويُجلد ويغرب، ويجوز أن يشبه جانبه (4) بجانب اللائط في الفرق بين الثيب والبكر.
__________
=والحاكم، والبيهقي من حديث ابن عباس، ورواه ابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة.
قال الحافظ: وإسناده أضعف من الأول بكثير. (أحمد: 1/300، أبو داود: الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط، ح 4462، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في حدّ اللوطي، ح 1456، ابن ماجه: الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط ح 2561، 2562، الحاكم: 4/355، البيهقي: 8/231، 232، التلخيص: 4/102 ح 2031) .
(1) في الأصل: فنفصل. والمثبت من (ت 4) .
(2) أثر علي أنه قال في اللائط: " يردى من شاهق.. " لم نصل إلى هذا الأثر عن علي أو أبي بكرٍ رضي الله عنهما. وما وجدناه ما رواه البيهقي عن ابن عباس وقد سُئل عن حد اللوطي، فقال: يُنظر أَعلى بناء في القرية فيرمى به منكساً، ثم يتبع الحجارة. (السنن الكبرى: 8/232، ومعرفة السنن والآثار: 6/350) .
(3) كذا في النسختين.
(4) أي جانب المفعول به، وأما اللائط، فيريد به الفاعل.(17/197)
فإن قلنا: يقتل صاحب هذه الفاحشة فاعلاً كان أو مفعولاً به، ففي كيفية القتل قولان: أحدهما - أنه يرجم [كالمحصن] (1) إذا زنى. والثاني - أنه تضرب رقبته.
وهذا الاختلاف يوجه (2) بتردد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صار إلى كل مذهب مما ذكرناه صائرون من الصحابة رضي الله عنهم، إلا التعزير، فلم يكتف به أحد منهم.
فقد انتظم في اللواط أربعة أقوال: أحدها - الرجم في كل حال. والثاني - ضرب الرقبة. والثالث - الفصل بين المحصن وغيره. والرابع - الاقتصار على التعزير.
11063- وإتيان المرأة الأجنبية في دبرها بمثابة اللواط، وقال قائلون: هو بمثابة الزنا والإتيان في المأتى.
11064- وإذا أتى الرجل غلامه المملوك؛ فالمذهب: القطع بأنه بمثابة اللواط بغير المملوك، في التزام ما تقدم تفصيله، وأبعد بعض أصحابنا فجعل إتيان الرجل غلامه المملوك بمثابة وطئه أخته المملوكة، وفي وجوب الحد قولان سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى.
وهذا غير سديد؛ فإن الملك على الجملة يؤئر في إباحة الإتيان في المأتى؛ فإذا حرم بسببٍ، جاز أن ينتهض الملكُ شبهة في إسقاط الحد، وأما إتيان العبد المملوك، فليس فيه تخيل الإباحة على جهةٍ، فلا أثر للملك فيه.
11065- وإذا أتى الزوج زوجته في دبرها، فالمذهب أنه لا يلتزم الحد. وأبعد بعض أصحابنا، فألزمه ما ألزم اللائط. وهذا لا أصل له.
11066- فأما إتيان البهائم؛ فالمنصوص عليه أن واجبه التعزير، واستنبط بعض أصحابنا قولاً من نص الشافعي نذكره: أن الحد يجب على آتي البهيمة، وذلك النص أن الشافعي قال: " لا أقبل على إتيان البهيمة إلا أربعة من العدول "، [وقرن] (3) بينه
__________
(1) في النسختين: " المحصن "، والمثبت تصرف من المحقق.
(2) ت 4: " موجه ".
(3) في النسختين: " وفرّق ". وهذا عجيب من حيث اجتماع النسختين على هذا التصحيف،=(17/198)
وبين اللواط والزنا في الذكر في اشتراط العدد الأقصى، فنظم الأصحاب قولين، وقالوا: أصحهما - وجوب التعزير. والقول الثاني - أنه كاللواط. وقد تفصل القول فيه.
فإن قلنا: إنه كاللواط، ففي قتل البهيمة وجهان: أحدهما - أنه لا تقتل من جهة أنها لا تنسب إلى ارتكاب جريمة، ولا يفرض الزجر في جنسها، والثانى- أنها مقتولة، وقد روى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به. فقيل للراوي: ما ذنب البهيمة؟ فقال: إنما تقتل حتى لا تذكر " (1) . وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً - أنها إن كانت مأكولة اللحم، ذبحت، وإن لم تكن مأكولة اللحم، لم يجز قتلها، وهذا التفصيل لا بأس به.
فإن قلنا: تقتل البهيمة، نُظر: فإن كانت محرمة اللحم، فهل يجب قيمتها؟
فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب؛ لأنها مستحقةُ القتل شرعاً، وهذا ضعيف؛ فإنها ما أجرمت، وإبطال مالية مالكها منها بعيد عن قياس الأصول. فإن قلنا: يجب قيمتها لمالكها، ففيمن عليه القيمة وجهان: أحدهما - أنها على الذي أتى البهيمة؛ فإنه الساعي في إهلاكها. والثاني - أنها في بيت المال. وهذا يقرب من التردد المذكور في أجرة الجلاد.
وإن كانت البهيمة مأكولة اللحم، فهل يحرم أكلها إذا ذبحت؟ فعلى وجهين:
__________
=وعجيب من حيث إن عبارة الشافعي التي (قرن) فيها بين إتيان البهيمة واللواط، سبقت هذه العبارة، وكتبها الناسخ بقلمه قبل صفحة واحدة. ولكن نذكر لهم جهدهم وعناءهم في حفظ هذه الأصول الأمهات، وهذه الذخائر بأقلامهم، جزاهم الله خيراً، وعفا عنا وعنهم.
(1) حديث قتل من أتى البهيمة وقتل البهيمة، وقول الراوي: " إنما تقتل حتى لا تذكر " رواه البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وفي رواية أخرى: قيل لابن عباس: " فما شأن البهيمة؛ قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل " أخرجها أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد (البيهقي: 8/233-234، أبو داود: الحدود، باب فيمن أتى بهيمة، ح 4464، الترمذي: الحدود، باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة، ح 2564، والنسائي في الكبرى، ح 7340، أحمد: 1/296، التلخيص: 4/103 ح 2033) .(17/199)
أصحهما - أنها لا تحرم، والثاني - أنه يحرم أكلها؛ فإن من أصول الأطعمة أن كل حيوان وجب قتله، حرم أكله، (1 كما أن كل حيوان حرم قتله حرم أكله 1) ، فإن حرمنا أكلها، فقتْلُها تفويتها، والكلام فيها كالكلام في قتل البهيمة المحرمة اللحم، (2 فإن قلنا: لا يحرم أكلها، فلا يجب إلا ما ينقصه القتل إن أوجبنا القيمة في البهيمة المحرمة 2) ، ثم الخلاف فيمن يجب عليه أرش النقصان على ما تقدم.
ثم كل إتيان يوجب الحد، فلا يثبت إلا بأربعة من الشهود، وإن حكمنا أنه لا يوجب الحد بعضُ ما ذكرناه كإتيان البهيمة واللواط على القول البعيد المخرّج، فهل يثبت بشهادة عدلين حتى يصير المشهود عليه مستوجباً للتعزير أم لا بد من أربعة من العدول؟ فعلى وجهين. ونص الشافعي على أنه لا بد من أربعة من الشهود، هكذا ذكر هاهنا، وقد صرح في كتاب الشهادات بأن إتيان البهيمة ليس بزنا، وقال: إذا شهد الشهود بالزنا استفسرهم الحاكم، لأنهم قد يعُدّون إتيان البهيمة زناً، هذا تمام القول في هذا الفن.
فصل
قال: " فإن شهدوا متفرقين قبلتهم ... إلى آخره " (3) .
11067- الكلام الوافي البالغ في تحمل الشهادة على الزنا، وعدد الشهود، وكيفية إقامة الشهادة، والرجوع عن الشهادة قبل استيفاء العقوبة وبعدها، وما على الراجع كله يأتي مستقصىً [مجموعاً] (4) في باب الرجوع عن الشهادة، في كتاب الشهادات إن شاء الله عز وجل.
والذي نذكره هاهنا في شهود الزنا إذا لم يتمّوا أربعاً، أو تموا، ثم رجع بعضهم، أو كانوا فسقة، أو عبيداً، أو كفاراً، فإنا لم نذكر هذا في كتاب اللعان؛ فنقول
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(3) ر. المختصر: 5/67.
(4) في الأصل: " مستقصىً في مجموعاته ".(17/200)
هاهنا: إذا شهد ثلاثة على الزنا [ولم يساعدهم رابع، أو شهد واحد على الزنا] (1) وجاء مجيءَ الشهود، ففي وجوب الحد قولان: أحدهما - أنه لا يجب حدّ القذف؛ فإنهم جاؤوا مجيء الشهود، والذي يعضد ذلك أن لكل واحد منهم أن يُقدم على إقامة الشهادة، والحد عقوبة جريمة، وإذا أقدم ثلاثة على الشهادة، فكيف ينقلبون قَذَفَة بامتناع الرابع؟
والقول الثاني - أنهم قذفة والشاهد فيه حديث عمر وقصة أبي بَكْرة (2) وهي مشهورة مذكورة في الخلاف.
ومسلك المعنى أنا لو لم نقم الحد على الشهود إذا لم يكمل عددهم، لاتخذوا صيغ الشهاداتِ ذريعةً في القذف والوقيعة في الأعراض.
ولو شهد أربعة من العدول ثم رجع واحد منهِم عن الشهادة أو رجع ثلاثة من الشهود وأصرّ واحد، فالراجعون إذا كذّبوا أنفسهم قَذفة يُحدّون، والمستقر على الشهادة لا يُحدّ عند المراوزة؛ فإن العدد كمل والبينة تمت، ثم رجع [من رجع] (3) ، فعليهم وبال الأمر، واختصوا به دون المستقر على الشهادة.
وذكر العراقيون طريقين: أحدهما - ما ذكرناه، والآخر - أن المسألة على قولين في المصرّين على الشهادة، كما [لو لم يكمل] (4) العدد ابتداء. وهذا بعيد جداً، ثم إن لم يكن من هذه الطريقة البعيدة بُدٌّ، فيجب ذكرها إذا فرض الرجوع قبل نفوذ القضاء، أما إذا نفذ الحكم، ورجع من رجع، فلا يجوز أن يكون في المستقرين على الشهادة خلاف؛ فإنا في الغرامات التي سيأتي تفصيلها لا نوجب على المستقرين على شهاداتهم
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .
(2) قصة أبي بكرة مع عمر في الشهادة على المغيرة بن شعبة بالزنا، حيث جلد عمرُ الثلاثة؛ إذ لم يشهد معهم رابع رواها الحاكم في المستدرك والبيهقي، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو موسى في الذيل من طرق، وعلق البخاري طرفاً منها (البخاري: الشهادات باب شهادة القاذف والسارق والزاني (الفتح: 5/301) ، البيهقي: 8/234-235، التلخيص: 4/117 ح 2068) .
(3) في الأصل: " ولم يرجع ".
(4) في النسختين: " كما لو يكمل العدد ". والمثبت من المحقق.(17/201)
شيئاً، وإنما نخصص ما نوجبه بالراجعين، وإذا فرض الرجوع قبل نفوذ القضاء، فقد يظن ظان أن البينة لم تكمل، [إذا] (1) عدمت قبل جريان القضاء بها.
ولو شهد شهود على الزنا في ظاهر الحال، ثم بانوا عبيداً أو كفاراً، فقد قطع المحققون بأنهم قذفة يُحدون؛ لأنهم ليسوا من أهل الشهادة، وإذا بطل منصب الشهادة، لم يبق إلا ذكر الزنا، وذكر الزنا من غير شهادة قذف.
11068- ولو بان الشهود الأربعة فسقة، فالتفصيل فيهم أنهم إن كانوا معلِنين بالفسق غير مكاتمين فيه، ولم يكن فسقهم مما يتوصل إليه باجتهاد، ففي المسألة قولان، ذكرهما ابن سريج: أحدهما - إنهم قذفة كالعبيد والكفار، والثاني - أنه لا حد عليهم؛ فإن في العلماء من يجعل الفاسق من أهل الشهادة.
وإن كان الفسق الذي يرد القاضي به شهادتهم مجتهداً فيه، نُظر؛ فإن كان مظنوناً لا يُقطع به، وقد يرى القاضي التفسيق بما قد يرى غيره أنه لا يقع التفسيق به، فإن كان كذلك، فلا يُحدون بلا خلاف، فإنا لو حددناهم -وقد جاؤوا مجيء الشهود في ظاهر الحال/قطعاً- لكنا معارضين مقطوعاً به بمجتهد فيه، ولا يبعد أن يدرأ حد الزنا عن المشهود عليه باجتهاد، فأما إيجاب الحد عليهم [بمظنون] (2) ، ومنصبهم منصب الشهادة فلا سبيل إليه.
وإن ردت شهادتهم بفسق يكتمونه ويستخفون فيه من الناس، فهل يكونون قذفة؟ فيه وجهان مرتبان على الوجهين في المعلنين، وهاهنا [أولى] (3) بألا يحد حد القذف، بل هو ظاهر المذهب، والدليل عليه أنهم لو شهدوا في مال أو غيره، فردت شهادتهم، ثم حسنت حالتهم، فأعادوا الشهادة رُدّت معادة، كما رُدّت ابتداء، ولو جاء عبيدٌ مجيء الشهود، فردت شهادتهم؛ ثم عَتَقوا، فأعادوها، قُبلت منهم معادة، ولو رُدت شهادة معلنين بالفسق، [لا يأنفون منه] (4) ولا يتعيرون به، ثم
__________
(1) في الأصل: " وإذا ".
(2) في الأصل: " فمظنون ".
(3) زيادة من (ت 4) .
(5) سقطت من الأصل، والمثبت من (ت 4) .(17/202)
حسنت حالتهم، وظهرت عدالتهم فأعادوها، ففي قبول الشهادة المعادة وجهان.
ويمكن أن نجعل هذا ضبطاً فيما نحن فيه، فيقال: كل من ردت شهادته [وإذا] (1) زايل حالتَه، ثم أعاد الشهادة لا تقبل شهادته المعادة، فإذا شهد على الزنا مع كمال العدد، ثم اطلع على تلك الصفة، وردت شهادته، فلا يكون قاذفاً، وإن كان على صفة لو شهد عليها ثم زايله فأعادها، قبلت منه، فإذا شهد على الزنى، فردت شهادته على الصفة التي ذكرناها، فهو قاذف، لأنه ليس من أهل الشهادة، [وتصدّيه لها باطل] (2) فلو شهد على الزنى أربعة، ثم بان أن فيهم من يعادي المشهود عليه، فردت شهادته، فليس قاذفاً؛ لأن رد الشهادة بالعداوة مجتهد فيه، وقد ذكرنا أن الفسق المجتهد فيه إذا اتفق رد الشهادة به لا يصير المردود قاذفاً، مع كمال العدد. فهذا ضبط القول فيما ذكرناه.
11069- ثم ذكر الشافعي على الاتصال بهذه القاعدة مسائلَ نذكرها، ونذكر ما فيها: إحداها - أنه إذا شهد أربعة أن فلاناً زنى بامرأة، فشهد اثنان منهم أنه زنى بها وهي مطاوعة، وشهد اثنان أنها كانت مكرهة، أما المرأة، فلا حد عليها، وقد تعرض لمطاوعتها، ونسبتها [إلى الزنا] (3) شاهدان، ولم يكمل العدد على هذه الصفة، ففي حد القذف عليهما القولان المقدمان، فإن قلنا: يحدان لما خرجت شهادتهما عن أن تكون شهادة، والقاذف مردود الشهادة إلا أن يتوب، ثم يستبرأ، على تفاصيلَ ستأتي إن شاء الله، فعلى هذا لا يحد الرجل وإن شهد أربعة على زناه؛ لأن اثنين منهما قاذفان، لا تقبل شهادتهما.
فإن قلنا: لا يحدان، فقد تمت الشهادة على الرجل، فهل يلزمه حد الزنا بشهادة الأربعة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب أكثرهم إلى وجوب الحد عليه، لأنه اجتمعت شهادة أربعة من الشهود على زناه، وهو على موجب شهاداتهم زانٍ: أكره
__________
(1) في النسختين: فإذا. والمثبت من المحقق.
(2) عبارة الأصل: وتصدّ به على الزنا باطل.
(3) زيادة من (ت 4) .(17/203)
المرأة أو طاوعته، ومن أصحابنا من قال: لا يجب الحد على الرجل لاختلاف الشهادة في صفة الفعل الصادر منه، وسيأتي لهذا نظائر في كتاب الشهادات إن شاء الله عز وجل.
فإن قيل: إذا قلنا: لا يحد الرجل، فهل يحد الشهود في حقه؟ قلنا: ما ذهب إليه أهل التحقيق أنهم لا يحدون في حقه؛ فإن عددهم كامل على زناه، وهم من أهل الشهادة، وإنما رددنا شهادتهم، فلم نقم الحد عليه لأمر خفيٍّ مجتهَد فيه، وقد ذكرنا أنا إذا رددنا الشهادة لأمر مجتهد فيه مع كمال العدد، فلا نجعل الشهود قذفة.
11070- ثم قال الشافعي: " وإن شهد عليها بالزنا أربعة ... إلى آخره " (1) .
وصورة المسألة: إن شهد أربعة على زنا امرأة، فتُشهِد أربعَ نسوة عدول على أنها عذراء، فلا حد عليها؛ لأن الحد يُدرأ بالشبهة، وقيام العذرة مما يغلِّب على الظن أن الزنا لم يجر، ولكن لا حد على الشهود؛ لأن العذرة قد تعود، ويستحيل أن يحدّوا مع هذا الإمكان، فالمرأة لا تحد؛ لأن عذرتها شبهة ظاهرة في نفي الزنا، والحد مما يسقط مع الشبهة، والشهود لا يحدون لما ذكرناه.
ولو شهد أربعة على أنه زنى بها مكرهة، وشهد أربعة أنها عذراء، دفع الحد عن الرجل المشهود عليه بالزنا والإكراه؛ لأن العذرة إذا ثبتت عارضت ظهور الزنا على المناقضة، فإن ادعت المكرهة الوطء على الإكراه، فلها المهر، وثبوت العذرة لا يدرأ المهر؛ فإن المهر لا ينتفي بالشبهة.
ولو شهد أربعة من الشهود على زنا فلان بفلانة، ولكن عيّن كل [واحد] (2) منهم زاوية من زوايا البيت للزنا، فلا يثبت الزنا لاختلاف الشهادات، ولكن كل واحد منهم شهد على زناً لم يساعَد عليه؛ فيخرج فيهم قولان في وجوب حد القذف؛ فإن العدد لم يكمل في الشهادة على زنية واحدة.
__________
(1) ر. المختصر: 5/167.
(2) في النسختين: " واحدة ".(17/204)
فصل
يجمع تفاصيل المذهب في الشبهات المؤثرة في درء الحد
11071- ونحن نجمعها في تقسيم كان يردده شيخنا أبو محمد، كان يقول: الشبهات ثلاثة أصناف: أحدها - في المحل. والثاني - في الفاعل. والثالث - في الطريق والجهة.
فأما ما يتعلق بالمحل، فالملكُ وإن لم يُبح الوطء، يدرأ الحد على القول الجديد، والرأي الظاهر، فإذا ملك الرجل أخته من الرضاع أو النسب، وألمَّ بها على علم، لم يلتزم الحدّ، وكذلك إذا وطىء أحدُ الشريكين الجارية المشتركة، فلا حد عليه؛ لمكان الملك.
وللشافعي رحمه الله في القديم قولان مشهوران أن الحد يثبت في هذه [الصور] (1) التي ذكرناها، وكان شيخنا يقول: أولى الصور بجريان هذا القول فيها المملوكة التي فيها معنىً محرِّم على الأبد، بحيث لا يفرض دفعه؛ فإن الملك لا يؤثر طريانه في رفع الحظر، فوجوده كعدمه، وهذا القول في الجارية المشتركة أضعف، لأنها عرضة الاستباحة باستكمال الملك.
وطرد أصحابنا هذا القولَ في وطء المولى الجارية المزوّجة، والجارية المملوكة المعتدة عن الزوج، وهذا لا أصل له؛ فإن تحريم العدة إلى الزوال، والنكاح عرضة الارتفاع، والطوارىء على الملك مع دوامه لا يُلحقها بالمحرمات التي لا يتصور استباحتها.
ولا خلاف في أن الوطء في الحيض لا يوجب الحد، وكذلك وطء الجارية قبل استبرائها لا يلزم الحد وفاقاً. ووطء المرأة المُحْرمة والصائمة كذلك، إذا كان سبب الحلّ مستمراً عليها؛ وذلك أن الحرمة ليست مختصة بها، وإنما سبب التحريم العبادة، وهذا كما أن سبب تحريم الحائض التقذّر والأذى.
__________
(1) في النسختين: " الصورة ".(17/205)
والملك في الغلام على الرأي الظاهر لا يكون شبهة في درء العقوبة، كما تقدم، واستحقاق الاستمتاع بالزوجة والمملوكة يدرأ الحد إذا أتاها الزوج أو المالك في غير المأتى، وفي هذه الصورة وجه ضعيف يناظر على مضادة ما أشرنا إليه في الغلام المملوك.
وإن أردنا ضبط القول القديم، قلنا: كل مملوكة محرمة بمعنىً يخصها، لا لاحترام (1) قرابة، فيجري القول القديم، ثم تتفصّل الصور، فجريانها في بعضها أظهر، وفي بعضها أخفى، كما قدمناه.
فهذا بيان الشبهات المتعلقة بالمحل، وعلى هذا يخرّج وطء الأبِ جاريةَ الابن؛ فإن له فيها شبهة، ثم إن حكمنا بأنها تصير أمَّ ولدٍ لو علقت منه، فلا حد جديداً وقديماً، وإن حكمنا بأنها لا تصير أم ولد، فقد أجرى بعض الأصحاب القولَ القديم في إيجاب الحد، وهذا ضعيف، لا تعويل على مثله.
11072- فأما الشبهات التي تكون في الفاعل، فيجمعها عدم علمه بتحريم الوطء وذلك يحصل بجهات: منها العقود الفاسدة التي يحسبها صحيحة، ومنها أن تزف إليه غيرُ امرأته، ومنها أن يصادف امرأةً على فراشه، فيحسبها مملوكته أو زوجته، ولو حسبها الجارية المشتركة بينه وبين شريكه -والتفريعُ على الجديد في أن الشريك (2) لا يلتزم الحد بوطء الجارية المشتركة- فهذا فيه تردد، ويظهر نفي الحد؛ لأنه ظنّ ما لو تحقق، لاندفع الحد، ويجوز أن يقال: يلزمه الحد؛ لأنه أقدم على الوطء مع العلم بالتحريم، وظنَّ اقترانَ دارىء الحد بالوطء وكان (3) الأمر على خلاف ما ظن، ويقرب من هذا أن [يكون] (4) الشخص ممن يعلم أن الوطء محرم، ولا يعلم وجوب الحد به.
__________
(1) ت 4: " يخصها الاحترام ".
(2) ت 4: " شريكه يلتزم الحد ".
(3) ت 4: " ولو كان ".
(4) زيادة من المحقق.(17/206)
11073- فأمّا الطريقُ والجهةُ؛ فالقاعدة المعتمدة في المذهب أن كل جهةٍ صار إلى تصحيحها والحكم بإفضائها إلى الإباحة صائر من أئمة الشريعة، فإذا حصل الوطء بها، فالمذهب انتفاء الحد، وإن كان المُقدِم عليها لا يرى [استحلالَ] (1) الوطء بتلك الجهة. وعلى هذا قال الأئمة: إذا نكح الرجل نكاح متعة، وأصاب، فلا حد، لمذهب ابن عباس في إباحة نكاح المتعة، وكذلك إذا نكح بغير وليٍّ، أو نكح بغير شهود، مكتفياً بالإعلام.
وحكى الأئمة قولاً عن الشافعي أن الوطء في نكاح المتعة ممن لا يستحله موجبٌّ للحد، وهذا قريب من القول القديم في الأملاك [المقترنة] (2) بالأسباب المحرمة.
والترتيب عندنا أن كل عقد ليس فساده من المظنونات، وإن عُزي إلى بعض الأئمة، فنُجري هذا القول فيه، ونكاح المتعة منه، فإن الذي استقر عليه مذاهب العلماء أن نكاح المتعة أبيح ثم نسخ، وقد قيل: رجع ابن عباس عما ينسب إليه من إباحته.
وكل عقد لا يمكن القطع بفساده ويلحق الكلام فيه (3) بالمظنونات، فهو شبهة في درء الحد، كمذهب أبي حنيفة في انعقاد النكاح بغير ولي، وكمذهب مالك في انعقاده بغير شهود، ولا يجري القول الذي ذكرناه في هذا الصنف.
وذهب الصيرفي من أصحابنا إلى إيجاب الحد على من وطىء في النكاح بغير ولي، ثم زعم أن الحد يجب على الحنفي فضلاً عن الشافعي، وانتحى في هذا مذهب الشافعي، حيث قال: لو شرب الحنفي النبيذ حددته، وقبلت شهادته. وسنعود إلى هذا الطرف في باب الأشربة، إن شاء الله عز وجل.
فهذه معاقد مذهبنا في الشبهات وتقاسيمها، وبيان محل الوفاق والخلاف فيها.
__________
(1) في الأصل: " استقلال ".
(2) في الأصل: " المقربة ".
(3) زيادة من (ت 4) .(17/207)
11074- وأما أبو حنيفة (1) ، فقد أتى بمناقضات بادية، وزعم أن كل ما يؤتى (2) به على صيغة العقد دارىءٌ للحد، وإن أجمع المسلمون على بطلانه، فقال: نكاح الأم يدرأ الحدَّ عن الابن الذي يأتيها، وإن كان هذا على رتبة العقود الباطلة.
ولو اشترى [حرّة، ووطئها،] (3) حُد.
ولو استأجر امرأة على الزنا، أو أباحت نفسها، أو جاريتها حُد، وأبو حنيفة (4) قال: لا يحد، وأقام الاستئجار على الزنا دافعاً للحد، ثم اكتفى بالمعاطاة، وقال: لا حد على المرأة إذا مكنت مجنوناً (5) ، وعلى العاقل الحد إذا زنى بمجنونة، ولا حد عليه بخرساء في أمور لا يحويها ضبط، وليست من غرضنا. ثم أوجب الحد على من يأتي امرأة يحسبها زوجته (6) ، وإن كان لا يأثم، فهذا شخص غير آثم، وهو مرجوم! وقال في مسألة شهود الزّوايا (7) : يجب على المشهود [عليه] (8) الحد، وإن اختلفت الشهادات، فليس يستقر له مذهب في الدرء، ولا في الإيجاب.
ومن الفروع اللطيفة التي انتظمت له أنه قال: إذا شهد أربعة من العدول على زنا
__________
(1) ر. المبسوط: 9/85، مختصر اختلاف العلماء: 3/296 مسألة 1414، طريفه الخلاف: 205.
(2) في الأصل: قوى، والمثبت من ت 4.
(3) في النسختين: " ولو اشترى جارية بالدم ووطئها، حُد " والمثبت هي الصورة المتداولة في كتب المذهب، راجع على سبيل المثال (الشرح الكبير: 11/148) .
هذا، ولِما في النسختين وجهٌ، وهو أن جعل الدم ثمناً للجارية يبطل عقد الشراء، والكلام فيما تورثه العقود الباطلة من شبهة تدرأ الحد. وأن الأحناف يجعلون العقد -مهما كان ظاهر البطلان- شبهة دارئة للحد.
(4) ر. رؤوس المسائل: 487 مسألة 352، طريقة الخلاف: 207، المبسوط: 9/58، 59.
(5) ر. رؤوس المسائل: 488 مسألة 353، طريقة الخلاف: 210، المبسوط: 9/54.
(6) ر. المبسوط: 9/87، البدائع: 7/37.
(7) ر. المبسوط: 9/61، البدائع: 7/49.
(8) زيادة من المحقق.(17/208)
شخص؛ فإن كذّبهم، أقيم الحد عليه، وإن صدقهم، فلا حد عليه؛ لأن التصديق إقرار، والشهادة مع الإقرار مردودة، ثم الزنا لا يثبت بإقرارٍ واحدٍ.
فصل
قال: " ويحدُ الرجل أَمَتَهُ ... إلى آخره " (1)
11075- السيد عندنا يقيم الحد على مملوكه في الجملة، خلافاً لأبي حنيفة (2) ، ثم كثر اختلاف أصحابنا في جوانب المسألة وأطرافها، والذي يكاد يجمع معظم صور الخلاف أن من أئمتنا من قال: السيد يقيم الحد على مملوكه (3) بطريق الولاية؛ فإن الملك أثبت له سلطانَ تزويج الأمة، والتزويجَ من العبد مع اختلاف الدين على الرأي الظاهر. ومن أصحابنا من قال: إقامة السيد الحدَّ على مملوكه مأخوذة من جهة استصلاح الملك، وتأديب المملوك.
وينشأ من هذا الأصل مسائل: منها اختلاف الأصحاب في أن المكاتَب هل يقيم الحد على مملوكه الذي تحت يده، فإن جعلنا ذلك ولاية، فالمكاتَب رقيق ليس من أهل الولاية، وإن جعلناه استصلاحاً، فهو من أهله، وكذلك الخلاف في المرأة إذا أرادت إقامة الحد على مملوكها، أو أمتها، فإن اعتبرنا الولاية، فليست هي من أهل الولاية، وإن اعتبرنا الاستصلاح، فهي من أهله، وهذا الاختلاف يجري في المالك الفاسق على نحو ما ذكرناه.
ثم السيد يقيم الحد إذا أقر المملوك، أو أقرت الأمة، وهل يُصغي إلى شهادة الشهود، حتى يُثبتوا الحدّ عنده؟ هذا يخرج على ما مهدناه: فإن جعلنا إقامة الحد استصلاحاً، فليس السيد من أهل سماع البينة، وإنما يقيم الحد إذا عاين الزنا أو أقر المملوك به. وإن قلنا: سبيله سبيل الولاية، فهل يسمع السيد البينة؟ فعلى وجهين:
__________
(1) ر. المختصر: 5/67.
(2) ر. المبسوط: 9/80، مختصر اختلاف العلماء: 5/298 مسألة 1417.
(3) ت 4: مملوكته.(17/209)
أحدهما - أنه يسمعها ويقيم الحدَّ بها. والثاني - لا يسمعها؛ فإنه لا يستقل بالنظر في أحوال الشهود، وإنما يتهيأ ذلك للقاضي؛ لمكان استمكانه لمراجعة المزكين، قال العراقيون: إذا قلنا: لا يسمع الشهادة، فلو سمعها القاضي، وقضى به، فالسيد يستوفي الحدّ حينئذ، والأمرُ على ما ذكروه، وهذا قياس طريق المراوزة أيضاً.
ثم قال الأئمة: لا يشترط أن يكون السيد مجتهداً، قال الصيدلاني: إذا قلنا: إنه يسمع الشهادة، فلا بد أن يكون عالماً، وهذا الذي قاله فيه نظر: فإن عَنَى بالعالم المتهدِّي إلى ما يختص بهذا الباب، فنعم، وإن أراد أن يكون مجتهداً، فلست أرى لذلك وجهاً.
وزاد العراقيون شيئاً متصلاً بهذا المنتهى، فقالوا: إذا قلنا: المرأة لا تقيم الحد على مملوكها في أحد الوجهين، فمن يقيمه؛ ذكروا وجهين: أحدهما - أنه يقيمه الإمام، وهو الذي قطع به المراوزة، والثاني - أنه يقيم الحد على مملوكها من يتولى تزويجها، وهذا بعيد لا أصل له.
11076- ومما يتصل بتمام الفصل أن السيد هل يقطع مملوكه إذا سرق، أو قطع الطريق؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، وهو خارج على الأصل الذي مهدناه: فإن جعلنا إقامة الحد ولاية، فلا يمتنع أن يقيمها المالك. وإن قلنا: إنها استصلاحُ ملْكٍ، فكأنا (1) ألحقناه بالتأديب، والقطعُ ليس من قبيل التأديب.
وذكر بعض الأصحاب في هذا ترتيباً حسناً، فقالوا: في القتل والقطع ثلاثة أوجه: أحدها - أن السيد لا يملكهما، والثاني - أنه يملكهما. والثالث - أنه يقطع ولا يقتل؛ لأن القطع على حالٍ فيه إبقاء مملوك، وقد ينتفع به بعدُ، والقتل بخلافه، [وابتناء] (2) ذلك على الأصل الذي ذكرناه.
والسيد لا يحد مكاتَبه؛ لأنه ليس تحت تصرفه، ويحد مدبَّره، وأمَّ ولده، فإن رقه قائم فيهما، وسلطانه مستمر عليهما، ولا تعويل على امتناع البيع في المستولدة.
__________
(1) ت 4: " لأنا ".
(2) في النسختين: " وإنشاء " والمثبت من المحقق.(17/210)
ومن نصفه حر ونصفه مملوك، لا يقيم مالك الرق منه الحدَّ عليه أصلاً؛ فإنه يقع بجملته وبعضها حرٌّ، ورأيت في نسخة من [نسخ] (1) الصيدلاني إلحاقَه بالمدبر، وأمِّ الولد، وهذا خطأ صريح، وأحسبه من خلل النسخة، وسأراجع نسخة أخرى، إن شاء الله تعالى.
وذكر العراقيون: أن العبد إذا قلنا: إنه يغرّب، هل يتولى السيد تغريبَه؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن المعوّل في إقامة الحد على المماليك الخبرُ، وإنما صح في الحديث تفويض الجلد إلى السادة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها الحد " (2) [وهذا وجه ضعيف إن صح] (3) أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " (4) .
11077- ومما يجب الإحاطة به أن السلطان من أهل إقامة الحد على المملوكين، والسادة من أهل إقامة الحد عليهم، فلو جعلنا السيد من أهل الإقامة، فليس عليه مراجعة السلطان فيما فوّضه الشرع إليه، وإذا لم يُقم السيد في بعض الصور، أقام السلطان، (5 وإن ثبت الحدّ، فابتدر 5) السلطان وأقامه، وقع الموقع.
وإن فُرض اجتماع السلطان والسيد، وكل واحد يبغي أن يكون هو المقيم، فهذا
__________
(1) زيادة من ت 4.
(2) حديث " إذا زنت أمة أحدكم ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة (البخاري: البيوع باب بيع العبد الزاني، ح 2152، مسلم: الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنا، ح 1703) .
(3) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) . ومكانه في الأصل: (وروي) ، ثم الحديث الأول متفق عليه كما ظهر في التعليق قبله، ثم هذا الوجه ضعيف فعلاً، فقد ثبت صحة الحديث. كما سيظهر في التعليق الآتي.
(4) حديث " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " رواه أبو داود والنسائي والبيهقي من حديث علي، وأصله في مسلم موقوفاً من لفظ علي. (ر. أبو داود: الحدود، باب في إقامة الحد على المريض، ح 4473، الكبرى للنسائي: ح 7239، البيهقي: 8/229، 245، مسلم: الحدود، باب تأخير الحد عن النفساء، ح 1705، تلخيص الحبير: 4/109 ح 2049) .
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .(17/211)
موضع النظر: يجوز أن يقال: السلطان أولى لمكان الولاية العامة، وإقامة الحدود هي أخص آثار الولايات، وقد قال الشافعي: " إذا اجتمع في دار رجلٍ مالكُ الدار والسلطانُ، وقامت الصلاة، فالسلطان أولى بالإمامة من مالك الدار " لأن أصل الجماعات مما جرى الرسم بكلام الولاة فيها، وإن كان لا يتوقف تصحيحها على رأيهم، فإذا كان كذلك، فالحدود بما ذكرناه أولى.
ويجوز أن يقال: المالك أولى بإقامة الحدود؛ لأنها تتعلق باستصلاح ملكه، فكان أولى منه، ولا يمتنع أن يقال: المالك أولى بالجلد والسلطان بالقتلِ، والقطعِ؛ فإن إعمال الأسلحة وسفك الدماء حقه ارتباطه بمن إليه الأمر، فإن أقام الشرعَ السيدُ به، فهو في حكم النائب للإمام، والتبعِ له. فإذا فرض النزاع، فالوالي أولى بما يليق بمنصبه.
11078- ثم عقد الشافعي باباً في حدّ الذميين (1) ، ومضمونه أنهم إذا ترافعوا إلينا، ورضوا بحكمنا، فيجوز القضاء عليهم، وفي الوجوب قولان تقدَّم ذكرهما في أبواب النكاح، وسيعود تفريعهما في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى. وقصة اليهوديين، إذ رضيا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حد الزنى مشهورة (2) .
وإذا ارتفع إلى مجلس الحاكم من الذميين من كان شرب الخمر ورضي بحكم الإسلام، فظاهر المذهب أنه لا يقام عليه الحد؛ لأن المقصود من الحد الزجر، والمرتفع إلينا مستبيحٌ للخمر، غيرُ مغيِّرٍ لعقده، فلا معنى لزجره، على أنا منهيون عن تتبعهم، مأمورون بمتاركتهم (3) ، والإعراضِ عن البحث عن أحوالهم.
فإن قيل: أليس نص الشافعي على أن الحنفي يحد إذا شرب النبيذ، وإن كان مستبيحَه؟ قلنا: إنما قال ذلك، لقطعه بأن في شرب النبيذ من المحذور ما في شرب
__________
(1) ر. المختصر: 5/167.
(2) حديث رجم اليهوديين متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحدود، باب الرجم في البلاط، ح 6819، مسلم: الحدود، باب رجم اليهود، ح 1699) .
(3) ت 4: " بمناكرتهم ".(17/212)
الخمر النيّئة (1) ، وهذا ليس يفرض فيه اختلاف؛ فإنه آيل إلى درك [قضايا] (2) [الجبلاّت] (3) وموجب العادات، ولا يستريب ذو نظر أن حد الشرب شرع زجراً، والحنفي في قبضة الإمام، وعليه تتبّع أحوال الرعايا من غير متاركة (4) وإعراضٍ عما فيه استصلاح الخلق، والذمي مستبيحٌ أُمرنا بمتاركته (5) والإعراضِ عن أحواله، وليس ملتزماً لأحكام الإسلام، ولما يعود إلى مصالح أهله.
وقد خرج في الذمي قول أنه يُحد إذا رضي بحكمنا، وهذا بعيد غير معتد به، وخرج أيضاً في الحنفي قول أنه لا يحد من نص الشافعي؛ على أنه إذا نكح الشافعي بغير ولي، لم يلزمه الحد، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في النكاح.
***
__________
(1) النيئة: أي التي لم تطبخ. وسيأتي بيان لأنواع الشراب في كتاب الأشربة.
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) في الأصل: الخلاف.
(4) ت 4: " مشاركة ".
(5) ت 4: " بمناكرته ".(17/213)
باب حد القذف
11079- الكلام فيما يكون قذفاً، وفي إحصان المقذوف، وما يُرعى فيه قد [مضى] (1) مستقصىً في كتاب اللعان. والذي نذكره الآن -وإن ذكرنا (2) معظمه- الكلامُ في أن حدّ القذف [حق] (3) للآدمي، ثم النظر فيمن يرثه، وبعد ذلك لو (4) قذف جماعةً بكلمة أو قُذف شخص بكلمات.
فنقول: حد القذف حق للآدمي، ومن قال: فيه [شَوْبُ] (5) حق الله تعالى وحق الآدمي، فغُلّب [حق الآدمي] (6) ، فليس على بصيرة؛ فإنا إذا قلنا: يتعلّق الحد بطلب المقذوف، ويسقط بعفوه، لم نغادر من تمحيض حق الآدمي شيئاً. نعم، يجوز أن يقال: حد القذف يشابه حدود الله تعالى من وجوه، والقصاص فيه مَشَابه من حدود الله تعالى؛ إذ الغرض الأظهر منه الزجر، وهذا يتعلّق بالمطلوب الأخص من حدود الله تعالى.
ثم اتفق أئمتنا على سقوط الحد بعفو المستحِق، ولو ورث الحدَّ جماعة -كما سنصف إن شاء الله تعالى، وجهَ التوريث فيه- فعفا بعضهم، فحاصل ما ذكره الأئمة أوجه: أحدها - أن الحد يسقط بعفو البعض، كما يسقط القصاص بعفو بعض الأولياء، والوجه الثاني - أنه لا يسقط منه شيء، ويستقل من لم يعف بطلب تمام الحد واستيفائه. والوجه الثالث - أنه يسقط بعفو العافي مقدارُ حقه، ويبقى مقدار حصص
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) ت 4: " قدمنا".
(3) في الأصل: " حد ".
(4) ساقطة من (ت 4) .
(5) في الأصل: " ثبوت ".
(6) زيادة من المحقق.(17/214)
الذين لم يعفوا، وإن اقتضت القسمة تكسيراً، أكملنا الكسر في حكم الإسقاط تغليباً لموجب العفو.
ولو أراد مستحق الحدّ أن يعاوض (1) عن الحد، ففي جواز الاعتياض وجهان مشهوران: أحدهما - الجواز، كمفاداة المرأة في حِبالة النكاح، وإن كان المفتدي لا يستحق شيئاً منها.
11080- ولم أسمع خلافاً في أن مستحق الحدّ لا يقيمه، بل يرفعه إلى مجلس القضاء، والسبب فيه إعظام (2) الاجتهاد في الحمل على الاقتصاد، وقد قيل: من يضرب مائةَ سوط على إبلاغٍ في الإيلام الناجع يستمكن من القتل بعشرين سوطاً، فلا وجه إلا الرفع إلى من إليه الأمر، وقد نيطت به الأمانات والولايات، وهو مبرّأ عن الذحول (3) والأحقاد. هذا متفق عليه.
وقد اتفق الأئمة على أن من استحق القصاص في اليد، لم يكن له أن يستبد باستيفاء القصاص دون الإمام، أو من استنابه، وكذلك القول في القتل، والأمر في القتل من وجهٍ في حكم الاستبداد أهون؛ فإن النهاية المحذورةَ المَثُلَةُ، والقطعُ إذا فرض الإسراف فيه [خيف] (4) إفضاؤه إلى الهلاك، ولكن لو قَتَل مستحقُّ القصاص، وقع الاعتداد به قصاصاً، وكذلك لو قطع.
ومن قتل من آحاد المسلمين زانياً محصناً، وقع قتله حداً، ولو أقام جلداً على زانٍ بكرٍ، لم يعتدّ بجلده، وعُدّ عدواناً، والحدّ قائم كما كان، ولو استوفى المقذوف الحدَّ بنفسه، فليس يبعد عن القياس المصيرُ إلى وقوعه موقع الاعتداد كالقطع، سيّما إذا صدر عن [إسلامٍ] (5) من المحدود وإقدامٍ من المقذوف صادرٍ عن رضاه، ولكن
__________
(1) ت 4: " يعتاض ".
(2) ت 4: " عظم أمر الاجتهاد ".
(3) الذحول: الذَّحْل: الثأر، والحقد. ويجمع على ذحول، وأذحال (المعجم) .
(4) في الأصل: " حقيق ". والمثبت من (ت 4) .
(5) في الأصل: " استدام "، والمثبت من (ت 4) . ومعنى إسلامٍ من المحدود، أنه يُسْلم نفسه لمستحِق الحد راضياً بإقامته عليه.(17/215)
الذي سمعته من الأئمة، ودلّ عليه فحوى كلامهم في مجموعاتهم أنه لا يقع الاعتداد بالحد.
11081- ومما يذكر في ذلك أن جماهير الأصحاب أجمعوا على أن المحصن لو قال لإنسان: اقذفني، فقذفه بإذنه، فالحد يجب عليه، بخلاف ما لو قال: اقطع يدي، فقطع، فالقصاص لا يجب وفاقاً، ورأيت للقاضي أبي الطيب الطبري في كتابه المترجم بالمنهاج أن الحد لا يجب على القاذف إذا أباح المقذوف له عرضه، لم يقله من تلقاء نفسه، وحكاه عن شيخه أبي حامد، وقال: كان يرى ذلك، وزيف غيرَه، والفرق على الجملة عسر.
11082- والذي [لم] (1) يظهر فيه خلاف من [أحد] (2) تنزيل حد القذف منزلة حدود الله في الفرق بين الحر والعبد، فعلى الرقيق إذا قذف أربعون جلدة نصف ما على الحر، وكان يليق بقياس حقوق الآدميين ألا يفرق في العقوبات بين الحر وبين العبد.
11083-[ثم] (3) من آثار أصل المذهب في أن حد القذف حق الآدمي أنه إذا مات المقذوف، ولم يعفُ، ولم يُسقط حقَّه، فلا خلاف بين أصحابنا أن حد القذف موروث، وإنما اختلافهم فيمن يرثه، فقال قائلون: يرثه كل من يرث القصاصَ، والمالَ؛ فلا فرق بين أصحاب الفرائض والعصبات والمتعلقين بالأنساب والأسباب.
ومنهم من قال: يختص باستحقاقه إرثاً أهل القرابة، ثم لا فرق بين العصبات منهم وذوي الفروض.
ومنهم من قال: يختص استحقاقه بالعصبات؛ فإنه ذبٌّ عن النسب، [فكان] (4) مأخذه قريباً من مأخذ الولايات في [التزويج] (5) ، ثم على هذا الوجه يرث الابن بلا
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) في الأصل: " أجل ".
(3) زيادة من (ت 4) .
(4) في الأصل: " وكان ".
(5) في الأصل: " الزوج ".(17/216)
خلاف، ولو كان لا يزوِّج، واختلف أصحابنا في أن المولى المعتِق هل يرث الحد؛ تفريعاً على هذا الوجه، كما تنتهي إليه ولاية التزويج؟ فمنهم من قال: هو من الورثة، ومنهم من قال: يختص إرث الحد بعصبات النسب.
هذا وجه في التوريث مفروض فيه إذا استقر استحقاق الحد، ثم مات المستحق.
ولو قذف قاذف ميتاً كان محصناً في حياته، استوجب الحدّ، وورثته يطلبون الحد على الترتيب الذي ذكرناه، والعجب أن أبا حنيفة (1) أثبت لهم الطلب في هذه الصورة، وقال: لو وجب الحد، ثم مات المقذوف، لم يكن لورثته الطلب.
ومن غريب ما حكاه الشيخ في شرح التلخيص أن من أصحابنا من أجرى القصاص مجرى حد القذف، حتى يخرّج فيه الوجوه التي ذكرناها فيمن يرثه ويرث طلبه، وهذا غريب جداً.
ثم إذا قُذف الإنسانُ بعد موته، وقلنا: حد القذف لو ثبت في الحياة، لم يختص بإرثه أهلُ القرابة، بل يثبت للزوج والزوجة، فإذا كان القذف بعد الموت، فهل يستحق الطلب للزوج والزوجة؟ فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - يثبت لهما، كما لو استقر الحد في الحياة، ثم مات المقذوف. والثاني - أنه لا يثبت؛ لأن القذف أنشىء والزوجية منتهية، وهذا لا فقه له؛ فإن الزوجية لا (2) تنتهي بموت المورث، فلو صح هذا الاعتبار، لوجب القطع بأن الزوج لا يرث أصلاً شيئاً.
ومما يتعلق بذلك أنه إذا قُذفت أمتُه وأثبتنا (3) لها حق طلب التعزير، فلو ماتت، فهل للسيد طلبه بعد موتها، كما للوارث ذلك في حق موروثه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يثبت ذلك؛ إذ لا وراثة بين السيد والعبد، وسلطانه إلى بقاء ملكه، والموت يخرج العبد عن كونه مالاً. والوجه الثاني - أنه يقوم مقامَه في الطلب، لما
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 266، المبسوط: 9/123، مختصر اختلاف العلماء: 5/317
مسألة 1442.
(2) سقط من (ت 4) .
(3) ت 4: وأثبتنا له.(17/217)
بينهما من الاختصاص؛ فإنه يلتزم تجهيزهَ وتعيينَ مدْفنه (1) ، ويخلفه فيما يتصور الخلافة فيه عن رقيق. وهذا نجاز هذا الفصل.
11084- فأما القول في تعدد القذف والمقذوف فنقول: إذا قذف شخصاً مرتين بزنيتين، فإن لم يتخلل استيفاء حدٍّ، لم يلتزم إلا حداً واحداً؛ فإن حُد للقذف الأول، فنسبَ المقذوفَ إلى زَنْيةٍ أخرى، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يلتزم حداً آخر؛ فإنه قد كذب في حقه بحدٍّ، فكفى ذلك، ولا أثر لتعديد الزنيات في الذِّكر، ولكن يستوجب بتجديد الأذى تعزيراً.
والقول الثاني - وهو الأصح أنه يحد مرة أخرى لتجدد الخبر والمخبَر عنه، وإظهار كذبه في (2) القذف الأول لا يتضمن تكذيبَه في الثاني. نعم، لو أعاد ذلك القذف الذي حُد فيه، لم يستوجب إلا تعزيراً، ولو لم يتعرض لإعادة عين القذف الأول ولا للتصريح بتجديد قذفٍ آخر، ولكن [قال: زنيتَ] (3) ، أو عين زنا، فحُدّ، فأطلق النسبة إلى الزنا، فهذا لا يوجب حداً جديداً وفاقاً، لإمكان حمله على إعادة الأول، فلا سبيل إلى إيجاب الحد مع التردد والشبهة.
وما ذكرناه من القذفين المختلفين فيه إذا كان لا يختلف الموجَبَان، فأما إذا تعدد القذف، واختلف الموجَب: مثل أن يقذف أجنبية بزنية، ثم ينكحها، ويقذفها بزنية أخرى على فراشه، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بتعدد الحد، ثم يلتعن لاختلاف أثر القذفين، ومنهم من أجرى القولين في تعدد الحد، كما قدمناه، وهذا يظهر أثره إذا لم يلتعن، فإن الْتعن، زال أثر القذف في الفراش، وبقيت الطَّلِبةُ بالحد اللازم بالقذف المتقدم على النكاح، وقد أوضحنا هذا في كتاب اللعان. هذا في تعدد القذف واتحاد المقذوف.
11085- فأما إذا قذف شخصين فأكثر، نظر: فإن أفرد كل واحد منهما بلفظة،
__________
(1) عبارة العز بن عبد السلام: " وله تعيين مدفنه ".
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) عبارة الأصل: " قال أولاً زنيت ".(17/218)
استوجب حدين بلا خلاف، وإن أَحَّدَ الكلمةَ ونسبهما إلى الزنا بها، ففي المسألة قولان، مثل: أن قال: زنيتما؛ أو أنتما زانيان، والقولان جاريان مع العلم بأن اللفظ الواحد يشتمل على نسبتهما [إلى] (1) الزنيتين، ولهذا كان الأصح تعدد الحد؛ فإن المعنى هو المعتبر، وقد تعدد معنى القذف، وليس للقائل الثاني إلا التمسك باتحاد اللفظ، ولا خير في هذا، مع ما أشرنا إليه، ولكنه قول مشهور.
ولو قال لأجنبية وامرأته (2) : زنيتما، ففي المسألة طريقان؛ لاختلاف [وقع] (3) القذف فيهما: منهم من قطع بالتعدد لما ذكرناه من الاختلاف، ومنهم من أجرى القولين، وأثر هذا يظهر إذا لم يلاعن عن زوجته، وآل الأمر إلى الحد وطلبه، فإن لاعن عن زوجته، فلا خلاف أن الحد [للأجنبية] (4) واجبٌ؛ فإن اللعان لا يدرؤه.
وكل هذا [مما] (5) قدمنا أصوله وفروعه في كتاب اللعان.
***
__________
(1) في النسختين: " من ".
(2) ت 4: " ولامرأته ".
(3) في الأصل: " موقع ".
(4) في النسختين: " للأجنبي ".
(5) في الأصل: " فيما ".(17/219)
كتاب السرقة
11086- الأصل في أحكام السراق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] واشتمالها على ذكر أصل الجريمة والحد. وتفصيلُ مكان السرقة، والمقدارُ، وصفةُ السارق والمسروق منه تُتلَقَّى من السنن [وغيرِها] (1) من مدارك الشرع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لو سرقت فاطمة، لقطعتها " (2) ، وقال: " لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل، فتقطع يده " (3) وحمل بعض المتكلفين البيضة على المغفر، والوجه حملها على جنس [البيض] (4) ومثل ذلك [منساغ] (5) في قصد التعليل.
والسرقة في اللسان: الأخذ في استزلالٍ ومخادعة، والمصدر السَرق والسرقة، والعلماء مجمعون على قواعد الكتاب، والمطلوب منه يتعلق بالمقدار الذي يسمى نصاب السرقة، وجنس المسروق.
والكلام في الحرز.
ومعنى السرقة، وذلك يتعلق بكيفية الإخراج.
__________
(1) في النسختين: " وغيرهما ".
(2) حديث " والله لو سرقت فاطمة ... " متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (البخاري: الحدود، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، ح 6787، مسلم: الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، ح 1688) .
(3) حديث " لعن الله السارق يسرق البيضة ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الحدود، باب لعن السارق إذا لم يُسَمَّ، ح 6783، وباب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وفي كم يقطع، ح 6799. مسلم: الحدود، باب حد السرقة ونصابها، ح 1687) .
(4) في الأصل: " البيضة ".
(5) في الأصل: " ساغ ".(17/221)
والقول في الشبهات الدارئة.
ثم الاختتام بما يثبت السرقةَ من بينةٍ وإقرار.
ووراء ذلك بيان القطع والمقطوع في السرقة.
هذا مجامع الكتاب.
ونحن نذكر [التقويم من] أجناسِ الأموال (1) ، ثم ضوابطَ القول في الحرز، ثم معنى السرقة والإخراج، ونحرص أن نتبع ترتيب السواد.
11087- قال الشافعي: " القطع في ربع دينار ... إلى آخره " (2) .
ذهب داود إلى أن القطع يتعلق بالقليل والكثير، وذهب علماء الشريعة إلى أن القطع يتعلق بنصابٍ، ثم اختلفوا: فذهب أبو حنيفة (3) إلى أن النصاب دينار، أو عشرةُ دراهم، ثم التقويم عنده بالدراهم، والذهب في نفسه لا يقوّم بالدراهم، ولا يقوّم به شيء.
وقال مالك (4) : النصاب ثلاثة (5) دراهم، أو ربعُ دينار، والتقويم بالدراهم، كما حكيناه عن أبي حنيفة.
وقال النَّخَعي (6) ، وأبو ثور (7) ،..............................
__________
(1) في (ت 4) : " التقديم ثم أجناس الأموال ".
(2) ر. المختصر: 5/169.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 269، رؤوس المسائل: 491 مسألة 355، المبسوط: 9/136.
(4) ر. الإشراف: 2/943 مسألة 1894، عيون المجالس 5/2117 مسألة 1531.
(5) ت 4: خمسة.
(6) النخعي: إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أبو عمران، الإمام الحافظ، فقيه أهل الكوفة، تابعي ولم يثبت له سماع من الصحابة. توفي سنة 96هـ. (تهذيب الأسماء: 1/104، سير النبلاء: 4/520، طبقات الشيرازي: 82، وفيات الأعيان: 1/25، تهذيب التهذيب 1/177) .
(7) أبو ثور: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، أحد أئمة الدنيا ففهاً وعلماً وورعاً، كان أول أمره على مذهب الحنفية ولما قدم الشافعي بغداد تبعه وصار من كبار أصحابه، وروى مذهبه القديم، قال النووي: ومع كونه من أصحاب الشافعي وأحد تلامذته=(17/222)
وابن شُبْرمة (1) : النصاب خمسة دراهم، وقيل: هذا مذهب علي.
ومذهب الشافعي أن النصاب ربعُ دينار، ولم يعيّن الدراهمَ، ومعتمد المذهب حديثُ (2) عائشة، وهو مذكور في الخلاف، ولو سرق من الذهب الخالص ربعَ مثقال، ولكن كان لا يسوى (3) ربعَ دينار مضروب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القطع لا يجب، وهو الأظهر؛ فإن الوارد في الحديث ربعُ دينار، والدينار اسم للمضروب [وبه] (4) الاعتبار.
ومن أصحابنا من قال: إذا سرق ربعَ مثقال من الذهب الخالص، فلا سبيل إلى تقويمه؛ فإنه ليس جنسَ (5) الدينار، والأصح الأول، وينبني على هذا التردد أن من سرق خاتماً وزنه سدس مثقال، وقيمته ربع دينار، فكيف حكمه؟ إن رددنا الاعتبار إلى الدينار، فنوجب القطعَ، ونعتقد الخاتم سلعة، وإن لم نر تقويم الذهب بالدينار، لم نوجب القطع لنقصان وزن المسروق عن الربع.
ولو سرق ثوباً وما في معناه، فلا خلاف أن التقويم بربع دينار.
وقد يخطر للفطن أنا إذا أوجبنا القطع بربع مثقال من الذهب الإبريز، وإن كانت
__________
= والمنتفعين به والآخذين عنه والناقلين كتابه وأقواله فهو صاحب مذهب مستقل، لا يُعد تفرده وجهاً في المذهب. ا. هـ توفي أبو ثور ببغداد سنة 240هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/200، طبقات السبكي: 2/74-80، طبقات الشيرازي: 75، طبقات العبادي: 22، تاريخ بغداد: 6/65، وفيات الأعيان: 1/7، طبقات ابن كثير: 1/98) .
(1) ابن شبرمة: عبد الله بن شُبْرُمة بن طُفيل الضَّبي، القاضي، فقيه الكوفة، توفي سنة 144هـ (الجرح والتعديل: 5/82، سير أعلام النبلاء: 6/347، تهذيب التهذيب: 5/250) .
(2) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تقطع يد السارق في رُبعُ دينار " وهو متفق عليه، وله ألفاظ عندهما (البخاري: الحدود، باب قول الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ح 6789، 6790، 6791، مسلم: الحدود: باب حد السرقة ونصابها، ح 1684، اللؤلؤ والمرجان ح 1097) .
(3) ت 4: " لا يشتري بربع دينار ".
(4) في النسختين: " فيه ".
(5) في (ت 4) : " فإنه جنس الدينار " والمعنى أنه يجب فيه القطعُ؛ لأنه غير مقوّم في نفسه، فنعتبر وزنه، وإن كان لا يقوّم به. كذا قال الغزالي في البسيط: جـ 5/ورقة 122 يمين.(17/223)
قيمته دون المضروب، فنتخذ ذلك مرجعاً في اعتبار المالية، وهذا خبطٌ؛ فإن التقويم لا يقع إلا بالمضروب والسبيكة لا ضبط لقيمتها، وهي متقوّمة، وما يتقوم لا يقوّم به، ولست أنكر أن التقويم بربع دينار يوهن ذلك، فليكن كذلك، فإن الضعيف يضعف بالتفريع.
ولو كان المسروق عَرْضاً تبلغ قيمته بالاجتهاد ربعَ دينار، فقد يوجب الأصحاب الحدّ، والذي أرى القطع به أنه لا يجب ما لم يقطعوا بأن القيمة لا تنقص عن هذا.
والذي ذكره الأصحاب من اعتبار التقويم محمول عندي على الرجوع إلى المقومين، ثم لهم اجتهادٌ وقطعٌ، ولو قطع بذلك أقوام لا يُزكَّون (1) ، فلا إشكال، ولو قطع بذلك [جماعة] (2) معدودون لا يبعد الزلل عليهم، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أن الشهادة على السرقة معرضة لهذا، وهي مقبولة، والفرق إن أردناه أن شهود السرقة يُسندون شهادتهم إلى العِيان، بخلاف أقوال المقوّمين، فانتظم من هذا [أنهم] (3) إذا ترددوا -وإن أجرَوْا عن غلبة الظنون- فلا قطع، وإن قطعوا وكانوا عدداً لا يزكَّوْن، وجب القطع. وإن قطع عدلان منهم، ففيه التردد.
وقد نجز القول في نصاب السرقة.
11088- فأما الكلام في المسروق، قال (4) الشافعي: " إن عثمان رحمه الله قطع في أُترجَّة قيمتها ثلاثةُ دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار ... إلى آخره " (5) .
القطع يتعلق بكل مملوك تام الملك، ولا نظر إلى تعرضه للفساد، ولا إلى أصله، فيتعلق القطع بالفواكه الرطبة، خلافاً لأبي حنيفة ويتعلق بالمملوكات التي أصلها الإباحة كالصيود والخشب والحشائش، وما في معانيها، خلافاً لأبي
__________
(1) كذا في النسختين: " يزكَّون " والمعنى أنهم معروفون بالعدالة لا يحتاجون إلى تزكية، ثم هم عددٌ يبعُد منهم الزلل.
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) زيادة من (ت 4) .
(4) جواب أما بدون الفاء.
(5) ر. المختصر: 5/169.(17/224)
حنيفة (1) في خبط ومناقضات، وتعويلُ المذهب على تحقيق الملك في الحال، ولسنا نلتزم الكلام في الأشياء الموقوفة، وما يَضعُف الملك فيه، وما يتطرّق إليه الشبهات، كأموال بعض الناس في حقوق البعض، وكأموال بيت المال، وإنما غرضنا الكلام على الأجناس، وتلك الفصول ستأتي في مواضعها، إن شاء الله عز وجل.
11089- فأما الكلام في الحرز، قال الشافعي: " وجملة الحرز أن ينظر إلى المسروق ... إلى آخره " (2) .
هذا الفصل مما يجب الاهتمام بضبطه؛ فإنه القطب الأعظم في الكتاب، وليس فيه ضبطٌ توقيفي، ولا معنىً يدركه قياسٌ جلي. فنقول: السرقة إخراج مالٍ مصون بحرز مثله عن حرزه، ووضع الشرع على أن يستفرغ المالك الوُسعَ في صون ماله، ثم إذا كان كذلك، والسراق لا يرجعون إلى شوكة وعُدة، وإنما مبنى أمرهم على الاختزال فيبعد أن يُؤْثروا التهجم على الحرز، والتعرض للخطر لمقدارٍ نزر تافه، وإذا عظم قدرُ المال، فقد ينتهض ذوو العرامة للتعلق بأسباب الاحتيال ومصادمة الأغرار، فرَدَعَهم الشرع بشَرعْ القطع، ثم الحرز لا يتصور ضبطه بتوقيفٍ، فورد مطلقاً محمولاً على ما يعد حرزاً، ويعد صاحبه غير مضيع، ثم النهايات ليست مرعية.
فانتظم من ذلك أن ما يعدّه الناس حرزاً، فهو حرز في الشرع، وما لا فلا، ويترتب على هذا اختلاف الاحتراز باختلاف أجناس (3) الأموال؛ فإن أعيان الدراهم والدنانير تعدّ ضائعة في عرصات الدور، بخلاف المفارش والأواني، وذلك في التحقيق يخرّج على القاعدة؛ فإن الدراهم إذا لم تكن في المخازن تشوّفَ إليها طالبوها، بخلاف ما يثقل محمله، أو تقل قيمته، ولذلك اطردت العادة بالإحراز بالمخازن.
والاصطبل حرز الدواب على نفاستها، وقد لا نراه حرز الثوب؛ من جهة أن
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 272، رؤوس المسائل: 492 مسألة 356، الهداية: 2/410.
(2) ر. المختصر: 5/169.
(3) ت 4: " الأجناس ".(17/225)
إخراج الدواب [منها] (1) يظهر، ويبعد الاستجراء عليه، وما يخف محمله بخلافه؛ فانبنت الأمور على الرجوع إلى العادة، وما يعد فيها صوناً، وما لا يعد صوناً، وبان أنا لا نشترط أقصى الإمكان، ولا نكتفي بما يكون حرزاً للمال على الجملة.
11090- ثم جماع القول في الحرز -إذا رمنا التفصيل- لا يخرج عن سببين: أحدهما - التعويل على اللَّحْظ والمراقبة، وقد يداخله مراعاة المعنى الآخر. والثاني - التعويل على الحصانة والوثاقة، ولا بد أن يداخله اعتبار الملاحظة، فأما ما يعتمد النظر والمراقبة، فله شرطان: أحدهما - ألا يكون اللاحظ المراقب مستضعفاً، والآخر - أن يكون الملحوظ بحيث لايطرقه جمعٌ يعسر المراقبة معهم بسبب مزدحمهم، وبيان ذلك أن من كان في الصحراء لا يعد ضائعاً فيها لقرب الغوث منه إن (2) قُصد، فإذا كان يلحظ متاعاً، فهو محرز باللحظ، وهو على التحقيق مصون بالمنعة والقوة وإمكانِ الاستنجاد، ولكن من ضرورة ذلك اللحظ.
فأما إذا وضع متاعه في مسجد يكثر فيه المختلفون، أو في شارع يكثر فيه الطارقون، فهذا مختلف، فإن انفرد بالملاحظة، ثم فرضت السرقة، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن المال ضائع، والثاني - أنه محفوظ؛ لأنه ملحوظ، ولكن لا ينكر مسيس حاجة اللاحظ إلى مزيد إدامة في اللحظ، وليس هذا الخلاف من كون المحل مشتركاً؛ فإن عماد هذا النوع من الحرز اللحظُ، لا المكان، فلا أثر لكون المكان (3) مشتركاً، فإنما ينشأ الخلاف من قصور اللحظ في الضبط مع ازدحام الطارقين.
ولو فرض وضع المتاع في شارع، ولم يختص باللحظ صاحب المتاع، ولكن كان المتاع ملحوظاً (4) بلحظ جمع من اللاحظين، يتعاونون على صيانة الأمتعة، فإذا كان كذلك، صار عدد اللاحظين في معارضة الطارقين، كلاحظٍ في الصحراء في
__________
(1) في النسختين: فيما.
(2) ساقط من (ت 4) .
(3) ت 4: " المال ".
(4) ت 4: "محوطاً ".(17/226)
معارضة طارق، ولهذا قال الأصحاب: الأمتعة ليلاً يبعد صونها باللحظ إلا في المواسم التي يتعاون فيها ملاك الأمتعة على التلاحظ.
ومما يتعلق بهذا أن المتاع الملحوظ في الصحراء لو نام صاحبه، فهو ضائع؛ فإن عماد صونه اللحظ، وقد انقطع بالنوم، ولو استدبره أو ذهل ذهولا ظاهراً يقطع مثلُه اللحظ، فكذلك. ولكن لا يتصور أن يُسرقَ المتاعُ إلا بموافقة رعاية السارق للفرص وتطبيقِه رعايتَه على فترات (1) لطيفة للاّحظ، [فإذا] (2) جرت السرقة، أوجبت الحدّ؛ فإن هجوم الآخذ على ما يتخيله من [فترة] (3) كهجومه على الحرز، فيما (4) يقرّبه [من الغرور] (5) وقد يزلّ [في تخيله الفترة] (6) وقد يعود اللّحظ في [الأثناء] (7) ، وهو غالب، والقدر الذي ذكرناه كافٍ في تأصيل هذا الطرف.
11091- فأما الحرز الذي عماده حصانة البقعة، وعُسْرُ الوصول منها إلى المال المصون بها، فالرجوع فيه إلى العادة، والدور الموثقة بالأغلاق والأبواب أحراز، وكذلك الحوانيت التي تعد حصينة، ثم لا تستقل الأبنية بالأحراز ما لم تكن على حظوظٍ من المراقبة، على موجب العادة.
وبيان ذلك أن الدار وإن كانت حصينة لو فرضت في قريةٍ، وفرض انجلاء أهلها، فالدار بما فيها ضائعة، وذلك أن التسبب إلى التسلق بالسلالم والاستمكان من [النقْب] (8) حيث لا مراقب مبطلٌ معنى الحرز، حتى لا يفرض حرز مستقل بنفسه، إلا إذا تكلفنا تصوير قلعة متعلّقة بقُلّة جبل لا طريق إليها، ولا طروق عليها، وهذا يعسر، فإن صاحبها لا بد أن يقدر على الوصول إليها، فإذا لم تكن مرقوبةً، يتيسر
__________
(1) فترات: من الفتور وعدم الانتباه.
(2) في النسختين: وإذا.
(3) في الأصل: " من قوة ".
(4) عبارة (ت 4) : " فما أقربه من الغرر ".
(5) زيادة من (ت 4) .
(6) في الأصل: " في تخيله في القوة ".
(7) في الأصل: " الأثبات ".
(8) في الأصل: " البيت ".(17/227)
إعداد مثل العُدد التي للمالك في التوصل إليها.
وقال الأئمة: الدار الخالية في طرف البلد ضائعة، فإنها لا تكون منوطة بمراقب، وإذا كانت محفوفة بدورٍ يقطنها سكان، فهي حرز مصون، والدكاكين البادية في الأسواق ضائعة إذا لم تكن ملحوظة من الحراس أو الملاك.
ثم قال الأئمة: إذا كان صاحب الدار في الدار والأغلاق وثيقةٌ، فما في الدار مُحْرَز، وإن نام المالك؛ فإن الغالب أنه يتنبه بالأسباب التي يقدمها السارق للوصول إلى داخل الحرز.
وإن لم يكن الباب مغلقاً ونام، نُظر: فإن كان ليلاً، فالدار ضائعة إذا لم تكن محروسة بالحراس، ومن في معانيهم، وإذا كان كذلك، فيرجع الحرزُ إلى اللَّحْظ، وإن فرض ذلك نهاراً، فالغالب أن الشارع يطرقه الطارقون، فإذا نام صاحب الدار نهاراً، والباب مفتوح، ذكر الأصحاب وجهين في ذلك، وذكر الشيخ أبو علي نسقاً آخر، فقال: إذا كان باب الدار مفتوحاً، وصاحب الدار فيها يَلْحظ متاعَه، فتغفّله سارقٌ فدخل وسرق، ففي وجوب القطع وجهان، وذكر في ذلك جوابين للقفال في درسين، وعلينا أن ننبه على بيان كل مسلك.
فأما من ذكر وجهين في النائم فيهما فيه إذا كان باب الدار لافظاً في شارع مطروق، فقد يتخيل الاكتفاء في الصون بالطارقين، وتوسط الدور، والأحراز مهيبةٌ في حق السراق، فإن لم يكن باب الدار مطروقاً، وقد نام صاحب المتاع، والباب مفتوح، فلا خلاف أنه ضائع، وما قطعنا به من نوم صاحب المتاع في الصحراء وجهه يبين به، وسبيل الفرق واضح.
وأما ما ذكره الشيخ أبو علي من الوجهين في يقظة صاحب الدار، فطريقه أن من يكون متيقظاً في دار نفسه فمعظم اعتماده على الدار، لا على اللحظ، وعماد الكائن في الصحراء اللحظُ، فإذا فرض تغفل في الدار، فسبب التردد [فيه] (1) ظهور الفتور في اللَّحظ، حتى لو فرض في الدار من اللحظ ما لو فرض في الصحراء، لكان حرزاً، فلا
__________
(1) زيادة من (ت 4) .(17/228)
شك أن المال مُحْرزٌ، فإن اللحظ كاللحظ، والدار إن لم تزد حرزاً لا تنقص عن الصحراء. نعم، إن قال السارق: كان صاحب المتاع [لاَ يحُدّ] (1) في اللحظ حدَّ صاحب الصحراء، فقد يضطرب الرأي في المصدَّق.
ولعلنا نذكر طرفاً من هذا في الفروع، فإذاً ما حكيناه من النوم والخلاف فيه محمله التعويل على طروق الطارقين، وما ذكرناه من التردد في يقظة صاحب الدار محمول على اعتبار ترك الحدّ في اللحظ.
ولو فتح الفاتحُ البابَ للدار، وأذن للناس في الدخول لتجارة، أو غيرها من الأغراض، حتى صارت الدار محلاً لازدحام الداخلين، فاللحظ في مثل هذه الحالة بمثابة اللحظ في الشوارع والمساجد، وقد مضى تقسيمها وتفصيلها، ولا نظر إلى كون [الدار مملوكة لصاحب المتاع، ولا إلى كون] (2) المسجد والشارعِ مشتركين، وما ذكرناه ليس متلقى من إذنه، إذ لو دخل داره جمعٌ بغير إذنه، فالكلام في حفظ المتاع على ما ذكرناه.
هذا منتهى تأصيل الأحراز وتمهيدها، وفي هذا القدر مَقْنع، ولكنا نذكر مسائلَ (السواد) (3) ونُخرِّجها على ما مهدناه ونرسُم الفصولَ على المعتاد في أمثالها.
فصل
قال: " وإن كان يقود قطار إبل ... إلى آخره " (4) .
11092- من كان يقود قطاراً من الإبل -وقيل أكثرها [سبعة] (5) - قال الأئمة القطار
__________
(1) في الأصل: " لا يعد ". ويحُد من الحد والقوة. والمعنى لا ينتبه انتباه صاحب الصحراء.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .
(3) في النسختين: " الشواذ ". والسواد هو مختصر المزني، كما نبهنا كثيراً.
(4) ر. المختصر: 5/169.
(5) في البسيط والشرح الكبير " تسعة "، وهي كذلك في الوسيط، ووجدنا ابن الصلاح في مشكل الوسيط يقول: " في بعض النسخ بالتاء المثناة في أوله، والصحيح: سبعة بالباء الموحدة، وعليه العرف " (ر. مشكل الوسيط، بهامش الوسيط المطبوع: 6/469) . والمراد بالعرف عرفُ الجمّالين في قَطْر الجمال. فانظر عناية أئمتنا بالتدقيق والتحقيق.(17/229)
محرز بالقائد، إذا كان الإبل تمشي على استدادٍ (1) ، ولو كان يدور في منحرف الطريق، فالذي يغيب عن عين القائد لو التفت ليس محرزاً. وقال أبو حنيفة (2) : إن قادها، فالمُحْرز هو البعير الأول، وإن ساقها، فالجميع محرز به. وإن ركب واحداً، فمركوبه وما أمامه وواحد من ورائه محرزٌ به، وهذا المذهب منتظم.
والذي أطلق أصحابنا فيه إشكال، وأنا أعلم قطعاً أنه مُنزَّل على ما سأذكره، فإن [كان] (3) القائد لا يلتفت إلى القطار، [وكان يُمشي] (4) الإبلَ في مكانٍ خالٍ، فلا يتحقق الصَّوْنُ إلا في البعير المقود، وإنما قال أصحابنا ما قالوه فيه إذا كان يقود القطارَ في سوق آهلٍ، فالإبل مصونة بأعين اللاحظين، ولو فرض ازورار في السوق نفسه، فالإبل مصونة باللحظ أيضاً. وإن فرض استتار بعض القطار بسكةٍ لا لاحِظَ فيها، فذاك ضائع حينئذ، ولا يجوز أن يعتقد الأمر إلا كذلك، وليس ما جئنا به مخالفاً لما ذكره الأصحاب، ولكنه بيان له، وبالجملة الإبل مصونة باللحظ، وقد مهدنا فيه ما فيه مَقْنع.
***
[ثم قال] (5) : " إن أناخها حيث ينظر إليها ... إلى آخره " (6) .
11093- ذكرنا النظر في الصحراء، ولا معنى لتكثير الصور.
والأغنام الملحوظة من الراعي إذا كان نظره متصلاً مصونةٌ، وإن انسرح طرفه، ثم أعرض في زمن لا يتصور أن يلحق مثله لاحق، فالأغنام مصونة باللحظ الأول.
__________
(1) استداد: أي استقامة.
(2) ر. فتح القدير: 5/151.
(3) زيادة من (ت 4) .
(4) في الأصل: " كالذي يجري ".
(5) زيادة من (ت 4) .
(6) ر. المختصر: 5/169.(17/230)
ثم قال: " ولو ضرب فسطاطاً ... إلى آخره " (1) .
11094- الأخبيةُ والخيام ليست أحرازاً في نفسها، والتعويل فيها وفيما تحويه على اللحظ والمراقبة، وقد سبق التحقيق فيما عماده اللحظ، وقد يطرأ في ذلك تنضيد الأمتعة والاستيثاق فيها بضوابط الحبال، وليس ذلك لاعتقاد كون الربط حرزاً، ولكن قد يؤثر الربط في ترك نهاية الحدّ (2) في اللحظ، وما عندي أن من أحاط بما ذكرناه يخفى عليه خافية في الأحراز، والخيمةُ في نفسها لو سُرقت، فهو متاع ملحوظ، وقد تقدم التفصيل فيه.
وإذا كانت الإبل والبهائم مصونة باللحظ، فأحمالها مصونة باللحظ، وقد انتجز القول في الأحراز تأصيلاً وتفصيلاً.
***
11095- ونحن نفتتح الآن القولَ في معنى السرقة وكيفيةِ الإخراج من الحرز، [ويتصل به] (3) هتكُ الأحراز، انفراداً واشتراكاً، فنحن نذكر هتكَ الحرز، وما يتصل به، ثم نذكر الإخراج من الحرز، فنقول:
من انفرد بنقب الحرز، ثم دخل وأخرج نصاباً، فهو سارق مستوجبٌ للحد، وفي ذلك ما يجب التنبه له، فإنه لما نقب، وقد خرج الموضع عن كونه حرزاً، والكلام فيما عماده التحصين، فجرى إخراجه عما ليس حرزاً، وكان لا يمتنع من طريق المعنى ألا يستوجبَ القطعَ؛ لأنه أبطل الحرز، ثم أخذ مالاً ضائعاً، ولكن أجمع العلماء على وجوب الحدّ إذا اتصل الإخراج بالنَّقب؛ فإن أفعاله المتواصلة في حكم الفعل الواحد، وأثبتنا هذه المسائل على العادة، ومن وصفناه يعدّ سارقاً من حرزٍ، ولا ينسب صاحب الحرز والمتاع إلى تضييعٍ.
ولو نقب الحرزَ ومرّ، وعاد بعد ليلة أو ليالٍ، ودخل من فتح النقب وأخرج،
__________
(1) ر. المختصر: 5/169.
(2) " الحد ": الحدة والقوة.
(3) في الأصل: " وما يتصل به ".(17/231)
فإخراجه الآن منقطع عن هتكه الحرز، فإن شعر صاحب الحرز بالنقب، فقد ضيع الدار وما فيها (1) ، ولو لم يشعر، أو نقب السارق، ورد لَبِنَه (2) بحيث لا يظهر النقب، وعزم على أن يعود في الليلة القابلة، ويدخل من النقبَ الذي يُعده ولا شعور [ولا تقصير] (3) ، فهذا محتمل جداً، فإن نظرنا إلى تواصل الأفعال، فقد انفصل الدخول والإخراج عن الهتك، وإن نظرنا إلى حكم الاعتياد، فالأمر الكلي لا يوضّح فصلاً بين أن يتصل الإخراج بالنقب، وبين أن ينفصل [على] (4) الحد الذي صورناه.
11096- ولو حضر الحرز رجلان، فنقب أحدهما، وانفرد بالنقب، وأخرج الثاني المتاعَ، أما الناقب، فلا قطع عليه عندنا؛ لأنه ليس سارقاً، وأبو حنيفة (5) يوجب القطع عليه بعلة كونه رِدْءاً وعوناً للسارق، وأما من أخرج المتاع، فالذي قطع به المراوزة أنه لا قطع عليه، فإنه أخرج المتاع من حرز مهتوك.
وذكر العراقيون وجهين في وجوب الحد عليه: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن الحد يلزمه، كما لو نقب بنفسه، وأخرج، وهذا يتأكد بالقاعدة الكلية؛ فإن الحدَّ شُرع زاجراً، ولو كان النقب من واحدٍ، والإخراجُ من آخرَ غيرَ موجب للقطع، لصار هذا ذريعةً هيّنة ليست في حكم النوادر، ولا في حكم الأمور العسرة، والشافعي لا يحتمل أمثالَ هذه الذرائع إذا كانت تصادم القواعد الكلية.
ولو اشترك رجلان على النقب ودخلا الحرزَ، واشتركا في الإخراج، فقد قطع الأصحاب بوجوب القطع عليهما، إذا كان المخرج نصابين، كما سنصف هذا الفنَّ من بعدُ، إن شاء الله، واشتراكهما في الإخراج بمثابة انفراد الرجل الواحد بالنقب والإخراج.
