وقال في (الإملاء) (1) : يلحقها طلقة ثانية وتستقبل العدة بالأقراء، ونحن نعلم أن العدة تنقضي بوضع الولد، والطلاقُ المعلق بالولادة يقع مع انقضاء الولد، فيقع الطلاق إذاً مع انقضاء العدة، فخرجت المسألة في الموت والتعليق بالانقضاء على قولين.
قال الشيخ: القول المذكور عن (الإملاء) في نهاية الضعف، ولا استقامة له في القياس، فهو ممّا لا يفرّع عليه، والتخريج على الضعيف يقود المخرِّج إلى مقاربة مخالفة الإجماع.
فرع:
9288- إذا نكح امرأةً حاملاً من الزنا، فقد ذكرنا أن النكاح يصحّ، وفي حلّ الوطء وجهان: أصحهما - أنه لا يحرم. فلو قال لها الزوج -وهي حامل من الزنا وقد وطئها-: "أنت طالق للسُّنة" قال ابن الحداد: لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه وطئها في طهر ووجود الحمل وعدمه بمثابةٍ، وقد جرى الوطء فكان الطلاق في طهر جامعها فيه.
ولو كان الحمل من الزوج، ووطئها بعد ظهور الحمل، ثم طلقها للسُّنة، فيقع الطلاق، فكأنا لا نجعل للحمل أثراً.
وممّا يتعلق بذلك أنها لو كانت ترى الدم وهي حامل من الزنا، وقلنا: الحامل تحيض: فلو قال في زمن الدَّم: أنت طالق للسُّنة، فلا يقع الطلاق لمكان الدم، وهي كحائل رأت الدّم.
ولو كان الحمل من الزوج، وكانت ترى دماً، وقلنا: إنها تحيض، فقال لها في زمان الدم الموجود في الحبل: أنت طالق للسُّنة، ففي وقوع الطلاق وجهان مشهوران ذكرناهما، والفرق أنا لا نجعل للحمل من الزنا حكماً أصلاً.
وكان شيخي يقول: على هذا القياس يجب أن نقطع بأنّ الحامل من الزنا تحيض، وهذا فيه نظر؛ فإن اختلاف القول في أن الحامل هل تحيض أم لا؟ أمرٌ متعلق بأن وجود الحمل هل يَنفي الحيضَ حكماً؟ وهذا يستوي فيه الولد النسيب والدّعي.
__________
(1) الإملاء: أي في القديم، فهو هنا في مقابلة الجديد.(14/306)
فرع:
9289- العبد إذا نكح امرأة وطلقها طلقتين، وتبين أن سيده قد أعتقه، ولم يدر أن العتق كان قبل الطلاق، أو الطلاق كان قبل العتق، فإن كان العتق مقدماً، فلا شك في ثبوت الرجعة، وإن كان الطلاق متقدّماً، فقد حَرُمَت حتى تنكح زوجاً غيره.
وإذا أشكل الأمر، ولم يَدْرِ، واتفق الزوجان على الإشكال، قال ابن الحدّاد: تحرُم حتى تنكح غيره، فإنا استيقنا رقّه، وعرفنا وقوع الطلاق، والأصل أن العتق لم يكن قبل الطلاق، وقد وافقه معظم الأصحاب.
وذهب بعضهم إلى أن الرّجعة ثابتة؛ فإن الأصل أن تحريم العقد لم يحصل، فلا نقضي به إلا بثبت، والأول هو المذهب.
فأما إذا اختلف [الزوجان] (1) فقال الزوج: أُعتقت أولاً، ثم طلقتُ، وقالت الزوجة: طلقتَ أولاً، ثم عَتَقْت؛ فقد حرمتُ عليك. فإن اتفقا في وقت العتق، واختلفا في وقت الطلاق، مثل أن يتفقا على أن العتق كان يوم الخميس، وقال الزوج: إنما طلقتُ يوم السبت، وقالت المرأة: بل يوم الأربعاء قبل الخميس، فالقول في هذه الصورة قول الزوج؛ فإن المطلِّق هو الأصل، والطلاقُ يومَ الأربعاء إليه، فإذا نفاه، انتفى.
وإذا اتفقا على وقت الطلاق، وأنه يوم الخميس، واختلفا في وقت العتق، فقال الزوج: كان العتق يوم الأربعاء، والطلاق بعده. وقالت المرأة: لا بل كان العتق يوم الجمعة، فالقول في هذه الصورة قولها، فإن الأصل دوام الرق يوم الأربعاء.
ولهذا نظير في الرجعة سنذكره، ونعيد هذه المسألة وأمثالَها، إن شاء الله، ونذكر ضابطاً في المذهب جامعاً.
فرع:
9290- إذا قال لامرأته: أنت طالق يوم يَقْدَم فلان، فقدم وقت الظهر، فإنها تطلّق. ومتى تطلق؟ فعلى قولين مخرّجين: أحدهما - أنها تطلق عقيب القدوم، ولا يتقدم الطلاق على القدوم.
__________
(1) في الأصل: الزوج.(14/307)
والقول الثاني - أنه إذا قدِم، بان لنا أنه وقع الطلاق مع أول الصّبح؛ فإن اسم اليوم يتحقق ذلك الوقت، وابن الحداد فرّع على قول التبيّن، وله أصل مشهور في النذور، سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
فلو ماتت امرأته ضحوةً، أو خالعها، ثم قدِم فلان وقت الظهر، والطلاق معلَّق بقدومه ثلاثٌ. فإن قلنا: يقع الطلاق عقيب القدوم؛ فلا يقع في هذه الصورة شيء؛ فإنه قدم وهي ميّتة، أو مختلعة.
وإن قلنا بالتبين، [تبيّن] (1) لنا عند قدومه أنها ماتت مطلقةً، وأن الخلع جرى بعد وقوع الثلاث، ولا يكاد يخفى تفريع ذلك في العتق.
فرع:
9291- إذا قال لامرأته المدخول بها: "أنت طالق واحدة، بل ثلاثاًً إذا دخلت الدار" فلا شك أن الثلاث لا تقع ما لم تدخل الدار، ولكن هل تقع واحدة؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أن التعليق يرجع إلى جميع ما تقدّم، فما لم تدخل الدار لا يقع شيء؛ فإن الشرط ينعكس على جميع ما تقدّم. ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق واحدة بل ثلاثاًً، لا يقع شيء حتى تدخل، فليكن الأمر كذلك إذا تأخر التعليق.
والوجه الثاني - وهو اختيار ابن الحداد أن الطلقة الأولى تقع، وما ذكره بعدَ (بل) هو المعلق بالدخول؛ فإن (بل) تَضَمَّنَ قطعاً لكلام عن كلام على سبيل الاستدراك.
ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: "أنت طالق واحدةً بل ثلاثاًً إن دخلت الدار"، فإن قلنا: جميع الطلقات تتعلق بالصّفة، فلا تطلق في الحال. ثم إذا دخلت الدار، وقعت طلقة وفاقاً، وهل يقع الباقي؟ فعلى وجهين حكيناهما في مواضع، وهو كما لو قال لغير المدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، وهذا يجري في كل طلاقين في لفظين مقتضاهما الوقوع معاً، وإن قلنا: الطلقة الأولى لا تتعلّق [بل] (2) تتنجز، فتبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الأخرى إذا دخلت؛ فإنها
__________
(1) في الأصل: فتبين.
(2) في الأصل: بان.(14/308)
بائنة، ولو نكحها فدخلت، لم يعد الحِنث؛ فإن التعليق وقع بعد البينونة حيث انتهينا إليه.
وحكى الشيخ وجهاً عن بعض الأصحاب أن هذا يخرّج على عَوْد الحنث، ولولا عِظم قدر الشيخ، لما نقلت هذا الوجه.
فرع:
9292- إذا قال لامرأته: إن دخلت الدّار طالقاً فأنت طالق، أو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقاً، فإن دخلت الدار وما كان طلقها قبل الدخول، فلا يقع بالدخول طلاق؛ فإنه علّق الطلاق على صفتين إحداهما دخول الدار، والثانية أن تدخلها طالقةً، وهذا يبتني على أن الطلاق المعلّق بالصفة يترتب على الصفة، ولا يقع معها. وقد كرّرت هذا مراراً، ونبهت على ما فيه من الإشكال، ثم أوضحت استمرار اتفاق الأصحاب في التفريع. ولو كنا نقول: يقع الطلاق المعلّق بالدخول مع الدخول، لكنا لا نوقع الطلاق أيضاًً؛ فإن قوله: إن دخلت الدار طالقاً يقتضي أن تكون طالقاً بغير الدخول حتى يتعلقَ الطلاقُ بكونها طالقاً مع الدخول، ويستحيل أن يكون الطلاق المعلق هو الطلاق الذي علق به الطلاق، واقتضاء اللفظ التغاير الذي ذكرناه بيّن لا إشكال فيه.
فرع:
9293- إذا نكح الرّجل أمةً، ثم قال: إن اشتريتك، فأنت طالق ثلاثاًً، وقال مالكها: إن بعتكِ، فأنت حرّة، فإذا باعها (1) عَتَقت في زمان خيار المجلس.
قال ابن الحداد: ويقع الطلاق؛ فإن الشراء قد وجد. قال أصحابنا: هذا تفريع منه على أن الملك في زمان الخيار للبائع.
فإن قلنا: الملك بنفس العقد ينتقل إلى المشتري، فينفسخ النكاح بالملك على المشهور، ولا يقع الطلاق، فإن قيل كيف ينتقل الملك إليه بعد نفوذ عتق البائع؟ قلنا: لما صح البيع، فمن حكم صحته نقل الملك على هذا القول، وهو كما ذكرناه في شراء من يعتِق على المشتري؛ إذ لولا ذلك، لما انعقد العقد على القول الذي عليه نفرع.
__________
(1) فإذا باعها: أي لزوجها، كما هو مفهوم من السياق، وصرح به النووي في الروضة.(14/309)
فرع:
9294- إذا قال لامرأته: إن كان أول ولدٍ تلدينه ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كان أول ولدٍ تلدينه أنثى، فأنت طالق ثلاثاًً، فولدت ذكراً وأنثى، ولم يخرجا معاً، ولكن أشكل المتقدم، فلا يقع إلا طلقة واحدة، هكذا قال أصحابنا أخذاً بالمستيقن، وهذا واضح.
ولو خرجا معاً دفعة واحدة، قال الشيخ: ما ذهب إليه معظم الأئمة أنه لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه علق طلقةً بأن يخرج ذكرٌ أولاً، وثلاثاًً بأن تخرج الأنثى أولاً، فإذا خرجا معاً، لم يتحقق الأوّلية في واحد منهما.
قال الشيخ: لو قلت: وقع الثلاث، كان محتملاً؛ فإن الأول هو الذي لا يتقدمه شيء، وليس من ضرورة الأول أن يستأخر عنه شيء، والدليل عليه أنه لو قال لها: إن كان أوّل ولدٍ تلدينه ذكراً فأنت طالق، فولدت ذكراً، ولم تلد سواه في عمرها، فيقع الطلاق؛ فعلى ذلك يجوز أن يقال: [الذكر] (1) : لم يتقدمه أنثى، والأنثى لم يتقدمها ذكرٌ.
قال الشيخ: عرضت ذلك على القفال، فقال: المسألة محتملة.
والمذهب ما قدّمناه؛ لأن الرجل لو قال لعبديه: من جاء منكما أولاً، فهو حرٌّ، فلو جاءا معاً، لم يعتِقْ واحد منهما، هكذا ذكر الأصحاب، ولا يجوز أن يُتَخيّل في هذه المسألة خلاف، فإنه علق العتق على السّبق، ولا سبق إذا جاءا متساوقين، وليس كما إذا ولدت ولداً واحداً؛ فإنه لم يتعرّض في تلك المسألة لولدين وتقدير أولية فيهما.
فرع:
9295- إذا نكح جارية أبيه، أو أخيه، ثم قال: إذا مات سيدك، فأنت طالق، فإذا مات، فملكها الزوج، أو ملك بعضها -على ما يقتضيه التوريث- فلا يقع الطلاق، بل ينفسخ النكاح.
قال ابن الحداد: هذا هو الصحيح.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق، وقد قدمت هذا في الأصول.
__________
(1) في الأصل: لذكر.(14/310)
ولو قال السيد لها: إذا متُّ، فأنت حرّة وقد سبق من الزوج التعليق كما ذكرنا، فمات، وهي خارجة من الثلث؛ فيقع الطلاق لا محالة، ولو علق الزوج الطلاق، فقال السّيد: إذا متّ، فأنت حرّة بعد موتي بشهر، فإذا مات، فتبقى تلك مملوكةً إلى شهر، والتفريع على ما اختاره ابن الحدّاد، وهو أن الفسخ أولى بالتنفيذ من الطلاق، وفي هذه الصورة في وقوع الطلاق وجهان مبنيان على أن الملك فيها إلى أن تعتق لمن؟ وفيه وجهان: أحدهما - أن الملك للوارث.
والثاني - أنه تبقى على ملك الميت إلى أن تَعتِق، فعلى هذا يقع الطلاق، ولا ينفسخ النكاح، وإن قلنا: الملك للوارث، ففي الانفساخ وجهان: أحدهما - أنه ينفسخ، وهو الأصح لحصول الملك.
والثاني - لا ينفسخ؛ لأن هذا ملك تقديري، ثبت لانتظام كلام، وإلا فلا حقيقة له، ولا يُفضي إلى مقصود.
فرع:
9296- إذا قال: أنت طالق أكثرَ الطلاق، فتطلق امرأته ثلاثاً؛ فإن الأكثر صريح في أقصى عدده، والكثرة مُصرِّحة بمعنى العدد، ولو قال: أنت طالق أكبرَ الطلاق، ولم ينو عدداً، فلا يقع إلا واحدة؛ لأن الكِبَر لا يُنبىء عن العدد، وكذلك لو قال: أعظم الطلاق، أو قال: أنت طالق ملءَ الأرض أو ملءَ العالم، فلا يقع بمطلق اللفظ إلا طلقة، ولو قال: أنت طالق ملءَ هذه البيوت الثلاثة، فهذا يقتضي تعدّد الطلقات وكذلك إذا قال: أنت طالق ملءَ السموات.
فرع:
9297- قال ابن سريج إذا قال لامرأته: أنت طالق هكذا، وأشار بأصبع واحدة، فهي طلقة، وإن أشار بأصبعين، فطلقتان، وإن أشار بثلاث، فثلاث.
هذا إذا قال: (هكذا) ، وأشار إلى أصابعه.
فإن قال: أنت طالق، ولم يقل: (هكذا) ولكن أشار بأصابعه، فلا نحكم بوقوع الثلاث ما لم ينوها، وهذا بيّن، ولم أر فيه -إذا قال (هكذا) وأشار إلى أصابعه الثلاث- خلافاً، وذاك فيه إذا أشار إلى أصابعه إشارة تكون قرينةً مثبتةً للعلم، فلو لم تقم قرينةٌ، فلا وجه للحكم بالثلاث؛ فإن الرجل قد يعتاد الإشارة بأصابعه الثلاث في الكلام، فإذا لم يوضح ينظر إلى الأصابع أو ترديد نغمة على صيغة إلى أن(14/311)
يتبين الغرض، فلا نحكم بالوقوع، وما أجريناه من الكلام على القرائن من الأصول والأقطاب.
فرع:
9298- إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فيقف وقوع الطلاق على الدخول والكلام.
ثم قال الأصحاب: يشترط ترتُّبُ الكلام على الدخول، حتى لو كلمتْ، ثم دخلتْ، لم تطلق؛ لأنه في الحقيقة علّق وقوع الطلاق عليهما عند الدخول بكلام، فكان هذا تعليقَ التعليق، والتعليقُ يقبل التعليق، كما [أن] (1) التنجيز يقبل التعليق، وهذا كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت مدبّر، فالتدبير يقف على دخول الدار، ثم لا عتق حتى يموت السّيد بعد دخول العبد الدار، وليس كما لو قال: أنت طالق إن كلمت ودخلت، بشرط وجود الوصفين لا غير، لأن الواو للجمع خصوصاً في المعاملات.
هذا ما ذكره القاضي والأصحاب: أما المسألة الأخيرة، فسديدة، وأما المسألة الأولى، ففيها نظر؛ فإنه ذَكَر صفتين من غير عاطف، فالوجه الحكم بتعلّق الطلاق بهما، فأما الترتيب، فلا معنى للحكم [به] (2) .
ولو قال: إن دخلتِ الدار إن كلمتِ زيداً إن أكلتِ رغيفاً، فأنت طالق، فالطلاق يتعلق بوجود هذه الصفات، والحكمُ بترتّب بعضها على بعض تحكُّمٌ، لا أصل له، فإن كان هذا مسلماً، فلا فرق بين أن يُقدِّم ذِكْرَ الطلاق وبين أن يؤخره. وإن كان ممنوعاً، فما قدمناه من الكلام كافٍ (3) .
ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً إلى أن يقدَمَ فلان، فالتأقيت راجع إلى الصفة، والتقديرُ: إن كلمته قبل قدوم زيدٍ، فأنت طالق، ولا يرجع هذا التأقيت إلى أصل الطلاق؛ إذ لو رجع إليه، لتنجز في الحال، كما لو قال: أنت طالق إلى شهرٍ،
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: بهما.
(3) عبارة ابن أبي عصرون: وإن منع فما قدمناه كافٍ. والمعنى إن اشترط الترتيب ومنع وقوع الطلاق، فما قدمناه من الحجج كافٍ في نقضه.(14/312)
ثم إن كلّمتْه قبل أن قدِمَ زيد، طلقت، ولو لم تكلمه حتى قَدِم زيد، لم تطلق، ولا يضر التكلم بعدُ.
هذا معنى التأقيت.
فرع:
9299- لو قال: "إن دخلتِ الدار فأنت طالق" ثم كرّر هذا اللفظ ثلاثَ مراتٍ، فإن أراد التأكيد، فطلقة واحدة عند دخول الدار، وإن أراد التجديد، فإن دخلت الدار، طُلِّقت ثلاثاًً بدخلةٍ واحدة.
ولو قال: أردت عقد ثلاثة أيمان، حتى تطلقَ طلقاتٍ [ثلاث] (1) بثلاث دخلات، فهذا لا يحمل عليه مُطلقُ الكلام بالإجماع؛ فإن اليمين الأخيرة حقها أن تنحل بأول دخلةٍ لتحقق الصّفة، وكذلك القول في الثانية والأولى، ولكن يُديّن فيما يقول باطناً، ولا وجه لقبوله ظاهراً.
فرع:
9300- إذا قال لأربع نسوة: أربعكن طوالق إلا فلانة، أو إلاّ واحدة على الإجمال، لغا الاستثناء، لأنه أوقع الطلاق على الأربع بجملتهن، فإذا قال: إلا فلانة، فقد قصد إبطال اللفظ في حقها، ورفْعَ مقتضاه بالكلية، فصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً لا تقع، أو ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وليس كما لو قال ثلاثاًً إلا واحدة، فإن الاستثناء في الواحدة صحيح.
ولو قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، فيصح الاستثناء في فلانة.
هذا ما أورده القاضي والمسألة [مخيلة] (2) حسنة.
[و] (3) يحتمل أن نقول: يصح الاستثناء؛ طرداً لقاعدة الاستثناء، فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد تعرّض لعدد الطلقات، ولو سكت عليه ولم يستثن، لكان الكلام مستقلاً في إيقاع الثلاث، ثم صح مع هذا استثناء الواحدة والثنتين بعد ذكر الثلاث، فلا فرق بين عدد الطلقات وبين عدد المطلّقات.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: محتملة، والمثبت اختيار من المحقق.
(3) (الواو) زيادة من المحقق، وهي في عبارة ابن أبي عصرون.(14/313)
ووجه ما قاله القاضي أنه إذا قال: أربعكن طوالق إلا فلانة، فهذا اللفظ لا يستعمل كذلك في الاعتياد، كما لا يستعمل قول القائل ثلاثاًً إلا ثلاثاً، [ويستعمل] (1) أنت طالق إن شاء الله، ولو تكلفنا فرقاً سوى ذلك، لم نجده، ولعلّ القاضي يقول: إذا قال: "هؤلاء العبيد الأربعة لك إلاّ هذا"، وأشار إلى واحد منهم، قال: الاستثناء باطل، ولعلّ ممّا يقوّي كلامَه ثبوتُ الكلام بالإشارة، وللإشارة أثر ووَقْعٌ في تثبيت الكلام. ولو قال: "لفلان أربعة أعبدٍ عليّ إلا عبداً" فالاستثناء صحيح.
فرع:
9301- إذا قال قائل للزوج: أطلّقت امرأتك؟ فقال: نعم، فقال (2) :
ذكر صاحبُ التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن الطلاق يُحكم بوقوعه لقوله: (نعم) مع السؤال المتقدِّم، وإن لم ينو الطلاق.
والقول الثاني - إن الطلاق إنما يقع به إذا نوى، فإذا لم ينو شيئاً، لم يقع.
قال الشيخ: حكمَ بأن الطلاق يقع بهذه اللفظة مع النيّة في قولٍ، ويقع من غير نيّة في قولٍ، وجعل هذا إنشاءً للطلاق صريحاًً أو كناية.
ووافقه بعض أئمتنا، وقال: ما ذكره من [القولين] (3) مبنيّ على قولين للشافعي فيه إذا قال الولي: زوجتك هذه، فقال في جوابه: قبلتُ، ولم يقل قبلت نكاحها، فهل ينعقد النكاح بذلك؛ بناء على ما تقدم من الإيجاب؟ فعلى قولين.
قال الشيخ: هذه الطريقة غير مرضية، فقوله (نعم) في جواب السؤال ينبغي ألا يكون صريحاًً في الطلاق ولا كناية، بل هو صريح في الإقرار بالطلاق، ثم إن كان صادقاً، فلا كلام، وإن كان كاذباً، فلا يقع به الطلاق باطناًً، وينفذ الحكم بالإقرار ظاهراً، ثم لا يجوز أن يكون في ثبوت الإقرار اختلافُ قولٍ، ومن قال لرجل بين يدي القاضي: ألي عليك ألف درهم؟ فقال: نعم، قضى القاضي بكونه مُقرّاً، ولو جرى ذلك بين يدي الشهود تحمّلوا الشهادة على صريح إقراره، فعلى هذا لو قال في جواب
__________
(1) في الأصل: ويستعمله.
(2) القائل هو الشيخ أبو علي.
(3) في الأصل: القول.(14/314)
السؤال كما ذكرنا، ثم قال: أردت بذلك أني كنت نكحتها من قبل هذا، وطلقتها في ذلك النكاح السابق، فهذا ينزل منزلة ما لو قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، ثم فسّره بأنه كان طلقها في نكاحٍ سابق، وقد تقدم تفصيل ذلك.
9302- ولو قيل: ألك زوجة؟ فقال: لا. قال أصحابنا: هذا كذبٌ صريح لا يتعلق به حكم، وقال المحققون: هذا كناية في الإقرار، قال القاضي: عندي أن هذا صريح في الإقرار بنفي الزوجية، وقال رضي الله عنه: إذا أشار المشير إلى امرأةٍ، فقال لبعلها: هذه زوجتك، فقال: لا، كان ذلك تصريحاًً بالإقرار بنفي الزوجية.
ولو قيل له: أطلقت زوجتك، فقال: قد كان بعض ذلك، فلا نجعل هذا إقراراً بالطلاق؛ لأنه يحتمل التعليق، ويحتمل أنها كانت تُلاجّه (1) وتخاصمه، وتسأل منه الطلاق، ولم يكن قد أوقع بعد، فعبّر عن بعض المفاوضة التي جرت.
ولو قال الدّلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألف درهم من هذا الرجل، فقال: نعم، فلا يكون هذا إيجاباً بلا خلاف؛ فإنّ نعم خبرٌ يدخله الصّدق والكذب، فلا يصلح للإنشاء، وكذلك لو قال القابل: نعم، لم يكن ذلك منه قبولاً.
ولو قال الدلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألفٍ من هذا الرجل، فقال: "بعتُ" فالوجه القطع بأن هذا لا يكون بيعاً، إذا لم يُعِد [ذكرَ] (2) الثمن وخطابَ الطالب، ولم يأت بكلام ينتظم مبتدءاً، وليس كما لو قال المخاطب: قبلتُ؛ فإن قوله مع الإيجاب كلامان ينتظم أحدهما مع الثاني.
وإذا قال الدلال: بعتَ عبدك هذا من هذا الرجل، فقال: بعتُ، فيقع قوله جواباً للدلال، وما كان جواباً له لم يصلح أن يكون خطاباً لذلك [الطالب] (3) ، فلا يتجه في كونه جواباً إلا الخبر، وهو مضطرب في كونه إقراراً أيضاًً؛ فإن قرينة استدعاء الدلال شاهدة على أنه يبغي منه الابتداء.
__________
(1) تُلاجّه: من اللجاجة.
(2) زيادة لاستقامة الكلام، وهي في عبارة ابن أبي عصرون.
(3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.(14/315)
وقال الأصحاب: لو قالت المرأة لزوجها؛ طلاق ده مرا، فقال: "دادم" لا يقع به شيء، لأن قوله: "دادم" (1) لا يصلح للإيقاع.
قال القاضي: عندي يقع الطلاق؛ لأن المبتدأ يصير معاداً في الجواب، وهذا الذي ذكره مذهب أبي يوسف، وهو متجه؛ فإن السؤال مع الجواب يترتبان ترتب الإيجاب والقبول. فأما إذا قال الدلال: بع عبدك هذا بألف، فقال: بعت، فلا يستقل قول صاحب العبد: "بعت" كلاماً مبتدأ، ولا يترتب على قول الدلاّل جواباً.
فرع:
9303- لو قال: أنت طالق طلقةً عددَ التراب، وقعت طلقة واحدة؛ لأن التراب في نفسه جنس واحد. فإن قال: أنت طالق عدد أنواع التراب، طلقت ثلاثاً.
فرع:
9304- لو قال: أنت طالق طلقةً وطلقتين، وقع الثلاث، فإن قال: أردت إعادة تلك الطلقة الأولى في الطلقتين، وضمَّ أخرى إليها، قيل: يقبل ويقع طلقتان؛ فإن هذا محتمل.
والذي صار إليه الجمهور أنه تقع الثلاث؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه.
ولو قال بالفارسية: (تو از زني مَن بيك طلاق ودو طلاق هشته اي) (2) ، كان القفال يفتي بالثلاث قياساً على ما ذكرناه في العربية قال القاضي يقع عندي طلقتان، لأن الناس يقصدون منه إيقاع طلقتين، ومن أراد منهم الثلاث زاد، فقال: (بيك طلاق وبدو طلاق وبسه طلاق هشته اي) .
فرع:
9305- إذا قال الزوج: طلّقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلا بُدّ في هذه
__________
(1) هذه الألفاظ الفارسية معناها كالآتي: "طلاق ده مرا" معناها: أعطني الطلاق: أي طلقني. وكلمة (دادم) : أي أعطيت.
(2) جملة فارسية صوابها: "توزَنْ مَنْ بَيَكْ ودُو طلاق" والمعنى الحرفي: تو= أنتِ، زَن: زوج، من= ضمير المتكلم (أنا) = زوجتي. بَيَكْ= بواحد طلاق، ودو طلاق= واثنين طلاق.
والمعنى الأجمالي: أنت يا زوجتي طالق بواحدة وطالق باثنتين.
واختلف في هذا، فقال القفال: يقع ثلاث طلقات، وقال القاضي: يقع ثنتان فقط، ومن أراد الثلاث قال: " بَيَكْ طلاق، وبدُو طلاق، وبـ سِه هسته إي "
ومعنى: بـ سِه= بثلاث، هسته إي= أسلوب تأكيد
والمعنى الأجمالي: أنت طالق بواحدة وباثنتين وبثلاثة قطعاً.(14/316)
المسألة من أن تشاء، هذا هو الذي عليه التفريع، فلو أنها شاءت، فتطلِّق نفسها، وتقول: شئت، وطلقت نفسي، ولا يكفي أن تقول: شئت؛ فإنه لم يعلّق الطلاق على مشيئتها بل علق تفويض الطلاق إليها على مشيئتها.
فلو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، وهذا الأصل مشهورٌ قدمنا ذكره.
فلو قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلو أنها شاءت طلقةً واحدةً، وطلقت نفسها واحدة، قال صاحب التلخيص لا يقع شيء، وكذلك لو قال لها: طلقي نفسك إن شئت واحدة، فشاءت ثلاثاًً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فلا تقع واحدة منها.
وعلة ما ذكره أنه لم يملّكها الثلاث ولا الواحدة في المسألتين تمليكاً مجرداً، بل علّق التمليك بمشيئة موصوفة بصفةٍ، فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاًً، فقد شرط في ملكها الطلاق أن تشاء ثلاثاً، وكذلك عكس هذا.
وذكر الأصحاب ما ذكره، ووافقوه.
ومسألتاه مصورتان فيه إذا خلّل ذكرَ المشيئة بين قوله: طلقي وبين قوله ثلاثاًَ أو واحدة، فلو قال: ثلاثاًَ إن شئت، أو طلقي نفسك واحدة إن شئت، فذكر المشيئةَ بعد ذكر العدد أو بعد ذكر الواحدة، فلو شاءت واحدةً وقد جرى التفويض في ثلاث، وقعت الواحدة.
ولو طلقت نفسها في مسألة الواحدة ثلاثاً، وقعت الواحدة، كما لم يكن في المسألة مشيئة، ولكن لا بدّ من أن تذكر المشيئة. ومجرد تطليقها نفسها لا يكفي.
والفرق بين ذكر المشيئة قبل [العدد] (1) ، وبين ذكرها بعدَه أنه إذا قال لها: "طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً"، فإذا لم تشأ ثلاثاًَ لم تتحقق مشيئتها؛ فإنه وصف مشيئتها بالتعلّق بالثلاث، فإذا لم تحصل المشيئة المشروطة، فلا يقع الطلاق، فمهما (2) ذكر العدد بعد المشيئة فالعدد متعلق المشيئة، وكذلك لو قال: طلقي نفسكِ
__________
(1) في الأصل: العدّة.
(2) فمهما: بمعنى: فإذا.(14/317)
إن شئت واحدة، وليس كذلك قوله: طلقي نفسك ثلاثاًً إن شئت.
وهذا الذي ذكره الأصحاب ظاهر إذا كان الكلام مطلقاً.
وإن زعم أني أردت بقولي ثلاثاًً بعد المشيئة تفسيرَ الطلاق، لا وصفَ المشيئة، فهذا مقبول.
وإذا قال لها: طلقي نفسكِ إن شئت واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإن من شاء الثلاث فقد شاء واحدة؛ إذ الثلاث تنطوي على الواحدة، ويحتمل ما قاله الأصحاب؛ فإنه جعل الواحدة متعلَّق المشيئة، فلا يمنع أن تكون المشيئة موصوفة باتحاد المراد.
فرع:
9306- قد ذكرنا أنه إذا قال: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس أو مطرت السماء، أو هبت الريح، أو ما أشبه ذلك، مما لا يتعلق باختيارٍ لها، ولا يتصور فيه منع ولا تحريض، فلا يقع الحِنث بذلك.
ولو زعم الزّوج أن الشمس قد طلعت فخالفته المرأة، فقال: إن لم تطلع، فأنت طالق، فيحنث بهذا في يمينه الأولى، وهو قوله: إن حلفت؛ فإنه قصد تصديق نفسه، وهذا من مقاصد الأَيْمان، فصار قوله يميناً على هذا الوجه.
فروعٌ تتعلق بالمعاياة وطرائف الأسئلة:
9307- إذا قال لها: إن لم تعرّفيني عدد الجوز الذي في هذا البيت، فأنت طالق، وكان البيت ممتلئاً جوزاً، وربما يضيق عليها الزمان الذي تجيب فيه، قال الأصحاب: الحيلة في نفي الطلاق أن تذكر المرأة عدداً يقدّر الجوز عليه، فإن استرابت زادت حتى تستيقن أنها ذكرت فيما ذكرت عدد الجوز، ولا يضرها الزيادة على العدد، فإنها وإن زادت، فقد ذكرت العدد المطلوب.
وهذا خطأ عندي إن ذكر في سؤاله التعريف؛ فإنّ اللفظ يشعر بأن [غرضه أن] (1) تفيده المعرفة بعدد الجوز، والذي ذكرْته على مجازفةٍ ليس بتعريفٍ، وإنما فرض الفقهاء هذه الصورة فيه إذا قال لها: إن ذكرت لي عدد ما في البيت وإلا فأنت طالق،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(14/318)
فإذا ذكرت عدداً على النسق الذي ذكرناه، فتكون ذاكرةً لذلك العدد فيما تذكره من الأعداد، ولكن الشيخ ذكر في المسألة التعريف.
ثم إذا فرضنا في الذكر -وهو الوجه- فلتأخذ من عدد [تستيقنه] (1) مثل أن تعلم أن عدد الجوز في البيت يزيد على ألفٍ، ثم تذكر الألف، وتزيد ضمّاً للعدد إلى العدد، حتى تنتهي إلى مبلغٍ تستيقن أن ما في البيت لا يزيد عليه، ولا يتصور هذا ما لم تزد [إلى] (2) أن يفرض وفاق، وهو نادرٌ في التصور.
ومما يجب الاعتناء به أنها إذا ذكرت الألف، كما صوّرناه، فقد ذهب القاضي إلى أنها تزيد على ما استيقنته واحداً واحداً، فلو قالت: ألفاً ثم ألفين، أو مائة ألفٍ، لم يكفها ذلك، إذ لو كان يكفيها ذلك، لذكرت عدداً على مبلغ عظيم أوّل مرّةٍ، فإذا قال الأئمة: تذكر ما تستيقن، ثم تزيد عليه، فلا وجه للزيادة إلا ما ذكرناه؛ فإنها سَتَمُرّ إذا كانت تزيد واحداً واحداً بالعدد الخاص بجَوْزِ البيت، وإذا لم تفعل هكذا، وذكرت مائة ألفٍ وعددُ ما في البيت ينقص عن هذا، فما ذكرت عدد الجَوْز في البيت، وإنما ذكرت عدداً عددُ ما في البيت بعضه.
ثم هذا الذي ذكرناه في اللفظ المطلق، فلو أراد الزوج بهذا تنصيصها على العدد المطلوب، فلا ينفع ما ذكرناه.
والذي يدور في خلدي من هذه المسألة أن مطلق هذا في العرف لا يُشعر إلا بالتنصيص، وقد نصّ الأصحاب على خلاف هذا، وكنت أودّ لو فرضت هذه المسألة فيه إذا نوى الزوج ما ذكرناه، ثم كان يقال: هل يزال ظاهر الإطلاق بنيّته، فعلى تردد.
9308- ولو قال: إن لم تعُدِّي الجوز الذي في هذا البيت في ساعة، فأنت طالق، ذكر أصحابنا وجهين: أحدهما - أنها تأخذ من مبلغ [تستيقنه] (3) ، ثم تأخذ في
__________
(1) في الأصل: تستبقيه. والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل: "إلا".
(3) في الأصل: تستيقن.(14/319)
الزيادة، كما ذكرناه فيه إذا قال لها: إن لم تذكري عدد الجوز.
ومنهم من قال: إذا كانت اليمين معقودة على العدّ، فلا بد وأن تبتدىء من الواحدة، وتأخذ في الزيادة، حتى تنتهي إلى الاستيقان كما ذكرناه؛ فإن العدّ متضمّنه التفصيل من الواحدة إلى المنتهى، وليس كالذكر، ولم يذكر أحد من الأصحاب أن العدّ محمول على تولّي العدّ، فعلاً، وزعموا أن العدّ إنما هو العدّ باللسان.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإن من [جلس] (1) نَبْذةً من بيتٍ فيه جَوْز، ثم أخذ يهذي ويذكر باللّسان أعداداً، فهذا لا يسمى عدّاً في الإطلاق، وإن حمل [لفظُهُ] (2) عليه، كان تأويلاً، والنظر في أن التأويل المزيل للظاهر، هل يقبل؟ نعم، إذا قال: "إن لم تعدّي"، فرمقت الجوز، وأخذت تعدّ وترمق كل جوّزة، فهذا عدٌّ، وإن لم يوجد فعلٌ باليد، فأما قول اللسان، فلست أراه عدّاً.
9309- ولو قال - وقد خلط دراهم لامرأته بدراهمَ كانت في كفّه: إن لم تميّزي دراهمَك من هذه الدراهم، فأنت طالق. قال الأصحاب: المخلّص أن تميز الدراهم كلها تمييزاً عاماً، بحيث لا تبقي منها درهماً ودرهمين ملتصقين.
وكذلك إذا كانا يأكلان تمراً أو مشمشاً، فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت، فأنت طالق، فالطريق ما ذكرناه.
وهذا فيه نظر عندي، فإن نوى التنصيص في التمييز، فالذي ذكرناه ليس بمخلّص، وإن أطلق اللفظ، فالذي ذكره الأصحاب أن ما ذكرناه [مُخلِّص] (3) .
ولست أرى الأمر كذلك إن كنا نأخذ المعاني مما تبتدره الأفهام، ولئن كان للفقه تحكم في حصر الصرائح أخذاً من التعبد [والتكرّر] (4) في الشرع، فألفاظ المعلِّقين لا نهاية لها، وليس للصفات التي يذكرونها ضبط، فسبيل الكلام على الظواهر تنزيلها
__________
(1) في الأصل: حبس. ومعنى العبارة: أن من انتبذ جانباً من البيت، وفيه جوز، ثم أخذ يهذي ... إلخ.
(2) في الأصل: لفظ.
(3) في الأصل: تخلّص.
(4) في الأصل: غير مقروءة (انظر صورتها) .(14/320)
على ما يُفهم، وإنما يتميز الظاهر عن الكلام المتردد بشيء واحدٍ، وهو أن يفرض الإطلاق، ثم لا يفرض مراجعة المطلِق واستفسارُه، فما كان كذلك، فهو ظاهرٌ، والنص كذلك، غيرَ أن مُطْلِقَه لو ذكر له تأويلاً، لم يُقبل، ولم يُرَ له وجهٌ في الاحتمال، وأمثال هذه الألفاظ لا يستريب الفاهمون أن معانيها على خلاف ما وضعها أصحاب المعاياة، فالوجه وضعها مع تجريد القصد إليها على حسب ما يذكره الفقيه.
9310- ولو كان في فم المرأة تمرة، فقال الزوج: إن بلعتيه، فأنت طالق، وإن لفظتيه، فأنت طالق، وإن أمسكتيه، فأنت طالق، فالمخلِّص أن تأكل نصفه وتلفظ نصفه، ولا يحصل الحِنث بوجهٍ من الوجوه التي ذكرناها.
9311- ولو قال - وهي في ماءٍ جارٍ: إن مكثت فيه، فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق.
قال الأصحاب: لو مكثتْ، لم تطلق، لأنّ الدُّفع من الماء التي تَلْقاها قد جرت وانحدرت، فلم تمكث فيه، ولم تخرج منه.
وهذا قريب من الفنون المقدمة.
فإن نوى الزوج الخروج من ماء النهر، فما ذكرناه ليس بمخلِّص، وإن خطر له ما ذكرناه، أمكن أن يقبل، وإن أطلق، ففيه نظر، وهذا من الأقطاب؛ فإن أمثال هذه الألفاظ لو ردّت إلى اللغة، فيمكن تنزيلها على ما ذكره الفقهاء، وإن ردّت إلى ما يفهم منها في الإطلاق، فالأمر على خلاف ما ذكروه، والحمل على موجب الفهم عند الإطلاق أوْلى.
هذا منتهى القول في هذه الأجناس.
9312- وإذا كانت على سلّم، فقال: إن نزلت من هذا السّلم، فأنت طالق، وإن زَنأتِ (1) ، فأنت طالق، وإن وقفت، فأنت طالق، فالوجه أن تطفر إن قدرت عليه، وإلا تُحْمل من السلم، أو يُضْجَع السلم وهي عليه، أو ينصب بجانب السُّلّم سُلَّم آخر حتى تتحول إليه.
__________
(1) زنأتِ: أي صعدت. من قولك زنأت في الجبل إذا صعدت فيه (المعجم) .(14/321)
ولست بالراغب في هذه الفنون، واللائق بهذا المجموع [أن] (1) يبتنى على ما هو الوجه، وما ذكرته من نظر الناظرين إلى اللغة والإضراب عن المفهوم من الألفاظ.
ولو قال لامرأته: إن أكلت هذه الرمانة، فأنت طالق، فأكلتها إلا حبة، لم تطلق، وهذا سديد في اللغة والعرف، وقد يقول القائل: أكلتُ رمانة، وإن فاتته حبّة، ولكن للاحتمال فيه مجالٌ. وإذا اجتمعت اللغة وتردد العرف، فالحكم بوقوع الطلاق لا وجه له، ولا يعدُّ من قال: لم يأكل رمانةً إذا ترك حبّةً حائداً عن ظاهر الكلام.
ولو علق الطلاق بأكلِ رغيفٍ، فجرى الأكل فيه، وبقيت فُتَاتةٌ، قال القاضي: لا تطلق، واعتبر الفتاتة بحبات الرمانة.
والقول في هذا مفصل عندي، فإن كان ما سقط قطعةً محسوسةً وإن صغرت، فهي كالحبة من الرمانة، وأما ما دق مُدركه من الفتاتة، فما عندي أنه يؤثر في الحِنث والبر، وهذا عندي مقطوع به في حكم العرف إن كان على العرف معوّل في الأَيْمان.
وسمعت شيخي كان يقطع بهذا في الفتاوى.
والضبطُ لهذه الأجناس أن من سئل عن لفظة، فإن كان لا يدري معناها في اللغة، فلا يهجم على الجواب، ولكن من جوابه: إني أراجع في هذه من يعرف اللغة، وإن كان يعرف معناها في اللغة وأحاط بأنه منطبق على العرف، جرى في الجواب.
وإن جهل العرف، سأل عنه أهل العرف، وإن كان العرف متردّداً كان صغوه الأكثر إلى استبقاء النكاح.
وإن صادف العرفَ على خلاف اللغة في وضعها، كان واقعاً في المعاياة، والوجه عندي تحكيم العرف على اللغة، كما أوضحته وبينت مسلك الأصحاب، ولا يسوغ الميل عن جادّة الفقه، حتى تحلو المسائل في استماع العوام.
فروع في المكافأة والتعليقات بالصفات النادرة:
9313- وهي كثيرة الجريان في الخصومات الناشئة بين الزوجين، وأكثر ما تقع هذه المسائل فيه إذا بدأت المرأة، فواجهت زوجها بما يكرهه، ووصفته بصفةِ ذمٍّ،
__________
(1) زيادة من المحقق.(14/322)
وقال الزوج: إن كنتُ كما قلتِ، فأنت طالق، فهذه المسائل تجري على ثلاثة أقسام: أحدها - أن يقصد الزوج تعليقاً على التحقيق.
والثاني - أن يقصد مكافأتها ليغيظها بالطلاق، كما غاظته بما أسمعته.
والثالث - أن يُطْلِق اللفظَ.
فإن قصد التعليق، فلا بدّ من النظر في الصّفات: فإن تحققت، وقع الطلاق، وإن انتفت، لم يقع، وإن أشكلت، فالأصل أنْ لا طلاق، ثم كثيراً ما يجري في المهاترات، والإفحاش، والخنا (1) في المنطق - صفاتٌ لا تكون، فيقع الناظر في التطلب، فالوجه الحكم بأن الطلاق لا يقع.
وأنا أذكر من جملتها واقعةً رُفعت في الفتاوى، وهي أن المرأة قالت لزوجها: يا (جهوذروى) (2) ، فقال في جوابها: إن كنت كذلك، فأنت طالق؛ فوقع المسْتَطْرِفُون وبَنُو الزمان في طلب هذه الصفة، فذهب بعضهم إلى الحمل على صفار الوجه، وسلك سالكون مسلك مخيلة الذل في خبطٍ لا أصفه، وكان جوابنا فيه: إن المسلم لا يكون على النعت المذكور، فلا يقع الطلاق، ولم أوثر ذكر ما فيه فحش، وفيما أوردته التنبيه التام للفطن.
وإن قصد الرجل بذلك مكافأتها، فاللفظ صريح في التعليق، ولكن إذا أراد الزوج مكافأةً، فلها وجه، والتقدير: إن كنت كذلك، فأنت طالق إذاً. ومما مهدته أن الاحتمال الخفي مقبول في وقوع الطلاق إذا أراده اللافظ.
وإن أطلق اللفظَ، فهو محمول عندي على التعليق، إلا أن يعم عرفٌ في المكافأة، فيجتمع وضع اللغة والعرف، وقد سبق الكلام فيه.
وقد رأيت كثيراً من المشايخ يميلون إلى المكافأة للعجز عن النظر في الصفات،
__________
(1) الخنا: الفحش في المنطق، يقال: خنا فلان يخنو خَنْواً، وخناً: أفحش في منطقه.
(المعجم) .
(2) كلمة فارسية وصوابها (جهره زَرْدْ) أي أصفر الوجه. هذا هو المعنى الحرفي، ويبدو أنها كانت عبارةً دارجة تستخدم في السب كناية عن صفات قبيحة يفحش التصريح بها، وقريب من ذلك قول العامة في سبابهم: يا أسود الوجه.(14/323)
وسبب ذلك أنهم حسبوا كلّ مذكورٍ كافياً. ومعظم بدائع الشتائم غير كائنة، فلا يقع الطلاق.
فرع:
9314- إذا قال: أنت طالق يوم يقدَم فلان، فقدم ليلاً، فالمذهب أن الطلاق لا يقع، فإنه لم يعلّق الطلاق على مجرّد القدوم، حتى ربطه بالوقوع في يوم، وذكر بعض الأصحاب وجهاً أن مطلق هذا يحمل على وقت القدوم، وهذا بعيد لا أعده [من المذهب] (1) ومن أحكم الأصول إلى هذا المنتهى، لم يخف عليه دَرْكُ مثل هذا.
فرع:
9315- حكى العراقيون عن ابن سريج أنه قال: إذا قال الزوج لامرأته: إن لم أطلقك اليوم، فأنت طالق اليوم، فلا يقع الطلاق أصلاً؛ وذلك أنه ما دام اسم اليوم موجوداً، فيقدّر التطليق فيه، فلا يقع الطلاق. وإذا انقضى اليوم، فقد فات الإيقاع والوقوع جميعاً.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا هفوة، والوجه القطع بأن الطلاق يقع في آخر جزء من اليوم، ونتبين ذلك بعد انقضائه، والدليل عليه: أنه لو قال: أنت طالق إن لم أطلقك، فإذا مات ولم يطلقها، فيتضح لنا أنها طلقت قُبيل موته، وما ذكره ابن سريج يقتضي ألا يقع الطلاق، ولو هجم هاجم على ركوب هذا، لكان خارقاً للإجماع.
فرع:
9316- إذا قال لامرأته: إن خالفت أمري، فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي زيداً، فكلمته، لم تطلق؛ لأنها خالفت نهيه، ولم تخالف أمره.
ولو قال لها: إن خالفتِ نهيي فأنت طالق، ثم قال لها قومي، فقعدت، فقد ذهب الفقهاء إلى أن الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به، وقالوا على حسب معتقدهم: إذا قعدت، فقد خالفت نهيه، فيقع الطلاق، وقد أوضحنا في مجموعاتنا في الأصول أن الأمر لا يكون نهياً، ولا يتضمن نهياً، فلا يقع الطلاق إذاً.
ولو كنا نعتقد اعتقاد الفقهاء، لتوقفنا في وقوع الطلاق أيضاًً؛ فإن الأيْمان لا تحمل على معتقدات الناس في الأصول، وإذا قال لها الرجل: قومي، فلم يوجد منه نهي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(14/324)
حتى يفرض تعلّق الطلاق بمخالفته، والطلاق لا يقع بالضِّمْن إذا لم يجر الوصف الذي هو متعلق الطلاق تحقيقاً.
فرع:
9317- إذا قال لنسائه: من أخبرتني بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فأخبرته منهن واحدة، طلقت، صادقةً كانت أو كاذبةً.
وقال بعض المصنفين: لا يقع الطلاق ما لم تكن صادقة، وهذا فيه احتمال.
ولو قال: من أخبرتني أن زيداً قَدِمَ، فهي طالق، فأخبرته واحدة، طلقت، وإن كانت كاذبة، وإنما أوردنا هذا الفرع لحكاية هذا الفرق بين اللفظين، وهو حسن، فانتظم منه أنه إذا قال: من أخبرني بأن زيداً قد قَدِمَ فلا فرق بين الصّدق والكذب، وإن قال: من أخبرني بقُدومِ زيدٍ، فأخبرت واحدة كاذبةً، ففي المسألة وجهان، لم أقدّم ذكرهما.
فرع:
9318- إذا قال: أنت طالق بمكة، وأراد تعليق الطلاق على أن تأتي مكة وتطلّق حينئذ، فهذا محتمل، وإن قال: أردت التنجّيز، قَبِلْنا، ولم نتأنّق في إظهار وجهٍ من الوقوع.
وإن أطلق لفظه، فقد حكى شيخي وجهين في أنه هل يحمل على التعليق، أو على التنجيز، ففي المسألة احتمال، أما التعليق، فسابق إلى الفهم، وأما التنجيز، فسببه أنه ليس في اللفظ أداة تصلح للتعليق.
فرع:
9319- إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: عجّلت تلك الطلقة المعلقة وجعلتها منجّزة، فإنها تقع في الحال.
ولو وُجدت تلك الصفة، ففي وقوع الطلاق وجهان ذكرهما شيخي، وحاصلهما يرجع إلى [أن] (1) الطلاق المعلق هل يقبل التنجيز أم لا؟ وقد قدمت هذا في أول كتاب الخلع، ولكن رأيت هذين الوجهين للشيخ أبي عليّ، فأحببت نقلهما.
فرع:
9320- إذا قال: أنت طالق إلى حين، أو زمان، فإذا مضت لحظة وإن لطفت، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن اسم الحين والزمان ينطلق عليه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(14/325)
ولو قال لها: إذا مضى حِقَبٌ أو دهرٌ، فأنت طالق، قال الأصحاب: هذا كما لو قال: إذا مضى زمان أو حين، وهذا مشكل جداً؛ فإن اسم الدهر والحقب لا يقع على الزمان اللطيف، وإيقاع الطلاق بعيد مع حسن قول القائل هذا الذي مضى ليس بدهرٍ، وقيل: سُئل أبو حنيفة (1) عن تعليق الطلاق بالدهر، فقال: لا أدري، وروجع مراراً فأصرّ عليه.
والذي أراه فيه أن العَصر عبارة عن زمانٍ يحوي أمماً، فإذا انقرضوا، فقد انقرض العصر، أو من قول الناس: انقرض عصر الصحابة. ومن كلام الأصوليين هل يشترط في انعقاد الإجماع انقراض العصر؟ هذا بيّن في معنى العصر، والحكم بوقوع الطلاق دون ذلك، أو في الزمن القريب بعيد عندي، وأما الدّهر، فإطلاقه على الزمان القريب بعيدٌ، [بعد] (2) ما تمهّد من وجوب إمالة الفتوى إلى نفي الطلاق.
وهذه الألفاظ تُصوّر مطلقةً، وفيها يقع الكلام، وبحقٍّ توقّف أبو حنيفة في هذه المسألة، وفي القرآن ما يدل على أن الحين من الدّهر، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] وسُمي القائلون بقدم العالم دهريةً، وقد يطلق الدهر، ولا يراد به الزمان، وهو معنى تسمية الملحدة دَهْرية، فإنهم يضيفون مجاري الأحكام إلى الدّهر، وإلى هذا أشار الرسول عليه السلام، وقال: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر" (3) وليس ينقدح لي في الدهر معنى إذا كان مطلقاً، وقرن بالمضي إلا الحمل على العصر، فإنه يقال مضى عصر الأكاسرة، وانقضى دهرهم، ولست واثقاً بهذا أيضاًً، والذي حكيته عن الأصحاب تنزيل الدهر والعصر منزلة الحين والزمان.
فرع:
9321- قال صاحب التقريب: إذا قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد، فلا يقع أصلاً، فإنه علق وقوع الطلاق في اليوم على مجيء الغد، فلا يقع الطلاق قبل
__________
(1) لم نصل إلى هذا النقل عن أبي حنيفة في كتب الأحناف التي رجعنا إليها، أما المسألة فانظر المبسوط 6/105، 114، وفتح القدير، والكفاية: 3/371.
(2) زيادة من المحقق.
(3) حديث: "لا تسبوا الدهر ... " أخرجه مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب كراهية تسمية العنب كرماً، ح 2247. =(14/326)
مجيء الغد، ثم إذا جاء الغد، فقد مضى اليوم، فلا يمكننا أن نوقع الطلاق في الزمان الماضي.
ولا يبعد أن يقال: يقع الطلاق إذا جاء الغد مستنداً إلى اليوم، كما لو قال: إذا قدم زيد، فأنت طالق قبل قدومه بيوم، فالمسألة مشكلة.
فروع ذكرها ابن الحداد من مسائل الخلع
9322- منها: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثنتين إحداهما بألف، فنقول: لا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها، وإما ألا تكون مدخولاً بها، فإن كانت مدخولاً بها، فلا يخلو إما أن قبلت الألف أو لم تقبلها: فإن قبلت الألف، حكمنا بوقوع الطلقتين على الصحيح، وسنذكر فيها خلافاً في أثناء المسألة، إن شاء الله.
وإن لم تقبل الألف، فهل يقع طلقة واحدة أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقع شيء؛ فإنه ذكر عوضاً في مقابلة إحداهما، وجعل الأخرى تابعة لها، فإذا لم تقع التي هي بعوض، فلا تقع الأخرى.
والوجه الثاني - تقع واحدة من غير عوض رجعية؛ فإنّه علق إحداهما بعوض، ولم يعلق الأخرى بالعوض، فينبغي أن تقع، فلا تفتقر إلى القبول، قال الشيخ هذا هو القياس، واختار ابن الحداد الوجه الأوّل.
ثم قال رضي الله عنه، ولا خلاف أنه لو قال: أنت طالق ثنتين واحدة بألفٍ، والأخرى بغير شيء، فتقع تلك الواحدة من غير قبول، [وحكي] (1) الوفاق في هذه الصيغة، وليس يبعد عندنا طرد الوجهين فيها أيضاًً تشبيهاً (2) بالمسألة الأولى.
فإن قلنا: إنه لا يقع شيء أصلاً لو لم تَقبل، فإذا قبلت وقعتا جميعاًً.
وإن قلنا: إن طلقةً تقع من غير قبول، فعلى هذا كما (3) قال الزوج ما قاله،
__________
(1) في الأصل: نحكمي (رسمت هكذا تماماً) .
(2) في الأصل: وتشبيهاً.
(3) كما: بمعنى كلما، أو عندما.(14/327)
حكمنا بوقوع طلقة رجعيةٍ، فإذا قبلت فيكون ذلك بعد وقوع طلقة رجعية، فإذا قبلت، فيكون ذلك اختلاعاً بعد وقوع طلقةٍ رجعيةٍ.
وقد اختلف المذهب في أن الرجعية هل يصح اختلاعها؟ فإن جوّزناه، فقد لزمها الألف وبانت، وإن قلنا: لا يلزمها المال أصلاً، قال الشيخ: فهل يقع الطلاق الثاني رجعياً مع الأوّل، فيقع طلقتان رجعيتان، فعلى وجهين: أحدهما - لا يقع؛ فإن المال لم يلزم وهو [ملازمٌ للمال] (1) .
والثاني - إنه يقع؛ فإن المرعي في وقوع الطلاق القبول، وقد جرى، فأشبه ما لو خالع امرأته المحجورة.
هذا كله إذا كانت المرأة مدخولاً بها.
9323- فإن كانت غير مدخول بها والمسألة بحالها، فإن قلنا: لا يقع طلقة من الطلقتين إلا بالقبول، فإن قبلت، صح الخلع ووقعتا جميعاًً.
وإذا قلنا: تقع طلقة مجّاناً، فتبين بها قبل أن تجيب، ولا يصح الخلع أصلاً، فلا حكم لقبولها، فإنه جرى بعد البينونة.
وفي المسألة مباحثةٌ نُطلع على لطفها وسرِّها، وذلك أنا إذا قلنا: لا يقع شيء إذا لم تقبل، فإذا قبلت، وقعت الطلقتان، فإحداهما تُقابل بالعوض والأخرى عريَّةٌ عن العوض، والطلاق المقابَل بالعوض في حق المدخول بها مُبينٌ، والطلاق الذي لا عوض معه، ولا يحصل استيفاء العدد به ليس بمُبين، فيقع طلاقان: أحدهما - المبين ويقترن [به] (2) طلاق على نعت الطلاق الرجعي.
9324- ولو قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها، طُلِّقت طلقةً بعوض، ولم تلحقها الطلقة المعلقة؛ فإنها لو لحقتها، لصادفت بينونةً، واقتران البينونة يمنع وقوع الطلاق، كما أن تقدّم البينونة يمنع استعقاب الطلاق، فكيف يقع طلاقان مختلفان أحدهما بمال والآخر عريٌّ عن العوض، فالطلاق المُبين
__________
(1) في الأصل: غير مقروءة (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: بها.(14/328)
ينافي وقوع الطلاق الذي لو انفرد، لكان رجعيّاً.
وإن قيل في جواب ذلك: لا يمتنع في الاجتماع هذا؛ فإن من طلق امرأته ثلاثاً، فلو فرضنا الاقتصار على طلقتين، لكانتا رجعيتين، والثالثة توقع الحرمة الكبرى، ثم لم يمتنع الاقتران.
وهذا لا يدفع بالسؤال، فإن الثلاث إذا جمعت، فحكمها تحريم العقد، ولا يتصف طلقة منها بكونها رجعية، بل حكم جميعها تحريم النكاح، والطلاق بالمال متميز عن الطلاق المقترن به صفةً وحكماً، فيقع الطلاق المقترن به مع البينونة، والواقع مع البينونة يصادف بائنة، وإذا صادف بائنةً، وجب ألا يمتنع وقوعه بعد البينونة.
فوجه الجواب إذاً أن نقول: إذا فرعنا على أن المرأة لو لم تقبل المال، لم يقع واحدة من الطلقتين، فاستحقاق المال يتعلق بالطلاقين، وإن أثبت أحدهما أصلاً والثاني تبعاً، فسبب وقوع التابعة ارتباطها؛ بالأخرى؛ من حيث إنها تتوقف على قبول المال توقف الأخرى.
هذا هو الوجه في الانفصال عن السؤال، وقد تركنا على الناظر فضلَ نظر، فلينظر، فقد مهدنا السبيل.
9325- ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً على ألف، فقالت: قبلتُ واحدة، أو قالت: قبلت واحدةً بثلث الألف، فلا يقع الطلاق أصلاً، وبمثله لو قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة، استحق ثُلثَ الألف.
وقد قدمنا هذا في أصول الخلع، واستفرغنا الوُسع (1) في الفرق.
قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا تخريجاً في جنب الزوج، أنها إذا سألت ثلاثاًً بألف، وأجابها إلى واحدةٍ لم يستحق شيئاً، ولم يقع الطلاق قياساً على جانبها.
وهذا غريب جداً.
ولو قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت واحدة بألفٍ، قال
__________
(1) عبارة الأصل: واستفرغنا الوسع في الوسع، في الفرض ...(14/329)
الشيخ: المذهب الصحيح أن الطلاق يقع على الجملة على ما سنفصله، إن شاء الله، وإنما قلنا ذلك، لأن التعويل في جانبها على قبول المال، وقد قبلت المال.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق لاختلاف الإيجاب والقبول، فأشبه ما لو قال الرجل: بعت منك هذين العبدين بألف، فقال المخاطب: قبلت البيع في هذا العبد بألف، فلا يصح البيع.
قال الشيخ ويحتمل أن نقول: يصح البيع في ذلك العبد بالألف، تخريجاً على أصلٍ وهو أنه لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألفٍ، فباعه بألفٍ وثوبٍ، فهل يصح ذلك؟ فيه قولان وتفصيلٌ طويل.
وهذا التخريج في البيع بعيد؛ من قِبل أن المخاطب في البيع إذا غير طريق المقابلة يخرج كلامه عن كونه جواباً، والمرأة إذا قبلت الألف، فتعرضها لعدد الطلاق وتوحيده لا معنى له، فإذا عرفت أن الأصح وقوع الطلاق، فكم يقع؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يقع واحدة، فإنها قبلت واحدة، وهذا ظاهر كلام ابن الحداد. وإن لم يصرح به، وذلك أنه قال: قد أجابته وزادته خيراً، فلو كان يقع الثلاث، لما كان لما قاله ابنُ الحداد معنى.
والوجه الثاني - وهو اختيار القفال أنه يقع الثلاث، وهذا هو المذهب الصحيح، وذلك أن قبول الطلاق وتفصيله ليس إليها، وإنما إليها قبول المال فحسب، فمهما (1) قبلت ما رامه الزوج من المال، وقع ما قاله الزوج من الطلاق، وما ذكره الشيخ أبو علي من التخريج في البيع ينقدح على رأي ابن الحداد، ولا خروج له على الأصح الذي اختاره القفال، ولا يخفى دَرْكُ ذلك على الناظر.
ثم إذا حكمنا بوقوع الطلاق، فالمذهب الصحيح أن الألف يلزم.
قال الشيخ: رأيت لابن سريج وجهاً أن العوض يفسد، والرجوع إلى مهر المثل،
قال الشيخ، وهذا محتمل [إن] (2) قلنا: يقع طلقة واحدة، بل هذا [أوجه] (3) على
__________
(1) "مهما" بمعنى: "إذا".
(2) في الأصل: وإن قلنا. (وحذْف الواو تصرّفٌ منا) .
(3) في الأصل: الوجه.(14/330)
هذا الوجه، وإن قلنا يقع الثلاث، ففساد العوض أبعد على ذلك.
9326- ثم ذكر ابن الحداد مسائل في الاختلاف نشير إلى بعضها؛ فإن أكثرها متعلق بكتب ستأتي، إن شاء الله.
فمما ذكره أن الرجل إذا كان تحته صغيرة وكبيرة، فخالع الكبيرة، على مال، وأرضعت الكبيرة الصغيرة، وأشكل الأمر، فلم ندر أيهما أسبق، ولا يخفى حكم سبق كل واحدٍ منهما لو ظهر، فلو سبق الرضاع، لغا الخلع، ولو سبق الخلع صح، ولا أثر للرضاع في الإفساد؛ فإن اختلف الزوجان، نُظر: إن اتفقا على وقت الخلع، وأنه جرى يوم الجمعة، واختلفا في وقت الرضاع، فقال الزوج: جرى يوم السبت، فقالت: بل يوم الخميس، فالقول قول الزوج، والأصل بقاء النكاح يوم الخميس، وإن اتفقا على أن الرضاع كان يوم الجمعة، واختلفا في الخلع، فقال الزوج: كان يوم الخميس وقالت: لا بل يوم السبت، فالقول قولها؛ فإن الأصل بقاء النكاح، وذكر من هذا الجنس مسائل ستأتي في كتبٍ، إن شاء الله، فلم نأت بها.
فرع:
9327- إذا قالت المرأة لزوجها، طلقني على ألف درهم طلقة، فقال: طلقتك بخمس مائة، فالمذهب أن الطلاق يقع بمجرد ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع لاختلاف الإيجاب والقبول، كما لو قال: بعني عبدك بألفٍ، فقال بعتكه بخمسمائة، قال الشيخ أبو علي: تصحيح البيع محتمل عندي، وقد قدمنا لذلك نظيراً.
ثم إذا وقع الطلاق، فكم يستحق الزوج؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه يستحق تمام الألف؛ فإن تقدير المال إليها، والطلاق إليه.
والوجه الثاني - أنه لا يستحق إلا خمسمائة؛ فإنه رضي بها ولم يقبل الملك إلا فيها، والعوض لا يُمْلَك إلا بتمليك وتملك، ويحتمل عندي أن يُخرّج وجهٌ في المسألة في فساد العوض، والرجوع إلى مهر المثل.
وقد ذكر الشيخ لهذا نظيراً فيما سبق، ولم يذكره هاهنا.
ولو قال الرجل لآخر: إن رددت علي عبدي الآبق، فلك عليّ دينار، فقال(14/331)
المخاطب: أرده بنصف دينارٍ، فالوجه عندي القطع بأنه يستحق الدينار؛ فإن القبول لا أثر له في الجعالة، وقد ينقدح فيه خلاف أيضاًً؛ فإن قبول المال لا أصل له في الخلع أيضاًً، فالطلاق ثَمَّ كردّ العبد هاهنا، غيرَ أن الطلاق قولٌ شُرط اتصاله بالاستدعاء، فضاهى القبول ولبسه (1) .
فرع:
9328- الزوج إذا ادعى اختلاع امرأته بألف درهم، فأنكرته، فأقام شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين، ثبت المال؛ فإن المال يثبت بما ذكرناه، أما الفرقة، فقد ثبتت (2) بقوله.
ولو ادعت المرأة الخلع، فأنكره الزوج، فلا بد من شاهدين؛ فإن غرضها إثبات الفرقة.
قال الشيخ: لو ادعى الرجل الوطء في النكاح، وغرضه إثبات العدة والرجعة، فلا يقبل منه إلا شاهدان [إن] (3) أراد إقامة البينة.
ولو ادعت المرأة مهراً في النكاح، وأنكر الزوج أصل النكاح، فأقامت شاهداً ويميناً على النكاح، وغرضها إثبات المهر، قال الشيخ: لم يثبت شيء بخلاف ما قدمناه، وذلك أن النكاح ليس المقصود منه إثبات المال، وإنما المال تابع، والنكاح لا يثبت إلا بشهادة عدلين.
وكان شيخي يقول: يثبت المهر إذا قصدته. وما ذكره الشيخ أبو علي أفقه (4) ؛ فإنها وإن أثبتت مقصود المال، فمقصودها في النكاح غيرُ المال، والشاهد لهذا أن الشافعي لم يقض بانعقاد النكاح بحضور رجل وامرأتين، وهذا مشعر بأن النكاح من الجانبين لا يثبت إلا بعدلين، ولا يثبت شيء من مقاصده، وفي المسألة احتمال على حال.
__________
(1) كذا. بهذا الرسم تماماً، ولم أدر لها وجهاً. (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: تثبت.
(3) زيادة من المحقق. وهي موجودة فيما نقله السبكي في طبقاته عند ترجمته للإمام.
(4) جزم الرافعي بأن المهر يثبت بالشاهد واليمين، ولكن السبكي نقل المسألة كاملة، وأطال النفس في الانتصار لقول الإمام رادّاً لكلام الرافعي (ر. الطبقات: 5/220) .(14/332)
وسأجمع بتوفيق الله في الدعاوى والبيّنات قواعدَ المذهب فيما يثبت بالشاهد والمرأتين، وما لا يثبت إلا بعدلين.
وإلى الله الابتهال في تصديق الرجاء وتحقيق الأمل، وصرف ما نتعب فيه إلى نفع المسلمين، وقد نجز ما حصرنا من مسائل الطلاق أصلاً وفرعاً، وستأتي بقايا في الرجعة، والإيلاء، والظهار، إن شاء الله.
9329- وقد كنا وعدنا أن نجمع في آخر الكتاب قولاً ضابطاً يجري مجرى التراجم المذكّرة، والكتابُ مشتمل على أحكام وتصرُّفٍ في ألفاظ، فأما الأحكام، فلها أصول، وقد تمهدت وتفرعت.
وأما الألفاظ، فالكلام فيها على أنحاء، منها: القول في الصريح والكناية، وقد مضى موضّحاً، ولا مَعْدِل عما هو صريح لفظاً ومحلاً وصيغةً إلا بجهات التديين، وقد انتظمت قواعد التديين.
والقول في الكنايات مضبوطٌ، فلا حاجة إلى إعادته، والصرائح تجري على صيغ، وصلات، وتكريرات تتردد بين التأكيد والتجديد وغيرها، فيلقى الفقيه أقساماً [وربما] (1) يقتضي الإطلاق وقوعاً، وينتظم في إبداء تأويل يخالف الوقوع خلافٌ (2) .
وربما يقع الوفاق في قبول التأويل، ويجري في الإطلاق خلاف. وقد قدمت مراتب المذهب فيه.
هذا كله تصرف في الصريح والكناية ومبانيها وصلاتها، ومحالّها.
9330- فأما ألفاظ المطلّقين في صفاتهم وتعليقاتهم، فلا ضبط لها، فكل ما يتفق فيه موجب اللسان والعرف، فالحكم به، ولا حيد عنه إلا بالتّدْيين على شرطه (3) .
وإذا أشكل اللفظ في اللسان والعرف، فإن كان مثبَّجاً (4) ، فلغوٌ؛ فإن النية
__________
(1) في الأصل: وبما.
(2) خلافٌ: فاعل لقوله: ينتظم.
(3) على شرطه: أي على شرط التديين.
(4) مثبجاً: ثَبجَ الرجل الكلامَ والخط ثبجاً عماهما ولم يبينهما. (المعجم) فالكلام المثبج أي المعمّى الذي لا يعرف له معنى.(14/333)
المجردة لا توقع الطلاق، وإن كان مردداً بين الاحتمالات، فليس إلا مراجعة صاحب اللفظ.
وإن اقتضى اللسان معنىً والمفهومُ في عرف الاستعمال غيره، فيختلف العلماء في أن المتبع اللسان، أو ما يسبق إلى الفهم في اطراد العرف، وعلى هذا التردد خرجت مسائل المعاياة، وذكرنا أن المختار اتباعُ العرف؛ فإن العبارات لا تُعنى لأعيانها، وهي على التحقيق أماراتٌ منصوبة على المعاني المطلوبة، وهذا منتهى المراد.
***(14/334)
كتاب الرجعة
9331- الأصل في الرجعة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] ، والرد: الرجعةُ باتفاق المفسرين، وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قيل: أراد بالإمساك الرجعة في العدة، وأراد بالتسريح أن يتركها حتى تنسرح بانقضاء العدة، وقيل: الإمساك في الآية ليس رجعة، والمراد مخاطبة الأزواج بأن يمسكوا بالمعروف، أو يسرحوا بالإحسان.
وذكر الشافعي في أول الكتاب آيتين إحداهما قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] والأخرى قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ثم قال: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، فالبلوغ في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} بمعنى مقاربة انقضاء العدة، لأن العدة إذا انقضت، فلا سبيل إلى الإمساك، ولا ينتظم التخيير بينه وبين التسريح، والبلوغُ في الآية الثانية بمعنى انقضاء العدة؛ فإن النهي عن العضل لا يتحقق إلا عند انقضاء العدة، أما البلوغ بمعنى الانقضاء، فبيّنٌ لا يحتاج فيه إلى تأويل، وأما البلوغ بمعنى المقاربة، ففيه ضَربٌ من التوسع، وهو على مذهب قول القائل: "بلغت البلدة" إذا قاربها ودنا منها.
والأصل في الرجعة من جهة السّنة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرَ في ابنه عبدِ الله "مُرْه فليراجعها" الحديث.
وأجمع المسلمون على ثبوت الرجعة، فمن يملك ثلاثَ طلقاتٍ يُتصوّر منه رجعتان إحداهما بعد الطلقة الأولى، والثانية بعد الثانية، والطلقة الثالثة تُحرِّم عقد النكاح تحريماً ممدوداً إلى التحليل والتخلّي من نكاح المحلِّل وعِدّته.
والعبد يملك طلقتين ورجعةً واحدةً، ثم الاعتبار عندنا في عدد الطلاق برق الزوج وحريته، فالحر يملك ثلاثَ طلقات، سواء كانت زوجته حرة أو رقيقة، والعبد يملك(14/335)
طلقتين سواء كانت زوجته حرةً أو رقيقةً، وأبو حنيفة (1) اعتبر في عدد الطلاق رق الزوجة وحرّيتها، والمسألة مشهورة في الخلاف.
فصل
قال: "والقولُ فيما يمكن فيه انقضاءُ العدة قولُها ... إلى آخره" (2)
9332- مقصود هذا الفصل يتعلق بالأصناف التي تتعلق العدة بها، فنذكر في كل صنف ادعاء المرأة انقضاء العدة، فإن كانت من ذوات الأشهر، بأن تكون آيسة متقاعدةً عن الحيض، فإذا ادعت انقضاء الأشهر وأنكر الزوج، فهذا الخلاف في التحقيق يرجع إلى وقت الطلاق، وإذا اختلف الزوجان في وقت الطلاق، فالقول قول الزوج مع اليمين لا محالة؛ إذ الرجوع إلى قوله في أصل الطلاق وعَدده، فالقول قوله في وقت الطلاق. وحقيقةُ هذا يرجع إلى نفي الطلاق وإثباته في الوقت المعيّن، فهي تدعي الطلاق فيه، والزوج ينكر.
فأما إذا كان انقضاء العدة بوضع الحمل، وهذا ينقسم ثلاثة أقسامٍ: أحدها - أن تدعي إسقاط سقطٍ (3) ظهر فيه التخطيط والتخليق، فالقول قولها مع اليمين؛ إذ لا طريق إلى معرفة ذلك إلا من جهتها، فكان الرجوع إليها، كما لو ادعت الحيض، ولا يشترط أن تأتي بالسقط وتُريه الناس، وإن كان ذلك داخلاً في الإمكان؛ فإنها وإن فعلت ذلك، لم نتحقق أن السقط منها، فلا معنى لتكليفها ذلك.
ثم ذكر القاضي وبعضُ المصنفين أن إسقاط السقط إنما يكون في مائة وعشرين
يوماً، فإن ادعت ذلك في هذه المدة من يوم إمكان الوطء بعد النكاح، قُبل ذلك
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 204، مختصر اختلاف العلماء: 2/407 مسألة 913، رؤوس المسائل: 417 مسألة 290، الغرة المنيفة: 161، طريقة الخلاف: 113 مسألة 47، وإيثار الإنصاف: 159.
(2) ر. المختصر: 88.
(3) سقْط: قال في المختار: مثلثة السين، وفي المصباح اقتصر على الكسر، وفي المعجم الوسيط ضبطها بالضم فقط.(14/336)
منها، وإن ادعت إسقاط السِّقْط لأقلَّ من ذلك من يوم النكاح، لم يقبل ذلك منها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدء خلق أحدكم في بطن أمه أربعون يوماً نطفة، وأربعون يوماً علقة، وأربعون يوماً مضغة، ثم يبعث الله ملَكاً فينفخ فيه الروح، ويكتب أجله ورزقه، ويكتب [أشقييٌّ] (1) هو أم سعيد" (2) .
ولو ادعت إسقاط لحم، لم يظهر فيه التخطيط ففي انقضاء العدة بوضعه قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب العِدد، إن شاء الله.
فإذا قلنا: لا تنقضي العدة بوضعه، فلا معنى لادعائها، وإن قلنا: تنقضي العدة به، فالقول فيه كالقول في القسم الأول، فيقبل قولها مع يمينها، ثم إن ادعته لثمانين يوماً من يوم النكاح، صُدِّقت وحُلِّفت، وإن ادعته لأقلَّ من ذلك من يوم النكاح، لم تصدق، وإذا كنا في أمثال هذه المدد والحُكم بالأقل منها والأكثر نرجع إلى الوجود - مع ما فيه من الخبط والاضطراب- فإذا وجدنا فيه مستمسكاً من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أولى بالتعلق، وقد دل حديث ابن مسعود أن التخليق في المائة والعشرين، وانعقاد اللحم على تواصل والتئام في ثمانين يوماً.
ولو ادعت ولادة ولدٍ كاملِ الخلقة، فالقول فيه قولها في ظاهر المذهب، وقال أبو إسحاق: لا يقبل قولها؛ لأن الولادة تشهدها القوابل في الغالب بخلاف السِّقْط فإن سقوطه يفجأ، والولد التام يقدُم انفصالَه الطَّلْقُ، والولادة فيه على الجملة مشهودة، وهذا المذهب متروك على أبي إسحاق، والأصح تصديقها؛ فإن النساء مؤتمنات في أرحامهن (3) .
9333- فأما إذا كانت عدتها بالأقراء، فادعت انقضاء العدة، فهذا من حقه أن
__________
(1) الزيادة من كتب الحديث.
(2) حديث ابن مسعود متفق عليه (البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، ح 3208، مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، ح 2643) .
(3) خالف في ذلك ابن أبي عصرون، فقال: "والقياس مع أبي إسحاق، وما في أرحامهن محمول على الحيض والإسقاط" صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 51 يمين.(14/337)
يذكر في كتاب العِدد، ولكن توافَقَ الأصحابُ في المجموعات والمصنفات على ذكره [في الرجعة] (1) ؛ فإن الحاجة ماسة [إلى ذلك] (2) في أمر الرجعة وبقائها وانقضائها، فالمرأة لا تخلو إما أن تكون مبتدأة، أو معتادة، فإن كانت معتادةً، فلا تخلو إما أن تكون عاداتها مختلفة، وإما أن تكون أدوارها مستقيمة، فإن كانت عاداتها مختلفة، أو كانت عادتها مستقيمة على الأقل في الطهر والحيض، نظر:
فإن طلقها في حالة الطهر، فأقل مدة تصدق فيها على انقضاء العدة اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان؛ لأنا نقدر وقوع الطلاق، وقد بقي من الطهر لحظة، فنحسبها قرءاً، ثم بعدها يوم وليلة حيضٌ، ثم خمسةَ عشرَطُهرٌ، ثم يوم وليلة حيضٌ، ثم خمسةَ عشرَ طهر، ثم تطعن في حيضة بلحظة، وهذه اللحظة للاستبانة محسوبةٌ من العدة. فإن ادعت انقضاء العدة في اثنين وثلاثين يوماً ولحظة واحدة، فهذا يخرج على قولٍ للشافعي في أن القرء وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض.
فعلى هذا إذا قال: أنت طالق في آخر جزءٍ من طهركِ، فيقع الطلاق في الجزء الأخير من الطهر، ويُحْسَب انتقالها إلى الحيض قرءاً، فيسقط لحظة، وعلى المشهور لا بد من لحظة من الطهر بعد الطلاق، وقول الانتقال لا يتصور إلا إذا كان الطلاق معلقاً، بآخر جزء من الطهر؛ فإنه لا يمكن تنجيز طلاق مع درك مصادفته للجزء الأخير من الطهر، وإذا علق، وقع كذلك.
9334- وإن طلقها في حالة الحيض، فأقل مدة تُصدَّقُ فيه على انقضاء العدة سبعة وأربعون يوماً ولحظة؛ لأنا نقدر وقوع الطلاق في آخر جزء من الحيض بالتعليق، فيمضي خمسةَ عشرَ يوماً وهي طهر، ثم يوم وليلة حيض، ثم خمسةَ عشرَ يوماً، ثم يوم وليلة، ثم خمسةَ عشرَ، ثم تطعن بلحظة في الدم، وهذه اللحظة للاستبانة، وليست محسوبة من العدة، ولم نشترط في أول العدة أن تبقى من الحيض لحظة؛ لأن زمان الحيض لا يحتسب من العدة، بخلاف ما قدمناه في زمان الطهر؛ فإن اللحظة
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة لاستقامة العبارة.(14/338)
الأخيرة محسوبة من العدة معدودة قرءاً، والانتقال من الطهر إلى الحيض معدود قرءاً في قول بخلاف الانتقال من الحيض إلى الطهر.
فهذا بيان أقل زمان يفرض انقضاء العدة فيه، إذا صادف الطلاق الطهر أو الحيض، فإن ادعت الانقضاءَ في زمان ممكن، صُدِّقت مع اليمين.
وإذا ادعت الانقضاء في زمان أقلَّ مما ذُكر، فلا شك أنا لا نصدقها؛ فإنها ادعت ما لا يوافقه الإمكان، فلو مضى من الزمان ما انتهى به الأمد إلى حد الإمكان، فإن كذََّبت نفسَها فيما ادعته من قبل، وابتدأت (1) عند مضي زمان الإمكان، فادعت الانقضاء الآن، صُدِّقت بلا خلاف.
وإن أصرّت على دعواها الأولى التي كذبناها فيها، ثم انقضى من الزمان ما يتصل به الإمكان، فهل نصدقها الآن؟ فظاهر المذهب أنا نصدقها، ولا معوّل على ما سبق منها، وإصرارُها على دعوى انقضاء العدة بمثابة ابتدائها الدعوى بعد تحقق الإمكان.
وهذا يناظر ما لو ادّعى المخروص عليه في الزكاة غلطاً متفاحشاً على الخارص لا يتفق وقوع مثله لخبيرٍ بالخرص، [فقول] (2) المخروص عليه مردود في المقدار المتفاحش، وهل يقبل قوله في المقدار الذي يقع مثله للخارص المتدرب؟ المذهب أنه يقبل قوله في ذلك المقدار، وإن كانت دعواه متعلقة به وبالزائد عليه المنتهي إلى ما يندر وقوعه.
ومن أصحابنا من قال: إذا أصرت المرأة على دعواها الأولى، ولم تكذب نفسها فيما سبق منها، ولم تستفتح دعوى ممكنة، فلا يقبل قولها؛ فإن انقضاء العدة مما لا يتكرر، والذي ادعته مردود، ولم تدع دعوى أخرى، فتقبل والحالة هذه، وهذا الوجه له اتجاه في المعنى، وإن كان الأظهر غيرَه.
والقائل الأول يقول: إذا كنا لا نصدقها وهي مصرّة أدّى ذلك إلى أن ينقضي الزمن الأمد ولا نحكم بانقضاء عدتها بالبادرة التي صدرت منها.
__________
(1) أي ابتدأت الدعوى.
(2) في الأصل: فنقول.(14/339)
[وكل] (1) ما ذكرناه فيه إذا كانت عادتها مضطربة أو كانت عادتها مستقيمة على الأقل في الحيض والطهر.
9335- فأما إذا كانت عادتها مستقيمة على الأغلب في الحيض والطهر مثلاً، فادعت انقضاء العدة في أقلَّ من ثلاثة أقراء معهودة في أدوارها، فهل يقبل قولها أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو الأصح- أنه يقبل؛ لأن العادة قد تتغير وتتبدل بالزيادة والنقصان، والتقدم والتأخر، والأصل تصديقها إذا أخبرت بمُمكن.
ومن أصحابنا من قال: لا تصدق؛ لأن العادة المستمرة تخالف ما تذكره، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً في الحكاية، فهو بعيد في الاتجاه.
ثم اختلف الأئمة في أن العادة هل تثبت بالمرة الواحدة؟ والأصح ثبوتها بها كما قدمناه في كتاب الحيض.
وإذا فرعنا على الرجوع إلى عادتها فيما نحن فيه، فيبعد عندي التعويل على المرة، ويبعد أيضاًً التعويل على المرتين، ولست أرى لهذا الوجه ضبطاً نَنْتهي في التفريع إليه، والتفاريع محنة (2) الأصول بها يبين فسادُها وسدادُها، ثم لا وجه عندنا مع ما نبهنا عليه من الإشكال إلا الرجوعُ إلى العادة المعتبرة في الحيض، ويجب طرد الخلاف في المرة الواحدة.
9336- وإن كانت المرأة مبتدأة، ففيما تصدق على انقضاء العدة؟
فيه وجهان مبنيان على أن القرء عبارة عن ماذا؟ فإن جعلناه عبارة عن الانقلاب؛ فإنها تصدق في اثنين وثلاثين يوماً ولحظة؛ فإنا نقدر وقوع الطلاق في اللحظة التي تعقبها الحيضة الأولى، وهذا القائل يقول: الصغيرة إذا حاضت بعد الطلاق، [احتسب] (3) لها ما جرى قرءاً.
__________
(1) في الأصل: ولكن.
(2) محنة: محنته محناً من باب نفع اختبرته، وامتحنته، والاسم المحنة (المصباح) .
(3) في الأصل: واحتسب.(14/340)
وإن لم نجعل الانقلاب إلى الحيض قرءاً وجعلنا القرء عبارة عن طهرٍ يحتَوِشُه دمان، فلا نعتد بما يتقدم على الحيضة الأولى طهراً، وتفصيل هذا على كمالِه يأتي في كتاب العدة، إن شاء الله؛ فإذاً لا تنقضي عدتها في أقلَّ من ثمانية وأربعين يوماً ولحظة تطعن بها في الدم؛ فإنه تمر عليها ثلاثة أطهار وثلاث حيض، والمسألة فيه إذا صادفها الطلاق قبيل الحيضة الأولى.
فهذا تمام المراد في ذلك، فإن أغفلنا البسطَ التام، فذاك لتعلقه بأصول العدد، وقد ذكرنا في هذا الموضع ما فيه كفاية لغرض الفصل.
فصل
قال الشافعي: "وهي محرَّمةٌ عليه تحريمَ المبتوتة ... إلى آخره" (1) .
9337- الطلاق الرجعي عندنا يحرم الوطءَ، وجميعَ الاستمتاعات من اللمس والنظر، وهي في التحريم كالبائنة، والشافعي شبهها بالمبتوتة في أصل التحريم، لا في صفته؛ فإن تحريم المبتوتة لا يدفعه إلا نكاحٌ مستجمع لشرائطِ الشرع، بخلاف الرجعية، ووطءُ المبتوتة مع العلم بالتحريم يوجب الحد، ووطءُ الرجعية لا يوجب الحد، وقد هَذَى بعض الناس بإيجابه في الرجعية، ولعله أخذه من القول القديم في وجوب الحد على من وطىء مملوكته المحرمة عليه بالرضاع، أو وطىء مملوكته وقد زوجها، وهذا على نهاية البعد؛ فإن الرجعية مستحلّةُ الوطء عند شَطر الأمة، فهذا إذاً غيرُ معتد به، ولا عود إليه.
ثم أطلق الأصحاب القول بأن الطلاق الرجعي يؤثِّر في الحل وإزالة الملك، ولكنه قابل للارتجاع والردّ، ورُبَّ ملك يزول مع إمكان التدارك فيه.
9338- ثم قال الأصحاب: انتظم من قواعد المذهب ثلاثةُ أقوال في أن الطلاق الرجعي هل يزيل الملك، قولان منها مأخوذان من [أصولٍ ثلاثة للشافعي] (2) أحدها -
__________
(1) ر. المختصر: 4/88.
(2) في الأصل: أصول للشافعي ثلاثة.(14/341)
مخالعة الرجعية، وفيها قولان: أظهرها - أنها جائزة، والثاني - الإشهاد على الرجعة، وفي وجوبه قولان.
والثالث (1) - أن مدة أربع سنين (2) تعتبر من وقت الطلاق أو من وقت انقضاء العدة، يعني عدة الرجعية، وفيه قولان.
وأما القول الثالث، فهو التوقف؛ فإن انسرحت تبينا زوال الملك بالطلاق، وإن روجعت، تبينا أنه لم يَزُل، وهذا القول مأخوذ من قول بعض أصحابنا: إن الرجعية إذا وطئها زوجها نظر: فإن راجعها في العدة، لم يلتزم المهر بوطئها، وإن تركها حتى انقضت عدتها، لزمه المهر، وسنذكر هذا مفصلاً على أثر ذلك، إن شاء الله.
فاستنبط الأصحاب عن هذه الأصول ثلاثةَ أقوال، وهي شبيهة بالأقوال في أن الملك في زمان الخيار في البيع لمن؟ والذي عندنا فيه أن المصير إلى زوال الملك خروجٌ عن المذهب، وقد قال الشافعي: الرجعية زوجة بخمس آيٍ من كتاب الله، وذكر الآيات المتعلقة بالأحكام التي استشهد بها، وكيف لا تكون زوجةً وهي وارثةٌ وموروثةٌ، والتوريث لا يقع من الجانبين إلا بالنكاح، والطلاق يلحقها، ولا تطلق إلا منكوحة، ولا ينكِحها مُطلِّقها، بل يرتجعها، فهي إذاً صائرة إلى البينونة لو لم يرتجعها زوجها.
وأما أخذ زوال الملك من وجوب الإشهاد، فساقط؛ فإنه مأخوذ من التعبد لا غير، ولو لم يكن كذلك، لاشترط رضاها والولي، وأما إفساد (3) مخالعة الرجعية، فهو في الأصل غير متجه. ولو كان عليه معوّل، لكان امتناع الخلع لزوال الملك، ولامتنع التطليق من غير عوض أيضاً بناءً على هذا الأصل، وأما احتساب أكثر مدة الحمل من وقت الطلاق، فسببه أنها غير مستفرشة، ونحن لا نقنع بصورة النكاح في
__________
(1) المراد هنا الثالث من أصول الشافعي، أما (الثالث) الذي بعده، فالمراد به القول الثالث في المسألة.
(2) أربع سنين: أي أكثر مدة الحمل.
(3) كذا. ولعلها: امتناع.(14/342)
الإلحاق، حتى لو غاب الرجل عن المرأة مدة يُقطَع بأنهما ما التقيا فيها، فإنا لا ندخل تلك المدة في الإمكان المعتبر على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله.
وأما قول الوقف، فعلى نهاية السقوط؛ فإن مضمونه الحكمُ بالبينونة مستنداً إلى الطلاق، كما نفعل مثل ذلك في الردة الطارئة على النكاح.
9339- فإن قيل: لم حرمتم وطأها إن كانت منكوحة؛ ولم قضيتم بانقضاء عدتها؟ والعدة لا تنقضي عن الزوج في الزوجية؟ قلنا: هذا مثار الإشكال، فإن كنا ننشىء زوال الملك من أصلٍ، فهذا أولى بالذكر من التحويم على [خيالات] (1) ، ثم تحريم الوطء [يستند] (2) إلى الآثار قبل الحقائق، والتحريمُ قد يحصُل بعوارضَ، والملك تامّ، فكيف إذا ظهر التحلل؟ وهذا مما نستخير الله فيه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إطلاق البينونة لا تحقُّقاً ولا استناداً، وإنما عبروا بالبينونة عن انبتات الملك على وجهٍ لا يُستدرك بالرجعة.
والحاصل عندنا مما قدمناه أن الزوجية باقية، ولكن الطلاق يُجريها -إذا كانت مدخولاً بها- إلى البينونة، وجريانُها إلى البينونة يوجب تحريمَها والاحتسابَ بعدّتها، هذا حكم الشرع فيها، ولا شك أنه خارج عن قياس الأقيسة الجلية، ولا يتخلص أبو حنيفة (3) عن هذا الإشكال بإباحته وطأَها؛ فإنه وافق في شروعها في العدة، والعدةُ لا تمضي من الزوج في صلب النكاح، بدليل أن عدة التي آلى عنها زوجها لا تنقضي في الأربعة الأشهر، وإن كان الإيلاء طلاقاً عند أبي حنيفة.
__________
(1) في الأصل: احتيالات.
(2) في الأصل: "سياق" (انظر صورتها) والمثبت تقدير من المحقق.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 192، مختصر اختلاف العلماء: 2/388 مسألة 893، رؤوس المسائل: 421 مسألة 293، المبسوط: 6/19.(14/343)
فصل
قال: "ولمّا لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام، فلا تكون رجعةٌ إلا بكلام ... إلى آخره" (1) .
9340- قصد الشافعي الرد على أبي حنيفة (2) في مصيره إلى أن الوطء رجعة، وأوضح من مذهبه أن الرجعة لا تحصل إلا بالكلام، وعند أبي حنيفةَ الوطءُ واللمسُ بالشهوة، والنظرُ إلى الفرج بالشهوة يُحصّل الرجعة، سواء جرى على قصدٍ إلى الرجعة أو لم يقصد الزوج الرجعةَ. وعن مالك (3) أن الوطء يكون رجعةً إذا قصد الزوج به الرجعةَ.
فإذا تبين أن الرجعة لا تحصل إلا بلفظ أو إشارة من الأخرس قائمةٍ مقام اللفظ؛ فإن إشاراتِ الأخرس تقوم مقام ألفاظ الناطقين، فالكلام بعد ذلك في العبارات: فإذا قال الزوج: رددتك إليّ، فهذا صريح في الرجعة، وقد قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] ولو قال: "رددتك"، ولم يقل: "إليّ" فهل يكون ذلك صريحاً في الرجعة أم لا؟ ذكر الشيخ أبو علي والقاضي وغيرُهما وجهين.
ولو قال: راجعتك، كفى ذلك من غير صلةٍ؛ فإن هذه اللفظة مُجراةٌ في الاستعمال من غير صلة، وسبب التردد في قوله: "رددتك" أن مُطلِقه من غير صلةٍ بقوله: "إليّ" قد يُفهم منه الرد الذي هو نقيض القبول، وهذا المعنى لا يتحقق في قوله: "راجعتك" وارتجعتك. ولو قال: رَجعْتُك، فهذا مما يستعمل لازماً ومتعدياً، تقول: رجعت رجوعاً ورجعتُ المالَ من زيد رجعاً، فإذا قال: رجعتك، فقد عدى إلى الضمير، وهو الكاف، فالوجه تنزيله منزلة قوله: ارتجعتك.
__________
(1) ر. المختصر: 4/88.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 192، مختصر اختلاف العلماء: 2/388 مسألة 893، رؤوس المسائل: 422 مسألة 294، المبسوط: 6/19، اللباب: 3/54.
(3) ر. الإشراف: 2/758 مسألة 1384، عيون المجالس: 3/1250 مسألة 873، القوانين
الفقهية: 234، شرح زروق: 2/58.(14/344)
ولو قال: أمسكتك، واقتصر على ذلك، ففيه وجهان: أحدهما - أنه صريح في الرجعة، وهذا القائل يتمسك بورود لفظ الإمساك في القرآن [دالاً] (1) على إرادة الرجعة.
ومن أصحابنا من قال: ليس لفظ الإمساك صريحاً في الرجعة.
ثم اختلف المفرّعون على هذا الوجه، فذهب الشيخ والقاضي إلى أن قوله:
أمسكتك وإن لم يكن صريحاً في الرجعة، فهو كناية فيها، فإذا نوى الرجعة، صحت باللفظ والنية.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أن الإمساك لا يصلح للرجعة، وإن اقترنت النية بها (2) ؛ لأن الإمساك معناه الاستدامة والاستصحاب، والرجعةُ ابتداء استحلال، فلا تحصل بما ليس فيه معنى الابتداء.
فتحصّل من مجموع ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه في لفظ الإمساك: أحدها - أنه صريح في الرجعة.
والثاني - أنه كناية مفتقرة إلى النية.
والثالث - أنه غير صالح للرجعة مع النية أيضاًً.
9341- ومما اختلف الأصحاب فيه الرجعةُ بلفظ النكاح والتزويج، فمن أصحابنا
من قال: تحصل الرجعة به؛ فإن اللفظ إذا كان صالحاً لابتداء العقد، وإثبات الاستحقاق؛ فلأن يصلح لتدارك ما وقع من الخرم أولى.
ومن أصحابنا من قال: لا تحصل الرجعة بلفظ التزويج والنكاح؛ فإن النكاح للابتداء وليس فيه إشعار بالتدارك.
وهذا الخلاف قرّبه الأصحاب من الخلاف إذا قال المُكري: بعتك منافع هذه الدار سنة، ففي انعقاد الإجارة بلفظ البيع وجهان، ووجهُ التقريب أن البيع موضوع لتمليك الرقبة، والإجارةُ موضوعةٌ لاستحقاق المنفعة، فتباعد المقتضيان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) بها: على معنى الكلمة أو اللفظة.(14/345)
ثم إن حكمنا بأن الرجعة تصح بلفظ النكاح، فقد ذهب القاضي إلى أنه كناية في الرجعة ولا بد من النية. وقال قائلون: لا حاجة إلى النية، وهو من باب تحصيل الأضعف بالأقوى.
وللأصحاب تردُّدٌ في هذه المسألة من وجه آخر: فمنهم من قال: لا يصلح لفظ النكاح للرجعة وإن نوى به الرجعة، ومنهم من قال: تحصل الرجعة مع النية، والخلاف في أن مُطلَقه هل يفيد الرجعة؟
فينتظم من مجموع ما ذكرناه أوجه: أحدها - أن لفظ النكاح والتزويج يُحصّل الرجعة من غير نية.
والثاني - أنه لا يحصّلها مع النية.
والثالث - أنه كناية لا يعمل بنفسه، فإن اقترن بالنية، نفذ.
ووراء ما ذكرناه سرٌّ لا بد من التنبه له، وهو أنا سنذكر تردداً في أن الإشهاد هل يشترط على الرجعة، فإن [قلنا:] (1) لا يشترط الإشهاد، فلا يمتنع حصول الرجعة بالكناية، وإن قلنا: الإشهاد يشترط في صحة الرجعة، فعقْدُ الرجعة بالكناية بعيد؛ فإن الشهود لا يطلعون على النيات.
وقد يخطر للمنتهي إلى هذا الموضع أن الزوج إذا تلفظ بكناية في الطلاق، ثم رددنا اليمين على المرأة، فإنا نسمع منها اليمين على أن الزوج نوى الطلاق، ومعتمدها في ذلك التعلّقُ بمخايلِ الزوج، فإذا جاز هذا في اليمين، فلتجز الشهادة.
قلنا: لا يجوز تحمّلُ الشهادة بما يجوز الإقدامُ على اليمين به؛ فإنا قد نجوّز للرجل أن يحلف معتمداً [على] (2) خط أبيه إذا كان موثوقاً به عنده، وسنصف مجال الأيْمان والبصائر المرعيّة في تحمل الشهادات في كتاب الدعاوى والبيّنات، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة من المحقق، وهي عند ابن أبي عصرون.(14/346)
وقد يجوز أن يقال: يشهد الشاهد على اللفظ، [ويبقى] (1) التنازعُ في النية، وهذا بمثابة قولنا: المقصود من الشهود إثبات النكاح عند فرض الجحود، ثم لا يشترط الشهادة على رضا المرأة، وهو عماد النكاح؛ فإن الرجل لو جحد، لم يبق النكاح مع جحوده، فإذا جحدت [المرأة] (2) ، فالشهادة على عقد النكاح لا تغني شيئاً.
والوجه ما قدمناه من تنزيل الأمر في الصريح والكناية على الإشهاد.
9342- ومن أسرار هذا الفصل أن العراقيين صاروا إلى أن ألفاظ الرجعة محصورة شرعاً في (الرجعة) (والارتجاع) (والمراجعة) (والرد) . وفي (الإمساك) (والنكاح) الخلافُ المقدم.
وقول الشيخ أبي علي دالٌّ على أن ألفاظ الرجعة لا تنحصر تعبداً، بخلاف النكاح، حتى [لو] (3) قال الزوج: رفعتُ الحرمة بيننا، أو ما جرى هذا المجرى، كان صريحاًً، وسبب الاختلاف في الإمساك ما فيه من التردد، وسبب الخلاف في النكاح مشابهتُه البيعَ بالإضافة إلى الإجارة.
والعراقيون قالوا: سببُ الخلاف في الإمساك تردُّدُ المفسرين في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة:231] على ما قدمناه في صدر الكتاب، وسبب الخلاف في لفظ النكاح إقامةُ الأقوى مقام الأدنى.
وهذا المسلك قد يجري في مجال الحصر والتقيُّد. والمسألة محتملة؛ فإن الرجعة نازلة منزلة جَلْبٍ في البضع بلفظٍ، فكان قريبَ الشبه بالنكاح في هذا المعنى، وإذا اختلف الأصحاب في انحصار صرائح الطلاق، وأنها مبنية على التعبد، وهي على التحقيق إزالة، فهذا في لفظ الرجعة أمكن وأوجه.
9343- ومما ذكره الشيخ أبو علي أن الرجل إذا قال للرجعيّة: راجعتك للمحبة أو
__________
(1) في الأصل: وينفي.
(2) في الأصل: كلمة غير مقروءة.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(14/347)
للإهانة، أو بالمحبة، أو بالإهانة، فإن قال: قصدت بذلك الرجعةَ الحقيقيةَ، وعلّلتها بالمحبة أو بالإهانة، فيقبلُ منه، وتثبت الرجعة.
وإن قال: أردت بذلك أني راجعتك في المحبة، ولكن لم أرْدُدك إلى استمرار النكاح، فلا تصح الرجعة.
وإن أطلق لفظَه في ذلك، ولم ينوِ شيئاً، فقد قال الشيخ: مُطلَقُه يقتضي الرجعةَ، وهذا ما رأيته للمشايخ، وفيه احتمال على بُعدٍ، وإجراؤه على ما ذكر الشيخ هو المتجه، وهو من الأقطاب والأصول؛ فإن قول القائل: "راجعتك" لو فرض الاقتصار عليه، فهو صريح، وفي الصلة الآتية بعده تردّد، فيؤثِّرُ هذا في قبول النية منه في وجهي التردد. وإذا فرض الإطلاقُ، بطلت الصلة، وبقيت اللفظة لو (1) قدّرت مفردة، فينتظم منه قبول التبيين، والمصيُر عند الإطلاق إلى إعمال اللفظ وإلغاء الصلة، ووجه تطرّق الاحتمال أن قائلاً لو قال: كون اللفظ صريحاً يجرّده، وهذا ضعيف؛ فإن المراجعة إذا كانت ملتحقة بالصرائح، فقول الرجل: لم أنو شيئاً يرجع إلى نفي القصد عن الصلة، فينزل هذا منزلة ما لو نطق العربيُّ بصريح الطلاق ووصله بأعجمية لا يفهمها.
9344- ثم ذكر الشافعي أن الوطء لا يكون رجعة، وقد ذكرت مسلك هذه المسألة في (الأساليب) وأوضحت أن حقها أن تبنى على تحريم الوطء، فليتأمله طالبه في موضعه.
ثم إذا لم يكن الوطء رجعةً، فهل يتعلّق به وجوب مهر المثل؟ نصُّ الشافعي دال على وجوب مهر المثل، وقد قال في غير موضع من كتبه: يجب على الزوج المهرُ: راجعها أو لم يراجعها؛ فلم يختلف أئمة المذهب في أنه لو لم يراجعها ويتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فيلزمه مهرُ المثل. ولو راجعها، فظاهر النص أنه يلزمه مهر المثل، وخرّج الأصحاب فيه قولاً أنه لا يجب، وهذا مشكل في التعليل جداً.
وأصدق آية على أن الطلاق يتضمن زوال الملك هذا الذي ذكرناه؛ فإنها لو كانت
__________
(1) جواب (لو) مفهوم من السياق كما هو واضح.(14/348)
على حقيقة الزوجية، لاستحال أن يلتزم الزوج بوطئها مهراً وقد غَرِم مهرَ النكاح، فلما نص الشافعي على وجوب المهر، أشعر هذا بكونها غيرَ مُستَحَقةٍ بالنكاح.
والتحقيق فيه أنا إذا قلنا: زال الملك بالطلاق، فقد ملكت المرأة نفسها، ولكن للزوج عليها سُلطان الرّد، فإذا لم نجعل الوطء رداً، فقد [وقع] (1) الوطء، وهي غير مملوكة للزوج. نعم، لو كنا نجعل الوطء رجعة، لكان الوطء من الزوج بمثابة وطء البائع الجاريةَ المبيعةَ في زمان الخيار، فالوطء فيه فسخ، فلا جرم لا يلتزم المهرَ بما هو فاسخ به، فإذا لم نجعل الزوج مرتجعاً، جعلنا وطأه إياها بمثابة ما لو وُطئت بشبهة، فيكون المهر لها لا محالة.
وقد يلتفت الفطن فيما ذكرناه على تفريعنا على قولنا: إن الملك في زمان الخيار للمشتري، فلو وُطئت الجارية ثم لم يتفق فسخ العقد، فالمهر للمشتري، هذا مسلك الكلام. ولكن تفريعه على أن الرجعية ليست بزوجة، ولا خروج له إلا على ذلك.
ولو تكلف متكلف، فقال: منافع بضع المرأة على حكمها (2) ، والدليل عليه أن الزوجة لو وطئت بشبهة في صلب النكاح، فالمهر لها، فإذا انعزلت عن زوجها في الاعتداد، ثم وطئها الزوج -وحُكم الانعزال مستمر عليها- فقد أتلف منفعةً هي بحكمها.
وهذا تلبيسٌ؛ فإن الزوج لو كان مستحق المنفعة، لكان بالوطء مستوفياً منفعةً هو مستحقها.
9345- ثم ذكر أصحابنا تصرفاً على النص فقالوا: قال الشافعي في الرجعية: إذا وطئها الزوج يلزمه المهر، راجعها، أو لم يراجعها. وقال: إذا ارتدت المرأة، فوطئها الزوج وكانت مدخولاً بها، فعادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، لم يلتزم مهرها، ولو أصرت على الردة حتى انقضت العدة، التزم مهرها؛ فقال الأئمة: أما
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة. وعبّر عن هذا المعنى ابنُ أبي عصرون بقوله: "فإذا لم نجعل الوطء ردّاً، فقد وطىء غيرَ مملوكةٍ له.".
(2) على حكمها: أي على حكم ملكها، فمع أن المرأة في زوجية صحيحة قائمة، فإن منافع البضع ملكٌ لها. هذا هو التكلف المشار إليه. (هذا تفسير ابن أبي عصرون للعبارة) .(14/349)
إذا أصرت على الردة حتى انقضت العدة، فلا شك في لزوم المهر؛ فإن الوطء صادف البينونة.
وهذا لا يدرج في خيال الخلاف وإمكانه.
فأما إذا عادت إلى الإسلام، فمن أصحابنا من قال: ننقل جواب الرجعية إلى المرتدة، وجواب المرتدة إلى الرجعية، ونقول: في المسألتين قولان نقلاً وتخريجاً.
وهذا كلام مختلط لا ثبات له: أما المرتدة إذا عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، فقد تبينا بالأخرة أن الزوج وطئها، ولا انخرام في النكاح؛ فإن الأمرَ كان على التوقف، فإذا بان من الموقوف أحدُ طرفيه، التحق الحكم فيه بما لو كان مستحقاً في ابتداء الأمر، فلا وجه لذكر الخلاف هاهنا.
وأما وجوب المهر في الرجعية، فلا وجه إلا ما ذكرناه من اعتقاد زوال الملك على التدريج المقدّم.
9346- ثم يحيك في الصدر التوريثُ من الجانبين، وأقصى الإمكان فيه أن يقال:
لا يختص التوريث بحقيقة الزوجية، وكيف يختص بهذا والموت يُنهي النكاح، [فوقع] (1) الاكتفاء بعُلقة فيها سلطنةُ الزوج، سواء كانت صلبَ النكاح أو تابعةً (2) تستدعي قهر الزوج، فإذا ماتت تحت قهره، أو مات عنها وهي مقهورة، فالتوريث ثابت. هذا أقصى الإمكان.
وليت شعري ماذا نقول إذا قال الرجل: زوجاتي طوالق؟ فالرجعيات هل يندرجن تحت مطلق هذا اللفظ؟ كان شيخي يقطع بأنهن يدخلن، والوجه عندي تخريج هذا على تردد الأصحاب في أن الرجعية زوجة أم لا؟ وهذا أهون مُحتمَلاً من الأحكام المتناقضة التي ذكرناها.
وقد اختلف القول في أن من قال: عبيدي أحرار، فهل يدخل المكاتَبون تحت هذا اللفظ، أم لا؟ وقد يعترض للفقيه أن الكتابة تُوقِع حيلولةً لازمة بين المَوْلى وبين
__________
(1) في الأصل: فموقع.
(2) المعنى أنه يكتفى في التوريث بعُلقة فيها سلطنة الزوج، سواء كانت هذه السلطنة هي صلبَ النكاح، أو كانت من توابعه كحق الرجعة.(14/350)
العبد، بخلاف الطلاق الرجعي، فإن الأمر في الطلاق وتدارك حرمته إلى الزوج، والمسألة على الجملة محتَمَلة.
9347- ومما يتصل بالقول في تحريم الرجعية أن الزوج إذا اشترى زوجته الأمة، نُظر: فإن اشتراها في صلب النكاح، فقد اختلف أصحابنا في أنها هل تحل له من غير استبراء، فقال قائلون: لا بد من الاستبراء، لأنه استحدث ملكاً عليها، ومن القواعد الممهدة أن من ملك جارية لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها.
ومن أصحابنا من قال: له أن يستحلّها من غير استبراء، بخلاف ما إذا اشترى جارية ليست منكوحتَه؛ فإن من ملك جارية، فإنها [إذا] (1) لم تكن مستحَلَّةً له من قبل، فإذا كان الملك المتجدد مترتباً على حظرٍ سابقٍ، فلا يمتنع إيجاب الاستبراء، وإذا اشترى منكوحته، فإنما نقلها من سبب حلٍّ إلى سبب حلٍّ، فلا معنى لتخلل الاستبراء بينهما.
ولو طلق زوجته الأمة طلاقاً رجعياً، ثم اشتراها في العدة، فقد قال الأصحاب: لا يحل له وطؤها حتى تنقضي بقيةُ العدة بعد الشراء، أو ينقضي الاستبراء، كما سنوضحه في التفريع، والسبب فيه أنه نقلها من حرمةٍ إلى الملك، وليس كما إذا اشترى زوجته، فإنه نقلها من حلٍّ إلى حل.
فإن قيل: أليس لو ارتجعها، استحل وطأها وكانت محرمة عليه؟ فاجعلوا طريان ملك اليمين بمثابة طريان الرجعة؟ قلنا: ملك اليمين يضادّ النكاح، ويتضمّن قطعَه وفسخَه، والرجعة تردّها إلى ماكانت عليه من قبلُ، فإذا اختلف ملك اليمين والنكاح، لم يكن أحدُهما مستدركاً لما وقع في الثاني من خلل.
فيجب إذاً أن نقول: من اشترى جاريةً وكانت محرمةً عليه من قبلُ، فلا يحل له ابتدارُ وطئها والتسارع إلى غشيانها من غير جريان ما هو استبراء.
9348- ثم إن كان بقي من العدة مقدار قليل والاستبراء يزيد عليه، أو كان الباقي
أكثرَ من الاستبراء، فقد قال معظم الأصحاب: يُكتفى بأقلِّ الأمرين، وقال آخرون:
__________
(1) زيادة من المحقق.(14/351)
لا بد من الاستبراء الكامل، وهذا قياس؛ فإنا لو نظرنا إلى ما سبق، لقلنا: إنها تحل؛ فإن عدتها تؤثر في تحريمها على الغير، وليست المعتدة عن الرجل محرمةً عليه للعدة، ولكن التحليل يستدعي شيئاً من رجعة أو نكاحٍ مجدد، وقد جرى سبب التحليل وهو الملك، فلو كنا ببقية العدة وبقية العدة ليست استبراء، لكانت العدة مؤثرة في تحليلها له.
وهذا غير سديد.
فانتظم ما ذكرناه أن بقية العدة إن كانت لا تزيد على الاستبراء، أو كانت تزيد، فالاستبراء كافٍ. وإن كانت بقية العدة أقلَّ من الاستبراء، ففي المسألة وجهان.
وفي الكلام نوع من الاختلاط؛ فإن الاستبراء بالحيض، والعدةُ بالأطهار، فكيف يترتب استواء البقية ومدة الاستبراء، فلا وجه إذاً لتصوير الاستواء، فإجراؤه في الكلام مجاز، والحيضة الكاملة لا تقع في العدة إلا وبعدها طهر يتبين انقضاؤه بالطعن في الحيضة الأخرى، فإذا كان كذلك، فيقع الاكتفاء بالحيضة، وإن بقي من العدة بقية طهر، فمن أصحابنا من يكتفي بها، ومنهم من يشترط حيضاًً.
وإن فرعنا على وجهٍ بعيد في أن الاستبراء بالطهر كالعدة، فينتظم على هذا الوجه البعيد تصوير الاستواء، ولكن إذا كان بقي من الطهر بقية، فهذه البقية استبراء كامل على هذا الوجه البعيد.
وما يتعلق بالاستبراء من هذا الفصل، فسيأتي استقصاء القول فيه في كتاب الاستبراء.
9349- ولو طلق زوجته ثلاثاًً وكانت مملوكة، فلو اشتراها، فالمذهب أنه لا يستحل وطأها ما لم تنكِح زوجاً على شرط التحليل؛ فإن الطلقات الثلاث تُثبت حرمةً ممدودةً إلى وطء المحلل، والتخلِّي منه.
ومن أصحابنا من قال: يحل له وطء المطلقِة ثلاثاًً بملك اليمين، وهذا غريب، ووجهه على بعده أن الطلقات الثلاث خاصّيتها تحريمُ عقد النكاح، وهو لم ينكحها، وإنما ملكها، فلو عَتَقت، فأراد أن ينكحها، لم ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره.(14/352)
ولا ينبغي أن يُخطر الفقيهُ بباله أنا إذا فرّعنا على هذا الوجه الضعيف، فكأنا أسقطنا حكم الطلقات بالملك، فإذا زال الملك، كان له أن ينكحها؛ فإن هذا مصير إلى إقامة الملك مقام التحليل، وهذا لا يجوز، فالوجه ما قدمناه.
فصل
قال: "ولو أشهد على رجعته ... إلى آخره" (1)
9350- الإشهاد على الرجعة مأمور به، والأصل فيه قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] والمنصوص عليه في الجديد، أنه لا يجب الإشهاد، ولكن يستحب، وسبب استحبابه مقابلة ما يتوقع من الجحود بشهادة الشهود، وقد ندب الله تعالى إلى الإشهاد على المداينات، ونصّ الشافعي في القديم على وجوب الإشهاد، وبه قال مالك (2) .
توجيه القولين: من لم يوجب الإشهاد احتج بأن الرجعة في حكم استدامةٍ واستمرارٍ على النكاح السابق، ولذلك لم تفتقر إلى الرضا والولي، ولا يتصور أن يثبت [بسببها] (3) مهر، وإن سُمِّي (4) ، فكان الإشهاد فيه مستحباً غيرَ مستحَق.
ومن نصر القول القديم، احتج بظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، ومالك رأى الإشهاد في الرجعة ركنَ الرجعة، ولم يشترط الإشهادَ في النكاح، ولكن اشترط الإعلان بأي جهةٍ تتفق، والرجعةُ على الجملة مردّدة في ظن الأصحاب بين النكاح وابتداء العقد، وبين الاستدامة والاستصحاب، ولما كان الظاهر أن الإشهاد
__________
(1) ر. المختصر: 4/89.
(2) القول بالوجوب ليس هو المشهور في مذهب مالك، قال ابن جزي في القوانين (ص 234) : "الإشهاد مستحب في مشهور المذهب. وقيل: واجب، خلافاً للشافعي". وقال ابن عبد البر في الكافي: "واجب وجوب سنة". وانظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/758 مسألة 1386، وعيون المجالس: 3/1251 مسألة 875.
(3) في الأصل: بسببه.
(4) وإن سمي: يعني وإن سمى الزوج مهراً لمراجعتها، فلا يثبت في ذمته، ولا يجب عليه.(14/353)
لا يُشترط، خرّج القاضي عليه ما ذكره الأصحاب من أن المحرم يرتجع زوجته المطلّقة وإن كان لا ينكِح ابتداء.
وذهب شرذمة من الأصحاب إلى أن المُحْرِم لا يصح منه الرجعة.
قال القاضي: هذا الخلاف خارج على أن الإشهاد هل يشترط؟ فإن جعلنا الإشهاد شرطاً، فقد أحلَلْنا الرجعة محلَّ النكاح، فلا يمتنع أن لا تصح من المحرم، كما لا يصح منه ابتداء النكاح، وإن لم نشترط الإشهاد على الرجعة، فقد أحللناها محلّ الاستدامةَ. والإحرامُ لا ينافي استدامةَ النكاح.
9351- ومما ذكره [تخريجاً] (1) على ذلك أن العبد إذا طلّق، فله المراجعةُ دون إذن السيد، قال القاضي: هذا إذا لم نشترط الإشهاد، فإن شرطنا الإشهاد على الرجعة، ونزَّلناها منزلةَ ابتداء النكاح، فلا يمتنع أن لا تصح الرجعةُ من العبد إلا بإذن السيد.
وهذا الذي ذكره على نهاية البُعد؛ فإنا لا نوجب الإشهاد لكون الرجعة بمثابة عقد النكاح، ولا معتمدَ في اشتراط الإشهاد إلا التعلّق بنص القرآن، ومن طمع في توجيه هذا القول بمسلك من مسالك المعاني، فقد أبعد، ولو كان كما ظن، لتردد الرأي في اشتراط إذنها وفي اشتراط الولي، فلما حصل الوفاق على أنهما لا يُشترطان، تبين أن الرجعةَ ليست عقداً، ووجوب الإشهاد في القول القديم مربوط بظاهر القرآن، كما قدمنا الاستدلال به.
وأما ما ذكره في فصل العبد، فمما لا أستجيز إلحاقَه بالمذهب، وهو قول مسبوق بإجماعٍ للأصحاب على خلافه. ولو كان يخرّج من قولِ وجوب الإشهاد قولٌ في أن العبد يحتاج إلى مراجعة سيده في الرجعة؛ من حيث شابهت الرجعةُ النكاحَ في اشتراط الإشهاد، لكان أقربُ تفريع على هذا أن يقال: لا تصح الرجعة ما لم ترضَ المرأة؛ فإن مدار النكاح على رضاها، فإذا لم يُشترط إذنُ المرأة، كان اشتراط إذن السيد بعيداً، بل الوجه القطع ببطلان ذلك.
__________
(1) زيادة من المحقق.(14/354)
9352- ومما نذكره على الاتصال بهذا أن الرجعة لا تقبل التعليق بالأعذار والأخطار، ولا بالصفات التي ستأتي لا محالة، بل لا صحة لها إلا من جهة التنجيز كالنكاح، والبيع، وغيرهما من العقود، فلو قال لامرأته: مهما (1) طلقتك، فقد راجعتك، فإذا طلقها، لم تثبت الرجعة، لما بيّناه من امتناع تعليق الرجعة، ولو علق الطلاق بالرجعة، فقال لامرأته الجارية في عدة الرجعة: مهما راجعتك، فأنت طالق، فإذا راجعها، طلقت.
وقد ذهب شرذمة من أصحابنا إلى أن تعليق الطلاق بالرجعة لاغٍ؛ فإن المقصود من الرجعة الإحلال، فلا يجوز تعليق نقيضه به، وهذا غير معتد [به] (2) ولولا أن القاضي حكاه، لما حكيته.
9353- ثم ذكر الأصحاب نوعاً من الاختلاف متصلاً بفصل الإشهاد، وهو قريب المُدرك، فنذكره على ما ذكره الأصحاب، ثم نعقد فصلاً يجمع بيان أحكام اختلاف الزوجين في الرجعة، وانقضاء العدة، فنقول:
إذا راجع امرأته وأشهد على ذلك، ثم إنها نكحت زوجاً، ولم تشعر بالرجعة، أو علمتها، ولم تبالِ بها، فنقول: إذا ادعى الزوج تقدم الرجعة على النكاح، فإن أقام بينةً تَبيَّن لنا أن النكاح مردود، والشافعي يُطلق في مثل هذا المقام الفسخَ، فيقول: "النكاح مفسوخ" ومراده بالمفسوخ المردود، كما ذكرناه. هذا إذا أقام الرجل بيّنة على الرجعة.
فإن لم يكن له بيّنة -وقد نكحت المرأة زوجاً- فإذا ادّعى المطلِّق الأول الرجعةَ، نُظر: فإن أقرت المرأة بالرجعة، لم يُقبل إقرارُها؛ لأنها تُبطل به حقَّ الغير، وهو حق الزوج الثاني، وإن أنكرت، فهل تحلّف؟ هذا مما تمهد في كتاب النكاح، والقدرُ [المغني] (3) في نظم الكلام أنها لو أقرت بعد ما نكحت، فإقرارها مردود، ولكنها
__________
(1) "مهما" بمعنى: (إذا) وكذا في الجملة التالية.
(2) مزيدة لاستقامة العبارة.
(3) في الأصل: المعني.(14/355)
هل تغرَم للمطلِّق الذي ادعى الرجعةَ المهرَ، فعلى قولين، تمهّد أصلُهما، ووضح فرعهما في كتاب النكاح، فقال الأئمة: عرض اليمين عليها إذا أنكرت يخرِّج على القولين في أنها لو أقرت هل تغرَم للمقر له [المهرَ] (1) فإن قلنا: إنها تغرم، فاليمين معروضة عليها فعساها تُقرّ أو تنكُل عن اليمين إذا عُرضت عليها، فيحلف المدير يمين الرد، ويغرّمُها.
وإن قلنا: إنها لا تغرَم، فلا فائدة في عرض اليمين.
ثم إن عرضنا اليمين، فجحدت ونكلت، وحلف الرجل يمين الرد، فالمذهب أن النكاح لا يُردُّ في حق الثاني.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إذا حكمنا بأن يمين الرد بمثابة البينة المقامة، فالنكاح يبطل، وترتد هذه إلى النكاح الأوّل.
وقد ذكرت هذا الوجهَ وزيفته في النكاح، وبنيت عليه أنا إذا كنا نرى ردّ النكاح، فلا يتوقف عرضُ اليمين على مصيرنا إلى أنها تغرَم لو أقرت، بل نعرض اليمين ونحن نتوقع ارتداد النكاح الجديد، وهذا بعيدٌ لا تعويل عليه. ولا أثر عندنا لدخول الزوج الثاني بها خلافاً لمالك (2) . وهذا مما قدمته أيضاً في كتاب النكاح.
9354- ولو أراد من يدّعي الرّجعة أن يوجه الدعوى على الزوج، فالمذهب أنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً؛ لأنّه لا يد للزوج [إلا] (3) على زوجته، فليدّع على الزوجة لا غير.
وذكر العراقيون وجهاً أنه لو أراد أن يدعي على الزوج، جاز لاستيلائه حكماً عليها، وهذا له غَوْرٌ وغائلةٌ، وسنستقصي أسراره في كتاب الدعاوى، فليس هذا من خواصِّ كتاب الرجعة.
9355- ومما يتعلق بهذا الفصل أن العدة إذا انقضت في ظاهر الحال، وادّعى
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. الإشراف: 2/759 مسألة: 1387.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(14/356)
الزوج أنه كان راجعها من قبلُ، فأنكرت المرأة الرّجعةَ -واقتضى ترتيب المذهب تصديقها مع يمينها، كما سنفصل صور اختلاف الزّوجين على أثر هذا، إن شاء الله تعالى- فلو أنها بعد ما أنكرت الرّجعة وصدقناها، عادت فأقرت بجريان الرجعةِ - وما كانت نكحت؛ حتى يؤدي إقرارُها إلى إبطال حق الزوج الثاني- فقد قال العلماء: إقرارها مقبول، وإن سبق منها إنكارٌ، وهذا قد يعترض فيه إشكال؛ من جهة أن قولها الأول، اقتضى تحريمها على ذلك المطلّق، وإذا سبق منها قول يدل على تحريمها، فقبول نقيض ذلك القول مشكلٌ.
وقد قال الأصحاب: إذا قالت المرأة: أنا أخت فلان من الرضاع أو النسب، ثم أنكرت ذلك، وكذّبت نفسها فيما سبق منها، فلا يُقبل قولُها الثاني، وقد سبق منها الاعتراف بما يوجب الحرمة، وهذا من مواقف الاستفراق (1) ؛ فقال الأصحاب: حرمة الرضاع مؤبّدةٌ مؤكّدة، بخلاف حرمة البينونة بانقضاء العدة.
وهذا لا يَشفي مع ثبوت الحرمة في الموضعين، والاستفراق في أصل الحرمتين.
وقال قائلون: الفرق أن الرضاع يتعلق [بها] (2) وهي أحد الركنين فيه؛ فإقرارها به يكون على ثبتِ وتحقّقٍ، فلا يَقبل الرجوعَ، والرجعةُ تثبت وهي لا تشعر، فلا يمتنع أن تنكرها، ثمّ تذكّرَها (3) وتعترفَ بها.
وهذا غير شافٍ أيضاًَ؛ فإن الرضاع يجري في الحولين، والمرتضِع لا يشعر به في الغالب، وإن شعر به في الحال نسيه، وذَهِلَ (4) عنه في المآل، فلا خير في هذا الفرق.
فالوجه إذاً أن نقول: اعترافها بأخوّة الرضاع والنسب مستندٌ إلى ثبوت، فلم يقبل الرجوع فيه قياساً على الأقارير كلها، وجحدُها الرجعة -وإن صُدّقت- يستند إلى نفي ذلك، ولذلك لا تحلف على البتّ، بل تحلف على نفي العلم، ولا امتناع في أن تقول: لا أعلم، ثم تعلم.
__________
(1) أي طلب الفرقة بإثبات الحرمة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) "تذكر" بحذف تاء المضارعة.
(4) ذهل: بفتح العين وكسرها. (المعجم) .(14/357)
ولو ادعت المرأة على الزوج أنه طلقها، فأنكر، ونكل عن اليمين، وحلفت المرأة، ثم كذَّبت نفسها، فلا معوّلَ على تكذيبها بعد ما ادّعت الطلاق، وإن كان كذبُها ممكناً، ولا يمتنع صدقُها في القول الثاني (1) ، ولكن إذا استند قولها إلى إثباتٍ، لم يقبل رجوعها.
ولو نكحت المرأة، فقالت: لم أرض -وكانت على صفةٍ يفتقر النكاح إلى رضاها - فإنا نصدقها مع يمينها، فلو قالت: تذكّرت أنّي رضيت، فهذا محتمل عندي، وإن كان نفياً؛ فإنه نفيٌ تتعلق اليمين الباتّة به، فيتجه ألا نصدقها، ويظهر أيضاًً أن نصدّقها.
9356- ويترتب مما ذكرناه ثلاث مراتب: إحداها - أن يتعلق الاعتراف بإثباتٍ، فلا يُقبل الرجوع عنه، إذا كان يتعلق بحق الغير، كحق الله في الطلاق.
وما يتعلق بنفي فعل الغير، فالرجوع عنه لا يَمتنع قبولُه إلا في حكمٍ واحد، وهو أن يتضمن قولُه الأول سقوطَ حقه: مثل أن يقول: "ما أتلف فلانٌ مالي" فإذا عاد وادعى الإتلاف. على مناقضة ذلك القول، لم يقبل منه؛ فإنه بنفي الفعل اعترف بانتفاء استحقاقه.
وإذا تعلق الاعتراف، أو القول الذي ليس اعترافاً بنفيٍ يتعلق بالنافي، كقول المرأة: لم أرض مع قولها من بعدُ: قد تذكرت أني كنت رضيت، فهذا فيه احتمال.
ولست أخوض في فصلٍ يتعلق بالتنازع إلاّ وأنا أستشعر منه وَجَلاً [لعلمي] (2) بأنه لا يمكن الانتهاء إلى استقصاء أطرافه، وهو محالٌ على الدعاوى والبينات، وسنأتي فيها بالعجائب والآيات -إن شاء الله- وعندها تنكشف أسرار الخصومات.
__________
(1) في القول الثاني: أي في المسألة قولان، الثاني منهما: "لا يمتنع صدقها" وليس المعنى: لا يمتنع صدقها في عبارتها الثانية، وهذا واضحٌ تماماً في عبارة ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل: لعلى.(14/358)
فصل
قال: "ولو قال: راجعتك قبل انقضاء العدة ... إلى آخره" (1) .
9357- من أهم ما يجب الاعتناء به، وقد كثر تَرْدادُه في الكتب وتردُّدُ الاستشهاد به، والطرق مضطربة فيه غاية الاضطراب - القولُ في اختلاف الزوج والمرأة في الرجعة وانقضاء العدة، ورَأْيُنا في أمثال هذه الفصول، أن نأتي بجميع المنقول، على ما فيه من الاختلاف، ثم ننعطف عليه بالتنقيح والتصحيح، وهذا الفصل لا يحتمل هذا المسلك؛ فإن القول فيه يتكرر وينتشر، فالوجه أن نأتيَ بمضمون الفصل منقحاً [على] (2) ما ينبغي، ونجمعَ اختلافَ الطرق، بعد تقرير البحث في النفس، وتعرية الكتاب عن طرق المطالب، فنقول:
9358- الكلام في هذا المقصود يتعلق بثلاثة فصول: أحدها - فيه إذا جرت الرجعة، وذكرت المرأة انقضاء العدة، وحصل الوفاق على الأمرين، ورجع النزاع إلى التقديم والتأخير، هذا فصلٌ، فنشتغل بما فيه، ثم نذكر بعده الفصلين، فنقول:
إذا توافق الزوجان على انقضاء العدة، وجريان لفظ الرجعة، وتنازعا في التقدم والتأخر، فالقول في ذلك يتعلق بمسائلَ: إحداها - أن يتفقا على وقت انقضاء العدّة ويختلفا في وقت الرّجعة: نحو أن يتفقا على أن العدة انقضت يوم الجمعة غيرَ أن الزوج زعم أنه ارتجع يوم الخميس المتقدّم على الجمعة، وزعمت المرأة أن الرجعة جرت يوم السبت.
قال المراوزة الآخذون عن القفال: شيخي، والقاضي، والشيخُ أبو علي، ومن صنف في طريقته: القولُ قول المرأة؛ واعتلّوا بأن انقضاء العدة متفق عليه، محكومٌ به، والزوج يدّعي رجعةً قبل الوقت المتفق عليه، والمرأة تنكر ذلك، والأصل عدم
__________
(1) ر. المختصر: 4/90.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(14/359)
الرجعة، والمرأة مؤتمنة في انقضاء العدّة، وقد أجرى الزوج الرجعة في وقتٍ مضى زمنُ العدّة قبله، والعدةُ أوانُ الرجعة، ومضطرب (1) سلطان الزوج، فيتنزّل هذا منزلة ما لو وَكَّل رجل رجلاً ببيع مالٍ، ثم إنه عزله على رؤوس الأشهاد، فادعى الوكيل أني كنت بعت المتاع قبل العزل، فلا يقبل قول الوكيل، كما لا يقبل قول الولي بعد زوال الولاية في تصرفٍ يُقرّ به مستنداً إلى حالة الولاية، كما لا يُقبل قول القاضي بعد الانعزال، بأني كنت حكمت لفلان بكذا، فكذلك إذا ادعى الزوج الرّجعة، فالسّبيل فيه ما ذكرناه.
9359- وذكر صاحب التقريب والعراقيون في هذه الصورة وجهاً آخر مضاداً لما ذكرناه عن المراوزة، وذلك أنّهم قالوا: إذا كان الوقت الزماني في العدة متفقاً عليه، فالقول قول الزوج في ادعاء الرجعة قبل ذلك.
ووجه هذا: أن المرأة، إنما تُصدّقُ في إخبارها عن طهر وحيض، وقد صُدّقت، فانتهى قولها، وبقي وراء ذلك ادعاء الزوج رجعةً يوم الخميس المتقدم على الجمعة المتفق عليها، الزوجُ يدعيها، ولو صُدِّق فيها، لما انقضت العدة، بل كانت تنقلب إلى صلب النكاح، وصدْقُ الزوج ممكن فيها، والزوجُ أعرف بالرجعة منها؛ إذ لا يشترط في الرجعة مخاطبتها، أو إعلامها، فنفيها الرجعةَ بعيد عن القبول.
وهذا يعتضد بمسألة اتفق الأصحاب عليها، وهي أن الزوج لو أقر بالعنّة، لمّا رَفَعت المرأةُ [الأمرَ] (2) إلى القاضي، [واقتضى] (3) ترتيب القضاء تأجيلَه سنة، فإذا انقضت، وادّعى الزوج أنه وطئها، وأنكرت المرأة الوطء، فالأصل عدم الوطء، وقد اعتضد ذلك بإقرار الزوج بالعجز والعنة، ثم جعلنا القولَ قولَ الزوج مع يمينه؛ تشوفاً إلى استبقاء [الزواج] (4) ، [فليكن] (5) الأمر كذلك في الرجعة.
__________
(1) أي مجالُ سلطان الزوج.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) في الأصل: وانقضي.
(4) في الأصل: الزوج.
(5) في الأصل: ولكن.(14/360)
[وهنا] (1) مزيد ترجيح، وهو أنها في الغالب تشعر بالوطء، وقد لا تشعر بالرجعة.
فإن أُلزم هذا القائلُ ادعاءَ الوكيل البيع بعد جريان العزل مع إسناده البيع إلى ما قبل العزل، فسبيل الجواب: أنا إنما نصدّق الوكيل في البيع؛ من جهة أنه قادر على إنشاء البيع، ومن الأصول الممهّدة أن من قدر على إنشاء شيء، فخبره عنه مقبول، هذا هو الذي يوجب تصديقَ الوكيل لا غيرُ، وإلا فلا يتحقق في الموكَّل بالبيع ما يتحقق في المودَع، والدليل عليه أن المودَع لو ادعى ردَّ الوديعة على غير المودِع بأمر المودِع، فقد لا يصدق، وبيع الوكيل يتعلق بثالث، فاستبان أنه ليس على قانون الودائع والأمانات، فإذا انقطع سلطانه ظاهراً، استحال قبول قوله، وأما جانب الزّوج؛ فإنه يعتضد بما جعلناه عُهدة الكلام من استبقاء النكاح والاستشهاد بالوطء.
وقد ينقدح لصاحب الوجه الآخر أن يقول: الطلاق قاطع للنكاح، والزوج يدعي استدراكاً، وفسخ المرأة بالعنة إنشاء قطع، فيتجه ثَمَّ الاستبقاء؛ فإن النكاح بعيد عن الفسخ، وهاهنا انثلم النكاح بالطلاق، وإن كان الزوج على [سلطنته] (2) في التدارك، فهذا سرّ التوجيه.
9360- وذكر صاحب التقريب في هذه الصورة وجهاً ثالثاً، لا يكاد يفهم إلا بتقديم المعنى الذي يُنتجه، فنقول: تصديق الزوج في الرجعة أصلٌ على قياس الاستبقاء، وتصديقُ المرأة في انقضاء العدة أصلٌ، فهما متقابلان، فمن سبق إلى دعواه، فالحكم له.
فإن قال الزوج أولاً: قد راجعتك يوم الخميس، فقالت المرأة: انقضت عدتي يوم الجمعة، وما راجعتَ يوم الخميس، فالزوج هو المصدَّق مع اليمين؛ والسبب فيه أنّه أنشأ دعوى الرّجعة منتظماً مع تمادي العدة، فإذا ذكرت الانقضاءَ بعد هذا القول، قيل لها: وقع الحكم بالرجعة، ورؤيتُك الدمَ بعد هذا لا تكون انقضاء العدة، وإنما هو
__________
(1) في الأصل: وهذا.
(2) في الأصل: على شك ظنه في التدارك. (وهذا من غرائب وعجائب التصحيف) .(14/361)
رؤية الحيض في صلب النكاح، [ولا بدّ] (1) مع هذا من تحليف الزوج.
وإن سبقت المرأة وقالت: انقضت عدتي، وكان ذلك صحوة يوم الجمعة، فقال الزوج -بعد قولها-: قد راجعتك أمس، فالقول قول المرأة؛ فإنها لما ذكرت طَعْنَها في الحيض الرابع، فقد وقع الحكم بانقضاء العدة، فإذا أنشأ الزوج بعد هذا قولَه، لم يُقبل منه.
وهذا الوجه ارتضاه صاحب التقريب، واختاره العراقيون.
وفي الحالة الأخيرة سرٌّ ينبّه على الغرض: فإذا قلنا: المتبع قولها، فاليمين لا تسقط، فتحلف بالله لا تعلم أن الزوج راجعها أمس؛ فإنها بيمينها تنفي فعل الغير، والزوج إذا كان هو السابق المبتدر، فيحلف بالله أنه راجعها، فإنّ [يمينه] (2) تتضمن إثبات قوله.
9361- فقد انتظمت ثلاثة أوجه في هذه الحالة: أحدها - تصديق الزوج كيف فرض الأمر.
والثاني - تصديق المرأة مطلقاً.
والثالث - النظر إلى من يبتدر، قال العراقيون: من ابتدر منهما، فالحكم لقوله بلا خلاف، وإن أنشآ قَوْلَيْهما معاً، فحينئذ وجهان: أحدهما - أن القول قول المرأة، وهو فيما حكَوْه اختيار أبي العباس (3) وأبي إسحاق.
والوجه الثاني -ذكره صاحب التقريب وغيرُه- أن القول قول الزوج.
التوجيه: من قال: القول قول المرأة إذا أنشآ قوليهما معاً، قال: المرأة مؤتمنة، وليست منشئةً أمراً، وإنما هي مخبرةٌ عما هي مصدّقة فيه، فلا اطلاع عليها إلاّ من جهتها، والزوج يدعي إنشاء رجعةٍ على اختيار منه، فكان أبعد عن التصديق.
ومن قال: القول قول الزوج، احتج بأن قال: المرأة لا تخبر عن انقضاء العدة،
__________
(1) في الأصل: فلا بد.
(2) في الأصل: ييّنه.
(3) أبو العباس: المراد هنا ابن سريج، كما سيصرّح به بعد قليل.(14/362)
وإنما تخبر عن مَرِّ أطهارٍ وحِيَضٍ، والزوج يُخبر عما ملّكه الله من الرجعة، فكان قوله أوْلى بالقبول، وهذا إذا ضَمْمناه إلى ما تقدّم، انتظم من المجموع أوجهٌ، ونحن نرى إعادةَ جميعها:
فمن أصحابنا من صدّق المرأة مطلقاً.
ومنهم من صدق الرجلَ مطلقاً.
ومنهم من قال: المصدّق منهما من يبتدر، ثم من يدعي الابتدار يُفرِّعُ، ويقول: إن صدر القولان منهما معاً، فوجهان.
هذا مجموع ما ذكره الأصحاب في صورة تقدّم الرجعة على يوم الجمعة وتأخرها عنها.
9362- فأما إذا وقع الوفاق على أن الرجعة وقعت يوم الجمعة، وقالت المرأة: انقضت عدتي يوم الخميس، وقال الزوج: بل انقضت يوم السبت، فهذه الصّورة (1) تجري فيها الوجوه المقدمة، ولا نتبرم بإعادتها لمزيدٍ فيها.
قال المراوزة القول قول الزوج؛ لأن الرجعة وقع الوفاق على جريانها، والمرأة ادعت انقضاء العدة والأصل بقاؤها.
وقال صاحب التقريب والعراقيون: القول قول المرأة؛ فإنها تقول: ما يقوله الزوج صورةً ولفظاً [اتفقنا] (2) عليه، فانتهى قول الزّوج نهايته، وأنا ادعيت انقضاء العدة قبل هذا الوقت، فلزم تصديقي.
ومن أصحابنا من فَصَل بين أن تبتدر وتقولَ، أو يسبق الزوج فيقولَ، كما مضى، ثم التفريع على وجه الابتدار يجري على النسق المقدم.
والذي نَزيده في هذه الصورة أن قول الزوج: "قد راجعتك أمس" مع الوفاق على وقت انتهاء صور الأقراء، ادّعاءُ رجعةٍ فيما سبق، بعد ظهور انقطاع سلطانه بالوفاق
__________
(1) هذه هي المسألة الثانية من مسائل هذا الفصل.
(2) في الأصل: اتفقا.(14/363)
على وقت انقضاء مدة العدة، فكان ذلك شبيهاً بدعوى الوكيل بعد العزل، أما إذا وقع الوفاق على لفظ الرجعة، ووقتِه، فقول المرأة: "قد كانت عدتي منقضيةً قبلُ"، ليس إنشاءَ أمرٍ منها ولا إخباراً بإنشاء أمرٍ فيما سبق، بل أخبرت عما رأت قبلُ، وهي مؤتمنة فيما تُخبر عنه؛ إذ لا مطّلع عليه إلا من جهتها، وهذا المعنى الموجب لتصديقها يستوي فيه الصور كلُّها، وهذا حسن بالغ، ومقتضاه أن [نغلّب] (1) َ في الصورة الأولى تصديقَها كما مضى، ونغلبَ في هذه الصورة تصديقَها، وهذا بعينه هو الوجه الذي حكاه العراقيون عن أبي العباس بن سريج، وأي إسحاق، وما ذكرناه تنبيهٌ على وجه التوجيه فيه.
