والقول الثاني - أنه يواصل بالاستحلال أحد الجانبين، ثم لا ينزل عنه، ويتعين عليه ملازمة [ما اختاره] (1) .
والقول الثالث -وهو الأصح- أنه لا يواصل واحداً من الجانبين؛ فإن التحريم كائن والتعيين ممتنع (2) ، ومحل الحِلّ والحَظْر محصورٌ، والاجتهاد محسوم، والتحريم غالب، وهذا القول لا يمكن تمييزه عن القول الذي ذكرناه قبل قول الوقف في تعميم التحريم إذا انسدّ مسلكُ القيافة وانتسابُ المولود النسيب، فمقتضى القولين واحد، وهذا في حكم المعاد.
10059- وينتظم من مجموع ما ذكرناه -بعد التنبيه لتكرر هذا القول- أن التعيين بالقيافة والانتساب إن كان ممكناً، فقولان، كما مضى.
فإن انحسم إمكان التعيين، فأقوال: أحدها - تعميم التحريم.
والثاني - التخيير في المواصلة مع تجويز التدوار على الجانبين على البدل.
والثالث - تجويز مواصلة أحد الجانبين على شرط ملازمة الجانب الذي يواصله.
وما ذكره صاحب التقريب من قول الوقف ليس يتحصّل، وإنما الحاصل ما ذكرناه، وتمام التهذيب يتضح بنجاز الفصل.
10060- أما ما ذكرناه من المواصلة، فأهون تصويرٍ فيها أن يكون المرتضع غلاماً وهو يناكح بنت أحد الأبوين، فهذه هي المواصلة.
وقد أطلقنا فيما أجريناه قولاً أنه إذا اختار جانباً، [فله ذلك] (3) ، ولم نُرد قوله: اخترت، وإنما أردنا إيقاعَ عقد المواصلة.
ووراء ذلك تمام البيان.
والذي ذكره صاحب التقريب والشيخُ ومعظم المحققين أن التخير الذي ذكرناه في الولد الرضيع ليس صادراً عن اجتهاد، وإنما هو اختيار على حكم الإرادة؛ فإن
__________
(1) في الأصل: ملازمة فاختاره ...
(2) في صفوة الذهب: " محتمل ".
(3) في الأصل: له ينزل.(15/400)
الاجتهاد لا مساغ له في ذلك، ومن ادعى أن المرتضع يجد من نفسه ميلاً إلى أب الرضاع، فالذي يأتي به خُرْقٌ؛ فإن الميل لا يتحقق إلى المرضعة إلا عن إلفٍ ينشأ الصبي عليه، فإن ذلك ليس من آثار الرضاع، وفي بعض التصانيف: " أن الولد المرتضع في أوان الانتساب لا يتبع الإرادة وإنما نتبين انتسابه إلى أحد الرجلين في جهة الرضاعة على اجتهاد " هذا لفظه، فلست أدري أنه أراد به ما يجده بزعمه من ميل النفس، أو أراد بالاجتهاد التمسك بسببٍ يغلّب على الظن أن الولد للأول أو للثاني، وعلى أي وجه حُمل، فلا أصل له؛ فإن الميل باطل، والاجتهاد لا أصل له في هذا الباب؛ إذ لو كان عليه مُعوّل، [لعلّق] (1) الشرع النسبَ به من غير انتساب المرتضع.
ولست في تزييف هذا مختاراً لوجه التخير، ولكن الرأي عندي تعميم التحريم، وإبطال التخيّر والانتساب بالارتياد والاجتهاد.
10061- ومما يجب التنبيه له أن الأصحاب أطلقوا في الكتب أن الرجل إذا علم أن واحدةً من امرأتين أو نسوةٍ معدودات أختُه من الرضاعة، فلا يحل له أن ينكح واحدةً منهن، وإنما ينكح إذا اختلطت بنسوة يعسر حصرهن، وقد مهدنا ذلك في كتاب النكاح.
والفرق بين هذا الذي ذكروه، وبين تردد المرتضع بين الأبوين مشكل، ولهذا اخترنا تعميم التحريم عند اليأس من تبيّن النسب بقول القائف، أو انتساب الولد النسيب.
وعند ذلك نقول: من أصحابنا من جوز نكاح إحدى المرأتين إذا كانت إحداهما أختاً؛ أخذاً من القول الذي يجوّز للمرتضع مع انحسام اليقين في النسب أن يواصل أحدَ الرجلين، وهذا القائل يقول: التي تزوجها لم يتحقق فيها تحريم عنده، والأصل عدمُ الأخوَّة، وهؤلاء يقولون: إذا كان مع الرجل إناءان في أحدهما ماء نجس، وفي الآخر ماء طاهر، فيجوز استعمال أحدهما من غير اجتهاد.
وهذا المسلك مزيف، والمذهب القطع بتحريم نكاح إحدى المرأتين، مع اطّراد الإشكال.
__________
(1) في الأصل: تعلّق.(15/401)
ثم الوجه أن يضعّف بهذه المسألة قول التردد في الولد المرتضع، والممكن في الفرق أن الولد إذا تردد بين رجلين، قلنا: يُقطع بثبوت النسب من أحدهما أيضاً، فإن الانتساب إلى الرجال مشكل، ومسألة الأخت مفروضة فيه إذا ثبتت الأخوّة قطعاًً، حتى لو تردد المرتضع بين امرأتين قد أرضعته إحداهما، فهذه مسألة الأخت، وكذلك لو كان تردد الولد بين والدتين، فيجب القطع بإبطال قول التخيير في المرتضع.
10062- ومما يتم به البيان، ويكمل به التفريع [أنا] (1) إذا أثبتنا الحرمة من الجانبين، فالوجه عندنا ألاّ نثبت المحرمية؛ فإن الغالب التحريم، والذي يغلّب الحرمة هو بعينه يقتضي ألاّ تثبت المحرمية إلا بتحقيق؛ فإن المحرمية تقتضي مداخلةً واستحلالَ خُلوة، وهذا محدّور إذا التبس الحلال بالمحظور.
واختتام الكلام أنا إذا رأينا -عند عدم القائف- للولد النسيب أن ينتسب، فليس ذلك تشهيّاً واختياراً، وإنما هو رُجوعٌ إلى تخير النفس وما جبلت عليه من الحَدَب والميل، وسنستقصي هذا في باب القائف، إن شاء الله.
فلئن كان في اختيار المرتضع تردُّدٌ في أنه اختيار إرادة أو اختيار اجتهاد، فلا تردد في انتساب الولد النسيب.
وهذا نجاز الفصل، لم نغادر فيه فيما نظن طرفاً تَمَس الحاجةُ إليه.
10063- ومما أورده في (السَّواد) ولد اللعان، فإذا نفى الرجل ولداً باللعان، انتفى عنه اللبن الدارّ عليه أيضاًً، كما انتفى الولد، فإن عاد، فاستلحق الولد المنفيّ، لحقه الولد، ويلحقه اللبنُ أيضاًً، ومن قال: في اللبن النازل على الولد المتردد بين رجلين إنه يلحق بهما، فلست أدري ماذا يقول إذا لاعن ونفى النسب؛ فإنه خالف بين اللبن وبين النسب، فألحق الولد إلحاقاً لا يتصور إلحاق النسب بجنسه، فقد لا يبعد ألا ينتفيَ حرمة اللبن وإن انتفى النسب.
ويجوز أن يقال: قد أثبت الزوج باللعان أن الولد الذي جاءت به ولد الزنا، ولا حرمة للبن النازل على ولد الزنا في جهة من انتفى النسب عنه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(15/402)
فصل
قال: " ولو انقضت عدتها بثلاث حِيض وثاب لبنها ... إلى آخره " (1) .
10064- مضمون هذا الفصل القول في امتداد اللبن في دروره والتحاقه بمن التحق به أول مرة، وكيف الحكم لو طرأ طارىء يوجب لبناً جديداً؟
ونحن نقول: إذا انتسب المولود إلى شخص، وألحقنا اللبن النازل عليه به على ما تمهد، ثم طلق الزوج زوجته تلك، وتمادى الزمن واللبنُ دائمٌ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن اللبن منسوب من جهة الأبوة إلى الرجل الأول الذي انتسب الولد إليه، وإن امتد الزمان، واعتقبت السنون، وهذا الحكم يطّرد وإن دام اللبن عشر سنين، فصاعداً، ما لم تحبَل المرأة.
ولو انقطع لبنها، ثم [عاد] (2) اللبن من غير تجدّد حمل، فهو منسوب إلى الأول، كما لو استمر ولم ينقطع في الأثناء.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن انتساب اللبن يبقى بعد الطلاق أربعَ سنين، وهي المدة التي يُتصوّر فيها انتساب الولد إلى النكاح المتقدم، وإذا انقضت هذه المدة، انقطع انتسابُ اللبن.
وهذا قول مزيف، لا أصل له، وهو من نوادر خواطر من لم يُحط بالفقه؛ فإنه بان [بالمسلك] (3) المعتبر أن الولد لا يبقى أكثر من أربع سنين، فينقطع إمكان العلوق في النكاح إذا انقضت هذه المدة بعد الفراق، وأما إمكان تمادي اللبن، فلا أمد له، وقد يدرّ للمرأة لبن على ولد ويدوم ذلك اللبنُ منها عشرَ سنين أو أكثر، فلا وجه لاعتبار أحد البابين بالآخر بالتمسك باللفظ، فلا عَوْد إلى هذا الوجه الغريب.
__________
(1) ر. المختصر: 5/61.
(2) في الأصل: ثم بان اللبن.
(3) في الأصل: المسلك.(15/403)
والذي [نقطع] (1) به في تفريع المسائل بعد ذلك أن اللبن منسوب إلى من انتسب الولد إليه في الأول، وإن تمادت المدة، ولا ضبط لها في الكثرة، كما لا ضبط لأكثر الطهر، ولا فرق بين أن تتواصل الألبان، وبين أن تنقطع ثم تثوب.
ولو نكحت زوجاً، فالنكاح لا يقطع انتسابَ اللبن؛ فإنه لا أثر له في تغيير اللبن بالقطع، وتجديد لبن بسبب جهة أخرى. نعم، إذا حَبلَتْ عن الزوج الثاني أو حبلت عن واطىء بشبهة، [فالحمل] (2) مما يقتضي درورَ اللبنَ على [التجدّد] (3) ، فإذا اتفق ذلك واللبن ثابت مع الحمل، راجعنا أهل البصيرة، وقلنا: هل حان وقت درور اللبن على الحمل الجديد؟ فإن قالوا: لم يدخل بعدُ وقتُ درور اللبن على الحمل الجديد، فاللبن مصروفٌ إلى الجهة الأولى، لا خلاف فيه، ولا فرق بين أن يكون متمادياً [و] (4) بين أن ينقطع ثم يرجع مهما (5) قطع أهل البصر بأنه لم يدخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد.
وإن قال أهل البصر: قد دخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد، فنذكر صورتين، وتفصيلَ المذهب فيهما، وننبِّه على دقيقة، ثم نتجاوز هذا الحدَّ.
10065- إحدى الصورتين: أن ينقطع اللبن، ثم يعود في وقت يجوز درور اللبن فيه على الحمل الجديد، وفي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها - أن اللبن للرجل الأول، ولا مبالاة بالحمل، ولا بانقطاع اللبن وعوده، ولا بمصير أهل البصيرة إلى أن هذا وقت درور اللبن على الحمل الجديد، واللبن مضاف مع ذلك كله إلى الجهة الأولى، والحكم مستمر كذلك إلى أن تلد وينفصلَ الحملُ الجديد.
ووجه هذا القول أن الحمل، وكل ما وصفناه معه لا يوجب انقطاع اللبن عن الجهة الأولى بأن لا يمتنع دوام ذلك اللبن، فلا ينقطع ذلك الأصل بتجويز.
__________
(1) في الأصل: قطع.
(2) في الأصل: والحمل.
(3) في الأصل: على التجرد.
(4) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(5) مهما: بمعنى إذا.(15/404)
والقول الثاني - أن اللبن ينقطع عن الجهة الأولى، ويضاف إلى الحمل الثاني، وإلى من منه الحمل؛ فإن اللبن الأول قد انقطع، واعترض وثبت سببٌ آخرُ يجوز درورُ اللبن عليه يستفتح الإضافة إلى هذه الجهة ويقطع الأولى.
والقول الثالث - أن اللبن مضاف إلى الجهتين؛ فإنه لا يمتنع تواصل اللبن الأول مع ازديادٍ بسبب الجهة الثانية، ولا وجه لإسقاط جهة وقطعها، ولا يمنع ما ظهر تجدُّدَه، [فالوجه] (1) الإضافة إليهما جميعاًً هذا بيانُ صورةٍ.
الصورة الثانية: ألاّ ينقطع اللبن، ويقول أهل البصر: قد دخل وقت نزول اللبن على الحمل الجديد، ففي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها - أن اللبن للجهة الأولى، والثاني - أن اللبن للجهتين جميعاًً. والثالث - أنه إن زاد، فهو لجهتين، وإن لم يزد، فهو للجهة الأولى، ولا يخرّج هاهنا قول أن اللبن للجهة الثانية وهو مقطوع عن الجهة الأولى، لأنه لم يتخلل انقطاع اللبن ثم عوده.
ومما يجب التنبه له في التصوير أنه لو انقطع اللبن في أول العلوق، وفي وقتٍ لم يدخل فيه وقت نزول اللبن على الحمل، ثم عاد في وقت لم يدخل بعدُ وقتُ النزول على الحمل الجديد، فلا حكم لذلك الانقطاع، وسبيله كسبيل ما لو تواصل اللبن.
وإذا انقطع، ثم امتد الانقطاع، وعاد في وقتٍ، فقال [أهل البصر] (2) : يجوز نزول اللبن في هذا الوقت على الحمل الجديد، فهذا هو الصورة الأولى، وفيها الأقوال الثلاثة: أحدها - أن اللبن مقطوع عن الجهة الأولى، ملحق بالجهة الثانية، فهذا بيان الصورتين، وتفصيل الحكم فيهما.
10066- وأما الدقيقة التي وعدنا بيانَ أمرها، فهي أنا قلنا: إذا قال أهل البصر: يجوز درور اللبن على الحمل، فحكمه ما وصفناه، فليعلم الناظر أنه لا ينتهي الأمر في زمان الحمل إلى القطع بأن اللبن نازل على الحمل الجديد، وإنما تنتهي خبرة [أهل البصر] (3) إلى الحكم بتجويز النزول، نعم، يطلقون القول في أوائل مدة الحمل بأن
__________
(1) في الأصل: والوجه.
(2) زيادة لإيضاح العبارة.
(3) في الأصل: وإنما ينتهي خبرة البصير. والمثبت تصرّف من المحقق.(15/405)
اللبن لا ينزل بعدُ على هذا الحمل، فهذا مما يمكن إطلاقه، فأما إطلاق القول بأن اللبن ينزل على الحمل في هذا الوقت، فهذا مما لا سبيل إليه، وقد تلد المرأة ولا ينزل لها لبن، ثم ينزل اللبن بعد الوضع.
هذا كله قبل الولادة، فإذا ولدت، فاللبن مقطوع عن الجهة الأولى بلا خلاف، ملحق بالولد الثاني منسوب إلى من ينتسب إليه، فانتظم إذاً طرفان على النفي والإثبات، وواسطتان بينهما: فأما الطرف الأول، ففيما قبل العلوق، [فاللبن] (1) مضاف إلى الجهة الأولى، والطرف [الآخر] (2) إذا ولدت ولداً منتسباً إلى آخر [فكل] (3) لبن يدرّ بعد ذلك منسوب إلى الولد الثاني مقطوع عن الجهة الأولى، فهذان الطرفان.
والواسطتان تقعان في زمان الحمل، فاللبن في أوائل الحمل قبل دخول وقت نزول اللبن على الحمل ملحق بالطرف الأول، وإذا دخل وقت إمكان نزول اللبن على الحمل، فالواسطتان الصورتان اللتان ذكرناهما.
وهذا نجاز الفصل عقداً وتفصيلاً.
***
__________
(1) في الأصل: واللبن.
(2) في الأصل: الأخير.
(3) في الأصل: وكل.(15/406)
باب الشهادة في الرضاع
قال الشافعي: " وشهادة النساء جائزة ... إلى آخره " (1) .
10067- الرضاع يثبت بشهادة أربع نسوة عدول، وقال أبو حنيفة (2) : لا يثبت الرضاع بشهادة النساء المتجردات ويثبت بشهادة رجلين وشهادة رجل وامرأتين، وحكى صاحب التقريب عن الإصطخري أنه كان يقول: لا يثبت الرضاع ولا عيوب النساء والأمور الباطنة منهن بشهادة الرجال، وإنما يثبت بشهادة النساء المتمحّضات، وهذا متروك عليه، غيرُ معتدٍ به، ثم شهادة الرضاع تفرض على الحسبة، كالشهادة على الطلاق، [و] (3) تفرض متعلقةً بالدّعوى كالشهادة على الطلاق، وسيأتي بيان هذه المراتب على حقائقها في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
ثم قال الأصحاب: الكلام فيمن هو من أهل الشهادة، وفي كيفية تحمل الشهادة، وفي كيفية إقامة الشهادة:
10068- فأما من هو من أهل الشهادة، فالغرض أن نذكر أن أم الزوجة وابنتها لو شهادتا على رضاع يحرمها على زوجها، فالقول في ذلك مفصّل، فإن ادعت المرأة الرضاع وأنكر الزوج، فلا يُقبل شهادةُ أمِّها وابنتها، فإن هذه شهادةٌ لها وشهادة الأمهات والبنات مردودة للأولاد والأصول.
ولو ادّعى الزوج الرضاع، وأنكرته المرأة لغرض المهر، فشهد على الرضاع أمها وابنتها، فالشهادة مقبولة، فإن شهادة الفروع والأصول مقبولة على الشخص وإن لم تكن مقبولة له.
__________
(1) ر. المختصر: 5/63.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 221، المبسوط: 5/137.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(15/407)
وإن لم توجد دعوى الرضاع من الرجل ولا المرأة، ولكن شهدت الأم والبنت على الرضاع المحرم حسبةً، فالوجه عندنا قبول هذه الشهادة؛ فإنها ليست بأن يقال: هي لها أولى من أن يقال: هي عليها، والوجه أن يقال: ليست لها ولا عليها، وإنما هي شهادة أقيمت لله تعالى، فهذا المقدار غرضُنا من هذا الفصل.
10069- فأما القول في تحمل الشهادة، فينبغي أن يكون التحمل على علم وبصيرة، فإذا رأت المرأةُ أو الرجلُ الرضيعَ قد التقم الثديَ من ذات لبن، وهو يمتص والصبي ينهش والحنجرة تترقى وتنخفض، وقد ينضم إليه جرجرةٌ عند البلع والتجرع، فهذا القدرُ يفيد العلمَ بوصول اللبن إلى الجوف، ومن ظن أن هذا اكتفاءٌ في التحمل بغلبة الظن، فليس على بصيرة في الباب؛ فإن القرائن التي ذكرناها تُثبت العلم الحقيقي بوصول اللبن، نعم، قد يكتفي الشاهد بالظنون الغالبة فيما لا يتصور فيه العلم، ثم يسوغ له أن يجزم الشهادة، وعلى هذا النحو يتحمل الشاهد الشهادة إذا شاهد اليد والتصرف على ما يقرّر في موضعه، وهذا لا يفيد العلم بالملك، ولكن يجوّز الشهادة على الملك إذا اجتمعت هذه الأسباب.
10070- فأما القول في صيغة الشهادة المقامة على الرضاع، فلتكن الشهادة مجزومة، ولو وصف الشاهد أو الشاهدةُ [الأحوالَ] (1) التي وصفناها عند التحمل، لم تصح الشهادة.
فإن قيل: هلا صحت والشهادةُ لا تعتمد غيرها؟ قلنا: نعم تلك الأحوال تفيد العلم لمن يعاينها، [ويدرك بالعيان منها أموراً] (2) دقيقةً هي المفيدة للعلم، والعبارات لا تدركها، فلا بد من جزم الشهادة، كما وصفتُها.
ثم في هذا الطرف تردُّدٌ في أمر أصفه، وهو أنا هل نشترط أن يصرح الشاهد
بوصول اللبن إلى جوف الصبي، أم يكفي أن يقول: أشهد أن فلانة أرضعته خمساً في الحولين؟ هذا مما يتردد فيه فحوى كلام الأئمة ويظهر أثر التردد على تفصيلٍ.
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: ويدري العيان منها أموراً. والمثبت من صفوة المذهب.(15/408)
فإن وقع التصريح بذكر وصول اللبن إلى الجوف، فهو المراد.
وإن ذكر الشاهد أو الشاهدة لفظَ الإرضاع، واستراب القاضي، وجوّز أن يكون الإرضاعُ غير مفضٍ إلى وصول اللبن إلى الجوف المعتبر، فله أن يستفصل الشاهدَ، هذا لا خلاف فيه، وسيأتي كشفه في موضعه من الشهادات، إن شاء الله.
ولو فرضت الشهادة على الإرضاع، ثم مات الشاهد قبل الاستفصال، وفات إمكان الرجوع إليه، فهل يجوز التوقف في الشهادة والحالة هذه؟ هذا هو الذي يظهر فيه تردد الأصحاب، وقد يعتضد وجوب الحكم بالإرضاع وإن لم يَجْرِ للوصول إلى الجوف ذكرٌ بما قدمنا ذكره من أنه يجوز الاقتصار على معاينة الأحوال التي وصفناها في تحمل الشهادة على الإرضاع، وإن كان معاينة وصول اللبن إلى الجوف ممكنة بخلاف تحمل الشهادة على الزنا، فإن من عاين أحوالاً تماثل أحوال المرضع والمرتضع، لم يجز له أن يعتمدها في الشهادة على الزنا، حتى يعاين ذلك منه في ذلك منها، كالمِرْود في المُكْحلة والشَّطَنُ في البئر، والذي يعضد ذلك أن اشتراط هذا التأكيد في التحمل في الزنا، واشتراط التصريح في صيغة الشهادة، وإثبات مزيد العدد، كل ذلك يشعر بأن للشرع غرضاً في دفع الزنا ودفع حَدِّه، والأمر في الرضاع على التغليظ، والحظرُ على التغليب.
فانتظم إذاً وجهان: أحدهما - أن الشهادة لا تثبت ما لم يصرح الشاهد بوصول اللبن إلى الجوف، [وهذا] (1) ما ذكره الصيدلاني.
والثاني - أن الرضاع يثبت بالشهادة على الإرضاع والارتضاع إذا عسر الاستفصال، كما سبق تصويره.
10071- ومما يتعلق بهذا الفصل وله ارتباط بالأصل الأول أيضاً، وهو أن التي أرضعت لو شهدت على وصول اللبن إلى جوف الصبي على الحد المحرِّم عدداً وزماناً، فشهادتها مقبولة عندنا، وهو مذهب جماهير العلماء.
فإن قيل كيف يقبل شهادتها وهي تثبت فعل نفسها، وتتعرض للإخبار عنه؟ قلنا:
__________
(1) في الأصل: فهذا.(15/409)
ليس الغرض من شهادتها فعلُها، وإنما الغرض وصول اللبن إلى جوف الصبي، وإذا كان قد يتفق الوصولُ إلى جوفه من غير صاحبة اللبن، فلا أثر لإرضاعها، ولا يختلف به حكم كان أو لم يكن.
وليس كما لو شهد القاضي بعد الانعزال على أنه قضى لفلان؛ فإن شهادته مردودة لتضمّنها إثباتَ فعله، والمعوّل على قضائه وتنفيذه، فكانت الشهادةُ من القاضي على ثبوت القضاء مردودة، فإن تنفيذ القضاء هو المطلوب، ووجه تعلق ما ذكرناه في المرضعة بهذا الفصل أنها لو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، أو أوصلت اللبن إلى جوفها، فشهادتها مقبولة على هذه الصيغة.
وفي بعض المصنفات أنها إن قالت: أشهد أن فلانة ارتضعت منِّي، فالشهادة مقبولة، لأنها في صيغتها لم تتضمن إثبات فعل مضاف إلى الشاهدة، ولو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، فهذه الشهادة مردودة، فإنها تضمنت إثبات فعلٍ مضافٍ إلى الشاهدة.
وهذا غلط محض، لم يتعرض له أحد من الأصحاب، وقد ذكرنا أن الإرضاع لا أثر له، وإنما الأثر للوصول، فلا يضر التعرض لما لا يتعلق الحكم به.
فصل
قال: " وذكرت السوداء أنها أرضعت رجلاً ... إلى آخره " (1) .
10072- مضمون الفصل أن الرضاع إذا كان مشكوكاً فيه أصلاً، أو كان تمام العدد مشكوكاً فيه، فلا يقع القضاء بالتحريم، ولكن يتأكد استحثاث الشرع على التورعّ؛ فإن الرضاع لو ثبت، تأبدت حرمته، وعظُم وقعُه، [فالتمادي] (2) على خلاف الورع مصادمة خطر عظيم.
واستدل الشافعي على تأكيد الأمر بالتورّع بما روي أن رجلاً تزوج بابنة أبي إهاب بن
__________
(1) ر. المختصر: 5/64.
(2) في الأصل: بالتمادي.(15/410)
عزيز، فجرت بينها وبين امرأة سوداء في جوارها خصومة، فأشاعت السوداءُ الخبرَ في الجيران: أني أرضعتُها وزوجَها، فسمعه الرّجل وساءه ذلك، فسأل أهلَه وأهلها، فقالوا: لا نعلم أنها أرضعتك، وذلك بمكة، [فركب] (1) إلى المدينة، وقال: يا رسول الله إني تزوجت بابنة أبي إهاب بن عزيز، وزعمت امرأة سوداء أنها أرضعتني وإياها، فوالله ما أرضعتني ولا أخبرتني قبل ذلك، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأعادها، فقال في الثالثة أو الرابعة: " كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما " وفي رواية: " فكيف وقد قيل " (2) فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه، ونكحت زوجاً غيره.
والحديث دل على فوائد: إحداها - أن الرّضاع لا يثبت بالإمكان، والدليل عليه إعراضُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردده، وتركُ جزم القول بالتحريم، ثم دلت حالُه ومقاله على تأكيد الأمر بالتورّع، ثم فهم الرجل وجهَ الاحتياط في ذلك المجلس أو كان عَلِمه من قبل، فطلقها، وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جرى دليلٌ آخر على أن الرضاع لم يكن محكوماً به؛ إذ لو كان، لما كان للطلاق معنىً، ودل أن مقتضى الورع التطليق، فإنها لو تركت تحت الإشكال والاحتمال، لأضرّ ذلك بها، ولو سُيِّبت، لم يحل لها أن تَنْكِح.
10073- ثم ذكر أن الزوجين لو تقارّا على الرضاع، ثبت وابتنى عليه فسادُ النكاح (3) ، ثم لا يخفى حكمه، ولو رجعا عن الإقرار، لم يُقبل رجوعهما، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق والرّجعة أن المرأة لو ادعت انقضاءَ العدة، حيث تُصدَّق وأبطلت رجعةَ الزوج، فلو رجعت عن قولها، [فهل] (4) يقبل رجوعها، وذكرنا
__________
(1) في الأصل: وكتب إلى المدينة.
(2) حديث زوج ابنة أبي إهاب رواه البخاري (الشهادات، باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، وقال آخرون ما علمنا بذلك، يُحكم بقول من شهد، ح 2640) وانظر التلخيص 4/11 حديث رقم 1843.
(3) ر. المختصر: 5/65.
(4) في الأصل: فقد.(15/411)
تفصيل المذهب فيه إذا أقر الرجل بالطلاق الثلاث، ثم رجع، أو زعمت المرأة أن زوجها طلقها ثلاثاًً، وذكرت ذلك بعد البينونة، ثم كذبت نفسها، وأرادت أن تعود إلى الزوج، ففي ذلك كلام قدمناه على الاستقصاء، فلا نعيده.
10074- ثم ذكر الشافعي التداعي بين الزوجين في الرضاع نفياً وإثباتاً، وقال: " إذا ادعى الزوج جريان رضاعٍ وقَصْدُه إسقاطَ المسمى، فأنكرت المرأة، فالأصل عدمُ الرضاع، وهي تحلف بالله: لا تعلم أن رضاعاً جرى وإذا كانت تنفي فعل الغير فيمينها على النفي " (1) .
فإن قال قائل: ألستم قلتم: مطلوبُ الرضاع بالشهادة إثباتُ وصول اللبن إلى جوفها، ولا أثر للإرضاع كان أو لم يكن، وهذا يتضمن أن تنفي هي وصولَ اللبن إلى جوفها، أو تنفي ارتضاعَ نفسها، ولو كان كذلك، فالقياس يكون اليمين على البت.
قلنا: لا حكم لارتضاعها، ولا يتصور أن تكون على علمٍ في وصول اللبن إلى جوفها في الوقت المعتبر، فإن التمييز يبتدىء بعد مدة الرضاع بسنتين؛ فتكليفها بتّ اليمين لا معنى له، وإذا كنا نكتفي بنفي العلم في فعل الغير بسبب تعذر الاطلاع على نفي فعل الغير، فهذا المعنى أظهر فيما فيه الكلام، فإذا آل الأمر إلى اليمين، فلا أثر لارتضاعها، ولما يثبت منها، لما أشرنا إليه، ومعتمد اليمين نفي الإرضاع، وصيغة اليمين في مثل ذلك تجري على نفي العلم، فإن حلفت على ما وصفناه، فلا كلام.
وإن نكلت عن اليمين، رددنا اليمين على الرجل، فيحلف على البتّ أن الرضاع المحرّم كان، وحكى الصيدلاني أن القفال، كان يقول: إذا ارتدت اليمين على الزوج، فالأولى أن يقول: " بالله أني أعلم أن الرضاع المحرِّم قد كان " وقصد بهذا أن يكون يمين الرد على الضد من يمينها؛ فإنها لو حلفت، لقالت: لا أعلم أن الرضاع كان، فليقل الزوج: أعلم أنه كان، فظاهر ما نقله الصيدلاني أن هذا من طريق الإمكان، وفي بعض التصانيف عن القفال ما يدل على اشتراط ذلك.
__________
(1) هذا معنى قول الشافعي في المختصر: 5/65. وليس بلفظه.(15/412)
وهذا عندي كلام [منحرِفٌ] (1) عن الصواب، سواء قدر اشتراط ذلك، أو قيل: الأَوْلى ذلك؛ فإن الزوج إذا قال: بالله لقد كان الرضاع، فهذا إخبار منه على علمه بكون الرضاع، فأي أثرٍ لقوله: " أعلمه ". فإن حُمل على الأوْلى، فلست أرى فيه وجهاً يقتضي هذا من طريق الأَوْلى، والمعنى هو المتبع.
ثم لا يختص هذا المحكي عن القفال بهذه الصورة، بل كل يمين هو في جانب المدعى عليه على نفي العلم، وفي جانب المردود عليه على البت، فهو جارٍ على النحو الذي وصفناه.
***
__________
(1) في الأصل: محرّف.(15/413)
باب رضاع الخنثى
قال الشافعي: " إن كان الأغلب من الخنثى أنه رجل ... إلى آخره " (1) .
10075- الرجل إذا درّ له لبنٌ وأرضع به، فالمذهب الصحيح أنه لا تعويل عليه، ولا حكم له؛ فإن الرضاع يتبع الولد، وإذا لم ينزل اللبن ممن يتصور منه الولادة، فوجوده وعدمُه بمنزلة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً أن الحرمة تتعلق بلبن الرجل قياساً على لبن المرأة، وسيتجه هذا [بعضَ] (2) الاتجاه بالمسائل التي سنذكرها بالبكر والثيب التي لم تلد قط إذا در لهما لبن، ففي تعلق الحرمة بذلك اللبن وجهان ظاهران: أحدهما - أن الحرمة تتعلق به نظراً إلى الجنس. والثاني - أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإنه لم يتبع مولوداً، فلا حكم له.
ولو أَجْهَضَت المرأةُ جنيناً يُحكم بكونه ولداً، ودرَّ اللبنُ، ثبت الحكم.
والصبية إذا نزل لها لبن؛ فإن كانت على سن يُتصوّرُ بلوغُها فيه، فلبنها كلبن البالغة التي لم تلد، ونزل لها لبن.
ومن أسرار المذهب أن اللبن إذا جرى الحكم به، فهو على تقدير إمكان البلوغ، ولكنا لا نحكم بالبلوغ في سائر القضايا التي يشترط البلوغ فيها، ولا نقول: اللبنُ علامةُ البلوغ، وكيف يقدر ذلك والغالب أن اللبن لا ينزل إلا على ولد، ولا ولد قطعاًً في الصورة التي ذكرناها.
والتحقيق فيه أنا نثبت اللبنَ بإمكان البلوغ، ولا نعلِّق به الحكمَ بالبلوغ، وهذا كما أنا نلحق ولد الزوجة بالزوج إذا كان استكمل عشراً بإمكان البلوغ في أثناء السنة
__________
(1) ر. المختصر: 5/65.
(2) في الأصل: بعد.(15/414)
العاشرة، ثم إذا جرى حُكمنا بذلك، لم يصر هذا حكما بالبلوغ في سائر الأحكام؛ فإن الحكم بالنسب لا يستدعي العلم بالبلوغ، بل يُكتفى بإمكان البلوغ، ثم إمكان الشيء لا يتضمن وقوعَه قطعاًً.
ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو نزل لابنة الثمان لبن، فالبلوغ غير ممكن، وقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أنه لا حكم له، وقال آخرون هذا بمثابة [لبن] (1) الرجل؛ فإن هذا اللبن من غير إمكان الحمل، فصار كلبن الرجل.
10076- وأما الخنثى إذا نزل له لبن، فإن كان قد بأن كونه ذكراً أو أنثى، فلا يخفى حكم اللبن على موجَب الأصول المقدمة.
وإن كان على الإشكال، فلا نحكم للّبن بحكمٍ مبتوت. وكان يحتمل أن يقال: الغالب أن اللبن إنما ينزل للنساء [فَنُنزِل] (2) اللبن -إذا نزل- منزلةَ نهودِ الثدي، وفي دلالته اختلافٌ قدمناه في مواضعَ، فإن جعلنا نزول اللبن علامة معتبرة، فيفيد اللبن ثبوتَ الأنوثة، ثم يتعلق به ما يتعلق بلبن المرأة إذا لم تحبَل.
وإن لم نجعله علامةً على الأنوثة، فلا تثبت الحرمة مع الإشكال، إلا إذا علقنا الحرمة بلبن الرجل.
فهذا بيان مسائل الباب، وانتظم من مجموعها أن اللبن [الدارَّ على] (3) الولد هو الأصل، واللبنُ من المرأة من غير ولد على الاختلاف، والأظهر أنه تتعلق الحرمة به.
ولا حكم للبن الرجل، وفيه وجه غريب غيرُ معدودٍ من المذهب.
واللبن على سن إمكان البلوغ كاللبن بعد البلوغ، ولبن الخنثى المشكل مجرًى على الإشكال؛ فإن الحرمة لا تثبت مع التردد، والله أعلم.
***
__________
(1) في الأصل: اين الرجل.
(2) عبارة الأصل: ... الغالب أن اللبن إنما ينزل للنساء فيتنزل اللبن اللبن إذا نزل ...
(3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.(15/415)
كِتَابُ النَّفَقَاتِ
10077- الأصل في النفقات الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] ، قيل: معناه ذلك أدنى أن لا يكثر عيالكم، فلا تستقلّوا بالنفقات.
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه، وقال: " يا رسول الله معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على [خادمك] (1) ، فقال: معي آخر، فقال: افعل به ما شئت " (2) . وجاءت هند بنت عتبة لما فُتحت مكةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من النسوة من قريش ليبايعنه فقال عليه السلام: " أبايعكن على أن لا تسرقن " فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرّاً، فهل علي في ذلك شيء، فقال عليه السلام: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " (3) ، وروي أنه لما عرفها قال: " إنك لهند "، قالت: نعم، والإسلام يجُب ما قبله. وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " أبايعكن على أن
__________
(1) في الأصل: ذلك، والتصويب من عبارة المختصر للمزني.
(2) حديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: معي دينار ... الحديث. رواه الشافعي وأحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ر. ترتيب مسند الشافعي 2/63 ح 209، أحمد: 2/251، 471، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر (7413، 10088) . أبو داود: الزكاة، باب في صلة الرحم، ح 1691، النسائي: الزكاة، باب: تفسير ذلك، ح 2535. ابن حبان: 4219، الحاكم: 1/415 وصححه ووافقه الذهبي، وانظر التلخيص: 4/17 ح 1853) .
(3) هذا الجزء من حديث هند بنت عتبة متفق عليه من حديث عائشة، وله عندهما ألفاظ (البخاري: النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ح 5364. مسلم: الأقضية باب قضية هند، ح 1714) .(15/417)
لا تزنين، قالت: أيْ!! أوَ حُرَّةٌ تزني، فقال: أبايعكن على أن لا تقتلن أولادكن، فقالت: ربيناهم صغاراً، فقتلتموهم كباراً " (1)
وأجمع المسلمون على أصول النفقات.
ثم الأسباب الموجبة للنفقة على الخصوص: الزوجيةُ، والقرابة، والملك فالزوجية توجب النفقة للزوجة على الزوج، والملك يوجب نفقة المملوك على المالك، وأما القرابةُ، فيتصور وجوب النفقة بها من الجانبين على البدل، فالابن الفقير يستحق النفقةَ على الأب الغني، والأب الفقير يستحق النفقةَ على الابن الغني.
والمملوك لا يجب عليه الإنفاق بالقرابة، وإنما يجب عليه الإنفاق بسبب الزوجية على الزوج، وقد نقول: المكاتَب ينفق على ولده المكاتَب، وليس ذلك للولادة، وإنما هو لأن ولده في حق المملوك له، وإن كان لا يبيعه [و] (2) يستكسبه، كما يستكسب المماليك، والقول في ولد المكاتب والمكاتبة من أعظم أقطاب الكتابة، وسيأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) الحديث بتمامه على نحو ما ساقه الإمام رواه ابن سعد في طبقاته بسند صحيح ومرسل عن الشعبي وعن ميمون بن مهران. قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة هند (ر. طبقات ابن سعد: 8/9، الإصابة: 4/425) .
(2) زيادة لاستقامة الكلام.(15/418)
باب قدر النفقة من ثلاثة كتب
10078- قال الشافعي: " النفقة نفقتان، نفقة الموسِعِ ونفقةُ المُقْتِر ... إلى آخره " (1) .
صدّر الشافعي الكتاب (2) بنفقة الزوجات ومؤنهن، فلتقع البداية بالنفقة، والقولُ فيها يتعلق بأصولٍ: أحدها - في المقدار، والثاني - في الجنس، والثالث - في نفقة الخادمة، والرابع - في الأُدُم (3) ، والخامس - في كيفية إيصال النفقة إلى [الزوجة] (4) .
فأما القول في المقدار، فقد ذهب أبو حنيفة (5) إلى أن نفقة الزوجة لا تتقدر، وإنما الواجب كفايتها، وذلك يختلف بالرَّغابة، والزهادة، وإن وقع نزاع، رُد مقدار الكفاية إلى اجتهاد القاضي وفرضِه، وقد ثبت عند الشافعي بطلانُ المصير إلى الكفاية؛ فإن المرأة لو كانت لا تحتاج إلى النفقة في يوم أو أيامٍ لعارضٍ بها، فلها طلب [حقها] (6) من النفقة، ولهاطلب التملك، ثم تصنع بالنفقة ما تشاء.
ولو أكلت من مالها، لم يسقط حقها من النفقة، وكل ذلك ينعكس بنفقة الأقارب والمماليك، فلما تحقق عند الشافعي بطلانُ اعتبار الكفاية، ولم يجد في الشرع توقيفاً في تقدير نفقة الزوجات، ولم يجد مسلكاً بعد بطلان الكفاية إلا التعلُّقَ بالتقدير، ولا سبيل إلى الاحتكام به.
فإذا عسر النظر إلى الكفاية؛ لأن أقدار الكفايات تختلف باختلاف الأشخاص،
__________
(1) ر. المختصر: 5/69.
(2) في الأصل: صدر الشافعي به الكتاب.
(3) جمعُ (الإدام) .
(4) في الأصل: الزوج.
(5) ر. البدائع: 4/23، فتح القدير: 4/379.
(6) في الأصل: فلها طلب وحقيقتها من النفقة.(15/419)
وتختلف الحاجات، وقد ينتفى أصلها، فرأى الرجوعَ إلى الطعام الشرعي، وهو ما أوجبه الله في الإطعام في الكفارات، ولسنا ننكر أن الشارع رأى هذا قصداً وسطاً في الكفاية على الجملة، فكان التعلُّقُ به أولى متعلَّق.
ثم قال الشافعي: " في نص القرآن ما يدل على الفرق بين الموسع والمقتر " (1) ، فإنه عز من قائل قال: {يُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فاقتضى مضمونُ هذا الخطابِ الفرقَ في الإنفاق بين الموسع والمقتر، ثم نزّل الشافعيُّ نفقةَ المعسر على المدّ؛ فإنه أقلُّ مبلغٍ في الإطعام الشرعي، وطلب للموسع [متعلّقاً] (2) شرعياً، [ورأى في فدية الأذى صرفَ مدّين] (3) إلى كل مسكين، فاتخذه معتبره، ثم خطر له توسطٌ بين الموسع والمقتر؛ فإن ما يختلف باليسار والإقتار يجب أن يؤثر التوسُّطُ فيه، وهذا يظهر تقديره، فلم يجد في التوسط مستنداً شرعياً، فقال: مقدار النفقة على المتوسط للزوجة مُدٌّ ونصف.
هذا تأسيس مذهبه، فانتظم من نصوصه التي نقلها المزني وغيرُه أن على المعسر مُدّاً، وعلى الموسع مدين، وعلى المتوسط لزوجته مد ونصف.
10079- وإن كانت المرأة مخدومةً على ما سنصف ذلك في الفصل المعقود له، فعلى المعسر والمتوسط مُدٌّ للخادمة، وعلى الموسر مدٌّ وثلث.
هذا الذي نقلناه أصل المذهب.
10080- وقد حكى شيخي أبو محمد قولاً غريباً للشافعي مثلَ مذهب أبي حنيفة في أن الاعتبار بالكفاية، والرجوعُ عند فرض النزاع إلى اجتهادِ القاضي وفرضِه.
وهذا لم أره إلا لشيخي. نعم، حكى صاحب التقريب والشيخُ أبو علي في نفقة المتوسط والزيادة على المد في نفقة الخادمة في حق الموسر أنه لا تقدير في الزيادة، وإنما النظر إلى اجتهاد القاضي، هذا وإن كان بعيداً في النقل، فالحاجة ماسة إليه
__________
(1) ر. المختصر: 5/69.
(2) في الأصل: مبلغاً. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) في الأصل: ورأى في مدته الأذى ضرب مدّين ... إلخ وهو تصحيف مضلّل.(15/420)
لدقة مأخذ التقديرين، كما سنخوض فيه الآن.
فإن أصل المذهب أن المد والنصف تقدير في حق المتوسط، والمد والثلث تقدير في حق الموسر في نفقة الخادمة، وهذا عسر؛ فإن الشافعي يُطنب في الوقيعة فيمن يتحكم بالتقدير من غير ثَبَت، ولئن وجدنا مستنداً في المد والمدين معتضداً بنصِّ القرآن في الفرق بين الموسع والمقتر، فالمدّ والنصف، والمد والثلث، لا نجد لهما مستنداً قويماً.
ثم الأصحاب ذكروا وجوهاً رأَوْها أقصى الإمكان في المُدّ والثلث في حق الخادمة، والذي دل عليه فحوى كلامهم في المد والنصف في حق المتوسط أنه على تردد بين المعسر وبين الموسر، فلا يبعد أن يقتضي تردده بينهما، تنصيف المُدّ، حتى كأنه من وجه يلتفت إلى المقتر، والإقتار يوجب الإسقاط، ويلتفت إلى الموسر من وجه وذلك يوجب الإثبات، فوزعنا المدَّ الزائد في حق الموسر على الإيجاب والإسقاط، فاقتضى ذلك إيجابَ نصفٍ وإسقاط نصف، وهذا على حالٍ كلام منتظم.
10081- فأما إيجاب المد والثلث للخادمة تقديراً جازماً، فمشكل وقد ذكر أصحابنا فيه وجهين: أحدهما - حكَوْه عن القفال الشاشي أنه قال: من أصناف القياسِ القياسُ المقرّب، وهو عندنا إن صح من أقسام الأشباه.
ثم قال: الأب والأم [في الميراث] (1) لهما حالتان: حالة نقصان وحالة زيادة، فإذا كان في الفريضة ابن، فللأبوين السدسان، وإن كان وضع الفرائض يقتضي حطَّ الأم، ولكن إذا رُدَّ الأب إلى السدس، فكأنا نعتقد أن لا أقل منه في فرض الأبوين، فللأم السدس، وهذه الحالة تناظر حالة الإعسار، والأم بمنزلة الخادمة والأب بمنزلة الزوجة، فتستوي الخادمة والزوجة؛ إذ لا نقصان من المد.
فإن لم يكن في الفريضة ابنٌ، فللأب الثلثان بالتعصيب، وللأم الثلث، فنزيد للأب ثلاثة أمثال ما كان للأم في حالة النقصان، أو ثلاثةَ أمثال ما نزيد للأم، وهذا
__________
(1) زيادة من المحقق.(15/421)
محل تعلقنا، فكذلك إذا فرض اليسار ينبغي أن نزيد للزوجة التي هي محل الأب ثلاثةَ أمثال ما نزيد للخادمة التي هي بمحل الأم، وذلك يقتضي أن نزيد للزوجة مداً، وللخادمة ثُلث مد، هذا ما حكوه عن القفال الشاشي.
10082- وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخرَ مأخوذاً من نفقة المتوسط؛ فإنه يلتزم لزوجته مداً ونصفاً، والموسر يلتزم مدين، فيزيد ما عليه على ما على المتوسط بمثل ثلثه، [وعلى] (1) المتوسط مد ونصف، كذلك يزيد للخادمة في حال اليسار مثل ثلث ما كان لها في حالة التوسط، وللخادمة على المتوسط مُدّ بلا مزيد، فلها على الموسر مثل ما لها على المتوسط ومثل ثُلثه، وذلك مدّ وثلث.
وهذا عندي -وإن ذكره كافة الأصحاب- مما لا يسوغ اعتماده والتعويل على مثله، ولست أرى ما حكيته في درجةٍ من درجات الأقيسة، ولا معنى للإطناب في البينات، والوجه عندي أن نقول: ما ذكره الأصحاب في نفقة المتوسط قريب لائق بهذا الأصل، فليقع الاكتفاء به، وأما المد والثلث، فأقرب مسلكٍ فيه أن نقول: إذا اتسعت نعمة الله، لم يمتنع التوسع على الخادمة، ثم لا ضبط يصار إليه، ولا وجه لتبليغ الزيادة [مبلغ] (2) ما نزيد للزوجة في حالة التوسع، والثلث مما يقرب النظر إليه اعتباراً بثلث المال في الوصايا؛ فإن الرسول عليه السلام قال: " إن الله تعالى زادكم في آخر أعماركم ثُلثَ أموالكم زيادة في أعمالكم " (3) وهذا وإن لم يكن بالبيّن، فهو أولى مما قدمناه، وفي نص الشافعي في المختصر (4) ما يشبر إليه، هذا منتهى قولنا في التقدير.
10083- ونحن نختتمه بالكلام على المعسر ومعناه، والمتوسط، والموسر، ولست أدري كيف طاب للمصنفين تخطي أمثالَ هذه المغمضات من غير التفاتٍ على
__________
(1) في الأصل: أو على المتوسط.
(2) في الأصل: ومبلغ.
(3) سبق تخريج الحديث في أوائل الوصايا.
(4) ر. المختصر: 5/71. والنص المشار إليه هو قول الشافعي: " وأجعل لخادمها -أي زوجة الموسر- مدّاً وثلثاً؛ لأن ذلك سعةً لمثلها ".(15/422)
محاولة شرح فيها، مع العلم بأن هذه الأسماء مشتركة، وهذا مما تمس الحاجة إلى النظر فيه، في أوائل المراتب إذا رفعت الوقائع إلى المفتين، أو إلى الحكام.
فأما المعسر، فإن كان على رتبةٍ تستحق سهمَ المساكين، فهو معسر، ومن لا يملك شيئاً تستقر نفقةُ الزوجية في ذمته.
ومن جاوز حد المسكنة، فكيف السبيل فيه؟ [هل] (1) نقول: هو من المتوسطين؟ فإن قال بذلك قائل، فليس على علم بالباب؛ فإن الإنسان قد يخرج باكتسابه عن حد المسكنة، إذا كان قادراً على تحصيل القوت يوماً بيوم، ولست أرى مثل هذا الشخص من المتوسطين في نفقة الزوجات، بل هو معسر [ونفقتُه] (2) نفقة المعسرين، وهذا مما لا أتمارى فيه، فأما إذا كان يخرج بملك مالٍ لا بقدرةٍ على الكسب عن حدِّ المسكنة، فالذي أراه أنه في حد التوسط، وإن كان على اقتدارٍ وتوسع في الاكتساب بحيث يَرُدُّ عليه الكسبُ -على يسرٍ-[أضعافَ] (3) ما يحتاج إليه، فقد يتردد الفطن في هذا: أما إلحاقه بالموسرين، فلا سبيل إليه، وإنما تردد النظر في إلحاقه بالمتوسطين.
وأنا أقول بعد هذا التنبيه: هو معسر؛ فإنه يبعد تكليفه المزيد على قدر الحاجة بالاكتساب والله أعلم.
وأما المتوسط الذي يملك ما يرقِّيه عن حد المسكنة، فلي فيه نظر: فأقول: أرى المتوسط رجلاً يؤثِّر الإنفاق في ماله إذا زاد على الأقل الذي قدمناه، فكأنه لو أخرج مُدَّين أوشك أن ينحط إلى الإعسار، والموسر لا ينحط بمدّين إلى المتوسط فضلاً عن الإعسار، وهذا يؤخذ من التشطير في المد، حتى كأنه بإخراج الزائد، وهو نصف مدٍ لا ينحظ إلى الإعسار، وبإخراج المد يوشك أن ينحط إليه، وأقرب المآخذ ما يداني الحكمَ، فالحكمُ تشطير المد الزائد، فليكن التوسط مأخوذاً منه.
ومما يحق الاعتناء به أن اليسار لا ينظر فيه إلى المال فحسب، بل يُضَمُّ إلى اعتباره
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: بنفقته.
(3) في الأصل: أصناف.(15/423)
رخاءُ الأسعار وانخفاضُها وارتفاعها، فالرجل في المكان الذي تتّسع الأقوات فيه يتبلّغ بمقدارٍ من المال لا يتبلّغ بمثله في موضع تغلو الأسعار فيه، [ولن] (1) يكون الطالب واقفاً على دَرْك اليسار والإعسار والتوسط ما لم نمزج ملكَ المال بما أشرنا إليه من رخاء الأسعار وغلائها؛ فإن الغرض في كل باب من الإعسار واليسار على حسب ما يليق بالمقصود منه، فإذا كنا نبغي الكلام في أقدار النفقات ثم دُفعنا إلى النظر في المراتب، فالوجه اعتبار اليسار على وجهٍ [لا يُنافي] (2) النفقة الدارّة، ومن ضرورة ذلك ما أشرنا إليه من اعتبار الأسعار رخاءً وغلاء.
فانتظم مما ذكرناه أن الموسر من لا يتأثر بالمُدَّين، والمتوسط من يتاثر بالمُدَّين ولا يتأثر بالمد والنصف، والمعسر مخرّج على ما قدمناه.
وهذا نجاز الكلام في أقدار النفقات.
10084- فأما الكلام في الجنس المخرَج (3) ، فإن كان في البلد الذي فيه الكلام قوتٌ واحد غالب يستوي في اقتياته أهل الموضع على اختلاف درجاتهم، فلا شك أن المعتبر ذلك الجنسُ، ولا يتأتى هاهنا أن نقول: يعتبر القوت الغالب، أو يعتبر قوت كل شخص؛ فإن القوت إذا عم طبقاتِ الخلق، على ما صورنا، فقوتُ كل شخص هو القوت الغالب.
وإن لم يكن في الموضع قوتٌ غالب نحكم بغلبته، ولكن كانوا يقتاتون على حسب الدرجات أقواتاً مختلفة، فلا وجه -والحالة هذه- إلا وأن نعتبر في حق كل شخص قوتَه جنساً؛ إذ لا غالب، والأقوات متعارضة، ولا بد من متعَلَّق، ونحن مدفوعون إلى مسالك ضيّقة، نقنع فيها بأدنى متعلَّق، فيكون الجنس في اعتبار حال الزوج معتبراً بالقدر، وقد ذكرنا أن النظر إلى حال الزوج في يساره، وتوسطه، وإعساره في المقدار، فليكن النظر إليه في جنس القوت.
__________
(1) في الأصل: فلو.
(2) في الأصل: لا يتأتى.
(3) هذا هو الفصل الثاني من الفصول التي وعد بها الإمام في صدر الباب.(15/424)
ولو كان في البلد قوت يمكن أن يوصف بالغلبة، ولكن الفقراء قد يعتادون اقتياتَ غيره، فهذا موضع التردد: يجوز أن يقال: الاعتبار بالقوت الغالب، ويجوز أن يقال: يعتبر قوتُ ذلك المعسرِ، وإن كان الغالب في البلد غيرَه، وهذا إذا كان يعد اقتياتُ مثله الشعيرَ مثلاً نادراً في حال مثله، وقد ذكرنا مثل هذا الترددَ في الجنس الذي يُخرج في صدقة الفطر.
ومما يتعلق بذلك أن المخرَج يجب أن يكون حَبّاً أو تمراً، هذا هو الأصل، فإن أخرج خبزاً، فللمرأة ألا تقبلَه، وإن رضيت بقبوله، ففيه تفصيل سيأتي في بعض الفصول الموعودة، إن شاء الله.
10085- فأما الكلام في نفقة الخادمة، فحقه أن يُصدَّر بمراتب النسوة؛ فإن نفقة الخادمة لا تثبت لكل زوجة، والمقدار الذي ذكره الأصحاب أن المرأة إذا كانت تُخدَم في العرف، ولو كلفت الاستقلالَ بحاجات نفسها، لكان ذلك غضّاً من قدرها، وحطّاً من منزلتها، فهذه مخدومة وإن كانت [لو خدمت] (1) نفسها، لم ينلها ضرر لكمال مُنّتها، واعتدال بنيتها.
وهذا يناظر ما ذكرناه في الكفارات في العبد الذي يَخدِم ملتزمَ الكفارة.
ولو كانت في العادة لا تعدّ على مرتبة المخدومات، فلا تستحق نفقة الخادمة.
ولو كانت تُخدم، ومنزلتُها لا تقتضي ذلك، بل تُعدّ مجاوِزةً قدرَها، فلا تُخدم في النكاح، ولو لم تكن على منزلة من المروءة يُخدم أهلها، ولكن كانت على ضعفٍ في بنيتها، فإن كان ذلك مرضاً عارضاً، فلا تستحق على الزوج إقامةَ مُمرِّضٍ متفقّد، كما لا تستحق عليه المعالجةَ والقيامَ بمؤنِ الأدوية.
وإن كانت على ضعفٍ لازم لبنيتها، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر من جهة مشابهةِ الخادمةِ الممرّضةَ والمعينةَ على المعالجة، ويظهر عندي أن تستحق نفقةَ الخادمة؛ لأن الحاجة الدائمة أولى بالاعتبار من غضٍّ في المروءة، وقد ذكرنا في الكفارات أن من
__________
(1) في الأصل: وإن كانت خدمة نفسها.(15/425)
كان له [عبد] (1) وهو يحتاج إلى خدمته لعجزه اللازم له، فلا نكلفه أن يعتقه، كما لو كان يحتاج إليه في حفظه مُروءته.
هذا قولنا في التي تُخدَم، والتي لا تُخدَم.
10086- فإذا كانت مخدومة، فالذي قطع به الأئمة أن على الزوج القيامَ بمؤونة الخادمة، وقد ذكرنا من مؤنها النفقةَ، وسنذكر الباقي، ونقل بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال في عِشرة النساء: " ويشبه أن يكون عليه نفقةُ خادمها " فردد القول في ذلك، وقد جعل المزني المسألة على قولين في نفقة الخادمة، وهذا نُقل عنه في غير المختصر، وخالفه معظم الأصحاب في إجراء القولين.
ومن أصحابنا من ساعده وأجرى قولاً أن نفقة الخادمة لا تجب على الزوج قط، وهذا بعيدٌ جداً، ولكن ذكره صاحب التقريب، والشيخُ أبو علي، ومعظم الأئمة مع إطباقهم على تزييفه.
فإذا أوجبنا نفقةَ الخادمة، فإن استأجر الزوج حرّة أو أمةً لتخدِم الزوجة، فالذي يبذله أجرةٌ، وليس نفقةَ الخادمة.
وإذا أخدمها الزوجُ جاريةً من جواريه، سقط حق الخدمة بذلك، وليس هذا من نفقة الخادمة في شيء؛ فإن الزوج يُنفق على أمته بحق الملك.
وإن [كان للزوجة] (2) أمةٌ، وكانت تخدِمها، وأراد الزوج الإنفاق عليها، ورضيت المرأة بذلك، فهذه النفقة نفقةُ الخادمة، وهي التي تتقدر بالمد، والمد والثلث، على التفاصيل المقدمة، ولا يتصور نفقة الخادمة إلا في هذه الصورة؛ فإنا إذا صورنا استئجاراً، كان ذلك إخداماً بأجرة، ومقدارُ الأجرة على حسب التراضي.
وإن لم يكن لها أمةٌ، فلا يكلف الزوج أن يستأجر حرة أو أمة بأكثرَ من النفقة التي أثبتناها للخادمة؛ فإنه ربّما لا يجد من يخدِم بمدٍّ وأوقية زيت.
ولو قلنا: يجب أن يكفيَها الخدمةَ، فهذا وقوعٌ في مذهب أبي حنيفة في اعتبار
__________
(1) في الأصل: عذر.
(2) في الأصل: وإن كانت الزوجة أمة.(15/426)
الكفاية، وأقرب لازم على هذا الأصل أن يلزمه أن يكفيها ما يسد جوعتَها إذا كانت رغيبة لا تكتفي بمدٍ، فإذا كنا لا نُلزمه ذلك، فلا يَلزمُه في جهة الخدمة إلا ما ذكرناه.
فلو كانت تجد حرة تخدِم بالمدّ وما [يُلحَق] (1) به، فلا يتصور أن تُلزم الحرةُ بغير طريق الاستئجار، ولكن القدر الذي علينا [أن نوضحه] (2) أن على الزوج تحصيل هذا القدر، فإن تيسر به استخدامُ حرة، فليس على الزوج النظر في التفاصيل.
ولو قالت المرأة: أنا أخدم نفسي فسلِّم إليّ نفقةَ الخادمة، فلست أرى لها ذلك؛ فإنها أسقطت مرتبة نفسها، والله أعلم، فلينظر الناظر في هذا الموضع.
10087- ومما يتعلق بذلك أن الرجل إذا نكح أمة، وكانت تُخدَم لجمالها، فهل يجب عليه نفقةُ الخادمة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يجب على الزوج نفقةُ الخادمة؛ فإن الرق ينافي هذه المنزلة، والرقيقة تَخدِم ولا تُخدَم. والوجه الثاني - أنها تستحق نفقة الخادمة؛ لأن ذلك غيرُ مستنكر في العرف، ولا محمولٌ على الرعونة ومجاوزة الحد، والمحكّم في ذلك العاداتُ.
10088- ولو قال الزوج لزوجته المخدومة: أنا أخدمك بنفسي، فلا تكلفيني نفقةَ الخادمة، فقد قال الأصحاب: الأمور التي لا تستحي المرأة من تعاطي الزوج إياها يتعاطاها الزوج، كالخروج وكنس البيت وغيرها من أشغال المهن، فيجوز أن يقوم بكفاية هذه الأمور، وأما خدمتها الخالصة كحمل الماء إلى بيت الماء، [وما في معناه] (3) من الأمور التي تستحي النساء من إظهارها للأزواج، ويؤثرن الاختفاء بها، فالمذهب الأصح أن الزوج لو قال: أتعاطى ذلك أيضاًً -والمرأة تأبى- فليس للزوج ذلك، فإنا إذا كنا نقيم الخادمةَ محافظةً على مروءتها، فالذي ينالها من إظهار هذه
الأمور للزوج أعظم مما ينالها من غضّ المروءة وتعاطي الخدمة.
10089- هذا نجاز الفصل. وفي القلب منه غائلة وغُصّة، وذلك أن الأصحاب
__________
(1) في الأصل: وما يليق به. ومعنى ما يلحق به: أي وما يتبعه من أُدْمٍ، زيتٍ أو نحوه.
(2) في الأصل: أن نوضح.
(3) في الأصل: وما في معنا فيه من الأمور.(15/427)
ذكروا أن الخادمة تُملّك الحَبَّ، وترددوا في الأدم، فكيف يتصور ذلك؟ فإن الإجارة لا ضبط للأجرة فيها، ومملوكة الزوج لا تملّك شيئاًً وإنما الإنفاق عليها من فن الكفاية.
فالذي أراه أن الزوجة لو رضيت بأن تخدمها حرة، ورضيت الحرة بأن تخدِم بالنفقة، فإنها تستحق نفقةَ الخادمة، ولكن مهما (1) شاءت فارقت؛ إذ لا ضبط ولا عقد على اللزوم يُلزمها الاستمرارَ، والنكاح لا يشملها، فيجب القطع بعد [الاستخارة] (2) وإطالة الفكر بأنها إذا خدمت يوماً، استحقت وظيفة الخادمة.
ثم الظاهر عندي أن استحقاقها يكون على حسب استحقاق الزوجة نفقتها، فلها وظيفتها في صبيحة كل يوم، كما للزوجة وظيفتها، ثم لا نجعلها بأخذ الوظيفة ملتزمةً [للخدمة] (3) ، فإن بدا لها، ردّت الوظيفة وتطلقت (4) ، وإن أرادت استكمال الخدمة، فعلت؛ فحقها مأخوذ قبل العمل، مستقر بالعمل، وحق الزوجة يُداني ذلك من وجهٍ، وإن كان يخالفه من وجهٍ، كما سنصف بعد ذلك، إن شاء الله.
وهذا شاذ لا أرى له نظيراً ولا أجد من القول به بُدّاً.
10090- ثم الخادمة في الابتداء إلى تعيين الزوج (5) ، [فأمَّا] (6) إذا كانت قائمةً بالخدمة، فإن هي ألفت خادمةً، وأراد الزوج أن يبدلها، فإن رابه منها أمرٌ،
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا) .
(2) في الأصل: الاستجارة.
(3) في الأصل: خدمة.
(4) وتطلّقت: المعنى أنها صارت مطلقة غير ملتزمة بالخدمة، والمراد من العبارة تقرير وإثبات أن هذا الاستخدام ليس عقداً لازماً ملزماً لها، بل لها أن ترد الوظيفة ولا تقوم بالخدمة.
(5) في صفوة المذهب: الزوجة. وفي المسألة وجهان: أظهرهما أن تعيين الخادمة في الابتداء إلى الزوج، وهو الذي ذكره الإمام، ولم يذكر غيره، والثاني - أن تعيينها إلى الزوجة، وهو الذي ذكره ابن أبي عصرون، ولم يذكر غيره، والذي رجحه الرافعي والنووي وجعلاه (الأظهر) هو ما ذكره إمام الحرمين: أنه إلى الزوج (ر. صفوة المذهب - جزء (5) ، ورقة: 204 يمين، والشرح الكبير: 10/12، والروضة: 9/46) .
(6) زيادة اقتضاها السياق.(15/428)
فليفعل، ولا يكلَّف في مثل ذلك إقامةَ حجة، ولا ينتهي الأمر إلى محاكمة ومخاصمة، وإن أراد إبدالها -والزوجةُ قد ألفتها- من غير خيانة وريبة، فالذي رأيته للأصحاب أنه ليس للرجل ذلك من غير غرض؛ فإن انقطاع [النفس] (1) عن المألوف شديد، وربما انبسطت إليها، وستلقى عُسراً أن تنبسط مع أخرى، وهذا بيّن من هذا الوجه.
10091- ومن تمام القول في ذلك أن الزوج لو قام بالأشغال الظاهرة وترك الأمور الخفية على خادمة، فهل تستحق تلك الخادمةُ الوظيفةَ التامة، ومعظم الأشغال مكفية؟ هذا يقرب عندنا من تردد الأصحاب في أن السيد إذا زوج أمته، وكان يستخدم الأمة نهاراً ويردها إلى الزوج ليلاً، فهل على الزوج كمالُ النفقة؟ فيه اختلاف قدمناه في كتاب النكاح: من أصحابنا من قال: يجب تمامُ النفقة، ومنهم من أوجب نصفَها، ومنهم من لم يوجب عليه شيئاًً.
ويخرج عندنا في الخادمة وجهان خروجاً ظاهراً: أحدهما - أن للخادمة نصف الوظيفة، ولا توزيع على أقدار الأعمال كالليل والنهار. والوجه الثاني - أن لها تمامَ الوظيفة؛ فإن الخادمة في الأمور السرّية لا بد منها، وهي تحتاج أن تتربص في جميع الأزمان لمسيس الحاجة إلى تلك الأشغال، ولا ترضى بأقلَّ من الوظيفة، والزوج هو الذي تجشم من عملها ما تجشم.
وهذا الوجه أفقه وأليق.
ولا يمتنع عندنا أن توزع الوظيفة إذا فتحنا بابَ التقسيط، بخلاف الليل والنهار في نفقة الأمة المزوجة؛ فإن الليالي والأيام جعلها الله خِلْفة، وهي تتناوب على نسب مستويةٍ في الطول والقصر، وأما الأعمالُ البادية والخفية؛ فإنها متفاوتة ليست متناسبة.
فأما إذا قلنا: لا تستحق الأمةُ شيئاًً من النفقة إذا لم يسلمها السيد إلى زوجها ليلاً ونهاراً، فلست أرى لهذا الوجه خروجاً هاهنا؛ فإن الخادمة لا بد منها على الوجه
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.(15/429)
الذي عليه نفرّع، والزوجة لا تجد خادمة متبرعةً بالخدمة، ففي إسقاط حقها تعطيلُ الخدمة في الأمور الخفية.
10092- فأما القول في الأُدْم، فقد قال الشافعي: " لزوجة المعسر كلَّ يومٍ مكيلةُ زيتٍ أو سمن " (1) ولم يختلف علماؤنا في أن الأُدم ليس يتقدّر، وذلك أنا اعتمدنا في تقدير القوت ما وجدناه في أصل الشرع في المُدّ والمدين، ثم سلكنا مسالك في التقريب بينهما، فأما الأُدم، فلسنا نجد له أصلاً في الشرع مقدّراً.
والأُدم ثابتٌ مستحَقٌّ للزوجة، فلا سبيل إلى التقدير، ولكن أمره مبني على ما يكفي أُدماً لمدٍّ، وإن كانت النفقة مدّين، فما يكفي أُدماً لمدين، ولا شك أن الأُدم على الموسر يزداد استحقاقاً؛ على حسب ازدياد القوت، فإذاً الأدم تابع للقوت.
ثم ذكر الشافعي المكيلةَ والمكيلتين، والمكيلةُ مجهولة، وإنما أراد تقريباًً، وقد يُلفَى له ذكر الأوقية والأوقيتين، والأمر في ذلك مرتبط بما ذكرناه.
هذا كلامه في تقريب مقدار الأُدم.
وأما الجنس، فقد ذكر الشافعي الزيت أو السمن، ولم يعين جنساً تعيين إيجاب، ولكن الأُدم الغالب في كل موضع يُرْعى.
ثم إن تبرمت المرأة بالزيت والسمن، وأرادت جنساً آخر قيمته كقيمة ما يغلب أُدماً، فهذا فيه تردد بيّن: يجوز أن يقال: الرجوع في هذا إلى الزوج، ثم إن أرادت المرأة جنساً آخر، تصرفت بنفسها، أو تصرفت خادمتها لها. وهذا كقول الشافعي: إن أرادت المرأة مزيداً في القوت، زادت من أُدمها في قوتها، وإن أرادت مزيداً في الأُدم زادت من قوتها في أدمها.
ويجوز أن يقال: تعيين الأُدم إليها؛ إذ لا ضرار على الزوج في إسعافها، ويظهر تضررها بالمواظبة على أدم واحد، وقد تتضرر بصرف أدم في أدم.
ويظهر هذا الذي ذكرناه منه إذا لم يكن في البلد أدم غالب، فإن كان في البلد أدم غالب، فقد يخرج فيه وجه أن الرجوع إلى الغالب، ويجري الوجهان المقدمان.
__________
(1) ر. المختصر: 5/70. ونذكّر هنا أن القول في "الأُدم" هو الفصل الرابع في الباب.(15/430)
هذا قولنا في مقدار الأدم وجنسِه كلَّ يوم.
10093- قال الشافعي: " يشتري لها في الأسبوع رطلَ لحم إن كانت الوظيفة في القوت مداً، وإن كانت الوظيفة مدين اشترى لها في الأسبوع رطلين ... إلى آخره " (1) .
قال العراقيون: هذا قاله الشافعي على عادةٍ ألفها في دياره؛ فإن أهل [مصر] (2) قد يستقلون من اللحم، وإذا فرضت عادة على خلاف ذلك في بعض البلاد، فلا [اقتصار] (3) على رطل ورطلين، ولكن المتبع العادة، فنقول: أي قدر يليق بنفقةٍ قدرها مُدّ؟ وكيف السبيل والنفقة مدان؟ ويختلف ذلك بالأصقاع والبقاع، وهو قول العراقيين، وهو حسن متجه، وكان شيخي [يحكي] (4) عن شيخه القفال اتباع الشافعي فيما ذكرناه [من أن المطاعم] (5) والملابس، تدور على سِدادِ الحاجة، ولا تنتهي إلى النعمة والترفه وانبساط بني الدنيا، والدليل عليه أنه أثبت مُدَّين على الملك العظيم،
وإن كان هذا نزراً وتْحاً (6) في حق [الموسر في حكم العادات] (7) .
ويجوز للعراقيين أن يقولوا: ذلك تقدير، والتقدير لا يزول عن وضعه، وما يليق بالكفايات يجب الرجوع فيه إلى موجَب العادات.
ومما يجب التنبيه له أن المرأة إذا كانت تتزجَّى بالحَب القفر (8) ، وكانت لا تأتدم، فحقها من الأُدْم لا يسقط، فهذا بمثابة استحقاقها أصل النفقة، ولو كانت قد لا تحتاج إليها في بعض الأحوال.
__________
(1) ر. المختصر: 5/70.
(2) في الأصل: (الجروم) وفي صفوة المذهب (الحروج) . والمثبت من (الشرح الكبير: 10/8، والروضة: 9/42) .
(3) سقطت من الأصل.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: في المطاعم والملابس.
(6) الوتح: مثلثة التاء: القليل التافه (المعجم) .
(7) ما بين المعقفين مكان عبارة الأصل: " المقترن في حكم العالم ".
(8) أي تتطعم النفقة من الحبوب بغير إدام.(15/431)
10094- فأما أُدْم الخادمة، فالذي تحصل لنا من كلام الأصحاب وجهان في أنها هل تفرد بأُدم؟ منهم من قال: تفرد بالأُدم كل يوم؛ فإن الأُدم يتبع النفقة ولا تخلو نفقة عنه، وكما أفردت بالقوت، وجب أن تفرد بالأُدم.
والوجه الثاني - أنها لا تفرد بالأُدم، ولكنها تكتفي بما تُفْضِله المخدومة من الأدم، إذ العادة قد تقتضي الإفراد بالقوت مع الاختلاط في الأدم، فإن فرّعنا على هذا الوجه الأخير، فيجب أن نزيد للمخدومة في الأدم، ونُثبت لها من الأُدم أكثرَ مما نثبته للتي ليست مخدومة، ثم قد لا ننتهي إلى مقابلة مد الخادمة بمكيلة أوقية، فإن أُدْم الخادمة أقل. وإذا فرعنا على الوجه الأول ملّكنا الخادمةَ أُدمها، واعتقدناه ركناً مستحقاً لها في وظيفتها.
ثم الغالب على الظن أن من أثبت لها كلَّ يوم أُدماً لا يخصصها باللحم في أوان اللحم، والعلم عند الله.
ثم يزيد لحم المخدومة على لحم التي ليست مخدومة.
ولا خلاف أن قوت الخادمة من جنس قوت المخدومة، أجمع على ذلك الأصحاب في الطرق، وذكر العراقيون وجهين مفرعين على أنها مخصوصة بالأُدم في أن أُدمها هل يكون من جنس أدم المخدومة، أم يجوز أن يكون دون أدم المخدومة في الجنس؟ وهذا الاختلاف منقدح، وهو مأخوذ من العادات؛ فإن جنس القوت يتحد وأجناس الأدم تختلف.
وقد انتهى الكلام في الأُدم.
10095- فأما القول في كيفية صرف النفقة إلى الزوجة (1) فنقول: أجمع الفقهاء على أن الزوج يتعين عليه تمليك زوجته النفقةَ، وأبو حنيفة وإن بنى مذهبه على الكفاية، وافق في أن المرأة إذا طلبت التمليك، أجيبت إلى غرضها، ثم قد ذكرنا أن حقها المتأصل الحَبُّ، كما مضى، فإذا ملكها الحَبَّ، فطالبته بالقيام بمؤن إصلاح الحب طَحْناً وخبزاً، فلها ذلك، وينتظم من هذا أن لها طلبَ تمليك الحب، ثم لها طلب مؤن الإصلاح.
__________
(1) هذا هو الفصل الخامس والأخير من الفصول التي وعد بها الإمام في صدر الباب.(15/432)
ولو أخذت الحبَّ وملكته، واستعملته بذراً، أو باعته، فلو أرادت مطالبةَ الزوج بمقدار مؤنة الإصلاح، فهذا أراه محتملاً: يجوز أن يقال: لها ذلك؛ فإنها قد تبغي إصلاح [مُدٍّ] (1) عندها، وتُصيِّره خبزاً، وتتملّك ذلك؛ فإنه من حقها، وكأنا نقول: لها البرُّ والأُدم، والمقدارُ الذي يُصلح الطعام.
ويجوز أن يقال: إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز، لم تملك المطالبة، بالمؤن التي تُنهي الحبَّ إلى الخُبز، فإن الإصلاح ليس من الأركان والوظائف [القائمة، وإنما هو إصلاح عند الحاجة.] (2) نعم، إذا كانت تحتاج إلى إصلاح البرّ، وقد أخرجت البرّ الذي قبضته، فيجب القطع بأنها تكلِّف زوجها ذلك، فأما إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز في يومها، ففيه الخلاف والتردّد الذي أشرت إليه.
ولو اعتاضت المرأة عن البُرّ الثابت لها في ذمة الزوج [دراهمَ] (3) ، أو ما أرادت من عِوض، فقد ذكر أصحابنا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز؛ فإنه اعتياضٌ عن طعام ثابت في الذمة، بحكم عقد، فأشبه الاعتياض عن المسلم فيه.
والوجه الثاني - أنه يجوز، كما يجوز الاعتياض عن قيم المتلفات، وهذا الخلاف يقرب مأخذه من مأخذ القولين في جواز الاعتياض عن الثمن الثابت في الذمة، وقد سبق ذكرهما في كتاب البيع.
ولو اعتاضت المرأة عن الحب خبزاً، فقد ذكر بعض الأصحاب فيه خلافاً، وهذا يتطرق إليه تجويز بيع البُرّ بالخبز، وهو ممتنع في البيع وفاقاً، ولكن من جوّز هذا فيما نحن فيه، فوجهه -على بُعده- أنها تستحق الحَبَّ والإصلاحَ، فإذا رضيت بطعام مهيَّأ مُصْلَح، فكأن ما قبضته حقُّها؛ وليس عوضاً عن حقها، [فإنه كان لها أن تطلب الحَبَّ] (4) ، ثم تكلِّف زوجَها إصلاحه، وهذا مما لم يختلف فيه أصحابنا.
__________
(1) في الأصل: بدّ.
(2) ما بين المعقفين تقدير منا، لما ذهب من عبارة الأصل بسبب امّحاء أطراف الكلمات والحروف.
(3) مطموسة في الأصل. والمثبت من صفوة المذهب.
(4) في الأصل: وإن كان لها أن تطلب الحب.(15/433)
10096- ومما أجراه الأصحاب في الخلاف والمذهب أنها لو رضيت بأن تأكل مع زوجها من غير إجراء تمليك وتملّك واعتياض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من جرى على قياس المذهب، ولم يُسقط النفقةَ بهذا، وإن كان الزوج يرى إطعامها عوضاً عن حقها عليه، فما يتعاطاه سحتٌ.
ومن أصحابنا من أجاز ذلك، وبناه على مذهب المسامحة والاتباع؛ فإن الأولين كان يعمّ هذا الاعتيادُ منهم من غير إجراء اعتياض.
وحاصل هذا [أنا] (1) إن أردنا تخريجه على قاعدة المذهب، [قلنا] (2) إن المرأة تستحق النفقة تمليكاً إذا لم تَطْعم مع زوجها، فإذا طَعِمت معه واكتفت، سقط حقها من طلب التمليك، وإن لم يكن هذا على حقائق الأعواض، وكأن نفقتها على [هذا] (3) الرأي بين الكفاية إن أرادت وبين التمليك، على قياس الأعواض إن طلبت.
وهذا حسنٌ غائصٌ.
ومما نوصي به من يطلب التحقيق أن يؤثر ما يليق بالباب على القياس الجلي الذي يستند إلى غير الباب.
وما ذكرناه من الرضا بالتطعم لائق بباب النفقة، غيرَ أنها إذا آثرت الطلب، لاقَ بما تطلب التمليكُ والقدرُ (4) .
10097- ولو قدم الزوج لزوجته نفقة أيام، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنها هل تملك ما قدمه الزوج على نفقة يومها؟ أحد الوجهين - أنها تملكه، كما يملك مستحق الدين المؤجل ما يعجّل له قبل الأجل. والثاني -وهو الأظهر- أنها لا تملك؛ فإن الدين المؤجل ثابت، [وإنما] (5) المنتظر الحلول وانقضاءُ الأجل [لتوجيه] (6)
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة اقتضاها استقامة الكلام.
(3) زيادة من المحقق لا يتم الكلام إلا بها.
(4) والقدر: أي التقدير والتحديد بالمدّ والمدّين ... إلخ.
(5) في الأصل: فإنها.
(6) في الأصل: توجيه.(15/434)
الطَّلِبة، والنفقةُ تجب يوماً يوماًً، فلا يقع المقدَّمُ مستحقاً.
ثم قال الشيخ: إن قلنا: إنها تملك ما يقدم لها، فتملك التصرف فيه، وإن قلنا: إنها لا تملكه، لم تملك التصرفَ فيه، والأمر على ما فرعه، وليس ذلك كالقرض- على قولنا: إن المقترض لا يملكه بمجرد القبض؛ فإنا مع ذلك [نسلّطه] (1) على التصرّف، فإنا نقول: يتوقف جريان ملكه على تصرّفه، وإذا جرى منه التصرف، تبيّنا انتقال الملك إليه قبيل التصرف، فالتصرّف على هذا القول شرطُ جريان ملكه، فيستحيل أن يمتنع التصرف.
10098- وتمام هذا الفصل أن المرأة تملك على زوجها نفقة كل يوم مع [أول] (2) جزء من اليوم، فكما (3) طلع الفجر ملكت النفقة، وطالبت بها، وتصرفت تصرف الملاك، إما فيما في الذمة وإما فيما تقبض.
ثم قال الشيخ أبو علي: إذا قبضت المرأة نفقة يوم وماتت في أثناء اليوم، لم يسترد النفقةَ، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ولو كان قدم الزوج لها نفقة أيام، وقلنا: إنها لا تملك ما يزيد على نفقة اليوم،
فإذا ماتت، تركنا عليها نفقةَ يوم الموت، واسترددنا منها نفقاتِ الأيام بعد ذلك.
وإن قلنا: إنها ملكت ما قدمه الزوج لها، فهل يسترد من تركتها تلك النفقات الزائدة على نفقة يومها الذي ماتت فيه؟ فعلى وجهين- ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه [يستردّها] (4) وهو ما قطع به العراقيون؛ فإنها إنما ملكت على تقدير بقاء الزوجية، فإن انتهت الزوجية نهايتَها قبل الأيام التي قدّم الزوج نفقتها، يجب القضاء بانتقاض ملكها.
والوجه الثاني - أنا لا نستردّ ما قدمه الزوج، فإنما نفرع على أنها ملكته، فأشبهت نفقةَ اليوم إذا أخذتها ثم ماتت في صبيحة ذلك اليوم، فمعظم أوقات اليوم باقية، ثم النفقة غيرُ مستردة.
__________
(1) في الأصل: نسلطها.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) فكما: بمعنى عندما طلع الفجر، أو كلما طلع الفجر ...
(4) في الأصل: أنه مسترد.(15/435)
ولا خلاف أنها إذا أخذت نفقة يومها، ثم نشزت، لم نترك عليها النفقة.
فانتظم من هذا أن نفقة اليوم لا تسترد إلا من ناشزة، وأما إذا ماتت، فلا، ونفقةُ الأيام المستقبلة تستردّ من الناشزة، وهل تسترد من تركة الميتة؟ فعلى الخلاف المقدم.
10099- ومن تمام البيان في ذلك أنها لو كانت مطيعةً في بعض اليوم ناشزةً في بعضه، فهل تستحق النفقة لزمان الطاعة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، قريبُ المأخذ من مسألة الأمة المزوّجة إذا سلمها السيد ليلاً واستخدمها نهاراً، ولكنا ذكرنا ثلاثة أوجه ثَمّ: أحدها - أنه يثبت تمام النفقة على الزوج، وهذا الوجه لا يخرّج إذا انقسمت الطاعة والنشوز في اليوم الواحد، بل لا يجري هاهنا إلا وجهان: أحدهما - أنها تستحق قسطاً من النفقة، وهذا هو الأوجه هاهنا. والثاني - أنها لا تستحق شيئاً؛ فإن النفقة لا تتبعض.
ثم إن فرض النشوز في أحد الجديدين (1) على الاطراد والطاعةُ في الآخر، فالبعض الذي أطلقناه نصف النفقة.
وإن كان انقسام الطاعة والمخالفة على نسبةٍ أخرى من الزمان، فلا وجه إلا اعتبارُ الأزمنة والتقسيط عليها.
وهذا نجاز القول في الفصول التي وعدناها في النفقة.
فصل
في الكسوة
10100- الزوجة تستحق على زوجها الكسوة، والكلام في قدرها، وجنسها، وجهة تسليمها.
فأما القدر، فلا قدرَ، والكُسوةُ مبناها على الكفاية، بخلاف النفقة، والدليل عليه
__________
(1) الجديدان: الليل والنهار، والمعنى الحرفي هنا غير مراد، وإنما المعنى: إذا فرض نشوزها يوماً وطاعتها يوماً على الاطراد، أو فرض نشوزها آناً بعد آن على التبادل، هذا هو المعنى المقصود.(15/436)
أن الطعام مقدَّرٌ في الكفارة، والكُسوة مقدّرة ولكنها محمولة على دراهم في تفاصيلَ ستأتي مشروحةً في كفارة الأَيْمان، ولا يمكن الاكتفاء بالاسم فيما نحن فيه، فإن ستر المرأة من فوقها إلى قدمها محتومٌ إلا فيما يظهر منها ويبدو في الصلاة، فحقٌّ على الزوج القيامُ بالكُسوة. ثم الجثث والقُدود تتفاوت تفاوتاً عظيماً، [والقوت] (1) الذي يقع غنيةً وبلاغاً وقد يعم معظمَ طبقات الخلق (2) . هذا هو القول في الأصل المرعي في ذلك.
10101- فأما الجنس فقد قال الشافعي: الكسوة على المعسر من غليظ البصرة، يعني الكرباسَ الغليظ، وهي على الغنيِّ من ليِّن البصرة، يعني الكرباس الليّن الرقيق، والمتوسط بين المعسر والغني.
وإذا كان الأصل مبنياً على الكفاية، فالقول في التفصيل يجري على التقريب لا محالة.
قال العراقيون: هذا الذي ذكره الشافعي محمول على ما عهده في زمانه، ولعل أهله كانوا يكتفون بالليّن والغليظ، فأما إذا عمّت العادات في زمان بإلباس المرأة الحريرَ، والخزَّ، والكتان، وما في معانيها، وكان ذلك لا يعدّ سرفاً ومجاوزةَ حدٍّ، فيجب إلباس المرأة هذه الفنون، إذا هي طلبتها على شرط الاقتصاد والجريان على الاعتياد.
وعلى هذا لا منتهى للجنس، ويجب أن لا يعرض (3) موقف، حتى لو عظم يسار الرجل، ازداد شرفُ الأصناف التي يكسوها زوجاته.
__________
(1) في الأصل: والقوة.
(2) المعنى أن الكسوة تختلف عن النفقة، فالقدر الذي يعتبر غُنيةً وبلاغاً قد يتساوى فيه جميع الخلق، أما الكُسوة فلا يمكن اعتبار قدرٍ محدّد فيها لتفاوت الأشخاص جسامةً وطولاً، ونحافة وقصراً.
(3) المعنى أنه يجب ألا يوضع حدٌّ يوقف عنده، بل كلما زاد يسار الرجل، ازدادت قيمة الأصناف التي يكسوها زوجته.(15/437)
وكان شيخي يقول: ما رآه الشافعي لا مزيد عليه، وهو لبس الدَّيِّن (1) ، فأما ما عداه، فاعتياده من شيم [المترفين] (2) .
هذا قولنا في جنس الكسوة.
ولا خلاف أن الخادمة في كُسوتها محطوطةٌ عن المخدومة، والجنس في القوت لا يختلف، وفي الكسوة يختلف، وفي الأُدم خلافٌ قدّمناه.
ثم على الزوج أن يكسو امرأته في الصيف خماراً وقميصاً وسراويل، على حسب ما يليق، كما تقدم التفصيل، ثم يُلبسَها في الشتاء جُبةً تُدفئها على حسب مسيس الحاجة إلى الإدفاء، وقد يكون للخادمة فروةٌ على ما تقتضيه العادة في المغايرة، والقميص الواحد يبلى ولا يدوم السنة.
ثم ذكر العراقيون في ذلك مسائل نذكرها في آخر الفصل.
10102- فأما جهةُ الكُسوة، فقد اختلف أصحابنا فيها: فذهب بعضهم إلى أنها إمتاع ولا يجب التمليك فيها، فعلى هذا لو استأجر الزوج ثياباً وكَسَتْ (3) بها، كفى ذلك، وكذلك لو استعار.
والوجه الثاني - أنها تستحق تمليكَ الكُسوة، كما تستحق تمليكَ النفقة، وهذا قد يشهد [له] (4) العادة.
فإن قلنا: المستحق في الكُسوة إمتاعٌ، فلو سلم ثوباً إليها ولم يملِّكها، فتلف الثوب في يدها من غير تقصير منها، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تضمن؛ فإنها تستحق أن تكسى ويدُ الاستحقاق في الانتفاع لا تُثبت الضمانَ في العين، ولو كنا نضمنها ما يتلف في يدها من الثياب، لتفاقم الضرر عليها، ولكانت على غرر طول زمانها، وعلى خطرٍ في شأنها.
__________
(1) عند ابن أبي عصرون: "اللين".
(2) في الأصل: المستريبين. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) كست بها: أي لبستها، تقول: كسِيَ يكسَى: لبس الكسوة، فهو كاسٍ. (المعجم) .
(4) زيادة من المحقق.(15/438)
وإن قلنا: إنها تُملَّك، فلا يخفى التفريع.
ثم [القول] (1) في تمليك الخادمة وإمتاعها كالقول في الزوجة سواء بسواء.
10103- وهذا أوان الوفاء بما ذكره العراقيون. ونحن [نُجري] (2) مسلكاً نراه أضبط وأجمع، ونذكر في أثنائه كلامَ العراقيين، فنقول: إذا [سلّم] (3) إلى المرأة كُسوةَ الصيف مثلاً، فتلفت في يدها، فإن قلنا: الكُسوة إمتاع، ولم تُقصِّر، فعلى الزوج أن يجدد إمتاعَها بكُسوة أخرى، فإن إدامة الإمتاع محتومةٌ.
وإن قلنا: جهةُ الكسوة التمليكُ، فإن ملكها وظيفةَ الصيف، فتلفت في يدها من غير تقصير، ففي المسألة وجهان: أقيسهما - أنه لا يجب على الزوج تجديد الكُسوة؛ فإنه وفاها حقها ملكاً، وأقام لها حقها المستحَقَّ، فأشبه ما لو أعطاها النفقة وملّكها ثم تلفت في يدها.
والوجه الثاني - أنه يلزم التجديد؛ فإن الكسوة وإن كانت على التمليك، [فإنها] (4) على الكفاية، وهذا ضعيف لا اتجاه له، ولا خلاف أنه لو انقضت نوبةُ الكُسوة، والكُسوة معها (5) ، فلو حكمنا بأن الكسوة إمتاع، لم يجب التجديد، وإن حكمنا بأن جهة الكسوة التمليك، فيجب الوظيفة.
10104- ومما يتعلق بذلك ما ذكره العراقيون في النفقة والكسوة عند طريان الموت، قالوا: إذا أعطى زوجتَه نفقة يومها فماتت، لم يسترد نفقة ذلك اليومِ، وقد ذكرنا ذلك.
وإن قدم لها نفقة أيام، استرد الزائدَ على نفقة ذلك اليوم، هذا ما قطع العراقيون به، وفيه خلاف ذكرناه. وإن وفاها كُسوة الصيف، فماتت في أثناء الصيف، ذكر العراقيون في استرداد تلك الكسوة وجهين في ترتيبهم.
__________
(1) مطموس في الأصل، والمثبت تقدير من المحقق.
(2) في الأصل: نحوي.
(3) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(4) مطموسة بالأصل، والمثبت من تصرّف المحقق واختياره.
(5) أي ما زالت الكُسوة باقية.(15/439)
والذي نراه أن الكسوة إن كانت إمتاعاً، فهي مستردة؛ فإنها [ما] (1) ملكتها إلا أن يكون وهبها الزوج منها.
وإن كان التفريع على أن جهة الكُسوة التمليك، فالصيف في كسوة الصيف كاليوم الواحد في النفقة.
وما أطلقوه من الوجهين يخرجان على الإمتاع والتمليك، كما قدمناه.
10105- ومما يتم به البيان أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فلو أتلفتها، فلا شك في وجوب الضمان، وهل تستحق كُسوةً جديدة إمتاعاً بها؟ الوجه الظاهر أنها تستحقها إدامةً للإمتاع، وفيه احتمال مأخوذ من إعفاف الابن أباه؛ فإنه إذا أعفه بزوجة فطلقها، فهل يجب على الابن أن يعفه مرة أخرى؟ فيه خلاف ذكرناه في موضعه، والوجه في الكسوة إيجاب التجديد.
وإن أتلفت وفرطت، فإنها تضمن، فكأنها ردّت ما أخذت. نعم، يجوز أن يقال: هذا الخلاف يجري في التقديم والتأخير، حتى إذا أرادت المطالبة بتجديد الكسوة قبل أن تغرَم للزوج قيمةَ ما أتلفت، فهل لها ذلك؟ هذا يخرج فيه الخلاف خروجاً مستدّاً وقد نجز القول في الكُسوة.
10106- وما يتصل بهذا القولُ في الشعار، والدثار، وما يفرش. قال الشافعي: " لها مِلْحفةٌ ووسادة ومُضَرَّبةٌ وثيرة " (2) ، ويختلف ذلك بالغنى والفقر اختلاف الكسوة.
وللخادمة ثياب ليلها على قدر الكفاية، مع التفاوت الظاهر في المرتبة، حتى قال الشافعي: ثوب ليل الخادمة في حق المعسر كساءٌ.
ثم الكلام فيما يفرش: قال العراقيون: تحت المضرَّبة لِبدٌ أو حصيرٌ، وهل لها زِلّيّة (3) تفرشها بالنهار؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون - واقتصروا في الفرش على
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام إلا بها.
(2) ر. المختصر: 70، 71 (وهذا معنى كلام الشافعي وليس بلفظه) .
(3) الزلّية: نوعٌ من البُسط (المعجم) وما زال أهل العراق والجزيرة العربية عموماً يطلقون على =(15/440)
هذا القدر، ولم يردّوا الأمرَ إلى العادة، ونحن نعلم أن الفقير الذي نفقته في اليوم مدٌّ [يكفي] (1) مسكنَه فرشٌ يستر أبنيةً أو بناء واحداً (2) .
ثم لم يرَوْا اعتبار هذا في حق الغني، [وردّدوا] (3) الخلاف في الزِّلّية، وتوسعوا في الكُسوة، وحملوا نص الشافعي حيث ذكر ليّن البصرة في حق الغني على عادة زمانه، وأثبتوا في عادات زماننا الخز والحرير.
وهذا في ظاهره تناقض منهم، تبيّن به أن الوجه اتباع ما لا بد منه، وما عداه تجملٌ وزينة لا يتعلق الاستحقاق به، ويمكن أن يقال: ما اعتبره الشافعي من ليّن البصرة على الغني لم يثبته زينةً، وإنما أُثبت إمتاعاً بالثوب الذي يلين حسّه ولا تتأثر البشرة به، وهذا ما أردنا التنبيه عليه.
10107- والمسكن في النكاح لا بد منه، ثم رأيت للأصحاب في أبواب العِدد عند ذكرهم مسكن النكاح أنه يُسكنها مسكناًً يليق بها، فاعتبروا في ذلك جانبها، ولم يعتبروا في جنس القوت جانبها، وإنما اعتبروا فقر الزوج وغناه، كما قدمناه.
وقد يعترض في هذا سؤالٌ من جهة أن المرأة وإن كانت رفيعة المنصب والزوج يحصرها وحدها أو مع خادمة في الدار، وله أن يمنع أهليها من مداخلتها، وقد نوجب على الفقير أن يُخدِم زوجتَه، واتساعُ المسكن إنما تمس الحاجة إليه لكثرة الساكنين، فما وجه ذلك والطرق متفقة على أن المساكن تختلف باختلاف أقدار الزوجات؟ والأصل في هذا أن الكبيرة المنصب إذا كانت ألفت مسكناًً فسيحاً ينسرح الطرف فيه، فلو رُدّت إلى حجيرة منخفضةِ السقوف ضيقةِ الأبنية، كان ذلك بالغاً في الإضرار بها، وهذا واضح في العادات، ولذلك أطبق أهل المروءات على التباهي بالمساكن وارتياد
__________
= ما يسمّيه أهل مصر (السجّاد) يطلقون عليه (الزَّلّ) بفتح الزاي، وهو ما يفرش من البسط بأنواعه وأشكاله.
(1) في الأصل: ففي.
(2) كذا. ولعل المعني بالبناء الحجرة.
(3) في الأصل: وردّوا.(15/441)
ما يليق بأحوالهم منها، حتى إذا فرض مسكنٌ محطوطُ القدر عُدّ الاكتفاء به نُكراً في العرف، وخَرْماً للمروءة.
والذي ينتظم عندنا في هذه الأبواب أن ما يكون إمتاعاً في حقوق الزوجة يجب أن يُرعى فيه منصبها وحالها، وما يكون مبناه على التمليك، فلا فرق فيه بين أن تكون رفيعةً أو خاملة، وإنما يختلف القدر فيه بتوسع الزوج في الثروة أو نقيض هذه الحالة تعلّقا بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، وقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] ، وما أشار إليه العراقيون من التردد في الكُسوة أُدراه مبنياً على أنها إمتاع أو تمليك، والعلم عند الله.
فإذاً لا تمليك في المسكن، ولا في المفارش، وثياب الليل ملتحقةٌ بالفرش؛ إذ يبعد أن يجب عليه تمليكُهَا ثيابَ الليل، ثم يضاجعها في ثيابها، والنفقة والأُدم على التمليك، وفي الكُسوة الخلاف الذي قدمناه.
10108- ثم قال الشافعي: " على الزوج أن يُهيىء لها عتادها في التزين والتنظف فيشتري لها مشطاً، وما يليق به إن كانت تحتاج إلى مزيد ... إلى آخره " (1) .
ثم قال الأئمة: للخادمة أصل النفقة والأُدم تبعاً وأصلاً، كما تقدم، وهي تُمتَّع بالمسكن تمتعَ الزوجة، ولا بد لها مما يدفئها ليلاً على قدرها، وهي محطوطة عن المخدومة، وليس لها آلةُ التنظف كالمشط وغيره، ولها خُفان إن كانت تحتاج إلى الخروج، ثم كُسوتها في التمليك والإمتاع ككسوة الزوجة، وأرى خفَّها في معنى كُسوتها.
وللزوجة المشط والدهن الذي تترجل به، فإن كانت تبغي مزيداً تتزين به كالكحل والطيب، فلا تستحق شيئاًً من ذلك، والأمر فيه مفوّض إلى الزوج، والزوج يجنبها ما يتأذى به إذا تعاطته كالأطعمة التي لها روائحُ كريهة.
ولو كانت تتعاطى من الأطعمة ما يغلب على الظن أنه يُمرضها، فهل للزوج أن يمنعها منه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يمنعها؛ فإن المرض غيبٌ
__________
(1) ر. المختصر: 5/71.(15/442)
ولا تتأذى في الحال، ولو فتحنا هذا الباب، لطال نظرنا في منع الزوج إياها من مزيدٍ في القدر تتعاطاه من الطعام، وفي تكليفها أموراً ظنيّة، وإن كان ما تتعاطاه مما يؤثر تأثير السموم، فلا شك في أنه يمنعها، كما يمنعها أن تقتل نفسَها.
ومما تعرض له الأصحاب في الخادمة أنها إذا احتاجت إلى إزالة الوسخ عن نفسها، ولو لم تفعل ذلك، لتأذت بالهوامّ والوسخ، ثم تأذت المخدومة بها إذا كانت [تخامرها] (1) ، فيجب على الزوج أن يكفيَها ذلك، وقد يكون من حاجتها المشط، هكذا ذكره الصيدلاني، وهو حسن متجه.
وفي بعض التصانيف ليس لها المشط، فإنها إن تأذت، كان تأذيها بمثابة تأذيها بأمراضها، وليس على الزوج معالجةُ أمراضها فيما تتأذى به، وإنما عليه أن يهيىء لها ما سبق تمهيده. والأصح ما ذكره الصيدلاني، وليس تأذيها بالوسخِ من قبيل الأمراض؛ فإن الأمراض وإن كان يغلب طريانها في المدد، فليس مما يُقضى فيها بأنها ستكون لا محالة، وركوب الدرن والوسخ وتلبد الشعر، ووقوع الهوام، مما يقع وقوعَ الجوع، فيجب أن تُكفَى هذه الجهة، كما تُكفَى الحر والبرد.
10109- فأما إذا طلبت المرأة الدهن لتترجل به، فقال الرجل: أما ما تتأذَّيْن به من وسخ، فعليّ أن أهيىء لك ما تستعينين به على إزالة ذلك، وأما الزينة بالترجل، فلست أبغيها منك، وهي حظِّي وليس من ضرورتك، فظاهر كلام الأصحاب أنه يجب عليه إقامة آلة الزينة لها، وليس يبعد من طريق الاحتمال ألاّ يجب ذلك لما أومأنا إليه، ولها الطيب، [ولم] (2) يوجب أحد على الزوج بذلَه لها ما يقطع الروائح الكريهة، ولا يتأتى قطعها إلا به كالَمْرتَك (3) في قطع الصِّنان، فهذا فيه نظر؛ فإن الماء قد يكفي فيه، مع استعمال ترابٍ أو غيره، فإن كان لا يتأتى القطع إلا بما ذكرناه، فنقطع
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(2) في الأصل: فلم.
(3) المرتك: وزان جعفر، ما يعالج الصنان. معرّب، ولا يكاد يوجد في الكلام القديم (المصباح) .(15/443)
بتحصيله لها، فإن هذا مما [يؤذيها] (1) في نفسها، وعلى الفقيه ألاّ يَغفُل نظرُه عن الرواتب من هذه الأمور، وعما يطرأ بعارض.
والكحل لم يوجبه أحد وألحقوه بالطيب، ولم يختلفوا أنه لا يجب على الزوج مؤن المعالجة، كالأدوية ومؤنة الحجامة والفصد، وما في معانيها.
10110- ومما يجب إعداده ماعون الدار كظروف الماء، والقِدْرِ للطبخ، وما في معناه من المغارف وغيرها مما يظهر التضرر بسبب فقدها، ثم ظروف الماء قد تكون خزفية، وقد تكون نحاسية، والسبيل فيها الإمتاع، كما ذكرناه في المسكن والمفارش، ويتجه أن تكتفي الخاملة بظروف الخزف، والشريفة تبغي النحاسية.
ويجوز أن يقال: طلب أواني النحاس من رعونات الأنفس، وليس كالمسكن، فإن المسكن الضيّق يغُمّ ويضر إضراراً بيّناً، والعلم عند الله.
وإذا تعلق الكلام بالكفايات، وأثبتت على خلاف المراتب، لم يكن استيعاب المقاصد منها بالمسائل، وإنما الممكن تمهيد الأصول على أقصى الإمكان في التقريب، والله المستعان.
فصل
10111- المكاتب وإن كان موسعاً عليه، فنفقته نفقة المعسرين؛ فإن ملكه غيرُ تام، ولهذا قبض الشرع على يديه، ومنعه من الاستقلال بالنفس في التبرعات، وردّد الشافعي القولَ في نفوذ تبرعاته بإذن المولى.
والعبد ينفق نفقةَ المعسرين سواءٌ كان محجوراً عليه أو مأذوناً له في التجارة، وسواء ملكه المولى وفرعنا على أنه يملك بالتمليك، وسواء أذن له في إتلاف (2) جميع ما ملكه أو لم يأذن.
فأما إذا كان بعضه رقيقاً وبعضه حراً، وقد كثرت أمواله،
__________
(1) في الأصل: يرزيها.
(2) المراد بالإتلاف هنا الإنفاق.(15/444)
[بالبعض] (1) الحر منه، فالذي أطلقه الأصحاب أن نفقته نفقة المعسرين لما فيه من نقص الرق، وكل ما يبنى على كمال، فمن بعضه رقيق فيه ملتحق بالأرقاء، كالشهادات والولايات.
وقال المزني: إذا كان غنياً ببعضه الحر، نظرنا إلى الرقيق منه والحر، فإن كان النصف منه رفيقاً، فيخرج نصف نفقة المعسرين، وهو نصف مُدّ ويخرج نصف نفقة الموسرين وهو مد، فيجتمع مد ونصف بهذا الاعتبار، وإن تفاوت مقدار الرق والحرية، فيتفاوت الحساب، والمتبع الاعتبار الذي ذكرناه، وهذا المسلك مشهور للمزني، ومعظم الأصحاب على مخالفته.
وذهب بعض أصحابنا إلى اتباعه واختيار مذهبه، وإلحاقه بمذهب الشافعي رضي الله عنه.
***
__________
(1) في الأصل: فالبعض.(15/445)
باب الحال التي تجب فيها النفقة
قال الشافعي: " إذا كانت المرأة يجامَع مثلُها ... إلى آخره " (1) .
10112- النكاح في القواعد معدود من موجِبات النفقة، كالقرابة، وملك اليمين، ثم اشتهر في الطرق من الأصحاب ذكرُ قولين في أن النفقة تجب بالعقد أم بالتمكين، وهذان القولان مستخرجان من معاني كلام الشافعي وتعاليله في المسائل على ما قد ننبه على بعضها، على حسب مسيس الحاجة.
والغرض من منشأ القولين يتبيّن بما ننبّه عليه، فنقول: النفقات الدارّة لا تجري مجرى الأعواض على التحقيق، وإنما هي [كفاية] (2) في مقابلة ارتباط المرأة بحِبالة الزوجية؛ فإن للزوج سلطانَ منعها عن التبسط، فقابل الشرع ما أُثبت له من الاحتكام عليها بإيجاب كفاية مؤنها عليه، والصداق هو المذكور على صيغة [الأعواض] (3) في مقابلة البضع، ثم صح عند المحققين أنه خارج عن حقائق الأعواض، فإذا كان لا ينتصب الصداق عوضاً محققاً، فالنفقات لا يتخيل ثبوتها عوضاً في العقد، ولكن انقدح معنيان: أحدهما - احتباسها بالعقد على الزوج، والآخر - تمكينها الزوجَ من الاستمتاع.
ولم يختلف العلماء أنها لو نشزت، فلا نفقة لها في زمان النشوز، فلما لم تكن النفقة عوضاً لمنافع البضع حتى يتوقف استقرارها على توفية المنافع، كما يتوقف استقرار الأجرة على توفية المنافع المقابَلَةِ بها مقابلةَ الأعواض على التحقيق، فقال قائلون: النفقة تجب بالعقد: معناه أنها تجب بالاحتباس الذي أوجبه العقد، وذلك
__________
(1) ر. المختصر: 5/73.
(2) في الأصل: كناية.
(3) في الأصل: الأعراض.(15/446)
مشروط بعدم النشوز، وللشافعي لفظ في (السواد) ينطبق على هذا، وهو أنه قال في نفقة الصغيرة: " ولو قال قائل ينفق لأنها ممنوعةٌ به من غيره، لكان مذهباً " (1) وهذا تعلق منه رضي الله عنه بما يقتضيه النكاح من المنع، وإشارة إلى أن سبب وجوب النفقة ذلك.
ثم هذا يعتضد بقواعدَ لا خلاف فيها، وهي أن المريضة التي لا تؤتَى تستحق النفقة، وإن انحسمت جميع وجوه الاستمتاعات بها، والرتقاء تستحق النفقة، وإن عسر مقصود النكاح عُسراً يُثبت الاطلاع عليه الخيارَ في فسخ النكاح، غير أنها إذا نشزت وامتنعت على زوجها، أسقط الشرع نفقتَها؛ استحثاثاً لها على الطاعة، ودُعاءً إليها كما بين الله تعالى في لطيف كتابه، [ردّهن] (2) بالموعظة، والهجران في المضجع، والضرب إلى الطاعة.
وصاحب القول الثاني يقول: إيجاب المؤن على الزوج على مقابلة التمكين من الاستمتاع، فالتعويل على التمكين، ولا يُفرض التمكين على الحِلّ إلا في عقد.
ويتبين القولان بشيئين: أحدهما - أن الزوجين لو اختلفا: فقال الزوج: لم تمكّني، وقالت: مكنتُ، وذكرا على مُوجَب النزاع مدةً، وحاول الزوج سقوطَ النفقة بها (3) ، وأرادت المرأة استقرارها في تلك المدة، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن القول قول الزوجة. والثاني - أن القول قول الزوج.
ولا خروج لهذين القولين إلا على القولين المذكورين في موجَب النفقة.
فإن قلنا: النفقة تجب باحتباسها في حِبالة النكاح، ودوامُها مشروط بعدم النشوزَ، فكأن الزوج يدّعي عليها النشوزَ، والأصل عدمُه، ولا حاجة بها إلى ادعاء التمكين، وإنما [تنفي] (4) النشوز.
وإن قلنا: موجِب النفقة التمكينُ، فهي تدعي صدورَ التمكين منها، والأصل
__________
(1) ر. المختصر: 5/73.
(2) في الأصل: وُدّهن.
(3) الباء تأتي مرادفة لـ (في) .
(4) في الأصل: يبقى.(15/447)
عدمه، فالقول قول الزوج. فهذا أحدُ ما يبيّن القولين.
والثاني - إن نكح امرأة ولم يطلب زفافَها، ولم تُظهر المرأة وأهلُها امتناعاً، وتمادى على ذلك الزمنُ، فهل تستقر النفقة في زمان السكوت؟ على القولين المقدّمين، لست أشك في سماعهما من شيخي.
وقطع العراقيون بأن النفقة لا تثبت في زمان السكوت، وليس من الممكن القطع بهذا مع إجراء القولين في الاختلاف الدائر بين الزوجين، فنقول: إن قلنا: موجب النفقة العقد ولا تسقط إلا بالنشوز، فلم يصدر منها نشوز، فاستمرّت النفقة، واستقرت لقيام موجِبها، وانتفاءِ مسقِطها.
وإن قلنا: النفقة تجب بالتمكين كما تستقر الأجرة بالتخلية والتمكين، فلم يوجد من المرأة تمكين، كما لم يوجد منها نشوز، فلا تستحق النفقة.
هذا ما رأينا تصدير الباب به.
10113- ثم إن الشافعي ذكر نفقة الصغيرة المنكوحة، وذكر النفقةَ على الزوج الصغير، والمسلك الذي نراه أقربَ إلى البيان وإيضاحِ الغرض، تفصيلُ الصور، ثم جمعها، فإذا نكح الرجل صغيرة لا يؤتى مثلُها لصغرها، فهل تثبت نفقتها؟ فعلى قولين منصوصين للشافعي، وتوجيه القولين يعسر افتتاحه، مع القطع بأن المريضة المُدنِفة تستحق النفقة، لا نعرف في ذلك خلافاً، فإذا تعلق موجِب النفقة بذلك، عسر على ناصر القول الثاني الفرق، وليس على قول من يقول: [لا تنحسم جميع وجوه الاستمتاع في حق المريضة معوّلٌ؛ فإن التصوير الحاسم لجميع وجوه الاستمتاع ممكنٌ في حق المريضة] (1) .
والوجه في تنزيل القولين أن نقول: الصبا المانع، ثم الكبر الذي يتهيأ معه الوقاع مما يترتب على ترتيب الخلق وأطوار التردد، فكأن الصبية في نوبة من عمرها لا تقصد
__________
(1) في الأصل: معوّل في حق المريضة. وفي عبارة الأصل خلل ظاهر، هكذا: لا تنحسم جميع وجوه الاستمتاع معول، في حق المريضة؛ فإن التصور الحاسم لجميع وجوه الاستمتاع معوّل في حق المريضة، فإن التصوير الحاسم ممكن، والوجه تنزيل ...(15/448)
للاستمتاع، وإنما يعتقد أوان الاستمتاع بعد الترقي عن الصغر المفرط، والأمراض عوارض لا ترتّب لها، ولا تعدّ من الأطوار التي يقع عليها أدوار النشوء، فلم ير الشرع اعتبارَها، وأمّا الرتَق، فأمر دائم لا يزول، وهو من ضرورة الخلقة، والنكاح يدوم، فلو أسقطنا نفقتها، لأدمنا حبسها من غير كفاية.
فإذا وقع التنبه لهذا، وظهر تميز الصغيرة عن المريضة، والرتقاء، فنوجه القولين بعد ذلك ونقول: تستحق النفقة للاحتباس، وهذا تعليل الشافعي وينطبق هذا بعد التحرز عن المرض والرتق- على ما ذكرناه من القولين في أن النفقة تجب بماذا؟
ومن لم يوجب النفقة لم يعتبر الصّغر بالمرض، واعتضد بأن الصغيرة لا تعدّ في العرف محتبسة بالزوجية، بل هي محتبسة بصغرها، والاستمتاع مرقوب ودرور النفقة موقوف على أوان الاستمتاع.
هذا إذا نكح الرجل صغيرة.
10114- فأما إذا زُوِّجت امرأةٌ من صغير لا يتأتى الاستمتاع منه، ففي المسألة قولان أيضاًً، أما وجه وجوب النفقة، فبيّنٌ؛ فإن المانع في الزوج، والمرأةُ [متهيئة] (1) ، وأما من أسقط النفقة، فتعويله ما قدمناه، من أنّ الصغر لم يعدّ في عرف أهل الدين من نُوب المطالبات بالنفقة، والأولى ترتيب القولين في صغره على القولين في صغرها، فإن قلنا: صغرها لا يسقط النفقة، فلأن لا يسقط صغره النفقةَ أولى.
وإن قلنا: صغرها يسقط النفقةَ بخلاف مرضها، ففي صغره قولان، والفارق أن الصغر من جانبها مانع في محل التمكين، بخلاف الصغر في جانبه.
ولو زوجت صغيرة من صغير، والصغر من كل واحد منهما مانع فالقولان في النفقة جاريان، وهما مرتبان على القولين في صغره. وإن أحْبَبْتَ رتبتهما على القولين في صغرها والزوج كبير.
10115- وإن جمعنا الصور وأردنا أن نجريَ الأقوالَ في جميعها، قلنا: أحد الأقوال - أن الصغر ينافي وجوبَ النفقة في أي جانب فرض، والثاني - أنه لا ينافي
__________
(1) في الأصل: متهمة.(15/449)
وجوب النفقة في أي جانب كان، والثالث - أن الصغر فيها ينافي وجوب النفقة، والصغر فيه لا ينافي وجوب النفقة.
ويجري قول رابع أن الصغر فيهما ينافي وجوب النفقة، والصغر في أحدهما لا ينافي الوجوب.
وسرّ هذا الفصل في تمييز الصغر عن البرص والرتق، وتنزيل القول فيه على نوب الخلقة، أو على احتباس المرأة بالعقد.
واختار المزني أن صغرها يسقط النفقة وصغر الزوج لا يسقط النفقة، إنما ذكرت اختيار المزني؛ لأن الفطن قد يرى إسقاط النفقة لصغر المرأة على خلاف القياس، وإذا اعترض مثلُ هذا الظن ورأينا المزني على مخالفته، قوي الاعتضاد بمذهبه.
وفي بعض التصانيف أن البالغة إن نكحت صغيراً على علم، ففي نفقتها قولان، كما ذكرناهما، وإن نكحت ولم تعلم صغر الزوج، استحقت النفقةَ قولاً واحداً.
وهذا التفصيل لم أره لأحد من الأئمة المعتبرين، وما يُسقط النفقة لا يختلف بالجهل والعلم. [والعلم] (1) عند الله.
فصل
في التمكين ومعناه والنشوز المسقط للنفقة، والأسباب المانعة من الاستمتاع التي تجب النفقة معها.
10116- وأما التمكين، فإذا قالت المرأة المستقلة، أو قال أهلها -إن كانت محجوراً عليها- مهما سُقْتَ الصداقَ، زففناها، فهذا تمكين، فإذا أعرض الزوج، وامتدت المدة، استقرت النفقة، فإن نفقة الزوجية لا تسقط بمرور الزمن بخلاف نفقة القرابة، ولا يتوقف استقرارها دَيْناً في الذمة على قضاء القاضي وفرضِه،: خلافاً لأبي حنيفة (2) ، هذا تصوير التمكين، ولو فرض السكوت، فقد أثبتنا جريان القولين في صدر الباب.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 223، فتح القدير: 4/394.(15/450)
ولو كانت صغيرة لا يتأتى وقاعها، ورأينا إيجاب النفقة للصغيرة، فلا حاجة في تقرر النفقة في الصغر على وعدِ الزفاف عند إمكان الاستمتاع، بل تستقر النفقة في الصغر مع السكوت وترك التعرض وفاقاً، وإذا حان زمان الإمكان، [فتصوير] (1) التمكين والسكوت على ما مضى، ولا يتوقف إمكان الاستمتاع على البلوغ؛ فإن الاستمتاع ممكن قبله، وكذلك لا يتوقف تمكن الزوج من الاستمتاع على بلوغه، فإن الصبي ينتشر ويجامع.
ولو كانت المرأة مريضة لا يتأتى وقاعها، فنفقتها دارّة وإن امتنعت عن الاستخلاء بالزوج، ولو قال الزوج: زفوها إليّ، وأنا أمتنع عن وقاعها إلى أن [تشتد] (2) ، لم يؤتمن عليها، هذا إذا ثبت المرض المانع، وإن أنكر الزوج امتناع الوقاع، فشهدت أربع نسوة على المانع، ثبت [المرض] (3) وقرت النفقة. وإن شهدت امرأة واحدة، ففي بعض التصانيف في ذلك وجهان، ذكرهما العراقيون، وتحصيل القول فيهما يؤول إلى أنا هل نكتفي في هذا المقام بخبرِ من يوثق به، وتقبل روايته؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه، والسبب في هذا التردد طريان العوارض عند فقدان أربع [يشهدن] (4) .
ولو لم يكن بالحضرة شاهدة، وكانت في بيتها على ظاهر الصّحة، فادعت سبباً باطناً لا يبعد صدقها فيه، وزعمت أنه ينالها من الوقاع شدةُ ضرر، فلا تصدّق، ولها أن تحلّف زوجها على نفي العلم. ولو كانت على دَنَف ومرض ظاهر، ولكن كان لا يثبت ما ينالها من الضرر بمجرد ما يشاهَد منها، فهو كما لو كان ظاهرها الصحة.
هذا قولنا في التمكين، وما يليق به.
10117- وأما النشوز، فإذا توفر عليها حقها، ووجب عليها تسليمها نفسها، فأبت، فهي ناشزة، ولا نفقة لناشزة بالاتفاق.
__________
(1) في الأصل: بتصوير.
(2) في الأصل: تستبد. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) في الأصل: الغرض. والمثبت من تصرّف المحقق.
(4) في الأصل: شهدن.(15/451)
ولو امتنعت، فكان الزوج قادراً على ردّها إلى الطاعة، فنفقتها تسقط، ولا نكلِّف الزوجَ معاناةَ ردّها وإن قدر عليه.
ولو امتنعت على زوجها في دار زوجها، فهي ناشزة، إلا أن يكون ذلك [محاولَة] (1) دلال يغلب جريانه من اللواتي لا امتناع بهن، ولا يخفى تمييزه عن النشوز.
ومن القواعد أنها لو فارقت مسكن النكاح غاضبة، فهي ناشزة، ولو فارقته بإذن الزوج في شغلِ الزوج، أو سافرت كذلك في شغله، فنفقتها دائمة، ولو خرجت أو سافرت بإذن الزوج في شغل نفسها، ففي سقوط النفقة قولان: أحدهما - أنها لا تسقط لإذن الزوج واتصافها بنقيض المخالفة. والقول الثاني - أن النفقة تسقط؛ فإنها استبدلت عن تمكينها شغلاً لها، فيبعد أن يجتمع لها قضاء وطرها من شغلها ودرور النفقة، وهذا الاختلاف له التفات على القولين المذكورين في صدر الباب: فإن قلنا: النفقة لا تسقط إلا بالنشوز، فهذه ليست بناشزة، وإن قلنا: لا تجب النفقة إلا
بالتمكين، فهذه ليست ممكنة.
10118- فهذا قواعد الكلام في التمكين والنشوز، والأعذار العارضة، ونحن نفضّ عليها مسائل مقصودة في أنفسها، وهي تفيد تمهيدَ الأصول.
فمما ذكره المزني إحرام المرأة، والقول في ذلك يتفصّل، فنذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم نذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بغير إذنه.
فأما إذا أحرمت بإذن الزوج، فلا يملك الزوج تحليلها لصَدَر الإحرام عن إذنه، ثم لها حالتان: حالة إقامة، وحالة ظعن: أما إذا ظعنت مسافرة آمّة بيت الله، فهي مسافرة بإذن زوجها في شغل نفسها، ففي سقوط نفقتها في هذه الأيام قولان جاريان إلى أن تقضي نسكها، وتؤوب إلى زوجها.
فأما إذا أحرمت وبقيت في مسكن النكاح أياماً إلى اتفاق الخروج، فالذي تحصّل
__________
(1) في الأصل: بجانبة دلال. والمثبت تصرف من المحقق.(15/452)
لنا من طرق العراق وغيرها طريقان: ذهب الأكثرون إلى وجوب النفقة؛ فإنها تحت يد الزوص وامتناع [الوقاع] (1) صادر عن إذنه.
ومنهم من قال: في سقوط نفقتها قولان، كما لو خرجت؛ فإن الوقاع قد امتنع، وتبعه امتناع جميع وجوه الاستمتاع، فلا أثر لكونها في المسكن، ولا فرق بين إقامتها وظعنها، وهذه الطريقة أقيس، وطريقة القطع أشهر في الحكاية.
ولو أحرمت بإذن الزوج، وهمت بالخروج فنهاها الزوج عن الخروج، فالذي حكاه الصيدلاني عن القفال أنه كان يقول: تسقط النفقة إذا خرجت على مخالفته قولاً واحداً، والذي يقتضيه كلام الأئمة في الطرق إجراء القولين، وقد حكاهما الصيدلاني عن الأصحاب، والوجه فيه أنها إذا لابست الإحرام، فلا خلاص لها ما لم تلْقَ البيتَ، فكأن الزوج ورطها في ذلك، والوجه ما ذكره الأصحاب.
وكل ذلك وإحرامها بإذن الزوج.
10119- فأما إذا أحرمت بغير إذنه، فللشافعي قولان في أن الزوج هل يملك تحليلها، وهل يفصل بين حج الفرض وحج التطوع؟ فيه تفصيل ذكرناه في باب الحصر من كتاب الحج، فإن قلنا: يملك الزوج تحليلها، فإن حللها، استمرت النفقة وزال المانع، وإن لم يحللها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن نفقتها لا تسقط ما دامت مقيمة؛ فإنها في قبضته والزوج مقتدر على تحليلها، وفي بعض التصانيف حكايةُ وجهٍ أن نفقتها تسقط؛ فإنها فعلت ما يتصور منها، والإحرام على الجملة مانع، وقد ترتاع نفس الزوج عن تحليلها، ويمكن أن يقال: قدرته على تحليلها بمثابة قدرته جملى رد الناشزة عن استعصائها. ولو خرجت، لم يخْفَ أنها ناشزة.
هذا إذا قلنا: يملك الزوج تحليلها. فأما إذا قلنا: لا يملك الزوج تحليلها، فلا يملك أيضاًً منعَها من الخروج، فلا نفقة لها إذا خرجت؛ فإنها لم تستأذن زوجها، وهل لها النفقة ما دامت مقيمة إلى الخروج، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تستحق
__________
(1) في الأصل: الوفاق. والمثبت تصرف من المحقق.(15/453)
النفقة. وذكر الصيدلاني في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - تستحق النفقة؛ فإنها لو أرادت التحلل، لم يمكنها، وإنما يُقضَى عليها بالنشوز إذا تمادت ي امتناعٍ هي [قادرة] (1) على النزول عنه والرجوع إلى الطاعة (2) .
وهذا يقرب بعضَ القرب من مسائل ذكرناها في كتاب الصلاة: منها أن من ردَّى نفسه من شاهق، وانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً أياماً ثم [استبل] (3) ، فهل يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؟ فيه تردد.
والوجه عندنا ما قدمناه من إسقاط النفقة؛ فإن الامتناع إذا نسب إليها، كفى ذلك في سقوط ما تستحق على مقابلة التمكين.
فأما الرخص؛ فإنما يمتنع ثبوتها بسبب العصيان، والعصيان يتحقق في الأفعال الاختيارية، وقد انقضى عصيان المُرْدي نفسه.
ولم أر هذين الوجهين إلا للصيدلاني.
10120- ومن المسائل التي نذكرها صيام المرأة: أما الصيام في رمضان فلا يُسقط نفقتها، وهو بمثابة اشتغالها بوظائف الطهارات والصلوات في أوانها، ويعترض في ذلك أنا إذا جوزنا للمرأة أن تخرج لحجة الإسلام، وإن كان لا يحرم عليها التأخير، فهل تستحق النفقةَ كما تستحق في أيام رمضان، أم كيف السبيل فيه؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أن الحج لا نوجب ابتداره على الفور. ونحن وإن جوزنا لها الخروج لتتخلص من [الغرر] (4) ، فيبعد أن تستفيد ذلك، وتترك ناجزَ حق الزوج، ونفقتُها دارّة، ويجوز أن يقال: هي مقيمة فرضَ الإسلام، ولم نمنعها من إقامته على القول الذي انتهى التفريع إليه.
__________
(1) في الأصل: نادرة.
(2) المعنى أنها ليست ممتنعة على الزوج بإرادتها فهي غير قادرة على التحلل، وأما النشوز فهو الامتناع مع القدرة على الإجابة.
(3) في الأصل: استبدّ. واستبلّ: أي شفي وتعافى.
(4) في الأصل: العذر. والمثبت تقدير من المحقق. ثم المقصود بالغرر هنا الخطر في تأجيل الحج ومفاجأة الموت.(15/454)
ولا ينبغي أن يعتمد الفقيه في الفرق بين الصوم وبين الحج تخلل الليالي، فإنها لو كانت تنشز نهاراً وتمكِّن ليلاً، لم يُطلق القول بثبوت نفقتها، وقد أجرينا في هذا اختلافاً [وتردّداً] (1) ، ولا خلاف أن نفقتها لا تسقط في صوم رمضان.
ولو كانت صائمة تطوّعاً أو نذراً لم يصدر عن إذن الزوج: أما صوم التطوع، فللزوج قطعه عليها، وفي صوم النذر ترتيب: فإن نذرت في الزوجية من غير إذنه، كان له قطعه عليها، فنقول: إذا كان يملك القطع، فقد ذكر العراقيون أنه لا تسقط نفقتها، وهو مما كان يقطع به شيخي.
وفي بعض التصانيف وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الإحرام على قولنا: للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير إذنه.
والوجه عندنا ترتيب الصوم على الإحرام؛ وذلك أن الزوج يُقدِم على الاستمتاع بالصائمة من غير تقديم أمرٍ، ويكون استمتاعه بها تحليلاً، وهذا لا يتحقق في الإحرام؛ فإنه يجب عليه أن يحللها أولاً، ثم يستمتع بها، فإن لم يكن من إجراء الخلاف بدّ على ما ذكره بعض المصنفين، فالوجه ترتيبه على الخلاف المذكور في الإحرام، وطريق العرف (2) ما أشرنا إليه.
هذا إذا أصبحت صائمة والزوج قادر على الاستمتاع، وقد ساغ له قطع الصوم عليها.
وأما إذا حاول إفساد الصوم عليها، فامتنعت، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن نفقتها هل تسقط في ذلك اليوم، ولعلهم قالوا هذا في يومٍ أو أيام قلائل مفرقة على كُثر الأيام وسأبيّن أصله.
فأما إذا أكثرت الصيام، وامتنعت لأجل الصيام على الزوج نهاراً، فيجب القطع بتنزيل ذلك منزلة النشوز منها في تلك الأيام مع التمكين ليلاً، ثم لا يخفى التفصيل.
10121- ونحن الآن نجمع فصولاً تَمَس الحاجة إليها فنقول: لا شك أن الزوج
__________
(1) في الأصل: مترداً.
(2) كذا. ولعلها طريق (القطع) : أي القطع بعدم سقوط النفقة. والله أعلم.(15/455)
لا يمنع الزوجة من وظائف الشريعة المفروضة، ولو أراد أن يمنعها عن إقامة الصلاة في أول الوقت، ففيه اختلاف مشهور بين الأصحاب.
وكذلك لو منعها من إقامة السنن الرواتب، ففيه الخلاف أيضاً؛ فإن في تعجيل الصلاة فضيلة، والزوج بتكليفها التأخير يفوّتها عليها.
وكان شيخي يجري الخلاف في صومها في يوم عرفة وعاشوراء؛ فإن الأخبار المُرغِّبة فيها ظاهرة، فنزل صومها منزلة اشتغالها برواتب السنن.
وأما إذا كانت تعتاد صوم الأثانين والخمايس، فللزوج منعها من المواظبة على ذلك؛ فإنها لو [فعلت] (1) هذا على مخالفة الزوج، لكانت معطِّلة عليه أياماً من الشهر، وما حكيناه من خلاف العراقيين في صوم يومٍ هو بالإضافة إلى الأيام بحيث لا يعد قادحاً في استمرار الاستمتاع.
ولست أردّ فكري إلى ضبطٍ فيه، ومعتقدي أنها ناشزة إلا في صوم عرفة وعاشوراء، ثم في صومها الخلاف الذي ذكرته في رواتب السنن.
هذا إذا كان الزوج يرهقها (2) ، وأما إذا أتت بما يبدو لها من صوم في غيبة الزوج، فلتفعل من هذا ما بدا لها، ولو أرادت أن تحج، فتفصيله في كتاب الحج.
وإن فاتتها أيام من رمضان، فوقتُ القضاء السنةُ، فإن أرادت ابتدارَها، وأراد الزوج منعها من الابتدار، فهذا على الخلاف في تعجيل الصلاة وتأخيرها. فإن قلنا: لها أن تعجل القضاء، فالأولى أن نفقتها لا تسقط بخلاف الحج؛ فإنا وإن جوزنا الخروج فيه، فهو انقطاع عن الزوج إلى اتّفاق الأوبة.
هذا منتهى الغرض في هذه المسائل.
فرع:
10122- إذا فارقت المرأةُ مسكنَ النكاح في غيبة الزوج ناشزةً، سقطت نفقتها بنشوزها، فإن عادت إلى المسكن، واستمرت على الطاعة، فهل نقول: تعود
__________
(1) في الأصل: " ملكت ".
(2) يَرْهقها: أي يقيم معها.(15/456)
نفقتها بعودها إلى الطاعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن نفقتها تعود كما (1) عادت؛ فإن علة سقوط النفقة [النشوز] (2) وقد زال.
ومن أصحابنا من قال: لا تعود نفقتها بنفس العَوْد إلى الطاعة، حتى يعلم الزوج عودَها إلى الطاعة على ما سنصفه الآن، فإن حكمنا بعَوْد النفقة، فلا كلام، وإن حكمنا بأن النفقة لا تعود بنفس العود إلى الطاعة، فلو جاءت إلى القاضي وأخبرته، والتمست منه أن ينهي إلى البلدة التي بها الزوج عودَها إلى الطاعة، فإذا فعل القاضي ذلك، ومضى زمان بعد بلوغ الخبر لو أراد الزوج الرجوع فيه، لرجع، فإذا مضت هذه المدة، فتعود نفقتها حينئذ.
وذكر الأصحاب إعلامَ (3) الزوج القاضيَ ورفْعَ الأمر إليه، ولست أرى الإعلام مقصوراً على القاضي، [فلو] (4) حصل الإعلام من جهة أخرى لا يمتنع أن يكفي، ولكن فحوى كلام [الأصحاب] (5) يشير إلى أنه لا بد من حكم الحاكم بعودها إلى الطاعة، وهذا يبعد اشتراطه.
10123- ومن تمام البيان في ذلك أن المرأة لو ارتدت بعد المسيس في غيبة الزوج، ثم عادت، فالمذهب أنها لا تستحق النفقة في زمان الردة.
ومن أثبت من أصحابنا للمشركة المتخلفة عن إسلام الزوج النفقة إذا هي أسلمت في العدة في أيام شركها، خرّج وجهاً في أن المرتدة تستحق النفقة إذا عادت قبل انقضاء العدة، وهذا بعيد جداً، والجريانُ على أن نفقتها تسقط بالردة.
فإذا أسلمت قال العراقيون: عادت نفقتها، وإن لم يبلغ الخبرُ الزوجَ، وأما أئمتنا المراوزة، فإنهم لم يفصّلوا بين أن يكون سقوط النفقة بالردة، وبين أن يكون سقوطها بالخروج من مسكن النكاح.
__________
(1) كما عادت: أي عندما عادت.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "في إعلام الزوج".
(4) في الأصل: ولو.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(15/457)
والذي أرى نظمَه بعد ذلك أن نشوزَها إن ظهر وانتشر، فتَركَتْه ورجحت إلى الطاعة، ففي عَوْد النفقة واشتراط [الإعلام] (1) الخلافُ الذي ذكرتُه، والظاهر في النقل اشتراطُ الإعلام، وانقضاءُ مدة الرجوع.
وإن جرى نشوز خفي من غير إظهار، ثم فُرض العَوْد إلى الطاعة، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بأن لا اشتراط للإعلام، بخلاف النشوز الظاهر، ومنهم من أجرى الخلاف. هذا هو التفصيل في ذلك.
فصل
قال الشافعي: " ولا يبرىء الزوج من نفقتها ... إلى آخره " (2) .
10124- أشار إلى ما قدمناه من أن استقرار نفقة الزوجية لا يتوقف على فرض القاضي، فلو مرت الأيام، والنفقة منقطعة واستحقاقها دائم، فتصير وظائف تلك الأيام دَيْناً، ولا شك أن هذا فيما يشترط التمليك فيه، فأما ما يستحق فيه الإمتاع، فالإمتاع في الزمن الماضي لا يتصور استدراكه.
ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا، فأنكرت المرأة قبضَ النفقة، وادّعى الزوج تسليمها، فالقول قول المرأة، فإن الأصل عدمُ القبض، قياساً على الديون، ولا فرق بين أن يكون الزوج غائباً أو حاضراً، وقصد بهذا الرد على مالك (3) ، فإنه قال: إذا كان الزوج حاضراً، فالقول قوله، وزعم أن الغالب أنه ينفق، وهذا إنما قاله والزوجة معه في الدار، ونحن لا نفرق.
ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول في نفقة الكافرة إذا تخلفت عن إسلام الزوج، ثم أسلمت في العدة، وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في نكاح المشركات وذكر طرفاً من نفقة زوجة العبد، وقد تقدم استقصاء جميع ذلك، ولله الحمد والمنة.
***
__________
(1) في الأصل: الأعمال.
(2) ر. المختصر: 5/74.
(3) ر. المدونة: 2/192، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/1398 مسألة 979.(15/458)
باب الرجل لا يجد النفقة
قال الشافعي: " ولما دل الكتاب والسنة على أن حق المرأة على الزوج أن يعولها ... إلى آخره " (1) .
10125- إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته، وتحقق ذلك، فالمنصوص عليه في معظم الكتب أنه يثبت حقُّ رفع النكاح، وقال الشافعي في تحريم الجمع: لا يثبت حق رفع النكاح، ففي المسألة قولان إذاً، وتوجيههما مستقصىً في طيول المسائل، ولكنا نذكر المقدار الذي يُقْنع، ويتعلق بضبط المذهب:
من قال: لا يثبت لها حق رفع النكاح احتج بأن النفقة من التوابع، ومقصود النكاح المستمتع، وهو بعيد عن الفسخ، والمطالبةِ بالرفع، فلا يجوز طلبُ رفعه بتعذرِ تابعٍ، ويتبين كون النفقة تابعة بكونها غير معقودٍ عليها.
ومن نصر القولَ الثاني اعتقد كفايةَ المؤن في جانبها حقَّها المطلوب؛ فإن استحقاق الاستمتاع للرجل، ولا استحقاق للمرأة إلا في كفايتها، ثم تعذرُ الاستمتاع -التي هي تابعة فيه غير مستَحِقة- يُثبت لها حقَّ الفسخ، فلأن يثبت لها حق الفسخ بتعذر ما هو مقصودها المطلوب، وحقها الذي يوصف باستحقاقِه وملك طلبه أولى.
ثم الكلام بعد هذا التمهيد في فصول: أحدها - في تفصيل التعذر الذي يناط به حق الرفع. والثاني - فيما يتعذر من المؤن. والثالث - في تفصيل الرفع وكيفيته.
والرابع - فيمن يثبت له هذا الحق، ثم إن شذت مسائلُ عن مضمون هذه الفصول، رسمناها فروعاً.
10126- فأما القول في معنى التعذر: فإن كان الزوج ينفق يوماً فيوماً، فلا تعذر
__________
(1) ر. المختصر: 5/76.(15/459)
والنكاح على استمراره، وإن كانت تعتقد أن كسبه إنما يفي بحاجات [الصّيف] (1) وهي [تظنّ] (2) أنها لو أخرت الفسخ إلى الشتاء، لم تُخطب ولم تطلب (3) ، فهذا من [الوساوس] (4) وللأحوال تحوّل، فلا يثبت حق الرفع قبل وقوع التعذر.
ولو لم يجد ما ينفقه، ولم يستمكن من كسبِ يجمع القوتَ، فهذا هو الإعسار.
ولو كان غنياً، ولكنه امتنع عن الإنفاق، فللأصحاب طريقان: فمنهم من قطع بأن حق [الرفع] (5) لا يثبت، ولكنها تحرص على تحصيل حقها من زوجها، فإن تمكنت، فذاك، وإلا استعاذت بمن إليه الأمر.
ومن أصحابنا من جعل في الامتناع قولين؛ فإن النظر إلى التعذر، وقد تحقق التعذر.
والذي يجب القطع به أنها إذا قدرت على تحصيل حقها بأخذ طائفة من ماله، أو كان التحصيل ممكناً بالوالي على قُرب، فهاهنا [نقطع] (6) بأنه لا يثبت الفسخ، وإن كان لا تمتد يدها إلى ماله، وكان التحصيل بالوالي عسراً، فهذا محل الطريقين.
فإن قيل: خصصتم حقَّ فسخ البيع والرجوع إلى المبيع بإفلاس المشتري. قلنا: إذا امتنع عن توفية الثمن، ففي إثبات حق الفسخ كلام ذكرناه في البيع، ثم في الإفلاس.
ولو كان الرجل كسوباً، ولم يكن ذا مال، فامتنع من الاكتساب، فهذا إعسارٌ
__________
(1) في الأصل: المضيف.
(2) في الأصل: تضمن.
(3) المعنى أنها تريد رفع النكاح من الآن (الصيف) مع أن زوجها يملك نفقة الصيف بطوله، وهي تخشى إن أخرت إلى حين تحقق الإعسار في الشتاء، أن تضيع منها فرصة الخاطب الطالب للزواج منها. فلا يحق لها ذلك، فإن هذا من الوساوس، والأحوال قد تتبدّل وتتغير، ويصبح زوجها واجداً لنفقة الشتاء وما بعده.
(4) في الأصل: المساوس.
(5) في الأصل: حق الزوج.
(6) في الأصل: فقطع.(15/460)
بالنفقة على التحقيق، وإن كان متمكناً من تحصيل النفقة بالكسب، [وسيأتي] (1) فصلٌ جامع في أنا هل نوجب على الرجل أن يكتسب لينفق على غيره، وقدر غرضنا الآن ما نصصنا عليه.
10127- فأما القول فيما يتعلق حق الرفع بتعذره (2) ، فالقوت هو الأصل، فإذا تعذر كله، ثبت حق الرفع، وكل هذه الفصول وما يتبعها من الفروع تبنى على إثبات حق الرفع لا محالة.
10127/م- وإذا بأن ما ذكرناه في القوت، فأول مذكور بعده الإعسار بالصداق، فإذا أعسر الزوج بالصداق، لم يخل إما أن يكون ذلك قبل المسيس وإما أن يكون بعد المسيس، فإن كان قبل المسيس، ففي المسألة طريقان: إحداهما - أن المسألة تخرّج على قولين في حق الرفع قياساً على الإعسار بالقوت.
والطريقة الأخرى وهي المرضية أنه لا يثبت حق الرفع؛ فإن الصداق ليس على حقائق الأعواض؛ إذ رده لا يوجب ارتدادَ النكاح وفسادَه، فتعذره ينبغي أن لا يسلِّط على رفع النكاح، وليس الصداق مؤونةً دارّة وكفاية عامةً بخلاف النفقة، فإذا خرج عن كونه كفاية، وعن كونه عوضاً محققاً، بَعُد أن يُثبت الإعسارُ به حقَّ الرفع.
هذا إذا لم يجر المسيس.
فإن جرى دخولٌ ومسيس، فقد تقدم في أحكام الصداق أن المرأة، إذا مكنت مرة، لم يكن لها منعُ نفسها عن زوجها ليوفر الصداق، بل تسليمُها نفسَها مرة يُلزمها التسليمَ أبداً.
ولو استكرهها الزوج أول مرة ووطئها، فقد استقر مهرها، وهل يبطل حقها في حبس نفسها عن الزوج؟ فعلى وجهين تقدم ذكرهما فيما تقدم.
وإذا تجدد العهد بهذا، فلو فُرض الإعسار بالمهر بعد المسيس، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يثبت لها حق الفسخ قولاً واحداً.
__________
(1) في الأصل: فسيأتي.
(2) هذا هو الفصل الثاني.(15/461)
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يطرد القولين بعد المسيس، وهذا غلط صريح غير معتد به؛ من جهة أنا لو أثبتنا حقَّ الفسخ بالإعسار بالمهر بعد المسيس، [لزمنا] (1) أن نثبت لها حق منع النفس إذا مكنت مرة، وهذا أهون من التسليط على رفع النكاح. فإن تشبّث من يطرد القولين بخلافٍ في منعها نفسها، لم يقبل ذلك [منه] (2) ، وكان كلاماً مسبوقاً بإجماع الأصحاب.
وإن سلم أن حق الحبس لا يثبت بعد جريان وطئه، فلا مطمع في الفرق.
ومما يتصل بهذا الفصل الكلامُ في المفوّضة، فإذا رضيت المرأة إسقاط المهر من النكاح، فالقولان في أنها هل تستحق المهر بالنكاح مذكوران على أكمل وجه في البيان. فإن قلنا: لا يثبت للمفوضة مهر مثلها، فلها حق طلب الفرض، ثم إذا فرض لها وتحقق الإعسار، التحق تعذر المفروض بتعذر المهر المسمى.
وإن قلنا: إنها تستحق بالعقد المهرَ، وتحقق التعذر، فهل يتوقف حق الفسخ -إذا أثبتنا حقَّ الفسخ في المهر- على أن يفرض لها أم تملك الفسخ قبل الفرض؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما على من أحاط بأسرار التفويض، ولم يخف عليه أصل الباب.
هذا قولنا في المهر.
10128- ولو كان الزوج موسراً فأعسر، [فنفقتُه] (3) نفقةُ المعسرين، ولا نقول: تعذر المُدّ الزائد، بل رجعت وظيفة النفقة إلى هذا المقدار.
ولو كان يَقْدِر كلَّ يوم على نصف مدّ، وأقل النفقة مد، فهل يثبت للمرأة حقُّ الفسخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت، وإليه صار الجماهير. والثاني - وهو مذكور في بعض التصانيف أنه لا يثبت لها حق الرفع؛ فإن نصف القوت كفافٌ على حالٍ.
ولو كان يقدر على تحصيل ثلث المد، فلها حق الرفع، والذي ذكرناه من الخلاف
__________
(1) في الأصل: لزماً.
(2) في الأصل: منها.
(3) في الأصل: فنقصه.(15/462)
مخصوص بالنصف، وهو مأخوذ من عرف متأيد بقول الشارع، وذلك أن القوت الكافي إذا شارك الرجلَ فيه مؤاكل، فبالحري أن يمكن [تزجية] (1) الوقت به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طعام الواحد يكفي الاثنين " (2) .
وهذا بعيدٌ؛ فإن النفس في الغالب لا تقوم بنصف مد، وإن تَزجّى يومٌ على هذا، لم يحتمل استمراره.
فأما الإعسار بالأُدم، فالذي عليه الأئمة أنه لا يُثبت حقَّ رفع النكاح، قال الشيخ أبو حامد: لست أقول غير هذا [و] (3) إن قاله غيري، وهذا تشبيبٌ منه بخلافٍ في الأُدم، هكذا حكاه الشيخ أبو علي عنه، ثم قال: يحتمل عندي احتمالاً ظاهراً أن يثبت حق الفسخ، بتعذر الأدم، لأنه من النفقة، ولا يخلو عن استحقاقه نكاح، وليس كنصف المدّ في حق المتوسط، ولا كالمد الزائد في حق الموسر؛ [فإنه] (4) إذا أعسر، سقط وجوب الزائد، ورجعت وظيفة النفقة إلى المد، والأُدم لا يسقط بحال، وإن تعذر، صار ديناً ملتزماً في الذمة، فكأنه جزء من القوت.
10129- ومما اختلف الأصحاب فيه تعذُّر الكسوة والمسكن: فمن أصحابنا من أثبت حق رفع النكاح [بتعذرهما] (5) ، لما في عدمهما من الضرر.
[ومنهم] (6) من لم يُثبت حقَّ الفسخ بهما؛ فإن النفس تقوم دونهما، وهذا لا يؤخذ من التردد في أن التمليك هل يراعى في الكسوة؛ فإن هذا إن كان يجري في الكسوة، فلا تردد في المسكن، والخلاف فيهما مطرد، ثم التمليك واستحقاقه
__________
(1) في الأصل: توجيه.
(2) حديث " طعام الواحد يكفي الاثنين " رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه (مسلم: الأشربة، باب فضيلة المواساة في الطعام القليل وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، ونحو ذلك، ح 2059، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء طعام الواحد يكفي الاثنين، وابن ماجه: الأطعمة، باب طعام الواحد يكفي الاثنين، ح 1820) .
(3) الواو زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: فإنها.
(5) في الأصل: وتعذرهما.
(6) في الأصل: فمنهم.(15/463)
لا يُثبت حق الرفع، وإنما يُتلقى حق الرفع من الضرار العظيم، الذي لا تستقل به، سواء كانت إزالته بإمتاع أو تمليك.
وقد يتلقى مما ذكره الشيخ أبو علي وهو أنه لا يخلو عن استحقاقه نكاح.
وقد يعترض على هذه الطريقة نكتة لطيفة وهو أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فإذا عجز الزوج عنها، استحال أن نلزمه ما لا يقدر عليه، والإمتاع لا يقرّ ديناً في الذمة.
فينتظم من مجموع ذلك أن نكاح العاجز عن الكسوة خالٍ عن وجوبها، فليتأمل الناظر ذلك، وليردّ اعتماده إلى الضرار الذي ذكرناه.
واختلف أئمتنا في أن الإعسار بنفقة الخادمة هل يُثبت حقَّ الفسخ؟ وهذا قريب المأخذ من الإعسار بالكسوة والمسكن، فإن ضرر المخدومة يظهر بانقطاع الخدمة عنها.
فقد تحصَّل من مجموع ما ذكرناه تفصيلٌ في المذهب [يقطع] (1) عما نريد أن نذكره بعده.
ثم الإعسار بأقل النفقة مثبتٌ لحق الرفع، والخلاف الذي حكيناه في نصف المد بعيدٌ غيرُ معتد به، والزائد في حق المتوسط والموسر يسقط وجوبه أصلاً.
وفي الأُدم تردد، والأظهر أنه لا يتعلق بالإعسار به حق الرفع.
وفي الكسوة والمسكن خلاف ظاهر متأصل في المذهب؛ لأنه ضرار ظاهر، وإن كان النفس قد تقوم دون الكسوة والمسكن، فمن الممكن فرض حالة يُهلك العُريُ فيها، ويقرب من الكسوة المسكنُ.
والخلاف في نفقة الخادمة أظهر؛ فإن سقوط الخدمة محتمل على الجملة.
فهذا قواعد القول فيما يتعلق حق الرفع بالإعسار به، تفصيلاً وعقداً.
10130- فأما الكلام في رفع العقد وجهته (2) ، فهذا يتشعب ويتعلق بأطرافٍ: منها الكلامُ في ماهية الرفع، ومنها الكلام فيمن يرفع، ومنها الكلام في وقت الرفع.
__________
(1) في الأصل: مقطع.
(2) هذا هو الفصل الثالث من الفصول التي وعد بها الإمام أول الباب.(15/464)
فأما القول في ماهية الرفع، فالظاهر أنه فسخ، فإنه منوط بتعذر حقٍّ مستحَق بالعقد، فكان فسخاً؛ اعتباراً بما يضاهي ذلك من الفسوخ، المتعلّقة بتعذر الحقوق.
وذكر بعض الأئمة قولاً آخر في المسألة: أن النكاح يُرفع بالطلاق.
فإن قلنا: الرفع فسخ، فهو إلى [المرأة] (1) ، ولكن قال المحققون: ليس لها أن تفسخ ما لم تُثبت الإعسار أو الامتناع في مجلس الحكم، فإذا ثبت ذلك ببيّنة مقامة أو بإقرار الزوج، فحق الفسخ يثبت للمرأة.
وتمام هذا إذا أوضحنا الوقتَ والأجلَ إن كنا نرى ضربه (2) ، ولكن حق الناظر أن يأخذ الكلام مرسلاً، ثم تفصيله موقوف على نجاز الفصل.
ثم إذا أثبتنا للمرأة حقَّ الفسخ، وقد ثبت الإعسار في مجلس الحكم، فالذي اقتضاه كلام المحققين أنها تنفرد بالفسخ في غير مجلس الحكم؛ فإن الذي يتعلق بمجلس الحكم إثباتُ علة الفسخ، [وسبيل] (3) ذلك إقامة البينات أو الأقارير الثابتة، والبيّنة لا تقام إلا في مجالس الحكام، والإقرار وإن كان يثبت في غير مجلس الحكم، فلا يُفضي إلى الغرض ما لم يثبت في مجلس الحكم، بأن يسمعه الحاكم أو تقوم بينة عليه، فإن المقر في غير مجلس الحكم قد يجحد، فلا يفيد ما سبق من الإقرار ثبوتاً.
فإذا تقرر الإعسار، فلا حاجة إلى الحكم والحاكم في إنشاء الفسخ.
ولو تحقق الإعسار، ففسخت المرأة قبل إظهار الإعسار في مجلس الحكم، ففي نفوذ الفسخ باطناً تردد وتقابلٌ في الاحتمال، ويظهر أثر هذا بأنها إذا ثبت التعذر أمس وقد فسخت، وثبت في مجلس الحكم الإعسار المتقدّم على فسخها، فهل نقول: تبين نفوذ الفسخ باطناً أمس، ثم يظهر ذلك الباطن بقضاء القاضي بالإعسار السابق، حتى لا تحتاج المرأة إلى إنشاء فسخ.
هذا محل التردد: فيه احتمالٌ ظاهرٌ لا ينكره الفطن، ولا يتجه مثل هذا في
__________
(1) في الأصل: المردة.
(2) المعنى أن هذا الكلام لا يتم إلا إذا أوضحنا وقت الفسخ، وحكم الأجل.
(3) في الأصل: أو سبيل ذلك.(15/465)
الفسخ بالعُنة، فإن الفسخ لا يثبت بثبوت العنة؛ إذ الزوج إذا أقر بالعنة أُمهل مع إقراره سَنَة، ثم تلك المدة لا حكم لها ما لم يضربها الوالي.
فانتظم من ذلك أن ما يقتضيه كلام الأئمة أن الفسخ لا ينفذ ظاهراً وباطناً ما لم يثبت الإعسار في مجلس الحاكم.
ومن الأصحاب من أظهر تردداً في الظاهر والباطن على الترتيب الذي سقناه.
وهذا عندنا يحتاج إلى مزيد كشف، فإن لم يكن في الصُّقع حاكم ولا مُحَكّم، فيظهر ملك المرأة الفسخَ عند تحقق التعذر، وإن كان حاكمٌ، ففيه التردد، ولا نعدَم نظائرَ هذا في المسائل التي ترفع إلى الحكام إذا أمكن الرفع، ويثبت الحكم من غير حاكم إذا شغرت البقعة.
هذا كله تفريع على أن الرفع طريقه الفسخ.
10131- فأما إذا قلنا: الرفعُ طريقه الطلاق، فهذا موجه بالتشبيه بالإيلاء؛ فإن المدة إذا انقضت وظهر الضرار، فالزوج يُرفع إلى الحاكم ليفيء، فإن لم يفعل، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القاضي يطلّق. والثاني - أنه يحبس حتى يطلّق، وقد مضى القولان وتفريعهما في الإيلاء، فقال قائلون: ليكن رفع النكاح بالإعسار على هذا النسق إلا فيما نستثنيه.
وهذا قول ضعيف يبين ضعفه بالمعنى واضطراب التفريع، [فأما] (1) المعنى فالإعسار بالنفقة يتعذر به حقٌّ مستَحَقٌّ، هو القوام، وعليه تعويل المرأة في احتباسها في حِبالة النكاح، وليس الوطء مستحَقاً على الزوج، فإنه لو لم يُولِ، لم يكلّف الطلاق، وإن امتنع عن [الوقاع] (2) سنيناً (3) وأعواماً.
وأما فساد التفريع، فنقول: أولاً قول حبس الزوج ليطلّق لا يخرّج، فإن الضرار
__________
(1) في الأصل: وأما.
(2) في الأصل: الطلاق. وهو سبق قلم من الناسخ.
(3) " سنيناً " وهو صحيح؛ قال ابن مالك عن هذا الباب: " ... مثلَ (حينٍ) قد يرد بابُه وهو عند قومٍ يطردّ" وجاء عليه دُعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلها عليهم سنيناً ... " في روايةٍ.(15/466)
يشتد بانقطاع النفقة، وليس كالضرار بانقطاع الوقاع، فبقي أنه إن لم يطلِّق، طلق القاضي، ثم في المُولي يكفي الطلاق الرجعي، وهاهنا لو طلقت طلقة رجعية، لكانت مستحقة للنفقة مع وقوع الطلاق، كما تستحق النفقةَ في صلب الزوجية.
ولكن إذا فرعنا على هذا القول، فلا وجه إلا احتمال هذا، فإن العدّة لا بد منها وإن جعلنا الرفع فسخاً، غير أنها إذا فسخت تخلصت، وإذا طلقها القاضي طلقة رجعية، فللزوج الرجعة، ولكن إن راجعها ولا نفقة، طلقها القاضي طلقة أخرى، فإن عاد، فراجع، استتم القاضي الطلقات الثلاث. هذا منتهى التفريع على خبطه.
10132- وقد انتجز ماهيّة الرفع ومن يرفعُ في قَرَنٍ، وبقي الكلام في الطرف الثالث، وهو أن من أعسر وثبت إعساره، فهل يُمهلُ أم يثبت حقُّ الرفع من غير إمهال؟ ذكر الأصحاب في ذلك قولين: أحدهما - أنه لا إمهال. والثاني - أنه يمهلُ ثلاثةَ أيام، وقرب المرتبون هذا من إمهال المرتد ثلاثة أيام في الاستتابة، فإنا نرتجي أن نرادّه بالحجاج، ونحل ما اشتبه عليه كما نرتجي للزوج أن يجد ما ينفقه، والمأخذان قريبان، والثلاثةُ على حالٍ مدةٌ معتبرة في أمثال هذه الأشياء، وهذا الطرف تهاون به الباسطون والمتعمقون، فضلاً عمّن يُؤثرِ أن يَروِي أطرافَ الكلام
ويقنع بظواهرها، ونحن نستفرغ الوسعَ في ذلك [ونبرأ] (1) عن الحول والقوة، فنقول:
أما من أطلق ترك الإمهال، فلست أرى هذا الإطلاق سديداً؛ من جهة أنا قدمنا أن للمرأة أن تطلب النفقة في صبيحة كل يوم، وإذا أطلقنا أول اليوم عنَيْنا وقت طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر يوماًً وطلبت النفقة، فإن قال الزوج: إذا أصبحنا حصّلتُ النفقة، فلا يجوز أن يُعتقَد أنها تملك الفسخ، وإن جرى ذلك في مجلس الحاكم، حتى لا ينتشر في مسلك التصوير، والدليل عليه أن من أقر بدين في مجلس الحكم للمدَّعي، فطلب المدعي حبسَه، فقال: أَدخلُ السوقَ [فأَزِن] (2) ، أو أُحضر من
__________
(1) في الأصل: وندْرأ.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها) .(15/467)
مخزني، وقد يكون من مجلس الحاكم إلى المخزن مسافة، فلا يُحبس، ولكن للمدعي أن يستدعي من القاضي أن يوكِّل به من يدور معه، على ما سيأتي هذا في أدب القضاء، إن شاء الله.
فلو قالت المرأة: لا نُخلِّيك، فانطلِق وحصِّل، ولكن يوكِّل القاضي بك من يدور معك، فليس لها ذلك، ولا يجوز أن نعتقد في هذا الطرف خلافاًً؛ فإن شطر البريّة يصبحون ويأخذون في التمحل إما من رؤوس الأموال، وإما من الحرف والأكساب، ولا يُوكَّل بأحد في تحصيل النفقة، وهذه الأمور تحمل على مقتضى العادات.
10133- فإذا انحسم ما ذكرناه من اعتقاد السرف في البدار، فنحن [نخوض] (1) وراء هذا في البيان: قد يخطر للفقيه أنها لا تفسخ ما لم ينقضِ اليومُ؛ فإن استقرار النفقة بانقضاء اليوم؛ إذ هي وظيفة اليوم، فإن صار إلى ذلك صائر، فالمهلة مقولٌ بها، ولكن الخلاف في مقدارها.
ويظهر أثر هذا بنقيضه، وهو أنا إن لم نر إمهال المرتد، فلا مزيد على الاستتابة بكلمة، فإن أبى، طيّرنا رأسه، فكأنا نقول في النفقة على الرأي الذي أظهرناه: إذا استقرت نفقة يوم واستمر الإعسار والتعذر، فلها حق الفسخ، وهذا بعيد جداً.
ثم ينقسم الكلام فيه: فيجوز أن يقول القائل: إذا غربت الشمس، انحسم المضطرب، وملكت الفسخَ، وإن كانت النفقة لليوم والليلة، ويجوز أن يقال: لا تفسخ حتى تنقضي الليلة؛ فإنها بالفسخ لاتملك متعلقاًً في الليل، فلتسكن، والليلة تتبع النهار في أحكام.
هذا مسلكٌ.
ويجوز أن يقال: إذا تأخر الغَداء تأخراً يظهر منه الضرار في حق من لم يتهيأ للصوم، حان وقت الفسخ. وهذا بعيد، ولو اعتبر معتبر انقضاء النهار؛ فإن جَوْعة الصوم محتملة في الشرع، لكان قولاً.
__________
(1) في الأصل: نحرض.(15/468)
10134- وكل ذلك باطلٌ دالٌّ ببطلانه على فساد الأصل؛ فإن الأظهر الإمهال، كما سنصفه. وإن لم نر الإمهال، فلا يتجه إلا اعتبارُ انقضاء اليوم والليلة، والعلم عند الله.
ولو اعتاد الزوج -والتفريع على ترك الإمهال- ألاَّ يأتي بالطعام إلا ليلاً، فهو ممنوع عن هذا، فإنه في التحقيق [يكلفها] (1) صومَ الدهر، وليس كل (2) ما لا يُثبت حقَّ الفسخ اتفاقُه وندوره إذا تكرر لم يثبت حق الفسخ، والوجه اعتبار ظهور الضرار.
على أن الطعام إذا كان يأتيها ليلاً، فيمكنها أن تكتفي في الحال بسِدادٍ وتؤخِّر من طعامها شيئاً إلى غدها، فإن كان ذلك ممكناً، فلا ضرار، وإن كانت رغيبة والقوت مدٌّ، ولو قطّعته، لم تنتفع به، فقد كلّفت الصومَ.
ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أن المرأة إذا كانت لا تملك إرهاقَ الزوج عند طلوع الفجر، ولا تملك أن تستدعيَ التوكيلَ به، فليس يتحقق الوجوب على التضييق.
ولست أشبه ما أطلقه الأصحاب من الوجوب في هذا إلا بقولنا: تجب الصلاة بأول الوقت وجوباً موسّعاً.
والذي أراه أن الزوج إن قدر على إجابتها، فهو حتم لا يسوغ تأخيره وإن كان لا يُحبس، ولا يُوكَّل به، ولكنه يعصي [بمنعه] (3) .
وإن لم يكن في يده، أو كان يلقى عسراً، فله أن يتوسع (4) على الاعتبار.
ولو طلبت النفقةُ في صبيحة اليوم في مجلس القاضي، فقال الزوج: لست أملك شيئاًً، وأنا معسر حقاً، ولست على ظنٍّ في تحصيل القوت- والتفريع على [أنْ
__________
(1) مكلفها.
(2) المعنى: أن ما يحتمل نادراً، ليس يحتمل إذا تكرر وكثر.
(3) في الأصل: ويمنعه.
(4) أن يتوسع في الوقت، فلا تجب النفقة وجوباً مضيقاً في حقه، ومعنى "على الاعتبار" أي على القياس.(15/469)
لا إمهال] (1) ، وقد ذكرنا أن الزوج إذا كان يستمهل لينبسط (2) ، أُمهل على حالٍ، والتفصيل في مقدار الإمهال ما قدمناه في ذكر وجوه الاحتمال.
فإذا قال: لست أنبسط ولست أملك شيئاًً، فهل تملك المرأة مبادرة الفسخ مع اجتماع هذه الأصول؟ فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: إنها تملكه، ويجوز أن يقال: لا تملك ما لم يَنْقَضِ الزمان الذي اعتبرناه في حق من يقول: أنبسط.
وكل هذا تفريع على أنْ لا إمهال.
10135- فأما إذا قلنا: يمهل الزوج ثلاثةَ أيام بلياليها، فتنقسم الأحوال وتتشعب الفصول، ونحن نأتي بما يحضرنا.
فأول ما نبدأ به أنه إذا وجد النفقةَ في اليوم الثالث، وعَدِمَها في الرابع، فهل يفتتح ثلاثة أيام لتخلّل الإنفاق؟ ظاهر المذهب أنا لا نفتتح ثلاثة أيام، ولكن نكمل المدة باليوم الرابع الذي عسر عليه الإنفاق فيه، وقد تمت المدة، ثم نرى بعد هذا رأينا، كما سيأتي.
وفي بعض التصانيف وجه بعيد أنا نستفتح المدة، فمهما (3) تخلل الإنفاق في يوم، فإن الإنفاق يقطع ما يقدّر من العسر، وهذا ضعيف مزيف، ومآله يؤول إلى تحلُّلٍ غيرِ محتمل، وهو أن ينفق يوماًً ويترك الإنفاق ثلاثة أيام، ويتخذ ذلك عادته، وهذا يجرّ ضراراً عظيماً. وما عندي أن صاحب ذلك الوجه الضعيف يسمح بهذا، وإنما يقول ذلك إذا لم يتكرر ولم ينته [إلى الاعتياد] (4) ، ولستُ لضبط ما أقطع ببطلانه؛ فإن بين أيدينا في هذا الفصل أموراً مهمة.
10136- ونقول بعد ذلك: إذا انقضى المهل في الأيام الثلاثة مع استمرار الإعسار، وأصبحت المرأة في اليوم الرابع متشوفة إلى الفسخ، فقال الزوج: مهلاً
__________
(1) في الأصل: على أن الإمهال.
(2) لينبسط: المعنى ليتردّد في طلب النفقة وتحصيلها.
(3) فمهما: بمعنى: فإذا.
(4) في الأصل: ولم ينته أن الاعتبار.(15/470)
حتى نصبح وأنبسط وآتيك بالنفقة في وقت العادة، فلا يجاب الزوج إلى هذا؛ فإن الإعسار قد تحقق، فلو لم نقُل هذا، لزدنا المَهَل، ثم هذا يجر مثلَ ذلك في اليوم الخامس. نعم، إذا جاء الزوج بالنفقة صبيحة اليوم الرابع، لم تفسخ، وليس لها أن تقول: ائتني بنفقة الأيام الثلاثة وإلا فسخت، ولست أكتفي بنفقة اليوم الرابع؛ فإن نفقة الأيام الثلاثة صارت دَيْناً، وليس لها فسخ النكاح بالإعسار بالنفقة التي صارت ديناً في مقابلة ما مضى من الزمان، ونحن لا نضرب المَهَل حتى يثبتَ حقُّ الفسخ لأجل تعذر النفقة في مدة الإمهال، وإنما اعتبرنا الإمهال ليتحقق الإعسار بها، ويزول توقع البسط، وسيزداد هذا وضوحاً في أثناء الكلام، إن شاء الله.
وليس للمرأة أن تقول: أقبض ما جئتَ به عن نفقة ما مضى، وأطالب بنفقة اليوم؛ فإن الرجوع فيما يؤديه مَنْ عليه الحق إلى قصده، لا إلى قصد القابض.
هذا إذا أتاها بالنفقة في صبيحة اليوم الرابع.
فإن أتاها كذلك بالنفقة في صبيحة اليوم الخامس والسادس، فلا كلام.
وإن قال في اليوم الخامس: نعود إلى اعتياد الإنفاق، فاتركي الإرهاق إلى المطالبة بالنفقات في صبيحة اليوم، فكيف السبيل؟ إن قلنا: الرجل يجاب إلى ما ذكر، فهذا إمهالٌ آخر. وإن قلنا: لا يجاب الرجل، فإلى متى وأين الموقف؟ وهل يحبس [إلى] (1) أن يلتزم؟
إن الإعسار إذا اطرد ثلاثة أيام، فقد ثبت للمرأة حقُّ الفسخ في كل [مرة] (2) إذا لم توافها النفقة.
هذا سؤال عن ضربٍ من الإشكال.
10137- ويتصل به أنا إذا فرعنا على الأصح، فلو استمر الإنفاق بعد المَهل المنقضي ثلاثةَ أيام أو أكثر، ثم فرض الإعسار، فلا نعودُ إلى ضرب المدة قط، ونقول: لا مهلة للإعسار إلا مرة واحدة في النكاح، هذا موقف لا يجوز للفقيه
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: عزرة.(15/471)
فيه الاكتفاء [بالاتباع] (1) ولا يسوغ أن يخطوَ بالخطو الوِساع، ونحن نقول والله المستعان: هذا لا يُحَلُّ (2) إلا بالنظر إلى حال الرجل، فإن استمر الإعسار في الثلاثة الأيام المضروبة أجلاً ومَهَلاً، ثم فُتح له قوت يوم، فلا فسخ، ولو فتح له كذلك في يوم الخامس، وليس على اعتمادٍ في مُنَّته، ولا في مال، وإنما يجري ما يجري على الوفاق والفتوح، فلو تمادى الزمن ما تمادى، فإذا لم تُفرض النفقة في يومٍ، فلا مَهَلَ أصلاً.
وأنا أقول قولَ قاطع لا يرتاب: إنه لو كان كذلك في أول الأمر، فلا يمهل مثله، وإنما التردد الذي ذكره الأصحاب في الإمهال إذا كان على وثيقةٍ من مال أو استغلال وقفٍ، أو الرجوع إلى قدرةٍ على الكسب، ثم تُفرض آفة تعد من جوائح الدهر، فمثل هذا يمهل.
أما من لم يكن قط راجع إلى عُدّة ومُنّة، فلا معنى لإمهال مثلِه؛ فإن أصله الإعسار، فإن اتفق شيء فهو يدرأ الإعسار، وإن لم يتّفق، فصفة الرجل الإعسار، وأنا أقول بحسب هذا: إذا أمهلنا صاحب الجائحة، فإن وجد شيئاًً موثوقاً به، ثم فرض طريان اجتياح، فالاختلاف في الإمهال يعود، وإن لم تدم تلك العُدة يوماً.
فهذا هو المعتبر لا غير.
والآن، لا ضبط ولا موقف ينحصر الفكر فيه، فإن قيل: هل من ضبط فيما يتجدد له من مال؟ قلنا: إن كان بحيث يغلب على الظن التبلّغ به عند فرض تصرفٍ فيه من غير أن يقال: هذا ينقطع لا محالة إلى مدةِ كذا، فهذا نقيض الإعسار بالنفقة، وإن كان ذلك القدر ينقطع لا محالة، فهو ملتحق بالفتوح، وقد يكون ما ينفتح على الإنسان ليوم، وقد يكون لأسبوع، فهذا منتهاه.
وإذا حركنا وجوه الإشكال، فالرأي مشترك على شرط أن يكون الزائد على ما نذكره خيراً منه.
__________
(1) في الأصل: الإقناع.
(2) كذا. ولعلها: لا يتضح، أو يتم، أو نحو ذلك.(15/472)
10138- وعلينا بحثٌ آخر أجريناه في أثناء الكلام ولم نجب عنه، وذلك أنا قلنا: للمرأة مبادرةُ الفسخ صبيحةَ اليوم الرابع، ثم قلنا: هل لها ذلك صبيحة اليوم الخامس؟ وهذا وإن لم نبح به، فهو مندرج تحت ما مهدناه؛ فإن حدث للرجل بعد المهل عُدَّة (1) ، عادت الطّلبة والمضايقة إلى موجب العادة، ويجب طلب هذا أيضاًً إذا علمت المرأة ظهورَ عُدَّة في اليوم الرابع إذا لم يبدُ من الرجل تقصير.
وإن لم يظهر للرجل عُدّة، وإنما فُتح له في اليوم الرابع شيء، وكان على انتظار مثله في اليوم الخامس، فالذي أراه أنه في اليوم الخامس بمثابته في أول يوم قبل المهل، إذا فرعنا على أنه لا إمهال، وقد أوضحنا أن صاحب الفتوح الذي لا يرجع إلى عُدّة لا معنى لإمهاله، فإن قيل: فاطردوا هذا في اليوم الرابع. قلنا: الأيام الثلاثة قبله كالحَمْل على الاعتياد في اليوم الخامس، ولو لم أقل هذا في الخامس، لزمني أيضاًً أن أثبت حق الفسخ في صبيحة السادس، ثم إلى متى وينحل انحلالاً لا ينضبط، فهذا غايتي في هذا الفصل.
ولست أدّعي الاستيعاب في وجه الصواب، ولكني استوعبت التنبيه على وجوه الإشكال، ثم استفرغت الوسمعَ في حلّها، وأرخيتُ طِوَل مَنْ بعدي للنّظر السديد.
10139- وهذا نجاز هذا الفصل. ويتصل به شيء قريب المأخذ به، وهو أن المَهَل إذا انقضى، وثبت حق الفسخ، فرضيت بالمقام تحت المعسر، ثم بدا لها، فهي على طلبها وحقها، وإبطالُها حق الفسخ يختص بما ثبت لها، والضرار متجدد عليها حالاً على حال.
فيخرج من مجموع هذا أن ما أبطلته نفذ إبطالها فيه، ولكن تجدد لها حق في الزمان المستقبل، وليس هذا كما لو رضيت بالعُنّة والمقام تحت العنين، ثم بدا لها؛ فإنا لا نملكها الفسخَ، والسبب فيه أن [العُنّة] (2) في حكم الخَصْلةِ الواحدة، وهي عيب قائم، فإذا رضيت به، فالعُنة لا تتجدّد، بل يناظر ما نحن فيه رضا امرأة المولي
__________
(1) في صفوة المذهب: جِدَة.
(2) في الأصل: العقد.(15/473)
بالمقام تحت زوجها بعد انقضاء المدة، وإذا صدر ذلك منها، ثم بدا لها أن تعود إلى الطلب، فلها ذلك؛ فإنها ما رضيت بعيبٍ في زوجها، وإنما رضيت بما لحقها من الضرار، وهو متجدد عليها في الزمان المستقبل.
وسر هذا الفصل يوضحه ما نصفه، فنقول: الحقوق التي لا مقدار لها، ولا انحصار، لا يصح إسقاطها. نعم، اختلف القول في أن ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه، هل يصح الإبراء عنه على شرط التقدير، وكذلك اختلف القول في ضمان ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه.
فلا جَرَم نقول: لو أبرأت المرأة زوجها عن نفقة خمسين سنة من السنين المستقبلة، فليس لها حق الفسخ بالإعسار حتى تنقضي هذه المدة، ولو قالت امرأة المولي: أسقطت حقي من طلب الفيئة سنة، فلست أرى لهذا الإسقاط حكماً، والإبراء إنما يصح في حقوق ثابتة، ولا حق للمرأة على الزوج في الاستمتاع، وإنما يثبت لها طلب الفراق للضرار، فإلى ماذا يضاف الإبراء، وحاصل قولها يؤول إلى بذل اللسان بمصابرة الزوج مع إضراره، ولا حاصل لذلك.
ومما يتصل بهذا أنا إذا فرعنا على الأصح، وانقضت المدة، فرضيت، ثم عادت إلى الطلب، فقد قال الصيدلاني: لا بد من ضرب مدة أخرى، وإن كنا نرى أن المهلة لا تجدّد، كما تفصّل المذهب، واعتل بفقه حسن، فقال: رضاها يُسقط ما تقدم، فإذا عادت فكأنها مطالِبة على الابتداء فيعتبر المَهَل، ثم طلب أن يفرق بينها وبين امرأة المولي؛ فإنها بعد انقضاء المدة [لو رضيت] (1) بالمقام تحت الزوج، ثم بدا لها، لم نَضرب مدةً أخرى أربعة أشهر، بل هي على حقها الناجز، فقال: تلك المدة اقتضى النص ضربها غير متعلّقة بطلبها، والمهل في الإعسار بالنفقة يتعلّق بطلبها، فإذا رضيت، سقط أثر المهل.
وليس يبعد عندي أن يقال: لا يُضرب مهلٌ آخر في الإعسار، حيث انتهى التفريع إليه كالإيلاء، والفرق ليس بالواضح؛ فإن امرأة المولي رضيت بما لحقها من الضرار في المدة.
__________
(1) في الأصل: ولو رضيت.(15/474)
ثم هاهنا فقهٌ، وهو أنها مع تحقق الإعسار رضيت بأن لا تفسخ، وتحقق الإعسار لا يزول برضاها، والفقه ما ذكره الصيدلاني، فليتأمله الناظر.
10140- ومما يتصل بذلك أنها لو نكحت معسراً عالمة بإعساره، فهي على حقها من الفسخ إذا ثبت الإعسار بعد النكاح، واستمر، ولا حكم في حقها لاستمرار الإعسار قبل النكاح، وغرضُ هذا أن علمها بإعساره لا يُبطل حقَّها، على الترتيب الذي تقدم، بخلاف ما لو نكحت مجبوباً وعلمت بذلك منه، فليس لها حق الفسخ.
وقد نجز الغرض من هذا الفصل.
10141- فأما الكلام فيمن يثبت له حق الطلب (1) ، فليس هذا من الصنف الذي تقدم في أنها هي الفاسخة أم القاضي يطلق، بل غرض هذا الفصل بيان من إليه حق الطلب حتى ينتهي إلى الفسخ أو إلى الطلاق، فنقول: إذا كانت الزوجة حرةً مستقلة، فلها حق الطلب، ولو رضيت بالمقام، فلا اعتراض لأحد عليها.
ولو كانت صغيرةً أو مجنونة، فلا يقوم الولي مقامها في الطلب، وإن تناهى الضرر، وقد يفرض هذا في سنين الجدب والأزم، ولو كانت خليّة، لخُطبت وطُلبت، وكُفيت المؤن، ومع هذا هي في رباط الزوجية، فإن افتقرت، [فهي] (2) فقيرة من فقراء المسلمين، لا نعرف في ذلك كله خلافاًً.
10142- ولو كانت الزوجة أمةً، فإذا أعسر الزوج بالنفقة، والتفريعُ على ثبوت حق الرفع (3) ، فللأمة حق الرفع، لم يختلف الأصحاب فيه.
ولو قال السيد: قَرِّي تحته، وأنا أنفق عليك، فلها الفسخ؛ فإن المَوْلى فيما قاله
__________
(1) هذا هو الفصل الرابع والأخير.
(2) زيادة من المحقق. والمعنى أنها في رباط الزوجية: فقيرة من فقراء المسلمين، تجب نفقتها على من كانت تجب عليه لو كانت خلية.
(3) المراد -كما هو واضح- رفع النكاح.(15/475)
بمثابة [الأجنبي] (1) في هذا المقام، وإن [ثار] (2) نفس الفقيه، فليتئد، [فالبيان] (3) بين أيدينا.
فتحصّل مما ذكرناه أن الأمة تفسخ على السخط من السيد.
ولو أبرأت زوجها عن النفقة، لم يصح إبراؤها؛ فإنها ليست مالكة للنفقة، وإنما يصح الإبراء ممن يملك ما يبرىء عنه. وهذا أيضاًً متفق عليه.
ثم ما ذكره الأصحاب: أن السيد لا يملك الفسخَ بوجهٍ؛ فإنه إذا ثبت استقلال الأمة بالفسخ من غير حاجة إلى مراجعة السيد، فانفراد السيد بالفسخ بعيدٌ.
وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في الأمة المجنونة أولاً، وفي الصغيرة إذا فرض إعسار الزوج بنفقتها: أحدهما - أن السيد يفسخ؛ فإن الضرار يلحقه؛ فإنه بين أن ينفق على أمته؛ فيصير غارماً للنفقة مع قيام الزوجية، وبين أن يضيّعها فتهلك، فإذا كان الضرار يلحقه، فينبغي أن يثبت له حقُّ الفسخ، وليس كالفسخ بسبب العُنة، فإن ذلك يتعلق بمحض حظّ المرأة.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت للسيد حق الفسخ، فإن الأمة لو عقلت أو بلغت، فلها الفسخ، فإذا كان حق الفسخ ثابتاً لها، فيجب أن لا تشارَك.
فأما إذا كانت الأمة بالغة عاقلة متمكنة من الفسخ بنفسها، فإذا لم تفسخ، فهل للسيد الفسخ؟ ذكر الشيخ وجهين أيضاًً مرتبين على الوجهين المقدمين في المجنونة والصغيرة، ووجه الترتيب لائح، وتوجيه إثبات الفسخ له [ما ذكرناه] (4) من التحاق الضرار به عند امتناعها من الفسخ، فلا فرق بين أن تمتنع من الفسخ وبين أن يمتنع الفسخ بالجنون والصغر، فإذا أثبتنا حق الفسخ بالمهر، فلا خلاف أن حق الفسخ مخصوص بالسيد، وهو مستقلٌّ به، لا مشاركة للأمة فيه، [فإن] (5) السيد هو مستحق
__________
(1) غير مقروءة بالأصل.
(2) كذا قرأناها بصعوبة. (انظر صورتها) .
(3) في الأصل: بالبيان.
(4) في الأصل: وما ذكرناه.
(5) في الأصل: بأن السيد.(15/476)
المهر، وليس للأمة فيه حق من طريق الإمتاع، أما الملك، فلا وجه لتصويره، والنفقة تتعلق باستمتاعها، وإن كانت لا تَمْلِك.
فهذا قواعد المذهب.
10143- ثم إنا نُخرج بالمباحثة منها أموراً لا بد من الإحاطة بها، منها: أن نقول: إذا زوج السيد أمته، ووجبت النفقة، فقاعدة النفقة على التمليك، والأمة لا تملك، فحق الملك هل يثبت للسيد أم كيف السبيل فيه؟ هذا ما يجب إنعام النظر فيه، والذي يميل إليه ظاهر الرأي أن السيد يملك النفقةَ، ويخرج فيه [أنه] (1) لو أراد إبدال ما يبذله الزوج بمثله، فعل ذلك، ولو أراد أن يأخذ من الزوجة ما بذله الزوج، فللأمة أن تستمسك به حتى يأتيَها ببدلٍ، فإن حقها متعلق بالنفقة على الاختصاص، ولها طلب النفقة، ولها الفسخ بتعذر النفقة، واختصاصها كالاستيثاق، وهذا بمثابة قولنا: إن نكح العبدُ، فالنفقة تتعلق بكسبه، ومنافعُه ليست خارجةً عن ملك المولى، والزوجة لا تملك منافعَ زوجها.
ولو بذل السيد النفقة من ماله، ومنع العبدَ من الاكتساب، فلا حرج عليه، ثم يبتني على هذا أن السيد لو أبرأ عن النفقة، فكيف الوجه؟
قد ذكرنا اختصاص الزوجة بالنفقة من جهة الزوج، وإن لم يكن لها ملك، فحق الاختصاص إذا لزم، منع تصرف المالك بالإسقاط، وتردُّدُ الأقوال في إعتاق الراهن لمكان قوة الملك وسلطانه، والإبراء ليس كالعتق. نعم، لو أنفق على الأمة من عند نفسه، فالنفقة تؤخذ من الزوج، وهذا يفتح حدقةَ البصيرة في أن السيد مالكٌ للنفقة، والذي يعترض فيه أن السيد لو غاب، فالزوج منفق على الأمة ولا تمليكَ، ولكن السيد هو المملَّك، وهو المستحق لتلك النفقة، وهو مأذون من جهة السيدِ والشرعِ في صرف ما يجب عليه من النفقة يوماً يوماًً إلى الزوجة، فهذا ما أفضى إليه مساق البحث السديد.
10144- وإذا زوج السيد أمته من عبده، فعلى العبد أن ينفق على الأمة، وهذا
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.(15/477)
إنفاق لا تمليك فيه. نعم، هو إنفاق عن ملك السيد؛ فإن ما يكتسبه يقع ملكاً للسيد، ثم هو مستحق الصرف إلى الأمة.
هذا ما أردنا بيانه في ذلك.
وقد ذكرنا في كتاب النكاح أن السيد لو أذن لعبده في النكاح، فتزوج وصار كسبه متعلَّقاً للنفقة، فلو أراد السيد أن يستخدمه أو يسافر به، فله ذلك على الجملة، وقد يختلج في النفس من هذا شيء، وكنت على فكرٍ غائص منه قديماً، وهذا أوان إظهاره: يجوز أن يقال: ليس للسيد أن يستخدمه، فقد صارت منفعته متعيّنة للنفقةِ والمهرِ ما لم يبذل (1) حقَّ المرأة. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه يُقدِمُ على الاستخدام، ثم يلتزم ما سبق تفصيله، وسنشير إليه.
وذكر العراقيون وجهاً أنه لا يستخدمه ما لم يضمن ما يجب ضمانه، أما إيجاب تعجيل ما يجب للمرأة، فخارج على القياس الذي قدمناه من أن ما تعين لحق الزوجية لا يجوز التصرف فيه قبل توفية الحق، كالنفقة التي يعجلها الزوج لا يتصرف فيها السيد، ووجه ما صار إليه معظم الأصحاب أن المنفعة ليست أشياء عتيدة حتى يتحقق الاستيثاق فيها، ولكن حق السيد مقدم على شرط أن يَضْمن.
وصاحب الوجه الذي حكاه العراقيون قابلوا (2) توقع وجود المنافع بوعدٍ لازم، وهو الضمان، وهذا فقيه حسن.
وأما ما تشبثنا به من إيجاب [تعجيل] (3) ما يجب، فهذا يستدعي تجديدَ العهد بما يجب على السيد إذا استخدَم، وفيه قولان: أحدهما - أنه يجب أقل الأمرين من أجر المثل لذلك الزمان، أو النفقة والصداق، والقول الثاني - أنه يلتزم باستخدام العبد في ساعةٍ (4) المهرَ بالغاً ما بلغ، وفي النفقة خبط ذكرته في النكاح، ولست لإعادته.
__________
(1) المعنى: ما لم يبذل السيد حق المرأة من المهر والنفقة.
(2) " قابلوا توقع وجود المنافع " الواو للجماعة الذين هم أصحاب الوجه الذي حكاه العراقيون، وإن عبر عنهم بلفظ (صاحب) فهم جمع، ولذا قال: قابلوا.
(3) في الأصل: تحصيل. والمثبت من صفوة المذهب.
(4) المعنى: أنه باستخدامه العبد مجرد استخدام لأي مدة طالت أو قصرت، عليه أن يلتزم المهر بالغاً ما بلغ.(15/478)
فإذا قلنا: يعجل ثم يستخدم، وجرينا على الأصح، وهو إيجاب الأقل، فلا يقدِّم إلا نفقةَ اليوم، وإن كان قد يستخدمه في غَرْمه (1) أياماً؛ فإن إيجاب تعجيل ما لم يجب محال، وقد ذكرنا أن نفقة كل يوم تجب من صُبحه.
وهذا القدر من التفريع كافٍ منبهٌ على الغرض، على أني لست على اعتقاد سديد في إيجاب التعجيل، ولا أوثر أن يُلحق بالمذهب، وإنما الملتحق بالمذهب الوجهان الآخران، وليس كالنفقة ينقدها الزوج فلا يملك السيد التصرف فيه قبل الإتيان ببدله؛ فإن ذلك المنقود شيء موجود تعلق به وثيقة الزوجة.
10145- ومما أجراه العراقيون في أثناء الكلام أن قالوا إذا أعسر العبد بنفقة زوجته، وعجز عن الكسب، فهل تتعلق النفقة برقبته؟ ذكروا في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يتعلق بالرقبة، وهذا لا يعرفه المراوزة، وهو ساقط؛ من جهة أن النفقة والمهر من حقوق المعاملات المتعلقة بالعقود، وحقّ ما هذا سبيله ألاّ يتعلق إلا بالكسب، ولست أرى لهذا الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون وجهاً إلا التحاقَ العقد بأروش الجنايات، وقد ذكرنا في النكاح الفاسد قولاً أن مهر المثل يتعلق بالرقبة، وإن صدر النكاح عن إذن من له المهر.
فإن قلنا: النفقة لا تتعلق بالرقبة، فإذا تحقق الإعسار، ثبت الفسخ، فلو قال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فهل لها أن تفسخ؟ أوَّلاً - إذا أعسر الحر بنفقة زوجته، فتبرع أجنبي بالنفقة، لم يمتنع حقُّ الفسخ على الزوجة. وإن تبرع على الزوج، فهو الممنون عليه، ثم الزوج ينفق، فلا تفسخ، ولا شك في هذا.
أما السيد إذا تبرع بالنفقة، ففيه تردد ظاهر، وسببه أن المنافع ملكُ السيد، وكان للسيد أن يستخدم العبد ويؤدي النفقة من خاص ماله، فإذا أدى الآن، فليس على حكم المتبرعين. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: لا يجب على السيد أن ينفق إذا أعسر العبد، فهو إذا بذل عند إعسار العبد متبرعٌ.
__________
(1) المعنى: أنه لا يقدّم إلا نفقة اليوم، مهما كان عدد الأيام التي استخدمه فيها قبلاً.(15/479)
ويتصل بهذا المنتهى أن الأمة لو أرادت الفسخ، وقد أعسر الزوج بنفقتها، فقال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فظاهر كلام الأصحاب أن لها أن تفسخ، وليست هذه المسألة خاليةً عن احتمال جلي؛ من جهة أنا ذكرنا في قاعدة المذهب أن حق الملك في النفقة للسيد، فلا يبعد أن يقول لأمته: إنما حقك الاستمتاع بالنفقة، وليست ملكَك شرعاً، فإني مالك الرقبة ومالكٌ لأصل النفقة.
وهذا منتهى ما حضرنا.
فرع:
10146- إذا أعسر الرجل بنفقة مملوكه، لم يترك المملوك في الضرار، وكُلِّف المالك البيعَ، فإن أبى، بيع عليه المملوك، وسيأتي تفصيل هذا في باب نفقة المماليك، إن شاء الله.
ولو أعسر بنفقة أم ولده، ولا سبيل إلى بيعها -على ما عليه علماء العصر من منع بيع أمهات الأولاد- ثم إذا ظهر الضرار، فالمذهب الذي عليه التعويل أنها لا تعتِق، فإن الإعتاق على خلاف رأي المالك لا نظير له في الشرع، والفسوخ والحَلّ بطريق الطلاق متمهد في مواضع، وصار بعض أصحابنا إلى أنها تعتِق، ثم الذي بلغنا أن القاضي يعتقها، ولم أر أحداً من الأصحاب يقول: هي تُعتِق نفسَها قياساً على الزوجة إذا ملكناها فسخ النكاح، وهذا لأنا لا نجد مملوكة تُعتق نفسَها، ولست ألتزم فرقاً من طريق المعنى بين الفسخ وبين إعتاق أم الولد نفسها، ولكن إذا ضعف أصل الوجه، فلا معنى لتضعيف الضعف بالتفريع، ولكن الوجه الاختصار على المنقول، والتنبيه على الاحتمال.
فإن قلنا: يعتقها القاضي، فلا كلام. وإن قلنا: لا يعتقها، فالوجه تسييبها لتكتسب، ثم إن لم تتمكن من اكتساب القوت، فهي فقيرة من المسلمين.
فرع:
10147- إذا فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه العراقيون في أن النفقة تتعلق برقبة الزوج المملوك إذا أعياه تحصيلها من الكسب، فلا يُفضي الإعسار إلى الفسخ، ولكنا نبيع من رقبته شيئاً شيئاًَ على حسب مسيس الحاجة إن لم يَفْدِه السيد، وإن استوعبنا بيعه، فنأخذ في بيعه على المشتري، ولا يؤدي والحالة هذه الإعسار(15/480)
إلى الفسخ، وهذا الاضطراب في التفريع يدل على [فساد] (1) الأصل.
فصل
10148- إذا أعسر الزوج بالنفقة وقلنا: لا يثبت حقُّ رفع النكاح، فقد أطلق الأصحاب أن للمرأة أن تخرج وتكتسب.
وهذا مفصل عندنا: فإن كان لا يتأتى منها تحصيلُ القوت إلا بالخروج، فلا شك أنها لا تُمنع منه، وإن كانت موسرة قادرة على الإنفاق من مالها، وكانت مكَّنَتْ ووطئها الزوج، وبطل حق امتناعها بسبب المهر، فهل يلزمها أن تلزم مسكن النكاح، أم ينحلّ حق احتباسها في المسكن؟ [تردّد] (2) الأصحاب في هذا، فقال قائلون: لها أن تخرج، وليس للزوج أن يمنعها. وقال آخرون: حقٌّ عليها أن تلزم مسكن النكاح، وهذا هو الأفقه عندنا.
وكذلك تردد الأصحاب فيه إذا كانت قادرة على أن تحصِّل قوتها بحرفة تعانيها في المسكن من غير مفارقة، فهل يلزمها الملازمة أم لا؟ فعلى ما ذكرناه.
فإذا قلنا: يثبت لها حق فسخ النكاح، ولكنها لا تبتدره، بل تمهل الزوجَ، على التفصيل المقدم، فينحلّ حق الاحتباس عنها في مدة المَهَل على الرأي الظاهر، وإن كانت موسرةً، أو محترفةً، وفيه [وجه] (3) بعيد، وإن اضطرت إلى الخروج، خرجت كيف فرض الأمر.
***
__________
(1) في الأصل: يسار.
(2) في الأصل: فتردد.
(3) في الأصل: " شيء ".(15/481)
باب نفقة التي لا يملك زوجها رجعتَها
قال الشافعي: " قال الله تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الآية [الطلاق: 6] ".