__________
(1) أي إذا أهمل إصلاح النقب وتركه، كما عبّر بذلك العز بن عبد السلام.
(2) لبنه: جمع لبنة. والمراد اللبن الذي أخرجه بالنقب.
(3) في الأصل: " ولا تقسيم "، وفي (ت 4) انمحت عدة أسطر، والمثبت من المحقق، والمعنى: لا شعور ولا تقصير من المالك.
(4) في الأصل: " عن "، ومطموسة في (ت 4) .
(5) ر. رؤوس المسائل: 501 مسألة 364، المبسوط: 9/198.(17/232)
ولو اشتركا في النقب، ثم انفرد أحدهما بالدخول والإخراج، فالقطع يجب على هذا المنفرد بالإخراج وجهاً واحداً لمشاركته بالنقب، فصار كأنه انفرد بالنقب والإخراج.
ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي وجهين في أنهما إذا اشتركا في النقب وانفرد أحدهما بالدخول والإخراج هل يجب القطع عليه (1) ؟
ولا شك أنه لا قطع على الذي لم يشارك في الإخراج، وإنما شارك في النقب، والوجهُ القطع بإيجاب الحد على من أخرج منهما، فإن النقب إذا وقع بهما كان كل واحد منهما كالمنفرد بجميع النقب؛ بدليل أنهما لو اشتركا في النقب والإخراج قُطِع (2) ، فلا تعويل على ما حكيته عن بعض التعاليق.
11097- وتمام البيان في هذا الفن أنا إذا ذكرنا الاشتراك في قطع اليد في باب القصاص تناهينا في التصوير، وصورنا تحاملاً منهما على حديدةٍ واحدةٍ، حتى لو قطع أحدهما من جانب وقطع الآخر من الجانب الآخر والتقت الحديدتان، فليس ذلك اشتراكاً في القطع، ولكن انفرد كل واحدٍ منهما بقطع بعض اليد.
وإنما جدَّدنا (3) ذكر هذا لنفْصله عن الاشتراك في النقب، فلا يشترط في تصوير الاشتراك في النقب أن يأخذَا آلةً واحدة، ولكن لو كان أحدهما يخرج لبنة والآخر أخرى، حتى استتما التنفيذ، فهما مشتركان، فإنا لا ننكر أن المرعي في هذا الباب التعاون على النقب، ولا تشتدّ عناية الفقيه هاهنا بتصوير (4) الاشتراك؛ فإن النقب
__________
(1) عليه: أي على المخرج. وهذا وجه مزيف، والأصح وجوب القطع. صرح بذلك الرافعي نقلاً عن الإمام (ر. الشرح الكبير: 11/213) .
(2) قُطِع: أي المخرج، ووجه الاستدلال أنه إذا كان يقطع وقد اشترك في النقب والإخراج، فلأن يُقطع وقد اشترك في النقب وانفرد بالإخراج أولى.
(3) في الأصل: " حددنا " (بوضع علامة الأهمال تحت الجيم) .
(4) من هنا انمحت أجزاء كثيرة من صفحات نسخة (ت 4) تكاد في بعض الصفحات لا تجد كلمة مقروءة، وفي بعضها يذهب المحو بهذا الجانب أو ذاك، وواضح أنه من أثر بللٍ خطير أصاب النسخة، وسنحاول أن نستفيد من مقابلة ما يمكن مقابلته، كلمة كانت أو سطراً.(17/233)
ذريعةٌ إلى المقصود، وليس عينَ السرقة، والفقيه من يطبق صور الأصول على أقدار الأغراض فيها.
ومن اعتبار التعاون صار أبو حنيفة إلى إيجاب القطع على الردء، وفي بعض التصانيف أنا نشترط في النقب حقيقةَ الاشتراك على النسق الذي ذكرناه في الاشتراك في قطع اليد، وهذا ضعيف، ثم مقتضاه أنهما إذا تعاونا وكان هذا يخرج لبنة وذاك أخرى، فلا قطع على واحدٍ منهما، وكأنهما صادفا الحرز منقوباً.
11098- ولو اشترك الرجلان في النقب كما ذكرناه، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا قطع على واحدٍ منهما؛ فإن الداخل لم يتمم الإخراج، والخارج الآخذ لم يأخذ من حرز تام. والقول الثاني - أنه يجب القطع عليهما؛ لاشتراكهما في الإخراج. وقطع الصيدلاني بنفي القطع عنهما، وزعم أن كل واحدٍ منهما يسمى السارقَ اللطيف.
وإن كانت المسألة بحالها، وأخرج الداخل يده [بالمتاع] (1) في النقب إلى خارج، فأخذه الخارج الواقف، وجب على الداخل دون الخارج.
ولو قرّب الداخل المتاع من النقب، وهو في حدّ الدار أو البيت، لم يُخرج يده من النقب، فأدخل الخارج يده وأخرج المتاع، فالقطع على الخارج؛ فإنه تناول المسروق وهو في حد الحرز، فأخرجه منه.
هذا تفصيل القول في هتك الحرز على الانفراد والاشتراك، مع صدور الشركة من الناقب أو من غيره.
11099- ونحن الآن نذكر التفصيل في السرقة، ومعنى إخراج الشيء من الحرز:
فإذا دخل السارق الحرز وأخرج المسروق. فهذه سرقة، وإن لم يدخل الحرز، وألقى في الدار محجناً فتعلق به إناء أو ثوب، فأخرجه من الحرز، وجب القطع؛ فإن الإخراج من الحرز قد تحقق، فلا أثر لدخول السارق وخروجه، ولو دخل الحرز،
__________
(1) في الأصل: " من المتاع ".(17/234)
ورمى المتاع إلى خارج الحرز؛ فإن خرج وأخذه، فالذي صدر منه سرقة على التحقيق، وإن رمى المتاع إلى خارج، ولم يأخذه وتركه حتى ضاع، أو أخذه آخذ آخر، أو اطلع عليه صاحبه، فأخذه، فالمذهب وجوب القطع على هذا؛ فإنه بإلقائه قد أخرج المتاع من الحرز.
وقال أبو حنيفة (1) : لا يجب القطع على الملقي إذا لم يأخذ ما ألقاه، أو لم يأخذه مُعينه وردؤه، وفي بعض التصانيف وجهٌ أنه لا قطع على الملقي إذا لم يأخذه، وهذا بعيد، لا أعتد به، ولو فرعنا عليه، فألقاه إلى خارج الحرز، فأخذه صاحبه ومُعينه، فالوجه أنه لا يجب القطع على الملقي إذا كنا نعتبر أخذَه، ويجوز أن يقال: إذا أخذه الواقف خارج الحرز بإذنه، فهذا كافٍ في إتمام مقصوده على هذا الوجه الضعيف الذي نفرع عليه، ولا أصل لهذا الوجه.
ولو وقف خارجَ الحرز وأرسل محجنه، فعلق بطرف منديلٍ، فأخرج ذلك الطرف، ثم تركه ولم يفصله، ولم يخرج كله؛ إذ شُعر به مثلاً، فالذي وجدته للأصحاب أن هذا ليس بإخراج، وإن كان القدر البارز لو فصل، لكان نصاباً؛ فإن هذا لا يسمى إخراجاً من الحرز. والعلم عند الله.
ولو فتح أسفل كُندوج (2) ، فاندفع ما فيه، فالمذهب الأصح أن الخارج إذا بلغ نصاباً، وجب القطع على فاتح الكندوج، وذهب بعض أصحابنا إلى أن ما انفصل وخرج لا يضاف إلى إخراج الفاتح؛ فإن هذا تسبّبٌ وليس إخراجاً حقيقةً، وهذا ضعيف، لا أصل له، والوجه القطع بوجوب الحد؛ لأنه المخرِج في الإطلاق، ولولاه، لما خرج من الكندوج شيء.
11100- ولو كان في الحرز بهيمة فوضع عليها المتاع، نظر: فإن استاقها بسَوْقه إياها، فهذا إخراج من الحرز يتعلق القطع به، ولا نظر والحالة هذه إلى أن يتصل
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 273، الهداية: 2/415، تحفة الففهاء: 3/151.
(2) الكُندوج معرب كندوك. وهو شبه مخزن من تراب أو خشب، توضع فيه الحنطة ونحوها.
(ر. معجم الألفاظ الفارسية المعربة) .(17/235)
خروج الدابة أو ينفصل، فإذا افتتح سَوْقَها وأخرجها، فهو مخرِج للدابة وما عليها، وإن وضع الحمل على الدابة، ولم يسُقها، فسارت الدابة بنفسها، وخرجت من الحرز بما عليها، فللأصحاب طرق: منهم من قطع بأن واضع الحمل عليها ليس سارقاً؛ من جهة أن البهيمة ذات اختيار، وقد انفصلت بنفسها.
وقال العراقيون: إن تراخى مسيرُها عن وضع الحمل عليها، ثم افتتحت المسير، فلا حدّ، والإخراج غير مضافٍ إلى السارق، وإن خرجت الدابة على الاتصال بوضع الحمل عليها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإخراج مضاف إلى الرجل، كما لو ساقها، والثاني - أنه ليس مضافاً إليه، بل هو مضاف إلى اختيار البهيمة.
وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخر، فقال: إذا اتصل مسيرُها بوضع الحمل عليها، فالرجل منتسب إلى الإخراج، وإن [تراخت] (1) البهيمة، ثم سارت، فوجهان.
وحقيقة هذا يُحْوِج إلى تجديد العهد بمسألة فتح القفص عن الطائر مع تصوير الطيران، وحاصل ما ذُكر ثَمَّ في إيجاب الضمان ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يجب الضمان أصلاً، اتصل الطيران أو انفضل، والثاني - يجب الضمان اتصل أو انفصل، والقول الثالث - أنه إن اتصل الطيران وجب الضمان، وإن تراخى، لم يجب.
فالآن نقول: في مسألة الحمل على الدابة ومسيرها، وتحقيق السرقة من الرجل طريقان للأصحاب: منهم من نزل هذا الحكمَ المطلوبَ منزلة الضمان في مسألة الطيران حتى يخرج الأقوال الثلاثة، وتقريب القول فيه أن فتح القفص يُهيج الطائر والحمل على البهيمة والأرباط يَهِيجُها للسير، فقد تساوى المأخذان.
ومن أصحابنا من قطع فيما نحن فيه بنفي السرقة، وإن تردد القول في مسألة الطائر في الضمان، والسبب فيه أن التسبب مضمِّنٌ في الغصوب والإتلافات، والسرقة تعاطي الإخراج بالنفس، وهذا المعنى لا يتحقق مع اختيار البهيمة. ولو فصل فاصل بين بهيمة مطمئنة لا نِفارَ بها، وبين بهيمة ذاتِ نِفار، لكان هذا وجهاً في الاحتمال،
__________
(1) مطموسة في الأصل، وما زلنا في السطور التي انمحت من (ت 4) .(17/236)
وهذا الفرق يمكن إجراؤه في فتح القفص وحل الرباط عن طائر أليفة أنيسة (1) ، فإنها إذا كانت مطمئنّة، فاختيارها الغالب، وإذا كانت نفورة، فقد يتجه الحمل على التنفير بفتح باب القفص، وحل الرباط.
11101- ولو دخل السارق الحرز وفيه ماءٌ جارٍ، فوضع المتاع عليه حتى خرج به من الحرز، فالذي أطلقه الأصحاب أن هذا إخراج من الحرز؛ إذ الماء لا اختيار له في جريانه والملقَى عليه يخرج معه لا محالة.
فإن قيل: إذا شرطتم تولِّي الإخراج وأنكرتم حصول السرقة بالسبب، فلم تجعلوه سارقاً، وهو متسبب، قلنا: السبب الظاهر يُلْحق بالمباشرة فيما يبنى على المباشرة، ولذلك يجب القصاص على المكرِه، كما يجب على المباشر، فإذا لم يكن للماء اختيارٌ، فالتسبب والمباشرة لفظان يؤديان إلى التعلق بما يحصّل الخروج لا محالة من غير أن يعزى إلى اختيار غير السارق.
وقد يرد على هذا أنا إذا قلنا: من فتح كندوجاً أو دِنّاً، فانثال وسال منهما ما يبلغ نصاباً، فلا قطع من جهة التسبب، [فيتجه] (2) لا محالة أن نقول على هذا القياس: لا قطع على السارق إذا وضع المتاع في الماء، فإن صح ذلك الوجه في الكندوج، تعيّن مثله في الماء.
والوجه القطع بما قطع الأصحاب به في الماء، والاستدلالُ به في تضعيف الوجه المحكي في الكندوج.
11102- ولو دخل السارق الحرز وأكل من الطعام ما بلغ نصاباً، وخرج، فلا قطع؛ فإنه أتلف في الحرز ما أكله، ولم يخرجه.
ولو تعاطى دُرّة، فبلعها، وخرج فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه مخرج للدّرّة سارق لها، وهذا هو الصحيح، بخلاف الطعام، فإنه يفسد كما (3)
__________
(1) كذا. تأنيث صفة الطائر، وإعادة الضمير عليه مؤنثاً.
(2) في الأصل: " متجه ". والمثبت من (ت 4) .
(3) كما: بمعنى عندما.(17/237)
غاب عن الفم، والدرّة لا تفسد. والوجه الثاني - أنه لا يكون سارقاً؛ فإن ما بلعه الإنسان لا يدري إلى ما يؤول إليه، فقد أتلف الدرّة إذاً. والوجه الثالث - أنه إن خرج وخرجت الدّرةُ منه، فهو مخرجِ لها سارق، وإن لم تخرج، فلا نجعله سارقاً، فإنما نتبين أنها فسدت وانمحقت.
11103- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو دخل الحرزَ وفيها شياه، فأخذ شاةً لا تبلغ نصاباً فتبعها شاة، وهي بمجموعها تبلغ نصاباً ويزيد، فقد قال الشيخ أبو علي: إن كانت الشاة بحيث تتبع هذه الشاة إما لكونها أماً لها وهي سِخال، أو لكونها هادياً في القطيع، فيجب القطع. وإن لم يكن الأمر كذلك، ولكن اتفق خروجها مع تيك الشاة، فلا قطع.
وهذا الذي ذكره كلام مبهم والرأي عندنا تخريجها على مسألة الحمل على الدابة ومسيرها؛ فإن هذه الحيوانات مختارة على الجملة، ثم يقع في التفاصيل الغلبةُ على الظن في مسيرها ونقيض ذلك، والاتصال والانفصال، فلْيخزج هذا على ما تقدم، فلا فرق.
هذا كلام بالغٌ في الإخراج من الحرز ومعناه، ويتصل به فصل هو منه، وله تعلق بتفاصيلَ في الأحراز، ونحن نأتي بها في فصل مفرد، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وإن أخرجه من البيت والحجرة إلى الدار ... إلى آخره " (1) .
11104- مقصود الفصل يتم بالكلام في دارٍ وبيوتها، وفي خانٍ وبيوتها وحُجرها.
فأما القول في الدار يدخلها السارق، فإذا أخرج المتاع من بيت إلى العَرْصَة، ولم [يخرجه] (2) من الدار، نظر: فإن كان البيت مفتوحاً، أو كان غلقه ضعيفاً، وكان باب الدار مفتوحاً، فالمتاع ضائع غيرُ محرز؛ ذلك أن عماد الحفظ الحصانةُ،
__________
(1) ر. المختصر: 5/170.
(2) في النسختين: " يخرجها ".(17/238)
لا اللّحظُ، فإن كان باب البيت مفتوحاً، وبابُ الدار مغلقٌ موثقٌ فإذا أخرج المتاع من البيت إلى الصحن، نظر: فإن كان ذلك المتاع لا يحرز بالعرصات، فهو ضائع، إذا لم يكن في مخزن يليق به، وإن كان المتاع بحيث يحرز بالعرصات والأبنية الظاهرة والبيت المفتوح، فإذا أخرج المتاع إلى العرصة، لم يكن سارقاً؛ لأنه لم يخرجه من حرز، وهو بمثابة ما لو نقل المتاع من جانب العرصة إلى جانب.
وإن كان البيت مغلقاً، فالبيت حرز في نفسه، والمتاع مما يُحرز بالعَرْصَة، فإن أُغلق عليه بيتٌ، فهو زيادة إيثاق، فإذا فرض الإخراج من البيت إلى العرصة، نظر: فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالإخراج من البيت إلى العرصة سرقة موجبةٌ للقطع؛ فإن العرصة ضائعة بسبب فتح الباب، والبيت حرزٌ للمتاع المخرَج منه، فقد أخرج متاعاً من حرزه إلى موضع ليس بحرز، وهذا معنى السرقة.
فإن كان باب الدار مغلقاً، وكان باب البيت مغلقاً أيضاً، وكل واحدٍ من البيت والدار حرزٌ تام في المتاع المخرج، فإذا فرض الإخراج من البيت المغلق إلى العرصة التي كان بابها مغلقاً، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما - أنه يجب نظراً إلى الإخراج، والثاني - لا يجب؛ لأن الموضع الذي نَقَل المتاع إليه لم يكن مضيعة، [فهذا] (1) نقل من حرز إلى حرز، والسرقة الموجبة للحد هي الإخراج من حرز إلى مضيعة، وما ذكرناه فيه إذا كان المتاع بحيث يحرَز بعرصة الدار.
فأما إذا كان المتاع بحيث لا يحرز بالعرصة، وكان في المخزن المستقل بكونه حرزاً؛ فأخرجه إلى عرصة الدار، فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالذي جرى سرقةٌ موجبة للحد.
وإن كان باب الدار مغلقاً، فأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين اللذين ذكرناهما في المتاع الذي يحرز بالبيت والعرصة في مثل هذه الصورة: فإن قلنا ثَمّ: يجب القطع بالإخراج من العرصة، فلأن يجب في هذه الصورة أولى، وإن قلنا: لا يجب القطع بتلك الصورة، ففي هذه الصورة
__________
(1) في الأصل: " لهذا ".(17/239)
وجهان. والفرق أن الدار مضيعة بالإضافة إلى الدراهم والدنانير، فالإخراج من المخزن إلى العرصة إخراج من حرزٍ إلى مضيعة، وليس كذلك الصورة الأولى؛ فإن المتاع فيها أُخرج من حرزٍ إلى حرز.
فإن قيل: هذا الفرق ظاهر، فما وجه الخلاف؟ قلنا: باب الدار وإن كان مغلقاً على العرصة، فهو مزيد إيثاق للمال الموضوع في المخزن، فهي [تتمة] (1) الحرز، فإذا فرض إخراج من البيت إلى العرصة، فالعرصة، وإن لم تكن حرزاً بنفسها، فهي مزيد استيثاق للحرز إذا كان الباب مغلقاً عليها.
ومن الأصحاب من يقول: لا تتم السرقة إلا بالإخراج من تمام الحرز.
وإذا جمعنا بين هذه المسألة، وهي إخراج الدراهم من المخزن إلى العرصة المُغلقة بابها، وبين إخراج ثوب من الفرش من بيت مغلق إلى العرصة، انتظم في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها - وجوب القطع فيهما، والثاني - انتفاء القطع فيهما.
والثالث - الفرق بين أن يكون المخرج إلى العرصة مما يحرز بالعرصة، وبين أن يكون مما لا يحرز بالعرصة.
11105- ووراء ذلك بحث به تمام البيان وهو أن السارق لو تسلق الجدار وتدلّى إلى العرصة، وأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، فالأمر على [ما] (2) ذكرناه، وإن فتح الباب، وكان مغلقاً، ثم أخرج المتاع والدراهم من البيت إلى العرصة بعد فتح بابها، فكيف السبيل؟ هذا فيه نظر من جهة أن الحرز الذي يهتكه السارق في حكم الحرز الدائم، ولولا ذلك، لما أوجبنا القطع على من نقب الحرز، ثم دخل فأخرج؛ فإنه بنقبه أخرج الحرز عن كونه حرزاً، هذا وجهه.
ولكن لو قدرنا بقاء العرصة على الحرز، فقد يجرّ هذا تخفيفاً عن السارق، إذا قيل: أَخرجَ من حرز إلى حرز. وإن حكمنا بانتهاك حكم الحرز في العرصة، فإذا أخرج من البيت إليها، استوجب القطع، ونحن جعلنا الحرز في حق الناقب السارق
__________
(1) في الأصل: " قيمة "، والمثبت من (ت 4) .
(2) زيادة من المحقق.(17/240)
حرز التعلق تغليظاً عليه، فقياس هذا الفقه أن نجعل العرصة مضيعة ليلتزم الداخل بالإخراج من البيت إليها القطعَ.
والمسألة محتملة؛ من جهة أن ما أقمناه للتغليظ أو لغيره لا يمتنع أن ينفع السارقَ من وجهٍ، إذ ليس مبنى الباب على التغليظ، وإنما جعلنا الناقب إذا سرق سارقاً؛ لأن صورة السرقة في الغالب كذلك تكون، والذي يتسلق بمرقاةٍ أو حبل وعُقَدٍ ومحجن يُخرج الحرزَ مع تلك الآلة عن كونه حرزاً، فكان ذلك أيضاً تقديم هتك الحرز على الإخراج، فجرى ذلك على حكم الضرورة في تصوير السرقة، فلا نلتزم هذا الأصلَ في كل صورة.
وقد انتهى الكلام في الدور وبيوتها.
11106- ونحن نبتدىء الآن القولَ في الخانات ذوات الحجر والبيوت، فنقول: إذا أُخرج شيء من عرصة خانٍ، وكان بحيث يُحرَز بالعرصة والباب مغلق، نظر: فإن أخرجه بعضُ سكان الخان، فلا قطع؛ فإن العرصة ليست ممنوعة عن سكان الخان، وهذا متضح إذا كان فتح الباب هيناً على الخارج، بأن يكون الإيثاق بالسلاسل والمرازب (1) .
فأما إذا كان الباب موثقاً عن السكان، وعليه حارس بيده مقاليد الأغلاق، فإذا كان المخرج للمتاع يحتاج أن يعاني من الكلفة ما يعانيه من يحاول دخول الخان من خارج، فهذا فيه تردد: يجوز أن يقال: يجب القطعُ للإخراج من حرزٍ لا سبيل إلى الخروج منه من غير تسبب إلى هتك الحرز، وحقيقة السرقة التسبب إلى الإخراج من الحرز، ولهذا قلنا: من أرسل محجناً له وأخرج متاعاً من كُوّة، كان سارقاً، وإن لم يدخل الحرز.
ويجوز أن يقال: لا قطع؛ لأن يد ساكن الخان تتوصّل إلى المتاع. وصورة الحرز ما يمنع الآخذ من الأخذ، ويكون متضمناً حيلولة بين من يبغي الأخذ وبين المتاع، والمتاعُ الموضوع في العرصة ليس مصوناً عمن يسكن الخان، والدليل عليه أن من
__________
(1) المرازب: جمع مرزبة، والمرزبة، عُصيّة من حديد. (المعجم) .(17/241)
استحفظ إنساناً في متاعٍ، ونهاه عن النقل عن موضعه -وكانت المسألة مفروضة في الخان- ولو نقله المستحفَظ، لكان متعدياً ضامناً. فلو فرض من المودَع التعدي (1 بنقل الوديعة والاختيار بهتك الحرز والإخراج منه 1) ، فيبعد أن يجب القطع عليه؛ لأن المتاع في يده (2) . كذلك المتاع الملقى في العرصة، وإن لم يجر فيها استحفاظ فتمكُّن ساكن الخان من الوصول إليه في حكم السرقة يُلحقه بالمودَع، وإن لم يكن مودَعاً. هذا كلامنا في الساكن يسرق من العرصة ويخرج.
11107- فأما إذا احتال سارق ودخل الخان، وأخرج المتاع، وهو محرز، فلا شك في وجوب القطع عليه.
فأما إذا سرق بعضُ السكان من بعض، وكان كل واحد في بيت محرز عن أصحابه، فإذا أخرج بعضُ السكان شيئاً من بيتِ ساكنٍ، فهو سارق، وصحن الخان في حق السكان كالسكة بالإضافة إلى الدور التي أبوابها لافظة إلى السكة.
ولو دخل سارق من خارج وأخرج شيئاً من بيتٍ إلى الصحن، فقد قال الأصحاب: تفصيل القول في هذا الفصل كالقول في إخراج متاع من بيتٍ في الدار إلى عرصة الدار، وقد مضى ذلك مفصلاً؛ فإن الخان بالإضافة إلى الخارج منه كدارٍ ذات بيوت وحُجر، فإن قيل: إذا كانت الدار لافظة الباب في سكة منسدّة، وعلى رأس السكة
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) ، وعبارة (ت 4) فيها زيادة، ونصها كالآتي: " والدليل عليه أن من استحفظ إنساناً في متاع، ونهاه عن النقل من موضعه، وكانت المسألة مفروضة في الخان، ولو نقله المستحفظ، لكان متعدياً ضامناً، فلو فرض من المودع التعدي، وكانت المسألة مفروضة في الخان، ولو نقله المستحفظ لكان متعدياً ضامناً، فيبعد أن يجب القطع عليه ".
(2) إلى هنا انتهى المشبه به، وبقوله: " كذلك المتاع الملقى ... إلخ " بدأ كاف التشبيه والمشبه، والمعنى أن المتاع في عرصة الخان، ووصول أيدي الساكن إليه يجعله كالوديعة في المودع، يضمنها بالتعدّي، ولكن لا يقطع بهذا التعدي. وعبارة الغزالي في البسيط توضح ذلك، فقد قال: " ويحتمل ألا يجب القطع، وهو الأظهر؛ لأن إغلاق الباب لا يحرز عن الساكن في الخان، وإنما الإحراز عن السكان بأعين اللاحظين، وهو صحيح، وكأنه مستودَع، وإن لم يشافَه به، ومن أودع شيئاً في ملك المودَع وحِرْزهِ، فتعدّى بالإخراج، فلا ينبغي أن يجب القطع عليه " (ر. البسيط: 5/131 يمين) .(17/242)
درب (1) ، والسكة ملك لملاك الدور، فما قولكم فيه إذا دخل سارق وأخرج شيئاً من دار إلى السكة الموثقة بالدرب إيثاق عرصة الخان ببابه؟ قلنا: ما رأيناه للأصحاب أن هذا سرقة ثابتة، وليس هذا خالياً عن احتمال؛ فإن السكة المملوكة لملاك الدور كعرصة الخان لملاك البيوت أو لسكانها.
وقد انتهى الكلام في هذا الفن، ونجز مقصود الفصل.
فصل
مشتمل على بقايا من أحكام الإخراج من الحرز
11108- وقد تقدم القول في مقدار النصاب في صدر الكتاب، ومقصود هذا الفصل شيئان: أحدهما - إخراج نصاب واحد من الحرز بدفعات. والآخر - اشتراك جمع في إخراج نصاب، أو نُصب.
فأما الفصل الأول: إذا نقب السارق الحرز وأخرج نصف نصاب واكتفى، واطلع صاحب الحرز على انتهاكه، فإذا عاد واستتم النصاب، لم يستوجب القطع، ووجهه بيّن.
وإن عاد الشخص وقد سُدَّ الحرز وأوثق، فنقب مرة أخرى، واستكمل النصاب بالدفعتين، فلا قطع؛ فإنه أخرج نصاباً واحداَّ بَسرقتين كل واحدة متميزة عن الأخرى، والفاصل بينهما عَوْد الحرز إلى ما كان عليه أولاً.
وإن لم يُسَدّ الحرز، ولم يشعر به، فعاد وأخرج ما كمل النصاب به، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه لا قطع لتعدد الفعل والإخراج، وقصور المخرَج في كل كرّة عن مقدار النصاب. والثاني - أنه يجب القطع؛ فإن الحرز لم يُسدّ، ولم يشعر به فيفرض الانتساب إلى التقصير (2) ، فالفعلان في حكم الفعل
__________
(1) درب: هذا اللفظ ليس عربي الأصل، والعرب تستعمله بمعنى الباب، فيقولون لباب السكة: دَرْب. (ر. المصباح) .
(2) أي لا يفرض انتساب المالك إلى التقصير، أي لا يعد مضيِّعاً؛ لأنه لم يشعر بالنقب، وعلى هذا لم يسدّه.(17/243)
الواحد. والثالث - وهو أعدل الوجوه أن الفعلين إذا تواصلا -من غير تخلل فصلٍ - يجب القطع، وإن انفصل أحدهما عن الثاني بزمان طويل، فلا قطع؛ وكان شيخنا يقول: لو أخرج مقداراً، وانطلق به وعاد، فهذا فصل بين الفعلين، وإن قرب الزمانُ وأسرع الكرّة، وهذا حسنٌ في إيضاح معنى الفصل بين الفعلين في هذا الوجه الثالث.
ومما يتصل بهذا المقصود ذاته أنه لو فتح كُندوجاً، فانثال الحب منه حتى بلغ نصاباً، فلا شك أنه يخرج شيئاً شيئاً، والحبات متقطعة لا تواصل فيها، وإذا قلنا: لو أخرج نصاباً بفعلين متواصلين من غير فاصل لا يجب القطع، فإذا كمل النصاب بالانثيال في فتح أسفل الكندوج، ففي المسألتين وجهان: أصحهما - وجوب القطع؛ فإن ذلك يعد خروجاً بدفعة، ولا يُعَد مقطعاً، والفعل في نفسه غير متعدد، وقد أوردنا مسألة الكُندوج فيما تقدم في غرضٍ آخر؛ إذ حكينا أن من الأصحاب من يقول: الإخراج فيما ينثال لا يتحقق، وذلك مزيف، وقد أوردنا المسألة الآن في غرض
التواصل والتقطع، والأصح التواصل أيضاً، ووجوب القطع.
ولو تعلق بطرف منديل وأخذ يجذبه شيئاً شيئاً، يجب القطع وفاقاً، إذا كان المنديل نصاباً، فليس خروجه شيئاً شيئاً من التقطع في الإخراج وجهاً واحداً. وقد أوردنا هذا في غرض آخر، وهو يعضد ما ذكرناه الآن؛ فإنا قلنا فيما سبق: إذا أخرج من المنديل ما لو فصله، لكان نصاباً، فلا قطع، لأن الذي أبرزه ليس له حكم المخرج من الحرز، ويتضح بهذا أن إخراجه في حكم فعلٍ واحد؛ إذ البعض من غير فصلٍ لا حكم له.
هذا أحد مقصودي الفصل.
11109- والثاني في اشتراك اثنين فصاعداً في الإخراج، فنقول: إذا دخل رجلان الحرز، وحملا معاً ما قيمته نصاب، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن تحقق اشتراكهما في الإخراج على أقصى الإمكان في التصوير، بخلاف ما لو اشتركا في قطع يدٍ، فإنا نقطع أيديهما، كما نقتلهما لو اشتركا في القتل.(17/244)
وقال مالك (1) يجب القطع على المشتركَيْن في إخراج النصاب، والفرق المعتمد يرجع عندنا إلى انفصال قاعدة عن قاعدة، فالطرف مصون بالقصاص، والمال مصون بالقطع، ولكن لم يشرع الشارع القطع في أقل من نصاب، لأن النفوس لا تتشوف إلى مصادمة الأخطار لأخذ المقدار النزر، وهذا المعنى يتحقق في الشريكين في سرقة نصابٍ؛ إذ لا يخص واحد منهما نصاب. وهذا المسلك لا يتحقق في الطرف وقطعه، ولو أخرجا ثلث دينار، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن أخرجا نصف دينار، لزمهما القطع؛ إذ يخص كل واحد منهما نصابٌ.
ولو دخلا، فأخرج أحدهما ربعاً والآخر سدساً، فعلى الذي أخرج ربعاً القطع، ولا قطع على مخرج السدس.
وإن اشتركا في الإخراج على الحقيقة، فلا قطع عليهما، والمرتجى في حقيقة الاشتراك التحقيق المعتبر في قطع اليد، وليس هذا كالنقب؛ فإن النقب ليس بسرقة، وإنما هو توصل إليها، والسرقة الحقيقية الإخراج.
فصل
قال: " وإن سرق سارق ثوباً، فشقه ... إلى آخره " ثم قال: " ولو كانت قيمة ما سرق ربع دينار فنقصت القيمة ... إلى آخره " (2) .
11110- أما الفصل الأول، فمن فصول الغصب، فمن دخل الحرز، وأخذ ثوباً وشقه في الحرز طولاً أو عرضاً، فلا أثر لما فعل في تثبيت حق الملك له، وإذا أخرجه، وكانت قيمته معتبرة عند الإخراج نصاباً، فيجب القطع. والاعتبارُ في القيمة بحالة الإخراج، وأبو حنيفة (3) قد يجعل الشق طولاً مثبتاً حق الملك للشاق، ويرتب
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/647 مسألة 1904، عيون المجالس: 5/2123 مسألة 1534.
(2) ر. المختصر: 5/170.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 274، المبسوط: 9/163.(17/245)
عليه سقوط القطع، فإنه ملك الثوب في الحرز، وأخرج ملكه.
وكذلك لو ذبح شاة، فأخرج لحمها، أو تعاطى لحماً، فشواه وأخرجه مشوياً، فإن كانت قيمة المخرَج نصاباً وقت الإخراج، وجب القطع، ولا أثر لهذه التغايير عندنا [كثيرة أو قليلة] (1) مع العلم بأن الاعتبار في القيمة بحالة الإخراج وإنما اختبط أبو حنيفة فيها، فجعل بعضها مملِّكاً.
11111- وأما الفصل الثاني [فمعموده] (2) ومقصوده أن السرقة إذا تمت موجِبةٌ للقطع، فلو فرض طريان تغير بعد تمام السرقة، فلا أثر له، ولا يسقط القطع بما يطرأ بعد الوجوب، فلو تلف المسروق، أو نقصت قيمته: إما بالسوق، أو بطريان آفة، فلا يسقط القطع بشيء من ذلك.
ولو وهب المالك المسروقَ من السارق بعد تمام السرقة، فلا أثر لشيء من هذا، خلافاً لأبي حنيفة (3) في مسائل أُخَر بيّنَّاها في الخلاف.
ومهما (4) وجب حد، فلا أثر لما يطرأ بعد وجوبه في إسقاط الحد، وقد ذكرنا في كتاب اللعان أن من قذف شخصاً، فلم يحد حتى زنى المقذوف، فالنص أن القاذف لا يحد، بخلاف ما لو ارتد المقذوف، وقد قدمنا تفصيل المذهب في ذلك ثَمَّ، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.
إذا أقر المالك بأن المسروق كان للسارق، وهو في الحرز، فلا شك أن القطع يسقط، والمعنيّ بسقوطه [تبيُّنُ] (5) عدمِ ثبوته في الأصل في ظاهر الحكم.
فأما إذا ادعى السارق أن المسروق كان لي، ولم يكن معه بيّنة، فظاهر كلام
__________
(1) في الأصل: " قصيرة غير طويلة " والمثبت من تصرف المحقق، حيث تقع هذه العبارات في الأجزاء التي أصابها المحو من صفحات (ت 4) .
(2) فى الأصل: " فمعقوده ".
(3) ر. مختصر الطحاوي: 271، المبسوط: 9/186، طريقة الخلاف: 229 مسألة 92، تحفة الفقهاء: 3/155.
(4) مهما: بمعنى إذا.
(5) في الأصل: " بين ". والمثبت من المحقق.(17/246)
الشافعي أنه يسقط عنه الحد، ونفسُ دعواه تنتصب شبهة في إسقاط الحد عنه. ومن أصحابنا من خرج قولاً أن الحد لا يسقط.
ووجه النص أن الدعوى مسموعة، فإذا لم تكن بينة، فالقول قول المالك مع يمينه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على السارق، فإن حلف قُضي له بالملك، ولا خلاف في انتفاء القطع، إذا أفضت الخصومة إلى ما ذكرناه. وإن حلف المدعى عليه، فلو أوجبنا القطع، لكان وجوبه متعلقاً بيمين، ويستحيل إيجاب قطع السرقة باليمين.
وعبر الأصحاب عن هذا المعنى، فقالوا: السارق يصير خصماً في المسروق، ويستحيل أن يقطع في الشيء من هو خصم فيه.
ووجه القول الآخر - أن الدعوى العريّة لا أثر لها، ولا وقع لها، ولو فتحنا هذا الباب، لاتخذ السراق دعوى الملك ذريعة إلى إسقاط حق الله تعالى، واللائق بقاعدة الشافعي [إسقاط] (1) الذرائع الهادمة للقواعد إذا كان الوصول إليها متيسراً لا عسر فيه.
ثم ذكر الشيخ في شرح التلخيص صوراً في استكمال هذه الأصول، ونحن نأتي عليها، فلو ادعى السارق أن الدار التي سرقتُ منها ملكي، غصبها المسروق منه، فدعواه الملك في الحرز -على الوجه الذي ذكرناه- كدعواه الملك في المسروق.
وكذلك لو قال: هذا الذي سرقتُ منه مملوكي، فهذا يخرج أيضاً على الخلاف المقدم.
والجملة في ذلك أنه إذا ادعى الملك في شيء لو تحقق ما قاله، لسقط عنه الحد، فمجرد الدعوى فيه تُسقِط القطعَ على النص، وفيه القول المخرّج.
11112- ومما يليق بذلك أنه لو اشترك اثنان في سرقة نصابين، ثم ادعى أحدهما أن المال بمجموعه ملكي، فيسقط القطع عنه تفريعاً على النص، أما شريكه، فإن
__________
(1) في الأصل: " إثبات ".(17/247)
صدقه فيما ادعاه، فيسقط القطع عنه أيضاً، وإن كذبه، وقال: كذب في دعواه، وقد سرقنا هذا المتاع من ملك المدعى عليه، فالمذهب أنه يجب القطع على الشريك المكذب، ووجهه ظاهر؛ فإنه لم يدع شبهة، ودعوى غيره لا تنتصب شبهة في حقه.
وذكر القفال وجهاً آخر أنه لا يجب القطع عليه؛ تفريعاً على النص؛ فإنه قد صدر في الملك دعوى لو صدقها، لسقط عنه القطع، فكذلك إذا كذب، كما لو قال المسروق منه: هذا ملك السارق، فكذبه السارق، وقال: إنما أنا سارق، فالقطع يسقط مع تكذيب المسروق منه، وبمثله لو سرقا كما ذكرنا، فقال أحدهما: هذا المال لشريكي وكذبه صاحبه، فالقطع يسقط عن المدعي على النص، وهل يسقط عن المكذب الذي أنكر الملك؟ فعلى وجهين كما ذكرناه، ولا فرق بين المسألتين.
وكل ذلك تفريع على النص.
ولو سرق العبد شيئاً من حرز مثله، ثم ادعى العبد أن الذي سرقته كان لسيدي، فإن صدقه السيد، اندفع الحد على النص، وإن كذبه السيد، فهل يندفع عنه الحد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يندفع؛ فإنه ليس يدّعي الملك لنفسه، وإنما يدعيه لسيده، وقد كذبه سيده، فخرجت المسألة على وجهين. هذا بيان هذه المسائل.
فصل
" وإن أعار رجلاً بيتاً ... إلى آخره " (1) .
11113- من أكرى داراً من إنسان، فأحرز المستأجر بها ملكه، فلو سرق ملكه الآجر، وجب القطع عليه، وثبوت الملك في رقبة الدار لا يكون شبهة في درء الحد عن المكري؛ لأن المستأجر ملك منفعتَها بعقد الإجارة وإنما الإحراز بمنفعة الدار، وحق سكونها والإيواء إليها.
ولو استعار رجل حرزاً وأحرز به ماله، فسرق المعير مال المستعير، ففي المسألة
__________
(1) ر. المختصر: 5/170.(17/248)
أوجه: أحدها - يلزمه القطع، كالمكري مع المكتري، والثاني - لا يلزمه القطع؛ فإن المستأجر مَلكَ منفعة الدار، والمستعير لم يملكها، بل استباحها، وللمعير حق الرجوع في العارية متى شاء. والوجه الثالث - أنه إن قصد به الرجوع في العارية، فدخل الدار على هذا القصد، ثم أخرج ما وجد، لم يُقطع، وإن لم يقصد بدخول الدار الرجوعَ في العارية، قُطع، واستشهد القفال في اعتبار القصد وعدمه، بأن قال: لو دخل مسلمٌ دار الحرب فوطىء حربية، فإن قصد به قهرها وتملكَها عند إمكان ذلك، لم يكن ما صدر منه زنا، ولو علقت منه، صارت أم ولد بعد جريان الملك على رقبتها، وثبت النسب. وإن لم يقصد تملكها وقَهْرَها، كان الصادر منه زناً، ولو تعلقها لم تصر أم ولد.
ومال أئمة المذهب إلى الوجه الأول؛ فإن المعير وإن كان يملك الرجوع في العارية فإذا أراد ذلك، تعين عليه إمهال المستعير ريثما ينقل امتعته، فيظهر هاهنا أن العارية تُثبت تأكد الحق للمستعير، فلا يهجم على نقضه.
11114- ومما يتصل بذلك أن من غصب حرزاً، وأحرز به ماله، فلا شك أن المغصوب منه لو دخله، وأخرج منه شيئاً، فلا قطع عليه، لأنه يستحق دخول الحرز عاجلاً، غيرَ آجل.
ولو دخل الحرز المغصوبَ غيرُ المغصوب منه، وسرق منه، فقد قال القفال: لا قطع على السارق، لأن ملك الغير لا يصير حرزاً له، وهو جانٍ متعد. وهذا قاله تخريجاً.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على خلاف ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن القطع يجب. ويمكن أن يقرّب هذا من التردد في أن الواحد من المسلمين إذا رأى عيناً مغصوبة في يد غاصب، فهل له إزالة يده عنها حسبةً؟ وفيه خلاف تقدم.
ونظير ما نحن فيه أن من غصب من إنسان مالاً وأحرزه بحرزه المملوك، فدخل المغصوبُ منه الحرزَ، وأخذ المال المغصوبَ منه، وأخذ من مال الغاصب ما بلغ نصاباً، وأخرجه من الحرز، ففي وجوب القطع عليه وجهان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه أبيح له التهجم عليه والدخول في حرزه لانتزاع المغصوب من يده؛ فلا حُرمةَ(17/249)
لحرزه في حقه. والثاني - يلزمه الحد لإخراجه مالَ الغاصب من حرزه، فلا شبهة له في المخرَج.
ولو غصب رجل مالاً، ودخل غيرُ المغصوب منه، وأخذ ذلك المال المغصوبَ، ففي وجوب القطع على هذا الآخذ خلاف يلتفت على ما ذكرناه من أن من رأى عيناً مغصوبة في يد إنسان، فهل له أن يأخذها منه قهراً ليردها على المغصوب منه؟ فعلى خلافٍ مشهور.
ولو دخل ربُّ الوديعة دارَ المودَع، وأخذ وديعته وأخذ معها مال المودَع، فيجب القطع؛ فإنه ليس له الهجوم على حرز المودَع، بل يسترد منه الوديعة بطريق استردادها. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا [أدخل] (1) المغصوب منه متاعاً دار الغاصب، وأخذ متاع نفسه ومتاعاً للغاصب معه، لا يختص بما إذا أخذ متاع نفسه، ولكن لو أخذ متاع المغصوب منه، وترك متاع نفسه، فالوجهان جاريان، والخلاف مستمر، كما تقدم.
ولو استعار الرجل عبداً ليرعى له غنماً، ثم إن سيد العبد تغفَّل العبد وسرق من الغنم ما يبلغ نصاباً، ففي ذلك طريقان: أحدهما - ينزل ذلك منزلة ما لو دخل الدار المستعارة، وأخذ مال المستعير؛ فإن الدار المستعارة حرز مال المستعير، ومراقبة العبد المستعار حرز مال المستعير، فلا فرق.
ومن أئمتنا من قطع بوجوب الحد على السيد؛ فإن التعويل في إحراز الغنم على لحظ الراعي، وهذا لا يضاف الملك إليه (2) ، ومعتمد الحرز في الدار [الدارُ] (3) .
وللمالك حق طروقها، فبان الفرق. ويجوز لصاحب الطريقة الأولى أن يقول: العبد لا يُحرز عن مولاه بصدق اللحاظ ما يحرزه عن الأجانب.
__________
(1) في الأصل: " إذا أوصل ".
(2) لا يضاف الملك إليه: أي لا يملك السيد لَحْظَ العبد.
(3) زيادة من المحقق.(17/250)
فصل
قال: " وإذا سرق عبداً صغيراً لا عقل له ... إلن آخره " (1) .
11115- تصوير سرقة العبد الصغير بأن يُلقى نائماً في الحرز، فيحمل أو يخرج أو يلقى مسقطاً، فيربط ويحمل، والمجنون والأعمى الذي لا يعقل بهذه المثابة، فلو دعا هذا الذي لا يعقل، ولا يميز فاتبعه، وخرج من الحرز، فهو كبهيمة يدعوها فتتبع الدعاء، وتخرج، وقد ذكرنا في هذا تردداً للأصحاب.
ولو كان العبد يعقل عقل مثله، فتصوّر سرقته بأن يحمل مضبوطاً (2) ، فأما إذا خدعه، فخرج مختاراً مخدوعاً، فهذا ليس بسرقة بلا خلاف، وإنما هو خيانة.
ولو حمل العبدَ المميِّز بالسيف على أن يخرج من الحرز، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا سرقة، كما لو استاق دابةً، فامتنعت عليه فضربها. والثاني - أنه لا يكون سارقاً لمكان اختيار المكرَه المميز، والدابة وإن كانت مختارة، فيسقط أثر اختيارها بالكلية إذا سيقت بالسوط والعصا.
ثم العبد الصغير حرزه دار المولى، أو حريم داره، إذا كان مطروقاً (3) بحيث يعد العبد مصوناً، وإن فارق الدار والحريم، فهو ضائع.
ولو أخرج من الحرز صبياً حراً نائماً أو [مضبوطاً] (4) مكرهاً، فالكلام في الثياب التي عليه، وللأصحاب فيها وجهان: أحدهما - أنها مسروقة يتعلق بسرقتها القطع.
والثاني - أنها ليست مسروقة، وهي في يد الحر وإن كان صغيراً ضعيفاً، فهذان
__________
(1) ر. المختصر: 5/170.
(2) مضبوطاً: أي موثقاً مكرهاً. وضبطه من باب ضرب، أي حفظه حفظاً مبالغاً فيه (المصباح) .
(3) إذا كان مطروقاً: المعنى أن حريم الدار -وهو ما حولها- يكون حرزاً إذا كان ملحوظاً من الطارقين، أما إذا كان غير مطروق، فما فيه ضائع غير محرز، فليس محفوظاً بأبواب ومغاليق، ولا بلحظ الطارقين.
(4) في الأصل: " مربوطاً ".(17/251)
الوجهان يجريان في أن ثيابه في غير صورة السرقة هل تدخل تحت يد غاصب الحر وحامله؟
11116- ولو كان المخرَج مستقلاً بنفسه، وعليه ثيابه، فهذا يستدعي تقديم
مسألة هي مقصودة في نفسها، ويتعلق بيان هذا الفصل بها، وهي أن من كان راقداً على بعير وتحته أمتعته، والبعير مملوك له، فإذا أخذ سارق زمام البعير، ونحاه عن سَنَن الطريق، حتى أفضى به إلى الموضع الذي يريده، فهل نجعله سارقاً للمتاع والبعير؟
حاصل ما ذكره الأصحاب أربعة أوجه: أحدها - أنه سارق، لأنه احتوى على البعير وما عليه. والثاني - أنه لا يكون سارقاً؛ فإن يد مالك البعير والمتاع قائمة عليه، وإنما تتحقق السرقة عند إزالة يد المالك عن ملكه. وعبر بعض الأصحاب عن هذا، فقالوا: " السرقة إخراج المال من الحرز " والحرزُ مصون في هذه المسألة بالمحرِز، فلا تفريق، ولا إخراج.
ومن (1) أصحابنا من فصل بين أن يكون الراكب ضعيفاً والآخذ أقوى منه، وبين أن يكون الراكب قوياً، فإذا تيقظ لم يقاومه من قاد بعيره، فقال: إن كان ضعيفاً، فالقائد سارق، وإن كان قوياً، فليس بسارق؛ فإن التعويل في الإحراز حيث يكون المتاع ملحوظاً بالمنعة من اللاحظ، فإن من يكون في يده متاع في الصحراء، ولا مستغاث بالقرب منه، فالمتاع -وإن كان ملحوظاً بلحظٍ- ضائعٌ غيرُ محرز.
ومن (2) أصحابنا من قال: إن كان الراكب عبداً، فالبعير والعبد جميعاً مسروقان.
هذا ما رأيناه للأصحاب، فنقلناه على وجهه، ودون المنقول بحثٌ عن أمورٍ: منها - أن ما ذكرناه من التردد في تحقيق السرقة يجب أن يكون مترتباً على التردد في أن يد القائد هل تثبت على البعير وما عليه؟ ويجب إجراء الخلاف في هذا على نسق واحد.
__________
(1) هذا هو الوجه الثالث من الأربعة الموعودة.
(2) هذا هو الوجه الرابع.(17/252)
11117-[و] (1) لا يتم الغرض إلا بمسائل نُطلقها: منها - أن من احتمل عبداً قوياً وأخرجه من الحرز في حالة نومهِ، وكان لا يقاوم العبد إذا تيقظ، فهل نقضي بثبوت اليد على العبد أوّلاً، حتى إن فرض تلفٌ قبل التيقظ يجب الضمان؟ الوجه عندنا القطع بثبوت اليد، وإن كانت عرضةً للزوال، والقول الجامع فيه أن المنقول لا يتوقف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والاستمكان من قدرة المقاومة عند طلب الاسترداد، وما ليس منقولاً، فلا معنى لليد فيه إلا الاستيلاء. هذا قولنا في اليد.
وأما تحقق السرقة، ففيه نظرٌ، لأن مثل هذا العبد محرز بيد نفسه، [ومع احتمال ضعفه] (2) ، فليس منتهياً من صون إلى ضياع، وينشأ من هذا كلام تمس الحاجة إلى مثله في القواعد، وهو أن من جلس نبَذةً حيث لا مُستغاث يجاب إليه، ومتاعه ملحوظ [فتغفله] (3) ضعيفٌ وأخذه منزلاً، ولو شعر به صاحب المتاع، لطرده، فهل نقول: هذا من حيث عُدّ ضائعاً في حق قويٍّ، فلا قطع على آخذه وإن كان ضعيفاً، لأنه يعدُّ المال في مضيعةٍ، أم القول في ذلك ينقسم ويختلف على حسب اختلاف الآخذين؟
الرأي الظاهر عندي أن المال مصون عن الضياع في حق الضعفة، معرض للضياع في حق الأقوياء، [ولا] (4) يمتنع انقسام الأمر في بابه، فإنا وضعنا أصل الحرز على الانقسام بالإضافة إلى صنوف الأموال، فلا يبعد أن يكون منقسماً بالإضافة إلى الآخذين وهذا محتمل جداً.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة الأصل مضطربة، فقد رسمت هكذا: " محرزٌ بيد نفسه، فإذا احتملنا ضعيف باختيار فليس منتهياً ... " كذا تماماً (انظر صورتها) .
والمثبت من معنى كلام الرافعي، فقد نقل المسألة كاملةً عن الإمام، وبألفاظه نفسها تقريباً. وهي كذلك عند الغزالي في الوسيط والبسيط. ولكنه في الوجيز أطلق القول بنفي القطع. (ر. الشرح الكبير: 11/219، والوسيط: 6/476، والبسيط: 5/ورقة 83 يمين، والوجيز: 2/176) .
(3) في الأصل: " فتعلقه " والمثبت من حكاية الرافعي عن الإمام في الشرح الكبير (السابق نفسه) .
(4) زيادة اقتضاها السياق.(17/253)
11118- ومما يجب التنبه له أن ثياب الحر الذي هو لابسها تحت يده، فلو حمل حراً، [وحبسه] (1) ، فتلفت عليه ثيابه، فلا ضمان، وأبعد نقلة المذهب، فحكَوْا وجهاً أن يد الغاصب تثبت على الثياب، وهذا بعيد في الحر المستقل.
وقد صرح أصحاب المذهب بنقل الوجهين في الثياب التي على الحر الصغير.
وشببوا بإلحاق الحر الضعيف البالغ بالحر الصغير، فانتظم في الحر الصغير وجهان؛ من حيث إنه لا يستحفظ ولا تصلح يده للحفظ، فلما كان كذلك تثبت يد آخذه عليه على وجهٍ. ومن أشار إلى أن اليد لا تثبت على ثياب الحر الصغير، نظر إلى الجنس، واستدل بثبوت [يد اللقيط] (2) على ملكه؛ فإن كون الثياب على الصغير يدل على ملكه فيها على ما تقرر ذلك في مسائل اللقيط وما عليه من شعار أو دثار، والحر الضعيف المستقل ممن يجوز أن يؤتمن ويستحفظ، فكان أولى بألا نثبت يد آخذه على ثيابه، والحرّ المستقل القوي بعيد كل البعد ثيابُه عن يد آخذه.
ويترتب على هذا المجموع أنا [إن] (3) لم نُثبت اليدَ في صورة، لم نثبت السرقة، وإن أثبتنا اليدَ ومن عليه الثياب قويٌ مستقل بالمقاومة، ففي ثبوت السرقة وجهان، والثياب التي على الإنسان أبعد عن يد آخذه من الحمل الذي تحته والبعير؛ فإن ثياب الإنسان في حكم [جِرمه] (4) ، فهذا حكم ما أردناه في ذلك.
11119- وإذا كان راكب البعير المقود عبداً، فهذا يلتفت على ما مهدناه من أن العبد القوي إذا أخرج، فهل تثبت اليدُ عليه، وإن ثبتت، فهل تتحقق السرقة فيه؟
__________
(1) في الأصل: " وحبس ".
(2) في الأصل: " يده الدالّة ". وتقع المسألة كلها فيما أصابه المحو من (ت 4) ، والمثبت من المحقق على ضوء عبارة الغزالي.
هذا وعبارة الغزالي: " ... أحدهما - لا تثبت يد الحامل، بل الثياب في يد الصغير؛ فإن ليده تأثيراً في الشرع، ولذلك نخصص بالشعار والدثار اللقيط الذي وجد ملفوفاً فيه، ولا نسلّمه إلى الملتقط " (ر. البسيط: 5/ورقة: 83 شمال) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: " جرمنه ".(17/254)
وليس يخفى بعد هذا التمهيدِ والتنبيهِ تفريغ، ولسنا نكثِّر بعد الوضوح.
ثم قال الشافعي: " ويقطع العبد آبقاً وغيرَ آبق ... إلى آخره " (1) .
11120- إذا سرق العبد في إباقه، وجب القطع بالسرقة، خلافاً لمالك (2) وإياه قصد الشافعي بالرد، ومسلك المعنى واضح، وقد روي " أن ابن عمر أبق له عبد، فسرق، فرفعه إلى [سعيد بن العاص] (3) أمير المدينة، فقال: إنه آبق، ولا قطع على آبق، فقال: " في أي كتاب الله وجدتَ، وفطع يده " (4) .
فصل
قال: " ويقطع النبّاش إذا أخرج الكفن ... إلى آخره " (5) .
11121- إذا نَبَش قبراً في بيت وثيق يعدّ حرزاً، وأخرج الكفن من القبر، ثم من البيت، وجب القطع عليه؛ إذا بلغ المأخوذ نصاباً. وإن نبش قبراً في مقبرة محفوفة بالعمارة يخلُف الطارقين عنها في زمان يتأتّى في مثلهِ النبش، أو كان عليها حراس مرتبون، فهي بمثابة البيت.
وإن كانت المقبرة على طرف العمارة، فإن كان لها حارس، فهي محرزة، وإلا فوجهان: أحدهما - أنها ليست محرزة. والثاني - أنها محرزة لأن الطروق ليس نادراً
__________
(1) ر. المختصر: 5/171.
(2) ر. الإشراف: 2/949 مسألة 1909، عيون المجالس: 5/2137 مسألة 1551.
(3) في الأصل: " سعيد بن جبير "، والتصويب من كتب الحديث والآثار.
وسعيد بن العاص هو سعيد بن العاص بن سعيد بن أمية، صحابي، توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنين، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان. ولي الكوفة في عهد عثمان، والمدينة في عهد معاوية. توفي سنة 59، وقيل سنة سبع أو ثمان وخمسين، رضي الله عنه (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/218، الإصابة: 2/47) .
(4) أثر عبد الله بن عمر رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/83 رقم 269، وعبد الرزاق في مصنفه (18979) . وانظر التلخيص 4/114، ح 2061) .
(5) ر. المختصر: 5/171.(17/255)
فيها، ومن يتعاطى النبش ظاهرٌ غير مستتر، وينضم إلى ذلك مهابة المدافن في النفوس.
وإن كان القبر منبوذاً في مضيعة، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن الكفن ضائع غيرُ محرز، وسمعت شيخي يحكي وجهاً أنه محرز، وكنت أستبعده حتى رأيته مختاراً للقاضي، واستمسك فيه بما لا يليق بقدره، فإنه قال: لا يعد الكفن مُضَيَّعاً، وهذا الذي ذكره ليس لصون الكفن، وإنما هو لضرورة الحال، وأشار إلى استشعار المهابة من القبور ولا ثبات لمثل هذا.
فهذا منتهى الكلام فيما يحرز من القبور، وفيما لا يعد محرزاً.
11122- فإن قيل: لو وضع في القبر شيء من جنس الكفن، فهل يكون محرزاً؟ قلنا: إن كان في بيت فبلى (1) ، وإن كان معرضاً للبلى.
وإن كان في مقبرة صونُها باللحظ والطروق، فالمذهب أنه ليس محرزاً؛ رجوعاً إلى العادة؛ فإن الأكفان اجتمع فيها ضرورة الدفن، ومسيسُ الحاجة، والصونُ بالطارقين، فلا يمتنع في حكمة الشرع التغليظ على النباش تحقيقاً للصون، وهذا لا يتحقق حيث لا ضرورة.
وحكم بعض الأصحاب بكون المدفون في القبر محرزاً إذا كان من جنس الكفن، وهو بعيد لا تعويل عليه.
وإن فرض إسرافٌ في الكفن، نظر: فإن كان من جهة الزيادة على الأعداد المرعيّة في الرياط (2) ، فالزائد ليس محرزاً على الرأي الظاهر، والاحتساب في الأعداد المرعية بما يلي الميت إلى الانتهاء إلى الحد المعتبر في الكمال.
وإن كان الإسراف من حيث القيمة، ونفاسة الثوب، فقد قال الأصحاب: يجب
__________
(1) فبَلَى: بمعنى: فنعم، وهو جائز، وعليه شواهد من حديث البخاري، وقد قدمنا هذا البحث من قبل.
والمعنى هنا: إن كان القبر في بيت، فالثوب محرز، وإن كان معرضاً للبلى.
(2) رياط: جمع ريطة، وهي الملاءة: قطعة من القماش، وليست لِفْقَين (المصباح والمعجم) .(17/256)
القطع بأنه كفن، وكان شيخي إذا روجع في ذلك تردد؛ إذ لا حاجة إلى تعريض الديباج ودِقّ (1) مصر للبلى، وقد ذكرنا أن الحاجة مرعيةٌ في الباب، والأصح غير هذا.
ثم إنما يجب القطع على النباش إذا فصل الكفن عن [القبر] (2) بالكلية، فإنه بجملته حرز، ولا يقع الاكتفاء بالفصل عن اللحد.
11123-[وتكلم] (3) الأصحاب في مالك الكفن، وحاصل المنقول عنهم أوجه: أصحها- أن الكفن ملك الورثة غيرَ أن الميت أحق به لكونه متعرّضاً لحاجته، ولا يملك الوارث النزعَ والإبدال بعد المواراة؛ لما فيه من الهتك، وغض الحرمة، ودليل هذا أن الميت لو افترسه السبع فالكفن المطروح للورثة.
ومن أصحابنا من قال: الكفن ملك الميت؛ لأنه مستغرَق بحاجته وإبقاء الملك له كما في إبقاء الدين عليه، مع وقوع اليأس من طلبته. وهذا القائل يعتذر من افتراس السبع، ويقول: إذا انقطعت حاجة الميت، فلا مصرف أقرب من الورثة، ويَرِدُ عليه أن الميراث مستند إلى حالة [الموت] (4) ، وتعتبر تلك الحالة في [الوراثة] (5) ، ولا يعتبر ما بعدها، وقد يعترض على ذلك التعلق بأسباب العدوان كاحتفار البئر في الحياة، وفَرْضِ التردّي فيها بعد الموت، ولا يخفى هذا المحالّ.
ومن أصحابنا من قال: الكفن ملكٌ لا مالك له.
ثم قَطْع السرقة واجب على النباش على الوجوه الثلاثة.
11124- فإن قلنا: الملك للوارث، فحق المخاصمة له، وإن قلنا: الملك
__________
(1) دقّ مصر: كذا وجدته عند الغزالي في البسيط غير مشروح، ولم أجده عند الرافعي ولا في مختصر العز بن عبد السلام، ولا في المعاجم، ولا في غريب ألفاظ الشافعي، وواضح من السياق أن المقصود به نوع من جيد الأقمشة ورقيقها، كان يجلب من مصر. والله أعلم.
(2) في الأصل: " الغير ".
(3) في الأصل: " فتكلم ".
(4) في الأصل: " الميت ".
(5) في الأصل: " الورثة ".(17/257)
فيه لله تعالى، فقد قال القاضي: المخاصمة للإمام، ومن يقيمه الإمام. وإذا قلنا: الملك للميت، ففي من يخاصم وجهان: أحدهما - أن الوارث يخاصم. والثاني - أن الإمام يخاصم، والمخاصَمة التي أطلقناها سيأتي شرحها في باب جحد السرقة، فإنا لا نقيم القطع ما لم يُخاصِم مخاصم عن المسروق، وإذا قلنا: يخاصم الوارث والملك له، فهذا قياسٌ بيّن، وإن قلنا: يخاصم الإمام، ففيه إشكال؛ فإنا إنما نتردد في محل ملك الكفن وهو مدرج فيه، وأما إذا أخذه النباش، فيجب أن يقال: للوارث أن يبدله بمثله أو [بخيرٍ منه] (1) كما لو فرض الافتراس، فإن ذهب من يصير إلى أن الملك للميت، أو لله إلى أن تلك الأكفان يجب ردها بأعيانها، فهذا كلام عري عن التحصيل وإن صح هذا، فالتفريع في تعيين المخاصم صحيح، والوجه عندي أن للوارث أن [يبدله] (2) ، فعلى هذا يجب القطع بأنه المخاصم لا غير (3) .
هذا إذا كُفِّن من ماله الذي خلفه.
11125- فإن كفن من مال بيت المال، فعلى النباش القطع إذا أخذ ذلك الكفن بخلاف ما لو سرق من مال بيت المال؛ فإن فيه تفصيلاً يأتي، إن شاء الله تعالى، والفرق أن المال في بيت المال عرضة للحقوق كافّة، وإذا صرف شيء منه إلى كفن ميت، فقد انقطع عن ذلك المقدار الحقوقُ العامة، وهذا كما لو صرف إلى فقير ثوب ليستتر به فإذا اختص به وملكه، قطع سارقه، وإن كان لا يقطع لو أخذه من بيت المال.
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، صورتها هكذا: (ـحر ـلـ ـه) بهذا الرسم وبدون نقط (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: " يبدل ".
(3) نقل الرافعي كلام الإمام هذا بشيء من التصرف، ونحن نورده بنصه، قال: " وزاد الإمام فقال: إن كان من يذهب إلى أن الملك في الكفن للميت أو لله تعالى يقول: يتعين ردّه بعد ما أخذه النباش إلى الميت، ولا يجوز للوارث إبداله بغيره. فالتفريع والخلاف في أن الخصم مَنْ هو صحيح، لكن هذا قول عري عن التحصيل، والوجه عندي أن للوارث إبداله، بعد ما انفصل عن الميت، وحينئذ فيجب القطع بأنه الخصم لا غير " (ر. الشرح الكبير: 11/207) .(17/258)
ثم الخصومة إلى الإمام.
ولو افترسه سبع، عاد ملكاً لبيت المال، وهذا فيه توقيف؛ من جهة أنا ذكرنا أن الأصح أن الكفن المأخوذ من التركة مبقَّى على ملك الوارث، فيلزم من هذا القياس أن نقول: الكفن مبقى على [ملك] (1) بيت المال، وإنما للميت فيه حق الاختصاص، فيتجه أن نقول: لا قطع على سارقه إذا كان بحيث لو سرق من بيت المال [لم يقطع] (2) ، وإذا فرعنا على أن الكفن المأخوذ من التركة ملك الوارث، فلو نبش الوارث وأخذ، لا قطع عليه، ولو أخذه ابنه، فكذلك.
11126- ولو كفن الميتَ رجل محتسب، فإذا سرق سارق ذلك الكفن، استوجب القطعَ، والخصومةُ إلى ذلك المحتسب، هكذا ذكره المحققون. وفيه بحث يُطلع على سر الفصل، وذلك أن الكفن إذا كان مأخوذاً من التركة، انتظم الوجوه الثلاثة فيها، ومن جملتها أن الملك للميت، وهذا منزل على أن ذلك القدر مستبقىً على ملكه لحاجته.
وإذا جرى التكفين من بيت المال أو كفّنه محتسب، فتقدير استدامة ملكٍ كان في الحياة غير ممكن هاهنا إذا (3) لم يكن الكفن ملكَه في حياته، وابتداء تمليك الميت عسر على غير مذهب الاستدامة، فينقدح في الملك وجهان إذا كان المكفِّن محتسباً: أحدهما - أن الملك باقٍ للمحتسب، والثاني - أنه زائل عنه، وليس مضافاً إلى الميت، بل هو ملكٌ لا مالك له، فعلى هذا يعود ما يتفرع على هذين الوجهين، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يخرج زوال الملك حتى يكون الكفن ملكاً لا مالك له، فإن ابتداء إزالة الملك على هذا الوجه عسر، فعلى هذا لا يبقى إلا الحكم ببقاء ملك المحتسب، وهذا الوجه وهو مصير الكفن ملكاً لا مالك، فقد يظهر خروجه إذا كان التكفين من بيت المال، فإنه معتدٌّ لهذه الجهات، وليست هي مضافة إلى مالك متحقق.
__________
(1) في الأصل: " حكم ".
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) إذا: بمعنى إذ.(17/259)
فانتظم من ذلك طرق: إحداها - أن الأوجه الثلاثة تجري في المحتسب المكفِّن، وفي بيت المال، كما ذكرناه في كفن التركة. والطريقة الثانية - أنه يتخلف من الوجوه تمليك الميت. والأخرى - أنه يتخلف القول بأنه ملكٌ لا مالك له أيضاً، ولا يبقى إلا مسلكٌ واحد، وهو تبقية الملك على ما كان عليه قبل التكفين، والطريقة الأخرى - الفرق بين بيت المال وبين المحتسب، كما تقدمت الإشارة إليه.
فرع:
11127- من جمع من البذور المبثوثة في الأرض ما يبلغ نصاباً، والمكان مصون صَوْنَ مثله، ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما - الوجوب، ووجهه بيّن.
والثاني - لا قطع؛ لأن مقرّ كل حبةٍ في حكم الحرز لها، فمن جمع من الحبات ما يبلغ نصاباً بمثابة من يسرق مالاً من أحرازٍ ولا يسرق من حرزٍ نصاباً كاملاً.
***(17/260)
باب قطع اليد والرجل في السرقة
قال الشافعي: " أخبرنا بعض أصحابنا ... إلى آخره " (1) .
11128- مذهب الشافعي أن اليدين والرجلين مستوفاة في كَرَّات السرقة على ما سنذكر تفصيلَ استيفائها. والأصل في ذلك ما رواه الشافعي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سرق فاقطعوا يدَه، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله، ثم إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله "، فالأطراف الأربعة مستوفاة، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال في الكرّة الخامسة: " فإن سرق، فاقتلوه " (2) . وقيل: للشافعي قول قديم أنه يقتل في المرة الخامسة؛ تعويلاً على هذه الرواية، فإن معتمد الباب الخبر، ولكن هذا القول في حكم المرجوع عنه، فلا اعتداد به، وتلك الزيادة شاذة، لم يتعرض لها الشافعي.
فإذا سرق أربع مرات، واستوفينا أطرافه وعاد وسرق، بالغنا في تعزيره. وإن رأى الإمام أن يحبسه، فعلى ما سنصف الحبسَ الواقعَ تعزيراً في كتاب الأشربة، إن شاء الله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/171.
(2) حديث " من سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق ... " رواه الشافعي، والدارقطني على نحو ما ساقه الإمام، وأما الرواية التي يشير إليها الإمام بزيادة (فاقتلوه) فهي عند الدارقطني من حديث جابر، وقد ضعفها، وكذا جاءت في رواية أبي داود والنسائي بغير سياق الإمام، وقد ضعفها الحافظ، ونقل عن ابن عبد البر قوله: حديث القتل منكر لا أصل له. (ر. معرفة السنن والآثار: 6/409-410، سنن الدارقطني: 3/180، 181، 137-138، أبو داود: الحدود، باب في السارق يسرق مراراً، ح 4410، النسائي: قطع السارق، باب قطع اليدين والرجلين من السارق، ح 4978، التلخيص الحبير: 4/127، 128 ح 2087، 2088) .(17/261)
فإذا تمهد أصل المذهب، فمن سرق وأطرافه الأربعة سليمة، قطعنا يده اليمنى، في الكرة الأولى، فإن اعتماد التناول عليها؛ فلما كانت هي الآخذة، كانت هي المأخوذة في الحد.
فإذا سرق مرة أخرى، فاليد اليسرى أقرب إلى التناول والأخذ، ولكن لو أخذناها، واستوعبنا جنس اليد، لعظُم الضرار، ولكان هذا في حكم ضم عقوبةٍ إلى عقوبةٍ، يعني الاستيعاب بالقطع، فَمِلْنا إلى الرجل؛ فإن غَناءها في السرقة بيّن، وأثرها يلي أثر اليد، فَنَقطع في المرة الثانية رجلَه اليسرى، لأصلين: أحدهما - أنا وجدنا أثر قطع اليد والرجل دفعةً واحدة في الحرابة على هذا الوجه والأخذة الواحدة مجاهرةً معدَّلةٌ بسرقتين. والثاني - أن الأخذ إذا وقع على خلافٍ أمكن أخذُ خشبة باليد الأخرى والاتكاء عليها في المشي، وإذا وقع القطع عن وفاق، لم ينتظم هذا الغرض.
فإذا عاد فسرق مرة ثالثة، لم نجد بُدّاً من استيعاب جنس [اليد] (1) ، فعدنا إلى اليد، كما بدأنا به أول مرة، فنقطع اليد اليسرى، ثم نقطع في الرابعة الرجل اليمنى، هذا هو الترتيب المستحق في قطع الأطراف.
11129- ثم إذا سرق في المرة الأولى ويمناه سليمة، قطعناها ولو كان عليها إصبع واحدة، اكتفينا وقطعنا اليدَ من المعصم.
ولو كان يمناه كفّاً، بلا أصابع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نكتفي بقطعها، كما لو كان عليها إصبع، ويحصل بهذا القطع الإيلام التام، والتنكيل.
والثاني - لا نقطعها؛ فإنها كالعديمة؛ إذ لا مقدّر فيها (2) ، وننتقل إلى الرجل، كما نفعل ذلك في الكَرّة الثانية، ولا خفاء أنا نقطع الرجلَ اليسرى.
ولو كان على اليمين إصبعٌ زائدة، قطعنا اليد، ولم نبال بتلك الزيادة، وهذا يعادل اكتفاءنا بكف عليها إصبع، واستحقاقُ اليد في السرقة لا يشبه استحقاقها في القصاص؛ فإنا نَرْعَى في القصاص التساوي في الخلقة والسلامة، فلو قطعنا يداً عليها زيادة خلقية بيد معتدلة، لقابلنا يداً وزيادة بيد.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) لا مقدّر فيها: أي ليس في قطعها أرشٌ مقدّر.(17/262)
ولو كانت اليد اليمنى شلاء، فإن كنا نخاف نزف الدم لو قطعناها، لم نقطعها، وقدّرنا كأنه سرق ولا يمنى له، وإن لم نخف نزفَ الدم، فالذي ذكره الأصحاب أنا نكتفي باليمين الشلاء إذا كانت ذات أصابع، وفي هذا احتمال؛ من جهة أنه لا تَقَدُّرَ فيها، وليست عاملة، فإذا سقط العمل، [وتَقُدُّرُ] (1) الأرش أمكن أن يقال: لا اكتفاء بها.
والأظهر الاكتفاء؛ فإن من قطعت يده السليمة، وكانت يد القاطع شلاء، فاكتفى بها مستحق القصاص، وقعت موقع الإجزاء، فإذا لم يبعد اكتفاء مستحق القصاص بالشلاء، لم يبعد اكتفاء الشرع بقطع الشلاء في السرقة، والعلم عند الله تعالى.
ولو كان على الساعد اليمنى كفّان، فقد قال الأصحاب: نقطعهما. ونعلم أن الأصلية إحداهما، ولا مبالاة بالأخرى إن قطعناها؛ لما ذكرناه من أن اليمين لو كانت عليها إصبع زائدة، لقطعناها، ولم نحتفل بتعطيل الإصبع الزائدة.
وهذا فيه تفصيل عندنا: فإن كانت اليد الأصلية بيّنة، فأمكن قطعها، فلا سبيل إلى قطع الأخرى، وإن كان لا يتأتى قطع الأصلية إلا بقطع الزائدة [فهل نقطعهما حينئذٍ] (2) إن كان قد أشكل الأصلي منهما؟ فالذي رأيته للأصحاب أنا نقطعهما ليتحقق قطع اليد المستحقة، ولا مبالاة بإبانة الزائدة. وهذا ظاهر التوجيه، فليتأمله الناظر.
11130- ثم مذهب العلماء أن قطع اليد من مفصل الكوع، وقطع الرجل من الكعبين، وذهب بعض أصحاب الظاهر إلى أن اليد تقطع من المنكب (3) ، وهذا
__________
(1) في الأصل: " وتعذر ". ومعنى سقط تقدّر الأرش: أي أن اليد الشلاء ليس في الجناية عليها بقطعها أرش مقدّر، بل سقط بالشلل أرشها الذي هو نصف الدية.
(2) عبارة الأصل: " ... إلا بقطع اليد الزائدة حينئذ نقطعهما ". والتصرف بالتقديم والتأخير والزيادة من المحقق.
(3) لم نجد هذا الذي نسبه الإمام إلى الظاهرية عند ابن حزم وهو عمدتهم ومحصل آرائهم، بل وجدناه ينسب هذا القول إلى الخوارج (المحلى: 11/357) . لكن هذا لا يطعن فيما قاله الإمام، حيث قال: " وذهب بعض أصحاب الظاهر " فلعل هذا كان قولاً لبعض الظاهرية، ثم هُجر منهم.(17/263)
ْمذهب متروك، وقد ذكرنا في مواضع من الأصول والفروع، أن أصحاب الظواهر ليسوا من علماء الشريعة، وإنما هم [نقلة] (1) إن ظهرت الثقة بهم.
ثم ينبغي أن نمد اليد والرجل حتى تنخلع، ثم تربط الجارحة على خشبة حتى لا تضطرب، أو على ما تيسّر.
11131- ثم الحسم لابد منه؛ إذ ينقطع بفصل اليد شرايين لا يَرْقَأُ دمُها إلا بالحَسْم، والحَسْمُ أن يغلى الزيت بالنار، ويغمس موضع القطع فيه، فتنسد أفواه العروق، واختلف الأصحاب في أن الحسم حق لله تعالى أو من حق المقطوع: فمنهم من قال: هو تتمة حق الله تعالى، وفيه مزيد إيلام مع رعاية مصلحة، وهذا القائل يستشهد بأن السلاطين ما زالوا يفعلون هذا في المقطوعِ أطرافُهم لا [يتركونه، فتُحسم] (2) أيديهم على الكُرْه منهم، ولم يتعرضوا لهذا في قطع الأيدي قصاصاً.
ومن أصحابنا من قال: هذا حقٌّ للمقطوع، وهو الظاهر؛ لأن الحد إنما هو القطع، ولا يخفى على المنصف أن الحسم استصلاحٌ ومعالجة. فإن قيل: إذا عرّض الإنسان نفسه للهلاك، فللسطان أن يمنعه عنه قهراً، وترك الحسم تعرّضٌ للهلاك؟ قلنا: ليس الأمر على هذا الإطلاق، فإن الضعيف قد يهلكه ألم الحسم، والسعيُ في قطع الدم ممكن بوجه [آخر] (3) ، والمالك لأمر نفسه لا يتعرض السلطان لتخير معالجته.
التفريع: إن حكمنا بأن الحسم حقُّ المقطوع، فالأمر إليه فيه: إن أراده، فالمؤنة عليه.
وإن قلنا: الحسم من حق الله تعالى، فالمؤنة فيه بمثابة مؤونة الجلاد، وقد سبق الخلاف في أن مؤونة الجلاد على من؟
ثم إذا قطعت يد السارق، ففي بعض الآثار أن يده المقطوعة تعلّق في رقبته؛
__________
(1) في الأصل: " نقلته ".
(2) في الأصل: " لا يزيدونه فحسم ".
(3) زيادة من المحقق.(17/264)
تنكيلاً به (1) ، وقد اختلف أئمتنا في هذا: فمنهم من لم يصحح الخبر، ولم ير هذا، ومنهم من رآه، ولا ينتهي الأمر إلى الإيجاب في ذلك، ولكنه إلى رأي الإمام. ثم أشار هؤلاء إلى أنه تبقى في عنقه ثلاثة أيام.
11132- ومما يتعلق بذلك أن السارق إذا استحق قطع يمينه، فلو لم يتفق قطعُ يمناه حتى سقطت بآفة سماوية، فالذي اتفقت عليه الطرق أن الحد سقط في هذه الكرّة؛ فإن اليمين كانت مستحَقَّة، وقد سقطت، فسقط الحد عقوبة بسقوط محله.
ونص الأصحاب على أن من استحقت يده قصاصاً، واستحقت يده حداً؛ فإذا قطعت يده قصاصاً، سقط الحد بفوات المحل في القصاص. وفي بعض التصانيف أن اليمين إذا سقطت بعد الاستحقاق، فإنا [نَعْدل] (2) إلى الرجل اليسرى، فنقطعها، ونجعل كأنه سرق ولا يمين له، ولو كان كذلك، لتعلق الوجوب بالرجل اليسرى.
وهذا غلطٌ لا مراء فيه، والمذهب الذي عليه التعويل ما ذكره الأصحاب.
ومما نذكره متصلاً بذلك أن من سرق أول مرة، فقال له الجلاد: أخرج يمينك فأخرج يساره، فقطعها الجلاد، نص في الأم على سقوط قطع السرقة وحكى الحارث بن سريج النقال، وقيل البقال (3) : إن الجلاد إن تعمد ذلك فعليه القصاص
__________
(1) خبر تعليق اليد المقطوعة. رواه أصحاب السنن من حديث فضالة بن عبيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فأمر به فقطعت يده، ثم علقت في رقبته ". وقد ضعفه الحافظ، ثم نقل عن الرافعي كلامَ الإمام في النهاية وعقّب قائلاً: " هو كما قال: لا يبلغ درجة الصحيح ولا يقاربه " ا. هـ (ر. أبو داود: الحدود، باب في تعليق يد السارق في عنقه، ح 4411، النسائي: قطع السارق، باب تعليق يد السارق في عنقه، ح 4982-4983، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في تعليق يد السارق، ح 1447، ابن ماجه: الحدود، باب تعليق اليد في العنق، ح 2587، التلخيص: 4/129 ح 2090) .
(2) في الأصل: " نعد ". والمثبت من بسيط الغزالي.