وقد نجزت مسألتان في هذا الفصل.
9363- المسألة الثالثة: ألا يقع التعرض لوقت الرّجعة، ولا لوقت انقضاء العدة، ولكن يقول الزوج: راجعتك قبل انقضاء العدة، وتقول المرأة: بل انقضت عدتي قبل الرّجعة. كان شيخي فيما سمعتُه، وبلّغنيه عنه بعضُ الأثبات يذكر وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أن القول قول الزوج؛ تغليباً لاستبقاء النكاح.
والثاني - أن القول قول المرأة؛ تغليباً لائتمانها وتصديقها فيما لا مطّلَع عليه إلا من جهتها، بخلاف الرّجعة؛ فإنه يُتصور الإشهاد عليها والإشعار بها.
قال ابن سريج: إذا تعارض أصلان، فالتحريم أغلب، وظهر هاهنا اعتبار المبادرة إلى الدعوى، فمن سبق، فهو المصدّق، ومن [لا] (2) يعتبر المسابقة يفرض صدور اللفظين معاً، ويذكر الوجهين، كما قدّمنا.
وفي فصل المسابقة والتفريع عليه مزيد شرح لا يتأتى ذكره هاهنا، فإن اختلج في نفس الطالب شيء، فصبراً حتى ينتهي إليه.
وقد نجز فصلٌ واحد من الفصول الثلاثة الموعودة.
__________
(1) في الأصل: نغلبه.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.(14/364)
الفصل الثاني
9364- فيه إذا وقع الوفاق على الوقت الذي قالت المرأة فيه: "انقضت عدّتي"، فقال الزوج: "قد راجعتك قبل هذا"، وأنكرت المرأة قوله، وما اعترفت بارتجاعه أصلاً، والفصل الأول فيه إذا اعترفت بارتجاعه، وأنكرت التقدم على وقت انقضاء العدة، فأصل لفظه متفق عليه، والخلاف في وقته، وهاهنا أصل الارتجاع قد أنكرته المرأة.
قال صاحب التقريب: هاهنا القول قول المرأة بلا خلاف، من غير تفصيل.
وهذا عندي خطأ صريح؛ فإنها إذا اعترفت برجعةٍ بعد العدّة، فذلك الاعتراف لا حكم له؛ فإنها ما أقرّت برجعةٍ، وإنما أقرت بالتلفظ بصيغة الرجعة، وقال الزوج: لو أتيتُ بلفظ الرجعة في الوقت الذي اعترفت المرأة به، لكان لغواً غيرَ مفيدٍ، فإذاً التنازع يؤول إلى ما ادّعاه الزوج من الرجعة يومَ الخميس. هذا مثار الخلاف، والاعتراف بقوله يوم السبت باطل، فتعود المسائل الثلاث في ذلك بما أجرينا فيها من الأوجه. ولا ينبغي للفقيه أن يتمادى فيه.
الفصل الثالث
في تنازع الزوجين والعدة باقية
9365- فإذا قال الزوج: راجعتك أمس، وقالت المرأة ما راجعتني أصلاً، والعدّة باقية، وربما يجري هذا في صدر العدّة.
قال صاحب التقريب: المذهب أن القول قول الزوج؛ فإنه ادعى الرّجعةَ في وقت لو أراد إنشاءَ الرجعةِ فيه، لأمكنه، فقوي جانبه بذلك، وقُبل قوله فيه.
وحكى وجهاً غريباً أن القول قولُ المرأة في نفي الرجعة فيما سبق؛ فإن الأصل عدم الرجعة، وبقاءُ أثر الطلاق؛ فإن أراد الزوج تحقيق ما قال، فليبتدىء ارتجاعاً.
وهذا بعيد جداً، ويلزم على قياس ذلك أن يقال: إذا وكل وكيلاً ببيع شيء من ماله، فقال الوكيل: قد بعته، وأنكر الموكِّل بيعَه، ولم يعزله عن الوكالة، فالقول(14/365)
قول الوكيل؛ لأنّه ادّعى البيع في وقتٍ لو أنشأه، لنفذ منه، فإنْ طَردَ الخلاف في الوكيل، كان هاجماً على خرق الإجماع، وإن سلّمه، عَسُر الفرق بين رجعة الزوج وتصرف الوكيل. وهذا الوجه أراه غلطاً كالوجه الذي ذكره في الفصل الثاني، وقد ذكرته الآن.
9366- فإذا قطعنا بأن القول قول الزوج إذا كانت العدة باقيةً، فقد كان شيخي يحكي عن القفال أنّ الإقرار بالشيء في وقت إمكان إنشائه بمثابة إنشائه، وإن كان إقراراً على الحقيقة، وهذا لست أرى له وجهاً؛ فإن الإقرار نقيضُ الإنشاء، فيستحيل أن يفيده ويقوم مقامه، والإقرار يدخله الصّدق والكذب بخلاف الإنشاء، فإذا أقرّ كاذباً كيف نجعله منشئاً؛ فلا وجه لذلك.
وكان شيخي يطرد هذا الوجه في الطلاق، ويقول: الإقرار بالطلاق طلاقٌ عند هذا القائل.
وهذا خطأ؛ فإن الشافعي وأصحابَه نصّوا على أنّ من أقر بالطلاق كاذباً، فالزوجية قائمةٌ بينه وبين الله، ولو كان الإقرار الكاذب طلاقاً واقعاً ظاهراً وباطناًً، لما تُصوِّرت مسائل التديين، وقد قلنا: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ونوى الطلاق عن وِثاق، لم يقع الطلاق باطناًً، ولم نعرف في هذا خلافاً، ومن يقول بوقوع الطلاق باطناًً إذا أقر كاذباً، وهو لا يبغي الإنشاء، بل صرح بإسناد الطلاق إلى ما مضى مخبراً غير موقع، فكيف يقع الطلاق باطناً.
فإن قيل: نصَّ الشافعيُّ على أنّ من نكح أَمةً، ثم أقرّ بأني كنت نكحتها وأنا غير خائف من العنت، فهذا طلاق. قلنا: هذا ضمُّ إشكال إلى إشكال؛ [فإنّا] (1) نبُعد كونَ الإقرار بالطلاق إنشاء، وهذا النص يقتضي أن يكون الإقرار بفساد النكاح إنشاءَ طلاق، وهذا كلام متناقض؛ فإن فساد النكاح يمنع وقوعَ الطلاق، فلا وجه عندي إلا حمل هذا النص على خللٍ في النقل، وليس من الحزم تشويش أصول المذهب بمثل هذا.
__________
(1) في الأصل: كنا.(14/366)
9367- فإن قلنا: لا يكون الإقرار كالإنشاء، وصدقنا الزوج في دعوى الرجعة المضافة إلى أمس، فللمرأة أن تُحَلِّفه، فإن كل مصدَّق في الخصومات محلَّفٌ في أمثال ما نحن فيه.
وقد انتهت [الفصول] (1) الثلاثة وبقيت وراءها مسألةٌ، نص الشافعي [عليها] (2) في المختصر، ولم يقفْ (3) عليها المزني، ونحن نذكرها، ونذكر لَحْن المزني فيها.
9368- قال الشافعي: ولو قال: "ارتجعتك اليوم، وقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك، صدّقتُها، إلا أن تُقرّ بعد ذلك، فتكون كمن جحد حقاً، ثم أقرّ به" (4) ، هذا لفظ الشافعي.
ونحن نقول بعدُ: هذه المسألة نصوّرها إنشاء ونصورها إخباراً، فإذا أنشأ، وقال: راجعتك، فقالت على الاتصال: انقضت عدتي، فالرجعة لا تصحّ، فإنا لو حكمنا بصحتها، لحصلت مع الفراغ من اللفظ، وهكذا سبيل كل ما يتعلق بالألفاظ، وقولُها إخبار، والمخبَر عنه لو صُدّقت يتقدّم على قولها؛ فإن العدة تنقضي ثم تُنشىء على الاتصال -إن ابتدرت- إخباراً عن انقضاءٍ سابق على أول الخبر، وقد ثبت أنها مصدَّقةٌ؛ فإذا قررنا الإنشاء في الرّجعة على حقّه، وصدقناها، وقع انقضاء العدة مع فراغ الزوج من لفظ الرّجعة، فيتبين أنها وقعت في وقتٍ صدّقنا المرأة في انقضاء العدة
فيه.
وحمل معظم الأصحاب قول الشافعي في رسم المسألة على إنشاء الرّجعة منه، وإخبارِها على الاتصال؛ إذ لا يتصوّر [منها] (5) إنشاءُ أمر، والعدّة لا تنقضي بالقول
__________
(1) في الأصل: "الأصول".
(2) زيادة من المحقق.
(3) ولم يقف عليها المزني: هل المعنى لم يقف على سرّها ويدرك حقيقتها؟ أم الكلمة محرّفة والصواب لم "يوافقه عليها المزني"؟ الله أعلم.
(4) ر. المختصر: 4/90.
(5) في الأصل: فيها.(14/367)
حسب حصول الرجعة بالقول. وإذا كانت الرجعة توجب الحِلَّ، وانقضاءُ العدّة يوجب البينونة، فإذا انتفى الموجبان، وجب تغليب الحظر، فهذا حمل المسألة على إنشاء الرجعة.
فإن زعم الزوج أنّي لم أرد بقولي: "راجعتك" إنشاءَ الرجعة وإنما أردت الإخبار عن رجعةٍ سبقت مني، فإذا قالت المرأة على الاتصال: انقضت عدّتي، فهذه المسألة تنعطف على الصور التي تقدّمت، فيقع الحكم مثلاً بانقضاء زمن العدة بقولها، ونقول للزوج: متى راجعتَها؟ فإن زعم أنه راجعها قبل هذا بيوم مثلاً، فقوله: راجعتك في الحال لا يزاحم خبرَها عن انقضاء العدة، حتى يقالَ: ابتدر بالدعوى، بل قوله صالح للإنشاء، وهو صريح فيه. وقد ذكرنا أن صريح الإنشاء لا يزاحِم خبرها؛ فهي امرأة مبتدئة بدعوى انقضاء العدة، فإذا قال الزوج بعد ذلك: قد راجعتها قبل هذا الزمان، فهذا كلام مؤخَّر عن قولها، وقد سبق التفصيل فيه إذا ابتدرت، فادّعت انقضاء العدة، ثم ادعى الزوج بعد هذا رجعةً سابقةً.
هذا بيان المسألة إذا صُوِّرت إنشاءً، أو حُمل قولُ الزوج على الإخبار.
9369- ولمّا أورد المزني هذه المسألة جعل الزوج مبتدئاً بدعوى الرّجعة، وقدّر المرأة مستأخرة في دعوى الانقضاء، ورأى أن الزوج أولى بالتصديق.
والذي ذكره قد يتجه إذا تأخّر قولها ولم يتصل، وتقدّمت دعوى الرجل، فأما إذا قال الزوج: راجعتها، فقالت على الاتصال: انقضت عدتي، فلا يتجه إلا إبطالُ الرّجعة؛ فإنّ لفظه صريح في الإنشاء، والإنشاءُ باطل مع الخبر المتصل.
وإن حمله على الإخبار، فلفظه المطلق لا يصل لذلك، فيقع الحكم بالانقضاء، فإن أنشأ بعد ذلك تقديمَ دعوى، فهذا مزيد في تصوير المسألة وإتيانٌ بدعوى أخرى مستَفْتَحةٍ.
هذا بيان الأصول والصور في اختلاف الزوجين. والله أعلم.(14/368)
فصل
قال: "ولو دخل (1) بها، ثم طلقها ... إلى آخره" (2) .
9370- أراد الشافعي رضي الله عنه بقوله: "دخل بها" خلا بها، ثم تعرض للخلاف في ادّعاء الإصابة ونفيِها، وقد ذكرنا اختلاف القول في أن الخلوة هل تنزل منزلة الوطء في اقتضاء العدة وتقريرِ المهر؟ فإن نزّلنا الخلوة منزلة الوطء في إيجاب العدّة، فالرأي الظاهر الّذي يجب القطع به أن الرجعة تثبت ثبوتَها لو كانت موطوءة.
وقال أبو حنيفة (3) : تثبت العدة، ولا تثبت الرجعة، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً مثلَ (4) مذهب أبي حنيفة.
وهذا لا اتجاه له في القياس؛ فإن العدة إذا ثبتت في مُطَلَّقة من غير عوض ولا استيفاءِ عدد، فلا معنى لنفي الرّجعة.
قال الشيخ: هذا يوجَّه بأن الرّجعة تستدعي عُلقة كاملة، فإذا لم يجر سبب العلوق، لم تتأكد العُلقة، ومقتضى الطلاق القطعُ وإزالةُ الملك.
ولا حاصل لهذا الكلام؛ فإن العدة تترتب على اشتغال الرحم، أو على جريان سبب الاشتغال، والعدة بهذا المعنى أخص من الرجعة، فإذا لم يبعد وجوب العدة على خلاف قياس موضوعها، لم يبعد ثبوت الرجعة.
وحكى الشيخ أيضاًً وجهين في أنا إذا أوجبنا العدة على المطلقة التي أتاها الزوج في دبرها، فهل تثبت الرجعة في مثل هذه العدة أم لا؟ أحدهما - تثبت الرجعة، وهو القياس.
والثاني - لا تثبت؛ فإن إيجاب العدة في حق المأتيّة في غير المأتَى مرتبط بضروبٍ
__________
(1) في المختصر: "خلا".
(2) ر. المختصر: 4/90.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/234 مسألة 1943، المبسوط: 5/148.
(4) عبارة الأصل: وجهاً مثل له مذهب أبي حنيفة.(14/369)
من التغليظ، ويليق بالتغليظ نفيُ الرجعة، وهذا الوجه على ضعفه قد يستند إلى ما ذكره الشيخ من التغليظ. أما الوجه الذي حكاه في الخلوة، فلا وجه له أصلاً.
9371- ومما ذكره الشيخ متصلاً بهذا أنه لو قال لامرأته: مهما (1) وطئتك، فأنت طالق، فإذا وطئها، وقع الطلاق، [واستقبلت] (2) العدة بالأقراء إن لم تَعْلَق.
ثم لو وطئها ورأينا إيجاب المهر بوطء الرجعية، فتفصيل القول في المهر لو نزع أو استدام، أو نزع وأعاد، كتفصيل القول فيه إذا قال: [إذا] (3) وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، أو نفرض الاستدامة والنزع والإعادة على جهالة. وقد تمهد هذا فيما سبق.
9372- وإذا حكمنا بأن الخلوة لا تقرّر المهرَ، ولا تحل محل الوطء، فلو ادعى الزوج الإصابة وأنكرتها المرأة، أو ادّعت المرأة الإصابة لتقرير المهر وأنكرها الرجل، ففي المسألة قولان قدمنا ذكرهما في كتاب الصّداق.
فصل
قال: "ولو ارتدّت بعد طلاقه ... إلى آخره" (4) .
9373- إذا طلق الرجل امرأته ثم ارتدّ، أو ارتدّت، فارتجعها في حال رِدّتها، أو ردة أحدهما قال الشافعي: الرجعة فاسدة؛ لأنها للإحلال والردة تنافي الإحلال، وقال المزني: إن دامت الردة حتى انقضت العدة، فنتبين أن الرجعة وقعت وراء البينونة؛ فإنا نتبين عند استمرار الردّة إلى انقضاء العدة أنها تضمنت قطع النكاح كما (5) وقعت.
وإن زالت الرّدة في مدة العدة، فنتبيّن أن الرّجعة واقعةٌ صحيحةٌ لمصادفتها محلَّها تبيُّناً
__________
(1) مهما: بمعنى: إذا.
(2) في الأصل: استقلت. والمثبت تصرف من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها استقامة الكلام.
(4) ر. المختصر: 4/90.
(5) كما: بمعنى عندما.(14/370)
هذا ذكره المزني واختاره لنفسه، وله عبارات في اختياراته: تارةً يفرط ويسرف ويقول بعد النقل: "هذا ليس بشيء"، وما كان كذلك، فهو من مفرداته. وكلامُه مشعر بمجانبته مذهبَ الشافعي فيما نقله وأخْذِه في مأخذٍ آخر، فلا يعد مذهبُه تخريجاً.
وتارة يقول: قياس الشافعى خلافُ ما نقلته، فإذا قال ذلك، فالأوجه عدُّ ما يذكره قولاً مخرجاً للشافعي.
وإذا لم يتصرف على قياسه، وقال: الأشبه عندي، كان لفظه متردداً بين التصرف على قياس الشافعي مَصيراً إلى أن المعنيّ بقوله هذا أشبهُ: [أي] (1) هذا أشبهُ بمذهب الشافعي، ويجوز أن يقال: "هذا أشبه" معناه أشبهُ بالحق ومسلك الظن، ولم أر أحداً من أصحابنا يَعُدّ اختيار المزنى فى هذه المسألة قولاً معدوداً من المذهب مخرجاً.
وما ذكره متجه على القياس جداً؛ فإن الردة إذا زالت قبل انقضاء مدة العدة، تبيّنا أن النكاح لم ينخرم، وأن الملك لم يزُل أصلاً، وما مضى كنا نحسَبه من العدة، ثم تبينّا أنها لم تخض في العدة، بخلاف الرجعية إذا ارتجعها زوجها؛ فإن العدة تنقطع ولا نتبين أنها لم تخض في العدة، والإشكال يتأكد بأن الإحرام مع أنه يمنع من ابتداء النكاح لا يمنع من الرجعة على النص والمذهب المعتمد، فكان يتجه تخريج الرجعة على الوقف، وليست الرجعية بعيدة عن التفريع على الوقف فيما نحن فيه.
ولا خلاف أن المرتدة إذا طُلقت، ثم زالت الردة قبل انقضاء أمد العدة، فالطلاق واقع، وهذا متفق عليه.
9374- والذي يمكن توجيه النصّ به أن الرّدة إذا تمادت حتى انقضت العدة،
وقعت البينونة تبيُّناً مع أول جزء من الردة، ووقع التمادي بعد البينونة، فلا يقع التمادي شرطاً في وقوع البينونة، فإن الشرط لا يتأخر عن المشروط، ويتحقق بذلك أن الردة تمنع الإقدام على الاستحلال ابتداء، ولو فرض زوالها، فهي محتَمَلةٌ في دوام
__________
(1) في الأصل: إلى هذا.(14/371)
النكاح، فأما أن تحتَمل في ابتداء تصحيح تحليل ينشأ، فلا. وينضم إليه ما يقتضيه الشرع من التغليظ على المرتد.
وأما المحرم، فلا مجال للمعنى فيه، والمتبع في امتناع نكاح المحرم خبرُ الرسول صلى الله عليه، والردة تنافي الاستحلال على معنىً معتبر، فلا معنى للتصحيح.
وأما الخروج على الوفف، فقد ذكرنا توجيهه على رأي المزني، ولكن لم يقل به أحدٌ من أئمة المذهب، ووجه ردّ الوقف أن الردّة التي وقعت لا نتبين آخراً أنها لم تقع، فاقترانها بابتداء الرجعة كاقتران مفسد بالعقد، وهو بمثابة ما لو وهب الخمر أو رهنها، ثم استحالت خلاً، فأقبضَ الخلَّ، فالشدّة المقترنة بالعقد تمنع انعقاد العقد، وقد تطرأ الشدة بعد الانعقاد، فيتوقف على الزوال، كما ذكرناه في مسائل الرّهون.
وأمّا وقوع الطلاق عند زوال الرّدّة في مدة العدة، فليس بدعاً؛ من جهة أن الطلاق تحريم كالرّدة، فلا منافاة، وقد تبيّن آخراً أن النكاح كان دائماً.
9375- وإذا أردنا تقييد المذهب بمراسم قلنا: الوقف الذي رجع إلى الجهالة، كالذي يبيع عبداً كان لأبيه في حالة ظنه بقاءه، فإذا تبين أن أباه كان ميّتاً والعبد انتقل إلى البائع إرثاً قبل البيع، فالضابط في هذا الفن أن ما لا يقبل التعليقَ إذا اقترن به جهلٌ على هذا النسق، نُظر: فإن لم يكن الجهل مستنداً إلى أصلٍ ماضٍ، فلا حكم له، وهو بمثابة ما لو باع عبداً حسِبه لغيره، ثم تبين له أن العبد كان له، فالبيع نافذ.
وإن استند الجهل إلى أصل متقدم، كبيع عبد الأب على ظن بقائه إذا تبين أن الأب كان ميتاً وقت البيع، ففي المسألة قولان، أما الطلاق؛ فإنه لا يندفع بالظنون سواء استندت إلى أصول أو لم تستند.
9376- ومما نذكر في ذلك أن الرجل إذا قال لأَمَته: إن قيّض الله بيننا نكاحاً، فأنت حرة قُبَيْله، فإذا نكحها، فقد قطع صاحب التقريب، ومعظم المحققين بصحة النكاح؛ فإن الإقدام عليه كان على ثبت.
وقال بعض الأصحاب: هذا يخرج على الوقف. وهذا لا أصل له.
ومن مراتب الكلام في الوقف ما دُفِعْنا إليه، فالمزني ألحق رجعة المرتد والمرتدة(14/372)
بالوقف، والشافعي رأى نفس اقتران الرّدة مفسداً للفظ الرجعة، وأجرى عدمَ الردّة شرطاً في الصحة، والتوقف الذي حسبه المزني ذاك في دوام النكاح لا في إنشاء ما ينشأ على الصحة، وينشأ على الفساد، فيفسد.
هذا منتهى القول في ذلك.
***(14/373)
باب المطلقة ثلاثاًً (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى في المطلقة الطلقة الثالثة ... إلى آخره" (2) .
9377- إذا طلق الرجل الحرُّ امرأته ثلاثاًً، أو طلق العبد زوجته طلقتين، واستوفى كلُّ واحد منهما أقصى ما أُثبت له من الطلاق، فيحرُم عليه عقدُ النكاح عليها، حتى تنكِح زوجاً آخر نكاحاً صحيحاً، ثم يغشاها الزوج الثاني، وينبتُّ النكاح، وتُخلي (3) عن العدّة؛ فإذ ذاك يحلّ للزوج المطلِّق تجديدُ النكاح، وسبيلها معه كسبيل أجنبيةٍ يبتغي ابتداء نكاحها، قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والمعنى: فإن طلقها الطلقةَ الثالثةَ، فلا تحل له بنكاح حتى تتزوج زوجاً آخر.
وليس (4) للإصابة ذكرٌ في القرآن، وإنما هي مستفادةٌ من السنة: روي أن رفاعة بن رافع طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت من عبد الرحمن بن الزبير، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكيةً، فقالت: يا رسول الله إن ما معه مثلُ هُدبة الثوب، فقال عبد الرحمن: كذبَتْ يا رسول الله، والله إني لأعرُكها عرْك الأديم العُكاظي، فقال صلى الله عليه وسلم: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (5) ، فشرط الإصابة.
__________
(1) من هنا بدأ جزءٌ جديد من نسخة ت 2، فصار نصّاً مساعداً مع نسخة الأصل.
(2) ر. المختصر: 4/91.
(3) تُخلي: مضارع أخلا، بمعنى (خلا) تقول: خلا المنزل من أهله، وأخلى من أهله (المصباح) .
(4) ساقطة من (ت 2) .
(5) حديث زوجة رفاعة بن رافع القرظي متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. =(14/374)
وقال بعض العلماء: جَمْعُ الطلاق مما لا يحبّه الله تعالى. والرجلُ إن لم يكن ممنوعاً عنه قولاً صريحاًً، فلعل الغرض من إثبات التحليل أن ينكف الرجل عن تطليق التي يضمر معاودتها ثلاثاًً، حَذَراً من التحليل الذي يشتد وقعه على كل ذي غَيْرة من الرجال.
9378- ثم الكلام يقع في فصول: أحدها - القول في الجهة التي يشترط حصول الوطء فيها، فنقول: إذا طلق الرجل زوجته الأمةَ ثلاثاًً، فوطئها مولاها بملك اليمين، لم يحصل التحليل به وفاقاً، والمرعيُّ حصول الوطء في الجهة الكاملة الموضوعة للوطء التي وقع الطلاق فيها.
ولو نكحت المطلَّقة ثلاثاً نكاح شبهةٍ، وحصل الوطء على ظن التحليل، ففي حصول التحليل قولان: أظهرهما - أنه لا يحصل؛ فإنه لم يقع في نكاح، ولا معوّل على الظن المخالف للحقيقة.
وهذا كما أن الإحصان لا يحصل بالوطء في النكاح الفاسد.
والقول الثاني: إن التحليل يحصل، لأن النكاح الفاسد ملحق بالصحيح في معظم الأحكام، والمعنى الذي ذكرناه [فيه] (1) متعلِّقاً بالغَيْرة يحصل به، وليس التحليل كالإحصان؛ فإن الوطء في الإحصان [ركنٌ في إفادة كمال التمتع] (2) يُنتج التعرض للعقوبة الكبرى، فلئن وُقف على التحقيق، لم يبعد.
ثم إذا فرعنا على القول الضعيف، فلو وُطئت تلك المرأة بشبهة، من غير فرض جريان صورة النكاح، فقد اختلف جواب الأئمة، فالذي اختاره المحققون أن التحليل لا يحصل به؛ فإنه لم يجر فيما يسمى نكاحاً.
__________
= البخاري: الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث، ح 4960، مسلم: النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره، ح 1433) .
(1) ساقطة من الأصل، وفي ت 2: منه. والمثبت تصرّف من المحقق.
(2) في الأصل: "ركن في إفادة كماله في المستمتع" وفي ت 2: "يكن في إفادة كمال في المستمتع" والمثبت تصرّفٌ منا استئناساً بعبارة ابن أبي عصرون. (صفوة المذهب: جزء 5 ورقة: 61 يمين) .(14/375)
ومن يُلحق النكاحَ الفاسدَ بالصحيح، فقد يتخيل اندراج النكاح تحت الاسم المطلق، مع ثبوت الأحكام، والمذكور في كتاب الله النكاحُ.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن وطء الشبهة بمثابة الوطء في النكاح الفاسد؛ فإن اسم النكاح على الإطلاق لا يتناول الفاسد عندنا، فليس في الوطء في النكاح [الفاسد] (1) إلا ظنُّ الحِل، وهذا المعنى متحقق في وطء الشبهة.
التفريع:
9379- إن جرينا على أن وطء الشبهة لا يحلل، فلا كلام.
وإن جعلناه محللاً، فالوجه عندنا أن نفرض جريانه على ظن الزوجية، فلو ألم بها رجل وحسبها مملوكتَه، فحسبان الملك لا يزيد على نفس الملك، والوطء في نفس الملك لا يوجب التحليل، وسيكون لنا عودٌ إلى تفصيل وطء الشبهة واختلاف الظنون فيه، في أحكام الاستيلاد وحرية الولد، إن شاء الله.
ولو علمت المرأة فساد النكاح، وتعرضت لحد الزنا، وجهل الزوج، أو كان الأمر على العكس، فقد ذكرنا أوجهاً في أن تحريم المصاهرة هل يحصل مع الجهل في أحد الجانبين؟
والذي أراه القطع بأن التحليل لا يحصل ما لم يكن الجهل شاملاً لهما؛ فإن العلم إذا ألحق أحدَهما بالزنا، استحال تخيُّلُ التحليل مع هذا؛ ولهذا قطعنا القول أن الوطء في نكاح الشبهة يوجب حرمةَ المصاهرة، وقلنا: القول الأصح أن الوطء في نكاح الشبهة الشاملة للجانبين لا يقتضي التحليل.
فهذا تمام القول في الجهة التي يشترط حصول الوطء فيها.
9385- فأما الكلام في الوطء، فتغييب الحشفة -أو تغييبُ مقدارها إن كانت الحشفة مقطوعة- هو المعتبرُ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وأوضحنا أن الأحكام المنوطة بالوطء تحصل جملتُها بما نصصنا عليه.
والإتيان في الدّبر لا يفيد التحليل وفاقاً، فالذي هو المقصود في الفصل استدخال المرأةِ الفرجَ بالأصبع، ولا بد من الاعتناء في ذلك بضبط المذهب، فإن حصل
__________
(1) زيادة من المحقق.(14/376)
الانتشار ووقع الإيلاج مع الاستعانة بالأصبع، فهذا وطء. وإن كان العضو [فاتراً] (1) لم يخل إما أن يكون ممن لا يتوقع منه في مثل حده انتشاراً، أو كان يتوقع منه انتشار، فإن كان ذلك ممن يتوقع منه انتشار، ولكن صادف الإدخال والاستدخال فتوراً أو عُنة فالذي أطلقه الأصحاب أن هذا يحصل به التحليل؛ فإن العضو مما يتوقع الإيلاج به، وقد حصل الوصول إلى الباطن، فلا نظر إلى وصوله بصفته وقوته، أو إلى وصوله بإدخال واستدخالٍ.
فأما إذا كان الزوج صبيّاً لا يتصور من مثله انتشار، كابن أيامٍ، فإذا استدخلت المرأة ذلك منه، وقد قُبل النكاح له، فالذي أطلقه الأصحاب أن التحليل لا يحصل بهذا؛ فإن ذلك إذا لم يكن في مظنة إمكان الوطء لا يسمى وطءاً، فلا اعتبار به.
وهذا مشكل عندنا، وقد وصل الفرج إلى داخل الفرج، ولا يجوز أن يكون في وجوب الغسل خلاف، وإن منع مانع هذا، كان مُبْعِداً، وإن سَلَّم أنه وطءٌ تام في الغسل، استحال تبعيضُ الأحكام، وإن التفت الأصحاب على أن المرعي في وطء المحلّل ما يُنتج انتعاشَ الغَيْرة، وهذا إنما يُفرض عند إمكان الوطء، فهذا أقرب ما يتمسك به.
وذكر شيخي قولاً غريباً: أن وطء الصبي لا يفيد التحليل وإن أولج.
وهذا لم أره إلاّ له وقد نقلته بعد تكرّر السماع عنه ومصادفتِه في التعاليق، وإن صح، فوجهه أنه لا يحرِّك الغيرة، ولست أعتد بهذا القول من المذهب، ولو ذكر هذا التردد في الإدخال من الصبي الذي لا يتصور من مثله الجماع، لكان حسناً، ولكنه ذكره في غير البالغ، وإن ناهز وأولج الفرجَ المنتشر، وهذا على نهاية البعد (2) .
__________
(1) في الأصل: فاقداً. والمثبت من (ت 2) .
(2) علق ابن أبي عصرون على ذلك قائلاً: "قلت: ومذهب العراقيين أن الإيلاج من غير انتشار
لا يحصل به التحليل مطلقاً، تمسكاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى تذوقي عسيلته،
ويذوق عسيلتك" وهذا تعبير عن وجود الشهوة منهما، فمن لا تتحرك آلته كيف يجد لذة
لإدخاله بالدّس؟ هذا في حق من له شهوة، فأما الصبي الصغير، فلا عبرة بتغييبه ولو انتشر
لِفَقْدِ الشهوة في حقه" انتهى بنصه (ر. صفوة المذهب: جزء 5 ورقة: 61 شمال) .(14/377)
وذكر بعض الأصحاب في التخفيف من الغيرة تزويج المطلقة من عبدٍ صغير -إذا قلنا: يقبل السيد النكاح لعبده الصغير- ثم يولج القدر المرعيَّ، ويوهَب العبد منها، فينفسخ النكاح.
ولا شك أن وطء الخصي كوطء الفحل.
9381- ومما نذكره الكلامُ في حالاتِ مُحرّمةِ الوطء، مع دوام النكاح، فنقول: إذا أصابها الزوج صائمة، أو مُحْرمة، أو حائضاً، حلت بالإصابة، وإن كانت محرّمةً، خلافاً لمالك (1) .
ومقصود الفصل أنه لو أصابها وهي مرتدة أو هو مرتد، أو أصابها وهي في عدّة الرجعة، ثم زالت الردّة، فكيف السبيل؟ وهل نقضي بأن التحليل يحصل؟ تكلم الشافعي رضي الله عنه فيما ذكرناه، وأنكر المزني (2) تصوّرَ المسألة؛ فإن الردة من غير دخول [تبتّ] (3) النكاح، والطلاق من غير مسيس يستعقب البينونةَ، فكيف تصوير المسألة (4) ؟ فقيل له: إذا استدخلت ماء الرجل تلتزم العدة ولا تحل لزوجها، والإتيان في الدبر يوجب العدة، ولا يتعلق به التحليل، كما قدمناه، والخلوة -في القول البعيد- توجب العدة، ولا تحلل، فهذا تصوير المسألة.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/757 مسألة 1381، حاشية العدوي: 2/72.
(2) ر. المختصر: 4/93.
(3) في الأصل: تثبت، وفي ت 2: من غير نكاح تثبت النكاح.
(4) ينكر المزني تصوّر المسألة، لأن هذه المطلقة ثلاثاًً إذا تزوجت الزوج الآخر، فإن أصابها قبل الرّدة، ثم ارتدت وعادت، فقد حلّت بالوطء قبل الردة، ولكنها لو ارتدت قبل الدخول، فقد انبتّ النكاح، فكيف يتصوّر وطءٌ للمرتدّة بعد البينونة؟
ومثلها الرجعية، فلو أصابها قبل الطلاق، فقد حلت بهذه الإصابة، ولا عبرة بالوطء في العدة حصل أو لم يحصل، وأما إذا طلقها قبل الإصابة، فقد انبتّ نكاحها، فكيف يتصوّر وطء في عدة الرجعة، ولا رجعة له عليها ما لم يكن أصابها، أي دخل بها، أي حصل الوطء. هذا وجه استبعاد المزني وإنكارِه تصوّر المسألة، والردّ عليه بتصوير الاستدخال والوطء في الدبر، حيث لا تحليل بذلك، مع أنه يوجب العدة، فلو وطأ في هذه العدة هل تحلّ له بهذا الوطء؟ هذه صورة المسألة.(14/378)
فأما الحكم، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: لا يحصل التحليل بالوطء في زمان الردة ولا بوطء الرجعية، فإن هذا وطءٌ في ملك مختل.
قال المحققون: إن حكمنا بأن الوطء في النكاح الفاسد يفيد التحليل، فلا شك أن الوطء في الردة ووطء الرجعية يفيد التحليل، وإن حكمنا بأن الوطء في نكاح الشبهة لا يفيد التحليل، فلا شك أن الردة لو دامت حتى انقضت العدة، لم يفد التحليل، وإن زالت الردة قبل انقضاء العدة، فالمسألة -حيث انتهينا إليه- محتملة أيضاًً، وليس الوطء في هذا كالرجعة مع الردة؛ فإن الرجعة في حكم عقد يَفْسُد ويصح، فيجوز أن يتخلّف عنه شرط الصحة، وأما الوطء، فقد بان جريانه في صلب النكاح، ولا يتطرق إليه وقفٌ وامتناعٌ بسببه؛ فإن ذلك يليق بالعقود. نعم، وطء الرجعية قد يفرض في محلّه (1) ضعف، فإن الطلاق يزيل الملك على رأي الأصحاب.
والمذهب الذي عليه التعويل أن الوطء يوجب المهرَ، راجعها أو لم يراجعها، والرأي في ذلك أن يَتْبع ما نحن فيه المهرَ، فإن لم يراجعها، ثبت المهر ولا تحليل، وإن راجعها، ففي المهر خلافٌ، وفي التحليل احتمال.
وكل هذا إذا لم نجعل الوطء في نكاح الشبهة محللاً، [ولكن] (2) [إذا جعلنا الوطء في نكاح الشبهة محللاً] (2) فالوجه ألا نجعله محللاً في الردة إذا دامت، فإن المرتد على اعتقاد استدامته، والله أعلم.
وقد يرد على هذا أن الحد مدفوع عنه في الرأي الظاهر.
9382- ثم قال الشافعي: "ولو ذكرت أنها نكحت نكاحاً صحيحاً ... إلى آخره" (3) .
إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاًً، فانسرحت ذاكرةً أنها تنكِح وتسعى في تحليل نفسها،
__________
(1) في ت 2: مثله.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، والمثبت في رقم (2) تصرف منا مكان عبارة غير مقروءة في (ت 2) وأما رقم (3) فهو مأخوذ من ت 2.
(3) ر. المختصر: 4/93.(14/379)
فإذا عادت فذكرت أنها نكَحت ووُطئت وتخَلَّت وَحلّت، وكان لا يقترن بقولها ما يكذبها، قال الأصحاب: إن غلب على قلب الزوج صدقُها، فله التعويل على قولها. وإن شك، ولم يترجح له ظن، فالورعُ الاجتنابُ.
ولكن لو عوّل على قولها، ونكَحها، صح، ولو غلب على الظن كذبُها، وكان صدقُها ممكناً، فلو نكحها، فالذي قطع به الأصحاب صحةُ النكاح، مع انتهاء الأمر إلى الكراهية.
وفي بعض التصانيف أنه إذا ظنها كاذبة، وعوّل على قولها ونكَحها، لم تحل له.
وهذا غلط صريح، وهو من عثرات الكُتّاب (1) . والذي قطع به الأمامُ وصاحبُ التقريب والشيخُ أبو علي والعراقيون أن النكاح ينعقد، وتحل في ظاهر الحكم، وإن غلب على الظن كذبها إذا كان الصدق ممكناً.
9383- وهذا المنقول وإن كان هو المذهب فقد يعترض للفقيه فيه إشكال؛ فإن إثبات النكاح بشهادة الشهود ممكن، وكيف لا ولا يصح النكاح إلا بمحضر عدلين، ولكن الجواب أن النكاح يُعنى للوطء وإثباتُه عسر، والزوج يمتنع عن قيام الشهود عليه، فهذا يُفضي إلى حسم الباب، ولا يُغني إثباتُ النكاح شيئاً 2) ، والعسرُ في المقصود قائم.
ثم إثباتُ النكاح -من غير جحد وخصومة- مقام [الوطء] (3) متعذر، وكل [ما لا يجوز] (4) إظهاره فهو هُتكة؛ فكان التعويل على قولها في الحكم اضطراراً.
والأجنبية تنكِح، والتعويل على قولها في أنها خليّةٌ عن الموانع، وهي في مقام
__________
(1) هذا الضبط من نسخة الأصل.
(2) ت 2: ولا يعني إثبات النكاح يقيناً.
(3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.
(4) ما بين المعقفين تصرف منا، فعبارة الأصل غير مستقيمة، هكذا: "متعذر وكل ينبغي بفرض في إظهاره، فهو هتكة" وعبارة (ت 2) مثلها إلا أن بها كلمة مطموسة لا تقرأ.(14/380)
بائعٍ لحماً: يجوز أن يكون من ذكيّ (1) ومن ميتة، فالرجوع إلى قولها.
ولو قال الزوج الثاني ما وطئتها، فلا معول على قول الزوج؛ فإنا لو اعتمدناه لأَحْوجْنا المرأة إلى إثبات الوطء بالبينة، وفيه العُسْر الذي بنينا الفصلَ عليه.
فإن قيل: هلا أوجبتم تحليفها؟ قلنا: هذا قول من لم يربط الفقهُ قلبَه، فإن الحلف لا يُثبت يقيناً، وقد أوضحنا أن النكاح ينعقد مع الرَّيب، والله أعلم.
***
__________
(1) ذكي فعيل بمعنى مفعول، أي لحم من مذكّى، تقول: جملٌ ذكي أي مذكّى (المصباح) .(14/381)
كتاب الإيلاء
قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226- 227] ... إلى آخره" (1) .
9384- الأصل في الإيلاء قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ، والإيلاء في اللسان الحلف والأليّة اليمين، ومنه قول القائل:
قليلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمينه ... وإن بدرت منه الأَلِيَّةُ برّت (2)
والإيلاء في لسان الشرع اسمٌ لحلف الرجل على الامتناع من وطء امرأته، على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله.
وأصل الإيلاء متفق عليه، وكان من طلاق الجاهلية، وصورته وحكمه على الجملة في الإسلام ما نذكره، فنقول: إذا حلف بالله أو حلف يميناًَ سَنصفها: "لا يطأ امرأته"، وأطلق، أو ذكر الامتناع مدّة تزيد على أربعة أشهر ولو بلحظة، فهذا هو المولي، ثم إن جامع في المدة، استمر النكاح كما كان، وسنذكر ما يلتزمه بالمخالفة.
وإن بقي على امتناعه حتى انقضت المدة، رفعته المرأة إن أرادت إلى مجلس القاضي، وطالبته بالفيئة، أو الطلاق، فإن فاء وجامع أو طلق، انقطعت الطَّلِبة، وإن أصرّ، فللشافعي قولان فيما يعامل به: أحد القولين - أنه يُحبس حتى يطلِّق.
والثاني - أن القاضي يطلِّق عليه زوجته، ثم يكفي في الطلاق أن يطلقها طلقة
__________
(1) ر. المختصر: 4/94.
(2) البيت من شواهد ابن منظور في اللسان، ولم ينسبه، وفيه: "وإن سبقت" وفي (ت 2) : "ولم يك إلا حافظاً ليمينه" بدلاً من الشطر الأول.
وفي اللسان: الأُلوة، والألوة، والإلوة، والأليّة على فعيلة، والأليَّا، كله: اليمين، والجمع: (ألايا) .(14/383)
رجعية. وإن حكمنا بأن السلطان يطلّق، لم يطلِّق إلا طلقة واحدة، فإن صادفت محل الرجعة، فرجعيّة، وإن لم تكن محلاًّ للرجعة، فبائنة.
وأبو حنيفة (1) يقول: إذا انقضت الأربعة أشهر، طُلقت [طلقةً] (2) من غير حاجة إلى إنشاء الطلاق، [والفيئةُ] (3) عنده تدفع الطلاق إذا وقعت في المدة، ثم الطلاق الواقع عند منقرض المدة بلفظ الإيلاء بائنٌ عنده.
9385- ومما نذكره في تأسيس الكتاب وطلب الإيناس بتصويره: أن الرجل إذا آلى أخذت المدة في الجريان من غير حاجة إلى ضربٍ من جهة القاضي، بخلاف مدة العُنّة، فإنها من يوم الترافع إلى القاضي؛ لأنها مجتهد فيها.
والمعنى الكلي الذي عنه صَدَرُ مسائل الكتاب أن الرجل إذا امتنع عن وطء امرأته من غير أَلِيّة؛ فإنها [تُزجي] (4) الوقتَ بتوقّع الوقاع. وإذا آلى ألاّ يجامعها، فذلك يقطع توقّعَها، ويشتدّ ضِرارُها، وسنذكر قصة حفصةَ وعمرَ رضي الله عنهما، وهي تدلّ على أن للمدّة المنصوص عليها في القرآن أثراً ووقعاً في الإضرار.
ومن الأصول أن الأربعة الأشهر بجملتها فُسحةٌ ومهلةٌ من (5) الله تعالى أثبتها للزوج، فلتقع الطَّلِبةُ بعدها، وهذا الأصل يقتضي أن تكون المدة التي ذكرها الزوج في يمينه زائدة على المهلة التي أثبتها الله له، ثم لا ضبط للزائد، فيقع الاكتفاء بأقل القليل.
ولو قال قائل: هلا راعيتم زماناً بعد الأربعة الأشهر يمكن في مثله فرض الطلب؟ قلنا: هذا لا يُرعى (6) ؛ فإن المدّة إنما تعتمد زمانَ الضِّرار، والمرأةُ تصبر على
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/473 مسألة 998، المبسوط: 7/22، مختصر الطحاوي: 207.
(2) زيادة من ت 2.
(3) في النسختين: النية. والمثبت تصرّفٌ من المحقق.
(4) في النسختين بالراء المهملة (عليها علامة الاهمال) . والمثبت اختيار من المحقق، وتزجي الوقت أي تقطعه وتُمضيه.
(5) ت 2: في كتاب الله.
(6) ت 2: هذا مرعي.(14/384)
زوجها أربعةَ أشهر فحسب، وإن كانت الجِبِلات تختلف، فالأصل الكلي ما ذكرناه.
ولكن لو مضت تلك اللحظةُ الزائدةُ على الأربعة [الأشهر] (1) المذكورة (2) في اليمين، لم يلتزم شيئاً (3) ، فليس الرجل بعد المدة مولياً (4) .
ولو حلف لا يطؤها خمسة أشهر، فلم ترفعه حتى انقضى الشهر الخامس، فقد انقضى الإيلاء، وصار الرجل بمثابة ما لم يولِ، وسيأتي كل ذلك مشروحاً.
فإن قيل: فأي فائدة في الحكم بكونه مولياً، ولا يُتصور توجيه الطلب عليه، ولا يقع الطلاق عندكم بمضي المدة؟ قلنا: لا أثر للإيلاء إلا انتسابُ الرجل إلى المأثم في الإضرار بها إذْ آيسها وقطع أملها عن الوطء، وهذا الأصل يعترض كثيراً في المسائل؛ فقدّمناه.
9386- ومما نرى تقديمه أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك أربعة أشهر، فإذا انقضت، فوالله لا أصبتك أربعة أشهر، ثم هكذا، حتى نَظَم أيماناً، فالذي صار إليه الأئمة أن الرجل ليس مولياً. نعم، هو حالف، ولا يخفى حكم الحالفين. فإذا نفينا الإيلاء عَنَيْنا نفيَ خاصية هذا الكتاب (5 من الإفضاء إلى الطلب كما مهدناه، وهذا مشكل معترض على المعنى الكلي الذي هو عماد الكتاب 5) وهو قطع التوقع والإضرار.
وذكر الشيخ وجهاً غريباً أنه إذا ذكر يمينين مشتملين على مدّتين يزيد مجموعهما على أربعة أشهر، وكانتا متواصلتين، فهو مولٍ، وهذا وإن كان جارياً على المعنى
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة ت 2: "ولكن لو مضت تلك اللحظة الزائدة على الأربعة، فلا معنى لمطالبتها زوجها، فإنه لو فاء بعد انقضاء المدة المذكورة في اليمين لم يلتزم شيئاً"، ففيها زيادة مقحمة.
(3) فإنه لم يحنث في يمينه، فلم يلتزم كفارة، ولم يزد على الأربعة الأشهر، التي هي مهلة من الله، فلم يلتزم شيئاً بذلك أيضاًَ، حقيقةً يأثم بإساءته لزوجته، ولكنه إثمُ سوء العشرة، وليس إثمَ المولين، كما سيوضّح ذلك فيما يأتي، فصورة المسألة أنه أقسم ألأ يطأ زوجته أربعة أشهر، فتنحلّ اليمين بانقضاء الأشهر الأربعة بغير حنث، ويصبح غيرَ مولٍ.
(4) عبارة الأصل، ومثلها (ت 2) مضطربة، ففيها لفظان يفسدان سياقها: هكذا "لم يلتزم شيئاً، وقيل وبعد فليس الرجل بعد المدة مولياً".
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(14/385)
الذي ذكرناه، فهو خارج عن قياس الأبواب؛ فإن لكل يمين حكمَها، وقد ذكر العراقيون هذا الوجه وزيفوه، وزيفه الشيخ أيضاًً.
وقد ذكرنا أن من حلف لا يجامع امرأته أربعة أشهر ولحظة، فهو مولٍ وإن كان الزمان لا يتسع للطَّلِبة، ورَدَدْنا فائدة الحكم بكونه مولياً إلى تأثيمه، فليت شعري هل يؤثّم المُولي من الأيمان المشتملة على المدد البالغة بمجموعها خمسة أشهر فصاعداً؟ فإن لم نؤثمه، بَعُدَ؛ وقد ظهر نَكَدُه (1) وقصدُه في الإضرار، وإن أثّمناه وليس بيدنا في مسألة الأربعة الأشهر واللحظة (2 إلا التأثيم، وقد قطعنا ثمّ بكونه مولياً، وبيّنا أن المذهب أن صاحب الأيمان المتوالية ليس بمولٍ، فكيف الكلام؟
أقصى الإمكان أن نقول: للتأثيم مأخذ؛ فالذي يحلف على الأربعة الأشهر واللحظة 2) يأثم إثمَ المولين، والذي يوالي بين الأيمان إن كان يأثم، فالوجه ألا يأثم إثمَ المولين، ولا يمتنع أن يقال: الصدوق اللهجة إذا قال: "لا أجامعك" فقد يأثم، ولو قال [قائل: القياس] (3) لا يأثم صاحب الأيمان المتوالية، لم يكن قوله بعيداَّ، وهذا يحصر الإثم (4) في الإتيان بما نهى الرب تعالى عنه.
وهذه جمل في تصوير الإيلاء وتمهيد أصله.
فصل
قال: "والمولي من حلف بيمين تلزمه بها كلفارة ... إلى آخره" (5) .
9387- مضمون الفصل يتعلق بمقصودين: أحدهما - فيما هو إيلاء من جملة الأيمان، والثاني - فيما يلتزمه المُولي إذا فاء [وحنث] (6) .
__________
(1) في (ت 2) "نُكْرُه" ويتكرر هذا اللفظ (نكده) ومشتقاته في كلام الإمام بمعنى (عناده) ، ولم أجده منصوصاً في المعاجم.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(3) في النسختين: "ولو قال قياس لا يأثم" والمثبت تصرّف من المحقق.
(4) يحصر الإثم ثم في الإتيان.
(5) ر. المختصر: 4/94.
(6) زيادة من (ت 2) .(14/386)
فأما القول في الأيمان فهي ثلاثة أقسام: أحدها - اليمين بالله تعالى أو بصفة من صفاته الأزلية، كما سيأتي القول فيها -إن شاء الله تعالى- في أول كتاب الأَيْمَان، فإذا حلف بالله وأطلق، أو قيد بالتأبيد، أو ذكر مدّة تزيد على أربعة أشهر، فهذا مولٍ.
فهذا قِسْمٌ.
والقسم الثاني - أن يعلّق بالوطء حكماً يقع، كالطلاق والعتاق، فالمنصوص عليه في الجديد أنه مولٍ، وعلى هذا القول تفريع مسائل الكتاب. والقول الثاني - أنه ليس بمولٍ.
والقسم الثالث - ما لو علق بالوطء التزامَ أمرٍ يفرض لزومه بالنذر، مثل أن يقول: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أو صلاة أو صدقة، أو لله عليّ أن أعتق عبداً، فالقول الجديد أنه مولٍ، وفي القديم قولٌ أنه ليس بمولٍ، ثم إذا جعلناه مولياً، فإذا خالف وفاء، فهو حانث في يمين اللجاج والغضب، وفيما يلزمه ثلاثة أقوال، سنشير إليها في مسائلِ الكتاب، ونستقصيها في كتاب النذور.
9388- وضابط المذهب في أقسام الأيْمان أن الحالف بالله تعالى على الشرائط التي ذكرناها في الإطلاق والتأقيت مولٍ.
ثم المنصوص (1) في الجديد أنه [إنما] (2) صار مولياً؛ لأنه عرّض نفسه لالتزام أمرٍ [إذا] (3) جامع؛ فظهر الضِّرار بذلك، وبنى عليه إثباتَ الإيلاء بكل التزامٍ، وضمَّ إلى الالتزام ما يقع، كالطلاق والعَتاق يعلّقان؛ فإن الالتزام لا فقه فيه، وإنما الغرض ذكر أمرٍ محذور لو فرض الوقاع، وهذا يظهر الضّرار، واقعاً كان أو ملتزَماً. هذا مسلك القول الجديد.
وأما القول القديم، فإنه مبنيّ على اتباع الحلف بأعظمَ ما يحلف به، وفيه يظهر قصد الرجل في الامتناع، وقد يقلّ الملتَزم (4) حتى يستهان به، فالمولي من يؤكد وعْدَ
__________
(1) ت 2: التعويض.
(2) في الأصل: إذا.
(3) في الأصل وفي (ت 2) أيضاً: لالتزام أمرٍ أو جامع. والمثبت من المحقق.
(4) ت 2: المسألة.(14/387)
الامتناع بذكر أمر عظيم، وكانت العرب تولي، فتذكر اسم الله تعالى، وإن ذكرت بعض الأصنام اعتقدته إلهاً؛ فالإيلاء ينبغي أن يكون على النعت الذي عُهد (1) في الجاهلية؛ فإنه طلاق جاهلي، فغُيّر بعضَ التغيير، فيبقى على اقتضاء الطلاق إذا كان على الصفة المعهودة (2) ، فإن لم يكن على تلك الصفة، كان يميناً من الأيمان، هذا توجيه القول القديم.
وإذا أردنا أن ننظم القول، قلنا: الحلف بالله على الامتناع عن الوقاع مطلقاً أو مقيداً بمدة زائدةٍ على الأربعة الأشهر إيلاء، ثم ذكر في العلة الجارية مجرى الضبط والحد مسلكان: أحدهما - أنه مولٍ؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، وهذا هو المسلك الجديد، ويخرّج عليه أن الحلف بالطلاق والعَتاق والتزامَ ما يلتزِم إيلاءٌ.
والمسلك القديم - أن المولي من يمتنع عن الوقاع بذكر الاسم المعظّم، اتباعاً لما عُهد فيه، فيخرجُ الحلف بغير الله وبغير صفاته عن كونه إيلاء.
والتفريعُ على الجديد.
وقد نجز أحد مقصودي الفصل.
9389- فأما المقصود الثاني، فهو بيان ما يلتزمه المولي إذا حلف بالله لا يجامع ثم جامع. المنصوصُ عليه في الجديد: لزمته كفارةُ اليمين، وقياسه بيّن.
والمنصوص عليه في القديم قولان: أحدهما - ما ذكرناه في الجديد. والثاني - أن الكفارة لا تلزم.
ووجه القول الجديد [لائح واضح، ووجه القول القديم أن الأيلاء] (3) منتزَع عن حكم الأيْمان، لما فيه من اقتضاء الطلاق حملاً عليه عند الامتناع من الفيئة، فكأن اليمين مستعملة في اقتضاء هذا المعنى، مصروفةٌ عن وضع الأيمان. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "الإيلاء طلاق، غير أنه غُيّر في الإسلام" (4) .
__________
(1) في النسختين: الذي عهد إليه في الجاهلية. والتصرف من المحقق.
(2) في ت 2: المحمودة.
(3) ما بين المعقفين مزيد من (ت 2) .
(4) أثر عائشة رضي الله عنها لم نقف عليه.(14/388)
والأصح القول الجديد، وفيه (1) تبقية مُوجَب اليمين وإثباتُ حكم الطلاق عند الامتناع؛ من جهة إظهار الضرار، فلا تناقض بين الحكمين.
9390- وذكر القاضي رحمه الله في توجيه القول القديم التعلقَ بقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] واستنبط منه أن المولي إذا فاء، أدركه صفح الشرع وعفوهُ، وهذا يشعر بانتفاء الغُرم، ثم تصرّف (2) على موجب هذا الاستدلال، فقال: الفيئةُ (3) مذكورة بعد مضي المدة، فيجري القولان في انتفاء الكفارة في الوطء الجاري بعد انقضاء المدة؛ فإنا نتبع النص (4) في توجيه أحد القولين، حتى إذا فرضت الفيئة في الأربعة الأشهر قبل انقضائها، فالظاهر وجوب الكفارة؛ فإن هذه الفيئة لا ذكر لها في القرآن، ولا متعلق عنده في توجيه نفي (5) الكفارة إلا ظاهر الآية، ثم استقر كلامه على أن نذكر في الفيئة بعد المدة قولين ونذكر في الفيئة دون المدة قولين، والصورة الأخيرة أولى بوجوب الكفارة.
وهذا ترتيب رآه (6) ، وبناه على التوجيه بظاهر القرآن، وليس بذاك (7) ، فليس في القرآن ما يوجب نفي الكفارة، وإنما المقصود من قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] أن الفيئة لا تَحْرُم باليمين على الامتناع منها، وقد يخطر للمؤمن المعظِّم اعتقادُ تحريم الفيئة. وقد صار إلى ذلك أبو حنيفة (8) ، فالآية بظاهرها تدل على نفي الحرج والتحريم عن الفيئة، ثم لو (9) صح ما تخيله القاضي ففي الفيئة في الأشهر قطع الضرار، فإذا كان يستحق المطالَب في التضييق عليه التخفيفَ، فابتداره تدارك الأمر
__________
(1) ت 2: وفي.
(2) ت 2: ثم يضرب.
(3) ت 2: العلة.
(4) ت 2: البصر.
(5) ت 2: بين.
(6) ت 2: وهذا ترتيب رأيناه على التوجيه.
(7) ت 2: كذلك.
(8) ر. مختصر الطحاوي: 207، المبسوط: 7/19، فتح القدير: 4/42.
(9) ت 2: ثم صح ما تخيله القاضي.(14/389)
في قطع الضرار أولى بذلك، فلا وجه لما ظنه كيف قدر الأمر.
نعم، من الجليات التي ننظمها أن من حلف لا يطأ زوجته أربعة أشهر، ثم جامع في الأشهر، لزمته الكفارة بلا خلاف، فإنه ليس بمولٍ، والضابط في ذلك أن اليمين إذا كانت لا تُفضي إلى توجيه الطلب بالفيئة أو الطلاق، فتعلقُ الحنث فيها الكفارةُ، وسبيلها كسبيل سائر الأيمان.
وإن (1) تعلق باليمين خاصّية الإيلاء -وكانت يميناً بالله تعالى- فالفيئةُ ترفع حكم الإيلاء، فيختلف القول في وجوب الكفارة.
ومما ذكره القاضي رضي الله عنه، وكان شيخي يحكيه عن القفال أن القولين في انتفاء الكفارة والحلف بالله تعالى يقرب مأخذهما من أن الأيْمان بالطلاق والعتاق والالتزامات هل تكون إيلاء أم لا؟ فإن قلنا: المولي لا يلتزم بالفيئة الكفارة، فلا تعويل على الالتزام، ولا إيلاء إلا الحلف بالله تعالى.
وإن قلنا: الحالف بالله يلتزم الكفارة إذا فاء، فلا يبعد أن يكون كلُّ ملتزِمٍ في معناه.
وكان شيخنا يقول: هذا الترتيب قريب في مسلك المعنى، ولكنه لا ينتظم على ترتيب الجديد والقديم، وذلك أن قول الشافعي في القديم يختلف في أن المولي بالله هل يلتزم الكفارة، ولا يختلف مذهبه في القديم أن الحالف بغير الله ليس بمولٍ؛ فإن سلك سالك طريقة البناء، فلا بد وأن نخرّج قولاً في القديم في أن الإيلاء يختص بالحلف بالله.
فصل
قال: "ولا يلزمه الأيلاء حتى يصرح ... إلى آخره" (2) .
9391- اختلفت الطرق في صرائح الألفاظ في الجماع، ونحن نذكر طريقة ضابطة جامعة، إن شاء الله، فنقول: انقسام الألفاظ إلى الكناية والصريح يأتي من ألفاظ
__________
(1) ت 2: وما تعلق.
(2) ر. المختصر: 4/95.(14/390)
القسم بالله وبصفاته، وهذا الفن ليس من غرضنا، وسيأتي مستقصىً في أول الأيْمان، إن شاء الله عز وجل، وغرض الفصل التعرضُ لانقسام الألفاظ إلى الصرائح والكنايات فيما يتعلق بالجماع.
وقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أقسام تحوي (1) جميعِ المقصد، فقال: من الألفاظ عن هذا المقصد ما هو صريح، ولا يتطرق إليه تدْيينٌ وأمرٌ في الباطن يخالف الظاهر.
ومنها ما يتطرق التدْيين إليه.
ومنها ما هو كناية في الظاهر أيضاً.
فأما ما هو صريح ظاهراً ولا يُنَوّى (2) فيه أصلاً، فمنه النيّك، فلو قال: لا أنيكك، ثم فسر ذلك بالضم والالتزام والقُبلة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً وباطناً؛ فإن التديين إنما يجري بأحد وجهين: إما أن يكون في اللفظ إشعارٌ به على بُعد كصرف (3) (الطالق) (4) إلى الطلاق عن الوِثاق. وإما ألا يكون اللفظُ مشعراً به، ولكن ينتظم [وصل] (5) اللفظ به، مثل أن يقول: أنت طالق، ويُضمر (إن شاء الله تعالى) ، وهذا فيه اختلافٌ قدمته.
فأما إذا قال: لا أنيكك، وحَمَل اللفظَ على القُبلة، فلا انتظام لهذا، ولا إشعارٌ به، وكذلك لو قال: لا أُدخل ذكري في فرجك، أو لا أولج.
ولو قال للبكر: والله لا أفتضك، فهذا صريح، فلو زعم أنه نوى به الضم والالتزام، فهل يُنوَّى فيه باطناً؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أصحهما - أنه لا يديّن؛ لأن الافتضاض لا يَحْتَمل ما نواه بزعمه.
__________
(1) ت 2: يجوز جمع.
(2) ينوّى فيه: أي لا يسأل عن نيته فيه، فلا أثر لها.
(3) ت 2: كضرب.
(4) الطالق: أي في مثل قوله: "أنت طالق" ثم يزعم أنه يعني أنها طالق عن وثاق.
(5) في الأصل: وصف اللفظ به.(14/391)
وفيه وجه بعيد أنه يُنَوّى؛ فإنه ربما يستعار الافتضاض، في استفتاح الأمور، والتديينُ يُكتفى فيه بأدنى إمكانٍ في الاحتمال.
9392- فأما القسم الثاني، فهو ما يكون صريحاً ظاهراً، ويتطرق التديين إليه، وهذا ينقسم: فمنه ما يكون صريحاً قولاً واحداً، ومنه ما اختلف القول فيه، (1 فأما ما لم يختلف القول فيه 1) فقد اختلف فيه جواب الأئمة بعد الاتفاق على أن الجماع صريح قولاً واحداً، وكان شيخي لا يقطع القولَ إلا في الجماع، وقال صاحب التقريب: الجماع والوطء صريحاًن قولاً واحداً، وقال الشيخ أبو علي: الجماع والوطء والإصابة صرائح في ظاهر الحكم قولاً واحداً، وهذا ما ذكر العراقيون، والقطع في لفظ الإصابة بعيد، وإلحاق الوطء بالجماع غيرُ بعيد.
فهذا بيان الأجوبة فيما يتحد القول فيه.
فأما ما اختلف القول فيه، فالمباشرةُ، والملامسة، والمماسَّة، والمباضعة، فهذه الألفاظ -وما يصدرُ منها- فيها قولان: أحدهما - أنها صرائح كالجماع. والثاني - أنها كناياتٌ بخلاف الجماع؛ فإن لفظ الجماع شائع في الاستعمال، حتى لا يتمارى السامع في معناه. وهذه الألفاظ التي ذكرناها لا تُستعمل استعمال الجماع، ومن لم يؤثر ذكرَ الجماع، عدل إلى لفظةٍ من هذه الألفاظ، وهذا يوضح أنها ليست في منزلة الجماع.
قال صاحب التقريب: الألفاظ الدائرة في الشريعة التي اختلف المفسرون في معناها، فحملها بعضهم على الجسّ، وحملها آخرون على الجماع، اختلف القول فيها حسب اختلاف علماء التفسير.
وهذا الذي ذكره ليس بحدٍّ عليه معوّل، والأصل في الباب أن المعنى المطلوب في ذلك (2) وضَعَ اللسانُ فيه الكنايةَ؛ فإن أرباب المروءات يأنفون من الألفاظ الموضوعة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) ت 2: ذكر.(14/392)
لهذا المعنى صريحاًً، فكان الوضع على المكاني (1) ، ولكن ظهر بعضها وشاع، فالتحق بالصريح الموضوع للمعنى، ولم يظهر بعضها ولم يَشِعْ، فتردد القول، وسبب التردد مع أنها مكاني الاعتناءُ بالمكاني في الباب، وأرى الوقاعَ في مرتبة الوطء وقد سبق التردد فيه.
9393- فأما ما يلتحق بالكنايات قولاً واحداً، فهو كقول القائل: لأبعدن عنكِ، لا يجمع رأسي ورأسَك وسادة، وألحق الأصحاب بهذا أن يقول: [لأسوأَنّك] (2) ، وهذا من أبعد الكنايات.
والقِرْبان والغِشيان فيهما ترددٌ: من الأصحاب مَنْ ألحقها بالكنايات التي ذكرناها آخراً، ومنهم من ألحقها بالمسّ والجسّ، ولعل هذا أقربُ؛ فإن (3) لفظ القرب جرى في الكنايات على إرادة الوقاع، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ويجوز أن يكون الإتيان في معنى القِربان قال الله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] . ولا يبعد أن يقال: القِربان والغِشيان إذا استعملا مصدرين؛ فإنهما كالملامسة وما في درجتها مصدراً وفعلاً، فإن قال: لا أقربك، فيلتحق بالكنايات المحضة؛ فإن القِربان يشيع استعماله في الوقاع، والقرب يشبع في غير الوقاع من وجوه القرب المكاني، [والفعل الصادر عن المصدرين كالقرب لا كالقربان] (4) .
وإذا مهدنا القواعد، ثم شذت لفظة لم نذكرها، لم يَخْفَ على الفقيه إلحاقُها بالأقسام المضبوطة التي ذكرناها.
ثم لو نوى بالجماع غير المعنى المطلوب، وزعم أنه أراد الاجتماع، فما ذكره محتمل، ولكن اللفظ شائع، فَيُنوَّى ويديّن باطناًً، ولا يقبل ما قاله ظاهراً.
__________
(1) المكاني: أي الكنايات.
(2) في الأصل: "لا شريك" وفي (ت 2) : "لاسرتك" والمثبت من مختصر المزني، وفي صفوة المذهب رسمت هكذا: "لأسونك" وهي نفس لفظة مختصر المزني. وفي الروضة مثل ما في مختصر المزني: "لأسوأنك".
(3) ت 2: فلعل لفظ القرب.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) . وعبارتها: والفصل الصادر عن المصدرين ... والتغيير تقدير منا، نرجو أن يكون صواباً.(14/393)
وقد نجز الغرض في هذا الفن.
9394- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قال والله لا أجامعك في دبرك، فهو محسن ... إلى آخره" (1) .
وهذا كما قال؛ لأنه عقد اليمين على ما هو ممنوع محرّم، فقد وافقت اليمين موجَب الشرع، وكذلك لو قال: والله لا أجامعك في حيضك أو نفاسك، فالذي صدر منه ليس إيلاء، لأنه حلف على الامتناع مما هو ممنوع شرعاً.
فصل
قال: "ولو قال: والله لا أقربك خمسة ... إلى آخره" (2) .
9395- فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم إذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة"، فقد عقد يمينين على مدّتين مختلفتين متعاقبتين، فنتصرّف في المدة الأولى واليمينِ فيها، ونقول: إذا مضت أربعةُ أشهر، توجهت الطَّلِبة من المرأة بحكم اليمين [الأولى] (3) . ثم لا يخلو الزوج إما أن يفيء أو يطلق، فإن فاء، انحلت اليمين الأولى، وفي لزوم الكفارة من اختلاف القَوْل ما ذكرناه.
ثم لا يحتسب الشهر [الخامس] (4) ؛ فإن اليمين قد انحلت فيه، بل نقول: إذا مضى الشهر الخامس، فيدخل مفتتحُ مدّة اليمين الثانية، فإنه كان قال: فإذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة، فإذا مضت أربعةُ أشهر من أول مدة اليمين الثانية، وهي تقع لا محالة بعد انقضاء الشهر الخامس، فإذا انقضت الأربعة الأشهر بعد الخمسة، توجهت الطَّلِبةُ مرة أخرى، فإن فاء، انحلّت اليمين، وفي لزوم الكفارة ما قدمناه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/96.
(2) ر. المختصر: 4/96.
(3) مزيدة من (ت 2) .
(4) سقطت من الأصل، وزدناها من (ت 2) .(14/394)
هذا إذا سلك طريق الفيئة.
9396- فأما إذا وجهنا عليه الطَّلبة في اليمين الأولى وطلّق، فالقول فيه إذا راجع، أو تركها حتى تبين ثم جدّد النكاح - يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصود، فنقول:
إذا حلف الرجل لا يجامع امرأته وأطلق اليمين، ولم يقيّدها بمدّة، ثم لما طولب، طلّق، فإذا ردَّها، لم يخلُ: إما أن يردّها بالرجعة في العدة، أو يردّها بالنكاح بعد البينونة، فإن راجعها، فيعود حكم الإيلاء بعد انقطاع الطّلبة، والسبب فيه أن البينونة إذا لم تقع، فالنكاح في حكم الاتحاد والتواصل، فإذا راجعها، فهو على حال المولين؛ فإن المولي من يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر شيئاً، وهو بعد الرجعة بهذه المثابة، وللنكاح حكم الاتحاد، فسبيله كسبيل من يحلف على الابتداء؛ فإن دوام اليمين وتصوُّرَ الحنث كابتداء اليمين.
فهذا قولنا في اطراد حكم الإيلاء.
9397- ثم قال الأئمة: إذا كانت اليمين مُطْلَقة، وقد طلق لمّا طولب بعد المدة، فإذا راجع، فلا تتوجه عليه الطَّلِبة على الفور كما (1) راجعها، وهذا من الجليات المتفق عليها، ولا بد من التنبّه له؛ فمعظم غلطات الفقهاء في الجليات.
وكان ينقدح في القياس أن يقال: كما راجعها، عادت الطلبة؛ لأن النكاح له حكم الاتحاد، ولم تجر منه الفيئة، والضرارُ دائم، ولكن لما طلق، فقد أتى بأحد ما طولب به، فيؤثّر الطلاق -بإجماع الأصحاب- بقطع حكم الطَّلبة التي توجهت بانقضاء المدة، ثم جُعل في الرجعة كأنه آلى ابتداءً، ولقد كان من قبل مخيَّراً بين أمرين: الفيئة والطلاق، فخرج منه أن الفيئة تَحِل اليمين، وتدرأ الضرار، ويخرج الرجل عن كونه مولياً، والطلاق بعد المطالبة يقطع الطَّلِبةَ الحاقّةَ، ولسنا نعني انسداد باب الطلب؛ إذ لو كنا نعني ذلك، ونكتفي به، لعاد الطلب كما راجع، فكان سقوط الطلب محققاً، وكأنه وفّى بما أفضى إليه انقضاءُ المدة، ثم جعلناه كالمبتدىء؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، فصار كما لو ارتجع وحلف، ثم أثّر اتحاد النكاح
__________
(1) كما: بمعنى عندما.(14/395)
في هذا المعنى. وهذه قاعدة لا بد من الوقوف عليها.
ولو طلق لما طولب، ثم تركها حتى بانت -واليمين مُطْلقة- ثم جدد النكاح عليها، فلا شك أن اليمين باقيةٌ في باب البرّ والحِنث، -ولو قال رجل لأجنبية واللهِ لا أجامعك، ثم زنا بها، حنِث- ولكن هل نجعله مولياً حتى إذا مضت أربعة أشهر نحكم بتوجيه الطلبة عليه؟ فعلى [قولي] (1) عَوْد الحنث.
فإذاً حكم البر والحنث مستمر، والقولان (2) في خاصّية الإيلاء من توجيه الطّلبة المردّدة بين الفيئة والطلاق.
هذا بيان الحكم في الأصل الذي قدمناه، ونحن نعود بعده إلى مسألة الكتاب.
9398- فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر؛ فإذا مضت، فوالله لا أجامعك سنة"، فإذا مضت أربعة أشهر من المدّة الأولى، وتوجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فلا تتوجه الطلبة بحكم اليمين الأولى قط؛ فإنه لم يبق من مدتها إلا شهرٌ.
ولو كانت اليمين مُطلقة (3 كنا نمهله أربعة أشهر، ثم نعرض الطلبةَ بعدها، فقد حَبِط أثرُ الإيلاء3) في اليمين الأولى. نعم، لو وطىء وهو غير مطالب به، وقد بقي من الشهر الخامس بقية (4) ، فيلزمه كفارة يمين.
9399- وهاهنا سؤال وجواب عنه: إن قيل: إذا فرّعنا على أن المولي لو فاء، لم يلتزم الكفارة، فإذا طلق في الصورة التي ذكرناها، ثم راجع ولا طَلِبةَ، فلو فاء، هل يلتزم الكفارة؟ الوجه عندنا أنه يلتزم، لأنه خرج عن كونه مولياً.
ولا يبعد أن يقال: لا يلتزم الكفارة؛ نظراً إلى ابتداء عقد اليمين؛ فإنها لم تعقد على التزام الكفارة (5 والمولي الذي لا يلتزم الكفارة 5) ، بالوطء بعد المدة [لو
__________
(1) في النسختين: قول. والمثبت تصرف من المحقق، ساعدنا عليه مع السياق عبارةُ ابن أبي عصرون.
(2) أي مستمران أيضاً.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(4) في (ت 2) : الفية.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(14/396)
وطىء] (1) قبل انقضاءِ المدة لا يلتزم الكفارة، وإن لم يكن مطالباً بذلك الوطء.
وهذا تلبيس؛ فإن ذلك الوطء هو الذي يطالَب به بعد المدة، ولكنه في مَهَلٍ وأجل، والدليل عليه أن الطلب ينقطع بجريانه، فهذا مسلك الكلام.
والوجه عندنا ما قدمناه من أن الكفارة تجب في الشهر الخامس بعد الرجعة إذا انقطعت طَلِبةُ الإيلاء؛ فإن الدافع للكفارة ما كان في اليمين من شوب (2) الطلاق، وإذا زال حُكم الطلاق، فاليمين مستمرة على صيغتها وحقيقتها.
ثم إذا مضى الشهر الخامس، ودخل أمد اليمين الثانية، فتحسب أربعة أشهر من أول الشهر السادس، ثم تتوجه الطلبة، فإن طلق، انقطع الطلب، فإن راجع، نُظر كم بقي من السنة؟ فإن كان تبقى من السنة أربعةُ أشهر أو أقل، فلا إيلاء، فإن المدة الباقية ليست زائدة على الأربعة الأشهر؛ فلا يفرض الإيلاء فيها، ولكن لو وطىء حنِث في يمينه؛ إذ لو وطئها في البينونة، لَحَنِث، فليتنبه الناظر لانقطاع حكم الإيلاء وبقاء اليمين في البر والحنث.
ولو كان الباقي من السنة بعد الخمسة الأشهر أكثرُ من أربعة أشهر، فالإيلاء يعودُ، على معنى أنه إذا انقضت أربعةُ أشهر بعد الرّجعة، توجهت الطلبة، ثم لا يخفى حكم الطلب وما يتعلق به.
وكل ذلك والطلاق رجعي، وقد ردها بالرجعة.
9400- فأما إذا تركها حتى بانت، ثم جدد النكاح [فحيث] (3) لا يعود الإيلاء بالرجعة لقصر المدة لا يعود الإيلاء بعد النكاح.
وحيث يعود الإيلاء بعد الرجعة، فهل يعود بعد النكاح؟ فعلى قولي عود الحنث، وقد ذكرنا في تعليق الطلاق وعَوْد الحنث أقوالاً، ورأينا أنه إذا علق الطلاق، ثم نجّز ثلاثَ طلقات، ثم نكح بعد التحلل، فالأصح أن الحِنث لا يعود، فإنه نجّز ما علق؛
__________
(1) في الأصل: ولو وطىء.
(2) ت 2: شرب.
(3) في النسختين: فحنث.(14/397)
فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين. وفيه قولٌ آخر، ذكرناه ووجّهناه بالممكن.
فإن قيل: كما فصلتم بين البينونة من غير استيفاء العَدد وبين استيفاء العدد في عَوْد الحنث في باب تعليق الطلاق، فهل تَفْصِلون في عَوْد حكم الإيلاء بين أن يتخلل استيفاء العدد وبين ألا يتخلل؟ قلنا: ينقدح الفصل هاهنا أيضاًً؛ فإن من آلى فحكم الإيلاء توجيه الطِّلِبة عليه بطلاق يملكه، فإذا استوفى الطلقات، فقد زال ملكه، فيظهر زوال المطالبة.
ويجوز أن يقال: لا يظهر الفرق؛ لأن المقصود بالطلب الفيئةُ، لا الطلاق، ووجه طلب الطلاق كونهُ مخلِّصاً من الضرار والفيئة توفيةٌ للحق.
وإذا نبهنا على تقابل الإمكان اهتدى من تهدَّى.
9401- ومما نذكره متصلاً بعود الحِنث (1) أن الرجل إذا قال لأجنبية: والله
__________
(1) هنا خلل في نسخة (ت 2) حيث سقط منها أربعة فصول كاملة، ومن أعجب العجب أن صفوة المذهب تابعتها على هذا الخلل. فكيف جاز على إمامٍ جليل مثل ابن أبي عصرون؟
والذي يؤكد هذا الخلل ويجعله يقيناً ما يأتي:
ا- أن نسخة الأصل (ت 6) تتبع ترتيب مختصر المزني الذي التزم إمامُ الحرمين الجريَ على ترتيبه، على حين قفزت نسخة (ث 2) تاركة أربعة فصولٍ، ثم عادت فأقحمتها في غير موضعها.
2- أن نسخة (ت 2) فيها علامة لحق واضحة جداً عند بدء هذا الخلل، وربما يكون هذا من عمل أحد المطالعين للنسخة، فلو كان من الناسخ عند معارضتها، لأضاف هذا اللحق على الهوامش كما رأيناه في نسخ أخرى، وكما هو دأب النساخ.
3- إن أدنى تأمل في المسألة التي وقع فيها الخلل بانتقال (ت 2) إليها، نجد الموضوع مختلفاً تماماً، حيث الحديث عن عتق عبدٍ عن ظهارٍ وما يترتب على ذلك ... وهذا لم يسبق له ذكر، ولا علاقة له بموضوع الفصل، وإنما هو من الفصل الذي قفزت إليه نسخة (ت 2) .
ثم يبقى السؤال: على فرض أن الإمام الجليل ابن أبي عصرون كان ينظر في نسخة (ت 2) التي بها هذا الخلل، وكان يعمل مختَصَره منها، كيف لم يتنبه لهذا الخلل في السياق؟؟ ولم ينبه عليه؟
والأعجب من ذلك كيف تابع النسخة على هذا الخلل حينما عادت وأقحمت هذه الفصول التي تركتها مرة ثانية؟؟
هذه أسئلةٌ ... ولا جوابَ. والله وحده الملهم للصواب جل وعلا.(14/398)
لا أجامعك، ثم نكحها، فالحنث والبرّ يجريان لا محالة، ولكن لا يثبت حكم الإيلاء، فإن اليمين ما جرت في النكاح، والمطالبةُ بالطلاق من أحكام النكاح؛ فيستحيل أن يثبت اقتضاءُ الطلاق بيمينٍ سابقة على النكاح، وكذلك لو قال: إن نكحتك، فوالله لا أصيبك، فلا يثبت الإيلاء، ولا أثر للإضافة إلى النكاح.
9402- وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر يمينين مشتملتين على مدّتين متعاقبتين، فلو قال: والله لا أصيبك خمسة أشهر والله لا أصيبك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر، وتوجهت الطَّلبة، ففاء (1) ، انحلت اليمينان.
فإذا فرّعنا على إيجاب الكفارة، أوجبنا كفارتين أو كفارة واحدة؟ فعلى وجهين يجريان في كل يمينين ينحلاّن بفعل واحد.
وإذا قال الرجل: والله لا آكل الخبز، والله لا آكل طعام زيد، ثم أكل الخبز من مال زيد، وانحلت اليمينان، ففي تعدد الكفارة وجهان: أحدهما - التعدّد (2) ؛ فإن الحنث متعدّد، وهو المحلّل (3) لا صورة الفعل، ولو قلنا: الفعلُ في [حقيقته متعدد] (4) ، لم يكن بعيداً؛ فإنه أكل رغيفاً، وأكل مالَ زيد.
ولو توجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فكما (5) راجع ابتدأنا في احتساب الأربعة الأشهر، ولا نصْبر إلى انقضاء الشهر الخامس؛ فإنه في اليمين الثانية عقد على سنةٍ يندرج تحتها الخمسةُ الأشهر التي حلف عليها أولاً، فإذا راجع، فهو في بقية اليمين الثانية.
والمسألة مفروضة فيه إذا بقيت من السنة أكثرُ من أربعة أشهر، لِما تقدم تمهيده.
ولا معنى بعد هذا لتكثير الصور، والذي تجدد في المسألة الثانية دخولُ خمسة
__________
(1) ت 2: فقد.
(2) ت 2: العدد.
(3) ت 2: الحالّ.
(4) في الأصل، وفي (ت 2) : في حقيقة التعدد، والمثبت من صفوة المذهب: جزء: 5 ورقة: 68 يمين.
(5) فكما: بمعنى عندما.(14/399)
أشهر تحت يمينين (1) ، وفرضُ انحلالهما جميعاًً بالوطء في الخمسة الأشهر.
وإن انقضت من غير وطء، تجرّدت (2) يمين واحدة، ولا يكاد يخفى هذا، ولسنا نترك (3) الصور في أمثال ذلك إلا بعد النظر فيها، والعلم بأنها لا تخفى على متأمل.
9403- ولو قال: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فإذا مضت، فوالله لا أجامعك أربعة أشهر، فقد قدمنا أنه لا يكون مولياً، وذكرنا فيه الوجهَ الغريب، ولم نعدّه من المذهب، وقد شبه المحققون هذا بما لو اشترى الرجل بصفقاتٍ ألفَ وَسْقٍ في العرايا، وكل صفقة تشتمل على أربعة أوسق، فلا امتناع في ذلك، وإن كنا نمنع اشتمال صفقة واحدة على ستة أوسق، فان كان صاحبُ الوجه الغريب يسلّم هذا، ولا يشبّب (4) فيه بتخريج، فهو لازم، وإن طرد فيه التخريج، لم نملك إلا الاستبعاد (5) .
وقد يظهر فرق بين البابين؛ من جهة أن رعاية الضرار ظاهرة في الإيلاء، وهذا يعم الجبلاّت؛ فإن ندرت صورة، فالإيذاء باللسان وإظهار الزهد بيّن، وقد يثبت الإيلاء من المجبوب لما في لسانه من الإيذاء، وأما أمرُ الحاجة، فلا يكاد يظهر في بيع العرايا، ولهذا نصحح العريةَ من الغني صاحب البساتين، فتخيُّلُ الحاجة في العرية كتخيّل الحاجة في الإجارة؛ فينفصل من هذا الوجه البابُ عن الباب، وإذا تبين اعتبار الضرر، فالإضرار كائن في الأيمان المتوالية على وجه كونها في اليمين الواحدة.
ولا خلاف أنه لو قال: لا أجامعك أربعة أشهر، ثم مكث حتى انقضت، فقال مبتدئاً: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فلا يكون مولياً، والوجه الضعيف إنما يُخرّج إذا صدرت منه الأيمان، وظهر منه قصدُ إطالة مدة الامتناع بالأيمان، وليس من الحزم التفريع على الوجوه البعيدة.
__________
(1) ت 2: اليمين.
(2) ت 2: تجددت.
(3) ت 2: نرى.
(4) ت 2: ينتسب.
(5) ت 2: لم يملك الاستعباد.(14/400)
فصل
قال: "ولو قال: إن قربتك، فلله علي صوم هذا الشهر ... إلى آخره" (1) .
9404- إذا قال لامرأته: إن قربتك، فعليّ صوم شهر، فالذي جاء به يمين عُلّق - والتفريع على الجديد في أن الإيلاء لا يختص باليمين بالله [-ثم التفريع لا محالة- على أن الحانث] (2) ملتزم، وإذا حَنِث في يمين اللجاج والغضب، ففيما يلزمه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يلزمه الوفاء بما التزم.
والثاني - أنه يلزمه كفارة اليمين.
والثالث - أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء.
وقد نص الشافعي على هذا القول في هذه المسألة من هذا الكتاب، ولم يُلْفَ هذا النص للشافعي إلا هاهنا.
وتوجيهُ الأقوال فيما يلتزمه الحانث من يمين اللجاج، والتفريعِ عليها يأتي في كتاب النذور.
وقدْرُ غرضنا منها أنه إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم شهرٍ، فهو مولي؛ فإنه يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً.
وإذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فهو ليس بمولٍ؛ من جهة أن هذا الشهرَ إذا انقضى، انحلت اليمين؛ إذْ لو وطىء، فلا يتصور التزام الصوم على قول الوفاء؛ فإن الصوم إذا أضيف إلى أيام، اختصّ بها، ومن التزم بالنذر صوم يومٍ، تعيّن اليومُ الذي عينه -على الرأي الظاهر- فإذا انقضى الشهر، فالوفاء غير ممكن، وإذا لم يجب الوفاء على قول الوفاء، لم تجب الكفارة.
فإن قيل: الكفارة إنما تجري حيث يتصور الالتزام نذراً، فإذا تبيّن أن الحِنْث
__________
(1) ر. المختصر: 4/97.
(2) عبارة الأصل جاءت مضطربة هكذا: "ثم التفريع على الجديد في أن الإيلاء لا محالة على أن الحانث ملتزم ... إلخ".(14/401)
لا يتصور بعد الشهر الأول، فليس الرجل [مولياً؛ فإن المولي] (1) من يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً، وقد أوضحنا أن الجماع لو فرض بعد الشهر الأول، لم يجب شيء، ولا نظر إلى إطلاق الامتناع عن الوطء عموماً، بل يجب مراعاة تقدير الالتزام بالوطء بعد أربعة أشهر، وهذا المعنى مفقود في هذه المسألة.
قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فليس بمولٍ، كما لو قال: إن أصبتك فلله عليّ صوم أمس"، وغرضه في الشبه بيّنٌ واضح، وإن كان مطلَقُه محوجاً إلى التأويل؛ فإن قول القائل: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا انعقاد له في وجه.
وإذا قال: إن وطئتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فاليمين منعقدة على الجملة (2) ؛ فإنه لو وطىء في ذلك الشهر، كان حانثاً، ملتزماً أمراً على الأقوال الثلاثة.
وإذا قال: فعليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا يتعلق به التزامٌ أصلاً، وإنما شبه الشافعي رضي الله عنه هذه المسألة بالتزام صوم أمس؛ من حيث إنه لا يكون مولياً في المسألتين جميعاًً، فلا أثر لليمين بعد الأربعة الأشهر، فهذا وجه تشبيهه، وغرضُ الكلام في إثبات الإيلاء ونفيه.
فصل
قال: "ولو قال: إن قربتك، فأنت طالق ثلاثاًً ... إلى آخره" (3) .
9405- الشافعي رضي الله عنه أدار معظم مسائل الإيلاء على الألفاظ التي هي كناية في الجماع، كقوله: "إن قربتك". الأصحُّ أن هذا كناية، وإنما فعل الشافعي هذا لأنه مهّد القول في الصريح والكناية، ثم اللائق بحفظ المروءة الكنايةُ في هذه المعاني، فلم يُؤْثر ذكرَ الصريح، وعَلِم أن ذلك يستبان من غرضه.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) ت 2: على الكلمة.
(3) ر. المختصر: 4/97.(14/402)
فإذا قال الرجل لامرأته: إن جامعتك، فأنت طالق، فهو مولٍ؛ لأنه لو جامع بعد أربعة أشهر التزم بالجماع الطلاقَ، والمعنيُّ بالالتزام وقوعُه، وفواتُ حق النكاح به - والتفريع على الجديد- فإذا ثبت أنه مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت الطّلبة.
ثم لا يخلو إما أن يؤثر الفيئة، وإما أن يؤثر الطلاق، فإن فاء، فكما (1) غيّب الحشفةَ، طُلقت ثلاثاًً؛ فإن اسم الوطء وحكمه يتحققان بتغييب الحشفة، ثم إن غيّب وكما غيب نزع من غير مُكث، لم يلزمه حدٌّ ولا مهر، فإن التغييب وقع في ملكه، ثم لم يعرِّج (2) على أمرٍ إلا على الترك، وتركُ الشيء والانكفافُ (3) عنه ليس في معنى الإقدام عليه؛ ولهذا قلنا: من أدرك أول الفجر، فقرن به النزعَ (4) -وكان مخالطاً أهله- صح صومه.
9406- وإن (5) استدام ومكث، أو أَوْعب ولم ينزع (6) ، فإن كانت جاهلة، فقد سكت الشافعي عن وجوب المهر، ونص في الصوم على أن من كان مخالطاً أهلَه، فطلع الفجر، فمكث ولم ينزع، قال: يلزمه الكفارة.
فمن أصحابنا من قال: في المسألتين قولان بنقل الجوابين: أحدهما - يجب المهر والكفارة؛ لأنه بالمكث والاستدامة مجامع، والاستدامةُ استمتاعٌ حقه أن يُتقَوَّم، وهو مناقض للصوم أيضاًً، فلا وجه لاعتبار (7) الابتداء مع العلم بأن صورة الفعل وجنسه هو المعنيُّ بالنهي (8) .
والثاني - لا يلزمه المهر ولا الكفارة؛ لأنهما لم يتعلقا بأول الفعل والفعل متحد، فلا يتعلقان بدوامه.
__________
(1) فكما: أي عندما.
(2) ت 2: يغرم.
(3) ت 2: وترك الاستيلاء ناف عنه.
(4) ت 2: فقرن به الشرع وليس مخالفاً أهله.
(5) عَوْدٌ إلى تصوير حالة المولي، وليس الصائم.
(6) ت 2: أو ادعت ولم يفرغ.
(7) : لاعتنائه والابتداء.
(8) ت 2: باليمين.(14/403)
ومن أصحابنا من لم يوجب المهر، وأوجب الكفارة في محلها، وفرّق بأن قال: إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً، ثم وطئها، فأول الوطء يتعلق به مهر النكاح؛ فإن المهر المسمى في النكاح يقابل كل وَطْئِه، ولا بد من هذا التقدير حتى لا تعرى وطأة عن مقابل، وإذا كان كذلك، امتنع وجوب المهر؛ [لاستدامة] (1) الوطء، فإنا لو قلنا بذلك، لعلّقنا (2) بأول الوطء مهرَ النكاح، ثم علقنا بدوامه مهراً مجدّداً، ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الكفارة؛ فإنها لم تتعلق بأول الوطء الواقع في الليل، فإذا علقنا الكفارة بدوامه، لم يكن جامعاً بين كفارتين بوطء واحدٍ.
ثم إن لم نوجب مهراً بالاستدامة عند فرض الجهل، فلو علم تحريم الاستدامة، فالأصح أن الحدّ لا يجبُ؛ لأن أول الفعل واقعٌ في الملك.
ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ضعيفاً في وجوب الحد، وهو مزيف لا تعويل عليه.
9407- ولو غيب الحشفة، وحكمنا بوقوع الثلاث، ثم إنه نزع وأعاد فالذي قطع به الأصحاب أن هذا ابتداء وطء، فإن كان مع الجهالة، لزم المهر، وإن كان مع العلم، تعلّق الحدّ به؛ فإنه ابتداء فعل وإنشاء وطء.
قال شيخي أبو محمد رضي الله عنه: إذا نزع ثم أعاد، فهو وطء مبتدأ لا محالة، وإن نزع ثم أعاد في (3) أزمنة متواصلة قبل قضاء [الوطر] (4) ، فقد يقع مثله في الوطاة الواحدة في ترديدات [الرهز] (5) ، فهل يجب مهر بما فعل؟ فعلى وجهين مرتبين على
__________
(1) في الأصل: لاستقامة.
(2) ت 2: أخلفنا.
(3) ت 2: ثم أعاد مراراً منه متواصلة.
(4) في الأصل: قبل قضاء الوطء.
(5) في الأصل: كلمة غير مقروءة، وفي (ت 2) : "الدهر"، ولعلّها: مصحفة عن كلمة بمعنى الوقاع، وإلا فما معنى ترديدات الدهر؟
بعد أن كتبنا هذا بسنوات، وعندها كان الكتاب ماثلاً للطبع وفي محاولة أخيرة للبحث عن معاني صور الكلمة في مختلف احتمالاتها، وجدتُ كلمة (الرعز) : رعز الجارية: جامعها.
وذلك في القاموس المحيط (فقط) فدفعنا ذلك إلى مزيد من البحث في معاجم المعاني وغيرها =(14/404)
الوجهين في [الاستدامة] (1) ، ولا شك أن هذه الصورة أولى بلزوم المهر. ولم أر هذا إلا لشيخنا، وباقي (2) الأصحاب قاطعون بأن الإيلاج بعد النزع وطء مبتدأ في [كل] (3) حكم.
والممكن في توجيه ما ذكره ما أجريناه في التصوير، حيث قلنا: هذا يعدّ وطأة واحدة، ويمكن أن يشبّه باتحاد الرضعة، والصبيُّ قد يلتقم الثدي ثم يلفظه ويلهو ثم يعود ويلتقم، والكل رضعة، ولا تعويل على هذا الوجه، مع ما ذكرناه.
وحيث ذكرنا المهر، فلا شك أنه مفروض في جهلها، ولا أثر لعلمه في إسقاط المهر، ومن استكره أمرأة وزنى بها، التزم الحدّ بزناه، والمهرَ لكونها محترمة.
9408- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن من علق الطلاق الثلاث بالوطء -كما صورنا- فهل يحل له الإقدام على الوطء على أن يغيب الحشفة وينزع؟ قال العراقيون: يحل له الإقدام؛ فإنه إلى حصول التغييب متصرّفٌ في محل حقه وحِلّه، وإذا ابتدأ النزعَ متصلاً بحصول التغييب، فهذا تارك، ولا معصية على تاركٍ لفعله متردد بين الوقوع في محل الملك وبين الترك.
وحكَوْا عن ابن خَيْران أنه قال: لا يحل له تغييب الحشفة، فإنه لا يقدر على وَصْل
__________
= فوجدنا صاحب تحفة العروس ونزهه النفوس (الأديب محمد بن أحمد التجاني وهو من علماء القرن الثامن الهجري) عقد باباً بعنوان (الرهز في الجماع) بمعنى الحركات التي تصدر عن المتناكحين، ثم وجدنا هذه اللفظة (الرهز) في اللسان، والأساس، ولم نجدها في القاموس فاستدركها عليه الزبيدي. والرهز هي الصورة الأقرب إلى ما في المخطوط من الرعز، فاثبتناها. وقد جاءت الكلمة بمعنى الوقاع فعلاً كما قدرنا. والحمد لله.
(1) في الأصل: الاستدراك.
(2) حكى الرافعي غير هذا عن الأصحاب، فقال: " ... إن كانا عالمين بالتحريم، فوجهان: أحدهما - أنه يجب الحد، لأنه وطء مستأنف، خالٍ عن الشبهة، وعلى هذا فلا مهر ولا نسب ولا عدّة.
والثاني - المنع (أي من الحد) لأن الناس يعدّون الإيلاجات المتتابعة وطأة واحدة، ... ويحكى هذا الوجه عن أبي الطيب بن سلمة، ورجحه الشيخ أبو حامد ومن تابعه. والأول أقوى، وهو اختيار القفال، والقاضيين الطبري والروياني" (ر. الشرح الكبير: 9/207) .
(3) في الأصل: في حد حكم.(14/405)
أول النزع بآخر التغييب، حتى لا يقع بينهما فصل، فإذا كان يعلم على الجملة خروج هذا عن الإمكان، فلا يجوز الإقدام.
والأولون يبنون الأمر على أن يصل النزعَ بالتغييب، فالفقه صحيح في وضعه، ثم ما أطلقه من الوصل والفصل لا يتحدد بالزمان الذي لا يُحَس، وإنما تتعلق التكاليف نفياً وإثباتاً بما يدخل في الحس ويفرضُ دركه.
9409- هذا كله تفصيل الأحكام المتعلقة بالوطء إذا كان قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم حكم الطلب فيه أن الأربعة الأشهر إذا انقضت ورفعته الزوجة إلى القاضي، فإن وطىء، سقطت الطلبة والحكم ما ذكرناه، وإن طلق [طلقة] (1) رجعية، انقطعت الطَّلِبة، ثم إن راجعها، فاليمين قائمةٌ، فنضرب مدة أخرى، فإذا انقضت، توجهت عليه الطلبة، فإن طلق، ثم راجع، ضربنا عليه مدة أخرى، ثم تعود الطلبة، فإما أن يطلّق فتحرم عليه، حتى تنكح غيره، وإما أن يطأ، فتقع الطلقة الثالثة، فلا محيص عن الطلاق ما أصرّت على الطلب إلا أن يطلقها طلقة، ويتركها حتى تنسرح بانقضاء العدة، فإذا جدد عليها نكاحاً، وقع التفريع في عَوْد الحِنْث، فقد نقول: لا تعود الطلبة، ولو وطئها في النكاح الثاني، لم تُطلَّق، تفريعاً على أن الحِنث لا يعود، فهذا هو المُخلِّصُ لا غيرُ.
9410- وإن قال ابتداء: إن وطئتك، فأنت طالق، فعلّق طلقة واحدة وما كان دخل بها، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، فإن فاء، انحلت اليمين، ووقعت طلقة رجعية، فإن المسيس، وإن لم يكن متقدِّماً على هذه الحالة، فالطلاق غيرُ متقدم على المسيس، وقد أشرنا فيما تقدم إلى مسلكين في أن الطلاق المعلّق بالصفة يقع مترتباً على الصفة أو مقترناً بها، وأوضحنا أن أقوال الأصحاب في المسائل دالّة على ترتب الطلاق على الصفة، ولو رُدِدْنا إلى الأخذ بصيغة اللفظ، لم يبعد أن نقول: يقع الطلاق مع الصفة، وهذا مما سبق تمهيده، والغرض من إعادته الآن أنا
إن جرينا على موجب الشواهد، فالطلاق يترتب على الوطء، والتغييبُ يقع في
__________
(1) زيادة من (ت 2) .(14/406)
النكاح، فيكون الطلاق بعد الوطء، هذا معنى الترتب، وإن لطف الزمان، فيظهر الحكم بكون الطلاق رجعياً (1) .
وإن ذهب ذاهب إلى أن الطلاق يقع مع الصفة، فالعدّة تجب مع التغييب، والوطء يقيّد (2) النكاح عن البينونة، فيقع الطلاق على تقدير الاقتران مع المقيّد ومع العدّة، واتصال العدة على هذا الترتيب بالنكاح، وهذا واضح لاخفاء به (3) .
9411- وليس يخفى الترتيب فيه إذا لم يُؤْثر الوطءَ لما طولب، واختار الطلاق.
وقد تقدم في ذلك ما فيه مقنع، وقد تطلّق ثلاثاًً بتكرر المطالبات عند تخلّل الرجعات والردّات، وهذا خلاف الرأي؛ فإنه كان لا يقع بالوطء إلا طلقة واحدة مع انحلال اليمين بها.
ويلتزم بالامتناع عنها ثلاث طلقات، وهذا لرغبته عن الوطء.
__________
(1) يظهر الحكم بكون الطلاق رجعياً، لأنه يقع بعد الوطء، فتصير الزوجة مدخولاً بها، فالطلقة التي تقع عليها تقع رجعية، ولاتفع بائنة لخروجها عن صفة غير المدخول بها إلى صفة المدخول بها بسبب الوطء الذي ترتب عليه الطلاق.
(2) يقيّد النكاح: أي يقرره ويثبته.
(3) معنى هذا الكلام أن الطلاق يقع رجعياً، مع قولنا: إن الطلاق يقع مع الصفة مقترناً بها، وليس مترتباً عليها؛ ذلك أن العدّة تجب عليها مع تغييب الحشفة، وبوجوب العدة تكون مدخولاً بها، وطلاق المدخول بها يكون رجعياً.
وقد لخص الشيخ العز بن عبد السلام هذا الفرع بقوله: "إذا قال لغير الممسوسة: إن وطئتك فأنت طالق، ثم وطىء بعد التعليق، انحلت اليمين بطلقة رجعية، وإن قلنا إن الطلاق يقع مع الصفة أو يترتب عليها" (ر. الغاية في اختصار النهاية: جزء: 3 ورقة: 172 يمين) .
أما الرافعي فقد قال: "هذا فرعٌ ذكره الإمام -رحمه الله- في هذا الموضع، ووافقه صاحب الكتاب، (يعني الغزالي) وحظ الإيلاء منه أن يكون مولياً بهذا التعليق، فأما أن الطلاق يقع رجعياً فلا اختصاص له بالباب، وإنما كان رجعياً لأن الطلاق المعلق بالصفة إن وقع مترتباً عليها، متأخراً عنها، فهذا طلاق وقع بعد المسيس، فيكون رجعياً، وإن وقع مقارناً لها" ... فالوطء الجاري هنا يقتضي العدّة؛ فيكون الطلاق مع العدة، وذلك يقتضي ثبوت الرجعة" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/207) .(14/407)
9412- ثم قال: "لو قال: أنت عليّ حرام ... إلى آخره" (1) .
هذا مما ذكرناه في كتاب الطلاق ونعيد طرفاً منه لما يتعلق بغرض الكتاب، فإذا قال: أنت عليَّ حرام، ونوى الطلاق، كان طلاقاً، وإن نوى الظهار، كان ظهاراً، وإن نوى تحريمَها في نفسها، التزم كفارة اليمين، ولو نوى عقد يمينٍ في الامتناع عن وطئها، فظاهرُ المذهب أنه لا يكون حالفاً مولياً، وفي المسألة وجهٌ بعيد أنه يصير مولياً.
وهو نأيٌ عن التحقيق؛ فإنه لو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أجامعك، ثم قال للأخرى: أنت شريكتُها، ونوى أن يصير مولياً عن الثانية كما أنه مولٍ عن الأولى، لم يصر مولياً عنها؛ لأنه لم يأت في حقها بلفظ اليمين، وذِكْرِ الاسم المقْسَم به، وهذا متفق عليه؛ فإذا قال: أنت علي حرام، ونوى القَسَم بعُد الحكمُ بتحصيله كما ذكرنا.
ومن أصحابنا من جعله مقسِماً، بخلاف ما لو قال: أشركتك مع التي آليتُ عنها؛ فإن التحريم مذكور في كتاب الله تعالى مع الاقتران بكفارة اليمين، فهو قريب من اليمين وإن لم يَكُنْها، فكان هذا تقريباً في وضع الشرع، ولا تعويل على ذلك ولا اعتداد به.
والمذهب أنه لا يصير مولياً بقوله: حرمتك، وأنت علي حرام. وإن نوى الإيلاء.
فصل
قال: "ولو قال: إن قَرِبتُك، فغلامي حر عن ظهاري إن تظاهرت، لم يكن مولياً ... إلى آخره" (2) .
9413- قد ذكرنا أن مسائل الكتاب نفرعها على القول الجديد، فنقول: المولي من التزم بالوطء بعد الأربعة الأشهر أمراً، وحرّرْنا المذهب فيه بما يضبطه، وقد ذكر الشافعي رضي الله عنه فصولاً متواليةً في تعليق العتق المصروف إلى الظهار المنجّز أو
__________
(1) ر. المختصر: 4/97.
(2) ر. المختصر: 4/98.(14/408)
الظهار المعلّق، ونحن نقدم على الفصول أصلاً، فنقول:
إذا كان الرجل قد ظاهر عن امرأته، ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فعبدي هذا حر عن ظهاري، فهو مولٍ عن هذه؛ فإنه (1) لو وطىء، وقع العتق لا محالة، فهو ملتزم بالوطء بعد أربعة أشهر حصولَ العتاقة في العبد الذي عينه، ولولا هذا التعليق، لكان العتق لا يحصل فيه، ولا نظر الآن في أن العتق هل يقع عن كفارة الظهار أم لا؟ فإن المقدار المكتفى به وقوعُ العتق بعين هذا العبد، وهو متعلِّق بالوطء المقدر بعد الأشهر، ولئن كان العتق منصرفاً إلى الظهار، فوقوعه في هذا العبد بعينه من آثار اليمين.
ولو قال: إن جامعتُك، فلله عليّ أن أعتق عبدي عن ظهاري، وكان الظهار كائناً واقعاً بإحدى امرأتيه، فالقول في ذلك يستند إلى تمهيد أصلٍ، فنقول: إذا عين رجل يوماً لصوم منذور في ابتداء الالتزام، فقال: لله عليّ أن أصوم اليوم الفلاني، فالصوم يلزمه، والمذهب أنه يتعين له اليوم الذي عينه.
ولو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم، لزمه الوفاء بنذره، إذا صححنا النذر - وكذلك إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد -وصححنا النذر- فعليه الوفاء بتعيين ذلك العبد في الإعتاق. هذا إذا اقترن الالتزام والتعيين.
فأما إذا سبق لزومٌ في الذمة غيرُ مرتبط بتعيينٍ، ثم صرفه بالتزام مبتدأٍ إلى معيّن، فقال من عليه صومٌ من قضاءٍ، أو نذر، أو كفارة: لله علي أن أوقع الصومَ المفروض في يومٍ عيّنه، فلا يلزمه الوفاء بهذا التعيين، باتفاق الأصحاب، وكذلك لو التزم صرف دراهم عيّنها إلى زكاته، أو إلى نذرٍ سابق مستقر في ذمته، فلا يلزمه التعيين، فليس كما لو اقترن التعيين بالالتزام؛ فإن التعيين يقع [لازماً] (2) ، فلا يبعد أن يثبت، [وينضم] (3) إلى ذلك أن لفظه يتضمن حصرَ اللزوم فيما عينه ونفْيَه (4) عما عداه، فلو
__________
(1) ت 2: فهو مولٍ عن هذه مظاهر عن هذه.
(2) في الأصل، كما في (ت 2) : شائعاً. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) ت 2: أو يتضمن إلى ذلك، وفي الأصل: أن ينضم إلى ذلك، والمثبت تصرفٌ وتقدير من المحقق.
(4) ونفيَه: معطوف على (حصرَ) .(14/409)
حكمنا بأنه (1) لا يتعلق بما عينه، لاقتضى هذا أن نُلزمه ما لم يلتزمه، وهذا محال، وإحباطُ لفظه لا سبيل إليه وفاقاً.
وَيرِدُ على ذلك أنه لو عين مع التزام الصلاة وقتاً لها أو مكاناً، فالصلاة تلزمه، ولا يتعين الزمان والمكان. وهذا من مشكلات المذهب في قاعدة النذر؛ لما نبهت عليه من أن لفظه لا يتضمن التزاماً مطلقاً، فإن لم يصح التخصيص، فالوجه (2) إبطال لفظه.
وعن هذا أخرج بعض الأصحاب قولاً في أن اليوم لا يتعين للصوم المنذور، وإن اقترن تعيينه بالالتزام، وسيأتي هذا في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهينا إلى غائلة كتاب نحتاج في حلها إلى تمهيد أصل في ذلك الكتاب، فلا مطمع في الخوْض (3) ، وليكْتف الناظر بالإحالة عليه.
هذا في تعيين مالٍ بعد الوجوب أو تعيين يوم بعد لزوم الصوم.
9414- فأما إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد عن العتق اللازم في ذمتي عن نذر أو كفارة، فالذي يقتضيه النص وعليه الأصحاب أنه إذا نذر ذلك، لزمه الوفاء بنذره، حيث يصح النذر، وفرّقوا بين هذا وبين تعيين اليوم بعد لزوم الصوم بأن قالوا: لا حَقَّ لليوم في الصوم، وكذلك القول فيما تعينّ من المال، وللعبد حق في العتاقة، ولهذا يدّعي العتقَ على مولاه، ويحلف يمين الرد إذا نكل المَوْلى عن اليمين، ففي هذا حق بيّنٌ للعبد وغرضٌ ظاهر، فيجوز أن يلتزم صرف الواجب السابق إليه.
وهذا مشكل؛ فإن الملتزَم بالنّذر (4) قرباتٌ بأنفسها، أما تحصيل أغراض،
__________
(1) عبارة ت 2: "فإن حكمنا لا يتعلق بما عينه، لاقتضى هذا أن لا يلزمه ما لم يلتزم" وفيها أكثر من تصحيف.
(2) فالوجه إبطال لفظه: المعنى هنا أنه إذا لم يصح التخصيص، فقد بطل لفظه، فلما اختار الأصحاب ذلك، عبر بقوله: فالوجه إبطال لفظه، وهذا هو صورة الإشكال.
(3) في الخوض: أي في كتاب النذور.
(4) ت 2: بالثأر مرتاب بأنفسها.(14/410)
فيبعد (1) التزامه، وما يقتضيه قياس قول الأصحاب أنه لو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاصٍ من الأصناف يلزمه الوفاء، فإن طردوا القياس فيه، كان بعيداً، وإن سلّموا أنه لا يجب ذلك، فلا فرق بين تعيين العبد لعتاقةٍ مستحقةٍ قبلُ (2) وبين تعيين أشخاص من أصنافِ الزكاة. وقد قال القاضي: إذا عين مساكين لصرف زكاته وصدقاته إليهم، لزمه الوفاء بذلك، قياساً على ما لو عيّن [عبداً لصرف] (3) العتق المستحَق إليه.
والقولُ الكامل فيه أن التعيين ليس من القربات الملتزَمة المقصودة بالنذر، ولا قربة في تعيين سالم عن غانم.
قال المزني: الأشبه بقول الشافعي أنه لا يجب الوفاء بالتعيين، واستدلّ باليوم (4) في الصوم، كما ذكرناه، وهذا الذي ذكرناه أورده على صيغة التخريج (5) على المذهب، ويجب عندي عدُّ مثلَ ذلك من متن المذهب؛ فإن تخريجه على قياس الشافعي أولى من تخريج غيره.
هذا بيان المذهب نقلاً، وتخريجاً، وتنبيهاً على الإشكال، وهذا بيان الأصل الذي رأينا تقديمه.
9415- عاد بنا الكلام إلى مسائل الكتاب المتعلقة بالمقصود.
فإذا قال: إن قربتك، فعبدي حر عن ظهاري، وكان ثبت الظهار وتقدم، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت عليه الطَّلبة؛ فإن فاء، حصل العتق، وسنتكلم في وقوعه عن الظهار في آخر الفصل، عند نجاز غرض الإيلاء، وإنما جعلناه
__________
(1) قال ابن أبي عصرون: لا بُعْد فيه؛ فإن غرض العبد هو تحصيل الحرية، وهو نفس القربة (صفوة المذهب: 5 ورقة: 71 يمين) .
(2) ت 2: مستحقة قد وهى تعيين أشخاص ... (وهذا من أقبح وأبشع التصحيف) .
(3) في الأصل، وكذا في (ت 2) : "قياساً على ما لو عين عند الصّرف العتق" هكذا في النسختين بوضع علامة (الشدّة) على الصاد، وبنقطة واضحة على النون في (عند) . وهذا من التحريف الذي لا يكاد يدرك.
(4) ت 2: واستندت باليوم والصوم.
(5) ت 2: التحريم.(14/411)
مولياً؛ لأن العتق يحصل بالوطء بعد أربعة أشهر، سواء انصرف إلى الظهار أو لم ينصرف.
ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، فهذه المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن تظاهر من قبل، ونحن نجريها على المذهب الظاهر لينتظم الفصل، ثم نعيده بعد ذلك في فصل آخر لغرضٍ آخر، فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تَظَهَّرْتُ، فلو وطئها، لم يعتق العبد، فإنه علق عتقه بالوطء والتظهّر، والعتقُ المعلّق بصفتين لا يقع بإحداهما، وهو بمثابة ما لو قال لعبده: أنت حر إن دخلت الدار إن (1) أكلت، فلا يحصل العتق بمجرد الدخول، ولو تظاهر، فلا شك أن العتق لا يحصل ما لم يطأ.
فيخرج من ذلك أنه قبل أن يتظهر لا يلتزم بالوطء شيئاً، فليس مولياً إذاً [على] (2) ما نُجريه في هذا الفصل (3) .
ولو كانت المسألة بحالها، فتظاهر عنها، فقد صار إلى حالةٍ لو وطئها الآن، لحصل العتق، فلا جرم يصير مولياً بعد الظهار.
فحصل مما ذكرناه أنه لا يكون مولياً في ابتداء أمره؛ لأن الوطء لا يحصّل العتق، فإذا ظاهر، فيصير مولياً؛ لأن الوطء يحصّل العتاقة بعد الظهار، هذا غرض الإيلاء من هذا الفصل.
وقد شبَّبْنا في أثناء الكلام بخلافٍ فيه إذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، وسنذكر أن من أصحابنا من يجعله مولياً قبل التظهر على أصلٍ سنشرحه من بعدُ، ولكن لما كان هذا الوجه ضعيفاً لم نَبْنِ الفصلَ عليه.
9416- ونحن نذكر التفصيل في أن العتق إذا حصل هل يقع عن الظهار؟ ونوضِّح في ذلك المذهب في الصورتين اللتين ذكرناهما، ونبدأ بالصورة الأخيرة.
__________
(1) ت 2: وإن أكلت.
(2) زيادة من المحقق، وهي في (ت 2) .
(3) في (ت 2) : فليس مولياً إذاً على ما يحويه هذا الفصل.(14/412)
فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرتُ، فإذا تظاهر، ثم وطىء، فالعتق يحصل لا محالة؛ فإنه علّقه بصفتين، وقد وُجدَتا، وأطبق الأصحاب على أن العتق لا يقع عن الظهار في هذه الصورة، وعلّل الأصحاب ذلك بعلّتين: إحداهما - أنه علق العتق قبل الظهار، ولو نجّز عتقاً عن الظهار قبل الظهار، ثم ظاهر، لم ينصرف العتق إلى الظهار يقيناً، فإذا امتنع التنجيز عن الظهار، امتنع التعليق عنه في الوقت الذي يمتنع التنجيز فيه؛ فإن صحة التعليق وفسادَه مرتبط عند الشافعي بصحة التنجيز وفسادِه.
هذا بيان إحدى العلتين.
ومن أصحابنا من علّل بأن قال: المولي جعل العتق موجب حنثه في اليمين، ويتخلص به، والحنث يقتضي حقاً على الحانث، فإذا كان يتأدى بالعتق حقُّ الحِنْث، فيستحيل أن ينصرف إلى الظهار؛ إذ لو كان كذلك، لتأدى حقّان بعتقٍ واحد.
فهذا تفصيل القول في ذلك.
9417- ولو كان قد ظاهر أوّلاً، ثم قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، ثم وطىء، فلا شك في حصول العتق، وهل ينصرف العتق إلى تلك الجهة وهي جهة الظهار؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على العلّتين المذكورتين في (1) الصورة الأولى: فإن قلنا: العلة في تلك الصورة أن التعليق تقدم على الظهار، فالعتق في هذه الأخيرة يقع عن الظهار؛ فإن الظهار مقدم على التعليق.
وإن قلنا: العلة في الصورة الأولى أن العتق يقع عن جهة الحِنْث في اليمين، فلا يقع العتق في الصورة الأخيرة أيضاًً عن الظهار؛ فإنه تأدّى بالعتق حقُّ الحِنث في هذه الصورة.
ولو كان الرجل ظاهر عن امرأته، ثم قال لعبدٍ من عبيده: إن دخلت الدار، فأنت حر عن ظهاري، فإذا دخل الدار عَتَق، وفي انصرافه إلى الظهار الوجهان؛ إذ لا فرق
__________
(1) في الأصل، وكذا في (ت 2) : على العلتين المذكورتين إحداهما ني الصورة الأولى.
والتصرف والحذف من المحقق.(14/413)
بين أن يعلّق العتق عن الظهار على وطء أو دخول دارٍ.
ولكن الوجه عندنا القطعُ بانصراف العتق إلى الظهار إذا كان الظهار مقدماً على التعليق والإيلاء؛ فإن من يعلِّق عتقاً بصفة ليس يلتزم أمراً، وإنما يوقعه عند وجود الصفة، فإذا وُجد متعلَّق العتق، جُعل ذلك بمثابة إنشاء العتق عند وجود الصفة، فلا معنى لقول من يقول: تأدى بالعتق حقٌ غيرُ الكفارة؛ فإنه لا حق يُتخيل (1) . نعم، قد يعترض بعد تزييف هذا الوجه أن الأمر إذا كان كذلك، فالمولي ليس يلتزم بالوطء شيئاً، والجواب عنه أنه التزم إيقاعَ ما عليه، أو تعجيلَ ما ليس متضيقاً (2) ، ولا يمتنع تعجيله، وإذا استدّ النظر في ذلك، تبين للناظر أن المعجّل هو المستحق في الكفارة، والتعجيل متعلّق الإيلاء، وإنما يمتنع انصراف العتق إلى الكفارة إذا كان في عينه استحقاقٌ من وجه، وهذا بمثابة تعليل الأصحاب امتناعَ صرف عتق المكاتب إلى الكفارة؛ فإنه مستحَقٌ للمكاتب على مقابلة عوض، فامتنع وقوعه على حكم الكتابة منصرفاً إلى الكفارة.
فإن قيل: هلا قلتم: يصح تعليق العتق فيه إذا قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إن تظهرت؛ فإن التعليق صادف ملك المعلِّق، والعتق قابل للتعليق، فالوقوع مرتب على الوجوب، وهلا كان هذا كما لو قال للحائض: أنت طالق للسُّنة، وهو لا يملك الطلاق السني تنجيزاً، ولكن يكفي كونُه مالكاً للطلاق في تصحيح تعليق الطلاق السُّني؟ قلنا: السيد وإن كان مالكاً لعتق عبده، فليس يملك تأديةَ الكفارة (3) ، فوقع التعليق عن الظهار تصرُّفاً في تأدية ما لا يملك تأديته، ووقع من وجهٍ تصرفاً في الملك، فمن حيث كان تصرفاً في الملك، نفذ العتقُ، ومن حيث إنه تصرف في تأدية دينٍ لا يجب ولا يملك تأديته لم يقع عن تلك الجهة؛ فإن من لا يملك شيئاً لا يملك التصرف فيه.
__________
(1) لا حق يتخيل: أي لا حق هنا أصلاً غير ما علّق عليه.
(2) ت 2، وكذا صفوة المذهب: ما ليس منصرفاً. وهو تصحيف واضح.
والمعنى أنه التزم تعجيل واجب عليه، وهو التكفير عن ظهاره بالعتق، وهذا الواجب ليس مضيقاً، بمعنى أنه يسعه تأجيله والتراخي في أدائه، ولكنه يجوز تعجيله.
(3) لأنه لم يظاهر بعدُ، فكيف يؤدي الكفارة قبل أن تستقر في ذمته.(14/414)
فأما الطلاق السني والبدعي، فإنه يتعلق بالوقت والزمان، وقوله: أنت طالق للسنة بمثابة قوله: إذا طُهرتِ، فأنت طالق، فليست السُّنة جهةَ استحقاق حتى يتصرّف المالك فيها.
هذا تحقيق القول في هذا الفصل.
9418- ونحن نختتمه بصورة، فلو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، واقتصر على هذا، قال الأصحاب: إن كان ظاهر، فقد مضى التفصيل فيه، وإن لم يكن قد ظاهر، جعلناه مقرّاً بالظهار، وفائدة ذلك في الظاهر أنا نجعله مولياً في الحال، ونجعله مظاهراً إن عين التي أضاف الظهار إليها، وأما أمر الباطن، فلا يخفى: لا نجعله مولياً باطناًً، ولا نجعله مظاهراً؛ فإن قوله هذا لا يصلح لإنشاء ظهار؛ إذ هو إخبار مصرّح به.
فإن قيل: فلو ظاهر هل يصير مولياً باطناً؟ وهل ينزل هذا منزلة ما لو قال: عبدي حر عن ظهاري إن تظهرت ثم تظهّر؟ قلنا: لا معنى لهذا السؤال في الباطن، فإن نوى ما ذكره السائل وجرّد القصد إليه، فيثبت، واللفظ صالح له وإن لم يكن مستقلاً بإفادة، وقد ذكرنا في مسائل الطلاق أن ما يقع في الباطن يكتفى فيه بعُلقة من الاحتمال. فإن لم يجرد قصده الباطن إلى تقدير ظهارٍ سيكون، لَمْ يثبت حكمه في حقه لا محققاً ولا معلقاً.
فصل
قال: "ولو قال: إن قرِبتُك، فلله علي أن أعتق فلاناً عن ظهاري ... إلى آخره" (1) .
9419- مضمون هذا الفصل مرتب على الأصل الذي مهدناه في مفتتح [الفصل] (2) السابق الذي انتجز الآن.
__________
(1) ر. المختصر: 4/98.
(2) في الأكل وفي (ت 2) : الأصل، والمثبث اختيار منا.(14/415)
وصورة المسألة في مقصود الفصل أنه إذا كان مظاهراً عن امرأة ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فلله عليّ أن أعتق هذا عن ظهاري، فالظهار كائن، فإذا وطىء فهل يلزمه الوفاء بما قال؟ النصُّ وقول الأصحاب على أن هذا على الجملة مما يُلتزم، ومذهب المزني وتخريجه على قياس الشافعي أنه مما لا يُلتزم، وقد ذكرنا أن ما لا يلتزم بالنذر لا ينعقد به يمين اللجاج والغضب، فإن فرعنا على مذهب المزني، فكلام الزوج لغو، وليس بمولٍ؛ فإنه لم يُعلِّق بالوطء التزاماً.
وإن فرعنا على النص وقول الأصحاب، فقد عقد اليمينَ بما يُلتزم بالنذر الصحيح، فينعقد اليمين، وفيما يجب عند تقدير الحِنث الأقوال الثلاثة، ثم نجعله مولياً، وفيما يلزمه لو حنث ثلاثة أقوال: أحدها - الوفاء.
والثاني - كفارة اليمين.
والثالث - التخيير، وهذا مولٍ (1) يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر أمراً، فنجعله مولياً.
وفي نقل المزني في هذا الفصل خلل ظاهر؛ فإنه نقل عن الشافعي أن تعيين العبد مما يُلتزم بالنذر، وإذا ذكر في اليمين، كانت اليمين المعقودة يميناً منعقدة، ثم نقل عن الشافعي أنه قال: "ليس بمولٍ" (2) وهذا غلط صريح؛ والمنصوص عليه للشافعي في كتبه أنه مولٍ على الحقيقة.
9420- ثم إذا بان الخطأ [وتقرر] (3) المذهب، فنفرِّع ونقول: إذا وطىء وحَنِث وفرعنا على وجوب الوفاء، فلو أعتق ذلك العبدَ عن ظهاره، فيحصل العتق ويخرج عن عهدة اليمين، وهل يقع العتق عن الظهار، فعلى وجهين، كما تقدّم ذكرهما: أصحهما -بل الذي لا يصح غيره- أن العتق ينصرف إلى الظهار.
__________
(1) في (ت 2) : قول.
(2) نص الشافعي كما نقله المزني في المختصر: "ولو قال: إن قربتك، فلله عليّ أن أعتق فلاناً عن ظهاري -وهو متظاهر- لم يكن مولياً، وليس عليه أن يعتق فلاناً عن ظهاره وعليه كفارة يمين" ر. المختصر: 4/98.
(3) في الأصل: وتقدير.(14/416)
والوجه الثاني - أنه لا ينصرف إليه؛ لأن حق الحنث [قد تأدّى به] (1) ، وهذا زللٌ عظيم؛ فإن الذي يعلق شيئاً ليس ملتزماً، وإنما هو في حكم الموقع عند الحنث، كما قدمناه.
ثم إذا قلنا: العتق لا ينصرف إلى الظهار؛ فإنه يحصل لا محالة، وكأنه نذر عتقاً مطلقاً في عبْد عيّنه، ولو صح هذا الاعتبار - وهو تنزيل ما قاله على النذر المطلق مع إبطال الجهة حتى كأنه قال: لو وطئتك (2 فعليَّ أن أعتق هذا العبد، فيلزم على هذا المساق أن يقال: إذا قال: إن وطئتك 2) فلله علي أن أصوم يوماً بعينه عن القضاء الذي هو عليّ يكون هذا بمثابة ما لو قال: إن وطئك، فلله علي أن أصوم ذلك اليوم بعينه بعد الأشهر. فإذا كان الأصحاب لا يجعلون تعيين اليوم لواجبٍ سابق بمثابة نذر صوم ذلك اليوم، فقد تخبط هذا الوجه على اشتهاره، ووجب الحكم بوقوع العبد عن الظهار لا محالة، وهذا تفريعٌ على وجوب الوفاء.
فإن أوجبنا كفارة اليمين (3 فلو أعتق ذلك العبدَ المعيّن عن ظهاره، فكفارة اليمين 3) باقية عليه، وإن [وجد] (4) الوفاء، فلا شك أن العبد يقع عن الظهار؛ فإنه لم يتأدّ به حق الحِنْث، ولو أعتقه عن كفارة اليمين، فلا شك أن كفارة الظهار باقية عليه؛ فإن قيل: لو أخرج كفارةَ اليمين كُسوة أو طعاماً، فهل يتعين عليه إعتاق ذلك العبد المعيّن؟ قلنا: لا؛ فإنا نُفرِّع على أن موجب يمين اللجاج الكفارة، والعبد إنما يتعين إعتاقه عن الظهار إذا فرض نذره، وهذا الذي نحن فيه يمينٌ، وليس هذا مما يخفى، ولكن إذا طال الكلام لا يضرّ التنبيه على مثل هذا.
9421- ولو ابتدأ [ناذراً] (5) وقال: "لله عليّ أن أعتق هذا العبدَ عن ظهاري"،
__________
(1) في الأصل: أنه فقد تأدى به.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(3) سقط من (ت 2) العبارة التي بين القوسين.
(4) في الأصل، وفي (ت 2) : وجدنا، والمثبت من صفوة المذهب.
(5) زيادة من (ت 2) .(14/417)
وجرينا على النص، فإذا أعتقه عن الظهار هل يقع عن الظهار؟ (1 وهل يخرّج ذلك الوجه الضعيف البعيد؟ قلنا: الوجه القطع بأنه يقع عن الظهار 1) ؛ فإنا نصحح هذا النذر على هذا الوجه، فإذا صححناه، أوقعناه، وإذا فرعنا على قول الوفاء، فأعتقه وفاءً، فقد ذكرنا الوجهين؛ لأن الوفاء وقع تَحِلَّةً (2) للقسم، وتأديةً لحق الحِنث، وحق الحِنث يغاير الملتزَم، فإذا كان الفرض في نذر مجرد، فليس إلا تصحيحُ إيقاعه على وجه تصحيح التزامه.
[فصل] (3)
9422- إذا قال لإحدى امرأتيه: إن وطئتك، فصاحبتك هذه طالق، فهو مولٍ عن التي عينها على الجديد؛ فإنه يتعلق بالوطء طلاق ضرتها، ثم إذا توجهت الطَّلبة، ففاء، طلقت صاحبتها وانحلّت اليمين.
ولو طلّق التي آلى عنها، ثم راجعها، أو تركها حتى بانت، وجدّد النكاح عليها، فمهما (4) وطئها، حكمنا بطلاق صاحبتها إذا كان النكاح مستمراً عليها؛ فإن طريان البينونة على التي آلى عنها لا يؤثر في طلاق التي حلف بطلاقها.
ولو أبان التي آلى عنها، وزنا بها، طلقت صاحبتها؛ فإنَّ طلاق صاحبتها معلّق (5) بصورة وطء هذه، وهذا بيّن.
ولو كانت المسألة بحالها، فأبان صاحبتها التي علق طلاقها، ثم جدد النكاح عليها، فنقول أولاً: إذا أبانها، فقد صارت إلى حالة لا تطلق، فيرتفع الإيلاء وتقديرُ الطلب فيه، فإنه لو وطىء في اطراد البينونة على الصاحبة، لما تعلق بالوطء شيء، وإذا انتهى المولي إلى حالةٍ لو فرض منه الوطء، لما التزم شيئاً؛ فإنه يخرج بالانتهاء إليها عن اطراد حكم الإيلاء.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) ت 2: كله للقسم.
(3) علامة [فصل] غير موجودة في (ت 2) ولا في صفوة المذهب.
(4) فمهما: بمعنى إذا.
(5) ت 2: تعلّق.(14/418)
فإذا عادت الصاحبة، وفرعنا على أن الحِنْث لا يعود، فقد زال الإيلاء بالكلية، وإن قلنا: يعود الحنث عليها حتى يلحقها الطلاق المعلق، فيعود الإيلاء وحكمه وتوجيه الطّلبة به.
9423- والذي يجب التنبّه له في هذا المقام أن من آلى عن امرأته، ثم طلقها لما طولب بعد المدّة، فإذا راجعها، استفتحنا مدةً بعد المراجعة -كما أوضحنا فيما سبق- فإذا علق طلاق صاحبتها بوطئها، ثم أبان المحلوفَ بطلاقها، ثم نكحها، وحكمنا بعَوْد الحنث فيها وعَوْد الإيلاء في التي آلى عنها (1 فهل نستفتح مدةً، ونفرض بعدها طلباً، كما قدمناه فيه إذا طلق التي آلى عنها 1) ثم راجعها أو جدد عليها نكاحاً؟
الظاهر عندنا أنا لا نبتدىء ضرب مدة؛ فإنَّ طلاق التي آلى عنها من وجهٍ وفاءٌ بالطّلبة، وإن لم يكن فيئةً ورجوعاً (2) إلى حقها في المستمتع، وكان طلبها يتعلق بالاستمتاع، وهو الأصل، أو بتخليصها، فإذا طلقها، كان هذا سعياً في التخليص، فإذا تجدد حقها، أمكن أن يؤثر الطلاق السابقُ في استحداث مدة جديدة سوى المدة الماضية أوَّلاً، وهذا المعنى لا يتحقق بانقطاع أثر الإيلاء بسبب إبانة الصاحبة المحلوف بطلاقها؛ فإنه ليس في إبانتها إسعافُ التي آلى عنها بوجهٍ من وجوه الطّلبة، وبمقصودٍ من مقاصدها.
وقد يتجه المصير إلى استفتاح مدة؛ فإن الزوج بإبانتها رفع (3) المانع من الوطء، فكان هذا سبباً لقطع الضرار وتسهيلاً للإقدام على الوطء.
وسيأتي فصلٌ جامع في قواطع المدة؛ وما يقتضي ابتداؤها، ونعيد طرفاً مما ذكرناه، وعند ذلك يحصل شفاء الصدور.
9424- وإذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي هذا حرّ، فهو مولٍ على الجديد، فلو باع ذلك العبد، انقطع أثر الإيلاء، فلو عاد إلى ملكه، ففي عود الحنث قولان،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) ت 2: فإن لم يكن فيه فرجوعاً ...
(3) ت 2: وقع.(14/419)
(1 وفي عَوْد الإيلاء قولان 1) مأخوذان من ذلك، والتفصيل في العتق (2) كالتفصيل في الطلاق.
فصل
قال: "ولو آلى، ثم قال لأخرى: قد أشركتك معها في الأيلاء ... إلى آخره" (3) .
9425- إذا طلق الرجل إحدى امرأتيه ثم قال للأخرى: أنت شريكتها (4 ونوى بذلك تطليقها، طلقت.
ولو آلى عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها 4) وزعم أنه أراد بذلك الإيلاءَ عنها، وتنزيلَها منزلةَ الأولى، لم يصر مولياً بهذا اللفظ، وغرض الفصل أن الإيلاء يمينٌ، فلا يحصل بالكناية على هذا الوجه؛ فإن عماد اليمين ذكر محلوفٍ به، وليس في لفظة الإشراك ذلك، فخاصّية اليمين زائلة، والنية بمجردها لا تعويل عليها.
فإن قيل: ألستم قضيتم بأن قول الزوج: والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادةٌ كناية في الأيلاء؟ قلنا: الممتنع (5) من الحصول بالمكاني المقسم به، فأما الألفاظ التي تتعلق بمقصود اليمين، فلا يمتنع تطرق الكنايات إليها.
ولو ظاهر عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، وقصد إحلالها محل الأولى في الظهار (6 فهل يحصل الظهار بهذا اللفظ مع النية؟ فعلى وجهين مبنيين على أن المغلَّب في الظهار 6) أحكامُ الطلاق أو أحكام اليمين: فإن غَلّبنا شَبَه
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) ت 2: في العين.
(3) ر. المختصر: 4/98.
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(5) ت 2: المتبع.
(6) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.(14/420)
(1 الطلاق صيرناه مظاهراً، وإن غلبنا شبه اليمين لم نجعله 1) مظاهراً، وسيأتي شرح هذا الأصل في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، فهذا مما ذكرناه في فروع الطلاق، وفيه مقنع، فلا نعيده.
ثم قال: "ولو قال: إن قَرِبْتُك، فأنت زانية ... (3 إلى آخره" (2) .
9426- إذا قال: إن جامعتك فأنت زانية 3) ، فلا يكون مولياً؛ فإنه لا يلتزم بجماعها أمراً؛ إذ لو وطئها لم يَصِرْ قاذفاً، والقذف لا يقبل التعليق؛ فإنه خبر صفتُه أن يكون جازماً 4) ، وعلى هذا الوجه يقدح في [العِرض] (5) ، فإذا تعلق خرج عن وضعه.
فصل
قال: "ولو قال: والله لا أصبتك في السنة إلا مرة، لم يكن مولياً ... إلى آخره" (6) .
9427- هذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ: فنقول: أوضحنا أن التفريع على أن المولي من يلتزم بالوقاع أمراً بعد أربعة أشهر، ثم قسمنا وجوه الالتزام: فلو كان لا يلتزم بالوقاع بعد الأشهر أمراً غيرَ أنه كان يقرُب بسببه من الحِنْث في يمين، فهل نجعله مولياً؟ [وهل نجعل القرب من الحنث] (7) في معنى التزام أمر؛ حتى نقول:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 4/99.
(3) ساقط من (ت 2) .
(4) في (ت 2) : خارجاً.
(5) في الأصل: الغرض، و (ت 2) : الفرض. والمثبت من صفوة المذهب: جزء: 5 ورقة: 47 يمين.
(6) ر. المختصر: 4/99. والعبارة في المختصر هكذا: "ولو قال: لا أصيبك سنة إلا مرة، لم يكن مولياً".
(7) زيادة من (ت 2) .(14/421)
يتعلق بالوطء التزامٌ، فنجعله مولياً؟ في المسألة قولان: أصحهما - أنا لا نجعله مولياً؛ فإن الوطء ليس يستعقب لزومَ أمر، والقرب ليس حكماً ثابتاً، ولا أمراً لازماً، وحاصله دنوّ توقّعٍ في لازم.
والقول الثاني - أنه مولٍ، فإنه بسبب الوطء يقرب من اللزوم، وهو مما يُحاذَر، فينتصب في مقابلة الوطء أمرٌ محذور، وهو عماد الإيلاء.
ونحن نفرض للقولين صورة، ثم نتبعها بصورٍ يتقرر بها الغرض: فإذا كان للرجل أربع نسوة فقال: والله لا أجامعكن. فلو جامع واحدة، لم يلتزم أمراً، وكذلك إذا وطىء الثانية والثالثة؛ فإن الحنث يحصل بوطئهن كلهن، ولكنه بوطء الأولى يقرب من الحنث، فهل نجعله مُولياً؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. فإن جعلنا الوطء المقرّب كالوطء المحنّث، فالطلبة تتوجه والإيلاء يثبت، وإن لم نجعل الوطء المقرب كالوطء المحنث، فلا نجعله مولياً حتى يطأ ثلاثاً منهن، فإذ ذاك يصير مولياً عن الرابعة، فنُجري ابتداءَ المدة بعد وطء الثالثة، والحِنْث يتعلق بوطء الرابعة.
فهذا من صور القولين.
9428- ومما يجري القولان فيه صورة مسألة الكتاب، وهي: إذا قال لامرأته: "والله لا أصبتك في السنة إلا مرة"، فالأصح المنصوص عليه في الجديد أنا لا نجعله مولياً قبل أن يطأ، فالوطء الأول لا يلتزم [به] (1) شيئاً، وإن وطىء مرة، نظرنا إلى ما بقي من السنة، فإن كان الباقي منها أربعة أشهر أو أقل، فلا يكون مولياً؛ فإن المدة قاصرة.
وإن كان الباقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، جعلناه مولياً، فإنه بعد الوطأة المستثناة، صار إلى حالةٍ لو فُرض منه الوطء بعد أربعة أشهر، لالتزم الكفارة، وهذا أصح القولين.
والقول الثاني - أنه مولٍ من أول السنة؛ فإن الوطء المستئنى وإن كان لا يحنِّث، فإنه يقرّب من الحنث، فتتوجه الطلبة إذاً بعد أربعة أشهر، فإن فاء، خرج عن عهدةِ
__________
(1) زيادة من المحقق.(14/422)
الطلب في هذه الكرة، ثم إذا مضت أربعة أشهر فلو وطىء، التزم الكفارة، فيتوجه الطلبة، والوطء الأول لا يحل اليمين؛ فإنه كان مستثنى، والحِنْث يحصل بالوطأة الثانية.
ولو استثنى عن اليمين المعقودة على السنة وطآت كثيرة، فالقولان جاريان، ولا فرق بين الوطأة الواحدة المستثناة وبين الوطآت؛ فإن التقريب يحصل بكل وطء.
9429- ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فوالله لا أطؤك، فهذا تعليق منه للإيلاء بالوطأة الأولى، وللأصحاب طريقان منهم من قطع بانه لا يكون مولياً في الحال بخلاف الصورة المقدّمة في عقد اليمين على السنة، واستثناء ما أراد، وهاهنا علّق ابتداء العقد بالوطأة الأولى، فلا يمين قبل الوطأة الأولى، ويستحيل أن نحكم بكونه مولياً في وقتٍ لا يكون فيه حالفاً.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه المسألة، وقال: إن لم يكن حالفاً بالله في حالِه، فهو في حكم الحالف (1) بالله تعالى، فكان الوطءُ مقرِّباً من الحنث، فهو يجري بعد يمين، كما ذكرت.
9430- ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فأنت طالق إن دخلت الدار، فقد نقل بعض الأثبات عن القاضي أنه قال: نجعله مولياً في هذه الصورة قولاً واحداً، ولو قال: إن وطئتك، فأنت عليّ كظهر أمي إن دخلت الدار، فيكون مولياً قولاً واحداً، واعتلّ بأنه التزم بالوطء تعليق الطلاق والظهار، والمولي من يلتزم بالوطء شيئاً، على ما ذكرناه.
وهذا غير سديد، وقطع شيخي بتخريج تعليق الطلاق والظهار على قولين، والسبب فيه أن الوطء لا يوجب وقوع الطلاق والظهار، بل يوجب انعقاد تعليقهما، فهو كما لو قال: إن أصبتك فوالله لا أصيبك، وأي فرق بين تعليق عقد اليمين بالطلاق والظهار بالوطء، وبين تعليق عقد اليمين بالله تعالى بالوطء، فلا وجه للفرق بينهما.
ولعل الذي تخيّله الفارق أن الإيلاء المعهود هو الحلف بالله على الامتناع من
__________
(1) في الأصل: فهو في حكم الحالف بالحلف بالله، ومثلها (ت 2) غير أنها قالت: في حكم الحالف فالحلف بالله. والمثبت تصرف من المحقق.(14/423)
الوطء، فلما كان ذلك معلّقاً بالإصابة الأولى، انتظم لهذا القائل أن الإيلاء موعود معلق، وليس منجزاً، وإن كان المعلق بالإصابة الأولى طلاقاً أو ظهاراً، فليس ذلك التعليق إيلاءً في نفسه، فَحَسِبه أمراً ملتزماً، وحسِب التزامه إيلاءً، وهذا ذهول عن دقيقة نبهنا عليها وهي أن من قال: إن أصبتك، فوالله لا أصيبك، فهذا حلف بالحَلف، كما أنه إذا قال: إن أصبتك فأنت طالق إن دخلت الدار، فهذا حلف بتعليق الطلاق؛ فلا وجه إذاً للفرق.