10149- مضمون الباب الكلام في نفقة المعتدات، والمعتدة لا تخلو: إما أن تكون رجعية، وإما أن تكون بائنة، فإن كانت رجعية، فهي بمثابة الزوجات في استحقاق النفقة والسكنى، وسائرُ حقوق النكاح دارّةٌ عليها إلا ما يتعلق بالاستمتاع، كالقَسْم.
ولو طلقها الزوج طلقةً رجعية -وكانت من ذوات الأقراء- فجرت في العدة ووطئها واطىء بشبهة، وعلقت عن الواطىء بولد يقتضي الشرعُ إلحاقه به، فعدة الواطىء مقدمة على الضرورة؛ فإن عدته بالحمل، وهو موجود حسّاً لا يمكن تأخير الاعتداد به.
ثم للأئمة طريقان في نفقتها، وأنها هل تجب على الزوج، واختلافهم يستدعي تجديدَ العهد بأصلٍ سابق، وهو اختلاف الأصحاب في أن الزوج هل يملك رجعتها وهي حامل عن الواطىء؟ فهذا ما قدمنا فيه وجهين، وفرعنا عليهما ثَمَّ تردُّدَ الأصحاب في مقصودنا من النفقة، فقال قائلون: إذا حكمنا بأن الزوج يرتجعها، فيجب عليه الإنفاق عليها وجهاً واحداً.
وإذا قلنا: لا يملك ارتجاعَها ما دامت حاملاً، فهل يجب عليه الإنفاق عليها من جهة أنها ستعود بعد وضع الحمل إلى بقية عدة الرجعة؟ فعلى وجهين. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: لا يرتجعها، فلا يجب عليه الإنفاق عليها، وإن قلنا: يرتجعها، ففي وجوب الإنفاق عليها وجهان، وهذه الطريقة لها رسوخ في الفقه، لا يبين إلا بذكر مسألة [ومباحثة] (1) بعدها.
__________
(1) مطموسة بالأصل، والمثبت تقدير من المحقق على ضوء السياق.(15/482)
10150- أما المسألة فإذا وطئت المنكوحة بالشبهة، وعلقت من الواطىء، فلأصحابنا تردد في وجوب النفقة على الزوج: قال قائلون: لا نفقة عليه، فإن الاستمتاع بها تعذر على الزوج بسببٍ هي [متسببة] (1) إليه، فصارت كالناشزة، وإن لم تنتسب إلى قصدٍ وعصيان، وهذا بمثابة إسقاطنا النفقة عن الزوج بسبب امتناع المجنونة، وإن كان التكليف محطوطاً عنها.
وقال قائلون: نفقتها دارّة؛ فإنها لم تعتمد نشوزاً.
والأولى عندنا تفصيل ذلك، فإن وطئت في حالة [نوم] (2) أو وطئت وهي مضبوطة كرهاً، والواطىء على اشتباه في نفسه، فالوجه القطع بثبوت نفقتها على الزوج، والمصير إلى إلحاق المنع الطارىء بالمرض والحيض.
ولو مَكَّنت على ظن أن الواطىء زوجُها، فهذا فيه التردد الذي ذكره الأصحاب؛ من جهة أنها بتمكينها [متسببة] (3) على الجملة، فإن لم نعصّها، لم ننكر فعلها، وإذا تسببت المرأة، فأمرضت نفسها، ثم استمر المرض، فهذا فيه التردد الذي ذكرناه في إحرامها، على قولنا: لا يملك الزوج تحليلَها، وما ذكرنا من طريان العدة على صلب النكاح إن فرض من غير حمل، فهو واضح، والبيان المقدم فيه كافٍ، وإن علقت بمولودٍ في صلب النكاح، فهي معتدة ما دامت حاملاً.
وقد يعترض في هذه الصورة أصلٌ سيأتي مشروحاً، ولكنا لا نجد بُدّاً من الرمز إليه الآن لتنجيز غرضٍ في هذه المسألة، فنقول: إذا وطىء الرجل أجنبية بشبهة، وعلقت منه بمولود، ففي وجوب نفقتها على الواطىء قولان، سيأتي ذكرهما -إن شاء الله- بناء على أن النفقة للحمل، أو للحامل؟ فإن قلنا: لا نفقة للمعتدة عن الواطىء في صلب النكاح، فلا كلام. وإن قلنا: للمعتدة في صلب النكاح النفقة على الزوج إذا لم تحبل من الواطىء، فإذا حبلت منه، وقلنا: لا نفقة على الذي يطأ أجنبية
__________
(1) في الأصل: منتسبة.
(2) في الأصل: يوم.
(3) في الأصل: منتسبة. والمثبت من صفوة المذهب.(15/483)
بشبهة وإن علقت منه، فالنفقة على الزوج إذا اتفق العلوق عن الواطىء في صلب النكاح.
وإن قلنا: على الواطىء بالشبهة النفقةُ للأجنبية التي حبلت عنه، فماذا نقول والزوجية توجب النفقة، حيث انتهى التفريع إليه، والحمل يوجب النفقة على الواطىء، ولا سبيل إلى الزيادة على نفقة واحدة، ويبعد إيجابها عليهما من حيث إنها في حالة الزوجية والحمل عن الواطىء؟
والذي يظهر عندنا في هذه الصورة إيجاب النفقة على الواطىء؛ فإن النفقة لا تجب عليه إلا تخريجاً على أن النفقة للحمل، فكأنه استعمل رحمها واستعملها في نفسه لحفظ مائه، وهذا متجدد ناجز، وقد تحقق انقطاع حق الزوج عنها؛ فالوجه إيجاب نفقتها على الواطىء.
فإن لم تكن ناشزة، فقد استبدلت عن نفقة الزوجية، فلا ضرار، فهذا ما أردناه.
10151- ونعود بعد ذلك إلى الرجعية التي حبلت عن الواطىء بالشبهة في أثناء العدة، فإن قلنا: يجب على الواطىء النفقة لمكان الحمل، فلا وجه إلا إسقاط النفقة عن المطلّق، وإن قلنا: لا نفقة على الواطىء لمكان الحمل؛ فإذ ذاك يجري ما قدمناه من اختلاف الطريق.
وهذه هي المباحثة الموعودة، وعليه يخرّج أنا وإن أثبتنا للزوج حق الرجعة، فلا نفقةَ عليه، مع إيجابنا النفقةَ على الواطىء، على القياس الذي مهدنا في جريان الحبل عن الواطىء في أثناء النكاح.
ثم إذا أوجبنا للرجعية النفقة، أوجبنا لها الكسوة، وهي لازمةُ مسكن [النكاح] (1) والإدام تابع للنفقة، وينحط من حقوقها ما تتزين به؛ فإنها منعزلة، والطلاق قد حرّم الاستمتاع بها.
هذا كله إذا كانت رجعية.
10152- فأما إذا كانت بائنة، فلا يخلو إما أن تكون حائلاً وإما أن تكون حاملاً،
__________
(1) مزيدة من صفوة المذهب.(15/484)
فإن كانت حائلاً، فلا نفقة لها عند الشافعي، والسكنى ثابتة.
وقد صدّر الشافعي الباب بأمر يحسبه الشادي رجوعاً منه إلى الظاهر ووراءه ما يشعر بدَرْك الغايات؛ وذلك أن الفرق من طريق المعنى لا يكاد يتضح بين النفقة وبين السكنى، ولا تعويل على كلام ملفّق للخلافيين، فالاعتمادُ على نصّ القرآن، كما أشار إليه إمام المسلمين رضي الله عنه، فإنه عز من قائل أطلق السكنى، ولم يشترط فيها الحمل، وقال: ( {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ثم لما انتهى البيان إلى النفقة خصص ثبوتها بالحمل، فقال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} فالوجه إطلاق
ما أطلق وتقييد ما قيد، وإذا لم تكن البائنة حاملاً، فلا نفقة سواء كانت البينونة عن فسخ، أو طلاق، أو فُرقة لعان، وأما السكنى، فقد فصلناها في كتاب العدد، فلا نعيدها.
10153- وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو إما أن تكون بينونتها بسبب الطلاق، وإما أن تكون بسبب آخر: فإن كانت البينونة بسبب الطلاق، فلا خلاف أنها تستحق النفقة.
ثم أطلق الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي: أحد القولين - أن النفقة تجب للحمل. والقول الثاني - أنها تجب للحامل.
توجيه القولين: من قال: إنها تجب للحمل، احتج بأنها بائنة في ففسها، فلا تستحق النفقة بنفسها، ولم يطرأ إلا الحمل، فلتكن إضافةُ الاستحقاق إليه، وإذا وجبت النفقة بسببه، فالنفقة للحمل إذاً. ثم لا نظر إلى قول من يقول: الحمل يكتفي بالشمة والمقدار النزر؛ فإنه لا يتوصل إليه ما يبقى به إلا بعد اكتفاء الأم، وأيضاًً؛ فإن مؤونة الحمل واجبة، ولو انفصل المولود، فمؤونة الحاضنة واجبة، واستقلالُ الحامل بالحمل لا ينحط عن قيام الحاضنة بحفظ الولد وإرضاعه، والغرض إحالة الوجوب على الحمل.
ولا يتم بيان الفصل إلا بنجازه.
ومن نصر القول الثاني، احتج بأن النفقة لو كانت تجب للحمل، لسقطت بمرور(15/485)
الزمن، ولما كانت متقدّرة، ولاختلفت بالزهادة [والرغابة] (1) بناء على اعتبار الكفاية؛ فإن المرعي في مؤن المولود الكفاية.
وما ذكرناه من توجيه القولين استفتاحٌ، وإلا فالبيان بين أيدينا، ثم الذي نراه من الرأي أن نجري على ترتيب الأصحاب في إرسال مسائلَ بنَوْها على هذين القولين، فإذا انتجزت، انعطفنا عليها، وربطناها بروابط الفقه على حسب ما يليق بها.
10154- فمما فرّعه الأصحاب أن المطلَّقةَ البائنةَ الحامل لو كانت مملوكة، فمعلوم أن ولدها مملوك، ولو انفصل، لكانت نفقته على مالكه، قالوا: المسألة خارجة على أن النفقة للحامل أو للحمل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فهي على السيد، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي على الزوج، قياساً على نفقة الزوجية؛ فإن النكاح ولو زال، فعَلْقته إذا أوجبت النفقةَ بمثابته.
ومن المسائل: أن الزوج لو كان عبداً، والزوجة حرة بائنةٌ حامل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج؛ فإن المملوك لا يلتزم نفقة ولده، وإن قلنا: النفقة للحامل، فتجب النفقة على العبد، كما تجب عليه نفقة الرجعية، والنفقة في حالة الزوجية.
10155- ومما ذكره الأصحاب أن النكاح لو ارتفع بالفسخ، وذلك بأن تفسخ المرأة النكاح بعيبٍ في الزوج، أو يفسخ الزوج النكاح بعيبٍ فيها، فإذا كانت حاملاً، قالوا: في النفقة قولان مبنيان على أن النفقة تضاف إلى الحمل أو إلى الحامل، فإن قلنا: هي مضافة إلى الحمل، فالنفقة واجبة على الزوج الحر إذا كان الولد حراً، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة.
وهذا فيه غموض؛ من جهة أن المفسوخ نكاحها كما لا تستحق النفقة، فالبائنة بالطلاق لا تستحق النفقة أيضاً.
وهذا مما يعسر الفرق فيه، ولم يذكر أحد من الأصحاب فيه كلاماً يقرُب مأخذه من الفقه إلا الصيدلاني، فإنه رمز إلى ما يكاد أن يكون فقهاً، فقال: الطلاق إلى
__________
(1) في الأصل: والرعاية.(15/486)
الزوج تجنيسه وتصنيفه، بدليل أنه إن أوقعه رجعياً، كانت المرأة على عُلقة من الزوجية واضحة، وإن أوقعه على وجه البينونة، فالأمر إليه، وإن أوقعه قبل المسيس تعلقت البينونة، وهذه الجهات مضافة إلى تصرف الزوج بالتفهيم (1) والتأخير واستبقاء العود والإنفاء منه، فيجوز أن يقال: إذا طلقها مبيناً وهي حامل، فقد اختار استبقاء استعمالها في مقصود النكاح وعُلقته، فتجب النفقة لها، وإن كانت بائنة، وأما الفسخ، فلا انقسام فيه حتى يضاف إلى إيثار الزوج، ولا يقع الفسخ إلا [باتَّاً] (2) مبيناً.
وهذا تخييل لا تحصيل وراءه عندي، ولكن لم يختلف الأصحاب في إيجاب النفقة للبائنة بالطلاق الحامل، ورددوا القولين في المفسوخ نكاحها، وما أطلقوه من المسائل في المملوكة، والزوج المملوك ففيها قياسٌ جارٍ على حالٍ.
وإنما الغموض في محاولة الفرق بين البينونة الحاصلة بالطلاق وبين البينونة الحاصلة بالفسخ، والذي أراه في المسائل إذا غمضت مآخذها وضاقت مداخلها ومخارجها أن أرجع إلى القانون الذي [عوّل] (3) عليه الصاحب (4) ، وقد لاح إلى أن معتمده القرآن، ولولا تنصيص الكتاب على إثبات النفقة للحامل، لقلنا من طريق القياس: في البائنة المطلقة الحامل قولان مبنيان على أن النفقة للحمل أو للحامل، ولو جرينا على المسلك الحق، لأوجبنا النفقة لكل حامل، تجب النفقة على صاحب الحمل إذا انفصل الحمل لاستعمال المرأة بالاستقلال بالحمل، ولكن الشافعي رأى النفقة ثابتة للحمل، والآيات مسوقة في الطلاق، والطلاق ثابتٌ على الإطلاق من غير فرق بين المبين منه وبين الرجعي، فلا معول إلا على نص الكتاب.
والمفسوخ نكاحها ليست مطلّقة، وحكم الفسخ يمتاز عن حكم الطلاق في
__________
(1) كذا. ولعلها (بالتعجيل) أو (بالتقديم) .
(2) في الأصل: إلا باقاً مبيناً.
(3) في الأصل: عود.
(4) الصاحب: المراد به الإمام الشافعي إمام المذهب.(15/487)
وجوه، فلم يبعد أن يُردَّ الرأي في الفسوخ إلى النظر، ويخصص وجوب النفقة للمطلَّقة بحكم القرآن.
وقد ينقدح وجه آخر، وهو أن الفاسخة هي التي تسببت إلى رفع النكاح، ولذلك سقط مهرها قبل المسيس، وقد تمهد أن فسخ الزوج بعيبها كفسخها بعيبه، فيجوز أن يستعمل هذا في قطع الفسخ عن الطلاق، من غير أن نلتزم إبداء معنىً في استحقاق المطلقة، فهذا ما أردنا ذكره.
10156- ومما يتعلق بذلك أن كلَّ انفساخ يشابه الطلاقَ في اقتضاء التشطير، فهو في معنى الطلاق باتفاق الأصحاب، وذلك كارتداد الزوج؛ فإن النكاح وإن كان ينفسخ به، فالصداق يتشطر، وسبيله كسبيل الطلاق، وارتدادها بمثابة إنشائها الفسخ فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبراً.
10157- وإذا لاعن الزوج عن زوجته [وانبتَّ] (1) النكاحُ، فإن كانت حائلاً، فلا شك أنها لا تستحق النفقة.
وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو الزوج: إما أن ينفي الحمل باللعان -إذا رأينا نفيه - وإما ألا ينفيه، فإن لم ينف الحمل، [ولحقه] (2) النسب، فهذا نكاح انفسخ، ونسبُ الحمل لاحق، وقد اختلف أصحابنا في هذا الانفساخ، على طريقين: فمنهم من ألحقه بفسخ الرجل النكاحَ بعيبٍ فيها، حتى يخرَّجَ على القولين، كما قدمناه في الفسوخ.
ومنهم من ألحق ارتفاع النكاح بهذه الجهة مع لحوق الحمل بارتفاعه بالطلاق؛ من جهة أن الزوج إذا فسخ النكاح بعيبٍ فيها، فهي مسلِّمة أن الزوج يستحق سلامَتها عن العيوب. وأما اللعان؛ فإنه مبني على نسبة الزوج إياها إلى ما هي بزعمها متبرئة عنه، فلا يمتنع أن يكون اللعان من هذا الوجه كالطلاق.
وهذا هو المذهب الصحيح، وإن جرى الاختلاف في هذا؛ وجب بحسبه التردُّدُ
__________
(1) في الأصل: وأثبت.
(2) في الأصل: ولحقها.(15/488)
في أن فُرقة اللعان هل تشطِّر الصداق، فإن نظرنا إلى جانبها، وجب القضاء بالتشطر، وإن نظرنا إلى إثبات الزوج ما نسبها إليه بحجة اللعان، فهذا بمثابة تمهيد عذر يقطع فراق اللعان عن الطلاق، هذا إذا لم ينف الزوج الحمل ولحقه.
فأما إذا نفى الحمل، فلا نفقة عليه أصلاً، فإن نظرنا إلى النسب، فهو منتفٍ عنه، وإن نظرنا إلى المرأة، فليست حاملاً عنه بولد منتسب إليه، فهي في حقه بمثابة [الحائل] (1) ؛ فينتظم منه أنها لا تستحق النفقة قولاً واحداً.
وهذا قد يعترض فيه إشكالٌ واقع، وهو أن الزوج إذا كان عبداً، وقد طلق امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فقد خرّجنا وجوب النفقة عليه على قولين، وقلنا: إن صرنا إلى أن النفقة للحمل، فلا نفقة على المملوك، وإن قلنا: النفقةُ للحامل، لزمته.
فلو قال قائل: ما وجه إلزامكم إياه النفقة مع العلم بأنا وإن أضفنا وجوب النفقة إلى الحامل، فهي بسبب الحمل، وليس هذا الزوج المملوك مما (2) يلتزم نفقةَ المولود، فينبغي ألاّ يلتزمَ نفقةً بسبب المولود، فإن ذلك النسب وإن كان ثابتاً ينبغي أن لا يؤثر إذا كان لا يوجب النفقةَ فأي فرقٍ بين نسب ثابت لا يوجب النفقة وبين نسب منتفٍ باللعان، وهذا غامض جداً.
أما قطعنا بسقوط النفقة في مسألة اللعان فمنقاس، وأما ترديد القول في الزوج المملوك، فمشكل، وكذلك القول فيه إذا كانت الزوجة مملوكة وكانت حاملاً [فولدها] (3) مملوك، ولكن النقل عن الأصحاب ما ذكرناه، ولعلنا ننعطف بالبحث انعطافاً [يوضح] (4) بعضَ الإشكال على حسب الإمكان.
10158- وإذا انتهينا إلى اللعان، فنستتم ما ذكره الأصحاب فيه، فنقول: إذا نفى الحملَ ونفينا النفقة، فولدت المرأة، وأخذت تنفق على ذلك المولود، فإن انتماءه
__________
(1) في الأصل: الحامل.
(2) كذا، وقد ترد (ما) للعاقل.
(3) في الأصل: فولد مملوك.
(4) في الأصل: نوع بعض الإشكال.(15/489)
إليها ثابت، فلو أن الزوج [أكذب] (1) نفسه، واستلحق الولد، فالولد يلحقه لا محالة، ثم يقع الكلام بعد هذا في النفقة التي أخرجتها المرأة. قال الأصحاب: ظاهر المذهب أن المرأة ترجع على الزوج بما أنفقته على المولود على اقتصادٍ، وهذا يخالف قياساً كلياً، من جهة أن من لم ينفق على ولده أياماً ظلماً وضيْعةً، فلا تصير نفقة الأيام الماضية ديناً عليه، بخلاف نفقة الزوجية، هذا هو المذهب الذي عليه التعويل، وسنذكر في بعض الصور خبطاً من بعض الأصحاب، وإنما جرياننا الآن على ما هو المذهب المعتمد.
فإذا تمادى الزوج على نفي المولود بعد الانفصال، فأنفقت المرأة، فحكم ما أشرنا إليه من القياس [ألاّ تجد] (2) المرأةُ مرجعاً، ولكن سنذكر في نفقات القرابة أن الأم تملك الاستدانة على الأب في نفقة المولود، وهذا من ولايتها، كما سيأتي موضحاً بعد ذلك، إن شاء الله، فالذي أخرجته في تمادي الزوج محمول على سلطانها، فإذا اكذب الزوج نفسه، ثبت حق الرجوع.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً أنها لا ترجع، وهذا يعتضد بالقياس الذي ذكرناه، وفي كلامه تشبيبٌ بأن الأم لا تملك الاستدانة على الزوج، وإن استدانت من غير مراجعة القاضي، لم تجد مرجعاً، وسنوضح هذا، إن شاء الله.
وهذا القائل يقول: قول رسول الله صلى الله عليه: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " قضاء منه لها، وهو سيد السادة وقاضي القضاة، فإن طردنا هذا الباب، فلا كلام، وإن قلنا: للأم الاستقراض في الولد الملتحِق، فصاحب الوجه الضعيف في مسألة اللعان قد يقول: هي ما أخرجت النفقة لترجع بانية أمرَها على تكذيب الزوج نفسه، إذا كان الأصل ألا يُكْذِبَ [نفسه] (3) بعد اللعان، فإنفاقها محمول على التبرع بالإنفاق، وهذا المعنى لا يتحقق [في] (4) الولد الملتحق.
__________
(1) في الأصل. كذب.
(2) في الأصل: "أن تجد" وهو خطأ لا يستقيم الكلام معه.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: إلى.(15/490)
10159- ومما يتعلق بهذه المسائل أن الرجل إذا وطىء امرأة خليّةً عن النكاح بشبهة، وعلقت عنه بمولود، وزمانُ الحمل عِدتُها، [فقد] (1) قال الأصحاب: في استحقاقها النفقة على الزوج (2) قولان مأخوذان مما تمهد من قبل، وهو أن النفقة للحمل أو للحامل، فإن قلنا: إنها للحمل، فعلى الواطىء النفقة إذا كان ممن يستوجب نفقة القريب، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة لها؛ فإنها ليست في عُلقة نكاح.
وهذا مشكل؛ من جهة أن الرجل إذا كان من أهل التزام نفقة الولد، فيجب القطع بالتزام نفقة الأم لقيامها بحفظ الولد، واستقلالها بحمله، كما نوجب عليه نفقةَ المرضعة والحاضنة بعد انفصال المولود، فهذا من مواضع النظر.
10160- فقد أدينا ما بلغنا من قول الأصحاب في محل الوفاق والخلاف، ونقلنا ما ذكروه على تثبت، وهذا أوان الانعطاف على ما سبق، ونحن الآن نذكر مسلكين: أحدهما - في ضبط المسائل وترتيبها بعقدٍ جامع، والآخر - في تتبع العلل على مبلغ الوسع.
أما الترتيب فنقول: الكلام في الحامل: فإن لم ينتسب الحمل كما قدمناه في الحمل المنفي باللعان، فلا نفقة أصلاً، وإن كان منتسباً إلى الزوج، وهو ممن يلتزم (3) نفقة الولد [والفراقُ] (4) طلاق، فهذا موضع القطع بوجوب النفقة.
وإن انتسب الولد والزوج ممن لا يلتزم نفقتَه منفصلاً والفراق طلاق، فقولان، وهذا يشمل صورتين: أمة حامل بولدٍ مملوك، والزوج حر، وحرة حامل والزوج مملوك.
__________
(1) في الأصل: ثم قال الأصحاب.
(2) على الزوج: أي الزوج الذي خلاّها.
(3) قيّد بمن يكون من أهل الالتزام بالنفقة، ليخرج المملوك مثلاً، فإنه ليس من أهل التزام النفقة لولدٍ ولا قريبٍ كما سيذكر في الأسطر الآتية.
(4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.(15/491)
وإن كان ارتفاع النكاح بالفسخ الذي يُسقط المهر قبل المسيس، والولد منتسبٌ، والزوج ممن يلتزم نفقةَ المولود، فقولان.
وإن كان الولد منتسباً والزوج ممن لا يلتزم نفقة المولود -كالصورتين في المملوكة والزوج المملوك- فالقطع بسقوط النفقة؛ لأن النفقة إن أتت، أتت من قبل الولد، فإن انتفت من جهته، فلا نفقة، بخلاف ما إذا كان الفراق بالطلاق.
وفي الفراق الحاصل باللعان مع انتساب الولد وكون الزوج ممن يلتزم نفقة المولود الخلافُ الذي قدمناه، والواطىء بالشبهة إن كان ممن لا يلتزم نفقة المولود، لا يلتزم النفقة التي حُملت عنه، وإن كان ممن يلتزم نفقة المولود، ففي المسألة قولان.
فهذا ترجمةٌ لما قدمنا مفرقاً.
10161- ونحن بعد ذلك نفتتح حَلَّ ما يشكل على حسب الإمكان، والله المستعان فلنرجع القهقرى، ولنبتدىء بالواطىء بالشبهة، حيث أجرى الأصحاب القولين، فكان الوجه القطع بيجاب النفقة، لما نبهنا عليه، ولكن حاصل هذا الخلاف عندي يؤول إلى أن مَنْ منه الحمل، ولا علقة سواه، هل يلتزم مؤنتَه قبل وضعه؟ فيه قولان: أحدهما - أنه يلتزم، وقياس ذلك بيّنٌ. والثاني - لا يلتزمها؛ فإنه جزء منها ملتحق بها، ولا يثبت التزام مؤنته إلا إذا انفصل عنها، واستقل بنفسه، وهذا كما أنا لا نثبت على الأب إخراجَ فطرةِ حمل، ولا نوجب الزكاة في ماله -إن كان له مال- على الرأي الظاهر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة، فهذا هو الوجه في تخريج هذا الخلاف، وأما النظر إلى الحمل والحامل، فلا يشفي الغليلَ في هذا المقام.
وأما ما ذكرناه في المفسوخ نكاحُها، فهو يخرّج على هذا النَّسق؛ فإنها في نفسها -وقد بانت بالفسخ- لا تستحق النفقة لعلقة النكاح، فلا يبقى إلا النظر في الحمل، فالقولان يرجعان إلى أن مؤنة الحمل هل تجب على من ستجب نفقة المولود [عليه] (1) إن انفصل، وفيه ما بيّناه الآن من القولين.
10162- وأما المطلَّقةُ المملوكةُ الحاملُ، والحرة المطلقةُ تحت العبد المملوك
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(15/492)
أجرى (1) الأصحاب في وجوب النفقة على الزوج في المسألتين قولين، وكان ترتيبهم ما نقلناه عن الأصحاب، فنجدده، قالوا: إن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج في المسألتين؛ فإن ولد المملوكة مملوك، ونفقته على مالكه، لا على أبيه، وإذا كان الزوج مملوكاً، لم يلتزم نفقة ولده الحر.
هذا إذا قلنا النفقةُ للحمل.
وأما إذا قلنا: النفقة للحامل، والحامل مطلَّقةٌ في المسيس، فيجب على الزوج النفقة، وهذا مشكل؛ لأنها إن اعتبرت في نفسها، فهي بائنة، فكانت مع رفع الحمل من [البين] (2) بمثابة الحائل، ولو كانت حائلاً، لما وجبت النفقة، ولا يخرج قياس الكلام في هاتين الصورتين على القاعدة المقدمة في الموطوءة بالشبهة، والمفسوخ نكاحُها؛ فإنا قلنا: إذا أوجبنا على الوالد نفقة الولد عند الانفصال، فهل نوجب القيام بمؤنة الحمل وتربيته قبل الانفصال؟ فعلى ما ذكرنا من القولين، وهاهنا لا يجب على الزوجين نفقةُ الولد إذا انفصل قولاً واحداً، والبائنة في نفسها لا تستحق النفقة قولاً واحداً لو قدر انعدام الحمل، فلا مطمع في تخريج المسألتين على ما ذكرناه قبل.
10163- ولو ظن ظان أنه ينقدح في هذا معنىً يعوّلُ على مثله في مجاري الأحكام، فظنه خائب، ورأيه غير [صائب] (3) ، ولكن تثبت نفقة الحامل [المطلَّقةِ] (4) بنص القرآن؛ فإنه عز من قائل قال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فيثبت بالنص نفقةُ الحامل على الزوج، وليس في القرآن فصلٌ بين الزوج المملوك والزوج الحر.
وليس في مساق الخطاب فرقٌ بين أن تكون المطلقة أمةً أو حرة، ولكن الظاهر
__________
(1) جواب أما بدون الفاء، وهو لغة كوفية جرى عليها الإمام كثيراً.
(2) في الأصل: "اليمين" والمثبت تقديرٌ من المحقق؛ فهذا اللفظ يستعمله في مثل هذا السياق غالباً.
(3) في الأصل: غير صاحب.
(4) في الأصل: المطلق.(15/493)
إجراء ظاهر الخطاب على المعتاد الغالب، وتوجيهُ الخطاب على الأزواج بالإنفاق من الوُجد يصرِّح بوصف الأحرار، ومخاطبةُ الحرائر بملازمة مسكن النكاح، ورفع الحجر عنهن بطريق المفهوم عند انقضاء آماد العِدد، يدلى على أن الكلام منزّل على الحرائر، كيف والشافعي يرى الإماء مستثنيات عن قاعدة النكاح، وعلى ذلك بنى مسائله في منع الحر القادر على طَوْل الحرة من نكاح الأمة، فظهر أن الآيات منزلة على الحرّ مطلِّق الحرة.
ثم اعترضت المسألتان: إحداهما - في المملوك يطلق الحرةَ الحاملَ، والأخرى - في الحر مطلِّقِ الأمةِ الحامل، فتردد فيهما الكلام؛ من حيث إنه ليس في القرآن نص على الحرّ والحرّة، وإنما الذي ذكرناه إجراء على غلبة الاعتياد، وتحويمٌ على تلقٍّ من قرينة، فأمكن إجراء النفقة، حتى كأنها نفقة النكاح، وعارض هذا ما أشرنا إليه من القرائن، وبعُدَتْ المسألتان من جهة سقوط نفقة الولد عن كونهما في معنى الحر مطلِّقِ الحرةِ الحامل، فكان التردد مأخوذاً من هذا المأخذ، من غير تمسكٍ بطردِ معنىً وعكسه.
10164- فهذا ما نراه، [ولا يستدّ] (1) على قوانين الشافعي [غيرُه] (2) ، فلتقع المسائل التي ذكرها الأصحاب [نوعين] (3) : أحدهما - يشتمل على ما يدار على نفقة المولود، وهو مسألة الواطىء بالشبهة ومسألة المفسوخ نكاحُها، والنوع الثاني - يشتمل على الحر مطلِّق الحرة، وهو منصوص عليه في القرآن قطعاًً، والمسألتان الأخريان في الحرِّ مطلِّق الأمة الحامل [والمملوكِ] (4) مطلِّق الحرة الحامل مردَّدتان في الإلحاق بالحر مطلّق الحرة على النسق الذي ذكرناه، من غير تمسك باعتبار نفقة الولد.
__________
(1) في الأصل: ولا يستمرّ. وهو تصحيف تكرر كثيراً. ومعنى لا يستذ: أي لا يستقيم، وهذا اللفظ معهود في لغة الإمام كثيراً.
(2) في الأصل: عنده.
(3) في الأصل: " فلتقع المسائل التي ذكرها الأصحاب لو عين ". وهو تصحيف مضلل.
(4) في الأصل: المملوك (بدون الواو) .(15/494)
وهذا ليس أمراً نتكلفه، ولكنه تصرف في لُباب مذهب الشافعي واقتصاصٌ لآثاره في بناء مسائل الباب على الآية، وبها صدّر أولَ مسائل الباب.
وقد نجز بهذا المسلكان الموعودان في الترجمة والمباحثة [ورَدُّ] (1) المسائل إلى قواعدها.
10165- ونحن بعد ذلك نذكر قاعدةً تلتحق بالأصول، وتقع تتمةً لها، ونذكر ما يتصل بها، ثم نختتم الكلام بمسائلَ بعضها منصوصة، وبعضها نجريها فروعاً، فنقول: إذا أوجبنا النفقة للحامل: إما في جمورة القطع، وإما على أحد القولين في صور الخلاف، فقد أطلق الأئمة وراء ذلك قولين في أنا هل نوجب تعجيل النفقة إذا ظهرت أمارات الحمل، أم نقول: لا يجب تعجيلُها، ونتوقفُ، وقد يكون ما نتخيله ريحاً فتنفُشُ، فإن وضعت الحملَ، أوجبنا حينئذ نفقةَ زمان الحمل؟
أحد القولين - أنه يجب التعجيل، والقول الثاني - أنه لا يجب التعجيل، وبنى الأصحاب هذين القولين على قولين اشتهر ذكرهما في أن الحمل هل يُعرف؟ وقالوا: إن قلنا: الحمل لا يعرف، فلا يجب التعجيل، وإن قلنا: الحمل يعرف، فيجب التعجيل في الحال.
وهذا عندي اكتفاء بظاهرٍ من غير تشوّفٍ إلى درْك حقيقة؛ فإن القول لا يختلف في أن الحمل لا يُقطع به، ولا ينكر أحدٌ كونَه مظنوناً، ثم لا ينكرون أن الظنون تتفاوت: فهي على حدٍّ في أوائل العلامات، وإذا توافت، ورَبَا البطنُ، وانضم إلى الرّبُوّ اختلاجُ المولود، فهذا يكاد يقرب من اليقين، فكيف يسوغ إطلاق القول بأن الحمل [هل] (2) يعرف؟ نعم، إذا بدت العلامات، فقد نقطع في بعض الأحكام بتقدير الحمل، وقد نتردد في بعضها، ومواضع القطع تتميّز عن مواضع التردد بطرق فقهية، وقد ألحق الأصحاب هذا الحكم الذي فيه نتكلم بمواضعِ التردد.
ونحن نُجري ما ذكره الأصحاب بطريق توجيه القولين، فنقول: من لم يوجب
__________
(1) في الأصل: ويردّ.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(15/495)
التعجيلَ، قال: النكاح منبتٌّ، ولقد كان سبباً لإيجاب النفقة، فزال، ولم يتحقق الحملُ، والأصل براءةُ الذمة، فلا وجه للمصير إلى تنجيز النفقة إيجاباً.
ومن نصر القول الثاني، وهو الأصح، بل حُكم أصل الشافعي القطعُ بإيجاب
التعجيل؛ فإنه تلقى وجوبَ النفقة من ظاهر القرآن، وقد قال عز من قائل: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فصرّح الخطابُ باستفتاح الإنفاق وامتداده إلى وضع الحمل، ومن أخر الإنفاق، فهو في حكم المخالف لنص القرآن، وهذا المسلك في التمسك بظاهر القرآن يضاهي تعلُّقَنا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدية المغلّظة: [إذ قال] (1) : " وأربعون خلفة في بطونها أولادها " فاقتضى فحوى قول المصطفى الحكمَ بتقدير الأجنة في بطون الأمهات إذا ظهرت العلامات، فكان الحمل في هذا في حكم المعلوم المقطوع به.
ويتأيد هذا القولُ بمسلكٍ آخر عليه ابتناءُ النفقات، وهو أنها لو أُخرت النفقة عنها قد تتضرّر، وقد يُفضي الأمر إلى الإجهاض، فلا يليق بمحاسن الشريعة تجويزُ تأخير الإنفاق، والغرض من الإنفاق تربية الحمل.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه من التعلق بالقرآن والمعنى مرتفعٌ عن درجة الظنون؛ فأي متعلَّقٍ يبقى للقول الآخر؟ قلنا: لعل ذلك القائل يجعل فحوى الخطاب في الكتاب لتقدير مدةِ النفقة لا للتعجيل، وليس هذا كقوله عليه السلام في الديات: " الأربعون خلفة "؛ فإنه قال: " في بطونها أولادها " فإن الأولاد إذا انفصلت، وصارت فُصلاناً وأَحْوِرة (2) ، فليست هي خَلِفات، وليس في بطونها أولادها، فلا يتطرق إلى ذلك إمكان التأويل، ولو انفصلت أولادُها واستُحِقت تابعةً، [لزاد] (3) العدد على المائة بخلاف ما نحن فيه. وأما إفضاء تأخير الإنفاق إلى إهلاك الجنين، فليس بذاك؛ فإنها ستنفق من مال نفسها، وإن لم تجد، لم تضِع في وضع الشرع،
__________
(1) في الأصل: أن قال.
(2) الفصلان والأحورة: جمع فصيل وجمع حُوار، وهما من أسماء الإبل في أول عمرها. ثم هي في الأصل (أجورة) .
(3) في الأصل: أراد العدد.(15/496)
ويؤول الكلام إلى الرجوع والاسترداد عند تبيُّن الأمر.
ولسنا ننكر -مع هذا التكلّف- أن الأصح تعجيلُ النفقة.
وفيه دقيقةٌ سيأتي التفريع عليها -إن شاء الله- وإذا انتهينا إليها، نبّهنا على بديعةٍ هي سر المذهب.
التفريع على القولين:
10166- إن قلنا: يجب تعجيلُ الإنفاق، فإن أنفق، لم يخل: إما أن يَبِينَ أنها حامل، وإما أن يَبِين أن ما بها ريحٌ [قد نَفَشت] (1) .
فإن بان أنها حامل: فقد وقعت النفقة موقعها، ويجب على الناظر أن يعلم أنا لا نوجب استفتاح الإنفاق ما لم تشهد نسوةٌ من ذوات الخبرة على كونها حاملاً، وإنما خصصناهن بالذكر لمسيس الحاجة إلى الاطلاع على ما لا يظهر إلا في وقت الحاجة من النساء، ولا ننكر إحاطة الرجال بذلك.
فلو جئن وقلن: إنها حامل، وهن أثبات، فذاك، وإن قلن: لا سبيل إلى القطع بذلك، ولكن توافت علاماتُه، فهل يثبت الحمل بهذا أم لا؟ هذا فيه تردد عندي: يجوز أن يقال: لا بد وأن يَجْزِمْن إقامةً لمراسم الشهادات المقامة في مفاصل الخصومات، وهذا كما أن الشهود يجزمون شهاداتهم بالملك، وإن كانوا على القطع لا يستندون إلى ما يقتضي العلمَ، ولو أبدَوْا ترددَهم، بطلت شهادتهم، فلتكن شهادات النسوة على الحمل بهذه المثابة.
ويجوز أن يقال: إذا أخبرن بحقيقة الحال، كفى ذلك، وهذا يمكن تقريبه مما ذكر من أن الحمل هل يعلم؟ حتى تكون فائدة هذا أنا هل نكلّف الشهود [الألفاظ] (2) المشعرة بالعلم أم يكتفى بما يدل على الظنون الغالبة، ومن يكتفي بما يدل على الظنون الغالبة يستشهد بشهادة العدل الرضا الذي هو من أهل مخالطة الرجل على الإعسار، فإنه لو قال: خبرت ظاهره وباطنه، فظهر لي إعساره، ولا أعلم له مالاً، فقد يُكتفى
__________
(1) في الأصل: فرا نفشت.
(2) زيادة اقتضاها السياق، وساعد عليها معنى كلام ابن أبي عصرون.(15/497)
بهذه الصيغة في إثبات الإعسار. وكذلك إذا شهد الشاهد حَصْرَ الورثة، فيكفي أن يقول: لا أعلم له ورثة سوى هؤلاء.
وأما الشهادة على الملك، فيعسر الانفصال عنها، ولكن حقيقة الملك ترجع إلى ملك التصرف، ومن تحقق عنده تسلط إنسان على تمادي الزمان من غير ظهور منازع، فيمكن أن يحكم له بملك التصرف، ولا معنى للملك -وإن جزم- إلا الاقتدار على التصرف.
فهذا ما أردنا أن نذكره. وحقائق القول في مراتب الشهادات وخواصها ستأتي في موضعها، إن شاء الله.
هذا إذا أوجبنا عليه تعجيل النفقة.
10167- فلو أخذ في الإنفاق فأَجْهَضَت المرأةُ جنينَها بعد بُدوّ التخليق والتخطيط، فالنفقة واقعةٌ [موقعها] (1) وإن لم ينفصل الحمل حياً، وذلك أنا نوجب كفاية الحمل، ولا ننظر إلى خروجه حياً، فإن اتفق إجهاضٌ لعارضٍ عرض، فتلك المؤنة مصادفةٌ حقها.
فأما إذا بأن أنها لم تكن حاملاً، وقد أنفق الزوج على تقدير الحمل، فهذا موضعٌ يتعين صرف الاهتمام إليه، والغرض منه تفصيل القول في أن الزوج هل يرجع فيما أخرجه قائلاً: قد أنفقت على ظن الحمل، فإذا بأن أن لا حمل، ولا نفقة للبائنة الحائل، فأسترد ما أنفقته: سبيل الكلام في ذلك أن الزوج إذا كان يرى تعجيلَ النفقة قبل وضع الحمل مستحَقاً؛ فإنه يرجع إذا بان عدمُ الحمل، وكذلك إذا كان لا يرى التعجيل مستحقاً، ولكن ارتفعت الواقعة إلى مجلس حاكم يعتقد إيجابَ التعجيل، فإذا ألزمه التعجيل، فاتّبع إلزامَه وارتسم أمره، ثم تبين انتفاء الحمل، فيثبت الرجوع.
هذا إذا فرعنا على قول إيجاب التعجيل.
10168- وأما إذا فرعنا على القول الآخر، وقلنا: لا يجب الإنفاق ما لم تضع
__________
(1) في الأصل: " موتها ". وهو تصحيف قريب إدراكه.(15/498)
المرأة الحملَ، فيتفرع على هذا القول أمران: أحدهما - تتمة فصلٍ ابتدأناه والأوْلى تقديمُه، وهو أن الزوج إذا عجل النفقة على قولنا لا يلزمه التعجيل - وكان لا يعتقد هو في نفسه وجوب التعجيل، ولم يحمله قاضٍ عليه، ولكنه تبرع، فعجّل، فإن بان أنها حامل، وقع ما عجله موقعه، وإن بأن أنَّهَا حائل، ففي هذا اختباط الأصحاب، ونحن نجمعه مع ما قدمناه في ضبط حاوٍ، إن شاء الله.
فنقول: كل من أخرج مالاً على اعتقاد أنه واجب عليه في الحال، ثم تبين أنه لم يكن واجباًً عليه، فله الرجوع فيه، بلا خلاف، سواءٌ ذكر الجهةَ التي أخرج المال فيها أو لم يذكرها وأطلق الإخراج، فلو أدى إلى إنسان مالاً على ظن أنه يَستَحِقُّ عليه دَيْناً، ثم بأن أنه لا يَستحِق عليه شيئاًً، فيسترد ما دفعه إليه، وإذا كان للرجل مال غائب، فحسب بقاءه، وأخرج زكاتَه بعد حولان الحول، ثم تبين أن ذلك المالَ هالكٌ، فالذي أخرجه يسترده، فإنه أخرجه على قصد الوجوب، ثم تبين أن الزكاة ليست واجبةً عليه.
ولو كان يتوقع وجوباً، فعجل قبل تحقق الوجوب، ثم لم يثبت الوجوب المنتظر، فهل يرجع فيما أخرجه؟
هذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يكون وقوع الوجوب متأخراً لا يستند إذا ثبت إلى الحالة الراهنة، وقد لا يقع الوجوب في الاستقبال، وهذه كالزكاة تعجل قبل حلول الحول، فالزكاة تجب عند انقضاء الحول إن توافت الشرائط، فإذا فرض التعجيل، ثم امتنع وجوب الزكاة، فهل يملك الرجوع فيما قدمه؟ [ذكرنا] (1) تفاصيلَ موضحةً في باب التعجيل من كتاب الزكاة، لا نجد بدّاً من رمزٍ إليها، وإلى تراجمها: فإن قال عند الإخراج: هذه زكاتي المعجلة فإن لم تجب، رجعتُ فيها، فله الرجوع.
وإن قال: هذه زكاة مالي المعجلة، ثم لم تجب الزكاة، ففي الرجوع كلام، والظاهر الرجوع.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(15/499)
وإن قال: هذا صدقة مالي أو زكاة مالي، ولم يقيّد بالتعجيل، ثم تبين الأمر، ولم تجب الزكاة، ففي ثبوت الرجوع خلاف مرتب، وهاهنا أولى بأن لا يثبت الرجوع.
ولو أطلق الإخراج، ولم يتعرض لذكر شيء، فالظاهر هاهنا أنه لا يرجع، وفيه خلاف.
فإذا تبينت هذه المراتب في هذا القسم، ابتدأنا بعده القسم الثاني، وهو مقصودنا، فإذا عجل النفقةَ، فلو تبين الحملُ، لترتب عليه أن النفقة أُخرجت في وقت وجوبها، فإن الوجوب يستند (1) ، وإنما لا نوجب التعجيل على هذا القول الذي نفرع عليه، لأنا لسنا نتبين الحمل، ولا نرى الإخراج من غير ثبت.
10169- فإذا تُصوِّر هذا القسم وتميز عن القسم المذكور قبله، فنذكر ما أرسله الأصحاب فيه، ثم نوضّح الأصل الذي عليه التعويل.
قال الأصحاب: إن عجل النفقة، وشرط الرجوع، ثم بان انتفاءُ الحمل، رجع.
وإن لم يشترط الرجوع، ثم بان انتفاء الحمل فهل يرجع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع؛ لأنه أخرجه على تقدير الوجوب، فإذا بان أن لا وجوب، ثبت له حق الرجوع، كما لو دفع مالاً إلى إنسان، وهو يعتقد أنه يستحق عليه دَيْناً، ثم بان أنه لا حقّ له، فالباذل يرجع.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع؛ لأنه متبرع بالإخراج في الحال، فإن لم يثبت الوجوب، حمل ما أخرجه على التبرع، وما قدمناه من المراتب في الزكاة المعجلة لا حاجة إلى ذكرها هاهنا؛ فإنها تَعلم أن النفقة تأتيها من قِبل ظن الحمل، والعلم (2) في هذا بمثابة الزكاة، والمسكين إذا جاءه مال عن ذي ثروة، فيجوز أن يكون متصدقاً عليه على سبيل التطوع، فالتفصيل الذي لا بد منه هاهنا ما ذكرناه من شرط الرجوع والسكوتِ عنه. هذا ما تمسّ الحاجة إليه في هذا القسم.
__________
(1) يستند: أي يقع مستنداً إلى تحقق الحمل الذي لم يكن محققاً وقت إخراج النفقة.
(2) أي علم الزوجة التي تتلقى النفقة يكون بمثابة المسكين الذي يتلقى الزكاة.(15/500)
10170- والسر الموعود الذي به بيان التفاصيل أن من أعطى على اعتقاد الوجوب وظنِّ توجّه الطَّلِبة، ليس يخطر له التبرع بوجهٍ، فلا جرم إذا لم يقع عن الجهة المعيّنة، فلا وجه إلا الاسترداد؛ فإن الرجوع إلى قصد المعطي، فإذا جرّد قصده وحملَه على عقدٍ لا تردد فيه عنده، ثم بان بطلانُ القَصْد، والعَقْدِ، فيبقى مجرد البذل، ومجرد البذل لا يملّك القابض؛ إذ تسليم المال يقع على وجوهٍ، والمملّك منها بعضُها، فإذا بطل ما قصد، ولم يثبت مملِّك، وصورةُ الإقباض لا تملّك، فلا يخفى ثبوت الاسترداد.
واستدل الأصحاب على هذا مع وضوحه بحديث أُبي بنِ كعب، قال رضي الله عنه: كنت آتي بعضَ الأنصار، فأقرئه وأعلِّمه القرآن، فأعطاني قوساً، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه، وقصصت عليه القصة، فقال عليه السلام: " أتحب أن يقوّسك الله بقوس من نار؛ فقلت: لا، قال: فارددها " (1)
وقد يستدل أصحاب أبي حنيفة بهذه القصة إذا قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على
تعليم القرآن، وهذا لعدم إحاطتهم بمعنى الحديث؛ فإن أُبيّاً رضي الله عنه، ما كان
يعلّم الأنصاري بأجرة، وإنما كان يتقرب إلى الله بتعليمه، فظن الأنصاري المتعلم أنه
يستحق عليه أجراً، فأعطاه القوسَ ظاناً أنه باذلٌ حقاً عليه، فلما اطلع رسول الله على
حقيقة الحال أمره بردّ القوس؛ فإنه لم يقع حقاً مستحَقّاً على ما ظنه الأنصاري، ولو
كان الأنصاري متبرعاً، فالتبرع [غيرُ] (2) مردود باتفاق المذاهب. هذا إذا اتحد القصد
والعَقْدُ، ثم بأن خلافه.
10171- فأما إذا علم الباذل أنه لا حق عليه في الحال، وكان لا يتوقع وجوباً في
المآل، وهو فيما بذله على قصد تعجيله، فبذْلُه تبرع، فإن كان هبة، فقد نقول:
__________
(1) حديث أبي بن كعب أنه علم رجلاً القرآن ... الحديث. رواه ابن ماجه (التجارات) باب:
الأجر على تعليم القرآن، ح2158، والبيهقي في الكبرى (6/126) من رواية
عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عن أبي به. وقد أعل الحديث بوجهين، أطال
الحافظ في مناقشتهما (ر. التلخيص: 4/13 ح1849) .
(2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.(15/501)
لا حاجة إلى اللفظ فيه إذا لم يكن معتاداً، وقد نُحْوَج إلى اللفظ فيه على [ما] (1) تمهد في كتاب الهبات.
وإن قصد الصدقة [فالرأي] (2) الظاهر أنه لا حاجة إلى اللفظ، ثم لا رجوع [في] (3) الصدقة.
وإذا كان لا يجب إخراج شيء في الحال، فأخرجه على قصد أن يكون عما سيجب، فللأصحاب تردُّدٌ وتفصيل في أن الزكاة إذا لم تجب في المآل، فهل يملك هو الرجوع؟ وسبب هذا التردد أنه يملِّك ذلك القابض، ويبعد تنجيز الملك عن واجبٍ، ولا واجبَ، وإذا ثبت للقابض تصرفُ الملاك ناجزاً، فليتنجز له مملّكٌ، وإنما يتحقق هذا بأن يقال: إن وقع عن الواجب فذاك، وإلا وقع عن جهة أخرى مملّكة؛ فإن القابض ليس مستقرضاً، فإذا أعطى المعجّل عن خِيَرة وتسلط [القابض] (4) على التصرف في الحال، أثبت هذا منعَ الرجوع على تفاصيلَ عند بعض الأصحاب.
فهذا هو الذي أوجب تردد الأصحاب، وإذا قيّد بالرجوع، رجع، وهو يوهي التعليل الذي ذكرناه من تنجيز التسليط على التصرف، ولكن إذا قيَّدَ، لم يُبق إمكاناً، وحمل جوازُ تصرف المسكين على الحاجة الحاقّة الناجزة، وعليها بناءُ الاستحثاث على التعجيل.
وأما تعجيل النفقة في مسألتنا، فالرجوع فيه أولى وأقرب؛ لأن الوجوب يستند إلى حال الإخراج إذا بان الحمل، وكلما كان الوجوب أظهر وأوقع، كان الرجوع إذا لم يتحقق الوجوب أوْلى.
ثم إذا كنا نثبت الرجوع، فجواز تصرّف المرأة محمول على حاجتها الناجزة، كما ذكرناه في تعجيل الزكاة، ولا حاصل لقول من يقول: قد تكون موسرة بمال نفسها؛
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: بالرأي.
(3) في الأصل: إلى.
(4) زيادة اقتضاها السياق.(15/502)
فإنّ قبضها ما يُستَحَق وتصرفها فيه وإن كانت مستغنية عنه بمثابة قبض المسكين حقَّ نفسه.
فهذا بيان هذه المنازل.
10172- وقد يعترض على الترتيب الذي نظمناه شيء، وهو أن من أخرج زكاةَ ماله الغائب بعد انقضاء الحول، على ظن بقاء المال، فالقاعدة التي استثنيناها تقتضي القطعَ بثبوت الرجوع في هذه الحالة؛ فإن مُخرج الزكاة مُجَرِّدٌ قصدَه إلى جهة الوجوب ظانٌّ أن الزكاة واجبة منتجزةٌ في الحالة الراهنة، ولكن ذهب طوائف من الأصحاب إلى ترديد القول في أنه هل يملك الرجوع، وهذا يكاد يخرِم ما ذكرناه، ووجه ما ذكره هؤلاء أنا لا نوجب عليه إخراج الزكاة عن ماله الغائب ما لم يكن على تحقُّقٍ من بقائه، فلعل الترددَ في الرجوع محمولٌ على هذا، ووجه القياس إثباتُ الرجوع بخلاف تعجيل الزكاة، وبخلاف تعجيل النفقة فيما نحن فيه.
هذا تمام المراد في أحد المقصودين، وهو أنه هل يملك الرجوعَ إذا عجل وقلنا: لا يلزمه التعجيل، ثم بأن أنْ لا حمل.
10173- فأما المقصود الآخر فنقول: مبنى نفقة القرابة على السقوط بمرور الأيام، كما سيأتي شرح ذلك في نفقة القرابة -إن شاء الله- فإن قلنا: النفقة للحامل، ظهر إلحاقها بنفقة الزوجية، وهي لا تسقط بمرور الزمن، وكذلك نفقة الرجعية، وإن قلنا: النفقة بحال وجوبها على الحمل، ثم قلنا: لا يجب التعجيل، فإذا وضعت حملَها، لم يختلف الأصحاب -حيث انتهى التفريع إليه- أنه لا تسقط النفقة بمرور زمان الحمل، وإن كان الوجوب تبيّن مستنداً إلى ما تقدم، وذلك أنا لو أسقطنا النفقة بمضي الزمان، وقلنا لا يجب تعجيل الإنفاق إلى الوضع، فهذا إسقاط النفقة قصداً،
فيتعين القطع بأن النفقة لا تسقط بمضي زمان الحمل، وإن قلنا: النفقة للحمل.
وأما إذا أوجبنا تعجيلَ الإنفاق كما (1) بدا الحمل ووضحَ بطريق وضوحه، فإن
__________
(1) كما: بمعنى عندما.(15/503)
قلنا: النفقةُ للحامل، لم تسقط بمرور الزمان، حتى لو أخرها، ولم يخرجها حتى وضعت المرأة الحملَ- استقرت النفقة في ذمته دَيْناً.
وإن قلنا: النفقة للحمل، وأوجبنا تعجيلَها، فلو أخرها حتى وضعت المرأة، ففي سقوط النفقة وجهان في هذا المنتهى، سنعيد ذكرهما من بعدُ، إن شاء الله.
10174- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل أنا إذا قلنا: النفقةُ للحمل، فلو كانت المرأة لا تكتفي بالمُدّ أو بالمدّيْن -والغرض تصوير حاجتها إلى مزيدٍ على نفقة الزوجية- فهل نزيد ترقّياً إلى الكفاية؟ اضطرب الأصحاب في ترتيب هذا الفصل: فقال قائلون: إن قلنا: النفقة للحمل، فالواجب الكفاية، زادت على حقيقة النكاح أو نقصت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فوجهان: أحدهما - الكفايةُ مرعية، فإنا لو لم نكفها، لأضررنا بالحمل. والثاني - أنه لا مزيد على نفقة النكاح، وإن فرضنا إضراراً، كما أن الاقتصار على المُدّ قد يضرّ بها، ثم لا مبالاة بذلك.
ثم إن كانت تكتفي بدون المدّ، فلا نقصان من نفقة النكاح، وإنما هذا التردّد على هذا القول في الزيادة.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا قلنا: النفقة للحامل، فلا مزيد على مقدار النكاح، وإذا قلنا: النفقة للحمل، فهل تعتبر الكفاية أم يلزم التقدير؟ فعلى وجهين، وسبب هذا التردد أنا إذا قلنا: النفقة للحمل.، فلسنا نُخلي قولَنا عن رعاية حق الحامل، وإذا قلنا: النفقة للحامل، فلسنا نخلي قولَنا عن الالتفات على الحمل، وكأن الحمل في المطلّقة يُبقيها في عُلقةٍ تضاهي علقةَ الرّجعة في استحقاق النفقة. والعلم عند الله.
ولم يختلف أصحابنا في أن المرأة إذا حملت في صلب النكاح، لم نزدها على مقدّر النكاح شيئاً، والتردد الذي ذكرناه في حالة البينونة، فإنَّ عصام النكاح قد زال، فعظم النظر في الولد، فهو المتعلَّق.
وإذا كان النكاح قائماً، فلا مزيد على حق النكاح، وإن خطر لناظرٍ أنها ازدادت بالحمل إقلالاً له واستقلالاً به، فكأنها منكوحةٌ حاضنة، فهذا فقهٌ على حال. ولكن(15/504)
لم [يعتبره] (1) أحدٌ من الأصحاب؛ فإن الحمل لا يمكن اعتباره على حياله، ومنه التفّ أحد القولين بالثاني في أن النفقة للحمل أو للحامل.
وهذا نجاز الكلام في هذا الفن الذي رأيناه قاعدةً في الباب، ولم يبق بعد نجازه إلا فصلٌ منصوصٌ عليه للشافعي تخبط المزني في فهمه، ثم في الاعتراض عليه، ونحن نذكره، ونبيّن وجهَ الصواب فيه، ثم نذكر بعده فروعاً متفرقة.
فصل
قال: " ولو كان يملك الرجعةَ، فلم تقر بثلاث حِيضٍ ... إلى آخره " (2) .
10175- والوجه أن نذكر مراد الشافعي ووجه الصواب حتى إذا انتهى الحظّ الفقهي، رجعنا إلى ظن المزني واعتراضه، وبيان خطئه.
فلتقع البداية بتصوير المسألة: إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، ومرّت عليها ثلاثةُ أقراء، ثم بدا بها حمل، ولو وضعت دون أربع سنين لَلَحِقَ الحملُ، ولاعتقدنا أن ما رأته من الدماء كانت في زمان الحمل، ثم التردد في أنها حيضٌ أو دمُ فساد، فلو لم تضع الحملَ حتى مضت أربعُ سنين على وجهٍ يقتضي الشرعُ نفيَه عن الزوج، فيقدّر العلوق به وراء الأقراء، ويُقضَى بانقضاء العدة بمضيها.
هذا هو الأصل.
فإن زعمت المرأة أن أقراءها انقضت في أربعة أشهر مثلاً، وما قالته محتمل، فتستحق النفقة لهذه المدة على زوجها، وإن اتهمها الزوج، حلَّفها، فإنهن مؤتمنات في أرحامهن، والرجوع في آماد العِدد إليهن.
ولو قالت المرأة: لست أدري في كم انقضت أقرائي، فهي لا تخلو إما إن كانت على عادة معلومة في أدوارها، وكانت تعلم عادتَها، ثم جوزنا لما سألناها ازدياداً أو نقصاناً، فإن كان كذلك، فقد قال الأصحاب: لها النفقة أيام عادتها.
__________
(1) في الأصل: لم يعتبر.
(2) ر. المختصر: 5/80.(15/505)
وإن زعمت أن عاداتها مضطربة، وكانت لا تعرف أقل عاداتها، فهي محمولة على أقل ما يتصور انقضاء الأقراء فيه، ولا تستحق النفقة إلا لأقلِّ زمنٍ يُتصور انقضاء عدتها فيه؛ فإن هذا القدرَ هو المستيقن، ولا متعلّق معنا من عادتها، حتى نتخذه أصلاً مرجوعاً إليه.
ولو كانت تعرف أقل عاداتها، وكان ذلك أكثرَ من الأقل الذي وصفناه، فقد قال الأصحاب: ليس لها إلا نفقةُ أقلِّ عاداتها، ويحتمل أن يقال: إذا كانت عاداتها مستقيمة، ولم تدّع أن الأقراء جرت على حسب العادة التي ألفتها قديماً، بل ادعت الجهالة، فليس لها إلا نفقة أقل الأزمان؛ فإن هذا هو المستيقن، وهي ما ادعت مزيداً، فتُصَدَّق، وليست الأدوار وإن تكررت بعيدة عن الزيادة والنقصان، وهذا الوجه يجري إذا كانت عاداتها مختلفة، وكانت تعرف أقلّها، فيتجه أن لا نوجب لها إلا الأقلَّ الذي لا أقل منه؛ لأنها لم تدع، بل ردّدت قولها، وليس النقصان ولا الزيادة مستنكَرَيْن في أدوار الحيض والطهر.
هذا فقه الفصل وبيانُ مراد الشافعي، وتفصيل الأصحاب على سَنَن الصواب.
10176- وأما المزني، فإنه ظن أن الشافعي صور المسألة فيه إذا ادعت المرأة أن أقراءها [انقضت] (1) في زمان ذكرته، ثم قال: لا تُصَدّقُ فيه. فأخذ يعترض قائلاً: إنهن مؤتمنات في أرحامهن، فكيف لم نصدقها، واستشهد بالرجعة عند فرض التنازع في انقضاء العدة في كلامٍ يطول (2) ، ولا حاصل لما جاء به؛ فإن اعتراضه غير واقع على تصوير الشافعي، فإنه رضي الله عنه صوّر الكلام فيه إذا لم تدع المرأة مدةً، وأبهمت قولَها، ثم تفصيل المذهب في اضطراب عاداتها واستقامتها كما ذكرناه.
فأما إذا ادعت المرأة وقوع أقرائها في زمن ذكرته، فهي مصدّقة مع يمينها، لا خلاف فيه. هذا بيان مقصود الفصل.
__________
(1) في الأصل: نقصت.
(2) ما رأيناه في مختصر المزني إشارة عابرة إلى المسألة، وليس "كلاماً يطول" فهل ذكره المزني في جامعه الكبير مثلاً، أم في غيره (ر. المختصر: 5/80) لترى إشارة المزني الموجزة جداً.(15/506)
فرع:
10177- إذا طلق الرجل امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فنفقتها واجبة، كما ذكرناه، فلو مات الزوج في أثناء العدة، استكملت المرأة عدة الطلاق، ولم تنتقل إلى عدة الوفاة.
قال ابن الحداد: إذا مات الزوج كما صوّرنا، سقطت النفقة في بقية العدة، لأنا إن قلنا: النفقة للحمل، فلا تجب نفقة القرابة في تركة الميت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي في محل الحاضنة، ولا يجب مؤونة الحاضنة في تركة المتوفَّى.
قال الشيخ أبو علي: الصّواب غيرُ ما ذكره ابنُ الحداد، فإن نفقة العدة وجبت لمكان الحمل دُفعة واحدة، والتحقت بالديون؛ فطريان الموت لا يُسقطها، واحتج على ذلك من جهة النص، بأن قال: نص الشافعي على أن [مؤنة] (1) سكناها في بقية العدة مأخوذة من التركة، وقطع قوله به، ثم ردد قوله في أن المتوفى عنها زوجها في غير هذه الصورة هل تستحق السكنى؟ فقَطْعُه القولَ بإثبات السكنى للمطلقة الحامل دليلٌ على أن ما يجب لها لا يسقط بطريان الموت.
وهذا الذي ذكره الشيخ أبو علي من تغليط ابن الحداد إن كان من كلامه، فهو بعيد عن الصواب، والصواب ما ذكره ابنُ الحداد، وإن نقله عن الأحاب، فالأوجه ما ذكره ابن الحداد؛ وذلك لأن نفقة الحامل في العدة لا تجب دفعة واحدة، وإنما تجب يوماًً يوماً، كنفقة الزوجية، فإذا فرض الموت، فإيجاب النفقة ابتداءً على ميتٍ لحاملٍ بعيدٌ عن قياس المذهب، [وإنما] (2) وقع لهؤلاء ما وقع؛ من جهة أن النكاح ينقطع بالموت، فلو مات الرجل عن زوجته الحامل، فلا نفقة لها، لأن النكاح قد زال، ونفقة القرابة لا تجب في تركة ميت، وعِدة المطلقة لا تنقطع بالموت إذا كانت
بائنة.
فقال من خالف ابنَ الحداد: المعنى الذي أوجب النفقة قائم، لم ينقطع؛ لأن المرأة مستبرأة بها، والنفقة لا تجب لصورة العِدة، وإنما تجب للحمل أو لحضانة
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: أنا وقع لهؤلاء ...(15/507)
الحمل، بدليل أن الحائل البائنة لا تستحق شيئاًً، [ولا] (1) وجه عندنا إلا ما ذكره ابن الحداد.
فرع:
10178- إذا وضعت المرأة حملها، وكان الزوج طلقها طلاقاً رجعياً، فاختلف الزوجان في تاريخ الطلاق، فللمسألة صورتان متعارضتان: إحداهما - أن الزوج لو قال: طلقتك بعد الوضع، فاستقبلتِ عدة الطلاق الرجعي، فلي الرجعة، وقالت المرأة: بل طلقتني قبل الوضع، فانقضت عدتي بوضع الحمل.
قال الأصحاب: القول قول الزوج في أنه يلزمها استقبال العدة، وتثبت الرجعة في أمد العدة بعد الوضع؛ فإن الزوج هو المطلق، والمرأة تدعي عليه تطليقاً قبل الوضع، والقول قوله في نفيه، ولكن لا نفقة للمرأة، فإنها مؤاخذة في حق نفسها بقولها، وهي زاعمة أنها بائنةٌ حائل.
الصورة الثانية - أن يقول الزوج: طلقتك قبل الوضع، فإذا وضعتِ، انقضت عدتك، فلا نفقة لك ولا رجعة لي، وقالت المرأة: بل طلقتني بعد الوضع، فنفقتي ثابتة، قال ابن الحداد: النفقة لا تسقط، فإن الزوج يدّعي سقوطها بوضع الولد، والأصل بقاؤها، ولكن لا رجعة له؛ لأنه مؤاخذ بقوله، وهذا ظاهر.
ويتطرق إليه احتمال؛ من جهة أن الزوج يقول: أنا المطلق، وأنا أعرف بتاريخ الطلاق، فليكن الرجوع إليّ، وهذا ظاهر.
ومن أحاط بالفصول التي ذكرناها في اختلاف الزوجين في كتاب الرجعة، لم يَخْفَ عليه ظهور هذا.
فرع:
10179- إذا نكح الرجل امرأة نكاحاً فاسداً، على ظن الصحة، وكان ينفق عليها، ثم تبين له [فساد] (2) النكاح، ومعلوم أن النكاح الفاسد لا يوجب النفقة للمرأة، فالذي رأيته للأصحاب أنه لا يرجع فيما أخرجه في نفقتها، وهذا يكاد يعترض على بعض أطراف الكلام في الفصل الجامع القريب منا؛ حيث [ذكرنا ما يَثبت
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) في الأصل: بفساد.(15/508)
الرجوعُ به، وما لا يَثبت الرجوعُ به] (1) وذلك أن من قواعد ذلك الفصل أن من أخرج شيئاً على اعتقاد الوجوب، ثم بان عدم الوجوب، فإنه يملك الرجوع، والأمر كان كذلك في النكاح الفاسد.
والذي اعتمده الأصحاب فيما قطعوا به أن قالوا: كان الزوج متسلطاً عليها في ظاهر الحال بناء على ظن الصحة، فوقعت النفقة على مقابلة سلطانه عليها ظاهراً.
وهذا فيه إشكال؛ فإن ذلك السلطان كان منوطاً بظن وبحسبان، فإن [بان] (2) الأمر على خلاف ما حسبه، فليس يبعد عن الاحتمال أن يثبت له حق استرداد ما أخرجه، ولكن لم أر للأصحاب إلا القطعَ بأنه لا يملك الرجوع.
وكان شيخي يقول: لو قال الناكح: [هذا الذي أقدمه أقدمه] (3) وأنا على اعتقاد صحة النكاح، فإن بان فساده، رجعت به، فلا يملك الرجوع إذا بأن الفساد. هذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكال، والاحتمال جارٍ، وجريانه في الصورة الأخيرة أظهر.
والممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب ضمّاً إلى السلطان الذي اعتمدوه أن العادات مطردة أن من ينكح، ويتسلط وينفق لا يضمر الرجوع، هذا ما عليه دأب الخلق، سواء بان الفساد أو الصحة، فهذا إذاً بذلٌ يقع متجدِّداً على وجهٍ لا يضمن الرجوعَ معه، وهذا إنما يجري إذا لم يقيَّد بالرجوع، والعلم عند الله.
فصل
10180- كان يليق بالفصل الذي جمعنا فيه القول فيمن يرجع بما ينفق وفيمن لا يرجع، وليس بعيداً عن هذا المنتهى، قال الصيدلاني: كان القفال يقول: من دفع
__________
(1) عبارة الأصل: " حيث ذكرنا ما يثبت الرجوع به، إذا تبين الأمر بخلاف الظن، وما لا يثبت الرجوع به " وواضح ما بها من حشو وخلل.
(2) في الأصل: ابتنى.
(3) عبارة الأصل: " هذا الذي قدمته وأنا علي اعتقاد صحة النكاح " وسوّغ للمحقق هذا التصرف وهذه الزيادة، أن عبارة الأصل ليس فيها فرق بين الصورة الأولى. وهذه التي اشترط فيها الرجوع والسياق يشهد لهذا التعديل وهذه الزيادة. والله أعلى وأعلم.(15/509)
إلى دلاّل [عَرْضاً] (1) حتى يبيعه، فباعه، فأجرته على الذي أمره، إن ذكر الأجر، وإن أطلق فعلى تفصيلٍ معروف مذكور في موضعه، ولا شيء على المشتري؛ فإنه لم يأمر الدَّلاَّل بشيء.
والمسألة مفروضة هاهنا، فلو وهب المشتري شيئاً من الدلال على اعتقاد أنه يستحق عليه شيئاً، فله الرجوع فيما وهبه؛ [لأنه] (2) اعتقده واجباًً، فإذا بأن خلافُ [ما] (3) يعتقده، رجع.
وهذا فيه نظر على حالٍ، لأن المسألة مفروضة فيه إذا وهب من الدلال، والهبة عقد تمليك، والظنون لا تغيّر مقتضيات العقود، ويمكن تخريج هذا على أن النظر إلى المقصود أو إلى [مقتضيات] (4) الألفاظ في العقود، فإن نظرنا إلى المقصود، فالكلام على ما ذكره القفال، وإن نظرنا إلى صيغة العقد، فالهبة مملّكة، فإذا اتصل القبض بها، فلا رجوع؛ إذ لا يرجع واهب فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده.
***
__________
(1) في الأصل: عوضاً.
(2) في الأصل: لا مما اعتقده واجباًً.
(3) سقطت من الأصل، وزادها المحقق.
(4) في الأصل: قضيات الألفاظ.(15/510)
باب النفقة على الأقارب
قال الشافعي: " في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ... إلى آخره " (1) .
10181- نفقة القرابة ثابتة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وروى أبو هريرة: " أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر. فقال: أنفقه على ولدك، فقال معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على خادمك، فقال: معي آخر، فقال: افعل ما شئت " (2) قال أبو هريرة: " ولدك يقول: أنفق عليّ، إلى من تكلني؟ وزوجتك تقول: أنفق عليّ أو طلقني، ويقول خادمك: أنفق
عليّ أو بعني " ثم كان يقول: هذا من كَيْس أبي هريرة، وقال رسول الله صلى الله عليه لهندٍ: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
وأجمع المسلمون على ثبوت نفقة القرابة.
ثم القرابة المقتضية للنفقة عند توافي الشرائط المرعية في وجوب النفقة هي البعضية عندنا على القُرب والبعد، فتستوجب [على] (3) الموسر -على ما سنصفه إن شاء الله - نفقةَ بعضه: دنا أو بَعُدَ، وتستوجب نفقةَ أهله: دنا أو بعد، ولا نظر مع قيام البعضية إلى اختلاف الدِّين، فيجب على الإنسان نفقة قريبه إذا كانت قرابتهما بعضية سواء كانا على دين واحد أو اختلف الدِّين بينهما، ولا يعتبر في استحقاق أصل القرابة الإرث، وإن كنا قد نرعاه في التفصيل وفي التقديم، على خلافٍ للأصحاب مشهور
__________
(1) ر. المختصر: 5/81.
(2) سبق تخريج هذا الحديث.
(3) زيادة من المحقق.(15/511)
سيأتي، إن شاء الله: فتثبت نفقة أبي الأم، وبنت البنت مع انتفاء الإرث.
[وأبو حنيفة جعل الاستحقاق باجتماع الرحم والمحرمية] (1) ولم يخصصه بالبعضية (2) ، ثم شرط في ثبوت النفقة بالقرابة التي ليست بعضية الاتفاق في الدين، ولم يشترط الاتفاق في الدين بين شخصين بينهما بعضية.
فهذا هو الأصل.
10182- ثم إذا أوجبنا نفقةَ الابن الصغير على الأب، فيشترط كونُ الابن معسراً، حتى لو كان في ملكه ما ينفق عليه، لم تجب نفقتُه على أبيه، ولا يشترط أن يكون عاجزاً عن الكسب، بل اتفق الأصحاب على أن استكسابه وإن كان يَرُدّ مقدارَ نفقته، فعلى [الأب] (3) الإنفاقُ عليه.
وينشأ من هذا أصلٌ قد ينسلّ عن فكر الفقيه القيّاس، وبانسلال أمثالها تُظلِمُ أرجاء مسالك الفقه، وذلك أن الأب إليه استصلاحُ ولده، فلو رأى أن يحمله على الكسب، لم يبعد في النظر أن يجوز له، ولو جُوّز له ذلك، ففيه إسقاط النفقة معه، ولا ينتظم مع هذا إطلاقُ القول بأن النفقةَ تجب على الأب وإن كان الصبي المراهق كسوباً [فكيف التصرف في هذا؟] (4) .
أولاً - لا خلاف أن الأب لو أراد أن يعلّمه بعض الحرف لاستصلاح معاشه والنظرِ في عاقبة أمره، فله ذلك، وإذا علّمه حرفة، فكيف ينتظم في النظر له تعطيلها؟ وقد ينساها إذا تركها؟ وإذا كان يتجه هذا الرأي [وإعمالُه] (5) ، فأيُّ معنى لإحباط منفعته؟ وإذا تجمع مما ذكرناه أنه يحمله على الاكتساب، فكيف يتسق مع هذا إيجاب النفقة على الأب للابن المحترف؟ ولو عمل، لرَدَّ بيومٍ قوت أيام.
هذا وجه التنبيه على غامضة يجب إنعام الفكر فيها، وقد رأيت لبعض الأصحاب
__________
(1) في الأصل: وأبو حنيفة على استحقاق باجتماع الرحم والمحرمية.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 224، فتح القدير: 4/419.
(3) زيادة من المحقق.
(4) عبارة الأصل: فكيف التصرف فيه في هذا. والمثبت تصرّف من المحقق.
(5) في الأصل: إعماله (بدون الواو) .(15/512)
[أنه] (1) ليس للأب أن يجشم ولده الكسب، وهذا غفلة عظيمة. نعم، لا يمتنع في
هذا تفصيلٌ فيقال: إن كان يليق بذلك الولد حفظ المروءة ولو استكسبه الأب لغضَّ ذلك من قدره، وصارت عبرة لا تنسى على طول عمره، فليس من النظر له الاستكسابُ، ويجوز أن يقال: ليس من النظر لمثله أن يعلّمَ الحرفَ.
وأما إذا كان يليق به [وببنيته] (2) الاستكسابُ، فلا وجه لمنع الأب من استكسابه، وعلى الجملة لا يَخْرجُ الاستكساب في بعض الأشخاص والأحوال عن كونه وجهاً من وجوه النظر، ولكن يبقى ما اتفق الأصحاب عليه من وجوب نفقته على الأب مع كونه كسوباً.
وأثره يظهر فيما نصفه، وهو أن الصغير إذا عطّل الكسب يوماًً وغيب وجهه عن أبيه، أو لم يُطعه جمع تكليفه، ولما جاع، عاد طالباً للنفقة، فعلى الأب الموسر الإنفاقُ عليه، والابن [البالغ] (3) قد يشترط في استحقاقه النففة ألا يكون كسوباً، حتى لو اقتدر على الكسب وعطله لم يستحق النفقة.
هذا طرف من الكلام في نفقة الصغير.
10183- وأما الابن البالغ، فيشترط في استحقاقه النفقة على أبيه كونُه فاقداً لما ينفقه، وهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يشترط ذلك، ويستحق النفقة على أبيه الموسر، وإن كان كسوباً، كما ذكرناه في المراهق، وجه هذا القول أن الغرض في إيجاب النفقة كفُّ الضرار، وتكلفُ الكسب وتحصيلُ القوت بالكدّ مضرٌّ مع اتساع مال [الوالد] (4) ، ومبنى الإنفاق على الإرفاق.
والقول الثاني - أنه لا يستحق النفقة إذا كان قادراً على كسبٍ يردّ قوتَه؛ [فإنّ استحقاق النفقة يتعلق بالحاجة] (5) ، كاستحقاق سهم المساكين في الزكاة، ثم كون
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) غير مقروءة بالأصل إلا بصعوبة بالغة.
(3) في الأصل: النابع.
(4) في الأصل: الولد.
(5) في الأصل: فإنه استحقاق لنفقة يتعلق بالحاجة.(15/513)
الشخص كسوباً يخرجه عن استحقاق سهم المسكنة، فليخرجه عن استحقاق النفقة، وهذا القائل ينفصل عن المراهق، ويقول: [إلزامه] (1) شرعاً ولا تعلق للتكليف به بعيد، ومعاقبتُه بقطع الإنفاق إذا لم يكتسب بعيدٌ، والبالغ العاقل معرض لتوجيه الأمر عليه أولاً، ومعاقبتُه بقطع النفقة عنه إذا لم يمتثل الأمر آخراً.
وللقائل الأول أن ينفصل عن سهم المسكنة، ويقول: ذلك مخصوص بذوي الحاجات الحاقة، ولو شاركهم في ذلك المكتسبون، لتقاعد سداد الحاجة عمن اشتدت حاجته.
التفريع:
10184- إن حكمنا بأن الكسوب يستحق النفقة على الموسر، فلا كلام.
وإن حكمنا بأن الكسوب لا يستحق، فهل يشترط أن يكون امتناع الكسب بزمانَةٍ أم لا يشترط ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط الزمانة، وفي معناها المرض اللازم المعجز مع صحة الأعضاء، فإن الصحيح السليم لا يخلو عن التمكن من نوعٍ من الكسب.
ومن أصحابنا من لم يشرط الزمانة، واكتفى بألاّ يكون مستقلاً بتحصيل قوته، وقد ذكرنا مثلَ هذا التردد في استحقاقه سهمَ الفقراء، ثم انتهينا في التفريع على أحد الوجهين إلى اشتراط العمى، ولم ينته إلى اشتراطه أحد من الأصحاب في النفقة.
ومما يتعلق بتمام ذلك أنه لو كان يقدر على تحصيل مقدار من القوت، فذاك القدر لا يستحقه، ويستحق ما يعجز عنه، إذا اشترطنا ألا يكون كسوباً، فهذا مما يجب التنبه له، وكل ما ذكرناه في نفقة الولد على الوالد الموسر.
10185- فأما إذا كان الولد موسراً والأب معسراً، فهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنا لا نشترط ذلك في حق الأب قولاً واحداً؛ فإن إحالة الابن الموسر أباه الطاعن في السن على العمل في الطين (2) ،
__________
(1) في الأصل: التزامه. والمثبت من عمل المحقق.
والمراد بإلزامه هنا إلزامه الاكتساب.
(2) كذا. وفي صفوة المذهب: على العمل الدني.(15/514)
لا يليق بما أوجبه الله تعالى من احترام الآباء والإحسانِ إليهم، ولا يبعد عن الأب إحالة ابنه على الكسب، كما لا يبعد منه استخدامُه.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في جانب الأب المعسر، كما ذكرناه في الابن المعسر، وهذا وإن أمكن توجيه القياس فيه، فالمذهب المعتدُّ به القطعُ بأن ذلك ليس شرطاً في الأب.
وقد يتصل بهذا الفصل النظر في تفاصيل الكسب؛ فإن الرجل ذا المروءة لو تكلف نقل القاذورات وشَيْل الكناسات، فقد يجتمع له ما يقوته، ولكن ذلك [يحطّ] (1) من مروءته [فكيف] (2) الطريق فيه؟ هذا عندنا يخرج على اشتراط الزمانة: فمَن شَرَطَها، فموجب مذهبه أن لا فرق بين كسب وكسب، إذا فُرض الاقتدارُ عليه، ومن لم يشترط الزمانة، فالرأي على التردد في رعاية ما أشرنا إليه من اعتبار المروءة والنظر إلى أقدار المناصب.
ولا خلاف أن عبد الرجل مبيعٌ في نفقته، وإن كان ذلك يلجئه إلى التبذل والتبسط بنفسه في الحاجات الدنيّة كاستقاء الماء وما يشبهه.
وقد تنجز أصلٌ من أصول القول في ذلك.
10186- ونحن نأخذ من هذا المنتهى في أصلٍ آخر، ونقول: لا خلاف أن نفقة القريب مبناها على الكفاية، وليست متقدَّرة، بخلاف نفقة الزوجية، فإن اكتفى في يومٍ ولم يحتج لعارضٍ، فلا نفقة له، وإن كان رغيباً، لزمت كفايته، وإن كان زهيداً، فعلى قدر حاجته.
ولا يضرّ أن نصرف الاهتمامَ إلى بيان الكفاية، فنقول: لا ينتهي الإنفاق إلى رد النهم والقَرَم (3) وحَسْم الشهوة، ولكن الكفاية المطلقة ما [يقي] (4) البدنَ ويدرأ عنه الضرار في الحال والمآل.
__________
(1) في الأصل: يحطه.
(2) في الأصل: أم كيف.
(3) القَرَم: شدةُ الشهوة إلى أكل اللحم.
(4) في الأصل: " يقلّ ". والمثبت من تقدير المحقق.(15/515)
وبيان ذلك أنه إذا كان [يغضُّ] (1) المقدارَ النزرَ من كفايته، فقد لا يظهر أثر هذا في يوم، ولكن لو فرض التمادي عليه، لظهر إضراره.
فالذي أراه أنه لو كان يسد جوعته ويستأصل نَهْمتَه، ثم أراد في بعض الأيام أن يقتصر على ما يقع به الإقلالُ في اليوم، ثم يتداركه في غده - أن هذا غيرُ سائغ؛ فإن هذا جزء من الضرر، والغدُ غيب.
ثم يجب أن يُطعَم ما يأتدم به؛ فإن الخبز القفار يحُلّ القوى، والمرعي في الأُدم الأصل الممهّد في نفقة الزوجات، غير أن المرعي في القوت الكفاية [فالأُدْم] (2) على قدرها.
والكُسوة واجبة، وقد وَضَحَتْ في مؤن الزوجات، والمطلوب إزالة الضرر، والقيام بالكفاية.
ثم ما يبتني على الكفاية، فلا يشترط التمليك فيه، بل يكفيه أن يقول لقريبه الذي يستحق الإنفاق عليه: كُلْ معي.
10187- وإذا مضت أيام لم يتفق الإنفاق فيها، سقطت نفقتها، ولم تثبت ديناً بخلاف نفقات الزوجات، فإن ما لا يجب التمليك فيه، وابتنَى على الكفاية، استحال مصيره دَيْناً في الذمة.
هذا أصل المذهب وقاعدته.
ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين في أن نفقة الولد الصغير هل تسقط بمرور الزمان، أم تصير ديناً في ذمة الأب الموسر؟ أحدهما - أنها تسقط، وهذا القياس الحق، وتوجيهه ما أوضحناه من اعتبار الكفاية وسقوط التمليك.
والثاني - أنها تثبت في الذمة، وهذا الوجه على ضعفه موجّه عند الصائر إليه بأن نفقة المولود محمولةٌ على نفقة الزوجية، فإنها من أتباع النكاح، وإن كان المطلوب منها الكفاية، حتى يكون احتباسها مقابلاً بكفاية الزوج إياها لا يسقط بمرور الزمان،
__________
(1) في الأصل: نعص.
(2) في الأصل: فلازم.(15/516)
فلتكن نفقة المولود بهذه المثابة؛ إذ الولد المضاف إلى النكاح من آثار الاستمتاع، وأيضاً اهتمام المرأة بولدها من زوجها يقرب من اهتمامها بنفسها، فلو كانت نفقة المولود تسقط بتعطيل الزوج إياها، وهي لا تعطّل ولدَها، فيقرب تضررها بسقوط نفق مولودها من تضررها بسقوط نفقتها في نفسها.
وهذا الوجه ضعيف لا أصل له، ولا ينبغي أن يعتدّ به، ولولا علوّ قدر الحاكي، لما استجزت حكايته؛ لما حققته من أن نفي التمليك وإثباتَ الكفاية مع المصير إلى أنه يجب تداركُ ما مضى أمسِ كلامٌ متناقض؛ فإنه يستحيل أن يكْفى الإنسانُ أمرَ أمسه، والماضي لا مستدرك له. نعم، إذا أثبتنا النفقة للحامل البائنة، وقضينا بأن النفقة للحمل، فيترتب عليه أنا إن لم نوجب تعجيل النفقة، وقضينا بأن الزوج يُخرج نفقة زمان الحمل يومَ الوضع، فهذه نفقة منسوبة إلى القرابة، وليست ساقطةً بمضي الزمن.
وإن قلنا: يجب تعجيل النفقة، فلو لم يتفق تعجيلُها حتى وضعت المرأة الحملَ، فهل نقضي بسقوط نفقة أيام الحمل -والتفريع على أن النفقة للحمل-؟ فعلى وجهين معدودين من أصل المذهب، وإنما اتجه عدمُ سقوط النفقة بمضي الزمان لاتصالها باستحقاق الحامل؛ فإن انتفاعها بها سبق انتفاعَ الحمل، وإن أضيفت إلى الحمل، فالمرأة مستحقتُها، فكان انتظام الوجهين لهذا، وفيه يتجه ما أطلقناه من التبعية، ثم هذا في الحمل، أو في الولد الصغير على ما حكاه الشيخ.
فأما نفقةُ الولد البالغِ، ونفقةُ كل قريب يستحق النفقةَ سوى الولد الصغير تسقط (1) بمرّ الزمان ولا تصير ديناً قط.
10188- وهذا نجاز هذا الأصل، ونأخذ بعده في أصل آخر، فنقول: الزوجة إذا كان لا يتوصل إليها نفق مولودها، وكان الأب حاضراً ممتنعاً، أو غائباً، والطفل فقير لا مال له، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن لها أن تأخذ نفقة ولدها من مال زوجها إذا كانت يدها تمتد إليه، واحتجوا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تسقط: (جواب أما بدون الفاء) .(15/517)
لهند: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال عليه السلام ذلك، لما شكت إليه شُحَّ أبي سفيان وامتناعَه عن الإنفاق عليها وعلى ولدها.
وهذا خارج عن قياس الأصول؛ من جهة أن الأم لا تلي على الرأي الظاهر، ومن ولاّها من الأصحاب فذاك إذا لم يكن للمولود والد، وإثبات الولاية لها مع الأب ليس على قاعدة القياس، ولكن رأى الأصحابُ الاستمساك بالحديث [وتقديمَه] (1) على القياس، وفيه مصلحة لائقة بالحال؛ فإنها لو كانت تحتاج إلى مراجعة القاضي في نفقة الولد، لعسر ذلك عليها، وإذا كانت تنفق من مال زوجها بالمعروف على ولدها، فقد تتزجّى الأيام وتنطوي عريةً عن نزاع وضرار.
وأبعد بعض الأصحاب، فلم يثبت لها ذلك، إلا أن [يفوض] (2) القاضي إليها، ورأى هؤلاء قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم تسليطاً منه إياها على الأخذ بمثابة [تسليط] (3) القاضي، ولم يَروْا ذلك حكماً ثابتاً شرعاً على وجه الفتوى، وهذا بعيدٌ.
ثم إذا جوزنا للأم أن تأخذ من مال الزوج من غير إذنه، فلو لم تجد لزوجها مالاً واستقرضت عليه، فإن قلنا: ليس لها أن تأخذ مالَ الزوج إذا وجدته، فليس لها أن تستقرض عليه، وإذا قلنا: لها أخذُ مال الزوج، فهل لها الاستقراض عليه من غير تفويض القاضي إليها؟ فعلى وجهين: أحدهما - لها الاستقراض؛ لأن الشرع أثبت لها ولاية الاستقلال في نفقة المولود، ومن نتائج [الولاية] (4) الاستقراضُ.
والثاني - ليس لها ذلك؛ فإن الأخذ من مال الزوج مأخوذ من فحوى الحديث، على خلاف أصول القياس، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر من غير مزيد، وهذا مسلك الكلام في كل حكم تضمن الخبرُ إثباتَه على خلاف أصول القياس.
10189- ولو نفى الرجل نسب مولوده باللعان، واضطرت المرأة للإنفاق عليه،
__________
(1) في الأصل: وتقديم.
(2) في الأصل: يفرض.
(3) في الأصل: تسليطه.
(4) في الأصل: الولادة.(15/518)
ثم إن الزوج أَكْذبَ نفسَه [واستلحق] (1) النسبَ الذي نفاه، فهل ترجع المرأة على الزوج بما أنفقته من مال نفسها؟
هذا يستدعي تقديمَ مسألة أخرى ملتحقةٍ بما تقدم، وهي أن الزوجة لو لم تصادف مالَ الزوج، ولم تجد من يقرضُها على الزوج، فأنفقت من مال نفسها، فهل ترجع على الزوج؟ هذا يترتب على الاستقراض، فإن منعناه، فامتناع الرجوع على الزوج إذا أنفقت من مال نفسها أوْلى؛ فإنها تكون في مقام المقرضة لزوجها من غير استقراض منه، فكأنها المقترضة والمستقرضة، وهذا بعيد.
وانتظمت ثلاثُ مراتبَ: إحداها - أخذ مال الزوج من غير رضاه، والظاهر الجواز للخبر. والثانية - في الاستقراض على الزوج من غير تفويض من القاضي، وفيها الخلاف، والثالثة - في إنفاقها من مال نفسها، وطلبها الرجوعَ على الزوج.
ونقول بعد ذلك: إذا أنفقت المرأة على الولد المنفي باللعان، ثم اكذب الزوج نفسَه، ففي رجوعها وجهان مرتبان على الوجهين فيه، إذا [أنفقت] (2) المرأة على الولد النسيب من مال نفسها، والصورة الأخيرة أولى بألاّ يثبت الرجوع فيها؛ لأنها فعلت ما فعلت بانيةً على ظاهر النفي، وهي موطّنةٌ نفسَها على الانفراد بالإنفاق من غير تقدير مرجع.
ومما يتم به البيان في هذه المسائل أنا إذا أثبتنا للمرأة الرجوعَ على زوجها إذا أنفقت من مال نفسها، فذاك فيه إذا لم تقصد التبرعَ، وأما إذا قصدت التبرعَ، فلا مرجع، ويجب أن يقال: إنما ترجع على أحد الوجهين إذا قصدت الرجوع.
10190- وممّا يتعلق بتتمة ذلك أنه أولاً إذا كان للمولود مال، وكانت نفقته من ماله، وله أب من أهل الولاية، فلا شك أن الأب هو الذي يلي مال الطفل، ولو أرادت الأم أن تنفق على الولد من مال الولد، فالوجه عندي أن يكون هذا أولى
__________
(1) في الأصل: وـستلحق.
(2) في الأصل: انتفت.(15/519)
بالجواز من إنفاقها عليه من مال الزوج، فإذا تسلطت على إنفاق مال الزوج عليه، فلأن تتسلط على إنفاق مال الطفل عليه أولى.
ثم إذا كانت متمكنةً من طلب نفقة الولد من الزوج وتحصيلها من جهةٍ، فأرادت الاستبداد بالأخذ (1) ، فالوجه أن ذلك لا يجوز، وإنما يسوغ الأخذ من مال الزوج عند ظهور تعذر الاستيداء منه، ويشهد لذلك الحديث؛ فإن هنداً قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخبارها هذا ما قال. وقد استدل الشافعي في كتاب الدعاوى على أن لمن تعذر حقُّه أن يأخذ من مال مَنْ عليه الدين قدرَ حقه، بحديث هند، ثم ينتظم في هذا أنها تملك مطالبةَ الزوج بنفقة الولد، وكل هذا والولد طفل.
10191- ونحن نذكر بعد هذا تفصيلَ القول في الذين يستحقون النفقة بالبعضية في هذا الغرض الذي نحن فيه، ونقول: كل من يستحق النفقة على قريبه؛ فإنه يطالبه بها مطالبة الدُّيون، فإن امتنع ووجد مستحقُّ النفقة من جنس النفقة، أَخَذَ الكفايةَ مما وجده، وإن وجد من غير جنس النفقة، فعلى القولين في الظفر بغير جنس المال عند تعذر استيفاء الديون.
ولو أراد الابن البالغُ المعسر أن يستقرض على أبيه الموسر مقدارَ نفقة نفسه، فليس له أن يستبد بهذا، وكذلك القول في الأب الفقير مع الابن الموسر، ولكن يرفع مستحقُّ النفقة أمرَه إلى الحاكم، وللحاكم أن يستقرض على من عليه النفقة، فإن فعل، فذاك، وإن أذن لمستحق النفقة أن يستقرض عليه، جاز.
وإن استقرض عليه بنفسه من غير مراجعة القاضي -مع القدرة عليها- لم يلزم ذلك القرضُ ذلك الإنسانَ، ولو عدِم مستحق النفقةِ الحاكمَ، ومست الحاجةُ، فاستقرض على من عليه النفقةُ، ففي المسألة وجهان مأخوذان من مسألة الجمّال، وقد سبقت مستقصاة.
10192- ومما يتعلق بهذا أن أبَ الطفل إذا غابَ وحضر الجدُّ، فقد ذكر الشيخ
__________
(1) أي من مال الزوج بغير إذنه.(15/520)
أبو علي وجهين في أنه هل يستبد الجدُّ بالاستقراض على الغائب من غير مراجعة القاضي مع القدرة عليها، ولست أرى لجواز الاستقراض عليه من غير مراجعة القاضي وجهاً أصلاً؛ فإن الجد لا يلي في غيبة الأب، وما أثبتناه في الأم، فمعتمدنا فيه الخبر، فلعل الشيخَ نزَّل الجد في الغيبة منزلة الأم، وليس هذا من مواضع القياس، بل القاضي يلي الطفل في غيبة الأب.
وقد انتهى هذا الغرض.
10193- ونحن نبتدىء مقصوداً آخر منعطفاً على ما تقدم، فنقول: من ملك عقاراً، فهو مبيع على قدر الحاجة في نفقة من يجب نفقته، وكل ما يباع في الديون، فهو مبيع في النفقات، وسنوضح في أثناء الكلام أن النفقة مقدمةٌ على الدين.
10194- فإذا لم يملك الرجل شيئاًً يباع في دين، ولكنه كان كسوباً قادراً على أن يحصّل قوتَ نفسه وقوتَ قريبه، فهل يجب عليه أن يكتسب، وكيف السبيل فيه؟ قال الأئمة: إذا قدر على الكسب، فهل له أن يتكفف ويسال الناس إلحافاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب عليه أن يكتسب، ويتركَ التعرّض [للناس] (1) ، وهذا يعتضد بقول المصطفى صلى الله عليه، إذ قال: " المسألة حرام إلا على ثلاثة الحديث " (2) ولولا الحديث، لما كان ينقاس تحريم المسألة والتعرض للناس بالسؤال.
ومن أصحابنا من لم يحرّم السؤالَ -مع القدرة على الكسب، وحمل قول رسول الله
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) حديت: " لا تحل المسألة إلا لثلاث " رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والشافعي في الأم والدارقطني في سننه، كلهم من حديث قَبيصة بن مُخَارق رضي الله عنه (ر. مسلم: الزكاة باب من تحل له المسألة، ح 1044، أبو داود: الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة، ح 1640. النسائي: الزكاة باب الصدقة لمن تحمل بحماله ح 2580، 2581، وباب فضل من لا يسأل الناس شيئاً، ح 2592. الأم: 2/62، الدارقطني: 2/119، 120) وتمام الحديث " رجل تحمل حمالة، فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة ... " وهذا لفظ مسلم.(15/521)
صلى الله عليه وسلم على الكراهية، والحرام هو المحظور، والمحظور الممنوع، والمنع ينقسم إلى الكراهية وإلى التحريم المحقق، وكما ترد الكراهيةُ على إرادة التحريم، يرد التحريم على إرادة الكراهية.
هذا قولنا في حقه (1) .
فأما إذا قدر على الكسب، فلم يكتسب، وعطل قريبَه، فهل له ذلك؟ [هذا مما يجب الاهتمام به] (2) ، فنقول أولاً: لا يجب على الإنسان أن يكتسب لأداء الديون المستقرة في ذمته، وهل يجب أن يكتسب لينفق على قريبه، فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب ذلك، كما لا يجب لأداء الدّين.
والثاني - يجب؛ لأن النفقاتِ من الحاجات المتواصلة، والاكتساب على قدرها، ولعل السببَ في منع إيجاب الكسب للدين كونُه مستغرَقاً بالحاجات المتواصلة في غالب الأمر.
وفي وجوب الاكتساب للإنفاق على الزوجة وجهان مرتبان على الوجهين في نفقة القريب، ولأَنْ لا يجب الاكتساب لنفقة الزوجة أولى؛ لأنها مشابهة للديون، ومذهبنا الصحيح أنها تجد مخلصاً إذا أعسر الزوج بالنفقة وهذا لا يتحقق في القريب.
فإذا تحقق ما نعتبره في حق من يُنفق، فكل ما يباع في نفقة القريب فإذا ملكه القريب بنفسه، لم يستحق النفقةَ معه، وينتظم بحسب هذا أنا إذا أوجبنا الاكتساب بنفقة القريب لا نوجب النفقة للقريب الكسوب، وإنما يجري ما قدمناه من الخلاف فيه إذا كان من له النفقة غيرَ كسوب، ومن فيه الكلام كسوباً.
هذا منتهى الغرض من ذلك.
10195- ومن الأحوال المنعطفة على ما تقدم أنا لا نوجب النفقةَ على البعيد مع القريب الموسر، وسيأتي فصلٌ في ترتيب من يستحق عليه النفقة، وهو غمرة هذه الأصول.
__________
(1) أي هذا قولنا في اكتسابه لحق نفسه ونفقة نفسه.
(2) في الأصل: هذا قولنا في حقه مما يجب الاهتمام به.(15/522)
ومقدار غرضنا الآن أنه إذا كان للولد أبٌ موسر وجدٌّ: أبُ أبٍ موسرٌ، فلا شك أن النفقة على الأب، فلو فرضت غيبة الأب، ولم نجد مُضطرَباً، ولم نستمكن من الاستقراض على الغائب، [فالطفل] (1) لا يُلحق بمحاويج المسلمين؛ حتى ينفق عليه من بيت المال مع حضور الجدّ الموسر، بل على الجدّ أن ينفق، فإن راجع القاضي حتى أذن له بالإنفاق على شرط الرجوع، أنفق ورجع، وإن لم يراجع القاضي مع القدرة، وأنفق، فهذا ما تقدم ذكره، والمذهب أنه لا يرجع.
وإن لم يجد قاضياً، فأنفق على قصد الرجوع، فهل يرجع على الغائب؟ فعلى الوجهين.
والمقصود مما ذكرناه أن الجد يلزمه القيام بهذا المهم، ثم الكلامُ في الرجوع على ما قدمناه، فإذا تمكن القاضي من التصرف والاستقراض على الغائب، فهو ولي الطفل في غيبة الأب، فليس له تركُ النظر مع القدرة عليه.
فإن لم يجد مُقرضاً، كان كما لو لم يكن (2) قاضٍ، وكذلك إن لم يتفرغ إليه، وحاصل الكلام في هذا أن التصرف إلى القاضي، وليس له أن يلزم الجدَّ، كما ليس له أن يلزم آحاد الناس، فإن لم يكن قاضٍ، فالجد لا يعطِّل الطفلَ، ثم الكلام في كيفية الرجوع على ما قدمناه.
وقد انتجزت القواعد التي أردنا تقديمها في نفقة القريب.
فرع:
10196- إذا كان الأب كسوباًً وقلنا: يجب على الابن الموسر أن ينفق عليه -على وجهٍ لبعض الأصحاب- فهل يجب عليه أن يعفّه إذا كان لا يستمكن من التعفف بنفسه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أصحهما - أنه يجب على الابن ذلك، فإن الإعفاف من الحقوق الواجبة، وقد تحقق احتياج الأب إليه، وكسبه غير وافٍ به.
والوجه الثاني - أنه لا يجب عليه أن يعفه؛ فإن الإعفاف إنما يجب لمن تجب له النفقة، فإذا سقطت النققة، سقط الإعفاف.
وهذا ركيك لا اتجاه له.
__________
(1) في الأصل: والطفل.
(2) لو لم يكن: أي لو لم يوجد (كان تامّة) .(15/523)
فرع:
10197-[كما يجب] (1) على الابن الإنفاقُ على أبيه يجب عليه الإنفاق على زوجة أبيه، فلو كان له زوجتان، لم يجب الإنفاق عليهما، وذكر العراقيون وجهين في هذا المنتهى: أحدهما - أنه يسلم نفقةَ زوجةٍ إلى أبيه، ثم إنه يفضّ عليهما، وليس للابن أن يحتكم بتعيين واحدةٍ منهما.
والوجه الثاني - أنه لا يجب عليه الإنفاق أصلاً على واحدة من الزوجتين؛ لأن التعيين لا وجه له؛ إذ ليست إحداهما أولى من الأخرى، والإنفاق عليهما غيرُ واجب، فإذا عسر تفصيل المذهب، انتفى الأصل.
ْوهذا لا أصل له، والعراقيون يتولّعون بأمثال هذا في كثير من المسائل.
فصل
يشتمل على اجتماع الأقارب أصحابِ البعضية، وهم موسرون، ولهم قريب معسر على شرائطِ استحقاق النفقة، فمن الذي يقدّم بالتزام النفقة؟ وكيف طريق التقديم لمن يلتزم؟
10198- وهذا الفصل من الفصول المنعوتة (2) ، وقد تقطّع مهرةُ الفقهاء في إيضاح المقصود منه، ونحن نرى أن نذكر اجتماع الأولاد الموسرين، ثم نذكر اجتماعَ الأصول الموسرين، ثم نذكر اجتماع الأصول والأولاد الموسرين، ونذكر في كل فصلٍ ما يليق به، ونوضحه إيضاحاً لا يغادر إشكالاً وتعقيداً، إن شاء الله عز وجل.
10199- فأما الكلام في الأولاد، فالرأي ذكر طرق الأصحاب على الجملة، ثم فضُّ المسائل عليها: اختلف أئمتنا في المعنى المعتبر في التقديم، فقال المحققون: الاعتبار بالقرب، فمن كان أقرب من الأولاد أولى بالتزام النفقة، حتى إذا وجد شخصان أحدهما أقرب وليس وارثاً، والثاني أبعد، وهو وارث، فالنفقة على
__________
(1) في الأصل: لا يجب.
(2) المنعوتة: المعنى المعروفة بالصعوبة والدّقة، وقدا تكرر هذا الوصف من الإمام لفصول أخرى من قبل.(15/524)
الأقرب، وذلك مثل: بنت بنت، وبنت ابن ابن، النفقة على بنت البنت، ولا نذكر مسلكاً آخر ما لم نسْتقص القول في هذا.
فإذا لاح تقديم الأقرب فلو وجد من الأحفاد شخصان مستويان في القرب، وأحدهما وارث دون الثاني، فهل يقدم الوارث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نقدم الوارث لا للإرث في صورته، ولكن لدلالة الإرث على القرابة.
والوجه الثاني - أنا لا نعتبر الإرث أصلاً، ولكنا نقول: إذا استويا في القرب، فالنفقة عليهما جميعاً وإن كان أحدهما وارثاً والثاني غير وارث، وذلك بمثابة بنت بنت وبنت ابن، أو ابن ابن.
وينشأ من هذا التردد أصل آخر على هذه الطريقة، وهو أنهما لو استويا في القرب، وكانا جميعاً وارثين، [ولكن] (1) حصة أحدهما من الميراث أكثر، فالنفقة عليهما للاستواء في القرب وأصل الميراث، ولكن نفض النفقةَ عليهما بالسوية، أو نفضها عليهما على أقدار استحقاقهما للميراث؟ فعلى وجهين مشهورين، وذلك مثل: ابن، وبنت، فهما مستويان في القرب وأصل الإرث، ولكنهما متفاوتان في مقدار الإرث، ففي وجهٍ نقول: النفقة عليهما بالسوية، وفي وجه نقول النفقة عليهما أثلاثاًً، على حسب قسمة الميراث.
هذا بيان طريقة واحدة للأصحاب تعرف باعتبار القرب.
10200- طريقة أخرى لبعض الأصحاب في اجتماع المولودين، وهي أن الاعتبار في التقديم بالإرث، لا بالقرب، فإذا اجتمع اثنان بعيد وارث، والآخر قريب غير وارث، فالنفقة على البعيد الوارث، مثل ابن ابن ابن وبنت بنت، فالنفقة على ابن ابن الابن.
ولو كانا جميعاً وارثين، ولكن أحدهما أقربُ، فهؤلاء لا يقطعون بأن النفقة
__________
(1) في الأصل: ولكنه.(15/525)
على الإرث، وذلك مثل بنت وبنت ابن، فالميراث ثابت لهما، وبنت الصلب مختصة بالقرب، فالنفقة عليها.
وينتظم من هذا أنا على الطريقة الأولى نقدم بالقرب، وهل نرجّح بالإرث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين.
وعلى الطريقة الثانية نقدم بالإرث، فإذا استويا في الإرث واختصاص واحد بالقرب، رجّحنا بالقرب وجهاً واحداً.
والطريقة المرضيّة هي الأولى؛ فإن الأصل القرابة في هذا الباب، ولم يعلّق الشافعي استحقاقَ النفقة بالقرابة المورّثة؛ إذ لو علق بها، لأوجب النفقة بالأخوّة وغيرها من القرابات المورِّثة. وأوجب (1) النفقةَ على القريب الذي لا يرث وهو أب الأم، وتجب النفقة مع اختلاف الدين، وإن كان الإرث منقطعاًً، وأبو حنيفة [مع] (2) مجاوزته قرابةَ البعضية لا يعتبر الإرثَ أيضاً، فإن ابن العم يرث، ولا يلتزم النفقة.
والفقه بعد هذا الاستشهاد أن عماد الأمر البعضية الدائرة بين الأصل والفرع، والإرث مبني على قاعدة أخرى، فلما كان كذلك، اتجهت الطريقة الأولى، ولأجل ما ذكرناه اتفق الأصحاب على اعتبار القرابة، فاعتبرها الأولون في التقديم، واعتبرها الآخرون في الترجيح، فهذا نراه قاعدة المذهب.
10201- وذكر الشيخ أبو علي وجهاً عن بعض الأصحاب، أَخَّرته، ولم أمزجه بقواعد المذهب، وأنا أذكر ما ذكره، [وأوضح ما فيه: قال:] (3) إذا اجتمع الابن والبنت، فالمذهب اشتراكهما في الالتزام، كما قدمته، والخلاف في التسوية والتفاضل على قدر الإرث، قال: ومن أصحابنا من قدم الابن للذكورة، والعصوبة، وقال: الرجال أقدر على الاكتساب ولهذا أقامهم الله قوامين على النساء.
وهذا الوجه الغريبُ سيأتي له نظير في اجتماع الأصول في القسم الثاني مما ذكره
__________
(1) قوله: وأوجب النفقة على القريب الذي لا يرث ... إلخ. الواو هنا ليست عاطفة، فليس هذا الكلام واقعاً جواباً لقوله: (لو علق) وإنما هو كلام مستأنف.
(2) مزيدة من صفوة المذهب.
(3) عبارة الأصل: وأوضح فيه ما قال.(15/526)
الأصحاب، فليس هذا الوجه إذاً عديمَ النظير، ثم الذي تحصّل لي منه ما يجب الثقة به، فالقرب مقدم على الذكورة، والوراثة مقدمة على الذكورة، وإذا وُجد الاستواء في القرب، وتحقق الاستواء في الوراثة ثبوتاً أو سقوطاً، وكان واحد ذكراً، فهل يكون أولى بالالتزام للذكورة؟ المذهب أنه لا أثر للذكورة، وفيه الوجه البعيد الذي حكاه الشيخ.
فهذا تمهيد طرق الأصحاب [في] (1) اجتماع الأولاد.
10202- ولو اكتفينا بذلك، لم يَخْفَ تخريجُ المسائل عليه، ولكني أرى أن أفضّ المسائلَ على الطرق؛ حتى تزداد إيضاحاً: ابن وبنت: المذهب أنهما يشتركان في الالتزام، ثم يستويان أم يتفاوتان على حسب التفاوت في الإرث؟ فعلى وجهين، وفي المسألة الوجه الغريب، وهو أن الابن يختص بالالتزام.
صورة أخرى - بنت بنت، وابن ابن: من اعتبر الميراث أو رأى الترجيح بالذكورة، قال: ابن الابن أولى بالالتزام، ومن رأى التعويل على القرب ذكر وجهين: أحدهما - أنهما يستويان في الالتزام للاستواء في القرب. والثاني - أن ابن الابن أولى بالالتزام للاختصاص بالإرث.
صورة أخرى - ابن ابن ابن، وبنت بنت: من راعى القرب ضرب النفقة على بنت البنت، ومن راعى الإرث ضربها على ابن ابن الابن.
صورة أخرى - بنت وبنت ابن: النفقة على البنت على [الاتفاق] (2) ؛ فإن من راعى القرب قدّمها، ومن راعى الإرث رجحها بالاختصاص بالقرب.
صورة أخرى - بنت بنت، وابن بنت: هما مستويان في القرب، ولا ميراث لهما، المذهب استواؤهما في الالتزام، وصاحب الوجه الغريب يقدم ابن البنت للذكورة.
وهذا القدر كافٍ، وبه نجز الكلام في اجتماع المولودين، ومن يُقدَّم منهم.
__________
(1) في الأصل: فمن.
(2) غير مقروءة في الأصل، لذهاب معظم الحروف.(15/527)
10203- فأما الأصول الموسرون إذا اجتمعوا، ومستحِق النفقة فرعهم، فالوجه أن نبدأ باجتماع الأبوين أولاً، فإذا كان للابن الفقير أب وأم موسران، فالابن لا يخلو: إما أن يكون صغيراً وإما أن يكون بالغاً، فإن كان صغيراً، لم يختلف الأصحاب في أن الأب يختص بالالتزام للإنفاق عليه، وهذا من الأصول المتفق عليها بين الأصحاب، وفيه عضد لما أجريناه في أثناء الكلام من أن نفقة الطفل من أتباع مؤن الزوجية.
وإن كان الابن بالغاً، فللأصحاب أوجه: منهم من قال: الأب أولى استدامةً لما مهدنا في حالة الصغر، ومنهم من قال: النفقة مضروبة على الأب والأم؛ فإن الأب كان مختصاً بالولاية على الصغير، وقد استقل المولود، وهما أبوان لو انفرد كل واحد منهما لالتزم النفقة عند انفراده.
ثم إن قلنا: النفقةُ عليهما، فهي مقسومة بالسويّة بينهما أم هي مفضوضة عليهما ثلثاً وثلثين على قدر اشتراكهما في الميراث إذا انفردا باستحقاق التركة؟ فعلى وجهين، كما تقدم ذكرهما في اجتماع المولودين، ونصُّ الشافعي دال على أن الأب أولى بالتزام النفقة.
هذا منتهى الكلام في اجتماع الأبوين لا غير.
10204- وأما اجتماع الأجداد والجدات من يرث ومن لا يرث، فكيف السبيل فيهم؟ ومن المقدّم بالالتزام منهم؟ فنقول: مما لا يخفى -ونقدمه حتى لا يختلط بمزدحم الخلاف- أنه إذا اجتمع قريب وبعيد من جهةٍ واحدة، فالنفقة مضروبة على القريب لا يُتخيل [فيه] (1) تردد، وذلك مثل أب وأب أب. وأم، وأم أم، وهذا واضح مستبين عما نريد الخوض فيه.
وأما إذا فرض اجتماع جماعة من الأصول، فنذكر طرق الأصحاب على الجملة فيهم، كما ذكرناه في الأولاد ثم نأتي بالمسائل أمثلةً وصوراً، ونخرجها على الطرق.
__________
(1) في الأصل: منه.(15/528)
فنقول: من أصحابنا من اعتبر القرب، فقدم به وسوّى به، ثم هؤلاء قالوا: لو فرض من الأصول مستوِيان في القرب، واختص أحدهما بالإرث، فهل يقدّم المختص بالإرث أم لا أثر للإرث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين، وقد تقدم ذكرهما في الأولاد.
هذه طريقة، وهي غير الطريقة الأولى المحكية في الأولاد، ولو اجتمع على هذه الطريقة قريبان مستوِيان في القرب، وكانا وارثين، فالنفقة عليهما بالسوية أم هي على مقدار الإرث؟ فعلى الوجهين المذكورين.
طريقة أخرى - من أصحابنا من قال: الأصل المعتبر في التقديم الإرثُ، فلو اجتمع بعيدٌ وارثٌ وقريب ساقط، فالنفقة على البعيد الوارث، وإن استويا في الميراث وأحدهما أقرب، قُدم الأقرب، وإن استويا في سقوط الميراث والقرب، استويا في الالتزام للاستواء في القرب، وهذا بعينه مذكور في اجتماع الأولاد.
طريقة أخرى - من أصحابنا من قال: التقديم بالولاية، فإذا اجتمع من الأصول اثنان أو طائفة، وكان الولي واحداً منهم، فهو المختص بالنفقة؛ لأن الولي يسوس المَوْليَّ عليه، ويقدَّمُ بالنظر له، فهو من هذا الوجه قائم بتربيته، فيليق بمنصبه أن [يختص] (1) بالإنفاق عليه، وهذا القائل يقول: الولي وإن كان بعيداً يلتزم النفقة.
فإن لم يكن في الأصول المجتمعين وليٌّ، تصدّى لهذا القائل الطريقان المتقدمان: اعتبار القرب أو اعتبار الوراثة، فكأنه زاد الولاية وجعلها مقدمة على كل معتبر، فإن لم تكن ولاية اعترض طريقان للأصحاب فأيهما رآه قال به.
10205- وحكى الأصحاب عن الشيخ أبي حامد مسلكاً رابعاً ننقله على وجهه، ثم ننقّح الطرق على ما ينبغي.
قال رضي الله عنه: تعتبر الذكورة والإرث في اجتماع الأصول، وعبر عن الذكورة بالكسب، هكذا توجد المنقولات عنه، ثم قال: إذا وجد شخصان مثلاً في أحدهما ذكورة ووراثة، وفي الثاني ذكورة ولا وراثة، أو وراثة ولا ذكورة، فمن اجتمع فيه
__________
(1) في الأصل: يختصر بالإنفاق.(15/529)
المعنيان مقدم في الالتزام، ولا يتصور أن يجتمع في كل واحد الذكورة والوراثة معاً؛ فإن الذكورة والوراثة إنما تثبتان للأب أو الجد أب الأب، ولا يتصور اجتماع الاثنين على هذا الوصف، ولو اجتمع ذكر غير وارث، وأنثى وارثة، [فهما] (1) مستويان، فالنظر وراء ذلك إلى القرب، فمن كان أقرب، كان أولى.
وحاصل هذا المسلك يرجع إلى اعتبار معنيين، والحكم بتعادلهما: إذا وجد أحد المعنيين في شخص ووجد المعنى الآخر في شخص، ثم إذا فرض التساوي إما بانتفاء المعنيين عن الجانبين، وإما بوجود المعنيين في كل واحد من الجانبين، وإما بوجود أحد المعنيين في أحد الجانبين، ووجود المعنى الآخر في جانب الآخر.
وإذا فرض الاستواء على جهة من الجهات التي عددناها، فالنظر في القرب، فإذا فرض الاستواء في القرب، مع الاستواء الذي صورناه، فهذا يقتضي الاشتراك في الالتزام.
ولو فرض من جانب ذكورةٌ وإرثٌ، ومن جانبٍ قربٌ، فالمعنيان مقدمان على القرب، ولو فرض من جانب ذكورةٌ محضة، ومن جانب قربٌ، فالذكورة مقدمة، ولو فرضت وراثة من جانب ومن جانب مزيدُ قرب، فالوراثة مقدمة.
هذا حاصل هذه الطريقة.
10206- ومما ننبه عليه في هذا المنتهى أنا ذكرنا في اجتماع المولودين أن من أصحابنا من اعتبر القرب، وقدم به، ومنهم من اعتبر الإرث وقدم به، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أن القرب إذا وجد في جانب والإرث مع البعد إذا وجد في جانب آخر أوجب ذلك اعتدالاً، كما ذكر الشيخ أبو حامد أن الذكورة في جانب والإرث في جانب يُوجب اعتدالاً. والسببُ فيه أن من رأى التمسك بالقرب لم يقدم عليه الوراثة؛ فإن القرب هو الأصل، وأما الذكورة والإرث، فلا يبعد اعتقاد تعادلهما.
10207- طريقة أخرى - لبعض الأصحاب- ذهب طائفة إلى اعتبار الذكورة المحضة من غير ضم الإرث إليها، وقدمها على الوراثة، قائلاً: لو كان في جانب ذكورة،
__________
(1) في الأصل: منهما.(15/530)
وفي جانب إرث ولا ذكورة مع الإرث، ولا إرث مع الذكورة،. فالذكر مقدم، وقال: الذكورة مقدمة على القرب، والذكر البعيد مقدم على الأنثى القريبة، وهذا أبعد الطرق؛ فإن الذكورة المحضة يبعد تقديمها على الإرث.
فهذا بيان ذكر الطرق في اجتماع الأصول في معرض عقد التراجم وتمهيد القواعد.
10208- ونحن نتتبع أولاً مآخذ هذه الطرق على ما ينبغي، ثم نذكر ما انفصلت به تصرفات الأصحاب في اجتماع الأصول عن تصرفاتهم في اجتماع المولودين، ثم نختتم الكلام بذكر المسائل في الأصول وتخريجها على الطرق.
10209- فأما تتبع الطرق [فالقرب] (1) لا حاجة إلى تكلّفٍ في اعتباره، ولو قلنا: هو أوْلى الطرق، لم نكن مُبعدين؛ فإن مدار النفقة على البعضية، وهي من طريق القرابة أقربُ من التفرّعِ والتشعّب، والوقوعِ على الجوانب من عمود النسب، ثم يُثبت وجوبَ النفقة من غير إرث، كما تقدم تقريره.
وسرّ التقديم يؤول إلى الترجيح، وأَحْرى وجوه الترجيح ما ينشأ من مأخذ الأصل، ثم إن ذكر ذاكر مع الاستواء في القرب الترجيحَ بالإرث، لم يُبعِد، فيقع الإرث في المرتبة الثانية من القرب؛ فإن القرب هو الأصل، والإرث متلقَّى من صفة القرب.
وأما من اعتبر [الإرثَ] (2) ، فقد أوضحنا أنه حائد، وقررنا ذلك في اجتماع المولودين.
والولايةُ فيها على حالٍ تعلقٌ بقيام الولي بتربية المَوْليِّ عليه.
والذكورة التي ذكرناها آخراً اعتمادُها أضعف الطرق؛ فإنه ليس في الذكورة إلا القدرة على الكسب، وأين يقع هذا من القرب، ثم أين وقوعها عن قوة القرب التي تفيد الوراثة.
__________
(1) في الأصل: بالقرب.
(2) في الأصل: الأرض.(15/531)
والشيخ أبو حامد جمع بين الذكورة والوراثة، فاشتمل كلامُه فيما نقله الناقلون على الأمر [المنكر] (1) الغث الذي قدمناه؛ فإن مساق التفريع يؤدي إلى تقديم الذكورة على القرب، وهذا هو الغاية المحذورة عندنا؛ فإن القرب أولى [معتبر] (2) والذكورة أبعد معتبر، فمن باح بتقديم الأبعد على الأقرب، لم يغادر من الرّداءة شيئاًً.
نعم، لو قال: الوراثة لا تقدم على القرب، والذكورة لا تقدم على القرب، ولو اجتمعا في شخص قدمتا على القرب، لكان هذا قريبَ المأخذ، ولكن ما صح عندنا في النقل عنه ما ذكرناه. ولا سبيل إلى أن نطوّقه ما لم يعتقده، ونتقوّل عليه.
ولا أرغب أيضاًً في تقديم الوراثة مع الذكورة على القرب، حتى أرى هذا وجهاً من وجوه الاحتمال.
وإذا أردنا الاطلاع على منازل الكلام، فالقرب يقع أولاً، والمتمسِّك [به] (3) معتصِمٌ بأفضل الطرق، ثم يليه الوراثةُ، ويلي الوراثةَ الولايةُ. والذكورة، [واعتمادها في التقديم- على ما قدمناه من الأسباب باطل. وجَمْعُ الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة كلامٌ مختبط] (4) وليصرف الناظر فهمه إلى أول الكلام، فإن اعتبرنا القربَ، لم يبعد حينئذ مع الاستواء فيه التردد في الوراثة، فإذا فرض الاستواء في القرب والوراثة، لم يبعد بَعْد الاستواء فيهما التردد في الترجيح بالوراثة، والتردد في الوراثةِ والترجيحِ بها أقرب من التردد في الترجيح بالولاية.
وإذا فرض الاجتماع في القرب والوراثة ولا يتصور الاجتماع في الولاية (5) ، فلو
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة صورتها هكذا: (المتكدة) والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: معتبرة.
(3) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(4) عبارة الأصل فيها خلل وحشو واضطراب وتكرار، هكذا: واعتماده في التقديم على ما قدمناه من الأسباب باطل، وجمع الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة واعتمادها في التقديم على ما قدمناه من الأسباب باطل، وجمع الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة كلامٌ مختبط ... إلخ" والمثبت من حدّفٍ وترتيب، تصرّف من المحقق.
(5) أي لا يتصور أن يجتمع أكثر من شخص كل واحد منهم وليٌّ، فالولاية لا تكون إلا لواحدٍ يجبّ من دونه.(15/532)
انتفت الولاية، فالترجيح بالذكورة [محتمل على حالٍ] (1) وهو أبعد ما يرجّح به، وإنما يحتمل الترجيح به بعد ما قدمنا من التقديم بالأسباب التي اختلف الأصحاب فيها.
هذا تنقيح الطرق وتنزيل القول في تعاليها، وبيان سقوط بعضها، وبيان وضوح بعضها، وبيان الاحتمال على البُعد في بعضها.
10210- وما ذكرناه يُغني عن ذكر ما التزمناه من بَعدُ، ولكن لا يضرّ الوفاء بالموعود، وتقريب المآخذ على الشادي الفطن، فنقول: استعملنا في المولودين القربَ والوراثةَ، والذكورة على وجهٍ بعيد، ولم نصادف منها ولاية فنذكر بحسبها طريقة.
وأما الجمعُ بين الذكورة والوراثة، فلست أراه طريقةً يُحتَفل بها، وحق الشيخ أبي حامد أن يطرد طريقته في المولودين.
10211- وأما المسائل، فقد قدمنا الكلام في الأب والأم، ونحن نأتي بصورٍ في الأجداد والجدات: أب أب، وأم أم: من اعتبر القرب أوجب النفقة عليهما، وفي كيفية الفض وجهان: أحدهما - التسوية، والثاني - اعتبار مقدار الإرث.
ومن اعتبر الإرثَ فَضَّه عليهما على حسب الإرث، فإنه إذا اعتبر الإرثَ في أصل التقديم اعتبره في التفصيل.
ومن اعتبر الولايةَ أو الذكورةَ أوجب على الجد، ولم يوجب على أم الأم شيئاً.
صورة -أب أب، وأم- من اعتبر القرب أوجب النفقة على الأم، ومن اعتبر الوراثة فضّ النفقةَ على أب الأب والأم على حسب الميراث بينهما، ومن اعتبر الولاية أو الذكورةَ أوجب النفقة على الجد.
وقيل: للشافعي نصٌّ في أن النفقة على الجد دون الأم، وهذا لم يصححه أئمة المذهب نقلاً، فإن صح، فلا خروج له إلا على اعتبار الولاية، وإن أحببنا عبّرنا عنه، وقلنا خروج النص على تنزيل الجد عند عدم الأب منزلة الأب.
__________
(1) في الأصل: محتمله على مال.(15/533)
صورة - أب أب وأب أم: من اعتبر القرب، ولم يرجح بالإرث سوى بينهما، ومن اعتبر القرب، ورجح بالإرث أوجب النفقة على أب الأب، ومن اعتبر الإرث أو الولاية قدم أب الأب.
صورة - أم أب الأب، وأب أم الأم: من اعتبر القرب، ورجح بالوراثة أوجب النفقة على أم أب الأب، ومن لم يرجح بالوراثة سوى بينهما، ومن اعتبر الذكورة قدم أب أم الأم. وهذا أخس الطرق، وهو مما يجب القطع ببطلانه؛ فإن تقديم الذكورة على الوراثة لا اتجاه له.
وما (1) عندي أن من وفق للإحاطة بما قدمناه، لم يحتج إلى مزيد في التصوير، والازديادُ على الكفاية في البيان يَجُرّ المللَ، ويورث الخللَ.
10212- ونحن نختتم هذا المنتهى بشيء حقه أن يخرج عن الضوابط، قال من اعتبر الولاية: إذا فرض شخصان ليسا وليَّيْن، ولكن أحدهما مُدْلٍ بولي، فهو مقدم، وهذا إذا استعمل في التقديم بالغٌ في الخسة، وإن استعمل في الترجيح، كان بعيداً في مسالك الظنون، وقد ذكر من اعتبر الذكورة الإدلاء بالذكر أيضاً، وهذا مبلغٌ يكلّ عنه لسان الموبِّخ (2) . وقد انتجز القول في اجتماع المولودين، ثم في اجتماع الأصول.
10213- ونحن نذكر الآن اجتماع الأصول والمولودين، فنقول: إذا اجتمع الأب والابن الموسران، فللأصحاب أوجه، والاحتمالات فيها. متعارضة: منهم من قال: الأب أولى استصحاباً [لوجوب] (3) الإنفاق عليه في صغر المولود. وقد يتأكد هذا بتربية الأصل فرعه.
ومنهم من قال: النفقة على الابن؛ فإن حق الإنسان على ولده آكد من حقه على
__________
(1) وما عندي: ما هنا اسم موصول بمعنى الذي.
(2) كذا قرأناها بصعوبة بالغة لعدم النقط، ولعدم الوضوح. ولكنه جارٍ تماماً مع السياق والسباق.
(3) في الأصل: بالوجوب.(15/534)
والده، وحقوقه في مال الولد أثبت، ولذلك اختص استحقاقَ الإعفاف من مال ولده، وقال المصطفى صلى الله عليه: " أنت ومالك لأبيك " (1) .
والوجه الثالث - أن النفقة مضروبة عليهما لاستوائهما في القرب واتصاف كل واحد منهما بالالتزام عند الانفراد، ثم إذا ضربنا النفقة عليهما، ففي كيفية الضرب وجهان: أحدهما - أنا نسوي بينهما، والثاني - أنا نضرب النفقة عليهما على مقدار استحقاقهما للإرث، وقد تقدم هذا فيما سبق.
[فلو] (2) كان في المسألة أمٌ، وابنٌ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بأن الابن أولى بالالتزام.
ومنهم من أجرى الابن مع الأم مجرى الابن مع الأب، ثم يعترض في هذا القسم الذي انتهينا إليه صورٌ في القرب والبعد، فيستخرج الفطن مما مهّدناه قبلُ اختلافَ الطرق فيه.
فلو اجتمع الأب وابن الابن، فيعترض في ذلك ما نشير إليه: مَنْ نظر إلى الاستصحاب، وقدم الأب، فلا شك أنه يقدمه هاهنا ومن نظر إلى تأكد الحق على الولد، اعترض له هاهنا اعتبار هذا التأكد في مقابلة اعتبار القرب، فمن راعى التأكد قدّمه على القرب، ومن راعى القرب أو الاستصحاب قدَّم الأب.
ولو فرضنا جداً عالياً وابنَ دِنْية (3) ، فمن اعتبر القربَ أو تأكُّد الحق على الولد، قدم الابن.
__________
(1) حديت: " أنت ومالك لأبيك " رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وابن حبان والطبراني في الصغير والطحاوي في شرح معاني الآثار، والبيهقي في الكبرى (ر. أبو داود: البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، ح 3530، ابن ماجه: التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ح 2291، 2292، أحمد: 2/179، ابن حبان: ح 410، 4262، المعجم الصغير للطبراني: 1/23، 24 رقم 2، شرح معاني الآثار: 4/158، السنن الكبرى: 7/481) . وانظر التلخيص: 3/383 ح 1670.
(2) في الأصل: ولو.
(3) دنية: أي قريب لاصق، يقال هو ابن عمي دِنياً ودنياً ودُنيا أي قريب لاصق النسب (المعجم) .(15/535)
ومن اعتبر الإرث في الطرق المقدمة، أثبت النفقةَ على الجد والابن على حسب قسمة الميراث بينهما.
ومن أثبت الولاية فالجد أولى بالولاية.
10214- والجملة المغنية عن التفصيل أنه ازداد في اجتماع الأصول والفروع رعايةُ تأكد الحق على الولد، وباقي وجوه الاعتبار على ما تقدم، حرفاً حرفاً، ومن لم يعتبر ما مهدناه لا يزداد بتكثير التصوير إلا عَمايَةً [وتدوّخاً] (1) .
وقد لاح أن تلك المعاني لا تختلف في هذا القسم، بل زاد معنى آخر، وقد نبهنا عليه، وكل ما ذكرناه بيان ازدحام من يلتزم النفقة، وذِكْرُ من يُقدَّم ويؤخر، والذي يسوّى بينهم.
ونحن الآن نعقد فصلاً يحوي كلاماً وجيزاً في اجتماع من يستحق النفقة مع ضيق النفقة عن جميعهم.
فصل
10215- إذا فضل عن قوت الرجل في يومه كفايةُ شخصٍ مثلاً، وازدحم عليه الأهل، والمولودون، والأصول، فإلى من يصرف ذلك المُدّ الفاضل؟ ما رأيته أن الزوجة مقدّمةٌ، ولم أر ما يخالف هذا، ورأيت كثيراً من الطرق عريّةً عن التعرض لهذا، واعتل الذين قدّموا نفقة الزوجية بأن قالوا: في نفقة الزوجة رعاية معنى الكفاية على الجملة؛ على مقابلة احتباسها في رِبقة الزوجية، وهي أثبت النفقات؛ من جهة أنها لا تسقط بمرور الزمن، ولا تسقط باستغناء الزوجة، فاقتضى ما ذكرناه من التأكد تقديمَها على سائر الجهات، وهذا فيه احتمال معترضٌ، لا نقل عندي فيه.
والاحتمال يتضح بتجديد العهد بأصلٍ قدمناه في كتاب التفليس، وهو أن النفقات التي حقَّت وحلّت مقدمةٌ على الديون، وما دام القاضي يمهد بيعَ عروض المفلس، فنفقة المفلس، ونفقةُ أهله وأقاربه مؤداةٌ من تلك الأموال، وإذا فرض بيعها، فيجب
__________
(1) في الأصل: ونذوخا. وهو تصحيف مضلّل.(15/536)
توفية نفقات ذلك اليوم على مستحقها، ويصرف الفاضل [عن] (1) وظائفِ ذلك اليوم إلى الديون، وإنما لا ينتظر مجيء الغد؛ فإنه غيبٌ في حقوقهم، ونفقة الغد لا تجب في اليوم، ووجوب الديون ناجزٌ، وقد ذكرنا أن الإنسان لا يستكسب في ديونه، وذكر طوائف من أئمة المذهب أنه يستكسب لينفق.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن نفقة الزوجة إنما لا تسقط بمرور الزمن، وتستقرّ في الذمة لما فيها من الدّينيّة ومضاهاة أحكام العوضية، ولهذا لم يلتفت الشافعي فيها إلى الكفاية، وأجمع العلماء على وجوبها للمستغنية، فالذي ذكره الأصحاب في تأكيد نفقة الزوجية، يحقق فيها مَشابِهَ الديون، والنفقاتُ المحضة المدارة على الكفاية والحاجة الحاقّة أولى بالتقديم (2) ، وإن فرضت حاجة في الزوجة، فليست هي علة استحقاق نفقتها، فلا أثر لها، ولا وقع.
وهذا الاحتمال يتأكد بحديث أبي هريرة في الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فقال: " معي دينار فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على ولدك، فقال معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك " وظاهر الحديث -إلى أن [يستدّ] (3) فيه تأويل- يدلّ على تقديم الولد على الأهل.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
والذي صح النقل فيه تقديم نفقة [الزوجة] (4) ، ولم أر في الطرق ما يخالف ذلك، لا تصريحاًً ولا رمزاً.
10216- وإذا بأن ذلك، ذكرنا بعده التفصيل في اجتماع أصحاب البعضية.
والقول الجامع فيه أن ازدحامهم، وهم مستحقون -مقيسٌ على ازدحامهم، وهم
__________
(1) مطموسة في الأصل.
(2) أولى بالتقديم بناء على الأصل الذي أشار إليه من كتاب التفليس، حيث تقدّم النفقات الحاقة الدائرة على الكافية (نفقة القرابة) تقدّم على الديون، ونفقة الزوجية أخص صفاتها مشابهة الديون.
(3) في الأصل: يستمر. وهذا تصحيف جرى عليه الناسخ في كل مرة يأتي فيها لفظ (يستدّ) .
(4) في الأصل: الزوج.(15/537)
ملتزمون، وقد سبق الترتيب في ازدحامهم وهم ملتزمون، فكل من يقدّم بالالتزام، فإذا وقف موقفَ الآخذ، قُدّم بالاستحقاق، وإذا فرض استواء جماعة في الالتزام، ثم قدّر اجتماعهم في الطلب والاستحقاق سوّي بينهم فضّاً عليهم، كما يُسوّى بينهم في الالتزام.
وبين القاعدتين فرقان يختلف المذهب بينهما: أحدهما - أنا في ازدحام الملتزمين، حكينا عن بعض الأصحاب تقديم الذكورة لأنهم أقدر على الاكتساب، وحكينا عن البعض الترجيح بالذكورة، وإذا فرض الازدحام في الأخذ والاستحقاق، فالخلاف يجري على العكس مما تقدم، حتى إذا اجتمع الأبُ والأمُّ والفاضل من نفقة الإنسان مُدٌّ، فمن أصحابنا من يقدّم الأم للأنوثة والضعف، ومنهم من يرى التسوية، فإذا كان الكلام في الأخذ والاستحقاق، فالأنثى عند بعض الأصحاب أولى وأحق لضعفها، كما [أن] (1) الذكر أولى بالالتزام لقوّته، وقدرته على الاكتساب.
وقد يخطر للفقيه أمر في ذلك، فيقول: إذا كان المزدحمون في الالتزام موسرين، فلا أثر للقدرة على الاكتساب، وإذا لم يكن لهم أموال، فيجوز اعتبار [الذكورة] (2) إذا كنا نوجب على الإنسان أن يكتسب لينفق.
هذا أحد الفرقين، فقد جرت الأنوثة في هذا الفصل مجرى الذكورة في هذا الفصل.
والثاني - أن أصحابنا اختلفوا في ازدحام الملتزمين حيث يضرب عليهم أنا هل نعتبر أقدارهم في الميراث أم نضرب على الرؤوس؟ والذي ذهب إليه الأكثرون في ازدحام المستحقين الآخذين أنا لا ننظر إلى الميراث، فإن الحاجة هي المرعية هاهنا.
وليس يبعد عندنا إجراء ذلك الخلاف؛ فإن اعتبار أخذ النفقة بأخذ الميراث قد يقرب بعض القرب.
10217- ومما يتصل بتمام البيان في هذا الفصل أن الآخذين إذا اجتمعوا، وكثروا
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: الزكاة. وهو تصحيف مضلل أرهقنا كثيراً، إلى أن أُلهمنا صوابه.(15/538)
واقتضت الحال التسوية على وفاقٍ أو على خلاف، والفاضل مد، ولو فُضّ عليهم لخصّ كلَّ واحد منهم حفنة لا تسد مسداً ولا تقع موقعاً، فالذي أراه في ذلك أن يقرع بينهم، وإن كان ما يخص كل واحد يسد مسداً، فذ ذاك لا ينقدح إلا القسمة. والعلم عند الله تعالى، وقد تلتفت القضية إلى قسمة الماء على المُحْدِثين، ولكن هذا تشابه الألفاظ، فليعرف [كل أصلٍ] (1) على ما يليق به.
فصل
قال: " ولا تُجْبر امرأةٌ على إرضاع ولدها، شريفةً كانت أو دنيئة، موسرة
كانت أو فقيرة ... إلى آخره " (2) .
10218- إذا ولدت المرأة ولداً، وكانت غيرَ مشتغلة بحق الزوج لبينونة، فإذا طلبت [إرضاعه] (3) ، كانت أولى به على الجملة من غيرها.
ولو أراد الأب أن يضمه إلى حاضنة من الرضاع، لم يكن له ذلك، إذا كانت الأم متبرعة.
ولو طلبت أجرةً، وكان الأب لا يجد مُرضعةً إلا بأجرة، وكانت الأم لا تطلب مزيداً، فالأم أولى، ويتعين ضمُّ المولود إليها.
ولو كانت الأم تبغي أجرتَها، وكان الأب يجد متبرعة من المراضع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يجب عليه التزامُ الأجر وضمُّ الولد إلى [الأم] (4) ؛ فإنه يتمكن من تحصيل الرضاعة من غير احتياج إلى بذل مال.
والقول الثاني - أنه يجب عليه بذل الأجر؛ فإنَّ تحنّن الأم وحدَبَها لا يسوغ تفويته
__________
(1) في الأصل: " فليعرف كان أهل على ما يليق به " والمثبت من تصرف المحقق، نرجو أن يكون صواباً.
(2) ر. المختصر: 5/82. والمثبت من نص المختصر، حيث العبارة غير مقروءة -في جملتها- في الأصل.
(3) في الأصل: طلبت لرضاعه.
(4) في الأصل: الإمام.(15/539)
على الولد، وليس هو خفي الأثر، والأجنبية لا تسد مسدّها في ذلك، والقولان يجريان والأجنبية تحابي وتسامح، والأم تطلب تمام الأجر.
ولا خلاف أن الأم لو كانت تطلب أكثر من أجر مثلها، فلا يلزم الأب التزام الزائد؛ إذ لا ضبط له ولا منتهى يوقف عنده، على أنه غبينة، وهي غير محتملة في الشرع، والدليل عليه أن الماء المفروض بثمن مثله يشتريه المسافر، وإن كان يباع بغبينة، تحوّل إلى استعمال التراب.
10219- ثم تولّع الأصحاب رضي الله عنهم بأمرٍ واتفقوا على إجرائه في تفاصيلِ المذهب، ونحن نذكر ما ذكروه، فنقول أولاً: إن لم نجد للولد مرضعاً سوى الأم، تعيّن عليها الإرضاع بالأجر، ومؤونة الإرضاع على الأب بالاتفاق؛ فإنا قدمنا أن نفقة الصغير على الأب، ومؤونة الإرضاع مفتتحُ ما يلتزمه من النفقة، ولو لم نجد إلا أجنبية، ألزمناها أن ترضع الولد، إذا كان في ترك إرضاعه إشفاءُ على الهلاك، وهذا من إنقاذ الهَلْكَى، وهو يتعين على من يتمكن منه، إذا كان لا يوجد غيره، على ما سنذكر ذلك في تقاسيم فروض الكفايات في كتاب السير، إن شاء الله.
والذي أجراه الأصحاب أن قالوا: إذا وجدنا حاضنة مرضعة أجنبية، فلا يجب على الأم الإرضاع، ولكن يلزمها أن ترضعه اللِّبأ؛ فإن الولد لا يحيا دونه، وهو أوائل ما ينزل من اللبن.
هذا ما رأيته للأصحاب، ولم أر له تحقيقاً عند أهل البصائر، وكم من أم تُطْلَقُ وتموت في الطلْق، فتخلفها حاضنة في الإرضاع ويحيا المولود، ولكن ما ذكره الأصحاب هو المذهب وعليه التعويل، وقد يغلب موت ولد المطلوقة، وإن [احتضنه] (1) مراضع، وهذا من آثار انقطاع أوائل اللبن، والعلم عند الله تعالى.
وتمام البيان في ذلك أنا لا نشترط فيما نُلزمه من ذلك القطعَ بهلاك المولود، ولكن إذا ظننا هلاكَه، وووقعَه في سبب يُفضي إلى الهلاك بدرجة، فيجب السعي في دفعه، وإذا ظهر الضرار، وجب الدفع: فرضَ عين، أو فرضَ كفاية، فإن كان منعُ
__________
(1) في الأصل: احتضنها.(15/540)
اللِّبأ مضراً، ونعتقد أن الأمر كذلك لاتفاق الأصحاب، فيتعين على الأم أن تسقي الولد اللِّبأ، ثم لا نكلفها التبرع بذلك، إذا كان لسقي اللِّبأ أجرٌ.
فانتظم من المسائل التي أرسلناها بدداً أن الأم لا يلزمها الإرضاع، والأب يجد غيرَها، فإن طلبت، فهي أولى إن كانت متبرعة، وهلم جراً إلى تمام التفصيل.
وفي اللِّبأ ما ذكرناه، فالمؤنة إذاً على الأب، وحق [الاحتضان] (1) للأم إن أرادته، وكل هذا وهي فارغة عن رعاية حق الزوج.
10220- وأما إذا كانت منكوحة فولدت، وطلبت أن تُرضعَ الولد، وطلب الزوج منها الاستمتاع في أوقات همّها بالرضاع، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن حق الزوج مُتّبع، وليس لها أن تشتغل بالإرضاع عن حقه، وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن لها أن تُرضع الولد، وإن كانت تنقطع عن توفية حق الزوج لزمان اشتغالها.
وهذا الوجه بعيد، ولكن يمكن أن يقال: إنه خارج على القولين في أن الأم إذا طلبت الأجر على الإرضاع، ووجد الأب حاضنة متبرعة أو راضية بدون أجر المثل، فهل يجب على الأب بذلُ الأجر للأم؟ فعلى ما قدمناه. فإن قلنا: لا يجب عليه تعطيل حظّه من المستمتع بها إذا كان يجد مرضعاً أجنبية، كما لا يجب عليه تعطيل ماله، وهو يجد متبرعة، فإن قلنا: يجب على الأب بذلَ المال للأم مع وجدان متبرعة، فلا يمتنع أن يجب عليه تعطيل حظه من المستمتع، حتى لا ينقطع عن الولد شفقتُها وحدَبُها.
وهذا يحتاج [إلى مزيد تفصيل، وهو إن كان ولدها من غير الزوج، لم يجب على] (2) الزوج تعطيل حقه من الاستمتاع، وإن كان الولد منه، فعلى القولين؛ لأنه يجب عليه القيام بمصلحة ولد نفسه، ومن مصلحته أن تكون الأم قوّامةً عليه.
فهذا نجاز الفصل، وقد انتهى به القول في النفقات والله المحمود.
***
__________
(1) في الأصل: الاختصاص. والمثبت من المحقق استرشاداً بعبارة صفوة المذهب.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وزدناه من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 230 يمين.(15/541)
باب أي الوالدين أحق بالولد (1)
روى الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه (2) .
10221- الحضانة من الأحكام التي يجب صرف الاهتمام إليها، ويقلّ في العلماء من يستقلّ به (3) ، فإنه جمع إلى غموض الأطراف انتشار المسائل، [والتفاف] (4) الكلام عند فرض الازدحام، واضطراب العلماء فيما يعتبر في التقديم والتأخير، ونحن بعون الله وحسن توفيقه [تقدّم] (5) قواعدَ في الحضانة ونذكرها أرسالاً، ومتواصلة، ثم نخوض في بيان الازدحام، وهو غمرة الباب.
فنقول: الحضانة حفظُ الولد، والقيامُ عليه بما يحفظه، ويقيه، ويستصلحه، وأول ما نبتدىء به أن الولد الرضيع والفطيم إلى أن يبلغ سنَّ التمييز إذا دار بين الأب والأم وهي بائنة عن الزوج، منعزلةٌ عنه، فالأم أولى بحق الحضانة إذا هي طَلبتْها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ثم إنما تكون مستحِقة للحضانة إذا استجمعت أوصافاً: أحدها - الحرية. والثاني -
__________
(1) هذا الباب يتعلق بالحضانة، وقد جرى الإمام على ترتيب المختصر فلم يسمّه (كتاب الحضانة) ولكن جعله باباً من كتاب النفقات (برغم قوله آنفاً: "انتهى القول في النفقات".
وعلى هذا النسق جرى الإمام الرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة، إلا أنهما نصا على أن الباب في الحضانة. وخرج عن ذلك ابن أبي عصرون في صفوة المذهب فقال: (كتاب الحضانة) أما العز بن عبد السلام، فجعله باباً بنفس عنوان نسخة الأصل: (باب أي الوالدين أحق بالولد) .
(2) ر. المختصر: 5/83. وسيأتي آنفاً مزيد تخريجٍ للحديث.
(3) أعاد الضمير إلى مذكر على معنى (باب الحضانة) .
(4) في الأصل: والتفات.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(15/542)
الاستقلال بالعقل. والثالث - الأمانة. والرابع - الفراغ. والخامس - الإسلام إذا كان الولد مسلماً.
أما الحرية إنما شرطناها لتتفرغ إلى الحضانة؛ فإن الرقيقة مستوعَبَةُ المنافع، والحضانةُ ضرب من الولاية، وإن كانت المرأة تستحقها، والرقُّ يباين الولايات، وأما الاستقلال، فهو الأصل، وكذلك الأمانة.
10222- وأما الفراغ، فالمعنيّ به أن لا تتزوج زوجاً غيرَ أب المولود، فإذا نكحت، بطل حقها من الحضانة وفاقاً، ولو رضي الزوج بأن تحتضنه، فلا يعود حقها لرضا الزوج باحتضانها، كما لا يثبت حق الحضانة للرقيقة [وإن] (1) رضي مولاها، فلو طلقها الزوج، نظر: فإن أبانها، عاد حقُّها في الحضانة، خلافاً لمالك (2) رضي الله عنه، فإنه قال: إذا بطل حقها من الحضانة بالنكاح، لم يعد بالإبانة، ولا خلاف أنها لو جُنت، ثم أفاقت، فحقها يعود بالإفاقة.
هذا إذا طلقها الزوج طلاقاً مبيناً، وأما إذا طلقها طلاقاً رجعياً، فالمنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه أن حقها يعود بالطلاق الرجعي؛ فإن الرجعية تنعزل عن زوجها، وتتربص للاعتداد، فإذا انقطع عنها شغل مستمتع الزوج، كانت في الغرض المطلوب بمثابة البائنة.
وذهب المزني إلى أن حقها لا يعود؛ فإن سلطان الزوّج مطرد عليها: يرتجعها متى شاء، وهي في حكم الزوجات، فيبعد أن يعود حقها من الحضانة، وهي بعدُ على حكم الزوجية، وقد خرج ابن سريج وغيره قولاً موافقاًً لمذهب المزني، وهو منقاس حسن، ووجهه ما ذكرناه.
ثم مما يجب التنبّه له أن البائنة لو كانت في مسكن الزوج، وكانت تعتد فيه، فللزوج أن يمنعها من إدخال ذلك المسكن الولدَ، وكذلك لو كانت رجعية، ولو كان اتفق النكاح في مسكن المرأة، وكانت تعتد فيه، فحينئذ حكم عود الحضانة على
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) ر. المدونة: 2/244، عيون المجالس: 3/1407 مسألة 988، القوانين الفقهية: 223.(15/543)
ما ذكرناه، ولو كان المسكن للزوج ورضي بإدخال الولد المسكنَ، فحق الولد ثابت في الحضانة، وليس كما لو رضي بأن تحتضن الولد مع قيام الزوجية، فإن حقها لا يقوم فإن الزوجية رقٌ، وإذن الزوج كإذن المولى للرقيقة، وأما ما يتعلق بالمسكن والرضا بإدخال الولد إياه، فهذا محتمل، وهذا كما لو كانت المرأة استعارت مسكناًً، وكانت خليّة، فأخذت تحتضن الولد في الدار المستعارة، فلها حق الحضانة، وإن كان من الممكن أن يسترد المعير العارية، وإذ ذاك لا تتمكن من الحضانة، فلا نظر إلى أمثال هذا، والعلم عند الله تعالى.
10223- ومما يتعلق الكلام به أن الرجعية مستحقةٌ للنفقة، فلو أخذت تحتضن من غير استرضاء المطلِّق، وكان المسكن لها، كما تقدم التصوير، فالمذهب أن نفقتها لا تسقط؛ فإنها باشتغالها بالاحتضان ليست ناشزة على زوجها؛ فإن الناشزة هي المانعة حقاً لزوجها.
قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: الظاهر عندنا أن نفقتها تسقط، كما لو كانت في صلب النكاح، فإن الرجعية تستحق نفقة الزوجية، فتسقط نفقتها بما يسقط به نفقة الزوجات.
وهذا عندي هفوة؛ فإن الزوجة في غيبة الزوج لو احتضنت الولد أو أخذت تحترف على وجهٍ لو اشتغلت بمثله في حضور الزوج وزاحمت حقه، لكانت ناشزة، فلست أراها ناشزة في الغيبة. نعم، إن خرجت من مسكن النكاح في الغيبة، فقد انسلت عن الخدر، وفارقت رباط الزوج على خلاف ما يبغيه الرجل في الغيبة والحضور، فذاك يؤثِّر.
هذا منتهى الكلام فى تزوج المرأة، وما يفرض من طريان الطلاق المبين وغيرِ المبين.
10224- وأما اشتراط إسلامها فبيّنُ [التعليل] (1) إذا كان الولد مسلماً تبعاً لإسلام الأب، فإن تسليمه إليها يجرّ خبلاً على دينه، وليس يخفى أثر المربية والمربي في حق
__________
(1) في الأصل: فبين التعديل.(15/544)
الطفل فيما يتعلق بدينه، وبحقٍّ قيل: التلقُّف في الصغر كالنقش في الحجر.
ؤقال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا: لا يشترط إسلام الأم، واحتج على ذلك بما روي " أن أباً مسلماً وأماً كافرة تنازعاً مولوداً بينهما، ولم يكن المولود مميزاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضاره، وقال للأبوين: ادعواه، وقال عليه السلام في نفسه لما دعواه: " اللهم اهده "، فانسل الصبي إلى أبيه " (1) ولو لم يكن للكافرة حظ (2) ، لبتَّ عليه السلام قوله في الإلحاق بالأب.
ومذهب الأصطخري لا ينطبق على مضمون الحديث، وقد يقول: إنما نخاف على دين الطفل إذا كان مميزاً، ولست أرى ما يقول إذا ميّز الصبي بين أمه الكافرة وأبيه المسلم، فإن قال: " يخير "، فقد ظهر تعريض دينه للفتنة، وإن قال: لا يضم إلى الأم إذا ميز، اضطرب أصله وتخبط مذهبه، والجملة أن ما قاله ليس معتداً به، والمذهب ما ذكرناه.
وكل ما أشرنا إليه فيه إذا لم يبلغ الولد مبلغ التمييز.
10225- فإن بلغ سنَّ التمييز مميِّزاً وهو سبعٌ أو ثمان ولا ضبط في هذا السن، وقد يتقدم التمييز على السبع، وقد يستأخر عن الثمان، والغرض حصول التمييز، فإذا صار الصبي مميزاً، خيّرناه بين الأب والأم ونضمه إلى من يختار من الأبوين إذا كان كل واحد منهما أهلاً للحضانة، ولا فرق بين أن يكون غلاماً أو جارية، وأبو حنيفة (3)
__________
(1) حديث: " أن أباً مسلماً وأماً كافرة تنازعا ولداً ... " الحديث. رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني من حديث رافع بن سنان. قال الحافظ: وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة (ر. المسند: 5/446، 447، النسائي: الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد، ح 4395. أبو داود: الطلاق، باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد ح 2244. ابن ماجه: الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه، ح 2352.
مستدرك الحاكم: 2/206، الدارقطني: 4/43. تلخيص الحبير 4/20 حديث رقم 1857) .
(2) هذا وجه الاستدلال بالحديث، فالمعنى أنه لو لم يكن للكافرة حق في الحضانة، لما كان التخيير.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 227، مختصر اختلاف العلماء: 2/456 مسألة 975، فتح القدير 4/367 وما بعدها.(15/545)
يضم الجارية إلى الأم على سن التمييز، والغلام إلى الأب، ونحن لا نفصل بينهما.
واعتمد الشافعي الخبر والأثر، فروَى في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر غلاماً بين أبيه وأمه" (1) وروى عن عمر رضي الله عنه " أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه " (2) ونحن إذا أطلقنا القول بتقديم الأم في الحضانة، أو تقديم غيرها من الإناث، أردنا بذلك القيام بالحضانة قبل بلوغ الصبي سنَّ التمييز، وليس هذا مما يتطرق إليه القياس؛ فإن عبارة الصبيّ مستلبة، وإنما يظهر في مسلك المعنى اعتمادُ عبارته فيما يتعلق [بإعرابه عن] (3) حاجات نفسه؛ إذ لا اطلاع عليها إلا من جهته، فلا رجوع إلا إليه، فأما الاختيار بين الأبوين، فليس من هذا الفن، والقياس يقتضي إدامة حق الحضانة للأم، ولكن لا مبالاة بطرق القياس المظنون مع صحة الخبر.
ثم ليس هذا اختياراً من الصبي لازماً أو ملزماً، فلو اختار أحد الأبوين، ثم بدا له واختار الثاني، رددناه إلى الثاني، ولو عاد إلى الأول، لتبعنا اختياره، وليس هذا كاعتراف خنثى بكونه ذكراً أو أنثى، فإنه مؤاخذ بموجب اعترافه، لا يقبل رجوعه عنه.
وإذا تعذرت القيافة والإلحاق بها، فانتسب الولد إلى أحد المدعيَيْن، فذلك لازم، لا سبيل إلى الرجوع عنه.
قال الأصحاب لو تردد الصبيّ المخيَّر بين الأبوين تردداً كثيراً دالاً على خبلٍ به فنتبين أنه ليس مميزاً.
__________
(1) حديث أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه". رواه الشافعي في الأم: 5/82، وأحمد (2/246) وأبو داود: الطلاق، باب من أحق بالولد ح 2277، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، ح 1357 وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه ح 2351. وانظر التلخيص 2/23، 24 حديث رقم 1859.
(2) حديث أن عمر خير غلاماً بين أبيه وأمه. رواه البيهقي في الكبرى: 4/18. وانظر التلخيص 2/24.
(3) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .(15/546)
ولو كان بالصبي خبل، فهو مُقَرٌّ في حضانة الأم كحالته قبل التمييز.
وهذا فيه نظر، فإنه لا ينكر في جبلّة الصبي وإن كان على كيْس تامٍ وتمييزٍ أن يقيم عند أحد الأبوين زماناً، [ويتشوق] (1) إلى الثاني، وتكرُّر ذلك ما أراه شاهداً على [الخبل] (2) والكلام عندي في أنه إذا كان يفعل ذلك، فلا وجه إلا اتباعه على شرط أن لا يتعطل أركان الحضانة بالتردد.
ولو خيرنا المميز، فسكت، ولم يُحِرْ جواباً، ولم يختر واحداً من الأبوين، فهذا أيضاًً غير مستنكر من الكيِّس المميز. والظاهر عندنا أن يبقى في حضانة الأم؛ فإن أصل الحضانة لها، ما لم يقطعها اختيار من المولود للأب في حالة التمييز.
ولو كان الصبي مخبَّلاً أو بلغ [مخبلاً، فحضانة] (3) الأم دائمة، فلو كانت الأم لا تستقل بحفظ المجنون الكبير، فالأب حينئذ؛ فإن الكلام فيمن يكون أولى بالحضانة مشروط بأن تُتصوّر الحضانة منه.
10226- ولو بلغ الطفل عاقلاً رشيداً، فقد استقل بنفسه، ولم يبق عليه مراقبة إذا كان غلاماً.
وأما الجارية إن كانت بكراً، فظاهر المذهب أنها وإن كانت عاقلةً ظاهرةَ الرشد، فللأب أن يُسكنها حيث يستصوب، وليس لها أن تقوم بنفسها، وتكون حيث تشاء؛ وذلك أنها وإن استقلت لبلوغها ورشدها بسائر أحكامها، فالأب يجبرها على النكاح، فلتكن لهذا الوجه في ضبط الأب، وينقطع عنها سلطان الأم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً أن البكر إذا كانت مأمونة ظاهرة الرشد، فلا معترض للأب عليها، ولها أن تسكن حيث تشاء، وهذا الوجه وإن كان غريباً متجهٌ في القياس؛ من جهة أنها [مستقلة] (4) بجميع أحكامها إلا النكاح؛ فإن الأب يجبرها على النكاح بحكم الجبر، وليس المسكن من النكاح في شيء.
__________
(1) في الأصل: ويتشرق.
(2) في الأصل: الخبر.
(3) في الأصل: مختلاً بحضانة الأم.
(4) في الأصل: مشتغلة.(15/547)
ثم من قال: يسكنها الأب حيث يشاء يخصّص ذلك بالأب، والجدُّ في معنى الأب؛ فإنه يجبر على النكاح إجبار الأب.
فأما من عدا الأب والجد، فلا يملكون الاحتكام على البكر البالغة الرشيدة، فإن نوبة الحضانة قد انتهت، [وليس] (1) لهم إجبارُها على النكاح، فهي بمثابة الثيب في حقوقهم.
ولا خلاف أن الثيب إذا كانت مأمونة، فلا اعتراض للأب ولا لغيره [من] (2) العصبات عليها.
وإن كانت المرأة بحيث تُزَنّ بريبةٍ (3) ، فللأب والجد، ومن سواهما من عصبات النسب أن يحضنوها في مسكنٍ يسهل عليهم مراقبتها فيه، وإنما أثبتنا لهم ذلك، حتى لا يلحقهم العار، وقد جوزنا لهؤلاء الاعتراض على نكاحها، إذا زوجها بعضُ الأولياء [ممّن] (4) لا يكافئها.
ولو ادّعى الولي ريبة، فإن أظهرها، فله الاحتكام، وإن عجز عن إظهارها، فهذا فيه بعض النظر، فإن الرِّيب قد تخفى حتى لا يدركها إلا من تبطّن من أهل القرابة، ولا يمتنع ألاّ يكلفَ من له حق الاعتراض أن يُظهر الريبة، وقد يكون وجه الرأي في الإخفاء؛ حتى لا تشاع فاحشة على المرأة.
هذا وجهٌ من الرأي، في الثيب والبكرِ في حق غير الأب والجد. ويعترض على هذا أنه يُفضي إلى تمليك الولي الاحتكام على المرأة المستقلّة من غير حجة وإظهارِ موجِبٍ ومقتضٍ، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: وليت.
(2) في الأصل: في.
(3) تُزنّ بريبةٍ: أي تتهم بسوء، من قولهم: زنَّ فلاناً زنّاً: اتهمه بسوء أو غيره (المعجم) .
ونشير هنا إلى أن إمام الحرمين متأثر في عبارته بشعر حسان رضي الله عنه في مدح عائشة أم المؤمنين المبرّأة رضي الله عنها حيث قال: " حصانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بريبةٍ " مما يشهد للإمام بالإحاطة بدواوين اللغة والأدب.
(4) في الأصل: فمن.(15/548)
فرع:
10227- ذكرنا أن المرأة إذا تزوجت، بطل حقها من حضانة المولود، وقد استثنى الأئمة من هذا الفصل أن تنكح الأم عمَّ الطفل، وقد يسهل تصوير ذلك، وقد تنكح جد الطفل، فقال الأصحاب: الأم إذا نكحت من له حقٌّ في الحضانة، لم يسقط حقها من الحضانة، وإن كان زوجها مؤخراً في استحقاق الحضانة عن الأب على ما سيأتي ترتيب ذلك من بعد، إن شاء الله.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن حق الحضانة للأب.
توجيه الوجهين:
من قال: الحق للأب، قال: لأنها اشتغلت بالنكاح، فبطل حقها، وبقي الجد والأب، أو العم والأب، والأبُ مقدّمٌ على من هو زوجها.
[ووجهُ] (1) الوجه الثاني، وهو الذي صار إليه معظم الأصحاب أن حقها لا يسقط من الحضانة؛ لأنها انضمّت بالزوجية إلى من له حق الحضانة، فلا تصير مشغولة بهذا التزوج، وهي بمثابتها لو كانت خليةً عن الزوجية.
والذي لا بد منه في إتمام ذلك أن المسألة مفروضة فيه إذا كان زوجها (2) طالباً للحضانة، فيتحقق ما ذكرناه، وتصير المرأة معتضدة [في معنى الحضانة] (3) ويزيدها النكاح إعانة.
وأما إذا كان زوجها لا يطلب الحضانة ويبغي منها التفرغَ له، والتهيؤ لحقوقه، فهي مشغولة والحالة هذه بالزوجية، فيستحيل أن يثبت لها حق الحضانة والحالة هذه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ننبه أن المراد (بزوجها) هنا، هو الزوج الذي تعيش معه (عم أو جد الطفل) فلا ينصرف الذهن إلى الزوج الأول، الذي هو أب الطفل.
(3) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) والمثبت من صفوة المذهب.(15/549)
فصل
10228- قد ذكرنا أن الأم أولى بالحضانة قبل بلوغ الطفل مبلغ التمييز، واستثنى الأئمة من هذا الفصل [ما إذا أراد الأب أن يسافر] (1) سفر النُّقلة، ونحن نقول فيه:
إذا أراد الأب المسافرة والانتقال إلى بلدة أخرى، فيبطل اختصاصُ الأم بالحضانة إذا كانت تؤثر الإقامةَ، والسبب فيه أن الأب إذا انتقل إلى ناحية أخرى، وترك الولد في حضانة الأم [فقد] (2) يُفضي هذا إلى أن يندرس وينمحق نسبه، وهذا يظهر أثره ووقعه في الحال والمآل؛ فإن اشتهار الأنساب بالرجال، والنسوة لازماتٌ خدورَهن، لا يظهر من تفاوضهن أنساب المولودين.
ثم الظاهر الذي مال إليه ذوو التحقيق أن هذا فيه إذا كان بين مكان الأم وبين الموضع الذي ينتقل الأب إليه مسافة إلى حد الطول، وأقل مراتب السفر الطويل مرحلتان، فإن كان الموضع الذي ينتقل إليه الأب دون هذه المسافة، فليس له أن ينتزع الولد من الأم؛ فإن النسب لا يخفى مع قرب الأب، ووقوعه من الولد على مسافة قصيرة؛ فإن طروق الوافدين والواردين من إحدى الناحيتين على الأخرى يُديم إشاعة النسب، وإنما يفرض الخفاء عند طول المسافة، ثم لا مرجع يُنتهى إليه ويتمسك به في الطول والقصر إلا ما ذكرناه.
وفي طرق بعض الأصحاب ما يدل على أن الانتقال يُثبت للأب حق انتزاع المولود وإن لم تبلغ المسافة حدَّ الطول، وهذا قد يمكن توجيهه بانقطاع نظر الأب عن رعاية المولود؛ فإنه إذا كان حاضراً، وكان الولد بمرأىً منه ومسمع، فالأم كالمستنابة في الحضانة ولحاظُ الأب دائم، وهو قائم عليه بالتأديب والذّبّ عند الحاجة، وكأن الاستقلال في تربية الولد دون رجل في حكم التعطيل، وإذا كان الرجل حاضراً، فكأنه الأصل والأم معتضدة به، وهي قائمةٌ بطرفٍ واحد من مصلحة المولود، كغسله وتنقيته ووقايته من المخاوف.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: وقد.(15/550)
وهذا كله إذا كان السفر سفر نُقلة، فلو هم الأب بالانتقال، وأرادت المرأة أن تستديم الحضانة، فانتقلت معه، فحقها يدوم، فإن الغرض عدم انقطاع المولود عن الوالد.
ولو كان السفر سفر تجارة أو نزهة، فإن كان ظاهرُ الأمر على أنه يعود على القرب، فلا ينتزع في هذه السفرة الولد من الأم، ونبني الأمر على إسراع الكرة، والأمر كما وصفناه، وإن طالت المسافة.
ولو كانت السفرة على حدٍّ من الطول أو الشغل فيه ثقيل لا ينتجز إلا في زمان طويل، يفرض في مثله نسيان الأنساب، سيّما في أصحاب الخمول، فالذي ذهب إليه الأصحاب في الطرق طردُ القياس في إدامة الحضانة؛ فإن بناء السفر على إضماره الكرّة، وحق الحضانة إنما يُقطَع بأمرٍ ظاهر الوقع.
وكان شيخي أبو محمد يقول: له المسافرة بالمولود إذا كان يطول أمر السفر على حدٍّ يظهر ضرره وأثره، والعلم عند الله.
فصل
10229- إذا كان الولد مضموماً إلى الأم، فحق على الأب ألاّ يكله إليها فيما يعلم أنها لا تستقل فيه برعاية مصلحة المولود، وذلك كتأديب الطفل عند مسيس الحاجة، وحملِه إلى المكتب وردِّه، أو إلى من يعلّمه الحرفةَ إن كانت تقتضي ذلك؛ فإن هذه الأمور لا يتأتى من النسوة الاستقلالُ بها.
ولو ضممنا المولود إلى الأب عند اختيار الولد المميز للأب، فلا يجوز قطع الأم عنه؛ فإن ذلك [يؤذي] (1) الصبي ويبلغ به المبلغ العظيم، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تولّهُ والدة بولدها " (2) .
__________
(1) في الأصل: " يوفي " والمثبت من (صفوة المذهب) .
(2) حديث: " لا توله والدة بولدها " رواه البيهقي: 8/5، وانظر كنز العمال: 14023، 25023.(15/551)
فصل
10230- ألحق الفقهاء رضي الله عنهم حقَّ الحضانة بالولايات، ولذلك قُدّم القريب على البعيد، غيرَ أنها تثبت للإناث، بل الإناثُ بها أولى على الجملة، كما سيتضح ذلك في التفاصيل، والولايات في غير ذلك مختصة بالرجال، والسبب فيه أن مقصود الولايات يليق بالرجال لتعلقه بالتصرف والتبسط، وهذا لا يتأتى من النساء، وحقهن أن يلزمن خدرهن ويُفوّضن إلى الرجال أمورَهن.
وأما الحضانة، فالنساء بمصالحها أعرف، [ولو حاولها] (1) الرجل، لأعياه أمرها ما لم يستعن بامرأة، فانفصلت الحضانة عن الولايات، لما ذكرناه.
واشتراطنا الصفات التي ذكرناها في الحاضنة والحاضن يشهد لالتحاقها بالولاية.
ثم من قولنا في الولاية: إن القريب المستحِق لها لو غاب وحضر البعيد الذي هو من أهل الولاية لولا القريب، فالولاية لا تنتقل إلى البعيد، بل يقوم بها السلطان -إن مست- قيامَ نيابة قهرية، كما قدمنا تقرير ذلك في كتاب النكاح.
وما ذكرناه يجري في ولاية التزويج والإنكاح إذا غاب الأقرب وهو الأبُ، وشهد الجدُّ أبُ الأب، ويمكن فرض ما ذكرناه في غير الأب والجد من العصبات، إذا كان الكلام في ولاية التزويج.
10231- فأما الحضانة فإذا غاب عنها القريبُ المقدمُ لو حضر، وشهد البعيدُ المستحق لو لم يكن القريب، فالذي قطع به أئمة المذهب أن حق حضانة المولود يثبت للبعيد بخلاف سائر الولايات، وفرّقوا في ذلك فرقاً واضحاً، فقالوا: النظر في التزويج وحفظ المال يتهيّأ من السلطان بنفسه أو بإقامته غيرَه مقام نفسه.
وأما الحضانة فمبناها على الشفقة المستحَقَّة على إدامة النظر؛ إذ الصبي غير المميز يحتاج في كلاءته إلى شفيق به، وقد قلنا: لا يزوج السلطان الصغيرة؛ لأن مبنى تزويجها على كمال الشفقة، ويلي مالَها؛ لأنه لو خُلِّي عن النظر، لتعطل، ولو بُلي
__________
(1) في الأصل: ولو حار لها.(15/552)
السلطان بحضانة طفل، لكان طريقه أن يستعين فيها بذي قرابة له إن وجد، وليس من النظر أن يسلّمه إلى أجنبي، أو أجنبية، وهذا الذي ذكرناه مما يجب، وليس أمراً يوصف بالاستحباب.
وإذا كان كذلك، فالوجه التسليم إلى القريب.
وقد أشاع الخلافيون وجهاً أن القريب إذا غاب، فحقّ النظر يتعلق بالقاضي قياساً على سائر الولايات، ولست أحكي مثل ذلك ليلحق بالمذهب، ولكني أذكره ليتبين أنه لم يذكره المعتمدون، فيقطع عن المذهب.
فصل:
" وإذا اجتمعت القرابة من قِبل النساء وتنازعن المولود ... إلى آخره " (1) .
10232- مضمون هذا الفصل غمرة الحضانة، وهو الذي يجب صرف الاهتمام إليه، والله المعين.
وغرضه الجُملي الكلامُ فيمن يكون أولى بالحضانة إذا فُرض [اجتماع] (2) أصحاب الحقوق، وحاصله يتعلق بنوعين: أحدهما - في ضمن التنازع في طلب الحضانة، والنوع الثاني - في التدافع في الحضانة.
فأما النوع الأول - فيشتمل على فصولٍ: أحدها - في اجتماع النسوة المنفردات.
والثاني - في اجتماع الرجال المنفردين.
والثالث - في اجتماع الرجال والنساء.
وقاعدة الفصل أن الحضانة ليست كوجوب النفقة؛ فإن وجوب النفقة يختص بالبعضية، والحضانةُ تتعداها لا محالة، وهي تتعلق بالقرابة والمحرميّة وفاقاً، إلا في
__________
(1) ر. المختصر: 5/86.
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.(15/553)
الجدات الفاسدات، وفيهن كلام سيأتي في التفصيل، وتتعلق بالقرابة والعصوبة من غير محرمية.
والقرابةُ المحضة التي لا محرمية معها، ولا عصوبة، ولا إرث فيها كلامٌ واختلافٌ.
هذا قواعد المذهب على الجملة.
ويخرج منها أنا في وجهٍ ظاهر نُعلّق الحضانةَ بالقرابة المحضة، وإن كنا نقدم القريب على البعيد، ومن يتمسك بقوة في القرابة على من لا يتمسك بها.
10233- ونحن الآن نبتدىء بعون الله وتوفيقه القول في النسوة المتجردات إذا اجتمعن، وتنازعن الحضانة. وللشافعي في تأسيس المذهب مسلكان نطردهما أولاً، ثم نذكر ما نراه أَوْلى الطرق المفضية إلى البيان.
قال الشافعي في الجديد: أوْلى النساء بالحضانة الأم وأمهاتها، ما لم يتخلل بينهن ذكر، والقربى منهن أولى من البعدى.
ثم بعدهن أمهات الأب وإن علون، ما لم تدلين بمن لا يرث، والقربى منهن أولى من البعدى.
فإن لم يكن، فأمهات الجد وإن علون على الحدّ الذي ذكرناه في أمهات الأب، ثم بعدهن أمهات أب الجد على الترتيب الذي تقدم، والجدة البعيدة المدلية بمحض الأمهات إلى الأب، مقدمة على أم أب الأب؛ فإن الدرجة إذا تقدمت على الدرجة لم يُرْع بين الشخص الواقع في الدرجة القريبة وبين الشخص الواقع في الدرجة البعيدة التفاوتُ في القرب والبعد ممن يطلب القرب منه في الأصل، فإن الدرجة إذا قدمت قدم من فيها -وإن بعدوا- على من في الدرجة الأخرى البعيدة، وعلى ذلك يجري أصل الميراث والعصوبة وما يتعلق بها، ولذلك يقدم ابن ابن الأخ وإن سفل وتناهى بُعْدُه على العم.
ثم إن لم يكن للمولود واحدة من الجدات من قِبل الأم ولا من قبل الأب، فالرجوع بعدهن في الترتيب الجديد إلى الأخوات، ثم هن يترتبن: فالمقدمة الأخت من الأب(15/554)
والأم، وبعدها الأخت من الأب، وبعدها الأخت من أم.
والرجوع بعد أخوات المولود إلى خالاته، وهن يترتبن ترتُّبَ الأخوات، فإنهن يقعن من أم المولود موقع أخوات المولود.
وبعدهن العمات وترتيبهن كترتيب الأخوات والخالات.
هذا هو الترتيب المنقول عن الجديد.
وقال في القديم: تقدم الأم وأمهاتها المدليات بالإناث، فإن لم يكن، فالأخوات، ثم الخالات، وهن مترتبات كما ذكرنا في الترتيب الجديد، وبعدهن أمهات الأب، وبعدهن العمات.
10234- وأول ما نذكره بعد نقل الترتيبين الجديد والقديم محل اتفاق النصين ومحل اختلافهما، فالأم وأمهاتها مقدماتٌ على من عداهن جديداً وقديماً، والعمات مؤخرات عن الجميع في الترتيبين، والأخوات مقدمات على الخالات في القولين.
ومحل الخلاف أن القول الجديد يقتضي تقديم أمهات الأب إذا لم يكنّ فاسدات على الأخوات والخالات، وترتيب القديم يقتضي تقديم الأخوات والخالات على أمهات الأب.
هذا موضع اختلاف القولين، وبيان الترتيبين.
10235- وإذا اتضح هذا، فالوجه أن [نذكر بعده] (1) متمسَّك القولِ الجديد، ومتعلَّق القول القديم، ونقدّم على رسم التوجيه التنبيهَ على ما يجب أن يكون معتبراً في هذا الباب، فنقول: مقاصد الأبواب تناسب عِللَها، وعللُها تلائم مقاصدَها، ومعلوم أن المقصود من الحضانة القيامُ بحفظ مولودٍ غيرِ مستقل، ثم الأمر في حفظه ليس مما يقبل الفترات، فإن المولود في حركاته وسكناته لو لم يكن ملحوظاً من مراقِب لا يسهو ولا يغفل، لأوشك أن يهلَك، وهذا يستدعي شفقةً تامةً تحمل على المراقبة بالعين الكالئة.
__________
(1) في الأصل: "نذكره بعد".(15/555)
فهذا هو المعتبر [ولا شك] (1) [وهذا] (2) الأصل مع اختلاف المذاهب واحد، وهذا [كما أنا رأينا] (3) اعتبار القُرب في النفقة أولى المسالك.
ثم إن اتجه التَّدْوار على هذا المعنى، طردناه، وإن بعدت الدرجات ودقّ النظر في التفاوت في الشفقة، امتزج بالكلام اعتبار قوة القرابات، ويثور إذ ذاك وجوه التردد.
ومن الأصول اللطيفة أن النفقة اختُصَّت بالبعضية؛ إذ ليس في قطع تعلقها بالقرابة العامة ما يؤدي إلى تعطيل، فإن لأصحاب الحاجات أموالاً معتدة من جهات، والحضانة يعسر إقامة الأجانب والأجنبيات بها، فحَسُنَ ألاّ تُقْصَر على جهة في القرابة؛ فإن القريب وإن بعد أولى بالحدب من الأجنبي.
10236- وإذا تمهد هذا، فالذي اعتبره في الجديد -مأخوذاً من الشفقة- أن الأمهات أولى النساء بالشفقة، والجدات من قِبل الأب رآهن -في الجديد- لمكان الأمومة والبعضية القائمة والاستنادِ على عمود النسب أولى من الأخوات بالشفقة، وهذا يبعد إنكاره في أحكام العادات، وموجَب الجبلاّت، ثم صوّر عدمَ الجدات، ولم يصادف على عمود النسب غيرَهن، فمال إلى الواقعات حاشيةً، ورأى الأخوات مقدماتٍ؛ لأنهن أشفق على المولود من الخالات، وهن أقرب، وقرابتهُن أقوى، ثم اعتبر الخالات، ورآهن مقدّمات على العمات لإدلائهن بالأمهات، فهن من الأمهات كأمهات الأم، والعمات كأمهات الأب.
فهذا سبيل تعليل القول الجديد.
وأما وجه القول القديم، فينشأ من القاعدة التي ذكرناها أيضاً، لكنه قدم الأخوات والخالات؛ لأنهن متصلات بقرابة الأم، فرأى قرابةَ الأم أحق بالشفقة، فاستوعب المتصلات بها، ثم رجع بعدهن إلى أمهات الأب، وأخَّر العمات عنهن؛ فإنهن يقعن حاشية.
__________
(1) في الأصل: ولا ننكر.
(2) الواو زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: كما أنا إذا رأينا.(15/556)
وهذا غير سديد، أولاً في وضعه؛ لأن اسم القرابة لا يراعى، وإنما يراعى الشفقة، ونحن لا نشك في أن أم الأب في الغالب أشفق على المولود من أخته وخالته، وهذا على ظهوره قد لا ينتهي إلى القطع، والوجه الذي يَفْسُد القولُ القديم به ويخرج سلسلة النظام أنه قدم الأختَ من الأب على الأخت من الأم، ولا إدلاء للأخت من الأم إلا بالأم، فاضطرب بهذا تقديم الاتصال بجانب الأم، ثم الأخت من الأب بنت أب المولود، وأم الأب أم أب المولود فإدلاؤهما جميعاًً بالأب، وتقع إحداهما بالنسبة إلى المولود أصله، وتقع الثانية بالنسبة إليه حاشية من نسبه.
فلاح بمجموع ذلك إيضاح وجه القول الجديد، واضطراب القديم. ولما ظهر التناقض في تقديم الأخت من الأب على الأخت من [الأم] (1) في القول. القديم خرّج طائفة من الأصحاب في التفريع على القديم وجهاً أن الأخت من الأم مقدمة على الأخت من الأب، لمكان الإدلاء بالأم.
هذا أصل القولين.
10237- ويتعلق باستيعاب الكلام عليهما أطرافٌ، ونحن نتبعها واحداً واحداً: فمن أهمها، وهو معضلة الباب، والمشكلة التي لا حل لها أن المزني نقل عن الشافعي في المختصر أنه لا يثبت لأم أب الأم حقّاً في الحضانة (2) ، وكذلك لم يُثبت الحضانة لكل جدة ساقطة من جانب الأب، وهن الجدات المسميات الفاسدات ويجمعهن أن على طريق إدلائهن ذكَر مُدلٍ بأنثى.
وهذا وإن كان منصوصاً عليه، وهو الذي أثبته أئمة المذهب واستمروا عليه، وطاب لهم مأخذه، [فهو] (3) في نهاية الإشكال؛ من جهة أنها (4) على عمود النسب، وهي أصل المولود، وذلك حكم نيط بالبعضية، فهو متعلق بهما (5) كاستحقاق النفقة
__________
(1) في الأصل: من الأب.
(2) ر. المختصر: 5/87.
(3) في الأصل: فهن.
(4) أنها: أي الجدة الفاسدة.
(5) بهما: أي البعضية والقرابة.(15/557)
والعتقِ عند جريان الملك على الرقبة، ورد الشهادة النافعة، وإن نظرنا إلى سقوطهن عن استحقاق الإرث، فالخالات ساقطات عند من لا يورث بالرحم، ولا خلاف أنهن يستحققن الحضانة، وإن قيل: الخالة ترث الأم فأم أبيها ترثها أيضاً، فكان هذا بالغاً في الإشكال.
وقد حكى الشيخ أبو علي رضي الله عنه أن الجدات الفاسدات تثبت لهن الحضانة بعد الوارثات، وهن في الترتيب الجديد مقدمات على الأخوات والخالات، وهذا متجه حسن.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً ثالثاً أنهن مؤخرات عن كل أنثى مستحقة للحضانة، وإذا لم نصادف سواهن، فنُثبت لهن حق الحضانة حينئذ.
فانتظم فيهن ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا حق لهن أصلاً، وهذا ظاهر النص.
والثاني - أنهن مؤخراتٌ عن الجدات الوارثات مقدّماتٌ على من يترتب على الجدات، وهذا هو القياس، حكاه الشيخ أبو علي. والوجه الثالث - أنهن مؤخراتٌ عن الجميع، فإذا لم نجد أنثى حاضنة، فلهن حق الاحتضان.
وتوجيه هذه الطرق سيأتي في أثناء الفصل -إن شاء الله- إذا تمهد ما يفتقر التوجيه إليه.
هذا أحد الأطراف.
10238- ومما يتعلق بالتفريع أنا في الجديد قدمنا الأخت من الأب؛ لأنه لم يتضح لنا تفاوت بينهما (1) في الشفقة، ولا حاصل لقول من يقول: إذا كانت الأم أشفق، فالأخت من الأم أشفق؛ فإن هذه المعاني لا تدرك بالألقاب ونظم العبارات، فلما لم يتجه للشافعي تفاوت بينهما في الشفقة، ورأى الأختَ من الأب أقوى في قرابتها، مزج اعتبار قوة القرابة بالأصل المستند إلى الشفقة، وقدم الأخت من الأب؛ فقال أئمتنا: إن اتجه هذا في أخت المولود، لم يتجه في الخالة من الأب، إذ لا إرث ثَمَّ، والخالة من الأب بنت أبي الأم، فقد ذكروا وجهين: أحدهما - أنا نقدم الخالة
__________
(1) المراد الأخت من الأب والأخت من الأم.(15/558)
من الأب على الخالة من الأم، على قياس أخوات المولود.
والثاني - أنا نقدم الخالة من الأم على الخالة من الأب، وقطع به الصيدلاني؛ فإنها بنت أم الأم، وأم الأم أصل الحضانة، فالإدلاء بها أولى بالاعتبار، وإذا كان ينقدح هذا التردد في الترتيب الجديد، فهو في الترتيب القديم أوجه؛ لأن تعويله على اعتبار قرابة الأم، والتفصيل الذي ذكرناه منقدح في رعاية قرابة الأم.
10239- ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك القولُ في بنات الإخوة والأخوات، وبنات الخالات والعمات. قال بعض المصنفين: بنات الإخوة والأخوات مقدمات على العمات، والعمات مقدمات على بنات الخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، فأجرى هذا مطلقاً من غير تخصيص بالجديد أو القديم، واعتل بأن قال: بنات الإخوة والأخوات يقدّمن، كما يقدم بنو الإخوة على الأعمام، والعمات مقدمات؛ فإنهن محارم، فكن مقدمات على بنات الأخوال والخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، كما أن الخالات مقدمات على العمات.
وهذا فيه اختلاطٌ عندنا، كما سنصفه: أولاً - كيف يطيب إثبات بنات الخالات وبنات العمات حاضنات، مع إسقاط الجدات الفاسدات، ولا محرمية لبنات الخالات وبنات العمات، والمحرمية والأمومة والبعضية ثابتة للجدات الفاسدات؟ فمن أسقط الجدات الفاسدات، لزمه قطعاًً إسقاط بنات الخالات، وبنات العمات، وأما بنات الإخوة والأخوات، فهن مُدليات بأصول من الذكور والإناث، يثبت لهم حق الحضانة، وهن على قرابة تقتضي المحرمية.
وقد تبيّن من ترتيب كلام الأصحاب، بعد استثناء الجدات الفاسدات مع النص فيهن أن كل أنثى قريبة لها محرمية مع المولود، فلها حق الحضانة، والكلام في تقديمها وتأخيرها، وكل [أنثى] (1) لا محرمية بينها وبين المولود، وكانت قريبة منه، فلا حضانة لها ومعها أنثى محرّمة، فإن انفردت، فهل يثبت لها حق الحضانة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت للقرابة والشفقة المتوقعة منها. والثاني - لا يثبت؛ لأن
__________
(1) في الأصل: ابن.(15/559)
المحرمية تناسب الاختلاط وتأمّلَ الظواهر والبواطن في الحفظ، فإذا انعدمت المحرمية، اختل هذا المعنى.
وسنذكر في ترتيب الذكور إذا انفردوا أن الذكر القريب الذي ليس عصبة، ولا محرماًً، لا شك أنه يتقدم عليه الوارث من الذكور الأقارب، ويتقدم عليه المحرم القريب، وإن لم نجد من الأقارب وارثاً ولا محرماًً، فهل يثبت له حق الحضانة والمولود غلام، أو صغيرة لا تُرمق بعدُ، فيه طريقان: ذهب الأكثرون إلى أنه لا حق له. وأجرى مجرون فيه خلافاً في الاستحقاًق؛ فإنه على حالٍ أولى من الأجنبي.
وإذا ضممنا الذكر الذي ليس محرماًً ولا وارثاً إلى الأنثى التي ليست وارثة ولا محرماً، انتظم فيهما ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا حق لهما. والثاني - أنه يثبت لكل واحد منهما الحق عند الانفراد إذا لم نجد من نقدمه عليه، وعلى ذلك [يستدّ] (1) إطلاق القول بتعليق الحضانة بالقرابة. والثالث - أن الأنثى تستحق إذا انفردت، والذكر لا يستحق؛ لأن للأنوثة أثراً في استحقاق الحضانة، كما سيأتي شرح ذلك في اجتماع الذكور والإناث.
10240- فإذا ثبت هذا ننعطف على الاتصال به إلى توجيه الوجوه في الجدات الفاسدات، أما إثبات الحق لهن، فبيّن منقاس، وأما إسقاطهن بالكلية، فلا خروج له إلا على مسلكٍ، وهو أن الذكر الذي ليس وارثاً، فقد نقول: لا حق له في الحضانة، وإن كان محرماً. وأم أب الأم مُدلية بأب الأم، ونحن لا نثبت لأب الأم حقاً، فلا نثبت للمدلية به حقاًً، ومن أثبت لها حقاًً بعد أن لا يجد حاضنة مستحِقة، فهو خارج على إثبات حق الحضانة للذكر المحرم الذي ليس وارثاً، فتكون المُدلية به بمثابته.
هذا منتهى القول في اجتماع الإناث المتمحّضات، ولا ذَكَر معهن، فإن قيل: هل تعتبرون القرب والبعد؟ قلنا: نعم مع اتحاد الجهة، فإن القربى في كل جهة تُسقط البعدى من تلك الجهة، ويعتبر تقديم الدرجة القريبة على الدرجة البعيدة، كما ذكرنا
__________
(1) في الأصل: يستمر.(15/560)
في أمهات الأب مع أمهات الجد، إلى حيث يتفق الالتقاء، وتقديمنا أخوات المولود على خالاته قد يخرّج على اعتبار القرب، فإنهن أقرب إليه من الخالات.
10241- فأما الكلام في اجتماع الذكور المتمحضين، فالأب أولاهم، ثم الجد أب الأب وإن علا -ما لم يُدل بأنثى- أَوْلى، لمكان البعضية، وقوة الولاية، وقد مضى أن الحضانة ضربٌ من الولاية، وكل ذلك إبعادٌ، وأوْلى معتبرٍ الشفقةُ، وإن كنا نرعى معها قوة القرابة.
ثم الكلام بعد الأب وآبائه يقع في أصنافٍ من الذكور، وهم أقسام: منهم العصبات المحارم، ومنهم المحارم الذين ليسوا عصبة، ومنهم العصبات [ولا محرمية] (1) ، ومنهم أقارب بلا محرمية ولا عصوبة.
فأما العصبات المحارم، فمقدمون على من عداهم، فالعصبة المحرم مقدّم على من اتصف بالمحرمية دون العصوبة، أو بالعصوبة دون المحرمية، ثم هؤلاء الواقعون في هذا القسم يترتبون ترتُّبَهم في عصوبة الإرث، ويتصل بذلك أنا نعتبر لا محالة الأقرب فالأقرب، كما مضى ترتيب العصبات في المواريث، فأَفْرِدْ منهم المحارم ورتّبهم ترتيب المواريث: فالأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم ابن الأخ من الأب والأم، ثم ابن الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ولا مزيد عليهم.
فأما العصبات بلا محرمية، فيثبت لهم حق حضانة الغلمان، وحق حضانة [الصبيّة التي] (2) لا تُرمق ولا تشتهى.
ثم لا ذكَر من المحارم من غير عصوبة مع استحقاق الإرث إلا الاخ من الأم، فلو فرض اجتماع ابن العم وهو عصبة غير محرم، والأخ من الأم، وهو محرم وارث، وليس بعصبة، فكيف السبيل؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قدّم العصوبة؛ لأنها تناسب الولايات على حالٍ، والحضانةُ ولاية، فيجب تقديم ابن العم، كما يجب تفويض ولاية التزويج إليه.
__________
(1) في الأصل: فلا محرمية.
(2) في الأصل: الصبي الذي.(15/561)
ومنهم من قال: الأخ من الأم أولى؛ لأنه أقرب وبالحريّ أن يكون أشفق، ولعل الأظهر هذا.
ثم العصبات بلا محرمية يرتبون ترتيبهم في الميراث فيتقدم الأقرب على الأبعد منهم، وتتقدم الدرجة على الدرجة.
وأما القريب الذي هو محرم، وليس بوارث، فالخال، والعم من الأم، وأب الأم، وبني الأخوات، فهم مؤخرون عن الورثة الذكور، فإذا لم يوجد غيرهم، فلا شك أن السلطان يؤثر تسليم المولود إليهم، وهذا استحباب، أو استحقاق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه استحقاق القرابة والمحرمية. والثاني - أنه استحباب.
والخلاف وإن جرى متجهاًً في الذكور الذين ليسوا ورثة، فلا جريان له في المحارم من الإناث، كالخالة، والعمة؛ لأن الأنوثة إذا انضمت إلى القرابة والمحرمية، أكدت استحقاق الحضانة، وهذا ينخرم بالجدة الفاسدة، ولكن سبب خروجها إدلاؤها بذَكَر من القرابة غير وارث.