(3) الحارث بن سريج النقال (بالنون والقاف) ، أبو عمرو البغدادي، الخوارزمي، روى عن الشافعي، وسمّي بالنقال لأنه نقل (رسالة الشافعي) إلى عبد الرحمن بن مهدي. توفي سنة 236 هـ. هذا. ولم نجد في كتب الطبقات من أشار إلى الاختلاف في لقبه بين النقال، والبقال، مما يجعلنا نتوقف في الأمر ونظن ظناً أن الترديد بين الإمامين: النقال، والقفال، وليس بين اللقبين، وكان المعنى: وقيل عن القفال. فالرافعي ذكر هذه المسألة بعينها=(17/265)
في اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين، وإن قال: دهشت فحسبت أن الذي قطعته اليمين، وجبت الدية بسبب قطع اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين: فحصل قولان: أحدهما - أن قطع السرقة لا يسقط، كما لا يسقط القصاص لو وجب في اليمين بالعدول في اليسرى. والثاني - يسقط الحد، وهو ظاهر النص في الأم.
وقد استقصيت مسألة الدهشة في القصاص [والحد] (1) في كتاب الجراح، وأتينا بها على الاستقصاء، وأوضحنا أن اختلاف القول فيه إذا جرى القطع على الدهشة، ثم فصّلنا الدهشة.
فأما إذا جرى قطع اليسار عمداً على علم، فالحد باقٍ، والقصاص واجب.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال مفرِّعاً على أن القطع لو صادف اليسرى غلطاً، لسقط الحد: لو سقطت اليسرى قبل اليمين بأَكِلَةٍ (2) ، لم يمتنع أن يكون سقوطها بالآفة بمثابة غلط الجلاد إليها بالقطع، وهذا سخيف لا اعتداد به، وقد زيفه العراقيون فيما نقلوه.
فصل
قال: " ولا يقطع الحربي إذا دخل إلينا بأمان ... إلى آخره " (3) .
11133- العقوبات ضربان: حق الله تعالى، وحق الآدمي، كحد القذف،
__________
=مرتين، مرة في الكلام على استيفاء القصاص ونقل الحكم بعدم الاكتفاء بقطع اليسار منسوباً إلى القفال ثم أعادها في آخر حدّ السرقة وذكر الحكم عينه وقال: إنه يروى عن الحارث بن سريج النقال (وهو في مطبوعة الشرح الكبير: ابن سريج القفال، خطأً) وقد أشار الإسنوي في ترجمته للنقال إلى هذا الاحتمال في كلام الرافعي. (ر. طبقات العبادي: 19، طبقات الشيرازي: 83، طبقات السبكي: 2/112، طبقات ابن كثير: 1/126، طبقات الإسنوي: 1/23، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/60، طبقات ابن الملقن: 219، الشرح الكبير للرافعي: 10/287، 11/246) .
(1) في الأصل: " والحيد ".
(2) الأَكِلة: بفتح ثم كسر، داءٌ في العضو يأتكل منه (القاموس) .
(3) ر. المختصر: 5/171.(17/266)
والقصاص، فإذا صار سببهما من الذمي والمعاهد، وجبا عليهما وفاقاً.
فأما العقوبات التي هي حدود الله تعالى، فهي أقسام: منها حد الشرب، وقد قال المحققون: لا يجب على الذمي حد الشرب، لأنه يعتقد حِل الخمر، وقد ذكرنا خلافاً بعيداً في ذلك.
وقد ذكرنا نصَّ الشافعي على أن الحنفي إذا شرب النبيذ حُدّ، وذكرنا تخريجاً في هذا، والذي نزيده أن من أصحابنا من قال: إنما أحد الحنفيّ إذا شرب وسكر؛ فإن ما يُعقب السكرَ حرام وفاقاً، فيعود الخلاف إلى نفي الحد ووجوبه، والخلاف في الحد لا يمنع الإمام من الجريان على موجَب عقده في استيفاء الحد، وهذا فيه تأمّل؛ فإنا إن لم نجر على نص الشافعي أن الحنفي يحد إذا شرب وإن لم يُسكر، فالحكم بتحريم المقدار المسكر على رأي أبي حنيفة عسر، وللاحتمال على الجملة مجال، والمعتمد النص. هذا قولنا في حد الشرب.
11134- فأما قطع السرقة، فإنه يجب على الذمي، فإن سرق من مال المسلم، قطعه الإمام، ولا يتوقف الأمر على رضاه بحكمنا؛ فإن الذمي مزجور عن التعرض لمال المسلم بالحد، فلو توقف الحد على رضاه، لبطل هذا المعنى، وإذا سرق الذمي من الذمي، فذاك مما يتوقف إقامة الحد فيه على ترافعهما، ثم يجري القولان في أنا هل نحكم على الممتنع إذا ارتفع إلينا الخصم المطالِب في المال؟ (1) .
وكذلك لو زنى الذمي بمسلمة، فالوجه عندنا القطعُ بإقامة الحد عليه؛ لما حققناه في السرقة، فأما إذا زنى بكافرة، فيقع ذلك في تفصيل حكمنا عليهم قهراً واختياراً.
ثم كما يجب على الذمي القطع بسرقة مال المسلم يجب على المسلم القطع بسرقة
__________
(1) كذا. والمعنى على أية حال: إذا ارتفع إلينا الخصم المطالب في السرقة.
وقد نقل الرافعي هذه العبارة عن الإمام قائلاً: " وأشار الإمام إلى القطع فيما إذا سرق مال مسلم، بأنه يقطع، ولا يتوقف الأمر على رضاه، وذكر أنه إذا سرق مال ذمي، فإنما يقطع إذا ترافعوا إلينا، ويجري القولان في إجبار الممتنع إذا جاءنا الخصم " (ر. الشرح الكبير: 11/225) .(17/267)
مال الذمي، فالعصمة [لماله] (1) والحد لله تعالى، وليس مبنياً على معنى المكافأة بخلاف القصاص.
وفي كلام أصحابنا ما يدل على أنا لا نفصل بين زنا الذمي بمسلمة أو ذمية في رد الأمر إلى القولين في قهرهم إلى أحكامنا، ويؤول الكلام إلى أن عهده هل ينتقض؟ وهذا غلط لا يعتقده خبير بسر المذهب؛ فإنا إذا لم نر إقامة الحد قهراً -وليس في حق الله تعالى خصمٌ مطالِب إلا الإمام- لجرّ ذلك فضيحةً عظيمة، والحكم بانتقاض عهده لا نراه شيئاً مع أنه يطلب الذمة فنجددها له، ولا وجه إلا ما قدمناه.
وهذا كلام في الذمي المؤبد العهد.
11135- فأما المعاهَد إذا سرق، فقد تعارضت النصوص فيه، والحاصل مما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن الحد لا يجب عليه؛ فإنه بالعهد المؤقت لم يلتزم الاستسلام لأحكام الإسلام، وحدود الله تعالى، وإنما تقام (2) على ملتزم. والقول الثاني - أنه يقطع كالذمي؛ فإنه حال السرقة في عهد، وموجَب العهد العصمة، ومن الوفاء بها التزامُ الزواجر عند ركوب موجِباتها. وذكر أصحابنا قولاً ثالثاً - أنه إن شرط عليه القطع لو سرق، لزمه، وإن لم يشرط عليه القطع لو سرق، لم يلزمه.
ولو سرق المسلم مال المعاهد، فالتفصيل فيه كالتفصيل في المعاهد إذا سرق مال المسلم؛ إذ يبعد أن يُقطع المسلم في مال المعاهد، ولا يقطع المعاهد في مال المسلم.
ولو زنى المعاهد بمسلمة، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجراه مجرى السرقة، ومنهم من رأى القطعَ بأن حدّ الزنى لا يتوجه عليه؛ لأنه محض حق الله تعالى، ولا يتعلق بطلب الآدمي وخصومته.
ولا خلاف أن ما أخذه المعاهد أو أتلفه من المال، فهو مطالب بالأحكام المالية، وإنما التردد الذي ذكرناه في العقوبة التي تجب لله تعالى.
__________
(1) في الأصل: " ماله ".
(2) في الأصل: " تقدم ".(17/268)
فصل
11136- العين الواحدة إذا تكررت السرقة فيها، فيتكرر القطع عندنا سواء سرقها من مالكين أو مالك واحد، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك، وكل سرقة عندنا جريمة على حيالها، ثم لا يشك الفقيه أن ما ذكرناه في تخلل الحدّ بين السرقتين؛ فإنه لو سرق مراراً، ولم يتفق استيفاء الحد منه، فإنا لا نقيم عليه إلا حداً واحداً، فنقطع يمناه، وتكرر السرقات من غير تخلل قطع بمثابة سرقة نُصب بدفعة.
***
__________
(1) ر. الهداية: 2/413، المبسوط: 9/165.(17/269)
باب (1) الإقرار بالسرقة والشهادة عليها
قال الشافعي رحمه الله: "لا يثبت على سارق حد إلا بأن يثبت على إقراره ... إلى آخره" (2) .
11137- لا شك أن وجوب القطع واستيفاءه يترتب على ثبوت السرقة الموجبة له، والسرقة تثبت بالإقرار، أو البيّنة، ثم الإقرار ينقسم قسمين: إقرارٌ قبل الدعوى، وإقرار بعدها، وكذلك البيّنة تنقسم على هذا الوجه، وسنستوفي الأقسام، ونأتي في كل قسم بما يليق به.
ونقول أولاً: إذا ادعى مالك مالٍ السرقةَ على إنسان، فلا يخلو، إما أن يكون له بينه أو لا يكون له بيّنة؛ فإن لم يكن له بينة، فلا يخلو إما أن ينكر المدعَى عليه أو يقر، فإن أنكر، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف المدعي، واستحق دعواه، وغرّمه المال؛ لأن النكول مع ردّ اليمين كالبيّنة، أو كالإقرار، ولا شك في ثبوت الدعوى بهما جميعاً، ثم كما يثبت المال، يثبت القطع حقاً لله تعالى، هكذا ذكره الأصحاب؛ فإن يمين الرد إن جعلناها كالإقرار، فالقطع يثبت به، وإن جعلناها كالبينة، فهي كبينة كاملة، والدليل عليه أن القصاص يثبت بها، والقصاص لا يثبت إلا ببينة.
وقد يخطر للناظر في هذا أدنى إشكال؛ من حيث إن الدعوى لا تتعلق إلا بالمال، والقطع لله تعالى، [وإجراء حدود الله تعالى] (3) بالأيمان فيه إشكال.
ولو قال رجل: استكره فلانٌ جاريتي وزنى بها، فأنكر المدعى عليه، وأفضت
__________
(1) من هنا بدأ ظهور بعض السطور والفقرات في نسخة (ت 4) ولم ينته أثر البلل والمحو بعدُ.
(2) ر. المختصر: 5/171.
(3) زيادة من (ت 4) .(17/270)
الخصومة إلى يمين الرد، فالمهر يثبت بها، ويبعد أن يثبت حد الزنا.
فإذاً يجب ترديد الرأي في ثبوت حد السرقة؛ لما أشرنا إليه، ويجب القطع [بأن] (1) حد الزنا لا يجب (2) ؛ من جهة أنه يثبت حقاً لله تعالى، وسنذكر بعد هذا مسائلَ تشير إلى التسوية بين حد السرقة والزنا، حتى صار كثير من الأصحاب إلى إجراء الخلاف فيهما بطريق النقل من أحدهما إلى الثاني. هذا فيه إذا أنكر.
11138- وإن أقرّ، ثبت الغرمُ والقطعُ بإقراره، وإن أصر على الإقرار؛ فلا كلام، وإن رجع عن الإقرار، فللأصحاب طريقان: قال قائلون: إذا رجع، لم نقبل رجوعَه في المال، والغرم قائم عليه، وفي قبول رجوعه في القطع قولان: أحدهما - يقبل، وهو قياس العقوبات حقوقِ الله تعالى، ولا خلاف أن حد الزنا (3 إذا ثبت بالإقرار، سقط بالرجوع، والقول الثاني - أن القطع لا يسقط، لأنه قرين الغرم، فإذا لم يؤثِّر رجوعه 3) في المال، وجب ألا يؤثِّر في القطع.
وهذا قد يشير إلى فقهٍ لائق بالباب، وهو أن قطع السرقة يرتبط بحق الآدمي من وجهٍ؛ لأنه أثبت عصمةً لماله، ولهذا يتعلق بمخاصمة المالك في المال، وللغلوّ في هذا المعنى صار أبو حنيفة إلى أنه لا يجمع بين القطع، وتغريم السارق. هذا مسلك لبعض الأصحاب سديد، وهو طريقة القاضي.
وذهب طوائف من الأئمة إلى عكس هذا، وقالوا: إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، ثم رجع عن إقراره، فرجوعه عن الإقرار مقبولٌ في القطع ساقطٌ قولاً واحداً، وهل يسقط الإقرار بالمال؟ فعلى قولين، فهؤلاء قطعوا بسقوط القطع، ورددوا القول في إتباع المال القطعَ وشبهوا ذلك بإقرار العبد بالسرقة، فإن إقراره في وجوب القطع مقبول، وفي المال قولان.
والطريقة الأولى أفقه؛ فإن قبول الرجوع عن الإقرار بالمال بعيد عن القولين،
__________
(1) في الأصل: " على أن ". والمثبت من (ت 4) .
(2) ت 4: يثبت.
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .(17/271)
والذي يوضح ذلك أن ضمان السارق المالَ يسبق استيجابه القطعَ؛ فإنه إذا أثبت يده على مال الغير، ضمنه بالعدوان، ثم يستوجب القطع بالإخراج من الحرز.
والطريقة المُثلى المصير إلى أن القطع يسقط، والغرم يبقى، وقد ذهب إلى القطع بسقوط القطع وبقاء الغرم طوائف من المحققين، منهم الصيدلاني وغيره، وليس هذا كإقرار العبد؛ فإن سبب قبول إقراره انتفاء التهمة، ولولا ذلك، لما قبلنا إقراره في القطع، وفيه إتلاف طرف مملوك للسيد، ولو أقر الرجل بأنه استكره جارية على الزنا، وثبت عليه الحد والمهر بإقراره، فلو رجع عن الإقرار، لم يسقط المهر، وفي سقوط حد الزنا جوابان للقاضي. قال: يحتمل أن يكون كحد السرقة، ويحتمل أن يقال: يسقط الحد قولاً واحداً؛ لأن وجوب الحد ينفك عن المهر، ووجوب القطع لا ينفك عن مطالبةٍ بردّ عينٍ أو غرم، فارتباط القطع بالمال أشد من ارتباط الحد بالمهر.
ومن سلك الطريقة الثانية في حد السرقة وقال: إذا رجع عن الإقرار، سقط الحد، وفي الغرم خلاف قد يلتزم مثل هذا فيه إذا أقر بالاستكراه على الزنا ثم رجع عن الإقرار، فيقول: الحد يسقط، وفي سقوط المهر تردد.
وكل ذلك خبط، والوجه القطع ببقاء المال، وسقوط الحد.
11139- ثم قال الأصحاب: إذا رأينا سقوط القطع بالرجوع عن الإقرار، فقطع الجلاد بعض اليد، فرجع، فعلى الجلاد أن يكف، فلو قال الراجع: اقطع البقية وأرحني، فإن كان الباقي على حياة، فلا يحل قطعه، وإن بقيت جلدة نعلم أنها لا تستقل، وستسقط، فيجوز قطعها.
وليس هذا من أحكام الحد، بل كل من قطع يده ظلماً أو حداً، أو انقطع بعض يده لمصادمة آلةٍ، فإن كان في الباقي حياة، فلا سبيل إلى قطعه، وإن كان كالجلدة التي وصفناها، فالخِيرةُ إلى صاحب اليد: فإن أراد قطعها، [فلمن يأمره بقطعها أن يقطعها] (1) ، وإن أراد تركها، تركها، وقد استقصيت حكم ذلك في الجراح، [في
__________
(1) عبارة الأصل: " فلم يأمره بقطعها، وإن أراد تركها ... " والمثبت من (ت 4) .(17/272)
الطهارة] (1) والنجاسة، وأحكام الصلاة، ووجوبُ القصاص على من ينهي القطع من يد المجني عليه إلى هذه الغاية، فلا معنى للإعادة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت (2) الخصومة على إنكار المدعى عليه، أو إقراره.
وقد انتجز الكلام في إقراره مترتباً على دعوى المدعي.
11140- فلو أقر بالسرقة قَبْل بدعوى المسروق منه، فإقراره ثابت، ولكن هل نقطع يده في غيبة المسروق منه، أو نصبر إلى أن يحضر؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقطع يده، ولا نبالي، كما لو أقر أنه زنى بفلانة، أو زنى بجارية فلان، فحد الزنا يقام عليه بحكم إقراره في غيبة هؤلاء، وكذلك حد السرقة.
والوجه الثاني - أنه لا يقطع في غيبة المسروق منه، [والفرق] (3) أن المقَرَّ له بالسرقة من ماله لو حضر وقال: ما سرقه ملكُه، وليس ملكي، أو قال: كنت أبحتُ له أخْذ ما أخذه، فالقطع يسقط، وإن أنكر السارق ذلك. فإذا كنا نتوقع هذا، فلا معنى لابتدار القطع قبل حضور مالك المال، وليس كالزنا؛ فإن مالك الجارية لو قال: كنت أبحت الجارية للواطىء، فلا حكم لذلك، فلا معنى لانتظاره.
وقد نُنشىء من هذا المنتهى أن مالك الجارية لو قال: كنت بعته الجارية أو وهبته إياها، وقبضها، فيجب أن يقال: لا يسقط حد الزنا بذلك، مع إصراره على الإقرار بالزنا، وتكذيبِ مالك الجارية. وأبو حنيفة (4) يسقط الحد بمثل هذا.
ولو قال الرجل: زنيت بفلانة وذكر حرّة فقالت: كنت منكوحته، لم يسقط الحد بقولها مع تكذيبه إياها، وإصرارِه على الإقرار بالزنا. وفي هذا المقام يظهر انفصال حد الزنا عن حد السرقة.
11141- فإن قلنا: لا يقطع السارق في غيبة المسروق منه، فهل يحبس السارق
__________
(1) في الأصل: " والطهارة ".
(2) ت 4: " دارت ".
(3) في الأصل: " والوجه ".
(4) ر. المبسوط: 9/87.(17/273)
المقر؟ نُظر: فإن كانت الغيبة قريبة، حُبس، وإن كانت بعيدة، فقد قال الأصحاب: إن كانت العين التي أقر بسرقتها تالفة، حبس، وإن كانت قائمة فوجهان: أحدهما - يحبس، كما لو كانت تالفة. والثاني - لا يحبس، بل ينتزع الحاكم العينَ من يده، ويحفظها للمقَر له.
ومن تمام البيان في هذا أن العين لو كانت تالفة، فقال المقِر بالسرقة: أنا أبذل قيمتها، فخذها وخلِّ سبيلي، فهذا يخرج على الخلاف المذكور في بقاء العين.
ووراء ما ذكرناه سر، وهو أن من أقر لرجل بمال في غيبته، فالسلطان لا يحبسه؛ فإن الحبس موقوف على استدعاء مستحِق الحق، فهذا الحبس يستحيل أن يكون لأجل المال، فيجب رد النظر إلى القطع. فإن قلنا: القطع يسقط بالرجوع عن الإقرار؛ فلا معنى للحبس. وإن قلنا: لا يسقط القطع بالرجوع، فيجوز أن يقال: يحبس؛ فإنه لو خُلّي، لأوشك أن يفلت ويفوت الحق، فليكن الخلاف مأخوذاً من هذا المأخذ. ثم لا يختلف الأمر في هذا الترتيب بين أن يكون المقَرُّ به عيناً، أو ديناً.
وقد نجز مقدار غرضنا في الإقرار بالسرقة.
11142- فأما إذا كان على السرقة بيّنة أقامها مدعي السرقة، فلا يخلو: إما أن تكون كاملة أو تكون ناقصة، فإن كانت كاملة، وذلك بأن يشهد رجلان عدلان، فالقطع يثبت، والغرم يثبت. ولو قال المدعى عليه: كان المسروق ملكي غصبنيه، فهل يسقط الحد عن السارق؟ هذا فيه اختلاف قدمته، ونص الشافعي رضي الله عنه على سقوط القطع بمجرد الدعوى.
وفي هذا فضل نظر؛ فإن ما ذكرناه من سقوط القطع على النص بالدعوى فيه إذا لم تكن بيّنة، فإذا قامت بينة كاملة يثبت بمثلها العقوبات، فيبعد المصير إلى إسقاط القطع إذا كانت الحالة هكذا.
[والذي] (1) تحصل لنا من قول الأصحاب تفصيلٌ نطرده على وجهه، فنقول: إن
__________
(1) في الأصل: " فالذي ".(17/274)
ثبتت السرقة من حرز هو بما فيه تحت يد إنسان، فحكم الظاهر أن المسروق مردود على صاحب اليد، فلو فرض من السارق دعوى الملك، فهذا موضع النص، وسقوط القطع متضح فيه؛ فإنه لم يثبت إلا صورة السرقة والأخذ عن يد المسروق منه، ويجري في هذه الصورة القول المُخَرَّج.
ْوجه جريان النص: سقوطُ القطع، ثم يبقى الخصام في الملك، فإن ادعى المسروق منه أنه ملكه، ففو مردود في يده أولاً، والقول قوله مع يمينه، فإن حلف، ثبت له الملك، وانتفى القطع، وإن نكل، لم يخف جريان الخصومة على قياسها.
ووجه جريان التخريج: أنا نقول: القول قول المسروق منه مع يمينه، فإن حلف ثبت الملك، وثبت القطع، فيرجع الخلاف إلى أن القطع هل يثبت بيمين المدعى عليه ثبوته بالبينة القائمة على الملك، وسر المذهب في هذه الصورة أنا على التخريج لا نحكم بثبوت القطع ما لم نفرض يمين المدعى عليه ودعواه الملك، وعلى النص نفس الدعوى في الصورة التي ذكرناها يتضمن انتفاءَ القطع. هذا بيان ذلك.
11143- صورة أخرى: إذا ادعى رجل على رجل سرقةَ متاعٍ من ملكه وحرزه، ووصف ما تفتقر السرقة إليه في اقتضاء القطع، وأقام شاهدين عدلين على أنه سرق من ملكه هذا المتاع، فلو قال السارق: كان أباح لي أخذه، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريجَ لانتظام الدعوى، ولا مضادة بينها وبين قضية البينة، فيجري في ذلك النصُّ في سقوط القطع، والتخريجُ في بقائه إذا حلف المدعى عليه، كما سنصف ذلك، إن شاء الله تعالى.
ولو قال المدعي: كنت اشتريته منه، فمنعنيه، فسرقته، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريج؛ فإن البينة لو تعرضت لنفي الشراء، لكانت شاهدة على النفي، ولو فرض دعوى على غير هذا الوجه في غير صورة السرقة- لسمعت على معارضة البينة المطلقة على الملك، ولقيل للمدعى عليه: احلف، فإذا جرى الدعوى وأمكن تقديرها مع البينة جرى النص والتخريج.
ولو قال السارق: لم يزل هذا المسروق ملكي، وإنما غصبنيه المسروق منه، فهذا إنكار منه لأصل الملك، والبينة قائمة على إثبات الملك، فتناقض الدعوى(17/275)
يقتضي البينة، وفيه سر، وهو أن دعوى الملك لا تستند إلى يقين، كما أن البينة لا تستند إليه، وهذا فيه احتمال ظاهر، وفي كلام الأصحاب ما يدل على التردد فيه، فإن جرينا على التخريج، فلا خفاء، وإن جرينا على النص، فيجوز أن يقال: لا يسقط القطع في هذه الصورة؛ لأن الدعوى تبطل بالبينة في وضع الخصومات، وليست البينة كاليمين يفرض من المسروق منه.
ويجوز أن يقال: يسقط القطع، لإمكان الصدق وانتصاب السارق خصماً، وإن كان مقضياً عليه، فلا فرق بين أن يقضى عليه بالبيّنة وبين أن يقضى عليه باليمين. وإذا قضينا بسقوط القطع والملك مقضي به، فهل يحلف مقيم البينة؟ فيه كلام سيأتي الشرح عليه في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى. وليس من غرض هذا الفصل، لأن القطع ساقط كيف فرض الأمر، وهذا مقصود الباب.
11144- ولو قال السارق كان أباح لي أخذ ما أخذته، والتفريع على النص، فلا يحلف المغصوب منه بلا خلاف؛ لأنه [لا] (1) غرض له في نفي الإباحة باليمين؛ إذ لا يرتبط بها غرض مالي والقطع ساقط كيف فرض.
وذلك الذي أبهمنا الكلام فيه لا بد من رمز إليه الآن تفصيلاً، ثم يأتي شرحه في موضعه إيضاحاً وتقريراً: فإذا ادعى رجل على رجل عين مالٍ وأقام على ملكه وتحقيق دعواه بينة، فقال المدعى عليه: أسند الشهود شهاداتهم بظاهر (2) الحال، ولهم ذلك، ولكن المدعي يعلم سراً أنه كاذب، فحلِّفوه، ففي التحليف على هذا الترتيب خلاف سيأتي مشروحاًْ، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز الغرض، وكل ما ذكرناه إذا قامت البينة مترتبة على الدعوى، بأن يدعي على رجل وفي يده ثوب أنه سرقه بعينه من ملكه، وقد تفصّل المذهب في هذا الطرف.
11145- فأما إذا قامت بينة على أن فلاناً سرق هذا المتاع من ملك فلان،
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) ت 4: " إلى ظاهر الحال ".(17/276)
والمشهود له غائب، فقد نص الشافعي على أنه لا يقطع في الحال، ونص على أنه لو شهد شاهدان على واحد بأنه زنى بجارية فلان (1 أنه يجب الحد 1) ، فاختلف أصحابنا في المسألتين: فمنهم من نقل وخرّج، وأجرى قولين في المسألتين؛ من حيث إن السبب ارتبط فيهما بملك لم يدّعه من نسبت البينةُ الملكَ (2) إليه، ويجوز فرض الجارية ملكاً للواطىء، كما يجوز فرض المسروق ملكاً للسارق.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرق بأن المسروق منه [ربما يقول لو حضر: كُنت أبحت له ذلك] (3) (4 ولو قرر هذا، لسقط الحد 4) ، ولو قرر مثل ذلك في الجارية، ووطْئها، لم يسقط الحدُّ، فانتظار حضور الغائب في السرقة لتوقع شبهة دارئة لا يتأتى مثلها في الجارية ووطئها.
ومما ينتظم وراء ما ذكرناه أن من وطىء جارية، ثم زعم أنها ملكُه، أو وطىء حرة، ثم زعم أنها زوجته، فقد ذكرنا أن مضمون النص في ذلك سقوط القطع في السرقة، وهذا في حد الزنا متردد: ظاهر المذهب والنص أن الدعوى العرية لا تُسقط حد الزنا بخلاف السرقة، فإن القطع في السرقة يكاد يتبع حقَّ الآدمي، فترتبط الدعوى به، بخلاف حد الزنا، ولذلك لا يسقط حد الزنا بالإباحة، وينشأ هذا الاختلاف من تردد الأصحاب في النصين المذكورين في البيّنة المقامة وصاحب الملك غائب.
ثم إذا جرينا على النص، وقلنا: لا يقطع السارق ما لم يحضر المسروق منه، فقد قال الأصحاب: يحبس السارق إلى أن يحضر المسروق منه، وهذا مشكل؛ فإن البينة قامت على مالٍ قَبْل دعواه، وحق البينة إذا قامت قبل الدعوى أن ترد في حقوق الآدميين، وهذا الآن يوضحه ترتيب فنقول: ما تمحض حقاً لله تعالى، فشهادة الحسبة فيه مقبولة، وما تمحض حقاً للآدمي، فالمذهب أن شهادة الحسبة فيه مردودة، وفيه قول حكيناه وأجريناه في باب الشهادة على الجناية، ووعدنا استقصاءه
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .
(2) ت 4: " بينةُ الملكِ ".
(3) عبارة الأصل: " إنما يعول: لو حضرت، أبحت له ذلك " والمثبت من (ت 4) .
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .(17/277)
في البينات، [والقطعُ] (1) المتعلق بالسرقة متردِّدٌ؛ من جهة أنه يتعلق بحق الله تعالى، ويتعلق بحق الآدمي، والقطع مشروع [لصون] (2) حق الآدمي، وقد ظهر لنا تردد الأصحاب في هذا، فقال قائلون: البينة مردودة، فلا يحبس السارق إذاً. وقال آخرون: البينة مسموعة لارتباطها بحق الله تعالى وإحياء حده.
التفريع:
11146- إن قلنا: ترد، فمعنى ردّها أنا لا نُصغي إليها، ولا يترتب عليها حبس. وإن قلنا: هي مسموعة، فالمشهود عليه محبوس؛ لمكان الحد، وسبب الامتناع عن الإقامة توقعُ شبهةٍ تدفع [الحدَّ] (3) .
فإذا جاء المسروق منه، فادعى، فهل نشترط إعادة البيّنة في المال وثبوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا بد من إعادتها، والتفريع على أن شهادة الحسبة لا تثبت في الأموال. وهذا وجهُ هذا الوجه.
والوجه الثاني - لا حاجة إلى إعادة البينة لتعلقها بحق الله تعالى، وكأن (4) حق الله تعالى أغنى ثبوتَ المال عن دعوى، وقد مهدنا [للإتباع] (5) أمثالاً: منها - أنه لو أقر بالسرقة، ثم رجع، ففي قبول رجوعه في المال تبعاً للقطع، أو في القطع تبعاً للمال خلاف قدمنا ذكره.
وتمام البيان في هذا عندنا أنا إن قلنا: البينة لا تعاد، فيكفي أن يحضر ويدعي، وتقطع يده، وإن قلنا: تعاد البينة لإثبات الملك، فظاهر كلام المشايخ أن القطع لا يتوقف على عَوْد البينة، وهذا فيه احتمال بيّن: يجوز أن يقال: نتوقف في القطع إلى إعادة البينة.
__________
(1) في الأصل: " فالقطع ".
(2) في الأصل: " مصون ". والمثبت من (ت 4) .
(3) زيادة من المحقق سقطت من النسختين.
(4) ت 4: " فكأن ".
(5) زيادة من (ت 4) .
ثم المعنى: أن هذا الوجه القائل بعدم إعادة البينة للمال، لأنها تتعلق أيضاً بالقطع، وهو حق لله تعالى، وإذا كانت البينة لحق الله حسبةً، فهي مقبولة، فهنا أُتبع المالُ حقَّ الله، وثبت بشهادة الحسبة، ثم قال: وقد ذكرنا أمثالاً للإتباع ... إلخ.(17/278)
وكل هذا والسارق لا يدّعي الملك لنفسه، فإن ادعى الملك لنفسه، انعكس التفصيل إلى ما تقدم.
11147- ووراء ذلك كلام هو الختام، وهو أنا إن لم نُسقط القطعَ بدعوى السارق، لم نسائله، وإن كنا نسُقط القطعَ بدعواه، فلو قال: لا ملك لي فيما سرقت، قطعناه، وإن ادعى الملك، فقد بيناه، وإن سكت، فهل يستفصله القاضي تذرعاً إلى السقوط، أم كيف السبيل؟ هذا فيه تردد ظاهر مأخوذ من مسألة: وهو أن من أقر بموجب حدٍّ، فهل يشبب القاضي بالرجوع عن الإقرار؟ فيه تردد، فما ذهب إليه الجمهور أنه لا يفعل ذلك.
ومن أصحابنا من قال: للقاضي أن يتعرض لهذا. ومنهم من قال: إن كان المقر ممن يعلم أن الرجوع عن الإقرار يُسقط الحد، لم يشبب، وإن كان ممن يجهل ذلك، فلا بأس، ثم حيث يشبب لا يحثه على الرجوع، بل يُجري مسألة الرجوع والحكمَ فيها، وإن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع بتهمة السرقة إليه: " ما إخالك سرقت، أسرقت؟ قل: لا " فقوله له: " قُل: لا " يشهد للتشبيب بالرجوع؛ إذ لا فرق بين الحث على ترك الإقرار، وبين إجراء ذكر الرجوع.
وسمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ، وهو " قل لا " فيبقى اللفظ المتفق على صحته، وهو قوله: " ما إخالك سرقت " (1) فهذا تعريض بالانكفاف عن
__________
(1) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع بتهمة السرقة: ما إخالك سرقت؟ أسرقت؟ قل: لا " نقل الحافظ في التلخيص حكم الإمام على لفظ " قل لا " وأيده في ذلك حيث قال: ولم أره عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد هذا اللفظ " قل لا " موقوفاً على أبي الدرداء: " أنه أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقتِ؟ قولي: لا " رواه البيهقي (8/276) وكذا ورد عن أبي هريرة " أنه أتي بسارق فقال: أسرقت؟ قل: لا.. " رواه ابن أبي شيبة (8625) وكذا في مصنف عبد الرزاق " أُتي عمر بن الخطاب برجل فسأله أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه " (10/224 رقم 18919، 18920) . (ر. التلخيص: 4/125، 126 ح 2083) . وأما حديث " ما إخالك سرقت " بدون " قل لا " فقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي أمية المخزومي، ورواه أبو داود في المراسيل من حديث عبد الرحمن بن ثوبان، ورواه الدارقطني والحاكم والبيهقي موصولاً من حديث=(17/279)
الإقرار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله تعالى " (1) (2 حديث متفق على صحته ولا بد من الكلام على مضمون هذه الأحاديث وإجراء المذهبين بحبسهما، فأما قوله فليستتر 2) فهذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حدٍّ، أن يظهره للإمام، وقد يستدل بذلك من يرى التوبة مسقطة للحد، وكان شيخي يقطع بأنه لا يجب إظهار موجب الحد للإمام.
وهذا فيه احتمال عندنا [إذا] (3) قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة، (4 ولكن ما ذكره مستند إلى الحديث الصحيح، إذ قال صلى الله عليه وسلم: " فليستتر " ثم يقتضي طريقه أن التوبة 4) تُسقط تبعةَ الآخرة من العبد وبين الله عز وجل، فإن الحد لله تعالى، والتوبة تحط العقوبة الفستحقة بالذنب، فإذا ظهر استحقاق الحق عند الإمام، فردُّ التوبة على القول الأصح يرجع إلى عدم الثقة بها، أو إلى منع اتخاذ الفَجَرة إظهارَ التوبة ذريعةً تدرأ الفاحشة. هذا في قوله: " فليستتر بستر الله تعالى " وذلك قبل الارتفاع إلى مجلسه.
فأما إذا فرض الارتفاع إلى مجلس الإمام، فقد ظهر خلاف لأصحابنا في جواز التشبيب بالمنع عن الإقرار، ولعل الأصح الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما إخالك سرقت " وإذا فرض الإقرار، ففي التشبيب بالرجوع ما ذكرناه من التردد.
__________
=أبي هريرة. (أبو داود: الحدود، باب في التلقين في الحد، ح 4380، النسائي: قطع السارق باب تلقين السارق، ح 4877، ابن ماجه: الحدود باب تلقين السارق، ح 2597، المراسيل لأبي داود، ح 244، الدارقطني: 3/12، الحاكم: 4/381، البيهقي: 8/271، 275-276، التلخيص: 4/124 ح 2080) هذا. وقد فسّر الحافظ قول الإمام إن الحديث متفق على صحته، بأنه ليس المقصود الاصطلاح المعروف عند المحدثين.
(1) حديث " من أتى من هذه القاذورات شيئاً ... " سبق تخريجه.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .
(3) في الأصل: " وإذا ".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .(17/280)
وكل ما ذكرناه في البينة الكاملة وهي إذا شهد عدلان، ثم انشعب الكلام.
11148- وأما البينة الناقصة وهي إن شهد رجل وامرأتان على السرقة، ومِلْكِ المسروق، فالقطع لا يثبت وفاقاً، والأصح ثبوت المال، وأبعد بعض أصحابنا، فلم يُثبته إذا تضمنت الدعوى سرقةً، فلو ثبت، لأوجبت القطع، والشاهد واليمين كالشاهد والمرأتين.
ثم قال الأئمة: الشهادة على السرقة التي تقتضي القطعَ لا بد وأن تكون مفصّلة ناصّة على كل ما يُرعى في ثبوت القطع، والسبب فيه أن السرقة منقسمة: فمنها ما يوجب القطع، ومنها ما لا يوجبه، فإذا كانت السرقة مع تحققها، [منقسمة] (1) فلا بدّ من التفصيل، وليس كذلك الشهادة على البيع، فإنا في المسلك الأصح لا نشترط ذكر أسباب الصحة، كما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى؛ فإن الذي لا يصحُّ ليس [بيعاً شرعاً] (2) والذي لا يوجب القطع سرقة، ولو أقر السارق بالسرقة، لم يثبت القطع بإقراره المطلق، وسنذكر أن شهادة الزنا لا بد فيها من التفصيل، كما لا بد في تحملها من الاطلاع على الحقيقة.
واختلف الأصحاب في أن الإقرار بالزنا هل يشترط فيه التفصيل، ولا خلاف أن النسبة إلى الزنا المطلق قذفٌ صريح، [وأما شرط] (3) التفصيل في البينة، فلغرض الشرع في ستر الزنا، وأما الإقرار بالزنا، فسبب التردد فيه أنه لا يطلق اللفظَ الصريحَ من يقرّ على نفسه إلا (4) بثَبَت، والإقرار بالسرقة المطلقة لا خلاف في أنه لا يوجب القطع، فإن من (5) السرقة ما لا يقطع فيها.
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) في الأصل: " ليس شرعاً بيعاً "، و (ت 4) : ليس بيعاً، والمثبت تصرف من المحقق.
(3) في الأصل: وإنما نشترط.
(4) في الأصل: " إلا بنسب " كذا ضبطاً ورسماً، وفي (ت 4) : " على نفسه لا يثبت ". ولم يفد البسيط ولا الشرح الكبير في هذا.
(5) عبارة (ت 4) : فإن السرقة تتحقق ولا قطع فيها.(17/281)
فصل
قال: " وفي إقرار العبد بالسرقة شيئان ... إلى آخره " (1) .
11149- أقارير العبيد بديون المعاملات سبقت مستقصاة في أواخر البيع، فأما إذا أقر بإتلاف مالٍ أو أرش جناية مُتعَلَّقه (2) الرقبة، ولا يجب بسببها عقوبة، فإن صدقه السيد، تعلق برقبته، وإن كذبه، لم يتعلق برقبته، والأصح أنه يتعلق بذمته يتبع به إذا عَتَق.
وإن أقر بسرقة عينٍ موجبة للقطع، ثم زعم أنه أتلف ما سرق، أو أشار إلى عينٍ وذكر أنها مسروقة، فإذا كذبه السيد، لم يصدّق، وما في يده بمثابة ما في يد السيد.
وإن أقر بسرقة موجبة للقطع، فإقراره مقبول عند الشافعي في القطع، وقال المزني: لا يقبل إقراره في القطع، وهو مذهب أبي يوسف وزفر (3) ، ومعتمد المذهب انتفاء التهم عن الإقرار، والذي يعضد ذلك ردُّ إقرار السيد بما يوجب القطع (4) ، وإن تناول محل ملكه، فإذا لم نبعد الرد بالتهمة، لم نبعد قبول إقرار العبد. وكنت أود لو كان مذهب المزني قولاً مخرجاً، ولكن لم يشر إليه أحد من الأصحاب.
11150- ثم إذا قبلنا إقراره وأوجبنا القطع، فهل نقبل إقراره في المال؟ فيه قولان: أحدهما - يقبل؛ لأن الإقرار في وضعه لا تهمة فيه. والثاني - لا يقبل، كما سنوضح الغرض في التفريع إن شاء الله تعالى ويظهر ما كنت أودّه من تردد القولين في قبول الإقرار في المال؛ فإن السرقة لا تستقل بنفسها، دون فرض مسروق، وانقطاع القطع عن المسروق بعيد، وما ذكرناه إبداء وجوه الإشكال، والمذهب ما ننقله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/172.
(2) في (ت 4) : " فتعلقه ".
(3) ر. المبسوط: 9/183.
(4) المراد إقرار السيد بما يوجب قطع العبد؛ وإن كان هذا الإقرار يتعلق بمحل ملكه، أي العبد، فإنه ملك السيد، وفي قطعه تفويت ملك السيد بإقراره نفسه.(17/282)
فإذا ثبت القولان، فقد اختلف أصحابنا في محلهما: فمنهم من قال: القولان فيه إذا أقر بسرقة عين وتلفت في يده، ومعنى قبول إقراره على أحد القولين تعلّق قيمتها بالرقبة، وهذا القائل يقول: لو كانت العين القائمة في يد العبد وزعم أنه سرقها، وأنكر السيد ذلك، وقال: العين القائمة في يده ملكي، فإقراره مردود، واحتج هذا المرتِّب بأن قال: العين الموجودة في يد العبد بمثابة الأعيان الثابتة في يد السيد، فإن يد العبد يد السيد، ولو أقر العبد بأن الأعيان التي في يد سيده مسروقة، وأنه سرقها وسلمها إلى السيد، فإقراره مردود، والطرق متفقة على هذا.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا ادعى العبد أنه سرق عيناً وأتلفها، (1 فإقراره مردود في تعلق قيمة العين التي ذكرناها بالرقبة قولاً واحداً، وإنما القولان فيه إذا أشار إلى عين كائنة في يده 1) . وهذا المرتب يستدل، ويقول: العين القائمة معلومة منحصرة، فإضافة الإقرار إليها ذكر متعلَّق الإقرار مشارٍ إليه، ويد العبد في الظاهر ثابتة عليه، وقد أقر بأن هذه يد سرقة، فظهر ارتباط الإقرار بالمقَرّ به. وأما ما ادعى تلفه في يده، فلا نهاية له، ولا ضبط يفرض الوقوف عنده.
وهذه الطريقة ضعيفة؛ لما قدمناه في الطريقة الأولى، من أن يد العبد يدُ المولى، ثم حكينا اتفاق الأصحاب على أنه لو أضاف السرقة المدعاة إلى ما في يد العبد، لم [نقبل] (2) إقراره، وهذا أفقه مما خيله المرتب الثاني.
ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في العين القائمة، والعين التي ادعى العبد إتلافها.
11151- وجمع بعض الأصحاب الطرق كلها وأنشأ (3) منها أقوالاً: أحدها - أن إقرار العبد مقبول فيما ادعى إتلافه، وفيما في يده. والثاني - أن إقراره مردود في الموضعين فيده مقطوعة، والغرم نازل على ذمته. والثالث - أن إقراره مقبول فيما ادعى إتلافه غيرُ مقبول في العين القائمة. والقول الرابع - عكس هذا.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) في الأصل: " لم نبعد ".
(3) كذا قرأناها في الأصل، وفي (ت 4) : يمكن أن تقرأ: " وتبينوا منها أقوالاً ".(17/283)
وأما الأموال الكائنة في يد المولى، فإضافة الإقرار إليها مردودة، فإنا لو قبلناه، لجر هذا أمراً عظيماً، وهو أن يوطّن (1) العبدُ نفسَه على قطع اليد، و [يُفقرَ (2) ] السيدَ من آلافٍ مؤلفة، وسيكون لنا إلى هذا التفات في تفريعٍ نذكره، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: إقراره مقبول في العين القائمة في يده، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك: أحدهما - أن فائدة قبوله أداءُ العين إلى المقر له بالغة ما بلغت؛ لأنه غير متهم.
والثاني - أن فائدة قبول إقراره تعلق قيمة العين برقبته، والعين للسيد، لما ذكرناه من [نكتة] (3) السيد، إذ قلنا: يد العبد يد المولى، وهو ليس إضراراً عظيماً؛ فإن القول الأصح أن العبد يفدى بأقل الأمرين، [فأقصى] (4) ما يقرّ به لا يجاوز قيمته فيكون للكلام موقف يُنتهى إليه، وإذا قلنا: السيد يفدي عبده بالأمر اللازم بالغاً ما بلغ، فيمكنه أن يسلم العبد، والعبد يمكنه أن يفوّت رقبته على مولاه، بأن يقر بجناية توجب إهلاكه.
فإذا لاح هذا [انعطفنا] (5) من هذا المنتهى على أمرٍ تقدم. وقلنا: أطلق الأصحاب القولَ بأن إقرار العبد لا يقبل مضافاً إلى ما في يد السيد، فلو قال قائل: إقرار العبد بالعين يقصر عن قدر قيمته، فلا يبعد أن يقال: يقبل إقراره على هذا النسق فيما يضيفه إلى يد مولاه.
***
__________
(1) ت 4: وهو أن من يوطن العبد نفسه.
(2) في الأصل رسمت هكذا: " ويفقوا " وبدون نقط. (انظر صورتها) ، والمثبت من (ت 4) ومن (البسيط) .
(3) في الأصل: رسمت هكذا: (وـ ـ ـوا) بدون نقط. والمثبت من (ت 4) .
(4) في الأصل: ففي، والمثبت من (ت 4) .
(5) في الأصل: انقطعنا.(17/284)
باب غرم السارق
قال الشافعي رحمه الله: "أغرم السارق ما سرق قطع أو لم يقطع ... إلى آخره" (1) .
11152- إذا كانت العين المسروقة قائمة في يد السارق، فلا خلاف أنه يقطع، وتُسترد العين منه، ولو كانت تلفت في يده أو أتلفها، فمذهب الشافعي أنه يقطع، ويغرّم، فإن القطع حد الله تعالى، والغرم بدلُ مال الآدمي، فإذا كان لا يمتنع اجتماع الكفارة والدية، كيف اجتماع الغرم والقطع؟ وخلاف أبي حنيفة (2) مشهور.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/172.
(2) ر. رؤوس المسائل: 494 مسألة 358، طريقة الخلاف: 223 مسألة 89، المبسوط: 9/156.(17/285)
باب ما لا قطع فيه
11153- هذا الباب يحوي وجوهاً تتضمن سقوط القطع، ونحن نأتي بها على الترتيب أولاً، فأولاً.
قال الشافعي: " لا قطع على من سرق من غير حرز " (1) وهذا واضح، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع في ثمر ولا كَثَر " (2) على النخيل التىِ لا تكون محرزة وروي باقي الحديث في تحقيق ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا قطع في ثمر ولا كَثَر، فإذا أواه الجرين، وبلغ قيمةَ المجن، ففيه القطع " (3) .
11154- ثم قال: " ولا عبد سرق من متاع سيده ... إلى آخره " (4) .
إذا سرق العبد متاع سيده، لم يستوجب القطع، لأنه يستحق عليه النفقة، فله شبهة في مال المولى، وإذا قتله استوجب القود، لأنه لا شبهة له في دم سيده،
__________
(1) ر. المختصر: 5/172.
(2) الكَثَر: بفتح الكاف والمثلثة، وهو جُمّار النخيل، وهو اللبُّ الأبيض الذي يكون في رأس النخلة، وفي رأس الفسائل التي تنبت حول النخلة متصلة بها.
(3) والحديث أخرجه أصحاب السنن، ومالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الكبرى من حديث رافع بن خديج. قال الحافظ في التلخيص: " واختلف في وصله وإرساله، وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول " ا. هـ وقال في البدر المنير: هذا الحديث حسن.
(أبو داود: الحدود، باب ما لا قطع فيه، ح 4388، 4389، الترمذي: الحدود، باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر، ح 1449، النسائي: قطع السارق، باب ما لا قطع فيه، ح 4963-4973، ابن ماجه: الحدود، باب لا يقطع في ثمر ولا كثر، ح 2593، الموطأ: 2/839، المسند: (3/463، 464، 4/140، 142) ، السنن الكبرى: 8/263، تلخيص الحبير: 4/121، ح 2074) .
(4) ر. المختصر: 5/172.(17/286)
ولا قصاص على السيد بقتل عبده وإن كان مكاتباً؛ لأن القصاص لو ثبت لثبت للسيد، وكل ذلك مما تمهد، والله أعلم.
فصل
قال: " ولا على زوج سرق من متاع امرأته " ثم قال بعده: " ولا يقطع من سرق من مال ولده ... إلى آخره " (1) .
11155- فنقول كل شخصين يستحق أحدهما على الثاني عند فرض الحاجة في المستحِق وفرض الغنى في المستحَق عليه نفقةَ الكفاية، فلا يقطع واحد منهما في سرقة مال صاحبه، فلا يُقطع إذاً ولدٌ سرق مال والده، ولا والد سرق مال ولده، وهذا يطرد بين كل شخصين بينهما بعضيّة، يعني كون أحدهما أصلاً، وكون الثاني فرعاً وفصلاً، على ما تمهد في النفقات، ثم لا يتوقف سقوط القطع على أن يكون السارق محتاجاً، والمسروق منه غنياً، بل انتفاء القطع جارٍ في الأحوال كلها؛ من جهة أن مال كل واحد منهما محلُّ تنفيذ حاجة الآخر. وهذا فائدة الباب.
وقيدنا الكلام بالكفاية لتميز النفقة الواجبة بالقرابة عن نفقة الزوجية؛ إذ فيها من التفصيل ما نصفه.
والأخ مقطوعٌ بسرقة مال أخيه، وأبو حنيفة (2) وإن أوجب على الأخ نفقة أخيه لم يدرأ القطع عن السارق منهما من مال صاحبه.
11156- واختلفت النصوص في أن أحد الزوجين هل يقطع إذا سرق مال الثاني؟ وحاصل ما جمعه الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن الحد لا يجب على واحد منهما، ومعتمد هذا القول ما بين الزوجين من الاتحاد، وكل واحد منهما يتكثر بمال صاحبه، وتقرير هذا في مسائل الخلاف.
والقول الثاني - أن كل واحد منهما مقطوع بسرقة مال صاحبه: أما الزوج، فلا حق
__________
(1) ر. المختصر: 5/172.
(2) ر. المبسوط: 9/151.(17/287)
له في مالها، والتكثر بالمال لا أصل له، وأما الزوجة، فلها حق النفقة، ولكن نفقتها تضاهي الأعواض، ولهذا لا يعتبر فيها الكفاية، ولا تسقط بمرور الزمان.
والقول الثالث - أن المرأة لا تقطع بالسرقة من مال الزوج، والزوج مقطوع.
والفرق بينهما النفقة.
11157- ثم قال الأصحاب: كل من لا يقطع بالسرقة من مال إنسان، فلا يقطع عبده بالسرقة من ماله أيضاً، فإذا لم يقطع الزوج بالسرقة من مال زوجته، لم يقطع عبده في سرقة مالها، وكذلك القول في سرقة عبد الإنسان من مال ولده، أو والده.
وحكى الصيدلاني هذا مقطوعاً به عن القفال، ثم قال من عند نفسه: الصحيحُ أن يقطع العبد، وإن كان لا يقطع سيده؛ فإن للسيد شبهة النفقة إذا وقع الفرض في الوالد والمولود، وليس لعبده شبهة النفقة في مال ولده، ثم استتم هذا، وقال: إن بهنا لا نقطع عبد الوالد فمال ولده كماله في معنى أنه لا قطع عليه فيه (1) ، فيلزم منه أن نقول: لا قطع على الأخ بسرقة مال أخيه، لأنه ابن أبيه، وهو لا يقطع في مال أبيه، ومال الولد كمال الوالد.
وهذا الذي ذكره متجه، لا دفع له إلا بتمويهٍ سنشير إليه. والعجب أن القاضي فرع على الأقوال في الزوجين، وقال: إذا لم يقطع أحدهما في مال الثاني، لم يقطع عبد واحدٍ منهما في مال الثاني، ثم قال: إذا لم يقطع أحدهما في مال الثاني، وجب ألا يقطع ولد أحدهما في مال الثاني وإن كان ربيباً. وهذا قبيح؛ فإن القول به يُلزم إسقاط القطع عن الأخ إذا سرق من مال أخيه، وليس هذا إلزاماً بل هو عين ما قال به لو رُدّ التفريع إلى الوالد والولد؛ فإن ابن الأب أقرب إلى الولد من ابن الزوج -وهو ربيب- إلى الزوجة، فهذا غلط صريح.
ثم لا شك أنّ ما أجريناه من ذلك الوفاق والخلاف في الأموال المحرزة عن السارق على التحقيق.
فإن قيل: إذا زيفتم ما حكيتموه في ولد الزوج، فما الرأي في العبد؟ قلنا: الوجه
__________
(1) ساقطة من (ت 4) .(17/288)
القطعُ بإيجاب القطع على الرَّبيب، والأخ، وولد الزوج والزوجة (1) ، وفي قطع العبد -إذا كنا لا نقطع السيد- وجهان: أحدهما - وهو اختيار الصيدلاني أنا نقطعه، كالأخ. والثاني - لا نقطعه؛ لأن يده يد السيد، فكأن السيد أخذه.
وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإن العبد إذا سرق حيث يستوجب القطع، فالحكم لا يتعداه، وإن سرق بإذن مولاه، ويجوز أن يقال: هذا وإن كان لا يؤثر في إيجاب القطع على المولى، يجوز أن يؤثر في إسقاط القطع عن العبد؛ لأن بناء الباب على تغليب الشبهة.
11158- ومما يتصل بهذا المنتهى أن من له دين على إنسان إذا سرق من ماله نصاباً؛ فإن كان مماطلاً وعسر استيفاء الدين منه طوعاً، فإن كان المسروق من جنس دينه، لم يقطع؛ فإنه [أخذ ملكه] (2) . وإن كان من غير جنس ماله، فالمذهب أنه لا قطع عليه أيضاً، وخرّج بعض أصحابنا هذا على القولين في أنه هل يحل له أن يأخذ غير جنس حقه، إذا ظفر به، على ما سيأتي القولان في موضعهما، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولا قطع في طنبور ولا مزمار ولا خمر ولا خنزير ... إلى آخره" (3) .
11159- أما الخمر والخنزير، فليسا مالَيْن، ولا يتعلق القطع [بأحدهما] (4) ، فأما آلات الملاهي، وهي التي يستحق كسرها، فالقول في أنها إلى [أي] (5) حدٍّ تنتهي
__________
(1) وولد الزوج والزوجة والمعنى: وولد الزوجة.
(2) في الأصل: فإنه ملكه أخذ، وفي (ت 4) : وإن ملك ما أخذ.
والمثبت من تصرف المحقق على ضوء المعنى، وعلى ضوء عبارة الغزالي في البسيط.
(3) ر. المختصر: 5/172.
(4) في الأصل: " بأخذهما ".
(5) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.(17/289)
في التكسير والترضيض (1) مذكور في موضعه من الغصوب، والغرض الآن القول في السرقة، فإن كان [مترضَّض] (2) ما أخذه لا يبلغ نصاباً، فلا قطع بلا خلاف، [وإن] (3) كان الرُّضاض الذي لا يجوز المزيد في ترضيضه بحيث [يبلغ] (4) نصاباً، فإذا أخرجه السارق من الحرز، ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما - أنه لا يجب؛ لأن الحرز لا يتحقق في حق هذه الآلات، ويجوز الهجوم على الدور لأجلها، والوجه الثاني - أنه يجب (5) القطع؛ لأن حقها -إن فرض الظفر بها- أن ترضض على مكانها، فأما نقلها وإخراجها، فغير سائغ.
ولو قال قائل: يختلف هذا بالقصد، فإن قصد السرقة، فينقدح الخلاف، والأصح أن لا قطع. وإن. قصد إخراجها ليُشهر كسرها، فلا قطع أصلاً مذهباً واحداً، لكان ذلك متجهاً، ثم الرجوع في هذا القصد إليه.
وما ذكرناه من الخلاف يجري في كل ما يسلِّط الشرع على تكسيره، حتى لو فرضت صور أصنام، فهي كآلات الملاهي، وإن كانت من الذهب والفضة، ويلتحق أواني الذهب والفضة بها إذا قلنا: إنها تُكسر.
وهذا بعيد.
فصل
يشتمل على ثلاثة مقاصد
11160- أحدها - الكلام في المال المشترك، والقول في مال بيت المال، والثالث الكلام في الأملاك التي توصف بالضعف.
__________
(1) المعنى إلى أي حد يجوز ترضيضها وتكسيرها، بمعنى هل الجائز تكسيرها إلى حدّ إبطال عملها فقط، وما عداه مجاوزة للحدّ إتلاف مالٍ، أم يجوز ترضيضها وجعلها جذاذاً إلى أبعد مدى؟
(2) في الأصل: " يترضض ".
(3) في الأصل: " فإن ".
(4) في الأصل: " يبلغه ".
(5) ت 4: لا يجب القطع.(17/290)
فأما الأملاك المشتركة، فإذا سرق أحد الشريكين يوماً مشتركاً بينه وبين شريكه، أو سرق البعضَ منه، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع القول بانتفاء القطع لشبهة الشركة، وقال: ما من جزء (1) من المأخوذ إلا وله فيه حق، ثم هذا القائل يقول: لو كان المسروق مالاً جمّاً، وليس فيه شركة إلا جزء يسير، فلا قطع، لما أشرنا إليه.
ومن أصحابنا من قال: إذا سرق [نصف دينار] (2) من مالٍ مشترك هو شريك فيه بالنصف، فيلزمه القطع؛ لأن النصف مما أخذه ليس [له] (3) ، ونصفه نصاب كامل.
وسلك بعض أصحابنا مسلكاً في التفصيل، وقال: إن كان المال المشترك مما يجري فيه الاستقسام [جبراً، وهو ذوات الأمثال؛ إذ لا منقول يجري فيه الاستقسام غيرها] (4) ، كالحبوب وغيرها، فإذا كان المال المسروق من هذه الأصناف، وكان المسروق مقدار ملك الشريك بالجزئية، فلا قطع، فإنا نحمل أخذه ذلك المقدار على إيقاع القسمة، وإن كانت فاسدة، وإن زاد على مقدار حقه، وبلغت الزيادة نصاباً، وجب القطع حينئذ، وهذا كما لو كان بينهما ديناران لكل واحد منهما النصف على الشيوع، فإذا سرق ديناراً، فلا قطع حملاً على مذهب الاستقسام، وإذا سرق ديناراً وربعاً، وجب القطع، هذا فيما يتطرق إليه الاستقسام قهراً.
فأما [ما] (5) لا يجري فيه الاستقسام قهراً بالجزئية، كالثياب وغيرها من ذوات القيم، فإذا سرق الشريك منها مقدار نصف دينار، وهو شريك بالنصف، فيجب القطع.
وميلُ معظم الأئمة إلى إسقاط القطع من غير تفصيل في جميع الأموال المشتركة.
هذا بيان أحد المقاصد.
__________
(1) ت 4: "حرز".
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) في الأصل: " هذا ".
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (ت 4) .
(5) سقطت من الأصل.(17/291)
11161- الثاني - في أموال بيت المال، فحاصل ما ذكره الأئمة وجهان: أحدهما - أنه لا قطع أصلاً في أي مال سُرق إلا ما نستثنيه، سواء كان المأخوذ من مال الصدقات، أو من مال المصالح، فإن لكل مسلم حقاً في أموال بيت المال، حتى لو أخذ من الصدقات، ولم يكن مستحِقاً لها، فهي عتيدة لسد حاجته إذا صار من أهل ْالصدقات، وعلى هذا الأصل نفينا القطع عن الأب الموسر إذا سرق من مال ابنه، وإن لم يكن مستحِقاً للنفقة؛ لمكان يساره. هذا وجه.
ومن أصحابنا من فصّل، وقال: إن كان السارق من مستحقي الصدقات، وقد أخذ منها، فلا قطع عليه، وإن لم يكن من مستحقي الصدقات، وسرق منها، قُطع، وليس كالأب في حق ولده، فإن بينهما اتحاد من جهة البعضية ولكل واحد منهما اختصاص بمال الثاني. وإنما أموال الصدقات يصرفها الإمام إلى من يعيّنه، ولا يُعتَرضُ عليه في ذلك المعنى.
فأما مال المصالح، فإن سرق منه محتاج، فلا قطع عليه، وإن سرق منه غيرُ محتاج فوجهان: أحدهما - أنه يلزمه القطع، لأنه لا يستحق من أعيانها شيئاً. والثاني - لا قطع، فإن أموال المصالح قد تصرف إلى الرباطات والخانات وغيرها، ثم يعم نفع هذه الأشياء في الأغنياء والفقراء. هذه طريقة، والأولون ينفون القطع من غير تفصيل.
فإن قيل على طريقة التفصيل: هل توجبون القطع على الذمي إذا سرق من مال المصالح؟ قلنا: ما قطع به معظم الأصحاب أن القطع يلزمه، وإن فرض انتفاعهم بالرباطات، فذلك على طريق التبع؛ من حيث إنهم قاطنون ديارَ الإسلام. وأشار بعض المحققين إلى خلافٍ فيهم، وهذا بعيد.
وأما ما [وعدنا] (1) استثناءه، فهو الفيء المعتد للمرتزقة، فإذا سَرق منها من ليس منهم -والتفريع على أنه ملكهم- وجب القطع، [وكذلك ما أُعد من الخمس لذي
__________
(1) زيادة من (ت 4) .(17/292)
القربى واليتامى، فإذا سرق من ليس من هؤلاء] (1) ، وجب القطعُ بإيجاب القطع.
والعلم عند الله تعالى. وقد نجز هذا المقصود.
11162- الثالث - الكلام في الأملاك الضعيفة التي لا تنطلق التصرفات فيها، وذكر أئمتنا وجهين في سرقة أم الولد، قالوا أصحهما وجوب القطع، فإنها مملوكة مضمونة باليد.
ومن أصحابنا من قال: لا قطعَ؛ لنقصان الملك، وهذا غير سديد؛ فإن ما يضمن باليد، فأَخْذُهُ على حكم الاستزلال من الحرز سرقةٌ إذا لم يكن الأَخْذُ فيه شبهة، فإن القطع شرع لصون الأموال المصونة بالحرز، ولا يدخل على ما ذكرناه الحرّ؛ فإنه لا يضمن باليد، فكان لا يد فيه.
11163- ولو كان سرق عيناً موقوفة، فالصحيح تنزيلها منزلة المستولدة من غير تفصيل، سواء قلنا: الملك فيها للواقف أو للموقوف عليه، أو لله تعالى، فقال قائلون: إن حكمنا بأن الملك في رقبة الموقوف لله تعالى، وجب القطع على السارق، كما سنذكره في سرقة أبواب المساجد. فإن قلنا: الملك للواقف أو للموقوف عليه، فعلى وجهين، لأن ملك الواقف -على قولنا: له الملك- ضعيفٌ، لحق الموقوف عليه، وملك الموقوف عليه -على قولنا: له الملك- ضعيفٌ، لحق الواقف.
وهذا ليس بشيء، لأن صاحب هذا الترتيب يشير إلى أنه لا يصفو القول بإضافة الملك إلى جهة من هذه الجهات، وهذا يتحقق إذا قلنا: الملك لله تعالى؛ فإن الملك وإن أضيف إلى الله تعالى ليس يتمحض- حقاً لله عز وجل، فالوجه تنزيل الموقوف منزلة المستولدة على الأقوال كلها.
11164- فأما المساجد فقد أطلق أصحابنا الوفاق على أن من قلع باب مسجد [مستزلاً] (2) ، وهو موقوف، وجب عليه القطع، إذا بلغ نصاباً، وأثبت اليد عليه
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) في الأصل: منزلاً. ومستزلاً أي آخذاً خفية، كما ظهر من تعريفه للسرقة في أول كتابها.(17/293)
بأن نقله، والسبب فيه أنه مضمون بالإتلاف واليد.
وهذا يتطرق إليه نوعان من الإشكال: أحدهما - أن القطع بهذا يوجب القطع بإيجاب القطع بسرقة المستولدة، وإن ضعف الملك فيها، لامتناع (1) بعض التصرفات. هذا وجه. والثاني - وهو أبلغ أن المساجد يشترك فيها المسلمون ويتعلق بها حقوقهم، وقد ذكرنا [التفصيل في أموال بيت المال، فيتجه من الوجه الأخير تخريج وجه في نفي القطع.
ثم قال الأصحاب] (2) : إن من سرق حصير المسجد وفُرشَه المحرزَة، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما - لا يجب للاشتراك في الانتفاع بها، وهذا يتحقق لا محالة في أجزاء المسجد. وقال العراقيون: ما يظهر الانتفاع به، فالظاهر أنه لا قطع على سارقه؛ للاشتراك الذي ذكرناه، وما أثبت في المسجد للزينة، كالقناديل التي تزين المساجد بها، ففيه وجهان.
فانتظم في الفُرشِ وآلاتِ الزينة ثلاثةُ أوجه: أحدها - وجوب القطع. والثاني - نفي القطع. والثالث - يفصل بين ما ينتفع به وبين آلة الزينة، وكل ذلك متجه. ولكن لا ينتظم معه القطع بإيجاب القطع على من سرق جزءاً من المسجد.
ومن سرق من ثمار بستان محبّس، ولم يكن موقوفاً عليه، لا خصوصاً، ولا عموماً، وجب القطع، لا شك فيه؛ فإن الثمار مملوكة، وليست موقوفة، وإنما الحبس في الرقاب المثمّرة، وكذلك القول في دراهم المستغل.
11165- فأما السرقة من المغنم، فإن فُصِل الأربعةُ الأخماس التي للغانمين، فالسارق منها يستوجب القطع إذا لم يكن منهم، وإن كان منهم، فالتفصيل فيه كالتفصيل في سرقة الشريك شيئاً من المال المشترك.
وأما السرقة من الخمس، فقد مضى في تفصيل مال بيت المال.
__________
(1) عبارة (ت 4) : " وإن ضعف الملك فيها، إذ معنى ضعف الملك فيها امتناع بعض التصرفات ".
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .(17/294)
ولو سرق سارق قبل إفراز الخمس، فليقع التفريع على أنه لو سرق من الخمس لا يقطع، وإن [كان يعترض] (1) فيه حصة ذوي القربى [واليتامى] (2) ، ولكن إذا أظهرنا غرضنا، لم يخف التفصيل بعده، فنقول: كأن السارق شريك بالخمس أو بما لا قطع عليه فيه، ثم يعود الكلام إلى تفصيل المال المشترك.
التفريع:
11166- إذا وطىء الرجل جاريةً من مال بيت المال، وقلنا: لو سرق منه، لم يقطع، فلو سرق الجارية في نفسها، لم يقطع، فإذا وطئها، فالمذهب أنه يستوجب الحد، كما يستوجب الابن الحد بوطء جارية الأب، وإن كان لا يستوجب القطع بسرقتها من أبيه. والوجه الثاني - لا حدّ على الذي يطأ جاريةَ بيت المال، وهذا لا يتجه له وجه نتكلف (3) إظهاره، وقد رأيته في طريقة القاضي، [ولا] (4) يجب أن يعتد به.
11167- ثم ذكر الأصحاب مسائل [بيّنة] (5) في قاعدة مذهبنا خالف فيها أبو حنيفة- منها أنه لو سرق ما يجب القطع بسرقته مع ما لا قطع فيه، مثل أن سرق شاة وخنزيراً معاً، فالقطع يجب عندنا في الشاة، خلافاً لأبي حنيفة، واشتهر تفريعه فيه إلى أن قال: لو سرق إناء من ذهب في بطنه ماء، فلا قطع عليه، وهذا فاسد. وقال: لو سرق مصحفاً مذهباً، والذهب نصاب، فلا قطع عليه، لأن سرقة المصحف عنده لا قطع فيه (6) ، وعندنا يجب القطع بسرقة المصحف.
11168- ومما ذكره الأصحاب أن لو شهد شاهدان، فقال أحدهما: إنه سرق ثوراً
__________
(1) في الأصل: وإن كان لا يعترض. والمثبت من (ت 4) .
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) في الأصل: " ونتكلف إظهاره ".
(4) في النسختين: (فلا) والتغيير (بالواو) من عمل المحقق، وإلا فسيكون المعنى أن عدم الاعتداد به يرجع لكونه من اختيار القاضي، وهذا لا يمكن أن يكون مقصوداً.
(5) غير مقروءة بالأصل. والمثبت من (ت 4) .
(6) ر. رؤوس المسائل: 498 مسألة 361، مختصر الطحاوي: 272، المبسوط: 9/152، تحفة الفقهاء: 3/154.(17/295)
أبيض، وشهد الآخر: إنه سرق ثوراً أسود، فلا تلفيق بين الشهادتين، ولا يثبت قطع، ولا مال، فلو أراد أن يحلف مع أحدهما وقد وافقت شهادته دعواه فليفعل، وفي هذا دقائق في التفريع، ستأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى.
ولو شهد أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ربع دينار، وشهد الآخر أن قيمته سدس دينار، وقد فات الثوب، فلا يجب القطع، ولا يثبت الغُرم، إلا في المقدار المتفق عليه وهو السدس، وقال أبو حنيفة (1) يثبت الربع أخذاً بالأكثر، ولو كان التردد فيما هو نصاب عنده أو فيما دونه، فيثبت النصاب أخذاً بالأكثر، ولا يثبت القطع.
فرع:
11169- من سرق شيئاً بالغاً نصاباً، وهو جاهل بأن قيمته تبلغ نصاباً، فالقطع واجب عليه إذا كان الجهل آيلاً إلى جنس المسروق، أو إلى قيمته. فأما إذا سرق قميصاً رثَّاً، فلما أخرجه كان في جيبه دينار، ففي وجوب القطع عليه وجهان: أظهرهما - أنه يجب، كما لو أخرج مدوَّراتٍ منقوشة حسبها فلوساً، وكانت دنانير، أو دراهم؛ فإن القطع يجب، ولا اعتبار بجهله، وهذا ما قطع به معظم الأئمة.
والوجه الثاني - حكاه القاضي (2 أنه لا يجب القطع 2) ووجهه [أنه] (3) جهل أصل سرقة الدينار في مسألة القميص بخلاف ما إذا جهل الجنس؛ فإن المسروق معلوم، والصفة مجهولة، ولا يكاد يتضح الفرق.
***
__________
(1) لم نصل إلى قول أبي حنيفة في كتب الأحناف التي راجعناها.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .
(3) في الأصل: " أن ".(17/296)
باب قطاع الطريق
قال الشافعي رضي الله عنه: " رُوي عن ابن عباس في قطاع الطريق ... إلى آخره " (1) .
11170- الأصل في أحكام قطاع الطريق قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } [المائدة: 33] وقد تكلم المفسرون في سبب نزولها، والأصح اللائق بغرضنا أنها وردت في قطّاع الطريق، كما سنصفهم، ناسخةً لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من عُرَيْنة، وهم جماعة دخلوا المدينة، فاسْتَوْخموها، واستَوْبئوا هواءها، وماءها، فاصفرّت ألوانهم، ونُهكت أجسامهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لو خرجتم إلى إبل الصدقة، وشربتم من أبوالها وألبانها، فإنها شفاء للذَّرب (2) ، فخرجوا إلى إبل الصدقة، وشربوا من أبوالها وألبانها، فآبت إليهم نفوسهم، وصحت أجسامهم، فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل، فبعث في أثرهم، فأُخذوا، فأمر حتى قطعت أيديهم، وأرجلهم، وسُملت أعينهم، -وفي بعض الروايات: وسمّرت أعينهم- وأُلقوا في الحَرَّة، فكانوا يستسقُون فلا يُسقَوْن، وكان الواحد يعض على الحجر عطشاً، حتى ماتوا، فنزلت آية المحاربة ناسخة للمثلة " (3) .
ثم اعتمد الشافعي رحمه الله تفسيرَ ابنِ عباس لآية المحاربة، وقد قال في
__________
(1) ر. المختصر: 5/172.
(2) الذّرب: داء يصيب المعدة. (المصباح) .
(3) حديث العُرنيين الذين استاقوا إبل الصدقة وارتدوا، متفق عليه من حديث أنس (البخاري: الوضوء، باب أبواب الإبل والدواب والغنم ومرابضها، ح 233، وأطرافه كثيرة منها في كتاب الحدود الأبواب 15، 16، 17، 18، ح 6802-6805. مسلم، القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح 1671 ورقم أحاديث الباب 9-14) .(17/297)
تفسيرها: أن يقتلوا: إذا قتلوا، أو يصلّبوا: إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطعَ أيديهم وأرجلُهم: إذا أخذوا المال، أو يُلحَق بهم إذا ولَّوْا، وهو نفيهم.
وذهب داود إلى تخيير الإمام في هذه العقوبات، من غير نظر إلى الجرائم، وإنما ظن ذلك؛ من حيث اعتقد ظهور معنى التخيير في (أو) وهو على رأي المفسرين للتنويع والتصنيف، لا للتخيير، وهو بمثابة قول القائل: الزاني يجلد أو يرجم، والمراد الإشارة إلى تنويع العقوبة عند تقدير اختلاف الحال.
وعن مالك (1) أن قاطع الطريق إن كان شاباً، قطعت يده ورجله من خلاف، وإن كان شيخاً ذا رأي وتدبير، قتل، وإن لم يكن على نجدة الشباب، ولا على رأي الشيوخ نُفي من الأرض.
11171- ومقصود الكتاب يشتمل عليه [فصول] (2) : أحدها - في صفة قطاع الطريق، وتمييزهم عن المختلسين.
والثاني - في تفاصيلِ حدودهم، والعقوباتِ المقامةِ عليهم، ويمزج بهذا الفصل جرائمهم التي يستوجبون العقوبات بها.
والفصل الثالث - في مآل أمرهم لو تابوا قبل الظفر أو بعده، أو عفا عنهم أولياء الدم، وإذا تمهدت هذه الفصول، كان الباقي من غرض الكتاب هيّن المُدرك.
فأما الكلام في صفتهم، فهم طائفة يرصدون الرفاق في المكامن، حتى إذا وافاهم الرفاق (3) ، برزوا، وأخذوا المال، وقتلوا عن المقدرة والقوة (4) ، والغالب أنهم يَشْهرون الأسلحة، ثم يقع ذلك في مكان يبعد الغوث فيه عن المستغيثين، فهذا صورة قطاع الطريق.
فلو لم يرجعوا إلى قوة، ولكن كانوا يختلسون، ثم يولّون [مرتكضين] (5) أو
__________
(1) ر. المعونة للقاضي عبد الوهاب: 3/1366، الكافي لابن عبد البر: 582.
(2) في الأصل: " أصول ".
(3) في الأصل: " وافوهم الرفاق ".
(4) ت 4: " عن مقدرة وقوة ".
(5) في الأصل: غير مقروءة، رسمت هكذا: (مرتكهين) تماماً رسماً ونقطاً.=(17/298)
عادين، فهم أصحاب خَلْسٍ، ودفعُهم بالتحفظ، ولا عقوبة عليهم لله تعالى، والتعزير لا يجب عليهم (1) متحتماً، كما سيأتي أصله، فيُغَرَّمون ما يأخذون إن فاتت الأعيان (2) ، وإلا ردوها بأعيانها، وإن اتفق منهم قتلٌ أو قطع، فالقصاص على تفاصيله.
ولو كان فيهم نجدة، ولكن أخذوا الرفقة حيث لا يبعد الغوث، مثل أن يقع على القرب من العمران، وأصحاب السلطان مشمِّرون وأيديهم غالبة، والأغلب تخوف (3) القطاع، فهذا من فن الاختلاس، وقد أشرنا إلى حكمه.
ثم قال الأئمة: لا يتوقف تصوير المحاربة على أن يكونوا مع أسلحة، بل [لو] (4) أخذوا الأموال بالقوى واكتفوا بالوخز (5) واللكز، والضرب [بجُمْع] (6) الكف [والصراع] (7) ، فهذا قطع الطريق.
11172- وممّا ذكره الأصحاب أن الرجل لو خرج وحده أو في شرذمة من الضَّعَفَة، واستمكن منهم طائفة لا يقاومهم الرفاق في مكان يبعد الغوث فيه، فهذا قطع الطريق.
وقد يختلج في النفس من هذا شيء؛ فإن خروج الإنسان وحده يعد تضييعاً، وكان يليق أن يكلّف المسافر ألا يخرج إلا على عُدّة وأهبة، واستظهارٍ، فإذا لم يفعل، كان ذلك بمثابة ترك المال في موضع لا يعدّ حرزاً له، وهذا يعتضد بأمر [لا
__________
=والمعنى: ولَّوْا يركضون خيولهم، أو يَعْدون على أرجلهم.
(1) ساقطة من (ت 4) .
(2) ساقطة من (ت 4) .
(3) ت 4: " لحوق ".
(4) زيادة من (ت 4) .
(5) ت 4: " الزجر ".
(6) في النسختين: " بجميع ". والمثبت من تفسير اللكز واللكم في المعاجم.
(7) في الأصل: " والصرايح ". كذا بدون نقط. والمثبت من (ت 4) والمعنى: بالمصارعة، مع الضرب واللكز ...(17/299)
ينكره مَنْ يمارس] (1) هذه الأحوال، وهو أن الإمام ينفض الطرق عن أهل العرامة بأيْدِه وبطْشه، وليس من الممكن إخراج آحاد الرجال عن التعرض لمستضعف، [فإن] (2) الداخل تحت الإيالة فضُّ الجماعات، ونَفْضُ الطرق عن أهل العرامات، وهذا يقرب من التصوّن اللائق بطريق الإحراز، فعلى رب المال أن يتصون جهده بالإحراز، ثم إن فرض استجراءٌ عليها، فالشرع يردع المستجرئين بالقطع. هذا وجهٌ بيّنٌ عندنا.
ولكن ما وجدته للقاضي وفي طرقٍ: أن الواحد إذا أخذه مغالب في مضيعة، فهو قاطع طريق، والرأي عندي اتباع الاعتياد، وأخذ طرفٍ من [العتاد] (3) بحيث يعد اجتماع الرفاق (4) منعة عن آحاد الرجال، في معارضة منع الأحراز، ولو [فترت] (5) بسطةُ السلطان، وثار من البلاد أصحاب العرامة، فهم عند الشافعي بمثابة قطاع الطريق إذا أخذوا وقتلوا على اقتهار.
11173- ولو فرض جمع [من] (6) المتلصصة في طرفٍ من البلدة، وقد دخلوا داراً ليلاً بالمشاعل، وشهروا الأسلحة ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة، حتى قَضَوْا أوطارهم، فهذا منهم استيلاء في الحال، وليس استزلالاً (7) ، فقد اضطرب الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: هم سراق؛ فإن الطلب يلحقهم على القرب، واليد الطولى من الإمام تنالهم، وقال قائلون: حكمهم حكم قطاع الطريق؛ فإن الاستيلاء ثابت في
__________
(1) في الأصل: " لا ينكره ويمارس ". والمثبت من (ت 4) .
(2) في الأصل: " فلأن "، و (ت 4) : " فإذا ". والمثبت من تصرّف المحقق.
والمعنى: أنه مما يدخل في أعمال الإيالة والسياسة، حماية الطرق، وتطهيرها من أهل الشِّرَّة والحدة والعنف والعدوان، وتشتيتهم وتفريق جمعهم، وليس من عملهم -أو لا يستطيعون- منع آحاد الرجال من التعرض للمستضعفين.
(3) في النسختين: " العناد ".
(4) ت 4: " الرفاع ".
(5) في الأصل: " قرب ".
(6) زيادة من (ت 4) .
(7) في الأصل: " استرسالاً، واستزلالاً: أي خفيةً، ظهر هذا المعنى من تعريف الإمام للسرقة في أول كتابها. ولم أر هذا منصوصاً في المصباح، ولا المعجم، ولا القاموس المحيط، ولا اللسان. ولكنه يفهم من معاني مادة (ز. ل. ل) .(17/300)
الحال، والغوث لا يلحق غالباً، وهذا معنى التصدّي للحرابة.
فإن جعلناهم محاربين، فلا كلام، وإن لم نجعلهم محاربين، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب أنهم سراق، ولا يبعد عندنا أن يكونوا مختلسين؛ فإن السارق بناء أمره على الاختفاء وهؤلاء يجاهرون بفعلهم، يخفون أمرهم عن صاحب الأمر، والعلم عند الله تعالى.