9431- ومما نذكره متصلاً بهذا الذي انتهينا إليه، أن الرجل إذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، فقد كنا وعدنا في ذلك ذكرَ خلاف، وها نحن نقول: الوطء قبل الظهار لا يُلزم أمراً، فكان ظاهر المذهب ألا نجعله مولياً، فإن قلنا: القرب من الحِنث يثبت الإيلاء، فإذا وطىء، فقد قرب حصول العتق، فمن أصحابنا من ألحق هذا بمحالّ القولين في القرب من الحنث، وجعله مولياً قبل الظهار على أحد القولين.
ومنهم من قطع القول بأنه لا يكون مولياً، ولا يكاد يتضح الفرق. والأصح أن القرب من الحِنْث لا يثبت موجَب الإيلاء.
9432- ومما ذكره الأصحاب في بعض مسائل الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك إلا مرة واحدة، فلو وطئها، ثم نزع في الأثناء وأعاد، فلا يحنث بالإيلاج الأول، وإذا نزع وأعاد، حَنِث؛ فإنه وطءٌ مجدّد، وقد حكيتُ في هذا خلافاً فيما تقدّم، وأوردته فيه إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم أولج، ونزع وأعاد قبل قضاء الوطر، فالمذهب المبتوت وجوبُ المهر إذا جرى على جهلٍ، فإن هذا وطء مبتدأ، فمن أصحابنا من عدّ النزع والإعادة في حكم استدامة الوطأة الواحدة، وهذا بعيد، وإن كان يتوجه، فهو في اليمين أقرب؛ فإن وجوب المهر يتلقى من مأخذ الأحكام، وأما إذا تعرض لذكر الوطأة بالاستثناء في اليمين المعقودة، فقد يظهر الرجوع فيما هذا سبيله إلى العرف، ولو قال: والله لا آكل إلا أكلة واحدة، فقد يحمل ذلك في الأيمان على أكلة تحويها جلسة على الاعتياد، والغرض بإعادة ما ذكرناه حكايةُ قول الأصحاب في هذا المقام.(14/424)
فصل
قال: "ولو قال: والله لا أقربك إلى يوم القيامة ... إلى آخره" (1) .
9433- غرض الفصل تقاسيم الأيمان فيما يتعلق بامتداد [المُدَد] (2) في [الحلف] (3) على الانكفاف عن الوطء.
فنقول: الأيمان، في غرض الفصل تقع على أقسامٍ: أحدها - يمين مُطْلقة في الامتناع، لا تعرّض فيها لتعليق بوقتٍ أو أمرٍ منتظر، [وسبيل] (4) هذا اللفظ الاسترسال على الأزمنة والانعقاد عليها، ولو قُيِّدت بالتأبيد، لكان التقييد بالتأبيد تأكيداً، وحكمُ هذا القسم احتسابُ مدّة الإيلاء من وقت اللفظ.
9434- ومن الأقسام تقييد اللفظ بالوقت، وهذا مما تقدم شرحه، فإن كانت المدة أربعةَ أشهر، أو أقلَّ، فلا إيلاء، وإنما الذي جاء به يمين لا يتعلق بها حكمُ طَلِبة الإيلاء، [ولا] (5) يخفى موجَبُ البر والحِنْث، وإن ذَكَر زماناً زائداً على الأربعة الأشهر، انعقد الإيلاءُ، فالأربعة الأشهر مَهَلٌ، واشترط المزيد بسبب فرض توجيه الطلب؛ فإن الإيلاء عندنا لا يتضمن وقوع الطلاق بنفسه، وقد روي أن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قال لحفصة: "أتصبر المرأة عن زوجها شهراً، فقالت: نعم، فقال: أتصبر ثلاثةَ أشهر فقالت: نعم، فقال: أتصبر أربعة أشهر، فسكتت، فبعث
عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، وأمرهم أن يردوا الرجال إلى أهليهم في الأربعة الأشهر" (6) ، فكان ابتناء مُدَّةِ الإيلاء على ما جرت الإشارة إليه من إمكان الصبر، وظهور الضرار.
__________
(1) ر. المختصر: 4/99.
(2) في الأصل: المدعى.
(3) في الأصل: الحلق.
(4) في الأصل: في سبيل.
(5) في النسختين: فلا.
(6) قال الحافظ: لم أقف عليه مفصلاً هكذا، وإنما روى البيهقي في أوائل كتاب السير من رواية =(14/425)
9435- ومن أقسام الأيمان ما يشتمل على مدة الامتناع عن الوطء إلى أمرٍ منتظر في الاستقبال، وهذا ينقسم أقساماً، فمنه ما يعلم قطعاً أنه لا يقع إلا بعد أربعة أشهر، وذلك مثل أن يقول لامرأته: والله لا أجامعك إلى إدراك الرطب، وكان إنشاء اليمين في الشتاء، والإدراكُ يقع بعد الأربعة الأشهر لا محالة، فيثبت حكم الإيلاء وفاقاً.
ولو علق بما يُعدّ وقوعُه مستبعداً كخروج الدّجال ونزول عيسى، وما أشبههما من أشراط الساعة، فيثبت الإيلاء، وإذا مضت الأشهر، توجهت الطَّلِبة.
ولو ذكر ما لا يبعد حصوله قبل الأربعة الأشهر، مثل أن يقول: لا أجامعك حتى يقدَمَ فلان، وكان قدومه متوقعاً قبل الأربعة، فلا نحكم بكونه مولياً في الحال، فلو مضت أربعةُ أشهر، ولم يتفق القدوم، فهل نقول: إنا نتبيّن الآن أنه كان مولياً؛ حتى تتوجه الطلبة بعد انقضاء الأشهر؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نتبين ذلك، وتتوجه الطلبة؛ فإنا كنا نتوقف لظهور توقع السبب المذكور قبل الأربعة الأشهر، والآن إذا بان بأَخَرةٍ، تبينا امتدادَ الامتناع واليمين أربعةَ أشهر.
والقول الثاني - أنا نحكم بالإيلاء، فإن السبب الذي ذكره إذا كان ممكن الوجود غيرَ مستبعد الكَوْن، فلا نتحقق إظهار المضادة [لموجمب] (1) اليمين، ولَوْ لم يكن يمينٌ، فامتنع الرجل عن الوقاع، لم يثبت لها طلب؛ لأنها تزجي زمانها على التوقع، فلا تعويل إذاً على وقوع الامتناع أربعة أشهر، وإنما التعويل على إظهار الضرار، وتأكيده باليمين.
وهذا القول أفقه.
__________
= مالك، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر فذكره بمعناه، وفيه أنها قالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر، كذا ذكره بالشك.
ثم قال الحافظ: ورواه ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن دينار فأرسله، وجزم بستة أشهر، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج، ورواه سعيد بن منصور من وجهٍ آخر، عن زيد بن أسلم (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 9/29، ومصنف عبد الرزاق: 7/51، 152- رقم 12593، 12594، وتلخيص الحبير: 3/441، 442 بعد الكلام عن الحديث رقم: 1763) .
(1) في الأصل: بموجب.(14/426)
والذي يحقق الغرض في ذلك أنه إذا آلى مطلقاً، فلا طلبة في الحال، وإذا انقضت الأشهر طولب، فكأن صاحب القول الأول يثبت الإيلاء، والذي يحقق هذا أنه لو قال: لا أجامعك ما عشتُ، فلو مات قبل أربعة أشهر، فقد تبين أنه لم يكن مولياً، فإذا كان التبيّن يتطرق والمذكور سببٌ مستبعد، كما يتطرق والسبب قريب، فلا يبقى فرقٌ عند ذكر الأسباب، والأمر في الكل على التبيّن، ويجب لَوْ صح هذا القياس القولُ بالإيلاء، وإحالة ارتفاع الإيلاء على وقوع السبب قبل الأشهر.
ولعل ناصرَ القول الأول يردّ ذلك القولَ إلى أمر في العبارة، يقول: إن كان السبب مستبعداً، أطلقنا القول بثبوت الإيلاء، فإن جرى السبب المستبعد على ندورٍ قبل أربعة أشهر، رددنا التبيُّن إلى أن الإيلاء لم يكن، وإن كان السبب المذكور غيرَ مستبعد، لم نطلق القول بحصول الإيلاء إن سئلنا عنه، فإن استأخر السبب، تبيّنا أنه كان مولياً.
والقول في ذلك قريب.
9436- ولو قال: لا أجامعك إلى أن تموتي، أو إلى أن أموت، فالإيلاء ثابت، ولو قال: لا أجامعك إلى أن يموت فلان، فالذي ذكره القاضي، وأصحابُ القفال أن الإيلاء ثابت، وموت ذلك الشخص من المستبعدات، وقال المزني: ذِكْرُ موت شخص غير الزوجين بمثابة ذكرِ قدومٍ متوقع؛ إذ ليس الموت ببعيد في الوقوع، وما لم يبعد وقوعه، لم يبعد توقعه.
وذكر العراقيون مذهب المزني، واختاروه، ولم يعرفوا غيره، ونزّلوا موت الثالث بمثابة القدوم وغيره من المتوقعات، فقد حصل وجهان من الطرق: أحدهما - أن موت الثالث من المستبعدات، فيرتب فيه المذهب على حسب ما مضى من المستبعدات.
والوجه الثاني - وهو اختيار العراقيين أنه لا يلتحق بالمستبعدات.
9437- وفي لفظ (السّواد) (1) إشكالٌ ونحن ننقله على وجهه، فقال: "حتى يخرج الدّجال أو حتى ينزل عيسى بنُ مريم، أو حتى يقدَم فلان، أو يموت أو تموتي،
__________
(1) "السواد" هو مختصر المزني، كذا يسميه الإمام. وقد أشرنا إلى ذلك كثيراً.(14/427)
أو تفطمي ابنك" (1) ، جمع الشافعي رضي الله عنه بين هذه الأسباب وهي مختلفة: فمنها مستبعد، ومنها مستقرب، وقرن بين موت فلان وقدومِه، فلا تعلّق (بالسواد) من حيث إنه جمع بين الأسباب المختلفة.
ثم تصرف المزني، وقال: "حتى يقدَمَ فلان أو يموت سواء في القياس" (2) وأبان أنهما متوقعان على نسق واحد، فهذا بيان لفظ (السواد) وميلُ النص إلى أنه إذا مضت أربعة أشهر، ولم يتفق السبب المذكور، توجهت الطّلبة؛ فإنه قال بعد الأسباب المختلفة: فإذا مضت أربعة أشهر قبل أن يكون شيء مما حلف عليه، كان مولياً.
وقال في موضع آخر - وهذا لفظ السواد:- "حتى تفطمي ولدك، لا يكون مولياً، لأنها قد تفطمه قبل أربعة أشهر" (3) وأما قوله: حتى تموتي أو حتى أموت، فالإيلاء محكوم به ظاهراً في الحال، ولا يؤخذ هذا من توقع الموت واستبعاده، وإنما يؤخذ من قطع رجائها عن استمتاعه ما بقيت طالبة راجية.
9438- وحاصل جميع ما ذكرناه يرجع إلى أن السبب الذي جعله المنتهى إن كان مستبعداً، فالضرار كائن، وإن كان السبب متوقعاً، فلا نحكم بالإيلاء، فإن استأخر وقوعُ ما كنا لا نستبعده عن الأشهر، فقولان منصوصان في السواد، وفي موت الثالث من بين الأسباب نظرٌ في أنه من المستبعدات؛ أم لا، ولعل الأظهر أنه من المستبعدات؛ فإن الناس كذلك يَحْسَبون، ومدار الإيلاء على الإضرار المُظهَر باللسان.
والمسألة محتملةٌ على حال.
وإذا قال: حتى تفطمي، فإن أراد وقوع الفطام، وكان متوقع الكون قبل الأربعة الأشهر، فهو ملتحق بما لا يُستبعد، وقد مضى تفصيله. وإن كان أراد انقضاء مدة
__________
(1) ر. المختصر: 4/99.
(2) نفسه.
(3) ر. المختصر: 4/100.(14/428)
الرضاع وهي الحولان، نظرنا فيما بقي من المدة، وخرّجناه على التفاصيل المذكورة في المدد.
وإن قال: لا أجامعك حتى تحبَلَ فلانة، فهذا من الأسباب المتوقعة على القرب، إلا أن تكون صغيرة أو آيسة، ولا يكاد يخفى ترديد النظر بعد تمهيد الأصول.
ولو ذكر قدوم شخص، وكان على مسافة شاسعة ولا يتوقع رجوعه منها وقدومُه في الأربعة الأشهر، فهذا ملحق بالمستبعدات، ولو كان قدومه مستبعداً، وزعم الزوج أنه ظنه متوقعاً، فهذا فيه نظر إذا ادّعى الزوج ظنّاً بقرب موضعه: يجوز أن يقال: يُبنى الأمر على ظنه، فإن نوزع فيه حُلّف، ويجوز أن يقال: يبنى الأمر على حقيقة الحال، ولا التفات إلى ما يدعيه من الظن.
فصل
إذا قال: "والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، فهو مولٍ ... إلى آخره" (1) .
9439- إذا قال: والله لا أقربك إن شئت، فهذا تعليق الإيلاء بمشيئتها على صيغةٍ تقتضي تخير الجواب، والإيلاء قابلٌ للتعليق كالطلاق؛ إذ لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فوالله لا أجامعك إن شئت، فالقول في اشتراط اتّصال لفظها على ما مضى في الطلاق.
وحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثُ طرق: إحداها - اشتراط التلفظ بالمشيئة على الاتصال الزماني (2) ، كما يشترط ذلك بين الإيجاب والقبول، وهذا ظاهر المذهب.
والطريقة الثانية - أنا لا نشترط الاتصال في ذلك، ومتى شاءت، انعقد الإيلاء، وقوله: إن شئتِ، كقوله: إن دخلت الدار، وهذا منقاس.
__________
(1) ر. المختصر:101.
(2) ت 2: على الاتصال إلى ما يكون.(14/429)
وتوجيه الطريقة الأولى يُحْوِج (1) إلى تكلفٍ في التقدير (2) ، ولكن الطريقة الثانية (3) بعيدة في الحكاية، ذكرها الشيخ أبو علي في الشرح.
والوجه الثالث (4) - أن المشيئة تتقيد (5) بالمجلس وإن طال، وهذا أبعد الطرق، ولست أعرف له توجيهاً، وإنما أخذ بعضُ الأصحاب هذا الوجهَ من لفظ الشافعي؛ فإنه قال: "وشاءت في المجلس" وذكر هذا اللفظ أيضاً في تعليق الطلاق بالمشيئة على هذه الصيغة، فظن ظانون أنه أراد المجلس حقاً، وإنما عبر رضي الله عنه عن قرب الزمان بذكر المجلس، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى اعتبار المجلس في القبول والإيجاب، وقد اعتبره أبو حنيفة (6) فيهما.
وقال مالك (7) : إذا قال: لا أجامعك إن شئت، فهو ليس بمولٍ، وإن شاءت؛ فإن المولي من يَجزِمُ الامتناعَ إضراراً بها، فإذا علق بمشيئتها، فقد خرج عن كونه مضارّاً، وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد من مأخذ الفقه.
واعترض عليه الشافعي بأن قال: إذا كان الإيلاء جازماً، فأظهرت الرضا به، لم ينقطع الإيلاء، ولم تنقطع المدة، وإذا رضيت بعد المدة، لم نستفتح ضرب مدّة، فدلّ أنا وإن كنا نعتبر المضارة اعتباراً كلياً، فلسنا نبني الأمر عليها؛ فإن الأمور بعد ما رسخت لا تزول بفرْض أمثال ذلك، وهذا كابتناء (8) الإجارة على الحاجة، ثم لا تتقيد (9) بها،
__________
(1) ت 2: يخرج.
(2) ت 2: إلى تكلف التفرقة.
(3) ساقطة من (ت 2) .
(4) كذا في النسختين: (الوجه الثالث) مع أنه عبر عنها بالطرق الثلاث. وحتى هذا الوجه يقول عنه: (أبعد الطرق) .
(5) ت 2: تصل.
(6) ر. فتح القدير: 5/461، الفتاوى الهندية: 3/3.
(7) لم نصل إلى المسألة منصوصة عن الإمام مالك فيما رأيناه من كتب السادة المالكية، وإنما الذي رأيناه مثالاً على نفي الإيلاء لانتفاء قصد الإضرار، هو إذا حلف لا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها، فهذا يكون إيلاء لما فيه من عدم الإضرار (المدونة: 2/323، والمنتقى: 4/36) .
(8) ت 2: كإثباتنا الإجارة.
(9) ت 2: لا تتقبل.(14/430)
ولو كانت المرأة فاركة (1) زوجَها مُناها أن يهاجرها، فالإيلاء في حقها كالإيلاء في حق [الوامقة] (2) ، والتي لا أرَب لها في الرجال [كالمتشوفة] (3) .
فهذا بيان الأصل.
9440- ولو قال: "لا أصبتك [متى] (4) شئتِ". قال الإمام (5) : هذه اللفظة محتملة، ويُرجع فيها إلى قوله: فإن قال: أردت بذلك تعليق اليمين على مشيئتها، حتى إذا شاءت، انعقدت اليمين والإيلاء، فالأمر كذلك، والفرق بين قوله: إن شئتِ وبين قوله متى شئتِ أن قوله: إن شئتِ يستدعي جوابها على الفور على ظاهر المذهب، وقوله متى شئت يقبل التأخير، كما قدمناه في مسائل الطلاق.
فإن قال الزوج: أردت بقولي: "لا أجامعك متى شئتِ" أني إنما أجامعك إذا
__________
(1) ت 2: تاركة. وفاركة من الفِرْكة، وهي البغضة بين الزوجين خاصة. وفعلها: فرك (بكسر العين) يفرك (بفتح العين) (المعجم) .
(2) الوامقة: المحبة من ومِق (بكسر العين) في الماضي والمضارع. ومْقاً ومقة. (المعجم) .
(3) ومعنى العبارة أن الإيلاء يستوي فيه كارهة زوجها التي تتمنى أن يهجرها ولا يقربها، والتي قعدت بها السن، فلم يعد لها أرب في الرجال يستوي ذلك مع المتشوفة والوامقة العاشقة.
(4) في الأصل: حتى.
(5) قال الإمام: المراد هنا والده الشيخ أبو محمد، كما صرح بذلك أحياناً، وقد اعتبر الرافعي رضي الله عنه أن لفظ الإمام هنا يراد به إمام الحرمين نفسه، كذا يفهم من عبارته في الشرح الكبير، حيث قال: "قال الإمام: ولو قال: لا أجامعك متى شئت، وأراد أني أجامعك متى أردتِ، فلا يكون مولياً، وإنما هو إعرابٌ عن مقتضى الشرع وحلف عليه ... " وقد تابعه النووي في الروضة، فحكى ذات المسألة على هذا النحو. وظني أنه وهم من الشيخين الجليلين حيث ظنا أن كلمة (قال الإمام) هي من كلام ناسخ (النهاية) وليس من كلام مؤلفها، مع أن هذا غير معهود أبداً في (النهاية) .
ويؤيد ما أقول ويجعله قريباً من الجزم أن ابن أبي عصرون في مختصره (صفوة المذهب) حكى المسألة بلفظ: (قيل) وهو يلتزم عبارة الإمام وألفاظه، لا يكاد يخرج عنها، فلو كان هذا من كلام الإمام ما قال فيه (قيل) وإنما يقول ذلك فيما يحكيه الإمام عن غيره، إذا لم يصرّح بذلك الغير.
(ر. الشرح الكبير: 9/222، والروضة: 8/244، وصفوة المذهب: 5/ ورقة: 76 يمين) .(14/431)
أردتُ لا إذا أردتِ، فهذا ليس بالإيلاء وإنما هو إعراب عن موجَب الشرع ومقتضاه، وحلف عليه.
ولو أطلق الزوج هذا اللفظ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه من الكنايات؛ فإنه متردد بين الوجهين الذين ذكرناهما، فإذا لم يكن نية، فاللفظ لاغٍ.
ومن أصحابنا من قال: هو في الإطلاق محمول [على تعليق] (1) عقد الإيلاء بالمشيئة، حتى إذا شاءت، ثبت الإيلاء، وإن كنا نصدق الزوجَ في حمله على المحمل الآخر، وقد ذكرنا نظائر هذا في الألفاظ المطلقة والمتأوَّلة في مسائل الطلاق.
ولو علق فعل الوطء بمشيئتها وأراد أنها مهما أبت أن يطأها، فلا يطؤها، فليس بمولٍ، وفي هذا المقام ينقدح مسلكُ مالك؛ فإنه علق اليمين على اتباع مشيئتها في الوطء إقداماً وامتناعاً، فإذا قال: والله لا أجامعك إن شئت، فليس يعلق الوطء على مشيئتها، وإنما يعلق عقد اليمين على مشيئتها، ثم إذا انعقدت اليمين، فلا أثر بعد ذلك لمشيئتها.
9441- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والإيلاء في الغضب والرضا سواء" (2) وقصد بذلك الرد على مالك (3) ، فإنه يقول: انعقاد الإيلاء يختص بحالة الغضب؛ فإنَّ قصد المضارّة إنما يتحقق في حالة الغضب.
وهذا من ظنونه التي ينبني على أمثالها مذهبُه، وهو بمثابة تخصيص الخلع بحالة المشاقّة، ومذهبُه في الخلع أقربُ؛ لأنه يتمسك في إثباته بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ... } [البقرة: 229] والإيلاء غير مقيد بشيء من ذلك، وليس في القرآن فصلٌ.
9442- ثم قال الشافعي: "وإن قال والله لا أقربك حتى أُخرجَك من البلد ... إلى آخره" (4) .
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 4/101.
(3) ر. المنتقى للباجي: 4/36، مقدمات ابن رشد - بهامش المدونة: 2/331.
(4) نفسه.(14/432)
هذا يتحقق بالأسباب القريبة، فإن الإخراج من البلد ممكن غيرُ مستبعد، فكأنه قال: "والله لا أجامعك في البلدة"، فإن مضت أربعة أشهر، فهل نجعله مولياً؟ فيه القولان المقدمان: فإن قلنا: يصير مولياً، وتتوجه الطلبة، فإن أراد الزوج الخلاص، فالوجه أن يخرجها من البلد، وإذا أخرجها، انقطعت الطّلبة؛ فإن اليمين لم يتناول هذه الحالة، ولو وطىء، لم يلزمه الكفارة، وإذا انتهى إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم الكفارة، فقد خرج في ذلك الوقت عن مطالبة الإيلاء، وهذا مستبين لا غموض فيه.
فرع:
9443- لو قال: إن جامعتك، فعبدي حر، فهو مولٍ على الجديد، ولو قال: إن جامعتك، فعبدي حر قبل مجامعتي إياك بشهر، قال الأصحاب: ابتداء المدة يقع بعد شهر؛ فإنه لو فرض الجماع قبل الشهر، لم يعتِق العبد؛ إذ (1) لو قدّرنا العتق، للزم أن يتقدم على الوقاع بشهر، ولو تقدم، لكان العتق واقعاً قبل اللفظ، وقد ذكرنا استحالة هذا. وإذا مضت أربعة أشهر من وقت اللفظ، فلو قدّرنا توجيه الطلبة، لم يكن على قاعدة الإيلاء؛ فهانه لا يلتزم بالوقاع -لو واقع- العتق بعد أربعة أشهر، بل لو فُرض الوقاع، لوقع العتق بعد الأربعة الأشهر.
ولو باع العبد بعد انتصاف الشهر الخامس، فالطَّلِبة تتوجه بعد الشهر الخامس؛ فإنا لو فرضنا وقاعاً بعد الشهر الخامس، لاقتضى تقدّمَ العتق بشهر، ولو تقدمَ العتق بشهر، لتبيّنا بطلان البيع، ويحصل بما ذكرناه شرط الإيلاء وعماده.
ولو باع العبدَ [و] (2) لم تتفق مطالبة الزوج والمسألة بحالها حتى مضى شهر كامل، فلا وجه للمطالبة، وقد انقطع أثر الإيلاء، فإنه لو فرض الوطء، لم ينعكس العتق على البيع، ولم يُفضِ إلى بطلانه، ولو اشترى العبدَ بعد البيع، فيعود التفريع في عَوْد الحنث، وبحسبه يعود التفصيل في الإيلاء، وقد تمهد هذا فيما تقدم.
***
__________
(1) هنا خرم قدر صفحتين من نسخة (ت 2) .
(2) الواو زيادة اقتضاها السياق.(14/433)
باب الإيلاء عن نسوة
قال الشافعي: "وإذا قال لأربع نسوة: والله لا أقربكن ... إلى آخره" (1) .
9444- إذا قال لزوجاته الأربع: والله لا أجامعكن، فالوجه أن نذكر ما يتعلق بالبر والحِنث ثم نعود إلى حكم الإيلاء: فإذا قال: لا أجامعكن، لم [يحصل] (2) الحنث بمجامعة ثلاث منهن؛ فإن اليمين المعقود على أفعال لا يتحقق الحنث فيها بالبعض، كما لو حلف لا يأكل أرغفة، فإنه لا يحنث بأكل بعضها، بل لا يحنث ما بقيت منها قطعة، وهذا ممهّد في الأَيْمان، ومعناه واضح متلقى من موجَب اللفظ، ولو ماتت واحدة منهن، انحلّت اليمين؛ فإنه يتحقق امتناع الحنث، واسم الوطء في حنث اليمين وبرّها ينطلق على غشيان الحيّة (3) .
ولو قال: والله لا أجامع فلانة، فماتت، فاقتحم المأثم وأتاها، لم يحنث.
هذا هو المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن البر والحنث يتعلّقان بوطء الميت.
وهذا بعيد لا تعويل عليه، فلا خلاف أنه لو قال: والله لا أضرب فلاناً، فضربه بعد الموت، لم يكن ما جاء به الضربَ الذي انعقدت اليمين عليه، ولو وطىء واحدة ثم ماتت، لم يقدح موتها بعد الوطء، فإنْ وطىء الباقيات في حياتهن حنث.
ولو قال لنسوته: والله لا أجامعكن، ثم طلق ثلاثاًً منهن [فبِنَّ ثم زنا بهنَّ] (4) ، ثم
__________
(1) ر. المختصر: 4/101.
(2) في الأصل: يجعل، والتصويب من المحقق.
(3) أي على الغشيان حالة الحياة.
(4) غير مقروء في الأصل، والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون، أما (ت 2) ، فقد ضلَّلَتْنا، وذهبت بعيداً حيث قالت: "ثم طلق ثلاثاًً منهن قبل قِرْبانهن".(14/434)
وطىء الرابعة، حَنِث بوطئها؛ فإن اليمين لا يختص بالوطء المستباح.
فهذا ما يتعلق بحكم البر والحنث، ولا شك أنه إذا جامعهن، لم يلتزم إلا كفارة واحدة، فإنْ وطئهن، حنث حنثاً واحداً، واتحاد الكفارة وتعددها يُتلقى من الحِنْث.
وإذا قال: لا أجامعكن، فأتى بعضهن، أو جميعهن في أدبارهن، فالذي أراه أنه في حكم الحنث، كالإتيان في المأتى؛ فإن ذلك وإن كان يندر فعلاً، فليس خارجاً عن عرف اللسان، ولا يُرعى في الأيمان ما يجري العرف به عملاً، وإنما يُرعى ما يعدّ مندرجاً تحت اللسان، وسأصف عرف الأيمان في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
9445- ونحن نعود إلى حكم الإيلاء، فنقول: إذا قال لنسوته: والله لا أجامعكن، فالمنصوص عليه في الجديد أنه لا يثبت حكم الإيلاء في حق واحدة منهن؛ فإنه لا يلتزم بجماع واحدة بعد الأشهر أمراً، وفي المسألة قول قديم: أنه يصير مولياً؛ فإنه بوطء واحدة يقرب من الحِنْث، والقربُ من الحِنْث في حكم أمر ملتزم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم -وإن فرعنا على الجديد- فلو وطىء ثالثاً صار مولياً عن الرابعة، فيبتدىء بعد وطء الثالثة ابتداء المدّة في إيلاء الرابعة، فإذا انقضت، فلها الطّلبة، [و] (1) على القديم لكل واحدة منهن الطلب؛ تعويلاً على القُرب من الحنث، ثم إن كان يطأ، فلا يلتزم بوطء ثلاثٍ (2) إلا القربَ من وقوع الحنث في حق الرابعة.
ولو ماتت واحدة قبل الوطء، فالمذهب انحسام الإيلاء؛ فإن الحنث بوطئهن صار مأيوساً عنه (3) .
وإن أبان واحدة منهن، لم يرتفع الإيلاء في حق الباقيات؛ لأن الحنث ممكن، كما قدمناه، نعم هذه البائنة لو عادت، فهل يعود لها حكم الطَّلبة على ما يقتضيه التفريع على قولي الجديد والقديم؟ فعلى قولي عَوْد الحنث.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) ت 2: بوطء ثبت.
(3) كذا في النسختين: و (عن) تأتي مرادفة لـ (مِن) .(14/435)
ومن أحاط بما مهدناه في البر والحنث، لم يخف عليه كيفية التفريع على القولين في مقتضى الإيلاء.
وقد نجز الغرض في هذه الصورة وهي إذا قال: "والله لا أجامعكن" ونحن نذكر بعد ذلك صورتين، ونذكر بعدهما فرعاً لابن الحداد، وعليه يتنجّز الباب.
9446- صورة: إذا قال لنسوته الأربع: والله لا أجامع واحدة منكن، فهذا يستعمل على وجهين: أحدهما - على اقتضاء التعميم.
والثاني - على تخصيص الإيلاء بواحدة منهن.
فإن قال: أردت التعميمَ، فهذه اللفظة فيها لطيفةٌ يجب فهمها، ثم الخوض بعدها في الفقه، فلو قال: لا أجامعكن، فهذا يقتضي حصولَ الجماع في جميعهن، واللفظ على هذا الوجه يعمهن بتأويل اقتضاء اجتماعهن، حتى لا يحصل الغرض بمجامعة بعضهن، فهذا معنىً في العموم.
وإذا قال: لا أجامع واحدة منكن على إرادة العموم، فهذا عمومُه على معنىً آخر، فإن اليمين متعلّقة بآحادهن. هذا هو وجه في العموم، ولا يقتضي تحقّقُ الحنث وطءَ جميعهن؛ من جهة أنه قال: لا أجامع واحدة (1 منكن، والمعنى جميعهن، مع تنزيل اليمين على كل واحدة 1) على طريق البدل.
فإذا فهم هذا المعنى، انبنى عليه أنا نجعله مولياً عن كل واحدة منهن؛ من جهة أنه لا يقدم على وطء واحدة بعد الأربعة الأشهر إلا ويلتزم الكفارة بغشيانها، للمعنى الذي نبهنا عليه، ولو وطىء واحدة منهن وحنث وألزمناه الكفارة، فتنحلّ يمينه، ويسقط حكم الإيلاء في حق الباقيات؛ لأنه بوطء واحدة خالف جميع قوله: "لا أجامع واحدة منكن" فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين، وإذا انحلّت، سقط أثرها في مقتضى الإيلاء.
فإن قيل: ألستم قلتم: إنه مولٍ عن كل واحدة؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(14/436)
على طريق البدل، فهذا فيه معنى العموم، وفيه معنى التخصيص، ثم جملة اليمين تنحلّ إذا وطىء واحدةً.
9447- وهذا يبين بصورة أخرى (1) تناقض هذه الصورة، وهو أنه لو قال: والله لا أجامع كل واحدة منكن، فهذا يتضمن تخصيص كلّ واحدة بالإيلاء على وجه لا يتعلق بصواحباتها، حتى كأنه أفرد كل واحدة بيمين على حيالها.
ونقل (2) بعض النقلة عن القاضي أنه جعل قوله: لا أجامع كل واحدة (3 بمثابة قوله: لا أجامع واحدة منكن، حتى قضى بأن اليمين تنحلّ بوطء واحدة 3) .
وهذا خطأ صريح، والخطأ محال على الناقل؛ فإن القاضي أعرف بالعادات وصيغ العبارات من أن يقول هذا.
فإذاً الألفاظ المدارة في الباب ثلاثة: أحدها - أن يقول: لا أجامعكن، فالحنث لا يحصل إلا بجماع جميعهن.
والثاني - أن يقول: لا أجامع واحدة منكن، وهو يبغي التعميم الذي فسرناه، فهذا تعميمٌ على البدل، ويحصل الحنث بأول امرأة يجامعها.
والثالث - أن يقول: لا أجامع كل واحدة، وهذا يوجب انعقاد اليمين في حق كل واحدة، على وجهٍ لا يتعلق حكمها بحكم غيرها، وموجب ذلك أن الحنث لا يحصل في حق الجميع بوطء الواحدة.
9448- ولو قال: لا أجامع واحدة منكن وزعم أنه أراد الإيلاء عن واحدة من جملتهن، فهذا مقبول؛ فإن اللفظ صالح لهذا، ثم يقال له: أعيّنتَها بقلبك أم لا؟ فإن زعم أنه عيّنها، قلنا له: بيّنها، والمذهب أنه يطالَب بتعيينها، كما يطالَب بتعيين المطلقة وتبيينها إذا أَبْهمَ طلقةً بين النسوة.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - ما ذكرناه.
__________
(1) هذه هي الصورة الثانية التي وعد بها الإمام آنفاً.
(2) ت 2: ونقض.
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(14/437)
والثاني - أنه لا يطالب بالبيان، ولا يُحمل عليه بخلاف الطلاق، والفرق أن المطلّقة خارجة عن النكاح، فضبطها (1) في حِبالة النكاح من غير نكاح ممنوع، وليس كذلك الإيلاءُ؛ فإن المرأة لا تصير خارجة عن ربقة النكاح بالإيلاء، فليس في حبسها في حِبالة النكاح ما يخالف وضعَ الشرع.
ثم لو ادعت واحدة منهن أنه عناها، فيجب عليه أن يجيب عن دعواها، والخلاف الذي ذكرناه فيه إذا اعترف بالإشكال، فإذا ادّعت واحدةٌ أنه عناها، طولب بالجواب، فإن قال: لم أَعْنها، حُلّف، فإن نكل، رُدّت اليمين، والتفريع في فصل الخصومة كما تقدم في الطلاق، فلا نعيد تلك التفاصيل.
ولو قال الزوج: "لا أدري"، لم نقنع منه بهذا، وهذا مما تقرّر في إبهام الطلاق، فلم نؤثر إعادته.
9448/م- ومما يتعلق بالمسألة أنه لو كان قال: والله لا أجامع واحدة منكن، ثم زعم أن لفظه مطلق، وأنه لم يخطر له لا معنى العموم على التفسير المقدم فيه، ولا تخصيصُ واحدة على تأويل إبهام الإيلاء، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أن مطلق لفظه يُحمل على عقد اليمين على جميعهن على التأويل المقدّم.
والوجه الثاني - أنه يُحمل على الإبهام.
والمسألة محتملة، وقد ذكرنا قاعدة أمثال هذه المسائل في كتاب الطلاق، فإذا حملنا مطلق اللفظ على العموم، فقد بان حكمه، وإن حملناه على الإبهام، فليتثبت الناظر في معناه، فإن من أبهم طلقة، ولم يعيّن بقلبه قلنا له: عيّن باختيارك تشهياً ما شئت، فإذا أبهم الإيلاء، ولم يُعيّن بقلبه -وهكذا يكون الأمر إذا حملنا المطلق عليه- فكيف الوجه؟ وما السبيل؟ هذا ينبني على أنه هل يطالب بالتعيين؟ فإن قلنا: إنه يطالب به، فليعيّن واحدةً، كما مهدناه في الطلاق.
ثم ينتظم عليه أن مدة الإيلاء من وقت التعيين، أو من وقت اللفظ؟ ففيه وجهان قدمنا نظيرَهما في إبهام الطلاق، حيث قلنا: إن الطلاق يقع عند التعيين أو يستند إلى
__________
(1) ضبطها: بمعنى إمساكها وحبسها.(14/438)
اللفظ، وهذا كذلك، فإن جعلناه مولياً من وقت التعيين، فابتداء المدة من ذلك الوقت، وإن جعلناه مولياً من وقت اللفظ تبيُّناً (1) ، فابتداء المدة من اللفظ، ولا يخرّج هذا على [اختلافٍ ذكرناه] (2) في العدة؛ فإن [المدّة قد لا يُعتدّ بها] (3) مع التباس الحال ولا يظهر مثل ذلك الأصل هاهنا.
وقد نجز الكلام في الصورتين الموعودتين.
فرع (4) لابن الحداد:
9449- إذا كان للرجل امرأتان، فقال: إن وطئت إحداهما، فالأخرى طالق، فلا يخلو من أن يعيّن بقلبه واحدة منهما ويريدها بالإيلاء، فإن كانت المسألة كذلك، فالإيلاء يثبت في حق تلك المعينة بالقلب دون الأخرى، فإذا انقضت المدة والأمر مبهم عندنا، قال ابن الحداد: إذا رفعنا الزوج إلى القاضي قال له القاضي: فىء وخالف يمينك، فإن فاء، فذاك، وإن أبى، قال ابن الحداد: يُطلّق القاضي إحدى امرأتيه على الإبهام. وفرّع على أن القاضي يطلّق.
وقد قال [القفال] (5) : هذا غلط صريح من قول ابن الحداد؛ فإن تطليق القاضي يترتب على صحة الدعوى، ومسألة ابن الحداد مفروضة فيه إذا كانتا معترفتين بالإشكال؛ إذ لو كانت المولَى عنها معيّنة بقلبه، لدارت الخصومة في محاولة التعيين، كما نبهنا عليه، وأحلناه على ما قدمناه في الطلاق. فإذا قال ابن الحداد:
__________
(1) ت 2: تعينا.
(2) في الأصل: على اختلاف أمر ذكرناه. والمثبت عبارة (ت 2) .
(3) في النسختين: "فإن العدّة قولاً يعتد بها" وهو تصحيف عجيب اجتمعت عليه النسختان، والمثبت تصرّف من المحقق، وهو صحيح -إن شاء الله- يشهد لذلك عبارة العز بن عبد السلام في مختصره، فقد قال ما نصّه: "فابتداء المدة من حين الإيلاء أو من حين عيّن؟ فيه وجهان؛ فإن جعل من حين الإيلاء لم يخرّج على الخلاف في العدة، إذا أبهم الطلاق؛ فإن العدة قد لا تنقضي مع الإشكال، بخلاف مدة الإيلاء" ا. هـ. (ر. الغاية: 3/174 شمال) .
(4) ت 2: فصل لابن الحداد. وهو مخالف لقول الإمام أنفاً: "ونذكر فرعاً لابن الحداد".
(5) في الأصل: قال الفقهاء، والمثبت من (ت 2) ، ومن (صفوة المذهب) ومن (الغاية) ، وأيضاًً (الشرح الكبير) .(14/439)
يبهم القاضي الطلاقَ، دلّ أنه فرض المسألة في اطراد الإشكال، وإذا كان كذلك، فلا تصح الدعوى من واحدةٍ منهما، وهي [معترفة بأنها] (1) لا تدري أن الزوج عناها أم لا، وهذا بمثابة ما لو قال رجلان: لأحدنا عليه ألفُ درهم، فالدعوى لا تسمع على هذا الوجه، إلا أن تكون مجزومةً، وكذلك لو قالت امرأة: آلَى عنّي زوجي أو ضربني، أو قالت: آلَى عني أو شتمني، فلا تسمع الدعوى على هذا الوجه.
وهذا الاعتراض متجهٌ جداً، والعجب أن الشيخ أبا علي مع انبساطه في الإتيان بكل ما قيل، وهو من أقدم أصحاب القفال، نقل جواب ابن الحداد، ولم يورد اعتراض القفال عليه، ولم يعترض هو من تلقاء نفسه، وأخذ يفرع (2) على مذهب ابن الحداد بما سنذكره.
فإن قيل: هل يتوجه مذهب ابن الحداد؟ قلنا: نعم، الممكن فيه أن المرأتين إذا اعترفتا بالإشكال، فالضرار قائم على الإبهام، فإذا امتنع عن الفيئة، فلا سبيل إلى إهمال الواقعة، ولا سبيل إلى تعيين الطلاق، فلا ينطبق على صورة الحال إلا ما ذكره. هذا هو الممكنُ، ثم إذا وقع الطلاق من جهة القاضي مبهماً، فالتعيين إلى الزوج، فإن كان عين بقلبه واحدة، صادفها الطلاقُ، فعليه التبيين، وإن لم يعين بقلبه واحدةً عند إبهام الإيلاء، فعليه التعيينُ الآن للطلاق.
9450- فلو قال: ارتجعت من طلقت، فهل تصح الرجعة على الإبهام؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أنها تصح بناء على الطلاق.
والثاني - لا تصح؛ فإن الرجعة استحلال مضاهٍ لعقد النكاح، فلا يليق بها الإبهام؛ إذ الإبهام يناظر التعليق، فما لا يصح تعليقه لا يصح إبهامه، ولذلك أثرت الجهالة في صحة الإبراء [لمّا] (3) امتنع تعليقه، وهذا هو السديد. وإن قلنا: تصح الرجعة مبهمةً، فلا كلام، وإن قلنا لا تصح، فالوجه أن يعيّن المطلقة أولاً. ثم يبنى على تعيّنها الرجعةَ.
***
__________
(1) في الأصل: معترضة فإنها.
(2) ت 2: يفرض.
(3) في الأصل: كما.(14/440)
بابٌ على من يجب التوقيف في الإيلاء وعمن يسقط (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "لا نعرض للمولي، ولا لامرأته حتى يطلب الوقف ... إلى آخره" (2) .
9451- إذا آلى الرجل عن امرأته، فلا طَلِبة في الأربعة الأشهر، فإنه مُمَهَّل فيها، فإذا انقضت، فلها رفع زوجها إلى مجلس القضاء، ولو لم تطلب حقها، فلا معترض عليها؛ فإنها صاحبة الحق، وهذا يؤكد أن الزوج لا يطالَب بالتعيين، فإن النكاح قائم.
وينفصل هذا عن صورة الإبهام انفصالاً بيّناً، فإن الخلاف فيه إذا طلبت المرأتان التعيين لتتوصل صاحبة الحق إلى طلب حقها، فلو انقضت المدة، فذكرت أنها راضية بالمقام تحت زوجها المولي مع استمراره على الإضرار بها، فمهما أرادت المرأة أن تعود إلى الطلب، كان لها العَوْد، وهذا كما إذا أثبتنا لها حقَّ الفسخ لسبب الإعسار بالنفقة فرضيت بمصابرة زوجها على الضُرّ والعسر، ثم بدا لها، فأرادت العَوْد إلى الفسخ، فلها ذلك.
ولو ثبتت العُنّة وانقضت المدّة المضروبة أجلاً للعنّين، فرضيت المرأة بالمقام، ثم أرادت أن تفسخ، فليس لها ذلك، وإنما فرضنا الكلام في العُنة عند قصد الاستفراق (3) ، لأن العنة من وجهٍ ليست عيباً محضاً، فيقال: الرضا بها رضاً بالعيب، والدليل على ذلك أن الزوج لو اعترف بالعنة في ابتداء المرافعة، فإنا نمهله
__________
(1) ت 2: فصل (مكان باب) .
(2) ر. المختصر: 4/103.
(3) الاستفراق: طلب الفراق.(14/441)
مع ذلك سنة، ومع ما ذكرناه [من] (1) الفرق ما أجريناه (2) من أنها إذا رضيت بمصابرة الزوج على الضرار (3) ، فليست راضيةً بصفة كائنة، وإنما تُسقط حقها في الحال، فإن تعرضت للإسقاط في المستقبل، كانت مسقطة حقّاً لم يدخل وقته، وإسقاط الحق قبل ثبوته غيرُ سائغ، وكذلك القول في رضا زوجة المعسر بمصابرة العُسر، والتعذر في النفقة يتعلق بحق النفقة، والنفقةُ تجب شيئاً شيئاً.
كذلك مطالبة الزوج بالفيئة تتعلق بطلب الوقاع، وهو مرتبط بما سيكون من الاستمتاع في مستقبل الزمان، وأما العُنّة؛ فإنها عيبٌ، فإذا رضيت به، لم تجد سبيلاً إلى الرجوع؛ فإن العنة خصلةٌ (4) واحدة.
فإن عورضنا، وقيل لنا: العسر والضرارُ في النفقة والوطء (5) في حكم الخصلة الواحدة، قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإنه منبسطٌ على الأوقات لتعلقه بالحقوق المتجدّدة على مرّ الأوقات، وإذا حُقّق العُسر، لم يكن له معنىً إلا عدم النفقة، وليس ذلك صفة (6) ثابتة، بخلاف العُنّة؛ فإنها عجزٌ.
9452- ثم حق المطالبة في الإيلاء لا يثبت إلا للزوجة، فإن كانت من أهلها (7) ، فالأمر مفوّض (8) إليها، وإن كانت صغيرة، لم [ينب] (9) عنها وليها، كما ذكرناه في باب العنة، وحق الطّلب للأمة المنكوحة دون مولاها، والقول في حق الفسخ إذا أثبتناه بعذر الإعسار قد يَدِق مُدركه إذا قلنا: حق الفسخ للأمة دون المولى، مع تعلق
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة ت 2: ومع ما ذكرناه الفرق مع ما أجريناه.
(3) الكلام هنا عن زوجة المولي التي رضيت بمصابرته.
(4) ت 2: فإن السنة حصوله. (وهو تحريف واضح) .
(5) والوطء معطوف على النفقة، والضرار في الوطء هو الإيلاء كما هو واضح من السياق، وهو كما يصوّر الإمام مشبه بالضرار في النفقة، ومصابرة زوجة المعسر ورضاها أولاً ثم حقها في معاودة طلب الفسخ ثانياً.
(6) ت 2: ضربة.
(7) من أهلها: أي المطالبة.
(8) ت 2: مفر وض.
(9) في النسختين: يثبت.(14/442)
هذا بصلاح مِلْك المَوْلَى؛ فإن الزوج إذا لم ينفق، احتاج السيد إلى الإنفاق استبقاءً للملك، ومع هذا لم يُثبت الأصحاب له حقَّ الفسخ، وفي هذا مباحثة وتشعيبٌ للكلام سنذكره في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل.
9453- ثم ذكر المزني فصولاً قدمنا ذكرها، فنرمز إليها للجريان على ترتيب (السواد) : منها: أن الإيلاء إذا كان معقوداً على مدةٍ، فحقها أن تكون زائدةً على الأربعة الأشهر، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، وسبب الخلاف تباين المذهبين في وضع الإيلاء، فإن [وضعه] (2) عند الشافعي على أن المولي يُمهَل حتى يرجع عن المضارّة في المدة المعلومة، والمدة بجملتها له؛ فإنها مَهَلُه وأجلُه (3) ، وليس الإيلاء طلاقاً، وإنما هو إظهار مضارة، فإذا انقضت المدة، تحقق إصرارٌ على المضارّة فتتوجه (4) عليه الطّلبة، ولا بد من فرض الطَّلِبة وراء المدة، ولا بد للطَّلِبة من مدّة، فهذا عقد مذهب الشافعي رضي الله عنه.
وأبو حنيفة جعل الإيلاء طلاقاً معلقاً بانقضاء مدةٍ، فاكتفى بأربعة أشهر.
ثم الأمر الخارج عن كل معقول قضاؤه بأن الطلاق الواقع بائن (5) ، ولعله صار إلى هذا من جهة تخليصها؛ فلا تخليص إلا بالبينونة، والرجعية مستحلّة عنده.
9454- ومما ذكره المزني: "أنه إذا حلف بطلاق [امرأته] (6) أنه لا يطأ الأخرى، فهو مولٍ" في الجديد، ثم القول في تفاصيل المسألة وما يتعلق بها من التفريع على قَوْلَيْ عوْد الحنث مستقصىً، لا حاجة إلى إعادته على قرب العهد به.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/473 مسألة 998.
(2) في الأصل: موضوعه، وفي ت 2: موضعه، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء العبارة السابقة لهذه الجملة.
(3) ت 2: مهلة واحدة.
(4) ت 2: متوجه عليه للطلبة.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/473 مسألة 989، المبسوط: 7/20، مختصر الطحاوي: 207.
(6) في النسختين: امرأتيه. والتصويب من نص المزني في المختصر: 4/103.(14/443)
9455- ثم قال: "والإيلاء يمينٌ لوقتٍ، فالحر والعبد فيه سواء" (1) ، وأراد بهذا أن الزوج إذا كان عبداً، فمدة إيلائه أربعة أشهر، كما لو كان حراً، وخالف في ذلك أبو حنيفة (2) ومالك (3) غير أن أبا حنيفة يقول: يختلف الأمر برقها وحريتها، فلو كانت حرة، فالمدة أربعة أشهر وإن كان الزوج عبداً، وإن كانت الزوجة أمة، فشهران وإن كان الزوج حراً. وعند مالك الاعتبار برقه وحريته.
وقول الشافعي: الإيلاء يمين: معناها أنها يمين عُلّقت بوقت شرعاً، فكانت كما لو علقها الحالف بالوقت، ولو كان كذلك لم يؤثر الرق والحرية.
9456- ثم ذكر اختلافَ الزوج والزوجة في انقضاء مدة الإيلاء (4) ، وأبان أن حقيقة الاختلاف في هذا يرجع إلى التنازع في وقت الإيلاء، والقول قول الزوج في وقت الإيلاء؛ [فإن المرأة إذا ادعت انقضاء المدّة، و] (5) الزوج قال: بل مضى شهران، فكأنها ادّعت تقدم إيلائه وهو منكر، وقد قدمنا نظير هذا في كتاب الرجعة.
9457- ثم ذكر أنه لو آلى عن الرجعيّة، ثبت الإيلاء (6) ؛ فإن الرجعية في حكم الزوجات، وأثر هذا أنه لو ارتجعها، احتسبنا المدة من وقت الارتجاع.
ولو قال لأجنبية: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فلو جامعها، لحنث.
ولا يكلون مولياً، وإن كان يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً؛ لأنه أنشأ الإيلاء في وقت انتفاء النكاح، وحق الطلب في الإيلاء مردّد بين الوطء والطلاق، وهذا خاصيّة الإيلاء، [فلا] (7) ينعقد الايلاء في وقتٍ لا نكاح فيه، والرجعية منكوحة، أو على عُلقةٍ صالحة من الزوجية.
__________
(1) ر. المختصر: 4/105، والعبارة في النسختين مقلوبة هكذا: واليمين إيلاءٌ لوقتٍ.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/480 مسألة: 1010، المبسوط: 7/32، مختصر الطحاوي: 207.
(3) ر. الاشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/762، والمنتقى للباجي: 4/37.
(4) ر. المختصر: 4/105.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وزدناه من (ت 2) .
(6) ر. المختصر: 4/165.
(7) في النسختين: لم.(14/444)
والذي يجب نظمُه في هذا الفصل أن الطلاق حرّمها، فاقتضى ذلك انعزالَها للعدّةِ واستبراءِ الرحم، ونصُّ الشافعي رضي الله عنه في إيجاب المهر أصدق شاهد على زوال الملك، وإن كان عُرضةَ الاستدراك، والتوريثُ أصدق شاهد في بقاء النكاح، وإن تكلفنا، قلنا: الإرث يستقلّ (1) بعُلقة ثابتة؛ فإنه لا يجري إلا بعد النكاح.
وكأنا نقول: ليست البائنة على عُلقةٍ من النكاح، وعِدّةُ البينونة ليست من علائق النكاح، ولهذا لا تثبت فيها النفقة للحائل (2) ، والرجعية على علقة من النكاح، [ولهذا تستحق] (3) النفقة، ويحرم نكاح أختها في عدتها، ونكاح أربعٍ سواها للعُلقة المستقرّة في طريقةٍ، أو للنكاح القائم، وإذا كان تحريم الجمع متعلقاً بالنكاح، لم يبعد أن يتعلق بالعُلقة المختصة به.
وهذا بمثابة امتناع الإحرام بالعمرة مع ملابسة الحج، ثم المقيم بمنى أيام منى ليس في الإحرام، ولكنه في نسك تابعٍ للإحرام مُفدٍ لو تركه (4) ، فامتنع ابتداء الإحرام في الأيام المشتملة على تلك المناسك، فأما الإيلاء عن الرجعية، فمعتمده النكاح نفسه إن قلنا: إنها منكوحة أو العُلقة القائمة المسلِّطة على الرّد إلى عين النكاح الأول، وهذا لا يتحقق في البائنة.
***
__________
(1) ت 2: يشتغل.
(2) ت 2: ولهذا تثبت فيها النفقة للحامل.
(3) في الأصل: ولهذا لا تستحق النفقة.
(4) ت 2: مانع للإحرام مبرى لو نزل.(14/445)
باب الوقف في الإيلاء
9458- ذكر المزني مسائل هذا الباب على غاية الاختلاط، ووقعت له غلطات في النقل والترتيب، ونحن نرى من الرأي أن نصدّر الباب بفصلين: أحدهما - مشتمل على موانعَ من الوطء فيه وفيها، ثم القول يتردد في أحكامها على ما سنوضحه.
والفصل الثاني - في المطالبة بعد المدة وما يمنع منها.
فأما الفصل الأول
9459- فإنا نقول: الطلاق يقطع مدة الإيلاء، وإن كان رجعيّاً، فليقع الاعتناء به، ثم لا يخفى حكم الطلاق البائن، فإذا آلى الرجل عن امرأته، وخاض في المدة، ثم طلقها في أثناء المدة، انقطعت المدة، فإذا راجعها (1) ، فلا بناء على ما مضى من المدة، ويستفتح مدة جديدة بعد الرجعة، فإذا مضت، ثبتت الطلبة بعدها، ولو انقضت المدة، فطلقها، ثم راجعها ابتدأنا مدةً، فإذا مضت بكمالها، عادت الطّلِبة، وقد قرّرنا هذا وأوضحنا فقهه.
فالطلاق إذاً يقطع المدة، ويُسقطُها حتى لا يُفرض البناء على السابق منها، فإذا جرى بعد المدة، ثم فرضت الرجعة فالإيلاء قائم، ولكن لا بد من افتتاح المدة مرة أخرى.
9460- والردة إذا فرضت في ممسوسة أو في زوجها، فهي كالطلاق الرجعي في جميع ما ذكرناه، فتقطع المدةَ قَطْع إسقاطٍ يمنع البناء، وإذا زالت الردّة في مدة العدة، فلا بناءَ، بل نبتدىء المدّة.
وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وإن كنا نبيّن أن الرّدة إذا زالت قبل انقضاء
__________
(1) ت 2: ثم راجعها.(14/446)
العدة، فكأن النكاح لم ينخرِم، بخلاف الطلاق؛ فإن الواقع منه لا يزول بالرجعة، ولكن لما كانت الردّة مؤثرة على الجملة في إزالة الملك، كانت قاطعة للمضارة بترك الوطء، والتعويل على إظهار المضارّة، فإذا فرض عودٌ، فهذا جرى قبل انقطاع قصد المضارة بترك الوطء مع استمرار الحِلّ.
وليست الردّة كالإحرام؛ فإنه ليس إعراضاً عن النكاح؛ إذ النكاح في أصل الوضع يدوم معه، وهذا الفقه واقعٌ لمن تأمل.
وإذا انقضت مدة الإيلاء، فارتدّ أحد الزوجين، ثم زالت الردّة، واستمر النكاح، كان ذلك بمثابة الطلاق الرجعي إذا طرأت الرجعة بعده، فلا بد من استئناف مدة، وهذا من المسائل التي تُحفظ في هذا الكتاب، وهي: مولٍ يتجدد إيلاؤه، ولا يطرأُ طلاقٌ ولا فيئة، فتنقضي أربعة أشهر فنضرب أربعة أخرى، وذلك إذا آلى، فمضت المدة، فارتد أو ارتدت، ثم فرض العود على الفور.
فهذا بيان الطلاق والردة.
9461- فأما ما عداهما من الموانع، فينظر فإن كان فيه كمرضٍ أو غيره من حبسٍ، أو غَيْبة، والموانع فيه تنقسم إلى الحسيّ والشرعي فالحسية منها ما ذكرناها وأمثالها، والشرعية كالإحرام والظهار ونحوهما، وكل مانع في (1) جانبه فلا يمنع الاحتساب بالمدة، فإذا طرأت هذه الموانع في وقت الطّلبة (2) ، فسنذكر في الفصل الثاني تحصيلَ القول في الطلب، وغرضنا الآن مقصورٌ على الكلام في انقطاع المدة واستمرارها، فإذا اطردت الموانع عليه بعد المدة، ثم زالت، حقَّت الطلبة، وإذا كانت لا تقطع المدة لا توجب ابتداء المدة.
9462- فأما إذا كانت الموانع فيها، فهي تنقسم إلى الطبيعية والشرعية، فإذا كانت محبوسة أو مجنونة لا يتأتى غشيانها، أو كانت من الصغر بحيث لا تحتمل الجماع،
__________
(1) ت 2: من.
(2) ت 2: الطلقة.(14/447)
أو امتنع (1) وقاعها للدَّنَف (2) أو الضِّنى، أو نشزت وامتنعت من التمكين، فجملة هذه الموانع تقطع المدة، وتمنع الاحتساب بها معها، وإذا اقترنت بالإيلاء، لم نبتدىء المدّة.
والسبب فيه أن الإيلاء إظهار الضرار بالامتناع عن وطئها إذا لم يكن فيها مانع، وإذا كان وأمكنت الإحالة على ما فيها من المانع، فلا وجه لتحقيق المضارة.
ثم هذه المعاني فيها إذا طرأت وقطعت المدة، ثم زالت، فهل تُستأنف المدة أم يُبنى عليها؟ فعلى وجهين: أحدهما - يبنى عليها، حتى لو كان طرأ مانع فيها بعد مضي ثلاثة أشهر ثم زال، فلا مهل أكثر من شهر.
والوجه الثاني - تستأنف المدة بعد ارتفاع العوارض أربعة أشهر.
توجيه الوجهين: من قال بالبناء، قال: لم يطرأ ما يخرم الملك (3) ، ولكن امتنع الاحتساب بالمدة؛ إذ لا تمكين (4) ، فإذا زال المانع، فليس إلا استكمال المدة.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن [المضارة] (5) إنما تتحقق إذا تتابعت أزمانها، ولم نجد لها مستنداً إلا امتناع الزوج، وهذا يوجب افتتاح المدة.
ولو طرأت هذه الموانع بعد المدة، فلا شك أنها لا تطالِب مع قيام المانع، فإذا زال، فهل يعود الطلب أم نبتدىء مدةً؟ المذهبُ المبتوت أنها تعود إلى الطلب؛ فإن المضارة قد تحققت وِلاءً في أربعة أشهر، وليس كما لو طرأ المانع على المدة.
وأبعد بعض الضَّعفة، فقال: إذا قلنا: تستأنف المدة، وقد طرأ المانع (6 على المدة، فكذلك تستانف المدة إذا طرأ المانع 6) بعد المدّة وزال.
هذا عقد المذهب في الموانع القاطعة والمانعة.
__________
(1) ت 2: امتناع.
(2) الدّنف: بفتحتين: المرض المثقل، ومثله الضنى (المعجم) .
(3) ت 2: من قال بالبناء ما لم يخرم الملك.
(4) ت 2: لا يمكن.
(5) في الأصل: المضاربة.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(14/448)
9463- ونحن نذكر بعد ذلك قولاً غريباً حكاه صاحب التقريب، وغلطاً للمزني في النقل، ومباحثةً تتعلق بتعليل (1) المذهب.
فأما ما حكاه صاحب التقريب، فقد نقل قولاً غريباً عن البويطي عن الشافعي رضي الله عنه: أن الزوج إذا كان متمكناً من الوطء في ابتداء المدة، ثم طرأ مرضُها بعد مضي زمان الإمكان، فهذا لا يمنع [احتساب المدة، ولو كانت مريضة مع ابتداء المدة مرضاً مانعاً، فلا تحتسب المدة حينئذ] (2) ؛ فإنه أنشأ اليمين وهو يصادف منها مانعاً، فأما إذا عقد اليمين على المضارّة والتمكينُ مقترن، فلا التفات على ما يطرأ.
وهذا غريب لا تعويل عليه.
9464- وأما غلط المزني فقد نقل: "أن المولي إذا حُبس، لم تحسب عليه المدة، زمانَ (3) حبسه، ثم اعترض، فقال: قد نص على أنه لو مرض مرضاً مانعاً، حسب عليه المدة، فزمان حبسه بذلك أولى" (4) .
فقال الأصحاب: الخطأ منك (5) في النقل، وإنما تعترض على نفسك، وقد صادف الأصحاب نص الشافعي في كتبه جازماً (6) بأن مدة حبس الزوج محسوبةٌ.
9465- وأما المباحثة فلو قال قائل: إذا تحقق المانع في الزوج، فهلاّ عُذر؛ فإن المعتمد إظهار الضرار، وإذا تحقق المنع فيه، لم تظهر المضارة.
ولم يصر أحدٌ من الأصحاب إلى تصديق المزني في نقل نصِّ الحبس ونصِّ المرض على مناقضته، والمصيرِ إلى إجراء (7) القولين بالنقل والتخريج، ولو قال
__________
(1) ت 2: بتعليق.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) .
(3) ت 2: فإنه حبسه.
(4) ر. المختصر: 4/108.
(5) الخطاب للمزني من الأصحاب.
(6) ت 2: جارياً.
(7) ت 2: أحد القولين.(14/449)
قائل بذلك، لكان قريباً، ولكن (1) التعويل على النقل.
والممكن في الانفصال عما ذكرناه أن الإيلاء صدر منه، فإذا انقضت المدة والمانع قائم، فلسنا نردده بين الوطء والطلاق، بل نكتفي منه بالفيئة باللسان، كما سنصفه على أثر ذلك، فليفىء بلسانه، فإن هذا لا امتناع فيه، وإذا كان الإيلاء ينعقد والمدة تجري، والمطلوب بالأَخَرة اللسانُ، فلا تنقطع المدة على هذا القياس وطريان المانع على الزوج، ولا يمتنع ابتداء المدة باقتران المانع به.
فأما إذا كان المانع فيها، فليس من جهته أبداً مضارّة، وليس تخلو محاولة الفصل بين المانعين عن إشكال لا يخفى دركه على الفهم المنصف.
وقد نجز تفصيل القول في الموانع.
[الفصل الثاني]
فأما الفصل الثاني وهو الكلام في المطالبة بعد انقضاء المدة.
9466- فإذا لم يكن مانع، وأرادت المطالبةَ بعد المدة، ورفعت زوجَها إلى القاضي وطالبته، فإن فاء، فذاك، وإن امتنع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القاضي يطلق عليه زوجته، إذا تحقق الامتناعُ منه، إلا أن يبتدر هو فيطلق؛ والسبب فيه أن الغرض دفع الضرار، وحكم الشرع أن الممتنع عن الحق المتعيَّن عليه يُستوفى منه الحق بقهر الولاية إذا أمكن، واستيفاءُ الفيئة منه غير ممكن، وترك المرأة تحت المضارّة غيرُ ممكن، وهذا لا وجه له، فالطريق أن يطلقها، ويخلّصها من دوام المضارّة، وهذا أظهر القولين، وهو المنصوص عليه في الجديد.
والقول الثاني - أن القاضي لا يطلق، بل يضيق الأمر عليه بالحبس حتى يطلق.
ونصَّ الشافعي في هذا القول على أن القاضي لو أراد أن يعزره، لكان له ذلك، فإنه قادرٌ على التطليق وتخليص المرأة، معاندٌ (2) بترك الطلاق الذي يُدعى إليه.
__________
(1) ت 2: ولعلّ التعويل.
(2) ت 2: يعاند، و (معاندٌ) خبر ثانٍ لقوله: (فإنه قادرٌ) .(14/450)
قال المزني: لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء، وبالغ في تزييفه واختار القول الأول، وهو المختار.
وقد ذكرنا أن المنصوص عليه في القديم في حكم المرجوع عنه.
9467- ولو لم يمتنع الزوج عن الفيئة ولكن استمهل، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: لا نمهله مَهَلاً معتبراً به مبالاة، فنقول له: قد أمهلناك أربعة أشهر، فلا نزيدك أجلاً آخر، ثم هؤلاء [لا] (1) يكلّفونه القيام إليها على الفور؛ فإن الفحل المتشوف إلى الوقاع قد لا توافقه الطبيعة في التسرّع إلى الوطء على هذا الحد، ولكن يقال له: شمّر (2) وتهيأ، ولك الفسحة ريثما تثوب بسطتُك وتنهض شهوتك، وهذا قد يتأتى (3) في نصف يوم.
قال أصحابنا: أو في يوم، وعندنا أن الليلة تتبع اليوم؛ فإن المدافعة إلى مجلس الحكم ليلاً غيرُ مألوفة، فإن فاء، فذاك، وإن لم يفىء، وفرعنا على الصحيح، ابتدرنا الطلاق؛ فإنه لو استمهل في اليوم الثاني، لتوجّه هذا في الثالث.
هذا مسلك بعض الأصحاب.
ومن أصحابنا من قال: إذا استمهل نُمهله ثلاثةَ أيام، والاختلاف في ذلك يقرب من القولين في استتابة المرتد، غير أنا وإن أمهلنا المرتد، فلو ابتدره مبتدر وقتله، لكان هَدَراً، وإذا أمهلنا الزوج، فلو ابتدر القاضي وطلّق قبل انقضاء المدة -وهي ثلاثة أيام- لم ينفذ طلاقه، وهذا لا شك فيه إذا انقضت (4) منه الفيئة في المدة بعد طلاق القاضي، فأما إذا طلق القاضي، ثم بان أنه لم يفىء في الأيام الثلاثة، فالظاهر أن الطلاق لا ينفذ، وفيه شيء (5) .
__________
(1) ساقطة من النسختين، وزدناها رعاية للسياق والسباق.
(2) ت 2: يقال له ذلك الصحة رتب.
(3) ت 2: قد لا يتأتى.
(4) انقضت منه الفيئة: أي حصلت منه وفاء في المدة التي أمهلناه إياها. وأقول: لعلها محرّفة، وصوابها: "هذا إذا اقتضت منه الفيئة".
(5) وفيه شي: أي وفيه نظر، كما عبر بذلك ابن أبي عصرون.(14/451)
وهذا عسر التصوير؛ فإن طلاق القاضي قد يستند إلى رأيه في أنْ لا إمهال، فإذا كان كذلك، ينفذ؛ اتّباعاً للاجتهاد، فإذا نفذ الطلاق، حمل (1) ذلك منه على القضاء به.
وكل ذلك والزوج يَستمهِل (2) ، فأما إذا أبدى الإباء، فيبتدر القاضي، ويطلّق.
9468- ولو قالت المرأة: لست أبغي الطلاق، وإنما أطالب بالفيئة، فالقاضي هل يطلق، وهي لا تطلب الطلاق، بل تأباه وتبغي أن يَحبس الزوجَ ليطأ، فليس لها ذلك؛ لأن توحيد (3) جهة الطلب في الفيئة تكليفُ شطط؛ فإن النفس قد لا تطاوع، ولولا ذلك، لثبت للمرأة مطالبةُ الزوج بحق المستمتع، كما يثبت له مطالبتُها بالتمكين.
فإذاً لا يصح منها الطَّلِبة إلا مردّدةً بين الوطء والطلاق، وإذْ ذاك تكون مطالِبةً بممكن، وهذا على ظهوره لا يضرّ ذكره؛ فإنها طَلِبةٌ لا [نظير] (4) لها في الشرع، مبناها على التردد، وإذا كان لا يصح منها الطلب إلا مردّداً، فإذا امتنع الزوج من الفيئة، تعيّن الطلاق، فإن أبت، فقد تركت الطلب، ولا يتصوّر حبسٌ لأجل الفيئة المجردة قطّ.
فهذا الذي ذكرناه بيان قاعدة المذهب، حيث لا مانع طبعاً وشرعاً، لا فيه ولا فيها.
9469- فأما إذا فرض مانع، فلا يخلو إما أن يكون المانع فيه أو فيها، فإن كان المانع فيه، لم يخل ذلك المانع من أن يكون طبيعياً أو شرعيّاً:
فإن كان طبيعيّاً، كالمرض وما في معناه، فالطلبة تتوجه، والمطلوب منه الفيئة باللسان، ووجهه أن يعترف بالإساءة، [ويَعِدُ بالفيئة] (5) عند القدرة -وسنشرح فيئة اللسان بعد هذا- هذا فيئة اللسان، فليأت بها، أو يطلق، أو تطلّقُ عليه زوجته،
__________
(1) في الأصل: وحمل ذلك.
(2) ت 2: مستمهل.
(3) ت 2: توجيه جهة الطلب للفيئة.
(4) في الأصل: نظفر، وفي ت 2: تصير، والمثبت من المحقق.
(5) في النسختين: وبعد الفيئة.(14/452)
ولو استمهل، فلا مَهَلَ؛ فإن اللسان منطلق بما ذكرناه، وإن قال: لست أنطق بموعد ولكن أخروني إلى الاقتدار (1) ، فلا [نسعفه] (2) ، ولا ينبغي أن يستبعد الفقيه مطالبته بفيئة اللسان؛ [فإن أداة الإيذاء اللسان] (3) .
ثم إذا زال المانع، حقّت الطّلبة بالفيئة نفسِها، فلو استمهل إذ ذاك، عادت التفاصيل في الاستمهال، كما تقدم، هذا جارٍ في مسائل -يعني الإمهالَ ثلاثة أيام- استتابة المرتد، وقتل تارك الصلاة، والفسخ بالإعسار بالنفقة، والفسخ بسبب العُنة، وخيار العتق، والأخذ بالشفعة، فهذه سبع مسائل، والردُّ بالعيب على الفور بلا خلاف، ولا مَهَلَ فيه مع التمكن.
هذا كله إذا كان المانع طبيعياً.
9470- فأما إذا كان المانع شرعياً: مثل أن يكون الزوج مُحرماً، أو مظاهراً، فلا نقنع بفيئة اللسان؛ فإن الوطء ممكن حسّاً، ولا نستجيز أن نقول: جامعها، والطِّلِبةُ بالطلاق المجرد لا سبيل إليها، فالوجه أن نقول: أنت صنعت على نفسك، فإن جامعتها أسأت وأفسدت العبادة، أو ارتكبت محرّماً في الظهار، وإن تحرّجت وامتنعت، طلقنا عليك زوجتك.
وسنعقد في الموانع الشرعية فصلاً في أثناء الباب -إن شاء الله- وهو ممثّل بمسألة الدجاجة واللؤلؤة (4) ، كما مضى ذكرها في كتاب الغصب.
__________
(1) إلى الاقتدار: أي على الفيئة بالوطء.
(2) في الأصل: مسعفه.
(3) ما بين المعقفين تصرف من المحقق على ضوء السياق، فالعبارة في النسختين غير مستقيمة، فهي في الأصل هكذا "فإذا عاد الإيذاء اللسان" وفي ت 2: فإن عاد الإبداء باللسان.
ولم يغن في تصويب هذه العبارة (صفوة المذهب) ، ولا (الغاية) ، ولكن أيّد تصرّفنا هذا ما جاء في الشرح الكبير من حكاية قول إمامنا: قال: "قال الإمام (يعني إمامَ الحرمين) قدس الله روحه، ولا بُعد في المطالبة بالفيئة باللسان، فإن حكم الإيلاء مبني على الإضرار باللسان" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/239) .
(4) مسألة الدجاجة واللؤلؤة، هي أن يغصب الغاصب دجاجة ولؤلؤة، فابتلعت الدجاجة اللؤلؤة، يقال له: إن لم تذبح الدجاجة، غرّمناك اللؤلؤة، وإن ذبحت الدجاجة لاستخراج اللؤلؤة، غرمناك الدجاجة.(14/453)
ولو كان يتحلل عن إحرامه في ثلاثة أيام، ورأينا أن نمهله ثلاثة أيام، فالوجه إسعافُه، ولا طريق غيرُه.
ثم إذا تحلل بعد الأيام الثلاثة، فلهذا الطرف اختلاج في النفس: يجوز أن يقال: يترك حتى ينشطَ نشاطَه وتنهضَ شهوتُه، ويجوز أن نقول: إن لم يبتدر، طَلَّق عليه زوجتَه إن طلبت، وهذا فقيه حسن.
والفرق بين المانع الشرعي والطبيعي أن الوطء غير ممكن وجوداً مع الموانع الطبيعية، وهو ممكن مع الموانع الشرعية، والزوج منتسب إلى التضييق على نفسه بإدخال الظهار على الإيلاء، أو بإدخال الإيلاء على الظهار، ولا نأمن أن يكون جمعه بين الأمرين نكداً (1) ، فإنهما جميعاًً متعلقان باختياره.
9471- ولو كانت المرأة حائضاً بعد المدة، لم تملك المطالبة ما استمر الحيض؛ فإن المانع فيها محقق، والحيض لا يتضمن قطعَ المدة وفاقاً، فإنه في غالب العادات يكُرّ على المرأة مراراً في أربعة أشهر، ولو كانت قاطعةً للمدة قطعاً يقتضي استئنافاً، لما انقضت مدة الإيلاء غالباً على ذات أقراء، وإن كانت تقطع ولا تقتضي استئنافاً، وذلك غالب فيهن، لوقع التعرض له في الكتاب أو السنة، فإن جرى ذكر أربعة أشهر من غير تعرض للحيض، دلّ على أنه لا اعتبار به في المدة، والحيض لا يقطع تتابع صيام الشهرين، فلأن لا يقطع تتابع الأربعة الأشهر أوْلى؛ فإن المعتمد في أنه لا يقطع تتابع صيام الشهرين أنه يغلب وجودُ الحيض في مدة الشهرين.
ولو كانت مُحْرمةً أو صائمة صوم فرض، وذكرت ذلك لنا، وأرادت مطالبة الزوج بالفيئة أو الطلاق، فليس لها ذلك اعتباراً بالحيض.
وكذلك لو كان فيها مانع طبيعي، فلا معنى لمطالبتها، ولا تملك (2) المطالبة والمانع فيها بفيئة اللسان.
__________
(1) نكداً: بمعنى عناداً ومشاقّة، وإيذاءً، هذا معنى اللفظ هنا، ولا يصح غيره، وقد تكرر كثيراً بهذا المعنى في كتابنا هذا، ولكنا لم نجد هذا المعنى منصوصاً في المعاجم المعهودة، وأقرب معنى وجدنا هو منع صاحب الحاجة من حاجته.
(2) ت 2: وتملك.(14/454)
9472- ثم قال: "ولو كان بينها وبينه مسيرة أربعة أشهر ... إلى آخره" (1) .
إذا غاب المولي، وكان بينه وبين المرأة مسيرةَ أربعة أشهر، وكان مع الزوج وكيل من جهة المرأة بالخصومة، فلما انقضت (2) أربعةُ أشهر والغيبةُ مانع فيه، فإنه أنشأها إذا (3) غاب عنها، فالزوج مطالب بالفيئة باللسان عند مسألة (4) الوكيل، فإن فاء باللسان، وأخذ في المسير نحوها، فذاك، وإن لم يأخذ في السير حتى مضى زمان الإمكان، فالحاكم يطلّق عليه -على القول الجديد- بمسألة (4) الوكيل، أو يضيق الأمر عليه حتى يطلق بنفسه على القول الآخر.
وإذا انقضى زمان الإمكان وتوجّه الطلب من الوكيل، فقال الزوج: أبتدىء الآن في المسير (5) ، فلا يَلتفت إلى قوله ويَحبسه، أو يُطلِّق عليه.
وقد نجز الكلام في الفصلين: فصل الموانع، وفصل المطالبة، وأدرجنا في أثناء ما ذكرناه مسائل من الباب وتنبيهاتٍ على غلطات المزني في النقل.
9473- وكان شيخي يقول: الصوم منها لا يقطع المدّة، ولا يمنع الاحتساب.
وهذا فيه نظر، فإن كانت تصوم تطوعاً، فالأمر كذلك؛ فإن الزوج يغشاها ولا يبالي بصومها، وإن كانت تصوم الفرض في رمضان وهو من الأشهر، فهو محسوب؛ فإن في الليالي مقنعاً، ولا بدّ لها من الصوم.
ولو كان عليها قضاء، والقضاء على التأخير، فإذا أرادت تعجيله من غير إذن الزوج، فهل لها ذلك؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وكذلك لو أرادت المرأة إقامة الصلاة في أول الوقت، والرجل يبغي منها مستمتعاً في ذلك الوقت، ففي المسألة اختلاف.
__________
(1) ر. المختصر: 4/108.
(2) ت 2: انقطعت.
(3) إذا بمعنى (إذْ) .
(4) مسألة الوكيل: المراد سؤال الوكيل وطلبه للفيئة.
(5) أي المسير نحوها للفيئة.(14/455)
وكذلك لو كانت مستطيعةً، فأرادت أن تحج حجة الإسلام، والزوج يبغي أن تؤخر، ففي المسألة اختلاف.
والمسائل متناظرة، فمن اعتبر رضا الزوج تمسك بأنه لا حرج عليها في التأخير، وحق الزوج مُضيِّق عليها، ومن جوّز لها التعجيل قال: النكاح للأبد، والموت منتظر، ولا ثقة بالعمر.
فإن قلنا: ليس لها أن تصوم دون إذنه، فإذا أخذت تصوم، فهي [كالمتطوّعة] (1) وقد سبق الكلام فيها.
وإن قلنا: لها التعجيل، ففي المسألة احتمال؛ فإنها ممتنعة على زوجها في شطر الزمان [باختيارها،] (2) والأظهر أنه لا أثر للصوم، فإنا إذا جوزنا لها أن تبتدر، فليست على رتبة الناشزة، وفي الليالي مضطرب.
وإذا نشزت فنشوزها من الموانع القاطعة للمدة، ولو كان الزوج قادراً على ردّها قهراً، فلا اعتبار بذلك، بل المنع ثابت، والضرار مندفع على الوجه الذي فرضناه وبنينا الباب عليه.
9474- ثم ذكر الشافعي (3) : "أنهما لو اختلفا في الإصابة، فزعم الزوج أنه أصابها وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج".
وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح، ولكن نعيد ذلك الأصلَ لمزيد فائدة فنقول، مهما (4) وقع النزاع في إثبات الإصابة ونفيها، فالقول قول النافي إلا في مسائل:
__________
(1) ت 2: كالمطلق، وفي الأصل: كالمقطوعة. وتشبيهها بالمتطوعة، أي في الحكم، وهو أن للزوج أن يغشاها ولا يبالي بصومها.
(2) في النسختين: باختياره، والمثبت اختيارٌ من المحقق. ومعنى العبارة أننا إذا قلنا: ليس لها أن تصوم القضاء الذي عليها معجلاً من غير إذن الزوج إذا كان هذا القضاء على التأخير، إذا قلنا: ليس لها ذلك، فهذا محتمل: له وجه، وذلك أنها بصومها تكون ممتنعة على زوجها (باختيارها) شطر الزمان، أي نهار أيام الصوم.
(3) ر. المختصر: 4/109.
(4) مهما: هنا بمعنى (إذا) .(14/456)
إحداها - إذا ضربت مدة العنة، فلما انقضت زعم الزوج أني وطِئتُها، أو قال في ابتداء الأمر: [أنا] (1) الآن عنين، ولكن قبل هذا وطئتها، فلا تضربوا المدة، فالقول قول الزوج مع يمينه، وقد قدمنا هذا وعللناه.
9475- ومن المسائل (2) اختلاف الزوج المولي مع المرأة، وهذه مسألة الكتاب، فإذا جعلنا القول قولَ الزوج في إثبات الوطء مع يمينه، فإن حلف على ذلك، ثم إن الزوج طلقها، وأراد ارتجاعها، فإنه قد وطئها بزعمه (3) .
قال ابن الحداد: ليس له أن يرتجعها؛ فإنا وإن جعلنا القول قولَه في إثبات الوطء ابتداءً، فهذه خصومة أخرى وقضية أخرى، فالقول في ذلك قولها مع يمينها، فتحلف، وتنتفي الرجعةُ عنها، كما لو كانت الخصومة ابتداء في الرجعة؛ فإن الزوج لو طلق امرأته، ثم زعم أنه كان وطئها، فيرتجعها وأبت المرأة، فالقول قولها، فإنه لا يلزمها عِدّةٌ لقول الزوج؛ فإذا لم تثبت العدةُ، لم تثبت الرجعة.
فإن قيل: هذا يُبطل معوَّلكم في أن الأصل بقاء النكاح، وعليه يتم تصديق الزوج في مسألة العُنّة والإيلاء؛ فإن كان الأصل عدمَ الوطء. قلنا: إنما يصدق الزوج والنكاحُ قائم، وإذا طلق، فالطلاق يحل النكاحَ، وهو في إثبات المستدرك مدعٍ.
قال الشيخ: من أصحابنا من ذكر في صورة ابن الحداد وجهاً أن الرجعة تثبت؛ فإنا صدقنا الزوج في إثبات الوطء في خصومةٍ وقوّينا جانبه واعتضد هذا أيضاًً باستبقاء النكاح، وهذا ضعيف لا تعويل عليه.
9476- والمسألة الثالثة - أن يخلو بها وقلنا: الخلوة لا تقرر المهر، فإذا ادّعت الوطء، فهل نصدقها؟ فيه قولان ذكرناهما.
__________
(1) في الأصل: أما.
(2) هذه هي المسألة الثانية، وستأتي الثالثة والرابعة.
(3) المسألة مصوّرة في غير المدخول بها، فهي التي لا يملك عليها الرجعة إلا إذا كان قد وطئها، ووجبت عليها العدّة.(14/457)
9477- والمسألة الرابعة - أن تدعي المرأةُ الوطءَ من غير خلوة تبغي [تقريرَ] (1) المهر، فإذا أنكر الزوج، فالقول قول الزوج في نَفَي الوطء، فلو أتت بولدٍ لزمان يلحق الزوجَ، فإنْ نَفَى الولدَ باللعان، فالذي سبق من نفي الوطء على ما سبق، والقول قول الزوج، كما مضى، وإن لم ينفه باللعان ولحقه الولد، فهل نقول الآن: القول قول المرأة؛ إذ قد ظهر تقدم وطء منه [بلحوق] (2) الولد؟
ما نقله المزني: أنا نجعل الآن القولَ قولَها في إثبات الوطء مع يمينها، فتحلف وتستحق المهر كَمَلاً.
قال الشيخ رضي الله عنه: نقل الربيع ما نقله المزني، ونقل قولاً آخر: أن القول قول الزوج؛ فإنها قد تَحْبَل من استدخالٍ من غير وطء.
واختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان، ومنهم من قطع بما نقله المزني، وزيف القول الثاني، وجعله من تخريج الربيع، ومنهم من قال: المسألة على حالين: حيث قال: القول قولها: [أراد إذا نشأ] (3) الاختلاف بعد الولد ولحوقه، فالقول قولها [إذ] (4) الظاهر معها، والاستدخال بعيد، وإن اختلفا قبل الولد وظهور أمره وحلّفنا الزوجَ، فقد تمت الخصومة ونفذت، فلا نجعل القول قولها.
ومن سلك طريقة القولين أجراهما في الحالين، قال الشيخ: الأصح من ذلك كله القطع بما نقله المزني (5) في الأحوال كلها.
9478- ثم ذكر المزني أنه يخلص عن عهدة الإيلاء بتغييب الحشفة، وهذا كما
__________
(1) في النسختين: تقدير.
(2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(3) ما بين المعقفين أثبتناه من (ت 2) مكان كلمات غير مقروءة في الأصل.
(4) في النسختين: (إن) والمثبث من المحقق.
(5) وجه ذكر هذه المسألة في المسائل الجارية على خلاف قياس الخصومات، حيث نجعل القول قولَ المثبت، لا قول النافي - وجه ذلك في هذه المسألة هو أن القول قول الزوجة في إثبات الوطء الذي ينفيه الزوج، لقوّة جانبها بالولد، وهذا هو المنصوص في رواية المزني.(14/458)
ذكرناه من قبل، وإن كانت المرأة بكراً، فلا بد من إزالة العُذرة، وهي تحصل بتغييب الحشفة لا محالة، فلو ادعى العجز عن الافتضاض، كلفناه الفيء باللسان في الحال، وضربنا له مدة العُنة، ثم أجرينا حكم العِنِّين، كما مضى مفصلاً (1) .
9479- ثم قال: "لو أصابها وهي مُحْرِمة ... إلى آخره".
إذا أصاب الرجل امرأته وهي مُحْرِمة، وكان قد آلى، فقد حصلت الفيئة، ولا نظر إلى انتسابه إلى العصيان بعد حصول الوطء، وانحلال اليمين (2) .
فصل
قال: "ولو آلى ثم جن ... إلى آخره" (3) .
9480- إذا آلى الرجل، ثم جن، ووطىء في حالة الجنون، فالمنصوص عليه أنه لا يحنث؛ فلا كفارة عليه وخُرِّج فيه قولٌ آخر: أن الكفارة تلزمه، من حِنْث الناسي، وهذا له التفات على أن المجنون إذا قتل صيداً في الحرم، فهل يلتزم الفدية؟ وفيه قولان.
ومما نذكره أن المولي إذا أُكره على الوطء، فوطىء مكرهاً، قال الشيخ: في وجوب الكفارة على المكره قولان مشهوران، فإن قلنا: إن الكفارة تلزمه، فلا شك في حنثه وانحلال يمينه، فإن قلنا: إن الكفارة لا تلزمه، فهل نقول: يحنث وينحل يمينه؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه، وهذا الترتيب يجري في المجنون: فإن ألزمناه الكفارة فقد انحلت اليمين، وإن قلنا: لا تلزمه الكفارة، فهل تنحل اليمين؟ حتى إذا أفاق، فوطىء لا تلزمه الكفارة؟ فعلى وجهين.
ولا يختص ما ذكرناه بالإيلاء، ولكن كل حالفٍ وُجد منه المحلوف عليه على وجه الإكراه، وقلنا: لا يلتزم الكفارة، فهل تنحل [يمينه] (4) ؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/111.
(2) السابق نفسه.
(3) ر. المختصر: 4/111.
(4) زيادة من المحقق.(14/459)
9481- فإذا تمهد هذا، رجعنا إلى حكم الإيلاء في المكره (1) : فإن قلنا بانحلال اليمين، ولا كفارة، فقد ارتفع حكم الإيلاء، وإن قلنا: ما انحلت بما جرى، حتى لو وطىء مرة أخرى، يلزمه الكفارة، فهل يعود حكم الإيلاء والطلب؟ فعلى وجهين، وهما يجريان في المجنون إذا قلنا: لا تنحل اليمين بما جرى في الجنون.
توجيه الوجهين:
9482- من قال يعود الطلب، قال: لأنّ اليمين قائمة ولو وطىء الرجل بعد أربعة أشهر، التزم الكفارة.
ومن قال: لا يعود الطلب، احتج بأن الضرار اندفع بالوقاع الذي جرى، فكأن الإيلاء صار منحلاً في حقها، وإن كانت اليمين قائمة.
قال الشيخ: وهذا الذي ذكرناه في صورة الإكراه مفرّع على المذهب الصحيح، وهو أن الإكراه على الوطء يُتصور.
ومن أصحابنا من قال: لا يتصور الإكراه على الوطء، ولا يوجد الوطء إلا من مختار، وهذا القائل يقول: من حُمل على الزنا بالتخويف بالقتل، فأتى بما حمل عليه، لزمه الحد.
وهذا غريب في المذهب، وإن ذهب إليه أبو حنيفة (2) ، ووجهه على بعده أن المكره هو المسلوب الاختيار الذي لم يبق له أَرَب إلا الخلاص، ومن كان كذلك لم تنبسط شهوته، ولم تطاوعه نفسه، وقد ظهر أن المرعوب لا ينتشر، والمنتشر إذا تداخله خوف فَتَر.
ثم زاد العراقيون في مسألة الجنون تفريعاً فقالوا: إذا قلنا: لو وطىء في جنونه، لم تنحل اليمين، وإذا أفاق ووطىء، لزمته الكفارة، وفرّعنا على أن حكم الطلب يعود، فلو وطىء في جنونه، ثم أفاق على الفور، فهل نقول: الطَّلِبة تتوجه في الحال، أم نضرب مدّة، ونقول إذا مضت، تجددت الطَّلِبة بعدها؟ فعلى وجهين:
__________
(1) أي في المكره على الوطء.
(2) ر. المبسوط: 24/88.(14/460)
أقيسهما - أنا لا نعتبر مدة أصلاً، فإنه لم يتخلل طلاقٌ ولا رِدّة، والطَّلِبةُ ثابتةٌ، وقد انقضت المدة.
والوجه الثاني - أنه لا بد من مضي مدة؛ لأنه قد فاء ظاهراً، فإن لم يؤثِّر ما صدر منه في الخروج من عهدة الطلب، فلا أقل من أن يستفيد الزوج به مَهَلاً.
9483- وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الرجل إذا آلى عن امرأته، فجاءت المرأة في نومه وصادفته منتشراً، فنزلت عليه واستدخلت ذكره، ولا عِلْم له بما جرى، فالذي نقطع به أن اليمين لا تنحلّ، فإن الذي جرى ليس بوطء، والمحلوف عليه الوطءُ، وليس هذا كوطء المكره والوطءِ في حالة الجنون.
ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي أن من أصحابنا من جعل هذا كالوطء في حالة الجنون، حتى يُخرّجَ فيه الخلافُ المقدم في انحلال اليمين.
وهذا غلط صريح، لا يجوز التعويل عليه.
فإذا بان ذلك، فلو وطىء في يقظته، لزمته الكفارة، وهل لها مطالبة الزوج؟ فعلى وجهين كالوجهين في المجنون إذا قلنا: وطؤه في الجنون لا يحل اليمين.
9484- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء ... إلى آخره" (1) .
الذمي من أهل الإيلاء، فإذا ارتفع إلينا، ونزل على حكمنا، فحُكمنا عليه كحُكمنا على المسلم، فتتوجه عليه الطَّلِبة، وإذا فاء، لزمته الكفارة، وأبو حنيفة (2) لم يجعله من أهل الظهار؛ من حيث لم يكن عنده من أهل الكفارة، وجعله من أهل الإيلاء (3) ، وإن لم يكن عنده من أهل الكفارة، والمسلم إذا آلى، وفاء، لزمته الكفارة عند أبي حنيفة (4) والإيلاء لا يختص عنده باليمين بالله (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/112.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/489 مسألة 1026، المبسوط: 6/231.
(3) ر. مختصر الطحاوي 211، مختصر اختلاف العلماء: 2/478 مسألة 1004.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 207، المبسوط: 7/19، 20، فتح القدير: 4/42.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/477 مسألة 1002، المبسوط: 7/37، فتح القدير: 4/41.(14/461)
ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر، ثم مات ذلك العبد المحلوف بعتقه، انحلت اليمين لمّا عَرِيَتْ الواقعة عن التزامٍ [عند] (1) تقدير الوطء، وهذا تناقض منه بَيّن.
9485- ثم قال الشافعي: "العربي لو آلى بلسان العجم ... إلى آخره" (2) . إذا آلى الأعجمي بلسان العرب، فإن كان يحسن العربية فهو كالعربي، فلو زعم أنه لم يفهم معنى الكلمة التي تلفظ بها، وكانت الحالة تكذّبه، فهو مكذَّب، وإن كان الأمر محتملاً، فالرجوع إلى قوله مع اليمين.
وكذلك العربي إذا نطق بلسان العجم، وما ذكرناه جارٍ في كل من نطق بلغة غيره.
فصل (3)
كنا وعدنا أن نتكلم في الموانع، (5 الشرعية إذا اتصف الزوج بها، عند انقضاء المدة، وهذا وإن [سبق] (4) استيفاء القول فيه 5) ، فقد رأيت للعراقيين ترتيباً حسناً، فرأيت اتخاذه قدوة في الفصل.
فإذا آلى الرجل عن امرأته، ومضت الأشهر، وكان الزوج محرماً أو مظاهراً، فلا شك أنه لو وطىء عَصى ربَّه، وإذا توجهت عليه الطَّلبة -وهو موصوف بمانع محرِّم- فلو قال: أنا أفيء على ما بي من المانع، فقالت المرأة: لا أمكنه من الوطء، فهل تُجبر على التمكين؟
فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها لا تجبر على التمكين إذا دعاها الرجل إلى التمكين، بل لها الامتناع؛ فإنه إذا كان يحرم عليه أن يغشاها، فالتحريم متعلق بها، ويجب من ثبوته في حقه أن يحرم عيها التمكين؛ إذ لا يتصور ثبوت
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 4/112.
(3) سقط من (ت 2) علامة (فصل) .
(4) زيادة من المحقق.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(14/462)
التحريم إلا متعلقاً بهما، فأشبه ما لو طلقها طلقة رجعية، وقضينا بتحريمها، فلو أراد الزوج أن يغشاها، فلها الامتناع، بل عليها الامتناعُ حتى يرتجعها، وكذلك إذا كانت حائضاً، فلها منعُ نفسها عن زوجها، وكذلك لو كانت مُحْرمة، أو صائمة.
والوجه الثاني - أنه ليس لها أن تمتنع؛ فإنه لا حرمة فيها، وهي في نفسها على صفة الاستباحة، وليس لها أن تنظر في حال الزوج، وتتصرف فيما يحرم عليه ويحل له.
ومن أصحابنا من فصل بين أن يكون الزوج مظاهراً، وبين أن يكون صائماً، أو مُحْرماً، فقال: لها أن تمتنع إذا كان الزوج مظاهراً، (1 وليس لها أن تمتنع إذا كان الرجل 1) محرماً أو صائماً.
9486- وحاصل المذهب أن المطلّقة تمتنع؛ لأن الطلاق واقع بها، وإذا كان الرجل مُحِلاً وهي مُحرمة، امتنعت، وكذلك لو كانت صائمة صياماً لا يجوز إفساده عليها، فمهما (2) تحقق سبب التحريم فيها على الاختصاص، امتنعت، وإذا ظهر (3) تعلق السبب بها كالطلاق، فإنها تمتنع من التمكين.
وإن اختص الزوج بالسبب المحرِّم، كما إذا كان مُحرماً أو صائماً صوماً لا يجوز إفساده، فهل تمتنع من التمكين، أو ليس لها الامتناع؟ فعلى وجهين.
وإذا ظاهر عنها الزوج، فهذا مردّد بين الطلاق وبين الإحرام، وجه مشابهته للطلاق أن الظهار يحرّم المرأةَ كالطلاق، ووجه مشابهته للإحرام أن الظهار لا ينقصُ ملك الزوج، ولا (4) يخرم حقّه فيها، ولكنه لما قال زوراً وكذباًَ، عاقبه الشرع بتحريم الغشيان عليه.
واختيار الشيخ أبي حامد أن الزوج إذا كان محرماً أو صائماً، فليس لها أن تمتنع عن التمكين وجهاً واحداً، وإنما الوجهان في الظهار.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) بمعنى: (إذا) .
(3) ت 2: فإذا ظهرت.
(4) عبارة ت 2: ولا يخرم حقه لما قال.(14/463)
ثم مهما قلنا: إنها تمتنع، فحقٌّ عليها أن تمتنع، وإذا قلنا: لا تمتنع، فحق عليها أن تمكن إذا دعاها زوجها.
9487- فهذا أصل قدمناه على غرضنا من الإيلاء، ونحن نبني عليه غرضنا من الإيلاء، فنقول: إن ألزمنا المرأةَ أن تمكن، فإن مكنت، فذاك، وإلا يسقط طلبها في الوقت، وليس لها أن تقول: لا أمكِّن وأطلبُ الطلاقَ.
وإن قلنا: لها أن تمتنعَ ولا تُجبرَ على التمكين، فإن مكنت ولم يطأها، فيطالب بالطلاق (1) أو تطلّق عليه زوجته.
وإن أبت ولم تمكِّن، وطلبت الطلاق، وقلنا: لها الامتناع من التمكين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تطلب الطلاق، بل (2) يفيء فيئة معذور إلى زوال العذر، كما [ذكرناه] (3) في المانع الحسي، فأشبه ما لو لم (4) يكن مانع، فنشزت أو مرضت.
والوجه الثاني - أن الزوج يجبر على الطلاق أو يطلّق عليه؛ فإنه هو الذي ضيق على نفسه هذا التضييق.
هذه طريقة [العراقيين] (5) وهي على نهاية الحسن.
9488- وأما أصحابنا المراوزة؛ فإنهم لم يتعرضوا لوجوب التمكين عليها أو لتحريمه، بل اقتصروا على قولهم: نقول للرجل: إن وطئت عصيت، وإن لم تطأ، طلقنا عليك زوجتك، وهذا لا (6) يستقل ما لم نفصِّل المذهب على نحو ما ذكره العراقيون.
__________
(1) ت 2: فإن مكنت ولم يطأها، فالطلاق ...
(2) ت 2: بل هي معذورة إلى زوال العذر.
(3) غير مقروءة في الأصل.
(4) ت 2: فأشبه ما لم.
(5) في الأصل: العراق.
(6) ت 2: وهذا لم يستقل.(14/464)
فصل
قال: "ولو آلى، ثُم آلى، فَحَنِث في الأولى ... إلى آخره" (1) .
9489- إذا تكررت كلمة الإيلاء من الزوج: بأن قال لها: والله لا أطؤك والله لا أطؤك، حتى كرره مراراً، فألفاظه لا تخلو إما أن تكون متواصلة، وإما أن يتخلل بينها فصول، فإن كانت متواصلة، وزعم أنه نوى تكرار الألفاظ وتأكيدَ المعنى بها، ولم يرد تجديداً، فهو مصدق؛ فإنه لو والى بين كلام في الطلاق في أزمنة متواصلة (2) ولم يتخلل في أثنائها ما يمنع التأكيد، وزعم أنه أراد التأكيد، قُبل منه.
وإن قال في كَلِم الإيلاء: أردت بكل كلمة يميناً معقودةً مقصودةً، فيكون الأمر كذلك، وفائدةُ تعددها أنه إذا فرض الوطء، انحلت بجملتها، ثم يختلف الأصحاب في اتحاد الكفارة وتعددها، والصحيح التعددُ، كما قدمناه.
ولو أطلق الألفاظ، وزعم أنه لم ينو تأكيداً ولا تجديداً، ففي المسألة قولان.
ولو قال: أنت طالق وطالق، وخلَّل بين الكلمة والكلمة فتراتٍ تُقطِّع وصْلَ الكلام ونظمَه ونضَدَه، وتمنع الحملَ على التأكيد، ثم زعم أنه أراد التأكيد، فلا يقبل منه.
ولو قال: أردت تكريرَ ما قدمته وإعادتَه، قلنا: لا نقبل ذلك منك؛ فإن الطلاق إيقاع، فإذا انحسم وجهُ التأكيد، لم يبق إلا الحملُ على الإيقاع (3) .
9490- ثم هذا يجري في كل لفظٍ [فلو] (4) أقر بألفٍ لزيدٍ، ثم أقر له بعد أيام بألفٍ، وزعم أنه أراد تكرير الإقرار الأول، قبل ذلك، خلافاً لأبي حنيفة (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/113.
(2) عبارة ت 2: "فهو مصدق، فإنه لو الى بين تحكم في الطلاق لزمته متواصلة" وهي - كما ترى غاية في التصحيف والتحريف.
(3) ت 2: الارتفاع.
(4) في الأصل؛ ولو. و (ت 2) : وإن.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/213 مسألة 1912.(14/465)
وعمدة المذهب أن الخبر الواحد يكرر ليشهر ويذكر، وإذا كان (1) ذلك، ممكناً، صدقناه فيما يريده، فإن أراد نشر الطلاق الذي قدمه، فليقرّ به، فإذا لم يخبر عمّا مضى، واستقل كلامُه إيقاعاً، لم يحتمل غير الإيقاع.
ولو قال: والله لا أجامعك، ثم أعاد اليمين مع انقطاع الوصل وتخلُّلِ الفصل، وزعم أنه أراد إعادة اليمين الأولى، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن الحلف في الحقيقة خبرٌ مؤكد بالقَسَم، وقد ذكرنا أن الخبر يقبل التكرير، وقول الفقهاء: عقد فلان اليمينَ ليس على معنى العقود التي تُنشأ، وإنما المراد أخبر خبراً يُلزمه أمراً.
هذا إذا قال: أردت تكرير اللفظ الأول، ولم يرد تجديدَ يمين.
قال الأصحاب: لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، [فأنت طالق] (2) ، ثم قال بعد زمان متطاول: إن دخلت الدار، فأنت طالق، وزعم أنه أراد إعادة اللفظ الأول، ولم يُرِد تعليق طلاق [مجدَّد] (3) ، كان كما قال؛ فإن هذا في حكم الخبر.
فهذه ثلاث مسائل أطلق الأصحاب فيها قبولَ تأويل التكرير: الإقرار، واليمينُ بالله، وتعليقُ الطلاق والعَتاق (4) .
ومن أصحابنا من قال: تأويل التكرير مقبول في الإقرار فحسب، وهو غير مقبولٍ في اليمين بالله، وتعليقِ الطلاق؛ فإن اليمين إنشاء وكذلك التعليق.
ومنهم من قال: يقبل تأويل التكرير في اليمين بالله، ولا يقبل في الطلاق، وهذا لا بأس به؛ لأن قول القائل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ليس بخبر، وإنما هو وضعَ الطلاقَ مربوطاً بصفة، والدليل عليه أنه لا يدخله التصديق والتكذيب.
__________
(1) ت 2: ليشهر وقد ذكروا إذا كان ...
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: مجرد، والمثبت من (ت 2) .
(4) ت 2: والتعليق.(14/466)
9491- فخرج مما ذكرناه أن الإقرار لما كان إخباراً محضاً معرَّضاً للصدق والكذب، ظهر فيه إمكان التكرير.
واليمينُ بالله خبرٌ من وجه وإنشاء من وجه، فتطرق الخلاف إليه، ودليل انحطاطه عن الإقرار قُبْحُ التكذيب فيه، ولكن للتكذيب فيه مساغٌ على الجملة.
وتعليق الطلاق [إنشاء] (1) ؛ إذ لا مساغ للتكذيب فيه أصلاً.
ثم إذا أتى بألفاظ الأيمان أو بتعليق الطلاق مراراً، وخلّل فصولاً، فإن قلنا: لا يقبل منه تأويل التكرير، فمطلق الألفاظ محمول على التجديد، وإن قلنا: يقبل منه تأويل التكرير فإذا كانت الألفاظ مطلقة، فالمذهب أنها محمولة على التجديد.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فقال: هي محمولة على التكرير، والطلاق لا يحتمل هذا، فإذا تقطعت ألفاظ المطلق، وخرجت عن حد التأكيد، فهي على التجديد إذا صادفت محلها.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه أعاد في آخر الباب (2) مناظرةً مع أبي حنيفة في مُدّة الإيلاء، ولا غرض لنا فيها.
***
__________
(1) في الأصل: متشاجر، وفي ت 2: مستأخر. والمثبت تصرّف من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/113. ونصّ هذه المناظرةً: "وقد زعم من خالفنا في الوقف أن الفيئة فعلٌ يحدثه بعد اليمين في الأربعة الأشهر، إما بجماع أو فَيْءِ معذور بلسانه، وزعم أن عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر بغير فعل يحدثه، وقد ذكرهما الله تعالى بلا فصل بينهما، فقلت له: أرأيت أن لو عزم أن لا يفيء في الأربعة الأشهر أيكون طلاقاً؟ قال: لا حتى يطلق.
قلت: فكيف يكون انقضاءُ، الأربعة الأشهر طلاقاً بغير عزمٍ، ولا إحداثِ شيء لم يكن ... " ا. هـ. بنصه.(14/467)
باب إيلاء الخصي غير المجبوب والمجبوب
9492- الخصيّ إذا لم يكن مجبوباً، فآلى، فهو بمثابة الفحل يولي، وكذلك إذا جُبّ من ذكره البعضُ، وبقي ما يتعلق به الجماع التام.
فأما المجبوب الذي استؤصل ذكره، أو بقي منه ما لا يتعلق به الجماع، فقد اختلف أصحابنا في إيلائه، فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - ينعقد إيلاؤه.
والثاني - لا ينعقد.
من قال لا ينعقد قال: إنه حلف على الامتناع عن أمرٍ يستحيل منه الإقدام عليه، فكان كلامه لغواً، وأيضاً فإن الإيلاء مبناه على قطع رجائها وإظهار الضرار من هذه الجهة، وهذا لا يتحقق من المجبوب.
والقول الثاني - أنا نجعله مولياً، لأن عماد الإيلاء الإيذاء (1) باللسان، وقد تحقق ذلك منه.
ومن أصحابنا من قطع بأن إيلاءه لا يصح ويلغو، وإنما القولان فيه إذا آلى وهو فحلٌ ثم جُبّ، ففي قولٍ ينقطع الإيلاء، وفي قولٍ يبقى، ويكون ما طرأ مانعاً من الوقاع، مؤدياً إلى الاكتفاء بفيئة اللسان.
ومن أصحابنا من قطع بأن إيلاءه لا يصح، وإن طرأ الجب، انقطع.
وهذا هو الذي لا يصح -على التحقيق- غيره؛ فإن اليمين يستحيل فرض بقائها مع استحالة الحِنْث.
ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر، ثم إنه أنشأ إعتاقه، فالإيلاء ينحلّ بامتناع لزوم شيء عند فرض الوطء، والجبُّ بذلك أولى.
__________
(1) ساقطة من (ت 2) .(14/468)
قال الشيخ أبوعلي: إيلاء الفحل عن الرتقاء بمثابة إيلاء المجبوب في جميع ما ذكرناه، اقتراناً وطرياناً.
9493- ثم إذا حكمنا بثبوت الإيلاء إما في صورة الاقتران، وإما في صورة الطريان، فالطّلبة تتوجه بعد المدة بفيئة اللسان.
ثم قال الأصحاب: ليقل إذا توجهت الطلبة: لوْ قدرتُ، لوطئتك، وهذا سبيل المعذور الذي يرجى زوال عذره، وما يذكر في فيئة المعذور الذي يرجى زواله شيئان: أحدهما - الاعتذار بالمانع الواقع، والثاني - وعدٌ بالإصابة عند الزوال، قال الأصحاب: لا بد منهما، والاقتصارُ على إحداهما لا يكفي، ولو [اقتصر على] (1) أحدهما، طُلّقت عليه زوجته.
والرأي (2) عندنا أنه لو اقتصر على الوعد، فقال: إذا ارتفع مرضي، أصبتك، فهذا كافٍ، وإن لم يقل: لولا المرض، لأصبتك الآن؛ فإن التعويل على الوعد عند ارتفاع المانع، ولكن الأصحاب ذكروا الأمرين.
أما المجبوب، فلا يتصور منه الوطءُ، وفيئتُه أن يقول: لولا المانع، لوطئتك، وهذا عندي في حكم العبث الذي لا يليق بمحاسن الشرع (3) مثله، وضرب المدة أقبح من الكُل، فإنه مَهَلٌ أثبت لمن يُرجى منه الوطء فكيف يُتخيل هذا في المجبوب.
فرع:
9494- قدمنا من رأي الأصحاب كافة أن الرجل إذا قال لأجنبية: إن وطئتك، فعبدي حر، أو قال: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فلا يكون مولياً، وإن كان يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً؛ لأن هذا تقدَّم على الملك.
وذكر صاحب التقريب وجهاً عن بعض الأصحاب أنه يكون مولياً، وهذا لا خروج له إلا على قول غريب، حكاه صاحب التقريب في أن تعليق الطلاق قبل الملك يصح،
__________
(1) في الأصل، كما في (ت 2) : وآلى عن أحدهما. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) ت 2: والثاني عندنا.
(3) ت 2: بمجلس النزع.(14/469)
كما ذهب إليه أبو حنيفة (1) ، وهذا على نهاية البعد، ولم أره إلا له، ولم أذكر هذا في أثناء الكلام؛ حتى لا يُعتد به.
فرع:
9495- إذا آلى الرجل عن امرأته، فلما انقضت المدة، زعم أنه عاجز عنّين، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نضرب له المدة، ثم نحكم بعد انقضائها حُكْمَنا في العنة.
وحكى العراقيون وجهاً غريباً أنه لا يقبل ذلك منه، وتطلق عليه زوجته على قولٍ أو نحبسه إن لم يطلق، وليس كما لو ظهر به مرض يغلب على الظن عجزه بسببه، وهذا الوجه لا اعتداد به، وقد نقله العراقيون ثم زيّفوه والله الموفق للصواب.
***
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/477 مسألة 961، مختصر الطحاوي: 203، طريقة الخلاف 116 مسألة 48.(14/470)
كتاب الظهار
9496- صورة الظهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ومقتضاه على الجملة أن تَحْرُمَ عليه زوجته، مع استمرار النكاح، ويدوم التحريم حتى يكفّر (1) .
والأصل في الظهار مفتَتَحُ سورة المجادلة، وسبب النزول ما روي "أن خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عُبادة، شرعت في الصلاة، فدخل زوجها، وهمّ بقِربانها، فخالفته، وامتنعت عليه، فغاظه ذلك، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية مؤكداً، فلما قال ذلك، اغتمّت خولة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في حجرة عائشة، وكانت تمشط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت خولة: كنت شابة يا رسول الله ذاتَ جمال ومال، فلما كبر سني ونفد مالي، جعلني أوسُ على نفسه كظهر أمه فقال صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه"، فقالت: يا رسول الله، انظر في أمري، فإن لي معه صحبة، وإني لا أصبر عنه (2) ، فقال صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه"، فكررت ذلك، وهو عليه السلام يقول: "حرمت عليه"، فلما أيست، اشتكت إلى الله تعالى، فنزل قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] قالت عائشة: كانت تُسارّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أسمع من كلامهما الكلمة والكلمتين، فنزلت الآيات مشتملة على قواعد الظهار" (3) .
__________
(1) (ت 2) : بكفه.
(2) عبارة (ت 2) : جعلني أوس على نفسه كظهر أمه، وإني أصبر عنه.
(3) حديث ظهار أوس بن الصامت رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها، وأصله في البخاري. (ر. البخاري: كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعاً بصيراً، أبو داود: الطلاق، باب الظهار، ح 2219، ابن ماجه: الطلاق، باب الظهار، ح 2063، الحاكم: 2/481، وانظر تلخيص الحبير 3/443 ح 1764.(14/471)
ثم إن الشافعي رضي الله عنه، صدّر الباب ببيان من يصح ظهاره، ثم عقّبه بمن يصح الظهار عنه. فأما الفصل الأول:
9497- فحدُّ المذهب فيمن يصح ظهاره أن يقال: من كان من أهل الطلاق، كان من أهل الظهار، وهذا يطّرد وينعكس على مذهب الحدود، ثم يتعلق الطلاق بالظهار طرداً وعكساً، كما يتعلق الظهار بالطلاق.
ثم أجرى الكلامَ رضي الله عنه إلى المسألة الخلافية في الذمي وأبان أنه من أهل الظهار، كما أنه من أهل الطلاق، وخالف أبو حنيفة (1) في المسألة، وصار إلى أن الذمي ليس من أهل الظهار؛ بناء على أن الكفارة لا تصح منه ولا تلزمه، والظهار عاقبته الكفارة، ومن مذهب أبي حنيفة أن الكافر ليس من أهل التزام الكفارة، ونصّ (2) مذهب الشافعي أن الكافر من أهل التزام الكفارة المالية، وليس (3) من أهل الصوم، ولا خلاف أن الكافر الأصلي لا يلتزم الزكاة، وعَقْدُ المذهب أن الزكاة وظيفةٌ أُثبتت عبادةً على المسلم، ليس فيها معنى التغليظ، بخلاف الكفارة؛ فإنها مضاهية للحدود، ثم ليس في نفي الكفارة ما يوجب نفي تحريم الظهار، كما قررناه في (الأساليب) .
فالذمي إذاً من (4) أهل الإعتاق، فإن لم يجد، لم يكن من أهل الصوم، ثم لا تجزىء إلا المؤمنة عندنا، وقد نمنعه من ابتياع عبد مسلم، فلو قال [لمسلمٍ] (5) : أعتق عبدك عن كفارتي، ففي ذلك وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع؛ فإن لم نجوّزه، انحسم العتق، إلا أن يكون له عبد كافر، فيسلم، أو يرث عبداً مسلماً.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 214، مختصر اخثلاف العلماء: 2/489 مسألة 1026، رؤوس المسائل: 425 مسألة 296، الغرة المنيفة: 164، المبسوط: 6/231، طريقة الخلاف 130 مسألة 54.
(2) (ت 2) : ومن مذهب الشافعي أن الكافر ليس من أهل الالتزام.
(3) في الأصل: فليس.
(4) (ت 2) : فالذمي إذا كان من أهل الإعتاق.
(5) في الأصل: فلو قال المسلم.(14/472)
فإن كان معسراً متمكناً من الصوم، فالذي ذكره القاضي أنه لا ينتقل إلى الإطعام، فلا يصير الكفر عذراً في حقه يجوّز له الانتقالَ إلى الإطعام، فإن أراد الخلاص من التحريم، فليسلم وليصم، وإلا استمر التحريم.
وهذا فيه نظر؛ فإن الخطاب بالعبادة البدنية لا يجب على الكافر الأصلي، فكأنّ الصوم مُخرَجٌ من كفارة الذمي، وهي آيلة في حقه إلى الإعتاق والإطعام.
وقد يَرِدُ عليه أن الإطعام بدلُ الصيام، ولا يجوز تقدير البدل في حق من لا يتحقق في حقه المبدل، فنُحْوَجُ عند ذلك إلى تقدير الكفر بمثابة العجز، وهذا يوجب إسقاط الخطاب؛ فإن العاجز لا يخاطَب بالصوم.
والذي يؤكد ما ذكرنا أن حكمنا على الذمي بتأبد حرمة الظهار عليه بعيدٌ، وحمله على الإسلام بعيدٌ، وقد يكون في حمله على ذلك حملٌ على الإسلام، والمسألة على الجملة محتملة.
فهذا تفصيل القول فيمن يُظاهِر.
[الفصل الثاني] (1)
9498- فأما التي يصح الظهار عنها، فيطرد في هذا النسق (2) اعتبارُ الطلاق أيضاً، فكل امرأة يلحقها الطلاق يلحقها الظهار، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة.
والبائنة لا يلحقها الطلاق، ولا يثبت في حقها الظهار، والرّجعية يلحقها الطلاق والظهار، والمرتدة الممسوسة إذا فُرض الظهار عنها، كان كما لو فرض تطليقها، والطلاق والظهار فيها يبتنيان على الترقب، فإن استمرت على الردة حتى انقضت العدة، فلا طلاق ولا ظهار، ولو عادت قبل انقضاء العدة، فنتبين وقوع الطلاق والظهارِ.
__________
(1) هذا العنوان [فصل] من عمل المحقق، بناء على تقسيم المؤلف الذي رأيناه آنفاً.
(2) (ت 2) : الشيء.(14/473)
والإيلاءُ يجاري الطلاق والظهار، فهذه الخلال الثلاث تتلازم (1) ، غير أن الأصح أن الإيلاء لا يصح من المجبوب، ولا يصح إيلاء الفحل من الرتقاء، وظهار المجبوب صحيح كطلاقه، والظهار من الرتقاء صحيح كتطليقها، والفرق أن الإيلاء يختص بالوقاع، فلا ينعقد حيث لا يفرض تصوّره.
والظهار يحرِّم الوقاع وجملةَ الاستمتاعات، ولو فرض الإيلاء معقوداً بما دون الجماع من الاستمتاعات، مثل أن يقول: والله لا أُقبِّلك أو أفاخذُك، فاليمين تنعقد [ولا] (2) يثبت حكم الإيلاء.
ثم إذا ظاهر عن الرجعية، لم يخل إما أن يتركها حتى تنسرح أو يرتجعها، فإن تركها حتى انسرحت، فقد ظاهر، ولم يَعُد، فلا تلزمه الكفارة.
وهذا فيه وقفة؛ من جهة أن تطليق الرجعية إن كان لا يفيد مزيد تحريم؛ فإنه يقطع سلطته في الرجعة؛ من جهة أن من يملك ثلاث طلقات يفرض له رجعتان، فإذا طلق واحدة، ثبتت له رجعة، ولو طلق الثانية، قطع بها رجعة، وفيه تنقيص العُدَد، والظهار ليس فيه ما يتضمن التأثير في الملك، والرجعية محرمة، ولم يتفق عَوْدٌ فتجب الكفارة، ولا يبقى في الظهار فائدة إلا تحريم محرمة، ولكن التحريم حكم من الأحكام، وقد يَثْبت الحكم الواحد بعلل، وتحقيق هذا في الأصول.
ثم إذا ظاهر عن الرجعية، وراجعها، فهل نجعل نفسَ الرجعة عوداً أم لا؟ فيه وجهان وسنذكر ذلك عند ذكرنا معنى العَوْد، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولو تظاهر من امرأته وهي أَمَةٌ، ثم اشتراها ... إلى آخره" (3) .
9499- نذكر في أول الفصل رسْم العَوْد حتى إذا أردنا التفريع عليه لم يخف المراد على المنتهي إليه.
__________
(1) (ت 2) : ثم لزم.
(2) في النسختين: فلا.
(3) ر. المختصر: 4/116.(14/474)
فالمذهب الذي عليه التفريع أن معنى العَوْد أن يمسك المظاهر امرأته زماناً، لو أراد أن يطلقها فيه، لأمكنه، فإذا ظاهر، ثم لم يطلّق مع التمكن منه، حتى مضى زمان إمكان الطلاق، فهذا مُظاهرٌ عائد، ومعنى العود في وضع اللسان إذا أردنا تطبيقه على المعنى أن الذي قال: أنت عليّ كظهر أمي أتى بلفظةٍ متضمّنها التحريم؛ فإذا أمسكها، فكأنه لم يحقق ذلك التحريمَ، فكان كالمناقِض، وسمي عائداً، على مذهب قول القائل: قال فلان قولاً، ثم عاد فيه نقضاً ورفضاً، وعاد فلان في هبته.
وإذا (1) ظاهر وطلّق، قيل: مُظاهرٌ غير عائد، أي أظهر تحريماً ثم حققه.
هذا معنى العَوْد على الجملة، وسيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء الله.
9500- فإذا بان هذا، قلنا بعده: إذا ظاهر الرجل عن زوجته الأمة، وعاد في ظهاره، والتزم الكفارة، ثم إنه اشتراها، فإنا نحكم بانفساخ النكاح بطريان الملك، وهل يستبيحها بملك اليمين؟ ظاهر المذهب أنه لا يستبيحها؛ فإن تحريم الظهار ممدود إلى التكفير، وهذا ظَاهَر والتزم الكفارة بالعَوْد، ولم يكفّر.
ومن أصحابنا من قال: يحل له وطؤها بملك اليمين؛ فإن الظهار يوجب التحريم في النكاح، ويمنع الاستباحةَ به، والدليل عليه أنه لو قال لأمته: أنت عليّ كظهر أمي، لم تحرم، ولم يكن للظهار معنى، ولم تجب الكفارة، فإذا انتهى الأمر في الأثناء إلى ملك اليمين، فقد انقطع محل الظهار.
وهذا يجري في مسألتين: إحداهما - أنه إذا طلق زوجته الأمة ثلاثاًً، [بعدها] (2) جرى الحكم بأنها محرّمةٌ عليه حتى تَنْكِح زوجاً غيره، فلو اشتراها، فهل يستبيح وطأها قبل أن تنكِح زوجاً آخر؟.
فيه خلاف [قدمته] (3) ؟ والأظهر أنه لا يستبيحها.
وألحق القاضي ما لو لاَعَن عن زوجته، وحرمت عليه، ثم اشتراها، قال: في
__________
(1) عبارة (ت 2) : وإذا ظاهر ولم يطلق قيل مظاهر عائد أي أظهر فهماً ثم حققه.
(2) في النسختين: "بعد ما" والمثبت تصرّف من المحقق.
(3) غير مقروءة في الأصل.(14/475)
استباحتها بملك اليمين الوجهان، فتحصلت ثلاث مسائل، والظاهر في جميعها استمرار التحريم، وذكرُ الخلاف في اللعان بعيدٌ مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتلاعنان لا يجتمعان أبداً" (1) .
وهذا (2) تهويلٌ، والقياس طرد الخلاف، ولكن إن حكمنا بأن اللعان لا يجري في ملك اليمين، أو قلنا: إنه يجري ولا يوجب التحريم؛ لأنه مخصوص بضرورة نفي النسب، فالخلاف الذي ذكرناه مذكور، فأما إذا قلنا: اللعان يجري في ملك اليمين ويحرّم المملوك على الأبد، فيبعد (3) ذكر الخلاف، مع العلم بأن تحريم اللعان لا ينافي (4) ملك اليمين.
وهذا كله فيما يوجب تحريماً ولا يوجب محرميّة.
فأما ما يوجب التحريم والمحرمية، فيستوي فيه النكاح وملك اليمين، كالنسب والرضاع والصهر.
وكل ما ذكرناه فيه إذا ظاهر عن امرأته وعاد والتزم الكفارة، ثم اشتراها.
9501- فأما إذا قال للزوجة الأمة: أنت عليّ كظهر أمي، ثم قال على الاتصال: اشتريتها، فهل نجعل هذا تحقيقاً للظهار، ناقضاً للعَوْد (5) ؛ من جهة أن الملك إذا حصل، تضمن حصولَ الفراق، فإذا أعقب المظاهرُ الظهارَ بسببٍ من أسباب الفراق، لم يلتزم الكفارة إذا لم تُلتزم، فَتَحِلّ هذه بملك اليمين؟.
اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أن هذا يناقض العَوْدَ؛ من حيث إنه قاطع للنكاح، وقال آخرون: ليس ذلك مناقضاً للعَوْد؛ فإن المناقض للعَوْد هو الذي يحقق التحريمَ كالطلاق، والشراءُ وإن كان يرفع النكاح؛ فإنه سببُ استحلالٍ، فقد نقلها من سبب حلٍّ إلى سبب حل، ومن فراش إلى فراش، فإن لم نجعله
__________
(1) سيأتي تخريج هذا الحديث في موضعه من كتاب اللعان.
(2) وهذا تهويل: الإشارة إلى كلام القاضي الذي استبعد به الخلاف في اللعان.
(3) (ت 2) : فيتبعه.
(4) (ت 2) : لا يجري في ملك اليمين، فيما يوجب تحريماً، ولا يوجب محرمية.
(5) (ت 2) : فهل نجعل هذا تحقيقاً للظهار، ومناقضاً للظهار، ومناقضاً للعود.(14/476)
عائداً، فقد حقّق الظهار وانتهى، وتحِل هذه بملك اليمين.
وإن قلنا: لا يكون الشراء مناقضاً للعَوْدِ، فهو عَوْدٌ؛ فإنه ترك الطلاق مع القدرة عليه، ثم إذا جعلنا هذا عوداً، فيلتزم الكفارة، وفي استباحتها بملك اليمين الخلاف الذي ذكرته، وسنعيد فصل الشراء في فصل العوْد إذا خُضنا في بيانه، ثم نذكر عنده أن الاشتغال بأسباب الشراء قد ينزل منزلة الشراء.
9502- قال الشيخ أبو علي لو ظاهر وعاد، ثم اشتراها وانفسخ النكاح، وأعتقها، ثم نكحها، لم يستحل وطأها في النكاح الثاني حتى يكفر وجهاً واحداً؟ فإن التردد الذي ذكره الأصحاب في الاستباحة بملك اليمين، فأما الاستباحةُ بالنكاح مع بقاءٍ كفارة الظهار، فلا سبيل إليه، وقد يختلج في نفس الفقيه تخريجُ هذا على عَوْد الحنث مصيراً إلى أنه بالظهار تَصَرَّفَ في النكاح الأول، وقد تَصَرَّم ذلك النكاح، فلا يبعد أن يتصرم ما فيه، وتبقى الكفارة في ذمته إلى أن يخرج عن عهدتها.
والذي يوضح هذا أن الطلاق على أثر الظهار أسقط أثرَ تحريم الظهار، وهذا (1) إن ظنه ظانٌّ، فلا أصل له في قول المشايخ، والذي رأيناه القطع بما ذكرناه، فلو ظاهر الرجل عن امرأته وعاد، ثم أبانها، ثم نكحها، لم يجامعها حتى يكفر؛ ولعل السبب فيه أن الظهار يتضمن تحريماً من غير أن يؤثر في الملك، فلا يقطعه زوال الملك.
وقد ذكرنا إجراء القولين في الإيلاء، والسبب فيه أن الإيلاء يتعلق عاقبته بالطلاق، وعوْدُ الحنث أصله الطلاق [وهو مشبّه به] (2) .
ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، ثم أبانها ونكحها، فدخلت الدار، خرج ذلك على عَوْد الحِنْث، فإنه جرى يميناً كالإيلاء وتعليق الطلاق.
وينتظم من ذلك أن التعليق واليمين يجري فيهما أقوال العَوْد؛ لأن المقصود منهما مرتقب غير ناجز، والظهار إذا حَرَّم، فقد تنجز، ثم ارتفاعه معلّق شرعاً بالتكفير؛
__________
(1) إشارة إلى أن قطع الملك في النكاح بالطلاق يُسقط أثر العَوْد كما يسقط أثر تحريم الظهار.
(2) في الأصل: وما تشبه به. والمثبت من (ت 2) .(14/477)
فتجدّد النكاح وتعدّده لا يؤثر في رفع ما وقع، وهذا متجه، وهو يُقَوِّي تحريمَها بملك اليمين أيضاًً.
هذا منتهى النقل والتوجيه والتنبيه، والله المستعان.
9503- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه ظهار السكران وقد استقصيت الكلام فيه في كتاب الطلاق، والذي عثرت عليه هاهنا أنا إذا قلنا: تصرّفُ السكران نافذٌ، فهذا مطّرد وهو ينطق ويخاطَب ويُجيب، فأما إذا كان في السكر الطافح، فبدرت منه كلمةٌ من حَلٍّ، أو عقدٍ، أو تحريمٍ، أو تحليل، فالذي قدمتُه أن ذلك لاغٍ، وليس يسمى كلاماً، وهذا صحيح.
وحكى شيخي أن ذلك نافذٌ؛ تغليظاً وتشديداً وإن بعد هذا عند إنسان، قيل له: السكران الذي ينطق ويجيب على صورة المجنون، ثم نفذت ألفاظه، فليكن السكر الطافح كذلك.
وهذا يعارضه أن ما صدر منه لا يسمى كلاماً، فليتصوّر منه نطق، ثم يقع النظر بعده في تصحيحه ورده، ويجوز أن يجاب عنه، فيقال: من كلام الناس: أن فلاناً كان يتكلم نائماً، وهذا تلبيس؛ فإن ذلك يذكر على مذهب التجوّزِ والتشبيهِ، واللفظُ الحق فيه أنه هذى وما تكلم.
***(14/478)
باب ما يكون ظهاراً وما لا يكون ظهاراً
9504- الكلمة الشائعةُ في الجاهلية والإسلام في الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي، ثم لا مناقشة في الصلات (1) إذا انتظم الكلام، فلو قال: أنت عليّ كظهر أمي، أو أنت معي كظهر أمي، أو مني كظهر أمي، فهذه الصلات كلها [شائعة] (2) لا تتغير بها مراتب الكلام.
ولو لم تستعمل صلة، فقال: أنت كظهر أمي، فذلك صريح، هكذا ذكره القاضي، وإن كان يحتمل أن يريد أنها كظهر أمه في حق غيره، ولكن لا نظر إلى هذا، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان.
9505- ولو شبّه امرأته بعضوٍ آخر من أعضاء الأم سوى الظهر، فقال أنت عليّ كـ (يَدِ) أمي، أو كـ (رِجل) أمي، أو كـ (بطن) أمي، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجرى في غير الظهر من الأعضاء التي لا يشعر التشبيهُ بها بالإكرام قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الظهار يثبت.
والثاني - وهو المنصوص عليه في القديم أن الظهار لا يثبت.
ومنشأ القولين أن الشافعي رحمه الله في الجديد قد يتبع المعنى؛ فلا يرى (3) اتباع صيغة اللفظ المعهود في الجاهلية [حقّاً] (4) ، وكان في القديم لا يرى إلا الاتباعَ ومعهودَ الجاهلية، وهذا بعينه مأخذ القولين المذكورين في الإيلاء، فالجديد مبناه
__________
(1) (ت 2) : لا مناقضة فى الصلات.
(2) في الأصل: سائغة.
(3) (ت 2) : ولا يرى اتباع صيغة اللفظ المعهود في الجاهلية، وهذا بعينه مأخذ القولين.
(4) في الأصل: حقها.(14/479)
على أن يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر أمراً، ولا يختص الإيلاء على ذلك باليمين بالله، كما سبق تفصيله، وفي القديم رأى اتّباع معهود الجاهلية، وهذا يوجب ألا يثبت الإيلاء إلا بالحلف بالله تعالى، أو بصفةٍ من صفاته، وهؤلاء من أصحابنا أجرَوْا القولين فيه إذا قال: أنت عليّ كفرج أمي، ولم يستثنوا من الأجزاء إلا ما في ذكره معنى الكرامة على ما سنصفه.
وقال شيخنا أبو علي رحمه الله: إذا قال: أنت عليّ كفرج أميّ، فهذا ظهار قولاً واحداً، فإنه تصريح بالمقصود، والتشبيه بعضو آخر [تسبُّبٌ لهذا] (1) ، ونحن وإن كنا نقتصر على موارد النصوص في بعض المواضع، فلا ننتهي إلى منع الإلحاق بالكلية، بل نُلحق بالمنصوص عليه ما في معناه.
هذا بيان القول في تشبيه الزوجة بجزء من أجزاء الأم غيرِ الظهر، إذا كان الجزء غيرَ مشعر بالكرامة.
9505/م- ولو قال: أنت علي كعين أمي أو كروح أمي، فإن أراد ظهاراً، كان ظهاراً على الجديد، وإن أراد الكرامة، فليس بظهارٍ؛ فإن لفظه محتمل لذلك، وإن أطلق لفظه، اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من جعله كرامة، وقد حُكي ذلك عن القفال.
ومنهم من جعل المطلق محمولاً على الظهار، وهو اختيار القاضي؛ فإن اسم العضو صريح في [الحرمة] (2) ، والكرامةُ تعرض ضمناً إذا قُصدت، فإذا كان اللفظ مطلقاً، وجب التمسك بحمل اللفظ على العضو نفسه.
وهذا الذي ذكرناه تفريعٌ على أن التشبيه بالبطن وما في معناه ظهارٌ، فإنا إذا كنا لا نجعل التشبيه بالبطن ظهاراً، فالتشبيه بالعين أولى ألا يكونَ ظهاراً.
ولو قال: أنت عليّ كرأس أمي، اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: الرأس من أعضاء الكرامة كالعين، وقد سبق التفصيل فيه.
__________
(1) في الأصل: تشبيب بهذا، والمثبت من (ت 2) .
(2) في النسختين: حرمة. والمثبت تصرف من المحقق.(14/480)
ومنهم من قال: الرأس كالبطن، وقد تقدم الكلام فيه أيضاًً، والمسألة محتملة.
9506- ولو قال لامرأته أنت كأمي، فإن نوى أنك بمحلّ أمي كرامةً وتعظيماً، فما قاله محتمل، ولا يصح الظهار، ولو أراد الظهار، فهو ظهار؛ تفريعاً على الجديد.
ولو أطلق، فعلى اختلاف الجواب.
قال صاحب التلخيص (1) : هذا الأصلُ على مناقضة الأصول؛ فإن الطلاق إذا أضيف إلى الجملة كان صريحاًً، وإذا أضيف إلى البعض، حُمل على الصريح، بتسريةٍ أو تكلّفِ معنى آخر، والظهار إذا أضيف إلى الظهر وهو جزء من الجملة، كان صريحاًً؛ فإنه معهود الجاهلية، وإذا أضيف إلى الجملة، كان متردداً، كما نبهنا عليه.
ثم ذكر صاحب التلخيص ألفاظاً تضاف إلى الأبعاض، ولا خفاء بمعظم ما ذكره، ونحن نذكر ما نرى فيه فائدة، قال: النكاحُ والرجعةُ إذا أضيفا إلى البعض، لم يصح واحد منهما، والضابط فيه أن ما لا يُعلّق لا يضاف إلى البعض، ويخرج منه أن الطلاق والعَتاق يعلّقان، فلا جرم يضافان إلى الأجزاء، والظهارُ يقبل التعليق أيضاًً، وهو في وضعه مضاف إلى عضو.
9507- ولو قال: والله لا أجامع نصفك، فإنّا نقدم عليه [أصلاً] (2) ، فنقول: لو أضاف اليمين إلى عضوٍ معيّن، فهل يكون مولياً؟.
إن أضافه إلى الفرج، كان مولياً فإنه صرّح بالمقصود (3) ، ونصَّ، وتعرّض للغرض، وخصّه بالذكر، فلو قال: والله لا أجامع فرجك، والله لا أولج ذكري في فرجك، فهذا إيلاء.
ولو قال: والله لا أجامع بعضك قال صاحب التلخيص: لا يكون مولياً، قال الشيخ: وعندي أنه لو قال والله لا أجامع بعضك، فنوى بذلك البعض فرجها،
__________
(1) ر. التلخيص لابن القاص: 540.
(2) زيادة من المحقق.
(3) (ت 2) : فهل يكون موالياً؟ فإنه صرح المقصود ...(14/481)
فيكون (1) مولياً؛ فإن اسم البعض صالح للفرج، فأما إذا ذكر جزءاً شائعاً؛ فقال: والله لا أجامع نصفك، قال الشيخ أبو علي: لا يكون مولياً إذا قصد الإشاعة، فإن اليمين (2) ليست مفهومةً على الشيوع في النصف.
هذا ما ذكره الشيخ، وفيه فضل نظر، فنقول: إن أراد بالنصف أسافلها، فهو كما لو ذكر البعضَ وأراد به الفرجَ، وإن زعم أنه أراد بالنصف النصفَ الشائع حقاً، فالذي ذكره الشيخ: أن هذا ليس بإيلاء، أما أن نجعله صريحاًً، فلما ذكره وجهٌ (3) ؛ فإن لفظ المجامعة مستعار في الأصل، وُضِع كنايةً، وإلا فهو من المضامّة التي تناقض المفارقة، ثم استفاضت وشاعت حتى التحقت بالصرائح، وشرط كون هذا اللفظ صريحاًً أن يستعمل على المعهود والمعتاد، فإن لم يستعمل كذلك، لم يكن مشعراً بالمعنى وضعاً ولا عرفاً 4) ، وهذا تعليل [قولنا] (5) : إن هذا ليس بصريح.
وإن أراد أنه لو نوى بالجماع المقصودَ المحقق (6) وأضافه إلى النصف الشائع، فلا يكون مولياً، فهذا قد يتطرق إليه وجه في الاحتمال؛ فإنه إذا نوى بقلبه المقصودَ، صار ذلك المعنى كالطلاق، ثم الطلاقُ لا يصح اعتقاد وقوفه على النصف الشائع، غيرَ أنه يتعداه ويثبت في الجميع، فلو قيل بهذا في الإيلاء، لم يكن بعيداً.
ويجوز أن يقال: الجماع معنى معلوم لا [يعقل] (7) إضافته إلى الجزء (8) الشائع،
__________
(1) (ت 2) : فنوى بذلك البعض فرجها أثم فيكون مولياً.
(2) (ت 2) : فإن المسألة ليست مفهومة.
(3) في العبارة شيء من الغموض، ولعل المعنى: أنا إن جعلنا لفظ الجماع صريحاً، فيكون لما ذكره الشيخ وجهٌ، فإن لفظ الجماع ليس صريحاًً وضعاً، ولكنه صار صريحاًً بالشيوع والاستفاضة، وشرط كونه صريحاً أن يستعمل على المعهود والمعتاد، كأن يقول والله لا أجامعك، أما إذا استعمل على نحوٍ غير ذلك، كأن يقول: والله لا أجامع نصفك، فهنا يتوجه قول الشيخ أبي علي: أنه ليس بإيلاء. والله أعلم.
(4) (ت 2) : صرفاً وعرفاً.
(5) زيادة من (ت 2) .
(6) (ت 2) : التحق.
(7) في الأصل: يغفل. والمثبت من (ت 2) .
(8) (ت 2) : إلى الخمر الشائع.(14/482)
والطلاق [يعقل] (1) إضافته إلى الجزء (2) الشائع، كما يعقل إضافة العتق إليه، وكما يصح إضافة البيع والرهن إليه.
ثم قولنا: لا يقف على النصف حكمٌ، ومقصود الجماع فعل محسوس وإضافته إلى الجزء الشائع غير معقول.
هذا منتهى المراد في ذلك.
9508-[و] (3) مما ذكره صاحب التلخيص أنه لو قال: زنا فرجُك أو دبرك، فهو (4) صريح في القذف، وهو بمثابة قوله: زنيت.
ولو قال: زنى بدنك، فهل يكون صريحاًً في القذف، فعلى وجهين ذكرهما الشيخ، ووجه الاحتمال فيه بيّن. ولو قال الرجل: زنى بدني، لم يكن ذلك صريحاً في الإقرار بالزنا، والفرق بين الإقرار وبين القذف عسر، فالوجه طرد الوجهين فيهما.
9509- ومما ذكره الأئمة أنه لو شبه امرأته بغير أُمِّه من محارمه، مثل أن يشبهها بجدته، أو أخته من النسب، أو الرضاع، أو من تحرم عليه بالصهر، فكيف السبيل في هذه الألفاظ؟
المنصوص عليه في القديم أنه لا يكون مظاهراً إذا تعدى التشبيه بالأم، وهذا يُخرَّج على اتباعِ معهود الجاهلية، كما تقدم، واستثنى معظم الأئمة الجدةَ، وجعلوها كالأم، وحكموا بأنه يكون مظاهراً في الجديد والقديم؛ فإن الجدة تسمّى أماً.
ومن أئمتنا من أجرى في الجدة القولين، فأما من عَدَا الجدات من المحرمات بالنسب، فالقولان (5) جاريان في التشبيه بهن.
__________
(1) في الأصل: يغفل. والمثبت من (ت 2) .
(2) (ت 2) : إلى الخمر الشائع.
(3) في الأصل: مما.
(4) (ت 2) : كان ذلك صريحاً في القذف بمثابة قوله.
(5) (ت 2) : فالقولان جاريان في التشبيه بهن، ففيه ثلاثة أقوال.(14/483)
والمحرمات من الرضاع إذا جرى تشبيهٌ بهن، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يكون مظاهراً؛ لأنه على خلاف معهود الجاهلية.
والقول الثاني - أنه يكون مظاهراً إذا كانت المشبه بها مَحْرَماً حالة التشبيه.
والقول الثالث - أنها إن لم يعهدها الرجل إلا محرّمة، فالتشبيه بها ظهار، فإن كانت مستحلّة في حياته، ثم طرأ التحريم برضاع طارىء، فالتشبيه بها لا يكون ظهاراً.
وأما التشبيه بالمحرمات بالصهر، ففي أصله خلاف: من أئمتنا من قال: لا يكون المشبّه بالمحرمات صهراً مظاهراً؛ فإن الرضاع إن تبع (1) ؛ من حيث إنه ينبت اللحم ويُنشِز العظمَ، فالصهر لا يلتحق [به] (2) .