وهذا ينتقض بالخالات؛ فإن إدلاءهن بأب الأم، وإن كان لما ذكرناه في الجدات ثبات، فمن ضرورته أن يخرج الخالة من الأب عن استحقاق الحضانة؛ فإنه لا إدلاء لها إلا بأب الأم.
هذا منتهى الكلام في الإناث المتمحضات، والذكور المتمحضين.
وإذا أخرجنا الخال أخرجنا ابنه، وإن أثبتنا الخال، فالمذهب الذي يجب قطع القول به أنه لا حق لابن الخال؛ لاجتماع الذكورة، وسقوط المحرمية، وانتفاء الميراث.
وفيه شيء بعيد لا يعتد به. نعم، في بنت الخال خلاف معروف، وكذلك في بنات الخالات والعمات، كما تقدم ذكره، وذلك لمكان الأنوثة مع القرابة.
10242- وأما اجتماع الذكور والإناث فنقول في مقدمة هذا الفصل: إذا تبين أن الحضانة تتلقى من مقصودها وهي القيام بحفظ المولود، فلا شك أن النساء أقومُ به وأهدى إليه، وأصبرُ عليه، وهن يلزمن البيوتَ، والرجالُ ينشطون للتصرفات، ومن(15/562)
رام منهم القيامَ بحفظ مولودٍ، فقد لا يستقل به دون الاستعانة بامرأة، فخرج من ذلك أن الإناث على الجملة أولى بالحضانة.
فإذا تمهد هذا فنقول: الأم وأمهاتها على الوصف المقدم مقدماتٌ على الأب، فالجدة العالية من قبل الأم مقدمة على الأب، باتفاق الأصحاب، وإذا قُدِّمت على الأب، لم يخْفَ تقدمُها على الجد وسائر الذكور.
وأما الجدات من قبل الأب إذا اجتمعن مع الأب، فظاهر النص الذي نقله المزني أن الأب مقدم عليهن. قال الشافعي: " لا يقدم على الأب إلا الأم وأمهاتها " (1) ، فالأب إذاً على هذا مقدم، ووجهه أن الجدات مُدْلياتٌ به، فيبعد تقدم المُدْلِية على أصلها.
وحكى بعض أصحابنا قولاً آخر مخرّجاً أن أمهات الأب مقدمات -وإن بعدن- على الأب، لمكان الأنوثة والأمومةِ والاستقلالِ التام بمقصود الحضانة، ولا نظر إلى الإدلاء مع ما أشرنا إليه من المزيّة التي تنبني الحضانة عليها، وهي الشفقة والتهدّي، والإناث أشفق وأهدى، كما قدمنا.
ولو اجتمع مع الأب الأخواتُ والخالاتُ، فكيف السبيل فيه؟
نبدأ بالأخوات ونقول: إن جرينا على الترتيب الجديد في الإناث، فالجدات من قبل الأب مقدمات على الأخوات. فإن قدمنا الأبَ على الجدات، فلأن نقدمه على الأخوات أولى، وإن قدمنا الجداتِ على الأب، فهل نقدم الأخوات على الأب؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنا نقدمهن [للأنوثة] (2) وقوة القرابة، كما قدمنا أمهات الأب، وإن كن مُدْلِيات بالأب.
والثاني - نقدّم الأبَ عليهن؛ لأنه أصل، وهن فروع.
والوجه الثالث - أنه تقدم أخت الأب والأم، وأخت الأم، ولا تقدم أخت الأب، لأنه لا تعلق لها إلا بالأب، وهي فرع لا أمومة لها.
__________
(1) ر. المختصر: 5/87.
(2) في الأصل: كالأنوثة.(15/563)
فأما القول في الخالات مع الأب، [فلَسْن] (1) مدليات بالأب، ولكن الأخوات مقدمات عليهن، فإن قدمنا الأب على الأخت، قدمناه على الخالة وأَوْلى، وإن لم نقدم الأبَ على الأخت، وقدمنا الأخت على الأب، ففي الأب والخالة وجهان، ولا ينقدح الوجه الثالث؛ فإن الخالة من الأب ليست مدلية بهذا الأب، وإنما إدلاؤها بأب الأم. وإن كنا ذكرنا على الجملة أن الخالة من الأب ضعيفة.
10243- فإذا جمع الجامعُ هذه المسائل، قال: الأب في قول يقدم على كل أنثى إلا الأم وأمهاتها، وفي وجه يقدم [عليه] (2) كل أنثى حاضنة إلا العمة، فإنه لا خلاف في تقديم الأب عليها، وفي وجه يقدم على الأخوات والخالات، ولا يقدم على الجدات من قبل الأب، وفي وجهٍ يقدم على الأخت من الأب، ولا يقدم على الأختين الأخريين، وقد يجري من ترتيب الخالات على الأخوات وجهٌ متلقًّى لا يخفى.
وقد تناهى وضوح ما أردناه، وكل ذلك إذا جرينا على ترتيب الإناث في الجديد.
10244- فإن قدمنا الأخوات والخالات على أمهات الأب في الترتيب القديم، فإذا اجتمع الأب معهم، انتظم الخلاف في الترتيب القديم معكوساً؛ فإن أمهات الأب في القديم يقعن آخراً، فمن هذا الوجه [ينشأ] (3) من الترتيب ومما يقع تتمة لذلك أنه إذا اجتمع جدٌّ عالٍ من قبل الأم وأم الأب القريبة، فأم الأب أولى بلا خلاف؛ لأنها ليست مُدْليةً بالجد العالي، وهي مختصة بالقرب والأمومة.
والجدات من قبل الأم والأب مقدمات على كل ذَكَرٍ من الأقارب، فإذا اجتمع أخ من أب وأم، وأم أب أو أم أب أب، فالذي عليه التعويل ويجب القطع به أن الجدة مقدمةٌ للأمومة، مع أنها ليست فاسدة.
10245- فأما إذا فرض اجتماع الذكر والأنثى في جوانب النسب، فالقول الجامع أنهما إذا استويا في القرب والدرجة والإرث، فالأنثى أَوْلى: كالأخ والأخت، ولو
__________
(1) في الأصل: فليس.
(2) في الأصل: عليها.
(3) في الأصل: (سا) هكذا بدون نقط.(15/564)
كان الذكر قريباً والأنثى بعيدة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الذكر أَوْلى نعني الذكر الذي هو من أهل الحضانة.
والثاني - أن الأنثى أولى، نعني الأنثى التي هي من أهل الحضانة لو انفردت.
وإذا فرض ذكر من درجة قريبة، وأنثى من درجة بعيدة، فالوجهان جاريان، كالأخ والخالة، ولو روجعنا في [خاتمة] (1) الكلام في ذكورِ أرحام ليسوا ورثة، وهم أصحاب محرمية، كالخال والعم من الأم، فالوجه أن نقول: نقدرهم إناثاً، ونقدم منهم من كنا نقدمه لو كان أنثى.
وكل ذلك في نوع واحد: وهو أن يتنازع المجتمعون في الحضانة، والمعنيّ بالحضانة في جميع ما ذكرناه حفظ الولد قبل التمييز. وفيه مجرى تقديمنا وتأخيرنا.
10246- فأما إذا ظهر تمييز المولود، فقد مهدنا في أصل الباب أنه يتخير بين الأم والأب، مع القطع بأن الأم مقدمة على الأب في حفظ المولود قبل التمييز.
فلو فرض عم وأم، وقد ظهر تمييز المولود، فهل نخيره بين الأم وبين العم، أو الأخ، وكل ذكر يقع حاشية؟ في المسألة وجهان: أظهرهما - أنا نخيره، وإن كانت الأم مقدمة في أصل الحضانة قبل التمييز، كما خيرناه بين الأب والأم، واستدل الشافعي في صدر الباب بما رَوَى عن عمارةَ الجرمي " أنه قال: خيرني عليٌّ بين عمي وأمي، ثم قال لأخٍ لي أصغر مني: وهذا لو بلغ خيّرته " (2) . وقال في الحديث: وكنت ابن سبع أو ثمان.
والوجه الثاني ذكره الشيخ والعراقيون- أنا لا نخيره، ويجعل كأن الأم منفردة؛ فإن التخيير بين الوالدين قد يَقْرُبُ، [فأما الأم] (3) -وهي الأصل- والعم، فيبعد التخيير بينهما. وأصل التخيير مأخوذ من الخبر، وحديث الرسول صلى الله عليه في التخيير بين الأبوين.
__________
(1) غير واضحة بالأصل، وهكذا قدرناها على ضوء ما بقى من أطراف الحروف.
(2) حديث عمارة الجرمي " خيرني علي بين عمي وأمي ... " الحديث. رواه الشافعي في الأم (5/92) . وانظر التلخيص: 4/24 ح 1861.
(3) في الأصل: فأم الأم.(15/565)
وإذا قدمنا الأبَ على الأخت، أو على الخالة، على الترتيب المقدم، فإذا ظهر تمييز المولود، ففي تخييره بين الأب والأخت من الخلاف ما في تخييره بين الأم والأخ (1) .
وقد نجز الكلام في نوع واحد وهو التنازع في الحضانة.
10247- فأما النوع الثاني وهو الكلام في التدافع، فإذا اجتمعت النسوة أو الرجال الذكور، أو الرجال والنساء، والحاجة ماسة إلى حضانة الطفل، فإذا امتنع عن القيام بها من جعلناه أهلاً لها، فهذا ينحو نحو النفقة، فكل من يجب عليه النفقة يجب عليه القيام بالحضانة؛ فإنها من المؤن المتعلقة بالكفاية، وعلى الأب نفقة المولود الصغير، فإذا تردد المولود بين الأب وبين الأم، وأبت الأم أن تحتضنه، فعلى الأب الاحتضان لما ذكرناه من أن إيجاب ذلك يتبع إيجاب النفقة.
فانتظم منه أن الأم، إذا طلبت الحضانة مع الأب، قُدّمت، وإن أبت، [وجب] (2) على الأب القيام بها، وإن لم يكن أب، على الأم حينئذ القيام بالحضانة على الترتيب المقدم في النفقات، وازدحام من يلتزمها.
ويخرج منه أن أب الأم لو طلب الحضانة، لم يُجَب إليها، وإذا احتاج الطفل إلى الحضانة ولم تطلبها الأم، فهي واجبة، على أب الأم؛ لأن النفقة تجب على أب الأم بحكم البعضية، ومؤونة الرضاع والحضانة جزء من النفقة.
ويخرج من ذلك أن العم والأخ، والذين يقعون على حاشية النسب لا يلزمهم الحضانة، كما لا يلزمهم النفقة؛ [فإنّا] (3) أوضحنا أن وجوب الحضانة يتبع وجوب النفقة ولم نستثن منه شيئاًً، وقد تبين فيما تقدم من يجب عليه النفقة ومن لا يجب عليه، وقد أبنّا حُكمَ وجوب الحضانة في الطرد والعكس.
10248- ولو طلبت الأم الحضانة، وطلبت أجراً عليها، فهو بمثابة طلبها الأجرَ
__________
(1) كذا في الأصل، وفي صفوة المذهب، ولعل الصواب: ما في تخييره بين الأم والعم.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: وإذا أوضحنا.(15/566)
على الإرضاع، ولكن إذا كان يتأتى من الوالد أن يتولى الحضانة بنفسه، ولا حاجة إلى الإرضاع، [فنمكنه من تولي الحضانة، وهل ينزل منزلةَ وجدانِه متبرعةً] (1) بالإرضاع والأم تطلب الأجرة على الإرضاع؟ فيه تردد بين الأصحاب: يجوز أن يقال: إنما نُجري القولين في تقديم الأم مع أنها تطلب الأجر في الإرضاع، أما الحضانة، فهي منها ومن غيرها على وتيرة واحدة، ويجوز أن تجعل الحضانة تابعةً للإرضاع، حتى نجري القولين في أن الأم هل تكون أولى بها أم لا؟ ثم تعبُ الرجل في حضانة الولد هل يكون كوجدان حاضنة بأجر، أم يكون كوجدان متبرعة حتى يجري الترتيب المقدم؟ هذا فيه احتمال، ولعل الظاهر أن ما يناله من التعب بمثابة الأجرة التي تطلبها الأجنبية، ولا يكون هذا كوجدان متبرعة، والعلم عند الله.
فرع:
10249- قد ذكرنا أن الجدة أم الأم أولى بالحضانة من الأب، فلو فرضنا أباً، وأماً، وأم أم، ثم جُنت الأم أو فسقت، فولاية الحضانة تنتقل لا محالة إلى الجدة، ثم إن أفاقت الأم أو رجعت عن فسقها، عادت ولايتها في الحضانة، ولو تزوجت الأم، انتقلت الولاية إلى الجدة أيضاً؛ فإن موضع النكاح على التعبد، ثم إذا طُلّقت، عاد حقها.
ولو امتنعت الأم عن الحضانة، فالامتناع منها أولاً بمثابة عَضْل الولي الأقرب عن التزويج، ولو عَضَل الولي القريبُ، لم تنتقل الولاية إلى البعيد، بخلاف الأسباب القاطعة للولاية، فإنه مهما (2) أراد أن يزوج زوّج، وإنما السبب [البات] (3) للولاية هو الذي يبطل خِيَرَة الولي.
فإذا امتنعت المرأة عن الحضانة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: حق الحضانة في حالة امتناعها للجدة؛ فإن الحضانة لا تقبل التأخير، وهذا بمثابة مصيرنا إلى أن القريب إذا غاب، فحق الحضانة للبعيد، ولا ينتقل إلى السلطان، فليكن امتناع الأم بمثابة غيبتها.
__________
(1) عبارة الأصل: "فيمكنه من تولي الحضانة هل نزل منزلة وجدانه متبرعة".
(2) مهما: بمعنى إذا.
(3) في الأصل: الثاني.(15/567)
ومنهم من قال: الحق للأب إذا امتنعت الأم، وذلك أن الجدة إنما تتولى الحضانة إذا بطل حق الأم، وهي وإن كانت ممتنعة، فحقها قائم متى تشاء، والأب في القيام بالحضانة بمثابة السلطان في القيام بولاية التزويج عند [عضل] (1) القريب؛ إذ سلطان القاضي عامّ، وسلطان الأب في المال والبدن والحضانة عام، غير أن الأم اختصت بالحضانة، فإذا امتنعت، قام الأب مقامها.
والأقيس عندي الوجهُ الأول، وهذا الوجه الأخير ذكره الصيدلاني، وقطع به وأجرى الشيخ أبو علي الوجهين.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا حق لمن لم يكْمُل في الحرية ... إلى آخره " (2) .
10250- قد ذكرنا أن الرقيقة لا حضانة لها، وكذلك الرقيق، ومن بعضه حر وبعضه رقيق، فلا حق له في الحضانة أيضاًً؛ فإن الجزء الرقيق يمنعه عن الاستقلال، والحضانة تقتضي الاستقلال، فكانت ولايةً، أو كالولاية، وكما لا يلي الرقيق لا يلي من لم يكمل فيه الحرية.
ويعترض من الناظر طلبُ الكلام في أنه هل يجب عليه النفقةُ للقريب؟ أما نفقة الزوجة، فتجب، والكلام في أنا نوجب نفقة المعسرين، أم نبعّض إذا كان موسراً ببعضه الحر، فنوجب قسطاً من نفقة الموسرين، وقسطاً من نفقة المعسرين؟ فيه خلافُ المزني، وتردّدُ الأصحاب، فإذا رددنا النظر إلى نفقة الأقارب وهو موسر ببعضه الحر -وليس إخراج النفقة من قبيل الولايات، بل هو من الغرامات- فلا يبعد أن نوجب قسطاً من نفقة القريب على مقابلة الجزء الحر منه، ونُسقط من النفقة المقدارَ الذي يناسب الجزءَ الرقيقَ منه، وهذا يظهر إذا وزعنا نفقة الزوجية في اليسار والإعسار على
جزأيه.
__________
(1) في الأصل: عقل.
(2) ر. المختصر: 5/86.(15/568)
ويجوز أن يقال: يجب عليه أن يخرج تمامَ نفقة قريبه لتحقق يساره، كما لو ملك مالاً وطائفة من البنين، فإن من [يُسقط] (1) يوجب عليه أنصافَ نفقات، فإذا لم يَبْعُد إيجابُ نصفي نفقتي ابنين، لم يبعد إيجاب نفقة تامة لابنٍ (2) .
ويجوز أن يقال: كل شخص متميز عن غيره، فليقع إنفاقه عليه على قدر إنفاقه على نفسه، ومعلوم أنه إنما ينفق على نفسه بقدر ما فيه من الحرية.
وقد عنّ لي أن أجمع أحكام من بعضه حر وبعضه رقيق في كتاب العتق، وأجمع فيه كل ما بدّده الأصحاب في الكتب، والله ولي التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
ولو نكح حرّ أمة نكاح غرور، فولده منها حرٌ، ولا حضانة للأم؛ فإنها رقيقة، ولو كان على علم برقّها، فالولد رقيق، ولا حق للأب في الحضانة؛ فإن المالك أولى به، وحق الملك يتقدم على حق القرابة.
ولو فرضنا [ولداً بعضه حر وبعضه رقيق] (3) فحق الحضانة في القدر الرقيق لمالكه، وحق الحضانة في الجزء الحر منه للأم إن كانت الأم حرة، أو للأب إن كانت رقيقة، فإن اتسق بين المالك وبين من له حق الحضانة مهايأة في الحضانة، جاز، وإن اتفق التراضي على أن ينفرد أحدهما، ساغ، وإن امتنعا من المهايأة ولم يتراضيا، فالسلطان ينصب حاضنةً، ويوجب مؤنتها على من يجب عليه النفقة.
***
__________
(1) في الأصل: يقسط، والمثبت من صفوة المذهب، والمعنى من يسقط من النفقة بمقدار جزئه الرقيق.
(2) المعنى أنه إذا يملك مالاً بنصفه الحر وعنده طائفة من البنين، فيجب عليه -عند من يُسقط- أن يعطي نصف نفقةٍ لكل واحد من البنين، فإذا وجب عليه عدة أنصاف نفقة ألا يَجوز أن يقال: يجب عليه نفقة كاملة إذا كان عنده ابنٌ واحد، وهي لا تزيد على إيجاب أنصاف نفقات. هذا وجه هذا الجواز.
(3) عبارة الأصل: ولو أبعضه حر وبعضه رقيق.(15/569)
باب نفقة المماليك
10251- نفقة المماليك واجبة على السادة إذا لم يستقلّوا بالكتابة، والأصل فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "وللملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يُطيق" وتمام الحديث ما روي أن أبا ذرٍ رُئي بالربذة وعليه حُلة، وعلى غلامه حُلّة، فقيل له: أكسوت غلامك مما تلبس، فقال: إني ساببت غلاماً لي، فرفعت يدي لأضربه، فلم يَفْجَأني إلا رجل أخذ بيدي، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل إلا ما يطيق " (1) .
واتفق العلماء على إيجاب النفقة للمملوك على الموْلى، ثم تلك النفقة كفاية، وليست مقدرة، كما ذكرتها في نفقة القريب وفسرتُ الكفاية.
ثم وجب عليه أن يكسوَ عبده. ثم اختلف أصحابنا في أن الكُسوة هل تختلف في جنسها باختلاف أقدار المماليك؟ فمنهم من قال: نعم، يختلف جنسها باختلافهم، فكُسوة العبد الخسيس المستخدم في سياسة الدواب دون كُسوة العبد النفيس.
ومن أصحابنا من قال: لا فرق بينهم، وتفاوتهم في قِيَمهم لا يوجب تفاوتَهم في الكُسوة.
ومنهم من فرّق بين الجواري والعبيد، وقال: العبيد يجوز التسوية بينهم، وأما
__________
(1) حديث أبي ذر متفق عليه (البخاري: العتق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: العبيد إخوانكم، فأطعموهم مما تأكلون، ح 2545. مسلم: الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، ح 1661) .(15/570)
الجواري اللواتي يكنّ بمحل التسرِّي يجب (1) التفاوت بينهن.
هذا كلام الأصحاب، وتمام البيان فيه عندنا أن اللباس الذي يكسوه عبده يجب ألاّ يكون مُضرّاً به، كالثوب الخشن الذي تتأثر البشرة به، ولا يشترط أن يكون مفيداً بدنَه تنعماً وترفّهاً، والعبد لو اقتصر مولاه على إزارٍ يستر ما يجب ستره منه، وكان لا يتأذى في بدنه من مصادمة الهواء والحرّ والبرد، فلست أرى جوازَ الاقتصار على هذا؛ فإن هذا إهانةٌ وإذللٌ على حدٍّ بيّن لا يعتاده أحد من طبقات الخلق، وإن فعله فاعل، تطرقت إليه المطاعن وتوجّه عليه التوبيخ.
والذي اختلف الأصحاب فيه هو أن يكسو عبداً كُسوةً قد يجري مثلُها من مقتصد، أو ممن يُعرف من التقتير والتشوف إلى الشح، فهذا مما تردد فيه الأصحاب.
10252- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصرف فيه، وهو قوله عليه السلام: " إذا كفى أحدَكم خادمُه طعامَه، حرَّه ودخانه، فليُجلسه معه، فإن أبى فليروِّغ (2) له لقمة وليناولها إياه " (3) وروي أن رسول الله صلى الله عليه قال في المماليك: " إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن ملك مملوكاً، فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل إلا ما يطيق " وظاهر هذا الحديث يدل على أنه يجب على السيد أن يسوّي بين نفسه وبين عبده في الملبس والمطعم.
قال الشافعي: هذا الحديث [قاله] (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعراب
__________
(1) يجب التفاوت: جواب (أما) بدون الفاء.
(2) يروغّ له لقمة: أي يطعمه لقمة مشربة من دسم الطعام (النهاية في غريب الحديث) .
(3) حديث: " إذا كفى أحدكم خادمُه طعامَه: حرَّه ودخانه ... " الحديث. رواه الشافعي بهذا اللفظ (الأم: 5/101) ، والبيهقي (8/8) وصحح الحافظ إسناده. والحديث متفق عليه بألفاظ أخرى مقاربة (البخاري: العتق، باب إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، ح 2557.
مسلم: الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، ح 1663) . وانظر تلخيص الحبير: 4/25 ح 186.
(4) في الأصل: قال.(15/571)
أصحاب البوادي ولباسهم خشن، وطعامهم [خشن] (1) ولو فرض حط العبيد عن ملابسهم ومطاعمهم انتهى الأمر إلى الضرر، وقد ذكرنا أن الإضرار بالمملوك غيرُ سائغ.
وأما الحاضرة وأصحاب النعمة والترفّه، فمن ملابسهم الخُزُوز الفائقة، ورقيقُ الكتان والحرائر، فيلبسن نفائسَ الديباج، فلا نكلف هذه الطبقة أن يُلبسوا عبيدهم من جنس ما يلبسون (2) .
وكذلك قد يعتاد هؤلاء أطايبَ الأطعمة [وصدورَ الدجاج] (3) ونفائسَ الحلاوات [فلا نكلّفهم] (4) أن يُطعموا عبيدهم من هذه الأجناس.
ثم أخذ رضي الله عنه في الكلام على الحديث (5) المشتمل على [إجلاس] (6) العبد وإطعامه لقمة مُروَّغة، وقد روينا الحديث، ومعناه مفهوم، قال الشافعي رضي الله عنه: وهذا أولاً مخصوص بالذي يتولى إصلاح الطعام ويُصادِمُ حرَّ النار ودخانَها، فإذا هيأ الطعام، فمقتضى الحديث الأمرُ بإجلاسه ليأكل مع المولى، وفيه أن ترويغ لقمة وتسليمَها إليه يُغني عن إجلاسه، ثم تردد، فقال: يجوز أن يكون الأمر محمولاً على الوجوب ويجوز أن يكون استحباباً محمولاً على مكارم الأخلاق.
وإذا كانت القاعدة على الكفاية، ودفع الضرر، واجتناب الإهانة، فما يجريه الشارع زائداً على هذا فيظهر أن الغرض الحثُّ على وطأة الخُلُق والاستكانة، واجتناب استعلاء الملاك.
ثم ذكر رضي الله عنه على تقدير حمل الأمر على الوجوب شيئين: أحدهما - أن الواجب أن يخصص بلقمة، هذا القدر هو المحتوم، وإن أجلسه، فهو أفضل،
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) كذا بنون النسوة، ولا يعجز من تعاطَى علمَ النحو عن تقديرٍ وتخريج.
(3) في الأصل: وصدور الترجح (انظر صورتها) والمثبت من صفوة المذهب.
(4) في الأصل: ولا نكلفهم.
(5) ر. المختصر: 5/89، 90.
(6) في الأصل: أجناس.(15/572)
ويحتمل أن يكون الواجب أحدَهما أو أيهما أقدم عليه أدّى الواجب به.
فينتظم إذا أردنا الجمعَ ثلاثة أقوال.
ثم اللقمة ينبغي أن تكون تامة مشبعة مروّغة بحيث تسدّ مسداً وتحط قَرَماً ونَهَماً، فإنها إن صغرت هاجت الشهوة وصار العبد بذوقه أشدَّ حالاً ممن لا يتعاطى من الطعام شيئاً.
فصل
قال: " وليس له أن يسترضع الأمةَ غيرَ ولدها ... إلى آخره " (1) .
10253- إذا أتت أمة الإنسان بولد مملوك، فليس للسيد أن يحولَ بينها وبين ولدها، وليس له أن يكلّفها إرضاعَ ولدٍ آخر؛ فإن ذلك يضر بالولد [ويكدّر] (2) قلب الأم، [ويُفضي إلى الوَلَه] (3) الذي نهى الرسول صلى الله عليه عن التسبب إليه، وقد ذكرنا أن الزوج لا يفرق بين الولد وأمّه، غير أنا ذكرنا أنه إذا كان يبغي الاستمتاع بها في أوقات الرضاع، وعَسُر الجمع بين توفية الاستمتاع وإدمان الرضاع، فللزوج أن يضم الولدَ إلى مرضع، والأم لا تُمنع منه في الفترات والغفلات.
هذا ظاهر المذهب.
وحكينا فيه وجهاً آخر.
ولو كان السيد يبغي الاستمتاع بالأمة، وذاك كان يعطل إرضاعها، كما صورناه في الزوجة، فالذي أراه أنها تنزل والحالة هذه منزلة الزوجة، فإن خطر لمن لا يغوصُ فرقٌ بأن الاستمتاع ليس مقصوداً من الأمة، فليس هذا أوان هذا الكلام؛ فإنّ حق
__________
(1) ر. المختصر: 5/91.
(2) في الأصل: ويكدّ.
(3) في الأصل: ويفضي إلى الولد.
(4) وهو يشير إلى حديث الرسول صلى الله عليه: " لا تولّه والدة بولدها " والوله ذهاب العقل والتحيّر من شدة الوجد.(15/573)
السيد في الاستمتاع بها كامل، لا سبيل إلى دفعه، فإن كان لا يستمتع، فليس له أن يمنعها من إرضاعه، ويخرّج فيها عند قصد الاستمتاع الوجه الذي حكيناه في الزوجة.
10254- ثم قال الأئمة: للأم الحرة حقٌّ متأكد في الولد الحر لا يثبت مثله في الأمة؛ فإن الأب لو أراد فطام الولد قبل الحولين، لم يكن له ذلك دون رضا الأم، ولو أرادت الأم أن تفطمه، لم يكن لها ذلك دون رضا الأب، فإن توافقا على الفطام قبل الحولين، وكان لا يضر الفطام بالولد في غلبة الظن، فحينئذ يجوز.
هكذا قال الأصحاب، وتمسكوا فيه بظاهر قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ، وظاهر الآية أن الأم إذا أرادت استكمالَ الرضاع حولين بنفسها، أو بإرضاع ظئر، فليس للأب الفطام، وعليه مؤونةُ الرضاع إلى انقضاء الحولين.
وعندي أن هذا وما قاله الأصحاب فيه إذا كان الرضاع ينفع المولود، وفَطْمُه قد يؤثر في إنهاكه، وإن كان يغلب على الظن سلامته، فلا بد من رضا الوالدين، وإن كان بحيث لا ينهكه الفطام، وقد صار الصبيّ مضرباً عن الرضاع لاهياً، فليس يبعد أن يقال: للأب ألاّ يلتزم المؤونة والحالة هذه.
وفي القلب من الصورة الأولى شيء إذا كان يجوز لأحد الأبوين لو انفرد أن يفطم، ويجوز لهما أن يفطما، فليس يبعد حمل ما ذكرناه على الأوْلى، حتى يكون صَدَر الفطام عن شفيقين، فهذا ما يظهر عندي، ولكن ما رأيته للأصحاب ذاك الذي قدمته.
وإن كان الولد يتضرر بالفطام.
ثم قال من ربط الفطام دون الحولين برضا الأم: لا يُربطُ الفطامُ برضا الأَمَةِ الوالدة؛ فإنه لا حق لها في طلب حق المولود، وطلب حق المولود طرفٌ من الولاية، وقد ذكرنا أن للأم أن تطلب نفقةَ المولود، ولها أن تستقرض على الأب، وهذا ممتنع مستحيل من الأم الرقيقة.
ثم ذكر الشافعي أنه كما يجب على السيد الإنفاق على أمّ ولده يجب عليه الإنفاق(15/574)
على أولادها من السفاح، والنكاح؛ فإن ملكه فيهم بمثابة ملكه في الأم، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
10255- ثم قال: " ويمنعه الإمام أن يضرب على أمته خراجاً إلا أن تكون في عمل واجب " (1) .
ضربُ الخراج على المملوك حقيقةُ استكسابه، وللسيد أن يستكسب عبده على شرط ألاّ يكلفه من العمل ما لا يُطيق، فإن وظف عليه مقداراً كلّ يوم، لم يكن لذلك التوظيف حكم، وليس ضرب الخراج معاملةً توصف بالجواز واللزوم، ولكن على العبد ألا يألوَ جهداً، والمقدرات الموظفة على أقدار الاستمكان، وإنما ذكر الشافعي المخارجة لاعتياد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، حتى قيل: كان للزبير ألف عبد يؤدون الأخرجة، وكان يصرف إلى كفايتهم قدر الحاجة، ويتصدق بالباقي، لا يتأثَّلُ منها درهما، ولا ينفق على خاصته درهماً.
ثم إن جرت المواضعة على أن ينفق العبد مما يكتسب، فعل ذلك إن وفَّى كسبُه، وإن لم يتفق في بعض الأيام أو في أيام كسبٌ، فنفقته دارّة. وبالجملة لا تغيّر المخارجة حكماً، ولا تُلزم العبدَ إلا بذل المجهود في الكسب. قال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: " لا تكلفوا الصغير الكسبَ فيسرق، والجارية غير الصَّنِعَة فتكتسبَ بفرجها " (2) ، وهذا مما يجب مراعاتُه، وليس بعد الوضوح للازدياد وجه.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/92.
(2) رواه الشافعي في المختصر: 5/92.(15/575)
باب نفقة الدواب
10256- ذوات الأرواح محترمة، وحقٌّ على مالكها أن يقيها الرَّدى والهلاكَ إلا في الوجوه المستباحةِ المستثناةِ شرعاً، كالذبح للمأكلة، والإكدادُ بتحميل الأثقال قد يَكُدُّها ويهُدُّها ويُفضي إلى هلاكها، ولكن ذلك على الاقتصاد اللائق بمثله مسوَّغٌ، ويجب القيام بكفايتها في العلف والسقي.
وإن كانت منسرحة سائمة، فإن كان في العُشب مَقْنع، فذاك، وإن أجدبت الأرض، [وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي، وما تصادِف من رعي الأرض، فيجب علفها] (1) إلى أن ينتهي الأمر إلى الاكتفاء.
ومما يجب الإحاطة به أن البهائم وإن كانت محترمة الأرواح [فحرماتها] (2) محطوطة عن حرمة الآدمي، ولهذا يقتلها المضطرُّ ويأكلُها، وإن كانت محرّمة اللحم، وفي إباحة ذبح ما يؤكل منها لظهور الحاجة إلى اللحوم ما يوضّح أنها عرضة لحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورات. ولا يجوز أكل ما لا يحلّ أكله لحاجةٍ [لا] (3) لحرمة روح ذلك الحيوان، ولكن لأن المحرمات في حكم الله مستخبثات.
وقال الأصحاب: إذا كان مع المسافر ماء ومعه ذو روح محترم مُشفٍ على الهلاك عطشاً، فليسقها، ولْيتَيَمّم، والمذهب الأصح أنه يجوز غصْبُ العلف للدابة الموفية على الهلاك، وكذلك يجوز غَصْب الخيطِ لخياطة جُرح البهيمة المحترمة، [و] (4) في المسألتين خلاف، والأصح ما ذكرناه.
__________
(1) عبارة الأصل: " وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي، وما تصادف من رعي الأرض وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي فيجب علفها ".
(2) في الأصل: فخدماتها.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة من المحقق.(15/576)
ثم إذا ظهر لمن إليه الأمر إضرار مالك الدواب بها، راجعه فيها، [وكلفه] (1) في عاقبة الأمر القيام بكفايتها أو بيعها.
واللبون من البهائم لا يجوز نزف ألبانها حَلْباً؛ إذا كان يَهلِك أولادُها الرضع، والمعتبر فيها كالمعتبر في أمهاتها.
وهذا نجاز الربع (2) . وإلى الله صدق الابتهال في تيسير الإتمام، وبسط النفع به وجعله خالصاً لوجهه الكريم (3) .
***
__________
(1) في الأصل: وكأنه.
(2) كذا (الربع) بدون وصف ولا إضافة، فلم يقل: (الربع الثالث) ولم يقل: (ربع المناكحات) .
(3) في خاتمة نسخة الأصل: الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله أجمعين.
يتلوه إن شاء الله كتاب الجراح.(15/577)
وإذا عسر عليَّ في فصل تخريج المذهب المنقول على قياس، أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعاب وجه الإشكال، وإيضاح الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات.
الإمام
في نهاية المطلب(16/4)
كتابُ الجراح (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ... إلى آخره" (2) .
10257- صدر الشافعي رضي الله عنه الكتاب بآياتٍ متضمنها تعظيم الوعيد على من يقتل نفساً عمداً بغير حق، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} [الإسراء: 33] . وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] . والكلام على هذه الآية نقلاً وتأويلاً يطول، وليس هو من غرضنا وقد قيل: "إنها نزلت في مِقْيَس بن صُبابة (3) ، وكان أسلم، ثم ارتد واستاق إبلاً، ووثب على الراعي، والتحق بدار الحرب، وقال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "اقتلوا مِقْيَس بنَ صُبابة، وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، فصودف كذلك، فقتل" (4) . وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا إحدى ثلاث: كُفْر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس" (5) ، فاحتج عثمان بهذا الحديث يوم الدار.
__________
(1) نبدأ هذا الجزء عن نسخة وحيدة (ت 3) مستعينين بالله وحده راجين أن يشرح صدورنا وأن يلهمنا الصواب.
(2) ر. المختصر: 5/93.
(3) في الأصل: ضبابه، بالضاد المعجمة. وكذا في البسيط للغزالي، ولكن وجدنا في سنن الترمذي، والنسائي، والمغازي للواقدي، ودلائل النبوة للبيهقي، وتاريخ الطبري، وتاريخ الإسلام للذهبي، والمغني في ضبط أسماء الرجال كلهم بالصاد المهملة (صبابة) .
(4) خبر إهدار دم مِقْيَس بن صُبابة يوم فتح مكة رواه النسائي: المحاربة، باب الحكم في المرتد، ح 4062. والترمذي مختصراً، ورواه البيهقي في دلائل النبوة مطولاًَ: 5/59-63.
(5) حديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ... " روي من حديث عثمان، وابن مسعود، وعائشة رضوان الله عليهم. وحديث ابن مسعود متفق عليه، ورواه الأربعة أيضاً. =(16/5)
وقال صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم امرىء مسلم" (1) . وقال عليه السلام: "من سعى في دم مسلم ولو بشَطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه الآيس من رحمة الله" (2) .
ذكر الشافعي الأصلَ في القصاص من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْل} [الإسراء: 33] فقيل: معناه لا يقتل غير القاتل، وقيل معناه النهي عن المثلة، وقال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} [البقرة: 179] وهذا من إيجازات القرآن، وهو المعنِيُّ [بقول العرب] (3) : "القتل أنفى
__________
= وحديث عائشة رواه مسلم وأبو داود، وحديث عثمان رواه الشافعي وأحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي أمامة بن سهل عنه (البخاري: الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس} [المائدة: 45] ، ح 6878. مسلم: القسامة، باب ما يباح به دم المسلم، ح 1676، أبو داود: الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، ح 4352، الترمذي: الديات: باب ما جاء لايحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث، ح 01402 النسائي: المحاربة، باب ذكر ما يحل به دم المسلم، ح 04021 ابن ماجه: الحدود، باب لا يحل دم امرىء مسلم إلا في ثلاث، ح 2533، 2534 0 الأم للشافعي: 6/3، أحمد: 1/61، 63 وصححه الشيخ شاكر (ح 437، 438) 0 الحاكم: 4/350 0 التلخيص: 4/27 ح 1868) .
(1) حديث "لزوال الدنيا أهون ... " رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه
ابن ماجه من حديث البراء (الترمذي: الديات، باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن،
ح1395، النسائي: تحريم الدم، باب تعظيم الدم، ح 3986- 3989، ابن ماجه:
الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً، ح 2619) .
(2) حديث: "من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة ... " رواه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة، وقد ضعف الحافظ إسناده، كما عدَّ ذكر ابن الجوزي له في الموضوعات من المبالغة (رواه ابن ماجه الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلمأ، ح 2620، السنن الكبرى للبيهقي: 8/22، ثلخيص الحبير: 4/28 ح 1870) .
(3) في الأصل: "بقوله صلى الله عليه وسلم".
وهو سبق قلم من الناسخ (أو من الإمام) - لا شك في ذلك، وكنا نودّ أن نقصر ذلك على الناسخ وحده، لولا أننا وجدنا الغزالي في (البسيط) تابعَ (النهاية) في ذلك، فدل على أنه شيء قديم، وعلى احتمال كونه من الإمام. =(16/6)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ثم الأصل في عمل المحقق أن يُبقي النص على ما هو عليه، وإن كان فيه من خلل، أو خطأ، فليس له إلا أن يعلق عليه في الهامش، ليبقى النصُّ كما أراده مؤلفه، وليخلص عمل المؤلف له، فليس التحقيق تحسيناً ولا تصويباً، واستُثني من ذلك القرآن الكريم فقط، فلحرمة النص القرآني وقداسته يجب أن يصوّب في المتن، إن أخطأ في إيراده المؤلف، أو الناسخ.
ولكن سوّغ لنا هنا تغيير العبارة في الصلب إيمانُنا الجازم بأن هذا سبقُ قلم، غير معمودٍ ولا مقصود، وباستحالة أن يريد المؤلف نسبة ذلك القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلنا على هذا الجزم والقطع عدة أمور نوجزها فيما يأتي:
أولاً - إن إمام الحرمين من الذين يُحيطون بالأدب العربي شعره، ونثره، وأمثاله، وحِكمه، يظهر هذا في أسلوبه، وتضمين كلامه جملاً مأثورة، وأمثالاً مشهورة، وحكماً شائعة، وأشطاراً -من الشعر- ذائعة، فكيف يقع في هذا الخلط الخطير، والوهم الغليظ، فينسب هذه الحكمة المشهورة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.!!!
ثانياً - إن الذين كتبوا عن إمام الحرمين ومعرفته بالحديث أخذوا عليه مواضع كثيرة من كتابه هذا، واشتد نكيرهم عليه في أشياء دون هذا بكثير: من مثل قوله عن حديث معاذ في الاجتهاد - "إنه مدون في الصحاح"، والذي يقرأ البدر المنير لابن الملقن وهو من هو منزلة في المذهب وإحاطة به يشر بأنه قرأ النهاية كلمة كلمة ويتتبعه في الأوهام الحديثية، ويسجل عليه دقها وجليلها، فكيف يفوته هذا الوهم الغليظ؟ وكذلك نجد الحافظ في تلخيص الحبير يتتبع إمام الحرمين، ويعنف به، ويُغلظ له كلما رأى وهماً أو تساهلاً في مجال الحديث، فكيف لم يعقب على هذا؟ ولايظنن ظان أن الحافظ ربما لم يقع على هذا الموضع في النهاية، لا يقولن أحد ذلك؛ فالذي يقرأ الحافظ في التلخيص، وفي الفتح يتأكد لديه أنه قرأ النهاية، فالحافظ هو أيضاً من هو منزلةً في المذهب، وإحاطةً بكتبه.
وكذلك ابن الصلاح والنووي، وغيرهما من الذين سجلوا مآخذ وأوهاماً حديثية على إمام الحرمين لم يذكر أحد منهم هذا، ولا يستطيع أحد -له إلفٌ بكتب النووي، ومعرفةٌ بالمذهب - أن يزعم أن النووي لم يقرأ النهاية كلمة كلمة، إن لم نقل: إنه كان يحفظها عن ظهر قلب. ثالثاً -قد اختصر النهاية-فيمن اختصرها- العز بن عبد السلام، وبالقطع قرأها كلمة كلمة، ولم نجده أشار إلى هذه الطامة، ولم يتعقب الإمامَ فيها، مع أنه تعقبه فيما دون ذلك بكثير.
رابعاً - قد تعقب إمامَ الحرمين كثير من خصومه وشانئيه من رجال المذهب، وغير المذهب ولم يشر أحد إلى هذه الطامّة، ولا يحتمل ذلك إلا أمرين - لا ثالث لهما: الأول - أن نسخ النهاية التي وقعت لهم لم يكن فيها هذا الخلل.
الثاني- أنهم رأوه، وحملوه على أنه سبق قلم -مما قد يقع فيه كل أحد- فلا يؤاخذ به من وقع فيه، فلم يحملوه على الإمام، ولم يؤاخذوه به، ولم يشيروا إليه. =(16/7)
للقتل" (1) والمعنَى أنّ قتلَ القاتل وإن كان [إزهاقَ] (2) روح، ففيه إفادةُ [انزجار] (3)
__________
= وبين يديّ الآن واقعةٌ قائمة تشهد بصحة ما أقول، حيث تحقق فيها الاحتمالان معاً، فقد وجدنا الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، يقع على وهم غليظ للرافعي في (الشرح الكبير) ، فيحسن الظن به، ولا يؤاخذه بمقتضاه.
وتفصيل ذلك: أن ابن حجر نقل عن الإمام الرافعي في كتاب الأطعمة من (الشرح الكبير) قوله "وفي النهي عن قتل الوزغ دليل على تحريم أنواع الحشرات" ثم عقب الحافظ قائلاً: "هذا من أعجب المواضع التي وقعت لهذا المصنف مع جلالته؛ فإنه خلاف المنقول، ففي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقاً" وللبخاري ومسلم عن أم شريك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ" ... ثم عقب قائلاً: "ولعله رحمه الله أراد أن يكتب وفي الأمر بقتله، فكتب وفي النهي عن قتله" (ر. تلخيص الحبير: 4/285، 286) .
فالحافظ يحمل الأمر على سبق قلمٍ غير مرادٍ.
خامساً - لقد علّمنا إمام الحرمين أن نتوقف في مثل هذا، ولا نؤاخذ به قائله، فقد رأيناه في كتابنا هذا كلّما نقل كلاماً ظاهرَ الخطأ عن أحد الأئمة، يقول: "وهذا زلل في النقل، فقدرُ الرجل عندي أجلُّ من أن يُنْسَب إليه هذا" وأحياناً يجعلها قاعدة عامة وقانوناً متبعاً، فيقول: "وليس يليق نسبة أحد من المرموقين إلى نحو هذا، بل يجب الحمل على الخلل في النقل" تكرر هذا منه عشرات المرات، وآخر ما رأيته من ذلك ما بين يدي اليوم قوله: "ورأيت في نسخة من نسخ الصيدلاني إلحاقَه المبعَّضَ بالمدبّر وأم الولد، وهذا خطأ صريح، وأحسَبه من خلل النسخة، وسأراجع نسخة أخرى إن شاء الله تعالى" ا. هـ. بنصه من كتاب الحدود في مسألة إقامة السيد الحد على مملوكه.
فهو - يعلّمنا أن مثلَ هذه الأخطأء الصريحة لا يصح أن تحمل على الأئمة.
(1) في الأصل: "القتل نفي القتل" والمشهور المعروف ما أثبتناه، أورده الميداني في مجمع الأمثال (ر. معجم الأمثال العربية: 3/حرف القاف) .
وقد جرت واحدة من كبريات المعارك الأدبية في العشرينيات (1923) حول هذه العبارة، حيث ادعى أحدهم أنها أبلغ من الآية الكريمة "ولكم في القصاص حياة" وجلّى في هذه المعركة عملاق الأدب العربي الأصيل مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وهو من الذين عُمِّيت أخبارهم وعُفِّي على آثارهم؛ فحرمت الأجيال من نبعٍ صافٍ أصيل وبقيت تشرب الكدر والدُّرْدي. والله المستعان على كل بليّة.
إن شئت راجع طرفاً من هذه المعركة في وحي القلم للرافعي (3/397) .
(2) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(3) في الأصل: أثر جاد.(16/8)
المعتدين، وهي سبب استمرار الحياة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "العمد قَودٌ" (1) وقال عليه السلام: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيلَ من هُذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل منكم قتيلاً بعد هذا، فأهله بين خِيرتين إن أحبوا قَتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقلَ" (2) .
ثم لما ذكر رضي الله عنه التحريمَ والأصلَ في القصاص، استفتح بعدُ القولَ في اشتراط الكفارة وفي وجوب القصاص) .
ونحن نقول: أصلُ استيجاب القصاص يستدعي البلوغَ، فلا قصاص على صبي، والعقلَ، فلا قصاص على المجنون؛ فهذا ما ذكره الأصحاب [في التزام] (3) أصل القصاص، ولو ضُم إلى هذا [التزام] (4) الأحكام، لاتجه؛ فإن الحربي [أصلاً لا] (5) يلتزم القصاص، حتى لو عقدت له ذمة وأسلم فلا نقتله بالقتل الذي سبق منه في حالة كونه حربياً.
10258- ثم قال الشافعي: "وإذا نكافأت الدماء من الأحرار المسلمين ... إلى آخره" (6) .
فنقول: لا يقتل الإنسان بكل أحد، والتفاوت في الصفات على الجملة مؤثر في
__________
(1) حديث: "العمد قود" رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنه في حديث طويل. قال الحافظ: واختلف في وصله وإرساله، وصحح الدارقطني في العلل الإرسالَ. (ر. ترتيب مسند الشافعي 2/100 رقم 330، أبو داود: الديات، باب من قتل في عمياء بين قوم. ح 4539، 4591 النسائي: القسامة، باب من قتل بحجر أو سوط ح 4789، 4790، ابن ماجه: الديات، باب من حال بين ولي المقتول وبين القود أو الدية ح 2635. تلخيص الحبير: 4/42 حديث رقم 1890) .
(2) حديث "ثم أنتم يا خزاعة ... الحديث" متفق عليه (البخاري: العلم: باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب ح 104. مسلم: الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، ح 1354) .
(3) مطموس تماماًً في الأصل، والمثبت تقدير منا.
(4) في الأصل: إلزام. والمثبت تقدير من المحقق نرجو أن يكون صواباً.
(5) مكان المطموس تماماً في الأصل.
(6) ر. المختصر: 5/93.(16/9)
[دفع] (1) القصاص عن القاتل يقتُل المفضولَ، ثم لا يعتبر في المكافأة جملة الصفات، وإنما يعتبر بعضُها، فالمؤثر فيها: الاختلافُ في الدين إسلاماً وكفراً، والحريةُ والرق، وألحق الأئمة بهذا ما بين الوالد والولد من التفاضل، وعدّوا امتناع وجوب القصاص عن الوالد من باب اختصاصه بفضل الأبوّة، وقال قائلون: الولد والوالد متكافئان، وإنما اندفاع القصاص عن الوالد بتوقيفٍ، أو طرفٍ من المعنى سوى المكافأة، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله، وهذا الخلاف قليل الجدوى والفائدة.
10259- ونحن الآن نذكر التفصيل في اختلاف الدين، ثم نذكر بعده اختلاف القاتل والمقتول بالرق والحرية، ثم نذكر انتفاء القصاص عن الأب إذا قتل ولده، ونذكر في كل أصل ما يليق به.
ونُقدِّم على الخوض في التفاصيل طرقَ الأصحاب في الضبط: قال قائلون: المؤثر في كفاءة الدم الشبهات (2) ، فالمسلم إذا قتل ذمياً، والكفر في الذمي شبهة؛ فإنه كان مبيحاً لدمه قَبْل الذمة، وهو قائم مع الرق والذمة، والرقُّ من آثار الكفر، والوالد شبهة في ولده؛ فإنه [بعضه] (3) ، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك".
وهذا المسلك لا يستقيم على السبر ولا يصبر على المباحثة. أما ما ذكر في الكافر فينقضه [أن الذميّ يقتل بالذمي] (4) ولا ينفع الاحتيال في دفعه، وينقضه أن المسلم يقطع بسبب مال الذمي، والشبهةُ في المال تدرأ القطعَ، ولا مبالاة بما ذكره الأصحاب في دفع ذلك.
__________
(1) في الأصل: "مؤثر في دماء القصاص عن القاتل يقتل المفضول" والتصرف من المحقق. وتمام المعنى كما في الشرح الكبير والروضة: "يقتل المفضول بالفاضل، ولا عكس" الشرح الكبير: 10/159، والروضة: 9/150.
(2) أخذاً من الحديث الشريف: "ادرؤوا الحدود بالشبهات".
(3) في الأصل: تعصية.
(4) في الأصل: أن الذي يعتلّ بالذمي.(16/10)
وأما المصير إلى كون الرق من آثار الكفر، فكلامٌ عريٌّ عن التحصيل، ومن اعتقد أن الأب شُبْهة [بالابن] (1) ، فليس من [أحزاب] (2) الفقهاء، وإن كان الرسول يقول عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" فهذا كلام أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً (3) ، ولو شاع اعتقاد ظاهره والتعويل عليه، للزم أن يقال: إذا فجر الرجل [بامرأة ابنه] (4) لا يلزم الحد، فهذه طريقة مزيّفة.
وقال آخرون: قياس الباب أن تعتبر العصمة والتساوي فيها، [وقال: إن] (5) القصاص أثبت تحقيقاً للعصمة فيما نبهنا عليه.
والمسلم والكافر متفاوتان في سبب العصمة، فاعتصام المسلم بالإسلام،
__________
(1) مكان كلمة مطموسة.
(2) في الأصل: أحرار.
(3) قوله أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، أي يقصد به الحث والوعظ، وإمام الحرمين يفرق في نظره إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ما قال عنه أنه سيق للحث والوعظ والترغيب، وبين ما سيق في بيان القواعد والأحكام، ذكر هذا في أكثر من موضع في أكثر من كتاب من كتبه، من ذلك ما ذكره في كتابه (الأساليب) وحكاه عنه النووي في المجموع، حيث ردّ استدلال الأحناف على رأيهم في وقتي الظهر والعصر بحديث: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ... إلخ، فقال إمام الحرمين: عمدتُنا حديث جبريل (في المواقيت) ولا حجة للمخالف إلا هذا الحديث الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسعات والمجاز" وكذلك ما قاله في كتابه هذا عند فضل التبكير إلى الجمعة، فذكر حديث: "من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ... الحديث" قال الإمام بعد أن ذكر ما قاله أئمة المذهب عن المقصود بالساعات: "وهذا غلط، فإن الماضين ما كانوا يبتكرون إلى الجامع في الساعة الأولى، ثم الساعة الخامسة في النهار الصائف تقع قبل الزوال، وفي اليوم الشاتي تقع قريبة من العصر، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالساعات ما يذكره أصحاب الثقاويم، وإنما أراد عليه السلام الاستحثاث على السبق والتقديم، وترتيب منازل السابقين واللاحقين" (ر. المجموع: 3/24، والنهاية كتاب الجمعة) فالإمام هنا يردّ استشهاد الأصحاب بهذا الحديث، بأنه للحث والوعظ وليس للحكم، فظاهره غير مراد.
(4) في الأصل: "بامرأته".
(5) في الأصل: وإن قال.(16/11)
واعتصام الذمي بذمةٍ عوضها في السنة دينار، وهو متوعد في استدامتها [وترك] (1) الإسلام بوعد الأبد، ولو خالف موجَبَ الذمة، انتقضت، والمسلم إذا خالف شرائعَ الإسلام لم ينتقض عصامه، ولم يزايله إسلامه، فهما متفاوتان في سبب العصمة تفاوتاً يزيد على تفاوت الحنطة الجيدة والرقبة (2) ، والماليةُ في الأموال كالعصمة في الدماء.
وعصمة الرقيق أضعف من عصمة الحر؛ من جهة أن الحر يتوصل إلى إقامة كل عبد مقامَ الإهدار بتملكه، فيصير مهدر الدم في حقه، والذكورة والأنوثة، وما عداهما من المناقب ونقائضهما، لا تؤثر في التفاوت في العصمة، وهذا القائل لا يعد الأبوة والبنوة من أركان الكفاءة.
وهذه الطريقة، وإن كانت أحرى من الأولى، فالوفاء بتقريرها عسر، ولا يليق الخوض فيه، بهذا المجموع.
والذي نعتمده ونعتقده، أن الصفاتِ المرعيةَ في كفاءة الدم لا تندرج تحت معنى ضابط [يجري وينعكس] (3) ، ولكن معتمد اندفاع القصاص عن المسلم إذا قتل الذميَّ الحر [الخبرُ] (4) [بحسب ما قررناه] (5) في مجموعات الخلاف (6) ، ومعتمد اندفاع القصاص عن الحر بقتل العبد تشبيه النفس بالطرف، ولا مزيد على صاحب المذهب، وهو رضي الله عنه، لم يتعرض لمعنىً جامع، ولم يعتمد في مسألة قتل المسلم بالذمي
__________
(1) في الأصل: بترك.
(2) الرقبة: في لسان العامة من المزارعين في ريف مصر يعنون بها أردأ ما يكون من الحنطة لكثرة الشوائب بها مع رداءتها في نفسها، فهل هذا هو المعنى المقصود هنا؟ أُرجح ذلك. وإن كنت لم اْجده منصوصاً فيما هو مشهور من المعاجم. ولعله معرّبٌ. وربما كانت مصحفة عن كلمة (الردية) .
(3) في الأصل: مجرى ونعكس.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: بحسب على ما قررناه.
(6) مجموعات الخلاف: المراد كتب الخلاف، وللإمام منها كتاب: (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) وقد أعاننا الله على تحقيقه وإخراج قسم منه والباقي قيد الإعداد (وليست هذه المسألة واردة فيه) ، وله ثلاثة كتب أخرى في الخلاف مفقودة، لما نصل إلى خبرٍ عنها، هي (الأساليب) و (العمد) و (غنية المسترشدين) .(16/12)
إلا الخبرَ، كما لم يعتمد في مسألة قتل الحر بالعبد إلا الشبه بالطرف، فهذه هي الطريقة المرضية.
10260- وقد حان أن نخوض في التفاصيل فنقول: إذا قتل مسلم ذمياًً، لم يستوجب القصاص بقتله، ولو قتل ذميٌّ ذمياًَ، ثم أسلم القاتل، لم يسقط القصاص عنه بطريان الإسلام، باتفاق الأصحاب، فإن العقوبات إذا وجبت، لم تغيّرها الصفات الطارئة على مستوجبها.
ولو جرح ذمي ذمياً، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، بعد إسلام الجارح، ففي وجوب القتل قصاصاً على الجارح وجهان معروفان: أحدهما - أن القصاص لا يجب؛ فإنه لو وجب، لوجب بزهوق روح المجروح، والمجروح مات كافراً، والجارح إذا أسلم، فلو أوجبنا القصاص في النفس، لتضمن ذلك إيجابَ القصاص ابتداءً على مسلم بسبب زهوق روح كافر.
والوجه الثاني - أن القصاص يجب اعتباراً بحالة الجرح؛ فإنه الفعل الداخل تحت الإيثار، والسريان وما يفرض من زهوق الروح ليس من أفعال الجارح، ولكنه يعد جزءاً من فعله؛ لأنه ترتب عليه.
والأصح الوجه الأول، فإنا في أحكامٍ نعتبر المآل، والقصاص أولى الأحكام باعتبار المآل، فيه.
10261- ولو قتل عبد مسلم عبداً مسلماً لكافر، ففي وجوب القصاص على العبد القاتل وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يجب؛ لأن القاتل والمقتول متكافئان، ومالُ السيد لا يُعصم بالقصاص، وإنما العصمة لحرمة الدّمّية، والتساوي بين [الدّمين] (1) قائم.
والوجه الثاني - أن القصاص لا يجب؛ لأنه لو وجب، لوجب لكافر على مسلم؛ فإن مستحق القصاص سيد العبد، ولا يثبت للعبد قصاص تقديراً ولا تحقيقاً، والدليل
__________
(1) في الأصل: الذميين.(16/13)
عليه أن عبداً لو قطع يدَ عبد، فالاقتصاص لمولاه، فلو عفا العبد، لم يسقط القصاص، بل إلى السيد الاستيفاءُ، والإسقاطُ، [ثم هذا القائل فرّق بين أن يكون العبد القاتل لمسلم] (1) أو لكافر؛ فإن القصاص على العبد لا على مولاه، وهو لسيد العبد المقتول لا للعبد.
10262- والذمي مقتول بالذمي وإن اختلفت الملّتان، والنصراني مقتول بالمجوسي.
وأطلق الأئمة أقوالهم بأن الذمي مقتول بالمعاهد، وفي النفس من هذا ترددٌ؛ فإني رأيت للأصحاب في كتاب السرقة نَقْلَ نصوصٍ في أن المعاهَد لو سَرَقَ هل يُقطع؟ [ويترتب عليه تردّدٌ في أنه لو سُرق مالُه هل يُقطع السارق؟] (2) ؛ إذ من المستحيل ألا يُقطع إذا سرق من مال مسلم، ويقطع المسلم إذا سرق من ماله، وينشأ من هذا [تردُّدٌ في] (3) أنه إذا قَتل لا يقتل قصاصاً. نعم، يجوز أن ينتقض عهده ويقتل؛ لأنه حربي، لا عهد له.
وإن فصل فاصل بين حد السرقة من حيث إنه حق [الله] (4) وبين القصاص لأنه حق الآدمي، [فهو -للعفو عن الدم- من حقوق الآدميين] (5) ، لم يتجه هذا؛ فإن عصمة المال [بالحدّ] (6) تتعلق بطرف من حقوق الآميين.
__________
(1) في الأصل: "ثم هذا القائل أن كون العبد القاتل لمسلم ... ".
(2) عبارة الأصل: "وتترتب عليه أنه لو سرق يقطع السارق". والمثبت من الشرح الكبير، حيث نقل هذا عن الإمام، ولعل الأَوْلى أن نذكر عبارته بتمامها، قال: "وأبدى الإمام (إمام الحرمين) تردداً في قتل الذمّي بالمعاهد، وإن أطلقه الأصحاب، قال: لأني رأيت نصوصاً نقلت في أن المعاهد إذا سرق، هل يقطع، ويترتب عليه تردُّد في أنه لو سُرق ماله هل يجب القطع، وينشأ منه تردّدٌ في القصاص" (ر. الشرح الكبير: 10/170) .
(3) زيادة مأخوذة من معنى ما نقله الرافعي في الشرح الكبير. (اقرأ التعليق السابق) .
(4) في الأصل: حق أبيه.
(5) في الأصل: وهو لعهد الدم حقوق الآدميين.
(6) في الأصل: "بالحر".(16/14)
وهذا الذي ذكرناه [إبداء] (1) احتمال، والذي رأيناه للأصحاب القطعُ بوجوب القصاص على الذمي بقتل المعاهَد.
ولم يختلف أئمتنا في أن دية المعاهَد النصراني كدية الذمي النصراني، وهذا شاهد صدق في التسوية بين الذمي والمعاهد النصراني.
وإن كنا لا نتعلق بالدية في القصاص، ويجري القصاص مع التفاوت [في قيمة] (2) الدية.
10263- وإذا قتل ذمي مرتداً، فقد ذكر العراقيون ثلاثة أقوال: أحدها - أن القصاص لا يجب بقتل المرتد؛ فإن المرتد مهدر الدم، وإيجاب القصاص على القاتل المعصوم بقتل المهدر بعيد.
والقول الثاني - أنه يجب القصاص [للاستواء، في الكفر، وفي المرتد مزية] (3) ، وهو عُلقة الإسلام، ولأجلها يُدعى إلى الإسلام قطعاً [ألردّته] (4) ، ويخاطَب بتفاصيل أحكام الإسلام.
والقول الثالث - حكاه العراقيون عن تخريج الإصطخري [أن الذمي] (5) يستوجب القصاص [بقتل المرتد] (6) إذا قتله عمداً.
وإن قتله خطأ، لم يلزم المال، فأقام إهدار العوض فيه (7) ، وأوجب القصاص
__________
(1) في الأصل: "ابتداء".
(2) في الأصل: "في قلة الدية".
(3) عبارة الأصل: "للاستواء وفي الكفر في المرتد مزية" والمثبت من تصرّف المحقق.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "أن الذي".
(6) في الأصل: "لا يقتل المرتد".
(7) المعنى: "أنه لا قيمة لدمه؛ لأنه مهدر الدم، وإنما أوجبنا القصاص لأن الذمي يقتله عناداً، لا تديناً" هذه عبارة الرافعي (ر. الشرح الكبير: 10/162) .
تنبيه: تذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فما تراه في الحواشي ليس فروق نسخٍ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسأل الله أن يلهمنا الصواب.(16/15)
على الذمي؛ [لأن قتل المرتد] (1) عقوبةُ حدّ، والكافر ليس من [أهل] (2) استيفاء الحد (3) ، ونحن قد نوجب القصاص في النفس حيث لا نُثبت مالاً، والدليل عليه أن من قطع يدي رجل، ثم قتله، فقصاص الطرف لا يندرج تحت النفس، ولو [اقتص] (4) الولي من الجاني في يديه، فإن له القصاص في النفس، ولا مال له، على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل، ثم يقول الإصطخري: لو قتل الذمي المرتدَّ عمداً، ثم آل الأمر إلى المال، فلا مال.
ولو قتل المرتد الذميَّ، فهذا يبتني على قتل الذمي المرتدَّ على العكس، فإن قلنا: الذمي لا يقتل بالمرتد؛ لأن المرتد مهدر، فالمرتد مقتول بالذمي.
وإن قلنا الذمي مقتول بالمرتد، فهل يقتل المرتد بالذمي؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يقتل به للاستواء في الكفر. والثاني- لا يقتل به، لما [تميّز] (5) به من عُلقة الإسلام.
ومما [يدار] (6) في أثناء ذلك أن قتل المرتد ليس يُقطع القول بأنه حد، بل [هو] (7) إرهاقٌ، وحملٌ على الإسلام، وسيأتي أثر هذا في كتاب الحدود، إن شاء الله.
ومما يتعلق بهذا أن الذمي إذا قتل ذمياً، قُتل به لاستوائهما.
ولو قتل مرتد مرتداً، فظاهر (8) المذهب أنه مقتول به؛ لاستوائهما في كل معنى.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا قصاص عليه؛ لأن المقتول [هدرٌ] (9) ، وهذا
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(3) راجع الشرح الكبير: 10/162، 163 لترى أن تصرف المحقق في العبارة مأخوذ من معنى كلام الرافعي.
ثم إن الإمام الرافعي قال: إن الأصح القول الأول، وهو عدم وجوب القصاص.
(4) في الأصل: "اقتصر:.
(5) يْر الأصل: "لما مرّ".
(6) في الأصل: "ومما يدرا".
(7) في الأصل: "بل وهو إرهاق".
(8) جعله الرافعي الصحيح. (ر. الشرح الكبير: 10/162) .
(9) في الأصل: "أن المقتول هرب".(16/16)
له اتجاه وإن كان بعيداً، وقد يقرّب موت المقتول -لو لم يُقتل- مرتداً، ويفرض عَوْد هذا إلى الإسلام.
ولو قتل ذمي مرتداً وأوجبنا القصاص فمن يستوفيه؟ قال الشيخ أبو علي: يستوفيه الإمام أو من ينوب عنه، وحَكَى قولاً بعيداً أن حق الاستيفاء يثبت لقريبه المسلم الذي كان يرثه لو كان مسلماً، وهذا قد يمكن تخريجه من مسألة ستأتي، وهو أن المسلم لو قطع يدَ مسلم، ثم ارتد المجروح ومات مرتداً، فقال الشافعي: "لوليه القصاص في الطرف" وسنذكر غائلة هذا الفصل ثَمَّ، إن شاء الله عز وجل.
10264- وقال أئمة العراق: الذمي إذا قتل مسلماً محصناً [قد] (1) زنا واستوجب الرجم، وجب القصاص عليه، بلا خلاف، فإن الواجب على المسلم حدٌّ، وهو حق الله تعالى يستوفيه المسلمون، ولكن عَسُر [قيامهم] (2) باستيفائه [فيستوفيه] (3) النائب عن المسلمين (4) .
وقالوا: لو [قتل] 5) مسلم مسلماً زنا وهو محصن، هل يجب القصاص عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب، وهو القياس، وبه قطع المراوزة؛ فإن القاتل من المسلمين، والرجم ثابت لله تعالى.
والثاني- يجب القصاص؛ فإن استيفاء الحد مفوّضٌ إلى الإمام، وأيدي الكافة مصروفة مكفوفة عنه، كما أن استيفاء القصاص مفوض إلى مستحقه، فلو قتل ملتزمَ القصاص من لا يستحق القصاص، التزم القصاص.
هذا قولنا في اختلاف الدين.
__________
(1) في الأصل: "فقد".
(2) في الأصل: "عسر قتالهم".
(3) في الأصل: "فاستوفاه".
(4) النائب عن المسلمين هو السلطان، والمعنى أن الذمي يقتل به لأنه ليس نائباً عن المسلمين، وليس له استيفاء الحد.
وقد علل الرافعي عدم سقوط القصاص باختصاص الزاني المحصن بفضيلة الإسلام.
(5) في الأصل: قاتل.(16/17)
10265- ورأيت لأئمة المذهب تردداً في مسألة أَصِفُها، وهي أن الذمي لو قتل ذمياً، ثم أسلم القاتل، فالقصاص لا يسقط، كما قدمناه، ويتولى استيفاءَ القصاص [بعد الرفع] (1) إلى السلطان أولياءُ القتيل، وإن كانوا كفاراً (2) ، فلو مات ولي الدم، وخلفه كافر، فهل يرث القصاص الذي وجب له على مسلم في صورة الدوام؟ ذكروا في ذلك وجهين: أقيسهما - أنه يرث ويحل محل الموروث، وقد كان كافراً.
والثاني - لا يرث القصاص؛ فإن هذا استحقاق قصاص على الابتداء على مسلم، ويستحيل أن نثبت لكافر على مسلم قصاصاً ابتداء.
وهذا بعيد، والأصح الأول، وسنعيد هذا عند كلامنا في قتل الوالد ولده.
وقد انتجز القول في اختلاف الدين إسلاماً وكفراً.
10266- فأما الرق والحرية، فإذا قتل الحر رقيقاً: مكاتباً أو مستولدةً أو من بعضه رقيق، لم يستوجب القصاص بقتله ابتداء.
ولو قتل عبد عبداً، ثم عَتَق القاتلُ، لم يسقط القصاص عنه بالعتق الطارىء، قياساً على الإسلام الطارىء بعد القتل.
ولو جرح عبد عبداً، ثم عَتَق الجارح بعد موت المجروح [وجب القصاص، ولو جرح عبد عبداً، ثم عتق الجارح] (3) ، ثم مات المجروح على الرق، فيجري الوجهان في هذه الصورة.
ولو قتل من نصفه حر ونصفه عبد شخصاً على مثل حاله في الرق والحرية، فالذي ذكر العراقيون أن القصاص يجب لمساواة القاتل والمقتول في الصفة.
__________
(1) في الأصل: "بمعنى الدفع".
(2) عبارة الرافعي: "ثم القصاص فيما إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل، وفيما إذا طرأ الإسلام بين الجرح والموت، وإن أوجبناه يستوفيه الإمام بطلب الوارث، ولا يفوّضه إليه؛ تحرزاً من تسليط الكافر على المسلم إلا أن يسلم فيفوّضه إليه" (الشرح الكبير: 10/160، 161) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.(16/18)
وقطع الققال والأئمة [المراوزة] (1) ، بأن القصاص لا يجب (2) ، [واعتلّوا] (3) بأنا لو قتلنا هذا الشخص بذلك، لقابلنا حريةً برق؛ فإن الاستيفاء يقع على الإشاعة لا على التقطيع، فهذا إن قيل، [فكل جزء منه مستوفىً في مقابلة الرق والحرية، ومقابلة حرّ بحر ورقيق، بمثابة مقابلة حر برقيق،] (4) والدليل على الشيوع في المقابلة أن من نصفه حر ونصفه رقيق إذا قتل شخصاً مثله، وآل الأمر إلى المال، فلا نقول: مقدار القيمة من الجزء الرقيق يتعلق بالمقدار الرقيق من الجاني (5) ، ومقدار الدية يتعلق بالذمة (6) في مقابلة الحرية، بل يتعلق قسط من القيمة وقسط من الدية، [بالرقيق على ما تقتضيه نسبة الحرية] (7) في القسمة، فنتبين أن التقابل على هذا الوجه يقع، فلو اقتصصنا، لأدى إلى مقابلة الحرية بالرق لا محالة.
ثم يتفرع على هذين الوجهين أن القاتل لو كان عشرة أجزاء (8) ، فلا قصاص على طريقة المراوزة؛ لأن من ضرورة المقابلة ما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: "والأئمة والمراوزة".
(2) هذا هو الأظهر في المذهب (ر. الشرح الكبير: 10/164) .
(3) في الأصل: "واعتدوا".
(4) عبارة الأصل: "فكل جزء منه مستوفًى في مقابلة الرق والحرية مقابلة الرق والحرية، ومقابلة حر بحر رقيق بمثابة مقابلة حر برقيق". والتصرف بالحذف والزيادة من عمل المحقق.
(5) أي برقبته.
(6) عبارة الرافعي: "فلا نقول: نصف الدية في مال القاتل، ونصف القيمة يتعلق برقبته يفديه السيد، إن شاء، بل يجب ربع الدية، وربع القيمة في ماله، ويتعلق ربع الدية، وربع القيمة برقبته، وإذا وقع الاستيفاء شائعاً، لزم قتل البعض الحر بالبعض الحر والرقيق معاً" (ر. الشرح الكبير: 10/164، 165) .
(7) في الأصل: فالرقيق عاماً يقتضيه نسبة الحرية.
(8) المعنى أنه مهما كانت النسبة في الصغر -وضَربَ العشرة مثلاً- فلا قصاص على طريقة المراوزة، لأن القصاص على الشيوع، ومن ضرورة مقابلة جزء من الرق والحرية -مهما ضؤل - بجزء من الرق والحرية، فيؤدي إلى ما ذكره من وقوع مقابلة (شيء) من الحرية (بشيء) من الرق. فلو فرضنا عبداً عُشره حُرّ قتل عبداً عشره حر، أو عشره رقيق قتل آخر عشره رقيق، فلا قصاص -عند المراوزة- لما يترتب من المقابلة التي ذكرناها.(16/19)
والعراقيون يشترطون في إجراء القصاص أن يكون الجزء من القاتل مثل الجزء من المقتول.
وإن كان المقدار الحر من المقتول أقل، والمقدار الحر من القاتل أكثر، فلا يَجْر القصاص للتفاوت الظاهر في الحرية، والفضيلةُ الزائدة المعتبرة في القاتل تمنع وجوب القصاص لا محالة.
والمستولدة مقتولة بالرقيقة القنة، والمكاتب مقتول بالعبد القن، ولا نظر إلى ما كان يتوقع فيهما من حرية.
ولو قتلت مستولدةٌ رقيقاً، ثم لم يتفق الاقتصاص حتى عَتَقت، فلقد كانت مستحقة العتاقة لما قتلت، وقد تحقق الآن ذلك العتق، [فالقصاص] 1) لا يسقط بالعتق الطارىء، ولا نظر إلى كون العتق مستحقاً؛ فإن هذا لو كان معتبراً، لمنع استيفاء القصاص، وإن لم يتحقق العتق.
ولو قتل حر ذميٌّ عبداً، ثم نقض العهد، والتحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وأُرق، فلا قصاص عليه؛ نظراً إلى حريته حالة القتل.
10267- ومما نختم به هذا الفصل أن الفاضل من الصفات المرعية لا يقتل بالمفضول، والمفضول يقتل بالفاضل.
والكافر يقتل بالمسلم، والعبد يقتل بالحر.
ولا يتطرق الجبر إلى الصفات المعتبرة، فلو قتل حرٌّ كافر عبداً مسلماً، لم يقتل به، ولو قتل عبد مسلم حراً كافراً لم يقتل به، وهذا وإن كان من الجليات، فهو غريب في المسائل: شخصان يتفاضلان لا يجري القصاص بينهما في الطرفين (2) جميعاً، وسبب ذلك أنا لم نجبر نقيصةً بفضيلة فيما نحن فيه، وقد ذكرنا في كفاءة النكاح في بعض الصفات أن الجبر قد يتطرق إليه.
وهذا لا يجري في هذا الفصل.
__________
(1) في الأصل: والقصاص.
(2) المراد بالطرفين هنا الحرية والرق، والإسلام والكفر.(16/20)
فصل
قال: "ولا يقتل والد بولد ... إلى آخره" (1) .
10268- الوالد لا يقتل بولده. وقال مالك (2) : إن حذفه بالسيف، لم يلزمه القصاص وإن أضجعه وذبحه، التزم القتل حدّاً، ثم معتمد الشافعي الخبرُ، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل والد بولده" (3) ثم لا خلاف أن الأم بمثابة الأب في أنها لا تستوجب القصاص بقتل ولدها، واتفق الأصحاب في طرقهم على أن الأجداد وإن علَوْا، والجدات وإن علَوْن بمثابة الأب والأم، فمن قتل ولده أو حافده، لم يستوجب القصاص.
وقد ذكر صاحب التلخيص قولاً أن اندفاع القصاص يختص بالأبوين: [الوالد] (4) والوالدة، ويجب القصاص على الأجداد والجدات إذا قتلوا أحفادهم، وهذا قولٌ غريب ردّه الأصحاب، ولم يقبلوه منصوصاً ولا مخرّجاً، ولعله استنبط هذا من قول الشافعي رضي الله عنه في الرجوع في الهبة: "يختص به الأبوان ولا يثبت لغيرهما" وهذا ليس على وجهه؛ فإن الذي يليق بالهبة منع الرجوع، والاقتصارُ على مورد الخبر، والذي يليق بالقصاص إذا تمهد فيه دافعٌ يدرأ العقوبة ألا يخصص (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/96.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/814 مسألة:: 155، المعونة: 3/1، 13، القوانين الفقهية: 341.
(3) حديث "لا يقتل والد بولده" رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارقطني والبيهقي من حديث عمر، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم من حديث ابن عباس (ر. الترمذي: الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يفاد منه أم لا؟ ح. 140، 1401، ابن ماجه: الديات، باب لا يقتل الوالد بولده ح 2661، 2662، أحمد: 1/16، الدارقطني: 3/140،141، الحاكم: 4/410، البيهقي: 8/38، 39، تلخيص الحبير: 4/33 ح 1878، إرواء الغليل للألباني، وقد صححه: 7/269) .
(4) في الأصل: والوالدين.
(5) هذه من المسائل الكثيرة التي نقلها الرافعي عن الإمام بألفاظه نفسها تقريباً. (ر. الشرح الكبير: 10/166) .(16/21)
واعتمد الشافعي في هذا الأصل ما روي "أن رجلاً من بني مُدْلِج حذف ساقَ ابنٍ له بالسيف، [فأَطَنَّه] (1) ، فنزف الدم ومات، فجاء سراقةُ بنُ مالك بن [جُعشم] (2) سيد بني مدلج إلى عمرَ رضي الله عنه وأخبره، فقال عمر: اعدُدْ لي على [ماء قُديد] (3) مائة وعشرين من الإبل، لأَعْدُوَ، فعدا عليهم وأفرد منها مائةً، ثم قال: أين أخ المقتول؟ فقال: ها أنا يا أمير المؤمنين، فقال: خذها إليك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقاد والدٌ بولد، وليس للقاتل من الميراث شيء" (4) وقوله: لا يقاد والد بولد يعمّ كلَّ قتلٍ [من غير فصلٍ وفرقٍ] (5) .
10269- والابن مقتول بأبيه وفاقاً، ولا يُقطع واحد منهما بسرقة مال صاحبه، والابن محدود بالزنا بجارية أبيه، والأب مخصوص باندفاع الحد عنه إذا وطىء جارية ابنه، وسبب اندفاع القطع من الجانبين ثبوت حق النفقة لكل واحد منهما إذا أعسر وصاحبه موسر، وسبب اختصاص الأب بانتفاء الحد عنه، إذا وطىء جارية ابنه [أن له] (6) في مال ابنه حقَّ الإعفاف.
وأما القصاص، [فلا يستدّ] (7) فيه معنى معتبرٌ، والمعوّلُ فيه الخبر.
ثم المذهب الذي عليه التعويل: أن القصاص لا يجب على الأب.
وذكر بعض أئمة المذهب أن القصاص يجب عليه ويسقط، وزعموا أن سبب
__________
(1) في الأصل: فأطبه. والتصويب من المحقق.
ومعنى (أَطَنَّه) : أي قطع ساقه. (المعجم) .
(2) في الأصل: جشعم.
(3) في الأصل: على بابه. والتصويب من ألفاظ الحديث.
(4) حديث سراقة المُدلجي رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وابن ماجه مختصراً والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، وقد روي عنه منقطعاً وموصولاً وقد صححه الألباني في الإرواء. (ر. الموطأ: 2/867، الأم: 6/34، المسند: 1/49، ابن ماجه: الديات، باب القاتل لا يرث، ح 2646، السنن الكبرى للبيهقي: 8/38، 72، ومعرفة السنن والآثار: 4829. إرواء الغليل: 7/72 ح 2215) .
(5) عبارة الأصل: من غير فصل وفرق وفصل.
(6) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(7) في الأصل: فلا يستمرّ.(16/22)
الوجوب التساوي مع كَوْن القتل موجباً للقصاص؛ [ولذلك] (1) يجب القصاص على شريك الأب دون شريك الخاطىء (2) - ولكن يتعذر استيفاؤه؛ فإن الإقدام على قتل الأب بسبب الابن نهايةُ الإهانة، فسقط القصاص بتعذر الاستيفاء.
وهذا حشوُ الكلام، ولست أحكي مثله إلا مع المبالغة في التنبيه على سقوطه، حتى لا يجري كل منقول على نسقٍ واحد، فإذا كان الاستيفاء متعذراً، وهذا مقترن بالقتل، فاقتران المُسْقط يمنع الوجوبَ، ثم ما ذكره هذا القائل تحكُّم، ولو وجب القتل لاستُوفي.
10270- ثم كما لا يجب على الأب القصاصُ بقتل ابنه، وإدن كان مستحقُّ القصاص غيرَ الابن، [فكذلك لو قتل مَنْ وارثه ابنُه،] (3) لم يجب القصاص عليه، فكما يمتنع وجوب القصاص بقتل الابن يمتنع وجوب القصاص بقتل مَنْ وارثه الابن، ولو كان للمقتول ورثةٌ أحدُهم الابنُ، لم يجب القصاص أيضاً، فإن وراثته من المسقطات، فإذا اجتمع المسقط والموجِب، [مع اتحاد القصاص غُلّب المسقط] (4) وينزل هذا منزلة ما لو ثبت القصاص لجمعٍ، فعفا واحد منهم، وأصرّ الباقون على طلب القصاص، سقط القصاص بعفو من عفا، وآل الأمر إلى المال.
ومما يليق بذلك أن القصاص لو وجب، ثم طرأت وراثة الابن فيه، سقط
__________
(1) في الأصل: فكذلك. والمثبت من تصرف المحقق.
(2) المعنى أنه إذا اشترك اثنان في قتل شخص بأن أصابه كل منهما إصابة لو انفردت لقتلته، وأحدهما عامد والآخر خاطىء، فلا قصاص على الخاطىء بداهة، لكونه خاطئاً، ولا قصاص على العامد، بل عليه نصف دية العمد؛ لأن القصاص لا يتبعض. أما إذا اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن، على النحو الذي شرحناه، فيجب القصاص على شريك الأب؛ لأنه استقر عليهما، ولكن تعذر استيفاؤه من الأب. بهذا استدلّ من قال: إن الأب إذا قتل ابنه يجب عليه القصاص، ثم يسقط. وهذا غير مرضي عند الإمام.
(3) في الأصل: وكذلك لو قتل من وارث أبيه.
(4) في الأصل: "مع اتحاد القصاص عليه لم يسقط" وهو لا يستقيم مع السياق، ولا يصح عليه المعنى، والمثبت من عمل المحقق، ومع التأمل والتأني تدرك كيف تم التصحيف. والله المستعان.(16/23)
القصاص بطريان وراثة الابن فيه، مثل إن قتل (1) ابنَ معتَقِ ابنهِ، ووجب القصاص [لعتيق] (2) الابن، فلو مات معتَقُ الابن [وورثه الابن] (3) ، فيسقط القصاص.
وهاهنا لطيفة في المذهب، وهو أن الوجه أن [نقول] (4) : ورث القصاصَ وسقط؛ فإنه لو لم يرث، لما سقط القصاص، فإن الابن يخرج عن كونه وارثاً على هذا التقدير، وإذا لم يرث ورث غيره، ثم كان يستوفي القصاص.
فمن قال: يجب القصاص على الأب بقتل الابن ويسقط، قد يتعلق بهذا؛ فإن الابن يستحق القصاص، ولكن يقال له: سبب سقوط القصاص استحقاقُه، وهو بمثابة جريان ملك الرجل على قريبه الذي يَعتِق عليه، لمّا لم يتصور العتق إلا في الملك، ثبت الملك، ليترتب عليه العتق، وهذا لا يتحقق في قتل الوالد ولده، فإنا لو أوجبنا القصاص ومستحقُّه ليس ابناً [لاسْتقر] (5) الوجوب. نعم، إذا قتل من وارثه الابن، فالوجه هاهنا أن يقال: يجب ويسقط، فإن السقوط يستدعي الثبوت، ولو لم يثبت أصلاً، لخرج الابن عن كونه وارثاً.
ولو قال قائل: يمتنع ثبوت القصاص [لانسداد] (6) طريق الإرث فيه مع أن الابن من أهل الإرث، لما انتظم الكلام، ولوجب إقامةُ غيرِ الابن [في الوراثة] (7) مقامه، وكان شيخي يميل إلى أن من قتل مَنْ وارثه الابن، لم يجب القصاص، لامتناع الوراثة، مع استجماع الابن شرائطَ الوراثة.
10271- ومما نذكره [متصلاً] (8) بهذا أن من وجب عليه القصاص، ثم مات مستحق القصاص، وكان هذا القاتل وارثَ ولي المقتول، فيسقط القصاص؛ فإنه
__________
(1) قتل ابنَ معتق ابنه: أي قتل الأب ابن عتيق ابنه.
(2) في الأصل: "يعتق".
(3) في الأصل: "فلو مات معتق الابن ووراثه فيسقط ... ".
(4) في الأصل: "أن ننزل".
(5) في الأصل: "لا يستقرّ". وهو مخالف للسياق والحكم.
(6) في الأصل: "لاستداد".
(7) في الأصل: "والوراثة".
(8) في الأصل: "مفصلاً".(16/24)
يصير مستحقَّ دمَ نفسه، وإذا كان طريان إرث الابن يُسقط، فطريان إرث من عليه القصاص أولى بإسقاط القصاص.
ثم ليت شعري ماذا نقول في هذا الطريان؟ أيصير مستحقاً لقتل نفسه ثم يسقط؟ أم يسقط القصاص بامتناع الوراثة؟ الوجه أن نقول: يستحق ويسقط، وهذا كما لو اشترى العبد نفسَه من مولاه، فقد قيل: يملك نفسه، ويترتب العتق عليه، ثم اضطرب الرأي في الولاء، فذهب الأكثرون إلى أن الولاء للسيد البائع؛ [إذ] (1) يستحيل أن يثبت لإنسانٍ الولاء على نفسه، ومن شأن الولاء أن لا ينقطع، بخلاف الملك، ولا بد من إثبات الولاء.
وذهب ذاهبون إلى أن الولاء لا يثبت أصلاً؛ فإنه يثبت لمن حصل العتق في ملكه، والعبد عَتَقَ من حيث ملك نفسه، ولو ثبت الولاء، لثبت له الولاء على نفسه، في تصرفٍ سيأتي في موضعه، إن شاء الله.
10272- فإذا تمهدت هذه الأصول، فإنا نفرع عليها فرعاً يهذبها، فنقول: أخوان لأب وأم، قتل أحدهما أباهما، والثاني أمهما، فالمسألة تتصوّر على وجهين: أحدهما - أن تكون الأم زوجة الأب، والأخرى ألا تكون زوجته.
فإن كانت زوجته، فالفتوى أن القصاص يسقط عن قاتل الأب، ويجب له على قاتل الأم القصاص بقتل الأم، وليقع الفرض فيه إذا تقدم قاتل الأب بالقتل، والتعليل أن القصاص وجب على قاتل الأب ووَارِثُه الأمُّ والأخُ، وهو لا يملك [من دم أبيه] (2) شيئاً؛ فإنه قاتل، والقاتل لا يرث، فلما قتل الثاني الأمَّ، فقاتل الأم لا يرث من القصاص شيئاً، ويستوجب القصاص، وقاتل الأب يرث الأم لا محالة، ومن جملة حقوقها القصاص الذي وجب على قاتل الأب، فيصير وارثاً لبعض دم نفسه، وقد تمهد أن من ورث دم نفسه أو بعض دم نفسه، فيسقط القصاص عنه.
ولو سبق قاتل الأم، ثم صدر القتل من قاتل الأب والزوجيةُ قائمة، انعكس
__________
(1) في الأصل: "إن".
(2) في الأصل: "من دم نفسه".(16/25)
الترتيب، وطريق الجواب إسقاط القصاص عن السابق، ثم يجب للأول على القاتل الثاني القصاص؛ لأنه يرث المقتول الثاني وقاتله لا يرثه.
هذا إذا كانت الزوجية قائمة أما إذا لم يكن بينهما زوجية، وترتب القتل على ما ذكرناه، فيجب لكل واحد من الأخوين القصاص على صاحبه.
ثم قال الأصحاب: إذا سبق أحدهما بقتل الأب، فنبدأ في استيفاء القصاص به لأنه بدأ بالقتل، وسبق إلى التزام القصاص، ثم إذا استوفى قاتل الأم القصاص من قاتل الأب، فهل يرث هو منه أم لا؟ فعلى وجهين؛ فإنه مقتصٌّ وإن كان قاتلاً (1) ، وقد نقل الأصحاب قولين في المسألة: [فأنبه عليهما وأعبر عن مرادي بما يناسب] (2) ، فإن قلنا: إنه يرثه، فمن حقوقه دم هذا المقتص، فيرث بعضَ دم نفسه أو تمامَه، فيسقط عنه القصاص.
[وإن قلنا: لا يرث] (3) ، فلا يسقط عنه القصاص، فيستوفي وارثُ قاتلِ الأب القصاصَ من قاتل الأم.
هذا ما ذكره الأصحاب.
10273- وفيما ذكرناه تأمل على الناظر، وذلك أنا إذا قلنا: إذا سبق أحدهما بالقتل، فالبداية في استيفاء القصاص به، ويعترض على هذا أنه [لو قَتَلا الأبوين كذلك] (4) ، فقد تحقق القصاص عليهما جميعاً، وتقدُّم أحد الحقين بالوجوب لا يوجب التقديمَ؛ فإن من أتلف مال رجل، ثم أتلف مال آخر، وضاق ماله عن الغُرمين، لم يقدم أولهما. نعم، إذا قتل رجل جماعة ترتيباً، فحق طلب القصاص لأولياء القتيل الأول، [وهو أحق في التقدم، والسببُ فيه] (5) أن دمه صار في حكم
__________
(1) أي إن قلنا: إن القاتل بحق يرث، وفد نقول: لا يرث.
(2) ما بين المعقفين مكان عبارة غير مقروءة في الأصل: "فبينه وعبر عن مرادي بما سبب" هكذا تماماًَ.
(3) في الأصل: "وإن قلنا: يرث".
(4) عبارة الأصل: " لو قتل بمكان كذلك" كذا تماماً. والمثبت من تصرف المحقق.
(5) عبارة الأصل: "وهو أحق في التقدم يستحق والسبب فيه ... إلخ".(16/26)
المرتهَن بقصاص القتيل الأول، وفي مسألتنا وجب قصاصان على شخصين، وهذا محل التأمل.
فالذي ذكره بعض المصنفين: "أن حق الطلب لمن سبق استحقاقه، فالمطلوب من سبق منه القتل". ولهذا وجهٌ على حال؛ فإنا لو لم نقل بهذا، لثبت الطلب لكل واحد منهما على صاحبه، ويستحيل أن نقف [في موقف القائلين بالوقف في القتل] (1) ، وإذا عَسُر هذا ولا وجه لإسقاط القصاص، فلا ينقدح فيه إلا القرعة، وللقرعة جريانٌ في التقديم والتأخير، وهي في هذا المقام من الأصول التي تطّرد.
ولو قتل رجل جمعاً دفعة واحدة، فلا نسلمه إليهم، بل نَقْنع بالقرعة [بين] (2) الأولياء.
وإذا تمهد هذا، ترتب عليه أن ما نقدم القرعة فيه عند الاجتماع، يجوز أن نقدم فيه السبق، [كالازدحام] (3) على مجالس القضاة؛ فإن السبق لمن سبق، وإن فرض ازدحام، فالتقدم لمن تخرج القرعة له. هذا وجه.
وإن استعظم الفقيه هذا لما فيه من الخطر العظيم؛ فإن السابق يُقتل، ثم يسقط القصاص عن اللاحق. قلنا: نعم هو كذلك، وليس يلتزم مثله في القرعة، فإذا كانت القرعة تؤدي إلى ما استنكره هذا القائل، فليُحْتَمل مثلُه فيما ذكرناه.
وذهب ذاهبون إلى أن السبق لا أثر له في الباب، وإليه إشارة القاضي، ونفْيُ أثر السبق بيّنٌ في القياس، وإذا قوبل هذا القائل بالقرعة، كان من جوابه عنها: إن القرعة تُبطل الاختيار في التقديم والتأخير، فنتبعها في الضرورة.
وحيث أقمنا للسبق أثراً، أو رُددنا إلى القرعة، ثم أقرعنا، [وتبين] (4) المطلوب، وتعين الطالب بأحد المسلكين، [فابتدر] (5) المطلوبُ وقتل الطالبَ، وقع
__________
(1) عبارة الأصل: "في موقف القائلين من يوقف فيقتل". كذا تماماًً.
(2) في الأصل: "بعض الأولياء".
(3) في الأصل: "بالازدحام".
(4) في الأصل: "أو تبين". والمثبت من عمل المحقق.
(5) في الأصل: "فاقتدر".(16/27)
[قتله إياه] (1) قصاصاًً، فانعكس الأمر، وثبت لهذا القاتل ما كان يثبت له لو كان هو الطالب؛ فإن القرعة لا تقلب الاستحقاق، ومن قتل جماعة على الترتيب، وصرنا إلى أنه مسلّم إلى أولياء الأول، فلو ابتدر أولياء القتيل [الأخير] (2) وقتلوه، [كان] (3) قتلهم إياه قصاصاً مستحقاً، ويتعرضون للتأديب [إذا] (4) فارقوا ما رُسم لهم.
10274- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن الأخوين إذا ابتدرا قتل الوالدين معاً، فسواء كانت الأم تحت الأب، أم لم تكن، فيجب القصاص لكل واحد منهما على صاحبه، وذلك أن المقتولَيْن -وإن كانا على الزوجية- فإذا وقع موتهما معاً لم يتوارثا، فلا فرق بين أن ينقطع الميراث بينهما بهذا السبب وبين أن ينقطع بعدم الزوجية، ثم القول في وجوب القصاص عليهما على ما رتبناه، ثم الكلام فيمن به البداية على ما سبق.
ورأيت في مرامز كلام الأصحاب ما يدل على الإضراب عن القرعة، والقاضي (5) لم يذكرها، واقتصر على أن قال: لو ابتدر أحدهما وقتل صاحبه، كان كذا وكذا،
__________
(1) في الأصل: "وقع مثله أناة قصاصاً".
(2) في الأصل: "الأول".
(3) في الأصل: "وكان".
(4) بمعنى "إذْ".
(5) المعروف من أسلوب إمام الحرمين أنه إذا أطلق لفظ (القاضي) فالمراد به القاضي الحسين، وهو المراد هنا، وهو لم يتعرض للقرعة وأضرب عن ذكرها، مما جعل الإمام يصف هذا بأسلوبه العالي بأنه فرار من الزحف، وكلام الإمام الذي ذكره آنفاًَ فيه إشارة -وإن كانت بعيدة- إلى أن القاضي يميل إلى القرعة، فقد قال: "وذهب ذاهبون إلى أن السبق لا أثر له، وإليه إشارة القاضي" فنَفْيُ أثر السبق فيه ميلٌ إلى القول بالقرعة، وقد كانت عبارة الرافعي دقيقةً حين قال: "ويكون التقديم بالقرعة أو يقدم للقصاص من ابتدأ بالقتل؟ فيه وجهان: ميل الإمام (إمام الحرمين) والقاضي الحسين الأول منهما" أي القول بالقرعة، وأما (القاضي) أبو الطيب، قطع بالثاني (أي عدم القرعة) ، ذكر ذلك النووي في الروضة، كل هذا يؤكد أن (القاضي) هنا المراد به القاضي الحسين. (ر. الشرح الكبير: 10/169، الروضة: 9/154) .(16/28)
وهذا فرار من الزحف، فإذا جاءا وكُلٌّ بطلب صاحبه، فما الجواب؟ ولا سبيل إلى تسليطهما على أن يتناجزا بالسيف، ولا سبيل إلى إسقاط القصاص، وإذا قلنا: من ابتدر منكما وقتل، فحكمه كذا، فيبتدر كل واحد منهما إذا علم المبتدر أنه الفائز، فلا وجه عندنا إلا القرعة. والعلم عند الله.
فصل
10275- مولودٌ مشكلُ النسب ادعاه رجلان، واحتمل أن يكون من كل واحد منهما، فإذا لم نجد [القائف] (1) ، وانحسم مسلك البيان، فلو قتله أحدهما في حال قيام الإشكال، فلا قصاص، لاحتمال أن يكون أباه، وقد صدر من كل واحد منهما [ما يثبت الأبوة لو انفرد] (2) وهو الدِّعوة (3) ، وقد ثبتت أبوّة مبهمة وأشكل الأمر.
ولو جرى القتل من أحدهما، ثم تبين بقول القائف، أن الأب هو الثاني، نوجب القصاص على القاتل؛ لأن الأبوة إذا ثبتت في حق أحدهما، انتفت في حق الثاني.
وقد تتفرع صور ناشئة من لحوق النسب، في التناكر والتداعي وإقرار أحدهما مع إنكار الثاني، وهي بجملتها مضمونُ باب الدِّعوة، وحظ هذا الفصل منها أن من ثبت نسبه، انتفى القصاص عنه، إذا كان قاتلاً، وإن استبهم الأمر، انتفى القصاص أيضاً عند ثبوت سبب النسب، وقد يكون دِعوة وقد يكون فراشاً.
ولو اجتمعا عليه فقتلاه، فلا قصاص على واحد منهما، ولو بان أن الأب أحدُهما بعد القتل، فلا قصاص على الأب منهما، وعلى الثاني القصاص؛ فإن شريك الأب يلزمه القصاص، كما سيأتي شرح أحكام الشركاء.
__________
(1) في الأصل: "العامل".
(2) في الأصل: "ما يثبت الأبوة ولو انفرد".
(3) الدِّعوة: بكسر الدال، قال الأزهري: الدعوة بالكسر ادعاء الولد الدعي غير أبيه، يقال: هو دعي بين الدعوة بالكسر إذا كان يدّعي غير أبيه، أو يدّعيه غير أبيه. (المصباح) .(16/29)
فصل
10276- الرجل مقتول بالمرأة والمرأة مقتولة بالرجل، ولا أثر للذكورة والأنوثة في القصاص، وإن كانا يؤثران في تفاوت البدل، ولو كان للقياس مضطرب في الباب، لكانت الأنوثة والذكورة مؤثرتين في القصاص [كأئرهما] (1) في البدل، سيّما على مذهب من يرعى الكفاءة بين القاتل والمقتول، ولا يرى قتل الفاضل بالمفضول، ولمّا قابل الله تعالى الحرّ بالحر والعبد بالعبد، قابل الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا قتل الرجل المرأة تخير أولياؤها بين أخذ ديتها، وبين أن يُعطُوا نصف دية القاتل [ويقتلوه بها، وإن قتلت المرأة الرجل، تخير أولياؤه بين أن يأخذوا جميع ديته] (2) وأن يأخذوا نصف دية الرجل مع القصاص، وجعل التفاوت في البدل في هذا [أقيس] (3) كالتفاوت في أصابع اليد، ونحن قد نجمع بين استيفاء القصاص وبين الدية فيما لا نجده من يد الجاني المقتص منه، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل.
والممكن في الباب أن القصاص وإن كان حقا ثابتاً للآدمي، فليس هو [على] (4) قياس الحقوق؛ فإن من أتلف على إنسان مالاً يغرَم له ما يجبر الفائت، فإذا قتل القاتلَ، فلا جبران فيه، وهو على التحقيق يناظر حقاً للآدمي تعلّقُه بطلبه، وسقوطه بإسقاطه، وحظُّه الخاص منه شفاء الغليل، والغرض الأظهر منه الزجر وإقامة العصمة وتحقيقها، والذكورة والأنوثة لا يوجبان تفاوتاً في العصمة بخلاف الكفر والإسلام والرق والحرية.
__________
(1) في الأصل: "فأثرهما".
(2) ما بين المعقفين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها. وهي من معنى ما رواه الرافعي عن الإمام علي والحسن البصري وعطاء (ر. الشرح الكبير: 10/172) .
(3) في الأصل: "أسبق".
(4) في الأصل: "حلى قياس".(16/30)
فصل
قال: "وفي العبد قيمته، فإن تلفت ومات ... إلى آخره" (1) .
10277- من قتل عبداً خطأ، أو قتله عمداً، وآل الأمر إلى المال، فالواجب قيمة العبد بالغةً ما بلغت، وإن بلغت دياتٍ، خلافاً لأبي حنيفة (2) ، ومعتمد المذهب أن من يُتلف الماليةَ ملتزمٌ جبرانها، وسبيل الجُبران التزامُ ترك ما فات بكماله.
ثم قد قال بعض أصحابنا: إن قُتل العبدُ [قَتْل] (3) القصاص واستُوفي القصاص من القاتل، فالعبد مضمون بالدّمية، فإن آل الأمر إلى المال، انقلب الضمان إلى المالية وكان المضمون منه وهو مملوكٌ ماليةً، كما لو [تلف] (4) تحت يد غاصب، وهؤلاء يزعمون أن العبد فيه الدّم والمال، فإذا أفضى الأمر في ضمانه إلى المال، زال معنى [الدّمّية] (5) وتمحض معنى المال.
وذهب المحققون من الأئمة إلى أن العبد المقتول مضمون ضمان [الدّمية] (6) بدليل وجوب الكفارة ووجوب القصاص، وإذا كان مضموناً بالقصاص لو قتل عمداً، فالخطأ دمية أيضاًً اعتباراً بالحر يقتلُ عمداً وخطأ، ثم هذا القائل يقول: دمه مملوك، فيضمن لمالكه بقيمته بالغة ما بلغت، وتقرير ذلك في (الأساليب) وغيرها من مصنفاتنا.
__________
(1) ر. المختصر: 5/95.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/198 مسألة 2297، رؤوس المسائل: 459، مسألة 324، طريقة الخلاف: 506، مسألة 201.
(3) في الأصل: "قبل".
(4) في الأصل: "تلفت".
(5) في الأصل: "الوصية".
(6) في الأصل: "الذمية".(16/31)
فصل
قال: "ومن جرى عليه القصاص في النفس ... إلى آخره" (1) .
10278- كل شخصين جرى بينهما القصاص في النفس جرى بينهما القصاص في الطَّرَف، مع التساوي في الخِلقة والسلامة، وغرض الفصل أن تفاوت الشخصين في الدية إذا كان لا يمنع جريانَ القصاص بين النفسين لا يمتنع به جريان القصاص بين الطرفين، فيد الرجل مقطوعةٌ بيد المرأة، ويد المرأة مقطوعة بيد الرجل، كما أن كل واحد منهما مقتول بالثاني.
وعمدة المذهب أن الأطراف في توقيف الشرع وتقديره منزّلة على [نِسب] (2) جزئية، فاليدُ محلُّ نصف الجملة واليدان في مقابلة تمام الجملة، فإذا ثبت ذلك توقيفاً، والجملة مقابلة بالجملة، فالأجزاء ينبغي أن تكون مقابلةً بالأجزاء؛ فإن من المقاييس الظاهرة [في النِّسب أن] (3) الجملة إذا قابلت الجملة، فالنصف يقابل النصف، واليد السليمة من المرأة لا تقطع باليد الشلاّء من الرجل، وإن كان حكومة الشلاّء مثل دية اليد السليمة من الرجل؛ فإن النسبة متفاوتة، فإن اليد السليمة من المرأة نصفُها، واليد الشلاء من الرجل ليست نصفه. فهذا غرض الفصل.
ومذهب أبي حنيفة مضطرب في الأطراف، وليس يليق بذكره غرضٌ في مذهبنا، والقول في سلامة الأطراف وشللها وتفاوت خَلْقها بين أيدينا، وهي عمدة الكتاب وستأتي على أحسن وجه في البيان، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/96.
(2) في الأصل: "سبب".
(3) في الأصل: "في النسيان".(16/32)
فصل
قال: "ويقتل العدد بالواحد ... إلى آخره" (1)
10279- إذا تمالأ طائفة على شخص، وقتلوه، وكل واحد من الجناة بحيث لو انفرد بالقتل استوجب القصاص، فيقتلون قصاصاًً على مذاهب جمهور العلماء، وروي أن سبعةً، أو خمسة اشتركوا في قتل رجل فقتلوه غيلة، فقتلهم عمر رضي الله عنه، وقال: "لو تمالأ على قتله أهل صنعاء، لقتلتهم به" (2) .
ثم الذي ذهب إليه طوائف من أصحابنا أن قتلهم بالمقتول خارجٌ عن القياس، وقال محمدُ بنُ الحسن: "لو رُددنا إلى القياس، لما قتلنا جمعاً بواحد، ولكنا اعتمدنا فيه مذهب عمرَ رضي الله عنه" وتحقيق ذلك: أنا نعتبر الكفاءة في الصفات مع الاستواء في العصمة، فإنه لا نقتل إلا قاتلاً، وكل واحد من الشركاء ليس قاتلاً؛ فإن القتل [لا يتعدّد] (3) هذا وجه خروجه عن القياس.
وقال بعض أصحابنا: قتل الجماعة بالواحد خارج عن القاعدة الكلية المرعيّة في أصل القصاص؛ فإن القصاص لم يثبت على قياس الأعواض والضمانات [الجابرة] (4) ، وإنما الغرض الأظهر من القصاص الزجرُ ومنع الهرْج، ولو لم نقتل الجماعة بالواحد، لم نمنع الجناةَ التعاونَ على الجناية، ويصير ذلك ذريعةً عامة ممكنةً مُفضيةً إلى الهرْج، وتقدير هذا ودفع الأسئلة مذكور في (المسائل) (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 5/96.
(2) أثر عمر: أن سبعة أو خمسة اشتركوا في قتل رجل ... رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب (2/871) . والبيهقي عن المغيرة بن حكيم الصنعاني عن أبيه (8/41) .
والحديث رواه البخاري من وجه آخر من حديث ابن عمر: الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم، ح 6896، وانظر التلخيص ح 1889.
(3) في الأصل: "لا نبعد" والمثبت تصرف من المحقق.
(4) في الأصل: الجائزة.
(5) المسائل: المراد بها كتابه (الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) . ووجه تسميته بالمسائل أنه كلما انتقل من باب إلى باب قال: مسائل كذا (القصاص مثلاً) ثم يعرض =(16/33)
والذي يحقق الغرض في ذلك أن القواعد الكلية لا تزحمها الأقيسة الجزئية، وإن كانت جلية.
وقال مالك (1) : إذا قتل جماعةٌ [واحداً] (2) لم يقتلوا به، ولكن لأولياء القتيل أن يختاروا واحداً من الشركاء ويقتلوه، ولا مزيد على ذلك، وأُضيفَ هذا المذهبُ إلى الشافعي قولاً في القديم، وليس يليق بقاعدة مالك مذهبُه في هذه المسألة؛ فإنه مائل إلى السياسات، وقد يرى القتل تعزيراً، ومتعلّقه في هذا الفن أقضية عمر وسياساته، وقد روينا عن عمر قتلَ الجماعة بالواحد، فالتخيّر أقصى وأبعد في القتل من ذلك، ثم من يُقْتَل لم يصدر منه القتل بكماله، [ثم قَتْلُ هذا في التحقيق مقابلة قتلٍ حاصل بجزءٍ من القتل] (3) .
ثم ذهب الأصحاب قاطبةً أن الجماعة إذا قُتلوا بالواحد، فكل واحد منهم مقتول قصاصاًً، وقال الحليمي: إذا قتل عشرةٌ رجلاً، فالقصاص مفضوضٌ عليهم، والمستحق قصاصاًً من كل واحد منهم عُشر دمه، [وتسعةُ] (4) أعشار دم كل واحد [مُهدرٌ] (5) في استيفاء المقدار المستحق. قال: ولا يمنع أن تُتلف على المتعدي ما لا يستحق عليه توصّلاً إلى استيفاء المستحَق؛ فإن من غصب شيئاً وأدخله داره وأغلق
__________
= القضايا الخلافية داخل الباب تحت عنوان (مسألة) وكلما انتهى من قضية قال: (مسألة) ؛ من أجل هذا يسميه (المسائل) . والمسألة مبسوطة في (الدرّة المضية) في القسم الذي مازال قيد الطباعة.
(1) الذي رأيناه في كتب المالكية أن الجماعة تقتل بالواحد إذا تمالؤوا عليه، أما إذا لم يكن تمالؤ فيقتلون أيضاًً، لكن بشروط لا نطيل بذكرها، فإذا لم تتحقق هذه الثروط فللأولياء القسامة على واحد معين، وقتله وحده، ويعاقب الآخرون (ر. الشرح الصغير: 4/344، حاشية العدوي: 2/565، حاشية الدسوقي: 4/245، 249، جواهر الإكليل: 2/257، شرح الحطاب: 6/241، منح الجليل: 9/25) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) عبارة الأصل: "ثم قتل وهذا في التحقيق مقابلة قتلٍ حاصلٍ يجوز من القتل".
(4) في الأصل: "سبعة أعشار دم كل واحد منهم".
(5) في الأصل: "مؤثر". وهو تصحيف مضلّل.(16/34)
الأبواب وامتنع المصيرُ إلى المستحَق إلا بقلع الأبواب، فإنها تقلع للتوصل إلى استرداد المغصوب.
وهذا المذهب ساقط غير معتد به، فإن إراقة تسعة أعشار الدم من غير استحقاق من القصاص [محال] (1) ، ولو قطع رجل يدَ رجل من نصف ساعده، فلا يجري القصاص فيه مخافة أن يزيد الاقتصاص على الجناية بجزء -وإن اعتدى الجاني- فكيف يجوز إراقة الدم من غير استحقاق القصاص، وإن تمسك الحليمي بالدية، فإنّ الأمر لو آل إليها، فعلى كل واحد من العشرة عُشر الدية، وهذا لا تعويل عليه، فإن كل واحد من الجناة وإن كان يغرَم عُشرَ بدل المقتول، فكل واحد من الجناة يقابِل كلُّ دمه عُشرَ دم القتيل، كما يقابل الرجلُ في القصاص المرأة، وإن كان يغرَم ديةً ناقصة إذا آل الأمر إلى المال.
10280- وممّا يتعلق في الفصل بيان الاشتراك وما يُرعى ضرورةً من كل واحد، فإذا جَرَحَ واحدٌ منهم جراحاتٍ، وجَرَح واحدٌ جراحةً، فهم مشتركون، ولا أثر لعدد الجراحات، ولو فرض من بعضهم [ضربةٌ] (2) بسوط، ومن الآخرين ضربات بسياط، فهذا الفن يأتي -إن شاء الله عز وجل- مشروحاً في بيان الشركة وانقسامهم إلى العامدين والمخطئين، وعند ذلك نوضح أفعال الشركاء، إن شاء الله عز وجل.
وما ذكرناه في قتل جماعةٍ واحداً، فأما قتل واحد جمعاً، فسيأتي بعد ذلك.
فصل
قال: "ويُجْرحون بالجرح الواحد ... إلى آخره" (3) .
10281- إذا قطع جماعة على الاشتراك طرفَ إنسان، قُطعت أطرافهم اعتباراً للطرف بالنفس، فكما يُقتل أشخاصٌ بشخص تُقطع أطرافهم بطرفه، ولكن إذا تحقق
__________
(1) في الأصل: بحال.
(2) في الأصل: ضرب.
(3) ر. المختصر: 5/97.(16/35)
الاشتراك، وهو بأن يضعوا حديدة على يده ويتمالؤوا فيتحاملوا على الحديدة، والمعتبر في ذلك ألا يكون في الطرف جزء ينفرد بالجناية عليه بعض الجناة، فلو قطع جانٍ [بعضَ] (1) يد المجني عليه، وقطع آخر التمامَ (2) ، فلا يستوجب واحدٌ قطعَ يده كاملأ؛ فإنَّ فِعْل كلِّ واحد منهما متميز عن فعل شريكه، وليس كما لو جرح بعضُهم جراحة، ثم جرح آخر؛ فإن زهوق الروح يحصل بالسرايات، وهي مختلطة لا تميز فيها، [وإبانة] (3) اليد تحصل بالقطع المحسوس، والقطع متميز عن القطع.
وهذا يكاد يخرم تحقيق تشبيه الطرف بالنفس؛ فإن سبيل التشبيه أن النفس [صِينت] (4) بالقصاص في الاشتراك والانفراد، فليكن الطرف كذلك، وسر الفصل ينتهي إلى [حسم] (5) الذريعة المفضية إلى الهَرْج، فيلزمه على [خوف] (6) الهرج [اعتبار] (7) الاشتراكِ مع انفصال القطع عن القطع (8) .
وقد قال صاحب التقريب: يقطع من يد كل جان مقدار ما قطع [مع] (9) الاقتصار على القدر المستيقن، وهذا أخذه من قول الشافعي: في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة من شجاج الرأس.
ووجه التشبيه أن القصاص يجري في الموضحة، والمتلاحمةُ بعضُها، [فالإبانة] (10) كالإيضاح، وقطع بعض اليد بمثابة المتلاحمة، وهذا الذي ذكره ظاهر
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) التمام: ما يتم به الشيء (المعجم) .
(3) في الأصل: "وأمانة".
(4) في الأصل: "صين".
(5) زيادة من المحقق.
(6) مزيدة لإيضاح الكلام.
(7) زيادة لاستقامة الكلام.
(8) المعنى أننا إذا أدركنا سرّ الفصل، لم ينخرم تشبيه الطرف بالنفس، وأدركنا لماذا حكمنا بقطع أطراف المشتركين مع إمكان تميز عمل كل واحد منهم عن الآخر.
(9) في الأصل: "من".
(10) في الأصل: "فالأمانة".(16/36)
في التقريب والبناء، لمن لا يتفطن [الأسرار في الأعواض] (1) ؛ وذلك أن جلدة الرأس وما عليها من لحمٍ، أجزاؤها متساوية؛ فإنها جلدٌ ولحم، فليس فيها أعصاب وعروق، وهي جداول الدم، والعروقُ الرقاق لا معتبر بها أصلاً، فيتأتى رعاية القصاص فيها، ومعصم اليد مشتمل على أعصاب ملتفّةٍ وعروقٍ ساكنة وضاربة، ويختلف وضعها في الأيدي، فلا يتأتى إجراء [التماثل] (2) فيها. وسأعيد ذكر هذا في الأطراف وقصاصها -إن شاء الله عز وجل- وما ذكرناه يوضح قدر الحاجة الآن، ويُبطل مسلك صاحب التقريب.
ولو وضع أحد الجانيين الحديدةَ من أحد جانبي اليد، ووضع آخرُ [حديدةً] (3) من الجانب الثاني، فالقطع منفصل عن القطع.
ولو كانا يُمرّان حديدةً واحدة إمرار المنشار، فهذا يصور على وجهين: أحدهما - أن يتحامل الشريكان في كل مرة، والآخر أن [يفتر] (4) أحدهما في الجذب في جهة صاحبه، ثم يجذب في جهة نفسه، كما يفعله المتعاونان في المنشار، فإن كان كذلك، فلا يجب القصاص على واحد منهما، ولا تعويل على ما ذكره صاحب التقريب، [فإنه غير ممكن أيضاً وما ذكرناه] (5) كلامٌ في قطع أطراف من [مشترِكين] (6) في الجناية بطرف.
فأما إذا قطع رجل أطرافاً، فسيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
10282- ثم قال الشافعي: ولا يقتص إلا من بالغ عاقل، وهذا قد قدمنا ذكره في
__________
(1) في الأصل: "إلا سراب والأعواض".
(2) في الأصل: "فلا يتأتى إجراء القاتل".
(3) في الأصل: "الحديدة".
(4) في الأصل: "أن يعتر".
(5) في الأصل: "ولا تعويل على ما ذكره صاحب التقريب غير ممكنة اتصاف ما ذكرناه كلام في قطع أطراف ... إلخ" وفيها خلل وتصحيف، أما التصحيف ففي قوله "اتصاف ما ذكرناه" فقد تحوّلت الواو إلى فاء، والصواب " ... أيضاً وما ذكرناه" وأما الخلل، فظاهر، وقد حاولنا تصويبه، ولا نستطيع الزعم بأننا وقعنا على ألفاظ الإمام".
(6) في الأصل: "مشركين".(16/37)
صدر الكتاب، وأوضحنا أن سقوط التكليف بالصبا والجنون ينافي وجوبَ القصاص، وهو متفق عليه. أما المجنون، فلا [يتأتى] (1) زجره، وتقديرُ القصاص عليه كتقديره على البهائم.
فأمّا المراهقون، فإنهم ملتحقون بالمجانين في العقوبات.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا عمد رجل رجلاً بسيف أو خنجر ...
الفصل" (2) .
10283- الجنايات في القتل والجرح ثلاثة أقسام: أحدها - ما يتمحض عمداً، وهو الموجب للقصاص.
والثاني - الخطأ المحض، وموجبُه الديةُ المحققةُ المضروبةُ على العاقلة.
والقسم الثالث - شبهُ العمد، وموجبه الدية المغلظة على العاقلة، والذي يتعلق بغرضنا في الباب بيان العمد المحض، وقد يتعلق بأطراف الكلام شبهُ العمد، فأما الخطأ المحض، فليس من مقصودنا، وسنصفه بما يضبطه ويميزه من القسمين: العمد وشبه العمد، في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
والكلام في العمد أطلقه الأصحاب وتخطَّوْه، ولم يَشْفوا الغليل فيه، وليس الكلام فيه بالهيِّن، ونحن بعون الله وحسن توفيقه لا نألو جهداً في بيانه وكشفه.
والتقسيم الأوّلي فيه أنه ينقسم إلى قتلٍ [مذفِّفٍ] (3) ، وإلى سبب سارٍ، فأما القتل [المذفِّف] ، فلا يُحوج إلى الإمعان في الوصف، وهو كضرب الرقبة والتوسيط (4) ،
__________
(1) في الأصل: "فلا ينافي".
(2) ر. المختصر: 5/97.
(3) في الأصل: "الموقت".. والمذفف أي المُجهز: من قولهم. ذفف على الجريح: إذا أجهز عليه، ومثلها: أذفه. (المعجم) .
(4) التوسيط: وسّطه: قطعه نصفين (المعجم) .(16/38)
وإبانة الحشوة (1) ، ومِنْ حاله أن يُنهي المجني عليه إلى الانطفاء وقبض النفس، وقد يجمد، وقد يبقى فيه ارتعاصُ (2) مذبوح، ويلتحق به أن يكب الجاني على المجني بآلةٍ جارحة أو غيرها، متوالياً عليه بها إلى [الحزّ] (3) .
10284- فأما الأسباب السارية، ففيها الكلام، ولأجلها عُقد الفصل، والتوصية بصدق الاهتمام.
فنقول أولاً: ما يقع عمداً محضاً منها لا يختص بما يجرح ويشُقُّ، بل المثقَّلات، والتخنيق، والتغريق، كلُّها داخلةٌ في أجناسها تحت العمد، خلافاً لأبي حنيفة (4) ؛ فإنه قال: لا عمد إلا فيما يجرح، ولا يجب القصاصُ بغير الجرح، ثم لم يخصص وجوبَ القصاص بالجَرْح [على] (5) من يُوجب اعتقادَ تعمد، بل زعم أن التعمد لا يتحقق إلا بالجَرْح، وزعم أن القتل بالخنق شبه عمد، وضَرَب الدية على العاقلة، وأوجب [الكفارة] (6) ، ولا تجب عنده في العمد المحض، وهذا خروج عظيم عن المعقول وانتهاء إلى مسالك السفسطة.
ومن أنكر التذفيف في الخنق، والموالاة بالمثقلات، فقد عاند بديهة العقل، وإذا ثبت التذفيف، فكيف يعقل الإقدام على التذفيف والتجهيز (7) مع الحكم بأن هذا ليس
__________
(1) الحُُِشوة: كل ما في البطن غير الشحم وهي مثلّثة الحاء (المعجم) .
(2) ارتعاص: ارتعاش وارتعاد، ارتعص: اهتز، واضطرب، وانتفض، وتلوى (المعجم) .
(3) في الأصل: "الحرد" ولم أجد لها معنىً مناسباً على كل صور حروفها ونقطها، من خاء إلى جيم، إلى دالٍ وذال.
والمثبت من تصرّف المحقق، والحزّ معناه القطع، يقال: حزّه حزاً إذا قطعه ولم يفصله.
(المعجم) .
(4) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/85 مسألة: 2216، تحفة الفقهاء: 3/143 وما بعدها، والاختيار: 5/22 وما بعدها.
وقد خالف في ذلك أبو يوسف ومحمد.
(5) في الأصل: "عن".
(6) في الأصل: "الكفا".
(7) التجهيز: جَهَز على الجريح (بالتخفيف) أسرع في قتله وتمّم عليه، وجهّز (بالتضعيف) للتكثير والمبالغة (المعجم، والمصباح) فالتجهيز مصدر هذا الفعل مضعّفاً.(16/39)
بعمد؟ ثم تولّع بالجَرْح والجرحُ تقطيع، ولو والى بالمثقلات على إنسان حتى ترضضت عظامه وراء الجلد، فقد حصل التقطّع، وبالجملة مذهبه خارج عن مسالك العقول.
10285- فأما ضبط مذهبنا، فالكلام ينقسم في [الأسباب] (1) غير [المذفِّفة] (2) : إلى ما يتعلق بالظواهر ولا يجرح، وإلى الجراحات.
فأما ما يتعلق بالظواهر، فالذي أطلقه الأصحاب فيه أن كلَّ ما يُقصد به القتلُ غالباً، فهو العمد إذا تجرد القصد إليه، ثم سنوضح أن هذا يختلف باختلاف الحال والأشخاص والأوقات.
وما لا يقصد به القتل غالباً، فليس بعمد، وإنما هو شبه عمد، وكان شيخي يقول: العمد المحض في هذه الأسباب يتحقق فيما يكون القتل مقصوداً به، وشبه العمد [ما لا يكون القتل مقصوداً به] (3) ، ثم قد يفضي إلى القتل، وهذا كلام منتظم في هذا القسم، ولم نذكره لنعوّل عليه، وبيان الفصل موقوف على نجازه.
فأما الجراحات، وفيها معظم المقصود، فقد أطلق الأصحاب أن من قطع إصبعاً أو أنملةً، وسرت الجراحةُ، وترامت السراية إلى الزهوق، فالقصاص واجب في النفس، ونحن نعلم أن إفضاء قطع أنملة إلى الروح لا يعد [مما] (4) يغلب، بل هو [نادرٌ] (5) ، فلا يطَّرد إذاً في الجراحات ما ذكرناه من الأسباب المتعلقة بالظواهر من قصد القتل غالباًً، وهذا مما يتمسك به أصحاب أبي حنيفة في مسألة القتل بالمثقل، [ولا شك] (6) أن أمثال ما ذكرناه في الجراحات ليس مما يقصد به القتل، وتعلّقَ القصاصُ به، فتبين أن القصاص نيط بالجرح بعينه، وأنه سبب القصاص لا غير،
__________
(1) في الأصل: "الأنساب".
(2) في الأصل: "المدقعة".
(3) في الأصل: "وشبه العمد ما يكون الفعل مقصوداً به".
(4) في الأصل: "بما".
(5) في الأصل: "ناكر".
(6) في الأصل: "فلا سهم".(16/40)
وهذا مما استقصينا الكلامَ عليه في (المسائل) (1) .
وكان شيخي يقول فيه: خص الشرع الجرح بمزيد احتياط لما فيه من الإفضاء إلى السرايات الباطنة التي لا يدرك منتهاها، وأوجب القصاص في قتيل الجرح الذي يسري؛ ردعاً للجناة وتغليظاً عليهم، وكأن الجرح الساري لم يُرع فيه قصدُ القتل [لاختصاصه] (2) بمزيد الغرر والخطر، [وفيما] (3) يتعلق بالظاهر يُرعى فيه قصد القتل بما يقتل غالباً.
هذا ما كان يذكره. وفيه فضل نظر؛ من جهة أن القصاص يتعلق بالعمد بالإجماع، والعمد بالفعل المحض غيرُ كافٍ، ولا بد من العمد في القتل، ويستحيل أن يختلف هذا بالأسباب؛ فإنه أمر متعلق بالحسّ والأحكام [منوطةٌ] (4) بالمحسوسات، وإيجاب القصاص [بقطع] (5) أنملة لا توقيف فيه من الشارع، وإنما تلقاه العلماء من تصرفهم، في العمد، فلا بد من ضبطٍ آخر سوى هذا.
والذي تحققناه من نص الشافعي في (السواد) (6) ، ومن تصرف المحققين ما نصفه في الجراحات أولاً، ثم ننعطف على الجنايات المتعلقة بالظواهر، ونبين اندراج جميع الأسباب تحت ضبطٍ واحد.
10286- أما الجرح، فكل ما أفضى إلى القتل، [وبانت] (7) سرايته، وظهر تقاذف أثره، وتراقي سرايته إلى الهلاك، فهذا جرح نعلم أن القتل حصل به، وقد وقع عمداً، وصار قتلاً، والسراية تكسب معه الجناية [إذا تحققنا] (8) أنه القاتل، وقد
__________
(1) المسائل: يعني كتابه في الخلاف المسمى (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) .
(2) في الأصل: "اختصاصه".
(3) في الأصل: "ومما".
(4) في الأصل: "مسبوقة".
(5) في الأصل: "بقتل".
(6) السواد هو مختصر المزني كما نبهنا مراراً.
(7) في الأصل: "بانت" (بدون واو) .
(8) في الأصل: "إذا تحققت".(16/41)
انتظم أن يقال: قَتَل [، وأوقع] (1) الفعلَ عمداً.
وهذا يناقض ما مهدناه من قبل من كون الشيء مفضٍ إلى القتل غالباًً، ونحن ننقل لفظ الشافعي رضي الله عنه في ذلك، قال الشافعي: "فجرحه جرحاً كبيراً أو صغيراً، فمات منه، فعليه القود" (2) وقوله: "فمات منه" ظاهرٌ في أن المطلوب أن يُعْلَم أنه مات منه.
فإذا بان هذا في الجرح، انقلبنا إلى الأسباب المتعلقة بالظاهر، كالضرب بالسياط، فنقول: إذا ضرب الرجلُ الرجلَ ضربات، واتفق الموت، لم يظهر الحكم بوقوع الموت، من تلك الضربات، وإذا كثرت الضربات، وورّمت المواضع أو [قيَّحتها] (3) وترامت الآثار، كما وصفناه في الجرح؛ فإذ ذاك نعلم أن الموت بها. ومن العبارات الرشيقة في ذلك: "أن سرايات الجروح باطنة والجرح في نفسه ينتهي إلى الباطن، وأثره ظاهر، ووقوع القتل به [بيّن] (4) ، والأسباب على الظواهر ظاهرة، وغَررُها باطن" على معنى أنا لا نقطع على وقوع الموت بها إلا إذا تفاحشت.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن المرعي في الجَرْح، والسبب المتعلق بالظاهر أن نعلم بوقوع الموت به.
10287- وهذا لا يصفو عن الكدر إلا بشيئين: أحدهما - أنْ نصف شبهَ العمد؛ حتى يتضح في نفسه مقصوداً، [ونَعْبُر إلى العلم بالعمد] (5) .
فإذا جرى سببٌ على عمد، ولا يمتنع وقوع الموت به مترتِّباً عليه، ولكنا لم نعلم ذلك، ولم نُبعده، ولم يحدث سببٌ غيرُ الجناية نحيل الموتَ عليه، فهذا أمر
__________
(1) في الأصل: "فأوقع".
(2) ر. المختصر: 5/97.
(3) في الأصل: "قيّحته".
(4) في الأصل: "فبين".
(5) في الأصل: "أو نعبر على العلم بالعمد" والمثبت من تصرفات المحقق.
والمعنى أننا نوضح معنى شبه العمد، ونعبر (من العبور) إلى العلم بالعمد. وقد يكون فيها تصحيف لم ندركه. والله أعلى وأعلم.(16/42)
مشتبه، والضمان في الجنايات يجب مع الشبهة، [ويحال] (1) على الجناية، ومن جنى على امرأة فأَجْهَضَت جنينها، فلسنا نعلم أن الإجهاض بالجناية، ونوجب الغُرّةَ إحالةً على الجناية إذا لم يظهر سببٌ غيرُها.
هذا أحد الأمرين.
والثاني - ذكر مسائل توضح ما مهدناه، منها: أن من غرز إبرة في إنسان، قال الأصحاب: إنْ غرزها في مقتل كثُغرة النحر، والأَخْدَعَين، والمثانةِ، والعِجَان (2) ، وما في معانيها، فهذا مما يوجب القصاص.
وأما غرز الإبرة في غير مقتل [كأن] (3) كان في جلدة غليظة، فلا أثر لها.
ومما يتعين ذكره لتمام البيان أن ما يعلم قطعاً أن الموت لا يترتب عليه في مستقر العادة، فإذا قارنه الموت لم يُحَلْ الموتُ عليه، وإنما هو قضاء تداركه وفاقاً، ولا يتعلق بهذا القسم قودٌ، ولا ضمان.
10288- فالأفعال المعهودة ثلاثة أقسام: منها ما يعلم أن الموت حصل به، وهو القتل الموجب للقصاص.
ومنها ما هو معهود، والموت به ممكن، ولكنا لم نعلمه، ولم يظهر سببٌ سوى الجناية، [فالضمان] (4) واجب، وحكم الشرع إحالةُ الموت على الجناية.
ومنه ما يعلم أنه لا يقع الموت به، فهو مهدر: لا يتعلق به قودٌ، ولا ضمان.
وإن اتفق اتصال الهلاك به، عُدّ ذاك من موافقة القدر، ولم يُنَط به حكم. وغرز الإبرة في الجلدة بهذه [المثابة] (5) .
وإن غُرزت في لحمٍ، فقد قال الأصحاب: إن تورّم موضع الغرز، واتصل الموت به، وجب القصاص، وإن لم يتورّم موضع الغرز، واتصل الموت، وكان يجد
__________
(1) في الأصل: "ومحال".
(2) العجان: وزان كتاب، ما بين الخصية وحلقة الدبر (المصباح) .
(3) في الأصل: "إن".
(4) في الأصل: "والضمان".
(5) في الأصل: "الجناية".(16/43)
المغروز فيه ألماً شديداً، ففي وجوب القصاص وجهان.
وقال بعض الأصحاب: الغرز في غير المقتل [يعني غرزَ] (1) الإبرة إذا اتصل الموت [به] (2) ، [وكان] (3) قد جاوزت الإبرةُ الجلدةَ، وتوغلت في اللحم، هل يوجب القصاص؟ فعلى وجهين من غير فصلٍ بين أن يتورم وبين ألا يتورم.
ونحن نقول: سبب اضطراب الأصول وتشوشها على الآخذين إرسالُ المسائل في الوفاق والخلاف من غير تعرضٍ لبيان مَنْشَئها من القواعد، وذكرُها دون ما ذكرناه يحسم بابَ النظر في الأصول، وما ذكرناه أصدق شاهد فيما أشرنا إليه.
والوجه أن نقول: ذكر الأولون التورّمَ، وعنَوْا به تقاذفَ السراية، وظهورَ ذلك للناظر، وهذا الذي قلنا فيه: إنه يُعْلَم حصولُ القتل به، فإن [كان] (4) كذلك، تعلّق القصاص [به] (5) ، ومحل التردد أن الإبرة قد تصل إلى عصبة، فتؤلم، ولا يتسع الجرح حتى يظهر التورم، فهل يكون [الألم الشديد] (6) من غير ظهور التورم -إذا لم يظهر سوى الغرز- بمثابة السراية في الحس، مع العلم بأن الآلام الشديدة قد يُقتل بها ويموت من تُعصر خصيته.
هذا محل التردد.
وإن لم يظهر تورّمٌ ولا ألم شديد، فليس إلا القطع بانتفاء القصاص.
وهذا تحقيق محل الوفاق والخلاف.
ولو أُبينت جِلْفةٌ (7) من اللحم خفيفة، فهي كغرز الإبرة.
__________
(1) عبارة الأصل: يعني عن غرز الإبرة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "ومن كان قد جاوزت ... ".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) مزيدة لإيضاح العبارة.
(6) في الأصل: "فهل يكون إلا ألم شديد من غير ظهور التورّم".
(7) في الأصل: "خلقة"، والمثبت تصرّف من المحقق. والجِلفة القطعة من كل شيء (المعجم) .(16/44)
10289- وقد انتجز تمام البيان في ذلك ولا يعترض عليه شيء به احتقال إلا نصُّ الشافعي رضي الله عنه في الأطراف، فإنه قال: "لو جرح رجل يد رجل، أو أبان بعضها، فتأكّلت الجراحة، وأفضت إلى سقوط اليد، فلا قصاص" (1) "ونصّ على أن من أوضح رأس رجل، فذهب ضوءُ عينه وجب القصاص" (2) .
فنصّه في نفي القصاص على الجرح المفضي إلى تأكّل العضو ينافي ما اعتمدناه في الجراحات، حيث قلنا: إذا تحققنا حصول الموت بالجرح، أوجبنا القصاص، وقد تيقّنا أن [سقوط اليد ترتب] (3) على الجرح.
والذي أطلقه الأصحاب في ذلك أن أجرام الأعضاء لا تُقصد بالتأكّل [كالروح تقصد بسراية الجراحات،] (4) والْتحق ضوء المناظر بالروح لمّا لطُف، وهذا مسلك [رديءٌ] ، (5) جدّاً.
وقد قال الشيخ أبو علي والعراقيون: من أصحابنا من [جعل] (6) في سقوط الطرف وذهاب ضوء العين قولين: نقلاً وتخريجاً: أحد القولين - أن القصاص يجب فيهما، والقول الثاني - لا يجب القصاص فيهما.
ولا يوافقُ الأصلَ الذي مهدناه، وأردنا تنزيل المسائل عليه إلا إيجابُ القصاص في الأطراف واللطائف، جرياً على ما تقرر؛ وذلك لأن الأطراف معصومةٌ بالقصاص، قصداً، لا على سبيل التبع، ولذلك شبهها بالنفس في إيجاب القصاص على المشتركين وإن لم يصدر من واحدٍ منهما تمامُ الجناية، وتعلّقُ سراية الجراحة بجرح الجارح أعظم من تعلّق فعل الشريك بالشريك.
__________
(1) ر. المختصر: 5/119، والعبارة هنا بمعنى كلام الشافعي، لا بألفاظه.
(2) ر. المختصر: 5/118.
(3) عبارة الأصل: "وقد تيقنا أن حصول اليد يترتب على الجرح".
(4) في الأصل: "بالروح يقصد سراية الجراحات" والمثبت من تصرف المحقق.
(5) زيادة من المحقق على ضوء السياق، والمعهود من ألفاظ الإمام.
(6) في الأصل: "حصل".(16/45)
وإن قال قائلٌ: الأعضاء لا تقصد بالسراية، [ويتيسر] (1) فرض قطع الأطراف على الاشتراك، فهذا الكلام وإن استقل [يعضّد] (2) قطعَ الأنملة إذا أفضى إلى الروح، وإن قيل: الروح لطيفة، فأي فقه في لطفها وهي لا تقصد بقطع الأنملة غالباً؟ وليس تأكّل الجرح بأبعدَ من سريان قطع الأنملة إلى الروح، فإن كان الصحيح أن أجرام الأطراف لا تُضمن بالقصاص إذا سقطت بسراية الجراحات، فهذه غُصّةٌ في القلب، وحَسَكة (3) في الصدر.
وقد انتهينا إلى منتهى الفكر، [وـعـ ـر بأصل النظر] (4) .
10290- ونحن نذكر مسائلَ معظمها منصوصة بعد إتمام هذا، فنقول: معتمدنا في زهوق الروح بالجرح رؤيةُ السراية، وظهورُ التأكّل، [فالزهوق؟ (5) إذا [كان] (6) مسبوقاً بالتأكّل [في بعض] (7) العضو، فكيف لا يكون العضو مضموناًً بالتعفن؟ وهو طريق الموت.
ومما انتهى الفكر إليه، ثم لم يستقم أن قائلاً لو قال: المرعيُّ أن يخطر للجاني قصدُ القتل، وإن كان لا يغلب؛ فإنّ قطع اليد يمكن تنزيله على هذه المرتبة، فإنه وإن كان لا يغلب منه الموت، فليس يندر منه، وما كان كذلك لم يبعد قصد القتل [به] (8) ، ولكن قطع الأنملة لا يصدر من ذي عقل وهو يقصد به قتل المقطوع منه.
10291- ومن المسائل التي نذكرها: الإلقاء في الماء، والغرضُ منه يفصّله
__________
(1) في الأصل: "وتيسّر".
(2) في الأصل: "بعضه".
(3) الحسكة: واحدة الحَسَك، وهو شوك شديد حادّ، يضرب به المثل في الإيلام والإقلاق.
(4) ما بين المعقفين صورة ما هو بالأصل. ولمّا نُلهم تقدير صوابه، وإدراك خلله، وقد تُقرأ على غير هذا الوجه (انظر صورتها) والسياق مفهوم بدونها على أية حال، وعلى أي وجه قرئت.
(5) في الأصل: "بالزهوق".
(6) مكانها بياض بالأصل.
(7) في الأصل: "وبعض العضو".
(8) زيادة من المحقق.(16/46)
تقسيمٌ، فنقول: لا يخلو الإلقاء إما أن يكون في ساحل (1) [يفرض] (2) الخلاص منه [وإما أن يكون في غمرةٍ ولُجة] (3) لا يفرض الخلاص منها، فإن كان الإلقاء في ساحلٍ، انقسم [إلى] (4) ما لا يُغرق، وهو الضحضاح [المخيض] (5) وإلى ما يُغرِق من لا يسبح.
فأما إذا كان الإلقاء في ضحضاح، نُظر: فإن كتّفه وشدّ أطرافه وألقاه على هيئة يعلوه الماء ويُلجمه، فهذا إهلاك، وإن لم يكن كذلك، [فاضطجع] (6) الملقَى أو استلقى، [فقد] (7) قتل نفسه، ولا ضمان على الملقي، وسنعيد هذا الطرف في أثناء الفصل عند ذكرنا السباحة وتركها، وترك معالجة الجرح، إن شاء الله عز وجل.
ولو كان الساحل مُغرقاً، وكان النجاة منه ظاهرة الإمكان في حق من يسبح، فينظر في الملقَى، فإن كان ممن لايحسن السباحة، فغرق، فملقيه قاتلٌ على عمد؛ مستوجبٌ للقصاص، والجنايات تختلف باختلاف من يتصل بالجناية، فإن الصبي قد تقتله ضربات يستهين بها [الأيّد] (8) والمُدنِف يهلك بما لو فرض في صحته، لكان شبه عمد في حقه.
وقد تختلف الجنايات بالأوقات، فيكون لوقوعها في حرارة القيظ أو شدة البرد قدرٌ يخالف مقدارها في اعتدال الهواء. وهذا بيّن.
وإن كان الملقَى ممن يحسن السباحة، فتخاذل ولم يسبح حتى غرق، فالذي
__________
(1) يستخدم لفظ (الساحل) بمعنى الماء إذا لم يكن لجةً وغمرة لا نجاة منها، ولم يكن ضحضاحاً لا عُمقَ له، وما عدا ذلك من الماء فهو ساحل، نهراً أو بحراً أو بحيرة، ولم أر هذا المعنى في المعاجم المتاحة، ولما أعرف له وجهاً.
(2) في الأصل: "يعرض".
(3) في الأصل: "ولها أن تكون في غمرة ولجة".
(4) في الأصل: " إلا".
(5) في الأصل: "المختص"، وهي مصحفة عن المخيض.
(6) في الأصل: "فالضجع" (بهذا الرسم تماماًً) .
(7) في الأصل: "وقد".
(8) في الأصل: "يستهين بها الأثر".(16/47)
تحصّل لنا من قول الأصحاب في ذلك وجهان في وجوب الضمان: أحدهما - أنه لا ضمان؛ فإنه هو الذي أتلف نفسه بتركه السباحة.
والثاني - أنه يجب الضمان؛ فإن إلقاءه جناية، والسباحةُ حيلة في الخلاص، فهي مشبهة بما إذا ترك المجروح معالجة الجرح، وللأول أن ينفصل ويقول: إفضاء المعالجة في الجرح إلى البرء مظنون، والسباحة منجية على تحقيق في الساحل، وهذا موضع تثبت للوقوف على هذا الفن.
10292- وأنا أرى في إيضاح ذلك أن أذكر مراتب.
المرتبة العالية في الدفع تُناظر أكلَ الجائع الطعام العتيد بين يديه، وهو محبوس، فإذا امتنع عن الأكل حتى هلك، فهو قاتل نفسه، وشرط هذه المرتبة ألا يعد السبب الصادر من الساعي في الأمر إهلاكاً أصلاً، ويكون رفع الضر هيّناً محصلاً لدفع الضرار قطعاً، ويلتحق بهذا الإلقاءُ في الضحضاح مع التخاذل فيه، إذا كان [لا يجرح] (1) ، فإن الإلقاء في مثله [يعد عبثاً] (2) والخروجُ من الأفعال المعتادة.
والمرتبة التي تعارض هذه معالجةُ الجرح، فالجرح في نفسه جناية مهلكة، والمعالجة ليست بالهيّنة، وحصول الخلاص بها مظنون، فلا جَرَم لا يؤثر عدمُ العلاج وتركُه في درءِ الضمان.
وبين هاتين المرتبتين ترك السباحة؛ فإن الإلقاء في المغرقة جناية، والسباحة وإن كانت مُنجية، فقد يعرض من الملقَى دَهَش، وكم من سابح يطرى عليه ما يمنعه عن السباحة، وإن كان الغالب يخالف ذلك، فهذا موضع التردد.
ويتصل عندي بهذا الفن ترك تعصيب الجرح حتى يؤدي إلى النزف.
وقد يتصور ما أرى إلحاقه بالمرتبة الأولى، وهو إذا فتح رجل عِرْق إنسان فتركه المجني عليه [يزرُق] (3) حتى يُفضي إلى النزف، فهذا من باب ترك الأكلِ والطعامُ عتيد.
__________
(1) في الأصل: "لا يحوج".
(2) في الأصل: "يعد عيباً". وعبثاً: أي مداعبة كما عبر بها الرافعي والنووي.
(3) في الأصل: "بين رق" (هكذا تماماًَ) ثم هي من بابي قتل وضرب.(16/48)
ثم إن لم نوجب الضمان في مسألة ترك السباحة، فلا كلام، وإن أوجبنا الضمان، فالأظهر أن القصاص لا يجب للشبهة، ومن أصحابنا من أوجب القصاص، وقال: إن كان على ترك السباحة معوّل، فموجبه إسقاط الضمان أصلاً، وإن لم يكن عليه معوّل، فينبغي أن يصير العالم بالسباحة إذا تركها والماء مغرق بمثابة ما لو كان لا يحسن الملقَى السباحة.
ومما يتصل بذلك أنه لو ألقى رجلاً في النار وكان من الممكن أن يتخطأها ويتعدّاها، فلبث حتى أحاط به الوهجُ واللّفحُ، فالذي ذكره الصيدلاني وطوائف من أصحابنا أن القصاص يجب بخلاف ما لو ألقى في الماء سابحاً، والفرق أن الناركما (1) تَلقَى تحرق، فيصير الملقَى فيها مجنياً عليه بأول الملاقاة، وقد يمنعه التألم الذي أصابه [باللفح] (2) الأول من اختيار الخروج، بخلاف الإلقاء في الماء.
وذكر القاضي أن الإلقاء في النار بمثابة الإلقاء في الماء مع التمكن من السباحة، وليس يستقيم على المعنى إلا ما ذكره القاضي.
ثم الوجه أن نقول: إن كان اللفح الأول يعجزه عن الخروج، فليست المسألة على ما صورناها، وإنما مسألتنا فيه [إذا كان الخروج من النار ممكناً، فإن كان لوقع اللفح الأول أثر] (3) ، فذاك يفرد بضمانه، كما ستأتي حكومات الجنايات، إن شاء الله عز وجل.
هذا كله إذا كان الإلقاء في الساحل. [وكان] (4) الخروج ممكناً، فمكث حتى هلك.
10293- ولو ألقاه في الساحل ولم يكن مغرقاً، أو كان مغرقاً، وكانت السباحة
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) في الأصل: "باللقح".
(3) عبارة الأصل: "إذا كان الخروج من النار ممكناً إن كان الخروج من النار ممكناً لوقع اللفح الأول أثر".
(4) في الأصل: "وإن كان".(16/49)
ممكنة، والملقَى يحسنها، ورأينا [من يتركها] (1) مُهدَراً، فلو اتفق أنه كما (2) لاقى الماء، التقمه الحوت، أو قطّعه وأهلكه، فهذا من أصول الباب، ونحن نقدم عليه أنه لو ألقاه في غَمْرة (3) من الماء [وكما] (4) أصاب الماء، التقمه الحوت، فالمنصوص للشافعي أن القصاص يجب على الملقي، وخرّج الربيع قولاً آخر: أن القصاص لا يجب، وشبه هذا بما لو ألقى رجل رجلاً من شاهق جبل، فلما انتهى الملقَى إلى قرب الحضيض وافاه رجلٌ وسيفه مسلول، فقدّه، أو ضرب رقبته، فلا يجب على الملقي القود. وهذا من تخريجات الربيع، ولم يرتضه معظم الأصحاب.
ونحن نوجه القولين وننبه [مع] (5) التوجيه على أصلٍ في المذهب: أما وجه القول المُخَرَّج فما أشرنا إليه، ووجه القول المنصوص الصحيح أن الإلقاء في الماء إهلاك، والملقَى هالك، سواء فرض ثَمّ [حوتٌ] (6) أو لم يفرض، ولو [لم يتم] (7) إلقاؤه، لما انتهى إلى الحوت، فالمرعي أنه ألقاه في هَلَكَة، فلا ننظر إلى السبب الذي به هلك.
ولا يتم التوجيه ما لم يُقيَّدُ الكلامُ بأن السبب الذي جرى الهلاك به لا يُنْسب إليه اختيار، وبهذا رفع الاتصال عن الذي [يقدّ] (8) الملقَى من الجبل؛ فإنه فاعل مختار، لا يفعل ما يفعله بطباعه، وإنما يفعل بإرادته ومشيئته، وإذا فرض قاتل مختار، انقطع ما كان من السبب قبله، لا فرق بين أن يكون الواقف [القادّ] (9) ممن يضمن، وبين أن يكون ممن لا يضمن، كالحربي؛ فإن التعويل على الاختيار، وصَدَرُ القتل عن المشيئة دون الطباع.
__________
(1) مكان كلمة واضحة الرسم ولكن تعذر قراءتها (انظر صورتها) .
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) غمرة من الماء: الغمرة كما ذكر آنفاًً هي الماء الذي لا يفرض النجاة لمن ألقي فيه.
(4) في الأصل: "وكان". و (كما) بمعنى عندما.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "وجوب".
(7) زيادة من المحقق مكان بياضٍ بالأصل.
(8) في الأصل: "يعدّ".
(9) في الأصل: "العارّ".(16/50)
ولو كان في أسفل الجبل حيّة تعدو بطبعها أو نمر شرس ضارٍ، فأهلكه، يجب الضمان على المُلقي، والضبط المرعي في ذلك أن ما يعدو بطبعه فيعدو في أوان العدوان لا محالة، كما يضرى السيف إذا صادف مضْرِبه؛ ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: "لو ألقى رجلاً في بيتٍ فيه سباعٌ ضارية، وافترسته، التزم القود". وهذا يبين بأصلٍ وهو أن من أمسك رجلاً حتى [قطع رجلٌ عنقه] (1) فلا ضمان على الممسك، سواء كان القاتل ممن يضمن أو كان ممن لا يضمن كالحربي، ولو هدّف رجل رجلاً لوثبة أسد يضرى على العدوان بطباعه، فيجب على المهدِّف الممسك القصاص، فهذا هو الأصل المعتبر في الباب.
ولو كان [القادّ] (2) الواقف في سفح الجبل مجنوناً، فإن كان على طباع السباع وضراوتها يجب الضمان على الملقي، وإن لم يكن ضارياً بالقتل، فالمجنون كالعاقل في إسقاط الضمان على الملقي.
10294- هذا توجيه القولين، وفيه التنبيه على أصلٍ، وهو أن من ألقى إنساناً في مهلكة، ثم اتفق الهلاك بغير السبب الظاهر، فإن لم يكن ذلك السبب يعزى إليه اختيار وفعل أصلاً، فالضمان يجب على الملقي، وهذا كما لو ألقى رجلاً في بئر عميقة يقصد بالإلقاء فيها الهلاك، فلما انتهى الملقَى إلى قعر البئر، فإذا في القعر سكاكينُ منصوبة أو رماحٌ مشرعةٌ، فجرحته الأسنة والنصول، فيجب القصاص على الملقي.
وإن كان السبب الذي حصل الهلاك به منسوباً إلى فعل حيوان، فهذا ينقسم إلى ما يفعل بطباعه ضراوةً، كالسبع يفترس طبعاً، والحية تلسع.
والمنصوص للشافعي وجوبُ القصاص، وتخريج الربيع أن القصاص لا يجب، والتقام الحوت أصل هذا الفن، حيث وقع تصويره.
وإن كان الفعل صادراً من ذي اختيار لا يفعل بطبعه، وإنما يفعل بمشيئته، فهذا مسألة الشاهق [والقادّ] (3) .
__________
(1) ما بين المعقفين مكان عبارة غير مقروءة، هكذا: "قطعت رجل محتان" (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: "العادّ".
(3) في الأصل: "والغار".(16/51)
فليضبط الطالبُ هذه القواعدَ.
10295- ثم قال الربيع: لا قصاص، وأوْجَب الدية، واعتقد ما يجري من الهلاك منسوباً إلى الملقي، ولكنه لما لم يعلمه، ولم يقصده، انتهض ما جرى شبهة في درءِ القصاص، من حيث إنه سببٌ لم يتعلق به قصد الملقي، وإن كان هو المتسبب.
وهذا الذي ذكره يُبطل استشهاده بمسألة [القادّ] (1) ؛ فإنه لا يجب على الملقي من الشاهق شيء إذا تلقى الملقَى الرجلُ الواقفُ بسيفه، [فقدّه] (2) ، وإذا اقترن الأصلان في أصل الضمان، بطل مسلك الاستشهاد.
وما ذكره من الشبهة لا أصل له مع تسبب الملقي إلى قصد الإهلاك، وهذا بمثابة ما لو وجأ رجلٌ رجلاً بسكين، فهلك الموجوء، ثم بان أن سبب هلاكه كونُ السكين مسموماً، فالقصاص يجب على الجارح، وإن كان جاهلاً بصفة السكين؛ فإن الجرح بالسكين مهلك وإن لم يكن مسموماً.
ولو ألقى رجل رجلاً في الساحل، وإذا فيه حوت، فالتقمه أو قطّعه، فهذا سبب هلاكٍ، لم يشعر به الملقي، ولم يكن إلقاؤه إياه من المهلكات، فلا قصاص على الملقي والحالة هذه؛ فإن نفس فعله ليس مهلكاً، وسبب هلاكه لم يكن معلوماً للجاني، وهذا بمثابة ما لو دفع رجلٌ رجلاً دَفْعاً خفيفاً، فألقاه فإذا في موضع سقوطه سكين، فجرحه السكين وأهلكه، فلا يجب القصاص على الملقي، ولكن يجب الضمان في مسألة السكين والتقام الحوت في الساحل.
10296- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن السبب إن كان مهلكاً، واتفق الهلاك بسببٍ آخر، فهذا يتفصَّل وينقسم إلى الحيوان وغيره، كما مضى، وإن لم يكن السبب مهلكاً، فاتفق الهلاك بسببٍ لم يشعر به الملقي، فلا قصاص، وإن كان عالماً به كالذي يعلم أن وراء القائم الذي بين يديه سكين منتصب، فإذا ألقاه عليه وقتله،
__________
(1) في الأصل: "الغار".
(2) في الأصل: "فحذفه". والمسألة معروفة بمسألة القادّ، وهذا الذي سوّغ للمحقق هذا التغيير. من حذفه إلى قدّه.(16/52)
فيجب القصاص، وأما الضمان، فإنه يجب [إن لم يكن السبب مهلكاًَ] (1) أو لم يكن الملقي عالماً بالسبب المهلك.
وعلى الناظر أن يتدبر هذا، ويلتفتَ قليلاً إلى ما ذكرناه في فصول الجراح، حيث قلنا: إن من قطع أنملة إنسان، فأدت السراية إلى الموت، وجب القصاص على القاطع وإن لم يقصد القتل، كما أن الملقي لم يقصد الإلقاء على السكين، ولكن حصل أثر السكين بسبب الإلقاء، فهلا كان كما إذا حصلت السراية بالقطع حتى كأنها جزء من القطع والقطعُ جزء منها، وليس [القتلُ] (2) إلا بالسيف أو بالسكين متصلاً بسبب القطع؛ قلنا: الفرق أن السراية متصلة بالإلقاء، ولكنه وفاقٌ جرى، فانفصل عن الإلقاء، فإذا لم يكن معلوماً، لم يجب القصاص، وإن قصد الإلقاءَ على السكين، [فالإلقاء مخرَج] (3) من البين، والعمل مقصور على جرحه بالسكين.
ونقل المعلّقون عن القاضي أنه قال فيما يقتل: إن [التقمه الحوت قبلَ أَنْ أصاب الماء،] (4) كان أخرج رأسَه من الماء، فلا يجب القود على الملقي، بخلاف ما لو مس الماء، فالتقمه الحوت، وقرر أنه إذا مس الماءَ، فقد صادف السببَ المهلك، فلا التفات على الالتقام إلا على قول الربيع إذا اختطفه الحوت قبل أن يلقى الماء، فلم يحصل من السبب الذي قصده شيء، وإنما جرى سبب آخر، وهذا حكاه القاضي عن الأصحاب، ولم أر لهذا التفصيل ذكراً في شيء من الكتب.
والوجه عندنا القطع بوجوب القصاص، أو تنزيل هذا منزلة ما لو [لقي] (5) الماءَ ثم التقمه الحوت، وذلك أن الملقَى لم يبق منه اختيار أصلاً، ولا أثر لمصادفة الماء، فإن الماء بنعُومته ولينه لا يقتل من يصادمه، وإنما القتل بالغرق، أو بسبب آخر بعد
__________
(1) في الأصل: "فإنه يجب وإن لم يكن السبب مهلكاً".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "بالإلقاء فخرج".
(4) عبارة الأصل: "إن أصاب الماء التقمه الحوت كأن أخرج رأسه ... إلخ". وواضح ما فيها من خلل، فهو يصوّر التقام الحوت قبل الوصول إلى الماء. ولذا ساغ لنا هذا التغيير.
(5) في الأصل: "ألقى".(16/53)
ملاقاة الماء، فلا فرق إذن بين أن يلتقم الحوت قبل أن يَلقى الملقَى الماء، وبين أن يحصلجب أن الالتقام بعد ملاقاة الماء.
ثم العجب أن القاضي حكى هذه عن الأصحاب -كما ذكرناه- واختاره، ثم حكى عنهم سقوط الضمان [وشبهه] (1) بمسألة التردية من الشاهق وإلقائه ثم انقطعت على الضمان، وقال: الوجه إيجابه، وأخذ يفرق بين إلقائه والحوت بما ذكرناه من الاختيار [وعدمه] (2) ، وهذا كلام مختلِط، ومساق نفي الضمان يقتضي أن يقول الربيع: لا ضمان أيضاًً إذا مس الماء، فالتقمه الحوت، وهذا خبل لا يجوز أن يطّرّق مثله على قواعد المذهب.
وقد ذكرنا ما يضبط المذهب.
10297- ومن المسائل الملتحقة ببيان العمد وما يقدح فيه أن من حبس إنساناً في مكان، فمات منه عطشاَّ أَو جوعاً، فلا يخلو إما أن يكون معه في المكان طعام وشراب، وإما ألا يكون معه.
فإن كان معه في مكان الحبس ما يتبلّغ به وامتنع عن أكله وشربه حتى هلك، فالقتل لا ينسب إلا إليه، وهو الساعي في إهلاك نفسه، وكذلك لو لم يكن الطعام حاضراً، ولكن كان قادراً على تحصيل الطعام بنفسه، أو بمن يأمره، فإذا حصل الهلاك، لم يجب على الحابس الضمان، كما لو كان الطعام عتيداً، ولو عسر عليه الاستنابةُ في تحصيل الطعام، ولكن كان ممكَّناً من التردد لتحصيله، فإذا لم يفعل، فالجواب كما ذكرناه. وقد ألحقنا هذا بالأصل الممهد قبلُ، إذ ذكرنا الحيل في الخلاص من الأسباب المفضية إلى الهلاك.
10298- ولو حبسه ومنعه الطعامَ والشرابَ أو أحدَهما فهلك، فلا يخلو -إن حُبس- إما أن يكون جائعاً وإما أن يكون شبعان، فإذا كان على الشِّبع، والذي يطرَى ابتداءُ العطش والجوع في الحبس، ثم أفضيا أو أحدهما إلى الهلاك، فالذي حبسه على هذا
__________
(1) في الأصل: "وسببه".
(2) في الأصل: "وعرفه".(16/54)
الوجه قاتلٌ على حكم العمد، مستوجبٌ للقصاص عند تجمع الشرائط المرعية.
10299- ولو كان به جوع لمّا حبسه ومنعه الطعام، [فأدى ذلك] (1) الجوعُ [إلى ضَعْفه] (2) وأفضى إلى الهلاك، فالطريقة المثلى في تمثيل المذهب أن نقول: إن كان الحابس عالماً بجوعه، فحبسه وهلك، فالذي جرى من الحابس قتلٌ عمد موجب للقصاص.
فإن قيل: قد هلك بالجوع، وإنما تحقق (3) في الحبس، فلم جعلتموه قاتلاً؟ وهلا نزلتم هذا منزلة ما لو كان مجروحاً [فجرحه] (4) جانٍ ومات من الجرحين، وإذا جرى ذلك، فالجاني شريك جارح نفسه؟ وسنذكر شرح ذلك وتفصيلَ أحوال المشتركين بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
قلنا أولاً: لو والى بالسياط على مريض مُدْنَف وهلك، وجب القصاص على الضارب، وإن كان هذا الشخص لو فرض صحيحاً، لما مات بالضربات التي جرت غالباًً، ولا حكم [للمرض] (5) الذي صادفه الجاني، والجوع إن كان مؤثراً، فلا يزيد في مرتبته على [المرض] (6) والدَّنَف، بل مقدماتُ الجوع لا تعدُّ من أسباب الضرار، ولا يعد الجائع مريضاً، فإذا كان ضَرْبُ المريض موجباً للقصاص، والأغلب على الظن أنه كان لا يموت لولا الضرب، فالحبس على الجوع بهذا المعنى أولى، وقد يكون قليلُ الجوع مقصوداً لمن يطلب (7) الأحوال الصحيحة ويستظهر بتحقق الجوع ليأكل.
هذا قولنا فيه إذا حبسه عالماً بجوعه، ولا نُلزَم على ذلك ما لو [جَرَح] (8) من كان
__________
(1) في الأصل: "فإذ ذلك".
(2) مكان بياض بالأصل.
(3) المعنى: أن الحبس لم يهلكه، وإنما كان ظرفاً تحقق فيه الهلاك بسبب الجوع.
(4) في الأصل: "لجرحه".
(5) في الأصل: "للمريض".
(6) في الأصل: "المريض".
(7) في الأصل: "لا يطلب".
(8) في الأصل: "خرج".(16/55)
جرح نفسه، فإنّ حكم ذلك نذكره مستقصىً في فصل الشركاء وتقاسيم أحوالهم، ولو كان [بالإنسان قرح] (1) في صورة جُرح، [فلو،] (2) جرحه، فالإحالة على الجناية لا على القرح، وما يضاف إلى الآفات [المقدّرة لا تقدر] (3) الشركة بها، ووراء ذلك سرٌّ سنوضحه في فصل الشركة، ولا مزيد على ما ذكرناه الآن.
ثم إذا أوجبنا القَوَد، فلا شك أنه إذا آل الأمر إلى المال، وجب تمامُ الدية، فإنه إذا وجب القود، فالدية أوْلى بالوجوب.
10300- ولو حبسه جاهلاً بما به من الجوع، فمات، ففي وجوب القود قولان: أحدهما - يجب، كما لو كان عالماً بجوعه، ولا أثر للعلم والجهل بعد ما تقرر أن الجوع المتقدم لا اعتبار به، وجهلُه بالجوع بمثابة جهله بمرض المضروب، ولو ضرب مريضاً وكان عُمْرَه صحيحاً، وبنى الأمر في ضربه على أنه لا يموت، فمات للمرض الذي به، وجب القصاص، فليكن الأمر كذلك في الجاهل بالجوع.
ثم قال القاضي رضي الله عنه: إذا قلنا: يجب القصاص، فتجب الدية الكاملة في محل وجوبها، وإن قلنا: لا يجب القصاص، ففي مقدار ما يجب من الدية وجهان: ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجب تمامُ الدية، فإنا إذا أسقطنا القصاص لشبهة الجهل، فلا معنى لإسقاط شيء من الدية، ولو كان الجوع الأول معتبراً في [تبعيض] (4) البدل، لاعتبر مع العلم؛ فإن العلم والجهل لا يؤثران في تغيّر البدل في المقدار، وإن أثر الجهلُ، أَثَّر في التغليظ والتخفيف. هذه طريقة، والذي لا يصح منها على السبر المصيرُ إلى تبعيض الدية، والباقي سديد، لا خلل فيه.
10301- وقال بعض أصحابنا (5) : إذا حبسه عالماً بجوعه، ففي وجوب القصاص
__________
(1) في الأصل: "الإنسان يمدح" كذا تماماًً.
(2) في الأصل: "ولو".
(3) في الأصل: "القدرة ولا تقدر".
(4) في الأصل: "مقبض البدل".
(5) هذه طريقة ثانية مقابلة للطريقة التي سماها المثلى في تمثيل المذهب، وشرحها آنفاً، وخلاصتها أنه إن كان عالماً بجوعه، فهو قتلُ عمد، وإن كان جاهلاً، فقولان.(16/56)
قولان، كالقولين فيه إذا كان جاهلاً بالجوع، ذكره بعض المصنفين وأشار إليه شيخي رضي الله عنه.
10302- وهذا أوان إيضاح [الغرض] (1) : فليعلم الناظر أن الجوع خصلة واحدة يبدأ ابتداؤها، ثم تزداد حتى تُفضي إلى الهلاك، والحابس لم يُحدث في المحبوس أمراً، وليس كما لو ضرب مريضاً، أو جرح قريحاً؛ فإن هذه جنايات ابتدأها، فكانت حوالةُ الهلاك عليها، وإذا حبس إنساناً، فجاع، فالهلاك [محال] (2) على الجوع، لا على الحبس، وقد كان شيء منه قبل الحبس، [وهذا] (3) أثار الاضطراب بين الأصحاب، فقالوا: إن كان كلُّ الجوع في الحبس، فالحابس سبَّبَ إلى إيقاعه مع المنع عن دفاعه (4) ، وإن لم يكن الكل في الحبس، فالموت [به يُردِّدُ] (5) النظرَ، وانفصل عما قدمناه من ضرب المريض عند العلم أو الجهل بالمرض.
ثم من طرد القولين في صورة [العِلْم] (6) ، فسيقول: إذا آل الأمر إلى المال، ففي وجوبه وسقوط بعضه الخلاف الذي ذكرناه.
10303- ونحن نذكر على الاتصال بهذا مسألة مستفادة حسنة، وهي أن الرجل إذا شحن سفينةَ نفسِه بطعام أو شِحنة أخرى، واقتصد مثلاً، فجاء إنسانٌ، فوضع فيها عِدْلاً، فغرقت به، فكيف يكون الوجه في هذا، والغرق لا يحصل بالعِدل الأخير، وإنما يحصل به وبما يسبق من الأعدال والأثقال؟ وهذا فصلٌ يُديره الفقهاء مع أبي حنيفة في أقداح الشراب المسكر.
وقد ذكر القاضي في هذه المسألة تردداً مأخوذاً من أصلٍ، فقال: لو رمى رجل إلى صيدٍ، فلم [يُزمنه] (7) ، فرمى آخرُ فأزمنه، وقيل: لولا جرح الأول، لما أزمنه
__________
(1) في الأصل: "الفرض".
(2) في الأصل: "محتال".
(3) في الأصل: "وهذه".
(4) المراد دفع الجوع.
(5) في الأصل: "له تردد النظر".
(6) في الأصل: "العمد".
(7) في الأصل: "يرميه".(16/57)
الثاني، فالصيد لمن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه للثاني المُزْمِن؛ فإنّ رميه استعقب الإزمان والإحالة عليه، والملك مخصوص به.
والثاني - أن الصيد بينهما. قال: فلتخرّج مسألة السفينة على هذا. فإن قلنا: الصيد للمزمن، فغرق السفينة محال على وَضْع العِدْل الأخير، فيلزمه ضمان السفينة وما فيها، وإن قلنا: الصيد بين الراميين: [الأول] (1) والثاني المزمن، فغرق السفينة محال على ما سبق ولَحِق من الأعدال والأثقال، ولا ينبغي أن يخرج من الاعتبار ثقل السفينة في نفسها، فإنه يؤثر في [تغويصها] (2) . ثم إن أحلنا الغرق على الأخير، فلا كلام.
[وإن] (3) أحلنا على الكل، ففي كيفية التوزيع وجهان مبنيان على ما لو زاد الجلاد سوطاً، فحصل الهلاك، وأردنا التوزيع، ففيما نوجبه على الجلاد قولان: أحدهما - أنا نوجب عليه نصفَ الضمان، ونجعل سوطاً واحداً في مقابلة سياطٍ كجُرحٍ في مقابلة جراحات، فلو جَرح رجلٌ رجلاً جراحاتٍ، وجرحه آخر جراحةً واحدة، وحصل الهلاك، وآل الأمر إلى المال، فالدية بينهما نصفان.
والقول الثاني - أن الضمان يتوزع على الجلدات المستحقة في الحد والجلدة الزائدة، فإن كان الحد ثمانين جلدة، وزاد الجلاد جلدة، فعليه جزءٌ من واحد وثمانين جزءاً من الدية، وهذا القائل يقول: الجلدات متساوية في الصفات والجراحاتُ لا تدرك أغوارها، وقد يكون غَوْرُ جرع واحدٍ أكثرَ من أغوار جراحاتٍ [غيره] (4) ، وهذا فَتْحُ بابٍ عظيمٍ من الإشكال؛ فإن قائلاً لو قال: من جُلد ثمانين، فقد تهيأ للموت بالجلدة الزائدة، فهلا وقعت الحوالة عليها؟ وهذا ليس بالهين، وسأشرحه في فصل الشركة عند ذكري اجتماعَ أقوام على رجل بالسياط، فإن كان يدور في خلد الناظر طلبُ التمام في هذا، فليطلبه في فصل الشركة، وليكتفِ الآن بما نلقيه إليه.
__________
(1) في الأصل: "فالأول".
(2) في الأصل: "تفويضها".
(3) في الأصل: "فإن".
(4) في الأصل: "غيرها".(16/58)
فإن قلنا: الجلاد يضمن نصفَ الدية، فصاحب العِدل الأخير يضمن نصفَ ما هلك من السفينة وشِحنتها.
وإن قلنا: الجلاد يضمن جزءاً من أحدٍ وثمانين، فصاحب العِدل الأخير يضمن جزءاً من أجزاء، فنضبط أقدار الأثقال فنوزع عليها.
فهذه مسألةٌ اعترضت من حيث إنها تشابه مسألةَ الجوع؛ فإن ابتداءه لا يعد من أسباب الهلاك، بل قد يكون من أسباب استصلاح البدن، ولكن يحصل الهلاك بما يزيد من الجوع بسبب تقدم ما تقدّم، ومما يؤكد التشبيه أن الأعدال في السفينة في جهة التثقيل متجانسة والجوع إلى الجوع في حكم الجنس الواحد، وليس كضربٍ بعد مرضٍ.
هذا منتهى قولنا في الجوع وإفضائه إلى الهلاك.
10304-[ومما] (1) نلحقه بالأصل المقدم في العَمْد وما [يعدّ منه] (2) القولُ في السّم وإيصالِه إلى باطن الإنسان، فنقول: إن كان السم مذفِّفاً مُجهزاً، نُظر: فإن أَوْجَره [إنساناً] (3) ، فهلك الموجَر، وجب القصاص على الذي أَوْجره، وإن أكرهه حتى شرب بنفسه، نُظر: فإن كان الشارب جاهلاً بكونه سماً، فعلى الذي سقاه السم القصاص؛ فإن الإكراه إذا تحقق من الأسباب الموجبة للقصاص على المكرِه، كما سيأتي ذلك -إن شاء الله عز وجل-.
وإن كان المكرَه عالماً بأن الذي يتعاطاه سم، [فلا قصاص] (4) على المكرِه؛ فإن الإكراه لا يتحقق على هذا الوجه، وسنبين أن من اكره رجلاً حتى قتل نفسَه، فلا قصاص على المكرِه؛ إذ صورة الإكراه أن يُؤْثر المكوَه خلاصَ نفسه بتحصيل ما هو مكرَهٌ عليه، وهذا المعنى لا يتحقق مع كونه [مقتولاً] (5) لو أمضى مراد المكرِه، وسيأتي هذا في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: "مما" (بدون واو) .
(2) في الأصل: "وما يخدمه".
(3) في الأصل: "إنسان".
(4) في الأصل: "فالقصاص".
(5) في الأصل: "مقبولاً".(16/59)
وإن كان السم بحيث [لا نقطع بأنه] (1) يقتل، وكان لا يغلب أيضاً على الظن هذا، فإذا اتصل الهلاك به، فهذا فيه نظر؛ فإن [غرره] (2) باطن.
والذي حصّلته من قول الأصحاب فيه أنه بمثابة غرز الإبرة في غير المقتل، وفيه التفصيل الذي تقدم، وكنت أود لو كان كقطع أنملة أو إصبع، ولكن للعلماء تعظيمٌ عظيمٌ لأمر الجراحات؛ من حيث إنها تقطع وصلَ البنية [وتفتق محبس] (3) الروح، والسم يلقَى ظواهر الأعضاء الباطنة، [فكان] (4) كما يلقى ظوَاهر البدن من [وجهه] (5) ، ولكن من حيث يغيب [عن] (6) البصر.
وما أطلقناه من السّم الذي لا يقتل [تذفيفاً مجازٌ] (7) ؛ فإن ما كان كذلك لا يسمى سماً، [ومن] (8) كلام أهل الصناعة (9) : "إن الغذاء ما تحتكم الطبيعة عليه والتأثير (10) ولا يؤثر في الطبيعة، والدواء ما يتأثر بالطبيعة، ثم ينقلب على الطبيعة ويؤثر فيها، والسم ما يضاد القوّة الحيوانية" (11) ، ولسنا للإطناب في هذا، والتنبيه كافٍ.
وذكر الأصحاب على الاتصال بهذا تقديمَ الطعام المسموم، وأنا أرى أن أعقد فيه فصلاً بعد استيفاء المسائل الباقية الموعودة.
__________
(1) في الأصل: "لا نقطع عليه بأنه".
(2) في الأصل: "عوده". والمعنى أن خطره غير ظاهر.
(3) في الأصل: "ويعتق لحبس الروح" بهذا الرسم تماماً. والمثبت محاولة منا لقراءتها على ضوء أسلوب الإمام وميله إلى التصوير الأدبي في مثل هذه العبارات. وقد حاولنا في هذه القراءة وأمثالها أن نظل أقرب ما نكون لصورة الأحرف والكلمات الموجودة بالأصل، ونرجو أن نكون قد وقعنا على عبارة الإمام، والله الموفق.
(4) في الأصل: "وكان".
(5) في الأصل: "من واجه".
(6) في الأصل: "في".
(7) في الأصل: "تدقيقاً مجازاً".
(8) في الأصل: "من" (بدون الوأو) .
(9) أهل الصناعة: المراد صناعة الصيدلة والطب.
(10) كذا. ولعلها مقحمة. أو لعل المعنى: وعلى تأثيره.
(11) يستشهد بهذه العبارة من كلام أهل الصناعة على صحة قوله: إن ما لا يقتل تذفيفاً لا يسمى سماً.(16/60)
10305- فنقول: إذا أنهش الرجلَ حيةً أو عقرباً، قال الشافعي: إن كان مثل حيات مصر وعقارب نصيبين، وجب القود، والغرض أن الحيّة في نفسها إذا كانت قتالة بنفسها، أو العقرب، فإذا فعل ما وصفناه، فالذي جاء به عمدٌ محض يُقصد به القتل، وهو خارج عن محل النظر المشكل في الجراحات التي لا تؤدي إلى الهلاك.
وإن كانت الحية لا يغلب القتل منها -وكذلك يكون العقرب في معظم البقاع- فقد قال الأصحاب: إذا سعى على الوجه الذي ذكرناه حتى نهشته حية لا يغلب القتل منها، أو لسعه العقرب، فقد قال الأصحاب: هذا بمثابة ما لو غرز فيه إبرة، وقد سبق تفصيلها. وهذا حسنٌ؛ فإنّ جلده [مما] (1) يؤلم ويرقب منه [غررٌ] (2) ، فهذا تفصيل القول في ذلك.
ويتصل به الإلقاء في [الماء] (3) ، ومكان الحيات، وإشلاء السباع في المضايق، والمكان [المستع] (4) .
10306- ونحن نذكر في هذا ما نقله الأصحاب، ثم نتبعه بالبحث. قالوا: إذا أغرى بإنسان كلباً ضارياً، أو سبعاً، فإن كان في المضيق لا يفرض الخلاص منه، فإذا افترسه السبع، وجب القصاص؛ فإن ذلك يعد من الأسباب المهلكة، ولو أغرى به السبع في صحراء، فقد قال الأصحاب: إذا اتفق الهلاك، فلا قصاص، فإن ذلك الشخص كان متمكناً من الهرب والاضطراب في محاولة الدفع عن الروح.
أما ما ذكره الأصحاب في المضيق، فهو جارٍ على القياس وسَبْر التحقيق، وأما الإغراء في الصحراء، فما أطلقوه من أنه يقدر على الإفلات يجب أن يُفَصَّل، فإن كان السبع بحيث يدرك من يتبعه لا محالة، فالصحراء، والمضيق بمثابة، وهذا على
__________
(1) في الأصل: "بما".
(2) في الأصل: "عود".
(3) في الأصل: "المائع".
(4) في الأصل: "المسبع".(16/61)
شرط أن كون السبع [المشلَى] (1) ضارياً بالإنسان، ويقل هذا في طباع السباع، [ولا يضرَى] (2) منها إلا الكَلِب، فإنه [يستأسد] (3) ويستشلَى على كل من كان يُغرَى به، ولست أظن أن الأصحاب ينكرون ما أشرنا إليه.
وقد ذكر القاضي ما ذكرناه على هذا النسق، بعد أن نقل ما نقلته مطلقاً، وذكر كلامه استدراكاً، وليس هذا محلَّ خلاف، ودقةُ النظر في حمل كلام الأصحاب على محملٍ.
10307- والذي أراه في ذلك أنهم فصلوا بين المضيق والمتسع، [وبنَوْا كلامهم] (4) على أن السباع لا تضرى بالآدمي ضراوة الكلب بالصيد، ولو اعترض لها آدمي في مضيق [استشعرت] (5) منه قصداً [وتوثّبت] (6) عليه توثُّبَ الدافع، وهذا لا يتحقق في الصحراء، حتى لو صُوّر كلب ضارٍ، كان المضيق والصحراء بمثابة، والدليل عليه أن ما يأخذه الكلب من الصيد ممسَكٌ على صاحبه، ولا فرق بين أن يكون في الصحراء والمضيق لما صحت ضراوتُه بالصيد، فلو وجد مثل هذا في حق الآدمي [لاسْتوت] (7) . الصحراء والمضيق.
ومما ذكره الأصحاب أن قالوا: لو جمع بين إنسان وبين سَبُعٍ في بيت، فتوثب السبع عليه، وأهلكه، وجب القصاص على من ألقاه في البيت، ولو كان بدل السبع حية أو حيات، فإذا هلك الملقَى [بينها بنهشها] (8) ، فلا قصاص، وفرقوا بأن السبع
__________
(1) في الأصل: "المثلى".
(2) في الأصل: "يطرى".
(3) في الأصل: "سيتأسد".
(4) في الأصل: "بنى كلامه".
(5) في الأصل: "استشعر". والمراد السباع لا الكلب.
(6) في الأصل: "وتوثب".
(7) في الأصل: "لا تستوي"، وهو مخالف للسياق.
تنبيه: تذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من عمل المحقق محاولة منه لإقامة العبارة واستكناه الصواب.
(8) في الأصل: "بينهما بنهشهما".(16/62)
يثب بطبعه والحية [تنفر] (1) بطبعها، ولا تنهش إلا إذا وطئت، أو [الْتُمست] (2) .
وهذا مما ينقسم الأمر فيه؛ فإن من الحيّات ما يَقْصد، ومن السباع ما ينفر، والتحقيق فيه أن السبع النافر يدفع عن نفسه في البيت، ويضر الكائن معه وحده، فيثور عليه، والحية في المضيق والمتسع لا تدفع عن نفسها إلا أن تمس أو توطأ، فإذ ذاك تدفع. فلنُنزل الصورَ على هذه القواعد.
وقد ذكر صاحب التقريب قولين في أن المحبوس مع السبع إذا قتله السبع هل يجب القصاص على حابسه، وليس هذا عندي من [محال] (3) القولين؛ فإن الأحكام في هذه المنازل تتبع الصور، ثم لا مطمع في إيجاب القصاص المتلقى من العَمْدية إلا مع القطع بها، وإن تطرق شك في العمدية، لرُفع القصاص.
10308- ومما يتصل بهذا الفصل أنه لو أغرى سبعاً أو كلباً بإنسان، فأمكنه أن يهرب فمثُل بين يديه، حتى مزقه، فأين يقع هذا من الحيل المخلّصة؟ وقد ذكرنا مراتبها في الفصل السابق.
وليس يبعد عندي تنزيله منزلة السباحة في الماء الذي تُنجّي السباحةُ منه، ووجه التشبيه أن الفرار يُنجي [كالسباحة] (4) ، والدهشة ممكنة في ثوران السبع وملاقاة الماء، وفرْضُ عوائق تطرى وتمنع من الخلاص ممكن في الوجهين، [وقد] (5) نظرنا في ذلك، وليس كترك الأكل من الطعام العتيد.
والعجب أن أصحابنا قالوا: إذا كان الفرار ممكناً في الصحراء، فلا قصاص فيها بالإغراء، [وإني لأتمنى] (6) أن يكون هذا من تصرف بعض المتأخرين الذين قنعوا
__________
(1) في الأصل: "تبغي".
(2) في الأصل: "التبست". ومعنى التُمست أي طُلبت.
(3) في الأصل: "عال".
(4) في الأصل: "بالسباحة".
(5) في الأصل: "فقد".
(6) في الأصل: "وانى لا مسى" بهذا الرسم تماماً (انظر صورتها) والمثبت من تصرف المحقق، وفي هذه المرة لم أستطع أن ألتزم صور الحروف والكلمات، وآتي بما يشبهها ويمكن أن تكون مصحفة عنه.(16/63)
بالظواهر، وتركوا الغوص على الأسرار، فإن الفرق بين الصحراء والمضيق مما [مهّدته] (1) من عدم ضراوة السباع وحَمْل ثورانها في المضيق على الدفاع عن أنفسها، وإلا فكيف الخلاص من وثبات الفهود التي تدرك الظباء في لحظات مختلَسة، فلهذا لم أعتمد الفرار، وأخرجته عن السباحة، فإن من ذكر الفرار لم يخرجه عن ثبتٍ فأعتمدَه.
10309- فهذا أقصى ما في الوسع من إيضاح المشكلات، وتنزيل المسائل على مقتضى القواعد. وينبغي أن تشتد عناية الطالب بمعرفة العَمْدية، فإن معظم مسائل القصاص عليها تدور، ونحن بتوفيق الله تعالى نأتي (2) بقواعد الكلام، ونبهنا على تغشّيها من اللبس، في رَمْزٍ من الفقه فيه وتولّعٍ بَنَوْه بالتشجيعات (3) والترصيعات التي مجّتها الأسماع ويأباها طلبة المعاني.
10310- ومما نذكر متصلاً به، أنه لو أغرى سبعاً بإنسان في [متسع] (4) ، حيث نحكم بأن القصاص لا يجب، فلو فرض توثب السبع على ذلك الإنسان وقتله، ودرأنا القصاص، فهل تجب الدية أم لا؟ فهذا فيه تأمل ونظر، من جهة أن السبع إذا لم يكن ضارياً بطبعه، فلا أثر للإغراء فيه، وإنما يتوثب وفاقاً، ثم لا يسند فعله إلى المغري، والدليل عليه أنه لو أغرى كلباً غير معلّم بصيد، فاتفق أنه انطلق إليه وقتله، فهو ميتة، ويكون كما لو انطلق بنفسه من غير إغراء؛ فإن اختيار الحيوان له حكم إذا لم يكن معلّماً.
والأصحاب بنَوْا أمرهم في نفس القصاص على إمكان الفرار في الصحراء، وإذا كان كذلك، فقد تُفرض دهشة من ذلك الإنسان، كما فرضناه في ترك السباحة، حيث تفرض النجاة بالسباحة، ثم ميل الأصحاب إلى وجوب الضمان، كما قدمنا ذكره.
والوجه عندنا في ذلك أن نقول: إن كان السبع مطلقاً، ولم يوجد من الساعي إلا
__________
(1) في الأصل: "مهر به".
(2) نأتي بقواعد الكلام: الفعل هنا بمعنى الماضي (أتينا) فهذا دأبنا وعادتنا.
(3) كذا. ولعلها بالتوشيحات.
(4) في الأصل: "مسبع". وهو تصحيف واضح.(16/64)
الإغراء، [والسبع] (1) غير ضارٍ، فلست أرى للإغراء، والحالةُ هذه أثراً ووقعاً، إذا لم يكن ذلك في مضيق، كما تقدم التفصيل فيه. وإن كان السبع في رباط [فحلّه] (2) وأغراه، فانطلق في مسبع صحراء واتفق الهلاك، ففي وجوب الضمان التردد الذي ذكرناه: فإن بنينا الأمر على عدم ضراوة السبع، فالوجه نفي الضمان، وإن بنيناه على إمكان [الإفلات] (3) فهو سببه [كالسباحة] (4) إذا تركها الملقَى في الماء.
هذا وجه الكلام في الضمان، والله المستعان.
10311- ومما يتصل بهذه الفصول التغرير بتقديم السّم، فإذا أدخل الرجلُ السمَّ في طعام وقدمه إلى إنسان [مغرياً] (5) إياه على ما يعتاد في مثله، فأكله الضيف، وهلك، ففي وجوب القود قولان: أحدهما - وهو الأقيس أنه لا يجب؛ فإنه أكل باختياره، وأكلُه أولى با لاعتبار من تغرير الضيف، والمباشرةُ الصادرةُ عن اختيار تقطع الأسباب.
والقول الثاني - القصاص يجب؛ فإن التغرير على هذا الوجه يُفضي إلى الهلاك غالباًً، فإن الناس لا يمتنعون عن الاكل، فهو إذاً واقع إذا اتصل به التغرير، فيصير المغرور في حكم المحمول المكره، فإن قلنا: يجب القصاص على الغار المقدِّم، فلا شك في وجوب الدية إذا آل الأمر إلى المال.
وإن قلنا: لا يجب القصاص، فهل تجب الدية؟ ذكر شيخي رضي الله عنه قولين في وجوب الدية: أحدهما - أنها تجب وهو الذي قطع به القاضي وغيره؛ لأنا إن درأنا القصاص للشبهة، فلا سبيل إلى إحباط فعل المقدِّم بالكلية؛ فإن هذا في مستقر العادة يسمى قتلاً من المقدِّم.
__________
(1) في الأصل: "والصيد".
(2) في الأصل: "يحله".
(3) في الأصل: "الإقلاب".
(4) في الأصل: "بالسباحة".
(5) في الأصل:، مصرفاً".(16/65)
والقول الثاني - أن الضمان لا يجب تغليباً لمباشرة الآكل، كما ذكرناه، وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فهو متجه في المعنى.
وما ذكرناه فيه إذا قدم الطعام إلى إنسان ودعاه إلى أكله بمقاله أو بقرينة الحال.
فأما إذا أدخل السم في طعام الغير من حيث لا يشعر، فأكله صاحب الطعام، ولم يوجد من الساعي في ذلك تقديم، ولكنه بنى الأمرَ على أنه سيأكل الطعام، فهذا مما اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هذا بمثابة ما لو قدم الطعام إلى إنسان، ودعاه إلى أكله، ولا يخفى توجيه الطريقين، ثم الأصحاب قطعوا في صورة التقديم بوجوب الضمان، وذكروا القولين في وجوب القصاص، ولم يذكر القولين في الضمان في صورة التقديم إلاّ شيخي.
وكنت أود أن [أجمع] ُ (1) الأسباب التي لا تتصل فيها الجناية من الجاني بالمجني عليه وأقسمها إلى القوي والضعيف وأوضح ما يتعلق القصاص به، وما يختلف المذهب فيه، [وما اتفق تفصيل الضمان فيه] (2) .
وسأجمع ما يتعلق القصاصُ به في فصل الإكراه، وأذكر ما يتعلق الضمان به في باب حفر البئر في محل العدوان -إن شاء الله عز وجل- فهذه مسائل ذكرتها في تحقيق العمد، [وما يتم به] (3) .
10312- وأنا أختم الفصل بضبطٍ يجري مجرى الترجمة المذكورة، ولا شيء في انتشار المسائل وتعارض الأصول أنفع من اختتام الفصل بالترجمة، فأقول: أما القتل فقد قسمناه إلى [الوجء المذفِّف، وإلى ما هو مذفّفٌ يتعلق بالأسباب] (4) ، ثم قسمنا الأسباب إلى ما يتعلق بالظاهر، وإلى الجرح الذي يتعلق بالبواطن، ثم ذكرنا بعد ذلك
__________
(1) في الأصل: "أسمع".
(2) في الأصل: "واتفق تفصيل الضمان".
(3) في الأصل: "وما يقدم به".
(4) في الأصل: "الوحى الموقف، وإلى ما يتوقف بتعلق بالأسباب" والمثبت من تصرف المحقق.(16/66)
قواعدَ: أحدها - في التمكن من الحِيل وما ذكرنا فيه مراتب [وفضضنا] (1) عليها لو تَركَ الأكلَ، وترك السباحةَ، وترك مداواةَ الجرح.
ومن القواعد أن الجاني إذا قصد الإهلاك بسببٍ، فاتفق سببٌ آخر، لم يعرفه الجاني، وفيه ذكرنا الْتقام الحوت والإلقاءَ من الشاهق، وتصويرَ [القدّ] (2) من واقفٍ في الحضيض. وفيه ذكرنا ما إذا لم يكن السبب مُهلكاً، فاتفق عنده مُهلك، مثل أن يدفعه دفعاً على أرضٍ مستوية، ويلقيه في حفرة قريبة العمق، فيتفق سقوطه على سكين.
ومن القواعد إغراء السباع وإنهاش الحيات، والكلام في المضيق والمتسع، وردّ الأمر إلى طباعها في الضراوة وعدمها، أو إلى المفارّ، أو إلى إمكان الفرار.
ومما يجب الاعتناء به في أثناء المسائل، أنا إذا درأنا القصاص عنها، فهل نوجب الضمان، أم نُردّد القولَ فيه، أم ننفيه؟ ومأخذ هذا أنا حيث نتحقق أن القتل حصل بالجناية، ولكن لم يتحقق العمد فيه، فوجب الضمان من حيث ثبت فعلٌ من المجني عليه، ورأينا إحالةَ الهلاك عليه، أو رأينا إحالته على حيوان ذي اختيار غيرِ محمول ولا مكرَه، فقد ندرأ الضمان، وقد نجعل ترك الاختيار بمثابة فعلٍ من المُهلَك كترك الأكل، وقد نختلف في ذلك.
فهذا بيان القواعد وسنعيد التغرير في الأسباب عند ذكرنا الإكراه وكونَه سبباً في التزام القود، وإن لم يكن فيه مباشرة من المتعلق بالسبب.
فصل
قال: "ولو قطع مريئه أو حلقومه، أو قطع حشوته ... إلى آخره" (3) .
10313- في نقل المزني غلط؛ فإنه قال: "لو قطع حلقومه أو مريئه" على
__________
(1) في الأصل: "وقصصنا".
(2) في الأصل: "الغر".
(3) ر. المختصر: 5/97.(16/67)
الترديد وكان الوجه أن "يقول: لو قطع حلقومه ومريئه" (1) ؛ فإنه رام أن يذكر القتل المُوقِف (2) الذي لا يَبقى بعده حياة، وهذا لا يحصل بقطع أحدهما، ومقصود الفصل بعد هذا التنبيهُ [إلى] (3) أن من قطع حلقوم إنسان ومريئه، فالمجني عليه مقتول، [وإن] (4) كان يتحرّك [حركة مضطربة] (5) متقاربة، فذاك حركة مذبوح، ولا حكم لها، ولو فرضت جناية بعد ما ذكرناه، وإن كانت في دوام تلك الحركات، فهي جناية على ميت، ولا يتعلق بها حكم إلا التعزير؛ من جهة هتك حرمة ميت محترم، وهو بمثابة ما لو أقدم على ميت وقطع أطرافه.
ويترتب على ما ذكرناه أنه إذا سبق سابق بالقتل، كما ذكرناه، ثم تلاه آخر بقطع طرفٍ أو غيره، ففعْلُ الثاني هدرٌ، لا يتعلق به موجَب الضمان. وبمثله لو جنى الأول جناية لم تزُل الحياة بها، وأتى الثاني بما هو مُوقفٌ (6) في نفسه، فيعتبر فعل الثاني حينئذ مع اعتبار فعل الأول.
وبيانه أن الأول لو شق بطنه وخرق مِعاه، فالمجني عليه سيهلك بهذا السبب لا محالة، وليس هذا مما يتوقع فيه برءٌ وتدارك، ولكن تبقى معه حياة مستقرة، ثم ينتهي، وقد خُرق مِعى عُمر رضي الله عنه، فأوصى لمن بعده وجَعل الأمرَ شورى، وبقي أياماً، فلو جرى مثلُ ما وصفناه، ثم جاء ثانٍ، وقدّه بنصفين أو ضرب رقبته، فالقاتل هو الثاني؛ فإنه الآتي بالسبب [المذفّف،] (7) والجنايةُ الأولى كانت تقتل بطريق السراية لو تركت، والتذفيف يقطع أثر السراية وإمكان جريانها وإفضائها إلى الهلاك.
__________
(1) في نسخة المختصر التي بيدنا: "مريئه وحلقومه"، فهي صحيحة كما يقول الأمام.
(2) كذا. وكنت غيرتها من قبلُ مرات إلى (المذفف) وأكتفي هنا بالتنبيه، فقد يكون لها وجه.
وإن كنت لم أجد في المعاجم (الموقف) بمعنى المثبت المهلك المميت.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل "إن" (بدون واو) .
(5) في الأصل غير مقروءة، صورتها هكذا: "من ارضه".
(6) كذا. ولعلها: مذفّف، كما غيرناها أكثر من مرة.