11174- ومما نذكره في تتمة ذلك أنه لو ظهر جمعٌ أصحاب قوة، وصادفوا رفقة، وكانت تقاوم القطاع، [فاستبسؤوا] (1) واستسلموا حتى قُتلوا، وأخذت أموالهم، فليس هذا قطع الطريق، فإن الجمع مع الجمع إذا كانوا على حكم التقاوم والتساوي؛ فليس للقطاع والحالة هذه فضل نجدة.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان. فإن استسلموا، ولم يدفعوا مع القدرة على الدفع فهؤلاء مُضيِّعةٌ، بلا خلاف. وهذا يقوي [ما ذكرته] (2) في خروج الرجل الفرد على خلاف الاعتياد.
ولو اقتتلوا قاصدين [ودافعين] (3) ، ونال كل فريق من أصحابه، وكانت الفئتان على تقاوم، وقد [تشمّر] (4) القاصدون، ولم يقصِّر الدافعون، ثم انكفوا، وقد نال كل فريق من أصحابه، فكيف الوجه؟ وهل لما أخذه القاصدون من المال حكم ما يأخذه القطاع؟ وهل يستوجبون الحد إذا قتَلوا، ولم يتبين منهم استيلاء القهر، واستعلاء الغلبة، وقد تكون الدائرة عليهم في [الأَخَرة؟] (5) .
هذا فيه تردد؛ من جهة أنهم لم يكونوا أصحاب ضعف بالإضافة إلى الرفقة،
__________
(1) في الأصل: " فاستبسلوا " وهو عكس ما يقتضيه السياق، وفي (ت 4) : " فاستسبلوا "، ولا معنى لها. وما أثبتناه أقرب صورة تؤدي المعنى المناسب للسياق، فاستبسئوا: أي تهاونوا، واستسلموا، وخضعوا. (ر. القاموس، والمعجم، والأساس) .
(2) في الأصل: ما ذكروه. والمثبت من (ت 4) ، وهو الصواب؛ لأن هذا التوجيه انفرد به الإمام، وليس ناقلاً له عن الأصحاب.
(3) في الأصل: " مدافعين ". والمعنى: اقتتلوا: وهؤلاء قاصدون، وهؤلاء دافعون.
(4) في الأصل: " يشتمر ".
(5) في الأصل: " الآخر ".(17/301)
والحرب سجال، ينال الإنسان فيها ويُنال، ويظهر (1) ألا يثبت لهم حكم قطع الطريق؛ إذ لا غلبة، ولا استيلاء، وسبيل الفئتين المتقاتلتين كسبيل رجلين يلتقيان أحدهما قاصد والثاني دافع، ولم يفرّ، والاحتمال الأول أن نقول: [هؤلاء] (2) ممن يتأتى منهم قطع الطريق، وإنما صادمتهم هذه الرفقة المعدّة وفاقاً، وقد يلقون رفاقاً (3) غير معدة، فالرأي أن يعاملوا معاملة أهل الحرابة. هذا تمام القول في صفة قطاع الطريق.
11175- ويتصل به أن النسوة إذا قطعن الطريق واستجمعن الصفات التي ذكرناها، كن بمثابة الرجال، كما أنهن إذا سرقن، فحكمهن حكم الرجال، وقال أبو حنيفة (4) لا تستوجب المرأة حد قطاع الطريق، وزاد فقال: لو كان في قطاع الطريق امرأة، لم يجب الحد على واحد منهم، وكذلك لو كان فيهم مراهق، فقتلوا وأخذوا المال، لم يُقطع واحد منهم ولم يُقتل.
فصل
11176- إذا تقرر نعت قطاع الطريق، فإنا نذكر تفصيل عقوباتهم وموجِباتها، كما وعدناه، فنقول: من أخذ منهم ربعَ دينار بالمحاربة والمجاهدة -كما تقدم- قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وكان الأخذ على سبيل المجاهدة على سبيل التضعيف، فالأخذة الواحدة تنزل منزلة سرقتين، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى حدٌّ واحد.
__________
(1) ويظهر: أي يحتمل، وليس المراد هنا المصطلح الذي استقرّ عليه المذهب (الظاهر) في مقابلة الضعيف. وإنما المراد هنا مجرد (الاحتمال) وسيأتي أن الاحتمال (الأول) أي الأقوى هو المقابل لهذا.
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) رفاقاً: جمع رُففة: بضم الراء وسكون الفاء، وزان: بُرْمة وبرام. (المصباح) .
(4) ما ذكره الإمام عن الأحناف رواية في المذهب نقلها صاحب المبسوط عن ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة، ولكن ظاهر الرواية، واختيار الطحاوي أن النساء في قطع الطريق كالرجال.
(ر. المبسوط: 9/197، مختصر الطحاوي: 277، رؤوس المسائل: 500 مسألة 363، تحفة الفقهاء: 3/249، فتح القدير: 5/186) .(17/302)
ولا يشترط أخذ نصابين في مقابلة عضوين، وفاقاً.
ولو أخذ أقل من نصاب، لم يستوجب القطع. هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب (1 وقال ابن خَيْران: يجب قطع العضوين، وإن قل المأخوذ، ونقص عن نصاب 1) ، وزعم أن هذا قولٌ خرّجه على ما سيأتي ذكره، إن شاء الله في أن المحارب لو قتل من لا يكافئه هل يقتل به؟ فقال: إذا رأينا قتله بمن لا يكافئه؛ تغليظاً للقتل الواقع في الحرابة، فلا يبعد أن نقطع عضويه وإن نقص ما أخذه عن نصاب.
وهذا متروك عليه مزيف باتفاق الأصحاب؛ فإنا إذا أخذنا عضويه بنصاب واحدٍ، كان هذا التغليظ كافياً، هذا موجب أخذ المال.
11177- وإن قتل المحارب ولم يأخذ المال، استوجب القتل [متحتماً، وسنعقد في تحتم القتل] (2) وما يتصل من الكلام فصلاً على أثر هذا، وقدر غرضنا الآن أنه لا يجب بالقتل المجرد إلا القتل، ومزية التغليظ بسبب الحرابة تحتُّمُ القتل، كما سنصفه إن شاء الله تعالى.
11178- فإذن على من جرّدَ أخْذَ المال قطْعُ العضوين، وإن لم نجد له اليدَ اليمين والرجل اليسرى، قطعنا يده اليسرى ورجله اليمين، وقدرنا كأن هذا أخذٌ ثانٍ منه على حكم المحاربة. ولو وجدنا يده اليمنى، ولم نجد له الرجل اليسرى فقد قال العراقيون: نكتفي بقطع اليد اليمنى، واعتلّوا بأن قالوا: اليد والرجل في حد المحاربة كاليد الفردة في حد السرقة، ثم لو وجدنا يد السارق ناقصة، اكتفينا بما وجدنا -على التفاصيل المقدمة- فكذلك إذا وجدنا أحد العضوين اكتفينا به.
ولم أر هذا منصوصاً عليه في طرق المراوزة، ولكن الذي يقتضيه القياس ما ذكروه، ووجهه بيّن، وقد يخطر للفقيه إذا وجدنا اليدَ اليمنى، ولم نجد الرجل اليسرى، فإنا نعدل إلى اليد اليسرى بدلاً عن الرجل اليسرى؛ فإنا لو لم نجد اليد اليمنى والرجل اليسرى، لقطعنا اليد اليسرى والرجل اليمنى، وهذا لا تعويل عليه،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .(17/303)
ولا وجه إلا ما ذكره العراقيون من اتحاد الحدّ، ووجدان بعض المحل، وذلك يتضمن الاكتفاء بالموجود، وفي قطع اليسار استيعاب جنس اليد وهذا ضم عذاب إلى عذاب.
11179- ولو أخذ المال على وجهٍ يوجب القطع، وقتل، فالمذهب المشهور أنا لا نقطعه ولا نقتصر على قتله، ولكنا نقتله ونصلبه، فيكون القتل في مقابلة القتل، والتنكيل بالصلب في مقابلة أخذ المال، وأبو حنيفة (1) يقول: صاحب الأمر بالخيار إن أحب قطع وقتل ولم يصلب، وإن أحب قتل وصلب، ولم يقطع والمسألة مشهورة معه، وقال أبو الطيب بنُ سلمة من أئمة المذهب: إذا أخذ المال وقتل، قُطعت يده ورجله لأخذه المال، وقُتل لقتله، وصُلب لجمعه بين أخذ المال والقتل، ورأى ما ذكرناه محتوماً، وهذا بعيد عن القانون. وكان يكفيه إذا صار إلى هذا المذهب أن يوجب القطع والقتل من غير خِيَرة، ولكن اضطر إلى الصلب لكونه منصوصاً عليه في القرآن، وليس للصلب محلٌّ إلا في حق من يجمع بين أخذ المال والقتل.
وذكر صاحب التقريب قولاً آخر يخالف ما ذكر أبو الطيب، فقال: من أخذ نصاباً وقتل، قُطع وقُتل، ولم يصلب. وإن قتل وأخذ ما دون النصاب، لم يقطع، ولكن يقتل ويصلب، فالقتل على مقابلة القتل، والتنكيل بالصلب على مقابلة أخذ مقدارٍ من المال لا يوجب القطع.
وهذا وما حكيناه عن أبي الطيب لا أصل لهما، والمذهب ما قدمناه من القتل والصلب إذا أخذ نصاباً، وقتل.
ثم إذا فرعنا على ما هو المذهب وأردنا الجمع بين القتل والصلب، فالمذهب الصحيح أنه يقتل على الأرض، ثم يصلب قتيلاً، وذهب بعض السلف إلى أنه يصلب [حيّاً] (2) ويقتل مصلوباً، وقد حكى الشافعي هذا المذهب حكاية أشعرت بارتضاه، فصار صائرون من الأصحاب إلى أنه قولٌ للشافعي، والصحيح أنه حكايةُ مذهب الغير.
__________
(1) ر. الهداية 2/423، ملتقى الأبحر: 1/352، تحفة الفقهاء: 3/250.
(2) زيادة من (ت 4) .(17/304)
التفريع:
11180- إن حكمنا بأنه يقتل مصلوباً، ففي كيفية قتله وجهان: من أصحابنا من قال: إنه يصلب حياً، ويمنع الطعام والشراب، حتى يموت جوعاً وعطشاً، وهذا مذهب بعض السلف، ولا ينبغي أن يعد هذا من متن مذهب الشافعي.
ْومن أصحابنا من قال: يقتل على الصليب بحديدة يعمد (1) بها مقتله على وجه يوحي (2) . وهذا مذهب أبي حنيفة (3) .
11181- ثم إذا صلب قتيلاً، أو قتل مصلوباً، فكم يترك على الصليب؟ في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يترك أكثر من ثلاثة أيام. والثاني - أنه يترك على الصليب حتى يتهرّأ قال الصيدلاني: ويتفتت ويسيل ودكه عليه؛ مبالغة في الردع والتنكيل، والصليب اسم للودك، والاصطلاب [استخراج] (4) الودك، ومنه قول القائل:
" وبات شيخ العيال يصطلب " (5) .
وتلك الخشبة على هيئتها سميت صليباً لسيلان الصليب عليها.
ثم قال الأصحاب: إن قلنا: لا يترك مصلوباً أكثر من ثلاثة أيام، فلو نَتُن وكان يتفاحش تغيره قبل الثلاث، فهل يُنزل من الصليب؟ فعلى وجهين. وإذا قلنا: إنه يترك حتى يسيل صديده، فقد صرح الصيدلاني بأنه يترك حتى يتساقط.
__________
(1) ت 4: يغمز.
(2) يوحي: أي يسرع.
(3) ر. المبسوط: 9/196، فتح القدير: 5/180.
(4) في الأصل: (اسحرال) كذا بدون نقط.
(5) هذا عجز بيت للكميت الأسدي، وتمامه:
واحتلّ بَرْك الشتاء منزله ... وبات شيخ العيال يصطلب
احتلّ: بمعنى حلّ. والبرك: الصدر، واستعاره للشتاء، أي جاء صدر الشتاء، ومعظمه في منزله، يصف شدة الزمان وجدبه، لأن غالب الجدب إنما يكون في زمن الشتاء. (ر. لسان العرب/مادة: ص. ل. ب) .(17/305)
وفي القلب من هذا شيء، فإني لم أر هذا لغيره، والذي ذكره بعض الأصحاب أنه يترك حتى يسيل صليبه وودكه، والتساقط يقع بعد هذا بمدة طويلة، وإذا كنا ننتظر سيلان صليبه، فلا نبالي بإنتانه؛ إذ لا بد من هذا.
11182- ثم إذا قلنا: يترك على الصليب ثلاثة أيامٍ أو أقل، فيُنزل، ويسلّم إلى أهله، حتى يغسلوه، ويكفنوه، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين.
وقال أبو حنيفة (1) : لا يغسل ولا يصلى عليه تغليظاً، ولا يبعد أن يقول ذلك هاهنا، وقد صار إليه في البغاة المتمسكين بالتأويل.
وإن قلنا: يترك على الصليب حتى يسيل ودكه، فقد قال الصيدلاني: يقتل على الأرض ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب، ثم اتفق الأصحاب في الطرق أن الغسل والصلاة لا يتركان، وذكر وقت الصلاة والغسل الصيدلاني، وهذا الذي ذكره يتفرع على ما هو ظاهر المذهب، وهو أنه يقتل على الأرض، فإن فرّع متفرع على أنه يقتل بعد الصلب، ويترك على الصليب، فتصوير غسله والصلاة عليه عسر؛ سيّما إذا بالغنا ورأينا أن يترك حتى يتساقط، ولو قال: نجمع عظامه ونصلي عليها، كان في نهاية البعد.
فهذا منتهى القول في ذلك، نقلاً وإمكاناً، وقد انتجز الكلام في عقوبة من يأخذ المال ولا يقتل، وفي عقوبة من يقتل ولا يأخذ المال، وفي عقوبة من يجمع بينهما.
11183- وبقي الكلام في قوله تعالى: " وينفوا من الأرض " وهذا مذكور على سياق ذكر عقوبات المحاربين، ولأصحابنا في معنى النفي من الأرض مسلكان: أصحهما -وهو الذي ذكره الجماهير- أن معنى نفيهم من الأرض إذا ولَّوْا لما شعروا بأنهم مطلوبون، فالإمام يُلحق الطلب بهم، وهم يدأبون في الهرب، وأصحاب الإمام لا يقصرون في الطلب فيتشردون مطلوبين، والغرض أن يُلحقوا، فإن كانوا استوجبوا حدوداً، أقيمت عليهم، وإن لم يقترفوا ما يوجب الحد، ولكن تجمعوا
__________
(1) ر. المبسوط: 10/131.(17/306)
وتكثروا [وهيبوا] (1) وخوَّفوا، فالإمام إذا ظفر بهم بالغ في تعزيرهم على ما سيأتي مراتب التعزير، بعد هذا، في باب، إن شاء الله.
هذا هو المسلك المرضي.
ومن أصحابنا من قال: النفي من جملة العقوبات الملتحقة بالحدود، وليس المراد به الطلب إذاً، ولكن التجمع والتكثر والتهيب وتخويف الرفاق (2) يوجب النفي بعد القدرة والظفر، ثم إذا نفاهم الإمام في صوبٍ عينه لهم، حجر عليهم أن يحيدوا عنه، ولم يتركهم ينطلقوا حيث شاؤوا، والأولى أن يُسيِّبهم (3) في جهة يحتف بهم فيها أهل النجدة والبأس؛ حتى لا يتأتى منهم الترصد للناس، والعود إلى ما كانوا عليه، ثم اختلف الأصحاب، فقال قائلون ينفَوْن إلى بلدة، ثم يعزرون فيها ضماً إلى النفي، إما بالضرب، وإما بالحبس، وقال آخرون: للإمام أن يقتصر على النفي إذا رأى ذلك.
ثم قال هؤلاء: إذا رأى النفي أو الحبس، لم يبلغ مدة الحبس والنفي سنة، فإن التغريب سنة من حد الزنا، وهؤلاء ما اقترفوا موجِب حد.
وكل ذلك عندي خبط وتخليط؛ فإنهم لم يرتكبوا ما يستوجبون به حدّاً، فإن كان هذا التفي تعزيراً، فينبغي أن لا يجب، فإن ما يتعلق بحقوق الله تعالى من التعزيرات لا يُقضى بتحتمه، كما سيأتي ذلك، إن شاء الله، ثم إن كان تعزيراً غيرَ متحتم، فيبعد أن يختص بالنفي حتى (4) لا يجد الإمام منه بداً إن أراد التعزير؛ فإن أصله إلى رأيه ونظره، فإذا تخير في أصله، وجب أن يكون جنسه [وصنفه] (5) إلى رأيه، وإن صار صائرون إلى أن هذا النفيَ تعزير واجب ليس للإمام تركه، فهو مخالف لقاعدة المذهب
__________
(1) في النسختين: " وتبينوا ". والمثبت من البسيط للغزالي.
(2) الرفاق: جمع رفقة: والمعنى: وتخويف القوافل.
(3) كذا في النسختين. والمعنى أن يتركهم في جهة بحيث يكونون تحت أعين رجال النجدة وفي قبضتهم، فهم يحيطون ولا يغفلون عنهم. وليس المعنى أن يسيِّبهم يذهبون حيث شاءوا، كما هو المعنى الحرفي لكلمة (يسيبهم) بل المعنى: ألا يحبسهم، فهم مطلقون، ولكن يحتف بهم أهل النجدة.
(4) سقطت من (ت 4) .
(5) في الأصل: " وصنعة ".(17/307)
في التعزيرات التي تجب في حقوق الله تعالى. فالوجه حمل النفي على أن يُطلبوا، حتى إذا صودفوا أقيمت عليهم الحدود إن استوجبوها، وإن لم يستوجبوها، رأى الإمام رأيه في تعزيرهم.
ثم إذا كان الطلب لأجل التعزير، لم يتعين على الإمام الطلب، كما لا يتعين عليه التعزير لو ظفر بهم.
نعم، يجب عليه بالنظر الكلي (1) نفضُ جميع الطرق عن أهل الفساد، وكان شيخي يقول: من تغليطات حدود المحاربين أن الأئمة اختلفوا في أن من استوجب حداً وهرب هل يسقط الحد عنه؟ وهؤلاء إذا استوجبوا الحدود [وهربوا] (2) ، فلا يجوز أن يتركوا، بل يلحق الطلب بهم؛ فإنّ تركهم يجر شراً عظيماً قد يتفاقم، ويبلغ مبلغاً يعجز الإمام عن استدراكه. وقد انتهى بعضُ التفصيل في عقوبات الحرابة.
11184- ونحن الآن نعقد فصلاً في استيجاب القتل بالقتل في حالة المحاربة، فنقول: إذا صدر القتل من المحارب خطأ، أو على وجهٍ شبه العمد، فلا خلاف أنه لا يستوجب القتل، وإن قتل عمداً محضاً من يكافئه، وجب القتل، وهذا القتل متحتم، لا يجد ولي القتيل إلى إسقاطه سبيلاً. هذا متفق عليه.
وذكر الأئمة قولين مستخرجين من أصول المذهب في أن هذا القتل [يتمحض] (3) حقاً لله تعالى، [أم فيه حقّ لله تعالى] (4) ويشوبه حق الآدمي: أحد القولين - أنه [يتمحض] (5) حدَّاً، والثاني - أنه مشوب بحق الله تعالى، وحق الآدمي.
وبنى الأئمة على هذين القولين مسائل: أحدها - أنه لو قتل المحارب من لا يكافئه، ولا يستوجب القصاص بقتله في غير المحاربة، فهل يجب القتل عليه؟ إن حكمنا بأن قتل المحارب يتمحض حقاً لله تعالى، فلا ينظر إلى صفات الكفاءة،
__________
(1) في الأصل: " يجب عليه التعزير بالنظر الكلي ". والمثبت من (ت 4) .
(2) فى الأصل: " وخرجوا ".
(3) في الأصل: " يمحض ".
(4) زيادة من (ت 4) .
(5) في الأصل: " تمحض ".(17/308)
ونقول: لو قَتَل المحاربُ ذمياً من الرفقة، والقاتل مسلم، أو قتل الحر المحارب عبداً من أهل الرفقة، أو قتل الأب ابنه، أو قتل السيد عبده، وكان عبدُه في الرفقة، فإنه يستوجب القتل حداً لله تعالى في هذه المواضع، ولا ننظر إلى الصفات التي نعتبرها في نفي القصاص.
وإن قلنا: قتل المحارب يشوبه حق الآدمي، ولا بد من رعاية صفات الكفاءة، حتى لا يستوجب المحارب القتل إلا بقتل يستوجب بمثله القصاص لو صدر منه في غير حالة الحرابة، وهذا التفريع على وجهه.
وفي قتل السيد بعبده إذا قلنا: القتل محض حق الله تعالى نظرٌ، وقد قطع القاضي بأن السيد يُقتل إذا قتل عبدَه، والعبد في الرفقة، وقال الصيدلاني: يستوجب المحارب القتلَ بكل قتلٍ محرم يقع بأهل الرفقة، إلا إذا قتل عبده، واعتلّ بأنه لا يفرض انحياز العبد عن المولى، ومصيره إلى [حزب] (1) الرفاق، فإذا وقع القتل به، فليس القتيل من (2) حزبٍ هم على اللصوص (3) .
ثم لو فَرَض فارض مكاتَباً لهذا المحارب القاتل، وهو في الرفاق، فإذا فرض موت المكاتَب، انقلب رقيقاً، ولو فرض العبد مستأجَراً للرفاق، فله أن يذب سيده عن الرفقة، ولكنه مملوك [قن] (4) ، والقتل يقع برقبته، هذا مسلك الصيدلاني.
والقاضي قطع بما قدمناه، وألحق القتل الواجب حداً بالكفارة التي تجب [حقّاً] (5) لله تعالى.
وإذا كنا نوجب القتل حداً على السيد على طريقة القاضي، فلا بد أن نصور له اختصاصاً بالرفقة، [ولا وجه إلا أن يكون] (6) مستأجراً لخدمة الرفاق، أو يفرض
__________
(1) في الأصل: حرب (بوضع علامة الإهمال على الراء) .
(2) ت 4: فليس القتل على حزب هم من اللصوص.
(3) والمعنى أن العبد القتيل ليس قتيل المحاربين، فهو ليس حرباً عليهم؛ إذ فيهم سيده، الذي لا يتصور الصيدلاني أن ينحاز عنه.
(4) زيادة من (ت 4) .
(5) في النسختين: " حدَّا " والمثبت تصرف من المحقق.
(6) عبارة الأصل: " ولا وجه له أن يكون.. ".(17/309)
مأذوناً له من جهة السيد، والسيد قتله غير شاعر به.
11185- ومما فرعه الأصحاب على القولين المذكورين في أن المحارب إذا قتل استوجب القتل حتماً، فلو مات قبل أن يُقتل، فإن قلنا: يتمحض قتله حداً لله تعالى، فليس لولي الدم حقٌّ في تركته، وإن قلنا: حق الآدمي مشوب بحق الله تعالى، فإذا فات الحد بفوات محله، كان لأولياء القتيل أن يطلبوا الدية من تركة المحارب القاتل.
وإذا قتل جماعةً، إن قلنا: يتمحض قتله حداً لله تعالى، لم يلزمه إلا قَتْلُه في مقابلة جميع القتلى (1 وإن قلنا: يشوبه حق الآدمي، فقَتْلُه يقع لواحدٍ منهم، فإن كان قتلهم على الترتيب، قتل بالأول، وللباقين ديات القتلى 1) وإن قتلهم دفعة واحدة، أُقرع فيما بينهم، فيقتل بمن خرجت له القرعة وللباقين الدية.
والأصح عندنا في قياس المذهب أن القتل يقع مشوباً؛ فإن من قتل في غير المحاربة استوجب القصاص حقاً للآدمي، فإذا قتل في حالة المحاربة، استحال أن يسقط حقُّ الآدمي [وقد اتفق الأصحاب على أنه إذا اجتمع في محلٍّ واحد عقوبةٌ هي حق للآدمي] (2) ، وعقوبةٌ لله تعالى، فالمغلب حق الآدمي؛ فإسقاط حق الآدمي بالكلية لا وجه له.
والذي يتمم التفريع في ذلك أنا إذا قلنا: حق الآدمي ثابت في القتل، فإن (3) لم يعف ولي الدم، أقمنا الحد. والوجه أن نقول: القتل بالقتل، والتحتم حقٌّ لله تعالى، وإن عفا ولي الدم. فإن قلنا: [لا حق للآدمي في هذا القتل، فالعفو لغو، ولا حق له في الدية] (4) ، وإن قلنا: حق الآدمي ثابت في الدم، فإذا قال الولي: عفوت على مالٍ، فله الدية، والمحارب مقتول حدّاً لله تعالى، وهو بمثابة مرتد
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .
(3) ت 4: " فلو لم يعف ".
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 4) .(17/310)
يستوجب القصاص، فإذا عفا ولي الدم، يرجع إلى المال، وقُتل المرتد بردته.
11186- ونختم ما ذكرناه بمسألةٍ من الفصل الذي سيأتي إن شاء الله تعالى، فنقول: إذا قتل قاطع الطريق واستوجب القتلَ، وتاب قبل الظفر به، فسنوضح أنه يسقط ما كان حقاً لله تعالى مختصاً بالمحاربة، وأثر هذا أن تحتّم الضل يسقط، قال الأصحاب: يبقى القصاص إلى خِيَرة الولي، وقال بعض أصحابنا: هذا يفرع على أن القتل على قاطع الطريق محض حق الله تعالى أم للآدمي فيه حق؟ فإن قلنا: للآدمي فيه حق، فيبقى القصاص، وإن سقط تحتُّم القتل حقاً لله تعالى.
وإن قلنا: لا حق للآدمي، فإذا سقط القتل بالتوبة، فلا قصاص للآدمي، ولا دية، وهو كما لو مات المحارب وفات الحد، وقلنا: القتل محض حق الله تعالى، فلا دية لولي الدم، وهذا لا ينكر ضعفَه فقيه، ولكنه قياس ما قدمناه من التفاريع.
فانتظم مما ذكرناه أنا إن قلنا: للآدمي حقٌّ، بقي القصاص، وسقط التحتم بالتوبة، وإن قلنا: لا حق للآدمي، فإذا تاب قبل الظفر، ففي بقاء القصاص وجهان: أحدهما - أنه يسقط، وهو قياس هذا القول الضعيف. والثاني - لا يسقط، وهو الذي صححه الأئمة (1) .
ونحن نقول: إن كان هذا هو الصحيح، فإطلاق القول بأن القتل محض حق الله تعالى لا وجه له، بل الوجه أن نقول: الغالب حق الله تعالى، أو حق الآدمي. والذي يقتضيه قياس المذهب إثبات الحق على الشَّوْب والاشتراك من غير تغليب، فإن حصل التوافق على القتل، [فذاك] (2) ، وإن فات الحد، بقي حق الآدمي، وإن عفا الآدمي، فله المال، وحق الله يستوفى، فهو إذاً قتلٌ معلل بعلّتين، ولو أمكن قتلان لأثبتناهما.
__________
(1) ت 4: " القاضي ".
(2) سقطت من الأصل.(17/311)
فصل
11187- المحارب إذا جنى جنايةً على بعض من في الرفقة، فإذا كانت تلك الجناية لا توجب القصاص كالجائفة، وما في معناها، فلا يُجرح المحارب بسبب جرحه، وإن جنى جناية يتعلق بمثلها القصاص، مثل أن يُبين عضواً من أعضاء القصاص، فقد قال بعض الأصحاب: إن قَطَع من الجوارح، وهي اليدان والرجلان، فمعلوم أنها تُستحق (1) لله حداً، فإذا تضمنت الجناية إبانة عضو من هذه الأعضاء فيتحتم قطع ذلك العضو من المحارب، كما يتحتم قتله إذا قَتل، ثم يجري التفريع في الطرف على حسب جريانه في القتل.
ولو قطع المحارب عضواً [من أعضاء] (2) يتعلق بقطعها القصاص، ولكنها لا تُستحق حقاً لله تعالى، كقطع الأذن والأنف وفقء العين، فهل يتحتم قطع ذلك العضو منه، أم يجب القصاص على حكم الخِيَرة؟ فعلى وجهين وتوجيههما بيّنٌ، هذه طريقة.
وذهب معظم الأصحاب إلى طرد القولين في اليدين والرجلين، فقالوا: في تحتم [قطع] (3) هذه الأعضاء من المحارب إذا قطعها قولان: أحدهما - أنه لا يتحتم قطعها، [وإنما التحتم في القتل، فحسب. والثاني - أنه يتحتم قطعها] (4) ثم طردوا هذا الخلاف في الأعضاء كلها، إذا كانت أعضاءَ القصاص.
ومن جمع طرق الأصحاب نظم في الأعضاء التي هي أعضاء القصاص ثلاثةَ أقوال:
أحدها - أنه لا يتحتم استيفاؤها من المحارب، إذا أبانها. والثاني - أنه يتحتم من غير فصْل. والثالث - أن التحتم يجري في اليدين والرجلين دون غيرهما.
ولو جرح المحارب واحداً من الرفقة، وانجلى القصد والدفع، فمات ذلك
__________
(1) ت 4: " أنها مما يستحق لله تعالى حداً ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) زيادةٌ منا حيث لا وجود لها في النسختين.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4) .(17/312)
المجروح بعد أيام مثلاً، فالقتل يجب حداً، وإن لم يتم في حالة المحاربة، ولو جرح وتاب قبل الظفر، وحصل الموت والزهوق بعد الظفر، [فالتوبة قبل الظفر] (1) هل تؤثر في إسقاط تحتم القتل؟ (2 هذا فيه احتمال؛ لأن القتل يجب عند الزهوق، وهو إذ ذاك مظفور به، ولعل الأظهر سقوط تحتم القتل 2) نظراً إلى حالة الجرح، وهذا يلتفت على مسائلَ من هذا الجنس ذكرناها في أول الجراح، منها: أن كافراً لو جرح كافراً ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، ففي وجوب القصاص على الجارح وجهان.
فصل
قال: " ومن تاب منهم قبل أن نقدر عليهم ... إلى آخره " (3) .
11188- قاطع الطريق إذا تاب قبل الظفر به، فالتوبة تُسقط الحدودَ المختصة بالحرابة، قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . ثم قال الأئمة: العقوبات المختصات بالحرابة ثلاثة (4) : التحتم في القتل إن كان قتلٌ، والصلب إن استوجبه بسببه، وقطع الرجل، فأما قطع اليد، فليس من خصائص الحرابة؛ فإن السارق تقطع يمناه، ففي سقوط قطع اليد إذا وقعت التوبة قبل الظفر وجهان: أحدهما - أنه لا يسقط، لما ذكرناه من أنه ليس مختصاً بالحرابة. والثاني - أنه يسقط؛ فإن اليد والرجل كالعضو الواحد؛ فإذا سقط قطع الرجل، لم يتبعض
الأمر، وترتب على سقوط قطع الرجل سقوط قطع اليد.
هذا إذا تاب قبل الظفر.
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 4) .
(3) ر. المختصر: 5/173.
(4) إذا تقدم المعدود يجوز الموافقة في التذكير والتأنيث. نقول: العقوبات ثلاث (على المشهور) والعقوبات ثلاثة. وهذا أيضاً صحيح، وإن لم يكن دائراً على الألسن.(17/313)
11189- وإن تاب بعد الظفر، ففي سقوط العقوبات [مما] (1) يختص بقطع الطريق وما لا يختص به قولان، وأجرى الأصحاب هذين القولين في سائر الحدود كالقطع في السرقة، وحد الشرب، والزنا، وقد ذكرنا هذا في كتاب الحدود.
والذي نريده هاهنا أن تخصيص التوبة بما قبل الظفر وتقييدها به، يكاد أن يكون نصّاً في أن التوبة بعد الظفر لا تؤثر، ولكن من نَصَر قولَ قبول التوبة في الحدود كلها، عارض هذا التقييد أوّلاً بجريان ذكر التوبة على أثر آية السرقة؛ فإنه تعالى قال بعد آية السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] فاقتضى هذا تأثيرَ التوبة في حد السرقة، فلو قال قائل: ليس لسقوط الحد ذكرٌ في هذه الآية، وإنما ذكر الله تعالى المغفرة؟ قيل: لم يجر في التوبة قبل الظفر في آية المحاربة أيضاً ذكر الحدود وسقوطها، ولكن ذكر المغفرة في الموضعين في العقوبات الثابتة لله تعالى، ظاهرٌ في
إسقاطها.
11190- ومما تعرض له بعض المحققين أن الله تعالى ذكر توبة المحارب قبل الظفر، ولم يقيده بالإصلاح، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وذكر التوبة بعد آية السرقة وقيدها بالإصلاح، فقال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] فالتوبة المجردة قبل الظفر تُسقط الحدودَ على التفصيل المقدم من غير إصلاح الحال. وإذا قلنا بقبول التوبة (2) بعد الظفر، فنفس إظهار التوبة لا يُسقط الحد حتى ينضم إليها إصلاح الحال، وكذلك القول في سائر الحدود إذا قلنا: إنها تسقط بالتوبة.
وهذا كلام حسن مستند إلى ظاهر القرآن، وفيه طرفٌ من المعنى، وهو أن التوبة قبل الظفر في غالب الأمر لا تصدر إلا عن إضمار (3) صحيح، وإذا فرض إظهار التوبة
__________
(1) في الأصل: ما.
(2) في الأصل: " التوبة المجرّدة "، والمثبت من (ت 4) ، حيث أطلقت التوبة ولم تقيدها (بالمجردة) ، وهو الذي يقتضيه القياس.
(3) ت 4: " احتمال ".(17/314)
بعد الظفر، فالغالب أنه صادر عن [ضبطٍ] (1) تحت القهر واستيلاء يد الإمام.
وهذا وإن اتجه على الوجه الذي ذكرناه، فتفريعه عسر، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. وهذا التفصيل يحكى عن القاضي. والأصحابُ مجمعون على أنا إذا حكمنا بأن التوبة تُسقط الحدود، فمجرد إظهارها كافٍ، وهو بمثابة إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف.
ثم سبيل التفريع على ما ذكره القاضي أن من أظهر التوبة امتحناه سراً وعلناً، فإن ظهر الصلاح في أعماله، حكمنا بسقوط الحد، وإن بدا نقيض ذلك، فالتوبة لا تُسقط الحد.
وهذا كلام مضطرب، فإن هذا التائب إن حُبس، كان محالاً، وإن خلّي سبيله، فلا معنى لاتباعه بهناة تصدر منه، وقد [يزلّ بعضَ الزلل] (2) ، ثم [لا ندري] (3) أن الإصلاح مرعيٌّ في قبيل من تاب عنه، أو في جميع الأحوال، ولا ضبط لهذا الكلام.
وأنا أقول: ذكر التوبة المجردة قبل الظفر يدل على سقوط الحد بها، وذكْر التوبة مع إصلاح العمل يدل على المغفرة باطناً، والحدود مقامة، والوجه تصحيح منع قبول التوبة إلا في المحاربين (4) ، وتنزيل الكلام على الآية المطلقة والمقيّدة على ما ذكرناه.
__________
(1) في النسختين: " خبط ". ولعلها محرفة عن (ضبط) التي أثبتناها. فالضبط هو الأخْذ بالحزم والشدة والقهر. (المعجم) .
(2) في الأصل: " وقد ترك بعد الزنا " وت 4: " وقد نزل بعض الزنا " والمثبت من تصرف المحقق على ضوء السياق.
(3) في الأصل: ثم لا بد في أن، والمثبت من (ت 4) .
(4) ما استقرّ عليه المذهب هو ما قاله الإمام هنا،، قوله: إن الصحيح قبول التوبة في المحاربين قبل القدرة عليهم وسقوط الحد بها، وعدم سقوط الحد بها في غير المحاربين (ر. الشرح الكبير: 11/258، والروضة: 10/158) .(17/315)
فصل
قال: " ولو شهد شاهدان من أهل الرفقة ... إلى آخره " (1) .
11191- إذا شهد شاهدان من الرفقة على المحاربين وقالوا: هؤلاء تعرضوا لهؤلاء، فأخذوا أموالهم، وقتلوا منهم، وفصّلوا ما يجب تفصله، ولم يتعرضوا لقصد المحاربين إياهم، فالشهادة مقبولة، ووجهه بيّن، وليس على القاضي أن يستكشف ويبحث ويقول: هل أنتم من أهل الرفقة؟ فإن سأل عن هذا، فلهم ألا يجيبوه، وإن ألحّ، قالوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا، وإنما عندنا شهادة أقمناها، وسيأتي نظائر هذا في الشهادات، إن شاء الله تعالى.
ولو قال الشهود: تعرضوا لنا، فذكروا أنفسهم وأصحابهم، فشهاداتهم مردودة؛ لأنهم صدّروها بإظهار العداوة، وكذلك لو شهد شاهدٌ أن فلاناً قذف أمه وفلانة، فشهادته غير مقبولة لأمه، ولا لفلانة؛ لأنه أظهر بها سبب العداوة.
ولو شهد شاهد بمالٍ مشترك بينه وبين صاحبٍ له، فشهادته لنفسه مردودة في حصته، وفي قبول شهادته لشريكه قولان، سيأتي أصلهما وتفريعهما، إن شاء الله تعالى والقدْر الذي هو غرضنا هاهنا أن الشريك بشهادته لم يظهر عداوةً توجب تعميم الرد في شهادته، فلذلك لم نقطع برد شهادته لشريكه.
فصل
قال: " وإذا اجتمعت على رجل حدود ... إلى آخره " (2) .
11192- إذا اجتمعت على رجل عقوبات، فلا يخلو إما أن يكون الكل حقاً لله تعالى، أو حقاً للآدمي، أو البعض حق لله تعالى، والبعض للآدمي، فإن كان الكل
__________
(1) ر. المختصر: 5/173.
(2) ر. المختصر: 5/173.(17/316)
حقوقاً للآدمي مثل: أن يجتمع على رجل حد قذف، وقطعُ يدٍ لإنسان قصاصاً، وقتلٌ في النفس على سبيل القصاص.
قال الأئمة: إذا ازدحم الطالبون، فالبداية بحد القذف، ثم إذا جلدناه، نتركه حتى يندمل، ثم نقطع، [ولا] (1) يتركُ حتى يندمل، بل يقتل في الحال، إذا طلب المستحِق؛ لأن المقصود إهلاك (2) الجملة، ولم يبق غيره، وإنما لم نقطعه على أثر حدّ القذف، لأنا لو فعلنا ذلك، لأوشك أن يموت بالجلد والقطع، ويفوت حق القصاص في النفس.
هكذا ذكره الأصحاب.
11193- وفي هذا بحثٌ وفضل نظر؛ من جهة أن الحدّ، والقطعَ، والقتلَ قصاصاً لو ثبت لثلاثة نفر، فإذا أقيم الحد، فإن كان تأخير القطع بسبب إبقائه، فهو مستحَق الدم، فلا معنى لتقرير الضنّة بدمه، وإن كان السبب في الإمهال وانتظار الاندمال ألا يسقط القصاص في النفس ولا يفوت.
[فإذا] (3) اجتمع مستحق الجلد والقتل والقطع، ورضي الكافة بإقامة الحقوق وِلاءً، وقال صاحب النفس: إن كنتم تتركونه بعد الجلد لحقي، فقد رضيت، فعجلوا القطع، فهذا محل النظر: يجوز أن يقال: إذا وقع الرضا، ابتدرنا الجلد والقطع بعده، ثم القتل.
ويجوز أن يقال: لا بد من المَهَل بين الجلد والقطع؛ لأن مستحق الدم قد يبدو له ألا يقتل، وقد رُتب تقدّم الجلد والقطع على حقه. ولو أتبعنا الجلدَ القطعَ، فليس ما يفرض من موتٍ بسبب توالي العقوبتين واقعاً عن القصاص المستحق في النفس، فهذا يُفضي إلى موتٍ غيرِ معتد به، ولا سبيل إلى إهدار الروح.
وهذا الوجه أظهر وأفقه.
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) ت 4: هلاك.
(3) في الأصل: وإذا.(17/317)
وإن علمنا قطعاً أنه لو جلد وقطع على التوالي، لم تَفِض نفسُه على الفور -وإن صار لما به (1) - فإذا قال صاحب النفس: عجلوا، وأنا أقبل، فيجب القطع هاهنا؛ فإن له ذلك، وما قدمناه فيه إذا كنا نجوّز أن تفيض نفسه لتوالي العقوبتين جميعاً، فنقول: لو فعل ذلك، لهلكت النفس، لا عن جهة القصاص، فلو قال القائل: إذا كان يتأتى الموالاة في أزمنة متقاربة (2) بين هذه العقوبات، فقد يخطُِر (3) لمستحق النفس أن يعفو، ولو عفا، فربما يهلك من والينا عليه بين العقوبتين؟ قلنا: هذا لا مبالاة به الآن، فلا يجوز ترك حق الإنسان بناء على أنه قد يعفو.
11194- فخرج مما ذكرناه أن مستحِق النفس إن كان غائباً في الصورة التي صورناها، فلا وجه إلا الإمهال بين الجلد والقطع، وإن حضر وكان من الممكن لو (4) والَيْنا بين العقوبتين أن تفيض النفس بالقطع [اختراماً] (5) ، فهذا محل التردد، والأظهر الإمهال، وإن كنا نعلم أن [الاخترام] (6) لا يقع، فلا وجه للتأخير عند الطلب.
وتبينا من هذا المنتهى مسألةً وهي أن من استُحِقت يدُه قصاصاً، واستُحِقت نفسه
__________
(1) كذا في النسختين: (وإن صار لما به) ولم أدر لها وجهاً، ولم أعرف ما فيها من تصحيف وهي جملة معترضة على أية حال، ومعناها -كما هو واضح من السياق- أنه يوالي بين الجلد والقطع، وإن صار بذلك إلى مماته، ما دام ستبقى فيه حياة مستقرة بعد القطع تتيح استيفاء القصاص في النفس. هذا، ولم يتعرض الغزالي في البسيط ولا الرافعي في الشرح الكبير، ولا النووي في الروضة، ولا العز بن عبد السلام في مختصره- لم يتعرض أي من هؤلاء الكرام إلى هذا المعنى مع تفصيلهم للمسألة وحكمها.
(2) ت 4: متفاوتة.
(3) يخطر: من بابي ضرب وقعد.
(4) ت 4: وإن والينا.
(5) في الأصل: (احراما) بهذا الرسم وبدون نقط. وت 4: (احتراما) كذا رسماً ونقطاً.
والمثبت تقدير من المحقق، والمعنى: أننا إذا توقعنا أن تخرج نفسه بسبب توالي الجلد والقطع، فهذا محل التردد. وذلك أن الاخترام هو الهلاك بالجوائح، وليس حتف الأنف (ر. المصباح) .
(6) في الأصل: الإحرام. و (ت 4) : الاحترام.(17/318)
أيضاً قصاصاً، فالبداية بإجراء القصاص في الطرف، ولا فرق بين أن يتقدم استحقاقه للقصاص وبين أن يتأخر، فإن المرعي في هذا الباب ألا نفوّتَ على ذي حق حقاً، وهذا لا يُتلقى من الترتيب في الاستحقاق، والدليل عليه أنا نقدم حدّ الله تعالى في الاستيفاء إذا كان دون النفس على القتل المستحَق قصاصاً، وإن كان حق الآدمي في العقوبة مقدماً على الحد.
والغرض من هذا المساق أن مستحِق الطرف لو عفا عن الطرف، فالقصاص قائم في النفس، ولو لم يعف مستحق الطرف، ولكن كان يؤخر استيفاءَ القصاص، [فإجباره] (1) على التعجيل محال، وحمله على [العفو محال] (2) ، وتفويت حقِّه بتسليط مستحق النفس على القتل لا وجه له.
وينتظم من هذا المجموع أن من يستحق أنملة من إنسان يتسبب إلى تأخير القصاص في نفسه، وإنما فرضنا في القصاص، (3 لأن حق الله تعالى يعجل، والإمام محمول عليه، وهذا لا يتحقق في القصاص؛ فإن مستحق الطرف في القصاص 3) ، لا يُحَثُّ على [الاستيفاء] (4) ولا يؤمر بالعفو، ولا نفوِّت حقّه، ولكن مستحق النفس لو ابتدر، وقتل، وقع القصاص في النفس موقعه، ويسقط القصاص في الطرف لفوات المحل وآل أمر مستحِق الطرف إلى المال، وما ذكرناه فيه إذا كانت العقوبات حقوقاً للآدميين.
11195- فأما إذا اجتمعت عقوبات لله تعالى، كحد الشرب، وحد الزنا بالجلد، وقطع اليد، والقتل في الحرابة، فلا بد من البداية بالأخف منها، وهذا الترتيب مستحَق، فإنا إذا فعلنا ذلك، وضممنا إليه الإمهال بين العقوبتين، كان ذلك مسهِّلاً طريق إقامة الحدود، مانعاً من الفوات في البعض، ثم إذا حددناه للشرب،
__________
(1) زيادة من (ت 4) .
(2) في الأصل: " وحمله على العقوبات، وتفويت ... إلخ ".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 4) .
(4) في الأصل: " استيفاء "، والمثبت من (ت 4) .(17/319)
[نتركه] (1) حتى يندمل، ثم نحده للزنا، ونتركه حتى يندمل، ثم يقطع، فإذا بقي القتل، فلا معنى للتوقف، والإنجاز والإراحة أوْلى.
ولو كان بعض العقوبات حقاً لله تعالى والبعض حقاً للآدمي مثل: أن شرب، وقذف، وقطع يد إنسان قطْعَ قصاص، وزنى وهو ثيب؛ فحد الشرب أخف، ولكنه حق لله تعالى، وحد القذف أغلظ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبدأ بحد الشرب لخفته، ولما مهدناه [من الترتيب] (2) في توفية الحقوق. والثاني - البداية بحق الآدمي وهو حد القذف؛ فإن حقه أولى بالتقديم في العقوبات، ثم نتركه حتى يندمل، ونوفي بقية الحدود على الترتيب المقدم.
ولو اجتمع حدُّ زنا البكر، وقطعُ الطرف في القصاص، فهذا يخرج على الوجهين المذكورين في حد الشرب وحد القذف إذا اجتمعا، فإن قلنا: البداية بالأخف ثَمَّ، فها هنا نبدأ بحد الزنا؛ فإن الجلد أخفُّ [من] (3) القطع، وإن قلنا: البداية بحق الآدمي، بدأنا بالقطع، ثم نمهله حتى يبرأ، ثم نحده.
هذا هو الترتيب في اجتماع العقوبات.
11196- ومما يليق بهذا المنتهى أن المحارب إذا استوجب قطع طرفين، فقد قال الأئمة: نوالي بين القطعين ولا نمهله ليبرأ عن قطع اليمين، والسبب فيه أن قطع العضوين من المحارب حدٌّ واحد، والحد الواحد لا يتبعض استيفاءً، كما لم يتبعض وجوباً، ولو وجب عليه قطع الرِّجل قصاصاً، وقطْع اليمين عن جهة السرقة، فنبدأ بتوفية القصاص، ثم نمهله إلى أن يبرأ، ثم نقطع يمناه عن السرقة؛ فإن العقوبتين مختلفتان، ولا بد من رعاية هذا الترتيب.
والمحارب [إذا] (4) كان يستوجب قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى قصاصاً في غير حالة المحاربة، ثم حارب، وأخذ المال، فاستُحِقَّت يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم
__________
(1) في النسختين: " ونتركه ".
(2) زيادة من (ت 4) .
(3) في النسختين: " في ".
(4) في الأصل: " وإذا ".(17/320)
أجرينا القصاص في يده اليسرى ورجلِه اليمنى، فلا نقطع طرفيه الباقيين حداً حتى يبرأ، ولو قطع يمين إنسان، ووجب القصاص عليه في يمناه، ثم سرق سرقةً توجب عليه القطع، فقد ازدحم على يمناه الحد والقصاص، ولكن القصاص مقدّم، وهذا متفق عليه.
فإن قيل: [قطعتم] (1) القول بتقديم حق الآدمي في العقوبة إذا فرض الازدحام، كما صورتموه، وردّدتم الأقوال في حقوق الأموال، وقلتم في قولٍ: نقدم حق الله تعالى على حق الآدمي، فما الفاصل بين الأصلين؟
قلنا: حق الله تعالى في العقوبات يتعرض للسقوط بالشبهات، حتى انتهى الأمر فيها إلى قبول الرجوع عن الإقرار بها، وحق الآدمي في العقوبة آكد، ولا يسقط بما يسقط به حق الله تعالى؛ فاقتضى ذلك تقديم الآكد، والحقوقُ المالية وإن أضيفت إلى الله تعالى، فإنها لا تتعرض للسقوط بالشبهات، وانضاف إليه أن مصرف حقوقِ الله تعالى في الأموال للآدميين، فكأنه يجتمع فيه حق الآدمي والتأكد بالإضافة إلى الله تعالى. هذا هو الفرق بين الأصلين.
والذي يعضّد هذا أن من استحق القصاص فوافى الجاني في شدة حرٍّ أو برد، لم يجب عليه أن يؤخر الاقتصاص في الطرف، وقد نوجب تأخير الحد عن شدة الحر والبرد.
ولو جرى اقتصاص في طرفٍ، وفرض بعده استحقاق طرف في حدٍ، فإنا نؤخر استيفاء الحد إلى أن يبرأ، ولو فرض استيفاء حدٍّ في طرف، ثم وجب القصاص في طرف آخر، أو كان واجباً، فليس على مستحِق القصاص أن يؤخره.
والذي قدمناه في صدر الفصل من الإمهال بين الجلد والقطع قصاصاً مفروضٌ فيه إذا كان بعد القطع قتلٌ يخشى فواتُه، ثم فيه من التفاصيل ما مضى.
11197- ولو وجب على الإنسان القصاص لأسبابٍ، فلم يتفق استيفاؤه حتى أخذ المال في المحاربة؛ فيجب عليه قطع اليد اليمنى قصاصاً وحداً، ويجب قطع الرجل
__________
(1) زيادة من (ت 4) .(17/321)
اليسرى حداً، فإذا طلب مستحق القصاص حقه، أجيب إليه، ثم إذا قطعت اليمنى قصاصاً، فهل نمهل المقطوعَ منه إلى أن يندمل؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا لا نمهله، وهو الأقيس؛ لأن القصاص لو لم يكن، لَوالَيْنا بين القطعين، وقد تعلق وجوب الحد بالطرفين، غيرَ أنا قدمنا القصاص، ثم قلنا: بقيت الرجل للحد، فلتقطع.
والوجه الثاني - أنا نمهل؛ لأن اليد إذا قطعت قصاصاً، [فكأنها] (1) لم تكن مستحَقةً حداً، وكان لا يستحق في الحد إلا الرجل، ولو استُحِقَّ من الرَّجُل طرفان: أحدهما - عن جهة القصاص، والآخر - عن جهة الحد؛ فإذا قطع الطرف المستحَق قصاصاً، فلا بد من الإمهال إلى الاندمال.
ولو استُحِقت يمناه ورجلُه اليسرى قصاصاً، [وقَطَعَ] (2) في الحرابة الطريقَ [فاستُحِقت] (3) يدُه اليمنى ورجله اليسرى حداً، فإن طلب مستحق القصاص، مكناه من قطع الطرفين، ثم يسقط الحد بفوات المحل، على ما تمهد. وهذه المسائل، لا إشكال فيها.
ولكن [المخوف] (4) فيها على الناظر أن تزدحم عليه، ويُلهَى فكره عن التفصيل.
11198- ومن تمام هذا الفصل أن من زنى مراراً، ولم يتخلل بين الزنيات استيفاءُ الحد، فإن كانت الحدود متفقة، وإنما يفيد فرضها بالجلد، حتى يتصور تكريرها، فإذا كان كذلك، اكتفينا بجلد مائةٍ وتغريبه عاماً، ثم لا يفضّ الحد على الزنيات، بل نقول: هو في مقابلة جملتها، وكان شيخي يقول: جملة الحد مقابل بكل زنية، وإذا انتفى عن فكر الفقيه التقسيط، فلا مشاحة بعد ذلك في العبارات.
وقد تردد العلماء على وجهٍ آخر، فقال قائلون: يجب حدودٌ على أعداد الزنيات، ثم تتداخل، وقال آخرون: الزنيات إذا لم يتخللها الحد كالحركات في زنية واحدة،
__________
(1) زيادة من (ت 4) . ومكانها بياض بالأصل.
(2) في الأصل: " وقطعاً ". والمثبت من (ت 4) .
(3) في النسختين: " واستحقت ".
(4) في الأصل: " الجواب ". والمثبت من (ت 4) .(17/322)
وهذا أقرب، فإن الوجوب والسقوط يجر خبلاً واضطراباً فىِ الكلام. ثم اتحاد الحد محمول على ابتناء حدود الله تعالى على الدرء والدفع، والعجب أنه لا يجب بالوطآت في نكاح شبهة إلا مهر واحد، فاشتمال الشبهة الواحدة على جميعها يجعلها كالوطأة الواحدة.
11199- ولو زنى الرجل بكراً، ثم ثاب (1) وأحصن، فزنى مرة أخرى، فموجب الزنية الأولى يخالف موجبَ الزنية الثانية، والمذهب الاكتفاء بالرجم ومن أصحابنا من قال: يجمع بين الجلد والرجم؛ فإنهما مختلفان، ليس أحدهما في معنى الثاني (2) ، فصارا كعقوبتين [لجريمتين] (3) مختلفتين، والله أعلم (4) .
***
__________
(1) ثاب: أي صار ثيباً.
(2) لم يرجّح شيخا المذهب: الرافعي والنووي أحدَ الوجهين، مثلما فعل إمام الحرمين، بل اكتفيا بأن قالا: الأصح عند الإمام والغزالي أنه يكتفى بالرجم ويدخل فيه الجلد، والأصح عند البغوي وغيره أنه يجمع بين الحدين: الجلد والرجم.
ولكنهما رجّحا -عند الجمع بين الحدين- القول بدخول التغريب في الرجم، أي يجلد ثم يرجم، ولا تغريب، بل يدخل في الرجم. (ر. الشرح الكبير: 11/271، والروضة: 10/166) .
(3) في الأصل: كعقوبتين ويمين. وفي (ت 4) : كعقوبتين جريمتين.
(4) إلى هنا انتهى هذا الجزء من نسخة (ت 4) ، وجاء في خاتمتها ما نصه:
" آخر الجزء التاسع عشرة (كذا) من نهاية المطلب، ويتلوه في الجزء العشرون كتاب الأشربة والحد فيها.
وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد، وآله أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً".(17/323)
كتاب الأشربة والحد فيها (1)
قال الشافعي رحمه الله: " كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ... إلى آخره " (2) .
11200- التعرض لما يحل ويحرم من الأشربة والأطعمة سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى، وغرض هذا الكتاب ذكر تحريم المسكرات، وما في معناها، ومذهبنا أن كل ما أسكر كثيره، فهو نجس. والقليل منه كالكثير في التحريم. والمسكر ما يخبل العقل ويطرب، والمحرم باتفاق العلماء الخمرُ المطلقة، وهي المتخذة من عصير العنب إذا كان نيّئاً، واشتد وغلا وقذف بالزَّبَد، ثم إسكار ما يسكر كإشباع ما يشبع وإرواء ما يَروي. ومذهب أبي حنيفة (3) مشهور مذكور في الخلاف، مردود عليه بالأخبار والآثار وطرق الاعتبار.
ثم من شرب مسكراً، فقد تعاطى محرماً. وسبيل القول في الحد أن ما وقع الوفاق على تحريمه من الخمور؛ فلا خلاف في تعلق الحد بشربه، وهو الذي قال الفقهاء: يكفر مستحله. والمعنيّ به أنه يكفر من علم أنها محرمة شرعاً واستحلها؛ فإنّ
__________
(1) يبدأ تحقيق هذا القسم من الكتاب إلى أثناء باب الجزية على أهل الكتاب على نسخة وحيدة هي (هـ 2) .
(2) ر. المختصر: 5/174.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 277، 278، مختصر اختلاف العلماء: 4/365 مسألة: 2058، رؤوس المسائل للزمخشري: مسألة 503، بدائع الصنائع: 5/112 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 9/22 وما بعدها، البحر الرائق: 8/247 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 5/288 وما بعدها. وأما الردود بالأخبار والآثار فانظرها في: مختصر خلافيات البيهقي: 5/5-27 مسألة: 305، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/925 مسألة 1860، رؤوس المسائل الخلافية للعكبري الحنبلي: 5/680-685 مسألة: 1939.(17/325)
استحلالَه لها مع العلم بأن تحريمها ثابت في الشرع ردٌّ للشرع، ورادُّ الشرع مكذبٌ للشارع، وإطلاق القول بتكفير مستحل الخمر لم يصدره الفقهاء عن ثَبَتٍ وتحقيق، وكيف يُكفَّر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من ردّ الإجماع، بل نبدّعه ونضلّله؟ والسرّ اللطيف في ذلك أنا نكفر من يصدق المجمعين في نسبتهم ما ذكروه إلى الشرع، ثم يرده.
وأما وجوب الحد، فلا شك فيه. فإن أسلم وكان قريب عهد بالإسلام، لم يبلغه تحريم الخمر فيما زعم، فجهله يدرأ الحد عنه، وهو بمثابة ما لو تعاطى شراباً حسبه حلالاً، ولم يشعر بكونه خمراً. وإن علم التحريم وجهل الحدَّ، حُدّ.
وأما الأشربة المسكرة التي أباحها أبو حنيفة؛ فقد قدمنا قول الشافعي في إقامة الحد على الحنفي مع قبول شهادته، ونقلنا خلاف الأصحاب في كتاب الحدود، وفصلنا بين استحلال الحنفي النبيذ وبين استحلال الذمّي الخمر.
11201- قال الشافعي: " من شرب شراباً ظنه غير مسكر فسكر، ومرت عليه مواقيت صلوات، فلا قضاء عليه " وأجمع الأصحاب أنه أراد بما قال أن ما يظنه غير مسكر في جنسه، فيكون كالمغمى عليه تمرّ عليه مواقيت الصلوات. فأما إذا علم أن جنسه مسكر، وظن أن قدره لا يسكره، فإذا سكر لم يُعذر، ويلزمه قضاء الصلوات التي تمر عليه مواقيتها في حالة السكر. وقد تمهدت هذه الأصول فيما سبق.
11202- والذي نرى الاعتناء به التداوي بالخمر عند فرض مسيس الحاجة إليه.
وقد أطلق الأئمة المعتبرون أقوالهم في الطرق أن التداوي بالخمر محرم، وأن التداوي بها محذور، وهذا كلام مبهم متروك على إشكاله. ونحن نذكر ما بلغنا من كلام الأصحاب وننقله على وجهه، ثم نَجري على دأبنا في البحث والتنقيح وردّ الأمر إلى ما يجب تنزيله عليه.
قالوا: من غُصَّ بلقمةٍ ولم يجد شيئاً يُسيغها إلا الخمر، فيجب تعاطيها، ومن أكره على شرب الخمر، لزمه شُربُها إذا خاف على روحه، أو ما يحل محل الروح.
وقد تقدم تفصيل القول في الإكراه.(17/326)
فلو أشفى (1) بسبب العطش، ولم يجد ما يطفىء غُلته إلا الخمرَ، تعيّن عليه شُربُها، كما يتعيّن على المضطر أكلُ الميتة. هذا قول الأصحاب أجمعين.
ثم تعرضوا للتداوي بالخمر وأجرَوْا ترتيبَ المذهب على أن التداوي بالأعيان النجسة سائغ كالترياق، وفيه لحوم الحيات وما في معناها من المعاجين التي تشوبها الأعيان النجسة، ورأَوْا الخمرَ مستثناة من الأعيان لتخصيص الشرع إياها، ثم [من آثار التغليظ فيها] (2) الحدُّ، واسترْوَحوا في ذلك إلى ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فنهى عنه. وقال: " إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " (3) .
ثم بلغنا عن آحادٍ من الأئمة المتأخرين التشبيب (4) بجواز المعالجة (5) بالخمر من غير تدوين ذلك في تصنيف، وإنما ترامزوا به ترامز المتكاتمين. فهذا مسلك النقل.
11203- ومسلك التحقيق فيه: أن التداوي بالأعيان النجسة عندنا بمثابة تعاطي الميتة بسبب الضرورة، والحد الذي يجوز أكل الميتة له سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله.
والقدر الذي نذكره هاهنا أنا نشترط العلم بأن تعاطيه يدرأ الضرورة، ثم في حد
__________
(1) أشفى: أي قارب الهلاك.
(2) عبارة الأصل: " ثم أثار من التغليظ منها الحد ".
(3) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم " أخرجه ابن حبان، وأبو يعلى والطبراني في الكبير، والبيهقي في الكبرى، كلهم من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً عن ابن مسعود، قال الحافظ: وقد أوردته في تغليق التعليق إليه من طرق صحيحة. وللحديث شاهد عند مسلم من حديث وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها وكره أن يصنعها للدواء فقال: " إنه ليس بدواء ولكنه داء ". (ر. صحيح ابن حبان: 2/335 ح 1388، مسند أبي يعلى: ح 6966، الطبراني في الكبير 23/356، البيهقي: 10/5، البخاري: الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، مسلم: الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، ح 1984، التلخيص: 4/140 ح 2112) .
(4) في الأصل: " التسبيب "، والمثبت من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ إمام الحرمين.
(5) في الأصل: " المعاجلة ".(17/327)
الضرورة كلامٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
فالتداوي الذي يتلقى من الأطباء في غالب الأمر لا يبلغ هذا المبلغ قطعاً. والبصير المتبحّر في الطب لا يجزم قضاءً على المريض. وهو المعني بقول بقراط: " التجربة خطر والقضاء عسر " (1) . والمراد أن القضاء بماهية المرض ثم بعلاج ناجع فيه عُسر؛ فإن صناعة الطب أسندها مُسندون إلى التجارب، وهي مُخطِرة (2) ، مع اختلاف القوى والخَلْق، والعاداتِ التي سبقت المرور عليها، وأسندها المحققون إلى القياس ودَرْكه، والاطلاع عليه أعسر مُدركاً من كل معضل في المدارك، فكيف يتحقق القضاء من الطبيب على بتّ هذا، والحذّاق مجمعون على إقامة الأبدال في الأدوية، وقد صنف فيها العاري (3) كتاباً معروفاً.
ثم إن تحقق ما ذكرناه -وهيهات- فالحكم بأن ينفع [ويُدِرّ] (4) العافية لا سبيل إليه؛ فإن التعويل على القوة، وهي خوانة تخون، فلا سبيل -والحالة هذه- إلى إطلاق القول باستعمال الأعيان النجسة، فإن فُرض ظهور الحاجة، وغلبةُ الظن بالنفع، فيجوز استعمال الميتة في هذه الحالة، وقد قدمنا من كلام الأئمة أن الخمرة تستعمل حيث يحل تعاطي الميتة، فلا معنى لوضع المذهب على الفرق بين الخمر وغيرها.
ومما قَضَّيت العجبَ منه أن المتأخرين أوردوا حديثاً ولم يعوه، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فلم يجب عنها بل قال: " لم يجعل الله
__________
(1) معنى عبارة بقراط كما فسرها الغزالي في البسيط: " إن الحكم بالشفاء عسير؛ فإن مستنده التجربة، مع اختلاف القوى والخلق، والقياس، والعثور على حدّ العلة، ثم على الصلاح، ثم الحكم بقبول الطبيعة للشفاء، أمور موهومة، فهذا يقتضي المنع من الخمر " (ر. البسيط: 5/ورقة: 140 يمين) .
(2) مُخطِرة: أخطرتُ المال (إخطاراً) جعلته (خَطَراً) بين المتراهنين.
ويقال: بادية مخطِرة: كأنها أخطرت المسافر، فجعلته (خطراً) بين السلامة والتلف (المصباح) فالمعنى أن المتداوي بين السلامة والتلف، وليس مقطوعاً بتأثيره وفائدته.
(3) كذا. ولعلها مصحفة عن (الفارابي) .
(4) في الأصل: " ويدرأ ". ويُدرّ العافية: أي يستخرجها ويجلبها.(17/328)
شفاءكم فيما حُرم عليكم " فلم يخص الخمر بمزية، بل أبان أن كل محرم، فهو كالخمر المسئول عنها، فلا يجوز الهجوم على التداوي بها بناء على غير ثَبَتٍ في جلب نفع ودفع ضرر.
11204- ووراء ذلك إشكالٌ وانفصالٌ عنه، وهو التتمة، ولا يتأتى الغرض إلا بفرض كلام يدركه من شدا شيئاً من صناعة الطب، وليس يضرنا تبرّم الجاهل به، فنقول: من حميت منه أجرام القلب وفاتحته (1) الحمى المحرّقة، وبدت مخايل المدقوقين (2) ، فلا خلاف بين أهل الصناعة أن لحوم السرطان (3) إذا طبخت بماء الشعير، فهي أنجع علاج، ثم انفكاك الحمى المحرقة عسرٌ غيرُ موثوق به. فهذا مما حصل فيه العلم بأنه العلاج، ولا ثقة بالزوال، بل لا [بظنٍّ] (4) فيه غالب. فهذا موضع النظر، وهو محلّ التردد، يجوز أن يقال: لا يسوغ الإقدام عليه، فإن الانتفاع به غيبٌ، وهو كردّ السّغب، وسورة (5) الجوع بأكل شيء من الميتة، أو كإساغة غُصة أو تطفئة غُلة بمقدارٍ من الخمر، وهذا يعتضد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم ". وكذلك امتصاص ألبان الأُتُن من أطبائها (6) .
ويجوز أن يقال: هو مباح، فإنه لو ترك كان في تركه غَرَر، ولا يسوغ تعريض الأرواح للخطر، بسبب الامتناع عن تعاطي النجاسة؛ وما حرمت النجاسات إلا إكراماً للآدميين حتى يتقذروا، ويتعففوا، وهذا الغرض لا يعارض خطر الروح، ثم لو فرضت مثل هذه الحالة في التداوي بالخمر، فلستُ أعتقد بينها وبين لحوم السراطين
__________
(1) فاتحته الحمى: أي بادأته وبدأت تظهر عليه.
(2) المدقوقين: أي الذين أصيبوا بحمى الدِّق، وهي حمى معاودة يومياً، تصحب -عادة- السلّ الحاد. (المعجم الوسيط) .
(3) السرطان: حيوان بحري من القشريات العشريات الأرجل (المعجم) .
(4) في الأصل: " نظر ". والمثبت من عمل المحقق.
(5) السغب: الجوع مع تعب، و (سورة الجوع) شدّته وحدّته.
(6) أطبائها: جمع طُبْي: وهو لذات الخف والظلف كالثدي للمرأة، مثل قفل وأقفال، ويطلق قليلاً لذات الحافر والسباع. (المصباح) .(17/329)
فرقاً، وإن كان المنقول عن الأصحاب الفرق مع أنهم أطلقوا الكلام، ولم يفصلوه.
وسمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة [يقول] (1) : إن الخمر في المعاجين تلتحق بالأعيان النجسة وأما إذا استعملت في نفسها، فهي تنفصل حينئذ عن الأعيان النجسة، والذي يحقق ذلك أن من شرب كوزَ ماءٍ وقعت فيه قطرات من خمر، والماء غالب بصفاته، لم يحدّ، وقد تقصَّيت ذلك في كتاب الرضاع، عند ذكر اللبن المشوب، فليطلب في موضعه.
فإذا خفي الخمر في المعاجين، سقطت ماهية الخمر، وصارت عيناً نجسة، وهذا حسنٌ. على أن الرأي السديد على ما قدمناه في المنع من التداوي بكل نجس إذا لم يقطع به أو لم يعلم مثله، وإن علم أنه ناجع، فيجوز من غير فرق. وإن علم أنه العلاج والنفع مغيب، ففيه التردد. وفي كلام القاضي ما يشير إلى تجويز التداوي، وإن أبهمه ولم يفصله؛ فإنه قال: لو شرب على قدر التداوي، لم نحدّه، وهذا يشير إلى تسويغ التداوي.
وقد نجز ما ذكرناه.
فصل
قال: " ولا يحدّ إلا بأن يقول: شربت الخمر ... إلى آخره " (2) .
11205- مقصود الفصل بيان ما يَثْبُت به حدُّ الشرب. فنقول: إن أقر بأنه شرب الخمر، ثبت الحد عليه. وفيه غائلة سنشير إليها. ولو شهد الشهود على إقراره، فالجواب كذلك. ولو شهدوا أنه يشرب الخمر، فالحكم ما ذكرناه، ولو قالوا: شرب من شرابٍ في قدحٍ شرب الغير منه، فسكر، فهذا بمثابة ما لو شهدوا على أنه شرب المسكر، ولو وجدناه سكراناً، لم نحدّه؛ لجواز أن يكون قد أُوجر الخمر، أو أجبر على تعاطيها، وكذلك إذا وجدنا رائحة الخمر تفوح من نكهته، لم نحده، لما ذكرناه، ولا نسائل، ولا نلح في المباحثة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 5/174.(17/330)
وأما ما أشرنا إليه من غائلة الفصل، فهو أن الإقرار بالشرب متردد بين شربٍ يقع إجباراً [وشرب يقع اختياراً] (1) ، وقد أطلق الأصحاب القول بأن الإقرار بشرب الخَمر يُثبت الحدّ، وذكروا مثلَ ذلك من الشهادة على شرب الخمر. وهذا فيه إشكال، لما ذكرناه من التردد.
وقد ذكر أصحابنا خلافاً [في] (2) أن الإقرار بالزنا هل يكفي في إثبات الحد، أم لا بد من التفصيل، والزنا عبارة عن جريمة، وشرب الخمر عبارة عن جريمة، فإنا قد نوجب شرب الخمر؛ فإذاً [يحمل] (3) لفظ الإقرار والبينة على التردد، ووجه التردد في اللفظ ما ذكرناه، أما وجه الحكم بثبوت الحد، فهو أن الإنسان لا يقر على نفسه بالشرب وكان مكرهاً، فإطلاقه الإقرار قرينةُ أنه كان مختاراً، حالة محل التصريح، وكذا القول في الشهود.
والأوجه عندي أنه لا يثبت الحد ما لم يقع التعرض للاختيار. والعلم عند الله تعالى.
***
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وهي النسخة الوحيدة. والمثبت تقديرٌ منا.
(2) زيادة من المحقق.
(3) مكان كلمة غير مقروءة.(17/331)
باب حدّ الخمر ومن يموت من ضرب الإمام
11206- حقنا أن نصدّر هذا الباب بأحاديثَ وآثارٍ، ثم نُنْزل المذهبَ عليها.
روي أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بسكران، فقال: " اضربوه، فضربوه بالأيدي، والنعال، وأطراف الثياب، وحثُوا عليه الترابَ، ثم قال؛ بكّتوه، أي عيّروه ووبِّخوه- ثم قال: أرسلوه " (1) .
فلما كان في زمن أبي بكر أُتي بسكران، فأَحضر الذين شاهدوا ذلك، فقوّموه بأربعين جلدة، أي عدّلوه بها، وكان يَجلد في أيام خلافته أربعين (2) ، وكذلك عمر في صدر خلافته. ثم تتايع (3) الناس في شرب الخمر، فجمع الناس، واستشارهم، فقال: " إن الناس تتايعوا في شرب الخمر، واستقلوا هذا القدر من الحدّ، فماذا تَرَوْنَ؟ وكان عليّ رضي الله عنه فيهم، فقال: " أرى أن يجلد ثمانين؛ فإن من شرب، سكر، ومن سكر، هذى، ومن هذى، افترى؛ فأرى أن يبلغ حدَّ المفترين " (4) ، وكان يجلد عمر
__________
(1) حديث " أُتي صلى الله عليه وسلم بسكران فقال: اضربوه، فضربوه بالأيدي والنعال.. " رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي في الكبرى، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أزهر.
(ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/90 ح 292، أبو داود: الحدود، باب الحد في الخمر ح 4477، 4478، وباب إذا تتايع في شرب الخمر، ح 4487، 4489. النسائي في الكبرى، ح 5281-5287، الحاكم: 4/373-375، الدارقطني: 3/158، البيهقي: 8/320، التلخيص: 42/14، 143 ح 2115، 2117) .
(2) حديث تقدير الحد في زمن أبي بكر بأربعين جلدة، روي من حديث عبد الرحمن بن أزهر المتقدم، كما روي من حديث أنس، وهو في الصحيحين (ر. البخاري: الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر ح 6773، مسلم: الحدود، باب حد الخمر، ح 1706) .
(3) تتايع: التتايع: التهافت والإسراع في الشر واللجاجة. (القاموس المحيط) .
(4) خبر عمر أنه استشار فقال علي " أرى أن يجلد ثمانين، فإن من شرب سكر ... " رواه مالك في الموطأ (2/842) ، والشافعي في الأم (6/180) بسندٍ فيه انقطاع، قال الحافظ: ولكن=(17/332)
في بقية زمانه ثمانين، وجلد عثمان في خلافته ثمانين.
فلما آل الأمر إلى علي، عاد إلى أربعين، وقال: " ليس أحدٌ أقيم عليه حدّاً، فيموت، فأجد في نفسي منه شيئاً [من أن] (1) الحق قتله، إلا شارب الخمر، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن مات [منه] (2) ، فالدية على عاقلة الأمام، أو قال: في بيت المال " فالشك من الشافعي (3) ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حتى جُلد الشارب أربعين، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من شرب الخمر، فاجلدوه، فإن عاد، فاجلدوه، فإن عاد، فاقتلوه " (4) والقتل منسوخ بالإجماع في ذلك. وإنما نقل القول البعيد عن الشافعي في القتل في الكرّة الخامسة في السرقة.
11207- فإذا ثبتت هذه الأخبار، وقد استقصينا طرقها في الخلاف، فنقول: أجمع الأصحاب على أن الشارب يجلد بالسياط، ثم قال الأئمة: لو رأى الإمام ضرب الشارب بالنعال، وأطراف الثياب، كما نقل عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاز ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولم يثبت فيه نسخ، ولم
__________
=وصله النسائي في الكبرى، والحاكم من وجه آخر، ورواه عبد الرزاق (المصنف 7/378 ح 13542) . (ر. التلخيص: 4/142 ح 2116) .
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في كتاب (الغياثي) للإمام، حيث أورد الحديث هناك.
(2) في الأصل: منهم. والمثبت من لفظ الحديث.
(3) رواه الشافعي في الأم: 6/87، 176، 179، وهو في الصحيحين (ر. البخاري: الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال ح 6778، مسلم: الحدود باب حد الخمر ح 1707) .
(4) حديث قتل شارب الخمر إذا عاد مراراً، رواه أبو داود وابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان، والترمذي من حديث معاوية وأبي هريرة والنسائي من حديث ابن عمر وأبي هريرة (ر. أبو داود: الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر، ح 4482، الترمذي: الحدود، باب ما جاء من شرب فاجلدوه، ومن عاد في الرابعة فاقتلوه، ح 1444، النسائي: الأشربة، باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر ح 5664، 5665، ابن ماجه: الحدود، باب من شرب الخمر مراراً، ح 2573) .(17/333)
يعدل الصدّيق عنه إلا على تعديلٍ (1) وتقريب صدر عن اجتهاد، والسبب الذي سوّغ ذلك للصدّيق أنه لم ير لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ضبطاً يسير إلى التحديد، وعلم أن ما كان كذلك، فللاجتهاد فيه مساغ. فإذا جاز العدول إلى السياط، [فلئن يجوّزوا الضرب] (2) بالنعال وأطراف الثياب أولى. ثم الضرب معدلاً بمقدارٍ أمكنُ من تقدير ضربات ملتبسة بأربعين.
فإذا ساغ للصدّيق ما فعل، فلا منعَ من الرجوع إلى الأصل، هذا هو المذهب.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر أنه لا يجوز لنا الضرب بالنعال وأطراف الثياب؛ فإنا كُفينا مؤنة التعديل، وقد بعد العهد وتناسخت العصور، ونحن لو ضربنا بالنعال بين أن نحط عن القدر المستحق، وبين أن نزيد. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالمذهب غيره، وقد نقله العراقيون، وزيفوه.
ولو رأى الإمام أن يجلد الشارب ثمانين تأسياً بما استقر عليه رأي أمير المؤمنين عمر، فالذي ذكره شيخي ومعظم الأئمة أن ذلك سائغ، على ما سنوضحه بالتفريع، إن شاء الله تعالى.
وقال القاضي: الصحيح من مذهبنا أنه لا مزيد على ما رآه الصدّيق في زمنه؛ من أنه عدله الشهادة (3) الذين شاهدوا ما جرى في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان مستندُ حكمه ما ذكرناه. والذي رآه عمر رأيٌ له، ونحن لا نلتزم أن نتبع آحاد الصحابة رضي الله عنهم، إلا ما نراه معتقداً بأوجه المسالك، ثم قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجوز تبليغ الحد ثمانين، فانتظم وجهان إذاً في هذا الطرف.
ولا خلاف أنه لا يجوز أن يتلقى من تردد الصحابة رضي الله عنهم في ذلك جواز المزيد على الثمانين.
__________
(1) تعديل: أي معادلة وتقدير ما حصل من الضرب للشارب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأربعين جلدة، فكانت هذه المقايسة اجتهاداً.
(2) في الأصل: " فلئن يجوز ويضرب ".
(3) كذا. الشهادة: بمعنى الشهود.(17/334)
11208- فإذا تبين ما يعاقب به الشارب، فنحن نذكر ما يتعلق بعقوبة الشارب لو أفضت إلى الهلاك.
قال الأصحاب: لو وقع الضرب بالنعال وأطراف الثياب، وأفضى إلى الهلاك، فلا ضمان. هكذا قاله الأصحاب، ولا شك أن من منع ذلك على الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون؛ فإنه يثبت الضمان، ثم نفى الأئمة الضمان وهو مشروط بوقوع الضربات على حد يُعدَّل بأربعين جلدة من غير مزيد.
ثم قال الأئمة: إن جلدَ الإمامُ الشاربَ أربعين تأسياً بالصدّيق، فأفضى إلى الهلاك، ففي وجوب الضمان قولان: أحدهما - يجب، لما روينا عن علي رضي الله عنه، أنه قال: " إلا الشارب، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفيه معنىً، وهو أنه معدول عن المنقول عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يستقيم لو لم يصح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلد الشارب أربعين، وقد روى الأثبات ذلك. فعلى هذا إن صح الخبر يجب نفي الضمان كما يجب ذلك في حد الزنا، وحدّ القذف.
فإن لم نوجب الضمان، فلا كلام، وإن أوجبناه فالذي ذهب إليه أهل التحقيق أنا نوجب عليه الضمان بكماله؛ من جهة اتفاق العدول عما كان إلى جنسٍ آخر، وإذا اختلف الجنسان، امتنع التقسيط، ولم يتجه إلا نفيُ الضمان أو إيجابُه وكمالُه.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أن الإمام يضمن ما بين الضرب بالنعال والضرب بالسياط، فإنه يكون أشدَّ إيلاماً وأنجعَ وقعاً، فيقدر بينهما شيء بالتقريب والاجتهاد، ويلزم ذلك القدر، وهذا الذي ذكروه في نهاية البعد، والمذهب ما ذكرناه. وقد بان حكمُ الضمان فيه إذا جلد الشارب أربعين، أو أمر حتى ضرب بالنعال وأطراف الثياب.