ويُبعد من أصحابنا من قال: المحرمات بالصهر في التشبيه بهن بمثابة المحرمات بالرضاع، ثم تجري الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في المحرمات بالرضاع.
9510- ولو قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أبي (3) ، فقد وجدت الطرقَ متفقة على أن هذا لا يكون ظهاراً؛ فإنه اجتمع فيه أنه ليس معهودَ الجاهلية، وليس من شخص يتوقع فيه استحلال، حتى إذا لم يكن الحل وكانت الحرمة بغرض التشبيه.
ولا خلاف أن تشبيه المرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً لا يكون ظهاراً، مثل أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر فلانة، وكان طلقها ثلاثاً، وكذلك أجمعوا على أن التشبيه بالتي لاعن عنها لا يكون ظهاراً، وإن كانت الملاعَنةُ محرَّمةً على الأبد، فلا يقع الاكتفاء بالتحريم، حتى ينضم إليه المحرميّة.
9511- ومأخذ الكلام في هذه المسائل أن الشافعي في القديم اتبع النصَّ [ومعقودَ] (4) الجاهلية، ولم ير الحيدَ (5) عنه بطريق المعنى، ورأى في الجديد اتباعَ
__________
(1) (ت 2) : تبقى.
(2) زيادة من المحقق.
(3) (ت 2) : أمي.
(4) في النسختين: فمعهود. والمثبت من المحقق.
(5) (ت 2) : الخبر.(14/484)
المعنى، ولم ير الإبعاد بالكلِّيّة، وطَرْدَ التحريمِ، بل شبّه وقرّب، ولم ير التمسك بالقياس المحض من كل وجه، فإن هذا تصرّف منه في الأصل، والأقيسة لا تجول في الأصول على اتساعٍ، ولا بد وأن تكون مضبوطة بنوعٍ من الاتّباع.
فإذا ترقى الناظر إلى الفروع فيتسع عند ذلك مجاله في القياس.
فصل
قال: "ويلزم الحنث بالظهار، كما يلزم بالطلاق ... إلى آخره" (1) .
9512- الظهار قابلٌ التعليق بالصفات والأخطار، فإذا قال: إن دخلت الدار، فأنت على كظهر أمي، تعلق الظهار، كما يتعلق الطلاق. والظهار في تفريع المسائل مردّد بين الإيلاء وبين الطلاق، كما سيأتي بيان ذلك، ثم الطلاق يقبل التعليقَ، والإيلاء يقبل التعليقَ أيضاًً، والظهار [لا يجاذبه] (2) أصل سوى ما ذكرناه.
ولو قال: إذا نكحتك، فأنت عليّ كظهر أمي، خاطب بذلك أجنبية أو بائنة، فإذا نكحها لم ينعقد الظهار، كما لا ينعقد الإيلاءُ والطلاقُ قبل النكاح.
هذا ما ذكره الأئمة وأطلقوه.
وحكى صاحب التقريب قولاً مثلَ مذهب أبي حنيفة في الطلاق، وأعاد حكايته، في الإيلاء، وكرره في الظهار، وعزاه إلى القديم، وأخذ يُجريه في الكتاب، ويفرع عليه، وهو غريب، ولولا اعتناؤه بترديده، لما حكيته.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق كظهر أمي، يريد الظهار، فهو طلاق ... إلى آخره" (3) .
9513- إذا قال لامرأته: أنت طالق كظهر أمي، فالذي يجب القطع به أن كلامه
__________
(1) ر. المختصر: 4/120.
(2) في الأصل: لا يحاذيه.
(3) ر. المختصر: 4/121.(14/485)
يشتمل على صريح الطلاق، إذ قال: أنت طالق، فلا مدفع للطلاق، ولا مطمع في نفيه.
فإذا تبيّن هذا، بنينا عليه ما نقصد، فنقول: إن أطلق هذا اللفظَ، فهو طلاقٌ لا غير، فإن قيل: قد أتى بصريح لفظ الظهار أيضاًً، فإذا ضممنا قولَه آخراً إلى الخطاب المذكور أولاً، لكان صريحاًً؛ إذ في كلامه: "أنت كظهر أمي".
قلنا: اتصل قوله: "طالق" بقوله: "أنتِ"، فاتسق الطلاق لفظاً ونظماً، وتخلل ذلك بين الخطاب وبين آخر الكلام، فخرج بالتقطع عن كونه صريحاً، واتجه فيه إيقاعُ الطلاق، وجَعْلُ لفظ الظهار تأكيدَ التحريم، فلا يقع عند الإطلاق (1) إذاً إلا الطلاق.
وإن نوى الظهار بقوله كظهر أمي، نظر: فإن بانت بالطلاق، فهذا ظهار بعد البينونة، والظهار بعد البينونة مردود.
وإن كان الطلاق رجعياً، فهذا ظهار عن رجعية، وحكمه ما قدمناه من الصحة، وتوقُّفِ العَوْد.
9514- وحاصل الكلام أن ما ذكر من لفظ الظهار كناية، وما ذكر من لفظ الطلاق صريح، ثم الطلاق سابق لفظاً ووقوعاً، والظهار بعده، وهذه الجملة تتضمن التفصيل الذي ذكرناه لا محالة.
ثم إذا كان الطلاق رجعياً، فقد ذكرنا أن الظهار يصح، ولا يثبت العود، وكذلك لو ظاهر عن رجعية ابتداءً، ثم إذا ارتجعها، [فنفسُ] (2) الرجعة هل تكون عوداً؟ فيه وجهان ذكرناهما: أحدهما - أنه تكون عوداً؛ لأن [إمساك] (3) المرأة بعد الظهار لحظةً من حيث يناقض التحريمَ جُعل عَوْداً، فالرجعة ابتداءُ استحلال، فهو أولى بأن يكون عوْداً.
__________
(1) (ت 2) : الطلاق.
(2) في الأصل: بنفس.
(3) في الأصل: الإمساك.(14/486)
والوجه الثاني - أن الرجعة لا تكون عَوْداً؛ فإن الحلّ يحصل بها، والمناقضة إنما تتحقق بالإمساك في زمن الحل (1) .
9515- ولو قال لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ثم طلقها على الاتصال (2) طلاقاً مبيناً، ثم جدد النكاح، فقد قال الشيخ: هل نجعل النكاح عَوْداً في الظهار الذي مضى في النكاح الأول؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين المذكورين في الرجعة، والنكاحُ أولى بأن لا يكون عَوْداً، والسبب فيه أن الطلاق إذا كان رجعياً، فلا ينافي الظهار؛ فلا يقطعه، والظهار على الابتداء يوجَّه على الرجعيّة، فيصحّ، فإذا كان الطلاق المتصل بالظهار مبيناً، فقد انقطع الظهار بانقطاع النكاح، وهذا على قول عَود الحنث، وفيه كلام عريض (3) سيأتي في فصلٍ مفردٍ بعد هذا، إن شاء الله.
فصل
قال: "ولو قال: أنت عليّ حرام كظهر أمي يريد الطلاقَ، فهو ظهار ... إلى آخره" (4) .
9516- هذه المسألة فيها التباسٌ، ولم يعتن بنهاية الكشف فيها أحدٌ اعتناءَ الشيخ أبي علي، وذَكَر في مقدمة المسألة فوائدَ تتعلق بلفظ التحريم، ونحن نستاق كلامه على وجهه، ونذكر ما يتعلق به من مزيد فوائد عندنا.
قال رضي الله عنه: إذا قال الرجل: أنت عليّ حرام، ونوى بذلك تحريمَها في عينها، فيلزمه كفارةُ اليمين، ثم قال: والمذهب أن الكفارة تلزم، وإن لم يطأها،
__________
(1) في هامش الأصل أمام هذا الكلام -بدون علامة لحق- ما نصه: "أمكن ما بعدها يدل على أنه إذا أمسكها بعد الارتجاع يكون عائداً، وإنما الخلاف في أن العود يحصل بنفس الرجعة أم بالإمساك بعدها" ا. هـ بنصه. وواضح أنه لا يفيد معنى جديداً، وأن العبارة مستقيمة بدونه، فلعله تعليقٌ من الناسخ أو من أحد المطالعين بخط صادف أنه يشبه خط الناسخ. والله أعلم.
(2) أي طلق متصلاً بالظهار، فلم يمسكها الوقت الذي يجعله عائداً.
(3) (ت 2) : عويصٌ.
(4) ر. المختصر: 4/121.(14/487)
[فمجرد] (1) لفظ التحريم يوجب الكفارة، قال: وقد غلط بعض أصحابنا، فقال: لا يلزمه الكفارةُ من غير جماع وإن لم يكن (2) قد نوى اليمين والحلف، وقد ذكر هذا الوجهَ صاحبُ التقريب، والعراقيون، وزيّفوه.
9517- ولو قصد بالتحريم إيلاءً، فهل يصير حالفاً؟ المذهب الذي قطع به معظم المحققين أنه لا يكون إيلاء؛ فإن عماد اليمين بالله تعالى ذكرُ اسم الله سبحانه، والكنايات لا تشعر بهذا المقصود.
وذكر شيخي رضي الله عنه: "أن لفظ التحريم يصير بالنّيّة إيلاء، حتى كأنه قال: والله لا أصبتك"، ولا نعرف خلافاً أنه لو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أصبتك، ثم قال لصاحبتها: أشركتك معها، ونوى عقد اليمين عليها، فلا ينعقد اليمين. ومن ذكر الوجه الذي قدمناه في التحريم، قال في التحريم مشابهةُ اليمين؛ من حيث يتعلق به كفارة اليمين (3) ، قال الله تعالى في أول سورة التحريم: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، فاحتمل الانصراف إلى اليمين بما له من المشابهة مع اليمين في موجبها، وهذا لا يتحقق في لفظ الإشراك وما في معناه.
ثم لما ذكر الشيخ أبو علي الوجه الضعيف في وقوف وجوب الكفارة على الوطء وإن لم يكن التحريم يميناً، بنى عليه أمراً؛ فقال: إذا فرعنا على هذا الوجه، ومضت أربعة أشهر، فهل يكون الزوج مولياً، فإنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، وهذا عماد الإيلاء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يكون مولياً لما ذكرناه، كما لو قال: إن وطئتك، فعبدي حر، والوجه الثاني - أنه لا يكون مولياً؛ لبعد لفظه عن صيغ الأيْمان، وقد ذكرنا أنا وإن كنا نتصرّف على المعنى، فلا نطمع في طرده والكلامُ (4) في الأصل، وكأنا على الجديد قد نشترط أن يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر
__________
(1) في النسختين: بمجرد. والمثبت من المحقق.
(2) المعنى أنه لو وطىء بعد التحريم، تجب عليه كفارة يمين، وإن لم يكن هذا يميناً، لا بالصيغة، ولا بنية قائله.
(3) ومقتضى هذا أن يكون التحريم إيلاء، وعليه لا تجب الكفارة إلا بالوطء.
(4) والكلامُ في الأصل. الواو هنا واو الحال. وهو يشير إلى ما مرّ آنفاً من أن اتباعَ المعنى في الأصول لا مطمع في طرده.(14/488)
أمراً إذا كان حالفاً، وكان الالتزام بطريق الحلف، حتى لا يبعد عن الأَلِيّة، والإيلاء.
وشبب الشيخ بمذهب (1) مالك في الظهار، وقال: إذا ظاهر عن امرأته، ومضت أربعة أشهر، فلا يمتنع أن نجعله مولياً، ونطالبه مطالبة المولين على قولنا: إن العَوْد من المظاهر هو الجماع (2) ، فيتسق على هذا القول التزامُ الكفارة بالوطء.
وهذا بعيد جداً، ولا يسوغ عدّه من المذهب، وما ذكره في التحريم تفريع على وجه مزيف غير معتد به، ثم لو قدرناه ثابتاً، فليس (3) التحريم كالظهار؛ فإن التحريم وإن وقعت الكفارة فيه على الوقاع، فهو لا يقتضي إيقاع تحريم، فينتظم المَهَلُ وضربُ الأجل، فإن مقتضاه التخيّر بين الوطء والترك، وهذا إنما يتحقق في التي ليست محرّمة، ولهذا حكمنا بأن الأسباب المحرَّمة فيها تمنع من انقضاء المدة واحتسابها، والظهار يتضمن التحريم، فلا يطابق الإمهال ويبعد عن وضع الإيلاء، فإن كنا نقول ونحن نفرع على أن العود هو الوطء: إن الوطء لا يحرُم بنفس الظهار، فيتجه حينئذ ما أشار إليه. وكل ذلك بُعدٌ عن مقتضى الأصول وتشويشٌ لها، فهذه فوائد أجراها الشيخ في مقدمة المسألة.
ونحن نخوض بعدها فنقول:
9518- إذا قال الرجل لامرأته: "أنت عليّ حرام"، وزعم أنه نوى بذلك الظهار، قبل منه.
ولو قال: أردت الطلاق، قبل منه.
ولو زعم أنه نواهما معاً جمعاً من غير فرض تقدم وتأخر في النية، فقد أجمع الأصحاب على أنهما جميعاً لا يحصلان جمعاً، قال ابن الحداد: قد حصل (4) أحد المنويّين، فنقول للزوج: اختر الآن أيَّهما شئت، فإن اختار الظهار، كان ظهاراً.
__________
(1) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/765 مسألة رقم: 1407، 772 مسألة رقم: 1429.
(2) مذهب مالك أن العود هو العزم على الوطء (السابق نفسه) .
(3) (ت 2) : فهل التحريم كالظهار.
(4) (ت 2) : فإن ابن الحداد قد جعل.(14/489)
وإن اختار الطلاق، كان طلاقاً. [فمن أصحابنا من يوافقه] (1) على ما يقول. ومنهم من يزعم أن الطلاق يتعين ويندفع الظهار؛ فإن الطلاق أقوى وأنفذ، وأثره في الملك، فكان أولى في التنفيذ.
هذا إذا ذكر لفظ التحريم وزعم أنه نوى الطلاق والظهار معاً.
فأما إذا قال: نويت الطلاق والظهار جميعاًً، ولكن نويت أحدهما قبل الثاني على ترتب، وأتيت بالنيّتين (2) على مساوقة اللفظ، فهذا إخبار منه عن وقوع النيتين في وقتين لطيفين، قال ابن الحداد: إن نوى الظهار أولاً، ثم الطلاق بعده، حصلا جميعاًً، وهذا رجل ظاهر ولم يعد، فإنه أعقب الظهار بالطلاق، فكان كما لو قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي أنت طالق.
وإن نوى الطلاق أوّلاً، ثم الظهار، وقع الطلاق، ثم نُظر: فإن كان الطلاق بائناً؛ فإنه واقع، ولا معنى للظهار بعده، وإن كان الطلاق رجعياً، وقع، وكأنه ظاهر عن رجعية.
قال الشيخ أبو علي هذا الذي قاله غلط عندي، ولا سبيل إلى تحصيل الأمرين جميعاًً؛ فإن اللفظ واحد، وإذا اتحد اللفظُ استحال تعلّق الحكمين به، ولا أثر للتقدم والتأخر، والحكم في هذه الصورة كالحكم فيه إذا نواهما معاً، ثم فيه وجهان تقدم ذكرها.
9519- وفي هذا مزيد نظر يستدعي [تقديم] (3) وجهٍ حكاه العراقيون. قالوا: إذا ذكر الرجل كناية من كنايات الطلاق ونوى الطلاق، نظر: فإن انبسطت النية على اللفظ على قدر [الطلاق] (4) ، وقع الطلاق. وإن قارنت النية بعض اللفظ وتمّت وبعضُ اللفظ باقٍ، وابتداء النية بعد ما مضى صَدْرُ اللفظ، ثم انطبق نجازها على نجاز اللفظ، ففي وقوع الطلاق خلاف حكَوْه، فإذا قلنا: لا يقع، فقياس هذا يقتضي إذا
__________
(1) في الأصل: فمن أصحابنا من قال من يوافقه على ما يقول. والمثبت عبارة (ت 2) .
(2) (ت 2) : وأثبت بالنفس.
(3) في الأصل: تقويم. والمثبت من (ت 2) .
(4) زيادة من المحقق.(14/490)
ترتّبت النيّتان في وقتين مقترنين (1) باللفظ ألاّ يقع الطلاق ولا الظهار؛ فإن واحدة من النيتين ما انبسطت على جميع اللفظ.
9520- فنعود بعد ذلك إلى مسألة الكتاب، ونبيّن ما يجري فيها من الأقسام، فإذا قال لامرأته: أنت عليّ حرام كظهر أمّي، فالمسألة تنقسم أقساماً، ونحن نأتي عليها، إن شاء الله تعالى، ونذكر في كل قسم ما يليق به.
فإن قال: أردت بقولي: "أنت عليّ حرام طلاقاً، ولم أنوِ بباقي الكلام شيئاً"، فالمذهب أن الطلاق يقع، ولا يحصل الظهار، ويكون كما لو قال؛ أنت طالق كظهر أمي، فإن لفظ التحريم مع نية الطلاق ينزله منزلة صريح لفظ الطلاق.
وقد ذكر أصحابنا في المسألة قولاً آخر: أن الظهار يحصل دون الطلاق؛ فإنه صرّح بالظهار، وكنّى عن غيره، والصريح الملفوظ أقوى، وبالنفوذ أولى من المكنّى.
والقسم الثاني - أن يقول: نويت بقولي: "أنت عليّ حرام ظهاراً، ولم أنو غيره"، فيصير مظاهراً بقوله: أنت علي حرام ويكون قوله كظهر أمي تأكيداً لما مضى.
9521- والقسم الثالث - أن يقول: أردت الطلاق والظهار جميعاًً، وهذا ينقسم: فإن قال: أردتهما جميعاًً بقولي: "أنت عليّ حرام، وأتيت بالنية مع هذا اللفظ دون ما بعده"، قال الشيخ: ففي هذه المسألة ثلاثة أوجه - أحدها- أنه يقال له: اختر، فلا سبيل إلى تحصيلهما جميعاًً، ولا بد من أحدهما.
والوجه الثاني - أن الطلاق ينفذ دون غيره، وقد وجهنا هذا الوجه فيما تقدم.
والوجه الثالث - أن النافذَ الظهارُ في هذه الصورة؛ فإنه أقوى من الطلاق إذ في الكلام بوحٌ (2) يذكره تصريحاًً فتغليب ما فيه لفظٌ صريح في معناه أولى.
* ولو قال: أردت بقولي: أنت عليّ حرام طلاقاً، وبقولي كظهر أمي ظهاراً، أما
__________
(1) (ت 2) : مفترقين.
(2) (ت 2) : ثم يذكره تصريحاًً.(14/491)
الطلاق، فإنه يقع على الصحيح، وهو الذي عليه نفرّع في هذه المسألة، ثم إن كان الطلاق بائناً، فلا معنى للظهار بعده، وإن كان رجعياً، فقد ظاهر عن رجعية، فيثبت الظهار، ثم لا يكون عائداً حتى يرتجعها.
قال الشيخ: من أصحابنا من قال في هذه الصورة: إنه ينفذ الطلاق، [ولا يصح] (1) الظهار أصلاً؛ لأنه قد استغرق قولَه: "أنت عليّ حرام" بالطلاق، فبقي قوله: "كظهر أمي"، وهذا كلام غير مستقل بنفسه، فلا يصلح لكونه كناية، وليس صريحاً أيضاً لنقصانه.
وهذا مردود مزيف؛ فإن إشعاره بالظهار لا ينكر، والكلام منتظم على ما ذكرناه.
* ولو قال: أردت بقولي: "أنت علي حرام" ظهاراً، وبقولي: "كظهر أمي" طلاقاً"، حصل الظهار، ولم ينفذ الطلاق. هكذا قال الشيخ، وعلل بأن قوله كظهر أمي صريح في موضوعه وبابه.
ولو قال قائل يقع الطلاق؛ من حيث إن قوله: كظهر أمي ليس مستقلاً بنفسه، لم ينفذ، وإلى هذا أشار شيخي، والاحتمال فيه ظاهر.
* ولو قال: "أردت بقولي: أنت علي حرام تحريمَ عينها، ولم أنو غيره" فإن قلنا: التحريم صريح في ذلك، كما قدمنا ذكره في الطلاق، فيثبت ما قاله لا شك فيه، ويلزمه كفارة اليمين على التفصيل المقدم، ولا يثبت الظهار أصلاً، ويكون ذلك في حكم التحريم بمثابة ما لو قال: "أنت طالق كظهر أمي"، فيقع الطلاق دون الظهار.
وإن قلنا: لفظ التحريم كناية في تحريم العين (2) وإيجاب الكفارة، كما أنه كناية في الطلاق، فإذا قال: نويت به التحريم الملزم للكفارة، ولم أنو غيره، فالمذهب أن التحريم يحصل دون الظهار.
__________
(1) في الأصل: فلا يصح.
(2) (ت 2) : المعنى بالكفارة.(14/492)
وفي المسألة القول البعيد أنه يحصل الظهار دون التحريم، وتكون نية التحريم في مقتضاها كنية الطلاق، ثم لو نوى به الطلاق، ففي المسألة قول بعيد أنه يحصل الطلاق، ويحصل الظهار، فكذلك إذا نوى تحريم العين، وجعلناه كناية فيه، فيخرج فيه قول آخر أنه لا يحصل التحريم ويحصل الظهار.
9522- ومن بقية هذه المسألة أنه لو أطلق التحريم، وقال: أنت علي كظهر أمي، ولم يَنْوِ شيئاً، فإن قلنا: التحريم صريح في تحريم العين، فتلزم كفارة اليمين، وإن قلنا: إن التحريم كناية في تحريم العين، ولم ينو شيئاً، قال الشيخ: فينبغي أن يصير مظاهراً، ويلغو قوله حرام، فيبقى قوله: أنت علي كظهر أمي، وهذا حسن فقيه.
ثم قالوا لو ذكر اللفظَ على الصيغة التي ذكرناها، ثم قال: أردت به ظهاراً لا بل طلاقاً، فقد قال الأصحاب يحصلان جميعاًً، فإنه أقرّ بهما.
قال الشيخ: هذا محتمل (1) عندي، فإنه يحتمل أن يجعل كأنه نواهما معاً بقوله: أنت علي حرام، وقد قدمنا في ذلك تفصيلاً.
فهذا نهاية البسط على أبلغ (2) وجهٍ في البيان.
فصل
قال: "ولو قال لأخرى: أشركتك معها ... إلى آخره" (3) .
9523- إذا ظاهر عن واحدة، ثم قال لأخرى: أشركتك معها، أو أنت شريكتها، أو أنت كهي، فإن لم ينو الظهار، فليس بظهار، وإن نوى الظهار، فقولان.
وضبط المذهب يظهر بذكر مرتبتين متعارضتين، وإيقاع الظهار بينهما. فإذا قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق، ثم قال لأخرى: أنت شريكتها، ونوى تطليقها، وقع الطلاق.
__________
(1) (ت 2) : هذا محتمل أن يجعل كأنه نواهما.
(2) (ت 2) : أجمع.
(3) ر. المختصر: 4/121.(14/493)
ولو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أجامعك، ثم قال لأخرى أنت شريكتها، ونوى الإيلاء عنها، فلا يحصل الإيلاء بما ذكرناه من أن هذا إحالة اليمين، وإزالة صيغتها بالكلية.
أما الظهار، فإنه بين الطلاق والإيلاء.
وقد ذكر الأئمة قولين في أنه هل يُلحَق بالطلاق في مشابهه وأحكامه أم يلحق بالإيلاء؟ وسيدور (1) القولان، ويتشعب عنهما مسائلُ [جمة] (2) في الكتاب: فإن ألحقناه بالطلاق، فلفظ الإشراك مع نية الظهار يُثبت الظهار، وإن ألحقناه بالإيلاء، فلا يحصل الظهار بلفظ الإشراك، كما لا يحصل الإيلاء بلفظ الإشراك، فإن قيل: تشبيه الظهار بالطلاق من جهة أنه يحرّم تحريمَه بيّنٌ، فما وجه تشبيهه بالإيلاء؟ قلنا: الظهار [لا يبتّ] (3) الملك ولا يؤثر فيه بالتوهين كالإيلاء، ويتعلق بكل واحد منهما كفارة.
فصل
قال: "ولو تظاهر عن أربع نسوة بكلمة واحدة ... إلى آخره" (4) .
9524- صورة المسألة: رجل تحته أربع نسوة تظاهر عنهن بكلمة واحدة: فقال: أنتن عليّ كظهر أمي، فإن طلقهن عقيب اللفظ، فليس عليه كفارة، فإنه ظاهر ولم يعد، وإن أمسكهن حتى مضى زمان إمكان الطلاق، ففي المسألة قولان: أظهرهما - أنه يلزمه أربع كفارات؛ نظراً إلى عدد اللواتي ظاهر عنهن.
والقول الثاني - أنه يلزمه كفارة واحدة؛ اعتباراً باتّحاد اللفظ، والقولان يبتنيان على أن المغلَّب في الظهار مشابه الطلاق أو مشابه اليمين. فإن قلنا: المغلب معنى الطلاق، تعددت الكفارات، كما تتعدد الطلقات إذا قال: طلقتكن، ويلحق كل
__________
(1) (ت 2) : وسنذكر القولين ويتشعب عنهما مسائل في الكتاب.
(2) في الأصل: جهة، وساقطة من (ت 2) . والمثبت من المحقق.
(3) في الأصل، وكذا في (ت 2) : لا يثبت الملك. والتغيير من اختيار المحقق.
(4) ر. المختصر: 4/121.(14/494)
واحدة منهن طلقة، ولا يستقيم على السبر إلا هذا القول؛ فإنه إذا ظاهر عنهن، فقد ثبت التحريم في حق كل واحدة منهن، وهن متميزات، والتحريم في حق كل واحدة صفة شرعية لها، ويظهر بهذا تعدد التحريم، فإذا تعدد التحريم، فليتعلق كل تحريم بعَوْد وكفارة.
وإن غلبنا جهة اليمين، فالواجب كفارة واحدة، كما لو حلف لا يطؤهن (1) ، فإنه لا يلتزم بوطئهن إلا كفارة واحدة، وهذا القول ضعيف، وإن كان مشهوراً.
ويمكن تقريب القولين بما إذا قذف جماعة بكلمة واحدة، فإن للشافعي قولين: أحدهما - يلزمه حدٌّ واحد لاتحاد اللفظ. والثاني - يلزمه حدودٌ لتعدد المقذوف وتعدد حكم التعيين والجناية على العرض، فالمعنى متعدد وإن اتحد اللفظ، وقد نُقرّب هذا بما إذا حنث في يمينين بفعل واحد، فإنا ذكرنا اختلافاً في أن الكفارة تتّحد أم تتعدد.
9525- فهذه أصول متشابهة، وأقرب أصل بما نحن فيه شبهاً قذفُ الجماعة بكلمة واحدة، فإن قلنا: يلزمه أربع كفارات، فلو طلق البعضَ معقباً باللفظ، أو مات بعضهن على أثر اللفظ، فتسقط الكفارة التي كانت تقابل التي ماتت، وكذلك لا تجب الكفارة في حق التي طلقت على الاتصال.
وإن قلنا: الواجب كفارة واحدة في ظهارهن، فلو ماتت ثلاثٌ منهن على أثر اللفظ أو طلق ثلاثاًً منهن، وعاد في الرابعة، فالكفارة تلزم، وليس كما لو حلف لا يجامعهن، فإنه لا يلزم الكفارة ما لم يجامع جميعَهن، حتى لو فات الجماع في واحدةٍ، لم يلتزم الكفارة أصلاً.
والسبب فيه أن اليمين لا توجب الكفارة إلا عند تحقق الحِنث، والحِنثُ يحصل بجماعهن، وكفارة الظهار لا تتعلق بحنث، وإنما تتعلق بزور ومنكر يحُقِّقُه العَوْدُ، فإذا ظهر ذلك وثبت في واحدة وإن لم يظهر في ثلاث، فيتحقق موجب الكفارة.
وقيل: الظهار وإن ألحقناه باليمين، فهو نازعٌ إلى الطلاق، وهذا كلام مطلق يشعر بعجز المقدِّر (2) .
__________
(1) (ت 2) : لايظاهر.
(2) يشعر بعجز المقدّر. هل المعنى: يشعر بعجز من يفدر الظهار طلاقاً؟(14/495)
وكان شيخي يحكي في تعليل ذلك عن شيخه القفال: أن الظهار نازع إلى الطلاق، فيبقى لذلك الحكم في الحيَّة (1) ، ولم تتعدد الكفارة للنزوع إلى الأيمان، وهذا شأن كل أصل يتجاذبه أصلان فيؤثر عليه (2) مقتضاهما.
وهذا كلام مضطرب؛ فإن كل واحدٍ من القولين إنما ينتظم بتغليب أحد الشبهين، فإذا أردنا تغليبهما، والجمعَ بينهما، لم يستقم، وفيما قدّمته من الفرق بين اليمين وبين الظهار أكمل مقنع.
وبالجملة [لا يُتلَقى اتحاد] (3) الكفارة من مشابهة الأيمان، وإنما استيفاؤه (4) من قذف الجماعة بالكلمة الواحدة كما قدمناه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا تظاهر عن النسوة بالكلمة الواحدة.
9526- فأما إذا أفرد كلّ واحدة بكلمة، وخاطبها بظهار منفرد، فلا شك في تعدد الظهار، ثم ظهاره عن الثانية عَوْدٌ في حق الأولى (5) ، والظهار عن الثالثة عوٌد عن الثانية، والظهار عن الرابعة عود في حق الثالثة، فإن عاد في حق الرابعة بأن أمسكها زمانَ إمكان الطلاق، لزمته أربع كفارات، وإن طلق الرابعة لما ظاهر عنها، فيلزمه ثلاث كفارات بسبب الثلاث المتقدّمات، إذ قد تحقق في حقوقهن الظهار والعَوْدُ جميعاًً.
أما الظهار، فبيّن: مأخوذ من تعدد الألفاظ، وتعدد المحل، ولا يبقى بعد التعدد في هذين سبب مانع من الحكم بالتعدد في الظهار.
أما العَوْد، فقد حققناه؛ إذ قلنا: اشتغاله بالظهار للثانية تركٌ منه لطلاق الأولى، وكذلك القول إلى الرابعة.
__________
(1) الحيّة: أي الزوجة التي بقيت بعد موت الثلاث.
(2) (ت 2) : فيه عليهما.
(3) في النسختين: "لا يُلفى الاتحاد".
(4) (ت 2) : اشتقاقه.
(5) اعتبر عوداً في حق الأولى، لأنه أمسكها زمانا يسع الطلاق، بدليل أنه وسع ظهاره من الثانية.(14/496)
9527- ولو قال لأربع نسوة: حرّمتكن وقصد تحريمهن بأعيانهن، ففي اتحاد الكفارة وتعددها ما في تعدد كفارة الظهار واتحادها، على ما تقدم.
وكل هذا فيه إذا خاطب نسوةً بكلمة أو كلمات.
9528- فأما إذا كرر الظهار في امرأة واحدة، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم قال مثلَ ذلك ثانية وثالثة إلى غير ذلك، فلا تخلو هذه الكَلِم إما أن يأتي بها متواصلة من غير تخلل فَصْلٍ، وإما أن يأتي بها متقطعة مع تخلل فواصل، فإن أتى بها متصلات وِلاءً، [و] (1) زعم أنه أراد بجميع الألفاظ ظهاراً واحداً، وإنما كررها تأكيداً، فالظهار واحد، والكفارة واحدة، إذا وجبت، كما ذكرناه في الطلاق والإيلاء، ثم إن فرغ من الألفاظ المتواصلة، وسكت عن الطلاق حتى مضى زمان إمكانه، فتلزمه الكفارة.
وإن أتى بهذه الكلمات على التواصل، ثم عقبها بالطلاق، فظاهر المذهب أنه ليس بعائد، ولا تلزمه الكفارة.
ومن أصحابنا من قال: تلزمه الكفارة.
توجيه الوجهين: من قال تلزمه الكفارة، احتج بأنه أخر الطلاق لمّا اشتغل بالتأكيد على زعمه مع تمكنه من تعقيب الكلمة الأولى بالطلاق، فإذا لم يفعل، كان اشتغاله بالتكرير والتأكيد تركاً منه للطلاق وعوْداً.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الكلمة إذا تكررت على شرطها في التواصل، فهي كالكلمة الواحدة، ولا يتخللها حكم بتقصير أو تأخير، وكأن المؤكِّد إنما فرغ من كلامه عند فراغه من الكلمة الأخيرة، وهذا الوجه أفقه، إن شاء الله تعالى.
9529- ولو كرر الكلمَ، وزعم أنه أراد بكل كلمةٍ ظهاراً جديداً، فالمذهب أن الظهار يتعدد، ثم ننظر بعد ذلك في الكفارة، كما سنذكره في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى، وفي بعض التصانيف أنه وإن نوى التجديد والاستئناف؛ فيُخرَّج خلافٌ في اتحاد الكفارة وتعددها، وهذا القائل يقول: إذا تعددت الكَلِم على قصد التجديد
__________
(1) (الواو) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.(14/497)
واتحد المحلّ (1) ، كان كما لو تعدد المحل واتّحدت الكلمة، فيخرج على قولين.
وهذا بعيد.
وحاصل المذهب أن المحالّ إذا تعددت، وتعدّدت الكَلِم أيضاًً، فالقطع بتعدد (2) الظهار والكفارة إذا تعدد العود.
وإن اتحدت الكلمة وتعدد المحل، ففي تعدد الكفارة قولان.
وإذا تعددت الكَلِم، واقترن بها قصد الاستئناف والتجديد، واتحد المحل، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بتعدد الظهار والكفارات إذا تحقق العَوْد، كما سنصفه.
والطريقة الأخرى - حَملُ المسألة على قولين، كما لو تعدد المحل واتحدت الكلمة.
وذكر العراقيون مسلكاً (3) آخر، فقالوا: إذا ظاهر عن امرأته وعاد، ولم يكفر، ثم ظاهر مرة أخرى بعد تخلل زمان متطاول، فهل يصح منه الظهار حتى إذا عاد فيه تلزمه الكفارة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يصح [الظهار] (4) ما لم يكفر ظهارَه الأول.
وهذا قريب مما ذكرناه في تعدد الكلم مع قصد الاستئناف، ولكنهم عبروا عنه بهذه العبارة، ويمكن أن يقال: مأخذه من تكرير القذف بكلم على مقذوف واحد، مع تعدد الزمان المخبَر عنه؛ فإنه إذا اتحد، فلا حكم (5) لتعدد الإخبار عنه، وإذا كنا نأخذ الظهار عن نسوة بكلمةٍ عن قذف جماعة بكلمةٍ، فلا بُعْد في أخذ الظهار عن امرأة بكلمات من قذف رجل بكلمات ونسبته إلى زَنْيات.
وهذا غير سديد؛ فإن القذف يوجب الحد، ومن قضايا الحد الاندراج إذا اتحد جنس الواجب ولم يتخلل استيفاءُ الحد، وهذا المعنى لا يجري في الكفارات،
__________
(1) (ت 2) : واتحاد الكفارات.
(2) (ت 2) : فالقطع مبنية بتعدد ...
(3) (ت 2) : مثلاً آخر.
(4) زيادة من (ت 2) .
(5) (ت 2) : نحكم.(14/498)
فالوجه أن نفرِّع على أن الظهار يتعدد [بتعدد] (1) الكلم إذا قَصَد مُطْلِقها الاستئنافَ والتجديدَ.
9530- ثم إذا أتى بهذه الكلم المتواصلة على قصد التجديد والاستئناف، فلا يخلو إما أن يطلِّق عقيب الفراغ منها، وإما ألا يطلق، فإن طلق، فهل نجعله عائداً في الظهار الأول؛ بسبب الاشتغال بالظهار الثاني أم كيف الوجه؟ في المسألةِ وجهان: أحدهما - أنه يكون عائداً في كل ظهار يسبق إذا اشتغل بظهار بعده؛ فإنه بالاشتغال بالظهار يكون تاركاً للطلاق، وهذا أقيس الوجهين في صورة التجديد.
والوجه الثاني - أنا لا نجعله عائداً، فإن كل ما يأتي به جنسٌ واحد؛ وإن كان له حكم التجديد، فما لم يفرغ عن هذا الجنس لا نجعله عائداً.
وهذا ضعيف عندنا، ولكن حكاه القاضي وغيرُه، والوجه أن يرتب على صورة التكرير والتأكيد، فإن جعلنا المؤكِّد عائداً، فلأن نجعل المجدد عائداً أولى.
وإن قلنا: لا يكون المكرر المؤكِّد عائداً، ففي المسألة وجهان، والفرق أن التأكيد في حكم الجزء من الكلام المؤكَّد، فكأنْ لا فراغَ عنه ما لم ينقض التأكيد، وأما التجديد، فمن ضرورته قطعُ الكلام الأول واستئنافُ آخر.
فإذا فرعنا على الأصح، نظرنا في عدد الألفاظ، وجعلنا كلَّ لفظة عَوْداً في التي قبلها، ثم نظرنا إلى اللفظة الأخيرة؛ فإن استعقبت سكوتاً، فقد تحقق العَوْد فيها أيضاًً، فيجب الكفارةُ بأعداد الكلم، وإن عقب الكلمة الأخيرةَ بالطلاق، فلم يَعُد فيها، فلا كفارة عليه بسببها، وتجب الكفارات بأعداد الكلم التي قبلها. فإذاً أوضحنا أنه صار عائداً فيها على الأصح، هذا إذا واصل الكلام ونوى به تأكيد أو تجديداً.
فأما إذا أطلق الألفاظ، ولم ينو تأكداً ولا تجديداً، ففي المسألة قولان كالقولين في نظير هذه المسألة من مسائل الطلاق، فإن قلنا: إن الألفاظ محمولةٌ على التأكيد، فقد مضى حكم التأكيد. وإن قلنا: إنها محمولة على التجديد، فقد مضى حكم التجديد، وكل ذلك والألفاظ متواصلة.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .(14/499)
9531- فأما إذا أتى بها متقطعةً منفصلةً وتخلل بينهما من الأزمنة ما يمنع الحمل على التأكيد على العادة الجارية فيه، أما العراقيون، فإنهم أجرَوْا القولَ الضعيف الذي حكَوْه، وقالوا: لا يصح الظهار الثاني وما بعده إذا لم يتخلل تكفير، وهذا وجه مزيّفٌ لا أصل له، ولا عوْد إليه.
فنقول إذاً: إذا تقطعت الكلم وقصد بكل كلمة ظهاراً، فقد تعدد الظهار، فإذا تعدد العَوْد (1) ، تعددت الكفارات.
ولو قال: قصدت التكرار وإعادة [عين ما تقدم،] (2) ففي بعض التصانيف أن جواب القفال اختلف في ذلك، فقال مرة: يقبل ذلك منه، وقال مرة: لا يقبل، وهذا فصلٌ قد قررناه فيما سبق عند ذكرنا أن كَلِمَ (3) الإيلاء إذا تعددت مع تخلل الفواصل يجوز أن تحمل على التكرار والاتحاد تشبيهاً بالإقرار، وفيه تردد قدمته.
فاختلاف جواب القفال في الظهار ينبني -بعد التنبيه- على ما ذكرناه، وهو أن تغليب شوْب الطلاق في الظهار أغلب أم (4) تغليب شوب الإيلاء؟ فإن رأينا تغليبَ الطلاق، فلا يقبل منه دعوى التكرار، وكل لفظ يصدر منه ظهارٌ جديد، ككلم الطلاق وقد تخللتها الفواصل.
وإن قلنا: شوبُ الإيلاء أغلب، فهو ككَلِم الإيلاء إذا تكررت وبينها الفواصل، هذا إذا قال: قصدت التجديد أو التكرار، وليس من الحصافة ذكرُ عبارة التأكيد في هذا المقام؛ فإن التأكيد إنما يجمُل موقعه إذا توالت الألفاظ، وهذا (5) يَذْكُر التكرارَ، وقد يثبت مذهبُ التكرار مع الفواصل، كما ذكرناه في الإقرار.
فأما إذا أطلق هذه الألفاظ وقد تخلّلتها الفواصل، فالوجه عندنا حملُها على الاستئناف والتجديد، لا على التكرار.
__________
(1) (ت 2) : القول.
(2) في النسختين: غير ما تقدم.
(3) (ت 2) : حكم.
(4) (ت 2) : من تغليب.
(5) وهذا: أي القائل.(14/500)
فصل
قال: "ولو قال: مهما تظاهرتُ من فلانة الأجنبية ... إلى آخره" (1) .
9532- إذا كانت له امرأتان: حفصة وعمرة، فقال لحفصة: إن تظاهرت عنك، فعمرة عليّ كظهر أمي، فتظاهر عنها، ثبت الظهار عنهما جميعاً، أما حفصة فقد نجّز ظهارها، وأما عمرة، فقد كان علق الظهار عنها على الظهار عن حفصة، وقد ظاهر عن حفصة، فحصل الظهار عنهما تنجيزاً وتعليقاً.
ولو قال: إذا تظاهرتُ عن إحداكما، فالأخرى عليَّ كظهر أمي، ثم تظاهر عن إحداهما، انعقد الظهار فيهما تنجيزاً وتعليقاً، كما تقدم.
9533- ولو قال: إن تظاهرتُ عن فلانة، وسمى امرأةً أجنبيةً، فأنت عليّ كظهر أمي -خاطب زوجته- فلا شك أن الظهار عن الأجنبية لا يصح، فلو نكحها وظاهر عنها والزوجية قائمة في التي كان علق ظهارها أولاً، فيصير مظاهراً عنها؛ فإن الصفة التي علق ظهارها عليها قد تحققت.
ولو قال لتلك الأجنبية: أنت علي كظهر أمي، لم يحنَث في زوجته، ولم يصر مظاهراً عنها، فإن الذي أجراه لم يكن ظهاراً، وإنما كان لفظَ الظهار، والتعليقاتُ بالعقود والحلول محمولةٌ عندنا على ما يصح منها، ولا يقع الاكتفاء بالألفاظ فيها.
فإن قال: أردت بقولي إن تظاهرت عن فلانة مخاطبتَها بهذا القول، ولم أُرد غير صورة القول، فيصير مظاهراً عن امرأته حينئذ بإجراء هذا القول مع الأجنبية، فإنّ ما ذكره من الحمل على القول ممكنٌ وإن كان بعيداً، وقد ذكرنا أن المحامل البعيدة مقبولة في تحقيق الحِنْث، [وإنما نرى المحاملَ البعيدة ظاهراً] (2) في ردّ الحنث، حتى نقول: الأمر مردود إلى الباطن (3) ومقتضى التديين.
__________
(1) ر. المختصر: 4/122.
(2) في الأصل: فإنا نرى المحامل البعيد تظاهراً.
(3) (ت 2) : الناظر.(14/501)
هذا إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة -وقد كانت أجنبية-، وهو لم يتعرّض في يمينه لذكر كونها أجنبية، فأما إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة أجنبيةً (1) ، فأنت علي كظهر أمي (2) ، فقد شرط في الظهار عن المذكورة أن تكون أجنبية، وليس يخفى أن الظهار لا يصح مع الشرط الذي ذكره، قال الأصحاب: هذا تعليق بصفة لا تكون؛ فلا يحكم (3) بحصول الظهار.
وقال المزني: هذا محمول على لفظ الظهار، فإذا قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، فقد (4) تحققت الصفة، وهذا كما لو قال: إن اشتريت الخمر، فأنت طالق، فإذا اشترى الخمر كما يشتري الخمر طالبوها، وقع الطلاق، والأصحاب على مخالفة المزني، ومنهم من يشبّب بموافقته، وسنذكر هذا المذهب للمزني وخوض الأصحاب معه (5) في الكلام في كتاب الأيمان، إن شاء الله عز وجل.
وإذا كان قال: إن تظاهرت عن فلانة أجنبيةً، فأنت علي كظهر أمي، فلو نكح تلك المعيّنة وظاهر عنها في النكاح، صح الظهار، ولم يحصل الحنث؛ فإنه شرط في الحنث وقوع الظهار في حالة كونها أجنبية، فإذا ظاهر عنها بعد النكاح، فليس هذا الظهار الذي ذكره، ولو أنه أراد لفظ الظهار، ثم قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي، فيصير مظاهراً عن زوجته، كما قدمناه.
ولو قال: إن ظاهرتُ عن فلانة الأجنبية، فأنت عليّ كظهر أمي، فلو نكحها، ثم ظاهر عنها، فهل يصير مظاهراً عن زوجته، وقد صح الظهار عن تلك التي نكحها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يصير مظاهراً عن زوجته، كما لو قال: إن ظاهرت عن فلانة ولم يتعرض لكونها أجنبية.
__________
(1) أجنبيةً حال، أي تعرض لذكر كونها أجنبية.
(2) عبارة (ت 2) فيها سقط، فهي هكذا "هذا إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة -وقد كانت أجنبية - فأنت علي كظهر أمي، فقد شرط في الظهار..".
(3) (ت 2) : فالحكم.
(4) في النسختين: وقد.
(5) (ت 2) : بعدُ في الكلام في كتاب الأيمان.(14/502)
والوجه الثاني - أنه لا يصير مظاهراً عن زوجته، لأنه ذكر تلك المرأة ووصفها بكونها أجنبية؛ إذ قال: إن ظاهرتُ عن فلانة الأجنبية، فإذا نكحها خرجت عن كونها أجنبية، وحقيقة الوجهين تنزِع إلى أن قوله: "فلانة الأجنبية" هل يقع شرطاً أم هي للتعريف والإعلام لا للاشتراط؟ وفيه الخلاف.
وقد دار الكلام على ثلاث صور: إحداها - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة من غير أن يتعرض لكونها أجنبية.
والثانية - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة أجنبيةً، أو قال: إن ظاهرت عن فلانة وهي أجنبية، فهذا اشتراط.
والثالثة - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة الأجنبية (1) ، وهذا مردّدٌ بين التعريف وبين الشرط.
***
__________
(1) (ت 2) : وهي أجنبية.(14/503)
باب (1) العوْد
قال الشافعي رحمه الله: "قال الله عز وجل {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ... } [المجادلة: 3] الآية ... إلى آخره" (2) .
9534- مضمون هذا الباب الكلامُ في العود ومعناه؛ [فإنه] (3) عز من قائل [علّق] (4) الكفارة بالظهار والعَوْد جميعاًً؛ إذ قال تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] .
وقد اختلف مذاهب العلماء في تفسير العَوْد، فذهب الثوري (5) وغيره إلى أن العَوْد هو الإتيان بالظهار في الإسلام، ونفسُ لفظ الظهار عنده موجِبٌ للكفارة، ومعنى العود في الكتاب أن الظهار لفظٌ كانت العرب في الجاهلية [تستعمله، فمن استعمله في الإسلام فكأنه عاد لما كان ومعناه في الجاهلية] (6) .
وهذا لا حاصل له؛ فإن الله عز وجل ذكر الظهار، ورتب عليه العَوْد، فقال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] ، وهذا يقتضي إنشاء أمرٍ هو العَوْد بعد الظهار، فلا يوافق هذا المذهبُ ظاهرَ الكتاب أصلاً.
__________
(1) (ت 2) : باب ما يوجب على المظاهر كفاراته.
(2) ر. المختصر: 4/123.
(3) في الأصل: أنه.
(4) في الأصل: على.
(5) الثوري: سفيان الثوري، أمير المؤمنين في الحديث، إمامُ العلم والعمل، كان آية في الحفظ، أعرف من أن يعرّف. توفي سنة 161هـ عن سبع وستين سنة (ر. تهذيب التهذيب 4/111- 115، وتاريخ بغداد: 9/151، وحلية الأولياء: 6/356، ووفيات الأعيان: 2/386) .
(6) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) حيث سقط من الأصل.(14/504)
وذهب داود إلى أن العَوْد تكرير كلمة الظهار، وهذا ركيكٌ لا أصل له.
وذهب الزهري ومالك (1) في إحدى الروايتين إلى أن العَوْد هو الوطء، وهذا المذهب فيه استيضاح (2) حقيقة المعنى، فإن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُون} [المجادلة: 3] معناه ثم يناقضون ما كان منهم؛ فإن الظهار مقتضاه التحريم، فإذا جرى شيء يخالفه ويناقضه، فهو الذي فهمه العلماء من العود، وهو بمثابة قول القائل: قال فلان قولاً وعاد فيه، أي يُتبعه بما يخالفه.
ثم من فهم هذا على الصحة، اختلفوا فيما يقع [به] (3) المخالفة، فذهب الزهري ومالك إلى أن المخالفة تقع بالوطء لا غير.
وقال أبو حنيفة (4) في رواية، ومالك في رواية: العَوْد هو العزم على الوطء.
والرواية الصحيحة عن أبي حنيفة وعنها يذبُّ أصحابُه وبها يُفتون أن الكفارة لا تستقر في الظهار استقرار اللزوم (5) ، وإنما هي مشروعة للاستحلال، فإن كفّر، استحلّ، وإن وطىء قبل التكفير (6) عصى ربَّه، ولم تستقر الكفارة أيضاًً، بل التحريم باقٍ إلى أن يكفر.
وهذا وإن اختاروه مضطربٌ؛ سيّما على أصلهم؛ فإن الكفارة لا تقدّم على وجوبها، وهذا الذي ذكروه تكفير قبل الوجوب.
والمذهب الصحيح للشافعي أن العَوْد هو أن يمسكها عقيب الفراغ من الكلمة زماناً يتمكن فيه من الطلاق، فإذا فعل ذلك ولم يطلق، فقد أمسكها زوجةً، وإمساكُها زوجةً في لحظةٍ يناقض ما اقتضاه الظهار من التحريم.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/772 مسألة 1429، عيون المجالس: 3/1269 مسألة 887.
(2) (ت 2) : استفتاح.
(3) في الأصل: فيه.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/485 مسألة: 1020، المبسوط: 6/224، 225.
(5) (ت 2) : الزوج.
(6) عبارة (ت) : هي مشروعة للاستحلال، فإن وطىء قبل التكفير عصى ربه.(14/505)
والحملُ على الوطء [بعيدٌ] (1) ، فإنه تعالى ذكر الظهار والعَوْد، ثم قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، فأشعر هذا بكون الظهار والعود متقدمَيْن على التماسّ، وقد قيل: للشافعي قولٌ في القديم أن العود هو الوطء، وهذا إن صح، فهو في حكم المرجوع عنه، ولا معوّل عليه.
ثم إذا ظاهر الرجل، ولم يطلّق، حتى مضى زمانٌ يسع التطليق، فقد عاد، واستقرت الكفارةُ، فلو تلفظ بالظهار ومات هو عقيبه أو ماتت، فلا كفارة؛ فإن الإمساك لم يتحقق، وأيس (2) من العود.
ولو طلقها، فالطلاق ينافي العود، فلا تجب الكفارة، ثم لو راجع بعد الطلاق الرجعي، أو جدد النكاح بعد الطلاق المبين، فسنفردُ في ذلك فصلاً؛ فإنه عمدةٌ (3) الكتاب.
ثم ذكر المزني كلاماً لا يليق بهذا المحل، فنذكره ثم نعود إلى ما وعدناه (4) من تفصيل الطلاق والرجعة والنكاح.
9535- قال الشافعي: "معنى قوله سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وقتٌ لأن يؤدي فيه ... إلى آخره" (5) .
أراد بذلك أن المظاهر يحرم عليه الجماع حتى يكفّر، فإن كان يكفر بصوم الشهرين المتتابعين، فحرام عليه أن يمَسها حتى يستكمل الصيام، فلو جامعها نهاراً في الشهرين فسد الصوم، وانقطع التتابع، ولزم استئناف صوم الشهرين، وتحريم الجماع ممتدٌّ، وليس هذا من خاصية الجماع، بل لو أفطر في اليوم الأخير من غير عذرٍ، على ما سيأتي التفصيل فيما يقطع التتابع وفيما لا يقطعه -فالحكم ما ذكرناه من فساد الكفارة ووجوب العود إلى استئناف الصوم، فلو كان يكفر بصوم الشهرين، فوطىء التي ظاهر
__________
(1) في الأصل: بعقدٍ.
(2) (ت 2) : وليس.
(3) (ت 2) : غمرة الكتاب.
(4) (ت 2) : ثم نعود إلى ما ذكرناه من تفصيل الطلاق.
(5) ر. المختصر: 4/124.(14/506)
عنها ليلاً فالجماع حرامٌ؛ لأنه قبل تبرئة الذمة عن الكفارة، ولكن صوم الشهرين لا يفسد بما جرى، والتتابع لا ينقطع، وقال أبو حنيفة (1) تفسد الكفارة.
وعبر الشافعي عن حقيقة المسألة بأن قال: الصوم مؤقت بالزمان المتقدّم على المسيس، فلو استفتح [شهرين] (2) بعد المسيس، لكان جميع الصوم وراء الوقت، فإذا مضى بعض الصوم قبل المسيس، فهذا المقدار واقعٌ في الوقت، فإيقاع البقية (3) وراء الوقت أقربُ إلى الامتثال من إيقاع الجميع وراء الوقت، والمسألة مشهورة مع أبي حنيفة.
9536- ثم قال: "فإذا منع الجماعَ أحببتُ أن يمنع القُبَلَ ... إلى آخره" (4) . قد ذكرنا أن من ظاهر وعاد، التزم الكفارة، ولا يحل له الوطء ما لم يكفر، وإذا حرمت التي ظاهر عنها، وتحقق التحريم في الوطء، فهل يحرم سائر جهات الاستمتاع، كالمسّ والاعتناق والقبلة، وغيرها من وجوه الاستمتاع عدا (5) الجماع؟ ظاهر النص (6) هاهنا أنه لا يحرم شيء سوى الجماع، ونص في رواية الزعفراني على أنه يَحْرُم جميع جهات الاستمتاع، فحصل قولان: أحدهما - ولعله الأظهر أن جميع الجهات من الاستمتاعات تَحْرُم كالوطء، وما (7) يحرّم الوطءَ من هذه الأجناس يحرِّم وجوه الاستمتاع كالعدة، والإحرام.
والقول الثاني - لا يحرم إلا الوطءُ، والمسيسُ في القرآن كنايةٌ عن الجماع، والقائل الأول يقول: هو محمول على حقيقته، ولا خلاف أن قوله تعالى: {إِذَا
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/499 مسألة 1043، المبسوط: 6/225.
(2) في الأصل: بشهرين.
(3) (ت 2) : النية.
(4) ر. المختصر: 4/124.
(5) (ت 2) : عند الجماع.
(6) (ت 2) : ظاهر المذهب.
(7) "وما يحرّم الوطء من هذه الأجناس ... إلخ" هذا الكلام دليل آخر للقول القائل بحرمة جميع الاستمتاعات، فالمعنى أن المعهود فيما يحرّم الوطء مثل العدّة والإحرام - أنه يحرم جميع الاستمتاعات.(14/507)
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] محمول على الوطء، فالمس في هذه الآية كناية بلا خلاف، وهي فيما عداها من الآي على التردد والاختلاف، كآية الملامسة، وكآية الظهار التي نحن في ذكر معناها.
9537- ثم نجمع في هذا كلاماً ضابطاً، إن شاء الله، فنقول: كل ما يُحرّم الوطءَ من جهة تأثيره في الملك، فلا شك أنه يُحرِّم سائرَ جهات الاستمتاع، كالطلاق، وما لا يحرّم الملك ويُقصد به استبراء الرحم عن الغير، فهو يحرّم جهات الاستمتاع بجملتها، كالعدة تجب في صلب النكاح عن وطء الشبهة، فإنها تتضمن التحريم من كل الوجوه.
وكل ما يبيح المرأة لشخصٍ، فلا شك أنه يحرمها على غيره من الوجوه كلها، كالنكاح في الأَمَة.
وكل تحريم يرجع إلى الأذى كالحيض، فهو مقطوع به في محل الأذى، وهو الوطء، ولا يثبت فوق السرة وتحت الركبة، وفي ثبوته دون السرة وفوق الركبة مع توقي الوقاع الخلافُ المعروف.
ثم من أصحابنا من حمل هذا الخلافَ على [التحويم] (1) على الحمى، وخشية الوقوع فيه.
ومنهم من حمله على غلبة الظن في الأذى في المحل القريب.
والعبادة التي حرُم الجماع فيها تنقسم إلى الإحرام، والصوم، والاعتكاف، فأما الإحرام، فإنه يحرّم التقاء البشرتين من كل وجه، وهذا تعبُّدٌ لا نلتزم تعليلَه.
وأما الصوم، فيحرُم الوقاعُ فيه، وكل ما يُخشى منه الإنزال، فهو محرم، وفيه تفصيل طويل ذكرته في موضعه من كتاب الصيام، وأما التلذذ مع الأمن من الإنزال، فالصحيح أنه لا يحرم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل، وهو صائم.
ومنهم من قال: التلذذ حرام من الصائم، وإنما نُبيح القُبلة والجسَّ ممّن لا يتلذّذ.
__________
(1) في النسختين: التحريم.(14/508)
وهذا خطأ صريح عندنا، والتعويل فيما يحرم ويحل على الأمن من الإنزال والخوف منه.
9538- وأما الظهار، ففيه قولان: أحدهما- أنه يحرّم كل استمتاع.
والثاني - أنه لا تحرم جميعاًً، فإذا لم تحرم، فلا بأس بالتلذذ، وإن أفضى إلى الإنزال، أما الاستمتاع بما تحت السرة وفوق الركبة، ففيه تردد: يجوز أن يخرّج على الخلاف المذكور في الحائض، ويجوز أن يقال: إنه يحلّ؛ فإن التحريم فيها ليس مربوطاً بالأذى.
9539- فأما الاستبراء، وتحريم المستبرأة، فإنا نقول فيه: إذا كانت الجارية مستبرأة، في جهة لو ثبت فيها كونُها مستولدةً للغير، لحرمت، فجميع وجوه الاستمتاع محرّم منها كما يحرّم من المعتدّة.
وأما المسبية، فلو ثبت أنها أمُّ ولدٍ، لم يضر، فالاستبراء فيها تعبُّدٌ؛ فلا يحل وطؤها، وهل يحل سائر وجوه الاستمتاع، فعلى اختلاف مشهور، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الاستبراء، إن شاء الله عز وجل.
9540- ومما أجراه الشافعي رضي الله عنه أن الذي يكفر بالإعتاق لا يطأ قبل الإعتاق، والذي يكفر بالصيام كذلك، ثم هذا (1) يطّردُ في التكفير بالإطعام، فلا يحل للذي يكفّر بالإطعام، أن يطأ قبل الإطعام، خلافاً لأي حنيفة (2) ، وهذا
__________
(1) (ت 2) : ثم في هذا نظر.
(2) ما عزاه الإمام إلى أبي حنيفة، نقله عنه الكمال ابن الهمام في الفتح، حيث قال: "وعما قلناه من عدم اشتراط الإطعام للحل، واعتبار الأطلاق في ذلك. قال أبو حنيفة فيمن قرب التي ظاهر منها في خلال الصوم: يستأنف، ولو قربها في خلال الإطعام لا يستأنف؛ لأن الله تعالى قيّد الصيام بكونه قبل التماس، وأطلق في الأطعام، ولا يُحمل الإطعام على الصيام؛ لأنهما حكمان مختلفان وإن اتحدت الحادثة" انتهى كلام أبي حنيفة (ر. فتح القدير: 4/259) .
هذا، والذي استقر عليه المذهب الحنفي فيما رأيناه في كتب السادة الأحناف غيرُ هذا، فالطحاوي يقول في مختصره (213) : "ومن ظاهر من زوجته، لم يحل له قربها ولا شيء منها حتى يكفّر، وسواه كان من أهل العَتاق أو من أهل الصيام أو من أهل الإطعام" ا. هـ. وفي مختصر =(14/509)
الخلاف نشأ من تقييد العتق والصيام بالمسيس، فإنه تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، وقال في الصوم: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ولما ذكر الإطعام لم يقيده بالتّماسّ، فقال أبو حنيفة: يتقيّد ما قيّده ولا يتقيد ما أرسله، ورأى الشافعي حمل المطلق على المقيّد، سيّما إذا اتحدت الواقعة.
فصل
قال: "ولو تظهّر، ثم أتبع الظهار طلاقاً ... إلى آخره" (1) .
9541- هذا هو الفصل الموعود، وبه يظهر سر العود، وفيه نذكر عَوْد الحنث في الظهار، فالله المستعان.
فنقول أوّلاً: من ظاهر عن امرأته وعاد، فإن أمسكها في زمان إمكان الطلاق، فقد لزمت الكفارة، واستقر لزومها، ثم كما استقرت الكفارة استقر التحريم المرتبط به (2) ، فلا يزول التحريم إلا بالتكفير، ومن أثر ذلك أنه لو ظاهر وعاد، ثم أبان زوجته، ثم نكحها، فهي محرّمة عليه، سواء قلنا بعود الحنث أو لم نقل به، لما حققناه من استقرار التحريم، وتعلقِ زواله بتبرئة الذمة عن الكفارة، فلا خلاص من الكفارة إلا بأدائها، ولا انتهاء للتحريم إلا بالتكفير، حتى قال المحققون: إذا ظاهر
__________
= اختلاف العلماء (2/498 مسألة 1041) : "قال أصحابنا: لا يجامع حتى يُطعم، إن كان فرضه الإطعام". وقال السرخسي في المبسوط: (6/225) : "وإن كانت كفارته بالإطعام، فليس له أن يجامعها قبل التكفير عندنا". ا. هـ. وقال الكاساني في البدائع (3/234) : "ويستوي في هذه الأحكام جميع أنواع الكفارات كلُّها من الإعتاق والصيام والطعام، أعني كما أنه لا يباح له وطؤها والاستمتاعُ بها قبل التحريبر والصوم، لا يباح له قبل الإطعام" ا. هـ. وقال المرغناني في الهداية عند قول صاحب البداية (وكفارة الظهار عتق رقبة، وكل ذلك قبل المسيس) قال في الهداية: وهذا في الإعتاق والصوم ظاهر للتنصيص عليه وكذا في الإطعام؛ لأن الكفارة فيه منهية للحرمة، فلا بد من تقديمها على الوطء ليكون الوطء حلالاً. (الهداية مع فتح القدير: 4/258) .
(1) ر. المختصر: 4/125.
(2) به: أي بالتكفير.(14/510)
وعاد، ثم اشترى التي ظاهر عنها، فلا يستحل وطأها بملك اليمين ما لم يكفر، هذا هو المذهب الظاهر، وفيه وجه بعيد ذكرته فيما تقدم.
هذه مقدمة مهدناها، ونخوض بعدها في بيان غرض الفصل.
9542- فإذا ظاهر وطلق على الاتصال، فلا يخلو إما أن يكون الطلاق رجعياً، وإما أن يكون الطلاق بائناً، فإن كان الطلاق رجعياً، فهذا (1) يمنع حصول العَوْد، فإذا لم يحصل العود، لم يلتزم الكفارة أصلاً، فإن راجعها وأمسكها صار عائداً، واختلف أصحابنا في أنه هل يصير بنفس [الرجعة] (2) أم بالإمساك بعدها؟ وهذا مما قدمنا ذكره، وظاهر النص يدل على أن نفس الرجعة عوْدٌ، وهو القياس؛ فإن العود مخالفةٌ [لمقتضى] (3) الظهار، وإذا كان إمساك ساعة مناقضاً للظهار، فالرجعة أولى بأن تكون مناقضة للظهار.
ومن فوائد (4) الوجهين أنا إن جعلنا نفسَ الرجعة عوْداً، فلو راجعها، ثم طلقها على الاتصال بالرجعة، فقد استقرت الكفارة بالظهار والعوْد وهو الرجعة، ولا أثر للطلاق بعد ذلك، وإن لم نجعل نفسَ الرجعة عوداً، فلو طلقها عقيب الرجعة، فهو غيرُ عائد، والكفارة غيرُ لازمة، هذا إذا كان الطلاق رجعياً.
فأما إذا كان الطلاق بائناً، أو كان رجعيّاً فتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فإذا جدّد النكاح عليها، فقد قال الأصحاب أولاً: هل يعود موجَب الظهار في النكاح الثاني على ما نفصله؟ قالوا: هذا يبتني على عَوْد الحنث، وفيه قولان منسوبان إلى الجديد والقديم، ثم بنَوْا عليه أنا إذا قلنا بعوْد الحنث، فالنكاح كالرجعة، فإن أمسك بعد النكاح، فقد عاد، ولزمت الكفارة الآن، وهل يكون نفس النكاح عوداً؟ فعلى
__________
(1) لا يصح أن يفهم من هذا أن الطلاق الرجعي وحده هو الذي يمنع العود، بل البائن من باب أولى، كما سيأتي تفصيله.
(2) في الأصل: الرجعية.
(3) في الأصل: يقتضي.
(4) المراد بفوائد الوجهين ما يعبّر بأثر الخلاف، أي ما يترتب على الفرق بين الوجهين، وقد ظهر هذا في المثالين الآتيين.(14/511)
وجهين وقد قدمنا ذكرهما، ورتبناهما على الوجهين في الرجعة.
هذا إذا رأينا عوْد الحنث.
وإن قلنا: لا يعود فكما (1) بانت انقطع الظهار وزال أثره، فلا تحرم في النكاح الثاني ولا تلزم الكفارة.
9543- وقد أرسل معظمُ الأصحاب ذكر القولين، ولم يعتنوا بالتعرّض للكشف، ونحن نذكر سؤالاً ينصّ على إشكال المسألة، ثم نخوض في الجواب بعدها. فإن قال قائل: إذا ظاهر عن امرأته، ثم أبانها، هلاّ قلتم: إنه بالإبانة حقق التحريم الجاهلي، ووفّى بما كانوا يَرَوْنَه ويعتقدونه، وليس كالطلاق الرجعي؛ فإنه من خواص الإسلام، ولم يعهد رجعة في الجاهلية على سبيل القهر، فإذا حقق معهودَ الجاهلية، فينبغي أن يكون هذا وفاءً بمقتضى اللفظ، ومن وفّى بمقتضى اللفظ، استحال أن يكون مخالفاً لها ناقضاً (2) لمعناها (3) ؛ هذا وجه.
وإن جُعل الظهار مقتضياً تحريماً مسترسلاً على الأزمان، وقيل الظهار علّة (4) الكفارة، [وللعلة] (5) شرطٌ، وهو العَوْد، فإن اتصل العود، فقد وُجدت العلةُ وشرطها، [فوجبت] (6) الكفارة، وإن ظاهر وكما (7) ظاهر أبان، ثم نكح بعد طول الزمان، فهذا النكاح مناقض للظهار الذي مقتضاه التحريم المسترسل، ومهما (8) وجدت العلّة وتخلف عنها شرطها، فإذا وجد الشرط، وجب ثبوت الحكم المعلول،
__________
(1) فكما: بمعنى عندما.
(2) (ت 2) : مناقضاً.
(3) وعود الضمير مؤنثاً هنا إما أن يكون على تقدير تأنيث (اللفظ) بمعنى (الكلمة أو اللفظة) أو عائد على (الجاهلية) فالمناقضة لمعناها في الظهار.
(4) (ت 2) : محلّه.
(5) في النسختين: والعلة.
(6) في الأصل: من حيث الكفارة. وهو من عجائب التصحيف، حيث جعل الكلمة الواحدة (فوجبت) كلمتين (من حيث) .
(7) وكما ظاهر: بمعنى عندما ظاهر.
(8) ومهما: بمعنى إذا.(14/512)
فهذا (1) المسلك لو صحّ، لوجب القطع بأن الكفارة تجب بالنكاح الثاني، ولا يخرّج (2) هذا على اختلاف القول في عَوْد الحنث.
والذي يعضد هذا السبيل أن خاصّية النكاح في هذه الأبواب طلب (3) الطلاق أو الطلاق نفسه، كما يفرض (4) في تعليق الطلاق مع تخلل البينونة، أما لزوم الكفارة، فليس من خواص النكاح، فحاصل السؤال بعد هذا البسط (5) أنا إن جعلنا البينونة وفاءً بتحريم الظهار، فليقع الاكتفاء بها، حتى لا نَفْرِضَ عوداً أو لزوم كفارة، ولتقع البينونة مع الظهار موقع البرّ من اليمين.
وإن لم يكن الأمر كذلك، ورأينا التحريم مسترسلاً على الأزمان، فينبغي أن يتحقق العود في النكاح الثاني قولاً واحداً، كيف فرض الأمر، كما قلنا إنه لو ظاهر وعاد، فالتحريم مسترسل على كل نكاح من غير بناء على عود الحنث.
9544- هذا حاصل السؤال ونحن نقول: أما الطرف الأول من السؤال وهو إحلال البينونة محل البرّ في اليمين، فلا أصل له من وجهين: أحدهما - أنه لو كان كذلك، لكان إذا ظاهر، ثم طلق طلاقاً رجعياً، يُجعل عائداً لقدرته على الإبانة (6) ، وآية ذلك أن الرجعية إذا انسرحت، فالبينونة تحصل مع انقضاء العدة غيرَ (7) مستندة، فالذي يطلق طلاقاً رجعياً مؤخرٌ للبينونة قطعاً.
__________
(1) (ت 2) : وهذا المسلك أوضح لوجوب القطع فإن الكفارة.
(2) (ت 2) : ولا يخرُج هذا عن اختلاف.
(3) لعل المعنى أن من خواص النكاح جواز الطلاق، فلا طلاق إذا لم يكن نكاح.
(4) (ت 2) : كما يعرض في تعليق الطلاق تقع البينونة.
(5) (ت 2) : الشرط.
(6) لقدرته على الإبانة: يعني بالطلاق الثلاث المبين، فهو بتطليقه طلاقاً رجعياً مؤخرٌ للبينونة، فهو إذاً ممسك: أي عائد، فهذا اعتراض على من جعل البينونة في الظهار كالبرّ في اليمين، أي تقطع آثار الظهار، فلا تعود في النكاح الثاني.
(7) (ت 2) : غير مستقل.
ثم معنى غير مستندة، أن البينونة لا تحصل إلا مع انقضاء العدة، ولا نحكم بأنها حصلت مع أول لحظة بعد الطلاق مستندةً إلى نيته الجازمة في عدم الرجعة مثلاً. فلا بينونة إلا مع انقضاء العدة.(14/513)
هذا وجهٌ في الرد على هذا الطرف.
وأما الوجه الثاني - فهو أنا لم نتعبد بتحقيق التحريم ومطابقة الجاهلية، فلا ينبغي أن يكون ذلك مظنونَ فقيهٍ، ولو كان من غرض الشرع تحقيقُ الفراق، لأدام حكم الجاهلية في أن الظهار طلاق.
بقي الطرف الآخر، وهو سؤال السائل في أن الكفارة ينبغي أن تُلْتزم في النكاح الثاني قولاً واحداً، وهذا موضع التوقف، ولكن تحريم الظهار وثبوت الكفارة من خصائص النكاح؛ إذ لا يفرض [الظهار] (1) في مملوكة، وإن كان تحريم عين (2) المملوكة في إيجاب كفارة اليمين كتحريم عين المنكوحة، فإذا استدعى ابتداءُ الظهار نكاحاً، يجوز أن يستدعي العودُ النكاحَ الذي جرى الظهار فيه؛ فإن الظهار مع اقتضائه -من حيث الصيغة- التحريمَ اختص بالنكاح دون ملك اليمين، وإن كانت المملوكة تُسْتَحَلُّ وتَحْرُم بأسباب، وتَحْرُم التحريمَ المقتضي للكفارة، فيجوز أن يتقيد مُطلَقُه بالنكاح الذي جرى فيه، كما (3) أن قول القائل لامرأته: "إن دخلت الدار، فأنت طالق"، فهذا من جهة الصيغة مسترسل؛ فإذا ارتفع النكاح وبقي الطلاق المعلق، فإن المرأة تعود ببقية الطلاق، ومع هذا جرى قولا عوْد الحنث، فكذلك أجرَوْا حكم العود ولزوم الكفارة على قولَيْ عوْد الحنث.
وإنما ينتظم الكلام بذكر مراتب لا بد من التنبّه لها:
المرتبة الأولى لتعليق الطلاق - فإنه يُعلِّق ما يملكه في ذلك النكاح، فإذا انبتَّ ذلك النكاح، ثم فُرض عودٌ، جرى قولا عَوْد الحنث في أوانهما حقَّ الجريان.
والمرتبة الثانية -للإيلاء- فإنه يمين لا يستدعي نكاحاً، ولكن لما تعلّق به طلب الطلاق، انتظم فيه عَوْدُ الحنث والتخريجُ على القولين، ولعل الأظهر العودُ.
والظهار ليس طلاقاً ولا يُفضي إلى طلب طلاق، ولكنه تحريم يختص بالنكاح،
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) (ت 2) : غير.
(3) (ت 2) : كما حكمنا أن قول القائل.(14/514)
ولا يجري ابتداءً إلا فيه، فلا يبعد تختلُ اختصاصِه بجميع آثاره بالنكاح الذي جرى فيه.
ويخرج على هذا المنتهى أن ما ذكرناه فيه إذا لم يتم الموجَب بالعود، فأما إذا تم [واستقرت] (1) الكفارة، فلا مدفع لها بعد استقرارها، ثم ينبني على قرارها أن التحريم لا يزول إلا بإبراء الذمة عن الكفارة، وهذا يُخرَّج على الالتفات على النكاح.
فإن قال قائل: يحل وطء هذه بملك اليمين، فلست أنكر أن هذا التفاتٌ منه على جنس النكاح على بُعد، ويَرِدُ عليه زوال التحريم وإن بقيت الكفارة بزوال النكاح الأول، ولا ينبغي أن تُشَوَّشَ القواعدُ (2) بالتفريع على الوجوه البعيدة.
9545- هذا حاصل القول في عود الحنث، ولا يبقى فيه شيء إلا سؤال وجواب عنه: فإن قال قائل: من آلى عن امرأة، ثم أبانها قبل الفيئة، ثم نكحها، فإنه يلتزم بوطئها كفارةَ اليمين، وإن قلنا: إن الحنث لا يعود، فهلا قلتم: كفارة الظهار تجب في النكاح الثاني على هذا القياس؟
قلنا: لزوم كفارة اليمين لا اختصاص له بالنكاح؛ فإنه يجرى في ملك اليمين، بل في السفاح، وأما كفارة الظهار، فإنها تختص بالنكاح اختصاصَ تحريم الظهار، بل التحريمُ والكفارة مقترنان اقتران ارتباط.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
9546- وقد يجري في نفس الفقيه الذي يطلب الغايات أن الظهار بنفسه هل يُحرِّم الوطء حتى يقال: إذا حرمنا المسّ، فلو ظاهر ومس في الزمن الذي يفرض [الإمساك] (3) فيه، فيحرم المس قبل تحقق العود، أم يقال: إنما يثبت ابتداء التحريم إذا وجبت الكفارة؟ هذا سأذكره موضحاً في فصل تأقيت الظهار، وإنما أخرته لغرض يتبين، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 2) : استقرت. (والواو زيادة من المحقق) .
(2) (ت 2) : العوائد.
(3) في النسختين: الإنسان. والمثبت تصرّف من المحقق.
ثم المراد بزمان الإمساك اللحظة التي يمسكها فيها بعد الظهار قبل تحقق العود.(14/515)
واختيار المزني أن الحنث لا يعود، وطردَ اختياره في الظهار، وهذا يقوّي نظرَ الفقيه في إجراء العود هاهنا.
فصل
قال: "ولو تظاهر منها، ثم لاعنها مكانه، بلا فصل ... إلى آخره" (1) .
9547- التفريع على ما هو المذهب، وهو أنه إذا ظاهر وأمسكها في زمان يتأتى فيه الطلاق؛ فإنه يصير عائداً ملتزماً للكفارة، فلو ظاهر عنها، ثم أراد اللعان متصلاً، فكيف السبيل فيه؟ ظاهر النص أنه يسقط حكم الظهار، ولا يكون عائداً.
وهذا كلام مبهم في تصويره، فاختلف أصحابنا فيما يمنع مصيرَه (2) عائداً، فمنهم من قال: إذا ظاهر، ثم قذف على الاتصال، واشتغل (3) بالمرافعة إلى الحاكم، وتهيئةِ أسباب اللعان، فلا يصير عائداً، حتى لو تظاهر عنها، ثم قذفها على الفور، ولم يؤخر الاشتغال بأسباب اللعان، فليس عائداً، وإن بقي في ذلك إلى حصول الغرض أياماً؛ لأن هذا اشتغال بأسباب الفرقة، فَحَلَّ محلَّ الاشتغال بنفس الفرقة.
ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة تصور فيه (4) إذا قدّم القذف وحصل الترافع، وتجمعت الأسباب، ولم يبق إلا إنشاء كلماتِ اللعان، فإذا قدم عليها الظهارَ، وعقَّبه بإنشاء اللعان، فهو غير عائد، وإن لم تكن كذلك، فهو عائد.
ومن أصحابنا من قال: ينبغي أن يقدم كلماتِ اللعان حتى لا تبقى منها إلا كلمة اللعن؛ فإذا ظاهر، ثم أتى بكلمة اللعن، لم يكن عائداً.
وهذا سرفٌ ومجاوزة حدٍّ، ولكنه اختيار ابن الحداد، ووجهه على بعده أن كل كلمة من كلمات اللعان مستقلة بإفادة معنى، ولا تستعقب واحدةٌ منها الفراق، وإنما يحصل ترك العوْد بتعقيب الظهار بكلمةٍ أو كلمات يقترن بإفادتها المعنى حصولٌ الفراق.
__________
(1) ر. المختصر: 4/125.
(2) (ت 2) : تصيّر.
(3) (ت 2) : واستقل بالمواقعة.
(4) في الأصل: تصدر، و (ت 2) : تصوم إذا قدم القاذف.(14/516)
ثم خالفه معظمُ الأصحاب وألزموه أموراً ما أُراها مسلّمة على قياسه، وذلك أنه قيل له: لو قال المظاهر: يا زينب أنت طالق، فهذا ليس بعائد، وكان من الممكن أن يقول: طلقتك، ولا يزيد عليه، ويجوز أن يقال: إذا قال: يا زينب، فهذا اشتغال منه بما لا يَعْنيه، فيقع هذا ممنوعاً على رأي ابن الحداد.
ويجوز أن يقال: المرعيُّ مقصود الكلام، وقول القائل: يا زينب أنت طالق، مقصوده التطليق، ولا تستقل كلمة مما ذكره بإفادة معنى مستقل، وللأول أن يقول: قوله: يا زينب كلام مفيدٌ، وقد عدّه النحاة جملةً مستقلة مركبةً من اسم [وحرف] (1) ينوب مناب فعلٍ، والكلامُ المفيد مبتدأ وخبر، واسم وفعل، والأظهر التسليم [بالفرق] (2) .
9548- ومما يتصل بذلك أن الزوج إذا اشترى زوجته [المملوكة] (3) -والتفريع على أنه لا يصير عائداً- فقد ادعى الأصحاب على ابن الحداد أنه جعل الاشتغال بأسباب الشراء (4) مانعاً من العود، كقوله اشتريت، فهذا ما لا أشك في كونه ممنوعاً على رأيه.
وإنما النظر على الطريقة الأخرى، فإذا ظاهر، وكان الشراء ممكناً متيسّراً، فأقبل على تحصيله، ولم يقصّر، فيجوز أن يقال: من ذهب إلى أن القذف والاشتغال بأسباب اللعان يمنع من العَوْد، فالاشتغال بأسباب الشراء المتيسر هكذا يجري.
ومن صار إلى أن القذف والمرافعة وغيرهما من الأسباب إلى النطق بكَلِم (5) اللعان حقُّها أن تتقدم، فلا يجعل الاشتغال بأسباب الشراء مانعاً. فأما إذا كان الشراء متعذراً، فالاشتغال بتسهيله لا ينافي العود عندي. والعلم عند الله.
__________
(1) (ت 2) : وحرف ينوب ثبات فعل الكلام المفيد. وفي الأصل: وصوت ...
(2) في النسختين: التسليم والفرق.
(3) غير مقروء في الأصل.
(4) (ت 2) : جعل الاشتغال بلسان الشرع.
(5) (ت 2) : بحكم اللعان.(14/517)
9549- وفرّع الأصحاب على مضمون الفصل، فقالوا: إذا ظاهر عن امرأته، ثم قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فهذا عائدٌ؛ لأنه أخر الطلاق مع الاستمكان من تنجيزه، فلو كان قال أولاً: إن دخلتُ أنا الدار، فأنت طالق، ثم ظاهر وعقّب الظهار بالاشتغال بالدخول، فهو بمثابة الاشتغال بالشراء المتيسر، وقد قدمنا الفصل فيه.
فصل
قال: "ولو تظهر منها يوماً، فلم يصبها ... إلى آخره" (1) .
9550- مضمون الفصل الكلام في الظهار المؤقت، فإذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي خمسةَ أشهر مثلاً، أو يوماً، ففي انعقاد الظهار قولان مأخوذان من قاعدة المعنى واتباع معهود الجاهلية، فمن اتبع المعهود أبطل الظهار المؤقت، ومن تمسك بالمعنى، فقد أثبت للظهار المؤقت حكماً على تردُّدٍ، سيبين في التفريع.
والأوْلى أن نقول: لا ظهار على القديم، تعلّقاً بالاتباع، وفي الجديد قولان: أحدهما -البطلان أيضاًً.
والثاني - الثبوت، وهذا يقرب من التردّد في أن الغالب على الظهار معنى الطلاق أو شوْب الإيلاء، ولا يكاد يخفى وجه التلقي.
فإن ألغينا اللفظ، فلا كلام، وإن صححناه، ولم نُلغه، فالظهار يثبت مؤقتاً أم يتأبد؟ فعلى وجهين منطبقين على تغليب الطلاق والإيلاء، فإن غلبنا الطلاق، كان الظهار المؤقت كالطلاق المؤقت، فيتأبد، وينحذف (2) ذكر الوقت عنه.
وإن غلبنا مشابهة الأيمان، [يبقى] (3) التأقيت؛ فإن اليمين إذا خصت بزمان، اختصت به، فليكن الظهار كذلك.
__________
(1) ر. المختصر: 4/126.
(2) (ت 2) : ومجرد ذكر المؤقت عنه.
(3) في النسختين: يُنفى.(14/518)
فإن قلنا: يتأبّد اللفظ المؤقت، فالعود فيه كالعوْد في الظهار المطلق على ما سبق تفصيله (1) .
وإن قلنا: يثبت الظهار مؤقتاً، فالعود فيه على وجهين: أحدهما - أن العود فيه كالعود في الظهار المطلق، فإذا ظاهر، ثم سكت ساعةً -وإن قلّت- فهو عائد ملتزمٌ للكفارة، هذا أحد الوجهين.
والثاني - أن العود في الظهار المؤقت هو الوطء، وإن كنا نقول: العود في الظهار المطلق يحصل بإمساك ساعة تَسَعُ الطلاقَ.
توجيه الوجذهين: من قال: يحصل العودُ بالإمساك في لحظةٍ، جعل الظهار المؤقت كالظهار المؤبد.
ومن نصر الوجه الثاني -وهو ظاهر النص (2) - احتج بأن قال: التحريم في الظهار المؤبد متعلق بجميع الأزمان، أخذاً من صيغة اللفظ، فإذا وُجد الإمساك في لحظة، فقد ناقض التحريم الذي اقتضاه الظهار، وإن كان الظهار مؤقتاً، فعقبه الإمساكَ، والسكوتَ في لحظة، اتجه في ذلك أنه يُمسكها لينتفع بها وراء المدة (3) ولا ظهار وراءها، فلا يتجرد الإمساك للمناقضة، والوطء إيقاع المخالفة وتحقيق المضادّة؛ فإنه ليس كما يرتبط بما سيكون.
هذا بيان الوجهين في العود، وسنعود إليهما بمزيد إيضاح مفرعين.
9551- فإن قلنا يثبت الظهار المؤقت، وقد جرى العوْد على الخلاف المقدم، فالواجب على المذهب الظاهر كفارةُ الظهار، وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا تجب إلاّ كفارة اليمين، وكأنّ لفظ الظهار ينزل منزلة لفظ التحريم، وقد قال علماؤنا: إذا صححنا الظهار مؤقتاً، فلو قال لامرأته: حرمتك -وقصد تحريم العين الموجب
__________
(1) في نسخة (ت 2) سقط لعدة أسطر، فعبارتها هكذا: فالعود فيه كالعود في الظهار المطلق يحصل بإمساك ساعة تسع الطلاق ... إلخ.
(2) (ت 2) : المذهب.
(3) (ت 2) : من المدة.(14/519)
لكفارة اليمين- وأقّت التحريم بوقتٍ، فالأصح صحةُ التحريم، فإنه أشبه باليمين من الظهار؛ من جهة أن موجبه موجب الحنث في اليمين.
وخرَّج الأصحابُ وجهاً آخر في إلغاء التحريم وإبطاله رأساً؛ لأنه ورد في الشرع مطلقاً، كما أن الظهار ورد مطلقاً.
ومما نفرعه في الظهار المؤقت أنه إذا ذكر أَمَداً وحكمنا بأن الوقت يثبت، فلو طلق عقيب الظهار، فهو غير عائد (1) ، وإن راجع، نُظر: فإن جرت المراجعة في المدة، عاد خلافُ الأصحاب في أن الرجعة بنفسها هل تكون عَوْداً، وهذا تفريع على أنا لا نشترط الوطء في العود، ولو تركها حتى انقضت المدّة ثم راجعها، فليس عائداً، وقد تصرم الظهار بانقضاء الوقت، ولم يبق له حكمٌ.
9552- ومما يتعلق بتفريع الظهار المؤقت أنه لو قال: أنت عليّ كظهر أمي خمسةَ أشهر، ثم تركها وولّى، حتى مضت أربعة أشهر، قال الأئمة: إن قلنا: إن العود هو الإمساك، فلا نجعله مولياًً؛ فإن الكفارة لا يتعلق وجوبها بالوطء وإن قلنا: العود في الظهار المؤقت الوطء، فهذا شخص يلتزم بالوقاع -الكفارة- بعد أربعة أشهر أمراً بسبب أنشأه في النكاح، وهذا حقيقة المولي ونصه (2) .
وكان شيخي يقول: لا نجعله مولياًً، فإنه ليس حالفاً، وقد ذكرت تفصيل ذلك فيه إذا حرمها، ثم انقضى أربعة أشهر، وفرعنا على وجه ضعيف في أن الكفارة في التحريم لا تجب قبل الوطء وإنما تجب عند الوطء، فهل نجعله مولياًً مطالَباً إذا مضت أربعة أشهر؟ فعلى تردّدٍ وخلافٍ قدمته في فصل التحريم من هذا الكتاب.
9553- ومن أهم ما يجب دَرْكُه -وقد أخّرتُه من صدر باب العود إلى هذا الفصل- الكلامُ في أن نفس الظهار هل (3) يحرِّم أم يثبت التحريم بالظهار بالعود؟
__________
(1) (ت 2) : فهو عائد.
(2) (ت 2) : ونفيه.
(3) عبارة (ت 2) في غاية الاضطراب، فقد جاءت هكذا: "هل يحرّمان لا يثبت التحريم بالظهار والعود، فلا شك في تحريم الوطء والكلام في الظهار ... إلخ" فهذا سقط مع الاضطراب.(14/520)
فنقول أولاً: إذا حصل الظهار والعودُ، فلا شك في تحريم الوطء، والكلامُ في الظهار المُطلق، وذلك لأن الظهار والعودَ يوجبان الكفارة، ونصُّ القرآن ناطقٌ بامتداد التحريم بعد وجوب الكفارة إلى التخلي منها، والخروج عن عهدتها، قال الله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فأوجب تقديم التكفير على المماسّة، فكان ذلك نصّاً فيما ذكرناه.
فإن فرعنا على أن الظهار يحرّم اللمسَ تحريمَه الجماعَ -وإنما (1) اخترنا التفريع على هذا القول ليسهل تصوير اللمس في اللحظة (2) الخفيفة والساعةِ المختلسةِ، ثم إذا ظهر أثر قولنا في اللمس تفريعاً على تحريمه- اتّسق الحكم نفياً وإثباتاً في الوطء.
[والظاهر] (3) عندي أن الظهار بمفرده لا يُحرِّم، وإنما يحصل التحريم إذا لزمت الكفارة؛ فإن التحريم مرتب على وجوب الكفارة، والخروجُ منه مرتب على أداء الكفارة، وهذه الكفارة تجري على الضد من كفارة اليمين، فإن الحنث فيها يوجب الكفارة، ووجوب الكفارة في هذا الباب يقدُم التحريمَ، هذا، والدّليل (4) عليه أن الظهار لو كان يحرّم بعينه، لحرَّم الإمساك، ولأوجب الطلاق، فلما لم يكن الأمر كذلك، وجاز الإمساك، تبين بهذا ما ذكرناه، والدليل عليه أن إمساك ساعة مناقض للظهار، ولهذا كان عوداً، فدل أن مُناقِضَه لا يَحْرُم به، فهذا ما أراه.
وإذا فرعنا [على] (5) الظهار المؤقت، ورأينا العود فيه بالوقاع -على ما سنشرح ذلك على أثر هذا شرحاً واضحاً -إن شاء الله تعالى- فالوطء الذي هو العودُ يجب ألا يَحْرُم، ويكون حصولُ الوطء بمثابة حصوله والطلاقُ (6) الثلاث معلّق عليه، وقد
__________
(1) (ت 2) : فلما اخترنا.
(2) (ت 2) : في الحقيقة.
(3) في الأصل كما في (ت 2) : الظاهر (بدون واو) .
(4) (ت 2) : والتعليل.
(5) زيادة من المحقق.
(6) والطلاق الثلاث معلق عليه: الواو واو الحال، والمعنى أن حصول الوطء هنا يشبه حصول الوطء فيما إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً.(14/521)
حكينا عن بعض الأصحاب أن من قال لامرأته: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً لا يحل له التغييب، ولا شك أن هذا الوجه يُخَرَّج هاهنا.
9554- ثم تمام البيان في ذلك يتعلق بشرح العَوْد في الظهار المؤقت: قال الصيدلاني: إذا جعلنا العود بالوقاع، فليس معناه أنه عين (1) العود، ولكن إذا حصل الوطء، تبينا (2) أن العود حصل بالإمساك في لحظةٍ عقيب كلمة الظهار، ولكنا لا نتبين هذا إلا بالوقاع.
وبيان ذلك أنا لم نجعل الإمساك عوداً -على هذا الوجه الذي نفرع عليه- لجواز أن يكون الإمساك للاستحلال بعد مدة الظهار، فإذا حصل الوطء في المدة، تبين أن الإمساك مصروف إلى الاستمتاع الذي وقع.
وهذا فقيه حسن، واتجاهه من طريق المعنى ما ذكرناه، وانتظامه في ترتيب المذهب أن الشافعي في الجديد لا يجعل عين الوقاع عوداً، مع علمه بأن الظهار والعود في نص القرآن مقدّمان على الوطء والتماسّ، فإنْ نصَّ الشافعيُّ رحمه الله على الجماع نتبين أنه شرطه ليتسنَّى صرفُ الإمساك إليه لا لعينه.
وذكر غيرُ الصيدلاني أن الوقاع في عينه هو العود على هذا القول، ولا نتبين حصول العود قبله؛ فإن الممسك قد يضمر بإمساكه الاستحلال وراء المدة، ثم يتفق الوقاع، فلا معنى للمصير إلى أن الوقاع ينعطف على تعيين الإمساك للاستمتاع، ونحن من طريق الحس نجد الرجل يمسك ولا يُضمر غرضاً، وإنما نجعل العود في الظهار المؤقت جماعاً لضعف الظهار، وإذا ضعف، افتقر إلى عودٍ قوي.
فإذا تبين هذا، أعدنا فصلَ التحليل، وقلنا: إن كنا (3) نجعل عين الوطء عوداً من غير تقدير انعطافٍ وتبيُّنٍ، فالوجه ما ذكرناه من أن الوطأة الأولى لا تحرم.
وإن سلكنا مسلك الصيدلاني في أنا نتبين بالوطء حصول العود بالإمساك المعقب
__________
(1) (ت 2) : غير العود.
(2) (ت 2) : يثبت.
(3) (ت 2) : إن كان يحصل عن.(14/522)
[للظهار] (1) ؛ فعلى هذا لا نطلق القول بتحليل الوطء؛ فإنا نتبين أن العود سابق عليه. ولو قال الرجل لامرأته: إذا وطئتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، فالإقدام على الوطء محرَّمٌ؛ فإنه لا يقع إلا بعد وقوع الطلاق.
وعنينا بالوطء التغييب، فأما ما دون ذلك فليس بوطء.
وقد نجز غرضنا في بيان الظهار المؤقت.
***
__________
(1) في الأصل: بالظهار، وساقطة من (ت 2) ، والمثبت من المحقق.(14/523)
باب عتق المؤمنة في الظهار
9555- إيمانُ الرقبة المعتَقة شرطٌ في جملة الكفارات، فلا تُجزىء رقبةٌ كافرة في كفارة.
9556- ولو نذر إعتاقَ رقبة، فإن عيَّن عبداً كافراً والتزم إعتاقه، جاز، وكذلك لو كان معيباً، فعيّن إعتاقَه في التزامه، جاز ولزمه الوفاء بنذره.
ولو أطلق ذكر عبدٍ، فقال: لله عليّ أن أعتق عبداً، فهل يخْرُج عن موجب نذره بإعتاق رقبة كافرة، أو معيبةٍ بعيب يمنع من الإجزاء في الكفارة؟ في المسألة قولان مبنيان على أن مطلق [النذر] (1) يحمل على أقل إيجاب الله تعالى، أو على أقل ما يتقرب به إلى الله تعالى.
فإن حملناه على أقل درجات الإيجاب، لم يُجزىء الكافر والمعيب، وإن حملناه على أقل درجات التقرب إلى الله تعالى أجزأ؛ فإن التقرب إلى الله بإعتاق الكافر والمعيب سائغ، وعلى هذا الأصل تخرج مسائلُ ستأتي مشروحةً في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
9557- فإن قيل: لو نذر لله تعالى صوماً، فماذا يلزمه؟ قلنا: يلزمه صوم يوم.
فإن قيل: أقل وظيفة واجبة من الصيام في الشرع ثلاثة أيام، وهي كفارة اليمين، قلنا: كل يوم منه فرضٌ على حياله، والأيام الثلاثة تناظر ثلاثَ رقاب.
وخالف أبوحنيفة (2) ، فلم يشترط الإيمان في شيء من الرقاب المعتقةِ في الكفارات إلا كفارةَ القتل، والمسألة مشهورة.
__________
(1) غير مقروءة في الأصل، وقد تقرأ (النية) . والمثبت من (ت 2) .
(2) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/493 مسألة 1033، المبسوط: 7/2.(14/524)
9558- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كانت أعجمية وصفت الإسلام ... إلى آخره" (1) .
العبد الأعجمي إذا وصف الإسلام بلسان العرب، وعلمنا أنه كان يعلم معناه، فهو كالعربي، وإن كان لا يعلم معناه، فلا حكم لما صدر منه.
ثم ذكر الأصحاب بعد هذا تقسيمَ الإسلام وما يحصل الايمان به، وقسّموه إلى ما يحصُل إنشاءً وابتداء، وإلى ما يحصُل تبعاً.
والقول في جهات التبعيةِ، وفي الإسلام الحاصلِ به، والأحكام المتعلقة بذلك الإسلامِ مستقصىً في كتاب اللقيط على أحسن وجه وأبلغِه في البيان، فيه نصصنا على إعتاق الطفل المحكوم له بالإسلام تبعاً عن الكفارة، ثم ذكرنا إعرابه عن نفسه بالكفر بعد البلوغ، والتفصيل فيه، فلا نعيد هذا الفن.
والقسم الثاني هو الإسلام الحاصل إنشاء، أما العَقْدُ، فلا مطَلعَ عليه، وإنما يعرفه خالق الخلق، وكلامنا يتعلق بالظاهر، فنتكلم فيمن يُسلم وفيما هو الإسلام.
فأما المكلف، فيصح إسلامه ابتداء إذا اختار الإسلام، فإن اكره عليه وكان حربياً، فكذلك نحكم بإسلامه، والذّمّي إذا اكره، فأسلم، ففي المسألة وجهان.
وأما المجنون فلا عبارة له، والصبي لا يصح منه إسلامه بنفسه على ظاهر المذهب، وذكرت فيه خلاف الأصحاب من وجوهٍ في كتاب اللقيط، فلا أعيده.
9559- والذي أخّرناه إلى هذا الكتاب [الكلامُ] (2) فيما يصح الإسلام به: لا خلاف أنا لا نشترط أن [يُعرب] (3) من يحاول الإسلام عن جميع قواعد العقائد؛ حتى لا يغادر منها قاعدةً.
فالأصل الذي اعتمده الشرع وهو من أبدع البدائع، وأعجب الأمور، وقد ذهل
__________
(1) ر. المختصر: 4/128.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "يعرف".(14/525)
عنها معظم العلماء (1) الإتيانُ بالشهادتين، وهما على التحقيق يحويان القواعدَ جُمَع؛ [إذ] (2) في التوحيد الاعتراف بالإله والوحدانية، وفيه التعرض لصفات الإلهية وتفويض الأمور إلى من لا إله غيره.
والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تصدّقه في جميع ما أتى به. وعن هذا قال عليه السلام لما سأله جبريل عليه السلام -في الحديث المعروف- عن الإسلام، فقال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" (3) .
ثم إذا تبين وظهر إشارة الشرع إلى الشهادتين، فللأصحاب طريقان في المسألة: منهم من قال: لا يحصل الإسلام إلا بالشهادتين، ورأى ذلك باباً من التعبد؛ حتى قال (4) . المعطِّلُ (5) إذا قال: لا إله إلا الله، لا نحكم بإسلامه ما لم يقل: محمد رسول الله.
وقال المحققون: [من أتى بالشهادتين بما يخالف عقده] (6) حُكم له بالإسلام،
__________
(1) (ت 2) : الأئمة.
(2) في الأصل: إن. وساقطة من (ت 2) .
(3) حديث جبريل عن الإسلام متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله، حديث رقم 5) .
(4) حتى قال: القائل هو فريق من الأصحاب، الذي قال عنه آنفاً: ومنهم من رأى ذلك باباً من التعبد حتى قال.
(5) المعطّلُ: مبتدأ، وليس فاعلاً لـ (قال) كما ذكرنا فيما قبله.
ثم المعطِّل هنا ليس المعتزلي، فحاشا الإمام أن يكفّر المعتزلة، والشائع في الاستعمال على الألسنة أن المعتزلة يسمون المعطِّلة. ولكن المعطل هنا هو الكافر الذي لا يثبت الباري سبحانه وتعالى، كذا قاله شارح المقاصد عند تقسيمه أنواع الكفر والكافرين، فقال: إن أظهر الإيمان فهو المنافق، وإن أظهر الكفر بعد الإيمان فهو المرتد، وإن قال بالشريك في الألوهية فهو المشرك، وإن ذهب إلى قدم الدهر واستناد الحوادث إليه، فهو الدهري، وإن كان لا يثبت الباري، فهو المعطل ... إلخ (ر. كشاف اصطلاحات الفنون/مادة ك. ف. ر) فهذا هو المعطل الذي يقصده الإمام هنا. وفيما سبق عند حديثه عن أقسام الكفار، في باب نكاح حرائر أهل الكتاب.
(6) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: "وقال المحققون: في أتى من الشهادتين بما يخالف عقده" ... إلخ والمثبت من (ت 2) .(14/526)
فإذا قال المعطل: لا إله إلا الله، صار مسلماً (1) ، وعرض عليه شهادة النبوة، فإن أتى بها، وإلا كان مرتداً، وكذلك إذا قال الثنوي بإثبات الإله، فليس بمسلم (2) ، فإن وَحّد، حُكم له بالإسلام. وإذ قال اليهودي أو النصراني: محمد رسول الله، حكم بإسلامه (3) وإن لم يوحّد؛ فإن النصراني يثلث، واليهودي يقول العزير ابن الله.
وحاصل هذه الطريقة أن من أتى من الشهادتين بما يوافق ملّته، فلا يصير مسلماً، ومن أتى من الشهادتين بما يخالف ملّته، حكم له بالإسلام، وإن لم يأت بالشهادتين جميعاًً. وهذا هو الذي قطع به معظم المحققين من الأصحاب ثم قالوا: في الناس من يعترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يزعم أنه مبعوث إلى الأمة الأمّية، وهم العرب، فلا يقع الاكتفاء منهم بأن يقولوا محمد رسول الله.
9560- ونحن نفرع على الطريقتين: أما الطريقة الأخيرة، فإنا نقول عليها: لو اعترف يهودي أو نصراني بصلاة من الصلوات على موافقة ملتنا، أو بحكمٍ من الأحكام يختص بشريعتنا، [فهل] (4) نحكم بإسلامه؟ فيه اختلاف: فمنهم من قال: ينبغي أن يكون ما يعترف به من الشهادتين، والذي إليه ميل المعظم من أهل التحقيق أن هذا إسلام.
وضبط القاضي (5) هذا: بأن قال: كل ما إذا أنكره المسلم قيل: كفر لمّا جحده،
__________
(1) لأنه أتى بما يخالف عقيدته، فأثبت الألوهية والوحدانية لله سبحانه بقوله: (لا إله إلا الله) ، والمعطل أصلاً لا يثبت الباري سبحانه.
(2) ليس الثنوي بمسلم إذا أثبت الإله، لأنه لم يأت بما يخالف عقيدته، فهو يثبت الألوهية الثنوية المعروفة من عقيدته، فهو يثبت إلهين: إله للخير إله للشر.
(3) لأن هذا خلاف عقيدة اليهودي والنصراني.
(4) في الأصل: فهذا. والمثبت من (ت 2) .
(5) القاضي: هل هو القاضي الباقلاني أبو بكر، فحيث أطلق إمام الحرمين (القاضي) في علم الكلام وعلم الأصول، فإياه يعني، والمسألة هنا من مسائل علم الكلام؟
أم هو القاضي الحسين، فهو المعني عند إطلاقه في مجال الفقه، وإياه يعني على طول هذا الكتاب؟
نستعير من الإمام قوله: (المسألة محتملة) . ولكن صرح الإمام الرافعي بأنه القاضي حسين، حينما حكى كلام الإمام هذا في كتابه. (ر. الشرح الكبير: 9/299) .(14/527)
فما يكفر بجحده يصير الكافر المخالف به مؤمناً بعقده.
ثم التصديق لا يتبعض، فإن صدق وراء ذلك بالجميع، فهو وافٍ بعقده، وإن كذب في غير ما صدق به، فهو مرتد.
ومَنْ شرط من أصحابنا الشهادتين اختلفوا في أنا هل نشترط التبرِّي من كل ملة تخالف ملة الإسلام، فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإن عماد الشرع الاكتفاء بالشهادتين، وعليه تدلّ الأخبار والآثار.
ومنهم من قال: يشترط التبري، وبضم هذه الكلمة إلى الشهادتين يصير الكلام جامعاً.
هذا بيان ما يظهر الإسلام.
9561- والأخرس يشير بالإسلام، فيحكم له به، والشاهد فيه الخبر، ثم النظر، أما الخبر فحديث الخرساء وهو مشهور.
والنظرُ: اعتبار (1) الإسلام بسائر العقود؛ فإن إشارات الأخرس قائمة مقام عبارات الناطقين، وأبعد بعض أصحابنا؛ فشرط أن يضم إلى الإشارة إقامةَ صلاة، وهذا بعيد لا أصل له.
وقال بعض من يُحوِّم على التحقيق: إنما لا يحصل الإسلام بإشارة الأخرس؛ لأن الإشارة فيه تُناقِض ما يجب عقدُه في أوصاف الإلهية؛ إذ الإشارة لا تتم إلا بالإيماء إلى جهة، وما يُومأ إليه جسم، فإن قال قائل كيف تستجيزون ذكر هذا وحديث الخرساء (2) في الصحيح؟ قلنا: ذاك حديث مؤوّل باتفاقِ من عليه معوّل؛ فإن فيه أنه قال لها: "أين الله" وكل حديث يقضي العقلُ بإزالة ظاهره، فلا حجة فيه.
***
__________
(1) "اعتبارُ": قياسُ.
(2) حديث الجارية الخرساء رواه مسلم: المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، ح 537، وأبو داود: الأيمان والنذور، باب في الرقبة المؤمنة، ح 3282، 3283، 3284. ومالك في الموطأ: 2/776، والشافعي في الأم: 5/280، وأحمد في المسند 3/451، 452، والبيهقي في الكبرى: 7/387، قال الحافظ في التلخيص 3/448: ليس في شيء من طرقه أنها خرساء.(14/528)
باب ما يجزىء من الرقاب وما لا يجزىء وما يجزىء من الصيام وما لا يجزىء (1)
9562- ذكر في صدر الباب: أن من اشترى عبداً بشرط أن يعتقه، فهل يصح العقد، وإن صح، فهل يجب عتقه حقاً لله تعالى، وإذا فرض من المشتري الإعتاقُ، ونوى صرفَه إلى الكفارة هل ينصرف إليها (2) ؟، وهذا الفصل مما استقصيناه بما فيه في كتاب البيع.
ثم قال: "لا يجزىء فيها مكاتَب ... إلى آخره" (3) .
9563- المكاتب كتابة صحيحة إذا أعتقه مولاه عن كفارته، نفذ العتق عن جهة الكتابة، ولم ينصرف إلى الكفارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (4) .
وللأصحاب طرق في تعليل المذهب: منهم من قال: العتق يقع عن جهة الكتابة، وهو مستحَقٌّ فيها، فلا يقع عن جهة أخرى تستحق العتق فيها.
ومنهم من قال: المكاتب ناقص الرق؛ فضاهى المستولدة.
ومنهم من قال: إعتاقه ناقص؛ فإنه ليس إعتاقاً محضاً، وإنما هو إبراء؛ إذ لو كان إعتاقاً، لكان العتق يحصل معجلاً، فالذمة تبقى مشغولة بالعوض المسمى.
وإذا كان العبد مكاتباً كتابة فاسدة، فأعتقه مولاه عن كفارته، فهذا يترتب على أن
__________
(1) عنوان الباب بهذه الصورة هو ما في (ت 2) وآثرناه على العنوان المختصر (باب ما يجزىء من الرقاب) الموجود في الأصل، لموافقته الموجود في مختصر المزني.
(2) هذا معنى كلام الشافعي في المختصر، وليس بألفاظه. (ر. المختصر: 4/129) .
(3) السابق نفسه.
(4) ر. مختصرالطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/493 مسألة 1035.(14/529)
السيد إذا أعتقه، فهل يستتبع اكسابَ والأولادَ، وفيه اختلاف وتردد، سيأتي، إن شاء الله في الكتابة.
فإن قلنا: إنه لا يستتبع، فالإعتاق فسخٌ للكتابة الفاسدة، فينفذ عن الكفارة إذا نواها المعتِق.
وإن قلنا: يستتبع المكاتبُ الأكسابَ والأولاد، فعلى هذا الوجه في انصرافه إلى الكفارة خلافٌ، مبني على المعاني التي قدمناها؛ فإن وقع التعويل في الكتابة الصحيحة على نقصان الرق، أو على نقصان العتق، فهذا العتق منصرف إلى الكفارة؛ فإن الرق كامل، والعتق لا يتضمن إبراء الذمة عن عوض واجب، وإن عولنا في الكتابة على وقوع العتق عن جهة الكتابة، فلا ينصرف العتق في الفاسدة إلى جهة الكفارة لوقوعها عن جهة الكتابة.
9564- ثم قال: "ولا تجزىء أمُّ ولد في قول من لا يبيعها ... إلى آخره" (1) .
ظاهر هذا الكلام، يوهم تعليق القول في بيع أمهات الأولاد، وقد فهم المزني التعليق واختار منع البيع، ولم يحتجّ في اختياره إلا بنصوص للشافعي رحمه الله، قطع فيها بمنع البيع، وسكوتُه عن الاحتجاج بمعنىً ومسلكٍ في النظر من أصدق الشواهد على عظم قدره؛ فإنه لا يكاد يظهر معنىً في منع بيع المستولدة.
وقال بعض الأصحاب لم يردّد الشافعي قولَه، وإنما أشار إلى مذهب بعض السلف، وقد روي عن علي كرم الله وجهه في آخر العهد أنه قال ببيع أمهات الأولاد، وذكر في أثناء خطبة: "اجتمع رأيي ورأي عمر رضي الله عنه على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا أرى الآن أن يبعن، فقام عبيدة السَّلماني، فقال: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك" (2) .
__________
(1) السابق نفسه.
(2) حديث الإمام علي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/291، رقم 13224) والبيهقي في الكبرى (10/343، 348) . وانظر التلخيص 4/403 تحت رقم 2742، وهو آخر حديث في الكتاب.(14/530)
ومن أصحابنا من أجرى في بيعهن قولين [على الإطلاق] (1) ؛ بناء على أن الإجماع هل يشترط فيه انقراض أهل العصر (2) ، فإن وقع التفريع على القول البعيد، فإعتاقها جائز عن الكفارة، ولا حكم للاستيلاد، وكان رحمها ظرفاً احتوى على مولود، ثم نفضه، ولا تَعتِق بالموت.
وإن وقع التفريع على ما يجب القطع به، فإعتاقها لا يجزىء عن الكفارة، فإنها مستحقة العتاقة، وأبو حنيفة وافق في هذا، وإن أجاز إعتاق المكاتَب عن الكفارة.
9565- ثم قال: "وإن أعتق مرهوناً، أو جانياً، أو غائباً ... إلى آخره" (3) .
قد مضى القول في إعتاق الراهن العبدَ المرهونَ، وحظُّ هذا الكتاب منه أنا إن نفذنا عتق الراهن، قضينا بانصرافه إلى كفارته، إذا نوى صرفَه إليها.
فإن قيل: أليس نقصان الملك يمنع صرفَ العتق إلى الكفارة، ونقصانُ الملك وكماله يمتحنان بالتصرفات نفوذاً ورداً، قلنا: الملك في المرهون كامل، فإذا فرّعنا على نفوذ العتق، فهذا يتضمّن فكّ الرهن، ولا مانع سوى استيثاق المرتهن، فإذا كان في تنفيذ العتق ردُّه، فيصادف العتقُ ملكاً مفكوكاً عن الرهن، وليس كذلك عتق المكاتب، فإنه يقع على حكم الكتابة.
وعتق الجاني يُخرَّج على هذا، وقد اختلف القول في بيعه، ثم اختلف القول -على منع البيع- في عتقه، فإن نفذنا العتقَ، جوّزنا صرفَه إلى الكفارة.
9566- ثم قال: "وإن أعتق عبداً له غائباً ... إلى آخره".
يجوز إعتاق العبد الغائب عن الكفارة إذا لم تنقطع الأخبار، فإن انقطعت الأخبار انقطاعاً يُغلِّب على القلب أنه أصابته آفةٌ هلك فيها، وذلك بأن لا نجد
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) يشير بهذا إلى تغير اجتهاد الإمام علي بعد موت عمر -رضي الله عنهما- وكان الإجماعُ قد استقر في عهد عمر على عدم جواز بيعهن. راجع اشتراط قضية انقراض المجمعين وهل تشترط في حصول الإجماع في (البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 640-643) - وهو من تأليف إمام الحرمين، ومن تحقيقنا.
(3) ر. المختصر: 4/129.(14/531)
حاجزاً (1) للأخبار، فإذا أعتقه، ففي وقوعه عن الكفارة في الحال قولان، استقصيت القول فيه في كتاب زكاة الفطر، وأتيت فيه بالمسلك الحق، فليُطْلَب في موضعه.
وفائدة هذا الخلاف تظهر في كفارة الظهار: فإن حكمنا بالبناء على حياة العبد، فالإعتاق يُسلِّط على الوطء، وإن حكمنا بالبناء على وفاته واشتغال الذمة، فلا يتسلط المظاهر على الوطء، ولو منعناه، ثم تواصلت الأخبار بالحياة، تبيّنا أن الكفارة تأدّت، ووقع العتقُ موقعَه.
ولو أعتق المالك عبداً مغصوباً تحت يد ظالم لا يُغالَب، فقد قال القفال: إعتاقه عن الكفارة يجزىء وفي بعض التصانيف أن أبا حامد كان يقول: لا يجزىء لأن الغرض من الإعتاق تخليصُه من الأسر، وتمكينُه من التصرف، ولهذا لا يجزىء العبد [الأقطع] (2) لنقصان عمله، فإذا كان المحبوس بَعَيْبه عن التصرف لا يجزىء، فكذلك لا يجزىء المغصوب.
وهذا رديءٌ وغيرُ معتد به، ولست أراه من المذهب، ولم أطلع عليه في كتب العراق.
9567- ثم قال: "لو اشترى من يَعْتِق عليه، لم يجزئه عن كفارته ... إلى آخره" (3) .
من اشترى مَنْ يعتِق عليه، ونوى صرفَ العتق الحاصل فيه إلى كفارته، صح الشراء، ونفذ العتق، ولم ينصرف إلى الكفارة، خلافاً لأبي حنيفة (4) ، وهو يبني هذا على أن الشراء عقدُ عَتاقة، ووجه الرّد عليه بيّن مذكور في المسائل (5) ، ومذهب
__________
(1) كذا في النسختين.
(2) زيادة من (ت 2) .
(3) ر. المختصر: 4/129.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/493 مسألة 1035.
(5) المسائل: يعني بها كتابَه (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) وذلك لأنه بناه على المسائل، فيقول بدلاً من الأبواب والفصول: مسائل الخلع ... مسائل الطلاق ... وهكذا.(14/532)
الأصحاب أن من اشترى من يعتِق عليه، فإنه يملكه، ثم يحصل العتق مرتَّباً على الملك، قال أبو إسحاق المروزي: يحصل الملك والعتق معاً، وعُدّ هذا من هفواته.
ولو اشترى العبدُ نفسَه من مولاه، وصححنا منه هذه المعاملة، فهل يملك نفسَه؛ حتى يترتب عتقه على ملك نفسه (1) ؟ فيه تردد معروف، وسيأتي شرحه، إن شاء الله في كتاب الكتابة، وعلى الخلاف ابتنى أمرُ الولاء، فمن قال: إنه يملك نفسَه يحكم بانقطاع الولاء، ومن قال: يترتب عتقه على ملك المولى، فالولاء للمولى، وهذا يأتي مشروحاً إن شاء الله عز وجل.
والفرق بين شراء الرجلِ من يعتِق عليه وبين شراء العبد نفسَه أن شراء من يعتِق عليه لا يُحيل حصولَ العتق (2) في المشترَى، ولولا ورود الشرع، لدام الملك، وكون الإنسان مالكاً لنفسه محال من طريق التصور، ومعتمد المذهب وقوع العتق من جهة القرابة، وهو مستحَق مع حصول الملك واقعٌ لا محالة.
ثم إذا اشترى النصف ممن يعتِق عليه، وكان موسراً، سرى العتق إلى الباقي، وعلى المشتري الضمان، ولو ورث النصفَ ممن يعتق عليه، نفذ العتق، ولم يَسْرِ، والسبب فيه أنّا لو سرّينا العتق المرتّب على الملك المستفاد بالإرث، لأحْبطنا ملك الشريك إن سرّيناه، ولم يضمن الوارث، وإن سرَّيناه وضمّناه، كان محالاً؛ فإن تغريمه مالاً فيما لم يتسبّب إليه بوجه من وجوه الاختيار محالٌ، لا سبيل إليه،
__________
(1) (ت 2) : مولاه.
(2) هنا معنى دقيق قد يحتاج أن ننبه إليه: ذلك أن ظاهر العبارة قد يوحي بأن صوابَها: "فإن شراء مَنْ يعتِق عليه لا يُحيل حصولَ الرق". بدليل ما بعده.
ولكن الصواب ما ذكره؛ فالمعنى أن شراءه مَنْ يعْتِق عليه لا يُحيلُ ملكَ المشترَى، ذلك الملك الذي يترتب عليه -بعد حصوله للمشتري- العتقُ؛ فإن العتق لا يكون إلا عن ملك، فهو يعتِق من ملك المشتري لا من ملك البائع.
أما تملّك العبد نفسَه بالشراء من سيده، فمحالٌ من طريق التصوّر أن يملك نفسه.
وهذا يُرجح أن العبد يعتِق عن ملك الموْلَى، وبالتالي يكون الولاء لمولاه، وإن كان هو الذي نَقَدَه الثمنَ مشترياً به نفسَه.(14/533)
والمشتري متسبّبٌ وإن لم يكن مُعتِقاً، والضمان يتعلق بالأسباب، كما يتعلق بالمباشرات، ثم يختلف التسرية باليسار والإعسار إذا اشترى النصفَ ممن يعتق عليه، كما يختلف ذلك في إعتاق أحد الشريكين نصيبه.
فصل
قال: "ولو أعتق عبداً بينه وبين آخر ... إلى آخره" (1) .
9568- إذا أعتق نصفين من عبدين، ولم يَسْر عتقُه بسبب الإعسار، فحاصل المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنّ ذمته تبرأ؛ فإنّ ضمَّ شَطْر إلى شَطر يتضمن مساواة الإعتاق في العبد الكامل، والأنصاف والأشقاص في نُصُب الزكوات كالأشخاص، إذا فرض الضم فيها، فعلى مالك ثمانين نصفاً من الأغنام وشريكُه فيها ذمّي ما على مالك أربعين من الغنم من الزكاة، كما لو ملك أربعين خالصاً.
والوجه الثاني - أنه لا تبرأ ذمته عن الكفارة، فإنه متعبَّدٌ بإعتاق رقبة، وهو لم يعتق رقبة، وأيضاًً فالمقصود من الإعتاق حلّ رباط الرق والتخليص من أسر العبودية، وهذا المعنى لا يتحقق في إعتاق الشطرين؛ إذ كل واحدٍ منهما قد عتق نصفُه [ونصفه] (2) في الأسر والحجر.
والوجه الثالث - أنه إن أعتق نصفين من شخصين نصف كل واحد منهما حُرّ ونصفه رقيق أجزأه ذلك، وبرئت ذمته، وإن أعتق نصفين من رقيقين ولم يسر عتقُه لم يُجزه، والفارق بينهما أنه في الشخصين اللذين كل واحد منهما نصفه حرّ تسبب إلى تكميل الإطلاق، وحلِّ الوثاق، وحصل بجمع النصفين ما يحصل بإعتاق الرقبة الكاملة.
9569- ولو كان بينه وبين شريكه عبد مشترك، فأعتق هو [شِرْكه] (3) ونصيبَه، وكان موسراً، فاختلاف الأقوال -في أن العتق يحصل على الفور والبدار أم يتوقف على
__________
(1) ر. المختصر: 4/129.
(2) سقط من الأصل.
(3) في الأصل: شريكه.(14/534)
تأدية قيمة حصة الشريك، حتى يحصل عقيب الأداء، أم نحكم بالوقف والتبيّن- مشهور (1) وسيأتي مستقصىً في كتاب العتق، إن شاء الله عز وجل.
فإذا فرضنا في الموسر، وفرعنا على الأصح، وهو تعجيل السراية باللفظ، فالعتق على الجملة يجري؛ لأنا نجعل معتق النصف معتقاً للجميع؛ فإن نصيب صاحبه ينتقل إلى ملكه في ألْطف زمانٍ ثم يعتق عليه، فيحصل جميعُ العتق في ملكه الخالص، ويكفيه النيةُ المقترنةُ بإعتاقه نصيبَ نفسه.
وقال القفال: أنا أُخرِّج وجهاً آخر: أنه إذا وَجَّه العتقَ على نصيب نفسه، لم يُجْزِه العتقُ في نصيب شريكه [وإن] (2) وقع. واحتج في ذلك بأنه متعبَّدٌ بالإعتاق، وهو لا يسمَّى معتقاً للرقبة؛ إذ العتق في البعض يقع شرعاً من غير إيقاعه، ويحسن منه أن يقول: ما أعتقت العبد بكماله، وإنما أعتقت نصفه، وعَتَق الباقي [عليَّ] (3) .
ونُقل عنه بناء الوجهين على ما لو توضأ لاستباحة صلاة بعينها، وفيه أوجه: أحدها - أن الطهارة لا تصح أصلاً. والثاني - أنها تصحّ (4) لتلك الصلاة بعينها دون غيرها، وهذا على نهاية الضعف، وما كنت أظن أن القفال يذكر هذا الوجهَ؛ فإنه فاحش بالغ في الفساد. والوجه الثالث - أن الطهارة تصح وتصلح لجميع الصلوات.
ووجه التخريج أنه في مسألتنا خص نصيبه بتوجيه العتق عليه، وإن حصل العتق في الباقي، وفي الطهارة خصص النية تخصيصاً لا يقف الشرع عنده.
والأصح في المسألتين أن التخصيص لا أثر له، والطهارة تصلح للصلوات، والعتق بجملته يقع عن الكفارة.
وفي هذا فضل بيانٍ سنذكره.
وإذا فرّعنا على أن العتق يحصل في نصيب الشريك عند أداء القيمة، فالجواب كما
__________
(1) مشهور: أي الخلاف.
(2) في الأصل: فإن.
(3) في النسختين: "عليه".
(4) (ت 2) : انعقدت لتلك الصلاة.(14/535)
مضى، فإنه حيث يحصل [يحصل] (1) بسبب إعتاقه السابق، ولا حكم للمتأخر.
9570- ولو قال من عليه الكفارة: إن دخلتَ الدار، فأنت حر عن كفارتي، فإذا دخل، عَتَق عن الكفارة. هذا ثابت في الأصل.
ولكن (2) لو نوى صرف العتقِ في نصيبه إلى الكفارة، ثم نوى صرف العتق في نصيب شريكه عند أداء القيمة، فهذا لا يصح، وإن نوى عند إعتاق نصيبه صرفَ جميع العتق إلى كفارته، فأنتجز العتق في نصيبه، وتأخر في نصيب شريكه ثم حصلَ، فالنية السابقة هل تكفي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها كافية؛ فإنها ارتبطت بالعتق، ثم حصل العتق على ترتيب.
والثاني - أنه لا يجوز؛ فإن تقدم النية على نفوذ العتق فاسدٌ مع القدرة على الإتيان بها مقترنة بحصول العتق.
وقال الشيخ أبو حامد: ينبغي أن ينوي العتقَ كلَّه عند إعتاقه نصيب نفسه؛ فإن النية باللفظ أليق، حتى لو بعّض النية لم يجز، وهذا مما انفرد به.
ومما يجب التنبيه له أنه إذا أعتق نصيب نفسه، وفرعنا على تعجيل السريان، وعلى أن العبارة عن النصف صحيحة، والعتقَ في الكل منصرف إلى الكفارة، فهذا فيه إذا نوى صرفَ الكل إلى الكفارة، فأما إذا نوى صرف العتق في نصيبه إلى الكفارة فحسب؛ فلا يبرأ عن الكفارة وفاقاً، وهذا ظاهر لا يخفى دركه؛ فإن عماد انصراف العتق إلى الكفارة النية.
9571- ولو أعتق عبده الخالص، ونوى صرفَ نصف العتق إلى الكفارة، لم ينصرف إليها أكثرُ من النصف.
ولو أعتق عبدين خالصين، ونوى صرف نصفيهما إلى الكفارة، فهذا بمثابة ما لو أعتق نصفين من شخصين، النصف من كل واحد منهما حرّ.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة (ت 2) فيها سقط، فقد جاءت هكذا: "ولكن لو نوى صرف العتق في نصيب شريكه، ثم حصل بالنية السابقة هل يكفي؟ فعلى وجهين ... إلخ".(14/536)
فإن قيل: ألستم ذكرتم خلافاً في التبعيض في العبد المشترك؟ قلنا: ذلك الخلاف في اللفظ، فمن أصحابنا من قال: إذا أعتق نصفه ولم يتعرض للنصف الآخر بلفظه، ونوى صرفَ العتق كلّه إلى الكفارة يجزئه.
ومنهم من قال: لا يجزئه حتى يتلفظ بإعتاق الجميع، ويقول: أعتقت هذا العبدَ عن كفارتي. هذا موقع الخلاف.
وحكى العراقيون عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه قال: "إذا لزمته كفارتان في كل كفارة رقبة، فقال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ نصفاً من كل عبد عن كل كفارة، فينفذ العتقان عن الكفارتين"، فلا شك أن هذا دالٌّ على جواز إعتاق شقصين من عبدين عن كفارة واحدة، فيعتضد إجراء الوجوه بالنص.
قالوا: ومن أصحابنا من جوز هذا، وإن منع التبعيض، فإن ثمرة اللفظ حصولُ عتقه في عبدين عن كفارتين، فلا نظر إلى تقدير التبعيض، وقالوا: لو قال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ، فينفذ العتقان عنهما.
واختلف أصحابنا في كيفية الوقوع: فمنهم من قال: يقع عن كل كفارة نصفا العبدين، ولا حاجة إلى هذا عندنا؛ فإن ظاهر إعتاق العبدين عن الكفارتين صرفُ عتق [عبد] (1) كامل إلى كل كفارة، ولا معنى للحمل على التبعيض، واللفظ ليس يشعر به والإعتاق المطلق لا يفهم منه في العرف التبعيض والتشقيص.
فصل
قال: "ولو أعتقه على أن يجعل له عشرةَ دنانير ... إلى آخره" (2) .
إذا قال الرجل لسيد المستولدة: أعتقها بألف، فأعتقها، صح واستحق الألفَ على من استدعى العَتاقة، وكان العتق واقعاً عن الموْلَى، وسبيل استحقاق العوض التخليص، وهذا بمثابة ما لو استدعى الأجنبيُّ من الزوج تطليق زوجته بمال، فإذا طلق، استحق المالَ على المستدعي، على التفاصيل المقدمة في الخلع.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/129.(14/537)
9572- ولو قال لمالك العبد الرقيق: أعتق عبدك عنّي بألف، فأعتقه عنه، نفذ العتق، ووقع عن المستدعي، واستحق المعتِقُ العوضَ المسمّى على الصحة.
ولو قال: أعتق عبدك عنّي، ولم يذكر عوضاً، فأسعفه وأعتقه عنه، وقع العتق عندنا كما لو ذكر عوضاً، خلافاً لأبي حنيفة (1) .
ولو وهب المالك عبدَه من إنسان، ثم أذن للمتهب حتى يعتقه عن نفسه، فالإعتاق على هذا الوجه يكون بمثابة القبض في الهبة، فيفيد الملكَ، ويحصلُ العتقُ، وقال أبو حنيفة (2) : لا يقع العتقُ قبل القبض الحسي قبضاً في الهبة، وإن صدر عن إذن الواهب.
9573- ثم إذا صرفنا العتق إلى المستدعي عند ذكر العوض أو من غير عوض، فقد أطبق أصحابنا على أن من ضرورة صرف العتق إلى المستدعي نقلَ الملك إليه؛ إذ من المحال أن يترتب عتق المعتِق علىَ مِلكِه، ثم يقع [من] (3) غيره.
ثم أشكل على الأصحاب وجهُ نقل الملك ووقتُه.
قال القاضي: هذا إشكالٌ عظيم، ووجه الإشكال أنّا إن قلنا: الملك ينتقل قبل التلفظ بالإعتاق، كان ذلك تقديمَ الحكم الذي يوجبه اللفظ على اللفظ، وهذا محال. وإن نقلنا الملك بعد العتق، كان كلاماً متهافتاً، وإن قدرنا نقل الملك والعتق معاً، كان [جمعاً] (4) بين النقيضين.
وقد ذكر العراقيون في حصول الملك للمستدعي أوجهاً: أحدها - أنه يتبين لنا أنه حصل له الملك مع قوله: أعتق عني.
والوجه الثاني - أنه يحصل الملك بشروع المعتق في لفظ الإعتاق، فكما (5) شرع
__________
(1) ر. المبسوط: 7/11.
(2) ر. المبسوط: 7/11.
(3) "من" ترادف "عن".
(4) في النسختين: جميعاً.
(5) كما: بمعنى عندما (وقد تكررت بهذا المعنى كثيراً) .(14/538)
حصل الملك للمستدعي، فيتم اللفظ ويعتِق ملكَ المستدعي. وكل ذلك تبيُّنٌ يقع الحكم به بعد الفراغ من اللفظ؛ فإنه لو شرع في اللفظ، ثم بدا له، فلم [يكمله] (1) ؛ فلا يحصل نقل الملك.
والوجه الثالث -حكَوْه عن أبي إسحاق المروزي- أنه قال: يحصل الملك والعتق معاً عند الفراغ من اللفظ، وهذا ليس بدعاً منه، وقد حكينا من أصله هذا المذهبَ فيه إذا اشترى الرجل من يعتِق عليه، ومذهبه في شراء القريب أبدع وأبعد؛ فإن تقدير الملك للحكم بانعقاد العقد لا غموض فيه.
وحكَوْا وجهاً رابعاً عن الشيخ أبي حامد أنه قال: إذا فرغ من لفظ الإعتاق، حصل الملك بعده في لحظة لطيفة، ثم ينفذ العتق مترتباً عليه، وذلك في وقتين لا يُدرَك بالحسّ تفصيلُهما.
وذكر شيخي وجهاً خامساً، وغالب ظني أنه حكاه عن القفال، وهو أن الملك يحصل مع آخر اللفظ والعتقُ بعده.
9574- هذا كلامُ الأصحاب، وهو مشكلٌ كما قال القاضي، وسبب إشكاله أنه لم يقع تملّك ولا تمليك من طريق اللفظ، وإنما نُضطر إلى تحصيله ضمناً، ثم حصل (2) ضمناً لنقيض الملك، ولا حصول إلا باللفظ، ولا حكم للفظ ما لم يتم، وكل من صار إلى تقديم الملك على اللفظ، فليس من الفقه على شيء، وليس هذا كقولنا: إذا تلف المبيع في يد البائع، تبينا انتقال الملك فيه إلى البائع وتلفَه على ملكه، فإن قال قائل: التلف هو الذي يوجب هذا، فكيف يقدّم الموجَب على الموجِب؟ قلنا: إن قُدّر مثلُ هذا في الواقعات التي لا ترجع إلى الألفاظ، لم يكن ذلك بدعاً في وضع الشرع، فأما ثبوت حكم اللفظ قبل اللفظ، فلا وجه له.
وكل ما ذكرناه قبلَ الوجه المحكي عن الشيخ أبي حامد فلا وجه له، وأما ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه أثبتَ حكمَ اللفظ بعده، غيرَ أنه يدخل عليه أمر ضروري
__________
(1) في النسختين: يكلمة.
(2) (ت 2) : ثم حصل ضمناً ليفتقر الملك.(14/539)
لا يندفع، وهو أن اللفظ لم يستعقب حصولَ العتق، بل استعقب انتقال الملك، ثم ترتب النفوذ عليه، وسببه أن هذا ليس إعتاقاً مطلقاً، إنما هو إعتاق عن الغير، ومعنى الإعتاق عن الغير إزالةُ الملك إليه، وإيقاعُ العتق بعده.
وأما ما ذكره شيخي فالذي يلوح فيه من اتجاهٍ لقربه من مذهب أبي حامد، وفسادُه من وقوعه في مذهب أبي إسحاق.
وبالجملة اختلف أئمتنا في أن من طلق أو أعتق، فحكم لفظه متى يثبت: فمنهم من قال: يثبت مع آخر جزء من اللفظ، وهو حسن؛ [فإن] (1) التطليق والإعتاق إنما يحصل مع آخر جزء.
ومنهم من قال: يحصل حكم اللفظ بعده على الاتصال ويعاقبه معاقبة الضدّ.
فإن قلنا: الحكم يحصل مع آخر اللفظ، فيتجه ما حكاه الشيخ (2) من حصول الملك مع آخر اللفظ واستئخار (3) العتق عنه للضرورة، فيئول هذا إلى اختلاف الشيخين (4) في أن حكم اللفظ متى يحصل. فإن قلنا: حكم اللفظ يحصل بعده، فالملك والعتق في وقتين بعد اللفظ. وإن قلنا: حكم اللفظ يحصل مع آخره، فالملك يحصل في أول حصول حكم اللفظ، والعتقُ يستأخِر للضرورة.
والذي [ارتأيناه] (5) أن يكون التفريع على حصول الحكم بعد اللفظ، ثم يقع القضاء في هذه الصورة بأن (6) الملك يحصل مع آخر اللفظ،. والعتق يحصل بعده، فيكون
__________
(1) في النسختين: فإنه التطليق والأعتاق ولكن إنما يحصل مع آخر جزء.
(2) الشيخ هنا والده الشيخ أبو محمد.
(3) (ت 2) : " ... مع آخر اللفظ مع استئخار العتق عنه للضرورة قبول الأمر إلى اختلاف الشيخين..".
(4) الشيخين يعني بهما: والده الشيخ أبا محمد، والشيخ أبا حامد. وواضح أن هذا ليس مصطلحاً ثابتاً، وإنما هو حكاية أقوالٍ في مسألةٍ فردةٍ.
(5) (ت 2) : رتبناه، وفي الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا: (ارتفيناه) تماماً. والمثبت تقدير من المحقق.
(6) عبارة (ت 2) فيها خرم هكذا: ثم يقع القضاء في هذه الصورة بأن الملك على هذا الوجه قبل أوانه.(14/540)
الملك على هذا الوجه قبل أوانه، ولا فرق بين أن يقع كذلك، وبين أن يقع عند الخوض في اللفظ كما صار إليه صائرون، أو قبل لفظ العتق كما ذكره ذاكرون.
هذا كله إذا قال لمالك العبد: أعتق عبدك عني.
9575- فأما إذا قال: أعتق عبدك عن نفسك، ولك علي عشرة، فإذا أسعفه، وأعتقه كما استدعاه، فالعتق ينفذ ولا مردّ له، وهل يستحق العوض المذكور على المستدعي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقه، كما لو استدعى منه إعتاق أم ولده، فإن العتق يقع عن المعتِق، وهو (1) يستحق العوض المذكور. والوجه الثاني - أنه لا يستحق العوض؛ فإن إيقاع العتق عن المستدعي ممكن، وبذلُ العوض على الخلاص (2) إنما يثبت للضرورة، فإذا أمكنت جهةٌ في العتق [غيرُ] (3) التخليص، لم يصح بذل العوض على التلخيص (4) .
ثم قال صاحب التقريب وضيخي: إن قلنا: لا يستحق العوض، فلا كلام، والعتق منصرف إلى المعتِق. وإن قلنا: يستحق العوض، فالعتق عمن يقع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع عن المستدعي، وإن نفاه عن نفسه، وهذا على نهاية الفساد والسقوط؛ [فإن صَرْفَ العتق إليه حيث يستدعيه لنفسه على خلافٍ] (5) ، فكيف يُصرفُ العتقُ إليه وهو نفاه عن نفسه.
9576- ومن تمام الكلام في هذا الفصل: أنه لو قال: أعتق أم ولدك هذه عني، ولك عليّ كذا، فلا شك أن عتق أم الولد لا يتصوّر انصرافه إلى المستدعي، والعتق ينفذ، ولا مردّ له.
__________
(1) (ت 2) : وهل يستحق.
(2) (ت 2) : الخلاف.
(3) في الأصل: "عن" والمثبت من (ت 2) ومن صفوة المذهب.
(4) (ت 2) : "على مذهب صاحب التلخيص" وهو وهم وشطط من الناسخ، لا ندري من أين أتى به.
(5) عبارة الأصل: "فإن من صرف العتق إليه حيث يستدعيه لنفسه على غلاله" ومثلها (ت 2) إلا أن فيها "علالة" (بالمهملة) والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.(14/541)
والكلام في أنه هل يستحق العوضَ على المستدعي؟ المذهب أنه لا يستحق؛ لأنه لم يعتقها عنه، واستحقاق العوض مقرون بحصول ذلك، وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت العوض وألغى قوله عني.
ولو قال: طلّق امرأتك عني ولك ألف، فالوجه إثبات العوض وإلغاء قوله عني، وحمله على الصرف إلى استدعائه، فكأنه قال: طلقها لأجلي أو بسبب استدعائي، والله أعلم.
وعتق المستولدة وإن كان لا يقع عن المستدعي، فاعتقاد الانصراف إلى المستدعي منتظم إلى أن نحكم بفساده.
9577- ولو قال لمالك الرقيق: "أعتق عبدك ولك عليّ ألف"، ولم يقل: أعتقه عني، ولا عن نفسك، فهذا نفرعه على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" هل (1) يستحق العوض عليه (2) إذا أعتقه؟ فإن قلنا: لا يستحق العوض عليه لو قال: أعتقه عن نفسك، فإذا أطلق استدعاء الإعتاق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يُحمل على ما لو قال: "أعتقه عن نفسك" والثاني - أنه يحمل على ما لو قال: "أعتقه عني"، إذ هذا المعنى متأكدٌ بالاستدعاء وبذل المال، فصار بمثابة التصريح [من] (3) المستدعي بالإضافة إلى نفسه.
وإن فرعنا على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" فالعوض مستحَق عليه، فإذا أطلق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق يقع عن المستدعي. والثاني - أنه يقع عن المعتِق، وهدا ينبني على ما هو المذهب، وهو أن العتق إذا أضيف إلى المعتِق، فلا يقع عن المستدعي وإن فرعنا على استحقاق العوض.
وهدا حاصل التفريع في استدعاء العَتاقة على التفاصيل التي ذكرناها.
__________
(1) (ت 2) : هذا.
(2) عبارة (ت 2) : "هل يستحق العوض عليه فإذا أطلق استدعاء الإعتاق، ففي المسألة وجهان" وواضح ما فيها من سقط.
(3) في الأصل: في والمثبت من (ت 2) .(14/542)
9578- ونعود الآن إلى موجب (1) الكفارة: فإن قال لمالك العبد القن: "أعتق عبدك عن كفارتي ولك ألف"، أو قال ذلك من غير عوض، فالعتق ينصرف إلى كفارة المستدعي.
ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك ولك كذا، فأعتقه عن كفارة نفسه، فإن قلنا: إنه يستحق العوض، فلا ينصرف العتق إلى كفارته؛ إذ من المستحيل أن يقع العتقُ في مقابلة عوض مستحَقاً عن تلك (2) الجهة، ثم يقع قضاءً [لحق] (3) الله تعالى.
وإن قلنا: إنه لا يستحق العوض إذا أعتق عن كفارته على استحقاق العوض، لم يقع العتق عن [كفارته] (4) ؛ وذلك أنه وإن لم يقع مستحقاً عن تعويض ثابت، فنيّته فاسدة (5) ؛ من جهة أنه لم يجردها لحق الله، والنية ركن في الكفارة وشرطها أن (6) تخلُصَ ولا تتردد، هذا ذكره القاضي ولا وجه لتقدير خلافه.
فرع:
9579- ذكرنا من أصلنا أنه إذا قال: أعتق عبدك عني ولم يذكر عوضاً، فاعتق عبده، وقع العتق عن المستدعي، قال صاحب التقريب: هل يستحق المعتِق على المستدعي شيئاً؟ فعلى وجهين مبنيين على (7) ما لو قال: اقضِ دَيْني، ولم يقل بشرط الرجوع عليّ، ثم إذا أثبتنا حق الرجوع، فالمعتق يرجع بقيمة العبد.
ولا ينبغي للفقيه أن يأخذ هذا من [أن] (8) الهبة هل تقتضي العوض؟ حتى إذا أخذه من هذا الوجه ردّه إلى الخلاف في أن عوض الهبة ماذا؟ فإن هذا المأخذ يقع وراء (9) الحاجة، ونحن قد صادفنا قبله أصلاً قريباً، فإن العتق حق على المستدعي، فإذا
__________
(1) (ت 2) : مذهب.