(7) في الأصل: "الموقف".(16/68)
وقال مالك (1) : إذا كانت الجناية الأولى تُفضي إلى الهلاك لا محالة [لو] (2) فرض الاقتصار عليها، فالمجني عليه هالك بمثابة المنتهي إلى حركة المذبوح، وذكر الشافعي في الرد عليه قصة عمر رضي الله عنه، وأراد بذكرها أن يوضح أن المجروح حي، ثم نبّه بذلك على أن الثاني قاتلٌ [لا جارح] (3) .
10314- ثم يتعين الاهتمام بفهم ما نورده، والاعتناء بدرك منازل الحياة، فنقول أولاً:- ما نسميه حركةَ المذبوح يوجب القطعَ [بالحياة] (4) ؛ فإنه من آثار الحياة، [وليس] (5) كتلوي عصبة في عضو بحيث [يتشنج] (6) ؛ إذ قد يفرض مثل ذلك في ميت قد جَمَد إذا عرض عارض في عصبة أو غيرها، ولكن هذه البقية من آثار الحياة، [لا معوّل عليها] (7) في العادات، وأهلها يسمون المنتهي إلى هذا المنتهى [ميتاً حقّاً] (8) ، ولا يرون هذا من المجاز المحمول [على ما سيكون] (9) لا محالة، كما يقال في المجروح المأيوس منه الذي سيموت لا محالة [لهول ما به] (10) : إنه مقتول، والمراد أنه سيهلك لا محالة على قرب.
وقطعُ الحلقوم والمريء قتلٌ لا محالة؛ فإنه لا يبقى بعدهما إلا ما سميناه حركة المذبوح.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/822 مسألة 1570.
(2) في الأصل: "ولو".
(3) في الأصل: "أو جار".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "وليست".
(6) في الأصل: "ينشج".
(7) في الأصل: "ولا معوّل عليه".
(8) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: "سلاحقا" (انظر صورتها) والمثبت من المحقق.
(9) في الأصل: "عليها سيكون".
(10) في الأصل: "وهو لما به" كذا قدرنا هذه اللفظة (لما به) هنا، ولكنها تكررت عدة مرات بهذا الرسم وبهذا المعنى في هذا السياق. مما جعلنا نستبعد التصحيف وإن كنا لم نصل بعد إلى أصلها واشتقاقها.(16/69)
ومما يدور في الخَلَد أن من ضرب إنساناً بسيفٍ [قُرب الحِقْو] (1) ومَعْقدِ [النطاق] (2) وقدّه بنصفين على الوضع الذي ذكرناه، وَتَرك حُشوته (3) في النصف الأعلى، فقد يفرض ممن فُعل به هذا أن يطرِف وينظر إلى شيء ويبصره، أو يتكلم بكلمات، ثم [يجمُد] (4) بعد ذلك. وقد قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا كان بحيث يتكلم أو ينظر، فهو حي، وإن كان ذلك يزول على القرب، ولا يطول زمانه، فلو ابتدر له مبتدر وضرب رقبته في الحالة التي وصفناها، فالقاتل هو الأول، أم الثاني، أم كيف السبيل فيه؟
فنقول: رب إسرافٍ في التصوير يُفضي إلى تقدير ما لا يكون، فإذا فرض قدُّه من الموضع الذي ذكرناه، فلا يجري كلام منتظمٌ بعده، والمجنيُّ عليه يُعدّ قتيلاً، [ولو صوّبت السهام بمثله، فيموت المصاب] (5) في لحظة، فكيف الظن وقد قدّ من الوسط.
10315- ومما يتعلق بذلك أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت مخايل الموت، وتغيرت الأنفاس في الشراسيف (6) ، فلا نحكم للمريض بالموت، وإن انتهى إلى حالة يَظن الظان أن الموسَّط (7) المقدود على مثل حاله؛ وذلك أن مثلَ هذا مما لا يؤثر به، وكم من مُدْنَفٍ تُشَقّ الجيوب عليه، ويشد حنكه، ويسوَّى كفنه، ثم تثور قوّته ويعود، فينطق، فلا يتصور الحكم بالموت على ثقة ما لم يجْمُد
__________
(1) في الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا: فدنوا بحعو (تماماًَ) انظر صورتها. والمثبت اختيار منا على ضوء هذه الحروف التي لا تقرأ.
(2) في الأصل: "التطلق".
(3) الحُُِشوة: (بضم الحاء وكسرها) الأمعاءُ.
(4) في الأصل: "عمد".
(5) في الأصل: "وقد نصت السهم المثلية فيموت المصاب ... " والمثبت محاولة لأداء المعنى بألفاظ قريبة في صورتها من الألفاظ الموجودة بالأصل. والمعنى: أن من صوبت السهام لمثل هذه المواضع من جسده، (الحقو وموضع النطاق) يموت في لحظة، فكيف يعتبر حيّاً من قدّ نصفين؟
(6) الشراسيف: جمع شُرسُوف: الطرف اللين من الضلع. والمعنى تغير الأنفاس بين الضلوع.
(7) الموسّط: الذي قدّ نصفين من وسطه.(16/70)
وتحبِط نفسه، فإذا ضرب ضارب رقبته وهو يتنفس، فنجعله قاتلاً على التحقيق، والذي أُبينت حُِشوته قتيلٌ على قطع، بحيث لا يفرض انتعاشٌ.
فالمتبع في ذلك في النفي والإثبات [الثقةُ] (1) بأنه قتيل، والقتيل من لا يَلْحظ (2) ، ولا يتكلم على نظمٍ يُعد كلاماً، ولا يتحرك حركةً اختيارية، والحياةُ التي يُثبتها أرباب العقول لا اكتفاء بها؛ فإنها ثابتة للمذبوح إلى أن يجمد، وإنما التعويل على أن يعد المجني عليه قتيلاً، ولا يقع الاكتفاء بالحكم بأنه هالك؛ فإن معناه أنه سيهلك.
فهذا بيان المراد في ذلك كله.
10316- ومما يتصل بهذا أن من قطع حلقَ إنسان، ولا يقطع مريئه، فقد ذكرنا أن هذا فعلاً يكون قتلاً، ولا يُفضي إلى حالة المذبوح في أول الأمر، ولكن لو تمادى، فقد يؤدي إلى المصير إلى حركة المذبوح، وهذا قد يشتبه بالمريض [ينتهي] (3) إلى السكرات، ولكن المريض كما ذكرناه لا تؤثر حقيقة حاله ما لم يجمد، والذي قُطع حلقومه يُفضي إلى حركة المذبوح، وإن عاش زماناً، والمريض لا ينتهي إلى هذه الحالة، والأحكام تتبع الصور.
ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه تتبع الصور إذا تثبت فيها، ولم يقبل كل ما يُرعى من الصور.
ثم ما ذكرناه من [التفصيل] (4) يجري في الذبح وافتراس السبع، فالأصل أن السبع إذا افترس شاة، فإن صادفناها وهي في حركة المذبوح، فهي ميتة، وإن كانت فيها حياة مستقرة، فذبحناها، فهي ذكيّة. وفي ذلك مزيد تفصيل يليق بحكم [الذكاة] (5) ، وسنذكره في كتاب الصيد والذبائح، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) غير مقروءة بالأصل إلا مع عسر عسير.
(2) اْي لا ينظر ولا يرى.
(3) في الأصل: "فينتهي".
(4) في الأصل: "القصاص".
(5) في الأصل: "الذكورة".(16/71)
فصل
قال: "ولو جرحه جر احات، فلم يمت حتى عاد إليه ... إلى آخره" (1) .
10317- إذا قطع يدي رجلٍ، ورجليه، وفقأ عينيه، فاندملت إحدى الجراحات، ففيها القود، على ما سيأتي تفصيل القصاص في الأطراف، إن شاء الله عز وجل.
وإذا آل الأمر إلى المال، ففيها ديات.
ولو سرت الجراحات، وأفضت إلى الموت، [فالقصاص] (2) باقٍ في الأطراف؛ [لأنها] (3) إذا سرت، صارت نفساً، والواجبُ بدلُ النفس، لا بدلُ الأطراف، فتندرج الأطراف تحت النفس في الدية، ولا تندرج تحتها في القصاص، وإن سرت وأدت إلى الموت.
ولو قطع الأطرافَ كما صورنا، ثم عاد، فقتل المجني عليه صبراً، والجراحات بعدُ ساريةٌ، فالمنصوص عليه للشافعي أن الأطراف تندرج تحت النفس في الدية، كما لو سرت بأنفسها [وأفضت] (4) إلى الهلاك، والقصاصُ باقٍ في الأطراف [لا يندرج تحت النفس] (5) ، ويجب فيها أروشها ودياتها.
[أما] (6) لو اندملت، ثم عاد فقتله، ففي النفس عند ابن سريج ديتها، وفي الأطراف دياتها، وللشافعي رضي الله عنه ما يدل على موافقة ابن سريج (7) ، كما سنذكره.
__________
(1) ر. المختصر: 5/98.
(2) في الأصل: "والقصاص".
(3) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام.
(4) في الأصل: "أفضت" (بدون الواو) .
(5) في الأصل: "لا تندرج في الدية تحت النفس" فكلمة (في الدية) مقحمة.
(6) في الأصل: "كما".
(7) أي موافقته في عدم الاندراج إذا اندملت الأطراف.(16/72)
فقد حصل في المسألة قولان في اندراج ديات الأطراف تحت دية النفس: أحدهما - أنها لا تندرج، وهو اختيار ابنِ سريج، والقياسُ أنها لا تندرج، وفيها أروشها، وفي النفس ديتها؛ لأنه لما عاد فقتله صبراً، فقد انقطعت سراية الجراحات بالقتل، وتبين أنها لم تسْر، ولم تصر نفساً ومسلكاً في إزهاق الروح، فصار انقطاع السراية بهذه الجهة بمثابة انقطاع السراية بالاندمال، وهذا قياس بيّن جلي.
والقول الثاني - وهو ظاهر النص أنها تندرج، [والواجب دية النفس] (1) ؛ فإن القتل جرى قبل الاندمال، وإذا كانت السراية غيرَ منقطعة، والأفعال وإن انفصلت بمثابة المتصلة، ومن والى بالسيف على إنسان، [وطعنه] (2) متحاملاً عليه، حتى مات، فيعدّ ما جرى منه قتلاً واحداً، ولا نظر إلى تعدد الضربات والجنايات، والذي يحقق ذلك أن الديات في الأطراف إنما تستقر إذا انتهت نهايتها واندملت، فإذا لم تندمل حتى عاد ذلك الجاني بعينه وقتل، فلا حكم لها أصلاً.
والأصح في القياس اختيارُ ابنِ سريج.
ولا خلاف أن من قطع أطراف إنسان، ثم قتله رجل آخر، فلا تداخل، ولا اندراج، وفي الأطراف دياتها، وعلى قاتل النفس ديتها.
10318- واختلف نص الشافعي رضي الله عنه فيه إذا قطع الأطراف خطأً، وعاد، فقتل عمداً، أو قطع الأطراف عمداً، وعاد فقتل خطأ، فاختلفت صفة الجنايتين في الأطراف والنفس عمداً، فقد نُقل عن الشافعي نصان فيما ذكرناه: أحدهما - أنه قال: "إذا قطع يداً واحدة خطأً، ثم قتل عمداً، فيجب نصفُ ديةٍ مغلظةٍ في حالة إذا كان القطع عمداً، وديةٌ مخففة في النفس مضروبة على العاقلة، وإن كان التصوير في العمد والخطأ على الضد، فالجواب على العكس" هذا نص. والثاني - أنه قال: "يجب في اليد الواحدة والنفس الواحدة دية واحدة: نصفها مخفف على العاقلة، ونصفها مغلّظ في مال الجاني" فانتظم قولان منصوصان إذا اختلفت الجناية، كما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: "وهو الواجب دية النفس".
(2) في الأصل: "فقطعه".(16/73)
10319- وإذا رتبنا المذهب قلنا: إذا اتفقت صفة الجناية [واتحد] (1) الجاني، ولم يتخلل الاندمال، فقولان: أظهرهما في المذهب والنص -الاندراج. وأقيسهما- وهو المعروف بالمخرّج واختيار ابن سريج- أنها لا تندرج.
وإذا اختلفت صفة الجناية، ففي المسألة قولان منصوصان مرتبان على القولين فيه إذا اتفقت صفة الجنايات، وصورة الاختلاف أولى بألا تندرج؛ فإنها إذا اختلفت وتباينت، عسر القضاء بالاندراج، كما سنوضح ذلك في التفريع.
ويجوز أن يقال: اختلاف الصفة في الجناية بمثابة تعدد الجاني، وكل ما نذكره في محاولة الحكم بالاندراج، فهو تكلف في التعليل بمثابة الاحتيال الذي لا ثبات له، فإن قضينا بأنه لا يثبت الاندراج، فلا كلام، وإن حكمنا بالاندراج، والمقطوع يدٌ واحدة، ففي هذا حيث انتهينا إليه نظر؛ فإن حقيقة الاندراج مصيرٌ إلى سقوط الطرف، واكتفاءٌ بموجب النفس، هذا معنى قول العلماء: صارت الجراح نفساً. وإذا كان كذلك فلو قطع اليدَ خطأً، وقتل عمداً، وقلنا: تجب دية واحدة، فقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: يجب نصف الدية مخففاً على العاقلة ونصفه مغلظاً في مال الجاني.
والوجه عندي أن يقال: تجب دية كاملة في مال الجاني؛ نظراً إلى القتل الواقع عمداً، وكأن قطع اليد لم يكن، فكأن أثر الطرف يسقط عند جريان القتل، وكذلك إذا وقع قطع الطرف عمداً والقتل خطأ، فالوجه النظر إلى صفة القتل لا غير، وإيجاب الدية كاملةً مخففةً على العاقلة.
وقد أشار إلى ما ذكرناه أنا إن قلنا: لا يندرج الطرف تحت النفس عند اختلاف صفة الجناية، فتنفرد [كل واحدة من الجنايتين] (2) بحكمها، ونضرب موجَب ما كان عمداً على مال الجاني، وموجب ما كان خطأ على العاقلة، فإن رأينا الإدراج والرد إلى دية واحدة مع اختلاف الجنايتين، ففي المسألة وجهان: أقيسهما - النظر إلى القتل وصفته وإسقاطُ الطرف وترك اعتبار كيفية الجناية عليه.
__________
(1) في الأصل: "فاتخذ".
(2) في الأصل: "كل واحد من الجانبين".(16/74)
والوجه الثاني - أنا نوجب ديةً واحدة، ثم نجعل شطرها مخففاً -لجريان الخطأ- على العاقلة، ونوجب شطرها على القاتل في ماله.
ثم ما ذكرناه مصوّرٌ فيه إذا قطع يداً، ثم قتل، مع اختلاف الجنايتين، فأما إذا قطع يدي رجل خطأ، وقتل عمداً أو على العكس، وفرعنا إلى اتحاد الدية مع النظر إلى الخطأ والعمد جميعاً، فالوجه التنصيف لا غير كما قررناه.
ولو قطع يديه ورجليه خطأ، وقتله عمداً أو على العكس، فكيف الوجه في كيفية التبعيض في التخفيفِ والضربِ على العاقلة، والضربِ في مال الجاني؟ القولُ: نُنَصِّفُ ونقضي بالاختلاف تخفيفاً وتغليظاً وضرباً على العاقلة وفي ماله.
10320- ولو قطع أصبعاً خطأ، ثم عاد وقتل عمداً [فنُجري] (1) التنصيف معتبراً، أم نعتبر مقدار الأرش من الطرف؟
وهذا مما يجب الاعتناء به.
فنقول وبالله التوفيق: هذا التفريع خارج على اندراج الطرف تحت النفس، ومعنى اندراجه أنه يصير نفساً، ولكن الشافعي رضي الله عنه اعتبر الخطأَ والعمدَ الواقعين من الأطراف، والسبب فيه أنه جعل اتصال [القتل] (2) بالقطع بمثابة سريان الجراح إلى النفس، ولهذا لم يفردها بأروشها، ثم القتل على هذا التقدير كأنه جرح، وكأن ما تقدم من الجراح مع حر الرقبة بمثابة جراحات مؤثرة في إزهاق الروح، ثم إذا اختلفت الجهتان في الجراح خطأً وعمداً، وُزّعت ديةُ النفس على الجهتين، وهذا يقتضي تنصيف الدية عليهما، سواء كثرت الجراح أو قلت، ولا نظر إلى أفراد الأروش، وهذا بمثابة ما لو تعدد الجارح، فلو جرح أحدهما مائة جراحة، وجرح الثاني جراحة واحدة، فالدية إذا سرت الجراح عليهما نصفان.
وإن ظن ظان أن تقسيم الدية يؤخذ من أرش الجراح، فليس على بصيرة من المسألة، فإن النظر إلى أقدار أروش الأطراف مصيرٌ إلى ترك إدراجها، والأطراف إذا
__________
(1) في الأصل: "فيحر".
(2) في الأصل: "القتيل".(16/75)
اندرجت، سقطت، والواجب دية النفس فحسب. ونصُّ الشافعي في قطع يدٍ وقتلٍ يدل على أن نسبة أرش الطرف ليس معتبراً، فإنه قال: "لو قطع يداً خطأ، وقتل عمداً، فالواجب ديةٌ نصفها مخففة ونصفها مغلظة" ولو كان ذلك على شبه الأرش، لقيل: موجَب النفس دية، وموجَب الطرف نصف دية، فتوزع الدية على دية ونصف أثلاثاً، [ولمّا لم يقل ذلك] (1) ، دلّ على أن التعويل على التنصيف كيف فرض الجرح. هذا تفريعٌ على اعتبار صفة الطرف مع النفس.
فإن قلنا: الاعتبار بصفة النفس كيف فرض الأمر، فهو قياس سديد، كما قدمنا ذكره.
وقد انتجز الغرض من هذا الطرف.
10321- ومما نفرعه على النص أنه إذا قطع يدي رجل عمداً، ثم عاد وقتله عمداً أيضاًً، فالنص أن الواجب دية واحدة، والقصاص لا يتداخل، ثم إذا اختار الولي القطعَ، قطع اليدين، وله القتل بعد القطع، ثم إن أراد العفو، سقط القصاص، ولم يثبت المال أصلاً، فإن القصاص في الطرف قابَلَ ديةً كاملة، فكأنه استوفى تمام الدية، وقد ذكرنا أن الواجب دية واحدة، وهذا من غرائب المذاهب، [فإنا أثبتنا] (2) القصاص في النفس بعد استيفاء الطرف، ثم لم نثبت مرجعاً إلى الدية.
هذا ظاهر المذهب، وحقيقته ترجع إلى أن القصاص لا يندرج، والدية واحدة واليدان يقابِلان ديةً كاملة، فإذا استوفاهما، ثم أراد الرجوع إلى المال، لم يجد إليه سبيلاً، فإن في ذلك إحباطَ القصاصِ المستوفى في اليدين، وعلى هذا لو استوفى القصاص من إحدى اليدين وعفا ليس له إلا نصف الدية، فإنه استوفى ما يقابل نصف الدية.
وهذه التفريعات فيها تعقُّد، وسببه ما في أصله من الإشكال؛ فإن القياس [ما] (3) اختاره ابن سريج في أصل المذهب.
__________
(1) في الأصل: "ولم يقل ذلك".
(2) في الأصل: "فا أثبتنا".
(3) في الأصل: "كما".(16/76)
وقد قال صاحب التقريب: من أصحابنا من قال في التفريع على النص: إذا قطع وليُّ القصاص اليدين، وبقي حقه في النفس، فله الرجوع إلى الدية الكاملة، ولا يقع القصاص [في اليدين] (1) موقع الدية، وليس في المصير إلى ذلك ما يخالف القياسَ؛ فإن القصاص على النص لا تداخل فيه، فهو يجري على موجبه، والدية تجب في النفس بكمالها، وإذا أراد العفوَ والأطرافُ ساقطة الاعتبار في الدية، وهي مرعية في القصاص، فليقع القصاص فيها عن جهة القصاص، ولتبق الدية الكاملة إذا فرض العفو عن النفس.
وهذا منقاس فقيه، [ولعلي] (2) أعيده في أحكام موجب العمد إن شاء الله.
فصل
قال: "ولو تداوى المجروح بسمّ ... إلى آخره" (3) .
10322- هذا الفصل مشتمل على مراتب الشركة في القتل، وهو من أصول الكتاب، وقد قدمنا أنه إذا اشترك جماعة، فقتلوا شخصاً عمداً، وجب القصاصُ عليهم، ولو جرح رجل رجلاً خطأ، وجرحه آخرُ عمداً، فلا قصاص على العامد الذي شريكه خاطىء، خلافاً لمالك (4) ، فإنه أوجب القصاص على العامد، وقدّره كأنه منفرد بالجرح؛ إذ لو لم يكن كذلك، [لما وجب ولا التُزم القود] (5) ، وهذا مذهب المزني واختياره.
وكنت أود لو كان هذا قولاً معدوداً من المذهب.
ولو اشترك في القتل أبُ القتيل وأجنبي، فيجب القصاص على شريك الأب
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يتضح المعنى إلا بها.
(2) في الأصل: "ولعل".
(3) ر. المختصر: 5/: 98.
(4) ر. الإشراف: 2/819 مسألة 1563، عيون المجالس: 5/1998 مسألة: 1429، المعونة: 3/310، القوانين الفقهية: 341.
(5) في الأصل: لما وجب لا لتزم القود.(16/77)
عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1) والمسألة مشهورة في الخلاف.
فإذا كان شريكه عامداً غيرَ ضامن، مثل أن يجرح الشخصَ حربي جراحة، ثم يجرحه ضامنٌ جراحةً، ففي وجوب القصاص على الضامن قولان، فعماد المذهب أن شريك الخاطىء لا قصاص عليه، ويجب القصاص على العامد الضامن الذي هو من أهل استيجاب القصاص إذا كان شريكه عامداً ضامناً، وإن لم يكن من أهل استيجاب القود كالأب. وإن شارك من يستوجب القودَ عامداً ليس من أهل الضمان أصلاً، ففي المسألة قولان.
ثم الصور تصدر عن هذه القواعد، ونحن نذكرها مرسلة، ونلحق كل صورة بأصلها، ثم نرتبها، ونذكر صوراً فيها تردد ونستعين بالله.
10323- فإذا شارك العبدُ حُرّاً في قتل عبد وسقط القصاص عن الحر، فيجب على العبد؛ لأن شريكه ضامن عامد.
وكذلك إذا شارك الذميُّ مسلماً في قتل ذمي، وكذلك إذا شارك الأجنبيُّ الأب في قتل ابنه، فالقصاص يجب على الشريك في هذه الصورة.
ولو جرح رجل مرتداً، فأسلم المرتد، فجرحه رجل آخر في الإسلام، ومات [من] (2) الجراحتين، فالذي جرح في الإسلام شاركَ عامداً غيرَ ضامن؛ فإن الجراحة في الردة لا يتعلق بها ضمان، ففي وجوب القود على الجارح في الإسلام قولان.
وكذلك لو جرح حربياً، ثم أسلم فجرحه بعد الإسلام من يلتزم القود، فمات من الجراحتين، فقولان.
وكذلك لو قطع الإمام يد السارق، ثم جرحه عامدٌ من أهل التزام القصاص عمداً، فمات من الجراحتين، وكذلك لو قطعت يده قصاصاًً، ثم جرحه آخر عمداً ظُلماً، وكذلك لو جرح ذمّي حربياً، فعقدنا للمجروح الذمةَ، فجرحه بعد الذمة ذميٌّ ظلماً عمداً.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 231، رؤوس المسائل: 460 مسألة 325، طريقة الخلاف 469 مسألة 188. المبسوط: 26/94.
(2) في الأصل: "في".(16/78)
فهذه صورة القولين.
ولو جرح عبد عبداً، وجرحه مولاه جرحاً، فمات من الجرحين، فالسيد ضامن للكفارة، ولا يضمن غيرها، وقد اختلف أصحابنا في ضمان الكفارة، فمنهم من ألحقه بضمان الدية، فعلى هذا يجب على شريك السيد القودُ قولاً واحداً، ومنهم من لم يعتبر ضمان الكفارة، فعلى هذا شارك من ليس ضامناً معتبَراً، فتخرج المسألة على قولين.
ولو جرح إنساناً جُرحَ قصاص، فجرح المجروح [نفسَه] (1) ، فنقول أولاً:
10324- من قتل نفسه هل يلتزم الكفارة؟ فعلى وجهين سيأتي ذكرهما في الكفارات -إن شاء الله عز وجل- فإن قلنا: لا يلتزم الكفارة، فمن شاركه، فقد شارك عامداً غير ضامن، فتخرج المسألة على قولين. وإن قلنا: يلتزم قاتلُ نفسه الكفارةَ، فهذا يخرج على أن ضمان الكفارة هل يعتبر؟ فإن قلنا: هو معتبر، قطعنا بوجوب القصاص على شريكه، وإن لم نعتبر ضمانَ الكفارة، ففي المسألة قولان، كما قدمنا.
وشريك الخاطىء لا قصاص عليه قولاً واحداً.
وفي شريك السبع -وهو الذي يجرح مَنْ جرحه سبعٌ - طريقان: من أصحابنا من قال: هو شريك عامدٍ غيرِ ضامن، فتخرج المسألة على قولين.
ومنهم من قطع بنفي القصاص، فإن حقيقة العمد لا تثبت للسبع، وهذا ما ارتضاه القاضي وكلُّ محقق.
ومن جرحه صبي، وجرحه مَنْ هو من أهل التزام القود، فأمره يُبنى على أن الصبي هل له عمد؟ فإن جعلناه عمداً، كما سيأتي شرح ذلك، فعلى شريكه القود؛ فإنه شارك عامداً ضامناً، وإن قلنا: لا عمد له، فلا قصاص على شريكه قولاً واحداً.
10325- وما صورناه في شريكين يمكن تصويره في شخص واحد يصدر منه جرحان على وجهين مختلفين، فنقول: إذا جرح رجل رجلاً جراحةً خطأ، وجرحه
__________
(1) في الأصل: "نصيبه".(16/79)
جراحةً عمداً، فمات بالجُرحين، فلا قصاص في النفس، ويجب نصف الدية مخففاً على العاقلة، [ونصفها] (1) مغلظاً في ماله.
ولو جرح السيد عبده [عمداً] (2) ، ثم أعتقه، وجرحه في الحرية، ومات بالجرحين، فلا قود قولاً واحداً، ولا نقول: الجراحة الثانية عمد مُضمِّن، والأولى غيرُ مضمِّنة، ولكنها عمد [فتخرج] (3) على قولين، كما لو تعدد الجارح وأحدهما غير ضامن (4) ؛ فإنه إذا صدر من شخصٍ واحد جراحتان، ولا ضمان في إحداهما، فينتهض ذلك سبباً في درء القصاص عنه لا محالة، فليتأمل الناظر ما ينتهي إليه، [ففعله] (5) إذا انضم إلى فعله، امتزجا.
وكذلك لو جرح مرتداً، ثم أسلم المجروح، فجَرَحه في الإسلام، وكذلك لو جرح حربياً، فأسلم المجروح، فجَرَحه ذلك الجارح في الإسلام مرة أخرى، فلا قصاص في [هذه] (6) المسائل.
وكذلك لو قَطع يده قصاصاًً، وجرحه جرحاً آخرَ ظلماً، فمات منهما، فلا قصاص في [النفس] (7) ، ولا نجعل الإنسان بأحد فعليه شريكاً لنفسه في الفعل الآخر (8) .
ولو جرح مسلم ذمياًً، فأسلم المجروح، فجَرَحه المسلمُ جرحاً آخر، فمات من الجرحين جميعاً، فلا قصاص في النفس، فإن كان الجرح الأول عمداً مضموناًً، فقد
__________
(1) في الأصل: "وبعضها".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "فخرج".
(4) إلى هنا انتهى مقول القول لقوله: ولا نقول.
(5) في الأصل: "بفعله".
(6) زياة لاستقامة العبارة.
(7) في الأصل: "النقص".
(8) لا تختلط هذه المسألة بالمسألة السابقة التي قطع فيها الإمامُ اليدَ قصاصاًً، ففيها قولان في وجوب القصاص، أما هنا فالذي قطعَ اليدَ هو مستحق القصاص وهو الذي جرح، فلا فصاص في النفس قولاً واحداً.(16/80)
ذكرنا أن من شارك عامداً ضامناً لا قصاص عليه، فالشريك ملتزم القصاص، إذا كان من أهل التزامه، وإذا اتحد الجارح، انتفى القصاص لا محالة.
10326- فانتظم مما ذكرناه أن الجرحين من شخص واحد إذا كان لا يتعلق القصاص بأحدهما، فلا يجب القصاص على الجارح إذا كان الزهوق بالجرحين جميعاً قولاً واحداً، سواء كان أحدُ الجرحين خطأ أو عمداً، وسواء كان الواقع عمداً موجِباً للضمان أو غيرَ موجِب له.
وإذا تعدد الجارح وأحدهما مخطىء، فلا قصاص على الثاني.
وإن كان الشريك عامداً ضامناً للدية غيرَ مستوجب للقود، فالقود يجب على الشريك الذي يلتزم القود.
وإن كان الشريك عامداً غير ضامن، ففي شريكه قولان.
وإن كان ضامناً للكفارة، فطريقان.
هذا بيان المسائل في الشركة، وترتيبها.
10327- ولو جرح رجلاً، فداوى نفسَه بسمّ، وهذا مسألة الكتاب، فنقول: أولاً إذا كان السم مذففاً مُجْهزاً، وحصل الموت به وحده، فلا قصاص على الجارح، وإنما عليه أرشُ الجراحة فحسب، فإنه لم يشارك في النفس قطعاً، وإن لم يكن السم مُجْهزاً، وأمكن أن يقال: يحصل الموت [بالجرحِ واستعمالِ السم، فالجارح شريك في النفس] (1) ، وفيه التفصيل الذي ذكرناه.
ومنهم من قال: إذا قصد المداواةَ، فإنما صدر منه ما صدر استصلاحاً، فيكون في رتبة الخطأ، فلا قصاص على الشريك قولاً واحداً كشريك الخاطىء، فإن المتداوي بعيدٌ عن الظلم والعدوان، وعلى هذا شريك من قطع يداً حدّاً أو قصاصاًً، ينبغي ألا يلتزم القود قولاً واحداً؛ فإنه شريكُ مُحِقٍّ، فيخرج في هذا النوع طريقة في القطع بنفي القصاص عن الشريك.
__________
(1) عبارة الأصل فيها أكثر من تصحيف. هكذا: "بالجرحين فاستعمال السم بالجارح شريك في النفس".(16/81)
ولو جرح رجلاً، فخاط المجروح جرحه في لحمه الحيّ، وحصل الموت من الجرح والخياطة في ظاهر الأمر، فهذا شريك [في] (1) النفس، ولكن إذا قصد المعالجة، فتخرج الطريقةُ الأخرى التي ذكرناها، وإن خاط ووقع الخيط في لحمٍ ميتٍ، فلا أثر لذلك أصلاً.
10328- ومما يتعلق بفصول الشركة، وهو من أهمّ ما يجب الاعتناء به تفصيلُ المذهب [فيه] (2) إذا تمالأ أقوام على رجل وضربه كل واحد منهم سوطاً خفيفاً، وكانت جملةُ السياط بحيث يقصد بها القتل غالباًً، فنتكلم في القصاص، ثم نبني عليه حكمَ الضمان في هذه الصورة.
10329- ونذكر أولاً إلزام أصحاب أبي حنيفة إيانا هذه المسألة في القتل بالمثقل؛ فإن معتمدنا في المسألة نِسبتنا إياهم إلى هذه القاعدة في القصاص، فإنه شرع لدفع الهرْج وحقن الدماء، وما ذكروه تسهيل الوسيلة إلى إهدار الدماء وسفكها، فألزمونا المسألة التي ذكرناها، وقالوا: إن درأتم القصاص، بطل معوّلكم في إلزامنا الهرْج، وإن أوجبتم القصاص، أدّى إلى مذهب فاسد؛ فإن كل واحد منهم، لم يصدر منه ما لو انفرد، [لاستوجب] (3) به القصاص.
وقد اضطرب أصحابنا في المسألة، فقال بعضهم: يجب القصاص من غير تفصيل، حتى لا يؤدي إلى ما ذكروه من الهرْج.
وقال آخرون: لا يجب القصاص أصلاً لما أشعروه، كما أشرنا إليه وسنزيده كشفاً.
وقال بعضهم: إن كان هذا عن تواطؤ، وجب القصاص عليهم، وإن لم يكن بينهم تواطؤ، فلا قصاص أصلاً، وهذا اختيار القاضي.
10330- ولست أرى شيئاًً مما ذكرته من المذهب، وإن اشتهرت الحكاية فيها،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "منه".
(3) في الأصل: "لا يستوجب".(16/82)
والوجه القطع بأنه إذا لم يكن مواطأة، فلا قصاص عليهم أصلاً، والسبب فيه أن فعل كل واحد في نفسه ليس عمداً مقتضياً للقود، فإذا فرضنا ذلك من جميع، فلا جمعَ نفرض الكلام فيهم من هؤلاء إلا وهم شركاء واحدٍ يشار إليه، وفعلُه ليس عمداً في نفسه، ولا قصاص على شركاء الخاطىء، ولا على شركاء صاحب شبه العمد، فكيف ينساغُ تقدير [العمد فيما ذكرناه] (1) ، ولا يصير إلى إيجاب القود من غير تواطؤ إلا مستهينٌ [بقواعد] (2) المذهب، أو غيرُ دَرِب بها.
فأما إذا تواطؤوا، فيجب أن يكون في وجوب القود وجهان: أحدهما - أنه لا يجب القصاص، وهو القياس؛ لأن إيجابه يؤدي إلى إيجاب القصاص على شركاء شبه العمد، وهذا [لا دراء له] (3) ، وليس كما لو جرح كلُّ واحد جراحةً؛ فإن القصاص إنْ وجب عليهم، فكل واحد منهم عامد، وشركاؤه عامدون مشاركون عامداً، ولا بُعد في إيجاب القصاص على شريك العامد.
ومن صار إلى أن القصاص يجب عليهم إذا [تواطؤوا] (4) ، احتج بأن هذا قصدٌ من جميعهم -بطريق التواطؤ- إلى القتل، فصاروا كالقاصد الواحد إذا والى عليه بالسياط، وقد يتعلق هؤلاء أيضاًً بالقاعدة الكلية في إفضاء نفي القصاص عنهم إلى الهرْج.
وهذا قد يجاب عنه بأن تواطؤ مائة أو مائتين على أن يضرب كل واحد سياطاً معدودةً غريب في التصوير، والذريعةُ هي التي يسهل تصورُها ويهون إمكانها، ويعم وقوعها.
وما ذكرناه من أن التواطؤ يجعل المقصود كالقصد الواحد يعضده ويؤيده أن الرجل [لو والى بين] (5) السياط حتى يفضي إلى الإهلاك، فالقصاص يجب وفاقاً، وكل ضربة لا تتصف بكونها عمداً محضاً في القتل.
__________
(1) في الأصل: "العود ما ذكرناه".
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: "لا داكه".
(4) في الأصل: "إذا باطوا" بهذا الرسم.
(5) في الأصل: "ولو دابين" (كذا تماماًً) .(16/83)
ومن جرح خطأ، ثم عاد فجرح عمداً، وسرت الجراحتان، فلا قصاص، ثم جعلت الأفعال عندنا كالفعل الواحد، فليكن الأمر كذلك من طائفةٍ متواطئين.
هذا منتهى الغرض في ذلك.
ثم إن أوجبنا القصاص عند التواطؤ، فيصير كل واحد منهم في حكم العامد في القتل بسبب الشركة، وإن لم يوجد منهم ما هو عمد -في القتل- محضٌ، وهذا بمثابة إيجابنا القصاص على الجارحين جميعاً، وتقديرِنا كلَّ واحد منهما قاتلاً، مع القطع بأنه ليس ينفرد بالقتل.
10331- ثم إن لم نوجب القصاص، فنوجب الضمان لا محالة، وربما يكون فعل كل واحد منهم بحيث لا يتعلق به لو انفرد قصاص ولا ضمانٌ أصلاً، ولكن إذا اجتمعت، حصل الإهلاك بالكل، فيصير الفعل بسبب المشاركة مضمِّناً، وإن كان لو انفرد، لم يتعلق به حكم أصلاً، فإذا اشتركوا بالجراحات، فيصير كل واحد كالمنفرد بالقتل، وإن لم يكن كذلك.
فإن أوجبنا القصاص على المشتركين، فيصير كل واحد منهم بسبب الشركة عامداً، وإن كان فعله لا يصلح للعمد لو انفرد، وإن لم نوجب القصاص، فنوجب الضمان، ونجعل فعلَ كل واحد منهم مؤثراً، وإن لم يكن مؤثرأ أصلاً لو فرض انفراده. فهذه مراتب تأثير الشركة.
10332- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن قائلاً لو قال: إن كنتم تتماروْن في الأوّلين (1) ، فالذي يضرب [آخراً] (2) مثلاً يصادف ضرْبُه مَنْ ضَعُفَ بالضربات الأولى، فيكون هذا الضربُ في هذا المحل مما يُعمَدُ به القتلُ غالباً. قلنا: وإن كان كذلك، فالضربات الأولى خطأ أو شبه عمد، والمتأخر، وإن وقع فعله بضعيفٍ، فقد شاركه من وقع فعله شبهَ عمد.
__________
(1) أي الأولين من الذين اشتركوا في الضرب بالسياط، أي الذين ضربوا أولاً، وهو في تمام عافيته، فلا خطر في ضربهم.
(2) في الأصل: "أحداً".(16/84)
وإن فرض هذا السؤال في غرضٍ آخر -وهو أن الأول صدر منه ما لا يؤثر- قلنا: قد صيّره الأولُ بفعله بحيث يقتل التأثيرُ بالضرب المتأخر، فتحقق الاشتراك من الكل، بهذا الوجه الذي ذكرناه، وقد انتجز المقصود من الفصل.
فصل
10333- إذا جرح رجل رجلاً جراحة، وجرحه الثاني جراحتين، وسرت الجراحات إلى الموت، وآل الأمر إلى المال، فالتوزيع يقع على الجارحَيْن، والدية تجب نصفين، ولا ننظر إلى أعداد الجراحات.
ولو جرحه أحدهما وأشلَى عليه الآخر سبعاً، فعضه عضة غير [مذفِّفة] (1) ، وأنهشه الآخر حيّةً غيرَ مُجْهزة، فهذان السببان منه بمثابة جرحين، ولا اعتبار بالتعدد فيهما، وإنما النظر إلى اتحاد الجاني بهما.
ولو جرح رجل رجلاً جراحة، وعضه سبع عضة من غير إشلاء من أحد، ونهشته [حية] (2) من غير إنهاشٍ من أحد، فالجارح شريك [السبع] (3) والحية، فإذا آل الأمر إلى المال، ففيما يجب على الجارح وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن الواجب عليه ثلث الدية، فإنه شارك شخصين: سبعاً وحية، فصار كما لو شارك رجلين.
والثاني - أنه يلتزم نصف الدية، وإذا لم يكن الشريك آدمياً، فلا نظر إلى عدد الأسباب، بل الجميع منها بمثابة سبب واحد في مقابلة جرحٍ من الآدمي. وهذا الخلاف يمكن أن يُتلقى مما ذكرناه من التردد في أن صفة فعل السبع [هل] (4) تراعى؟ وقد ذهب طائفة، وهم الأكثرون إلى أنه يراعى صفة فعل السبع والحيّة؛ حتى لو تعمد، فالإنسان شارك عمداً محضاً غير مضمون، ففي القصاص قولان. وإن اتفق سقوط السبع على إنسان من غير قصد منه، فالرجل شارك خاطئاً، فلا قصاص عليه قولاً واحداً.
__________
(1) في الأصل: "مرفقة".
(2) زيادة من المحقق.
(3) مكان بياض بالأصل.
(4) في الأصل: "قد".(16/85)
وذهب المحققون إلى أن عمد السبع لا مبالاة به، وهو كالخطأ كيف فرض الأمر، فإن كانت أفعال السبع لا تختلف، [فلا نعتبر] (1) أعدادها، وإن كانت تختلف، فلا [ننكر] (2) اعتبارَ أعدادها. والله أعلم.
فصل
قال: "ولو قطع يد نصراني، فأسلم، ثم مات، لم يكن فيه القود ... إلى آخره" (3) .
10334- مضمون الفصل الكلام في التغايير التي تلحق المجني عليه، والكلام في الجرح وما يقع [بعده من] (4) تغيّرٍ في المجروح، وفي [الرمي] (5) وما يقع من تغيّر المرميّ قبل وقوع السهم، فنذكر الجرحَ ونستقصي ما فيه، ثم نذكر الرميَ إن شاء الله عز وجل.
فنقول: إذا تغيرت حالةُ المجروح بعد وقوع الجرح به، وسرت الجراحة، وأدت إلى الموت، فلا يخلو إما أن يجرح في حالة الهدر، فيصيرَ إلى حالة الضمان، أو يجرحه في حالة الضمان، فيصير إلى حالة الهدر، أو يجرح في حالة نقصان الضمان، فيصيرَ إلى حالة الكمال.
فإن جرح في حالة الهدر، ثم صار إلى حالة الكمال، وسرت الجراحة إلى النفس، فلا شيء على الجارح في هذه الحالة، وذلك، مثل أن يجرح مرتداً فأسلم، ثم سرى إلى النفس، أو جرح حربياً فأسلم، وسرى إلى [النفس] (6) .
__________
(1) في الأصل: "ولا".
(2) في الأصل: "نعتبر" والمثبت من المحقق، محاولاً اختيار أقرب لفظٍ لصورة الكلمة المصحفة، مع مناسبة المعنى والسياق. والله أعلم.
(3) ر. المختصر: 5/99.
(4) في الأصل: "عند في".
(5) في الأصل: "الذمي".
(6) في الأصل: "الجرح".(16/86)
وكذلك لو جرح حربياً، فعقدنا له الأمان، وسرى ومات.
وكذلك لو جرح حربي مسلماً أو ذمياًً، ثم أسلم الجارح أو عُقد له عقدُ الأمان، ثم سرى إلى النفس، فهذا التغير وإن كان في الجارح، فمقتضاه الضمان بعد الهدر.
وكذلك لو جرح السيد عبده، ثم أعتقه وسرى الجرح، أو جرح مستحقُّ القصاص من عليه القصاص، ثم عفا عنه، فسرت الجراحة.
فهذا بيان التغير من الهدر إلى الضمان تصويراً. والحكمُ في ذلك ما قاله المراوزة؛ فإنهم قطعوا بأن الضمان لا يتوجه في هذه الصورة أصلاً؛ اعتباراً بحالة وقوع الجراحة؛ فإنها وقعت في حالة الهدر، فلا أثر لما يطرى من بعدُ.
وذكر العراقيون فيه إذا جرح مرتداً، ثم أسلم ومات، أو جرح حربياً وأسلم المجروح ومات، فلا يجب القصاص على الجارح.
وفي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - أنه لا يجب، كما حكيناه عن طريق المراوزة اعتباراً بحالة الجراحة.
والثاني - أنه يجب اعتباراً بالمآل، وهذا مما انفرد به العراقيون، وإنما أثبت المراوزة الخلافَ في الضمان إذا جرى مثلُ ذلك في الذمي، كما سنصف ذلك في فصل الذمي، إن شاء الله عز وجل.
10335- وذكر الشيخ أبو علي رضي الله عنه الوفاق في مسألة المرتد والحربي إذا أسلما بعد وقوع الجرح بهما، كما ذكرناه عن المراوزة، وذكر نصَّين مختلفين في المولى والمملوك، ونحن نسوقهما ونذكر مسلكه فيهما، قال (1) رضي الله عنه: "على أن السيد إذا جرح عبده، ثم أعتقه ومات مجروحاً، فلا ضمان على السيد الجارح أصلاً" ونصَّ الشافعي في عيون المسائل على أنه إذا كان بين شريكين جاريةٌ مشتركة، وكانت حاملاً بولد رقيق من نكاح أو سفاح، فضرب أحد الشريكين بطنَ الجارية، ثم أعتقها وسرى العتق وغرِم قيمةَ نصف صاحبه، فإذا ألقت الجنين ميتاً من
__________
(1) أي الشافعي.(16/87)
الجناية، قال الشافعي فيما نقله الربيع عنه: "يجب على الجاني في الجنين غرة كاملة".
وإيجابه الغرة يخالف النصّ الذي حكيناه في الجناية على المملوك مع إعتاقه؛ فإن الجنين حالة الجناية كان مملوكاً للشريكين، فقد صادفت جنايته نصفه مملوكاً له، ثم طرى العتقُ من بعدُ، فقياس ما قدمناه أنه لا يغرَم إلا نصفَ الغرة، وهو الذي كان مملوكاً للشريك.
قال الشيخ: اختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: فمنهم من قال: في المسألتين قولان نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن السيد لو جرح عبده، ثم أعتقه، فمات [يغرَم،] (1) ديته كاملة لورثته.
وإذا جنى على جنين مملوك، ثم عَتَق وسقط غَرِم الغرة كاملة.
والقول الثاني - أنه لا يجب الضمان لا في العبد إذا عتق، ولا في الجنين.
توجيه القولين: من قال: لا يجب الضمان في المسألتين -وهو القياس- احتج بأن الجراحة صادفت حالةَ الإهدار، فوجب إهدارها، والسراية بمثابتها، فصار كما لو جرح مرتداً أو حربياً، ثم أسلما. هكذا احتج الشيخ.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن قال: الجراحة وقعت محظورة، والاعتبار بالمآل في قدر الضمان، كما سنصفه، فليكن الاعتبار بالمآل في أصل الضمان، وليس ذلك كجرح المرتد والحربي؛ فإنهما مهدران عموماً، والجراحة فيهما لا تكون محظورة بعينها.
ومن أصحابنا من أقرّ النصين، وطلب الفرق بينهما، فقال: الجرح صادف العبد تحقيقاًً، ثم عَتَق، ولا تتحقق إصابة الجرح الجنين، فإنه مغيب، فنعتبر حالةَ انفصاله، ونجعل ما تقدم بمثابة [رميٍ] (2) وحالةُ الإصابة حالةُ الانفصال، كما سنوضح تفصيل المذهب فيه إذا [رمى] (3) إلى عبده، فأعتقه وأصابه السهم حُرَّاً.
__________
(1) في الأصل: "فغرم".
(2) في الأصل: "وهي".
(3) في الأصل "ادعى".(16/88)
وهذا غير سديد؛ فإن الانفصال ليس حالة الجناية، وإنما الجنايةُ سابقة، والانفصال بسببها. قال الشيخ: هذا بيّن، ولكن النصّ في الجنين مشكل.
10336- فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه أن [الجارح] (1) إذا أصاب المرتد والحربي ثم أسلما، فالمراوزة قاطعون بنفي الضمان، والعراقيون ذكر وا وجهين.
وإذا جرح عبدَه أو جنى على جنينه المملوك، ففيه التصرف الذي حكيناه عن الشيخ أبي علي رضي الله عنه.
10337- ومما نذكره أنا إذا جرينا على ما حكاه العراقيون، ثم فرعنا على أن الضمان يجب إذا جرح حربياً، ثم أسلم ومات، وكذلك نظيره، فالدية مخففة مضروبة على العاقلة، والجناية ملتحقة بالخطأ المحض، وينزل ذلك منزلةَ ما لو رمى إلى صيد، فاعترض [آدميٌّ] (2) فأصابه وقتله، فالقتل خطأ محض.
هذا ما أرى القطعَ به، وهو مطرد في السيد وعبده إذا أوجبنا الضمان.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أصاب الجرحُ حالةَ الإهدار وطرى سببُ الضمان، من بعد الجرح.
10338- فأما إذا صادفت الجراحةُ حالة الضمان، ثم طرى السبب المهدِر من بعدُ، مثل أن يجرح مسلماً، فيرتد، ثم تسري الجراحة ويموتُ مرتداً، وكذلك لو جرح ذمياًً، ثم ينقض العهد، ويموتُ حربياً، فعلى الجارح ضمان الجرح، فحسب. وسيأتي هذا مشروحاً بعدُ في فصل مفرد، إن شاء الله عز وجل.
10339- فأما إذا جرى الجرح في حالة نقصان الضمان، ثم انتهى إلى حالة الكمال، مثل أن يجرح ذمياًً، أو مملوكاً لغيره، ثم يُسلم الذمي ويعتِق العبدُ، فيجب البدل الكامل اعتباراً بالمآل، وهذا متفق عليه بين الأصحاب؛ فإن الجراحة صادفت محلّ الضمان، ثم أقدار الأروش تَبِين بالنهايات [استقراراً؛ فالنظر إلى
__________
(1) في الأصل: "الجراحة".
(2) في الأصل: "إذ رمى".(16/89)
المآل] (1) في ذلك، وعليه تخرج سراية الجراحات، ولو قطع يدَ إنسان، فسرى ومات، وجب ديةٌ كاملة، ولو قطع يديه ورجليه، فسرت الجراحات، ومات، لم يجب إلا دية واحدة، وهذا أصل متمهد في الجراح.
وقد انتجز بما ذكرناه القول في الجراحات إذا وقعت، ثم تغير المجروح بعدها.
10340- فأما الفصل الثاني (2) وهو الكلام في الرمي وما يحدث بعده من تغيّر على ما نصفه.
قال الشافعي: "ولو أرسل سهماً، فلم يقع على النصراني حتى أسلم ... إلى آخره" (3) .
فنقول: إذا أرسل السهمَ فتغيرت حالةُ المقصود، ثم أصابه السهمُ، فلا يخلو إما أن يرسل السهم في حالة الإهدار، فصار إلى حالة الضمان، فأصابه السهم، أو كان في حالة الضمان عند نفوذ السهم، فيصير إلى حالة الإهدار، فيصيبه السهمُ.
فأما إذا كان مضموناًً حالة الإرسال، فصار هدراً، فأصابه السهم، وفيه المعنى المهدِر، فلا يجب الضمان أصلاً؛ اعتباراً بحالة الإصابة، وذلك أن يرسل السهم على مسلم، فيرتد، ويصيبه السهم مرتداً، وكذلك لو أرسل على ذمّي، فنقض العهد وأصابه السهمُ حربياً، فالجواب ما ذكرناه.
والأوْلى فرضُ ما ذكرناه فيه إذا كانت الجراحة [مذفِّفة] (4) ، فيخرج الجواب كما ذكرناه، وكذلك لو لم تكن مذففة، ولكنه بقي حربياً أو مرتداً إلى الموت، فالجواب ما ذكرناه.
10341- فأما إذا كان المقصود هدراً عند الإرسال، ثم صار مضموناً فأصابه
__________
(1) في الأصل: "تبين بالنهايات استقراراً ما النظر إلى المآل".
(2) لا يعني الإمام بهذا الفصل المعهود في تقسيم الأبواب، فكلامه هنا داخل ضمن واحد من هذه الفصول.
(3) ر. المختصر: 5/99.
(4) في الأصل: "مرفقة".(16/90)
السهم، فإن كان مرتداً عند الإرسال أو حربياً، فأسلم، فأصابه السهم، ففي وجوب الضمان ثلاثة أوجه: أحدها - يجب الضمان اعتباراً بحالة الإصابة؛ فإنها الجناية على التحقيق، [والرميُ] (1) سببٌ إليها، والاعتبار بوقت الجناية. والوجه الثاني - أنه لا يجب الضمان؛ فإن الفعل الداخل تحت الاختيار هو إرسال السهم، وما بعد ذلك لا يدخل تحت اختيار الرامي، فكان [اعتبار] (2) حالةِ الإرسال أوْلى. والوجه الثالث - الفرق بين الحربي والمرتد، فإن كان المقصود حربياً عند الإرسال، فلا ضمان؛ فإن هذا الرمي مأمور به محثوث عليه، وهو مما يثبت لآحاد الناس، ولا يختص بالولاة، وأما رمي المرتد، فغير سائغ من وجهين: أحدهما - أن قتله [مفوّض] (3) إلى صاحب الأمر. والثاني - أنه يقتل بالسيف صبراً، ولا يسوّغ أن يرشق بالنشاشيب، [وإن كان خرج] (4) من الملة، فإذا كان [الرمي] (5) منهياً عنه، ثم تحقق الضمان حالة الإصابة، أوجبناه.
ولو رمى إلى عبد نفسه، ثم أعتقه، فأصابه، فهذا يخرّج على الخلاف أيضاً؛
فإنه كان مهدراً في حق الرامي عند الإرسال.
وكذلك لو رمى إلى قاتل أبيه ثم عفا عن القصاص.
والأولى أن ترتب هذه المسائل بعضها على بعض، فنقول: إذا رمى إلى حربي، فأسلم، فأصابه، ففي الضمان وجهان. ولو رمى إلى مرتد فأسلم وأصابه، فوجهان مرتبان، وهذه الصورة أوْلى بالضمان، وإذا رمى إلى مَنْ عليه القصاص في ديةٍ، ثم عفا، فوجهان، والصورة الأخيرة أوْلى بالضمان من المرتد؛ فإن الإهدار الذي يتحقق في المرتد لا يتحقق فيمن عليه القصاص، وإذا رمى إلى عبد نفسه، فأعتقه، فأصابه السهم، فهذا أولى الصور بوجوب الضمان، وفيها وجهان، وسبب الترتيب أن
__________
(1) في الأصل: "والذمي".
(2) في الأصل: "الاعتبار".
(3) في الأصل: "مفضوض".
(4) في الأصل: "فإن كان ضرب".
(5) في الأصل: "الذمي".(16/91)
العبد مضمون بالكفارة على مولاه، ولا حاجة إلى الكشف في ذلك، والمرامزُ كافية.
فإن قيل: قد ذكرتم أنه لو جرح من هو مرتد، ثم تغيرت صفته، فصار مضموناً، وسرت الجراحة، فلا ضمان إلا على طريقة العراقيين، وقلتم: في الرمي أَوْجُهٌ على طريق المراوزة؟ قلنا: سبب ذلك أن الجرح جنايةٌ مستقرة؛ فقد ثبتت الجناية ووقعت والمجني عليه هَدَر، ويُظهر الإهدارَ، وإذا رمى، فالجناية لم تقع إلا والمقصود مضمون، فهذا هو الذي أوجب الفرق بين الأصلين.
وكل ما ذكرناه إذا كان المقصود هدراً عند الإرسال مضموناً عند الإصابة.
10342- فأما إذا كان الأمر على العكس من هذا، فكان مضموناً عند الإرسال هدراً عند الإصابة، فلا يجب الضمان أصلاً، [وذلك مثل أن يرمي مسلماً] (1) ، فيرتد، فيصيبه السهم مرتداً، أو يرمي ذمياًً، فيصيبه السهم وقد نقض عهده وصار حربياً، فلا شك في انتفاء الضمان في هذه المنازل، والتعليلُ بيّن.
10343- فأما إذا أرسل السهم في حالة نقصان الضمان، فأصاب السهمُ في حال كمال الضمان، فالاعتبار بحالة الإصابة باتفاق الأصحاب، وذلك إذا رمى إلى ذمي فأسلم، فأصابه السهم، أو رمى إلى عبدٍ لغيره، فأعتقه مولاه، فأصابه السهم، فالاعتبار بحالة الإصابة؛ فنوجب في مسألة الذمي ديةَ مسلمٍ، وفي العبد إذا أعتق ديةَ حرٍّ لورثته.
وأبو حنيفة (2) اضطرب مذهبه في أطراف هذا الأصل، فقال: إذا رمى إلى عبد فَعَتَق، ثم أصابه، قال: لا تجب دية حر، وإنما تجب القيمة؛ نظراً إلى حالة الإرسال، ووافق أنه لو رمى [إلى] (3) حيٍّ، فمات، فأصابه السهم ميتاً أنه لا يجب شيء، وكذلك قال: لو رمى إلى عبدٍ فانتقصت قيمته، فأصابه السهم، وهو ناقص القيمة، فالاعتبار بحالة الإصابة.
__________
(1) في الأصل: "وذلك يرقى مسلماً" والزيادة والتصويب من المحقق.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء 5/153 مسألة 2268.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(16/92)
ولا خلاف أنه لو جرت أسباب غيرُ متصلة بالإهلاك، ثم جرى الهلاك، فلا تُعتبر حالةُ وجود الأسباب: فلو حفر بئراً في محل عدوان، وكان في الموضع مرتد أو حربي، أو كان له عبد، فأسلم الكافر وعتَقَ العبدُ، وفُرض التردِّي، فالضمان يجب اعتباراً بحالة التردي، وكل ما ذكرناه في الضمان.
10344- وقد بقي علينا تفصيل القول في القصاص، فحيث نقول: لا يجب الضمان، فلا شك أن القصاص لا يجب، وإذا أوجبنا الضمان على التفاصيل المقدمة، فقد قال الأئمة إذا اقترن [مُسقطُ] (1) القصاص بالرمي، أو بالإصابة، أو تخلل بينهما، انتفى القصاص [تغليباً] (2) للدَّرء، فلو رمى إلى مرتد، فأسلم فأصابه السهم، فلا قصاص، ولو كان مسلماً [عند الرمي] (3) مرتداً عند الإصابة، فلا شك في انتفاء القصاص؛ فإن الضمان [ينتفي] (4) في هذه الصورة.
ولو رمى إلى مسلم، فارتد بعد الإرسال، وقبل الإصابة، ثم عاد وأسلم، فأصابه السهم، قالوا: لا يجب القصاص، وإن وجد الإسلام [في] (5) الطرفين: عند الإرسال وعند الإصابة؛ لأنه قد تخلل بينهما المسقط والدرءُ أغلب.
هذا ترتيب القصاص، وفي أصل الضمان الخلاف المقدم، وفي المقدار مع ثبوت الضمان في الطرفين الاعتبار بحالة الإصابة.
10345- ثم قال الأئمة: ضرب [العقل] (6) على العاقلة نجريه في الترتيب نحو القصاص في أنه نعتبر فيه الأحوالَ الثلاثة، كما ذكرناها في القصاص.
وبيان ذلك أنه لو رمى إلى صيدٍ وأسلم الرامي، فأصاب إنساناً، فالدية في مال
__________
(1) في الأصل: "فسقط".
(2) في الأصل: "فصلتنا".
(3) في الأصل: "عبداً لذمّي".
(4) في الأصل: "يبقي". (وهو عكس المعنى المراد) .
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: "الفعل".(16/93)
الرامي، [ولا نضربها] (1) على عاقلة الرامي؛ لأنا إن ضربناها على عاقلته المسلمة، لم [يجز] (2) ؛ لأنه كان الرامي كافراً عند الإرسال، فالدية مضروبة عليه في ماله.
ولو رمى وهو مسلم إلى صيد، ثم ارتد الرامي، ثم أسلم، وأصاب [سهمُه] (3) إنساناً مضموناً، فالدية في مال الرامي لتوسط [الردة] (4) بين الإرسال والإصابة، وهذا على القياس الذي ذكرناه في درء القصاص إذا (5) اعتبرنا الطرفين والواسطة.
ولكنا صورنا التغايير في الجاني؛ فإن الغرض في المقصود الذي نحن فيه يتغير به لا محالة.
10346- هذا ما ذكره شيخي، والقاضي، وجماهير الأصحاب.
وذكر الشيخ أبو علي رضي الله عنه في توسط [الردّة] (6) من الرامي بين الرمي والإصابة قولين في أن الدّية على من تضرب: أحدهما - أن الدية مضروبة على العاقلة؛ اعتباراً بالطرفين، ولا تعويل على ما توسط من الردّة بينهما. والقول الثاني - أن الدية في مال الرامي كما حكيته عن الأصحاب.
قلت: لم يتعرض للقصاص، والذي أراه أن المسألة إذا كانت على قولين في أمر العاقلة، فيجب طرد القولين في القصاص أيضاًً، في نظير الصورة التي ذكرناها، حتى نقول: إذا رمى إلى مسلم، فارتد المقصودُ بعد الإرسال، وقبل الإصابة، ثم أسلم، فأصابه السهم، فهل يجب القصاص على الرامي؟ فعلى قولين، [فإن] (7) ضرب العقل على العاقلة خارج عن قياس التصرفات بجملتها، وإذا كان معدولاً عن القياس منزوعاً عن مقتضى الأصول، فالوجه أن نحتاط فيه احتياطَنا في القصاص.
ثم إذا جرى فيه قولان، فلا بد من إجرائهما في القود، والدليل عليه أن من جرح
__________
(1) في الأصل: "ولا يصير به".
(2) في الأصل: "نجد".
(3) في الأصل: "سهم".
(4) في الأصل: " الدية ".
(5) "إذا" بمعنى (إذْ) .
(6) في الأصل: "الدية".
(7) في الأصل: "وإن".(16/94)
مسلماً، ثم ارتد المجروح، وأسلم ومات، فسنذكر أن القصاص يجب على الجارح في قول، وإن [طرأت] (1) الردة في [الأثناء] (2) ، وقد تكون الجراحة ساريةً [حيث يرتد، ولو وقع هذا خرج قولٌ في وجوب القصاص] (3) ، نظراً إلى حالة الجرح والموت، [فمسألة الرمي] (4) لهذا أولى، وسنذكر مسألة طريان الردة على المجروح ونأتي بما ذكره الأصحاب فيه.
هذا بيان ما ذكره الشيخ أبو علي.
10347- ثم نعود إلى ذكر مسائل في تحمل العاقلة، فلو جرى الجرح خطأً من ذمّي، ثم أسلم الجارح، ثم سرى الجرح وأفضى إلى الموت، قال الأئمة: أما ضمان الجرح، فنضربه على العاقلة الكافرة، لأن الجرح قديم في حالة الكفر، وتأتي الدية في مال الجارح لا يحتمله الكفار؛ لأن السراية وقعت في الإسلام، ولا يتحمله المسلمون لأنها سراية جناية جرت في الكفر، فإذا كان كذلك، فالوجه ضرب ما يزيد على أرش الجرح على الرامي. وهذا فيه إذا كان أرش الجرح أقلَّ من الدية، فإن الدية، بكمالها مضروبة على العاقلة الكفار، ووجهه بيّن.
ومما يذكره الأئمة في ذلك أنه لو قطع ذمي أصبع إنسان، فسرى إلى الكف، ثم أسلم الجارح، وسرى إلى النفس، فدية الإصبع والكف على عاقلته الكفار؛ لأنها
__________
(1) في الأصل: "اطردت".
(2) في الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا: "الاما".
(3) العبارة في الأصل مضطربة، وغير مقروءة، فقد جاءت هكذا: حيث يرت وهو وقع هذا حرح فنقول في وجوب القصاص ... إلخ (بهذا الرسم تماماًً) والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق، وصور الألفاظ والكلمات المصحفة المحرفة، وبمساعدة ما قاله الرافعي والنووي في الشرح والروضة، مع التزامنا بأقرب ما يكون لصور الكلمات والأحرف الموجودة. والمعنى: أنه إذا خرج قولٌ في وجوب القصاص، فيما إذا جرح مسلماً ثم ارتدّ، وعاد إلى الإسلام، ومات مسلماً من سراية الجرح، فهذه السراية استمرت في جزء منها أثناء الردة، فإنا قلنا بهذا فمسألة الرمي أولى، نعني إذا رمى مسلماً، فارتد، وعاد إلى الإسلام، ووقعت الإصابة وهو مسلم، ووجه الأولوية واضح، وهو أنه لم يحدث فعلٌ ولا أثر أثناء الردة.
(4) في الأصل: "فسبيله الذمي لهذا".(16/95)
استقرت في حالة الكفر، وذلك نصف الدية، والنصف الآخر في مال الجاني؛ لما تقدم تقريره؛ فإنه اشترك فيه الكفر والإسلام.
ومما ذكروه أنه لو قطع أصبعاً (1) في الشرك خطأ، ثم أسلم، ثم قطع أصبعاً أخرى ثم سرى إلى النفس، فالسراية تضاف إلى القطعين، وموجب ذلك أن نوجب نصف الدية على عاقلته المسلمين؛ لأن إحدى الجنايتين جرت في الإسلام، فأما النصف الآخر؛ فإنا نقول فيه: أما أرش الإصبع المقطوعة في الشرك، فمضروب على الكفار لاستقرار الجناية عليها في الشرك، وما زاد على أرش الإصبع إلى تمام نصف الدية، فهو في مال الجاني؛ لأنه اشترك فيه الكفر والإسلام [؛ إذ وُجدت] (2) سراية واقعة في الإسلام عن [جناية] (3) حصلت في الكفر، وأنا أعيد هذه المسائل إذا [انتهينا] (4) -إن شاء الله عز وجل- إلى باب العواقل والضرب عليهم.
فصل
قال: "لو جرحه مسلماً، فارتد، ثم أسلم، فالدية والكفارة، ولا قودَ؛ للحالة المتخللة ... إلى آخره" (5) .
10348- إذا جرح مسلماً فارتد المجروح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات مسلماً بسراية الجناية، فالمنصوص عليه أن القود لا يجب للحالة الحادثة، وهي الردة الطارئة، وذكر الصيدلاني نصاً للشافعي يخالف هذا النص في مسألة تناظر هذه، وهي أن ذمياً لو جرح ذمّياً، فنقض الذمي المجروحُ العهدَ، والتحق بدار الحرب، ثم عاد إلى الذمة، فعقدناها له، والجراحة به، فسرت وأدت إلى الهلاك، قال الشافعي
__________
(1) في الإصبع عشر لغات؛ فالهمزة مثلثة، وكذلك الباء، فهذه تسعُ لغاتٍ، والعاشرة: أُصبوع. ثم هي مؤنثة، وقيل: يجوز فيها التذكير على قلة. (المصباح) .
(2) في الأصل: "إذا وجب".
(3) في الأصل: "عناية".
(4) في الأصل: "انتهت".
(5) ر. المختصر: 5/99.(16/96)
فيما نقله الصيدلاني: "يجب القصاص على الذمي الجارح" ولا شك أن هذه المسألة تناظر طريان الردة؛ فإن انتقاض العهد مُهْدِر كالردة، فقد وجد في المسألتين في الطريقين شرطُ التزام القود، وتوسط فيهما جميعاً مُهدر.
وقد اختلف أصحابنا فمنهم من قال: في المسألتين جميعاً قولان في وجوب القصاص: أحدهما - أنه يجب؛ نظراً إلى حالتي الجرح والموت.
والثاني - وهو الأقيس أنه لا يجب؛ فإن المهدِر قد تخلل، والجراحة سارية، والقصاص يسقط بالشبهة، فيبعد والحالة هذه إيجابُ القصاص.
ومن أصحابنا من قال: نُنزل النصين في المسألتين على حالين، فحيث قال في مسألة الردة: لا يجب القصاص، صوّر فيه إذا طال الزمان والجراحة سارية، فنعلم أن للسراية الواقعة [في الردة] (1) وَقْعاً في الإهلاك، فعند ذلك لا نوجب القصاص.
وحيث أوجب القصاصَ فُهم [منه] (2) إذا طرى المُهْدِر وزال في زمانٍ خفيف، لا يظهر في مثله للسراية وقعٌ محسوس، فلا يمتنع القضاء بوجوب القصاص، والحالةُ هذه؛ إذ لا أثر للسراية المقترنة بالمُهدِر في الحالة اللطيفة، وقد نفرض إقبال الجراحة على الاندمال في حالة [اعتراض] (3) المهدِر، ثم نفرض انتقاضها عند العَوْد إلى الإسلام، والغرض ألا يكون للسراية موقع محسوس من الهلاك.
والرأي عند [المحققين] (4) في ذلك أن السراية إذا كانت محسوسة، وقد تمادى زمان المهدِر، فيجب القطع بانتفاء القصاص.
وإن قصر الزمان بحيث لا يظهر للسراية فيه أثر، ففي القصاص قولان.
ويتبيّن مما انتهى التصوير إليه أن ما ذكرناه في تخلل المهدِر بين إرسال السهم والإصابة من الاحتمال، فهو متجه، بل هو بالاتجاه أولى؛ من حيث إن الجراحة لم تكن واقعةً بعدُ.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "فيه".
(3) في الأصل: "الاعتراض".
(4) في الأصل: "المخلصين" والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون هو الصواب.(16/97)
10349- ثم إذا أوجبنا القصاص في المسألة التي نحن فيها، فلو آل الأمر إلى المال، وجبت الدية بكمالها، لا شك فيه.
وإن [أسقطنا] (1) القصاص، لمكان اعتراض المهدِر، وآل الأمر إلى المال، فظاهر النص أنه يجب الدية الكاملة.
وخرج ابن سريج قولاً آخر أنه يجب ثلثا الدية، والدية موزعة على الأحوال، وهي حالتا ضمان، وحالة هدْر.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً، وهو أن الواجب نصف الدية، فنضم حالتي الضمان ونجعلهما حالة واحدة، ونوزع الدية على حالتي الهدر والضمان.
ومما يتفرع على هذه النهاية أنا إذا أسقطنا القصاص عند اعتراض المهدر، [إن] (2) قرب زمانه، ولم [يُحسّ] (3) موقع السراية، فمن أصحابنا من قطع هاهنا بإكمال الدية وردَّ المسالكَ الثلاثةَ والخلافَ إلى ما إذا طال الزمان، وكانت السراية محسوسةً مع المهدر.
ومن أصحابنا من طرد الخلاف في قرب الزمان وتماديه، ولم يُفَصِّل؛ فإن السراية وإن كانت غائبة ولم تحس، فليس ذلك للحكم [بانتفائها وعدم وجودها، ولكن غَوْرها يَبْعُد بها عن الحس] (4) ، ولا شك فيها.
هذا تمام الكلام في المسألة.
10350- وقد حكى الصيدلاني في مصنفه مسلكاً عن الققال لا يليق بمنصبه ونحن نذكره على وجهه، ثم ننبه على الخلل فيه.
قال: قال الققال: القولان في القصاص مبنيان على ما إذا زَهَقت الروح بجناية
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة.
(2) في الأصل: "وإن" (بزيادة الواو) .
(3) في الأصل: "نخش".
(4) عبارة الأصل: "بانتفائها ولعلها، ولكن عوورها بتعديها عن الحس" والمثبت محاولة لأداء المعنى المقصود من الإمام بأقرب الألفاظ صورة لألفاظ الأصل.(16/98)
مضمونة واقعةٍ عمداً، وجنايةٍ واقعةٍ عمداً غير مضمونة، كما قدمناه في شريك الحربي أو شريك السبع، ووجه التقريب أن السراية في حالة الهدر لها حكم العمد، ولكن لا ضمان فيها، والجراحة والسراية في الطرفين لهما حكم [العمد] (1) والضمان.
وهذا إن صح النقل فيه هفوةٌ عظيمة؛ من جهة أنا إنما نردد القولين في الجانبين إذا كان أحدهما ضامناً عامداً، وكان الثاني عامداً ولم يكن ضامناً، [فأما إذا صدرت الجراحتان من جارح واحد، فلا قصاص على الجارح] (2) ، سواء كانت تلك الجراحة مضمونة أو لم تكن؛ والسبب فيه أنه إذا صدر المُسقِط والموجب من شخص واحد، فلا بد من إثبات أثر المسقط، والمحلُّ واحد، فيغلب السقوطُ الثبوتَ، وإذا تعدد الجانيان أمكن إثبات أثر الإسقاط والإيجاب جميعاً، فندرأ القصاصَ عمن لا يستوجبه ونُثبته على من يستوجبه، وفي ذلك توفية الموجِبين، والوفاء بحق الجنايتين.
[فلو] (3) عدنا إلى مسألتنا: السراية في حالة الردة، [فهي] (4) بمثابة جناية تصدر من ذلك الجارح بعينه، فكيف ينتظم هذا فيها، ولو كان الناقل غيرَ موثوق به، لقطعت بتغليطه، ولكن الناقل [معتمدٌ] (5) ، وقد عزّ من لا يهفو.
هذا تمام المراد في المسألة نقلاً [وتخريجاً] (6) وبحثاً.
10351- ومما ذكره العراقيون أنا إذا أوجبنا الدية وكانت الجناية خطأ، [فهل] (7) تُضرب على العاقلة؟ ذكروا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يضرب على العاقلة إلا نصف الدية، فإنه قد جرى ارتداد في الأثناء.
وهذا زلل غيرُ معتد به؛ فإن الردة لو اعتبرناها، لما أوجبنا الدية بكمالها، فإذ
__________
(1) في الأصل: "الهدر".
(2) عبارة الأصل فيها خلل بكلام مقحم هكذا: "فأما إذا صدرت الجراحتان من جارح واحد، ولا قصاص من أحدهما، ولا قصاص على الجارح ... ".
(3) زيادة لاستقامة الكلام.
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل: "يعمد".
(6) في الأصل: "وتصريحاً".
(7) في الأصل: "فلم".(16/99)
قلنا: تجب الدية الكاملة، دلّ أنا لم نعتبر الردة أصلاً، وأسقطنا أثرها بالكلية.
والثاني - أنه تضرب الدية بكمالها على العاقلة. وهذا هو الذي لا يجوز غيره.
فصل
قال: "ولو مات مرتداً، لكان لوليه المسلم أن يقتص بالجرح ... إلى آخره" (1) .
10352- إذا جرح مسلماً، فارتد المجروح، ومات على الردة من ذلك الجرح، فلا شك أن القصاص لا يجب على القاتل في النفس، وكيف يجب القصاص في النفس ولا ضمان في النفس، وقد مهدنا ذلك فيما سبق.
أما ضمان الجرح بالمال إذا كان النظر فيه، فهو ثابت، وأما القود في الجرح، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: "لوليه المسلم أن يقتص منه".
وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه أراد بالولي الإمام؛ فإنه إذا مات مرتداً، فالمسلم لا يرثه أصلاً، وإذا لم تكن وِراثة، ولا طريق في استحقاق القود غيرُ الوراثة، استحال أن يستحق القصاصَ؛ فالولي عبارة عن الإمام أو عن نائبه.
وهذا التأويل فيه بُعد، وإن كان المذهب سديداً.
ومن أصحابنا من قال: أراد بالولي قريبَه المسلم الذي كان يرثه لو مات مسلماً، ولفظ الشافعي صريح في هذا المعنى؛ فإنه قال: "لوليه المسلم"، فإن أمكن حمل الولي المطلق على الإمام على بُعدٍ، [فتَقْييد] (2) الولي بالمسلم نصٌّ في أن المراد به القريب الوارث.
ولكن توجيه هذا الوجه عسر، والممكن فيه أن المقصود من القصاص التشفِّي
__________
(1) ر. المختصر: 5/99.
(2) في الأصل: "فيفسد". والمثبت من عمل المحقق.(16/100)
ودَرْكُ الثأر، وهو [بالقريب] (1) وإن كان مسلماً أولى، [فإذا عفا] (2) ، وآل الأمر إلى المال، فالولي الخاص المسلم لا يرث، فالذي ذُكر من الجواب عنه أنه لا يمتنع أن يَتَصرف في القصاص من لا يتصرفُ في المال؛ فإن من قُتل [ظلماً] (3) وعليه ديون وللوارث أن يقتص، [فلو] (4) عفا، فالمال مصروف إلى الديون (5) ، (وقد يفرض من الوصايا من الثلث من الديون) (6) .
وهذا لا يثبت على المساق الذي نريده ونبني هذا المجموع عليه.
10353- ثم ينتظم من مجموع ما ذكرناه أنا إن لم نُثبت حقَّ الاقتصاص للولي الخاص، ووكلناه إلى الإمام، فللشافعي قولان في أن من قُتل أو قطعت يده، ثم مات وليس له وارث خاص، فهل يثبت القصاص [ممّن] (7) قتله؟ أحدهما - لا يثبت القصاص؛ لأنه لو ثبت، لاستحقه كافة المسلمين وفيهم الصبيان والمجانين، ولا يسوغ استيفاء القصاص وفي الأولياء من وصفناهم.
والقول الثاني - أنه يثبت القصاص، [ولا أصل] (8) لما ذكره ناصر القول الأول؛ فإن القصاص يثبت بجهةٍ مخصوصة، ولا يُنظر فيها إلى آحاد المسلمين، وعلى الإمام أن يصرف ما يأخذه من ميراث من ليس له وارث حاضر إلى [الذين] (9) ولدوا بعد موته، فاستبان أن هذا التوريث لا يتعلق بالأشخاص، وإنما يُعزى إلى جهة المصالح فحسب.
__________
(1) في الأصل: "بالعدر". (بهذا الرسم تماماًً) .
(2) في الأصل: "وإذا قل" (كذا) .
(3) في الأصل: "قصاصاًً". وهو سبق قلم من الناسخ. ويمكن أن يكون المعنى -على بُعدٍ - أنه قتل قتلاً يستوجب القصاص على قاتله.
(4) في الأصل: "ولو".
(5) المعنى أنه من حقه أن يتصرف في القصاص، وليس له أن يتصرف في المال.
(6) العبارة بين القوسين بهذا الرسم تماماً، ولما أدر لها موقعاً ولا معنى. ومع ذلك فالسياق مفهوم كيف فرضت، وأياً كان معناها.
(7) في الأصل: "عن من".
(8) في الأصل: "ولا فاصل".
(9) في الأصل: "الذي".(16/101)
والوجه أن نقول: [في] (1) إيجاب القصاص معنيان: أحدهما - الزجر والتشفي ودرك الغيظ، فإن راعينا الزجر، أثبتنا القصاص، وإن راعينا معنى التشفِّي، لم نثبته.
10354- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن أصل القصاص في المسألة التي نحن فيها مختلف فيه: فمن الأصحاب من لم [يثبته] (2) أصلاً.
ومنهم من أثبته، [ثم فيمن] (3) يثبت له حق الاقتصاص خلاف.
ولا وجه لإثبات القصاص للولي الخاص، وإن كان النص يخالفه والله أعلم.
10355- ذكر العراقيون ترتيباً في أرش الطرف، فقالوا إن قلنا: لا يجب القصاص [في الطرف] (4) المقطوع في حالة الإسلام، فهل يجب الأرش؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجب الأرش، ولا قصاص فيه ولا أرش.
وهذا بعيد، لا اتجاه له، والممكنُ فيه أن الأطراف تندرج تحت النفس، وإذا مات مرتداً بسراية الجناية، وجب اندراجها في حكم الإهدار تحت النفس. وهذا الوجه إنما يجري إذا مات مرتداً بسراية الجناية الجارية في الإسلام.
والوجه الثاني - أنه يجب الأرش؛ فإنها جناية جرت في حالة الإسلام، فيستحيل إهدارها، فإذا قلنا: يجب الأرش، [فإن] (5) كان الأرش مقدارَ الدية أو أقل، فإنه يجب ويصرف إلى مصرف الفيء، ولا يدفع إلى قريبه الخاص الذي كان يرثه لو مات مسلماً؛ فإن المسلم لا يرث المرتد أصلاً. وإن كانت الأروش أكثر من الدية مثل إن كان قطع الجاني يديه ورجليه، فأروشها ديتان، ففي الواجب وجهان: أصحهما - أنه لا يجب أكثر من الدية، فإنه لو مات مسلماً، لما وجب أكثر من الدية، فيستحيل أن
__________
(1) في الأصل: "من".
(2) في الأصل: "يثبتها".
(3) في الأصل: "ثم ضمن".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "وإن".(16/102)
[يزيد] (1) الضمان بسبب موته مرتداً والمسألة مفروضة فيه إذا مات بسراية الجراحات.
[والوجه الثاني - أن الأروش تجب بجملتها] (2) بالغةً ما بلغت، وإن زادت على دياتٍ، وهذا اختيار الإصطخري، ووجهه أن الأروش إنما تعود إلى مقدار الدية بسبب الاندراج تحت النفس، والنفسُ مهدرة في هذه المسألة، فلا سبيل إلى الإدراج، وإذا تعذر المصير إليه كما ذكرناه، فلا وجه إلا إفراد الجراحات بأروشها، ويصير تعذّر الإدراج بسبب الردة بمثابة ما لو اندملت الجراحات، ومات هو مرتداً بسببٍ آخر، [أو قتل] (3) لردته، ولو كان كذلك، لوجبت الأروش، وإن بلغت دياتٍ، فهذا ترتيب المسألة في القصاص والأروش.
فصل
10356- إذا قطع يدي نصراني ورجليه مثلاً، فتمجس ومات من سراية الجرح، فهذا يتفرع على أن الذمي إذا تنقل من دينه إلى دين آخر سوى الإسلام، فهل يُقرّ عليه أم لا؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما في النكاح. فإن قلنا: إنه لا يُقر عليه، فهو في تمجسه [هذا كالمرتد] (4) ، فتفصيل القول فيه على هذا القول كتفصيله فيه إذا قطع يد مسلم، ثم ارتد ومات من الجرح مرتداً.
فإن قلنا: إنه يقرّ على ما انتقل إليه، فقد انتقصت ديته، واندرجت أطرافه تحت نفسه، فلا يجب إلا دية مجوسي. وإذا تقرر أنا نعتبر في مقدار الدية المآل، فما ذكرناه قياس الأصول، وسنذكر أن من قطع يدي عبد قيمته دياتٌ، وعَتَق ومات حراً من السراية، فلا يجب إلا ديةٌ واحدة.
هكذا ذكر العراقيون هذا الفرع.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وهو من تصرف المحقق، ولا يصلح الكلام إلا به.
(3) في الأصل: "وقتل".
(4) في الأصل: "هدراً للمرتد".(16/103)
فصل
قال: "ولو فقأ عين عبد قيمته مائتان من الإبل ... إلى آخره" (1) .
10357- هذا الذي ذكره رضي الله عنه تقدير، فإن قيمة العبد تعتبر تحقيقاًً بالدراهم والدنانير، والمعنيّ بقوله: "إن العبد لو كانت قيمته" بحيث لو صرفه إلى الإبل، لبلغت مائتين.
ونعود إلى الغرض، ونقول: إذا جرح عبداً قليلَ القيمة، فعَتَق وسرت الجراحة إلى النفس، وأهلكته، فيجب على الجاني ديةُ حر؛ اعتباراً بالمآل.
وهذا أصلٌ متمهد على مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة (2) : لا يلزمه إلا قيمةُ العبد، ولو كانت قيمة العبد أكثرَ من دية حر وبلغت مقدارَ ديتين، فإذا جنى جانٍ وقطع يديه، فعَتَق ومات، فمذهب الشافعي أنه يجب دية الحر، ولا مزيد؛ اعتباراً بالمآل.
وقال المزني: يجب على الجاني أرشُ اليدين، وإن بلغ مقدار ديتين، وهذا بعيد عن مسالك المزني؛ فإنه لا يرتضي إلا الأقيس وما يعضده أجْلى النظر، فلعله رضي الله عنه قال ما قال عن أصلٍ، وهو أن المولى يستحق الأرش على التفصيل الذي سيأتي ذكره على أثر هذا، فيستحيل أن يُصرف إلى السيد دية حر؛ فإنه لا يستحق إلا أرش ما يرد على الرق، فلما استحال حِرمان المولى، واستحال أن يصرف إليه من دية الحر، فالوجه قطع أثر الحرية، والمصيرُ إلى إيجاب أرش الجراح الجارية في الرق، فينقطع أثر السراية في هذا المسلك.
وهذا يناظر الوجه الذي حكيناه عن الإصطخري فيه إذا قطع يدي مسلم ورجليه، فارتدّ المجروح، [ثم عاد مسلماً] (3) ، فإنه قال: تجب أروش الجراحات وإن زادت على ديات، فإنه لو نظر إلى السريان، لوجب الإهدار، فإذا امتنع الإهدار، وعسر
__________
(1) ر. المختصر: 5/99.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/201 مسألة 2299. مختصر الطحاوي: 236.
(3) زيادة اقتضاها صحة المعنى.(16/104)
تفريع السريان، رأى اعتبارَ الأطراف. كذلك سلك المزني هذا المسلك، وكان شيخي يقول: من سلك مسلك الإصطخري من أصحابنا، لم يُبْعد أن يوافق المزني في مذهبه.
وهذا بعيد غير معتد به.
والمذهب ما قدمناه من إيجاب دية حر، من غير مزيد، وتمام البيان في هذا الفصل يتصل بالفصل الذي يليه، وها نحن نبتديه.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قطع يدَ عبد، فأُعتق ... إلى آخره" (1) .
10358- صورة المسألة: إذا قطع يد عبد [فعَتَق] (2) وسرى إلى نفسه، فمات، وجب عليه دية كاملة، كما تمهد ذكره من اعتبار المآل في المقدار، ثم غرض الفصل أن نبيّن ما يصرف إلى السيد، وما يصرف إلى ورثة القتيل؛ فإنه مات حرّاً موروثاً.
والمسألة مفروضة فيه إذا قطع الجاني يداً واحدة، فالمنصوص عليه في هذه المسألة أنه يجب للمولى أقلُّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، لو قُدِّر اندمالُها، ومما التزمه الجاني على الملك، فإن كان أرش الجناية على الملك أقلَّ من الدية، فيستحيل أن يستحق السيد مزيداً بسبب الحرية. فإنه لا يستحق إلا جبرانَ ملكه، فأما ما زاد بسبب الحرية، فلا حظَّ له فيه.
وإن كانت دية القتل أقلَّ من الأرش لو قدر الاندمال في الرق، فلا وجه لإثبات مزيد على الجاني؛ نظراً إلى المآل، كما ذكرناه، وإذا لم نزد شيئاًً على الجاني، فلا يستحق السيد إلا ما التزمه الجاني.
هذا بيانُ هذا القول ووجهُه.
[وفي] (3) المسألة قول آخر مأخوذ من نصّ الشافعي في مسألة أخرى سنذكرها على
__________
(1) ر. المختصر: 5/100.
(2) في الأصل: "معتق".
(3) في الأصل: "في" بدون واو.(16/105)
أثر هذه، وهو أن المولى يستحق أقلَّ الأمرين من دية القتيل، وتمامِ قيمة العبد المجني عليه. فإذا كان قَطَع الجاني يداً واحدة من العبد، ثم عَتَق ومات، فللمولى أقل الأمرين من تمام دية القتيل، أو تمام قيمته.
وتوجيه هذا القول: أن هذا الشخص إنما مات بسبب الجناية عليه في الرق، وإذا وجب اعتبار السريان، ولم [يجْر] (1) تقديرُ الاندمال، وقد تحقق السريان، فنقدر القتيل ميتاً رقيقاً، ونقدره ميتاً حراً، ونوجب للسيد أقل العوضين، فإن كانت الدية أقلَّ، فليس للسيد إلا ما أوجبناه على الجاني، وإن كانت القيمة أقلَّ، فالزيادة تثبت بسبب الحرية، فيستحيل أن يستحقها، أو يستحقَّ شيئاًَّ مَنها السيدُ.
فرجع حقيقةُ القولين وتوجيههما إلى أنا نقول في القول الأول؛ نعتبر أرش الجناية مع الرق، أو ما يلتزمه الجاني على الملك، ثم نقول: للسيد أقلُّ الأمرين، ولا نعتبر السريان على الرق؛ فإن هذا تقدير على خلاف ما وقع تحقيقاًً.
وناصر القول الثاني يقول: الجراحة على الملك قد سرت حساً، وما ذكره الأول من أنها ما سرت على الرق يعارضه أن ما يصرف إلى السيد في كل وجه إنما هو جزءٌ من دية حر، فإذا لزم ذلك واحتُمِل، فتقدير الموت على الرق لا يبعد.
هذا بيان القولين وتوجيههما.
10359- فإن قيل: إذا كان الواجب ديةَ حر، فكيف يستقيم صرفها أو صرف شيء منها إلى السيد، وأثبتوا هذا الأصل؟ ثم الكلام في المقدار متفرع على ثبوت هذا الأصل، وهلا قلتم: إذا أعتق السيد العبدَ المجني عليه، فيكون إعتاقُه إياه إسقاطاً لحقه من الأرش بالكلية، وأنه إنما يستحق ما يستحقه بحق الملك واستحقاق الرق، فإذا أَسقَطَ حقَّ الرق، فقد أسقط الأصلَ الذي منه صدر استحقاقه للأرش؟
قلنا: الإعتاق إزالة للملك، واليد المقطوعة لا يبقى عليها الملك، ولا ينصرف إليها العتق، ولا ينعطف على المستحَق بها إسقاطٌ، ثم لا مرجع إلا على الجاني
__________
(1) في الأصل: "نجد".(16/106)
ولا شيء على الجاني إلا ديةُ الحر، فاضطررنا إلى إثبات حق المولى من الدية، ويثبت على الجاني.
وسأعود إلى تحقيق ذلك في آخر الفصل، عند نجاز المسائل، فإذا كان قَطَع الجاني يداً من العبد، ثم عتق ومات من السراية، فقد ذكرنا القولين وتوجيههما.
10360- ثم [حرر] (1) المراوزة عبارتين عن القولين نذكرهما لنجري عليهما الصور التي سنذكرها، فالعبارة عن القول الأول: أن للسيد أقلَّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، أو ما التزم الجاني بسبب الجناية على الملك، وأرشُ الجناية على الملك نصف القيمة، وما التزم الجاني دية كاملة، فللسيد الأقلُّ منهما.
والعبارة عن القول الثاني: أن للسيد أقلَّ الأمرين ممّا التزم الجاني [بالجناية] (2) على الملك، أو مثل نسبته من قيمته، وما التزمه الجاني بسبب الجناية على الملك [الديةُ، ومثل نسبته] (3) من القيمة تمامُ القيمة، فللسيد أقلُّ الأمرين من تمام الدية، أو تمام القيمة.
ونحن نرسم بعد ذلك صوراً ونُخرِّجها على القولين، ثم نختم الفصل بما ذكرناه.
10361- صورة لو قطع يد عبدٍ فعتَق، ثم جاء آخر وقطع بعد الحرية رجله، ثم جاء ثالث، وقطع يده الأخرى، فقد اجتمع ثلاثةٌ من الجناة، فالوجه أن نقول: الواجب دية كاملة، وهي أولاً موزّعة على هؤلاء، فإن الجناة إذا اجتمعوا، لكان التوزيع على رؤوسهم، فعلى الجاني في الرق ثلث الدية، والمولى يستحق ما يستحق من جهة الجاني على الملك؛ فإن الجنايتين الأُخريين جنيا بعد الحرية، فلا تعلق للسيد بهما، ثم كم للسيد مما التزمه الجاني على الملك؟ فعلى ما قدمنا من القولين: أحدهما - أن للسيد أقلَّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، وهو نصف القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك، وهو ثلث الدية، فيصرف إلى السيد أقلُّ الأمرين مما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: "جوّز".
(2) في الأصل: "فالجناية".
(3) في الأصل: "ودية مثل نسبته".(16/107)
وتحقيقه على التوجيه أنا نعتبر الأرش من غير تقدير السريان، أو جميعَ ما يلتزمه الجاني بسبب الجناية على الملك.
والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين من ثلث الدية، أو ثلث القيمة، نصّ الشافعي على هذا، في هذه الصورة، فخرّج الأئمة ذلك في الصورة الأولى، وفي كل صورة تفرض.
والعبارة عن القولين أنا نقول في قولٍ: للسيد أقلُّ الأمرين من أرش جناية الملك، أو ما يلتزمه الجاني بالجناية على الملك. وأرش الجناية نصف القيمة، [وما التزمه] (1) الجاني ثلث الدية، وللسيد الأقل منهما.
ونقول في القول الثاني: للسيد أقلُّ الأمرين مما التزمه الجاني بسبب الجناية على الملك، وهو ثلث الدية، أو مثلُ نسبته من قيمته، وهو ثلث القيمة، فللسيد الأقل منهما.
10362- صورة أخرى: لو قطع رجل يد عبد، ثم عَتَق، فجاء جانٍ وقطع يده الأخرى، وجاء ثالث وقطع إحدى رجليه، ثم جاء الجاني الأول الذي جنى في الرق، وقطع رجله الأخرى، فالجناة ثلاثة، والواجب دية حر، وهي موزعة على رؤوسهم أثلاثاً؛ فإن هذا التوزيع لا يختلف بأن يَكْثر [الجرمُ أو ينقص] (2) وإنما النظر إلى رؤوس الجناة.
ثم نقول بعد ذلك: على الذي جنى في الرق والحرية ثلثُ الدية، ثم له حالان: حالُ جنايةٍ على الرق وحالُ جنايةٍ في الحرية. فيوزع الثلث الذي عليه على حاليه: فيخص حالَه في الرق سدسُ الدية، وحاله في الحرية سدس الدية، ثم نُجري القولين، فنقول في أحد القولين: للسيد الأقلُّ من أرش الجناية على الملك، وهو نصف القيمة، أو ما التزمه الجاني على الملك، وهو سدس الدية؛ فإن ما التزمه بالجناية على الملك هذا المقدار.
__________
(1) في الأصل: "أو ما التزمه".
(2) في الأصل: "الجرام من النقص".(16/108)
فإن قيل: ألستم لم تعتبروا عدد الجراحات، ولم تفصلوا بين أن تكثر أو تقل؟ قلنا: هذا كذلك إذا أردنا التوزيع على الجناة، فإنا نجوز أن يكون الجرح الواحد من بعضهم أعظمَ أثراً من جراحات، فهذا ما بنينا أصلَ التوزيع على الرؤوس. وإذا [أدرنا] (1) ، نظرنا إلى من فيه كلامُنا، وقد خصه من الغرم الثلث، وصدر منه جرحان: أحدهما - على الملك. والثاني - على الشخص الحر، فلا بد وأن نثبت لجرحه في حالة الحرية أثراً، ويستحيل [أن نلغيه] (2) ، فيتعين المسلك الذي ذكرناه. هذا أحد القولين.
والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه بالجرح الواقع على الملك [السدسُ] (3) أو مثلُ نسبته من قيمته، وهو سدس القيمة.
وإذا وجهنا القولين في الابتداء مرة، كفانا في تفريع المسائل اتباعُ العبارة المحررة، وإن رمزنا في هذه المسألة إلى التوجيه، كان سبباً في [رسوخ] (4) المعنى في الفكر، كأن أحد القائلَين يعتبر أقل الأمرين من الأرش لو فرض الاندمال أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك، والثاني - يعتبر الموت والسرايةَ في جانب الأرش؛ فإن الموت واقع في الواقعة، ثم ينتظم من هذا المقصود الأقلُّ من الملتزَم أو مما يناسبه من القيمة، فإن النسبة تتحد؛ إذ الساري هو الذي يوجب قسطاً من الدية، ثم ننظر في مثله من القيمة، ثم العبارة المحررة تَهدي إلى المقصد.
ويجب التنبه لتقييد الكلام بالجناية على الملك؛ فإنه قد يفرض من الغارم للسيد جرحان: أحدهما - في الرق، والثاني - في الحرية، ولا حظ للمولى إلا فيما يقابل الجناية على الرقيق سواء قدر جزءاً من الدية -إذا كان هو الأقل- أو جزءاً من القيمة.
وبيان الفصل عند نجازه.
10363- صورة أخرى: إذا أَوْضح رأس عبد، فعَتَق، فجرحه آخر، ومات من
__________
(1) في الأصل: "أردنا".
(2) في الأصل: "يكفيه".
(3) في الأصل: "بالثلث". والمراد هنا سدس الدية.
(4) في الأصل: "رسوم".(16/109)
الجراحتين، فالدية عليهما نصفين قسمةً على الرؤوس، ثم فيما للسيد قولان: أحدهما - له أقل الأمرين من أرش الجناية، وهو نصف عشر القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو نصف الدية.
والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه الجاني بالجناية على الملك، وهو نصف الدية أو مثل نسبته من قيمته وهو نصف القيمة.
10364- صورة أخرى لو أَوْضح رأس عبد، فعَتَق، فجرحه آخر بعد العتق، فعاد الموضح في الرق، فجرحه أخرى، فمات، فالدية بينهما نصفان، ثم للجاني في الرق حالان كما تقدم، فيخص الجناية على الرق ربع الدية، ففي أحد القولين: للسيد أقلّ الأمرين من أرش جناية الملك، وهو نصف عشر القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو ربع الدية، والقول الثاني - أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو ربع الدية أو مثل نسبته من قيمته وهو ربع القيمة.
وما عندي أنه يخفى إخراج القولين في صورةٍ بعد تمهيد ما ذكرناه.
10365- وأورد المزني [مسألةً نذكرها] (1) ، ولكن مذهب المزني خارج عن القولين جميعاً؛ فإن مذهبه أن الجاني يلتزم للمولى أرش الجناية أبداً، ولا يتغير ذلك، وهذا تركٌ للنظر إلى السراية، وقرارِ الجنايات على الأطراف.
ولا خلاف أنه لو قطع أطراف حرٍّ موجَبُها ديات، [ولو] (2) انتقلت فسرت وزَهَقَت الروح، فلا تجب إلا ديةٌ واحدة؛ اعتباراً بالمآل.
فأما المسألة التي [أوردها] (3) ، فصورتها: عبد قيمته عشرون بعيراً تقديراً، فأوضح رأسه، فعَتَق، فشاركه تسعةٌ في الجراحة، ومات العتيق، فالواجب ديةٌ، على كل واحد عُشرها، وهو عَشرٌ من الإبل، ثم فيما للسيد قولان: أحدهما - أن له بعيراً واحداً (4) ،
__________
(1) في الأصل: في "مسألة نذكرها".
(2) في الأصل: "لو". (بدون واو) .
(3) في الأصل: "أوردتها". والضمير يعود على المزني.
(4) ذلك أن قيمة العبد في هذه الصورة عشرون بعيراً، وأرش الموضحة في الحر خمسٌ من الإبل، أي نصفُ عشر الدية، والواجب في الجناية على الرقيق فيما دون النفس، إن كان مما =(16/110)
وهو أرش الجناية؛ فإنه أقل مما التزمه الجاني بالجناية وهو عَشرٌ من الإبل.
والقول الثاني - أن للسيد بعيرين، وهو عُشر القيمة، وهو أقل من عُشر الدية، هذا بيانٌ مقصودٌ (1) .
10366- وقد كنا تعرضنا في ابتداء الفصل لأمر، ثم رأينا تأخيره، فنقول: الآن نوضّح [غرضنا في اتحاد الجاني] (2) ثم لا يخفى ما يرد بعده، فنقول: إذا قطع يدي عبد، فعتق، ومات، وكانت قيمة العبد مقدار مائة من الإبل، وقد مات المجروح حرّاً، فالبدل بكماله مصروف إلى السيد في هذه الصورة، على القولين.
وهذا بيّنٌ لمن فهم ما قدمناه.
ثم الذي يقع المباحثة فيه أن الواجب دية حر، ولا حظّ للسيد في بدل الحرية، وقد ذكرنا طرفاً مما فيه جوابُ هذا، وقلنا: إذا [كان] (3) أرش الجناية على الملك لا سبيل إلى إبطاله أصلاً؛ فإن الإعتاق لا يُسقط الأرش المتعلق بالجناية، ولكن تخللت الحرية والسراية، وعسر الأمر لتركبه من الرق والحرية، وآل حاصل الكلام إلى أنا نؤدِّي حق الجناية على الملك من بدل الحر؛ فإن الموت حصل بالجناية الجارية على الرقيق.
ولا يتضح الغرض في ذلك إلا بعَرْض الكلام فيما [يصرفه] (4) الجاني.
فإن قيل: كل ما على الجاني في الصورة التي ذكرتموها مصروفٌ إلى السيد، وقيمة الأرش مقدار مائةٍ من الإبل؛ فإن المجني عليه مات حراً، فلو جاء بمائة من
__________
= له في الحر بدلٌ مقرر، كالموضحة هنا - فأرشها يقع من قيمة العبد بنسبة الواجب في الحرّ إلى الدية. وهو هنا نصفُ العشر (خمسٌ للحر وواحد لهذا العبد) .
(1) لم يذكر الإمام مذهب المزني في المسألة التي أوردها، واكتفى ببيان المعتمد في المذهب، فهل ترك ذلك لظهوره وهو أنه يجب أرش الجناية قولاً واحداً، وهو بعير واحد هنا، وفي كل مسألة يجب الأرش بحسبها، ولا نظر إلى نقصه أو زيادته، أو إلى ما التزمه الجاني؟
(2) في الأصل: "عرضا في الحار الجاني" بهذا الرسم تماماًً (انظر صورتها) ، والمثبث من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "يعرفه".(16/111)
الإبل، فقال السيد: أريد الدراهم، وهي النقد الغالب، وقال الجاني: ليس عليّ إلا الإبل، فإن ألزمنا السيد قبول الإبل، كان ذلك قبول الحيوان قيمةً، وإن ألزمناه الدراهم والقتيل حر، كان ذلك مخالفاً للأصل الذي مهدناه في أن الاعتبار بالمآل؟ قلنا: قد يتقدم في ذلك أن الواجب مائة من الإبل، فلا معدل عنها، ومن أراد طلب غيرها لم يمكّن إلا أن يقع التراضي على العدول.
وهذا موجه بما ذكرناه؛ فإن جميع ما على الجاني مصروف إلى السيد، وإنما عليه الإبل، فتكليفه بيعَها لا وجه له. وإن أراد هو أن يأتي بالدراهم، فالسيد يقول: لم تفعل هذا والواجب المحتوم عليك الإبل؟ وليست الإبل في حكم المرهون عندك، ولا حق لغيري فيما عليك، فسلم إليّ ما عليك.
هذا وجهٌ لا بأس به.
ولو قال السيد: لا أبغي منه إلا الدراهم، [فما أمكن] (1) يغرم لي بحق ملكي، [ومن] (2) جنى على ملكٍ، لم يغرَم الإبل، فهذا محال، والسيد لا يجاب إليه؛ فإن القتيل حر، وإذا كنا نرد الأروش -وإن زادت على الديات- إلى دية حر، وفيه تنقيص المقدار؛ نظراً إلى المآل، فلا يبعد أن يرجع الأمر إلى جنس الإبل، وإن كان أرش الجناية على الملك الدراهم؛ نظراً إلى المآل.
10367- والوجه السديد عندي أن يقال: إن جاء الجاني بالدراهم، وجب [إجبار] (3) المولى، فإن قال: أريد الإبل، قيل: هذا من أثر الحرية، ولا حظّ لك فيما تقتضيه الحرية، وإن جاء بالإبل، وجب أيضاً إجبار المولى على القبول؛ فإن الجاني يقول: هذا هو الذي يلزمني، فخرج منه أن الخيار إلى الجاني/، ولا تحكّم للمولى، وهكذا يتركب إذا مست الحاجة إلى أداء قيمةٍ من دية.
فإنتظم إذاً مما ذكرناه وجهان: أحدهما - أن الإبل [تتعين] (4) ، فلا تعدّل إلا
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: "وقد".
(3) في الأصل: "اختيار".
(4) في الأصل: "تتغير".(16/112)
بالتراضي، ووجهه أنه هو الواجب، وهو مصروفٌ إلى السيد، فلا وجه للتصرف فيه.
والثاني - أن الخيار إلى الجاني، وهذا أفقه وأغوص.
10368- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن السيد في الصورة التي ذكرناها، لو أبرأ الجاني عن حقه، برئت ذمةُ الجاني، ولا يبقى للورثة حق؛ فإنه ليس يثبت حق للسيد والورثة على الازدحام، حتى يقال: إذا سقط أحد المزاحِمَيْن، وكان مقدَّماً، ثبت حق الثاني، بل ما يثبت للسيد يسقط بإسقاطه، وتبرأ ذمة الجاني عنه.
وقد انتجز الغرض، ولم نغادر شيئاً رأيناه مشكلاً إلا أوضحناه إن شاء الله.
10369- ومما [بقي من] (1) الصور أن ذميّاً لو جرح ذمّياً، فلحق المجروح بدار الحرب، ونقض العهدَ، ثم وقع في الأسر واستُرق والجراحة سارية، ومات رقيقاً، ولا سبيل إلى الخوض في هذه المسألة، فإنها تستدعي الكلام في أن الحربي إذا كان له أموال، فاسترق، فما مصرِف ماله؟ ولو أودع عندنا أموالاً حين كان ذمياً، ثم نقض العهد، واستُرق، فماذا نفعل بودائعه؟ وهذا من الفصول المنعوتة في كتاب السير، فسنذكره إن شاء الله عز وجل في موضعه، ونذكر هذا الفرع في آخره، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "وعلى المتغلب باللصوصية ... إلى آخره" (2) .
10370- مقصود الكلام والفصل أن من أكره رجلاً على قتل من يكافئه، فقتله، فالقصاص على من يجب؟ [ومن أركان الفصل] (3) الكلامُ في حدّ الإكراه، وقد أجريناه مستقصىً في كتاب الطلاق على أبلغ وجهٍ في البيان.
__________
(1) في الأصل: "يقابل".
(2) ر. المختصر: 5/101.
(3) في الأصل: "واعمض إن كان الفصل" بهذا الرسم تماماً (انظر صورتها) .(16/113)
والذي نذكره هاهنا في ذلك التفصيل فيما يحل بسبب الإكراه، وفيما يبقى على الحظر: أما القتل، فإنه يبقى محظوراً، ولا يؤثر الإكراه في إباحته.
وأما الإكراه على الزنا، ففي أصحابنا من يقول: لا يتصور الإكراه عليه، وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحاب أبي حنيفة، وهذا مما قدمناه [في ثنايا] (1) الإيلاء والظهار، ووجهه -على بعده- أن الزاني منتشر، ولا يتأتى الانتشار إلا مع [نشطةٍ] (2) في النفس [وانبساط] (3) في الشهوة، وهذا ينافي الإكراه.
والأصح أن الإكراه متصوّر فيه؛ فإن الانتشار لا اختيار فيه، والزنا هو الإيلاج، والإكراه عليه ممكن.
ثم إن تُصوِّر الإكراه، فلا يحل، بل الحظر فيه قائم؛ فإن فيه اهتتاك الحرمة الكبرى.
والإكراه على شرب الخمر يقتضي وجوبَ الشرب عندي؛ إذ من غُص بلقمة، ولم يجد إلا خمراً يُسيغها، فيجب استعمال الشراب لذلك، فالإكراه بهذه المثابة. والله أعلم.
فأما الإكراه على كلمة الردة؛ فإنه يبيح النطق بها، بنص القرآن، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} [النحل: 106] ثم في الفقهاء من يقول: يجب التلفظ بالردة لتخليص المهجة، والذي ذهب إليه الأصوليون من أئمتنا أن المكرَه [عليه] (4) أن يصابر الحقَّ والسيفُ مسلول على رأسه، وهذا هو الذي لا يجوز عندي غيره، وإذا كانت النفوس تُعرَّض للقتل [في] (5) الجهاد، والذب عن الدين، فكيف يجب النطق بالردة، وما المانع من مصابرة الدين وإظهار [الثبات] (6) وبذل الروح دونه.
__________
(1) في الأصل: "في ثبات".
(3) في الأصل: "بسطة". والمثبت من المحقق رعاية لطلاوة العبارة المعهود من الإمام.
(3) في الأصل: "والنشاط".
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "من".
(6) في الأصل: "الباب".(16/114)
فأما شرب الخمر، فليس في هذه المرتبة، فإن من اضطر في عطشٍ إلى شربٍ، وجب شربها، كما يجب تعاطي الميتة في شدة المخمصة.
فإن قيل: أليس ظاهر المذهب أن التداوي بالخمر غيرُ جائز؟ قلنا: لأن إصابة الشفاء غيرُ موثوق به.
فإذا اكره الرجل على إتلاف مال غيره، وكان يخاف على روحه، فيجب عليه أن يُتلفه، كما يجب عليه تعاطي طعامِ غيره في شدة المخمصة، فهذا ما ذكرناه في ذلك.
10371- ونحن الآن نبتدىء ذكرَ أحكام الإكراه على القتل، ثم نذكر بعده ما يتصل به، فإذا أكره رجل رجلاً على قتل إنسان، وتحقق الإكراه، كما وصفناه، فقتله المُكرَه، فقد اختلفت مذاهب العلماء: فذهب زُفَرُ وأبو يوسف (1) في روايةٍ إلى أن القصاص يجب على المكرَه دون المكرِه، وهذا مذهبٌ معتضد بالفقه والقياس؛ فإن المكرَه باشر القتلَ إثماً غيرَ معذور، والمباشرةُ تغلب السبب، وإذا كان الإكراه لا يسلط المكرَه، ولا يدفع الإثم عنه، ولا يرفع الحظر، وقد تحققت المباشرة، فالوجه إعدام أثر الإكراه بالكلية.
واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أن القود يجب على المكرِه، وقال أبو حنيفة: لا قصاص على المكرَه أصلاً، وفعله منقولٌ إلى المكرِه، وهو حالٌّ محلَّ آلته وسيفه، ووافق أنه يأثم بالقتل، ويستمر الحظر عليه.
واختلف قول الشافعي رضي الله عنه في ذلك، فقال في أحد قوليه: يجب القصاص على المكرَه، وحقيقة قولنا يجب القصاص عليهما، تقديرهما شريكين، فإن أحدهما ملجىء مستمسك بأقوى الأسباب المفضية إلى القتل غالباًً، والثاني مباشر آثم، وتوجيه القولين مستقصًى في (المسائل) و (الأساليب) (2) .
ثم إن قلنا يجب القصاص على المكرِه والمكرَه، فهما شريكان.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 409، بدائع الصنائع: 7/179.
(2) (المسائل والأساليب) هما كتابان في الخلاف لإمام الحرمين، وقد سبق التعريف بهما مراراً.(16/115)
وإذا آل الأمر إلى المال، فالدية بينهما، وعلى كل واحد منهما كفارةٌ، وإن قلنا: لا يجب القصاص على المكرَه، فهل تجب الدية عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تجب الدية، وفعله كالمعدوم. والثاني - أنه يجب عليه نصف الدية؛ فإن القصاص إن سقط بالشبهة، فلا وجه لإسقاط الدية مع العلم بأنها تجب مع الشبهة، فإن قلنا: يجب نصف الدية، فهو عامد، فهل تضرب على عاقلته أم تضرب عليه في ماله؟ هذا فيه تردد عندي: يجوز أن يقال: في ماله؛ لما نبهنا عليه، وليس كشبه العمد؛ [فإن الفاعل في شبه العمد] (1) ليس عامداً في القتل، وإنما عمده في الفعل، والمكرَه عامد في القتل نفسه.
ويجوز أن يقال: تضرب على عاقلته لسقوط اختياره؛ إذ لو تحقق عمده، لوجب القصاص. والتفريع على أنه لا قصاص على المكرَه.
فإن قلنا: يجب نصف الدية، فلا كلام، وتجب الكفارة، ويتعلق بقتله حرمان الميراث.
وإن قلنا: لا تجب الدية، فهل تجب الكفارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تجب؛ لأن فعله كالمعدوم. والثاني - تجب الكفارة؛ فإنه قاتل تحقيقاًً، وإذا كنا نوجب الكفارة على من يرمي سهماً إلى الكفار، فيصيب أسيراً من وراء الصف لا يشعر بمكانه، فالإثم بالقتل [بالإكراه] (2) أولى.
فإن قلنا: تجب الكفارة، فيتعلق بقتله حرمانه الميراث، وإن قلنا: لا يلزمه الكفارة، فهل يحرم الميراث؟ فعلى وجهين، وهذا يتعلق ببابٍ في الفرائض في ترتيب [القتل] (3) الحارم للميراث، فهذا [قاعدة حكم الإكراه] (4) .
10372- ونحن نرسم مسائلَ نأتي بها أفراداً، ولا نترك إن شاء الله شيئاً من الأطراف، ثم نختم الفصل بقولٍ في الأسباب الموجبة للقصاص، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: "فإن الفاعل ليس في شبه العمد ليس عامداً ... ".
(2) في الأصل: "فالإثم بالقتل بالكفارة أولى".
(3) في الأصل: "القائل".
(4) في الأصل: "ما عده الإقرار".(16/116)
فنقول: لو أكره رجلاً على قتل ولده (1) ، فالقصاص يجب على المكرِه؛ فإنه لو شارك الأبَ في قتل ولده، وجب القصاص عليه، وإن سقط عن الأب، ولذلك لو أكره [عبد حرّاً] (2) على قتل [عبد] (3) ، وجب القصاص على المكرِه، وإن سقط عن الحر المكرَه (4) .
وكذا لو اكره ذميٌّ مسلماً على قتل ذمّي، وجب القصاص على المكرِه.
ولو اكره الأبُ أجنبياً على قتل ولده، فلا شك أن القصاص لا يجب على الأب، وهل يجب على الأجنبي المكرَه؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا أكره مسلم ذمياًً على قتل ذمي، فلا قصاص على المسلم، وهل يجب القصاص على الذمي المكرَه؟ فعلى قولين.
ولو قال: إن قتلتني وإلا قتلتك، فهذا إذنٌ منه في قتله، ومن أذن في قتل نفسه، فقتله المأذون له، فالطريقة المشهورة أن القصاص لا يجب على المأذون، وفي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب له [ثم] (5) تنتقل إلى ورثته، أم تجب الدية للورثة ابتداء؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في الديات -إن شاء الله عز وجل- وإنما أسقطنا القصاص [لتعرضه للاندفاع] (6) بالشبهات.
ونُقل عن الشيخ الإمام سهل (7) رحمه الله تخريجٌ في [وجوب] (8) القصاص بناء على ما ذكرناه من أن القصاص يثبت للورثة ابتداء، فهو حقهم، فلما [قلنا] (9) : لا تسقط
__________
(1) المراد ولد المكرَه (بالفتح) فإن الصورة الأخرى ستأتي قريباً.
(2) في الأصل: "عبدا حرّ" وهو مخالف للسياق، كما سيتضح من المسألة التي تليها.
(3) زيادة اقتضاها السياق، ولا يتم التصوير إلا بها.
(4) وجب على المكرِه -وإن قلنا: القصاص على المكره والمكره جميعاً-، لأن المكرَه غير مكافىء؛ فهو حر، والمقتول بإكراهه عبد.
(5) في الأصل: "أم".
(6) في الأصل: "لعرضه الاندفاع".
(7) الإمام سهل الصعلوكي سبقت ترجمته.
(8) زيادة اقتضاها وضوح الكلام.
(9) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(16/117)
الدية بإذنه؛ فكذلك وجب أن [لا] (1) يسقط القود. وهذا التخريج متجه؛ فإن قول القائل: القصاص يسقط بالشبهة لا يُقبل ما لم يُبيّن وجْهَ الشبهة، وإذا كان الحق لغيره على القول الذي ذكرناه، فلا أثر لإسقاطه.
ولو قال: إن قتلت نفسك وإلا قتلتك، فأكرهه على قتل نفسه، فهذا ليس بإكراه على الحقيقة، فإن الإكراه إنما يتحقق إذا كان المكرَه يتخلص من التخويف بفعل ما يطلب منه، وإذا كان المخوف القتل، والمطلوب [عين] (2) ذلك القتل، فليس هذا إكراهاً، والذي قتل نفسه سبيله سبيل المختار في قتل نفسه.
10373- وإذا أكره بالغٌ صبياً مميزاً على قتل إنسان، فقتله، فهذا يُبنى على القولين في أنّ المكلف البالغ إذا أكرِه على القتل هل يلتزم القصاص أم لا؟ فإن قلنا: يجب القصاص على المكرَه، فهذا على تقدير المكرِه والمكرَه شريكين كما قررناه في (الأساليب) وأشرنا إليه في قاعدة المذهب.
فنقول إذاً: أما الصبي فلا يخفى انتفاء القصاص عنه، والمكرِه يخرّج على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ فإن قلنا: فعله خطأ، فالمكرِه مشارِكٌ مخطئاً، فلا قصاص عليه.
وإن قلنا: للصبي عمد، فالمكرِه شارك عامداً ضامناً، فيجب القصاص عليه لا محالة.
وإن آل الأمر إلى المال، فالدية بينهما نصفان، والنصف الذي يقابل الصبي في ماله.
هذا كله إذا فرعنا على أن المكرَه يلزمه القود لو كان بحيث يلتزم القود (3) . فأما إذا فرعنا على أن القود لا يجب على المكرَه أصلاً، فإذا كان المكرَه صبياً،
__________
(1) زادها المحقق لضرورة إقامة المعنى وتصويبه.
(2) في الأصل: "غير".
(3) " بحيث يلزم القود" أي ينتفي ما يمنع التزام القود بأن يكون المقتول غير مكافىء مثلاً. ثم المراد هنا أن المكرِه (بالكسر) يلزمه القود على القول بأنهما شريكان في وجوب القود عليهما، كما صرح بذلك الرافعي نقلاً عن الإمام (ر. الشرح الكبير: 10/141) .(16/118)
فهل يجب القصاص على المكرِه؟ إن قلنا: للصبي عمد، فيجب القصاص على المكرِه، ولا أثر لسقوط القصاص عن الصبي [ولو] (1) باشر مختاراً؛ فإن إلمكرِه لو كان مكلفاً، لأسقطنا القصاص عن الصبي.
وإن قلنا فعل الصبي خطأ، ففي وجوب القصاص على المكرِه تردُّدٌ للأصحاب، وقد أشار القاضي إلى الخلاف فيه، وحقيقة هذا التردد ترجع إلى أنا هل ننقل تقدير فعل المكرَه إلى المكرِه على صفته (2) أم نجعل المكرَه كالمباشر القتل، ولا ننظر إلى صفة فعل المكرِه؟
وعلى هذا يخرج ما لو أجبر إنسانٌ على أن يرميَ إلى ما يحسبه هو -يعني المكرَه- صيداً وهدفاً، وكان المكرِه يعلم أنه إنسان، فإذا رماه مكرهاً، فللأئمة تردد (3) في وجوب القصاص على المكرَه.
ولو أكره صبي بالغاً على قتلٍ، فلا يخفى أن الصبي لا قصاص عليه، فأما البالغ، فأمره يخرّج على أن المكرَه هل يجب عليه القود أم لا؟ وفيه القولان. فإن قلنا: لا قصاص على المكرَه، فلا كلام. وإن قلنا: يجب القود على المكرَه، ففي هذه الصورة نفرع أمره على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ فإن قلنا: لا عمد له، فلا قود على المكرَه، فإنا نوجب القصاص على المكرَه بتأويل الشركة، فإذا كان الشريك صبيّاً، لم يجب القصاص. فإن قلنا: للصبي عمد، فقد شارك المكرَه عامداً ضامناً، فيلزمه القصاص، وإن لم يجب على شريكه العامد الضامن.
__________
(1) في الأصل: "لو" بدون الواو.
والمعنى أنه لو اشترك بالغ مع صبي مميز ٍ-وقلنا للصبي عمد- فيجب القود على شريك الصبي ولو باشر فعله مختاراً بغير إكراه، فإنه شارك عامداً، والمذهب أن القود يجب على المكرِه والمكرَه باعتبارهما شريكين.
(2) المعنى أننا هل ننقل فعل المكره (بالفتح) على صفته إلى المكرِه، أي إن اعتبرنا فعل الصبي خطأ فهل ننقله إلى المكرِه بهذه الصفة (خطأ) ، فلا قود إذاً، أم أننا ننقل الفعل إلى المكرِه ونعتبر الصبي آلة، فهنا يجب القود.
(3) سبب التردد أن فعل المكرَه صورته شبه عمد، فالمكرِه إن نقلنا إليه الفعل بصفته لا يجب عليه القود، وإن قلنا: إنه شريك المكره، فقد شارك غير عامد.(16/119)
10374- ولو أكره رجل رجلاً على أن يُكره ثالثاً على قتل رابعٍ، فإذا نفذ الأمر، وجب القصاص على المكرِه الأول لا محالة، وفي وجوب القصاص على المكرِه الثاني والثالث القاتل قولان، فإنهما جميعاً مكرهان.
10375- ولو أكرهه على أن يقتل زيداً أو عمراً، وجعل إليه الخِيَرة في قتل من شاء منهما، فإذا قتل أحدَهما، لزمه القود، قولاً واحداً؛ فإن الإكراه لا يتحقق مع التخيير، وهذا كذلك حقاً.
وفيه أدنى إشكال لا بد من التنبيه له، وهو أن المكرَه لو لم يقتل واحداً منهما، لخاف وقوع القتل به، وإذا قتل أحدهما، [تخلّص] (1) في ظاهر الظن، ولكن وإن كان كذلك، فإنه لا يقدم على قتل واحدٍ منهما [إلا] (2) وهو مختار فيه؛ إذ لو فرض إقدامه على قتل الثاني يرجو التخلص منه أيضاًً؛ [فعين] (3) القتل يقترن به اختياره، والمكرَه هو المحمول على قتل معينٍ، لا يتوقع عنه محيصاً، وكذلك لو أكرهه على طلاق حفصةَ أو عمرةَ، فإذا طلق إحداهما، لم يكن مكرَهاً، ووقع الطلاق للمعنى الذي ذكرناه من اقتران الاختيار بالطلاق الذي يُقدم عليه، وهذا حسن لا يسوّغ في مسلك الفقه غيره.
10376- ولو أكرهه على إتلاف مالِ إنسانٍ فأتلفه، فالذي ذكره الأئمة أن قرار الضمان على المكرِه، ولكن هل يطالَب المكرَه حتى إذا غرم، رجع بما يغرمه على المكرِه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا تتوجه الطلبة على المكرَه المحمول أصلاً؛ فإنا إذا كنا نسلِّط المكرَه على الإتلاف بل نوجبه عليه، فالمكرِه حامله وملجئه، فيُرفَع حكمُ المكرَه من البيْن.
والوجه الثاني - أنه يجوز لمالك المال مطالبةُ المكرَه المتلِف [لصدور] (4) الإتلاف
منه، ثم هو يرجع على المكرِه.
__________
(1) في الأصل: "فخلص".
(2) في الأصل: "الأول وهو مختار".
(3) في الأصل: "بغير".
(4) في الأصل: "بصدور".(16/120)
فهذه مسائل تهذب الأصول وتنبه على مجال النظر والتأمل، ولم يبق من الفصل إلا النظر فيما يكون إكراهاً، وقد مضى القول البالغ فيه.
10377- والذي ذكره الأصحاب هاهنا: أن أمر السلطان هل يكون إكراهاً أم لا؟ فعلى وجهين. وهذا الخلاف مشهور، وفيه مباحثة، وهي أن السلطان إذا أمر بقتل إنسان، وكان المأمور لا يعلم كونَ السلطان مبطلاً؛ فإذا قتل، فلا يتعلق به ضمان أصلاً، ورأيت مشايخ المذهب مطبقين على هذا، وإن كان الجلاد يجد محيصاً [عن إنفاذ أمره، ولم يكن محمولاً بهذا على القتل] (1) ، والسبب فيه أنا لو علقنا الضمان بالجلاد، لما انتظمت السياسات، ولخاف كل من يتعاطى القتل مغبةَ الأمور.
هذا إذا قَتَل وهو لا يدري كونَ الإمام مبطلاً.
فأما إذا علم أن الإمام مبطل، فعند ذلك ذكر الأصحاب خلافاً في أن أمر السلطان هل يكون إكراهاً أم لا؟ وهذا فيه نظر؛ فإن كان أمره بحيث لو لم يمتثل، لظهر الخوف [من إهلاكه، فهذا إكراه] (2) في الحقيقة. وإن لم يظهر ذلك في الظن، فلست أرى للخلاف في أن الأمر هل يكون إكراهاً وجهاً أصلاً، ولكن الكتب مشحونة بذكر الوجهين في أن أمر السلطان بمجرده هل يكون إكراهاً؟ فلست أرى له اتجاهاً إلا من جهةٍ واحدة، وهو أنه [إن] (3) كان يسطو بمن يخالفه [واعتيد] (4) ذلك منه، [ولا] (5) يبلغ توقع ذلك مبلغ توقع المخوف لو صرح بالتوعد به، فليقع تنزيل الخلاف على هذا الوجه، والفرض فيه إذا علم كونَ القتل باطلاً، وكان يظن سطوته لو خولف، فهذا هل يكون كما لو توعد؟ هذا وجه في تنزيل الوجهين.
وقد أشار بعض الأصحاب إلى مسلك آخر وهو أن المأمور وإن كان يعتقد كونَه مبطلاً، فقد لا يكون كذلك؛ فإنه لا يطلع على حقيقة كونه مبطلاً، ثم نعرض الأمرين
__________
(1) في الأصل: "عن إمساك أمره، ولم يكن محمولاً فهذا القتل" والمثبت من عمل المحقق.
(2) في الأصل: "في إهلاكه مخالفة، فهذا إكراه".
(3) في الأصل: "وإن".
(4) في الأصل: "فاعتيد".
(5) في الأصل: "فلا".(16/121)
ونقول: هل ينزل منزلةَ الإكراه، من جهة أن أمر الإمام محمول على الحق.
وهذا كلام مضطرب؛ فإن الإمام إذا اعترف بكونه مبطلاً، وأمر بالقتل، فكيف تخريج الخلاف؟ وإن [خُيّل] (1) لإنسان [أنه] (2) يخرُجُ عن الإمامة، فهذا اقتحامُ تيّارِ بحرٍ مغرق، ثم إن كان كذلك، [فقول] (3) الأصحاب: هل يكون أمره إكراهاً؟ غيرُ سديد، إذ لو حمل على إمكان الحق، فلا وجه إلا نفي الضمان [عن] (4) الجلاد؛ بناء على ما ذكرناه، ولكن تخصيص الأصحاب الخلاف بالسلطان يشير إلى هذه الطريقة؛ إذ لو حملناه على أمر من يسطو على من يخالفه، فقد يفرض هذا من متغلب ليس [وليَّاً] (5) فيرجع [الكلام] (6) بعد ما ذكرناه إلى أن الجلاد إن لم يعلم حقيقةَ الحال، فأمر السلطان يُخرِج فعلَه عن كونه معتبراً بالكلية.
فإن ظهر عند الجلاد كونُ الإمام مبطلاً، ولم يكن مكرهاً، وكان حمله على الحق ممكناً، فالأمر والحالة هذه هل يبرئه؟ فعلى الخلاف.
هذا وجه الكلام في ذلك.
10378- ومما نختم الفصل به الكلام في الأسباب الموجبة للقصاص: أما المباشِرات، فقد سبق استقصاء القول فيها، وأما الأسباب، فالإلجاء والإكراه إذا تحقق يوجب القصاص على المكرِه، ويلتحق به شهادة شهود الزور على القتل، كما سيأتي مشروحاًً في موضعه، والسبب فيه أن الشهادة [تُحصِّل قتلَ] (7) المشهود عليه لا محالة، وهو أبلغ من الإكراه، فإن المكرَه قد يتحرج ويؤثر هلاك نفسه، وقد
__________
(1) في الأصل: "سيل".
(2) في الأصل: "بأنه".
(3) في الأصل: "فنقول".
(4) في الأصل: "على".
(5) في الأصل: "إليها" (كذا تماماً) .
(6) في الأصل: "بالكلام".
(7) في الأصل: "تحصُل قِبَل".
تنبيه: ما تراه في هذه الحواشي ليس فروق نسخ؛ فالنسخة وحيدة، وإنما المثبت من استكناه المحقق وتوسمه. نسال الله أن يلهمنا الصواب.(16/122)
ينعطف على المكرِه [بأي وجه] (1) ، [وليس] (2) للقاضي محيص عن الحكم بشهادة العدول، وإن توقف قاضٍ، لم يندفع الحكم؛ إذ قد يقوم به آخر، وتفصيل الشهادة يأتي إن شاء الله عز وجل، فقد جرى الإكراه والشهادة على عمد مجرىً واحداً.
والتغرير في تقديم الطعام المسموم هل يكون بمثابة الإكراه في إيجاب القصاص على الغارّ؟ فيه قولان قد قدمنا ذكرهما في أول الكتاب، ويُنْتَحَى بهذا ما لو حفر بئراً في مضيق، وغطاها، واستدعى حضور إنسان في تلك الجهة، ويغلب على الظن أنه يأتي تلك البئر، ثم لا [يجد] (3) محيصاً عن التردي، على ما سيأتي تصوير ذلك على وجهه في مسألة احتفار البئر، فهذا من قبيل التغرير.
وإن كان قد احتفر البئر في ملك نفسه، ودعا من دعا؛ فإن الاعتماد في ذلك على التغرير، والتغريرُ يتحقق وإن وقع الحفر في ملكه، فلا مزيد في الأسباب المفضية إلى الهلاك، على ما ذكرناه، والله المستعان.
10379- مسألة: قال: "وعلى السيد القود ... إلى آخره" (4) .
إذا كان للإنسان عبد أعجمي، فكان إذا أشار عليه سيده بأمر، استرسل فيه لا محالة، [ولم يكن ذا عقل وتمييز] (5) ، فإذا أمره بقتل إنسان، فقتله، فالسيد في محل المكرِه؛ فإن الذي جرى منه سببٌ يُفضي إلى القتل غالباًً، وهو في معنى إغراء سبع ضارٍ في مضيق، على ما قدمنا التفصيل فيه في أول الكتاب، فيخرج القود على السيد في محل القود، والعبد لا قود عليه، فإنا صورناه غير مميز على صورة سبع ضارٍ، وقولنا على ما جرى من السيد يجري مجرى إغراء في سبع.
وإذا رجع الأمر إلى المال، فلا شك أن السيد مطالب به، ولكن هل يتعلق برقبة
__________
(1) مكان كلمة ذهب معظم حروفها، والمثبت تقديرٌ منا نرجو أن يكون صواباً؛ فإنه أقرب ما يكون لما بقي من أطراف الحروف.
(2) في الأصل: "فليس".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) ر. المختصر: 5/102.
(5) في الأصل: "ولا يكن ذا عقل وتميز".(16/123)
العبد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يتعلق؛ فإنه إذا لم يكن مميزاً، فهو بمثابة سبع، ولو أغرى بهيمةً صائلة على إنسان فأتلفه، أو على مالٍ، لم يتعلق الضمان برقبة البهيمة.
والثاني - أن الضمان يتعلق برقبته؛ فإنه عبد مملوك صدر منه إتلاف.
ثم إن قلنا: يتعلق الضمان برقبته، فإن سلمه، فبيع في الجناية، وفضل شيء، فهو متعلق بالسيد، ولا ينزل هذا منزلةَ الأرش المتعلق برقبة العبد المختار إذا جنى جناية؛ فإن المتلِفَ على الحقيقة السيدُ، فكان الضمان متوجّهاً [عليه] (1) ، وليس هذا التعلّق الذي نفرعه بمثابة تعلق الأرش برقبة الجاني المختار، حتى لا يلزمه إلا تسليم العبد، وهذا بيّنٌ للمتأمّل؛ فإن الفعل منسوب إلى السيد، كما ذكرناه.
ولو أمره أجنبي بقتلٍ، وكان لا يخصص جريانه على الموافقة لسيده، بل كان يسترسل بإغراء الأجنبي، فالكلام في الأجنبي وإلزامِه القودَ كالكلام في السيد إذا تُصور انقياده للأجنبي على الوجه الذي يتصور مثله مع السيد.
10380- ولو أمر صبياً [حُرّاً] (2) أو مجنوناً طِباعه ما وصفناه، فقتل إنساناً، فهذا يوجب القصاص لا محالة على الساعي فيه، ثم إذا أتلف مثلُ هذا الصبي بنفسه شيئاً وكان ذا مال، فهل يتعلق الضمان بماله، إذا لم يصدر فعله عن إغراء، أو استحثاث أم لا يلزمه في مالِه شيء؟
قال شيخي: هذا مخرج على الخلاف في أنه هل يتعلق برقبته لو كان رقيقاً؟ وكذلك لو فرض في العبد ما ذكرناه من غير أمر، فهل يتعلق برقبته ولا تمييز له؟ فعلى الخلاف. وهذا متوجه؛ فإنه بمثابة بهيمة تعدو بطباعها، وليس بذي فعل على اختيار، فالمسألة على الاحتمال.
ولو أمر أجنبي مثلَ هذا العبد بإتلافٍ، فامتثل، وفرعنا على أنه يتعلق برقبته، فعلى الأجنبي تخليصه؛ فإنه سعى في تحصيل الإتلاف به سعياً يتعلق به وجوب
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "حيّاً".(16/124)
القصاص عليه لو فرض في الجناية الموجبة للقصاص؛ فإنه بمثابة الآلة، وإن قلنا: موجب الجناية يتعلق برقبته.
ولو كان الصبي أو المملوك مميزاً، ولم يكن بحيث يُستشلى استشلاء السبع، فإن لم يوجد إكراه، لم يتعلق الضمان [بالآمر] (1) ، وتعلق موجب الإتلاف برقبة العبد لا محالة، وإن اكره مثلَ هذا الشخص، وتحقق الإكراه والقتلُ قتلُ قود، فيجب القصاص على المكرِه، ثم إن كان القاتل عبداً مملوكاً صبياً، [فهل يتعلق موجب الجزاء برقبته؟] (2) هذا عندنا مفرع على أن المكرَه هل يلتزم شيئاًً من الدية، فإن قلنا: إنه يلتزم لو كان حراً، فصدور هذا من العبد بمثابة فعل مختار منه في التعلق بالرقبة.
وإن قلنا: لا يلتزم شيئاًً أصلاً، وهو بمثابة آلته، فينزل منزلة العبد الذي لا اختيار له أصلاً، ولا تمييز، وقد ذكرنا الخلاف في أنه إذا كان كذلك، فهل يتعلق برقبته موجَبُ إتلاف أم لا؟ ولا حاجة إلى مزيد في التصوير، فإن من أحاط بما ذكرناه، [هان عليه ترك ما سواه] (3) .
فصل
"ولو قتل مرتدٌّ نصرانياً ... إلى آخره" (4) .
10381- قد ذكرنا فيما تقدم الترددَ في أن المرتد هل يستوجب القود بقتل النصراني الذمي، وذكرنا في قتل النصراني المرتدَّ الخلافَ أيضاًً، فأجرينا اختلاف الطرق في قتل المرتد، وقد قدمنا التفصيل في قتل الزاني المحصن، وأتينا بتمام البيان، ولو قتل زان محصن مسلم كافراً ذمياً أو مرتداً، فلا قصاص عليه، وإن كان مباح الدم؛ لأنه يفضُل مقتولَه بالإسلام، ويستحيل عندنا إيجابُ القود ابتداء على مسلم بقتل كافر، على أي وجه فرض وقدُّر.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "فهذا يتعلق بموجب الجزاء به برقبته" والتغيير والتعديل من المحقق.
(3) في الأصل: "فإن عليه ترك ما سواه".
(4) ر. المختصر: 5/103.(16/125)
فصل
قال: "ويقتل الذابح دون الممسك ... إلى آخره" (1) .
10382- قصد رضي الله عنه الرد على مالك (2) ؛ إذ جعل الممسكَ شريكاً في القتل، وقاعدةُ المذهب أن الأسباب في القتل يسقط أثرها مع المباشرة الصادرةِ عن الاختيار التام من المباشر، وتقع الإحالة إليها، وتزول آثار الأسباب معها، إلا فيما يتعلق بالمأثم، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سعى في دم أخيه المسلم ولو بشق كلمة، حشر يوم القيامة ومكتوب على جبينه: الآيسُ من رحمة الله" (3) والمكرَه على القتل مباشر، ولكن اختيارَه ليس بمستقل؛ من جهة أنه [ملجأ] (4) إلى اختياره (5) ، والإكراه مشتبه بالمباشرة، من حيث إنه يُفضي إلى حصول
__________
(1) ر. المختصر: 5/103.
(2) ر. الإشراف: 2/817 مسألة 1556، عيون المجالس: 5/1990 مسألة 1422، القوانين الفقهية: 340، حاشية الدسوقي: 4/245.
(3) حديث: "من سعى في دم أخيه المسلم ولو بشق كلمة" سبق تخريجه في أول كتاب الجراح.
(4) في الأصل: (ملجى) هكذا تماماًً. ولعلّ المعنى أنه وإن كان مختاراً في مباشرة القتل فهو مضطر مكره إلى أن يلجأ إلى هذا الاختيار، فاختياره ليس مستقلاً.
(5) هذه المسألة من الغوامض المعوصات، فمذهب الشافعي أن القصاص يجب على المكرَه (بالفتح) لأنه مباشر، والمباشرة اختيار، وقد وضّح الغزالي هذه المسألة في مقدمة المستصفى، وجعلها مثالاً للغلط في الاسم المشترك، الذي جعل منه (الاختيار) فقال: "قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل: "يلزمه القصاص، لأنه مختار" ويفول الحنفي: "لا يلزمه القصاص لأنه مكره وليس بمختار" ويكاد الذهن لا ينبو عن التصديق بالأمرين، وأنت تعلم أن التصديق بالضدين محال؛ وترى الفقهاء يتعثرون فيه، ولا يهتدون إلى حله، وإنما ذلك لأن لفظ (المختار) مشترك؛ إذ قد يجعل لفظ المختار مرادفاً للفظ القادر ومساوياً له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة، كالمحمول، فيقال: هذا عاجز محمول، وهذا قادرٌ مختار.
ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل وتركه، وهو صادق على المكره، وقد يعبر بالمختار عمن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته بلا تحرك دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المكره ونقيضه، وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، فإذا صدق عليه أنه مختار وأنه ليس بمختار، ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت، ولهذا =(16/126)
القتل غالباًً، وقد مضى تأصيل المذهب وتفصيله في المكرِه والمكرَه.
والمباشِر مع الممسك كامل الاختيار، وليس محمولاً على اختياره، فيسقط حكم الإمساك لقوة المباشرة.
وإذا [باع] (1) رجل طعاماً مسموماً إلى من يغلب على القلب أنه يأكل منه، فهذا محطوط عن رتبة الإكراه؛ من حيث لا إجبار، ولكنه من جهة إفضائه إلى الهلاك يضاهي الإكراه، والمتناول مباشر مختار، [وفي منزلة ما جرى من السبب] (2) قولان تقدم ذكرهما، فالمراتب في مطلوبنا ثلاثٌ: مباشرة تامة مع سبب لا يتضمن حملَ المباشر على المباشرة.
ومباشرة مع سبب يقتضي [حمل المباشر حملَ إجباراً] (3) .
ومباشرة مع سبب يقتضي حمل [المباشر] (4) من طريق الاغترار.
ولو أمسك الممسك عبداً، فقتله قاتل، [فقرار] (5) الضمان على القاتل، والطَّلِبة تتوجه على الممسك لمكان اليد الضامنة.
وهذا من قواعد الغصب، وقد مضى القول فيها.
ولو أمسك محرمٌ صيداً، فقتله محرم آخر، فالمذهب تنزيل هذا منزلةَ إمساك العبد وقتلِه، فالقرار على المحرم القاتل، وتتوجه الطّلبة على الممسك؛ فإن صام، لم يرجع، وإن بذل مالاً في الجزاء، رجع على المحرم القاتل الممسكُ.
وذكر العراقيون وجهين أن الممسك في الصيد بمثابة الشريك، وهذا بعيد، ووجهه -على البعد- أن الجزاء فيه مَشَابه [من] (6) الكفارات، وقد ثبت تعلق الضمان
__________
= نظائر في النظريات لا تحصى، تاهت فيها عقول الضعفاء فليستدل بهذا القليل على الكثير" (ر. المستصفى: 1/33) .
(1) في الأصل: "بيع".
(2) في الأصل: "وفي منزله مع ما جرى من السبب".
(3) في الأصل: "حمل المباشر على الاختيار".
(4) في الأصل: "المباشرة".
(5) في الأصل: "فقر أن الضمان على القاتل".
(6) زيادة من المحقق. والمعنى أن الجزاء بشبه الكفارات من أكثر من وجه.(16/127)
باليد، والرجوع في الكفارة بعد ثبوت الضمان بعيد.
وهذا غير سديد، وقد تقدم شرح ذلك في كتاب الحج.
فصل
قال: "ولو ضربه بما الأغلب أنه يقطع عضواً ... إلى آخره" (1) .
10383- غرض الفصل أن الجناية على الأطراف تنقسم إلى العمد المحض، والخطأ، وشبه العمد، كما تفصل، فإن ضرب رأس إنسان عمداً بما الأغلب أنه يوضحه، فهذا عمد محض، وإن ضرب رأسه بسوط لا يُقصد الإيضاح بمثله، فحصل الإيضاح وفاقاً، فالذي جرى شبه العمد، وإن قصد جداراً أو هدفاً بضربٍ، فاعترض إنسان وأصاب الضربُ رأسه، فأوضحه، فهو خطأ محض، وقد تختلف مراتب الأفعال بالأعضاء، فالعين تقصد بنخسةٍ بأصبع، فالرجوع في التقاسيم إلى ذوي العقول والعادات، وسيأتي في باب الجناية على الأطراف تفصيلٌ بالغ في أن الأطراف هل تقصد بالسرايات؟ وكيف السبيل فيها؟
فصل
"وإن كان الجاني مغلوباً على عقله ... إلى آخره" (2) .
10384- لا قصاص على الصبيان والمجانين، أما المجانين، فكالبهائم لا يفيد إجراءُ القصاص في بعضهم ردعَ الباقين، وأما الصبيان، فقصودهم ثابتة، ولكن الشرع حطّ حكمَها، ووقع الاكتفاء باستيلاء أيدي [القوّام] (3) عليهم، وقد مضى تفصيل الطرق فيه في كتاب الطلاق، وذكرنا أن الطريقة المثلى تخريج أحكامه فيما له وعليه في الأقوال والأفعال على قولين، ولا خلاف أن السكر ينزل منزلة الإغماء في إسقاط الصلوات التي تمر مواقيتها في السكر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/103.
(2) ر. المختصر: 5/104.
(3) في الأصل: "العوام".(16/128)
واختلف الأصحاب في أن السكر هل هو حدث كالإغماء، فمنهم من التفت إلى تخريج ذلك على القولين في السكران، والوجه جعله حدثاً؛ فإن باب الأحداث مبناه على وجود الحدث كيف فرض، مقصوداً أو غير مقصود، فهذا جوامع القول في ذلك، ولم نر الإطناب في تقرير كل قاعدة؛ فإن القواعد قد مضت في مواضعها.
فصل
قال: "ولو قطع رجلٌ ذكرَ خنثى مشكل وأنثييه وشُفريه ... إلى آخره" (1) .
10385- الخنثى إذا بقي على إشكاله، فقطع رجل ذكره وأنثييه وشُفريه، فإن رضي المجني عليه بأن يتوقف إلى أن يتبين أمرُه، وكان ينتظر حيضاً أو إمناءً، توقفنا، ثم لا يخفى حكم البيان في المستقبل: فإن بان رجلاً، وجب القصاص على الرجل الجاني في ذكره وأنثييه، وللخنثى الحكومة في شُفريه، ولا يخفى المال إن آل الأمر إليه.
وإن بان أنثى، فلا قصاص، ولها الدية في الشُّفرين، وحكومةٌ [في] (2) الذكر والأنثيين.
وإن جَنت امرأةٌ ثم تبين أمرُ المجني عليه، لم يخْفَ حكم البيان.
ولو قال المشكل: لست أقف، ولكني أعفو عن القصاص إن كان لي قصاص، فليعطني الجاني حقي من المال، فالذي نقله المزني أن المشكل له دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين، ثم قال: لأن هذا أقلُّ، ولا شك أن المعتبر في الفصل [أنا] (3) لا نوجب شيئاً إلا بيقين، فذكر المزني أن دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين [مبلغٌ] (4) مستيقنٌ؛ [فإن] (5) دية الشفرين خمسون من الإبل؛ نظراً إلى دية المرأة،
__________
(1) ر. المختصر: 5/104.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "أن".
(4) في الأصل: "فبلغ".
(5) في الأصل: "بأن".(16/129)
وحكومة الذكر والأنثيين تنقص عن مائة؛ فإن حكومة كل عضو محطوط عن دية صاحب العضو، وإذا أوجبنا دية الشُّفرين باعتبار الأنوثة، فنعتبر حكومة كل عضو بدية أنثى.
وذكر بعض المصنفين أنا نوجب في كل عضو حكومةً؛ فإنا لا نقرر ديةً في عضو إلا ويجوز [أنه] (1) عضو حكومةً؛ فنعتبر في كل عضوٍ أقلَّ ممكن [فيه] (2) .
وهذا ضعيفٌ لا أصل له، فإن [المغروم] (3) هو المال، والمقدار الذي ذكره المزني مبلغٌ مستيقَن، فلْيَجِبْ، ولا التفات على السبب والتقديرات، والمتلزَم متحد.
نعم، إنما يتوجه ما ذكره هذا المصنف [إذا] (4) تعدد الجاني فقطع قاطع ذكراً وأنثيين، وقطع آخرُ الشُّفرين، وعفا المجني عليه عن القصاص، فلا يلزم كل جان إلا أقلُّ حكومة.
10386- ولو قال المجنيّ عليه: لست أقف، ولست أعفو عن القصاص، وقد علمتم أن القصاص غير متوقع في جميع ما وقع (5) مني، فليعطني الجاني شيئاًً في العضو الذي لا قصاص فيه.
قلنا: حاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يجب أقلُّ حكومتين في تقدير الذكورة والأنوثة: إما حكومة الشُّفرين على تقدير الذكورة، وإما حكومة الذكر والأنثيين على تقدير الأنوثة؛ فإن ما زاد على ذلك شك، ثم هذا القائل يقول: إن زادت إحدى الجهتين على الأخرى، لم نوجب إلا الأقلَّ، ولو كانت حكومة الذكر والأنثيين مائةً إلا بعيراً وحكومة الشفرين مع تقدير الذكورة خمسين مثلاً، فنوجب الخمسين.
__________
(1) في الأصل: "أنها".
(2) في الأصل:، فيها".
(3) في الأصل: "المعدوم".
(4) في الأصل: "وإذا".
(5) ما وقع مني: المعنى: ما وقع من عدوان على أعضاء مني.(16/130)
وهذا الوجه مزيف ضعيف، ويبينُ تضعيفه بذكر الوجه الثاني -وهو المختار- فنقول: كل عضو يتوقع فيه جريان القصاص، فلا يُعطَى المجنيّ عليه [فيه] (1) شيئاً؛ فإن الجمع بين المال وإمكان القصاص محال، وليس القصاص مما يفرض فيه حيلولة مضمِّنةٌ مالاً، بخلاف الأموال؛ فإنها تُضَمَّن بالتقريب (2) تارةً، وبالحيلولة أخرى، فإذا توقفنا في الاقتصاص [من] (3) [القاتلة] (4) الحامل، لم نُلزمها لتعذر الاقتصاص مالاً، فكذلك القول في تعذّر الاقتصاص بالإشكال.
وستأتي مسألة تشير إلى مناقضة هذا الأصل، وهو أن مستحق القصاص لو كان مجنوناً، فالولي لا يقتصّ له، ولكن قال الشافعي: له أن يرجع إلى مالٍ، [وليس هذا عفواً] (5) عند بعض الأصحاب، وشرْحُ تلك المسألة يأتي، وغرضنا الآن فصلها عما نحن فيه؛ فإن الجنون لا منتهى له، والعفو غير ممكن، ففي منع أخذ المال تعطيل، والمجني عليه في مسألتنا يتمكن من العفو، ولوضع الحمل أمد منتظر.
فإذا كان الجاني رجلاً، فلا مال في الذكر والأنثيين لإمكان القصاص، وللمجني عليه حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة؛ فإن القصاص لا يتوقع جريانه في الشُّفرين والجاني رجل.
والمال وإن أضافه الأصحاب في هذا الوجه الصحيح الذي لا يتجه غيره إلى الشُّفرين، ففي تهذيب الكلام فضلُ نظر لا بد منه، فنقول: إن كانت حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة مائةً إلا بعيراً، فقد زادت حكومة الشفرين الزائدين على دية الشُّفرين من المرأة، ولكن لا مبالاة بهذه الزيادة مع تقدير الذكورة، وقد يمتنع من لم يُحط بحقيقة هذه المسألة عن إيجاب ما يبلغ ديةَ الشفرين من امرأة، فضلاً عن الزيادة عليها، ولا امتناع في إيجاب ذلك؛ فإنه إن كان امرأة، فالواجب ديةُ الشفرين، وإن
__________
(1) في الأصل: "فيها".
(2) كذا.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "العاقلة".
(5) عبارة الأصل: "وليس هذا من عفوا".(16/131)
كان ذكراً فلا يمتنع زيادة حكومةُ عضو من الرجل على دية المرأة.
فالوجه المرتب، والمسلك المهذب أن نقول: نعتبر حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة، ونضبط مبلغها، ثم نرجع، فنقدر دية الشفرين بتقدير الأنوثة وحكومة الذكر والأنثيين بتقدير الأنوثة، ونضم حكومة الذكر والأنثيين إلى دية الشُّفرين، ونقابل المبلغ بحكومة الشفرين على تقدير الذكورة، فأي المبلغين كان أقلَّ، فهو الواجب؛ فإنا على اليقين نجوِّزه وإياه نطلب، وهذا القدر مستيقن، وإن فرض جريان القصاص.
ولو كان الجاني امرأة، فالقصاص موهوم (1) [في الشفرين] (2) دون الذكر والأنثيين، فلا نوجب دية الشفرين، ونوجب حكومة الذكر والأنثيين بتقدير الأنوثة، ولا ينقدح فيه تقديرآخر؛ فهو الأقل مع الوفاء بالامتناع من إيجاب المال فيما يتوقع القصاص فيه.
وقد ذكرنا وجهين من الأوجه الثلاثة.
10387- والوجه الثالث الذي حكاه الصيدلاني عن الققال - أنا لا نوجب شيئاً إذا قال: لا أعفو ولا أقف؛ فإنا لو أوجبنا شيئاًً، لم ندر أنه وجب [عن ماذا] (3) ، وهذا يلتفت على خلاف الأصحاب فيه إذا اتفق زيد وعمرو أن لعمرو على زيد ألفاً واختلفا في جهة استحقاقه؛ فإن في الأصحاب من يقول: لا يثبت الاستحقاق أصلاً مع الاختلاف في الجهة حتى تتعين.
وهذا ضعيف، ولكن ظاهر [نصّ] (4) المزني يدل على هذا الوجه، والمزني نقل عن الشافعي في مسألة الخنثى: "فأما إذا رضي بالتوقف" ثم ذكر بقيةَ المسألة من عند
__________
(1) كذا بهذا الرسم تماماً. والمعنى أن القصاص في الشفرين ممكن، وعبارة الإمام عن هذا المعنى في أول المسألة "فإن الجمع بين المال وإمكان القصاص محال" فهل وضع الإمام كلمة (موهوم) مكان (ممكن) أو (محتمل) أم صحفها الناسخ؟ الله أعلم.
(2) في الأصل: "والشفرين".
(3) في الأصل: "عمادى".
(4) زيادة أقتضاها السياق.(16/132)
نفسه، [فيما] (1) إذا قال: "عفوتُ عن القصاص" وبيّن: "أن الأقل فيه دية الشُّفرين وحكومة الذكر والأنثيين" (2) كما ذكرناه، وهو الحق، وما عداه خيال.
ثم صورةَ (3) ما إذا قال: "لا أعفو ولا أقف" وقال في الجواب: بل "لا يجوز أن يُقَصّ مما لايُدرَى [أي القِصاصين] (4) لك، فلا بدّ لك من أحد الأمرين على ما وصفنا" (5) ، ومعناه لا بدّ لك من العفو ليكون الجواب كما ذكرته، أو من الوقف ليكون الجواب كما نقلته عن الشافعي.
وظاهر هذا يدل على أنه لا يُعطى [شيئاًً من] (6) المال إذا قال: لا أعفو ولا أقف، وهذا هو الوجه الثالث، الذي حكيناه، وهو ضعيف لا أصل له.
10388- ومما يجب الإحاطة به أن من مسائل الفقه ما يكون مأخذ القول فيه ظنوناً متعارضة، فينقدح الخلاف فيها، ومنها ما يُسْنَد إلى أصول في الحكم قطعية لا خلاف فيها، ولكن [تشوبه] (7) أمور تقديرية حسابية، وقد يتفق فيها هفوات، ولا وجه [لعدّ] (8) الهفوات من المذهب، ولا طريق لترك نقل ما قيل، فالوجه [نقلُه والحكمُ بخطئه.] (9) .
10389- فالذي تحصّل إذاً في أقسام المسألة مذهباً مبتوتاً أنه إن عفا عن القصاص، فله دية الشفرين، وحكومة الذكر والأنثيين، وإن قال: لا أعفو
__________
(1) في الأصل: "ما إذا".
(2) ر. مختصر المزني: 5/104 ونص عبارته: "بقية هذه المسألة في معناه أن يقال له: وإن لم تشأ أن تقف حتى يتبين أمرك وعفوت عن القصاص وبرأت، فلك دية شفري امرأة، وحكومة في الذكر والأنثيين".
(3) "ثم صورةَ" معطوف على قوله: "بقيةَ المسألة".
(4) في الأصل: "أن القصاصين". والتصويب من نصّ المختصر.
(5) هذا كلام المزني بنصه. ر. المختصر: 5/104.
(6) في الأصل: "مسافر" وهذا من بدائع التصحيف، فقد صارت كلمة شيئاً = (مسا) وصارت من (فر) فأصبحت: مسا+ فر= مُسافر.
(7) في الأصل: "تسوية".
(8) في الأصل: "بعد".
(9) في الأصل: "فعله والحكلم بخطأبه".(16/133)
ولا أقف، فالوجه القطع بأنه لا يأخذ من عضو القصاص على التخصيص شيئاًً، وله أقل مقدّر يفرض مع تقدير القصاص عند البيان.
10390- ولو قطعت امرأة شفري خنثى وقطع رجل ذكره وأنثييه، ثم قال: لا أعفو ولا أقف، فلا شيء له؛ فإنه لا يطالب واحداً منهما إلا وله أن يقول: القصاص بيننا ممكن.
ولو قطعت امرأة ذكره وأنثييه، وقطع رجل شفريه، فقال: لا أعفو، قلنا: لا حاجة إلى عفو، فلا قصاص، وله مطالبة كل واحد منهما بحكومة ما جنى عليه، على التعليل الذي وصفناه.
10391- ولو جنى خنثى على خنثى، فقطع ذكره وأنثييه، وشُفريه، فليس يخفى حكم التوقف، وحكم العفو عن القصاص، فالأمر لا يختلف في هذين.
ولو قال: لا أعفو ولا أقف، قال الققال: الذي تلقيناه من السماع أن له أقل الحكومتين؛ لأن كل واحد من الجهتين [يفرض] (1) أن يكون فيها القصاص.
ثم قال: وهذا غلط؛ فإن إمكان القصاص جارٍ في الجميع بناء على أصلٍ سيأتي في الجناية على الأطراف، وهو أن الأعضاء الزائدة يجري القصاص فيها، فيحتمل أن يكونا ذكرين، فيجري القصاص في الذكر والأنثيين من جهة أنهما أصليان، ويجري أيضاًً في الشفرين بناء على إجراء القصاص في الزوائد، والوجه ألا يثبت له شيء لإمكان جريان القصاص من الكل، والأمر على ما ذكره إذا تشابهت الأعضاء، وهذا موضع استدراكه، وسيأتي الكلام في الأعضاء الزائدة وما يُرعى فيها.
وقد نجز الكلام في المسألة، ولم نغادر أمراً إلا نبهنا عليه، فكل صورة يأتي بها متكلِّف، ففيما مهدناه جواب عنها والله أعلم.
10392- ومما يتصل بتمام ذلك أن الجاني لو كان رجلاً مثلاً، فقال (2) : أقررتَ بأنك امرأة، فأنكر المقطوع وقال: بل أقررتُ بأني رجل، نص الشافعي في مواضع أن
__________
(1) في الأصل: "يعرض".
(2) أي قال الجاني للمجني عليه.(16/134)
القول قول القاطع؛ لأن الأصل أن لا قصاص، وحكى ابن سريج قولاً عن الشافعي أنه قال في كتاب التعريض بالخطبة القولُ قول الخنثى.
وتهذيب القول في هذا أن العلامات إذا عَدِمْناها ورجعنا إلى قول الخنثى، فأخبر عن نفسه بأنه رجل، ثم جرت الجناية بعد هذا، فنأخذ بموجب قوله؛ فإن الحكم قد وقع بقوله، واستقر، فيجري أمر القصاص بناء على ما يثبت ولو جرت الجناية، ثم قال: إني رجل، فظاهر المذهب أنه لا يقبل قوله، لإيجاب القصاص على الرجل الجاني.
ومن أصحابنا من قال: يقبل؛ فإنه أعرف بنفسه.
وهذا مزيّف لا أصل له، والوجه القطع بأن قوله غير مقبول بعد الجناية إذا كان يتضمن ثبوت حقٍّ لولاه لما ثبت: مالاً كان، أو قصاصاًً؛ لأنه متهم، [والبناء على ما ثبت له أمثلةٌ في الشريعة] (1) : منها أنه لو ثبت غصبٌ بشاهد وامرأتين، وقضى القاضي، ثم قال المحكوم المقضي عليه: إن [غصبتُ] (2) ، فامرأتي طالق ثلاثاً، فالطلاق يقع؛ فإن الغصب تمهد، ثم انبنى [التعليق] (3) عليه.
ولو أنكر الغصب أولاً، وحلف على نفيه بالطلاق، ثم ادُّعي عليه الغصب، وأُثبت بالشاهد واليمين، واتصل القضاء به، ففي وقوع الطلاق خلافٌ، سنذكره في الدعاوى والبينات، والأظهر أن الطلاق لا يقع.
***
__________
(1) عبارة الأصل: "والبناء على ما ثبت مثله في الشريعة".
(3) في الأصل: "عصيت".
(2) في الأصل: "التعلق".(16/135)
كتاب الديات
10393- ذكر الشافعي رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هُذيل وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً، فأهله بين خِيَرتَيْن إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل" (1) فمذهبنا أن ولي الدم بالخيار بين القصاص وبين الدية، فأي الأمرين طلب كان له، من غير حاجة إلى رضا مَنْ عليه القصاص.
وقال أبو حنيفة (2) : لا يختار الدية دون رضا الجاني، ثم عندنا إذا فات محل القصاص، تعيّن المال، وحقَّت الطلبة فيه، ولأبي حنيفةَ خبط في فوات محل القصاص.
10394- ثم اختلف قول الشافعي وراء ما ذكرناه في أن موجب العمد القودُ لا غير ومستحِقه يملك إسقاطه إلى مال، أو الموجَب أحدُ الأمرين: القصاص أو المال.
فأحد القولين - أن موجَبه القود؛ لقوله عليه السلام: "العمد قود".
والثاني - أن الواجب أحدُ الأمرين، كما أن الواجب على الجاني أحدُ الأشياء الثلاثة.
فإن قلنا: الموجَب أحدُهما، فلو عفا عن القصاص مطلقاً، ثبت المال، وتعين.
ولو قال: عفوت عن القصاص والدية، سقط حقه بالكلية.
ولو قال: عفوت عن المال، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن المال سقط
__________
(1) ر. المختصر: 5/105.
حديث: "ثم أنتم يا خزاعة ... الحديث" سبق تخريجه في أول كتاب الجراح.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/169 مسألة 2281، رؤوس المسائل: 458 مسألة 323، طريقة الخلاف: 466 مسألة 187.(16/137)
بالكلية، حتى لو أراد الولي إسقاط القصاص على مال، لم يجد إليه سبيلاً، فهو بالخيار بين أن يقتص وبين أن يُسقط القصاص ولا مال له، وهذا كما أنه لو عفا أولاً عن القود، لم يتصور رجوعه إليه، وتعين حقه في المال.
والوجه الثاني - أنه لا معنى للعفو عن المال مع بقاء القود، فالذي جرى منه لغوٌ، وهو على خِيَرته، وكأنه لم يعف، والسبب فيه أنا وإن كنا نثبت المال أصلاً، فهو على قضية التبعية للقود، فيستحيل أن ينبتّ أثر المال مع بقاء القود.
والوجه الثالث - وهو اختيار شيخي أن العفو عن المال يُلحق هذا القول بقولنا: موجَب العمد القودُ المحض، وفائدة هذا أنه يملك [العفو عن] (1) القود إلى المال.
فلو رضي الجاني، واصطلحا عن القصاص على مالٍ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز المصير إلى المال مع التراضي، كما لا يجوز المصير إلى المال في حد القذف. والثاني - يجوز. وهو موافق لمذهب أبي حنيفة، ولعله الأصح، ووجهه أن القصاص في مقابلة [متقوِّم] (2) بالمال على الجملة وهو النفس، والتلف به يُتقوّم وليس كذلك [العرض] (3) في القذف، وإذا جاز بذل العوض في بدل الخلع للأجنبي، فهذا في الدم أجوز، مع ترغيب الشارع في إسقاطه.
ومما نفرعه على هذا القول أنا إذا قلنا: الواجب أحدهما، فلو قال: عفوت عن الدم والمال، فقد عفا عن حقه، ولو قال: عفوت عن الدم على أنْ لا مال لي، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يسقط كما لو عفا عنهما. والثاني - لا يسقط؛ فإن قوله على أن لا مال شرط انتفاء وليس بنفيٍ على الحقيقة، وهذا ما إليه ميل كلام الصيدلاني.
وقال العراقيون في التفريع على هذا القول: لو قال: اخترت الدية، فقد تعينت الدية، فلا رجوع إلى القصاص، وهذا [قالوه] (4) قياساً، ثم قالوا: لو [قال] (5) :
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "فنقدم".
(3) فى الأصل: "الفرض".
(4) زيادة من المحقق.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(16/138)
اخترت القصاص، فلو أراد الرجوعَ إلى الدية، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك كعكسه المقدم. والوجه الثاني - له الرجوع إلى المال؛ فإنه أدنى، ولا يبعد الرجوع من الأعلى إلى الأدنى.
وهذا الذي ذكروه يجب أن يفرع على التصريح بإسقاط المال. فإن قلنا: العفو عن المال لغو، فلا معنى [لقوله] (1) : اخترت القصاص. وإن قلنا: العفو عن المال حكم، فقوله: اخترت القصاص هل يفيده؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما.
10395- فأما إذا قلنا: موجب العمد القود المحض، فالتخير على هذا القول قائم، على معنى أن ولي الدم لو أراد المال، لم يحتج إلى رضا الجاني، ولو عفا عن القصاص على مال، ثبت المال.
ولو عفا مطلقاً، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن المال يثبت، والثاني - لا يثبت.
توجيه القولين: من قال لا يثبت، احتج بأن التفريع على أن لا واجب إلا القود، وقد أسقطه، ومن ثَم [لا] (2) يثبت المال، [فإن العفو إسقاطُ ثابت لا إيجابُ ما ليس بثابت] (3) [ومن قال: يثبت المال، قال: إن المقصود بقولهم: إن موجب] (4) العمد القود أنه الأصل، ولا يثبت المال معه. كما لا يثبت البدل مع المبدل إذا ترتب البدل على المبدل، فإذا سقط القصاص، [حان] (5) وقت البدل، فيثبت المال ثبوتَ الأبدال عند سقوط المبدلات.
10396- والذي أراه أن هذين القولين في الأصل والتفريع عليهما على ما رسمناه
__________
(1) في الأصل: "لقولنا".
(2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.
(3) زيادة مأخوذة من ألفاظ الرافعي والنووي، ولا يستقيم الكلام إلا بها (ر. الشرح الكبير: 10/294، والروضة: 9/241) .
(1) هذا هو الأصح عند الرافعي، وهو المذهب عند النووي (السابق نفسه) .
(4) زيادة من المحقق سدّاً لهذا الخرم في الكلام.
(5) في الأصل: "جاز".(16/139)
تكلّفٌ، فإنا إذا [خيّرنا] (1) الولي على القولين ورجعنا إلى المال عند فوات المحلّ على القولين، فلا معنى لترديد القول أولاً في أن موجب العمد ماذا، بل الصيغة الناصّة على الغرض: أن القتل يقتضي ثبوت المال لا محالة، ولكن يقتضيه أصلاً [معارضاً (2) للقصاص أم يقتضيه على قضية من التبعية؟ وعليه يخرّج القولان من العفو المطلق، وما قدمناه من التفاصيل.
10397- ثم قال العلماء: هذا تفريع على عفوِ مُطلَقٍ.
فأما المحجور عليه إذا عفا، فإن كان مسلوب العبارة كالصبي والمجنون، فلا أثر لقوله، ولا حكم لعفوه.
وإن كان محجوراً عليه صحيح العبارة، لم يخل: إما أن يكون الحجر عليه بسبب غيرِه، وإما أن يكون الحجر عليه بسببه في نفسه، فإن كان الحجر عليه بسبب غيره، فالمحجور عليه بالعكس، فإن أراد الاقتصاص، فله ذلك، وإن أراد العفو عن القصاص، فلا شك في سقوط القصاص.
فأما المال قال (3) الأصحاب: إن قلنا: موجب العمد أحدُ الأمرين، فليس له العفو عن المال، فإن اقتصّ وإلا فمهما (4) عفا، فالمال مصروف إلى غرمائه، ولا نكلفه تعجيلَ الاقتصاص أو العفو، بل إن أراد التوقف، توقفنا.
وإن قلنا: موجب العمد القود المحض، فإن عفا على مال ثبت، وإن عفا مطلقاً، وقلنا: العفو المطلق يُثبت المالَ، ثبت المالُ. وإن قلنا: العفو المطلق لا يُثبت المالَ من الرجل المطلَق الذي لا حجر عليه، [فلا يُثبته ممّن عليه الحجر] ؛ فإن ما لا يقتضي المال من المطلق لا يقتضيه من المحجور.
__________
(1) في الأصل: "اخترنا".
(2) في الأصل: "متعارضاً". ومعنى (معارضاً) أي موازياً وموازناً، كما نقله الرافعي عن الإمام (الشرح الكبير: 10/292) .
(3) جواب (أما) بدون الفاء.
(4) فمهما: بمعنى (فإذا) .
(5) عبارة الأصل: "لا يثبته من عليه الحجر".(16/140)
ولو قال المفلس: عفوت على أن لا مال، وقلنا: مطلق العفو لا يوجب المال، فمقيّده أولى ألا يوجبه، [وإن] (1) قلنا: مطلق العفو يوجب المال، فمقيَّدُه بالنفي لا يوجب المال من المطلَق، وهل يوجبه إذا صدر من المحجور؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن المال يجب، فإنه لو أطلق العفو، لوجب، فنفيه المالَ إسقاطٌ منه [لما] (2) له حكم الوجوب. والثاني - لا يجب المال؛ فإن العفو على أن لا مال من المطلق لا يقتضي مالاً، فلو كلفنا المفلس الإطلاق حتى يُثبتَ المالَ، كان ذلك تكليفَ نوعٍ من الكسب. وعبّر الأئمة عن هذين الوجهين، بأن قالوا: إن قلنا: العفو على أن لا مال إسقاطٌ أم منعٌ للوجوب، ولا خلاف أن المفلس لا يكلّف [قبولَ] (3) الهبة.
هذا قولنا فيمن حُجر عليه بسبب غيره.
10398- والمريضُ [في] (4) الزائد على الثلث في تفريع ذلك [كالمفلس] (5) .
والورثة إذا عفَوْا عن قصاصٍ لهم استيفاؤه، والتركة مستغرَقة بالديون - ينزلون منزلة المفلس.
10399- فأما المبذر، فالحجر عليه بسبب النظر له في نفسه، والقول الجامع فيه أن الأئمة اختلفوا، فذهب بعضهم إلى أنه كالمفلس في الترتيب المقدّم، وذهب آخرون إلى القطع بأنه يَثْبتُ المال، [مهما] (6) عفا عن القصاص على الأقوال كلها، وهذا هو الذي قطع به الصيدلاني، ولا وجه غيرُه؛ فإن الأئمة قالوا: لو وُهب له شيء أو أوصي له بشيء فَرَدَّ، لم يصح ردّه، وللولي أن يقبل الهبةَ والوصيةَ للمبذر.
__________
(1) في الأصل: "فإن".
(2) في الأصل: "مما".
(3) في الأصل: "قول".
(4) في الأصل: "على".
(5) في الأصل: "بالمفلس".
(6) في الأصل: "فمهما" (وهي بمعنى إذا) .(16/141)
وفي القلب من هذا أدنى احتمال.
وإذا صرح من يملك الطلاقَ وتصلح عبارته للعقود بردّ وصيةٍ أو هبة، فالذي نقله الأئمة ما ذكرناه.
10400- فرع: إذا قال المُطْلَق الّذي لا حجر عليه لمن عليه القصاص: عفوت عنك. فإن قلنا: موجب العمد القود المحض، فيسقط القصاص في هذه الصورة بلا خلاف، وينزل قوله هذا منزلة ما لو عفا عن القصاص مطلقاً، وفيه القولان المقدمان في ثبوت المال: فإن قلنا: موجَب العمد أحدُهما لا بعينه، فإذا قال: عفوت عنك. ولم يتعرض لشيءٍ، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أنه يسقط القصاص ولا يُرجَع إلى تفسيره، حتى لو قال: أردت بذلك العفوَ عن الدية، فلا يُقبل ذلك منه في استيفاء القصاص، بل نحكم بسقوطه.
والوجه الثاني - أنه يُرجع إلى [نيته] (1) ، وهذا هو الذي قطع به الشيخ أبو علي، ووجهه بيّن؛ فإن الموجب مترددٌ، والعفو مُطلَق، فإن قال: أردت بذلك العفوَ عن الدية، قُبل ذلك منه، وعاد التفريع إلى العفو عن الدية، وقد مضى.
فإن قلنا: يُرجع إلى نيته، فلو قال: لم تكن لي نية، فقد حكى الشيخ وجهين في [هذه] (2) الصورة، وأشار إليهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يصرف العفو المطلق إلى القود؛ فإنه المتعرض للسقوط بأقرب الأمور. والثاني - أنه يقال له: إن كنت لم تنو شيئاً، فاصرف الآن نيتك إلى [ما شئت منهما] (3) ويلزمك ذلك.
وهذا إذا قلنا العفو عن الدية لا يلغو. فإن قلنا: العفوُ عن الدية لاغٍ على هذا القول، ثم سوغنا له أن يصرف إلى ما شاء، فإذا صرفه إلى جهة الإلغاء، لم يكن للفظه حكم، فالأمر إذاً إليه.
__________
(1) في الأصل: "إلى ثلثه".
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) في الأصل: "إلى الأخرى بسبب" وهو تصحيف مُبعد. والمثبت من ألفاظ الرافعي والنووي.(16/142)
فصل
"ولم يختلفوا أن العقل موروث ... إلى آخره" (1) .
10401- الدية مال من التركة مقسوم على فرائض الله تعالى، وكان عمر رضي الله عنه متوقفاً في توريث أحد الزوجين من دية صاحبه، حتى روي له: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث امرأة أَشْيَم (2) الضِّبابي من دية زوجها" (3) .
وأما القود، فهو بَيْن الورثة لا يختص به الأقارب والعصبات، ويشارك في استحقاقه الزوج والزوجة، ويثبت للصغير والكبير.
10402- ثم مذهب الشافعي أنه إذا كان في الورثة صغير يُنْتظر بلوغُه، [ولم يجد للبالغين سبباً للاستبداد بالقصاص، والخلاف] (4) فيه مشهور مع أبي حنيفة (5) ، ولا اتجاه لمذهبه مع الاعتراف بثبوت القصاص للطفل، ولا بد منه، فإن البالغين في صورة الخلاف لا يلون الطفل، فاستيفاء [الحق] (6) من غير ولايةٍ محال، فالاستبداد بالحق مع مشاركته لا وجه له، ومن أصلنا أن القصاص لا يدخل تحت تصرف الولاة، فلو ثبت القصاص للطفل، لم يكن لوليه أن يستوفيه له، ولم يكن له العفوُ والرجوعُ إلى المال.
وفي المجنون الذي يبعد أن يُفيق كلام سيأتي بعد ذلك. فإذاً القصاص في الخروج
__________
(1) ر. المختصر: 5/155.
(2) أشْيم وزان أحمد. الضبابي بكسر الموحدة بعدها باء.
(3) حديث توريث زوجة أشْيم الضبابي من ديته رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (الأم: 6/88، 89. أبو داود: الفرائض، باب في المرأة ترث من دية زوجها، ح 2927. الترمذي: الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، ح 2110. ابن ماجه: الديات، باب الميراث من الدية، ح 2642. الدارقطني: 4/77، البيهقي: 8/134) .
(4) في الأصل: "ولم يجد للبالغين الاستبداد مسبباً بالقصاص فالخلاف".
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/130 مسألة 2248، رؤوس المسائل: 462 مسألة 327، طريقة الخلاف 486 مسألة 194، المبسوط: 26/174.
(6) في الأصل: "الجواد".(16/143)
عن تصرف الولي كالطلاق عندنا، فإذا ثبت حق القصاص لطفلٍ أو مجنون: أما المجنون، فلا يمكّن من استيفاء القصاص، وكذلك الطفل، فلو وثب الطفل أو المجنون على الجاني واقتص، هل يقع ذلك قصاصاًً؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقع قصاصاً؛ فإنه وإن مُنع من الاقتصاص، فهو المستحق للقصاص دون غيره، وأقرب المحامل لفعله أن يُصرف إلى جهة استحقاقه، ولا سبيل إلى إحباطه.
والوجه الثاني - أنه لا يقع قصاصاًً؛ فإنه ليس من أهل استيفاء الحقوق، وقد مضى تفصيل القول في قبض الصبيان الحقوق المالية، وقبضِهم المبيع وإتلافِهم إياه في كتاب البيع. فإن قلنا: ما استوفاه يقع قصاصاًً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يقع قصاصاًً، فلا [يُهدر] (1) بل يجب بدلُ ما استوفاه مالاً، إما متعلقاً بماله، إن جعلنا له عمداً أو بعاقلته (2) ، وقد فات محلّ القصاص بالقطع أو القتل، فعلى الجاني الأرشُ، أو الديةُ إن كان الكلام مفروضاً في [النفس] (3) وقد [تثبت] (4) أقوال التقاصّ إذا علقنا الضمان بمال الصبي والمجنون.
قال العراقيون: هذا إذا لم يكن ما جرى باختيار الجاني الذي عليه القصاص، فلو أخرج الجاني يده ومكن المجنون أو الصبي من قطعها، قالوا: فلا يقع قصاصاًً قولاً واحداً؛ فإن التفريط من الذي أخرج يده، ثم قالوا: فإذا لم يقع قصاصاًً، فيكون هدراً من فعل المجنون غيرَ مضمون، وعلى الجاني المالُ إذا فات محل القصاص بما جرى (5) . هكذا رتبوه، ولم أر ذلك في طرقنا، وظاهر ذلك ما ذكروه.
فإذا ثبت أن حق القصاص إذا ثبت لصغير وكبير، لم ينفرد الكبير بالاستيفاء ويتعين انتظارُ بلوغ الصبي.
__________
(1) في الأصل: "فلا يهزم".
(2) أي إن جعلناه خطأ.
(3) في الأصل: "في التقصير".
(4) في الأصل: "ثبت".
(5) أي أنه جنى بقطع اليد مثلاً ثم عرض يده للصبي أو المجنون فقطع يده، فلا يكون ذلك قصاصاًً، بل هدراً غير مضمون، ثم على الجاني المال لفوت محلّ القصاص.(16/144)
فهذا قولنا فيه إذا كان منهم مجنون، وإن كان قد لا يظن إفاقته، فلسنا نحرص على استيفاء القصاص، وليس لولي المجنون أن يستوفي القصاص له، وإنما التردد في أنه هل يأخذ المال أم لا؟ [سرُّ ذاك] (1) سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
10403- ثم إذا توقفنا في الاقتصاص، لم نترك من عليه القصاص مطلَقاً [بل] (2) نحبسه، ولا يُنظر إلى طول أمد الحبس؛ فإن الحبس بالإضافة إلى القتل غيرُ معتد به، وإن تبرم المحبوس به، قلنا: [ليكن] (3) في مقابلة [مَهَلِ] (4) الحق، [فالحبس] (5) لا يكون عقوبة مع هذا التقدير، ولا سبيل إلى غيره.
وإذا كان في الورثة غائب، انتظرناه وحبسنا الجاني في الانتظار إلى حضوره.
ولا ينتظم في المال مثلُ هذا؛ فإنه إذا ثبت حق المال لغائب وحاضر، فالحاضر يستمكن من استيفاء حقه، ولا حبس، وفي مسألتنا حق الحاضر [غير] (6) ممتنع، وإن يثبت لغائب حق، فقد يتصور أن يُستأدَى ويحفظ له إن اقتضى الحال ذلك، كما سيأتي في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل، فإذاً لا وجه إلا الحبس في القصاص.
[فصل] (7)
قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ... إلى آخره".
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة بالغة، وهي صحيحة إن شاء الله.
(2) زيادة من المحقق لاستقامة العبارة.
(3) في الأصل: "لكن".
(4) في الأصل: "فهل".
(5) في الأصل: "بالحبس".
(6) زيادة من المحقق.
(7) مكان بياض بالأصل. وهنا عاد الإمام إلى أحكام القصاص بعد أن ترجم لكتاب الديات، وهذا من أثر الالتزام بترتيب السواد.
(8) ر. المختصر: 5/107.(16/145)
10404- قيل: الإسراف أن يقتل غير القاتل، [وقيل] (1) : هو أن يفعل بالجاني ما لم يَفْعل من المَثُلة (2) .
ومقصود الفصل الكلامُ فيمن يستحق ويستوفي القصاص.
ليس لمستحق القصاص أن يستبد باستيفائه، بل يتعين عليه رفع الأمر إلى مجلس الوالي؛ فإن الاستقلال بأمور الدماء لا يتسلط آحاد الرعايا [عليه] (3) ، ولو استبدّ، وقعَ القصاصُ موقعَه، ولكنه يتعرض للتعزير لإقدامه على ما حُرّم عليه الاستبداد فيه بالنفس (4) ، فإذا ارتفعت القصة إلى مجلس الوالي، وكان في أولياء الدم من يتأتى منه تعاطي الاقتصاص، فإذا استدعاه، وجب إسعافه، مع تقديم الاحتياط، كما سنصفه.
هذا في القصاص في النفس.
فأما القصاص في الطرف، فقد اختلف أصحابنا فيه: منهم من أوجب تفويضه إلى مستحقه إذا استدعاه، قياساً على القصاص في النفس.
ومنهم من لم يجوّز ذلك؛ فإن مستحق القصاص متهم بمجاوزة الحد في كيفياتٍ خفيّة، كترديد الحديدة، ونحوه، والمستحَق الطرفُ لا غير، [فأما] (5) القصاص في النفس، [فالمحذور] (6) فيه [المَثُلَة] (7) ، [وترديد الحديدة يترتب] (8) عليها زهوق النفس، وهو مستحق (9) .
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) المثلة: بفتح الميم وضمها.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) كذا. ولها وجه، مع قلق في العبارة.
(5) في الأصل: "فإن".
(6) في الأصل: "المحدود".
(7) في الأصل: "مثلة".
(8) زيادة اقتضاها السياق، نرجو أن تؤدي المعنى، وإن كنا نراها لا تبلغ مبلغ عبارات المؤلف.
(9) والمعنى أن هناك فرقاً بين الطرف والنفس، فلا يخشى في القصاص في النفس ترديد الحديدة كما يخشى في القصاص في الطرف، فإن أثر المخوف في هذا مطلوب في ذاك.(16/146)
10405- والنسوة ليس من أهل التعاطي وكذلك الضعيف من الرجال الذي نعلم أنه لا يستقلُّ بالأمر.
وإذا كان في الأولياء جماعة يتأتى منهم الاقتصاص؛ فإن سلّموا لواحدٍ أن يتعاطى، فذاك، وإن تنازعوا أُقرع بينهم.
والضعيف الذي لا يستقلّ لا بد وأن يراجَع، فلا يسوّغ القتل دون إذنه ورضاه.
ولكن هل يدخل في القرعة حتى إذا خرجت القرعة عليه، استناب من شاء من الأولياء أو من الأجانب؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يدخل؛ فإنه لا فائدة به إذا كان لا يتعاطى، ولئن كان في التعاطي حظ بيّن في شفاء الغليل، فلا غرض في الاستنابة، وما ذكرناه يطّرد في المرأة.
10406- ثم إذا تعين تعاطي واحد، فلا بد وأن يحتاط الوالي، فينظر في الآلة.
قال الشافعي: ينبغي أن يقع الاقتصاص بأحدّ سيفٍ وأحدِّ ضربة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الإحسان في كل شيء، حتى في القتل، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحَ، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" (1) .
ومما يتفقده أن لا تكون الحديدة مسمومة إذا كان القصاص في الطرف.
وإن كان القصاص في النفس، فمن أصحابنا من قال: لا بأس باستعمال المسموم [لأنه ليس فيه زيادة عقوبة.
ومن أصحابنا من قال: لا يقتص باستعمال المسموم] (2) محافظةً على حفظ
__________
(1) حديث "إن الله كتب الإحسان في كل شيء ... الحديث" رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد من حديث شداد بن أوس (مسلم: الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، ح 1955، أبو داود: الأضاحي، باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة، ح 2815، النسائي: الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة وباب ذكر المنفلتة التي لا يقدر عليها أحد وباب حسن الذبح، ح 4405، 4411-4414. ابن ماجه: الذبائح باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ح 3170. المسند: 4/123، 125. تلخيص الحبير: 4/37، ح 1881) .
(2) ما بين المعقفين زيادة لا يمكن أن يستقيم المعنى بدونها، وهي من المحقق ناظراً إلى ألفاظ الرافعي رضي الله عنه (ر. الشرح الكبير: 10/267) .(16/147)
الجثة؛ فإن السم إذا نفذ قد يتسرع البلى إلى الجثة، وجسد الميت محترم على الوجوب، ولعل الأصحَّ الأولُ.
ولو سلمنا السيف إلى ولي القصاص، فضرب غير الموضع المقصود فإن كان يضرب الرقبة فيما زعم، فلم يصبها السيف، نُظر: فإن بان تعمده بضرب الرِّجْل أو غيرها، والسيف لا يتعدى الرقبة إلى الرجل، فإنا نعزّر الوليّ بما يراه الوالي.
ثم قال الشيخ أبو بكر (1) : لا يصرفه عن ذلك، ولكن يعزّره ويهدده بمزيد التشديد عليه لو عاد إلى مثل ما بدر منه.
وقال بعض أصحابنا: يأخذ السيفَ منه؛ فإنا لا نأمن أن يفعل ثانياً مثلَ ما فعل أولاً، والأوجه ما ذكره الصيدلاني؛ فإن حقه في التعاطي ينبغي ألا يبطل بعدُ، وإن صدر منه [ما صدر] (2) ، كما لو جرحَ الجاني قبل الارتفاع إلى مجلس الوالي، فيبعد أن لا يسلم السيف إليه لما تقدم منه من الجرح والمَثُلة.
ولو ظهر لنا أنه أخطأ في الضرب، ولم يتعمد، وقد يبينُ ذلك بأن يتعدى السيف من الرقبة إلى الكتف، أو إلى القَمَحْدُوة (3) ، فإذا أخطأ، لم يعزر، ولكن قال الشيخ أبو بكر: يُعْزل ويؤخذُ السيف منه، ويقال له: استنب، وليس [كالعامد] (4) والفرق أن العامد لم يبن لنا خُرقه في الأمر، ولكنه اعتدى، فنهيناه، ونحن له -إن أعاد- بالمرصاد. وأما المخطىء، فتبين أنه ليس يحسن الأمر، ولا ينفع زجره.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن المخطىء لا يعزل، بل يعزّر، وهؤلاء هم الذين قالوا: العامد يعزل.
10407- ولا بد في تمام الفصل من استدراكات في مواضعَ: أقربُها أن ما ذكره الشيخ أبو بكر في الخطأ من العزل يجب أن يكون فيمن لم نعرفه ماهراً بضرب الرقاب، والماهر قد يخطىء ولا يضرب، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف. ومن قال: المخطىء
__________
(1) أبو بكر: أي الصيدلاني، كما سيصرح به بعد أسطر.
(2) زيادة من المحقق.
(3) القَمَحْدُوة: عظمة بارزة في مؤخر الرأس فوق القفا، الجمع قماحد. (المعجم) .
(4) في الأصل: "كالعاقد".(16/148)
لا يُعزل؛ فإنما يقول ذلك إذا لم يبن خُرْقُه، فإن ظهر ذلك، فلا بد من صرفه.
وما ذكره الشيخ من أن العامد لا يُصرف، فما أراه يقول ذلك إذا تكرر ذلك منه، وإنما هو في المرة [الأولى] (1) .
ومما نستدركه أن السيف إذا كان مسموماً بحيث تتقطع الجثة به، [فيعسر الغسل] (2) والدفن على [هيئة الاحترام] (3) ، فلا يجوز استعمال مثل هذا السيف في القتل، فإن كان الأمر كذلك، فلا خلاف، وإنما الخلاف إذا لم يظهر ذلك، وكنا نحاذر تسرع البلى بعد الدفن، ويخرج من ذلك أن البحث لا بد منه، ثم المذهب يتفصّل كما ذكرناه.
فصل
قال: "ولو أذن لرجل فتنحّى به، فعفا الولي ... إلى آخره" (4) .
10408- قد ذكرنا في كتاب الوكالة اختلافَ قول الشافعي في التوكيل باستيفاء القصاص في غيبة الموكِّل، والقول في هذا الفصل غيرُ مفتقر إليه؛ فإنه مفروض في الاستنابة بحضرة المستنيب، وهذا جائز لا خلاف فيه، إذا استناب مستحقُّ القصاصِ من يستوفيه له، فيتنحى المستناب بمن عليه القصاص ليقتله، وكان بمرأى ومسمع من المستنيب، فلو عفا مستحقُّ القصاص، وقتل المستناب، نُظر: فإن وقع العفو بعد وقوع القتل، [فهو] (5) لغو.
وإن أشكل الأمر، فلم يُدْر أوقع العفو قبل القتل أو بعده؟ فالأصل أن لا عفو، والقتل واقع قصاصاً، اتفقت الطرق عليه.
وإن تحققنا تقدم العفو واستئخار القتل، ولكن وقع القتل على جهل من القاتل
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) مكان كلمتين غير مقروءتين.
(3) في الأصل: "هبة الاحرام".
(4) ر. المختصر: 5/108.
(5) في الأصل: "وهو".(16/149)
بجريان العفو، فلا قصاص على القاتل، إجماعاً، وليس كما لو قتل رجل رجلاً في دار الإسلام عمداً، ثم راجعناه، فزعم أنه حسبه مرتداً أو حربياً، ففي وجوب القصاص قولان، وستأتي هذه المسألة ونظائرها.
وغرضنا [الفرق] (1) الآن، فالمستناب إذا قتل، كان معذوراً، وكان عذره ظاهراً، والذي يدّعي الردة [يستند] (2) في قتله إلى أمر [بعيد] (3) ؛ فإن المرتد لا يترك مُسيَّباً، والحربي يبعد اجتراؤه على دخول دار الإسلام من غير ذمام.
وإذا ثبت ما ذكرناه، فقد يُدعى على المستناب أنه قتل عالماً بالعفو، قالقول قوله مع يمينه في نفي العلم.
10409- فإذا وضح انتفاء القصاص، ففي وجوب الدية على هذا القاتل قولان.
واختلف أصحابنا في مأخذهما: فمنهم من قال: هما مأخوذان من اختلاف قول الشافعي في أن الوكيل إذا عزله الموكل ولم يبلغه الخبر، فهل نحكم بانعزاله؟ وقد مضى القولان في الوكالة، قال هؤلاء: إن حكمنا بأن الوكيل لا ينعزل، فقتْلُ المستناب واقعٌ بحقٍّ، فلا دية، وإن حكمنا بأنه ينعزل، فالقتل غير واقع بحق، فتجب الدية.
وهذا مسلك باطل، وقد أورده الصيدلاني، وبنى المسألة عليه، ووجه بطلانه أنا وإن حكمنا بأن الوكيل لا ينعزل، فتصرف ذي الحق نافذ في حقه، فإذا نفذ وتضمّن نفوذه عزلاً للوكيل، انعزل قطعاً.
ولو وكل الرجل رجلاً ببيع عبده، ثم إن الموكل أعتقه، ثم باعه الوكيل، فالبيع مردود؛ فإن العتق لا بد من تنفيذه، وفي تنفيذه رد [بيع] (4) الوكيل، والعفو في مسألتنا من مستحِق القصاص مشبّه بالعتق في الصورة التي ذكرناها، فلا وجه لرد
__________
(1) في الأصل: "العرو" (بهذا الرسم تماماًً) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "يعمد".
(4) في الأصل: "مع".(16/150)
العفو، وإذا سقط القصاص، فلا معنى لبقاء الاستنابة مع سقوط أصل الحق، فقد ظهر فساد أصل هذا المأخذ.
ومن أصحابنا من قال: القصاص ساقط بالعفو لا محالة، والوكالة زائلة، والقولان في وجوب الدية مأخوذان من أصلٍ آخر، وهو أن من قتل إنساناً عمداً في دار الحرب، وجرد القصد إليه وألفاه في صف المشركين، ثم تبين أنه كان مسلماً [مأسوراً] (1) ، فلا شك في انتفاء القصاص، وفي وجوب الدية قولان؛ من جهة ظهور العذر في الإقدام على القتل، فالمستناب إذا قتل بهذه المثابة؛ من جهة أنه بنى أمره على قصاصٍ [ثابت] (2) واستنابةٍ صحيحة، وهذه الطريقة [مثل] (3) قليلاً، وإن كان يتضح الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأسير؛ فإن القاتل لا يبعد نسبتُه إلى التقصير وترك التحفظ، من جهة اقتداره على أن يقتل والمستحِق واقف عليه، ولا يستمكن الغازي من العلم بالمصطفّين في صف الكفار، وهو مأمور بقصدهم بأسباب المنايا.