11209- وأما إذا جلده ثمانين على رأي عمر رضي الله عنه، فمما نذكره في ذلك أن الأربعين المضمومة إلى أربعين غريبة في وضع الحدود والعقوبات؛ فإنا إن قدرناها من الحدّ، كان محالاً؛ فإنها زائدة على ما جرى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم(17/335)
وزمن الصديق، مع الاتفاق على التعديل بالأربعين، فإذا لم تكن من الحد، فضم تعزير إلى الحد بعيد، وتبليغ التعزير مبلغ الحد بعيد، والممكن في الجواب عما ذكرناه أن التعزير رآه من رآه لما يتعلق بالتصدي للافتراء والهذيان، وحد المفترين ثمانون، والأربعون الزائدة ناقصة عنها.
وإذا حصل التنبه لما ذكرنا، وجلد الشارب ثمانين، فإن رأينا تمام الضمان لو حصل الموت بالأربعين، فلا إشكال، [وإن لم] (1) نوجب الضمان بالأربعين، وهو الظاهر، فلا إشكال أنا نوجب الضمان بالثمانين. ثم اتفق الأصحاب على التنصيف، فنوجب شَطر الضمان، ونهدر شطره؛ إذ الزائد مثلُ المزيد عليه.
ولو زاد الجلاد سوطاً على حدٍّ محدودٍ، لا اجتهاد فيه، كحدّ القذف مثلاً، فإذا فرض الموت، وجب الضمان للزيادة. ثم في قدره قولان مشهوران: أحدهما - أنا نسلك طريق التنصيف، ولا ننظر إلى أعداد الجلدات بل يعدّل الضمان: يوزع بين الحق والباطل، فيهدر نصفه، ويثبت نصفه، وهذا كما لو جرح رجل رجلاً مائة جراحة، وجرحه آخر جراحة واحدة، فإذا خرجت الروح، فالدية نصفان، توزيعاً على الجنايتين ولا نظر إلى أعداد الجراحات.
ولو أمر الإمام الجلادَ أن يضرب ثمانين، فامتثل أمر الإمام، لم يتعلّق الضمان بالجلاّد أصلاً، وإن كان مختاراً غير مكره؛ لأن فعله يضاف إلى الإمام، وسنذكر إن شاء الله تعالى في الجلاّد كلاماً شافياً، في الأصل الذي يعقب هذا الفصل.
11210- وإذا لم نعلق الضمان بالجلاد في مسألتنا، فإنا نعلقه بالإمام، ثم يجب شطر الضمان على قولٍ، وتمامه على قول.
ولكن إن أوجبنا الضمان بالأربعين، فلو أمر الجلادَ بالثمانين، فضرب أحداً وثمانين، فينتظم من الأصول (2) -إذا فُرض الموت- في هذه الصورة أوجه: أحدها - أن الدية تقسط وتبسط على الجلدات، فنجعل أحداً وثمانين جزءاً، في مقابلة أربعين
__________
(1) في الأصل: " ولم ".
(2) عبارة الأصل: " من الأصول الموت إذا فرض الموت في هذه الصورة ".(17/336)
جلدة، فنوجب أربعين على الإمام، لأمره بالأربعين الزائدة- وإذا أضفنا على الإمام، فهو على عاقلته أو على بيت المال، وفيه كلام يأتي إن شاء الله عز وجل، وتجب واحدة من أحدٍ وثمانين جزءاً على الجلاد. هذا وجه.
والوجه الثاني - أن نجعل الضمان نصفين؛ توزيعاً على الحق والباطل، ونسقط نصفاً، والنصف الثاني نوجب منه نصفاً على الإمام، نصفاً على الجلاد.
والوجه الثالث - أنا نسقط نصفاً، ونوجب من النصف الثاني أربعين جزءاً على الإمام، وجزءاً على الجلاد.
والوجه الرابع- أنا نجعل الدية أثلاثاً، فنهدر ثلثاً، ونوجب على الجلاد ثلثاً، ونعلق بالإمام ثلثاً.
وهذه الوجوه مستندةٌ إلى الأصول إلا وجهاً واحداً، وهو قوله: نهدر نصفاً ونجعل النصف أحداً وأربعين جزءاً، بين الإمام والجلاّد؛ فإن هذا جمع بين التنصيف واعتبار عدد الجلدات، وهذا فيه اختلاط. والأمر فيه واضح.
فصل
قال: " وإن ضرب أكثر من أربعين ... إلى آخره " (1) .
11211- مضمون هذا الفصل الكلامُ في تعليق الضمان إذا أخطأ الإمام، فنقول: ما يصدر عن الإمام مما لا يتعلق بمصالح الإمامة، ولكنه من خواص أفعاله، فهو منه كآحاد الناس، فلو رمى سهماً، فأصاب إنساناً، فهذا خطأ منه، والدية على عاقلته بلا خلاف. وإن تعمّد قتلاً موجباً للقصاص، استوجب القصاص. ولا خفاء بهذا.
والفصل غير معقودٍ له.
11212- فأما ما يعرض من أخطائه في استيفاء الحدود والتعزيرات، وإقامة
السياسات، التي هي على شرط السلامة، كما سنفصل ذلك من بعدُ، إن شاء الله
__________
(1) ر. المختصر: 5/175.(17/337)
تعالى، وإنما الغرض الآن اعتقاد الضمان حيث يجب، فإذا لم ينسب الإمامُ إلى تقصيرٍ بيّن، وإنما جدّ واجتهد، ولكنه زلّ وأخطأ، فاقتضى الشرعُ الضمانَ، نُظر: فإن كان ذلك في مالٍ، ففي تعلّق الضمان قولان: أحدهما - أنه يتعلّق بمال الإمام.
والثاني - أنه يتعلّق بمال بيت المال، يعني السهمَ المرصد للمصالح، وسنوجه القولين إذا استوعبنا الصور والتقاسيم.
فإن كان الخطأ في نفسٍ، فقولان: أحدهما - أن الدية على عاقلة الإمام، كما لو جرى منه الخطأ في أفعاله التي تخصه.
والثاني - أنها تتعلق ببيت المال.
التفريع:
11213- إن حكمنا بأن الدية مضروبةٌ على عاقلته الخاصة، فالكفارة في ماله؛ فإن العاقلة لا تتحمل الكفارة. وإن قلنا: الدية مضروبة على بيت المال، ففي الكفارة وجهان: أحدهما - أنها على الإمام؛ فإن التحمل لا يتطرق إلى الكفارة، ولذلك لا تتحملها العاقلة الخاصة حيث تتحمل العقل.
والثاني - أنها في بيت المال؛ فإن المعنى الذي يوجب صرفَ الدية إلى بيت المال التخفيفُ عن الإمام، وعن عاقلته، وهذا يعم الكفارة والدية.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين فيه إذا لم يظهر تقصير الإمام في الواقعة، فإن ظهر تقصيره، فلا خلاف أن ما يلزم لا يُضرب على بيت المال، وهذا يتبين بمثالين، فنقول: الحامل إذا زنت لا يقام الحدّ عليها، فلو أقام الإمام الحدّ على علمه بالحمل، فالغُرة إذا ألقت الجنين لا تضرب على بيت المال، بل تضرب على عاقلته الخاصة، وإنما خصصنا هذه الصورة بالذكر، لأن العمد المحض لا يتصوّر في الجناية على الجنين، ومع ذلك لم نضرب الغرة على بيت المال، وفي هذا لطيفة، وهي أن الإمام إذا أقام الحد على الحامل، فهو في الحيد عن حكم الصواب عامد، ولكنه في الجناية على الجنين على حدّ شبه العمد، وهذا التنبيه كافٍ. والمقاصد بكمالها تستوفيها الصور، ثم تضبطها التراجم على أثر الفصل.(17/338)
توجيه القولين في الأصل:
11214- من قال إن خطأ الإمام في إقامة أحكام الإمامة مضروب على بيت المال احتج بأن الوقائع المرتفعة إلى الإمام لا تعد كثرةً، ولا يتصوّر أن يستقلّ الإمام بالعصمة فيها، فلو كانت الغرامات المتعلقة بما يقع من خطئه مضروبة على ماله، أو على عاقلته، لافتقر، وأفضى الأمر إلى ما لا يطاق، وهو نائبٌ عن المسلمين، فاعل عنهم، وتعلّقه بالمسلمين كافة كتعلّق الجلاّد به، ثم الضمان محطوط عن الجلاد إذا لم يصدر من جهته عدوان، فينبغي أن يُحَطَّ عن الإمام.
هذا وجهُ هذا الوجه.
ومن قال بالوجه الثاني: احتج بأنه نُصب ليكون هو الناظر، ثم هو نائب المسلمين في الصواب، وأما الجلاّد، فإنه سيف الإمام، ولا نظر له، وقد يشهد لهذا القول ما روي أن عمر بن الخطاب ذكر عنده أن امرأة من نساء الأجناد يغشاها الرجال بالليل، فأرسل إليها عمر يدعوها، وكانت ترقى في درج، ففزعت فأجهضت ذا بطنها، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدِّب، ولا شيء عليك، فقال علي رضي الله عنه: إن اجتهد، فقد أخطأ، وإن لم يجتهد، فقد غشَّك. عليك الدية"، فقال: "عزمتُ عليك لتقسمها على قومك" (1) قيل: أراد بذلك عاقلة نفسه، وأضافها إلى علي إكراماً له وإعزازاً، وإعراباً عن اتحادهما. وقيل: أراد قوم علي لأنهما كانا من قريش يجتمعان في كعب بن لؤي بن غالب.
واختلف في قول علي: إن اجتهد، فقد أخطأ، فقال بعض المتكلفين: أراد بذلك الرسولَ، معناه: إن اجتهد الرسول في رعاية الوقت والمكان في تأدية الرسالة، فقد أخطأ، وإن لم يتعرض لتخيّر مكان وزمان، فقد غش. وهذا بعيد.
والصحيح: أنه أراد بما قال عبدَ الرحمن بنَ عوف. وكان قد يغلظ البعض على البعض القولَ في المناظرات.
__________
(1) أثر عمر والمرأة التي أرسل إليها فأجهضت، سبق تخريجه في الديات.(17/339)
11215- وإذا تمهد القولان وتفريعهما، فإنا نذكر صوراً ونخرّجها على ما مهدنا: فإذا ضَرَبَ في الشرب أربعين، فمات المحدود، وأوجبنا الضمان، ففي المسألة قولان. وإن جلد الشاربَ ثمانين، وقلنا: له ذلك على شرط سلامة العاقبة، ففي تضمينه قولان أيضاً؛ فإنا نجوز له من طريق السياسة أن يفعل ما فعل، والتعزيرات إذا أفضت إلى الهلاك، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى إن لم يظهر تقصيره فيها، ففي محل الضمان قولان، وإن ظهر سرفُه ومجاوزته الحد، فهذا يختص به قولاً واحداً- والتعويل على ما قدمناه من ظهور التقصير، ووقوعِ الأمر خطأ [في] (1) الاجتهاد في إقامة السياسة.
11216- ومن الصور التي نذكرها ملتحقة بخطأ الإمام أنه لو شهد عنده على العقوبة شاهدان، فعليه البحث عن أحوالهما، فإن لم يفعل وترك البحث، وأجرى العقوبة، فالذي جاء منه ليس من خطأ الأئمة؛ فإنه تناهى في التقصير، وترك ترتيبَ الخصومة، والقيامَ بما هو مأمور به من البحث والتنقير، فإذا بانا عبدين أو فاسقين أو كافرين، فالإمام يختص بالضمان إذا حكم، قولاً واحداً.
وإنما يتردد نظر الفقيه في وجوب القصاص، والأظهر الوجوب إذا تحقق الزلل؛ فإن الهجوم على القتل ممنوع منه بالإجماع، وقد يُحتمل أن يقال: أسند القتل إلى صورة التثبت، فيندفع القصاص، وهذا له التفاتٌ إلى صورتين يضطرب الرأي فيهما: إحداهما - أن يقتل الإنسان مسلماً في ديار الكفر على زي مشرك، ثم يبين أنه كان مسلماً، فلا قصاص، وفي الدية قولان.
والصورة الأخرى: أن يقتل مسلماً في ديار الإسلام على زي المشركين، ففي وجوب القصاص قولان، وقيام الشهادة وصورتها لا ينقص عن زي مشرك في دار الإسلام، ومن الصور الناظرة إلى هذه المسائل، ما لو قتل رجلٌ رجلاً، وقال: حسبتُه قاتلَ أبي. فهذه مسالك النظر ومجامع الرأي، [وليست] (2) غرضَ الفصل.
__________
(1) في الأصل: " من ".
(2) في الأصل: " وليس ".(17/340)
11217- فأما إذا بحث عن أحوال الشهود، ولم يظهر منه تقصير، ثم بان الشهود عبيداً، أو كفرة، أو مراهقين، فلا شك في وجوب الضمان، ثم يعود القولان في أن الضمان يتعلق بعاقلة الإمام المختصين به، أم يتعلّق ببيت المال، وقد تقدم التوجيه والتفريع.
والذي نزيده أن الأئمة قالوا: إذا جرى الغرم، ثبت الرجوع على الذين تصدَّوا للشهادة، والسبب فيه أنهم تعرّضوا لمنصب ليسوا من أهله، حتى جرّ ذلك قتلاً أو إتلافَ مال، ونحن نقول: من ليس من أهل الشهادة، وعلم ذلك من نفسه، فليس له أن يتعرّض لإقامة الشهادة، وإن كان صادقاً، فهذا سبب الرجوع، [وأشبه أصلٍ بما نحن فيه] (1) الغرم الذي يثبت على المغرور في قيمة الولد مع ثبوت حق الرجوع على الغارّ، ولعلّ الشاهد أقوى في هذا المعنى، لأنها (2) تحمل القاضي حمل اضطرار، والمغرور مستبيح لا ضرورة به. هذا هو المذهب الظاهر.
11218- وذكر بعض المحققين وجهاً آخر أنه لا رجوع على الشهود، وذلك أن القاضي أُتي من تقصيرٍ خفي في البحث، فارتبط الضمان بجهته وانحصر، وليس كالغار والمغرور، وذلك أن المغرور لا يُلزمه الشرعُ بحثاً، بل له الجريان على ظاهر الحال، والشرع يُلزم القاضي التناهي في البحث، فإذا وقع ذلك، كان محمولاً على ترك البحث، فإن لم نُثبت الرجوعَ، فلا كلام.
وإن أثبتنا الرجوعَ، نُظر: فإن كان الشاهد كافراً، فالرجوع عليه بيّن، ويرجع على الكافرَيْن اللذَيْن شهدا في الحال، وإن بان الشاهدان عبدين، والتفريع على إثبات الرجوع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الرجوع به يتعلق بذمّة العبدين يُتبعان به إذا عَتَقا. والوجه الثاني - أن المرجوع به يتعلق برقابهم؛ فإن هذا غرمٌ يلزمهما عن جهة معاملة صَدَرُها عن رضا من له الحق، وإنما يتعلق بذمة العبد ديون المعاملات الصادرة عن رضا أصحاب الحقوق من غير إذنٍ من السيد، والشهادة بهذه المثابة.
__________
(1) في الأصل: " وأشبه فيه أصل مما نحن فيه ".
(2) لأنها: أي الشهادة.(17/341)
وهذا متجه، ولكنه غريب عديم النظير؛ من جهة أنه جناية قولية ليس فيها اضطرار محقق، وإنما الأمر مظنون.
فأما إذا بان الشاهدان مراهقين، وقد يمكن التباس ذلك -بأحوالٍ تعرض فيهما من بقول (1) الوجه، وطول القامة وغيرهما من الصفات- على القاضي، ولم يتعرض الأصحاب للمراهقَين، والمفهوم من فحوى كلامهم أن لا رجوع عليهما، إذ لا قول لهما، بخلاف الكافرَيْن، والعبدَيْن.
***
ثم قال: " ويجوز تعليق الضمان بهما، إذا قلنا: قول العبد بمثابة الجناية، فإن الجناية الحسيّة تصدر من الصبيان صُدورَها من البالغين " (2) .
11219- ولو بان الشاهدان فاسقَيْن، ففي انتقاض القضاء خلاف واختلاف، على ما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا بانتقاض القضاء -كما إذا بان الشاهدان كافرين أو عبدين، أو مراهقين- فالقاضي يغرم إذا أضفنا الغرم إليه، ولا تقصير في الظاهر. هو إشارة منا إلى القولين في أن الغرم يختص به أو بعاقلته، أم يتعلق ببيت المال، وهل بيتُ المال له الرجوع على الفاسقين؟
فإن قلنا بالرجوع على الكافر والعبد، ففي الفاسق تفصيل. فإن كان ما رآه القاضي فسقاً مجتهداً فيه، فلا رجوع على الفاسق قولاً واحداً؛ فإنه مصر على شهادته وعلى أنه من أهل الشهادة.
ولو كان ما فُسّق به مما يوجب التفسيق وفاقاً، ففي هذا نظر: فإنا بلغنا عن مذهب أبي حنيفة (3) أن الفاسق من أهل الشهادة، وقيل: إنه استثنى من ذلك حدّ الزنا، وقيل: إن كان فاسقاً كذوباً يغلب على القلب كذبه، فليس من أهل الشهادة. وأطلق
__________
(1) بقل وجه الغلام بقولاً: إذا نبت شعْره (المعجم) .
(2) لم أصل لهذه العبارة في المختصر المطبوع الذي بين أيدينا. وتكرر ذلك أكثر من مرة مما يشهد بأن هناك فرقاً بين النسخة المطبوعة والنسخة التي كانت بين يدي الإمام.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 335، تحفة الفقهاء: 3/363، تبيين الحقائق: 3/191.(17/342)
أبو حنيفة كونَ الفاسق من أهل الشهادة، وكذلك قضى بانعقاد النكاح بحضور فاسقين، وجعل الفاسق من أهل اللعان، ولا تعويل على مذهبه في طلب القواعد، فإنه حكم بانعقاد النكاح بحضور محدودَيْن في القذف، ولم يجعل المحدود من أهل اللعان.
ولنا عَوْصاء (1) بالتنبيه على ذلك أن الأصحاب أطلقوا أقوالهم بأن القاضي لا يرجع على الفاسق؛ فإن الفاسق من أهل الشهادة على رأيٍ. وهذا فيه نظر؛ فإن العبد من أهل الشهادة عند شطر الأمة، وهو من أهل الرواية بلا خلاف، فينبغي أن يكون مأخذ هذا من أصل آخر، وهو أن نقول: إن كان التفسيق مجتهداً (2) فيه، فلا رجوع بما ذكرناه، وإن كان التفسيق بما يوجب التفسيق وفاقاً، فيحتمل أوجهاً: أحدها - ثبوت الرجوع بما ذكرناه في الكافر والرقيق. والثاني - أن لا رجوع أصلاً، لأن الفاسق مأمور بكتمان فسقه، والعبد والكافر مأموران بإظهار حالهما. والثالث - أنه إن كان مستسرّاً بالفسق مكاتماً، فلا رجوع، وإن كان معلناً بالفسق غير مبالٍ به، فهو كالرقيق، وهذا يقرب من اختلاف الأصحاب في أن المعلن بالفسق لو شهد، فردّت شهادته ثم أظهر العدالة وأعاد الشهادة، ففي قبول تلك الشهادة خلاف.
هذا منتهى القول في الصور التي أردنا ذكرها في غلط الإمام. ثم ذكر الشافعي على أثر هذا الكلامَ على الجلاد، وهذا لائق بهذا المنتهى.
11220- قال: " وليس على الجالد شيء ... إلى آخره " (3) .
الجلاد سوطُ الإمام وسيفُه، فإذا قَتل وقَطع وجَلد- وهو يُصدر جميعَ أفعاله عن أمر الإمام- فلا يتعلّق به ضمان إذا لم يكن مطلعاً على حقيقة الحال، وإنما يَتَّبِع، ويرتسم، ولا يُشترط أن يكون مكرهاً؛ فإنا لو شرطنا ذلك، ضاق التصرف على الإمام، واحتاج إلى التكفل بالجلاد، والتوثق منه بالحبس، وذلك يخالف قاعدة الشرع وسِيَر الأولين، ولو راعينا الإكراه، لخرّجنا الجلاد على اختلاف الفقهاء في
__________
(1) عوصاء: أي شدة ومشكلة. (المعجم) .
(2) في الأصل: " مجتهد ".
(3) ر. المختصر: 5/176.(17/343)
المكرهين. فقد تأسس الشرعُ على أن الجلاد لا ينتاط به غرمٌ ولا طِلْبَة، وأمرُه من النوادر؛ فإنه قاتلٌ مباشر مختار، لا يتعلّق به في القتل بغير حق حكم، والكفارة من أسرع أمرٍ يثبت في القتل، ولا كفارة على الجلاّد.
ثم ينشأ من هذا أن الإمام إذا ظلم، وأمر بالقتل من غير إكراه، فالقصاص واجب عليه، فإنا إذا أقمنا الجلاد سيفاً، فالإمام في حكم الضارب به، ويترتب على هذا الأصل أن الجلاد ليس عليه بحث، وإنما عليه انتظار المراسم والابتدار إليها؛ إذ لو تعيّن عليه ذلك، لما تولى الأمرَ إلا ذو نظر. وذلك يطول. ثم ما ذكرناه في الإمام الحق.
فإن فرض متغلبٌ في الدهر، وشغورُ الزمان عن الإمام، فالقول في ذلك يطول، وقد نرى تعليق الأحكام بالمتغلّب، وهذا عمرةُ (1) أحكام الإيالة، وقد فرّعنا أبوابها في الكتاب المترجم (بالغياثي) .
11221- ولو علم الجلادُ أن القتل ظلم إجماعاً، وهو مختار، فإذا قتل، التزم القصاص، فإنه إنما يؤجر بالامتثال فيما يعلم كونَه حقاً، أو فيما يعتقده حقاً، وهو يتبع فيه رأي الإمام تقليداً، فأما إذا علم أن القتل ظلم، فلا يحل له الإقدام، ولا إكراهَ حتى يُخرَّجَ فعلُه على تردّد العلماء، وإذا كان كذلك، فلا ضمان على الآمر؛ فإن أمره حيث صوّرنا ليس إجباراً، والمباشرة تامة، فلا أثر للسبب معها.
ولو قتل الجلاّدُ رجلاً، ثم قال: كنت أعتقد تحريم قتله، ولكني قلتُ: لعل الإمامَ اعتقد تحليله على رأي بعض العلماء، وتصوير ذلك أن حُرّاً لو قتل عبداً، فقتله الجلاّد بأمر الإمام، وهو يعتقد أن الحرّ لا يقتل بالعبد، والإمام كان يرى وجوب
__________
(1) عمرة أحكام الإيالة: بالعين المهملة: أي تاج أحكام الإيالة ورأسها، وأُسّها، فالعمرة كل شيء على الرأس من عمامة ونحوها، والفاصلة بين حبات العقد. (المعجم) وهذا اللفظ يجري على لسان الإمام كثيراً.
أما إذا قرأناها: غمرة. بالمعجمة، فمعناها واضح، وهي الشدة والمضطرب والمتاهة، أي دقائق أحكام الإيالة وأخطرها التي تحتاج إلى اتئاد وكد فكر وإعمال نظر.(17/344)
القصاص على الحرّ، فهل يضمن الجلاّد؛ من حيث إنه خالف اعتقاد نفسه؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يلزمه الضمان، اعتباراً بعقده، وكونِه مختاراً. والثاني - لا يلزمه اعتباراً باعتقاد الإمام. ثم قالوا: إذا علّقنا الضمان بفعل الجلاّد، فهو قصاص؛ فإنه قتل حُرّاً بغير حق على موجَب عقده، وصار كما لو فعل ذلك من غير أمر الإمام. وإن قلنا: الحكم لاعتقاد الإمام، فلا شيء على الجلاد أصلاً، وكان لا يبعد لو درأ القصاص وأثبت المال (1) والكفارة. ولكن الذي ذكروه هذا.
11222- وهذا التردد ينتج كلاماً، وهو أن الجلاّد هل له أن يخالف عقدَ نفسه، ويتبع عقد الإمام؟ فعلى وجهين. فإنا قلنا: لا ضمان عليه مع كونه مختاراً، فهو مبني على أن له أن يُقدم عليه، ولهذا نظائر: منها أن يقضي القاضي الحنفي للشافعي بشفعة الجوار، أو بالتوريث بالرحم والرّد، فهل يحل للمقضي له ما يجرى القضاء به؟ فيه اختلاف، رمزنا إليه فيما تقدّم، وسنذكر أصله وحقيقته في آداب القضاء، إن شاء الله عز وجل. وامتثال الجلاد أمر الإمام فيما نحن فيه أَوْجَه، وإن كان يخالف عقده، لأن أمر الإمام مطاعٌ ممتثل، وحقه أن يُتّبع، وإقامة العقوبات ليست حقَّ الجلاّد، وإنما هو فيها متابع متَّبِع، والمقضي له بالشفعة على خِيَرته في ترك حق نفسه، وكان الوجه ألا يحلّ له ما يجرى القضاء به إذا خالف عقده، فإن القضاء لا يغير أحكام البواطن، وهذا ظاهر في الفرق.
والوجه عندنا القطع بأنه لا يحلّ للشافعي أن يأخذ ما يخالف معتقده، ورَدُّ الخلافِ إلى أنه هل يمنع من ذلك ظاهراً؟ فيقال: إن دعواك هذه باطلة، بمخالفتها عقدك؟ ويجوز أن يقال: لا يتعرض له في ظاهر الأمر، لجواز أن يكون منتحلاً هذا المذهب. فأما ذكر الخلاف في الاستحلال باطناً، فبعيد، والتردد الذي ذكرناه في الجلاد متجه لما أشرنا إليه من الاتباع ومعاونتِه على ما يريد إمضاءه موافقاً لعقده.
__________
(1) المال: المراد الدية.(17/345)
11223- ثم صوّر العراقيون صورة على عكس ما تقدّم، فقالوا: لو كان الإمام لا يعتقد وجوب القصاص على الحر بقتل العبد، ولكنه أمر بقتله بغير فحصٍ وتجسيس، ولو اطلع، لمنع قتله، وكان الجلاد يعتقد أن الحرّ مقتولٌ بالعبد، فإذا قتله على موجب عقد نفسه.
قالوا: إن قلنا في المسألة الأولى: إنا نعتبر رأي الإمام، ففي هذه المسألة يجب القصاص، اعتباراً برأي الإمام، فإنه لو اعترف (1) حقيقةَ الحال، لما أمر بالقتل، والجلاّد عارف إن لم يكن الإمام عارفاً، وقد فرّط لما لم يُخبر الإمامَ، فصار كأنه قتل بنفسه من غير إذنٍ من الإمام.
وإن قلنا في المسألة المتقدمة: إن الاعتبار بعقد الجلاد، ففي هذه المسألة احتمال [عدم إيجاب القصاص] (2) على الجلاد؛ تعويلاً على عقده، وقد وجد الأمر من الإمام على الجملة. وهذا الوجه عندي ضعيف في هذه الصورة؛ فإن الجلاد مختارٌ عالم بحقيقة الحال والإمام لو أُخبر، لما أمر، فلا يبقى لأمر الإمام هاهنا أثر الاستتباع، والسبب فيه أن الإمام لا يفوِّض إليه الاجتهاد، وإنما استعمله للعمل فحسب، فإذا امتنع عمله بعقده، واقترن بأمر الإمام جهله بحقيقة الحال، صار الجلاّد مستقلاً بالقتل.
ثم لو أَخبر الإمامُ الجلادَ بأنه ظالم، فتابعه الجلاد، فعليه الضمان (3) . وهذا على القطع فيه إذا كان الإمام مُكرِهاً، والجلاد محمولاً مكرهاً، ثم يخرج فيه تفاصيل الإكراه. فأما إذا كان الجلاد مختاراً، فلا يتوجه الضمان على الإمام قطعاً، وهذا لا خفاء به. وعلى هذا الوجه فصّله الأصحاب، والصيدلاني، وهو مما لا يتمارى فيه.
__________
(1) اعترف القومَ استخبرهم وعرف حقيقتهم (المعجم) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) أي على الإمام.(17/346)
فصل
قال: " ولو خاف نشوز امرأته ... إلى آخره " (1) .
11224- للزوج تأديب زوجته إذا نشزت، والأب يؤدب ولده، والمعلّم يؤدب الصبي، ولكن هؤلاء المؤدِّبين مطالبون شرعاً بأن يقتصروا على ما يقع التأديبُ به، على شرط السلامة، وتحقيق هذا أن التأديب لو كان لا يحصل إلا بالضرب المبرِّح الذي يُخشى من مثله الهلاك، فلا يجب تحصيل التأديب، وليس هذا بمثابة عمل الأجير في تحصيل الغرض الملتمس منه في العين المملوكةِ المسلَّمةِ إليه؛ فإن المستأجِر إذا التُمس منه ما لا يتأتى تسليمه إلا بعيب يلحق العين المسلّمة إليه، فإذا حصل الغرض، ولحق العيب، لم يجب الضمان، على الرأي الظاهر، كما فصلناه.
وإن كان التأديب يحصل بما لا يُفضي إلى الهلاك، يباح تحصيله، وإن لم يجب.
وقال المحققون: إذا كان لا يحصل التأديب إلا بالضرب المبرِّح، فلا يجوز الضرب الذي لا يبرّح أيضاً، فإنه عريٌّ عن الفائدة. ثم إذا اعتقد المؤدب أنه اقتصر واقتصد، واتفق الهلاك، فنعلم أنه مخطىء في ظنه، فإن القتل لم يحصل إلا لمجاوزته الحدَّ.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن قتيل التعزير مضمون، فإن كان التعزير على حدّ الإسراف، فهو قتلُ عمد إذا كان يُقصد بمثله القتل غالباً، وإن كان بحيث لا يقصد به القتل، فهو شبه عمد، وليس خطأ. وإن كان التحصيل في الأصل جائزاً. وهذا من لطيف الكلام.
11225- وأما الإمام إذا عزر، فأفضى تعزيره إلى الهلاك، فنقدم على هذا القولَ في أن التعزيرات هل تُستحَق؟ أطلق الأئمة الأقوال بأنها لا تجب، وهي مفوّضة إلى الإمام، واستدلوا بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعزيراتٍ في وقائعَ أساء أصحابها آدابهم.
وهذا الكلام لا مزيد عليه، ولكنه يحتاج إلى فضل بيان، فليس ما ذكرناه من
__________
(1) ر. المختصر: 5/176.(17/347)
التفويض إلى الإمام تخيّراً صدَرُه الإرادة من غير سبب، ولكنْ حقٌّ على الإمام أن يرعى مصالح الخلق، فإن رأى إقالةَ عثرةٍ، وجرَّ ذيل الصفح على هفوة، فليفعل ذلك. ولا يسوغ والحالة هذه التعزير، وإن غلب على ظنه أن وجه الاستصلاح في ضرب من تعرّض للتعزير، فحق عليه أن يضرب.
والحدود تتميز عن التعزيرات بأنها إذا ثبتت، فلا اجتهاد ولا تردد فيها، وقد قطعت النصوص رأيَ كل ذي رأي فيها، فلا وجه إلا إقامتُها إذا حُقت، وإن ثبت ما يدفع ويدرأ، فلا وجه للإقامة، والتعزيراتُ مفوضة إلى الاجتهاد. هذا مراد الأئمة لا غير.
ثم قتيل التعزير مضمونٌ؛ من جهة أن الإمام يجب عليه الاقتصار في التعزير على المبلغ الذي لا يُهلك، كما ذكرناه في تعزير الزوج، والولي، والمؤدب، فهذا مأخوذ على الإمام، وهو مؤاخذ بما ذكرناه، وليس هذا عن جهة خروج التعزير عن المقدار المتلقى من التوقيف، فإنا لا نضمِّن الدافع (1) إذا رأيناه مقتصراً على حاجة الدفع، وإن لم تكن أبوابه محدودة توقيفاً، ولكن قيل: لا موقف لك، فاتبع حاجتك في الدفع، وإن أتى على القاصد (2) .
وليس للإمام أن يعزر إلى حصول القتل، بل إلى حصول التأدّب.
11226- ومما تردد الأئمة فيه أن التعزير إذا تعلق بحق الآدمي، مثل أن يُعرِّض بقذف محصن، أو يصرّح بقذف من ليس بمحصن، أو يكرر القذف بزنا قد حُدّ فيه، فهذه التعزيرات متعلّقةٌ بحقوق الآدميين، فإذا طلبوها، فهل للإمام ألاّ يقيمها، إذا رأى الصفح، والتجاوز أولى؟ اختلف أئمتنا: فصار صائرون إلى أنه لا خِيرةَ للإمام، وحقٌّ عليه أن يسعف الطالبَ قياساً للتعزير في هذه المقامات على الحدود إذا وَجَبَتْ.
__________
(1) المراد أن الدافع الذي يدفع عن نفسه لا نضمّنه ما يترتب على الدفع المأذون له فيه، إذا اقتصر على قدر الدفع.
(2) القاصد: هو المعتدي الذي أجزنا للدافع أن يدفعه، فلو أتى على القاصد وقتله لا يضمن إذا كان لا يتأتى الدفعُ إلا بقتله.(17/348)
ومن أصحابنا من قال: لو رأى الإمامُ الصفحَ والسعي في الإصلاح، فعل، كما يفعل في الأمور العامة. وهذا الوجه أعوص (1) من الأول؛ فإن مقدار التعزير إلى الإمام، والتغليظ بالقول من التعزير، ونحن لا نعتقد تصوّر صورة لا يرى الإمام فيها [رأيه] (2) ؛ فإن من أساء أدبه بالجهات التي ذكرناها لا نسكت عنه، ولا نُكره على مقابلة (3) سوء أدبه. فيؤول هذا إلى أن الإمام لو أراد الاقتصار من التعزير على كلامٍ، فهل له ذلك؟
ومما يتعلّق بهذا أن المُؤْذَى بالتعريض أو التصريح لو عفا (4) ورأى الإمام أن يؤدبه (5) حقاً لله تعالى؛ حتى لا يستجرىء على أمثال ما صدر منه؟ فهذا فيه تردّدٌ نجمعه إلى آخر، وهو أن من استحق الحدّ أو استحق القصاص لو عفا عن حقه، فهل للإمام أن يعزره بما يراه استصلاحاً؟ فيه تردّد.
وإذا ضممنا صور التعزير إلى صور الحدود، انتظم منها أوجه: أحدها - أن الإمام لا يضرب إذا عفا صاحب الحق. والثاني - له أن يعزر نظراً إلى الصلاح الكلي.
والثالث - أنه لا يعزر في مقام الحدّ إذا عفا مستحِقُّه؛ لأنه غير مفوّض إلى اجتهاد الإمام إذا طلب؛ فلا يفوّض إليه الأمر إذا عفا المستحِق، والتعزيرات في قاعدتها مفوضة قدراً ومحلاً إلى اجتهاد الإمام.
هذا مقدار ما أردناه في ذلك، وفي المبالغ المرعية في التعزيرات كلام للأصحاب يأتي في الباب، إن شاء الله.
__________
(1) كذا. ولعلها: أفقه من الأول.
(2) مكان كلمة تعذرت قراءتها، فقد رسمت هكذا: (توصحا) بدون نقط.
(3) مقابلة: أي لقاء، وهي هنا بمعنى مباشرة ومعاناة سوء أدبه.
(4) المعنى: لو عفا من وقع عليه الإيذاء بقذفٍ يستدعي تعزيراً لا حدّاً كما صوره.
(5) يشير إلى الصورة التي فرضها آنفاً، وهي: لو أن شخصاً عرّض بقذف محصن، أو صرح بقذف من ليس بمحصن، أو كرر القذف بزنى حُدّ فيه، ففي هذه الحالات يكون التعزير حقاً للمقذوف، فلو عفا المقذوف، فهل للإمام أن يؤدب في هذه الحالة؟ هذا معنى العبارة التي نحن فيها.(17/349)
فصل
قال: " وإذا كان برجل سِلْعَةً، فأمر السلطان بقطعها ... إلى آخره " (1) .
11227- هذا الفصل قد يعدّ من الجليات، وفيه غوائل، أكثرها يتعلّق بالزلل في التصوير ونحن لا نألو جهداً في البيان، إن شاء الله عز وجل. فنقول: أولاً السِّلعة غدد تخرج بعضوٍ من الأعضاء، لا تكون مفضيةً إلى ضرر، [ولكنها] (2) تشوّه الخَلْق، وتسوء، وقد [يُخشى] (3) منها الإفضاء إلى أمرٍ مخوف، فإذا تأكَّلَت جارحةٌ، وكانت تتداعى، فلا يخفى أن قطعها إذا استصوبه أهل البصائر مما يؤثر في الدفع على ما سنفصل ونصف.
ونحن نفرض ما نريدُ من ذلك في البالغ المستقلّ المالك لأمر نفسه، ثم نعود إلى أحكام الولاة، فنقول: إذا لم يكن في قطع السِّلعة خوفٌ، فأراد صاحبها قطعَها لإزالة شَيْن، فلا حرج عليه في ذلك. ولو كان في قطعها تخوّف، وليس في بقائها إلا الشين، فلا يحل للإنسان أن يقطعها من نفسه؛ فإن التعرّض للخوف لا يعادل الشَّيْن.
ولو كان في قطعها خوف، فنقول في تفصيل ذلك: إن كان لم يظهر الخوف في القطع، وظهر الخوف في التبقية، فيجوز القطع لا خلاف فيه، فإن قطع من نفسه، جاز، وإن أمر من يقطعها منه، فللغير أن يقطعها بأمره؛ فإنه أمير نفسه، وتصرّفه على هذا الوجه أولى من تصرّف الغير في الغير، وهو بمثابة الأمر بالحجامة والفصد، وما في معناهما.
وإن كان في القطع خوف، وفي التبقية خوف، [ومقادير] (4) الخوف وأوزانه لا تعتدل، فإن كان الخوف في التبقية أكثرَ وأغلبَ على الظن، وكان في القطع خوف أيضاً، فالذي صار إليه الأصحاب في الطرق أن له أن يقطع، ويأمر بالقطع لاستفادته
__________
(1) ر. المختصر: 5/176.
(2) في الأصل. " ولكنه ".
(3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(4) في الأصل: " فمقادير ".(17/350)
غلبةَ الظن، على ما وصفناها، وإن استوى الأمران، واعتدل الخوفان، ولم يترجح أحدهما على الثاني، فقد كان شيخي يختار أنه لا يحل له القطع هاهنا؛ إذ لا فائدة فيه، والعواقب مغيبة.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا معترض عليه إذا اعتدل الأمران، ولم يُخْلِ الأصحابُ الصورة عن خلاف أيضاً، فاستبان لي في الصورتين من كلام الأصحاب أوجه: أحدها - أن القطع إذا كان مخوفاً، لم يجز، والثاني - أنه جائز في الصورتين، والثالث - أنه يجوز إذا كان خوفُ التبقية أغلبَ، ولا يجوز إذا اعتدلا في الظن.
وإن كان خوف القطع أغلب، فلا خلاف أنه لا يجوز.
واتفق الأصحاب على أن من عظمت الآلام عليه، وصار بحيث لا يستقل بها، فليس له أن يسعى في إهلاك نفسه، ولذلك إذا كان به عِلَّة مُهلكة، وقد قيل لا خلاص، فليس له أن يذبح نفسه بسبب مذفِّف، ولو أُضرمت النار في إنسان وكان لا يطيق الصبر [على] (1) لفحاتها فأراد أن يلقي نفسه في بحر ورأى ذلك أهونَ، فهذا قد اختلف فيه أبو يوسف ومحمد، وراجعنا شيخنا في ذلك، فقال: له (2) أن يبتدئ مهلكاً باختياره. وفي المسألة احتمال؛ فإن الإحراق مذفف، وكذلك الإغراق، والرأي ما ذكره شيخنا.
هذا رأينا في المستقل وما يجوز له من القطع وما لا يجوز.
11228- وأما تصرّف الولاة، فإن أراد السلطان أن يقطع أنملة من مستقلٍّ بنفسه مُطْلَقٍ (3) ، فليس له ذلك، فإن النظر فيه يَدِق، وهذا بمثابة ما لو رأى الوالي أن يفصِد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في هامش الأصل: لعله ليس له أن يبتدىء مهلكاً باختياره.
ولكن الغزالي في البسيط صرح بأن الشيخ أبا محمد قال: " له ذلك " واختاره الغزالي، قائلاً: " وهو الصحيح " (ر. البسيط: 5/ورقة: 143 شمال) .
وكذلك حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد، وقال: هو الأصح. (ر. الشرح الكبير: 11/301) .
(3) مُطَلق: أي غير محجور.(17/351)
حيث يرى الطبيب ذلك، فليس إليه هذا، والناس موكولون في هذه المصالح إلى رأيهم، حتى قال الأئمة: لو قطع الإمام ما ذكرناه من بالغ على الكره منه، فأفضى إلى الهلاك، التزم القود، فهذا بيّن.
11229- فأما القول في المَوْليّ عليه، فهذا موضع التأمل التام. فنقول: إن فرضنا أكَِلَةً أو سِلْعة بطفلٍ أو مجنون، فنتكلم في تصرّف الولي الخاص فيه، ونتكلم في تصرف السلطان. فأما السلطان، فإنه ولي الطفل والمجنون إذا لم يكن له ولي خاص، فله بنظره أن يأمر بالفصد والحجامة، فإن كان قطعُ السِّلعة على النسق [الذي وصفناه] (1) فللسلطان الأمر به (2) ؛ فإنه والٍ، وإذا كان يلي مالَه خيفة أن يضيع، فلأن يلي بدنه في جهات المعالجات أولى؛ فإن أبدان الحيوانات عرضةٌ للتغايير، وعِللها في أُهبها، فلو أهملت، لأدى إلى الهلاك، وقد نقل الأصحاب مطلقاً أن السلطان [لا] (3) يقطع السلعة، ولم يريدوا هذه الصورة؛ فإنها من المعالجات.
فأما إذا كان قطع السلعة مُخطِراً (4) وكانت تبقيتُها مُخطِرةً أيضاً، ومست الحاجة إلى النظر في تغليب أحد الظنين، فهاهنا قال الشافعي: لا يقطع السلطان السلعة والأَكِلة.
ونقتصر على هذا القدر الآن من الكلام في السلطان، ثم نعود إليه بالإتمام.
فأما الأب والجد أبو الأب، فقد أطلق الشافعي قوله: بأنه يقطع الأَكِلَة [في هذه الصورة] (5) ، ولم يرد بها صورة المعالجة، حيث لا ضرار في القطع؛ فإن ذلك يسوغ للسلطان، كالفصد والحجامة، فلا يخفى جوازه للولي الخاص. فأما إذا تعارض خطران في القطع والتبقية، فعند ذلك قال الشافعي: " للولي الخاص أن يقطع إن كان القطع صواباً " (6) .
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(2) أي إذا كان في قطعها درءٌ لخطر، وكان بقاؤها مخوفاً، على النسق الذي وصفناه.
(3) في الأصل: " لم ".
(4) مخطِراً: من أخطر فلاناً المرض: أي جعله بين السلامة والتلف. (المعجم) .
(5) في الأصل: " يقطع الأكلة والصورة " والمثبت تصرف منا على ضوء التفصيل الآتي.
(6) وهذا النص أيضاً لم أصل إليه في المختصر.(17/352)
وسبب هذا أن الإقدام على القطع يحوج إلى نظرٍ دقيق لا يصدر إلا من شفيق متناهٍ في الشفقة، وهذا يضاهي الاستصلاح بالتزويج، فأب الأب يزوّج ابنته البكر استصلاحاً، وإن كان يوقعها في رق الأبد، ويزوّج من طفله. والسلطان لا يملك ذلك؛ فإن التزويج يحتاج إلى نظرٍ دقيق مفوّض إلى الولي الخاص الشفيق، فإذا تصوّرت الصورة، فتمام القول أنا حيث نجوّز للرجل القطع [أي] (1) يقطع من نفسه نجوّز للولي أن يقطع من طفله، وحيث لا، فلا. وقد ذكرتُ تردّداً عند استواء الخوفين من أن الإنسان هل يقطع من نفسه، ولعل الأظهر هاهنا ألا يقطع من طفله، والعلم عند الله تعالى.
11230- ونحن ننعطف بعد هذا التصوير إلى أمور في الضمان، أما المستقل إذا أمر الغيرَ بالقطع منه، فقطع، وأفضى إلى الهلاك، فقد قال الأئمة: لا ضمان على القاطع المأمور، وهذا فيه إذا كان القطع جائزاً، وليس كما لو أباح يده، أو أمر بقطعها، فقطعها إنسان، وأفضى القطع إلى الهلاك، فإن في ضمان النفس قولان تقدم ذكرهما، والفرق أن القطع المسوَّغ لغرضٍ يستحيل أن يجرّ ضماناً على القاطع المأمور، ولو قيل هذا، لامتنع القاطعون من القطع. وأما إباحة اليد، فلا غرض فيها، والقطع محرم في نفسه.
وأما الإمام إذا قطع من صبيٍّ سلعة حيث قلنا: لا يجوز له قطعها، فقد قال الأصحاب: تجب الدية، وفي القود قولان، وإن كان يجوز للأب القطع في هذا المقام؛ لأنه قطع قطعاً لا تقتضيه ولايته؛ فصار كالقطع من بالغ. ثم قيل: إذا لم نوجب القود، فالدية في ماله، وهذا هو الظاهر، وسبيله كسبيل من قتل إنساناً على زيّ مشرك في ديار الإسلام حسبه كافراً، وكان مسلماً، ففي وجوب القود قولان، والمذهب أنا إذا أوجبنا الدية، لم نضربها على العاقلة، وقد قدّمتُ في ذلك فصلاً حاوياً مشبِعاً.
وإذا قلنا: للأب أن يقطع، فالذي أطلقه الأصحاب قاطبة أنه إذا قطع وأفضى إلى
__________
(1) في الأصل: " أن " والمثبت تقدير منا.(17/353)
الهلاك، فلا ضمان على الأب. قال القاضي: الذي عندي هو أنه يضمنه بالدية، وإنما يباح له ذلك بشرط سلامة العاقبة، وهذا بمثابة الضرب للتأديب.
وهذا عندي غير سديد؛ فإن الضرب للتأديب أُمر به على شرط الاقتصار على ما لا يقتل، وإذا جُوِّز للأب أن يقطع مع الخطر في القطع، فإلزامه الضمان محال، ويبعد كل البعد أن يسوغ للأب أن يعالج ولده المجنون بالفصد، ثم يقال: إذا أفضى إلى الهلاك يضمنه، والمتبع في التأديب ما ذكرناه.
وقال الأئمة: إذا ختن الوالد ولده على حسب المصلحة، فاتفق الموت منه، فلا ضمان عليه، وقال القاضي: الذي أراه وجوب الضمان، وهذا الذي قاله في الختان أوجه؛ فإن الختان لا يجب في حق الصبي والمجنون كما سنصفه، وليس من المعالجات التي لو تركت، لجرّ تركها فساداً في البدن، فلا يمتنع ما قاله القاضي في الختان. وسنعود إن شاء الله تعالى إلى هذا في فصل الختان على أثر هذا.
فصل
قال: " ولو كان رجل أغلف ... إلى آخره " (1) .
11231- الختان واجب عند الشافعي في الرجال والنساء، والمستحَق من الرجال قطع القُلْفة وهي الجلدة التي تغشى الحشفة، والغرض أن تبرز، ولو فرض مقدار منه على الكَمَرَة لا ينبسط على سطح الحشفة، فيجب قطعه، حتى لا يبقى جلد متجافٍ متدلٍّ.
والمقدار المستحق في النساء، ما ينطلق عليه الاسم، وفي الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال، قال صلى الله عليه وسلم لخاتنةٍ: " أشمي ولا تنهكي " (2) أي اتركي
__________
(1) ر. المختصر: 5/176.
(2) حديث: " أشمي ولا تنهكي "، رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: " وإسناده حسن، ورواه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في الكبرى، من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم عطية: " إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي؛ فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج " (ر. المعجم الأوسط للطبراني: 3/133 برقم 2274، مجمع الزوائد: 5/172، الكامل لابن عدي: 3/30 ح 1083، البيهقي: 8/324) .(17/354)
الموضع أشمّ، والأشمّ المرتفع، والقطع يقع في أعلى المدخل على لحمة بادية، ولا حاجة إلى الإطناب في وصفها.
وقال أبو حنيفة (1) : الختان لا يجب أصلاً في الرجال، ولا في النساء.
ثم مؤنة الختان من مال المختون.
[ومعتمد المذهب] (2) أن الختان قطع عضو، فلو لم يجب، لم يجز، ولا ينبغي أن نفهم منه أنه (3) كافٍ، لا يجوز لو لم يجب لما فيه من خوف، ولكن لكل جزء حي من الإنسان حرمة الحياة، فلا يجوز فصلها بغير حق، وليس كالأخذ من الشعور والأظفار؛ فإنها ليست على حقيقة الحياة، وإن اختلفت المذاهب في ثبوت حكم الحياة لها.
ولو كان الرجل على خلقة من الضعف بحيث لو ختن لخيف عليه، فلا يجوز أن يختن، ولكن ينتظر التمكن من الختان، حتى يغلب على الظن السلامة.
وقد قال الأئمة: لا يجب الختان قبل البلوغ، لأن الصبي ليس من أهل أن تجب عليه العبادات المتعلّقة بالأبدان، فما الظن بالجرح الذي ورد التعبد به، وليس هذا كالعدّة (4) ؛ فإنه لا تعب عليها منها، وإنما هي مضي الزمان.
فإذا بلغ الرجل أقلفَ، وبلغت المرأة غيرَ مخفوضة، ولا عذر، فلا يجوز تأخير الختان، فإذا ظهر ذلك للسلطان، أَمر بالختان، فإن أبى، أُجبر عليه، فإن جرّ ذلك هلاكاً، فلا ضمان على السلطان هاهنا؛ فإن ما فعله استيفاء شعار الدين من ممتنعٍ عن إقامته.
__________
(1) رؤوس المسائل: ص 504 مسألة 366، الاختيار: 4/167، الفتاوى الهندية: 5/356، 357.
(2) في الأصل: والمعتمد المذهب. والمثبت تصرف من المحقق، شهد له عبارة الغزالي، إذ قال: " ودليل وجوبه أنه قطع جزء حيٍّ، وفي كل جزء حي حرمة، وفيه خوف، فلولا استحقاقه، لما جاز الإقدام عليه " (ر. البسيط: 5/ورقة: 144 شمال) .
(3) الضمير يعود على هذا الاستدلال للمذهب، والمعنى: لا ينبغي أن نفهم أن هذا كافٍ، بل نزيد عليه أن لكل جزء حي حرمة، فلا يمكن فصله بغير حقٍ.
(4) كالعدّة: أي حينما تجب على الصغيرة.(17/355)
ثم إن ختن السلطان طفلاً لا ولي له في اعتدال الهواء، حيث يجوز للأب -لو كان- أن يختن، فإن أفضى إلى الهلاك، فلا ضمان، كما لو عالج بالفصد والحجامة على حسب المصلحة، وقال القاضي: يجب الضمان، وهذا محتمل؛ فإنه ليس من قبيل المعالجات، والختان ليس واجباً في الحال، ووجه ما ذكره الجماهير أن الختان لا بد منه، فإجراؤه في الصغر والبدن غض رخص، والمختون مقدار صغير أولى، فيلتحق من هذا الوجه بالمعالجة، وطرد القاضي ما ذكره من الضمان في وجوب الضمان على الأب إذا ختن الطفل، وهذا في الأب أبعد، وقد صح في الخبر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحلق رأس المولود، ويعق عنه، ويختن في السابع من ولادته ".
ولو ختن السلطان في حر شديد، أو برد مُفْرط، فأدى إلى الهلاك، نص الشافعي على أنه يضمن، ونص على أنه لو أقام الحد في الحر الشديد أو البرد، فأدى إلى التلف لا يضمن، وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في النفس، وتردّد الطرق؛ فلا نعيده.
والنص الذي ذكره في السلطان يجري في الأب إذا ختن في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن جرى خلافٌ في نفي الضمان عن السلطان، فالأب أولى بانتفاء الضمان عنه؛ فإن الختان في حقه كالحدّ في حق الإمام؛ من حيث إنه يتولاه هو.
***(17/356)
باب صفة السوط وما فيه
قال: " ويضرب المحدود بسوط بين السوطين ... إلى آخره " (1) .
11232- الغرض من هذا رعاية الوسط في حجم السوط وصفته، وكيفية الضرب به، والإيلام لا بد منه مع بناء الأمر على تجريد القصد إلى إبقاء النفس، وهذا يوجب التوسط، فإن الإفراط ينافي البُقيا، وقصد الإبقاء وترك رعاية الإيلام الناجع يبطل حكم الحد، ومجموع ذلك يقتضي التوسط.
وأول ما نبدأ به حجم السوط، ولا متعلّق فيه إلا اسم السوط، والقضيب المستدق ليس بسوط، والزائد الحد المعتبر عصا، فحدُّ السوط المعتاد معتبر. هذا قولنا في الحجم.
فأما صفة السوط بعد حجمه، فلا ينبغي أن يكون رطباً قريبَ العهد؛ فإنه يَفْطُرُ (2) الجِلدَ لما فيه من ثقل المائية، وتلدّن المعاطف والغوص في البدن إذا اشتدّ، لو أطاقه. والخشبةُ اليابسة خفيفة، وهي على خفتها لا تنعطف، فيسقط الإيلام المطلوب بها وقد [تتشظَّى] (3) . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان يقيم الحدّ على إنسان، فأتي بخشبة لم تكسر ثمرتُها (4) ، أي كانت قريبة، وعليها عُقَدُها التي هي منابت الغصون الدقيقة، فردّها، وقال: " هلاّ دون ذلك "، فأتي بخشبة خَلَقة، فقال صلى الله عليه وسلم: " فوق هذا " فأتي بخشبة لا جديدة، ولا خَلَقة، فأقام بها الحد " (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/176.
(2) يفطُر الجلد: أي يشقه.
(3) لم نستطع قراءتها إلا بمعاونة عبارة الغزالي في البسيط.
(4) ثمرة السياط: عقد أطرافها (قاله الجوهري) وقال أبو عمرو: " لم يمتهن ولم يلن ".
(5) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد على إنسان فأتي بخشبةٍ لم تكسر=(17/357)
11233- ثم ما ذكرناه في صفة السوط، من رعاية التوسط يُرعى في الضرب، فلا ينبغي أن يرفع الضارب يده إلى انتصابها بحيث تبدو عُفرة الإبط من شَيْله (1) ، حتى يكتسب السوط ثقلاً ورَزَانةً إذا أرسل، وفي كيفية الضرب، وأعمال الأصابع وإرسال رأس السوط، أو ما ينحدر عنه دقائق لسنا جاهلين بها، ولكن لا معنى لذكرها، وذكر التوسط كافٍ فيها.
ثم لا ينبغي أن تُشَدَّ اليدان من المحدود، بل تُتركان مطلقتين حتى يتقي بهما إن أراد، ويتقي الجلادُ المَقاتل، كالأخدع (2) والقُرط (3) ، وثُغرة النحر، والفرج، ويتقي الوجه؛ فقد صح الخبر عن اتقاء وجوه البهائم، فما الظن ببني آدم، وقد كرمهم الله تعالى، والوجه مجمع المحاسن والحواس، ويترك الرجل قائماً،
__________
=ثمرتها ... " لم نجد الحديث بهذا اللفظ، بل قال ابن الصلاح: اشتبه هذا على إمام الحرمين، فغيّر ألفاظ الحديث، وقال فيه " فأتي بخشبة " وفسّر الثمرة بعقدها التي هي منابت الغصون الدقيقة، وتبعه على ذلك الغزالي فى (بسيطه) ، ونسأل الله عصمته وتوفيقه.
(مشكل الوسيط- بهامش الوسيط 6/511) .
والحديث رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم بلفظ " ... فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط مكسور فقال: " فوق هذا " فأتي بسوطٍ جديد لم تقطع ثمرته، فقال: " دون هذا " فأُتي بسوطٍ قد رُكب به ولان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد " وثمرة السياط: عقد أطرافها (قاله الجوهري) وقال أبو عمرو: " أي لم يمتهن ولم يلن ". ورُكب به: أي ذهبت عقد طرفه. (الموطأ: الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا: 2/825 وتفسير الألفاظ عن محمد فؤاد عبد الباقى بهامش الموطأ) .
هذا، وللحديث شاهد عند عبد الرزاق عن معمر بن يحيى بن أبي كثير (مصنف عبد الرزاق: 7/369 ح 13515) . وشاهد آخر عند وهب من طريق كريب مولى ابن عباس.
قال الحافظ في التلخيص: فهذه المراسيل الثلاثة يشدّ بعضها بعضاً. (التلخيص: 4/145 ح 920) .
(1) شيْله: أي رفعه: من شال يده إذا رفعها يسأل بها، والفعل واوي، والمصدر: (شولاً) لا شيلاً. (المعجم) و (المصباح) .
(2) الأَخدع: عرق في جانب العنق، وهما أخدعان في جانبي العنق. (المعجم) .
(3) القرط: من المجاز العقلي. والمراد مكان القرط.(17/358)
ولا يوالي بالسياط على موضعٍ من بدنه، ولا بأس بضرب الرأس عندنا، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لمن كان يقيم الحدّ اضرب الرأس، فإن الشيطان في الرأس، ومنع أبو حنيفة (1) ضرب الرأس.
ولا يضرب في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن فعل فأدى إلى التلف، فنص الشافعي أنه لا يجب الضمان. وقد مضى هذا على أبلغ وجه في البيان.
ولو وقع الضرب بخشبة فوق الوسط أو فُرض تحامل مفرط في الضرب، فالذي نراه أنه يتعلق الضمان به، وليس كالضرب في الحرّ الشديد، فإن سبب نفي الضمان على القول الظاهر امتناعُ تأخير حدود الله تعالى إذا رأى الإمام ألاّ يؤخر، والزيادة على المطلوب في جِرم السياط خروجٌ عن المقدار المستحق، وكذلك القول في التحامل المفرط في الضرب.
والمرأة تُضرب جالسةً وتُربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف.
11234- ومما يجب الاعتناء به أن الضربات أصلها أن تكون متوالية، فإن فُرّقت، فكيف الوجه؟ وإلى ماذا الرجوع؟ إن فرّق الأسواط على الأيام، فكان يضرب في كل يومٍ سوطاً. قال القاضي: لا يعتد بهذا. والأمر على ما ذكره؛ فإن مقصود الحد من الإيلام الناجع الزاجر لا يحصل على هذا الوجه، وكذلك لا يحصل. التنكيل أيضاً، ثم لو أقام خمسين سوطاً وِلاءً في يومٍ، وأقام خمسين أخرى في يومٍ آخر، جاز.
وهذا الفصل فيه انتشار، والممكن في ضبطه: أنه إن ظهر سقوط أثر الألم لتفرق الأسواط على الزمان، كما فرضه القاضي من وقوعها [آحاداً] (2) في أيامٍ، أو كان يقع سوطان في كل يومٍ، فهذا ليس بحد.
وإن كان المقدار الواقع مؤثراً، أي لم يتخلل من الزمان ما ينقطع فيه أثر الأول،
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 264، فتح القدير: 5/18، تبيين الحقائق: 3/170، الاختيار: 4/85.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، رسمت هكذا: " أملا " والمثبت تصرف منا على ضوء ما مضى من حكاية قول القاضي.(17/359)
فالظاهر إجزاء هذا؛ إذا (1) تجمّع كونُ الواقع مؤلماً، وبقاء الألم إلى وقوع الآخر.
وإن كان الواقع مؤلماً وتخلل من الزمان ما يُسقط أثر التألم [بالأول] (2) ، فهذا محل التردد. ظاهر كلام القاضي أن ذلك حدٌّ معتدٌّ به.
والوجه عندنا أنه لا يعتدّ به إذا انقطع أثر الأول (3) ؛ فإن التتابع والوِلاء [لو] (4) عُدِّل بالأسواط، [لبلغ] (5) أثره عدداً منها صالحاً، ففي ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد (6) . وما ذكره القاضي محتمل أيضاً، وفي كلامه إشارة إلى الخمسين، فإن كان يتشوف بذكرها إلى أن الخمسين حدٌّ كامل، فهذا الفن يدِق مُدركه، ولا ينبغي أن يُتشاغل بمثله؛ فإن الأمور في الكليات لا تنطاع من التضيّق والضبط، وشرطُ الفقه ألا يطلبَ من كل شيء إلا ما يليق به، والتقدير (7) من موضع غايةُ المطلوب فيه التقريبُ وإبانةُ مسلك الاجتهاد لا يحسن.
فإن قيل: لو حلف الرجلُ ليضربنّ فلاناً مائة سوط، ثم إنه فرّق عليه السياط في الأيام، يَبَرّ في يمينه، فهلاّ وقع الاكتفاء بتحصيل الاسم في الحدود؟ قلنا: تعويل الأيمان على موجَبات الألفاظ، والتعويل في فهم معاني التكليف على المقاصد. وقد ظهر من مقصود الشرع أن الغرض من الحد الزجر والتنكيل على قدرٍ يقرب من الفهم، فيجب اعتباره.
__________
(1) إذا بمعنى: إذ.
(2) في الأصل: بالواقع. والمثبت منّا على ضوء السياق وما حكاه الغزالي والرافعي والنووي عن الإمام.
(3) عزا النووي هذا الضابط إلى الإمام، فكأنه لم يسبق إليه. (ر. الروضة: 10/173) .
(4) سقطت من الأصل. والمثبت من عبارة الرافعي في الشرح الكبير: 11/286.
(5) في الأصل: " التلقي " ومن فضل الله أن وجدنا الرافعي حكى العبارة كاملة عن الإمام وإلا لاستحال علينا تصويبها. (ر. السابق نفسه) . وانظر إلى أي حد بعُد التصحيف برسم الكلمة.
(6) المعنى أن في ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد؛ لأن الموالاة إذا قيس أثرها وعدّل بالأسواط وقوبل بها لبلغ عداداً معتبراً من الأسواط.
(7) أي أخذ التقدير واستنباطه من مواضع التقريب غير حسن.(17/360)
فصل
قال: " ولا يبلغ بعقوبةٍ أربعين، تقصيراً عن مساواته عقوبة الله تعالى في حدوده ... إلى آخره " (1) .
11235- التعزيرات لا مبالغ لها تقديراً من الشارع، ولكن يتطرّق إليها في جهة الأقصى مردٌّ يُنتَهى إليه، ويتخذه المجتهد شوفَه بين يديه، فالذي تمهد في الأصل أن التعزير لا يُبلغ به الحدّ، كما أن الرضخ لا يبلغ به السهم في المغنم، والحكومة لا تبلغ الدية.
ثم اختلف طرق أئمتنا في المبالغ التي نجعلها شَوْفنا في الاعتبار: فقال قائلون: يُحط أعظم التعزيرات عن أقل الحدود، وقال آخرون: يُنسب مقتضى كل تعزير إلى ما يقتضي الحدّ في قَبيله، حتى إن كان ما صدر من الإنسان هي مقدمات الزنا، فالتعزير فيما جاء به محطوط عن حد الزنا، وإن عرّض بقذف، أو قذف من ليس محصناً، فتعزيره محطوط عن حدّ القذف، وإن فرض ملابسةٌ لأسباب الشرب، فالمعتبر الذي إليه الرجوع حدّ الشرب، وهذا فقهٌ حسن.
توجيه الوجهين: من قال يُحط أبلغ التعزيرات عن أقل الحدود، احتج بأن قال: أعظم الأشباه بالإضافة إلى أقل أسباب الحدود محطوط عنه، وإنما توجد العقوبات من موجباتها، ومن يصير إلى الوجه الثاني احتج بأن النِّسب حقها أن تقرر باعتبار كل نوعٍ بالغاية المطلوبة فيه أولى، ولذلك تعتبر كل حكومة بحسب الجناية على عضو بما يجب الأرش المقدّر في ذلك العضو، على تفاصيلَ انتجز شرحها في الديات.
وما ذكره ناصر الوجه الأول من أن ما يوجب أقلَّ الحد أعظمُ مما يوجب أبلغ التعزيرات ليس كذلك؛ فإن منازل الزلات والجرائم لا يُتلقَّى من هذا، ورب شيء هو أكبر من كبار موجبات الحدود لا يحدُّ في قبيله، كأكل مال اليتامى ظلماً، وكإمساك
__________
(1) ر. المختصر: 5/176.(17/361)
المولّي (1) حتى يُدركه قاصدُه، فيقتله، فلا يشك ذو تحصيل أن ما ذكرناه أبلغ من قطرةٍ من خمرٍ يتعاطاها ولوعٌ بها مذمّم في نفسه.
التفريع:
11236- إن حكمنا بأن أبلغ التعزيرات محطوط عن أقل الحدود، فأقل الحدود حدُّ الشرب، فليحط التعزير عنه، ثم اختلف أصحابنا إذا كان المعزَّر حرّاً، فمنهم من قال: يحط تعزير الحر عن حدّ الحرّ، وهو أربعون، ويحط تعزير العبد عن حدّ العبد في الشرب، وهو عشرون. ومن أصحابنا من قال: أبلغ التعزيرات محطوط عن عشرين؛ فإنه أقل الحدود على الجملة، وهذا الوجه إن كان ضعيفاً في طريق المعنى، فإنا سنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل ما يعضده.
وإن فرّعنا على أن كلَّ تعزيرٍ معتبر بالحد الذي يناسبه، فيعتبر تعزير الحر بحدّ الحر، وتعزير العبد بحد العبد بلا خلاف، فإنا إذا كنا نرعى تقارب الأسباب في السبب، فاعتبار الأشخاص المعزرين أولى.
والذي نراه أن تعزير من يتعلّق بأسباب السرقة يجب أن يعتبر بأبلغ الحدود الواقعة بالجلد، وهو حد الزنا؛ فإن القطع أبلغ من مائة جلدة.
11237- ثم قال الأئمة بعد ذلك.: ليس للإمام أن يبتدر الضربَ بل نرعى في ترتيب التأديب من التدريج والاكتفاء بأقل المراتب ما يرعاه الدافع في الاقتصار على حاجة [الدفع] (2) ، حتى إن علم أن التوبيخ بالكلام كافٍ، اكتفى به. وإن لم يره ناجعاً ترقى إلى [التعنيف] (3) فيه، ثم يرقى من هذه المرتبة إلى ما يرى من حبسٍ، أو دفعٍ في الصدر، أو ما جرى هذا المجرى، ثم هكذا إلى أن ينتهي رأيه.
ومن آداب الإمام في ذلك، أن يتوقَّى هيجه وغضبه [ويتأتَّى] (4) لما يأتي به مُعْمراً (5) إشفاقاً، واستصلاحاً للمؤدَّب. وقصة عُمر في ذلك مشهورة: إذ رفع دِرّته
__________
(1) أي المولّي عن الصائل الذي يقصده بالقتل، فإمساكه عن الهرب حتى يُقتل ذنب عظيم.
(2) في الأصل: " الرافع ".
(3) في الأصل: " التصنيف ". وفيها أثر تصويب زادها تشويهاً.
(4) في الأصل: " ويأتي ". وتأَتَّى للأمر: أي ترفق له وأتاه من وجهه. (المعجم) .
(5) معمراً: (كذا) ومعناها: ملتزماً: من أعمر الرجل ماله وبيته: إذا لزمه (القاموس المحيط) .(17/362)
لمن كان يبذُؤ بلسانه على صاحب له، فأطلق المعزَّر لسانه في عمر غير شاعرٍ به، فردّ الدرّة، حتى روجع في ذلك، وقيل (1) : تعرّض لرجلٍ من آحاد المسلمين، فهممتَ به، وأساء القولَ في أمير المؤمنين [ووَزَرِ] (2) المسلمين، فكففتَ عنه، فقال: " أما إني رفعتها لله، فمَن ابن أم عمر حتى يُنتَقمَ له مع الانتقام لله " (3) ؟ وأشار بهذا إلى ما لحقه من مبادئ الغيظ.
وقد روي من صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفوه ما يظهر حملُه على قريب ممَّا ذكرناه. وهو مثل ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في سفرٍ على بعيرٍ فجاء أعرابي، فجذب رداءه، حتى أثرت جذبته في عنقه، وقال: احملني؛ فإنك لا تحملني على بعيرك ولا بعير أبيك " (4) فقال أبو هريرة: فهممنا به كالخيل من الحديد نبغي قتله، فقال عليه السلام: " عزمت على من سمع كلامي أن يثبت مكانه "، فوقفنا، وأيدينا على مقابض السيوف ننتظر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا أسامةَ بن زيد، وقال: " احمله على بعير الزاد " ولم يعزره. وقصة الرجل الذي خاصم الزبير في سقيه بستاناً مشهورة، وهي محمولة على ما ذكرناه (5) .
11238- ومن أهم ما يجب الاعتناء به، [فهمُ] (6) سؤال مع الجواب عنه. فإن
__________
(1) أي قيل لعمر.
(2) في الأصل: " ووزير ".
(3) أثر عمر رضي الله عنه لم نقف عليه.
(4) حديث الأعرابي الذي جذب ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " احملني ... " رواه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الشيخ الألباني (ر. أبو داود: الأدب، باب الحلم وأخلادتى النبي صلى الله عليه وسلم، ح 4775، النسائي: القسامة، باب القود من الجبذة، ح 4780، ضعيف سنن أبي داود للألباني، ح 1022) .
(5) حديث الرجل الذي خاصم الزبير في سقي بستان متفق عليه. (البخاري: المساقاة، باب سَكْر الأنهار، ح 2359، 2360، مسلم: الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، ح 2357) .
(6) في الأصل: " فهو ".(17/363)
قيل: لَمْ يقف بعضُ العلماء في التعزيرات على موقف، حتى رأى مالكٌ (1) القتلَ تعزيراً، وهذا [يوافق ظن مَنْ] (2) لا يدق نظره إلى الإيالة التامة؛ فإن الهَنة التي تصدر من آحاد الناس في الخطر لا يدرؤها جلدات نكال، سيّما وقد بعد العهد، وتمادى الزمن، ولا يزداد المستأخرون إلا شرّاً.
قلنا: لا مزيد على ما ذكرناه. والسؤال (3) برعاية الإمام وكلاءته؛ فإنه إن أحسن إقامة الضوابط، وألزم نفسه الاطلاعَ، ومهَّد طرقَ تقاذف الأخبار إليه، وعضد كلَّ قُطرٍ بقوّامٍ به، وتقدم إلى أصحاب الأعمال، إذا بدا من الناس ما يستوجبون الآداب به أن يعزّروا، ولا يتسامحوا، وإن تكررت الهَنات تكررت الجلدات، فهذا كافٍ، وإنما الشرّ كله في الإهمال، وقطع عين المراقبة عن الناس، وإن تألّبت طائفة، وسلّت يدها عن الطاعة، رُدّت إلى الطاعة بغرار (4) السيوف.
ولو كانت قضايا الشرع تختلف باختلاف الناس، وتناسخ العصور، لانحلّ رباط الشرع، ورجع الأمر إلى ما هو المحذور من اختصاص كل عصر ودهر برأي. وهذا يناقض حكمةَ الشريعة في حمل الخلق على الدعوة الواحدة، ولما ذكر صاحب التقريب مقالات الأصحاب في التعزيرات ومبالغها روى عن أبي بُردة بن نِيار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجلد فوق العشرة إلا في حدّ " (5) . قال صاحب التقريب: هذا خبرٌ صحيح، لو [بلغ الشافعي] (6) ، لقال به، وقد صح من أقوال الشافعي أن من يبلغه مذهبٌ منه، ويصح عنده خبر على خلافه، فحق عليه أن يتّبع الخبر، ويعتقدَ أنه مذهبُ الشافعي؛ فإنّ كل ما أطلقه في المسائل مقيد باستثناء
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/928 مسألة 1863، 1864، المعونة: 3/1406، حاشية الدسوقي: 4/355.
(2) في الأصل: " يوافق من ظن من لا يدق نظره ".
(3) كذا قدرناها. (انظر صورتها) والمعنى أن السؤال يندفع برعاية الإمام ... إلخ.
(4) الغِرار: حد السيف ونحوه (المعجم) .
(5) حديث أبي بُرْدَة بن نيار الأنصاري متفق عليه (البخاري: الحدود، باب كم التعزير والأدب، ح 6848، مسلم: الحدود، باب قدر أسواط التعزير، ح 1708) .
(6) في الأصل: " لو بلغه " والتغيير لمجرد الإيضاح.(17/364)
الخبر، وكأنه لا يقول قولاً في واقعه إلا وهو مصرّح معه بأن الأمر كذلك إن لم يصح خبرٌ على خلافه.
11239- ثم قال الشافعي، في آخر الباب: " لا تقام الحدود في المساجد " (1)
وهو كما قال، وسيأتي، إن شاء الله، هذا وأمثاله في آداب القضاء. روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم " (2) .
ثم عقد الشافعي باباً مترجماً بقتال أهل الردّة (3) ، مضمونه ثلاثة أشياء: أحدها - أحكام الردة، وقد مضت في باب مفرد، والآخر - مقاتلة أهل الردة إذا اجتمعوا، وقد مضى هذا في أثناء قتال أهل البغي، والثالث - يحثّ على البداية بهم، وهذا بيّن، وليس على هذا الإطلاق، فقد يطأ الكفار طرفاً من [بلاد] (4) الإسلام، ولو لم نَطِر إليهم، لخفنا فتقاً لا يُرقع، فلتقع البداية بالأهم.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/177.
(2) حديث " جنبوا مساجدكم صبيانكم ... " رواه ابن ماجه، والبيهقي وضعفه، كما ضعفه الحافظ في التلخيص (ر. ابن ماجه: المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، ح 750، البيهقي: 10/103، ضعيف ابن ماجه للألباني ح 164) .
(3) ر. المختصر: 5/177.
(4) زيادة اقتضاها السياق.(17/365)
باب صول الفحل
قال الشافعي رضي الله عنه: " إذا طلب الفحل رجلاً ... إلى آخره " (1) .
11240- البهيمة إذا صالت على إنسان، وعلم المصول عليه أنها لا تدفع إلا بما يهلكها، ويأتي عليها، دفَعَها، واقتصر على مقدار الحاجة في دفعها، فإن كانت [لا تدفع] (2) إلا بما يقتل، قتلها، وكانت هدراً غير مضمونة، خلافاً لأبي حنيفة (3) .
وكذلك إذا صال آدمي على إنسان، فإنه يتولى دفعه بالأيسر فالأيسر، فلو لم يتأت الدفع إلا بالقتل، قَتَل، ولا ضمان. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في صيال الصبي والمجنون. فقال في رواية: لو أهلكهما في الدفع، كانا مضمونين، وقال في رواية: لا ضمان على الدافع؛ لأن فعلهما لو تم، لتعلّق الضمان به. بخلاف فعل البهيمة.
ومعتمدنا في المذهب أن البهيمة بصيالها صارت مستحقَّةَ القتل بصيالها، فقامت مقام السبع الضاري، والكلب العقور.
ولو اضطر في المخمصة، واقتضت الضرورة إتلافَ بهيمة الغير، والأكلِ منها، فالإهلاك سائغ، بل واجبٌ لإحياء المهجة، وضمانُ البهيمة واجب على المضطر، فإن البهيمة لم تتصف بما يسلّط على إهلاكها، بخلاف الصائلة.
ولو رَبَضت بهيمة على باب بيت فيه زادٌ لإنسان، وقد ظهرت الحاجة، ومست
__________
(1) ر. مختصر المزني: 5/178.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 258، مختصر اختلاف العلماء: 5/210 مسألة 2308، رؤوس المسائل: 506 مسألة 367، إيثار الإنصاف: 400، طريقة الخلاف: 493 مسألة 197) .(17/366)
الضرورة، ولا وصول إلى البيت إلا بإتلاف البهيمة، فلا شك أنه يُتلفها، وفي ضمانها وجهان: أحدهما - أنه يجب كما لو أتلفها للمخمصة، وأكل منها. والثاني - لا يجب الضمان لوقوفها وربوضها على سبيله الموصل إلى الزاد.
ولو كان الإنسان في طريقه عابراً، وسطقت جرّةُ أو ما في معناها في ملك إنسان واستوت على [رأسه] (1) ، ولو لم يكسرها، لأهلكته أو خيف عليه منها (2) ، فإذا كسرها، فللأئمة أصلان في ذلك، فقال قائلون: كسرها بمثابة قتل البهيمة الصائلة، وقال آخرون: يجب الضمان، وإن ساغ الكسر؛ لأنه لا اختيار لهذا الساقط على سمت رأسه. ولاختيار الحيوان أحكام لا تُنكر.
11241- ثم تكلم الأئمة فيما يجب من الدفع، وفيما يسوغ، فنستتم ذلك، ثم نخوض بعده في إيضاح تدريج الدفع، فنقول: إذا قصدته بهيمةُ إنسانٍ، وصالت عليه، وجب عليه دفعها، وإن كان الدفع يأتي عليها، ولا يجوز أن يستسلم للتهلكة، ولا [بُعدَ] (3) في هذا، ونحن نوجب قتل البهيمة الضارية بالإهلاك، وإن لم تكن صائلة في وقتها، لقطع توقع الصيال منها.
ولو صال مرتد أو حربيّ على مسلم، لم يحلّ له أن يستسلم، ويؤثر الهلكة؛ فإنه لا حرمة للصائل، والاستسلام لهما ذلٌّ في الدين.
11242- ولو كان الصائل رجلاً مسلماً محقون الدم، فهل يجوز الاستسلام للهلكة؟ وكيف السبيل فيه؟ اختلف النص، وحاصل المذهب في أصل التمهيد قولان: أحدهما - أن الاستسلام غير جائز؛ فإن المهجة المصول عليها محترمة، والشخص الصائل ظالم ساقط الحرمة، فيجب إيثار الذب عن المهجة المحترمة، ولا يسوغ بذلها لشخص ساقط الحرمة.
__________
(1) في الأصل: " رأسها ". والمثبت من المحقق رعاية للسياق.
(2) صورة المسألة أن تهوي جرة مملوكة لإنسان من ملكه لسببٍ ما، وتهوي مسامتة لرأس إنسان، فهل له أن يعاجلها، ويكسرها قبل أن تصل رأسه.
(3) في هذا أي في الحكم بوجوب الدفع وعدم الاستسلام.(17/367)
والقول الثاني - يجوز الاستسلام، ومعتمده الأخبار الصحيحة، ومنها ما روي عن حذيفةَ بنِ اليمان: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: يا رسول الله لو أدركني ذلك الزمان، فقال: ادخل بيتك، واخمل ذكرك، فقال: أرأيت لو دخل بيتي؟ فقال: إذا راعك بريق السيف، فاستر وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (1) . وفي بعض الأخبار: " ولأن تكن خير ابني آدم " (2) عَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل. وصح عن عثمان رضي الله عنه: " أنه استسلم يوم الدار، وقال: لا أحب أن يراق فيّ مِحْجَمة دم "، وكان معه في الدار أربعمائة من الغلمان الشاكين السلاح، فقال: " من ألقى سلاحه، فهو حر" (3) .
فإذاً لاح في الدفع وإن أفضى إلى القتل، وفي الاستسلام قولان: أحدهما - أنه محرّم، والثاني - غير محرّم.
ثم اختلف أصحابنا في تأويل هذا القول، فمنهنم من قال: الاستسلام جائز، ومنهم من رآه مندوباً إليه مستحباً، وإليه إشارة الأخبار في استحسان الإيثار، وإن أدى إلى هلاك المَؤْثر، وهو شِيمُ الصالحين، ويتصوّر من أوجه، يدل البعض منها على
__________
(1) حديث " كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " سبق تخريجه.
(2) حديث: " كن خير ابني آدم "، أخرج أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم " الحديث. وفيه: فإن دخل عليَّ بيتي وبسط يده إليّ ليقتلني، قال: " كن كابن آدم ". وفي الباب من حديث ابن عمر، رواه أحمد، ومن حديث أبي موسى، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان (ر. المسند: 1/169، 185، 4/408، 416، الترمذي: الفتن، باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها، ح 2194، أبو داود: الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة، ح 4259، ابن ماجه: الفتن، باب التثبت في الفتنة، ح 3961، ابن حبان: ح 5931، التلخيص: ح 2146) .