(2) (ت 2) : ملك.
(3) في الأصل: بحق.
(4) في الأصل: كفارة، والمثبت من (ت 2) ومن المختصر.
(5) وجه فساد نيته أنه لم يبادر بالعتق تكفيراً، وأعتق للعوض المبذول أيضاًً.
(6) (ت 2) : وشرطها أن لا تخلص.
(7) (ت 2) : مبنيين على ما قال عني.
(8) زيادة من المحقق.
(9) (ت 2) : تقع به الحاجة.(14/543)
قال: أعتق عن كفارتي، كان كما لو قال: اقض ديني، نعم، لو لم يكن عليه عِتقٌ واستدعى (1) الإعتاق عنه تبرعاً، فلا يمتنع أن يكون هذا كالهبة المطلقة، والعلم عند الله تعالى.
فرع:
9580- إذا قال: أعتق عبدك عني غداً بألف، فقد طوّل صاحب التقريب نَفَسه في هذا، ونحن نذكر المقصود منه، فنقول: إذا قال: قُل: "إذا جاء الغد فعبدي [هذا] (2) حر عنك ولك عليّ ألف"، فإذا قال ذلك: فهذا يناظر تعليق الخلع، وقد مضى في كتابه، وإن ظن الفقيه أن هذه المسألة فيها تقدير نقل ملك؛ فيبعد عن التعليق قبل هذا التقدير ضمناً، فلا يختلف به ترتيب المذهب، والعتق يحصل منصرفاً إلى المستدعي، وفي صحة المسمى وفساده خلاف، كما مضى في الخلع.
ولو قال: أعتق عبدك عني على خمرٍ، فأعتقه عنه، قال صاحب التقريب: وقع عن المستدعَى وجهاً واحداً، وهذا قد [يَجُرّ] (3) إشكالاً على الناظر في ابتداء نظره؛ من جهة أنه يعتقد حصول الملك بالعوض الفاسد، وليس الأمر كذلك؛ فإن الملك يحصل بالعوض الثابت شرعاً، وهو قيمة العبد، ولكن لم يفسد الملك؛ من حيث إنه لم يقع مقصوداً، وإنما وقع ضمناً، ولذلك قُبل التعليق، وإن كان نقل الملك لا يقبل التعليق، فكأن الأصل العتقُ، والعتقُ إذا قوبل بالعوض الفاسد إيجاباً وقبولاً، حصل حصول الطلاق، ثم إن تخلف شرط من شرائط الملك، فلا مبالاة به، لحصوله
ضمناً غيرَ ملفوظ به.
قال صاحب التقريب: إذا قال: أعتق عبدك عني غداً، ولك ألف، فصبر المالك حتى جاء الغد وأعتقه إنشاء لمّا جاء الغد، فيقع العتق عن المستدعي ويستحق الألفَ في هذه الصورة إذا (4) لم يجر العتق على صفة التعليق، ثم قال صاحب التقريب: هذا ما ذكره الأصحاب، وفيه نظر.
__________
(1) (ت 2) : والمستدعي.
(2) زيادة من (ت 2) .
(3) في الأصل: "نجّز".
(4) إذا: بمعنى إذْ.(14/544)
والأمر على ما ذكر؛ فإن (1) استدعاء العتق بالعوض قد يستدعي إجابة متصلة، فإذا انفصلت الإجابة، تطرّق الاحتمال. وهذه المسألة تؤخذ من نظيرتها (2) من فصل تعليق الخلع.
فصل
قال: "ولو أعتق عبدين عن ظهارين ... إلى آخره" (3) .
9581- النية شرط في الكفارات، ولأنها عبادة، والعبادات مفتقرة إلى النيات، فلو أعتق رقبة، ولم ينو صرفَها إلى الكفارات، لم يُحسَب العتق عنها.
9582- وتعيين النية في الكفارات ليس شرطاً، حتى لو كانت عليه رقبةٌ واجبةٌ، لم يدر أنها عن ظهارٍ، أو يمين، أو وِقاعِ، أو قتلٍ، ونوى إعتاق الرقبة عن الواجب الذي عليه، كفاه ذلك، زاد القاضي، فقال: كذلك لو [جوّز] (4) أن تكون الرقبة منذورة، فلا بأس عليه، ويجب تعيين النية في الصلوات المفروضة والصيام، وقد مضى حكم كل صنف في كتابه.
وقال الأصحاب: سبب ذلك أن العبادات البدنية تتمحّض عبادةً، فكان التعيين شرطاً فيها للإخلاص، والكفارة [نازِعةٌ] (5) إلى الغرامات؛ إذ هي عبادات مالية، فاكتفي فيها بأصل النية.
9583- وهذا الكلام مُختلٌّ (6) غير مستقل، والوجه عندنا في اعتماد إيجاب التعيين ونفيه أن نقول: العبادات البدنية لها مناصب ومراتب وبينها تفاضل يُعقَلُ سببه
__________
(1) (ت 2) : على ما ذكرناه من استدعاء.
(2) من نظيرٍ لها.
(3) ر. المختصر: 4/130.
(4) في الأصل: صوّر.
(5) في النسختين: نازع.
(6) (ت 2) : متخيل، والمعنى بكونه مختلاً أنه قاصرٌ غير كافٍ.(14/545)
[وقد لايُعقل سببُه] (1) فالذي يعقل (2) ما يتعلق سببه بالنَّصَب والتعب المرتبط بالوقت (3) ، فإن صلاة الصبح أشق، وصلاة الظهر في القائلة صعبة، وصلاة المغرب مع التضييق وهي (4) في منتهى سفح النهار واستقبال الليل، وصلاة العتمة وقد ظهرت دواعي الدَّعة في النفوس على أقدارٍ من النَّصَب مختلفة وأجناسٍ متفاوتة (5) ، وقد قال مبلّغ الشرع صلى الله عليه وسلم: "أجْرُك على قدر نَصَبك" (6) ، فلاقَ بها التعيين.
وكذلك القول في الصوم والعتق، لا تفاضل فيه باختلاف الأسباب الموجبة؛ إذ لا سبيل إلى الحكم بأن العتق عن كفارة اليمين (7 دون العتق عن كفارة الظهار. نعم، قد يظن الفطن أن العتق في كفارة 7) اليمين نازع إلى التطوع؛ لمكان التخيير بخلاف العتق في كفارة الظهار، وهذا لا ثبات له مع الحكم بأن الكفارة واجبةٌ.
وهذا الذي ذكرناه يجري في صوم (8) الكفارات؛ فإن الصوم لا يفضُل الصومَ بتفاوت الأسباب.
وما حكيناه قبلُ يَرِد عليه الصوم في [الكفارات] (9) ؛ فإن الذي ذكرناه من نزوع الكفارة إلى الغرامات لا يتحقق في الصوم، ثم لا يجب في الزكاة تعيين مال عن مال للفقه الذي ذكرناه؛ فإن الزكوات لا تتفاوت مناصبها في الفضيلة باختلاف الأموال.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) (ت 2) : تعلق.
(3) (ت 2) : بالوقف قال صلاة الصبح.
(4) (ت 2) : وهي في عينهن سفح النهار.
(5) (ت 2) : متقاربة.
والمعنى أن كلاً صلاة فيها مشقة من وجه تختلف عن الأخرى، فلا مساواة بينها ولذا يجب تعييناً بالنية.
(6) حديث "أجرك على قدر نصبك" متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. البخاري: العمرة، باب أجر العمرة على قدر النصب، ح 1787، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1211) .
(7) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(8) (ت 2) : صور.
(9) في الأصل: الكفارة.(14/546)
وقد يَرِدُ على هذا التباسُ (1) النذر بالكفارة؛ فإن الكفارة إن كانت لا تستدعي تعييناً لإسنادها إلى جريمة أو إلى ما هو في معنى الجريمة، وتعيينُها ذكرُ أسبابها، وهذا قد لا يتحقق في النذر؛ فإن التزام القربة قربة، والدليل عليه أن من كان عليه نذرٌ، وصومٌ آخر مفروض عن قضاء، فإنه يتعرض للنذر.
وقد حكيت عن القاضي أنه قال: إذا التبس ما عليه من العتق بالنذر والكفارة، كفاه أن ينوي به العتق الواجب، فليتأمل الناظر هذا، والظن بالقاضي أن يطرد ذلك في الصوم المتردّد بين المنذور وبين الكفارة مع التباس الحال، فهذا فيه نوع تأمل على الناظر. ولو ذهب ذاهب إلى التزام التعيين لأجل النذر، فإنه يكتفي بإعتاق عبدين يجرّد نيته في أحدهما عن النذر ويبهم الآخر، والعلم عند الله.
ثم إذا رفعنا (2) اشتراط التعيين في نية الكفارة، فلا فرق بين أن يتحد الجنس وبين أن يختلف، ولا فرق بين أن يكون الفرض صوماً، أو إعتاقاً، أو إطعاماً، فلو كان عليه كفارتان، فصام أربعة أشهر بنية الكفارتين أجزأه، وانصرف كل شهرين إلى كفارةٍ.
[ولو صام شهرين] (3) شهراً عن هذه الكفارة وشهراً عن تلك، لم يجز، والسبب فيه أن التتابع شرط في الصيام، فإذا صام يوماً عن غير ما شَرَعَ فيه، فقد انقطع التتابع في ذلك المقدّم (4) وهذا افتتاح كفارة أخرى.
ولو كان فرضه الإطعام وعليه كفارتان، فأطعم مائة وعشرين مسكيناً عن الكفارتين أجزأه. ولو كان ينوي بمُدٍّ كفارةً، وبمُدٍّ كفارةً أخرى واتخذ ذلك سجيَّة حتى أتى بما عليه، فلا بأس؛ إذ لا (5) تتابع في الإطعام.
__________
(1) في (ت 2) : يرد البابين النذر بالكفارة إن كانت لا تستدعي تعيناً لاستثنائها إلى جهة، وإلى ما هو في معنى الجهة.
(2) (ت 2) : وقعنا.
(3) في الأصل: ولو صار بشهرين. والمثبت من (ت 2) .
(4) (ت 2) : في ذلك المقام.
(5) (ت 2) : فلا بأس أولاً شارع في الإطعام.(14/547)
ولو اختلف ما يكفر به وذلك باختلاف أحوال الملتزِم [بأن] (1) كان موسراً في كفارة، ومعسراً في أخرى، قادراً (2) على صوم الشهرين، [ومُفْنِداً] (3) عاجزاً في أخرى، فأعتق رقبة عن [كفارة] (4) ، وصام شهرين عن [كفارة] (5) ، [أو أطعم] (6) مطلقاً كذلك، صح منه ما جاء به، وانصرف كل واجبٍ إلى [جهةٍ] (7) .
9584- ومما ذكره الأصحاب في ذلك أَنْ قالوا: نحن وإن لم نوجب التعيين بالنية في الكفارات، فلو عيّن، فهو مؤاخذ بالإصابة (8) ، وبيان ذلك: أنه لو كان عليه كفارة القتل في علم الله تعالى وتقدس، فحَسِب (9) أن عليه كفارة الظهار، فلو أعتق رقبة عن الكفارة أجزأه العتق، وإن لم يتعرّض للتعيين.
ولو أعتق رقبة عن كفارة الظهار؛ بناء على ظنه، ثم تبيّن أن الواجب عليه سببُه القتل، فالعتق نافذ، وذمته لا تبرأ عمّا عليه؛ فإنه صرف الإعتاق قصداً عما عليه، فانصرف عنه.
ونحن وإن كنا لا نوجب التعيين، فيشترط أن يكون الواجب مندرجاً تحت عموم
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) (ت 2) : قادراً على صوم الشهرين وعاجزاً في أخرى وفيه عن الكفارة وصيام شهرين عن الكفارة الأخرى.
(3) في الأصل: "مُقْتراً" من أقتر الرجل إذا ضاق عيشه، وهذا المعنى غير مراد، فالقدرة على الصيام لا يقابلها العجز عن الإطعام، وإنما يقابلها الضعف والعجز عن الصوم. (وأفْند إذا بلغ به الهرم والشيخوخة حداً أضعف رأيه) .
(4) في النسختين: "الكفارة".
(5) في النسختين: "الكفارة".
(6) في النسختين: "وأطعم" والمثبت من المختصر.
(7) في النسختين: جهته، والمثبت من المحقق - وصورة المسألة: رجل عليه ثلاث كفارات، فأعتق رقبة عما عليه، ثم أعسر فصام شهرين عما عليه، ثم ظل على عسره وعجز عن الصوم فأطعم عما عليه، فتنصرف كل كفارة إلى جهة، مع أنه أوقعها مطلقة ولم يعينها.
(8) (ت 2) : بالإضافة.
(9) عبارة (ت 2) فيها خرم، إذ جاءت هكذا: "فحسب أن عليه كفارة الظهار بناءً على ظنه ... إلخ".(14/548)
النية ومقتضاها، فإذا انصرفت النية عن الجهة الثانية، لم يقع [الاعتداد] (1) بالمؤدّى أصلاً، وقد ذكرنا (2) نظائر ذلك في ربط نية الزكاة بمالٍ هو معدومٌ حالةَ إخراج الزكاة (3) ، وذكرنا تعيين الإمام الذي به الاقتداء والحاضرُ غير المنوي، وذكرنا في الصلاة على الجنازة التعيين مع الخطأ، وجمعنا هذه الفصول في أقسامٍ ضابطة في باب نية الطهارة (4) .
فصل
قال: "ولو ارتد قبل أن يكفّر ... إلى آخره" (6) .
9585- من لزمته الكفارة فارتد قبل التكفير، ثم كفّر بالعتق، قال الأصحاب: أجزأه وبرئت ذمته، ولو أسلم، لم يكن مخاطباً بإعادة التكفير، وهذا ليس بدعاً، والمرتد على علائق ثابتة في الإسلام، وأصلُنا أن الكافر الأصلي يلتزم الكفارة، ويؤديها، والمرتدّ لا يصوم عن الكفارة في حالة ردته؛ فإن الصوم عبادة بدنية غيرُ نازعة إلى غرض آخر سوى الامتحان في البدن، والكفارات المالية تنزِع إلى الغرامات، [وقد] (7) ذكرنا أن الزكاة تخرج من مال المرتد، وترددنا في وجوب الزكاة في ماله ابتداء، كما تفضل في كتاب الزكاة.
ثم قال الأصحاب: العبادات المالية يتعلق بها غرض الإرفاق، وسدّ الحاجات، والتقرّب إلى الله تعالى، والغرض الأظهر منها الإرفاق، وما نيط بسببين قد
__________
(1) في الأصل: الاعتياد.
(2) (ت 2) : نظرنا نظائر.
(3) المعنى أنه لو كان له مالٌ غائب في بلد آخر، فأخرج الزكاة عنه وعينها وربط نيته بأنها عن ذلك المال، ثم تبين أنه كان تالفاً لا زكاة عليه، فلا يصح أن يعتبر هذه الزكاة عن مالٍ آخر موجود من ماله.
(4) (ت 2) : في باب فيه الظهار. (وهو وهم عجيب) .
(5) سقطت علامة (فصل) من (ت 2) .
(6) ر. المختصر: 4/131.
(7) في الأصل: فقد.(14/549)
[يستقل] (1) بأحدهما كالحدِّ يُمَحِّص ويزجر (2) ، ثم يثبت على الكافر زاجراً، وإن لم يكن ممحِّصاً.
وهذا يثبت على مراتب: فالزكاة يظهر قصد الإرفاق بها، ولكنها وظيفة وطريحةٌ للمحاويج على أغنياء المسلمين، فلا تطّرد على الكفار؛ فإنهم بالتزام الجزية، لم يتطوّقوا أن يسدّوا حاجات محاويج المسلمين؛ فلم يخاطَبوا بالزكاة، ولم يطوّقوا تحمّل كَلّ المسلمين، وليست الزكاة متعلقة بجريمة أو ما يجري مجرى الجريمة، بل هي محض حق المال، وهم (3) بالذمة صانوا أموالهم عن مطالبات الشرع، والكفاراتُ ضاهت الحدود.
هذا وضع المذهب، وعلى الأصحاب تقريره.
ثم لا يصح من الكافر والمرتد إلا إخراج الأموال في الكفارات فحسب، والمرتد تميز عن الكافر الأصلي لما فيه من عُلقة الإسلام، ولهذا تَخْرجُ عن ماله الزكاةُ التي وجبت في الإسلام، على الرأي الظاهر، وقد نقول: تجب الزكاة في ماله إذا لم نحكم بزوال ملكه.
وهذا لا يتصوّر في حق الكافر الأصلي، وإن [شملهما] (4) الكفر؛ فإن الكافر الأصلي لم يلتزم موجب شَرْعنا في الحقوق المالية، والمرتدُّ سبق منه الالتزام، وقد يطّرد عليه حكمُه، وهذا مع اختلافٍ قدمناه في المرتد في كتاب الزكاة.
9586- فأنتظم مما ذكرناه أن المرتد على ظاهر المذهب يُخرج الكفارة بالمال، فيُعتق ويُطعم [ولا يصوم] (5) .
ثم قال جمهور الأصحاب: هذا تفريع على قولنا: إن الردة لا توجب زوال الملك (6) ،
__________
(1) في الأصل: يستقبل. والمثبت من (ت 2) .
(2) (ت 2) : ويؤخر.
(3) (ت 2) : بل هي محض حق المال وهو في الذمة صائر إلى أموالهم عن مطالبات الشرع.
(4) في النسختين: شملها.
(5) في الأصل: ويصوم.
(6) (ت 2) : المال.(14/550)
فإن قضينا بأنها توجب زواله، فلا يتصور من المرتد أن يكفر؛ إذ لا ملك له، ولا يصح منه الصوم.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا وإن حكمنا بأن الردة تزيل الملك، فإذا كانت عليه كفارة فارتد، فما تتعلق الكفارة به يُستثنى من الحكم بزوال ملكه عنه، فيُعتق عبداً من عبيده أو يُحصّل (1) عبداً بدراهمه، وإن كان بحيث يصح منه الإطعام، فيُخرج الإطعام، والحكمُ بزوال الملك يقع وراء ذلك.
وهذا اختاره صاحب التقريب، ورآه الأصحَّ، ولفظه في الكتاب: إن المذهب أن الأمر كذلك ولو حكمنا بزوال ملكه، واحتج على ذلك بالديون؛ فإن من ارتد وعليه ديون، أُديت الديون من ماله وإن حكمنا بزوال ملكه.
قال صاحب التقريب: هذا ما ذهب إليه الأصحاب أجمعون -يعني قضاء الديون- إلا الإصطخري، فإنه قال: إذا فرعنا على قول زوال الملك لا تُقضَى ديونُه، ويجعل كأن أمواله تلفت.
وهذا إن قاله في الديون التي وجبت في الإسلام، فهو سرف عظيم، وهو خروج عما عليه الناس، وإن كان هذا يليق بتصرفاته؛ فإن من شيمه الاستجراء، وترك المبالاة، وإن كان يريد به أن الديون التي [توجد] (2) أسبابها في حالة الردة لا تؤدَّى ممّا كان مالاً له -على قولنا بزوال الملك- فهذا سديد، ولا يجب أن يخالَف فيه، ولا يصح استثناء هذا المذهب في معرض الاستبعاد.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أنه إذا ارتد لم يُخرَج من ماله إلا أدنى الدرجات، وظني أنه قال هذا في الكفارات المخيّرة، وهي كفارة اليمين.
فخرج مما ذكرناه أن الصوم [لا يصح] (3) من المرتد، والتكفير بالمال يصح إذا
_________
(1) (ت 2) : أو يحصل عليه بدراهمه.
(2) في الأصل: توجه.
(3) زيادة من المحقق. ومن عجب أن تسقط هذه اللفظة من النسختين، فتقلب المعنى تماماً وأعجب المعجب أن تسقط من (صفوة المذهب) ، فعلى فرض أنها كانت ساقطة في النسخة التي يلخص منها ابن أبي عصرون، فكيف نصدّق ويحتمل عقلُنا أن هذا الإمام لا يكتشف هذا =(14/551)
قلنا ملكه لا يزول، وإن قلنا: يزول ملكه، فهل يُخرج الكفارةَ، فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
***
__________
= الخلل الذي يحلّ حراماً معلوماً من الدين بالضرورة!!! ثم على فرض أنه تنبه لذلك وصحح العبارة، ألا يكون عجيباً غريباً أن تسقط من ناسخ مختصر ابن أبي عصرون، ومن نسختين من نهاية المطلب في وقت واحد!! الله أعلم. ونص عبارة ابن أبي عصرون هو: "فخرج أن الصوم من المرتد والتكفير بالمال يصح إذا قلنا: إن ملكه لا يزول، واذا قلنا: يزول، فعلى الخلاف المذكور" (ر. صفوة المذهب: جزء 5/ورقة: 102 يمين سطر (5) والله أعلم.
وهذا يذكرنا بـ (لا) التي اجتمع على إسقاطها نسختا النهاية وابن أبي عصرون، فأجيز بإسقاطها توكيلُ الذمي في قبول نكاح مسلمة وفي تزويجها!(14/552)
باب ما يجزىء من العيوب في الرقاب الواجبة
9587- أجمع العلماء المعتبرون على أن العيوب في الرقاب تنقسم: فمنها ما يمنع من الإجزاء، ومنها ما لا يمنع، وقال داود: ليس فيها ما يمنع، وتعلّق باسم الرقبة.
وقال الشافعي: "لم أعلم أحداً ممن مضى من أهل العلم، ولا ذُكر لي، ولا بقي أحدٌ إلاّ يقسّم العيوب ... إلى آخره" (1) ، وهذا داود نشأ بعده، وعندي أنه لو عاصره، لما عدّه من العلماء.
فإذا تبين أن العيوب مُنقسمة، فمذهب الشافعي أن ما يَنقُص العمل نقصاناً بيّناً، ويضر به ضرراً ظاهراً، فهو يمنع من الإجزاء، وعقْدُ الباب تخليصُ مملوكٍ من أسْر الرق؛ حتى يستقلَّ، ثم الذي يليق بهذه القُربة أن يكون مستقلاً بما يُقيمه، منبسطاً (2) في عمله؛ فيتخلصَ عن العمل لغيره، وإذا كان زَمِناً مثلاً، فالرق أجدى عليه؛ إذ عليه كافل (3) يكفيه مُؤَنَه، فأقرب معنى في الاستنباط (4) ما راعاه الشافعي رضي الله عنه، ولا يُنظر إلى العيوب المؤثرة في المالية؛ فإن العتق إزالةُ المالية، بخلاف العبد المأخوذ في غُرة الجنين؛ فإنه يُقْصد مالاً ويؤخَذ مالاً، [فيراعى] (5) فيه المقاصدُ المالية، على ما سيأتي شرحها في باب الجنين، إن شاء الله عز وجل؛ فأحرى معتبرٍ في الباب ما ذكرناه [من التأثير في العمل والإضرار الظاهر به] (6) .
وقد يزداد العقد وضوحاً بذكر مذهب يخالف المذهب المختار، قال أبو
__________
(1) ر. المختصر: 4/131، وهذا معنى كلام الشافعي في المختصر وليس نصه.
(2) (ت 2) : مقسطاً.
(3) (ت 2) : تحامل.
(4) (ت 2) : الانبساط.
(5) في الأصل: ويراعى، و (ت 2) : فراعى.
(6) في الأصل: "أما ذكرناه من التأثير الذي في العمل والإضرار والظاهر به". وفي (ت 2) :
"ما ذكرناه من التأثير في العمل اليسير والأضرار الظاهرة" والمثبت تصرف من المحقق.(14/553)
حنيفة (1) كل عيب يفوّت جنساً من المنفعة أو معظمَها يمنع الإجزاء، وما لا فلا، فالذي سقطت أسنانه لا يجزىء عنده، وكذلك الأخرس، والأصم، ومقطوعُ اليد والرجل من الخلاف يجزىءُ، ومقطوعُ اليد والرجل من الوفاق لا يجزىء.
9588- فإذا تبين أصل مذهبنا، فإنا نفصله بالمسائل: فالأعمى لا يجزىء، ومن قطعت إحدى يديه أو إحدى رجليه لا يجزىء؛ فإن النقص يظهر والضرر يتبيّن، فإذا كنا نتكلم وظهر أن المرعي بالإعتاق الإطلاقُ عن الوِثاق، ففوات المقصود ليس شرطاً في تحقيق العيب، بل نقصانُه البيّنُ كافٍ، والعورُ لا يمنع بل يجزىء الأعور؛ فإن النقصان لا يبين، وهو بفَرْد عينٍ يعمل قريباً مما يعمله [ذو العينين] (2) ، وكذلك يجزىء الأحول والأعرج، إذا لم يكن قريباً من الزمانة، ولا يؤثر البَهَق والبَرَص والوكع (3) والكوع (4) والقرع، وضعفُ الرأي والخَرَق.
ولو قطعت إبهامُه، أو مُسبِّحتُه أو الوسطى من يده، لم يجز إعتاقه، وقطعُ الخنصر لا يَظهر أثرُه، وكذلك قطع البِنصر، ولو قطعت الخِنصر والبِنصر، فإن قطعتا من يد واحدة، مَنَعَ الإجزاءَ، وإن كان القطع من يدين فلا يمنع؛ فإن الضرر لا يظهر.
وقطعُ الأنملة لا يؤثر إلا إذا قطعت من الإبهام؛ فإن قطع أنملة منها بمثابة قطعها، وقطع أنملتين في كل إصبع بمثابة قطع ذلك الإصبع، هكذا قال العراقيون، واستهانتُهم بقطع أنملة واحدةٍ محتملةٌ من غير الإبهام، كما فصّلوا.
فأما إذا قطعت الأنامل العليا من الأصابع، فلعل هذا يحوج إلى مزيد نظر، والعلم عند الله.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/494 مسألة: 1036، المبسوط: 7/2.
(2) في الأصل: ذو اليدين.
(3) الوكع: هو اعوجاج إبهام رجله وإقباله على السبابة حتى يُرى أصلها خارجاً كالعقدة، ويقال: رجل أوكع، وامرأة وكعاء، ووكع وكعاً من باب تعب (المصباح) .
(4) الكوَع بفتحتين مصدر من باب تعب، وهو اعوجاج الكوع، وقيل هو إقبال الرسغين على المنكبين، ويقال للرجل أكوع وللمرأة كوعاء. (المصباح) .(14/554)
وفقد أصابع الرجلين لا أثر له وفاقاً، هكذا ذكره القاضي وغيره.
والمجنون لا يجزىء إذا كان الجنون مطبقاً، والمريض يفصّل الأمرُ فيه، فإن كان المرض المانع من العمل مرجوّ الزوال، فلا مبالاة به، وهو كالصبي؛ فإن ابن اليوم يجزىء؛ لأنا على رجاءٍ من كبره، فليكن المرض كذلك، وإن كان المرض بحيث لا يرجى زواله، فهو مانع من الإجزاء.
9589- ثم لا بدّ وراء ذلك من مزيد. فإذا أَعْتَقَ المريضَ الذي لا يُرجى برؤه، فتمادى المرض ومات، فلا إشكال أنه غير مجزىء، وإن استبلّ (1) [وأفاق] (2) ، فهل نتبيّن أن العتق مجزىء أم نقول: برؤه حادثُ نعمةٍ بعد العتق، ولم يكن مقترناً بالإعتاق؟ الرأي الظاهر الإجزاء؛ لأنا كنا نبني المنع على أنه لا يبرأ، فإن برأ، فالحكم كذلك، والمسألة من طريق الترتيب والتلقيب لا من جهة الفقه تلتفت على [المعضوب] (3) يَستأجِر على الحج ثم يبرأ.
وإذا أعتق مريضاً مرجوّاً؛ ثم تمادى المرض به ومات، فهذا فيه احتمال متردّد أيضاًً، والتنبيه فيه كافٍ، ولعل الأوجه الإجزاءُ؛ نظراً إلى الرجاء المقترن بحالة الإعتاق، وحملاً لما كان من الموت على حادثِ مرضٍ.
9590- واختلف نص الشافعي رضي الله عنه في الأخرس واضطرب الأصحاب، فأجرى بعضهم قولين: أصحهما - الإجزاء؛ لأن الخرس لا يظهر أثره في العمل.
والثاني - أنه لا يجزىء، فإن مناطقته عسرةٌ، وهذا يعسّر اختلاطه بالناس، وينعطف على تعذر عمله واكتسابه، وهذا تكلفٌ، والحق يناطق الفقيه بغيره.
ومن أصحابنا من نزّل النصين على حالين، فقال: حيث مَنَع أراد إذا كان لا يُفهِم بإشارته، وحيث أجاز أراد إذا كان يُفهِم بالإشارات.
وذكر بعض الأصحاب طريقة ثالثة، فقالوا البكم والصمم إذا اجتمعا منعا، وهذا
__________
(1) استبلّ: بَرأ وسَلِم وتعافى وشفي من مرضه.
(2) في النسختين: وفاقاً.
(3) في النسختين: المغصوب (بالمعجمة) .(14/555)
يغلب في الذي يولد أصمّ؛ فإنه لا ينطق إذا لم يسمع ولا يَفهم [ولا يُفهم] (1) .
ومن أجرى القولين في الأخرس طردوا القولين في الأصم الأصلخ (2) ، وهو بعيد، لا يليق بقاعدة الشافعي رضي الله عنه في مراعاة العمل.
ونص الشافعي على من كان يُجن ويُفيق فإعتاقه مجزىء، وهذا ظاهر إن قل زمان الجنون وكثر زمان الإفاقة، فأما إذا كان زمان الجنون أكثر، فما نرى الشافعيَّ يقول ذلك رضي الله عنه، وإن استوى الزمانان في النُّوَب، فظاهر النص الإجزاءُ، وفيه احتمالٌ من طريق المعنى.
9591- والذي نختم الباب به أن النقصان في العمل لم [يُجْره] (3) الشافعي رضي الله عنه على قياس النقصان (4) [في] (5) المالية حيث تُرعى المالية، فإن النقصان وإن قل إذا أثر في المالية، كفى في كونه عيباً، وهاهنا شَرَطَ الظهورَ، كما شرط أبو حنيفةَ الظهورَ في عيب الصداق، والسبب فيما ذكره الشافعي أن الناس أنفسهم يتفاوتون في القوى، ثم لا يشترط أن يكون العبد المعتَق قويّاً ذا مِرّةً، فقد نجد (6) ذا مرّة ضعيفَ الكسب، ونصادف ضعيفاً قويّ الكسب، وبالجملة لا ضبط، فلو اعتبرنا أدنى النقصان من العمل، لم يكن لائقاً، فهذا الأصل [مما] (7) نبهنا عليه.
و [أما] (8) المالية، فإنّ ضبطها هيّن، فاعتُبر ما ينقصها. نعم، النقصان الذي يُتغابن في مثله لا اعتبار به أيضاًً؛ من حيث إنه لا يظهر به المقصود، فالمرعيُّ ظهور الغرض في كل باب على حسب ما يليق به، والهَرِم الذي ظهر عجزه عن العمل، لا يجزىء، والصغر لا يمنع الإجزاء؛ فإنه إلى الزوال.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) الأصلخ والأصلج بالخاء والجيم بمعنى واحد، وهو الذي ذهب سمعه (المعجم) .
(3) في الأصل: يجزه، و (ت 2) : يجوز.
(4) (ت 2) : السلطان المالية.
(5) زيادة من المحقق.
(6) (ت 2) : نصادف.
(7) غير مقروءة بالأصل. وفي (ت 2) : "معنا" والمثبت تقدير من المحقق.
(8) زيادة من (ت 2) .(14/556)
9592- ورأيت في كلام العراقيين ما يشير إلى تردد في أن إعتاق الحمل هل يجزىء، وهذا فيه إذا تحققنا وجوده مع انسلاك الروح فيه، وطريق استبانة ذلك بيّن، [فلا] (1) شك أنا لا نحكم في الحال بحصول براءة الذمة، فلا يسلّط المظاهر على الغِشيان [وإن] (2) قلنا الحمل يُعرف، هذا لا خلاف فيه؛ فإنا لا نتحقق الحياة إلا بتقدير الانفصال على حدٍّ [يستند] (3) علمُنا معه بحياة الجنين إلى وقت الإعتاق.
والذي رأيت فحوى كلام الأئمة عليه في طرق المراوزة أن الحمل لا يجزىء وإن تحققنا بطريق الاستناد وجود حياته حالة الإعتاق، وهذا ما يجب التعويلُ عليه، وتركُ الاعتداد بما سواه، والله المعين.
***
__________
(1) في الأصل: ولا.
(2) في الأصل: فإن.
(3) في الأصل: يستبد. و (ت 2) : يستنفد.(14/557)
باب من له الكفارة بالصيام
قال الشافعي رحمه الله: "من كان له مسكن وخادم لا يملك غيره ... إلى
آخره" (1) .
9593- لما ذكر الشافعي في الباب المقدّم العتقَ ومايتعلق به، ثم عقبه بصفة المعتق، وذكر انقسام العيوب إلى ما يمنع من الإجزاءِ، وإلى ما لا يمنع منه، وانتجز غرضُه في العتق، استفتح باب الصيام، فإنّ كفارة الظهار مبدوءةٌ بالعتق، فمن لم يتمكن، صامَ شهرين متتابعين، فجرى على مقتضى ترتيب الكفارة، وخاض في الصوم.
وأول ما يجب الاعتناء به بيانُ العجز الذي يسوغ (2) لأجله الانتقالُ إلى الصوم، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] هذا يشعر بالإمكان ومقتضاه التضييق، حتى إذا كان للوجدان وجه، فلا سبيل إلى الحَيْدِ عن الرقبة والتعلّقِ بالصيام، ولكن اتفق الأصحاب على ضربٍ من الاتساع لا يلائم عندي ظاهرَ القرآن، ولكنا نطرد المذهب على وجهه نقلاً، ثم ننظر فيما نبهنا عليه.
9594- قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ملك رقبة غيرَ أنها مستغرَقةٌ بحاجته بأن كان مريضاً زَمِناً لا يستطيع الاستقلال، فلا نكلفه أن يُعتقه، بل له الانتقال إلى الصوم، وكذلك لو كان قادراً على أن يقوم بحاجات نفسه، ويتبذلَ في تصرفاته، ولكن كان لا يليق ذلك بمنصبه، ولو انتشر بنفسه، لكان ذلك غضّاً من مروءته (3) ،
__________
(1) ر. المختصر: 4/133.
(2) (ت 2) : يشرع.
(3) (ت 2) : غضاً من ضرورته.(14/558)
فله أن يُمسك العبدَ قِواماً بهذه الأمور (1) ، فنزّل الأصحاب الحاجة الحاقّة في البدن، وما يؤدّي إلى غض المروءة [منزلة عدم الرقبة] (2) في قول.
وأبو حنيفة خالف في هذا.
ولو ملك مسكناً فسيحاً وكان يكتفي ببعضه، فعليه إن أراد الخلاص من الكفارة أن يصرف البعضَ إلى الرقبة.
وإن كان لا يتأتى ذلك، والمسكنُ في نفسه على قدر الحاجة، فلا نكلفه بيعَه؛ إذ الحاجةُ إليه أمسُّ منه إلى العبد الخادم فيما يتعلق بحفظ المروءة.
ولو كان المسكن ضيقاً لا يمكنه بيعَ بعضه، ولكنه كان نفيساً، ولو باعه أمكنه أن يشتري ببعض الثمن عبداً، وبالبعض منه مسكناً في محِلّةٍ أخرى، فهل نكلفه ذلك؟ فعلى وجهين، قال القاضي: أظهرهما أنا لا نكلفه، ويسوغ له الانتقال إلى الصوم؛ فإن المسكن المألوف يصعب مفارقته، ويكون ضرباً من الجلاء (3) .
والوجه الثاني - نكلفه ذلك؛ فإن ضرر الجلاء إنما يظهر في مفارقة البلدة وتخليف الأهلين والمعارف.
ولو ملك عبداً ثميناً، وكانت الحاجةُ تمَسُّ إلى اقتناء عبد، ولو باع هذا العبدَ لأمكنه أن يشتري ببعض ثمنه عبداً يُجزىء في الكفارة، ثم كان يتسع باقي الثمن لعبدٍ يخدمه، فهل نكلفه أن يبيع ذلك العبدَ ويفعل ما وصفناه؟ فعلى وجهين مأخوذين من بيع المسكن، والجامعُ الإلفُ.
ولو لم يكن ذلك العبد مألوفاً بل كان حصل له من عهد قريب، فعليه أن يفعل ما وصفناه، وكذلك القول في المسكن إذا لم يُؤْلف.
9595- فهذا ما ذكره الأئمة، وقياسهم هذا يقتضي ضرباً من (4) التوسعة فيما
__________
(1) هذا معنى كلام الشافعي، وليس بلفظه. (ر. المختصر: 4/133) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) (ت 2) : الخلاف. والجلاء هنا معناه الهجرة والرحيل ومفارقة الوطن، فهو ضرب من ذلك.
(4) (ت 2) : يتبين التوسعة.(14/559)
نصفه، فلو كان في يد الرجل من المال ما يستقلّ به، ولو أُخذ بعضُه، [لاسْتحق] (1) بالمسكنة، وصار بحيث يجوز صرف سهم المساكين إليه، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أنا لا نُلزمه هذا؛ فإن الانتقال من الاستقلال إلى اختلال (2) الحال حتى يصير بحيث لا يفي دخلُه بخرْجه عظيمُ الوقع، وهو لا محالةَ فوق ترك المروءة ومخالفةِ المنصب، مع العلم بأن معظم ما يعدّه الناس من المروءات هو عند ذوي الألباب من رعونات الأنفس.
وكذلك لو كان مسكيناً، فلا نكلفه أن يشتري عبداً؛ فإنه يناله بما يخرجه ضررٌ بيّن، وهو أوقع من الانتقال [من] (3) الاستقلال إلى أول حدّ المسكنة. هذا هو الذي تحققناه نقلاً واستنباطاً من قول الأصحاب.
ومما ذكره (4) أنه لو كان له مال غائب، [فأراد الانتقال] (5) إلى الصوم في الكفارة المرتبة، لم يكن له ذلك، وليس كالمسافر لا يصحبه من المال ما يشتري به ماءَ الوضوء، وكان له مال في الغيبة، فالوجه أن يتيمم، فإن الصلاة لا تقبل التأخير، وماله في الغيبة لا يُغني عنه شيئاً، وهذا لا يتحقق في الكفارة؛ فإنها تقبل التأخير، وليس وجوبُها على الفور.
قال العراقيون: لو كانت المسألة مفروضة في كفارة الظهار، فلا يكاد يخفى أن تحليله زوجته يتوقف على التكفير؛ فإذا كان ماله غائباً، ولم يجد من يقرضه، فلو كلفناه أن يؤخر التكفير، لاستمرّ التحريم، فماذا يصنع والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - أنه يؤخر؛ طرداً للقياس.
والثاني - أنه ينتقل إلى الصيام، فإن الضرر قد يظهر عليه بترك الغِشيان، وقد يخاف الوقوع في الوقاع قبل التكفير.
__________
(1) في الأصل: لا يستحق، والمثبت من (ت 2) .
(2) (ت 2) : فإن الانتقال إلى اختلاف الحال حتى ...
(3) في النسختين: إلى.
(4) الضمير هنا يعود على القاضي،. وقد ذكره آنفاً، وليس على الشافعي، فإن هذا ليس في المختصر. والله أعلم.
(5) زيادة من (ت 2) .(14/560)
ومما نُلحقه بما ذكرناه أن زكاة الفطر لم يُرْعَ فيها إلا ما يفضل من القوت، كما مضى مفصلاً في صدقة الفطر، وقد نُحوج إلى الفرق بين صدقة الفطر وبين ترتب البدل على المُبدَل في الكفارة، ويتجه أن نقول: صدقة الفطر قريبة المأخذ (1) ، قليلة المقدار، سهلة المحتمل، فلم يبعد [نزعها] (2) إلى الوجوب، وهي تجب أيضاًً على الفور، وهذا يؤكدها ويوضح الفرق بينها وبين الكفارة، وهي أيضاًً شديدة الشبه بالنفقات، ولهذا تتبعها.
9596- وقد نجز الغرض في هذا المقام، وبقي ما أبديناه إشكالاً في أول المسألة؛ إذ نبهنا على الظاهر، وما فيه من الإشكال.
والممكنُ في دفع ذلك -والله أعلم- الالتفاتُ إلى ما يحِل محلَّ الإجماع: فإن (3) الذين كفَّروا بالصيام كانوا أصحاب مساكن يأوون إليها، وهم يصومون عن الكفارة، ومن ادّعى أن أحداً لم يصم في كفارة إلا وهو خليٌّ عن ملك المسكن، فقد ادعى بعيداً.
وأيضاًً، فإن البدل والمبدل في الكفارات وجدناهما في مراتب الشرع قريبين، ولعل صوم الشهرين أوْقع من إعتاق عبد على أقل المراتب، سيّما في حق أصحاب النعم، وإذا كانت لا تتفاوت، فالترتب (4) فيها يجب أن يُقرَّبَ أمرُه، وليس كترتب التيمم في الوضوء، فإن الوضوء يرفع الحدث، ويفيد النظافة، ولا معنىً للتيمم يقرُب دَرْكه بالعقل إلاّ استدامةُ تمرين النفس، فكان التيمم في حقّ الترك للوضوء (5) ، وفي الكفاراتِ يفيد كلُّ بدلٍ عينَ (6) ما يفيده المبدلُ، فلا يبعد أن يَقْرُبَ الأمر في
__________
(1) (ت 2) : مرتبة المأخذ.
(2) في الأصل: تسرّعها. والمثبت من (ت 2) ، ثم معنى نزعها أي ميلها واتجاهها.
(3) (ت 2) : قال.
(4) (ت 2) : فالترتيب.
(5) في حق الترك للوضوء أي بمنزلة الترك للوضوء. (وإخال الكلمة محرّفة، وصوابُها: "في حكم الترك للوضوء") . والمعنى لا يتغير بذلك.
(6) (ت 2) : غير.(14/561)
هذا، حتى يدار الأمر على العسر واليسر، والمشقة وعدمها.
فإذا تبين هذا، فالخوض بعده في بيان الصيام.
9597- قال الشافعي رحمه الله: "إن أفطر من عذرٍ أو غيره ... إلى آخره" (1) .
صوم الشهرين مقيدٌ مشروطٌ بالوِلاء والتتابع في كفارة الظهار، وكفارةِ القتل، والوقاعِ في رمضان، [فيجب] (2) رعايةُ التتابع، فلو أفطر في اليوم الأخير عمداً، فسد عليه الاعتداد بجميع ما قدمه.
وهل نحكم بفساد الصوم، أم نقضي بانقلابه نفلاً تبَيُّناً؟ فعلى قولين أجريناهما في نظائر ذلك، فكل من نوى عبادة مفروضة، وكان المفروض مفتقراً إلى شرط والنفلُ من قبيله ونوعه لا يفتقر إلى ذلك الشرط، فإذا تخلف الشرط، ففي حصول النفل قولين قدمناهما مقرّرين في كتاب الصلاة.
وكذلك لو ترك النية ناسياً في اليوم الأخير حتى أصبح، فلا سبيل إلى الصوم في هذا اليوم. عن جهة الكفارة، ثم يتبين خروج ما مضى من الاعتداد.
ولو أنشأ صومَ الشهرين في وقت يتخلله يومُ العيد، لم يصحّ صومه، وأول عقده لا ينعقد من غير حاجة إلى التبيّن، فإنه أنشاه في وقتٍ لا يتأتَّى فيه الوفاء بالتتابع، ويعود القولان في انعقاد الصوم نفلاً، كما قدمناهما.
وإن كانت المرأة تصوم الشهرين عن كفارة قتلٍ، فطريان الحيض لا يقطع تتابعهما؛ فإنّ هذا الزمان لا يخلو في الغالب عن طريان الحيض.
ولو طرى مرض يبيح مثلُه الفطرَ في رمضان، فأفطر لأجله، ففي انقطاع التتابع قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا ينقطع لظهور العذر، والتتابع في صوم الكفارة لا يزيد على أداء صوم رمضان في وقته؛ فإذا جاز الإفطار في رمضان بعذر المرض، وجب أن ينتهض عُذراً في ترك التتابع.
والقول الثاني - أن التتابع ينقطع؛ لأن من الممكن أن يصوم شهرين من غير قطع
__________
(1) ر. المختصر: 4/133.
(2) في الأصل: ويجب.(14/562)
الوِلاء، وليس هذا [بتجويز] (1) الإفطار، فإن المرض يقتضيه، ولو مَنَعْنا من الفطر، كان إرهاقاً عظيماً، والذي نحن فيه ليس من قبيل المنع والجواز، وإنما هو نظرٌ في الاعتداد والاحتساب، هذا قولنا في المرض.
فأما إذا سافر، وأفطر بعذر السفر، فقد ذكر أصحابنا في ذلك قولين مرتبين على القولين في المرض، وجعلوا الإفطار بعذر السفر لقطع التتابع أولى، والرأي الظاهر أن التتابع ينقطع؛ فإن تجويز الإفطار بعذر السفر رخصة لا تناط بمشقة ولا حاجة، فكيف يجوز أن يعدّى بمثل هذه الرخصة موضعها ومحلّها.
9598- ومما يجب التفطّن له أنا لو روجعنا، فقيل لنا: الخائض في صوم الشهرين هل يجوز له أن يتركه عازماً على أن يبتدىء صومَ شهرين بعد هذا (2) ، من غير عذر؛ فإنه يجوز له تأخير الكفارة قبل الخوض، فهل يخرّج اختيار قطع الوِلاء تعمّداً على تجويز تأخير الكفارة؟
هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: له أن يفعل هذا بأنْ لا ينوي صومَ غده، فأما إذا خاض في صوم يومٍ، فيبعد أن يتسلط على إبطاله، فأما ترك الصوم في بقية الشهرين، فليس اعتراضاً منه على عبادة بالإفساد.
ويتجه أن يقال: ليس له ترك الوفاء بالتتابع؛ فإن ما قدمه يخرج عن الفرضية (3) ، فيكون معترضاً على فرضٍ بالرفع، ويقوَى هذا على قولنا ببطلان (4) الصوم تبيناً (5) .
__________
(1) في النسختين: كتجويز. والمثبت تصرّف من المحقق. والمعنى ليس قطع التتابع هذا بتجويز الإفطار، إنما هو من جهة الاعتداد بالتتابع والتقطع.
(2) القضية التي استفتحها الإمام بهذه الفقرة هي تحريم إبطال الأعمال بعد انعقادها والشروع فيها، وهل قَطْعُ التتابع، وترك الاستمرار في أداء الكفارة، عزماً على استئنافها في وقت آخر، هل هذا يدخل في باب إبطال الأعمال فيحرم أم لا؟ ينبني هذا على اعتبار صوم الشهرين عبادة واحدة أم كل يوم عبادة مستقلّة، ونترك بيان ذلك للإمام؛ فقد عرضها بأبلغ عبارة وأدق ترتيب.
(3) "ما قدمه يخرج عن الوفاء بالفرضية": أي يقع وفاءً بفرضٍ، كما يظهر من الجملة بعده.
(4) القول ببطلان الصوم الذي سبق -إذا قطع التتابع- تبيناً، هو أحد القولين اللذين ذكرهما الإمام آنفاً في حكم هذا الصوم قبل القطع؛ هل ينقلب نفلاً أم يبطل تبيناً.
(5) (ت 2) : يقيناً.(14/563)
ويجوز أن يجاب عنه بأن قطعَ التتابعِ لا يفسد الفرضيةَ، بل إذا انقطع التتابعُ، تبين أن الذي مضى لم يكن فرضاً، وليس يقطع عبادة شرع فيها؛ فإن القطع (1) إفسادٌ لها بعد القطع (2) بالانعقاد.
ويجوز أن يقال: ما مضى وقع حقاً عن الكفارة، ثم بطل وقوعُها عن الكفارة؛ فإن الذي ينوي الصوم عن الكفارة جازمٌ نيته، غيرَ أن ارتباط التتابع لا بد من رعايته، فإذا قطعه، بطل ما تقدم عن جهة الكفارة بطلانَ الصلاة بعد انعقادها.
فإذا رأينا جوازَ تركِ الصيام؛ عزماً على افتتاح الشهرين من بعدُ، فلا كلام، وإن لم نجوّز، وقلنا: المرض لا يقطع التتابع، فيجوز الإفطار بسببه (3) ، وإن قلنا: المرض يقطع التتابع، فيجوز الفطر أيضاًَ بسببه، كما يجوز الفطر في رمضان (4) على التزام القضاء من بعدُ، وكذلك يجوز الفطر بعذر السفر على التزام الاستئناف من بعدُ.
وهذه الأمور على وضوحها لا يضر التنبيه لها.
9599- ومما يليق (5) بتمام القول في هذا أنا قدمنا أن من نسي النيةَ ليلاً، وأصبح غيرَ صائم، فهذا يقطع التتابع، ولا يبعد عن القياس إلحاق هذا بالمعاذير، وإن كان تَرْكُ المأمور به لا ينتهض عذراً، وإنما النسيان عذر في مظان النهي، ولكن إذا كان السفر عذراً على رأيٍ حتى لا ينقطع التتابع بالفطر فيه، فقد يقرب بعضُ القرب ما ذكرناه، [والأظهر ما قطع به الأصحاب] (6) ؛ فإن النسيان لا يقام عذراً في ترك
__________
(1) (ت 2) : التتابع.
(2) القطع هنا ليس بنفس المعنى في الجملة السابقة، وإنما القطع هنا بمعنى التيقن، لا بمعنى إبطال العبادة والانصراف عنها، فالمعنى: أن إبطال العبادة وإفسادها هو (قطعها) بعد التيقن من انعقادها، وليس من ذلك قطع التتابع.
(3) يجوز الفطر بسببه، أي ويستمر التتابع.
(4) يجوز الفطر بسبب المرض وينقطع التتابع، وأثر الحكم بجواز الفطر أنه لا يأثم إثم من أبطل العبادة بقطع التتابع، فقد قطعه بما جوزناه له.
(5) (ت 2) : ومما يتبين.
(6) تصرفنا في هذه الجملة بين المعقفين، وأخذناها من عبارة العز بن عبد السلام، حيث جاء في الأصل وفي (ت 2) معاً كلمة غير مقروءة استحال معها إقامة الجملة، ففي النسختين: =(14/564)
المأمورات. ويشهد لهذا أن من نسي النية في رمضان وأصبح فيلزمه الإمساك على الرأي الأصح، وإن كان الإمساك في حكم التغليظ على من يترك صوماً مستحَقاً في رمضان، فألحقنا الناسي بالذي يتعمد إفطاراً من غير عذر.
9600- ومن تمام القول في التتابع اختلافُ الأصحاب في أن نيّة التتابع هل تشترط أم لا؟ فمنهم من قال: لا تجب نية التتابع؛ فإنه هيئةُ (1) العبادة، ومن نوى العبادة، لم يلزمه التعرض لبيانها في نيتها.
ومن أصحابنا من أوجب نية التتابع، كما يوجب نية الجمع بين الصلوات، وهذا بعيد؛ فإن الأصل إقامة الصلوات في مواقيتها، ورخصة الجمع تخالف هذا الوضع، فاشترط الأكثرون من الأصحاب قصداً (2) إلى ذلك.
ثم إن شرطنا نية التتابع، فهل يجب الإتيان بها كلَّ ليلة، أو يكفي الإتيان بها في الليلة الأولى؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون. والمسألة محتملة إن صح اشتراط نية التتابع، والخلاف في ذلك عندنا يقرب من الخلاف في اشتراط نية التمتع من حيث إن النسكين مجموعان على وجه مخصوص.
9601- ثم قال: "وإذا صام بالأهلّة ... إلى آخره" (3) .
إذا ابتدأ الصوم في أول الهلال، صام شهرين بالأهلة، ووقع الاعتداد بما جاء به سواء نقص الشهران أو كملا، أو نقص أحدهما، وكمل الثاني.
وإن استفتح الصوم في أثناء شهرٍ، صام بقية ذلك الشهر، وصام الشهرَ الذي يليه بالهلال، ثم استكمل صومَ الشهر الأول ثلاثين يوماً، ولا فرق بين أن ينقص ذلك الشهر -أو يكمل- وقد ذكرنا هذا في مواضع (4) .
__________
= "والأظهر ما يقطع به الأخذ، فإن النسيان لا يقام عذراً ... " هكذا (الأخذ) بكل وضوح. وهي في (ت 2) ما (قطع) بدل (يقطع) ، فهل هو تصحيف اتفقت عليه النسختان، أم هو سقط، أم هما معاً؟؟ الله أعلم.
(1) (ت 2) : فإن هذه العبادة.
(2) قصداً: مفعول لقوله: اشترط الأصحاب.
(3) ر. المختصر: 4/134.
(4) منها السَّلم وتعليق الطلاق.(14/565)
وقال أبو حنيفة (1) : إذا انكسر الشهر الأول، بطل اعتبار الأهلة بالكلية، واعتلّ بأَنْ قال: لو كملنا نقص الشهر الأول بأيام من الشهر الثالث، لكان ذلك مناقضاً لقاعدة التتابع، ولأدّى إلى تخلل الشهرِ بَيْنَ كسرِ الشهر الأول وتكملته في الشهر الثالث.
وهذا لا بأس به، وقد مال إليه بعض الأصحاب، وقد سبق منّا رمزٌ إليه في تعليق الطلاق بمضي الأشهر، والمذهب ما قدمناه، وهو النص، ولا اعتداد بما سواه.
9602- ثم قال: "ولو نوى صوم يوم فأُغمي عليه ... إلى آخره" (2) .
أشار إلى الإغماء وحكمه، وقد سبق على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الصوم، والذي يتعلق بهذا الكتاب أنه إذا حصل الفطر بعذر الإغماء، فهو كحصوله بسائر أنواع المعاذير، وفي انقطاع التتابع قولان، كما قدمناه.
فصل
قال: "وإنما حكمه في الكفارات حين يكفر ... إلى آخره" (3) .
9603- اختلف قول الشافعي في الحالة المعتبرة في صفة الكفارة المرتَّبة، فقال في قولٍ: الاعتبار بحالة الوجوب، فإن كان موسراً، كانت كفارته كفارة الموسرين، وإن أعسر من بعدُ، لم يجزه الصوم، وصار العتق دَيْناً في ذمته إلى أن يجد وفاءً به.
والقول الثاني - أن الاعتبار بحالة الأداء والإقدام على التكفير، فلو كان موسراً حالة الوجوب فأعسر، وأراد التكفير، فله أن يصوم؛ نظراً إلى حالة الأداء.
وفي المسألة قول ثالث أنا نراعي أغلظ الطرفين وأشدَّهما، فإن كان موسراً يوم الوجوب، ففرضه الإعتاق، وإن كان مُعسراً يوم الوجوب، وكان موسراً حالة الهم بالأداء، لم يُجْزه إلا الإعتاق.
توجيه الأقوال: من قال: الاعتبار بحالة الوجوب، قال: نوع تكفير يختلف
__________
(1) ر. المبسوط: 7/14.
(2) ر. المختصر: 4/134.
(3) ر. المختصر: 4/135.(14/566)
بالرق والحرية، فالاعتبار فيه بحالة الوجوب كالحدود، والمعنى أنه إذا ثبت موجِب الكفارة، وجب القضاء بوجوب الكفارة، فإن الموجَب لا يستأخر عن الموجِب، وإذا قضينا بوجوب العتق، استحال الخروج عن الكفارة إلا به.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن الاعتبار في العبادات بوقت أدائها، قياساً على الصلاة؛ فإن من فاتته صلاة في حالة عجزه عن القيام، ثم أراد إقامتها في وقت القدرة، فإنه يقيمها قائماً، ولو كان الأمر على العكس، أقام الصلاة عاجزاً قاعداً، وإن كان التزمها قادراً على القيام.
قال القاضي: القولان مأخوذان من أن المغلَّب في الكفارة العبادةُ أو جهةُ العقوبة: فإن غلبنا جهةَ العبادة، شبهناها بالصلاة، فاقتضى ذلك اعتبارَ حالة الأداء، وإن غلبنا شَبَهَ العقوبات، اعتبرنا حالة الوجوب.
وهذا فيه نظر مع إيجابنا الكفارة على من لا نُؤثِّمُه، وقَطْعِنا بانقطاع العقوبة عمن هو في مثل حاله.
واعتبارُ الأغلظ والأشد ينزع إلى رعاية الاحتياط.
التفريع على الأقوال:
9604- إن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، فلو كان معسراً في تلك الحالة، كفاه الصوم، ولو أيسر وأراد أن يعتق، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن له أن يعتق؛ فإن العتق هو الأصل، وهو في الرتبة العليا، والصوم دونه، فإن كان يُجزىء الأدنى فلأن يجزىء الأعلى أولى. وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الرأي.
والثاني - لا يجزئه إلا الصوم؛ فإنه تعيّن في ذمته، وهذا وإن كان بعيداً في الحكاية، فإنه [يقوى بالمعنى] (1) الذي أشرت إليه في صدر الباب، من أن المبدل والأبدال ليست متفاوتة في الرتب، وإنما قُدِّم بعضُها وأُخِّر وفاقاً تعبداً، فإذا وقع الحكم بالوجوب، فلا [معدل] (2) عن الواجب.
__________
(1) في النسختين: يقوّي المعنى. والمثبت من المحقق رعاية للمعنى المفهوم من السياق.
(2) في الأصل: معوّل.(14/567)
ومعظم الأئمة قطعوا بإجزاء الإعتاق، وحكَوْا الوجهين فيه إذا كان ملتزمُ الكفارة عبداً، وكان الواجب عليه الصوم؛ تفريعاً على أنه لا يملك، فلو عَتَق وملك، فأراد أن يعتق، فهل يُجزئه العتقُ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُجزئه؛ فإن البدل إذا أجزاً، فالمبدل بالإجزاء أولى.
والثاني - لا يجزئه؛ فإنه التزم الصوم في وقتٍ لا يتأتى منه غيرُه، فكأنه لم يكن الصوم في حقه على حقائق الأبدال؛ فإذا تعين الصوم، فلا معدل عنه.
وذكر صاحب التقريب في الحرّ المعسر الوجهين، وهذا بعيد، والفرق أن العتق يتصوّر وقوعه من المعسر على الجملة، بخلاف العبد.
وإذا فرعنا على أن الاعتبار بحالة الأداء، فليس يخفى تفصيله: فمهما (1) أقدم على التكفير، اعتبرت صفةُ حالة الأداء.
ومن راعى الأشد، فمعناه أنه إن كان موسراً وقت الوجوب، فلا يجزئه إلا الإعتاق، ولو فقد يساره صَبَرَ إلى الوجدان، وإن كان مُعسراً حالة الوجوب ثم أيسر، فأراد الصومَ نظراً إلى حالة الوجوب، لم يكن له ذلك.
هذا بيان الأقوال.
9605- وقد قال الأصحاب: لو شرع في صوم الشهرين ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فلا يقطع صومَ الشهرين بعد الخوض فيه، وإنما يعتبر الأداء إذا أيسر قبل الخوض في الصوم، هذا ما وجدته للأصحاب رضي الله عنهم.
وما يدور في الخَلَدِ من المسألة أنا إذا اعتبرنا الأشدّ (2) والأغلظَ، فتعتبر الطرفين في الشدة، فلو كان معسراً حالة الوجوب، وكان معسراً حالة الأداء أيضاًً، ولكن تخلل بينهما حالةُ يسار، فلم أر أحداً من الأصحاب يعتبر تلك الحالةَ المتوسطةَ، وقد يظن الناظرُ ذلك محتملاً، ولكن المذهب على خلافه.
والسبب فيه أن الوجوب على الحقيقة يضاف إلى وقت وجوب الكفارة، ثم وقت
__________
(1) فمهما: بمعنى: فإذا.
(2) (ت 2) : إذا اعتبرنا بلا شك بالأشد والأغلظ ...(14/568)
الأداء منتظر، فلا يتبدل الوجوب من غير تقدير أداء؛ فإن اليسار لا يوجب شيئاً، بل إذا أدى الموسر، فينبغي أن يؤدي ما يليق بحاله.
هذا بيانُ الأقوال والتفريع عليها.
9606- وذهب أبو حنيفة (1) والمزني إلى أنه لا حكم للشروع في الصوم؛ [فلو] (2) شرع فيه ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، لزمه أن ينتقل إلى الإعتاق، وهذا طرده المزني (3) على أصله في وجود الماء في خلال الصلاة، حيث قطع بانقطاع التيمم وبطلانِ الصلاة، ونزّل وجدان الماءِ في الصلاة منزلةَ وجدانه قبل الشروع في الصلاة.
وقد سمعت شيخي غير مرّة يحكي عن بعض الأصحاب موافقةَ المزني في مذهبه.
وهذا (4) له اتّجاه، وإن كان بعيداً في الحكاية.
ومما يجب التنبه له أنا إذا قلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فالتعبير عن الواجب قبل اتفاق الأداء قد يغمض؛ فإنا لو قلنا: الواجب ما يقتضيه الحالة التي عنها نُعبِّر (5) أو حالة الوجوب. فتبديل الواجب بعيد. وإن قلنا: لا تجب الكفارة (6) ، كان خرقاً للإجماع.
وفي نقل مذاهب العلماء في هذه المسألة ما يدل على خلاف هذا؛ فإنهم قالوا: اختلفت المذاهب في أن الاعتبار بحالة الوجوب (7) أم بحالة الأداء، فأثبتوا حالة الوجوب، فلا يتجه إذاً إلا مسلكان: أحدهما - أن نقول: تجب الكفارة ولا يتعيّن صنفها، وإنما تتعين حالة الأداء، ولا يمتنع هذا النوع من الإبهام، وهو بمثابة
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 213، المبسوط: 7/12.
(2) في النسختين: ولو.
(3) ر. المختصر: 4/136.
(4) (ت 2) : لا اتجاه له.
(5) في (ت 2) : "تغير".
(6) أي لا تستقر في الذمة إلا عند الأداء.
(7) (ت 2) : في أن الاعتبار بحالة الوجوب فلا يتجه إذاً إلا مسلكان.(14/569)
إيجابنا كفارة اليمين على الموسر، مع أنا لا نعيّن خصلة من الخصال الثلاث، فإذا اتفق أداء بعضها فالمؤدّى هو الواجب. هذا مسلك.
ويجوز أن يقال: يجب ما يليق بحالة الوجوب، ثم إذا تبدل الحال، تبدل الواجب، وهذا ليس بدعاً، كالصلاة تجب على القادر (1) ، ثم يعجز، فتتبدل صفة الصلاة.
***
__________
(1) (ت 2) : الكافر.(14/570)
باب الكفارة بالطعام
9607- نصدر هذا الباب بالسبب الذي يجوّز الانتقالَ من الصيام إلى الإطعام، كما صدرنا باب الصيام بمعنى العجز عن الإعتاق، فإن عجز من فرضُه الصيام لهَرمٍ أو مرض يجوز الإفطار بمثله في رمضان، فله الانتقال إلى الإطعام.
ومن أسرار ذلك أنا لا نشترط أن يكون المرض لازماً، بحيث يبعد عن الظن زواله؛ بناء على أن الكفارة تقبل التأخير، وقد يتأكد هذا السؤال بشيء، وهو أن من ماله غائب لا ينتقل إلى الصيام لعجزه عن العتق في الحال، وهذا فيه بعض الإعواص (1) ؛ فإن الفرق بينهما متعذر، والمرض مرجوّ الزوال، وحضور المال والانتهاء إلى المال ليس بعيداً عن الرجاء، والكفارة ليست على التضييق.
ولعل الممكنَ فيه التعلُّقُ بالظاهر، وهو المعتمد، وإليه الرجوع، قال الله تعالى في الانتقال إلى الإطعام: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ، وهذا المرض الناجز والعجز العاجل غير مستطيع، وقال تعالى في الرقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] والمراد: "فمن يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة"، ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال.
ويجوز أن يقال: إحضار المال والمصيرُ إليه متعلق بالاختيار، والاختيارُ في [مقدمات] (2) الشيء والتسبّب إليه كالاختيار في عينه، والمرض خارج عن الاختيار، والأولى اعتماد الظاهر، كما ذكرته.
9608- وقال الأصحاب: إذا سافر من عليه الكفارة وأراد الإطعام في سفره بسبب
__________
(1) الإعواص: يقال: أعوص فلان في الكلام أتى بالعويص منه، أي بالغامض الذي يصعب فهمه (المعجم) .
(2) في الأصل: المقدمات.(14/571)
أن السفر الذي هو ملابسه مما يجوز ترك صوم رمضان به إلى القضاء، فقد صار طوائف من أصحابنا إلى جوازِ ذلك، وتشبيهِ السفر بالمرض، وهو الذي ذكره القاضي، ولم ينقل غيرَه، وطرد ما ذكرناه من أن كل ما يجوز الإفطار به في رمضان يجوز الانتقال به إلى الإطعام.
وهذا فيه إشكال؛ فإن المسافر قادرُ على الصيام، والفطرُ المثبَتُ رخصةٌ في حقه غيرُ منوطة بالعجز، والفطرُ بالمرض منوطٌ بالحاجة الحاقة، فلا يقع الاكتفاء باسم المرض، واسمُ السفر الطويل كافٍ -إذا لم يكن سفرَ معصية- في الترخّص بالرخص.
والانتقالُ إلى الإطعام منوط بعدم الاستطاعة في نص القرآن، فلا وجه لهذا.
والذي يدور في الخلد أن المرض الذي أطلقه الأصحاب ليس على ما أطلقوه؛ فإن الإنسان قد يطرأ عليه عارض يعلم أنه لا يدوم يوماً أو يومين، فيجوز الإفطار بمثله، ولا يجوز عندي الانتقال بمثله إلى الإطعام، ولو كان المرض بحيث يتوقع دوامه واستمراره لشهرين، فهذا هو الذي يجوز الانتقال بسببه، ثم الظنُّ يكتفى به.
ولو أطعم، ثم اتفق زوال المرض، وتعجّل الشفاء على القرب، فالإطعام مجزىء والقضاء به غير ممتنع، وهذا لا بد منه.
9609- ومما يتعلق بهذا أن الصيدلاني رحمه الله نقل عن الشيخ القفال أنه قال: قال بعض أصحابنا: الشبق المفرط والغُلْمة الهائجة عذرٌ في الانتقال إلى الإطعام،
وكان يستشهد بحديث الأعرابي: إذ قال في القصة المشهورة وهل أُتيت إلا من جهة الصوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "أطعم".
[سبَّبَ] (1) الأعرابي بما ذكرناه، فقدّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عذراً، ونقله إلى الإطعام (2) .
__________
(1) في الأصل: شببه. والمثبت من (ت 2) .
والمعنى جعل الأعرابيُّ الشبقَ والغُلمةَ سبباً في الاعتذار عن إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال له: "صم شهرين" فعد ذلك صلى الله عليه وسلم عذراً، ونقله إلى الإطعام.
(2) مضى تخريج هذا الحديث في كتاب الصيام.(14/572)
وذكر القاضي هذا الوجهَ، ولم يذكر غيره، وذكر صاحب التقريب وجهين: أصحهما - أن الغُلمةَ لا تكون عذراً؛ فإن الليالي متخللة، وفيها مقنع ومندوحة، وقصة الأعرابي مشكلةٌ مِنْ وجوهٍ، تعرضنا لها في كتاب الصيام.
وقد أجمع الأصحاب على أن فرط الشَّبَق لا يرخِّص في الفطر في رمضان، وإنما هذا التردد في الانتقال إلى الإطعام، ولعل من قال ذلك اعتلّ بطول مدة الامتناع نهاراً عنها، وهذا ينقضه طولُ مدةِ رمضان، وما أوضحناه من تخلل الليالي يُبطل هذا الخيال.
وقد انتجز القول في العجز المعتبر للانتقال من الصيام إلى الإطعام.
فصل
قال: "ولا يُجزئه أقلُّ من ستين مسكيناً، كل مسكين مداً ... إلى آخره" (1) .
9610- القول في ذلك يتعلق بالمخرَج والمخرَج إليه، فأما المخرَج، فالكلام في مقداره وجنسِه، أما المقدارُ، فستون مُدّاً، وأما الجنسُ، فالقول فيه كالقول في صدقة الفطر.
أما المخرَج إليه، فالكلام في عددهم، وصفتهم، فأما العدد، فليكونوا ستين، ولا ينقص حصة كلِّ واحدٍ عن مُدّ، فلو صرف أمداداً إلى مسكين في أيامٍ؛ صائراً إلى إقامة سدِّ الجَوْعاتِ في الشخص الواحد مقامَ أعداد المساكين، لم يجز، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
وأما صفتهم فليكونوا مساكين، بحيث يجوز للمكفر صرفُ الزكاة إليهم، ولا يجزىء التغذيةُ والتعشيةُ؛ إذ لا تمليك فيها، والتمليك مرعيٌّ عندنا في إخراج الكفارة، كما نرعاه في إخراج الزكاة. ولو أحضر الطعام، وقد شهد ستون مسكيناً فقال: خذوه، فأخذوه وجَهِلْنا مقدارَ ما أخذه كلُّ واحد منهم، واستبهم الأمرُ، فلا
__________
(1) ر. المختصر: 4/138.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/498 مسألة: 1042، المبسوط: 7/17.(14/573)
نحكم إلا بإجزاء مُدٍّ واحدٍ، فإن واحداً منهم لا بد وأن يكون أخذ مدّاً أو أكثر، فهذا القدر مستيقنٌ، فيحصل براءة الذمة عن هذا المقدار. وهذا بيّن.
فروع شذت عن الأصول نأتي بها مجموعة إن شاء الله.
9611- إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، فالظهار مما يصح تعليقه كالطلاق، فلو أعتق عبداً عن كفارته قبل أن تدخل الدار، فقد قال ابنُ الحداد (1) : تقع الكفارة موقعَها، وبنى هذا على أن تعليق الظهار أحدُ سببي الكفارة، وتقديمُ الكفارة على أحد سببيها جائز.
وقد خالفه معظم الأصحاب، فقالوا: هذا تقديمٌ للكفارة على سببيها جميعاًً؛ فإن كفارة الظهار لها سببان: أحدهما - الظهار، والثاني - العودُ، ولا يحصل الظهار قبل دخول الدار.
ونظير المسألة التي ذكرناها ما لو قال: إن دخلت الدار، فوالله لا أضربك، ثم قدّم التكفير على دخول الدار، لم يُجْزه.
ووافقه بعضُ الأصحاب، وجعلوا تعليق الظهار بمثابة الظهار، وهذا بعيد، ثم هؤلاء لا يسلمون المسألةَ التي وقع الاستشهادُ بها في اليمين، فلو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، ثم قال: إن دخلت الدار فعبدي حر عن ظهاري، فلا يخفى تفريع المسألة على رأي ابن الحداد، والعتق ينصرف لا شك فيه إلى الظهار على طريقته، فإنه إذا جوّز تنجيز العتق قبل الدخول، فما ذكرناه أولى بالجواز.
ومن خالفه من أصحابنا منع هذا أيضاًً؛ لأن تقديم [العتق] (2) قبل الظهار ممتنع، وهكذا جرى الأمر.
__________
(1) (ت 2) : القفال. وهو سبق قلم، والمثبت من صفوة المذهب مع الأصل طبعاً، وهو الذي يتفق مع تفصيل المسألة الآتي.
(2) في النسختين: التعليق، والمثبت من عمل المحقق.(14/574)
ولو قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إذا تظاهرت، لم يقع العتق عن ظهاره، وقد مهدنا هذا فيما تقدم من المسائل.
فرع:
9612- إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ثم جن عقيب اللفظ، أو مات، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يكون عائداً؛ فإنه لم يمسكها مع التمكن من الطلاقِ، تاركاً الطلاق.
ولو جُن عقيب الظهار، كما صورناه، فأفاق، قال الشيخ: سمعت بعضَ الأصحاب يقول: نفسُ الإفاقة هل تكون عوداً؟ فعلى وجهين كالوجهين في أن الرجعة هل تكون عوداً، حكى هذا وزيفه، والعجب منه كيف يحكي مثلَ هذا.
ولو قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك، فأنت عليَّ كظهر أمي، فلا يثبت الظهار ما لم يتحقق اليأس من التزوج، فلو مات، فقد حصل الظهار قبل موته بلحظة، هكذا قال ابن الحداد وهو سديد، لا شك فيه، ثم قال بعده: وهو عائد يلزمه الكفارة، فإنه ظاهر ولم يطلق.
وقد غلطه كافةُ (1) الأصحاب، فقالوا: أما الظهار، فقد ثبت ولم يثبت العود، فإنه عقيب الظهار مات، فإن كان يقول ابن الحداد من مات عقيب الظهار، فهو عائد، فقد خالف ما عليه الأصحاب، والموتُ لا ينحط عن الطلاق، والنكاحُ ينتهي به، وإن قال: هو لم يطلق، لم يقبل منه هذا وقد ارتفع النكاح.
هذا منتهى ما أردناه، والله المستعان.
***
__________
(1) (ت 2) : بعض الأصحاب.(14/575)
الموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى، فإن مذهب إمامنا الشافعي تدواره على الأصول، ومآخذ الشريعة.
الإمام
في نهاية المطلب(15/4)
كتاب اللعان
9613- اللعان عبارة عن الكلمة المذكورة في كتاب الله تعالى من قوله سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلى قوله: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9] ، وسميت الكلمةُ لعاناً لاشتمالها على اللعن، وإنما وقعت التسميةُ به، وهو أقل الكَلِم؛ لأنه غريب في مقام الشهادات والأيْمان، والشيء يشهر بالغريب الواقع فيه، وعلى ذلك جرى معظم تسميات سُوَر القرآن، ولم تقع التسمية بالغَضَب؛ لأن الأصل كلامُ الزوج، وقد يثبتُ دون لعانها.
والأصلُ في مضمون الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآيات [النور: 6-9] ، نزلت في عُويمر بنِ مالكٍ العجلاني، وقيل: هلال بن أمية رَمَى زوجتَه بشريك بن سَحْماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتأتينّ بأربعة شهداء، أو يُجْلدُ ظهرُك "، فاغتم به، وقال: " أرجو أن ينزل الله فيّ قرآناً يبرِّىء ظهري، فنزلت الآية، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم باللعان فتلاعنا " (1) ، وحكم بالفرقة بينهما ونفى الولد.
واللعان في ظاهر القرآن مرتبٌ على أن لا يجد الزوج بيّنة على تحقيق زناها؛ فإنه عز من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] ، وهذا الترتيب عرفناه في منازل البينات من نص القرآن.
فكان هذا خارجاً على ذلك المذهب، وإن لم يكن شرطاً، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، ثم شهادة الرجل والمرأتين مقبولة مع التمكن من إقامة شهادة رجلين، فكان قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282] ،
__________
(1) قصة لعان عويمر العجلاني متفق عليها من حديث سهل بن سعد (البخاري: الطلاق، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان رقم 5308، مسلم: اللعان رقم 1492) .(15/5)
محمولاً على اتفاق شهادة رجلين، والتقدير: إن لم يتفق شهادة رجلين، فشهادة رجلٍ وامرأتين.
9614- ثم أول ما نصدر به الكتاب أن الرجل إذا قذف زوجته وسوّغنا له أن يلاعن على ما سيأتي تفصيل ذلك في مسائل الكتاب، فلسنا نقول: اللعان من موجَبات القذف، بل موجَب القذف الحدّ أو التعزير، ولكن لو قذف الرجل أجنبية، فلا نخلّصه من القذف إلا ببينةٍ على زناها، أو على إقرارها بالزنا، وقد تُنشىء الإقرار فيتخَلّصُ.
وإذا قذف الرجلُ زوجتَه المحصنةَ، فما ذكرناه من المخلِّص في حق الأجنبيةِ ثابتٌ في حق الزوِج، وله مُخلِّصٌ آخر ضمّاً إلى تلك الجهات، وهو اللعان، فقد أثبت الشرع اللعانَ مُخلِّصاً للزوج يليق بحالة الضرورة، فإن المرأةَ إذا لطّخت فراشه وتحقق ذلك عند الزوج، فلو صمت وسكت، لاطّردَ العارُ، وقد [يلحقه] (1) نسب متعرض للثبوت وهو في علم الله تعالى منفيٌّ، فخصه الشرع بمخلِّصٍ، والرجل على الجملة مبرّأٌ عن التهمة في قذف زوجته هَزْلاً من غير علم أو ظن غالب.
ثم اللعان يضاهي البينة ويشابهها في رد الحد عن القاذف وإثبات الزنا عليها، وله مزية على البيّنة؛ فإنه يتضمن قضايا لا تناط بالبينة واحدةٌ منها، وهي نفيُ الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم.
وإذا ضممنا خصائصَ اللعان إلى ما يساوي اللعانُ فيه البينة قلنا: ما يتعلق باللعان خمسُ خصال: درءُ الحد عن الزوج، ووجوبُ الحد عليها إلا أن تلتعن، ويلتحقُ بهذا نفي الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم.
وأبو حنيفة (2) يجعل اللعان موجَب القذف، ويقضي بأنه عقوبة، وهو بالإضافة إلى قذف الزوجة كحدّ القذف بالإضافة إلى قذف الأجنبي.
فهذا تأسيس الكتاب في ماهية اللعان.
__________
(1) في النسختين: يلحق.
(2) ر. المبسوط: 7/39، بدائع الصنائع: 3/237، فتح القدير: 4/111، اللباب: 3/74.(15/6)
9615- ومما يُجريه العلماء في ذكر حقيقةِ اللعان أن أصحاب أبي حنيفة يدّعون أن اللعان شهادة، وأصحابُنا يقولون: اللعان يمين، والمنصف من أصحابنا يقول: في اللعان شَوْب اليمين والشهادة، فأما شوب اليمين، فأصدق شاهد فيه صَدَرُ اللعان عمّن هو في مقام الخصومة وهو يحاول تصديق نفسه، ولا يتصور هذا في مساق الشهادات، ثم يثبت في اللعان من أحكام الشهادة قضيةٌ واحدة، وهي أن الزوج إذا لم يلتعن، ونكل، ثم رغب فأراد اللعان، فله ذلك، كما لو لم يُقم المدّعي ببينة، ثم أراد إقامتَها، وليس كاليمين في هذه القضية، فإن من نكل عن اليمين، ثم رغب
فيها، لم يُمكَّن من الحلف.
فصل
قال: " وفي ذلك دلالة أن ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطلب المقذوفةُ حقها ... إلى آخره " (1) .
9616- الزوج إذا أراد أن يلتعن، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمّ ولد يُريد أن ينفيه، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له ولد، نظر: فإن كان القذف يوجب حداً على الزوج لو لم يلتعن، فله أن يلتعن وتنتفي العقوبةُ، ثم تثبتُ سائرُ قضايا اللعان، كما ذكرنا جُمْلَها، وسيأتي تفصيلها.
وإن كان موجب القذف التعزير، فسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله.
وإن كان لا تتوجه العقوبة عليه بسبب عفوها، أو تصديقها إياه، أو بسبب قيام البيّنة على زناها، فلو أراد أن يلتعن والحالةُ هذه، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ إذ لا ولد، ولا عقوبة، فإن أراد الخلاص منها، فالطلاق ممكن.
والوجه الثاني - له أن يلاعَن؛ ليردّ العار (2) عليها؛ مجازياً إياها؛ إذ لطخت فراشه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/143.
(2) (ت 2) : اللعان.(15/7)
9617- ثم قال: " ولما لم يخص الله أحداً من الأزواج ... إلى آخره " (1) .
غرض الفصل بيان من هو من أهل اللعان.
عندنا كل من كان من أهل الطلاق، فهو من أهل اللعان، وإن أردنا الضبط بأمرٍ أخصَّ قلنا: من كان من أهل استيجاب الحد بالقذف، كان من أهل اللعان، وإن قلنا: كلُّ مكلف ملتزم، فكل هذه العبارات جائزة، فالحر، والعبد، والذمي، والمسلم، مستوون.
ثم [إن] (2) تفاوتوا في أقدار الحدّ، فلا تفاوت في اللعان أصلاً وتفصيلاً.
وأبو حنيفة (3) يقول: من لا يكون من أهل الشهادة، فليس من أهل اللعان، وأخرج العبدَ، والذمي، والمحدودَ في القذف، ولم يُثبت لهما اللعان. وناقض في المُعْلِن بالفسق (4) ، وحكم بانعقاد النكاح بحضور محدودين، وإن كان النكاح لا ينعقد إلا بحضور من هو من أهل الشهادة.
ومعتمد مذهبنا أن اللعان حجة خاصة أثبتت للضرورة، فهي لائقة بكل مضطر، فمن أراد أن يحمل اللعان على مرتبة الشهادة مع أن الملاعن يُثبت دعوى نفسه، فليس على مُسْكةٍ من البصيرة.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه رأى اللعان حجةً نادرة، فبنى أصلها على كتاب الله، وليس في الكتاب فصلٌ بين [زوج وزوج] (5) ، ولكن اللعان فيه معلقٌ بالرّمْي فمن كان من أهل الرّمْي، فليكن من أهل اللعان.
9618- ثم قال: " وسواء قال: زنت أو رأيتها تزني ... إلى آخره " (6) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/143.
(2) (ت 2) : ثم فإن تفاوتوا. وفي الأصل: ثم وإن تفاوتوا.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/500 مسألة 1045، المبسوط: 7/39-41، مختصر الطحاوي: 215.
(4) ر. رؤوس المسائل: 372 مسألة 248، الغرة المنيفة 135، إيثار الإنصاف: 151.
(5) في النسختين: الزوج والزوجة. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق.
(6) ر. المختصر: 4/143.(15/8)
أراد بهذا الرد على مالك (1) ؛ فإنه قال: يختص اللعان ببعض صيغ القذف، وأجرى الشافعي هذا على الرّمي المطلق المذكور في كتاب الله تعالى من غير اختصاص.
ثم إنا نذكر بعد هذا أصلين يتعين على الناظر الاهتمامُ بهما؛ فإنهما يجريان من الكتاب مجرى الأُسّ والقاعدة: أحدهما - يشتمل على بيان اللعان حيث يجوز التسبب إليه ولا ولد.
والآخر - يشتمل على ذكر التسبب إلى اللعان وثَمَّ ولد يريد الزوج نفيه.
9619- فأما إذا لم يكن ولد، فالغرض أن نبيّن أنه متى يجوز للزوج أن يقذف ليلاعن، ومتى يحرم عليه ذلك.
فنقول: إذا رآها تزني، فلا شك أن له أن يقذفَها ويلتعن، وكذلك لو سمع رؤيةَ الفاحشة ممن يثق به -سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن إذا كان موثوقاً به- فله التعويلُ عند حصول الثقة على قوله المجرد.
ولو استفاض في الناس أن فلاناً يزني بفلانة، واتفق أنه رآه معها في الدار، فاجتمعت الاستفاضة والرؤية في الدار على ريبةٍ، فاجتماعهما بمثابة السماع من موثوق به [يخبر عن] (2) معاينة الفاحشة.
والاستفاضة التي أطلقناها أردنا بها أن يلهج الناس بذلك، وليس فيهم من يخبر عن عِيان نفسه، ولو ثبتت الاستفاضة، ولم يُرَ معها على ريبة، فلا يجوز له أن يعوّل على مجرّد ذلك؛ فإنهم قد يلهجون بكلام مستنده سماعٌ من كاذب، ولو تجرّدت رؤيتُه الذي معها في الدار، فلا يجوز له أن يعوّل على ذلك؛ فإن هذا قد يكون ابتداءَ الأمر، وربما كان الرجل طالبها وهي أبيّة.
هذا ما ذكره العراقيون، والقاضي رحمه الله.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/782 مسألة 1453، عيون المجالس: 3/1295 مسألة 904، حاشية العدوي 2/100.
(2) في الأصل: مخبر على.(15/9)
9620- والقول الجامع في ذلك أن ما ذكرناه على مراتب: المرتبة العليا فيه - إذا عاين، وهذا يورث اليقين، فيجوز إقامة الشهادة بمثله، فلا خفاء بجواز القذف والحالةُ هذه، ولا حاجة إلى أن يقيم شهوداً على زناها؛ فإنه عزّ من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] ، فوضع اللعان حيث لا شهود (1) ، ثم الغالب أن الشهود لا يطّلعون، وهذه الفاحشة تهيأ لها خلوات: قد يطلع الزوج على بعضها، فلو توقف الأمر على اطلاع الأجانب، لعظم العار، وظهر الضرار، وعسر استدراكه.
وإذا لم يعاين فجواز القذف جارٍ أيضاً؛ فإن الغالب تحفّظُ المرأة عن زوجها، ولعل تصوّنها عنه يُبِرُّ (2) على تصوّنها على الأجانب، فوقع الاكتفاء بظنٍّ غالب، مستندٍ إلى أمارة لائحةٍ، أَظهرُها إخبارُ موثوقٍ به عن العيان.
ثم الاستفاضة [مع أنا لا نجد مخبراً عن عِيان نفسه] (3) لا تقوى (4) ؛ فإنّ المطاعن كثيرة في البرآء؛ فإذا انضم [إليها] (5) رؤية رجل معها على ريبة، ثبتت العلامة، ومجرد الاستخلاء مرة لا يورث الاستفاضة في الناس.
والذي أراه أن الزوج لو رآها على استخلاء مراراً في محالّ الريبة، فهذا بمثابة انضمام الاستفاضة إلى الرؤية مرةً، ولو رأى الرجلَ [معها] (6) في شِعارٍ على النعت المكروه، ولم ير عِياناً من كل ما تتحمل الشهادة به على الزنا، فهذا أقوى من جميع ما قدمناه.
فهذا هو الأصل المرعي في الباب.
__________
(1) (ت 2) : حيث لا يكون شهود.
(2) يُبرّ: يقال: أبرّ على القوم غلبهم (معجم) . والمعنى هنا يزيد تصوّنها من زوجها على تصوّنها من الأجانب.
(3) في الأصل: " مع أنا لا نجد يخبر عن عيان نفسه " وفي ت: " مع أنا نجد مخبراً عن عيان نفسه " والمثبت من تصرّف المحقق. وما بين المعقفين جملة معترضة.
(4) لا تقوى: خبر لقوله: ثم الاستفاضة. فالمعنى أن الاستفاضة لا تقوى وحدها مع عدم وجود مخبرٍ يخبر عن عيان نفسه.
(5) في النسختين: إليه.
(6) زيادة من (ت 2) .(15/10)
9621- ثم حيث يجوز القذف لا نوجبه، بل نجوّزه، ونؤثر لذي الدّين (1) ألا يقذفَ ويسترَ، ولا تُستحب مصابرةُ مسافِحةٍ؛ فإنه تعريض الفراش للتضمُّخ (2) ، بل الأولى أن يخلي سبيلها.
ورب أصلٍ ظاهر يخوض فيه الخائضون -وهو بديعة الشرع- ولا يتفطنون [لسرّه. فَ] (3) الزوج يصرّح بقذفها على تهمة، والقذف في نفسه كبيرةٌ موجبةٌ للحد، [والطلاق] (4) ممكن -وقد يفرض هذا ولا ولد (5) - وهذا بعيد، مع أنه [جعل ليصدِّق] (6) نفسه (7) وكان يتفاقم (8) الأمر لو كان تجب العقوبة عليها وجوباً لا تجد لها دارئاً، فأثبت الشرع دارئاً من جهتها.
ثم العار في طرد العرف من زنا المرأة يرجع على الرجل، ولن يغضب الرجل ويجشَم (9) بأمرٍ أعظمَ من نسبة أهله إلى فاحشة، وهذه الخصلة تمنعه من القذف من غير ثبت. هذا موضوع اللعن.
__________
(1) (ت 2) لذي الزنا ألا يقذف ويستتر.
(2) (ت 2) : فإنه يفرض للفراش في التضمخ.
(3) زيادة من المحقق حيث اضطرب نص النسختين معاً، فجاءت نسخة الأصل هكذا: " وهو بديعة الشرع ولا يتفطنون الزوج يصرّح بقذفها على تهمة، والقذف في نفسه كبيرة ... إلخ ".
وفي نسخة (ت 2) : "وهو ربعة الشرع ولا يتفطنون الزوج يصرح بقذفها على تهمة ... الخ".
(4) في الأصل: فالطلاق، والمثبت من (ت 2) .
(5) ولا ولد: هذا ترجيح وتأكيد لما آثره للزوج من عدم القذف، فالمفارقة بالطلاق ممكنة، ولا ولد يحتاج لنفيه.
(6) في الأصل: جعل مصدق نفسه، و (ت 2) : جهل يصدق.
(7) العبارة مضطربة لما فيها من سقط وتصحيف. ولعل المعنى: إن الأولى للزوج أن يفارقها بالطلاق، بدلاً من القذف واللعان ما لم يكن هناك ولد، أما أن يلاعن ولا ولد فهذا بعيد عن سرّ الأصل الذي قدمه وبدائع الشرع، ومع أن اللعان جعل سبيلاً للزوج ليصدّق نفسه، فقد كان يتفاقم الأمر لو لم يكن لها وسيلة لدرء الحد ... هذا والله أعلم.
(8) (ت 2) : يتقاحم.
(9) يجشم: من جشم يجشم (باب تعب) الأمرَ إذا تحمله على مشقة (المعجم والمصباح) .(15/11)
والذي ذكرناه بيان القذف ولا ولد.
9622- فأما إذا كان على الفراش ولد، والزوج يبغي نفيَه، فهذا الأصل يترتب ويتفصل على مراتب أيضاًً: فإن استيقن الرجل أن الولد ليس منه بأن علم أنه ما وطئها قط منذ نكحها، فإذا أتت بالولد لزمان إمكان العلوق، فللزوج أن ينفي الولد، بل حقٌّ عليه أن ينفيه.
وهذا القسم يتميز في بعض صوره عن القسم الأول بما أشرنا إليه، وذلك أنا قلنا: يجب عليه أن ينفي إذا استيقن أن الولدَ ليس منه، ولا يحل للإنسان أن يستلحق دعيّاً، كما لا يحل له أن ينفي نسيباً.
وفي القلب من هذا شيء، وهو أن النفي إذا كان لا يتأتى إلا باللعان، فإيجاب اللعان والتعرض للفضيحة الكبرى على رؤوس الأشهاد صعبٌ، وربما يكون الإنسان بحيث لا تطاوعه النفس على احتمال ذلك، والذي أطلقه الأئمة من المنع من استلحاق الدّعي فيه إذا اعتمد استلحاق دعيٍّ قصداً، فأما إذا أَلحقَ الفراشُ به نسباً وهو ساكت، فلست أرى إيجابَ النفي باللعان مذهباً مقطوعاً به.
ويلتحق بهذه المرتبة ما لو كان يغشاها، ولكنها أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت النكاح، فالقطعُ قائم، كما ذكرناه، ومن هذا القسم ما لو وطئها، فأتت بالولد من وقت الوطء لأكثرَ من أربع سنين، والجامع بمسائلِ (1) هذا القسم حصولُ الاستيقان في انتفاء المولود.
والذي أطلقه العراقيون والقاضي وجوب القذف واللعان.
9623- ومن (2) مراتب المسألة أن لا يستيقنَ الزوجُ الانتفاءَ، وهذا ينقسم أقساماً نأتي بها على صيغ المسائل: فلو وطئها الزوج، فأتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الوطء في النكاح، ولم يستبرئها بعد الوطء بحيضة، فأتت بالولد للزمان الذي
__________
(1) (ت 2) : المسائل.
(2) هذه هي المرتبة الثانية.(15/12)
وصفناه (1) ، فليس للزوج والحالةُ هذه أن يقذف ويلاعن؛ فإن كون المولود منه ظاهر الإمكان، حتى لو جرى الأمر كما ذكرنا، ورآها الزوج على الزنا بعد وطئه إياها أو قبل وطئه والاستبراء، فلا سبيل إلى نفي الولد.
ثم إذا ذكرنا هذا في معاينة الزنا، فما الظن بالتهم والأمارات التي وصفناها؟ والحاصل في ذلك أنه إذا لم يَجْر استبراءٌ بعد وطئه، وأتت بولد لزمانٍ يمكن أن يكون منه، فلا سبيل إلى نفي الولد؛ فإن العلوق من الزنا إن كان ممكناً، فالعلوق من وطء الزوج ممكن أيضاً، [ولا مُرجّحَ،] (2) وقد أمرنا بإلحاق الولد بالفراش، فلا يجوز التهجّم على نفي الولد بالإمكان، ولو فرض تساوي الإمكان حيث لا ولد، لما جاز القذف.
ثم هذا الذي ذكرناه بيّن في نفي الولد.
والذي ذكره العراقيون والقاضي أنه لا يقذف ولا يلاعن، ويعترض على هذا إشكالٌ وهو أن الولد إن كان لا يجوز نفيه، فالمنع من القذف واللعان لماذا؟ وقد علمنا أن القذف جائز حيث لا ولد، وذكرنا اختلافاً في جواز القذف حيث لا حدّ، ولا تعزير، فالمنع من القذف واللعان في هذا المقام بعيد عن القياس.
9624- ونحن [نُجري] (3) بعد هذا شيئين- أحدهما - أن ما ذكره الأصحاب جرى منهم على وفاق؛ من حيث حصروا نظرهم، وردّوا فكرهم إلى الولد، ثم أجْرَوْا نفيَ القذف واللعان على مقصودهم، [فالمرأةُ] (4) لا تُقذف، ولا يُلاعِن لينفيَ الولد، فإن كان كذلك، فالأمر منتظم.
[فإن أرادوا] (5) بهذا أنه إذا لحق النسبُ، فلا سبيل إلى اللعان، فلست أرى لهذا
__________
(1) (ت 2) : لستة أشهر فصاعداً.
(2) في النسختين، ولا يرجح.
(3) في الأصل: " نُخمّن " بكل وضوح: نون، فخاء، فميمٌ مشدّدة، فنون. والمثبت من (ت2) .
(4) في الأصل: " فالمراد " والمثبت من (ت 2) .
(5) في الأصل، وكذا في (ت 2) : " فأرادوا " والمثبت تقدير منا صدقته (صفوة المذهب) .(15/13)
وجهاً؛ إلا أن يقول قائل على بعدٍ: تأَكَّدَ الفراشُ بالنسب اللاحق، [وإنما] (1) يجوز قطع النكاح حيث لا ولد؛ حذاراً من ولد سيكون، مع تضمخ المرأة بالفاحشة، فإذا وقع ما يُحذر توقّعاً، فالأصل أن لا لعان.
هذا وجه ذلك، ولم أذكر هذا إلا وظني غالبٌ في أنهم أرادوا المنع من القذف حيث يَلْحقُ النسبُ، فإنك (2) لا ترى مسألة في اللعان وفيها نسب متعرض للثبوت، ثم إنه يلحق واللعان يجري، فكأن اللعان حجةُ ضرورةٍ لقطع النسب، وهو الأصل؛ [فإنه] (3) الضرورة الحاقة، أو هو لقطع فراشٍ تلطخ بفاحشة الزنا.
وهذا لا يستقيم تعليله.
9625- صورة أخرى: إذا استبرأها الزوج بحيضةٍ بعد ما وطئها، ثم أتت بولد بعد الاستبراء لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فكيف سبيلُ النسب، وهل يجوز اللعان؟
ما حَصَّلْتُه من طرق الأئمة وجهان صريحان، وفي كلام الأئمة ما يدل فحواه على ثالت: أحدها - أنه لا يحرم القذف واللعان والنفي؛ فإن الاستبراء السابق أمارةٌ دالّة على [أن] (4) الولد ليس من الزوج، والدليل عليه أن وطء السيد أمته يُلحق نسب المولود الذي تأتي الأمة به لزمان الاحتمال بالسيد، ولو استبرأها بعد الوطء، انتفى النسب.
هذا كذلك في ملك اليمين، وفراش النكاح أقوى، فَجُوِّز للزوج أن يُقدم على النفي باللعان بما ينتفي بعينه النسب في ملك اليمين، ثم إذا ظهر جواز النفي، كان جوازُ النفي، أقوى أمارة في جوازِ القذف، وهو أَبْيَنُ من الاستفاضة ورؤيةِ الرجل من المرأة على ريبة.
__________
(1) في الأصل: فإنما.
(2) (ت 2) : فإنك ترى مسألة في اللعان وفيها تسبب يعرض للثبوت، ثم إنه يلحق واللعان يجري مكان اللعان حجة ضرورةٍ لقطع التسبب وهو الأصل فإنه الضرورة الحاقة ... إلخ.
(3) في الأصل: فإن.
(4) زيادة من (ت 2) .(15/14)
وقال (1) العراقيون: إن استبرأها، ولم يجر بعد الاستبراء زناً، ولا تهمةَ يسلط مثلُها على القذف حيث لا ولد، فلا سبيل إلى النفي، فإن جرى بعد الاستبراء زنا أو تهمة تسلط على القذف، فينفي النسبَ، ويُقدم على القذف.
والوجه الثالث -الذي ذكرته آتي به تفريعاً -فأما من لم يشترط بعد الاستبراء سفاحاً، فقد قطع قوله بأنه لا يجب النفي، بل يجوز، ولما فَصَلَ العراقيون بين أن يجري بعد الاستبراء زناً أو تهمة، وبين أن لا يجري، قالوا: إن لم يجر، لم يجز النفي، وإن جرى، وجب النفي، وإيجاب النفي قد لا يتجه مع إمكان العلوق من الزوج -وهذا هو المسلك الثالث - كيف وقد قدّمت في صدر الفصل أن إيجاب اللعان التّهدُّفَ للشهرة والفضيحة مشكلٌ حيث يستيقن أن الولد ليس منه، فكيف إذا كان للاحتمال مساغ، واللحوق على الجملة أغلب في الشرع في فراش النكاح [من] (2) النفي.
فهذا حاصل الكلام في هذا الطرف.
9626- ومما ذكره القاضي أن المرأة لو جاءت بالولد، وهو شديد الشبه برجل، فلو أراد التعويلَ على الشبه في النفي باللعان المسبوق بالقذف، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو انضم إلى الشبه تهمةٌ يسلط مثلها على القذف لو لم يكن ولد، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النفي جائز؛ تعويلاً على الشبه والتهمة، حيث لم يجر استبراء فاصلٌ، وذلك أن الشبه والتهمة، أو عِيان الزنا إذا اجتمعا، كانت دلالتهما أظهرَ من دلالة دمٍ [تراه] (3) المرأة، مع العلم أن الحامل قد ترى دماً، وإنما الخلاف في أن ما تراه هل يكون حيضاً أم لا.
وذكر العراقيون أمراً بدعاً، فقالوا: لو كان الزوج والزوجة على نعتِ [شديدِ] (4)
__________
(1) هذا هو الوجه الثاني من الثلاثة الموعودة.
(2) في النسختين: في.
(3) في النستخين: ترى.
(4) زيادة من (ت 2) .(15/15)
البياضِ، فأتت المرأة بالولد أسودَ ينأى لونُه عن لون الوالدين نَأْياً بعيداً، فهل يجوز التعويل على ذلك؟ قالوا: في المسألة وجهان: ولم يقيّدوا كلامهم بانضمام الزنا أو التهمة الظاهرة، إلى ما ذكرناه.
وظني بهم أنهم أرادوا ما ذكروه مع الزنا أو ظهور أمارة الزنا، وإذا كان كذلك، فهو في معنى الشبه، وإن كان يُحمل لونه البعيد على عرق نازعٍ من أحد الجانبين، فمثل ذلك ممكن في الشبه؛ فإنَّ الأجانب قد يتشابهون، وتُلقى مَشابهُ شخصٍ على شخص، وتعرُّضنا فيما ذكرناه للّون؛ إذ لا اعتبار بغيره من الخَلْق، فقد تلد حُسنى من أحسن الناس خَلْقاً ولداً مشوه الخَلْق، وقد تأتي به ناقص الخَلْق. فأما اللون البعيد، فهو الذي يثير غلبة الظن في انتفاء الولد.
ولو قرب اللون، فلا أثر له، كالأُدْمة والسمرة، والشُّقرة القريبة بالإضافة إلى البياض في الأبوين، فهذا كتفاوت الخَلْق.
وقد انتجز الأصلان الموعودان جرياً على أبلغ وجه في البيان، نقلأ [عن] (1) الثقة، وتنبيهاً على محالّ الإشكال.
9627- ثم الذي نحب اختتام الفصل به أن تعويل الشرع في ظاهره على إلحاق النسب بمجرد العلوق في النكاح، وإن بعد، حتى إذا فرض الإتيان بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح، لحق النسب، وإن لم تُزفُّ الزوجةُ إلى الزوج، إذا كان التقاؤهما ممكناً. وإن لم يكن إمكان أصلاً، لم يلحق النسب، وقال أبو حنيفة (2) : يكفى أن يمضي من النكاح مدةُ الإمكان، وإن قطعنا بامتناع العلوق من الزوج، بأن يكون أحدهما في الشرق والآخر في الغرب.
هذا حكم الشرع، وللزوج أن ينفي بالوجوه التي ذكرناها في الأصل الثاني، ثم الشرع لا يحتكم عليه بأن يبين تلك الأسباب التي بانت له، بل هو مؤاخَذٌ برعايتها بينه
__________
(1) في الأصل: على.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 3/551، فتح القدير: 2/314.(15/16)
وبين الله، وليس كذلك اللَّوثُ المعتَبرُ في القَسامة؛ فإنه ما لم يظهر للقاضي لا يبدأ في اليمين بالمدعي، وذلك أن تيك الدعوى على صورة الدعاوى في الخصومات، والقاضي لا يبدأ في اليمين (1) إلا بمن يستمسك بشيء يغلِّب على الظن صدقَه، وهذا المعنى إنما يحصل إذا ظهر اللوث عنده.
فصل
قال: " ولو جاءت بحملٍ وزوجها صبيٌّ دون العشر ... إلى آخره " (2) .
9628- تفصيل القول في السن التي تحيض عليه الصغيرة فتبلغ مما قدمناه في كتاب الحيض، وأعدنا طرفاً منه في كتاب الحَجْر، وكذلك القولُ في أقل الأسنان التي يُفرض احتلامُ الغلمان فيه مما قدمته.
والتي تمس الحاجة إلى إعادته في هذا الفصل سنُّ البلوغ في الغلام، فنقول: إذا استكمل عشراً، احتمل العلوق بعده قطعاً، ولو فرض انفصالُ مادة الزرع في العَشْر قبل استكماله العاشرة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك لا يكون بلوغاًً.
والثاني - أنه يكون بلوغاً.
ثم من قال: يُتصور البلوغ في السنة العاشرة، اختلفوا: فمنهم من ذهب إلى أن الإتيان بالولد ينبغي أن يكون والغلام ابنُ العشر، حتى يُقدَّرَ البلوغُ في أثناء السنة.
ومنهم من قال: يجوز أن [يحتلم] (3) على مُنْقَرض التاسعة، فتأتي الزوجة بالولد لستة أشهر، فيلحقه الولد وهو ابن تسع سنين وستة أشهر.
وحكى بعض المصنفين أنه يجوز أن يُفْرضَ بلوغُه في خلال السنة التاسعة، وقد ذهب كثير من الأصحاب إليه في حيض الصغيرة، وهو غريب في الغلمان جداً، وإن اشتهر في الصبيّة.
__________
(1) (في) : تأتي مرادفة لـ (الباء) .
(2) ر. المختصر: 4/44.
(3) في الأصل: يحتمل.(15/17)
فهذا حاصل الاختلاف في أقل سنٍّ يبلغ الغلام فيه.
9629- ونعود بعد ذلك إلى التصريح بمقصود الفصل.
فإذا قبل الأب نكاح امرأةٍ لابنه الطفل، ثم استكمل عشراً، ومضى بعد العشر ستةُ أشهر، فأتت زوجتُه بالولد، وزعمت أنه منه، فالولد يلحقه؛ فإن احتمال الاحتلام على منقرض السنة العاشرة ممكن غيرُ مدفوعٍ باتفاق الأصحاب، وإن أتت بالولد عند انقراض السنة العاشرة، فهذا يخرّج على الخلاف في أن احتلامه هل يمكن في خلال السنة العاشرة.
ولو أتت بالولد عند الطعن في العاشرة، فالمذهب أن الولد لا يلحق، وفيه الوجه البعيد الذي حكيته عن بعض المصنفين.
9630- ومما يليق بتمام الفصل أن المرأة إذا أتت بالولد وهو ابن عشر، والتفريع على اللحوق في هذه الصورة، فلو لم يسبق منه ادعاء الصبيّ، فأراد وقد حقَّ الأمرُ أن يلتعن، وزعم أنه بالغٌ، فله أن يلتعن، فإن القول قولُه فيما يتعلق بهذا المعنى.
ولو قال: أنا صبي وأراد أن يلتعن، لم يكن له ذلك؛ فإن الصِّبا يمنع الالتعان، فالجمع بين دعوى الصبا وبين الالتعان متناقض، ولو ادّعى الصبا، ثم قال: كذبت فيما قلت، وإنما أنا بالغ، فألتعن، فله ذلك؛ فإنَّ كذبه لا يمنع من الاعتراف بالاحتلام؛ فان الإنسان لا يؤاخَذُ بما سبق منه في صباه، فإن كان صبياً إذ قال: أنا صبي، فقوله لغو، ولا مطّلع على الصبا بقوله، وإن كان بالغاً، فيجب تصحيحُ اللعان منه، وقبولُ قوله الثاني.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا أكذب نفسه فيما قدّمه من دعوى الصبا لا يُقبل ذلك منه، ووجه القبول أن يدّعي أني بلغت بعد هذا، فإن ادعى ذلك، قُبِل منه؛ فإن احتمال الاحتلام مقترنٌ بكل حال، ولا يمتنع أن يكون صادقاً في ذكر الصبا، وهو صادق الآن في طريان الاحتلام.(15/18)
فصل
قال: " ولو كان بالغاً مجبوباً ... إلى آخره " (1) .
9631- لا خلاف بين الأصحاب والعلماء الذين نعرفهم أن الممسوح يَنْكِحُ ويصح نكاحُه، فإذا بان ذلك فيه، فما (2) الظن بالخَصِيّ والمجبوب، فإذا أتت امرأة واحد من هؤلاء بولد [فالنصوص] (3) مضطربة والطرق على حسبها مختلفة.
والذي تحصّل هاهنا في ترتيب المذهب أن الرجل إذا كان مجبوباً، وبقيت خُصيتاه، فيلحقه النسب؛ فإن الماء كائن في الفطرة، وأوعية المني باقية ببقاء الأنثيين، وليس الذكر إلا آلة مزرِّقة توصّل المني إلى الرحم، وفوات التزريق لا يمنع إمكان الاحتلام، وربما يصل الماء إلى الرحم من غير إيلاج.
ولو قطعت خُصيتاه وبقي ذكره، فالذي رأيته للمحققين من الأصحاب أن النسب يلحقه أيضاًً، ولا حاجة إلى مراجعة أهل الطب في أنه هل يولد لمثله أم لا، ولا نبالي بنفيهم، وإن قالوا: قطعُ الخُصيتين يمنع إمكان الولد؛ لأن فيهما أوعيةَ المني والقوة المُحيلة للدم العبيط إلى المني الأبيض الثخين (4) الدفّاق.
وقال بعض المصنفين: يُرجع إلى قول أهلِ الخبرة والأطباءِ في ذلك، فإن قالوا: لا يولد للخَصِي، لم يُلْحق به، وإن قالوا: يولد للخَصِي ألحقنا الولد به، وهذا التفصيل لا أصل له.
هذا كله إذا كان مجبوباً والخُصية باقية، أو كان خَصِياً والآلة باقية.
9632- فأما إذا كان ممسوحاً عديمَ الخُصيةِ والآلةِ: قال العراقيون: لا يلحقه النسب ولا مراجعة، وحكَوْا عن الإصطخري أنه قال: يلحقه الولد بلا مراجعة، وذكر
__________
(1) ر. المختصر: 14/44.
(2) (ت 2) : فما الصبي والمجنون.
(3) في الأصل: فالمنصوص.
(4) (ت 2) : للجنين.(15/19)
القاضي هذا الذي أضيف إلى الأصطخري وصححه، وهو الذي ذكره الصيدلاني، واعتل من صار إلى ذلك بأن الماء معدنُه (1) الصُّلبُ ومنفذه ثُقبةٌ إلى الظاهر، وتلك الثُّقبة باقية.
وهذا قولٌ عريٌّ عن التحصيل.
وهذا مجموع ما ذكر في ذلك.
فصل
قال: " ولو قال: قذفتك وعقلي ذاهب ... إلى آخره " (2) .
9633- إذا قامت بيّنة على إقراره بالقذف، ثم إنه ادّعى أنه كان مجنوناً حين قذف، ففي المسألة طرق: من أصحابنا من قال: إن لم يثبت جنون القاذف في سابق الزمان، فلا يقبل قوله والقول قولُ (3) المقذوف [مع يمينه، فيحلف] (4) بالله لا يعلم جنونَه في حالة قَذْفه (5) .
ان ثبت أنه كان يُجنّ فيما سبق، ففي المسألة قولان: أصحهما - أن القول قولُ القاذف، فإنه إذا عُهد له جنون فيما سبق، فلا يبعد وقوع قذفه فيه، والأصلُ البراءةُ من وجوب العقوبة، فالقول قوله.
والقول الثاني - أن القول قولُ المقذوف؛ فإن البينةَ شهدت على إقراره بالقذف مطلقاً، والقذف المطلقُ محمولٌ على الصحيح التام، كما لو شهد عدلان على البيع مطلقاً، فهو محمول على الصحة.
هذه طريقة.
__________
(1) معدِنه: أي مقره، وأساسه ومنبعه صُلْب الرجل، إشارة إلى قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] .
(2) ر. المختصر: 4/144.
(3) (ت) : والقول قول المقذوف والقاذف أن يحلف.
(4) في الأصل: قول المقذوف يحلف بالله لا يعلم.
(5) (ت 2) : في الالتزام وإن ثبت.(15/20)
ومن (1) أصحابنا من قال: إن ثبت أنه كان يجن، فالقول قول القاذف [وللمقذوف أن يحلّفه] (2) بالله تعالى ما قذفه في حالة عقله.
وإن لم يعهد له جنون فيما سبق، فإن ادعى أن القذف كان منه في جنونه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول القاذف؛ فإن الأصل براءتُه.
والثاني - القول قول المقذوف؛ فإن القذف ثبت، والأصلُ عدمُ الجنون، وهذا يقرب من تقابل الأصلين.
9634- فإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها - أن القول قول المقذوف في كل حال.
والقول الثاني - أن القولَ قولُ القاذف في كل حال.
والقول الثالث - أنه إن عهد جنون، فالقول قول القاذف، وإن لم يعهد جنون، فالقول قول المقذوف.
ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المقذوف، ورأينا التفريع على هذا، فلو أقام القاذف بينة أنه قذف في حالة الجنون، وأقام المقذوفُ بيّنةً أنه قذف في حالة الإفاقة، فإن كانت البينتان مطلقتين، أو كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، أو إحداهما مُطْلَقة والأخرى مؤرخة، فليست البينتان متعارضتين، بل هما محمولان على قذفين، فيثبت القذف بالإضافة.
وإن كانتا مؤرختين بتاريخٍ واحد -مع التضييق في التصوير-[فالبينتان] (3)
متعارضتين، وفي البينتين المتعارضتين قولان: أحدهما - أنهما يتساقطان. والثاني - أنهما يستعملان.
ثم للشافعي رضي الله عنه ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال إذا لم نحكم بالتهاتر (4) : أحدها - قوْل القسمة.
__________
(1) هذه هي الطريقة الثانية.
(2) في الأصل: فالقول قول القاذف يحلف بالله ما قذفه ... إلخ.
(3) في النسختين: والبينتان.
(4) بالتهاتر: أي بالسقوط: سقوط البينتين بسبب تعارضهما.(15/21)
والثاني - قول القرعة.
والثالث - قول الوقف.
فإن حكمنا بالتهاتُر، فنجعل كأن البينة لم تكن، وإن حكمنا بالاستعمال، فلا تجري القسمةُ والوقف.
وحكى من يوثق به عن القاضي أن قول القرعة يجري هاهنا فنُقرع بين البينتين ونقضي بالتي خرجت القرعة لها.
وهذا بعيد عندنا؛ فإن القرعة يستحيل إجراؤها في إقامة العقوبة، (1 بل الوجه حسم استعمال البينتين 1) ، والقطعُ بتهاترهما وردُّ الأمر إلى الحالة التي لا يفرض فيها إقامة البينة.
9635- ومما يتعلق بالفصل أنه لو أقر بالقذف في مجلس القضاء، ثم قال عنيت بذلك قذفاً صدر مني في جنوني أو صباي، فهذا بمثابة ما لو شهدت بينة على إقراره بالقذف، ولو أقر الرجل ببيعٍ أو غيرِه من عقود المعاملات، فلما راجعناه قال: أردت بذلك أني بعت في صباي أو جنوني، فهو بمثابة ما لو قال: قذفت، ثم ادعى ذلك على ما مضى التفصيل فيه، ثم الفرق بين أن يُعهَد جنونٌ أو لا يعهَد فيه إذا أضاف ما صدر منه إلى حالة الجنون، فإن أضافه إلى حالة الصبا، فهو كما لو أضافه إلى حالة الجنون، وقد كان منه جنون معهود.
فصل
قال: " ويلاعن الأخرس ... إلى آخره " (2) .
9636- قد ذكرنا أن إشارات الأخرس في عقوده وحلوله ومعاملاته تنزل منزلة عبارة الناطق، وبيّنا أن إشاراته تنقسم إلى الصريح والكناية، وأشبعنا القول في هذا في كتاب الطلاق.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 4/144.(15/22)
ولم يختلف أصحابنا في شيء إلا في الشهادة، فإن منهم من قال: هو من أهل الشهادة كالناطق، والأظهر أنه مردود الشهادة؛ لأن الشهادة تتعلق بالغير (1) وللشرع تعبُّدٌ باعتبار كمالٍ فيها، ولهذا لا نقبلها من الرقيق.
فإذن الأخرس من أهل القذف، ثم هو من أهل اللعان عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
ويختلج في الصدر إشكالٌ في تأديته كلماتِ اللعان، سيّما إذا عيّنا لفظَ الشهادة، ولم نُقم غيرَها مقامها، فكيف تُرشد الإشاراتُ إلى تفاصيل الصيغ.
والذي ينقدح في وجه القياس، أن كل مقصود لا يتخصص بصيغةٍ من لفظٍ، فلا يمتنع إقامةُ الإشارة فيه مقام العبارة، وما يتخصص بصيغة مخصوصةٍ، فيغمضُ إعراب الإشارة عنها.
ولو (3) كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكِتْبة (4) إن كان يُحْسِنُها، أو يشترط من ناطقٍ أن ينطق بالصيغة ويشير إليه بها، ويقول: تشهد هكذا وهو في ذلك يقرّره، ويُقرّب (5) الإشارةَ جهده، فهذا يقرُب بعضَ القرب، فأما إشارةٌ مجردة تدل على صيغةٍ مخصوصة لست (6) أهتدي إليها.
9637- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا أشار بالقذف، وأشار بحكم اللعان إن أمكنت الإشارة بها، ثم نطق فانطلق لسانه، وزعم أني لم أُرد بالإشارة قذفاً
__________
(1) (ت 2) : تتعلق باللغة.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/508 مسألة 1054، المبسوط: 7/42، رؤوس المسائل: 432 مسألة 303.
(3) ولو كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكِتبة: (لو) هنا للتمني، فالإمام يتمنى لو كان هذا رأياً للأصحاب، حكى الرافعي هذا الكلام عن الإمام، ثم قال: " جاء الغزالي، فقال ما تمنى الإمام أن يكون في الأصحاب من يقوم به، وحكاه في البسيط عن بعض الأصحاب، وهو كالمنفرد بالقول به " ا. هـ كلام الرافعي (ر. الشرح الكبير: 9/398) .
(4) الكِتْبة: الكتابة (المصباح) .
(5) (ت 2) : ويقرب الإشهاد جهته.
(6) لستُ: جواب (أما) بدون الفاء.(15/23)
ولا لعاناً، فلا نقبل ذلك منه، ويكون كما لو صرح بالقذف ناطقاً (1) ، ثم أنكر، وهذا لعمري موجَبُ ذلك الأصل، ولكن الأصل في نفسه مشكل.
ولو صرح بالقذف ناطقاً، ثم أُصمِتَ واعتُقِل لسانُه، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: نمهله رجاء أن ينطق لسانُه يومين. ثلاثة، فإن نطق، وإلا حملناه على إشارة الأخرس.
ونقل بعضُ الأصحاب عن الشافعي: أنه يراجَعُ أهلُ البصيرة، فإن قالوا: سينطلق لسانُه، ولكن بعد مدة، ننتظر، ولكن في إطالة الانتظار إبطالُ حق المقذوفة.
وقد اعتمد الشافعي في إشارة الأخرس ما روي أن أمامة بنت أبي العاص أصمتت، فقيل لها: " لفلان كذا، لفلان كذا، فأشارت برأسها أي نعم، فرُفِع ذلك إلى عثمان، فرأى أنها وصية " (2) وهذه تدل على أن من طرق التقريب إلى الفهم مع [اعتقال] (3) اللسان العرضُ على المُعْتَقَلِ لسانُه مع إشارتِه المتضمنة تقريباً.
فصل
قال: " ولو كانت مغلوبة على عقلها ... إلى آخره " (4) .
9638- نجمع بعون الله في هذا الفصل القولَ في القذف الذي يتعلق به اللعان، والذي لا يتعلق.
فأما القذف الذي يتعلق به اللعان، فأصله أن يجري في النكاح غيرَ مضافٍ إلى زناً
__________
(1) لم يتعرض الإمام لما لو اعترف بالقذف ولكنه قال: لم أرد لعاناً، وقد قال الرافعي: إذا قذف ولاعن بالإشارة، ثم عاد نطقه، وقال: لم أرد لعاناً بإشارتي، قبل فوله فيما عليه، حتى يلحقه النسب، ويلزمه الحد، ولا يقبل فيما له حتى لا ترتفع الفرقة، ولا التحريم المؤبد، وله أن يلعن في الحال، لإسقاط الحد، وله اللعان لنفي النسب أيضاًً إذا لم يمض من الزمان ما يسقط فيه حق النفي. ولو قال: لم أرد القذف أصلاً، لم يقبل قوله؛ لأن إشارته أثبتت حقاً لغيره ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/398) .
(2) حديث وصية أمامة سبق تخريجه في الوصية.
(3) في الأصل: اعتقاد.
(4) ر. المختصر: 4/145.(15/24)
متقدم على النكاح، والقذف المطلق في النكاح ينقسم إلى ما يوجب (1) الحدَّ، وإلى ما يوجب التعزير، فأما ما يوجب الحدَّ، فيتعلقُ به جواز اللعان.
ولكن المرأة لا تخلو إما أن تطلب الحد وإما أن تعفو عنه، وإما ألا تطلب الحدّ ولا تعفو، فإن طلبت، الْتعن الزوج، واندفع الحد عنه، ثم يُعرض اللعان عليها، فإن التعنت، اندفع حدّ الزنا عنها، وإن نكلت، حُدّت حدَّ الزنا، وإذا كان القذف بحيث يوجب الحدّ على القاذف، فالذي وقعت النسبةُ إليه يوجب حدَّ الزنا على المقذوفة، لو تحقق.
وإن عفت عن الحد وأسقطته، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمَّ ولدٌ متعرض للثبوت لا ينفيه إلا اللعان أو لا يكون. فإن تعرض نسبٌ للثبوت، فالزوج يلتعنُ لا محالة؛ فإن المقصود الأظهر من اللعان نفيُ النسب المتعرض للثبوت.
يان لم يكن ثَمّ ولد، فهل يلاعن الزوج، [وقد] (2) عفت المرأة عن حد الزنا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلاعن؛ فإنه ليس في اللعان غرضٌ ظاهر، وهو أُثبت في الشرع حجةً للضرورة؛ ولا نسبَ ولا عقوبةً (3) ، فلا معنى للعان.
والوجه الثاني - أنه يلاعن حتى [يَرْحَضَ ويغسل العارَ عن نفسه] (4) ، ويرَّد العار إليها، وقد تنكُل، فتلتزم حدَّ الزنا.
فأما إذا كان القذف موجباً للحد، فلم تطلبه المرأة ولم تعْف، فالفذهب الصحيح أن الزوج له أن يلتعن.
وقال بعض أصحابنا: لا يثبت الالْتعان ما لم تطلب الحدّ؛ فإنّ اللعان أُثبت لدَرْء الحدّ ونفي النسب، ولا نسب في المسألة، وليس الحد مطلوباً، فيدرَأ.
والأصح أنه يلتعن حتى ينقطع توقُّع طلبها.
هذا كله إذا كان القذف موجباً للحد.
__________
(1) (ت 2) : إلى موجب الحد.
(2) في الأصل: فقد.
(3) أي لا ضرورة لدرء العقوبة، ولا لنفي النسب.
(4) في الأصل: حتى يَرْحَضَ العار ويغسل عن نفسه.(15/25)
9639- وأما إذا لم يكن موجباً للحدّ، ولكن كان يقتضي تعزيراً، فالذي نقدمه أنه إذا كان في الواقعة نسبٌ، وهو يبغي نفيَه، فيلاعن كيف فرض الأمر، سواءٌ طلبت أو لم تطلب، عَفَتْ أو لم تَعفُ، سواءٌ كان التعزير تعزيرَ التكذيب أو تعزيرَ التأديب، على ما سنبين انقسامَ التعزير؛ وذلك أن أعظم المقاصد نفيُ النسب، كما ذكرناه، وهو ثابت، فلا مبالاة مع تعرض النسب لغيره.
وإن لم يكن في الواقعة نسبٌ والقذفُ موجِبُ التعزير، فلا يخلو التعزير إما أن يكون تعزيرَ التكذيب، وإما أن يكون تعزيرَ التأديب، وتعزيرُ التكذيب هو الذي يستوجبه الرامي، وهو مكذَّب في رميه في ظاهر الشريعة، والتعزيرُ يقام لتحقيق تكذيبه، وهو نحو أن يقذف الرجل أمةً أو كتابيةً، فلا حد، ولكنه يلتزم التعزيرَ تكذيباً له.
والنوع الآخر تعزيرُ التأديب، هو أن يقذف امرأةً بزنا قد ثبت عليها من قبلُ: إما ببينةٍ أو إقرار، وقد أقيم عليها حدُّ الزنا، فالرامي يستوجب التعزيرَ؛ من جهة تعرضه لها بالإيذاء، وليس المقصد من هذا التعزير إظهار تكذيب الرامي؛ فإنه مصدَّقٌ، وإنما الغرض منعُه عن معاودة مثل ذلك على طريق التأديب.
فأما تعزيرُ التكذيب فنصوّر فيه ثلاثَ مسائل: إحداها - أن يكون القذف متضمناً تعزيراً والطَّلِبةُ متوجهةٌ به، وذلك مثل أن يقذف الزوج زوجتَه الأمةَ أو الذميّةَ، وطلبت التعزير، فالمذهب الذي قطع به الأئمة المعتَبَرون أن للزوج أن يلاعنَ، ويرفعَ عن نفسه التعزيرَ؛ فإنه عقوبة تتعلق بالطلب كالحد، فإذا طلبته، كان له رفعُه باللعان، وفي بعض التصانيف ذكر خلاف في هذا؛ من حيث إن الواقعة عريةٌ عن نسبٍ متعرض للثبوت، وعن عقوبةٍ لها وقعٌ، وهي الحد. وهذا مما لا يجوز الاعتدادُ به، والوجه بناء المذهب (1) على القطع بجريان اللعان إذا فرض طلبُ (2) التعزير الذي يُثبت تكذيباً من المرأة.
__________
(1) (ت 2) : بناء الأمر.
(2) (ت 2) : إذا فرض الطلب والتعزير الذي يثبت تكذيباً.(15/26)
*وأما (1) إذا لم يتوجه الطلب، فهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها - أن تعفوَ المقذوفةُ عن التعزير، فإن كان كذلك، فهل يلاعن الزوج؟ فعلى وجهين قدمنا توجيههما ومأخذهما.
والقسم الثاني أن تكون المقذوفةُ بحيث لا يَتأتى منها الطلب، وذلك بأن تكون مجنونةً أو صغيرةً، ولا ينوب غيرُ المقذوفةِ مقامَها في طلب التعزير وفاقاً، فإذا أراد الزوج أن يلتعن قبل أن تبلغ المقذوفة مبلغَ الطلب: بإفاقةٍ أو بلوغٍ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا عَفَتْ المقذوفةُ، وكانت من أهل العفو، وهذه الصورة أولى بأن يثبت اللعان فيها؛ فإن الزوجَ لا يأمن توجُّهَ الطّلِبة عليه بالتعزير إذا زال المانع الذي بالمقذوفة.
ولو كانت المقذوفة من أهل الطلب، فلم تعف، ولم تطلب، وسكتت، فأراد الزوج أن يلْتعن قبل أن تطلب، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا كان بها مانع من الطلب، كالصغر والجنون، وهذه الصورة الأخيرة أولى بجريان اللعان من التي قبلها؛ فإن التعزير متعرضٌ للإقامة وهي مستمكنةٌ من الطلب متى شاءت.
هذا تفصيل القول فيه إذا كان القذف موجباً لتعزير التكذيب ولا نسبَ.
9640- فأما إذا كان القذف موجباً لتعزير التأديب، وذلك مثل أن ينسب الزوج زوجته إلى زناً كان قد ثبت عليها ببيّنة أو إقرار، وأقيم الحد، فإذا نسبها الزوج إلى ذلك الزنا، استحق التعزير، من جهة انتسابه إلى إيذائها، فلو طلبت المرأة التعزير، فهل يلتعن الزوج في هذا النوع من التعزير؟ هذا مما اختلف النص فيه، فالذي حكاه المزني عن الشافعي أنه قال: " عُزّر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " (2) وظاهر الكلام أنه ليس له الالتعان أصلاً وإن طلبت التعزير.
وحكى الربيع عن الشافعي أنه قال: " عُزر إن لم يلتعن، فأثبت له اللعان لدرء
__________
(1) هذه هي المسألة الثانية أو الصورة الثانية في تعزيز التكذيب، من الصور الثلاث التي وعد بها.
أما الصورة الثالثة فقد اندرجت في أقسام الصورة الثانية، وعنى بها القسم الثالث، وهو أن تكون المقذوفة من أهل الطلب، ولم تعف، ولم تطلب.
(2) ر. المختصر: 4/146.(15/27)
التعزير "، واختلف الأصحاب على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يثبت اللعان كما يثبت في تعزير التكذيب في صورة الطلب، ويحمل لعانه أيضاً على قطع النكاح ودفع العار.
والقول الثاني - ليس له اللعان أصلاً؛ فإن اللعان بيّنةٌ خاصة متضمَّنُها تحقيق القذف، ولا معنى لهذا فيما نحن فيه؛ فإن الزوج مصدَّق فيما نسبها إليه، فلا يستفيد باللعان تصديقاً، ويخرج اللعان عن [وضعه] (1) ، [و] (2) التعزير إنما أُثبت في هذا المقام تأديباً (3) ، وهو مع اللعان [حريّ] (4) بالتأديب، فيجب ألا يكون للعان أثر في دفعه.
ومن أصحابنا من صوّب المزني وغلّط الربيع، ونفَى اللعان، وهذا هو القياس الحق، وهو الذي نبهنا عليه في توجيه أحد القولين في الطريقة الأولى.
ومن أصحابنا من صوّب الربيع وأوّلَ كلام المزني على ما سنصفه، وقال: الأصل في اللعان قذفٌ يصدر من الزوج يسوِّغ له الإقدامَ عليه، ليبتني عليه قطعُ النكاح باللعان الذي يتضمن غسلَ العار، وهذا المعنى متحقق فيما نحن فيه، وأوّلَ كلامَ المزني وحمله على موافقة منقول الربيع، فقال: قوله: " عزر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " (5 فيه تقديمٌ وتأخير، والتقدير عُزّر إن طلبت التعزَير، ولم يلتعن 5) ، وهذا يقع على هذا التأويل على معرض الإخبار بأنه لا يلتعن معطوفاً على الشرط في قوله: إن طلبت، فكأنه قال: إن طلبت، المرأة، ولم يلتعن الزوج عُزِّر.
وهذا لا حاجة إليه، وقصاراه حمل منقول المزني على موافقة ما لا وجه له في الصحة؛ فإن اللعان إذا كان لا يفيد تصديقاً، فهو حائدٌ (6) بالكلية عن وضعه، وتغليط
__________
(1) في النسختين: وصفه.
(2) (الواو) زيادة من (ت 2) .
(3) (ت 2) : أثبت في هذا المقام ندماً.
(4) كذا. ويمكن أن تقرأ (جريٌ) ، وضبطت في الأصل بضمة على الحاء وأخرى على الياء المشددة، والمعنى غير مستقيم، (وانظر صورتها) عسى أن يلهمك الله قراءتها الصحيحة.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 1) .
(6) (ت 2) : جائز.(15/28)
الربيع هو الأولى، ولا يتوجه في القياس إلا نفي اللعان.
9641- ثم يتعلق بتمام البيان في ذلك أمران: أحدهما - أنا إن نفينا اللعان فالتعزيرُ متوجه على الزوج تأديباً، ثم اختلف جواب الأئمة في أن هذا النوع من التعزير هل يتوقف على طلب المقذوفة؟ فمنهم من قال: لا بد من طلبها؛ فإنها المقصودةُ بالأذى، فعلى هذا يسقط بإسقاطها.
ومنهم من قال: لا يتوقف هذا على طلبها؛ والصادر من الزوج سوء أدب يستوجب (1) به من طريق الإيالةِ والسياسةِ تأديباً، وهو بمثابة ما لو قال الرجل: " الناس زناة "، فالسلطان يؤدبه، وإن كان لا يُفرضُ طلبُ التأديب من أحد.
وهذا غيرُ مرضيّ.
والوجه القطع بتعلّق التعزير بطلبها؛ فإنها مخصوصةٌ بهذا الإيذاء، ولفظ الشافعي رحمه الله مصرّح بهذا؛ فإنه قال: " عُزّر إن طلبت ذلك ".
وإنما يليق التردد بصورة أخرى: وهي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتِ وأنت بنت شهر، أو بنت يوم، فالذي ذكره غيرُ ممكن الوقوع تصوّراً، وهو متعرض للتعزير، وفيه ظهر اختلاف الأئمة في أن هذا التعزير هل يتعلق بطلبها؟ ووجه تخريج الخلاف أنها لا [تتعيّر] (2) إذا نُسبت إلى مُحال، وليس كذلك إذا ما جدد ذكر الزنا، فالتأذّي لاحق.
فهذا بيان القول في الطلب.
9642- ومما يتم الغرض به: أنا إذا قلنا: لا يتعلق التعزير بطلب المذكورة، فالسلطان يتولاه، وإن قلنا: لا بد من طلبها، فقد يعترض في هذا أمر، وهو أن قائلاً لو قال: ما الذي يمنع السلطان من زجر هذا عن معاودة أمثال ما نطق به تعلّقاً بالسياسة الكلية؟ قلنا: إذا رأينا ذلك متعلِّقاً بالطلب، فالوجه في هذه الواقعة ألا
__________
(1) عبارة (ت 2) : ومنهم من قال: لا يستوجب به من طريق إيالة والسياسة.
(2) في الأصل: تتعسر، و (ت 2) : تعتبر. والمثبت من المحقق.(15/29)
يبادره السلطان بالتعزير، بل يصبر إلى أن يتبين (1) الطلبَ؛ لأنه لو ابتدر بالعقاب، لكان تاركاً حقَّ مَنْ له حق الطلب، وهذا إجحافٌ به، فإن الشرع إذا ربط شيئاً بطلبِ طالبٍ، فهو على غرضٍ في التردد بين الصفح والطلب، [وتفويتُ] (2) هذا عليه إبطال حقه.
فإن قلنا: لا يتعلق هذا التعزير بالطلب، فلا تنقسم المسألة، وإن قلنا: يتعلق التعزير بالطلب، وفرعنا على أنها لو طلبت، لالْتعن الزوج، فلو عفت، فوجهان، ولو لم تعف، ولم تطلب، فوجهان مرتبان على النسق المقدم.
وكل ذلك والقذف مُنْشأٌ في النكاح، من غير إضافة الزنا إلى ما قبل النكاح.
9643- فأما إذا قذف امرأته بزناً أرّخه بزمانٍ متقدم على النكاح، فقال: زنيتِ قبل أن نكحتك، فلا يخلو إما أن يكون في الواقعة ولدٌ يحاول نفيه، وإما أن لا يكون ولد.
فإن لم يكن، فقد قطع الأصحاب بأنه لا يلتعن (3) ؛ فإنه تعرض لنسبتها إلى الفاحشة في وقتٍ لم تكن فراشَه [فيه] (4) ، وإنما أُثبت اللعان للزوج في مقابلة تلطيخها فراشه. هذا متفق عليه، ولا فرق بين أن يكون القذف موجباً حدّاً أو تعزيراً.
فأما إذا كان في الواقعة مولود والزوج يحاول نفيه، فإذا قذفها بزنا متقدمٍ على النكاح، ورام أن ينسب الولدَ إلى العلوق من ذلك الزنا، فهل يجوز له أن يلاعن والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يجوز -وهو الظاهر- لضرورة نفي النسب المتعرض للثبوت، والزنا وإن أرّخه قبل النكاح، فضرورة الولد حاقّة في النكاح، ونحن نُثبت اللعان لنفي الولد الكائن في نكاح الشبهة، فلا يبعد ثبوته، وإن تأرّخ الزنا بما قبل النكاح.
__________
(1) (ت 2) : يتبين الأمر.
(2) في الأصل: وتقريب هذا، (ت 2) والقريب هذا. والمثبت من المحقق، إلهاماً من فضل الله.
(3) (ت 2) : بأنه يلتعن.
(4) في الأصل: منه.(15/30)
والوجه الثاني -وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي- أنه لا يلاعن ويلحقه النسب؛ فإن عماد اللعان قذفٌ يتضمن نسبتَه إلى تلطيخ الفراش الكائن.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى إلحاق النسب به، كان الجواب أنه المقصّر؛ إذ أرخ الزنا، ولو أطلق النسبة إلى الزنا، ولم يتعرض لتأريخه، لأمكنه أن يلتعن، وينفي النسبَ، فهو الذي فوّت على نفسه الدّفعَ الذي أثبته الشرع [له] (1) .
9644- ومما يتعلق بتتمة الفصل أنه إذا قذفها (2) بعد البينونة وارتفاع النكاح؛ فإن كان ثَمّ ولد متعرض للثبوت، فله اللعان.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، فلا سبيل إلى اللعان، سواء أطلقَ القذفَ، أو أضافه إلى النكاح المرتفع؛ فإنه لا حاجة إلى القذف، ولا فراش ولا نسب.
وكذلك لو نكح امرأة (3) نكاحاً فاسداً وقذفها، فإن كان ثَمّ ولدٌ يريد نفيه، فله اللعان عندنا، ثم حيث يلتعن لنفي النسب ولا نكاح، فإذا انتفى النسب، (5 اندفع الحدّ تبعاً؛ فإن اللعان حجة [متضمنها] (4) إثبات الزنا، ويستحيل أن تقوم حجة شرعية 5) على الزنا، ويقع القضاء بصحتها، ثم يُحدّ الناسب إلى ذلك [الزنا] (6) .
ولو نكح امرأة وقذفها، وهو على اعتقاد الصحة في النكاح، فالْتعن [ولا] (7) ولد ثم يتبين فساد النكاح، فهل يُقضَى باندفاع الحد والحالة هذه؟ فعلى وجهين أوردهما المحققون من المراوزة: أحدهما - أن الحدّ يجب؛ فإنا تبيّنا بالأَخَرة (8 فسادَ اللعان، ولو علمنا ذلك ابتداءً، لمنعنا من الإقدام على اللعان، فإذا بان آخراً، تبيّنا 8) فساد اللعان.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) (ت 2) : فارقها.
(3) (ت 2) : امرأته.
(4) في الأصل: " متضمناً " وهي ضمن الساقط من (ت 2) .
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(6) زيادة من (ت 2) .
(7) في الأصل: فلا.
(8) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(15/31)
والوجه الثاني - أن الحد يندفع؛ لأنه جرى في مجلس القاضي ما هو في الشرع تصديق القاذف، فيبعُد مع جريانه إقامةُ الحدّ، وإذا علمنا فساد النكاح، لم نتركه يلتعن.
ثم مهما (1) جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد لنفي النسب، فالمرأة هل تلتعن؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنها تلتعن في مقابلة لعانه، كما لو كانت في نكاح صحيح.
والثاني - أنها لا تلتعن؛ فإن اللعان حيث لا نكاح مقصوده نفي النسب، ولا حاجة إلى لعانها في نفي النسب؛ فإنها (2) تتعرض لإثبات النسب في مضادة الرجل النافي، فيبعد إثبات اللعان في حقها.
فإن قلنا: إنها لا تلتعن، فلعان (3) الزوج لا يُثبت عليها الحدَّ، فينحصر الغرضُ (4) من هذا اللعان في نفي النسب، ثم يتبعه انتفاءُ الحد عن القاذف، وذلك أنا لو ألزمناها الحد، لكان ذلك إرهاقاً منا إياها إلى الحدّ على وجهٍ لا تجد له مَدْفَعاً، فهذا لا يليق بموضوع اللعان ومحاسن الشرع.
وإن قلنا: إنها تلتعن، فإن امتنعت عن اللعان، حُدّت، كما لو امتنعت عن اللعان في صلب النكاح.
ثم إذا جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد، فهل يفيد [اللعانُ] (5) [الحرمةَ] (6) المؤبدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يفيده؛ طرداً لهذا الحكم مهما جرى اللعان على الصحة.
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) (ت 2) : فلها متعرض.
(3) (ت 2) : كلعان الزوج.
(4) (ت 2) : العوض في هذا اللعان.
(5) في النسختين: النكاح.
(6) في الأصل: الحريّة.(15/32)
والوجه الثاني - أنه لا يتضمن التحريم؛ فإنه لم يرد على نكاحٍ، والحرمة المؤبدة (1) معلّقةٌ بلعانٍ يتضمن قطعَ نكاح.
وقد انتجز ما أردنا جمعه في هذه القواعد، وإنما جمعناه لأنه مبثوث في الكتاب من غير انتظام، فرأينا أن يُلفى في مكانٍ واحد.
9645- ثم نعود إلى ترتيب السواد ومسائله.
فإذا قذف الرجل زوجته المجنونة، فإن كان ثَمّ ولد، فله نفيُه باللعان، وتقع الفرقة وتتأبد، ويندرىء التعزير.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، ففي جواز اللعان الوجهان المذكوران، فلا شك أنها ليست من أهل الطلب في الحال، ولا يقوم وليها مقامَها في الطلب؛ لأن هذا أُثبت ليشفيَ (2) الغيظَ ودَرْكِ الثأر كالقصاص، فلا سبيل إلى التفويت (3) .
فإن قلنا: لي له اللعان، [فلو لَمْ] (4) يتفق حتى أفاقت، فلها طلب التعزير، وللزوج الدرء باللعان الآن، على المذهب الذي يجب القطع به.
ولو قذفها وهي مُفيقة (5) ، فجُنَّت قبل اللعان، فإن كان ثَمّ ولد الْتعن الزوج، ولم يؤخّر، فإن لم يكن ولد وقد تعذر الطلب، ففي جواز اللعان الخلاف المقدم.