10410- ثم إن قلنا: تجب الدية على المستناب، فلا شك في وجوب الكفارة، وإن قلنا: لا تجب الدية، فظاهر نص الشافعي أن الكفارة لا تجب.
ومن أصحابنا من قضى بوجوبها، وهو مذهب المزني، ولا وجه في انتفاء الكفارة إلا المصير إلى تقدير بقاء القصاص ووقوع القتل حقاً؛ فإن (4) الكفارة تثبت على من قتل أسيراً بسهم غَرْب (5) على العاقلة (6) .
__________
(1) في الأصل: "مأموراً".
(2) في الأصل: "راتب".
(3) في الأصل: "أميل".
(4) في مقام التعليل لوجوب الكفارة على المستناب، حتى ولو لم تجب الدية، والمعنى: أن الكفارة إذا كانت تجب على من قتل أسيراً مسلماً في صفوف الكفار، بسهم لا يدري أنه يقع على مسلم فمن باب أولى تجب على المستناب الذي قتل بعد العفو جاهلاً بالعفو.
(5) سهم غرب: لا يُدرَى من رمَى به (المعجم) والمعنى هنا أنه رمى بسهم على كافرٍ لا يدرى كونه أسيراً مسلماً.
(6) متعلق بقوله: "من أصحابنا من قضى بوجوبها" أي الكفارة على المستناب الذي يقتل جاهلاً بعفو مستحق القصاص.(16/151)
ومن أصحابنا من قال: إنه يرجع بها (1) ، [بالمعنى] (2) الذي يرجع بالدية إذا غرمها. [والغائلة] (3) العظمى في المسألة أن الأصحاب قالوا: إن حكمنا بأن الضمان يجب على القاتل المستناب، فللعافي دية قتيله من تركة من قتله المستناب، وهذا لائح.
وإن قلنا: لا غرم على المستناب، فلا حق للعافي في تركة القتيل، فإنا لو أثبتنا الدية في تركته، وأهدرنا ديته، كان ذلك بعيداً.
وهذا ليس بشيء والوجه أن نقول: إن حكمنا بوقوع القتل قصاصاًً -وهو بعيد عن القياس- فلا شك أنه لا يثبت في تركته ضمان، فإن أخذنا المسألة من نفوذ العفو، وتمهيد عُذر المستناب وتنزيل ما جرى منه منزلة قتل الأسير في دار الحرب، فالوجه القطع على هذه الطريقة [بأن] (4) العافي يستحق الدية في تركة القتيل المقتول بعد العفو عنه، ثم يقع قتله هدراً من جهة وقوعه والقاتلُ معذور، كما ذكرناه في الأسير، حتى كأنه مات حتف أنفه، ولا نظر إذا لاح مسلك القياس إلى الاستعارات التي لا حاصل لها.
فإن قيل: إذا أوجبتم الدية في مال المستناب، فهي حالّة أم مؤجلة؟ قلنا: اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هي حالة، فإنها مقتطعة عن قياس دية الخطأ وشبه العمد، وكذلك لم تضرب على العاقلة، ومنهم من قال: هي مؤجلة؛ فإن الدية إنما تتعجل إذا وجبت بسبب عدوان هو عمد محض، ولا ينسب المستناب إلى العمد المحض على وجه العدوان، وسنبين هذه القواعد في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) بها: أي الكفارة.
(2) في الأصل: "فالمعنى".
(3 في الأصل: "والعاقلة".
(4) في الأصل: "فإن".(16/152)
فصل
قال: "ولا تقتل الحامل حتى تضع ... إلى آخره" (1) .
10411- المرأة إذا استوجبت القصاص وكانت حاملاً، لم يُستوفَ القصاصُ منها حتى تضع حملها، ولا فرق بين أن يكون القصاص في النفس أو في الطرف؛ فإنه إذا كان في النفس، ففي قتلها قتلُ الجنين، وإن كان في الطرف، فلو قطعت لأَجْهَضَتْ جنينَها، ولئن كان إليها سبيل، فلا سبيل لنا إلى جنينها.
[وإذا] (2) وضعت فقد تولّع الفقهاء بذكر اللِّبَأ، واعتقدوا أن الولد لا يعيش دونه، وهو أوائل [اللبن] (3) بعد انفصال المولود، وحظُّ الفقه من ذلك أنه إن تحقق أن الولد لا يعيش دونه، [لم] (4) نقتل الأمَّ حتى تُرضع ولدها اللِّبَأ، ثم إن وجدنا ذات لبن غيرها، قتلناها قصاصاً، ولم نمهلها مدة الإرضاع، اتفق أصحابنا عليه؛ فإن الذي يفوت الولدَ منها مزيدُ إشفاق وحدب، ولا يقع هذا موقعاً في مقابلة حقّ الآدمي يؤخّر.
هذا قولنا فيه إذا استوجبت القصاص، فأما إذا استوجبت الرجم، وهي حامل، لم نقتلها أو تضع، ولا نقتلها حتى ترضع ولدها، وإن وجدنا مرضعة سواها، ثم إذا انقضت مدة الإرضاع، فلا نقتلها أيضاًً حتى تكفل ولدها؛ فإن الولد لا يستقلّ بعد الفطام إلا بكافل، وحديث [الغامديّة] (5) نصٌّ في الترتيب الذي سقناه.
والفارق في وضع الشرع بين القصاص وبين الحدّ ما تحقق من ابتناء حقوق الله المحضة على المساهلة، ولذلك يُقبل الرجوع عن الإقرار فيها، ولا سبيل إلى تقدير ذلك في القصاص وحقوقِ الآميين، وكأنا قدمنا حقَّ إشفاق الأم في الإرضاع على استيفاء حد الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 5/109.
(2) في الأصل: "إذا" (بدون واو) .
(3) في الأصل: "الولد" وهو سبق قلم من الناسخ.
(4) في الأصل: "ولم".
(5) في الأصل: "العامرية".(16/153)
10412- وإذا تمهد ما ذكرناه، ابتنى عليه أمور: أولها فيه إذا نُهينا عن قَتْلها، فقُتلت وأَجْهَضَتْ جنينها، والقصة مرفوعة إلى مجلس السلطان، والنصوص وطرق [الأصحاب] (1) مضطربة جدّاً، ونحن نأتي بجميعها ونختار أميلَها إلى القياس، ونذكر ما يميل إلى موافقة النص، ونفرض الكلام فيه إذا فوّض الوالي قتلها إلى [ولي الدم] (2) ، والكلام في ذلك يتشعب وينقسم، فإن كان الإمام عالماً بالحمل عِلْم مثله (3) وكان [الولي] (4) عالماً أيضاً، فقتل الوليُّ بإذن الإمام، فقد أساءا وظاهر النص الذي نقله المزني أن الضمان يتعلق بالإمام؛ إذ إليه الأمر، وكل فاعل في مجلسه بإذنه في حكم الآلة له، وكذلك اتفق العلماء في أنه لا يتعلق بجلاد الإمام ضمان وإن كان مختاراً فيما تولاه من القتل، ولو أعرض وولَّى لم نتعرض له، وسيكون لنا إلى حكم الجلاد استتمام في آخر الفصل.
قال معظم أصحابنا: الضمان يتعلق بالولي؛ فإنه المباشر، ولم يكن محمولاً على مباشرته، بل كان مندوباً إلى العفو والصفح، ولا أثر لإذن الإمام مع قوة مباشرة الولي في حالةٍ نهيناه فيها عن القتل.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً أن الضمان ينشطر بين الوالي والولي؛ لتعلق كل واحد منهما بأمر معتبر. وهذا غريب لم أره لغيره.
التفريع: إن علّقنا الضمان بالإمام، فلا نضربه على بيت المال؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا علم الحملَ علماً يليق به. نعم، الضمان على عاقلته الخاصة، والكفارة تجب في خاصّ ماله. وإن علّقنا الضمان بالولي، ضربناه على عاقلته، فإن
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "ولي الله".
(3) علم مثله: يعني غلبة الظن أو الظن المؤكد، بهذا فسّر الرافعي عبارة الإمام، حيث قال: واعلم أنه ليس المراد فيما أطلقنا من العلم بالحمل وعدم العلم حقيقة العلم، وإنما المراد الظن المؤكد لظهور مخايله، وعبر عنه الإمام بأن قال: إن كان عالماً بالحمل عِلْم مثله. (ر. الشرح الكبير: 10/275) .
(4) في الأصل: "الوالي".(16/154)
العمد لا يتحقق في إهلاك الأجنة، ولا يخفى حكمُ التشطير على ما بيّنا حكمَ الكل في الوجهين.
10413- هذا إذا كانا عالمين، فلو كان الوالي عالماً والولي جاهلاً؛ فإن علّقنا الضمان بالوالي إذا كانا عالمين، فلأن نُعلّق الضمان في هذه الصورة أولى. وإن علقنا الضمان بالولي في الصورة الأولى لقوة مباشرته، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن الضمان يتعلق بالولي؛ فإنه المباشر المختار، وهذا الخلاف حيث انتهى التفريع [إليه] (1) يقرب من الخلاف في تقديم الغاصب الطعامَ المغصوبَ إلى ضيف جاهلٍ بالغصب، ففي قرار الضمان خلافٌ مضى في كتاب الغصوب.
ولو كان الولي عالماً والوالي جاهلاً، فإن قلنا: لو كانا عالمين، فالضمان يتعلق بالإمام مع قوة المباشرة من الولي، فإذا كان الإمام جاهلاً، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أن الضمان لا يتعلق بالوالي؛ فإنه اجتمع عدم مباشرته وجهله، وعارضها علمُ الولي وقوة مباشرته.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن الضمان يتعلق بالإمام، كما يتعلق به إذا كان عالماً، وهذا غريب لم أره لغيره.
فإن قلنا: الضمان [يتعلق] (2) بالإمام، فهو الآن على عاقلته الخاصّة أم على بيت المال؛ فعلى قولين سيأتي ذكرهما بعد هذا.
فإن قلنا: الضمان على عاقلته [فالكفارة] (3) تجب في ماله، وإن قلنا: الضمان في بيت المال، ففي الكفارة وجهان: أحدهما - أنها في خاصّ ماله؛ [فإنها] (4) قربة لا يتطرق إليها التحمل. والثاني - أنها في بيت المال؛ فإن المعنى الذي أوجب الغرامات المتعلّقة بنظره في بيت المال، ذلك المعنى يوجب طردَ ذلك في الكفارة، فإن الوقائع تكثر على الأئمة، ثم الكفارات تُجحف بهم إجحافَ الأروش والديات.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "لا يتعلق".
(3) في الأصل: "والكفارة".
(4) في الأصل: "فإنه".(16/155)
ولو كانا جاهلين، ففي المسألة الأوجه الثلاثة المذكورة فيه إذا كانا عالمين.
وكان شيخي يقول: الإمام في هذه الصورة أولى بأن يكون متعلَّقَ الضمان؛ لأن النظر له، وهو المنتسب إلى التقصير.
فهذا استيعاب الأقسام.
وما قدمناه قبلُ من أن يَظُن [نعني به] (1) الظنَّ الذي يسمى علماً في الإطلاق، فإن ظن، ولم يستيقن، [كان] (2) كما إذا علم الحمل في الصورة التي ذكرتها.
10414-[وفي] (3) تعلق الضمان بالجلاد خلاف مرتب على ما ذكرناه [في] (4) الولي العالم بمخايل الحمل، والجلاد أولى بالا يضمن؛ فإنه لم يستوف لنفسه، وإنما امتثل أمرَ السلطان، [والولي] (5) استوفى حقَّ نفسه.
هذا إذا ظن الجلاد ظنّاً يسمى علماً، ولم يستيقن، فأما إذا استيقن خطأَ الإمام أو تَعمُّدَ ظُلمه، فقتل، وكان قادراً على ألا يقتل، فالذي نراه القطعُ [بتقرير] (6) الضمان.
وإن كان المحل محلَّ القصاص، استوجبَ القصاصَ؛ فإنه مباشر مختار على [استيثاقٍ] (7) من الحال.
وقد ذكر بعض أصحابنا في فصل الإكراه خلافاً في أن مجرد أمر السلطان هل يكون إكراهاً، حتى إذا قُدٍّر إكراهاً نُزّل [الجلاّد] (8) منزلة المكرَه. هذا لست أراه جارياً مع اختيار الجلاد [وعلمه] (9) بأنه لو أعرض أمكنه الإعراض، وإنما خلاف الأصحاب في
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) سقطت من الأصل، وزادها المحقق.
(3) في الأصل: "ففي".
(4) في الأصل: "على".
(5) في الأصل: "فالولي".
(6) في الأصل: "بتقديره".
(7) في الأصل: "استيثار".
(8) في الأصل: "الخلاف".
(9) في الأصل: "وعلقه".(16/156)
أمره المطلق، وكان المأمور لا يأمن سطوتَه وغائلته وبطشَه به لو لم يمتثل.
فأما إذا لم يعلم الجلاد خطأ الإمام، [ولم] (1) يظنه، وجرى على ظاهر الامتثال، فلا يتعلق الضمان بالجلاد، وإن كان مختاراً، وعند ذلك يظهر قول الأصحاب: إن الجلاد آلةُ الإمام، ونصوا على أن الكفارة لا تلزمه في القتل الواقع بغير حق، مع العلم بأن الكفارة تلزم الغازي إذا أصاب سهمُه اْسيراً من المسلمين وراء الصفوف، ولم أعثر فيما ذكرته في الجلاد على خلاف الأصحاب إلى الآن.
وقد نجز هذا المقصود من الفصل.
10415- ومما نذكره أن المرأة إذا استوجبت القصاص، ووضعت حملها، ووجدنا مرضعات، ولكنهن امتنعن عن إرضاع المولود، فظاهر النص أن المرأة المستوجبةَ للقصاص مقتولةٌ، والإمام يجبر واحدةً من النساء على الإرضاع بالأجر؛ فإن قيل: [أجبرتم] (2) أجنبيةً على العمل لتوفية القصاص، ولو صبرتم حتى تُرضعَ الأم، لكان ذلك أوجه وأقرب؟ قلنا: هذا قول من لا يتعدّى نظره الظواهرَ؛ فإذا وضعت هذه حملها، وأرضعت اللِّبَأ إن كان له أصل، فإرضاع المولود من الممكنات، فتُقتل هذه قصاصاً، ثم نبتدىء نظرنا في الإرضاع بعد هذا، ونقول: طفل لو لم [يُرضَع] (3) لضاع، فنُجري حكمه على واجبه.
10416- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الحامل تحبس إلى أن تضع، فإنا لو أطلقناها، لم نأمن أن تهرب، فحبسها للمحافظة على القصاص، حتى تضع.
وإذا زنت حاملاً، واستوجبت الرجمَ، فظاهر المذهب أنها لا تحبس، والأصل فيه حديث الغامدية؛ فإنها لما اعترفت بالزنا حاملاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حتى تضعي"، ثم لما وضعت "حتى تفطمي"، ولم يحبسها في هذه المدد، وحق الله على المسامحة، ولذلك يقبل فيه الرجوع عن الإقرار، وذهب
__________
(1) في الأصل: "لم" (بدون واو) .
(2) في الأصل: "اخترتم".
(3) مكان بياض بالأصل.(16/157)
ذاهبون إلى أن من استوجب حد الله وهرب، لم يُتّبع مع إمكان اتباعه، كما سنذكره في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.
ومن أصحابنا من قال: تحبس الحامل لأجل الحد، كما تحبس للقصاص، وإطلاق هذا بعيد، والأقرب إن قيل بذلك أن الحد إن ثبت بالإقرار، فلا معنى [للحبس مع العلم بأنه] (1) مهما (2) رجع سقط الحد في ظاهر الحكم.
فإن ثبت بالبينة، فالحبس قد يتجه، والأصح ما قدمناه.
10417- ومن تمام القول في ذلك أن الرجل إذا قتل رجلاً قَتْل قصاص، وكان أولياء القتيل أغنياء، فرأى السلطان حبس القاتل، ومراجعةَ الأولياء، فله ذلك [فإنه يحبس من يسيء أدبه مؤدباً،] (3) ويحبس من يخاف غائلتَه على المسلمين، فكيف يُطلِق من يقتل [قاتلَ] (4) غيره (5) ، وليس هذا كالحبس في دَيْنِ غائبٍ دون استدعائه؛ فإن ذلك لا يتعلق بالسياسة، بخلاف ما ذكرناه.
10418-[ومن] (6) مقاصد الفصل أن الحامل كما لا تقتل حداً وقصاصاًً لا تقطع يدها، ولا يقام عليها حد بالجلد، فإن ذلك كله يُفضي إلى الإجهاض في الغالب.
وتمام الغرض أن المرأة إذا استوجبت القصاص، ثم ادعت أنها حامل أننكف عنها
__________
(1) في الأصل: "للحشر مع العلم فإنه".
(2) مهما: بمعنى إذا.
(3) عبارة الأصل: "بأنه يحبس بس أدبه فإنه" كذا تماماً. والتصويب والزيادة من المحقق.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) صورة المسألة أن الرجل إذا سبق أولياء الدم، وقتل من عليه القصاص المستَحِق القتل قصاصاً، فعليه القصاص، ولا نقول: قتل من هو مستَحِق القتل، والقصاص لورثة المقتول، لا للذين كانوا يستحقون القصاص عليه؛ لأن القصاص للتشفي ودرك الثأر، ووارثه هو الذي يحتاج إليه، ولو عفا ورثته عن القصاص إلى الدية، فهي لهم على الصحيح، وليست لمن كان له القصاص. فهؤلاء لهم الدية على ورثة ذلك القتيل لفوات محل القصاص. والكلام هنا في حبس هذا القاتل لحين مراجعة الأولياء الذين يستحقون دمه، أيقتلونه أم يعفون إلى الدية، أم عن الدية أيضاً؟
(6) في الأصل: "من" (بدون الواو) .(16/158)
بدعواها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا لا ننكف عنها ما لم تَقُم بينةٌ على ظهور مخايل الحمل بها، وهذا اختيار الإصطخري.
والوجه الثاني - أن ننكف عنها؛ لأنها أعرف بذلك من نفسها، وقد تستشعر الحمل من ذاتها، وتظهر العلامات بعد مدة، وإذا كان كذلك، فالهجوم على ما يُفضي إلى الجناية على الجنين لا وجه له، ولعل الإصطخري يقول: لا حكم للنطفة -وهي تستشعرها [مدّة] (1) - وإنما [الحمل] (2) هو الذي لا نهجم عليه، والعلم عند الله.
ثم إذا رجعنا إلى قولها، فلست أدري أن هؤلاء يصبرون إلى انقضاء أقصى مدة الحمل، أم يقولون: نحبسها إلى مدةٍ تظهر في مثلها العلامة لو كان حمل؟ وهذا هو الأشبه؛ فإن تأخير القصاص أربعَ سنين من غير ثبت -بل على خلاف الظاهر- بعيد.
ومن لا يشترط ظهور علامة الحمل لست أدري ما مذهبه فيه إذا استوجبت المرأة القصاص، ثم وطئت والوطء [عِلّة] (3) الإعلاق؟ ولو اعترف السيد بالوطء، ترتب عليه طرق (4) نسب المولود الذي تأتي به.
فهذا مسالك المنقول. ما قدمته.
فصل
"ولو قتل نفراً، قُتل بالأول ... إلى آخره" (5) .
10419- الواحد إذا قتل جماعة، وكان بحيث يستوجب القصاص بقتل كل واحد منهم، فمذهب الشافعي أنه يقتل بواحدٍ، وللأولياء الباقين الدياتُ في تركته.
ثم لا يخلو إن كان قَتَلَهم ترتيباً، قُتل بالأول، فإن عفا ولي الأول، قتل بالثاني، وإن عفا ولي الثاني، قتل بالثالث، وهكذا إلى تمام العدد. ولو لم يعف ولي القتيل
__________
(1) في الأصل: "هذه".
(2) في الأصل: "الحول".
(3) في الأصل: "على الإعلاق".
(4) كذا تماماً. وهل هي ثبوت؟ ثم ما موقع الجملة كلها؟ وهل يعني إذا كانت الجناية من أم ولد؟
(5) ر. المختصر: 5/109.(16/159)
الأول، ولم يقتص، وأخر الأمر، فلا معترض عليه، وليس لولي القتيل الثاني أن يبادره [فيقتله] (1) .
هذا إذا قتل جماعةً ترتيباً.
وأما إذا قتلهم جمعاً بسبب يجمعهم، فلا نقتله بهم، بل نقتله بواحد، والسبيل إذا تنازعوا أن نُقرع بينهم، فمن خرجت قرعته، قُدِّم، وهذا التقديم استحقاقٌ، ويحرم على من لم تخرج له القرعة مبادرتُه بالقتل، كما يحرم بسبب الترتيب على ولي الثاني أن يقتل ما لم يعف ولي القتيل الأول.
ولو قتل جماعةً معاً، فرضي أولياء القتلى بتقديم واحد، جاز؛ فإن الحق لا يعدوهم، ولو قدموه، ثم بدا لهم، رُدّوا إلى القرعة، ثم القرعة متبعة، كما تقدم.
ولو رضوا بأن يُقتل القاتل بهم، ويرجعوا إلى ما تبقّى لكل واحد من الدية عند فضّ القصاص عليهم، [واستنابوا نائباً] (2) ، فلا يجابون إلى ذلك، لم يختلف المذهب فيه (3) .
10420- وإن جرى القتل ترتيباً، وقد تمهد أن ولي القتيل الأول يتقدم، فلو ابتدر ولي الثاني وقتله، فهل يغرم لولي القتيل الأول ديةَ قتيله؟ فوجهان ذكرهما القاضي: أحدهما - يغرم، ثم هو يتبع [تركة] (4) الجاني بدية قتيل نفسه.
والثاني - لا يغرم، ويقع قتلُه عن القصاص في حقه، والأول يتبع الجاني بدية قتيله. وهذا هو المذهب، والوجه الأول مزيفٌ، لا أصل له، ثم فيه تضمين القصاص؛
__________
(1) في الأصل: "فيثبت له".
(2) في الأصل: "استنابوا" (بدون واو) والمعنى: استنابوا نائباً يستوفي القصاص نيابة عنهم، كما يفعل ذلك أولياء القتيل الواحد إذا تعددوا.
(3) نقل هذا الرافعيُّ عن الإمام بنفس ألفاظه، معتمداً عليه قائلاً به. (الشرح الكبير: 10/262) .
(4) في الأصل: "دية الجاني". ولا صواب إلا هذا - إن شاء الله.(16/160)
فإن وليّ الثاني فوّت بقتله حقَّ القصاص الثابت لولي القتيل الأول، فأحلنا عليه دية قتيله؛ [تقويماً] (1) للقصاص عليه.
ويلزم من مساق هذا أن يقال: إذا قتل الأجنبيُّ شخصاً لزمه القصاص في نفسه، يغرَم بما جرى منه ديةَ قتيلِ مستحِق القصاص.
وسر المذهب في هذا، وفي كل ما يتصل به يبين في فصلٍ بين أيدينا، وهو إذا قتل أحد الأولياء [لقتيلٍ] (2) واحد الجانيَ، فكيف سبيله؟ والمذهب الذي عليه التعويل في هذا الفصل أن من بادر وقتل الجاني من أولياء القتلى، وقع القصاص عن حقه وللباقين الديات في تركة القتيل، [فكل] (3) واحد من الأولياء مستحِقٌّ للقصاص التام، ولكن المحل لا يفي بعددٍ من القِصاص، فإن قدمنا بعض الأولياء، فذاك بحق تقديمٍ وأصل استحقاقٍ قائم في حق كافة الأولياء.
10421- ولو ازدحم الأولياء وتمالؤوا على الجاني وقتلوه، ففي وقوع القتل وجهان: أحدهما - أنه [يقع عن الأولياء] (4) مفضوضاً عليهم، ولكل واحد الرجوع إلى حصته من الدية على ما يقتضيه التقسيط والتوزيع، [ووجهُ] (5) هذا الوجه أن القتل وقع عن جميعهم، ويستحيل أن ينسب مستحِق القصاص إلى القتل، ثم لا يقع غيرُ ما انتسب إليه؛ فإن كل واحد لو قدر منفرداً بالقتل، لكان ما صدر منه واقعاً عن حقه على المذهب الذي عليه التفريع، ولا عوْد إلى غيره، فإذا انتسبوا إلى القتل، وجب صرف القتل إلى الجمهور (6) .
__________
(1) في الأصل: "تقويم".
(2) في الأصل: "بقتيل".
(3) في الأصل: "وكل".
(4) في الأصل: "لا يقع عن الأولياء، وهو خطأ صريح".
(5) في الأصل: "ووجهه".
(6) الجمهور: أي مجموع الأولياء الذين يستحقون القصاص عن قتلاهم.
ومعنى فض الفعل عليهم ورجوع كل واحد إلى قسطه من الدية، أن القتلى إذا كانوا عشرة مثلاً، فيستحق أولياء كل واحد عُشر القصاص من هذا الجاني الذي اجتمعوا عليه وقتلوه، ويبقى لكل واحد منهم تسعةُ أعشار الدية في تركة هذا الجاني.(16/161)
والوجه الثاني - أن القتل يصرف بالقرعة إلى واحد منهم؛ إذ لا سبيل إلى توزع القتل؛ فإنه مما لا ينقسم، وهذا مشهور في الحكاية، ولكن لا اتجاه له.
فهذا ما حكاه أئمة المذهب.
وحكى شيخي عن الحليمي وجهاً ثالثاً، وهو أن القتل يقع عن جميعهم، ثم يُكتفى بالقتل، فلا يرجع واحد منهم إلى الدية، واعتل بأن قال: لو قتل جماعة معتدين [واحداً] (1) ، لجعلنا كلَّ واحد منهم كالمنفرد بالقتل [في] (2) استيجاب القصاص، فنجعلهم في الاستيفاء كذلك.
وهذا لا أعتد به من المذهب، فإن قتل الجماعة بالواحد ليس هو على قياس المقابلة، وإنما سببه أمرٌ جَليّ [لا تعتريه] (3) الأقيسة الجزئية، ولو قتل جماعةٌ [جماعةً] (4) ، فاجتمع الجمع على كل واحد من المقتولين؛ فإن ترتب الأمر، قتلوا بالأول، كما يقتل الشخص الواحد، وإن جرى ذلك منهم على صورة الاجتماع من غير ترتيب، أقرع بين أولياء القتلى، فمن خرجت قرعته قتل الكلّ بقتيله؛ فإن الكل في حق كل قتيل كقاتلٍ واحد.
10422- ولو قتل جماعةً عبدٌ، فالمذهب أنه يقتل بواحد منهم على الترتيب المقدم، وديات الباقين في ذمته، وهو كالحر المعسر.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن العبد يقتل بالجميع؛ إذ لا مرجع إلى شيء بعد رقبته، وزعم هؤلاء أن هذا يخرّج على خلافٍ سيأتي ذكره في أن العبد هل له ذمة في الجنايات.
10423- وإذا قتل المحاربُ جماعةً في المحاربة، فلا شك أن قتله محتوم، ثم
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "من".
(3) في الأصل: "لا تعتر به".
والمراد بالأمر الجلي الذي لا تعتريه الأقيسة الجزئية هو أن قتل الجماعة بالواحد، للزجر، وقطع الهَرْج.
(4) زيادة من المحقق.(16/162)
فيه قولان: أحدهما - أنه يقتل بجميعهم، والثاني - أنه يقتل بالواحد قصاصاً، وللباقين الديات، وهذا يخرج على قولين استنبطهما ابن سريج في أن من قتل في الحرابة هل يتعلق حق الآدمي بقتله أم قتله متمحّض لله تعالى كالحدود؟ فإن جعلناه حدّاً محضاً، [فلا] (1) معنى لصرف قتله إلى واحد، ولا حقيقة لصرفه إلى الجميع إلا على مذهب إضافة الحد إلى الزنا، وإن لم يكن [الحدّ] (2) عوضاً عن الزنا، وإن أثبتنا للآدمي حقاً في القتل، قلنا: [يقتل] (3) المحارب بواحد وللباقين الدياتُ في تركته.
فهذا منتهى القول في ذلك.
فصل
قال: "ولو قطع يدَ رجلٍ وقتلَ آخر ... إلى آخره" (4) .
10424- نذكر في مقدمة مقصود الفصل تفصيلَ القول في سراية القصاص، فنقول: من قطع طرفاً قَطْع قصاصٍ، واستوجب القصاصَ في طرفه، فإذا اقتصصنا من الجاني، فسرى القصاصُ إلى نفسه وهلك [منه] (5) ، واندمل الجرح الواقع بالمجنيّ عليه أولاً، فسراية القصاص مهدرة لا يقابلها ضمان، خلافاً لأبي حنيفة (6) .
ولو قطع يد إنسان، فمات المجنيّ عليه، فقطعنا يد الجاني قصاصاًً، فمات هو أيضاًً، فالنفس بالنفس، وكأن القطع الأول لم يكن جناية على الطرف، وإنما صار طريقاً في القتل، كذلك لما قطعنا يدَ الجاني، ثم أفضى إلى قتله بعد هلاك المجني عليه، فقد صار قطع اليد طريقاً في الاقتصاص، كما كان قطع يد المجني عليه طريقاً في القتل، على سبيل العدوان، وهذا بيّن فيه إذا جنى بالقطع، فمات المجني عليه،
__________
(1) في الأصل: "ولا".
(2) في الأصل: "للحر".
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. المختصر: 5/110.
(5) في الأصل: "فيه".
(6) ر. رؤوس المسائل: 465 مسألة 330، مختصر الطحاوي: 240، طريقة الخلاف: 484 مسألة 193.(16/163)
فابتدأنا بعد موت المجني عليه قطع يد الجاني، فأدى إلى هلاكه.
ولو قطع الجاني اليد، فقطعنا يده قصاصاًً، ثم مات المجني عليه، ومات بعده المقتص منه، فالنفس بالنفس أيضاً، وإن وقع القصاص قبل زهوق روح المجنيّ عليه، والمرعيّ فيما نرتبه أن يستأخر موت الجاني المقتص منه عن موت المجني عليه، حتى يكون القصاص المحكوم به بعد موت المجني عليه.
ولو قطع اليدَ، فقطعنا يده، فمات المقتص منه أولاً، ثم مات المجني عليه آخراً ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن نفس المقتص منه بنفس المجني عليه، كالصورتين المذكورتين قبل هذه. والوجه الثاني - أن النفس لا تقع بالنفس؛ [فإن] (1) زهوق روح الجاني تقدم على هلاك المجني عليه، والقصاص يستحيل وقوعه قبل وجوبه.
ومن قال بالوجه الآخر، انفصل عن هذا، فقال: لا ننظر إلى ترتيب المرتِّبين؛ فإن الموت خارج عن الاختيار، وهو من فعل الله تعالى، فلا نظر إلى التقدم والتأخر فيه، والذي يتعلق بالاختيار هو القطع، وقد جرى مرتباً، إذ سبق القطع ظلماً، وترتب عليه الاقتصاص.
ويمكن بناء هذا الخلاف على أنا هل نجعل الجرح قتلاً إذا أدى إلى القتل؟ وهذا قد سبق ذكره في أول الجراح في صورٍ: منها أن العبد إذا جرح عبداً، ثم عَتَق العبدُ الجارح قبل زهوق روح المجروح المظلوم، فهل نجعل العتق بعد الجرح قبل الموت كالعتق بعد [القتل] (2) المجهز؟ فعلى وجهين.
وكذلك القول فيه إذا جرح كافر كافراً ثم أسلم الجارح، ومات المجروح.
10425- فإن قيل: قد تمهد من أصلكم أن سراية القصاص غيرُ مضمونة، وأن قَطْع يد المظلوم لو اندمل، وسرى قطعُ يد الجاني قصاصاً، فالسراية مهدرة، فلم أوقعتموها قصاصاًً في بعض الصور التي قدمتموها؟
قلنا: وقوع السراية [هدراً] (3) ليس أمراً مستحَقاً؛ فإن جرى لنا على القياس صرفُ
__________
(1) في الأصل: "قبل".
(2) في الأصل: "العتق".
(3) في الأصل: "وهدراً".(16/164)
تلك السراية إلى قصاصٍ، لم نمتنع من صرفها إليه، وإن عَدِمنا صرفَها إلى القصاص، فلا سبيل إلى تبقيتها مضمونة؛ فإنها في الأغلب تقع ويستحيل التسليط على ما يقتضيها غالباًً بشرط الضمان فيها؛ فإن هذا لو [قيل] (1) به، [لأدّى إلى عسر الاقتصاص، وتخويفِ المقتص] (2) وتعريضه للخطر الذي يغلب وقوعه.
10426- فإذا ثبت ما مهدناه في السراية قلنا: إذا قطع رجلٌ يد رجل ظلماً، وسرى إلى نفسه، فقطعنا يد الجاني قصاصاً، فإن سرى القطعُ، فالنفس بالنفس كما قدمناه، وإن لم يسر، بل اندمل، فلوليّ المظلوم أن يضرب رقبة الظالم، فإن فعل، فذاك، وإن عفا على مال، لم يثبت له إلا نصف الدية؛ فإن اليد التي استوفاها قصاصاًً تقابل نصفَ الدية.
وقد يعرض لما نحن فيه أمران: أحدهما لا اندراج فيه - وهو ما يتعلق بالقصاص.
والثاني مبناه على الاندراج - وهو ما يتعلق بالدية على ما سيأتي شرح ذلك من بعدُ، فإذا أراد القصاص، فالطرف والنفس (3) ، وإذا أراد المال، فلا يجب في الطرف والنفس، وقد صار الجراح نفساً [فلا يجب] (4) في المظلوم إلا ديةٌ واحدة، واليد التي استوفاها تقابل نصف الدية، ولا سبيل إلى إهدار ما قبض عوضاً، فيقتضي مجموع ذلك نصفَ الدية عند العفو عن القصاص في النفس.
ولو قطع الظالم أولاً اليدين، وسرى قطعهما إلى النفس، فقطع الولي اليدين من الظالم قصاصاًً فاندمل قطعهما، فإن أراد الولي القصاص، ضَرَب رقبةَ الظالم، وإن أراد الرجوع إلى مال، فلا مال له؛ [لأنه] (5) استوفى ما يقابل الدية الكاملة، وهو
__________
(1) في الأصل: "قتل".
(2) عبارة الأصل فيها خرم أو تصحيف بعيد لم ندركه، فقد جاءت هكذا: "فإن هذا لو قتل به ـع الدم وتعريضه للخطر" هكذا تماماً. والمثبت تصرف من المحقق كان لا بد منه لاستقامة العبارة.
(3) أي في الطرف والنفس.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) زيادة من المحقق.(16/165)
القصاص في اليدين، فهذا قصاصٌ ثبت في النفس، ولو أسقطه مستحقه، لم يرجع إلى مال، ويشبه ما رتبناه من مخالفة أمر المال للقصاص وابتنائه على التداخل بخلاف القصاص.
وقد ذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من جوز لمستحقي القصاص في النفس الرجوع إلى مال، فهذا وهذا قد قدمناه في تفريع القول في أن موجب العمد [ماذا؟] (1) .
10427- وحقيقة هذا ترجع إلى أن القصاص لا يحسب من المال إذا آل الأمر إليه. وهذا أثر قولنا: لا يندرج القصاص، فإن جرينا على هذه الطريقة البعيدة، فالنفس في هذا المقام تقابل بالدية الكاملة.
10428- وإن جرينا على ظاهر المذهب، فلو أراد من له القصاص أن يصالح عن حقه من القصاص على مالٍ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين من المصالحة عن حد القذف، فإن جوزنا المصالحة عن الحد على مال، فالقصاص بذلك أولى، وإن لم نجوّز ذاك، ففي القصاص وجهان، والفرق أن الأعراض ليست متقوّمة شرعاً، بل لم تتلف بالقذف بدليل تصور قذف بعد القذف، ولا قتل بعد القتل.
فإن جوزنا لمستحق الدم أن يصالح من عليه القصاص، فهل يجوز لأجنبي أن يصالح مستحقَّ القصاص بمالٍ يبذله، فعلى وجهين: أصحهما - المنع، ومجوزها يلتفت على [مخالعة] (2) الأجنبي الزوجَ في طلب تخليص المرأة، ولعل المصالحة عن الدم أقربُ إلى المصلحة؛ [فإن] (3) إسقاط القصاص على كل حال محبوب محثوث عليه، وجواز خلع الأجنبي لا يختص بضرار يلحق الزوجة من زوجها.
10429- ومما يتعلق بمنتهى الكلام أنا إذا قلنا: موجب العمد القود أو الدية، فلو
__________
(1) في الأصل: "يتأدى".
(2) في الأصل: "مخالفة".
(3) في الأصل: "وإن".(16/166)
جرت مصالحة عن تراضٍ على مائتين من الإبل، فهي باطلة؛ فإن المال [متأصل] (1) على هذا القول، فترجع حقيقة المصالحة إلى المصالحة عن مائة على ما نبين. وهذا لا امتناع له.
وإن قلنا: موجب العمد القود المحض [فلو جرت] (2) المصالحة عن تراضٍ على مائتين [من] (3) الإبل، ففي صحة المصالحة وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن المصالحة وردت على الدم، ووقع المال بدلاً عنه، فلا يبعد أن يزيد المالُ المبذول على أصل الدية. والثاني - يمتنع ذلك؛ فإن المال على حالٍ يتطرق إلى الجناية وإن كانت عمداً.
وهذا الخلاف متردد بين أصول: منها أن ما ذكرناه من أن القصاص المحض الذي لا يرجع مستحقه إلى مال باختيار نفسه هل يجوز المصالحة عنه. والثاني - أن العفو المطلق هل يوجب المال، على قولنا إن موجب العمد القودُ المحض؟
10430- ومما نجريه في تمام الفصل أن رجلاً لو قطع يدي رجل ظلماً وقتل آخر، [فإنا] (4) نقدم القصاص في الطرف على القصاص في النفس، [ولا] (5) نقدم القتلَ الموجب للقصاص في [النفس] (6) ؛ وذلك أنا لو قدمنا القصاص في النفس، أسقطنا القصاص في الطرف، فلا ينبغي أن نسعى لأجل تقديم وتأخير في إسقاط قصاصٍ مقصود في الشرع، فنقطع اليدين منه، ثم نقتله على أثر قطعهما بمن قتله.
وغرضنا بما ذكرناه الآن تركُ قياس التقديم والتأخير فيما قصصنا عليه.
10431- ولو قطع أصبعاً من إنسان وقطع يداً كاملة من آخر، فنقدم القصاص في الأصبع لتقدّمه، وإن قطع اليد الكاملة أولاً، ثم قطع أصبعاً، فنقطع يده باليد
__________
(1) في الأصل: "المتأصل".
(2) في الأصل: "ولو".
(3) في الأصل: "في".
(4) في الأصل: "وأما".
(5) في الأصل: "وإن".
(6) في الأصل: "الطرف".(16/167)
الكاملة، ولا نقطع [منها] (1) الأصبع، [لمكان] (2) الأصبع [ويُرعَى] (3) في ذلك التقديم والتأخير وليس كمسألة الروح والطرف؛ فإن النفس لا تنتقص بقطع طرف منها، والمستحق في اليد [اليدُ] (4) كاملةَ الأصابع والكف، وهذا بيّن.
10432- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قتله عمداً ومعه صبي أو معتوه ... إلى آخره" (5) فتعرّض لأحكام الشركة، وقد قدمنا ذلك عند ذكرنا معالجةَ المجروح نفسه بخياطة جرحه، وتنزيلنا إياه شريكاً في دم نفسه، فثمَّ نظمنا تقاسيم القول في الشركة، فلا نعيده.
فصل
قال: "ولو قتل أحدُ الوليين القاتل بغير أمر صاحبه، ففيها قولان ... إلى
آخره" (6) .
10433- إذا خلَّف القتيل ظلماً وليّين والقصاصُ واجب على من ظلمه بالقتل، فليس لأحد الوليين الانفرادُ بقتله دون رضا صاحبه؛ فإن القصاص واحد في هذا المقام، وهو من جهة التقرير مفضوض على الورثة، ولو كان مُشَقَّصاً (7) ، لقيل: [لكل] (8) واحد من الورثة حصته، فالأمر كذلك، وإن عسر تقدير التبعيض في الاستيفاء.
__________
(1) في الأصل: "فيها".
(2) في الأصل:، فكان". والمعنى لمكان الأصبع من اليد وحاجتنا إليه، لأن اليد المستحقة قصاصاً يدٌ كاملة الأصابع. وللآخر دية الأصبع، فإن عفا مستحق اليد، كان للآخر قطع الأصبع إن شاء وردّ الدية.
(3) في الأصل: "ويرتقي". وهو تحريف واضح.
(4) زيادة من المحقق.
(5) ر. المختصر: 5/110.
(6) ر. المختصر: 5/112.
(6) كذا قرأناها بصعوبة بالغة، وهي كذلك - إن شاء الله.
(7) في الأصل: "لكان".(16/168)
ولو عفا أحد الأولياء عن القصاص، سقط حقه وترتب عليه سقوط حقوق الباقين؛ فإن القصاص واحد، فإذا سقط بعضه، استحال استيفاء باقيه [مع] (1) الاقتصار على القدر المستحق، والسقوط أغلبُ في العقوبات إذا اجتمع فيها المسقط ونقيضه.
وذهب طائفة من علماء المدينة إلى أن القصاص من حقوق الورثة ينزل منزلة حد القذف، فلو ابتدره واحد منهم دون مراجعة أصحابه، جاز، ووقع الموقع، ولو عفا جميع الورثة إلا واحداً منهم، فله الانفراد باستيفاء القصاص، اعتباراً بحد القذف في مثل هذه الصورة.
وإنما ذكرنا مذهب هؤلاء لمسيس الحاجة إليه في ترتيب مذهبنا.
فلو قتل أحد الوليين قاتلَ أبيه منفرداً، ولم يراجع أخاه، لم يخل: إما أن يفعل ذلك قبل عفو أخيه عن القصاص، وإما أن يفعله بعد عفوه عن القصاص، فلو ابتدر واقتصّ قبل العفو، فقد نص الشافعي على قولين في أن القصاص يجب عليه؛ فإن استيفاء حق نفسه من القصاص غيرُ ممكن، ولا سلطان له في استيفاء حق أخيه، فلا يمكن [أن] (2) يقع قتله عن جهة الاستيفاء، لا في حقه، ولا في حق أخيه، وإذا لم يقع عن جهة القصاص، فإن قتله إياه بمثابة قتل أجنبي، ولو قتل أجنبي رجلاً استوجب القصاصَ، وجب القصاصُ عليه بقتله؛ فليكن الولي كذلك.
القول الثاني - وهو الأصح أنه لا يجب القصاص على الولي [المبادر] (3) القاتل، لمعنيين: أحدهما - أن القتل قصاصاًً مشترك بينه وبين أخيه، ولو كان الكل مستحَقاً لهذا المستوفي، لكان مستوفياً حقّ نفسه، فإذا ثبتت الشركة، فلا أقل من أن تنهض الشركةُ شبهةً في إسقاط القصاص عنه.
هذا أحد المعنيين، وهو أظهرهما.
والمعنى الثاني - التعلق بمذهب فقهاء المدينة [وهو] (4) أنهم جوزوا لكل واحد من
__________
(1) في الأصل: "على".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "المبدر".
(4) في الأصل: "وذهب".(16/169)
الورثة أن ينفرد بالقتل، فينبغي أن ينتهض بمذهبهم شبهة في درء القصاص عن هذا المبتدر.
التفريع على القولين:
10434- إن حكمنا بأن القصاص يجب على الولي المبتدر، فلا يخلو ولي القاتل المقتول من أن يقتص منه أو يعفو، فإن اقتص من هذا الولي، فدية المقتول الأول ظلماً تتعلق بتركة القتيل القاتل: نصفها للولي [الثاني] (1) ونصفها لورثة الولي المبتدر.
فإن عفا ولي القتيل القاتل عن الولي المبتدر على مال، تعلقت دية القتيل المظلوم بتركة القتيل القاتل: النصف منها للولي الذي لم يقتل، والنصف للولي الذي قتل، وعلى الولي [المبتدر] (2) لورثة القتيل القاتل تمام الدية: النصف منها يرتفع بالنصف قصاصاًً والنصف الآخر على الولي المبتدر.
وقد تختلف الأقدار باختلاف أقدار الدية في القتل في القتيل القاتل والقتيل ظلماً، بأن يكون المظلوم رجلاً والمرأة قاتلة وهي القتيلة القاتلة، وقد يكون الأمر على الضد، فلينظر الناظر، وليجر على ما يقتضيه الحال.
هذا تفريعٌ على أن القصاص يجب على الولي المبتدر، وكل ما ذكرناه يأتي من تنزيل قتله منزلةَ قتل الأجنبي، والحكم بأنه ليس استيفاءً، لا لحق المبتدر ولا لحق أخيه.
10435- فأما إذا فرعنا على القول الآخر، وهو أن القصاص لا يجب على الولي المبتدر، فكيف الكلام في الدية؟ وعلى من يرجع الأخ الذي لم يأمر بالقتل؟ فسبيل افتتاح الكلام في هذا أن بعض القتل يقع عن حق المبتدر على هذا القول الذي نفرع عليه، فهو إذاً مستوفٍ حقَّ نفسه بطريق الاقتصاص.
والنظرُ في حق أخيه، وفيه قولان: أحدهما - أن حقه يتعلق بتركة القتيل القاتل،
__________
(1) في الأصل: "الباقي".
(2) زيادة من المحقق.(16/170)
فلا رجوع له على أخيه، والقول الثاني - أن حقه يتعلق بأخيه المبتدر.
قال الأصحاب: القولان مبنيان على [المعنيين] (1) اللذين ذكرناهما في توجيه إسقاط القصاص عن المبتدر، فإن قلنا: المعنى شبهه [بالشركة] (2) ، فمقدار حقه واقع له، وهو في الزائد [معتدٍ] (3) غيرُ مستوفٍ؛ فإن مستحق الحق لم يستنبه، والشرع لم ينصبه [وليّاً] (4) عليه، [فوقع] (5) قتله في حق صاحبه إتلافاً، فعلى هذا يرجع أخوه على تركة القتيل القاتل؛ فإنه بقتله في حق أخيه ينزل منزلة الأجنبي إذا قتله.
وإن عللنا مذهب أهل المدينة، فكأنا نقول: القتل وقع استيفاء بكماله، ولكن المبتدر لما استبد بنفسه، كان مفسداً على أخيه حقه، فيضمنه له. هكذا كان يرتبه شيخي.
ولست أرضى هذا المسلك، ولكن الوجه أن نقول: هذا المبتدر استوفى حق نفسه، والقتلُ لا يتبعض، فينشأ القولان من هذا من غير بناء على المعنيين، فالقول المنقاس حملُ القتل على [التبعيض] (6) وصَرْفِ بعضه إلى جهة الظلم، فيكون المبتدر كالأجنبي فيه، وموجب هذا تضمين المبتدر لورثة القتيل القاتل، وإيجاب حق الأخ الآخر في تركة القتيل القاتل؛ قياساً على ما إذا كان القاتل أجنبياً.
ووجه القول الثاني: أن القصاص لا يمكن تبعيضه، فيُجْعل المبتدر [مستوفياً] (7) لحق أخيه، وليس [كالأجنبي] (8) ، فإن أصل قتله ظلم، وليس القصاص مما يغرم
__________
(1) في الأصل: "المعتدين".
(2) في الأصل: "الشركة".
(3) في الأصل: "معتبر".
(4) في الأصل: "ولنا".
(5) في الأصل: "موقع".
(6) في الأصل: "البعض".
(7) غير مقروءة بالأصل، رسمت هكذا تماماً (معويا) .
تنبيه: نذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وتوسمه. والله الهادي إلى الصواب.
(8) في الأصل: "بالأجنبي".(16/171)
غرامة المتقوّمات، فاتجه على بُعدٍ تضمين المبتدر؛ من جهة أنه يبعد تبعّض القتل قصاصاًً وظلماً، فيبعد الحكم بوقوع القصاص [لمن لم يأذن فيه] (1) فاضطررنا في هذا المقام إلى تضمين المبتدر لأنه في حكم من قبض [حق] (2) غيره، ولم يوفِّه عليه، فهذا هو الوجه عندنا في توجيه القولين.
التفريع عليهما:
10436- إن قلنا: رجوع الولي الذي لم يأذن على تركة القتيل القاتل، فيرجع بنصف دية أبيه، ثم هم يرجعون بنصف دية القتيل القاتل على الابن المبتدر؛ فإنه في هذا النصف ظالمٌ بالقتل غيرُ مستوفٍ، ثم قد تختلف أقدار الديتين كما نبهنا عليه.
فإن قلنا: رجوع الابن الذي لم يأذن على أخيه المبتدر، فلا طلبة على تركة القتيل القاتل، ويطالِب من لم يأذن أخاه المبتدر بنصف دية أبيه المقتول ظلماً أولاً، ثم إذا غرم هذا المبتدر لأخيه، فلا يرجع بما ضمنه على تركة القتيل القاتل، فإنا نزلنا [قتله] (3) استيفاءً، فكيف نجمع بين القتل المحكوم بكونه استيفاء، وبين الرجوع في المال؟
وقد جرى في أثناء الكلام قَطْعُ الأصحاب أولاً بأن الأجنبي إذا قتل مَنْ عليه القصاص، فليس القصاص مما يُضمن بالتفويت، فإن قيل: ألستم ذكرتم وجهين فيمن قتل جماعةً ترتيباً، وجعلنا حق استيفاء القصاص لولي الأول فابتدره ولي الثاني وقتله - في أن هذا الولي هل يغرم لولي الأول ديةَ قتيله؟ قلنا: ذاك بعدُ لا اتجاه له، وإنما أشار إليه بعض أصحاب القاضي، ولا ينبغي أن [تشوش] (4) قواعدُ المذهب بمثل ذاك الوجه.
ثم هو على بعده منفصل عن الأجنبي؛ من جهة أن قتله وقع مستحَقاً له، فكان تفويته من جهة الاستيفاء، لا من جهة الإتلاف المحض. فهذا ما أردناه في ذلك.
وكل هذا في ابتدار أحد الوليين قبل عفو الثاني.
__________
(1) في الأصل: "من لم يأذن فيه".
(2) في الأصل: "بحق".
(3) في الأصل: "فله استيفاء".
(4) في الأصل: "تشق بين"، وهو تصحيف جعل الكلمة الواحدة كلمتين.(16/172)
10437- فأما إذا عفا أحد الوليين، فابتدر الثاني، وقتل، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك [بدون العلم] (1) بالعفو، وإما أن يكون عالماً به، فإن كان مع العلم بالعفو، ففي وجوب القصاص على هذا المبتدر قولان مرتبان على القولين فيه إذا ابتدر أحدهما وقتل قبل عفو الثاني، ثم القولان بعد الترتيب مبنيان على المعنيين المذكورين في توجيه أحد القولين. فإن قلنا: المسقط للقصاص عن المبتدر الشركة، فهي زائلة بالعفو، وإن قلنا: المسقط خلاف العلماء، فهو قائم؛ فإن الذين صاروا إلى جواز انفراد أحد الوليين باستيفاء القصاص [نحَوْا به نحو حدّ القذف] (2) وزعموا أنه لا يسقط حق من لم يعف بعَفْو من عفا.
وكان شيخي يقول: الخلاف في نفس الشيء لا يوجب درءَ العقوبة سواء كانت لله أو للآدمي، فإنا لو جعلنا الخلاف في ثبوت العقوبة وانتفائها شبهةً دارئة للعقوبة، لما تصور الخلاف [في] (3) العقوبة، ولاقتضى إيجاب العقوبة مدركاً مستيقناً حتى لا تفرض عقوبة في مجال الظن.
فأما إذا كان الخلاف في إباحة السبب، فالمذهب الأصح أنه إذا كان (4) مساغٌ ولم يصادم أمراً مقطوعاً به، فإنه يدرأ العقوبة الثابتة لله، وهذا كخلاف ابن عباس في إحلال المتعة، وإن كانت العقوبة للآدمي كالقصاص في الصورة التي نحن فيها، فالخلاف هل يدرأ العقوبة؟ فعلى قولين؛ فإن حقوق الآميين أبعد عن السقوط من حقوق الله تعالى، ولا [يعدم] (5) الفقيه تقدير هذا.
ومما [نؤثر للفقيه] (6) التنبه له أن إسقاط القصاص مع العلم بالعفو في الصورة التي نحن فيها أقرب مأخذاً من إيجاب القصاص على المبتدر إذا لم يكن عفوٌ.
__________
(1) غير مقروءة في الأصل: ورسمت هكذا: " ـعدا بعلم ".
(2) عبارة الأصل: ونحواً به لحد القذف.
(3) في الأصل: "من".
(4) (كان) هنا تامة بمعنى (وجد) .
(5) في الأصل: "يقدم".
(6) في الأصل: "يؤثر الفقيه".(16/173)
هذا إذا كان القاتل عالماً بعفو أخيه.
10438- فأما إذا ابتدر ولم يعلم بعفوه، فهذا يترتب على ما إذا علم بالعفو، فإن لم يلزمه القصاص مع العلم، فلأن لا يلزمه إذا كان جاهلاً أولى، وإن ألزمناه القصاص في حالة كونه عالماً، ففي حالة الجهل قولان مبنيان على أصلٍ سيأتي تمهيده، وله صور: منها أن من رأى مرتداً [وتعدى] (1) ، ثم رآه بعد زمان، فحسبه مصراً على ردته وقتله، ثم تبين أنه كان أسلم، ففي وجوب القصاص على قاتله قولان، ووجه [التشبيه] (2) أن المقتول معصومٌ، والقاتل غير عالم بعصمته، وليس هو معذوراً في الإقدام على قتله، وادعاء القاتل هذا الأمر على إباحة قتله ظاهر، فانتظم القولان [وفي هذا الأصل معاصات سننبه عليها] (3) ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو قطع يده من مفصل الكوع، فلم يبرأ القطع حتى جاء آخر وقطع ذلك الساعد من المرفق، ثم مات المجني عليه ... إلى آخره" (4) .
10439- فمذهب الشافعي أن القصاص في النفس يجب على القاطعين جميعاً، وأوجب أبو حنيفة (5) القصاص على الثاني، واعتقد أن سراية القطع الأول انقطعت بزوال محل القطع.
فإذا ثبت من أصلنا وجوب القصاص عليهما، فالولي يقطع يدَ الأول من مفصل الكوع، ويُنظر في الثاني، فإن صادف له ساعداً بلا كف، قطع يده من المرفق، فإن
__________
(1) في الأصل: "وتعدا" كذا تماماً. وهي في غير موضعها سواء كانت بالألف أم بالياء ولما أدر عن أي كلمة صحفت أو على أي وجه تُقرأ.
(2) في الأصل: "التنبيه".
(3) عبارة الأصل: "فانتظم القولان في هذا الأصل معاصاة بسببه" والزيادة والتعديل من المحقق ونرجو أن يكون صواباًً. (ومعاصات) من عَوِص وعاص الكلامُ إذا خفي معناه، وهي جمع لاسم المكان.
(4) ر. المختصر: 5/114.
(5) ر. الفتاوى الهندية: 6/15.(16/174)
صادف يد الجاني مع الكف، فهل يقطع يده من المرفق؟ اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: له ذلك، وهو الأظهر؛ فإن نفس هذا الجاني مستحَق، وقطع يده من المرفق طريقٌ في قتله، وليس في القطع من المرفق مزيد مَثُلة، وإن كان عليها كف، فلا جُنّة بالكف، فإنها هالكة بالقتل المستحق.
ومن أصحابنا من قال: لا نقطع يد الجاني وعليها الكف من المرفق. وليس لهذا الوجه اتجاه عندي إلا من جهة أنا نقدّر العفو عن النفس من المستحِق، ولو فرض ذلك، لكان القطع من المرفق مع الكف زيادةً غيرَ مستحَقه.
وحمل بعض أصحابنا هذين الوجهين على وجهين سيأتي ذكرهما في أصلٍ قريب مما نحن فيه، وهو أن من أجاف غيره وقتله، فالجائفة لو اندملت، فلا قصاص فيها، وإذا حصل القتل بها، فهل يجوز الاقتصاص بالإجافة عن النفس؟ فعلى وجهين، ووجه [الشبه] (1) أن الجائفة لو لم يحصل القتل بها لا قصاص فيها، ولا يُقطع مرفق وعلى الساعد كف بساعدٍ قُطع من المرفق ولا كف عليه، فإذا حصل القتل بهما، وصارت الروح مستحقة، فالأمر على الخلاف، وهذا التشبيه ليس [بمرضيٍّ] (2) عندي؛ فإن سبب الخلاف في الجائفة أنها غيرُ منضبطة، فلا نأمن أن يتعدى إلى الحد مَثُلة؛ هذا هو الذي أثار الخلاف ثَمَّ، وهذا المعنى مفقود في قطع المرفق، فالطريق في التوجيه ما نبهنا عليه في [توقع] (3) العفو.
فصل
قال: "وإذا تشاحّ الولاة ... إلى آخره" (4) .
10440- إذا ثبت القصاص بين جماعة ورفعوا أمرهم إلى السلطان، فرآهم السلطان أهلاً لاستيفاء القصاص، فإن فوضوا الأمر إلى واحد منهم حتى تعاطى
__________
(1) في الأصل: "السبب".
(2) في الأصل: "مرضي".
(3) في الأصل: "ترفع".
(4) ر. المختصر: 5/114.(16/175)
الاقتصاص، جاز، وإن تشاحّوا، فالوجه أن يُقرع بينهم، فإذا خرجت القرعة لواحد، فهل يجوز له أن يبتدر الاقتصاص دون رضا أصحابه؟ فعلى وجهين ذكرهما مشايخنا: أحدهما - أنه لا ينفرد ما لم يرضَ أصحابُه (1) ، فإن الانفراد بالاقتصاص غير سائغ عندنا. والوجه الثاني - أنه يجوز له أن يبتدر، فيقتصَّ؛ إذ لو لم نقل ذلك، لما كان للقرعة معنى وفائدة، ولرجع الأمر إلى امتناع الاقتصاص حتى يعينوا واحداً، ولو عينوا واحداً، فلا حاجة إلى القرعة.
وهذا يحتاج إلى فضل نظر: فإن خرجت القرعة، فصرح الذين لم تخرج [القرعة] (2) لهم بالمنع من الاقتصاص، [فهذا] (3) غير جائز (4) ، وإن ظهر منهم قصد القتل قصاصاً، وردّوا نزاعهم إلى [تخيّر] (5) من يقتل، فحكّمنا القرعة، ولم يُبْد أحد منعاً، فهل يجوز لمن خرجت قرعته الابتدار بناء على ما ظهر من حالهم من قصد القتل؟ فيه الخلاف الذي قدمناه (6) .
وليس اختلاف الولاة في القصاص بمثابة اختلافهم في التزويج؛ فإن الولاة في [حقه] (7) إذا اختلفوا فيمن يزوج المرأة واقترعوا، فمن خرجت قرعته لا يحتاج إلى مراجعة أصحابه إذا رضيت المرأة ذلك، والأصل على الجملة بعيد [عن] (8)
__________
(1) المعنى: ما لم يرض أصحابه بالابتدار، يعني إذا رأوا التأخير، فليس له الابتدار، وذلك أن القصاص مبناه على الإبراء والإسقاط، وهذا بخلاف التزويج، فالنكاح مبني على التعجيل.
(2) في الأصل: "بالقرعة".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) نص الرافعي على خلاف ذلك، فقال: "ولا شك أنه لو منع أحدهم من خرجت له القرعة من الاستيفاء لم يكن له الاستيفاء" وبمثله قال النووي. (ر. الشرح الكبير: 10/257، والروضة: 9/215) .
(5) في الأصل: "غير". والمثبت من المحقق، مع محاولة الالتزام بأقرب الألفاظ صورة لما هو موجود في الأصل.
(6) هذه طريقة للإمام جعل الخلاف في جواز الابتدار والتأخير، فأما إذا اتفقوا على الاقتصاص، وأقرعوا بينهم، فلا يجوز -عنده- الرجوع عن الاقتصاص.
(7) في الأصل: "حرحه" (هكذا تماماً وبدون نقط) (انظر صورتها) .
(8) في الأصل: "على".(16/176)
القصاص؛ فإن من لم تخرج قرعته لو ابتدر، فزوج بالإذن، نفذ، وإنما القرعة استحسان محضٌ في ازدحام ولاة النكاح، فهذا منتهى المراد في ذلك.
[فصل] (1)
قال: "ولو طرحه في نار حتى يموت ... إلى آخره" (2) .
10441- المماثلة عندنا مرعية في استيفاء القصاص إذا لم يكن فيها اهتتاك حرمة.
هذا أصل الباب، وتعليله أن [مبنى] (3) القصاص على التشفي ودَرْك الغيظ، ولا اختصاص للولي به إلا من هذه الجهة؛ فإن ما فيه من معنى الزجر [لا يختص] (4) بالولي، بل فيه مصلحة عائدة على الكافة؛ من حيث يتضمن زجر الغواة أجمعين، فإذا كان أصل القصاص على التشفي، اقتضى ذلك المماثلةَ في الجهة.
ثم معتمد الفقهاء أن القتل بالسيف [أوحى] (5) جهاتِ القتل وأسهلُها، وسيظهر أثر هذا في أثناء الكلام، إن شاء الله عز وجل.
فإذا حرّق رجلاً [اقتُصّ] (6) منه بالتحريق، وكذلك إذا غرّق أو خنّق.
فالوجه أن نقسم جهات القتل تقسيماً ضابطاً، فنقول: هي تنقسم إلى ما يقتل لا بطريق السراية، وإلى ما يقتل بجهة السراية.
فأما ما يقتل لا بجهة السراية، فينقسم إلى ما ليس فاحشة في أصل الشرع، وإنما سبب تحريمه رعاية حق المقتول المعصوم، وإلى ما هو فاحشة.
فأما ما ليس فاحشة فيه كالقتل بالخنق، والتغريق، والتحريق، [والوُجور] (7)
__________
(1) مكان بياض بالأصل. ولعله كان بلون أحمر فلم يظهر في التصوير.
(2) ر. المختصر: 5/114.
(3) في الأصل: "حى" (بدون نقط) .
(4) في الأصل: "ولا يختص".
(5) في الأصل:، "أوفى". وأوحى: أي أسرع.
(6) في الأصل: "اقتضى".
(7) في الأصل: "والوتر".(16/177)
والموالاةِ بالضرب، [والمثقلات] (1) ، والترديةِ من عُلوّ، فالقتل بهذه الجهات ليس من الفواحش. وآية ذلك أنا قد نقتل بها الكفار، فالمماثلة جارية في هذه الجهات.
10442- ثم الوجه أن نقول: [إذا قتل الجاني بالإحراق، عمدنا إلى إيقاد نار مثلِ نار الجاني] (2) وألقيناه فيها، فإن مات الجاني بالكَوْن في النار في المدة التي مات المظلوم فيها، [فلا كلام] (3) ، وإن لم يمت في مثل تلك المدة، فهل على الولي أن ينتقل إلى السيف؟ نُظر: فإن كان قَتْلُه بالسيف أهونَ [من] (4) تبقيته في النار، ضرب الوليُّ رقبته، فلو أراد الجاني أن يُترك في النار، لم يترك فيها.
ولو أراد الولي أن يتركه، وقال الجاني: اضربوا رقبتي، ضربت رقبته إن أراد الولي الاقتصاص، ويظهر الغرض في مبدأ هذا الفصل بما ذكرناه أولاً، وهو أن الولي إذا أراد ضرب رقبته، أجيب إلى ذلك.
ولو قال الجاني: لو تركتموني [أُحرّق] (5) مدة بقائي! [فاتركوني] (6) ؛ فإن البقاء مع العذاب أحب إليّ، قلنا: ليس لك هذا، وحق القصاص على الفَوْر ولا تؤخَّر لتبقى.
وإن قال: إذا ضربتم رقبتي بالسيف جمعتم عليّ بين نوعين، قلنا: لا مبالاة بهذا؛ إذ كان القتل بالسيف أوْحَى (7) .
ولو رضي بالتبقية في النار، فهاهنا ذكر شيخي خلافاً، والأظهر أنه لا أثر
__________
(1) في الأصل: "والمقلات".
(2) عبارة الأصل غير مقروءة في بعض كلماتها، ومضطربة في بنائها، والمثبت من المحقق، مع محاولة الالتزام بأقرب صورة لما هو موجود من كلمات الأصل وحروفه، التي جاءت هكذا: "إذا قتل الجاني فالإحراق ـعمد ـالد ـار مثل تلك نار الجاني" انظر صورتها.
(3) مكان بياض قدر كلمتين، وقدرناهما على ضوء أسلوب الإمام في التفريع.
(4) في الأصل: "في".
(5) في الأصل: "أمرت".
(6) في الأصل: "ما تركوني".
(7) أوحى: أسرع. والوحا السرعة يمد ويقصر، ويقال: موتٌ وَحِيّ مثل سريع وزناً ومعنى، فعيل بمعنى فاعل (المعجم والمصباح) .(16/178)
لتراضيهما، فإن منع المَثُلة متعلق بحق الله تعالى.
ومن أصحابنا من قال: لا يُمنع إدامةُ الجنس الأول، [لما] (1) في النفوس من استشعار مزيد العقوبة عند فرض الانتقال من [جنس إلى جنس] (2) ، والكلام مفروض في الأسباب الموجِبة، فلا يظهر أثر المَثُلة عند استمرار السبب [الموجِب] (3) زماناً.
هذا إذا [كان ضرب الرقبة] (4) أهون.
فأما إذا كان الإبقاء في النار أهون، هذا مما صوره المحققون وأطلقوه، وكان شيخي [يأبى] (5) تصور هذا، ويقول: القتل بالسيف أهون في حق كل أحد من سائر الجهات، ويمكن أن يقال: هذا مفروض فيه إذا كان لا يتأتى قتله بالسيف وهو في النار، وإذا طلبنا إخراجه، عظُم شقاؤه، وإذا تُرك يرجى هلاكُه، وليس يبعد تصوير ذلك على هذا الوجه.
فإذا أخذنا بتصوير هذا، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أنه يبقى في النار، لأنه أسهل عليه، والثاني - لا يبقى بل يُخرج وتحز رقبته: أما وجه إبقائه في النار، فبيّن، وهو رعايةٌ لحقه والتوحِّي، وينضم إليه اتحاد جهة العقوبة، فأما من قال: إنه يقتل بالسيف، مع الاعتراف بأن القتل بالسيف أشق، فلا وجه لهذا إلا إذا صور أن القتل بالسيف أقربُ من جهة الزمان، فيقول مستحق القصاص عجّلوا لي حقي، فإن كان يفرض القتل بالإبقاء أوْحى، أو كان في مثل [مدة] (6) القتل بالسيف، فلا اتجاه أصلاً -مع انتهاء الكلام إلى هذا المنتهى-[لقول] (7) من يقول: إنه يقتل بالسيف. نعم، غاية الإمكان في توجيه هذا الوجه أن يقال: الوَحِيّ (8) بالسيف
__________
(1) في الأصل: "بما".
(2) في الأصل: "من حسن إلى حسن".
(3) في الأصل: "الموحي".
(4) في الأصل: "كان استمر ضرب الرقبة أهون".
(5) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(6) في الأصل: "هذه".
(7) في الأصل: "كقول".
(8) الوحِيّ بالسيف: أي القتل الوَحي، والوحي: السريع وزناً ومعنىً، فعيل بمعنى فاعل.(16/179)
لا شك فيه، ودرك التوحى بعده غير منضبط، فكان السيف مقدماً لذلك، [فتوجيه] (1) الوجهين يؤول إلى التردد في التصوير لا محالة.
10443- ولو قتل رجل رجلاً [بالخنق] (2) ، فأراد ولي القصاص أن يقتله بالسيف، فقد قطع شيخي بأن له ذلك، [ومال] (3) إلى أن القتل بالسيف أوحى وأيسر، وفي [الطرق] (4) رمزٌ إلى مخالفة هذا، [فيمكن] (5) أن يؤثر المرء [الخنقَ] (6) ويراه أَوْحى وأقربَ إلى إزالة الحس الذي به درك الألم، والضرب بالسيف يختلف من المهرة؛ فإنه يتعلق بحركات [اختبار] (7) وأمورٍ يدق مُدركها عند أهلها، ولا ينبغي أن يستبعد هذا (8) ، وقد ذكرنا وجهين في الإبقاء وضرب الرقبة بالسيف.
10444- ولو قتل الجاني بالحبس في البيت [والتجويع] (9) ؛ فإنا نجوّز للولي أن يقتل بمثله، ولا شك أن الولي لو أراد القتل بالسيف، كان له ذلك في هذه الصورة، فإنه أوحى وأيسر، فلو قال: الجاني: اقتلوني بمثل ما قتلت به، وأمتعوني ببقاء أيام. قلنا له: هذا يعارضه أن القصاص إذا وجب، وجب على الفور، ومن أتلف
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) في الأصل: "بالحق".
(3) مكان كلمة غير مقروءة رسمت هكذا "وحان".
(4) في الأصل: "الطرف".
(5) في الأصل: "ويبعد" وهو عكس المعنى المفهوم من السياق.
(6) في الأصل: "الخير".
(7) في الأصل: "اختياره". والمثبت من تصرّف المحقق، والمراد بحركات الاختبار، ما يكون من الضارب أولاً من هزّ السيف، وتحريكه نحو المضروب حتى يعرف أين تقع ضربته.
(8) ربما كان من الأولى أن نذكر هنا عبارة الرافعي عن هذه المسألة، فقد نقلها عن النهاية وعبر عنها بألفاظه، فقال:
"وفي (النهاية) أنه لو قتل بالتخنيق، فأراد الولي أن يقتله بالسيف، فقد قطع الشيخ أبو محمد بأن له ذلك، وفي الطرق رمز إلى خلافه؛ لأن الخنق قد يُظن أنه أقرب إلى إزالة الحس المدرك للألم، والضرب بالسيف يختلف باختلاف الضاربين والمشهور الأول" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 10/277) .
(9) في الأصل: " والـ حر مع ".(16/180)
مقداراً في مُددٍ، غَرِم على الفور، فإن [قال] (1) : الموت بالجوع أهون، كذبناه، فهذا منتهى ما أردناه.
10445- ومما يجب الاعتناء به أنا إذا كنا نرعى طريقَ المماثلة، فيجب الاحتياط به، حتى إن كان أحرق بنار، [راعينا قدرها، وكلما عظمت النار] (2) ، كان الموت بها أوحى.
وإذا قتل بالتردية، اعتبرنا مثلَ ذلك البعد في المَهْوى وصلابة الموقع.
وإن كان قتل بالضربات، فإنا نضربه بمثل تلك الآلة، ونرعى مثل تلك العِدّة، فإن مات، فذاك، وإن لم يمت، فيبعد تصوير القتل بذلك الجنس أوحى من القتل بالسيف، فيتعين العدول إلى السيف.
ولو قتل [نحيفاً] (3) بضربات يُقصد بها قتلُ مثله، واستوجب القصاصَ لذلك، وعلمنا أو ظننا ظناً غالباً أن [الجاني] (4) في جثته وقوته لا يهلك بتلك الضربات، وقد نظن أنه لا يهلك بأضعافها، فالوجه عندنا القطعُ بأنه يقتل بالسيف؛ فإن الضرب ليس قاتلاً له، مع الاقتصار على القدر الذي جرى، فليس في إيقاعه به إلا تعذيبٌ محض، ثم العدول إلى السيف، ونحن إنما نرعى المماثلة في الجهة إذا كنا نظن [القتل] (5) بها قصاصاًً مع رعاية المساواة، فليس كل جناية مقابلةً بالمماثلة، وهذا بيّنٌ لا خفاء (6) به.
10446- وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى القتل بما ليس بفاحشة في نفسه، وأما إذا
__________
(1) في الأصل: "قلنا".
(2) في الأصل: "وراعينا قدر ما وكل ما عظمت النار".
(3) في الأصل: "محرماً". والمثبت من الشرح الكبير حيث نقل الرافعي العبارة عن الإمام.
(4) في الأصل: "الحاز" (كذا تماماًَ) .
(5) في الأصل: "القتلة".
(6) نذكر هنا عبارة الرافعي، فقد نقل المسألة عن الإمام بألفاظه، فقال: "قال الإمام: ولو قتل نحيفاً بضربات تقتل مثلَه غالباًً، وتيقنا أو ظننا ظناً مؤكداً أن الجاني في جثته وقوته لا يهلك بتلك الضربات؛ فالوجه القطع أنه لا يُضرب تلك الضربات؛ لأنها لا تقتله، وإنما تراعى المماثلة، إذا توقعنا حصول الاقتصاص بذلك الطريق." (ر. الشرح الكبير: 10/278) .(16/181)
جرى بما هو فاحشة مثل أن يلوط بصغير، فيهلكَ به، أو يوجِرَ إنساناً خمراً حتى يموت، فلا شك أن المماثلة ممتنعة، والذي ذهب إليه الأصحاب أن العدول إلى السيف مع الاقتصاص.
وقال أبو سعيد الإصطخري: [يوجر] (1) الجاني ماءً إذا كان أوْجر خمراً، ويدس في [اللائط] (2) خشبة على قدر الآلة.
قلت: وهذا فيه إذا كان يظن أنه يهلك به، فإن لم يكن كذلك، التحق بالضربات في حق النحيف والجاني لا يهلك بها.
10447- وفي لفظ الشافعي تردد وإشكال في بعض أطراف المسألة؛ فإنه قال رضي الله عنه: "إذا شدخ رأسه بحجر يوالَى بذلك عليه إلى أن يموت" هكذا نقله المزني (3) ، [وظن أن الشافعي يرى أنه إذا لم يمت الجاني بالضربات] (4) التي سبقت منه، فنزيد في الضربات، ولا نعدل إلى السيف، وإنما وقع له هذا من قول الشافعي: "قال بعض أصحابنا: إن لم يمت من [عدد] (5) الضرب، قتل بالسيف" (6) ، فاعترض (7) وقال: هذا خلاف أصله، وأصلُه في التعطيش والتجويع؛ فإنه يقول فيه: "لا يوالى عليه إلى أن يموت".
قلنا: مذهب الشافعي أنه إذا فعل به مثلَ ما فعل بالضرب ولم يمت، تحزّ رقبتُه؛ فإن حزّ الرقبة أهون، ولم يبق لمستحق القصاص بعد ما عاقب بالجهة التي جرت الجناية [بها] (8) إلا القتلُ على أوحى الوجوه، والشافعي قد يعني نفسه بقوله: "ذهب
__________
(1) في الأصل: "يوجه".
(2) في الأصل: "الإبط".
(3) ر. المختصر: 5/114.
(4) عبارة الأصل: "وظن الشافعي أنه إذا لم يمت الجاني بالضربات ... إلخ" والتصرف بالزيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "عرر". والمثبت من نص المختصر.
(6) السابق نفسه.
(7) أي المزني. والمذكور هنا معنى كلامه، لا ألفاظه ونصه.
(8) في الأصل: "فيها".(16/182)
بعض أصحابنا" [إشارة] (1) إلى مذهبٍ له، فهو يخالف القطع، ونحن [نرعى] (2) من مذهبه القطعَ بالعدول إلى السيف، ففي اللفظ ما فيه.
وقد سمعت شيخي رضي الله عنه يحكي مطلقاً قولاً: أنا لا نعدل إلى السيف، بل نتمادى [على] (3) الجنس الذي وقع القتل به، وغالب ظنّي أنه كان يقول ذلك في النار، والتغريق، وإطالة مدة التجويع والتعطيش، فأما الزيادة على أعداد الضربات، فليس عندي في هذا سماع، وإن صح ما نقله، فهو لائق بالنص، وإن كان مشكلاً في المعنى، ثم يجب طرده في الزيادة على أعداد الضربات، ففيها اللفظ المشكل المنقول عن الشافعي، وهذا القول المرسل لا يتوجه عندي إلا بردّ الأمر إلى استشعار النفس [الخوفَ] (4) من النقل من جنس إلى جنس، وهذا لا أصل له، فإن ضربةً بسيف، أقربُ من مائة ضربة بجنسه.
فهذا منتهى الإمكان نقلاً وتصريحاً،
ولم أنقل القول المطلق حتى تَمهَّدَ المذهبُ نفياً [وإثباتاً] (5) كما سبق، ثم ربطته بالنص؛ فإنه عاضَدَه.
10448- ونحن نختم هذا الفصل بالتنبيه على معنىً بدعٍ [نخرِّج] (6) عليه قولاً لم يصححه الأصحاب، ئم نجمع مناظم المسائل في تراجم، [فليُقبل] (7) الناظر عليها، وليقدّر ما يقدّر جارياً على مسلكنا في طريق المباحثة، فنقول:
إذا لم يمت الجاني بمثل صنيعه، [بالمجنيّ] (8) عليه، فسبب ذلك أن [جنايته] (9)
__________
(1) مكان بياض بالأصل.
(2) في الأصل: "ندعي".
(3) زيادة من المحقق.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) زيادة على ضوء أسلوب الإمام في هذا التعبير الذي يتكرر كثيراً.
(6) في الأصل: "الحرج".
(7) في الأصل: "فلنقول".
(8) في الأصل: "فالمجني".
(9) في الأصل: "جناية".(16/183)
وقعت من المجني عليه موقعاً عظيماً، لضعفه، فهدمت بنيته، وهذا القدر لم يقع من الجاني موقع جنايته من المجني عليه، فإذا نحن زدنا من ذلك الجنس، فكأنا لم ننظر إلى قدر الفعل، وإنما طلبنا في [موضوع] (1) طريقِ المماثلة موقعَ الجناية لا صورتَها، ولا وصول إلى الموقع إلا بالزيادة في صورة الجناية، فاللطمة تقع من الطفل موقعاً تُهلكه، أو تدنيه من الهلاك، ولا موقع لها من الأيّد، وإذا [زيد] (2) في الجنس وبلغ جنسُ اللَّكم من القوي مبلغاً [يكون] (3) وقعه عليه كوقع اللكمة من الطفل، فهذه هي المماثلة، وقد يُضّطر إلى هذا في السيف، فإن النحيف تحذف رقبته [بضربةٍ واحدة] (4) بالسيف [والعُتلّ] (5) يوالى عليه بالضربات، ويُحتَمل ذلك.
وهذا [يصل بنا] (6) إلى أمرٍ هو تمام الكلام، هو أن المَوْقع (7) لا إشكال فيه، إذا حصل القتل، فلا نزال نزيد إلى الموت، وعنده يتبين آثار [رعايتنا] (8) المماثلة.
وإنما قررنا هذا لأن النص مائل إليه.
ثم هذا الذي ذكرناه يرد عليه سؤال وجواب عنه، وهو قُصارى الغرض، فإن قيل: قد قلتم إذا حصل القتل بضربةٍ في رضيع، فلا يوالَى على الجاني الأيّد بالضربات حتى يموت، وصرتم إلى أن المماثلة إنما نرعاها إذا تصور أن يكون قدر الجناية قتلاً للجاني، فإن لم يتفق [إلا مع الزيادة، فكيف الكلام] (9) ؟ قلنا: ذلك منه [ارتماءٌ] (10) في رجم الظن؛ ولسنا نُبعد الآن أن نقتل الأيّد بالضرب، نظراً إلى
__________
(1) في الأصل: "موضع".
(2) في الأصل: "ارتدّ".
(3) في الأصل: "ويكون".
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "القتل".
(6) زيادة من تصرف المحقق.
(7) المراد التماثل في موقع الجناية لا صورتها.
(8) في الأصل: "اعتناء".
(9) في الأصل: "فإن لم يتفق مع الزيادة الكلام". والتصرف في العبارة من المحقق.
(10) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها) .(16/184)
ما ذكرناه من فقه الموقع. نعم، إن كنا لا نرى الزيادة على قدر الجناية من جنسها، وعلمنا قطعاً أنه لو ضُرب ذلك المقدار، لم يمت، ولم نر الزيادة، فلا معنى لتعذيبٍ لا يتوقع منه القتل، والضربة الآن -حيث انتهى التفريع- ليست من القتل، وليست قتلاً.
10449- والآن نعيد المسائل المرسلة تراجمَ وننظمها في سِلْكٍ، فنقول: إن مات الجاني بالقدر الذي وقع [على] (1) المجني عليه، فلا كلام، وإن لم يمت بذلك القدر، لم يخل: إما أن يكون السيف أهونَ منه، [فالذي] (2) ذهب إليه معظم الأصحاب أنه يُعدل إلى السيف. وذكر شيخي قولاً ثالثاً: أنا نتمادى على جنس الجناية، والنصُّ يشهد لهذا، وهو معلل بفقه الموقع.
وإن كان إبقاؤه أو التمادي في جنس الجناية أهونَ، ذكر الأصحاب وجهين هاهنا، وهذا [مُستدٌّ] (3) إذا كان القتل [بسببٍ] (4) غيرِ منقطع كالبقاء في النار، وفي ضيق التجويع والتعطيش.
وإن كان جنس الجناية مما يتعدّد، لم يخل: إما أن يكون ضرباً، وإما أن يكون جرحاً بالسراية، فإن كان ضرباً، فالزيادة في الضربات إلى الموت أبعد عند الأصحاب من الإبقاء في النار وما في معناها، وكان شيخي يطرد الخلاف، وهو مصرَّح به في النص؛ فإنه مفروض في الشدخات والضربات بالحجر.
وإن كانت الجناية جرحاً، لم يخل: إما أن يكون بحيث يتعلق القصاص به لو اندمل، كقطع الأيدي والأرجل، وإما أن يكون بحيث لا يتعلق القصاص به لو انفرد، فإن كان جرحَ قصاص، فلا زيادة من جنس الجناية، فلو قطع يدي رجل، فمات المجني عليه، قطعنا يدي الجاني، فإن لم يمت، لم نقطع رجليه، بل عدلنا إلى ضرب الرقبة، وهذا متفق عليه؛ فإن الزيادة في هذا القبيل ليست زيادةً في جنس
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "والذي".
(3) في الأصل: "مستمرّ".
(4) في الأصل: "سببا".(16/185)
وإنما هي عدول عن جنس الجناية، فإذا كنا نعدل، فضرب الرقبة أولى.
وإن كان الجرح بحيث لا يتعلق القصاص به لو اندمل [كالجائفة] (1) ، فهل نجيف الجاني كما أجاف؟ في المسألة قولان: أحد القولين - نجيفه جرياناً على المماثلة، كما نقتله بالضرب والشدخ. والثاني - لا نفعل ذلك؛ فإن الجوائف لا يُضبط مبالغ الإيذاء فيها، وليست موحيةً، بخلاف الإغراق والإحراق والخنق والضربات التي ترد على الظاهر، [فهي] (2) مضبوطة أو قريبة من الضبط.
فلينظر الناظر في الإيحاء أو في ظهور الأسباب، فإن قلنا: لا نجيف الجاني، فلا كلام، وإن قلنا: نجيفه، فالأصح أنا لا نزيد من جنس الجوائف، كما لا نقطع الرجلين بعد قطع اليدين؛ فإن الجوائف مختلفة الأجناس، إذا اختلفت محالها.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فخرَّج التمادي على الإجافة على الخلاف، قياساً على الضربات، وقال: إذا جرت المماثلة في الأصل، لم يبعد جريان الخلاف في الزيادة، وهذا يرد عليه قطع الأطراف. فهذا منتهى المراد.
وقد ذكرنا قتلَ الطفل بالضربة والجاني أيّدٌ، وأجرينا فيه ما ينبغي، فلا نعيده.
10450- ومن تمام القول في ذلك أن من قطع يديْ رجل، فمات، فقطعنا اليدين من الجاني، فلو قال: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه، فلعلي أموت بهذا القطع، وهذا هو المماثلة، لم نُجبه إلى ذلك، وقتلناه بالسيف؛ لأن حق القصاص ناجز، واليد المقطوعة مقصودة بالقصاص، ولو أراد ولي القصاص أن يُمهل الجاني، فقال: ادعوني واقتلوني واعطفوا عني (3) ، لم يكن له ذلك، والأمر إلى مستحق القصاص.
والله أعلم.
وقد أتينا على القتل بالأسباب السارية. وهو أحد قسمي الكلام.
__________
(1) في الأصل: "بالجائفة".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) كذا تماماً، والجمل الثلاث معناها واضح. فهو يقول: اطلبوني للقتل، واقتلوني، وميلوا عني، وأريحوني من وجوهكم.(16/186)
[فصل] (1)
قال:"والقصاص دون النفس شيئان جرح يشق وطرف يُقطع ... إلى آخره" (2) .
10451- القصاص ضربان: أحدهما - في النفس، وقد مضى معظم المقصود منه. والثاني - في الأطراف، ومعظمها على الجملة مصونةٌ بشرع القصاص فيها كالنفس.
ثم القصاص في الطرف ضربان: جرح يشقّ، وطرفٌ يُقطع، فالجروح تنقسم إلى ما يقع منها بالرأس والوجه، وإلى ما يقع بسائر البدن، فأما ما يقع منها بالرأس والوجه، فهي التي تسمى الشِّجاج، ولها مراتب عشرٌ ذاتُ أسماء: [الحارِصة] (3) : وهي التي تحرِص الجلد أي تشقه، ومنه قولهم: حَرَص القصّار الثوب إذا شقه.
والدامية: وهي التي يسيل منها الدم (4) ، والباضِعة: وهي التي تبضَع اللحم
__________
(1) مكان بياض بالأصل.
(2) ر. المختصر: 5/117.
(3) في الأصل: "الجارحة".
(4) خطّأ النووي الإمامَ والغزالي في تفسيرهما (الدامية) بأنها التي يسيل منها الدم، قال: "الدامية وهي التي يدمَى موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، هكذا نص عليه الشافعي وأهل اللغة، قال أهل اللغة: فإن سال منها دم، فهي الدامعة -بالعين المهملة- وذكر الإمام والغزالي في تفسيرها سيلان الدم، وهو خلاف الصواب." انتهى بنصه. (ر. الروضة: 9/179) .
قلتُ: عبد العظيم: ما رأيناه يشهد بأن الصواب مع الإمام والغزالي، وأهل اللغة يشهدون لهما لا للإمام النووي، فهذا أبو منصور الأزهري يقول: "جملة ما أفسره في هذا الباب من كلام الشافعي، ومما جمعه أبو عبيد للأصمعي وغيره ومن كتاب شَمِر في غريب الحديث: فأول الشجاج عندهم: الحارصة: وهي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلاً ...
ثم الدامعة: وهي التي تدمع بقطرة من دم.
ثم الدامية: وهي أكثر من الدامعة ... إلخ".
(ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 815- 818) .=(16/187)
وتقطعه، ومنه مِبْضع الفصّاد، والبِضعة القطعة ومن ذلك بضعةَ عشرَ، والمتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم غوصاً بالغاً (1) . والسِّمحاق: [وهي التي تغوص في اللحم إلى نهايته، وتصل إلى الجلدة التي بين اللحم والعظم ولكنها لا تقطعها، وهذه الجلدة تسمى السمحاق. والموضِحة:] (2) وهي التي توضِح العظم وتَنْدُره (3) ، والهاشمة: وهي التي تهشم العظم، والمُنَقِّلة: وهي التي تكسر العظم وتنقل القِطَع منها عن أماكنها، والمأمومة: وتسمى الآمّة، وهي التي تبلغ أم الرأس (4) ، ولا تخرق الخريطة، والدامغة: وهي التي تخرق الخريطة وتصل إلى الدماغ، وليست من الجراحات؛ فإنها مذفِّفة مُجْهزة كضرب الرقبة.
فهذه مراتب الشِّجاج. ونحن نذكر مواضع الشجاج، ثم نذكر ما يجري القصاص
__________
= فهذا أبو منصور الأزهري ينقل عن الشافعي وأهل اللغة: "أن الدامعة تدمع بقطرة من دم، أي يسيل منها الدم قليلاً، كقطرة الدمع. ثم يقول: الدامية أكثر من الدامعة، وهي التي تليها في الترتيب، ولا معنى للكثرة إلا أن الدم الذي يخرج من الدامعة كقطرة الدمع يخرج بصورة أكثر من الدامية: أي يسيل. والله أعلم.
ثم وجدنا الثعالبي في فقه اللغة يقول بمثل ما قال الأزهري (فقه اللغة: ص 242) . وتتمة لهذا الأمر نؤكد أن ما قاله الإمام النووي له سنده من أئمة اللغة وبعض المعاجم المعروفة، ولكننا رجحنا ما قاله الأزهري باعتباره جرّد قصده لشرح غريب ألفاظ إمام المذهب.
(1) تغوص في اللحم غوصاً بالغاً، ولكنها لا تبلغ الجلدة الرقيقة التي تكون بين اللحم والعظم، وهذه الجلدة تسمى السمحاق.
(2) ما بين المعقفين سقط من نسخة الأصل، ولا يستقيم الكلام بدونه، فقد قال: إن الشجاج عثر مراتب، ثم لم نجد إلا تسعاً، ثم إنه سيتكلم فيما بعد عن حكم (الموضحة) ولم تكن سبقت. وقد أخذنا هذه الزيادة من معنى كلام الإمام النووي. (ر. الروضة: 9/180) .
(3) تندره: أي تُظهره وتبرزه، يقال: ندر الشيءُ: خرج من غيره وبرز، ومنه نادر الجبل، وهو ما يخرج منه ويبرز، ويقال: ندر العظم من موضعه: زال (المصباح والمعجم) والمعنى هنا: ظهر وانكشف، وذلك لا يكون إلا بقطع الجلد الذي بين اللحم والعظم، وبهذا تزيد الموضِحة عن السمحاق.
(4) أم الرأس: هي الخريطة التي فيها الدماغ. كذا قال ابن شميل، وحكاه عنه الأزهري في (غريب ألفاظ الشافعي) فقرة: 827. والخريطة في الأصل شبه كيسِ يُشرجُ من أديم أو نحوه (المعجم والمصباح) والمراد هنا العظم الذي يحوي الدماغ، وهو المعروف بالجمجمة.(16/188)
فيها، ثم نبيّن أقدار الأروش ومتعلقاتها، ثم نذكر بإرسال المسائل ما يستوجب الغرض.
10452- فالشجاج التي وصفناها تتحقق في الرأس، وتجري بجملتها في [الجبهة] (1) جريانَها في الرأس، وهي جارية في الوجهِ واللِّحيين، وقصبةِ الأنف، وكل ما يصل إلى باطن الفم، ففي ثبوت حكم الجائفة (2) ومقدارها وجهان: أحدهما - لا يثبت؛ فإن داخل الفم في حكم الظاهر. والثاني - يثبت؛ لأن الأحكام منقسمة في داخل الفم.
والرأي عندي ألا نوجه الوجهين بهذا المسلك، بل نقول: من لم يُثبت حكمَ الجائفة، احتج بأن أرش الجائفة لغَوْرها وغائلتها وعظم أثرها في البنية، ومن قال: يثبت حكم الجائفة، قال: هي مفسدة لحكم [طبيعة] (3) الوجه واستتار الغلصمة ومجاري التنفس بالسواتر الخلقية، والجوائفُ مختلفة الأقدار في الآثار، فمنها ما يذفف (4) ، ومنها ما يُدني من الردى، والمقدَّر (5) واحد.
والقول فيما يصل إلى داخل الأنف، كالقول فيما يصل إلى داخل الفم.
وكان شيخي يُجري خرقَ الأجفان على الخلاف إذا نفد الخرق إلى بيضة العين.
فإن قيل: لم اختصت هذه المقدَّرات بالرأس من جملة البدن؟ قلنا: الرأس والوجه مجتمع المحاسن، فيعظم وقعُ الشجاج فيها في النفوس، ثم لم نقل ما قلنا عن
__________
(1) في الأصل: "الجهة".
(2) الجائفة: "هي الجراحة الواصلة إلى جوفٍ فيه قوة محيلة، كالبطن وداخل الصدر" كذا عرفها الغزالي. (الوسيط: 6/335) وهي ليست من جراحات الوجه والرأس، ولم يسبق للمؤلف تعريفٌ بها، ولكنه أشار هنا إلى أن الجراحة التي في الوجه إذا نفذت إلى داخل الفم، فقد تنازعها اعتباران أو نظران: أينظر إلى جوف الفم، فتعتبر جائفة، أم إلى أنها في الرأس والوجه، فتعتبر من الجراح العشرة.
(3) في الأصل: "ظنه" بهذا الرسم تماماً.
(4) كذا قرأنا بصعوبة بالغة، وهي صحيحة إن شاء الله.
(5) أي المقدّر في جزائها.(16/189)
رأي، بل المقدَّرات التي نصفها معظمُها منقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صحائفَ ضمّنها أُروش الجراحات.
هذا بيان محالّ الشجاج.
10453- فأما القول فيما يتعلق القصاص به من هذه المراتب، فلا خلاف أن القصاص يتعلق بالمُوضحة على ما سنفصل القول فيه، ولا قصاصَ فيما يزيد على الموضحة.
أما الهاشمة؛ فإنها تكسر العظم وإجراء القصاص في العظام غيرُ ممكن، [أما] (1) الأسباب، فإنها ستأتي مفصلة، وإذا لم يجر القصاص في الهاشمة، فلا مطمع في إجرائه في المُنقِّلة، والآمّة جائفة، ولا قصاص في الجوائف، ولو صح القول بأن الجرح النافذ داخل الفم جائفة، [فلا بُعْد] (2) عندي في إجراء القصاص فيه؛ فإن سبب الامتناع عن القصاص في الجوائف [تباين] (3) أغوارها واختلاف أقدارها، وهذا لا يتحقق فيما نحن فيه، وسنعود إلى ذلك.
فأما الجراحات التي تنحط عن الموضحة كالمتلاحمة والباضعة، فقد ظهر اختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في إجراء القصاص فيها، وبنى صاحب التقريب القصاصَ في بعض الطرف على ذلك، وقاس الموضحة بالقطع المبين، والمتلاحمة [بالقطع] (4) الذي يغوص في العضو ولا ينتهي إلى الإبانة، وأشار معظم أصحابنا إلى إجراء القصاص في القطع الذي يغوص في الأذن.
10454- وأنا أرتب هذا بعون الله تعالى، فأقول: المتبع في الباب إمكان المساواة؛ فإن القصاص غيرُ منوط بكون الجرح مقدرَ الأرش، وهو غير معتبر في [النفي] (5) والإثبات، فإن الجائفة مقدرةُ الأرش، ولا قصاص فيها، والأصبع الزائدة
__________
(1) في الأصل: "إلا".
(2) في الأصل: "فلا يبعد".
(3) في الأصل: "يتأتى".
(4) في الأصل: "في القطع".
(5) في الأصل: "النص".(16/190)
فيها حكومة، وهي مقابلة بمثلها من الجاني، فالقاعدة ما وصفناه إذاً، ورعاية المساواة في بعض اليد والرجل بعيدة، فإنها مجمع العروق، وفيها تلافّ (1) الأعصاب والرُّبُط، ولا يستوي الخلق فيها؛ فإنا نرى [وضع] (2) العروق مختلفاً في بدين [يُيَسِّر] (3) الفِصاد (4) ، [فيصادِف] (5) من [العُتلّ] (6) الأكحلَ والقيفالَ (7) ولا يصيب من المُنْحَف إلا الباسليق (8) ، وإذا كان كذلك، فلا يتأتى الاستواء [في] (9) البعض أصلاً.
والأذن صدفةٌ غضروفية [ليس] (10) على مركبها (11) عروق بها مبالاة، وكذلك لحمة الرأس لا تشتمل على مثل ما وصفناه في اليد والرجل، ولكنا نحتاج في إجراء القصاص في المتلاحمة إلى [نِسَبٍ] (12) كما نصفها، وقد أشار الأصحاب إلى الخلاف فيه، والقول الجامع أن نرتبها ثلاث مراتب: المرتبة الأولى - في الأذن وفي معناها
__________
(1) تلافّ: من الالتفاف. والربط جمع رباط مثل: كتاب وكتب، وتلافّ: مضارع حذفت منه تاء المضارعة.
(2) في الأصل: "منع".
(3) غير مقروءة في الأصل.
(4) الفِصاد: بكسر الفاء الاسمُ من فصد (المصباح) .
(5) في الأصل: "ويصادف". والفاعل هو الفصّاد.
(6) في الأصل: "القتل".
(7) الأكحل، والقيفال (بكسر القاف) عرقان في الذراع، يقع الفصد فيهما (المصباح) .
(8) الباسليق. كذا تماماًَ، ولم أصل إلى تعريف له في المعاجم، وواضح من السياق أنه عرق في الذراع. ومعنى العبارة: أن الخلق لا يستوون في البدانة والنحافة، ولذا يصعب القصاص في بعض اليد؛ حيث لا يمكن المساواة.
وعبارة الغزالي في البسيط: "وقد يصادف الفصّاد الأكحل والقيفال من العتل وقد لا يصادف من النحيف إلا الباسليق". (ر. البسيط: 5/لوحة رقم: 23 شمال) .
وأخيراً، والكتاب ماثل للطبع جاءنا من يستحق الشكر والتقدير بتفسير (الباسليق) في فقه اللغة للثعالبي بأنه: عرقٌ في اليد، وهو عند المرفق في الجانب الإنسي مما يلي الآباط (ر. فقه اللغة: 134) .
(9) زيادة من المحقق.
(10) في الأصل: "لين".
(11) كذا.
(12) في الأصل: "سبب"، وسيتضح المقصود بمعنى النسب.(16/191)
المارن، فقطع البعض من غير إبانة يوجب القصاص على الأصح، وفيه قول آخر - إنه لا يجري القصاص فيه.
المرتبة الثانية - المتلاحمة وهي أبعد من الأذن لمسيس الحاجة إلى ضبط النسبة.
والمرتبة الثالثة - في بعض اليد والرجل، وهي أبعدها عن القصاص، كما نبهنا عليه.
10455- وقد عاد بنا الكلام إلى الشِّجاج واطراد القولين في المتلاحمة والباضعة والسمحاق.
فأما الحارصة، فلا قصاص فيها؛ فإنها غير منضبطة ولا وقع لها، ولا يفوت بها شيء، وتردد جواب شيخي في الدامية، فزعم أن ميل الققال إلى القطع بأنه لا قصاص فيها كالحارصة.
ثم إذا أوجبنا القصاص في المتلاحمة، فطريقُه النسبةُ لا صورةُ المقدار؛ فإن بلغت متلاحمة الجاني إلى نصف سمك رأس المجني عليه، أوصلنا جراحة القصاص إلى نصف سمك رأس الجاني، وقد يختلف المقداران حسّاً مع التساوي في النسبة، وذلك بأن يكون سمك اللحم على رأس الجاني شَعِيرة (1) إلى العظم، وسمك اللحم على رأس المجني عليه شعيرتان، فإذا شق الجاني شعيرة، وانتهى إلى نصف سمك رأس المجني عليه، فنكتفي بنصف شعيرة من رأس الجاني، نظراً إلى النسبة ولو راعينا القدر، لشققنا شعيرة من رأس الجاني، وهذا يُفضي إلى إيضاحه، فلا بد إذاً من اعتبار النسبة.
وهذا لا يتأتى الوصول إلى دركه من غير أن يُفرض على رأس الجاني والمجني عليه موضحتان؛ فإنا منهما نستبين قدر السمك [بالشجاج] (2) ، وليكونا طريين؛ فإنهما إذا عَتَقَتا (3) ، لحق الاستحشاف أطرافهما. وقد ينبت مزيد لحم. فإن أمكن اعتبار
__________
(1) شعيرة: المراد بسمك شعيرة من حبات الشعير المعروف، وهي وحدة قياس كانت معروفة ومتداولة عندهم.
(2) في الأصل: "بالمنشار". ولا معنى لها. والمراد بالشجاج أي الجرح الموجود على رأس كل منهما.
(3) عتقتا: من باب ضرب وقرب، وهي من قولك عتقت الخمر إذا قدُمت (المعجم والمصباح) .(16/192)
النسبة، فذاك، وإن لم يمكن، أجرينا القصاص في قدر الاستيقان، وكففنا عن محل الإشكال.
هذا ما أردناه فيما يتعلق القصاص به.
وإذا نفذت الجراحة في الخد إلى الفم، ولم نرها جائفة، فلا يمتنع إجراء
القصاص فيها على قولنا بإيجاب القصاص من المتلاحمة؛ فإن هذا ينضبط، فله مَردٌّ بيّن، بخلاف المتلاحمة.
ولولا ما بلغني من تشبيب (1) الأصحاب بذكر الخلاف فيه، وإلا لاقتضى القياس القطع بإيجاب القصاص. [وسنبين ذلك] (2) في استرسال الكلام في الفصل.
هذا بيان ما أردناه في أصل القصاص.
10456- ونحن نفصل الآن القصاص وكيفيةَ إجرائه في الموضِحة: فإذا أوضح رجل رأس رجل، أوضحنا رأس الجاني، والمرعي في الموضِحة الاسمُ والمساحة، فهذان المعتبران هما الأصل، وبينهما في الاعتبار تعيّن المحل، فأما الاسم، فإذا وضح المعظم، فقد تحقق الاسم، واللحمُ المشقوق فوق العظم لا اعتبار به في الموضحة، وتفاوت قدره من الجاني والمجني عليه كتفاوت اليدين في [حجمهما عَبالة] (3) ونحافة، فيد العتلّ مقطوعة [بيد النحيف] (4) ، كذلك شق رأس الجاني، وإن كان لحم رأسه أكثر، هذا هو الذي أجمع الأصحاب عليه.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يراعى تساويهما في السمك والعمق، فلا يشق [شعيرتين بشعيرة] (5) . وهذا غلط صريح، لم أُخل الكتاب عن حكايته، ولا عوْد إليه.
__________
(1) تشبيب: يتردد هذا اللفظ كثيراً في كلام الإمام، وهو هنا بمعنى (التولّع) ، الذي يستخدمه الإمام أيضاًً.
(2) في الأصل: "وسنبين في ذلك".
(3) في الأصل: "حجمتهما عادة".
(4) في الأصل: "من النحيف".
(5) في الأصل: "شعرتين بشعرة".(16/193)
هذا قولنا في الاسم.
10457- فأما المساحة، فلا بد منها، فإذا أوضح الجاني مقداراً من رأس إنسان، لم نزد عليه ولم ننقص منه.
وأما تعيّن المحل، فإذا أوضحت الجناية [ناصية] (1) المجني عليه، أوقعنا القصاص بناصية الجاني.
هكذا القول في جميع أجزاء الرأس، ولو استوعب الرجل رأسَ رجل بالإيضاح، فإن كان رأس الشاج مثلَ رأس المشجوج في المساحة، استوعبنا رأس الشاج. [وإن كان رأس الشاج] (2) أصغرَ من رأس المشجوج في المساحة، استوفينا رأس الشاج إيضاحاً، وأثبتنا للمجني عليه الرجوع إلى قسط من الأرش، على ما سنذكر تفصيلَه في فصل الأروش.
ولو كان رأس الشاج أكبرَ من رأس المشجوج، لم نستوعبه بالإيضاح، بل نقتصر على قدر مساحة رأس المشجوج، فليس صغر الرأس وكبره بمثابة عبالة اليد ونحافتها؛ فإن التعويل على اعتبار المساحة في الموضحة، وتمام بيان الفصل في نجازه.
ثم إذا أردنا أن نوضح رأس الشاج مثلَ مساحة رأس المشجوج، ففي الموضع الذي نذهب إليه، ونبتدىء القصاص منه نظر، ذهب بعض الأصحاب إلى أن الاختيار في ذلك إلى مستحِق القصاص، فيأخذ في أي جهةٍ وصوبٍ شاء، على شرط أن يكون ما يأتي به موضِحةً واحدة، لا انفصال ولا تقطعَ فيها.
وذهب القاضي إلى أنا نبتدىء في القصاص بالجهة التي ابتدأ الجاني بالجناية منها، ثم نأخذ في الإيضاح إلى أن نستوفي مقدار [رأس] (3) المشجوج، وهذا عسر، وقد تُفرض الجناية مُطبقةً بالرأس [والوجه] (4) معاً بآلةٍ يتأتى بها ذلك.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: "أرش".
(4) زيادة من المحقق.(16/194)
ثم من أصحابنا من فرض الخِيَرة إلى الجاني حتى يمكَّن من الاقتصاص في أي جانب شاء، وهذا متجهٌ، لا بأس به.
وقد تحصّل أوجهٌ: أحدُها - رد الأمر إلى المقتص (1) . والثاني - ردّه إلى المقتص منه، والثالث- اعتبار مبدأ الجناية والذهاب في صوبها إلى الاستيفاء.
ولو كان رأس الشاج أكبرَ من رأس المشجوج، ولكن كان أُوضح من رأس الشاج شيء، والباقي من جلدة رأسه على قدر رأس المشجوج، فإنا نستوفيه برأس المشجوج، ولا خيرة.
ولو استوعب الشاج ناصية المشجوج، وكانت ناصيةُ الشاج أصغرَ من ناصية المشجوج، فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أنا نكمل مساحة القصاص من سائر أجزاء الرأس.
ومن أصحابنا من قال: يقتصر على الناصية، ونرجع فيما عدمناه إلى حصة من الأرش، وهذا اختيار القاضي، ومأخذه فيما ذكرناه من تعيّن الأجزاء في الإيضاح، فكل جزء في أنه لا يُتعدَّى بمثابة الرأس في أنه لا يتعدى منه إلى غيره.
وقد اتفق أصحابنا في أن رأس الشاج إذا كان أصغر لم يستكمل مقدارُ رأس المشجوج من [جبهة الشاج] (2) ، لتباين المحلَّين واختلاف الاسمين.
10458- ولو أوضح رجل رأسَ رجل وهشمه، جرى القصاص في الموضِحة، ولا قصاص في الهشم، ولا يمتنع عندنا أن يتعلق القصاص ببعض الجناية دون بعض، وسيأتي نظائر ذلك في قطع الأطراف.
ثم ينبغي للمقتص أن يحتاط ويَحْلِق موضع الإيضاح من الجاني، ويستعملَ حديدة حادّة، ولا يُقَصِّر في الاقتصار على القدر المستحَق.
__________
(1) قال النووي: الصحيح: الاختيار إلى الجاني، وقال الرافعي: إنه الأظهر. (ر. الشرح الكبير: 1/224، والروضة: 9/190) .
(2) في الأصل: "جهة المشاج".(16/195)
ولو جرى الإيضاح بخشبة، [فلا يتصور] (1) رعايةُ المماثلة في الآلة، بل الاقتصاص بالحديدة (2) ، بخلاف القصاص في النفس [فإن الضرب بها ممكن] (3) .
فهذا تفصيل القول فيما يتعلق بالقصاص.
10459- ومن مسائل هذا ما نجريه في الفصل الثالث، وهو الأرش، فنقول: أرش الموضِحة ممن ديته كاملةٌ خمسٌ من الإبل، وهو نصف عشر الدية من كل شخص، يكمل بكمال الدية، وينقص بنقصانها.
وفي الهاشمة في صورة الكمال عشرٌ من الإبل، وفي المنقِّلة خمسةَ عشرَ، ونص الحديث (4) وارد في الموضِحة والهاشمة، والمنقِّلةُ مقيسةٌ على الهاشمة في مقدار
__________
(1) في الأصل: "ولا يتصور".
(2) عبارة الرافعي في هذا أكثر وضوحاً وتفصيلاً؛ إذ قال: "ويوضَح (أي الجاني) بحديدة حادة كالموسى، ولا يوضَح بالسيف، وإن كان قد أوضح به، لأنه لا تؤمن الزيادة، وكذلك لو أوضح بحجر أو خشب يوضَح بالحديدة، ذكره الفقال، وغيره، وتردد فيه القاضي الروياني" (ر. الشرح الكبير: 10/223) .
وتردد الروياني فيما إذا خيف الحيف والزيادة، عبر عن هذا ما نقله قليوبي في حاشيته عن الخطيب، فقال: قال الخطيب: يوضَح بالموسى، وإن جنى بغيرها من سيف أو حجر، لاحتمال الحيف، فإن أمن الحيف، جاز. انتهى بمعناه. (ر. قليوبي وعميرة: 4/116) .
(3) في الأصل: "فإن القريب ممكن". والمثبت تصرف منا مع محاولة الالتزام بأقرب صورة للكلمة.
(4) يشير إلى كتاب عمرو بن حزم المشهور في الدياث، والذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن. والحديث رواه مالك، والشافعي، والنسائي، وأبو داود في المراسيل، والدارمي، وعبد الرزاق، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. وقد روي مطولاً ومختصراً، وموصولاً، ومرسلاً. قال ابن عبد البر: "هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغني بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة". ا. هـ وقد أفاض الحافظ في الحديث عن هذا الكتاب، ونقل اختلاف أهل الحديث في صحته. (ر. النسائي: العقول، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين عنه (4853 وما بعده) . الموطأ: 2/849، الدارمي: 2/249، عبد الرزاق: ح 6793، الدارقطني: 1/122، الحاكم: 1/395-397، ابن حبان: 6525، المراسيل لأبى داود: ح 257، البيهقي في الكبرى: 8/28، ومعرفة السنن والآثار: ح 4979، التلخيص: 4/34- 36 ح 1879) .(16/196)
الزيادة، فكما فضلت الهاشمةُ الموضِحةَ بخمس، فضلت المنقِّلةُ الهاشمةَ بخمس.
وفي الآمّة أرشُ جائفة، ولا تنسب إلى ما تقدّم.
فهذا قولنا في الموضحة، فما يزيد عليها.
10460- فأما ما دون الموضِحة، فالأمر في أرشه يبنى على القصاص، فما أوجبنا فيها مقداراً منسوباً إلى [أرش] (1) الموضِحة، فإن شقت حديدة الجاني نصف السمك، أوجبنا نصف أرش الموضحة، وهكذا القول فيما يتفق.
وإن لم نوجب القصاص، فالرجوع إلى الحكومة.
فإن قيل: إذا كنا نوجب الحكومة، فسبيل التقريب فيها بالاجتهاد، وأعتبار ما زاد وبقي من السمك، فكيف يفترق القولان؟ قلنا: يفترقان بدقيقةٍ لا يقف على الفصل من لم يقف عليها، وهي أنا إذا جعلنا المتلاحمةَ جرحَ قصاص، فاعتبار نسبة السمك محتومٌ في الأرش، وإن لم نجعلها جرحَ قصاص، فلا نجعل ذلك حتماً في نظر المجتهد، فقد يرى ما بقي أفضل مما زال، وقد يرى ما زال أفضل مما بقي، ولئن كان السمك آخرَ ما ينظر فيه واضع الحكومة، فليس معتبره المحتوم.
10461- ومما يتصل بالأرش أن الموضِحةَ الصغيرةَ فيها ما في الموضِحة الكبيرة، ولو استوعب الرجل رأس رجل بالإيضاح، لم يلتزم إلا ما يلتزمه بموضحة قدرها مغرز إبرة.
ومما يجب قطع الوهم فيه أن من غرز إبرة في رأس إنسان، وأنهاها إلى العظم، فالجرحُ موضِحة، وإن كان العظم لا يظهر للناظر، فالمعتبر في تكميل الأرش وإيجاب القصاص الشق إلى العظم.
ولو أوضح مواضعَ من رأس إنسان، وبين الموضحات حواجز كاملةٌ، ففي كل موضحة خمسٌ من الإبل؛ فإن المتبع في الباب الاسمُ.
ولو أوضح مواضع وبينها الحواجز، فتأكَّلت وزالت الحواجز، عاد الأرش إلى
__________
(1) في الأصل: "رأس".(16/197)
واحد، وكان ذلك فيها بمثابة ما لو قطع يدي رجل ورجليه، ثم عاد فقتله قبل اندمال الجراحات، فالمنصوص إيجابُ الدية، وعودُ الأروش إليها، ونُزول الواقعة منزلةَ ما لو جرى ما وصفناه بالسراية.
وذهب ابن سريج في قطع الأطراف وقتل النفس بعدها إلى تعدد الأروش والدية، ومذهبُه في رفع الحواجز هذا أيضاًً، فالأروش لا تنقص، ورفعُ الحواجز جناية جديدة يتعلق بها حكمها.
والقول الوجيز المحيط بمذهب ابن سريج أنا نجعل عَوْد الجاني ورفعَه الحواجزَ بمثابة ما لو رفع أجنبي الحواجز، ولو كان كذلك، فالأروش على تعددها في حق الجاني الأول، وعلى الجاني الثاني أرش جناياته.
ونحن نُفصِّل ذلك الآن، فنقول: لو أوضح الأول موضِحتين، وترك بينهما حاجزاً فجاء آخر، ورفع الحاجز، فعلى الأول أرش موضحتين عشرٌ من الإبل، وعلى الثاني في رفع الحاجز خمسٌ من الإبل.
ولو أوضح الأول ثلاث موضحات بينها حاجزان، فجاء ثانٍ، ورفع الحاجزين، فعلى الأول ثلاثة أروش، وعلى الثاني أرشان.
وهذا يظهر بما نصفه، فنقول: لو ابتدأ رجل، فأوضح مقدمة الناصية من رأس إنسان، ثم جاء جانٍ آخر، وابتدأ فأوضح من منتهى جناية الأول، ثم هكذا حتى [استوعب] (1) مائةٌ مثلاً الرأس شجّاً، على الترتيب الذي وصفناه، فعلى كل واحد أرشُ موضِحة؛ فإنّ فعل كل واحد لا يتعلق بفعل غيره، وكل فعل إيضاحٌ في نفسه.
10462- ولو أثبتنا القصاص في موضحةٍ، وأَحدَّ [من له] (2) القصاصُ الحديدةَ، واقتص وزاد: فإن زاد عمداً، وجب القصاص عليه، وإن اضطربت يده، فحصلت الزيادة خطأ، وجب في مقابلة الزيادة ضمانٌ، وفي [قدره] (3) وجهان: أحدهما - أنه
__________
(1) في الأصل: "استوجب".
(2) في الأصل: "له من".
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.(16/198)
يجب فيه أرشٌ كامل؛ لأن الجارح وإن اتحد واتحدت الجراحة، فالحكم مختلف؛ فإن الزيادة ظلم أو خطأ، فكان اختلافهما بمثابة تعدد الجانيين، هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من قال: نوزع أرشاً تقديراً على الموضحة التي جرت، ونسقط ما يقابِلُ [منه] (1) القصاصَ، ونوجب [أرش] (2) الباقي. وهذا القائل ينظر إلى اتحاد الجراحة والجارح، والأصح الأول، وهو الذي استقر عليه جواب الققال.
ولو وجب القصاص في موضحة، فأراد من له القصاص أن يقتص من بعضها، ويرجع إلى قسط من الأرش في الباقي، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ليس له ذلك؛ فإن الموضِحة جرحٌ واحد، فلا يتبعض حكمه، وليس كما لو قطع رجل أصبعين من رجل آخر، فللمجني عليه أن يقتص من إحدى الإصبعين، ويرجع في الأخرى إلى المال؛ فإنهما قطعان، لكل واحد منهما حكم التميز عن الآخر.
والوجه الثاني - أن له أن يرجع في البعض إلى قسط من الأرش؛ فإن القدر الذي يقتص منه يتصور ثبوت القصاص فيه وحده، فلا يبعد التبعيض على الوجه الذي وصفناه.
ويخرج على هذا التردد أنه لو قال مستحق المَصاص: عفوت عن القصاص في نصف هذه الجراحة، فهل يتضمن هذا إسقاطَ القصاص في الجميع؟ فعلى ما ذكرناه.
ولو وقع ابتداء الإيضاح خطأ، ثم تمادى الجاني واعتمد وزاد، فلا أعرف خلافاً أن القصاص يجب في محل العمد، وإن [اتّحدت] (3) الجراحة.
10463- ولو أوضح مواضع من رأس إنسان وترك في خلل قطع العظام لحوماً لا جلود عليها، فظاهر المذهب أن الكل في حكم الموضحة الواحدة، فإن الجراحة شملت جميع الموضع، فكانت في بعضها إيضاحاً، وفي بعضها متلاحمة، ولو كان
__________
(1) في الأصل: "فيه".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "انجرت".(16/199)
إيضاحاً، لم يجب إلا خمس من الإبل، والإيضاح أعظم من المتلاحمة.
ومن أصحابنا من قدر اللحوم حواجز إن ثبتت (1) ، وأوجب أعداداً من الأروش.
ولو أوضح الجاني خطأ مستديراً وفي وسط الخط لحم وجلد، فالموضحة واحدة، وذلك الكائن في الوسط ليس حاجزاً معدِّداً للموضحة؛ فإن الجراحة متواصلة لا حاجز فيها.
ولو أوضح مواضع وبين الموضِحات جلود لا لحوم، ولا سِمحاقَ تحتها، فالمذهب القطع بأن الكل موضحةٌ واحدة؛ فإن العظم بادٍ وبدوّه متواصل ولا حاجز، وليس كما اللحمة؛ على أنا قدمنا أن الأصح أنها ليست حاجزة أيضاً.
هذا تمام القول في شجاج الرأس والوجه.
10464- وقال الأصحاب: إذا نفذت جراحةٌ من الوجْنة إلى الفم، ولم نجعلها جائفة، ففيها أرشُ منقِّلة وزيادة حكومة، وجعلوا النفوذ أبلغ من التنقيل.
ولو وقع الجرح على لحم الجلد، ونفذ إلى داخل الفم، فالواجب أرش متلاحمة
وزيادة حكومة إذا لم نجعل الجراحة جائفة.
وكان شيخي يرى أن [ينقص] (2) الأرشُ عن أرش موضِحة، والعلم عند الله (3) .
10465- ولو اشترك جماعة في إيضاح رأس، بأن تحاملوا على [آلة وأجروها معاً] (4) حتى استوعبوا الرأس بالإيضاح، فالكلام يقع في القصاص والأرش: أما
__________
(1) عبارة الأصل: "ومن أصحابنا من قدر اللحوم حواجز إن ثبتت حواجز".
(2) في الأصل: "بعض".
(3) في الأصل: "والعلم عند الله فيه" وكلمة فيه مقحمة لا معنى لها، فالعلم عند الله فيه وفي غيره.
(4) صحف ما بين المعقفين تصحيفاً بدعاً، يستحق أن نسجله هنا، فقد جاءت هكذا: "بأن تحاملوا على الرواحر وتـ ـا ـعاً". هكذا في كلمتين بهذا الرسم وبدون نقط، وجاءت كلمة (الرواحر) في آخر السطر، وكلمة (وـ ـ ـا ـعاً) في أول السطر التالي، وتمّ هذا التصحيف كالآتي:
تحولت كلمة (آلة) إلى (ألر) ألف. لام. راء. وضمّ إليها النصف الأول من كلمة (وأجروها) (واحر) فصارت: (الرواحر) ثم ضم ما بقي من كلمة وأجروها، وهو (وها) =(16/200)
القصاص، فمحتمل جداً، يجوز أن يقال: يوضَحُ رؤوسُهم (1) كما لو اشتركوا في قطع [يد] (2) تقطع أيديهم، فإنه لا جزء من الرأس إلا ولكلّ جانٍ فيه جناية، ولا تميز.
ويجوز أن يقال: إذا استوت أعمالهم، فعلى كل واحد القصاصُ في جزءٍ، [لو فُضّ الرأس] (3) على الأعمال، لكان يقابل كلَّ واحد ذلك المقدار.
وإنما ينشأ هذا الخلاف من إمكان إجراء القصاص في الأجزاء، وهذا غير ممكن في اليد.
والذي ذهب إليه صاحب التقريب من إجراء القصاص في بعض اليد، [في حكم] (4) الخطأ الذي [لا] (5) [يعتد] (6) به.
والنفسُ على الدرجة العالية من حيث لا يتصور فيها الانقسام، وقطعُ صاحب اليد دونه لتصور الانقسام فيه، وهو مثله، من جهة أن القصاص فيه لا ينقسم، والرأس لا يتطرق إليه الانقسام تصوّراً في الفعل والقصاص جميعاً، ولا تعويل على اتصال فعل كل واحد بكل جزء (7) ، فإن هذا يتحقق في اشتراك جمع في إتلاف مال، ثم الغرمُ مفضوض عليهم.
__________
= بعد تصحيف (ها) وتحولها إلى (ـ ـا) فصارتا: (ـ ـا) ضم ذلك إلى كلمة (معا) بعد أن تغيرت الميم إلى (ب) فصارتا (وـ ـ ـا ـعاً) وسبحان ملهم الصواب.
(1) أي يوضح كل واحد منهم بقدر تلك الموضحة.
(2) في الأصل: "قد".
(3) في الأصل: "لرفص".
(4) في الأصل: "وحكم" وقد أجهدنا هذا التصحيف الإجهاد كله إلى أن ألهمنا الله صوابه.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) كذا قرأناها تقديراً للسياق، وإلا فقد تقرأ على غير هذا الوجه، فقد رسمت هكذا: (تعهد) (تاء وعين) ثم (هاء أو ميم) ثم دال. (انظر صورتها) .
(7) المعنى أن التعويل في اختيار إيجاب موضحة على كل واحد منهم، ليس "على اتصال فعل كل واحد بكل جزء" وإنما على "أن الرأس لا يتطرق إليه الانقسام تصوّراً في الفعل والقصاص جميعاً".(16/201)
وقد [يسنح] (1) في هذا الفصل (2) إنْ بعّضنا القصاصَ الكلامُ فيما يؤخذ من رأس كل واحد: أما القدر، فعلى ما أشرنا إليه، وأما المحل، فمشكلٌ، ونضّطر إلى رد الأمر إلى اختيار المقتص منه أو المقتص، وقد سبق لهذا نظير.
فأما القول في الأرش [فيقرُب] (3) من القول في القصاص، فيحتمل [أن نفض أرشاً واحداً عليهم] (4) ونجعلهم كالجارح الواحد، ويجوز أن نوجب على كل واحد [أرشاً] (5) ، وهذا أقربُ؛ نظراً إلى عدد الجناة.
فلينظر الناظر، فالرأي مشترك، وكل ما ذكرناه في جراحات الرأس والوجه.
10466- فأما الجرح على سائر البدن، فلم [يعلّق] (6) المراوزة القصاص بشيء منها.
وقال العراقيون: كل جرح انتهى إلى عظم، فالمذهب أن القصاص يجب فيه.
قالوا: [وغامر] (7) بعض أصحابنا، فنفى القصاص فيه. والذي رأوه غلطاً هو الذي اتفق المراوزة عليه، وتعلقوا (8) فيما ارتضَوْه بخبرٍ أولاً، فقالوا: "رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان طَعَنَ أحدهما فخذَ الآخر، وانتهى الجرحُ إلى عظمه، فاقتص المجروح من الجارح" (9) واعتمدوا في المعنى إمكان المساواة، وقربوا هذا من نص الشافعي [في] (10) إجراء القصاص في الأعضاء الزائدة، ووافقوا المراوزة في
__________
(1) في الأصل: "سنح".
(2) هذا الفصل: المراد هنا هذه المسألة، مسألة الاشتراك في الموضحة.
(3) في الأصل: "فيفوت". فانظر ماذا يصنع التصحيف، والنسخة وحيدة.
(4) في الأصل: "أن بعض إن شاء واحد عليهم". (وسبحان ملهم الصواب) .
(5) في الأصل: "إن شاء".
(6) في الأصل: "فلم ينقلوا المراوزة".
(7) في الأصل: "وغادر بعض أصحابنا".
(8) وتعلقوا: يعني العراقيين.
(9) حديث "رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان طعن أحدهما فخذَ الآخر.." رواه البيهقي في الكبرى (8/67) .
(10) في الأصل: "من".(16/202)
نفي القصاص في الجوائف لما فيها من تفاوت [الأغوار] (1) ، ثم قطعوا بأن الجرح الذي يشق، وينتهي إلى العظم موجبه الحكومة؛ فإن التقديرات مأخذها من التوقيفات.
وقد نجز القول في الجُرح الذي يَشُق، ونحن نبتدىء بعد ذلك التفصيلَ فيما يقطع.
فصل
قال: "وتقطع اليد باليد والرجل بالرجل من المفاصل ... إلى آخره" (2) .
10467- وقد تقدم القول في القصاص في الجرح الذي يشق، وهذا الفصل في تفصيل القطع المبين، فكل قطع يُبين مِفصلاً، فهو موجب للقصاص، إن لم يمنع منه مانع، كما سيأتي الشرح عليه، [والمفصل عبارة عن متَّصَل عضو بعضو] (3) على منقطعي عظمين، ثم قد يكونان متجاورين، وقد يكونان متداخلين.
ولا يختص وجوب القصاص بالمفاصل، ففي البدن أعصاب ولحمات يجري القصاص فيها، كالمارن، والذكر، والأنثيين، والأجفإن، والشفتين، والشُفرين، فالمرعي إذاً إمكان إجراء التساوي، وهذا لا يختص بالمفاصل.
[فلو] (4) قطع الجاني فِلقةً من لحم الساق أو الفخذ، فلا قصاص؛ فإن ذلك لا ينضبط، ولو قطع من المارن، أو الحشفة، أو اللسان، أو الأذن، جرى القصاص إذا أمكن ضبط النسبة [والجزئية] (5) ، ولا يخرّج ما ذكرناه على الخلاف في المتلاحمة؛ فإن النسبة فيها غائرة، وليس جميع لحم الرأس مشاهداً حتى يُفرضَ ضبط منتهى الشق على بصيرة.
__________
(1) في الأصل: "الأعذار".
(2) ر. المختصر: 117.
(3) في الأصل: "والفصل عبارة عن مفصل عضو بعضو".
(4) في الأصل: "ولو".
(5) في الأصل: "والحرية". وهو تصحيف واضح.(16/203)
ففي الأنملة إذاً قصاص، وكذلك في الكوع، والمرفق، وفي مَرْكَب (1) اليدين الكتفَ، وكذلك القول في القدم، والركبة، ومركَب الفخذ من الحِقو إن أمكنت المساواة، والقصاصُ جارٍ في الأجفان، والأذن، والمارن والشفتين، والذكر، والأنثيين والشُّفرين، ولا قصاص في إطار [استه] (2) ، فإنه لا ينضبط، واختلف جواب الأئمة في [المأكمتين] (3) وهما العجيزتان، والظاهرُ إجراءُ القصاص (4) ،
__________
(1) مركب: اسم مكان: موضع ركوب اليدين الكتف.
(2) غير مقروءة في الأصل، ففد طمست بحروف كلمة أخرى -من أثر بلل- فتداخلت الكلمتان؛ وتراكبت الحر وف.
وقدرناها هكذا على ضوء السياق والسباق، فحيث ذكر الشُّفرين والقصاص فيهما، وهما إطار القبل، ناسَب أن يذكر حكم إطار المنفذ الآخر، وأنه لا قصاص فيه والله أعلم.
ومن باب التحدث بنعمة الله أنني بعد كتابة هذا التعليق -الذي تأنيت به كثيراً على أمل أن أجد أيةَ إضاءة في أحد مصادر التحقيق ومراجعه- وجدت الرافعي في الشرح الكبير يقول: "ولا يجب القصاص في إطار الشفة، وهو المحيط بها، لأنه ليس له حد مقدّر"، انتهى كلام الرافعي، ووجدت صاحب (القوت) أبا طالب المكي يتعقب الرافعي قائلاً: "الصواب" إطار استه"، وهو الدبر كذا قاله الإمام إثر قوله: ويجب في الشفرين القصاص، ونقل الرافعي الفصل عنه" انتهى كلام أبي طالب المكي. (ر. الشرح الكبير: 10/212، وهامشها رقم (1) .
(3) في الأصل: "الناكمين"، ووجدنا أقرب صورة لها (المأكمتين) من أسماء العجيزتين، مما أورده صاحب المخصص، وفي اللسان أيضاًً: المأكمة: العجيزة، وكذا في المعجم الوسيط: المأكمة: الكَفَل، وهو أيضاً العجيزة، وفي مختصر المزني عرّف الشافعي (الأليين) "بأنهما ما أشرف على الظهر من المأكمتين إلى ما أشرف على استواء الفخذين" (المختصر: 5/133) .
(4) جعل الإمام هنا إجراء القصاص هو الظاهر، وعبر النووي (بالأصح، فقال في الروضة: "والقصاص في الشفرين، والأليين على الأصح عند الأكثرين" وقال في المنهاج: "وكذا أليان وشفران في الأصح" (ر. الروضة: 9/182، والمنهاج (بهامش قليوبي وعميرة) : 4/113) وأما الرافعي، فاكتفى بالقول في أن فيهما خلافاً، ولم يرجح أي وجه، وذلك قوله: "وفي الشفرين والأليين وجهان من الخلاف المذكور في الشفة واللسان، لكن الخلاف فيهما أشهر وأظهر" (الشرح الكبير: 10/212) .
ولكن وجدنا الإمام في الديات -وهي ستأتي قريباً- يقول: "اتفق الأصحاب على أن القصاص لا يجري في الأليين؛ فإنه ليس مِفصلاً يتأتى فيه مراعاة المساواة، وليس له مردٌّ من عَظْمٍ وراءه" ا. هـ. =(16/204)
ومنهم من منع لظهور التفاوت وكبر العجيزتين، وذلك يُعسّر إجراء المساواة.
[وفي] (1) بعض التعاليق [عن شيخي] (2) وجه بعيد في المِرفق وأن القصاص هل يجري فيه، وهذا أحتسبه غلطاً من المعلِّق، وإن صح، فلعل السبب فيه تداخل العظمين وهذا يعسِّر طريقَ المساواة، وليس كمفصل الكوع، فإن اتصال عظمي [الكف] (3) والساعد بالتجاور لا بالتداخل، والركبة كالمرفق، ولا اعتداد بهذا الوجه الضعيف.
والقطعُ من الكتف موجبٌ للقصاص إن أمكن اعتبار المساواة.
10468- فإن كان قَطْعُ الجاني غيرَ مُجيف، وظهر في الظن أن ذلك وفاق، والغالب أن مثله يُجيف، فلا نوجب القصاص في القطع من الكتف خيفة أن يُجيف. وكذلك القول في قطع الفخذ من الحقوين.
[وإن] (4) قطع الجاني وأجاف، فقال أهل هذا الشأن: يمكننا أن نقطع يد الجاني ونجيفه مع [الاقتصار] (5) على مثل تلك الجائفة التي جرت منه في الجناية، [فالذي] (6) ذكره الأصحاب في الطرق أنا نستوفي القصاص، وليس هذا إجراء قصاصٍ في الجائفة، وإنما محلُّ القصاص اليد، وليست الجائفة مقصودةً بالقصاص، وإنما الممتنع انفراد الجائفة بالقصاص.
وهذا يتطرق إليه إشكال؛ من قبل أن الجائفة لم يجر القصاص فيها؛ من حيث إن
__________
= وتابع الغزالي في البسيط شيخه الإمام، فقال: "ولما تطرّق إليه الاضطراب، ولم يكن له مفصل معلوم، لم يجر المَصاص فيه" (ر. البسيط- جزء (5) ورقة: 59 يمين) وحكى الرافعي عن الإمام هذا القول باتفاق الأصحاب على عدم إجراء القصاص في الأَلْيين، قائلاً: "وادّعى الإمام -في الديات- اتفاق الأصحاب عليه" (ر. السابق نفسه) .
(1) في الأصل: "في بعض" (بدون الواو) .
(2) في الأصل: "وعن شيخي".
(3) في الأصل: "بالكتف".
(4) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "الاقتصاد".
(6) في الأصل: والذي.(16/205)
ضبطها غير ممكن، وإذا عسر [المساواة] (1) في طريق الاستيفاء، وجب أن يكون ذلك سببأ في منع القصاص، وإن كان المقصود غيرَ الجائفة.
وأقصى الممكن في هذا أن اليد إذا [قطعت] (2) من الكتف، فليس في رفعها تغويص حديدة في الباطن، ولكن قد تحصل الجائفة برفع طبقة، وهذا لا تفاوت فيه على وجهٍ لا يحتمل، وإنما تفاوت الجوائف في تغويص الحديدة.
وقد يرد على هذا إيجاب القصاص في جوائفَ تحصل برفع الطبقات البادية من غير [غوص] (3) حديدة، ولا قصاص في شيء من الجوائف، كيف فرض الأمر.
وكان شيخي يقطع بأن قطع اليد من الكتف إذا كان يُجيف، فلا اقتصاص، وإنما احتملَ [الجائفةَ] (4) على طريق التبعية الصيدلانيُّ، ومن سلك طريقه.
فهذا منتهى القول في ذلك.
10469- وإذا بان أصل القول فيما يجري القصاص فيه من الأطراف، فيقع الكلام وراء ذلك في الطرف الذي وجب القصاص [فيه] (5) ، وفي تفاوت الأطراف في السلامة والشلل، والزيادة والنقصان، ونحن [نأتي بها مفصَّلةً] (6) ، إن شاء الله تعالى.
فأما ما يوجب القصاص، فينقسم إلى ما [يفوّت] (7) الأعضاء بالفصل والإبانة، وإلى [ما يُفسد] (8) معانيها، فأما الأجرام، فإنها تُقصد بالقطع، وإن وقعت الجناية
__________
(1) غير مقروءة بالأصل، وهكذا قدرناها على ضوء ما ظهر من بقايا الحروف المطموسة.
(2) في الأصل: "وقعت".
(3) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة.
(4) كذا قرأناها بصعوبة بالغة.
(5) زيادة من المحقق.
(6) ما بين المعقفين مكان ثلاث كلمات استحالت قراءتها بالأصل، وقدرناها من عندنا على ضوء السياق.
(7) مكان كلمة غير مقروءة.
(8) مطموسة بالأصل.(16/206)
بحديدة، فلا شك أن القصاص كذلك يقع، ولكنا نرتاد [أحدَّ] (1) حديدة وأحراها بأن توحي (2) .
وإن وقعت إبانة [العضو بفتل وترها] (3) وقطع رُبُطها (4) ، فلا يجري القصاص إلا بالحديدة، كما قدمناه في الموضحة.
10470- وإن قطع الجاني بعض العضو، فسرت الجراحة وتأكّلت، وسقط العضو، فالمنصوص عليه للشافعي أن القصاص لا يجب فيما يسقط بالسراية، ونصّ على [أن] (5) من أوضح رأس إنسان، فأذهب ضوءَ بصره، فإنا نوجب القصاص في لطيف البصر، فإن زال البصر بمثل الجراحة التي صدرت من الجاني، فذاك، وإن لم يزل واستمكنَّا من إزالة البصر بطريقٍ لا نفسد فيه الحدقةَ، ونتركها قائمة، أزلناه، هذا نص الشافعي.
والذي ذهب إليه الجمهور تقرير النصين قرارهما والقطعُ بأن القصاص لا يجب في أجرام الأعضاء بطريق السراية، ويجب القصاص في لطيفةِ البصر بالسراية، والفرق أن الأجرام لا تقصد بالسراية غالباًً، بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها مقصودة بالسرايات، فكانت كالروح التي تقصد بالسراية [تارة] (6) وبماشرة الجنايات المُجهزة أُخرى.
هذه هي الطريقة المشهورة، وقد ذكرها الشيخ أبو علي، وذكر معها طريقة أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: ننقل النصين [ونصرف] (7) أحدهما بالآخر، ونخرّج في البصر، وفي أجرام الأعضاء قولين: أحدهما - أن السراية لا توجب القصاص في غير الروح؛ فإن البصر يندُر إزالته من غير قصد الحدقة، وإن وقع زواله
__________
(1) في الأصل: "آخر".
(2) توحي: أي تعجل وتسرع.
(3) مكان ثلاث كلمات غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها) والمثبت أقرب ما يكون لصورة الكلمات، وأوفق ما يكون للسياق.
(4) جمع رباط مثل كتاب وكتب وإعادة الضمير مؤنثاً لا يبعد تأويله.
(5) زيادة من المحقق.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) كذا تماماً.(16/207)
بجرح، كان نادراً، وقد يقع التأكّل وسقوط الأجرام، هذا أحد القولين.
والقول الثاني - إن السراية فيهما جميعاً موجبةٌ للقصاص؛ طرداً للقياس في منتهى سرايات الجراحات، والدليل عليه أن زهوق الروح بقطع الأكلة ليس بالعام الذي يحكم بأنه الغالب، ثم إذا أفضت الجراحة التي وصفناها إلى زهوق، الروح، تعلق وجوب القصاص بها (1) .
10471- فإن جرينا على ظاهر المذهب، وفرّقنا بين لطيف البصر وبين جِرم الأعضاء، فقد كان شيخي يتردد في بطش الأطراف التي فائدتها البطش، فيقول: يجوز أن يجعل [كلطيفة البصر] (2) حتى يقال: إذا أذهبت الجناية بطشَ عضوٍ، جرى القصاص فيه، كما يجري في لطيفة البصر، وقد نص على ذلك صاحب التقريب في كتابه، وكان شيخي لا يُبعد أن يُفرّق بين البطش وبين لطيفة البصر، فقال: إزالة البطش بالسراية يعسر عسر إزالة الأجرام، بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها ألطف المعاني وأحراها بأن تؤثر النكايات فيها، ونزّل الأصحاب لطيفةَ السمع منزلة لطيفة البصر، ولا يبعد أن تُلحق بهما منفعةُ الكلام.
ثم للأئمة تردد في العقل إذا أزاله الجاني، وسبب التردد أنه من وجهٍ لطيفةٌ، ومن وجه يبعد تناوله والاستمكانُ من إزالته، وأحرى اللطائف البصر والسمع، وبينهما الكلامُ، ويلي الكلامَ البطشُ، وأبعدُ المعاني عن الإزالة العقلُ.
والأصحاب مترددون في جميعها، بعد ما قدمناه من القول في أجرام الأعضاء، فإن لم يكن من ذكر الخلاف بُدٌّ، فليرتبها الفقيه على المراتب التي ذكرناها.
هذا تفصيل القول فيما يوجب القصاص في الأطراف.
__________
(1) حكى الرافعي طريقة ثالثة نسبها إلى العراقيين حكوها عن أبي إسحاق وهي: "تخريج قولٍ من نصه على أن سراية الأجسام لا تضمن بالقصاص من الضوء، والامتناع عن التخريج في الأجسام من الضوء" انتهى بنصه. والمعنى: في البصر قولان وفي الأجسام المنع لا غير. (ر. الشرح الكبير: 10/218) .
(2) في الأصل: "كل طيفة البصر".(16/208)
10472- وتتمة الكلام فيه أن الروح لما كانت مقصودة بالسراية، فإذا جنى الرجل جناية يقصد بها القتل، فأدت إلى الزهوق، [وأجرينا] (1) القصاص في تلك الجناية فسرى جرحُ القصاص إلى نفس المقتص منه، فالنفس بالنفس.
وينتظم مما ذكرناه أن السراية في الروح يجب فيها القصاص، ويقع بها القصاص، وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن السراية لا توجب القصاص في ذوات الأعضاء وأجزائها.
فلو قطع يدَ رجل، فقطع المجني عليه أصبعاً من يد الجاني، فسرى القطع، وتأكّلت اليد، وسقطت، فهل يكون سقوط يد الجاني بطريق السراية واقعاً عن جهة القصاص؟ فعلى قولين مأخوذين من معاني [قول] (2) الشافعي، وعبر الأئمة فيهما، فقالوا: ما يجب القصاص فيه بالسراية يقع القصاص فيه بالسراية، كالروح، والبصرُ في ظاهر المذهب ملحق بالروح، وكذلك السمع.
وما لا يجب القصاص فيه بالسراية كأجرام الأعضاء هل يقع فيها القصاص بالسراية؟ فعلى قولين.
وهذا فيه فضل نظر: فإن قلنا: يقع القصاص بالسراية، فلا كلام.
وإن قلنا: لا يقع القصاص بالسراية، فاليد التي قطعها الجاني [حكمها أنها لم يُستوف منها إلا الإصبع] (3) ، وأما السراية التي ترتبت على قطع الإصبع، فهي مشكلة على هذا القول؛ فإنا إن أهدرناها، كان بعيداً، من حيث قطَع الإصبع، ولم يكن له قطعها، وقد يعارض هذا أن اليد له، والجراحات الواقعة بها، وإن كانت على خلاف الشرع مهدرة، كما لو استحق رجل نفسَ إنسان، ولم يكن له إلا ضرب رقبته، فلو قطع أطرافه عصى، ولكن لا يضمن.
وَيرِد على ذلك أن جراحاته لو سرت لم تهدر سرايتها، فالإهدار على حالٍ مشكل،
__________
(1) في الأصل: "فأجرينا".
(2) زيادة من المحقق.
(3) عبارة الأصل: "حكمها يأتي عليه لم يستوف منها إلا الإصبع" والتصرف من المحقق. نرجو أن يكون صواباً.(16/209)
والمصير إلى أنها لا تقع قصاصاًً، وتكون مضمونة على المقتص لا سبيل إلى القول به أصلاً.
10473- وأنا أذكر الآن منشأَ تردد الأصحاب وأنبه إلى ما يظهر عندي فيه، فأقول: إنما اختلف الأصحاب من نصٍّ نقله المزني عن الشافعي قال: قال الشافعي: "لو أوضح رأسه وتمعّط شعره، وذهبت عيناه، فأوضحنا رأس الجاني قصاصاًً، فإن لم ينبت شعره وذهبت عيناه، فقد استوفى مستحق الحق حقَّه، وإن نبت شعره، ولم تذهب عيناه، فعليه دية العينين وحكومة الشعر" (1) هذا نص الشافعي رضي الله عنه، وهو دال (2) على أن القصاص لا يقع بالسراية، وغلط المزني في ذكر الشعر، ولم يصح نقله عن الشافعي في خبط سوى ما ذكرناه.
وهذا محلٌّ يقضي الناظرُ [فيه] العجبَ [من إطلاق الأصحاب] (3) وترك التعرض للتفصيل، والنصُّ الذي حكاه المزني في جراحة يتعلق القصاص بعينها، وهي الموضِحة، ومنها تصوير السريان إلى لطيفة البصر، [وميل] (4) الأصحاب إلى إجراء القصاص فيها وجوباً ووقوعاً. نعم، في النص تعرض لتمعّط الشعر، وهذا موضع
__________
(1) ر. المختصر: 5/118.
(2) وجه دلالته على أن القصاص لا يقع بالسراية أنه جعل في ذهاب العينين والشعر، الدية للعينين، والحكومة في الشعر، ولم يجعل فيهما القصاص.
هذا وقد مرّ آنفاً إشارة الإمام إلى قولٍ للشافعي في وجوب القصاص في ذهاب البصر بالسراية، حيث قال: "فالمنصوص عليه للشافعي أن القصاص لا يجب فيما يسقط بالسراية (أي من الأعضاء) ونص على أن من أوضح رأس إنسان، فأذهب ضوء بصره، فإنا نوجب القصاص في لطيف البصر، فإن زال ضوء بصره بمثل الجراحة التي صدرت من الجاني، فذاك، وإن لم يزل واستمكنا من إزالة البصر بطريقٍ، لا نُفسد فيه الحدقة، ونتركها قائمة أزلناه. هذا نص الشافعي" انتهى بنصه.
ومثل هذا نقله الرافعي (الشرح الكبير: 10/217) (ثم نقل نص المختصر في صفحة: 219) فهما إذاً نصان للشافعي.
وعن النص الأول كان ظاهر المذهب القطع بأن القصاص يجب بالسراية إلى لطيفة البصر، والقطع أيضاً بأن القصاص لا يجب بالسراية في أجرام الأعضاء.
(3) عبارة الأصل: من إطلاق العجب لأصحاب.
(4) في الأصل: "وسبيل".(16/210)
استنباط الأصحاب؛ فإن [منابتها] (1) في حكم أجرام تفوت [بالسراية] (2) إليها ابتداء وأخيراً، والشعور لا قصاص فيها، ولا في منابتها، فكيف ينتظم بناء القول في الأعضاء التي يجري القصاص فيها [على نصٍّ في شيء لا يجري القصاص فيه] (3) ؟
فلا وجه عندنا إلا القطعُ بأن من قطع يد إنسان واستوجب القصاص، فقطع المجني عليه بعضَ يده، وأتلف أو قطع أصبعاً من أصابعه، فسرت الجراحة، فالوجه نسبة السراية إلى [فعل] (4) الجارح، وإذا انتسب إلى فعله، والذي جرى منه، كان من القصاص، فلتكن السراية كالجراحة.
أما ما لا يجب القصاص فيه إذا ضمن الجاني أرشه كالشعر، فلما اقتصصنا منه فيما يجري القصاص فيه، [وأدى] (5) القصاص إلى مثل ما أدت الجناية إليه، فهل تقع السراية في جهة القصاص في مقابلة السراية في جهة الجناية؟ هذا موضع النص، وهو حري بالتردد؛ فإن قيل: زيدوه شرحاً، أتعنون بما ذكرتموه أن الحكومات التي وجبت في دية الجاني تقع قصاصاًً؟ فالحكومة التي وجبت بقدر في جهة الاقتصاص حتى يكون هذا خارجاً على أقوال القصاص. قلنا: [لا نعني] (6) هذا، ويظهر أثر ما نريده بتقدير تفاوت الحكومتين لتفاوت الديتين، فإذا كان الجاني مسلماً والمجني عليه ذمياًً، والجراحة كما نقلها المزني، فإن جعلنا الشعر بالشعر، فلا مطالبة، وإن كان قدر الحكومة يتفاوت، وهذا كما أن القصاص بالقصاص مع التفاوت في البدل المالي.
فالوجه أن نقول: إذا استحق القصاص في عضوٍ، فالسراية فيه قصاصٌ، وإن لم يكن مما يُستَحَق فيه القصاص، فإن أفرد بالجناية، ثم فعل بالجاني مثل ما فعل، والشرعُ لم يقض بوجوب القصاص، فلا يكون الجرح بالجرح ولا السراية بالسراية قصاصاًً، ولكن المبتدىء والمجازي جانيان، وعلى كل واحد منهما أرشُ جنايته،
__________
(1) في الأصل: "مبانيها".
(2) في الأصل: "السراية".
(3) عبارة الأصل: "على فلا نص في شيء لا يجري القصاص فيه".
(4) في الأصل: "نقل".
(5) في الأصل: "أدى" (بدون واو) .
(6) في الأصل: "لا يغني".(16/211)
ثم يقع ذلك في أقاويل [التقاصّ] (1) في الأموال، وقد تختلف أقدار الحكومات مع اتفاق صور الجراحات.
فأما إذا جرت جراحة فيها قصاص، وسرت إلى ما لا قصاص فيه، فأجرينا القصاص فيما فيه القصاص، فسرى القصاص إلى مثل ما سرت إليه الجناية، فهل نجعل الزائد بالزائد قصاصاًً، تبعاً للجرح الذي جرى القصاص فيه؟ هذا موضع التردد، ولكن الأصحاب استنبطوا من هذا قولين في أن اليد إذا سقطت بسبب قطع بعضها، فهل يقع قصاصاًً؟ وفيه ما لا يخفى دركه بعد هذا التنبيه.
وإن قيل: القصاص زجر، وشرط الزجر أن يكون معموداً، فإذا لم تكن السراية في الطرف موجبةً للقصاص، فكيف يتحقق [تعمد] (2) الزجر بها؟
10474- وهذا الكلام ينشأ [منه] (3) مسألة، وهي أن من قتل رجلاً، ثم ضرب وليُّ الدم الجانيَ، [بسوط] (4) خفيف، فمات، فكيف القول في هذا؟ [والضرب] (5) بالعصا لا يوجب القصاص، ولا يقصد به القتل؟ هذا على ما ذكره الأصحاب محتمل؛ من حيث إنه لا يقصد به القتل، كما لا يقصد جرْم الطرف بالسراية، ولا بد من تخريج هذا على ما ذكره الأصحاب.
ثم إن أوقعنا القتل الحاصل قصاصاًً، فلا كلام.
وإن لم نوقعه قصاصاًً، فالكلام في إهدار الجاني فيه عسر؛ فإن الكلام [في أن] (6) الذي جرى [ليس] (7) طريقاً في الاقتصاص، ثم الحكم بإهداره، وضمان (8) الدم باقٍ
__________
(1) في الأصل: "الخاص في الأموال".
(2) في الأصل: "يتعمد".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "بشرط".
(5) في الأصل: "أو الضرب".
(6) زيادة من المحقق.
(7) زيادة اقتضاها السياق.
(8) المعنى أنه إذا مات الجاني (بضرب السوط) فقد فات محل القصاص، فإن أهدرناه ولم نجعله قصاصاًً، بقي ضمان الدم ديةً في تركته.(16/212)
عليه، وفي تركته عَسِرٌ، [وإيجاب] (1) الضمان لا عن جهة الوقوع قصاصاً عَسِرٌ، والنفس مستحَقَّة له، فلا ينتظم في هذا قول.
والسبب فيه فساد أصله، فإن فرع الفاسد فاسد، والوجه القطع بوقوع القتل -على أي وجه فرض- قصاصاًً، ولا ينبغي أن يُتختل خلافٌ في أن من استحق دم إنسان، ثم رمى إليه مخطئاً [فقتله] (2) أن القتل يقع قصاصاًً.
هذا منتهى الفكر في ذلك والله المستعان.
وقد هان ترتيب الفصول على من يقنع بظواهرها، وعظم الخطب على طالبي [الغايات] (3) في كل فن.
وقد نجز القول فيما يوجب القصاص في الأطراف.
10475- ونحن نبتدىء الآن بفصل القول في التفاوت بين الجاني والمجني عليه، فنقول: إذا استوى طرف الجاني والمجني عليه في الخِلْقة والسلامة، قُطع طرف الجاني بالطرف المقطوع من المجني عليه، إذا كان يُقتل الجاني به لو [قتله] (4) ، وتفاوت [الأرش] (5) في الأصل لا يمنع جريان القصاص في الطرفين مع الاستواء في أصل النسبة، وهو أن يكون نسبة الطرف المقطوع من المجني عليه كنسبة طرف القاطع منه، فيد الرجل مقطوعة بيد المرأة، وكذلك يد المرأة مقطوعة بيد الرجل؛ فإن [جزئي] (6) الجملتين تقابَل بالجملة الأخرى، فتقابَل إحداها بأخراها.
وإن تفاوت الطرفان في الخِلقة أو السلامة تفاوتاً يوجب تغيير النسبتين، لم يستوف والحالة هذه كاملاً، وليس ذلك لتفاوت البدلين، وإنما هو لتفاوت النسبتين، وبيان ذلك أن يد الجاني إذا كانت سليمة، واليد المقطوعة من المجني عليه شلاّء، فلا تقطع
__________
(1) في الأصل: " وا ـحار ". (كذا تماماً بدون نقط) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "العمامات".
(4) في الأصل: "لو مثيله".
(5) في الأصل: "الرأس".
(6) في الأصل: "جرى".(16/213)
يد الجاني بيد المجني عليه؛ فإن يد الجاني في وضع الشرع نصفُه، وليست اليد الشلاء نصفاً من صاحبها، فالرجوع إذاً إلى حكومة اليد الشلاء، ولا قصاص.
ولو رضي الجاني بأن تقطع يده السليمة باليد الشلاء، لم يرض الشرع بها، ولله تعالى حكمٌ في الدماء يعدُّه الفقيه حقّاً لله لازماً.
فإن قيل: لو قطع المجني عليه اليد السليمة، فهل تقولون: يقع القطع موقع القصاص، مع الانتساب إلى المعصية؟ قلنا: لا نقول ذلك أصلاً، فاليد السليمة في مقابلة الشلاء بمثابة المسلم في مقابل الذمي والحرّ في مقابلة العبد، ويمكن أن يقال: الشلاء في مقابلة الصحيحة كاليسار في مقابلة اليمين.
ولو كانت يد الجاني كاملة الأصابع، ويد المجني عليه ناقصة بإصبع، فلا تقطع اليد الكاملة باليد الناقصة، ولكن لو اتفق قطعها، [وقع] (1) القصاص في مقدار الاستواء موقعه.
فإن [كان] (2) يدُ الجاني شلاء، ويد المجني عليه سليمة، فلو قنع باليد الشلاء، جاز، ويقع القصاص موقعه، اتفق الأصحاب عليه، وهذا يُبطل التشبيهَ باليمين واليسار، واليدَ السليمة مع الشلاء بالكامل بالإسلام والحرية مع الكافر والرقيق.
ثم إن كان لا يقع قتل المسلم قصاصاًً عن الكافر، فقتل الكافر يقع قصاصاًً عن المسلم، وكذلك القول في الحر والعبد.
ثم شرط الفقهاء في الاقتصاص من الشلاء ألا يُخاف من الشلاء نزفُ الدم؛ فقد قيل: لو قطعت الشلاء، استرخت العروق نضاحة بالدم إلى النزف ولا يتماسك، فإن صح ذلك، لم يَجْرِ الاقتصاص، وإن لم يصح ورضي المجني عليه، اقتصصنا، ثم لو أراد الرجوع إلى مزيد مالٍ، لم يكن له ذلك، إذا كان التفاوت يرجع في اليدين إلى المعنى، لا إلى نقصان الخلقة، وشبه الأصحاب بأجمعهم هذا بتعييب العبد في يد البائع، فليس للمشتري إذا جرى ذلك إلا ردُّ العبد واستردادُ الثمن [أو] (3) الرضا بالعيب بجميع الثمن.
__________
(1) في الأصل: "وقطع".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "أما".(16/214)
والشلاء مقطوعة بالشلاء، كما السليمة مقطوعة بالسليمة.
10476- ثم سرّ المذهب في هذا يبين بمقدمة مقصودة في نفسها، [وهذا] (1) ما نحاول في ذلك فنقول: نصَّ الشافعيُّ رضي الله عنه وأجمع الأصحاب على أن القصاص يجري في الأعضاء الزائدة مع التساوي، وعلينا الآن أن نصف التساوي، فنقول: العضوان الزائدان إن اختلفت محلاها (2) ، لم يجر القصاص بينهما، فإذا فرضت إصبعٌ زائدة مبدلة من خنصر رجل، وفرضت زائدة أخرى مبدلة من إبهام آخر، فإذا قطع أحدهما من صاحبه إصبَعه (3) الزائدة، لم يقطع إصبعَ القاطع الزائدة.
وإن اتفق محلاهما واتفقا في [الحجم] (4) والصفة، فيجري القصاص بينهما.
وإن اختلف حجماهما كبراً وصغراً وطولاً وقصراً، ففي جريان القصاص وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يجري القصاص لمكان التفاوت المؤثر في النسبة؛ فإن حكومة إحدى الإصبعين إذا كانت أكبر، وحكومة الأخرى أقل، [فنسبة] (5) إحدى الحكومتين تخالف نسبة الأخرى، وهذا هو الأصل المعتمد في الباب.
والوجه الثاني - أن القصاص يجب، ولا نظر إلى تفاوت الحجمين، كما لا نظر في تفاوت اليدين السليمتين في الضخامة ونقيضها.
وهذا بعيدٌ عن الحقيقة، واكتفاءٌ بظواهر الصور، وليس ينقدح مع تفاوت الحكومتين لقول من أجرى القصاصَ [بين] (6) الطرفين وجهولٌ (7) .
والذي أراه أن اختلاف الأصحاب فيه إذا اختلف الزائدتان في الصورة، ولم يظهر
__________
(1) في الأصل: "من هذه إلى ما مخاول ... ".
(2) أي اختلفت مواضع العضوين.
(3) الإصبع فيها عشرُ لغات؛ فالهمزة مثلثة، والباء مثلثة، فهذه تسع لغات، والعاشرة: أصبوع، ثم هي مؤنثة، وقيل: إنه الغالب، أي يجوز فيها التذكير (المصباح) .
(4) في الأصل: "الحج". وهو تصحيف واضح.
(5) في الأصل: "تسبب تخالف تسبب".
(6) في الأصل: "من".
(7) وجهٌ: فاعل لقوله: ينقدح.(16/215)
لاختلافهما أثر في الحكومة، فينقدح النظر إلى الاستواء في النسبة، ويتجه النظر إلى صورة الضخامة، فإن العضو ليست أصلية، فيتعين التناهي في رعاية المساواة خلقة وصورة.
ثم ما ردّدنا القولَ فيه من الاختلاف في الحجم يجري عند الاختلاف في اللون وغيره من الصفات، إن كنا نرى إجراء الاختلاف مع التفاوت في الحكومة، وإن كنا لا نرى، فاللون لمجرده لا أصل له مع التساوي في الحكومة، بخلاف التفاوت في الجِرْم، فليفهم الناظر ما يضطر إليه من مضايق الكلام.
10477- وتمام القول في هذا أن الإصبع الزائدة قد لا تكون لها حكومة؛ فإن الحكومات معناها اعتبار الرق مع صفةٍ وضبط القيمة معها، ثم النظر إلى القيمة دونها، والإصبع الزائدة ما نراها تزيد في القيمة، بل قد تؤثر في نقصان القيمة، فإن كانت كذلك، جرى القصاص بينهما، ويطرد [حينئذٍ] (1) ما ذكرناه من الاختلاف في تفاوت الحجم، فإن كانت إحداهما لكبرها تؤثر في نقصان [رطل] (2) والأخرى تُثبت نقصاناً دونه، [فلا] (3) أثر للتفاوت في هذه الجهة، فإنهما خارجان عن اعتبار النسبة بالكلية، فلا نظر إلى اختلاف النقصان، والنسبة المعتبرة تسوى وتتفاوت فيما له قيمةٌ وقدر من الجثة.
فهذا ما أردناه في هذه المقدمة.
10478- والآن نعود إلى القول في [الشلل] (4) قال العلماء: إذا كان الشلل في اليد المقطوعة أظهرَ وأبين، وكان الشلل في يد الجاني دونه، فلا تقطع اليد التي لم يظهر ذبولها ونحولُها واستحشافها باليد التي ظهر فيها ما ذكرناه، وليس التفاوت فيما أشرنا إليه بمثابة التفاوت في بطش اليدين السليمتين عن الشلل؛ فإن التفاوت لا أثر له في
__________
(1) في الأصل: "حبس". (كذا تماماًَ.) .
(2) في الأصل: "في نقصان طل". والمراد رطل من الدراهم. فإن الدراهم كانت توزن، كما كانت تعد أيضاًَ.
(3) في الأصل: "ولا".
(4) في الأصل: "الشكل".(16/216)
البدل والنسبة؛ فيد الشاب الأيّد مقطوعةٌ بيد الشيخ الفاني الهرم، والسبب في ذلك أن التفاوت في الشلل يوجب التفاوت في البدل، وذلك يغير النسبة، وهذا الذي اتفق الأصحاب فيه يؤكد ما قدمته في تفاوت العضوين الزائدين إن كان [لجِرْمهما] (1) أثر في نقصان البدل.
10479- ولا تصفو هذه المسائل وما يأتي بعدها عن كدر التردد، ما لم نذكر الشلل ومعناه، فيد المرتعش وإن ازدحمت عليها الحركات الضرورية كاليد السليمة، فما الضبط في ذلك؟ الوجه أن نقول: الشلاء هي التي لا حراك بها أصلاً، وإن [أعملها] (2) صاحبها [بتحريك] (3) الساعد إياها، فسبيل إعماله إياها كسبيل إعماله آلة من الآلات.
وكان شيخي رضي الله عنه يقول: الشلل ينافي الحس والحركة، ولست أرى الأمر كذلك، ولا يبعد أن يبقى الحس بعض البقاء مع تحقق الشلل، والتعويل على ما ذكرناه من سقوط [العمل] (4) .
ثم أطلق الأصحاب أن الشلل مما يتصور زواله، وفرعوا عليه مسائل عندهم، وهذا يُبيِّن أن [الشلل] (5) ليس موتَ العضو، وليست الشلاء [ميتة] (6) قطعاً، ولو ماتت وانقطع روح الروح عنها، لأنتنت [وعَفِنت] (7) ؛ فإنها ليست كالشَّعْر المخلوقة (8) على [الخُشارة] (9) وقلة الرطوبة.
__________
(1) في الأصل: "لغرمهما".
(2) في الأصل: "أعلمها".
(3) في الأصل: "بإملاك".
(4) في الأصل: "العبد".
(5) في الأصل: "السالم".
(6) في الأصل: "منه".
(7) في الأصل: "وعفت".
(8) كذا بعلامة التأنيث، والتأويل ممكن غير عسير.
(9) هذا هو أقرب لفظ يؤدي المعنى المراد، فالخشارة هي قشور الشعير الجافة، هذا ما قدّرناه على ضوء أقرب صورة للأصل. وإلا فهي قد رسمت بالحاء، والسين، ويمكن أن تكون بالصاد. (الحصارة أو الحسارة) .(16/217)
وإن قيل هلاّ اعتبرتم البطش [بحيلة] (1) ، ثم حططتم قدراً من الدية بزوال بعضه كدأبكم في البصر، فإنكم ستصفون في مسائل الديات أن البصر قد يضعف بالجناية، وسبيلَ (2) [قياس] (3) النقصان بما كان في حالة الكمال، على ما سيأتي شرح ذلك في الديات؟
قلنا: لا فرق بين القاعدتين في الأصل، وآية ذلك أن الجناية المنقِصة للبصر توجب غُرماً على الجاني والجناية المنقصة للبطش توجب [غرماً] (4) أيضاًً، فلا فرق في هذا الأصل؛ فإن الغرم وإن سمي حكومةً جزء من الدية، وإذا أُخذ جزء من الدية من الجاني في مقابلة نقصان معنى مطلوب في المجني عليه، فلا بدّ وأن يكون لفوات ذلك الجزء أثر، ولا بد والحالة هذه من أن نقول: من غَرِم الجاني بدلَ بعض بطشه، فلو قطع رجلٌ كاملُ البطش هذه اليدَ التي وصفناها، فلا وجه لقطع تيك اليد بهذه.
ولو فرض نقصان البطش بآفة سماوية، فلا أثر له، وعليه بنينا قطع يد الشاب بيد الشيخ؛ فكأنا في وجوه الخلل [الخِلْقية ننظر] (5) [إلى] (6) غايته، وغايةُ نقصان البطش الشلل، والشلل تبدّلٌ في الخلقة، وليس في حكم تحوّل من طور إلى طور.
فإن قيل: اليد التي نقص بطشَها الجنايةُ، وغرم أرشَها، ولم تنته [إلى] (7) الشلل، لو قطعت هل يجب على قاطعها تمامُ دية اليد؟ قلنا: لا يجب التمام على الأصح، إذا استمر الضعف، وسيأتي تفصيل ذلك في العين، والبطش، والشَّيْن، وشبه الفقهاء هذا المسلك بوقوع إنسان في [السكرات] (8) ، ومصيرِ آخر إلى حركة
__________
(1) اعتبرتم أي قستم (من القياس) وسيأتي طريقة قياس البصر، وما يتبع فيها من حيل. (ثم إننا قرأناها هكذا بصعوبة) .
(2) (وسبيل) معطوف على مفعول الفعل (وستصفون) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: (عـ ـا) بدون نقط.
(5) في الأصل: "الخليقة ننتظر". والمثبت تصرف من المحقق.
(6) زيادة من المحقق.
(7) زيادة لوضوح الكلام.
(8) في الأصل: "السكران".(16/218)
المذبوح بفعل فاعل، والصائر إلى حالة المحتَضَرين حيٌّ في حكم الجناية، حتى لو حزّ جانٍ رقبته، وجب عليه القصاص، ولو صار إلى مثل هذه الحالة بفعل فاعل، فالأمر بخلافه.
هذا منتهى ما أردناه في بيان الشلل، والبطش، وتنخّل منه أن ما تفاوت الشلل [فيه] (1) يرجع إلى نضارة العضو واستحشافه، وحُسنه في المنظر وقبحه، وإلا [فلا عمل] (2) مع الشلل.
وكان شيخي يقول في مجلس الإلقاء: إذا سقط معظم العمل، ولم يبق إلا أدنى حركة، فلست [أخشى] (3) أن أقابل بهذه اليد يداً باطشة.
وهذا عندي خبل (4) لا أصل له، وبين أيدينا مسألة سأعيد فيها بعض هذه المباحثة، فإن الشافعي قال: إذا بدا الجذام بالأنف، فإن لم يأخذ في التقطع، فالعضو كالسليم وإن أخذ في التقطع، كان كاليد الشلاء، وسنذكر حقيقة هذا في موضعه.
وكل ما ذكرناه إذا تفاوتت اليدان في الشلل والسلامة، مع الاستواء في الصورة، والخلقة.
10480- فأما إذا كان التفاوت راجعاً إلى الخلقة، فذلك يختلف، فقد تكون [إحدى] (5) اليدين على الخلقة التامة، والأخرى ناقصة عنها نقصاناً معتبراً. وقد يكون التفاوت باختصاص إحدى اليدين بزيادة في الخلقة على الخلقة المعهودة في الاعتدال.
فأما إذا كان التفاوت في نقصان إحدى اليدين، وكون الأخرى على الاعتدال، فإن كانت إحداهما ناقصة بإصبع والأخرى على كمال الخلقة المعتدلة، فإن كان النقصان في يد القاطع، وكانت يده ناقصة بإصبع ويد المقطوع كاملة، فالمجني عليه يقطع يد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "ولا".
(3) في الأصل: "أحسن".
(4) المراد بالخبل هنا: التقصير والفساد في الرأي.
(5) في الأصل: "أجزاء".(16/219)
الجاني ويرجع إلى أرش إصبع، وقد ذكرنا أن هذا من نقصان [الجزئية] (1) ، وليس كما لو كانت يد القاطع شلاء وصور الأصابع والكف ثابتة، ولكنها منعوتة بالشلل.
وإذا قطع المجنيُّ عليه -وكانت يده كاملة- يدَ الجاني قصاصاًً، ويد الجاني ناقصة، لم يرجع إلى مزيد أرش في مقابلة نقصان الإصبع من يد الجاني.
ولو كانت يد الجاني كاملة الأصابع، فقطع يداً ناقصة بإصبع، فلا سبيل إلى قطع يد الجاني من الكوع؛ فإن في ذلك -إن قلنا به- زيادة على القدر المستحق؛ فإن يد الجاني كاملة في اعتدال الخلقة، ثم لو قال المجني عليه: مكّنوني من استيفاء القصاص من أصابعه الأربع، أجبناه إلى ذلك، ومكّناه أن يلقطها ونترك [الإصبع] (2) التي [ما مُكّن منها للمجني عليه] (3) ، ونترك الكف لا محالة لمكان تلك [الإصبع] (4) ، وأبو حنيفة (5) يأبى هذا النوعَ من القصاص، ولا يجيز أن تلقى حديدةُ القصاص مَوْضعاً غيرَ الموضع الذي لقيته حديدةُ الجاني من المجني عليه.
10481- ثم طرد أئمتنا الأصل الذي انتهينا إليه، وقالوا: إذا قطع الجاني يد إنسان من نصف الساعد، فلا نقطع يد الجاني من ذلك الموضع، لما قدمناه من أن إجراء القصاص في العظم عسر، ولا يتأتى الوفاء فيها برعاية المماثلة، ولكنا نجوّز للمقطوع يده من نصف الساعد أن يقطع يد الجاني من الكوع، [ثم] (6) يرجع بحكومة الساعد.
وكذلك لو قطع الجاني من نصف العضد، فللمجني عليه قطع يد الجاني من المرفق، ثم إذا فعل ذلك رجع بحكومة العضد.
وإذا أبان الجاني يد المجني عليه من [الكتف] (7) وخفنا الإجافة في القصاص؛
__________
(1) في الأصل: "الحرّية".
(2) في الأصل: "الأصابع".
(3) عبارة الأصل: "ما يمكن للعنى عليه." والتصويب والزيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "الأصابع".
(5) ر. الهداية مع تكملة فتح الفدير: 9/171.
(6) في الأصل: "لم".
(7) في الأصل: "الكف".(16/220)
فمنعنا الاقتصاص من الكتف، فللمجني عليه القطع من المرفق، والرجوع إلى حكومة العضد.
ولو وقع القطع من [المرفق] (1) وقد أوضحنا أن القصاص يجري فيه، فلو أراد المجني عليه أن يقطع من الكوع، لم نمكنه من ذلك، فإنه قادر على وضع حديدة القصاص في الموضع الذي وضع الجاني حديدة الجناية عليه، فإذا أمكنت رعاية المساواة، فلا معدل عنها، ومستحِق القصاص مخير بينها وبين ترك القصاص [إحساناً] (2) .
ولو قال من قطعت يده، وقد تمكن من قطع يد الجاني: مكنوني من قطع أنملة من يد الجاني وأنا أقنع بهذا، فلا يجاب إلى ذلك.
ثم إذا كان قَطَعَ الجاني من المرفق، وأمكن إجراء القصاص فيه، فابتدر المجني عليه، وقطع يد الجاني من الكوع، فقد أساء، ولكن وقعت اليد قصاصاًً، فلو قال: مكنوني الآن من القطع من المرفق، فإني كنت مستحقّاً لذلك، لم نسعفه بذلك أصلاً، ولو قال: إذا أبيتم هذا فأثبتوا لي حكومة الساعد، لم نثبتها، وقلنا له: أنت تركت حقك مع القدرة عليه، ورضيت ببعض حقك. هكذا قال الأصحاب.
10482- ولو وقع القطع من نصف الساعد، فقد ذكرنا أن للمجني عليه أن يقطع يد الجاني من الكوع، [فلو قال] (3) : ألقط أصابعه، لم نمكنه، لتعدد الجراحات، وهذا عظيم الموقع، وهو متمكن من القطع من الكوع، وهو أهون وأكمل.
ولو وقع القطع ابتداء من نصف العضد، فأراد المجني عليه أن يقطع من الكوع، مع تمكينه من القطع من المرفق، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن المرفق أقرب إلى محل الجناية. والوجه الثاني - له ذلك، فإن حديدة
__________
(1) في الأصل: "ولو وقع القطع من القطع." وهو سبق قلم من الناسخ.
(2) في الأصل: "إحسا" هكذا تماماً بدون نقط. والمثبت أقرب ما يكون لصورتها ولأداء معنى مناسب للسياق، وهو من عمل المحقق طبعاً.
(3) في الأصل: "فلو أراد قال" والتصرف بالحذف من المحقق.(16/221)
القصاص إذا [جازت] (1) عن محل الجناية ضرورةً، والقطع من الكوع أهون من المرفق، فلا يمتنع القطع الذي يتضمن ترك بعض الحق من غير تعديدٍ في القطع يتضمن المثلة، كما ذكرناه في طلب لقط الأصابع.
ثم إذا قطع الكوع إما مبادراً، وإما بأن سوغنا له ذلك، فهل يجوز له الرجوع إلى حكومة الساعد، والقدرِ المقطوع من العضد؟ هذا ينبني على الخلاف في جواز القطع من الكوع، فإن منعنا ذلك، فليس له حكومة الساعد، وإن جوزنا القطع من الكوع، ففي سقوط حكومة الساعد وجهان: أحدهما - أنه يسقط؛ من جهة أنه أعرض عن حقه، مع التمكن منه. والثاني - له حكومة الساعد، وترْكُه لحقه في الساعد بمثابة عفوه عن القصاص، ولو عفا عن القصاص، لثبت له الرجوع إلى المال.
فإن قيل: هلا قلتم: له الرجوع إلى حكومة الساعد، وإن فرعنا على منعه من القطع من الكوع، لأنه تاركٌ حقَّه في قطع المرفق، ومستحقُّ القصاص يرجع إلى المال؟ فهذا [عفوٌ] (2) على كل حال؟ قلنا: لا ننكر كونَ هذا قياساً، ولكن أجرى الأصحاب إسقاط الحكومة تغليظاً على المقتص إن فعل ما ليس له أن يفعله، وأما الحكومة في مقابلة بعض [العضد] (3) ، فإنها ثابتة في كل حساب؛ فإن التعذر في الاقتصاص محقق شرعاً، لا ينسب المقتصَّ إلى تركٍ.
واستشهد القفال لسقوط الحكومة في الساعد في صورة الوجهين بمسألة من القسْم تقْرُب فقهاً؛ وإن كانت تبعد تصويراً: [فللثَّيب إذا أرادت ثلاثةُ العقد] (4) ، لا تحسب عليها من أدوار القَسْم، فلو أرادت أن يقيم الزوج عندها سبعاً -وهي مدة الأبكار- أجابها الزوج، وقضى السبعَ للباقيات، وبطل اختصاصها بالثلاث؛ لأنها تعدّت محلّ حقها، وحدَّ استحقاقها.
__________
(1) في الأصل: "حارت".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "العبد".
(4) في الأصل: "فليثبت إذا رتب ثلاثة العقد ... إلخ وواضح ما فيها من تصحيف". وتصح (ثلاثة) على تقدير إرادة الأيام.(16/222)
وهذه المسألة شاذّةٌ عن القياس، والمعول [فيها] (1) الخبر؛ فلا ينبغي أن يستشهد بها، وسبيل التوجيه أن نقول: إذا قدر على القطع من المرفق، فقطع من الكوع، فكأنه أقام هذا القطعَ من الكوع مقام هذا القطع من المرفق، فقام مقامه وليس [كالعفو] (2) عن القصاص أصلاً مع الرجوع إلى الدية.
هذا منتهى النظر، والله أعلم.
10483- ومما يتعلق بذكر التفاوت بين يدي الجاني والمجني عليه أن يد المجني عليه لو كانت على الخلقة المعتدلة، وكانت يد الجاني [مختلَّة] (3) : إصبعان منها شلاّوان، وثلاثٌ صحيحة، فإن قنع المجني عليه بيد الجاني كما صادفها، جاز، ولا مرجع إلى الأرش، وقد ذكرنا ذلك في اليد الشلاء، فما الظن بها إذا كان الشلل في بعض أصابع الجاني؟
ولو قال المجني عليه: لست أقنع بيد الجاني، ولكني ألقط الأصابع الثلاثَ الصحيحة، أجبناه إلى ذلك، ويرجع إلى الأرش فيما لم يستوفِ.
والتفصيل فيه أن نقول: يرجع بدية أصبعين لا محالة، وبقي الكلامُ في حكومة الكف، فأما ما يقابل الأصابع الثلاثة التي اقتص فيها، وهو ثلاثة أخماس حكومة الكف، فهل يطالِب بها أم تندرج تحت القصاص في الأصابع الثلاث، فعلى وجهين: أحدهما - أنها تندرج تحت دياتها؛ فإن دية الأصابع الخمس من الرجل الكامل خمسون من الإبل، ودية اليد إذا قطعت من الكوع خمسون من الإبل، فالكف إذاً في الاعتبار الذي ذكرناه مندرجة تحت الأصابع في الدية، والقصاص أحدُ البدلين؛ فلتستتبع الأصابع فيها مغارسَها من الكف.
والوجه الثاني - أن الحكومة لا تتبع القصاص؛ فإن القصاص في [وضعه] (4) مماثلة
__________
(1) في الأصل: "منها".
(2) في الأصل: "كالعقد".
(3) في الأصل: "مختلفة".
(4) في الأصل: "وصفه".(16/223)
محسوسة، والديات أبدال [تحكّميّة] (1) ، فإذا جرى القصاص في الأصابع دون الكف، وقد قطع الجاني منه الكف، فمقابلة الكف والأصابع بالأصابع المحضة يخالف المماثلةَ المرعيةَ في [قضية] (2) القصاص والأروش، ولا يغني [القصاص] (3) على هذا.
هذا قولنا فيما يقابل الأصابع المقطوعة قصاصاًً في حكومة الكف.
[فأما الخمسان] (4) المقابلان للأصبعين اللذين يرجع فيهما إلى الدية، فالمذهب الذي قطع به معظم أئمتنا أنه لا يرجع بما يقابل الأصبعين في حكومة الكف، لما قدمناه من أن دية الأصابع الخمس [هي دية اليد المقطوعة من الكوع] (5) ، فإذا اندرجت جملة الكف تحت ديات الأصابع، فليندرج البعض فيها تحت البعض؛ فإن الكل متركب من الأجزاء، والحكم الثابت للكل ينقسم على أجزائه.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن له المطالبةَ بما يقابل الإصبعين، وهذا بعيد، وإن حكاه معتمدون، ووجهه على بعده: أن كل الأصابع إن استتبعت الكف، فلا يمنع ألا يجرى ذلك في بعضٍ، ويقال: إذا وجب بعض حكومة الكف يجب تمام حكومتها، وما ذكرناه في الأصبعين اللذين ثبت ديتهما يرتب على ما يقابل الأصابع الذي جرى القصاص فيها، فإن قلنا: القصاص يستتبع، ففي الدية الخلاف الذي ذكرناه.
فهذا كلام أرسلناه، وتمامُ بيانه في آخر الفصل.
10484- ولو كان يد المجني عليه [مختلّة] (6) : فكانت إصبعان شلاوان وثلاث صحيحة، ويد الجاني معتدلة الخلقة، فلا شك أنا لا نقطع يدَ الجاني من الكوع،
__________
(1) في الأصل: "بحكمته".
(2) في الأصل: "قصة".
(3) في الأصل: "ولا ـعـ ـى على هذا" والمثبت من الزيادة والتصرف من عمل المحقق. والمعنى لا يغني القصاص عن الحكومة في الكف.
(4) في الأصل: "فالخمسان".
(5) عبارة الأصل: "هي دية الأرش اليد المقطوعة من الكوع. " والتصرف بالحذف من المحقق.
(6) في الأصل: "مختلفة" وما أثبتناه هو الأوفق للسياق والمعنى إن شاء الله.(16/224)
وللمجني عليه أن يقتص من ثلاث أصابعَ ويلقطَها، من يد الجاني، ويرجعَ إلى حكومة الإصبعين الشلاوين.
ويبقى الكلام في حكومة الكف: أما ما يقابل القصاص، فعلى الخلاف المشهور، وأما ما يقابل الإصبعين الشلاوين، فالمذهب أنه يرجع بذلك القدر من حكومة الكف، [وهو] (1) خمسا حكومة الكف، [وأبعد] (2) بعض الأصحاب وزعم أن الأصبعين الشلاوين يستتبعان ما يقابلهما من حكومة الكف، وهما خُمسا الحكومة، وهذا الخلاف يرتّب على ما ذكرناه في الدية؛ فإن قلنا: الدية لا تستتبع، فلأن لا تستتبع الحكومةُ أولى.
وإن قلنا: الدية تستتبع، ففي الحكومة وجهان: أصحهما- أنها لا تستتبع، والفرق أن الدية أصلٌ والحكومة فرع، فلا يبعد أن يستتبع الأصل الفرعَ، فأما الحكومة، فيبعد أن تستتبع الحكومةَ.
وضبط القول فيما ذكرناه من الاستتباع يقتضي التنبه لأمور: منها أن الدية حَرِيةٌ بأن تستبع الحكومةَ، والحكومة بعيدة عن استتباع الحكومة، والقصاص على التردد [من] (3) حيث إنه أصل، كما أن الدية أصل، ولكنه [مخالف] (4) في وضعه للمال، فاقتضى ذلك تردداً فيه.
ومما يتعين ذكره أن الاستتباع في جملة الأصابع متجه واقع، وهو في البعض أبعد، ويتبين الآن ما أشرنا إليه بالتفصيل.
فإذا كان يد المجني عليه كاملةً معتدلة، وكانت يد الجاني زائدة بإصبع، فلا سبيل إلى قطع يد الجاني، فإذا قال المجني عليه: اغرم لي ديات أصابعي، كان كما لو قال: اغرم لي دية يدي، ولا يبين نظرٌ في الاستتباع لمكان اجتماع الدية مع فرض الكلام في جملة الأصابع.
__________
(1) في الأصل: "وهما".
(2) في الأصل: "فأبعد".
(3) في الأصل: "في".
(4) في الأصل: "يخالف".(16/225)
ولو طلب المجني عليه القصاصَ في الأصابع الخمس، ففي الاستتباع وجهان، ولكن الاستتباع هاهنا أظهرُ، لجريان القصاص في جميع الأصابع. وإذا جرى تغريم الدية في بعض الأصابع، ظهر هاهنا أوّلُ الخلاف في الاستتباع، والأظهر الاستتباع.
وأما الحكومة؛ فإنها بعيدة عن الاستتباع.
هذا تمام الغرض فيما ذكرناه.
والقول في مقدار حكومة الكف مؤخر إلى كتاب الديات، ففيها نستقصي الحكومات، وسبيلَ الاعتبار فيها.
10485- ولو اشتملت يد الجاني والمجني عليه على الشلل في بعض الأصابع، فإن كان ذلك على الاستواء، جرى القصاص [من] (1) الكوع، مثل أن يكون المُسبِّحة من يد كل واحد منهما شلاء، ولو اختلفت اليدان فيما ذكرناه لم يجرِ القصاصُ من الكوع، وذلك بأن تكون المُسبِّحة من إحدى اليدين شلاء، [والوسطى من الأخرى] (2) ، فلا يجري القصاص من الكوع، ولا تجزىء الصحيحة من يدٍ الشلاءَ من الأخرى.
وقد نجز ما أردناه من تفاوت اليدين في الزيادة، والنقصان، والخروج عن الاعتدال، وبقي منه فصل في نهاية الإعضال، وهو القول في زيادة الإصبع، ونحن نفرد هذا بفصلٍ بعد هذا، جرياً على تفصيل [السواد] (3) .
فصل
قال: "لو سأل القودَ ساعةَ قُطع أصبعه أقدتُه ... إلى آخره" (4) .
10486- من قطع طرفاً أو أطرافاً من إنسان، واستوجب القصاص فيها،
__________
(1) في الأصل: "في".
(2) في الأصل: "والأخرى من الوسطى من الأخرى".
(3) في الأصل: "الشواذ". وهو تحريف واضح، وقد سبق مراراً أن المراد بقوله (السواد) هو مختصر المزني.
(4) ر. المختصر: 5/118.(16/226)
[فسأل] (1) المجنيُّ عليه القودَ من ساعته، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه يجاب إلى ذلك، ويمكّن من الاقتصاص على [جزئه] (2) ، وذلك أن القصاص لا يسقط في الأطراف بتقدير سِراياتها إلى النفس، وقد مهدنا في أول الكتاب أن القصاص لا يندرج تحت القصاص في النفس، وإنما تندرج الأطراف تحت النفس في الدية، وإذا كان كذلك، فالوجهُ إسعافُ طالب القصاص بحقّه على الفور.
قال شيخي: قلنا للققال: إذا قطع الجاني اليد في المساء، فطلب المجني عليه القصاص في حَمارّة [القيظ] (3) ، وقد يغلب على الظن أن ذلك مهلك في هذا الوقت، فهل نجيب طالب القصاص، أو نؤخر حق الاقتصاص إلى مثل الزمان الذي جرت الجناية فيه؟ فتردد القفال، واستقر جوابه على أنا لا نؤخر ولا نبالي بما يؤدي القطع إليه.
ولو قطع رجل يدي رجل، وتركه حتى اندمل ما به من جرح، ثم قطع رجليه، ثم تركه [حتى اندمل، ثم والى القطعَ حتى ما] (4) فضل منه أعضاء مع تخلل الاندمال، فإذا جاء المجني عليه يطلب القصاص، أسعفناه بما يطلبه، ومكّنّاه من استيفاء القصاص [وِلاءً] (5) في الأطراف، وإن جرت الجناية مفرقة (6) .
وقال بعض أصحابنا: من جنى على طرف أو أطراف لم نقصّ المجني عليه ما لم تندمل تلك الجراحات، كما سنذكر مثل ذلك في الدية.
__________
(1) في الأصل: "قبل".
(2) رسمت في الأصل هكذا: "حروه" بدون نقط.
(3) في الأصل: "الفيض". وحمارة القيظ: شدّته (بتخفيف الراء وتشديدها) (المعجم) .
(4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) في الأصل: "تناولا". والمثبت أقرب صورة إليها، وأقرب إلى ألفاظ الإمام، وإلى المعنى المطلوب. فهي هي كلمة الإمام إن شاء الله.
(6) لم يذكر الإمام هنا إلا هذا الوجه. وقال الرافعي: "وفيه وجه أنه إذا قطعها متفرقة يقتص منه
كذلك، لما في الموالاة من زيادة الخطر" وجعل الأول الذي اقتصر عليه الإمام هو الأظهر. (ر. الشرح الكبير: 10/270) وأما النووي، فقد جعل الوجه الذي اقتصر عليه الإمام هو الصحيح (ر. الروضة: 9/225) .(16/227)
وهذا بعيد لا أعرف له وجهاً، ولكن حكاه معتَمدٌ في الحكاية والنقل.
10487- ثم لو آل الأمر إلى المال، فطلب المجني عليه المالَ، فظاهر النص للشافعي في الكتب: أنا نتوقف إلى الاندمال، وقال في السيد إذا جنى على مكاتَبه: "إن الأرش يتعجل على المولى، ليصرف إلى جهة التحرير"؛ فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: في [المسألة] (1) قولان: أحدهما - التعجيل وإسعاف الطالب بحقه من المال؛ قياساً على القصاص في المذهب الظاهر. والقول الثاني - أنا نتوقف؛ فإن الجراحات قد تسري، فتصير نفساً، فيختلف قدر المال، فالوجه التوقف إلى أن يبين حكمُ المال.
فإن قلنا: نقدم له ما يطلبه من حق المال، [ففي] (2) القدر الذي نُكلّف الجاني تعجيلَه قولان: أحدهما - أنا نكلفه تعجيلَ ديات الأطراف، فإن سرت وأدت إلى الهلاك، استرددنا حينئذٍ ما يزيد على الدية الواحدة، وليس ذلك بدعاً في أصول الشريعة، فإنا قد نغرّم المعتدي قيمة عبدٍ غصبه إذا أبق؛ للحيلولة الناجزة، ثم إذا آب العبد، رددنا القيمة واسترددناه، فإذا كنا نغرّم القيمة لتنجُّز الحيلولة، فلأن نغرّم أروشَ الأطراف، وقد تنجز فواتُها أولى. والقول الثاني - أنا لا نعجل إلا ديةً واحدة؛ فإن الجراحات سارية، وهي محمولة على السرايات إلى الزهوق.
وإذا جمعنا [ما أخّرنا] (3) إلى ما قدمنا، انتظم منه أقوال: أحدها - أنّا نقدّم الأروشى كلَّها، ثم ننظر ما يكون. والقول الثاني - أنا لا نقدّم إلا ديةَ النفس.
والقول الثالث- أنا لا نقدّم الأرش ما لم تندمل الجراحة.
فإن قيل: ما وجه هذا القول، وما محمله والأروش لا تنحط عن الدية؟ قلنا: قد [يشارك] (4) هذا الجاني أعدادٌ من الجناة، ثم تسري الجنايات إلى الموت، فلا
__________
(1) في الأصل: "المسائل".
(2) في الأصل: "ومن".
(3) في الأصل: "ما أخذنا".
(4) في الأصل: "شارك".(16/228)
يخص الجاني إلا جُزءٌ من مائة جزء مثلاً، وإذا أمكن تقدير هذا، ولا ضبط ولا مردّ، فالوجه التوقف في [الجميع] (1) .
فأعدل [الأقوال] (2) إجابة الطالب إلى دية واحدة، فإن [حَمْلَه] (3) السريان على الزهوق [ليس] (4) بدعاً، وتصوير الاشتراك نادر، ولا وجه للحمل على النوادر، فإن هذه طريقة الأصحاب.
ومن أئمتنا من أقر النصوص في مواضعها، ولم ير تعجيل شيء من الدية قبل الاندمال إلا في مسألة المكاتَب، والسبب فيه أن الكتابة موضوعُها على تعجيل [عَتاقة] (5) المكاتَب، ولذلك قطعنا بأنه لو جاء المكاتَب بالنجم قبل محِله، أُجبر السيد على قبوله. [وإذا] (6) جاء من عليه الدين المؤجل بالدين قبل محِله، ففي [إجبار] (7) مستحقه على القبول قولان، والفارق ما أشرنا إليه.
[ومن] (8) سلك هذا المسلك اختلفوا في تنزيل هذا الكلام [في] (9) المكاتب: فمنهم من حمله على النجم [الأخير] (10) وفرض أرشا يكمل به النجوم، حتى لو لم يكن كذلك، رُدّ الأمر إلى التفصيل المذكور في [الإجبار] (11) .
ومن أصحابنا من طرد هذا في جميع [الأقساط] (12) والنجومِ، وهذا ظاهر النص.
فإن قيل: أي فائدة لتعجيل أرش المكاتب، ولو كانت الأروش زائدة على
__________
(1) في الأصل: "الجمع".
(2) في الأصل: "الأفعال".
(3) في الأصل: "جملة".
(4) في الأصل: "وليس".
(5) في الأصل: "ساقة".
(6) في الأصل: "فإذا".
(7) في الأصل: "اختيار".
(8) في الأصل: "في سَلكَ هذا المسلك".
(9) في الأصل: "من".
(10) في الأصل: "الآخر".
(11) في الأصل: "الأخبار".
(12) في الأصل: "الأقدار".(16/229)
القيمة، فأدت [السراية] (1) إلى الهلاك، رجعت إلى القيمة، وبيّنا أن ما حكمنا به في الزائد على القيمة منقوص، وإنما يقع الحكم بموجَب المآل؟ قلنا: نعم، الأمر كذلك، ولهذا لم يُصحح الأئمة إلا طريقة الأقوال مع الاطراد في الحر والمكاتب.
10488- ومن تمام الفصل أن الجراحة لو كانت جراحةَ حكومة، لم يختلف أصحابنا المعتبرون في التوقف إلى أن تبين عاقبة الأمر، والسبب فيه أنها غيرُ مقدّرة، ولا يبين أمرها إلا عند منتهاها.
وحكى شيخي أن من أصحابنا من قال: يُسعَفُ المجني عليه بأقلِّ حكومة تعرض، وهذا يُعتمد.
وسيكون [لنا] (2) على حال إلى هذا الفصل عودة في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو كان للقاطع ست أصابع ... إلى آخره" (3) .
10489- مضمون الفصل كلامه في الإصبع الزائدة، ونحن نذكر حكمها، لو كانت على يد الجاني مع اعتدال خَلْق المجني عليه. وحكمَها لو كانت على يد المجني عليه مع اعتدال خَلْق الجاني.