(3) حديث استسلام عثمان يوم الدار وصرفه المدافعين عنه، وأنه قال: " من ألقى سلاحه فهو حر " قال الحافظ في التلخيص: لم أجده، وفي ابن أبي شيبة من طريق عد الله بن عامر سمعت عثمان يقول: " إنّ أعظمكم عندي حقّاً من كفّ سلاحه ويده " (ر. ابن أبي شيبة: 15/204 ح 19507، التلخيص: 4/161 ح 2154) .(17/368)
الكل. فإذا اضطُر الرجل، وانتهى إلى المخمصة، ومعه ما يسدّ جوعته، وفي رفقته مضطرٌ فآثره بالطعام، فهو حسن، وكذلك القول في جملة الأسباب التي تتدارك بها المهج، ولا خلاف أنه لا يحل إيثارُ بهيمةٍ، وكيف يظن الظان هذا، ويجب قتل البهيمة لاستبقاء المهجة.
11243- ولو كان الصائل على الإنسان مجنوناً أو مراهقاً، فمعلوم أنه لا يبوء واحدٌ منهما بالإثم، ولو استسلم للقتل، وللأصحاب طريقان فيهما: منهم من لم يجوّز الاستسلام، ونزلهما منزلة البهيمة في هذا المقام، واستمسك بما أجرى الله تعالى ذكره في قصة هابيل؛ إذ قال عز وجلّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} [المائدة: 29] .
ومن الأصحاب من أجرى قولي الاستسلام في الصبي والمجنون (2) ؛ لأن المعنى المتبع في ضبط هذا القول محاذرة الزيادة على قدر الحاجة في الدفع، والصائل آدمي محترم، وهذا المعنى يتحقق، وإن كان الصائل لا يبوء بالإثم، وأيضاً فإن للقتيل القرب من مرتبة الشهادة، وهذا المعنى يجري في الصبي والمجنون إذا صالا.
11244- وأما الذميّ إذا كان هو الصائل، فالوجه الدفع؛ فإنه لا يجوز الاستسلام، وإن كانت الذمة توجب حقن دمه؛ لأنه بصياله ناقصٌ عهده؛ فتسقط حرمته، ويبقى كافراً صائلاً على مسلم، فإن قيل: أليس من الأصحاب من يقول: لا تنتقض الذمة بالقتل؟ قلنا: ذلك وجه ضعيف، ثم لا حرمة للذمة حالة القتال، والصيال. وعلى الجملة الاستسلام للكافر ذُلّ.
11245- وتمام البيان في هذا أنه كما يدفع الصائلَ عن نفسه كذلك يدفعه عن قريبه وحميمه، وعن الأجنبي منه. وهل يجوز له ترك الذبّ، أم يجب عليه أن يبذل وسعه في الدفع عن غيره؟ فيه تردّدٌ للعلماء، وهو من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن
__________
(1) وجه الاستدلال بالآية: أن الصبي والمجنون لا يبوءان بالإثم، فهما كالبهيمة من هذه الناحية.
(2) وهذا الوجه هو الأشبه، كما عبر بذلك الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 11/315) .(17/369)
المنكر، والذي اختاره المحققون من الفقهاء أن ذلك يجري في حق الغير مجراه في حقه، لو كان هو المصول عليه.
ويخرج من هذا وجوب الدفع عن الغير في قولٍ، وتحريمُ [تركه] (1) .
وعلماء الأصول اضطربوا في هذا، فذهب المحققون منهم إلى أن هذا محتوم على الولاة وأصحاب السيوف المرتصدين للذب عن الدين، فأما آحاد الناس، فلا يلزمهم هذا، ثم منهم من لم يجوّز شهرَ السلاح للدفع عن الغير، ومنهم من جوّزه فلم يوجب.
وهذا لا يختص [أثره] (2) بصول الإنسان على غيره قاصداً قتله، فمن كان مُقْدماً على محرّم، فيمنع منه، فإن أبى، دُفع عنه، فإن أتى الدفعُ عليه، فهو على التفصيل الذي ذكرناه، حتى قيل: لو رأى رجلاً يرضّ رأسَ شاة الغير وقدر أن يمنع، فإن أبى (3) ، دُفع، ثم الدفع لا موقف له إلا إهلاك القاصد. وكذلك لو كان يتعاطى الشرب أو غيره من المنكرات، فالقول على ما ذكرناه.
والخارج من النظم أن السلطان لو دفع -[من ارتكب أو هم بارتكاب هذه لماثم] (4) - دفعه بالرّد إلى الطاعة، وأما آحاد الناس، ففي الفقهاء من يسلّطه على
__________
(1) في الأصل: قتله، والمثبت من لفظ الإمام الغزالي في الوسيط. ونص عبارته بتمامها: المرتبة الثانية - ما يتعلق بحق الغير من أجنبي أو قريب -في الدفع- فحكمه ما سبق في الدفع عن النفس: وفي جواز ترك الذب، أو وجوب بذل المجهود في الدفع ترددٌ للعلماء مأخذه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واختار المحققون تنزيلَ ذلك منزلة ذبه عن نفسه، من غير فرق، ويخرج منه قول -لا محالة- في وجوب الذب وتحريم الترك، وأما الأصوليون، فإنهم قالوا: ذلك على الولاة محتوم، لا يسعهم تركه، ولا يجب على الآحاد قطعاً، وميل أكثرهم إلى أنه لا يجوز لهم شهر السلاح فيه أيضاً؛ لأن ذلك يجرّ خطراً وخبلاً، ومنهم من أباح، ولكنه لم يوجب، ومنهم من رمز إلى موافقة الفقهاء " (ر. البسيط: 5/ورقة: 146 شمال، 147 يمين) .
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل رسمت هكذا: " تارة " رسماً ونقطاً.
(3) المعنى: إذا رأى رجلاً يتلف مال الغير، وقدر أن يمنعه، منعه، فإن أبى المتلِف دفعه بما يستطيع على التدريج المذكور في الدفع عن النفس، حتى لو وصل إلى هلاكه.
ما بين المعقفين من المحقق، ولا علاقة له بما في الأصل، حيث استحال علينا إقامة عبارته،=(17/370)
ذلك، وهذا لا يرتضيه الأصوليون. إلا أن قُربَ خطر الشرب؛ من حيث إن قصاراه لو استتمه جلدات، فإن أمر الدفع لو صح لا يؤخذ من هذا المأخذ؛ فإن الإنسان - كما سنذكر إن شاء الله تعالى- يذب عن ماله، والعبد يذبّ سيدَه عن نفسه، وإن كان قتلُ السيد إياه غيرُ موجب ضماناً عليه في قودٍ ولا قيمة. ولكن تمكين الناس من السيوف يجرّ خبلاً عظيماً.
11246- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الإنسان يدفع عن نفسه بكل وجهٍ [والكلام] (1) في وجوب الدفع. وهذه مرتبة.
والمرتبة الأخرى - في الدفع عن الغير وهو مقصود بالقتل، أو بفاحشة الزنا، وهاهنا افتراق الفقهاءِ وأربابِ الأصول، كما قدمناه، وفي مسلك الأصوليين رمزٌ إلى موافقة الفقهاء.
المرتبة الثالثة - في الدفع عن المنكرات والمحرّمات جُمَع سوى ما ذكرناه، والأصوليون مطبقون على أنه لا يجوز لآحاد الناس شهرُ السلاح، وذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه لا مبالاة بشهر السلاح إذا اقتضت الحاجة إليه. وهذا نجاز القول في هذا الأصل.
11247- وإذا كان المصول عليه يدفع عن نفسه، وقد قلنا: إنه لا يجوز له أن يستسلم، فإن استمكن من الوصول إلى الخلاص بالهرب، فقد اختلف أصحابنا الفقهاء في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز المكاوحة (2) مع إمكان الهرب، فإن الغرض الخلاصُ بالأهون فالأهون، وإذا أمكن الهرب، فلا شيء أسلم منه.
ومن أصحابنا من قال: يجوز الثبوت، ودفع الصائل، وهذا يُوجَّه بأن الصائل
__________
=مع الاستعانة بمختصر العز بن عبد السلام، وبسيط الغزالي، وشرح الرافعي، وروضة النووي. فأدينا المعنى بألفاظِ من عندنا.
وعبارة الأصل رسمت هكذا " لو دفع مراعمه الهام بامره ... دفعه ... إلخ " كذا تماماً رسماً ونقطاً. (انظر صورتها) .
(1) في الأصل: " الكلام ".
(2) المكاوحة: المقاتلة والمدافعة (المعجم) .(17/371)
يبغي إزعاجه عن مكانه، فله ألاّ ينزع (1) ، ثم يجر ذلك الدفعَ وارتفاعَ الحرجِ فيه.
والوجهان يجريان على جواز الاستسلام أيضاً؛ فإنا أجريناهما على تحريمه، غير أنا إذا جوزنا الاستسلام، فالأوجه وجوب الهرب حتى لا يهلِك، ولا يورّطَ صاحبه في التسبب إلى الهلاك.
11248- والذي قطع به الأئمة، أنه يجوز للإنسان الذبُّ عن ماله كما يذب عن مهجته. وقال بعض الأئمة: للشافعي في القول القديم أن الدفع عن المال إذا كان لا يتأتى إلا بقتل القاصد أو إتلاف عضو من أعضائه، فلا يجوز دفعه، وهذا وإن أمكن توجيهه في القياس، فهو بعيد في الحكاية.
11249- وقد حان أن نبتدىء القولَ في تدريج الدفع. قال الأئمة: ينبغي أن يقع الدفع بالأهون فالأهون، حتى إن أمكن الدفع بالكلام، فلا مَعدل عنه، وإن أمكن الدفع بالَّلكْم، فلا يعلو بالسوط، ولا ينتقل عنه إلى العصا والمثقّلات. ثم بعد ذلك كله يَشْهَر السلاح.
ثم [إذا قلنا:] (2) الاقتصار على الدفع، [فلو] (3) كان الصائل يندفع بسوطٍ -لو كان- فلم يجده المصول عليه، ولم يشتمل إلا من (4) سيفٍ أو سكين، ولو حذفه بالسيف، لقتله، فهذا فيه تردد؛ فإن الدفع ممكن من غير قتل. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: ليس يتأتى منه الدفع والحالة هذه إلا بما يجد، ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب السوط. والدليل عليه أن البصير الماهر بالسلاح يدفع صيال الصائل بوجوه لا [تأتي] (5) على الصائل، ولا [يستمكن] (6) منها كل أحد. ثم
__________
(1) ألا ينزع: أي لا يترك مكانه، يقال: نزع عنه إذا تركه، ونزعه عنه أخرجه منه، وأبعده عنه.
(المعجم) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: " ولو ".
(4) من بمعنى (على) . وجاء على هذا قوله جل وعلا: " ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا "
[سورة الأنبياء: 77] .
(5) في الأصل: يتأتى. والمثبت من المحقق رعاية للمعنى.
(6) في الأصل: " يستمد ".(17/372)
عدم الإحاطة بتلك الوجوه في الدفع لا يسبب ضماناً على الدافع المقتصر على ما يحسنه، والأمر كذلك إذا لم يجد إلا آلة يعظم أثرها.
وقد تمهد ابتدار الصائل، ووجوبُ الدفع، وجوازُه، ورعاية التدريج في الدفع.
وألحق الأئمة بهذا الفصل الأخير من استلب مالاً، وولّى، فاتّبعه صاحب المال، فإن ألقاه، لم يتبعه، ولو اتّبعه، وضربه، ضمن، وإن تشبث بذلك المال المسلوب، يجاذبه، فجرّ الأمرُ مكاوحةً، فهو قصدٌ ودفع كما ذكرناه.
فصل
قال: " ولو عضه كان له فكُّ لِحييه ... إلى آخره " (1) .
11250- إذا عضّ رجل عضواً من إنسان، فله أن يسلّها، وإن كانت تندُر (2) ثناياه، وإنما فُرض البناء على هذا الفصل لورود خببر فيه. وروي: " أن رجلاً عض يدَ رجل، فانتزعها فندرت ثناياه، فارتفعت القصّةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنايا العاض، وقال له: أيدع إصبعه في فيك تقضمها، كأنه في في فحل " (3) فإن لم يتأت منه سلُّ العضو، فله أن يعمد (4) فكَّه بما يفكه، حتى يخلِّيه، فإن لم يستمكن من الخلاص إلا باستعمال السلاح في العضو الجاني، فليستعمله، وإن كان لا يتأتى الخلاص إلا باستعمال السلاح في غير ذلك العضو مثل أن يعض العاض على قفاه، بحيث لا تناله يداه، ولا يجد مخلصاً إلا بوضع السكين في بطنه، فالأصح أنه يفعل ذلك، وإن خطر لذي خاطر أن منتهى عضِّ العاض خدشٌ وإيلام، فلا نظر إلى هذا، وقد مهدنا جواز قتل من يقصد إنساناً في الدفع عنه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني. وهذا
__________
(1) ر. المختصر: 5/178.
(2) تندُر: تسقط. (المعجم) .
(3) حديث " أن رجلاً عضّ يد رجل فانتزعها ... " متفق عليه من حديث يعلى بن أمية، ومن حديث عمران بن حصين (البخاري: الديات، باب إذا عض رجلاً فوقعت ثناياه، ح 6892، 6893.
مسلم: القسامة والمحاربين، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، ح 1673، 1674) .
(4) يعمد: يقصد.(17/373)
الوجه وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا أصل له، والذي أراه أن ينزّل فيه (1) إذا كان القصد من الجاني لا ينتهى إلى قتلٍ أو فساد عضو. فإن كان ينتهى إلى ذلك، وكان لا يتأتى تخصيص العضو الذي منه الجناية بالدفع، فالوجه القطع بتسليط المصول عليه على الدفع الممكن، وإن ظن ظان أن الوجه الذي حكيناه يوجب أن يخص يدَ الصائل بالدفع إذا احتوت على قبيعة (2) السيف، فهذا خطأ في ظنه، فإن الضرب بالسيف وإن كان صادراً من اليد، فالتحامل مضاف إلى جملة البدن، والرِّجل تلي اليد في حاجة الإقدام، فذلك الوجه إذاً يختص في العضو أو القبض باليد على عضوٍ، بشرط ألا يؤدي إلى الهلاك، أو إفساد عضو.
فصل
قال: " ولو قتل رجل رجلاً فقال: قد وجدته على امرأتي ... إلى آخره " (3) .
11251- مضمون هذا الفصل يتعلق بأمرين: أحدهما - أن من وجد رجلاً كما وصفناه، وحاول دفعه، فأبى، فيتعلّق هذا بالدفع والصيال، كما تمهّد، فإن أتى الدفع عليه، كان هدراً، بكراً كان أو ثيباً، هذا إذا اتصل الأمر بالقصد والدفع.
فأما إذا وجده بعده، فقتله، فإن كان رآه على حقيقة الزنا، وكان ثيباً، فهو هدر، وإن كان بكراً، وجب القصاص على القاتل، وإن اعترف بقتله، وادعى ما ذكرناه وكان محصناً، فإن لم يصدقه ولي القتيل، وأمكنه أن يُثبت الزنا ببينةٍ، فليفعل، وإلا فالقصاص واجبٌ عليه.
وأبو حنيفة يقول من قتل زانياً محصناً من غير إذن الإمام، لزمه الضمان، والمسألة مذكورة في الخلاف. وقد قيل: لما نزل قوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] قال سعد بن عبادة: " أرأيت لو وجدت رجلاً مع امرأتي قدَدْتُه بالسيف
__________
(1) ينزّل فيه: أي الصورة التي ينزل فيها هذا الوجه القائل: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني.
(2) قبيعة السيف: مقبضه.
(3) ر. مختصر المزني: 5/178.(17/374)
نصفين، قتلتموني أو تركتموني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من غيرته، والله، لله أغير منه، ولأجله حرّم الفواحش " (1) .
فصل
قال: " ولو تطلع إليه رجل من ثقب، فطعنه بعود ... إلى آخره " (2) .
11252- إذا تطلّع رجلٌ من صِير (3) بابٍ أو كوةٍ إلى حُرَم إنسان في الدار، ولا شبهة للناظر، فلا شك أن الذي جاء به جناية، وقد ثبت جواز قصد عينه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فلو رمى إليه بمِدْرى أو حجرٍ صغير، مثل حصا الخذف، فأصاب عينه، وأعماه، كان هدراً. هذا مذهب الشافعي.
والمعتمد عنده في ذلك، ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الحجرة، وكان بيده مِدْرى يحك بها رأسه، فتطلّع إليه رجل من صِير بابه، وقال: لو علمت أنك تنظرني أو قال: تطرفني، أو قال: تنتظرني، لطعنت بها في عينك، وإنما جعل الاستئذان لأجل البصر (4) ، وروي أنه كان [يخاتله النظر، ليرمي عينه بالمدرى] (5) قال الراوي: أو كأنه لا يبالي لو لم يصرف عينه أن يَطْعَن بها في عينه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من اطلع إلى قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه، فلا قود، ولا دية " (6) . هذا معتمد المذهب.
__________
(1) حديث سعد بن عبادة: " أرأيت لو وجدت رجلاً مع امرأتي.. " رواه مسلم من حديث أبي هريرة (ر. مسلم: كتاب اللعان ح 1499) .
(2) ر. المختصر: 5/179.
(3) صِير الباب: شقه عند ملتقى الرتاج والعضادة. (المعجم) .
(4) حديث: " أن رجلاً نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صير الباب.. " متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه (البخاري: الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ح 6241، مسلم: الآداب، باب تحريم النظر في بيت الغير، ح 2156) .
(5) ما بين المعقفين مكان عبارة مضطربة وألفاظ ملتبسة. والمثبت من لفظ الحديث.
(6) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان والبيهقي، من حديث أبي هريرة (ر. المسند:=(17/375)
11253- ثم الغرض من الفصل ينتجز ببيان فصولٍ: منها - أنا نشترط أن يكون الناظر قاصداً في نظره، فلو وقع بصره وفاقاً، ولم يتبين أنه جرّد قصده إلى النظر، أو إدامتِه، فلا يجوز قصدُ عينه.
ومنها ألا يكون صاحبُ الدار مقصّراً، حتى لو كان باب الدار مفتوحاً، فنظر الناظر منه، لم يجز قصدُ عينه، فإن التقصير من رب الدار، وكذلك لو كان انهدم شيء من جدار الدار، فنظر ناظرٌ من تلك الثُّلمة، فلا يجوز قصدُ عينه.
فأما النظر من صِير الباب، ومن كوة يُعتاد مثلها، فهو النظر الذي يسلّط على قصد العين.
ومما نعتبره ألا يكون للناظر في الدار حُرَم، فإن كان، فلا يجوز قصد عينه، وإن كان لا يجوز له أن ينظر لجواز أن يكون في الدار حُرَمٌ لمالك الدار، ولكن ما له من الشبهة أسقطَ جواز قصد عينه.
واختلف أصحابنا في صورتين: إحداهما - أنه لو لم يكن في الدار إلا صاحب الدار، أو رجالٌ معه، فإذا نظر الناظر، ففي جواز قصد عينه وجهان: أحدهما - لا يجوز، ووجهه بيّن؛ إذ لا حُرم. والثاني - يجوز؛ فإن النظر حرام، وإن لم يكن حُرَم؛ إذ الرجل قد يكون منكشفاً، وقد يريد أن يكون آمناً من الاطلاع عليه، فينبغي أن يُحسمَ الباب، والأحاديث المسلِّطة على جواز قصد العين ليست مقيَّدةً بالحُرَم.
هذه واحدة.
والصورة الأخرى - أن يكون في الدار حُرَم، ولكن اتفق كونُهن متسترات ببيت أو غيره، ولم ينته اطلاع الناظر إليهن، فهل يجوز قصد عينه والحالة هذه؟ فعلى وجهين، والأظهر هاهنا الجواز، لاشتمال الدار على الحُرم، ولا يدري أن الاطلاع قد يتفق [وحالة التستر هذه] (1) .
__________
=2/385، النسائي: القسامة، باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، ح 4860، ابن حبان: 5972، البيهقي: 8/338، التلخيص: 4/160 ح 2152) .
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.(17/376)
وهذه الصورة إذا ضمت إلى الأولى انتظم منهما ثلاثة أوجه: أحدها - جواز القصد، والثاني - منع القصد مطلقاً، وإن لم ينته النظر إلى حرم، والثالث - الفصل بين أن يكون في الدار حرم، وبين ألا يكون.
11254- ثم إذا نظر الناظر حيث يجوز قصد عينه، فلا فرق بين أن يكون وقوفه في الشارع، أو في سكة منسدّة، أو يكونَ في ملكه الخالص، يعني ملك الناظر؛ فإن الجناية المردودة هي النظر، والنظر إذا امتدّ لم يختلف الأمر باختلاف موقف الناظر، ولا اعتذار له إذا ترك بصره منسرحاً إلى حرم غيره، بأن يقول: إني واقفٌ في ملكي، فيقال: فانظر إلى ملكك، وغُضَّ بصرك عن حرم الناس.
11255- ثم ما صار إليه الأئمة في الطرق أن النظر إذا استجمع الشرائط التي ذكرناها، فيجوز قصدُ عين الناظر من غير تقديم إنذار، وفي الخبر ما يدلّ على ذلك؛ فإنا روينا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاتل الناظر يرمي (1) عينه بالمدرى؛ وفيه طرف من المعنى يليق بتمهيد الأصول، وهو أن الغرض من جواز قصد العين المنعُ من النظر، فإذا كان المنظور إليه يقدّم النذير، فينتحي الناظر، ثم يعود وقد قضى وطره من النظر بالنظرة الأولى.
وقال القاضي: الذي أراه أنه ينذره، ويزجره عن النظر أولاً، ويجب ذلك، فإن لم ينزجر، قصدَ عينَه حينئذٍ. وهذا عند القاضي خارج على قياس الدفع؛ فإنه مبني على التدريج، والبداية بالأهون، فالأهون.
وهذا الذي ذكره، وإن كان منقاساً، فليست المسألة مدارة على القياس، وإنما المتبع الأخبار، ولا تفصيل فيها، بل في بعضها ما يدل على جواز القصد من غير تقديم إنذار كما قدّمناه.
قال صاحب التقريب في غير النظر: كل من قصد أمراً يسوغ دفعه عنه، فهل يجب على المصول عليه أن يقدم إنذاره أم يبتدىء الدفعَ فعلاً؟ من غير تقديم إنذار بالقول؟
__________
(1) في الأصل: " له من " والتصويب من نص الحديث.(17/377)
قال: هذا عندي مخرج على استتابة المرتد، وقد ذكرنا قولين في وجوب استتابة المرتد.
وهذا الذي ذكره مما انفرد به، ولا بد فيه من تفصيل. وأما الأصحاب،
أطلقوا (1) أقوالهم بأن الدفع إن أمكن بالقول، فلا معدل عنه إلى الفعل، ثم التمسك في الأفعال بالأيسر، فالأيسر؛ فالوجه أن نقول: [التعويل] (2) على الذي يكون تخويفاً أو زعقة على الصائل، إن أمكن الدفع به، فلا يجوز أن يكون في وجوب البداية به خلاف، والذي ذكره صاحب التقريب هو إنذارٌ لا يكون دفعاً في نفسه، ولكنه من قبيل موعظة أو ما يقرب منه، فانتظم إذاً في الإنذار في غير مسألة النظر كلام لصاحب التقريب، كما ذكرناه، وإن لم نوجب الإنذار في غير النظر، لم نوجبه في النظر، وإن أوجبناه في غير النظر، ففي وجوبه في النظر تردّد للأصحاب على ما حكينا طريقةَ الأئمة، واختيار القاضي.
ثم مما يليق بتمام ذلك أنا إن لم نوجب الإنذار في سائر وجوه الدفع، فلا كلام.
وإن أوجبناه، فتَرَكَه، وقَتَلَ الصائلَ، ضمنه، بترك تدريج الدفع، وليس كما إذا أوجبنا استتابةَ المرتدّ، فلم يستتب، وابتدر مبتدرٌ، فقتله؛ فإن الضمان لا يجب؛ من جهة أن الردة مُهدرة، وهي واقعةٌ، فجرّت الاستتابةَ ثَمَّ بعد الإهدار.
11256- ثم قال الأئمة: إذا جوزنا قصْدَ عينِ الناظر، فيجب ألا يزاد على ما يقصد بمثله العين، كبندقة أو حصاة خفيفة. وأما إذا رشقه المنظور إليه بنشابة، فهذا قتلٌ، وليس قصدَ عين، ولا شك في تعلّق القود والضمانِ به. نعم. لو كان لا يتأتى منه قصد عينه، وكان لا ينزجر عن نظره، فإنه يستغيث (3) عليه، ويقطع نظره عن نفسه، فإن أبى، فحينئذٍ [يدفع عن نفسه] (4) ، ولا يتألّى (5) بأن يأتي الدفع عليه.
__________
(1) جواب أما بدون الفاء، وهو سائغ عند الكوفيين، وعليه جرى إمام الحرمين كثيراً، كما أشرنا من قبل مراراً.
(2) في الأصل: " القول ". والمثبت تصرف من المحقق.
(3) يستغيث عليه: أي يطلب الغوث.
(4) في الأصل: " يدفع عنه ".
(5) ولا يتألّى: أي لا يتحرّى ويجتهد أن يقتله. (المعجم) .(17/378)
11257- ولو وقف الواقف بباب دارٍ، وكان يسترق السمع، فلا يجوز أن يَقصِدَ أذنَه، بخلاف ما إذا نظر؛ فإنه في استراقه السمع ليس يطلع على عورة، وإنما المحذور اتصال النظر بالعورات. هذا ما لا يجوز غيره. وقد قطع به القاضي لما سئل عنه، وفي بعض التعاليق عن شيخي تنزيل الأذن منزلة البصر.
وهذا لم أسمعه، ولست أثق بمن علّق عليه ذلك فيما زعم، ولم أردّد هذا ليعتدّ به، ولكن نبهت على غلطةٍ عظيمة للعاثر عليه حقيقة.
فرع:
11258- إذا فتح رجل باب دار إنسان، ودخل داره، فلا شك أنه يُخرجه من الدار، فإن أبى، دفعه كما يدفعه عن ماله. ثم قال قائلون من أصحابنا: له أن يقصد عينه، لأنه متطلع ضامٌ إلى تطلعه هجومَه على الدار، وقال قائلون: يقصد رجله؛ لأنها المؤثرة، وإذا غلب أثرُ عضو خُصَّ بالدفع.
وهذا عندي كلام سخيف لا أصل له؛ فإنه دخل الدار ببدنه، [فله] (1) قصدُ جملته. فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأصح قصدُ جملته، على التدريج المقدّم، ومن أصحابنا من أوجب تخصيص الدفع بالرِّجل. وهذا غلط. ومن جوّز قصد العين لا يوجب الاقتصار عليه وإنما الكلام في جوازه. فمن صائر إلى أنه يجوز، ومن صائر إلى أن تخصيص العين لا معنى له بعد ما ثبت دخوله، فهو الغالب، وعليه التعويل.
وهكذا يجب أن ترتب المسألة.
***
__________
(1) في الأصل: " فلو ".(17/379)
باب ضمان البهائم
قال الشافعي رحمه الله: " الضمان على البهائم وجهان ... إلى آخره " (1) .
11259- مقصود الباب يحصره قسمان كما ذكره الشافعي أحدهما - القول فيما تتلفه البهائم إذا انتشرت، وليس معها ملاكها. والثاني - الكلام فيه إذا أتلفت شيئاً ومالكها معها.
فإن لم يكن المالك معها، وكان سيّب البهائم وانتشرت في المزارع، وأفسدت منها، فالذي يبتني عليه الفصل أن مالك البهيمة إذا انتسب إلى التقصير في التسييب، ولا ينسب مالك الزرع إلى التقصير في الحفظ، فالضمان يجب على مالك البهيمة.
هذا أصل الباب.
وإن لم يكن من صاحب البهيمة تقصير في التسييب، وكان التقصير من صاحب الزرع في ترك الصَّوْن المعتاد، فلا ضمان.
ومعتمد الباب: " أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائطَ قومٍ، وأفسدت زرعاً لهم، فرُفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بأن على أرباب الأموال حفظَها بالنهار، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل " (2) . فما أتلفته البهائم
__________
(1) ر. مختصر المزني: 5/179.
(2) حديث ناقة البراء بن عازب وإتلافها الزرع ... ، رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. (ر. الموطأ: 2/847، ترتيب مسند الشافعي: 2/107 ح 358، المسند: 5/435، 436، أبو داود: البيوع، باب المواشي تفسد زرع القوم، ح 3570، النسائي في الكبرى: العادية، باب تضمن أهل الماشية ما أفسدت مواشيهم بالليل، ح 5784، ابن ماجه: الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشي، ح 2332، الدارقطني: 3/156، ابن حبان: 5976، الحاكم: 48/2، البيهقي: 8/341، التلخيص: 4/162 ح 2155.(17/380)
بالليل، فهو ضامن على أهلها: معناه فهو مضمون على أهلها. وهو كقولهم: سرٌّ كاتم. أي مكتوم.
ثم قال الأصحاب: إذا تمهد المقصود، واعتضد بخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالرجوع فيما يكون تقصيراً من كل جانبٍ إلى العادات، والعادة الغالبة أن المواشي تسرح نهاراً في المراعي، وأرباب الزرع يحفظون زرعهم بالنواطير والحفظة المترتبين. ثم إن أرباب المواشي يردّدون مواشيهم إلى مرابضها، ولا يتركونها تنتشر ليلاً، فإن هي انتشرت، فالتفريط معزيٌّ (1) إلى ملاكها، ويلزمهم الضمان، حتى قال الأصحاب: إن كان العادة في بعض الأقطار على العكس من ذلك، فكانت المواشي ترسل ليلاً لترعى، وتربط نهاراً، والزروع تحفظ ليلاً، فالأمر ينعكس. والمتبع التفريط، كما ذكرناه. هذا أصل المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً: أنا نتخذ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجوعنا، فلا نعدل عنه، ولا ننظر إلى اختلاف عادات البلاد، فكل ما يقع نهاراً، فلا ضمان على ملاك البهائم، وكل ما يقع ليلاً، فعليهم الضمان؛ فإن تتبع العادات عسير، فالوجه البناء على غالبها، وترك المبالاة بما يندر.
11260- ومما يتصل بما نحن فيه أن قائلاً لو قال: إن المواشي، وإن كانت ترسل نهاراً؛ فإنها لا تخلو عن راعٍ مراعٍ لها، ولا تسيّب من غير مراقبة، وإذا كان كذلك، فمن يرعاها يجب أن يكلأها، وقد تتسع المزارع حتى يعسر حفظها بالنواطير، وحفظ المواشي بالرعاة أقربُ في حكم الاعتياد.
وهذا متجه إن راعينا العادة، والوجه فيه أن نقول: هذا قول من لم يُحط بوضع الفصل، فإنا قلنا: مضمون الباب قسمان: أحدهما - في بهائم مسيبة لا حافظ معها، والآخر - فيه إذا كان معها من يكلؤها. فإذأ فرض الفارض مواشٍ عليها راعٍ مالكاً كان أو أجيراً، فلا خلاف أن ما تُتلفه يجب الضمان فيه، على ما سنشرحه في القسم الثاني، إن شاء الله تعالى. فإذاً هذا القسم في بهائمَ لا راعي معها. فإن قيل تسييبها
__________
(1) معزي: الفعل واوي ويائي: تقول: معزوّ ومعزي.(17/381)
غير معتاد، فليس كذلك إذاً. وقد يعتاد التسييب في المواشي الممتنعة من صغار السباع كالإبل والبقر والخيل، وقد تسيب الأغنام حيث لا ذئاب ولا سباع، ففي مثل ذلك نقول: لا تفريط على المسيب.
فإذا اندفع السؤال يتكرر التصوير، فلو صوّر مصوّر التسييب في الأغنام تضييعاً، ففي هذا نظر، فإن التضييع -إن كان (1) - آيل إلى الأغنام، فلا يُعد هذا عدواناً على المزارع، ولا أُبعد أن يفصل الفاصل بين أن تتسيب في مواتٍ بعيدةً عن المزارع، ثم يتفق انتشارها إلى أطراف المزارع، وبين أن يرسلَها في أطراف المزارع. فإن فعل ذلك من غير راعٍ، فإنها تنتشر، ويعد مثل ذلك تسبُّباً إلى إفساد الزرع.
ومن اتخذ الخبر معتبره، لم يلتفت على هذه التفاصيل.
11261- والمذهب الصحيح اتباع المعنى، وتنزيل الخبر على ما وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وإذا كنا نتبع المعنى، فيبعد كلَّ البعد ألا ينسب أرباب المواشي إلى التفريط إذا أرسلوها في إيتاء (2) الزروع، وتركوها غيرَ مرعية؛ فإن هذا على القطع يخالف العادة، والوجه أن تبعد عن المزارع، ثم قد تتسيب إذا لم تكن في مشابع ومواضع يتوقع ضياعها، وأرباب الزرع يحفظون أطراف الزرع حتى لا تنعكس عليها المواشي المسيبة.
ومما ذكره المفصلون المتبعون للمعنى: أن البساتين إذا كانت عليها أغلاقها، وأبوابها، أو كانت الزروع في محوطات على هذه الصفة، فالعادة جارية بردّ الأبواب، والاستيثاق بالأغلاق، فلو ترك أربابُ البساتين الأبوابَ مفتوحةً بالليالي، فانتشرت فيها المواشي، فقد قال الأصحاب: لا ضمان؛ تعويلاً على تفريط ملاك البساتين، ومعنى تفريطهم خروجُهم عن العادة، وتركُهم الاحتياط مع سهولة اعتياده.
فإن قيل: فقد فرط أرباب المواشي في إرسالها أيضاً. قلنا: نعم. ولكن تضييع البساتين مستقلٌّ في إسقاط الضمان، ولا نظر بعد هذا إلى تفريط ملاك المواشي. ثم
__________
(1) كان هنا تامة. والمعنى -كما هو واضح- إن وجد التضييع.
(2) إيتاء: من آتى الزرع إيتاءً: إذا ظهر ثمره وكثر حمله. (المعجم) .(17/382)
لا تفريط في إرسال المواشي ليلاً في حق أصحاب البساتين إن جَرَوْا على الاعتياد، حتى لو لم يكن إلا البساتين، فلا تفريط في إرسال البهائم ليلاً، وإن كان في الموضع بساتين ومزارع ضاحية (1) ، فإرسال البهائم تفريط في المزارع، وليس تفريطاً في البساتين. وقد تمهد أصل [المذهب] (2) فيما تتلفه المواشي إذا انتشرت، ولا حافظ معها.
11262- ونحن نضبط القسم الثاني، ثم نذكر فروعاً، فنقول: إذا كان صاحب البهيمة معها، فالغالب فيما تتلفه البهيمةُ سبَق مفصلاً في الباب المشتمل على الأسباب المقتضية للضمان. ولكنا نعيد معاقد المذهب، فنقول: ما تتلفه البهيمة مما يُقدّر التصوّنُ عنه بالرعاية والحفظ، ولا ينسدّ به رِفقُ (3) الطروق، فهو مضمون. ثم قال الأصحاب: يضمن الراكب ما تتلفه البهيمة بيديها إذا [خبطت] (4) ، وبرجليها إذا رَمَحت ورفست، وبفمها إذا عضّت، وقضَوْا بأنه يضمن بهذه الجهات إذا كان قائدها أو سائقها [معها] (5) .
وقد ضمَّنَّا ضبط المذهب قيوداً، وفي ذكر معناها تمام الغرض، فنقول: لا سبيل إلى منع البهائم من الطروق، ثم في طروقها فسادٌ لا سبيل إلى دفعه، ولا يمكن التحرّز منه، فإنها تثير الغبار لا محالة، ثم يتعلق بما يثور من الغبار ضِرار في ثياب البزَّازين، والفواكه وغيرها، ولكن ذلك محتمل، وقد ظهر الأمر في ذلك حتى انتهى إلى أن هذا لا يُعلم ضراراً إلا إذا رُدَّ النظر إليه (6) ، وكذلك ممشاها في الشتاء، وكثرة الوحول والأنداء، تطيّر رشاشاً، لا يمكن دفعه بالتحفظ، فذلك القدر لا ضمان فيه؛
__________
(1) ضاحية: أي ظاهرة ومكشوفة غير محوطة.
(2) في الأصل: " المذاهب ".
(3) رِفق الطروق: أي لا يمنع من سهولة المرور. (المعجم) .
(4) في الأصل: " اخطت ". والمثبت من عبارة الغزالي والرافعي وغيرهما. وخبطها: ضربها بيدها.
(5) زيادة من المحقق.
(6) أي إذا تأمله المتأمل.(17/383)
فإن في تقدير الضمان فيه منعها من الطروق، وفي منعها [من] (1) المرافق التي يدنو بعضها من الضرورة ما يَبَرّ (2) على ضِرار رشاشها. نعم المفرط منه قد يمكن التصوّن منه، كأن يجري على رِفْق (3) ، ولا يجري على مجتمع الوحول.
وما يجرّ ضِراراً لا يمكن دفعه، ولكن مثله غير معتاد، فإذا جرى، تعلّق الضمان به. وبيانه أن الإبل تقاد مقطّرة، ولو تركت أرسالاً، واستَبقَت في الأسواق، لخرج أمرها عن الضبط، وإمكان التصوّن. ولكن هذا النوع لا حاجة فيه، فسبيله أن يمنع أصلاً.
وكذلك الدابة النَّزِقَة التي لا تنضبط بالكبح والترديد في معاطف اللجام ولا يتأتى ضبطها، فلا جَرَمَ لا تركب في الأسواق، وينسب راكبها إلى الإتلاف؛ فإن مثل هذه الدابة تركب في متسع الصحراء، فما كان كذلك، فلا ضرر في منعه، فيمنع، فإن [اتفق] (4) ، علَّقْنا الضمان به. [فما] (5) أمكن الضبط فيه إذا لم يتفق الضبطُ، تعلّق الضمان به، وما لا يمكن ضبطه بالتصوّن، ولو منعنا أصله، لانسدّت المرافق، فذاك محتمل لا ضمان فيه. وعلى صاحب الدابة بذلُ المجهود، وعلى صاحب المتاع صون المتاع.
هذا ضبط هذا القسم، وقد مهدناه مطوّلاً مفصلاً فيما تقدّم. وهذا الكلام الوجيز ينبّه على جميع ما تفصل.
فرع:
11263- إذا انتشرت هِرَّةٌ لإنسان، وأهلكت طيوراً، أو عاثت في قدورٍ، فقلبتها، فقد اضطرب الأصحاب فيه، فقال قائلون: لا يتعلق الضمان بها، فإن العادة ما جرت بربط السنانير، وعمت العادة بحفظ الطيور والقدور وأمثالها عنها.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على صاحب الهرّة على الجملة؛ فإنه إن
__________
(1) عبارة الأصل: " وفي منعها انقطاع المرافق ... ".
(2) يبرّ: يزيد (المعجم) .
(3) رِفق: أي على مهلٍ واقتصاد في السير.
(4) في الأصل: " اتفقت ".
(5) في الأصل: " وإن ".(17/384)
عسر ربطها، لا يعسر سدّ المنافذ حتى لا تنفذ منها إلى دور الجيران، ثم الذين أوجبوا الضمان اختلفوا: فقال قائلون: ما تتلفه نهاراً، فعلى صاحبها الضمان، وما تتلفه ليلاً، فلا ضمان؛ فإن الأشياء تحفظ عن الهرّ ليلاً، ولا يحتاط فيها نهاراً. فإذا تقدّر التلف نهاراً، فالتفريط غير منسوب إلى أصحاب الطيور وما في معناها.
ومن أصحابنا من يعكس ذلك، فيقول: ما تتلفه ليلاً يضمنه ربُّها؛ فإن أكثر شرِّها وانتشارها بالليل، إذا نام الحفظة، والأعين الكالئة، فينبغي أن يحتاط ربها، وما تتلفه نهاراً، فالتفريط فيه على ملاك الطيور؛ من حيث غفلوا عن مراقبتها.
وما ذكرناه في هرّة لا تعهد ضارية، فأما إذا ضَرِيتْ بالإفساد، وقتل الطيور، فأول ما نذكره فيها أنها إن كانت لم تقتل، وإن كانت مسيبة، فقد قال القفال: لا تُقتل أيضاً؛ فإن الاحتراس، والاحتراز منها ممكن، فتُدفع، فإن أتى الدفعُ عليها، فلا حرج.
وقال القاضي: إذا ظهرت ضراوتها، وبان شرها في إهلاك الأموال والطيور، فيجوز قتلها كما يقتل الكلب العقور. ثم قال: لا يختص جواز قتلها بوقت ظهور شرها، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمر بقتل الفواسق في الحل والحرم " (1) ، ولم يخصص بوقت بدوّ شرها، وشرُّها في الأموال أو في البهائم، فإن مما أُمر بقتله الغراب والحدأة، وإن كان شرهما في ضِرارٍ وفي أمور تتعلق بالمعايش.
وهذا متجه، فإن اتفقت ضراوة الهرّة، التحقت بالمؤذيات، [فمساق] (2) هذا الكلام يتضمن جواز قتلها، وإن كانت ربيطة. وليت شعري ماذا نقول في الحدأة المَصِيدة التي اختص بها من اصطادها، وهي في قفصه أو رباطه، فهل يحلّ قتلها؟ الحديث يقتضي جوازَ قتلها، ولا يجري الملك فيها، كما لايجري الملك في الحشرات، ولا يحلّ إذاً على هذا اقتناؤها، بل على من يستمكن منها أن يقتلَها. وإن
__________
(1) حديث " أمر بقتل الفواسق في الحلّ والحرم " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح 1829. مسلم: الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح 1198) .
(2) في الأصل: ومساق.(17/385)
بعد هذا عن فهم الناظر ضربت له اقتناء [الأسد] (1) مثالاً، وإن كان مربوطاً [مقيداً] (2) ، فكذلك المؤذيات من الحشرات، فعلى هذا تقتل الهرّة، وإن كانت ربيطة. وقد انتظم لي من كلام الأصحاب أن الفواسق مقتولات؛ لأنه [لا] (3) يعصمها الاقتناء، ولا أثر للاختصاص فيها، ويلحق بها المؤذيات بطباعها، كالأُسْد والنمور، وما في معانيها.
11264- وما لا يؤذي بطبعه، وفي جنسه ما يؤذي، والمؤذي منه يقبل التأديب، فإذا لم تكن مؤذية لم تقتل، وإذا اتفق فيها مؤذٍ، فإن كان عن وفاقٍ لا عن ضراوة، فتُدفع في وقت صيالها، ولا تُتْبع إذا أُتْلِفت، وما ظهر منها التولّع والضراوة، فإن كانت مسيبة ففي قتلها في غير حالة القصد كلام للقفال والقاضي، وفي قتلها وهي ربيطة على مذهب القاضي تردّد: يجوز أن تلتحق بالفواسق، ويجوز ألا تلتحق، وذكر بعض المصنفين أن الكلب العقور الضاري بالعَقْر، بمثابة الهرّة المؤذية، في التفصيل الذي ذكرناه. وهو غير سديد؛ فإنّ الكلب العقور إن لم يكن فيه منفعة، فهو بمثابة الفواسق، وإن كان فيه منفعة، فيشبه أن يكون كالهرّة في التفاصيل، وهي (4) على الجملة أولى بالقتل؛ لأن عَقْرها، وعدوانها عظيم. وقد يتعلق بالناس وكبار البهائم.
فرع:
11265- إذا اقتضت العادة ربطَ البهائم ليلاً، فربطها مالكها، ولم يقصر في الاحتياط المعتاد في الرباط، فانسلّت، فأفلتت وانتشرت، وأفسدت الزرع، فالحكم فيها كالحكم في الدابة المركوبة إذا حرنت وانسلت [من] (5) عِنانها في نفارها، وأفسدت، وقد تقدّم ذلك في باب الاصطدام.
__________
(1) زيادة من المحقق على ضوء كلام الغزالي، ونصه " وكذلك نقول بقتل الحدأة المحبوسة في القفص، وكأنه لا ملك في الفواسق، ولا ينفع الاقتناء في الأسد، والذئب، والنمر، ويجوز قتل الكل في الحل والحرم بكل حال " (ر. البسيط: 5/ورقة: 149 شمال) .
(2) في الأصل: " مقدماً ".
(3) زيادة من المحقق، وهي ثابتة في عبارة الغزالي، وفيما نقله الرافعي والنووي من عبارة الإمام.
(4) كذا في الأصل وفي البسيط للغزالي بنفس الألفاظ، والضمير (وهي) يعود على جمع الكلاب.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(17/386)
فرع:
11266- إذا دخلت البهيمة المزرعة، فهيجها صاحب الزرع، فوقعت في زرع الجار، قال الأئمة: إن اقتصر على تنفيرها من زرع نفسه، فلا ضمان عليه، وإن اتبعها بعد الخروج من زرعه حتى أوقعها في زرع الجار، توجّه الضمان.
ولو كانت مزرعته محفوفة بمزارع الناس، وكان لا يتأتى إخراجها إلا بإدخالها مزرعة الغير، ولم يكن طريقٌ ومسلك إلا دخول زرع الغير، والمزرعة متصلة بالمزرعة، فسوق الدابة، وإخراجُها، وإدخالها في مزرعة الغير، وليس للإنسان أن يجعل مال غيره وقاية مال نفسه، فإنْ فَعَلَه كان ظالماً -والمزارع ليست لصاحب الدابة، حتى تنتشر الظنون وتتقابل الخيالات- فالذي أراه أن هذا الطارد المخرجَ للدابة مهلكٌ لزرع الغير على سبيل المباشرة، وترْكُ البهيمة تنتشر سببٌ من مالكها، والمباشرة تغلب السبب، فعلى صاحب الزرع أن يترك البهيمة، ثم يُغرِّم صاحبَها ما تتلفه.
وينشأ من هذا أن البهيمة لو انتشرت انتشاراً مضمَّناً في مزرعة إنسان، وتمكن المالك من طردها، فتركها حتى أفسدت، فالذي يليق بمضمون الباب أنه يطردها، فإنّ ترك الطرد مع التمكن تضييع، وإذا كنا نحط ضمان زرعه لتركه الباب مفتوحاً؛ من حيث إنه مضيع، فالذي يليق بما نحن فيه أنه بترك الطرد مُضيِّع.
فإن قيل: ما بال الأروش تتعلّق برقبة العبد، ولا تتعلق برقبة البهيمة حيث يتعلّق الضمان بفعلها؟ قلنا: الضمان في البهيمة محالٌ على تقصير المالك، والبهيمة كالآلة، والعبد ملتزمٌ ذو ذمة، وأقرب ما يؤدي منه ما يلزمه رقبتُه. فإن تُصوّر عبدٌ أعجمي يضرى ضراوة السبع، فهل يتعلق الأرش برقبته؟ خلافٌ قدّمناه في الأصول السابقة.
فرع:
11267- إذا وقفت الدابة، فبالت وراثت، فالبول منها والروث لا يتعلّق بهما ضمان في الممرّ، وهذا لا سبيل إلى دفعه، فأما إذا اتفق مزيد انتشار بسبب وقوف الدابة، فقد قال الأصحاب: إن كان الطريق ضيقاً (1) ، فوَقْف الدابة عدوان،
__________
(1) الطريق يذكر في لغة أهل نجد، ويؤنث في لغة الحجاز.(17/387)
وما يترتب عليه يقتضي الضمان، وإن كان الطريق واسعة، فَوقْفُ الدابة معتاد، ووقوفها كمشيها. وهذا عندنا يلتفت على مسألة في باب الاصطدام، وهي إذا اصطدم الماشي بالواقف، فهل ينسب إلى الواقف عدوانٌ؟ فيه كلام، وما ذكرناه منزل عليه.
فرع:
11268- إذا كان يسوق دابة عليها حطب فتخرَّق به ثوب، فإن كان الذي تخرق ثوبه بصيراً مقابلاً، ووجد مُنْحَرَفاً، فلا ضمان، فإن التقصير منه، وإن كان مستدبراً، فإن أعلمه سائق الدابة، فلم يتحرز، فلا ضمان، وإن لم يعلمه حتى تخرق ثوبه ضمن؛ فإن الإعلام في مثل ذلك معتاد.
***(17/388)
كتاب السِّيَر
11269- السِّيَر جمع السِّيرة (1) ، والكتاب مترجم بالسير، فإن الأحكام المودعة فيها متلقاة من سِيَر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته. والسِّير من سار يسير.
والفِعلة للهيئة كالجِلسة (2) والقِعدة، والرِّكبة. والسنةُ: الطريقة. فأحكامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمهيدُه الشرعَ شُبّه بالطريقة الموضحة، ووقع التعبير عنها بالسيرة أخذاً من السَّيْر.
والأصل في الكتاب القرآنُ، وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، والإجماع.
قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، وقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] وقال تعالى في آية أخرى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] والآيات المشتملة على الحث على قتال المشركين كثيرة. وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " (3) وسِيَرُه في مغازيه أصل الكتاب.
وأجمع المسلمون على أنا مأمورون بمجاهدة الكفار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأموراً بالمتاركة والاقتصار على الدعوة والصبر على الأذى، والدفع بالتي هي أحسن. والآيات الواردة في هذه المعاني كثيرة، فلما هاجر إلى المدينة، وكثر المسلمون، وعظمت الشوكة، أُمرنا بالجهاد، فشمَّر لله تعالى ذبّاً عن الدين، واستحث أصحابه على مجاهدة الكافرين، فتتابعت الغزوات، وكان الحرب سجالاً ينال المسلمون، ويُنال منهم. ثم أظهر الله تعالى دينه، ونصر نبيه، وهزم الأحزاب، ومهّد الأسباب.
11270- وذكر الشافعي في السِّيَر الكبير، المشاهيرَ من غزواته صلى الله عليه
__________
(1) مثل سِدْرة وسِدَر.
(2) في الأصل: " والجلسة ".
(3) حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " سبق تخريجه.(17/389)
وسلم، فنذكرها تأسياً بما ذكره الشافعي. والحاجة تمسّ إليها لإيضاح التواريخ، وإسناد الأخبار إليها، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرواية الظاهرة بمكة ثلاثَ عشرةَ سنة، فلما هاجر إلى المدينة لم يجر في السنة الأولى قتال، وجرت في السنة الثانية غزوة بدر، واتفقت في الثالثة غزوة أحد، وفي السنة الرابعة اتفقت غزوة ذات الرقاع، وفي السنة الخامسة غزوة الخندق، وفيها قَتَل عليٌّ عمرو بنَ وُدّ، وهزم الله الأحزاب بالريح، وجرت في السنة السادسة غزوة بني النضير، ومُرَيْسيع، وفيها قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فصُدّ من الحُديبية. ثم في السنة السابعة جرى فتح خَيْبر، وعاد إلى مكة وقضى العمرةَ، وفي السنة الثامنة فتح مكة، وسار إلى هوازن، واتفقت خَرْجته في السنة التاسعة إلى تبوك، وفيها أقر أبا بكرٍ على الحجيج، فحج بهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا همّ بغزوة وَرَّى بغيرها، ولم يورِّ في غزوة تبوك، بل باح حتى يأخذ الناس أنفسهم لبعد المسافة، واتفقت تلك الخَرْجة في شدة الحر، وبالغ في استحثاث المسلمين وتحريضهم، ونهيهم عن التثبيط، وقيل صحبه في تلك الخَرْجة ثلاثون ألفاً، وتخلف عنه أقوامٌ.
والمتخلفون ثلاث فرق: المنافقون، والمسلمون الذين كانوا لا يجدون أهبة الخروج، وتخلّف قادرون أيضاً استثقالاً للخروج في الحرّ. وهؤلاء كانوا ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، [ومُرارة بن الربيع] (1) ، فنزل على الجملة في شأن المخلَّفين قولُه تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ... } [التوبة: 120] ، ونزل في شأن المنافقين: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81] .
وأمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يُصغي إلى كلامهم إذا رجع إليهم، ولا يأذن لهم في الخروج، فقال عز وجلّ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
__________
(1) في الأصل: وأبو لبابة. والتصويب من كتب السيرة، وحديث الثلاثة المخلفين متفق عليه، ولم يذكر أحد أبا لبابة فيهم. وتابع الغزالي شيخه في البسيط فجعل أبا لبابة الثالث مكان مرارة بن الربيع.(17/390)
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} [التوبة: 83] فقال المنافقون: إن محمداً يجرّنا ويحرمنا الغنائم، فنزل قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ... } [الفتح: 15] ، ونزل في شأن الثلاثة الذين تخلفوا مع القدرة ووجود الأُهبة: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ... } [التوبة: 93] ، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يعتذروا خجلاً واستحياءً، وربطوا أنفسهم على سواري المسجد، وقالوا: " لا نَحُلُّ نفوسنا حتى يَحُلَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أَحُلُّهم حتى يَحُلَّهم الله عز وجلّ " (1) ؛ فنزل قوله
تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ... } إلى قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117، 118] ونزل في بيان العاجز عن الخروج قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ... } [التوبة: 91] ، وقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ... } [التوبة: 92] .
وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حجةَ الوداع، وفيها نزلت آية التكميل، وعاش صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى حجه اثنين وثمانين يوماً، واتفقت له غزوات ليست من المشاهير، وهي مذكورة في المغازي.
ثم إن الشافعي أكد في صدر الكتاب طرفاً من أحكام الهجرة، والرأي ألا نخوض فيها؛ فإنها ستأتي مجموعة في باب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وذكر من لا يكون من أهل فرض الكفاية في الجهاد، ورأيت هذا الفصلَ لائقاً بالباب الذي يلي هذا الباب؛ فأخرته إليه.
***
__________
(1) هذه الآية التي أشار إليها الإمام قبلاً وهذا الحديث ليسا في الثلاثة الذين خُلفوا، فلم يكن منهم ربطٌ في سواري المسجد. وإنما كان الربط من أبي لبابة رضي الله عنه، واختلف في شأن هذا القصة، هل كان وحده أم ربط آخرون أنفسهم معه على خمسة أقوال، كما اختلف في شأن الواقعة هل كانت في غزوة تبوك أم في بني قريظة. (ر. تفسير الطبري- طبعة الشيخ محمود شاكر: 14/446-452، الدر المنثور: 2/487-489، دلائل النبوة للبيهقي: 5/270، الذهب المسبوك في تحقيق روايات غزوة تبوك لعبد القادر حبيب الله السندي: 112-123) .(17/391)
باب من له عذرٌ بالضعف والضرورة
11271- الجهاد ينقسم فيقع فرضاً على الكفاذية، وقد يتعين، وجرت منا إحالات على هذا الكتاب في إيضاح فروض الكفايات، ولا بدّ من الوفاء بالمواعيد [ببسطه، ولو بسط؛] (1) فإنه من أعظم أركان الإيالة. ولكنا نذكر معاقدها ومأخذها، وننبه بذكر جُملها على تفاصيلها، ومعظم مسائلها مفرّقة في الكتب. والغرض المطلوب هاهنا التعرضُ للجوامع.
فنقول والله المستعان: المنشأ الكلي به للفرائض الثابتة على الكفاية أن الله تعالى فطر الدنيا داراً، وأجرى فيها ابتلاءً وامتحاناً واختباراً، وأسكنها آدم وذريته عُمَّاراً، وأراد إبقاءهم إلى انقضاء عمر الدنيا، فقدر أرزاقهم، وقيض لها ملكاً دوّاراً وسحاباً [مدراراً] (2) ، وقدّر أرزاق الخلائق على ما شاء وأراد، وأثبت الشرائع تكاليفَ على العقلاء، ولولاها لتهالكت (3) الناس، وتعطلت [الأرزاق] (4) ، على ما أوضحنا ذلك في مفتتح الكتاب، ثم تنشَّأت في قاعدة التكاليف فروضُ الكفايات في الأمور الكلية المتعلقة بمصالح الدين والدنيا، فأما ما ينشأ من أصل الدين، فالقيام بإدامة فرض
دعوتين: حجاجية وقهرية، فأما الحجاجية، فعمادها العلم، والقهرية هي الجهاد في سبيل الله تعالى.
وأما ما يتعلق بالمعاش ومصالحها (5) ، فقد قيض الله تعالى الأسباب وألهم الخلائق ما يستصلحون به معايشهم في الحراثة والبيع والشراء، وما في معانيها وجبل النفوسَ
__________
(1) في الأصل: " ببسط لو بسط ".
(2) في الأصل: " حدرارا ".
(3) تهالكت: أي أهلك بعضهم بعضاً (صيغة تفاعل من هلك) .
(4) في الأصل: (الارا) كذا تماماً.
(5) ومصالحها: أي الدنيا.(17/392)
على التشوف إليها، حتى لم [يحوَج] (1) حملةُ الشريعة على استحثاث [أهل] (2) الدنيا على عمارتها، وتهيئة ما فيها من أسباب المكاسب. وقال المحققون: لو فرض انكفاف الخلق عنها، لحَرِجوا من حيث إنهم يكونون ساعين في إهلاك أنفسهم.
والمناكح من الأمور الكلية، وبها بقاء النوع، فلا حاجة إلى الاستحثاث عليها؛ فإن النفوس مجبولة على التشوف إليها.
11272- ثم إذا تبين أصل الغرض في الدعوتين (3) ، فبعدهما أمور كلية تتعلق بالإدامة والإبقاء، وهذا ينقسم: إلى مصالح الأبدان، وإلى مصالح الأديان.
فأما مصالح الأديان بعد ظهور الإسلام في الخِطة، فيتبعها فنٌّ يترجم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو كتابٌ برأسه لم يهتم به الفقهاء، وبسَطَ مضمونَه الأصوليون، والحاوي لمقاصد هذا الكتاب (4) : الأمر بواجبات الشرع، والنهي عن محرّماته. وذلك شطران: يتعلق أحدهما بالولاية، وهي الأمور القهرية، وأحكام الإمامة. ولا نطمع في الوفاء بها.
والشطر الآخر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير مكاوحة وشهر سلاح، فهذا على الناس كافة، إذا علموا صدَرَ (5) أقوالهم عن ثبت، ولا يشترط أن يكون القائم بذلك مجتهداً؛ إذ يتعلق بالولاة أمر العلماء ونهيهم (6) ، وإذا زاغوا،
__________
(1) في الأصل: " يحرج ".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
ومعنى العبارة: أن الله فطر العباد على التشوف للتملك، والكسب، وإصلاح المعايش، فلم يَحْتج علماء الشريعة وحملتها إلى جهدٍ في حث أهل الدنيا على عمارتها، والسعي في ابتكاراتهم وسائل وطرق الارتزاق والمكاسب، فكان في هذا الاستحثاث الفطري مندوحة عن فرض ذلك وإيجابه عينياً: أي فرض عين، فكان من فروض الكفايات.
(4) الدعوتين: المراد ما يتعلق بمصالح الدين، ومصالح الدنيا، وليس الدعوتين المشار إليهما آنفاً: الدعوة الحجاجية، والدعوة القهرية.
(5) أي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(6) صدر: أي صدور، كما أشرنا مراراً من قبل.
(6) المعنى أن العلماء يأمرون الولاة، وينهونهم، ويبيّنون لهم، وهم يرتسمون أمر العلماء في=(17/393)
أقام العلماء أَوَدَهم (1) . فهذا ما يتعلّق بالأديان.
11273- وما يتعلّق بالأبدان سترُ العراة وإطعام الجائعين، وكفُّ الأذى عن [المغبونين] (2) ، وإغاثة المستغيثين، فكل ما ينتهي إلى الضرورة، ففرضٌ على الكافة القيام به.
ثم اختلف أرباب الأموال فيما فوق سدّ الضرورة إلى تمام الكفاية التي يجب نفقته على من يلتزم النفقة. فقال قائلون: يتحتم الكفاية [في] (3) ذلك حتى لا يبقى ذو حاجة. وقال آخرون: المفروض على الكفاية إزالة الضرورة، وما ذكرناه (4) بعد تفريق الصدقات على المستحقين، وبعد أن يشغُر بيتُ المال عن السهم المُرْصد للمصالح العامة، فإذ ذاك يثبت فرضُ الكفاية على أصحاب الثروة والمقدرة.
ثم ألحق الشرع احترام الأبدان بعد الموت برعايتها في الحياة، فأوجب -على الكفاية- التجهيزَ، والمواراة على هيئة الاحترام، ثم ثبت بالشرع -غير مستندٍ إلى هذه (5) - الأمرُ بالغُسل والصلاة، فليسا من شرائط الحرمات الحالّة محلّ ضرورات الأحياء، ولكن المتبع الشرعُ.
[وما يؤدي إلى شهر السلاح- إذا تعاطاه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا ينتصب له إلا الإمام، ثم الذين يلونه من جهته، يلتحقون بالتشمير في الأمر بالمعروف] (6) .
__________
=أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فليس إذاً من شرط الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون مجتهداً.
(1) أَوَدَهم: أي اعوجاجهم.
(2) في الأصل: المغرين. والمثبت من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) وما ذكرناه أي من فرض إزالة الضرورة، أو تمام الكفاية، يكون بعد انتهاء السهم المرصد للمصالح العامة في بيت المال.
(5) غير مستندٍ إلى هذه: المعنى: أن غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه ثبت بالشرع، ولم يثبت مستنِداً إلى هذه الكليات التي نسند إليها فروض الكفايات.
(6) ما بين المعقفين صياغة كاملة مستوحاة من كلام الغزالي في البسيط، وهي مغايرة لعبارة الأصل=(17/394)
والقيامُ بتحمل الشهادة وإقامتها من فروض الكفايات، وهو متعلق بمعاونة القضاة في الإنصاف وطلب الانتصاف، وله تعلّق بإصلاح المعايش (1) .
11274- ثم ثبت في الشرع شعائر ظاهرة، ولو فُرض ارتفاعها، لشاع منها انطواء الصدور على استهانة. وهي منقسمة إلى ما هو من فروض الكفايات، وإلى ما اختلف العلماء فيه، فأما ما يلتحق بفروض الكفايات، ممّا يقع قبيلُه فرضَ عين -[وألحقه] (2) الأئمة بهذا- إحياءُ الحَرَم في السنة بالحج. وأما ما اختلف العلماء فيه، فكالتأذين، والجماعات للصلوات في غير يوم الجمعة، وكل هذا مذكور على الاستقصاء في أماكنها.
11275- ثم ثبت فرضٌ على الكفاية لا تضبطه الكليات التي أشرنا إليها، ولكنه متلقى من إجماع الفقهاء، وهو ردّ السلام، وقد جرى رسم الفقهاء باستقصاء القول في هذا الكتاب.
ونحن نتأسى بهم هاهنا. فنذكر أولاً بعد ذكر هذه الجوامع حقيقةَ فروض الكفايات، ثم ننعطف عليها، ونلقُط منها ما نرى استقصاءَ القول فيه للإيفاء بهذا الكتاب، وهي: الجهادُ، وطرفٌ [صالح] (3) من تعلم العلوم، واستقصاء القول في السلام وردّ الجواب، فأما باقي الفروض، فمنقسمة، بعضها مستقصاة، وبعضها شطره فيما يأتي، إن شاء الله عز وجل.
11276- فنقول: فرض الكفاية كما نبهنا عليه، يتعلّق بالأمور الكلية، وغرضُ الشارع تحصيله في عينه، وفرض العين يتعلق بالشخص المتعيَّن له، والغرض تكليفه
__________
=التي رأيناها غير مستقيمة، وقدرنا بها سقطاً، وهي: " وانتصاب الولاة والإمام أولاً ثم الذين يلونه من جهته ملتحق بالتشمير الأمر بالمعروف والقيام بتحمل الشهادة ... إلخ ". (وانظر البسيط: 5/ورقة: 151 يمين وشمال) .
(1) عبر الغزالي عن ذلك، فقال: إن تحمل الشهادة وإقامتها مركب منهما، أي مما يتعلق بالدين وما يتعلق بالدنيا.
(2) في الأصل: " ألحق ".
(3) في الأصل: " مصالح ".(17/395)
به، فالمعين معني بالفرض، وفرض الكفاية معني بالتحصيل. ثم إذا قام به من فيه كفاية، سقط الفرض عن الكافة، فإن تعطل حَرِج بتعطيله المطالبون به، والقول في ذلك يطول، ولكنا نذكر مقداراً مقنعاً، فلا تعويل على قول من يتكلم بما لا يحيط بحقيقته.
فنقول: إذا تعطل فرض كفاية في قُطْر حَرِج أهلُ الخِطة، وليس هذا مذهباً لذي مذهب، ولكني ذكرت ما يتفاوض به الأغبياء، حتى أعقبه بذكر الحق، فإذا عُطِّل فرضٌ من فروض الكفاية، حَرِج بتعطيله المطالَبون بالبحث عنه، فينال الحرج الخبير (1) ، ثم يتعدى منه؛ من جهة ترك البحث إلى أهل الحارة، ويختلف هذا بكبر البلدة، وصغرها، وإذا بلغ تعطيل فروض الكفايات مبلغاً تتقاذف السمعة بها إلى البلاد، فعليهم أن يسعَوْا في التدارك. فإن لم يفعلوا نالهم الحرج، وهكذا على التدريج الذي ذكرناه إلى أن يعم الخِطة، ولا يتحقق هذا بفرض وفروضٍ معدودة.
وحقُّنا الاقتصارُ على التنبيه.
11277- ثم قال المستقلّون بالعلوم الكلية: ينبغي أن يكون. أرباب القيام بفروض الكفاية على التبادر إليها، لا على التواكل فيها؛ فإن ذلك يجرّ التعطيل لا محالة.
ومما لا نجد بُدّاً من ذكره في ذلك أنه لو قام بفرضٍ جمعٌ، والفرض كان يسقط ببعضهم، فلكلّهم مقام القيام بالفرض، فإنهم اشتركوا أولاً في الصلاح لها، ويشتركون آخراً في الحرج لو تعطل على التدريج الذي ذكرناه، فإذا لابسوه، لم يكن البعض منهم أولى بالاتصاف بإقامة الفرض. نعم، وقد تعرض مسائل فقهية مرّت مستقصاة في مواضعها، ونحن لا نكتفي بالإشارة إليها:
منها أنه لو صلى على الميت جمعٌ وقَضوا الصلاة، ثم صلى جمع آخر، فإذا لم نمنع ذلك، فالوجه أن نجعلهم بمثابة المقارنين الأولين في الصلاة؛ فإن التنفل بصلاة
__________
(1) كذا قرأناها على استكراه. وهي صحيحة -إن شاء الله- فقد وجدناها في عبارة الغزالي، إذ يقول: " فمن لا اطلاع له عليه، وهو معذور في ترك البحث لا يحرج، فيأثم به الخبير، ويتعدى منه إلى أهل الحارة ممن ترك البحث ". والمعنى يأثم من خبر وعرف، ثم يليه من ترك البحث وقصّر في عدم المعرفة. (ر. البسيط: 5/ورقة: 151 شمال) .(17/396)
الجنازة لسنا نرى له أصلاً في الشرع، وقد تقصيت هذا في الجنازة، وهذا إنما يفرض في صورة نادرة؛ فإن [إيقاع] (1) الجماعة ليس مما يفرض تكريره، وكذا ما في معناه.
وعلينا أحكام كلية في فروض الكفايات، ونحن نجري ما لا بد منه في الأصول التي سنلقطها، ونخصها بالبيان، إن شاء الله، فهذا منتهى الغرض في ذلك.
وقد حان أن نفي بالكلام في الجهاد، ثم في العلم، ثم نختتم الكلام بالقول في السلام.
11278- فأما القول في الجهاد؛ فإنه يثبت فرضاً على الكفاية، ويثبت فرضاً على الأعيان، فأما حيث يكون فرضاً على الكفاية، فهو إذا كان الكفار قارّين في ديارهم غيرَ متعلّقين بأطراف ديار الإسلام، فمقاتلتهم فرض على الكفاية، ثم قال الفقهاء: يتعين على الإمام أن يقيم في كل سنة قتالاً مع الكفار، ويجب أن يُغزي إلى كل صوب منهم جنداً إذا أمكن ذلك، وزعموا أن فرض الكفاية يسقط بقتال واحدٍ في كل صوب، كما سنفصل هذا إن شاء الله، وتمسكوا فيه بأن السنة مدّةُ الجزية، فلا يجوز تعريتها عن الجهاد.
والمختار عندي [في] (2) هذا مسالكُ [الأصوليين] (3) ، وهم لم يَرْوا التخصيص بالسَّنة، ولكن رأَوْا أن الجهاد دعوة قهرية، فيجب إدامته على حسب الإمكان والإطاقة، حتى لا يبقى إلا مسلمٌ أو مسالم، والذي ذكره الفقهاء محمول على ما يجري به العادة الوسط من طرفي العجز ونهاية الإمكان، والغالب أن الأموال والعُدد لا تواتي لأكثر من تجهيز جندٍ في كل صوب. والرجال إذا اصطلَوْا بنار القتال، ونالوا ونيل منهم، فلا يعودون هم ودوابّهم إلى الاستعداد التام إلا في مدة السنة، ومجالب الأموال جارية في الغالب على هذه المدة، فالوجه تنزيل كلام الفقهاء على ذلك.
__________
(1) في الأصل: " اتساع ".
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: " الأصوليون ".(17/397)
فأما إذا أمكنت العُدّة، وكثر الجند، ورغب المطّوّعة، والكفارُ يجد الإمام منهم في أوساط السنة الغِرّةَ، واستشعار [الفشل] (1) فلا يليق بالقواعد الكلية، وقد تجمعت الأسبابُ تعطيل الفُرص، وهي تمرّ مرّ السحاب، فلا وجه إلا هذا.
ثم القول في هذا يتعلق بمفاتحتهم بالقتال، وبالاحتراس عنهم، فأما الاحتراس، فتجب إدامته بلا فتور، وذلك بعمارة الثغور، وإعداد الكُراع والأسلحة، ونصب المرابطين.
ومما يليق بما نحن فيه أن الاكتفاء بنفس الجهاد لا سبيل إليه، ولا وفاء ببث الأجناد في جميع أطراف ديار الكفار؛ فإن التمكن من هذا عزيز الكون نادر الوجود، ولكن ينبغي أن يكون شوفُ الإمام إلى أن يغزي إلى كل جهة من الأجناد ما ينشر منهم النكاية أو الرعب في ذلك القطر، وإن أمكن من استئصال شأفة الكفار في رقعة الأرض، فليفعل، وإن لم يتمكن من إغزاء جنود، فليبدأ بالأهم فالأهم. هذا أصل القول في ذلك.
11279- وقد اختلف الفقهاء في أن الجهاد هل كان متعيناً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، أم كان فرضاً على الكفاية؛ فقال قائلون: كان متعيناً عليهم، وكان النَّافرون مقيمين للغزو، والمقيمون بالأمر حارسين للمدينة، وكانت ثَغْرَ (2) الإسلام.
وقال قائلون: تعيّن الجهاد على ذوي النجدة منهم، لكثرة الكفار، وقلة المهاجرين والأنصار.
وقال قائلون: كان يتعين على الذين يعينهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا.
فإن حملنا الأمر على هذا الوجه على القلّة، فلا اختصاص؛ فإن ذلك قد يفرض
__________
(1) في الأصل: " القتل ". وهو تصحيف واضح. والمعنى أن يجد منهم غرة وفشلاً. أي تفرقاً وعجزاً.
(2) ثغر الإسلام: أي عاصمة الإسلام.(17/398)
في زماننا، كما سنصفه إن شاء الله عز وجل. وإن قلنا: كان الغزو فرضاً عليهم من غير علّة ولا قلة، فهو إذاً خاصِّيّة، ولا يكاد يثبت هذا بنقلٍ موثوق به، ولا باستفاضةٍ تغني عن النقل. ولو عين الإمام في زماننا قوماً، فحقٌّ عليهم أن يذعنوا، فإنهم لو سلّوا أيديهم عن الطاعة، لانتثر النظام، وتزعزعت القاعدة، فلا بد إذاً من ارتسام مراسم الإمام.
ثم إنه يرعى فيهم بصفة المناوبة، ولا يتحامل على طائفة بتكرير الإغزاء مع ترويح الآخرين وتركهم إلى الدَّعة.
فإذا تعلّق الكلام بمحض أحكام الإمامة، فالأولى الانكفاف. وأجمع موضوع لنا في أحكام الإمامة، مع الإيجاز والتنصيص على غوامض أحكام الأئمة الكتاب المترجم (بالغياثي) .
11280- فإذا تمهد ما ذكرناه من فروض الكفاية فإنا نذكر على الاتصال بهذا المنتهى الصفات المرعية فيمن يكون من أهل هذا الفرض. والكلام في ذلك يتعلّق بقسمين: أحدهما - في الصفات التي تعدّ من اللوازم، والثاني - الكلام في الأعذار الطارئة.
فأما القول في اللوازم، فالعبد ليس من أهل فرض الكفاية في نفسه، وإن أمره مولاه بأن يقاتل، فما الرأي فيه والأمرُ من المولى جازم؟ والوجه أنهم لا يلزمهم طاعته؛ فإنهم ليسوا من أهل هذا الشأن بأنفسهم، والمِلك لا يقتضي التعرّض للهلاك، فليس القتال من الاستخدام المستحَق للسيد على العبد المسترقّ، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف، وإذا لم نوجب الدفع على المسلم المقصود (1) ، على التفصيل الذي قدّمناه للفقهاء، فلا يجب على العبد أن يدفع عن سيده، إذا كان في الدفع مُعرضاً نفسه للهلاك، ولا أثر للملك في هذا الباب، ولا حظ للسيد في دم عبده، على معنى أن يعرضه للتلف. نعم له استصحاب عبده ليخدمه في السفر ويسوسَ الدابة، كدأبه في الظعن والإقامة.
__________
(1) المقصود: المراد هنا المقصود بالصيال والعدوان عليه. فهو يسمى المقصود والمعتدي يسمى القاصد.(17/399)
والمرأة ليست من أهل هذا الشأن، والكلام في فروض الكفاية.
والصبي غيرُ مكلف، والمجنون كالبهيمة. وقد قال عبد الله بن عمر: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعَ عشرةَ سنة، فردّني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة، فأجازني في المقاتِلة " (1) .
والذمي لا نخاطبه بمجاهدة الكفار، فإنه بذل الجزية لنذب عنه، لا ليذب عنا.
فإذاً إنما يكون الشخص من أهل فرض الكفاية في الجهاد إذا كان بالغاً عاقلاً حراً مسلماً ذكراً. فهذا قولنا في هذا القسم.
11281- فأما الموانع الطارئة، فنحن نأتي عليها واحداً واحداً، ولا نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) حتى يتمهد أصل الكتاب.
فمما يجب اعتباره الزاد والراحلة، فلا يكلف الإنسان أن يمشي مجاهداً، كما لا نكلّفه أن يمشي حاجاً، وهذا في المسافة الطويلة، فأما إذا قرب المسافة، فلا أثر للرَّحل فيها مع الأيْدِ والقوة، ولا بدّ من نفقة الذهاب، وإن كان ذا أهلٍ وعَيْلة، فلا بدّ من إعداد النفقة لهم.
وقال المحققون: لا بدّ من نفقة الإياب إذا كان الرجل ذا أهلٍ وولد، على حسب ما ذكرنا في سفر الحج، ولا يجوز غير ذلك. فإن قيل: هلا قلتم: لا تعتبر نفقة الإياب؛ فإن هذا سفرُ الموت، فلا ينبغي أن يبنى على توطين النفس على الإياب.
قلنا: لا سبيل إلى إلزامه توطينَ النفس على الموت، والأصل بقاؤه، وهو الذي يحدّث الإنسان به نفسَه، ولو لم يكن معه أهبة الرجوع، لجرّ ذلك تشتتاً في الرأي، وانكساراً في المُنّة.
وإن لم يكن له أهل، ففي اشتراط نفقة الإياب في الحج وجهان، وهما جاريان في سفر الغزو، ولا يبعد ترتب الوجهين في الغزو على الوجهين في الحج؛ من جهة أن
__________
(1) حديث عبد الله بن عمر: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ... " متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/253 ح 1223) .(17/400)
المعتمد في اشتراط نفقة الإياب في الحج الميل إلى الوطن، وهذا ضعيف في أصله، فيتناهى وهاؤه في سفر الغزو.
11282- ومما يشترط في هذه السفرة العُدّة والسلاح، فإنها عتاد القتال، وذكر الأصحاب فرقاً بين سفر الغزو وسفر الحج، والقول فيه إذا كان الغزو فرضَ كفاية، فقالوا: يشترط في وجوب سفر الحج أمن الطريق، ولا يشترط ذلك في سفر الغزو؛ فإن الغزاة على المخاوف مصيرهم، ومصادمتها مقصودهم. وهذا فصله المحققون من الأصحاب، فقالوا: إن كانت المخافة من طريان طلائع الكفار، فالأمر كذلك، وإن كان الخوف من المسلمين المتلصصين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا لا نشترط زوال هذا الخوف. والثاني - أنا نشترط ذلك، فإن من تطيب نفسه بملاقاة الكفار ربما لا يطيب نفساً بملاقاة المسلمين. والصحيح الذي [إليه ميلُ] (1) النص والأئمة أنا لا نشترط ذلك؛ فإنّ قصد المتلصصة من فروض الكفايات، ولعله أهم.
11283- ومما تجب مراعاته الديون، فإن كان على الرجل دين حالّ، فلا بَراح ما لم يقض الدين، إلا أن يرضى صاحبُ الدين، ثم في ذلك نظر، فإن أبرأه مستحق الدين، فلا دين، ولا نظر، وإن لم يُسقط الدين، ولكن رضي، فله الخروج.
وهل يلتحق بأصحاب فرض الكفاية؟ فيه احتمال وتردّد، والأظهر أنه يلتحق بهم.
ولو كان الدين مؤجلاً عليه، فإن أراد المسافرة إلى غير الغزو، مثل أن يريد الحج أو غيره من المآرب التي لا تُبنى على مصادمة المَتالف والمَخاوف، فليس لصاحب الدين أن يمنعه، ولكن إن أراد الخروج معه ليطالبه إذا حلّ الدين، فليفعل على شرط ألا يُداوره مداورة الملازم؛ فإن ذلك غير جائزٍ في الديون المؤجلة، ولا فرق بين أن يقرب إليها الأجل أو يبعد، ولا يعتبر ما بقي من الأجل بالأمد الذي ينتجز في مثله السفر، وكل ذلك متفق عليه، ولا مطالبة ولا مؤاخذة قبل الأجل.
فأما سفر الغزو، فإنه مُخطِر، ولو فرض القتل، فيحلّ الدين، والترتيب في ذلك أنه إن خلَّف هاهنا وفاء بالدين، فلا منع، وإن لم يخلف وفاء بالدين، فهل لمستحق
__________
(1) في الأصل: " أميل إليه النص والأئمة ".(17/401)
الدين منعُه من الخروج؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه لا يمنعه؛ لما مهدناه من أن المطالبة لا تحل قبل حلول الأجل وإذا لم تكن مطالبة، فلا مؤاخذة، ولا اعتراض.
والوجه الثاني - أن له أن يمنعه لما أشرنا إليه، من ابتناء السفر على المصير إلى مصرع الموت. وذكر بعض الأصحاب وجهاً فيه إذا خلّف وفاءً أن له أن يمنعه أيضاً، وهذا على نهاية الضعف والبعد.
فينتظم ثلاثة أوجه: أحدها - لا منعَ، وهو الأصح. والثاني - له المنع من غير تفصيل، وهو أضعف الوجوه، والثالث - أنه إن ترك وفاءً لم يمنعه.