ولو قذفها في حالة الجنون بزناً في حالة الإفاقة، فهذا القذف موجِبٌ للحد، نظراً إلى وقت الإضافة، ولا اعتبار بصفة المقذوف في الحال (6) ، وهذا بمثابة قذف الميت مستنداً إلى حياته، فإنه موجبٌ للحدّ، حملاً على التأريخ بالحياة، وكذلك القول في الجنون والإفاقة، غيرَ أنها إذا كانت مجنونة، لم تطلب، ولم ينُب عنها في الطلب
__________
(1) (ت 2) : المترتبة.
(2) (ت 2) : لنفي التغيظ.
(3) (ت 2) : التقريب.
(4) في النسختين: لو لم.
(5) (ت2) : معتقة.
(6) (ت 2) : في كل حال.(15/33)
أحد، فلو ماتت المجنونة قبل الإفاقة، قام بطلب الحد من يرثها الحدَّ، وللزوج اللعان لدرء الحد بعد موت الزوجة.
ولو قذفها وهي مجنونة، فموجَب القذف التعزير إذا لم يؤرِّخ الزنا بالإفاقة، فلو ماتت ورث التعزيرَ (1 من يرث الحد، ثم أَمْر اللعان على ما ذكرناه.
9646- وإذا قذف امرأته الأمة، فطلبُ التعزير 1) إليها دون مولاها؛ لأن التعزير يجب [للاعتداء] (2) على العِرْض، ولا حق للمولى في عِرض المملوك، وإنما يملك منها ومن العبد ما يعود إلى المالية، والعِرْض والذمة خارجان عن ملك المولى، وعلى هذا قال فقهاؤنا: لو قذف السيد عبده، وجب للعبد على المولى التعزير، لأنه تصرّف فيما ليس له، وكان كما لو قذف مملوكَ الغير، وليس كالقصاص؛ فإن الجناية تَرِد (3) على الرقبة، وهي معدن المالية.
ويجوز أن يقال: لا يملك العبد طلبَ التعزير من مولاه، ولكن إذا شكاه، قيل له: لا تُؤذه، فإن أبى، كان كما لو زاد على الحدّ في الاستخدام.
والأوجه ما ذكره الأولون.
ولو قذف زوجته الأمةَ، فماتت قبل أن تطلب، فهل لمولاها طلب التعزير بعد موتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإنه لا يخلفها (4) ، وإنما الوارث يخلف موروثه الحرّ بسببٍ أو نسب.
والثاني - له حق الطلب؛ فإنه أخص الناس به، واختصاصُه قطَع سائرَ جهات الاختصاص عنه، حتى قطع اختصاصَه بنفسه، وما الوراثة إلا ضربٌ من الاختصاص.
9647- وكل ما ذكرناه ينبني على مذهبنا في أن حدّ القذف موروث، وهذا الأصل
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) في الأصل: للاعتراض. وفي (ت 2) : للإعراض. والمثبت اختيار من المحقق.
(3) (ت 2) : تردد على الذمة.
(4) ت 2: لا يلحقها.(15/34)
متفرّع على أن حد القذف حقٌّ للآدمي، وليس حقّاً لله تعالى، خلافاً لأبي حنيفة (1) وأقرب نتيجةٍ لهذا الأصل مسألتان: إحداهما - أن من قُذف فلم يطلب الحدّ حتى مات، ورثه ورثتُه على ما سنفصله، وعند أبي حنيفة لا يرثونه مع قوله: إن من قذف ميتاً، فلورثته طلب الحد.
والنتيجة الثانية - العفوُ والإسقاط، فعندنا يسقط حدُّ القذف بإسقاط المقذوف، إذا كان من أهل الإسقاط، خلافاً لأبي حنيفة.
ثم إذا قضينا بكَوْن الحد موروثاً، فقد اختلف أصحابنا فيمن يرثه: فمنهم من قال: يرثه جملةُ الورثة: من يتعلق منهم [بالنسب] (2) ومن يتعلق بالسبب.
ومنهم قال: يختص وراثته بمن يتعلق بالنسب؛ فإن الذب عن العِرضِ يتعلق بالذب عن النسب، فاتجه اختصاصه بأهل النسب.
ومن أصحابنا من قال: يختص بعصبات النسب، وهم الذين يثبث لهم حق التصرّف في ولاية التزويج.
فإذا فرعنا على هذا، فلا شك أن الأب يستحق، وفي الابن كلامٌ: من أئمتنا من ورّثه وجعله على ترتيبه في العصوبة، وقدّمه على من عداه.
ومنهم من لم يُثبت له هذا الحق، كما لا يثبت له حق ولاية التزويج.
ولو فرض القذف بعد الموت (3) ، فالمقذوف الميتُ، والطالب بالحد من يرثه لو وجب في حياة المقذوف.
ورتب الأئمة الزوجين والقذفُ مُنشَأٌ بعد الموت عليهما والقذفُ في حالة الحياة، والصورة الأخيرة أولى بقطع الاستحقاق، والفرق أن القذف جرى في الحياة والسبب قائم وهو الزوجية، وهاهنا أنشأ القذف بعد ارتفاع [السبب] (4) .
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 436 مسألة 307، طريقة الخلاف: 219 مسألة 88، إيثار الإنصاف: 218.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ت 2: ولو فرض القذف فالمقذوف الميت ويطالب بالحد ...
(4) في الأصل: النسب.(15/35)
9648- وإذا ثبت حد القذف بحق الورثة لجماعة، فعفا واحد منهم، ففي المسألة أوجه: أظهرها - أن للباقين استيفاء الحد بكماله، ولم يؤثّر عفوُ من عفا، لأنه ثبت للورثة، فلا سبيل إلى إسقاط حقوق الطالبين لا إلى عِوض، بخلاف القصاص.
والثاني - تسقط حقوق الباقين، كما تسقط حقوقهم عن القصاص إذا عفا بعض المستحقين.
والوجه الثالث - أنه يسقط بإسقاط من عفا مقدار حقه لو قُدّر التوزيع عليهم، حتى إذا كان الحد بين ابنين، فعفا أحدهما، سقط بعفوه أربعون جلدة، وبقي مثلها للابن (1) الذي لم يعف.
وهذا الذي ذكرناه الآن تنبيهٌ على التراجم، وسنعود إلى هذا الفصل قاصدين، إن شاء الله عز وجل، فإذ ذاك نوضح الأصول والتفريعات، إن شاء الله عز وجل.
ومن قذف [موروثَه] (2) فمات المقذوف، سقط الحد بوراثة القاذف، ولا يتصور فرضُ هذا في القصاص؛ فإن من جَرَح موروثَه، فمات، فالقصاص قائم عليه؛ فإنه قاتل والقاتل محروم عن الميراث.
9649- ثم قال الشافعي رحمه الله: " ولو التعن وأبَيْنَ اللعان ... إلى آخره " (3) .
فَرَضَ الشافعيُّ [اللعان] (4) في جمعٍ من النسوة، والحكم. لا يختلف، ومقصود الفصل الكلامُ في امتناع أحد الزوجين من اللعان، فإن امتنع الزوج (5) -والقذف موجِبٌ للحدّ- حُدّ حدَّ القذف.
وإن التعن الزوج وامتنعت، حُدّت حدَّ الزنا، ولا حاجة إلى تفصيل الحدود؛ فإنها ستأتي في كتابٍ، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ت 2: في الآخر.
(2) في الأصل: مفروضه.
(3) ر. المختصر: 4/145.
(4) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام.
(5) ت 2: فإن امتنع الزوج من القذف حدّ حَدّ القذف.(15/36)
فصل
قال: " ولا أَجبُر الذمّيةَ على اللعان إلا أن ترغب في حُكْمنا ... إلى آخره " (1) .
9650- إذا قذف الرجل امرأته الذمية ولاعَن، عُرض اللعان عليها، فإن أبت نصّ الشافعي على أنها لا تجبر على اللعان، ولا تُحد، فإن رضيت بحكمنا، حكمنا عليها حينئذ. هذا هو النص.
واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: هذا يخرّج على القولين المذكورين في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكامنا، وقد قدمنا هذا الأصلَ، وسيأتي استقصاؤه في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: إنهم مُجْبَرون، فالذمية مجبرة على اللعان، سخطت أم رضيت، حتى إذا امتنعت، قضينا عليها بما نقضي به على المسلمة الناكلة عن اللعان.
والثاني - أنها لا تجبر.
ومن أصحابنا من قطع (2) القول بأنها لا تجبر على اللعان إلا أن ترضى بحكمنا، وهذا هو الذي صححه المحققون؛ لأنه لا يبقى بعد لعان الزوج إلا ما يتعلق بمحض حق الله تعالى، وحقوقُ الله تعالى مبناها على المسامحة، فلو حملناها على اللعان، لكان ذلك حملاً على أمرٍ مالُه -لو فرض النكولُ- إقامةُ حد الله تعالى، وكان هذا الطرف ليس متعلقاً بحق الزوج، وليس معدوداً من خصومة الزوج.
وألحق الأئمةُ بهذا أمراً بدعاً به تَبين القاعدةُ، فقالوا: إذا كان التلاعن بين مسلمين، فالتعن الزوج، لم يتوقف عرض اللعان عليها على طلبه، حتى لو رضي بأن لا يعرض اللعان عليها، لم نبال به، وقيل لها: قام عليك حجةٌ، فادرئيها، تسْلمي، وإن أبيتِ، أقمنا عليك حدَّ الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 4/145.
(2) هذا هو الطريقة الثانية.(15/37)
ومن لطيف المذهب في هذا أن الخصومة إذا دارت بين المسلم والذمّي، فقد اتفق الأصحاب على أن الذمِّي محمولٌ على حكم الإسلام.
وهاهنا تردُّد، والتردد الذي ذكرناه سببه انقطاع جانبها عن جانبه، فليلتعن الزوج، وليتركها.
نعم، إن قذف الذمّي زوجتَه الذمية، ففي إجبار الزوج على اللعان إذا طلبت من غير أن ترضى بحكمنا القولان المشهوران في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكام الإسلام؛ فإن اللعان في جانبه ومطالبته بالتعزير يتعلق بحقوق الآدميين.
9651- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كانت امرأة محدودة في زنا، فقذفها بذلك الزنا ... إلى آخره " (1) .
وهذا هو الفصل الذي أدرجناه في أثناء الأصل الذي ذكرناه، وأتينا به مقرَّراً، فلا حاجة إلى إعادته.
9652- ثم قال الشافعي رحمه الله: " وإن أنكر أن يكون قذفها ... إلى آخره " (2) . إذا ادّعت المرأة على زوجها أنه قذفها، نُظر: فإن سكت الزوج، ولم يُحِرْ جواباً، قام سكوته مقامَ الإنكار (3) في سماع البينة عليه، فإذا أقامت شاهدين على أنه قذفها، فله أن يلتعن، فإنه لم يصرح بإنكار القذف، وإنما أقمنا سكوته مقام الإنكار في قبول البيّنة، وهو ليس بإنكارٍ على الحقيقة، والبينة تسمع لعدم الإقرار، لا لحقيقة الإنكار.
ولو قال الزوج لما ادّعت القذفَ: ما قذفتُك وما زنيتِ، فأقامت شاهدين على أنه قذفها ونسبها إلى الزنا، فليس للزوج أن يلتعن، فإنه قد أنكر القذف وبرّأها؛ إذ قال: ما زنيتِ، واللعان يستدعي قذفاً.
فإن أنشأ قذفاً، التعن، ثم لا يتوجه عليه الحد بالقذف الذي ثبت وأنكره؛ فإن
__________
(1) ر. المختصر: 4/146.
(2) ر. السابق نفسه.
(3) ت 2: الإمكان.(15/38)
اللعان يُثبت الزنا [عليها] (1) ولا يتصور مع ذلك أن نطالبه بالحد.
ولو قال الزوج لما ادعت القذفَ: ما قذفتُك، فأقامت شاهدين أنه قذفها، فللزوج أن يلتعن، فإن قوله ما قذفتك يمكن حمله على أن الذي تقدم مني لم يكن قذفاً، وإنما كان قولاً حقّاً، فإذا ذكر الزوجُ هذا التأويلَ الذي ذكرناه، وأراد الالتعان من غير قذفٍ جديد، فله ذلك.
ولو قال: ما قذفتك، فلما قامت عليه البينة، لم يذكر التأويل الذي ذكرناه، ولم يجدد قذفاًً، فهل له أن يلاعن؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له اللعان؛ لأنه يصير [بهذا] (2) مكذباً نفسه، وقد أنكر أصل الرّمي، وعلى إنكاره قامت البينة، فكيف يقول: " إني لمن الصادقين فيما رميتها به "- وما كان رماها (3 بزعمه.
والوجه الثاني - له أن يلاعن؛ لأنه وإن أنكر القذف 3) ، فقوله مردودٌ عليه بالبينة، فصار كأنه لم يكن.
وشبه هؤلاء هذه المسألة بما لو اشترى شيئاً، فظهر [أنه] (4) مستحَق، وقامت الخصومة، فقال: المشتري للمستحِق في أثناء الخصومة: هذا الشيء كان ملك فلان، فاشتريته منه، فإذا قامت البينة على الاستحقاق، وانتُزِع الشيء من يده، فله أن يرجع بالثمن على البائع، وإن كان أقر له بالملك في أثناء الخصومة؛ لأن إقراره رُدّ عليه بالبينة، وأيضاًً، فإن قوله: " أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتُها " يتضمّن قذفاًً، وكأنه ابتداء قذفٍ ولعانٍ.
وهذا ضعيف؛ إذ لو جاز اعتماده، لجاز ابتداء كل زوج باللعان من غير تقديم قذف.
فهذا بيان الفصل.
__________
(1) في الأصل: عليه.
(2) في النسختين: بها. والمثبت من المحقق.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(4) زيادة اقتضاها السياق.(15/39)
9653- وفيما قدمنا مباحثة في شيء واحد، وهو أنا ذكرنا في أقسام المسألة أن الزوج لو قال: ما قذفتُها، وما زَنَتْ، فنفى القذفَ وبرّأها، فليس له أن يلتعن. هذا سديد لا نزاع فيه.
قال القاضي: إن أراد اللعان ابتدأ قذفاً جديداً، وهذا فيه نظر؛ من جهة أن قوله: ما زنت يتضمّن الإقرار ببراءتها من الزنا، فإذا قذفها إنشاءً، فَقَذْفُه المنشأ يناقض إقراره ببراءتها من الزنا، فكيف يثبت قذفُه، وهو مناقض لقوله الأول؟
والممكن في الانفصال عن ذلك أن يقال: " ما زنت فيما سبق، وقد زنت على قرب العهد ".
والذي يحقق هذا أن الرجل لو برّأ إنساناً عن الزنا، ثم قذفه، فهذا قذفٌ موجبٌ للحد.
فلو قال: هذا القذفُ غير منتظم منّي، فإني قدمت الإقرار بالبراءة، قيل له: قد آذيتَ بقذفك، وتعرّضتَ للعِرْض المصون عن القذف بالحدّ، فلا يراعى في القذف، والمقذوفُ يزعم أنه كذَبَ -على كل حال- إمكانُ الصّدق.
هذا هو الممكن في ذلك.
والإشكال بعدُ قائم؛ فإن التبرئة مطلقةٌ مسترسلةٌ على جميع الأزمان، والقذف بعدها مناقض لها، وقوله وإن كان قذفاً في حق المقذوف، فهو مؤاخذ في حق نفسه [بسابق] (1) قوله.
والذي استقر الكلام عليه أنه إذا برّأ من الزنا، لم يصح القذف منه إلا أن يتخلل زمانٌ يمكن وقوع الزنا فيه، فينشىء قذفاً ويلاعن، ولكن لا يَسقُط الحدّ الأول، إلا على مذهب سقوط حصانتها بلعانه، كما سيأتي تفصيل ذلك.
وبالجملة ما ثبت من القذف بالبيّنة مع ما أنشأه بمثابة ما لو قذف أجنبيةً ثم نكحها وقذفها في النكاح، وسيأتي شرح هذه المسائل، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: يسابق.(15/40)
9654- ثم قال: " ولو قذفها، ثم بلغ ... إلى آخره " (ا) .
قذْفُ الصبي لا يوجب حداً ولا تعزيراً للمقذوف (2) يتعلّق بطلبه، ولكن يعزره القائم عليه لإساءة أدبه، كما يفعل ذلك به في سائر جهات التأديب والتثقيف.
قال القفال: إذا همّ بتأديب المراهق، فبلغ، انكف عنه وإن كان والياً؛ فإن البلوغ أكمل الروادع، والعقل الذي قضى الشرع بكماله أَبْينُ وازع، فلا يؤدَّبُ مكلَّف على الوجه الذي يُؤدَّبُ عليه الصبي؛ فإن المكلفَ معاقَبٌ، وكل ما يقع به من إيلام، فهو عقابٌ، وما يقع بالصبيّ تأديبٌ بمثابة رياضة الدّوابِّ (3) ، ولهذا نأمر الطفل بقضاء ما فات من الصلوات ما دام طفلاً، فإذا بلغ، كففنا الطلبَ عنه.
9655- ثم قال: " ولو قذفها في عدة يملك فيها رجعتها ... إلى آخره " (4) .
إذا قذف الزوج الرجعيةَ، لاعن عنها، فإنها ملحقة بالزوجات، ولا يتوقف جريان اللعان على أن يرتجعها، وليس كما لو ظاهر عنها، أو آلى، فإنه إن ظاهر، لم يصر عائداً ما لم يرتجعْها، ولو آلى، لم تحتسب المدة، ما لم تراجَع، وينتجز اللعان في الرجعية انتجازه في الزوجة، وكل أصل مُقَرٌّ على خاصيته وحقيقتِه.
أما العوْدُ، فمناقِضُه ترك الرجعة وهي محرّمة لا مناقضة فيه، ومدّة الإيلاء لا تحتسب، فإنها معتزلة عن زوجها، والمدة مَهَلٌ يتخير الزوج بين الوطء والترك، وهذا لا يليق إلا بحال الحِلّ.
9656- ثم قال: " ولو بانت فقذفها بزنا ... إلى آخره " (5) .
ذَكَر القذفَ بعد البينونة، وهذا مما قدمنا ذكرَه في أثناء القواعدِ التي مهدناها والأصولِ التي جمعناها، ووصلنا بذلك القذفَ المؤرّخَ في النكاح بغيره، وفي غير
__________
(1) ر. المختصر: 4/146.
(2) أي من أجل المقذوف، فليس للمقذوف حقٌّ في طلب الحد أو التعزير إذا قذف الصبي، وإنما هو التأديب من وليه.
(3) ت 2: بمثابة رياضةٍ للصبي.
(4) السابق نفسه.
(5) ر. المختصر: 4/147.(15/41)
النكاح بالنكاح، فلا حاجة إلى إعادة ما مضى، وَوَصَلَ بما ذكره (1) من القذف بعد البينونة القذفَ في النكاح الفاسد، وهو مما تقدم أيضاًً، وفيه مَقْنع تام، وقد قدمنا قذفَ الرّجعية واللعانَ عنها.
9657- ولو ارتد الزوج والزوجةُ مدخولٌ بها، فقذفها في الردّة، فإن لم يلاعن، وعاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، أمكنه أن يلاعن؛ فإن النكاح قائم.
وإن لاعن في الردة، نُظر: فإن أصرّ (2) حتى انقضت العدّة، فقد بيّنا أن اللعان وقع في حالة البينونة، فإن كان ثَمّ ولدٌ نفاه، فاللعان ثابت، والحد يندفع بجريان اللعان، كما قدمنا ذكره.
وإن لم يكن ولدٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الحدّ هل يندفع بذلك اللعان، وقد بيّنا أنه وقع بعد ارتفاع النكاح؟ وكان شيخي يبني هذا على تردد الأصحاب في أن الجاريةَ في العدة بسبب اختلاف الدين سبيلُها إذا بان ارتفاع النكاح سبيلُ الرجعيات أم سبيل البائنات؟ وقد ذكرنا تقديرَ ذلك في كتاب النكاح.
والوجه عندنا تقريبُ هذا من الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا قذف زوجته في نكاحٍ ظنه صحيحاً، ثم بان فسادُه، وقد لاعن على ظن الصحة، ووجه التقريب بيّن.
ثم الأصحاب أطلقوا القول بأن المرتد يلاعِنُ، وإن كنا نجوّز أن يصرّ على الردة.
ويمكن فرض هذه المسألة فيه إذا التعن ولم نشعر بردّته، حتى يقالَ: إن علمنا كونه مرتداً، نأمرها (3) بالتوقف، ولم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، مع إمكان الاحتمال فيه.
9658- ثم ذكر الشافعي رحمه الله: أن الرجل إذا قذف امرأته بالإتيان في الدبر، وأثبتَ اللعانَ (4) ، وأخذ المزني يتعجب، وليس هذا موضع التعجب؛ فإن الشافعي
__________
(1) ت 2: وَوَصَل ما ذكرناه من القذف.
(2) ت 2: أخر. والمعنى أصرّ على الردة (أو أخر العودة إلى الإسلام) حتى انقضت العدة.
(3) ت 2: حتى يقال: إن علمنا كونه مرتداً ولم نأمرها بالتوقف.
(4) ر. المختصر: 4/147.(15/42)
بنى هذا على الأصح في أن هذه الفَعْلةَ لو تحققت، وجب بها حدُّ الزنا، وكل ما يتعلق به حد الزنا إذا وقع يتعلق بالنسبة إليه حدّ القذف. ثم إذا كان قذفُ الزوج موجباً حدَّ القذف، [فلا استبعاد في جريان اللعان، وسيأتي الكلام في ألفاظ القذف] (1) في باب منفرد بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو قال لها: يا زانية بنت الزانية ... إلى آخره " (2)
9659- إذا قال لامرأته، وأمُّها حرة مسلمة، على ظاهر صفات المحصنات: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فعليه حدان؛ لأنه أتى بكلمتين مختلفتين، كلُّ واحدةٍ منهما قذفٌ صريح في حق محصَنةٍ، فكان كما لو قال لزوجته: أنت زانية، وأمك زانية.
ْولو قال لمنكوحتين أو أجنبيّتين: أنتما زانيتان، ففي تعدد الحدّ قولان سيأتي ذكرهما: أحدهما - أنه لا يجب إلا حدٌّ واحد، والفرقُ أن الكلمةَ متحدةٌ في المسألة (3) الأخيرة، وعلى اتحادها التعويلُ على هذا القول، ولا نظر إلى تعدد المعنى.
ولو قال في مسألتنا: أنتِ وأمك زانيتان، فقد رتب أصحابنا هذا على ما لو قال لأجنبيّتين (4) ، أو منكوحتين: " أنتما زانيتان ". إن قلنا: يلزمه هناك حدان، فهاهنا أولى؛ لأن موجَب القذف يختلف في الأجنبية والمنكوحة، ولا يختلف في المنكوحتين والأجنبيتين.
وإن قلنا في الزوجة والأجنبية يلزمه حد واحد، فإن لم يلاعن حُدّ لهما حداً واحداً إذا اتحدت الكلمة، وإن لاعن بقذفها، سقطت طَلِبتُها، والحدُّ باقٍ للأم؛ لأن اللعان حجةٌ خاصة أثرها في قذف النكاح، فإن قيل: هلا كان لعانه شبهةً؛ فإن الحد واحد
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 4/147.
(3) في الأصل: أن الكلمة متحدة في " مسألة " الأخيرة، هكذا بدون [أل] وهذا أحد المظاهر الدالة على آثار عجمة قديمة في لسان الناسخ.
(4) ت 2: لأختين.(15/43)
لا ينقسم؟ قلنا: لم يتعرض الزوج في لعانه لزنا الأم، ولو تعرض له، لكان باطلاً، وليس اتحاد الحد على حقيقته، إنما هو على مذهب التداخل، وهذا ينافي حقيقةَ الاتحاد، وما ذكرناه فيه إذا قال لزوجته وأمها أنتما زانيتان.
فأما إذا قال: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فقد ذكرنا أن الحد يتعدد قولاً واحداً، ثم طلبُ حد الأم إليها، أو إلى من تستنيبه، وحق البنت مفوض إليها.
9660- واختلف أصحابنا في تقديم إحداهما على الأخرى: فمنهم من قال: لا يثبت لواحدة منهما حقُّ التقديم بعد ما قذفهما.
وكذلك لو قذف شخصين، فرتب أحدهما على الثاني، فإنه صار بكل قذف مستوجباً للحد، فلا أثر للتقدّم والتأخر، وهو كما لو أتلف مالَيْن على شخصين في زمانين، فلا يتقدم أحدهما، ثم هذا القائل يقول: إذا جاءتا تطلبان، فلا وجه إلا الإقراع بينهما.
ومن أصحابنا من قال: الأم هي المقدمة؛ لأن حدها بعيد عن السقوط، وحدّ البنت يسقط باللعان، فكان الحد المتأكد أولى بالتقديم، واعتل بعض الأصحاب بحرمة الأم، وهذا لا حاصل له.
ومن أصحابنا من قال: البنت مقدّمة، لأن الزوج بدأ بذكرها؛ إذا (1) قال: يا زانيةُ، فثبت الحد لها أولاً، ولا بُعْد في التقديم، بهذا السبب في العقوبات، ولذلك نقول: من قتل رجلين على الترتيب، فهو -[على الترتيب] (2) - مسلّم إلى أولياء القتيل الأول، وهذا [أبعدُ ترجيح] (3) ؛ فإن المحل يفوت بالتسليم إلى أولياء الأول، فإذا كانت البداية تؤثر والحالة هذه، فلا بُعد في تأثيرها في حد القذف.
والذي يوضح ذلك أنا إذا حَدَدْناه لا نوالي عليه، بل نمهل رَيْثما يبرَأُ جلدُه، وفيه تأخير الحد الثاني.
__________
(1) إذا: بمعنى (إذْ) .
(2) زيادة من (ت 2) .
(3) في النسختين: وهذا إلى ترجيح. والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق.(15/44)
ثم بنى الأصحاب على ما ذكروه أنه لو قذف أجنبيتين بكلمتين، فهل تُقدّم المذكورة أولاً بحق الحد؟ فعلى ما ذكرناه.
ولو قدم ذكرَ أم زوجته، ونسبها إلى الزنا، ثم ذكر زوجته، انقدح وجهان: أحدهما - القرعة، وهو حكمٌ بالاستواء.
والثاني - أن الأم مقدمة لتقدم ذكرها في القذف، ولحرمتها.
ولا يكاد يخفى التفريع، وترديد الصور على من أحاط بالمعاني المعتبرة.
9661- ثم قال: " ومتى أبى اللعان ... إلى آخره " (1) .
قد ذكرنا أن الشبه الظاهر في اللعان من الشهادة أن النكول عنه لا يمنع العودَ إليه، فلو امتنع الزوج عن اللعان، ثم رغب فيه لمّا همَمْنا بإقامة حد القذف عليه فليلتعن، والمرأة لو امتنعت عن اللعان، ثم رغبت فيه لما هممنا بإقامة حد الزنا عليها، فلها أن تلتعن.
قال الشافعي رحمه الله: لو امتنع الزوج وأقمنا عليه معظمَ حد القذف، [ولو لم] (2) يبق إلا سوطٌ، فإذا قال: دعوني ألاعن، تركناه حتى يلاعن، وكذلك لو أقمنا على المرأة معظمَ حد الزنا، وكانت بكراً، فرغبت في اللعان تركناها.
ولعلّ السببَ في ذلك -بعدَ الإجماع- أن الزوج يأتي باللعان إتيانَ المدّعي بالبينة، وإن كان لا تطلب منه، ويؤثِّر لعانُه في إثبات الحد عليها، فلما لم يقف اللعان على العرض والطلب، لم يسقط بالنكول، وشابَه البينةَ من هذا الوجه.
وحق الناظر في الأشباه أن ينظُر إلى أخصها، والنكول عن اليمين امتناعٌ عن المطالبة بها، [فقرب] (3) أخذ حكم النكول من الطلب من طريق الشبه.
وهذا تَرِدُ عليه أيمانُ القسامة، واليمينُ مع الشاهد، ويمينُ الرد، وللأصحاب
__________
(1) ر. المختصر: 4/148.
(2) في الأصل: " أو لم يبقَ ".
(3) في الأصل: فضرب.(15/45)
كلامٌ في [النكول] (1) عن هذه الأيمان؛ من حيث إنها تجري من غير طلب من الخصم [فيها] (2) ، وستأتي أحكامها مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
9662- وإذا أقمنا حدَّ القذفِ على الزوج، فقال: أنا ألْتعن، لم يُمَكّن. قال الشيخ القفال: لم يَفْصِل الأحاب في هذا بين أن يكون ثَمّ ولد وبين ألا يكون.
والصواب عندي (3) أن نقول: إن لم يكن ولد، فالجواب كذلك؛ فإنه لا فائدةَ في اللعان بعد إظهار تكذيبه بإقامة الحد عليه، فأما إذا كان ثَمّ ولد، فالوجه أن يلاعن وإن أقيم الحد عليه.
فحصل إذاً في هذا [الطريق] (4) نقلُ القفال عن الأصحاب أنه لا يلاعن، ووجهُه أن القذف سقط أثره بإقامة الحد، فكأن الزوج بعد (5) الحد ليس قاذفاً، والقذف لا بد منه في نفي الولد، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وأختارُ (6) أن يلاعن؛ لظهور الغرض في نفي النسب، والقذفُ وإن أقيمت عقوبتُه كائنٌ، ولو قيل: تأكد القذف بالحد لم يكن بعيداً، فإن الذي يلاعن يُخرج نفسه عن كونه قاذفاً.
ثم ذكر الشافعي رحمه الله بعد هذا القذفَ في النكاح الفاسد، والتفصيلَ فيه إذا كان ولد أو لم يكن، وتعرض لمحاجّة أبي حنيفة، وذكر بعده الردَّ عليه في لعان الذمي والعبد، وقد تقدم جميع هذا.
__________
(1) في الأصل: النزول.
(2) في الأصل: منها.
(3) عندي: القائل هو القفال، وهذا حكاه عنه الرافعي متابعاً للإمام.
(4) في الأصل: الطرف.
(5) ت 2: بُعَيْد.
(6) وأختار: يمكن أن تقرأ بهمزة الوصل، فيكون الذي اختار هو القفال الذي فصل الكلام في المسألة، ويمكن أن تقرأ بهمزة القطع، فيكون الذي اختار هو إمام الحرمين. وهذا ما رجحته، لأنه الأقرب لأسلوب الإمام عندما ينقل أو يتحدث عن شيوخ المذهب، فإنه لا يتحدث بضمير الغائب، وإنما يذكرهم بألقابهم وكناهم وأسمائهم. ثم ساعدني على ذلك ما وجدته عند الرافعي، إذ قال: إن هذا اختيار الإمام. (ر. الشرح الكبير: 9/392) .(15/46)
فصل (1)
9663- قد ذكرنا أن النسب الذي يتعرّض للثبوت في النكاح الصحيح أو الفاسد يُنفى باللعان، فكذلك لو فرض تعرُّض نسب للثبوت بسبب وطء شبهة، فاللعان ينفيه.
فأما النسب الذي يلحق بسبب ملك اليمين، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا سبيل إلى نفيه باللعان.
وقال أحمد بن حنبل ألا تعجبون من أبي عبد الله، يقول: [يلاعن] (2) الرجلُ عن أم ولده، فمنهم من قال: أراد مالكاً (3) ، فإنه يُكنَّى بعبد الله، ومنهم من قال: أراد الشافعيَّ (4) ، وأثبت هذا قولاً عنه، وقال: للمَوْلى أن يلاعن عن الأمةِ وأمِّ الولد، فحصل إذاً قولان على رواية أحمد بن حنبل: أحدهما - لا يلاعن [عن الأمة،] وهو المذهب (5) ؛ لأن نص القرآن في الزوجات والأزواج، ولا مجال للقياس.
والذي يجب التنبيه له أن الشافعي في إثبات اللعان بِنَفْي النسب في النكاح الفاسد حاد عن النص (6) بعض الحَيْد، ولكنه وجَدَ مستمسَكاً قويّاً (7) في الشبه، مأخوذاً من مثل مسلكه (8) في إلحاق الشيء بالشيء لكونه في معناه، وأما ملك
__________
(1) في نسخة (ت 2) : (فرع) مكان فصل.
(2) في الأصل: يقول: عن الرجل أم ولده. (سقط نصف كلمة يلاعن) .
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/790 مسألة 1480، عيون المجالس: 3/1334 مسألة 931. وحاشية العدوى: 2/99.
(4) ومنهم من قال: أراد سفيان (الثوري) وضعَّف الروياني هذا قائلاً: روي عن أحمد: " ألا تعجبون من الشافعي " فهذا قطع للتردّد. (ر. الشرح الكبير: 9/379) .
(5) عبارة (ت 2) : قولان على رواية أحمد بن حنبل أنه يلاعن عن الأمة وهو المذهب، والمثبت عبارة الأصل بزيادة (عن الأمة) من (ت 2) .
(6) يقصد بالنص الذي حاد عنه الشافعي نصَّ القرآن، لأن النكاح الفاسد لي بنكاح، ونص القرآن وارد في الأزواج والزوجات.
(7) ت 2: قريباً.
(8) ت 2: مذهبه.(15/47)
اليمين، فإنه نأْيٌ عن النكاح بعيدٌ، فضَعُفَ تقدير اللعان.
ثم إن لم نثبت اللعان -وهو الرأي- فإذا أقر السيد بوطء أمته، فأتت بولد لزمان يحتمل أن يكون من الوطء المقَرّ به، فالنسب يلحق، ولا دفع باللعان، وتفصيل القول في هذا سيأتي في كتاب الاستبراء، إن شاء الله عز وجل.
ولو ادعى السيد أنه استبرأها بعد أن وطئها، ثم أتت بالولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فتفصيل المذهب في هذا مما لا نرى الخوض فيه إذا لم يكن ملك اليمين مترتِّباً على نكاح؛ فإن ذلك يتعلق بأصول الاستبراء، والذي نذكره هاهنا يترتّب ملك اليمين على النكاح فيه إذا اشترى الرجل زوجته.
9664- فنقول: إذا اشترى زوجتَه الأمةَ، وأتت بولد لأقلَّ من أربع سنين، ولم يُقرّ بوطئها في ملك اليمين، فله النفيُ باللعان -وإن كنا لا نرى إجراء اللعان فيما يتعلق بملك اليمين على الخصوص- والسببُ فيه أنه لو أبانها، فأتت بولدٍ، فأراد نفيه باللعان (1) ، مُكِّن منه؛ فمِلْكُ اليمين لا ينقص عن زمان البينونة، وتحقيقه أن اللحوقَ [بسبب] (2) النكاح وتوقُّعِ العلوق فيه، فإذا كان اللحوق بسبب النكاح، فاللعان يترتب على النكاح.
وإن هو أقرّ بوطئها في ملك اليمين، وأتت بولدٍ لأقل من ستة أشهر من يوم الوطء المقرّ به، فلا حكم للإقرار بالوطء (3) ، والمسألة كما قدمناها.
وإن كان لأقلَّ من أربع سنين (4) ، فهو منفي عنه باللعان. فإن كان لأكثر من أربع سنين من يوم الشراء، ولأقل من ستة أشهر من وقت الوطء المقرّ به، فالولد منفي من غير لعان (5) .
__________
(1) ت 2: فأراد نفيه باللعان لم يكن منه.
(2) في الأصل: بنسب.
(3) واضح أن الكلام مبني على ما هو مقرر عند الفقهاء من أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد الوطء في ملك اليمين، فمعنى ذلك القطعُ بأنها حملت به قبل هذا الوطء، فيكون إلحاق الولدِ مستنداً إلى النكاح لا إلى ملك اليمين. فجاز نفيه باللعان.
(4) جرياً على أن أكثر مدة الحمل عندنا أربع سنين ثم هي في ت2 (لأقل من سبعة أشهر) .
(5) لأنه لا احتمال لتعرضه للثبوت بالنكاح، نظراً لما هو مقرر من المدة المحدّدة لأقل الحمل وأكثره.(15/48)
وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين من يوم الإقرار بالوطء، فهو منفي عنه بلا لعان (1) .
وإن أتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملتحق به، إلا أن يدَّعي استبراءً وتأتي به لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الاستبراء (2) ولستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملحق، فلا حكم للاستبراء؛ لأنا علمنا أن ما رأته من الدم، كان على الحمل.
9665- فإن قيل: إذا أقر بوطئها، فأتت بولدٍ لستة أشهر من يوم الوطء، ولأقلَّ من أربع سنين من يوم الشراء، قُلتم: يَلْحقهُ بحكم اليمين ولا يملك النفيَ باللعان، ومن الجائز أنها علقت به في النكاح قبل الشراء، فهلا (3) أثبتم النفي [باللعان] (4) لهذه الجهة من الاحتمال؟
قلنا: وإن احتمل العلوقَ في النكاح، فالوطء بعده قَطَعَ حكمَ النكاح، وصيّر المملوكةَ مفترشَة بملك اليمين، فلئن جُوّز نفيُ ولد النكاح، فالتفريع على أن ولد ملك اليمين لا ينفى، وقد ثبت فراش ملك اليمين، فَنَسَخَ هذا الفراشُ ذلك الفراشَ في المعنى الذي نحن فيه.
وإذا اعتدت المرأة عن طلاقٍ، وَنَكحت زوجاً، وأتت بولد بعد النكاح الثاني لستة أشهر من النكاح الثاني، وأقلّ من أربع سنين من انقطاع النكاح الأول، فالولد ملحق بالزوج الثاني، وإن احتمل أن يكون العلوق به من الأول (5) .
__________
(1) للقطع عقلاً بأنها حملت به بعد الوطء الذي مضى عليه أربع سنين، فهو غير متعرّض للثبوت أصلاً.
(2) فهذا يقين أنه كان حملاً مستكنّاً قبل الاستبراء، لاستحالة العلوق والولادة في أقل من ستة أشهر.
(3) ت 2: فهذا أثبتم بالنفي منه الجهة من الاحتمال.
(4) زيادة من المحقق. والمعنى: لمَ لا يثبت النفي باللعان في هذه الصورة ما دام احتمال كونه العلوق في زمن النكاح.
(5) أتى بهذه الصورة تأكيداً وتدليلاً على صحة قوله في الصورة السابقة.(15/49)
ولو أقر بوطئها في ملك اليمين، وادعى استبراءً بعد الإقرار بالوطء، فأتت بالولد لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، ولأقلَّ من أربع سنين من وقت الشراء قال ابن الحداد: ينتفي النسب بلا لعان؛ وذلك أن فراش ملك اليمين ثبت بالإقرار بالوطء، وانقطَعَ أثرُ النكاح، ثم انقطع النسب في ملك اليمين بدعوى الاستبراء وإتيان الولد بعد الاستبراء (1) لستة أشهر فصاعداً، وتابع معظمُ الأصحاب ابنَ الحداد.
قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قال: إذا انتفى النسب لأجل دعوى الاستبراء في ملك اليمين، فيلحَقُ بحكم النكاح إذا أتت به لزمانٍ يُحتَمل أن يكون العُلوق به من النكاح؛ فإن الأمة وإن صارت فراشاً بالوطء، فلا يقوى فراش ملك اليمين على نسخ حكم النكاح السابق بالكلية، والدليل عليه أن من وطىء معتدة بشبهة، فلا نقول: إذا (2) أمكن إلحاق الولد بالثاني لا نلحقه بالأول، بل يتعرض [ثبوت] (3) الولد لهما، وهو في مجال القيافة.
وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ غريب، والمذهب ما اختاره ابن الحداد.
***
__________
(1) ت 2: بعد الأربع سنين لستة أشهر.
(2) ت 2: فلا نقول: إذا أمكن إلحاق الولد الثاني يلحقه الأول، بل سيتعرض الولد لهما ... إلخ.
(3) زيادة لإيضاح الكلام.(15/50)
باب أين يكون اللعان
9666- مقصود الباب ذكر ما يُؤَكَّدُ اللعان به، وهو أربعة أشياء: الألفاظ، والمكان، والزمان، وعددٌ من الناس.
فأما الألفاظ، فهي خمسة في الجانبين، وسيأتي شرحها في بابٍ.
فأما الزمان، فليقع اللعان بعد العصر فال الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106] ، قيل في التفسير: أراد صلاةَ العصر، وإن لم يظهر ضررٌ في التأخير، ولم يثبت طلبٌ حثيثٌ يمنع منه، أخرناه إلى يوم الجمعة، فإنه معظَّم في النفوس، وروى أبو هريرة في حديثٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئاًً إلا أعطاه إياه " (1) ، قال كعب الأحبار: هي بعد العصر، فقال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة بعد العصر " فقال كعب: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة "، أشار إلى أنه بعد العصر في انتظار المغرب، فهو في حكم المصلي.
" وكُتب إلى عمر رضي الله عنه في جارية ادُّعي عليها القذف، فأنكرت، فكتب في الجواب: احبسوها إلى ما بعد العصر، ثم حلّفوها، ففعل فاعترفت " (2) .
فهذا بيانُ الزمان.
وأما المكان، فليقع اللعان في أشرف المساجد وأحراها بالتعظيم، فإن كانت الواقعة في الحرم، فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة، فبين المنبر ومدفن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الروضة، وإن كان في القدس، فعند الصخرة، وفي سائر البلاد في المسجد الجامع في المقصورة.
__________
(1) حديث أبي هريرة متفق عليه (البخاري، الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، ح 935، مسلم: الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، ح 852) .
(2) أثر عمر رضي الله عنه لم نقف عليه.(15/51)
وأما العدد فإنا نأمر بإجراء اللعان على رؤوس الأشهاد، فينبغي أن يكود الذين شهدوا غير ناقصين عن عدد بينة الزنا، وهم الذين نُؤثر أن يشهدوا حدّ الزنا، تأسياً بقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] .
9667- فأما التغليظ بالزمان والمكان، فمستحق أو مستحب؟ فعلى قولين، ولا اختصاص للقولين في المكان والزمان باللعان؛ فإن كلَّ أمرٍ له خطرٌ كالدماء، والفروجِ، والمالِ إذا بلغ نصاب الزكاة، فتغليظُ الأَيْمان في جميع ذلك في المكان والزمان يخرّج على القولين.
وأما التغليظ بحضور جمعٍ من الناس، ففيه طريقان: من أصحابنا من يراه كالتغليظ بالمكان والزمان، ومنهم من قطع بأنه مستحَبٌّ غيرُ مستحَق.
وقد ذكر بعض الأصحاب في التغليظ بالزمان طريقين أيضاً: أحدهما - القطع بأن التغليظ به مستحَب، فعلى هذا يجري القولان في المكان.
فأما تغليظ الأيمان بالأمور الخطيرة بألفاظ اليمين، فسيأتي مشروحاً في أدب القضاء.
ولا خلاف بين الأصحاب أن كَلِمَ اللعان لا بدّ منها، كما سنصفها على الاتصال بهذا.
وإن كنا نحلّف كافراً، فقد قال الأصحاب: نحلفهم في البقاع التي يعظمونها، كالكنائس والبيع، فنأتيها، ونحلّفهم فيها.
واختلف أصحابنا في أن المجوس هل يحقفون في بيوت النيران: فمنهم من قال: لا نحلفهم فيها، فإنه لا أصل (1) لتعظيم النيران، وبيوتها كمقارّ الأصنام.
ولم يختلف الأصحاب أنا لا نأتي بيوتَ الأصنام إن أمكن تصوُّرُها في طرف بلاد الإسلام، فأما الكنائس والبيع والصوامع؛ فإنها محال العبادات على الجملة.
واختلف الأصحاب في التغليظ بهذه الأسباب على الزنديق فمنهم من قال: لا معنى للتغليظ عليه، وهو لا يعبأ به شيئاً.
__________
(1) ت 2: لا وقع لتعظيم النيران وبيوتها لزمان الأصنام.(15/52)
9668- ولكن لا بد من أصل كلمات اللعان لإقامة الخصومة على قاعدة الشرع، ولئن أُكِّدت (1) الألفاظ باللعن في حق المسلمين، فالزنديق به أولى.
ثم إن الشافعي لما ذكر التغليظ بالمكان قال في الحائض المسلمة: تلاعن على باب المسجد، وذكر أن المشركة تلاعن في المسجد، فاعترض المزني (2) وقال: المشركة قد تكون حائضاً، وهي شرّ حالاً من المسلمة الحائض وهذا مما قدمنا الاختلافَ في أصله في كتاب الصلاة، فإن أصحابنا اختلفوا في أنا هل نمكِّن المشركَ الجنبَ من دخول مساجدنا: فمنهم من قال: لا نمكنه، ومنهم من قال: نمكنه، لأنه لا يؤاخذ بتفصيل عقد الإسلام في تعظيم الشعائر، وهذا نُجريه في المشركة، فإن علمنا كونها حائضاً، وخفنا تلويث المسجد، منعناها، وإن لم نخف التلويث، خرج على الخلاف الذي قدمناه.
***
__________
(1) ت 2: ولئن اتحدت الألفاظ.
(2) ر. المختصر: 4/151.(15/53)
باب سُنّة اللعان ونفيِ الولد وإلحاقِه بالأم وغيرِ ذلك
9669- غرض الباب أن قضايا اللعان: درءُ الحد عن الزوج، ونفيُ الولد، ووقوعُ الفُرقة، وتأبُّدُ التحريم، وكل ذلك يتعلق بلعان الزوج وحده، لا حاجة في شيء منها إلى لعانها، ولا إلى قضاء القاضي، فإنا نحتاج إلى لعانها في إسقاط الحد عنها فحسب، وأبو حنيفة (1) يخالف في ذلك، وقال: قضايا اللعان تتعلق بلعانهما جميعاً وتتعلق بقضاء القاضي، وأخذ الشافعي رضي الله عنه يحتج بما قررناه في المسائل.
ثم قال: وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله يعلم أن أحدكما كاذب!! فهل منكما تائب؟ " هذا مما نؤثره للقضاة.
ثم إن الرسول حكم بالظاهر، ولم يتعلق بالأمارات المغلِّبة على الظنون، وكان قد ظهرت أمارةٌ دالّة على صدق الزوج، روي أنه عليه السلام قال: " إن جاءت به [أدعج العينين، عظيم الإلْيتين، خَدَلّج الساقين] (2) لا أراه إلا وقد صدق عليها "، فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن أمره لبيّن، لولا ما حكم الله به " (3)
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 215، مختصر اختلاف العلماء: 2/505 مسألة 1050، المبسوط: 7/43، فتح القدير: 3/253.
(2) في الأصل: أدَيْعج، وفي ت 2: أوضح.
وليس في رواية الحديث لفظٌ من هذين اللفظين (أدَيْعج، أوضح) ، فعند البخاري في حديث عويمر العجلاني: إن جاءت به أدعج العينين عظيم الإليتَين خدلّج الساقين، وفي حديث هلال بن أمية عنده وعند أحمد وأبي داود، بألفاظ قريبة من هذه، وهي: إن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلّج الساقين. (ر. البخاري: كتاب التفسير، ح 4745، 4747، وأحمد: 1/239، وأبي داود: كتاب الطلاق، باب اللعان، ح 2256) ولفظ (أديعج) مما رواه الشافعي رضي الله عنه في مختصر المزني: 4/152.
(3) هذا من معنى حديث البخاري الذي مضى آنفاً، وهو من نص رواية الشافعي في المختصر أيضاً.(15/54)
وروي أنه عليه السلام قال: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (1) .
ومما نؤثره تهديد النساء في أمثال ذلك، فلعلهن ينزجرن، وقال صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يُدخلها الله جنته (2) ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين "، ومما جاء في تهديد النسوة ما روي في حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رأى نسوة معلقات بثُدُيِّهن، فسأل جبريل عن حالهن، فقال: " إنهن اللاتي ألحقن بأزواجهن من ليس منهم " (3) . وقال عليه السلام: " اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، يأكل جرايتهم، وينظر إلى عوراتهم " (4) فنُؤثر للقاضي أن يذكر هذه الأشياء حالة إنشاء اللعان، والهمِّ بنفي نسب متعرض للثبوت.
***
__________
(1) هذا في لفظ أحمد وأبي داود المشار إليه آنفاً.
(2) حديث أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ترتيب مسند الشافعي: 49/2 ح 159، أبو داود: الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء، ح 2263، النسائي: الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء من الولد، ح 3481، ابن حبان، ح 4096، الحاكم: 2/202، وانظر التلخيص 4/453 ح 1774) .
(3) حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رأى النساء معلقات بثديهن ... لم نقف عليه.
(4) حديث اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم رواه البزار عن ابن عمر انظر: كنز العمال، ح 13002.(15/55)
باب كيف اللعان
9670- مقصود هذا الباب بيانُ كَلِم اللعان وكيفيةُ صيغها، وهي بيّنة في كتاب الله تعالى، فيقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وهذا الولد ولد زنا ما هو مني، إن كان ثَمَّ ولد، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليّ إن كنتُ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، وتقابله المرأة فتشهدُ أربعَ شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وتقول في الخامسة: غضب الله عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به.
وذهب معظم الأصحاب إلى تعيين لفظ الشهادة؛ وفاءً (1) بحقيقة الاتباع، وفي بعض التصانيف عن الشيخ أبي حامد أنه لم يُبعد إبدال لفظ الشهادة بالإقسام والحلف أو ترك هذه الصلات، فيقول: بالله إني لمن الصادقين.
والمذهب الظاهر أن اللعنَ في جانب الزوج والغضبَ في جانبها، فلو استعمل الزوجُ الغضبَ، والمرأةُ اللعنَ، فالمذهب أن ذلك لا يجزىء، وحكى بعض الأصحاب جواز ذلك، وعزى (2) هذا إلى الشيخ أبي حامد.
9671- والمذهب أيضاً أنه يجب رعايةُ الترتيب، فلا يسوغُ تقديمُ اللعن على سائر الكَلِم، وكذلك القول في الغضب في جانبها.
ومن أصحابنا من جوّز ذلك، وهو يُحْكَى عن الشيخ أبي حامد أيضاً.
ولا خلاف بين أصحابنا أن معظم كَلِم اللعان لا يقوم مقام الكل، وخالف أبو حنيفة (3) فيه، [فأقامه] (4) .
__________
(1) ت 2: وما يحققه الاتباع.
(2) عَزَى: الفعل واوي ويائي.
(3) ر. المبسوط: 7/43.
(4) في النسختين: فأقام.(15/56)
ثم يتعلق بإقامة هذه الكَلِم ما هو من فن التأكيد، وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأتِه على المنبر " (1) وقد تردد الأصحاب في هذا: فمنهم من قال: كان الملاعِن على المنبر؛ لظاهر الحديث.
ومنهم من قال: لم يكن الملاعِن على المنبر. ثم اختلف هؤلاء في معنى الحديت: فقال قائلون: جرى اللعان على المنبر، وقال آخرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
ومما نرعاه في التأكيد أن الرجل يلاعن قائماً، فإذا انتهى إلى كلمة اللعن أتاه آتٍ من ورائه، وقبض على فيه، وقال صاحب المجلس: اتق الله؛ فإنها موجبة.
ثم تقام المرأة، فتلتعن، فإذا انتهت إلى كلمة الغضب أتتها امرأة من ورائها، وقبضت على فيها، وقال صاحب المجلس: اتقي الله؛ فإنها موجبة.
فصل
قال: " ولو قذفها برجل ولم يلتعن ... إلى آخره " (2) .
9672- إذا قذف الرجل امرأته برجل عيّنه، ثم لاعن وسماه، لم يجب عليه الحد لذلك الأجنبي، وإن كان محصناً على ظاهر الحال.
هذا مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم لا يجب حد الزنا على الأجنبي المسمَّى في القذف؛ إذ لو أوجبنا حدّ الزنا عليه، لاقتضى ذلك إثباتَ اللعان في جانبه، وهذا لا سبيل إلى القول به، ولا وجه لالتزامه حد الزنا بلعان الزوج.
ولو سمى الزوج ذلك الرجلَ في القذف، ثم لم يتعرض لذكره في اللعان، ففي
__________
(1) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأتِه على المنبر، رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/398) من حديث عبد الله بن جعفر، (انظر التلخيص 3/461 ح 1790) .
(2) ر. المختصر: 4/156.(15/57)
المسألة قولان: أحدهما - أنه يسقط حدّه كما لو سماه؛ لأنه صدق نفسه في ذلك الزنا باللعان.
والقول الثاني - أنه يُحد للأجنبي لأنه قذفه، ولم يُقم عليه حجةً على تصديق نفسه.
ثم إن فرعنا على هذا القول الأخير فأراد إسقاط الحد عن نفسه، فإنه يعيد اللعان بكماله، ويعيد ذكرَ المرأة قطعاً، ولا يمكنه أن يقتصر في اللعان المعاد على إثبات الزنا على الأجنبي المسمى.
ثم خلاف أبي حنيفة (1) مشهور، ووجه الرد عليه مذكور، وقد صح أن العجلاني رمى زوجته بشريك بن سحماء، ولم يسمّه في اللعان، ولم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيجاب الحد عليه.
وينشأ من هذا الذي ذكرناه أصلٌ، وهو أن من قذف بحضرة القاضي رجلاً، فهل يتعين على القاضي أن يُخبر ذلك المقذوفَ حتى يطلب حقَّه من حد القذف؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب وغيُره: أحدهما - أنه يجب؛ حتى لا يضيع حقٌّ مستحَق.
والثاني - لا يجب ذلك؛ لأن العقوبات مبناها على الدرء.
ثم تكلم الشافعي في حديث العسيف على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل، وفيه أنه قال: " واغد يا أُنيس، فإن اعترفت فارجمها " ولم يكن غرضُ الرسول صلى الله عليه وسلم ببعثه أُنيساً أن يستنطقها بما يوجب عليها حدَّ الزنا، وإنما فعل ذلك ليخبرها بحقها في حدّ القذف " فإنَّ أبا العسيف قَذَفها: إذ قال: إن ابني زنا بامرأة هذا " (2) .
9673- ثم قال: " وأي الزوجين كان أعجمياً ... إلى آخره " (3) .
إذا كان الزوج أعجمياً، التعن بلسانه والمترجم يترجم، ثم اختلف الأئمة في عدد
__________
(1) ر. المبسوط: 7/49.
(2) حديث العسيف متفق عليه، وسيأتي تخريجه مفصلاً في أوائل كتاب الحدود.
(3) ر. المختصر: 4/159.(15/58)
المترجم، فقال قائلون: ينبغي أن يكونوا على عدد شهود الزنا، ومن أصحابنا من اكتفى بمترجمَيْن، وسيأتي ذكر هذا في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل (1) .
***
__________
(1) هنا انتهت نسخة (ت 2) فهذا آخر الأجزاء الموجودة منها، وهي أجزاء متفرقة غير متتابعة.
وقد جاء في نهاية هذا الجزء ما نصه:
" آخر الجزء السابع والعشرون، ويتلوه -إن شاء الله- باب ما يكون بعد التعان الزوج من الفرقة ".
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.(15/59)
باب (1) ما يكون بعد التعان الزوجين من الفرقة
9674- لعان الزوج يوقع الفرقة ويثبت الحرمة المؤبدة، فلا يحل للملاعن نكاحُ التي لاعن عنها أبداً، وهل يستحل وطأها بملك اليمين؟ فيه اختلافٌ ذكرتُه، وهو جارٍ في ثلاث مسائلَ على ثلاث مراتبَ: إحداها - إذا ظاهر وعاد، ثم اشترى التي ظاهر عنها، ففي استباحة وطئها بملك اليمين قبل التكفير وجهان.
وإذا طلقها ثلاثاً، واشتراها، ففي استباحة وطئها بملك اليمين قبل التحليل وجهان.
وإذا لاعن عنها، فاشتراها طريقان: أحدهما - القطع بأنها لا تستباح بملك اليمين لتأبّد الحرمة.
والثانية - أن المسألة فيها على الخلاف.
وخالف أبو حنيفة (2) في تأبيد الحرمة في خَبْطٍ من مذهبه معروف.
وكل لعان جرى في غير النكاح لأجل نفي الولد، ففي تعلّق الحرمة المؤبّدة به وجهان، وهذا يجري في البائنةِ، والمنكوحةِ نكاحاً فاسداً، واللعانُ إذا صادف الرجعيةَ، حرَّمها على الأبد؛ لأنها [في] (3) حكم الزوجات، وهذا من أصدق الشواهد فيما ذكرناه.
__________
(1) سيكون العمل بدءاً من هنا معتمداً على نسخة وحيدة (ت 6) وسنرمز إليها بـ (الأصل) .
(2) ر. فتح القدير: 4/288، مختصر اختلاف العلماء 2/506 مسألة: 1051.
(3) في الأصل: من.(15/60)
9675- ثم قال: " وأيهما مات قبل يُكملُ (1) الزوجُ اللعان ... إلى آخره " (2) .
إذا مات أحدُ الزوجين قبل التلاعن، فنقول: إن مات الزوج أولاً قبل أن يستكمل كلماتِ اللعان، فالنكاح قائم والوِراثةُ باقيةٌ، ووجودُ تلك الكَلِم وعدمُها بمثابةٍ، ونَسبُ المولود الذي تعرض [لنفيه] (3) ثابت، ولو أراد ورثة الزوج أن يلتعنوا لنفي ذلك المولود، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ فإن اللعان لا يصدر قطّ إلا من زوج، فإذا امتنع اللعان منهم، استحال انتفاء النسب بلا لعان، وليس هذا كالاستلحاق؛ فإنهم يحلّفون الموروث في الاستلحاق، كما مضى ذِكْرُه في كتاب الأقارير.
والنسب على الجملة يثبت على وجُوهٍ، وليس للنفي وجهٌ غيرُ ما أثبته الشرع.
فإن ماتت المرأة في خلال لعانه، فإن كان ثَمّ ولد، فالزوجِ يستكمل اللعان لنفيه.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، وكان القذف في أصله موجباً للحد، فالحدّ يثبت موروثاً لولا اللعان، والزوج من الورثة، أيضاً.
وهذا يخرّج على أصلٍ وهو أن من قذف زوجته، وماتت الزوجة، وقضينا بأن إرث الحد كإرث المال، فالزوج يرث قسطاً من الحد، وهل يتضمن هذا سقوطَ جميع الحد؟ هذا مُرتَّب على ما إذا عفا بعض الورثة عن حقه من الحد، فهل يَسقط حقوقُ الباقين؟ فيه خلافٌ قدمته.
فإن قلنا: لا يسقط، فكأنا أثبتنا لكل واحد منهم حدّ القذف بكماله، فعلى هذا إذا ماتت الزوجة، فحد القذف يقام على الزوج -وإن كان من الورثة- فإن ما تقتضيه الوراثة سقوط حق الزوص بجهة الإرث.
وإذا كان إسقاط البعض لا يُسقط الحد في الباقين، فإذا أتى التبعيض من جهة
__________
(1) هذا من خصائص لغة الشافعي، حذف (أن) المصدرية قبل المضارع. وهو جائز قياساً على قول، فاختلف في إعراب الفعل حينئذٍ، فقيل بوجوب رفعه، وقيل: يبقى عمل (أن) (ر. الرسالة للشافعي: تعليق الشيخ شاكر على فقرة: 168، وترى أيضاًً شواهد على حذف أن، غير هذه) .
(2) ر. المختصر: 4/164.
(3) في الأصل: لنفسه.(15/61)
الاستحقاق المستفاد (1) من الوراثة، كان الجواب كذلك إذا قلنا: إسقاطُ البعض يوجب سقوطَ حقوق الباقين، فالحد يسقط إذا ماتت الزوجة؛ فإن الزوج قد ورثها (2) .
وغرضنا الآن أن الزوجة إذا ماتت في أثناء لعانه، ولا ولد يُنفَى، فقد ماتت على النكاح، والحدُّ موروث، فإن أسقطنا الحدَّ، تركَ الزوجُ اللعان؛ إذ لا فائدة فيه.
وإن حكمنا بأن الحد باقٍ، فله أن يكمل اللعان حينئذ لدفع الحد.
9676- ثم إن ماتت في الأثناء، وقَرُب الزمانُ وأمكن البناء، قال القاضي: يبني على كَلِم اللعان، فلا يستأنفها، فإن طال الزمان استأنف اللعان.
أما البناء في قِصَر الزمان، فعلّته أن المقصود الذي بُني اللعانُ عليه [نفيُ] (3) الحد، وذلك مُسَتَمدُّه [لا] (4) تبدّل فيه -وإن انتهى النكاح نهايته- ويستحيل أن يلزَمه الحدُّ، لا محالة، وقد [أنشأ] (5) القذفَ في النكاح، فلا يجد دفعاً للحد الذي يلتزمه (6) ، فبان أن المقصود واحدٌ، لم يتبدل.
وهذا فيه نظر.
وفي كلام الأصحاب [ ... ] (7) من قِبل أن مستحِقّ الحد قد تبدل، فكانت الزوجةُ هي المستحِقة، وانتقل الاستحقاق منها إلى الورثة.
ويجوز أن يقال: اللعان لا يجري في معارضة استحقاق الورثة، وإنما يجري لدفع الحد، من غير نظر إلى من يستحِق؛ إذ لو كنا ننظر إلى المستحِق، لأبطلنا اللعان بالموت قبل تمام الكلمات من الزوج، فإذا لم نحكم ببطلان اللعان مع القطع بأن
__________
(1) في الأصل: الاستحقاق من المستفاد ... إلخ.
(2) فعلى هذا يترك الزوج بقية اللعان.
(3) في الأصل: ففي.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: انتشأ.
(6) المعنى: أنه التزم الحد بقذفٍ أنشأه في النكاح، وهذا هو الذي شرع الله اللعان لدفعه.
(7) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) وقد رسمت هكذا: (تشبييت) تماماً رسماً ونقطاً.(15/62)
اللعان لا يتعلق بغير الزوجة، دل أن وراثة الورثة لا تغير حكماً، ولا تثبت لكلمات اللعان حكمَ التقطع.
فإذا فرض ابتداء اللعان بعد موت الزوجة، فمعتمد اللعان انتفاء الحد من أصله (1) ، وليس يتضمن قطع حدٍّ وجب؛ فإن الحد الواجب لا يدرؤه إلا إبراء المستحق، فوضح أن مستند اللعان هذا، وذلك لا يختلف بتبدل المستحِق، فليقع التعويل عليه، وما عداه من الإحواج إلى ابتداء اللعان ظنٌّ من بعض الأصحاب لا يُلحَق بالمذهب.
هذا إذا حصل الموت في أثناء كلم اللعان، وأراد الزوج البناء على الاتصال.
9677- فأما إذا تخلل [فصلٌ] (2) فكبف السبيل فيه؟
نُقدم عليه [أصلاً فنقول:] (3) إن كلماتِ اللعان لو انقطعت بفصولٍ متخِّلَةٍ وِفاقيّة، فهل نحكم بتقطّعها حُكْماً وبطلانِها؛ حتى [نقول] (4) : يجب إعادتُها، أم يجوز البناء [عليها] (5) والاعتداد بما مضى؟
فيه تردُّدٌ للأصحاب، وكذلك ذُكر هذا التردُّد في أيمان القسامة إذا تخللها فصلٌ بقطع تواصلها.
وتحقيق القول في ذلك أن كَلِم اللعان لا بد منها، والاقتصارُ على بعضها إعراض عن طريق الاتباع؛ حيث لا مسلك إلا الاتباع.
فأما إبدال لفظ الشهادة بغيره، [فقد] (6) ظن بعض الأصحاب توهينَ الأمر فيه؛
__________
(1) المعنى أن غرض اللعان نفيُ وجوب الحد أصلاً، وليس قطع حدٍّ وجب للزوجة، ثم انتقل إلى ورثتها. فإن الحد إذا وجب لا يدفعه إلا الإبراء من المستحق، فاللعان دافعاً لحدٍّ وَجَبَ، نفيٌ لوجوبه أصلاً. ومن هنا كان وجه البناء على ما مضى من الكلمات إذا ماتت الزوجة.
(2) في الأصل: فعل.
(3) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: فيها.
(6) في الأصل: فما. والمثبت من المحقق.(15/63)
لقرب المعنى والمقصودِ، وهذا غير صحيح، والوجه التزام صيغ الكلم، وفاءً بحق الاتباع.
وعكسُ كلمات اللعان وتركُ ترتيبها في معنى إبدال لفظ الشهادة بغيره.
فأما الوِلاء، فهو الأصل، وإن فُرض تقطّعٌ فالإتيان بالكلم ظاهرٌ، وقد نفهم من الوِلاء مزيدَ تأثير في التغليظ، فكذلك القول في القسامة، فليس أثر المولاة بين خمَسين يميناً بمثابة أثر خمسين يميناً في خمسين مجلساً، فيمكن حمل هذا التردد على ما يتعلق بالتعظيم والتفخيم [كإجراء] (1) اللعان في مشهدٍ وإيقاعِه في مكان مخصوص، وزمانٍ مخصوص، ولسنا ننكر أن تأثير الوِلاء أظهرُ من تأثير المكان والزمان، لاختصاصه بعَيْن الكلم، وليس ثرك الوِلاء في معنى ترك اللفظ أو تبديله.
فهذا مراتب الكلام في ذلك، ولا يستريب ذو تحصيل أن ما صورناه في التقطيع الوفاقي.
فأما إذا عرض السلطان أيمان القسامة، وفُرض النكولُ عن بعضها، فهو نكول محقق، وللنكول [حكمه] (2) . نعم، لا يؤثر النكول في اللعان؛ من جهة أن الزوج لو صرح بالنكول عن اللعان، ثم رغب فيه مُكِّن [منه] (3) ، فلا فرق بين أن تكون الفصول الواقعة وفاقية قدَريّة، وبين أن تكون مترتبة على نكول من الزوج وعَوْد.
9678- ثم قال: " فإن امتنع أن يكمل اللعان، حُدّ لها ... إلى آخره " (4)
هذا بيّنٌ؛ فإذا كانت محصنةً وقذفها، ثم امتنع عن اللعان حَدَدْناه لها إن كان حُرّاً ثمانين، وإن كان عبداً، فأربعين، وإن قذفها برجل بعينه بكلمة واحدة، فقال: زنا بك فلان، فقد ذكرنا أن من قذف شخصين بكلمة واحدة يلزمه حدان أم حدٌّ؟ وسنعيد القولين، والتفريعُ عليهما.
__________
(1) في الأصل: كأجل.
(2) في الأصل: حكم.
(3) في الأصل: فيه.
(4) ر. المختصر: 4/164.(15/64)
فإن قال لامرأته: زنا بك فلان، فقد قذف شخصين بكلمة واحدة، وقد رأى أصحابنا أن يُجروا القولين في هذه الصورة مرتَّبَيْن على ما إذا قذف أجنبيين أو أجنبيتين، وزعموا أن قذف الزوجة بأجنبي أولى بالاتحاد؛ فإنه نسبهما إلى فعل واحد، فاقتضى ذلك في اتحاد الحدّ تأكيداً.
وقد يخطر لمن يتمسك بطرق الترجيح أن القذف في حق الأجنبي يخالف حكمُه حكمَ القذف في حق الزوج، فيعادل هذا الاختلافُ ما أشرنا إليه من اتحاد الفَعْلة، ويقتضي هذا التعادل الاستواء في المرتبة، فيقال له: اللعان كما يدفع حدّ الزوجة يدفع حدّ الأجنبي، فلا اختلاف إذاً من هذا الوجه، والأمر في ذلك قريب، بعد جريان الخلاف واطراد القولين.
نعم، لو قال [لرجل] (1) وامرأة أجنبيين: زنيتَ أنت بهذه، فاتحاد الحد في هذه الصورة مرتب على ما إذا قال لأجنبيين: زنيتما؛ لما ذكرناه من اتحاد الفعل.
هذا إذا امتنع الرجل عن اللعان.
9679- فلو أكمل اللعان، وامتنعت المرأة من اللعان، فنقول: يلزمها الحدُّ إذا تحقق امتناعها، فإن كانت بكراً، جُلدتْ وغُرّبت، وإن كانت ثيّباً، رُجمت.
وإذا كان حدّها بالسياط، فلا نحدُّها في شدة الحر والبرد، وهذا مطرد في كل حد هو جلدٌ، على ما سيأتي في الحدود، إن شاء الله.
وإن كانت محصنة تَوَجَّه الرجمُ، ثم المنصوص عليه: أنا لا نؤخر إقامة الرجم عليها عن شدة الحر والبرد، ونص الشافعي على أن من أقر بالزنا، وكان محصناً قال: لا نرجمه في شدة الحر والبرد، بل يؤخر.
وقال المرتِّبون: إن ثبت الزنا بالبيّنة العادلة، فلا توقّف؛ فإن الرجم قتلٌ، ولا محاذرة من الهلاك، ولا نبني الأمر على إمكان رجوع العدول عن شهاداتهم في أخطر الأمور، ومن ظن بهم هذا، فقد حطّهم عن رتبة العدالة، ولا ينتظم في وضع الشرع بناء الأمر الثابت بشهادة الشهود على خروجهم عن كونهم شهوداً.
__________
(1) في الأصل: الرجل.(15/65)
9680- فأما إذا ثبت الرجم بالإقرار أو بلعان الزوج للشافعي (1) نصان كما حكيناهما: نصّه في اللعان أنه لا يؤخَّر، ونصه في الأقارير أنه يؤخَّر ويتوقف، فاختلف أصحابنا في المسألة على طريقين: منهم من قال: فيهما قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أنا نتأنى فيهما إلى مُضيّ الحر والبرد؛ لأن المقرَّ قد يصيبه أحجارٌ، فيرجع، والملاعِنُ قد يكون كاذباً ثم يشاهد المرجومة، فيرِقُّ لها، ويرى تعريضَ نفسه لحد القذف أهونَ مما يتداخله من الرقة عليها.
فإن كان هذا ممكناً، لم نبتدىء الحد لتوقع ما ذكرناه، ولا يُقدّرُ مثلُ هذا في شهادة العدول.
ومن أصحابنا من أقر النصّين في اللعان والإقرار قرارهما، وفَرَّق بأن المُقر هو المرجوم، فيغلبُ أن يرجع؛ فإن الرجوع عن الإقرار مما تستحث عليه الطبيعة والشريعةُ، وهذا في الجملة بيّن: أما حث الشرع، فسنذكر في الحدود أنا لا نؤثر للإنسان أن يقر على نفسه بفاحشة، وقد قال عليه السّلام: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله " (2) ، وهذا يستحثه والمقر صادقٌ، ثم يطرد هذا في الرجوع عن الإقرار، وفيه مسألتُنا، فأما تكذيبُ الزوج نفسَه في كَلِم اللعان، فهو مما لا نستحث عليه، ولا نأمر به، هذه الطريقةُ المشهور.
وذكر صاحب التقريب ما ذكرناه وطريقتين أخريين: إحداهما - طرد القولين في شهادة الشهود أيضاًً، بناء على تقدير الرجوع، سيّما وأدبُ الدين أن يحضروا موضع إقامة الحد، قال الله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [النور: 2] ، قال معظم المفسرين: أراد شهود الزنا، فلعل الغرض أن يعاينوا؛ فإنْ كان من رَيْبٍ، رجعوا إذا عاينوا.
والطريقة الأخرى - القطع بأن الثابت بالإقرار لا يؤخَّر قولاً واحداً، والقولان في الثابت بشهادة الشهود واللعان؛ فإن الإنسان لا يقر بما يوجب هلاكه إلا على ثَبَتٍ
__________
(1) جواب أما (بدون الفاء) .
(2) حديت: من أتى من هذه القاذورات شيئاً ... الحديث. رواه مالك في الموطأ (2/825) والحاكم في المستدرك (4/244، 383) ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار: (6/358) ، وانظر التلخيص: (4/106 ح 2039) .(15/66)
وتوطين نفس على ما يلقاه، فالرجوع بعيدٌ -وإن كان مقبولاً لو وقع- والشهادةُ واللعانُ في معرض الريْب، وهذه الطريقة فاسدة مخالفة لما عليه جماهير الأصحاب.
فصل
9681- ثم قال: " وزعم بعض الناس ألا يلاعن بحملٍ ... إلى آخره " (1)
أراد أبا حنيفة (2) فإن من مذهبه أنه لا يجوز اللعان على الحمل.
مقصود الفصل الكلامُ في نفي الحمل باللعان، والترتيبُ فيه أن الزوج إذا أبان زوجته، ثم قذفها، وثَمَّ ولدٌ متعرِّضٌ للثبوت، فقد ذكرنا أن للزّوج أن يلتعن لنفي النسب، فلو كان بها حملٌ، وقد ظهرت الأمارة، فقذفها، وأراد نفيَ الحمل باللعان، فهل له ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - له النفي؛ فإن حكم اللحوق يثبت في الحمل، كما يثبحت في الولد المنفصل، فأشبه الحملُ الولدَ المنفصل.
والثاني - لا يلتعن؛ فإن الحمل غيرُ مستيقَنٍ، واللعان خطرُه عظيم، فلا يسوغ الإقدام عليه بما ليس مستيقناً.
وبنى بعض أصحابنا القولين على القولين في أن الحمل هل يُعْرف؟ وقد أطلق الأئمة في ذلك قولين، ونحن نشرحهما في هذا المقام، ونستعين بالله تعالى.
اتفق العلماء على أن الحمل غيرُ مستيقن، فكيف يفرض التردد في أن الحمل هل يعرف؟ وكم من امرأة يبدو عليها مخايل الحمل غير أنه يتبين أن الذي بها ريح غليظة مختنقة في الرحم تجد المرأة لها من [خُبْث] (3) النفس، والغثيانِ، ورُبوِّ البطن، واحتباسِ الحيض، ما تراه الحامل، ثم تنفُش (4) الريح، وينفتح [ ... ] (5) الرحم.
هذا لا ننكره، وقد يتفق تورّمٌ في الرحم على نحو ما ذكرناه.
فإطلاق القولين في أن الحمل هل يُعلم لا وجه له، إلا أن يُحمل على التعبير عن
__________
(1) ر. المختصر: 4/165. وفي الأصل: ألا يلاعن الحمل. والتصويب من المختصر.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/510 مسألة 1056، المبسوط: 7/44.
(3) في الأصل: " حيث ".
(4) تنفش من نفش ينفُش: أي انتشر وتفرق بعد تماسك (المعجم) .
(5) مكان كلمة غير مقروءة قبل كلمة (الرحم) .(15/67)
الأحكام التي تنفي وتثبت، فعلى هذا تكون العبارة مائلةً عن النظم السديد؛ فإنا إذا قلنا في هذا الحكم مثلاً: الحمل هل يُنْفى باللعان؟ فعلى قولين بناء على أن الحمل هل يُعلم، رجع حاصل القول إلى أن الحمل هل يُلْحَقُ في اللعان عنه بالمعلوم أم لا؟
9682- فحاصل الكلام أن القولين أصلهما أن الحمل في هذا الحكم هل يلحق بالمعلومات؟
ونحن نقول: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخَلِفاتِ (1) من الإبل في الدية، وهذا حكم بثبوت الحمل والاكتفاء بالأمارة، ولا يتجه غيرُه؛ لأنا لو أوجبنا الفُصلان، لزِدْنا على العدد، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يُثبت الحمل صفةً، ثم لا فَوْت؛ فإن بان بعض الخَلِفات حوائل بدّلناها.
ووجوب الإنفاق على المعتدة البائنة الحامل على طريقين: منهم من خرجه على ما ذكرناه من القولين، فقال في قول: يجب تنجيز الإنفاق، ثم إن بانت حائلاً، استرْدَدْنا [ما أنفقناه] (2) ؛ فإن في تأخير الإنفاق إضراراً بيّناً ناجزاً، واستردادُ النفقة أهون من تعجيل الإضرار بالحمل على الانتظار.
ومن أصحابنا من خرّج الإنفاق على قولين مَصيراً إلى أن الأصل براءة الذمة عن النفقة، وقد انقطع عصام النفقة، ولم نستيقن سبباً متجدداً، وإذا ظهرت أمارُة الحمل، لم نُقم حدّاً ولا قصاصاً محافظةً على الحمل، فلا ضرار في تأخّر العقوبة.
وفي نفي الحمل باللعان تردُّد، [وهو أنا في وجهٍ نرى النسب حريّاً بالثبوت] (3) فلا نبتدر، بل نتوقف إلى وقوع الاستقلال، وفي قولٍ يجوز اللعان خيفة أن يموت
__________
(1) الخَلِفة: الحامل من الإبل، وجمعها مخاض. كما تجمع المرأة: بالنساء، وهو من غير لفظها. (غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 838، والمصباح) وهنا جمعها الإمام بالألف والتاء.
(2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى.
(3) عبارة الأصل فيها اضطراب وغير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " وهو في أوانه لا نأمن وجه نرى النسب حرياً بالثبوت ".(15/68)
الزوج، فيلتحق الولد الدَّعي بشجرته، [وليس] (1) منه، فالأحكام إذاً على التفاوت: لا خيفةَ (2) ، فيجري بعضها على القطع بوجود الحمل، وبعضها على الاختلاف والتردّد، فأطلق بعضُ الناس قولَيْن في أن الحملَ هل يُعلم؟
9683- هذا كله في الحمل بعد البينونة، فأما إذا كان الحمل في قيام الزوجية، فالذي ذهب إليه المحققون أنه يجوز نفيه باللعان.
وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج القولين في حمل النكاح أيضاًً، وهذا إن كان محتملاً في مسلك المعنى [، فتقريب حالة الزوجية] (3) من حالة البينونة في أن نفس النسب فيهما على وتيرة واحدة، كما أن اللحوق فيهما على وتيرة واحدة [لا] (4) سبيل إلى القول به؛ لما صح أن العجلاني لاعن عن امرأته، ونفى حملَها، ثم أتت به بعد اللعان على النعت المكروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الإيمان، لكان لي ولها شأن "، وهذا لا دَفْع له، وفي الحديث أنه برّأ ظهره، ونفى نسبه.
وقد يتجه فرقٌ من طريق المعنى؛ فإن اللعان في صلب النكاح، يجد معتمداً؛ إذ يُتصور جريانُ اللعان دون النسب [المتعرض للثبوت] (5) فلا يمتنع أن يجرى اللعان على أصله، ثم الحمل ينتفي تبعاً.
والتبعيةُ ليست منكرة في الحمل، فإن الحمل قد يثبت مبيعاً تبعاً للأم. نعم، لا يفرد الحمل بالبيع، فلذلك لا يمتنع ألا يفرد بالنفي بعد البينونة، والفرق بين ما يثبت تابعاً وبين ما يثبت مقصوداً بيّنٌ في أصول الشريعة، فالثمار قبل الزَّهو لا تباع مُطْلقة (6) ، فإذا بيعت مع الأشجار، بيعت مُطْلقة، وزالت التبعية إلى غير ذلك من الأمثلة.
__________
(1) في الأصل: فليس.
(2) كذا تماماً: " لا خيفة "!!
(3) في الأصل: وتقريب الحالة الزوجية.
(4) في الأصل: فلا.
(5) في الأصل: لتعرض الثبوت.
(6) أي بدون شرط القطع.(15/69)
هذا ما أردنا أن نذكره في نفي الحمل.
ثم سيأتي بابٌ في أن نفي الولد على الفور على الأصح من المذهب، ونفيُ الحمل ليس على الفور وفاقاً، لما فيه من التردد. فلئن كنا نحمل تأخير النفي في الولد على الرضا به واستلحاقه، فهذا لا يتجه في الحمل؛ [فإن الرجل ربما يبني الأمرَ] (1) على أن ما يَحسَبه حملاً ليس بحمل، فإذا لم يكن كُفي التعرضَ للشهرة والفضيحة، فلا يتجرّد في التأخير وجهُ الرضا، وهذا لم أر فيه خلافاًً.
9684- ثم تعرض الشافعي لمحاجّة يطول ذكرها، فقال: " وزعم بعض الناس أن لو جامعها وهو يعلم حملها ... إلى آخره " (2) .
أراد بهذا أبا يوسف؛ فإنه قال: إذا أتت المرأة بولدٍ، أُمهل الزوج في النفي مدة النفاس: أربعين يوماً، وعند أبي حنيفة يُمهل بعد الولادة ثلاثة أيام (3) ، وسيأتي أقوال الشافعي في ذلك، وإنما نَقِم في هذا الفصل مذهبَ من يقدِّر بمدة النفاس، وأطال في هذا كلامه ولسنا له [الآن] (4) .
وذكر محاجة أخرى في ماهيّة اللعان وأنه عقوبة أو حُجة، وتعرض للحبس في اللعان، وقد استقصينا هذه المسالك في (الأساليب) .
***
__________
(1) في الأصل: "فإن الرجل بما يبين الأمر". والمثبت من تصرّف المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/165.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 216، المبسوط: 7/50، مختصر اختلاف العلماء: 2/502 مسألة 1048.
(4) زيادة لإيضاخ الكلام.(15/70)
باب ما يكون قذفاًً وما لا يكون قذفاً
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ولدت امرأته ولداً ... إلى آخره " (1) .
9685- إذا قال الزوج وقد ولدت امرأته ولداً: هذا ليس مني، أو هذا ليس بابني، فنذكر أولاً ما في كلامه من جهات الاحتمال، ثم نبني عليها الحُكمَ، فقوله المذكور يحتمل خمسة أوجه: أحدها - أن هذا لا يشبهني خلْقاً وخلُقاً.
والثاني - أن يريد نسبته إلى الزنا.
والثالث - أن يريد نسبته إلى شبهة.
والرابع - أن يريد نسبته إلى زوجٍ قبله.
والخامس - أن يقول: ما ولدتُ هذا [الوليدَ] (2) أصلاً.
والاحتمالات المتقدمة مفروضة فيه إذا سلّم ولادتها لو ثبتت ولادتُها بطريق من الطرق، ثم يقول ما يقول.
ونحن نذكر الآن الاحتمالات مع تسليم الولادة في الفراش، لزمانٍ يُحتمَلُ أن يكون العلوق به حاصلاً في الفراش، ثم نذكر إنكار الزوج الولادة.
فأما ما يقع مع تسليم الولادة، فيستثنى منها أنه لو فسر ما قاله بنسبتها إلى الزنا، فالذي جاء به قذفٌ؛ فإن القذف يتطرق إليه الصريح والكناية، فإذا أتى الإنسان بكنايةٍ وفسرها بالزنا، استوجب ما يستوجب المصرِّح، ومالك (3) يجعل كل ما يحتمل القذف احتمالاً ظاهراً بمثابة القذف الصريح، ويجعل معتمدَ الباب في إيجاب الحد
__________
(1) ر. المختصر: 4/169.
(2) في الأصل: الدليل.
(3) ر. القوانين الفقهية: 350، جواهر الإكليل: 2/287.(15/71)
الإيذاءَ، ويزعم أن [المكاني] (1) لا تقْصُرُ في الإيذاء [عن] (2) الألفاظ المصرّح بها.
وذهب بعض العلماء إلى أن الكناية لا تكون قذفاًً مع النية؛ فإن النية لا تتضمن إيذاء.
[والشافعي] (3) قسم القذف إلى الصريح والكناية، وفيه سرٌّ، وهو أن الكناية إنما تلتحق بالقذف الصريح إذا فسرها بالقذف الصريح، ثم لا يتأتى منه تفسيرها به إلا بأن يعرب عن قصده، فهذا معنى القصد.
وإن قال قائل: الحدُّ هل يجب بينه وبين الله؟ قيل هو كاذب، ولكن لا يبين كذبُه في حق المقذوف ما لم يفسَّر، ولو روجعنا، فقيل لنا: يجوز أن يترك التفسير أم عليه أن يفسر ليستوجب الحد؟ كان الظاهر عندنا أنه لا يلزمه أن يفسر لو تُرك ولم يُرهَق (4) إلى البيان بالتحليف، ثم إذا لم يبيِّن، فليس بدعاً أن نقول: لا يستوجب الحد بينه وبين الله تعالى، وإن حُمل على البيان وعُرضت عليه اليمين، فلا رخصة في يمين الغموس، فإن نكل، لم يَخْفَ إجراءُ الخصومة إلى منتهاها.
فحاصل القول: أن الكناية التي تُوقع حكماً مع النية كالطلاق، وتنزل منزلة الصريح باطناً، والحدُّ يجب زجراً للكاذب، والكاني [بالقذف مُؤذٍ] (5) وإيذاؤه يسلّط المقذوفَ عليه، حتى يكون أحدَ رجلين: إما أن يصرح فَيُحدَّ، وإما أن ينكل. ثم يَرجعُ النظر إلى [تورعّ] (6) المردود عليه [عن] (7) اليمين [أو إقدامه] (8) عليها.
هذا مأخذ الشريعة عندنا.
__________
(1) في الأصل: المكان.
(2) في الأصل: على.
(3) في الأصل: فالشافعي.
(4) يرهق: يقال أرهق فلاناً حمله على ما لا يطيق.
(5) في الأصل: والقذف.
(6) في الأصل: التورعّ.
(7) في الأصل: على.
(8) في الأصل: أو على إقدامه.(15/72)
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الحد يجب باطناً، وليس للكاني أن يكتمه، كما ليس لمستوجب القصاص أن يكتم القصاص الواجب عليه، وهذا [مشكل] (1) ؛ من جهة أن القذفَ ليس إتلافاً، ولا إنشاءَ حكم، وإنما هو إيذاءٌ بالنسبة إلى فاحشة، وهذا إن كان يحصل بالكناية، فينبغي أن يوجب الحدّ من غير مراجعة، وإن كان لا يحصل بالكناية، فالقصد لا يؤثر في مزيد الإيذاء.
وقد انتهى غاية ما نحاوله.
ثم إذا حلف أنه لم يقصد القذف، فالتعزير يثبت بالكناية، ولا يخلو ما جاء به عن نوعٍ من العقوبة الرادعة.
9686- فإذا تمهد هذا الأصلُ، فليخرج من الاحتمالات تفسيرُ اللفظ الذي نحن فيه بالزنا؛ فإنه إن جرى ذلك، كان ما ذكره قذفاً، ويتعلق به أحكام قذف الأزواج.
9687- فإن زعم أنه ما أراد نفيَ النسب، وإنما أراد أن الولد ليس يشبهني خلْقاً وخلُقاً، [فظاهر] (2) النص هاهنا أن هذا التفسير مقبول منه، وإن نازعت، فسنذكر كيفيةَ فصل الخصومة.
وقال الشافعي رضوان الله عليه بعد هذا: " إذا قال رجل لإنسان لست ابنَ فلان، فنفاه عن أبيه المشهور، ثم زعم أنه أراد بذلك أنك لا تشبهه شيمةً وسجيّةً وكرماً وخيراً، فلا يقبل هذا التفسير منه، ويجعلُ قذفاًً صريحاً، فاختلف أصحابنا في قول الزوج (3) وقول الأجنبي على طريقين: فمنهم من قال: فيهما قولان نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن اللفظ صريح في القذف، ووجهه جريانُ العرف على الاطّراد بإرادة القذف بهذا اللفظ، والنسبُ لا ينفى صريحاً إلا والمراد به النسبةُ إلى الغيّ ونقيض الرشد، والصرائح إنما تؤخذ من الشيوعِ وعمومِ القذف؛ إذا لم يكن [للشرع] (4) تعبد في حصر الألفاظ.
__________
(1) في الأصل: مسلك.
(2) في الأصل: وظاهر.
(3) أي قول الزوج لست ابني.
(4) في الأصل: للشيوع.(15/73)
والقول الثاني - أن هذا اللفظ ليس بصريح؛ فإنه ليس فيه تعرّض للزنا، ولا لغيره، واللفظة مؤوّلة في نفسها.
[وهذا] (1) هو الأصح.
ومن أصحابنا من أقر النصين قرارَهما، وقال: إن كان القائل أباً، فهذا محتمل منه بتأويل تأديب الابن والتنديد عليه، وإن كان القائل أجنبياً، ولم يكن أباً، فالمحمل الأظهر -وليس الأجنبي في محل التأديب- القذفُ الصريح.
هذا بيان تردد الأصحاب في ذلك.
واختيار المزني طرد القولين، وهذه عادته؛ فإنه يتشوف إلى تخريج القولين مهما اشتمل الكلام على نوعٍ من التردد.
9688- ونحن نستتم الآن هذا الفصل فنقول: إن لم نجعل هذا اللفظ صريحاً من الأب، فإذا فسره بما ذكرناه من أن هذا المولود لا يشبهني خَلْقاً وخُلُقاً، فلو قالت المرأة: أردتَ به القذفَ، فلها أن تحلّفه، فإن حلف أنه لم يرد به القذفَ والنسبةَ إلى الزنا، وإنما أراد ما أشرنا إليه، برىء من الحد، وإن عرضنا عليه اليمين، فنكل عن اليمين، رُدت على المدّعية، فإن نكلت، كان نكولها كيمين الزوج، وإن حلفت يثبت القذفُ والحدّ.
قال الأصحاب: للزوج أن يلتعن، ولم يتعرضوا لتجديد قذفٍ، والمذهبُ فيه أن الزوج إذا جدد قذفاًً بُني اللعان عليه، وانتفى الحد عنه، وإن لم يجدد قذفاًً، وأراد الاكتفاء بما مضى، فقد ذكرنا أصل هذا فيه إذا ادعت المرأة على زوجها أنك قذفتني، فأنكر الزوج، وأقامت المرأة البينة على أنه قذفها، فهل يلاعن من غير قذف جديد؛ فيه تفصيل قدمناه.
ويتجدد في هذه المسألة أصلٌ آخر لا بد من التنبه له، وهو أن الزوج إذا كنى وثبتت الكناية بيمينه، فقد ذكرنا أن الكناية توجب التعزير؛ من حيث إنها تؤذي،
__________
(1) في الأصل: فهذا.(15/74)
وإنما يختص بالصريح وبالكناية مع النية الحدُّ، فأما التعزير، فإنه يتعلق بدون ما نحن فيه.
ثم إذا [كان] (1) يَثْبتُ التعزيرُ، فهل له أن يدفع عن نفسه التعزيرَ الذي قُدّر ثبوته باللعان؟ الوجه أنه ليس له دفعه باللعان؛ فإن المدفوع باللعان عقوبةٌ تجب بالنسبة إلى الزنا، سواء كانت حداً أو تعزيراً. فأما إذا أثبت الزوج أنه لم ينسِب إلى الزنا، فاللعان لا يتعلق بكل إيذاء.
فيخرج منه أنه إذا ادعى أولاً أنه كنى وما قذف، ثم ثبت بيمين الرد كونُه قاذفاً، فهو كما لو أنكر أصل القذف، وأقامت المرأة بينة على أنه قذف، فإن [أراد] (2) أن يلتعن، فقد [تصرّم] (3) القول فيه، والذي ذكرناه من إلحاق الكلام في هذا المنتهى، فذلك بيّن لا إشكال فيه.
9689- ولو قال: أردت نفي النسب مع الإقرار بالولادة، ولكني رُمت نسبة هذا الولد إلى وطء شبهة أو إلى زوجٍ قبلي، فإن أراد فيما زعم [النسبةَ] (4) إلى وطء الشبهة، فالقول قوله مع يمينه، ثم كيفية إدارة الخصومة كما تقدم، فإن أراد نسبة الولد إلى زوج زعم أنه كان قبله، نُظر: فإن عُهد لها زوجٌ قبله، فتفسيره مقبول مع يمينه، وسياقة الخصومة على نحو ما مضى، فإن لم يعهد لها زوج قبله، فلا يقبل قوله.
9690- وحقيقة هذا القسم ترجع إلى نفي ولادتها على فراشه، وهذا نقرره الآن في القسم الثاني، فنقول:
إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدتِ هذا الولد، بل استعرتيه (5) أو التقطتيه، فالقول قول الزوج في نفي الولادة؛ فإن الأصل عدمُها، ولئن كنا نُلحق الولد المولود على
__________
(1) في الأصل: كانت.
(2) في الأصل: الراد.
(3) في الأصل: يضرّ.
(4) في الأصل: بالنسبة.
(5) استعرتيه بإثبات ياء المخاطبة، وسبق أن أشرنا إلى أن ذلك جائز وواردٌ في الفصيح وعليه شواهد من الحديث الشريف.(15/75)
الفراش بالفراش لقوّته، فلا نحكم بأن الفراش يقتضي وقوعَ الولادة، فالقول إذا قول الزوج.
فإن أقامت المرأة بيّنةً: أربعَ نسوة ثقاتٍ على أنها ولدت هذا الولد على الفراش، فيثبت النسب إلى أن يتكلم في نفيه، وإن لم يكن لها بيّنة، فجاءت بقائف يُلحقه بها بالشبه، [فهل] (1) ينزل منزلةَ البينة على ثبوت الولادة؟ فعلى وجهين ذكرهما بعض المصنفين: أصحهما - أن الولادة لا تثبت بهذا؛ فإنها أمر محسوس يمكن إثباته بطريق العِيان، والقيافة إنما أُثبتت شرعاً عند الالتباس وانحسام المسلك.
وهذا قريب من الاختلاف في أن المولود إذا تداعى ولادتَه امرأتان، فهل يحكم القائفُ في الإلحاق بحداهما، مع إمكان إثبات الولادة بالمشاهدة على الجملة؟ وعليه ينبني أن المرأة هل لها دعوى؛ فإنها على الجملة متمكنة من إثبات الولادة؟ ولهذا قلنا: الأصح أن الزوج إذا علّق الطلاق بولادتها، فذكرت أنها ولدت، فلا يقبل قولها إلا على رأي ابن الحداد، كما قدمناه في الفروع، ولو كان التعليق على حيضها، ثبت الحيض بقولها؛ إذ لا مُطَّلَع عليه إلا من جهتها.
9691- ونعود بعد ذلك إلى ترتيب الخصومة: فإن لم تقم بينة، ولم نجد قائفاً، أو قلنا: لا حكم للقيافة في هذا المقام، فالقول قول الزوج؛ فإن حلف، انتفت الولادةُ والنسب، وهل يَلحق المولودُ بالأم؟ فوجهان، بناءً على أن المرأة هل لها دعوى، وفيه جوابان أشرنا إليهما.
فإن نكل الرجل عن اليمين، فقد نص الشافعي هاهنا على أن اليمين تردّ عليها، فتحلف، ويثبت النسب، ونص في كتاب العدة على أن المعتدة لو أتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم طلاق الزوج، وادّعت أنه راجعها أو وطئها بالشبهة، فالقول قول الزوج، فإن نكل لا ترد اليمين عليها في دعوى المراجعة والوطء بالشبهة.
واختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسالتين قولان بالنقل والتخريج:
__________
(1) في الأصل: فهذا.(15/76)
أحدهما - أن اليمين غيرُ مردودة على المرأة في دعوى الاستعارة ودعوى الرجعة؛ فإن النسب ليس حقَّها، فيستحيل ردّ اليمين عليها.
والقول الثاني - أن اليمين ترد عليها لتغسل العار عن نفسها؛ إذ نُسبت إلى الكذب في دعوى الولادة، وللأم على الجملة حق ولاية على الولد، ولهذا جوز الشافعي لها أن تأخذ نفقة ولدها سراً، كما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف ".
فإن حكمنا بأن اليمين لا ترد عليها، فتصبر إلى أن يبلغ الطفل، فتُرد اليمين عليه.
وإن قلنا: ترد اليمين عليها، فإن حلفت، ثبتت الولادة، وترتب عليها ثبوت النسب، والنسبُ لا يثبت قصداً بشهادة النسوة ولا بيمين الرد، ولكن الولادة تثبت، ثم الولد للفراش، هذا إذا حلفت.
فأما إذا نكلت عن اليمين، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يوقف الأمر إلى أن يبلغ المولود ويحلف؛ لأن الحق له.
والثاني - ليس للمولود أن يحلف بعد البلوغ؛ لأن يمين الرد لا ترد بهذا.
9692- ولهذا نظائر سيأتي ذكرها في كتاب الدعاوى إن شاء الله تعالى: منها أنه لو أقرّ الراهن بأن العبد المرهون قد جنى قبل الرهن، وقلنا: لا يُقبل قوله، وجعلنا القول قول المرتهن، فإذا نكل عن اليمين ورددنا على الراهن، فلو نكل عن يمين الرد، ففي ردها على المجني عليه قولان، [وإذا] (1) أقام الوارث شاهداً واحداً بدينٍ [لأبيه] (2) ، وامتنع عن الحلف معه، فقال غرماء المتوفى: نحن نحلف مع الشاهد (3) فهل لهم ذلك؟ ولعلنا نُحْوَج إلى ذكر هذا الفصل مستقصىً في القسامة، إن شاء الله.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: في [مسألة] (4) الاستعارة والنكاحُ قائم: اليمينُ مردودة
__________
(1) في الأصل: فإذا.
(2) في الأصل: لابنه.
(3) مع الشاهد: أي مع شاهدٍ واحد.
(4) في الأصل: المسألة.(15/77)
على الزوجة، فإذا كان النزاع في الرجعة أو وطء الشبهة بعد الطلاق، فلا ترد اليمين كما اقتضاه النصان، والفرق أن النكاح إذا كان قائماً، فادعى الزوج الاستعارة فجانبها متقويّة بالفراش الدائم، فصدقناها. وفي المسألة الأخرى صارت تدعي رجعةً ووطء شبهة والأصل عدمُ ما تدعيه، ودوام الفراش قد يدل على الغِشيان المفضي إلى العلوق.
هذا منتهى الكلام في المسألة، وقد أجرينا في أثناء الفصل نسبةَ الولد إلى وطء الشبهة، ونحن نعقد الآن في هذا فصلاً جامعاً؛ فإنه من غوائل الكتاب من وجه، وهو أيضاًً من الأصول الظاهرة التي [يبتدرُ] (1) السائل ويستفصل فيها، ونحن بعون الله نأتي به موضحاً مصححاً.
فصل
9693- اللعان لا يجري إلا بعد أن تُنسبَ المرأةُ إلى وطء محرَّمٍ في النكاح، وإن أحْبَبْنا، قلنا: إلى وطٍ؛ لا نحكم بتحليله حتى لا يمنعَ [وطءُ] (2) الشبهة عن الدخول تحت موجَب الكلام، فإذا أتت المرأة بولدٍ في النكاح لمدة يُحتَمل أن يكون العلوق [به] (3) في النكاح، وتثبت الولادة بلا نزاع، فأراد الرجل أن ينفيه، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يملك نفيَه ما لم ينسبه إلى وطءٍ غيرِ حلال، فلو [ذكر زنا] (4) ونسب الولدَ والمرأةَ إليه، فهذا أصل كتاب اللعان، فليلتعن.
وإن نسبها إلى وطءٍ غيرِ مُحلَّلٍ ولا مباحٍ، فحاصل القول فيه وجهان على الترتيب المرضي: أحدهما - أنه لا يصح اللعان إلا بقذفٍ صريح، حتى لو نسبها إلى وطء شبهة أو وطء استكراه، فلا سبيل إلى اللعان.
وهذا الوجه ضعيف، ولكن معتمده التعلُّقُ بظاهر القرآن فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ
__________
(1) في الأصل: يبتدل.
(2) في الأصل: ووطء.
(3) في الأصل: بها.
(4) في الأصل: وإن ذكرنا دنا ونسب.(15/78)
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] ، والرمي في مرتبة الصريح، ثم هو مؤكد بالتعرّض لعدم الشهود، وهذا إنما يليق بالقذف الصريح.
والوجه الثاني -وهو الأصح- أنه لو نسبها إلى وطءٍ غيرِ مباح، وأضاف الولد إليه؛ فإنه يلاعن، كما لو صرح بالقذف. والوجهان ذكرهما المراوزة.
قال الشيخ أبو علي في التفريع عليهما: إذا قلنا: لا بد من القذف الصريح، فلا يُظنّ أنا نشترط قذفاًً يتعلق بالنسبة إليه وجوب الحد، ولكن يكتفى بأن يكون القذف في نفسه صريحاً، ثم لا يضر لو سقط الحد، بمعنىً من المعاني، فلو قذف زوجته الأمة أو الكتابية، فله اللعان ونفي الولد، وإن لم يستوجب حداً، [كما إذا] (1) نسبها إلى وطء استكراه، مثل أن يقول: أكرهك فلان، ووطئك، وهذا الولد من ذلك الوطء، ففي المسألة وجهان؛ فإنه وإن قذف الواطىء يقذفها، والنظرُ في قذفها إلى [جانبه] (2) .
وهذا الترتيب ساقه صاحب التقريب، وهو حسن.
9694- وأما العراقيون، فقد ذكروا في ذلك تفصيلاً: أنا ذاكره، إن شاء الله تعالى، وذلك أنهم قالوا: إذا نسب الولدَ إلى وطء شبهة، فإن قلأرَ الواطىءَ واطئاً بشبهة وقدَّرها ممكِّنةً بشبهة، أو عالمةً زانية، فلا لعان. هكذا قالوا؛ لأنه إذا وصف الواطىء بالشبهة، فالولد يلحقه، فقد أسند الولدَ إلى شخصٍ في جهةٍ يلحق النسب فيها، وإنما يثبت اللعان إذا نَفى نسبَ الولدِ عن نفسه.
وعللوا هذا بأن قالوا: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة، فهذا مكان القيافة؛ إذ المنكوحة إذا وطئت بالشبهة في صلب النكاح، ثم تردد الولد بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج، فالحكم أنا نُري الولدَ القائفَ، وكان من الممكن لو أريناه القائف أن ينفيه عن الزوج، وإذا أمكن نفيٌ سوى اللعان، لم يجز اللعان؛ فإن اللعان حجةُ ضرورة.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة.
(2) في الأصل: جانبها.(15/79)
وقالوا على هذا القياس: لو نسبها إلى الزنا بأن قال: كنتِ عالمة بما يجري، وإنما الواطىء بالشبهة هو الذي اشتبه عليه الأمر، قالوا: فلا تلاعن في هذه الصورة؛ ذلك لأن النسب ثابت في هذه الصورة.
وحاصل كلامهم أن الزوج إذا نسب الولد إلى جهةٍ يثبت النسب فيها، فلا لعان.
ولو قال لها: زنى بك فلان، واستكرهك على الزنا، فأتيتِ بهذا الولد عن هذه الجهة، فهل يلاعن؟ قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يلاعن؛ لأنه لم ينسبها إلى زنا هو زناً من الجانبين، فصار كما لو كان الواطىء بالشبهة.
فانتظم من كلامهم: أنه إذا نسبها إلى ما هو زنا محض وأضاف الولد إلى تلك الجهة، فعند ذلك يلاعن قطعاً، فإذا أضاف الولد إلى جهة يثبت نسبه فيها من الأب، فلا لعان؛ فإن الجهة التي [ذكرها] (1) جهةُ نسب.
وبمثله لو نسبها إلى الاستكراه، ولم ينسبها إلى الزنا، وذكَرَ الزنا في جانب الواطىء، ففي المسألة وجهان.
9695- فإذا جمعتَ ما ذكرناه عن صاحب التقريب إلى ما ذكره العراقيون، كان مجموعُ ذلك أن الولد إذا نُسب إلى الزنا المحض، لاعن بلا خلاف.
وإن نسبه إلى وطء الشبهة، والشبهة شاملة للجانبين جميعاً، فالذي ذكره العراقيون القطعُ بأن اللعان لا يجري.
وفي طريق صاحب التقريب تردُّدٌ وإشارةٌ إلى خلاف، ووجه الخلاف أنا في مسلكٍ نقول: لا يلاعن أصلاً؛ فإنه لم يُضفها إلى الزنا، والإضافة إلى الزنا مشروطة في كتاب الله تعالى.
والوجه الثاني - أنه يكفي في نفي الولد أن يقطعَه عن نفسه وينسبَه إلى جهة أخرى، ولا معنى لاشتراط كون تلك الجهة زنا، والذي ذكره من أن القيافة ممكنة، لا حاصل له؛ فإن القيافة إنما تجري إذا اعترف الواطىء بالشبهة، ووُجد التداعي بين الزوج وبين الواطىء بالشبهة؛ فإذ ذاك نري الولدَ القائفَ، فلا معنى
__________
(1) في الأصل: ذكرناها.(15/80)
للتعليل بما ذكروه والأولى التمسك بالكتاب والدعاء إلى اتباع مقتضاه.
وأما فرق العراقيين بين أن ينسبها إلى الاستكراه والواطىء زانٍ وبين أن يكون الواطىء بشبهة، فحسنٌ.
والأَوْلى في الترتيب أن نقول: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة والشبهة تشمل الجانبين جميعاً، فوجهان: أحدهما - أنه يلاعن (1) .
والثاني - لا يلاعن، وهو الذي قطع به العراقيون.
فإذا نسبها إلى الاستكراه والرجل زانٍ، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الأولى، وهذه الصورة أولى بجريان اللعان.
فأما إذا قال: هذا الولد ليس مني، فإنما هو من غيري، ولم يتعرض للزنا والشبهة، فهذه صورة لم يتعرض لها العراقيون، وإنما ذكرها صاحب التقريب وحكى فيها خلافاً، وهي مردّدة بين النسبة إلى الوطء بالشبهة وبين صورة الاستكراه.
قال: "ولو نفينا عنه ولدها باللعان، ثم جاءت بعده بولد ... إلى آخره" (2) .
فصل
9696- إذا نفى نسبَ مولودٍ، فلا يخلو: إما أن يقع ذلك في النكاح، وإما أن يقع بعد البينونة، فإن وقع ذلك في النكاح، فإذا نفى الولدَ الموجودَ في النكاح باللعان، ثم أتت بعد ذلك بولد لأقلّ من ستة أشهر، فقد تبين أن الولدين جميعاً من حمل واحد، فإنهما توأمان، فنقول له: إن لاعنت مرة أخرى ونفيت الثاني، انتفى عنك الولدان، وإن أبيت يلتحق بك الأول والثاني.
والجملة أن التوأمين لا يتبعض أمرهما، فإذا نفى الأول، لم يكف نفيُه، ولو قال: إذا نفيتُ الأول، فقد نفيتُ الثاني أيضاً، قيل له: لا، بل إذا امتنعت عن اللعان
__________
(1) في الأصل: لا يلاعن.
(2) ر. المختصر: 4/173.(15/81)
عن الثاني، فكأنك امتنعت عن اللعان عن الأول، ولم تتعرض في لعانك لغير الأول، ولا سبيل إلى التبعّض.
ولو جرى اللعان الأول في النكاح، كما صورناه، ولكن كان بين الولدين ستةُ أشهر، فنعلم أن الولد الثاني تجدد العلوق به بعد انفصال الولد [الأول] (1) ، فإذا نَفَى الأولَ، انتفى عنه، وهو رأس أمره (2) في الولد الثاني، فإن نفاه بلعانٍ مجدد، انتفى عنه، وهذا اللعان، وإن كان مُنْشأً في حالة البينونة، فهو يتعلق بنسب متعرِّض للثبوت، والعلوقُ بالولد ممكن في حالة النكاح، فإنه [وإن] (3) نفى الولد الأول، فلعله وطىء بعد انفصال الولد وقبل إنشاء اللعان، فحصل العلوق بالولد الثاني، ثم إنه ابتدأ فنفى الأول باللعان الأول.
وكل ما ذكرناه [فيه] (4) إذا نفى الولدَ الأولَ بعد انفصالٍ، ثم تخلل بين الولدين أقلُّ من ستة أشهر أو ستة أشهر فصاعداً، وقد وقع التعرض للولد.
فأما إذا نفى الحملَ باللعان، ثم انفصل ولدان بينهما أقلُّ من ستة أشهر، فهما جميعاً [منفيان] (5) عنه، ولو أتت بأكثرَ من ذلك عن بطن واحدة، فاللعان الأول كافٍ؛ فإنه تعرض فيه لنفي الحمل، واسمُ الحمل ينطلق على ما اشتمل الرحم عليه واحداً كان أو أكثر.
ولو نفى الحملَ كما ذكرناه، فأتت بولدين بينهما ستة أشهر فصاعداً، فنقول: ينتفي باللعان الولدُ الأول، ولا ينتفي الولد الثاني باللعان، بل ينتفي بلا لعان، والسبب فيه أن الفرقة وقعت باللعان، فلما أتت بالولد الأول، انقضت عدتها بوضع ذلك، فلا يحتمل وقوع العلوق بالولد الثاني في النكاح، وإن كان كذلك، فنسبه منتفٍ بلا لعان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) رأس أمره: واضح أن المعنى: هو صاحب الرأي في الولد الثاني: استلحاقاً أو نفياً.
(3) زادها المحقق لاستقامة الكلام.
(4) في الأصل: منه.
(5) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا (شنان) بهذا الرسم تماماً وهذا النقط (انظر صورتها) .(15/82)
هذا كله تفصيل القول فيه إذا جرى إنشاء اللعان في النكاح، ثم أتت بتوأمين عن بطني واحد، أو أتت بولدين عن بطنين.
9697- فأما إذا أبانها بالطلاق، ثم أتت بولد، فنفاه باللعان، فأتت بولدٍ آخر لأقلَّ من ستة أشهر، قلنا له: إن [نفيته] (1) بلعانٍ آخر، فذاك، وإن [أبيت] (2) ، لحقك الثاني، وإذا لحقك الثاني يلحقك الأول؛ فإن الحمل الواحد لا يتبعض، فلا يجوز فرضه من شخصين، وقد ذكرنا أنه لا ينتفي باللعان إلا من نفاه.
وقد تكلف أئمتُنا في هذا كلاماً لا حاجة إليه، فقالوا: في التوأمين نفيٌ ولحوق، فالحمل الواحد لا يتبغض، فإذا اجتمع النفيُ واللحوقُ وجب تغليبُ الأقوى، واللحوق أقوى من النفي في الأولاد الذين استند العلوق بهم إلى الفراش تحقيقاً أو إمكاناً.
والدليل عليه شيئان: أحدهما - أن الولد يلحق من غير استلحاقٍ إذا كان على النعت الذي ذكرناه، ولا ينتفي من غير نفي، والدليل على ذلك أيضاًً أن الولد الذي نفاه الملاعن باللعان لو استلحقه بعد النفي، لحقه، فإذا استلحق مولوداً، ثم أراد نفيه باللعان، لم يجد إليه سبيلاً.
فظهر من ذلك أن اللحوق أقوى، فإذا تعارض اللحوق والنفيُ في التوأمين، وجب تغليب اللحوق.
وهذا الكلام مستفاد، ولكن لا حاجة إليه في تعليل ما ذكرناه في التوأمين، وذلك أن الحمل الواحد لا يتبعض، وصورةُ ثبوت ولدين فيه إذا كثرت مادّة الزرع، فَيُخلَقُ منها ولدان، ولا يفرض اشتمال الرحم على ولد، ثم [يفرض] (3) علوق بعده بولدٍ آخر؛ فإن الرحم إذا اشتمل انسد فوهةُ الرحم، فاشتغل بتقدير الإله بتربيته، فلا يتأتى منه قبول منيٍّ آخر، فإذا كان كذلك، وقد نفى الملاعن أحد التوأمين، فلا ينتفي
__________
(1) في الأصل: نفيت.
(2) في الأصل: ثبت.
(3) في الأصل: فرض.(15/83)
الثاني؛ فإنه لم ينفه، فإذا لم ينتف واستحال التبعض، لزم اللحوق، وهذا القدر كافٍ.
والدليل عليه أن اللحوق والنفيَ لو كانا متكافئين في القوة، لكان الجواب كذلك.
هذا إذا أنشأ اللعان بعد البينونة، وتعرض لنفي المولود المنفصل، ثم بان توأمان.
فأمّا إذا تعرض لنفي الحمل، انتفى الولدان الكائنان من بطن واحد، لما قررناه قبلُ.
ولو نفى الولدَ المنفصلَ بعد البينونة، فأتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، انتفى الولد الثاني بلا لعان؛ فإن الأول تعرض للثبوت لإمكان وقوع العلوق به في النكاح، والولد الثاني تحقق العلوق [به] (1) بعد ولادة الولد الأول، وهذا بيّنٌ.
9698- وإذا نفى الرجل في النكاح أو بعد البينونة توأمين، إما أن يتعرض للحمل وإما أن يلاعن مرتين، فلا شك أن التوأمين أخوان من الأم، فإن اللعان لا يتضمن قطعَ أحكام الولادة من جانب الأم، وولد الزنا من أمه الزانية كالولد النسيب، فكل قرابةٍ تترتب على الأمومة، فهي ثابتة لا شك فيهما.
ونسبهما ينقطع عن الملاعن، فليس أباهما حكماً، وليسا ولديه.
وهل يثبت بينهما أخوة الأب؛ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا تثبت ولعله الأصح؛ فإن الأخوة من الأب مترتبة على ثبوت الأبوة والبنوة، فإذا لم تثبت الأبوة بَعُدَ أن يثبت فرعها.
والوجه الثاني - أنهما يتوارثان بأخوة الأب؛ فإن الأب إنما يقْطَعُ باللعان الذي بينه وبينهما، فأما ما يثبت بينهما، فلا يؤثر اللعان في قطعه.
وهذا ضعيف لا اتجاه له.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(15/84)
9699- ثم قال: "ولو مات أحدهما ثم التعن نَفَى عنه الحيَّ والميتَ ... إلى آخره" (1) .
إذا ولدت المرأة توأمين، ومات أحدهما أو ماتا جميعاً، فأراد الزوج نفيهما بعد الموت، أو نفي الميت منهما والحيَّ، جاز له ذلك [فإذا وُلدا معاً أو بينهما أقلُّ من ستة أشهر] (2) فيكفي فيهما لعان واحد.
ولو أراد الزوج أن ينفي أولاداً أتت [بهم] (3) امرأته عن بطن واحد أو بطون مختلفة بلعان واحد، فله ذلك، ولا نكلفه أن يخصص كل مولود باللعان.
ولو عدد قذفها ونسبها إلى زنيات، وأضاف كل مولود إلى زنية منها، ثم أراد اللعان، كفاه لعان واحد يشتمل على تسمية الأولاد، وسيأتي طرف من هذا بعد ذلك، وغرضنا الآن تامٌّ في المقدار الذي أوردناه.
9700- ومن أصول المذهب أن المولودَ الميتَ يلحقه النفي والاستلحاق جميعاً؛ فإن الموت لا يقطع النسب ولا يغير أحكامَ النفي وجريانِه.
فلو أتت امرأة بولدٍ ومات، فله نفيه بعد الموت، ولو لاعن عنه في الحياة، ثم استلحقه بعد الموت، لحقه، ويترتب عليه ثبوت الإرث، ولا نظر إلى ما تخيله أبو حنيفة (4) من ردّ الاستلحاق بسبب التهمة في خبطٍ له طويل.
ولو نفى النسبَ بعد الموت، وقُسِّم ميراثُ الميت، ثم أراد الاستلحاقَ، فله ذلك، وتَنتقِضُ القسمةُ وتعود وراثتُه تبيناً، وقد يحجُب (5) الذين مَضَوْا، أو يزاحم (6) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/173. والمذكور هنا معنى كلام الشافعي، وليس نصّ المختصر.
(2) في الأصل: فإذا ولد فيكفي فيهما ... وهذه الزيادة، والتصرف في العبارة من عمل المحقق، نرجو أن يكون صواباً.
(3) في الأصل: به.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/515 مسألة 1063.
(5) وقد يحجبُ: أي الأب، فقد صار وارثاً لولده الميت بعد استلحاقه إياه.
(6) هذا هو الأصح، كما عبر بذلك الرافعي والنووي، فقد قال الرافعي: "فلو نفاه بعد الموت ثم عاد واستلحقه فيه وجهان: أصحهما - اللحوق، لأن النسب يُحتاط لثبوثه، وإذا ثبت النسب، =(15/85)
وهذا خَرْمٌ عظيم لأحكام الأقارير، فإنه إذا نفاه، فقد اعترف بأنه لا يستحق تركته، فإذا عاد واستلحق، فهذا يناقض قولَه الأول، وكنتُ أود لو قلنا: إذا نفاه في الحياة ثم استلحقه بعد الموت يلحقُه، فإنه لما نفاه لم يكن ثمَّ استحقاقُ مال تقديراً، فإذا وجد النفي بعد الموت، فقد قطع استحقاق نفسه عن التركة حين ثبوت الاستحقاق للورثة، فإذا أراد العَوْد، لم يكن له ذلك (1) .
وقد وجدت في كلام الأصحاب رمزاً إلى هذا، فأنا أنظم بعدُ هذا التنبيهَ، فأقول: إذا نفاه حياً واستلحقه حياً، أو نفاه حياً واستلحقه ميتاً، فالاستلحاق ثابت، فإذا نفاه ميتاً واستحلقه ميتاً، فالنسب يلحق، وهل يثبت الإرث؟ فعلى التردد والاختلاف: يجوز أن يقال: لا يثبت؛ لما أشرنا إليه من أنه قطع حقه عن التركة، فلا يعود حقَّه إليها.
ويجوز أن يقال: يثبت حقه؛ لأنه لم يتعرض للتركة أولاً وآخراً، وإنما تعرض لاستلحاق النسب، والنسب يلحق، ثم يترتب عليه حكمه.
والدليل عليه أن من مات وخلف ابنين، وزعم أحدهما أن هذا الغلام ابنُ أبينا وأنكر الثاني، فظاهر المذهب أن المقَرَّ به لا يستحق من الميراث شيئاً وإن تضمن إقرارُ المقِر إثباتَ استحقاقٍ له فيما في يده، ولكن لما كان ذلك الاستحقاق مترتباً على النسب، والنسب لم يثبت، فلم يثبت ما يترتب عليه فالتعويل إذاً على ثبوت النسب في النفي والإثبات.
فصل
قال: " ولو قال لامرأته: يا زانية فقالت: زنيت بك ... إلى آخره " (2) .
9701- إذا قال لامرأته: يا زانية، أو قال: زنيتِ، فقالت: زنيتُ بك،
__________
= ثبت الإرث، وعلى هذا فلو قسمت تركته، أَتبعتُ القسمةَ بالنقض". وهذه عبارة النووي نفسها تقريباً. (ر. الشرح الكبير: 9/414، والروضة: 8/359) .
(1) هكذا يعرب إمام الحرمين عن اختياره الوجه المقابل للأصح، ويتمنى أن لو قال به الأصحاب.
(2) ر. المختصر: 4/175.(15/86)
[فلكلامها] (1) جهاتٌ في الاحتمالات: أحدها - أن تريد نفي الزنا، وقد يعتاد مثل هذا، فكأنها قالت: لم أزن، وهو بمثابة قول القائل - وقد قال له صاحبه: يا سارق: سرقتُ معك، والمراد لم أسرق كما لم تسرق.
قال الأصحاب في مسألة الكتاب: إن أرادتْ ذلك، قُبل قولُها مع يمينها، فإن حلفتْ، فلا حدّ عليها للزوج.
ونحن نستتم النقلَ، ثم نرجع بالمباحثة إلى محالّ الإشكال.
[فلو] (2) قالت: زنيتُ بك، وزعمتْ أنها أرادت ما مكّنت أحداً سواك، وأنت أعلم، فإن كان زِناً، فاحْسبه كذلك، فتأويلها هذا مقبول مع يمينها، كما قدمناه.
ولو قالت: أردت بذلك أني زنيتُ به قبل النكاح، فهي قاذفةٌ ومقرّةٌ بالزنا، فيسقط حدُّ القذف عن الزوج [لإقرارها] (3) بالزنا، وتُحدّ هي حدَّ القذف أولاً، ثم تحدّ حدّ الزنا.
فإن رجعت عن إقرارها بالزنا، نفعها رجوعُها في سقوط حد الزنا عنها، ولم ينفعها في إسقاط حد القذف؛ فإنه حدٌّ لآدمي، والعقوبات التي هي حقوق الآدميين لا تسقط بالرجوع عن الإقرار بها.
والذي يجب إنعام النظر فيه أن الرجل إذا قال لأجنبيةٍ أو لزوجته: قد زنيتُ بك، فلست أرى هذا اللفظ قذفاً لها صريحاً، فإنه إذا استكرهها، فهو زانٍ بها، وليست هي زانية، وإذا لم تكن زانية، لم يكن نسبتُها إلى ذلك قذفاًً منه، فيراجَع، فإن ذكر ما أشرنا إليه، كان محتملاً، وإن فسره بكونها مطاوعةً، فالذي تقدم منه قذفٌ؛ فإنّ قوله زنيتُ بك مشعرٌ بمطاوعتها، وقد يحتمل خلاف ذلك، ولو قلنا إشعاره بالمطاوعة في مجرى العرف أغلب لم نبُعد، فكان قوله كنايةً في القذف.
كذلك إذا قالت المرأة زنيتُ بك، فما جاءت به كنايةٌ في قذفه؛ فاتسع المجال في
__________
(1) في الأصل: ولكلامها.
(2) في الأصل: ولو.
(3) في الأصل: لإقرار.(15/87)
الرجوع إلى قصدها، وأما قولها: زنيتُ؛ فإنه صريحٌ في الإقرار بالزنا، وحمل هذا على التعقيدات التي ذكرناها يُحْوِجُ إلى مزيد تقرير.
9702- وأنا أقول فيه: إذا أمكن تأويله -وإن بَعُد- فقبوله في دراء حد الزنا غير بعيد؛ فإنها [لو] (1) أقرت بالزنا الصريح، ثم رجعت قُبل رجوعُها، فإبعادها في التأويل لا يبعُد أن يُقبل.
وإنما محل الإشكال أن المقذوفة إذا أقرت بالزنا، سقط حدُّ القذف، فإذا حملت كلامَها على المحمل الذي ذكره الأصحاب، فقبول قولها مع يمينها وإثباتِ حق الطلب لها في حد القذف قد يغمض، ثم لا سبيل فيه إلاّ جريانُ العرف بمثله في المهاترات والشتائم، وإذا تنبه المرء لما ذكرناه مهّد عذرنا بعد التنبيه للإشكال.
وقد قال الأصحاب: إذا ادعى رجل على رجل مالاً، فقال: زِنْه هل يكون هذا إقراراً أم لا؟ فيه تردُّدٌ، ولو قال: زِن، ثم زعم أنه لم يُرد الإقرارَ، قُبل قوله، وقوله: زنه لم يبعد حمله على المهاترات، ولكن التعقيدات والمكاني بالمشاتمات أَلْيق، ولا خلاف [أن] (2) من يدعى مالاً، فلا حاجة إلى حمل الإجابة على الهُزْء.
فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
وقد ذكر الصيدلاني: أن المرأة إذا قالت: زنيتُ بك، وأرادت الاعترافَ بالزنا على نفسها، فهذا قذف منها للزوج، ومساق هذا يقتضي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتُ بك، فيكون قاذفاً لها، وهذا عندي غير سديد؛ فإن القذف نسبة المقذوف إلى صدور الزنا منه، وهذا لم يتحقق في المسألتين: إذا قال الرجل: زنيتُ بكِ، أو قالت المرأة: زنيت بكَ، فما أرى هذا إلا غفلة (3) .
__________
(1) في الأصل: له.
(2) في الأصل: على.
(3) تعقب ابن أبي عصرون إمام الحرمين، وردّ عليه نسبةَ الصيدلاني بالغفلة، فقال: "قلت: والحكم بعدم السداد فيه غفلة؛ لأن قوله: زنيت بك إن كان لفظه إضافة الزنا إليه، فهو أمر مشترك بينهما، فمن ضرورته أن يكون أضافه إلى صاحبه، إلا أن يقول: كانت مكرهة أو نائمة، أما إذا لم يرد شيئاً، فالقول سديد" ا. هـ (ر. صفوة المذهب: ج 5 ورقة: 126 شمال) .(15/88)
فإذا تكلفنا في إقامة هذا اللفظ [جعلناه] (1) كناية - إذ ليس فيه التعرّض لنسبتها إلى الزنا.
9703- قال: "ولو قال الرجل لزوجته يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني ... إلى آخره" (2) .
هذا منها لا يكون قذفاً صريحاً؛ لأنها لم تعترف بالزنا، حتى يكون قول: أنت أزنى مني إثبات زنا.
وكذلك لو قال رجل لآخر: أنت أزنى من فلان، ولم يُثبت الزنا في حق المشبه به، فلا يكون هذا الذي ذكره قذفاً صريحاً.
ولو قال: فلان زانٍ وأنت أزنى منه، فهذا الذي خاطب به قذفٌ، وقد قذف المشبه به، فيلزمه حدان إذا كانا مُحْصنين؛ فإنه قذفَ شخصين بالكلمتين.
ولو قال: أنت أزنى من فلان، وكان ثبت زنا ذلك المشبّه به ببيّنة، قامت عليه، أو بإقرار، نُظر: فإن كان هذا القائل جاهلاً بزنا فلان المشبهِ به، فالذي صدر منه لا يكون قذفاً؛ فإنه لم يُثبت زنا ذلك الشخص أولاً حتى يكون التشبيه به قذفاً.
ولو كان عالماً بأن فلاناً ثبت عليه الزنا بإقراره أو بالبيّنة. فقال: أنت أزنى من فلان، قال القاضي: هذا الآن قذف منه؛ فإنه شبه المخاطب بمن ثبت عنده زناه، فكان التشبيه مترتباً على علمه.
فإن قيل: إذا لم يعلم زناه أو لم يَثبت زناه، فهلاّ جعل قوله: أنت أزنى من فلان قذفاًً في حق المخاطب ونسبة للمشبه به إلى الزنا؛ فإن من ضرورة المبالغة إثبات الاستواء في الأصل، مع تثبيت مزيّة، ثم يعبر عنه بهمزة المبالغة؟
قلنا: هذا غير سديد؛ فإن الكلام قد يجري على غير هذا النسق، وإن كان الكلام [القويم] (3) يقتضي التسوية في الأصل، والتعرضُ بعد التسوية للمبالغة وإثبات
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/175.
(3) في الأصل: القديم.(15/89)
المزيّة، ولكن العبارات لا تجري على النظم المختار في المعنى، بل هي مردّدةٌ بين النظم [القويم] (1) والمنهج المستقيم، وبين الحيْد [عنه] (2) ، حتى يقلَّ في الناس من يرتاد النظم الأقوم، وإذا ندَرَ الخروجُ عن النظم في كلام شخص، عُدّ مُعْتَبرَ الدهر، فلا مؤاخذةَ بما يجب أن يكون بناء الكلام عليه، وإنما التعلق بالصيغ في مبانيها ومعانيها.
ولو قال لامرأته: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني، وأرادت بذلك أني زانية، وأنت أزنى مني، فهذا إقرار منها بالزنا، إن فسرت لفظها بذلك، ويجب عليها حدُّ الزنا، وحدُّ القذف، ويسقط حدُّ القذف عن الزوج (3) .
وإن قالت: أردت بذلك أنك الزاني، ولستُ بزانية، فإنت أزنى مني، فيقبل ذلك، وتكون قاذفةً غيرَ مقرة بالزنا؛ إذ لفظها يحتمل هذا الوجه.
وهذا أورده صاحب التقريب عن ابن سُرَيْج، وذكره الشيخ أبو علي على هذا الوجه، ولا خفاء به.
9704- ولو قال لرجل: أنت أزنى الناس، فقد أطبق الأصحاب أن هذا لا يكون قذفاًً؛ فإنه لم ينسب الناسَ إلى الزنا، ولو قال: في الناس زناة، وأنت أزنى منهم، فهذا قذف.
وقد يعترض في ذلك [سؤال] (4) ، فإنه إذا قال: يا أزنى الناس، فليس يخفى عليه أن في الناس زناة، وقد ذكرنا أن من علم زنا شخصٍ ببينة أو إقرار، ثم قال لرجل: أنت أزنى من فلان، فيكون ذلك قذفاً، فليكن قوله: أنت أزنى الناس بهذه المثابة. وهذا فيه تعقيد.
قال القاضي: قوله: أنت أزنى الناس، تأويله أنت أعلم الناس بالزنا.
__________
(1) في الأصل: القديم.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) يسقط حد القذف عن الزوج، لإقرارها بالزنا، كما هو واضح.
(4) في الأصل: سؤاله.(15/90)
وهذا كلام سخيف؛ فإن التعرض للزنا لا يجوز أن يُحمَلَ على العلم بالزنا، ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: إذا قال: أنت أزنى من فلان وكان عَلِمه زانياً، فلا يكون ذلك قذفاًً؛ حملاً على العلم، فلا تعلق فيما ذكره.
والوجهُ أن نقول: لما ذكر الناس وليسوا زناة، فقد اعتنى بالتشبيه بالجنس، وليس يتحقق من الجنس الزنا، وإنما يتحقق من آحادهم، والآحاد من الناس ليسوا بالناس، والإشكال مع هذا قائم، ولم أر في ذلك خلافاًً للأصحاب.
وغايتنا التثبت في النقل والإشارة إلى الإشكال ووجوه الاحتمال، فإن فاتنا نقلٌ نحرص على أن نذكر جهات [الإمكان] (1) ، والله المستعان وعليه التكلان.
فصل
قال: " ولو قال لها: يا زانِ، كان قذفاًً ... إلى آخره " (2) .
9705- إذا قال لامرأة أو لزوجته: يا زانِ، فحذف ما يقتضيه النظم من (هاء) التأنيث، فالذي جاء به [قذف] (3) . والصيغةُ مختلفة أو لحن - إن كان لا ينقدح لحذف علامة التأنيث سبب.
والمرأة إذا قالت للرجل: يا زانية، فأتت بالهاء في خطاب من يُذكَّر، فهي قاذفة، ووافق أبو حنيفة (4) في الصورة الأولى، وخالف في الصورة الثانية والمسألة مشهورة معه.
ومما يُجريه الفقهاء أن حذف الهاء محمول على مذهب الترخيم في مثل قول القائل في (عزّة) يا (عزّ) و (بثينة) يا (بثين) على اختلاف المذهبين في رفع الحرف الأخير ونصبه بعد الترخيم.
__________
(1) في الأصل: جهات (الأمر كان) وهو من طرائف التصحيف.
(2) ر. المختصر: 4/176.
(3) في الأصل: وقذف.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 268، تحفة الفقهاء: 3/144، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3/476، مختصر اختلاف العلماء 2/516 مسألة 1067.(15/91)
وهذا يُشعر بقلة الدراية بمذهب العرب في باب الترخيم؛ فإنهم إنما يرخمون الألقاب التي تجري أعلاماً، فأما الأسماء التي تجري صفاتٍ مشتقةً كالقاتل والزاني، فلا يتطرق إليها ترخيم إلا في ضرورة الشعر إذا دُفع الشاعر إلى مضائق التَّقْفِية والأوزان (1) .
ومما أجراه بعض الفقهاء أن [لفظ] (2) (الزانية) في مخاطبة الرجل محمولة على مذهب المبالغة، كالعلاَّمة والنسّابة، وفلان راوية الشافعي.
وهذا [أمثل] (3) قليلاً من الترخيم، ولكنه باطلٌ أيضاً، فإنه وإن جرى، فلم يتمهد قياساً مطرداً، فلا يقال لمن كثر القتل منه: فلان (قاتلة) ولسان العرب ينقسم إلى ما لا قياس فيه أصلاً، وإنما المتبع فيه السماع المحض، وإلى ما يطرد فيه القياس، وإلى ما يجري فيه قياسٌ مقرون بالسماع.
ولا حاجة إلى التعلق بأمثال هذا، ومعتمد المذهب أن النسبة إلى الزنا تحققت، ولا تعويلَ بعد ذلك على لحنٍ في الكلام، وعلى تحريف عن السداد، أو لحنٍ بعد تأدية المعنى (4) ، ولا خلاف أن الرجل لو قال للمرأة: زنيتَ بنصب التاء، أو قالت المرأة للرجل زنيتِ بكسر التاء الضمير، فاللفظان قذفان، وإن جريا على ما لا يقتضيه التذكير والتأنيث.
وقال القفال الإشارة أغلب من العبارة، فإذا أشارت إلى الرجل وقالت: يا زانية، فليقع التعلق بالإشارة.
__________
(1) العجب أن يقول إمام الحرمين هذا، ونصُّ الشافعي في المختصر: "ولو قال لها (يا زان) ، كان قاذفاً، وهذا ترخيمٌ، كما يقال لمالك: (يا مال) ولحارث (يا حار) ".
والمعروف أن الشافعي تؤخذ منه اللغة، فهو ممن يحتج بقوله، شهد له بذلك أئمة اللغة، وقد صحح عليه الأصمعي ديوان الهذليين (اقرأ مقدمة العلامة أحمد شاكر لتحقيق الرسالة) .
هذا إذا لم يكن في العبارة تصرفٌ من المزني. والله أعلم.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: أشدّ. والمثبت من صفوة المذهب.
(4) يظهر اللحن بعد تأدية المعنى في مخاطبة الرجل بقول: (يا زانية) فهذه اللفظة تتضمن الوصف الصحيح (زاني) وتزيد بعده الثاء. فاللحن هنا بعد تأدية المعنى.(15/92)
وذكر صاحب التقريب أن الشافعي رضي الله عنه ذكر فيه إذا قال الرجل للمرأة: يا زان، أو قالت المرأة للرجل: يا زانية قولين: أحدهما - أن ذلك لا يكون قذفاً صريحاًً؛ فإن كل واحد منهما نسب صاحبه إلى زنا لا يتصور منه.
وهذا غريب جداً، ولكنه حكاه عن القديم، ولم [أره] (1) لغير صاحب التقريب، ولا تعويل على مثل هذا.
9706- ثم قال: لو قال: " زنأت في الجبل ... إلى آخره " (2) .
إذا قال: للرجل زنأتَ في الجبل، فهَمَزَ وذكرَ الجَبَلَ أو غيرَه مما يُرقى فيه، فليس قاذفاً؛ فإنه يقال: زنأ في الجبل أي رقا، ومنه قول القائل:
وارْق إلى الخيرات زنْأً في الجبل (3) .
ولو قال: زنيت في الجبل، فأتى بالياء ولكن أضاف إلى الجبل، ثم زعم أنه أراد بذلك الزنوّ بمعنى الرقي، فهذا مما اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يقبل ذلك منه؛ فإن قوله (زنيت) صريح، وإضافته إلى الجبل منتظم على معنى بيان ذكر المكان، وهذا ظاهر المذهب.
ومنهم من قال: يقبل ذلك منه لذكرِ الجبل، وقرب زنيتَ من زنأت، وغلبة حذف الهمزة على الألسن.
__________
(1) في الأصل: لم أر.
(2) ر. المختصر: 4/177. وفي الأصل: (زنيت) والتصويب من المختصر.
(3) هذا من رجزٍ قاله قيس بن عاصم المنقري يرقِّص صبيّاً له (وهو حُكَيْمُ بنُ عاصم) وقد تناوله من أمه: منفوسة بنت زيد الفوارس. وقبل هذا قولُه:
أشْبه أبا أمّك أو أشبه عملْ
ولا تكوننّ كهِلَّوفٍ وكَلْ
يُصبح في مضجعه قد انجدلْ
وارْقَ إلى الخيرات زنأً في الجبل.
[عمل: اسم رجل. الهِلَّوف: الثقيل الجافي البطين لا غناء عنده. والوكَلْ: الذي يكل أمره إلى غيره] (ر. لسان العرب: مادة: زنأ ومادة عمل) قلت: والعامة في ريف مصر يقولون: (هِلْف) مكان (هِلّوف) تماماً.(15/93)
ومنهم من فصل بين أن يكون مُعْرِباً وبين أن لا يكون، وزعم أن ذلك مقبول من غير المُعْرِب، وليس مقبولاً من المُعْرب.
ولو قال زنأتَ مطلقاً، فهمز، ولم يذكر الجبل، ففي المسألة أوجهٌ إذا زعم أنه أراد الرقي: من أصحابنا من لا يقبل ذلك منه؛ لأنه ظاهر في معنى الرقي، ومنهم من قال: يجعل قذفاً؛ فإن الهمزة والياء تعتقبان في الكلام، ومنهم من فصل بين المُعْرِب وغير المُعْرِب، فقال إن كان الرجل معرباً، لم يكن ذلك قذْفاً منه، فإن استعمال لفظ الزنأ ليس بدعاً من العامة، فأما إيراده لمعنى الرقي فمما يختص به أهل البصائر.
فصل
" ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت صغيرة ... إلى آخره " (1) .
9707- إذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فلا يخلو عن الصغر في أول الأمر مفطور (2) ، فلا يكون ما جاء به قذفاًً؛ فإن القذف مأخوذ من حد الزنا، فكل منسوب إليه لو تحقق، لكان موجباً لحد الزنا، فالنسبة إليه [توجب] (3) حدّ القذف، وإذا لم يكن المنسوب إليه مما يوجب حدَّ الزنا -لو تحقق- فالنسبة إليه لا تكون قذفاً موجباً للحد، فإذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فوجود صورة الفاحشة في حالة الصغر لا يتضمن حدّ الزنا، فلا جَرَم لم يكن النسبة إليه قذفاً موجباً لحد القذف. نعم، هو إيذاء موجبٌ للتعزير.
ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت أَمة أو مُشركة، أو مجنونة، فإن كان عُهد منها هذه الحالات، فالذي قاله الزوج ليس قذفاًً، كما إذا نَسَب إلى الصغر.
وإن لم يعهد منها هذه الحالات، قلنا للزوج: إن أثبتَّ بالبيّنة منها حالةًْ من الحالات التي ذكرتها، فلست قاذفاً، [إنما أنت بريء] (4) ، وإن لم تُثبت بالبينة
__________
(1) ر. المختصر: 4/177.
(2) مفطور: أي مخلوق.
(3) في الأصل: موجب.
(4) في الأصل غير واضحة. هكذا: (فإنها أنت ـرذى) بهذا الرسم تماماً. (انظر صورتها) .(15/94)
ما ذكرتَه، فالذي جئتَ به قذفٌ؛ فإنه نَسَبَ إلى الزنا، ثم ذَكَر حالةَ لم تُعرف ولم تُعهد، فسقط ما ذَكَره من الإضافة، وبقي القذفُ الصريح.
وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: أنه لا يلزمه الحد أصلاً؛ فإنه لم يجرد القذف، بل أضافه، فإن صحت الأضافة، فذاك، وإن لم تصح، بطل إطلاق القذف بها.
وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في الاتجاه.
9708- ولو قال لامرأة: زنى بك فلانٌ وأنت مستكرهة، فالذي ذكره ليس بقذفٍ في حقها؛ فإن المستكرهةَ لا تكون زانية، واختلف أصحابنا في أن هذا هل يوجب إيذاءً موجباً للتعزير: فمنهم من قال: هو إيذاء موجبٌ للتعزير؛ فإنه على التحقيق آذاها صادقاً كان أو كاذباً، فصار كما لو قال: زنيت وأنت مجنونة أو صغيرة.
ومن أصحابنا من قال: لا يستوجب الناسبُ إلى الاستَكراه [التعزيرَ] (1) ؛ لأن المستكرهةَ لا مَلام عليها بوجهٍِ، ولا يتطرق إليها منع من مانع، والصبية ممنوعة والمجنونةُ كذلك.
وهذا ساقط لا أصل له، وإن كان مشهوراً حكاه القاضي والعراقيون.
ولو قال: زنى [بك] (2) فلان الممسوح، فهذا كلام غيرُ منتظم.
وكذلك لو قال لرتقاء: زنيتِ، فقد نسبها إلى ما ليس ممكناً، واتفق الأصحاب على أنه يعزر لمكان الإيذاء بهذا الإسماع، ثم ذكرنا فيما تقدم التفصيل فيما يُدرأ باللعان من التعزيرات إذا جرت هذه الألفاظ في النكاح، وما يُخْتلَف فيه.