فإن كانت على يد المجني عليه، فقطعها الجاني من الكوع، قطعنا يد الجاني، وغرمناه أرش الإصبع الزائدة.
ولو كانت على يد الجاني، لم نقطع يده؛ لمكان تلك الزيادة.
ولو أراد المجني عليه أن يلقط أصابعه الأصلية، نظر: فإن كانت الزيادة مائلةً عن
__________
(1) زيادة من المحقق.
* تنبيه: نذكر أن نسخة الأصل وحيدة، وما تراه في الحواشي ليس فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسأل الله الصواب.
(2) زيادة اقتضاها المقام.
(3) ر. المختصر: 5/120.(16/230)
سمت منابت الأصليات، تركناها وقطعنا الأصابع الأصلية قصاصاًً.
وإن كانت الإصبع الزائدة على سَنَن الأصليات واستواء منابتها، فإن كانت غيرَ ملتبسةٍ بالأصليات، وكان استيفاء الأصليات مع إبقائها ممكناً، فللمجني عليه استيفاؤها، [وفي] (1) حكومة الكف من التفصيل ما قدمناه، لمّا ذكرنا الاختلاف في أن القصاص في الأصابع هل يستتبع [أقدارها] (2) من حكومة الكف.
وإن كان قطْعُ بعض الأصليات يؤدي إلى فسادٍ للزيادة، لم يجر القصاص فيما يؤدي قطعه إلى إتلاف الإصبع الزائدة. وكل ذلك بيِّن في الأصول التي سبق تمهيدها.
10490-[وإنما] (3) المشكل من هذا الفصل صورتان: إحداهما - أن الجاني لو كانت له ست أصابع، وقال أهل البصر: لا ندري أن أصبعاً واحدة زائدة فيها، وهي ملتبسة بها، أو الأصابع الست أصليات، والطبيعة قسمت مادةَ الأصابع بتقدير العزيز العليم ستةَ أجزاء على استواءٍ في القوى والعمل، وهي على الاعتياد تنقسم من غير هذا الشخص خمسةَ أقسام، هذه صورة.
الصورة الأخرى - أن يحكم أهل البصائر أنها أصليات، انقسمت ستةَ أقسام. ونحن نتكلم في كل صورة بما يليق بها، إن شاء الله عز وجل.
10491- فأما إذا جوزنا أن تكون واحدة زائدة، وخمس أصليات، وجوزنا أن يكنَّ أصليات، فإذا كان الجاني بهذه الصفة، وكان قطَعَ يداً معتدلة من الكوع، فلا نقطع هذه اليدَ من الجاني، قال الأئمة: لا نمكّن المجنيَّ عليه من لقط خمسِ أصابعَ من يد الجاني، لأصلٍ متفق عليه بين الأصحاب، وهو أن الإصبع الزائدة لا تقطع بأصلية، وإن تدانيا في المنبت، ولا تقطع بها أصلية، وليست الزائدة كالإصبع الشلاء، والسبب في ذلك أن الاختلاف في الأطراف يمنع إجراء القصاص، ولهذا لا نقطع خِنصراً ببنصر، ويُسرى بيُمنى، وليست الزائدة كالشلاء؛ فإن الشلاء أصلية
__________
(1) في الأصل: "في" (بدون واو) .
(2) في الأصل: "إقرارها".
(3) في الأصل: "وأما".(16/231)
نابَها الشّلل، واختلاف الصفة لا يوجب اختلاف الجنس.
فإذا تقدم ذلك، فنحن نجوّز أنا لو قطعنا خمساً من أصابع الجاني أن تكون واحدة منها زائدة، ولا تكون [مجزئةً] (1) في مقابلتها بأصلية.
هذا هو السبب في المنع عن الإقدام على قطع خمس أصابع، فإن كل واحدة يُفرض الإقدام عليها [يصدق] (2) أن يقال: إنها الزائدة، وهذا بيّن.
ثم بنى الأصحاب على هذا، فقالوا: لو ابتدر المجني عليه في هذه الصورة، وهي صورة الإشكال، فقطع خمسَ أصابعَ [وِلاءً] (3) ، ثم قلنا: الأصابع التي قطعتها هي أصابعك من غير زيادةٍ هي ولا نقصان؛ فإنا نجوّز أن تكون أصلية، والزائدة [هي] (4) التي أبقيتها، ويجوز غيرُ ذلك، فلا لك ولا عليك.
فإن قال: [لم تقطعوا له حقي عليه في الكف الذي عليه الأصابع] (5) ، والأصل بقاء استحقاقي. قلنا: نعم، ولم نأمر؛ إنك استوفيت حقك، وأنت جَرَرْتَ إلى نفسك هذا؛ فإن قدرناك غير مستوفٍ حقك وقد قطعت -والشرعُ لا يعطل القطع- عارضه إمكان القطع موفياً حقك، فلا وجه إلا ردُّ الأمر إلى النظر في حكومة الكف، وقد مضى القول فيه.
10492- فأما إذا قال أهل البصيرة: الأصابع أصلية، ولكنها انقسمت ستة أقسام، فقد قطع أئمتنا بأن القصاص يجري فيها؛ فإن التفاوت في الانقسام مع الحكم بتأصل الأصابع لا يوجب اختلافاً في الجنس، وسنذكر بعد هذا أن الإصبع إذا كان على رأسها أنملتان مستندتان، وعاملتان، فهما أصليتان، فلو قطعهما معتدلٌ في الخلقة، قطعنا الأنملة العليا منه، وألزمناه زيادة حكومة.
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: "بصدد".
(3) في الأصل: "ونحاه" كذا تماماً. والمثبت من عمل المحقق. مثل كل ما سبق في هذا المجلد؛ فهي نسخة وحيدة. والله المستعان، والملهم للصواب.
(4) في الأصل: "في".
(5) عبارة الأصل: "لم تقطعوا له في حقي علي في الأصابع" والتعديل والحذف من المحقق.(16/232)
وقالوا: لو كان هذا الانقسام في الأصابع في يد المجني عليه ويدُ الجاني معتدلة، قطعنا يد الجاني بيد المجني عليه، وألزمناه زيادة الحكومة، فقد تحقق أن الانقسام لا يُثبت اختلافاً يمنع من التقابل في حكم القصاص.
فنعود بعد هذا إلى فرض هذه الزيادة في يد الجاني، فنقول: إذا أراد المجني عليه أن يقطع خمس أصابع من يد الجاني، فله ذلك، سنصف ونقول: ينبغي أن يكون قطع هذه الخمسة على وِلاء، فيقع واحدٌ منها على الطرف لا محالة، والذي يختلج [في النفس] (1) لا محالة، فمن [دقّة النظر] (2) إيثار منع القصاص، فإن الأصابع الست انقسمت على [نظمٍ] (3) يخالف نظمَ الخمس المعتدلة، فالقطع منها يغمض.
نعم، لو قطعها قاطع، لم يغمض قطع الخمس بها، كما ذكرناه في قطع أنملة معتدلة بالأنملتين. وهذا هو الذي يختلج في الصدر، والاحتمال فيه واقع.
ولكن ما رأيناه للأصحاب، هذا الذي نقلناه.
ثم إذا تعدينا هذا الكلام بعده في الرجوع بمزيد، فإذا قطع المجني عليه خمسَ أصابع من يد الجاني، فلا شك أن حقه لم يتوفر عليه، وليس كالصورة التي قدمت، وهي إذا قطعنا أن واحدة زائدة وخمساً أصلية؛ فالأصابع الخمس تقع خمسة أسداس، وأصابع المجني عليه كانت على كمالها، فنُثبت له مع قطع الخمس رجوعاً إلى شيء،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "قلة الفطرة" وقد جاءت هاتان الكلمتان في الفصل الآتي بعد هذا هكذا:
"وإن يعترض في [وله العطر] شيء ... إلخ" هكذا بدون نقط.
فترجح لدينا أنها (دقة النظر) . وتصحفت على الناسخ بهذه الصورة.
ولقد نقل الرافعي هذا النص، فقال: "قال الإمام: ويختلج في النفس أن يقال: ليس له لقط الخمس؛ لوقوع الست على نظم يخالف نظم الخمس المعتدلة، وغموض القطع منها، ثم حقه لا يتوفر بقطع الخمس منها؛ لأنها خمسة أسداس اليد، ويده مقطوعة بكمالها، فله مع ذلك سدس الدية، لكن يحط من السدس شيء؛ لأن الخمس الملقوطة، وإن كانت خمسةَ أسداس، فهي في صورة الخمس المعتدلة، والأمر في قدر المحطوط مفوّض إلى رأي المجتهد ونظره." ا. هـ بنصه (ر. الشرح الكبير: 10/242) .
(3) في الأصل: رسمت هكذا "لقط" وبدون نقط.(16/233)
وظاهر هذا التقدير يقتضي أن نثبت مع قطع الخمس دية [الإصبع] (1) ونحن نقدر هذا ونحط منه بالاجتهاد؛ فإن الأصابع التي قطعناها من يد الجاني خمسٌ في الصورة مشابهةً خمساً معتدلة، فكان ذلك مقتضياً مزيةً وزيادةً على نسبة التسديس، وسنذكر لهذا نظائر في الأنامل، والذكرين، وغيرها، ثم ذلك الذي نحطّه من السدس مفوّض إلى رأي المجتهد.
هذا تمام المراد ونحن نهذبه بمسائل:
10493- فإذا قطع مَنْ أصابعه منقسمة ستةَ أقسام إصبعاً أصلية، قطعنا من تلك الجهة إصبعاً من أصابعه، وألزمناه ما بين الخُمس والسدس مع حطيطةِ مقدارٍ لما نبهنا عليه.
ولو قطع رجل معتدل الخلق إصبعاً من هذه الأصابع الست، لم نقطع أصبعاً من الجاني وتعليله بيّن، ولكنا نُلزم الجاني سدس دية اليد مع [مزيدٍ لزيادة] (2) الخلقة في الصورة، وستأتي أمثلة ذلك في الأنامل وغيرها.
ولو قطع المعتدل إصبعاً من الأصابع الست، فقد ذكرنا أنه لا تقطع إصبع من أصابع هذا المعتدل، فلو ابتدرها المجني عليه وقطعها، كان هذا عندنا بمثابة ما لو كانت إصبع المجني عليه شلاء وإصبع الجاني سليمة، فابتدر المجني عليه الإصبع السليمة، وقطعها، فهل يقع قصاصاًً، وكيف الحكم؟ هذا مما تقدم ذكره.
وقد انتهى الكلام في الفصل ولم يبق فيه إشكال في النقل، وفي الاحتمال ما نبهت عليه.
فصل
10494- إذا كان لإصبعٍ أربعُ أنامل، نظر فيها، وقيل: إن لم يزد طولها على طول الأصابع، فلا زيادةَ في الخلقة، وإنما الزيادة في تفصيل المفاصل، وتعدد الأنامل، فإذا قطعَ هذا الشخص إصبعَ إنسان، وكانت مثل إصبعه، فإن كانتا
__________
(1) في الأصل: "الأصابع".
(2) في الأصل: "مزيد الزيادة".(16/234)
مسبّحتين مثلاً [فإنا] (1) نقطع الإصبع من الجاني، وإن زاد عدد أناملها؛ فإنه لا زيادة، ولكن انقسمت إصبعه أرباعاً، وانقسمت إصبع الرجل المعتدل أثلاثاً، فلا تفاوت في أصل الخلقة وإنما التفاوت في أعداد الأقسام، وكيفية الانقسام.
[والذي] (2) صار إليه الجمهور أن الإصبع المربعة إذا كانت في يد الجاني، فقطع أنملة من إصبع معتدلة، قطعنا أنملة من إصبعه، وألزمناه مع القصاص مزيداً، وهو ما بين الربع إلى الثلث من دية إصبع، فإن قطع أنملتين من إصبع معتدلة، قطعنا أنملتين من إصبعه المربعة، وألزمناه مع القصاص ما بين النصف إلى الثلثين من دية إصبع، فإن استأصل الإصبع المعتدلة من أصلها، قطعنا إصبعه المربعة، فاكتفينا بالقصاص؛ فإن جملة الإصبع الآن تقابل جملة الإصبع من يد المجني عليه، وأربعة الأرباع تعدل ثلاثة الأثلاث، وإنما كان يطرأ التفاوت والقطعُ (3) في الأجزاء، فإذا رجع الأمر إلى مقابلة الجملة بالجملة، زال التفاوت (4) .
وإذا جنى مَنْ إصبعه معتدلة، على من إصبعه مربعة، فإذا قطع الأنملة العليا، لم نقطع الأنملة العليا من إصبع الجاني؛ فإنا لو فعلنا هذا كنا مقابلين ثلثاً بربع، فإن قطع أنملتين من الإصبع المربعة، قطعنا أنملة من إصبعه المثلثة، وألزمنا الجاني ما بين الثلث إلى النصف، وهو سدس دية الإصبع.
وإن قطع ثلاثة أنامل من الإصبع المربعة، قطعنا أنملتين من إصبع الجاني وألزمناه ما بين الثلثين إلى ثلاثة أرباع، وهو نصف سدس دية إصبع.
وإن قطع الجاني الإصبع المربعة من أصلها، قطعنا إصبعه، واكتفينا؛ فإن جملة [الإصبع مقابلة بجملة الإصبع] (5) الأخرى، وإنما التفاضل بين الأجزاء، كما سبق.
__________
(1) في الأصل: "فأما".
(2) في الأصل: "فالذي".
(3) "والقطع في الأجزاء" الواو واو الحال، والجملة حالية.
(4) حكى صاحب (التهذيب) وجهاً آخر، هو المنع من القصاص للزيادة في عدد الأنامل، وجعله الأصح، كما لا تقطع اليد التي فيها ست أصابع بيد المعتدل (ر. التهذيب: 7/114) ، ونقله عنه الرافعي (ر. الشرح الكبير: 10/244) ولم يرجح أي وجهٍ منهما.
(5) في الأصل: "الأصابع مقارنة لجملة الإصبع." والمثبت تصرف من المحقق.(16/235)
10495- وكل ما ذكرناه فيه إذا انقسمت الإصبع أربعةَ أقسام، ولم يزد طولها، فإن زاد طولها، ظهر في الظن أنها إصبع وزيادة أنملة، فيجب الحكم بزيادة ذلك، ثم الأنملة الزائدة قد تساوي بقية الأنامل في [النضارة والانصياع] (1) للعمل، وقد تكون الأنملة العليا [مستحشفة] (2) ساقطةَ العمل، أو ضعيفة العمل، فيظهر أنها شلاء، أو زائدة على التعين، ولا شك أنا إذا اعتقدنا مزيداً نوجب في الإصبع إذا قطعت دية إصبع وزيادة.
ولو قطع صاحب هذه الإصبع إصبعاً معتدلة، لم نقطع إصبعه من أصلها بالإصبع المعتدلة، لمكان الزيادة التي اعتقدناها، ولو قُطعت هذه الإصبع، فالقول في الزائد على دية إصبع يختلف، [كما نبهنا] (3) عليه: فإن كانت الزيادة ضعيفة [مستحشفة] (4) ، فالزيادة على قدرها، وإن كانت قوية، كانت الزيادة أكثر، وإذا لم يكن فرقٌ، استوت الأنامل ونزلت منزلةَ الأصابع الست، التي اعتقدناها أصلية، وقدرنا مادةَ الأصابع منقسمة ستة أقسام، فلو قطعت أنملة من الأنامل الأربع، وهي متساوية، أوجبنا ربعَ دية إصبع وزيادة، وهكذا إلى الاستيعاب، كما نوجب في إصبع من الأصابع الست التي استشهدنا بها سدس دية يدٍ، وزيادة.
ولا يبعد أن نقول: صادفت القوة المدبرة بإذن الله تعالى مزيد مادة [فزادت الإصبع] (5) قسماً، ثم لا فائدة في قول القائل: [الزائدة] (6) في الأنامل [أيتها؟] (7) ؛ فإنه [إن] (8) أراد بذلك طلب حكم في القصاص والدية، [فلا فرق] (9)
__________
(1) في الأصل: "في النضاه والانطباع".
(2) في الأصل: "مستحقة".
(3) في الأصل: "بما نبهنا".
(4) في الأصل: "مستحقة".
(5) هذه الزيادة من الرافعي، حيث نقل عبارة الإمام بنصها. (ر. الشرح الكبير: 10/243) .
(6) في الأصل: "الفائدة"، وهو سبق قلم من الناسخ.
(7) كذا قرأنا بصعوبةٍ بالغة.
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) في الأصل: "ولا فرق".(16/236)
بين أنملة وأنملة، وإن أراد اطلاعاً على حقيقة الخلقة قيل له: لا فرق بين الأنامل في الخلقة، ولا سبيل إلى [تعيين] (1) واحدة للزيادة.
فهذا منتهى المراد في ذلك.
10496- ولو تصورت الإصبع بالصورة التي ذكرناها وهي الزيادة في العدد والطول، فلو قطع صاحبها أنملة من إصبع معتدلة، قطعنا أنملة منه؛ فإن أنملته لا تزيد على [ثُلث إصبع] (2) وإن كان يعترض في [دقة النظر] (3) شيء، فهو كما ذكرناه من مقابلة إصبع معتدلة بإصبع من الأصابع الستة، وقد قدمت النقلَ والاحتمال.
ولو قطع صاحب الإصبع الموصوفة بالزيادة إصبعاً معتدلة، فلا تقطع الإصبع التي وصفناها من أصلها؛ فنكون زائدين في الاقتصاص على قدر الجناية.
ولكن هل [نقطع] (4) ثلاثَ أنامل، ثم ننظر إلى التفاوت (5) ؟ هذا موضع النظر عندنا؛ فإن محل القطع متفاوت؛ فإن الجناية اتصلت بمركب الإصبع من الكف، والأمر في هذه الإصبع بخلاف تلك، ولكن الأصل أن نقطع ثلاث أنامل من إصبعه، ونرجع إلى مزيدٍ، فنسلمه إلى المجني عليه. وإن كان المحذور اختلافَ [موقع] (6) الحديدة، فهذا سائغ في مذهبنا؛ فإنا نقول: إذا كانت يد الجاني زائدة بإصبع، لقطنا أصابعه الخمس، ولم نقطع يده من الكوع، لمكان الإصبع الزائدة.
10497- ومما يطرى في المسألة أنا لو صادفنا إصبعاً فيها أنملتان، ولكنها على طول الأصابع، فيجوز أن يقال: إنها إصبع واحدة، انقسمت بنصفين.
والمقصودُ في ذلك لا يتبين إلا بشيء هو في نفسه من أغراض الفصل، وذلك أن
__________
(1) في الأصل: "نفس".
(2) في الأصل: "ثلاثة أصابع".
(3) في الأصل: "ـله الـ طر" كذا تماماً وبدون نقط، وسبق ورود هاتين الكلمتين، وصحفتا بنفس الطريقة، والسياق هنا وهناك يشهد لصحة اختيارنا إن شاء الله.
(4) في الأصل: "ينقطع".
(5) في الأصل: "تفاوت".
(6) في الأصل: "فيوقع".(16/237)
إصبعاً من الأصابع لو كانت أعداد أناملها على الاعتدال، ولكنها كانت أقصرَ من سائر الأصابع، وهي عاملة، فما نبهنا [عليه] (1) [أن قصر] (2) الأنامل لا يَنْقُص ديتَها عن أرش إصبع نظراً إلى تمام العدد، وحصول العمل.
ولو كانت الإصبع مثلّثة، ولكن أناملها طوال، [فالإصبع] (3) زائدة في الطول؛ لا لزيادة أنملة، ولكن لزيادة طول الأنامل، فالوجه ألاّ نزيد حكومةً لهذا السبب.
وإذا بان هذا، قلنا: إذا صادفنا إصبعاً بأنملتين اعترض لنا خاطران: أحدهما - أنه إصبع ذو قسمين؛ فإنه على طول سائر الأصابع. والثاني - أنهما أنملتان طويلتان، وقد ذكرنا أن طول الأنملة لا يُثبت مزيداً، وإذا اعترض هذان، فالأظهر منهما أنها إصبع تامة [ما نقص قسم منها] (4) ، فكانت كإصبع مربعة، ثم تربعُّ الإصبع مع المساواة في الطول، لم يقتض مزيداً؛ فتنصّفُه (5) مع الطول المساوي لا يقتضي نقصاناً. وأبو حنيفة لما اعتقد الإبهام [ذا أنملتين] (6) ، أوجب في كل أنملة نصف دية الإصبع (7) .
ويحتمل غير ذلك بتأويل الحمل على نقصان الإصبع بأنملة، وازدياد الأنملتين الكائنتين طولاً، وينضم إليه الاستمساك ببراءة الذمة (8) ، وليس معنا في هذه الصورة نقل مُحصِّل.
والأظهر تكميل الدية، نظراً إلى الطول.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "من قصد".
(3) في الأصل: "والإصبع".
(4) عبارة الأصل: "فالأظهر منهما أنها إصبع تامة نقصاً منها" والمثبت من تصرف المحقق، والسياق يشهد لصحة هذا التصرف إن شاء الله.
(5) فتنصفه: أي الإصبع، وقد أشرنا إلى أنها قد تذكر.
(6) في الأصل: "فإن أنملمتين".
(7) يستدلّ بذلك على أن الإصبع إذا خلقت ذات أنملتين مستوفية طولها، فهي إصبع كاملة.
(8) المراد براءة ذمة القاطع، فحيثما قطع هذه الإصبع ذات الأنملتين الطويلتين، لا تقطع إصبعه المثلثة المعتدلة، إلا بيقين لبراءة ذمته في الأصل، ولا تشغل بقدرٍ من الدية إلا بيقين.(16/238)
فإن قيل: ظهر سقوط منفعةٍ بنقصان أنملة (1) ؟ قلنا: قد نتخيل سقوط منفعة الاستداد في تربع الأنامل؛ فإن كمال الخلقة إذا كان يقتضي تثليثاً، فالتربيع يَنْقُصُ معنى مقصوداً كالتنصيف.
فهذا منتهى النظر في ذلك.
10498- ولو فرضنا أصبعاً لا [تفاصيل] (2) فيها، فالأظهر عندي نقصان شطرٍ من الدية؛ فإن الانثناء بالكلية إذا زال، سقط معظم منفعة الإصبع في الاحتواء والقبض، وهذا يسهل سبيل [التنقيص] (3) في انقسام الإصبع نصفين. والعلم عند الله.
وفي بعض التصانيف تردد في شيء لا بد من التنبه له، وهو أن الإصبع إذا كانت مربعة وطولها كطول الأصابع؛ فإنها لا تقطع بالإصبع المثلثة المعتدلة، وهذا لم أره لأحد (4) ، ثم في كلامه تناقض، فإنه أَثبت في كل أنملة رُبعَ دية الإصبع، وهذا يناقض ما ذكره في الامتناع عن مقابلة هذه الإصبع بالإصبع المثلثة، وهذا التناقض يحدث، ويقال بعده: لا يمتنع في مسالك الظنون أن يقال: الإصبع المربعة زائدة بأنملة، ولكن أناملها قصار، وهذا وإن كان خلافَ ما قاله الأصحاب، فهو إلى حالٍ يشير إلى مسلكٍ في الظن، لو ساغ القول به [لعُدّ] (5) وجهاً بيناً (6) ، ولكن الجمع
__________
(1) جملة خبرية في معنى الاستفهام، والمعنى: هل ظهر سقوط منفعة بنقصان أنملة؟
(2) في الأصل: "تفاضل".
(3) في الأصل: "النقيص".
(4) هذا الوجه الذي يقول عنه الإمام: لم أره لأحد، حكاه صاحب التهذيب، وقال: إنه الأصح، وأشار الرافعي إلى كلام صاحب التهذيب، وحكى قبله كلام الإمام، ولم يتعرض للاختيار بين الوجهين، بل اقتصر على حكايتهما، وحُكْمَ الإمام وصاحبِ التهذيب عليهما.
قلتُ: مراد الإمام أنه لم يره لغير (الفوراني) [فهو المعبر عن كتابه ببعض التصانيف، وعنه ببعض المصنفين] فيكون البغوي [561 هـ] صاحب التهذيب قد أخذه عن الفوراني، أو مَنْ بعد الفوراني، وعليه يكون مبدأ هذا الرأي في المذهب من عند الفوراني، ثم انتشر عنه. والله أعلم.
(5) في الأصل: "بعد". وهو تصحيف قريب المدرك.
(6) لقد صدق تقدير الإمام، فقد صار هذا (وجهاً بيناً) جعله صاحب التهذيب (الأصح) وإن كان من تعليقٍ هنا: فهو ما يشهد بإنصاف الإمام (للفوراني) ، فمع أنه "كثير الحط عليه" =(16/239)
بين هذا الاعتقاد وبين مقابلة كل أنملة بالربع من غير مزيدٍ تناقض [محذوف] (1) .
وقد نجز تمام الغرض في الفصل بحثاً ونقلاً.
فصل
قال: "ولو قطع أنملة لها طرفإن ... إلى آخره" (2) .
10499- إذا كان على رأس إصبع إنسان أنملتان، فإن كانت إحداهما أصلية [مستدّة] (3) عاملة، والأخرى زائدة مائلة، ففي الأصلية الأرش الكامل، وفي الزائدة الحكومة، ثم إذا قطع صاحبُ هذه الإصبع الأنملة العليا من معتدل، اكتفينا بقطع أنملتِه الأصلية، ولو قطع معتدلٌ أنملته المعتدلة، [قُطعت أنملته بها، وإن انتقل الأمر إلى المال، ففيها الأرش الكامل] (4) .
وإن كانت الأنملتان منتصبتان عاملتان لا تتميز إحداهما عن الأخرى، فالقول فيهما يقرب من القول في الأصابع الست الأصلية، التي حُمل المزيد في عددها على زيادة الانقسام، فإن قطع معتدلٌ إحدى الأنملتين، لم تقطع أنملته، وإن قطعهما، قطعنا أنملته، وألزمنا مزيداً لزيادة الخلقة، وقد سبق نظير ذلك في الأصابع الست.
ولو كان الجاني صاحب الأنملتين، فإذا قطع الأنملة العليا من معتدل، لم نقطع [أنملتيه] (5) لمكان الزيادة، ولكنا نقطع أنملة واحدة من الأنملتين، ونلزمه مع
__________
= ولا يذكره باسمه أبداً، ومع أنه بدأ الحديث عنه هنا بحدَّة معهودة ظاهرة تنطق بها ألفاظُه، وعباراتُه، إلا أنه لم يملك أخيراً إلا التسليم بأن هذا يشير إلى مسلك في الظنون يمكن أن يعد وجهاً بيناً" رضي الله عنهما وعن كل مشايخنا وأئمتنا ونفعنا بعلمهم، وألحقنا بهم في الصالحين.
(1) في الأصل: "محدوق". والمثبت أقرب صورة لما هو بالأصل. والمحذوف هو المتروك الساقط، فعسى أن يكون اختيارنا صواباًً.
(2) ر. المختصر: 5/120.
(3) في الأصل: "مشتدة". ومعنى مستدّة: مستقيمة.
(4) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق تكملة للصورة، جواباً لقوله: "ولو قطع ... " وقد اعتمدنا في هذا على ما قاله النووي (ر. الروضة: 9/207) .
(5) في الأصل: "أنملته".(16/240)
القصاص شيئاًً من الأرش. فإن قيل: تُبلِّغون ذلك الشيءَ نصفَ أرش أنملة؟ قلنا: لا نرى ذلك، بل نقول: ننقص من نصف الأرش، والسبب فيه أن الذي قطعناه قصاصاًً على صورة أنملة، فاقتضى ذلك مزيداً على الشطر، وإذا كان كذلك، فقد زاد القصاص على شطر الأنملة المعتدلة، فكان الباقي أقلَّ من الشطر، [فناسب] (1) إلزامه شيئاًً يقل عن نصف أرش الأنملة المعتدلة، والنظر فيه إلى المجتهد.
ومن عجيب ما يعن في هذه المسألة أنا إذا كنا نجري القصاص في إحدى الأنملتين، فنرى الأمر على الخيار في هذا؛ إذ ليست إحدى الأنملتين أولى من الأخرى، والأنملة المعتدلة ذات شطرين، وكل أنملة من الأنملتين يضاهيها شطر، فإذا استوى الأمران، فليت شعري يُخيّر المقتصُّ أم المقتص منه؟ وكيف النظر فيه؟ الوجه عندنا يخيّر المقتص المستوفي؛ لأن استحقاقه متعلق بهما على البدل، وإنما الممتنع استيفاؤهما.
وما ذكرناه في الأنملتين فيه إذا [نبتتا] (2) على رأس الأنملة الوسطى.
10500- ولو لقي رأسَ الأنملة الوسطى عظمٌ، ثم [انشعب] (3) بعد الاتحاد، فهذه صورة أخرى، فإن كان مركب الأنملة المشعَّبة عظماً واحداً ولم يكن له شعبة (4) تنفصل على مركبه، فلا يتصور إجراء القصاص؛ فإن العظام لا تقطع في القصاص وإن كان [لكلّ] (5) شعبة مفصل من مركبه، فذلك المركب الحائل بين الشعبتين وبين الأنملة الوسطى أنملة زائدة، فيتصل الكلام بإصبع ذات أربع أنامل في الطول، وأنملته العليا متشعبة، وإذا أدخلناها في العدد، قلنا: ذات خمس أنامل (6) .
__________
(1) في الأصل:" فاسبق" كذا تماماً.
(2) في الأصل:"بنيتا".
(3) في الأصل:"اتسعت"، والمثبت من (الشرح الكبير: 10/245) .
(4) أي أن العظم المتصل برأس الأنملة الوسطى الذي نبت عليه الأنملتان إذا كان قطعة واحدة ليس فيه مفصل، فلا يمكن إجراء القصاص في هذه الصورة.
(5) في الأصل."أقل". والمثبت من الشرح الكبير. (نفسه) .
(6) أخذ الرافعي هذا الفرع من كلام إمام الحرمين، وربما كان من المناسب أن نذكر الصورة الأخيرة فقط من سياقة كلام الرافعي، لما في ذلك من مزيد إيضاح، قال: "فلو لقي رأسَها =(16/241)
ولا يبقى مع ما مهدناه إشكال، إن شاء الله عز وجل.
10501- ولو كان على الساق قدمان، فالقول فيهما كالقول في الأنملتين، فإن كانت إحداهما أصلية والأخرى زائدة، لم يخف الحكم، وإن كانتا عاملتين ولا تميز بينها كالأنملتين، [فواجبهما] (1) نصف الدية وزيادة، كما أن موجب الأنملتين ثلث دية إصبع وزيادة.
ثم التفاصيل في الاقتصاص وتقدير الأرش على حسب ما تقدم في الأنملتين، غير أن المعتبر ثمَّ ثلثُ دية الإصبع، والمزيد منسوب إليه، والمعتبر هاهنا نصفُ دية النفس، والمزيد منسوب إليه، [والكفان] (2) على ساعدٍ [على] (3) هذا النحو، فلا حاجة إلى الإعادة.
فصل
قال: "ولو قطع أنمل من طرفٍ، ومن آخَر الوسطى ... إلى آخره" (4) .
10502- صورة المسألة أن يقطع الأنملة العليا من [شخص، والوسطى من] (5) آخَرَ لا عليا له، فيجب القصاص مع إمكان الاستيفاء في أنملته العليا، مهما (6) طالب
__________
= (الأنملة الوسطى) عظمٌ، ثم انشعب الطرفان من ذلك العظم، فإن لم يكن مفصل بين العظم وبينهما، فليس ذلك موضع فصاص.
وإن كان لكل طرف مفصل هناك، فالعظم الحائل بين الشعبتين. والأنملة الوسطى أنملة أخرى، فهي إصبع لها أربع أنامل، والعليا منها ذات طرفين.". انتهى كلام الرافعي ثم عقب قائلاً: "هكذا رتب الإمامُ الفرعَ، وهو أحسن ترتيب فيه" (ر. الشرح الكبير: 10/245) .
(1) في الأصل: "يوجبهما".
(2) في الأصل: "والكفاه".
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. المختصر: 5/120.
(5) عبارة الأصل: "أن يقطع العليا من سبعة آخر لا عليا له" والتصويب والزيادة من المحقق.
(6) مهما: بمعنى إذا.(16/242)
صاحب الأنملة العليا أجيب، فاقتصّ، وصاحب الوسطى لو أراد الابتداء بالمطالبة، لم يُجَب؛ فإن الوسطى منه قطعت ولا عليا عليها، ولو قطعنا الوسطى من الجاني قبل استيفاء العليا، كنا متلفين أنملتين في مقابلة أنملة، ولا سبيل إلى هذا.
والوجه أن نذكر مسلك الأصحاب، ثم نختتم الفصل بمباحثة القفال رضي الله عنه، فنقول: إن قطعنا الأنملة العليا قصاصاًً، ثم قطعنا الوسطى عن الوسطى قصاصاًً، فقد ترتب الأمر.
وإن لم يطلب صاحب العليا، وطلب صاحبُ الوسطى، لم نجبه إلى ذلك، فلو
قال: إذ حُلْتم بيني وبين القصاص، فادفعوا إليّ المال للحيلولة، فهل يجاب إلى المال؟ فيه خلافٌ مشهور بين الأصحاب، وقد ذكروا رضي الله عنهم أحكاماً، وصاغوا لها صيغاً وطردوا الاختلاف فيها، وجميعها تدور على معنى واحد:
قالوا: لو أخذ المال، ثم سقطت الأنملة العليا، فهل يردّ المال ويطلب القصاصَ؟ فعلى وجهين، سبقت لهما نظائر في الغرامات، والمراجعات في أرش العيب القديم في المبيع، فلا حاجة إلى إعادتها.
قالوا: وهل له طلب المال من غير عفو؟ فعلى وجهين.
وقالوا: نفس أخْذ المال هل يكون عفواً منه عن القصاص؟ فعلى وجهين، وجميع ذلك يرجع إلى ما ذكرناه من أن الحيلولة في القصاص هل تُثبت حق الرجوع إلى المال؟ فإن لم تَثْبُت الحيلولةُ مقتضيةً لذلك، لم يُجب إذا طالب، وإن قنع بالمال، لم يرجع إلى القصاص، [وأَخْذُه المطلق] (1) للمال عفو.
قال الشيخ أبو بكر (2) : إذا قَتَلت المرأةُ، واستوجبت القصاص وهي حامل، فهل [لمستحق] (3) القصاص طلبُ المال للحيلولة؟ قال: فيه احتمال، كمسألة الأنملة التي نحن فيها.
__________
(1) في الأصل: "وأخذ المطلق". والمعنى أن الأخذ للمال مطلقاً عفوٌ، بغير قيد العفو.
(2) الشيخ أبو بكر: هو الصيدلاني.
(3) في الأصل: "يستحق".(16/243)
والذي يقتضيه الترتيب اتخاذ نص الشافعي أصلاً في الباب، ثم تنزيل المسائل على مراتبها.
قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قُتل إنسان وخلف [ابناً] (1) مجنوناً، فلا سبيل إلى استيفاء حقه من القصاص في حالة الجنون؛ فإن استيفاء القصاص لا يدخل تحت الولايات"، ثم قال الشافعي: "لو أراد ولي المجنون أن يأخذ المال، كان له ذلك".
هذا هو النص، وذكر بعض الأصحاب فيه تخريجاً.
وما ذكره الشافعي متجه، من جهة أن [الجنون] (2) ليس له [حدّ] (3) ، وقد ينتهي إلى اليأس من الزوال، ولو لم نجوّز أخْذَ المال، ولا سبيل إلى استيفاء القصاص، لكان هذا قريباً من التعطيل. هذا وجه النص، ثم إذا جرينا عليه، وأثبتنا تغريمَ من عليه القصاص المالَ، فلو زال الجنون، ففي العَوْد إلى القصاص وردّ المال خلاف مشهور.
ولو كان القصاص ثابتاً لصبي، فبلوغه منتظر، ثم الذي ذكره الأصحاب أن الولي لا يطلب المال، فإن [الصِّبا له حدّ] (4) ، وما ذكره الصيدلاني في الحامل يضاهي ما ذكرناه في الصبي؛ فإن وضع الحمل منتظر كزوال الصبا.
ومسألة الأنملة العليا والوسطى دون الجنون، من قِبل أن الجنون لا يتعلّق بزواله انتظار ثابت، وثبوت الاقتصاص في الوسطى متعلق بضربٍ [من] (5) الترقب؛ فإن الظاهر أن صاحب القصاص في العليا يطلب حقه، ولكن ليس له [مردّ] (6) بخلاف الحمل والصبا، وليس [ببعيدٍ] (7) عن الترقب، بخلاف الجنون. نعم، لو عفا
__________
(1) في الأصل: "أباً". وهو خلاف المفهوم من المسألة.
(2) في الأصل: "المجنون".
(3) في الأصل: "أخذ".
(4) في الأصل: "الصبي له أجر".
(5) في الأصل: "في".
(6) في الأصل: "أمر".
(7) في الأصل: "يبعد".(16/244)
صاحب الأنملة العليا، التحقت المسألة في الوسطى بمسألة المجنون؛ إذ لا ترتب إلا من جهة سقوط الأنملة العليا بآفة، وسبيل الانتظار في هذا كسبيل الانتظار في زوال الجنون، فلئن انقدح طلب المال في مسألة الحامل، فلا بد من طردها في الصبي، ثم لا يخفى بعد ما ذكرناه ترتيب المراتب وتنزيلها على حقائقها.
هذا استقصاء ما ذكره الأصحاب.
10503- فأما المباحثة التي جرت للقفال، قال شيخي: قلنا للقفال: إذا قَطَع الوسطى ممن لا عليا له، وإصبع الجاني سليمة، فلا نجيب المجني عليه إلى طلب القصاص، ولو سقطت الأنملة العليا، فهل نقول: لا قصاص الآن أيضاًً؛ فإن الجناية جرت والقصاص غيرُ ممكن حالةَ جريانها؟ فقال: المسألة محتملة، فلا يبعد أن يسقط القصاص رأساً، بخلاف ما إذا جنت الحامل؛ فإنا ننتظر وضعها، إذ الحمل كان [طارئاً] (1) على الخلقة، والأنملة العليا من أصل خلقة الجاني.
وهذا التردد الذي ذكره القفال رضي الله عنه فيه إذا لم يقطع إلا الوسطى وأصبعه كاملة، فأما إذا قطع العليا، ثم قطع الوسطى ممن لا عليا له، فليس هذا موضع تردد القفال، فإن العليا كأنها مقطوعة، من جهة أنها مستحَقة لصاحب العليا.
قال شيخي: لو قطع رجل سليمُ اليدين يداً شلاء، فلا قصاص، ولو شَلّت يد القاطع [وساوت] (2) اليدَ المقطوعة، فقال المقطوع: الآن أطلب القصاص، فهل له ذلك؟ قال (3) : القفالُ [خرّجه] (4) على الوجهين المذكورين في الأنملة الوسطى، ثم رجع عن هذا التردد، وقطع القولَ بأن اليد التي شَلَّت، وكانت سليمة عند الجناية لا تقطع، فإن الكمال بالسلامة مَنَع وجوب القصاص، فإن الصفة لا يقدّر تميّزها عن الموصوف، والأنملة العليا ليست صفة للوسطى.
ولو قتل حر كافر ذميٌّ عبداً كافراً، ثم نقض العهدَ الذميُّ، فأُرق، لم يجرِ
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "فسارت".
(3) القائل الشيخ أبو محمد، شيخ الإمام.
(4) في الأصل: "أخرجه".(16/245)
القصاص عند طريان الرق، وإن حصلت المساواة.
[ولا وجه] (1) إلا تخصيص الخلاف بالأنملة في الصورة التي [قصصناها عليك] (2) ، وما ذكره في الشلل لا يعتدّ به، ولا يعدّ من المذهب (3) .
__________
(1) في الأصل: "فلا" ولا معنى للفاء هنا؛ فإنها ترتب وتسبب ما بعدها على ما قبلها، وهذا الترتيب عكس المعنى المقصود.
(2) في الأصل: "قصصنا عليها" والمقصود الصورة التي يقطع الجاني فيها الأنملة الوسطى، ولا تكون الأنملة العليا منه مستحقة، بل تكون معصومة. هذه هي الصورة التي ردّد فيها حكمَ القصاص القفالُ فيما حكاه عنه الشيخ أبو محمد، أما إذا كان قطَعَ الأنملة العليا ثم قطع الوسطى ممن لا عليا له، فليس هذا موضع تردّد القفال، لأن العليا في حكم المقطوعة؛ من جهة أنها مستحقة.
وسرّ التردد في الأنملة وفي اليد الشلاء هو: هل يثبت وجوب القصاص وتحول الأنملة العليا لعدم إمكان التوصل إليه، وتحول سلامة اليد لعدم المماثلة أم لا يثبت الوجوب أصلاً؟ فإن قلنا بعدم الثبوت، فلا يعود الوجوب إذا زالت الأنملة وشلّت اليد السليمة.
(3) هنا أمران:
الأول - في تمييز كلام القفال عن غيره: هل التعليل لما انتهى إليه من عدم قطع اليد التي كانت سليمة ثم شلَّت، هل التعليل بأن السلامة صفة لليد لايمكن تميزها عن الموصوف والتفريق بينها وبين الأنملة الوسطى بأن العليا ليست صفةً للوسطى، وكذا الاستشهاد بعدم قتل الحرّ الذمي الذي نقض العهد فأُرق بالعبد الذي قتله عندما كان معاهداً. أهذا من كلام الفقال يحكيه عنه تلميذه الشيخ أبو محمد، أم من كلام الشيخ أبي محمد انتصاراً لشيخه القفال؟ ولا يمكن أن يكون من كلام إمام الحرمين؛ لأنه على خِلاف الوجه الذي يقول به، فتعليق الإمام بدأ بقوله: "ولا وجه إلا تخصيص الخلاف بالأنملة في الصورة التي قصصناها عليك ... إلخ". ومما ينبغي أن يسجل أن الغزالي في البسيط نسب كلام القفال إلى الشيخ أبي محمد، ولم يجعله حاكيا له.
الثاني - قول الإمام عن القفال: "إن ما ذكره في الشلل لا يعتد به، ولا يعدّ من المذهب" معناه - كما هو واضح -أنه يقول بعكس ما انتهى إليه القفال- أي يقول بالوجه الآخر القائل بأن اليد السليمة إذا شلت تقطع بالشلاء التي قطعها الجاني قبل أن تشل يده.
وقد رأينا البغوي في التهذيب، يقول بما اختاره الإمام وإن لم ينسبه إليه، ولكن الرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة نقلا عن إمام الحرمين عكس هذا، حيث قالا بعد نقل كلام القفال: "وهو الذي رآه الإمام مذهبا". فكيف يتفقان على هذا؟ هل وقع في بعض نسخ النهاية اختلاف، ونُسب إلى الإمام وجهٌ غير هذا الوجه؟ وهذا -على بعده- ممكن!! وقد سجلنا شيئاًً منه في كتاب الطهارة، وإن لم يكن في اختلاف الوجوه، وإنما كان اختلافاً =(16/246)
10504- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أُقيد يمنى بيسرى"، وهو [كما قال] (1) ، والسبب فيه بعد الإجماع أن الاتفاق في المحل والاسم لا بد منه، ولهذا لم يُقطع الإبهام بالسبابة والخنصر بالبنصر، وهذا واضح.
فصل
قال: "ولو قَلَع سنه، أو قطع أذنه ثم إن ذلك المقطوع منه. ألصقه ... إلى آخره" (2) .
10505- مضمون هذا الفصل ثلاثةُ أشياء، سبق أهمُّها، ونحن نقتصر على إشارة إليه. [والثاني] (3) يتعلق بأمرٍ تقدم استقصاؤه [في] (4) كتاب الصلاة. والثالث - متعلق بأمرٍ سيأتي في أحكام الجنايات.
فأما الأول، فلو قطع البعضَ من أذن إنسان، فإن أبأنه، أوجبنا القصاص فيه،
__________
= على حال، والأبعد من هذا أن يكون الإمام قاله في غير النهاية، في مختصرها مثلاً، وتظل المسألة معلّقة. والعلم عند الله.
وإتماماًً لأطراف المسألة نذكر توجيه البغوي في التهذيب لما اختاره، وردّه للوجه الآخر، قال: "ولو شلّت يد القاطع بعد ما قطع يداً شلاء، نقتصّ منه ... بخلاف ما لو قطع حرٌّ ذمي يد عبدٍ، ثم نقض العهد، فاسترق، لا يقطع، لكونه حراً حالة القطع".
والفرق أن امتناع القصاص -هناك- لعدم التكافؤ، وفي اعتبار التكافؤ تعتبر حالة الجناية، بدليل أنهما لو كانا متكافئين حالة الجناية بأن كانا عبدين، أو ذميين، ثم عَتَق العبد أو أسلم الذمي، يقتص منه.
وهاهنا امتناع القصاص لزيادة محسوسةٍ في يد القاطع، فإذا زالت، قطعت، اعتباراً بحالة الاستيفاء، ألا ترى أن الأشلّ إذا قطع يداً شلاء، ثم صحت يد القاطع، لا يقتص منه لحدوث الزيادة فيه، وإن كانتا متساويتين حالة القطع، وكذلك لو قطع يداً لا أظافير عليها، لا تقطع يد القاطع الصحيحة". (ر. التهذيب: 7/109) وانظر أيضاًً (الشرح الكبير: 10/229) لترى أن الرافعي أخذ كلامَ البغوي بنصه تقريباً، وانظر (الروضة: 9/194) .
(1) في الأصل: "كما لو قال".
(2) ر. المختصر: 5/121.
(3) في الأصل: "التي".
(4) في الأصل: "وفي".(16/247)
ونسبنا المقطوعَ إلى الباقي؛ فإن كان المقطوع نصفاً، قطعنا النصف من أذن الجاني على ذلك الحدّ، لم يختلف الأصحاب فيه. وإن قطع الجاني البعضَ، ولم يُبن، فقد ذكرتُ ذلك في المراتب السابقة، وبقي ثلاثٌ: منها قطع بعض الأذن، ومنها المتلاحمة، ومنها قطع بعض اليد والرجل وغيرهما.
هذا هو الذي تقدم.
10506- وأما ما يتعلق المقصود منه بكتاب الصلاة، وفيه غرض بيّن من القصاص، فهو أن الرجل إذا أبان أُذنَ إنسان، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم، فالتحمت، فكيف الحكم؟ هذا أولاً لا يتصور قطعاً، ولكن صور الفقهاء الكلامَ عليه (1) ، فنقول: إذا وجب القصاص بالإبانة، لم يُزل القصاص بما فرض من الالتصاق؛ فإن هذه الأذن وإن التصقت، فهي مستحِقة الإزالة، ولا حكم لما اتفق من الالتصاق، ولو قطع قاطع تلك الأذن، لم يستوجب القصاص بقطعها، لما ذكرناه من أنها مستحَقة للقطع، ثم سبب استحقاق القطع تنحية النجاسة لأجل الصلاة؛ فإن الأذن لما بانت، حكمنا بنجاستها، ولا يزول الحكم بالالتصاق. [وحظّ] (2) الصلاة من هذا أنا [إن] (3) لم نخف على صاحب الأذن، قلعنا أذنه، وإن خفنا عليه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا لا نقلعها [حفظاً للروح] (4) والثاني - نقلعها، ونؤول (5) بما يجري من التلف على الملصق، ونحن نقتل تارك (6) الصلاة.
__________
(1) هنا في الأصل: بياض قدر كلمة بعد كلمة (عليه) والسياق مفهوم بدونها على أية حال.
(2) في الأصل: "حظ" (بدون الواو) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "حفظ للروصه". (كذا تماماً وبدون نقط) .
(5) أي نرجع بما يجري من التَّلف على الملصِق، أي يكون هو الذي جنى على نفسه، بسبب لصقها.
(6) هذا في مقام التعليل للوجه القائل بقطع الأذن الملصَقة مع توقّع السريان إلى النفس؛ فالمعنى أنا إذا كنا نقتل تارك الصلاة، فلا مانع من فطع الأذن الملصقة -التي تحول بين صاحبها والصلاة الصحيحة- مع توقع السريان.
ولكن الإمام في كتاب الصلاة مال إلى غير هذا، بل قطع به، فقد قال عند الحديث عما إذ وصل عظمَه بعظم نجس، وخفنا إزالته، قال عن الوجه القائل بالإزالة مع الخوف: "وهذا =(16/248)
وهذا استقصيناه في باب الصلاة بالنجاسة عند ذكرنا [وصلَ] (1) الإنسان عظمَه بعظم نجس.
وقد يعترض على من يطلب التمام أنا إذا لم نحكم بنجاسة الآدمي بالموت، وجب ألا نحكم بنجاسة أجزائه إذا أُبينت، وإذا كان كذلك، فلا حاجة إلى فصل الأذن، ووجه الكشف فيه أنا مع الحكم بطهارة الآدمي على تردّد [في] (2) طهارة ما يبان عنه في حياته، فإن حكمنا بالنجاسة، استمر عليه ما ذكرناه، وإن حكمنا بالطهارة، اعترض لنا بعد ذلك أنه قد يلتحم على دمٍ ظَهَرَ، وحكمنا بنجاسته ووجوب إزالته، فيعود الترتيب إلى ما ذكره الأصحاب، والأظهر أن الدم إذا استتر بما التحم عليه، سقط التكليف بإزالته.
فهذا كلام لا يتعلق بما نحن فيه، ولكن طالب الغايات قد يخرج عن مقصوده بعضَ الخروج.
ومما يتصل بهذا الفصل من حكم القصاص أن الأذن إذا التحمت وخفنا من قلعها على الملصِق، [وجرينا] (3) على أنها لا تُقلع، فلو قلعها إنسان وأدى القلع إلى الهلاك، فقد قال المحققون: على القالع القصاصُ في النفس، وقد يعترض فيه أن جواز القطع أو وجوبه مختلف فيه، فلا يمنع أن يصير خلافُ العلماء شبهةً في دفع القصاص، كما قدمناه في انفراد أحد الوليين بالقتل والإشارة إلى خلاف بعض أهل المدينة، فهذا ما أردناه في ذلك.
10507- والمقصود الثالث - يتعلق بشيء استقصاؤه بين أيدينا، وهو أن من قطع
__________
= بعيد عن القياس؛ فإن المحافظة على الأرواح أهمُّ من رعاية شرط الصلاة ... ثم أكد ذلك مجيباً على اعتراضٍ يعترض، قائلاً: وهذا عندي تكلف، والقياس القطع بأنه لا ينزع العظم إذا خيف الهلاك؛ فإنا نحرّم إمساسَ الجرح ماء لإزالة نجاسة عليه، وإن كان في إبقائها حملٌ على إقامة الصلاة مع النجاسات، وكل نجاسة يعسر إزالتها والاحتراز عنها، فإن الشرع يعفو عنها، كما مضى التفصيل فيه" ا. هـ
(1) في الأصل: "فصل".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "وخدعناه".(16/249)
النصف من أذن إنسان، وأجرينا القصاص فيه، فالتحم أذنُ المجني عليه، فقد قال القفال: لو قطعت هذه الأذن، وجب القصاص على قاطعها، وقد أجرينا القصاص في نصفها.
وهذا الفصل ليس بالهيّن، وهو يشتمل على مراتبَ منها: عود البصر بعد ظن الزوال، ومنها التحام الموضحة، ومنها نبات اللسان، ومنها عود [السِّن المثغورة] (1) ، ولكل مرتبة من هذه المراتب وضعٌ في الوفاق، والخلاف. وسيأتي شرحنا عليها، إن شاء الله.
ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن من استأصل أذن إنسان إلا جلدةً منها، قالوا: القصاص يجري في المقطوع، ومالوا إلى القطع بإجراء القصاص في هذه الصورة، بخلاف ما لو انتهت الحديدة إلى نصف الأذن مثلاً، وأبقت من أصل العضو شيئاًً سوى الجلدة، وسبب قطع الأصحاب أن رعاية المماثلة ممكنة لا عسر فيها، إذا لم يبق إلا جلدة، ولا شك أنا نبقي في القصاص مثلَ تلك الجلدة.
فلو ألصق المجني عليه الأذن، فالتصقت، فليست مستحَقةً للجاني، فإنها لم يثبت لها حكم الانفصال، ثم الكلام في قطعها ثانياً ووجوب القصاص على قاطعها، كالكلام فيه إذا جرى القطع في نصف الأذن ثم التحم، والقول في هذا يتعلق بالمقصود الأخير الذي أشرنا إلى انقسام مراتب الكلام فيه.
فصل
10508- إذا قطع رجل أذناً مثقوبةً، قال العراقيون: إن كان الثقب يَزينُ ولا يَشين، فلا مبالاة به، ويُقطع بها الأذن التي لا ثقب بها.
ولو كان أذن القاطع مخروماً (2) ، قد أزيلت منها قطعة، وبقي الخرم، وقد قطع
__________
(1) في الأصل: السن المنقور. والسن المثغورة: من قولهم: ثُغر الصبي إذا سقطت ثنيتاه، والمراد هنا بالسن المثغورة السنّ الدائمة، ومن طبيعتها إذا سقطت لا تعود.
(2) مخروماً: المراد هنا مشقوقاً، كما سيتضح ذلك من السياق، وليس معنى الخرم هو الئقب كما قد يتبادر إلى الذهن، حقاً من معاني الفعل (خَرَم) الثقب، لكن من معانيه أيضاً، الشق والقطع، والمراد هنا الشق (ر. المعجم) .(16/250)
أذناً لا خرم بها، قطعنا الأذن المخرومة، ورجعنا إلى قسطٍ من الأرش.
ولو كان الخرم بالمجني عليه، [فهل] (1) نقطع أذن الجاني [ولا] (2) خرم بها، وهل نقطع [من] (3) أذن الجاني مقدار المساواة؟ هذا يخرّج على إجراء القصاص في بعض الأذن، وقد تفصل المذهب فيه.
ولو كان القطع -[بأذن] (4) المجني عليه-[خرماً يسيراً] (5) ، ولم [يفصل قطعةً] (6) من أذنه (7) ، قال العراقيون: [لا تقطع] (8) الأذن التي لا خرم بها بهذه، [إن] (9) لم ينفصل بالخرم الذي ذكرناه جزء.
[ولست] (1) أرى الأمرَ كذلك؛ فإنه إذا لم يزُل من الجِرْم شيء، فرعاية [الصفات] (11) مع التساوي في الذات والصحة بعيد، وإنما يؤثِّر في الأطراف التفاوتُ في القدر، والسلامة والشلل (12) ، ئم خصصوا هذا [بالأذن] (13) ولم يطردوه في
__________
(1) في الأصل: "لو".
(2) في الأصل: "فلا".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "بيد".
(5) في الأصل: "خرم يسير".
(6) في الأصل: "ولم يقصد قلعه".
(7) سوّغ لنا وأعاننا على كل هذا التغيير والتبديل في ألفاظ الأصل -بجانب رعاية السياق- أن هذه الصورة حكاها الرافعي عن إمام الحرمين، فقال: "وإن شقت الأذن من غير أن يبان منها شيءٌ، فقد نقل الإمام عن العراقيين، أنه لا تقطع الصحيحة بها أيضاً لفوات الجمال فيها، قال: ولست أرى الأمر كذلك، لبقاء الجرم بصفة الصحة" انتهى بنصه (ر. الشرح الكبير: 230، 231) فأنت ترى أن ما نقله الرافعي هو عين ما بدَّلنا العبارة وغيرناها إليه.
(8) في الأصل: "لا نقلع"، والمثبت من الشرح الكبير، حيث قال الرافعي: حكى الإمام عن العراقيين أنه لا تقطع الصحيحة بالمخرومة وإن شقت من غير أن يبان منها شيء. (السابق نفسه) .
(9) في الأصل: "وإن" (بزيادة الواو) .
(10) في الأصل: "لست" (بدون واو) .
(11) في الأصل: "الصغار" تأمل كيف يصنع التصحيف.
(12) قال النووي في زوائده على الروضة: "هذا الذي قاله الإمام ضعيف" (ر. الروضة: 9/1960) .
(13) في الأصل: "الأذن" (بدون الباء) .(16/251)
غيرها من الأعضاء، فلعلهم تخيلوا التعويل -في الأظهر في الأذن على الجمال؛ فإنها خَفِيةُ المنفعة، ولما أُمِرنا في الضحايا باستشراف العين والأذن (1) ، منعنا على تفصيلٍ الضحيةَ بالشَّرْقاء (2) والخَرْقاء (3) والعلم عند الله.
10509- ثم قال العراقيون: إذا قطع رجلٌ يدَ رجل، والأظفارُ من يد المجني عليه مُخْضرَّة [زائلةُ] (4) النضارة، قطعنا يدَ الجاني، وإن كانت أظفاره سليمة، وهذا يدل على ما أشرنا إليه من النظر إلى جمال الأذن، والتعويلُ على منفعة اليد.
ثم لو لم تكن لأصابع المجني عليه أظفار، لم تقطع يد الجاني، ونقلوا هذا عن نص الشافعي، وهذا محتملٌ (5) جداً، والقياسُ (6) إجراء القصاص؛ فإن الأظفار
__________
(1) يشير إلى حديث علي رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ... " وسيأتي مخرجاً في أول كتاب الضحايا.
ومعنى استشراف العين والأذن أن تتفقد وتتأمل فعلَ الناظر المستشرف، أو تطلبا شريفتين بسلامتهما من العيوب (ر. أساس البلاغة) .
وكأن الإمام بهذا يتابع توجيه ما قاله العراقيون، وتعويلهم على الجمال في الأذن، لا المنفعة.
(2) الشرقاء: يقال: شرقت الشاة شرقاً (من باب تعب) فهي شرقاء: إذا كانت مشقوقة الأذن. (المصباح) .
(3) الخرقاء: هي مخروقة الأذن، من قولك: خرِقت الشاة تخرَق خَرَقاً (من باب تعب) فهي خرقاء (المصباح) .
(4) في الأصل: "زائدة"، وهو خلاف المعنى المقصود، يؤيد ذلك عبارة الرافعي، إذ يقول: "ولا اعتبار باخضرار الأظفار واسودادها، وزوال نضارتها" (ر. الشرح الكبير: 10/228) .
(5) هممتُ أن أبدل هذه الكلمة، لتصير العبارة هكذا: "وهذا مختلٌ جداً"، فهي أقرب إلى المعهود من لفظ الإمام أولاً، وثانياً، لأنها الأوفق والأنسب للسياق، وثالثاً؛ لأن وصف الاحتمال بـ (جداً) غير مألوف ولا معهود، على حين يسوّغ ذلك تماماً في وصف الاختلال، ولكن ردّني عن ذلك ما نقله الرافعي عن الإمام في هذه المسألة، ووَصْفُه أحدَ الوجهين (بالاحتمال) وإن كان نفسه محل احتمال، لما أبديناه في التعليق التالي من أن نسخة (النهاية) التي نقل عنها الرافعي كانت مختلة. (والعلم عند الله) .
(6) واضح من كلام الإمام أنه جعل الوجه القائل بأنه لا تقطع اليد التي لأصابعها أظافر بيد المجني عليه إذا لم يكن على أصابعها أظافر، وهذا هو الوجه الذي حكاه عن العراقيين، أقول: =(16/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= واضح أنه جعل هذا الوجه احتمالاً، وأن ميله، بل اختياره هو الوجه الآخر -القائل بإجراء القصاص- يظهر ذلك من قوله: "إنه القياس"، ومن تعليله وتوجيهه إياه، هذا واضح تماماًَ من عبارة الإمام.
ويؤكد هذا أن الغزالي -تلميذ الإمام- جرى على هذا الوجه القائل بإجراء القصاص، وترك الوجه الآخر الذي جعله الإمام احتمالاً - قال ذلك في الوجيز، ونص عبارته: "ولو كان أظفار المجني عليه متقرعة أو مخضرّة، أو مقلوعة، قُطع بها الصحيحةُ؛ نظراً إلى كمال أرش الأنملة من غير ظفر". (ر. الوجيز: 2/132) ، أما في البسيط، فقد قال: "قال العراقيون: لو كانت الأظفار مقلوعة لا تستوفى يدٌ ذات أظفار بها، وهذا أيضاًَ فيه بُعد؛ لأن الجمال أظهر في الأظفار من المنافع، ويلزم عليه أن ينقص قدرٌ من دية الإصبع بفقد الظفر، ولا قائل به" (ر. البسيط: 5/لوحة رقم 27 يمين) فهذا كلام مبين في أن إجراء القصاص هو الوجه الأصح، (والآخر فيه بعد) وهذا مأخوذ عن شيخه إمام الحرمين، ويؤكد ما تنطق به عبارة الإمام التي بين أيدينا.
قلت: نقل الإمام الرافعي عن إمامنا عكس هذا، وهاك نص كلامه: "وأما التي لا أظفار لها، فالذي ذكره أصحابنا العراقيون وغيرهم: أنه لا تقطع بها السليمة الأظفار، وأنها تقطع بالسليمة. وكذلك حكاه الأمام عنهم منسوباً إلى النص، وهو موافق للنص الذي حكيناه فيما إذا اختص رأس الشاج بالشعر على موضع الموضحة، (يريد النص بأنه إذا كان على رأس الموضِح شعر دون رأس المجني عليه فلا يمكن القصاص؛ لما فيه من إتلاف الشعر الذي لم يتلفه) ثم قال الرافعي: "قال الإمام على سبيل الاحتمال: القياس جريان القصاص، وإن عدمت الأظفار؛ لأنها زوائد، ولو لم يجر القصاص، لما تمت دية اليد، ولا الإصبع الساقطة الظفر" ا. هـ (الشرح الكبير: 10/228، 229) .
فهذا نص الرافعي أمامنا ينطق ناسباً للإمام عكسَ ما هو واضح تمام الوضوح من عبارته حيث جعل ما قطع به احتمالاً!! وكان من الممكن أن ننسب هذا إلى خلل في نسخة كتاب الرافعي، أو في قراءة من حققه وأخرجه، ولكنا وجدنا الرافعي يزيد هذا تأكيداً، لا يقبل الشك، عندما عرّض بالغزالي قائلاً: "وجرى صاحب الكتاب (أي الغزالي) على ما أبداه الإمام احتمالاً، وترك المنقول الظاهر" (السابق نفسه) والذي أبداه الإمام احتمالاً هو الوجه الآخر، القائل بعدم جريان القصاص، كما بيناه في صدر هذا التعليق.
هذا. وقد قال البغوي بالوجه المحكي عن العراقيين، من غير إشارة إلى الحكاية عنهم، ولم يشر إلى خلاف إمام الحرمين، واكتفى بالقول: " ... وكذلك لو قطع يداً لا أظافير عليها، لا تقطع يد القاطع الصحيحة" (التهذيب: 7/109) وبمثله قال العِمراني (ر. البيان: 11/383) .=(16/253)
لا تظهر منافعها إلا مع الاحتيال (1) ، ويلزم على قياس النص أن لا تكمل دية إصبع سقط ظفرها، وهذا بعيد، وليس له ذكر في طريق المراوزة.
فصل
قال: "ويقاد بذكر رجلٍ وشيخٍ ... إلى آخره" (2) .
10510- الذكر عضو قصاص، وذكر الفحل يقابله ذكر الخَصي، والعنّين، والصبي، والشيخ الهرم؛ فإن التفاوت في مراتب الانتفاع لو أسقطَ القصاصَ، لجرّ ذلك عمايةً، ونزاعاً دائماً في مَدْرأة القصاص، وظهورُ هذا مُغنٍ عن كشفه، ولا نقطع ذكراً سليماً لا شلل به [بذكرٍ أشلّ] (3) . وقيل: الذكر الأشل هو الذي ينقبض [ولا ينبسط] (4) ، وينبسط، فلا ينقبض، وهذا فيه فضل نظر، فقد [بلغنا] (5) في قول أهل البصائر أن الذكر الذي يتقلّص بالبرد ويسترخي بالحرّ ليس بأشلَّ، وإن كان لا ينتشر. والذي لا يلحقه التقلص والاسترخاء، هو الذي لا يتوقع انتشاره، فلست أدري أن الفقهاء عنَوْا بالانقباض والانبساط الاسترخاءَ [والتقلصَ] (6) في حالتي الحر والبرد، [أم عَنَوا] ، (7) به الانتشار ونقيضه.
__________
= وأقول: إذا وضح أمامنا اختيار الإمام من نص عبارته، ومن متابعة الغزالي له، فكيف حدث هذا من إمام جليل كالرافعي؟ وكيف تابعه النووي (في الروضة: 9/195) ؟ أكاد أجزم بأن ذلك نتيجة خلل في نسخة (النهاية) التي وقعت لهما، وقد رأينا نقولاً عن بعض الأئمة، نقلها معتمدون علماء، ولكنها غير صحيحة، لما كان من الخلل في الأصل الذي نقلوا عنه. وقد أثبتنا شيئاً من ذلك عن كتابنا هذا نفسه فيما سبق. والله أعلم.
(1) كذا (تماماً) بالرسم والنقط. ولها وجه على بُعد.
(2) ر. المختصر: 5/121.
(3) عبارة الأصل: "لا شلل به مذكراً. وقيل".
(4) في الأصل: "ولا ينشط". والمثبت مأخوذٌ من الجملة بعده.
(5) في الأصل: "بلغا".
(6) في الأصل: "أو التقلّص".
(7) في الأصل: "وعنوا".(16/254)
والذي يجب القطع به الحملُ على التقلّص والاسترخاء؛ فإن العضو إذا كان كذلك، فلا خلل به ولا شلل، والانتشارُ تُسبّبه قويً روحية، ومن أصولنا أن العضو إذا لم تحلُّه منفعة، ولكن كان سبيلاً لتلك المنفعة، ومحلُّ المنفعة عضوآخر، فإذا أردنا تبيّنَ صحةِ العضو وشللِه، لم ننظر إلى تلك المنفعة التي هي في محلٍّ آخر، ولهذا جعلنا أذنَ الأصم كأذن السميع، وإن كانت الأذن آلةً في السماع [لا تنوب عن] (1) لطيفة السمع.
وأما تبيُّنُ صحة العضو فيما نحن فيه، فنقول: الأعصاب المتلفة للتغايير في التقلص والاسترخاء، وسقوط الباه، قد تكون من انقطاع مادة الزرع، وقد تكون من ضعف الدماغ، فلا ينبغي أن يكون بالانتشار اعتبار، وقد أطلق الشافعي إثباتَ القصاص في ذكر العنّين، والغالب عليه ألا ينتشر، وأطلق أيضاً القصاصَ في ذكر الخَصي مع العلم بأن الانتشار قد يسقط مع [سَلِّ] (2) الأنثيين.
ثم إذا أثبتنا القصاص على الفحل بسبب قطع ذكر العنين والخَصيّ والأشل، [فإنا] (3) نكمل الدية في ذكر العنين والخَصي، وأبو حنيفة (4) لا يوجب القصاص، ولا يكمل الدية في حق الخَصي، وقال بحسب هذا: لا تكمّل الدية في الذكر ممن [سُلّ] (5) أنثياه، وكمال الدية في العضوين ثابت على حكم التعلق، ولا يستقل أحدهما عنده بكمال الدية، وقال مفرعاً: لو قطع الجاني الذكر [من] (6) أعلى مثلاً، وانتهت الحديدة إلى الأنثيين، فقطعهما، فيجب في الذكر دية كاملة، وفي الأنثيين
__________
(1) في الأصل: "آلة في السماع عنه تنوب لطيفة السمع".
وعبارة الرافعي: "تقطع إذن السميع بأذن الأصم، وبالعكس، لأن السمع لا يحلّ جرْمَ الأذن، وإنما هو سبيل السمع وآلته" (الشرح الكبير: 10/230) .
(2) في الأصل: "شل".
(3) في الأصل: "إنّا".
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/137 مسألة 2255، رؤوس المسائل: 469 مسألة: 334، المبسوط: 26/80.
(5) في الأصل: "شُل".
(6) في الأصل: "في".(16/255)
حكومة؛ فإن الحديدة انتهت إليهما والمجني عليه مجبوب (1) ، وكذلك لو أتى القطع من أسفل، فأبان الأنثيين، ثم [مرقت] (2) الحديدة منهما إلى الذكر، [قال: يجب دية الأنثيين والحكومة في الذكر (3) ] (4) .
وإن صادفت الحديدة العضوين معاً، بأن فرض وضعها على أحد الجانبين واحتوت على الذكر والأنثيين، فعند ذلك يجب ديتان، هذا أصله.
ونحن نوجب الديتين في الذكر والأنثيين كيف فرض القطع؛ بناء على ما مهدناه في استقلال كل عضو بنفسه، وامتناعِ اعتباره بغيره، أو بمنفعة غيره.
فإن قيل: الذكر الأشل لم توجبوا فيه كمالَ الدية، والمنفعة العظمى منه انسلال البول [منه] (5) ، وهذا باقٍ؛ فإن سقوط بعض المنفعة من العضو لا يسقط ديتها.
قلنا: المنفعة المقصودة في هذا العضو تهيؤه للوقاع الذي بسببه بقاء الزرع، وأما انسلال البول فيبقى مع القطع، ويخرج البول من [الثُّقبة] (6) في أصل الذكر خروجَه من فرج [النساء] (7) ؛ ولو كانت صورة الذكر محتاجاً إليها في البول، لنبتت للمرأة نبوتَها للرجل لاستوائهما في الاحتياج، اعتباراً بسائر الأعضاء، فظهر أن الغرض الأظهرَ ما ذكرناه، ثم فصلنا عن العضو الخلل الواقع في القلب وغيره من الأعضاء الرئيسة، فانتظم لنا المراد في ذلك.
__________
(1) حكى الرافعي عن أبي حنيفة غير هذا، إذ قال: "وعن أبي حنيفة ... أنه إن قطعهما معاً، وقطع الدكر قبل الأنثيين، فعليه ديتان" (ر. الشرح الكبير: 10/383) .
(2) في الأصل: "فرقت".
(3) عبارة الأصل قال: "يجب دية الدكر والأنثيين، والحكومة في الذكر".
(4) لأن قطع الذكر جاء بعد الأنثيين، وعنده في ذكر الخصي حكومة (ر. مختصر الطحاوي: 247) .
(5) في الأصل: فيه.
(6) في الأصل: "البقية".
(7) في الأصل: "النار".(16/256)
فصل
قال: "فإن قال الجاني: جنيت عليه وهو موجوء ... إلى آخره" (1) .
10511- فإذا اختلف الجاني والمجني عليه في صفة العضو المقطوع، فادعى المجني عليه أنه كان سليماً، فقطعه على السلامة، وادعى الجاني أنه كان أشل، وغرضه درء القصاص، أو تنقيص البدل، فالذي ذكره المرتبون: أن الأعضاء تنقسم إلى الأعضاء الظاهرة، وإلى الأعضاء الباطنة، ثم قالوا: إن كان الخلاف في الأعضاء الظاهرة، لم يخل الأمر من شيئين: أحدهما - أن لا يسلم الجاني للمجني عليه أصلَ السلامة في عضوه، والآخر أن يسلّم أصل السلامة ويدّعي زوالها بشللٍ طارىء، فإن لم يسلّم أصلَ السلامة وأنكرها، فظاهر المذهب أن القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم السلامة أيضاً. هكذا ذكره الأصحاب.
أما قولهم: الأصل براءة الذمة، فسديد، والأولى أن نعبر عن المعنى بعبارة أخرى فنقول: ادعى المجني عليه أن الجاني أتلف عنه السلامة وفوّتها، والأصل أنه لم يفعل. هذه العبارة أمثل.
وذكر بعض أصحابنا قولاً بعيداً أن المصدّق المجنيُّ عليه؛ فإن الأصل في [الاعتياد] (2) سلامة الأعضاء، والمصدَّق في الشرع من يظهر صدقُه في الظنون، وعلى هذا بنينا ثبوت حق الرد بالعيب مع إطلاق البيع؛ من جهة أن الغالب السلامة. وهذا القول ضعيف؛ فإن إلزام الذمم وتثبيت الجناية بناء على اطرادٍ في العادة بعيد، والرد بالعيب ليس مما نحن فيه بسبيل، وقد ذكرنا مأخذه في (الأساليب) وغيرها. وهذا إذا لم يسلِّم الجاني أصل السلامة.
فأما إذا سلم الأصل وادعى طريان شلل، ثم زعم أنّ قطعه كان بعد الشلل، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن القول قول الجاني، لما ذكرناه من استصحاب
__________
(1) ر. المختصر: 5/121. وعبارة الأصل: "جنيته علي". والتصويب من نص المختصر.
(2) في الأصل: "الاعتبار".(16/257)
براءة ذمته، ولما ذكرنا [من] (1) أن الأصل عدمُ تفويته للسلامة. والقول الثاني - أن القول قولُ المجني عليه، لأن الجاني واقف موقف المدعين في ذكر طريان الشلل بعد تسليم السلامة.
هذا إذا كان النزاع في الأعضاء الظاهرة.
10512- فأما إذا كان في الأعضاء الباطنة، فقد ذهب طوائف من أصحابنا إلى طرد القولين، سواء سلّم الجاني السلامة الأصلية، وادعى الخلل الطارىء، أو أنكر أصل السلامة، [ففي] (2) قولٍ: القول قول الجاني لما سبق تقريره في القسم الأول، وفي قولٍ: القول قول المجني عليه، وتوجيه هذا القول مبني على أصلٍ يتعلق بالمصلحة، ويميل عن اعتبار استصحاب الأصول، وذلك أنا نقول: إقامةُ الشهادة على صفات الأعضاء الظاهرة ممكنة، لا عسر فيها؛ فإن الأعضاء التي تظهر من الإنسان يطلع عليها الناس غالباًً، وإذا استُشهدوا فيها شهدوا، ولئن لم نصدِّق المجني عليه، فسببه تمكنه من إثبات مراده لو كان صادقاً، وهذا عسر في الأعضاء الباطنة، فإذا انسدّ مسلك الإشهاد، لم يبعد الرجوع إلى قول المجني عليه مع يمينه (3) .
وهذا يقرب من تصديقنا المودَع في رد الوديعة وتلفها؛ فإن مصلحة الائتمان تقتضي هذا، كما ذكرناه في أحكام الأمانات والودائع.
وجمع صاحب التقريب الأعضاءَ الظاهرةَ والباطنةَ، وأرسل الخلاف عليها، وحصل من مجموعها أربعة أقوال: أحدها - أن القول قول الجاني من غير فصل. والقول الثاني - أن القول قول المجني عليه من غير فصل. والقول الثالث- أنه يفصّل بين الأعضاء الظاهر والباطنة، فقال: القول قول الجاني [في] (4) الأعضاء الظاهرة،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "في".
(3) المعنى: أننا في الأعضاء الظاهرة إذا لم نصدق المجني عليه وجعلنا القول قول الجاني، فيستطيع المجني عليه -لو كان صادقاً- أن يثبت مراده بالإشهاد، أما في الأعضاء الباطنة، فقد انسدّ مسلك الاشهاد، فكان القول قوله.
(4) في الأصل: "من".(16/258)
والقول قول المجني عليه في الأعضاء الباطنة. والقول الرابع - أنه يفصل بين أن يسلّم الجاني أصل السلامة ويدّعي الخلل بعدها، وبين ألا يسلم أصل السلامة.
هذا بيان ما قيل، ووراء ذلك بحثٌ واستدراك.
10513- فأما البحث، فقد أطلق أصحابنا ذِكْر الأعضاء الظاهرة والباطنة، ولم يفصلوا، فتلقيت من مرامز كلام الأصحاب وجهين: أحدهما - أن الباطن ما هو عورة يجب ستره عن الأعين. والوجه الثاني - أن الباطن ما يعتاد ستره إقامة للمروءة، وهذا أليق بفقه الفصل من التعويل في الكلام على الظاهر والباطن، وما ذكرناه من [يسر] (1) إقامة الشهادة لظهور العضو، فما لا يُظهره الإنسان غالباً لا يتعذر إقامة البينة فيه على [يسر] (2) ، والدليل عليه أن الحاجة لو مست إلى استشهادٍ، جاز الاطلاع على العورات بسببها.
هذا هو البحث.
فأما الاستدراك، فقد أطلق بعض أصحابنا الخلاف في أصل العضو، وقالوا: إذا قال الجاني: ما خُلقت لك اليد، فقال المجني عليه: خُلقت وقطعتها.
أو سلّم الجاني أصل الخلقة، وادعى سقوطها قبل الدعوى عليه، وهذا فيه استدراك؛ فإنه إذا أنكر [الجاني] (3) أصلَ العضو خلقة، أو زعم أنه كان، فبان بسبب [آخر، فهو مُنكِر] (4) لأصل الجناية؛ ومن ادعيت عليه جناية، فأنكرها، فالقول قوله في إنكارها. نعم، لو فرض قطع الكف، ورُدّ النزاع إلى وجود الأصابع، فلا يندرج هذا تحت الأقوال والتفاصيل.
وليس هذا الذي ذكرته إلا تحقيقاً لمراد الأصحاب، فإني لا أشك أن ما ذكره
__________
(1) في الأصل: "سبر".
(2) في الأصل: "سبر".
(3) في الأصل: "الآن".
(4) زيادة اقتضاها السياق. على ضوء ما نقله الرافعي عن الإمام، حيث قال: "وإذا اختلفا في أصل العضو، فعن بعضهم إطلاق الخلاف في أن المصدق أيهما؟
واستدرك الإمام، فقال: من أنكر أصل العضو أنكر الجناية، فيُقطع بتصديقه" (ر. الشرح الكبير: 10/251) .(16/259)
الأصحاب مفروض فيه إذا جرت جناية، ثم فرض النزاع بعدها.
10514- ولو جنى على الذكر، أو الأنثيين، أو عليهما، فقال المجني عليه: قطعهما، وقال الجاني: بل قطعت أحدهما؛ فإنا نقطع بأن القول قولُ الجاني، وإن المعترِفَ به ثابت، والزائدُ عليه دائر بين النفي والإثبات، وهو محل الخصومة، والقول قول من ينفي الجناية، وليس الذكر مع الأنثيين بمثابة الأصابع مع الكف، فإن قطع الكف يُسقط الأصابع إن كانت، وليس كذلك الذكر مع الأنثيين.
10515- وفي لفظ (السواد) إشكال سهلُ المُدرك لا بد من التنبيه عليه، قال الشافعي على أثر الكلام في الذكر والأنثيين: "فإن قال الجاني: جنيت عليه وهو [موجوء] (1) ، وقال المجني عليه: بل صحيح، فالقول قول المجني عليه [مع يمينه] (2) ، لأن هذا يغيب عن أبصار الناس" (3) ، والموجوء هو المرضوض، والوجأ في الأنثيين رضهما، وهذا إذاً خلاف [في] (4) صفة الأنثيين مع الاتفاق على قطعهما، وفي الحديث: "معاشر الشباب عليكم بالباءة من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فمن لم يستطع، فعليه بالصيام، فإن الصيام له وجاء" (5) .
10516- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا خرم (6) [ملفوفاً] (7) في ثوب بنصفين، فقال ورثة المجني عليه: كان حياً فقتلته، وقال الجاني: كان ميتاً فقددتُه،
__________
(1) في الأصل: "مرجو". والمثبت من نص المختصر، والموجوء: من: وجأتُه إذا طعنته بسكين ونحوه في أي موضع كان، ويطلق الوجاء أيضاً على رضّ عروق البيضتين حتى تنفضخا من غير إخراج، فيكون شبيهاً بالخصاء -وهو المراد هنا- (المصباح) .
(2) في الأصل:، مع هذا". والتصويب من نص المختصر.
(3) ر. المختصر: 5/121.
(4) في الأصل: "من".
(5) حديث ابن مسعود: "معاشر الشباب عليكم بالباءة" رواه بهذا اللفظ (عليكم بالباءة) الترمذي: النكاح، باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، ح 1081. والنسائي: الصيام، باب فضل الصيام، ح 2239. والطبراني في الكبير: ح 10027، 10170.
(6) خرم: أي قدّ وقطع. وسبق أن من معاني الخرم: الثقب، والشق، والقطع.
(7) في الأصل: "مكفوفاً".(16/260)
ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءةُ الذمة، والقول الثاني - قول ورثة المجني عليه؛ فإن الأصل الحياة.
وهذه الصورة تناظر الاختلاف في الأعضاء الظاهرة مع تسليم أصل السلامة، وذكر بعض الأصحاب فرقاً بين أن يكون ملفوفاً فيما هو على صورة [الكفن، وبين أن يكون ملفوفاً فيما هو على صورة] (1) ثياب الأحياء.
وهذا لا أصل له، والتعويل على ما ذكرناه في قاعدة التوجيه.
فصل
قال: "ويقاد أنف الصحيح بأنف [الأجذم] (2) ... إلى آخره" (3) .
10517-[الجذام علةٌ] (4) تظهر بالأطراف، ويغلب وقوعها -إذا كانت-[بالأذن] (5) والأنف، ففرض الشافعي حلولَها بالأنف، ثم معنى كلامه أن الأنف وإن اعتلّ [بالجذام] (6) حتى احمرّ، ثم اسودّ بعد الحمرة، فلا يخرج عن كونه عُضوَ قصاص، وإن استحكمت العلة، وقَطَع أهل البصائر بأنها لا تُدفع بعلاج؛ فإن العلل السماوية لا تؤثر وإن صارت مأيوسةَ الزوال، ومن انتهى بسبب علةٍ به إلى حالةٍ قطع أهل الخبرة أقوالهم بأنه -لِما به (7) -[لا] (8) يُتصور خلاصُه، ولو قتله أيّدٌ في عنفوان
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق، على ضوء عبارة الرافعي التي قال فيها: "وعن بعض الأصحاب أنه يفرق بين أن يكون ملفوفاً على صورة الكفن، وبين أن يكون ملفوفاً في ثياب الأحياء، قال الإمام: وهذا لا أصل له" (ر. الشرح الكبير: 10/248) .
(2) في الأصل وفي نص المختصر: الأخرم. والتصويب من المحقق على ضوء السياق الآتي من شرح المسألة وتفصيلها.
(3) ر. المختصر: 5/121.
(4) في الأصل: "انخرام عليه". والتصويب من المحقق على ضوء السياق.
(5) في الأصل: "بالأنف والأنف". والمثبت من المحقق حتى يستقيم الكلام.
(6) في الأصل: "بانخرام".
(7) (لما به) تكررت هذه اللفظة عدة مرات بهذا الرسم وبهذا المعنى في مثل هذا السياق، وهو ما يجعلنا نستبعد التصحيف فيها، وإن كنا لم نصل بعد إلى أصلها واشتقاقها.
(8) في الأصل: "فلا".(16/261)
شبابه، قتل به؛ فالعضو مع ما به من علّة كالنفس العليلة، غيرَ أن العضو [الأشل] (1) لا يقابله عضو صحيح في القصاصِ، ومقدارِ الأرش، كما تمهد القول في ذلك.
فلو قال قائل: فهلا كان [الجذام] (2) المستحكم في الأنف بمثابة الشلل في اليد، وزوالُ الشلل مرجوّ [على بُعدٍ أَوْ قُرب؟] (3) قلنا: الشلل يجرّ إسقاط منفعة العضو، والعضوُ يُعنَى لمنفعته؛ هذا سبب ردّ اليد الشلاء إلى الحكومة، ومنفعة الأنف لا تسقط بالجذام.
وانتهى نظر الأئمة في هذا الباب إلى أن ذكروا في الأذن المستحشفة الساقطةِ الحسّ وجهين في أن الدية تكمل فيها أم لا؟ وسبب ذلك ما أشرنا إليه من أن المنفعة المعقولة في الأنف والأذن لا تزول بالاستحشاف، بخلاف اليد؛ فإن منفعتها البطش، وهذا يزول بالشلل.
[والذي] (4) يجب ضبطه في ذلك أن الأنف ما دام على نعت الحياة، فله حكم الصحة في إيجاب القصاص على القاطع، وتكميل الدية، فإن قيل فيه: إنه قد زايلته الحياة، وهو إلى [العفن] (5) والسقوط على القرب، ولم يبق إحساس، وتحقق اليأس من العَوْد إلى الصحة، [فهذا] (6) هو الاستحشاف الذي أشرنا إليه في الأذن.
10518- وقد قال الشافعي رضي الله عنه: "لو سقط بالجذام من الأنف شيء، لم يقطع به الأنف السليم" وسبب ذلك أنا لو قطعنا الأنف السليم به، لقطعنا الشيء الكاملَ ببعضه، وقد ذكرنا أن القصاص يجري في أبعاض الأنف، كما يجري في الأصابع، فإذا سقط من الأنف ما يتعلق القصاص بمثله لو قُطع، فلا بد وأن يكون سقوطه معتبراً، وهو بمثابة ما لو سقطت إصبع من اليد بالجذام. [فإذا سقط جزء من
__________
(1) في الأصل: "الأصل". وهو تصحيف واضح.
(2) في الأصل: "الجراح".
(3) في الأصل: "على هذا وقرب".
(4) في الأصل: "الذي" (بدون الواو) .
(5) في الأصل: "العفو". والمثبت من المحقق.
(6) في الأصل: "وهذا".(16/262)
أنفه] (1) ، فقطعه رجلٌ أجدع، قد قُطع ذلك الموضع من أنفه، فيجب القصاص عليه لإمكان المساواة، وهو كما لو قطع رجلٌ [يدُه] (2) ناقصةٌ بإصبع [يداً مساويةً يده] (3) في النقصان، فالقصاص [جارٍ] (4) ، فظن بعض أصحابنا أن الشافعي أسقط القصاص عن الأنف إذا سقط شيء منه بالجذام؛ من جهة أنا إذ ذاك نعلم استحكام الجذام، ومساق هذا الظن يقتضي أنا لا نقطع أنفاً [جُدع] (5) بعضه به وهو سليم في باقيه، وهذا غلط، وإنما التعويل على ما ذكرناه.
وإنما نحكي أمثال هذا حتى [لا] (6) نُخلي الكتاب عما مر بنا سماعاً أو نظراً في تصنيف، ثم لا نقصر في التنصيص على ما هو المسلك الحق.
10519- ثم قال الشافعي: "ويقطع أُذن السميع بأذن الأصم، وأنفُ المدرك بأنف الأخشم" هذا صحيح لما مهدناه من أن حكم العضو لا يختلف بسقوط منفعةٍ ثابتة في غيره، وإن كان ذلك العضو سبيلاً إلى تلك المنفعة، وقد تعطل معظمُ المنفعة بتعطل السبيل، فالتعويل على النظر إلى [عين] (7) العضو وما يحله من منفعة، وما ذكره الشافعي رضي الله عنه في أذن الأصم وأنف الأخشم خارجٌ على هذا الأصل خروجاً بيّناً.
ونحن نشير إلى جوامع القول في ذلك: أطلق الفقهاء القولَ بأن النظر في العين، كما أن البطش في اليد والرِّجل، وهذا قد يبعد عن قانون الأطباء بعضَ البعد؛ من جهة أن لطيفة البصر عندهم في الطبقة المسماة الجليدية، وهي وراء طبقات من الحدقة، ولكن الحكم الشرعي لا يُلحق بالأمور الخفية، بل يُحمل على ما تبتدره
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "إصبعه".
(3) في الأصل: "يداً سبايه يده" كذا تماماًً رسماً ونقطاً.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "حدعا".
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: "غير".(16/263)
الأفهام، ويظهر في طبقات الخلق، ومما ظهر أن [ضوء] (1) الباصرة من العين، والكلام في اللسان، كما سنصف حكمه في كتاب الديات -إن شاء الله عز وجل- ولا حاجة إلى تعديد جميع الأعضاء؛ فما ذكرناه يُعدّ تمهيدَ الأصول.
وقال الأئمة: [الأنثيان] (2) تجريان من [المني] (3) مجرى الأذن من السمع، والأنف من الإدراك، وإن كانت أوعية المني وعصبُها [اللحمة] (4) [الغروية] (5) البيضاء من الأنثيين، فلو قطع أنثي رجل وانقطع ماؤه، يلزمه ديتان جرياً على ما ذكرناه، ولو كسر صلبَ إنسان، فزال مشيُه وماؤه، لزمته دية واحدة بسبب كسر الفقار وتعطيل المشي، واختلف أصحابنا في أنه هل يجب بسبب إزالة الماء ديةٌ أخرى؟ قال بعضهم: لا تجب؛ فإن محل الماء الظهر، والأصح أنه تجب دية أخرى؛ فإن الماء لا يختص بمحلٍّ من البدن وإنما هو مادة تسيل من جملة الحيوان، وكذلك تكون مادة الحيوان.
ولو قطع رَجُلٌ يدي رَجلٍ، فزال عقله، فالمذهب إيجاب ديتين، وفي المذهب قول آخر: أنا ندرج دية العقل تحت دية اليدين، وسيأتي في هذا تفصيلٌ في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "فإن قلع سن من قد أثغر ... إلى آخره" (6) .
10520- إذا قلع الرجل سنَّ من لم يُثغر، فلا نوجب في الحال قصاصاً ولا ديةً، لأنها تنبت غالباً؛ فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية، ثم إن أعقبت [شَيْناً] (7) ، وجبت
__________
(1) في الأصل: "الضوء".
(2) في الأصل: "الأشل". وهو تصحيف واضح.
(3) في الأصل: "اليمين".
(4) في الأصل: "واللحمة".
(5) في الأصل: "العدوية".
(6) ر. المختصر: 5/122.
(7) في الأصل: "سبباً".(16/264)
الحكومة، فإن لم تُعقب شيناً، فوجهان سنجريهما في نظائر ذلك في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
وإذا قلع سن من قد ثُغر، لزم القصاصُ أو الدية، وفصول الأسنان ستأتي مستقصاةً في الديات، فإن لم تنبت، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن السن المثغورة إذا عادت، فلا حكم لعودها، وهو متجه، [فهي نعمة] (1) مبتدأة، فلا يتغير بعودها حكمٌ مضى، والقول الثاني -أن عودها- وإن كان نادراً بمثابة عود سنِّ من لم [يُثعر] (2) . ثم إن لم نثبت للعَوْد حكماً، فإن عاد من المجني عليه، لم يسقط القصاصُ ولا الدية، واستوفينا القصاص، [ولم] (3) يتغير حكمه.
وإن قلعنا سنَّ الجاني، فعاد [فلا] حكم للعود، وقد تم استيفاء القصاص.
ولو قلعت السنّ العائدة، تعلق القصاص بقلعها، وكذلك لو عادت مراراً، وهو يقلع في كل مرة، فيجب القصاص في قلعه.
وإن جعلنا العَوْد معتبراً، فلو لم نستوف القصاص حتى عاد السن من المجني عليه، سقط القصاص والدية، وبقي الكلام في الحكومة، كما ذكرناه [في سنّ من لم] (4) يُثغر. فإن عاد سن المجني عليه بعد ما قلعنا سن الجاني قصاصاًً، تبينا أن الذي مضى لم يكن قصاصاًً، [فإن] (5) لم يعد من المقتص منه، ضَمِنَّا [سنّه] (6) بالدية، وبقي النظر في الحكومة التي تتعلق بقلع سنٍّ عاد بعد [القلع] (7) .
ولو لم يعد سنُّ المجني عليه، ولكن لما اقتصصنا سنَّ الجاني، عاد سن المقتص منه، ولم يعد سنُّ المجني عليه، فالقلع الأول لا يقع قصاصاً، واختلف أصحابنا في
__________
(1) في الأصل: "من أمد". كذا. والمثبت من معاني كلام الرافعي والنووي في الشرح والروضة.
(2) في الأصل: "يبعد".
(3) في الأصل: "لم" (بدون واو) .
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "وإن".
(6) في الأصل: "سن".
(7) في الأصل: "القطع".(16/265)
أنا هل نقلع سنه مرة أخرى؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نقلع، وكلما عادت، عدنا، إلى فساد المنبت. والوجه الثاني - أنا لا نقلع، ولكن نعود إلى الدية، ثم لا يخفى النظر في الحكومة؛ فإن القلع الأول لم يقع عن جهة القصاص، وشفاءُ الصدر في هذا يأتي في كتاب الديات.
ثم إن لم نجعل للعود حكماً، ابتدرنا القصاص، ولم نؤخره، وإن جعلنا للعود حكماً، لم نستوف القصاص إلى تحقق فساد المنبت من المجني عليه.
10521- قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن اقتص بغير سلطان عُزِّر" (1) .
قد ذكرنا أن مستحق القصاص لا يستبد باستيفائه، بل يتعين عليه رفعه إلى السلطان، فإن استبد ورأى الإمام تعزيره عزَّره، ووقع القصاصُ موقعه.
ثم ذكرنا أن القصاص في النفس يجوز أن يكله الإمام إلى الولي.
وفي القصاص في الطرف خلافٌ، وقطع الأئمة بأنه لا يكل حدَّ استيفاء القذف إلى المقذوف؛ فإن التفاوت في الجلدات عظيمٌ، فالمراتب إذاً ثلاث: نفسٌ، وقطعُ طرف، وجَلْد. ولكل مرتبة حكمها.
ومن عليه القصاص إذا أتى بصورة العقوبة من نفسه، فإن كان بغير إذن المستحِق، لم يقع الموقع، وإن كان بإذنه، ففي وقوع القصاص الموقعَ وجهان، ولعل الأصح وقوعه موقعه، ولو استناب المستحقَ بالحضرة أجنبياً، [فمن] (2) زعم أن القصاص لا يقع الموقع، قال: فهَلْكُ نفسه يخرج عن كونه نائباً لغيره، وما يظهر منه يقع على حكم الاستبداد (3) ، وينمحق فيه أثر الإذن.
وشبه الأصحاب هذا بما لو قال المكرِه: إن قتلت نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، لم يكن مكرهاً، وهذا تشبيه باطل؛ فإن معنى الإكراه أن يُحمَل المرءُ على أمرٍ بسبب عظيم الموقع عنده، وهو يبغي الخلاص عما خُوِّف به، وإذا كان التخويف بالقتل والمستدعَى القتل الذي به التخويف، لم يتحقق الإكراه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/122.
(2) في الأصل: "ومن".
(3) أي كأنه قتل نفسه من غير إذن مستحق القصاص، فحكمه أن فعله هذا لا يقع الموقع.(16/266)
فصل
قال: "ولو قال المقتص: أخرج يمينك، فأخرج يساره ... إلى آخره" (1) .
10522- إذا قال مستحق القصاص لمن عليه القصاص في يمينه: أخرج يمينك أقطعْها، فأخرج يساره، فقطعها، فالمسألة يأتيها الانقسام" من جهة قصود المخرج، ومن جهة قصود القاطع، والأَوْلى أن نجعل قصود المخرج أصولَ الصور، ويتشعب عن كل قصد [للمخرج صور] (2) تتعلق بقصد القاطع، ونأتي على مقصود الفصل بهذا الترتيب، إن شاء الله عز وجل.
فإن قال المخرج: قصدت بإخراج اليسار إباحةَ قطعها ابتداء، قلنا للقاطع: بان لنا قصدُ المخرج [فما] (3) قصدتَ؟ فإن زعم أنه استباح يدَه اليسرى، فقد أجمع الأصحاب على أن قطع [اليسار] (4) يقع هدراً، والقصاص باقٍ في اليمين.
فإن قيل: كيف أثبتم الإباحة، ولم يتلفظ [بها] (5) المخرج، وقرائنُ الأحوال يبعد أن تؤثر في الأمور الخطيرة؟ كيف وإخراجه ليس قرينة دالة على قصده في الإباحة؟ وهذا فيه إشكال كما ترى، وهو متفَقٌ عليه بين الأصحاب، والنص في [السواد] (6) وغيره على موافقة الإجماع من الأصحاب؟ قلنا: القرينة أوّلاً كافية في هذا الباب.
ولو قال الرجل لمن لا قصاص عليه: أخرج يدك أقطعها، أو قال: ملكني قطعها، فلو أخرج يده، ولا إكراه، فالذي جرى إباحةٌ منه. فإن قيل: حكيتم في باب الوليمة وجهاً أن الضيفان لا يستبيحون الطعام ما لم يتلفظ بالإباحة، وهذا القائل ليس يكتفي بقرائن الأحوال. قلنا: لا تعويل على مثل هذا الوجه، وسبيل المتدرب
__________
(1) ر. المختصر: 5/122.
(2) في الأصل: "للخرج صوراً".
(3) في الأصل: "فيما".
(4) في الأصل: "القصاص".
(5) في الأصل: "به".
(6) في الأصل: "الشواذّ". وانظر المختصر: 5/122، لترى النص فيه واضحاً.(16/267)
في المذهب أن يستدلّ بموضع الوفاق على فساد الوجوه الضعيفة، ولا يعترض بالوجوه الضعيفة على محالّ الوفاق، وكيف وذلك أظهر والإجماعُ فيه عملاً أشهر؟، ولا يأمن أن يَطْرد صاحبُ ذلك الوجه مذهبه الفاسد فيما ذكرناه. ولا عود إلى هذا بعد التنبيه عليه.
وقال الأئمة: إذا قصد الرجل قَطْع يد الرجل ظلماً، وقلنا: لا يجوز له أن يستسلم [فإذا استَسْلم] (1) ، ولم [يدفع] (2) ، [فهل] (3) يكون سكوته بمثابة الإباحة؟ فعلى وجهين مأخوذين من تردد الأصحاب في أن الزانية لا تستحق المهر، ولم يوجد منها إلا التمكين المجرد. فمن الأصحاب من قال: سبب سقوط المهر سقوط الحرمة، [والبُضع] (4) لا يتقوّم إلا إذا كان محترماً من جهة الموطوءة، ومهر البغي يُحطّ بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن أصحابنا من قال: سبب سقوط المهر أن التمكين رضاً منها في حكم العرف منزلٌ منزلة الإباحة، على هذا الخلاف خرّج الأصحاب وجهين في الجارية المغصوبة إذا طاوعت الغاصب حتى زنا بها، فمن أسقط مهر البغي لعلّة سقوط [الحرمة] (5) ، لم يثبت المهر لمالك الجارية، ومن علل سقوط المهر بنزول التمكين منزلة الرضا، قال: يجب مهر المغصوبة [فإنها] (6) لا تملك إسقاط حق المولى.
فقال الأئمة: إذا وجد التمكين من قطع الأطراف -والتمسك بمذهب الاستسلام-[فالتمكين] (7) هل يكون كالرضا؟ فيه خلاف، والمسألة محتملة؛ فإن التمكين من الزنا لا محمل له إلا الرضا في عادة الخلق، والسكوت على الجناية لا يتجرد هذا التجرد.
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.
(2) في الأصل: "يرفع".
(3) في الأصل: "وهل".
(4) في الأصل: "والوطء".
(5) في الأصل: "الحرية".
(6) في الأصل: "بأنها".
(7) في الأصل: "بالتمكين".(16/268)
وهذا في السكوت المحض، فأما إذا قال المتقدم إليه: أبح لي يمينَك وأَخْرجها أقطعْها، فوافقه، وأخرج، فهذا إباحةٌ ولا محمل له غيرُ الإباحة.
فإذا تمهد هذا، عدنا إلى مسألتنا، وقلنا: الإخراج فعلٌ، [ومثله] (1) يُعدّ إباحة، فإذا كان يتصور [اتضاح الغرض] (2) فيه، فهو كقولٍ ليس بصريح في مقصود، بل هو كنايةٌ فيه، فإذا انضم القصد إليه، نزل منزلة [كناية] (3) تقترن النية بها. فهذا منتهى الكلام.
10523- ولو قال القاطع: دَهِشت، ولم أدر، والمخرج زعم أنه مُبيح، فلا ضمان على القاطع أصلاً؛ فإن التعويل في [إحباط] (4) اليسار على إباحة مخرجها.
10524- ولو قال القاطع: ظننت أن اليسار [مجزئةٌ] (5) عن اليمين، فاكتفيت بها على هذا القصد، فهل يسقط حقُّ القصاص عن يمين المخرج؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط القصاص، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وقد ارتضاه القاضي وقطع به، ووجهه أنه بقصده دل على إسقاطه القصاص في اليمين، فإذا كنا نجعل إخراج المخرج بمعنى قصد [الإباحة] (6) ، فقَطْع القاطع مع إسقاط القصاص عن محله يجب أن يكون نازلاً منزلة التصريح بالقصد.
والوجه الثاني - أن القصاص لا يسقط؛ فإنه لم يُسقطه، ولم يقتص منه اعتياضاً صحيحاً، وليس كالإباحة؛ فإنها لا تستدعي عقداً، أو معاملةً ذاتَ أركان وشرائطَ، وذكر أئمتنا أن من عليه قصاصٌ إذا جاء بالدية إلى مستحق القصاص متضرّعاً، طالباً منه أن يأخذ الدية ويقنَع بها، فلو أخذها، ولم ينطق بالعفو، ثم عاد إلى طلب القصاص، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين، وما ذكرناه في صورة قطع اليسار على أنه
__________
(1) في الأصل: "فسبيله".
(2) في الأصل: "انفساخ الفرض".
(3) في الأصل: "كأنه".
(4) في الأصل: "احتياط".
(5) في الأصل: "محرّمة".
(6) في الأصل: "إبانة".(16/269)
يغني عن اليمين أولى بأن لا يُسقط القصاصَ في اليمين؛ فإن هذا الاعتياض فاسد، وأخذ المال بدلٌ عن الدم [مشروع] (1) لا فساد فيه.
التفريع على الوجهين:
10525- إن حكمنا بأن القصاص لا يسقط عن اليمين، فقطْع اليسار هدرٌ بناءً على إباحة المخرِج؛ فإن إباحته كافيةٌ في الإهدار، وإن حكمنا بأن القصاص يسقط في اليمين، فالرجوع إلى المال، ولا تقع اليسار عن اليمين قطّ لمستحق القصاص في اليمين، [فتبقى] (2) اليمين، واليسارُ فيه هدرٌ، ولا يتعلق بما جرى إلا سقوطُ القصاص، وهذا واضح، ولكنه على وضوحه [مزِلّة] (3) . فليقف الناظر عنده.
والجملة في هذا أنا كيفما صدقنا قصود القاطع، فقطْع اليسار يجري على الإهدار، وإنما التردد في أن القصاص في اليمين هل يسقط إذا كان المخرج على قصد الإباحة؟
10526- ومن تمام الكلام في هذا القسم -وهو إذا قصد المخرِج الإباحة- أن القاطع لو قال: جعلت اليسار باليمين إنشاء من عندي، وهذا يتميّز في التصور عما قبله؛ فإنه في الصورة المتقدمة على هذه ظن أن حكم الشرع وقوع اليسار عن اليمين، وهو في هذه الصورة يجعل الأمر كذلك، وهذا عندي يخرج على الخلاف في أن القصاص في اليمين هل يسقط [له تلف] (4) ، وهذه الصورة أولى بأن يسقط القصاص فيها، [فإنا إن حملنا ما صدر من القاطع على معاوضة فاسدة، لكان قريباً] (5) ؛ فإنه
__________
(1) في الأصل: "مشاع".
(2) في الأصل: "وفيه". والمثبت محاولة من المحقق، وإن كنا نكاد نقطع أنها ليست لفظة الإمام. ولكن الكلام مفهوم ومستقيم على أية حال.
(3) في الأصل: "من له".
(4) ما بين المعقفين مقحمٌ لم نستطع توجيهه، ولا تصور ما فيه من تصحيف (إن كان) .
(5) عبارة الأصل: "بأن نحمل ـ ـا ـى صدر من للقاطع على معاوضة فاسدة لكان قريباً" هكذا جاءت تماماًً، وفيها أكثر من خلل وتصحيف. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق، وعلى ما قاله الرافعي آخذاً معناه من الإمام، ونصه: "ولو قال: علمت أن اليسار لا تجزىء عن اليمين شرعاً، لكن جعلتها عوضاً عن اليمين من عندي، اطّرد الخلاف، وجعل =(16/270)
لم يجر في الصورة المتقدمة إلا ظنٌّ، وقد تبين أنه على مخالفة الشرع، وظنُّ الإنسان قد يدرأ القصاص عنه، [فيما] (1) يقطعه على موجب الظن، فأما أن يتضمن إسقاط قصاص له في محلٍّ [برضا] (2) ، ففيه بُعْد ظاهر.
وحُكي عن القاضي أنه في صورة الظن، وهي الصورة المتقدمة يُسقط القصاص في اليمين، وقال في الصورة الأخيرة -وهي إذا قال: قصدت جَعْل اليسار قصاصاً عن اليمين-: لا يَسقُط القصاصُ عن اليمين، وهذا كلام مضطرب.
وهذا كله انشعبت (3) فيه إذا قال المخرج: قصدت الإباحة بالإخراج.
10527- فأما إذا [قال:] (4) دهشت ولم أدر ما أصنع؛ فإذا قال المخرِج ذلك، رددنا الأمر إلى قصد القاطع، وراجعناه في قصده؛ فإن زعم أني علمت حقيقة الحالى، وأقدمت على قطع يساره قصداً، قلنا: عليك القصاص في يسارك للمخرِج، وقصاصك باقٍ في يمين المخرِج، فإن آثر كلُّ واحد منهما إلاّ استيفاء حقه من القصاص، لم يبق لواحد منهما يد، وإن عفَوا عن القصاص، رجعنا إلى الأرشين، ولم يخفَ حكم التقاصّ، ولا يُشكل التفصيل فيه إذا عفا أحدهما دون الثاني.
10528- ولو قال القاطع: حسبت أنها تقوم مقام اليمين، فهل يسقط القصاص عن اليمين؟ فيه الخلاف المقدم، وكذلك إذا قال: جعلت اليسار باليمين، ففي سقوط القصاص عن اليمين التردُّدُ المقدم، ولكن النظر في اليسار -والمخرِج ليس [مبيحاً] (5) - على وجه آخر يقع: أما القصاص، فالذي رأيناه في الكتب أنه لا يجب
__________
= الإمام هذه الصورة أول بالسقوط؛ لأن ما صدر منه والحالة هذه، يظهر حمله على معاوضة فاسدة، وهناك ظن حكمها وهو مخطىء فيه، فإسقاط حقه بذلك الظن كالمستبعد". (ر. الشرح الكبير: 10/284) .
(1) في الأصل: "فما".
(2) في الأصل: "رضي".
(3) أي: انشعبت فيه المسائل.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: فسخاً.(16/271)
على القاطع قصاص في يساره، وظنُّه ينهض عذراً في إسقاط القصاص عنه، وفي هذا مستدرك سنذكره الآن في أثناء الكلام، وننبه على انعطافه على هذا المحل، وإذا لم نوجب القصاص، فالوجه إثبات الضمان على القاطع، وفيه شيء أيضاً سنذكره من بعدُ.
10529- ولو قال القاطع: ظننت أن اليد المخرجة هي اليمين؛ فقطعتها على هذا الظن، قال العلماء: لا يسقط قصاصه عن اليمين؛ فإنه لم يقصد إسقاطَه، بل ما حسبه حقَّه لم يكن حقَّه، وهل يجب القصاص على القاطع في قطع اليسار؟ ذكر القاضي قولين سيأتي ذكرهما على أثر هذا الفصل، إن شاء الله عز وجل.
[ووجهُ الشبهِ بَيِّنٌ: حَسَبُه أن اليدَ المخرجة مستحَقة] (1) ، ثم تبيّن أن الأمر على خلاف ما حَسِبه (2) ، وقد يخطر للناظر أن إسقاط القصاص (3) أولى في هذه المسألة؛ من جهة أن المخرِج [هو] (4) الذي تسبب إلى التقصير حيث أخرج، ولم يوجد من الذي [قطعه] (5) على ظن أنه [قابل منه تقصيراً] (6) أصلاً؛ فإذا ظهر الخلاف في وجوب القصاص في اليسار فيه إذا قال القاطع: حسبتُ اليد المخرجة يميناً، فاحتمال وجوب القصاص ينعكس على الصورة التي ذكرناها قبل هذه، وهي إذا حسبها تجزىء عن اليمين؛ فإن قوله هذا بعيد عن الإشكال مع العلم بتعدد المحل، وهو بمثابة ما لو قتل رجل رجلاً كان أمسك أباه حتى [قتله] (7) إنسان، ثم قال: ظننت قَتْله حقاً، فالرأي الظاهر أن القصاص لا يندفع بأن يدعي القاتل أمثال هذه الظنون، وسنجمعها في فصلٍ، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) عبارة الأصل: "ووجه التشبيه بين حسنه دايه اليد المخرجة مستحقة" كذا تماماً رسماً ونقطاً، والمثبت محاولة لإقامة العبارة مع الاحتفاظ بأقرب الصور إلى كلمات الأصل.
(2) ومعنى العبارة أن وجه الشبه واضح بين هذه الصورة والتي قبلها؛ فلذا قرب الكلام فيهما.
(3) المراد إسقاط القصاص في اليسار التي قطعها على ظن أنها اليمين.
(4) في الأصل: "وهو".
(5) في الأصل: "قبله".
(6) في الأصل: "قابلاً منه تقصير".
(7) في الأصل: "أمسكه".(16/272)
10530- فلو قال القاطع: دهشت، فلم أدر ما أصنع، ولا معنى لهذا القسم في هذه الحالة؛ فإن الدهشة السالبةَ الاختيارَ لا تليق بالقاطع المختار، ولا بد وأن يكون قطعه صادراً عن عمدٍ أو ظن اعتياض، أو ظنٍّ بأن المخرَج يمينٌ، أما المخرِج [فلا يبعد] (1) أن يدهش.
وقد نجز تشعيب الكلام في هذا القسم، وهو إذا قال المخرج: دهشت.
10531- فأما إذا قال: قصدت إخراج اليسار أن تقع عن اليمين، فنقول للقاطع: أنت ماذا قصدت بالقطع؟ فإن زعم أنه ظنّ أن المخرِج أباح اليد [بذلاً] (2) ، فقد قال الأصحاب: لا يجب القطع عليه في [اليسار] (3) ؛ فإن ما قاله محتمل مع [إيهام المخرِج] (4) .
وهذا يتطرق إليه احتمال؛ فإنه ظنٌّ بعيد، والظنون البعيدة لا تدرأ القصاص، درءاً مقطوعاً به، ولكن [منها] (5) ما لا يدرأ، ومنها ما يُخرّجُ على الخلاف، كما سيأتي، ووجه البعد بيّن؛ فإن اللائق بالحال الدهشةُ، أو قصدُ الاعتياض، فأما الإباحةُ، فبعيدة، ولهذا تكلّفنا تحقيقَها عند قول المخرِج: قصدتُ الإباحة.
10532- ولو قال القاطع: ما دهشت، ولكن ظننت أن اليسار تُجزىء عن اليمين، كما قال المخرج، فالكلام في سقوط القصاص باليمين كما مضى، [والسقوط أولى هاهنا] (6) بتأويل تنزيل الفعلين مع التوافق في القصدين منزلة اعتياض، فاسد (7) .
__________
(1) في الأصل: "ولا يبعد".
(2) في الأصل: "بدلاً".
(3) في الأصل: "في البيان".
(4) في الأصل: "إلزام الحرج". والمثبت من المحقق على ضوء عبارة الرافعي: " إن قال: ظننتُ أنه أباحها بالإخراج، فلا قصاص عليه في اليسار؛ لأن ما يقوله محتمل، وفي إخراج اليسار، والمطلوبُ اليمين ما يوهمه، هكذا يحكى عن القفال وغيره، قال الإمام وفيه احتمال ... " (الشرح الكبير: 10/285) .
(5) في الأصل: "فيها".
(6) في الأصل: "وللسقوط أثر هاهنا".
(7) حكى الرافعي عن الإمام هذه المسألة، فكان مما قال: " ... وأن سقوط القصاص في اليمين =(16/273)
ثم إن قلنا: يسقط القصاص عن اليمين، [فلا شك] (1) أن القصاص لا يجب في اليسار. وإن قلنا: لا يسقط القصاص عن اليمين [فلا يجب] (2) القصاص في اليسار؛ لأن ما يجرى [من] (3) المخرِج تسليط على القطع، وحكى العراقيون عن ابن (4) الوكيل من أئمتنا أنه أوجب القصاص على قاطع اليسار في هذه الصورة، وهذا بعيد جداً مع ما جرى من قصد المخرج في التسليط على القطع: نقلوه وزيفوه، وهو كما قالوه.
ثم إذا لم نوجب القصاص، بقي النظر في الضمان في اليسار: والوجه عندنا القطعُ بثبوته؛ فإنه لم تجر إباحةٌ من المخرج ولا وجه لإهدار اليسار.
10533- قال العراقيون: لو قال: أردت أن تكون اليسار باليمين، وقال القاطع؛ ظننت المخرَج يميناً، قالوا: لا قصاص على القاطع قولاً واحداً، والأمر على ما ذكروه (5) ، ولا يخرّج هذا على الخلاف السابق، فإنه وجد في هذا القسم تسليط على القطع من المخرِج، ثم قالوا: هل يجب على القاطع الضمان في اليد؟ فعلى وجهين: أحد الوجهين - لا ضمان عليه، واليسار هدرٌ؛ لأن المخرج قصّر حيث [لم يتثبّت] (6) وسلَّط على القطع.
__________
= يخرّج على الخلاف المذكور في الحالة الأولى، والظاهر سقوطه تنزيلاً للفعل مع توافق القصدين منزلة اعتياض فاسد". (ر. الشرح الكبير: 10/285) .
(1) في الأصل: "ولا شك".
(2) في الأصل: "ولا يجب".
(3) في الأصل: "في".
(4) ابن الوكيل: عمر بن عبد الله بن موسى، أبو حفص ابن الوكيل، المعروف بالباب شاميّ. من أئمة أصحاب الوجوه ومتقدميهم. تفقه على الأنماطي، وتوفي ببغداد سنة 310 هـ. نقل عنه الرافعي في آخر التيمم، ثم كرر النقل عنه.
(ر. طبقات العبادي: 71، طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي: 90، طبقات السبكي: 4/470، 471، طبقات الإسنوي: 2/538، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/59، طبقات ابن هداية: 58) .
(5) قال الرافعي بعد أن ذكر هذا عن الإمام: "وفي (التهذيب) وجه آخر: أنه يجب القصاص". (ر. الشرح الكبير: 10/285، والتهذيب: 7/124) .
(6) في الأصل: "لم يثبت". والتصويب من الشرح الكبير (السابق نفسه) .(16/274)
والوجه الثاني - أن اليسار لا يكون هدراً؛ فإن مخرجها لم يخرجها باذلاً مبيحاً؛ فينبغي أن تكون مضمونة، كما لو باع مالك العين العينَ بيعاً فاسداً، وسلّمها، فإنها تكون مضمونة على المشتري.
وقد نجزت المسألة بأقسامها.
وحق من ينتهي إليها أن يُلزم نفسه حفظ أوائلها؛ فإن خللها في انسلال ما سبق منها عن [الحفظ] (1) المنتهي إلى الأثناء والآخر.
10534- ثم إذا قطع القاطع اليسار وبقّينا له حق القصاص في اليمين في بعض الصور المقدمة -أيتها كانت- فهو على حقه من القصاص في اليمين، فلو أراد استيفاءه ناجزاً، والمقطوع يساره على قرب العهد، بقطع اليسار، فظاهر النص أنه لا يمكّن من قطع اليمين في الحال، فإن الموالاة بين القطعين قد تُفضي إلى الهلاك، ومستحق القصاص في اليمين هو الذي قطع اليسار، ولم يتأمل.
ومن أصحابنا من خرج قولاً آخر أنه لا [يُمنع] (2) من استيفاء حقه في اليمين؛ فإن القصاص لا يتأخر بسبب ظُلمٍ جرى، أو بسبب خطأ.
ولو قطع يدي رجل ورجليه، فقد ذكرنا أن القصاص لا يؤخر [في] (3) الأطراف، ولكن لو ظهر في الظن أنا لو قطعنا [يدي] (4) الجاني ورجليه وِلاءً ولا شك أنه يهلك، فالمذهب أنه تقطع ولاءً إن أراد ذلك.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً أنه يمنع عن الموالاة في الاقتصاص، وهذا لا أصل له، وإن ذكر هذا الوجه فيه إذا اندملت جراحات الجاني (5) ، فأراد بعدها
__________
(1) في الأصل: "الحفيظ".
(2) في الأصل: "لا نفع".
(3) في الأصل: "من".
(4) في الأصل: "يد".
(5) المراد التي أحدثها الجاني في المجني عليه، فإذا اندملت فلا خوف من السراية إلى النفس، فهنا يجيء الوجه البعيد القائل: بأن ليس له المطالبة بموالاة القصاص في الأطراف عند ظن الهلاك.(16/275)
الاقتصاص، وإلا فالمنع الآن قد يتجه على بعد، ولست أعد هذا من المذهب. وقد انتهى الكلام فيما يتعلق بالقصاص.
10535- فأما إذا قال الجلاد [للسارق: أخرِج] (1) يمينك اقطعها، فأخرج يساره فقطعها، فالتفصيل فيه أن [السارق إن] (2) قال: دهشت، وزعم القاطع أنه دهش أيضاً، وقد ذكرنا أن القطع في اليمين المستحَق قصاصاًً لا يسقط في مثل هذه الصورة بسبب ما جرى من الدهشة، وهل يسقط قطع اليمين عن اليسار في الصورة [التي] (3) نصصنا عليها؟ ظاهر النص أن القطع يسقط عنه؛ فإن الشافعي فيما نقله المزني صوّره من [صور] (4) النظر، ثم قال: "ولو كان [ذلك] (5) في سرقة، لم تقطع يمينه، ولا يشبه الحدُّ حقوقَ العباد ... إلى آخره" (6) وهذا يُوجَّه بما أشار إليه الشافعي ومن ابتناء حق الله تعالى في العقوبات على الدرء والدفع؛ فلا يمتنع -وقد جرت هذه الغلطةُ- أن [يسقط] (7) الحد، فإنه حصل بما جرى الردعُ والنكال.
وذكر بعض أصحابنا قولاً مخرّجاً أن القطع لا يسقط عن اليمين، وهذا وإن كان ينقاس، فهو مجانب لوضع حدود الله، ثم إن قيل به، فلا خلاف أن اليمين لا تقطع على الفور بل يمهل حتى يندمل.
ولو قال المخرِج: حسبت اليسار تجزىء عن اليمين، فالقول كما مضى، ولو قال المخرج: علمت أن اليسار لا تجزىء عن اليمين، ولكني غالطت الجلاد، وقال الجلاد: غلطت، فهذه المسألة [تخرج] (8) على الخلاف أيضاً، وبقاء القطع في اليمين أظهر.
__________
(1) في الأصل: "لليسار وأخرج" (فقد زيدت ياء ثم تحولت (القاف) إلى (واو) .
(2) في الأصل: "اليسار وإن".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "صورة".
(5) في الأصل: "كذلك". والنص من المختصر.
(6) ر. المختصر: 5/122.
(7) في الأصل: "سقط".
(8) في الأصل: "يخرجه".(16/276)
ولو اعترف القاطع والمخرج بالتعمد، فالوجه القطع بأن القطع في اليمين يبقى، ويبقى النظر في أن القطع هل يجب على الجلاد في قطع اليسار، ويعود هاهنا تصوير الإباحة [والبذل] (1) .
ومما يجب التنبه له أن الاستبدال قصداً لا يُجزىء في حد الله. فهذا منتهى القول في المسألة، والله المستعان.
فصل
10536- إذا قطع الرجل يدَ مجنونٍ واستوجب القصاصَ، فلا شك أن المجنون ليس من أهل الاقتصاص، ولكن لو وثب المجنون على الجاني، وقطع يده، فهل يقع ذلك القطع قصاصاً؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يقع؛ فإنه المستحِق للقصاص، وقد جرى القطعُ على صفة الاستحقاق. والثاني - أن القطع الذي صدر منه لا يقع عن جهة القصاص؛ فإنه لا حكم لفعله، وليس هو من أهل استيفاء حقوقه.
فإن قلنا: [لا يقع] (2) قطعُه قصاصاًً، ولا يهدرُ القطع؛ فإنه وإن لم يكن من أهل استيفاء الحقوق، فإتلافه مضمون، ثم إن جعلنا له عمداً، فالغرم في ماله، وإن لم نجعل له عمداً، فالغرم [مضروب] (3) على عاقلته، وسقط القصاص الذي كان [يستحقه] (4) بسقوط المحل، لا بطريق الاستيفاء، فيثبت له أرش يده في مال الجاني عليه.
وهذا إذا لم يصدر من الجاني تمكين من القطع، فأما إذا أخرج الجاني على المجنون يدَه حتى قطعه قصاصاً، فقد قال العراقيون: لا يقع القطع قصاصاً وجهاً واحداً هاهنا، فإن التفريط من المخرِج الجاني، وليس كما إذا قطع المجنون من غير تمكينٍ من الجاني، ثم قالوا في الصورة الأخيرة إذا جرى القطع، كان هدراً؛ من جهة
__________
(1) في الأصل: "والبدل".
(2) في الأصل: "لا يجب".
(3) في الأصل: "مصروف".
(4) في الأصل: "مستحقه".(16/277)
انتساب الجاني إلى التقصير في تمكينه المجنون من القطع.
هذا ترتيب العراقيين، وليس لما ذكروه ذكرٌ من طريق المراوزة، وليس يبعد ما أوردوه عن قياسهم.
والصبي ينبغي أن يكون فيما رتبوه كالمجنون.
10537- ولو جرى القطع من المجني عليه خطأ، وكان من أهل الاقتصاص لو تعمد، وذلك مثل أن يتّفق منه إشارةٌ بسيف في الظلمة في جهةٍ، وفيها الجاني عليه، فإذا حصل القطع، [فهو] (1) يقع قصاصاًً، فإن القطع قد وقع والرجل من أهل الاستيفاء، وقد ذكرت هذا مجموعاً إلى مسائل فيما سبق.
فصل
يجمع وقوع القطع على ظنون
10538- ونحن نصفها ونرسل مسائلها، ثم نرتبها.
فإذا قتل الرجل رجلاً في دار الإسلام، ثم زعم أنه حسبه قاتلَ أبيه، ففي وجوب القصاص على القاتل قولان: أحدهما - لا قصاص عليه، لظنه، وإنما القصاص على من يتعمد القتلَ ظلماً؛ فإن القصاص مزجرةٌ عن الظلم، ولا يتصور زجرُ المخطىء. والقول الثاني - يجب القصاص؛ فإن القتل معمودٌ، وإنما الظن من جهته، وليس القاتل معذوراً في ابتداره القتلَ، بل كان مأموراً بالبحث ونهاية التثبت، ثم حُكم الشرع ألا يستقلّ بالقصاص، بل يرفعه إلى السلطان، وإذا تحقق التعمد بأصل القتل، ولم [يقع] (2) في الجهة التي ظنها، وجب القصاص.
ومن الصور للفصل [أن يقتل رجل رجلاً في زي الكفار الحربيين] (3) ، ثم يتبيّن أن المقتول كان مسلماً، والواقعة في دار الإسلام، ففي وجوب القصاص على القاتل قولان، والتوجيه يقرب مما تقدم.
__________
(1) في الأصل: "وهو".
(2) في الأصل: "يعود".
(3) عبارة الأصل: "أن يقتل رجل ذمي الكفار الحربيين". والزيادة والتعديل من المحقق.(16/278)
ومن الصور أن يقتل رجلاً كان ارتد، فحسبه فيما زعم مصراً على ردته وقد كان عاد إلى الإسلام، ففي القصاص القولان.
وهذه [الصور يجمعها] (1) وقوع القتل عمداً صادراً عمن لا يبعد وقوعه [منه] (2) ، وصاحب الظن مزجور عن المبادرة والإقدام.
[وإنما] (3) يجري الخلاف إذا كان للظن وجه ظاهر في الوقوع، فلو قتل رجلاً، وقال: حسبته كان ارتد أمس، وتبين أنه ما كان ارتد قط، فالقصاص يجب قولاً واحداً، وكذلك لو قال: حسبته قاتل أبي، ثم تبينتُ أن أبي حيٌّ ما قُتل، يجب القصاص عليه؛ فإن أمثال هذه الظنون لا تصدر عمن على قوله معوّل.
10539-[وإذا] (4) ذكرنا هذه المسائل مرسلة نذكر في [معارضتها] (5) مسائل، فلو قتل الغازي في دار الحرب إنساناً لا يبعد عن زيّ الكفار، وقال: حسبته كافراً، لم نلزمه القصاص، وفي لزوم الدية قولان، وهذا يجري على الشرط الذي ذكرناه في كل من يقصده الرجل بالقتل في دار الحرب، على ظن أنه كافر، والظن ممكن. فأما إذا رمى إلى صف الكفار، فمرق إليهم وأصاب أسيراً وراء الصف، لم يقصده الرامي، فهذا هو الذي سماه الفقهاء قتيل سهم الغرب، فلا دية، وتجب الكفارة، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: ( {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... } [النساء: 92] .
والمسائل التي ذكرناها في دار الحرب، تتميّز عن مسائل دار الإسلام بظهور عذر القاتل في دار الحرب، وعدم تعرضه [للتقريع والتوبيخ] (6) ثم مسائله تنقسم: فمنها ما لا قصد [فيها] (7) إلى عين [القتيل] (8) ، فموجب القتل فيه الكفارة المحضة، ومنها ما
__________
(1) في الأصل: "الصورة مجمعها".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "فإنما".
(4) في الأصل: "وإن".
(5) في الأصل: "معارضها".
(6) في الأصل: "التفريع والتوقع".
(7) في الأصل: "منها".
(8) في الأصل: "القتل".(16/279)
يقصد فيها شخصاً على الحدّ الذي ذكرناه، ففي الدية قولان، وتيك [المسائل] (1) مجتمعة في نفي القصاص.
والمسائل التي فرضناها في دار الإسلام يجمعها بوجهٍ التقريع واللائمة، وأدنى الدرجات النسبة إلى التقصير، وأصلُ الضمان ثابت في جميعها وفي القصاص قولان.
هذا إذا كان الذي يدعيه القاتل مما لا يبعد وقوعُ مثله لأصحاب العقول، وإذا بعد مأخذ الظن، اتحد القول في وجوب القصاص.
10540- ثم مهما (2) أوجبنا الدية حيث نقطع بأن لا قصاص، ففي محل الدية قولان: أحدهما - أن محلها مال القاتل. والثاني - أنها مضروبة على العاقلة، وقد قدمنا طرفاً من هذا سنعيده مقرراً في باب العواقل من كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
وحيث قطعنا القول في وجوب القصاص، فحكم المال إذا آل الأمر إليه على طريقين: من أصحابنا من قال: في المسألة قولان كمسائل دار الحرب، ومنهم من قطع بأن المال في ذمة الجاني، والطريقان على قول نفي القصاص.
فإن فرعنا على وجوب القصاص، فلو آل [الأمر] (3) إلى المال، فلا خلاف أنه يتعلق بذمة الجاني.
وهذه المسائل التي أدرناها على الظنون التي ذكرناها، اختلف المحققون في معناها، فذهب بعضهم إلى أن مأخذ الكلام فيها أن هذه الظنون لو وقعت، وحصل الوفاق على وقوعها، فكيف القصاص، وكيف الغرم.
ومن أصحابنا من قال: لو حصل الوفاق على وقوعها أثّرت، وإنما التردد في أن من يدعيها هل يصدق فيها؟ من جهة أن الظان، وإن كان أعرف بظنه، فوقوع أمثال هذه الظنون بديعة قلّما تكون.
__________
(1) في الأصل: "المسألة".
(2) مهما: بمعنى (إذا) .
(3) زيادة لإيضاح الكلام.(16/280)
10541- وإذا طلبنا ترتيب هذه المسائل، قلنا: المرتبة العليا في تمهيد العذر لصاحب سهم الغرب، وقد كان يليق بالرامي ألا يلتزم الكفارة أصلاً من حيث لم يقصد معيّناً، وكان الرمي الذي جاء به جهاداً في سبيل الله، ولو قيل: إنه حتمٌ في حق الواقف أو واقع فرضاً على الكفاية لم يبعد، ولكن اتفق الأئمة على وجوب الكفارة وتنزيلها على ظاهر الآية.
ويلي تلك الرتبة قصدُ شخصٍ على زي الكفار بعينه، ثم تبين إسلامه، فالقصاص يندفع وفي الغرم قولان، ثم إن يثبت، ففي محلّه قولان.
[ويلي] (1) هذه المرتبة الصور التي قطعنا فيها بثبوت الغرم، وردّدنا القول في القصاص.
وما ترتيب هذه المسائل [للدارَيْن] (2) ، فإنه لا تأثير لها عندنا، [ونزيد بيان] (3)
ذلك: إنه (4) لو قَتَل إنساناً في دار الحرب، ثم زعم أنه حسبه قاتلَ أبيه، وتبين أن الأمر بخلاف ذلك، ففي وجوب القصاص قولان، وإن جرى ذلك في دار الحرب، كان كما لو جرى في دار الإسلام، فإن الدار لا تثير مزيّةً في هذا النوع من الظن، ولو وطىء الكفار بلاد الإسلام، ولقيناهم، فالقول في إصابة سهمنا أسراهم (5) على ما ترتب في دار الحرب.
10542- ثم إذا تمهد الأصل، فإنا نذكر بعده صوراً: منها أن الرجل إذا كان عهد ذمياًً، ثم لقيه فقتله، وبنى على أن المسلم لا يقتل بالذمي، ثم تبين له أن الذمي كان أسلم، فقد ذكر الأئمة قولين في وجوب القصاص على القاتل، وهما
__________
(1) في الأصل: "وعلى".
(2) في الأصل كتبت نصف الكلمة (للدا) وترك باقي مكانها بياضاً. ولعل ما أثبتناه صوابٌ. والمراد بالدارين دار الحرب ودار الإسلام.
(3) عبارة الأصل: "ونريد أن ذلك أنه لو قتل ... إلخ" والمثبت من تصرف المحقق، مع الالتزام بأقرب الصور للكلمات الموجودة بالأصل.
(4) كلام مستأنف، ولذا كسرت همزة إنّ.
(5) المراد أسراهم من المسلمين.(16/281)
[مرتّبان] (1) على بعض ما تقدم، وهو إذا ظن المقتولَ حربيَّاً دخل دار الإسلام [غلبةً] (2) ، وتوصل إلى دخولها غلبةً، ووجه الترتيب أنه اشتد ظنه فيمن ظنه حربياً إلى جهةٍ يجوز القتل فيها أو يجب، بخلاف ما لو حسبه مستمراً على الذمة؛ فإن قتل الذمي محظور، والإحقان بالذمم محذور، فكأنه اعترف بالهجوم على محظور، وظنَّ مسقطاً.
ومن هذا القبيل ما لو كان رأى عبداً أو ظفر به يوماً فقتله، [وبنى] (3) النجاة من القتل على أن الحر لا يقتل بالعبد، فلو تبين له أنه أعتق، وجرى قتلُه بعد الحريّة، فهو كمسألة الذمي.
ثم تردد أئمتنا في الكلام في هذا [الضرب] (4) الذي نحن فيه وفي مسألة أخرى، وهو إذا لقي مرتداً كان حسبه مصرّاً على ردته، فقتله، ثم بان أنه تاب عن الردة، ففي وجوب القصاص القولان المشهوران، فمن أصحابنا من جعل مسألة المرتد أولى بسقوط القصاص؛ من قِبل أنه ظنه هدراً، ونَهْيُ آحاد الناس عن قتله أدبٌ وسياسة، وليس كالذمي؛ فإن قتله محظور ديناً، وهو معصوم مضمون.
ومن أصحابنا [من جعل] (5) مسألة الذمي والعبد أولى بسقوط القصاص من مسألة المرتد، والسبب فيه أن ظن بقاء الذمة والرق أوجه من ظن بقاء الردة، وترك المرتد ينقلب بين ظهرانَي المسلمين.
وهذه المسائل في أصولها وتفرعها وتركبها وترتبها ينبغي أن تؤخذ من قوة الظنون وضعفها، فهذه جملةٌ حوت فنوناً من الظنون واشتملت على أحكام مراتبها، وسنعود إلى بعض قضاياها عند الكلام فيما يُضرب على العاقلة وما لا يضرب عليهم، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: "قريبان".
(2) في الأصل: "عليه".
(3) في الأصل: "وبين".
(4) في الأصل: "القرب".
(5) زيادة اقتضاها السياق.(16/282)
فصل
يجمع مقاصد في اختلاف الجاني والمجني عليه وورثته
10543- إذا قطع رجل يدي رجل ورجليه، فلو اندملت الجراحات، وجبت ديتان، ولو سرت إلى الروح، صارت الجراحُ نفساً (1) ، فلو مات المجني عليه، فقال الجاني: مات بجراحي، وعادت الأروش ديةً واحدة، وقال ورثة المجني عليه: بل مات حتف أنفه، وقد اندملت تلك الجراحات أولاً (2) ، نظر: فإن طال الزمان وكان يظهر الاندمال في مثله، ولا يظهر نقيض ذلك، فالقول قول الورثة مع أَيْمانهم، والمعتمدُ فيه أن الجاني اعترف بثبوت ما يوجب الديتين، وهو قطع اليدين والرجلين، ثم ادّعى وراء ذلك [تصيير] (3) الجراح نفساً، فكان في حكم من يعترف بلزوم الدَّيْن المدّعى عليه ويدعي سقوطَه بإبراءٍ أو غيره، نص الشافعي على ذلك، وأطبق الأصحاب على موافقته.
هذا إذا تمادى الزمان.
وفي تصوير ذلك سر، وهو أنا لانشترط أن يظهر كذب الجاني بسبب طول الزمان، مثل إن كان بقي عشرين سنة، بل نكتفي بألا يظهر ضدُّ ما يدعيه الورثة، بحيث يتقابل القولان في الإمكان، وإذا كان كذلك، بقى ما ذكرناه من ثبوت موجب الديتين مستمسكاً للورثة.
ولو قصر الزمان وبعُد الاندمال فيه، على خلاف ما يدّعيه الوارث، فإن بلغ الظهور منه اليقين، فلا حاجة إلى تحليفٍ ويمين مع شهادة الشاهد، [فإن جرى ما ذكر
__________
(1) أي تجب دية واحدة.
(2) تصوير النزاع هنا في حالة الخطأ، ومن هنا يحاول الجاني إثبات السراية ليصير الواجب ديةً واحدة هي دية النفس، ويحاول الوارث نفي السراية لتتعدد الدية بتعدد الأطراف، أما في العمد، فلو ثبتث السراية، لوجب القصاص في النفس، ولذا سنرى في حالة العمد أن الجاني يحاول نفي السراية عكس حالة الخطأ.
(3) في الأصل: "تحصين". والمثبت تصرف من المحقق.(16/283)
في زمان] (1) قد يقع في مثله اندمالٌ على بُعدٍ، والظاهر خلافه، والنزاع كما صورناه، فالقول قول الجاني. اتفق عليه الأصحاب.
هذا إذا دار النزاع على دعوى الاندمال.
10544- فلو قال الوارث: مات المجروح بسبب طَرَى كتردٍّ من عُلوّ أو قتلٍ [مذفِّف] (2) من غير الجارح، فإذا كان منشأ النزاع على هذا الوجه، وكان السريان ممكناً، والاندمال ممكنٌ، أو كان الاندمال غيرُ ممكن لقرب الزمان، فإذا كان دوران النزاع على ادعاء الوارث سبباً، وإنكارِ الجاني إياه، وحملِه -على المذهب- على السريان مع الإمكان، فإذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فقد ذكر صاحب التقريب تردداً واحتمالاً، وقال: يحتمل أن يُقبل قولُ الوارث مع يمينه، ولا نكلّفه إقامةَ البينة على السبب الذي ادعاه؛ فإن الأصل بقاء الديتين، [وما قاله] (3) محتمل ممكن.
وهذا يخرج على إضافة المودَع دعوى تلف الوديعة إلى سبب لا يمتنع إثباته بالبينة، وإذا هو ادعى ذلك، لم نكلفه إقامةَ البينة، بل قلنا: القول قوله مع يمينه، قال: ويحتمل ألا يُقبل [ما ادّعَاه] (4) إلا ببينة؛ من جهة [أنه لا عجز] (5) عن إثبات الأسباب بالبينات على الجملة، ولا ينبغي أن [نتعلل] (6) بالكليّة في تصاريف المسائل إلى براءة ذمة الجاني، وإذا قلنا: ثبت موجب الديتين، ففيه مستدرك؛ فإن الأمر موقوف على المآل.
وذكر الصيدلاني -حيث انتهينا إليه- تفصيلاً نأتي به على وجهه، وذلك [أنه قال] (7) : إن قصر الزمان، ولم يمكن فيه الاندمال، فقال الوارث: مات بسبب آخر، ولم يمت بالجرح، ولم يذكر سبباً مفصلاً من سقطةٍ وغيرها، فلا يقبل قوله؛
__________
(1) في الأصل: "فإن جرى ذكر في زمان".
(2) في الأصل: "مدنف".
(3) في الأصل: "وما قالوه". والضمير يعود على الوارث.
(4) في الأصل: "ادّعوه".
(5) في الأصل؛ " أن لا يعجزون ".
(6) في الأصل: " ـعطل " كذا تماماً وبدون نقط.
(7) في الأصل: "أنه لو قال".(16/284)
فإن تركه لتعيين السبب يشعر بأنْ لا سبب، وإن [أورد] (1) الوارث سبباً حيث لا يحتمل الاندمال، فهذه مسألة صاحب التقريب.
وفي هذا فضل نظر: فيظهر من فحوى كلامه أولاً أنه إذا لم يعيّن سبباً، وكان الاندمال محتملاً، فالجواب بخلاف ما إذا كان لا يحتمل الاندمال، وهذا له خروج حسن على التردد الذي ذكر صاحب التقريب.
فأما إذا كنا لا نكلف الوارث إثبات ما يعينه بالبينة، [فلا حاجة] (2) إلى تعيينه، وإن كنا نكلفه إثباته بالبينة، فلا بد من التعيين لتقوم البينة عليه، ولو شهد عدلان أنه مات بسبب غير الجرح وسريانه، فلست أرى لقبول هذه الشهادة وجهاً (3) ، هذا إذا أمكن الاندمال، وجرى ذكر سبب مطلق.
فأما إذا لم [يمكن] (4) الاندمال، فما ذكره الصيدلاني مصرَّح بأنه لا يقبل قول الوارث؛ فإنّ ترك تفسير السبب يطرِّق التهمة.
وهذا الذي ذكره [على حسنه ليس ينفي أي احتمال] (5) تخريجاً على أنه لو عيّن سبباً، لم يطالب بإثباته. نعم، لا بد أن يتعرض في يمينه لإحالة الموت على سبب غير السريان. هذا بيان الاختلاف في طرفٍ من المسألة.
10545- ونحن نفرض نقيض هذا في مقصود آخر، فنقول: إذا جُرح الرجل جراحةَ عمدٍ ثم مات المجروح، فقال الوارث: مات بسراية جرحك، فعليك القصاص من النفس، وقال الجارح: بل مات بسب آخر، فلا قصاص عليّ، فهذا يفصّل حسب ما فصل الكلام في الصورة الأولى.
فإن لم يُجريا ذكرَ سبب وردّا الدعوى والإنكار إلى الاندمال، فلا يخلو: إما أن يتطاول الزمان بحيث يفرض الاندمال فيه، وإما أن يقصر، فإن طال الأمد، فالقول
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(2) في الأصل: "ولا حاحة".
(3) لأنه يشهد على أنه مات بسبب غير الجراحة بدون أن يعين السبب.
(4) في الأصل: "يكن".
(5) في الأصل: "على حسبه ليس ينبغي من احتمال".(16/285)
قول الجاني؛ لأنه ينفي القصاصَ على وجهٍ محتمل، والأصل عدم وجوبه، وهو في وضع الشرع [مُعرّضٌ] (1) للسقوط بالشبهة.
فإن قيل: الجرح سبب القصاص، وهو معترف به، وقد ذكرتم فيما صورتموه من [الفروع] (2) في الدية أن القول قول الوارث؛ فإن موجب الديتين قد ثبت. قلنا: لا سواء، فإن موجب الديتين كائن والسريان ردَّ الديتين إلى واحدة، وموجِب القصاص سريانُ الجرح، وهو مختلف فيه، هذا إلى أمرٍ آخر، وهو أن الدية لا تُسقطها الشبهة [بخلاف] (3) القصاص.
هذا إذا طال الزمان وأمكن الاندمال إمكاناً ظاهراً.
وإن قصر الزمان وبعُد الاندمال فيه، وادعى الجارح الاندمال، فالقول قول الوارث، لظهور صدقه، [ويحسن] (4) الآن الاقتضاء، ويكون الجرح سبباً في وجوب القصاص. ولعلنا -إن شاء الله تعالى- نفصل القول في منازل المدعين والمدعى عليهم في كتاب الدعاوى.
10546- وكل ذلك ولم يجر تعرض لطريان السبب: فإن قال الجاني لم [يمت] (5) بجرحي، ولكن طرى سببٌ مهلك [وعين] (6) ذلك السببَ، ففي المسألة التردد الذي ذكره صاحب التقريب، وإن لم يعيّن السبب؛ وقع الكلام فيما ذكره الصيدلاني، وقد انتجز الآن.
10547- ومهما (7) طال الزمان وأمكن الاندمال، وصدقنا من يدعيه -إما لتعدد
__________
(1) في الأصل: "معترض".
(2) في الأصل: "الفراع".
(3) في الأصل: "في خلاف".
(4) في الأصل: "ويحبس".
(5) في الأصل: "لم يثبت".
(6) في الأصل: "وغير".
(7) مهما: بمعنى إذا.(16/286)
الدية في الصورة الأولى، وإما لاندفاع القصاص في الصورة الأخيرة- مع يمينه، فلو أقام صاحبه بيّنةً أن المجروح لم يزل زمناً ضَمِناً لما به من الجرح حتى مات، فيلتحق هذا بما لو قرب الزمان، وَبُعد الاندمال، وقد ذكرنا أن الأمر إذا كان كذلك، فالقول قول من ينكر الاندمال.
وهذا ترتيب القول في الاختلاف على أبلغ وجهٍ.
10548- ومما يتصل بذلك خلافٌ يُفرض بين الجارح والمجروح [في] (1) سريان الجرح، وذلك إذا شج رأس إنسان موضِحتين، فارتفع الحاجز بينهما، فقال [المشجوج: أنا رفعته] (2) ، فعليك أرش موضِحتين، وقال الجاني: أنا رفعته أو تأكّلت جنايتي، فليس عليّ إلا أرشُ موضِحةٍ، فهذه الصورة مأخوذة من الأصل الممهد عند فرض الخلاف في التعدد والاتحاد، فإن قال الموضح: سرت جنايتي وارتفعت الجراحة لسريانها، وقال [المشجوج: بل رفعها رافع] (3) غيرُك، فهذا يلتحق بما إذا ادعى الوارث سبباً معيناً، [فيختلف] (4) جواب صاحب التقريب، كما صورناه فيما تقدم.
وإن قال الجاني: عدتُ فرفعت الحاجز، وقال المجني عليه، بل أنا رفعته، فيجب القطع هاهنا بتصديق المجني عليه؛ فإنه [حين] (5) ذكر السبب من الجانبين، فيزول ترديدُ صاحب التقريب قولَه؛ حيث يقول: إثبات السبب ممكن؛ فإن هذا مما يستوي فيه الجانبان، ويعود الأمر إلى اعتراف الجاني بموضحتين موجبهما أرشان، ولو وقع التصادق على أن الجاني رفع الحاجز، ولكن قال المشجوج: رفعتَ الحاجز بعد الاندمال، واستقرار الأرشين، [وأُلزمك رفع الحاجز] (6) أرشاً ثالثاً، وكذلك
__________
(1) في الأصل: "وفي".
(2) في الأصل: "المسجرح أنا دفعته".
(3) في الأصل: "المستجرح بل دفعها دافع"
(4) في الأصل: "فيخلف".
(5) في الأصل: "حي".
(6) في الأصل: "وألزمت وقع الحاجز".(16/287)
يكون الأمر إن [أُجريت] (1) موضحتان واندملتا، ثم رفع الموضح الحاجزَ بعد الاندمال، فيلتزم ثلاثة أروش.
فإذا قال المشجوج: كان الأمر كذلك، وقال الشاج: رفعتُ الحاجزَ قبل الاندمال، رُدّ هذا إلى تفصيل الزمان، فإن طال الزمان، وأمكن الاندمال، فالأصل إيجاب الأرش (2) ، فإن قرب الزمان وبعد الاندمال، فالأصل الاكتفاء بأرش واحد، وهذا بعينه ينطبق على ما تقدم من تفصيل الاندمال، وترتيب الجاني.
فإن قرب الزمان، فالقول قول الجاني، فإن طال، جعلنا القول قولَ المجني عليه المشجوج، فيثبت الأرشان، وهل يثبت الأرش الثالث الذي يتعلق برفع الحاجز بعد الاندمال؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو الذي ذكره الصيدلاني أن القول قولُ الشاج فيه؛ لأنه يقول: رفعته حيث لم يلزمني به أرش ثالث، بل اتحد الأولان، فإن لم يقبل قوله في اتحاد الأولين، وجب أن يُقبل في ألا يلزمه ثالث، والوجه الثاني - أنه يلزمه ثالث؛ فإنه ثبت رفع الحاجز باعترافه، وثبت الاندمال بيمين المشجوج، فيجتمع في ذلك أن من ضرورة تعدد الشجتين ثبوت الشجة الثالثة.
ولو قال الشاج: ما رفعتُ الحاجز، ولكن ارتفع بالسراية، وصدقه المشجوج، وأثبتنا الأرشين، فلا يثبت الأرش الثالث -لا شك فيه- لأن الشاج لم يعترف برفعه وفي الشجاج -فيما أظن- وجوه من الاختلاف، ستأتي في الديات.
10549- ومما يتعلق بالاختلاف أن الجارح لو ادعى أنه جَرَح وهو مجنون، ولو قال المجني عليه: بل كنتَ عاقلاً لمّا جرحت، فهذا في التفصيل ينطبق على ما ذكرناه في كتاب اللعان من أن القاذف لو قال: قذفتُ وأنا مجنون، وقال المقذوف: بل كنتَ عاقلاً، فهذا يختلف بأن يعهد له جنون أو لم يعهد، ثم فيه اختلافُ قولٍ وترتيبٌ طويل. ولو أقام الجارح بيّنة أنه كان مجنوناً عند الجرح، وأقام المجروح أو وليُّه بينةً أنه كان عاقلاً عند الجرح، فمن أصحابنا من قال: لا تقديم والبينتان على التناقض، ثم
__________
(1) في الأصل: "اخترت".
(2) أي الأرش الثالث.(16/288)
سيأتي تفريع التهاتر في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
وإذا جرينا على تساقط البينتين، رجع الأمر إلى دعوى الجنون ونفيه، وقد مضى ما فيه في كتاب اللعان.
10550- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه: "أن الإمام ينبغي أن يُحضر موضع الاقتصاص عدلين ... إلى آخره" (1) وهذا احتياط لا بد منه، وينبغي أن يكونا مع عدالتهما خبيرين بمجاري الأحوال، فيتأملان حديدةَ القِصاص ويبحثان عن [كونها] (2) مسمومة، وإن اتهما وليَّ القصاص أتيا بحديدة لا تهمة فيها. وهذا من نص الشافعي دليل على أن القصاص في الأطراف مفوّض إلى الولي؛ فإن التهمة إنما تفرض في حديدة الولي، وقد [قدمناه] (3) في فقه هذا الفصل.
فصل
قال: "ويَرْزقُ من يقيم الحدودَ ويأخذ القصاصَ ... إلى آخره" (4) .
10551- الأوْلى أن الإمام يرزقُ جلاداً من السهم الموظف للمصالح العامة حتى يتولى استيفاء الحدود والقصاص إن اتسع المال، وإن ضاق، فنذكر القول في أجرة الجلاد في القصاص، ثم نذكر أجرته في الحدود.
فأما أجرته في القصاص، فالأصح أنها على المقتصّ منه؛ فإنها من مؤن التوفية ومؤنة الإيفاء على من عليه الحق.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن أجرته على مستوفي القصاص، وحقيقة الاختلاف عنده [ترجع] (5) إلى [أن] (6) من عليه القصاص بماذا يصير مسلِّماً
__________
(1) ر. المختصر: 5/122.
(2) في الأصل: "كونهما".
(3) في الأصل: "قدمنا".
(4) ر. المختصر: 5/123.
(5) زيادة من المحقق.
(6) سقطت من الأصل.(16/289)
للقصاص، فكأنا في الأصح [نقول] (1) إنما يقع التسليم بالقطع، وهذا يظهر على المذهب المشهور في أن القصاص لا يتم نفوذه في العقوبات إلا بالاستيفاء.
وفي وجهٍ آخر نقول: إذا سلم اليدَ، كفى، وليس عليه تكلّف تحصيل القطع.
ثم قال صاحب التقريب: هذا الاختلاف يقرب من أن التسليم في الثمار المبيعة على رؤوس النخل هل يحصل بالتخلية، [أم لا يتم إلا بقطع الثمار؟] (2) ويمكن أن يفصل بين [البابين] (3) ، فيقال: الثمار ليست من جوهر الأشجار، ولا يبعد أن يحصل التسليم فيها بالتخلية، ويدُ الإنسان جزءٌ منه، ولا يتحقق التسليم فيه إلا بالفصل.
ومما يُعيّن تحقيقَ الفرق أن في وضع الجوائح، وأنها من ضمان مَنْ قولان، ويد الجاني لو بانت بعد تسليمه، فضمان الجناية عليه، ولكن ذلك محلُّ القصاص، ثم إذا قلنا: الجوائح من ضمان البائع، ففي مؤنة [الجداد] (4) وجهان: أحدهما - أنها على المشتري. والثاني - على البائع وهذا شبيه ما نحن فيه.
هذا تفصيل القول في أجرة [الجلاد] (5) في القصاص.
10552- فأما أجرته في استيفاء الحدود، ففيها اختلافٌ مشهور: من أصحابنا من قال: هي على ملتزِم الحد؛ فإنه الموفي [وعليه] (6) مؤنة إيفائه، كمؤنة تأدية الزكاة، حتى إذا [أخرج] (7) بعيراً شارداً، فعليه العقال، ومؤونة الإيصال.
والوجه الثاني - أن المؤنة من بيت المال، وليس هذا الوجه مأخوذاً من الوجه الضعيف الذي ذكره صاحب التقريب في أن الأجر على مستحق القصاص؛ فإن ذاك
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "أم لا فلم لا بقطع الثمار".
(3) في الأصل: "الناس".
(4) في الأصل: "الخلاف".
(5) في الأصل: "الخلاف".
(6) في الأصل: "عليه" بدون واو.
(7) في الأصل: "جرح".(16/290)
لا يعرف إلا به، والأصحاب -على قطعهم أن [مؤنة] (1) الجلاد في القصاص على المقتص منه- يذكرون وجهين في مؤنة الجلاد على الحدّ.
والوجه توجيه قولنا: إن مؤنة الجلاد من بيت المال هاهنا. فنقول: ليس الحد حقّاً يوفيه من يلزمه بمثابة إلزام الحقوق المالية وغيرها، فليس الحدود [حقوقاً] (2) في الذمم، وإنما هي سياسات، فليقُم بها [السائس] (3) ، وليلتزم مؤنتها، وليس كالقصاص الذي يثبت حقاً مستحقاً ثابتاً عوضاً في مقابلة متلَف، وهذا بيّنٌ، إن شاء الله عزوجل.
10553- قال الشافعي: "ولو قال المجني عليه عمداً قد عفوت ... إلى آخره" (4) .
الكلام في العفو يستدعي تقديمَ مقدمة في الإباحة، فإذا قال الآمر (5) نفسُه للرجل: اقطع يدي فقطعها، فإن لم تَسْر الجراحةُ، لم يضمن القاطع شيئاًً؛ فإن الإباحة [صدرت] (6) من مستحق البدل؛ فتضمنت الإهدار.
وإن لم يسلط على القطع، [بل قال] (7) : اقتلني فقتله، فلا قصاص عليه، وتنتصب الإباحة شبهةً في درائه.
وفي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تثبت للورثة ابتداء، أم تثبت للمتوفى، ثم تنتقل إلى ورثته، وهذا فيه قولان: أحدهما - أنها تثبت للورثة؛ فإنها
__________
(1) في الأصل: "صورة".
(2) مكان بياض في الأصل.
(3) في الأصل: "الناس".
(4) ر. المختصر: 5/123.
(5) الآمر: المراد: من يملك أمر نفسه، كما عبر بذلك الرافعي حيث قال: "إذا قال لغيره: اقطع يدي، والقائل مالك لأمره، فقطع المأذون يده، لم يجب عليه قصاص ولا دية" (ر. الشرح الكبير: 10/296) .
(6) في الأصل: "صورت".
(7) في الأصل: "ولو قال": وهذا أقل تعديل تستقيم به العبارة.(16/291)
تجب بالموت، وإذا مات المجني عليه، خرج بالموت عن تصور [حصول] (1) الملك له؛ فاقتضى ذلك ثبوتُ الحق للورثة؛ فإنها تجب [لهم] (2) . والقول الثاني - أن نقدر الملك [للقتيل] (3) أولاً في ألطف زمان، ثم نقضي بانتقالها، وهذا القائل لا يمنع [تقدير] (4) الملك للميت، كما لا يمنع تقدير بقاء الدّين عليه، [وإن] (5) رمّت عظامه.
فإن قلنا: الدية تثبت له، فالإباحة تُسقطها، وإن قلنا: الدية تثبت للورثة ابتداء، فالإباحة لا تعمل فيها، فإن قيل: إذا كانت الدية تثبت (6) بعد الموت، وهي عرضة للانتقال إلى الورثة، فينبغي أن لا تؤثر الإباحة إلا في ثلثها؛ اعتباراً بما يصدر منه في مرض موته، [وبما] (7) يوصي به بعد وفاته؟ قلنا: لم يعف عن واجب، وإنما أباح سبباً لو لم يكن صادراً عن إباحته، لتضمن مالاً.
هذا تحقيق القول فيما ذكرناه.
فإن قلنا: الدية تجب على القاتل، فتلزمه الكفارة، وإن قلنا: لا تلزمه الدية، فالمذهب (8) أن الكفارة تلزمه؛ فإنها تجب للاعتراض (9) على حق الله في الدم، وذلك لا يؤثر فيه الإباحة.
وذكر ابن سريج وجهاً آخر من تخريجاته: أن الكفارة لا تلزمه، كما لا تلزمه الدية، وهذا بعيد، ووجهه على بعده أن حق [الله] (10) يتبع في وجوبه وسقوطه
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "للقتل".
(4) في الأصل: "تقدر".
(5) في الأصل: "فإن".
(6) أي تثبت له بعد موته في ألطف لحظة.
(7) في الأصل: "ومما".
(8) عبارة الرافعي: أصحّهما الوجوب (الشرح الكبير: 10/297) .
(9) الاعتراض على حق الله: المعنى: الجناية على حق الله، كما عبر بذلك الرافعي (السابق نفسه) ولعل صوابها: "للاعتداء على حق الله في الدم".
(10) في الأصل: " ـ ـه " هكذا تماماً وبدون نقط.(16/292)
[حقاً] (1) للآدمي، فإذا صار القتيل في حكم المهدر، فلا كفارة على قاتله، وإن كان يحرم عليه قتله.
فإن قيل: أوجبتم الكفارة بسبب الأسير [قتيلِ] (2) سهم الغَرْب ولم توجبوا الدية؟ قيل: لم تسقط الدية عن الإباحة، وثبوتِ حكمها، وإنما سقطت تمهيداً لعذر القاتل، وإلا، فالأسير على حرمته لم يثبت فيه حكم الإهدار، والمبيح هدَرَ (3) ، وإن لم نجوّز الإقدام على قتله.
وهذا ضعيف غير معتد به.
10554- فإذا تمهد ما ذكرنا في الإباحة، استفتحنا بعده حكمَ العفو. فإذا قطع الرجل طرف رجل قَطْع قصاص، فقال المجني عليه للجاني: عفوت عن هذه الجراح أرشاً وقوداً، [فلا يخلو] (4) : إما أن تسري الجراحة وإما ألا تسري، فإن لم تسر أصلاً، ولم تتعدّ أصلاً محلَّها، سقط القود والأرش، لا شك فيه.
وإن سرى، لم يخل: إما أن تسري إلى النفس، فتقتل الجريح، وإما أن تسري إلى بعض الأعضاء، ثم تقف وتندمل.
فإن سرى إلى بعض الأعضاء، ثم وقف، فالمذهب (5) أن [آثار] (6) السراية مضمونة، فإن المجني عليه اقتصر على العفو عن موجب الجناية أرشاً وقوداً، واقتصر عفوُه على ما صرح به.
ومن أصحابنا من قال: لا يلزم ضمان السراية، لأنها ترتبت على جنايةٍ غير مضمونة؛ إذ ضمان الجراحة سقط بالعفو، ثم جرت السراية [فيما بعد] (7) ، وشبه
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "القتيل".
(3) هدَرَ: من باب ضرب وقتل، والمعنى أن المبيح هدَرَ المباحَ.
(4) في الأصل: "ولا يخلو".
(5) عبارة الرافعي: "أصحهما أنه يجب الضمان، لأنه عفا عن موجب الجناية الحاصلة في الحال، فيقتصر أثره عليه" (ر. الشرح الكبير: 10/299) .
(6) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(7) في الأصل: "في بعد"، والمثبت تقدير منا نرجو أن يكون صواباً.(16/293)
هذا القائل ذلك بما لو قال الإنسان لصاحبه: اقطع يدي، فقطعها وسرت الجراحة، ثم [وقفت] (1) ، فإن السراية لا تكون مضمونة، وكذلك من قطع يدَ مرتدٍّ [فأسلم] (2) ، فسرت الجراحة [فالسراية] (3) لا تكون مضمونة.
والصحيح الوجه الأول، فإن الجراحة وقعت مضمونة أولاً، فكانت سرايتها المقدّرة مضمونة لو وقعت، ثم جرى العفو مقتصراً على الضمان الذي اقتضاه الجرح، فلا يتعداه.
وهذا إذا قال العافي: عفوت عن موجب الجناية، واقتصر عليه، فأما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية، وعما يحدث [منها] (4) ، ثم جرت السراية بعد هذا، ووقفت دون الزهوق، فإن قلنا: ضمان السراية يسقط بالعفو عن الجرح، فلا إشكال في سقوط الضمان هاهنا، وإن قلنا العفو عن الجرح لا يتضمن سقوط ضمان السراية، فإذا صرح العافي بإسقاط ضمانها قبل وقوعها، كان [إبراء] (5) عما لم يجب، ولكن وجد سببُ وجوبه، وفي ذلك قولان معروفان، سبق ذكرهما.
هذا كله فيه إذا جرى العفو ولا سراية، أو جرت سراية ووقفت دون النفس.
10555- فأما إذا قال المجني عليه: عفوت عن الجرح عقلاً وقوداً، ولم يتعرض للسراية، ثم سرت الجراحة وأدت إلى زهوق الروح، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يجب القصاص على الجاني في نفسه، ويصير العفو عن الجرح قبل السريان شبهة في إسقاط القصاص، وقال أبو الطيب بنُ سلمة: من أصحابنا من يُلزمه القودَ في النفس؛ فإنه لم يتعرض لإسقاط ضمان السراية [في الروح] (6) وقد زَهَقت بالسراية، فلئن سقط
__________
(1) في الأصل: "وقعت". والمعنى أنها وقفت فلم تصل إلى النفس، بل سرت إلى عضوٍ فقط مثلاً.
(2) زيادة اقتضاها السياق، وهي عند الرافعي في تصويره للمسألة.
(3) في الأصل: "والسراية".
(4) الأصل: "فيها".
(5) في الأصل: "بترا".
(6) في الأصل: "والروح".(16/294)
القصاص في الطرف بالإبراء، فهو بمثابة سقوط القصاص بالاستيفاء.
ولو قطع رجل يد رجل، فقطع المجني عليه يد الجاني قصاصاً، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فالقصاص يجب في نفس الجاني، وإن وقعت السراية بعد سقوط القصاص عن الطرف بطريق الاستيفاء.
والاستشهادُ الذي ذكره بعيد؛ فإن المقتص مستوفٍ، والاستيفاء لا يمنع الاستيفاء، والعافي مسقط حقَّه في أصل الجناية، فقد نهض ذلك شبهةً في سقوط ما سقط بالشبهة.
هذا قولنا في ضمان القصاص.
10556- أما ضمان المال، فالعافي (1) لا يخلو إما إن كان قال: عفوت عن موجب الجناية، ولم يتعرض لغيره، فالكلام يقع -وقد مات العافي- في شيئين: أحدهما - في أرش اليد. والثاني -[في] (2) ضمان السراية.
فأما أرش اليد، فسقوطه وإن صرح بإسقاطه يخرّج على أصلٍ قدمناه في كتاب الوصايا، وهو أن الوصية [لا تصح] (3) للقاتل، فالأرش واجب على الجاني، فإن قلنا: تصح الوصية له، فالعفو عن أرش اليد المقطوعة وصيةٌ معتبرة من الثلث، فتأمله وافياً أو غير وافٍ.
[هذا] (4) إن قلنا: أرش الجناية لا يسقط.
فإن قلنا: أرش الجناية يسقط، فقد ذكرنا في ضمان السراية إذا ترامت [إلى ما] (5) دون النفس أن المذهب أنه يجب، وحكينا وجهاً بعيداً في سقوطه. قال الأئمة: الوجه البعيد لا يخرّج في ضمان السراية، وقد أدى إلى الهلاك؛ فإن تصرف
__________
(1) عودٌ إلى أصل المسألة، وصورتها: أن يقول المجني عليه بقطع يده: عفوت عن هذه الجناية.
(2) في الأصل: "من".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "ثم".
(5) في الأصل: "إليها".(16/295)
[العافي] (1) يضعف إذا هلك فيما صرح بإسقاطه، فما الظن بما لم يتعرض له؟ وإنما صار إلى ذلك الوجه صائرون، إذا وقعت السراية، هكذا ذكر من يعتمد، ومسلك الاحتمال لا ينقطع.
والذي ذكرناه فيه إذا قال: عفوت عن موجب الجراحة، ولم يتعرض للسراية.
10557- فأما إذا قال: عفوت عن موجب الجناية، وعما يحدث [منها] (2) ، ثم سرت الجراحة إلى النفس، فيتصدى للتفريع [في] (3) الأرش وضمان السراية أصلان: اْحدهما- اختلاف القول في الوصية للقاتل. والثاني - الاختلاف في أن الإبراء عما لم يجب ولكن وجد سبب وجوبه هل يصح أم لا؟ [أما قولا الوصية، فلا بُدّ منهما] (4) في الأروش وضمان السراية، وأما ضمان السراية، فيختص به الكلام في أن الإبراء قبل الوجوب هل يصح إذا وجد سبب الوجود؟
وينتظم من التفريع على هذين الأصلين في الأرش [والسراية] (5) أقوال: فإن قلنا: لا تصحّ الوصية للقاتل، فلا حاجة إلى التمسك بأصلٍ آخر، وهذا كافٍ في إيجاب الدية الكاملة، وإن قلنا: تصح الوصية للقاتل [ولا يصح] (6) الإبراء، [فيترتب] (7) على هذا المسلك أن الأرش يسقط، ولا يسقط ضمان السراية (8) ، فإذا كانت المسألة مفروضة في قطع [يدٍ] (9) وقد سرى القطع، فيخرج أقوال: أحدها- لا يسقط ضمان السراية، والقول الثاني - يسقط الجميع على شرط وفاء الثلث (10) .
__________
(1) في الأصل: "الذي".
(2) في الأصل: "فيها".
(3) في الأصل: "من".
(4) عبارة الأصل: "قولا فالوصية لا بد منها" والمثبت من زيادة وتعديل من عمل المحقق.
(5) في الأصل: "السراية" (بدون واو) .
(6) في الأصل: "ويصح".
(7) في الأصل: "تترتب".
(8) لأن الإبراء عما لم يقع ووقع سبب وجوبه لم نصححه.
(9) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، كما سيظهر في عرض المسألة.
(10) هذا إذا صححنا الوصية وصححنا الإبراء، واعتبرنا اللفظ وصية.(16/296)
والثالث - يسقط نصف الدية وهو يقابل أرشَ اليد، وذلك على شرط وفاء الثلث، ولا يسقط النصف الآخر (1) .
ولو كان قَطَعَ اليدين، فقال المجني عليه: عفوت عن الجراح، وعما يحدث منه، فإن أبطلنا الوصية، وجبت الدية.
وإن صححناها ووفّى الثلث، سقط الدية بكمالها، وإن فرعنا على [أن] (2) الإبراء عما لم يجب [لا يصح] (3) ، والسبب فيه (4) أن أرش [اليدين دية] (5) كاملة، فليس تتجدد بالسراية.
ومما يتعلق بذلك أنه لو أوصى للجاني بأرش الجرح -وهو قَطْع يدٍ - وبضمان السراية لم يخرج في المسألة إلا قولان: أحدهما - سقوط تمام البدل على تصحيح الوصية. والثاني - وجوب تمام البدل على بطلان الوصية، ولا يخرج القول الثالث في الفرق بين أرش الجرح وضمان السراية، فإنه لم يُسقط ضمان السراية بطريق الإبراء حتى يخرّج على القولين في صحة الإبراء قبل الوجوب، وإنما استعمل في الجميع الوصية، والوصية تحتمل التعليق [بالأغرار] (6) والأخطار. وهذا تفصيل القول في ذلك.
10558- واختار المزني إبطال الوصية للقاتل، وأخذ يقضّي العجب أولاً من إشارة النص إلى الفرق بين الأرش وضمان السراية، وقال: إن سقط، [فليسقط] (7) الكل، وإن ثبت، فليثبت الكل.
وهذا الذي ذكره إنما كان يبعد [لو] (8) كان التفريع على أصلٍ واحد، وهو أن
__________
(1) هذا إذا صححنا الوصية ولم نصحح الإبراء.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "ولا يصح".
(4) أي في سقوط الدية كاملة.
(5) في الأصل: "اليد فيه".
(6) في الأصل: "بالأعراب".
(7) في الأصل: "ما يسقط".
(8) في الأصل: "ولو".(16/297)
الوصية هل تصح أم لا؟ ولو كان كذلك لم يستقم إلا نفي الكل [أو إثبات] (1) الكل، فأما وقد ثبت أن التفريع على أصلين، فلا يمتنع مع هذا الفرقُ بين الأرش وضمان السراية، كما قدمناه.
ثم تمسك المزني في أخبار الوصية للقاتل بنصوص الشافعي في مسائلَ، وجوابُ الأصحاب عن استدلاله في جميعها أن النص جرى فيها على أحد القولين. ونحن نذكر الآن مسائله واحدة [واحدة] (2) ، ونخرج كل مسألة على أصول المذهب.
10559- المسألة الأوّلة: وهي: [قال] (3) : قال الشافعي: لو جنى عبدٌ على [حرّ] (4) جناية مالية، وتعلق الأرش برقبته، فعفا المجني عليه، فالعفو صحيح؛ لأنه يتعلق بحق السيد، وليس السيد قاتلاً، فتعلق المزني بهذا المفهوم (5) ، فقال الأئمة: هذه المسألة تخرج على أن الجناية هل تتعلق [بذمة] (6) العبد أم لا تعلّق لها إلا بالرق ومالية الرقبة، وهذا فيه اختلاف، سيأتي مشروحاً في آخر الديات، إن شاء الله تعالى.
فإن حكمنا بأن الأرش يتعلق بذمة العبد حتى [يتبع] (7) به إذا عَتَق، فالوصية في التحقيق ترجع إلى العبد، فلتخرج على القولين: أن الوصية للقاتل هل تصح أم لا؟، فإن قلنا: الجناية لا تتعلق إلا بمالية العبد، فالوصية للمولى.
__________
(1) في الأصل: "وإثبات".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "انتقال" ثم هذه المسائل ليست منصوصة في مختصر المزني في هذا السياق (ر. المختصر: 123-125) .
(4) في الأصل: "موت".
(5) أي استدل المزني بهذا المفهوم على أن الوصية للقاتل لا تصح، حيث علل صحة العفو هنا بأنه آيل إلى السيد، والسيد ليس قاتلاً.
(6) في الأصل: "بدية العبد".
(7) في الأصل: "ينتفع".(16/298)
وهذا محتاج إلى فضل نظر، فإن قلنا: لا تعلق للجناية [بالذمة] (1) أصلاً، فالوجه ما ذكرناه لا غير.
وإن قلنا: الجناية تتعلق بذمة العبد، فالمجني عليه هل يملك فكَّ الرقبة [عن] (2) التعلّق وردَّ حقه إلى [ذمته بانتظار] (3) عتقه يوماً؟ اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من قال: لا يتصور هذا؛ فإن التعلق بالرقبة والذمة متلازمان لا يفرض أحدهما دون الثاني، وليس هذا التعلق مما يقدر فيه انفراد، وليس كحق المرتهن؛ فإن المرتهن يملك فك الوثيقة، [فإن شرع بفسخ الرهن، أدى تيك الوثيقة بطرى لعقد وقبض، فيزول بفسخ العقد] (4) .
ومن أصحابنا من قال: يتصور قطع الأرش برقبة العبد، كما يتصور قطع وثيقة الرهن ولا يخفى توجيه ذلك على من يحاوله.
التفريع:
10560- إن حكمنا بأن قطع التعلق غير ممكن، فذاك. [أما إذا قلنا: يمكن] (5) ، فذلك إذا جرّد مستحقُّ الأرش القصدَ إلى قطعه، فأما إذا أبرأ عن الأرش، ثم لم يسقط الأرش عمن عليه، فلا يسقط التعلق أيضاًً، هذا ما لا نرى غيره (6) .
_________
(1) في الأصل: "بالدية".
(2) في الأصل: "على".
(3) في الأصل: "إلى دمه فإنتظار".
(4) ما بين المعقفين جاء بهذا الرسم تماماًً، ولم نصل إلى تقويمٍ مقبولٍ له، فتركناه على حاله، لاسيّما وأنه يتعلق بتصوير فك الرهن، وهو ما لا تتوقف مسألتنا على فهمه.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) نقل الرافعي هذا التفريع عن الإمام بعبارة ربما كانت أكثر وضوحاً، وهي: "قال الإمام: وعلى الوجهين يبقى تعلق الأرش بالرقبة إذا أبطلنا العفو؛ لكون العبد قاتلاً، أما إذا قلنا: لا يمكن قطعه، فظاهر.
وأما إذا قلنا: يمكن، فلأن ذلك إذا جرّد مستحق الأرش القصد إلى قطعه، وهاهنا لم يجرد القصد إليه.
وإن أضاف العفو إلى السيد، فقال: عفوت عنك، صح، إن قلنا: يتعلق الأرش برقبة العبد فحسب، وإن قلنا: يتعلق بذمة العبد أيضاً، لم يصح العفو، لأنه عفو عن غير من عليه الحق. =(16/299)
وقد نجز الكلام في مسألة واحدة من مسائل المزني.
10561- المسألة الثانية: قال: قال الشافعي: إذا كان الجاني مخطئاً، وكان الأرش على العاقلة، فإذا عفا المجني عليه، صح العفو في مرض الموت؛ فإن [أثره] (1) يرجع إلى العاقلة، وليسوا قاتلين.
وفصّل الأصحاب هذه المسألة وخرجوها على أصلٍ في المذهب، وهو أن الخاطىء هل يلاقيه وجوبُ الضمان، ثم العاقلة يتحملون عنه، أم الوجوب يلقى العاقلة ابتداء؟ وفيه كلام سنشرحه في كتاب الديات، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: الوجوب لا يلاقي الجاني، فالعفو عن العواقل تبرعٌ على غير قاتل.
[وإن] (2) حكمنا بأن الوجوب يلاقي الجاني، نظر في صيغة قول العافي: فإن قال: عفوت عن العاقلة، نفذ العفو، وكان ذلك عفواً عمن ليس بقاتل، فلزم ترتبهم إذا وفّى الثلث، فإنهم إن كانوا متأصلين نفذ العفو، وإن كانوا ضمناء كافلين كذلك. ولو قال المجني عليه: عفوت عن الدية، ولم يتعرض لإضافة العفو [إلى] (3) الجاني ولا إلى العاقلة، فالعفو ينفذ، والعواقل يترادّون، وإن توجه العفو على الجاني فقال: عفوت عنك. فإن قلنا: الجاني لا يلاقيه الوجوب، فالعفو عنه لغوٌ، فإن قلنا: يلاقيه الوجوب، ففي العفو عنه وجهان: أحدهما - أنه يصح على [تقديره] (4) أصلاً وتقدير العواقل ضمناء، ثم إذا برىء الأصل برىء الضامن. والثاني - لا يصح؛ فإن هذا التقدير لا ثبات له مع القطع [بأنه] (5) ليس مطالباً.
__________
= وان أضاف العفو إلى العبد، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة دون ذمة العبد، لم يصح، وان قلنا: يتعلق بالذمة، ففيه القولان في الوصية للقاتل.
وان كانت الجناية موجبة للقصاص، فالعفو عن العبد صحيح، فإنه عليه بكل حال.
(1) في الأصل: "أمره".
(2) في الأصل: "فإن".
(3) في الأصل: "عن".
(4) في الأ صل: "تقريره".
(5) في الأصل: "فإنه".(16/300)
والقائل الأول يقول: نجعل الجاني -وإن كان موسراً- كالأصيل المعسر، ثم إبراؤه يبرىء الضامن عنه، وهذا يظهر في [إبراء] (1) المضمون عنه بعد موته معسراً في علم الله تعالى.
وسر هذا الفصل يظهر من بعدُ، ولكن لا بد من ذكر ما يقع الاستقلال به هاهنا، فنقول: الجاني محمول عنه، ولكن وجبت الدية، فيتجه أمران: أحدهما - لم تجب على الجاني، وإنما وجبت ابتداء على العاقلة. والثاني - أنه لاقاه الوجوب، ثم تحمَّلَ العاقلةُ عنه الوجوب، فهذا ليس [تحملَ واجبٍ] (2) ، بل هو تحمل وجوب.
ويتضح هذا بشيء، وهو أن الجاني المخطىء لو لم تكن له عاقلة، ففي تعلق الدية بماله تفصيل وصور وفاقية، وأخرى خلافية، هذا في الابتداء، وإذا [ضُرب] (3) الأرش على العاقلة، فامتنعوا أن يقدر الاستيفاء منهم، [فلا رجوع] (4) إلى الجاني بعد ذلك، وهذا شديد الشبه بحوالة شرعية، وحكم الحوالة إحالة الوجوب.
فإذا ظهر ما ذكرناه، فتوجيه الإبراء على الخاطىء ينقسم: فإن وقع بعد قرار الوجوب على العاقلة، فالقول في ذلك يتردد حينئذ، وإدط لم تكن عاقلة، فالإبراء توجه بحق على الخاطىء، فهذا القدر كافٍ الآن، وتمامُه في باب العواقل، ولنا عودة إلى الإبراء عن العواقل قبل انقضاء السنة؛ فإن ذلك ليس في حكم دَيْن مؤجل، ولا يحتمل هذا الموضع ذكر ذلك.
10562- والمسألة الثالثة للمزني: أنه قال: قال الشافعي: لو كان الجاني ذمياً وعاقلته مسلمون، فالدية في ماله، فلو فرض العفو، فهو باطل، فإنه عفو عن القاتل، وهذا لا تفصيل فيه، ولكنه جوابٌ على أحد القولين.
ومما أورده المزني من قول الشافعي: أنه قال: "لو أقر الرجل بجنايةٍ خطأ وأنكر
__________
(1) في الأصل: "أثر".
(2) في الأصل: "تحملا واجب".
(3) مكان بياضٍ بالأصل. وهي هي إن شاء الله.
(4) في الأصل: "ولا رجوع".(16/301)
العواقل، فجرى العفو وهو عفو عن [القاتل] (1) ، فيكون مردوداً" وهذا جواب عنه بناء على أحد القولين، وقد نجز غرض الفصل، ونحن نرسم وراء ذلك فروعاً تتعلق بالعتق.
فصل (2)
10563- إذا قطع عبدٌ يدي عبد، ثم إن سيد المجني عليه أعتق المجني، فسرت الجراحة، وقتلته بعد الحرية، فيجب القصاص في النفس، ولكن إذا كان للمعتَق ورثة أحرار، فيثبت القصاص في النفس لهم، ويثبت الاقتصاص في الطرف للسيد، قطع به صاحب التقريب وغيره؛ وذلك لأن قطع الطرف اتفق في [الملك] (3) وبقاءِ الرق، فحق القصاص في الطرف للسيد، وحق القصاص في النفس للورثة، فلو أن السيد قال: عفوت عن القصاص في الطرف، فلا شك أن القصاص يسقط في الطرف، ولا يسقط القصاص في النفس.
وكذلك لو قطع رجل يدي رجل وأُلزم القصاصَ في يديه، وقتل رجلاً آخر، فعفا المقطوع يده (4) عن القصاص في اليد، فلولي المقتول أن يستوفي القصاص في النفس، ولا خفاء بذلك.
ولو كان مستحق الطرف والنفس واحداً، فلو قال: عفوت عن القود في الطرف، فهل يسقط حقه من القصاص في النفس؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يسقط القصاص في النفس، وهو القياس، كما لو كان مستحقُّ الطرف غيرَ مستحق النفس، [وكل] (5) واحد من القصاصين مقصود في نفسه. والثاني - أنه يسقط
__________
(1) في الأصل: "العاقل".
(2) سقط من ترقيم المخطوط رقم (93) .
(3) في الأصل: "في المسلك".
(4) في تصوير المسألة ذكر أنه قطع يديه"، ولا يختلف الحكم المقصود بإثباته بتعدد المقطوع، فلم نغيرها التزاماً بالأصل.
(5) في الأصل: "أو كل".(16/302)
القصاص في النفس؛ لأن مستحقهما واحد، فإذا عفا عن الطرف، فكأنه ضمن سلامة الأطراف، ففي قتله إتلاف أطرافه.
ولو قال: عفوت عن القصاص في النفس، وأنا أقتص من الطرف، فله ذلك، لم يحك (1) فيه اختلافاً، وإن كان القطع ربما سرى إلى البدن، ولكن لا حكم لهذه السراية.
والدليل عليه أنه إذا استحق الطرفَ دون النفس، فله قطع الطرف، وإن كانت النفس محرمة عليه وقد سرى الجراح.
ومما يتعلق بهذه الجملة أن الجاني لو قتل إنساناً بأن أجافه جائفة، وقلنا: لوليّه أن [يجرحه] (2) في رعاية المماثلة. فلو قال عفوت عن النفس، ولكني أجيفه، فليس له ذلك؛ فإن الجائفة لا يجري فيها القصاص لو انفردت عن النفس.
فصل
10564- قال العراقيون: إذا قطع رجل يدَ رجل، فعفا المجني عليه عن القود، فسرى الجرح إلى نفس المجني عليه، ومات، فالمذهب أنه لا يجب القصاص في النفس؛ فإنه عفا عن الجراحة أولاً، فصار ذلك شبهة، وفيه وجهٌ بعيد عن أبي الطيب بنِ سلمة، كما ذكرناه.
قالوا: ولو قطع يد رجل، فعفا المجني عليه عن القصاص في الطرف، وأخذ المال مثلاً، ثم إن الجاني عاد فقتل المجني عليه، وحزّ رقبته، فهل لأوليائه القصاص أم لا؛ تفريعاً على أن الجناية لو سرت، لم يجب القصاص في النفس؟ ذكروا وجهين: أحدهما - لا قصاص عليه، وذلك أن حزَّ الرقبة بعد قطع اليد بمنزلة سراية الجراحة في القصاص والدية.
هذا هو النص، والقصاص لا اندراج فيه، والدية على الاندراج في السراية، وحزُّ الرقبة، لم يخالف فيه إلا ابنُ سريج، فإذا كان القتل من قاطع اليد بمثابة سراية
__________
(1) لم يحك: المراد صاحب التقريب. نقل ذلك الرافعي صريحاً عن الإمام (السابق: 303) .
(2) في الأصل: "يحرمه".(16/303)
قطع، وقد قلنا: إنه لو قطع يد رجل، فأخذ المقطوعُ يدِه [الأرشَ] (1) وعفا [عن] (2) القصاص، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، فلا قصاص في النفس على المذهب، وكذلك هاهنا. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني -وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره- أنه يجب القصاص في النفس بسبب أنه لما عاد، فقتله، فليس القتل من أثر الجراحة التي أخذ أرشها وعفا عن القصاص فيها، وإنما هو قتلٌ ابتدأه، فلا يورِّث العفوُ عن الطرف شبهةً فيه.
وقالوا: لو جرح رجل رجلاً جراحة لا يتعلق بها القصاص، فأخذ المجني عليه [الأرشَ] (3) ، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، فيجب القصاص في النفس وجهاً واحداً، فإنَّ أخذه المال في هذه الصورة، لم يتضمن عفواً عن قصاص؛ إذ الجراحة مما لا يتعلق بمثلها قصاص، وليس كقطع اليد ونحوه، فإن القصاص يتعلق به، فإذا عفا عن القصاص فيه، فيجوز ألا يترتب على سرايتها إلى النفس وجوبُ القصاص.
[وهذا الذي ذكروه] (4) آخراً فيه أدنى احتمال؛ من قِبَل أن الجراحة وإن لم تكن موجبةً للقصاص، فهي سبيل القصاص، وقد يقع القتل بمثلها في إقامة المماثلة، وأخذُ المال يشعر بالعفو، فلا يبعد أن يصير ذلك شبهة في إسقاط القصاص في النفس إذا كان الهلاك بالسراية [لا يقتل بمثله] (5) .
فصل
قال: "ولو جنى [عبدٌ على حرٍّ] فابتاعه ... إلى آخره" (6) .
10565- العبد إذا جنى على مالٍ أو على عبد جناية موجبها المال، وتعلق الأرش
__________
(1) في الأصل: "بالأرش".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "الجاني".
(4) في الأصل: "وهذا هو الذي ذكروها.
(5) في الأصل: "لا يقبل بفسخ".
(6) ر. المختصر: 5/125. وفي الأصل: ولو جنى على عبدِ حرٌّ، والتصويب من المختصر.(16/304)
برقبته، [فللمولى] (1) أن يبيع العبد الجاني بأرش الجناية من المجني عليه، إذ الأرشُ دراهمُ إذا كان المجني عليه مالاً، والدراهمُ معلومة، ثم لو اطلع المجني عليه بعيبٍ بالعبد، قال الأصحاب له الرد، وأثر الرد انفساخ البيع، ثم لا يرجع على السيد بشيء ويعود حقه إلى رقبة العبد، والسيد بالخيار بين أن يفديه، وبين أن يسلمه للبيع.
وهذا فيه فضل نظر، فإنه إذا لم يكن للمجني عليه تعلُّقٌ إلا الرقبة، فأي فائدة في رده، والأمر كما نبهنا عليه.
فإن قيل: فائدة رده أنه يملك مطالبة العبد إذا عَتَق يوماً. قلنا: هذا سديد، ويلزم منه أن نقول: إذا لم نجعل للعبد ذمةً في الجناية، فلا معنى لهذا الرد أصلاً.
فإن قيل: [المالك يبغي] (2) أن يباع ويسلم إليه الثمن، قلنا: فليبعه بنفسه.
والمسألة على حالٍ محتملة؛ فإن قاعدة الرد بالعيب ليست مبنية على الأغراض (3) .
10566- ولو جنى العبد على حرٍّ وكان أرشُ الجناية من الإبل، فلو باع السيد العبد من المجني عليه بالأرش، فهل يصح البيع؟ فوجهان؛ بناء على أن الاعتياض من إبل الدية هل يجوز أم لا؟ وفيه خلاف سأذكره، إن شاء الله تعالى.
ثم الترتيب: أنا إن جوزنا الاعتياض، ففي جواز بيع العبد بأرشٍ هو من الإبل من المجني عليه وجهان: أحدهما - لا يجوز الاعتياض عنه. والثاني - يجوز؛ فإن هذه المعاملة ليست لإيفاء أرش أو استيفاء، وإنما هو لسراية الدية والإبراء عن الأروش من الإبل جائز.
ومن نظائر ذلك أن المرأة إذا جنت على رجل جناية أرشها خمسٌ من الإبل، فلو نكحها بالأرش، ففي صحة الصداق الخلاف الذي ذكرناه في بيع العبد من المجني عليه بالأرش الذي في رقبته.
__________
(1) في الأصل: "وللمولى".
(2) مكان كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: (الما ـ ـعى) وبدون نقط.
(3) عبارة الرافعي: "فحق الرد بالعيب ولاية شرعية، لا يبنى على مثل هذه الأغراض" (ر. الشرح الكبير: 10/308) .(16/305)
هذا آخر مسائل (السواد) (1) في القصاص (2) ، وقد تقع في مسائل الديات جملٌ من أحكام القصاص، لم نُرد ذكرها، لأن الغالب عليها أحكام الدية، [وقد أجرينا جملاً] (3) من أحكام الديات في القصاص، لأن الغالب عليها أحكام القصاص. فرع:
10567- لا أثر للالتجاء إلى [الحرم] (4) في ترك الاقتصاص، فلا [يعيذُ الحرم] (5) مستوجبَ عقوبة سواء كانت قصاصاًً أو [حدّاً] (6) ، وسواء كان في الطرف أو النفس، وخلاف أبي حنيفة (7) في هذا مشهور. ولو لاذ من عليه القصاص بالمسجد الحرام أو غيره من المساجد، فلا يقتص منه في المسجد ولكن نخرجه.
وأسرف بعض الأصحاب، فقال: لو أراد صاحب الأمر أن يقيم الهيبةَ، ويقتصَّ في المسجد ببسط [الأنطاع] (8) وتَوْقية المسجد عن التلويث، فلا بأس، وهذا ليس بشيء. ثم إذا كان لا يتوقع التلويث بالأسباب التي ذكرناها، فلست أدري أن الاستقادة [محرمة] (9) في المسجد أو مكروهة.
***
__________
(1) في الأصل: "الشواذ". وهو تصحيف تكرر أكثر من مرة.
(2) هنا يؤكد الإمام صحة تعليقنا في الحاشية رقم (7) (ص 145) الذي قلنا فيه: إن الإمام عاد إلى مسائل القصاص بعد أن ترجم لكتاب الديات، واستغرقت هذه المسائل من (ص 145) إلى هنا (ص 306) وهذا كله من أثر التزام الإمام بترتيب السواد.
(3) في الأصل: "وهذا إذا أجرينا جملاً ... إلى آخره".
(4) في الأصل: "الجرح".
(5) في الأصل: "يعد الجرح".
(6) غير مقروءة بالأصل.
(7) ر. رؤوس المسائل: 468 مسألة 333، طريقة الخلاف: 502 مسألة 200.
(8) في الأصل: "الأقطاع".
(9) في الأصل: "مجرية".(16/306)
[باب] [أسنان الإبل المغلظة والعمد وكيف يشبه العمد الخطأ] (1)
الجناية على ثلاثة أقسام: أحدها - العمد المحض، وهو تعمد القتل بما يُقصد به القتل غالباًً.
والثاني - الخطأ المحض، وتصويره من غير تردد فيه: إذا [رمى] (2) إلى غرضٍ، فاعترض آدمي فأصابه السهمُ، أو انقلبت يد الرامي ومال السهم. هذا وما في معناه هو الخطأ، وضبط القول فيه ألا يقصد الشخصَ الذي يصيبه الجرحُ، وسنذكر ما فيه كلام في تصوير الخطأ.
والثالث- أن يقصد المجني عليه، ولكن لا يقصد قتله، بل يقصد ضربه بما لا يُقصد به القتل غالباًً، [فيتّفق] (3) منه [القتل] (4) .
وأما موضع التردد في تصوير الخطأ، فهو أن يترائى للرامي شخصٌ ويحسبه ظبيةً، فيسدد الرامي نحوه؛ فإذا هو إنسان.
هذا موضع التأمل. كان شيخي يقطع بأن هذا خطأ محض، إذا لم يُنسب الرامي إلى تقصير، [كأن] (5) رمى في [الصحراء، أو موضع] (6) يندر فيه ثبوت آدمي، وإن طرقه آدمي، كان عابراً.
__________
(1) هذا العنوان من "مختصر المزني"، وهو يعود بنا إلى كتاب الديات بعد أن كان الإمام قطع الكلام عنها ودخل في إحكام القصاص كما أشرنا آنفاً.
(2) في الأصل: "رضى".
(3) في الأصل: "فيبقى".
(4) في الأصل: "القاتل".
(5) في الأصل: "فإن".
(6) في الأصل: "الصحراء ومتصل".(16/307)
وأنا أقول: قد ثبت اختلاف القول في أن من قصد شخصاً على زي الكفار في دار الحرب حسبه كافراً، فرماه، فإذا هو مسلم، ففي وجوب الدية قولان، وسبب اختلاف القول ظهور عذر الرامي، ثم إن أوجبنا الدية، ففي ضربها على العاقلة وجهان: أحدهما - أنها مضروبة عليهم، وهذا يصرح بأن الشخص قد يقصد ونحكم بأن القتل خطأ، وإنما الخطأ أن يقع فعلٌ من غير قصد إليه، وإذا تحقق القصد إليه وإلى محله، فالفعل عمدٌ، والقصاص مندفع لظهور عذر الفاعل، فإن القصاص مشروع [للزجر] (1) ، فمن يعذر في ظنه لا يتأتى زجره.
فإذا وضح ذلك، قلنا بعده: قَصْد شخصٍ حيث يظهر العذر بمثابة قصد من يظنه القاصد كافراً، حيث يظهر العذر، غيرَ أن ظهور العذر في دار الحرب [إن] (2) انتهى في قولٍ إلى إسقاط البدل، فلا ينتهي [العذر] (3) في قصد [الجراثيم] (4) والأشخاص إلى هذا المنتهى، والدار دار [حقن] (5) والأمر بالحفظ دائم.