وقال قائلون من أئمتنا إذا كان من عليه الدين من المرتزقة، فلا يمنع؛ فإنه مترتب لهذا الشأن، بخلاف ما إذا لم يكن من المرتزقة، وإذا ضممنا هذا التفصيل إلى الأوجه التي قدمناها، صارت الأوجه أربعة.
هذا منتهى القول فيما يتعلّق بالديون، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في معركة القتال يوماً: " من وضع سيفه في هؤلاء مقبلاً غير مدبر، حتى قتل، فله الجنة ". فقال بعض الأنصار، وكانت بيده تمرات يأكلها: " ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ورمى بالتمرات، واخترط سيفه، وكسّر غمده، وانغمس في العدوّ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا أن يكون عليك دين، فعاد وانغمس حتى قتل " (1) . فهذا ما يتعلّق بالدين.
11284- ومما تجب رعايته في الخروج إلى الجهاد الموصوف بكونه فرض الكفاية رضا الوالدين. قال الشافعي: " وبإذن أبويه لشفقتهما " (2) .
فنقول: إذا كان أبواه مسلمين، لم يكن له الخروج إلى الجهاد دون إذنهما.
__________
(1) حديث " من وضع سيفه في هؤلاء مقبلاً غير مدبر ... " رواه مسلم: الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، ح 1885، الترمذي: الجهاد، باب ما جاء فيمن يستشهد وعليه دين، ح 1712، النسائي: الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله تعالى وعليه دين، 3157- 3160، وأحمد (5/304) .
(2) ر. مختصر المزني: 5/181.(17/402)
والأصل فيه ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أريد أن أجاهد معك، فقال صلى الله عليه وسلم: " ألك أبوان؟ فقال: نعم. قال: فكيف تركتهما؟ قال: تركتهما وهما يبكيان. قال: ارجع إليهما، وأضحكهما كما أبكيتهما " وفي بعض الروايات: " ففيهما فجاهد " (1) . وهذا الذي ذكرناه متفق عليه، وهذا محتوم ليس من قبيل الاستحباب، فلا بدّ من رضا الوالدين إن كانا مسلمين.
فأما إذا كانا مشركين، لم يفتقر الخروج إلى الجهاد إلى إذنهما؛ لأنه يجاهد أهل دينهما. وقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] ؛ مَنَع من طاعتهما في أصل الشرك، وكذلك الجهاد مع أهل الشرك. وقد غزا أبو حذيفة عبدُ الله بنُ عتبة بنِ ربيعة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه كان كافراً من كبار قريش، ولا شك أنه كره ذلك. وغزا عبد الله بنُ أبي بنِ سلول مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى كراهةُ أبيه؛ فإنه كان يخذّل [الأجناد] (2) ، حتى خذل ثلث الجند عام أحد، فكيف كان يرضى بخروج ابنه.
هذا قولنا في سفر الغزو الواقع فرض كفاية، فأما إذا استجمع الابن الأوصاف المعتبرة في استطاعة الحج، فلا خلاف أنه يجوز له الخروج، وإن سخط أبواه؛ فإنه منتهض لسفرة متعينة عليه، وليست سفرة الموت، وإن كان وقوع الموت متوقعاً في كل نفس.
11285- فأما الخروج لطلب العلم، فسنذكر تفصيلاً في طلب العلم، ولكن ننجز هاهنا ما يتعلّق بالسفر، حتى تجري الأسفار في نظام التفصيل الذي نريده.
__________
(1) حديث: " ألك أبوان؟ ... قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ". وفي رواية: " ففيهما فجاهد ". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم (أبو داود: الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، ح 2528، النسائي: البيعة، باب البيعة على الهجرة ح 4168. ابن ماجه: الجهاد، باب الرجل يغزو وله أبوان، ح 2782، الحاكم: 4/152) أما رواية: " ففيهما فجاهد " فمتفق عليها (البخاري: الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، ح 3004، مسلم: البر والصلة، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، ح 2549) .
وانظر التلخيص: 2/552 ح 1115، و 4/172 ح 2179، 2180.
(2) في الأصل: " الأجانب ".(17/403)
فإن أراد الرجل أن يسافر لطلب العلم المتعيَّن عليه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- فلا يحتاج إلى الاستئذان، فإذا كنا لا نعلّق سفرة الحج بالإذن مع أنه يقبل التأخّر، فسفر التعلم فيما لا بد منه أولى بألاّ يفتقر إلى الإذن.
فأما الحظّ الذي يتعلّق من العلم بإفادة الغير، وهو الترقي إلى رتبة المجتهدين، فالتفصيل فيه أنه إن كان في القطر والناحية من يستقل بالفتوى، فخروج الإنسان ليس خروجاً يندرىء به الحرج، فإن الحرج مرفوع باستقلال مُفتي الناحية، فهل يجوز الخروج ليكون هو من جملة المفتين أيضاً من غير إذن الوالدين؟ فعلى وجهين: أصحهما - الجواز؛ فإن الإنسان مطلقٌ لا حجر عليه، فلو حرمنا عليه الخروج دون رضا الوالدين؛ لكان ذلك مفضياً إلى حبسه ومنعه من الانتشار في أرض الله تعالى، سيّما إذا كان يبغي رتبةً شريفة، ودرجة منيفة، والغالب أن نفوس الأبوين لا تطيب بفراق الولد.
وما ذكرناه في سفر الغزو في حكم المخصوص الذي يُتّبع فيه ولا يقاس عليه، وفيه اختصاصٌ بالمصير إلى مصرع الموت، فيكثر لأجل ذلك تحرز الأبوين، وهذا لا يتحقق في سائر الأسفار، هذا إذا كان الخروج بحيث لا ينال من تركه حرج.
فأما إذا كان الفتوى معطلة، فالحرج ينبسط على كل متأخر عن التشمير، فإذا ابتدر من فيه رُشد، وهو يدرأ عن نفسه الحرج، فلا حاجة إلى استئذان الأبوين بلا خلاف، ويلتحق هذا بالعلم المتعيّن. وإن خرج أوْ همّ بالخروج أقوام، وكان هو من الهامين بالخروج، والفوزُ برتبة الفتوى غيبٌ، فلا يُدرى من ينالها، فالأصح أنه لا يحتاج إلى الاستئذان أيضاً، وفيه وجه بعيد أنه لا بدّ من استئذانهما، فإن في الناهضين كثرة، فإذا كان هو أحدَهم، وليس على ثقة من الفوز بالمراد، فقد يظن الظان أن [تنجيز] (1) برّ الوالدين أولى.
فانتظم في العلم مراتب: أحدها - الخروج لطلب العلم المتعين، وليس فيه اشتراط الإذن، والثانية - الخروج لنيل رتبة الفتوى، وفي البلد من يستقل بها، وفيه
__________
(1) في الأصل: " تنجّز ".(17/404)
خلاف مشهور، والأقيس جواز الخروج من غير إذن. والثالثة - أن يتخلف الناس عن طلب العلم، وينتهي الأمر إلى لحوق الخروج [بالخروج للعلم المتعين] (1) ، فلا حاجة بالخارج إلى الإذن. والرابعة - أن ينتهض للطلب منتهضون، فمن له أبوان هل يحتاج إلى الاستئذان؟ فيه وجهان: أصحهما -أنه لا يحتاج، والوجه الآخر - ضعيف. والقول في تفصيل العلم يأتي إن شاء الله.
11286- فأما إذا أراد الإنسان الخروج لتجارة أو غيرها من الأغراض، فقد أطلق القاضي أن الأسفار المباحة لا بد فيها من إذن الوالدين، وهذا كلام مبهم، فلا شك أنه أراد السفر الطويل؛ فإن الخروج للنُّزه وغيرها دون مسافة القصر مطلقة قطعاً، وأما الأسفار الطويلة، فإن كان فيها تعرّض لخوفٍ ظاهر، فلا بد من إذن الأبوين، كسفر الجهاد، بل هو أولى بالافتقار إلى الإذن، لأنه ليس فرضاً على الكفاية.
وركوب البحر فيه تفصيل قدّمته في كتاب الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر إن لم نوجبه للحج، فلا بد لراكبه من إذن أبويه، وإن أوجبنا ركوبه لسفر الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر أنه يجب اعتبار رضا الوالدين، في السفر المباح في البحر؛ لأن شفقتهما إذا انضمت إلى ذكر أهوال البحر، ثار منها ما يثور منهما في سفر الجهاد. والعلم عند الله تعالى.
فأما الأسفار في البر والطرق آهلة، والأمن غالب، فالذي أراه أن ما لا يطول فيه زمان الذهاب والإياب، وإن كان يبلغ مرحلتين وأكثر، لا يحرم، وما يطول فيه الأمد، ففيه احتمال، ويجوز أن ننظر إلى الخروج إلى المواضع التي تتواصل الرفاق إليها قاصدة [وإلى] (2) ما لا يتصوّر ذلك فيه، وهذا بمثابة الخروج إلى الرّبى (3) .
هذا لا يعدّ سفراً منقطعاً. والخروج إلى مصرٍ انتهاضٌ إلى بقعة لا يتواصل الرفاق
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: إلى (بدون الواو) .
(3) إلى الربَى: أي إلى المتنزهات.(17/405)
إليها، فيكون ذلك سفراً منقطعاً، ويقرب التحرز فيه من التحرز في سفر الجهاد، وينضم إلى هذا القبيل أن السفرة ليست واجبة في نفسها.
فخرج مما ذكرناه أن السفر القصير لا يجب أن يكون فيه خلاف. والسفر الطويل المباح على التردّد في كل صورة.
وإن استبعد مستبعد وجوب استئذان الأبوين، فإني أخشى أن يكون هذا من استمرار الإلف بالاستبداد بالنفس، وحكم الدين طلبُ البر بالوالدين. قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... } الآية [الإسراء: 23] ، وفي الآية لطيفة لا يتفطّن لها إلا موفق، وهي أنه تعالى أبان أنه لا معبود غيره، ثم ذكر برّ الوالدين على أثر عبادته، ونبه على أنه تِلوُ عبادته تعالى، ومن أدنى آثار ذلك طلب رضا الوالدين في الأسفار المباحة. وهذا منتهى الأمر في ذلك.
وليس يبعد عندي إلحاق الأجداد والجدّات بالوالدين فيما ذكرناه من اشتراط الرضا، ولا يبعد تنزيل الأبوين الكافرين منزلة المسلمين في غير سفر الدِّين، يعني الأسفار المباحة، والأمور الدنياوية.
11287- ومما يُرعى في الجهاد الواقعِ فرضَ كفاية المعاذيرُ التي تتصف النفوس بها. قال الشافعي في صدر الباب: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ... } الآية [التوبة: 91] . وقد أبنَّا أنها نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة تبوك للضعف والعجز، وقد نزلت آيتان في سورتين، وصيغ الكلام فيهما متقاربة، والمقصود مختلف. قال الله تعالى في سورة النور: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61] ، وقال في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] .
والمراد برفع الحرج في سورة النور أنه لا حرج على الموصوفين بالعلل التي ذكرناها في مؤاكلة من ليس لهم تيك العلل، فللأعمى أن يؤاكل البصير، وإن كان قد لا يتأتى منه مراعاة الأدب في تقدير اليد وإعمالها فيما يليه، ولا يخفى أن الأدب أن يأكل الإنسان مما يليه، وقد روي: " أن ابن عباس كان يؤاكل رسول الله صلى الله عليه(17/406)
وسلم في صغره في جفنة فيها ثريد، فمد يده إلى ما يلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله [يده] (1) وقبلها، وردّها إلى ما يليه، وقال: كل مما يليك " فلما رفعت الجفنة أحضرت تُميرات، فالتزم ابن عباس الأكل مما يليه، فلطف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " كل من حيث شئت، فإنها غير لون " (2) وروي مطلقاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تأكل من ذروة الطعام؛ فإن البركة في أعلاها " (3) ، فلا حرج على الأعمى في مؤاكلة البصير، وفي لطف معنى الآية أمر البصير بألا يتبرّم بمؤاكلته.
ثم قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} وهذا يحمل على سوء جلسة الأعرج في المؤاكلة، وقد يتأذى به من على جانبه، فرفع الله الحرج على المعنى الذي ذكرناه، حتى لا ينزجر من به العرج، ولا يتبرم السليم.
وقال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] ، وهذا على المعنى الأول، ثم قال تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] ، وأظهرُ مقال في ذلك: رفعُ الحرج في أكل الإنسان وحده، وقد ورد في الأخبار: " شر الناس من أكل
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) حديث " أن ابن عباس كان يؤاكل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغره في جفنة فيها ثريد فمدّ يده إلى ما يلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ " أصل هذا المعنى موجود من حديث ابن أم سلمة المشهور في الصحيحين " يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ". ولكن بهذه السياقة التي ذكرها الإمام لم نجده عن ابن عباس، وإنما هو عن عِكراش بن ذؤيب والحديث رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وابن ماجه، والطبراني في الكبير، وقد ضعفه الألباني. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1313، الترمذي: الأطعمة باب ما جاء في التسمية على الطعام، ح 1848، ابن ماجه: الأطعمة باب الأكل مما يليك، ضعيف ابن ماجه للألباني، ح 705، الطبراني الكبير: 18/82) .
(3) حديث " لا تأكل من ذروة الطعام ... " رواه عن ابن عباس أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الأطعمة، باب في الأكل من أعلى الصحفة، ح 3772، الترمذي: الأطعمة باب ما جاء في كراهة الأكل من وسط الطعام، ح 1805، النسائي في الكبرى، ح 6729، ابن ماجه: الأطعمة باب النهي عن الأكل من ذروة الثريد، ح 3277) .(17/407)
وحده " (1) وهو مفسر بتمام الحديث، إذ قال: " ومنع رفده ". ثم قال تعالى {أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ} [النور: 61] ، فعدّ الأقارب.
وظاهر الآية أن من أكل من طعام المسلمين إذا دخل بيوتهم، فلا حرج. وللآية معنيان: أحدهما - أن يحمل الأمر فيه على العموم، وكأن المراد كونوا كذلك، [ولْتسمح] (2) نفوسكم، فإنه سبب التداخل والتوادّ. هذا وجه. والثاني - أنه تعالى أراد الذين تطيب نفوسهم إذا عوملوا بذلك، فأما من لا تطيب نفسه، فلا يجوز ذلك معه. وذكر الله تعالى الصديق، ومعناه يخرج على الوجهين، روي أن سفيان بن عيينة حضر جماعةٌ من الأصدقاء داره، وكان غائباً، والباب مغلق، ففتحوا الباب، ودخلوا ووضعوا السفرة وجلسوا يأكلون، فدخل عليهم سفيان، فأخذ يبكي، فقيل له: ما يبكيك، فقال ذكرتموني صحبة أقوام مضَوْا، وعاملتموني معاملة الصالحين، ولست منهم. هذا بيان آية المؤاكلة.
11288- وأما الآية التي في سورة الفتح، فهي في الجهاد. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ... } إلى آخر الآيات والمراد بالآية رفع الحرج عن هؤلاء المعذورين
المذكورين في سياق الآية. ونحن في الجهاد الذي يقع فرضاً على الكفاية، فالأعمى (3) لا يتصدّى لهذا، وكذلك الأعرج. أطلق الأصحاب هذا تعلّقاً بظاهر القرآن، وقال العراقيون: إن كان القتال على صورة الترجّل، فالأعرج لا يندب إليه في إقامة فرض الكفاية. وإن كان القتال [ليس] (4) على صورة الترجل، فإن العرج لا يؤثر في حق الفارس.
والذي صرح به المراوزة أنه محطوط عنه التصدّي لفرض الكفاية في الجهاد؛ لأن الراكب قد يُحوَج في مضايق القتال إلى الترجل، وعقرُ الدابة وعِثارها ليس من النادر، فمن لم يكن مستقلاً إذا نزل، فهو على غرر. هذا هو القول في العرج، وكان شيخي
__________
(1) خبر " شر الناس من أكل وحده " لم نقف عليه.
(2) كذا قرأناها على ضوء السياق، وحروفها المتداخلة.
(3) في الأصل: " فالمعنى ".
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(17/408)
يقول: هذا في العرج البين. فأما إذا كان يغمز الرجل، وكان به أذى ظَلْع، فلا أثر له، وهذا عندنا مضبوط بما لا يظهر له أثر في محاولة المكاوحة، ومداراة القرب في الترجل للقتال.
ثم قال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} والمراد من به مرض يعجزه عن الانتهاض والاستقلال بالقتال أو كان على حالةٍ يتأتى منه القتال وجوداً، ولكنه يفضي إلى أنه يعجِز أو يهلك. فإن قيل: ليلتزم القتالَ، ثم إن مات منه، فليكن شهيداً، كما لو استشهد في المعترك.
قلنا: الظاهر عندنا أنه لا يكون كذلك، فإن مَنْ به من المرض ما وصفناه، فالظاهر أنه في أثناء الأمر يعجِز ويقتل ذلاً (1) ويصير دريئة لرماح الكفار، وليس للقتال منتهى يضبط، فقد يتمادى، وقد ينجلي على القرب. هذا هو الذي يظهر عندنا، والله المستعان.
وقد انتجز القول في المعاذير التي رأيناها ملتحقة بالقسم المشتمل على ما يطرأ، وقد مضى القول فيما رأيناه معدوداً من اللوازم. وكل ما ذكرناه في الجهاد الواقع فرضاً على الكفاية.
11289- فأما القتال الموصوف بكونه فرضَ عين، فقال الفقهاء في تصويره: إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام، تعين دفعهم، وأتى نقلةُ الفقه بتخاليط، وأمور تشعر بقلّة الدراية، فنَلْقَى في الكتب أنه يتعين على كل من بلغه الخبر من المسلمين أن يطيروا إليهم جماعاتٍ ووحداناً، حتى ينجلوا، وليس الأمر كذلك، على هذا الإطلاق.
ونحن نذكر المسلك الحق ونفصله، فنقول: أولاً - أما أهل تلك الناحية، فيتعين عليهم الدفعُ إذا استولى عليهم الكفار، ثم لِما ذكرنا من الدفع معنيان لا بدّ من تصوّرهما، والوقوف عليهما: أحدهما - التأهب للقتال إذا تمكن منه أهلُ الناحية، وقدروا على التجمع والاستقلال، وأخذ أُهَب القتال. هذا وجه في معنى الدفع
__________
(1) كذا. ولعلها: هدراً. أو هزلاً. أي بدون فائدة وعائدة على الجهاد وجيش المسلمين.(17/409)
نذكره، ونستقصي ما فيه، إن شاء الله تعالى. فإن كانوا لا يقاومون ولا يحدّثون أنفسهم بالمقاومة ما لم يتأهب معهم العبيد، فحق عليهم أن يتأهبوا، ولا حاجة إلى مراجعة السادة؛ فإنهم يدفعون عن الناحية ديناً، وبهذا يتبين أن العبد من أهل القتال والاشتغال به. وأما النسوان والحالة هذه فإن لم يكن فيهن مُنّة، فلا معنى لتأهبهن، ولعل حضورهن يجرّ على المقاتلة شرّاً إذا [جدّ الجدّ] (1) .
فأما إذا أمكن استقلال الرجال الذين هم أهل فرض الكفاية، قبل أن يطؤوا ديارنا، وأمكن أن يُصطلموا، [ولا ثقة] (2) بعواقب الأمور في الحروب (3) ، ولو اعتضدوا بالعبيد، لقويت القلوب، وعظمت المُنَّة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن العبيد ينطلقون ولا يراجعون السادة، وحق عليهم ذلك. والثاني - لا يفعلون؛ إذ الكفاية مقدّرة في غيرهم. والعبيد ليسوا من أهل الكفاية. والكفار قارّون، فلا يتعين عليهم القتال.
وإذا وطئوا بلادنا، وهذا فيه إذا أمكن استقلال الأحرار، فإن لم يكن، فالأمر على ما ذكرناه من القطع بتعين القتال عليهم.
ولو كان في نسوة أهل الناحية قوة ودفاع، فهن كالعبيد في التفصيل الذي ذكر.
هذا وجه في معنى الدفع. وحاصله يرجع إلى [أنه] (4) الدفع عن الناحية والانتهاض لإخراجهم من الأرض التي وطئوها.
11295- المعنى الثاني - أن يبغت الكفار المسلمين بحيث لا يتأتى من المسلمين أن يتأهبوا، فحقٌّ على كل من وقف عليه كافر أو كفار أن يدفع عن نفسه بأقصى ما يقدر
__________
(1) في الأصل: " وجد الجد ".
(2) في الأصل: " أو لا ثقة ".
(3) الصورة هي: أن يكون في الرجال من أهل فرض الكفاية قدرة على ردّ الكفار وردعهم، ويكون الكفار لم يصلوا إلى دار الإسلام بعد، ولكن لا ثقة بمجريات المعارك والحروب فاحتمال أن ثدور الدائرة على رجالنا أهل الكفاية قائم مرتقب، ولو خرج العبيد لقويت المنة، فهل يخرج العبيد في هذه الصورة؟
(4) في الأصل: " أن ".(17/410)
عليه، إذا كانوا يعلمون أنهم يُقتلون لو أُخذوا. وهذا يعم الأحرار والعبيد والنساء.
وإن كان لا يبعد أن يؤسروا ثم [لا يتسبب] (1) الأسر إلى طلب الفكاك، ولو أظهروا امتناعاً، لقتلوا، فهذا ركن من فصل الهزيمة على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
والذي نذكره هاهنا أن القتل إذا كان متحققاً، وهو مع الاستسلام؛ فإن المكاوحة استقتال في هذا المقام، وإن علمت المرأة أنها لو استسلمت، لامتدت إليها الأيدي، ولو بذلت جهدها في الدفع؛ قتلت، فيظهر أن نُلزمَها الدفعَ؛ فإن من أكره على الزنا، لم يحل له الإقدام إليه ليدفع القتل عن نفسه، ويجوز أن يقال: إذا كانت غيرَ مقصودة بالفاحشة، وإنما تظن ذلك إذا سبيت، فلها الاستسلام في الحال في الأسر. ثم إن تمكنت من الدفع عند القصد (2) ، دَفَعت.
هذا قولنا في أهل الناحية.
11291- ومن تمام الكلام فيه أن أهل الناحية لو كان فيهم كثرة، وكان في خروج البعض كفاية، فابتدر من فيه كفاية، فظاهر المذهب أنه يتحتم على الباقين أن يخرجوا أيضاً، والسبب فيه أن هذه عظيمة من العظائم اشتد [حث] (3) الدين على دفعها، فلو لم تزد على حدّ الكفاية، لما حصل غرض الشرع، ولكانت هذه الواقعة بمثابة ما لو كان الكفار قارّين في ديارهم. وإذا كان لا يطير إلى الكفار إلا أهل الكفاية، فبالحري أن يستجرىء الكفار على دخول ديار الإسلام علماً منهم [بأنّا] (4) لا نلقاهم إلا بمثلهم في العدد والعدة. وهذا هو الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: إذا تلقاهم من فيه ثَمَّ كفاية، لم يبق على الباقين أمر، ولا يلحقهم حرج، والغرض أن يدفعوا. وكل ما ذكرناه في أهل الناحية.
11292- فأما الذين ليسوا في تلك الناحية، فنتكلم في الأقرب منهم فالأقرب، ونقول: إن كان في أهل الناحية كفاية واستقلال بالقتال، فالذين قربوا منهم، وكانوا
__________
(1) في الأصل: " لا ينسب ".
(2) عند القصد: أي القصد بالزنا.
(3) في الأصل: (محب) كذا وبدون نقط.
(4) في الأصل: " بأنهم ".(17/411)
دون مسافة القصر ينزلون -إن وجدوا الزاد- منزلة أهل الناحية، إذا قام بالدفع مَنْ فيه الكفاية.
وإن لم يكن في أهل الناحية كفاية، فيتعين على الأقربين أن يطيروا إليهم، وإذا قلنا؛ إنهم بمثابة أهل الناحية، لم نغادر من البيان المقصود شيئاً في طوارىء القوة والضعف.
فأما الذين يقعون من الناحية على مسافة القصر فصاعداً، فإذا بلغهم الخبر، نُظر: فإن لم يكن في أهل الناحية، وفي الذين يلونهم كفاية، تعيّن عليهم أن يتطيَّروا إليهم، ثم الأظهر هاهنا أنه إذا طار إليهم قوم فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين.
ومن أصحابنا من قال: يتعين على كافة أهل الناحية التي صورناها أن يطيروا ويتسارعوا إليهم؛ فإن هذا يمنع التخاذل والتواكل، ولو بنينا الأمر على الكفاية وقد [جدّ الجد] (1) وليس هذا مما يقبل الأناة، بخلاف القتال الموضوع لإقامة فرض الكفاية، والكفار قارّون، فلا ينتظم دفع هذه العظيمة مع المصير إلى الاكتفاء بخروج البعض، لما في الطباع من الانحباس عن القتال، وإذا فرض ذلك، فإلى أن يظهر للكافة لحوق الحرج، ربما تجري عظائم من القتل والأسر، واهتتاك الحرمات، فالوجه الإيجاب على الكافة إذا لم يكن بين أيديهم إلى ما يلي الكفار من فيه كفاية، وهذا يترتب على ما ذكرناه في أهل الناحية إذا كان فيهم كفاية، وكان البعض منهم يستقلّ بالأمر.
وما ذكرناه من الخلاف في البعد مرتب على ما ذكرناه في أهل الناحية والذين يقربون منهم، فإن كنا نكتفي في أهل الناحية بمن فيه كفاية، فهذا في البعيدين أولى، وإن لم نكتف في أهل الناحية، ففي الذين يبعدون وجهان، ثم ينبني على الوجهين في البعيدين ما نذكره، فإن بنينا الأمر على الكفاية، أخرجنا العبيد والنساء، وإن قلنا: عليهم أن يخرجوا بجملتهم -وإن كان في بعضهم كفاية- ففي العبيد والنسوان وجهان، إذا كان في النسوان مُنّة، ولا خلاف أن الخبر إذا بلغهم، لم يكن لهم أن يلبثوا تعويلاً
__________
(1) في الأصل: " وجد الجد ".(17/412)
على حركة من هو أبعد منهم؛ فإن بلوغ الخبر يوجب انزعاجهم (1) ؛ إذ انزعاج من وراءهم مغيّب، وبقاء الكفار مستولين على ديار الإسلام -في لحظةٍ- عظيمةٌ في الإسلام.
وكل ما ذكرناه فيه إذا بلغ الخبر من على مسافة القصر، ولم يكن في أهل الناحية كفاية.
11293- فأما إذا كان فيهم كفاية، وقد شمروا، فالذي ذهب إليه المحققون أنا لا نلزمهم أن ينزعجوا؛ فإنهم على البعد من الناحية، وفي أهل الناحية كفاية. وهذا ما قطع به القاضي وكل منتسب إلى التحقيق؛ إذ لو لم نقل هذا، للزمنا أن نقول: إذا انتشر الخبر إلى أقاصي الخِطة، توجه على أهل الإسلام قاطبة أن يتحركوا، وهذا بعيد (2) .
وذهب طوائف من أئمتنا إلى أنه يجب على الذين بعدوا أن يتحركوا، ويصيرُ أهلُ الإسلام في هذا بمثابة أهل الناحية، ثم ينتهض الأقرب، فالأقرب لا محالة، والخبر على هذا الترتيب ينتشر، ثم إذا انزعج الذين يبلغهم الخبر، [فلا يزالون عليها ولا يتهاونون] (3) إلى أن يلقاهم خبر الكفاية (4) ، وهذا التدريج في الوقوع يحقق الاستبعاد الذي ذكره المحققون.
__________
(1) انزعاجهم: المراد الخروج من مدنهم وقراهم على أهبة القتال والاستعداد، وهذا هو ما نسميه الآن التعبئة العامة.
(2) عبر الغزالي عن هذا المعنى، أو قل: اختصر هذه العبارة بقوله: " واختار المحققون أنه لا يلزمهم (الانزعاج) ؛ لأن الأمر يطول فيه، ويتداعى إلى جلاء كافة الخلق عن الأوطان " (ر. البسيط: 5/153 شمال) .
(3) في الأصل: " فلا يزالون عندها ولا يدانون ". ولم أهتد لوجهها، وما فيها من تصحيف إن كان.
ومعنى ما أثبته: أنهم لا يزالون على الأهبة والاستعداد منتهضين.
(4) الكفاية: المراد بها هنا كفاية الله شرّ الكافرين المغيرين وردّهم عن ديار الإسلام.
ويؤكد صحة هذا المعنى عبارة الرافعي، حيث يقول: " والوجه الثاني: يجب على الأقربين، فالأقربين، بلا ضبط، حتى يصل الخبر بأنهم قد كُفُّوا وأخرجوا " (ر. الشرح الكبير: 11/367) وما قاله النووي أكثر وضوحاً؛ إذ قال: " الثاني - يجب على الأقربين فالأقربين بلا ضبط، حتى يصل الخبر بأنهم قد دفعوا وأخرجوا " (ر. الروضة: 10/215) .(17/413)
11294- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن أصحاب التحقيق قالوا في الذين يقربون من الناحية: يكفي فيهم اعتبار الزاد؛ إذ لا استقلال إلا به، والمركوب لا معوّل عليه في السفر القصير سيما في المهم العظيم، فأما من يبعد عن الناحية، فقد قال هؤلاء: يعتبر في حقهم الزادُ والمركوبُ [كالحج، وفيه وجه أنه لا يعتبر، وليس كالحج] (1) ، فإن الحج على التراخي، والأمر فيه أهون، وهذا الذي نحن فيه اجتمع فيه التعيين كما ذكرناه، ووجوب البدار، ورجوع الأمر إلى بيضة الإسلام.
وقد ذهب ذاهبون من العلماء كمالكٍ (2) وغيره إلى أن المركوب ليس شرطاً في سفر الحج، فلا يبعد أن يُعْتَبر في هذا السفر ما اعتبره مالك في سفر الحج.
التفريع:
مَنْ شَرَطَ المركوبَ، فلا يخفى تفريع مذهبه، ومن لم يشترط المركوب، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين في أنا هل نشترط الزاد أم نقول: [يخرجون] (3) إلى أن يفرّج الله تعالى، ولو هلكوا لِعَدمِ الزاد، فإلى الهلاك مصيرهم، وأجرهم على الله تعالى. وهذا عندنا بعيد؛ فإن الاستقلال بغير زاد غير ممكن، وليس في أمرهم بالنهوض مع بعد المسافة إلا هلاكهم من غير فائدة تعود إلى المسلمين.
فقد انتظم هذا الفصل موضحاً كما ينبغي، وانكشف ما فيه من عماية وإشكال.
11295- ونحن نلحق بهذا المنتهى شيئين: أحدهما - أن الكفار لو أسروا جمعاً من المسلمين، فهل يجب أن نزحف إليهم، كما نفعل ذلك لو وطئوا طرفاً من بلاد
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق، وهي موجودة في عبارة الغزالي، ونصها: " وأما المركوب، فلا يعتبر في حق من دون مسافة القصر، وفيمن وراءه وجهان: أحدهما - أنه يعتبر كما في الحج، والثاني - أنه لا يعتبر، فإن أمر الحج أهون، وهو على التراخي، وهذا أعظم " (ر. البسيط: 5/ورقة: 154 يمين) .
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/457 مسألة 706، عيون المجالس: 2/765 مسألة 493، حاشية الدسوقي: 2/6.
(3) في الأصل: " يرجعون " ولعل المعنى: يخرجون معتمدين في خروجهم على فرج الله.
وقد صاغ الغزالي هذه العبارة قائلاً: " ومنهم من قال: لا يشترط الزاد، فليتوكل على الله، وهذا بعيد؛ فإنه إهلاك من غير فائدة " (السابق نفسه) .(17/414)
الإسلام؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أنا لو أوجبنا ذلك فرضاً على العين، لزمنا ألا نفرق بين جمعٍ من الأسراء وبين أسير واحدٍ، حتى نقول: إذا وقع مسلم في الأسر، تحركت جنود الإسلام، وهذا قد يبعد بعض البعد، ويخالف السِّير.
فإذا حصل التنبّه لما أشرنا إليه، فالوجه عندنا القطع بإحلال استيلائهم على المسلمين محل استيلائهم على دار الإسلام، وذلك أن دار الإسلام إنما يجب دفعهم عنها تعظيماً للمسلمين، فإذا حصل الاستيلاء على المسلمين، فالبدار إليهم أولى وأهم، ولكن قد تختلف الأحكام باختلاف الصور، فيظن من لا يتفطّن لدرك الحقائق أن الأمر يختلف.
وبيان ذلك أنهم إذا أسروا واحداً أو جمعاً، وهم على القرب من ديار الإسلام، طرنا إليهم، وإن توغلوا في ديار الكفر، فلا يتأتى التسارع إليهم، وخرقُ ديارهم، وقد لا يستقلّ بهذا جنود الإسلام؛ فإن أُحوجنا إلى ترك التسارع إليهم، فعن ضرورة وأناةٍ [عاملون] (1) حاذرون على تقديم وجه الرأي؛ فلو صار مَلِكٌ عظيم إلى طرفٍ من بلاد الإسلام، وعلمنا أنه لا يُلقَى إلا بالراية العظمى، فلا نتسارج إلى دفعهم طوائف وآحاداً، فإن الرأي أولى بالمراعاة من كل شيء. فإذا كان ترك التسارع يفضي إلى هلاك الأسرى، [مستشهدين] (2) ؛ فإنا لا نستفيد بالتسارع استردادهم. هذا آخر ما أردنا إلحاقه.
11296- والثاني - أن الكفار لو استولوا على مواتٍ أو جبل بعيد عن أوطان المسلمين وديارهم وقراهم، ولكنه يعدّ من بلاد الإسلام، فالذي رأيته للأصحاب أنهم يُدفعون كما يُدفعون عن الأوطان، وفي هذا بعض النظر عندي؛ فإن الديار [تشرف] (3) بسكون المسلمين، فإذا لم تكن مسكناً للمسلمين، فتكليف أهل الإسلام
__________
(1) مكان كلمة بالأصل: لم نوفق لقراءتها، وقد رسمت هكذا: (لحومها) بدون نقط وبدون علامة إهمال الحاء، مع أنه يلتزمها (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: " مستشهدون ".
(3) في الأصل: " تعرف ". وهو تصحيف واضح. والتصويب من لفظ الرافعي والنووي.(17/415)
التهاوي على المتالف، والتسارع على الهلكة فيه بعض البعد (1) . وقد نجز الفصل.
11297- ومما [أُقضِّي] (2) العجبَ منه تجاوز الأئمة عن كشف أمثال هذه الفصول، والقناعة بإجراء الأمور على ظواهرها. وتلك الغوائل دفينةٌ فيها، ولا أشبه كلامهم فيها إلا بنَدَبٍ (3) على جرح وراءه غور وتأكّل.
وانتهى بما ذكرناه كلامنا في كلّي الجهاد حيث يكون على الكفاية، وحيث نَصِفُه بالتعيين. وهذا القدر فيه مقنع في التمهيد والتوطئة.
وكنا وعدنا أن نتكلم في فروض الكفايات في الجهاد والعلم والسلام، وقد وفّينا بالموعد في الجهاد، ونحن الآن نعقد فصلاً في العلم.
فصل
11298- طلب العلم مقسم قسمين: أحدهما - مفروض على الأعيان، والثاني - يثبت على سبيل الكفاية، فأما ما يتعين طلبه، فهو ما يبتلى (4) المرء بإقامته في الدين في الأوقات الناجزة، وبيان ذلك أن من بلغه أن الصلاة مفروضة، وهي ذات شرائط، فلا يتصوّر الإقدام عليها والقيام بشرائطها إلا بالإحاطة بالشرائط والأركان، وليس من الممكن أن يعرف عقد (5) الصلاة فيكتفي به، ويتحرّم ويبقى حيرانَ لا يدري ما يفعل، فكل ما يتعيّن الإقدام عليه يتعين العلم بشرائطه، وأركانه، ثم إن ما نعني العلومُ
__________
(1) هذا الوجه الذي اختاره الإمام ردّه النووي، إذ قال في زوائده: " قلت: هذا الذي اختاره الإمام ليس بشيء، وكيف يجوز تمكين الكفار من الاستيلاء على دار الإسلام مع إمكان الدفع " (ر. الروضة: 10/216) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) الندب بالفتح مصدر نَدِب الجرح يندَب، إذا صلبَ أثره، والندب أيضاً أثر الجرح (المعجم) . وهذا التصوير من الإمام هو ما يسميه علماء البلاغة التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه صورة كلية بصورة كلية وصرف النظر عن أجزاء الصورة.
(4) ما يبتلى المرء بإقامته: أي يجب عليه إقامته.
(5) عقد الصلاة: أي نيتها والتحرم بها.(17/416)
الظاهرة بما يستمر (1) . وقد يقع في الأركان والشرائط نوادر، ولو كُلّفنا العلم بها، لعظم الأمر، ولانْقطع الخلق عن إصلاح المعاش، لاشتغالهم بطلب العلم فيما يتوقع وقوعه.
وإن كان الرجل مبتلى بالنكاح والمعاملات، فعليه طلب العلم بما يجب عليه في ظواهر الأمور التي هو يلابسها على الحدّ الذي ذكرناه من وظائف العبادات.
وذكر أرباب الأصول تصدير ما يتعين بأحكام العقائد، ولست أرى العلم [بها واجباً عينياً، وإنما المتعين على كل واحد اعتقاد مصمم صحيح] (2) ، فلا وجه إلا الاقتصار على مسالك الفقه. هذا بيان ما يتعين طلبه من العلم.
11299- فأما ما يقع فرضاً على الكفاية، فهو ما يزيد على المتعيَّن إلى بلوغ رتبة الاجتهاد؛ فإن قوام الشرع بالمجتهدين، وهذا الفصل يتعلّق بفصولٍ عظيمة مستندة إلى قواعد الأصول، ومن [أرادها] (3) على حقائقها، فليطلبها من مجموعاتنا في الأصول.
ولو قيل: العلم المترجم بالكلام هل يُستلحق بفرائض الكفايات؟؟ قلنا: لو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام، لكنا نقول: لا يجب التشاغل بالكلام، وقد كنا ننتهي إلى النهى عن الاشتغال به، والآن قد ثارت الآراء، واضطربت الأهواء، ولا سبيل إلى ترك البدع، فلا ينتظم الإعراض عن الناس يتهالكون على الردى، فحق على طلبة العلم أن يُعِدّوا عتاد الدعوة إلى المسلك الحق والذريعة التامة إلى حل الشُّبه، ولما مسّت الحاجة إلى إثبات الحشر والنشر على المنكرين، وإلى الرد
__________
(1) كذا. والمعنى -على أية حال- العلوم الظاهرة بما يعتاد، دون الدقائق، والنوادر، أي بما يتكرر.
(2) عبارة الأصل: " ولست أرى العلم فيها مع علم بني الزمان ـالى اـر يحد بها، فلا وجه إلا الاقتصار ... إلخ " وما بين المعقفين مأخوذ من كلام الغزالي، وهو معنى كلام الإمام (ر. البسيط: 5/ورقة: 154 يمين) .
(3) في الأصل: " دارّها ".(17/417)
على عبدة الأصنام، [صار من فروض الكفايات الاحتواء] (1) على صيغ الحجاج، وإبداء منهاجه. ولا شك أن هذه الآراء الفاسدة لو بُلي الناس بها، لأقام الشرع حجاج الحق من منابعها.
فإذاً علم التوحيد من أهم ما يطلب في زماننا هذا، وإن استمكن الإنسان من ردّ الخلق إلى ما كانوا عليه أولاً، فهو المطلوب وهيهات، فهو أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع في مستقر العادة.
وإذا ذكرنا هذا المقدارَ، فالمقدارُ المتعيَّن عقدٌ مستقيم على تصميم، ولا نوجب على آحاد الناس بأن يستقلّوا بأدلّة العقول، وتتبع الشبهات بالحَلِّ، فمن استراب في عقدٍ، فعليه أن يدأب في إزاحة الشك إلى أن يستقيم عقدُه، ولست أضمّن ذكر العقائد التي نوجب حصولها على الاستقرار لآحاد المسلمين؛ فإن ذلك يطول. والوجه عندي قطع الكلام في ذلك على هذا المقدار.
11300- ثم لا يخفى أن المفتي الواحد لا يقع الاكتفاء به في الخِطة، ويجب أن يكون في كل قطر من يُراجَع في أحكام الله تعالى. ثم قال الفقهاء: يجب أن يعتبر في هذه مسافة القصر، فإذا سكن مجتهدٌ بُقعةً، استقل به من هو على مسافة القصر منه في الجوانب، وليس من الحزم الكلام في المفتي والمستفتي؛ فإنه من لُباب الأصول.
ثم قال طائفة من الفقهاء لم يتعنَّوْا في طلب الحقائق: من خاض في التعلّم وأونس رشدُه، فلا يبعد نيله الرتبة المطلوبة، فيتعين عليه إتمام ما خاض فيه، ولو ارعوى، كان تاركاً فرضاً متعيناً.
وهذا غلط صريح عند المحققين؛ فإن العلوم ليست جملة واحدة، بل كل مسألة مطلوبة في نفسها، وهي مغايرة لما قبلها وبعدها، فلا يتحقق بالخوض [فيه حكمُ الخوض] (2) فيما له حكم الاتحاد، ولا تعويل على تشبيه ما ذكرناه من الوقوف في
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: " ... وإلى الرد على عبدة الأصنام، اشتملت إلى من الكتاب على صيغ الحجاج ... " والمثبت تصرف منا مأخوذ من معنى كلام الرافعي، حيث نقل هذا عن الإمام بتصرفٍ في اللفظ. (ر. الشرح الكبير: 11/369) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.(17/418)
الصف؛ فإنه إنما يتعين المصابرة ثَمَّ، لما في الانصراف من الانخرام والضرر العظيم، وكسر قلوب الجند، ولا يتحقق مثل هذا في العلم، فالوجه أن يعدّ هذا من نوادر بعض الفقهاء التي لا مصدر لها عن ثَبَت وتحقيق. وسنعود إلى طرفي من هذا -إن شاء الله عز وجل- في فصلٍ يأتي بعده.
فصل
معقودٌ في السلام
11351- قال الأئمة: السلام من السنن التي تأكد الأمر فيها، وصحَّت الأخبار في الأمر بإفشاء السلام. ثم قال العلماء: من سلّم على جمع من المسلمين، فإن أجابه واحدٌ منهم، كفى ذلك، وإن لم يجبه أحدٌ حَرِج القوم من عند آخرهم، فابتداء السلام سنة مؤكدة، وجوابه فرض على الكفاية، ثم هو مختص في المخاطبين بالسلام، لا يقوم غيرهم مقامهم، حتى لو سلّم رجل على جمع وعيّنهم لتسليمه، فسكتوا، فردّ عليه من لم يخاطبه بالسلام، فالفرض لا يسقط بذلك عن المخاطبين، وقولنا: الجواب فرض كفاية [كافٍ] (1) في بيان هذا، فإن الجواب إنما يصدر عمن تعلّق به الخطاب، وإذا أتى بلفظ السلام [من] (2) لم يخاطَب، فهذا ابتداءٌ، وليس بجواب.
11352- ثم قال الأئمة: سنة السلام على الكفاية في وضعها، كما أن جواب السلام على الكفاية، وبيانه أنه إذا التقى جمعان، فسلم واحد من جمعٍ على الجمع الآخر، كفى ذلك في إقامة السنة، كما أن واحداً من المخاطبين لو أجاب، كفى جواب الواحد، وسقط الفرض عن الباقين، ولو سلّم رجلٌ على رجلٍ معين، تعين عليه جوابه، فقد انقسم جواب السلام في أصله إلى ما يتعين، وإلى ما يثبت فرضاً على الكفاية، كما انقسم الجهاد.
وبالجملة لا يثبت شيء على الكفاية إلا ويتطرّق إليه التعيين، فتجهيز الموتى
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) سقطت من الأصل.(17/419)
والصلاة عليهم وتدارك المحتاجين إلى غير ذلك من فرائض الكفايات، [يتعين إذا حضره مسلمٌ واحد] (1) . وظهور هذا يغني عن البسط.
وغرضنا الآن أن نبين أن من خصص واحداً بالسلام عليه، فلا مُخاطَبَ غيرُه، ولا جواب إلا منه، والجواب لا بد منه.
ثم صيغة السلام لا تخفى، واللفظ المشهور " السلام عليكم ". وكذلك لو قال: عليكم السلام. وكان شيخي يقول: لو سلّم على واحد، فالأولى الإتيان بصيغة الجمع تعرّضاً لمخاطبة الملائكة، وهذا يعضده أنا نستحب للمتحلل من الصلاة أن يقول: " السلام عليكم " كيف كان. وتأويل ذلك مخاطبة الملائكة، وصيغة الجواب أن يقول: وعليكم السلام. وإن أحب قال: والسلام عليكم. وعطفُ الجواب على السلام حسنٌ، ولو ترك العطف، وقال: السلام عليكم، كفى ذلك، وكان جواباً.
ثم قال الأئمة: ينبغي أن يكون الجواب متصلاً بالسلام اتصالاً يُرعَى مثله بين الإيجاب والقبول في العقود؛ فإنه إذا تطاول الفصل المتخلل، خرج الكلام عن كونه جواباً، والواجب هو الجواب لا السلام.
ولو قال المجيب: عليكم، فالرأي عندنا ألا يكتفى بهذا، فإنه ليس. فيه تعرّضٌ للسلام، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ، قال جماهير المفسرين: أجيبوا بأحسن من السلام، أو حيوا بمثله، حتى إذا قال المسلِّم: السلام عليكم، فالأحسن أن يقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله. فإن لم يَزِدْ، فلا أقل من أن يقول: وعليكم السلام.
وقال بعض أصحابنا: إذا قال المجيب: " عليكم " من غير عطف، لم يكن جواباً، وإن قال: " وعليكم "، كان جواباً مسقطاً للفرض؛ فإنه منعطف على قول المسلّم، فكان راجعاً إلى معناه.
11303- ولو استغرق قوم بشغل، فقد لا نرى لمن يمرّ بهم أن يسلم عليهم، كما سنفصله، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.(17/420)
ثم قال الأصحاب: إذا سلّم -ولا نرى له أن يسلّم- لم يستحق جواباً؛ فإن وجوب الجواب منوطٌ باستحباب السلام.
ثم القول في الأحوال التي لا يستحب فيها السلام يستدعي تفصيلاً، فإن كل إنسان على حالة لا تجوز أو لا يليق بالمروءة القربُ منه فيها، مثل أن يكون على قضاء حاجة، أو يكون متبذلاً في الحمام يتدلّك ويتنظف، فلا سلام في هذه الأحوال. وإن كان القوم في مساومة أو غيره من شغل الدنيا، فلا يمتنع السلام لهذا، إذ لو امتنع به، لانحسم إفشاء السلام، فإن معظم الخلق في شغل.
وكان شيخي يقول: إذا كان الإنسان يأكل، فلا ينبغي أن يسلم عليه من يقرب منه، وهذا فيه بعض النظر، ويجوز أن يحمل كلامه على ما إذا كان في فيه طعام، فإن ردّ الجواب قد يعسر ويطول الفصل إذا مضغ ما في الفم وازدرده. ويبعد أن نكلفه ألا يزدرده ويلفظه، فأما إذا وقع السلام بعد البلع، وقبل رفع اللقمة الأخرى، فلا يبعد أن يقال: يستحق بالسلام الجواب؛ فإنه لا عسر فيه، والعلم عند الله تعالى.
11304- ولا يحل لرجل أن يسلّم على امرأة أجنبية ليست من المحارم، وإن سلم، لم يكن لها أن تجيب. وقد ذكرتُ جملاً من أحكام السلام في كتاب الجمعة، عند ذكري الاستماع إلى الخطبة والإنصات.
قال شيخي أبو محمد: تشميت العاطس مستحب، وهو على الكفاية كابتداء السلام، ثم لا يجب جواب التشميت، ولعل السبب فيه أن التشميت لمكان العطاس بالعاطس ولا عطاس بالمشمت.
فصل
قال: " ومن غزا ممن له عذر أو حدث له بعد الخروج عذر ... إلى آخره " (1) .
11355- قد قدمنا المعاذير التي تُخرج الرجل عن التصدي لفرض الجهاد على الكفاية، وهذا الفصل معقود في طريان المعاذير بعد الخروج، فنقول: إذا أثبتنا سفر
__________
(1) ر. المختصر: 5/181.(17/421)
الجهاد بإذن الأبوين، وإذنِ صاحبِ الدَّيْن، ثم رجع صاحبُ الدين، أو رجع الأبوان، وبلغ الخارج خبر الرجوع، نُظر: فإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن قبل التقاء الزحفين، وتقابل الصفين، وكان الرجوع والانقلاب ممكناً، فحقٌّ عليه أن يرجع؛ فإن الجريان على حكم الإذن ليس محتوماً، والآذِن بالخيار: إن شاء أن يستمرّ على إذنه، استمرّ عليه، وإن أراد أن يرجع، كان له أن يرجع عن إذنه، وإذا رجع عن الإذن، وتمكن المأذون له من الرجوع، لزمه الرجوع.
وإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن، وقد التقى الزحفان، نظر: فإن كان رجوعه يُخافُ منه انفلالٌ في الجند، فيحرم عليه الرجوع، وإن كان لا يتوقع من رجوعه انخرام وفتنةٌ يرجع أثرها إلى الجند، ففي جواز الرجوع والحالة هذه وجهان: أحدهما - يجوز الرجوع لجواز الإذن، ولا ضرر في الرجوع. والثاني - لا يجوز الرجوع؛ فإنه لابس القتال ووقف [في الصف] (1) ، ولو فتحنا هذا الباب، لتعدى تجويزُه إلى انفلال الآحاد، والتعلق بالمعاذير، ثم يفضي الأمر إلى انخرامٍ يعظم أثر وقعه، فالوجه حسم هذا الباب بالكلية.
ثم اختلف أصحابنا في صيغة الوجهين، فقال قائلون: الوجهان في جواز الرجوع، وقال آخرون: الوجهان في وجوب الرجوع. وينتظم من الوجهين والتردد في صيغتهما ثلاثة أوجه: أحدها - يجب الرجوع؛ لانقطاع الإذن، وبلوغ الخبر به.
والثاني - لا يجوز الرجوع، وتجب المصابرة. والثالث - أنه يجوز الرجوع، ويجوز المصابرة لتقابل ملابسته القتال وانقطاع الإذن، فقد تعارض نقيضان، فيسقط أثرهما جميعاً، وتبقى الخِيَرةُ بعدهما، وهذا الوجه اختاره القاضي.
ولو أنشأ السفر نحو الجهاد، وأبواه كافران، فأسلما، أو حدث له دَيْنٌ، فهذا في حكم الطوارئ، فيلتحق الترتيب في الرجوع بما ذكرناه من رجوع الأبوين، والصورة مفروضة فيه إذا لم يأذن الأبوان بعد الإسلام في الجهاد، ولم يأذن صاحب الدَّين الجديد.
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.(17/422)
ولو أذن الأبوان، ثم رجعا وهو في الطريق، ولكن عسر الرجوع عليه لمخاوف يمتنع العبور عليها من غير جمعٍ واستعداد، فالرجوع غير ممكن، ولكن إذا عسر الرجوع، فيمتد إلى الجهاد ويُتم الغرضَ عازماً على أن ينقلب مع الجند إذا انقلبوا، أم يمكث حيث انتهى إليه؟ الوجه أن نقول: إن عسر المكث كما عسر الرجوع، فلا طريق إلا أن ينبعث مع الجند، ثم يرجع برجوعهم، وإن أمكنه أن يتعلق بقرية ويمكث فيها إلى أن يرجع أصحابُه، فيتعيّن ذلك؛ فإن نهيه تضمن أمرين أحدهما - ترك التحرك إلى الجهاد، والثاني - الإقبال على الرجوع، فإذا تعذر الرجوع، فالوجه ترك المسير في جهة الجهاد، فإن ذلك ممكن.
11306- ومن الأعذار الطارئة المرض، فإذا طرأ قبل الوقوف، جاز الرجوع، وإن طرأ في أثناء الجهاد، فإن كان الرجوع يورث انفلالاً واختلالاً في الجند، فلا يجوز أن يرجع أصلاً، وإن خاف الموت والهلاك. وإن كان لا يخاف انفلالاً، ففي جواز الرجوع وجهان، ولا يجري هاهنا إلا منع الرجوع أو جواز الرجوع، فأما وجوب الرجوع، فلا ينقدح، بخلاف ما قدّمناه في مسألة رجوع الأبوين.
11307- ثم تكلم أصحابنا في ملابسة فروض الكفايات. ونحن نأتي بمجموع كلامهم، وننزله على [مدارك] (1) الصواب.
فأما من لابس الحرب ولا عذر، وهو من أهل القيام بفرض الكفاية، فلا يجوز أن ينصرف من غير عذر، سواء كان في انصرافه خرمٌ أو لم يكن. هذا ما اتفق أصحابنا عليه، وأطلقوا أقوالهم بأن الجهاد يصير متعيناً بملابسة الحرب على من هو من أهل فرض الكفاية، وإن فرض عذرٌ وخيف انفلالٌ، فلا سبيل إلى الرجوع. فإن ثبت عذر يمتنع به الخروج، ولا خيفة، ففي الرجوع بعد الملابسة التردد الذي حكيناه.
وأما ملابسة العِلْم مع إيناس الرشد، فقد حكينا عن طوائفَ من الفقهاء أنه يمتنع الانكفاف. وأوضحنا أنه غلط، وليس العلم في حكم الخصلة الواحدة التي يفرض التلبس بها، فلا ينتهي الأمر إذاً فيه إلى التعيّن بسبب الملابسة. نعم قد يتعين على
__________
(1) في الأصل: " تدارك ".(17/423)
الإنسان الانتدابُ للطلب، والاستتمام إن خاض، إذا لم يكن في القطر رشيدٌ غيره، والحاجة ماسة. وليس هذا من آثار ملابسةٍ أو خوضٍ في الأمر.
وأطلق أئمتنا القول بأن من تحرّم بصلاة الجنازة، تعيّن عليه إتمامها، وهذا فيه فقه؛ من جهة أن الصلاة مفروضة، وقد تعلّقت بعين المصلي، ولم تكن متعلّقة به قبل الخوض، فيتعلق الإتمام بها؛ فإنها في حكم الخصلة الواحدة، وحكى من تُعتمد حكايتُه عن القفال: أن صلاة الجنازة لا تتعين بالشروع، فإن الشروع لا يغير حقيقة المشروع فيه، ولذلك لا يلزم التطوّع بالشروع فيه.
فصل
يجمع مسائل نصوّرها بمبادىء النصوص في المختصر، ونذكر ما يحصل الإقناع به فيها.
قال: " ويَتوفَّى في الحرب قتلَ أبيه ... إلى آخره " (1) .
11358- يكره للغازي أن يقتل ذا الرحم فصاعداً، وتتأكد الكراهية إذا انضم إلى الرحم المحرمية، وتزداد تأكداً كلما ازداد المقتول قرباً، وقد روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه عتبة، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه عبد الرحمن " (2) ، وروي " أن عبد الله بنَ أُبي بنِ سلول لما كثر أذاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بقتله، بلغ ذلك ابنَه عبدَ الله، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بلغني أنك أمرت بقتل أبي، وقد علمت العربُ شفقتي على أبي، فأخاف لو قتله واحد لتداخلني حميةُ الجاهلية، فأقتل مَن قتله، فأدخل النار، فأذن لي حتى آتيك برأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل. نُداريه ما دام يعاشرنا " (3) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/181.
(2) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة عن قتل أبيه، وأبا بكر عن قتل ابنه " سبق تخريجه.
(3) حديث استئذان عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول في قتل والده، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل، نداريه ما دام يعاشرنا " رواه الطبري في التفسير (28/76) وفي=(17/424)
قال الشافعي: " لا يجوز أن يغزو بجُعلٍ ... إلى آخره " (1) .
11359- ليس للواحد من المسلمين أن يستأجر مسلماً على الغزو، وهذا متفق عليه، وقد فصَّلتُ في كتاب الصداق ما يجوز الاستئجار عليه، وما لا يجوز، وألحقتُ هذا بما لا يجوز الاستئجار عليه. ثم إذا فرض الاستئجار على الفساد، وانطلق المستأجَر، وحقق المستدعَى (2) منه، فلا يستحق الأجرة؛ فإن الجهاد يقع عمن تعاطاه، وهو بمثابة ما لو استأجر الرجل على الحج صرورةً لم يحج عن نفسه، فإذا حج الأجير، ونوى مستأجِره على ظن أن الحجة تنصرف إليه، فالحج ينصرف إلى فرض الأجير، ولا يستحق الأَجرة المسماة.
وذكر أصحابنا تردّداً في صورةٍ، وهو أن الاستئجار على الحج إذا صح، وكان الأجير حج عن نفسه حجة الإسلام، فإذا صح عن مستأجِره وانعقد الحج عنه، ثم صرف الإحرامَ إلى نفسه على اعتقاد أن الإحرام ينصرف إليه بقصده وصرفه، فلا شك أنه لا يصرفُ إليه، ويقع صحيحاً عن المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقها لتحصيله مرادَ المستأجِر [والثاني - لا يستحقها] (3) بقصده إيقاعَ الحج عن نفسه.
والصرورة إذا نوى مستأجِره، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة المسماة؛ فإنها إنما تستحق في الإجارة الصحيحة، واستئجار الصرورة فاسد، والمذهب الذي لا يسوغ غيره أنه لا يستحق أجرةَ المثل أيضاً، لأنه عمل لنفسه، فيستحيل أن يستحق أجرةَ المثل بمجرد القصد، وأجرةُ المثل إنما تُستحق بالعمل، وليس كما إذا صرف الأجيرُ الحجَّ عن نفسه؛ فإنا في وجه ضعيف أسقطنا أجرته بقصده؛ فإنه يملك إسقاط الأجرة بطرق، وظن صاحبُ هذا الوجه أن قصده من المسقطات. فأما استحقاق أجر العمل بمجرد القصد، فمحال اعتقادُه والمصير إليه.
__________
=التاريخ (2/608) ، والواقدي في المغازي: 2/420، وابن هشام: 2/217، 218.
(1) ر. المختصر: 5/181.
(2) المستدعى منه: أي المطلوب منه.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(17/425)
وإذا تمهد ذلك، بان منه أن المستأجَر على الجهاد لا يستحق على مستأجره أجر المثل، كما لا يستحق عليه الأجرة المسماة؛ فإن الجهاد يقع عن الأجير، فاستحال أن يستحق على عمله الذي وقع له أجرة على غيره.
11310- فإن قيل: هل للسلطان أن يستأجر من المسلمين من أراد استئجاره، ثم يعطيه الأجرة من سهم المصالح؟ قلنا: هذا ما اضطرب فيه أصحابنا، فصار صائرون إلى جواز ذلك، وهو الذي ذكره الصيدلاني، وصرّح به، ومهّده أصلاً، وفرّع عليه.
ونحن ذكرناه أيضاً في قَسْم الفيء والغنائم، وأطلقناه ولم نفصله.
وذكر القاضي أن الاستئجار الذي ذكره الأصحاب من جهة السلطان ليس استئجاراً على الحقيقة، فإن الجهاد يقع على المجاهد، وما يصرف إليه من حق بيت المال، فهو حق المستحِق له إذا تصدى للجهاد، وعَدِمَ تمامَ الأهبة والزاد، وهذا الذي ذكره القاضي هو القياس الذي لا يجوز غيره.
وإذا جمع الجامع ما ذكرناه الآن، وما قررناه في أول كتاب الصداق، انتظم له من المجموع كلام تام.
11311- قال الشافعي: " ومن ظهر منه تخذيلٌ للمؤمنين ... إلى آخره " (1) .
يحرم على الإمام أن يستصحب متخذِّلاً، وهو الذي يحسّر القلوب، ويلقي الأراجيف، ويصرف قلوب المقاتلة عن القتال، وشرُّ مثل هذا الرجل ليس بالهين؛ فإن النفوس مائلة على وفق الطباع، فيخشى أن يُتَّبع، ثم إذا حضر المخذل بنفسه، ردّه الإمام، فإن اتفق حضوره، وهو مشهور بالتخذيل، فقائلٌ: لم يستحق سهماً ولا رضخاً، ولو قتل قتيلاً من الكفار، لم يستحق سَلَبَه، فإنه ممنوع عن حضوره، فلا يستحق بحضوره، ولا بما يستحقه في حضوره شيئاً. فإن قيل: قد ردّد الشافعي قوله في الفرس الضعيف الأعجف الرَّزَاح (2) ، وإن استحقاق سهم الفارس هل يتعلق
__________
(1) ر. المختصر: 5/181.
(2) الرزاح: من رزح البعير يرزح رُزاحاً، ضعف، ولصق بالأرض من الإعياء أو الهزال، فهو رزاح (المعجم) .(17/426)
به. وقد نص الشافعي على أن الإمام يمنع من أدخل دارَ الحرب مثلَ هذا الفرس، ثم اختلف قوله في استحقاق السهم به، فهلاّ أجريتم هذا التردّد في المخذِّل؟ قلنا: ضرر المخذل عظيم، وأدنى ما يعاقَب به أن يُحرَمَ فوائدَ المغانم، وأما الفرس إذا حضر، فلا ضرر، وقد يقع التهيب به إذا وقع في الصف، فتردّد القول لذلك.
والمخذل لو تاب، فتوبته مقبولة، ولكن لا بد من استبرائه ليعود إلى استحقاق السهم، وذلك ممكن بأن يمتحن في السرّ والعلن.
11312- ثم قال الشافعي: " وواسعٌ للإمام أن يأذن للمشرك أن يغزو ... إلى آخره" (1) .
للإمام أن يستعين بطائفة من الكفار، على مقاتلة طائفة، إذا علم أنهم لو غدروا وانحازوا إلى الكفار، لكان للمسلمين استقلالٌ بمقاومتهم، وإن كانوا بحيث لو انضموا إلى الذين يقصدهم، لعسرت مقاومة الفئتين، فلا ينبغي أن يستعين بهم، وقد روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع في بعض الغزوات " (2) ، " واستعان بصفوان وما كان أسلم بعدُ في غزوة حنين " (3) .
فإن قيل: أليس روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني
__________
(1) ر. المختصر: 5/182.
(2) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع في بعض الغزوات " رواه أبو داود في المراسيل، والترمذي عن الزهري. قال الحافظ: والزهري مراسيله ضعيفة. ورواه الشافعي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، قال البيهقي: لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، والصحيح ما رواه أبو حميد الساعدي قال " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع، إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بني قينقاع رهط عبد الله بن سلام، قال: وأسلموا. قالوا: لا. قال: قل لهم: فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين " (ر. المراسيل لأبي داود: ح 281، الترمذي: السير، باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين، هل يسهم لهم؟ ح 1558. البيهقي: 9/37، التلخيص: 4/189 ح 2206) .
(3) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان وما كان أسلم بعدُ في غزوة حنين " رواه الشافعي (الأم: 2/84، 85) ، والبيهقي في الكبرى: 9/37، وفي معرفة السنن: 5/200 (ر. التلخيص: 2/236 ح 1501) .(17/427)
أريد أن أجاهد معك، فقال: أمسلمٌ أنت أم مشرك؟ فقال: مشرك، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا أرغب في المشركين " فردّه. قلنا: تمام الحديث " أنه عاد ثانياً، وذكر مثلَ ما ذكر أولاً، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وردّه، فلما عاد الثالثة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسلم أنت أم مشرك؟ فقال: مسلم، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) ، والغالب أنه توسّم فيه الميلَ إلى الدين، وكان يردّه رجاء أن يسلم، فتحققت فراستُه وصدق، فكان ما جرى من المرادّة محمولاً على تحصيل هذا المعنى.
ثم جوّز أئمتنا الاستعانة بالمشركين على التفصيل المقدّم، ولم يجوّزوا استصحاب المخذِّل قط، فإنا قد نظن ظناً ظاهراً أن الكفار يذبّون عن مساكنهم في الإسلام وديارهم، فإذا كانوا تحت قهرنا على ما فصلنا، لم يمتنع الاستعانة بهم. وأما المخذل، فلا خير فيه، وهو ضرر كله.
11313- ثم ذكر الشافعي جوازَ استئجار المشرك على القتال. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من هذا. ولكنا نعيد الفصل، ونَزيدُ أموراً، ونتدارك أطرافاً في الكلام لا بد من التعرّض لها. فنقول: أما الاستئجار، فجوازه مبني على أن الجهاد لا يقع عن الكافر، وإنما المانع من استئجار المسلم على الجهاد أن الجهاد يقع عنه، فيبعد استئجاره على فعلٍ يقع عنه، وقد ذكرنا الكلام على إطلاق الأصحاب القولَ بأن للإمام أن يستأجر المسلمين على الجهاد، وتكلمنا عليه بما ينبغي.
11314- وهذا الفصل مقصور على استئجار أهل الذمة: فلا امتناع إذاً من الجهة التي ذكرناها في المسلم، ولكن قد يعترض نوع آخر من الإشكال، وهو أن الاستئجار إنما يصح إذا كانت الأعمال مضبوطة، وما يشتمل عليه القتال من الأعمال ليس مضبوطاً، ولأجل هذا المعنى اضطرب أصحابنا، فقال قائلون: هذه جعالة، وقال
__________
(1) حديث " أن رجلاً جاء يريد الجهاد فقال عليه السلام: أمسلم أنت؟ ... " رواه مسلم: الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلا لحاجة أو كونه حسن الرأي في المسلمين، ح 1817، والبيهقي: 9/37.(17/428)
آخرون: تصح الإجارة، وإن كانت الأعمال مجهولة، وهذا ظاهر النص، وإليه مصير الجماهير، وهو معلل بوجهين: أحدهما - أن المقاصد هي المرعية، ومقصود هذه الإجارة لا يقع إلا على الجهالة، ولا يتأتى فيها التعرّض للإعلام. والثاني - أن المعاملات التي تجري في القتال سيّما إذا كانت المعاقدة مع الكفار تحتمل أموراً لا تحتملها التصرفات الجزئية، والشاهد في ذلك مسألة العلج على ما ستأتي مشروحة -إن شاء الله عز وجل- في دلالته على القلعة.
والذي يحقق هذا أن حكم الجعالة أن المستعمَل المجعول له [له] (1) الخيار في ترك عين [العمل] (2) ، فإن حكمنا بأن هذه المعاملة جعالة، لزم أن يجوز للمشركين بعد الوقوف في الصف أن ينصرفوا أو يتركوا العمل، وهذا الذي جوّزناه يُفضي إلى خَرْمٍ عظيم، لا سبيل إلى احتماله، فلا وجه إلا حمل المعاملة على الإجارة، واحتمال ما فيها من الجهالة.
وقد يرد على هذا الكلام سؤال وجواب عنه، وهو أن أهل الذمة لو حضروا بإذن الإمام (3) ، ثم أرادوا الانصراف بعد التقاء الزحفين، فالرأي أنهم يمنعون من ذلك لما فيه من الضرار، وإن لم يكونوا من أهل الجهاد، لا إذا كان فرضاً على الكفاية، ولا إذا تعين. ولكن سبب منعهم من الانصراف ما في ذلك من النكاية في المسلمين، فلا يبعد حمل المعاملة على الجعالة، حتى يحتمل مافيها من الجهالة، ثم يمتنع انصرافهم لما ذكرناه من امتناع انصرافهم لو خرجوا من غير جعل ولا أجرة إذا وقفوا في الصف.
11315- ولو أراد الإمام أن يستأجر عبيد المسلمين على الجهاد فهذا بناه الأئمة على أصلٍ. والترتيب فيه أنا إن جوّزنا للإمام أن يستأجر المسلمين الأحرار على ما صار إليه طوائف من الأصحاب، فيجوز أيضاً استئجار عبيد المسلمين.
وإن منعنا استئجار الحرّ المسلم، فاستئجار العبد خرّجه الحذّاق على الخلاف الذي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " الجعل ".
(3) بإذن الإمام: أي من غير عقد معه. فلا إجارة، ولا جعالة.(17/429)
حكيناه في أن العبيد هل يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام؟ فإن قلنا: يتعين عليهم، فهم إذاً من أهل القتال، فإذا وقفوا في الصف وهم مسلمون يتعين عليهم المصابرة ديناً، فيكون استئجارهم بمثابة استئجار الأحرار. وإن قلنا: العبيد لا يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد بان أنهم ليسوا من أهل الجهاد، حتى يفرض وقوع الجهاد عنهم إذا اصطف الحزبان، فاستئجارهم كاستئجار أهل الذمة.
11316- ومما يتعلق باستئجار أهل الذمة أن الإمام لو لم يستأجرهم، وأخرجهم قهراً، فقد أساء، فإذا كلفهم الخروجَ والقتال، فإنه يلتزم أجرَ مثلهم، فإن أخرجهم قهراً، كما وصفنا، ثم خلاّهم، فعليه أجرتهم من وقت الإخراج إلى وقت التخلية، ولا يضمن أجر مثله بعد التخلية إلى أن يعود إلى وطنه، لأن منفعته عادت إلى يده، فلئن كان يبغي الرجوعَ إلى وطنه، فليفعل ما بدا له.
ولو استسخر الإنسانُ حُرّاً، غرِم له مثلَ أجر منفعته، وإذا حبسه ولم يستعمله، ففي المسألة وجهان ذكرناهما في الغصوب، وليس ما ذكرناه من تخلية الكافر بمثابة الحبس؛ فإن الكافر غيرُ ممنوع عن التقلب بعد التخلية، بخلاف الحرّ المحبوس؛ فإن منفعته تفوت عليه، ومن قال: لا ضمان على حابس الحر، فمتعلّقه أن منفعته تَلِفَتْ تحت يده، ولم يتلفها عليه الحابس بالاستعمال والاستئجار.
11317- ومما أجريناه في قَسْم الغنائم، ونحن نعيده الآن: أن أهل الذمة إذا حضروا الواقعة بإذن الإمام، فيستحقون الرضخ، وإن حضروا بغير إذن الإمام، أو نهاهم الإمام، فلم ينزجروا، وحضروا، فللأصحاب اضطرابٌ في ذلك: والمسلك المرضي أنهم لا يستحقون الرضخ إذا لم يكن شهودهم وخروجهم بإذن الإمام، أو بإذن من إليه الأمر؛ فإنهم ليسوا من أهل الذب عن الإسلام، ثم إذا لم يكن إذنٌ، فلا فرق أن يحضروا من غير نهي وزجر، وبين أن ينهاهم صاحب الراية، فيشهدوا مراغمين.
ومن أصحابنا من قال: إذا شهدوا من غير نهي وزجر، ولا إذن، فلهم الرضخ؛ فإنهم بالعهد المؤبد صاروا على الجملة من أهل الدار، ولم يبد منهم تخذيل. حتى(17/430)
تردد هؤلاء الأصحاب في استحقاق المراغمين المزجورين. وهذه الطريقة ضعيفة.
والعجب أنا اقتصرنا عليها في قسْم الغنائم، ولم نذكر الطريقة الصحيحة، وقد أتينا بها الآن، وكتاب القَسْم وكتاب السِّير تتداخل فصولهما، فإذا ألفى الناظر نقصاناً في أحد الكتابين، فليدبّر ذلك الفصلَ من الكتاب الثاني.
11318- ولو قهر الإمام طائفةً من المسلمين، وأخرجهم إلى الجهاد، لم يستحقوا أجر المثل؛ فإنهم من أهل الجهاد، فالجهاد يقع عنهم، هكذا ذكره الصيدلاني وغيره، وهذا يدلّ دلالة ظاهرة على أن استئجار المسلمين على الجهاد غيرُ لازم، والعجب أن الصيدلاني قطع باستئجار المسلمين للإمام، ثم قال: لو أخرجهم قهراً، لم يلزم لهم أجر، ولو صح جواز الاستئجار، فالظاهر أنه لو أخرجهم قهراً، أدّى أجرَ مثلهم من المال الذي لا يؤدى منه الأجر المسمى، والله أعلم.
وإذا كان الجريان على الأصح، وهو امتناع حقيقة الاستئجار، فيطّرد على هذا أنه من سمى شيئاً للمسلمين، فهو تجهيز لهم وإمداد بالعتاد والزاد، فعلى هذا إذا قهرهم وأخرجهم لم يستحقوا أجراً.
قال الصيدلاني: لو عين الإمام شخصاً، وألزمه غسل الميت ودفنَه، فليس لذلك المقهور أجرٌ على عمله، وهذا الذي ذكره فيه فضل تدبر؛ فإنا نقول: إن كان لذلك الميت تركة، فأجرةُ من يتولى هذه الأعمال من تركته، فإذا قُهر شخصٌ والحالة هذه، استحق المقهور الأجر.
وإن لم يخلف الميت شيئاً، وكان في بيت المال متسع لتجهيز الموتَى، فيجب ذلك على الإمام من مال بيت المال، وإن لم يكن، فأراد الإمام أن يعين واجداً (1) ، فلا معترض عليه، وإذ ذاك يتجه أن يقال: لا أجر له.
وقد قدمنا أن الإمام لو عين طائفة، وأمرهم بالخروج للجهاد، لم يكن لهم أن يخالفوه، ثم هو في نفسه لا يلي شيئاً من أموره على الخِيرة العريّة عن الاجتهاد
__________
(1) واجداً: أي غنياً مليئاً ذا مال.(17/431)
والنظر، وإنما يتعين [غير] (1) المرتزقة إذا حَقت الحاقة، ومست الضرورة، [فإن لم] (2) تكن، اكتفى بإنهاض المرتزقة، فإنهم المستعدون لهذا الشأن.
11319- ولو أخرج الإمام أهل الذمة قهراً، أو حملهم على القتال، التزم لهم أجر المثل، كما ذكرناه، فإن أخرجهم قهراً، فلم يقفوا يوم القتال، فلهم أجر مثل الذهاب، وإن وقفوا ولم يقاتلوا، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لهم أجر الوقوف، قال: بدليل أنه يتعلّق به استحقاق السهم، ومنهم من قال: الوقوف ليس بعمل يتعلّق به الأجر، وإن كان يتعلق استحقاق السهم إذا صدر من أهله. والمسألة محتملة، فإن لم نجعل الوقوف عملاً نظر: فإن لم يكونوا تحت حبس المسلمين، فلا شيء لهم على مقابلة الوقوف. وإن كانوا محبوسين ممنوعين عن الانكفاف، فسبيلهم كسبيل الحرّ المحبوس الذي لا يستعمل، وقد ذكرنا الخلاف فيه.
ولو كان المخرَج قهراً عبيداً، فلهم أجرهم، وإذا حبسوا [على] (3) الوقوف ولم نر الوقوفَ عملاً، فحبس العبيد يوجب الأجرَ بخلاف أجر الحر.
11325- ثم اختلف أصحابنا في أن الإمام يبذل الأجر من أي مالٍ، يعني أجر المقاتلة؟ أما إذا قُهروا أو استُئجروا، فمن أصحابنا من قال: يُخرَج أجرهم من رأس مال الغنيمة، فإن أثر قتالهم تعلّق بحيازة المغنم، ومنهم من قال: يعطيهم الإمام من سهم المصالح.
11321 ثم إذا وضح أن الإمام يستأجر الذمي، فلو أراد واحد من المسلمين أن يستأجر ذمياً ليجاهد، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يجوز؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الجهاد، وليس لآحاد المسلمين التصرف بالمصلحة العامة. وهذا فيه احتمال عندنا تخريجاً على استئجار المسلم على الأذان، ولا فقه في انفصال أحد البابين عن الثاني
__________
(1) في الأصل: " عين ".
(2) في الأصل: " فلم ".
(3) في الأصل: " عن " والمعنى إذا أُرغموا على الوقوف.(17/432)
بثبوت الفرضية في أحدهما بعد ما تحقق استواؤهما في أن النيابة لا تتطرق إلى واحد منهما.
11322- ثم قال الشافعي: " ويبدأ الإمام بقتال من يليه من الكفار ... إلى آخره " (1) .
والأمر على ما ذكره. وقد صرح القرآن بها. قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ووجه المصلحة في ذلك ظاهر، ثم ظاهر الأمر أن ما ذكرناه على المعتاد الغالب، فإن لم يكن من الأقرب خوف، واقتضت الإيالة تجهيزَ جندٍ إلى الأبعدين لغائلة محذورة منهم. فعلى الإمام في ذلك ما يقتضيه الرأي، وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، وخلَّف بني قريظة، وهم على باب المدينة.
11323- ثم ذكر الشافعي باباً مترجماً بالنفير (1) ، ومضمونه تحقيق كون الجهاد من فروض الكفايات إذا كان الكفار قارّين، وهذا قد تقدّم مفصلاً، فلا حاجة إلى إعادة شىء من مضمون هذا الباب.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/182.(17/433)
باب جامع السير
11324- قال الشافعي في أول هذا الباب الذي ننتهي به: " القتال يختلف باختلاف المشركين، وهم قسمان: قسم ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان والنيران، وما استحسنوه، فهؤلاء نقاتلهم حتى نقتلَهم أو يسلموا، فالسيف عليهم إلى الإسلام. وهم المعنيون بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وإياهم عنى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " (1) .
وقسم من المشركين لهم كتاب، كاليهود والنصارى، أو شبهة كتاب كالمجوس، فهؤلاء نقاتلهم حتى يسلموا، أو يقبلوا الجزية. قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
ثم أجرى [الشافعي] (2) فصولاً قدمناها مستقصاة في قَسْم الغنائم، فلا حاجة إلى إعادة شيء منها، وإن جدّدنا تراجمها، لم يضرّ، فمنها أحكام الأسرى، وقد ذكرنا أن أمرهم مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى قَتْلَهم، قَتَلَهم، وإن رأى رَقَّهم (3) ، أرقّهم، وإن رأى منّ عليهم، وإن أراد، فاداهم، وإن أراد أن يحبسهم حتى يُخمِّر رأيه فيهم، وهذا في الرجال. والذراريُّ والنساء يُرقُّون بنفس السبي.
ثم ذكر بعد ذلك السَّلَب، وكيفية قَسْم الغنائم، والقول في الفارس والراجل،
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ... " سبق تخريجه.
(2) ر. المختصر: 5/183.
وهذا ليس نص الموجود في المختصر، بل فيه شيء من التصرف.
(3) رَقَّه: أي جعله رقيقاً، وضرب عليه الرق.(17/434)
وصحة القسمة في دار الحرب. والكلام في أن الأُجَرَاء والتجار والأسرى هل يستحقون السهمَ إذا حضروا الوقعة. وقد تقصينا جميع ذلك على أبلغ الوجوه في البيان.
فصل
قال: " ولهم أن يأكلوا ويعلفوا دوابهم ... إلى آخره " (1) .
11325- طعام المغنم فوضى (2) بين الغانمين، ينبسطون فيه على حسب الحاجة، ولا يوقف على القسمة، والأصل في الفصل ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء " (3) وروى عبد الله بن المغفل قال: " دُلّي جراب من جدار خيبر، فالتزمتُه، وفيه شحم ولحم، فأخذوني (4) أصحابي، فكنت أجاذبهم، ويجاذبونني، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراءنا يبتسم، ولم ينكر علينا " (5) وعن عبد الله بن عمر قال: " أصبنا في بعض الغزوات طعاماً وعسلاً، فأكلنا منه، ولم يُخَمَّس " (6) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/184.
(2) فوضى: أي شركاء فيه، يتصرّف كل واحد منهم في جميعه بلا نكير.
(3) حديث: عبد الله بن أبي أوفى " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء " قال ابن الصلاح في شرح مشكل الوسيط: " لم يُذكر في كتب الحديث الأصول، غير أن في سنن أبي داود عن ابن أبي أوفى: أصبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر طعاماً فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدارَ ما يكفيه " ا. هـ هذا. والحديث رواه أيضاً الحاكم، والبيهقي. (ر. شرح مشكل الوسيط (بهامش الوسيط) : 7/32، 33. أبو داود: الجهاد، باب في النهي عن النهى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو، ح 2704، الحاكم: 2/126، البيهقي: 9/60، التلخيص: 4/209 ح 2262، 2263) .