فإذا نَسب المرأة إلى مُحالٍ مما ذكرناه وأثبتنا التعزير، فقد قال القاضي: لا يُدرأ هذا التعزير باللعان؛ لأن اللعان في مقابلة تلطيخ الفراش، حتى كأن الزوج يَرْحَض ويغسل بلعانه ما ألحقته به من العار، فإذاً ينبغي أن يجريَ اللعان حيث يتوقع التلويث، وحيث لا، فلا.
[وقد] (3) ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - ما ذكره القاضي. والثاني - أنه يلاعن.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) مزيدة من عمل المحقق.
(3) في الأصل: فقد.(15/95)
وهذا بعيدٌ، ولكنه إذا جرى في تعزير التأديب اختلافُ النصوص وتخريجُ الأقوال، [لم] (1) يبعد إجراؤه هاهنا، ولكن لا وجه إلا ما قطع به القاضي؛ من جهة أن الزوج إن ذَكَر المُحالَ الذي نسبها إليه، [لا يمكنه أن يزعم صدقه بل هو محال] (2) وإن لم يذكره، فاللعان من غير ذكر التصديق فيما جرت النسبة إليه محال غير منتظم.
ولو قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، أو مجنونة، وقد عُهدت هذه الأحوال منها، فقد ذكرنا أن الرجل لا يكون قاذفاً، وقال أبو حنيفة (3) إذا قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، كان قاذفاً، فإن زنا الأمة يوجب عليها حد الزنا، وكذلك زنا المشركة.
وهذا غير سديد؛ فإنا نجعل القذف بالزنا المضافِ إلى الحالة السابقة بمثابة إنشاء القذف في تلك الحالة، ولو قذف أمة أو مشركة، لم يستوجب حداً، فإضافة القذف إلى حالة [الشرك] (4) والرق بمثابة إنشاء القذف في الحالتين.
فرع:
9709- إذا قال: زنى فرجُك، فهذا صريح في القذف، ولو قال: زنت يدك أو رجلك، وأضاف الزنا إلى بعضٍ من الأبعاض سوى الفرج، هل يكون ذلك صريحاًً في القذف؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون وأشار إليهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه كناية، وهو الصحيح، الذي قطع به المراوزة، فإن الزنا لا يضاف إلا إلى الفرج، أو إلى الجملة، والقذف خبر عن مخبَر، وليس مما يفرض فيه وقوعٌ وسريان، بخلاف الطلاق والعتاق، كيف وقد يضاف الزنا إلى الأعضاء، على معنى صدور مقدّماتٍ منها ومراودات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدّق ذلك ويكذبه " (5) .
__________
(1) في الأصل: ولم.
(2) ما بين المعقفين كله من عند المحقق، حيث كانت العبارة غير مستقيمة، ولعل فيها خرماً، أو تحريفاً، أو هما معاً. فقد كانت هكذا: " إن ذكر المحال الذي نسبها إليه كان تمكينه من ذكره محال، وإن لم يذكره ".
(3) ر. مختصر الطحاوي 266.
(4) في الأصل: المشركة.
(5) حديث "العينان تزنيان" أخرجه مسلم من حديث ابن عباس عن أبي هريرة رضي الله عنهما =(15/96)
والثاني - أنه صريح؛ فإن اللفظ في نفسه صريح، والجزءُ من الجملة، فكانت الإضافة إلى الجزء كالإضافة إلى الجملة، كالطلاق.
والذي يحقق ذلك أن إضافة الطلاق إلى الجزء عُدّ صريحاً قطعاً، بخلاف ما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، وقد نقل المزني في (السواد) (1) ما يدل على الوجه الأخير، وذهب المراوزة إلى تغليطه في النقل.
ولو قال: زنا يداك وعيناك، فثنَّى اليدَ والعينَ، قال العراقيون: في المسألة وجهان مرتبان على ما إذا ذَكَر اليدَ والعينَ على صيغة التفريد، وجعلوا هذه الصورة أولى بألا يكون اللفظ صريحاً؛ لأن الحديث وارد في صيغة التثنية (2) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العينان تزنيان واليدان تزنيان ".
وقد ذكر الشيخ أبو علي قريباً مما ذكره العراقيون، ولم أُضف ما ذكره إلى طريقة المراوزة، فإنه كثير النقل عن العراقيين في مسائل اللعان.
صورة مكررة رددها المزني ولست لها (3) .
فصل
قال: " ولو قذفها، ثم تزوجها، ثم قذفها ... إلى آخره " (4) .
9710- قد ذكرنا الاختلاف في أن الحد هل يتعدد إذا قذف جماعةً بكلمة واحدة، وذكرنا أيضاًً الخلاف في أنه إذا قذف شخصاً واحداً بكلمتين دالّتين على زنيتين، وقرّبنا إحدى المسألتين من الأخرى ظاهراً وعبّرنا عنهما، فقلنا: إذا تعدد القذف
__________
= (مسلم: ك القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره رقم 2657. وانظر التلخيص 3/451 رقم 1772) .
(1) السواد هو مختصر المزني، وانظر هذا في جزء 4 ص 184.
(2) وجه الأولويّة والترجيح واضح، وهو أن الحديث الشريف وَرَدَ بالتثنية، وهو غير جار على الحقيقة، لا شك في ذلك.
(3) كذا. بالإشارة إلى الصورة التي رغب عنها دون ذكرها.!! فأية صورةٍ هي؟؟
(4) ر. المختصر: 4/178.(15/97)
والمقذوف، تعدد الحدّ، وإن اتّحد القذف وتعدد المقذوف، أو اتحد المقذوف وتعدد القذف، ففي تعدد الحد واتحاده قولان. والمعنيُّ بتعدد القذف تعدد الكلمة على شرط أن تُشعر كل كلمة بزنا.
وتمام التفصيل في هذا يأتي في كتاب الحدود، وإنما نذكر منه هاهنا المقدارَ الذي يتعلق باللعان، وإلا فأصلُ الحد وتعدده واتحادُه، وبيانُ القول في مستحِقه وتفصيلُ المذهب في العفوِ والاعتياضِ [والإقالةِ] (1) يأتي في كتاب الحدود.
فنقول هاهنا:
9711- إذا قذف الرجل امرأةً ونكحها، ثم قذفها، فإن قلنا: الحد يتعدد ويتوجه عليه الطلب في الحال، فإن لاعن، سقط الحد الواجب بسبب القذف الواقع في النكاح، وبقي الحد المتوجِّهُ بالقذف السابق.
وإن حكمنا باتحاد الحد، فإن لم يلاعن، لم يتوجّه عليه إلا حدٌّ واحد، وإن لاعن، لم يسقط عنه الحدّ؛ لأن استيجاب الحد سابق على النكاح، والحد الذي استقر قبل النكاح يستحيل أن يسقط بلعانٍ في النكاح، فلا يخلو القذف الثاني إما أن يُفرض في حكم الإعادة للقذف الأول، فيقع الحكم بالأصل لا بالمعاد، وإن قيل: أوجب كلُّ واحدٍ من القذفين حداً، ولكن اندرج أحدهما تحت الثاني، فإذا قدّر سقوط حدٍّ باللعان، وجب أن يبقى الأصلُ الذي تحته الاندراج.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إن لم يلاعن، ظهر الاختلاف: فإنا في قول نقيم عليه حدّين، وفي قولٍ نقيم حداً واحداً.
وإن لاعن، لم يظهر أثر؛ [فإنا] (2) على القولين نقيم عليه حداً. نعم، يختلف التعليل، والحكم واحد.
9712- ثم قال: " ولو قال: يا زانية، فقالت: بل أنت زانٍ ... إلى آخره " (3) .
__________
(1) في الأصل: والإقامة.
(2) في الأصل: فإن.
(3) ر. المختصر: 4/178.(15/98)
صورة المسألة أن يقذف الزوج زوجته، فيقولَ لها: يا زانية، فتعارضه المرأة، وتقول: بل أنت زانٍ، فقد قذف كل واحد منهما صاحبَه، وقولُ المرأة: بل أنت زانٍ، لا يتضمن اعترافاً بالزنا؛ فإنّ (بل) معناه ردّ لما سبق، واستئنافُ الكلام بعده، ثم لا يكاد يخفى حكم القذفين: أما قذفُها، فموجبه حد القذف عليها، ولا يدرؤه إلا بيِّنةٌ تقوم على زناه، أو اعترافُه، أو انخرامُ الحصانة والعفة.
وأما موجَب قذفه، فالحد، ولكن يدرؤه اللعان، فإن لم يلتعن، حُدّ كل واحد منهما لصاحبه.
وليس حدُّ القذف مما يخَيّل فيه السقوط بالتقاصّ، وإن استوى القدْران، والسبب فيه شيئان: أحدهما - أن حد القذف لا يقبل المقابلة بالعوض، والمقاصّةُ باب من المعاوضة، والثاني - التماثل لا يتحقق؛ فإن الجلدات لا تتأتى رعاية التماثل فيها؛ فإن الضربات تتفاوت في أنفسها وتتفاوت. مواقعها في الأبدان، على تفاوت القوى والضعف، والتقاصّ إنما يجري بين المتماثلين.
قال أبو حنيفة (1) : [كل] (2) شخصين تماثلا لم يُحدّ واحدٌ منهما وعلّل، فقال: إني أستقبح أَنْ أَحُدَّ كلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. قال الشافعي رضي الله عنه: أقبح من ذلك تعطيل حدٍّ من حدود الله، وهذا لا يليق بأصل أبي حنيفة مع مصيره إلى أن حدّ القذف يجب لله تعالى.
9713- ثم قال " لو قذفها وأجنبيةً بكلمةٍ ... إلى آخره " (3) .
إذا قذف زوجته وأجنبيةً بكلمة واحدة، ففي تعدد الحد قولان مرتبان على القولين فيه إذا قذف أجنبيتين أو زوجتين، وهذه الصورة أولى بالتعدد، لاختلاف أثر القذف الذي يُفرض مضافاً إلى الزوجة والأجنبية، ثم إذا فرعنا على التعدد، فَلاعَنَ، سقط حد المرأة، وبقي [حدُّ الأجنبية] (4) .
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 7/43.
(2) سقطت من الأصل.
(3) ر. المختصر: 4/179.
(4) في الأصل: الحد للأجنبية.(15/99)
وإن قضينا باتحاد الحد، فإذا لاعن عن زوجته، فللأجنبية مطالبتُه بالحد الكامل؛ فإن اللعان [لا] (1) يسقط الحدَّ الواجب للأجنبية، فإذا على قول الاتحاد إن لم يلاعن، فالحد واحد والطالبة اثنتان، فإن لاعن، فالحد واجب والطلب لواحدة، وهي الأجنبية.
ثم قال:
9714- " ولو قذف أربع نسوة له بكلمة واحدة " (2) ، ففي المسألة قولان - إذا فرض الامتناع من اللعان: أحدهما - أنه يلزمه حد واحد لهن، والقول الثاني - يلزمه حدود.
فإن قلنا: يلزمه حدود لو امتنع عن اللعان، فلو طالبْنه، فأراد أن يقتصر على لعانٍ واحدٍ عن جميعهن، لم يكن له ذلك؛ فإن كل واحدة منفردة بحدّها وحقّها، والخصومات منفصلة متميزة، واللعان على مثابة الأيْمان، واليمين لا يعمل في خصومتين متعددتين.
ولو قُلْن: رضينا باللعان الواحد، فهذا مما يجب إنعام النظر فيه؛ فإن طلبت واحدة وأعرض الباقيات، فلا إشكال فيها، فليلتعن مع الطالبة، والخصومات عتيدة (3) مع الباقيات مهما (4) طَلَبْن، وإن أراد الزوج أن يلتعن في حقوقهن من غير طلبهن الحدّ، ففيه الخلاف الذي قدمته في أوائل الكتاب:
إذا جوّزنا ذلك والتفريعُ على تعدد اللعان، فإنه يلتعن عن كل واحدة لعاناً تاماً.
ولو اجتمعن، وطلبن، وادّعَيْن، ورضين بلعانٍ واحد -والتفريع على قول تعدّد اللعان- فللزوج أن يمتنع عن اللعان مع بعضهن، ثم تجري عليه أحكام الممتنعين عن اللعان، فإن كان الزوج راضياً بأن يلتعن عنهن لعاناً واحداً، [وقد] (5) رضين بذلك، فالذي نراه أن اللعان الواحد لا يقع موقعه، ولا يصح فرضه على الاشتراك بينهن؛ فإن
__________
(1) زيادة اقتضاها استقامة الكلام.
(2) ر. المختصر: 4/179.
(3) عتيدةِ: مستقرة باقية ثابتة.
(4) مهما: بمعنى إذا.
(5) في الأصل: " فقد ".(15/100)
الأيمان لا تقبل هذا الفن من التصرف، فلا يختلف الأمر بالرضا ونقيضه.
فإنه لو ادّعى على رجلٍ واحد أقوامٌ حقوقاً، وزعموا أنا رضينا بأن يحلف يميناً واحداً، فهذا يخالف نظم الشريعة وترتيبَها في فصل الخصومات، فلا عهد بيمين ينفي قصاصاً ومالاً وحدَّ قذف، ونفرض أيضاً يمين الرد، فيقع التعرض لإثبات حق، وهذا مما لا سبيل إليه.
وكل خصومة تنفرد بيمينها عن الأخرى، بل الخصومات لا تقام على الازدحام، ولا يُصغي القاضي إلى دعوى قبل فصل الدعوى الأولى. وإذا لم تنتظم الدعاوى، كيف يفرض عرض اليمين من الجميع؟ نعم، إذا سبقت واحدة في مسألتنا بالدعوى، واتفق أن الزوج أجرى ذكرها في اللعان، انصرف إليها، والخصومات الأخرى باقية، والدعاوى السابقة باطلة والرضا مضمحلّ، فلتدّع بعد الأولى من تدّعي بقرعة، أو رضاً بتقديمها.
هذا ما نراه بالجملة، والقول في اللعان كالقول في الأيمان مع تعدد الخصوم والحقوق، فإن كان في رأي الناظر التفاتٌ إلى إشكال في تعدد الأيْمان، ففيما ذكرناه مَقْنَع.
وإذا انتهينا إلى كتاب الدعاوى، وبيّنا أحكام الأيمان، ومنازلَ الحُجج والبيّنات، لاح الغرض من هذا، وقد نقول ثَمّ: لا يشهد شاهد في خصومتين بلفظةٍ واحدة، وإذا أحلنا مشكلةً على كتاب، فليُنتظر إلى الانتهاء إلى ذلك الكتاب.
هذا تفريعٌ على تعدد الحد في اللعان.
9715- فأما إذا قلنا: لا يتعدد الحد، فهل يتعدد اللعان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتعدد، فليلتعن في حق كل واحدة منهن، وهذا هو المذهب الظاهر؛ لأن الحد، وإن كان متحداً، فالخصومات متعددة بتعدد الخصوم، وإذا تعددت الخصومات، فليتعدد أيمانها.
والوجه الثاني - أنه يكفيه لعان واحد في حقوقهن، فيذكرهن ويسمّيهن في حكم اللعان، ويحصل الغرض في حق كل واحدة منهن.(15/101)
وهذا القائل يحتج بأن الزوج يُثبت بلعانه عليهن (1) حقاً، هذا صيغةُ لعانه، ثم يندفع عنه حد القذف تبعاً، [واليمين] (2) إذا كانت تُثبت حقاً، فلا يمتنع أن تُثبت حقوقاً كالبينة، فإنها قد تشهد على جمعٍ من الناس لشخص واحد.
وحقيقة هذا الخلاف يعود إلى أنا في أحد الوجهين ننظر إلى طلبهن الحدَّ، ونقدر الزوج مطلوباً من جهاتهن، فعلى هذا لا بد من تعدد اللعان، وعلى الوجه الثاني نقدر الزوج مُثبتاً عليهن الزنا، فعلى هذا لا يمتنع اتحاد اللعان كالبينة تشهدُ على حقوقٍ مختلفاتٍ على خصوم.
فإن حكمنا بأن اللعان يتحد، فإذا اجتمعن الْتعن عنهن لعاناً واحداً، وإن لم يطلبن، وأراد الزوج أن يلتعن، وفرّعنا على أن اللعان يجري من غير طلب من جهتهن، فيكفيه أن يذكر جميعَهن في لعان واحد.
فإن قلنا: لا يجري اللعانُ من غير طلب، فلو لاعن مع طالبةٍ، وأراد ذكر اللواتي تخلَّفن عن الطلب، لم يكن له ذلك، فإذا جاءت أخرى، فلا بد من التعان جديد معها، وهذا بمثابة ما لو الْتعن، فذكر واحدة، واقتصر على ذكرها، فإذا أراد أن يلْتعن مع أخرى، فلا بد من لعانٍ جديد.
هذا كله تفريع على اتحاد اللعان عند فرض اجتماعهن وطلبهن.
ْفأما إذا حكمنا بتعدد اللعان، فلو اجتمعن ورضين بلعانٍ واحد، فالقول في رضاهن باتحاد اللعان -والتفريعُ على تعدده- كالقول بأن اللعان يتعدد تفريعاً على تعدد الحد، وقد ذكرنا هذا في صدر الفصل.
9716- ومما نذكره متصلاً بهذا أنهن إذا ازدحمن وتشاحَحْن، وطلبت كل واحدة منهن البداية، فيقرع بينهن قال الشافعي: " لو بدأ القاضي بواحدة منهن من غير قرعة رجوت ألا يأثم " (3) فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل هذا ترديد قولٍ، ثم هذا
__________
(1) أي يثبت عليهن الزنا الذي رماهن به، واستحقاقهن عقوبة ذلك، حدّاً أو تعزيراً، ولا يتعرض لسقوط الحد عنه، ولكنه يسقط تبعاً. هذا معنى العبارة.
(2) في الأصل: والبينة.
(3) ر. المختصر: 4/179.(15/102)
يجري في الخصوم إذا ازدحموا، كما سيأتي ذكره في كتاب أدب القاضي.
ومن أئمتنا من خصص هذا التردد بالقذف واللعان في الصورة التي ذكرناها؛ من حيث اعتقد أن الأمر قريب والخصومة متجانسة.
9717- ثم قال: "فلو أقر أنه أصابها في الطهر الذي رماها فيه ... إلى آخره" (1) .
إذا أراد نفيَ الولدِ المتعرضِ للثبوت باللعان، فله ذلك، كما قدمناه، فلو اعترف بأني وطئتها، ولم يدّع استبراء بعد الوطء، وقد أتت بالولد لزمان يُحْتَمل أن يكون العلوق به من الوطء الذي اعترف به، فله أن ينفي الولدَ باللعان -وإن لم يدّع بعد الوطء استبراءً- خلافاً لمالك (2) ؛ فإنه قال: إذا اعترف بالوطء، لم يكن له أن يلاعن حتى يدّعي الاستبراء بعد الوطء، فإذا ادعاه، كان له الالتعان، ويكفي الدعوى، فلا حاجة إلى إثبات الاستبراء بإقامة البينة على إقرارها به.
ثم لما ذكر الشافعيُّ مذهبَ مالك [قال: وقد نجد] (3) لمذهبه متعلقاً من قصة العجلاني؛ فإنه لما قذف امرأته بشريك بن السحماء، قال فيما قال: لم أقربها في الطهر الذي زنت فيه، فكان ذلك ادّعاء استبراء منه. ثم أجاب الشافعي بأن العجلاني إنما قال ما قال، اتفاقاً، لا أنه شرط، فليس كل ما أجراه العجلاني يجب أن يُعتَقَدَ شرطاً؛ فإنه سمى المدَّعَى به، وذكر أنه ما أصابها منذ أشهر، وتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوصاف المولود فقال: إن جاءت به أُدَيعج خَدَلّج الساقين، فلا أراه إلا وقد صدق عليها، وكل ذلك مما لا يشترط.
ومن تمام كلام الشافعي أنه قال: ولا معنى للاستبراء في انتفاء الولد؛ فإنها قد ترى الدم على الحَبَل، وإن اختلف العلماء في أنها حيض أم فساد. فأشار بهذا إلى أن
__________
(1) ر. المختصر: 4/180.
(2) ر. القوانين الفقهية: 242، جواهر الإكليل: 2/287.
(3) زيادة اقتضاها السياق، وعبارة الشافعي في المختصر: "وذهب بعض من ينسب إلى العلم أنه إنما ينفي الولد إذا قال: " استبرأتها "، كأنه ذهب إلى أن نفي ولد العجلاني إذا قال: لم أقربها منذ كذا وكذا" (ر. المختصر: 4/180) .(15/103)
الاستبراء وإن جرى، فلا يمتنع أن يكون العلوق من الزوج.
9718- وهذا منتهى كلام الشافعي في التفصيل (1) ، وفيه غائلةٌ عظيمةُ الوقع، وذلك أنا قدمنا أن الرجل إذا وطىء امرأته في طهرٍ، لم يستبرئها، ثم عاينها تزني في ذلك الطهر، ولم يتخلل استبراءٌ، فإذا أتت بولدٍ لزمانٍ يُحْتَملُ أن يكون العلوق به من وطئه، ويحتمل أن يكون العلوق به من الزنا، فلا يحل له نفي المولود والحالة هذه، وإنما يَنْفي المولودَ إذا استبرأها بعد الوطء، وجرى الزنا بعد الاستبراء، وأتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من وطء الزوج ومن السفاح؛ فإذ ذاك نقول: له [أن] (2) ينفي، وذكرنا تردداً في وجوب النفي وجوازه، وقد قال الشافعي في هذا الفصل ما قال.
فإن حمل حامل كلامه في هذا الفصل على أن الاستبراء لا أثر له، واعتضد بقول الشافعي في آخر الفصل: " لا معنى للاستبراء في نفي الوليد "، فيكون مضمون هذا الفصل مخالفاً لما قدمناه لا محالة، ويجب على قياسه أن [يكون] (3) له النفي إذا جرى الزنا -وإن لم يتخلل استبراء- إذا أمكن أن يكون العلوق من ذلك الزنا.
وهذا ليس بعيداً من جهات الاحتمال لو كان مذهباً لذي مذهب.
ويجوز أن يقال: ليس يحل له أن يلتعن إذا لم يجر استبراء بين الوطء والزنا، بينه وبين الله، ولكنه إذا جاء يلتعن، فليس عليه أن يذكر أني استبرأتها؛ وذلك أنه لو ذكر هذا، لكان مدّعياً في ذكره، ولو مست الحاجة إلى ذكره، لمست الحاجة إلى إثباته، والقذف في اللعان يبتني على لوب لا يجب إظهاره للقاضي، ولكنه مرعي في حق الزوج بينه وبين الله، واللوث الذي يجب إظهاره لوثُ الدم في أيمان القسامة.
والشافعي كرر في الفصل تعرضَ الزوج لذكر الاستبراء، وأبان أنه لا يجب ذلك، ولولا قوله في آخر الفصل: " إن الاستبراء لا أثر له "، لكنا نقطع بأنه أراد بما قال أن
__________
(1) كذا. ولعلها: في الفصل.
(2) زيادة لوضوح الكلام.
(3) في الأصل: كل.(15/104)
الزوج لا يلزمه ذكر الاستبراء، ولكن خَتْمُ كلام الشافعي ما ذكرناه من إسقاط أثر الاستبراء.
فانتظم من هذا إشكال، والظاهر الذي ذكره الأئمة: " أنه لا يحل نفي النسب إذا جرى وطء في الطهر وزِناً بعده، ولم يتخلل بينهما استبراء "، ولكن وإن كان كذلك، فلا يجب على الزوج ذكر الاستبراء، خلافاًً لمالك، فإنه أوجب الذكر، وما احتج له الشافعي ولكن تعلق بقصة العجلاني وأنه ذكر الاستبراء.
هذا هو الظاهر.
9719- ولا [يمتنع] (1) أن يقال: يجوز نفيُ الولد، وإن لم يجر استبراءٌ؛ تعلقاً بنص الشافعي في الآخِر، ثم هذا لو كان مذهباً لا يعدِم ناصره تعليلَه بما ذكره الشافعي من أن الاستبراء لا أثر له؛ فإنه لا يفيد القطعَ، وإذا لم يُفد، فالاحتمال كافٍ في إلحاق النسب، فإن لم نشترط الاستيقان، فلا معنى لترجح ظن واستواء احتمالين في نفي النسب، مع ابتناء القاعدة على أن النسب يَعْتَمِد أدنى إمكان.
ويعتضد هذا أيضاً بما نصفه، ونقول: إذا وطىء الرجل زوجته في طهر، ثم وطئها واطىء بشبهة في ذلك الطهر، فما وقع من اللبس يدرؤه القائف، فإذا جرى زناً ووطءٌ، فلا قائف، واحتمال النسب مع تلطيخ الفراش عظيم، -والانتساب إلى الآباء ليس أمراً مقطوعاً به، فلا يبعد أن يثبت اللعان-.
هذا منتهى الإمكان. والتعويل على المسلك الأول.
فصل
قال: " ولو زنت بعد القذف أو وُطِئَت وطْئاً حراماً ... إلى آخره " (2) .
9720- هذا الفصل مضمونه التعرض للحصانة، وهو من الأصول، وقد كثر فيه الخبط على ظهوره، فنقول والله المستعان: نشترط أن يكون المقذوف بالغاً، عاقلاً، حراً، مسلمة، عفيفاً من الزنا.
__________
(1) في الأصل: " لا يلتزم ".
(2) ر. المختصر: 4/81.(15/105)
هذا معنى الإحصان في المقذوف؛ فإن القذف جنايةٌ على العرض، وإنما يكمل العرض عند تجمع هذه الصفات، وغرضُنا من جميعها الكلامُ على العفة من الزنا، فنقول أولاً: إذا زنى الشخص، وثبت زناه بالبيّنة أو بإقراره، فهذا شخص لا عِرْضَ له، وكأن أصل العرض العفةُ من الزنا، وبقية الصفات في حكم التكميل له؛ فإن القذف نسبةٌ إلى الزنا، وإنما يتعيّر بالنسبة إلى الزنا عفيفٌ عنه، فأما الزاني فيخجل (1) من ذكر الزنا، فقال العلماء: من قذف زانياً، لم يستوجب الحد بقذفه. نعم، يستوجب التعزير بإيذائه.
ثم ذكر القاضي أن من زنا مرة واحدة في عنفوان شبابه، ثم تاب وأناب، وصار من أعف خلق الله، وأزهد عباده، فلا حدَّ على من يقذفه، وإن تمادى الزمن، ونيّف على المائة. وكذلك القول فيما إذا زنت مرّةً ثم قُذفت.
وهذا دعوى عريضة، وما أراها تَسْلَمُ عن الخلاف؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبةُ تمحو الذنبَ، وتردُّ العدالةَ، وما يخرِم المروءةَ إذا تُرك، عادت المروءة، وانجبر ما كان فيها من خرم، وإذا كنا فسّقنا الرجل لزناه، ثم لما تاب واستبرأناه، قبلنا شهادته وعدَّلناه، فهذا عَوْد إلى الاعتدال والكمال، وما العرض إلا نباهةٌ تسمى الجاه، ولا شك أن من يُخْرَم جاهُه، فقد يعود إلى ما كان عليه (2) ، ولم أر هذا التصريح على هذا الوجه في شيء من كتبنا.
__________
(1) كذا. ولعلها: لا يخجل.
(2) جعل إمامُ الحرمين عَوْد الحصانة بالتوبة وصلاح الحال احتمالاً، ولم يجعلها وجهاً، وقد رمز الرافعي إلى كلام إمام الحرمين، ولم يصرّح باسمه، بعد ما قطع بعدم عودة العفة، ونص كلامه: " من زنى مرة، سقطت حصانته، ولم يوصف بالعفة والصلاح بعده، فلا يحد قاذفه، ولكن يعزر للإيذاء، وهذا ظاهر إن قيدَ القذف بالزنا السابق، أو أطلق، فإنه صادق في أنه زنى، فأما إذا قيد القذف بزنا متأخر، فقد استَبعَد سقوطَ الحد مستبعدون، ولم يقيموه مع ذلك وجهاًً " ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/352) وبمثله قال النووي موجزاً (الروضة: 8/325) .(15/106)
ثم [ادّعاء] (1) القاضي فيه الوفاقُ مع أبي حنيفة (2) [وجَرْيٌ] (3) معه في معارضات في مسألة [سنذكرها] (4) الآن.
ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن العفة عن الزنا لا يُنحَى [بها] (5) نحو التعديل، فإذا كان الأمر كذلك، ثم التائب من الزنا يعدّل إذا حسنت حالته، وظهر عدالته، فكيف يسوغ القطع بتأبّد سقوط الحصانة، ولو لم يكن فيه إلا تهدّف الإنسان [لشتيمة] (6) الخلق من غير أن يحاذروا حدّاً رادعاً، لكان في هذا كفايةٌ في إيضاح ما ذكرناه من الاحتمال.
9721- ووجدت الطرق متفقةً على أن من رأيناه يراودُ ويشبِّب ويحوّم على طلب الزنا، ولم يثبت منه الزنا، فهو مُحصَنٌ في القذف، فلا أثر للمراودَات والمقدِّمات.
9722- ومما يليق بما نحن فيه أنه لو قذف شخصاً والتزم الحدّ في ظاهر الحكم، ثم زنى المقذوف قبل إقامة الحد، قال الشافعي: يسقط حدُّ القذف، فإنا نستبين بصدور الزنا منه سقوطَ عِرْضه، وقيل: " أتُي عمرُ بنُ الخطاب بزانٍ، وقُدِّم لإقامة الحد، فقال يا أمير المؤمنين: إن هذا مني لأول مرة، فقال: كذبتَ إن الله أكرم من أن يفضح عبده بأول جريمة " (7) .
هذا نصُّ الشافعي.
وقال المزني: لا يسقط الحد بطريان الزنا، وكنا نقدّر هذا تخريجاً في المذهب،
__________
(1) في الأصل: ادّعى.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 266، بدائع الصنائع: 7/40-41.
(3) في الأصل: وأجراه معه.
(4) في الأصل: فسنذكرها.
(5) في الأصل: به.
(6) في الأصل: بشتيمة.
(7) قال الحافظ في التلخيص: هذا لم أره في حق الزاني، إنما أخرجه البيهقي (8/276) عن أنس أن عمر أُتي بسارق فقال: "والله ما سرقت قط قبلها. فقال: كذبت، ما كان الله ليسلم عبداً عند أول ذنب، فقطعه". وإسناده قوي. (ر. تلخيص الحبير 2/450) .(15/107)
فرأيتُ للشيخ أبي علي في شرح التلخيص أن هذا قولُ الشافعي في القديم، فانتظم إذاً قولان: أحدهما - وهو الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الحد يسقط، ولا فرق بين أن يقرب الزمان المتخلل بين القذف والزنا [وبين] (1) أن يبعُدَ ويَتَمادَى.
وفي المسألة قولٌ آخر -على ما حكاه الشيخُ، وهو منسوبٌ إلى القديم- أن الحد لا يسقط.
9723-[ولا] (2) خلاف أن المقذوف إذا ارتد، لم يسقط الحد عن قاذفه بردّته، وفي الفرق بين الردة وبين الزنا عُسرٌ؛ فإن الزنا إن دلّ على إضمار خبث فيما سبق، حيث إنه لا يتفق الهجوم على الزنا من غير إضمار [ذلك] (3) فيما تقدّم، فكذلك الردة، لا يُظهرها المرء إلا وقد سبقت منه ترددات.
فمما قيل في الفرق أن الردة لا تصدِّق القاذف في معنى القذف، والزنا يصدقه في معنى القذف على الجملة، وهذا يؤول إلى أن أصل العِرض يُتلقى من عدم الزنا، وباقي الصفات تكميل للعِرض.
ثم قال القاضي: الزنا المتقدم على القذف يؤثر في إسقاط الحد، وكذلك الزنا المتأخر، ولو ارتد الرجل، أو كان كافراً أصلياً، ثم أسلم، وقُذف، وجب الحد على قاذفه، فلما افترق الكفر والزنا إذا تقدما، فلا يمتنع أن يفترقا إذا تأخرا.
هذا كلامُ القاضي وتصرفُه.
وفي النفس شيء من الزنا المتقدم، وقد ذكرنا صدراً صالحاً فيه، ونحن نزيده إيضاحاًً وتفصيلاً، فنقول: إذا سبق الزنا، فقال القاذف: قد زنيتَ، وصرح بما سبق منه، فلا شك أنه ليس بقاذف، وإن قال: زنيتَ مطلقاً وتردّد لفظه، فالوجه القطع بأن الحد لا يتوجه عليه أيضاًً.
__________
(1) في الأصل: فبين.
(2) في الأصل: فلا.
(3) مكان كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها) .(15/108)
فإن قال: زنيتَ اليومَ، وكان تقدم منه الزنا منذ سنين، فهذا موضع النظر، فالقاضي قاطع بأن الحد لا يلزم.
ويظهر عندنا الحكمُ بلزوم الحد، [إذا ظهرت] (1) التوبةُ وقُبلت الشهادة، قَبْل الزنا المذكور في صيغة القذف، وإذا كنا نذكر قولاً في الزنا بعد القذف، فهذا يهوّن أمر ارتفاع حكم الزنا السابق بالعفة اللاحقة.
وكان شيخي يقول مفرعاً على أن الزنا بعد القذف يُسقط الحد: هذا دليل على أن [مقدمات] (2) الزنا إذا ظهرت، قدحت من العفة، ووجهُ الاستدلال أن الزنا المتأخر لا يدل على زناً آخر مقترنٍ بالقذف أو متقدم عليه، وإنما يدل على أن الزنا لم يقع فجأة، وإنما تقدمت عليه مقدمات.
وهذا ظنٌّ لا تعويل عليه، ولم يصر أحد من الأصحاب إليه، ولكن الزنا يُسقط العفة، ويبين أن الرجل عديمُ العِرض، وإن لم تسبق منه مراودة، فهذا ما يجب تنزيل المذهب عليه.
9724- وقد حان الآن أن نتكلم في جهات الوطء وما يؤثر منها في العفة وما لا يؤثر.
والوجه أن نرسُمَ مسائلَ نأتي بها أرسالاً، ثم نذكر بعد نجازها ضوابطَ، فنقول: أما الزنا الذي يوجب الحد، فلا شك أنه يخرِم العفةَ ويُبطلها، ولو وطىء أخته من الرضاعة أو النسب في ملك اليمين، فإن قضينا بأن الحد يجب، وهو أحد القولين، فتبطل العفة لا محالة، وإن قلنا: لا يجب الحد [لشبهة] (3) الملك، ففي سقوط العفة وانهتاك العرض وجهان: أحدهما - أن العفة لا تسقط، فإن المرعيّ العفةُ من الزنا، وهذا الذي صدر منه ليس من الزنا.
والوجه الثاني - أن العفة تسقط؛ فإن من وطىء أختَه على علمٍ بالمحرّم، تبين أنه
__________
(1) في الأصل: وإذا ظهرت.
(2) في الأصل: متقدمات.
(3) في الأصل: بشبهة.(15/109)
لا يتحاشى من الزنا؛ فإن النفوس أبعد عن احتمال اقتحام هذه الكبيرة مما هو زنا محض في أجنبية، فليس لمن وصفناه عِرضٌ وتماسُكٌ يحفظ عليه نباهتَه وجاهَه، أو تورعه عن هذا [التردّي] (1) .
وإذا وطىء الأب جاريةَ ابنه، أو وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة، والتفريع على أن لا حد، ففي بطلان الحصانة وسقوط العفة وجهان مرتبان على الوجهين المقدّمين في وطء ذوات المحارم، والصورة الأخيرة أولى بأن لا تسقطَ العفةُ فيها؛ فإن أحد الشريكين يتوصل إلى نقل ملك شريكه إلى نفسه بطريق الاستيلاد، وإذ ذاك يثبت الحِلّ، وذوات المحارم لا تستحل، وجارية الابن في حق الأب تقع في مرتبة الجارية المشتركة في حق أحد الشريكين.
ولو نكح الشافعيُّ بغير وليٍّ مخالفاً عقده (2) ، وألمّ بالمنكوحة، ففي سقوط الحصانة بهذه الجهة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة، وهذه المسألة أولى بأن لا تُسقط العفة، فإن الحل في المنكوحة بغير وليٍّ مختلف فيه، وليس في المسألة إلا أنه خالف عقد نفسه.
ولو وطىء بشبهة في نكاح فاسد أو على ظن زوجية، ففي سقوط العفة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة قبلها، وهذه أولى بأن لا تسقط العفة فيها؛ فإن صاحب هذا الوطء ليس ملوماً في عقده، ولا تسقط عدالته بما جرى منه.
فإن قيل: قد طال الترتيب، فما وجه إسقاط الحصانة والرجل معذور؟ قلنا: هذا محمول [على ترك التحفظ] (3) ، وقد تعلّق بترك التحفظ ما نعلّقه بالهجوم على المحرّم، وهذا كمصيرنا إلى أن القتل المحرَّم يُحرِّم الميراثَ، ثم ألحقنا به القتلَ الواقعَ خطأً (4) .
وألحق أئمتنا بهذه المرتبة ما لو جرت صورة الفاحشة في حالة الصِّبا، وهذا أبعد
__________
(1) ما بين المعقفين مكان كلمة تعذر قراءتها.
(2) عقده: المراد اعتقاده ورأيه، وهو هنا المذهب الشافعي.
(3) في الأصل: على ترك اللفظ الحفظ.
(4) أي علق الحرمان من الميراث بالقتل الخطأ، لترك التحفظ.(15/110)
الصور، وإن لم يكن من الخلاف فيها بدّ، فَلْترتب على وطء الشبهة من المكلّف، والفارق سقوط التكليف عن الصبيان بالكلية، فلا لوم، ولا توبيخ، والواطىء بالشبهة قد يتعرض لترك الأمر بالتحفظ.
فأما الوطء في حالة الحيض والإحرام، فالذي قطع به الأئمة أجمعون أنه لا يؤثر في خرم الحصانة.
وحكى القاضي فيه وجهاً غريباً أنه يخرِم عند بعض الأصحاب، وهذا بعيدٌ، لا احتفال به، وليس معدوداً من المذهب.
9725- وإذا جمعنا المسائل وفهمنا ترتب البعض منها على البعض، فأردنا أن نجمع ما في القاعدة بمسائلها من الأقوال، فنقول: انتظم من المسائل ومراتبها أوجه: أحدها - أنه لا يُسقط العفةَ إلا ما يوجب الحد.
والثاني - أنه يُسقطها ما تقدم، ووطءُ ذوات المحارم.
والثالث - يسقطها ما تقدم، ووطء الأب (1) والشريك.
والرابع - يسقطها ما تقدم والوطء في النكاح على خلاف العقد، وإن أحلّه بعض العلماء.
والخامس - يسقطها ما تقدم ووطء الشبهة من المكلف.
والسادس - يسقطها ما تقدم ووطء الصبي أيضاً.
وأما وطء الحائض والوطء في زمان الإحرام، فخارج عن القانون.
ولا أثر لمقدمات الوطء أصلاً، وما حكيته عن شيخي محمول على ترديد الاحتمال، فهذا قول بالغ فيما يُسقط العفة، وفيما لا يسقطها.
فصل
9726- ثم قال: " ولو لاعنها، ثم قذفها، فلا حدّ لها ... إلى آخره " (2) .
مضمون هذا الفصل يَبِينُ بفرض مسائلَ تقع نوعين: أحدهما - في قذف الزوج.
__________
(1) أي لجارية ابنه، والشريك للجارية المشتركة.
(2) ر. المختصر: 4/182.(15/111)
والثاني - في قذف الأجنبي.
أما مسائل قذف الزوج فنقول: إذا قذف الزوج زوجته وتلاعنا، فلا يخفى حكم هذا القذف، وإنما مقصود الفصل ما يقع من قذفٍ بعد هذا، فنقول: إذا قذفها بعد التلاعن، لم يخل: إما أن يقذفها بذلك الزنا الذي جرى التلاعن عليه، وإما أن يقذفها بزنية أخرى، فإن قذفها بتلك الزنية، فلا يستوجب الحدَّ؛ فإنه أقام الحجة على تصديق نفسه، ولكن انْدرأ الحدّ عنها بلعانها. نعم، يُعزّر الزوج لإيذائه إياها.
ولو قذفها بزنيةٍ أخرى بعد تلك الزنية، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الحد لا يجب؛ لأن الزوج أقام الحجةَ على زناها، فسقطت حصانتها في حقه.
والقول الثاني - أن الحد يجب؛ فإن تلك الحُجةَ ما أَثْبَتت الزنا على الإطلاق، وإنما أثبتت تصديق الزوج في ذلك القذف المعيّن، ثم إن انخرم عِرضُها بلعانه، فقد تداركه لعانها.
ومن أصحابنا من قطع القول بوجوب الحد على الزوج إذا نسبها إلى زنية غيرِ الأولى لما ذكرناه من أن اللعان حجةُ خصوص، وإذا عورض الزوج باللعان (1) ، لم يبق للعانه أثر إلا إسقاط حد القذف الأول، وإلا فلعانها في تبرئتها لا ينحط عن لعانه في نسبتها إلى الزنا.
ولو قذفها بعد اللعان بزناً قبل اللعان، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه يحد؛ فإن اللعان لم ينعطف على ذلك الزنا.
والوجه الثاني - أنه يعزر كما لو قذف شخصاً، ثم أقام على زناه بيّنة (2) ، وهذا فيه إذا لم يَعْنِ بقذفه الزنا الذي عناه من قبلُ ولاعن عليه.
ولو تلاعنا، ثم قذفها بعد التلاعن، ولم ينصّ على زنيةٍ جديدة، فهذا عندي بمثابة ما لو قذفها بتلك الزنية التي جرى التلاعن عليها، هذا إذا تلاعنا.
__________
(1) إذا عورض الزوج باللعان: المعنى أن لعانها عارض لعانَه وقَذْفَه.
(2) أي إذا كرر قذفه بتلك الزنية التي أقام البينة عليها، فهو وإن أسقطت البينةُ عنه الحدَّ أول مرّة، فلا يسقط عنه التعزير بتكرير القذف.(15/112)
9727- فأما إذا لاعن الزوج وامتنعت عن اللعان، وأقمنا عليها حدَّ الزنا، فلو قذفها بعد ذلك بذلك الزنا، فلا يخفى الحكم فيه، والإيذاء محقق وموجبه بيّنٌ.
ولو قذفها بزنية أخرى سوى الأولى، فهذا فيه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يجب الحد؛ فإنه ثبت زناها في حقه، وأقيم الحدُّ عليها، فسقطت عفتها في حقه بالكلية.
ولو قذفها الزوج وامتنع عن اللعان، فيتوجه عليه حد القذف، فإذا قذفها مرة أخرى بتلك الزنية، فالحد واحد، وإن قذفها بزنية أخرى، فهذا محل اختلاف القول في قذف شخص واحد بكلمات، وقد تمهد هذا.
وانتجز ما أردناه في أحد النوعين، وهو قذف الزوج بعد التلاعن أو قبله.
9728- فأما مسائل الأجنبي، فإنا نأتي بها على التفصيل الذي ذكرناه، فنقول: إذا تلاعنا، ثم قذفها أجنبي بزناً آخر غيرِ الذي لاعن الزوج عليه والتعنت في معارضته، التزم الحد؛ فإن اللعان لم يغيّر حصانتها في حق الأجانب، ولم يثبت عليها الزنا في هذه الصورة، فإنها مفروضة في تلاعنهما.
ولو قذفها الأجنبي بالزنا الذي جرى التلاعن عليه، فالمذهبُ الظاهر أنه يلتزم الحدَّ، لما ذكرناه من أن الزنا لم يثبت، إذ عارضته بلعانها، ولكن اندفع حد القذف عنه لحجةٍ خاصة أقامها الشرع له على الخصوص، فلا يتضمن ذلك سقوطُ الحد عن الغير.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الأجنبي الحدُّ إذا قذفها بالزنا الذي وقع التلاعن عليه؛ لأنه جرى في الواقعة حجةٌ على الزنا لأجلها انتفى الحد عن القاذف به، فلينتصب ذلك شبهة في حق الأجنبي إذا قذف بذلك الزنا.
هذا إذا تلاعنا.
ولو لاعن الزوج، وامتنعت من اللعان، وحُدّت حدَّ الزنا، فترتيب المذهب أن الأجنبي إن قذفها بزنا آخر غيرِ الذي نسبت إليه وحدت فيه، ففي وجوب حد القذف عليه وجهان: أظهرها - أنه يستوجب الحد؛ لأن الأحكام المتعلقة باللعان لا تعدو الزوجين والزوجية؛ من جهة أن اللعان حجةٌ خاصة، فاختص أثرها.(15/113)
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر أن الحد لا يجب على القاذف؛ فإنها حُدّت في الزنا، فإذا وقع الحد بها، فلا نظر إلى خصوص الحجة، فيبعد إقامة حد [القذف] (1) والمقذوفة محدودة في الزنا. هذا إذا وقعت النسبة إلى زناً غيرِ ما حُدت فيه.
فأما إذا قذفها الأجنبي بالزنا الذي حُدَّت فيه للِعانه وامتناعِها، ففي وجوب الحد عليه وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا نسبها إلى زنية أخرى غيرِ الذي حُدت فيه، وحد القذف أولى بالاندفاع في هذه الصورة.
هذا ما ذكره الأئمة.
وقطع القاضي بأن الأجنبي يستوجب حدّ القذف إذا نسبها إلى غير ما حُدت فيه وجهاً واحداً. وإن نسبها إلى ما حُدت فيه وجهان: أظهرهما - وجوب الحد، وعلل هذا بتحقيق اختصاص اللعان وأثره.
فهذا تفصيل القول في قذف الزوج والأجنبي بعد جريان اللعان.
فصل
قال: " ولو شُهد عليه أنه قذفها ... إلى آخره " (2) .
9729- فإذا ادعى محصنٌ على رجل أنه قذفه، فأنكر، وأقام المدعي شاهدين، فإن كانا عدلين، ابتدر القاضي تنفيذ الحكم، وأسعفَ الطالبَ بقامة الحد، وإن كان ظاهرهما السداد، ولكن القاضي كان جاهلاً بحقيقة الحال، فإنه يبحث عن أحوالهما ويراجع المزكِّين. قال الشافعي: " ويحبس المدعَى عليه إلى أن تبين عدالةُ الشاهدين أو جرحهما " وهذا هو الذي قطع به أئمة المذهب.
ووجدت في بعض الطرق رمزاً إلى أن المدعَى عليه لا يُحبس، وسيأتي ذكره في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، ووجهُه على بعده أن الحق لا يتوجه إلا بظهور العدالة، والحبسُ في الحال إقامةُ عقوبة.
__________
(1) في الأصل: القاذف.
(2) ر. المختصر: 4/183.(15/114)
والتعويلُ على ظاهر المذهب.
ولو أقام المدعي شاهداً واحداً، وهو مُشمّرٌ لإقامة شاهدٍ آخر، وطلب من الوالي حبسَ المشهودِ عليه إلى قيام الشاهد الثاني، ففي المسألة وجهان - وفي نص الشافعي تردد- نشير إليهما: أحدهما - أنه لا يحبس؛ لأن الشاهد الواحد ليس بحجة، وليس كالشاهدين إذا جهل القاضي حالَهما؛ فإن العدالة إذا بانت، تبين لظهورها قيامُ الحجة مستنداً إلى وقت الشهادة، لكن علم القاضي لم يكن محيطاً بحقيقة البيّنة، والحبس في الأمر القريب لائقٌ بمسالك السياسة صيانةً للحقوق عن البطلان، وإذا استُعدي الوالي على شخص، فالارتفاع إلى مجلسه قد يُتْعِبُه، وذلك قبل ثبوت الحق، ولكن لا بد من احتمال ذلك، فلا تقوم الإيالة دونه.
والوجه الثاني - أنه يُحبس، لأن الخَصْم ساعٍ في إكمال البينة، وقد لا يتفق حضور الشاهدين معاً، ولو خلَّينا المدَّعى عليه، لولّى، وغيّب وجهه عنا، ثم إن لم يأت المدعي بالشاهد في الزمان الذي يتوقع في مثله إكمال البينة، خلّينا سبيل المدعى عليه.
وهذا الفصل من أركان البينات والدعاوى، والوجهُ تأخيره إلى موضعه، ولكن التزام الجريان على ترتيب السواد قد يقتضي مرامزَ إلى مقدماتٍ، ولا ينبغي للناظر المنتهي إلى ما يُذكرُ بحق (1) السواد أن يطلب تحقيقَ الفصل منه، فهذا مما يحال على كتاب الدعاوى والبينات.
9730- ومما نرمز إليه لانتظام الكلام أن من ادعى دَيْناً على إنسان، وأقام شاهدين وأقبل القاضي على البحث ومراجعة المزكِّين، فالمذهب أن المدّعى عليه يحبس كما إذا كان المدَّعى حدّاً: قذفاً أو قصاصاً؛ فإنا إذا رأينا الحبسَ تفريعاً على الأصح في العقوبات، وشأْنُها الاندراءُ بالشبهات، فهذا في الأموال أولى.
[وقال] (2) الإصطخري: لا يحبس المدعى عليه في المال، وإن رأينا الحبس في
__________
(1) بحق السواد: أي من أجل الجريان على ترتيب السواد.
(2) في الأصل: فقال.(15/115)
حد القذف والقصاص؛ لأن الحق المدَّعَى فيه يتعلق ببدن المدعَى عليه، فلو تركناه [والأغلبُ] (1) أن يغيّب وجهه حِذاراً [من] (2) وقوع العقوبة به -لأدى هذا إلى تعطيل الحق، وليس كذلك الدَّيْن المدعَى، فإنه يتصور استيداؤه مع غيبة المدعى عليه.
ولو كان المدَّعى عيناً من الأعيان، وقد قام شاهدان، فالقاضي يحول بين المشهود عليه وبين العين المدعاة؛ فإن الحق ينحصر فيها انحصاره في بدن من ادُّعيت عليه العقوبة.
ولو أقام المدعي للدين شاهداً واحداً، والتفريعُ على أن المدعَى عليه يُحبس إذا شهد شاهدان، فهل يحبس والشاهد واحد، فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا شهد شاهد واحد على قذف أو قصاص، والشهادة على المال في هذه الصورة أولى باقتضاء الحبس، والسببُ فيه أن الشاهد الواحد يتيسر ضمُّ اليمين إليه في المال، فهو أقوى من الشاهد الواحد في العقوبة.
وقد يعارض ذلك أن الحلف مع الشاهد إذا كان ممكناً، فيجب أن يقال للمدعي: أنت متمكن من إثبات حقك باليمين، فإذا حلفت ثبت حقك، فافعل هذا، أو خلِّ فصل
وهذا الكلام فيه فقهٌ، وإذا عارض ما قدمناه في الترتيب، أسقطه.
9731- ولو شهد شاهدان أو شهود على موجِب حدٍّ لله تعالى، فلا يحبس المشهود عليه إلى إثبات عدالة الشهود، فإن حقوق الله في العقوبة على المساهلة، ولهذا يُقبل [رجوعُ] (3) المقِرِّ عن الإقرار بها، وقد نقول: إذا هرب من يثبت عليه الحد لا يتبع، وقد تسقط الحدود بالتوبة.
وهذا الفصل سيأتي مستقصى مرتباً في كتاب الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: الأغلب.
(2) في الأصل: في.
(3) في الأصل: الرجوع.(15/116)
9732- ثم قال: " ولا يُكفَل رجل في حدٍّ ولا لعانٍ ... إلى آخره " (1) .
ذَكَر كفالةَ الأبدان في العقوبات، وقد استقصيناها في كتاب الضمان.
وقال بعده: " لو قال: زنى فرجُك أو يدُك، فهو قذفٌ ... إلى آخره " (2) وهذا مما قدمنا ذكره، وذكرنا أن النص دال على أن إضافة الزنا إلى غير الفرج من الأعضاء صريح، وفيما قدمناه بيان تام.
ثم قال الأئمة: الألفاظ المستعملة في هذا النوع أقسامٌ: قسم هو صريح، وهو لفظ الزنا مضافاً إلى الجملة، أو إلى الفرج، أو الألفاظ الناصّة على المعنى كالنيك، ولفظ الإيلاج مع التصريح بالوصف بالتحريم المطلَق، وانتفاءِ الشبهة.
وقسم هو كناية: إن أراد اللافظُ به القذفَ، كان قذفاً، وإلا فلا.
ومن جملته قولُ القائل: زنى يدُك، على الأصح. ولستَ بابنِ فلان، وكذلك إذا قال لعربي: يا نبطي، أو لنبطيّ يا عربي.
ومن الأقسام ما ليس بكناية ولا صريح، ولكنه تعريضٌ، كقول القائل لمن يخاطبه: يابن الحلال، وقوله أما أنا، فلست بزانٍ، وقال مالك (3) التعريض بالقذف قذفٌ، ثم ألطف الشافعيُّ في محاجّته (4) ، فقال أباح الله التعريضَ بالخِطبة، وحرم التصريحَ بها؛ فدل ذلك على أن التعريضَ خلافُ التصريح، وقال: روي أن رجلاً من فزارة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وعرّض بأنها أتت به من زنا، فقال عليه السلام: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما لونها فقال: حُمْر، فقال: هل فيها من أسود، فقال: نعم، قال: ولم ذلك؟ فقال: لعل عرقاً نزعه، فقال صلى الله عليه وسلم: لعل عرقاً نزعه" (5) ولم يجعله قذفاً.
__________
(1) ر. المختصر: 4/183.
(2) ر. المختصر: 4/184.
(3) ر. القوانين الفقهية: 350، جواهر الإكيل: 2/287.
(4) ر. المختصر: 4/184.
(5) حديت: " لعل عرقاً نزعه "، متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، ح 5305. مسلم: اللعان، ح 1500) .(15/117)
9733- ثم قال: " ولا يكون اللعان إلا عند السلطان ... إلى آخره " (1) إذا تلاعن الزوجان وحدهما لا يتعلق بتلاعنهما حُكمٌ، فإن حكّما رجلاً صالحاً، [ففي] (2) أصل جواز [التحكيم] (3) قولان. وإن جوزناه، ففي تجويزه فيما يتعلق بالعقوبات وجهان، [وكل] (4) ذلك بين أيدينا؛ فلا معنى للاستقصاء فيه، وإنما فرقنا بين العقوبات وبين عفوها طلباً لدرائها.
ثم العقوبات تترتب: فمنها ما يجب لله، ومنها ما يجب للآدميين.
وما يجب لله تعالى أولى بأن لا يجرى التحكيم فيه، ثم إن اللعان يترتب على ما إذا كان المطلوبُ الحدَّ المحضَ، ووجه الترتيب أن اللعان قد يتعلق بثالث، وهو الولد، ومبنى التحكيم على ترتبه على رضا الخصمين.
ثم إن استخلف القاضي من يُجري اللعان بحضرته، نُظر: فإن نَصب حاكماً في أمور، وكان فَوّض إليه أن يستخلف، فيجوز ذلك، وقد قام مقام قاضٍ، وإن لم يَنصب حاكماً، أو ما كان فَوّض إليه أن يستخلف، فلو استناب من يعوِّل على مثله في أمر خاص: مثل أن يقيمه مقام نفسه في طرفٍ من خصومة، أو في خصومةٍ فَرْدة، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز، ولا ينفذ منه ما فَوَّضَ إليه، فإنه ليس قاضياً بنفسه، وإنما ينفذ حكم الحاكم. وهذا من أصول أدب القاضي، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله.
فرع:
9734- إذا قذف رجلاً أو امرأةً، وتوجه الحدّ، فلو قال للمقذوف: لا بينة لي على زناك، ولكنك تعلم أنك زانٍ، فاحلف بالله ما زنيتَ، فهل عليه أن يحلف؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يحلف؛ فإن القذف في نفسه موجِبٌ للحد، فإن أراد القاذف درءَ الحد، فليُقِم بيّنةً من تلقاء نفسه، وأيضاًً فالتحليف في نفي الزنا يتعلق بنفي
__________
(1) ر. المختصر: 4/184.
(2) في الأصل: في.
(3) في الأصل: التحكم.
(4) في الأصل: فكل.(15/118)
كبيرة [توجب] (1) حداً لله تعالى، فلا معنى للتحليف فيما هذا سبيله.
والقول الثاني - أن له أن يحلّف المقذوفَ لإمكان الصدق أو الكذب، وغرضُه نفيُ حدِّ القذف -عند فرض النكول- لا إثباتُ الزنا، ثم إذا نكل المقذوف، رَدَدْنا اليمين على القاذف، فيحلف على الزنا، ولا يثبت الزنا على المقذوف به، بل يندفع الحد.
فرع:
9735- ذكر الشيخ أبو علي في فصلٍ قدمناهُ وجهاً غريباً، لم أحب ذكره في ترتيب المذهب، ولست أرى أيضاًً إسقاطَه لعلُوّ قدر الناقل:
فإذا قال الرجل لامرأته: زنيتِ فقالت: زنيتُ بك، وفسرته بزنيةٍ جرت لها على زعمها قبل النكاح، فقد قذفت زوجها، واعترفت على نفسها بالزنا، ولا يخفى حكمُها لو أصرت على إقرارها.
ولو رجعت، قال الشيخ: أما حد الزنا، فيسقط عنها، وأما حدُّ القذف، ففي سقوطه عنها قولان: أحدهما - أنه لا يسقط، وقياسه بيّن.
والثاني - يسقط؛ لأن الفعل المعتَرفَ به واحد، وإن وقع الإخبار عنه اعترافاً بالزنا من وجهٍ وقذفاً من وجه؛ فإذا فُرض الرُّجوعُ، وجب أن لا يتبعض، وقرّب هذا من إقرار العبد بسرقة نصاب؛ فإنه مقبولٌ في وجوب القطع، وفي قبوله بالمال قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
ووجه التشبيه اشتمال الإقرار على ما لا تُهمة فيه.
وهذا بعيد؛ فإنا قبلنا الإقرار في وجوب القطع، لانتفاء التهمة، وإلا فالقطع واردٌ؛ على ملك المولى، وهذا المعنى يشمل الطرفَ والمالَ المذكورَ في الإقرار، وأما الرجوع عن الإقرار، فقبوله من خصائص الزنا، ولا يشتمل هذا المعنى على حد القذف.
فصل
ذكر الشيخ في شرح الفروع وجهاً غريباً في مسألة لم أحكه فيها لما ذكرته الآن، وذلك أنه قال: إذا بانت المرأة عن زوجها، فقذفها بعد البينونة، ولم يكن ثَمّ ولد،
__________
(1) في الأصل: موجب.(15/119)
نُظر: فإن ذكر زنا بعد البينونة، حُدّ، ولم يلتعن، وكذلك إذا أطلق ذِكْرَ الزنا، ولم يؤرّخه.
ولو نسبها إلى زنية، وذكر أنها جرت في النكاح، فالمذهب المقطوع به أنه لا يلتعن. وحكى الشيخ وجهاً غريباً أنه يلتعن لإسناده الزنا إلى حالة النكاح، ولو جرى ما ذكر، لكان ذلك تلطيخاً للفراش.
فرع:
9736- إذا منعنا اللعان عن الحمل، فلو قال الزوج: دعوني ألتعن، فإن وافى اللعان حملاً، نفاه، وإن لم يكن، فإذ ذاك يتبين أن لعاني كان لغواً، فقد ذكر الشيخ وجهين عن ابن سريج في ذلك، وهذا مضطرب، فإنا إذا فرعنا على منع اللعان على الحمل، ففائدته المنع منه إذا كان بعد البينونة أو في نكاح شبهة، وإلغاء أثره إذا فرض في النكاح، وما أشار إليه من إعمال اللعان على وجهٍ هو تفريعٌ على جواز اللعان على الحمل.(15/120)
باب الشهادة في اللعان
9737- مذهب الشافعي أن الزوج لو شهد على زنا زوجته، فشهادته مردودة، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك، ثم اعتمد الأئمة نكتتين: إحداهما - أن الزنا تعرّضٌ لمحل حقِّ الزوج؛ فإن الزاني منتفع بالمنافع المستحَقة له، فشهادته في صيغتها تتضمن إثباتَ جناية الغير على ما هو مستحَقٌّ له، وهذا يخالف صيغَ الشهادات.
والنكتة الثانية - أن من شهد بزنا زوجته، فنفس [شهادته دالّة] (2) على إظهار العداوة، فلا شيء يستثيرُ المغيظةَ مثلُ تلطيخِ الفراش، فإذا كنا نرد شهادة العدوّ، فالشهادة التيِ صيغتُها إظهارُ العداوة لا تُقبل.
ولو شهد أَبُ الزوج بزنا زوجة ابنه، فهذه المسألة لم يتعرض لها أئمة المذهب إلا شيخي فيما حكاه لي عنه بعضُ الثقات، فإنه ذكر وجهين، وقربهما من النكتتين: إن عوّلنا في رد شهادة الزوج على إشعار شهادته بإظهار عداوته، فهذا المعنى قد لا يتحقق في شهادة الأب، وإن عولنا على النكتة الأخرى، وهي التعرض لمحل الحق المستحَق [فطرْد] (3) هذه النكتة يتضمن رَدّ شهادة أبيه؛ فإن شهادة الأب للابن في حقه مردودة، كما أن شهادة الرجل لنفسه مردودة.
وهذا غريبٌ لا تعويل عليه، فالوجه القطع بقبول شهادة أب الزوج.
ولو شهد ثلاثة على زنا الزوجة، فشهد الزوج معهم، فشهادته مردودة على ما ذكرناه.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/515 مسألة 1064، المبسوط: 7/54، رؤوس المسائل: مسألة 308، بدائع الصنائع: 3/240، حاشية ابن عابدين: 4/7.
(2) في الأصل: شاهدته دالّ.
(3) في الأصل: وطرد.(15/121)
9738- ثم شهود الزنا إذا نقص عددهم، فقد اختلف القولُ في أنهم قَذَفَة يُحدّون، أم شهودٌ لا يتعرض لهم؟ وسيأتي ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى.
ولهذا [إذا جاء الزوج وثلاثة يشهدون، فكيف نفرّع قوله، أنجعله قاذفاً] (1) أم كيف سبيله؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع القول بأنه قاذف؛ لأنه ليس من أهل الشهادة على هذا الزنا، ومنهم من أجرى فيه القولين، وجعل نقصان الصفة بمثابة نقصان العدد، وعلى هذا خرّج الأصحابُ شهادةَ الفسقة على الزنا إذا تبين فسقُهم بعد إقامتهم الشهادة، وسيأتي ذلك.
9739- ثم ذكر الشافعي: " أن حدّ الزنا إذا توجه عليها وهي حامل؛ فلا سبيل إلى إقامة الحدّ إلى أن تضع ثم تَفْطِم ... إلى آخره " (2) ولسنا نخوض في هذا الفصل، فإنه مستقصًى في كتاب الجراح، وفيه تفصيلٌ بين الحد والقصاص، وتبيين ترتيب المذهب.
9740- ثم ذكر الشافعي قيام شاهدين على الإقرار بالزنا (3) ، وهذا من كتاب الحدود، والمقدارُ المقيمُ لرسم الترتيب أن القول اختلف في أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة عدلين؟ فإن قلنا: يثبت [فيتعلّق] (4) به وجوب الحد.
فإن قال المشهودُ عليه: رجعت عن إقراري، سقط الحد، وقُبل الرُجوع، وإن قال في معارضة شهادة العدلين: ما أقررتُ وأنتما كاذبان، فلا يكون ذلك رجوعاً منه، والحدّ يقام عليه على القول الذي عليه نفرّع.
فإن قال لما شهد العدلان أو العدول: ما زنيتُ. فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن هذا رجوع عن الإقرار، وذهب شرذمةٌ إلى أن ذلك في حكم التكذيب،
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: " ولهذا الزوج فقد جاء بمجيء الشهود، فكيف نفرع قوله الجعله فإذا فاام كيف سبيله ... " (انظر صورتها) . والمثبت ثصرف من المحقق على ضوء السياق.
(2) ر. المختصر: 4/187.
(3) ر. المختصر: 4/188.
(4) في الأصل: متعلق.(15/122)
ولا يصح الرجوع ما لم يعترف بالإقرار، ثم ينشىء الرجوعَ إن أراد.
وإن قلنا: لا يثبت الزنا بشهادة عدلين على الإقرار بالزنا، فلو قذف رجلاً أو قذف الزوج زوجته، ثم أقام عدلين، فشهدا على الإقرار بالزنا، فهل يسقط حدُّ القذف والحالة هذه عن القاذف والتفريعُ على أن الزّنا لا يثبت؟ فعلى وجهين.
9741- ثم قال: " ولو قذفها، وقال: [كانت] (1) أمةً أو مشركةً ... إلى آخره " (2) .
لا اختصاص لهذه المسألة وكثيرٍ من المسائل التي نُجريها بالزوج والزوجة.
فإذا قذف الرجل شخصاً، ثم قال: أنت عبد أو مشرك، وكان مجهول الحال، فقال المقذوف: بل أنا مسلم حُرٌّ، فقد اختلف نص الشافعي في ذلك، وهذا مما استقصيناه في أحكام اللقيط، وفرضنا فيه أنه لو قُذف -ثم فرض النزاع على هذا الوجه - ففيمن يصدَّق قولان: أحدهما - أن المصدَّق هو المقذوف؛ فإن الأصل الحرية والدار تُثبت الإسلام.
والقول الثاني - أن المصدَّقَ القاذفُ، فإن الأصل براءةُ ذمته، وهذا مما ذكرناه مستقصًى، فألحقناه بتقابل الأصلين، والقولان مفروضان في اللقيط إذا بلغ وقُذف، والأمر على الاستبهام.
فأما إذا فرض ذلك في رجلٍ مجهول لم يعهد لقيطاً، ولكن ليس يعرف نسبه ودينُه، فقد ذكر الصيدلاني طريقتين فيه: إحداهما - طردُ القولين، كما ذكرناه في اللقيط، والأخرى - القطع بأن القول قولُ القاذف؛ فإنا إنما صدقنا اللقيط في قولٍ؛ من حيث تؤكّد الدّار ما يدعيه من الحرية والإسلام، وهذا المجهول إذا لم يكن لقيطاً في دار الإسلام لا تعلق له بمقتضى [حكمٍ] (3) من الدار.
ولو قال القاذف: قذفتك وأنت مرتد، فأنكر المقذوف، فإن لم يُعهد له ردة، فقد
__________
(1) في الأصل: وقال: "أنت أمة أو مشركة" والتصويب من نص المختصر.
(2) ر. المختصر: 4/188.
(3) في الأصل: فحكم.(15/123)
قدمنا أنّ القول قول المقذوف، وعلى القاذف إثباتُ ما ادّعاه، وقد سبقت نظائر هذه المسألة.
ولو قال: كنتُ مرتداً فأسلمت، وجرى قذفُك بعد إسلامي، فلا يقبل ذلك منه.
نعم، له أن يحلّف القاذف.
وكل هذا مما تمهدت أصوله فيما سبق.
9742- ولو قال: قذفتكِ وأنت صغيرة، وأقام على قذفها في الصغر بينةً، وقالت: بل قذفتني وأنا كبيرة، وأقامت بينةً على حسب قولها، فإن كانت البينتان مطلقتين أو مؤرختين بتاريخين مختلفين، فقد ثبت قذفان، ويتوجّه الحد بالقذف الثابت في حالة الكبر.
وإن وقع التعرضُ لوقتٍ واحد، وآل النزاع إلى كونها صغيرةً في ذلك الوقت أو بالغة، فلو أقامت المرأة بيِّنة على أنها كانت بالغةً في ذلك الوقت، وأقام القاذف شاهدين على أنها لم تكن بالغةً في ذلك الوقت، فهذه شهادة على النفي، فإن وقع التعرض لإثبات الحيض، فنفيه مردود والتعويل على الإثبات.
وقد يعترض في هذه المسألة سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: كيف يمكن إثبات الحيض، ولا اطلاع على ذلك إلا من جهتها، إذ لو فرض اطلاع على ظهور الدّم من منفذه على صفة الحيض، فقد تعلم تلك أنه دمُ فسادٍ راجعةً إلى ترتيب أدوارٍ، وهي أعرف بها من غيرها، فكيف سبيل تصور الشهادة على الحيض؟
قلنا: ليس يبعد ذلك؛ فإن نسوة لو رأين نفوذ الدم في أول وقت إمكان البلوغ، ثم تمادى الدم إلى انقضاء أقل الحيض، فيمكن فرض العِيان على عُسرٍ فيما ذكرناه، ويمكن حمل الشهادة على إقرارها بالحيض في ذلك الوقت، والنزاع مفروض بعد انقضاء زمانٍ من تاريخ الإقرار. هذا وجه التصوير.
ومما نجريه في ذلك: أنها لو أقامت بينة على أنها كانت بالغة في ذلك الوقت، وأقام القاذف بينة على أنها كانت صغيرة في ذلك الوقت، فالصغر في ظاهر الأمر صفةٌ ثابتة، ولكنه يكاد يرجع في هذا المقام إلى النفي؛ إذ المقصود منه عدم البلوغ.
هذا وجه.(15/124)
ويجوز أن يُحمل ثبوتُ الصغر على أمرٍ يتعلق بالسن، وتاريخ الولادة، فيرجع ذلك إلى الإثبات، والأصل حمل شهادة الشهود على الصحة، فإذا تعارضت بينتان في الصغر والكبر، على التأويل الذي ذكرناه، والوقت متعيَّنٌ باتفاق القاذف والمقذوف، فإن حكمنا بتهاتر البينتين، فلا كلام، فإن رأينا استعمال البينتين ففي الاستعمال في غير هذا الموضع أقوال، وقد زعم الأصحاب أنه لا يجري هاهنا إلا قولُ القرعة.
والذي أراه وقد تلقيتُه من مرامز كلام المحققين أن قول الاستعمال لا جريان له في العقوبات، وكما يتعطل قول الوقف، وقولُ القسمة، يتعطل قول القرعة أيضاً؛ لامتناع إقامة عقوبة لقرعةٍ وِفاقيّة، فلا وجه إلا المصير إلى التهاتر.
9743- قال: " ولو شهد عليه شاهدان أنه قذفهما وقذف امرأته ... إلى آخره " (1) .
إذا شهد شاهدٌ أنّ فلاناً قذفني وقذف فلاناً، فقوله مردود فيما يتعلق به؛ فإن شهادة الإنسان لنفسه مردودة، فأما شهادته على قذفه لغيره، فهي مقبولة لو تجرّدت، ولكنها أتت مقترنةً بشهادته لنفسه، فالذي صار إليه الجمهور ردُّ الشهادة للغير أيضاًً؛ لأنه بذكره قَذْفَ نفسه أقام نفسه خصماً وعدوّاً، وشهادة الخصم والعدو مردودة.
ولو قال الشاهد: قذف زوجتي وفلاناً، أو قال: أشهد أنه قذف أمي وفلاناً، فشهادته لأمه غير مقبولة، وهل تقبل شهادته لغيرها والشهادتان مذكورتان في قَرَنٍ.
هذا مما تردد فيه الأصحاب أيضاًً، على ما سينتظم المذهب بعد إرسال المسائل.
فأما شهادة الرجل بقذف زوجته، فيبتني أولاً على شهادة الزوج هل تقبل لزوجته؟ وفيه اختلاف قولٍ، سيأتي في الشهادات، إن شاء الله.
فإن قبلنا شهادة الزوج لزوجته، فهل تقبل شهادته بقذفها؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنها مقبولة، كما لو شهد لها بقصاص، أو [مال] (2) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/190.
(2) في الأصل: خالٍ.(15/125)
ومنهم من قال: لا تقبل؛ فإن الشهادة [بقذفها] (1) تتضمن إظهار عداوة القاذف.
والرجل يتعيّر بقذف زوجته كما يتعير بقذف نفسه.
وعن هذا الأصل نشأ الاختلاف في الجمع بين الشهادة بقذف الأم وقذف أجنبي، فإذا تبينت المسائل، حان ترتيبها:
9744- فأما إذا شهد بقذف نفسه وقذْف أجنبي، فشهادته لنفسه مردودة، وفي ردّ شهادته للغير طريقان: من أصحابنا من قطع بالرد؛ لإظهار العداوة.
ومنهم من أجرى قولين مأخوذين من أن الشهادة إذا اشتملت على شيئين رُدّت في أحدهما، فهل تُردّ في الثاني ولو قدِّر مُفرَداً، لقبلت الشهادة فيه؟ وفيه قولان.
فأما إذا شهد بقذف أمه وقذف أجنبي، فهل نجعل قذف الأم إظهاراً للعداوة؟ فيه اختلاف: منهم من لم يجعله إظهاراً للعداوة، فيتجرّد إذاً البناء على قولي تبعض الشهادة.
ومنهم من جعل ذكر قذف الأم إظهاراً للعداوة.
وأما قذف الزوجة إذا شهد به، وضمَّ إليه قذفَ أجنبي، ففي شهادته لزوجته الكلام الذي ذكرناه، ولكن هل نجعل هذا إظهار عداوة؟ فيه اختلافٌ: فإن جعلنا ذلك عداوة، فالشهادة للأجنبي مردودة، وإن لم نجعله إظهار عداوة، فهي شهادة متبعّضة وفيه القولان.
وهذا بيان قاعدة الفصل وترتيب المسائل فيه.
وربما قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قطع بأن شهادته بقذف الأجنبي مردودة، إذا اقترنت بشهادته بقذف نفسه قولاً واحداً، وإذا اقترنت بشاهدته بقذف أمه فطريقان.
ومنهم من قلب، وقال: إذا قرن بين ذكر الأم والأجنبي، فالشهادة للأجنبي تخرّج على قولي التبعيض لا غير، فإذا جمع بين الشهادة للأجنبي وبين الشهادة لنفسه، فطريقان.
__________
(1) في الأصل: لقذفها.(15/126)
وقد نعلم أن القناعة قد تقع ببعض ما نُردِّده، ولكنا نقلّب العبارات، حتى يظهر المُدرَكُ، ويستبين الغرضُ.
9745- ومما يتعلق بتمام الفصل أن من شهد على غيره بمال أو غيره، فقذفَه المشهود عليه، فلا يصير الشاهد خصماً بذلك؛ فإنه قد لا يبغي مخاصمةَ القاذف، ولو جعلنا هذا ذريعة إلى إسقاط الشهادة، لما عجز عن ذلك مشهودٌ عليه في أمرٍ خطيرٍ يهون احتمالُ حد القذف عن (1) مقابلة اندفاعه.
ولو سبق القذفُ، فشهد المقذوف على القاذف بحقٍّ من الحقوق، ولم يبد مخاصمةً في الحد وطلباً له، فشهادته مقبولة أيضاً، وِفاقاً كما لو طرأ القذف.
والقول في العداوة والخصومة وما يوجب ردّ الشهادة منهما وما لا يوجب لا مطمع في استقصائه هاهنا، وموضع ذلك في كتاب الشهادات.
فصل
9745/م- نقل المزني في الجامع الكبير عن الأم: أن ابنين لو شهدا على أبيهما أنه قذف ضَرّة أمهما، ففي قبول شهادتهما قولان: أظهرهما - القبول، والثاني - أنها لا تقبل؛ لتمكن التهمة، فإنهما يقصدان إثبات القذف على أبيهما، فيضطر إلى اللعان، وتبينُ الضَّرّة، وتنتفع أمهما، وهذا إبعادٌ [في] (2) التهمة، لا يجوز رد الشهادة بمثله.
وألحق العراقيون بذلك ما لو شهد الابنان على أبيهما على أنه طلق ضَرَّة أمهما، ولا شك أن المسألة كالمسألة، والطلاق أوقع إن كان لهذه التهمة موقعٌ في رد الشهادة، فإن الطلاق يُنجِّز الفراق، ولا أصل لقول رد الشهادة في المسألتين؛ فإن الزوج لا ينحسم عليه مسلك التزوّج.
__________
(1) (عن) جاءت هنا بمعنى (في) . والمعنى: يهون احتمال حد القذف في مقابلة اندفاع المشهود عليه.
(2) في الأصل: وفي.(15/127)
فصل
9746- إذا شهد شاهدان على القذف، ولكن قال أحدهما: إن فلاناً قذف فلاناً بالعربية، وشهد الآخر أنه قذف بالعجمية، فالقذف لا يثبت باتفاق الأصحاب؛ لأن المشهود عليه قذفان [لا يجتمع] (1) على واحد منهما شاهدان.
وكذلك لو فُرض الاختلاف في المكان والزمان بأن شهد أحدهما أنه قذف فلاناً في الدار، وشهد الثاني أنه قذفه في السوق.
وكذلك لو فرض القذفان في زمانين، فلا ثبوت.
وكذلك لو شهد أحدهما على إنشاء القذف، وشهد الثاني على الإقرار بالقذف، فلا تلفّق الشهادة والإقرار بها، وهو بمثابة ما لو شهد أحد الشاهدين بأنه باع من فلان، وشهد الثاني أنه أقر بالبيع، فلا يثبت البيع، ولا يلفق الإنشاء والإقرار.
ولو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية بالقذف، وشهد الآخر أنه أقر بالقذف [بالعجمية] (2) لفقنا وأثبتنا أصل القذف، ومعنى ذلك أن يكون لفظه في الإقرار بالعربية وبالعجمية والمقر به لا اختلاف فيه، ويفرض في لك بأن لا يتعرض للغة القذف، أو يتعرض على الاتحاد والاتفاق، وهذا من الأصول، فالأقارير مجموعة ملفقة.
ولو شهد شاهد على [إقراره] (3) يوم السبت وشهد آخرُ على [إقراره] (3) يوم الأحد، ثبت الإقرار بالشهادتين، وكذلك [لو] (4) فرض الاختلاف في المكان، [إذا] (5) اتحد المخبَر عنه، فتعدد الأخبار غير ضائر؛ فإن الإقرار يُعْنَى للمخبَر عنه، فلا نظر إليه اختلفَت صيغتُه ومكانُه وزمانُه أو اتفقت هذه الخصال، [فالقذف في
__________
(1) في الأصل: لا يجتمعان.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: إقرار.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: وإذا.(15/128)
حقيقته خبرٌ] (1) ، فهو مقصود في عينه وبه الجناية على العِرض؛ [فلم يعتبر فيه] (2) الاختلاف والاتفاق.
ولو شهد شاهد أنه أقر أنه قذف بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر أنه قذف بالعجمية، قال المراوزة: يلفق، وقال العراقيون: لا يلفق؛ فإنه أخبر عن قذفين مختلفين، وهذا أوفق وأجرى على القياس المرتضى، والله أعلم.
9747- ثم ذكر الشافعي إن كتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الشهادة هل يتطرقان إلى حدّ القذف، وفيه اختلافُ قولٍ لا وجهَ للخوض فيه، فإنه يُستقصى في كتابه.
وتعرض الشافعي للتوكيل (3) ، وهو مما سبق، فالتوكيل بإثبات القذف جائز، وفي التوكيل باستيفاء الحد واستيفاء القصاص اختلاف نصوص وأقوال، وقد مضى ذكرهما في كتاب الوكالة، وسيجرى ذكرها في الجراح، إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) عبارة الأصل غير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " ... أو اتفقت هذه الخصال والقذف فإن ذلك خبراً (كدا) فهو مقصود في عينه ... إلخ ".
والمثبت من تصرف المحقق بناء على السياق الواضح من الجمل السابقة مباشرة، وقد أكد هذا كلام ابن أبي عصرون، ونص عبارته: " ولو شهد واحد على إقراره يوم السبت وشهد آخر على إقراره يوم الأحد يثبت الإقرار، وكدا لو اختلفا في مكان الأقرار، لأنه إذا اتحد المخبر عنه، فتعدد الإخبار لا يضر في صيغته، وزمانه، ومكانه؛ لأنه خبر مقصود في عينه، وهو الجناية على العرض، فلم يعتبر فيه الاختلاف والاتفاق " ا. هـ بنصه (ر. صفوة المذهب: ج 5 ورقة: 136 يمين) .
وكذلك قال العز بن عبد السلام: " وإن اختلفت لغة الإقرار بالقذف أو زمانه أو مكانه، لفقت الشهادتان "، (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 ورقة 198 يمين) .
(2) في الأصل: " فاعتبر فيه " وهو خلاف ما تقرّر في الجملة قبله.
(3) ر. المختصر: 4/191.(15/129)
باب الوقت في نفي الولد
9748- إذا ثبت للزوج حقٌّ نفي الولد، فقد اختلف القول في أنه على الفور أم فيه مَهَل؟ فالقولُ الصحيح المنصوص عليه في الجديد أنه يثبت على الفور؛ لأنه لدفع الضرر كالرد بالعيب، وقال في القديم يتقدّر بثلاثة أيام؛ فإنّ خطر النسب عظيم في النفي والاستلحاق، وما يعظم خطره يليق بالمراشد مَهَلٌ فيه للرّويّة، ثم الثلاث تقدّر بها مددٌ [شبيهة] (1) في مقاصدها بما نحن فيه.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً: أن النفي على التراخي، لا يبطله إلا الاستلحاق، وهذا قول ضعيف، لا تفريع عليه، ولا عودَ إليه، والتفريعُ على الإمهال ثلاثةَ أيام بيّنٌ، وأما الفور ومعناه، فقد ذكرناه في كتاب الشفعة على أبلغ وجه في البيان، وذكرنا فيه الإشهادَ وبلوغَ الخبر في الغَيْبة؛ فلسنا نعيد شيئاً مما مضى؛ إذ لا فرق بين البابين.
والذي نذكر هاهنا: أنه لو أخبره مخبر بأن زوجتك ولدت، فأَخَّر، ثم لما روجع قال: لم أصدقه، فهو مصدَّقٌ.
ولو أخبره عدلان، كان يعرفهما بالعدالة، فلا يقبل قوله: لم أصدقهما، ولو أخبره عدل واحد، كان يعرفه بالعدالة، فهذا فيه تردد مأخوذ من قول الأصحاب؛ من جهة أن الغرض الثقة، وذلك يحصل بقول الشخص الواحد؛ إذ يجب التعويل على روايته، ويجوز أن يرعى في ذلك عددٌ يتعلّق بالخصومات، وهذا كالتردد في [عدد] (2) المترجم والخارص، وما في معناهما، مما يتعلق بأطراف الخصومات، فلا تكون شهادةً محضة.
__________
(1) في الأصل: تشيبهة.
(2) في الأصل: عود.(15/130)
ولو قال: لم يبلغني خبر أصلاً، فإن كان غائباً، صُدِّق، وإن كان حاضراً والولادة في الدار أو المحِلّة -وما جرت حالةٌ تقتضي المكاتمة- فإذا ادعى عدمَ بلوغ الخبر -والحالة هذه- لم يصدق.
9749- ولو كانت حاملاً، فقد ذكرنا في أصول الكتاب أنا وإن جوّزنا نفي الحمل باللعان، فليس على الفور؛ لأنه ليس مستيقناً، فلو قال: أؤخر اللعان، فلعله ريحٌ تنفُش، لم يبطل حقه.
ولو قال: أعلم أنها حامل، ولكني أؤخر اللعان، فعساها تُجْهِض وتُلقي جنينها ميتاً، قال الأصحاب: التأخير على هذا الوجه مع الاعتراف بالعلم ثَمَّ (1) بالحمل يُبطل حقه من اللعان على قول الفور، وإنما يكون معذوراً في التأخير إذا حُمل الأمر فيه على أن لا يكون الحمل أصلاً، ويَفْرِض ريحاً غليظة تنفشُ.
ورأيت في كلام الأصحاب ما يدل على وجهٍ آخر: وهو أن الحق لا يبطل؛ لأن الحمل لا يُستقين [قط] (2) ، فقوله: " أعلم الحملَ "، لا حقيقة له؛ فإن المظنون يعتقد ولا يعلم.
وهذا متجه، والأظهر ما حكيناه عن الأصحاب.
9750- ولو أخبره مخبر بمولودٍ أتت به امرأته على الفراش، وهنأه به فقال: متعك الله به، أو قال: ليهنك الفارس، أو ما جرى هذا المجرى من الألفاظ المعتادة في التهنئة عند الولادة، فإن قابل الدعاء بدعاء، ولم يصدر منه ما يتضمن تقريراً، فلا يكون مقابلة الدعاء بالدعاء إسقاطاً [لحق] (3) النفي، وهذا مثل أن يقول للمخبر: جزاك الله خيراً، أو أسمعك الله ما تُسرّ به، أو ما أشبه هذا، فهذه الدعوات لا تعلق لها بالتهنئة، وإنما جاءت مُقابَلةً للدعاء بالدعاء، ولأجل هذا لم نجعله مستلحِقاً، ولا مبطلاً حقَّ النفي.
__________
(1) ثمَّ أي في هذه الصورة بخلاف التي قبلها؛ إذ ظن حملها ريحاً.
(2) في الأصل: فقط.
(3) في الأصل: بحق.(15/131)
وبمثله (1) لو قال على أثر دعوة المهنّىء: آمين، مثل أن يقول المبشر: بارك الله لك في المولود الجديد، أو ليهنك الفارس، فإذا قال: آمين، فهذا تقريرٌ للدعاء، ومساعفَةٌ في مقتضاه، وهذا متضمَّنُه الاستبشارُ والرضا بمعنى التهنئة، فيبطل به الحق في النفي.
فهذا القدر هو الذي رأينا أن نذكره.
وغائلةُ الفصل في معنى الفور، والتأخير، والإشهاد، وما يتصل بهما، وقد تقدم هذا مستقصًى في كتاب الشفعة، وسبق طرفٌ صالح منه في الرد بالعيب.
ولو قال: بلغني خبر المولود، ولكني لم أعلم أنه يَثبتُ لي حقُّ نفيه، وأخرت لذلك؛ فإن كان فقيهاً أو أنِساً بالفقه بحيث لا يخفى عليه مثل هذا، فلا يصدق فيما ادعاه.
وإن أمكن صدقه، في دعواه، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنه هل يبطل حقه، وبنوهما على القولين في أن الأمَةَ، إذا عَتَقَت تحت زوجها القنّ، وفرّعنا على أن خيارها في الفسخ على الفور، فلو أخرت الفسخ، ثم زعمت أنها لم تشعر بثبوت الخيار لها، ففي المسألة قولان مع ظهور الإمكان.
فصل
قال: " فأما ولد الأمة لا يلحق المولى ... إلى آخره " (2) .
9751- مضمون الفصل التفصيلُ في النسب الذي يَلْحق في ملك اليمين بالمَوْلى، وذِكْرُنا ما يوجب اللحوقَ، فنقول أولاً:
لا خلاف أن الإمكان بمجرده لا يتضمّن إلحاق النسب في ملك اليمين بخلاف النكاح؛ فإن الإمكان فيه كافٍ في الحكم بلحوق النسب، وإن لم يوجد من الزوج
__________
(1) المماثلة في التهنئة، وليس الحكم المترتب عليها، كما يتضح من باقي العبارة.
(2) ر. المختصر: 4/198.(15/132)
إقرارٌ بالوطء، بل يلحق النسب والظاهرُ عدم الوطء، فإن من نكح عذراءَ كريمةً من بيتٍ رفيع النسب، ثم أتت بولد قبل الزفاف لزمان يحتمل أن يكون العلوق به واقعاً في النكاح، فالولد يلحق الزوج، والأصلان ثابتان، ولعل المعنى الفاصل بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش " (1) أن النسب مما اعتنى الشرع بإلحاقه وتغليب أسبابه، كما سبق تقريره، ثم وقع القضاء بهذا في الجهات التي تُعنى وتُطلب لأجل النسب، وهي المناكح.
فأما المملوكة، فالنسب في الغالب لا يُطلب منها، وكان المعتبرون في الأعصار يتعيّرون بإيلاد الإماء، ويذكرون في أوائل مفاخرهم أنهم بنو الحرائر، ومن الكلام الشائع للعرب: " لستُ بابن حرة إن كان كذا وكذا "، فيعدّون هذا من الألايا (2) التي يُقسم بها، ولهذا المعنى لم يُقم الشرع للإماء وزناً في القَسْم، فلم يُثبت لهن حقّاً، ولم يقع الاحتفال بمزاحمة الحرائر بهن، فهذا عُقر (3) الباب.
9752- ثم لا شك أن ملك اليمين وإن تقاعد فيما ذكرناه عن النكاح، فيتصور لحوق النسب فيه، واختلف العلماء فيما يتضمن لحوقَ النسب: فقال أبو حنيفة (4) : لا يلحق النسب إلا بالاستلحاق والدِّعوة (5) الصريحة، فلو اعترف المولى بوطء جاريته وأتت بمولود، فلا يلحقه نسبه عند أبي حنيفة ما لم يقل هذا ولدي، ثم قال: إذا لحقه نسب مولودٍ واحد، ثم أتت بعد ذلك بأولادٍ، لحقوه من غير احتياج إلى الدِّعوة، أو سبب من الأسباب غير هذا.
وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا اعترف المولى بالوطء، وأتت الجارية بالولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء، فقاعدة الباب أن الولد يلحق وإن لم يوجد
__________
(1) سيأتي هذا الحديث بعدُ إن شاء الله.
(2) الألايا: أي الأيمان.
(3) عُقر الباب: أي أصله، فالعُقر من كل شيء أصله. (المعجم) .
(4) ر. حاشية ابن عابدين 3/690، تحفة الفقهاء: 2/407، اللباب: 3/122.
(5) الدِّعوة بالكسر ادّعاء الولد واستلحاقه (المصباح) .(15/133)
دِعوةٌ [صريحة] (1) واستلحاقٌ ناصٌّ على الاعتراف بالوطء.
[فإن أتت] (2) الجاريةُ بالولد لزمانٍ لا يُحتَملُ أن يكون العلوق به من ذلك الوطء المقَرّ به، فذلك الولد لا يَلْحق؛ فإن معتمد اللحوق الوطءُ المقرّ به، فقد خرج ذلك الوطء عن كونه مستنِداً للولد الذي جاءت به.
وإن أقر بالوطء، وادّعى أنه استبرأها بعد الوطء: أي حاضت بعد الوطء، فالوجه أن [نطرد] (3) أصل المذهب، ثم نُلحق به وجوهاً حائدة عن القانون، والإحاطةُ بمضمون هذا الأصل موقوفةٌ على نجازه.
9753- فنقول: إذا اعترف بالوطء، وزعم أنه استبرأها بعد الوطء المقرّ به، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر فصاعداً من وقت الاستبراء المدّعَى، فالولد يلحق استناداً إلى الوطء المقرِّ به؛ فإنا تبيّنا أن الذي جرى لم يكن استبراءً للرحم، وأنها رأت الدم على الحمل.
وإن أتت بالولد لستة أشهر، فصاعداً من وقت الاستبراء، فالمذهب الذي عليه التعويل أن الولد ينتفي.
ومرجع المذهب أنا لم نُلحق النسبَ في ملك اليمين بالإمكان المحض، بخلاف النكاح، ولم نشترط التصريحَ بالاستلحاق، بل اكتفينا بذكر سبب العلوق، وهو الوطء.
ثم كما اكتفينا بما لا يكون تصريحاًً بالاستلحاق نُجري ما يناقض ذلك على حسبه، فالوطء ظاهر في الإعلاق، وجريان الاستبراء ظاهر في براءة الرحم، فيصير الواطىء - بعد الاستبراء، وقد تعارض ظاهرٌ في الإلحاق، وظاهرٌ في البراءة- في حكم المتعلق بالإمكان المحض، وقد ذكرنا أن الإمكان المحض لا يُلحق النسبَ [في] (4) ملك
__________
(1) في الأصل: صريح.
(2) في الأصل: فأتت.
(3) في الأصل: يطّرد. (وهو غير مستقيم مع السياق) .
(4) في الأصل: وملك.(15/134)
اليمين، بل النفيُ مترجِّحٌ لتأخر الاستبراء، فهو في حكم الناسخ لما مضى.
9754- ولو ادعى المولى الاستبراء مطلقاً بعد الوطء، وأنكرت الأمة، وزعمت أنها لم تحض بعد الوطء، فقد أطلق الأصحاب أن الرجوع إلى قول المولى.
وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الاستبراء وقوعُ الحيض، والرجوع في ثبوت الحيض ونفيه إلى النسوة؛ إذ لا مطّلع على ذلك إلا من جهتهن، فقد ذكرنا أن الزوج إذا علّق طلاق امرأته بحيضها، ثم زعمت أنها حاضت، صُدّقت مع يمينها، وجرى القضاء بوقوع الطلاق، والأصل استمرار (1) النكاح، فكيف صُدِّق المَوْلى فيما نحن فيه؟
والجواب عن هذا يُفصّل المسألةَ ويوضح الغرضَ منها، فنقول: هذه المسألة فيه إذا كانت الأمة لا تنكر جريان الحيض عليها، [وأن] (2) الزوج اعترف بالوطء، فإذا قالت: لم أحض بعد الوطء، فكأنها تدّعي وطأً بعد آخر حيض منها، والزوج ينكر ذلك الوطء، وإنما يعترف بوطء سابق على الحيض، [فيؤول] (3) الاختلاف إلى دعوى الوطء ونفيه؛ إذ أقر المولى بوطءٍ في وقتٍ عيّنه، وادعى بعد ذلك جريان حيض عليها، وأنكرت الأمة، فهذا محل النظر.
والظاهر أنه يُرجع إلى قولها؛ بناء على ما قدمناه من أن الرجوع إلى قولها في الحيض، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الرجوع إلى قول المولى في هذا المقام -وإن أرّخ الوطء كما صورناه- لأنه لم يعترف بالنسب، ولا اكتفاء بالإمكان، وكأن الشافعي يشترطُ أن يعترف بوطءٍ ويعترفَ بانتفاء الاستبراء، فإن لم يعترف بانتفاء الاستبراء فلا يدّعيه.
9755- ثم أطلق الأئمة القولَ بأنها تحلِّف المولى في دعوى الاستبراء، وليس هذا
__________
(1) في الأصل: " والأصل عدم استمرار النكاح ". وهو مناقض للسياق.
(2) في الأصل: وإلى.
(3) كلمة غير مقروءة في الأصل.(15/135)
لمخاصمتها في النسب، وإنما هو لتعلق حقها بأمية الولد، ثم ذكر الشيح أبو علي وجهين في كيفية التحليف: أحدهما - أنه يحلف بالله لقد حاضت بعد الوطء، ولم يطأها بعد الحيض حتى أتت بالولد، فإذا حلف هكذا، انتفى عنه الولد.
والوجه الثاني - وهو أن (1) اختيار الإصطخري -أنه يحتاج أن يحلف بالله لقد استبرأها بعد الوطء، ولم يطأها بعد الاستبراء، وليس الولد منه، فلا ينتفي النسب بعد الإقرار بالوطء إلا على هذا الوجه.
وقد يعنّ هاهنا إشكال، وهو أن الأمة لو لم تتعرض للتحليف وطلبِ الحلف، فكيف الوجه، ولا يخفى أن للشرع حقاً في تأكيد لحوق الأنساب، فلو أقر بالوطء وادعى الاستبراء ومات، فالنسب لاحق أو منتفٍ؟ الوجه عندنا الحكمُ بثبوت النسب؛ فإنه ذكر سببَ ثبوته، ولم يؤكد ما يناقضه، والاستبراء على حالٍ متعلقٌ بالأمة، فلا يعارض الإقرارَ بالوطء، ما لم يؤكَّد.
ويخرج من هذا أنه لا حاجة إلى دعواها، ولو حلف دونها، كفى.
وما ذكرناه من أميّة الولد صحيح في غرضها، ولكن لا حاجة إليه فيما يتعلق بالنسب.
9756- ولو زعمت الجارية أنه وطئني فأنكر الوطء، فقد حكى القاضي أن الأمة لا تملك تحليفه، بل ليس لها التعرض لذلك، ثم قال: والوجه عندي أنها تملك تحليفه، وهذه الصورة ليست في معنى الأولى؛ فإن النسب في الصورة الأولى لا ينتفي بعد الإقرار بالوطء إلا إذا حلف على الاستبراء، كما فصلناه، وهاهنا لا حاجة إلى الحلف حتى ينتفي النسب، وهذا هو الذي أراده الأصحاب. نعم، إذا طلبت الأمة أمّية الولد، وقد ولدت، فلا يجوز أن يُتوهم خلافٌ في أنها تملك تحليفه.
__________
(1) تستقيم العبارة على تقدير: والوجه الثاني مما حكاه الشيخ أبو علي أن اختيار الإصطخري ... إلخ.(15/136)
9757- ولو قال السيد: وطئتها وعزلت عنها، فالذي قطع به المحققون أن دعوى العزل لا أثر لها، ومن ادعاه بمثابة من اعترف بالإنزال.
وكان شيخي يحكي وجهاً أن النسب لا يثبت إذا ادعى العزلَ، وهذا بعيد، لم أره إلا له (1) ، وما رأيتُ في كتاب، ولست واثقاً بنقلي فيه (2) .
نعم، إذا اعترف السيد بإتيانها دون المأتى مع الإنزال، فهل يكون هذا بمثابة الإقرار بالوطء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يكون كالإقرار بالوطء.
والوجه الثاني - أنه كالإقرار بالوطء؛ فإن الماء يسبق.
وهذا ضعيف لا أصل له.
9758- فإذا أتت الأمة بولد بعد الاعتراف بالوطء وجرى الحكم بلحوق نسبه وثبتت أمية الولد، فإن أتت بولد بعد ذلك لأقلَّ من ستة أشهر، فهذا الولد يلحق لا محالة؛ فإن الأول إذا لحق (3) -والثاني من ذلك الحمل- وقد ذكرنا أن الحمل الواحد لا يتبعض لحوقاً ونفياً.
ولو أتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، فلا شك أن العلوق به بعد انفصال الأول، فهل يلحق من غير اعتراف بوطء بعد الولادة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى ذلك؛ فإن المستولدة مستفرشة، وقد تأكد الفراش فيها بالولد، فيكفي الإمكان؛ فإنها خرجت عن الرّق المطلق، وانتهت إلى حالة يستفرشها المولى على ضعف ملكه فيها- مع أن حِلّ الوطء يستدعي ملكاً كاملاً، فيظهر من هذا أن للشرع غرضاً في تثبيت حرمة الفراش [للتي] (4) ولدت نسيباً،
__________
(1) ولم أره إلا له: أي لم يحكه غيره.
(2) لعل معنى العبارة وتصويبها: والذي رأيته في كتاب، ولست واثقاً بنقلي منه. وذلك أنهم كانوا يرون أن الأخذ عن الكتب من أدنى درجات الثقة في الرواية، فكأنه يقول: لم أسمع هذا النقل من شيوخي. والله أعلم.
(3) جواب (إذا) مفهوم من الكلام.
(4) في الأصل: التي.(15/137)
وأبو حنيفة مع مصيره إلى أن الولد الأول لا يلحق إلا بالدعوة والتصريحِ بالاستلحاق لم يعتبر هذا في سائر الأولاد بعد الأول.
ولكن (1) لا يجري على مذهب الشافعي ما أجراه أبو حنيفة في إثبات خواصّ الفراش، فإنه قال: المستولدة إذا عتَقَت، فاستبراؤها بثلاثة أقراء كالمطلقة الحرة، والشافعي يكتفي في استبراء المستولدة إذا عتَقَت بحيضة واحدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يلحق الولد الثاني إذا تحقق أنه ليس من البطن بالأول ما لم يعترف المولى به أو بوطء جديد بعد انفصال الولد الأول؛ فإنها مملوكة وليست ملتحقة بالمنكوحات، والدليل عليه أن استبراءها إذا عَتَقَت بحيضة، ولا حق لها في القَسْم، كما لاحق للرقيقة، فلا يثبت لها حكم الفراش حتى يكتفى بالإمكان المجرد.
9759- ثم قال الأئمة: هذا الاختلاف ينبني على الاختلاف في مسألةٍ، وهي أن السيد إذا زوّج أم ولده، فألم بها زوجُها، ثم طلقها، فانقضت عدتها، فهل تعود فراشاً للمولى كما (2) تصرّمت العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - بلى تعود، حتى لو مات، أو أعتقها، يلزمها الاستبراء.
والثاني - لا تعود، ولو أعتقها، لم يلزمها الاستبراء.
فإن حكمنا بأنها تعود فراشاً من غير إقرار بوطء جديد، فهذا قضاء منا بان أمية الولد تُغني عن الاعتراف بالوطء، وتقتضي الاكتفاء بالإمكان.
وإن قلنا: لا تعود فراشاً، فلا بد بعد التخلي من اعترافٍ بوطء.
فعلى (3) هذا إذا أتت المستولدة بولدٍ، فلحق، ثم أتت بولدٍ يقع العلوق به بعد الولادة، فلا بد من الاعتراف بوطء جديد.
__________
(1) الاستدراك هنا بمعنى أننا إن وافقنا أبا حنيفة في أن الأولاد بعد الولد يلحقون بالفراش وبالإمكان، لكن لا يجري مذهبنا على ما يجري عليه أبو حنيفة في الاستبراء.
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) عودٌ إلى مسألة المستولدة، المشبهة بالمزوّجة.(15/138)
هذا حاصل قول الأصحاب في ذلك.
فإن قلنا: لا حاجة إلى الاعتراف بوطءٍ، فقد ذكر بعض الأصحاب أنه لو ادعى الاستبراء، [لانُتفى] (1) النسب، [وهذا خرقٌ عظيم، لا يلحق بالمذهب] (2) ؛ فإذا كان الولد الثاني يلحق من غير اعترافٍ بوطء، فلا حاصل لذكر الاستبراء (3) .
وقد انتجز ما نقلناه عن الأصحاب (4) .
9760- ووراء ذلك كلِّه أمرٌ هو الأهم، فنعود على ما رسمنا مباحثين، ونقول: إذا اعترف بوطء مملوكةٍ، وادعى استبراءها بعد الوطء، أو جرى حيضُها حقاً، فإذا أتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فهو منتفٍ على النص وظاهرِ قول الأصحاب.
ومن أصحابنا من قال: يلحق النسب لأن الموطوءة صارت فراشاً في قضية لحوق النسب، والتحقت في هذا المعنى على الخصوص بالمنكوحة.
والسبب فيه أن حرمة النسب في ملك اليمين كحرمة النسب في النكاح، غيرَ أنّا لم نؤاخذ بالإمكان المجرد في ملك اليمين؛ من حيث إن الوطء ليس مقصوداً فيه، فإذا اعترف به، لم يغادر شيئاًً يُطْلِع عليه، والذي يستلحق النسبَ لا يعرف منه إلا الوطء،
__________
(1) في الأصل: إلا بنفي النسب.
(2) زيادة ذكرها بلفظها ابن أبي عصرون، وبمعناها العز بن عبد السلام.
(3) عبّر عن ذلك ابن أبي عصرون والعز بن عبد السلام، فقالا: " إن ولادة الولد الأول أقوى من الاستبراء ".
(4) لعلنا نؤكد صحة هذا التصرف في العبارة والزيادة فيها إذا رأينا نص اختصار العز بن عبد السلام لها، فقد قال: " ومتى ألحقنا ولد الأمة ثبتت أمية الولد؛ فإن أتت بعد ذلك بأولادٍ، فإن كانوا من ذلك البطن، لحقوا، وإن كانوا من بطن آخر، فوجهان مأخوذان من القولين فيمن زوج أم ولده، فطلّقت بعد الدخول وانقضت العدة، ففي عود الفراش قولان، فإن قلنا: يلحقون، لم ينتفوا بدعوى الاستبراء، فإن ولادة الأول أقوى من الاستبراء، وأبعد من نفاهم بذلك، وعلى الأصح لا ينتفون إلا باللعان " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 ورقة: 199 يمين) .(15/139)
وهذا واقع في المعنى، فإذاً دعوى الاستبراء بعد جريان الوطء كدعوى الاستبراء في النكاح.
ومن هذا المنتهى نقول: النسب على هذا الوجه تعرض للثبوت، ولا يتصور تقدير نفيه بدعوى الاستبراء على الرأي الذي أظهرناه، فنُجري فيه القولَ القديم المحكي عن أبي عبد الله (1) في أن النسب في ملك اليمين ينفى باللعان، ونحن نعلم أن النسب إذا أمكن نفيه بجهةٍ سوى اللعان لا ينتفي باللعان.
9761- ومما ذكره الأصحاب أن المولى إذا اعترف بالوطء، فأتت الأمة بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء المعترف به، فهل يلحق بالنسب؟ ذكروا وجهين مرسلين، والوجه فيه عندنا أنا إذا قلنا: النسب ينتفي بدعوى الاستبراء، فينتفي في هذا المقام، بل هو بالانتفاء أولى؛ فإنا على قطعٍ نعلم أن الولد الذي أتت به لأكثرَ من أربع سنين بعد الوطء، ليس من الوطء، وهذا القطع لا يحصل بالاستبراء، فإن الحامل قد ترى دماً، فسبيل ذكر هذين الوجهين أن نقول:
إن حكمنا بأن دعوى الاستبراء تقطع أثر الاعتراف بالوطء، فالإتيان بالولد لأكثرَ من أربع سنين بذلك أولى.
وإن قلنا: دعوى الاستبراء لا تقطع أثر الاعتراف، فإذا أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، لحق الولد، كما لو أتت المرأة بولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت النكاح مع الإمكان.
ثم على هذا لا بد من إجراء قول اللعان.
وإذا قلنا: لا حاجة إلى الإقرار بوطء جديد بعد أُميّة الولد في سائر الأولاد فأنسابهم لا ينفيه (2) إلا اللعان.
فهذا وجه إجراء اللعان في نسب ملك اليمين.
__________
(1) المراد هنا: الشافعي، وليس مالكاً. كما هو واضح.
(2) الضمير المذكر هنا على معنى المفرد (النسب) .(15/140)
وكنا أطلقنا قول اللعان وأحلنا تفصيله على هذا الفصل، وقد وفّينا بالموعود، وعلى فضل الله التكلان.
9762- ثم إن الشافعي رضي الله عنه أخذ يستبعد مذهب أبي حنيفة في ملك اليمين والنكاح ويقول: " لا يُلْحِقُ النسبَ في ملك اليمين مع الإقرار بالوطء، ويُلْحِقُ النسبَ في النكاح مع انتفاء إمكان الوطء، وهذا تناقضٌ بيّن " (1) وقد قررنا ذلك في (الأساليب) (2) و (المسائل) (3) والله أعلم.
***
__________
(1) هذا تلخيص ما جاء عن الشافعي في مختصر المزني (ر. المختصر: 4/201-204) .
(2) الأساليب: أحد كتب إمام الحرمين في الخلاف، وإنما سمي بذلك لأنه كلما انتقل من قضية خلافية إلى أخرى قال: أسلوب آخر.
(3) (المسائل) : لا شك أنه يريد بها (الدّرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) ؛ فإنها تُبنى على المسائل، حيث (يُعَنْوِن) كلَّ قضية خلافية بقوله: (مسألة) والدّرة بين أيدينا والمسألة منصوصة فيها (آخر مسائل اللعان) والأمل في فضل الله وعونه أن نُخرج القسم الثاني من الدرة ونلحقه بالقسم الأول قريباً، اللهم استجب وحقق أمل عبدك اللاجىء إلى حولك وقوتك، إنك واسع الفضل ونعم المولى، ونعم النصير.(15/141)
كتاب العدة
باب عدة المدخول بها
9763- العِدّة من العَدد، استعملت شرعاً في معدودات مخصوصة، فجرت مجرى الصلاة والصيام والحج، ثم العِدّة تنقسم إلى ما يتمحض تعبداً، وإلى ما يشوبه رعاية الاستبراء.
فأما ما يتمحّض تعبداً، فهو العدة التي لا يتوقف وجوبها على جريان السبب الشاغل للرحم، وذلك عدة الوفاة، وعن هذا الأصل تكتفي الممسوسة بها، وإن كانت من ذوات الحيض، من غير جريان حيض، وعماد تلك العدة الأربعة الأشهر والعشر، في حق الحرة، وشَطرها في حق الأمة، وقياسها ألا تتعلقَ بما يدل على براءة الرحم، ولكن ثبت بالخبر أن المتوفى عنها زوجها لو وضعت حملَها وزوجها على السرير تخلّت.
فأما العدة التي يشوبها اعتبارُ براءة الرحم، فهي العدة عن طُرق قطع النكاح في الحياة، وجميعها يتوقف ثبوتها على جريان المسيس، ثم لا نشترط في وجوبها توهم شغل الرحم؛ فإن الصغيرة التي لا يحبل مثلها إذا وطئها الزوج ثم طلقها، اعتدت.
وإذا قال الزوج لامرأته الموطوءة: إذا استيقنتِ براءةَ رحمك فأنت طالق، فاستيقنتها: بأن ولدت، ومضت بعد الولادة ستةُ أشهر، واعتزلت عن زوجها أكثر من أربع سنين، فإذا لحقها الطلاقُ، استقبلت العدة مع القطع ببراءة الرحم، وقد تمر على المطلقة أربعُ سنين، فلا نحكم بانقضاء عدتها (1) ، وإن أفاد ما جرى من الزمان القطعَ ببراءة الرحم، فاشتراط المسيس يشير إلى اعتبار براءة الرحم في بعض الصور،
__________
(1) ستأتي هذه الصورة فيمن كانت تحيض وانقطع حيضها.(15/143)
ووجوب العدّة مع القطع بالبراءة يدل على أن وجوب العدة لا يتوقف على شَغْل الرحم.
ثم هذه العدة تتعلق بوضع الحمل وغيره، فإذا وضعت الحمل بعد الفراق، ولم يكن الرحم مشتملاً على غير ما وضعت، فقد انقضت عدتها، قَرُبَ الزمانُ أو طال.
وإن كانت حائلاً، فلا يخلو إما أن تكون من ذوات الحيض وإما ألا تكون منهن؛ فإن لم تكن من ذوات الحيض، فعدتها بالأشهر، على ما سيأتي في أثناء الكتاب.
9764- وإن كانت من ذوات الحيض، فعدتها بالأقراء، قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] .
واختلف العلماء في القُرء ومعناه في الشرع، فذهب أبو حنيفة (1) إلى أن القرء الحيض، وقيل: كان هذا مذهباً للشافعي، وكان أبو عبيد (2) يعتقد أن القرء هو الطهر الذي يحتوشه حيضان، فالتقيا رضي الله عنهما وتناظرا، وكان الشافعي يورد عليه من قضايا الأحكام ما يدل على أن الاعتبار بالحيض في العِدة، وأبو عبيد يورد من قضايا اللسان ما يدل على أن القرء الطهر، فافترقا، وقد أخذ الشافعيُّ مذهبَ أبي عبيد، وأبو عبيد مذهبَ الشافعي.
وهذه حكاية لا تعويل عليها؛ فإن الشافعي كان بحرَ (3) اللغة، وأبو عبيد من نَقَلَتها، وإنما كان ينقل الأئمةُ اللغة من الشافعي ومَنْ في درجته في اللسان، فلا يُعرف للشافعي مذهبٌ في القرء سوى ما يعرفه أصحابه الآن، ولو كان ذلك مذهباً له، لنقل نقلَ الأقوال القديمة.
وقد اضطربت أقوال العلماء في معنى القرء في اللغة: فذهب أصحاب أيي حنيفة إلى أنه الحيض، وذهب أصحاب الشافعي إلى أنه الطهر.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/385 مسألة 890، المبسوط: 6/13، طريقة الخلاف: 141 مسألة 59.
(2) في الأصل: أبو عبيدة. والمعني هنا هو: أبو عبيد القاسم بن سلام، وقد سبقت ترجمته في الفرائض.
(3) ضبط (بحر) في الأصل بالرفع.(15/144)
وقال قائلون من أئمتنا: ما يجمع على وزن فعول، فهو بمعنى الطهر، وما يجمع على وزن أفعال، فهو بمعنى الحيض، ثم زعموا أن الذي هو بمعنى الطهر على وزن الفَعْل، فالفَعْل يُجمع فعولاً كالحرب والحروب والضَّرب والضُّروب، والقَرْءْ -بفتح القاف- والقروء.
وما هو بمعنى الحيض على وزن الفِعْل كالجِرم والأجرام، والقِرء والأقراء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام أقرائك ".
9765- وكل ذلك من اضطراب الفقهاء والذي صح عندنا أن القُرء والقروء بالضم والفتح من الأسماء المشتركة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك "، وقال الأعشى:
................ لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1)
ومن صريح اللغة القَرْءْ بمعنى الجمع، ومنه تقول: قرأت الطعام في الشدق، والماءَ في الحوض، وما قَرَأَت الناقةُ سَلىً (2) قط، أي لم يشتمل رحمها على جنين.
ومما صح النقل فيه القرء بمعنى الطلوع والغروب يقال: قرأ النجمُ إذا طلع، وقرأ إذا غرب، والقراءة يجوز حملها على الجمع، من حيث إن القارىء يجمع الحروف لنظم الكلمة، ثم يجمع الكلمة لنظم الكلام، ويجوز أن يكون بمعنى البدوّ والاكتتام،
__________
(1) هذا شطر بيت للأعشى من قصيدة يمدح فيها هوذَة بنَ علي الحنفي، وقبل هذا البيت:
وفي كل عامٍ أنت جاشِمُ غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيمَ عزائكا
مورثةٍ مالاً وفي الحيّ رفعةً ... لمَا ضاع فيها من قروء نسائكا
ومحل الشاهد للإمام أن القرء من الأسماء المشتركة، فهو في الحديث بمعنى الحيض: " دعي الصلاة أيام أقرائك " أيام حيضك. وفي البيت بمعنى الطهر، فهو يخرج للغزو كل عام، فيورّثه الغزو مالاً ورفعة عوضاً عما ضاع من استمتاعه بنسائه في أقرائهن (أطهارهن) .
(ر. لسان العرب: مادة: قرء، وديوان الأعشى: ص 133) .
(2) السَّلى: هو الغشاء الرقيق الذي يحيط بالجنين وهو في بطن أمه، ويخرج معه (المعجم) .
وضبط في نسخة الأصل بكسر السين، ورسم بالألف.(15/145)
والكلم هكذا تنتظم بحروفها، فيطلع حرف من مخرجه ويغيب ويطلع آخر، فيتحصّل من ذلك أن القُرء من الأسماء المشتركة.
وقد صح عندنا أن الاسم المشتركَ كالجون الذي يطلق على الضوء والظلمة في أصل الوضع موضوعٌ للغلس ووقت اختلاط الظلام بالضياء، ثم قد يميل العرب إلى أحد طرفي الجَوْن فتسمّي الضوءَ جوناً، وكذلك القول في الطرف الآخر، فالقرء جرى بين طوري المرأة في الطهر والحيض، فمال بعض العرب إلى طرفٍ، والبعضُ إلى الطرف الآخر.
ومن علوّ قدر الشافعي رضي الله عنه أنه لم يتعلق في هذه المسألة باللغة لمّا رأى أصولَها متفاوتة، واعتقد أنه من الأسماء المشتركة، وطلب متعلّقاً من الشريعة، فاستمسك بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، وإليه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر؛ إذ قال: " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " (1) ، ثم إذا استقبلت ذاتُ الأقراء العدة، فلا شك أنها معتدة في زمان الطهر والحيض، ولكن أجمع العلماء على أن الاعتداد يقع بأحد الطورين، وهو المقصود، والآخر لا بد منه؛ فإن حكم العدة لا [يتقطّع] (2) ، ثم رأى الشافعي [الاحتساب] (3) في العدة [بالوقت] (4) الذي تتهيأ المرأة فيه للاستمتاع في النكاح.
9766- هذا بيان مذهب الشافعي، وله قولٌ في القديم صح النقل فيه أن القرء هو الانتقال، ثم قال: الانتقال من الحيض إلى الطهر في اللغة كالانتقال من الطهر إلى الحيض، ولكن الشرع خصص القرء بالانتقال من الطهر إلى الحيض، ويظهر أثر هذا القول في التفريع، ثم أول حكم نبتديه تفصيل القول في الأقراء.
__________
(1) سبق هذا الحديث في الطلاق.
(2) في الأصل: " ينقطع ".
(3) في الأصل: الاحتباس. والتصويب من صفوة المذهب.
(4) في الأصل: في الوقت.(15/146)
فصل
قال: " ولو طلقها طاهراً قبل جماع أو بعده، ثم حاضت بعده بطَرْفةٍ، فذلك قرء ... إلى آخره " (1) .
9767- نقول: ثبت من مذهب الصاحب (2) رضي الله عنه أن القرء هو الطهر، هذا هو الأصح إلى أن نفرع [على] (3) قول الانتقال.
ثم إذا وقع الطلاق والمرأة في بقيةٍ من الطهر، فإذا حاضت، فهذا قرءٌ كامل في معنى الاعتداد والاحتساب، وإن لم يكن طهراً كاملاً، حتى لو طلّقها وقد بقي من طهرها زمنٌ يسع طرفةَ عين، فإذا حاضت، كان ذلك المقدار قرءاً ولا فرق بين أن يكون جامعها في ذلك الطهر، وبين أن لم يكن جامعها، وإنما يقع الفصل بين أن يجامع وبين ألا يجامع في طلاق السنة والبدعة، كما سبق مفصلاً في موضعه من كتاب الطلاق.
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فالطلاق على القول الجديد الصحيح يصادف الطهر، ولكن لا يستعقب طهراً، بل يتصل وقوع الطلاق بأول الحيض ولا يعتد بذلك؛ فإنه لم يمضِ بعد وقوع الطلاق شيء من الطهر، ثم إذا كان كذلك، فهل نحكم بكون الطلاق بدعياً؛ من حيث إن وقوعه في هذا الوقت يتضمن تطويل العدة، أو نحكم بأنه طلاق سنة لمصادفته طهراً، على شرط أن يُفرض عارياً عن المسيس؟ فيه اختلافٌ قدمته (4) .
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فاتصل الطهر بوقوع الفراق، وقد ذكرنا الاختلاف في أن الطلاق سني أم بدعي (5) ؟
__________
(1) ر. المختصر: 5/4.
(2) الصاحب: المراد الشافعي رضي الله عنه.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) قال النووي: "المذهب والمنصوص أنه بدعي" (ر. الروضة: 8/5) .
(5) قال النووي: "الأصح أنه سني لاستعقابه الشروع في العدة" (السابق نفسه) .(15/147)
وجمع العراقيون الصورتين وهو إيقاع الطلاق في آخر جزء من الطهر وإيقاع الطلاق في آخر جزء من الحيض، ثم قالوا في الحكم بالسنة والبدعة في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالوقت الذي يقع الطلاق فيه، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فالطلاق بدعي.
والثاني - أن الاعتبار بالوقت الذي يعقب الطلاق، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فبدعي.
والوجه الثالث -[عدم] (1) الفصل بين الصورتين، فإن وقع الطلاق في بقية الطهر - يعني الجزء الأخير-، فهو بدعي اعتباراً بما بعده، وإن وقع الطلاق في آخر الحيض، كان بدعياً اعتباراً بحالة الوقوع، والفرق (2) أن الحيض لا يمكن قلبه عن اقتضاء البدعة، [والطهر] (3) يمكن قلبه إلى اقتضاء البدعة بفرض الوطء فيه، وإذا كان كذلك، فيقاع الطلاق في الجزء الأخير يكون من الأسباب المغيرة للطهر عن مقتضاه.
هذا بيان التفريع على الجديد.
9768- فأما القول الذي نص عليه في القديم وهو أن القرء هو الانتقال، ففيه أولاً سرٌّ بديع، وهو أنه جمعٌ بين الطهر والحيض، [مال] (4) الشافعي إليه من وجهين: أحدهما - أنه وجد في اللغة القرءَ بمعنى الانتقال طلوعاً وعزوباً، والآخر - أن ن ضرورة كل انتقال الجمع بين المنتقَل منه، والمنتقَل إليه، والانتقال معنىً بينهما.
ثم من آثار هذا القول أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فإذا حاضت، فقد تبين أنه مضى من عدتها قرء، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض وعلى القول الجديد لا يعتد بشيء بعدُ، وأول ما يقع الاعتداد به الطهر بعد الحيض، وهذا
__________
(1) زيادة من المحقق، بدونها لا يتحقق الفرقُ بين الوجه الثالث وما قبله، ففي كلٍّ من الوجهين قبله فصلٌ بين الصورتين.
(2) المعنى أنه إذا كان هناك من فرقٍ بين الصورتين، فهو من هذه الجهة (التي شرحها) لا من جهة الحكم.
(3) في الأصل: فالطهرة.
(4) في الأصل: قال.(15/148)
يظهر أثره إذا احتجنا القولَ في أقل ما يفرض انقضاء العدة فيه من الزمان، إذا كانت المرأة من ذوات الأقراء.
ومما بناه الأصحاب على القولين في أن القرء طهرٌ أو انتقالٌ أن الصغيرة إذا افتتحت العدة في الشهور، ثم إنها حاضت في أثناء الشهور، فلا شك أنها تُردُّ إلى اعتبار الأقراء كما سيأتي، وهل يعتد بما مضى من الشهور قرءاً؟ فعلى قولين مأخوذين مما قدمناه في معنى القرء؛ فإن حكمنا بأن القرء هو الطهر المحقق، فمعناه زمان نقاء بين دمين، فعلى هذا لا يعتد بما مضى قرءاً، وإن حكمنا بأن القرء هو الانتقال، فيعتد بما مضى قرءاً؛ فإنها انتقلت.
ولست أحبّ هذا البناء؛ فإن صاحب قول الانتقال يشترط الانتقال من الطهر إلى الحيض، والذي تقدم للصبية لم يكن طهراً، فالأولى أن نوجّه القولين في الصبية إذا انتهينا إليها.
9769- وقد كنا ذكرنا الزمان الذي يفرض انقضاء العدة فيه في كتاب الرجعة، ونحن نستقصيه الآن، ونقول: الزوج لا يخلو إما أن يطلقها في زمان الطهر، أو يطلقها في زمان الحيض، فإن طلقها في الطهر، فإذا مضت تلك البقيّة، كانت طهراً، فتحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة، انقضت عدتها، وأقل زمان يفرض انقضاء عدتها فيه على الشرائط التي سنستقصيها اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، على القول الجديد.
وإن فرعنا على قول الانتقال، فاثنان وثلاثون يوماً ولحظة، ولكن إن كانت عادتها مضطربة أو كانت عادتها على الأقل، فالأمر على ما ذكرناه.
فإن كانت لها عادة، فادعت انقضاء العدة لأقل من عادتها، فهل يقبل قولها؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُقبل؛ تعويلاً على إمكان الصدق، وليس اضطراب العادة أمراً بدعاً، وقد يغلب على النسوة تفاوت [الأدوار] (1) ، وهو على الجملة من فضلات
__________
(1) في الأصل: الأدواء.(15/149)
الطبيعة، ويجوز تفاوت نقصانها وزيادتها بالأغذيةِ، واختلافِ الأحوال، وهي مؤتمنة على الجملة.
والوجه الثاني - أنه لا يقبل قولها. قال القاضي: هذا هو الأظهر، وعليه يدل نص الشافعي في (الكبير) ، فإنه قال: " لو كانت لها عادات مختلفة، فادعت انقضاء العدة لأقل عاداتها، قَبِلتُ ذلك "، ومفهوم النص أنها لو ادعت الأقل من أقل عاداتها لا يقبل قولها، وهذا محل الوجهين أيضاً.
9770- ثم تفصيل الاثنين والثلاثين واللحظتين -على قولٍ، حيث يُقبَلُ- أن يفرض الطلاقُ في آخر الطهر بحيث يستعقب لحظةً واحدة، فهذه اللحظة قرء، ثم إنا نفرض بعدها يوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشرَ يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشر يوماًً طهراً، ثم تطْعَن في الحيضة الثالثة، ومجموع ما ذكرناه اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.
فإذا فرعنا على قول الانتقال، فنفرض الطلاق معلقاً بالجزء الأخير من الطهر، فيستعقب وقوعُ الطلاق يوماً وليلة [دماً] (1) ، والانتقالُ محسوب قرءاً، ثم بعد الدم خمسةَ عشرَ [طهراً] (2) ، وبعدها يوم وليلة [دماً] (3) ، وبعد الدم خمسة عشر يوماً [نقاءً] (4) ، ثم تطعن بلحظة من الحيض، فتنقُصُ المدةُ بلحظة عما ذكرناه؛ لاحتسابنا الانتقال إلى الحيض قرءاً.
هذا أقل الإمكان والطلاقُ واقعٌ في الطهر.
فأما إذا وقع الطلاق في الحيض، فأقل ما تصدّق فيه على انقضاء العدة سبعة وأربعون يوماً، ثم لا بد من لحظةِ الطعنِ في الحيضة الأخيرة، وبها يتبين الانقضاء، كما سنشرح ذلك بعدُ، إن شاء الله، وذلك أنا نفرض وقوع الطلاق في اللحظة الأخيرة من الحيض، وليست محتسبة من العدة، وبعدها خمسة عشر يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة
__________
(1) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام.
(2) زيادة من عمل المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة لوضوح العبارة.(15/150)
دماً، وخمسة عشر طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسة عشر يوماً طهراً، ثم تطعن في الحيضة الأخيرة.
9771- وإذا قال لها: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا طُلِّقت بالولادة، فقد قال الأصحاب: أقل ما تُصَدَّقُ على انقضاء العدة سبعةٌ وأربعون يوماًً ولحظتان، لحظة للنفاس؛ فإنها أقل النفاس، وخمسة وأربعون يوماًً لثلاثة أطهار، ويومان لحيضتين متخللتين بين الأطهار، واللحظة الثانية لتبين انقضاء العدة.
وهذا يخرّج على أحد المذاهب؛ إذ قد اختلف أصحابنا في أن المرأة إذا عاودها في مدة النفاس بعد مضي أقل الطهر حيضٌ، فذاك نفاس أو حيض؟ منهم من قال: هو حيض، فعلى هذا يخرج ما ذكرناه، ومنهم من قال: ذاك نفاس، فلا نصدقها إذاً في انقضاء العدة في هذه المدة؛ [إذْ] (1) لا يُحتسب الخمسةَ عشرَ الواقعةُ نقاء طهراً معتداً به قرءاً.
وهذا تفصّل في تفريع التلفيق من أبواب الحيض.
ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه في السبع والأربعين ولحظتين إذا نُفست، وقد يتصور عندنا أن تلد المرأة ولا تنفَس أصلاً، ويتصل الطهر بالولادة، فعلى هذا تسقط لحظة وضعناها لأقل النفاس.
9772- ومما أخرناه وهذا أوان بيانه أن اللحظة التي يقع الطعن بها في الحيض، فهي (2) التي سميناها لحظةَ التبين فيها كلام، وظاهر النص أن اللحظة الواحدة كافية، وإذا ثبتت، فقد خلت عن العدة، وحلَّت للأزواج.
وحكى البويطي أيضاً عن الشافعي أنه لا يقع الحكم بانقضاء عدتها ما لم يمض بها يوم وليلة؛ فإنا لا نأمن أن ما رأته من الدم دمُ فساد، وقد ينقطع على ما دون الأقل المعتبر في الحيض، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) كذا: (فهي) بالفاء. وما أُراه تصحيفاً عن (الواو) فهذا معهود في لغة إمام الحرمين وغيره من أهل عصره. والله أعلم.(15/151)
وهو الظاهر أن اللحظة الواحدة كافية؛ لأنها في الظاهر حيض، واليقين ليس مطلوباً فيما نحن فيه.
والثاني - أنه لا يحكم بانقضاء العدة ما لم يمض يوم وليلة، ووجهه بيّن.
وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً مخرجاً، وهو أنها إن رأت الدم على موجب عاداتها، فاللحظة الواحدة كافية، وإن رأت الدم على خلاف العادة، فلا بد وأن تتربص يوماً وليلة.
هذا مسلك الأصحاب: منهم من قطع بالاكتفاء باللحظة الواحدة وجعل قول البويطي محمولاً على الاحتياط، والاستظهار.
ثم اللحظة التي يقع اليقين بها أو اليوم والليلة [على القول البعيد] (1) هل تكون محسوبة من العدة أم لا؟ ذكر العراقيون والقاضي وجهين أحدهما -[أنها ليست من العدة] (2) وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإنه للتبين حتى نعلم أن الأقراء الثلاثة [انقضت، و] (2) هي من العدة بمثابة استظهار الصائم بلحظة من أول الليل وآخره، وهو [كأخذ المتوضىء جز] ءاً من رأسه في محاولة استيعاب الوجه بالغَسْل.
والوجه الثاني - أنه من العدة؛ فإنـ[ـه يجب فيه] (2) الاحتباس؛ لأنه لا بد منه، وهي فيما نسميه طعناً في الحيضة الأخيرة [محتسبة في غير] (2) هذا الوجه، وقد قضَّيت العجبَ من حكاية القاضي له.
9773- ومما نذكره في اختتام هذا الفصل أن المرأة إذا ادعت انقضاء العدة في مدة لا يحتمل انقضاءُ العدة في مثلها، فلا شك أنا لا نصدقها؛ فإنها ليست تدعي أمراً ممكناً على قاعدة الشرع، فإذا مضى من وقت دعواها زمانٌ يمكن انقضاء العدة الآن [بجَمْع] (3) ما تقدم وما تأخر، فهل تصدق والحالة هذه؟
تفصيل المذهب فيه: أنها إن كذّبت نفسها فيما قدمته من دعوى الانقضاء،
__________
(1) مكان كلمات مطموسة تماماً في الأصل. وهذا تقدير منا.
(2) تقدير منا مكان المطموس بالأصل.
(3) في الأصل: بجميع.(15/152)
وقالت: الآن انقضت عدتي؛ فإنها تصدق، ويقبل قولها، ولو أصرت على دعواها الأولى، فهل يحكم بانقضاء عدتها إذا انضم إلى الزمن الأول من الزمان ما يظهر الاحتمال فيه؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه لا يحكم بانقضاء العدة؛ فإنها ليست تدعي الانقضاء على حسب ما يُرى التصديق فيه، وما ادعته باطل، لا سبيل إلى التصديق فيه، وهذا صححه القاضي.
والوجه الثاني - أنها تصدق؛ فإن إصرارها على ادعاء الخلو عن العدة بمثابة تجديد ادعاء الانقضاء، وربما كان يقطع شيخي بهذا ولا يذكر غيره، والأقيس ما ذكر القاضي (1) .
ولكن في هذا الوجه غائلة، وهي أنها لو أصرّت على دعواها الأولى إصرار من لا ينزل عن سابق قوله، فلا موقف والحالةُ هذه يُنتهى إليه ويُحكم إذ ذاك بانقضاء العدة، وهذا بعيدٌ إذا لم يكن قد تباعدت حيضتها، فلا وجه إلا تنزيل قولها على أقل مراتب الإمكان.
وما ذكرناه يناظر مسألةً في تكذيب المخروص عليه الخارصَ على قولنا: الخرصُ حكم، فإذا ادعى المخروص على الخارص غلطاً فاحشاً يندُر وقوعُ مثله للخبير بالغرض، فهذا غير مقبول منه، ولكن إذا ردَّ قولَه فيما لا يمكن، هل يقبلُ في القدر الممكن؟
فيه اختلافٌ، والأوضح قَبُول قول المخروص عليه في القدر الذي لو لم يدع غيره، لقُبل، والخلاف وإن جرى في المسألتين، فالأصح في مسألة الخرص التصديقُ في القدر الممكن؛ لأن [عين] (2) دعواه تشتمل على القليل والكثير، فلا يبعد
__________
(1) خالف في ذلك ابن أبي عصرون، وتعقب الإمام قائلاً: قلت: ويجب الحكم بانقضاء عدتها مطلقاً؛ لأنا لم نكذبها في مضي المدة، بل في إمكان حصول الأقراء فيها، وإذا مضى بعد ذلك زمانٌ مع ضمه إلى المدة الأولة يتحقق فيه إمكان الانقضاء، فلا وجه للاختلاف، ولا لتفصيل الإصرار؛ فإن المصرّ لم ينزل عما ادعاه أولاً، ولو نزل ما كان مصرّاً ". ا. هـ (ر. صفوة المذهب: جزء (5) - ورقة (141) يمين) .
(2) في الأصل: غير.(15/153)
أن يُردّ في مقدارٍ ويقبلَ في مقدار، وهذا لا يتحقق في التي ادّعت انقضاء العدة لزمانٍ لا يحتمل؛ فإن دعواها لا تشتمل على ما ذكَرتْ وعلى ما بعده.
فصل
قال: " فأقل ما علمناه من الحيض يوم ... إلى آخره " (1) .
9774- تعرض الشافعي لأقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر، وقد أجرينا فصولَ الحيض في كتابه، على نسقٍ لا نرى عليه مزيداً، فلم نغادر -فيما نظن- لطالبٍ مطلباً، فلتُطْلب هذه الأصول من كتابها.
9775- ثم قال: " ولو طبق بها الدم ... إلى آخره " (2) .
وهذا خوض منه في أحكام الاستحاضة، فلا مطمع للخوض فيها، وقد جرى على بيانٍ شافٍ.
والذي يتعلق بأمر العدة من جملة تلك الأحكام [أحكامُ] (3) الناسية، وتفصيل القول في أن عدتها بماذا تنقضي؟ فإن جعلنا الناسيةَ في أحكامها كالمبتدأة، فهي في عدتها كالمبتدأة، وإن أمرناها بالاحتياط في عباداتها ووجوب اجتنابها، كما تفصّل في موضعه، فالذي ذهب إليه الأئمة أنها مردودة في عدّتها إلى الأهلّة [والدم دائم] (4) عليها؛ فإن الغالب أنه لا يخلو شهر عن حيض وطهر، سيّما إذا كانت ترى الدم المستمر.
ثم الذي نقله المزني أنه إذا أهل الهلال الرابع، فقد انقضت عدتها.
ونقل الربيع إذا أهل الهلال الثالث، فقد انقضت عدتها.
فمن أصحابنا من قال صورة نَقْل المزني إذا كان قد طلقها والباقي من الشهر خمسةَ
__________
(1) ر. المختصر: 5/5.
(2) ر. المختصر: 5/6.
(3) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "إلى الأهلة والدائم عليها" والمثبت من تصرّف المحقق.(15/154)
عشرَ يوماً، أو أقلُّ، فلا يحسب ذلك قرءاً لاحتمال أنَّ كله حيض، فإذا أهلّ الهلال، ومضى هلالان بعده، وأهلَّ الرابعُ، حكمنا بانقضاء العدة، فتتربص بقية الشهر في الصورة التي ذكرناها، وثلاثةَ أشهر بعدها، ويقع الحكم بانقضاء العدة عند استهلال الرابع.
وهذا القائل يقول: صورة ما نقل الربيع: إذا كان الباقي من الشهر بعد وقوع الطلاق أكثرَ من خمسةَ عشرَ؛ فإنا نحسب تلك البقية؛ لأنا نقطع بأن فيه جزءاً من الطهر، فهذا مسلك الأصحاب.
9776-[وهناك] (1) من قال: يحسب بقية الشهر قرءاً، وإن كان أقلَّ من خمسةَ عشرَ؛ لأن الغالب أن طهر المرأة يقع في آخر الشهر. وهذا هذيان عظيم.
ويمكن ذلك بتلفيقٍ في الكلام أحسن من هذا.
ثم هذا القائل زعم أن الشافعي فيما نقله المزني [عدّ] (2) الشهر الذي وقع الطلاق فيه، وقدّر كأنا استهللنا هذا الهلال التفاتاً إلى الاستهلال الواقع قبل الطلاق، ثم نحسبُ هذا وشهرين بعده، فيقع الاستهلال بعد ذلك رابعاً، وفي رواية الربيع لم يعتبره من طريق الشهر الذي وقع الطلاق فيه، واعتبر شهرين بعد ذلك، وعبّر عن الاستهلال الثالث؛ فآل الاختلاف إلى العبارة، وللعبارتين وجهان سائغان.
وهذا يناظر اختلاف النص في ضبط مسافة السفر الطويل، قال الشافعي في موضع: ثمانيةٌ وأربعون ميلاً، وقال في موضع: ستةٌ وأربعون ميلاً، فحيث ذكر الثمانية عدّد الميلَ الذي هو المبدأ والميلَ الذي إليه الانتهاء وحيث ذكر الستة، لم يعتبر ميلين: المبدأ والمنتهى، واعتبر ما بينهما، والأمر في ذلك قريب.
والذي تحصَّل لنا فيه الاختلاف في أن البقيةَ بعد وقوع الطلاق إن كانت أقلَّ من خمسةَ عشرَ، فهل يقع الاعتداد به قرءاً، وفيه ما قدمناه.
وقد نجز ما اختاره أئمة المذهب.
__________
(1) زيادة على ضوء عبارة ابن أبي عصرون، وبها يستقيم الكلام.
(2) في الأصل: عند.(15/155)
9777- وقد يدور في نفس الفقيه أنا إذا تناهينا في التغليظ على الناسية في عبادتها وتحريم الزوج عليها معظمَ عمرها، فليس يليق بهذا التشديدِ أن نتساهل في أمر العدة، حتى ننتهي إلى اعتبار الأهلة والأشهر، وليست هي من اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن؟
ذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من [احتاطَ] (1) في عدة الناسية على قول الاحتياط، كما يحتاط في سائر أحكامها، ثم سبيل الاحتياط والتغليظ أن يقدِّر جميعَ ما تراه دمَ استحاضة، ويقدرَ كان الحيضة قد تباعدت، ثم القول في أن المرأة إذا تباعدت حيضتُها إلى ماذا تُردّ مذكورٌ بين أيدينا، فقد نقول: تصبر إلى سن اليأس في قولٍ، وقد نأمرها أن تتربص تسعةَ أشهر، أو أربعَ سنين على ما سنذكر ذلك على أثر هذا.
وهذا الذي ذكره حسن منقاس.
9778- والذي يجب إنعام النظر [فيه] (2) طلبُ ما رغَّبَ الأصحابَ عن هذا، وذكرُ السبب الذي منعهم عن رعاية هذا الضرب من الاحتياط، ولا يمكن حمل ما نطلبه على امتناعهم عن التناهي في التشديد؛ فإنهم [شدّدوا] (3) من وجوهٍ.
فالوجه أن الدم [إن] (4) تمادى إلى سن اليأس واستمر بعده، فالاحتياطات المتعلقة بالحيض والطهر لا تنقطع (5) على قول الاحتياط، وأقصى ما يفرض في العدة انتظارُ سن اليأس، وهذا مضطرب مع اطراد الدم، وما ذكره صاحب التقريب مع هذا قائم من وجهين: أحدهما - أنا قد نأمل انقطاع هذا على سن اليأس.
والوجه الأصح- ألا نبالي باستمرار الاحتياط في العدة، والذي يحقق هذا أن
__________
(1) في الأصل: احتياط.
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: سدّدوا.
(4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) "فالاحتياطات المتعلقة بالحيض والطهر لا تنقطع على قول الاحتياط": أي لا تتناهى في أفانينها وضروبها، ولذا رغب الأصحاب عن قول الاحتياط.(15/156)
مصيرها إلى سن اليأس في أقصى نساء العالم لا يغير الاحتياط، وكان لا يبعد عندي أن يتمسك متمسك بهذا؛ فإن سبب الاحتياط في الناسية أنا لا نجد متمسكاً. فالعلم عند الله.
وقد يجوز أن يقال: لو تمادت العدة على ما وصفنا، لعظمت المؤنةُ في السكنى إن كانت بائنة، وهذا يدخل عليه تباعد الحيضة، وكان يليق بتضييق الاحتياط ألاّ تستحق السكنى؛ فإنها مخاطبة بما عليها، وهذا لا بد من إجالة الفكر فيه على الوجه الذي حكاه صاحب التقريب، وفيه احتمال بيّن، والعلم عند الله.