ومما يتصل بما ذكرناه أنا إن قدرنا هذا [القتلَ] (6) خطأً محضاً، فسنذكر حكم الخطأ وموجَبه، وإن لم [نقدره] (7) خطأ، [فالمسلك] (8) الذي سلكناه يتضمن التغليظ لا محالة؛ فإن [بدل] (9) شبه العمد مع كونه مغلظاً في نفسه مضروب على العاقلة، فما
__________
* تنبيه: نذكّر أن نسخة الأصل وحيدة، فما تراه في الحواشي ليس فروق نسخ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وبحثه. نسأل الله أن يلهمنا الصواب.
(1) في الأصل: "للرجوع".
(2) زيادة اقضاها السياق.
(3) في الأصل: "العفو".
(4) في الأصل: "الجزاتم" والمثبت محاولة لتدارك التصحيف بأقرب صورة لما هو مرسوم. والجراثيم -إن صح وضعها هنا- جمع جرثومة، وهي حقيقة الشيء وأصله، والمراد هنا الأجرام والأجسام. والله أعلم.
(5) في الأصل: "حفي".
(6) في الأصل: "القتيل".
(7) في الأصل: "نقدر".
(8) في الأصل: "والمسلك".
(9) في الأصل: "نزل".(16/308)
لا يضرب على العاقلة ويضرب على الجاني مع وجود [العاقل] (1) يكون مغلّظاً، ثم أبو حنيفة (2) قال: دية العمد إذا ضربت، ضربت على العامد، وهي مؤجلة عليه، فلو كنا نرى تأجيل دية على جانٍ، لكنا لا نبعد القول في الصورة التي انتهينا إليها، وهي إذا قتل مسلماً في دار الحرب، على ظن أنه كافر أو رمى إلى جرثومةٍ، فإذا هي إنسان.
هذا منتهى القول في تقاسيم جهات القتل.
10568- ونحن نذكر بعدها أحكاماً على الجملة، فيما يتعلق بالتغليظ والتخفيف، فأما موجب العمد المحض، ففيه ثلاث جهات من التغليظ: أحدها - أنه يضرب على الجاني. والثاني - أنه يعجّل لا مَهَل فيه، ولا [أجل] (3) خلافاً لأبي حنيفة (4) ، فإنه أجل دية [الابن على الأب] (5) القاتل. والثالث - أنه مثلث، كما سنصفه.
وأما الخطأ المحض، ففيه ثلاث جهات من التخفيف، أحدها - أن موجَبه مضروب على العاقلة، والأخرى - أنه مؤجل عليهم، والأخرى - أنه مخمسٌ على ما سنذكره.
وأما شبه العمد، فيلحقه تخفيفان: أحدهما - الضرب على العاقلة، والآخر - أنه مؤجل، ويلحقه تغليظ، وهو [أنه] (6) مثلث كالعمد المحض.
وأصل التغليظ بطريق [التثليث] (7) منصوص عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن قتل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا، فيه مائة من الأبل أربعون منها خَلِفة في بطونها أولادها" (8) ويقرِّب القولَ من جهة المعنى أن شبه العمد مردَّدٌ بين الخطأ والعمد
__________
(1) في الأصل: "العاقد".
(2) ر. مختصر الطحاوي: 232، مختصر اختلاف العلماء: 5/93 مسألة 2218.
(3) في الأصل: " أصل ".
(4) ر. تحفة الفقهاء: 3/119، الفتاوى الهندية: 6/24.
(5) في الأصل: " الامر على أثر " كذا تماماًً والمثبت مما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة (ر. الشرح الكبير: 319/10) .
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: " الثلث ".
(8) حديث " ألا إن قتل عمد الخطأ، قتيل السوط ... " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن(16/309)
المحض، فينبغي أن يكسب من كلِّ أصل شبهاً، ويبعد أن يشبه بموجب العمد في [الضرب] (1) على الجاني مع أنه لم يقصد القتل، ويبعد رفع الأجل، وإثبات بدله معجلاً على العاقلة، ويبعد إلحاقه بالخطأ من كل وجه، فإذا تحمّل العاقلةُ الأصلَ، لم يبعد تحملهم مزيدَ صفة.
10569- والآن نذكر التخميس والتثليث، فأما الدية المخمسة، فهي التي تتعلق بخمسة أسباب، وقد يكون واحدٌ من الخمسة صنفاً متميزاً بصفة لا تميز، فإذا نوجب مائة من الإبل في قتل الخطأ، فعشرون منها بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، فالمائة مخمسة: أربعة منها في تفاوت الأسنان، وواحد في الذكورة.
وأما المثلث فَنِصفُه في المائة من الإبل، فإذا وجبت عن عمدٍ محضٍ أو شبه عمد، فثلاثون منها حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة في بطونها أولادها. وإذا نسبنا التثليث، لم تكن الأقسام على تعديل التثليث، بخلاف البدل المخمس؛ فإنه على تعديل التخميس في الأعداد. والنسبةُ المرعية في التثليث [بالأعشار] (2) فثلاثة [أعشار] البدل المغلظ حقاق، وثلاثة [أعشارها] (3) الأجذاع، وأربعة [أعشارها] (4) خَلِفة أثم إن هذه النسب، (5) [التي تكون في الإبل، وهي مائةٌ في الدية الكاملة، تكون في الإبل في دية المرأة] (6) ، وفي أروش الجنايات. وإن اقتضى الحساب
__________
= حبان (وصححه) ، ونقل الحافظ عن (ابن القطان) تصحيح الحديث. (ر. أبو داود: الديات، باب في دية الخطأ شبه العمد ح 4588، النسائي: القسامة، باب من قتل بحجر أو سوط، ح 4789، 4790، ابن ماجه: الديات، باب دية شبه العمد مغلظة، ح 2627، ابن حبان: رقم 5979، تلخيص الحبير: 4/30 حديث رقم 1872) .
(1) في الأصل: " القرب ".
(2) في الأصل: "بالاعتبار".
(3) في الأصل: "اعتبار".
(4) في الأصل: "اعتبارها".
(5) في الأصل: " ان تم هذه النسب ".
(6) عبارة الأصل: "في الإبل التي تكون في الإبل، وهي مائة في الدية الكاملة في دية المرأة ... " والمثبت من تصرف المحقق.(16/310)
تشقيصاً ألزمناه، ولم نبالِ به، [فإذا] (1) وجب على الشاج خمسٌ من الإبل، وكان فعله عمداً [فيجب حِقّة ونصف، وجَذَعة ونصف، وخَلِفتان] (2) في هذه بسبب التثليث.
ثم ذكر الشافعي الخَلِفات في هذا الباب، فنتحرى ونذكر ما يتعلق بها، وذكر الأجناس المطلوبة في الباب الذي يلي هذا.
10570- فأما الخَلِفات، فهي الحوامل والغالب أنه لا تحمل إلا الثنية، وهي فوق الجذعة بسنة، وليست من أسنان الذكورة. نعم هذا السن هو المعتبر في الإجزاء في [الضحية] (3) ، فلو فرضت [الخَلِفات فوق] (4) الثنايا، فمزيد خير، وإن فرضت الخلفات [جذاعاً على ندور، فهل] (5) تجزىء؟ ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنها تجزىء، وهو قياس طريق المراوزة، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخَلِفات، ولم يرع شيئاً (6) ، فينبغي أن يعتبر الحمل فحَسْب.
والوجه الثاني - أنها لا تقبل، لندور هذه الصفة فيها، وقد يُظن أن [أجنتها] (7) لا تبقى إذا اتفق الحمل بها [قبل السن] (8) المعتاد في الحمل.
وهذا الخلاف الذي أطلقوه فيه فضل نظر، وسأذكره على أثر هذا. ثم الرجوع في كون الأربعين خَلِفات إلى أهل البصيرة، ولا يكاد يخفى مخايل الحمل عندهم. ولو تنازع الجاني والولي، رجعنا إلى أهل البصيرة، ثم نبغي اثنين
__________
(1) في الأصل: "وإذا".
(2) في الأصل: "فيجب حقة ونصف جذعة وحقتان" وهو جمعٌ بين التصحيف والسقط.
(3) في الأصل: "الصحة".
(4) في الأصل: "الخلفات إلا فوق".
(5) في الأصل غير مقروءة هذه الكلمات، ولكن استطعنا على ضوء المعنى، وأطراف الحروف والكلمات المتداخلة أن نقرأها هكذا. وهي كذلك بيقين -إن شاء الله- والمعنى لو فرض أن كانت الخلفات أصغر من السنّ المعهودة في الحمل، فهل تقبل.
(6) أي لم يقيدها صلى الله عليه وسلم إلا بقيد الحمل، ولم يذكر لها سنَّاً معيناً.
(7) في الأصل: "احمها". (كذا تماماًً) .
(8) في الأصل: "قيل أيسر".(16/311)
منهم عند فرض التنازع، كما نطلب مقوِّمَيْن عند الاختلاف في مقدار القيمة، فلو أخذ الولي الأربعين على تقدير أنها خَلِفات، ثم جاء بها، وقال: ليس خلفات، [فإن] (1) تحققنا أنها لم تُجهض، رجعنا إلى قول أصحاب البصائر، فإن قالوا: إنها خلِفات، انقطعت الطلبة في الحال، ثم ننظر ما يكون، وإن قالوا: ليس خلفات، طالب بالخلفات ورد ما أخذ، وإن قالوا: لا ندري أهن خلفات أم لا؟ فقال الجاني: ترفقوا إلى أمدٍ يتبين كونهن خلفات في مثله، لم يُجب إلى ذلك، ودامت عليه الطّلبة بأداء إبلٍ يظهر كونهن خلِفات.
فإن قال الجاني: قد أَجْهَضْن، واحتمل ما قال، وقال الولي: ما أجهضن، واحتمل ما قال، فالقول قولُ مَنْ؟ قاعدة المذهب: أن أَخْذهن إن كان بقول الجاني (2) ، فالقول قول الولي، وإن كان بقول أهل البصائر، ثم وقع التنازع كما وصفناه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القول قول الجاني، لأنا أسندنا الأمر إلى قول من يعتبر قوله. والثاني - أن القول قول الولي، فإنه المستحِق، ولا يسقط حقه بظنٍّ وتخمين، وقول ذوي البصائر تخمين في هذا الباب.
ومن تمام القول في الفصل أن الجاني والولي لو تنازعا في صفة الإبل حالة الأخذ: فزعم الجاني الإبل خَلِفات، وأبى الولي ذلك، ورجعنا إلى قول أهل البصائر، [فإذا] (3) قال اثنان منهم: إنها حوامل، فقال الولي: لستم تقطعون بذلك، فلا أعوّل على قولكم، فلا خلاف أنه محمول على [الصبر إلى أن يتبين] (4) الأمر؛ فإن أقصى الإمكان هذا.
وقد انتهى الغرض في الخلفات، ونصُّ الشافعي ظاهرٌ في [أنهن لو حملن جذاعاً،
__________
(1) في الأصل: "وإن".
(2) المعنى: أن أخذ الولي الخلفات كان بناء على قول الجانىِ، ولم يراجع أهل البصائر عند الأخذ.
(3) في الأصل: "وإذا".
(4) غير مقروءة في الأصل، ورسمت هكذا ... محمول على الصرا ان تبين الأمر (تماماًً) والمثبت من تعديل وزيادة هو من عمل المحقق.(16/312)
قُبلن] (1) ولفظ (السواد) (2) : "والخَلِفة الحامل، وقلّما تحمل إلا ثنية فصاعداً، فأية ناقة من إبل العاقلة حملت، فهي خَلِفة تُجزىء في الدية ما لم تكن معيبة" (3) .
وسنتكلم في المعيب والسليم في الباب الذي يلي هذا عند ذكرنا تصنيف الإبل.
فصل
"وكلذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذي الرحم ... إلى آخره" (4) .
10571- إذا وقع القتل خطأ محضاً، فقد يُغلّظ بدلُه بأحد ثلاثة أسباب: أحدها -
أن يقع في البلد الحرام، وهو حرم مكة، وأرجاؤه معلوم بأعلام [معروفة] (5) . هذا أحد الأسباب، فإذا اتفق القتل الخطأ، غُلّظ البدل تغليظَ بدل شبه العمد.
والسبب الثاني - أن يتفق القتل في الأشهر الحرم: ثلاث منهن سرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وواحد فردٌ، وهو رجب. فإذا وقع القتل في هذه الأشهر، تغلّظت الدية [بشبه] (6) العمد.
والسبب الثالث - أن يقتل الإنسان خطأ ذا رحم.
ثم معظم الطرق تشير إلى اعتبار المحرمية مع الرحم، وهو المنقول عن القاضي، والمذكور في بعض التصانيف، وكان شيخي يميل إلى أن الرحم المجرد كافٍ في اقتضاء التغليظ، والأحاديث المستحثة على تعظيم الرحم ترد مطلقة من غير تقييد
__________
(1) عبارة الأصل رسمت هكذا: " ... ظاهرٌ فى أن لو حملن عـ ـان ولفظ الشواذ ... " كذا تماماً.
(2) في الأصل: "الشواذ". وهو تصحيف تكرر كثيراً، والسواد هو مختصر المزني، يؤكد ذلك هذا السياق، فالعبارة المشار إليها فى المختصر بلفظها.
(3) ر. المختصر: 5/126.
(4) ر. المختصر: 5/127.
(5) في الأصل كلمة غير مقروءة، لم نعرف لها معنى ولا وجهاً (انظر صورتها) والمثبت من المحقق، ولكن لم نستطع أن نجد كلمة تقرب صورتها من التي في الأصل.
(6) في الأصل: "بسبب".(16/313)
بالمحرمية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى أنا الرحمن، وهذه الرحم شققت لها اسماً [من اسمي] (1) فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته" (2) ونص الشافعي في (السواد) مطلق، كما حكيناه في صدر الفصل، والعلم عند الله.
وإذا اجتمعت هذه الأسباب، وانضم إليها شبه العمد، وحقيقة العمد، فلا مزيد في تغليظ الكيفية على ما ذكرناه.
ومعتمد الشافعي رضي الله عنه في التغليظ بهذه الأسباب الآثار، وقد روي أن ابن عباس قال فيمن قتل شخصاً في البلد الحرام في الشهر الحرام: "عليه عشرون ألف درهم: اثنا عشر ألفاً أصل الدية، [وأربعة آلاف للبلد الحرام] (3) وأربعة آلاف للأشهر الحرم" (4) فتضمن كلامه تضعيف التغليظ (5) في الدراهم، فأما تضعيف التغليظ فلم يره أحد من أصحابنا.
10572- وأما التغليظ والواجب دراهم، فالذي ذهب إليه الجماهير أنه لا تغليظ في مقدارٍ إلا في الإبل. ومن أصحابنا من أثبت التغليظ مقدراً بأربعة آلاف، واتبع ابن عباس فيه، وهذا ارتكبه بعض أئمة الخلاف، ولم [يُعْنَ] (6) غير القاضي من أئمة المذهب بنقله.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) حديث "أنا الرحمن خلقت الرحم ... " رواه أبو داود، والترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، وأحمد، والحاكم، والبيهقي كلهم من حديث عبد الرحمن بن عوف (ر. أبو داود: الزكاة، باب في صلة الرحم، ح 1694، الترمذي: البر الصلة، باب ما جاء في قطيعة الرحم، ح 1907، صحيح الأدب المفرد: ح 53، المسند: 1/194، الحاكم: 4/157، السنن الكبرى: 7/26) .
(3) في الأصل: "الألف للبلد الحرام".
(4) حديث ابن عباس رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7657) ، والبيهقي في سننه الكبرى (8/71) ، وفي معرفة السنن والآثار (4877) . وقد ضعفه الألباني في إرواء الغليل 7/311.
(5) تضعيف التغليظ: أي غلظ الدية مرتين، مرة للبلد الحرام، ومرة للشهر الحرام، وكل منهما ثلث دية.
(6) في الأصل: "يعين".(16/314)
فإن قيل: لم قطعتم بمخالفته [في] (1) تضعيف التغليظ [وترددتم] (2) في تغليظ الدراهم؟ قلنا: الصحابي لا يُقدِّر من [عند نفسه؛ فاتبعناه فيما صدر قوله عن توقيف] (3) ، أما تضعيف التغليظ، فلا يبعد أن يكون صدَرُه عن رأي، [وما كان] (4) كذلك، فقول الصحابي [فيه] (5) غير متبع في الرأي الظاهر لصاحب المذهب، ثم طرد القاضي هذين الوجهين في التغليظ، إذا أوجبنا الدراهم، وسبب التغليظ شبه العمد أو العمد المحض؛ فإن ما يجري في سبب من أسباب التغليظ يجري في [غيره] (6) من الأسباب، والقياسُ ما ذكرناه، ولكن أصل الخلاف لا مستند له، ولسنا ننكر ظهور القياس في التغليظ عند إيجاب الدراهم المقدّرة أن يبعُد في طريق الرأي أن نُغلّظَ بدلاً في جهة، ولا نغلّظ بدلاً آخر مع اتحاد المبدل.
10573- وإذا اتفق القتل في حرم المدينة، ففي التغليظ خلافٌ مشهور، وهو مأخوذ من قول العلماء في ضمان صيد المدينة.
وظاهر المذهب أن القتل في الإحرام لا يوجب التغليظ، وإن كان يُثبت حرمةَ الصيد، وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك يقتضي التغليظ، وهذا الوجه نسبه القاضي إلى شيخ من شيوخ المذهب يعرف [بأبي الفياض] (7) ، ثم إن أثّر الإحرام، فالمعتبر إحرام القاتل لا محالة.
__________
(1) في الأصل: "من".
(2) في الأصل: "وترديد".
(3) عبارة الأصل: " ... من واتبعناه ما صدر قوله عن توقيف".
(4) في الأصل: "وفا كان".
(5) في الأصل: "عنه".
(6) في الأصل: "عدّه".
(7) ما بين المعقفين جاء في الأصل هكذا: "ابن القـ ـاض" بالقاف المثناة بعدها حرف غير منقوط، بعده ألف مدّ بعدها ضاد معجمة. فبحثنا في كتب المذهب لنضبط ونصحح هذا الاسم الذي يُحكى عنه هذا الوجه، فوجدنا الرافعي يحكيه صراحة عن (ابن القاص) ونص عبارته: "وهل تتغلظ الدية بوقوع القتل في الإحرام؛ فيه قولان: أحدهما -وبه قال أحمد- نعم.... وحُكي هذا عن ابن القاص" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 10/315) ؛ فصح
عندنا أن الصواب هو [ابن القاص] وكيف لا. وقد قطع الرافعيُّ قول كل خطيب، ولم يعكّر =(16/315)
فإذا قطعنا بالتغليظ بسبب القتل في الحرم: حرم مكة، فالوجه أن نعتبر ما نعتبره في طريق ضمان الصيد، حتى لو كان الرامي في الحرم، والمقتول في الحلّ، أو على العكس، تغلّظت الدية، ولو زعم زاعم أن الرجوع في ذلك إلى الأثر، وقد قال عثمان (1) في امرأة وُطئت بالأقدام في الطواف، ما قال، فكأنه (2) للقتيلة في الحرم، قيل له: هذا
__________
= على ذلك إلا سياقةُ الحكاية عن (ابن القاص) وكأنه منكور غير معروف، برغم تكرار وروده في كل باب من الأبواب على طول المجلدات الأحد عشر.
ومن أجل هذا -عند مراجعة تجارب الطباعة- عدت إلى غير الرافعي أبحث عمن يحكون هذا القول، فوجدت البغوي قال بالوجه المعتمد، ولم يُشر إلى هذا الوجه -الذي نبحث عن صاحبه- أصلا (ر. التهذيب: 7/137) وأما العمراني، فقد حكى القول ولكن لم يقل لنا عمّن يحكيه (ر. البيان: 11/486) فرجعنا إلى مخطوطة البسيط، فوجدنا الغزالي يقول: " وأما الإحرام من القاتل، فلا يوجب تغليظ الدية.... وحكى القاضي عن (أبي الفياض) ، وهو من شيوخ المذهب أن الإحرام يلتحق به (أي الحرم) " (ر. البسيط: جـ 5 ورقة 32 يسار) .
فقطع الغزالي قول الرافعي، وعبارته هي عبارة شيخه بألفاظها، فعدلنا عما كان ترجح لدينا وأثبتنا مكانه [أبي الفياض] مطمئنين واثقين بحمد الله.
ويبقى النظر في إسناد الرافعي القول إلى [ابن القاص] لا سيما أن هذا القول ليس موجوداً في التلخيص الذي بأيدينا، فهل هو تصحيف أيضاً، أم وهم، أم صواب، وقاله ابن القاص في كتاب آخر؟؟ الله أعلم.
أما ترجمة أبي الفياض فهو أبو الفياض البصري، محمد بن الحسن بن المنتصر البصري. من أعيان تلاميذ القاضي أبي حامد المرورُّوذي وصاحبه، أخذ عنه فقهاء البصرة، ومن أخص تلاميذه أبو القاسم الصيمري. ومن تصانيفه (اللاحق بالجامع) الذي صنفه شيخه وهو تتمة له. نقل عنه الرافعي في أوائل الحيض في الكلام على الاستمتاع بالحائض فيما بين السرة والركبة، ونقل عنه في غيره أيضاًَ.
قال ابن قاضي شهبة: " لا يُعرف وقت وفاته ولذا ذكرته فيمن توفي في العشرين الخامسة من المائة الرابعة؛ فإن تلميذه الصيمري ياتي في الطبقة الآتية ".
(ر. طبقات الفقهاء للشيرازي: ص 119، طبقات ابن الصلاح: 1/146، الإسنوي: 1/192، ابن قاضي شهبة: ترجمة رقم 123، طبقات ابن كثير: 2/867، ابن هداية: 116) .
(1) أثر عثمان رضي الله عنه: "أنه قضى في امرأة وطئت بمكة بدية وثلث"، رواه البيهقي في سننه الكبرى (8/ 71) وفي معرفة السنن والآثار (ح 4877) .
(2) فكأنه للقتيلة في الحرم: أي كأن التغليظ يكون حيث كان القاتل والمقتول في الحرم، هذا معنى قول الزاعم.(16/316)
لا يدفع ما ذكرنا، فإن مضمون الأثر مقول به، ولا وجه إلا ما ذكرناه من اعتبار طريق [وجوب] (1) ضمان الصيد.
[باب] [أسنان الخطأ وتقويمها، وديات النفوس والجراح] (2)
10574- قال: [فهذا وجه دلالة الآية (3) والخبر (4) اللذين صدر بهما الباب] (5) ، وغرضه أن يبين أن الأصل في الدية الإبل، هذا مذهبه الصحيح المنصوص عليه في الجديد، فالدية الكاملة مائة من الإبل، وقد ذكرنا في الباب السابق
أسنانها، ووقوعَها مغلّظةَ ومخفّفة وهذا أوان ذكرنا الأصناف؛ فإن الأغراض تختلف بها اختلافاً بيّناً، وقد يزيد أثرها على التفاوت بالضِّعف، وهذا من مواقف النظر.
والوجه أن نذكر سبب التردد والإشكال، ثم نبيّن الممكن: أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبل، ولم يتعرض للأصناف وأنها (مهرية) أو (أَرْحَبيّة) أو (مُجَيْديّة) أو (بُختيّة) (6) ولا يزلّ عن ذكر كل ذاكر عند ترديده الكلامَ في الإبل تفاوت أصنافها، فليس هذا مما يحتاج إلى ردّ الفكر إليه، وقد أطلق الرسول
__________
(1) في الأصل: "يوجب".
(2) مكان بياض بالأصل، وأثبتناه من "مختصر المزني".
(3) الآية هي قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
(4) الخبر أشار إليه الشافعي بقوله: "فأبان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن الدية مائة من الإبل، وروي عن سليمان بن يسار قال: إنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الابل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة".
(5) عبارة الأصل: "فهذا راحه مر ـد الآية والخبر الذي صدر بهما الباب" (كذا تماماً) والمثبت محاولة من المحقق لإقامة النص. وقوله: (فهذا) إشارة إلى مضمون الباب الآتي بعد هذا.
(6) سبق أن بينا هذه الأصناف في كتاب الزكاة.(16/317)
صلى الله عليه وسلم، ولم يفصل الأصناف، وكان [لولا] (1) الإجماع يحتمل أن يكتفى بكل صنف [يجد] (2) المعطي.
ويشترط السلامة من العيوب اللازمة لمقصود الباب؛ فإن المطلق محمولٌ في وضع الشرع على السليم، والعبد الذي يجب إعتاقه [في] (3) الكفارة ليس عوضاً، وثبوته [مطلق] (4) في الكتاب، وهو محمول على رعاية السلامة في الوجه اللائق لمقصود التحرير، والإطلاق عن [الأسْر] (5) .
10575- وقد يخطر للفقيه أن الدية عوضُ متلَفٍ، ولا يجوز ثبوت [التخيّر] (6) فيها بين الشيء وضعفه، هذا وجهٌ.
والإبل تختلف قيمتها [باختلاف] (7) الأزمان والمكان وثبوت بدل [الجناية] (8) إلى توقيف الشرع، ويتأبّى (9) عن التفاوت الراجع إلى الزمان والمكان.
فهذا يبيّن للناظر أنه واقف في محل النظر.
والذي تحصّل لنا من كلام الأصحاب في ذلك أن الذي يجب عليه جانياً كان أو عاقلةً، إذا لم يكن له إبل، فالمعتبر إبلُ الناحية والقُطر الذي هو [منسوب] (10) إليه، وقد يُطلِق الشافعي رضي الله عنه إبلَ القبيلة، هذا أصلٌ متفق عليه إلى أن نفصّله.
ومأخذه أن كل قوم مخاطبون بإخراج الإبل، وأقرب الأمور تنزيل الخطاب على المعتاد عندهم، ولو كان المخاطب ببذل الدية من حُرٍّ شريف أو خسيس، فإن كان
__________
(1) في الأصل: "أولا".
(2) في الأصل: "ويجد".
(3) في الأصل: "من".
(4) في الأصل: "ينطلق".
(5) في الأصل: "الآيس".
(6) في الأصل: "المخبر".
(7) في الأصل: "واختلاف".
(8) في الأصل: "الحرية".
(9) ويتابّى: "أي يستعصي".
(10) في الأصل: "متشوف".(16/318)
ذلك الجنس هو الجنس العام في الناحية أو القبيلة، فلا كلام، وإن كان ذلك الجنس يخالف [جنس] (1) الإبل العام لشرفٍ أو نقيصة، فالذي أشار إليه العراقيون وبعض المصنفين أنا نطالبه بالصنف الذي [يملكه] (2) ، ولا نعدل عنه إلى الإبل العام، وهذا مشكل، والقطع به لا وجه له.
وأقرب ما يتوجه به كلام هؤلاء النظر إلى ما يخرجه صاحب القُطر من أجناس الأقوات، وفيه خلاف ذكرناه في موضعه: من أصحابنا من يرعى القوت العام، ومنهم من يوجب على كل شخص أن يُخرج من قوته الذي يليق به.
وإسقاطُ اعتبار أحوال الأشخاص وردُّ الأمر إلى الإبل العامّ أوْجَه في الديات؛ من جهة أنها أعواض، والأولى تنزيلها على ما يعم وجودُه، والمصير إلى اعتبار حال المتلِف بعيد فيه، والأقوات إن اعتبر فيها أحوال الأشخاص، فذاك أن [الفِطرة] (3) أوجبها الله تعالى [قُربة] (4) ابتداء على قدر القدرة، وأصلُها يسقط بالعجز في وقت الوجوب، ولا يبعد أن يُعتبر منها حال كل شخص، والدية بخلاف ذلك، فالوجه ردُّ الأمر إلى الإبل الموجودة في الموضع، وإلى هذا صار المحققون من المراوزة. وفي نص الشافعي ما يدل على مطابقة ما حكيناه عن طريقة العراق.
10576- ونحن ننقل لفظ (السواد) ونحرص على تأويله. قال: "ولا يكلَّف أحد من العاقلة غيرَ إبله" (5) أراد إبلَ قبيلته، ولا يبعد إضافةُ إبلِ القبيلة إلى الشخص، كما يقول النيسابوري، [وما ـرا ـا أبا أشرف وأفضل] (6) ، وهذا سائغ في الكلام مبادرٌ إلى الفهم، وشهد له أنه قال على إثر هذا: "وإن لم يكن ببلده إبل" ولو كان يريد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "ملكه".
(3) في الأصل: "الفطن".
(4) في الأصل: "قوية".
(5) ر. المختصر: 5/128.
(6) ما بين المعقفين رسم هكذا تماماًً. وكأنه مقحم في غير موضعه؛ فبدونه يستقيم الكلام تماماً. والله أعلم.(16/319)
بإضافة الإبل إليه [أوّلاً إضافةَ] (1) الملك، [لكان] (2) نظم الكلام يقتضي أن يقول: إن لم يكن في ملكه إبل، فإبل بلده، وإن لم يكن ببلده إبل، فإبل أقرب البلدان.
وأما قوله آخراً: "فإن كانت إبل العاقلة مختلفة" أراد إذا كانت العواقل من قبائلَ مختلفةٍ اعتُبر إبلُ القبائل.
هذا وضعُ الكلام، والرجوع بعده إلى اعتبار إبل البلدة أو القبيلة. هذا أصل المذهب.
وأما إبل البلدة، فبيّن، وأما القبيلة التي يعنيها بالبلدة، فيعني بها قبائل العرب الناوية (3) ، وهي تنتوي ولا تستقر في [قُطر] (4) ... ، فإبلها [التي] (5) تسايرها (6) .
فإن غلب صنف، علقنا الحكم به، وإن غلب صنفان أو أكثر، ولم يكن صنف واحد بحيث نحكم عليه بالغلبة، فالذي رأيت صغواً إليه أن الخيرة -والحالة هذه- إلى المعطي، لا إلى الطالب، فليفهم الناظر ما انتهى إليه.
وإن عدمنا الإبلَ في الناحية، لزم الرجوع إلى صنفٍ من الإبل في أقرب البلدان إلى تلك البلدة، هذا إذا كان التحصيل غير متعذر.
فإن تعذر النقل والتحصيل، وكان لا يتأتى ذلك إلا بمشقات، فيعدل عن الإبل كما سنصف ذلك عند نجاز الكلام، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: "أو لإضافة".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) الناوية أي التي تتحول من مكان إلى آخر ولا يدوم لها استقرار (المعجم) .
(4) في الأصل: "نطر".
(5) عبارة الأصل: "ولا تستقر في نطر [والعره] فإبلها إلى تسايرها" فصوبنا ما عرفنا له وجهاً، على قدر الوسع ورفعنا الكلمة بين المعقفين من الصلب، وهي بهذا الرسم تماماً، ولم أدر لها وجهاً.
(6) عبارة الغزالي في البسيط تؤكد هذا المعنى، فهو يقول: وقول الشافعي: "إذا كانت إبل العاقلة مختلفة" أراد إبل القبائل؛ لأن سكان البوادي منهم لا يستقرون حتى ننظر إلى الغالب ببلدهم ومسكنهم بل يسيرون، فيُخرج كل واحد مما يغلب في قبيلته وهو الصنف الذي يسير معهم، والقبيلة في حقهم كالبلدة في حق السكان، وهم طبقة السائرين والمترددين في البوادي (ر. البسيط: جزء (5) لوحة: 47 يمين) .(16/320)
وهذا موقف آخر محوج إلى نظر يجمع سرَّ الكلام، فما المعتبر في [المشقة] (1) ؟ ولا شك أن أدناها لا يُسقط الطّلبة بالإبل، وليس ينضبط أقصى المشقات، فما الوجه؟ قلنا: اعتقدنا التعذر على المذهب الجديد، فرجعنا إلى قيمة الإبل لا غيرها، فنعتبر ذلك المبلغ [فننظر] (2) إلى ما يحتاج إلى بذله لنقل الإبل، فإن كان لا يزيد على قيمة [المثل] (3) في مكان المطالبة، فيلزم تحصيل الإبل، وإن كانت مؤنة النقل تزيد زيادةً ظاهرةً، يعتبر مثلُها غبينة في الإبل لو حضرت، [فلا يلزم] (4) نقلُها والحالة هذه؛ فإن هذا ضمُّ [غُرم] (5) ، فليكن الاعتبار بما وصفناه.
10577- ولو قال مستحق الدية: لست أطالبك الآن وأصبر إلى تيسر الإبل، فهذا محتمل، والأظهر أن الأمر في ذلك إليه؛ فإن الأصل الإبل، ويتطرق إلى هذا احتمال؛ من جهة أن الدراهم إذا أقرت، [فإنها] (6) ليس كقيمة المثل [عند] (7) عدم المثل؛ إذ لم يصر أحد من أصحابنا [إلى] (8) أن الدراهم إذا بذلت عند تحقق التعذر، ثم فرض وجود الإبل، فلصاحب الحق ردُّ الدراهم والرجوع إلى الإبل، وقد اختلف الأصحاب في أن المثل إذا عدم مثله وصِير إلى القيمة، ثم وجد المثل، فهل نُثبت للمغروم له حق الرد والاسترداد؟ فمن هذا الوجه يجوز أن يقال: للجاني أن يكلفه قبض ما عليه لتبرئة ذمته، فإن هذا لو جرى، انقطعت الطلبات في المآل، وما أذكره تنبيهٌ، وليس يخفى على الفطن وجوه الاحتمال، وسأعضد هذا التنبيهَ بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: "المسنة".
(2) في الأصل: (سطر) هكذا تماماً وبدون نقط.
(3) في الأصل: (الغرة) ، ولم أصل إلى وجه لها، ولا إلى ما يقاربها في الرسم، وقد مرت آنفاً بهذا الرسم تماماًَ بدون نقط (الغين) ومع طول التأني في قراءة البسيط، والوجيز، والوسيط، والشرح الكبير، والروضة لم أصل إلى وجهٍ لها.
(4) في الأصل: "ولا يلزم".
(5) في الأصل: "عدم".
(6) في الأصل: "وإنها".
(7) في الأصل: "على".
(8) زيادة من المحقق.(16/321)
10578- قال العراقيون: إذا كان للغارم إبل وأصنافها مختلفة، [أخذ] (1) من كل صنفٍ بقسطٍ. وهذا بنَوْه على اعتبار إبل الغارم، وقد ذكرنا مثلَ هذا الطريق عن المذهب.
ثم إن كان له ثبوت، فقد ينقدح فيه تخريج قولين: أحدهما - الأخذ من كل صنفٍ كما ذكروه. والثاني - الأخذ من أغلب ملكه إن كان في ملكه أغلب، وقد ذكرنا مثلَ هذين القولين في الزكاة.
فإن قيل: إذا [اعتبرتم] (2) إبلَ الناحية وهي أصناف، فهلا خرجتم في كل صنف؟ قلنا: هذا إن كان ينقدح في الملك المحصور، فكيف ينضبط في إبل القطر، وكيف تتجه أقساط [النسب] (3) إلى قيمة الإبل في القول الجديد اعتباراً بوقت [العِزّة] (4) .
هذا معتمد الشافعي. قال فيما نقله المزني: "فإن أعوزت الإبل، فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قومها عمر رضي الله عنه" (5) قال عطاء: "كانت لإبل حتى قومها عمر رضي الله عنه" (6) . قال الشافعي رضي الله عنه: "والعلم يحيط أنه لم يقوّمها إلا قيمةَ يومها" (7) . هذا نص الشافعي في لجديد.
ونص في القديم على أنا نأخذ في [الذهب] (8) ألف دينار، ومن أهل الورِق اثني عشر ألف درهم، وله في المصير إلى هذا القدر تعلّقٌ بآثار وأخبار ذكرناها في (المسائل) (9) .
__________
(1) في الأصل: "وأخذ".
(2) في الأصل: "أعدتم".
(3) في الأصل: "السبب".
(4) في الأصل: "العدة". هذا والمراد بالعزّة: الإعواز وعدم القدرة عليها (المصباح) .
(5) ر. المختصر: 5/128.
(6) أثر عطاء رواه الشافعي (ترتيب المسند: 2/109 رقم 367) ، والبيهقي في السنن الكبرى 8/76، 77، 95. وانظر التلخيص: 4/46 ح 1903.
(7) ر. السابق نفسه.
(8) في الأصل: "المذهب".
(9) المسائل: المراد بها (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) .(16/322)
واختلف أصحابنا في تنزيل هذا القول، فمنهم من قال: هذا في [عزّة] (1) الإبل، ففي المسألة عند [عزتها] (2) قولان: أحدهما - أن الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت. والثاني - أن الرجوع إلى المقدار الشرعي من الدراهم والدنانير. هذا طريق.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى إجراء القول القديم مع وجود الإبل، وهذا القائل يردّ الأمر إلى [اختيار] (3) الجاني، وفيه بُعد.
وإن لم يكن من القول القديم بدّ، فالوجه تخصيصه بحالة الغرم. قال المزني: "رجوعه عن القديم رغبة عنه إلى الجديد، وهو بالسنّة أشبه" (4) .
ثم الدنانير على قول التقدير من [الذهب] (5) الخالص، وكذلك الدراهم من النقرة الخالصة، ولسنا نقنع [بأحدٍ] (6) من الصنفين حتى يطبع ويسك، والخِيَرة على قول التقدير إلى المعطي بين الدراهم والدنانير، وإن رجعنا إلى قيمة الإبل، فالرجوع إلى النقد الغالب؛ اعتباراً بقيمة المتلفات، وإن غلب النقدان، فالخِيَرةُ إلى الجاني.
10579- ومن تمام القول في هذا التفصيل: أنا لا نأخذ قطّ معيباً من أصناف الإبل [إلا] (7) أن يرضى المستحق، وإذا كنا نرعى البراءة من العيوب في الرقبة المعتقة في الكفارة، وليست عوضاً، والملك إلى الزوال بالإعتاق، [فلأن نرعى] (8) السلامة عن العيوب في الديات وهي أعواض أولى، غيرَ أن السلامة المرعية في رقبة الكفارة هي السلامة عن العيوب المانعة من الاستقلال المؤثرة في العمل؛ فإن الغرض تخليص عبدٍ عن الرق ليستقل، لا ليصير كلاًّ على المسلم، وكل باب معتبرُه على حسبه.
__________
(1) في الأصل: "عدّة". ومعنى عزّة الإبل: عدم القدرة عليها. (المصباح) .
(2) في الأصل: "عدّتها".
(3) في الأصل: "أخبار".
(4) ر. المختصر: 5/129.
(5) في الأصل: "المذهب".
(6) في الأصل: "بأكثر".
(7) في الأصل: "إلى أن يرضى".
(8) في الأصل: "فلأن لا نرعى".(16/323)
فأما المرعي في عيوب الديات، فما يؤثر في المالية؛ فإنها أعواض، فكل عيب يُثبت الرد في البيع، فالسلامة منه معتبرة.
ولو كانت إبل الناحية عجافاً مِراضاً، أو كانت إبلُ الغارم كذلك -إن اعتبرنا ملكه-[عدلنا] (1) عنه، وجعلنا عيبَ الإبل كعدمها، وليس هذا كأخذنا المعيب من الإبل المعيبة في الزكاة؛ فإن الزكاة واجبُ الأموال، فاعتبرت [فيها] (2) صفة الأموال وهذا ظاهر.
ثم نقول: إن كانت الدية مخففة، قوّمت على صفاتها، وإن كانت مغلّظة قومت، ثم يظهر التفاوت تغليظاً وتخفيفاً في القيمة، كما كان يظهر في الأصل لو وجد.
وإن فرعنا على القديم، ورجعنا إلى المقدّر من الدراهم والدنانير، فالمذهب الأصح أن أثر التغليظ يسقط، وهذا من أصدق ما يدل على فساد هذا القول.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنا وإن قدّرنا [نزيد للتغليظ] (3) ثلث المقدّر، فيصير الاثنا عشر ستةَ عشرَ ألفاً، أخذاً من قول ابن عباس.
وهذا لا أعتد به ولا أعده من المذهب.
10580- ثم ما ذهب إليه المحققون أنا نغلّظ دية المرأة على [النسبة] (4) المتقدمة، ونغلّظ دية اليهودي، والنصراني، وهذا مجمع عليه بين الأصحاب، والغرض ما وراءه، قال هؤلاء: نغلظ دية المجوسي على قدره، فإنا إذا كنا نغلّظ أروش الجنايات وإن قلّت، فأبدال النفوس ينبغي أن تكون في معناها.
وكان شيخي أبو محمد يقول: التغليظ جارٍ في كل ما نطق الشرع فيه بالنسبة والجزئية، وقد ورد في الشرع أن المرأة على النصف من الرجل، واليهودي عند الشافعي على الثلث، ولم يصح في دية المجوسي لفظ النسبة، وإنما اتبع الشافعي قضاء عمر في ديته بثمانمائة درهم. قال رضي الله عنه: "نتبع هذا المقدار،
__________
(1) في الأصل: "عدنا".
(2) في الأصل: "منها".
(3) في الأصل: "مزيد التغليظ".
(4) في الأصل: "الستة".(16/324)
ولا نوجب الأبل، وإن وجدناها" ويتفرع عليه ألا يغلظ، وهذا عندي كذلك (1) .
والوجه القطع بتنزيل دية المجوسي منزلة سائر الديات في التغليظ والتخفيف، والرجوعُ إلى الإبل عند وجودها، وديتُه ثلث خمس (2) دية المسلم، فإنها لم ترد [بلفظ] (3) النسبة لطول الكلام فيه.
فهذا ما نراه مقطوعاً به في الباب، ولم أحك ما ذكرته عن شيخي [إلا] (4) لتعتقدوا أنني نبهت على ما فيه من خلل، والمعتمد إجراء الديات قلّت أو كثرت على وتيرة واحدة في التغليظ والتخفيف، والتقويم والتقدير.
نعم، إذا وجب العبدُ غرةً عن الجنين، فذاك لا تفاوت قطعاً، وهذا بدل النفس؛ إذ لا يتصور فيه رعاية التفاوت أعني تفاوت التغليظ والتخفيف، والجناية على الجنين تفرض خطأً وشبهَ عمد، وإذا رجعنا إلى الإبل في بدل الجنين، عاد النظر في التخفيف والتغليظ، كما سيأتي أبدال [الأجنّة] (5) .
فصل
قال: "وفي الموضحة خمسٌ من الأبل ... إلى آخره" (6) .
10581- قد مضى معظم الكلام في الشجّات (7) في كتاب الجراح، فإنا وإن سقناها للقول في القصاص، فقد أتينا في أثناء الكلام بجمل من أحكام الديات، ونحن الآن نذكر ما يتعلق بالأروش في الشجات، وإن مست الحاجة إلى إعادة بعض ما مضى، أعدناه على قدر الحاجة.
__________
(1) كلام الشيخ أبي محمد مستمر إلى هنا.
(2) ثلث الخمس من دية المسلم، لأن الوارد عن عمر رضي الله عنه أنه جعلها ثمانمائة درهم، فإذا نسبت إلى دية المسلم وهي اثنا عشر ألف درهم، كانت ثلث خمس، أو خمس ثلث.
(3) في الأصل: "لفظ".
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) في الأصل: " الامـ ـة ". كذا تماماًَ.
(6) ر. المختصر: 5/129.
(7) كذا. وهو جمع شجة، ولم يأت هنا بالجمع المألوف (شجاج) .(16/325)
والذي يجب تصدير هذا الباب به أن المقادير مستندها توقيف الشارع لا يهتدي إليها رأي، ولا يجري فيها قياس. نعم، قد يتأصل منها أصول، فيلتحق بها من طريق التشبيه والتقريب فروعٌ، وقد اعتمد الشافعي رضي الله عنه في تقدير أروش الأطراف كتابَ عمرو بن حزم، وقد أورد إسحاقُ في مسند عمرو بن حزم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً فيه: [وفي] (1) أصابع اليدين والرجلين في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي الموضِحة خمسٌ من الإبل، وفي الجائفة الثلث، وفي المأمومة الثلث، وفي الأنف إذا [أُوعي] (2) جدعاً مائةٌ من الإبل، وفي اليد خمسون من الإبل" (3) .
فيثبت من جهة النص تقدير أرش الموضحة بالخمس من الإبل، وهي إذا نسبت إلى الدية الكاملة، وقعت نصفَ عشرها، فالواجب في الموضحة من كل شخص نصفُ عشر ديته، على اختلاف المقادير، ولا حاجة إلى ذكر الديات في هذا الفصل.
ثم الكلام متعلق في الشجات وأروشها بأصولٍ لا بد من تفصيلها، ونحن نأتي بها مفصلة: الأول، فالأول.
10582- فأهم ما نبتديه ذكر محل الموضِحة وفي كلامٍ كيِّسٍ (4) : وقد تحقق لنا من مجموع كلامهم أن الموضحة محلها كُرةُ الرأس، ومنها الوجه، وهي مركبة على السالفة، وكل عظم اتصل بالجرح من القمة إلى تركّب الكرة، فهو موضِحة، وتفصيل ذلك: أما الأجزاء الثلاثة المشهورة من الرأس، فلا حاجة إلى ذكرها: كالهامة والفَوْدَيْن (5) والقَذال والناصية، [وما] (6) يتصل باستواء القفا في منحدر القَمَحْدُوة إذا
__________
(1) في الأصل: "وفيه".
(2) في الأصل: "أوجب". وأوعى جَدْعَه: أوعبه: أي استأصله. (المعجم) .
(3) حديث عمرو بن حزم في الديات سبق تخريجه.
(4) كيّسٍ: صفة لـ (كلام) أي سيأتي ذكره لمحل الموضحة في كلام ذكي.
(5) زاد (الفودين) على الثلاثة التي أشار إليها، ولم يذكرالغزالي في (البسيط) الفودين. إلا إذا اعتبرنا (الفودين والهامة) جزءا واحدا.
(6) في الأصل: "ومما".(16/326)
اتضح العظم منه، فموضِحة، وهذه المواضع إذا عمرتها (1) [استبنت] (2) العظمَ في محل العَمْر، وما ينطبق عليه صدفة الأذن عظمة صلبة تسمى الخُششاء، كل ذلك محل الإيضاح، وليس من الرأس في أحكامٍ [كالستر] (3) على المحرم، ومحل المسح من الرأس، وإذا تعدى تصور الإيضاح إلى الوجه والوجنة واللِّحى، فما ذكرته إشكال، ومحل الإيضاح من الوجه بيّن: [منه] (4) الوجنة والجبينان، [والجبهة] (5) ، وقصبة الأنف، واللحيان [في جهة] (6) المقابلة [ومن جهة تحت] (7) ، فهذا بيان محل الموضحة تفصيلاً وضبطاً.
وأما الرقبة نفسها، فالعظم الخصِّيص بها فقراتٌ يحيط بها الحلقوم، والمريء، والأوداج، من جهة المقابلة، والأعصاب والشجاج من جهة الفقار، ولا تعلق بوضوح العظم منها [أرش] (8) مقدّر كسائر عظام البدن.
وإنما خص الشارع [بتقدير] (9) الأرش شجات الرأس -فيما نظن- لأنها المنظر ومحل الجمال، ومجمع المحاسن، والشَّيْنُ عليها ظاهر [الوقع] (1) .
هذا كافٍ في بيان المحل.
__________
(1) كذا. ولم أجد لهذا الفعل معنى يستقيم هنا إلا إذا أخذنا من (العَمْرة) وهي كل شيء يُغطَّى به الرأسُ من عمامة وقلنسوة ونحوهما، فيكون المعنى: إن هذه المواضع من الرأس هي التي تسترها العمامة ونحوها.
(2) في الأصل: "استثنت". والمثبت من المحقق إكمالاً للمحاولة في إقامة العبارة.
(3) في الأصل: "كاليسير".
(4) في الأصل: "منها".
(5) في الأصل: "والوجنة". وهو سبق قلم.
(6) في الأصل: "فوجهه". والمثبت من كلام الغزالي في البسيط.
(7) في الأصل: "من جهة تجب" وزيادة الواو والتعديل من عمل المحقق. والمعنى أن اللحيين من الوجه سواء من جهة المقابلة أو من أسفل، ونص على (تحت) ؛ لأن الوجه هو ما به المقابلة.
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) في الأصل: "ـ ـر ـر" كذا بدون نقط.
(10) في الأصل: "طاهر لوقع".(16/327)
10583- والأصل الآخر في بيان وجوب اتباع الاسم، وذلك من غير نظر إلى الصغر والكبر، فيجب [في] (1) الموضحة التي يقرعها المِيل (2) ما يجب في استيعاب الرأس، والسبب فيه أنه لا ضبط [ننتهي] (3) إليه إلا الاسم، وهذا هو المتعلق إذا انحسم الضبط والتقدير، وعلى هذا الأصل نبني تعدد الأروش عند تعدد الموضحة وانفصال بعضها عن البعض بالحواجز الكاملة، ولو فرض الاختلاف في الموضحة المتصلة من جهة المحل، [فلا] (4) أثر لأجزاء الرأس في ذلك، فالموضحة التي تعم الناصية والهامة ليس لها حكم التعدّد، من جهة [أنها] (5) على مسمّيَيْن.
فإن قيل: أي إشكال في هذا، وقد ذكرتم أن الموضحة المستوعبة للرأس واحدة؟ قلنا: قد يتخيل الفطن فرقاً بين أجزاء الرأس وبين جملته، وعلى هذا انبنى اتحاد الدية في النفس، وتعددها في الأطراف، فنصصنا على ما ذكرناه [دفعاً] (6) لهذا الوهم. والأجزاء مختلفة في القصاص، حتى لا نقيم جزءاً من الرأس في القصاص مقام جزء من غير ضرورة، وهي متساوية في تصوير اتحاد الموضحة.
ولو اتصلت الموضحة من الناصية إلى الجبهة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الأرش لا يتعدد، لاتصال الجراحة واتحاد الاسم، ولا ينظر إلى تعدد المحل.
والوجه الثاني -[يتعدّد] (7) لاختلاف المحل، [وأنا لا نكمل] (8) في القصاص جراحة على الرأس الكبير [من جبهة الجاني بعد استيفاء] (9) رأسه.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) يقرعها الميل: مثال للتناهي في الصغر، والمعنى أن الموضحة التي تكون بحجم دخول الميل حتى يقرع العظم، يجب فيها ما يجب في الموضحة التي تستوعب الرأس، والميل هنا بكسر الميم هو عود رفيع يجعل به الكحل في العين (المصباح والمعجم) .
(3) في الأصل: "يهتدي".
(4) في الأصل: "ولا".
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: "ولعا".
(7) في الأصل: "يتعذر".
(8) في الأصل: "واختلاف أنا لا نكمل".
(9) في الأصل: "من جهة الجاني بعد استيفاء".(16/328)
وإذا جمع الناظر ما ذكرناه من آثار الاختلاف في القصاص إلى ما نبهنا عليه الآن من اختلاف المحل في الدية، [استبان ما بين البابين من بون] (1) .
ولو انتهت الجراحة إلى العظمة المعمودة وراء القَمَحْدُوة القريبة من مركب الكرة من الرقبة، فالأصح الاتحاد في هذا؛ فإن تيك العظمة من تتمة القِحف (2) ذي [الدوران] (3) ومن أئمتنا من جعل اتصال الموضحة بها كاتصالها بالجبهة، حتى تخرّج على الخلاف الذي قدمناه. وهذا الأصل متصل بالكلام في المحل.
والموضحةُ على الجبهة إذا انحدرت إلى الجبينين، فأراها واحدة، وإن هي اتصلت بالوجنة، ففيه تردد، والأظهر منع الاتصال [الآن] (4) ، تنزيلاً لما تقابَل به منزلة الرأس.
10584- الأصل الآخر: الكلام في [الجراحة ووصفها وتقدير] (5) رفعها وارتفاعها، فمن أوضح موضعين من رأس إنسان وبينهما حاجز كامل أو لحم وجلد، فموضحتان، وفيهما أرشان، وإن كان الحاجز لحماً لا جلد عليه، أو لا لحم تحته، [اضطربت] (6) مسالك الأصحاب في الطرق، ومجموعها أوجه: أحدها - أن الجلد دون اللحم، واللحم دون الجلد ليس حاجزاً، وللجرح حكم الموضِحة الواحدة؛ لأن الجناية أتت على الموضِحتين وما بينهما، فنَجْعل كأن الجناية بينهما إيضاح، ولو اتصل الإيضاح، لاتحد الأرش، فالمتلاحمة دون الموضحة، وهذا وجهٌ منقاس.
والوجه الثاني - أن الأرش يتعدد اتباعاً للاسم، وقد تحقق [الحائل] (7) سواء كان
__________
(1) في الأصل: "استناد بين الناس بون".
(2) القِحف بكسر القاف: أحد أقحافٍ ثمانية تكوّن عُلبة عظمية هي الجمجمة (كرة الرأس) (المعجم الوسيط) فهي من عظم الرأس كما يتضح من وضعها.
(3) في الأصل: "الدرور". والمثبت من المحقق رعاية للمعنى، فالكلام عن استدارة كرة الرأس وأجزائها.
(4) في الأصل: "الإيجاز".
(5) في الأصل: "الحراحر وصفها وتقرير".
(6) في الأصل: "واضطربت".
(7) في الأصل: "محامل".(16/329)
جلداً مَحْضاً أو لحماً، والتعويل على الاسم عند هذا القائل.
والوجه الثالث - أن اللحم حائلٌ والجلد ليس بحائل؛ لأن اللحم ساترٌ للعظم تحته سترَ خلقة، فلا وضوح بالعظم الذي تحته، وإذا انقطع الإيضاح، تعدّد الاسم، فأما الجلد إذا لم يكن [تحته] (1) لحم، فالعظم تحته بادٍ ووضوحه متصل.
والوجه الرابع -وهو أضعفها- أن الجلد المجرّد حاجزٌ، واللحم ليس بحاجز؛ فإن المرعي في الوضوح ما يبدو للناظر، وإن كانت الجلدة متصلة، فالعظم غيرُ بادٍ.
وهذا ليس بشيء.
هذا مجموع ما قيل في بيان الحواجز. ومن لم يجعل اللحم دون الجلد والجلد دون اللحم حاجزاً، هؤلاء اختلفوا في صورةٍ، وهو إن أوضح الرجل موضعين من رأس رجل، وبين الموضحتين حاجز قائم، ثم إنه أدخل حديدة من الموضحة إلى الموضحة، ثم [استلّها] (2) ، فهل يكون الحاجز في حكم المرتفع بهذا؟ فعلى وجهين ذكروهماً: أحدهما - أنه لا يكون مرتفعاً، فإن الحديدة إذا استلّت انطبق اللحم على اللحم، وعاد الأمر إلى ما كان. والثاني - أن هذا يكون رفعاً للحاجز، فإن الحديدة قد نفذت واتصلت الموضحتان، فإن فرض بعد هذا انطباق والتحام، فلا حكم لما يجري من بعدُ، والدليل أنا إذا لم نجعل اللحم بمجرده حاجزاً، فلو فرضنا موضحتين وبينهما لحم، وقلنا: الجراحة واحدة، فلو ألبست تلك اللحمة بالجلد، فقد كمل الحاجز الآن، ولا نقضي بتعدد الأرش بعد الحكم باتحاده، فإن طوارىء الالتحام لا تؤثر في الشجات، كما سنصف ذلك.
وإذا بان ما ذكرناه من إدخال الحديدة وتنفيذها من الموضحة، [فقد] (3) ينشأ من ذلك صورة وفيها احتمال ظاهر عندي، وهو أن الرجل إذا غرز إبرة في رأس إنسان، وتحققنا انتهاء رأس الإبرة إلى العظم، ثم استلّها، فهل يكون هذا موضحة أم لا؟
أرى تخريج هذا على الوجهين اللذين نقلتهما في تنفيذ الحديدة في الحاجز بين
________
(1) في الأصل: "عليه".
(2) في الأصل: "أسبلها".
(3) في الأصل: "وقد".(16/330)
الموضحتين؛ فإن لم يكن [رفعاً، فهذا ليس] (1) موضحة، وإن كان ذلك رفعاً للحاجز، فهذا موضحة، وترجع حقيقة التردد إلى أن الاعتبار بجرح يشق إلى العظم ويوضِحه فعلاً، أم الاعتبار [بما] (2) سمي موضِحة مدركة.
ومما يتصل بهذا الفصل أن الجاني لو أدخل حديدة في رأس إنسان وجرها، فأوضح موضعاً وانملست (3) الحديدة على موضعٍ، ثم غاصت، وأوضحت موضعاً،.
وفِعْلُ الجاني في حكم المتَّحد، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن هذه موضحة واحدة نظراً إلى اتحاد الفعل، وهذا خَرْمٌ لقاعدة المذهب الكلّية؛ فإذا تعدد الجرح، وتعدد الاسم، وكمل الحاجز، فالنظرُ بعد هذا إلى اتحاد الفعل، وتواصلُ الجراحات لا حاصل له، وقد قال هذا القائل: إنما تتعدد الموضِحة إذا رفع الحديدة من شجة ووضعها في أخرى، وهذا ليس بشيء.
10585- الأصل الآخر في رفع الحواجز وارتفاعها، فإذا أوضح الرجل مواضع من رأس إنسان، واتصلت الموضِحات بالحواجز، ثم تأكّلت وارتفعت بالسراية، اتحد الأرش، وزال تقدير التعدد، ونزل ارتفاع الحواجز بالسريان منزلة سريان قطع الأطراف إلى الروح، لا خلاف على المذهب في ذلك.
ولو عاد الموضح ورفع الحواجز بنفسه، فهذا مسلك النص، وتخريج ابن سريج في الأطراف والنفس، ومقتضى النص اتحاد الأرش، كما لو قطع يدي رجل ورجليه، ثم حز رقبته، وابن سريج خالف في الجراح، وأوجب على قاطع اليدين والرجلين، ثم القاتل بعد ذلك دياتٍ، ومذهبه يطّرد لا محالة في رفع الحواجز.
ولو أوضح موضعين عمداً، ورفع الحاجز خطأ، والتفريع على النص، ففي اتحاد الأرش وجهان، وكذلك الخلاف في الجراح والنفس، كما تقدم في أول الجراح، ولا فرق على الجملة.
__________
(1) في الأصل: "دفعاً مهدراً ليس" وهو تصحيف مضلّل.
(2) في الأصل: "مما".
(3) المعنى أن الحديدة بعد أن غاصت وأوضحت خرجت تجري وتنزلق على السطح ثم عادت فغاصت وأوضحت، فهو فعلُ واحد لإيضاحٍ في موضعين بينهما حاجز.(16/331)
ولو رفع الحاجز [بين] (1) الموضحتين، [رجل آخر] (2) ، فلا خلاف أن الأروش لا تتحد في حق الجاني الأول، وهذا يناظر في الجراح والنفس ما لو قطع رجل يدي رجل، فجاء آخر وقتله، فلا خلاف في تعدد الدية عليهما؛ إذ لا نربط فعل شخصٍ بفعل شخص في هذه الأبواب، فلا جَرَمَ قلنا: على صاحب الموضحتين أرشان، وعلى رافع الحاجز أرشٌ ثالث.
ولو أوضح رجل موضعاً من رأس إنسان، فجاء آخر وابتدأ من منتهى جناية الأول، وأوضح، ثم هكذا حتى إذا استوعب الرأسَ جناةٌ، فعلى كل واحد أرش موضحة، بلا خلاف.
وإذا كان قياس مذهب ابن سريج أن يجعل أفعال جان واحد في تعديد الموضحة أولاً ورفع الحاجز ثانياً بمثابة أفعال جناة، فليت شعري ما يقول إذا استوعب جان واحد رأسَ إنسان بالإيضاح بموضحتين [متواصلتين] (3) بأفعال متفرقة؟ ظاهر قياسه أنها موضحات إذا تعددن بالأفعال، وفيه احتمال على خلافٍ، فإنها في الآخر جنسٌ واحد، وليس كقطع اليدين والقتل، وليس كما إذا تحقق تعدد الإيضاح ثم فرض الرفع.
فلينظر الناظر، وليستدّ [نظره] (4) إذا كُرِّر أعدادُ الموضحات في شخص، ولو اجتمعت أروشها، لزادت على دية، فالمذهب أنا نوجبها بالغةً ما بلغت، وأبعد بعض المصنفين وقال: نردها إلى دية، وهذا بعيد، والاختلافُ المذكور فيه [مذكور] (5) في الأسنان، والأصح ثَمَّ أيضاًً أنا لا نبالي بالزيادة على مقدار الدية ولو قُتل الإنسان، الزيادة أولى؛ من جهة أن أعدادها في اعتدال الخلقة إذا قوبلت بالأروش زادت الأروش على الدية، وإطلاقُ الشارع ذكر الأروش في آحادها من غير تعرض لرده الزيادة إلى مقدار الدية مناقض لما قال هذا القائل، ولا ينبغي أن نفرع على الوجه
__________
(1) في الأصل: "من".
(2) في الأصل: "حاز احر".
(3) في الأصل: "مواصلة".
(4) مكان بياضٍ بالأصل.
(5) زيادة من المحقق.(16/332)
الضعيف. وما ذكره هذا القائل في الموضحة ليس بعيداً في التفريع، ولكن التفريع على الضعيف مجتنبٌ.
فرع:
10586- إذا أوضح الرجل موضعاً من رأس إنسان، وجرّ السكين، فاتصل بالموضحة متلاحمة، فقد أجمع المحققون على أنا لا نفرد المتلاحمة بأرش، لأن الجراحة واحدة، ولو كانت المتلاحمة موضِحة، لما وجب إلا أرش واحد، وهو منفصلٌ عما قدمناه من موضحتين بينهما لحم؛ فإن اسم الموضحة متعدد ثَمَّ في [وجهٍ] (1) ، ولم أعرف في الصورة التي رسمتُ الفرعَ لها خلافاً بين الأصحاب، وهذا يدل على اتحاد الأرش في اللحم الحائل بين الموضحتين.
ولو أوضح قَمَحْدُوة إنسان، وجرّ السكين إلى القفا، فموضحة، وجرحُ حكومة، وإن جرها من الناصية إذا أوضحها إلى الجبهة وجرح الجبهة متلاحمة، فهذا يخرج على أن الموضحة لو اتصلت هل كان يتعدد الأرش فإن قلنا: لا يتعدد [فالمتلاحمة] (2) على الجبهة تتبع الموضحة على الناصية، إذا اتصلت بها، فإن قلنا: لو اتصلت الموضحة على الناصية بإيضاح الجبهة، لتعدد الأرش، فتفرد المتلاحمة بحكومة. هذا وضع المذهب.
فصل
10587- ذكرنا اختلاف قولٍ في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة، وكان شيخي رحمه الله يقول: أرش المتلاحمة يُبنى على وجوب القصاص؛ إن قلنا: لا قصاص في المتلاحمة، فأرشها حكومة، وإن قلنا: فيها القصاص، فإنا نطلب [تقدير] (3) أرشها بالنسبة إلى السُّمك جهدنا، كما نطلب هذا المسلك في إجراء القصاص، وهذا عندي ليس يظهر له أثر؛ [فإنا] (4) وإن لم نوجب القصاص إذا
__________
(1) في الأصل: "وهي".
(2) في الأصل: "بالمتلاحمة".
(3) في الأصل: "تقرير".
(4) في الأصل: "قلنا".(16/333)
حاولنا الحكومة، فتحويمنا على النظر إلى النسبة، ولهذا نفصل بين متلاحمة غائصة وبين أخرى دونها، ولا نغفل على كل مذهب عن الفرق بين النصف الذي بقي إلى العظم وبين النصف الذي شُق، ونرى النصف الآخر أشرف، فإنه ينتهي إلى الإيضاح، وإذا كان هذا عمادنا في النظر، فليس يختلف المذهب بأن يجري القصاص أو لا [يجري] (1) وأرش الجائفة [مقدّرٌ ولا قصاص] (2) فيها، والقصاص جارٍ في الإصبع الزائدة وأرشها لا يتقدّر.
فرع:
10588- إذا ثبت أرش الموضِحة، فلم نستوف من الجاني حتى التحمت الموضحة واكتست، فالأرش لا يسقط بما يجري، باتفاق الأصحاب؛ فإن مبنى الباب على اتباع الاسم، ولو أوضح [جانٍ] (3) ذلك الموضع الذي [اكتسى] (4) ، استوجب أرشاً جديداً، ولو أوضحنا رأس الجاني قصاصاًً، ثم [اندمل] (5) موضع القصاص، فقد استوفينا الحق كَمَلاً. وهذا متفق عليه، والجراح قد تختلف في هذا المقتضى على ما سنجمعها في فصلٍ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "وفي الهاشمة عشر من الإبل ... إلى آخره" (6) .
10589- إذا أوضح العظمَ، وهشم العظمَ الذي أوضحه، لزمه عشرٌ من الإبل، فكان الايضاح مقابل الخمس، والهشم مقابل الخمس.
ومن أصحابنا من قال: لم يرد في الهاشمة حديث، وإنما جرى التقدير فيه من جهة الرأي والنظر.
__________
(1) في الأصل: "نجريه".
(2) في الأصل: "مقدور لا قصاص".
(3) في الأصل: "جاز".
(4) في الأصل: "اكتن".
(5) في الأصل: "اهتدى" بهذا الرسم بكل وضوح. ولما أعرف كيف تؤدي هذا المعنى المطلوب من السياق.
(6) ر. المختصر: 5/129.(16/334)
ومن أئمتنا من روى عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشراً من الإبل" (1) .
ولو [هشم] (2) الرجل العظم من الرأس ولم يوضح فيه؟ اختلف أصحابنا فيما يجب: فمنهم من قال: الواجب خمسٌ من الإبل، وهو أرشٌ مقدّر، ومنهم من قال: الواجب فيه حكومة، وسبب هذا التردد إذا انفرد الهشم [ما] (3) حكيناه في الموضحة الهاشمة، فإن أوجبنا [أرشاً مقدَّراً] (4) وهو المذهب، فلا خلاف أن في الموضحة الهاشمة عشراً، فإذا أُفرز منه حظ الموضحة، بقي على القطع مقدارٌ في مقابلة الهشم.
وإن فرعنا على أن الهشم إذا تحدد ولم يسبقه إيضاح، فموجبه حكومة، فهل تبلغ تلك الحكومة أرش موضِحة؟ تردد في هذا جواب القاضي، وهو موضع التردد؛ من جهة أن الموضحة الهاشمة فيها عشر وأرشُ الموضحة منها خمس، فلا يبعد بلوغها إذا انفردت خمساً، وفائدة هذا الوجه أنه لا يمنع أن تنقص حكومة الهشم عن خمس من الإبل، وسبب هذا التردد أنه تفريع على وجه ضعيف.
10590- وفي المنقّلة خمسةَ عشرَ، وقد روي ذلك عن النبي عليه السلام، والمأمومة جائفة، فلو أوضح رأسه واحدٌ، وهشمه آخر في محل الإيضاح، ونقّله آخر، وأمّه آخر، وكل ذلك على محلٍّ واحد، فعلى الأول خمسٌ من الإبل، أو القصاص، ولا قصاص في غيره مما جرى، وعلى الثاني تفاوت ما بين الموضحة والهاشمة على الأصح، وهو وجهٌ، والتقدير والتفاوت خمس من الإبل، وعلى الثالث تفاوتٌ ما بين الهاشمة والمنقّلة وهو خمس، وعلى الرابع تفاوت ما بين المنقلة والمأمومة وهي ثمانية عشر وثلث بعير.
__________
(1) حديث زيد بن ثابت في الهاشمة رواه عبد الرزاق في مصنفه (17348) ، والدارقطني: 3/201، والبيهقي في الكبرى: 8/82.
(2) في الأصل: "قسم".
(3) في الأصل: "بما".
(4) في الأصل: "مقدار".(16/335)
وذكر الأصحاب صوراً يُرشد إليها ما مهدناه، فقالوا: في متلاحمة فيها موضحة أرشُ موضِحة [بلا] (1) مزيدٍ، وفي موضحة فيها هاشمة عشرٌ بلا مزيد، وفي منقّلة فيها في حسابها هشم وإيضاح عشرٌ بلا مزيد، وسبب ذلك مأخوذ مما قررناه.
أما المتلاحمة إذا كان فيها موضحة، فلو كانا موضحة لم يجب فيها إلا خمس.
وهذا المسلك يطّرد في جميع ما ذكرناه.
10591- ثم ذكر الأصحاب ما يتصور في الوجه من الشجاج، أما الموضحة فتتصوّر [فيه] (2) ، وكذلك الهاشمة، والمنقّلة، [وفي الجراحة التي تنفذ إلى داخل الفم والأنف] (3) خلاف سنذكره في فصل الجوائف؛ فإن قلنا: إنه جائفة، فقد تُصوَّرُ على الوجه أمثال شجاج الرأس.
والدامغةُ ليست من الجراح؛ [فإنها توحي وتذفّف تذفيف] (4) حز الرقبة.
وإن لم نجعل الجراحة النافذة إلى داخل الفم جائفة، قال الأصحاب: إن نفذت من الوجه إلى الفم، فيجب فيها أرش منقلة وزيادة؛ فإن [النفوذ] (5) في صورته يزيد على التنقيل، وإن نفذ الجرح من الخد إلى الفم، ففيه أرش متلاحمة وزيادة لصورة النفوذ.
وأعاد الأصحاب في آخر الفصل اختلافاً بين الجاني والمجني عليه، وقد قدمنا ذكره، فلا نعيده، وصورته أن يقول الجاني: ارتفعت الجراح بالسراية من جراحتي، وقال المجني عليه: بل رفعها أجنبي. هذا فن مضى مقرّراً.
__________
(1) في الأصل: "إلى".
(2) في الأصل: "فيها".
(3) في الأصل: "ومن الجراحة التي تبعد ماء واحد الفم والأنف". كذا تماماًً.
(4) في الأصل: "فإنا نوصي وتتوقف توقيف".
(5) في الأصل: "النفرر" (كذا تماماً) .(16/336)
فصل
قال: "وفي كل جرح ما عدا الوجه والرأس حكومة إلا الجائفة ... إلى آخره" (1) .
10592- لما تكلم في أحد القسمين وهو الجرح الذي يشق، [واستوعب] (2) الكلام في شجاج الوجه والرأس، قال: كل جرح يشق على سائر البدن، فلا يتعلق به [أرش] (3) مقدّر إلا الجائفة، فإن موجَبها ثلثُ دية المجني عليه.
والكلام فيه يتعلق بأصول: منها تصوّرها، فنقول: كل جراحة وصلت إلى باطن عضو يُعدّ [مجوّفاً] (4) ، فهي جائفة كالواصلة إلى البطن والصدر، وكالآمّة، وليس من تمام الجائفة أن تخرق [المقابل] (5) ، إذا وصلت إلى المعادات (6) جائفةً، والواصلة إلى جوف عظم الفخذ ليست جائفة، وإن كان ذلك العظم مجوفاً، فإن [العظم] (7) لا يعدّ مجوفاً، وكأن أرش الجائفة على مقابلة خطرها في وصولها إلى تجاويف البدن، وهذا لا يتحقق في الأعضاء التي تعد [مصمتة.
والجرح] (8) الواصل إلى المثانة جائفة؛ وفي الواصل إلى ممرّ البول من القصبة وجهان: أحدهما - أنه جائفة؛ لأن العضو يعد مجوفاً. والثاني - ليس جائفة؛ فإن
__________
(1) ر. المختصر: 5/130.
(2) في الأصل: "ويستوعب".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "مخوفاً".
(5) في الأصل: "المقاتل".
(6) كذا تماماً. وعبارة الغزالي في البسيط ربما توضح المعنى المقصود هنا، قال: "والجائفة كل جراحة تنتهي إلى باطن فيه قوة محيلة كالبطن وداخل الصدر، وإن لم تخرق الأمعاء والمعدة والدماغ، وإن لم تخرق الخريطة".
(7) في الأصل: "العضو".
(8) في الأصل: "متضمنه، والحجر". والمصمت الجامد الذي لا جوف له (المعجم الوسيط) .(16/337)
الجوف الحقيقي ما فيه قوىً محيلة للأغذية أو الأدوية، وليس ممرّ البول كذلك، والجراحة النافدة من العِجان (1) إلى أصل الشَرْج جائفة.
وفي الواصلة إلى داخل الفم والأنف وجهان: أحدهما - أنها جائفة؛ لأنها تُفسد العضو إفساد سائر الجوائف وتعطّل منفعته. والثاني - أنها ليست جائفة؛ فإن داخل الفم والأنف [في حكم الظاهر، وكذا الخلاف في خرق الأجفان] (2) ، فإن الأجفان تنطبق على مضطرب الحدقة (3) انطباق الشفاه على الأفواه.
فهذا بيان محال الجوائف.
10593- ولو أجاف رجلاً في مواضع، ففي كل جائفة ثلث الدية إذا كان بين الجوائف حواجز، والقول في رفع حواجزها وارتفاعها، كالقول في الموضحات وحواجزها حرفاً حرفاً.
ولو طعن رجلاً في بطنه، فنفذ السنان من الظهر، فالمذهب الأصح أن ذلك جائفتان، فإن النفوذ [تحقق من الخلف] (4) .
وقال بعض أصحابنا جائفة واحدة؛ فإنها تعد جراحة واحدة، وهذا لا أصل له، فلسنا في الألفاظ العرفية، حتى نرجع إلى موجب العرف، وإنما ندير هذه المسائل على حقائق [ماثلة] (5) ، ولا شك أن ما جرى نافذتان إلى البطن، ولو طعنه في بطنه، ولم ينفذ، ثم طعنه على ظهره على محاذاة طعنة البطن والتقى النفوذُ، فلا ينبغي أن يعد هذا توسيعاً للجائفة الأولى، [ولو قيل بذلك، لكان بعيداً] (6) .
ولا شك أن من ضرب بطن إنسان بمشقص وأجافه في موضعين بينهما حائل [في
__________
(1) العجان بكسر العين: اسمٌ لما بين الخُصية وحلقة الدبر. (المصباح) .
(2) زيادة اقتضاها السياق، وهي من لفظ الإمام في المسألة، حين عرضها قبلاً في القصاص.
(3) المعنى أن الأجفان تنطبق على التجويف الذي تتحرك فيه حدقة العين.
(4) في الأصل: "يتحقق من الخمس" - ولم يظهر لنا فيها وجه.
(5) في الأصل: "على حقائق فإنها".
(6) في الأصل: "ولو قتل بذلك وكان بعيداً". وهو تصحيف مضلل.(16/338)
الاتصال] (1) قال الشيخ أبو بكر (2) : إذا جعلنا الطعنة النافذةَ جائفة واحدة، فالقياس عندي أن يجب فيه ثلث الدية وزيادة حكومة؛ فإن هذه الجراحة زائدة على الواصلة إلى الجوف، واقتضى ذلك مزيد حكومة، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن تلك الزيادة التي بجانبها (3) حقيقتُها أنها جائفة أخرى؛ فإن مال إلى حقيقة هذا، فالوجه إيجاب ثلثي الدية، وإلا فلا وجه مع اعتقاد اتحاد الجائفة لإيجاب الزيادة، وهذا بمثابة ما لو أجاف بطن إنسان، ثم زاد، فوسع تلك الجائفة، فلا يجب في التوسع مزيدٌ.
10594- ولو أجاف شخصاً جائفة، فاندملت الجائفة، والتحمت، واكتست بالجلد، فالمذهب الصحيح أن أرش الجائفة لا يسقط بما جرى، قياساً على لتحام الموضحة، والجوائف في تفاصيلها كالموضحات.
ومن أصحابنا من قال: إذا التحمت الجائفة، لم يجب إلا حكومة على قدر [الشَّين] (4) ، وهذا القائل لا يستدّ له فرق بين الجائفة والموضِحة، ولا يُتصور عند هذا القائل ثبوت أرش الجائفة إلا بأن تفرض إجافةٌ من جانٍ، ثم يفرضَ من آخرَ حزُّ رقبة المجني عليه، ولا يتَصَور [هذا زوالَ] (5) الجائفة إلا بالتحامها بخلاف الموضحة.
ولو [أجاف] (6) رجلاً جائفةً، فخيطت الجراحةُ، وكادت تلتحم، فجاء إنسان، وقطع الخيط، فانفتقت، لم يلتزم قاطعُ الخيط شيئاً إلا التعزير؛ فإنه لم [يجن] (7) على جرح.
__________
(1) في الأصل: "في القتال" كذا تماماً بدون نقط.
(2) أبو بكر هو الصيدلاني كما صرح بذلك الغزالي في البسيط (سبقت ترجمته) .
(3) في الأصل: "يحيلها".
(4) في الأصل: "السن". والمثبت من البسيط.
(5) عبارة الأصل غير مقروءة، هكذا: "ولا يتصور زايد مال الجائفة" والمثبت من عمل المحقق. والمعنى: أن هذا القائل بعدم الأرش عند التحام الجائفة، لا يتصور ذلك إلا بالالتحام، ولا يكتفي بالاندمال.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: "يجر". ولعل المعنى أن جنايته قطع خيط، وهو إتلاف مالٍ، وليس بعدوان وجناية توجب قصاصاً، أو أرشاً، أو حكومة، ولذا عليه مع التعزير أجرة الخياط، والخيط إن كان قد تلف، قاله الرافعي: (الشرح الكبير: 10/346) .(16/339)
ولو التحمت، وتم التحامها فجاء جانٍ، وجرح ذلك الموضع، فهو مُجيف ملتزم لثلث الدية، وهذا بيّنٌ، ولو التحم ظاهر الجرح، ولم ينتظم الالتحام بعدُ، فإذا جاء وفتق ما كان التحم، فلا يلزمه أرش جائفة، بل حكومة، وقد [يفرض] (1) الالتحام من ظاهر دون الباطن، ولا يجب على الجارح والحالة هذه أرش جائفة، كما ذكرناه، وغرضنا فيما أجريناه الكلامُ على الجوائف.
فلو جرح الظاهرَ الملتحم، فأدى ذلك إلى اتساع الجائفة الأولى وانفتاق لحمٍ نامٍ وجلدٍ متصل بموضع الجناية ونفوذٍ إلى الباطن، فهذه جائفة تسبب إليها، والضمان يجب بالأسباب والسرايات.
ولو كان قطْعُ الخيط من الجائفة سبباً لهلاك المجروح، تعلق الضمان به؛ فإن الأسباب التي يتعلق الضمان بها قد تكون أبعد من هذا، وليس قطع [الخيط من الجرح] (2) بأقلَّ من حفر البئر وغيره من الأسباب.
فصل
قال: "وفي [الأذنين] الدية ... إلى آخره" (3) .
10595- المذهب الذي عليه التعويل أن الدية تكمّل في الأذنين، إذا استؤصلتا ولم يبق شيء شاخصٌ من الصدفة، وفي إحداهما نصف الدية، هذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من خرّج وجهاً في أن الدية لا تجب في الأذنين، وإنما قال هذا الإنسان ما قال؛ من جهة غموض منافعها، والتعويل في كمال الدية على المنافع عندنا، والذي [يقوّي] (4) هذا الوجهَ قليلاً أنه لم يجد لرسول الله صلى النه عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم إيجابَ الدية في الأذنين، وفي الكتاب إيجاب الدية في
__________
(1) في الأصل: "يعوض".
(2) في الأصل: "الجرح من الخيط".
(3) ر. المختصر: 5/130. وعبارة الأصل: وفي الأرش الدية.
(4) في الأصل: "يهوّن"، والمثبت من حكاية الرافعي عن الأمام. (الشرح الكبير: 10/356) .(16/340)
الأنف، كما رويناه في صدر فصل الموضحة، وقد روى بعض الفقهاء (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الأذنين الدية" (2) وهذا مجازفة في الرواية، ولم يصح عندنا في ذلك خبر في كتب الحديث.
ولكن إلحاقَها بمثاني البدن من أعلى وجوه الشبه، وللشبه جريان إذا تقاعدت المعاني.
ثم الذي تخيله الفقهاء من منفعة الأذن أن صدفتها [تجمع الصراخ] (3) ، ومعاطفها تصون الصماخ، وهو غضروف يتأثر بالصوت تأثر الجلد الممدود على الطبل.
[وفشا] (4) بين الأصحاب بعد الاختلاف في الأصل خلافٌ آخر، فقالوا: في الأذنين المستحشفتين وجهان إذا استؤصلتا: أحدهما - فيهما الحكومة، فإن استحشافهما: سقوط حسّهما - بمثابة الشلل في الأعضاء. والثاني - أنه يجب فيهما الدية؛ فإن المنفعة الكائنة في [الحساستين] (5) ثابتة في المستحشفتين؛ فإن المعنى الظاهر جمع الصوت ورده إلى [الصماخ] (6) وهذا لا يختص بالأذن الحسّاسة، وإن عُدّ حِسُّها من تمام منفعتها، على معنى أنها إذا أحست بدودةٍ، اشتغل صاحبها بطردها، فإن لم تكن حسّاسة، فلا يحصل هذا المعنى، فهذا خفي، والمنفعة الظاهرة جمع الصوت، وذاك لا يختلف بالاستحشاف والإحساس.
وعلى ذلك اختلفوا في أن من جنى على [أذن إنسان] (7) واستحشفت أذنه من أثر
__________
(1) بعض الفقهاء: يعني به القاضي حسين، صرح بذلك ابن الملقن. (ر. البدر المنير: 8/451) .
(2) حديث "في الأذنين الدية" رواه البيهقي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: "في الأذنين الدية" قال الحافظ: وفي الطريق عن عمر انقطاع (السنن الكبرى: 8/85، تلخيص الحبير: 4/67 ح 1961) .
(3) في الأصل: "يمنع الصراح"، وعبارة البسيط: تجمع الصراخ وتحرس الصماخ.
(4) في الأصل: "ونشأ".
(5) في الأصل: "الحشاشين".
(6) في الأصل: "الصحاح".
(7) في الأصل: "دون إيساره".(16/341)
الجناية، فهل يجب عليه الدية، كما يجب على من جنى على يدٍ فشلّها؟ فمن أوجب الدية الكاملة في الأذن المستحشفة، لم يوجب بالجناية المؤدية إلى الاستحشاف الديةَ، ومن لم يوجب الدية في الأذن المستحشفة قياساً على اليد الشلاء، أوجب فيما يؤدي إلى الاستحشاف الديةَ.
10596- ويجب في أذني الأصم الديةَ الكاملة؛ فإن السمع ليس حالاًّ في الأذنين، حتى نَفرض سقوطَ ديتها بزواله، وهذا يُسقط [اعتبارُنا المنفعةَ] (1)
المقصودة، والجمال بمجرده لا يتضمن إيجاب الدية عندنا، ويتجه في الخلاف المصيرُ إلى أن الدية لا تكمل [في الأذنين إن لم] (2) يثبت فيهما خبر، وإن ثبت خبر، اتبعناه؛ فإن إيجاب بدل الكل في الطرف ليس منقاساً في الأصل، والأصل المعتمد في تكميل بدل الجملة في [الجزء] (3) توقيف الشارع، كما ذكرته في (الأساليب) .
10597- وإذا ظهر المقصود في الأذنين، فنتكلم في السمع، فنقول: الجناية المزيلة [للطيفة] (4) السمع توجب الديةَ الكاملة، وهو من أشرف المنافع، ثم لا يستريب ذو عقل أن [لطيفة] (5) السمع ليست متعلقة [بجِرم] (6) الأذن، وإنما هو في مقرها من الرأس، وقال العلماء: السمع من الآحاد، وليس من [المثاني] (7) ، بخلاف النظر، وذهب بعض الأصحاب إلى إلحاقه بالمثاني، وكأنه يتخيل [لطيفتين] (8) لكل واحدة نفوذ في صوب أذن، كما يتحقق ذلك في البصر، وهذا مزيّف عند جماهير الأصحاب؛ من جهة أنهم اعتقدوا لطيفةَ البصر في جِرْم الحدقة
__________
(1) في الأصل: "اعتنا بالمنفعة".
(2) في الأصل: "في الأرش، وإن لم" والمثبت من المحقق على ضوء السياق.
(3) في الأصل: "الخبر".
(4) في الأصل: "المطبقة".
(5) في الأصل: "الطبقة".
(6) في الأصل: "يخرم".
(7) في الأصل: "المباني".
(8) في الأصل: "الطبقتين".(16/342)
والعين من [المآقي] (1) ، وليس السمع في الأذن، ولا ينتظم في الاستدلال على تعدده بتعدد الأذن [دليل] (2) .
وهذا موقف يتعين إنعام النظر فيه في وجوه نبنيه عليها، على ما سنبين في سياق [الكلام] (3) .
فإذا ادعى المجني عليه زوالَ السمع بالجناية، لم يصدَّق حتى يمتحن، وامتحانه بأن يراعى غفلاتُه، ثم يصاح به صيحة منكرة، فإن كان سميعاً، ظهر الأثر عليه، وتبين كذبه في دعوى الصمم، وإن لم يظهر الأثر عليه، ظهر صدقُه، ثم لا يُؤمن تماسكه، فمن الناس من يتماسك في مثل ذلك مع السمع، فنحلِّفه، وهذا غاية الإمكان.
ولو لم يدّع زوال السمع بالكلية، ولكن ادعى اختلالَه ونقصانَه، نظر: فإن ادعى النقصان في جهتي الأذنين، غمض التعلق بامتحانه، فإنه ليس ينكر أصلَ السمع، ولو صيح به فتأثر، أمكنه حمل تأثره على المقدار الباقي، فلا وجه إلا أن يعتبر النقصان الذي يدّعيه بسمع رجل في مثل حاله [سنّاً] (4) واعتدالاً، ويكون غير مأووف (5) السمع، ثم نقف على منتهى [سمع] (6) هذا السليم المعتبر، [فنأمر] (7) من يصيح به على مسافة، ثم يبعد حتى ينقطع سمعه من صراخه، ثم نضبط المسافة ونعود، فنعتبر (8) سمع من ادّعى نقصان السمع، ونُبيّنُ مقدار النقصان بالمسافة في صياح
الصارخ به، ونوجب ذلك القدر من الدية، وليس في هذا الامتحان ما يوجب تغليب
__________
(1) في الأصل: "الماى". كذا تماماً.
(2) زيادة من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "شيا".
(5) مأووف: من الآفة وهي العاهة، يقال: شيء مئوف (وزان رسول) أصابته الآفة، والأصل مأووف. ولكنه استعمل على النقص. (المصباح) .
(6) في الأصل: "سمعه".
(7) في الأصل: "ونأمر".
(8) فنعتبر: أي فنقيس.(16/343)
[صدقه] (1) على القلب، فنحلّفه، فلا وجه إلا [التعويل] (2) على الحلف، وهذه يمين لا مستند لها إلا ظهور الجناية، وإمكان اختلال السمع بها، ولو لم نسلك هذا المسلك، لتعطّل نقصان السمع، ولو قُدّر تحليف الجاني في هذا المحلّ [، لهان عليه] (3) بناءً على أصل بقاء السمع، وكل ما يؤدي إلى تعطيل أثر الجناية، فهو غير محتمل من الشرع، وهذا أصلٌ ثابت في قواعد الحجج، وكل ما يمكن الوصول إلى اليقين فيه من غير تعذر ظاهر، فهو المطلوب، وإن عسر الوصول إلى [اليقين] (4) من غير تعذرٍ ظاهر، وشرُف قدرُ المدعَى، [فقد يقع الاكتفاء فيما لا تبلغ ديته ديةَ النفس بالإشهاد عليها كذلك، فإنها لا تستند إلى يقين نظر] (5) ، ولو لم تثبت بالبينات، لأدى هذا إلى تعطل أعظم المقاصد في الدنيا، والشهادة على النفي مردودة، ثم هي على الضرورة مقبولة في الإعسار، وفي أنه لا ولد للميت سوى من حضر.
هذا مأخذ الكلام في ادعاء نقصان السمع.
ولو قال المجني عليه: لست أسمع بإحدى الأذنين أصلاً وعيّنها، قرب امتحانه بأن تصمّم الصحيحة، ونمتحنه في الأخرى حَسَب امتحان من يدعي زوالَ السمع أصلاً.
وإن ادعى نقصان السمع من إحدى الأذنين، ولم يدّع ذهابه، [امتحنا] (6) هذه الأذن بالأخرى، وإن كان ذلك أقرب من الاعتبار بشخص آخر، فنصمم العليلة ونعتبر [منتهى] (7) السماع في الصحيحة، كما تقدم، ثم نصمم الصحيحة، ونطلق العليلة ونضبط ما بين السمعين بالمسافة، ونوجب ذلك القسط من نصف الدية. هذا مسلك الكلام.
__________
(1) في الأصل: "صدور".
(2) في الأصل: "التعديل".
(3) في الأصل: "لها وعليه".
(4) في الأصل: "النفس".
(5) عبارة الأصل: "فقد يقع الاكتفاء بما لا تبلغ ديته النفس والإهلاك عليها كذلك، فإنها لا تستند إلى تعين نظر" وواضح ما فيها. والمثبت من تصرف المحقق.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: "منهن".(16/344)
10598- والذي أشرنا إليه في صدر الفصل أن السمع ليس من المثاني، فهذا أوان بيانه، وحذف (1) الأصحاب إطلاق القول [بأن] (2) الجناية إذا أصمّت إحدى الأذنين، فالواجب نصف الدية؛ من هذا تخيل ما تخيل من قال: إن السمع ينقسم [كانقسام] (3) البصر، وهو من المثاني، ومن تخيل من العلماء أن إحدى العينين إذا أخلّت (4) انقلبت قوة البصر إلى العين الأخرى لست أدري [ما رأيه] (5) في السمع إذا لم [يبق] (6) في أذنٍ [والذي] (7) أشرنا إليه [مذهب مالك] (8) في البصر كما سيأتي.
وكان شيخي أبو محمد رضي الله عنه يمتنع من قطع القول بإيجاب نصف الدية في صمّ إحدى الأذنين، ويصير إلى أنا نعتبر ما نقص في السمع بحالة الكمال، ويقرّب القول في درك النقصان ونسبته إلى السمع قبل الآفة، وهذا الذي ذكره، وإن كان قياساً بيّناً إذا حكمنا بأن السمع ليس من المثاني، فاعتبار [النظر] (9) عند صمم إحدى الأذنين أقرب إلى معرفة جزئيّة النقصان من ذرع المسافات في اعتبار النقصان والكمال، فالوجه ما ذهب إليه الجمهور من تعليق شطر الدية [بصمّ] (10) إحدى الأذنين، لا لأن السمع من المثاني، ولكن لأن هذا معتبر قريب في مقدار النقصان.
فهذا بيان مضطرب الأصحاب في ذلك.
__________
(1) حذف: بمعنى أطلق ورمى، وهذا اللفظ يستعمله إمام الحرمين بهذا المعنى كثيراً.
(2) في الأصل: "فإن".
(3) في الأصل: "بانقسام".
(4) أخلت: المراد ذهب ضوؤها أو قل إدراكها، من قولهم: أخل بكذا إذا أجحف وقصر فيه (المعجم) . وقد تكون الكلمة مصحفة عن كلمة أخرى بمعنى داء من أدواء العيون.
(5) في الأصل: "دايه". كذا تماماً.
(6) في الأصل: "ببعد".
(7) في الأصل: "فالذي".
(8) في الأصل: "فذهب ملك". ومذهب مالك أن في عين الأعور ديةً كاملة؛ فإن قوة الإبصار تنصب كلها إلى العين الباقية إذا ذهبت الأخرى.
(9) في الأصل: "النظير".
(10) في الأصل: "بضم".(16/345)
10599- ومن تمام الكلام فيه أن أهل البصيرة إذا قالوا: لطيفة السمع باقية في مقرها من الدماغ، ولكن ارْتتق بالجناية داخل الأذن [ارتتاقاً لا وصول] (1) إلى زواله، والسمعُ باق بحاله، فهذا في حكم جنايةٍ على الأذن، أو على داخلها، وليس السمع حالاًّ في باطن الأذن، فكيف السبيل إذا تصورت المسألة كذلك؟
فنقول: سيأتي اختلاف الأصحاب في مسألة تناظر هذه: وهي أن المولود إذا كان ولد أصمّ، فإنه لا ينطلق لسانه وإن كان صحيحاً، وعلامةُ صحته وحركاتُه لا تخفى على ذوي البصائر، ولكن الصبي إنما [ينطق متلقياً] (2) مما يسمعه، فإذا لم يسمع لم ينطق، ولو قطع اللسان منه، ففي وجوب الدية فيه خلاف، والأصح أنه لا يجب؛ لأن المنفعة المعتبرة في اللسان النطق، وهو مأيوسٌ منه. فهذا عضو صحيح تقاعدت منفعته لا لآفةٍ فيه، فالْتحق بالعضو المأووف.
فإذا ظهر هذا، عُدنا إلى مسألتنا، وقلنا: إذا لم يكن للسمع نفوذ، فهو متعطل بالكلية؛ فالوجه قطع القول بإيجاب الدية، وليس يخرج هذا على الخلاف الذي أشرنا إليه في لسان الصبي الأصم؛ فإن صحة لسانه معلومة أو مظنونة ظناً معتبراً في الشرع، ولسنا نثق ببقاء السمع والسلامة، فنبني الأمر على تقدير زوال السمع.
10600- فقد انتظم في السمع أمور بديعة: منها أنه ليس حالاًّ في الأذنين، وإنما هو لطيفة في مقرها من الرأس، وارتتاق منافذ الأذنين يوجب دية السمع، والمعاني التي لا تحلّ الأعضاء لا تضمن دياتها بالجناية على الأعضاء التي ليست محلاًّ لها، ومن البدائع أن السمع ليس من المثاني وله حكم المثاني، فإن الجناية التي تصمّ إحدى الأذنين موجبها نصف الدية، ولا تعويل على ما كان تردد قوله (3) فيه، ثم أوجبنا مع هذا كلِّه الديةَ في أذن الأصم، فلا منفعة في الأذن تعقل إلا ردّ الصراخ إلى الصماخ، وهذه الأشياء مجموعها يتخيلها الفطن خارجة عن القوانين، والفقيه يتلقاها بالقبول؛
فإنها جارية على القياس اللائق بالباب.
__________
(1) في الأصل: "أرشا ولا وصول".
(2) في الأصل: "ينطلق متلفاً".
(3) يشير إلى ما كان من تردد شيخه الشيخ أبي محمد، الذي ذكره آنفاًً.(16/346)
فصل
"وفي ذهاب العقل الديةُ ... إلى آخره" (1) .
10601- الجناية المزيلة للعقل موجبها الدية الكاملة؛ فإن العقل أشرف المعاني، وهو مِلاك البدن، ثم لم يتعين للشافعي محلُّه، وأتى منه بهذا السبب ترددٌ في أمر نذكره في مساق الفصل.
قال رضي الله عنه: "إذا ظهر زوال العقل مرتباً على الجناية، وجبت الدية" ويمكن تقدير امتحانٍ فيه، [إذا] (2) اتهمنا المجني عليه [بالتشبه] (3) بالمجانين، وهو سهل لا عسر فيه، [وذلك] (4) إذا اتبعناه وراقبنا خلواته، فقد نعثر منه على انتظامٍ في أفعال العقلاء وأقوالهم، فنمتحنه بهذا المسلك، فإن لم نعثر على أمرٍ مخالف لما ظهر منه، [فيبعد] (5) الاعتصام باليمين أيضاًً، وهذا يناظر ما إذا ادّعى [الصبي] (6) البلوغ، فإنا نصدقه؛ ولا نطلع على هذا إلا من جهته، فذهب المحققون إلى أنه لا يحلّف؛ من جهة أنه لو كان صادقاً، فلا معنى لتحليفه، فإن كان كاذباً، فهو صبي إذاً، والصبي لا يحلف [سبق ذكر ذلك] (7) في كتاب الحجر، فإذا كنا لا نحلّف من يدّعي البلوغ لغائلة توجد من دوائر الفقه، فكيف نهجم على تحليف مجنون؟
ولو كان يجن أياماً ويُفيق أياماً، كان هذا من [اختلال] (8) العقل، ثم رأى الأئمة اعتبار [الإفاقة بالزمان] (9) من الجنون والعقل، وهذا أقرب معتبر ممكن، وإذا كنا
__________
(1) في المختصر: 5/130.
(2) في الأصل: "وإذا".
(3) في الأصل: "بالشبهة".
(4) في الأصل: "ولكن".
(5) في الأصل: "فيتعد".
(6) في الأصل: "المشاهد". والمثبت لفظ الغزالي في البسيط.
(7) في الأصل: "سنذكر ذلك".
(8) في الأصل: "اختلاف".
(9) في الأصل: كلمتان غير مقروءتين رسمتا هكذا: "القفار والبقايا" كذا تماماًً.=(16/347)
نفرح (1) باليمين حيث لا متعلق غيرها، فإذا ظهر [إمكانه] (2) ، تمسَّكْنا به، ثم إذا عقل أمكن تحليفه في زمان العقل إن اتهمناه في التشبه بالمجانين.
10602- قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قطع الجاني يدي رجل وزال عقله، فالواجب دية أو ديتان" فعلى قولين: أحدهما - تجب ديتان، وهو الذي لا ينقدح [غيره] (3) في القياس، فإنا نقطع بأن العقل ليس على اليدين، ومن الأصول الممهدة أنه إذا زال معنىً عند قطع عضو ولم يكن ذلك المعنى حالاًّ فيه، فإنا نوجب في العضو بدله، وفي المعنى الفائت أرشه.
والقول الثاني - أنا لا نوجب إلا ديةً واحدة، إذا قطعت اليدان وزال العقل؛ فإن العقل ليس له محل متعين حتى يجتنب موقعه، ولا يُعد مجتنبُ محله هاجماً عليه، وإذا كان كذلك، كان إضافة إلى عضو بتأويل إن كان قَطْعُ ذلك العضو مفضياً إلى زواله، والحلول الذي اعتبرناه سببه أن قطع العضو يزيل ذلك المعنى، فإذا هجمت الآلام أوشك أن يزول بها العقل، كما أن الروح ليس يتعين له محل، وإذا زال، تعينَ الحكمُ [بالإدراج] (4) . ثم لفظ الشافعي يشير إلى أن الواجب ديةُ العقل وديةُ اليد مندرجةٌ.
وهذا فيه اضطراب؛ فإن الأطراف إنما تدرج تحت النفس؛ من قبل أنها تتعطل بفوات الروح، والأعضاءُ لا تتعطل بفوات العقل، فإن جوارح المجنون مضمونة بالديات، فليتأمل الناظر ذلك.
فلو أتبعنا دية العقل ديةَ اليد، كان بعيداً، ولو أتبعنا دية اليد ديةَ العقل، لم يكن على قياس إتباع الأطراف، وبهذا يظهر ضعف القول.
__________
= والمعنى قياس الإفاقة والجنون بالزمان، وإيجاب أرش العقل بالنسبة لأيام جنونه.
(1) كذا (تماماًً رسما وضبطاً) والمعنى مستقيم بها، وإن لم نعهدها في لغة الإمام ولا الفقهاء.
والله أعلم.
(2) في الأصل: "على".
(3) في الأصل: "عندنا".
(4) في الأصل: "بالإرداع".(16/348)
ولو قطع يداً، فزال العقل، والتفريع على القول الضعيف، [فالواجب] (1) ديةٌ، فلو قطع يدين ورجلين، فزال العقل، وجبت ديتان (2) ، وهذا يُبَيِّن أن الأطراف لا تتبع العقل، كما تتبع الروح.
وذكر القاضي: أن الجراحة إذا لم يكن أرشها مقدراً، وترتب عليها زوال العقل، اندرج الأرش في دية العقل، قولاً واحداً.
وهذا ليس بشيء؛ فإن عدم التقدّر لا يغير من عوض المسألة شيئاًً، وليس لقول الإدراج في الأرش المقدر من الثبات ما يوجب هذا التفصيل، والوجه إجراء القولين في الأرش كان مقدراً أو غير مقدر.
فصل
قال: "وفي العينين الدية ... إلى آخره" (3) .
10603- لطيفة البصر مضمونة [بالدية] (4) وهي من أشرف المعاني، واتفق علماؤنا على أنها منقسمة على العينين حالّةٌ فيهما، فتكون إذاً من المثاني، فإن ادعى المجني عليه ذهابَ البصر من عينيه، سهل [اختباره، فنغافله ونقرب] (5) حديدةً أو غيرها من عينيه، وننظر هل يطرف؟ ويعسُر التماسك في هذا. ثم إذا كان لا يطرف، ولا يُتبع الشخص بصرَه، ولا يحدّق في صوب حدقتي من يخاطبه، ظهر صدقُه، ثم نحلفه مع هذا.
وإذا ادّعى نقصان البصر في العينين، أو في إحداهما، فسبيل الامتحان وضبط
__________
(1) في الأصل: "والوجه".
وقوله: فالواجب دية، على القول في اندراج دية اليد في دية العقل، وإلا على القول الآخر، فالواجب دية ونصف، للعقل واليد.
(2) هذا على الاندراج أيضاً، حيث يندرج الأقل في أكثر، فاندرجت دية العقل في دية الأطراف. وإلا فيكون الواجب ثلاث ديات.
(3) ر. المختصر: 5/130.
(4) في الأصل: "باليد".
(5) في الأصل: "اصاره معلمه ويرى" كذا تماماًَ.(16/349)
مقدار النقصان ما قدمناه في السمع، فلا نعيده.
والجناية على عين الأحول والأخفش (1) إذا أزالت البصرَ، توجب الدية الكاملة، وإن لم تُزل إلا بصراً ضعيفاً، وهو بمثابة ما لو جنى على يد ضعيفٍ في البطش، فأشلها، فإنه يلتزم ما يلتزمه بإشلال اليد الأيّدة التامة القوة، وسأعقد في بيان هذا وأمثاله فصلاً، إن شاء الله.
10604- ثم ذكر الشافعي أن الجاني إن أنكر بصر المجني عليه قبل الجناية، فكيف الوجه؟ وهذا أمرٌ تقدّم ذكره، وغرضه بإعادته أن المجني عليه إذا أقام شاهدين على أنه كان بصيراً قبلُ، ثبت المقصود.
والشاهد يَعتمِد في الشهادة على البصر ما ذكرناه في طريق الامتحان، [ويستبين] (2) بصرَ البصير بقرائن الأحوال على الضرورة، ثم ينبغي أن يجزم الشهادةَ في مجلس الحكم، وله أن [يجزمها] (3) إذا وثق بالمخايل التي ذكرناها، ولو أنه لم يجزم الشهادة وذكر الأحوال التي ابتنى عليها علمُه بالبصر، فالقاضي لا يقضي به.
فإن قيل: إذا كان له أن يشهد تعويلاً على ما ذكر، ولا معوّل له في تحمل الشهادة غيرُه، [فلم لم] (4) يعتمده القاضي؟ قلنا: لا تحيط العادة بما يفيد العلم من قرائن الأحوال، وهي تدق عن مدارك الأوصاف، وإنما يحيط بها [العِيان] (5) ، والقاضي لا يحلّ محل الشاهد فيما استفاده من العلم بزعمه، فليجزم الشهادة، ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه: أن الشهادة سبيل تحملها على منافع سائر الأعضاء تعويلاً على المخايل كما ذكرناه في البصر.
__________
(1) الخَفَشُ صغر في العينين وضعف في البصر، مصدرٌ من باب (تعب) والذكَر (أخفش) والأنثى (خفشاء) وهو خِلْقةٌ، وصاحبه يبصر بالليل أكثر من النهار، وفي الغيم دون الصحو (المصباح) .
(2) في الأصل: "ويستعين".
(3) في الأصل: "يلزمها".
(4) في الأصل: "فلو لم".
(5) في الأصل: "العينان".(16/350)
فصل
قال: "وفي الجفون إذا استؤصلت الدية ... إلى آخره" (1) .
10605- لا خلاف أن الدية تكمل في استئصال الأجفان وهي أربعة؛ ففي كل جفن ربع الدية [وكل متعدّد على البدن ضمنت منه المنفعة] (2) وله أرش مقدر، فذلك الأرش يتوزع على الآحاد على مقتضى العدد، فإذا وجب في أصابع اليدين الدية، وهي عشرٌ، وجب في واحدة منها عُشر الدية، وهذا يجري مطرداً في كل ما يتعلق بجملته دية.
ومن الأعضاء [ما لم يرد] (3) في الشرع تعليق الدية بجملتها، وقدّر إثبات المقدر في آحادها كالأسنان، ثم الدية إنما تكمل في الأجفان إذا استؤصلت، واستئصالُها بقطع جميع ما يتجافى حتى لا يبقى منها شيء، وإذا قطع العظم من جفنٍ، فقد تتقلّص المآقي، وهو معدود من الجفن لا تتم الدية دون استئصالها.
ولو جنى الجاني على الأهداب، فأفسد منبتها، غرِم الحكومة لا محالة، وإذا استأصل الأجفان بعد زوال الأهداب، أُلزم بالأجفان [الديّةَ] (4) التامة لا شك فيه، وإذا استأصل الأجفان وعليها الأهداب، وألزم الدية في الأجفان، فهل يلتزم مع الدية الحكومة في الأهداب؟ ذكر العراقيون والقاضي وجهين: أحدهما - أنه لا يلتزمها؛ فإنها على الأجفان، وقد ضمن الأجفان بديتها، والقياصُ أن نُتبع الأهدابَ كلها، ولا خلاف أن من أوضح رأس رجل استأصل قطعةً من جلد رأسه واللحم تحته، فلا يلتزم إلا أرش الموضحة، فإذا كنا نتبع شعرَ الرأس أرش الموضحة بلا خلاف، وجب أن نُتبع الأهدابَ الجفون.
__________
(1) ر. المختصر: 5/130.
(2) في الأصل: "أو كل فقدر على البدن أحسن منه المنفعة وله أرش ... " هكذا تماماًً، وأنت ترى ما فيها. والله المستعان.
(3) في الأصل: "ما لم ير".
(4) في الأصل: "الحكومة".(16/351)
والوجه الثاني - أنا نفرد الأهداب بالحكومة؛ فإنها عظيمة الوقع في الحال، وإذا زالت شوّهت العينين، وفيها منفعة على حال؛ فإنها تُسْبل في ثوران [الرياح] (1) ،
فتدرأ الغبار ولا تمنع نفوذ البصر، وليست كشعر الرأس، فإنه ليس فيها منفعة بها مبالاة، فاتجه فيها أن تُتْبع. وكان شيخي يقطع بالتبعية.
ثم إذا أوجبنا في كل جفن ربعَ الدية، ففي بعض الجفن بعض الربع إذا أمكن [نسبة] (2) ما قطع [لما] (3) بقي. وبالجملة [إنا نتشوف إلى التقدير جهدنا، طالما وجدنا إليه سبيلاً، ولا نتجه للحكومة إلا عند تعذر إمكان التقدير] (4) ثم إن الحكومة بالاجتهاد تنتهي إلى إثبات قدرٍ يراه مَنْ إليه الرجوع، ونوجب بحسب هذا في قطع بعض الأذن مقداراً إذا انتظم له النسبة، وقد يُشكل الأذن من جهة اختلاف خلقته وشخوص [غضروفه] (5) ولو أردنا أن نعتبر شحمة الأذن بالصدفة الغضروفية ذات العضو، لم نتمكن منه إلا على وجه التقريب.
ففصل
قال: "وفي الأنف إذا أُوعي مارنُه جدعاً الدية ... إلى آخره" (6) .
10606- في الأنف الدية الكاملة، وتتم الدية بالمارن -وهو ما لان منه-[فإذا] (7) استؤصل وانتهى القطع إلى القصبة، فلم يبق شيء -منه- شاخص [في] (8) الوجه، كملت الدية فيه.
__________
(1) في الأصل: "الصحاح". ولم أجد لها معنى، ولا هي من أسماء الريح.
(2) في الأصل: "سببه".
(3) في الأصل: "فيما".
(4) في الأصل: "إنا نسوف إلى التقرير جهة، فأما إذا وجدنا إليه سبيلاً، ولا ينهم الحكومة إلا بعد أن إمكان التقدير".
(5) في الأصل: "عصوته".
(6) في المختصر: 5/131.
(7) في الأصل: "إذا".
(8) في الأصل: "منه".(16/352)
ثم المارن [منخران] (1) وحاجزٌ بينهما، فلو قطع الجاني أحد المنخرين، وبقي الحاجز والمنخر الآخر، ففيما يجب في المنخر طرق للأصحاب: منهم من قال: فيه ثلث الدية؛ فإن أقسام المارن ثلاثة: منخران وحاجز، وفي كل قسم منفعة، ولا نظر إلى أقدار المنافع، [كالأصابع] (2) ؛ فإن منافعها متفاوتة وأروشها متساوية، هذا وجه.
ومن أصحابنا من قال: يجب في المنخر الواحد إذا قطع وإن بقي الحاجز نصفُ الدية؛ فإن المقصود من المنفعة في المنخر، والحاجزُ كالتابع، وهو يجري من المنخرين من حيث إنه منزلُهما منزلةَ الكف من الأصابع، فالدية تنقسم على المنخرين انقسامهما على [المثاني] (3) ، فالمنفعة لظاهر الأنف -[بعد الجمال- منعُ الهوام] (4) من مصادمة الخيشوم المتصل بالعظم المُشاشي، ولا ينتفع الأجدع ما لم يتخذ أنفاً من جوهر من الجواهر، وهذه المنفعة ليس منها للحاجز بين المنخرين كبير وقع، ولعل أثر الحاجز في [دفع الغبار وتعطيل ما يسيل من رطوبات الرأس] (5) ، حتى يجري على
تدريج؛ ثم تدركه الأنفاس فيجف، ومنفعة الكف أظهر من منفعة ذلك.
وذكر بعض المصنفين (6) وجهاً أن الواجب [في] (7) أحد المنخرين حكومة، وهذا
__________
(1) في الأصل: "منجدان".
(2) في الأصل: "بالأصابع".
(3) في الأصل: "المباني".
(4) عبارة الأصل: بعد عما ومنع الرام من مصادمة الخيشوم ... ، وهو تصحيف عجيب والمثبت من كلام الغزالي في البسيط، وعبارته بتمامها: "لأن منفعة المارن بعد الجمال منع الهوام من مصادمة الخيشوم المتصل بالعظم المُشاشي، ولا بد للأجدع من اتخاذ أنفٍ لذلك" (البسيط- جزء (5) ورقة 54 يمين وشمال) .
وظاهر تمام الظهور أن عبارة الغزالي هي بعينها -تقريباً- عبارة شيخه الإمام.
(5) في الأصل: "وقع الرهز وتعليل ما يسيل من رطوبات الرأس". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق وألفاظ الرافعي.
(6) سبق أن أشرنا أن الإمام يقصد بهذا اللفظ أبا القاسم الفوراني، وقد صرح باسمه الغزالي في البسيط، فقال: "وذكر الفوراني وجهاً أن الواجب في أحد المنخرين الحكومة، وهذا هوسٌ بيّن" (السابق نفسه) وهو قد نقل عبارة شيخه ولكنه زاد في قسوة الحكم على (الفوراني) .
(7) في الأصل: "من".(16/353)
ساقط؛ فإنا ذكرنا أن ما تجب الدية فيه تجب [أقدار الدية في أفراده] (1) ، كما ذكرنا في الأجفان والأذن. وإن عَنَى بالحكومة أنا لا نوجب نصفاً ولا ثلثاً، ولكن نُثبت [بالنسبة] (2) إلى ما بقي، فهذا أوجه الوجوه عندي، وعبارة الحكومة في هذا المعنى زللٌ، فليُعتقد هذا الوجه الثالث، على هذا النسق.
10607- ومما يتم به التفريع في ذلك أن من أوجب في المنخر الواحد الثلثَ -جرياً على ما ذكرناه في توجيه ذلك الوجه-[يوجب في الحاجز إذا أفرد الثلثَ] (3) وغالب ظني أني سمعت الإمام (4) يذكر ذلك، ولست واثقاً به على التحقيق، والذي صرح به الأصحاب أن واجب [الوترة] (5) لو أفردت بالإبانة الحكومة، وهذا تخليط بإبطال الثلث (6) .
ولو قطع قاطع القصبة بعد قطع المارن، وهي العظم يلتزم حكومةً، ولو قطع الجاني المارن والقصبة معاً، فظاهر المذهب أنه لا يلتزم إلا ديةً واحدة؛ فإن اسم الأنف يتناول الكل، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوجب في الأنف الدية.
ولو قطع قاطع شيئاًً من طرف المارن، فظاهر المذهب أن الدية مقسطة على المارن لا على الأنف من أصله، وسأجمع في هذا وفي الحشفة والذكر، والجملةِ (7) واليدين، وما يظهر من السن مع سِنْخه فصلاً كاملاً في معناه، حاوياً لطرق الأصحاب.
__________
(1) عبارة الأصل: "يجب إبدار الدية في إقراره".
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، والمثبت على ضوء ما حكاه الرافعي عن الإمام.
(3) زيادة اقتضاها السياق. وهي مأخوذة من معنى ما قبلها وما بعدها.
(4) الإمام: يعني والده.
(5) في الأصل: "الدية". والمراد بالوترة الحاجز، واخترنا لفظ (الوترة) لأنه أقرب صورة للمرسوم بالأصل، والرافعي ردَّد (الوترة) مكان الحاجز أكثر من مرة.
(6) الذي نقله الإمام عن تصريح الأصحاب، معارض بما حكاه الرافعي عن أبي علي الطبري، وأنه يوجب ثلث الدية لو رفع الحاجز وحده. (ر. الشرح الكبير: 10/361) .
(7) المراد بالجملة النفس وديتها.(16/354)
ولو جنى الجاني على الأنف، فاستحشف، وسقط حسُّه، ففيه الخلاف الذي ذكرناه في استحشاف الأذن؛ فإن هذا العضو مستحشفاً وحساساً على حدٍّ قريب في المنفعة.
10608- ثم الشمُّ لطيفة مضمونة بالدية الكاملة [كالسمع] (1) والبصر.
وفي بعض الطرق وجهٌ غريب أن الشم لا يضمن بالدية الكاملة، وعلى [مزيله] (2) الحكومة. وهذا القائل يزعم أن الانتفاع بالشم من استنشاق الدماغ [للطيب، والتأذي] (3) بالإنتان أكثرُ من التلذذ بالروائح الطيبة (4) ، وهذا خيال لا أصل له، وهو أحد الحواس فلا وجه إلا القطع بمقابلته بالدية الكاملة، وهذا الوجه حكاه صاحب التقريب وغيره من الأئمة.
وفي أنف الأخشم (5) ما في أنف صاحب الشم، كما ذكرناه في أذن الأصم والسميع.
وإذا ادعى المجني عليه زوالَ الشم، امتُحن بأن يتغفل ونُدني -في غفلاته- من أنفه رائحةً ذكية طيبة أو منتنة، والغالب أنه يتأثر بها انبساطاً واستبشاراً] (6) أو [انزواءً] (7) وانقباضاً، ثم نبني على ذلك ما قدمناه من خلافه مع الامتحان.
وإذا ادّعى نقصاناً في الشم، فليس معنا فيه معتبر -كما تقدم في السمع والبصر- فلا حاجة إلا الرجوع إلى المجني عليه، فنقول له: أنت أعرف بمقدار الخلل، فاذكره واحلف، يَغْرَم لك الجاني، وإن لم يذكر لنا مقداراً، وهو المدعي، وهو كمن يرى
__________
(1) في الأصل: "بالسمع".
(2) في الأصل: "تنزيله".
(3) في الأصل: "الطيبة ولا يتأذى" والتصويب من كلام الغزالي في البسيط.
(4) عبر عن هذا الغزالي في البسيط بألفاظ الإمام تقريباً، فقال: "وفي بعض الطرق وجه غريب أنه لا يضمن بكمال الدية، فإن التضرر به لكثرة الإنتان أكبر من التلذذ مع قلة الطيب، وهذا هوس" ا. هـ (السابق ورقة 61 يمين) .
(5) المراد بالأخشم هنا من فقد حاسة الشم. (المصباح) .
(6) في الأصل: "واستيثاراً".
(7) غير مقروءة في الأصل. والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط.(16/355)
شيئاً مجهولاً وسبيله في نفسه أن يأخذ بالأقلِّ المستيقن.
وقد يخطر للناظر في أثناء هذه الفصول تقدير عَوْد بعض هذه اللطائف، بعد ظننا زوالها، وسأجمع ذلك كلَّه عند ذكر التفصيل في عَوْد السن من المثغور وغير المثغور.
فصل
قال: "وفي الشفتين الدية ... إلى آخره" (1) .
10609- لا خلاف في وجوب الدية في الشفتين، وهما من المثاني عندنا، وفيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية، ولا نفضّل العليا على السفلى، وقال مالك (2) :
__________
(1) ر. المختصر: 5/131.
(2) بالبحث في مصادر الفقه المالكي لم نجد هذا الذي نسبه الإمام إلى مالك رضي الله عنه لا في القوانين الفقهية لابن جزي، ولا في حاشية الدسوقي، ولا في المعونة للقاضي عبد الوهاب، ولا في الكافي لابن عبد البر، ولا في شرح الحطاب، ولا في جواهر الأكليل، ولا في الأشراف للقاضي عبد الوهاب، ولا الشرح الصغير ولا الرهوني ولا حاشية العدوي ولا منح الجليل بل وجدنا القاضي يقول في الإشراف: روي عن زيد بن ثابت لا أن في العليا ثلث الدية، وفي السفلى ثلثيها" (عكس ما حكاه الإمام عن مالك) ولم يقل به مذهباً للمالكية بل نص على أن في كل واحدة من الشفتين نصف الدية وأكّد ذلك بتشبيههما باليدين.
أما في المدونة فقد وجدنا القطع والجزم بأن هذا ليس مذهباً لمالك ونص عبارتها: "قلت: أرأيت الشفتين أهما سواء عند مالك؟ قال: نعم هما سواء في كل واحدة نصف الدية. وليس يأخذ بحديث سعيد بن المسيب" ا. هـ
ومما يجب تسجيله من ملاحظات أننا وجدنا مالكاً في الموطأ يروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: "في الشفتين الدية كاملة، فإذا قطعت السفلى ففيها ثلثا الدية" (وهو عكس ما حكاه إمام الحرمين عن مالك) .
ثم وجدنا في مصنف عبد الرزاق يروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: "في الشفة السفلى ثلث الدية وفي العليا ثلثا الدية".
قلت: الله أعلم أيهما نقل الصواب!
ثم لسنا نقطع بمصدر هذا الوهم الذي قاله الأمام، ولا نعرف سرّه، فلو لم نجد هذا القطع بخلافه في المدونة، لكان هناك احتمال بأن يقال: إنه كان قولاً عند متقدمي المالكية، ثم استقرّ المذهب على غيره. ولكن المدونة قطعت قول كل خطيب.
(ر. الموطأ: 2/856، المدونة: 4/437، مصنف عبد الرزاق: 17478، =(16/356)
في العليا ثلثا الدية، وفي السفلى ثلثها.
ثم أول [ما نُعنى] (1) به ذكر حدِّ الشفتين، وقد اختلف عبارة أصحابنا، فقال بعضهم: الشفة العليا حدّها في كمال الدية ما يستر اللثة وعُمورَ (2) الأسنان في طول الوجه، ومن الشدق إلى الشدق في عرض الوجه، وكذلك القول في الشفة السفلى.
وعبر آخرون عن ذلك بعبارة أخرى، وهي أشفى مما ذكرناه، مع أنه لا خلاف في المعنى، فقال: الشفة العليا تتجافى في محاذاة الوترة من الأنف، ثم ترتق عندها، فنعبّر خطاً على مسامتة موضع الارتتاق والانتهاء إلى الشدق. وهذا [موقع] (3) التعليل، فإنا على قطع نعلم [أنا] (4) لا نبغي مزيداً [عن] (5) موضع الارتتاق، فإذا وضح ذلك، فلا وجه للتعليل إذا جاوزنا هذا المحل، حتى [نعوج] (6) الخط من طرفيه اعوجاج الحاجب بموضع الاتصال إذا سوَّرَ الناظرَ، فليعتبر، وهذا القول يتحقق في الشفة السفلى، فإنها ترتتق في جهة العَنْفَقة ثم نعتبر القطعَ من الجانبين على مسامتة منتهى التجافي إلى محاذاة الشدقين، ثم نعتبر القطعَ في طول الوجه إلى الشدق، كما صورناه في الشفة العليا، والذي أتخيله [أن مَنْ] (7) راعى منتهى التجافي، فقوله يخالف قول من يعتبر انكشاف اللثة؛ فإن اللثة هي التي تستر سِنْخ (8)
__________
= الإشراف: 2/827 مسألة 1585، القوانين الفقهية: 334، الكافي لابن عبد البر: 598، المعونة: 3/1328، منح الجليل: 9/109) .
(1) في الأصل: "يعمى".
(2) العمور جمع عَمْر، وزان فلوس جمع فلس، وهو اللحم الذي بين الأسنان (المصباح) .
(3) في الأصل: "مواقع".
(4) في الأصل: "أن".
(5) في الأصل: "في".
(6) في الأصل: "نعرم".
(7) في الأصل: "أو من راعى".
* تنبيه: نذكر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروقَ نسخٍ، وإنما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وتوسمه. والله الهادي إلى الصواب.
(8) سنخ كل شيء أصله، وهو بكسر السين، والجمع أسناخ (المصباح) .(16/357)
السن، ووراء سنخ السن ما ليس مركبَ السن، ومنتهى التجافي وراء مركبات الأسنان.
وذكر شيخي رضي الله عنه أن الدية تكمل بقطع ما ينتؤ من الشفتين إذا انطبقتا (1) ، وهذا [الفارق] (2) مقصود، وهو قريب، فإنا [سنوضّح] (3) أن المرعي هذا القدر في الشفتين.
وإذا جمعنا هذه العبارات، انتظم منها خلاف ظاهر في المعنى، ولو قيل: إذا قطع من العليا ما لم ينطبق معه (4) ما بقي على السفلى، مع تقدير (5) السفلى، وقطع من السفلى ما لا ينطبق -مع تقدير (6) العليا- على العليا حتى يحصل بقطعهما امتناع الانطباق، كان قريباً (7) ، ويمكن أن نعزي (8) هذا إلى المذهب؛ فإني لم أقله حتى رأيت مرامز في كلام الأئمة تشير إلى [مراعاة فَرْق] (9) الانطباق، ولم يختلفوا في أن الأجفان يراعى استئصالها، والسبب فيه أن منفعتها تستر [الحدقة] (10) فحسب، ولا يتحقق كمال الجناية إلا بالاستئصال، وفي الشفتين منافع متصلة بالأجزاء المتصلة بها، وكان سببُ التردد ما نبهنا عليه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى أخذ شيء من الشدق، [في] (11) عرض الوجه، وإنما المقطوع من الشفتين منحدر بالانتهاء إلى الشدقين.
__________
(1) هذا هو التحديد الثالث للشفتين.
(2) في الأصل: "يفارق".
(3) في الأصل: "نستوضح".
(4) معه: أي مع القطع. والمعنى ما لم ينطبق ما بقي منه على السفلى.
(5) أي مع تقدير بقائها.
(6) في الأصل: "تقرير".
(7) هذا هو الوجه الرابع في تحديد الشفتين، وهو من تخريج الإمام، خرّجه من مرامز كلام الأصحاب، كما سيشير إلى ذلك في كلامه الآتي.
(8) نعزي: الفعل (عزا) واويٌّ ويائي، ويكثر الإمام من استعماله بالياء.
(9) في الأصل: "من عليه فوق الانطباق".
(10) في الأصل: "الحرية".
(11) في الأصل: "وفي".(16/358)
فصل
10610- إذا قطع الجاني شيئاًً من الشفة العليا أو السفلى، ولم نر ذلك -من [طريق التقدير] (1) - الشفةَ الكاملة، ولكن تقلص محل القطع، وانكشف ما تحته انكشافاً، وبلغ الحدَّ المعتبر في استئصال الشفة، [فقد] (2) اختلف أصحابنا في هذه الصورة، فمنهم من نظر إلى القدر الذي قَطَع الجاني وإلى القدر الذي أبقاه ووزع الدية. ومنهم من قال: إذا انكشف ما اعتبرناه على كماله بسبب التقلّص، فهو كما لو انكشف بسبب القطع والاستئصال، فتجب الدية الكاملة إن حصل تمام الانكشاف، وهذا القائل يحتج بأن الدية تكمل بالقطع مرة وبإبطال المنفعة أخرى، والمنفعة المقصودة الظاهرة من الشفة سترُ ما تواريه الشفة، وإذا أورثت الجناية الانكشافَ التام فالجِرْمُ المتقلص ساقطُ المنفعة، بمثابة اليد الشلاء، ولو قطع رجل إصبعاً وأشل الأصابع الباقية، التزم تمام الدية، كذلك هاهنا، وهذا متجهٌ حسن.
فصل (3)
قال: "وفي اللسان الدية ... إلى آخره" (4)
10611- لا خلاف أن اللسان عضو شريف فيه دية، وقد نص الشارع عليه في الصحائف المشتملة على أروش الجنايات، وصَدْرُ الفصل أن اللسان عضو ديةٍ، ومنفعتُه المعتبرةُ في الأرش الكلامُ، وهذه المنفعة حالّةٌ فيه، وليست كالسمع
__________
(1) في الأصل: "طرق المقدار".
(2) في الأصل: "وقد".
(3) هذا الفصل أخره الناسخ عن الفصل الذي يليه، وقدمناه نحن رعاية للترتيب؛ فإن الفصل الآخر يعتبر فرعاً عنه وتكملة له، ويبدو -والله أعلم- أن الناسخ بسبب رجع للبصر نسخ أولاً، ثم عاد فنسخ هذا بعده، وفاته أن ينبه على ذلك، أو لم يشأ أن ينبه.
ولا مجال للظن بأن الخلل كان في ترتيب النسخة التي كان ينقل عنها؛ فإن ذلك الفصل على أي وجهٍ لا يكمل صفحة بأي حجم.
(4) ر. المختصر: 131/5.(16/359)
بالإضافة إلى الأذنين، والشمِّ بالإضافة إلى الأنف، ولا التفات إلى الأطراف، ولكن المنفعة الظاهرة هي المعتبرة، ثم الكلام ينتظم من الحروف، وهي أصواتٌ منقطعة على مخارج لها، والحروفُ التي منها انتظام الكلام ثمانيةٌ وعشرون، ولام ألف حرفان [كررا لغرض] (1) لا يليق استقصاؤه بما نحن فيه.
فلو فرضت جناية انتقص بها بعض الحروف، فيقع التوزيع على ما فات وبقي، ثم الذي صار إليه جماهير الأصحاب أن التوزيع على الثمانية والعشرين.
وذهب الإصطخرىِ إلى أن الحروف [الحَلْقية] (2) تُستثنى من جملة الحروف، وكذلك الشفوية، وهي الميم والباء، ويقع التوزيع على باقي الحروف وهي [اللسنية] (3) حتى إذا أبطلت الجناية حروفَ اللسان، كملت الدية، فإن أبطلت حروفَ اللسان والشفة والحلق، وجبت الديةُ الكاملة في حروف اللسان والحكومةُ في حروف الشفة والحلق.
وهذا الوجه [مردودٌ] (4) عليه؛ فإن الكلام لا يتأتى دون اللسان، وهو الذي ينظم الكلامَ، [وحتى] (5) ما يصدر من غير اللسان، فانتظامه موقوف على اللسان، والوجهُ إحالة جميع الحروف على اللسان، وتوزيع الدية على جميع الحروف الثمانية والعشرين، ومن حكى مذهب الإصطخري لم يتعرض للقاف والكاف، وليستا من حروف الحلق، وقد يعتقد أنهما ليسا من حروف اللسان، ولكن لعل الإصطخري ألحقهما بحروف اللسان، فإنه لا يتأتى الإتيان بهما إلا بالاعتماد على أصل اللسان [وقاعدتِه] (6) وترقيها إلى الحنك الأعلى وبينهما تتحرَّفُ (7) الكاف والقاف، ولم
__________
(1) في الأصل: "كرر الغرر".
(2) في الاصل: "الخلطية".
(3) في الأصل: "النسبية".
(4) في الأصل: "متردي".
(5) في الأصل: "وهتا". (كذا تماماًَ) ولعله من آثار عجمة قديمة في لسان الناسخ، فكتب (حتى) (هتا) . والله أعلم.
(6) في الأصل: "وعدته". والله أعلم بما قاله الإمام.
(7) تتحرّف أي تصير حروفاً بتقطيع اللسان لأصواتها ونظمها.(16/360)
يتعرض [ناقل] (1) مذهب أبي سعيد [للفاء] (2) ، وهذا أظهر من القاف والكاف؛ فإن الاعتماد في النطق [بالفاء على الأسنان] (3) العليا والشفة السفلى وليس للسان فيه أثر محسوس.
والصحيحُ اعتبار جميع الحروف ونسبتها إلى اللسان، فليقع التوزيع على الثمانية والعشرين.
ومقصود الفصل وراء هذا لا تضبطه التقاسيم، فإنما نأتي عليه بالمسائل، فنأتي [بها أرسالاً] (4) ونستوعب، إن شاء الله تعالى - كمالَ الغرض.
10612- فلو كان الرجل في أصل الخلقة بحيث لا يتأتى منه جملة الحروف، ولكنه كان [يعبر] (5) بما يحسن منها عن جميع ما يبغيه ويحويه الضمير مثل إن كان لا يحسن إلا عشرين حرفاً، فإذا جنى جانٍ، وأفسد جميعَ الحروف، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنه يجب على الجاني الديةُ الكاملة؛ فإن مثل هذا الشخص سمّي ناطقاً متكلماً، وقد ينسب إلى ضعف في المنطق، وضعفُ منفعة العضو لا يحطُّ من الدية [شيئاًً] (6) إذا فسدت المنفعة بالجناية، كما لو كان ضعيف البطش، فجنى عليه جانٍ أبطل بطشه، أو كان ضعيفَ البصر والسمع، وهذا [مُطبق] (7) في المنافع جمع.
__________
(1) في الأصل: "نامل". (كذا تماماًَ) .
(2) في الأصل: "للقاف"، وهو خطأ لا شك؛ فإن القاف سبق حكمها عنده بل سيأتي ذكرها في نفس الجملة، ومن عجب أن هذا التصحيف يقع في البسيط للغزالي.
والذي يؤكد أن المقصود هو (الفاء) كما قلنا أن الفاء أبعد مخرجاً عن اللسان من القاف والكاف، بل هي معدودة من الحروف الشفهية التي تخرج من بطن الشفة مع أطراف الثنايا العليا. (ر. إملاء ما من به الرحمن في أحكام تلاوة القرآن، لشيخ مقرئي العصر، وخاتمة المحققين، الشيخ عامر السيد عثمان ص 39) .
(3) في الأصل: "بالعاً على الإنسان".
(4) في الأصل: " منها لرسالاً "، ونستوعب.
(5) في الأصل: "يعثر".
(6) في الأصل: "سبباً".
(7) في الأصل: "مظنة".(16/361)
10613- وحقيقة هذا لا تبين إلا بأصل آخر تمهيده في أحكام اللسان، وهو مقصود في نفسه، ونبني عليه كمالَ الكشف، [فيما ذكرناه] (1) من نقصان الحروف، فنقول: من استأصل جرْم اللسان قطعاً، فيسقط الكلام لا محالة، ولا يجب على الجاني إلا دية واحدة؛ [وإن] (2) جنى على الجرْم والمنفعة كجرم اليد وبطشها.
ولو قطع الجاني عَذَبةَ اللسان (3) ، وأبطل جميع الكلام، استوجب الدية الكاملة، كما لو قطع أصبعاً من يد، فأشل اليدَ.
ولو قطع ربع اللسان، فأبطل نصف الكلام، وجب نصفُ الدية، ولو قطع نصفَ اللسان، وبطل ربعُ الكلام، فقد قطع الأصحاب بأنه يجب نصف الدية، فنظروا عند تفاوت المقطوع من الجِرم والفائت من الكلام إلى الأكثر، فإن كان المقطوع أكثر، فالمقطوع [يقدّر بنسبته] (4) الواجبُ من الدية، وإن كان الفائت أكثر، فالاعتبار به.
أما إذا كان الفائت من الكلام أكثر، فاعتباره منقاس بيّن؛ فإن المنفعة هي المقصودة، فإذا فات شطرها، لم يخف تعليل إيجاب نصف الدية، ولو جنى على اللسان، فأذهب نصف الكلام من غير قطع، وجب نصف الدية، فلا خفاء بالقول في هذا الطرف.
فأما إذا قطع نصف اللسان، وذهب ربع الكلام، ففي هذا اعتياض قليل، ولا خلاف، وهو مشبه بما لو قطع أصبعين من يد رجل، ولم يسقط من منفعة بطشه خمساها، وكان [صاحب] (5) اليد جاريَ الحركة، فالنظر إلى الأَجْرام التي قطعها، والواجب خمسا دية اليد.
وإذا تبين ما ذكرناه، ترتب عليه إيجابُ الأكثر، فإن كان الفائت من جرم اللسان أكثر، فهو المعتبر.
__________
(1) في الأصل: "وبما ذكرناه".
(2) في الأصل: "فإن".
(3) عَذَبةُ اللسان: طرفه. (المعجم) .
(4) في الأصل: "اليد سببه".
(5) في الأصل: "ضياع".(16/362)
ثم ذكر أئمتنا عبارتين في ذلك، فقال بعضهم: ينظر إلى الأكثر، كما ذكرناه، ونوجب أغلظ الأمرين.
وقال أبو إسحاق: إن قطع نصف اللسان، فقد أبان من عضو الدية نصفَه، وسقط من المنفعة شيء، وإن قطع ريعَ اللسان وأمات نصفَ الكلام، وجب نصف الدية، لأنه أمات نصف اللسان أيضاًً، غير أنه قطع ربعاً.
ويظهر [أثر] (1) هذا الاختلاف في مسألتين: إحداهما - أنه لو قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه، وأوجبنا نصف الدية، فإذا جاء آخر، وقطع ما بقي، وهو ثلاثة أرباع اللسان، فعلى طريقة أبي إسحاق يجب نصف الدية، فلا يلزمه [إلا] (2) النصف في مقابلة النصف مع نصف الكلام، والحكومة في مقابلة الربع الذي لحقه الشلل تقديراً.
وغيرُه من الأصحاب يوجب على من يقطع ثلاثة الأرباع الباقية ثلاثة أرباع الدية؛ نظراً إلى [أن] (3) الأكثر جرْمُ اللسان، ولا يستبعد هذا القائل أن نوجب في عضو قطعه شخصان في [جنايتين] (4) أكثرَ مما نوجبه على القاطع الواحد إذا استأصل العضو بقطعٍ واحد، وسيأتي لذلك نظائر، إن شاء الله تعالى.
[وهذا] (5) بيان المسألة الأخرى: لو قطع نصف لسانه وذهب ربعُ كلامه، فقد حكينا الوفاق على إيجاب نصف الدية، فإن جاء جانٍ آخر استأصل اللسان، فمذهب الجمهور أنه يلزم القاطع الثاني ثلاثة أرباع الدية نظراً إلى [ما] (6) أمات من الكلام، وقد ذكرنا أن نظر هؤلاء إلى الأكثر في الجاني الأول والآخر. وأبو إسحاق يعتبر [جرم] (7) العضو في هذه الصورة ولا يلتفت إلى كثرة المنفعة.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل بقايا كلمتين استحالت قراءتهما.
(5) في الأصل: "هذا" (بدون الواو) .
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: "جرح".(16/363)
والأصح ما ذهب إليه الجمهور.
10614- فإذا تمهد هذا الأصل، صوّرنا بعده صورةً أخرى، ثم نعود إلى ما كنا فيه: إذا جنى جانٍ على اللسان من غير قطعٍ، وأذهب ربعَ الكلام مثلاً، فإنه يلتزم ربع الدية، فلو جاء جان وقطع اللسان من أصله، فعليه دية كاملة؛ نظراً إلى الأكثر على طريقة الجمهور، واعتباراً بجرم اللسان، وفيه المنفعة على مذهب أبي إسحاق، وهذا مسلك لأصلٍ لا نجد بُدّاً من ذكره، فنقول: من كان باطشاً يَضْعُف بطشه [لآفةٍ] (1) ، ثم أزال جانٍ البطشَ، فإنه ملتزم الديةَ الكاملة، وذلك يطّرد في جميع المعاني المضمونة بالديات، إذا لحقها [نقصٌ ببعض الآفات] (2) .
ولو سقطت إصبعٌ من اليد بآفة، ثم قطعها قاطع، فأرش تيك الإصبع الساقطة محطوطة من دية اليد، وهذا نقصان حاصل بآفة، ونقصان البطش حاصل بآفة، والمقصود المضمون بالدية المعنى، والجِرم [محلُّه] (3) ، ثم تمهد في المذهب أن النقصان المعنوي غير معتبر في حق الجاني، والنقصان [الحاصل في الجرم] (4) معتبر.
هذا إلى صورة أخرى: لو جرح رجل رأس رجل متلاحمة، وأتلف [اللحم] (5) ، فجاء آخر واستتم ذلك الجرح موضِحةً، [فلا يلتزم] (6) الثاني أرش الموضِحة، [فإنه لم] (7) يشق الشق كلَّه، بل حصل وضوح العظم بالمتلاحمة السابقة وما بعدها، فإذا آل الأمر إلى الدية، فإن أوجبنا في المتلاحمة [أرشاً] (8) [مقدَّراً] (9) ، كما سبق في
__________
(1) في الأصل: "لأنه".
(2) في الأصل: "بعض ببعض الآيات".
(3) في الأصل: "حاصله".
(4) في الأصل: "للإبل إلى الجرح" (كذا تماماً) وفيها أكثر من تصحيف.
والمثبت محاولة من المحقق مع الالتزام بأقرب صورة للكلمات المصحفة.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "ولا يلتزم".
(7) في الأصل: "فإن لم".
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) "مفرداً".(16/364)
الشجاج، حططناه من أرش الموضِحة [وإن أوجبنا في] (1) المتلاحمة حكومة، حططناها عن أرش الموضحة وأوجبنا الباقي.
ولو شج رجل رأس رجل متلاحمة، فالتأم الجرح واكتسى بالجلد، ولكن بقي ذلك الموضع غائراً، فلو انتحاه جانٍ وشقه إلى العظم، ففي هذا أدنى تردد؛ من حيث لم ينبت اللحم الذي مات، وإنما منتهى المتلاحمة [باقٍ] (2) والأظهر أن حكم ذلك الجرح قد سقط، ولا حكم لما بقي فيه من [إغماض] (3) ، ولعل السبب [فيما ذكرناه] (4) من اعتبار [الجرم] (5) أن أثره محسوس، والمنفعة لا ضبط لها، فعسر الاعتبار فيها.
وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا إذا كنا نعتبر ما يفوت من المنفعة حتى نوجب مقدراً وحكومةً على الجاني المُعيب، فيسقط مع هذا [الاعتلالُ] (6) بخروج المنفعة على الضبط، فإنا أوجبنا أرشاً على من يجني ويُذهب بعض المنفعة، فينبغي أن ينجرّ ذلك معتبراً في الحط عمن يجني من بعدُ، وهذا متّجهٌ جداً فيه، إذا كانت [المنافع] (7) محدودة، كالكلام المترتب على حروف محدودة، فكان يجب أن يقال: إذا جنى جانٍ على اللسان، ولم يقطع منه شيئاًً، وأزال ربع الكلام، فلا يلتزم بعد ذلك قاطع اللسان إلا قسطاً من الدية سيّما على مذهب أبي إسحاق، فإنه يقول: سقوط بعض الكلام مع بقاء [جِرم] (8) اللسان شَللٌ في جزءٍ من اللسان، فيلزم على هذا المساق ألا نوجب على قاطع اللسان بعد فوات ربع الكلام ديةً كاملة.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) مكان كلمة غير مقروءة.
(3) في الأصل: "إعفاص". (كذا تماماً) . والإغماض من غَمَض المكان يغمُض غموضاً: انخفض انخفاضاً شديداً، فالمعنى: لا حكم لما بقي فيه من انخفاض (ر. المعجم الوسيط) .
(4) في الأصل: "ربما ذكرناه".
(5) في الأصل: "الجرح". والكلام على حذف مضاف، والمراد اعتبار نقص الجرم.
(6) في الأصل: "الاعتداد".
(7) في الأصل: "المسارح".
(8) في الأصل: "جرح".(16/365)
10615- فهذا مغاصٌ من المذهب لا يبينه إلا التفصيل، وسبيل التفصيل أن نذكر ما يتعلق بالأجرام: [فإذا] (1) فرض في جِرم العضو نقصان، لم يخل: إما أن يَسقُطَ ما له أرشٌ مقدّر من [جرم] (2) العضو، وإما أن ينتقص ما لا يقدّر أرشُه، فأما إذا سقط ما يتقدر أرشه، فهو محطوط من أرش الباقي، ولا فرق بين أن يكون بجناية جانٍ [أو بآفة سماوية] (3) ، ومثال ذلك الأنملة إذا سقطت أو قطعت، فلو فرض قطع اليد بعد سقوطها، فالأرش الذي يقابل الأنملة يُحط [عن] (4) قاطع اليد؛ فإن الأجزاء المقابَلة بالأروش المقدرة منسوبة إلى أصل العضو، وقد كفانا الشارع بتقدير الأرش فيه إثباته [الجزئية] (5) ، فالأصبع من اليد خمسها، والأنملة ثلث خمسها، ثم إذا ظهرت [الجزئية] (5) ، فلا مبالاة بعدها بالمنفعة وقدرها.
وأما إذا [أحدث] (6) نقصاناً لا يتعلق به أرش مقدر [كفِلْقةٍ] (7) تبين وتنفصل من لحمة الأنملة، فهذا القسم ينقسم: فمنه ما لا يؤثر في المنفعة، والحكومة التي تجب فيه لمكان الستر، فما كان كذلك، لم يؤثر ما يتقدم منه في [تنقيص] (8) دية العضو، حتى لو جرى ما وصفناه، ثم قطعت اليد، فعلى القاطع الديةُ الكاملة، ولا فرق بين
أن يتفق ما وصفناه بآفة سماوية، وبين أن يتفق بجناية جانٍ؛ فإن العضو إذا كان باقياً، وكانت منفعته تامة لا نقصان فيها، فيستحيل أن نَحطَّ عن قاطعه شيئاًً، وكأن الذي أزاله الشَّيْن ليس من خاصية هذا العضو.
__________
(1) في الأصل: "وإذا".
(2) في الأصل: "جرح".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "من".
(5) في الأصل: "الحرية".
(6) في الأصل: "اتحد". والمثبت من المحقق مع الالتزم -كدأبنا- بأقرب صورة للكلمة التي بالأصل عسى أن تكون هى هى.
(7) في الأصل: "كفافة".
(8) في الأصل: "نقيض".(16/366)
وبالجملة لا التفات إلى الشَّيْن، مع بقاء المنفعة [والجرم] (1) المنتفع به.
10616- فأما إذا كان ذلك النقصان يؤثر في نقصان المنفعة، ويحط [منها] (2) ، فإن جرى ما وصفناه بآفة، ثم فرض القطع بعدها، وجبت الدية الكاملة على القاطع، ولا نظر إلى ما انتقص من المنفعة؛ فإن هذا لا ينضبط، والإنسان قد يقوى في بعض الأحوال ويضعف في بعضها بأعراض وأمراض، وتَتَبُّعُ هذه الأمور عَسِرٌ، لا سبيل إلى التزامه.
هذا متفق عليه.
وإن اتفق نقصانُ [الجرم] (3) مع نقصان المنفعة من جانٍ، والموجَب الحكومة، فهذا أول مراتب الاحتمال: يجوز أن يقال: لا حكم [لتلك] (4) الحكومة في حق القاطع بعدها، كما لو فرض النقصان بآفة.
ويجوز أن يقال: تلك الحكومة محطوطة من الأرش الذي يلتزمه القاطع؛ من جهة أنها حكومة في مقابلة شيء من المنفعة، فلو أثبتت الدية الكاملة على القاطع -وقد أثبتنا الحكومة على المقتصّ- فيكون ذلك تضعيفاً للغرامة في مقدار الحكومة، وتثنيةُ الغرامة بعيدة.
هذا تفصيل القول في الجناية على [جرم] (5) العضو.
10617- فأما إذا كان الجرم [باقياً] (6) ، وسقط بعضُ المنفعة، لم يخل: إما أن يكون الساقط بحيث لا يتطرق إليه تقدير، فينقسم [إلى] (7) ما يترتب على آفةٍ، وإلى ما يترتب على جناية جانٍ، [فأما] (8) ما ترتب على آفة، فلا معتبر به، وديةُ العضو
__________
(1) في الأصل: "والجرح"
(2) في الأصل: "فيها".
(3) في الأصل: "لجرح".
(4) في الأصل: "للملك".
(5) في الأصل: "جرح".
(6) في الأصل: "تأقيتاً".
(7) زيادة اقتضاها السياق.
(8) في الأصل: "وأما".(16/367)
باقية بكمالها على الجاني عليه: إما [بالقطع] (1) وإما بإذهاب المنفعة.
فأما إذا كان النقصان بجناية جانٍ [والقدر] (2) خارج عن الضبط كما ذكرناه، ففي حطّ ذاك عن قاطع العضو أو عن مُذهب المنفعة ترددٌ أذكره، وهو متلقَّى من كلام المشايخ، [ولا بأس] (3) لو نقلته وجوهاً: [يجوز] (4) أن يقال: لا تحط الحكومة لا عن قاطعٍ، ولا عن مُذهب المنفعة.
ويجوز أن يقال: الحكومة محطوطة عن القاطع، حتى لا تُثنَّى الغرامة.
ويجوز أن يقال: هي محطوطة عن مُذهب المنفعة، وليست محطوطة عن قاطع العضو، والسبب فيه أن العضو إذا كان باقياً، فقد تعود [منفعتُه] 5) إلى الكمال، وقاطع العضو يقطع الرجاء من هذا، فالدية تكمّل عليه لذلك، وأما مُذهب المنفعة، فليس كذلك، والذاهبُ بالجناية من المنفعة مقصودة.
هذا إذا كان الذاهب من المنفعة غير محدود.
وأما إذا كان الذاهب منها محدوداً، وجِرْم العضو باقٍ، فهو كالحروف التي هي أم الكلام، ومادة الكلم، فإذا ذهب نصفها، لم يخل: إما أن يذهب بآفة سماوية، أو بجناية جانٍ وألزمناه نصف الدية، فهذا موضع خلافٍ للأصحاب، وأبي إسحاق، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الدية تكمّل على قاطع اللسان، وقال أبو إسحاق: لا يلزمه إلا نصفُ الدية، وحكومةٌ: النصفُ في مقابلة ما بقي من الكلام، ونصفُ [الجرم] (6) معدود معه، والحكومةُ على مقابلة نصف الجرم على تقدير [ذهاب] (7) الحس، وهذا الذي ذكره فقيهٌ.
__________
(1) في الأصل: "القطع".
(2) في الأصل: "والعدد".
(3) مكان كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا " ـا ـر ".
(4) في الأصل: "ويجوز".
(5) في الأصل: "منفعتها".
(6) في الأصل: "الجرح".
(7) زيادة من المحقق؛ إذ المعنى: على تقدير ذهاب الحسّ من هذا النصف من اللسان الذي ذهب به نصف الكلام قبلاً.(16/368)
وهذا إذا قطع الجاني الثاني العضو.
فأما إذا أذهب [بقية] (1) المنفعة، [فلا] (2) يلزمه إلا بقيةُ الدية على خلافٍ، وهذا إذا كان زوال القدر المقدر من المنفعة بجناية جانٍ.
فأما إذا سقط نصف الكلام بآفةٍ أو خُلِقَ الرجلُ كذلك، ففي هذا خلاف بين أصحابنا: منهم من قال: يجب على القاطع تمام الدية، والنقصان [الكائن] (3) بمثابة ضَعف البطش، والسمع، والبصر، من طريق الخِلقة.
ومنهم من قال: إذا تقدّر الفائت، لم يجب على الجاني كمال الدية، وحُطَّ ما يقابِل الناقص، وليس كنقص البطش والبصر؛ فإنّه لا ينضبط.
هذا مجامع الكلام.
10618- فإن قلنا: نحط النقصان، وكان سبب النقصان الآفة، ففي هذا فضل نظر، فإذا كان الرجل لا يحسن إلا عشرين حرفاً، ولكن كان فَطِناً متهدِّياً إلى مناظم الكلام، مستمداً من موارد اللغة، وكان يعبر بالعشرين عن جميع المعاني، ففي هذا وجهان: أحدهما - أنه في حكم الكامل؛ فإنه يعدّ ناطقاً تاماً. والثاني- أنه ناقص واقتداره على أداء المعاني ليس من كمال كلامه، وإنما هو من معرفته باللغة وذكاء قريحته، وفرط كَيْسه.
ولا يبقى على من يُنْعم النظر في هذا الفصل أمرٌ خافٍ في هذا الغرض، وهو أنا ذكرنا أن نقصان المنفعة إذا لم يكن منضبطاً، وكان حصوله بآفة، فلا اعتبار به، والدية تكمّل على قاطع العضو، ومُذهب المنفعة.
هذا أصلٌ طرده الأصحاب في الباب.
وقد يعترض فيه الضعيف النظر الذي يمكن الحكم بسقوط معظم بصره [والفرضُ] (4)
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: "العننر" تماماً.
(2) في الأصل: "ولا".
(3) في الأصل: "الكامل".
(4) في الأصل: "الغرض".(16/369)
والتصوير في البطش وغيره من المعاني، ولا ينبغي للفقيه أن يرتاع من هذا، والدية كاملة في يد الهرِم، مع القطع أنه على أقلَّ من العُشر من بطشه في [شبابه] (1) ، ونقصان المنفعة بهذه الجهات كنقصان القوة الحيوانية، ومن أطبق أهلُ البصيرة على وقوعه في الموت، وصار بحَرَضٍ (2) [وقد شخصت منه الأبصار] (3) ، وأنفاسُه تتعثر في شراسيفه، فلو حزّ جان رقبته، التزم القصاصَ أو الدية، فالمنافع إذا ضعفت، فإنها تحل هذا المحل.
وقد نجز تمام الغرض في هذا الطرف، وبالله التوفيق.
10619- ومما يتعلق بأصول الكلام في فصل اللسان أنه لو جنى جانٍ، على إنسان، فأذهب صوته، وكان اللسان على اعتداله منطاعاً في التقطيع والتردد في فضاء الفم، [لو] (4) وَجَدَ صوتاً، فعلى الجاني المُذهب للصوت الديةُ.
ولو كان الصوت باقياً والحروف زائلة، وذلك بسبب عجز اللسان عن تقطيع الصوت، وهو ذهاب الكلام، ففيه الدية، ولو أذهب الصوتَ، وأشل اللسان، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا تجب إلا دية واحدة؛ فإن الكلام هو المعني، وقد زال ولزواله سببان: أحدهما - انقطاع الصوت، والثاني - عجز اللسان.
ومن أصحابنا من قال: تجب ديتان؛ للجناية على منفعتين، وليس كما لو أزال إحداهما، فإن من أزال الصوت، فعَوْد الصوت لا يعيد الكلام، والمسألة محتملة جداً.
ولو صور متكلف صورة وقال: لو جنى جان على اللسان، ولم يُسقط حرفاً، ولكن صار عاجزاً عن تأليف حرف إلى حرف، ولا ينتظم الكلام إلا بتأليف الحروف؟
__________
(1) في الأصل: "نسابه".
(2) بحرض: الحرض الهلاك، والمعنى: صار في حكم الهلكى. وهي في الأصل: " ـحرص " بدون نقط.
(3) مكان كلمات ثلاث في وصف الاحتضار والإشراف على الموت - لم نستطع قراءتها، وقد رسمت هكذا: يردونه ـحرد ـدمايه (كذا تماماً) (انظر صورتها) .
(4) في الأصل: "ولو".(16/370)
قيل له: هذا تكلف لا يتصوّر، فإن القادر على الحروف العاقل لا يتصور أن يعجز عن نظم الحروف.
وقد ظهر اختلاف أصحابنا في صورة تدنو من الأصل الذي نحن فيه وهو [أن من ولد] (1) أصمَّ، فإنه لا ينطق، وإن قوي لسانُه، من جهة أن الصبي إنما ينطلق لسانه بالنطق لتلقِّيه [ما] (2) يسمع، فإذا كان أصم، ولم ينطق، فلو قطع قاطعٌ اللسان مِمّن هذا وصفه، ففي وجوب الدية عليه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تجب؛ لأنه أخرس، وهو الأبكم حقاً. والثاني - تجب الدية؛ فإن اللسان [لا نقصَ] (3) به وسبب سقوط النطق زوال السمع.
ويترتب على هذا الآن أن جانياً لو جنى على صبي قبل [مظنة] (4) النطق وأزال سمعه، وتعذر بهذا السبب نطقُه، فإن كنا نوجب الدية على قاطع لسانه، فلا يجب على مزيل سمعه إلا دية واحدة، وإن كنا لا نوجب على قاطع لسانه دية [فالواجب إيجاب ديتين] (5) على الجاني، [إذ جنى] (6) على سمعه، وأفسد لسانه، ولا يعترض على ذلك أنه لم يُفسد نطقاً، إذ لم يدخل وقت النطق، لأن إفسادَ العضو [المتهيِّىء] (7) للمنفعة إتلافُ المنفعة، ولهذا قلنا: من قلع سن من لم [يُثغر] (8) ، فلم يَنبُت سنُّه، كملت الدية على الجاني، لا من جهة [اعتدائه على السن] (9) ، ولكن من جهة إفساده
[للمنبت] (10) .
ولو كان الإنسان في الخلقة مقصوم الفقار ورجلاه سليمتان، لا آفة بهما، ولو كان
__________
(1) في الأصل: "وهو أدنى ولو أصم". (كذا تماماًً) . وهو تحريف ظاهر.
(2) في الأصل: "فيما".
(3) في الأصل: "لايقتص".
(4) في الأصل: "فطنة". والمثبت من عبارة الرافعي في الشرح الكبير.
(5) في الأصل: " قالوا به إيجاب وتبين ".
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: "التهيؤ".
(8) في الأصل: "يبعد".
(9) في الأصل: " إعراضه على المسي ". (كذا تماماً) (انظر صورتها) .
(10) في الأصل: " للسبب ".(16/371)
ذا فقارَ، [لمشى] (1) برجليه، فالميل الظاهر للأصحاب إلى إيجابِ الدية على قاطع رجلي من وصفناه، وقالوا بحسبه: لا يجب على كاسر الفقار إلا ديةٌ واحدة، ولا يلزمه ديةُ الرجلين، وإن تعطلتا.
والوجه عندي تنزيل الرجلين من المقصوم فِقارُه منزلةَ اللسان ممن [ولد أصم] (2) ولا فرق بين الأصلين.
10620- ومما فرعه الأصحاب أن من أذهب بجنايته حرفاً، فقد سبق أنه يلتزم جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً من الدية، فلو تعطل بالحرف الذي أذهبه [كلمة] (3) مثل أن يذهب الميم فيتعطل بذهابه النطق لمحمد، فقد أطلق الأصحاب القولَ بأنه لا يلتزم إلا ما يخصّ حرفاً؛ فإن الحروف هي الأصول، والكلام فروعها، ولو أُلزمنا [الخرصَ] (4) فيما ينتظم من الكلام وفيما لا ينتظم، كان ذلك إلزام [خَرْصٍ لما] (5) لا يتناهى بالقوى [البشرية] (6) ؛ فإن جهات المناظم لا يحدها الوهم، فليقع الاعتناء بالحروف.
ولكن ما يقتضيه الإنصاف على هذا [أن] (7) لا نوجب الدية الكاملة بإذهاب عشرين حرفاً، [ممّن] (8) لا يحسن غيرها [لكنه] (9) ينظم بها كل [صيغة] (10) .
__________
(1) في الأصل: "يمشى".
(2) في الأصل: "ولو أصم".
(3) في الأصل: "كله".
(4) في الأصل: "الحرص".
والمعنى: لو ألزمنا تقدير وتخمين ما ينقص من نظم الكلام، وما لا ينفص، كان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإلزاماً بما فوق القدرة البشرية، فلا نهاية للكلمات التي تتكون وتنتظم من الحروف.
(5) في الأصل: "احرصى فإنما". (كذا) (انظر صورتها) .
(6) في الأصل: "البشرة".
(7) زيادة من المحقق.
(8) في الأصل: "فمن".
(9) مكان كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا: (مصراً) .
(10) في الأصل: "صنعة".(16/372)
10621- ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن الرجل إذا كان لا ينطلق لسانه بالثاء وكان ينطق بالسين، فجنى عليه جانٍ [فأذهب] (1) مكنة السين من [أسنانه] (2) ولكن [نطق] (3) لسانه بالثاء، وصار يقول بدل [السين الثاء] (4) ، فقد قال العلماء: على الجاني أرش ما أذهبه، وما تجدد له من الحرف [منحةٌ] (5) من الله تعالى، [وهنا] (6) لا بد من النظر في شيء وهو أن الثاء [المستفادة هل تُضَمّ في التوزيع إلى الحروف التي كانت في اللسان قبل الجناية] (7) ؟ هذا موضع النظر، فليتأمله الفطن.
10622- ولو جنى على لسان إنسان، فألزم لسانَه تمتمة أو فأفأة، والتمتام هو الذي [يتردّد] (8) في التاء، ثم ينطق [بها] (9) آخر الشيء، فليس على الجاني -وهو أثر جنايته- إلا الحكومة؛ فإنه لم يذهب الحرفَ، بل أضعف اللسان فيه.
ولو قطع الجاني فِلقةً من اللسان، ولم يسقط بسببها شيء من الكلام، فهذا يخرّج
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "أنيابه".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "بدل الشين السين". وهو وهمٌ من الناسخ؛ فإن المسألة مصورة في العجز عن (الثاء) .
(5) في الأصل: "متجه". وهو تصحيف قريب المدرك.
(6) في الأصل: "وقد".
(7) عبارة الأصل: "وهو أن الثاء إذا استعاده أمر التوزيع على الحروف التي كانت موجودة قبل الجناية" وهذا التعديل والزيادة من المحقق على ضوء عبارة الغزالي والرافعي في المسألة ذاتها، أما الغزالي، فقد قال: "ويتجدد إشكال، وهو أنه إذا انطلق لسانه بالثاء عندما جنى عليه، وكان لا يقدر عليه، فالتوزيع على ما كان مقدوراً قبل الجناية دون الثاء المستفادة، وهو مضموم إليه؟ هذا في محل النظر" (ر. البسيط: مخطوط جزء (5) رقة: 63 يمين) .
وعبارة الرافعي، وقد نقلها عن الإمام قال: "قال الإمام: والتوزيع يقع على الحروف، وفيها الثاء المستفادة، أم على الحروف التي كانت في اللسان قبل الجناية؟ هذا موضع النظر"
(ر. الشرح الكبير: 10/401) .
(8) في الأصل: "تردد".
(9) في الأصل: "بهذا".(16/373)
على القاعدة الممهدة في [مراعاة المنفعة أو الجرم] (1) : من راعى الكلام، لم يوجب على القاطع إلا الحكومة، ومن راعى [الجِرم] (2) ، أوجب قسطاً بالنسبة إلى العضو، كما أوجبه [على] (3) قاطع جزء من المارن [أو جزءٍ من] (4) الحشفة، وهذا غير محبوب عند القياسين؛ فإن إيجاب قدرٍ من الدية، والمنفعةُ [بحالها] (5) وتمامها، يلتزم إيجاب الدية الكاملة بقطع لسان الأخرس، وإن لم يؤثر القطعُ [في] (6) إفاتة الكلام. فليتأمل الناظر ما ينتهى إليه.
فلو قطع فِلْقة من لسانه واقتضى الحال إيجابَ مقدارٍ حكومةً، فلو نبتت، وعاد اللسان إلى شكله في اعتداله، فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من نزل عَوْد اللسان إلى ما كان منزلةَ عود السن من بعد، وسيأتي شرح ذلك في فصول الأسنان، والجامع أن عود ما يقطع من اللسان [ندوره في ندور] (7) عود السن من المثغور، وسأجمع، إن شاء الله، تفصيلاً فيما يعود، وأذكر فيه مواقع الخلاف والوفاق في النفي والإثبات.
ومن أصحابنا من قطع بأن عَوْد المقطوع من اللسان لا حكم له أصلاً، وأرش الجناية لا يزول قولاً واحداً؛ لأن هذا مما يُتحدّث به ولا [يقع] (8) ، فإن فُرض، كان بالغاً في الندور، والسن على الجملة من العائدات.
10623- ومما يتعلق بتمام الفصل القول في لسان الصبيان، فالذي ذكره الأصحاب
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: "الجرح".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "وحدية عن الحشفة". (كذا) .
(5) في الأصل: "بجزائها".
(6) في الأصل: "من". والمعنى أن قطع لسان الأخرس لا يفوّت منفعة.
(7) في الأصل: " سدد وـه ور " كذا تماماً، فانظر أي عناء في استكناه هذا التصحيف، ومما يزيد من المعاناة أننا لا نجد العبارة ولا قريباً منها، في البسيط، ولا في الشرح الكبير ولا في الروضة، وغيرها، فنضطر إلى استحضار المعنى والسياق في الذهن، وتقليب صور الكلمات المصحفة على كل الاحتمالات الممكنة حتى نصل إلى أقربها، وكثيراً ما نقطع بأننا وصلنا إلى كلمات الإمام بعينها. والله الهادي إلى الصواب.
(8) في الأصل: "يقطع".(16/374)
فيه أنه إذا بدا في لسان الصبي مخايل [النطق] (1) فكان يحركه تحريكاً صحيحاً بالضحك، والبكاء، والمصّ، قاللسان صحيح، والجاني عليه يلتزم الدية أو القصاص، كما يلتزم ذلك بالجناية على رجليه، قبل [أن يستقل] (2) وينهض إذا ثبتت علامة الصحة في رجليه.
فإن لم يبد في لسان الصبي مَخيلة النطق، لم نحكم بوجوب الدية حملاً على غالب الحال، [وإن] (3) لم يتبين فيه مخيلة الخرس. وكان شيخي يقول: إن بانت [مخيلة] (4) الخرس، فالحكومة، وإن لم تبن علامة الخرس ولا علامة النطق، فالذي قطع به الأصحاب الحكومة وإن لم تبن علامة الخرس. وكان يقول: في قلبي من هذا شيء، وليس هذا وجهاً ولا احتمالاً، فاعلموه (5) .
ولو قطع بعض لسان المجني [عليه] (6) ، فبلغ حالةً لو كان جميع لسانه باقياً،
__________
(1) في الأصل: "التعلق".
(2) في الأصل: "سريان".
(3) في الأصل: "فإن".
(4) في الأصل: "محتملة".
(5) " ليس هذا وجهاً ولا احتمالاً؛ فاعلموه" أي قول الشيخ أبي محمد: "في قلبي من هذا شيء". وكأن الإمام بهذا يريد القطع بما حكاه الشيخ أبو محمد من اتفاق الأصحاب على أن في قطع لسان الصبي قبل أوان النطق حكومة، ولا نوجب الدية حملاً على غالب الحال، وإن لم تظهر علامات الخرس. هذا ما قطع به الإمام نقلاً عن شيخه، ونفي أن يكون لما حاك في قلب شيخه أثر، فلا هو وجه، ولا مجرد احتمال.
ونقل الغزالي هذا في البسيط، وسكت عنه (الجزء الخامس ورقة: 55 يمين) .
أما الرافعي فالأمر عنده على خلاف هذا، والأولى أن نسمع له بنص عبارته، قال: "وإن لم يبلغ الطفل وقت الكلام، كأن قطع لسانه عقب الولادة، فالذي أورده الغزالي في الوجيز أنه لا تجب الدية، لأن سلامته غير مستيقنة، والأصل براءة الذمة عن الدية.
وحكى الإمام قطع الأصحاب به، ووقفه على شيخه أبي محمد، والذي يوجد في كتب عامة الأصحاب وجوب الدية، أخذاً بظاهر السلامة، كلما تجب الدية في يده ورجله، وهذا ما حكاه القاضي ابن كج عن أبي إسحاق، وذكر أن أبا الحسين نقل في المسألة قولين " (ر. الشرح الكبير: 10/365) .
(6) زيادة اقتضاها السياق.(16/375)
لتكلم بجملة الحروف، وقد تكلم الآن بما يتكلم به البالغ، لو قطع هذا القدر من لسانه، فيجب على الجاني [ما] (1) يقابل الحروف الفائتة. ولو لم يتكلّم [بما يتكلم] (2) به البالغ [بما] (3) بقي من لسانه، ولو كان ناطقاً، لنطق بشيء مما بقي، فهذا علمه عند الله ظاهر في الخرس في الأصل، فالواجب الحكومة.
ولو اختلف الجاني والمجني عليه، فقال الجاني: كنتَ أبكم أو أخرس، فعليّ الحكومة، واعترف المجني عليه عن نفسه بأني كنت ناطقاً، فعليك الدية، فهذا مما مهدناه في اختلاف [الجاني] (4) والمجني عليه، فلا نعيده.
فصل
10624-[الذوق] (6) إذا أفسده الجاني بالجناية، تعلقت به الديةُ الكاملة؛ فإنه من [الحواس] (7) العظيمة النفع، وإذا ادعى المجني عليه بطلانَ حاسة الذوق، امتحن [بأن] (8) يُلقم الأشياء المرة الشنيعة، فإن لم يظهر عليه أثر العبوس والتكرّه ظهر صدقه، ولا بد من [تحليفه] (9) إذا أراد الجاني، كما قدمناه (10) . ويمكن أن يجري
__________
(1) في الأصل: "مما".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "ما".
(4) زيادة من المحقق.
(5) هذا الفصل قدّمه الناسخ عن الفصل السابق الذي تعلّق باللسان والكلام، وهذا لا شك خلل في الترتيب وقع فيه الناسخ كما أشرنا قبلاً عند تقديمنا (فصل) اللسان، ونشير هنا إلى تأخير هذا الفصل إلى هنا، فهذا مكانه الطبيعي في كل كتب المذهب، فهو من بقايا أحكام اللسان والكلام.
(6) سقطت من الأصل.
(7) في الأصل: "الحرّاس".
(8) في الأصل: "فإن".
(9) في الأصل: "الخليفة".
(10) اقتصر على تحليف المجني عليه كما هو ظاهر عبارته، ولكن الرافعي قال: "فإن ظهر منه تعبّسٌ وكراهة صدقنا الجاني بيمينه، وإلا فنصدقه باليمين" (ر. الشرح الكبير: 10/403) وبنفس الألفاظ تكلم النووي. (ر. الروضة: 9/301) .(16/376)
ما ذكرناه من الامتحان من حيث لا يشعر، فتوصف غفلاته ويلقم من حيث لا يشعر، ولا يؤخّرُ ممكنٌ في الامتحان.
والحواس بجملتها شريفة، والأصحاب [مطبقون] (1) على تعليق الدية بكل واحدة (2) ، ولم يُؤثر الخلاف إلا في الشمّ [كما] (3) تقدّم، والمذهب القطع بتعلق الدية بحاسّة الشم والخلاف في ذلك غير معتدٍّ به.
فصل
قال: "وفي السن خمسٌ من الإبل ... إلى آخره" (4) .
10625- الكلام في السن يتعلق بأصولٍ ونحن نقدمها ونذكر ما فيها، ثم إن شذّت فروع، أتينا بها، والله ولي التوفيق.
ففي كل سنٍّ مما هنالك من الحر المسلم خمسٌ من الإبل، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "في كلل سن خمس من الإبل" وهذا منقول عنه عليه السلام في [كتاب] (5) عمرو بن حزم، هذا في الكامل بالذكورة، والإسلام، والحرية، ثم نأخذ النسبة ونتخذها أصلاً في الديات كلّها، فالخمس من الإبل تقع نصفَ العُشر من المائة، فنوجب في كل [سن] (6) إذا قُلع من صاحبها نصفَ عشر ديته.
__________
(1) في الأصل: "يطلقون".
(2) لم يتكلم الإمام ولا الغزالي في البسيط على ايجاب جزء من دية الذوق، ولعلّ الإمام رأى أن هذه الحاسة لا يمكن تجزئتها.
ولكن الرافعي يقول: "والمدرك بالذوق خمسة أشياء: الحلاوة، والحموضة، والمرارة، والملوحة، والعذوبة. والدية تتوزع عليها، فإذا أبطل إدراكَ واحدة منها، فعليه خمس الدية.
ولو انتقص الإحساس، فلم يدرك الطعوم على كمالها، فالواجب الحكومة " (ر. الشرح الكبير: 10/402، 403) .
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. المختصر: 5/131.
(5) مكان بياضٍ بالأصل.
(6) في الأصل: "دية".(16/377)
ثم إذا قَطَع الرجلُ من السن ما يظهر، وترك السِّنْخَ عليه، فلم يقلع، [نُكْمل] (1) الأرش بقطع ما يظهر، وعلّتُه أن المنفعة التي تتعلق بالسن من العضّ [والقطع] (2) وجَمْع الريق، وغيره، كله يتعلق بما يظهر من السن، فالظاهر [من السن ينزل من] (3) السِّنخ منزلة الأصابع من الكف، ثم من قلع السن مع السنخ، لم يستوجب إلا الأرش، كما أن [من] (4) [أزال] (5) الأصابع [استوجب] (6) الدية، ولو قطع اليدين من الكوع، لم يستوجب مزيداً بسبب الكفين.
وما ذكرناه متفق عليه، والتعليل في نهاية الوضوح.
10626- ولو قطع الجاني شيئاًً مماظهر من السن، فيجب فيه جزء مقدر من الأرش، ثم التوزيع يقع على الظاهر، أم على السن والسنخ؟ ولا شك أن الأمر يتفاوت تفاوتاً ظاهراً بيّناً، قالمقطوع لو نسب إلى الظاهر من السن، فقد يكون نصفَه، ولو نسب إلى السن [مع] (7) أصله وسنخه، فقد يكون ثلثاً، أو ربعاً، فكيف السبيل في ذلك؟
فعلى وجهين مشهورين: أظهرهما -وهو الذي لا يتوجه غيره- أن التوزيع يقع على ما يظهر؛ فإنا إذا كنا نكمل الديةَ في الظاهر، فالذي يقتضيه القياس الحقُّ أن نوجب نصف الدية في نصف ما ظهر، وهذا كما أنا إذا كمّلنا الدية في الأصابع، فنوجب في بعضها بنسبة الأصابع، ولا ننسب موجب بعضها إلى الكف.
والوجه الثاني - أنا نوجب في المقطوع من السن بنسبته إلى جميع السن مع السِّنخ؛ فإنه لو قلع السن مع السنخ، لم نوجب فيه إلا الأرش، فالسنخ في هذا الوجه متّحدٌ
__________
(1) في الأصل: "فكمل".
(2) في الأصل: "واقع".
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: "أراد".
(6) في الأصل:"استحق".
(7) في الأصل: "من".(16/378)
مع السن، فليقع التوزيع عليه، وليس ما ظهر من السن مع السنخ بمثابة الأصابع مع الكف في المعنى الذي [نحن] (1) فيه؛ فإن سنخ السن متصل مع الظاهر منه اتصال اتحاد، فهو أصل، ولا ينفصل ما يظهر مما يبطُن إلا بالظهور والبطون فحسب، والأصابع منفصلة عن الكف بمفاصلها؛ حتى كأنها منفصلة عنها خِلْقة، ثم هي مربوطة بالكف بالرُّبُط والأعصاب، وأيضاًً ففي كل إصبع أرش مقدر معلومٌ، وكل إصبع منقسم إلى أناملها: ففي كل أنملة منها [أرشٌ] (2) مقدّرٌ معلوم، ولا مشابهة في المعنى الذي نحن فيه بين الظاهر والسنخ وبين الأصابع والكف. نعم، الكف إذا انبتّت مع الأصابع، لم تفرد بمزيد؛ لأن منفعتها الظاهرة أنها مَرْكَب للأصابع، وبها استقلال الأصابع، فاقتضى هذا فيها معنى التبعية إذا قطعت، كما أن السنخ مَرْكب الظاهر منه.
ولو قيل لمن [يتخير] (3) التوزيع على السنخ: لم أوجبتَ تمامَ الأرش في الظاهر، ثم وزّعت على الجميع؟ فهذا [تعييرٌ] (4) لا ينقدح له جواب شاف فيه، ولهذا كان الأصح الوجه الأول.
والممكن في الجواب أنه إذا قلع جميع ما ظهر، فقد ظهر المقصود، ولم يبق في السنخ منفعة بها مبالاة، فكمل الأرش في الظاهر، فإذا قطع بعض الظاهر، فالسنخ حافظه وحامله، فأمكن أن يقال: يقع التوزيع على ما بقي وعلى السنخ؛ فإن المنافع تتواصل عند بقاء البعض، فالتوزيع يقع على هذا [النحو] (5) وإذا سقط جميع ما ظهر تتعطل منفعة السنخ بالكلية، هذا هو الممكن في توجيه هذا الوجه.
10627- ثم ألحق أئمتنا بما ذكرناه صوراً، ونحن نأتي بها مرسلة، ثم ندرّجها في ترتيب وضبط: ففي الحشفة الدية الكاملة، ولو استوعب الذكرَ قطعاً من أصله، لم
__________
(1) في الأصل: "نختلف".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "يتميز".
(4) كذا. هذا أقرب ما يمكن أن تُقرأ عليه، والتعيير من عيّره إذا قبح عليه فعله، ويقال: عيّره الجهل وبالجهل. (المعجم) .
(5) في الأصل: "الشخصي".(16/379)
تجب إلا الدية، ولو قطع [جزئية] (1) من الحشفة، وجب بعض الدية، ثم التوزيع على الحشفة أو على الذكر من أصله؟ فعلى الوجهين المذكورين في السن والسنخ.
ومما ألحقه الأصحاب بما ذكرناه أن [الحلمة من الثديين] (2) ، يكمل فيها الموجب، ولو قطع بعض [الحلمة] (3) ، فالتوزيع على الحلمة أم على جميع [الثديين] (4) ؟ فعلى وجهين.
والصور [تجتمع] (5) في أن [أجزاء] (6) العضو متواصلة في الخلقة، وفي أن القطع
لو وقع من الأصل، لما وجب أكثر من الدية، أو [الأرش] (7) المقدر المعلوم، ثم في
القطع [للجزء] (8) الخلافُ الذي ذكرناه.
ولو قطع أنف رجل مع القصبة، ففي إيجاب مزيد على الدية بسبب القصبة خلاف حكيته، ولا خلاف أن الدية تكمل في المارن نفسه، فإذا قطع بعضاً من المارن؛ فإن رأينا إفراد القصبة بمزيدٍ [لو] (9) قطع الجميع، فلا شك أن توزيع المقطوع من المارن يقع على المارن نفسه فحسب، وإن قلنا: لو قطع الأنف كله، فليس في القصبة مزيد، فإذا قُطع من المارن شيء، فالتوزيع على [الكل أَمْ] (10) على المارن؟ فعلى وجهين كما ذكرناه في السن والذِّكر [والثديين] (11) .
فإن بانت المسائل، فالأصح في جميعها التوزيع على المقدار الذي تكمل الدية [فيه] (12) .
__________
(1) في الأصل: "حردية".
(2) في الأصل: "الجملة من اليدين"
(3) في الأصل: "الجملة".
(4) في الأصل: "اليدين".
(5) في الأصل: "تجمع".
(6) زيادة من المحقق.
(7) زيادة اقتضاها السياق.
(8) زيادة لاستقامة الكلام.
(9) في الأصل: "ولو".
(10) في الأصل: "على الكلام".
(11) في الأصل: "واليدين".
(12) في الأصل: "به".(16/380)
ثم هي مع ذلك مرتبة، فالوجه الأضعف في مسألة السن أثبت؛ فإن السنخ له اتصال عظيم، حتى إن منفعته تتعطل بقطع الظاهر.
وما وراء الحشفة له استقلال وانفراد، وفيه انتفاع ظاهر، فكانت الحشفة أولى بأن تفرد بنفسها، ويقع توزيع جزئها عليها لا على الذكر كله؛ فإن انفراد ما وراء الحشفة بالمنفعة يوجب استقلاله بنفسه، وعدم اعتبار الحشفة به.
وكذلك [الحلمة مع الثديين] (1) .
وأبعد هذه المسائل في الوجه البعيد الأرنبة (2) مع القصبة، فلهذا اختلف الأصحاب في أن جميع الأنف لو قطع هل يجب في القصبة مزيد.
هذا بيان هذا الأصل بما فيه.
10628- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك في السن - أن القاضي حكى عن نص الشافعي: أن من قطع بعض السن -[ونزله] (3) على ما تقدم [من] (4) اختلاف الأصحاب-[فبقي] (5) من الظاهر بعضُه، فلو قلع قالع ما بقي مع سنخه، قال الشافعي: "ويفرد السنخ في هذه الصورة بحكومة، [فيلزمه] (6) في السنخ حكومة على حيالها؛ والسبب في هذا أنا لو أسقطنا حكومة السنخ، لكنا أتبعناه بعضَ السن، والسنخ يتبع جميع الظاهر، وقد فرض قطع بعض السن في الصورة التي ذكرناها" (7) .
__________
(1) في الأصل: "الحاقة مع اليدين" (انظر صورتها) .
(2) الأرنبة: أي أرنبة الأنف، والمراد هنا أي قطعة من المارن.
(3) في الأصل: "والوصاة". والمثبت من تصرف المحقق عسى أن يكون قريباً من لفظ الأمام.
(4) في الأصل: "على".
(5) في الأصل: "فنفى".
(6) في الأصل: "ويلزمه".
(7) حكى المؤلف نص الشافعي بمعناه، ولفظُه في الأم: "وإن كسر إنسانٌ نصف سن رجل، أقل أو أكثر، ثم نزع أخرُ السنَّ من سنخها، ففيها بحساب ما بقي ظاهراً من السن، وحكومة السنخ، وانما تسقط الحكومة في السنخ إذا تم عقل السن، وكانت الجناية واحدة، فنزعت بها السن من السنخ" ا. هـ (ر. الأم: 6/114) .(16/381)
هذا هو النص وتوجيهه ما ذكرناه.
ويتجه فيه [أخذاً] (1) من فحوى كلام الأصحاب وجهان آخران سوى ما ذكرناه منصوصان: أحدهما - أن السنخ لا يفرد بشيء، فإنه مركب ما بقي، وسنخه يتبعه، كما يتبع الجميع لو فرض القلع في الجميع، وهذا متجه.
والثاني - أنه يسقط منه مقدار ويثبت مقدار، وبيانه أن الذي قطع من السن هو
النصف مثلاً، [فيستقر] (2) على مقابلته نصف حكومة السنخ، فإذا قطع الثاني، سقط نصف الحكومة، واستقر نصفها فتوزع حكومة السنخ على ما طع أولاً، وعلى ما قلع مع الباقي من الظاهر.
ومما يجب الإحاطة به أن من قطع [ظاهر] (3) السن، ثم قلع السنخ متصلاً أو منفصلاً، فالسنخ يفرد بالحكومة في هذه الصورة، كما أنه فرض مثل ذلك في لقط الأصابع أولاً، ثم رتب قطع الكف على اللقط.
ولو قطع من الحشفة مقداراً، وجب فيه ما تقدم، فلو قطع ثانٍ الذكرَ من أصله، ففي إفراد ما وراء الحشفة بالحكومة من الخلاف ما في السنخ، إذا سبق القطع في بعض السن، فهذا بيان أصلٍ واحد في أحكام السن.
10629- الأصل الثاني - الكلام في تفصيل المثغور وغير المثغور، وهذا من أعظم الأركان في الفصل، فنقول: من قلع سنَّ صبي لم يُثغر سنه، فلا نعجل في إيجاب شيء ونتأمل ما سيكون؛ فإن السن سيعود غالباًً، فإن عاد السن من غير نقص، لم يتجه على القاطع ديةٌ ولا قصاص، ونظر: فإن لم يبق [شينٌ] (4) ولا أثر للقلع السابق، فهل يجب على القاطع شيء أم لا؟ فعلى وجهين سيأتي أصلُهما، والنظائرُ التي يجري الوجهان فيها.
__________
(1) في الأصل: "آخراً".
(2) في الأصل: "ويستقر".
(3) في الأصل: "ظهر".
(4) في الأصل: "شيء".(16/382)
ثم إذا أوجبنا شيئاًً، ولا شَيْن، ولا أثر، ففي مقداره واعتباره كلامٌ سيأتي مشروحاًً في باب الحكومات، إن شاء الله عز وجل.
وإن بقي شينٌ، فلا شك [في إيجاب] (1) الحكومة، وتفصيلُ القول في الحكومة بين أيدينا.
وإن لم يعد السن، فقد بان [أن] (2) القلع أفسد المنبت، فيجب فيه أرش كامل. وألحق معظم الأصحاب القول بأنه يجب القصاص على القالع في هذه الصورة إذا تبين فساد المنبت، فنقلع [سنّاً] (3) من القالع -وإن كان مثغوراً- بهذا السن الذي لم يعد.
هكذا أورده القاضي وغيره من الأئمة.
وفي القلب من إيجاب القصاص [شيء] (4) ؛ فإن الدية إنما تكمّل إذا لم يَعُد السن الذي لم يثغر، [لما] (5) ذكرناه من إفساد المنبت، وكأن [عين] (6) السن الذي لم يثغر لا تتعلق به الدية حتى ينضم إلى تلفه إفساد المنبت، وعين السن من المثغور عضو قصاص، فمقابلته بإفساد المنبت لا تتجه.
وقد رأيت في تصرف المذهب [ما يسوّغّ لي] (7) التوقفَ في إيجاب القصاص. فأما الأرش، فلا شك أنه يكمل إذا لم يعد السن.
ولو طالت المدة في ارتقاب عوْد السن الذي لم يثغر، فأوجبنا الأرش، ثم عاد، نسترد الأرشَ قولاً واحداً، ولا يدخل هذا في القولين في عود سن المثغور وهذا واضح.
__________
(1) في الأصل: " في أن إيجاب ".
(2) في الأصل: "أنا".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة اقتضاهاالسياق.
(5) في الأصل: "ما".
(6) في الأصل: "غير".
(7) في الأصل: " يسرع إلى "(16/383)
10630- فأما إذا قطع سناً مثغوراً والقالع مثله، فلا شك في وجوب القصاص في الحال، والدية تكمل، يعني الأرش المقدّر، فلا توقف؛ فإن الأسنان المثغورة يندر عودها بعد القلع؛ فلا توقف إذاً فيها.
[هذا] (1) أصل المذهب، ثم يبتدىء التفريع: فإذا عاد السن من المجني عليه، والسن مثغور، وكان العود بعد تقديم الجاني الأرش، فهل نسترد الأرش ن المجني عليه أم لا؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - أنا لا نسترد، فإن العوْد نادر، والنادر لا حكم له، والعائد نعمةٌ جديدة من الله تعالى، وقد تمت الجناية واستقر موجَبها فلا نُغيّر حكمَها بخلق جديد، ونعمة حادثة من الله تعالى وتقدّس. وهذا اختيار المزني. والقول الثاني - أنا نسترد الأرش، إن السن على الجملة يفرض عود جنسه على الجملة، فإذا تحقق العود، كان كما لو لم يسقط أصلاً، نادراً كان أو معتاداً.
والكلام ينبسط الآن بعض الانبساط، فالوجه أن نذكر ما يليق بهذا الموضع في تمهيد الأصل، وذكر النظائر، والإشارة إلى محل الوفاق والخلاف، ثم نعود بعد ذلك إلى تفريع القولين في الأسنان، والله المستعان.
10631- فنقول: من جنى على إنسان، فصار لا يبصر أصلاً، وربما يقتضي الحال الديةَ، لغلبة الظن في أن البصر زائل، فإذا غرّمنا الجاني [الدية] (2) ، ثم أبصر المجني عليه، فلا خلاف أن الدية [مستردّة] (3) ، وقد بان أن البصر لم يزل، وإنما حدئت غشاوة [أو طرأ مانع ثم زال] (4) . هذا ما عليه بناء الفقه، فلا التفات إلى [التعمق واسترسال] (5) الكلام.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "مقررة".
(4) في الأصل: "أو طرأ مانع وزوال" والتعديل من المحقق على ضوء عبارة الغزالي في البسيط.
(5) في الأصل: "العمق، لسريان" وسوّغ لنا هذا التغيير ما رأيناه في كلام الإمام في بعض كتبه من قوله: "نعوذ بالله من التعمقات".(16/384)
ولو جنى جانٍ، فجرى الماء إلى [إنسان العين] (1) فقُدح (2) الموضع، وزال الماء، وأبصر من عليه الجناية، فالدية مستردة، كما ذكرناه.
وكذلك القول في إزالة لطيفة السمع في الظن وتقدير السلامة بعد ذلك؛ فإن هذه المعاني إن زالت، لم تعد أصلاً، وإنما تحدث موانع [ظهورها] (3) ، ثم تزول، وما ذكرناه جارٍ في الحواس [كلّها] (4) .
ولو جنى جارٍ، فأذهب بطشَ اليد من المجني عليه، واقتضى الحال إلزام الدية [فأبلّت] (5) اليد، وعاد البطش. [فهذا] (6) كالإبصار بعد وقوع لحيلولة، هكذا ذكر الأئمة وهو مقطوع [به] (7) ؛ فإن الأعضاء إذا يبست [أعصابها، وفسد حسها لا تعود، وهو الشلل تحقيقاًً] (8) ، وفيه الدية، وإذا أتاها الخلل، وزال البطش من الدماغ، ثم زالت آفةٌ كانت، وانجلت شدّةٌ وقعت، وكانت مانعة من نفوذ القوة إلى الأعضاء، فهذا كالإبصار بعد امتناعه. فانتظم مما ذكرناه أن المعاني بجملتها إذا فرض العود فيها تسمية وإطلاقاً، فذاك ليس بعَوْد، ولكنا نتبين أنها لم تزُل، وإنما وقعت حوائل وموانع، ثم زال المانع، والمعاني بحالها.
ومن ذلك العقل؛ فإن من جنى على إنسان، فجُنّ المجني عليه، ثم أفاق وعقل،
__________
(1) في الأصل: "أسنان الغير".
(2) قدح: يقال: قدح الطبيب العين: أخرج منها الماء الأبيض، الذي يمنع الرؤية (المعجم) .
(3) في الأصل: "وظهورها".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. وقدرناها هكذا على ضوء ما بقي من خيال الحروف، وعلى ضوء المعهود من أسلوب الإمام، فهي هي إن شاء الله.
(6) في الأصل: "وهذا".
(7) زيادة اقتضاها السياق.
(8) عبارة الأصل: "إذا يبست أغصانها، وفسدت سببها ألا تعود وهو الشكل تحقيقاً" هكذا تماماً، وفيها ما تراه من خلل، حاولنا إصلاحه، فبلغنا اليقين في بعض، وغلبة الظن في بعض. والله المستعان.(16/385)
فنسترد [الدية] (1) إن كنا [أخذناها] (2) ، فقد جرى القول فيها على [ما تمهد] (3) .
10632- ثم يقابل هذا القسمَ الذي ذكرناه معارضٌ على حكم المخالفة والمناقضة، فنقول: من أوضح رأس رجلٍ، توجه القصاص أو الأرش، فلو التحم الجرح واكتسى باللحم والجلد، فقد رأيت الأئمة متفقين على أن الأرش لا يُسترد، قولاً واحداً، وحكم الجناية لا يزول بما فرض من الالتحام؛ والسبب فيه أن المرعي في الإيضاح حصول الاسم، ولذلك لم نفرِّق بين الموضِحة الصغيرة وبين الكبيرة التي تستوعب الرأس بالإيضاح، وقد تحقق الاسم، فاستقرت التسمية.
ثم الالتحام أمرٌ جديد، ولحم حادث أنبته الله تعالى وتقدس، والذي يحقق ذلك ويوضّحه أن الالتحام في الموضِحة معتاد غير نادر، فلو كان مسقطاً للأرش [مغيِّراً] (4) لأمر القصاص، لأجريناه جَرْي السن الذي لم يثغر؛ حتى لا نعلِّق به -عند الالتحام- قوداً ولا دية، [وربطنا] (5) الأرش بما إذا برز العظمُ وبقي [ظاهراً يُنظر] (6) ، وهذا غير واقع، وفيه حسم السبيل إلى موجَب الشِّجاج.
وتمام الغرض في هذا أن سن الصبي يسقط لا محالة في [زمن] (7) قريب، وإذا قلع ثم عاد، كان ذلك بمثابة استعجال في السقوط، وكان إليه مصيره لو ترك، وجلدة الرأس لا تسقط، فإذا تحقق الاسم، فلا ننظر إلى ما يقع بعده من الالتحام، والمعاني إذا قيل: عادت، تبيّنّا أنها لم تزُل، وهذا لا يتحقق في الموضحة، فإنها واقعة قطعاً، ثم كما يغلب التحامها من المجني عليه، فكذلك يغلب في المقتص منه.
ويلتحق بهذا القسم أن الجائفة إذا التحمت [وانسدّت] (8) ، فالذي قطع به
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "أخرناها".
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: "معتبراً".
(5) في الأصل: "وتحققنا".
(6) في الأصل: "رأساً بنص" (كذا تماماً) .
(7) في الأصل: "في رمز".
(8) في الأصل: "واستدت".(16/386)
الأصحاب أن حكمها لا يزول؛ فإن المعول فيها على الاسم، كما أن المعول في الموضِحة على الاسم، وقد ذكر صاحب التقريب في الجائفة إذا التحمت وانسدت وجهين: أحدهما - أن حكمها لا يزول كالموضِحة، والثاني - أن حكمها يزول، وهذا وجهٌ ضعيف، لا اتجاه له على الوجه المحكي.