(4) كذا: على لغة أكلوني البراغيث.
(5) حديث عبد الله بن مغفل " دلي جراب من جدار خيبر وفيه شحم ... " في الصحيحين، ولكن ليس فيها قوله " فأخذوني أصحابي ". (ر. البخاري: الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ح 1353. مسلم: الجهاد والسير، باب جواز الاكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، ح 1772. التلخيص: 4/209 ح 2263) .
(6) حديث ابن عمر " أصبنا في بعض الغزوات طعاماً وعسلاً ... " رواه أبو داود، وابن حبان، والبيهقي. ورجّح الدارقطني وقفه (ر. أبو داود: الجهاد، باب في إباحة الطعام في أرض=(17/435)
والمعتمد في مقصود الفصل الأخبارُ، والذي تخيله العلماء من الأمر الكلي أن حاجات الغزاة تمس إلى الطعام، والغالب أنهم لا يَلْقَوْنَ في ديار الحرب أَسْوُقاً قائمة، فأطلق الشرع أيديَهم فيما يصادفونه من طعام المغنم، ينبسطون فيه على قدر الحاجة، والفقيه لا يلتزم طردَ معاني الأصول على حدود الأقيسة، وإنما يَنْظم فيها أموراً كلية.
ومقصود الفصل يتعلّق بأنواعٍ: أحدها - في جنس ما يجوز التبسط فيه، والآخر - في المكان، والآخر - في حدّ من يجوز له الأخذ.
أما الجنس، فالمعتمد أن يكون مقتاتاً أو يكون علفاً تستقلّ الدّواب به، كالشعير والتبن وما في معناهما، فأما الأدوية والعقرات (1) التي لا تستعمل إلا دواءً، فالأيدي مكفوفة عنها إلى أن تقسم؛ فإن مسيس الحاجة إليها تُلحق بالنوادر، حتى قال الأصحاب: لو مَرِض من الجند واحدٌ أو جمعٌ، فلا تصير الأدوية في حقهم كالأقوات والعلف. ولكن إنما يأخذونها بقسمةٍ أو بذل قيمة، كما لو مست الحاجة إلى الثياب وغيرها.
والمطعومات التي لا تعدّ للحاجات العامة ملتحقة بالأدوية كالسكّر، والفانيذ، وما في معناهما. وأما ما يطعم غالباً، وليس من الأقوات كالفواكه، ففي جواز التبسط فيها وجهان: أحدهما - يجوز لما روينا مطلقاً عن ابن أبي أوفى أنه قال: " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء ". والوجه الثاني - أنه لا يجوز؛ لأن الحاجة لا تتحقق فيها، ويمكن أن نفصل بين ما يتسارع الفساد إليه، ويعسر نقله، وبين ما لا يتسارع الفساد إليه.
فإذاً الأقوات والعلف محلُّ التبسط، والأدويةُ والأطعمة التي لا يعم أكلها في أعيانها ملتحقة بالثياب، وفي الفواكه التي يعم اعتيادها الخلافُ الذي ذكرناه، فأما الحيوانات، فما تيسّر من سوقها تساق، والغنم تذبح، والأصح أن مسلكها مسلك
__________
=العدو، ح 2701، ابن حبان، ح 4805، البيهقي، 9/59، التلخيص: 4/208 ح 2260) .
(1) كذا: " العقرات " وواضحٌ أن المراد بها أصول الأدوية، والمنصوص في المعاجم أن مفردها (عَقَّار) بوزن عطّار، وجمعها (عقاقير) .(17/436)
الأطعمة؛ فإن الأغنام في الشرع كالأطعمة الضائعة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأغنام الضالة، للسائل عنها: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ". وقال العراقيون: يجوز ذبحها وإن كان يتيسّر سوقها كما ذكرنا، ولكن هل يغرَم من ذبحها وأكلها قيمتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يغرَم كسائر الأطعمة. والثاني يغرم؛ لأنها لم تكن أطعمة في أعيانها، وإنما وردت الأخبار والآثار في أطعمة المغنم.
وهذا الوجه ضعيف، لأنه يمنع من تسليم جواز الذبح.
وقد نجز القول في الجنس.
11326- فأما الكلام في بيان الحاجة والتفصيل في التبسط، [فالغانمون] (1) يأخذون من الأطعمة أقدار حاجتهم إلى الكفاية التامة، أما الزيادة على الحاجة، فلا.
ولو كان لواحد منهم من الأطعمة والعلف المستصحب ما فيه كفاية، فله الأخذ من طعام المغنم أيضاً في أصل الوضع، فإن الأخبار لا تفسير فيها، وإنما مقتضاها كون الأطعمة فوضى بينهم، فإن قيل: ما معنى ما ذكرتموه من الحاجة ومن معه كفايته لا حاجة به؟ قلنا: الحاجة إلى الاقتيات والعلف قائمة، فله صرف طعام المغنم إليها، وإمساكُ ما معه.
ثم قال المحققون: إذا قل الطعام، وازدحم الجند، وقد يُفضي الازدحام إلى النزاع، فإذا استشعر قائد الجند ذلك، أثبت يده على الطعام، وقسمه -إذا قل الطعام- ْعلى أقدار الحاجات، ويقول لمن معه ما يكفيه: اكتف بما معك، ولا تزاحم أصحاب الحاجات من الجند، وإنما كنت تشاركهم فيه لو أشبع الطعامُ.
ثم قال الأئمة: تُرعى حاجة الأكل والعلف فحسب، فلو مست الحاجات للغانمين إلى توقيح (2) دوابّهم بالشحم الذي صادفوه، ففي المسألة وجهان: أظهرهما، وأصحهما - أن ذلك لا يجوز، ولا نزيد على الطعم والعلف، والتوقيح خارج من ذلك.
__________
(1) في الأصل: " والغانمون ".
(2) توقيح: من وقّح حافر الدابة: صلّبه بالشحم المذاب (المعجم) .(17/437)
ومن أصحابنا من قال: لا يمنع التوقيح؛ فإنه متصل بضرورة العلف. وهذا ضعيف غير معتد به، لأنه خارج عن التطعم والعلف، والأخبار فيها. وهو أيضاً نادر، وقد ألحقنا ما يطعم نادراً بالثياب، فما الظن بما لا يستعمل طعاماً. وهذا في التحقيق استعمال طعام في غير مطعم، ولأجل ذلك اختلف الأصحاب.
وقال الأئمة: لو ذبح الغانمون أغناماً ردّوا جلودها على المغانم، فإن أكلوا جلودها على لحومها سمطاً، فلا بأس، ثم ما يأكلونه، وينبسطون فيه غير محسوب على أحد، وكأن الشارع أضافهم (1) عليه.
وقال المحققون: لو أتلف واحدٌ من الغانمين شيئاً من طعام المغنم، ضمنه، وكان ما يبذله (2) مردوداً على المغنم؛ فإنه أتلف يوماً، ولم يستعمله في الجهة التي سوّغ الشرع استعماله فيها، وكان إتلافه بمثابة إتلاف الثياب وغيرها.
ولو أخذ بعضُ الغانمين ما يزيد على حاجته من الطعام، وأضاف عليه جمعاً من الغانمين، جاز؛ فإنه تولى تعبَ الإصلاح والطبخ، ورجع الطعامُ إلى الغانمين. ولو أراد أن يُطعم أجنبياً ليس من الغانمين، لم يكن له ذلك. وعلى الأجنبي الضمان، والمقدِّم إليه من الغانمين في حكم الغاصب يقدّم الطعام المغصوب إلى إنسان، ثم التفاصيل لا تخفى في علم الضيف وجهله.
11327- ولو أخذ بعض الغانمين شيئاً من الطعام، وأقرضه صاحباً له، فالأصح أن هذا الإقراض ليس بشيء؛ فإن الغانم لا يملك ما يأخذه وإنما له حق الانتفاع، والغانمون في أطعمة المغنم كالضيفان فيما قدّم إليهم، فليأكلوا، ويتمتعوا، فأما الإقراض والبيع، فلا مجيز له.
وذكر الصيدلاني وغيره من المعتبرين أن الإقراض يتعلق به حكم، فإن الآخذ مقدارَ الحاجة يصير أوْلى [به] (3) ، ويثبت له حق اليد فيه، وفائدة هذا الوجه أنه يطالبه بما
__________
(1) أضافهم عليه: أي جعلهم ضيوفاً واستضافهم.
(2) ما يبذله: أي ما يغرمه ضماناً لما أتلفه من طعام.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.(17/438)
أخذه أو بمثله، ما داما (1) في دار الحرب، فإن اتصل الجند بدار الإسلام -كما سنصف، إن شاء الله تعالى، القول في المكان- فالمستقرض لا يرد على المقرض شيئاً، فإنه انقطعت حقوق الغانمين عن الأطعمة بالتعلّق بدار الإسلام.
والإمام يأخذ من المستقرض على هذا الوجه الضعيف (2) ما استقرضه إذا كانت العين باقية، ثم إن أمكن ردُّه إلى المغنم، فعل، وإن تفرق الجند وعسر فضّ مُدٍّ من طعامٍ على مائة ألف، فقد قال الصيدلاني: الإمام يصرفه إلى خمس الخمس، عنى بذاك سهمَ المصالح، ويجعل كأن الغانمين أعرضوا عنه، وقيل: سبيله سبيل الفيء، وكأنه خرج عن حكم المغنم، وهذا ضعيف لا أصل له، إذ لو كانوا كذلك، لما وجب الرّد إلى المغنم إذا أمكن الردّ. وقد اتفق الأصحاب على وجوب ذلك.
فإذاً المذهب فساد القرض، وتفريعه أن المستقرض كالآخذ بنفسه، فإن أكله في دار الحرب، فلا تبعة، وإن بقي معه حتى تعلّق بدار الإسلام، فإنه يردّه إلى المغنم على تفاصيلَ سنذكرها إن شاء الله تعالى. والوجه الذي ذكره الصيدلاني أن للمقرض مطالبة المستقرض ما داما في دار الحرب، وهذا نص الشافعي: " فإذا خرج إلى دار الإسلام، فالردّ على الإمام " (3) إذا كانت العين قائمة، فأما إذا أُكل واستُهلك، وتعلقا بدار الإسلام فالذي قطع به كل محقق أنه لا يطالَب المستقرض بشيء. وإن كانت العين قائمة، وتيسّر الردّ إلى المغنم ردّ، وإن تعذّر، ففيه التردّد الذي ذكرناه.
فخرج مما ذكرناه أن تصحيح القرض لا يفيد إلا مطالبة المقرض المستقرضَ ما دام في دار الحرب، فأما العين إذا كانت قائمة ردّها أو ردّ مثلها من طعام المغنم، وكأنه ألزمه بالإقراض أن يحصّل من طعام المغنم ما يماثل ما أخذه، فإن لم يكن في المغنم غير ما أخذ، وقد أُكل الباقي، ردّ ما أخذ، وإن أتلفه، فلا طِلْبَةَ عليه، إذا لم يكن
__________
(1) ما داما: أي المقرض والمقترض.
ثم هذا في إقراضه غانماً آخر، أما غير الغانمين، فلا يجوز إقراضهم أصلاً، وإذا أقرض الغانم أجنبياً، وجب على المفترض ردّه إلى المغنم (ر. الروضة: 10/265) .
(2) الوجه الضعيف القائل بجواز المطالبة.
هذا. وقد عرض النووي الوجهين، ولم يرجح واحداً منهما.
(3) ر. المختصر: 5/184. وهذا معنى كلام الشافعي لا بنصه.(17/439)
في المغنم طعام، لأن حق [اليد] (1) لا يضمن بالقيمة، كما لو قتل رجل كلبَ (2) إنسان، أو أتلف عليه زبلاً.
ولو جاء بصاع من ملك نفسه، لم يأخذه المقرض، فإن ما جاء به ملك المستقرض، وما أعطاه لم يكن ملكَه، ومقابلة المملوك بغير المملوك لا تصح، فرجع الكلام إلى أن الإقراض يُلزم المستقرض ردَّ ما أخذ أو ردَّ مثله من طعام المغنم ما داما في دار الحرب، فإذا اتصلا بدار الإسلام، انقطعت التبعة بينهما.
11328- ولو باع واحدٌ من الغانمين صاعاً من طعام المغنم بصاع منه، فالقول في البيع كالقول في القرض. والوجه القطع بفساد البيع؛ فإنه تعاطٍ وتبادل كما يفعله الضيفان، فيسلم ضيفٌ لقمة إلى صاحبه، ويأخذ لقمة، ولا مؤاخذة، وعلى حسب هذا قيل: إذا تبايع الغانمان بما أخذاه صاعاً بصاعين، فلا بأس بذاك، وهو تبادل وليس بتبايع.
والصيدلاني لما ذكر في القرض ما ذكره، وعزاه إلى النص، قطع في البيع بأنه ليس بيعاً على الحقيقة، وشبه صورة البيع بما ذكرناه من التعاطي الجاري بين الضيفان، ثم ذكر فصل القرض على ما حكيناه.
وهذا تناقضٌ بيّن؛ فإن القرض إن كان يُلزم أمراً، فالبيع يجب أن يُلزم أحدَهما [أن يردّ] (3) صاعاً إلى صاحبه [لا] (4) بجهة البيع، [فلو امتنع] (5) الآخذ من ردّ صاع، [فيجب تنزيل هذا] (6) منزلةَ القرض في إثبات المطالبة، هذا لا بدّ منه إن صح القول في القرض، وإن طردنا القياس، أفسدنا أثر البيع والقرض جميعاً، وهو الذي قطع به
__________
(1) في الأصل: " السيد ".
(2) يضرب الكلب والزبل مثالاً لما تثبت عليه اليد، ويختص به صاحبه، ولكنه لو أتلف لا يضمنه المتلف بالقيمة.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) في الأصل: " وامتنع ".
(6) عبارة الأصل: " فيجب على تنزيل هذا ".(17/440)
القاضي ومعظم المحققين. نعم. لو باع صاعاً بصاعين، وفرعنا على تنزيل البيع في إثبات حكم المطالبة في دار الحرب منزلة القرض، ففي هذا تدبّر، فإن سلم صاعاً لم يملك إلا طلبَ صاعٍ تشبيهاً بالقرض، وإن بذل صاعين، لم يطلب إلا صاعاً، ويحمل الزائد على البذل، فإنه لم يقصد ببذله إلزام عوض في مقابلته، هذا هو الممكن.
والتفريع محيط على الأصل الخارج عن الضبط والقياس (1) .
11329- ومما نتكلم فيه المكان: فالجند ما داموا في دار الحرب ينبسطون في الطعام لما ذكرنا، وإن تعلّقوا بأطراف عُمران الإسلام، وتمكنوا من شراء الطعام والعلف، كفوا أيديهم، وإن تعلقوا بأطراف دار الإسلام، ولا عمارة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنهم لا ينبسطون؛ فإن الرخصة تثبت في دار الحرب لا غير والثاني - أن التبسط جائز لدوام الحاجة.
ولو كانوا يجدون في دار الحرب ما يشترون من الأطعمة، فلم أرَ أحداً من الأصحاب يمنع التبسط بهذا السبب، ونزّلوا دار الحرب في أمر الطعام منزلة السفر في الرخص، فإن الرخص، وإن ثبتت في مقابلة مشقات السفر، فالمترفّه الذي لا كلفة عليه يشارك المشقوق عليه في سفره، فهذا ما يجب القطع به، إلا أن يدخل الجند في بلاد مضافة إلى الكفار يقطنها أهل الذمة والعهد، لا يشاركهم في المساكنة مسلم، فإذا كانت هذه الدار في قبضة الإسلام، وكان أهلها ملتزمين أحكامنا، فهي بمثابة ديار الإسلام في الحكم الذي نطلبه.
__________
(1) ولعل من المناسب أن نذكر عبارة الغزالي في البسيط عن هذه المسألة، قال رضي الله عنه: " فأما إذا جرى بيع صاع بصاع مثلاً من طعام المغنم، فلا ينعقد البيع؛ إذ لا تملّك، والصحيح أنه لا حكم له كما في القرض على الظاهر.
وقطع الصيدلاني في البيع بالبطلان، وفي الإقراض بإثبات حكم، وهو تناقض، بل ينبغي أن يقال: بيع الصاع اقتراض من كل وجه يستعقب من اللزوم ما يستعقبه الإقراض؛ حتى لو باع صاعاً بصاعين لم يطالِب إلا بصاع واحد، فإنه في حكم القرض، ولو باع صاعين بصاع لم يطالِب إلا بصاع واحد؛ فإن الصاع الآخر بذله من غير قصد العوض " (البسيط: 5/ورقة: 163 شمال) .(17/441)
وإن كان الكفار معنا في مهادنة، [ولا] (1) يستسلمون لأحكامنا، ولكنهم لا يؤذون من يطرقهم من المسلمين، وقد لا يمتنعون عن المبايعة والمشاراة، فإذا كان كذلك، فالأظهر وجوب كف اليد عن أطعمة المغنم إذا ظهر التمكن من تحصيل الطعام، وإن لم تكن ديار المعاهَدين المستمسكين بالهدنة مَعْزيّة (2) إلى ديار الإسلام.
وإذا أخرجنا (3) ديار أهل الذمة، وديار المعاهدين، فنعتبر (4) بفَصْل طروقنا ديار الكفار، وهم يختلطون بنا في المعاملة، ولا عهد ولا أمان، [فما ذكرناه] (5) من تصوير وجود الطعام عسر، فإن أمكن ولم يكن عهد، فجوابه ما قدّمناه.
11335- ومما يتصل بتتمة الفصل أن الغانمين إذا تعلّقوا بديار الإسلام وحرم عليهم ابتداء الأخذ، فلو كان معهم فضلاتٌ من الطعام التي أخذوها في دار الحرب، فهل يلزمهم ردّها؟ فظاهر المذهب أنه يلزمهم الردّ، وحكى الصيدلاني وغيره قولاً عن سِيَرِ الأوزاعي أنه لا يلزم الرّد، فإنه بقيّةُ مأخوذٍ على سبيل الإباحة، فلا يُمنع. فانتظم قولان: أحدهما - وجوب الردّ، والثاني - أنه لا يجب الردّ. وكان شيخنا يفصّل بين ماله قدرٌ وقيمة، وبمثله احتفال، وبين كَسْر الخبز ونَفَض السُّفَر (6) ، وبقايا الأَتْبان في المخالي، ويقول: القولان في هذه الأشياء، فأما ما يُقصد، وينتحى، فمردودٌ وفاقاً، وغيره من الأئمة لم يفصّل هذا التفصيل.
وأنا أقول: إن حمل الغازي من الطعام ما يغلب على الظن مع السير الدائم وتواصل التناقل أنه يفضل منه شيء عند الاتصال بدار الإسلام، فهذا مردود، وليس له حكم الفضلات.
__________
(1) في الأصل: " فلا ".
(2) معزيّة: من عزا يعزي؛ فالفعل واوي ويائي.
(3) أخرجنا: أي استثنينا كما هي عبارة الغزالي.
(4) فنعتبر: أي نقيس على ما قلناه في فصل طروقنا ديار الكفار.
(5) في الأصل: " مما ذكرناه ".
(6) الكَسْر بفتح وسكون: النزر اليسير، والنَّفَض: بفتح النون والفاء: المنفوض بمعنى ما يتساقط من الشيء عند نفضه. (ر. اللسان. والمعجم) ويمكن أن يُضبطَ الكِسَر (بكسر الكاف وفتح السين) : جمع كِسْرة.(17/442)
وإذا بانت الصور، فالخارج منه: أن [ما] (1) ينفصل عن المحمول الذي يبعد مسيس الحاجة إليه في دار الحرب- مردود، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف، وما يفضل عن محمول لا يبعد [استيعاب] (2) أكله في دار الحرب، فإذا اتفق الفضل، فهذا محلّ التردد، ثم للأصحاب طريقان: منهم من أجرى القولين وإن كان الفاضل بحيث يقصد إذا كان على الحدّ الذي ذكرناه، ومنهم من خصص [بالفُتات] (3) والكَِسر، وإذا ضممنا التردد في محل القولين إلى أصل وضعهما، انتظم من المجموع ثلاثةُ أقوال: أحدها - الرّد، والثاني - أنه لا يردّ. والثالث - أنه يفصل بين ما يفضل، وبين النَّفَض والكِسر.
ثم إذا أوجبنا الرد، فإن كان ذلك قبل قسمة الغنائم، فالفاضل مردود إلى المغنم، ثم القسمة توصل كلَّ ذي حق إلى حقه. وإن قسمت الغنائم، وأمكن فض فاضل الطعام على نسب القسمة، فعلنا، وإن تفرق الغانمون، وعسر فضُّ هذا الفاضل النزر عليهم، فقد قال الصيدلاني: من أصحابنا من قال: هو مردود إلى سهم المصالح، وهذا فيه غفلة؛ فإن إخراج الخمس منه ممكن، وإنما هذا في الأربعة الأخماس، ثم ينقدح فيها الخلاف الذي ذكرناه [في] (4) الإقراض.
ويبين بهذا أن استرداد العين من المستقرض إن كانت باقية في يده كيف يقع؟ وما سبيله؟ وحاصل ما تحققتُه وجهان: أحدهما - أن حكم الاستقراض ينقطع بالتعلّق بدار الإسلام، ويصير المستقرض كآخذٍ لنفسه طعاماً إذا فضل منه شيء، ثم تخرج فيه الأقوال على تفاصيلها، ومن أصحابنا من قال: إذا كانت العين باقية في يد مستقرضها، فهي مستردّة قولاً واحداً؛ فإنه ما أخذ الطعام على حكم تبسط الغزاة، فإن استرددنا منه المستقرَض التقى التفريع على ذلك، والتفريعُ على فاضل طعام الغازي إذا لم يستقرض.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " استباق ".
(3) في الأصل: " القتال ".
(4) زيادة من المحقق.(17/443)
فرع:
11331- إذا لحق الجندَ مددٌ بعد انجلاء الحرب، وحيازة المغنم، فهل يشتركون في أطعمة المغنم حتى يتبسطوا فيها تبسط الغانمين؟ فيه وجهان لا يخفى على من أحاط بالأصول توجيههما.
فصل
قال: " وما كان من كتبهم فيه طبٌّ ... إلى آخره " (1) .
11332- الكتب المباحة في الإسلام، ككتب الطب والحساب، وما يحل تعلّمه- سبيلها سبيل سائر الأموال تقسم بعد التخميس على الغانمين، وأما الكتب المحرمة، فقد مثلها الأصحاب بكتب الشرك والهُجْر من الأشعار، ثم قالوا: إن تمكن الانتفاع بأوعيتها، مُحي ما لا يجوز تركه، وردّت الجلود والأوعية إلى المغانم، وإن لم يكن عليها جلود ينتفع بها، ولا أوعية، فسبيلها أن تمحى، وإذا كان لا يتأتى محو ما فيها إلا بالتمزيق والإحراق، فعلنا ذلك، ولم نتركها في أيدي الناس. هذا ما ذكره الأصحاب.
وفيه بقية نظر على المتدبّر، فأما الهُجر والخنا والفحش الذي لا خير فيه، فالأمر على ما ذكره الأصحاب، وأما كتب الشرك، فقد يخطر فيها للفطن أنها يُنتفع بها، على معنى أن الحاجة تمس إلى الاطلاع على مذاهب المبطلين، حتى إذا عرفت، اتجه الردّ عليها بمسالك الحق، فإن كانت تلك المقالات مشهورة، فالرأي إبطالها، وإن كان فيها ما لم يتقدم الاطلاع عليه، ففيه تردد واحتمال بيِّن.
11333- ثم قال الأصحاب: المباحات في دار الحرب كالحطب والحشيش والصيد سبيلها كسبيل المباحات في دار الإسلام، فهي لمن أخذها، وإذا كنا نقضي بأن الحربي إذا اصطاد من ديار الإسلام، يملك ما اصطاده، فلا يخفى أن ما يأخذه [المسلم] (2) يملكه، والقصد بإيراد الفصل في هذا المكان، قطعُ ظن من يظن أن
__________
(1) ر. المختصر: 5/184.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(17/444)
ما يؤخذ من الأموال المباحة بمثابة المغانم، لأنه لا يتصوّر الوصول إليها إلا مع الاستظهار بعُدّةٍ (1) ، فقد يحسب الناظر أن سبيل المأخوذ كسبيل الغنيمة، أو كسبيل الفيء، وليس كذلك؛ فإن المغنم والفيء ما كان ملكاً لأهل الحرب، فأظهَرَنا [الله] (2) عليه، إما بقتال، أو برعب من غير إيجاف خيل وركاب، والمباحات هي التي لم يتعلّق بها ملك.
ثم قال الأئمة: إذا وجد في الصيد ظبية مقرّطة، أو مقرطقة، والمقرط الذي جعل في أذنه القرط، والمُقَرْطَق هو الذي جُزّ صوفه على علامة كالقَرْطَق (3) ، فنعلم أن هذه الظبية مملوكة لمن صادها (4) ، فإذا وجدناها في دار الحرب، فقد تساهل الأصحاب، وقالوا: سبيلها كسبيل الغنيمة. وهذا يجيء على مذهب المسامحة، فإن كل ما يؤخذ من أملاك الكفار لا يكون غنيمة، بل المغنوم ما يؤخذ قهراً بقتالٍ ومكاوحة، وقصدٍ ودفع، وما يتفق الظهور عليه من غير مناوشة وقتال، فسبيله سبيل الفيء.
والغرض مما نذكره يبين بتفصيلٍ:
فنقول: كل ما لو وجد في دار الإسلام، لكان لقطة، فإذا وجد في دار الحرب، فهو مُجرى على ملك الكفار، ثم أخذه يتصوّر من ثلاثة أوجه: أحدها - المغالبة، فما كان كذلك، فهو غنيمة، والآخر - أن يجري انجلاء الكفار عنه بإرعاب وإرهاب من غير إيجاف خيل وركاب، فما كان كذلك، فهو فيء، والثالث - أن يتفق أخذه من غير إرهاب، ولا قتال، وفي هذا القسم فضل تدبّر؛ فإن الأصحاب أجمعوا على أن من دخل دار الحرب مستخفياً وسرق شيئاً، فإنه يختص بما أخذه، وهذا مما ليس غنيمة ولا فيئاً خصصناه لصاحب اليد.
__________
(1) المراد عُدة الصائد وجهده، فلا يدخلن الظن من هنا أنه غنيمة.
(2) زيادة من المحقق.
(3) القرطق: مثال جعفر، ملبوس يشبه القَباء. وهو من ملابس العجم (المصباح) وكانوا يجزون الصوف على هذه الهيئة علامة على أن هذا صيد مملوك. قاله الغزالي في البسيط: 5/ ورقة: 162 يمين.
(4) لمن صادها: المراد لمن صادها سابقاً.(17/445)
وعلى هذا القانون نقول (1) : إذا وجدنا في دار الحرب مالاً ضائعاً، ولم نفرض فيه انجلاء كافر، وهو أن يكون الوصول إلى مكان ذلك المال ممكناً من غير عُدّة، [فهو لصاحب اليد] (2) فإن لم يكن الوصول إليه ممكناً إلا بعدة، فالمأخوذ فيء؛ فإن قاعدة الفيء إما يؤخذ بقوة الجند أو بقوة الإسلام، من غير لُقيان قتالٍ، وما أخذنا بالقتال من أيدي الكفار، فهو غنيمة، وما ثبت عليه اليد من غير عُدّة، ولا قتال، ولا استنادٍ إلى قوة الإسلام، فذاك يجب أن ينحى به نحو السرقة.
وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في الفيء، ومعناه في قَسْم المغانم والفيء.
وتمام البيان في ذلك أنا إذا وجدنا مالاً ضائعاً على هيئة اللقطة، فلا نأمن أن يكون فضل عن المسلمين، فينبغي أن تُنشدَ الضالة، فإن عرفها مسلم، فهي لقطة مردودة عليه على الشرط المعروف في كتاب اللقطة. وإن لم يدّعها مسلم، والدار دار الحرب، فالكلام على التفصيل الذي ذكرناه. ثم إذا كنا لا نعرف في ديار الحرب مسلماً سوى الأجناد، فيكفي أنها تعرّف إليهم، ولا نؤاخذ بتقدير طروء تاجرٍ؛ فإن ذلك يطول. فإن كان وراء هذا المنتهى بقية، فلا شك أني استقصيتها في كتاب اللقطة.
فصل
قال: " ومن أُسر منهم، فإن أشكل بلوغهم ... الفصل " (3) .
11334-[تقدّم] (4) القولُ في الأسرى وحكم الإمام فيهم واجتهاده في المن والفداء والقتل، والإرقاق، والفرق بين الذراري والنسوان، والمقاتلة، وأوضحنا أن الإمام إذا رأى قتل الرجال واستئصالَهم بالسيف، فمن وجده بالغاً، قتله، ومن استراب في
__________
(1) في الأصل: وعلى هذا القانون أن نقول.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) ر. المختصر: 5/184.
(4) في الأصل: " تفصّل ".(17/446)
أمره أمر بالكشف عن مؤتزره، فمن أَنْبت منهم قتله (1) ، وذكرنا في كتاب الحجر تردّدَ الأصحاب في أن الإنبات عينُ البلوغ أوْ أمارةُ البلوغ.
وقال الأئمة: نبات اللحية وشعر الإبط بمثابة شعر العانة، وإنما نكشف عن المؤتزر، إذا عدمنا شعر اللحية والإبط، وهذا متجه، ولكن اخضرار الشارب ما أراه معتبراً، والصُّدغ (2) المعدود من شعر الرأس لا يشك أنه لا تعويل عليه، والعِذار المقابل للأذن من اللحية، وإذا خشن شعر الشارب كما (3) طرّ، فهو كاللحية، وإن تزعم (4) [عند الكشف] (5) عن مؤتزره أنه استعجل بالمعالجة الإنبات، فإن جعلنا الإنباتَ عينَ البلوغ، لم ينفعه هذا، وإن جعلناه علامة البلوغ، فالمستعجَل منه لا يدلّ على البلوغ، ثم القول قوله مع يمينه، وهذه اليمين متضمنة للإثبات، وهي على خلاف قياس الأيمان (6) ، ولكن حقن الدم غالب، ولذلك حقنا دم المجوسي بالجزية، وإن لم نناكحه ولا نستحل ذبيحته، وجميع أحكام الأسرى قدمناها مستقصاة في القَسْم.
وهذا الطرف الذي ذكرته في الإنبات والاستعجال أحلته ثَمَّ على هذا الكتاب، وقد وفّيتُ به، وتمام حكم البلوغ مذكور في كتاب الحج.
__________
(1) تقدم ذلك في قَسْم الفيء والغنائم.
(2) الضُّدغ: ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن، ويسمى الشعر الذي تدلى على هذا الموضع صدغاً. (المصباح) .
(3) كما بمعنى: عندما.
(4) تزعّم: تكذب، (المعجم) .
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) فإن قياس الأيمان للنفي، وهذه لإثبات الاستعجال.
ثم قد استشكل تحليف من يدعي الصبا، فقال بعض الأصحاب: اليمين احتياطٌ، أو استظهار، وقال الجمهور: لا بد منها؛ لأن الدليل الظاهر موجود. (ر. الروضة: 10/243) .(17/447)
فصل
قال: " إذا التقوا العدوّ، فلا يولُّوهم الأدبار ... إلى آخره " (1) .
11335- إذا تعارض الصفان، وتلاقى الجندان، وقابل كل مسلم من الكفار اثنان، فالفرار يحرم، وكان الأمر في الابتداء شديداً، كما اقتضاه قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65] ، فكان يجب على الواحد أن يقف لعشرة، فعظم هذا واشتد احتماله، فخفف الله تعالى عن المسلمين، وقال تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] ، فاستقر الشرع على مصابرة الواحد لاثنين، والعشرة لعشرين. هذا هو الأصل.
والفرار وعدد الكفار غير زائد على الضعف مع إمكان المصابرة من الكبائر، وقد توعّد الله تعالى عليه بالوعيد الشديد، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ... } الآية [الأنفال: 16] .
ولو التقى جمع من المسلمين بجمع من الكفار، وكان الكفار من الأبطال المنعوتين، وغلب على الظن أنهم يقتلون المسلمين لو صابروا، ولم يولّوا، فهل لهم أن يفرّوا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن لهم الفرار؛ فإن ما في هؤلاء من الأَيْد والنجدة يَبَرُّ معنىً على زيادة الأعداد -ولو زاد عدد الكفار على الضِّعف، لجاز الفرار- من حيث يُغَلِّب (2) الغلبة، لا من حيث صورة العدد.
وإن زاد عدد الكفار على الضعف، وغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام، وإن لم يغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام لظاهر الحال، وهو الذي يغلب عليه سياق الآية المشتملة على التخفيف. ولو غلب على الظن أنا نغلبهم، بأن كنا أبطالاً، وكانوا مستضعفين، فظاهر المذهب، وجوب المصابرة؛ فإنَّ فرار الرجال الأبطال من الضعفة، وإن زادوا على الضعف، ولا حاجة إليه- ذلٌّ، وليس هذا كفرار
__________
(1) ر. المختصر: 5/185.
(2) أي يغلِّب ما في هؤلاء من الأيد والنجدة الظنّ بغلبتهم.(17/448)
المسلمين من أبطال الكفار، وعددهم غير زائد على الضعف؛ فإن الحاجة ماسة، ولا ذلّ في الفرار منهم.
وتمسك بعض الأصحاب بصورة العدد، واعتبار الغلبة، وجعلها وجهين، وقال: من اعتبر العدد، جوّز للمائة من أبطال المسلمين الفرار من مائتين وواحدٍ من الكفار، وإن كانوا مستضعفين بالإضافة إلى المسلمين، نظراً إلى العدد؛ فإن اتباع صفات الرجال عَسِرٌ، سيّما في القتال. ومن اعتبر غلبة الظن في الغلبة، قال: ليس لأبطال المسلمين أن يفروا، وإن زاد عدد الكفار على الضعف، إذا غلب الظن في الغلبة، وللمسلمين أن يفروا، وإن لم يزد عدد الكفار على الضعف إذا استشعروا من أنفسهم الضعف.
وهذا الترتيب غير مستحب، والأولى أن نقول: ليس لأبطال المسلمين الفرار من الكفار، وإن زادوا على الضعف إذا غلب على الظن غلبةُ المسلمين. وهل للمسلمين الفرار إذا قابلهم أبطال الكفار، وغلب على الظن غلبتهم، ولم يزيدوا على الضعف؟ فعلى الخلاف المقدّم.
11336- ومما يتصل بذلك أن الكفار لو لاقَوْا المسلمين وليس مع المسلمين سلاح، والكفار شاكون وعددهم غير زائد على الضعف، فإن لم يكن في موضع الالتقاء حجارة، جاز الفرار، وإن كان في الملتقى حجارة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يجوز الفرار، ويجب مقاومتهم بالحجارة.
والثاني - يجوز الفرار؛ فإن الحجارة لا تقابل السيوف البواتر والرماح. ومنهم من قال: إن كانت معهم مقاليع، لزمهم المصابرة، وإن لم يكن، جاز الفرار. [و] (1) هذا التردد خارج عندي على الأصل المقدّم، وذلك أن المسلمين إذا عدموا الأسلحة والكفار شاكون في السلاح، فالغالب غلبة الكفار، والغالب أن الأحجار لا تقابل [الحديد] (2) ، فهذا يخرج على القاعدة المقدمة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " بالحديد ".(17/449)
ويتصل بهذا المنتهى أمرٌ هو تمام الغرض، وهو أن المسلمين إذا علموا أنهم ولو صابروا لم يُنكوا في الكفار، فلا خلاف في جواز الفرار هاهنا، فانه ليس في الوقوف إلا الاستقتال، وليس يرجع إلى الإسلام من هذا قوةٌ ونُصرة، وإنما التردد فيه إذا غلب على الظن غلبة الكفار، وقد يغلبون، وهذا أصل. قلنا: إذا لم يجدوا الحجارة أصلاً، فإنهم مِزعٌ بين السيوف البواتر، فوقع القطع هاهنا بالفرار.
وتمام غرض الفصل في نجازه.
11337- ثم إذا منعنا الفرار وحرَّمناه، فلا يمتنع التحرف للقتال، والتحيز إلى فئة المسلمين، كما قال تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] ، وأما التحرف للقتال، فمعناه أن يَلقى الكافر مسلماً في الصف، ويكون المجال ضيقاً على المسلم، فرأى في تدبير القتال أن يولّي الكافرَ ظهره ويستجرّه إلى فضاء ومتسع، حتى إذا اتسع مجاله عَكَر (1) عليه، فله أن يفعل ذلك. وكذلك لو تحرّف من الميمنة إلى الميسرة لرأيٍ يراه، فهذا معدود من التحوّل في القتال، وليس من الهزيمة في شيء وتصويره بيّن، وتعليله واضح.
11338- وأما التحيز، فإنه يرجع إلى القصد وهو متصل بفرار محقق، والتحرّف ليس فراراً، وإنما هو مداورة في القتال.
ثم اختلف طرق الأئمة في التحيز -وهذا من أهم ما يجب الاعتناء به- فذكر الصيدلاني وصاحب التقريب وشيخي وأئمة العراق أن من ولّى، وقصد أن يتحيز إلى فئة، ويستنجد بهم، ويعود إذا عادوا، ففراره على هذا القصد لا يكون معصية، ولا فرق بين أن يكون بين تلك الفئة التي قصد التحيز إليها على مسافة شاسعة، وبين أن تكون قريبة من المعترك، وقال عمر بن الخطاب، وهو في دار الهجرة، يعني مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى الذي نحن فيه: " أنا فئة كل مسلم " (2)
__________
(1) يعكُر عليه: من عكر يعكُر عكراً وعكوراً: عطف ورجع.
(2) أثر عمر: " أنا فئة كل مسلم " رواه الشافعي (الأم: 4/171) والبيهقي في الكبرى: 9/77.(17/450)
وفي بعض التصانيف أن التحيز ينبغي أن يكون إلى فئة قريبة، وهذا هو الذي ذكره القاضي، وهذا كلامٌ مبهم.
وأنا أرى في هذا تفاوتاً واختلافاً بيناً بين الطرق، فنذكر ما فهمناه من معنى القرب على أقرب [معتبر] (1) . ثم نذكر معنى التسوية بين القريب والبعيد، فأما اعتبار القرب، فلا ينبغي [أن ينزّل على مسافة القصر] (2) ، فإن هذا لا أثر له في الغرض المطلوب، بل معنى القرب أن يكون على القرب من المعترك فئة من المرابطين، وجمعٌ من المسلمين ذوي النجدة والبأس، [بحيث] (3) يقدّر التحيزُ إليهم استنجاداً بهم [حتى يدركوا المسلمين وينجدوهم] (4) ، ولا يبعد أن يدركوهم والحرب قائمة.
هذا معنى التحيز إلى الفئة القريبة، وهؤلاء يقولون إذا بعدت الفئة، فليس التحيز إليهم استنجاداً في هذا القتال، وإنما هو تركُ القتال قصداً، وعزمٌ على الجهاد يوماً من الدهر إذا اتفق العود، ولو فتحنا هذا الباب فنسوغ مثلَه للجند بأجمعهم، وإن زادوا على عدد الكفار، وهذا يبعد على النسق الذي ذكرناه. وإذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي قد تلحق المعترك، فهذا قرين التحرف للقتال، وقد ذكر الله تعالى التحرف والتحيز في قَرَنٍ. هذا معنى القرب على هذه الطريقة.
ومن جوّز الهزيمة على قصد التحيز إلى الفئة البعيدة، فلا شك أنه فرار ناجز، وكان القصدُ في العَوْد بخلاف (5) المصابرة، ويبطل على هذا إطلاق القول بأن الجهاد يتعين المصابرة فيه، ولا حاصل لذكر الضِّعف والزيادة عليه.
ولكن يعترض في هذا شيء حتى لا يتسع الفتق، وهو أن تجريد هذا القصد ليس
__________
(1) في الأصل: " من اعتبره ". وما أثبتناه هو المعهود في لفظ الإمام، وهو المناسب للسياق.
(2) في الأصل: " أن ينزل " على ما يقصر على مسافة القصر.
(3) في الأصل: " فحيث ".
(4) في الأصل: " حتى يدرك المسلمين وينجدها ".
(5) بخلاف المصابرة: أي مكان المصابرة وبديلاً عنها.(17/451)
أمراً يمكن مخادعة الله فيه، ووقوع إبرام العزم على العود في النفس من غير تردد إلا في مشيئة الله تعالى لا يمكن تكلف تحصيله، فهؤلاء -من الأصحاب- سوّغوا الهزيمة إذا وجد المنهزم في نفسه العزمَ على العود، ولا بدّ من التفريع على الطريقتين حتى يتناهى وضوح كل واحدةٍ منهما.
11339- فأما من يجوّز الهزيمة إذا تحقق القصد في التحيز إلى فئة، فإنه يقول: لا يجب أن يشتغل بالعود والاستنجاد، ولا يتعين الاستبداد في ترشيح جمع، ولكن إذا اتفق الجمع، فهل يجب عليه الوفاء بالقصد الذي قدمه؟ هذا فيه نظر، فإن إيجابه وقد انتهى إلى أقصى الشرق أو الغرب في حكم القضاء لأمرٍ فات، وتصوير القضاء عسرٌ في الجهاد.
ومن ولّى الكفار دبره، وباء بغضب من الله، وتعرّض لأليم عقابه، لا يلزمه أن يعود إلى الجهاد، فكيف يلزم من قصد التحيز أن يحقق قصده؟ ومن نذر الجهاد، فسنذكر إن شاء الله تعالى أن النذر لا يؤثر في الجهاد على طريقة ظاهرة. وكذلك إذا نذر الصلاة على ميت، والقصد في العود لا يزيد على التصريح بالالتزام، ويعترض في هذا إشكال، وهو أن القصد إذا لم يجب الوفاء به في حكم اللغو الذي لا حكم له، فيجوز أن يقال: من فرّ متحيزاً، فحق عليه أن يعود إذا أمكن العود، ويجوز أن يقال: لا يجب ذلك، ولفظ الصيدلاني في مجموعه: " أنه متى فرّ على قصد أن يعود إلى الجهاد إذا وجد أعواناً وقوة، فليس بعاصٍ، وإنما العاصي من يفرّ على قصد ألا يعود، بل يعصي إمامه إذا أمره بالعود "، وظاهر هذا يدلّ على أن قصده لا يغير من أمره شيئاً، فإن الإمام مهما عين متمكناً من الجهاد، لزمه أن يمتثل أمره. وبالجملة المسألة محتملة، والاحتمال فيه ظاهر.
هذا إذا وقع التفريع على أن التحيز إلى الفئة البعيدة يحطّ مأثم الفرار، ووبال الهزيمة، فأما إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي يمكن منها إنجاد أهل هذه المعركة، فهذا في نفسه مفهوم، وليس فيه ما يبيح الفرار، ومن آثار هذه الطريقة أنه إذا لم يكن في القرب فئة ذات نجدة، فتجب المصابرة، ويحرم الفرار. ويتسق على هذا المذهب وجوب المصابرة في معظم الصور؛ فإن(17/452)
كون (1) الفئة القريبة ليس يعم بالنسبة إلى معركة القتال، بحيث يتوقع منها تدارك أهل المعركة.
ومما يجب الاعتناء به أنا إذا جوزنا التحيز إلى الفئة القريبة، فالذي أراه أن هذا إنما يجوز إذا استشعر المولِّي عجزاً من المسلمين مُحوجاً إلى الاستنجاد، فأما إذا لم يكن كذلك، وغلبهم غالب، فلا معنى للتحيز إلى فئة؛ إذ لا حاجة إلى التحيز، بل الحاجة إلى مصابرته أظهر، فإن انهزامه قد يُقلّ (2) الجند، فإن كان يبغي إنجاداً، فلا ينبغي أن يُنْجز خرماً رقيقاً قد لا يُتدارك.
والذي أراه أن التحيز إلى الفئة البعيدة لا بدّ فيه من هذا التفصيل؛ فإن المولِّي لو كان يغلب على الظن أن انهزامه -وإن قصد التحيز- يُقلّ الجند، ويقوي قلوبَ المشركين، وقد يؤدي الأمر إلى أن يتغشى الكفارُ المسلمين، فلا يجوز التحيز هاهنا.
والتحرّف للقتال إن جرّ مثل هذا، فلا يجوز أيضاً؛ فإن الإنسان قد يقصد التحرّف ثم لا يستمسك.
فهذا ما عندنا في هذا الفصل.
11340- ثم قال الأصحاب: المتحرّف للقتال مقاتل، وهو. [كالواقفين] (3) أو كالمبارزين، فلا شك أنه يشرك في المغنم، والمتحيز إن ولّى، ثم انهزم الكفار قبل أن يفارق المتحيز جند الإسلام، شارك في المغنم، ولو فارق الجند مولِّياً متحيزاً، [وانفض] (4) القتال بعد انفصاله، فهل يستحق من مغنم هذا القتال؟ فعلى وجهين.
هكذا ذكره الأصحاب.
وأنا أقول: إن كان يتحيز إلى فئة بعيدة، فلا يحل تخيل ذلك؛ فإنه منهزم قطعاً قبل الاستيلاء على المغنم؛ فيستحيل أن يشترك لقصده أن يعود بعد سنة؛ فإن ذلك
__________
(1) كون: أي وجود.
(2) يقلّ: بالقاف. من أقل الشيء جعله قليلاً.
(3) في الأصل: " كالموافقين ". وهو تصحيف قريب.
(4) في الأصل: " وانفصل ".(17/453)
العود والفئةُ بعيدة -[إن] (1) كان- لا تعلّق له بهذا القتال- فلا يجرى الوجهان إذاً إلا إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بفئة قريبة. فاذا فارق، ولم يتصل بالفئة، فأظفر الله المسلمين، وانفصل القتال، فإشراكه في المغنم محتمل؛ لأنه من وجه ليس بمحارب وليس كالمتحرّف المداور المخادع، ومن وجهٍ هو مستنجد، ثم [يتضمن حكم] (2) هذا الجند في هذا المقام ما ذكرناه، من تحريم الفرار مع استئثار التحرف إذا لم يزد الكفار على الضعف، ولم يغلب على الظن غلبتُهم، كما تقدم تفصيله.
فأما إذا جوزنا الهزيمة، فالمصابرة أولى أم الهزيمة؟ نُظر: فإن لم يغلب على الظن أن المسلمين يُغلبون، فالمصابرة أولى، وإن جازت الهزيمة. وإن غلب على الظن أنهم يُغلبون، فالأولى الهزيمة، وترك التغرير بالأرواح، وهل يجوز الثبوت؟ نظر: فإن كان في الثبوت الهلاك المحض، من غير نكاية في الكفار، فلا يجوز. وإن لم يبعد النصرة والظفر، ولو قُتل المسلمون، فهو بعدُ نكاية ظاهرة في الكفار، ففي وجوب المصابرة وجهان. ذكرهما العراقيون، وهذا منتهى القول في ذلك.
فصل
قال: " ونصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف المنجنيق ... إلخ " (3) .
11341- هذا الفصل يستدعي تقديم القول في نساء الكفار، وصبيانهم، وإنه هل يحرم قتلهم، فنقول: قتل نساء الكفار وذراريهم من غير أن يصدر منهم قتال، ومن غير غرض ظاهرٍ في القتال محرّمٌ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض الغزوات: " الحقوا خالداً، وقولوا له: لا تقتل ذرية، ولا عسيفاً، ولا امرأة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً مقتولة؛ فتغير لونه، وقال لمن بالحضرة:
__________
(1) في الأصل: " وإن ".
(2) مكان كلمتين استحالت قراءتهما.
(3) ر. مختصر المزني: 5/185.(17/454)
أتراها كانت تقاتل؟ " (1) فأبان أنها كانت تقتل إذا كانت تقاتل، وعند ذلك قال: " الحقوا خالداً ... " الحديث.
ثم تحريم قتل الكافرة والصبي الكافر ليس لحرمتهما؛ إذ لو كان ذلك كذلك، لوجبت الكفارة على قاتلهما؛ فإن حرمات النفوس تمتحن بوجوب الكفارة، فتحريم قتل النساء والذريّة، يتعلق بالاستصواب الراجع إلى طريق الإيالة؛ من جهة أن سبيهنّ وإرقاقَهن أجدى على المسلمين من قتلهن، والاشتغالُ بقتال الرجال أولى من الاشتغال بقتال النساء والصبيان.
وإن كان في [قتل] (2) النساء والصبيان من الكفار غرض ظاهرٌ في مقاصد القتال، نُظر: فإن لم يُقصدوا بأعيانهم، ولكن قُصدت القلعة بأسباب تعم آثارُها كالمنجنيق، وإرسال المياه، والرمي بالنيران، وما في معانيها، وكان لا يتأتى الفتح إلا كذلك، أو كان لا يتيسر إلا كذلك، والفتح بغير هذه الجهة يعسر ويطول، فيجوز التعلّق بهذه الأسباب. روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف " (3) ، " وشن الغارة على بني المصطلق، وفيهم النسوان والصبيان " (4) فخرج
__________
(1) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فتغير لونه وقال: " أتراها كانت تقاتل " وأنه قال: " الحقوا خالداً وقولوا له: لا تقتل ذرية ... " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه، والبيهقي، من حديث رباح بن الربيع (ر. أبو داود: الجهاد، باب في قتل النساء، ح 2669، النسائي في الكبرى: السير، باب قتل العسيف، ح 8571- 8573، ابن ماجه: الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان، ح 2842، أحمد: 3/488، ابن حبان: 4769، الحاكم: 2/122، البيهقي: 9/91، التلخيص: 4/192 ح 2215) .
(2) في الأصل: " قتال ".
(3) حديث " نصب المنجنيق على أهل الطائف " رواه أبو داود في المراسيل عن مكحول. ورواه الترمذي فلم يذكر مكحولاً وذكره معضلاً عن أبي ثور. قال الحافظ: ووصله العقيلي من وجه آخر عن علي. (ر. المراسيل لأبي داود ص 248 ح 335، الترمذي: الأدب، باب ما جاء في الأخذ من اللحية، تحت الحديث رقم 2762. التلخيص: 4/196، 197 ح 2223، 2226) .
(4) حديث شن الغارة على بني المصطلق متفق عليه من حديث ابنِ عمر رضي الله عنه (البخاري: العتق، باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفَدى وسَبى الذرية، ح 2541.=(17/455)
من ذلك، أنه إذا ظهر الغرضُ، وانضم إليه أن النسوان غير مقصودين بأعيانهم، فلا مبالاة بهم، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنبيّت بلد العدوّ وفيه النساء والصبيان "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم منهم " (1) .
11342- أما إذا تعلّق غرضٌ بقتال النساء، وكانوا مقصودين، فالمقصود يتفصل بصورٍ نعدّها. ثم نذكر بعدها روابط: فإن تترسوا بصبيانهم، ونسوانهم، وهم مقيمون على مقاتلتنا، وربما يزحفون إلينا؛ فنقصدهم ولا نبالي بإصابة الأسلحة النساءَ والصبيان.
وإن كانوا يدفعون عن أنفسهم، ولا يقاتلوننا، واتخذوا النساء والصبيان تِرَسَةً وجَنَناً (2) ، وكان لا يمكن قصد الرجال إلا بإصابة التِّرسَة، فقد ذكر الأصحاب قولين، واختلفوا في صيغتهما: فقال القاضي وطائفة: في جواز قتل النساء والصبيان قولان: [أحدهما - يجوز قصدهم، كما يجوز نصب المنجنيق، والثاني - المنع] (3) فإن المترّسين بهم ليسوا مقاتلين.
__________
=مسلم: الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، ح 3012) .
(1) حديث " أنبيّت بلد العدو وفيه النساء " متفق عليه من حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة (البخاري: الجهاد والسير، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري، ح 1730، مسلم: الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، ح 1745) .
(2) التِّرسة جمع ترس، والجنن: الساتر. (معجم) .
(3) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، على ضوء المعنى والسياق، واستئناساً بما قاله الرافعي في الشرح الكبير، وتمام عبارته: " لو تترسوا بالنساء والصبيان، نظر: ... وإن لم تكن ضرورة إلى الرمي والضرب، بأن كانوا يدفعون عن أنفسهم، واحتمل الحال تركهم. فطريقان: أظهرهما أن فيه قولين: أحدهما - أنه يجوز قصدهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة، وإن كان يصيبهم، وأيضاً لو امتنعوا بما صنعوا، لا تخذوا ذلك ذريعهَ إلى تعطيل الجهاد.
والثاني - المنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، ونحن في غنية عنه والحالة هذه، وهذا أصح عند القفال، وكذلك حكاه الروياني -رحمه الله- ويميل إلى ترجيح الأول.
والطريق الثاني - القطع بالجواز، وردّ المنع إلى الكراهة، ويحنر هذا عن أبي إسحاق، وقد تورع في حكاية الكراهة عنه، وذكر أن عنده يستحب التوقي عنه لا غير، ومن أصحاب هذه الطريقة من قال: في الكراهية قولان " (ر. الشرح الكبير: 11/397، 398) .(17/456)
[والطريق الثاني - القطع بجواز] (1) إصابة النساء والصبيان تذرعاً إلى قتل المترَّسين، وفي كراهية ذلك قولان.
وإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها - التحريم، والثاني - الجواز من غير كراهية، والثالث - رفع التحريم مع الحكم بالكراهية، ثم إن كرهنا في هذه الحالة، [فإن كانوا متحصنين في قلعة] (2) وأمكن فتح القلعة من غير سببٍ يعم النسوان والصبيان على يسير، فلا يحرم نصب المنجنيق، وفي الكراهية خلاف، ولعل الأوجه الكراهية، إذا كان الفتح متيسراً من غير هذه الجهات.
فانتظم مما ذكرناه تحريم القتل من غير غرضٍ ومقصد إذا كان القتل مقصوداً، ولا تحريم ولا كراهية إذا ظهر غرضٌ، ولم يتجرّد القصد، كما ذكرناه في نصب المنجنيق.
وإن قصدوا بالقتل وكانوا اتخذوا النساء في القتال تِرسَة، ولو تركناهم، لخفنا مكروهاً، فهاهنا لا بأس ولا كراهية، بل لو كنا نخاف مكروهاً، فيجب قتلهم.
وإن تترسوا في غيبر القتال دافعين عن أنفسهم، فهذا محلّ القولين، ثم في صيغة القولين تردد، ثم المنخول من الكلام الأقوالُ التي ذكرناها.
هذا هو الترتيب المرضي، وزاد شيخنا وصاحب التقريب مسلكاً آخر، فقال: لو تترس المتحصنون بالقلعة بالصبيان والنسوان، وتيسّر الفتح من غير رمي التِّرَسَة، ففي جواز قصد التِّرَسة قولان: أحدهما - الجواز منعاً لهم من هذه الحيلة، وأيضاً فإنهم أقاموهم أسلحة؛ فإن التِّرَسة من أقوى الأسلحة، فهم المغرِّرون بهم.
فإن قيل: ذكرتم الترس من غير قتال، ولم توضحوا تصوير ما تقولون في أصحاب القلعة إذا تترسوا، وكانوا لا يرموننا بسلاح، [هل] (3) القول يختلف؟ قلنا: نعم، هذه صورة القولين. فإن قيل: الفتح يعسرُ إذاً. قلنا: نعم، إذا كانوا لا يقاتلوننا،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهو متصل بالحاشية قبله.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: " إن ".(17/457)
وكان لا يتأتى الفتح إلا بقتل التِّرَسة، فنجاوز هذه القلعة، وتصوير هذا عسر؛ فإنهم إذا كانوا يقاتلون وراء التِّرَسة؛ فإنهم يقتحمون، وإن كانوا يقاتلون وراء التِّرسة، فلا عصام حينئذٍ، فقد اجتمع في هذه الصورة طريقتان متضادتان: إحداهما- أنهم إذا كانوا لا يقاتلون، فهل يجوز قتل النساء والصبيان؟ فعلى قولين. وإن كان الفتح لا يتأتى إلا بقتلهم. هذه طريقة. والأخرى على مضادتها، وهي أنا هل نقتلهم إذا كان الفتح يتأتى من غير أن يقتلوا؟ فعلى قولين. فهذا مجموع القولين في اختلاف الطرق.
وقد تمهد أصل المذهب في معنى تحريم قتل النساء والصبيان.
11343- ثم إن الأصحاب ذكروا على الاتصال بهذا الفصل كون المسلمين بين أظهر الكفار أو في قلاعهم، والتفصيل فيه إذا تترسوا بأسارى المسلمين، والغرض من هذا يبين بذكر صور سبقت أمثالها في أطفال المشركين ونسائهم:
فإن كان في القلعة التي نبتغي فتحها مسلم أو مسلمون، وكان فتحها لا يتأتى إلا بنصب المنجنيق، والأسبابِ العامة، نُظر: فإن كانت هذه الأسباب تنال المسلمين في القلعة لا محالة، فالوجه القطع بتحريم التمسك بهذه الأسباب.
وإن كان فيهم مسلم أو أعداد قليلون، وكان يغلب على الظن سلامتهم إذا كانوا متمكنين من التوقي، ففي جواز نصب المنجنيق والحالة هذه قولان: أحدهما - المنع لمكان المسلم، وخيفةِ إفضاء الرمي إلى إهلاكه، وزوالُ الدنيا أهون عند الله من دم مسلم. والثاني - أنه يجوز لغلبة الظن في السلامة والدارُ دار حرب، والكفار لا يعدِمون أسرى من المسلمين يبدِّدونهم (1) في القلاع، فيصير ذلك ذريعة إلى التحصّن عن جنود الإسلام.
هذا تفصيل القول فيه إذا لم يكن المسلم معرّضاً لأسلحتنا بمرأى منا ومسمع.
11344- وأما إذا تترس كافرٌ بمسلم، نُظر. فإن كان المتترس لا يبغي مقاتلتَنا، وإنما يبغي الدفع، فإن أمكن قصده مع توقي المسلم، قُصد برمحٍ أو سيفٍ، أو
__________
(1) يبددونهم: يفرّقونهم.(17/458)
غيرهما، مما يتمكن فيه الإنسان من وضعه حيث يشاء، وفي هذا احتراز عن السهم؛ فإنه غير موثوق به، وإن كان لا يتأتى قصد الكافر إلا بإصابة المسلم، فلا يحل إصابة المسلم، وإن كان الغرض مَنْ وراءه. هذا إذا كان المتّرِس غيرَ مقاتل.
وإن كان يقاتل وراء المسلم الذي يتّرس به، وعلم الواقف من المسلمين بإزائه أنه لو لم يقصد الترس، لزحف إليه الكافر، وأهلكه، فلا يحل -مع هذا التصوير- إصابةُ المسلم، والغايةُ المحذورة أن يقتل الكافر المسلمَ، وخوفُ الإنسان على نفسه لا يسلّط على قتل مسلم غيرِ جانٍ؛ ولهذا يحرم على المكرَه على القتل أن يقتل، فلو قَتَلَ في حالة [الترس كما] (1) صورنا، باء بالإثم.
والأصح أن في استيجابه القصاص قولين، كالقولين المذكورين في المكرَه، ففي أصحابنا من قال: يجب القصاص على الذي قتل المسلم [الذي] (2) يتّرس الكافر به قولاً واحداً، لأن فعل الكافر محطوط مرفوع من البَيْن؛ من جهة أن الخطاب منقطع عنه، فكان قتلُ المسلمِ المسلمَ مع ظهور الخوف بمثابة قتل المضطر مسلماً ليأكله؛ فإن السبب منحصر في القتل. والأصح طريقة القولين، ومن قطع بوجوب القصاص؛ فإنه يقول لا محالة: لو أكره حربيٌّ مسلماً على قتل مسلم يجب القصاص على المكرَه قولاً واحداً، وهذا بعيدٌ لا أصل له، ولا تعويل عليه.
11345- وتمام البيان في هذا يتعلّق بشيء ذكره العراقيون وذلك أنهم قالوا: التترس بالمسلمين إذا لم يكن عند التقاء الزحفين، فالتفصيل فيه كما ذكرناه، والصفوف قارّة في مقارّها، فأما إذا التف الصف بالصف، فتترس الكفار بأسرى المسلمين، وكان لا يتأتى مقاومة الكفار ما لم نُصب أسرى المسلمين، ففي جواز الإصابة منهم وجهان، ذكرهما العراقيون، وهذا يحتاج في تصويره إلى مزيد كشف، فما ذكروه فيه إذا كان الانكفاف عن الأسرى يُفضي إلى أن يُصطلم جند الإسلام، ثم يختل بانفلالهم ركنٌ عظيم، فهذا يتعلق بأمرٍ كلي، ولا يبعد أن نُجري الأمر في
__________
(1) في الأصل: " الضرورة بعدما ".
(2) سقطت من الأصل.(17/459)
أشخاصٍ من أسرى المسلمين على مساهلة وتهوين؛ إذ لو لم نفعل هذا، لجرّت الحالة خَرْماً عظيماً في أمرٍ كلي، وحفظُ الكليات أولى من حفظ الجزئيات.
فانتهض مما ذكرناه قسمان في التقسيم الأول: أحدهما - أن يكون المسلمون في القلاع، وقد فصلنا ذلك على بيان شافٍ، والقسم الثاني - فرضُ قتل المسلم إذا تترس به الكافر، وهذا ينقسم إلى فرض محصورين من الغزاة في مقابلة مترسين، ولو هلك الغزاة، لم ينخرم أمرٌ كلي، وإنما هو إتلاف أشخاص، وإبقاء أشخاص، فلا يجوز إصابة المسلمين على ما تفصّل، والآخر أن يُفرض التترس عند التفاف الزحفين، وكان بحيث لو ترك التعرض للتِّرسة، لخيف عليه اصطلام [الجند] (1) وانخرام أمر كلي، فهذا موضع التردد في جواز قصد المسلم، كما حكيناه عن العراقيين.
وقد نجزت قواعد الفصل، وأعاد الأئمة في هذا المقام فصولاً قدمناها في الجنايات والديات، ومهدنا أصولها، ونحن نجتنب المعادَ جهدنا، ولكني أرى إعادة تلك الفصول لترتيبٍ حسنٍ ألفيناه لصاحب التقريب.
11346- فنقول: ذهب صاحب التقريب إلى أن الغازي إذا رمى سهماً إلى صف الكفار في دار الحرب، فأصاب سهمُه مسلماً: نُظر. فإن لم يَعرِف أن فيهم مسلماً، فإذا فيهم مسلم، ولم يسدّد سهمَه إليه، ولكن [حاد] (2) السهم، ومال إليه، فأهلكه، فلا تجب الدية في هذه الصورة، وتجب الكفارة.
ولو علم أن فيهم مسلماً على الجملة، وسدّد سهمه نحوه (3) ، [فأطنه] (4) ، فمات، قال صاحب التقريب: تجب الدية في هذه الصورة قولاً واحداً، ولا يجب القود. ولو علم أن فيهم مسلماً ولم يقصده في عينه، وإنما قصد غيره، ولكن أصابه
__________
(1) في الأصل: " الحد ".
(2) في الأصل: " صاب ". وهو عكس المعنى المقصود.
(3) وهو لا يعلم أنه المسلم الذي في صفهم.
(4) في الأصل: " فطنّه "، ولم أجده متعدياً إلا بالهمزة. وأطنَّه: أي قطع ساقه (قاموس ومعجم) وهنا بمعنى قتله.(17/460)
سهمه، ومِنْ قَصْده (1) الكفار، فتجب الرقبة، وفي وجوب الدية قولان في هذه الصورة. هذا ترتيب صاحب التقريب، وهو حسن.
فإن قيل: أليس ذكر الأئمة أن من قتل مسلماً على زي مشرك في دار الحرب، فلا قود، وفي لزوم الدية قولان، وقد قطع صاحب التقريب أنه إذا قصده فقتله، يلتزم الدية؟ قلنا: يمكن أن يقال: لا اختلاف بين الطرق في ذلك، والترتيب أن نقول: إذا اجتمع شيئان (2) ، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن فُقدا، لم تجب قولاً واحداً، وإن فقد أحدهما دون الآخر، ففي وجوب الدية قولان.
وبيان ذلك أنه إن علم أن فيهم مسلماً، واجتمع مع ذلك أنه قصده، وقتله، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن حسبه كافراً. ولو عُدم الشيئان جميعاً، فلم يعلم أن فيهم مسلماً، ولا قصد عينه، ولكن أخطأ السهم إليه، ففي هذه الصورة لا تجب الدية قولاً واحداً، وإن قصده، فقتله جاهلاً، ولم يعلم أن فيهم مسلماً على الجملة، ففي وجوب الدية قولان؛ فإنه وُجد أحد الشيئين، وهو قصد القتل، وعُدم الثاني؛ فإنه لم يعلم أن فيهم مسلماً، وبمثله لو علم أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه، ولكن أخطأ السهم، ففي لزوم الدية قولان لوجود أحد الشيئين، وهو علمه أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه.
وما ذكره الأئمة من القولين فيه إذا قتل شخصاً مقصوداً، يمكن حمله على ما إذا لم يعلم أن فيهم مسلماً، فيتجرد القصد، فهو أحد الشيئين. هذا بيان هذه الطريقة.
ولكن ذكر جماعةٌ من الأصحاب قولين فيمن قتل مسلماً ظنه كافراً على زي الكفار في لزوم الدية، ودلّ كلامهم على أنه لا فصل بين أن يعلم أن فيهم مسلماً أو لا يعلم، وهذا فصلٌ قد قدّمته، ولكني أحببتُ إعادته للضبط الذي أشرنا إليه.
ثم كل من قتل شخصاً خطأ، فالدية على عاقلته، فإن لم يكن في القتل خطأ، ولكن درأنا عنه القصاص، لا لمعنًى في الكفاءة، ولكن لجهل كما صورناه، فإذا
__________
(1) المعنى: وكان قصده الكفار.
(2) شيئان: هما: علمه بوجود المسلم والثاني قصده بالقتل (من غير علمٍ بأنه المسلم طبعاً) .(17/461)
ألزمناه الدية، فهي عليه، أو على عاقلته؟ فعلى قولين، فإذا قتل مسلماً في دار الحرب على زي مشرك، وظنه مشركاً، أو قتل الجلاد من استوجب القصاص، ثم وضح أن مستحق القصاص كان عَفَا عن القصاص، فإذا ألزمنا الدية على تفصيل فيه، فهي عليه أم على العاقلة؟ فعلى قولين، وهذا يطّرد في كل قتلٍ لا خطأ في عينه، وإنما سبب اندراء القصاص ظنٌ وحسبان في (1) القاتل.
فصل
قال: " فأما قطع نخيلهم، وإحراقُ أموالهم ... إلى آخره " (2) .
11347- إذا أراد المسلمون قطع النخيل التي في دار الكفر، وإحراق الأموال، نُظر: فإن كانوا يرجون أن تصير للمسلمين، لم يجز. وإن بعد الرجاء فيه، جاز ذلك، ولكن على شرط ألاّ يلهيَهم ذلك عن الاشتغال بالأهم، وهو القتال والتشمير لوجوه الحزم فيه، وقد روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبرَ والطائف " (3) ، " وأمر بقطع نخيل بني النضير، فنادى واحدٌ من الحصن: إن هذا فسادٌ يا محمد، وإنك تنهى عن الفساد، فتركه " (4) .
وفي هذا الفصل استدراك؛ فإن اليأس عن مصير الأشجار للمسلمين غير ممكن، حتى يخصص القطعُ بها، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبر والطائف، ثم صارت الناحيتان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، فقد يغمُض على ذلك إطلاق القول بأن قطع النخيل لا يجوز حيث نرجو أن
__________
(1) في: مرادفة لـ (من) ، قاله ابن هشام في المغني.
(2) ر. المختصر: 5/185. وهذا معنى كلام الشافعي وليس لفظه.
(3) خبر قطع النخيل بالطائف رواه البيهقي عن عروة بن الزبير عن موسى بن عقبة (9/84) وقال الحافظ: رواه ابن إسحاق في المغازي (التلخيص: 4/207 ح 2254) . وخبر قطع نخيل خيبر رواه الشافعي في الأم (4/141، 244) .
(4) حديث " قطع نخيل بني النضير، وقولهم: يا محمد هذا فساد.. " أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/355) عن مقاتل بن حيان، وابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 3/144، وأخرجه السيوطي في الدرّ المنثور وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس (6/278) .(17/462)
يصير للمسلمين؛ فإنها ليست مملوكة لنا في الحال، وليست لها حرمة الحيوانات، فالكراهية ألْيق بهذا المقام من التحريم. والله أعلم.
ويمكن أن يقال: ما يتعلّق بالاستصواب، ويرتبط برأي الإمام، فما يراه صواباً، لا يجوز لنا مخالفته، كما لا يترك الولي ما يظنه غبطة للطفل. وفي المسألة احتمال على حالٍ. والعلم عند الله تعالى.
11348- وإن أدركونا، وفي أيدينا نساؤهم وصبيانهم، وعلمنا أنهم يستردونها (1) ، فلا يجوز لنا أن نقتلهم لنغيظهم، وفي مثل هذا المقام، تحرق الأموال، ويقطع النخيل، ولا نبالي.
ثم قال الأئمة: كما لا يحلّ لنا قتل النساء والولدان إذا أدركونا، فكذلك لا يحل لنا قتل البهائم رعايةً لحرمة الروح بخلاف الأموال والأشجار المثمرة وغير المثمرة، ويجوز عقر الفرس تحت الكافر؛ فإنه قد لا نتوصل إلى الكافر إلا بذلك، والفرس أداتُه وآلته، والأخبار في عقر الأفراس تحت الأبطال مشهورة.
فصل
قال: " وإنما تركنا قتل الرهبان اتباعاً لأبي بكر الصديق ... إلى آخره " (2) .
11349- أصحاب الصوامع [والبيَع] (3) والرهابين والشيوخ الذين لا رأي لهم، والزمنى والعسفاء، وهم الأجراء والحرّاثون المشتغلون بشغلهم في الحراثة هل يجوز قتلهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة (4) في أظهر الروايتين عنه. والقول الثاني - يجوز قتلهم.
__________
(1) كذا. والتأويل قريب.
(2) ر. مختصر المزني: 5/186.
(3) مكان كلمة استحالت قراءتها (انظر صورتها) .
(4) ر. مختصر الطحاوي: 283، مختصر اختلاف العلماء: 3/455 مسألة 1610، المبسوط: 10/29، 64، فتح القدير: 5/201، 202، تحفة الفقهاء: 3/295.(17/463)
توجيه القولين: من منع القتل، احتج بما روينا: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحقوا خالداً، وقولوا له: لا يقتل عسيفاً ولا امرأة "؛ ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، فكانوا كالنسوان والصبيان.
ومن قال: إنهم مقتولون، احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: " اقتلوا شيوخ المشركلين، واستحيوا شَرْخَهم " (1) والشرخ الشباب.
ثم اختلف أئمتنا في وجه تنزيل القولين في الشيخ، فذهب المحققون إلى أنهما يجريان في الشيخ الفاني الذي لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فأما من كان صاحب رأي، فهو مقتول قولاً واحداً. ومن أصحابنا من أجرى القولين في الشيخ ذي الرأي، إذا لم يكن من أهل القتال، وهذه الطريقة ضعيفة. ثم لا ينتهي صاحبها إلى الانكفاف عن قتل شيخ حضر الواقعة، وكان يدبّر الجند أو يَصلُح (2) له، فمثل هذا مقتول، ويدلّ عليه قصة دريد بن الصِّمة. وقيل: إنه كان ابنَ مائة وخمسين سنة، فقتل في غزوة أَوْطاس (3) . فأما إذا حضر الواقعة شيخ لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فيجوز إجراء القولين فيه، ولا يمتنع القطع بقتله؛ لأنه بحضوره، ووقوفه مقاتلٌ.
11350- ثم إن قلنا: هؤلاء مقتولون، فلا شك أن سبيلهم سبيل المقاتلين، فتغنم أموالهم، وتسبي ذراريهم، ونساؤهم.
وإن قلنا: لا يقتلون، فكيف سبيل الرق فيهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة في التفريع على هذا القول ثلاثة أوجه: أحدها - أنهم يَرِقون بنفس السبي كالنساء والذراري.
والثاني - أنهم لا يَرِقون بنفس الوقوع في الأسر كالمقاتلة من الرجال، ولكن للإمام
__________
(1) حديث " اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم " رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وأحمد، والبيهقي. وقد ضعفه الألباني (ر. أبو داود: الجهاد، باب في قتل النساء، ح2670، الترمذي: السير، باب ما جاء في النزول على الحكم، ح 1583، أحمد: 5/12، 20، البيهقي: 9/91، ضعيف سنن أبي داود: ح2670، ضعيف سنن الترمذي: ح 1648 التلخيص: 4/193 ح 2217)
(2) يصلح له: أي يصلح للتدبير. والمعنى سواء كان يمارس التدبير فعلاً أو يصلح له.
(3) حديث مقتل دريد بن الصمة. متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/169 ح 1624) .(17/464)
إرقاقهم، وليس له قتلهم، والوجه الثالث - أنهم لا يَرِقون ولا يُستَرقَّون، وكأن هذا القائل يلتفت إلى ما يقتضي الاحترام فيهم. وهذا سخيفٌ لا أصل له؛ إذ ليس للعسيف ما يوجب إجلالَ قدره؛ فإذا كانت النسوة -على أنهن لا يقتلن- يجري الرّق عليهن، فالامتناع من إجراء الرق على العسفان بعيد.
وإن ظن ظانٌّ أن منع جريان الرق يختص بالرهابنة، فهذا فيه تعظيم الكفر، ولا سبيل إليه، [في حق المذهب، وهو مُمعنٌ في ترفيه] (1) الكفر وقد يشير فحوى قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} [الحج: 40] ، إلى ما يقرب من معنى الاحترام والله أعلم.
ثم إن كان يجري هذا في الرهابنة، فلا وجه لطرده في العسفان.
ثم إن قلنا: يجري الرق عن (2) هؤلاء، فتسبى نساؤهم وذراريهم؛ فإن إجراء الرق عليهم تملُّك رقابهم، فإذا لم يبعد هذا، لم يبعد تملك أموالهم ونسائهم وذراريهم.
وإن قلنا: لا يجري الرق عليهم، فهل تغنم أموالهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا تغنم، وهذا ضعيف سخيف، مستنده تعظيم الرّهابنة، وتقدير [الشرك جهةً] (3) حاقنة عاصمة، ومن كثر صغوه إلى هذه الجهة، فإنما يقترب من ورطة مُخْطِرة، فالأولى الميل إلى إخراجهم من أحزاب المقاتلة، وهذا يجب ألا يمنعَ اغتنامَ الأموال؛ فإن أموال النساء والصبيان مغتنمة، والحقُّ أَوْلى متّبع، وهذا [تخبُّط جاء من] (4) الامتناع من إرقاقهم، ولو ثبت ذلك -وهيهات- فلا محمل [له] (5) إلا الاحترام، ويجري على قياسه المنع من اغتنام الأموال على التضيق. وذكر القاضي في بعض التعاليق قولاً: إن
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة وغير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " ولا سبيل إليه والترتيب معهر في تربية الكفر " (انظر صورتها) والمثبت من (البسيط: 5/ورقة: 159 يمين) .
(2) عن بمعنى (على) قاله ابن هشام في المغني، وعليه قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] .
(3) في الأصل: " الترتيب دمه " والمثبت مكانه من تصرف المحقق.
(4) عبارة الأصل: " وهذا ـحـ ـط إلى من الامتناع من إرقاقهم ".
(5) زيادة من المحقق.(17/465)
ذراريهم لا تسبى، ونساؤهم يسبون، ولا يكاد يتضح الفرق (1) بين الذراري والنساء.
وكان شيخنا يذكر طريقين في السُّوقة الذين لا يتعاطَوْن الأسلحة، ولا يمارسون القتال، وينزلهم منزلة العسفاء، وهذا وإن كان يتجه، فلم يتعرّض لذكره أحد من الأئمة، وإذا طردنا القولين فيهم، فالمقتولون من الكفار الأقلون، ومن قال في التفريع على القولين: لا تغنم أموال السوقة، فقد قرب من خرق الإجماع. هذا منتهى الفصل.
فصل
11351- المسلم إذا نكح حربية في دار الحرب، ففي استرقاقها وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تسترق لحرمة المسلم، ولما له من العصمة، والعُلقة فيها. والوجه الثاني - أنها مسترقة؛ لأنها حربية، والرق يرد على الرقبة، وحق المستمتع يتعلّق بالمنفعة. فلا تَضاد، فإن الموردين متغايران.
ولو أعتق المسلم عبداً كافراً والتحق بدار الحرب، وعليه ولاء المسلم، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يسترق؛ فإن في استرقاقه قطع ولاء المسلم عنه، والولاء إذا ثبت، لزم، فلم يقبل القطع، والنكاح عرضة للفسخ، فلا يمتنع انتفاؤه بسبب الاسترقاء، كما سنوضح ذلك في التفريع. إن شاء الله.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من أجرى الوجهين في استرقاق مُعتَق المسلم، وهذا غريب.
وكان شيخنا يقول: الزوجة الحربية للذمي مسبية، ومعتَقُه لو التحق بدار الحرب هل يُسبى؟ فعلى وجهين. ومعتَق المسلم لا يُسبى، وزوجته هل تسبى؟ فعلى وجهين، ويُثبت الخلافَ في الزوجية والولاء جميعاً.
ثم ما ذهب إليه الأصحاب، واختاره صاحب التقريب لنفسه أن زوجة المسلم إذا
__________
(1) أشار الغزالي إلى الفرق بين الذراري والنساء، فقال: " لأن ذراريهم كأجزائهم " (ر. البسيط: 5/156 يمين) .(17/466)
سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقَّة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، تصير رقيقة بالسبي، وتبقى منكوحة للمسلم، وزعم هذا القائل أن ذلك ممكن، وإذا أمكن الجمع بين ثبوت الرق، وبين استبقاء النكاح، وجب القضاء بالأمرين. نقل هذا الوجهَ وزيّفه، ونسب الأصحابُ إليه، [اختيارَ هذا الوجه الضعيف] (1) ، وما أنصفوه؛ فإنه وافق في تضعيفه، واختار ما عليه الأصحاب، والخللُ في كتابه أنه لم ينبه على وجه التزييف.
[وقال] (2) المحققون: لا تسبى إلا كافرة، والأمة الكتابية يستحيل نكاح المسلم عليها دواماً وابتداء، وهذا متجه لا دفع له، إلا أن يشترط صاحب هذا الوجه أن يزول الرق في مدة العدّة، إذا كانت مدخولاً بها، كما يشترط زوال الردّة في العدّة، إذا تقيد النكاح بالمسيس، ولم يصر إلى اشتراط هذا صاحب هذا الوجه، بل زعم أن النكاح يستمر، وهذا يبعد، وما يتجه في تضعيف هذا الوجه ما ذكرناه من أن الإرقاق اقتهارٌ يقطع كلَّ استحقاق. وقد ينفصل صاحب هذا الوجه عن زوجة الحربي، فإن الحربي مُقهَر في جميع أملاكه بخلاف المسلم، وهذا لا بأس به، إن اشترط زوال الرق في العدّة، وإذا سُبي الزوج والزوجة الكافران انْبَتَّ النكاح، وكذلك إذا سبي أحدهما، لم يختلف أصحابنا في شيء من ذلك.
وإنما حكى صاحب التقريب الوجه الغريبَ في زوجة المسلم؛ من حيث إنه غير مغلوب على حقه، وغائلة ذلك الوجه ما نبهنا عليه.
__________
(1) في الأصل: " واختيار هذا الوجه ضعيف ".
(2) في الأصل: " فقال ".(17/467)