10633- والذي عندي فيه أن ما ذكره فيه إذا وصلت الجائفة إلى الباطن بسكين أو غيره، ولم يزُل اللحم من البين، وإنما وُجد [خرق] (1) ، ثم التحم من بعدُ.
وهذا فيه احتمال؛ فإن الخرق قد زال، من حيث حدث من غير زيادة لحم لم تكن، وعندي أنه لو فرض مثل ذلك في الموضِحة، بأن غرز الجاني إبرة، وقرع العظمَ بها، فهذا إيضاح، فلو ارتتق مثل هذا الجرح واللحم، فالذي أراه طردُ الوجهين في هذه الصورة؛ إذ لا يجوز أن يعتقد الفرق بين الموضِحة وبين الجائفة أصلاً.
ولكن الذي يجب اعتماده في ترتيب المذهب أنه إذا زال اللحم، وحصلت الجراحة الموجبة للأرش في الشجاج أو الجوائف، ثم فرض زوال الجرح بنبات لحمٍ جديد، فالأرش لا يسترد أصلاً، وإن وجد خرق [محدَّد] (2) في النوعين من غير إزالة لحم، ثم قدر التحامٌ من غير لحم جديد، ففيه الوجهان في الموضحة والجائفة جميعاً.
فهذا بيان هذا الطرف، وبين الطرفين عَوْد السن المثغور، وفيه القولان، والفرق بينه وبين الموضحة أن المتبع في الموضحة الاسمُ، كما تقدم ذكره، وقد جرى في جنس السن ما يجب القطع فيه بسقوط الأرش، وهو عوْد سن من لم يثغر سنه، والمثغور من جنس ما لم يثغر، فهذا هو أحد القولين. وإلا فالقياس الحق أن ما يحدث من خلقٍ جديد لا يغيّر حكم الجناية السّابقة، ولكن اعترض في الأسنان ما ذكرناه في السن الذي لم يُثغر.
__________
(1) في الأصل: "حرف".
(2) في الأصل: "مجدد".(16/387)
فهذا بيان التغايير التي تحدث بعد الجناية.
10634- ثم إن المزني اختار أن عود السن المثغور لا حكم له، وهو نعمة جديدة من الله تعالى، واحتج في نظره ذلك بأن من قطع لسان إنسان، ثم عاد ونبت، فما وجب لا يسقط، فليكن عود السن المثغور كذلك (1) .
وقد اختلف أصحابنا على طريقين فيما ذكر: فذهب الأكثرون إلى أحد القولين في عود اللسان، وهذا إن كان يتصور، فإنما يتصور في قطع فلقة من جانب من اللسان، وهو بعيد في التصوّر أيضاً.
ومن أصحابنا من سلم للمزني ما ذكره، وقال: إنما قلنا في السن المثغور ما قلناه اعتباراً بالسن الذي لم يُثغر، وليس في اللسان ما يناظر السن الذي لم يثغر؛ حتى نلحقَ اللسان به، فأجرينا القياس في اللسان، وفي الأسنان ما ذكرناه من السن الذي لم يثغر.
فهذا منتهى القول في هذه التقاسيم، والله أعلم.
10635- وقد عاد بنا الكلام إلى التفريع على القولين في السن المثغور، فنفرض صوراً، ونفرع حكمها على القولين، فنقول: وصفنا القولين فيه إذا قلع السن ممن ثُغر [فغرم] (2) الأرش، ثم عاد السن من المجني عليه، ففي استرداد الأرش ما ذكرناه من القولين.
ولو اقتصصنا من الجاني، فعاد سنُّ المجني عليه بعد الاقتصاص، ولم يعد سن الجاني، فالمذهب أن القولين يفرعان، [فيقال] (3) فيهما: إن قلنا: لا حكم لعود السن، فلا ننظر إلى العود، وقد جرى القصاص بحقٍّ، وإن أثبتنا للعود حكماً، فيغرم المجني عليه للجاني الذي اقتص منه أرش سنه الذي قلعه في ظاهر الأمر قصاصاً.
وحكى صاحب التقريب عن أبي الطيب بن سلمة من أئمتنا أنه قال: لا يجب على
__________
(1) ر. المختصر: 5/132.
(2) في الأصل: "يغرم".
(3) في الأصل: "فقال".(16/388)
المجني عليه شيء في هذه المسألة؛ وذلك أنه إذا غرم الجاني الأرشَ، فردُّ الأرش ممكن [عند] (1) عود السن، فأما إذا اقتص الجاني، فهذا لا يمكن ردّه، فلا تتعلق به [تبعة] (2) ، وهذا غلط صريح في القول الذي عليه نفرع، [فسنّ] (3) المجني عليه إذا عاد، فقد بان أن قلع سن الجاني الذي قلعه على ظنّ القصاص، [لم يكن بحق] (4) .
[وقد] (5) ذكرنا عوْدَ سن المجني عليه، وقد [غرم] (6) الجاني الأرش [وإن] (7) فرض الاقتصاص منه.
10636- ونحن نصوّر الآن عود السن في الجاني، فنقول: إذا اقتصصنا من الجاني، وقلعنا سنه الذي قلعه من المجني عليه، فعاد سنه، فهذا يتفرع على أصل القولين في العود: فإن قلنا: السن الحادث نعمةٌ جديدة، فلا [يتغير] (8) به حكم، وقد جرى الاقتصاص على وجهه، ولا أثر للعود المفروض.
وإن جعلنا للعوْد حكماً، فقد ذكر العراقيون وجهين: في أنا هل نقتص منه مرة أخرى؟ أحدهما - أنا نقلع سنه مرة أخرى، ولا نزال نفعل ذلك إذا كان السن يعود، ولا نبالي وإن قلعنا مائة مرة، وذلك أن القصاص في التحقيق إنما يجري لإفساد المنبت، [فما لم] (9) يحصل لا يكون ما يجري اقتصاصاً.
والوجه الثاني -وهو الذي قطع به الأئمة المراوزة- أنا لا نقلع سنه مرة أخرى؛ فإن القصاص عقوبة مع مجازاةٍ لعدوان، والمماثلة مرعية في القصاص.
وهذا سرف عظيم ومجاوزة حدّ، فإذا نبت سنه، فقد فات الاقتصاص، [والجاني
__________
(1) في الأصل: "ضد".
(2) في الأصل: "بيعة".
(3) في الأصل: "فأرش".
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) في الأصل: "فقد".
(6) في الأصل: "عدم".
(7) في الأصل: "إن".
(8) في الأصل: "يتعين".
(9) في الأصل: "فما لا".(16/389)
يغرَم للمجني عليه] (1) أرش سنه، وكأن الاقتصاص لم يجر، وتعذر [بسبب] (2) من الأسباب.
ولو قلع سنّه جانياً، فقلعنا سنّ الجاني قصاصاًً، فعاد سنهما جميعاً، فإن لم نجعل للعود حكماً، فقد تمت الجناية، وتمّ القصاص.
وإن جعلنا للعَوْد حكماً، فنقول: لما عاد سن المجني عليه، فنقول: كأنه لم يقلع، وإذا عاد سن الجاني، فنقول: كأنه لم يقتص منه، فيتفاصلان ولا طلبة لواحد منهما في أصل السن، وهذا من بدائع التفاريع؛ [فإنا قد فرعنا] (3) على قولين مختلفين، فأفضى التفريع عليهما إلى مقصود واحد، فإنا إن قلنا: لا حكم للعود، فلا [تداعي] (4) بينهما، وقد تمت الجناية، وتم القصاص.
وإن قلنا: للعود حكم، فكأن الجناية في أصلها لم تجرِ، وكأن الاقتصاص لم يجر. والله أعلم.
ومما نذكره في التفريع: أنا إذا لم نجعل لعود السن حكماً، فنقول: إذا جنى فقلع سناً، فإنا نبتدر ونقتص من الجاني، أو نغرّمه الأرش، ولا ننتظر أمراً؛ فإن أقصى ما يفرض عود السن ولا أثر له.
وإن قلنا: عود السن يؤثر، فهل نتوقف وننتظر العود، أم كيف السبيل فيه؟ ادعى المزني لما اختار أن عود السن لا حكم له أنا لا ننتظر، واحتج بذلك قائلاً: لو كان على عود السن معول، لانتظرناه، كما [نفعل] (5) ذلك في الذي لم يثغر.
فذهب معظم الأئمة إلى أنا نخرّج الانتظار على القولين: فإن قلنا: يتغير الحكم بعود السن، فلا بد من الانتظار، وهذا هو القياس الحق، ثم الرجوع في مدة
__________
(1) "والمجني عليه يغرم للجاني أرش سنه" وهو عكس المعنى، فالمسألة مفروضة في عود سن الجاني بعد القصاص.
(2) في الأصل: "سبب".
(3) في الأصل: "وأما إذا فرعنا على قولين مختلفين".
(4) في الأصل: "تراعي".
(5) زيادة اقتضاها السياق.(16/390)
الانتظار [إلى] (1) مدة عود سن الصبي الذي لم يثغر.
ومن أصحابنا من وافق المزني في الذي ذكره وقال: إنا لا ننتظر العود لأنه إن وقع، فهو نادر جداً، فلا وجه لانتظار النوادر، وإنما يتعلق انتظار العقلاء بما لا يستبعد، والزائد عليه أنا لو انتظرنا مدة، فلن ينقطع توقع العود وإن طالت المدة، فالوجه قطع الانتظار أولاً، ثم إن اتفق عودٌ، أجرينا ما حكمنا فيه على ما يقتضيه القياس.
وقد انتجز غرضنا في هذا الأصل.
10637- ومن الأصول الكلامُ في أن الأسنان إذا استوعبت قلعاً، وزادت أروشها على مقدار الدية، فكيف الوجه؟ قال الشافعي رضي الله عنه: "والضرس سن وإنما سمي ضرساً" [فجملة] (2) الأسنان على الاعتبار الغالب في الفطرة اثنان وثلاثون: أربع ثنايا: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل. وأربع رَباعيات، فوق وأسفل، وأربعة [أنياب] (3) ، كما ذكرنا، [وأربعة نواجذ] (4) وأربع ضواحك، واثنتا عشرة طواحين، وهي التي تسمى الأضراس، وهذه الأسنان، وإن كانت [متفاوتة فيما] (5) يتعلق بها من المنفعة، فهي متساوية في الأروش، ففي كل سن منها خمس من الإبل، إذا كمَّل
المجني عليه [قلعها] (6) ، كما تقدم ذلك، وهو [كالأصابع فإنها] (7) متفاوتة في الصورة، والطول، والقصر، والمنافع، وأروشها متساوية، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأسنان سواء والأصابع سواء والثنية كالضرس: هذه كهذه" (8) .
__________
(1) في الأصل: "على".
(2) في الأصل: "جملة".
(3) في الأصل: "ضواحك"، واتبعنا في الترتيب المصباح المنير.
(4) سقطت من الأصل، ولا يتم العدد إلا بها.
(5) في الأصل: "معاونة وما".
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: "وهو الأصابع وإنها متفاوتة".
(8) حديث: "الأسنان سواء ... " رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والبزار، وهو في =(16/391)
ثم قال الأئمة في هذا المنتهى: الغالب أن الثنايا تكون أطول من الرَّباعيات، فإن كان ثنايا بعض الناس مثل الرَّباعيات أو أقصر منها، فكيف الحكم؟ ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا يجب في الثنية والحالة هذه تمام الأرش، كما إذا كانت الإصبع الوسطى مثل المسبِّحة، فلا يجب فيها تمام دية إصبع، [ولذلك] (1) يجب [في] (2) الثنية مقدار من الأرش: فنقدر الطول الذي كان ينبغي أن يكون، ويتوزع الأرش، ويسقط في مقابله ما عدمنا مقدارَه، ويبقى مقدار الباقي، وفي بعض التصانيف أنا نوجب فيه حكومة، وهذا غلط إلا أن يريد بها البعض على القياس الذي ذكرناه.
وكان يحتمل أن يجب تمام الأرش، وفي كلام الأئمة رمزٌ إليه، ووجهه أن زيادة الثنايا [ليست] (3) مطردة؛ حتى يقال: خلافُه خارج عن عادة الخلقة، والناس على تفاوت عظيم في خلقة الأسنان، وليس كذلك الأصابع، على أني سأذكر في الأصابع إذا انتهيت إليه ما ينبغي.
10638- ثم نتكلم بعد هذا في استيعاب الأسنان في القلع، وتعدد أروشها، فنقول أولاً: إذا قلع الجاني سناً، وتركه حتى برأ واندمل، وزال أثر الجناية، ثم قلع سناً آخر، ثم هكذا إلى استيعاب الأسنان، فهاهنا نوجب في كل سن خمساً من الإبل.
[ولو] (4) اشترك جماعة، فقلع كل واحد منهم سناً [أو واحدٌ عشرين] (5) ، وقلع
__________
= البخاري مختصراً بلفظ: هذه وهذه سواء. يعني الخنصر والإبهام (ر. أبو داود: الديات، باب ديات الأعضاء ح 4558- 4561، ابن ماجه: الديات، باب دية الأصابع، ح 2652، ابن حبان: 5980، البخاري: الديات، باب دية الأصابع ح 6895. تلخيص الحبير: 4/55 ح1930) .
(1) في الأصل: "ولكن".
(2) في الأصل: "من".
(3) في الأصل: "أن زيادة الثنايا الست مطردة".
(4) في الأصل: "فلو".
(5) زيادة لا تصح الصورة إلا بها. وهذه الصورة بهذا الوصف عند الغزالي في البسيط.(16/392)
الآخر الباقي، فيجب على كل واحد [منهم] (1) الأروش بكمالها؛ فإنه لا يختص كل واحد [بأكثر] (2) من الدية، وهذا [نهايتها] (3) ، [ولو قلع قوم] (4) كل واحد سناً (5) ، وكذلك إن قلع سناً، وغرم أرشه، وقلع آخرَ وغرم [أرشه] وهكذا، (6) حتى استوفى الأسنان، فالأروش تثبت، [وإن] (7) زادت على الدية هذه صورة وحكى الأئمة الوفاق في وجوب تمام الأروش فيها (8) .
ولو جنى جناية أسقط فيها جميع الأسنان دفعة واحدة، فهل نوجب الأروش بكمالها، أم لا نزيد على ديةٍ واحدة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنا نوجب الأروش، وإن زادت على الدية، وهذا هو القياس. والثاني - أنه لا يجب أكثر من دية واحدة؛ فإنها [أعدادٌ متقابلة متعاونة على العمل كالأصابع] (9) وهذا [لا يستدّ] (10) مع أن الأروش تزيد في الصور التي ذكرناها.
__________
(1) في الأصل: "منها".
(2) في الأصل: "أكثر".
(3) في الأصل: "بيانها".
(4) عبارة الأصل: "لو قلع كل قوم كل واحد سناً"، والتعديل بالحذف والزيادة من عمل المحقق.
(5) هذه الجملة تكرار للصورة المضمنة ضمن الصورة المركبة السابقة، فهي مركبة من صورة تعدد فيها الجاني بعدد الأسنان، ومن صورة أخرى تعدد الجاني إلى اثنين فقلع واحد عشرين والآخر الباقي. فقوله: "لو قلع قوم كل واحد سناً" هي بعينها الصورة التي أمامك، مما يشعر بقلب في لعبارة.
(6) عبارة الأصل: "وقلع آخر وغرم وهذا متجه حتى استوفى الأسنان".
(7) في الأصل: "فإن ".
(8) هذه الصورة ليس فيها تكرار مع الصورة التي تقدمت آنفاً وتعددت فيها الجناية، واتحد الجاني، فهذه ليست كتلك، حيث قيدت السابقة بتخلل الاندمال، وهذه مطلقة من هذا القيد، ومقيدة فقط بتخلل دفع الأرش.
(9) عبارة الأصل: "فإنها اعتماد مقابلة متقاربة على العمل بالأصابع" وفيها أكثر من تصحيف.
والمثبت نص عبارة الإمام -إن شاء الله- اعتماداً على السياق، وعلى عبارة الغزالي في البسيط. حيث قال: "والثاني - أنها لا تزيد على الدية لأنها متقابلات متعاونات على جنسٍ من العمل كالأصابع" (ر. البسيط = مخطوط: الجزء الخامس: ورقة: 57 يمين) .
(10) في الأصل: "لا يستمر".
ويستدّ بمعنى يستقيم، وهو من ألفاظ الإمام التي يلتزم بها في التعبير عن هذا المعنى.(16/393)
ولو قلع جانٍ واحدٌ، فقلع الأسنان واحداً واحداً، ولم يتخلل اندمالٌ، ولا غرامةُ أرش، ففي هذه الصورة طريقان: أحدهما - القطع بإيجاب الأروش بالغةً [ما بلغت] (1) ؛ لتعدّد الأفعال وترتبها.
والثانية - أن المسألة تخرّج على القولين اللذين ذكرناهما.
10639- ومن الأصول في الأسنان أن اللحيين فيهما دية كاملة، وهي من مباني البدن، ولا يخفى ظهور وقعهما ومنفعتهما وعِظم أثرهما.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "الأسنان العليا في عظم الرأس، والسفلى في اللحيين" (2) وقصد بذلك التعرض [لأرش اللحيين] (3) ، وهو أن من قلع لحيي شخص، وألزمناه الدية، فهل تلزمه أروش الأسنان مع دية اللحيين؟ فعلى وجهين: أحدها - أنها تتبع؛ فإن المتركب على الشيء إذا قُلع مع أصله، لم يفرد كل واحدٍ منهما بأرش الانفراد، والأقيس إثبات الأروش مع دية اللحيين (4) .
10640- إذا ضرب سنَّ إنسان فاسودّ، فقد اختلف نصّ الشافعي فيه، فقال في موضعٍ: "يلتزم الحكومة" [وقال في موضع يلتزم عقلها] (5) ، فقال المزني: أجعل المسألة على قولين، واختار إيجاب الحكومة، واحتج بأن منفعة السن باقية: من القطع والمضغ وغيرهما (6) .
فقال الأئمة: ليست المسألة على قولين، بل النصان منزلان على حالين: فحيث
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 5/132.
(3) زيادة من المحقق.
(4) تداخل الكلام على اللحيين والجناية عليهما مع الأسنان التزاماً من الإمام بترتيب (السواد) أي مختصر المزني.
هذا مع أن الغزالي (تلميذ الإمام) جعل الجناية على اللحيين فصلاً قائماً بذاته، فقال: الثامن (أي من الأطراف) اللحيان، وأتى بها -ومثله الرافعي والنووي- عقب الفراغ من الأسنان، ولكن إمامنا -التزاماً منه بترتيب المختصر- تخلل بها بين مسائل الأسنان.
(5) زيادة اقتضاها السياق، من معنى كلام الشافعي في المختصر. (السابق نفسه) .
(6) السابق نفسه.(16/394)
أوجب الدية أراد إذا سقطت منفعة السن، وحيث أوجب الحكومة أراد إذا لم تسقط منفعتها.
وفيما [ذكروه] (1) نظر وبحث، فنقول: إن كان يتأتى المضغ والقطع ولم يحدث إلا اسوداد، فلا يلزم إلا الحكومة، وإن كان لا يتأتى بالسن ما ذكرناه، فربما [يتعذر بسببه] (2) الانتفاعُ [بما عداه، فقد سقطت] (3) المنفعة، وبقاء الجرم [لا ينافي] (4) وجوب الأروش، كما لو ضرب يداً، فأشلها.
[وإن اخضرّت السن أو انتبرت، وتقلقلت] (5) ، وبان أنه من آثار الجناية، فإذا سقط، وجب الأرش في سقوط العضو [على] (6) ما تقدم ذكره.
وإن كان يتأتى به القطع والمضغ ولكن على ضعف، فهذا بمثابة ما لو ضرب يد إنسان فأضعفها ولم تسقط منفعتها بالكليّة، فتجب الحكومة، ثم الحكومة على قدر ما فات، ولا سبيل إلى [التقدير] (7) ، فإنه لا ينضبط ما فات وبقي على وجهٍ لا يتأتى فيه [شبهة] (8) من جهة التقدير، فإذا لم [يتقدّر] (9) ما فات، لم يتأت تعبير عن [عوضه] (10) ، فأثبتنا الحكومة صادرةً عن النظر والاجتهاد، فهذا جميع ما يتعلق بهذا.
فالاسوداد المجرد لا يوجب الأرش بكماله. نعم، يتعلق به الحكومة، وستأتي أصول الحكومة، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: "ذكرناه".
(2) في الأصل: "يتعدد سببه".
(3) عبارة الأصل: "بما عداه سببه فقد سقطت".
(4) في الأصل: "لا يتأتى".
(5) في الأصل: "وإن أخر السن سر وـ ـطع" هكذا بدون نقط. ومعنى انتبر: أي تورّم وارتفع.
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: "التقدم".
(8) في الأصل: "سببه".
(9) في الأصل: "يتقرر".
(10) في الأصل: "عرضه".(16/395)
ثم حيث أوجبنا على الجاني حكومة، فلو جنى جانٍ وقلع ذلك السن، قال الأصحاب: على قالعه أرشٌ كامل، وإن أوجبنا على الجاني الأول أرشاً كاملاً، فنوجب على القالع حكومة، وهذا بيّن عند الأصحاب في الأصول. 10641- وفيه نظر عندي وبحثٌ: فإن من نَقَصَ (1) السنَّ وأزال بعضَ منفعته، فالذي يضمنه في مقابلة ما أزاله -إذا ضمن- شيءٌ (2) من المنفعة، [فالقول] (3) بإيجاب تمام الأرش قد يُشكل على الناظر؛ وهذا السؤال قد يتجه فيما إذا جنى على يد إنسان، فأضعفها، وضمن الحكومة، ثم يترتب على ما ذكرته من الإشكال أمر القصاص، وقد قال الأئمة: في الصورة التي انتهينا إليها: لو قلع قالع ذلك السن، أو قطع تلك اليد فيلزمه القصاص، واليد الكاملةُ لا تقطع إلا بيدٍ كاملة.
فنقول: إذا ضعفت اليد خلقةً، أو ضعف السن، [فلا] (4) إشكال في إتمام الأرش على الجاني، فإنا لَوْ لم نقل هذا، لوقعنا في عَماية لا تنجلي، فإن [أفراد] (5) منافع الأعضاء لا تدخل تحت الضبط، فيكفي في إكمال أبدالها كمال الخلقة صورةً، وثبوتُ المنفعة على الجملة، ولا نظر إلى قدر المنفعة.
هذا في الضعف الذي يكون من [طريق] (6) الخلقة ويستوي فيما ذكرناه الأصلي والطارىء إذا كان من طريق الخلقة، من غير فرض جنايةٍ وضمان.
فإذا فرض النقصان بجناية، وفرض الضمان، ففيه الإشكال، فإن [قيل] (7) [الفائت] (8) مضمون، فإذا وجب تمام الأرش، فهذا يتضمن تضعيف الضمان في القدر الذي تعلق الضمان الأول به. قلنا: الأمر كذلك، ولكن سرّ الحكومة أنا
__________
(1) نقص: فعلٌ متعدٍّ بنفسه، وبالهمزة.
(2) شيء: تعربُ خبراً لقوله: فالذي يضمنه ... - شيء من المنفعة.
(3) في الأصل: "فبدل بإيجاب".
(4) في الأصل: "ولا".
(5) في الأصل: "إقرار".
(6) في الأصل: "طريقه".
(7) زيادة من المحقق.
(8) في الأصل: "الغائب".(16/396)
لا نوجبها في مقابلة مقدارٍ من المنفعة على التحقيق، ولكنا نقول: جنايةٌ مؤثرةٌ، [وليس] (1) فيها تقدير شرعي، ففيها حكومة، ثم أقرب مسلك نلتفت إليه المنفعةُ اجتهاداً وتخميناً، [وتعدّد] (2) الجناة قد يوجب مثلَ ذلك؛ فإن من قطع يدي رجل وحز رقبته، فالنص أنه لا يلزمه إلا دية واحدة، ولو قطع يديه إنسان، وقتله غيرُه، فديتان وفاقاً، وسنذكر هذا موضحاً في فصول الحكومات، إن شاء الله عز وجل.
فصل
10642- إذا تحرك سن الإنسان وتقلقل لهَرَمٍ أو لعلة، فقَلَعَه قالع، قال الأئمة: في وجوب القصاص والأرش الكامل قولان.
وهذا عندي فيه ترتيب؛ فإن تقلقل على وجهٍ يغلب على الظن أنه يثبت [ولم] (3) تسقط المنفعة [ولم تزُل، فهذا] (4) بمثابة مرض في العضو، فإذا قُلعت، فيجب [لضمان] (5) ، ويُقْطَع بالقود وبكمال الأرش.
وإن كان التحرك بحيث يغلب على الظن أن السن إلى السقوط لما به، ففيه قولان: أصحهما - وجوب القصاص والأرش الكامل؛ [فإن] (6) المنفعة وإن قلّت وضعفت،
فالعضو باقٍ، وقد قدمنا أن مثل هذا وإن [نقص] (7) المنفعةَ لا يؤثر في إسقاط الصحة والحكم بالسلامة.
والقول الثاني - أن [القود] (8) لا يجب؛ فإن السن انتهى إلى السقوط، وفي جنسه ما لا يتعلق به كمال الأرش؛ من حيث إن مصيره إلى السقوط، وهو سن الصبي الذي
__________
(1) في الأصل: "فليس".
(2) في الأصل: "عدد".
(3) في الأصل: "ولا".
(4) في الأصل: "لم تزل وهذا".
(5) زيادة من المحقق، محاولة لإقامة العبارة من غير تبديل وتغيير.
(6) في الأصل: "بأن".
(7) في الأصل: "بعض".
(8) في الأصل: "القول".(16/397)
لم يُثْغر، وإنما خرج هذا القول لهذا الشبه، وإلا فلا خلاف في سائر الأعضاء أنها إذا [اكتسبت] (1) ضعفاً، فهي [كالأعضاء] (2) القوية.
ثم هذا التعلّق غير صحيح أيضاً؛ فإن المعتبر في سن الصبي أنه يسقط ويخلف، وهذا لا يتحقق في سن الشيخ؛ فإنه إن سقط، فلا [خلف] (3) له.
فكأن الأعضاء تنقسم: فما ضعف وكان الغالب أنه يبقى صاحبه (4) ، فلا حكم لذلك الضعف، وما سقط إلى خلفٍ وبدل، فهو سن من لم يثغر سنه، وما يسقط غالباًً إلى غير خلف، وإن لم يظهر أثره، فهو عضو كامل في القصاص والأرش، فإن ابتدأ يتحرك، ففيه القولان، والأصح عندي الحكم بموجب الكمال.
فرع:
10643- إذا قلع سناً لم يُثْغَر من صبي، فقد ذكرنا أنا ننتظر من أمره العَوْدَ [أو غُرْمه] (5) ، فلو مات الصبي قبل أن يعود سنه، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - لا نكمل الأرش؛ لأن [العود كان متوقعاً] (6) ، فقطعه الموت. والثاني - يلزم، فإن القطع [قد] (7) تحقق، ولم يكن عود، ولا ننظر إلى تفصيل السبب الذي لأجله لم يعد السن.
ومما يتعلق بهذا المقام أنه لو قلع قالع سنَّ صبي، فجاء جانٍ وجنى على ذلك المنبت، فلم يعد السن، وقيل: لولا الجناية، لكان يعود السن، فهذا [محلٌّ] (8) مشكل: [يجوز أن يقال: يجب الأرش على القالع] (9) ، ويجوز أن يقال: لا يلزم القالع إلا الحكومة، ثم ليس يظهر في هذه الحالة إيجابُ الأرش على الجاني الثاني
__________
(1) في الأصل: "اكتست".
(2) في الأصل: "بالأعضاء".
(3) في الأصل: "خلاف".
(4) كذا تماماً وإخلالها لفظة بمعنى: منفعته.
(5) في الأصل: "وعرمه". والمعنى أننا ننتظر أن يعود السن أو نغرم أرشه.
(6) في الأصل: "القطع كان متوقفاً".
(7) في الأصل: "في".
(8) في الأصل: "محمل".
(9) في الأصل: "يجوز أن يحال على القالع". والمثبت من معاني كلام الرافعي، حيث نقل المسألة عن الإمام. (ر. الشرح الكبير: 10/371) .(16/398)
وإن نفيناه عن الأول، وإيجاب الأرش بينهما لا يصير إليه فقيه.
ولو سقط سن الصبي بنفسه، فجنى جانٍ على المنبت، فلم يعد السن، فهذا مشكل أيضاًً، وقد يتجه إيجاب الأرش على الجاني؛ من جهة ظهور فساد المنبت ولم تتقدم جناية من قالع حتى تكون الإحالة [عليها] (1) ، والله أعلم، ولا قطع مع الاحتمال، [ولا نَقْلَ] (2) نعتمده.
فرع:
10644- إذا بلغ (3) الصبي في العاشرة وله سن بعدُ لم يُثغَر، فقلع سناً لم يُثْغَر مماثلاً لسنه، فهل نقلع سنَّ القالع جرياً على إجراء القصاص في الأعضاء الزائدة.
قال شيخي لما راجعته في ذلك: لا قصاص في الحال، فإن سن المجني عليه إن عاد، فقد لا يعود سن الجاني، فإن لم يعد سن المجني عليه، ورأينا القصاص فيه، كما تقدم، فنقطع سن من لم يُثْغَر، فإن لم يعد، فالسن بالسن. وإن عاد سنه، فهذا العود معتبر بلا خلاف، فنقول: لم يعد سن المجني عليه، وعاد سن الجاني، فهل نقلع سنَّه الثاني؟ فيه خلاف، ويظهر هاهنا أن نقلع ثانياً، فإن الأول لم يكن مثغوراً، وإن لم يقلع، ولا شك في إكمال الأروش في سن المجني عليه، فتأملوا، ترشدوا، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
10645- إذا انقلع سن إنسان وسقط، فاستعمل سناً من ذهب، وردّه إلى سنخ ذلك السن، فنشب اللحم به ونبت، وصار يَقطَعُ به ويمضغ، فلو قلع قالع هذا السن، فقد اختلف قول الشافعي في أنه هل يجب على القالع حكومة أم لا؟ فأحد القولين - أنه لا حكومة لأنه لم يكن جزءاً من الحيوان، والثاني - تجب الحكومة لما كان فيه من المنفعة، والتعلق بالآدمي، وفي المسألة احتمال بيّن لو تُصوّرت، وعندي أنها لا تتصور ولا يتصور أن يلتحم [اللحم] (4) على [الذهب] (5) والله أعلم.
فهذا ما حضر ذكره في أصول أحكام الأسنان.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "ولا ينقل".
(3) قيده بالبلوغ لكي يصح فرض الاقتصاص في الصورة كما يصوّرها.
(4) زيادة من كلام الرافعي حكاها عن الإمام. (ر. الشرح الكبير: 10/366) .
(5) في الأصل: "المذهب"، والمثبت من كلام الرافعي حاكياً إياه عن الإمام. (السابق نفسه) .(16/399)
فصل
قال: "وفي اليدين الدية ... إلى آخره" (1) .
10646- في اليدين الدية، وقد قال عليه السلام: "في اليدين الدية، وفي الرجلين الدية" ثم يجب في اليد الواحدة نصف الدية، والديةُ تكمل بلَقْط الأصابع، فإن قُطعت اليد من الكوع، لم نزد شيئاًً وفاقاً، وفي كل إصبع عشرٌ [من الإبل] (2) ، ولا فرق بين إصبع وإصبع، وقيل: كان عمر رضي الله عنه يفاوت بين الأصابع في الأروش، فبلغه أن الرسول عليه السلام قال: "الأصابع سواء، والأسنان سواء" فرجع إلى الاستواء، وترك ما كان عليه (3) .
ولكل إصبع في اعتدال الخلقة ثلاثة أنامل إلا الإبهام، فإن [لها] (4) أنملتان عندنا، وفي كل أنملة من [الأنامل] (5) الثلاثة (6) ثُلُث الإصبع، وفي أنملة واحدة من الإبهام نصف دية الإبهام، والكفُّ يتبع الأصابع.
ولو قطع اليدَ من المرفق، ففي الساعد حكومة زائدة، وكذلك إذا قطع من الكتف، فالتبعية إنما تثبت في الكف، كما ذكرناه، [ولو قطع القاطع من المنكب، فالقصاص جارٍ فيه، فإنه مفصل لا يتعذر استيفاء القود منه] (7) ، كما قدمناه في كتاب القصاص.
ولو جنى على يده، فأشلها، وجب كمال دية اليد؛ لإزالة المنفعة، ولا يجري
__________
(1) ر. المختصر: 5/132.
(2) زيادة من المحقق.
(3) حديث: "كان عمر رضي الله عنه يفاوت بين الأصابع ... " رواه عبد الرزاق في مصنفه (ح 17706) والبيهقي في سننه الكبرى (8/93) وفي معرفة السنن والآثار (ح 2916) .
(4) في الأصل: "لهذا".
(5) في الأصل: "الأصابع".
(6) إذا تقدم المعدود يجوز التذكير والتأنيث.
(7) عبارة الأصل: "ولو قطع القطع من ال ـرم فالقصاص جاد فيه، فإن فصل لا يتعذر استيفاء العود منه" وفيها أكثر من تصحيف كما ترى.(16/400)
القصاص في المنافع؛ [فإن] (1) إجراء القصاص غير ممكن فيها.
ولو كسر يد إنسان فجبره، [فجاء] (2) الجبر معوجاً، وجبت الحكومة، فلو قال الجاني: أنا أكسره، وأجبره مستوياً، حتى يقلّ الغُرم عليه، لم يكن له ذلك، ولو فعله وانجبر مستوياً، لم يسقط عنه ما وجب أولاً، وتجب حكومة جديدة بالكسر الجديد. وهذا القول في اليد.
10647- ويجب في الرِّجْل ما يجب في [اليد] (3) ، والقول في أصابع الرجل كالقول في أصابع اليد سواء، وقد يعترض إشكال فيها، فإن أصابع اليد إذا لُقطت [وتُركت] (4) الكف، فمن قطعَ الكفَّ، فعليه حكومة في الكف.
ولو قطعت أصابع الرجل، [فإن] (5) معظم منافع الرجل باقية؛ فإن المقصود منها المشي، وهو باقٍ، وإن المقصود من اليد البطش ومعظم البطش في الأصابع، ولكن اتفق العلماء على أن القدم من غير أصابع بمثابة الكف من غير أصابع.
وفي رِجْل الأعرج كمالُ الدية؛ فإن سبب العرج في الحِقْو أو الفخذ، وقد يكون تشنج (6) في العصب، [فلا] (7) تنتقص الدية بالعرج أصلاً.
10648- ثم قال (8) : "وإذا كان بيد رجل كفَّان ... إلى آخره".
ما قدمناه في اليد والرجل بمثابة الأصول، وهذا أول الخوض [فيما] (9) يكاد يغمض، ونحن بعون الله تعالى نأتي منه بالبيان الشافي.
فليعلم الناظر أنه لا يتصور أن يكون على معصم واحدٍ كفان أصليتان، ولا على
__________
(1) في الأصل: "في أن".
(2) زيادة لسلامة الجملة.
(3) في الأصل: "الدية".
(4) في الأصل: "فتركب".
(5) في الأصل: "فادى".
(6) فاعل (يكون) تامة.
(7) في الأصل: "ولا".
(8) القائل الشافعي رضي الله عنه، وهذا معنى قوله، لا بلفظه. (ر. المختصر: 5/133) .
(9) في الأصل: "كما".(16/401)
ساقٍ واحد قدمان أصليتان، فلا بد وأن تكون إحداهما زائدة، أو تكونا ناقصتين في مقابلة يد واحدة، كما قدمنا تصوّر ذلك في الأصابع، في كتاب القصاص، وكل ما يتعلق بهذا الفصل [قد] (1) سبق مستقصىً في الجراح.
ولا يتأتى استيفاء حكم القصاص دون ذكر أحكام الديات، فلذلك تقدم [لُباب] (2) هذا الفصل فيما تقدم، ونحن نذكر ما نراه زائداً، [وما في] (3) إعادته [ما يفيد] (4) . فإذا كانت إحدى الكفين أصلية، والأخرى زائدة، وقد تبين الأصلى من الزائد، ففي الأصلي الدية، والقود، وفي الزائد الحكومة.
ونحن نجمع ما يدل على الأصلية منهما: فإن كانتا على سَنَنٍ واحد، وأصابع كل واحدة كاملة، فإن كانت إحداهما باطشة، والأخرى ضعيفة، فالأصلية الباطشة، وإن كانت الباطشة منحرفة [والمستدة] (5) ضعيفة، فالأصلية الباطشة، فأَوْلى معتبر في ذلك البطشُ.
ولو كانتا جميعاً تبطشان، ولكن إحداهما أقوى بطشاً، فهي الأصلية، وإن استويا في أصل البطش.
وبالجملة لا نعدل بالبطش [شيئاً] (6) ، والسبب فيه أن البطش [هو ما خلقت اليد له] (7) وهذا أمثل شاهدٍ على تأصل العضو، وتفرّعه على الأعضاء الرئيسة.
__________
(1) في الأصل: "وقد".
(2) في الأصل: "باب".
(3) في الأصل: "وإلى".
(4) في الأصل: "ما تقدم".
(5) في الأصل: "والمشتدة". ومعنى المستدّة المستقيمة. ودائماً كان يصحفها الناسخ إلى (المستمرة) وهنا حرفها إلى المشتدة. وهو أقرب.
(6) في الأصل: "سبباً".
(7) في الأصل: "واساـ الروحه" هكذا تماماً بدون أي نقط مع حرص هذا الناسخ على النقط، (انظر صورتها) . والمثبت محاولة لأداء المعنى الذي يقتضيه السياق، وأخذناه من لفظ الرافعي، فهو ينقل عن الإمام، فهذا معنى كلام الإمام، وإن لم يكن لفظه، فلم يقدّر لنا إدراك ما في ألفاظ الأصل من تصحيف. والله المستعان (الشرح الكبير: 10/378) .(16/402)
ولو استويا في [الاستداد] (1) والبطش، ولكن إحداهما ناقصة الخلق، والأخرى [كاملة، فالكاملة] (2) هي الأصلية. هكذا ذكره العراقيون.
ولو كانت إحداهما على اعتدال الخلق والأخرى [عليها] (3) إصبع زائدة، فقد قال العراقيون: لا يؤثر ذلك في تمييز الأصل عن الزائد، وقال القاضي: اليد الزائدة هي التي عليها الإصبع الزائدة؛ فإن ذلك يدل على تشويش الخلق [والفطرة] (4) ، وهذا بعيد لا يثبت له، وكل ما ذكرناه يقع للاستواء في البطش، وإلا فأصل البطش وزيادته مقدم على كل صفة معتبرة.
ولو كانت إحدى اليدين ناقصة بإصبع، وهي [مستدة] (5) باطشة، والأخرى مائلة [حائدة] (6) عن السنن، وهي كاملة الخلق، وهما متساويتان في البطش، فالأصلية هي [المستدّة لاستدادها] (7) أم المنحرفة لكمال خلقها؟ هذا فيه احتمال عندي، والله أعلم.
10649- فإن لم تتميز إحداهما عن الأخرى بوجهٍ، وكانتا باطشتين، فمن قطعهما، وله يد واحدة، قُطعت يده قصاصاًً بهما، وللمجني [عليه] (8) مزيد حكومة لزيادة الخلقة.
ولو قطع قاطع إحداهما والقاطع معتدل، لم نقطع يدَه، وعليه نصفُ دية اليد، وزيادة حكومة؛ لأن المقطوع على صورة يدٍ كاملة، وقد تمهد هذا فيما تقدم. ولو كانت إحداهما [باطشة] (9) [فقطعها] (10) ، أوجبنا فيها دية اليد، فلو اشتدت
__________
(1) في الأصل: " الاشتداد".
(2) في الأصل: " كليلة والكاملة".
(3) في الأصل: "عليه".
(4) في الأصل: "والفطن".
(5) في الأصل: "مشتدة".
(6) في الأصل: "حائلة".
(7) في الأصل: " المستبدة لاستبدادها".
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) زيادة اقتضاها السياق.
(10) في الأصل: "فقطعهما".(16/403)
الأخرى لمّا قطعت الباطشة، وبطشت هذه الأخرى، واشتدت اشتداد [الأصليات] (1) ، فهل نسترد من المجني عليه [من] (2) الأروش ما يردّ [المغروم] (3) إلى مقدار الحكومة، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نسترد؛ فإنا لو لم نفعل هذا، لأبقينا له أصلية [وقد] (4) غرمنا له فيما تقدم بدل أصلية.
والثاني - أنا لا نسترد، وقد مضى ما مضى، فلا نتَّبعه بالنقض، ولا نتعقبه.
وهذا الخلاف يقرب من القولين في [عَوْد] (5) السّن المثغور، وقد غرّمنا القالع دية السن، فإن قلنا: عودُه نعمة جديدة، [ولا يتغير حكمُ ما مضى] (6) بهذا، [فلا] (7) نسترد في مسألتنا.
وإن قلنا: نسترد ثَمّ إلى مقدار حكومة إن بقي سن، فنسترد فيما نحن فيه.
وإذا اشتدت اليد الباقية وبطشت، فلا خلاف أنها لو قطعت الآن، تعلق بقطعها القصاصُ والديةُ التامة.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن اليد المقطوعة الأولى لو كانت على نصف البطش، وكانت لا تتميز عن يده، فغرَّمنا القاطع نصف أرش [اليد] (8) ، وزيادة حكومة، على ما تقدم، فإن بقيت اليد الباقية على ما عُهدت عليه أولاً، [فلا] (9) إشكال، وإذا ازدادت الباقية من القوة، ما لو كانت عليه ابتداء، لحكمنا بأنها الأصلية، فتصير هذه أصلية حتى لو قطعت، لاستوجب قاطعها الأرشَ الكامل والقصاصَ، وهل نسترد من أرش الأول ما يردُّ [الأرشَ] (10) إلى مقدار الحكومة؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه.
__________
(1) في الأصل: "الأصليان".
(2) في الأصل: "في".
(3) في الأصل: "المعدوم".
(4) في الأصل: "ولو.
(5) زيادة لاستقامة الكلام.
(6) عبارة الأصل: "ولا يتغير به حكم ما مضى بهذا".
(7) في الأصل: "ولا".
(8) في الأصل: "الدية".
(9) في الأصل: "ولا".
(10) في الأصل: "الاشارة".(16/404)
10650- ومما ذكره صاحب التقريب في أطراف المسألة أن من له يدان على معصمٍ باطشتان، لا تعتضد إحداهما [بالأخرى] (1) ، فلو قطع هذا الشخصُ يداً واحدة من معتدل، فلا نقطع منه اليدين جميعاً، لزيادة الخِلقة، [ولو قطع] (2) ذلك المعتدل اليدين جميعاً منه، فإنا نوجب القصاص عليه في يده الفردة، ونثبت [عليه] (3) مزيد حكومة لزيادة الخلقة.
[ولو] (4) قطع المعتدل إحدى يديه، فلا يلزمه القَود، كما تمهد هذا فيما مضى من كتاب الجراح، فلو غرّمناه نصف الأرش وزيادة [حكومة] (5) كما تقدم، ثم إنه عاد وقطع يده الأخرى، فإن قنع بالأرش، لم يخف حكمه، وكان الجواب إيجابَ مثل ما أوجبنا أولاً.
وإن قال: أريد الآن القصاص من اليد الفردة من القاطع، فهل يجاب [إلى] (6) القصاص الآن؟ فعلى وجهين ذكرهما (7) : أحدهما - أنه لا يجاب؛ فإن القصاص يتعلق بقطع يديه جميعاً، وقد سبق منه أخذ أرش اليد عن يدٍ، وأخذُ الأرش يتضمن إسقاط القود لا محالة، ولا يعود إلى القود بعد سقوطه. الوجه الثاني - أنه يطلب القصاص [وعذره فيما] (8) أخذه من الأرش أنه يقول: لم يكن القصاص ممكناً لمّا قطع إحدى اليدين، فاخترت الأرش لتعذر القصاص، لا لإسقاطه، والآن لما قطع الثانية
__________
(1) في الأصل: "عن الأخرى". والمعنى أن كل واحدة منهما باطشة مستقلة بنفسها دون الأخرى.
*تنبيه: ما تراه في الحواشي ليس فروقَ نسخٍ، فنسخة الأصل وحيدة، والمثبت في الصلب هو من توسم المحقق وتقديره بحثاً عن صواب العبارة وإقامة النص.
(2) في الأصل: "لو" (بدون الواو) .
(3) في الأصل: "له".
(4) في الأصل: "فلو".
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "من".
(7) أي ذكرهما صاحب التقريب، فالصورة محكية عنه.
(8) في الأصل: "وعدده فما".(16/405)
أمكن القصاص، وأنا على طلبه، فأرد ما [أخذته] (1) من الأرش إلى مقدار حكومة.
هذا تمام ما أردناه في ذلك.
فصل
قال: "وفي [الأَليتين] الدية ... إلى آخره" (2) .
10651- يجب تمام الدية في [الأَليتين] (3) ، وهما من المثاني [والمنفعة] (4) فيهما بيّنة في القعود والركوب، وفي إحداهما نصف الدية.
والذي يجب الاعتناء به [بيان] (5) منتهى القطع الموجِب للدية: اتفق الأئمة رضي الله عنهم على أنا لا نشترط إيصال الحديدة إلى العظم الكائن تحتها، والمعتبرُ قطع ما يدخل تحت اسم الأَلْية، ولا مزيد على ما ذكره الشافعي رضي الله عنه، [فيُكتفى بما إذا] (6) قُطع ما يكون مُشرفاً ناتئاً على الظهر والفخذ، والناس يتفاوتون في مقدار النّاتىء حَسَب تفاوتهم في أجرام سائر الأعضاء، ئم الفخذ من الحِقو إلى الركبة يأخذ في الاستدقاق [والنحافة] (7) ، والمرعيُّ في تمام القطع ألا يبقى إشرافٌ، وهو بالإضافة إلى الظهر، وبالإضافة [إلى] (8) أصل الفخذ، وهذا بيِّنٌ في الذّكْر [والكلام] (9) ، ولكنه عسر في الإيقاع والفعل، ولهذا اتفق الأصحاب على أن
__________
(1) في الأصل: "أخذه".
(2) ر. المختصر: 5/133. وفي الأصل الأنثيين، وهو لا يتفق مع مضمون الفصل.
(3) في الأصل: "الأنثيين". والتصويب من نص المختصر.
(4) في الأصل: "المنفعة" (بدون الواو) .
(5) في الأصل: "أن منتهى القطع".
(6) في الأصل: "فينبغي أنه إذا قطع".
(7) في الأصل: "والتحريك" (كذا بكل وضوح رسماً ونقطاً) ولم أدر لها وجهاً، والمثبت أقرب لفظ يؤدي المعنى.
(8) في الأصل: "على".
(9) في الأصل: "والإبهام" (بكل وضوح) .
(10) ومعنى العبارة أن تصوير قطع الألية واستئصالها، سهلٌ في الوصف بالكلام، ولكنه يصعب إيقاعه وفعله بنفس القدر، وعلى نفس الوصف، من غير زيادة ولا نقص.(16/406)
القصاص [لا] (1) يجري [فيهما] (2) ، فإنه ليس مَفْصلاً يتأتى فيه مراعاة المساواة، وليس له مَردٌّ من عظم وراءه؛ فلا يجري القصاص فيه أصلاً (3) .
10652- ثم قال رضي الله عنه: "ولا عين أعور ... إلى آخره" (4) .
أراد الرد على مالك (5) فمذهبنا أن من قلع عينَ أعور يلزمه نصف الدية فحسب، وقال مالك: فيها تمام الدية، وصار إلى أن قوة الإبصار تنصبّ بجملتها إلى العين الفردة، وهذا الذي ذكره خيال لا تعويل على مثله، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوجب في العينين الدية" فإيجاب الدية الكاملة في إحدى العينين مخالفٌ لحكم الرسول عليه السلام.
10653- ثم قال: "ولو كسر صُلبه، فصار لا يطيق المشي ... إلى آخره" (6) .
الصلب من أعضاء الدية، فمن كسر صلبَ إنسان، فمن أعراضه ألا يطيق المشيَ، فإن تحقق الكسر، وخرج المشي عن الإمكان وجبت الدية الكاملة، وإن لم يسقط إمكان المشي بالكلية، ولكن ضعف وتثاقل، أو صار بحيث يمشي مستعيناً بعكازه،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، فلا يصح الكلام ولا يستقيم بدونها، فما قبلها وما بعدها يؤكد عدم إجراء القصاص، وليس إجراءه، فهذا يؤكد سقوط (لا) من الناسخ، ويكاد يقطع به.
بعد أن كتبنا هذا قطعنا الشك بالقين حين وجدنا الرافعي يقول: "وعن المزني المنع من القصاص في الأليين، وادّعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه في الديات" ا. هـ بنصه (الشرح الكبير: 10/212) فها هو الرافعي ينقل عن الإمام أنه قال باتفاق الأصحاب عليه.
(2) في الأصل: "فيه".
(3) هنا -كما ترى- يحكي الإمام اتفاق الأصحاب على القول بعدم إجراء القصاص في الأليين، ولكنا وجدناه فيما تقدم في القصاص يقول: "والظاهر إجراء القياس فيهما" وما قاله هناك هو المذهب، فقد وصفه النووي في الروضة والمنهاج بأنه الأصح، وحكى الرافعي الخلاف ولم
يرجح. (راجع تعليقاتنا هناك) ومصادرها؛ فلا داعي للتكرار.
(4) ر. المختصر: 5/133.
(5) ر. المدونة: 4/487، الإشراف: 2/828 مسألة 1589، عيون المجالس: 5/2027 مسألة 1458، القوانين الفقهية: 345، حاشية الدسوقي: 4/273.
(6) ر. المختصر: 5/134.(16/407)
فلا تجب الدية، ولكن تجب حكومة على قدر التأثير، وهذا بمثابة ما لو جنى على اليد، فنقص من بطشها.
فإن قيل: الماشي بعكازه يعتمده، فلا مشيَ منه، قلنا: هذا محالٌ، فإن من كسر صلبه على التحقيق لا يتأتى ذلك منه أصلاً، بل الاعتماد على العكاز إنما يتأتى [ممن] (1) معه [قيامٌ] (2) من صلبه.
ومما ذكره الأئمة في هذا أنه لو كسر صلبه، فقد تعطلت منفعة رجليه، فلا يلزمه دية الرِّجل؛ فإنها صحيحة لا آفة بها، وتعطل المشي فيها ليس من جهة الجناية عليها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وهو بمثابة ذهاب العين؛ فإنه ينتقص بسببه انتفاع الإنسان بمعظم أعضائه، ولا تجب إلا دية العينين.
ولو كسر صلبه، فسقط بسببه مشيه، فقد ذكر أئمتنا فيه وجهين.
والجملة المعتبرة في ذلك أن من جنى على عضو، فسقطت المنفعة الكائنة في ذلك العضو، فلا شك أنا نفرد تلك المنفعة بموجَبٍ، بل إن ما وجب في العضو ما [وجب] (3) [إلا] (4) لاتصافه بتلك المنفعة؛ فإن الأعضاء تُعنى لمنافعها، لا [لأجزائها] (5) .
ولو جنى على عضوٍ، فتعطل به عضوٌ [وهو صحيح لا آفة به] (6) ، فهذا تعطيل، والتعطيل لا يوجب ضماناً إلا في المحل المجني عليه، فإذا ذهب [منيُّه] (7) والمجني عليه صلبه، فقد اشتهر خلاف الأصحاب في ذلك، والوجه عندي أن نقول: ليس للمنيّ [محل مخصوص] (8) من البدن، وإنما هو مادة ترسلها الطبيعة من الاعتدال
__________
(1) في الأصل: "مما".
(2) في الأصل رسمت هكذا: (مال ـام) .
(3) في الأصل: "يجب".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: "أجزائها".
(6) في الأصل: "وهي صحيحة لا آفة بها" وأظن ظناً أن هذا من آثار عجمة سابقة في لسان الناسخ.
(7) في الأصل: "منه".
(8) في الأصل: "محلاً مخصوصاً".(16/408)
الصحيح بالحلو والدسم نحو أوعية المني في الخُصية وما يتصل بها. فأما التعرض للصلب، ففيه نظر، والله أعلم.
10654- ثم قال: "ودية المرأة وجراحها ... إلى آخره" (1) .
المذهب الذي عليه التعويل أن جراح المرأة من ديتها بطريق النسبة كجراح الرجل من ديته، فإذا كان في يد الرجل نصفُ ديته، فالواجب في [يدها نصفُ ديتها] (2) ، والواجب في إيضاحها نصف عُشر ديتها، وهذا مطرد فيما قلّ وكثر.
وللشافعي قول في القديم: "أن المرأة تعاقل [الرجل] (3) في ثلث الدية" ومعناه أنها تساويه في المقدار، ففي إصبع منها عشر من الإبل، كما في إصبع الرجل، وفي إصبعين عشرون، وفي ثلاث أصابع ثلاثون. والمعتبر في المعاقلة ثلث دية الرجل، لا ثلث ديتها، ولو قطع أربع أصابع منها، فعشرون، ففي ثلاث أصابع ثلاثون، وفي أربع أصابع عشرون.
ولست أدري للمصير إلى المعاقلة معنىً، ومتمسكاً. والظن به أنه وجد آثاراً من الصحابة، وكان يرى في القديم تقديمَ قول الصحابة على القياس والرأي، وإلا فلا معنى لما ذكرناه، ثم [لو] (4) قطع ثلاث أصابع، فلم يتفق تغريم الجاني الأرش حتى قطع إصبعاً أخرى، رجعت الأروش إلى عشرين، وإن لم تكن الجنايات متواصلة.
وهذا يناظر ما لو أوضح الرجل مواضع من رأس إنسان وتعلقت به أروشها، ثم انعطف الجاني عليها ورفع الحواجز، [فالأروش] (5) ترجع إلى أرش موضحة واحدة.
__________
(1) ر. المختصر: 5/134.
(2) في الأصل: "في ديتها نصف ديته". وهو سبق قلم واضح.
(3) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، ثم هي عند الرافعي في حكايته لهذا القول.
ومعنى العبارة أن المرأة تساوي الرجل فيما يجب ضمانه إلى ثلث الدية، فإذا زاد المضمون عن الثلث، فهي على النصف من الرجل.
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل: "والأروش".(16/409)
وكذلك في ستةٍ من أسنانها ثلاثون بعيراً، فإذا قلع سابعةً، عادت الأروش إلى سبعةَ عشرَ بعيراً ونصف بعير.
فصل
قال: "وفي ثدييها ديتها وفي حلمتيها ديتها ... إلى آخره" (1) .
10655- الحلمتان من المرأة مضمونتان بكمال الدية، وهما من المثاني، وفي الواحدة نصف ديتها، والحلمة ما يلتقمه الصبي، والأروش تكمل باستئصال ما يتجمع [ناتئاً] (2) من رأس الثدي ولونها في الغالب يخالف لون الثدي، وحواليها دائرة على [لونها] (3) من سترة (4) الثدي، وليست تلك الجلدة من الحلمة، ولو قطع قاطع ثدييها بعد قطع الحلمتين، فعليه في كل ثدي حكومة لا تبلغ أرش [الحلمة] (5) .
10656- ونحن نجمع الآن مسائل قدمنا بعضها، فنعيد ما قدمنا، وننظم المسائل حتى تُلفى مجموعة.
اضطرب الأصحاب في قطع المارن وقصبة الأنف، واستئصال الذكر من أصله، وقلْع السن من سنخها، واستئصال الثدي وعليه الحلمة، فمن استأصل هذه الأعضاء نكتفي منه بدية واحدة، أو نجمع عليه دية وحكومة، أم كيف السبيل؟ وجملة المسائل متفقة في أن الدية تكمل دون الاستئصال فيها، فإن على من قطع المارن تمامَ الدية، وإن أبقى القصبة، وكذلك من قطع الظاهر من السن، التزم الأرش الكامل، وعلى من قطع الحشفة الديةُ، ودية المرأة تكمل بقطع الحلمتين، وقد اجتمعت المسائل فيما ذكرناه، واجتمعت أيضاً في أن من انفرد بقطع المقدار الذي تكمل الدية فيه، ثم وُجد من جانٍ آخر الاستئصال، فعليه الحكومة، وهذا لا شك فيه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/134.
(2) في الأصل: "ثانياً".
(3) في الأصل: "كونها".
(4) والمراد بسترة الثدي جلدته.
(5) في الأصل: "الجملة".(16/410)
10657- وإذا وجد استئصال العضو الكامل من شخص واحد، فللأصحاب طرق أشرنا فيما تقدم إلى بعضها، ونحن الآن نعيدها، ونستكمل تمام الطرق: فمن أصحابنا من طرد في جميع المسائل وجهين: أحدهما - لا يجب على المستأصل إلا دية تندرج الحكومة تحت الدية، ويطرد هذا في المارن والقصبة، وغيره من الأعضاء، قال بعض المصنفين: هذه الطريقة هي المرضية.
ولست أرى الأمر كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في كل سن خمسٌ من الإبل، ولم يتعرض لقَطْع ما ظهر وتَرْكِ السنخ باطناً، والأولى مل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قد يجري مثلُه في العرف، وقلعُ السن قد يتفق، فأما قطع الظاهر منه، فلا يكاد يقع إلا أن [يُتعمد] (1) ، فمن أوجب في السن المقلوع أرشاً وحكومة، فقد [راغم] (2) قول الشارع. ومن أصحابنا من قال: لا يجب على من يستأصل [الثدي] (3) مع الحلمة، والذّكَرَ مع الحشفة، [ويقلع] (4) السن من سِنْخه إلا دية واحدة، وفي استئصال الأنف مع القصبة وجهان: أصحهما - إيجاب دية في المارن، وحكومة في القصبة. وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من أوجب [على] (5) من قلع السن من سنخه الأرش والحكومة وجهاً واحداً، وذكر الخلاف فيما عدا هذه المسائل، واعتل بأن السِّنخ [أصلٌ] (6) ، فكان له حكم الانفراد، وهذا لا يصح مع ما ذكرناه.
ولو خُلّينا والقياس، لقلنا: في جميع هذه المسائل يجب القود والحكومة على المستأصل؛ لأنه جمع بين ما تتمّ الديةُ أو الأرش المقدَّر فيه، وبين ما تجب الحكومة فيه لو أفرد بالجناية، ولكن هذا المعنى على اتجاهه لا يجري؛ فإن من قطع اليد من الكوع، لم يلزمه إلا ما يلزم لاقط الأصابع، وهذا متفق عليه، وحديث الرسول
__________
(1) في الأصل: "يعتمد".
(2) في الأصل: " زعم ". والمثبت هو المناسب للسياق والمعنى كما قدرنا.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "عن".
(5) في الأصل: "عن".
(6) في الأصل: "باطل".(16/411)
صلى الله عليه وسلم في السن، نصٌّ لا يقبل التأويل، كما ذكرناه؛ فامتنع إجراء ذلك المعنى، ولم يبق إلا تشبيه هذه المسائل بالأصابع والكف؛ فإن طريق المعنى إذا انتقض وأمكن التعلق [بالشبه] (1) [فالتعلق] (2) به من الوجه.
ويلي هذه الطريقةَ النظرُ في التجانس في الأجزاء، وموجب ذلك الاكتفاء بالمقدّر في الذكر، والثدي، والسن، [وإفراد] (3) القصبة في الأنف بالحكومة.
ثم إذا كنا نوجب على الجاني باستئصال العضو دية وحكومة، فلو قطع مما تكمل الدية به بعضَه، [فالتوزيع] (4) يقع على محل الدية فحسب، وإن كنا لا نوجب على المستأصل إلا ديةً واحدة، فإذا قطع من محل الدية شيئاً، فالتوزيع على جميع العضو أو على محل الدية؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما فيما سبق. هذا بيان هذه المسائل.
10658- وفي حلمتي الرجل قولان: [منصوص] (5) ، ومخرَّج، فالمنصوص أنه لا تجب فيهما إلا حكومة؛ إذ لا منفعة في حلمتي الرجل يعتد بها.
وفي المسألة قولٌ آخرُ مخرّج: أن الدية تكمل في حلمتي الرجل، فإنهما موجودتان صورةً من الرجل وجودهما من المرأة، فينبغي أن يتعلق بهما دية
[كالمرأة] (6) . ثم تحت حلمة الرجل لحمة -إن لم يكن هزيلاً- تسمى [الثُّنْدوة] (7) ، وليست من [الحلمة] (8) بمثابة ثدي المرأة من حلمتها، ولو قطع الجاني ثُندُوة الرجل وعليها الحلمة، وجرينا على القول المخرج في إيجاب الدية في حلمة الرجل، فالثندوة مفردة بالحكومة، بلا خلاف؛ فإنها ليست مع حلمة الرجل كعضو واحد، وهذا بيّن لمن تأمّل.
__________
(1) في الأصل: "التشبه".
(2) في الأصل: "والتعلق".
(3) في الأصل: "وإفراز".
(4) في الأصل: "والتوزيع".
(5) في الأصل: "منصوصان".
(6) في الأصل: "المرأة".
(7) في الأصل: "الندوة".
(8) في الأصل: "الجملة".(16/412)
10659- ولو جنى الرجل على ثدي المرأة جناية، لم [يبق] (1) لأجلها اللبنُ ودروره، وامتنعت منفعة الإرضاع لذلك، وقال أهل الصنعة: [ذهبت] (2) منفعة الإرضاع بذلك، فلا يجب على الجاني إلا حكومة، هكذا ذكره القاضي.
ولو جنى رجل على رجل جنايةً، فانتزع منه الماء، وقال أهل البصر قد أبطل منيّه، وهذا وإن أورده الفقهاء عسر في التصوير؛ فإن تُصور، فقد قيل: على الجاني الدية، فإنه أبطل منفعة عظيمة، وحاولوا الفرق بين إبطال الإرضاع وبين إبطال المني، وقالوا: اللبن ليس [شيئاً] (3) موجوداً في الجبلة وإنما يَطْرى ثم يزول، واستعداد الطبيعة للمنيّ صفة لازمة للفحول، فإذا أبطلها، لم يمتنع أن يلتزم الدية. هذا ما بلغنا في ذلك والله أعلم.
10660- ثم قال: "وفي إسْكَتَيْها، وهما شُفراها ديتُها ... إلى آخره" (4) .
في إسكتي المرأة وهما شُفراها، والشفران حرفا الفرج، ويلتقيان على المنفذ.
والذي يجب الاعتناء به في هذه الصورة تصوير الشُّفرين، وقد ذكرنا في الأَلْيتين قولاً ضابطاً، لا يغادر إشكالاً، ونحن نحرص أن نذكر في تصوير ما نحن فيه ما يقرب من اللسان، فنقول: الشُّفران يلتقيان، وهما على نعت النتوء في الملتقى، والدية تتعلق بقطع الناتىء منهما، وإن ظن ظان أنهما يلتقيان من غير نتوء، فقد أبعد في التخيل؛ إذ لو كان كذلك، لما انتظم تصوير قطع الشفرين؛ فإن وراءهما حائطا الفرج، وهما ينطبقان ويلتقيان لا فضاء بينهما، فإذا اتصل الشُّفران على استواء من غير نتوء [ووراءهما] (5) لحمُ داخلِ الفرج من الجانبين، فلا ينتظم مع هذا قطع الشفرين.
ولو فُرض قطع الحرف الذي تنقطع البشرة عليه من الظاهر واللحم الباطن، لأمكن
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "سبباً".
(4) ر. المختصر: 5/134. والإسكة وزان سدرة، (وفتح الهمزة لغة قليلة) : جانب فرج المرأة، وهما إسكتان، والجمع إِسَك مثل: (سِدَر) (المصباح) .
(5) في الأصل: "وراءهما" (بدون الواو) .(16/413)
فرض قطع الشفرين بقطع جلدة مستدقة من كل حرف، هو ملتقى [البشرة] (1) والباطن، ونحن على قطع نعلم أن العلماء لم يعلّقوا الدية بهذا المقدار.
وإن ظن سبَّاق إلى الظواهر لا يعرّج على درك الأسرار [والبواطن] (2) أن قطع الشُّفرين هو الذي يزيل انطباق أحدهما على الآخر، فهذا لا يتأتى تصويره إلا مع تصوير [قطع] (3) لحم كثير من الباطن، ونحن لا نستريب في أن ذلك ليس مرادَ العلماء، فمعنى الشفرين إذاً ما ذكرناه.
ثم يجب في شفري القرناء والرتقاء ما يجب في شفري من لا علة بها؛ فإن منفعة الشفرين أظهر في وجوهٍ غيرِ الوقاع، وتلك الوجوه تستوي فيها من تجامَع [من النساء ومن لا تجامَع] (4) . ولو قطع جانٍ شُفري المرأة [البكر] (5) فأزال بالجناية جلدة البكارة، فعليه الديةُ في قطع الشفرين، وأرشُ البكارة، [فهو لا يندرج] (6) تحت دية
الشفرين، لأن جلدة العذرة ليست في محل الشفرين، بل هي منفصلة عنها.
فصل
"ولو أفضى ثيباً، كان عليه ديتها ... إلى آخره" (7) .
10661- اختلف أصحابنا في معنى الإفضاء، فذهب بعضهم إلى أن مُعْتَبَره يصيّر المسلكين واحداً، وقال قائلون: هذا بعيد عن التصور، ولا يتأتى رفع الحاجز بين
__________
(1) في الأصل: "السرّة".
(2) في الأصل: "والتواطى".
(3) زيادة اقتضاها السياق وهي عند الرافعي فيما حكاه عن الإمام في المسألة.
(4) عبارة الأصل: "ومن تجامع النساء فلا تجامع" والزيادة والتعديل من المحقق.
(5) في الأصل: "الذكر".
(6) زيادة اقتضاها صواب العبارة وصحة الحكم، وسوّغ لنا الجزمَ بذلك تعليلُ الإمام: "بأن جلدة العذرة ليست في محل الشفرين، بل هي منفصلة عنها" وأيضاً تصريح الرافعي بهذا الحكم، فقال: "ولو قطع شفري المرأة البكر، وأزال بالجناية جلدة البكارة فعليه مع دية الشفرين أرشُ البكارة" (ر. الشرح الكبير: 10/385) ولو قال الإمام بغير هذا، لتعقبه الرافعي وذكر أنه يخالَف في ذلك.
(7) ر. المختصر: 5/134.(16/414)
مسلك البول والغائط بآلة الاستمتاع، فالإفضاء أن يصير مسلك الجماع ومدخلَ الذكر ومجرى البول واحداً، ففي الفرج [مسلكان: واحد] (1) مدخل الذكر والآخر مخرج البول، فإن البول يأتي من المثانة ومدخل الذكر يُفضي إلى الرحم.
ثم إذا أفضى الرجل زوجتَه أوْ أفضى أجنبية، فعليه كمال ديتها. وفصل أبو حنيفة (2) بين أن يفضي زوجته وبين أن يفضي أجنبية، واعتقد أن إفضاء الزوجة مترتب على الوطء المستحق، فلم يكن مضموناًً.
ولو أفضى امرأة، فاسترسل بولها [وحلّ] (3) أُسْرَها (4) ، فهل يجب مع الدية حكومة لاسترسال البول؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب؛ فإن ذلك في الغالب من توابع الإفضاء. والوجه الثاني - أنه يجب لاختلاف المحلّين.
ولو أكره أجنبية، ووطئها وأفضاها، غرم المهرَ وديةَ الإفضاء.
ولو زنا بمطاوعة زانية، فأفضاها، غرم دية الإفضاء أيضاًً؛ لأن دية البضع إذا جعلناه بمثابة إذنها، فالإذن في الوطء لا يكون تسليطاً على الإفضاء، كما ذكرناه في المنكوحة.
10662- ومما ذكره الأصحاب في ذلك، أن من استكره امرأة بكراً، وافتضّها، فقد قال الشافعي: يغرم مهر مثلِ البكر، وأرشَ البكارة، قال القاضي: هذا مشكل، لأنا إذا أوجبنا مهر مثلِ البكر، فقد أدخلنا أرش البكارة تحت المهر، فإذا ضممنا إلى ذلك أرشَ البكارة، كان ذلك تضعيفاً للغرم، وإيجاباً له من وجهين، ولا سبيل إلى ذلك.
__________
(1) في الأصل: "مسلكاً واحداً".
(2) ر. الجامع الصغير: 519، المبسوط: 9/75، حاشية ابن عابدين: 5/364.
(3) فى الأصل: "وهلّ". وهو تصحيف نشأ من عجمة الناسخ والله أعلم.
(4) الأُسْر بضم الهمزة وفتحها مع إسكان السين وضمها: احتباس البول؛ وأصل الأَسْر إحكام الخلق وشدته، قال تعالى: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُم} [الإنسان: 28] ثم استعمل الأسر بمعنى الربط -وهو المراد هنا- قالوا: ما أحسن ما أسر قَتبَه، أي ما أحسن ربطه. (ر. المعجم) و (أساس البلاغة) .(16/415)
وكان شيخي يحكي أن الشافعي رضي الله عنه قال: يجب المهر وأرش البكارة، ثم كان يقول من عند نفسه: هذا بمثابة إيجابنا مهرَ مثل البكر، وكنا نقول: قد لا يكون كذلك، فإنه إذا [كان في بيتٍ وأهل نسب] (1) مهرٌ، فلا يختلف مبلغه بالبكارة والثيابة، فلو اقتصرنا على إيجاب مهر مثل البكر، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل العُذرة وجلدة البكارة. هذا ما كنا نتردد فيه.
فأما نقل النص مقيداً [بإيجاب] (2) مهر مثل البكر، وإلزام أرش البكارة، فلم أسمعه إلا من نقلٍ [يؤثر عن] (3) القاضي.
[فقد] (4) تحصَّل من ذلك أن الجمع بين إلزام أرش البكارة وإيجاب مهر مثل البكر، حيث يختلف مهر مثل البكر والثيب، [لا] (5) معنى له. وإن كان مهر البكر ومهر الثيب لا يختلف، هذا يشعر بأن البكارة لا قيمة لها في محل الكلام، فيقع التفصيل في جنايةٍ لا أثر لها، في تنقيص.
وسيأتي تفصيل القول في هذا الجنس، إن شاء الله عز وجل.
ولو أفضى امرأة بكراً بخشبة، غرم أرش البكارة وديةَ الإفضاء، ولا يدخل أرش البكارة فيها، لاختلاف المحل، ولو أزال الزوج بكارة زوجته بإصبع أو خشبة، فالذي ذهب إليه أكثرون أنه لا يغرم بسبب إزالة البكارة شيئاً، لأنها مستحقة له بطريق الوطء، فإن استوفاها بجهة أخرى، فقد أساء. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أرش البكارة؛ فإنها في التحقيق غيرُ مستحَقة للزوج مقصودةً، فإنما الذي يستحقه الزوج
__________
(1) في الأصل: "كافى بيت وأهل تسبب" هكذا تماماً والمثبت تصرف على ضوء السياق وكلمات الأصل. ومعنى العبارة: أنه عند النظر في المهر وقيمته في أي بيت نسيب لا يختلف المهر بالبكارة والثيابة، وإنما يختلف بالنَّسَب. وحمداً لله وجدنا الغزالي يصدق تقديرنا، ونص عبارته: "وربما تكون نسيبةً قد استقر مهرها على قدرٍ لا يزيد بالبكارة ولا ينقص، (ر. البسيط: 5/65 شمال) .
(2) في الأصل: وإيجاب".
(3) في الأصل: "يؤثر به".
(4) في الأصل: "فلم".
(5) في الأصل: "ولا".(16/416)
الاستمتاع، غير أنه لا يصل إليه إلا والبكارة تزول، فإذا لم يستمتع وأزال البكارة كان جائفاً.
فصل
قال: "وفي العين القائمة واليد والرجل الشلاء ... إلى آخره" (1) .
10663- ذكرنا فيما تقدم قواعدَ القول في الأروش [المقدرة] (2) ، وإن شذ شيء، فسنستدركه إن شاء الله في آخر الباب.
وهذا الفصل معقود لبيان الحكومة، وذكر أصلها وتفصيلها، والحكومة عبارة عن موجَب جُرح ليس له أرش مقدر من جهة التوقيف، ثم مبنى الحكومة على أن تُحطَّ عن دية العضو [الذي يُقدّر محلاً لجناية الحكومة، وسيتضح ذلك] (3) ، إن شاء الله.
وبيان ذلك بالأمثلة أن موجب الإصبع عشر من الإبل، ولو فرضت جناية على الإصبع، فأتى على طولها، فحكومتها لا تبلغ ديةَ الإصبع، والجناية على اليد إذا كانت بحيث تناولت (4) الأصابع، تحط حكومتها عن دية اليد، وتعليل ذلك أن الجراحة إذا وقعت على عضو مفدًّى بأرش مقدرٍ، فيستحيل أن يجب فيها والعضو [قائم] (5) ما يجب في العضو إذا [فات] (6) بالجناية.
وشبه الأئمة قولهم في هذا الأصل، [بالتعزير والحد، والرضخ] (7) والسهم، فإن
__________
(1) ر. المختصر: 5/134.
(2) في الأصل: "المقدمة".
(3) ما بين القوسين المعقوفين من صياغة المحقق مراعاة للسياق، ومحافظة على ما أمكن من كلمات الأصل، فقد جاءت عبارة الأصل هكذا: "على أن تحط عن دية العضو التي تقرب من محل جناية الحكومة إن شاء الله".
(4) تناولت الأصابع: أي أصابتها وهي موجودة قائمة، وذلك مفهوم من أن الكلام في جناية الحكومات.
(5) في الأصل: "قائمة".
(6) في الأصل: "فاتت".
(7) مكان كلام غير مقروء بالأصل (انظر صورته) .(16/417)
التعزير محطوط عن الحد، والمرضَخ محطوط عن السهم، ولا حاجة إلى هذا الاستشهاد مع ما قدمناه.
ثم جراحات الحكومة يُتأنّى بها إلى أن تندمل، [فإن بقي شَيْنٌ] (1) له أثر في التنقيص، جعلناه المعتبر في الحكومة.
10664-[والحكومة] (2) أن يفرض المجروح عبداً سليماً عن ذلك [الشَّيْن ونعرف] (3) مبلغ قيمته مع [تقدير] (4) سلامته، ثم نُقوّمه [مع] (5) ما به من الشين ونضبط التفاوت، ونعرف النسبة، فإن كان الناقص عُشراً أوْ أقل، أوجبنا تلك النسبة من الدية، ونحن مع ذلك نلتفت إلى مقدار الأرش المقدر الذي حقّقنا حطَّ الحكومة عنه، فإن كان ما رأيناه محطوطاً عن الدية التي نرعاها، فهو المراد، وإن كان ما اقتضاه التقدير مثل ذلك الأرش المقدّر، أو أكثر، [فلا بد] (6) من الحط عن ذلك القدر.
ثم يجب النظر في مقدار المحطوط [فلا يجوز] (7) أن يقال: نكتفي في الحط بأقل القليل، فإن أمور الجنايات وأحكام الدماء لا تجري إلا على ترتب وتحقق، فلو قال قائل: نضبط النقصان الحاصل بالجناية على العضو مع بقاء العضو، ثم نقدر النقصان بفوات العضو، ثم ندرك ما بين النقصانين ونحط مثلَ تلك النسبة بأن نعتبر نقصان الجزء عن [الجزء] (8) ونقصان الكل عن الكل (9) . فهذا وجه من الرأي جيد. وإن كان
__________
(1) في الأصل: "فارتقى سبب". وهو تصحيف عجيب ولكنه قريب المدرك.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "الشبر ونفهم".
(4) في الأصل: "تقدّر".
(5) سقطت من الأصل.
(6) في الأصل: "ولا بد".
(7) في الأصل: "ولا يجوز".
(8) مكان بياض بالأصل.
(9) مثال ذلك: القيمة مائة، والنقصان بسبب الجراحة على الإصبع عشرة، والنقصان لو فات الإصبع عشرون، فيحط من عُشر الدية نصفها؛ وذلك أن حكومة الجراحة على الإصبع بلغت =(16/418)
فيه اعتبار النقصان في اليد، واليد مقدّرة الأرش.
ولكن هذا محتمل، إذا ضاق مسلك النظر، وليس هو بأبعدَ من تقدير الحرّ عبداً وردِّ الأمر بعد ذلك إلى الدية، وتحكيم القيمة فيها.
فهذا قول كلّي على أصل الحكومة.
10665- ولو كانت جراحة الحكومة بحيث لو اندملت، لم تُعقب [شيناً] (1) ولم [تترك] (2) نقصاً، فهل تجب الحكومة والحالة هذه؟ اختلف أصحابنا في المسألة على وجهين: أحدهما - أنه لا يجب شيء أصلاً، وهو ظاهر القياس؛ لأن المعتمد في الحكومات اعتبار النقصان، وبناء النسبية عليه، فإذا لم يكن نقصان أصلاً، فلا معنى لإيجاب شيء، مع انعدام الموجِب.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من إيجاب حكومة؛ لأن الجناية على الدم خطيرة لا سبيل إلى إحباطها، ولأجل ذلك أثبت الشرع ضمان [الحر] (3) وإن لم يكن الحرّ مالاً، ولكن لما عظم خطره وارتفع قدره، بَعُد أن يقع تلفه محبَطاً، فكان إيجاب العوض فيه للتعظيم، وهذا المعنى محقق في الجناية وإن لم تُفضِ إلى شَيْن.
التفريع:
10666- إن قلنا: لا ضمان أصلاً، فلا كلام، وإن أوجبنا الضمان، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: هو مفوّض إلى اجتهاد الإمام،
بقدر ما يليق بالحال، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فهو عريٌّ عن التحصيل، وللفقيه أن يقول إن كان الإمام يوجب [ما شاء] (4) ، فهذا بعيد، وقصاراه تطريق الاحتكام في الغرامات.
وإن كان الإمام يُسند نظرَه إلى رأي، فهو المطلوب، فلنبحث عنه، فهو
__________
= ديته، ولا تبلغ الحكومةُ الدية، فكم ننقصها؟ هذه هي الطريقة لاستخراج نسبة النقص.
(1) في الأصل: "سبباً".
(2) في الأصل: "تثر".
(3) في الأصل: "الجز".
(4) في الأصل: "بأسا".(16/419)
مرادنا: [من] (1) أصحابنا من قال: نعتبر هذه الجراحة بحالتها الأولى، وهي مؤلمة أوْ مدمية، ثم نقول: كيف تقدير قيمة العبد وبه الألم، فنفرض [قيمته] (2) ، ثم نبني عليه تقدير الحكومة على الرأي الممهد في معرفة التفصيل، وبناء [النسبة] (3) عليه.
وهذا القائل يستدل على هذا بأن الجناية إذا ثبتت، لم يبعد تقدير عوضِها وإن اندملت؛ فإنا لم [نعدم] (4) مثالَ ذلك في الجراحات [والأروش] (5) المقدرة، [فإن من أوضح] (6) رأس إنسان، ثم التحم الجرح واكتسى باللحم والجلد، لم يسقط أرش الموضِحة، وقد ينتهي الاندمال إلى حالةٍ لا يبقى فيها من النقصان شيء.
وكأنا في الجراحات التي تُبقي [شيناً] (7) نعتبر [النهاية، ولا إشكال في الاجتهاد] (8) ، وإذا لم تُبق شيناً وعسر الإهدار، فلا وجه إلا اعتبار حالةِ الجناية، فهذا ما قيل.
وفي النفس من هذا حزازات؛ من قِبل أنا إذا اعتبرنا حالة الجناية، فكيف نعتبرها؟ [أنقول:] (9) ما قيمة العبد والتقدير على أن الآلام لا تزول؟ أو نقول: نعتبر حالة الجناية مع تقدير زوال الآلام؟ [إن] (10) قلنا: كم قيمة العبد والآلام لازمة، فهذا باب من الظلم، ولا ينبغي أن نقدر الشيء إلا بما هو عليه.
وإن قدرنا زوال الآلام، فسيقول المقومون: إذا كانت الآلام ستزول والشين لا يبقى ولا أثر لوجود الألم في [القيمة] (11) ، فليس ينقدح هذا، ولا وجه إلا المصير إلى أنه لا يجب شيء أصلاً، وصحة المذاهب وفسادها بالتفريعات.
__________
(1) في الأصل: "ومن".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "الشبيه".
(4) في الأصل: "تغرم".
(5) في الأصل: "وإن الأروش".
(6) في الأصل: "أو من أوضح".
(7) في الأصل: "سببا".
(8) في الأصل: "نعتبر النهاية الإشكال في الاجتهاد".
(9) في الأصل: "القول".
(10) زيادة لا يصح الكلام إلا بها.
(11) في الأصل: "القسمة".(16/420)
10677- ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا لطم الرجل لطمة، فهذه وما في معناها لا توجب غُرماً أصلاً، وليس هو في محل النزاع، ولا خلاف، وقد قال من أراد عقد مسائل الباب: كل جناية تُبقي [شيناً] (1) ، فالمعتبر في حكومتها الشين، وإن كانت لا تبقي شيناً ولم تكن بحيث تؤلم في الابتداء، فلا يتعلق بها حكومة، وإن كانت تؤلم في الابتداء ولا تبقي شيناً، ولا ألماً [آخراً] (2) ، فهذا محل الخلاف في أن الحكومة هل تجب أم لا؟
ثم إن أوجبناها، ففي مقدارها الخلاف الذي ذكرناه، وسنجيب عنه، إن شاء الله عز وجل.
وهذا ليس بضبطٍ كامل في محل الخلاف.
ونحن نذكر منه مسائل أُخر، ثم نحرص على الجمع: قال الأئمة: إذا قلع إنسان سنّاً شاغية (3) ، وكانت [تزيد] (4) قيمته بالقلع، فهل يجب بهذه الجناية شيء أم لا؟ فعلى وجهين. ثم إن أوجبنا [شيئاً] (5) ، ففي اعتباره ومقداره الخلاف، وكذلك لو قطع إصبعاً زائدة، ولم ينتقص بها منفعة، وذلك قد يزيد في قيمة العبد، ففيه الخلاف، وذكر الأصحاب إفساد منبت لحية المرأة.
فهذا مجموع المسائل.
10668- فخرج مما ذكرناه أن الجناية التي تُبقي شيناً ونقصاً موجبها في الفنون التي نحن فيها الحكومة، واعتبارها بحالة الاندمال.
وكل جناية [تُبقي] (6) شيناً في الخلقة، ولكن لا تفضي إلى نقصان في المنفعة أو الخلقة، ففيها الخلاف.
__________
(1) في الأصل: "تسبباً".
(2) في الأصل: "آخر".
(3) السنّ الشاغية التي زادت على الأسنان، وخالفت في منبتها. (المصباح) .
(4) غير مقروءة في الأصل، فقد رسمت هكذا: (مودته) كذا تماماً، رسماً ونقطاً.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.(16/421)
وما لا تزيل خلقة ولا تعقب شيناً ونقصاً، فإن كانت لا تؤلم إيلاماً [به] (1) مبالاة [فلا يتعلق] (2) بمثل هذا شيء.
وإن كانت تؤلم ابتداء إيلاماً ظاهراً، ثم لم تعقب نقصاناً وشيناً آخِراً، ففيه الخلاف. فهذا حصر هذه المسائل.
10669- وعندي في ذلك بقايا: منها أن الذي لا يزيل خِلقةً، ولا يُعقب نقصاً لا يكفي فيه أن تكون مؤلمةً ابتداء، ولكن ينبغي أن يكون غيرَ مأمون العاقبة، ثم إذا اتفقت السلامة، فلا يُدرأ الضمان بالكلية، وإنما شرطت هذا حتى يكون للكلام ثبات (3) . ويقال: يجوز أن يَنْقُصَ وقد يبرأ من غير بقاء نقص، فيقال: من جُرح وكان بحيث لا يقطع الناظر أنه يبرأ من غير نقيصة، بل كان يتردد، فكم قيمة عبد هذا نعته؟ فالخطر يَنْقُص من قيمته.
ثم يجوز أن يقال -على بُعدٍ - ذلك النقص المعلّق [بالغرر] (4) لا يزول، وإن زال [الغرر] (5) وانتفى النقص، وهذا الذي ذكرناه احتمالٌ؛ فإن [الغرر] (6) طَرْدُ حكم الظن إذا زال، واستعقب الأمن أن يزول حكمه، ولكن ما ذكرناه معقول على حال، وإذا [علل] (7) باحترام الآدمي وامتناع تعطيل ما فيه غرر، كان كلاماً بعيداً.
10670- ومما أجراه الأصحاب في ذلك أن لحية المرأة إذا أفسد الجاني منبتها، ولم يَشِنْها، بل زادها جمالاً، وأزال عنها شَيْناً، فإذا رأينا إيجاب الحكومة تفريعاً على الوجه البعيد، [فلا] (8) طريق إلا في [تقدير] (9) هذه اللحية بغلام، ثم ننظر إلى
__________
(1) في الأصل: "له".
(2) في الأصل: "ولا يتعلق".
(3) كذا.
(4) في الأصل: "بالعدد".
(5) في الأصل: "القدر".
(6) في الأصل: "العدد".
(7) في الأصل: "عقد".
(8) في الأصل: "ولا".
(9) في الأصل: "تعيين".(16/422)
النقصان إذا زالت اللحية، فنوجب في المرأة هذا الاعتبار (1) . ولا حاصل لقول من يقول الالتحاء ينقُص قيمَ المُرد من [الغلمان؛ فإن ما ذكرناه] (2) في لحيةٍ تنبت في أوانها، وعدم اللحية في الرجال في أوان نباتها نقص بيّن وشينٌ ظاهر، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "سبحان من زيّن الرجال باللحى والنساء بالذوائب" (3) .
ثم الذي نراه في مثل ذلك أن نضبط النقصان في الرجال، ثم نحط عنه أرش لحية المرأة؛ فإن التسوية بين من [تشينه] (4) اللحية [وبين من تزينه اللحية] (5) [أمرٌ خارج] (6) عن الاعتدال، ثم [لست أجد] (7) ضبطاً في مقدار الحط، وليس الرجوع إلا [إلى] (8) بوادر خاطر المجتهد. ويعسر هذا. [ولم] (9) يعتبره الأصحاب، ونزلوا لحية المرأة منزلة لحية الرجل، وهذا بعيدٌ وكل ما [نخبط] (10) فيه، فسببه أنه تفريع على أصلٍ فاسد.
__________
(1) الاعتبار هنا بمعنى القياس، والقياس المراد هنا قياس نسبة النقص بتقدير الجناية على غلام.
(2) في الأصل: "الغلماان قال ما ذكرناه" كذا تماماًً.
(3) أثر عائشة رضي الله عنها " سبحان من زين الرجال باللحى " ذكره العجلوني في كشف الخفا (1/536) وقال: "رواه الحاكم عن عائشة، وذكره في تخريج أحاديث مسند الفردوس للحافظ ابن حجر في أثناء حديث بلفظ: "ملائكة السماء يستغفرون لذوائب النساء ولحى الرجال يقولون: سبحان الذي زين الرجال باللحى والنساء بالذوائب". أسنده عن عائشة ا. هـ. والحديث في تنزيه الشريعة المرفوعة (1/247) وقال: الحاكم من حديث عائشة، وفيه الحسين بن داود بن معاذ البلخي.
(4) في الأصل: "شبه". (هكذا رسماً ونقطاً) .
(5) زيادة افتضاها السياق. وهي مأخوذة من لفظ الغزالي في البسيط، ومنه أدركنا التصحيف في لفظ (تشينه) ، ونص عبارته: "فينبغي أن نحط قدراً من لحية العبد؛ إذ اعتبار من تشينه اللحية بمن تزينه ظلم وسرف، ثم لا ضبط في الحط" (البسيط: 5/ورقة: 52 يمين) وواضح تماماً أن عبارته مأخوذة من عبارة شيخه، لا فرق إلا في الإيجاز.
(6) في الأصل: "فخارج".
(7) في الأصل: "ثم ليست ضبطاً".
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) في الأصل: "ثم".
وإخال صواب العبارة: "ولعسر هذا لم يعتبره الأصحاب، ونزلوا لحية المرأة ... إلخ".
(10) في الأصل: "نحيط".(16/423)
والقياس الحقُّ أن كل جراحة لا تنتهي إلى نقصٍ، [لا يتعلق] (1) بها موجَب.
ثم قال الأصحاب: ما ذكرناه من الخلاف في هذه المسائل إنما يجري في الحر المجني عليه.
10671- فأما إذا كان المجني عليه عبداً، وقد جُرح ولم تعقب الجراحة في انتهائها نقصاً وشيناً، فلا يجب على الجاني شيء؛ فإن المعتبر فيه النقصان، ثم الحر معتبر به بعد تعديل النسبة، والعبد نفسه لا يتجه فيه ضمان، إذا لم يتحقق به نقصان.
والذي أراه في ذلك أن هذا يخرّج على القولين في أن الواجب من العبد ما ينقص من قيمته، أم نقول: [تتقدّر] (2) أروش جراحِه (بجزءٍ من قيمته نسبته إليها نسبةُ الواجب في الحر إلى ديته) (3) ؛ فإن قلنا: المعتبر فيه النقصان، فلا يجب في هذه الجراح شيء إذا لم تُفضِ إلى نقصان وكذلك القول في الجناية على البهائم. [وإن] (4) كنا نثبت أروشاً مقدرة في جراح العبد، فنقول: في يديه تمام قيمته، وإن لم ينقص من القيمة إلا نصفها، فهذا القياس يقتضي أن نوجب في الجرح الحكومة وإن لم يُفض إلى نقصٍ أصلاً.
وهذا تأسيس القول في أصول الحكومة.
10672- ثم عزا الأئمة رضي الله عنهم [إلى الشافعي رضي الله عنه] (5) جملاً من أعضاء الحكومة، فنذكرها اتِّباعاً: ففي العين القائمة حكومة، لا تبلغ ديةَ العين المبصرة.
__________
(1) في الأصل: "ولا يتعلق".
(2) في الأصل: "تتعدد".
(3) ما بين القوسين نص عبارة الرافعي عن هذا الوجه. (ر. الشرح الكبير: 10/412) .
أما عبارة الأصل فقد استحال علينا إقامتها، وقراءة بعض كلماتها، فقد رسمت هكذا: "أم يقول: تتعدد أروس حراحه [بحرمه الراحه بسببها ما نحن] فإن قلنا ... " ما بين المعقفين هو الذي استبدلناه، وهو هكذا تماماً بالرسم والنقط.
(4) في الأصل: "إن" (بدون الواو) .
(5) زيادة من المحقق.(16/424)
وفي اليد الشلاء، والرِّجل الشلاء حكومةٌ، [والشللُ] (1) يبين بالقَحَل (2) وذبولِ [الجلد] (3) وسقوط الحركة بالكلية، ومن آثار الشلل أن تُبسَطَا ولا تقبلا الانقباض، أو تنقبضا ولا تعودا للانبساط.
ولا تكون يد المفلوج على هذا الحد في الاستحشاف، والشللُ يقع في العضو ويخرجه عن الاستعداد للانطباع، ويد المفلوج لا نقص فيها، وإنما النقص في القوة الإرادية، وقد يفرض في الأعصاب المحركة، والرُّبُط، والأوتارُ التي على العضل أغلال يتأتى [الانتقاص] (4) منها للمعالجات، فما كان كذلك لا يكون منتهياً إلى حد الشلل.
وأنا أقول: في هذا العضو [الصحيح] (5) : إذا سقطت منفعته الكبرى بسبب اختلال عضوٍ آخر [فلا تجب] (6) دية ذلك العضو؛ فهذا بمثابة ما لو كُسر [صلب] (7) [الإنسان] (8) فيمتنع عليه المشي لا محالة، والمنفعة العظمى في الرجل المشيُ، ثم لا يجب على كاسر الصلب دية الرجلين، وإن عطّلهما بما فعل. هذه منزلة.
وفي معارضتها [الشلل المحقّق] (9) وهو استحشافٌ يقع في العضو، كما وصفناه، يخرجه عن [التأثير والانطباع] (10) ، وبينهما يد الفالج، فإذا أطبق أهل البصر على أنها
_________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) القحل: من قحل قحلاً من باب نفع، إذا يبس، وهو من باب تعب أيضاً، يقال: قحل الجلد وقحل العود: إذا يبس. وقحل الشيخ يبس جلده. (المعجم والمصباح) .
(3) في الأصل: "الجرح".
(4) في الأصل: "الاقتصاص".
(5) في الأصل: "الصحيحة".
(6) في الأصل: "ولا تجب".
(7) زيادة اقتضاها السياق.
(8) في الأصل: "الأسنان".
(9) في الأصل رسمت هكذا: "السد إلى المحق" (تماماً) .
(10) في الأصل: "ويخرجه عن الهتان الانطباع" (كذا تماماً رسماً ونقطاً) والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط.(16/425)
[لا يعود عملها] (1) ، واليد صحيحة، فإذا كان الخلل في الأعصاب من جهة تمددها واسترخائها، [فلا] (2) يبعد إلحاق العضو بالشلل، وفيه احتمال وتردد بين ما ذكرناه وبين تعطل الرجل بكسر الصلب.
وإن قال أهل البصر: الخلل كله في [الدماغ] (3) ، فيظهر تشبيه ذلك بكسر الصلب مع الرجلين (4) .
ثم إذا سقطت الحركات من اليدين والرجلين ورأينا ذلك خللاً في الأعضاء وشللاً، فنوجب [حكومة] (5) [لكل] (6) الأعضاء.
وإن رأينا صرفَ ذلك إلى [الدماغ] (7) ، فتجب دية واحدة؛ لأن الجناية أبطلت القوة المحركة، وإذا كان يجب في إلسمع إذا [أزيل، وفي الشم ديةٌ] (8) ، فإزالة القوة المحركة بالدية أولى (9) .
__________
(1) في الأصل: "ولا تعول عايله".
(2) في الأصل: "ولا".
(3) في الأصل: "الرضاع".
(4) ربما كان من المفيد هنا أن نأتي بعبارة الغزالي -في البسيط- عن هذه المسألة، فهي لا شك اختصار لكلام شيخه. قال: "قد بينا أن العضو الذي تعطلت منفعته بالشلل كاليد وكالحدقة العمياء، ففيها حكومة.
وقد تتعطل منفعة اليد بالفالج من غير شلل في نفس العضو، فإن الشلل عبارة عن استحشاف في ذات اليد يمنع الانطباع والتأثير. والفلج خلل ينشأ تارة من اعتلال في الأعصاب، وتارة من سبب حادث في الدماغ، فهذه رُتبة.
وأبعد منها إذا كُسر صلبه، فامتنع عليه المشي، فقد تعطلت الرجل لا لخلل في نفس الرجل، فنقطع في هذه الصورة بأن الرجل لها حكم الرجل الصحيحة، فتكمل فيها الدية، وتقطع بها الصحيحة" ا. هـ (ر. البسيط: 5/ورقة: 52 شمال) .
(5) سقطت من الأصل.
(6) عبارة الأصل: "وكان".
(7) في الأصل: "الرضاع".
(8) في الأصل: "أزيد في الشم دية".
(9) عبارة الغزالي عن هذه القضية: "ولا يجب على من أبطل القوة المحركة بكسر الصلب إلا دية واحدة، في مقابلة إبطال القوة المحركة، وهذه القوة أولى بالمقابلة بالدية من الشم والذوق" (ر. البسيط: جزء (5) ورقة: 53 يمين) .(16/426)
هذا قولنا في اليد الشلاء، وما في معناها.
ثم واجب [اليد] (1) الشلاء لا يبلغ ديةَ يدٍ، ولا يبعد أن يزيد على دية إصبع، فإنا فرضنا الشلل في الأصابع والكف، فليقع اعتبارها بجملة دية اليد.
وفي الكف التي لا أصابع عليها حكومة، واختلف أصحابنا في أنها تُحَط عن دية إصبع، أو تحط عن دية يد، فمنهم من قال: هي محطوطة عن دية إصبع، وهذا هو الأظهر (2) ، والكفان محطوطتان عن ديتي أصبعين، ومنهم من قال: حكومتها محطوطة عن دية يدٍ؛ فإن غَنَاءَها ومنفعتها تزيد على منفعة إصبع دفعاً وأخذاً وقبضاً.
10673- والشعورُ بجملتها إذا أفسدت منابتها، ففيها الحكومات؛ خلافاً لأبي حنيفة (3) . ثم بيان أقدار الحكومات ما ذكرناه.
وإذا أزال لونَ عضو بأن ضربه، فاسودّ أو اخضرّ، فموجبه الحكومة، ومذهبنا أن المعتمد في إيجاب الأروش المقدرة المنافعُ على الجملة، ثم لا تتعلق أيضاً بكل منفعة، فأما الجمال المحض إذا أزيل، فلا يتعلق بإزالته أرشٌ مقدر، وأبو حنيفة قد يعتمد الجمال المحضَ في إيجاب الدية، وهذا معتمده في إيجاب الديات في صنوف من الشعور.
10674- ومما يغمض في أصول الحكومات، [والمقرّر من] (4) بناء الأمر على المنافع أن الأصحاب أكملوا الدية في أصابع الرجلين، كما أكملوها في أصابع اليدين، مع العلم بالتفاوت بين الأصابع والأصابع في المنفعة؛ إذ معظم عمل الآدمي بأصابع يديه، وأصابع الرجلين لا تدنو من أصابع اليدين، ثم الإشكال الأظهر أنهم
__________
(1) في الأصل: "الدية".
(2) حكى الرافعي حكمَ الإمام على هذا الوجه بأنه (الأظهر) ثم قال عن مُقابله: إنه الأشبه، وجعل النووي الثاني هو الأصح مخالفاً للإمام أيضاً. (ر. الشرح الكبير: 10/349، والروضة: 9/308) .
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/124 مسألة 2242، رؤوس المسائل: 471 مسألة: 336، المبسوط: 26/70- 71.
(4) في الأصل: "والمفرود مع".(16/427)
أوجبوا في القدمين إذا قطعت أصابعهما ما أوجبوه في الكفين، ولا يخفى أن المشي يبقى ما بقي القدمان، ولا يسقط بسقوط أصابع الرجلين إلا الإسراع في المشي، وأين يقع هذا من الاحتواء والقبض والبسط وتعاطي آلات العمل المتعلقة بأصابع اليدين؟ ولكن هذا يخرّج على اتّباع الأصول [الكلية] (1) ، وترك التفريع على ضبط [الأقدار] (2) .
ولهذا الأصل أوجبوا في الأذنين على الرأي الظاهر ما أوجبوه في العينين، وإن كانت منافع الأذنين لا تقع موقعاً إذا نسبت إلى منافع العينين واليدين، ولكن لما عسر ضبط أقدار المنافع حَسم الشرعُ النظرَ إليها، وأجرى الأجناس من الأعضاء مجرىً واحداً في تكميل [الدية] (3) .
هذا ما أردنا بيانه في أصول الحكومة.
10675- ثم قال الشافعي: "وفي الترقوة جَمَلٌ، وفي الضِّلَع جَمَلٌ ... إلى آخر الفصل" (4) .
ذكر الشافعي رضي الله عنه في موضعٍ أن الترقوة فيها جمل، وفي الضِّلع (5) جمل، وقال: قلّدتُ فيه عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه أوجب في كل واحد منهما جملاً، وقال في موضع آخر: فيهما حكومتان على أصول الحكومة، وجعل المزني في المسألتين قولين، وأخذ يوجّه الحكومة، واختلف أصحابنا: فمنهم من وافق المزني، وجعل المسألة على قولين: أقيسهما - إيجاب الحكومة. والثاني - إيجاب المقدار تأسياً بقضاء عمر رضي الله عنه.
ومن أصحابنا من قطع بالحكومة، وجعل قضاء عمر حكومةً وافقت جَملاً، وحمل نصَّ الشافعي على هذا المحمل، وهذا هو المسلك المرضي الذي لا يسوّغ غيره.
__________
(1) في الأصل: "والكلية".
(2) في الأصل: "الاقرار".
(3) مكان بياض بالأصل.
(4) ر. المختصر: 5/134.
(5) الضلع: بكسر الضاد أما اللام فهي مفتوحة في لغة الحجازين، وتميم تسكنها (المصباح) .(16/428)
وقد روي: "أن زيدَ بنَ ثابت أوجب في العين القائمة مائةَ دينار" (1) ، ثم لم [يذهب] (2) أحدٌ من الأصحاب إلى أن المائة تقدير في العين القائمة.
والوجه القطع بأن ما ذكره في الترقوة والضِّلع [مآلٌ] (3) في الحكم، وليس تقديراً مثبوتاً يجب اتباعه، وقد يجوز لمن يسلك طريق القولين أن يشبه أقضية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحكومات [أنها متبعة] (4) كما اتبعت أقضيتهم في إثبات أمثال الصيود، ولم أسمع أحداً يُجري [القولين] (5) في العين القائمة؛ لمذهب زيد بن ثابت؛ ولعل السبب فيه أن ذكر الدنانير مشعرٌ بالتقريب والاجتهاد، بخلاف ذكر الجَمَل؛ فإنه بالتوقيف أشبه. والعلم عند الله.
10676- ثم قال رضي الله عنه: "ولو جَرحه، فشان وجهَه ... إلى آخره" (6) .
إذا جرح رأسَه وأوضحها، وشان ما حواليها، فلا يجب إلا أرشُ موضِحة، فإن [متصل الشين] (7) لو كان إيضاحاً، لما وجب في الموضِحة (8) [وإن استوعبت الرأس] (9) إلا أرشٌ واحد، فالشين المتصل لا يزيد على الإيضاح، ولو كان مكان [الشين] (10) إيضاح، لما وجب إلا أرش موضحة واحدة.
__________
(1) أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ (2/857) . وعبد الرزاق في مصنفه (17443) والبيهقي في الكبرى (8/98) .
(2) مكان بياض بالأصل.
(3) في الأصل: "وقال".
(4) في الأصل: "متسبقة".
(5) في الأصل: "القول".
(6) ر. المختصر: 5/135.
(7) في الأصل: "فصل السبر". وهو تصحيف ظاهر.
(8) عبارة الأصل كان فيها اضطراب وتكرار بسبب رجع البصر، فقد كانت هكذا: "إذا جرح رأسه وأوضحها، وشان ما حواليها، فلا يجب إلا أرش موضحة؛ فإن فصل السبر لو كان إيضاحاً، لما وجب في الموضحة وإن ما حواليها، فلا يجب إلا أرش موضحة اتسعت إلا أرش واحد، فالشين المتصل لا يزيد على الإيضاح" إلخ.
(9) زيادة لإقامة العبارة.
(10) في الأصل: "السبب".(16/429)
ولو اتسع الشين حتى انتهى إلى القفا، فهذا ما تردد فيه أصحابنا: فمنهم من قال: لا يجب فيه إلا أرش الموضحة، كما لو لم يبعد الشين من محل الإيضاح.
ومن أصحابنا من قال: يُفردُ الشين، فإنه تعدى محلَّ الإيضاح، ونحن إنما أتبعنا الشينَ الإيضاحَ، لأنا قدرنا إيضاحاً بدل الشين، فوجدنا الأرش يتّحد في الإيضاح، ونزلنا الشين الذي هو الأدنى منزلة الإيضاح الذي هو أعلى، وهذا لا يتحقق إذا كان الشين على [القفا] (1) ، ولا يتحقق هذا أصلاً.
هذا إذا كان الجرح على الرأس، وكان مقدَّر الأرش كالموضِحة.
فأما إذا كانت الجراحة على الرأس، وكانت متلاحمة، فهذا ينبني على أن أرش المتلاحمة هل يتقدّر أم لا؟ وفيه قولان ذكرناهما، مبنيان على أن القصاص [هل] (2) يجري في المتلاحمة. فإن قلنا: إن أرش المتلاحمة [يتقدر،] (3) فإذا ظهر شينٌ حوالي الجراحة، فقد اختلف أصحابنا على وجهين: منهم من قال: نُتبع الشينَ المتلاحمة، كما أتبعنا الشينَ الموضِحة؛ فإن الجراحتين متساويتان في تقدير الأرش، ولو اتسعت المتلاحمة، كان كما لو اتسعت الموضِحة.
ومن أصحابنا من قال: لا نتُبع الشينَ المتلاحمة، وذلك [أنا، و] (4) إن قدّرنا أرشها؛ فإنا في تقدير الأرش على ظنٍّ وتخمين؛ فإنا نقدّر سمك الجراحة، وهذا لا يتوصّل إليه إلا باجتهاد وفكرٍ، فيجب إلحاق هذه الجراحات بجراحات الحكومة التي لا تتقدر أروشها.
10677- ونحن نذكر الآن تفصيلَها، فنقول: إذا كانت الجراحة في موضع لا يتقدر أرشها، فظاهر النص (5) أن الجراحة إذا شانت ما حواليها، فننظر إلى الأكثر
__________
(1) في الأصل: "الفضا".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "ينفذ".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) المختصر: 5/135.(16/430)
إذا اندملت الجراحة: فإن كان الجرح أكثرَ من الشين، أوجبنا موجَبَ الجرح، وإن كان الشين أكثر أوجبنا حكومة الشين.
وهذا النص مشكلٌ جدّاً؛ وذلك أن الجراحة [إذا] (1) اندملت، وظهر شين حواليها، كتغير لون، أو استحشافٍ، فالمصير إلى الفرق بين الجراحة والشين لا معنى له، فإن الجراحة إذا اندملت، فمحلها -إذا بقي الأثر- شينٌ، ينطلق على أثرٍ [مُتكَرَّه] (2) يؤثِّر مثله في نقصان القيمة، [ثم] (3) إنه ينقسم، فقد يكون [تغيّر] (4) لون، وقد يكون [نحولاً] (5) واستحشافاً، وقد يكون [ثُغرة] (6) تبقى، ولا ينبت اللحم فيها، وقد يكون تغيّرَ لون (7) ، وقد يكون [لحمةً] (8) زائدة، فهذا كله يسمى شيناً، فإذا اندملت الجراحة، وبقي في موضعها أثر وحواليها شين، فهذا التفصيل فيه لبس؛ [فإن] (9) كل شين وإن اختلفت صفاته، فالوجه المقطوع به أن السراية إذا انتهت، وبقي الأثر، فتجب الحكومة في الأثر الباقي، وليس للإتْباع وذكر الأقل والأكثر معنى، وقد اختار القاضي هذا المسلك، وهو الذي لا يجوز غيره.
10678- ثم [نسرد] (10) ما ذكره الأئمة: قالوا: ننظر إلى أثر الجرح، يعني ما بقي على محل الجراحة من نقصان عن الاستواء أو زيادة على اعتدال الخلقة، وننظر
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "متكرره". والمتكرَّه اسم مفعول من تكرَّه الشيء إذا كرهه، ولفظ الغزالي والرافعي (المنكر) واخترنا ما اخترناه -على ثقله- لالتزامنا بلفظ الأصل أو أقرب لفظ إليه ما أمكن.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "بغير".
(5) في الأصل: "محلاً".
(6) في الأصل: "أثره"، والمثبت من كلام الرافعي حاكياً إياه عن الإمام، وعند الغزالي (حفرة) .
(7) تكرر هذا آنفاً. ولعله من الناسخ.
(8) زيادة من المحقق، أخذاً من كلام الغزالي في البسيط.
(9) في الأصل: "بازا" كذا تماماً.
(10) في الأصل: "نسترد".(16/431)
إلى الشين حوالي الجراحة، فإن كان أثر الجرح أكثر حكومة، أوجبنا تلك الحكومة، وأتبعناها حكومة الشين المتصلِ بالجراحة.
وإن كان موجب الشين الذي هو حوالي الجراحة أكثر من حكومة الأثر الباقي في موضع الجرح، فنوجب حكومة الشين، ونتبعُها حكومةَ الجرح، هكذا ذكره الصيدلاني وشيخي أبو محمد رضي الله عنه.
والممكن في [توجيه] (1) ذلك أن الجرح إذا انتهى [وبقي] (2) أثره، وظهر شَيْن حواليه، فهذا بمثابة ما لو قطع إصبعاً شلاء، وأوجبنا فيها الحكومة، فهل يستتبع ذلك الإصبع قسطاً من حكومة الكف؟ فيه اختلاف وتردد، تقدم ذكره في كتاب الجراح، فيجب أن يكون الجرح وموضعه بمثابة الإصبع الشلاء، والشين المتصل بمثابة ما ذكرناه من جزء الكف، وهذا يخرج على القاعدة التي قدمنا تمهيدها، وهي أن موجَب الحكومة [هل يستتبع الحكومة] (3) أم لا؟ وفيها التردد الذي ذكرناه، والدية قد تستتبع الحكومة كالأصابع، قد تستتبع الكف.
ثم ينشأ مما ذكره الأصحاب في الجراحة والشين أن الشين إذا كانت حكومته أكثر استتبع الجرح، ويخرج من ذلك أن المقدار الذي يقابل الإصبع الشلاء من الكف إذا كانت حكومته أكثر من حكومة الإصبع الشلاء، فيجب أن تكون حكومة ذلك الجزء من الكف تُسقط حكومةَ الإصبع الشلاء، فإن المسألة مفروضة فيه إذا قطع الإصبع، وذلك القدر الذي يقابله من الكف، وهذا التفصيل لا بد منه، والجرح والشين بمثابة الإصبع الشلاء مع القدر الذي يقابلها من الكف إذا قدر القطع فيهما.
10679- وانتظم مما ذكرناه في مسألة الجرح والشين خلافٌ بين الأئمة: الصحيح - أن نرفع طريق الإتباع بالكلية، وننظر إلى أثر الجرح والشين، ونوجب الحكومة في الجميع، وهذا يناظر قولَنا: إنا لا نتبع الكف الأصابع الشلاء، بل نوجب الحكومة في الجميع.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "بقي" (بدون الواو) .
(3) زيادة اعتماداً على السياق، واستعانة بما نقله الرافعي من كلام الإمام.(16/432)
والوجه الثاني - أنا نتُبع الأقلَّ الأكثر [من] (1) الشين والجرح، ويطرد هذا في الكف والإصبع، فنُتبع الأقلَّ الأكثرَ.
ثم يعترض في هذا المنتهى أنه لو فرض استواء حكومة الشين وموضع الجرح، والتفريع على أنا لا نوجب حكومة الجميع، بل نُتبعُ. هذا فيه احتمال، والظاهر أنا [نوجب الحكومتين] (2) ، وإن فرعنا على الإتباع؛ فإنه ليس أحدهما أولى بالإتباع من الثاني، والأظهر ما تقدم.
والمسلك [الحق] (3) الذي لا [يستدّ] (4) [غيره] (5) إيجاب الحكومتين في الصور كلها.
هذا تمام الكلام في قواعد الحكومات.
فصل
في نوعين
10680- أحدهما - في ذكر موجبات قد تشذّ وتنسلّ عن ذكر الفقه. والثاني - في ذهاب منفعة عضو والجنايةُ على غيرها. فأما النوع الأول، فقد تقدم ما تتعلق به الديات في الجراح وهذا الكتاب، ولكنا نذكر ما نرى ذكره، فإن كنا ذكرناه فيما تقدم، لم تضرّ الإعادة.
__________
(1) في الأصل: "في".
(2) في الأصل: "نوجب إحدى الحكومتين". وهو لا يستقيم مع السباق والسياق، ولا مع ما حكاه الرافعي عن الإمام، ففد قال: "وذكر تفريعاً على أنه يجب أكثر الحكومتين ويتبعها الأقل، وجهين فيما لو استويا: أحدهما - أنهما تجبان، إذ ليست إحداهما بالاتباع أولى من الأخرى.
وأظهرهما - أنه لا يجب الأخذ بهما". (ر. الشرح الكبير: 10/355) .
(3) في الأصل: "المقال".
(4) في الأصل: "يستند". ومعنى يستدّ: يستقيم.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(16/433)
[فمما] (1) نورده أنه لو أذهب ماءه ومنيّه، التزم الدية، ولو أذهب شهوته للوقاع، فقد قال الأئمة: يجب في [انبتات] (2) الشهوة الديةُ، فهذا يدل على أن إذهاب الشهوة مع بقاءالماء يوجب الدية.
وهذا لا يتصوّر؛ فإن المني إذا كان باقياً، فيبعد إذهاب الشهوة، وإن بعد أن [نتبين] (3) أن الجناية هي التي أثرت في إذهاب الشهوة، حتى يناط به الدية، ويجب أن يقال: إذا ذهب بالجناية شهوتُه للطعام، تجب الدية، بل هذا أولى إن صح [تصوّرُه] (4) والوصولُ إلى درك [إبطاله] (5) بالجناية، والله أعلم.
ولو ضرب لِحْييه، [فأذهب] (6) منفعة المضغ، وجبت الدية، وإن بقيت اللحيان والأسنان، وهذا واضح. وهو بمثابة ما لو جنى على اليد، فأشلها.
ولو كسر رقبته، فكان لا ينساغ الطعام والشراب، فتجب الدية حكماً لها (7) .
ولو جنى [عليه] (8) ، فأذهب صوته، فالدية التامة وإن بقيت مخارج الحروف، وعندي أني ذكرت هذا في مسائل الكلام، وهذا واضح. ولو قيل: تعطل الكلامُ بإذهاب الصوت، فهل تزيدون على دية واحدة؟ قلنا الغرض الأظهر من الصوت الكلامُ، فكأن الدية إنما وجبت لأجله، والكلامُ معنيٌّ في وجوه: منها أن اللسان إذا قطع، فالدية تكمل بسبب الكلام، ولو عطلت الحروف بسببٍ آخر سوى قطع
__________
(1) في الأصل: "فيما".
(2) في الأصل: "إثبات".
(3) مكان بياض بالأصل.
(4) في الأصل: "تصويره".
(5) في الأصل: "إيصاله".
(6) في الأصل: "وأذهب".
(7) صورة هذا: أن يضربه على عنقه، فإن ارتتق المنفذ، وامتغ البلع، فهو إلى الموت، ولذا تجب فيه الدية، حتى لو عاش يوماً أو يومين وجاء جانٍ فحز رقبته، لزم الأول الديةُ، هكذا وضحه الغزالي في (البسيط: 5/ورقة 64 يمين) . وحكاه النووي عن الإمام والغزالي في (الروضة: 9/302، 303) . أما إذا كان الطعام منساغاً ولو بصعوبة، ففيها حكومة، وإن مات من أثرها نكمل الدية (ر. الشرح الكبير: 10/404، 405، والروضة: 9/302) .
(8) سقطت من الأصل.(16/434)
اللسان، فالجواب كذلك، وإذهاب الصوت من أسباب تعطيل الكلام.
10681- ومما ذكره الشيخ أبو علي رضي الله عنه [نه لو سلخ الرَّجُلَ من قَرْنه إلى قدمه، لوجبت الدية الكاملة، ثم قال: فلو فرض قطع اليدين بعد هذا مثلاً، فسلْخُ الجلد يوزع بالتقدير والمساحة على جميع اليدين حتى يتبين مقدار كل عضو منه، فيحط حصته من اليدين، فنوجب الدية على قاطع اليدين إلا المقدار الذي يخص الجلد المسلوخ، هكذا ذكره رضي الله عنه، ولم أره إلا له] .
10682- ومما يتعلق بتتمة هذه الفصول التي ذكرناها أنه إذا أزال معنىً من هذه المعاني ظاهراً، وقال أهل النظر: إنه سيعود على قرب، [فننتظر] (1) . وإن قالوا: يعود بعد زمان طويل، ولم يضربوا في ذلك مدة، ولكنهم أطلقوا إمكان العَوْد، فالذي وجدته للأصحاب في ذلك أنا نوجب الأرش، ثم إن فرض العَوْدُ، رددناه، وعلى هذا يجري زوال البصر وغيرُه، في مثل الصورة التي ذكرناها، وهذا ذكره صاحب التقريب على هذا الوجه، وهو متجه لا يسوّغ غيره. والله أعلم.
ولو ضربوا مدةَ إمكان العَوْد، فقد قيل: لا بد من انتظارها، وهذا يجب أن يفصّل: فإن [ذكروا مدة] (2) يغلب على الظن انقضاءُ العمر في مثلها -وتصوير ذلك بعيد- فالوجه إيجاب الأرش، كما لو أطلقوا، ولم يضربوا مدة. وإن ذكروا مدة يقرب رجاء البقاء إلى مثلها، [فلا] (3) يبعد الانتظار والحالة هذه.
10683- ومما يتعلق بذلك أنه إذا أذهب منفعةً لا يتصور معها طول البقاء، وقد قيل: لا يتصور البُرء، ففي هذا فضل نظر وتدبّر، ويفرض فيه إذا كان الطعام والشراب [لا] (4) ينفذان -والمجنيُّ عليه لا يبقى إذا كان هكذا- فهذا فيه نظر، وقد تقرر أنه لو قطع اليدين والرجلين، فسرت الجراحات إلى النفس، صارت نفساً، ولم
__________
(1) في الأصل: "فانتظر".
(2) في الأصل: "ذكر واحدة". (وهو من طرائف التصحيف) .
(3) في الأصل: "ولا".
(4) زيادة لا يصح المعنى إلا بها.(16/435)
يجب إلا دية واحدة، فماذا نقول في امتناع [نفوذ] (1) الطعام والشراب؟ يجوز أن يقال: إذا أفضى إلى الموت بسبب الجوع والعطش، فهذا بمثابة سراية الجراحات؛ حتى لا تجب إلا دية الجملة، ويجوز أن يقال: ليس ذلك من قبيل السراية، فيجب دية في إفساد هذه المنفعة، أو في كسر الرقبة، وتجب دية في إزهاق الروح على تخريج ابن سريج؛ فإنه يقول: من قطع يدي رجل، ثم حزّ رقبته، وجبت ديتان، وهذا هو القياس.
وإن فرعنا على النص، فلا شك أنه تجب دية واحدة، فإنه لو قطع أطرافه ثم قتله، لم يلزمه على النص إلا دية واحدة، وامتناع وصول الطعام إليه بمثابة قتله إياه، والمسألة محتملة جداً. ونصُّ الأصحاب على إيجاب الدية بسبب إفساد هذه المنفعة - مع القطع بأن البقاء لا يطول مع امتناع نفوذ الطعام والشراب- دليلٌ على أنهم اعتقدوا أن هذه الدية لا تندرج تحت دية [الروح] (2) والعلم عند الله.
فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
10684- فأما الكلام في إسقاط منافعَ بسبب جنايات على أعضاء (3) فكل منفعة كانت في عضوٍ، فإذا فرضت الجناية على العضو، لم يَخْفَ أن المنفعة لا تفرد [بديةٍ] (4) ؛ إذ الدية إنما [تجب] (5) في ذلك العضو بسبب تلك المنفعة، وهذا بمثابة البطش في اليد، والبصر في العين، فأما إذا قطع الأنف وأزال الشم، فديتان، ولا إدراج؛ فإن لطيفة الشم ليست في الأنف، وكذلك إذا قطع الأذنين وأزال السمع، [أو ضرب الرأس، فأزال البصر] (6) .
واختلف الأئمة في مسائلَ نذكرها، ثم أقرّب القول جهدي فيها: قالوا إذا كسر
__________
(1) في الأصل: "قعود".
(2) في الأصل: "الزوج". وهو تصحيف يشهد بأن هذا الناسخ لا علاقة له بما يكتب، إلا أنه يرسم الحروف والكلمات والله المستعان.
(3) هذا هو النوع الثاني الموعود في هذا الفصل.
(4) زيادة من المحقق.
(5) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(6) عبارة الأصل: "وأزال السمع الراي وأزال البصر". والزيادة والتعديل من عمل المحقق.(16/436)
صُلبَه، فأزال منيّه، ففي المسألة وجهان، وهذا الخلاف بنَوْه على اعتقادهم أن مقرّ الماء الصلب أخذاً من قوله تعالى: {بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} [الطارق: 7] ولست أرى الأمر على التردد في أن الدية تعدد، فإن المنيّ لو كان من [منافع] (1) الظهر، لما وجب على من كسر صلب إنسان [لا منيّ] (2) له الدية، كما لو قطع يداً شلاء، أو فقأ عيناً عمياء، ولا خلاف في وجوب الدية.
10685- ومما ردد الشافعي رضي الله عنه قوله فيه زوالُ العقل، فقال: إذا قطع يدي رجل أو رجليه أو ما يفرض من الأعضاء، فزال العقلُ، [فهل] (3) نُدرج حتى لا نوجب إلا ديةً واحدة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا لا ندرج، وهو الذي لا ينساغ في مسلك المعنى غيرُه؛ فإنا نقطع بأن العقل ليس من منافع اليدين، [وهما] (4) من الأعضاء الظاهرة.
والقول الثاني - أنه لا يجب إلا دية واحدة؛ فإن العقل لا يُدرَى محلُّه على التعيين، فمهما (5) زال بسبب الجناية على عضو، وجب سلوك طريق الإدراج فيه، ثم إن قطع يديه، فزال العقل، فدية واحدة، وإن قطع إحدى اليدين، فزال العقل، وجبت دية واحدة، فندرج الأقل وهو أرش يدٍ تحت الأكثر وهو الدية الكاملة.
وهذا القول ضعيف؛ فإن محل العقل بين [القلب] (6) والدماغ لا يعدوهما، فكيف يفرض الإدراج في الأعضاء الظاهرة، ولكن القولان مشهوران، كما ذكرنا.
فهذه جمل ترشد إلى المقاصد في هذا الفن، والله أعلم.
10686- ويخرج منها أن كل منفعة لو زالت، لصار العضو عضو حكومة، فهي تستتبع العضو لا محالة، وكل منفعة تحققنا أنها في محلٍّ سوى العضو المجني عليه
__________
(1) في الأصل: "منافعها".
(2) في الأصل: "الابنى".
(3) في الأصل: "فهذا".
(4) في الأصل: "وقدرهما من الأعضاء الظاهرة".
(5) فمهما: بمعنى: (فإذا) .
(6) في الأصل: "العقل".(16/437)
كالشم والأنف، فلا يكاد يخفى أن لا إدراج فيه، وإذا ظهر على الجملة محل كون منفعة في عضو، ولم يتحقق تحقّقَ كون البطش في اليد، والبصر في العين، وكان العضو الذي فيه [النظر] (1) تكمل الدية فيه دون تلك المنفعة، فقد يختلف الأصحاب في مثل ذلك، كالمني والظهر، وأما العقل، فليس لي فيه إلا حكاية القولين، وإلا فالعقل أبعد عن اليدين من الشم عن الأنف، والله أعلم.
فصل
"ودية اليهودي والنصراني ثلث الدية ... إلى آخره" (2) .
10687- الكفار في غرضنا ثلاثة أقسام: منهم من له كتاب، وهم اليهود والنصارى، فدية الرجل منهم ثلثُ دية المسلم عندنا، وأبو حنيفة (3) يوجب مثلَ دية المسلم، ومالك (4) يوجب نصف دية المسلم، وقد [ذكرت في (الأساليب) وغيرها مسلكَ المذهب] (5) وطريقَه، ثم لا خلاف أن الذمي [والمستأمنَ ذا العهد المؤقت] (6) في هذا بمثابة واحدة.
وقد قيل: [السامرة] (7) من اليهود، فإن لم يكونوا معطِّلة (8) ، فديتهم دية اليهود،
__________
(1) في الأصل: "البصر". ثم المراد بالنظر هنا ليس القوة المودعة في العينين، وإنما المراد العضو الذي محل البحث والنظر في حكم الجناية عليه.
(2) ر. المختصر: 5/135.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 240، مختصر اختلاف العلماء: 5/155 مسألة 2270، رؤوس المسائل: 475 مسألة 340، طريقة الخلاف: 496 مسألة 198، المبسوط: 26/84.
(4) ر. المدونة: 4/479، الإشراف: 2/830 مسألة 1594، عيون المجالس: 5/2034 مسألة 1464، القوانين الفقهية: 341.
(5) في الأصل: "ذكرت ذلك في الأساليب وغيرها مسلك المذهب".
(6) في الأصل: "والمسلم ذو العهد المؤقت".
(7) في الأصل: "النساء". والمثبت من البسيط والشرح الكبير.
(8) " معطلة " هنا بمعنى ملاحدة، غير المعنى المعروف في كتب الفِرق، حيث يريدون به المعتزلة. وقد سبق بيانها في تعليق سابق.(16/438)
وقيل: الصابئون من النصارى، وإن صح ذلك، فديتهم ديةُ النصارى، وقد استقصيت القول في ذلك في كتاب النكاح.
والقسم الثاني - من له شبهة كتاب، وهم المجوس، فدية المجوسي خمس دية اليهودي، وإن أردتَ، قلت: دية المجوسي [خمس] (1) ثلث دية المسلم.
والقسم الثالث من الكفار - من ليس [له] (2) شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان، ولا يتصور لهم عهد مؤبد، وإنما يعرض الضمان فيهم إذا كانوا مستأمنين، قال الأئمة في [الزنديق] (3) المعاهَد دية المجوسي، فلا أقل منه، وإذا تعذر الإهدار لمكان العهد، ولا سبيل إلى الحط من أقل الديات، وهو دية المجوسي؛ إذ لا توقيف معنا في [الحَطِّ من] (4) هذا المبلغ، فهذا هو الجواب.
ولا يُفرض للمرتد عهد، بل هو مقتول بكل حال، وإن [تحرف] (5) طائفة من المرتدين، ومست الحاجة إلى مراعاة طرف الإيالة (6) منهم من ترتيب إقامة الحرب، فإذا أتانا رسول منهم، فإنا لا نتعرض له، فإذا قُتل، فلا ضمان أصلاً، وكان شيخي أبو محمد رضي الله عنه يتردد في الزنادقة [إن] (7) لم يسبق منهم التزام الإسلام أصلاً، ولا يُبعِد أن يُلحقوا بالمرتدين في جميع أحوالهم، وكان يقول: يحتمل أن يكونوا كعبدة الأوثان في إيجاب أصل الديات في معاهدتهم، والعلم عند الله.
10688- فأما الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام، فلا بد من تفصيل المذهب فيهم بعد قول الشافعي: "لم يبق من لم تبلغه الدعوة" ولكنا صورنا ذلك على بُعد حَمْلاً على اتساع الدنيا، فسبيل التفصيل فيهم أن نقول: من كان متمسكاً منهم بدين من أديان النبيين، ولم تبلغه دعوة تخالف ما عليه، فلا يجوز التعرض لهم قَبْل الدعوة أصلاً،
__________
(1) زيادة لا يصح الكلام بدونها.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: "الذمي" وهو خطأ. ثم الزنديق والوثني إنما يدخل بلادنا بعهد مؤقت.
(4) في الأصل: "الحطمين".
(5) في الأصل؛ " تحرّت" ومعنى تحرفت أي تحرّفت للقتال، واستعدت له.
(6) الإيالة: السياسة.
(7) في الأصل: "وإن".(16/439)
فلو قتل قاتلٌ [واحداً] (1) منهم قَبْل الدعوة، فقد قُتل سعيداً (2) في ظاهر الحال، فإنه كان متعلقاًً بدين الحق، ولم يبلغه دعوةٌ أخرى، حتى يُتبين إنكارٌ منه أو قبول. قال القفال: إذا كان القاتل مسلماً، توجه القصاص، فإن المقتول ليس بكافر.
وذهب غيره إلى أن القصاص لا يجب؛ لأنه وإن لم يكن موصوفاً بالكفر، فليس موصوفاً بالإسلام قبل التزامه، فإن أوجبنا القَوَد، فلا شك أنا نكمل الدية، وإن لم نوجب القود، ففي الدية وجهان: أحدهما - نوجب الدية الكاملة. والثاني - أنا نوجب دية أهل الدين الذي هو عليه، فإن كان على دين موسى، فثلث دية المسلم.
وإن لم يكن متعلقاًً بشريعةٍ، ولكن ما كانت الدعوة بلغته من ملة من الملل، فالوجه القطع بنفي القصاص.
ونقل المعتمدون عن القفال إيجابَ القصاص على المسلم بقتله، وفيه بُعد في هذا المقام. فأما الدية، فقد حكى الأصحاب نصين عن الشافعي: أحدهما - أنه تجب الدية الكاملة. والثاني - يجب أقل الديات، وهو دية المجوسي، فمن أصحابنا من أجرى القولين على ظاهر اختلاف النصين، وتوجيههما: أنا في قولٍ نقول: سعيدٌ [معذور] (3) ، وفي قولٍ نقول: لا تعلق له بدين أصلاً.
ومن أصحابنا من قال: ننزل النصين على حالين، فحيث أكمل الدية أراد إذا كان متعلقاًً بدين حق، لم يُغَيَّر، وحيث نوجب أقل الديات أراد إذا لم يكن متعلقاًً بدين أصلاً.
10689- ونحن نوضح بعد ذلك قسماً آخر وبه تمام البيان، فنقول: إذا صادفنا هؤلاء متعلقين بدين موسى مثلاً، وكان الدين [مغيّراً] (4) ، فإذا لم تبلغهم دعوةُ نبينا عليه السلام، فالوجه أن نُبلغهم الدعوة، [فإن] (5) [قتل المسلمُ] (6) واحداً منهم قبل
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) عبارة الغزالي في البسيط: "فإن لم تبلغه الدعوة، فهو سعيدٌ معذور".
(3) في الأصل: "مغرور".
(4) في الأصل: "معتبراً".
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: "قبل السلم".(16/440)
الدعوة، فلا قصاص مذهباً واحداً، لتعلقهم بالدين المغيَّر، وأما الدية، ففيه احتمال وتردد: يجوز أن يقال: لا يجب الضمان أصلاً، إذ لا عهد [ولا ذمة] (1) ، فهم في [منزلة] (2) الحربي، وإن امتنعنا من قتلهم، فهو بمثابة انكفافنا عن قتل نساء أهل الحرب، وذراريهم ثم لو قُتلوا، فلا ضمان أصلاً.
ويجوز أن يقال: على من قتل واحداً منهم قبل الدعوة الضمان، وهو ظاهر النص؛ فإن امتناع قتالهم ينزل منزلة العهد لهم، وليسوا كالنساء من الحربيين، فإنا انكففنا عن قتلهم من جهة أنا رأينا الاشتغال بالمقاتِلة أهمّ، ورأينا استنماءهن (3) للاسترقاق، وا لأطقال يجرون [معهم] (4) .
ثم إن أوجبنا الضمان، فظاهر النص يشير إلى أنا نوجب أقلَّ الديات، وإن كان متعلقاًً باليهودية التي عليها اليهود، لضعف سبب الحرمة والانكفاف، والظاهر عندي إيجابُ دية يهودي إن صح القول بالضمان. فهذا تفصيل القول في الذين لم تبلغهم الدعوة والله أعلم.
فصل
قال: "وبقول سعيد بن المسيب أقول: جراحُ العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته ... إلى آخره" (5) .
10690- قد ذكرنا أن العبد إذا قُتل، فهو مضمون بقيمته بالغةًَ ما بلغت، [ولو] (6) زادت على ديات، ومقصود الفصل الكلامُ في أروش الجراح على العبد، فالمنصوص
__________
(1) في الأصل: "ولا دية".
(2) في الأصل: "دية".
(3) عبر الغزالي عن هذا المعنى قائلاً: "وأما أمر النساء، فمبنيٌّ على مصلحة الإرقاق" (ر. البسيط: جزء (5) ورقة: 48 شمال) .
(4) في الأصل: "معاً".
(5) ر. المختصر: 5/136.
(6) زيادة من المحقق.(16/441)
عليه للشافعي في الجديد أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، ففي يديه كمال قيمته، وفي اليد الفردة نصف القيمة، وفي موضِحته نصف عشر قيمته، وفي أنملة من مسبّحته ثلث عشر قيمته، وهذا مطرد في الجراح، [بلا] (1) مناقضة. وخرّج ابنُ سريج قولاً للشافعي في أن الواجب في جراحه ما ينقص من القيمة، وسبيل الجراح عليه كسبيل جرح البهائم، وهذا أخذه ابن سريج من قول الشافعي في أن العاقلة [لا] (2) تحمل قيمة العبد المقتول خطأ، كالبهائم، وقد نص الشافعي على ما خرّجه في القديم، فحصل في المسألة قولان.
توجيههما: من قال يجب ما نقص تعلّق بأنه مملوك مقوّم، وقيمة جملته لا تتقدر، فلتكن أطرافه كذلك. وهذا القول [معتضد] (3) بالقياس المعنوي.
ومن قال: تتقدر جراح العبد، فمتعلقه الشبه الخاص؛ فإن العبد آدمي، وقد أثبت الشرع في يدي الحرّ تمام الدية، وغَناء يد العبد من العبدكغَناء يد الحر من الحر.
ثم قال الأئمة: تحمُّل العاقلة قيمة العبد على قولين، وجريان القسامة في العبد على قولين، فهذه المسائل الثلاث مجراها واحد، تقدُّر البدل، وتحمل
العاقلة، وجريان القسامة.
ومما تجب الإحاطة به في قاعدة المذهب أن القصاص يجري في العبد وفاقاً، والسبب فيه أن حرمة روح العبد توجب صونَه بالقصاص، ويتعلق بحرمته الكفارة.
10691- وإذا آل الأمر إلى أحكام المال، فأما قيمة الجملة فمردودةٌ إلى السوق؛ فإنه يتقوّم، وأما تفاصيل الأحكام في الجراح وغيرها، فعلى التردد الذي ذكرناه.
ثم إن قطع ذكر عبد وخُصيتيه، فهذا يخرج على القولين: إن رأينا تقدير أروش
__________
(1) في الأصل: "فلا".
(2) زيادة اقتضاها السياق، وهي عند الغزالي في البسيط.
(3) في الأصل: "مقتصد".(16/442)
جراحه، فيجب قيمتان، كما تجب [فيهما] (1) ديتان من الحر. وإن أوجبنا ما ينقص من القيمة، فقد لا ينقص ما جرى، بل يزيده، فقد قال بعض الأئمة: هذا يخرّج على الخلاف في [شَيْن] (2) الجرح على الحر إذا لم ينقص شيئاًً في تقدير الحكومة، فهل يجب شيء أم لا؟ ثم التفصيل كما مضى.
والقياس عندي ألا نوجب [شيئاًً] (3) إذا لم يظهر نقصانٌ أصلاً؛ فإنا نفرع على إلحاق العبد في ذلك بالبهائم، ولست أعرف خلافاً أن من خصى بهيمة وزادت قيمتها، لم يلتزم شيئاً إذا سلمت البهيمة.
ومن الظواهر التي نذكرها أنا إذا أوجبنا في الجراح [على] (4) قولِ المقدرات، فقد يعترض في العبد ما لا يتصور في الحر، وبيانه أن العبد إذا كانت قيمته ألفَ درهم، فمن ابتدره وقطع اإحدى يديه التزم خمسَمائة، وإن نقص من القيمة أربعمائة، فإذا قطع قاطع آخر يده الأخرى، وقيمته عند قطع [يده] (5) ستمائة فعليه ثلاثمائة، ومثل هذا لا يتصور في الحر؛ فإن بدله لا ينتقص.
وقد [نُحْوَج] (6) أيضاًً على قول [التقدير] (7) في بعض الصور إلى اعتبار النقصان، فإن من اشترى عبداً فقطع يديه في يد البائع، فلا يمكننا أن نقابل اليدين بتمام القيمة، إذ لو فعلنا هذا، لجعلنا المشتري [قابضاً] (8) المبيع، وهذا يستحيل القول به مع بقاء العبد في يد البائع، فلا يتأتى من ذلك إلا اعتبار النقصان. والله أعلم. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع.
__________
(1) في الأصل: "قيمتهما".
(2) تفدير منا مكان كلمة ذهبت إلا أطراف حرفٍ منها.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "من".
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: "يخرج".
(7) في الأصل: "الدير".
(8) في الأصل: "وأيضاً".(16/443)
فصل
قال: "وقيل جناية المعتوه والصبي ... إلى آخره" (1) .
10692- اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن الصبي إذا عمد [وقتل] (2) فهل لفعله [حكم] (3) [العمد] (4) أم لا؟ وأحد القولين أنه لا يثبت له حكم العمد، والثاني - أنه يثبت له حكم العمد.
توجيه القولين: من قال: لا يثبت [له] (5) حكم العمد، احتج بانتفاء القصاص عنه مطلقاً من غير استثناء، ومن نصر القول الآخر، احتج بالعِيان، والعمدُ في الحقيقة يصدر عن الصبي؛ فإن العامد هو الذي له رويّة قبل فعله، وفكرُه منعطف عليه بعد فعله، وهذا يتصور من الصبي المميز، وذكر الشافعيُّ المجنونَ والصبي في قَرَن واحد فيما ردّد فيه القولَ في تصوّر العمد.
والمجنون ينقسم إلى ما له أدنى تمييز، ويتصور منه ما ذكرناه من الرويّة والفكر، فيقع منه العمد، كما صورناه من الصبي.
ثم قال الأئمة: فائدة العمد إذا وقع منه أمران: أحدهما - وجوبُ القصاص على شريكه في القتل، ونزوله مع الشريك منزلة الأب إذا شارك أجنبياً في القتل. والثاني- أن تجب الدية في ماله إن كان عامداً، ولا تُضرب على عاقلته، فلا يتخلف -إذا أنشأ العمدَ- فعلُه عن فعل المكلف إلا في القصاص، كما ذكرناه.
ومما يتعلق بما ذكرناه أنا إذا لم [نجعل] (6) الصبي عامداً، ففعله في حكم الخطأ المحض، وفائدته ألا تتغلظ الدية على العاقلة، فإن من يتصور منه شبه العمد يتصور
__________
(1) ر. المختصر: 5/137.
(2) في الأصل: "وشل".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: "العقد".
(5) زيادة من المحقق.
(6) مكان بياض بالأصل.(16/444)
منه حقيقة العمد، [والصبي] (1) الذي [لا تمييز] (2) له أصلاً لا عمد له، وكذلك [المجنون] (3) ، ولا يخفى أن الصبي ذو عقل، وهو بعقله متميز عن المجنون الذي وصفناه بالتمييز، ولكن ذلك القدر كافٍ في تصور العمد حسّاً، والله أعلم.
فصل
قال: "ولو صاح برجل، فسقط من حائط ... إلى آخره" (4) .
10693- إذا صاح ببالغٍ على طرف جدارٍ، نُظر: فإن كان متبيّناً متماسكاً، فواجهه رجل وصاح في وجهه عِيانا، فسقط من الحائط وهلك، فلا ضمان على الصائح أصلاً؛ فإن مثل الرجل الذي وصفناه لا يسقط من الجدار [بصيحة] (5) وإن اشتدت.
وإن لم يواجهه ولكن أتاه من ورائه [وتغفّله] (6) ، فصاح من حيث لا يحتسب، فسقط، لم يجب القود عليه [بلا] (7) خلافٍ فيه، وفي وجوب الضمان وجهان، وربما كان يقول قولان: أظهرهما - أنه لا يجب [وفي] (8) بعض التصانيف: "أن من أصحابنا من طرد القولين في وجوب الضمان فيه، إذا واجهه ولم يتغفله" وليس هذا من مواقع الظنون حتى يجري التردد فيه على مسالك الظن الفقهية، وإنما يتعلق المقصود فيه بأمور تتعلق [بالعِيان] (9) .
وقد مهدنا في ابتداء الجراح ما يكون عمداً محضاً وما لا يكون منسوباً إلى الجاني، وما يعد شبه عمد، وأوضحنا المعنى المعتمد في هذه الأقسام. وهذه مشتملة على
__________
(1) في الأصل: "والجنون".
(2) غير مقروءة بالأصل.
(3) في الأصل: "الجنون".
(4) ر. المختصر: 5/138.
(5) في الأصل: "بصح".
(6) في الأصل: "وتعقله".
(7) في الأصل: "فلا".
(8) في الأصل: "في" (بدون الواو) .
(9) في الأصل: "بالعباد".(16/445)
سقوط شخص من غير أن يعلَقَ به آلةٌ من الجاني [أو] (1) تحاملٌ [منه] (2) ، ولكن الإنسان في غفلاته قد يسمع صوتاً ويهتز ويرتعد، ويكون تحركه سبباً للسقوط من موضع [عال لا دفعَ] (3) في موقعه (4) ، ويكون وقوع الارتعاد والخروج عن التماسك أمراً ضروريّاً (5) لا يدفعه المقصود (6) .
ثم رأى الأئمة أن الرجل الكبير إذا واجهه الصائح، ولم يلحقه الصوت على غفلة لا يسقط، فإن سقط، كان أمراً قدريّاً، يقال في مثله: اتفق سقوطه، وأدركه قضاء الله، ولم يكن سقوطه بسبب الصيحة، وهو بمثابة ما لو ضرب رجلاً أيِّداً بيدٍ ضربة لا يتصور [أن يهلك] (7) بها، فإذا اتصل بها هلاكه، قيل: وافق الهلاك غيرَ منسوب إلى الضارب، ثم التغفّل والصيحة على غفلة مما تردد فيها الرأي، واحتمل إمكان السقوط منه، فجرى ذكر القولين، وفي طرد القولين في المواجهة لم نُبعد الارتعاد، وزوال التمسك، ولا شك أن هذا يختلف [باختلاف] (8) الأشخاص، ويثبت من يثبت، ويرق [الجبان] (9) الذي يستشعره (10) في أدنى شيء.
10694- ثم قال الأئمة: إن صاح بصبيٍّ، وهو على طرف جدار: واجهه بالصيحة أو بغفلة، وجب الضمان، فقطعوا بوجوب الضمان، وذكروا وجهين في وجوب القصاص [ورتّبوا] (11) الوجهين على ما إذا احتفر بئراً في مضيق [كان] (12) يطرقه
__________
(1) في الأصل: "أم".
(2) في الأصل: "فيه".
(3) في الأصل: "حال لا يتبع".
(4) في الأصل: "أي وقوعه".
(5) أمراً ضرورياً: أي محتوماً.
(6) لا يدفعه المقصود: أي لا يملك المقصود بالصياح دفعَ هذا السقوط.
(7) في الأصل: "أن لا يهلك".
(8) في الأصل: "اختلاف".
(9) في الأصل: "الخيار".
(10) يستشعره: أي الخطر المفهوم من الكلام.
(11) في الأصل: "وزيفوا".
(12) في الأصل: "بأن".(16/446)
إنسان، ويغلب أن يقع فيه، فإذا وقع، ففي وجوب القصاص خلاف رمزنا إليه فيما تقدم، وسنعيده في مسائل البئر، إن شاء الله عز وجل.
ومسألة سقوط الصبيّ من طرف الجدار [أولى] (1) من مسألة البئر في المضيق بوجوب القصاص؛ فإن التردي يقع بفعلٍ من الذي يتخطّى ويقع، والصبي إذا صيح به، أخذته هزّة ورعدة تُزيل إمساكه، فكان هذا أولى بالنسبة (2) إلى الصائح.
وما ذكره الأصحاب في صبي لا يميز، أو كان ضعيف التمييز، بحيث يبعد منه أن يتماسك، فلو كان مراهقاً، فهو في معنى الكبير، والكبير إذا كانت تعتريه الوساوس، وكان مرعوباً بحركة أدنى شيء [قد] (3) يكون في معنى الصبي.
[وانقضى] (4) ما علينا في ضبط الأصول وردّ الوقائع إليها.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر أن الصور تفرض على وجه واحد، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، والتعويل على ما يقع، ثم يحكم الفقيه في كل حالة بما يليق بها، والصوت يلتحق بالضرب الذي يتعلق بالظاهر، فإن كان مما يقصد به الهلاك غالباًً، فهو موجب للقود.
وإن كان لا يغلب الهلاك منه، ولكن يمكن أن يصار إليه، فهو شبه عمد، وإن رجع التردد إلى ظن الناظر، فهذا يثور منه الخلاف، وبيانه أن الإنسان إذا كان يقطع بأن وقوع الهلاك ممكنٌ من هذا، ولم يقطع بأن هذا الواقع وقع بما جرى، فكون السبب مما يمكن وقوع الهلاك به معلوم، واتفاق الوقوع مظنون، فهذا موضع القطع، وإن وقع الفكر في أن هذا يمكن انتساب الهلاك إليه، فهذا النوع من التردد [يثمر] (5) خلافَ الفقهاء، وهذا مما يجب إنعام النظر فيه.
ولو صاح على صبي، وهو على الأرض، فمات، فقد أجرى بعض الأئمة هذا
__________
(1) في الأصل: "أقل".
(2) أي أولى أن ينسب السقوط إلى الصائح.
(3) في الأصل: "وقد".
(4) في الأصل: "واقتضى".
(5) في الأصل: "يتميز".(16/447)
مجرى السقوط عن الجدار في التفصيل، وهذا غير سديد؛ فإن الارتعاد والسقوط أظهر في الإمكان من الموت بالصوت من غير فرض سقوط.
وإذا صاح بالصبي وأزال عقله، فالأمر على ما ذكرناه، وهذا أقرب إلى الإمكان من الموت.
وزوالُ العقل والموت لا يفرضان من الكبير المتماسك؛ فإن وقع، حُمل على موافقة القدر، وليس كالسقوط من حرف الجدار؛ فإن الإمكان قد يتطرق إليه في بعض الصور.
وقد تمهد للناظر مسالك النظر.
10695- ولو طلبه رجل بسيفه، فولّى وهرب وألقى نفسه إلى ماءٍ أو نارٍ، أو ألقى نفسه من شاهق، فلا يجب الضمان في هذه المواضع؛ فإن المطلوب أهلك نفسه بفعله، والذي كان يحاذره من الذي يتبعه الهلاكُ، وقد أوقع بنفسه ما كان يحذره من المتبع، وهذا بمثابة ما لو أكره رجل رجلاً على قتل نفسه، وقال: إن قتلت نفسك، وإلا قتلتك، فإذا قتل نفسه، لم يضمنه المكرِه، لما أشرنا إليه.
ولو طلبه بسيفه في [فلاة] (1) ، فولّى، فتلقاه سبع وافترسه، فلا يضمنه المتبع؛ فإن هذا مضاف إلى السبع، وفعلِه، ولم يوجد [من] (2) المتبع إهلاك، وليس هذا كما لو أغرى به سبعاً في مضيق، كما تقدم التصوير فيه، أو كما [لو أنهشه حيّة] (3) وذلك بيّن.
ولو كان المطلوب على سطحٍ، فولّى، فسقط من السطح، قال الأئمة: إن كان المطلوب أعمى أو بصيراً، ووقع ذلك في ظلمة الليل، فهذا يتميز عما قدمنا ذكره، من إلقائه نفسه في ماء أو نار أو من شاهق، فإنه في تلك المسائل أهلك نفسه، وقصد
__________
(1) في الأصل: "هذا".
(2) في الأصل: "في".
(3) في الأصل رسمت هكذا: "لو اـ ـسد حـ ـه" هكذا تماماً رسماً وبدون نفط. والمثبت من معاني كلام الإمام فيما سبق، حيث كانت تقترن هذه الصورة بتلك، ثم إن هذا الرسم الحائل المصحف يعطي هذا الذي أثبتناه، فهو هو إن شاء الله.(16/448)
إلقاء نفسه؛ فجرى الجواب كما تقدم، وفي هذه المسألة سقط ولم يُسقط نفسَه قصداً، ولسنا ننكر أنه بتخطيه ووضعه للرِّجل على الهواء سَقَط، ولكنه لم يقصد ذلك، فأضيف ما جرى إلى من ألجأه.
وليس ذلك بدعاً؛ وقد وضح أن من تردى في بئر محفورة في مخل عدوان فالسبب مضاف إلى حافر البئر، وإن كان المتردي هو الذي تخطى في جهة البئر حتى تردّى، فنجعل اتباع الطالب في الصورة التي ذكرناها بمثابة احتفار البئر، وهذا يؤكد كون [التغرير] (1) سبباً في إيجاب الضمان، وقد أجرينا ذلك في مسألة [تقديم] (2) الغاصب الطعامَ إلى إنسان في (الأساليب) وغيرها من المصنفات في الخلاف.
10696- ومما ذكره الأئمة أنه لو طلبه بسيفه، فعدا على الأرض، فتردّى في بئر، فإن كان في ليلةٍ ظلماء، فهو كما ذكرناه في السقوط من السطح، وإن كان ذلك نهاراً، فإن ردّى نفسه في البئر، فقد مضى هذا، وهو بمثابة ما لو ردّى نفسه من شاهق، وإن لم يُردِّ نفسه، ولكنه لم يتأمل البئر بين يديه، فتردّى والبئر مفتوحة، فالذي ذكره الأئمة أن الضمان لا يتعلق بالطالب وفعله، وقد ذكرنا ذلك في التردّي من السقف نهاراً.
ويعترض في هذا إشكال، وهو أن الفقهاء أطلقوا أن من تردّى في بئر محفور في محل عدوان، تعلّق الضمان بعاقلة [الحافر] (3) ، ولم يفصلوا بين أن يتفق ذلك نهاراً أو ليلاً، وهذا يقتضي أن يقال: إذا كان المطلوب محمولاً مُلْجأً على العَدْو، فهو لا يتفرغ والحالة هذه إلى تأمل المخطَى الذي [يعدو فيه] (4) ، فكان يجب أن يضاف تردّيه إلى طلب الطالب إياه بالسيف، وليس [إلى] (5) الضمان بحفر البئر من غير فرق
__________
(1) في الأصل: "التقرير".
(2) في الأصل: "تغريم".
(3) في الأصل: "الحر".
(4) في الأصل: "بعد ما فيه".
(5) في الأصل: "على".(16/449)
بين الليل والنهار في وقوع التردي، ولا [يبعد] (1) حَمْل التردِّي على [اتباع] (2) الطالب، حتى يتمهد عذر المتردِّي في ترك التحفظ.
وهذا فيه نظر؛ فليس الحمل على الهرب [بأبعد من] (3) أن يكون سبباً من حفر البئر في [أصله] (4) .
وإن قيل الضمان بحالٍ على حافر البئر، فهو بعيد أيضاًً؛ فإن التخويف بالسيف أحق بأن يحال عليه التردِّي من حفر البئر، فليتأمل الناظر ذلك.
وقد قال الأصحاب: لو طلبه بسيفه، فقدّر [أن يتخطّى] (5) بئراً، فغطاه، فانهار فيها، فالضمان يتعلق بطلب الطالب، وهذا يدل من كلام الأئمة على أن البئر إذا كانت مفتوحة، فالتردي منسوب إلى المتردِّي من حيث ترك التصوّن، وإذا كان البئر مغطاة، فالتردِّي محال على المُلجىء الطالب.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنا إن قلنا في المتردي في البئر المحفورة: إذا تردّى نهاراً [لا يضمن أو نفصل] (6) بين البصير والأعمى نهاراً، فينتظم الكلام في المسائل على نسق. والذي نتخذه [مذهباً] (7) الفرق بين الليل والنهار، وبين أن تكون البئر مغطاة أو مفتوحة، وهذا متجه لا بأس به، وبقي النظر في حفر البئر والتردِّي فيه إذا انتهينا إلى مسائل البئر، أنعمنا النظر في ذلك، إن شاء الله عز وجل.
10697- ومما ذكره الأئمة رضي الله عنهم أنه لو اتبع إنساناً على سطح فولّى، فانخسف به السطح، فلا يتعلق بالطالب ضمان، بخلاف ما لو كان الهارب في الطريق، فتخطى بئراً مغطاة، فانهار، فإن الضمان يتعلق بالطالب. ثم فرق
__________
(1) في الأصل: "ينفذ".
(2) في الأصل: "إيجاب".
(3) في الأصل: "فأبعد في".
(4) في الأصل: "أهله".
(5) في الأصل: "فقدر تخطى".
(6) في الأصل: "لا يتضمن أوتفصيل".
(7) في الأصل: "هاهنا".(16/450)
الأصحاب بأن البئر المغطاة ليست محلّ مقام وتخطٍّ، فإذا ألجأ الطالب المطلوبَ إليه، فقد تسبب إلى إهلاكه، وليس السطح بهذه المثابة، فإنه محل تردّدٍ (1) وإقامة، فإذا اتفق الانخساف فيه، لم يكن الطالب منسوباً إلى الإلجاء إلى سبب الهلاك.
وهذا فيه إشكال؛ فإنه لاينخسف موضع في السقف -وإن أُضعف، فقد صار ذلك الموضع في معنى البئر المغطاة-[ولو كنا] (2) نقول: إن علم الطالب أن على طريق المطلوب بئراً مغطاة، فحينئذ يتعلق بفعله الضمان، وإن لم [يعلم] (3) ، لا يتعلق به الضمان، لكان ما ذكرناه في السقف سديداً، وإن كنا لا نفرق في البئر المغطاة بين أن يعلم الطالب بها وبين ألا يعلم؛ فإنه [يجدّ] (4) في طلبه متعرضاً [للفداء] (5) ملتزماً بسلامة العاقبة، وهذا هو الفقه.
فقياس ذلك يقتضي أن يقال: إذا انخسف [السقف] (6) لضعف موضع منه لم يشعر به، فيجب أن يتعلق الضمان بهذا الطالب، فهذا تمام الكشف في ذلك.
10698- ومما ذكره الأصحاب أن السلطان إذا هدّد امرأة حاملاً، وتوعدها بشيء بلغه منها، فأَجْهَضَتْ جنيناً، تعلق الضمان بذلك، [كان هذا] (7) للإمام، [فحقه] (8) في توعده بمثابة ما لو عزّر الإمام إنساناً، فهلك فيه، وسيأتي تفصيلٌ في كتاب الحدود -إن شاء الله عز وجل- وقد روي: "أن عمر بنَ الخطأب رضي الله عنه أرسل إلى امرأة بلغه منها فجورٌ وهددها، وكانت ترقَى في سلّم، فسقطت وأجْهَضَتْ. جنيناً، فجمع
__________
(1) المعنى أن السطح مجالٌ للتردّد فوقه ذهاباً وجيئة، والإقامة والعيش فوقه، بخلاف البئر المغطاة.
(2) في الأصل: "ولكنا". ولا تستقيم العبارة إلا بما أثبتناه.
(3) في الأصل: "يفعل".
(4) في الأصل: "متحد".
(5) في الأصل: "للغذاء".
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: "وكان هدفاً".
(8) في الأصل: "فحق".(16/451)
عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاورَ. فقال عبد الرحمن: إنك مؤدِّب ولا شيء عليك، فقال علي: إن لم يجتهد، فقد غشك وإن اجتهد، فقد أخطأ، أرى عليك الغرة" (1) وغرض هذا الفصل مما ذكرناه أن هذا مما يعد من الأسباب المؤدية إلى الهلاك.
ولو توعد رجلاً، وكان المتوعِّد مهيباً، فإذا وقع الوعيد من المتوعَّد موقعاً، وأفضى إلى هلاكه، فالضمان يتعلق به؛ فإن وقوع الهلاك من هذا السبب ليس بدْعاً، والذي يوضح ذلك ويحققه أن من أكره إنساناً على قتلٍ، فأحكام الإكراه تثبت بوعيد يصدر من المكرِه [قد يفي به] (2) وقد لا يفي، ولكن إذا غلب على الظن وفاؤه به، كان بإكراهه قاتلاً (3) ، وفي المكرِه التفصيلُ المشهور.
ثم هذه الأسباب التي ذكرناها، وقضينا بكونها مضمّنة، فهي تقع شبه عمد على ما سنعيد في باب من العواقل مراتب الأفعال في وقوعها عمداً وخطأ وشبهَ عمد، ونوضح حكمَ كلِّ مرتبة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
10699-[إذا أخذ صبياً حُرّاً] (4) وتركه في مَسْبَعة ولم يقدمه إلى سَبُع ضارٍ، وتركه في مضيعة، فافترسه سبع: فإن كان الصبي بحيث يتأتى منه المشي والانتقال عن المَهْلكة، فاتفق هلاكُه في تلك البقعة، فلا ضمان على حامله، فإنه لم يُهلكه، ولم
__________
(1) أثر عمر رضي الله عنه رواه عبد الرزاق في مصنفه 9/458 ح 18010، والبيهقي في سننه الكبرى تعليقاً (8/107) وبلاغاً عن الشافعى (8/322) وانظر: البدر المنير: 8/493، التلخيص: 4/69 ح 1968.
(2) في الأصل: "فلو يفي به".
(3) يدلل الإمام بذلك على أن الموت إذا وقع على أثر تهديد كان محالاً عليه، ويلزم المهدًد الضمان.
ولكن (المشهور) في المذهب أن هذا السبب لا يفضي إلى الهلاك، بخلاف الإجهاض.
قاله الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 10/417) .
(4) في الأصل: "إذا حد صبياً حداً".(16/452)
يصدر منه سبب يعد مهلكاً، وإنما الذي انتسب إليه التضييع، واليد لا تثبت على الحرّ، [فامتنعت] (1) أسباب الضمان.
ولو كان الصبي بحيث لا يتأتى منه الحركة والانتقال، وقد ألقاه في مضيعة، فهلك فيها [بسبع] (2) ، فقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أن الضمان يجب، لأن هذا سبب ظاهر في الإهلاك عُرفاً، ولعله أبلغ من احتفار بئر في مسلك الطارقين.
والوجه الثاني - أنه لا يغرم؛ فإن اليد لا تثبت على الحر ولم يوجد منه سبب هو أهلكه.
10700- وقد ذكر العراقيون صورة متصلة بما نحن فيه، فقالوا: لو سُلّم صبي إلى إنسان سباح ليعلمه السباحة، فأخذ يعلّمه، فغرق، فالواجب الضمان متعلقاًً [بأستاذه] (3) ، وزعموا أن ذلك من الأستاذ نازل منزلة ما لو كان يؤدبه، فأفضى التأديب إلى الهلاك، وزعموا أن اليد تثبت على الصبي الحر، ثم قالوا: لو كان بالغاً، فهلك، فلا ضمان؛ فإن البالغ [يستقل] (4) بنفسه، ولا تثبت اليد عليه.
والذي ذكروه في البالغ سديد، لا منازعة فيه، فأما ما ذكروه في الصبي، فإن ألقاه في الماء، وكان [يعلمه] (5) السباحة، فإلقاؤه إياه يوجب الضمان، على تفاصيل ذكرناها في صدر كتاب الجراح، وإن أشار عليه من غير إكراه، فدخل الماء، وهو مهلك، فهذا فيه احتمال، والذي ذكره العراقيون توجيه الضمان، وشبهوه بالتأديب، وأطلقوا في أثناء كلامهم أن الصبي تثبت عليه يد الأستاذ، وثبوت اليد [غير] (6) سديد، أما ربط الضمان بإلزامه التعليم وعدم الاستقلال للصبي بنفسه، فغير
__________
(1) في الأصل: "فانبعثت".
(2) في الأصل: "بسبب".
(3) في الأصل: "بإسناده".
(4) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(5) في الأصل: "يعلم".
(6) في الأصل: "عندي"، والمثبت من كلام الرافعي حاكياً إياه عن الإمام، قال: "وأبدى الإمام هذا الوجه احتمالاً (أي الضمان) وقال: الحر لا تثبت عليه اليد". (ر. الشرح الكبير: 10/42) .(16/453)
بعيد، وقد قالوا: إذا كان بالغاً، لم يجب الضمان أصلاً، ويحتمل أن يقال:
لا يجب الضمان في الصبي المميز في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لم يوقع بالصبي فعلاً، وإنما الصبي دخل الماء من غير إكراه، والمسألة محتملة وسنذكر في باب حفر البئر سرّ القول في الأسباب التي يتعلق الضمان بها، ونكثر الأمثلة والمسائل، إن شاء الله.
فصل
قال: "ويقال: لسيد أم الولد ... إلى آخره" (1) .
10701- ونتكلم في القن إذا جنى، ثم نذكر أم الولد إذا جَنَتْ. فأما العبد القن إذا جنى أو أتلف مالاً، فما يلزمه من المال يتعلق برقبته لا محالة، ثم السيد له مسلكان: أحدهما - أن يسلم العبد ليباع في الجناية. والثاني - أن يفديه. فإن أراد أن يفديه، فبم يفديه؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش أو قيمة العبد. والقول الثاني - أنه يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ وإن زاد على القيمة.
توجيه القولين: [من قال] (2) : نفديه بالأقلّ وهو المنصوص عليه في الجديد احتج بأن الأرش إن كان أقل، فلا يخفى أنه لا يلتزم غيرَه، وإن كانت القيمة أقل، فلا يلتزم أكثر منها، فإنه لو سلم العبد ليباع، انقطعت الطّلبةُ عنه، فإذا أراد أن يفديه، فلا يلزمه إلا قيمة [بيعه] (3) ، ولم يسلمه.
ومن نصر القول القديم، فلا تعلق له إلا أن العبد لو سلم وبيع [فربما] (4) يشتريه زَبُونٌ بأكثر من قيمته. فإذا منعه -ثم لا منتهى يقف عنده في توقع ما يُشترَى به- فالوجه أن نقول: يجب الأرش بالغاً ما بلغ.
__________
(1) ر. المختصر: 5/138.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: "ما معه".
(4) في الأصل: "قديماً".(16/454)
10702- وقال القاضي: ينبغي أن يُتلقى القولان من التردّد في أن الجناية هل يتعلق أرشها بذمة العبد أم لا تعدو رقبتُه؟ وقد ذكر أصحابنا في ذلك وجهين: أحدهما - أن الجناية يتعلق أرشها بذمة العبد ورقبته مرتهنة. والثاني - أنه لا يتعلق بذمته.
ومن أدنى آثار الخلاف في ذلك أنه لو عتق يوماً من [الدهر] (1) ، وكان بقي من أرشه [شيء] (2) ، فهل يطالب بتلك البقية أم لا؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه. فالوجه الثاني - أنه لا يطالب إذا عتق؛ فإن الأرش لو كان يتعلق بذمته، لما تعلق برقبته كسائر الديون التي تلزم الذمة في المعاملات الصادرة عن [إذنٍ] (3) ، وقد يقول هذا الإنسان: ذمة العبد إنما يتعلق [بها] (4) الحقُّ إذا امتنع [تعلقه] (5) بالرقبة.
وما ذكرناه من تردد الأصحاب أخذوه استنباطاً من القواعد، ولا نص للشافعي فيه، ثم زعموا أن القولين مأخوذان من هذا الأصل، ومعناه أن حقيقة القولين ترجع إلى ذلك، ووجهه أنا إن منعنا تعلق الأرش بالذمة، [فلا وجه إلا التعلق بالرقبة] (6) .
وإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد [فيد] (7) السيد بمثابة الضمان عن العبد. ومن أراد التخليص من دين، فينبغي أن يضمنه بكماله وتمامه، وكأن الأرش لزم ذمة العبد، وصارت الرقبة مرهونة بجميعه، فإذا أراد السيد فكَّ الرقبة، فلا بد من أداء جميع الدين، حتى تنفك الوثيقة.
وقال بعض الأصحاب: الخلاف في أن الأرش يتعلق بالذمة، وهذا أصل يبين
__________
(1) في الأصل: "الرهب" والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "عن إذن أصحاب وقد نقول" ... (ولعله خرم أو تصحيف) .
(4) في الأصل: "لما".
(5) في الأصل: "تعلقها".
(6) ما بين المعقفين من تصرف المحقق مكان بياضٍ بالأصل، وخلل في السياق.
(7) فى الأصل: "فيه".
* تنبيه: تذكّر أن نسخة الأصل وحيدة، فليس ما تراه في الحواشي فروقَ نسخ، وانما المثبت في الصلب من استكناه المحقق وتصرّفه. والله الهادي إلى الصواب.(16/455)
تفريعه، وهذه العبارة مختلة؛ فإن المصير إلى أن الأرش يتعلق بالذمة ليس فرعاً لأصل، وإنما هو حقيقة القولين ومعناهما.
هذا حاصل [ما] (1) ذكروه. وفي البناء خلل؛ من جهة أن الأصح أن الأرش يتعلق بذمة العبد وأن العبد يطالب إذا عتق، والأصح أن السيد يفدي بأقل الأمرين، فلا ينتظم البناء للوجه الذي ذكرناه، والأولى الاقتصار على التوجيه الذي ذكرناه في صدر الفصل.
10703- ومما يتعلق بالتفريع على هذا الأصل أن السيد [إذا جنى عبدُه] (2) ، [فهل] (3) يلزمه أن يفديه؟ فعلى القولين: فإن سلمه [ليباع] (4) ، فلا يلزمه غيره، وإذا قال: اخترت فداه، فهل يلزمه الوفاء به أم هو على خِيرته إن شاء وفا، وإن شاء سلم العبد؟ ظاهر المذهب أنه بالخيار، ولا يصير ملتزماً وإن اختار.
ومن أصحابنا من قال: إذا قال: اخترت الفداء، لزمه الوفاء بما قال، ولا يشترط هذا القائل أن يقول: التزمت، بل إذا قال: اخترت، كفى ذلك، وكذلك لو قال أنا أفديه، فصيغة الوعد الجازم كافية، وإذا لم نشترط الالتزام، فقوله: اخترته بمثابة قوله: أنا أفديه.
10704- ثم مما فرعه هؤلاء أن جارية لو جنت، فوطئها مولاها، فهل يكون الوطء [اختياراً] (5) أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يكون اختياراً، كما لو وطىء البائع الجارية المبيعة في زمان الخيار، فإن وطأه يكون اختياراً [للفسخ] (6) ولو وطىء المشتري، كان ذلك اختياراً منه لإلزام العقد.
والثاني - أنه لا يكون الوطء اختياراً؛ فإن تعلّق الأرش لم يثبت باختياره وقصده،
__________
(1) في الأصل: "مما".
(2) في الأصل: "إذا جنى على عبده".
(3) في الأصل: "فلا".
(4) في الأصل: "لسباع".
(5) في الأصل: "إجباراً".
(6) في الأصل: "للقسم".(16/456)
والخيار يثبت شرطاً، وخيار المجلس وإن كان شرعاً، فهو مترتب على عقد ثبت اختياراً، وكل ذلك خبطٌ، لست أرى الاعتداد به، والمذهب (1) أن الفداء لا يلزم باختياره.
ومما يتفرع على هذا المنتهى أنا إذا قلنا: لا يلزم الفداء بالاختيار، فلو قال: التزمت الفداء، فهل يلزم ذلك؟ إن قلنا: الأرش لا يتعلق بالذمة، ولا يفيد لفظ الالتزام شيئاًً، [فإن الأرش يبقى] (2) برقبة العبد، وللسيد الفداء إن شاء.
فإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فهل يصح ضمانه حتى لو قال أجنبي: ضمنت الأرش، يلزمه الوفاء به؟ هذا فيه تردد عندي، مأخوذ من كلام الأئمة، يجوز أن يقال: يصح الضمان، كما يصح الضمان عن الميت المعسر الذي لم يخلف شيئاًً، والعبد يرجو أن يعتق ويتمول [وآماله متوقعة] (3) ، وإن صح الضمان عن الميت المعسر، فلأن يصح عن العبد أولى.
ويجوز أن يقال: لا يصح الضمان؛ فإنا وإن أطلقنا الذمة، فهو على تقدير التوقع والترقب بتقدير العتاقة، ولو لزم ذمّةَ العبد دينٌ غيرُ متعلق برقبته، ففُرض ضمانه، فالضمان في هذا النوع أولى بالصحة من الضمان في الأرش، ولا خلاف أنه يصح ضمان ما يتعلق بكسب العبد، وهو مايلتزم بإذن السيد، كالمهر في النكاح الصحيح، والوجه تصحيح الضمان عن العبد مهما (4) حكمنا بتعلق الأرش برقبته، هذا فيه إذا كان الضامن أجنبياً.
فأما إذا كان الضامن هو السيد، وذكر لفظاً مضمونه الالتزام، فهذا عندنا مرتبٌ على ضمان الأجنبي، ولعل الأصح أنه يصح منه الضمان والالتزام لتعلق ذلك بملكه.
والله أعلم.
__________
(1) عبارة الأصل: "وهو المذهب أن الفداء" ...
(2) في الأصل: "فإن الأرش لا يبقى".
(3) في الأصل: "وآمال مضمونة". وهو تصحيف واضح.
ثم المعنى المقصود أن آمال العبد في العتق والتمول غير منقطعة بخلاف المعسر، فإذا صح الضمان عن الميت المعسر، فمن باب أولى يصح عن العبد.
(4) مهما: بمعنى إذا.(16/457)
10705- ومما يتعلق بتمام التفريع في ذلك أنه لو أعتق السيدُ العبدَ الجاني، وقلنا: إنه ينعقد العتق فيه، [فالأصح] (1) أنه لا يلتزم إلا الأقل، والسبب فيه أن أجنبياً لو قتله، لم يلتزم أكثر من قيمته، وإعتاق السيد بمثابة إتلافه، فيبعد أن يلتزم السيد بإعتاقه مملوك نفسه أكثر مما يلزمه الأجنبي بقتله، وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من أجرى في الإعتاق القولين أيضاًً، ويصير السيد بالإعتاق ملتزماً للأرش -على أحد القولين- بالغاً ما بلغ.
ولو قتل السيد العبدَ الجاني، فالوجه القطع بأنه لا يلتزم إلا الأقل في هذا الباب، [ومن أصحابنا] (2) من أجرى القولين فيه إذا قتله، وأما إذا باع العبدَ الجاني، فقد ذكرنا في كتاب البيع تفصيلَه على بيانٍ شافٍ، فليطلب في موضعه.
ولو قتل أجنبيٌ العبد الجاني، والتزم قيمته، فيتعلق حق المجني عليه بقيمة العبد حسَب تعلقه برقبته، ثم السيد على التخيير في ذلك، كما أنه متخير في الرقبة، فإن سلم البدل [بعينه] (3) ، فهو كتسليمه العبد، وإن أراد أن يؤدي الأرش من سائر ماله، فله ذلك، كما للوارث أن يفعل ذلك في أعيان التركة المستغرَقة، وكل ما ذكرنا في العبد القن إذا جنى.
10706- فأما أم الولد إذا جنت، فبيعها غير ممكن، ولكن أجمع أئمتنا على أن السيد يلزمه الفداء، وهذا مما يغمض تعليله؛ من جهة أن السيد تصرّف في ملك نفسه، واستولد جاريته، فإلزامه الفداء بسبب جناية تصدر منها بعد الاستيلاد بعيدٌ عن قياس الأصول، ولكنه متفق عليه بين أصحابنا.
ثم إذا ألزمناه الفدية، فقد اختلف أصحابنا فيما يلتزمه، فذهب المحققون إلى القطع بأنه لا يلتزم إلا الأقل، ومن أئمتنا من قال: فيما يلتزمه السيد قولان كالقولين
__________
(1) في الأصل: "والأصح".
(2) في الأصل: "إن من أصحابنا".
(3) في الأصل: "في عينه".(16/458)
في العبد القن؛ فإنه بالاستيلاد السابق، صار مانعَها من البيع عند الجناية. ثم ذكر الشيخ أبوعلي أن القيمة المعتبرة في الفداء للمستولدة هي قيمة يوم الاستيلاد، واعتل بأن قال: إنما صار السيد مانعاً يوم الاستيلاد، وذلك المعنى لا يتجدد، فينبغي أن نعتبر [قيمة يوم الاستيلاد] (1) ، وهذا الذي ذكره غيرُ متجه عندي، والذي كان يرتضيه شيخي أن الاعتبار [بقيمتها] (2) يومَ الجناية؛ فإن اعتبار قيمةٍ متقدمة على الجناية بعيد عن التحصيل. نعم، يجوز [أن] (3) نجعل السيد بالاستيلاد المتقدم [مانعاً حال] (4) وقوع الجناية، وهذا أقيس وأفقه [مما] (5) ذكره الشيخ أبو علي.
فقد تحصّل وجهان كما ذكرناه: على طريقة شيخي نعتبر قيمته وقت الجناية، فإن الفداء في المستولدة بالجناية، ولا حاجة إلى تقدير اختيار الفداء، فإنه لا وجه له غير الضمان (6) .
10707- ومما نفرعه على جناية المستولدة [أنه] (7) لو جنت أم الولد، ففداها، ثم جنت مرة أخرى، فهذا يستدعي تقديم حكم العبد القن في تكرر الجناية، فنقول: إذا جنى عبدٌ مراراً، فلا يخلو إما أن يجني ويفديه ثم يجني، وإما أن تصدر منه جنايات ولا يتخللها الفداء.
فإن جنى مراراً، ولم يتخلل الفداء، ثم توجهت الطلبة، فأروش الجنايات وإن كثرت بمثابة الجناية الواحدة، فيجري القولان في أنه بكم يفديه؟ أحدهما - أنه يفديه
__________
(1) في الأصل: "قيمته يوم الإتلاف" والمثبت من تصرف المحقق على ضوء كلام الرافعي (ر. الشرح الكبير: 10/500) .
(2) في الأصل: "بقيمته".
(3) زيادة لاستقامة الكلام.
(4) مكان بياضٍ بالأصل ثم هي من لفظ الغزالي في البسيط.
(5) في الأصل: "بما".
(6) والوجه الثاني هو ما سبق عن الشيخ أبي علي.
(7) في الأصل: "فأنه".(16/459)
بأقل الأمرين من الأروش والقيمة مرة واحدة. والقول الثاني - أنه يفديه بالأروش بالغة ما بلغت، [أو يسلم] (1) العبد ليباع في الأروش.
فإن جنى العبد، ففداه السيد على القولين كما تقدم، فإذا جنى مرة أخرى، فأراد فداه على الترتيب الذي فداه في المرة الأولى، فلا أثر لما تقدم ولكل جناية حكمها، [وإن تقدم فداء] (2) الجناية المتقدمة، والسبب فيه أنه مانعٌ عند كل جناية منعاً جديداً، فيقتضي كلُّ منع فداءً مستقلاً، هذا حكم العبد إذا تكررت منه الجناية.
فأما المستولدة إذا تكررت منها الجناية، فلا يخلو إما أن يتخللها الفدية أو لا يتخللها الفداء، فإن اجتمعت جنايات ولم يتخللها الفداء، فجميع الجنايات كجنايةٍ واحدة، كما تقدم.
فإذا جنت أم الولد جناية أرشُها مثلُ قيمتها، ففداها المولى، ثم جنت جناية أخرى أرشها مثل قيمتها أيضاً، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا يلزم السيد أن يفديها مرة أخرى بعد ما [بذل] (3) قيمتها في الفداء، فإنه إنما التزم الفداء لأن [الاستيلاد] (4) في حكم الإتلاف والاستيلاد لا يتكرر، ولا يتعدد (5) ، [فعلى هذا
_________
(1) في الأصل: "وإن سلم".
(2) في الأصل: "وإذا تقدم بناء".
(3) في الأصل: "نزل".
(4) في الأصل: "الاشتراك".
(5) المعنى أنه باستيلاده الجارية، وما ترتب عليه من عدم جواز بيعها كان في حكم المتلف لها على المجني عليه، فإذا التزم قيمتها بجنايتها الأولى، فلا يتكرر الطلب عليه ولا يلتزم شيئاًَ بجنايتها الثانية، فإن التزام حكم الإتلاف لا يتجدد.
وعبارة الرافعي في المسألة توضح ذلك، قال: "والقول الثاني أنه لا يجب إلا الأقلُّ من القيمة، ولا يتكرر الفداء، لأنه إنما أوجبنا الفداء تنزيلاً للاستيلاد منزلة الإتلاف، والمنع من البيع، وإتلاف الشيء لا يوجب إلا قيمة واحدة، وإذا قلنا بهذا فيشارك المجني عليه ثانياً المجني عليه الأول فيما أخذه، ويقسم جملة الواجب بينهما على ما يقتضيه الحال" (ر. الشرح الكبير: 10/502) .
وعبارة الغزالي في البسيط: "والقول الثاني أنه لا يتكرر الفداء، بل يشارك المجني عليه الثاني الأول، ويجمع بينهما، فإن المنع بالاستيلاد، وهو متحدٌ، فلا يتكرر الفداء عليه، وهذا إذا ضمن كمال القيمة بالفداء الأول، فإن بقيت بقية من القيمة فَبَذْلُ ذلك القدر واجب، =(16/460)
يشارك] (1) المجني عليه الثاني الأولَ فيما أخذه، يشتركان فيه، كما سنذكره في التفريع.
والقول الثاني - أن السيد يلزمه أن يفدي مرة أخرى، ولا يسترد من الأول ما أخذه وتنزل المستولدة منزلة العبد القن، وقد ذكرنا أن العبد إذا تكررت منه الجناية، وتخلل الفداء تتجدد الجناية.
توجيه القولين: من قال لا يلزم السيد أكثر من القيمة مرة واحدة، استدل بما ذكرناه من اتحاد [سبب] (2) الضمان وهو الاستيلاد، ومن نصر القول الثاني احتج بأن السيد مانعٌ عند كل جناية بحكم الاستيلاد السابق، [فيتعدّد] (3) ، المنع على هذا التقدير.
التفريع على القولين:
10708- إن قلنا: إن الفداء يتعدد، فلو جنت أم الولد، ففداها بمثل قيمتها، فجنت مرة أخرى، فيفديها كما فداها أولاً، ولا يُسترد من الأول شيء [مما] (4) أخذه.
وإن قلنا بالقول الثاني [فإن] (5) كان الفداء [الأول] (6) مثلَ القيمة، فقد انتهى غُرْم المولى، فإن جنت مرة أخرى جناية توجب القيمة، فالثاني يشارك الأول ويسترد منه نصفَ ما أخذ، ولا [يتميز] (7) الأول بسبب تقدّمه، بل يقسمان الفداءَ الأول على قدر
__________
= وما زاد فيتضاربان فيه" (ر. البسيط: 5 ورقة: 86 شمال) .
(1) في الأصل: فعلى هذا لا يشارك.
(2) في الأصل: "نسب".
(3) في الأصل: " فيتعذر ". والمعنى أن وجوب الفداء على السيد بسبب منعه تسليم العبد لبيعه في الجناية، فإذا تعدد المنع تعدد وجوبُ الفداء.
(4) في الأصل: "فيما".
(5) في الأصل: "وإن".
(6) في الأصل: "التداول".
(7) في الأصل: "يرجع".(16/461)
أرش الجنايتين، [فإن] (1) كان الأرش الأول ألفاً والثاني ألفاً، فهو بينهما نصفان، وإن كان أرش الجناية الأولى ألفاً والأرش الثاني خمسَمائة، فالألف المبذول بينهما ثلث وثلثان، وعلى هذا البابُ وقياسُه.
ومما يليق بما نحن فيه أن الذي غَرِمه أوّلاً [إن] (2) لم يبلغ تمام قيمة المستولدة، فجنت جناية أخرى، فيجب على المولى تتمة القيمة، ثم يضم الآخر إلى الأول ويقسم بينهما على أقدار الأروش.
وبيان ذلك بالتصوير أن الجناية الأولى كان أرشها خَمسمائة وقيمتها (3) ألفٌ، وقد غرم المولى خَمسمائة، فجنت جناية أخرى أرشها ألف، فيغرم المولى خَمسمائة، ولا يزيد، ثم يأخذ المجني عليه [الثاني] (4) من الألف الذي غرمه المولى -بدفعتين- ثلثاه، وهو ستة وستون وستمائة درهم وثلثا درهم.
وقد بان الغرض بما ذكرناه، نبهنا بالمسائل التي صورناها على أمثالها.
10709- ثم إن المزني اختار من القولين أن السيد يغرَم بكل جناية أرشَها، أو ما يقتضيه الفداء فيهما ابتداء، ولا يسترد المتأخر من المتقدم شيئاً.
وقال: إذا ملك المجني عليه الأولُ الأرشَ الذي سُلّم إليه، فيبعد أن يقال: يُنقض ملكه بسبب جناية أخرى تتفق، وأتى بلفظه المعهود منه في الإعراب عن نهاية الاستبعاد (5) . وقال: "نقضُ ملك الأول ليس بشيء" (6) .
[فيقال] (7) له: أما إلزام المولى أصل الفداء، فمشكل من طريق المعنى
__________
(1) في الأصل: "وإن".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) أي أم الولد الجانية.
(4) في الأصل: "الباقي".
(5) اللفظ الذي يشير إليه الإمام، هو قول المزني: "هذا ليس بشيء" وهذا اللفظ يتكرر من المزني دائماً -فى المختصر- تعبيراً عن استبعاده للقول الآخر.
(6) ر. المختصر: 5/138. ونص عبارة المزني: "فهذا عندي ليس بشيء، لأن المجني عليه الأول قد ملك الأرش بالجناية، فكيف تجني أمة غيره، ويكون بعض الغرم عليه".
(7) في الأصل: "فقال".(16/462)
[جدّاً] (1) ، كما تقدم ذكره في صدر الفصل، ثم إن لم يكن من الفداء بد، فالزيادة على قيمةٍ واحدة ولم [يوجد] (2) الاستيلاد إلا مرة واحدة بعيد. وإذا أوجبنا ألا نزيد على قيمة المستولدة في تغريم المولى، وهذا قياس بيّن، [فالتزاحم] (3) بعد هذا القياس ليس ببعيد؛ إذ لا [يستقيم] (4) بعد ما مهدناه - غيرُه.
ورب شخص يملك شيئاً في ظاهر الأمر، وهو موقوف مراعى (5) ، وهذا بمثابة ما لو كان حفر رجل بئراً في محل ضمان وعدوان، ومات وخلف ألف درهم، فتردى في البئر -بعد اقتسام الورثة الألفَ-[متردٍّ] (6) قيمتُه ألف، فتُنقض [قسمة] (7) الورثة، وتُصرف الألف إلى جهة الغرامة، فهذا نقضُ ما في (8) أقل التصور، فلو [تردّى] (9) في البئر بهيمة أخرى قيمتُها ألف، فإنا نجعل الألف بين الجهة الأولى والثانية، وهكذا لو تعددت جهات الضمان وتجددت، فلا نزال ننقضُ ونعيد القسمةَ، ولا نجعل للمتقدم مزيةً، بسبب تقدمه، ولا [تحديد] (10) من المضارب في مقدار التركة. هذا بيان مأخذ المسألة في الصور والحتم (11) .
__________
(1) في الأصل: "حراً".
(2) في الأصل: "يؤخر".
(3) في الأصل: "فالزاحم".
والمراد بالتزاحم هنا تزاحم المجني عليه الثاني مع الأول في الفداء الذي بذله المولى.
(4) في الأصل: "يتقدم".
(5) كذا تماماً.
(6) في الأصل: "فتردى".
(7) في الأصل: "قيمة".
(8) كذا.
(9) في الأصل: "رما".
(10) في الأصل: تجديداً: والمعنى ولا تحديد للمضارب، لا في المبلغ الذي يضارب به، ولا في تكرار النقض وتعدد المضاربين.
(11) هنا ذهب سطر كامل من أوله لآخره، وفي هذا السطر لا شك كلمة العنوان (فصل) .(16/463)
فصل (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا اصطدم الراكلبان على أي دابة كانت ... إلى آخره" (2) .
10710- إذا التقى ماشيان واصطدما وماتا، فعُلم أن كل واحد منهما مات بقوّة نفسه وقوة صاحبه؛ فإن الصدمة تقع بالقوتين جميعاً، ثم ما يقابل قوة الإنسان، فهو هدر من جانبه وما يقابل قوة صاحبه، فهو مضمون، ثم إذا تأصل ذلك، فلا وجه للنظر في تفاوت القوتين، واختلاف تأثيرهما في الصدمة، فإن ذاك أمر لا يدخل تحت الضبط، وهو بمثابة قولنا: إذا جرح رجل رجلاً مائة جراحة من غير [تذفيف] (3) وجرح المجروح نفسه جراحة واحدة، وحصل الزهوق محالاً على الجراحات، فالحكم أنه يُهدَر نصفُ الدية، ويجب نصفها.
هذا مأْخذ الباب، وموجب ما ذكرناه يتضمن أن نُهدر ما يقابل فعلَ كل واحد منهما في حق نفسه، ونوجب ما يقابل فعل الثاني، وموجَب ذلك التنصيفُ لا محالة.
10711- فإذا تمهد أصل الباب قلنا: إذا اصطدم ماشيان على غير عمد وهلكا، فيهدر نصفُ دية كل واحد منهما بسبب فعله، ويجب دية نصف كل واحد منهما على عاقلة صاحبه؛ فإن مسائل الباب تتصور في الخطأ وشبه العمد، كذلك تتصور الوقائع في العادة المطردة.
ولو اصطدم راكبان على دابتيهما، وهلكا، وهلكت الدابتان، فيهدر من كل واحد نصفُ ديةٍ، ويهدر نصفُ قيمة دابة كل واحد منهما، ويجب نصف قيمة كل دابة في مال الآخر، ويجب نصف دية كلِّ واحد منهما على عاقلة الآخر؛ فإن الدية محمولةٌ معقولة، بخلاف قيمة الدابة.
__________
(1) سقط هذا العنوان في السطر الذي ذهب.
(2) ر. المختصر: 5/138.
(3) في الأصل: "مزيد".(16/464)
ويجب على كل واحد منهما كفارةٌ بسبب تأثير فعله [في] (1) قتل الثاني. ومن حيث شارك كلُّ واحد في قتل نفسه، فيجب عليه كفارةٌ أخرى بسبب سعيه في إهلاك نفسه إن قلنا: على من قتل نفسه الكفارة، ففيه اختلاف مشهور سيأتي مشروحاً -إن شاء الله عز وجل- فإذاً يجب على كل واحد منهما كفارةٌ بسبب سعيه في إهلاك صاحبه، وفي إيجاب كفارة أخرى وجهان مأخوذان [من أن] (2) من قتل نفسه هل تلزم الكفارة [في] (3) تركته أم لا؟ ثم قد يعترض في قسمة الديتين التقاصُّ إن كانتا متساويتين، وإن كانتا متفاوتتين [فإجراء] (4) التقاصّ في مقدار التساوي، والزيادة على التساوي تجب في مال الآخر.
وما ذكرناه كله من جليات الفقه وقواعده، ولا يخفى بعد تمهيدها تخريج المسائل عليها، إن شاء الله عز وجل.
10712- ونحن نذكر ثلاثة أنواع من الكلام تجري مجرى الأصول: أحدها - أنا لا ننظر [إلى] (5) المصطدمين في القوة والضعف، حتى [لو كان في إحدى الدابتين،] (6) و [ذلك] (7) من الماشيين بمثابة صدور جنايتين من جانيين، ثم قد ذكرنا أنه إذا كثرت جناية أحد الشريكين وقلت جناية الآخر، وآل الأمر إلى المال، فالدية موزعة عليهما بالسوية، فإنا لا نجد ضبطاً في التوزيع والتقسيط، فلا وجه إلا الحكم بالمقابل [وعدم] (8) الالتفات إلى أقدار القوة والضعف.
ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه في محاولة تحقيق هذا شيئاً أجراه مثلاً، فقال: "لو كان أحدهما على فيل والآخر على كبش، فاصطدما، فالإهدار في الشطرين وإثبات
__________
(1) في الأصل: "من".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "من".
(4) في الأصل: "فأحوال".
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: "لو كانت إحدى الدابتين".
(7) زيادة لاستقامة الكلام.
(8) في الأصل: "وغرم".(16/465)
الضمان في الشطر الثاني على ما ذكرناه (1) " ولم يرد الشافعي بهذا تصويراً على التحقيق؛ فإن الكبش لا يركب، ولا يفرض تصادمه للفيل.
والذي يجب اعتباره في ذلك أن الدابة وإن كانت ضعيفة، فينبغي أن نَفْرِض لصدمتها أثراً مع قوة الدابة الصادمة، فأما إذا قطعنا بأنه لا أثر لها أصلاً، فلا يناط بحركتها حكم، وهو بمثابة ما لو جرح رجل جراحات ناجعة، ويفرض من [الثاني الإبرة يغرزها] (2) في جلدة [العقب] (3) فهذا لا أصل له، [والقتل] (4) محال على الجارح. وإن كان لا يبعد تقدير تأثير، [فلا نظر] (5) إلى التفاوت بعد ثبوت أصل التأثير، ولا يشترط أيضاً القطع بالتأثير؛ فإن من جرح رجلاً مائة جراحة ضعيفة، فقد لا نقطع بأن هذه الجراحة لها أثر، ولكن إذا كنا نجوّز أن نثبت لها أثراً، كفى التجويز في ذلك، ورجع الحكم إلى التشطير بين الجانيين، هذا أحد الأنواع.
10713- النوع الثاني - أن نصوّر ما يقع عمداً أو ما يقع خطأ، وهذا يفرض على ثلاثة أوجه، فإن اصطدم الفارسان، وكانا مقبلين وقصدا الصدمة، وحققا قصديهما، فالذي صدر من كل واحد عمدٌ محض، [والواجب] (6) القصاص [والتخريج] (7) على شريك النفس، وقد مضى التفصيل فيه إذا جرح رجل رجلاً، فجرح المجروح نفسه، فإن قلنا (8) [بالقصاص، فقد] (9) فات محل القصاص، فسقط القصاص، والرجوع بعد سقوطه إلى المال، ثم يهدر على ما ذكرناه نصفُ دية كل واحد منهما، ونصف دية
__________
(1) ر. الأم: 6/74. والتمثيل بالفيل والكبش بلفظه، وأما الحكم، فمن معنى كلامه.
(2) في الأصل: " الباقي الأثرة فقدرتها ".
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، والمثبت من الرافعي نقلاً عن الإمام (الشرح الكبير: 10/442) .
(4) في الأصل: " والفيل ".
(5) في الأصل: " ولا نظر ".
(6) في الأصل: " والجواب ".
(7) في الأصل: " التخريج ". (بدون الواو) .
(8) أي في حالة التصادم المفروضة والتي فيها الكلام هنا.
(9) في الأصل: " لا قصاص فهلا ".(16/466)