وقد ينقدح هذا الاحتمال إذا جرينا على ظاهر المذهب، وقلنا: إنها تعتد بالأهلة.
[وإذا] (1) قال قائل: لا يمتنع انقضاء عدتها بأقل من ذلك، فلا تثبتوا لها حقَّ السكنى على الزوج إلا في أقل مدة يفرض انقضاء العدة [فيها] (2) .
قلنا: هذا لا قائل به، والأهلّة في حق الناسية أصلٌ معتبر في العدة، يُرجع إليه [في] (3) جميع قضايا العدة، وعلى هذا يثبت للزوج حقُّ الرجعة في جميع الأهلة المعتبرة؛ فإنا اعتقدنا هذا أصلاً غير مبنيٍّ على الاحتياط، والأهلة في حقها كالأهلة في حق الصغيرة والآيسة، فهذا هو الذي رأينا ذكره من أحكام المستحاضات وما عداه مما اشتمل (سواد المختصر) (4) عليه كلِّه مستقصىً في كتاب الحيض.
9779- ثم ذكَرَ التلفيق (5) وهو باب كبير من أبواب الحيض، وحظّ العدة منه لائح، فإذا كانت ترى يوماًً دماً ويوماً نقاءً، وفرعنا على أنها في أيام النقاء طاهرة، فلا
__________
(1) في الأصل: إذا (بدون الواو) .
(2) في الأصل: فيه.
(3) في الأصل: من.
(4) هنا جمع بين لفظ (السواد) و (المختصر) فأضاف السواد إلى المختصر، ولعل هذا يرجح أن لفظ السواد معناه (المتن) أو (الأصل) ، فكأنه قال: متن المختصر، أو صلب المختصر، أو أصل المختصر. والله أعلم. وقد سبق أنه ورد مثلُ هذا، وعلقنا عليه في موضعه.
(5) ر. المختصر: 5/7.(15/157)
يقع الاكتفاء بعددٍ من نُوب النقاء؛ فإن الطهر الواحد ينقطع على الحيض، والحيض ينقطع على الطهر، فإن انضبط لنا مقدار الحيض والطهر في تفاصيلِ المستحاضات، فهي مردودة في العدة إلى ما يتقدر من ذلك، وإن كانت ناسية، فليس يتبين لحيضتها ولا لطهرها مقدارٌ، وترد إلى أحكام [الناسية في عدتها] (1) ، ومثل هذا مما يُستأنى به في هذه المنازل.
فصل
قال: " ولو تباعد حيضها، فهي من أهل الحيض ... إلى آخره " (2) .
9780- الصغيرة عدتها بالأشهر، فلو بلغت بالسن ولم تر دماً؛ فإنها تعتد بالأشهر أيضاً باتفاق العلماء وإن بلغت سنَّ إمكان الحيض وجاوزته، فالتعويل في ذلك على نص القرآن قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وهذه من اللائي لم يحضن، وليس في القرآن تعرض للبلوغ في الاعتداد بالأشهر.
ولو رأت الدم بعدما اعتدت بثلاثة أشهر، فلا حكم لما رأت، وقد جرى الحكمُ بانقضاء العدة، وإذا كان هذا قولَنا فيها، فهو إذا رأت الدّم بعد العدة قبل النكاح، فما يُظن بها إذا اعتدت بالأشهر، ونكحت، ثم رأت الدم؟ فلا حكم للدم، وما قضينا به من انقضاء العدة لا ينقضه.
9781- فأما التي حاضت ولو مرة، ثم ارتفعت حيضتها، فبماذا تعتد إذا طُلّقت، وإلامَ ترد؟ لا يخلو ارتفاع الحيضة إما أن يكون لعلةٍ معلومة، وإما ألاّ يعرفَ له سبب وعلةٌ ظاهرة، فإن كان الارتفاع لعذرٍ من مرض، أو رضاعٍ، أو داء بباطنها، فإذا طلقت، فلا بد من انتظار الحيض؛ فإن ارتفاعه معلَّقٌ بسببٍ وعلة، وهي مُرتَقبةُ الزوال.
__________
(1) في الأصل: " إلى أحكام الناسية في عدة الثانية " وهو كلام غير مستقيم.
(2) ر. المختصر: 5/7.(15/158)
فإذا كنا نتوهم عَوْد الحيض بزوال العلة، فلا وجه إلا انتظار ذلك، فإن تمادى الانتظارُ حتى انتهت إلى سن اليأس، فتعتد إذ ذاك بالأشهر، وتندرج تحت قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية.
9782- وإن ارتفعت حيضتها من غير سبب وعلة ظاهرة؛ فللشافعي ثلاثة أقاويل في اعتدادها: قولان في القديم، وقول في الجديد ونجمع الأقاويل: أولاً قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أنها تنتظر سن اليأس، ثم تعتد إذا انتهت إليه بثلاثة أشهر.
والقول الثاني - أنها لا تنتظر سن اليأس، وعلى هذا القول قولان منصوصان في القديم: أحدهما - أنها تتربص تسعة أشهر، ثم تعتد بثلاثة أشهر ثم تنكِح، وروي مثل ذلك عن عمر (1) : " قضى به في التي ارتفعت حيضتها "، وقلّده الشافعي في القديم، وكان يرى إذ ذاك تقليدَ أئمة الصحابة، وقال في القديم في توجيه ذلك: أمير المؤمنين قضى به بين يدي المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه أحد، وأشار أيضاً إلى أن الحمل في الغالب لا يمكث في البطن أكثرَ من تسعةِ أشهر، فوقع الاكتفاء بذلك في الاستظهار.
والقول الثاني - أنها تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد بثلاثة أشهر، وتنكِح؛ إذ الحمل قد يمكث في البطن أربع سنين، فبلّغنا أمد الاستظهار مبلغاً يفيدُنا يقينَ البراءة، ثم لا بد من العدّة بعد ذلك تعبداً، فتتربص ثلاثة أشهر.
ثم أنكر الشافعي في القديم على القولين الردَّ إلى سن اليأس لما فيه من المضرّة العظيمة واستمرار الأَيْمة (2) في معظم العمر، ثم إذا بلغت سنَّ اليأس، تقاعدت الرغبات عنها، ويعظم الضرر على الزوج من مؤونة العدة.
__________
(1) قضاء عمر في التي ارتفعت حيضتها، رواه مالك في الموطأ (2/582 ح 70) ، والشافعي (ترتيب المسند 2/58 ح 190) ، وعبد الرزاق في مصنفه (6/319) ، والبيهقي في المعرفة (11/190) .
(2) الأَيْمة: مصدر آمت المرأة: أيْماً وأُيوماً وأيمة. إذا أقامت بلا زوج، بكراً كانت أو ثيباً (المعجم) .(15/159)
والقول الثالث (1) المنصوص عليه في الجديد- أنها تنتظر سنَّ اليأس، واحتج بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية. ثم قال: ليست هذه من اللائي يئسن، ولا من اللائي لم يحضن، فلا بد فيها من انتظار الحيض، فإن عاد، فذاك، وإن لم يعد، اندرجت -إذا بلغت سن اليأس- تحت قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} .
ثم استأنس بمذهب عبد الله بن مسعود فيما روي أن أبا الأحوص طلّق امرأته وهي من ذوات الأقراء، فارتفعت حيضتها، قال عبد الله بن مسعود (2) : "أبقى الله الميراث بينكما، لا تنقضي عدتها حتى تحيض أو تأيس" وطلق حَبّانُ بنُ منقذ امرأته، وكانت من ذوات الأقراء، وكانت تُرضع ولده، فارتفع حيضتها تسعةَ عشرَ شهراً، فمرض حَبّان، فخاف أن يموت، فترثه، فسأل، فقال عثمان لعلي وزيد رضي الله عنهم: ما تريان فيهما؟ فقالا: نرى أنها لو ماتت ورثها ولو مات ورثته؛ فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن، قال علي: هي على عدة حيضها، فرجع حَبّان إلى الدار وانتزع الولد منها [ففقدت] (3) الرضاع، وحاضت، فلما مضى بها حيضتان مات حَبان فورثته (4) .
فإن قيل: القصة في انقطاع الحيضة لعلةٍ، وإن كان كذلك، فلا خلاف. قلنا: الحجة في قولهما وتعليلهما، لا في حال المرأة، وقد دل قولُهما على أن المعتبر الحيض إذا لم تكن من اللائي لم يحضن.
ومعتمد هذا القول من جهة المعنى أن العدة مبتنيةٌ على التعبد، ولا يختلف الأمر فيها باستيقان براءة الرحم وعدمِ الاستيقان، فلولا أن عدة الفراق في الحياة يختص وجوبها بالممسوسات، لحسُن إطلاقُ القول بأن العدة مبنية على التعبد المحض، فإذا
__________
(1) جعله (الثالث) هنا نظراً لحكاية قولي القديم قبله، وإلا فقد عده الأول آنفاً.
(2) أثر عبد الله بن مسعود رواه البيهقي في الكبرى (7/419) والمعرفة (11/191) ، وسنده صحيح كما قاله الحافظ في تلخيصه (3/469 ح 1806) .
(3) غير مقروءة في الأصل: والتصويب من مختصر المزني.
(4) فتوى علي وزيد في امرأة حبان بن منقذ، رواها الشافعي في الأم (5/212) ، والبيهقي في الكبرى (7/419) والمعرفة (1/190) . وانظر التلخيص: (2/468 ح 1805) .(15/160)
كان ذلك كذلك، فلا وجه فيها إلا الاتباعُ، وقد أوضحنا أن فحوى القرآن يقتضي في هذه الآية ألاّ يكتفى بالأشهر، فإذا سَلّم من يخالف في ذلك انقطاعَ الحيض بعلّة، فكل شابّة ترتفع حيضتها لا ترتفع إلا بعلة؛ فإنها بخروجها عن [اعتدال] (1) البِنْية تتقاعد (2) .
ولما لم يكن استئخار الحيض عن البلوغ معتبراً، وكانت ملتحقة بالصبيّة، لم يفرق بين أن يكون ذلك لعلة ظاهرة وبين أن يكون لأمرٍ خافٍ، تعويلاً على قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] .
9783- هذا بيان الأقوال في الأصل، ونحن نفرع عليها، فنقول: إن رأينا أن نأمرها بالتربص تسعة أشهر والاعتدادِ بعدها بثلاثة أشهر، فلو أنها رأت الدمَ في خلال مدة التربص بالأشهر التسعة، فإنها تنتقل إلى الأقراء؛ فإن هذه المدة ضربت لانتظار الحيض، فإذا عاد، فهو المقصود، ثم إن استمرت الأقراء بها، فذاك، وإن انقطعت، وارتفع الحيض، فقد أجمع المفرعون على أنا نأمرها بأن تستفتح التربصَ تسعةَ أشهر أخرى، ثم تعتد بعد هذه التسعة الأشهر بثلاثة أشهر؛ وسبب ذلك أن الأشهر التسعة مقصودُها طلبُ الحيض؛ فإذا رأت الدم، فهو الأصل، فإذا ارتفع، احتجنا بعده إلى طلبٍ جديد، وانتظارٍ مبتدأ، هذا إذا رأت الدمَ في أثناء التسعة الأشهر.
فأما إذا انقضت التسعةُ، وشرعت في الاعتداد بالأشهر، فمضى شهر مثلاً، فرأت الدم، ردّت إلى الدم، فإن استمرت الأقراء، فذاك، وإن ارتفع الحيض أطلق المفرعون إيجاب التربّص على الابتداء تسعةَ أشهر، لِما بنينا عليه الكلامَ من أن الحيض مطلوبٌ، وسبيل طلبه وانتظارِه في هذا القول ما ذكرناه.
وهذا ينتظم بسؤال وجواب عنه: فإن قيل كانت التسعةُ الأشهر لاستفادة غلبة الظن في براءة الرحم؛ فإنّ الحمل لو كان، لظهر في هذه المدة، فإذا حاضت، فالعود إلى
__________
(1) في الأصل: "اعتداد ". وهو تصحيف يسير في شكله، ولكنه عنّانا كثيراً في فهم العبارة، وتقليبها على وجوه عدة، إلى أن ألهمنا الله سبحانه موضع هذا الخلل.
(2) تتقاعد: أي عن الحيض.(15/161)
التسعة الأشهر لا معنى له؛ فإن الحيضة التي انقضت لم تخرِم ظننا ببراءة الرحم، بل أكدّته؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن العدة تجب مع القطع ببراءة الرحم، كما ذكرناه، فلا وجه للتعلق به، وإنما اعتمد الشافعي رضي الله عنه لهذا القول قضاء عمر. فإن ذكر ذاكر معنى طلب [البراءة] (1) فهو ترجيح [لا يعتمد إلا على خياله] (2) والذي يحقق ذلك أن الحيض إذا طرأ، ثم ارتفع، فليس لارتفاعه منتهى نتخذه موقفنا، ولا بد من الانتظار، فلا وجه إلا التعلق بالمدّة التي جرى القضاء بها.
ثم إذا تربصت بعد أن رأت الحيض في أشهر العدة تسعةَ أشهر، فلم يعاود الدمُ، فنأمرها بالبناء على ما كان مضى من العدة أم نأمرها باستئناف العدة بالأشهر؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنا نأمرها بالاستئناف، كما أمرناها باستئناف عدة التربص؛ فإن العدة قد تقطعت، وطرأ عليها ما هو أولى بالاعتبار؛ فالوجه الاستئناف.
والوجه الثاني - أنا نأمرها بالبناء على ما مضى، والفرق بين العدة وبين مدة التربص أن المدة التي شرعت للانتظار والتربصِ تنقطع بطريان الحيض، ويليق بهذا المنتهى افتتاح انتظار، والعدة لم تثبت لانتظارٍ.
والأوجه عندنا الأمرُ باستئناف العدة؛ لأن العدة وقعت بعد مدة الانتظار، وقد وقع الشهر قبل تمام الانتظار، إلا أنها عادت إلى مدة التربص، فالوجه أن أتقع العدةُ [كلُّها] (3) بعد نجاز التربص.
التفريع:
9784- إن حكمنا بأنها تستأنف، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنها تبني، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في كليفية البناء: أحدهما - وهو المشهور أنها تبني باعتبار حساب الشهور، فإن كان مضى شهر، تربصت شهرين تكملةَ الثلاثة الأشهر، وإن كانت -قبل طريان الحيض- تربصت ثلاثة أشهر
__________
(1) غير مقروءة بالأصل. والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: "لا يعتمد على حياله" والمثبت من عمل المحقق.
(3) ما بين المعقفين مأخوذ من معنى كلام ابن أبي عصرون، بل الأحرى بألفاظه نفسها، وهو مكان عبارة الأصل المضطربة التي جاءت هكذا: "فالوجه أن يدفع كله العدة بعد نجاز التربص".(15/162)
إلا يوماًً، فتكتفي بالتربص يوماً واحداً، هذا معنى البناء.
والوجه الثاني - أنا نعتد بما مضى قرءاً، إن كانت رأت الدم مرة، ثم نقول: إذا تباعد الحيض، فعليها قرءان، فإذا عدمتهما، أتت ببدل قرأين وهو شهران، وعلى هذا لو رأت الدم في اليوم الأخير من الثلاثةِ الأشهر، فإذا تباعد الحيض، اعتدّت بشهرين، وكذلك لو رأت الحيضَ في اليوم الأول.
وهذا بعيد لا تعويل عليه؛ فإن حاصله تحصيل العدة ملفقة من الأصل والبدل، ونحن لا نرى التلفيق من أصول، فكيف الظن بالتلفيق من أصلٍ وبدل.
وبيانه أن من لزمته كفارة اليمين وكسا خمسةً وأطعم خمسةً، لم يبرأ عن الكفارة، والإطعامُ والكسوةُ أصلان متعارضان.
وقد ذكرنا حالتين في طريان (1) الحيض: إحداهما - فيه إذا طرى في التسعة الأشهر، وهي مدة التربص، والثانية إذا طرأ بعد الاشتغال بالعدة، فأما إذا طرأ
__________
(1) خطّأ النووي -في التنقيح- هذا اللفظَ (الطريان) قائلاً: " قوله: " الطريان " هكذا يتكرر في الوسيط، وهو تصحيفٌ صوابُه (الطرآن) بالمد " ا. هـ (ر. التنقيح في شرح الوسيط- الوسيط: 1/442) .
ولجلالة الإمام النووي ومنزلته في الفقه واللغة والحديث كَرَرْتُ على الأجزاء التي كنت انتهيت من قراءتها وتدقيقها، وتتبعت الكلمة حيث وجدتها، وغيرتها إلى (طرآن) .
ولكن حائكاً ظل يحوك في الصدر ويَلْفتني بعنف إلى ما تجلّى من براعة إمام الحرمين اللغوية في كتابه البرهان وغيره، فقلتُ لماذا الاستسلام للإمام النووي؟ ولم لا يكون الصواب مع إمام الحرمين؟
فأخذت أبحث في أمهات المعاجم، فإذا بها تقول:
طَرَى: جاء هذا الفعل مهموزاً: طرأ = طروءاً وطَرْءاً. وجاء (واوياً) غير مهموز: طَرَا: طُرُوّاً وجاء بالياء وكسْر الراء: طَرِي. وكلها تأتي بمعنى تجدد وجاء، وهو المراد هنا (ر. لسان العرب: مادة: ط. ر. أ، ط. ر. ى)
ووجدتُ الصغاني في كتابه (التكملة والذيل والصلة) يحكي عن ابن الأعرابي (باب الياء) قوله: "طَرَى يطري، وطَرِيَ يطري، وطرِي يطري: إذا مرّ، وإذا أقبل، وإذا تجدّد" وبمثله في تهذيب اللغة. (ر. التكلملة والذيل والصلة 70/461، وتهذيب اللغة: 4/8)
فعدتُ كرَّةَ أتتبع الكلمة حيث وردت لأردها إلى لغة الإمام (طريان) ، والله وحده يهدي إلى الصواب.(15/163)
الحيض بعد انقضاء التربص والعدة، فقد قال الأئمة إن رأت الدم بعدما نكحت، فلا حكم للدم، ولا نُتْبع النكاحَ بالنقض، وإن رأت الدم بعد الأشهر والحكمِ بانقضاء العدة قبل النكاح، فهل نردها إلى اعتبار الدم؟ المنصوصُ عليه أنها مردودة إلى الدم، فإنا مهما (1) حكمنا بانقضاء العدة على الظاهر وأن الحيض قد انقطع انقطاعاً لا يعود، فإذا عاد، تبيّنا أن ما قدرناه عدة لم يكن عدة.
وذكر الأصحاب قولاً آخر أن العدة قد انقضت، ولا حكم لرؤية الدم بعد ذلك، كما لو نكحت.
هذا هو الترتيب الذي ارتضاه المحققون، وفيه شيء سنذكره من بعدُ.
وكل ما فرعناه على قولنا: إنها مأمورة بالتربص تسعةَ أشهر يجري على قولنا بأنها تتربص أربعَ سنين، حتى لو فرض عودُ الدم في أثناء السنين، فالأمر باستفتاح السنين ابتداءً والقضاءُ بإبطال ما مضى على ما تقدم حرفاً حرفاً.
وقد يطرأ في فكر الفطن شيء في هذا المقام، وهو أن التسعة الأشهر قد جرى بها قضاء عمر وليس في اعتبار أربع سنين قضاءٌ ولا فتوى، [وإنما قاله] (2) الشافعي طلباً به للقطع ببراءة الرحم، فإذا طرأ الحيض، فأي معنى لإعادة السنين مرة أخرى؟
وهذا غير سديد، وإن كان مُخيلاً؛ فإن اعتبار [أربع] (3) سنين لا يجوز حمله على طلب يقين البراءة؛ إذ لو كان محمولاً على ذلك، لما وجب اعتباره مع القطع ببراءة الرحم، ولكنَّ نظرَ الشافعيِّ يُحمل على تحويمٍ على مسالك التشبيه؛ إذ لو اتجه هذا السؤال في طلب اليقين، لاتجه مثله في طلب غالب الظن بالبراءة بانقضاء تسعة أشهر، فإذا نظمنا على ذلك القولَ [بالاستئناف] (4) ، فهو يجري على القول الآخر لا محالة.
9785- فأما التفريع على القول الجديد، وهو أنها مردودة إلى سن اليأس، فاول
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: فإنما قال.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: الاستئناف.(15/164)
ما نذكره التردُّدُ في سن اليأس، وقد ذكر المعتبرون من أئمة المذهب قولين: أحدهما - أنا نردها إلى أقصى سنٍّ في اليأس لامرأة في دهرها، فإنا إذا احتجنا إلى اعتبارها بغيرها، فليس بعض النساء أولى من بعض، وعلى هذا يستقيم طلب النهاية.
والقول الثاني - أنها تعتبر بأقصى سنٍّ في قرابتها وعشيرتها، ولا يُخصَّص بذلك جانبُ الأب عن جانب الأم، بل نعتبرهما، وليس هذا كمهر المثل؛ فإنا نعتبر فيه النساء من جانب قرابة الأب؛ إذ الركن الأولى بالاعتبار في مهر المثل النسب، وجانب الأب يختص بالنسب، وإنما تأكد أمر النسب لمكان الكفاءة، وعمادها الأظهر النسب.
وذكر بعض المصنفين وجهين آخرين سوى ما ذكرناه: أحدهما - أنا نعتبر أقصى امرأة في بلدتها.
والثاني - أنا نعتبر أقصى سن اليأس في نساء عصبتها، كمهر المثل، وهذان الوجهان ضعيفان، أما اعتبار البلدة، فلعله مأخوذ من تأثير الهواء والبقاع والأصقاع في الخِلَق الكلّيّة، كما أنها تؤثر في قِصَر الأعمار وطولها، وفي الألوان وغيرها، ثم لعلّ المرعيَّ فيه الصُّقع والناحية ولا يختص بالبلد، ويُقرِّب [اعتبارَه] (1) ظهورُ اختلاف الأهوية والعلم عند الله فيه، فلا نُمعِنُ الفكر فيما لا أصل له.
وأما اعتبار نساء العصبات فلا أصل له.
وقد يُعترض على قولنا باعتبار أقصى نساء العالم إشكالٌ؛ من جهة أن ذلك لا يمكن ضبطه، مع اتساع رُقعة الدنيا، والممكنُ في الجواب عن ذلك [أنا لا يمكن أن نكلّف طَوْف العالم والفحص عن سكانه، وإنما المراد ما يبلغ خبرُه ويعرَف] (2)
__________
(1) في الأصل: اعتبار. والتصرف من المحقق.
(2) ما بين المعقفين، هو كلام إمام الحرمين كما نقله عنه الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير: 9/441، والروضة: 8/372) .
وأما عبارة الأصل، فقد كانت هكذا: " أن ما لم نكف في الصرود والجزوم أمكن القضاء به ". وهو -طبعاً- غير مستقيم، ولعل التصوير أو عوامل البلى ذهبت ببعض أطراف الحروف ونقطها، مع احتمالٍ كبير في السقط والتصحيف والتحريف؛ فإن ما نقله الرافعي والنووي لا شبه له بما هو في نسخة الأصل. والله أعلم بما كان.(15/165)
أمكن القضاء به على خِطّة الدنيا، وليس الغرض إلا التعلقَ بمُدرَكٍ من الظن.
هذا قولنا في سن اليأس.
9786- فإن قيل: أيليق بمحاسن الشريعة حبس هذه وضَرْبُ الأَيْمة عليها ما عُمِّرت؟ قلنا: الأصل المرعيُّ في هذا أن ما يعمُّ الابتلاء به لا يبنى إلا على السهل السمح، والأصول لا تُنقض بالشاذ النادر، وتباعدُ الحيض ليس مما يعم، فإن تمسكنا فيه بطرد أصلٍ لم نُبعد؛ سيّما وقد وجدنا في غير ما نحن فيه الوفاقَ إلى الرد إلى اليأس فيه إذا انقطع الحيض، بعلّةٍ ظاهرة، كيف [ولا] (1) ينقطع الحيض إلا لعلة، وكما يرجى زوال العلة الظاهرة يرجى زوال العلة الخفيّة، ولعل ما يخفى أقربُ إلى الزوال؛ إذ لو كان أمراً متفاقماً، لظهر.
وهذا يناظر بناءَنا القصاصَ على [الردع] (2) ومصيرَنا إلى أن السبب في وجوبه عصمةُ الدماء، ولولا القصاص لأدى الأمر إلى الهَرْج (3) .
ثم إذا قال القائل: من لا يمين (4) له يقطع أيمان الناس، ولا قصاص عليه؟ قلنا: هذه صورة نادرة، والأصول لا تنقض بالصور النادرة، ومن الأصول أنه لا يقطع باليمين إلا اليمين (5) .
9787- فإذا ردَدْناها إلى سن اليأس، كما ذكرنا، فتعتد بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، رُدّت إلى الدم، فإن ما تراه من بطنها على سن اليأس على ترتيب الحيض حيضٌ بلا خلاف، وإن بلغت السنَّ الأعلى -وليس كرؤية الدم على سن الصغر، كما تفصّل
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) في الأصل: " الرد " والمثبت تقديرٌ منا.
(3) الهَرْج: شدة القتل وكثرته (المعجم) .
(4) المعنى: أن من فقد يده اليمنى، يتهجم على قطع أيمان الناس، غير هيّاب؛ إذ لا قصاص عليه؛ إذ مبنى القصاص على المماثلة، فلا يقطع باليمين إلا اليمين.
(5) هنا يشبّه الإمام عدم الاقتصاص ممن ذهبث يمينه، بحالة من يفرض عليها الانتظار إلى سن اليأس، ووجه الشبه الخروج عن الأصل، وعن المعنى المرعي والحكمة المرجوّة، وكلاهما بسبب الندرة، فالنادر لا حكم له.(15/166)
أقلُّ الأسنان في ذلك (1) -[فنتبين] (2) أنها ليست آيسة (3) ، فماذا تفعل؟ فإن استمرت عليها الدماء (4) ، تخلت عن العدة، وتخلصنا عن تفريع أمرها.
وإن تباعد الحيض (5) ، فما الطريق؟ وإلى متى الانتظار؟ لم أعثر في هذا المنتهى إلا على مسلكين أقْربُهما ما ذكره القاضي من أن الحيض بعد وقوعه إذا ارتفع، احتسبنا من وقت ارتفاعه ثلاثة أشهر، وقلنا: إنها خلت عن العدة، ثم قد [يتغير] (6) هذا كما سنذكره، إن شاء الله، وإنما قلنا هذا، لأنا لا نجد مردّاً نستمسك به، فليس إلا اعتبار صورة العدة، وفي بعض التصانيف: أنا على هذا القول ننتظر الحيض تسعة أشهر: أغلب مدة الحمل، وهذا -وإن كانت الحاجة ماسةً إلى متعلق- لا أصل له، ولست [أدري] (7) هل يُجري صاحبُ هذا القول الأربعَ سنين.
ثم قال القاضي: إذا شرعت في الاعتداد بالأشهر، ورأت الدمَ، وبطل ما كان مرّ من الأشهر، فتستأنف ثلاثة أشهر، وجهاً واحداً، وقد ذكرنا وجهين في التفريع على أنها لا ترد إلى سن اليأس، بل تؤمر بأن تتربص إلى تسعة أشهر، أو أربع سنين، فإذا حاضت في الاعتداد بالأشهر بعد التسعة أو بعد الأربع، ثم رأت دماً، ثم تباعد، وأعادتْ مدةَ التربص، كما أوجبناه، فهل تبني على ما مضى من عدتها أم تستأنف؟
فإذا كنا نُفرِّع على أنها مردودة إلى سن اليأس، فإذا افتتحت الأشهر، ورأت الدم، ثم تباعد، استفتحت الأشهر ولم تَبْنِ وجهاً واحداً، هكذا ذكره القاضي، وفرّق بأنا على القولين القديمين لسنا نبغي قُرباً من اليقين، فضلاً عن اليقين؛ فإنا نكتفي بتربصٍ
__________
(1) المعنى: أن من بلغت سن اليأس، ثم عادت، فرأت الدم على أدوار، فهو حيض بلا خلاف، ولكن الصغيرة التي لم تبلغ سنَّ الإدراك إذا رأت الدم لا يعد حيضاً، وهذا هو الفرق الذي أثبته الإمام.
(2) في الأصل: يتبين.
(3) أي بعودة الدم بعد بلوغها أقصى السن تبيّناً أنها ليست آيسة.
(4) أي استمرت عليها الدماء ثلاثة قروء، فتنتهي عدتها، وتنقطع قضيتها.
(5) أي عاد الدم وانقطع.
(6) في الأصل: تغيير.
(7) زيادة اقتضاها السياق.(15/167)
وأشهرٍ بعده، فإذا طرأ الحيض، ثم تباعد، لم نُبعد البناء على ما كان مضى من الأشهر.
والمعتمد على القول الجديد الرد إلى سن اليأس، ووقوعُ الاعتداد بعدَه، وإذا رأت الدَم، ووقع الحكم بكونه حيضاً، فقد تحققنا أن تربصها في تلك الأيام من الأشهر، كان قبل سن اليأس، فلتقع عدة بالأشهر بعد اليأس، وهذا يوجب افتتاحَ العدة، وبطلانَ المصير إلى البناء.
وهذا الفرق متجِه حسن.
9788- ومما نفرعه على هذا القول، أنا لو رددناها إلى السن الذي ظنناه سن اليأس، واعتدت بثلاثة أشهر، ثم رأت الدم قبل النكاح، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نحكم بأن ما تقدم منها، لم يكن عدة، فننظر إلى الحيض، فإن استمر حتى انتظمت الأقراء، فهو المراد، وإن لم يستمر، افتتحت الاعتداد مرة أخرى؛ لأنا تبينا أن تلك الأشهر متقدمةً على اليأس.
والقول الثاني - لا نحكم ببطلان العدة؛ لأن الحكم نفذ بكونها عدة، وسلّطناها على التزوج، تزوجت أم لم تتزوج، فلا نتتبع الحكم الذي تقدم بالنقض.
هذا إذا رأت الدم بعد الأشهر الثلاثة وقبل النكاح.
فأما إذا نكحت، ثم رأت الدم، ففي المسألة قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى، والفرق أنها اتصلت بحق الغير لما نكحت، فإن الزوج استحق في ظاهر الأمر منافعَ [بُضعها] (1) ، فقطْعُ هذا الاستحقاق [بعيدٌ،] (2) وإذا رأت الدم بعد الأشهر وقبل النكاح، فلم يتعلق بها استحقاق الغير.
وإذا جمعنا المسألة الأولى إلى الثانية، وقلنا: إذا انقضت الأشهر، فرأت الدّم، ففي المسألة أقوال: أحدها - أنا نبطل العدة تبيُّناً سواء نكحت أو لم تنكح، ثم إذا أبطلنا العدة، وقد نكحت، فحكم بطلان العدة يقتضي لا محالة القضاءَ ببطلان النكاح.
__________
(1) في الأصل: نصفها.
(2) في الأصل: لعبدٍ.(15/168)
والقول الثالث (1) - أن نفصل بين أن ترى الدم بعد النكاح وبين أن تراه قبله، فإن رأته قبل النكاح، تبيّنا بطلانَ العدة، وإن رأته بعد النكاح، فلا أثر لما رأت، فإن قالوا: كيف يتجه قول من يقول: العدة لا تبطل، وقد بأن أنها مضت قبل سن اليأس؟
قلنا: هذا مبني على أنا لا نشترط استيقان اليأس، بل نكتفي بظهوره، وإذا ابتنى على ظهوره مضيُّ المدة المرعية في العدة، فلا يضر ما يطرأ من بعدُ، وإن كنا نتحقق بما ظهر أن الأمر على خلاف ما ظنناه، [وبنى] (2) الأصحابُ هذا على قواعد تُبنى على اشتراط أمور، ثم إنها تظهر، ثم يتبين الأمر على خلاف المظنون، وهذا بمثابة قولنا: إن المعضوب الموسر إذا أحجَّ عن نفسه، وكان به عضب يبعُد زوالُه، فإذا حج النائب، ثم زال العضب، ففي وقوع الحج عن المستنيب قولان.
ومما يقرُب من ذلك أن من رأى سواداً، فظنه عدوّاً وصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن ما تخيله لم يكن عدواً، ففي صحة الصلاة خلاف مشهور، ويقرب من هذه الأصول أن بيع الرجل مال أبيه على ظن أنه حيٌّ، ثم تبين أنه كان مات، وانقلب المبيع ميراثاً للبائع، وصادف معه حصولُ الملك، فهذه القواعد متناظرة، فالخلاف فيها آيل إلى أنَّ الحكم فيها على قولٍ بموجب الحقيقة، ونحكم على قولٍ آخر بموجب الظاهر، وإذا أجرينا الحكم به، لم ننقضه، وإن كان الأمر بخلافه.
9789- ومن تمام الكلام في المسألة أنا ذكرنا في التفريع على قولي القديم أنها إذا تربصت كما أمرناها، واعتدت بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، ففيه خلافٌ قدمناه، ولو نكحت، ثم رأت الدم، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن رؤية الدم بعد النكاح لا أثر له تفريعاً على قولي القديم، وإنما الخلاف إذا رأت [الدمَ] (3) قبل النكاح [وبعدَ] (4) انقضاء الأشهر.
__________
(1) هذا هو القول الثالث، أما الثاني، فهو مفهوم من المقام، وهو قسيم الأول: أنا لا نبطل العدة نكحت أم لم تنكح.
(2) في الأصل: وبين.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: وبعده.(15/169)
والفرق بين القول الجديد والقديم في التفريع الذي أشرنا إليه أنا لم نَبْنِ قولي القديم إلا على ظهور أمرٍ، وهذا يتأكد بانقضاء العدة من غير دم، ولسنا نعتمد الغاية القصوى، ولهذا لا نردها إلى سن اليأس، فلم يَقْوَ إذاً الحكمُ بإبطال العدة إذا رأت الدمَ قبل النكاح، فإن نكحت واتصل أمرها بثالثٍ، بَعُد أن نَلتفت على الدم، وعلى قول اليأس إذا رأت الدمَ بعد النكاح، تبين أن اليأس لم يتحقق، وهذا يتضمن الحكم من طريق التبين [بإبطال ما] (1) مضى وانعدام ما كنا نظن.
وفي بعض التصانيف ما يدل على إجراء خلاف إذا رأت الدّم بعد النكاح، وإن وقع التفريع على قولي التربص في العدة. وهذا فيه بُعْدٌ، والله أعلم بالصواب.
وقد نجز القول في تباعد الحيض وما على المرأة فيه.
فصل
قال: " ولو مات صبيّ لا يجامِع مثلُه ... إلى آخره " (2) .
9790- إذا مات الصبيّ الذي لا يولد له، فعدة امرأته بالأشهر والعشر، ولو كانت حاملاً، فوضعت الحملَ قبل انقضاء مدة العدة، لم تنقض العدة بوضع الحمل، خلافاًً لأبي حنيفة (3) ، ولا فرق بين أن تكون حاملاً من الزنا وبين أن تكون حاملاً بولدٍ من وطء شبهة، فإذا كان منتفياً قطعاً عن الزوج، فلا تنقضي بوضعه عدّتُه.
وهذا يفرض ويصوّر في حالة الحياة، فإذا طلق الرجل زوجته، فأتت بولدٍ نعلم قطعاً أنه ليس من الزوج، فعدة الطلاق لا تنقضي به، وقد يفرض ارتفاع النكاح في حياة الزّوج بفسخٍ، والزوجُ صبيٌّ لا يتصور أن يولد له، وأبو حنيفة (4) يخالف في عدة الفراق في الحياة وفي عدة الممات.
__________
(1) في الأصل: لإبطال لما مضى.
(2) ر. المختصر: 5/9.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/402 مسألة 908، المبسوط: 6/52، فتح القدير: 4/323.
(4) ر. المبسوط: 6/52، فتح القدير: 4/323.(15/170)
ولو كان نَفَى الزوج الحملَ باللعان -على قولنا: الحمل يُنفى- ثم ولدت الملتعنةُ المنفيَّ، فالذي رأيته مقطوعاً به أن العدة تنقضي بوضعها الولدَ المنفىَّ؛ وذلك لأنا وإن حكمنا بانتفائه، فلسنا نقطع بذلك، فلا يبعد أن يكون الزوج كاذباً في النفي، والقولُ فيما يتعلق بانقضاء العدة قولُها، وهي تدعي أن ولدَ اللعان ولدُ الملاعِن، فإنه ظَلَم لمَّا نفاه، وهي مقبولة القول فيما يتعلق بأمر العدة.
هذا ما رأيت الأصحاب مطبقين عليه.
9791- وقد يلتحق بهذا [الفصل] (1) مسألةٌ نرسُمها، ونذكر شرحَها بعد هذا في فصلٍ، فنقول:
إذا قال الرجل لامرأته مهما (2) ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت ولداً ولحقها الطلاق، ثم أتت بعد ذلك بولد لستة أشهر فصاعداً، فنعلم قطعاً أن الولد الثاني حصل العلوق [به] (3) بعد البينونة، فإذا وضعت الولد الثاني، فهل نقول: تنقضي العدة بالولد الثاني؟ هذا هو الذي نرى أن نقتصر فيه على الوعد والإحالة، وهو قريب، [سنذكره] (4) بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
9792- ثم ذكر الشافعي بعد هذا (5) تفصيلَ القول في الخِصيّ، والمجبوب، والممسوح إذا طلقوا، فأتت نسوتُهم بأولاد، هل نحكم بانقضاء العدة؟ وهذا أمر قد قدمنا أصله في كتاب اللعان، والقولُ الجامع فيه أنا إن ألحقنا النسب، فإذا وضعت المرأة حملاً، انقضت العدة به، فإن نفاه باللعان، فلينتفِ، [ولم] (6) يتغير أمر انقضاء العدة بسبب اللعان.
__________
(1) في الأصل: فصل.
(2) مهما: بمعنى إذا.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: ما سنذكره.
(5) ر. المختصر: 5/9.
(6) في الأصل: (لم) بدون واو.(15/171)
فإن لم يلحق النسب ببعض هؤلاء، ولم نُحْوَج إلى اللعان، فإذا أتت المرأة بولد، لم تنقضِ العدة.
ثم قال الشافعي: " وإذا أرادت الخروجَ، كان له منعها ... إلى آخره " (1) .
9793- هذا فصلٌ أورده المزني في غير موضعه، ومضمونُه طرفٌ من الكلام في سُكون المعتدة منزلَ النكاح، والقول في هذا يأتي في بابٍ، ولكنا نذكره هاهنا للجريان على ترتيب [السواد] (2) مما يليق به، فنقول:
إذا كانت المرأة في العدة وكانت تستحق السكنى على زوجها، فللزوج أن يُلزمها السكونَ مسكنَ النكاح، ويمنعَها أن تبرح إلى انقضاء العدة، وكذلك إذا أوجبنا للمعتدة عدة الوفاة السكنى في تركة الزوج، فالورثة يُلزِمون المرأةَ سكونَ مسكن النكاح.
وإن حكمنا بأن السكنى لا تجب في عدة الوفاة، فلو تبرع الورثة بإسكانها وتقريرِها في مسكنِ النكاح، أو ببذل المؤنة إذا لم يكن للنكاح مسكن، فالذي ذكره القاضي وشيخي والأئمة: أنه يَلزمُها [ملازمةُ] (3) المسكن، يعني مسكن النكاح، فإن لم يكن للنكاح مسكن لهم أن يُلزموها بأن تسكن مسكناً يعيّنوه.
وهذا قد يعترض فيه سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا لم تملك المرأةُ مطالبةَ الزوج أو مطالبةَ الورثة، فكيف يمتلك هؤلاء مطالبتَها، والإنصافُ يقتضي التسويةَ بين الجانبين في حق الطلب؟
ولكن [لا معوّل] (4) على هذا؛ وذلك أن العدة واجبةٌ عليها وجوباً لا نجد إلى درائه سبيلاً، وعليها لحق الله ورعاية حق الزوج أن تلزم مسكناً يقتضيه الشرع، كما سيأتي تفصيل ذلك؛ فإذا قطعنا المؤنة، لم يبعد أن تتخير [الزوجة] (5) في الخروج،
__________
(1) ر. المختصر: 5/10.
(2) في الأصل: السؤال. وتكرر أن (السواد) هو مختصر المزني.
(3) في الأصل: ما يلزمه.
(4) في الأصل: لا معدل.
(5) في الأصل: الزوج.(15/172)
كما لو [أعسر] (1) الزوج بالنفقة، فللمرأة أن تخرج، وإذا أدرّ الزوج النفقة، حرم عليها الخروج، ولزمها لزومُ مسكن النكاح، وشرح هذا يأتي في فصول السكنى، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو طلق مَنْ لا تحيض من صغرٍ أو كبرٍ ... إلى آخره " (2) .
9794- الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي تباعدت عن الحيض عدتهما بالأشهر، فإن صادف الطلاقُ أول شهرٍ، وهذا إنما يفرض بتقدير وقوع الطلاق في آخر جزء من الشهر تنجيزاً أو تعليقاً، والتعليق أقرب إلى التصوّر، وذلك أن يقول لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من الشهر، فإذا كان كذلك، استقبلت الاعتداد بثلاثةٍ من الأهلة، نقصت الشهور أو كملت، أو نقص بعضها وكمل البعض.
فإن وقع الطلاق أو السبب الموجب للفراق في أثناء الشهر، فذلك الشهر يُحتسب بالأيام كاملةً، وإن اتفق نقصان ذلك الشهر (3) .
ثم الذي صار إليه الأئمة المعتبرون: أنا نُكمل الشهرَ الأول ثلاثين، ونعتبر شهرين بالأهلة بعد بقيةِ ذلك الشهر، ثم نكمل الشهرَ الذي وقع الطلاق فيه بالأيام من هذا الواقع بعد الهلالين.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا انكسر ذلك الشهرُ من الأول، واقتضى الحال تكميله، فإنا نكمل الأشهر الثلاثة ثلاثين، ولا نعتبر الأهلةَ أصلاً، وهذا مذهب أبي حنيفة (4) ، وله متعلّق معنوي لا بأس به، وهو أن الشهر الأول إذا انكسر، فإكماله يجب أن يكون متصلاً به، فإذا أكملتَ الشهرَ الأول من الثاني، انكسر الشهر الثاني،
__________
(1) في الأصل: اعتبر.
(2) ر. المختصر: 5/10.
(3) أي وإن صادف أن كان ذلك الشهر تسعة وعشرين يوماً، فيكمل ثلاثين ما دام قد وقع الطلاق في أثنائه.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 218، مختصر اختلاف العلماء 2/381 مسألة: 885.(15/173)
فيجب إكماله، وهكذا القول في الثالث؛ فيلزم من مجموع ذلك إكمال الشهور.
وقيل: هذا مذهب [أبو] (1) عبد الرحمن [أحمد] (2) ابن بنت الشافعي (3) .
والمذهبُ ما قدمناه.
ثم قال الأصحاب: إذا وقع الطلاق مع أول جزء من الشهر، فالشهرُ منكسر؛ فإن العدة تجب بعد وقوع الطلاق، فلا بد من تصوير وقوع الطلاق في آخر جزء في الشهر.
9795- ثم الصغيرة إذا حاضت في أثناء الشهر، انتقلت إلى اعتبار الحيض، وهل تعتد بما مضى قرءاً؟ فعلى قولين بناهما الأصحاب على أن القرء ماذا؟ وزعموا: أنا إذا قلنا: القرء هو الانتقال إلى الحيض، فقد حصل هذا المعنى؛ فتعتد بما مضى قرءاً، وإن قلنا القرء طهرٌ أو بقية طهرٍ محتوشٍ بحيضتين، فلا تعتد بما مضى قرءاً.
وهذا الكلام فيه اختلال؛ فإن اختلاف القول في الاعتداد بما مضى قرءاً معروف، وقول الانتقال كالمهجور الذي يُذكر استغراباً، وهو في حكم المرجوع عنه.
فالوجه أن نقول في التوجيه: إن قلنا: لا يعتد بما مضى، فالسبب فيه أنه لم يكن نقاءٌ بين دمين، والقرء في اللسان عبارة عن الزمان الذي يُرخي الرحمُ الحيضَ فيه على مذهبٍ، أو عن الزمان الذي يَجْمعُ فيه الحيضَ ليُرخيَه، والوصفان جميعاً مفقودان في الأيام التي مضت على الصبية قبل أن (4) حاضت.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "محمد " وقد سبق هذا من قبل، ونبهنا عليه.
(3) سوّغ لنا الزيادة والتغيير في الكنية والاسم أن الإمام النووي قال: " ويقع في كتب أصحابنا اختلافٌ كثير جداً في اسم ابن بنت الشافعي وكنيته، وأكثر ما يقع في كتب المذهب أن كنيته أبو عبد الرحمن وقال أبو حفص المطوعي في كتابه في شيوخ المذهب: إن كنيته أبو عبد الرحمن، واسمه أحمد بن محمد. فخالف في كنيته والصحيح المعروف أبو محمد، فاحفظ ما حققتُه لك من نسبه وكنيته " انتهى من تهذيب الأسماء واللغات (2/296) . هذا، ولابن بنت الشافعي كنية أخرى لم يذكرها النووي، وقد ذكرها العبادي في طبقاته وهي: أبو بكر. (ر. طبقات العبادي 30، طبقات الإسنوي: 1/78، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/75، 76) .
(4) دخلت " أن " المصدرية على الفعل الماضي، وهو جائز سائغ، وإن لم يكن شائعاً. قال تعالى: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82] .(15/174)
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: لا يرخي الرحمُ الحيضَ عن غير جمع؛ فإذا حاضت، ألحقنا ما تقدم على الحيض الأول بالقرء؛ حتى لا يحبَط ذلك الزمان من العدة، وهذا أولى من الأخذ من الانتقال؛ فإن صاحب الانتقال يشترط الانتقال من طهر إلى حيض، [فلم تكن] (1) هذه في طهر بين حيضين، فلا بد من إلحاق ذلك الزمان بالطهر إذا التحق به، فأي حاجة إلى التفريع على الانتقال.
والآيسة إذا حاضت في الأشهر [ثم انتقلت إلى الأقراء] (2) ، يجب القطع بأن ما مضى يعتد به قرءاً؛ فإنه واقع بين الحيضين: الذي مضى في عمرها وبين الحيض الذي وقع، وأكثر الطهر لا نهاية له.
ثم (3) تعرض الشافعي لأقل أسنان الحيض، وهذا مما تقصّيناه في مواضع، ولا حاجة إلى إعادته.
فصل
قال: " ولو طرحت ما يعلم أنه ولد ... إلى آخره " (4) .
9796- المعتدة إذا ألقت جنيناً ميتاً، غير منتفٍ عمن منه الاعتداد، وبرىء الرحم، حكمنا بانقضاء العدة، إذا كان قد بدأ التخليق، وشكّلت الأعضاء، ولو ألقت عَلَقة، فلا حكم لإلقائها- وإن زعمت القوابل أنها أصلُ الولد.
وإن ألقت لحماً، وقالت القوابل: إنها لحمُ ولدٍ، فقد نص الشافعي على أن العدّة تنقضي به، ونص في أمهات الأولاد على أن الجارية لا تصير به أم ولد، وقال في الجنايات: لا تجب الغرّة بسببه.
__________
(1) في الأصل: " فله تسكن هذه " بهذا الرسم تماماً. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء صورة الكلمات، ورعاية للسياق.
(2) عبارة الأصل: إذا حاضت في الأشهر ثم حاضت انتقلت إلى الأقراء. والمثبت تصرف من المحقق.
(3) ر. المختصر: 5/10.
(4) ر. المختصر: 5/11.(15/175)
فاختلف أصحابنا: فمنهم من نقل الأجوبة في المسائل بعضَها إلى بعض، وأجرى في الكل قولين: أحدهما - أنه يتعلق به انقضاء العدة، وتثبت أمية الولد، ويتعلق به الغرة؛ تعويلاً على قول [القوابل] (1) ، فإليهن الرجوع مهما (2) أشكل شيء مما يختصصن بمعرفته.
والقول الثاني - أنه لا تثبت هذه الأحكام؛ لأن الملقَى ليس ولداً، وإخبارُهن عما سيكون لا تعويل عليه، وهو بمثابة قولهن: العلَقة الملقاةُ أصلُ الولد.
ومن أصحابنا من أقرّ النصوص قرارها، وسلك طريق الفرق قائلاً بأن انقضاء العدة يتعلق ببراءة الرحم بسبب وضع الحمل، والذي وضعته يسمى حملاً، قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، والغرّة بَدل مولود، وأمية الولد مربوط صريحاًً بالولد، واسم [الولد] (3) لا يطلق على اللحم الملقى، ثم هذا القائل يقول: لا نُلْزَمُ (4) العَلَقَةَ في جانب العدة؛ فإن التي ألقتها لا تسمى حملاً.
ثم ما ذكره الأصحاب من قول [القوابل] (5) في العَلَقة تكلّفٌ؛ فإنهن لا يقطعن بذلك في دمٍ قط، بخلاف اللحم.
ومما ذكره الأئمة: القاضي والعراقيون: أنها إذا ألقت لحماً، وزعمت القوابل أنه بدأ فيه التخطيط الخفي، فهذا بمثابة التشكُّل والتخلق في الأعضاء، ولا يُنكَر أن يعرفن [مِنْ] (6) ذلك ما لا ندركه حسّاً، ومحل النصوص واضطراب الأصحاب فيه إذا قلن: لم يبدأ التخطيط الخفي والجلي، ولكن الملقَى لحمُ ولدٍ، هذا محل الكلام.
__________
(1) في الأصل: قول القابل.
(2) مهما: بمعنى (إذا) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) " لا نُلْزَمُ العلقة " أي لا يُحتَجُّ علينا بأنه يلزمنا -على قولنا تنقضي العدة بلقاء اللحم- أن نقول: بانقضائها بالعَلَقَة؛ فالعلقةُ لا تسمَّى حملاً.
(5) في الأصل: قول القائل.
(6) زيادة من المحقق.(15/176)
فإذا قلن: لا ندري ما هو، فلا خلاف أنه لا يتعلق به حكم [من] (1) الأحكام: لا انقضاء العدة، ولا غيره.
9797- ولو ادعت المرأة أنها ألقت جنيناً، فالذي أطلقه الأصحاب أنها مصدَّقةٌ في ذلك، ولو ادعت أنها ولدت ولداً ميتاً، فهل يقبل قولها في انقضاء العدة؟ فعلى وجهين، نصّ عليهما الأئمة في الطرق: أحدهما - أنه يقبل منها، كما يقبل قولها في الحيض وانقضاء العدة في الزمان الممكن، والوجه الثاني - أنه لا يقبل منها، فإن الولادة مما يمكن الإشهاد عليها، والغالب أن المرأة إذا طُلِقَتْ، شهدتها القوابل، فليس كونُها مشهودةً مما يندر، بخلاف إلقاء الجنين؛ فإن ذلك يَفجؤها، فيَصيرُ دعواها فيه بمثابة دعواها في الحيض.
هذا هو المسلك المشهور.
قال شيخي أبو محمد: من أصحابنا من ألحق إلقاء الجنين بادعاء الولادة؛ فإن المرأة إذا أَجْهَضَتْ، لحقها من العسر قريبٌ [مما يلحق] (2) الوالدة في أوان الولادة، ثم نحن أحوج إلى أقوال القوابل في الجنين، لنعلم أنه ولد أو لحمة منعقدة لفظتها الطبيعة.
وهذا الذي ذكره منقاس، ولكنه غريب (3) .
9798- ولو قال الزوج قد طلقتك في زمان الحيض، فتطولُ عدتك لذلك، وقالت المرأة: طلقتني في زمان الطهر، فقد أطلق الأصحاب أقوالهم أن القول في ذلك قولُ المرأة؛ فإنها أعرف بما كانت عليه حالة الطلاق، من حيض أو طهر.
ثم ذكر الشافعي القولين في أن ما تراه الحامل من الدم في زمان الحمل على ترتيب أدوار الحيض حيضٌ أو دم فساد، وهذا مما تقدم استقصاؤه في كتاب الحيض،
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: ما يتلحق الوالدة.
(3) غريب: أي في الحكاية، بمعنى أنه لم يحكه الأصحاب. وهذا المعنى اصطلاح جرى عليه الإمام كثيراً، وظهر معناه واضحاً من السياق.(15/177)
والذي يتعلق باحكام العدة فيه: أنا وإن حكمنا بأنه حيض، فلا يتعلق بالأطهار المتخللة بين [تلك] (1) الدماء انقضاء العدة، ولا بد من وضع الحمل، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق، تعليق السنة والبدعة بها، وما ذكره الأصحاب من خلاف.
فصل
قال: " ولا تنكح المرتابة ... إلى آخره " (2) .
9799- إذا انقضت العدة بالأقراء أو بغيرها، فارتابت المرأة في نفسها، وكانت تجوّز أنها حامل، فاستشعرت من نفسها أمارةً على ذلك، فإن بلغت المبلغ الذي يقال فيه: إنها حامل، وإن كان لا يُستَيْقَن الحملُ في أصل الجبلة، فليس لها أن تنكح.
وإن ارتابت ووجدت من نفسها علامةً، ولم تبلغ مبلغاً يقال فيها: إنها حامل، فهذا محل الكلام، وهو المعنيُّ بما أطلقه الأصحاب من الارتياب، وذلك بأن تجد ثقلاً في نفسها، فينبغي أن تمتنع من النكاح إلى أن تزول الريبة.
فلو نكحت قبل زوال الريبة، فالمنصوص عليه في المختصر أن النكاح موقوف، وقال الشافعي: في موضع آخر: النكاحُ باطل.
واختلف أصحابنا: فمنهم من جعل المسألة على قولين، ثم اختلفوا في أصل القولين: منهم من قال: أصله وقف العقود على ما نبيّن، ومن صور هذا الأصل أن يبيع عبداً لأبيه على [تقدير] (3) حياته، ثم تبين أنه كان ميتاً، وكذلك لو كاتب عبداً كتابة فاسدة، وحسبها صحيحة، ثم باعه، وتبين أن الكتابة كانت فاسدة، ففي صحة البيع قولان.
فإذا ارتابت ونكحت، فهذا [يؤخذ] (4) من الوقف عند هذا القائل.
__________
(1) في الأصل: ذلك.
(2) ر. المختصر: 5/11.
(3) في الأصل: " تعدي " وهو تصحيف واضح.
(4) في الأصل: يوجد.(15/178)
قال بعض أصحابنا: هذا البناء غير صحيح؛ فإنه جرى ما هو انقضاء عدّةٍ في الظاهر، ولم يظهر أمر مخالف له، فلو كان مأخوذاً من الوقف، لقيل هذا العقد يصح قولاً واحداً.
فالوجه أن نبني القولين على أصل آخر، وهو أن من شك في صلاته في عدد الركعات مثلاً، فإنه يبني على المستيقن ويتمادى في صلاته، ولو شك بعد الفراغ من الصلاة: أصلى ثلاثاً أم أربعاً؟ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يلزمه الالتفات على شكه، وقد انقضت الصلاة على حقها، ثم من يُلزم تتبع الشك بعد الفراغ، فتفصيله مذكور في كتاب الصلاة.
ووجه تشبيه ما نحن فيه بذلك أنها لو ارتابت في أثناء العدة؛ فإنها لا تنكح، وإن انقضت صور الأطهار على ظاهر المذهب، وكانت مؤاخذة بتلك الريبة كما يؤاخذ المصلي، فإذا ارتابت بعد انقضاء ما به الاعتداد، كانت كالمصلي يرتاب بعد التحلل عن الصلاة ظاهراً.
ثم ينشأ من اختلاف الأصحاب في مأخذ القولين ما نصفه، فإن حكمنا بأن القولين مأخوذان من وقف العقود، فلو طرأت الريبة في أثناء العدة ونكحت، ثم تبين أنه لم يكن حمل، فالمسألة تخرج على القولين؛ فإن وقف العقود لا اختصاص له بصورة، وإنما هو تردد ثم تبيُّنٌ.
وإن أخذنا القولين من شك المصلي، فإنا نقول: لو طرأت الريبة في أثناء العدة، ثم جرت العدة ونكحت على الريبة، ثم تبينت براءة الرحم، فلا نقضي بصحة النكاح.
فانتظم مما ذكرناه أنها إذا ارتابت ونكحت، وبان أنها كانت حاملاً حالة النكاح، فلا إشكال في فساده، وإن بأن أنها بريّة، وقد تقدمت الريبة، فثلاثة أقوال: أحدها - الفساد كيف فرض الأمر، والثاني - الصحة. والثالث - الفصل بين أن ترتاب في العدة، وبين أن ترتاب بعد انقضائها، وكل ذلك طريقةٌ.
ومن أصحابنا من قال: إذا تبين أنها كانت بريّة، فالنكاح منعقد قولاً واحداً، وليس ذلك من وقف العقود، فإن النكاح مستند إلى عدةٍ ظاهرة والريبة خَطْرة، فإذا بان(15/179)
أنه لا أصل له (1) ، فلا تعويل عليها، وليس كذلك بيع الرجل مال أبيه على تقدير أنه في الأحياء؛ فإنه ليس مبنياً على أصل ظاهر يُسلِّط على التصرف، وهذه الطريقة حسنة فقيهة موافقةٌ للنص الذي نقله المزني.
9800- ثم قال الشافعي: " ولو كانت حاملاً بولدين ... إلى آخره " (2) .
إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فولدت ولداً، وكان الرحم مشتملاً على جنين آخر، فلا شك أن العدة لا تنقضي، وإنما نتبين أن الجنين حمل واحد إذا كان الزمان المتخلل بين وضعيهما أقل من ستة أشهر.
9801- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: لو خرج بعض الولد، لم نحكم بانقضاء العدة إلى الانفصال، ولذلك تصح الرجعة إذا انفصل بعض الولد، وحكم ذلك حكم الجنين المجتنّ في البطن الذي لم يظهر منه شيء.
ثم قال الأئمة: لو انفصل بعضُه، فصرخ واستهلّ، وقتله قاتل، والبعض منه في البطن، فالواجب الغرّةُ لا دية، ولا يجب القصاصُ، ولو أعتقه والحالةُ هذه عن كفارته، لم يقع العتقُ عن الكفارة وإن [نوى] (3) صرفه إليها، ولو باع الأم أو وهبها، دخل الولد في البيع، وهو على الجملة في جميع القضايا والأحكام ينزل منزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء.
وقال بعض أصحابنا: إذا [صرخ] (4) واستهلّ، فقد استيقنّاه، فلو قتله قتلاً مُذفِّفاً، وبعضه متصل بالأم، استوجب القصاص، فإذا آل الأمر إلى المال، التزم الدية بكمالها، ويصير مستقلاً بنفسه في الإعتاق، وكل ما لا نثبته لعدم الاستيقان في الوجود والحياة فهو مثبت.
وهذا وإن كان منقاساً -وقد عزي إلى القفال في بعض أجوبته- فهو ضعيف في الحكاية، ما أراه ملتحقاً بالمذهب.
__________
(1) عاد الضمير مذكراً على معنى (الشك) لا على لفظ (الريبة) .
(2) ر. المختصر: 5/12.
(3) في الأصل: وإن يرى.
(4) في الأصل: "خرج".(15/180)
ثم إن وقع التفريع على هذا الوجه الضعيف، فالعدة لا تنقضي إلا بانفصال تمامه، لا يجوز أن يكون في هذا تردد، ثم يتعلق ببقائها في العدة تصحيحُ الرجعة، وكل ما يتعلق ببقاء العدة.
فصل
قال: " ولو أوقع الطلاق، فلم يدر أَقَبْل ولادها أو بعده؟ ... إلى آخره " (1) .
9802- مضمون الفصل ذكر اختلافٍ بين الرجل والمرأة إذا طلقها، وولدت، ثم فُرض النزاع في التقدم والتأخر، وهذا تفصله مسائلُ: منها أن يختلفا على الإطلاق من غير تنصيص على تاريخ واحدٍ منهما، فيقول الرجل: طلقت بعد الولادة فأنت معتدة، ولي عليك الرجعة، وهي تقول: لا بل طلقتني قبل الولادة، وانقضت عدتي بها.
قال الأصحاب: القول فيه [قول الرجل] (2) ؛ لأن الرجعة حقُّه، والأصل بقاؤها، والأصل أيضاً عدُم الطلاق وعدم انقضاء العدة.
ولو اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق، وذلك [أن اتفقا] (3) أنها ولدت يوم الجمعة، واختلفا في الطلاق: فقال الرجل: طلقتك يوم السبت، وقالت المرأة: لا، بل يوم الخميس. قال الأصحاب: القول قوله أيضاًً، إذ الأصل عدمُ الطلاق، وبقاءُ النكاح.
وإن اتفقا على وقت الطلاق، وتنازعا في وقت الولادة، فقال الرجل: ولدتِ يومَ الخميس، فلي عليك الرجعة، وقالت المرأة: يومَ السبت، فالقول قولها، لأن الأصل عدمُ الولادةِ يومَ الخميس، والرجوعُ إليها فيما يتعلق بوقت انفصال الولد.
__________
(1) ر. المختصر: 5/12.
(2) ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: ببقاء، والمثبت تصرّف وتقدير من المحقق.(15/181)
ولو اتفقا على وقوع الطلاق والولادة واعترفا بالجهالة في التقدم والتأخر، فقالا: لا ندري السابقَ منهما، فعليها استقبال العدة، والرجعةُ ثابتة، فإن الأصل ثبوتها، ولكن الورع ألا يرتجعَها مخافة أن يكون قد فاتت بوضع الحمل.
ولكن هذا الإشكال المقترن به لا يُسقط الرجعة؛ فإن الأصل بقاءُ سلطان الزوج، والارتجاعُ من بقاء النكاح.
وإن ادعت المرأة أنها ولدت بعد الطلاق، والرجل يقول: أنا لا أعلم؟ قلنا: قد ادعت المرأة أمراً جازماً، فأجِبْها، فإن لم يُجب، جعلناه مُنكراً، ثم نعرض عليه اليمين، فإن نكل، حلفت هي واستحقت ما ادعت.
ولو قالت المرأة: أنا أجهل وقت السابق، وأطالب الزوج أن يبيّن، قال الققال: ليس [لها] (1) ذلك، والرجل لا يطالَب، فإنها ما أتت بدعوى صحيحة وقولٍ جازم، فلا يلزم الإجابة.
9803- ومما يجب الإحاطةُ به في سر المذهب أنا ذكرنا طرقاً مختلفة في تداعي الزوجين في انقضاء العدة، ووقوع الرجعة، وأتينا بذلك الفصلِ مستقصىً، وجمعنا بين طرقٍ متناقضة، ومذاهبَ متباينةٍ.
والذي ذكرناه من التقسيم في هذه المسألة اتفق عليه الأصحاب في طرقهم، ومساقُه ما أوردنا ولا غير، والسبب فيه أن الخلاف إذا آل إلى إنشاء الرجعة وانقضاء العدة، فيتعارض في الحكم بتصديق المرأة وتصديق الرجل أمور دقيقةُ المُدرَك، ويعترض أيضاً تنزيلُ الدعوى رجعةً، وعطفُ قول الزوجة انقضت عدتي على زمان منقضٍ، وشيءٌ من تلك المعاني لا يجري في هذه المسألة، ولا يتأتى إيضاح ما ذكرناه إلا بإعادة تلك المسألة، ومن تأمل تيك كما سقناها وتأمل هذه المسألة، استبان الفرق بينهما.
__________
(1) زيادة من المحقق.(15/182)
فصل
قال: " ولو طلقها، فلم يحدث لها رجعة ... إلى آخره " (1) .
9804- البائنة إذا أتت بولد من يوم الفراق لأربع سنين أو أقلَّ، لَحِقَ الولدُ الزوجَ، فإنها أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، وتعتبر ابتداء مُدّة الحمل تقديراً يوم الطلاق.
ولو طلق امرأته طلقة رجعية، فمن أي وقت نعتبر مدة أربع سنين في حقها؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نعتبر ابتداء الحمل من وقت انقضاء العدة، نصّ على هذا في اجتماع العدّتين، ونقله المزني في آخر الباب.
والقول الثاني - أن ابتداء مدة الحمل يحتسب من وقت الطلاق، وإن كان رجعياً.
توجيه القولين: من قال ابتداء المدّة يحتسب من انقضاء العدة ظاهراً، احتج بأن الرجعية حكمها حكم الزوجات، فينبغي أن يكون اعتبار أول المدة من وقت انقضاء الزوجية.
ومن نَصر القولَ الثاني، احتج بأن الرجعية معتزلةٌ عن زوجها، والزوج معتزل عنها، ولا يليق بها الاستفراش، وهذا التوجيه كافٍ.
[وبنى] (2) بعضُ الأئمة القولين على أن الرجعية منكوحة أم لا؟ وقد قدّمنا هذا في كتاب الرجعة، وألحقنا بذلك أمثلةً وبيّنا ما يليق بهذا، فلا نعيده.
فإن قلنا: يعتبر مضيُّ أربع سنين من يوم الفراق، فحكمها حكم البائنة، وإن قلنا: يعتبر من يوم انقضاء العدة، فأي ولدٍ أتت به يلحقه، وإن مضت عشرون سنة وأكثر من يوم الفراق، ما لم تقرّ بانقضاء العدة؛ فإن العدة تتمادى على المذاهب الصحيحة إلى آمادٍ طويلة بتباعد الحيض.
__________
(1) ر. المختصر: 5/12.
(2) في الأصل: وبين.(15/183)
فإذا أقرت بانقضاء العدة، ومضى من ذلك الوقتِ أربعُ سنين، فلا لحوق بعد ذلك.
فمن أصحابنا من قال: إذا مضت من يوم الفراق أربعُ سنين وثلاثةُ أشهر، حكمنا بزوال الفراش حتى لو إتت بولدٍ بعد ذلك، لم يلحق؛ لأن الظاهر والغالب أن العدة تنقضي بثلاثة أشهر، والحمل لا يمكث في البطن [أكثرَ من] (1) أربع سنين.
وهذا الإنسان تعاظمه ما ذكرنا من لحوق النسب بعد الطلاق إلى عشرين سنة، فصاعداً، ولا معنى للحيْد عن القياس بمثل هذه الترّهات.
9805- ثم نقل المزني في الكتاب لفظةً ملتبسةً، وذلك أنه قال: " إذا أتت البائنة بولد لأكثرَ من أربع سنين يكون منفياً عنه باللعان " ثم قال: " وهذا غلط: لا يمكن كونه منه موجِبٌ أن لا يحتاج إلى اللعان، ولعل هذا غلط من غير الشافعي " (2) .
وهذا من كلام المزني، ثم استدل على أنه منفي عنه من غير لعان [بأن] (3) الشافعي قال: " لو قال لامرأته: إذا ولدتِ، فأنت طالق، فولدت ولدين وبينهما ستة أشهر يلحقه الولدُ [الأول] (4) وتنقضي عدته بالثاني ويكون منفياً عنه بلا لعان " (5) .
قال الأصحاب: ما ذكره المزني صحيح في المعنى، ولكن الغلط جاء من جهة النقل: إمّا منه وإما من غيره، ثم التعليل الذي ذكره ليس بواضح، ولفظه معقّد.
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 5/13.
(3) في الأصل: فإن.
(4) زيادة من المحقق.
(5) هذا معنى كلام الشافعي الذي نقله المزني، وليس نصه.
ر. المختصر: 5/13، وفيه: قال المزني، وقال الشافعي في موضع آخر: "لو قال لامرأته كلما ولدت ولداً فأنت طالق. فولدت ولدين، طلقت بالأول، وحلّت للأزواج بالآخر، ولم نلحق به الآخر؛ لأن طلاقه وقع بولادتها، ثم لم يحدث لها نكاحاً ولا رجعة، ولم يقر به، فيلزمه إقراره، فكان الولد منفياً عنه بلا لعان، وغير ممكن أن يكون في الظاهر منه" ا. هـ.(15/184)
9806- وأما المسألة التي أوردها في الولدين، فهي المسألة الموعودة (1) في الفصل المشتمل على عدة امرأة الصبي:
وصورتها: أن تأتي بولد، وقد كان قال الزوج: إذا ولدتِ ولداً، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا ولدت، طُلّقت واستقبلت العدة، فلو أتت بولدٍ لستة أشهر من وقت الولادة، فلا شك أن العلوق به جرى بعد الولادة، وهو منفي بلا لعان؛ فإن العلوق به جرى بعد وقوع البينونة، وهذا بمثابة ما لو أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين بعد البينونة، ثم نقضي بانقضاء عدتها بالولد الثاني مع كونه منفياً.
وهل نُنزله منزلةَ الولد المنفي باللعان، وقد ذكرنا أن المرأة إذا وضعت حملها المنفيَّ باللعان، فعدتها تنقضي مع انتفاء الولد.
وإنما نحكم بأن العدة لا تنقضي إذا كان الولد ولدَ زنا، كذلك [إن] (2) كان العلوق بالولد الثاني بعد الفراق، فيحتمل أن الزوج وطئها بشبهة، ولو فُرض ذلك، لتداخلت العدتان، ولجرى الحكم بانقضاء العدة بوضع الحمل.
9807- حاصل ما ذكره الأصحاب في انقضاء العدة في هذه الصورة ثلاثةُ أوجهٍ أشار إليها القاضي وغيره: أحدها - أن العدة تنقضي كما ذكرناه في الولد المنفي باللعان.
والثاني- أنها لا تنقضي؛ فإن العدة إنما تنقضي بولد يمكن تقدير العلوق به في حالة النكاح، والولد المنفي باللعان بهذه المثابة، فليس انتفى بسبب [عدم] (3) الإمكان، والإمكانُ غير زائل، وهي مصدقة فيما يتعلق بالعدة إذا لم تدع أمراً خارجاً عن الإمكان.
والوجه الثالث - أنا ننظر: فإن لم تدع المرأة سبباً محترماً يفرض العلوق منه بعد
__________
(1) كان قد وعد بها الإمام في الفصل الذي أشار إليه.
(2) في الأصل: وإن.
(3) زيادة من المحقق.(15/185)
الفراق، فلا نحكم بانقضاء العدة، وإن ادعت [أنه] (1) وطئها بشبهة، فإذ ذاك نحكم بانقضاء العدة، وإن كان القول قول الزوج في نفيه، ولا حاجة به إلى اللعان، ويكفيه أن يحلف على نفي الوطء، إذا ادعته، وذلك لأن الزوج وإن نفى ما ادّعته وحلف فيمينه لا تقطع إمكان صدقها، ويكفيها في دعوى انقضاء العدة إمكان الصدق.
9808- ثم قال الشافعي: " لو ادعت المرأة أنه راجعها أو نكحها إن كانت بائنة ... إلى آخره " (2) .
إذا أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين من يوم الفراق، أو كانت رجعية، فأتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم وقوع الطلاق، والتفريع على قولنا أنا نعتبر المدة في الرجعية من وقت الطلاق أيضاً، فإذا ادعت المرأة على المطلِّق أنه راجعها فألمّ بها، وحصل العلوق بعد الرجعة، وادعت البائنة أنه نكحها ووطئها والولد من الوطء الجاري في النكاح الجديد، فالقول قول الزوج لا محالة، في نفي ما تدعيه إن نفاه، فإن حلف، انتفى النسب، وكفى ذلك، وأغنى عن اللعان، وإن نكل عن اليمين، فهل يرد اليمين عليها؟ لم يتعرض الشافعي لذلك بنفى، ولا إثباتٍ.
ولو زعمت المرأة أنها ولدت، وكان النكاح قائماً، فأنكر الزوج الولادة، فالقول قوله، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، قال الشافعي حلفت عند نكوله يمينَ الرد، وقد ذكرنا تصرف الأصحاب في ذلك، في كتاب اللعان، فلا حاجة إلى إعادة ما سبق.
والذي نرى التنبيه [إليه] (3) هاهنا، أن الأصح الردُّ لليمين عليها؛ لأنها قيّمة في نفقة الولد مُطالِبةٌ بها، كما قال المصطفى عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " (4)
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ر. المختصر: 5/14.
(3) سقطت من الأصل.
(4) حديث خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (البخاري: النفقات باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ح 5364. مسلم: الأقضية، باب قضية هند، ح 1714) .(15/186)
فهي تستفيد إذاً بالتسبب إلى إثبات الولادة دفعَ النفقة عن نفسها، فالأصح أنها تحلف يمين الرد.
ثم لم يختلف الأصحاب في أنها تبتدىء الخصومةَ ويحلف الرجل، وهذا محل سؤال الفطن!!
فإن قيل: إذا فرعتم على أن اليمين لا ترد عليها، فكيف بنيتم تحليف الزوج على دعواها؟ قلنا: قد ينتصب للدعوى، وعرضِ اليمين، وطلبِ التحليف مَنْ لا يحلفُ [كالوصيّ] (1) في كثير من الخصومات المتعلقة بحقوق الطفل، وكذلك الوكيلُ بالخصومة يطلب التحليف ولا يحلف، وهذا من الأصول العظيمة في الدعاوى والبينات، وسيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ومهما (2) انتهى كلامٌ إلى استدعاء بيانٍ في طرفٍ وموضعُ كشفه كتابٌ، فالذي يقتضيه الترتيبُ التنبيهَ عليه والإحالةَ على الكتاب الموضوع له، فيجتمع اجتناب التكرار والتنبيهُ لما يجب التنبه له.
فصل
قال: " ولو نكحت في العدة، فأصيبت ... إلى آخره " (3) .
9809- المرأة إذا خلت عن العدة ونكحت نكاحاً مستجمعاً لشرائط الصحة في ظاهر الأمر، وأتت بولد في الفراش الثاني، نُظر: فإن أتت به لزمان لا يُحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، مثل أن تأتي به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت النكاح وإمكان الاستفراش، وكان العلوق به ممكناً في النكاح الأول، فالولد يلتحق بالزوج الأول، ويتبيّن بطلانُ النكاح الثاني للعالم، فإنه جرى والمنكوحة حامل بولد نسيبٍ.
فإن أتت به لزمان لا يحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، وكان لا يحتمل العلوق به في الفراش الأول، وذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر في النكاح الثاني،
__________
(1) في الأصل: " كالواطىء ".
(2) " ومهما ": بمعنى (وإذا) .
(3) ر. المختصر: 5/14.(15/187)
ولأكثر من أربع سنين من البينونة عن الفراش الأول، فالولد منتفٍ عن الزوجين، ولا يُقضى فيه بأنه ولد زنا. ولكن لا أب له، وطريق تحسين الظن حمل العلوق به على وطءٍ بشبهة.
وإن أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في النكاح الثاني، مثل أن تأتي به لستة أشهر من النكاح الثاني فصاعداً، فالولد لا يلحق الأول وإن أمكن أن يكون العلوق به من النكاح الأول، ولكن النكاح الثاني في حكم الناسخ للأول والقاطع لعلائقه واحتمالاته.
وسبب هذا أنا في إلحاق الولد بالثاني لسنا نعطل النسب، فقد نظرنا للولد، ولو قدرنا الإلحاق بالأول، [لأبطلْنا] (1) النكاح الثاني؛ فإنا على هذا التقدير نتبين أن النكاح الثاني عُقد وهي حامل، والنكاح الذي جرى الحكم بانعقاده ظاهراً لا سبيل إلى الحكم ببطلانه بأمرٍ غيرِ مستيقن، فهذا هو الذي أوجب الإلحاق بالفراش الثاني، وهذا يتأكد بترجيح الاستفراش الناجز على ما مضى وانقطع أثره وخبره.
ثم إذا بأن أن الولد يلتحق بالفراش الثاني بالاحتمال، وإن أمكن أن يكون من الفراش الأول، فما الظن إذا أمكن أن يكون من الثاني، ولم يمكن أن يكون من الأول؟ ولا حاجة إلى ذكر مثل هذا إلا لمحاولة استيعاب الأقسام.
9810- وما ذكرناه كله فيه إذا خلت المرأة عن العدة في ظاهر الحال، ونكحت نكاحاً يقضي الظاهرُ بصحته.
فأما إذا جرى نكاحُ شبهة، واتصل الوطء به على ظن الحِلّ من الجانبين، وذلك بأن تنكِح في بقيةٍ من العدة ظانَّة أن العدة قد انقضت، فإذا أتت بولدٍ من وقت افتراش الثاني إياها، نُظر: فإن لم يحتمل أن يكون العلوق به من الثاني، واحتمل أن يكون من الأول، التحق بالأول، وإن لم يحتمل أن يكون من الثاني ولا من الأول، انتفى عنهما، وإن احتمل أن يكون من الثاني واحتمل أن يكون من الأول أيضاًً، وذلك بأن تأتي به لستة أشهر من افتراش الثاني، ولأربع سنين من الأول أو لدون أربع سنين، فقد تردّد المولود بينهما، وهذا من محالّ القيافة.
__________
(1) في الأصل: لا لطلب النكاح الثاني.(15/188)
والذي يليق بغرضنا الآن أن الولد لا يلتحق بالفراش الثاني لحوقَه بالنكاح الصحيح، والسبب فيه ما قدمناه من أن الإلحاق بالأول وقد جرى نكاح ظاهره الصحة، يتضمن إفساد النكاح المحكوم بصحته ولا وجه لهذا، ولا يتحقق مثلُ هذا في النكاح الفاسد.
ومن أسرار المسألة أنا ردَّدْنا في النكاح الفاسد ولداً بين النكاح الفاسد والنكاح الصحيح الماضي، ولكن لما لم يؤد إلى إفساد نكاح المتقدم، لم نُبالِ بذلك.
والدليل عليه أن المنكوحة لو وطئت بشبهة في استمرار النكاح، وفرض الإتيان بولد وتردد الاحتمال بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج؛ فإنا نُري الولدَ القائفَ، وإذا انتهينا إلى باب القيافة في آخر الدعاوى، أوضحنا في صدر الباب الصور التي تجري القيافةُ فيها.
فهذا منتهى المراد في ذلك، وسياقةُ أحكام القيافة إلى منتهاها ستأتي، إن شاء الله تعالى.
9811- ومما ذكره الأصحاب هاهنا أن المرأة إذا نكحت على الشبهة والفساد، فمتى يثبت حكم الفراش الثاني؟ ظاهر المذهب أنه يثبت بالوطء الأول، وقال القفال الشاشي (1) : يثبت حكم الفراش الثاني بالعقد، وفائدة ذلك أنا من أي وقت نحتسب
__________
(1) القفال الشاشي. هو محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير، فخر الإسلام، أبو بكر، تفقه بابن سريج، أول من صنف في الجدل. وهو أكثر ذكراً في كتب التفسير، والحديث، والأصول، والكلام والجدل، مذكور في المهذب في موضع واحد، وهذا أول موضع يذكر فيه في النهاية.
يتفق مع القفال الصغير في الكنية؛ فكلاهما أبو بكر، ويختلفان أو يتمايزان بأشياء منها: النسبة، هذا شاشي، وذاك مروزي، ومنها اللقب فهذا الكبير وذاك الصغير، بالإضافة إلى شهرة صاحبنا هذا بالتفسير والحديث والكلام والجدل، وذاك بالفقه، وحيثما يطلق القفال في كتب الخراسانيين فهم يعنون ذاك لا هذا. ولد 291 هـ وتوفي 365 هـ. ثم هما غير صاحب التقريب، فهو قفال ثالث.
(ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/282، 283، والطبقات للسبكي: 3/472، ووفيات الأعيان: 4/200، 201) .(15/189)
زمان الحمل ليتبين الاحتمال، فعلى هذا الاختلاف [متى] (1) ينقطع حكم الفراش الثاني الثابت على الفساد والشبهة؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ينقطع أثر الفراش الفاسد بالتفريق وإليه النظر، والقفال الشاشي يقول: ينقطع أثر الفراش الثاني من آخر وطأة جرت، ولا يتوقف على التفريق: فمن [راعى] (2) الوطء في الأول، اعتبر التفريق في الآخر، والقفال راعى العقد في الأول، والوطء في الآخر، وذكْر هذين الخلافين على الإرسال حسنٌ لا بأس به.
فأما اعتبارُ العقدِ في الأول والوطءِ في الآخر، فكلام مختلط [حكَوْا أن اعتبار الوطء في الأول والتفريق في الآخر يوجّه بأن الوطء] (3) إذا أثبت حكمه في الافتراش، لم يبعد أن يتمادى إلى التفريق، ولهذا نظير سيأتي الشرح عليه في أثناء الكتاب.
وهو أن من طلق امرأته طلقة رجعية، وكان يخالطها ولا يغشاها، فهل تنقضي العدة مع صورة المخالطة؟ فيه كلام وتفصيل، وكذلك لو فرض ذلك في البائنة على شبهة. فلا ينبغي أن نشتغل بذلك؛ فإنه بين أيدينا.
9812- ومما يتصل بهذا المنتهى أن من نكح امرأة نكاحاً فاسداً، وأتت بولد من غير فرض تردد بين نكاحين، فهل يلتحق الولد بمجرد النكاح مع تبين فساده من غير إقرارٍ من الزوج بالوطء؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا بد من الإقرار بالوطء؛ فإن الفاسد لا يكون فراشاً ما لم يمض افتراشٌ على التحقيق.
ومنهم من قال: نفسُ النكاح والإمكان كافٍ، وهذا يلتفت على الخلاف الذي ذكرناه من أن المنكوحة على الفساد متى صارت مفترشة؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك.
__________
(1) في الأصل: ومتى.
(2) في الأصل: رأى عني.
(3) عبارة الأصل مضطربة هكذا: " حكى من اعتبار الوطء في الأول والتفريق في الآخر لوحه لأن الوطء ... إلخ ".(15/190)
ويترتب عليه أيضاً أنه إذا أقر بالوطء -على قولنا: إنه يعتبر إقراره- فلو ادعى الاستبراء، فالمذهب الأصح الذي يدل عليه النصوص أن دعوى الاستبراء لاغية، ووجه دلالة النصوص قَطْعُ الشافعي قولَه بجريان اللعان، مع العلم بأن اللعان في النكاح الفاسد إنما يجرى للضرورة الداعية إلى نفي النسب المتعرض للثبوت، وقد أوضحنا في كتاب اللعان [أن اللعان] (1) حجةُ ضرورة، وأبعد بعض أصحابنا، فجعل النكاح الفاسد كملك اليمين في دعوى الاستبراء: تؤثر فيه، وهذا بعيد عن قاعدة المذهب.
فصل
قال: " فإن قيل: لمَ لمْ تنفوا الولد إذا أقرت بانقضاء العدة ... إلى آخره " (2) .
9813- إذا طلق الرجل امرأته وزعمت أنه مرّ بها الأقراء الثلاثة، وادعت ذلك في زمان ممكن محتمل، واقتضى الحال تصديقَها، والحكمَ بأنها خلت عن العدة وحلّت للأزواج، فلو أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح: مثل أن تأتي به لأربع سنين فما دونها، فالولد يلحقُ، وإن جرى الحكم بتصديقها، ونتبين أنها كانت ظنت انقضاء العدة، وما كانت منقضية، هذا مذهبنا.
ونكتة المذهب أن الاحتمال في لحوق النسب كاليقين في وضع الشرع، وصُور الأقراء تزاحمه، وقد اتفق العلماء، وشهدت المشاهدة على أن الحامل قد ترى الدمَ على ترتيب أدوار الحيض، وإنما الخلاف في أنه هل يحكم بكون ما تراه حيضاً في أحكام العبادات، وتحريم الوقاع ونحوه، فإذا أتت بالولد لزمان الإمكان، لحق وإن أُفحمنا حيضاً وأقراءً.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 5/14. وعبارة المختصر تختلف لفظاً عن هذه، فهي: "فإن قيل: فكيف لم ينف الولد إذا أقرت أمه بالعدة".(15/191)
وأبو حنيفة (1) يقول: إذا صدقناها في انقضاء العدة، واتصل ذلك بمجلس حاكم، فإذا أتت بالولد لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به في النكاح، لم يلحق.
وهذا في التحقيق قطعُ النسب، وإبطالُ حق الولد منه بسبب إخبارها بأنها رأت دماً، فإن خبرها عن انقضاء العدة يرجع إلى ما شاهدت من ذلك. والعلم عند الله عز وجل.
***
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/404 مسألة 911.(15/192)
باب لا عدة على من لم يدخل بها
9814- صدَّر الشافعي رضي الله عنه الباب بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] . وغرض الباب أن العِدد المتعلقة بطرق الفراق في الحياة مشروطة بالمسيس، والأصل فيه الآية التي ذكرناها.
ولو فرضت خَلوة خِلوَةٌ عن المسيس، فالمذهب الظاهر أن المهر لا يتقرّر بالخَلوة العريّة عن الدخول، خلافاًً لأبي حنيفة (1) ، وفي المسألة قول يوافق مذهبه، وقد ذكرنا القولين في كتاب الصداق؛ فإن حكمنا أن المهر لا يتقرر بالخَلْوة، فلا تجب العدة بها، وإنْ حكمنا بأن الخَلوةَ تُقرر المهرَ، فالذي ذكره الأصحاب أنها توجب العدة.
وهذا فيه أدنى غموض، وكنت أود أن نحمل تقريرَ المهر على التمكين؛ فإن التمكين من المنافع تسليمٌ، كما إذا ألقى المكري مفتاحَ الدار المكراة إلى المكتري، وخلّى بينه وبين الدار.
فأما العدة، فكان لا يبعد في القياس ألاّ تجب وإن تقرر المهر؛ فإن تقرير المهر مأخوذ من قياسٍ في المعاوضة لا تؤخذ العدة من مثله، ولكن (2) لعل الأصحاب رأَوْا العدة عليها من آثار التسليم وتقرير الملك؛ فإن (3) التي تبين بالطلاق ليس النكاح مقرراً
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/348، مسألة: 842، المبسوط: 5/148.
(2) هنا يحاول الإمام أن يوجه قول الأصحاب الذين قالوا بتقرر المهر بالخلوة، ورتبوا عليه إيجاب العدة، وقد سبق أن قال في فصلٍ عن الخلوة من كتاب الصداق قريباً مما قاله هنا، من أنه كان يودّ أن يقتصر أثر الخلوة على تقرير المهر، ولا يوجب العدة.
(3) قوله: " فإن التي تبين بالطلاق ... " هذا -فيما أقدّر- عودٌ إلى الرد على الأصحاب وليس استمراراً لتوجيه قولهم بيجاب العدة، وكأنه يرى توجيه (التمكين) وتفسيره، بأنه غير كامل ولا مستمر. والله أعلم. (هذا إذا لم يكن في العبارة خرم أو تصحيف) . وكل ذلك محتمل.(15/193)
فيها، فكما يتقرر العوض على الزوج يتقرر النكاح على الزوجة، ومن أثر تقرره ألا ينبتّ. هذا هو [الممكن] (1) في توجيهه.
9815- ثم إذا كان الطلاق رجعيّاً، فقد قال أبو حنيفة: لا نثبت الرجعة، واختلف أصحابنا في ثبوتها: فمنهم من وافق أبا حنيفة، وهذا يخرم الفقه الذي ذكرناه، ولا ينقدح فيه وجه خالصٌ عن الشوائب، والأوجه إثبات الرجعة إن أثبتنا العدة.
ثم الممكن في توجيه نفي الرجعة أن العدة وإن ثبتت، فالرجعة تستدعي كمالاً، وليست المعتدة عن الخلوة على نعت الكمال في تربصها، فكأنها على مَرْتبةٍ بين المرتبتين، فإذا أُحْوِج الفقيهُ إلى مثل هذا الكلام، لم نُقم له وزناً؛ فإن القول يتعارض فيه.
9816- ثم فَصَل أبو حنيفة (2) بين الخلوة الصحيحة وبين الخلوة الفاسدة، وقال: لو خلا بها وهما مُحرمان أو أحدهما، أو صائمان صوم فرض، أو أحدهما، لم يتقرر المهر، ولم تجب العدة، ولهم في صوم التطوع تردد.
قال أئمتنا: إذا فرعنا على القول الضعيف ورأيْنا الخلوة مقرِّرةً، لم نَفْصل بين الخلوة الفاسدة والخلوة الصحيحة، ونقضي بتقرر المهر وثبوت العدة، ولو اعتل معتل في التسوية بإمكان الوطء حسَّاً، اعترض عليه خلوةُ المجبوب، والخلوةُ بالرتقاء، فإن الجماع غير ممكن، وقد قال أبو حنيفة: الخلوة تقرر مع هذه الموانع الطبيعية.
ولو روجعنا في ذلك، فالوجه عندنا الحكم بالتقرير مع هذه الموانع؛ فإن المصير إلى أن النكاح لا يتصور فيه تقرير فيه بُعْدٌ، والذي يجرى نهايةُ الأمر.
وفي القلب من الموانع الطبيعية كلام؛ فإن الإمكان مقترن بالصوم والإحرام، ولا إمكان مع الجب والرتق، ولو فصل فاصل بين الجب والرتق، صائراً إلى أن تمكين المجبوب يردّ العجز إليه، وهي في نفسها فعلت ما هو تمكين على أقصى الإمكان، ويجوز أن يقال: الرتقاء عاجزة عن التمكين، فقد جاء من جهتها العجزُ عن
__________
(1) في الأصل: " التمكين ".
(2) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف العلماء: 2/348. مسألة 842.(15/194)
الوفاء بالتمكين، ويعترض على ذلك أنها تستحق النفقة، وإن لم يكن الوقاع ممكناً، على ما سيأتي شرح ذلك، والمريضة التي يرجى زوالها من مرضها قد لا تستحق النفقة، فإنما أُتينا من جهة التفريع على قولٍ لا أصل له.
ومعتمد مذهب الشافعي صحة الأصول، والأصول الصحيحة لا تُفضي إلى مثل هذا الخبط.
9817- ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا في الإصابة، فالقول قول مَنْ ينفيها إلا في مسائل، منها: الاختلاف في جريان الإصابة في مدة العُنّة، فإذا ادعاها الزوج وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج، وكذلك لو فرض مثل هذا في الإيلاء.
فإذا ادعت المرأة على الزوج الإصابةَ تبغي بذلك تقررَ المهر، فأنكر الزوج الإصابةَ، فالقول قوله.
فإذا طلقها، وجرى التنازعُ على هذا النسق، وصدقنا الزوجَ مع يمينه، فلو أتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، فالنسب ملحق، فلا ينفيه ما تقدم من حلف الزوج على نفي الإصابة، وهذا بيّنٌ.
قال الشافعي: إذا ألحقنا النسب أشعر بجريان إصابةٍ في صلب النكاح، فنعود ونقول: القول قول المرأة في ادعاء الإصابة، فتحلف، ويتقرر مهرها.
قال الربيع: " وجب ألا يتقرر المهر؛ لأن كلا الدعويين محتمل، فينبغي أن يُصدّق الزوج فيما يتعلق بنفي التقرير، ويُقضى بلحوق النسب؛ لأنه يَلْحقُ بإمكانٍ وإن بعد "، ولا بأس بما ذكره.
وهذا شبَّب بعضُ الأصحاب بموافقته، والمذهب ما نص عليه الشافعي، ووجهه أن القول في الدعاوى قولُ مَن الظاهر معه، وإذا كنا نحلّف صاحب اليد -مع انقسام الأيدي- للظاهر، فلحوق الولد يُظهر دعوى الإصابة.
***(15/195)
باب العدة من الموت والطلاق والزوج غائب
9818- مضمون الباب مسألة واحدة هي أن المرأة إذا طلقها زوجها في الغَيْبَة، أو مات عنها، ثم لم تعلم بموته أو طلاقه حتى انقضى زمان العدة، فإذا بلغها الخبر، فهي خليّة من العدة، ولا يضرّ عدمُ علمها بكونها في العدة.
وعن علي رضي الله عنه: أنها تبتدىء العدة من وقت ما أحاطت علماً بطلاقه، أو وفاته، لا يعتد بما مضى. وهذا مذهب مهجور لا معول [عليه] (1) .
***
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(15/196)
باب عدة الإماء
قال الشافعي رضي الله عنه: " فرق الله تعالى بين الأحرار والعبيد ... إلى آخره " (1) .
9819- الأحكام على ثلاثة أقسام: منها ما يستوي فيها العبيد والأحرار، والإماء والحرائر، كوظائف الصلوات، وأصل الإسلام، والصيام، وكثير من العقوبات، كالقصاص، وقطع السرقة، والعدة بوضع الحمل.
ومنها ما لا مدخل للعبيد فيه كالولايات، والشهادات، والمواريث، وافتراض الجمعة، وحجة الإسلام.
ومنها ما يشترك الأحرار والعبيد في أصله ويختلفان في الكيفية، فيَلْحَقُ العبيدَ والإماءَ فيه نقصٌ، وهذا فيما ذكره المرتبون قسمان: منه ما يكون العبد فيه على النصف من الحر وكذلك الأمة تكون على النصف من الحرة، وذلك كالحد بالجلد، والقَسْم في النكاح.
ومنها ما تكون الأمة فيه على الثلثين كالأقراء والطلاق، وقد قيل: هذا أصله اعتبار النصف، ولكن لما لم يقبل القدَّ والتنصُّفَ، وكذلك الطلاق، كَمَّلْنا نصفَ طلْقةٍ طلقةً، ونصف قرءٍ قرءاً، وقال داود تعتد بثلاثة أقراء، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعتد الأمة بحيضتين " (2) وإنما ذكر الحيض لدلالته
__________
(1) ر. المختصر: 5/18.
(2) حديث تعتد الأمة بحيضتين: رواه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً. وقد روي موقوفاً أيضاً، رواه مالك في الموطأ، والدارقطني، والبيهقي وصححه موقوفاً. (ر. ابن ماجه: الطلاق، باب في طلاق الأمة وعدتها، ح 2079، الدارقطني: 38/2، البيهقي في الكبرى: 7/369، الموطأ: 2/574، إرواء الغليل: 7/150، 201 وقد رجحه موقوفاً وضعف المرفوع) .(15/197)
على الطهر، هذا إذا كانت الأَمَةُ من ذوات الأقراء.
فإن كانت من ذوات الشهور ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنها تعتد بشهر ونصف؛ لأن الشهر مما يتجزأ ويتبعض وإن كان القرء لا يتبعض، فينبغي أن تكون الأمة على الشطر من الحرة، كما أنها في عدة الوفاة على الشطر، منها تتربص شهرين وخمسة أيام.
والقول الثاني - أنها تعتد بشهرين؛ فإن كل شهر في مقابلة قرء، وقد تأصل فيها قرءان، وروي عن عمر أنه قال: " يطلِّق العبد تطليقتين، وتعتد الأمة بحيضتين، وإن لم تحض، فشهران أو شهر ونصف " (1) ومنهم من جعل هذا شكّاً من الراوي، ومنهم من جعله ترديدَ قولٍ من عمرَ، وهذا ظاهر الرواية، وهو شاهدٌ بيّن في أن ترديد القول ليس بِدعاً (2) .
وفي المسألة قول ثالث - أنها إذا عدمت الحيض، تربصت ثلاثة أشهر، وقد قيل: أقلُّ زمان يدل على براءة الرحم ثلاثةُ أشهر، وما يرجع إلى الجبلة لا يختلف بالرق والحرية، وإنما خرّج هذا القولَ الثالث من الاستبراء، قال الشافعي: أم الولد إذا لم تكن من ذوات الحيض فعَتَقَت، فبماذا تستبرىء؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تستبرىء بشهر واحد؛ فإنها لو كانت من ذوات الحيض، لاستبرأت بقرء واحد، فإذا كانت من ذوات الشهور، أقمنا شهراً مقام قرء.
والقول الثاني - أنها تستبرىء بثلاثة أشهر؛ لأنه أقل زمان يدل على براءة الرحم، وخرج هذا في المطلقةِ الأمةِ إذا كانت من ذوات الشهور.
__________
(1) أثر عمر رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/57 رقم 187، وعبد الرزاق في مصنفه (12872 وما بعده) ورواه البيهقي من طريق الشافعي بسندٍ متصل صحيح إليه، كما قاله الحافظ (ر. السنن الكبرى: 7/425، 426، تلخيص الحبير: 2/468 ح 1083) .
(2) لا ينسى إمام الحرمين (شافعيّته) فهو هنا يأخذ من ترديد عمرَ الحكمَ دليلاً على أن ترديد الشافعي أكثر من قولٍ في حكم واحد ليس شيئاً بدعاً يعاب به الشافعي، كما يقول خصومُ مذهبه. كيف وقد سبقه إلى ترديد القول عمرُ رضي الله عنه، وهو من هو فقهاً وفهماً.(15/198)
فصل
قال: " ولو عتَقَت الأمةُ قبل مضي العدة ... إلى آخره " (1) .
9820- الأمة إذا فارقت زوجها، وشرعت في العدة، ثم عَتَقَت في أثنائها، نُظر: فإن كانت بائنة، فعتقت في خلال العدة، نص في القديم على أنها تقتصر على عدة الإماء، ونص في الجديد على قولين في البائنة.
وإن كانت رجعيةً، فعتقت في أثناء العدة، المنصوصُ عليه في الجديد القطعُ بأنها تُكمل عدةَ الحرائر، وفي القديم قولان، والقديمُ يميل إلى الاقتصار على عدة الإماء، والجديد [مَيْلُه] (2) إلى الإكمال، والرجعية أولى بالإكمال من البائنة، والبائنة أولى بالاقتصار من الرجعية.
فينتظم من الجديد والقديم ثلاثة أقوال: أحدها - الاقتصار على عدة الإماء، رجعية كانت، أو بائنة.
والثاني - الإكمال، رجعيةً كانت أو بائنة.
والثالث - أنها إن كانت رجعية، أكملت عدة الحرائر، وإن كانت بائنة، اقتصرت على عدة الإماء.
توجيه الأقوال: إن قلنا بالإكمال، وهو اختيار المزني، فوجهه أن المغيّر للعدة طرأ على العدة فأشبه ما لو طرأ الحيض على الأشهر، وأيضاً في العدة مشابهُ العبادات، والعبرة فيها بحالة الأداء.
ومن قال بالقول الثاني - احتج بضرب من التشبيه، فقال: ذو عدد محصور يختلف بالرق والحرية، فالعبرة فيه بحالة الوجوب كالحد.
ومن فصل بين الرجعية والبائنة، قال: الرجعية في حكم الزوجات، والدليل عليه أنها تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن يلحقها موجَبُ المغيِّر الذي
__________
(1) ر. المختصر: 5/19.
(2) في الأصل: "تحيّلٌ له".(15/199)
طرأ، والبائنة لا تنتقل من عدتها إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن تلزم العدةَ التي حاضت فيها، ولا تنتقل عنها، ثم أطنب المزني في توجيه ما اختاره، وليس في نقل كلامه مزيدٌ مذهبيّ.
فصل
قال: " ولو أحدث لها رجعة ... إلى آخره " (1) .
9821- إذا طلق الرجل امرأته طلقة رجعية، ثم راجعها مرة أخرى، فإن وطئها بعد المراجعة، لم يَخْفَ أنها تستأنف عدةً إذا طلقت.
وإن راجعها ولم يطأْها، وعاد وطلقها، فهل يجب عليها عدةٌ مستأنفة بعد الطلاق أم تبني على ما كان بقي من عدتها قبل المراجعة؟ في المسألة قولان مشهوران.
ولو خالع امرأته، ثم جدد عليها النكاح في أثناء العدة، ثم طلقها قبل الدخول، فلا خلاف أنها تبني على بقية العدة، ولا [يلزمها] (2) عدةٌ مستأنفة، وإذا أصدقها صداقاً جديداً في النكاح الثاني، ثم طلقها قبل الدخول، فليس لها إلا نصفُ المهر الجديد.
وقال أبو حنيفة (3) : لها تمام مهرها في النكاح الثاني، وهي تستأنف عدةً كاملة، والمسألة مذكورة في الخلاف.
فإن قيل: ما الفرق بين الرجعية تُرتَجع ثم تُطلق، وبين المختَلِعة؟ قلنا: الرجعية بالرجعة مردودة إلى أصل النكاح، وقد سبق في أصل النكاح وطء وانقطعت العدة بالرجعة، ويجوز أن يقال: إذا طلقها تستانف عدة؛ فإنها مطلقة عن نكاح جرى فيه مسيس.
وأما المختلعة إذا نكحها، فهذا نكاحٌ [جديد] (4) ، وهو عريٌّ عن المسيس، فإذا
__________
(1) ر. السابق نفسه. وفي الأصل: حدث. والتصويب من المختصر.
(2) فى الأصل: يلزمه.
(3) ر. فتح القدير: 4/156.
(4) زيادة من المحقق.(15/200)
طلقها، لم يقتض الطلاقُ عدة مبتدأة. فإن قيل: فأنزلوها [منزلة الرجعية] (1) تنكِح؛
فإن العدة الأولى انقطعت بالنكاح الجديد (2) .
قلنا: هذا قياس لا ينكر، ولكن فيه أمر لا سبيل إلى التزامه واقتحامه، وهو أنه لو وطئها في النكاح [الأول] (3) ، ثم طلقها، فلا بد من الاستبراء بالعدة، فلو نكحها على مكانتها، ثم طلقها، فلو نكحت، لكانت مشغولة الرحم بالوطء الجاري في النكاح الأول.
ثم لو قال قائل: فاكتفوا باستبرائها بحيضة. قلنا: الأصول لا تغيّر لآحاد المسائل، وقد وضع الشرع استبراء المطلقات بثلاثة أقراء، فلا حطّ من هذا المنتهى بعَوْد المختلعة إذا طلقت إلى بقية العدة، لما ذكرناه.
9822- ثم إن الشافعي ذكر القولين " في أن الرجعية إذا طلقت من غير مسيس بين الرجعة والطلاق الثاني، فهل تستأنف عدة أو تبني؟
ثم قال: من قال تستأنف، لزمه أن يقول: لو لم يرتجعها، وطلّقها في العدة تستأنف عدة جديدة، فلا يُكتفى ببقية العدة ".
فاختلف أصحابنا في هذا اللفظ: فمنهم من جعله احتجاجاً، ومنهم من جعله تفريعاً، وبيان ذلك أن من يجري في الاحتجاج لمذهب قد يذكر شيئاًً -لا يجوز أن يُعتَقدَ- إلزاماً، فقول الشافعي محمول على هذا المحمل.
ومن حمل هذا على التفريع -وقوله أظهر- قال: لا يليق بالشافعي: الاحتجاج بهذا مع وضوح الفرق؛ فإن الرجعية إذا ارتجعها زوجها، انقطعت العدة بالرجعة، وعادت منكوحة كما كانت من قبل، فاتجه أن يقال: الطلاق الثاني يلحق منكوحةً ممسوسة، فقد بطلت العدة، وقد نُبطل مدّةً شرعية بطريان طارىء، وإذا زال تستأنف مدة أخرى، كما ذكرناه في مدة الإيلاء إذا طرأ عليها طلاقٌ أو ردّة، ثم ارتجعت
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) أي كأنها انقضت.
(3) في الأصل: الأولي.(15/201)
المطلقة وزالت الردة، وإذا طلق الرجعية ولم يرتجعها، فالعدة لم تنقطع، فلا يظهر الاحتجاج.
والوجه حمل كلام الشافعي على ترديد القول، فإذا طلق زوجته الرجعية، فتبني أم تستأنف؟ فعلى قولين على هذه الطريقة، مرتبين على القولين فيه إذا راجعها ثم طلقها، وهذه الصورة أولى بالبناء لما أشرنا إليه.
فإن قيل: فوجهوا القولين، قلنا: من لم يوجب الاستئناف فوجه قوله بيّن؛ إذ العدة مستمرة، ويستحيل أن يقطعها الطلاق؛ فإن الطلاق يؤكد العدة، ولا يناقضها.
ومن قال: تستأنف، قال: الطلاق الجديد يقتضى حَلاً جديداً، ولولا هذا التقدير وإلا لم يكن للطلاق الثاني معنى، وكل حلٍّ يستعقب تربّصاً جديداً.
وهذا عندنا أولى من بناء هذين القولين وتقريبهما من القولين فيه إذا قال لامرأته: كلما ولدت ولداً [فأنت] (1) طالق، فولدت ولدين عن بطن واحد، فتخوض في العدة بوضع الولد الأول، وهل يلحقها الطلاق بوضع الولد الثاني الذي يخلو الرحم به؟ فعلى قولين قدمناهما.
ووجه التقريب أنا نقدر استئناف عدة، ثم نفرض هذا الطلاق على متصل العدّتين، فكذلك نقدّر إذا طلقت الرجعية كأن عدتها نكاح، فإن طلقت، فهذا ابتداء حَلٍّ، ثم يقع هذا الطلاق بين تقدير ارتفاع ما مضى وابتداء ما وجب من العدة، وتوجيه القول على حسب الإمكان أولى من هذا البناء؛ فإن القولين في وقوع الطلاق بالولد الأخير لا أعرف لأحدهما وجهاً على ما قدمت كشفَه وبيانَه.
9823- ثم نفرع على هذا الأصل فروعاً ونبيّنها في أنفسها، ونبين بها حقيقةَ الأصل، فلو طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فكانت حاملاً، فراجعها، ثم طلقها وهي بعدُ حامل، فإذا وضعت حملها، انقضت عدتُها على القولين، وذلك أن بقية مدة الحمل صالحة لأن تكون عدة مستأنفة، فيؤول القولان إلى التقدير.
فنقول: في قولٍ: هي في بقية الحمل في بقية العدة، ونقول في القول الثاني:
__________
(1) في الأصل: قلت طالق.(15/202)
بقية العدة عدةٌ مبتدأة، والدليل على ذلك [أنه] (1) لو راجعها ووطئها ثم طلقها، فوضعت حملها، كفى ذلك، ولو كان الوطء بعد الرجعة يوجب عدة مستأنفة بلا خلاف، فيتجه وجه التقدير في هذه الصورة، ونقطع بأن بقيةَ الحمل عدةٌ كاملة.
وبمثله لو طلقها حاملاً ابتداء كما صورناه، ثم راجعها، فوضعت حملها في النكاح، ثم طلقها من غير مسيس، فإن فرعنا على قول الاستئناف، اعتدت بثلاثة أقراء بعد الطلاق.
وإن قلنا بالبناء، ولم نوجب عدة مستأنفة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يلزمها بعد الطلاق الثاني تربصٌ أصلاً؛ إذ لا سبيل إلى إيجاب عدة مستأنفة، وقد انقضت مدة الحمل.
والوجه الثاني - أنها تعتد بثلاثة أقراء؛ إذ لا بد من تربصٍ بعد الطلاق، وما جرى في حالة ردها إلى النكاح لا يقع الاعتداد به، وإذا ابتدأنا تربُّصاً، فلا موقف نقف عنده، والوجه إيجابُ التربص ثلاثةَ أقراء، فيلتقي القولان: قول الاستئناف وقولُ البناء في هذه الصورة.
9824- ومما يتعلق بهذه الجملة أنه لو طلقها، وشرعت في الاعتداد بالأقراء، وطعنت في الطهر الثالث من عدتها، فراجعها في أثناء الطهر الثالث، ثم طلقها في الحيض، والتفريع على قولنا: إنها تبني ولا تستأنف، فعلى هذا قال القفال فيما حكاه شيخي عنه: كما (2) راجعها انقضت العدة؛ فإنها كانت في بقية طهر، فيقع الاعتداد بما مضى من الطهر.
قال شيخي: هذا كلام مضطرب؛ فإن بقية الطهر إنما يكون قرءاً إذا اتصل بالحيض في زمان التربص، والنصف الأول من الطهر يستحيل أن يكون قرءاً، بل إذا طلقها بائناً، فعليها الاعتداد بقرء.
وذكر العراقيون القولين في أن الرجعية إذا طلقت في العدة هل تبني أو تستأنف، ثم
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) كما: بمعنى عندما.(15/203)
قالوا: لو طلقها رجعياً، ثم خالعها في العدة، وصححنا مخالعة الرجعية، قالوا: إن قلنا: الخلع طلاق، فقد ألحق الطلاقَ، ففي استئناف العدة الطريقان المعروفان للأصحاب.
وإن قلنا: الخلعُ فسخ، وجب أن نقطع بأنها تبني ولا تستأنف.
وهذا الذي ذكروه لا يقبله المراوزة، فإذا جرى سبب من أسباب الفراق: فسخاً كان أو طلاقاً، ففي استئناف العدة والبناء على بقية العدة الاختلافُ الذي ذكرناه، سواء كان ذلك الطارىء فسخاً أو طلاقاً، والسبب فيه أن قول الاستئناف يعتمد أن الفراق الطارىء حَلٌّ جديد، والحلّ يتضمن استعقاب العدة، وهذا الفقه يستوي فيه الطلاقُ الطارىء والفسخ الطارىء، بل هو في الفسخ أظهر؛ من جهة أن الفسخ يَحُل الملكَ، والطلاق الثاني لا يَحُلُ الملكَ، ولكنا نتكلف حلّه [مع] (1) مِلْك رده ورجعه.
والمذهبُ المرتضى القطعُ بأن طريان الفراق لا يوجب استئناف العدة كيف فرض، والمرأةُ تبني على البقية، وترديد الشافعي يحمل على الاحتجاج والإلزام، لا على [التفريج] (2) ، وهو كقول الشافعي في مسألة اللحمان: "من قال: اللحمان جنس واحد لاجتماعها تحت اسم اللحم، يلزمه أن يقول: الثمار جنس واحد"، ثم اتفق أصحابنا أن هذا إلزام، وليس [للتفريع] (3) ؛ إذ لا خلاف أن الثمار ليست جنساً واحداً.
9824/م- ثم ذكر الشافعي (4) أن الاعتبار في عدد الطلاق بحرية الزوج ورقه، وهذا ما قدمناه في كتاب الطلاق، فأما العدة، فالاعتبار فيها برق المعتدة وحريتها وفاقاً؛ فإنها الملابسة للعدة، والقائمة بتأديتها.
***
__________
(1) زيادة اضطررنا إليها لإقامة العبارة، فالمعنى الآن: أننا نتكلف القول بحلّ الملك مع أنه في الطلاق الثاني يملك ردّه ورجعَه، أي يملك إعادة (الملك) . والله أعلم.
(2) في الأصل: "البقاع" والمثبت من المحقق على ضوء الجملة السابقة واللاحقة التي ستأتي بعد سطور.
(3) في الأصل: التفريع.
(4) ر. المختصر: 5/21.(15/204)
باب عدة الوفاة
9825- عدة الوفاة ثابتة على التي مات عنها زوجها، سواء جرى في النكاح دخولٌ أو لم يجر، وقيل: كانت العدة في ابتداء الإسلام سنةً كاملة، وكانت المرأة تجلس في شرّ بيتها في شرِّ أحلاسها، ثم كان تؤتى بكلب، وكانت ترمي إليه ببعرة، وكانت تعني بذلك: أن تفجُّعي على زوجي طول هذه السنة أهون وأيسر عليّ من رَمْي الكلب بهده البعرة.
وكان في ابتداء الإسلام لا إرث للمتوفى عنها زوجها، وكان يجب الإنفاق عليها في تلك السنة من التركة، بدلاً عن الإرث، ثم نسخت العدةُ على هذه الصفة، وردّت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وروي أن امرأة قتل زوجها فرمدت عينُها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستأذن لها في الاكتحال، فقال عليه السلام: "كانت إحداكنّ تقعد في شرّ بيتها في شرّ أحلاسها سنةً، أفلا أربعة أشهر وعشراً!! " (1) .
فنقول: إذا مات الزوج، لم تخل المرأة إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، فإن كانت حائلاً حرة، اعتدت بأربعة أشهر وعشرِ ليالٍ.
وإن كانت أمة: تربصت شهرين وخمسَ ليال بأيامها، وقال داود: الأمة كالحرة في عدة الوفاة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: تعتد بأقصى الأجلين من ثلاثة أقراء ومن أربعة أشهر وعشر (2) ، وهذا يخالف الآية؛ فإنه تعالى لم يثبت في كتابه التعرضَ
__________
(1) حديت: "كانت إحداكن تقعد في شر بيتها ... " الحديث. رواه الشيخان (البخاري: الطلاق، باب الكُحل للحادَّةِ، ح 5338. مسلم: الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، ح 1488) .
(2) أثر عبد الله بن عمرو بن العاص لم نقف عليه.(15/205)
للأقراء في عدة الوفاة، مع انقسام النساء إلى ذوات الأقراء وغيرهن، وفَصَّل العِدَدَ عن الطلاق وَذَكر الأقراء أصلاً فيها.
هذا إذا كانت حائلاً.
9826- فأما إذا توفي الزوج والزوجة حامل، فإذا وضعت حملها انقضت عدتها، وليس في كتاب الله بيان ذلك، وإنما أُخذ هذا من السنة، وروي أن سُبَيْعةَ الأسلمية أبِق لزوجها عبيد فاتبعهم ليردَّهم، فأدركهم فكرُّوا عليه وقتلوه، وكانت سُبَيْعةُ حاملاً، فوضعت لنصف شهر، فخطبها أبو السنابل بن بَعْكَك، فرغبت عنه ولم تردّه، فرآها يوماًً تتصنع للأزواج، فقال: أتتصنّعين للأزواج، لا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وقال ذلك راجياً أن يعود أولياؤها الغُيّب، فيرغبوا ويحملوها على الإجابة، فجاءت سُبَيْعةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بقوله، فقال: "كذب أبو السنابل، بل حللتِ، فانكحي من شئت " (1) . وقال عمر: إذا وَضَعَتْ وزوجها على السرير لم يدفن، حلّت (2) . فوضْعُ الحمل إذاً ينقضي به كل عدة.
والذي يجب التنبه له أن المتوفى عنها إذا كانت حاملاً، فممّا يدرك بمسلك المعنى أن الأربعة الأشهر والعشر إذا انقضت، والحملُ قائم، فلا سبيل إلى التزوج مع اشتغال الرحم، وإنما الذي يحيد عن القياس بعضَ الحَيْد أنها لو وضعت لدون أربعة أشهر؛ فإنها تحل.
قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: لولا حديث سُبَيْعة، لكان الأخذ بأقصى الأجلين: أجل الوضع، والأربعة الأشهر والعشر قريباً من القواعد، لمِا غلب وظهر في عدة الوفاة من التعبد، حتى أنها وجبت مع العُرُوّ عن الدخول، فإذا كنا لا نرعى في
__________
(1) حديث سُبَيْعة الأسلمية متفق عليه من حديثها، ومن حديث أم سلمة (البخاري: الطلاق، باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، ح 5319، مسلم، الطلاق: باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، ح 3516، وانظر مصنف عبد الرزاق: ح 11722 وما بعده، التلخيص: 3/465 ح 1801) .
(2) حديث عمر رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر (ر. الموطأ: 2/589 ح 84، ترتيب مسند الشافعي 2/53 ح 170، مصنف عبد الرزاق: 6/472 ح 11718، 11719، تلخيص الحبير 3/473 ح 1810) .(15/206)
وجوب العدة جريان ما يشغل الرحم في جنسه، كان لا يبعد رعاية المدة المذكورة في كتاب الله تعالى، مع حصول براءة الرحم بوضع الحمل، ولكن المتبع السنةُ، فلا معدل عنها.
9827- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه التعرض للسكنى في عدة الوفاة، ولسنا نخوض فيها الآن، فإنها بين أيدينا.
9828- ثم قال الشافعي: " وليس عليها أن تأتي فيها بحيض " (1) ، وهذا مما قدمناه، وغرضه الرد على مالك (2) ؛ فإنه يقول: إذا كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضتان، وإن كانت عادتها في كل ثلاثة أشهر أن تحيض مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضة.
واحتج الشافعي رضي الله عنه عليه، وقال: لا ذكر للحيض في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، والعدة قسمان: أحدهما - بالأشهر والثاني - بالأقراء، ثم ما يقع بالأقراء لا يعتبر فيه حساب الأشهر، فما يقع بالأشهر لا يعتبر فيه حساب الأقراء.
ثم ذكر بعدها أنها لو ارتابت بالحمل، فهل تنكح أم لا تنكح؟ وهذا مما قدمناه مستقصًى، [وتعرّض] (3) بعد ذلك لتوريث المبتوتة في مرض الموت وحرمانها، وقد مضى ذلك مستقصًى في موضعه.
فصل
قال: " ولو طلق إحدى امرأتيه ثلاثاً ... إلى آخره " (4) .
9829- ذكرنا أن التعويل في عدة الوفاة على الأشهر إذا لم تكن المرأة حاملاً، فإن فرض وقوع الوفاة في الجزء الأخير من شهر، وتحقق ذلك، استقبلت التربصَ
__________
(1) ر. المختصر: 5/24.
(2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/1359 مسألة: 947.
(3) في الأصل: وتفرض.
(4) ر. المختصر: 5/26.(15/207)
أربعةَ أشهر بالأهلة، فتربصت بعدها عشرةَ أيام بلياليها.
فإن وقعت الوفاة في كسر شهر، وكان بقي من ذلك الشهر عشرةُ أيامٍ، من غير زيادة ولا نقصان، فقد قطع الأئمة بأنا نحتسب هذه الأيام من العشر، فنأمرها أن تتربص بعدها أربعةَ أشهر بالأهلة، ولا نقول: تُحْتَسبُ العشرُ الباقية من الأشهر حتى ينكسر الشهر الأول، ثم إذا تصرّمت الأشهر، تربصت عشرة أيام بعدها، ولكن إذا أمكن حَسْبُ تلك الأيام من حساب العشر؛ حتى لا تنكسر الشهور، فعلنا ذلك، ولا يقع العشر مع الأشهر على حكم الترتب، والغرضُ انقضاء هذه المددِ، وبعضها يقدَّر بالأهلة، وبعضها بالأيام، والغرض مُضيّها.
ولو كان الباقي من الشهر أكثرَ من عشرة أيام، فينكسر الشهر الأول لا محالة؛ لمكان ما يبقى بعد العشر، وكذلك لو كان الباقي من الشهر بعد وقوع الوفاة أقلَّ من العشر، فينكسرُ الشهر الأول لا محالة، ثم الكلام في الانكسار على ما قدمنا ذكره.
9830- ولو طلق الرجل إحدى امرأتيه على الإبهام، ومات قبل البيان، إن لم يدخل بواحدةٍ منهما، فعلى كل واحدة أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً، فإن الأمر محمول على الاحتياط في العِدّة، وما من واحدة منهما إلا ويجوز أن تكون هي الزوجة، ولكن لا دخول بواحدة منهما؛ حتى يترددَ النظر بين الأقراء وبين الأشهر والعشر.
فإن كان قد دخل بهما نُظر: إن كانتا حاملين، فالعدة تنقضي بوضع الحمل؛ لأن الوضع تنقضي به العدد كلها: عِدةُ الوفاة وعِدة الفراق في الحياة، وإن كانتا حائلين، نظر: فإن كانتا من ذوات الأشهر، فتتربص كل واحدة أربعةَ أشهر وعشراً من وقت الوفاة، فإن كانت زوجة، فهذه عدة الوفاة، وإن كانت مطلقة، فعدتها بالأشهر، وفي الأربعة ثلاثة.
ولو [كانتا] (1) من ذوات الأقراء، اعتدت كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر، فيها ثلاثة أقراء، ويعتبر أقصى الأجلين وأبعد المدتين، لأنها مأمورة بالتربص إلى أن
__________
(1) في الأصل: كانت.(15/208)
تستيقن الخروج عما عليها، وكل واحدة منهما مردَّدة بين أن تكون مطلقة عدتُها الأقراء، وبين أن تكون زوجة عدتها الأشهر والعشر.
فأما حساب عدة الوفاة، فمن يوم الوفاة، وحساب عدة الأقراء يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في كتاب الطلاق: من أصحابنا من قال: حساب الأقراء من وقت الطلاق، ومنهم من قال: حسابها من وقت الموت، فإنا نستيقن انتفاء النكاح وارتفاعَه يوم الموت، وقد تمهد أصل هذا.
ومعنى أقصى الأجلين أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من يوم الوفاة على أن يمضي عليها ثلاثةُ أقراء، إما من يوم الطلاق، وإما من يوم الوفاة، فإن انقضت الأشهر والعشر، ولم تمض الأقراء، صبرت إلى انقضائها كاملة من أوّل تاريخها المعتبر.
وإن أَحْببنا قلنا: تعتد بثلاثة أقراء من أول تاريخها على شرط أن يقع فيها أربعةُ أشهر وعشرٌ من تاريخ الوفاة.
هذا بيان أقصى الأجلين.
وإن كان قد دخل بإحداهما دون الأخرى، فالتي لم يدخل بها تعتد بأربعة أشهر وعشرٍ، والمدخول بها إن كانت حاملاً، اعتدت بوضع الحمل، وإن كانت حائلاً، فبأقصى الأجلين، كما تقدم تفصيله.
9831- ومما ذكره القفال في آخر الباب: أن المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، فلو وضعت وزوجها على السرير لم يدفن، ونفذ الحكمُ بانقضاء العدة، وحل لها أن تنكح، فلها أن تغسّل زوجها بعد وضع الحمل؛ لأن قيام العدة ليس معتبراً عندنا في الغسل؛ لأن الرجل يغسل امرأته إذا ماتت، ولا عدّة عليه.
ثم قال الأصحاب: لو وضعت، ونكَحت والزوج بعدُ لم يدفن، فلها أن تغسل الزوجَ المتوفى، ولا ينبغي للفقيه أن يرتاع من هذا؛ فإنه إذا لم يمتنع الغُسل مع انتهاء النكاح نهايته وانقضاءِ العدة، فلا أثر لنكاحها؛ فإن الزوجة لا تغسل زوجها بتقدير حِلٍّ قائم بينهما، وإنما تغسل لبقائها على عُلقةٍ من النكاح، وهذا المعنى لا يزول بالتزوج.(15/209)
هذا ما بلغنا في ذلك، وكان لا يبعد أن يقال: تبقى تبعية النكاح ما لم تنكِح، كما أنا نلحق النسب بالاحتمال ما لم تنكِح زوجاً.
وقال الشافعي رضوان الله عليه في مذهب له ظاهر: من فاتته ركعتا الصبح، قضاهما، فإذا زالت الشمس، وتحرّم بفريضة الظهر، انقطعت التبعيّة، وهذا تشبيهٌ من طريق اللفظ، ولكنه كلامٌ على حال.
***(15/210)
باب مقام المطلقة والمتوفى عنها زوجها
9832- ذكر الشافعي في هذا الباب السكنى، وما يتعلق بها، ومن يستحقها من المعتدات، ومن لا يستحقها.
والأصل في وجوب السكنى الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ: قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ، قيل في التفسير: الفاحشة الزنا، والمعنى إلا أن تزني، فتخرج لإقامة الحدّ عليها، وهذا التفسير غير صحيح؛ لأنها إذا أخرجت للحدّ، رُدّت إلى مسكن العدّة بعد استيفاء الحد، فلا يتحقق الإخراج الكلي، فالصحيح ما قال ابن عباس إن الفاحشة أن تَبْذُوَ بلسانها، وتستطيل على أحمائها، فتخرجَ من دار الزوج.
وسكنى المطلقة مستفادةٌ من الكتاب.
9833- فأما المتوفى عنها زوجها، فأمرها مستفادٌ من حديث فُرَيْعةَ بنتِ مالك: روي أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن زوجي قُتل ولم يتركني في مسكن يملكه، فقال عليه السّلام: " ارجعي إلى بيتِ أهلك، واعتدّي فيه، فلما ولّت وبلغت بعض البيوت، ناداها، وقال: اعتدي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله " (1) .
__________
(1) حديث فُريعةَ بنتِ مالك رواه مالك، والشافعي وأحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه كلهم من حديث سعد بن إسحاق عن عمته زينب عن الفريعة به (ر. الموطأ: 2/591، ترتيب مسند الشافعي: 2/53، رقم 175، المسند: 6/370، أبو داود: الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل، ح 2300، والترمذي: الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح 1204، والنسائي: الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، ح 3528، 3529، 3530، ابن ماجه: الطلاق، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح 2031) .(15/211)
وفي سكنى المتوفى عنها قولان، كما سنذكرهما، وفي الحديث الذي رويناه متمسّك القولين: فمن أوجب السكنى، صار إلى أن الرسول نسخ بقوله الآخرَ قولَه الأول، ورخص لها في الخروج أولاً، ثم نسخ وأوجب السكنى بقوله: "اعتدي في بيتك حتى يبلغ الكتابُ أجلَه".
و [من] (1) لم يُثبت السكنى للمعتدة عن الوفاة، استدل بأوّل الحديث، وحمل آخره على الندب والاستحباب.
وحديث فاطمةَ بنتِ قيس لا بد من ذكرها في الباب، روي أن زوجها طلقها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعتد في بيت الزوج، فاستطالت على أحمائها باللسان، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجها النبي عليه السلام من بيت الزوج، وأمرها حتى اعتدّت في بيت ابن أم مكتوم (2) .
وعن مروانَ أنه أخرج مطلقةً من بيت زوجها، فأرسلت إليه عائشةُ: أن اتق الله، واردُد المرأة إلى بيت زوجها، فقال مروان: أما بلغك شأنُ فاطمةَ، فقالت عائشةُ: لا عليك أن لا تذكر فاطمة، فقال مروان: إن كان بك الشر، فحسبك ما بين هذين من الشر: [أي] (3) إن كان أخرجها بعلة الشر، فهو موجود في هذه، ثم كانت فاطمةُ تسمَّى بعد قصتها في الصحابة الفتانة؛ فإنها روت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها النفقة والسكنى، وكانت لا تذكر سبب إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها من مسكن النكاح.
فهذا بيان القواعد التي إليها الرجوع في مسائل الكتاب.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) حديث فاطمة بنت قيس -برواياته-، رواه البخاري: الطلاق، باب قصة فاطمة بنت قيس وقول الله عز وجل {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، الأحاديث من 1321- 5328. ورواه مسلم: الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 1480. وانظر الروايات المختلفة أيضاً في السنن الكبرى للبيهقي: 7/431 وما بعدها.
(3) زيادة يمكن الاستغناء عنها، ولكنها تعين على فهم الكلام.(15/212)
9834- ثم إنا نفتتح بعد هذا القولَ في التي تستحق السكنى، وفي التي لا تستحقها، وفي التي اختلف القول فيها.
وجملة المعتدات قسمان: معتدة عن فُرقة النكاح، ومعتدة عن غير النكاح، فالمعتدة عن غير النكاح كالموطوءة بالشبهة والمنكوحة نكاحاً فاسداً، فيلتحق بهما المستولدة إذا عتَقَت بالإعتاق، أو بموت المَوْلَى عنها، فلا سكنى لواحدة من اللواتي ذكرناهن، إذا لم يكن حمل، فلا شك أن السكنى إذا انتفت، انتفت النفقة.
ولو كانت واحدة من اللواتي ذكرناهن حاملاً، ففي استحقاق النفقة كلامٌ، وتفصيلٌ، واختلافٌ، سيأتي مستقصًى في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل.
فإن أثبتنا النفقة لمكان الحمل، فهل تثبت السكنى؟ الرأي الظاهر أنها تثبت؛ فإن السكنى أولى بالثبوت من النفقة.
ومن أصحابنا من قال: لا تثبت السكنى؛ فإن النفقة الثابتةَ لأجل الحمل بلاغٌ وسدُّ حاجةٍ به قوام الحمل، ولا يتحقق هذا المعنى في السكنى. ومن صار إلى إيجاب السكنى تبعاً للنفقة، [فليس] (1) يعيّن مسكناً، وإنما يوجب القيام بمؤنة السكنى.
9835- فأما المعتدة عن فُرقة النكاح، فلا يخلو إما أن تكون معتدة عن الموت أو عن فُرقة في الحياة، فأما المعتدة عن فُرقة في الحياة، فقسمان: معتدة عن الطلاق، وعن غير الطلاق.
فالمعتدة عن الطلاق قسمان: رجعية وبائنة، أما الرجعية، فلها النفقة والسكنى، حاملاً كانت أو حائلاً؛ لأنها في حكم الزوجات، والبائنةُ لها السكنى بكل حال، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً.
ثم للشافعي قولان في أن النفقة لها أو للحمل، وسيأتي توجيههما وتفريعهما في كتاب النفقات، إن شاء الله تعالى.
وأما المعتدة عن فراق في الحياة غيرِ الطلاق، فالطريقة المشهورة أن النكاح إن انفسخ بفسخ أنشأته المرأة بنفسها: بعيبٍ في الزوج، أو خيارِ عتق، فلا سكنى لها،
__________
(1) في الأصل: وليس.(15/213)
وكذلك لو ارتضعت، وكان ذلك سببَ الانفساخ، فالكلام على ما ذكرناه.
وكذلك لو انفسخ النكاح بفسخٍ أنشأه الزوج لمعنًى فيها، فلا سكنى في مثل هذه العدة، وأمرُ النفقة في الفرق بين الحامل والحائل يأتي في النفقة، إن شاء الله.
فلو انفسخ النكاح بارتداد الزوج، أو بإسلام أحدهما، أو رضاعٍ من جهة أجنبي، ففي وجوب السكنى قولان، كما في المتوفى عنها زوجها؛ وذلك أن النكاح ارتفع من غير طلاق، ولا سبب متعلق بها.
ومن أصحابنا من قال: يجري القولان في العدة التي تترتب على فسخها أو على الفسخ بعيب فيها، وكل معتدة عن فراق عن النكاح في الحياة، ليس ذلك الفراق طلاقاً، ففي ثبوت السكنى الطريقان في القطع، وتخريج القولين.
فإن أردنا أن نفرق بين النفقة والسكنى في مجاري المذهب، [فلْنحوِّم ولا نضن بالوفاء بفرق معنًى] (1) ، ولكنا نعتمد فحوى كلام الله عز وجل؛ فإنه أثبت السكنى من غير تفصيل، وفَصَّلَ الأمرَ في النفقة، فخصص وجوبَها بالحوامل، وغرضُنا الآن التعرضُ للسكنى فحسب، فأما النفقاتُ، فبين أيدينا، نفصلها في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
9836- والقدْرُ الذي ذكره الأصحاب أن السكنى لصيانة الماء والمعتدة على الجملة مشتغلةٌ بصيانة الماء، والنفقةُ في مقابلة تسلط الزوج،. وهذا المعنى مفقود في عدة البينونة، وليس يستمر هذا على ما ينبغي، ويَرِدُ على أحد شِقي الكلام الموطوءة بالشبهة والمستولدة في زمان الاستبراء.
فأما الصغيرة التي لا تحتمل الجماع لصغرها هل تستحق السكنى؟ ذكر الأئمة وجهين في استحقاقها السكنى، وبناهما القاضي على أنها هل تستحق النفقة في النكاح؟ فإن قلنا: لا نفقة لها، فلا سكنى لها في العدة، وإن قلنا: لها النفقة في النكاح، فلها السكنى في العدة.
__________
(1) عبارة الأصل: " فالمحرّم أن لا يضن الوفاء بفرق معنى " والمثبت تصرف من المحقق نرجو أن يكون هو الصواب.(15/214)
9837- وأما الأمة إذا طلقها الزوج، فلا يخلو إما إن كان السيد بوّأ لها مسكناًً مع الزوج أو لم يفعل ذلك، فإن كان عين مسكناً، فهذا يُبنى على أصلين: أحدهما - أنها هل كانت تستحق النفقة في الحياة؟ وهذا يترتب على استخدامه إياها وتركه ذلك، وتسليمه إياها إلى الزوج، فإن سلمها إلى الزوج، وكان لا يستخدمه، فلها النفقة، وعلى الكلام في أنه هل كان يجب عليه أن يسلّمها إلى زوجها حتى يسكنها حيث شاء، وفيه اختلاف قدمناه.
فإن أوجبنا ذلك وتُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها، وهي أن السيد كان لا يستخدمها، فقد اجتمع وجوب النفقة في النكاح، وسلطانُ الزوج في إسكانها مسكناًً يريده ويعيّنه، فيبتني على ذلك وجوبُ السكنى في العدة، وإن قلنا بوجوب النفقة في الصورة التي نحن فيها بَعْدُ، وفرعنا على أنه لا يجب على المَوْلى تسليمُها، ليُسكنها الزوج حيث شاء، فإذا لم يتعين مسكن في النكاح بحكم الزوج استحقاقاً، فإذا طلقها الزوج، وهي في مسكن بحكمه رضي المَوْلى به، وإن لم يكن ذلك مستحقاً عليه، فهل يتعين عليها ملازمة ذلك المسكن الذي اتفق كونها فيه حالة النكاح عن توافق وتراضٍ؟
فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يتعين؛ فإن العدة تبع النكاح، فإذا كان لا يستحق الزوج إسكانها حيث شاء في النكاح، فلا معنى لتعيّن مسكن النكاح للعدة.
وأبْعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا اتفق مسكن في النكاح، وإن لم يكن عن استحقاق، تعيّن لزومُه في العدة، وهذا بعيد.
ثم إن قلنا: مسكن النكاح لا يتعين، فعلى الزوج القيام بمؤنة إسكانها، والتعيين إلى السيد، فإنا في إثبات السكنى في العدة نلتفت إلى النكاح، وكان للمَوْلَى في النكاح أن يُلزم الزوجَ مؤنةَ السكنى، فإذا وجبت النفقة، والسكنى من المؤن التي ثبتت -على التأويل الذي ذكرناه- فيجب بقاء مؤنة السكنى، وإن زالت النفقة للبينونة؛ لما ذكرنا من أن السكنى تجب حيث لا تجب النفقة.
هذا كله إذا كان السيد لا يستخدمها، فإن كان يستخدمها نهاراً، ويتركها ليلاً، ففي وجوب النفقة خلافٌ قدّمته في النكاح، فإن أوجبنا النفقة، أوجبنا السكنى في(15/215)
العدة على التفصيل الذي ذكرناه الآن في أنها [هل] (1) تلزم مسكن النكاح، أو لا تلزمه؛ وإن قلنا: لا تجب النفقة في النكاح لا تلزم السكنى في العدة.
9838- ولو نشزت الزوجة الحرة على زوجها، وسقطت نفقتها، فطلقها زوجها، أو مات عنها، ونعني بالطلاق الطلاقَ المُبينَ، قال القاضي: لا سكنى لهذه في العدة، كما لا نفقه لها في النكاح.
وهذا فيه نظر؛ فإن النشوز معنًى طارىء، وأصل النكاح على استحقاق النفقة ومهما (2) تركت المرأة النشوزَ، فهي على استحقاقها، فموجب النفقة إذاً قائم في النكاح، ولكن لا تجب النفقة لانعدام محل العلة، وليس كذلك الأَمة؛ فإن القول فيها في استحقاق النفقة، وفي تعيين مسكن النكاح مضطرب، كما أشرنا إليه.
فالوجه أن يقال: إذا مات زوج الناشزة أو طلقها ألبتة المبينة، فيلزمها أن تلزم مسكن النكاح؛ فإن هذا تعبّدٌ من جهة الشرع، ولقد كان لها مسكن مستحَقٌ في النكاح، فيلزمها أن تلزمه تعبّداً من الله عز وجلّ. نعم، لو لم تُلْفَ في مسكنٍ، واستمر النشوز والاستعصاء على الزوج، وعدم السكون في مسكن يعيّنه، فبانت، فهذه لم يُعهد لها مسكن نكاح، حتى يقال: إنها تلزمه إلى انقضاء العدة، ففي هذه الحالة يظهر إسقاط مسكن النكاح.
ويبقى النظر في أنها لو نزلت عن نشوزها، وطلبت مسكناًً تعتدّ فيه، فهل تجاب، وقد انكفت عن نشوزها؟ وهل يتصور الرجوعُ إلى الطاعة بعد البينونة؟ هذا محتمل جداً.
فأما إذا نشزت على زوجها في مسكن النكاح؛ فكانت لا تطاوعه، فقد سقطت نفقتها، وسقط أيضاًً عن الزوج مؤنة إسكانها، فإذا أصابتها البينونة، والحالة هذه، فهل تلزم مسكنَ النكاح؟ يظهر هاهنا أن تلزَمه رعاية للتعبّد والحقِّ الدّيني الذي لا يسقط بالتراضي.
__________
(1) في الأصل: هذا.
(2) مهما: بمعنى إذا.(15/216)
هذا مجموع القول في اللواتي يفارقن أزواجهنّ في الحياة.
9839- فأما المتوفى عنها زوجها، فلا نفقة لها حائلاً كانت أو حاملاً؛ لأن نفقة الحمل تسقط بالموت، وتسقط مؤنةُ الحاضنةِ القائمةِ بصيانة الولد.
وهل تستحق السكنى؟ [فعلى قولين: أحدهما - أنها تستحق] (1) كالبائنة المطلقة.
والثاني - أنها لا تستحقها؛ لأن السكنى في كتاب الله عز وجل ثابتة للمطلقات، فالمتَّبَعُ الكتابُ، في هذا الباب؛ فإن مجال القياس فيه ضيق.
والموتُ عن الصغيرة والأمةِ والناشزةِ -على قولنا المتوفى عنها تستحق السكنى- يُردّ [إلى] (2) التفاصيل التي قدمناها؛ فإن الرأي إذا اضطرب في العدة عن الحي، فهو بالاضطراب أولى في العدة عن الميت؛ فإن البائنة على الجملة تستحق السكنى قولاً واحداً، وفي المتوفى عنها قولان.
وقد انتجز الكلام فيمن تستحق السكنى وفيمن لا تستحقها.
9840- ونحن الآن نخوض في تفصيل السكنى، ونقول: القول في السكنى يتعلق بركنين أبداً: أحدهما - التعرض للزوم مسكن النكاح.
والثاني - الكلام في إلزام مؤنة السكنى إن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن.
فأما الكلام في الركن الأول: فإذا كان الزوج يساكن امرأة في مسكن مملوكٍ له، ثم طلقها البتة أو طلقة رجعية، أو مات عنها -والتفريع على استحقاق السكنى- فيتعين عليها ملازمةُ مسكن النكاح، فلو زايلته على اختيارٍ من غير اضطرارٍ، عصت ربَّها ويجب على الزوج ألا يخرجَها، ولا يزعجَها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، أجمع المفسرون على أن المراد مسكنُ النكاح لا غير.
هذا إذا كان للزوج مسكن مملوك.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها، وهي قريبة من عبارة ابن أبي عصرون.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(15/217)
ولو كان المسكن مكتَرى للزوج، وقد بقي من المدة ما يفي بزمان العِدة، فعليها أن تلزمَه وعلى الزوج ألا يزعجها.
وإن كانت الدار مستعارة، فإن لم يرجع المعير، وجب عليها أن تلزمه، وعلى الزوج ألاّ يزعجها، وإن رجع المعير عن العارية، فقد فات الأمر، ولا يمكنها أن تلزم مسكنَ النكاح، وسنذكر التفصيل في الركن الثاني وهو مؤنة السكنى.
9841- أولاً (1) نُلحق بما ذكرناه كلاماً، ونقول: إذا نكح امرأة وأسكنها مسكناًً ضيقاً لا يليق بها في درجتها، ولكنها سامحت زوجَها ورضيت، فلما طلقها، لم ترض بذلك المسكن، وطلبت مسكناً يليق بدرجتها، قال العراقيون: لها ذلك، ولا يلزمها لزومُ ذلك المسكن.
ولو كان الأمر على العكس، وكان الزوج أسكنها مسكناً رفيعاً لا تستحق عليه مثلَه، فلما طلقها، قال الزوج: أنقلها إلى مسكن يليق بها، قالوا: للزوج ذلك.
وما ذكروه في الطرفين ليس خالياً عن الاحتمال، فلا يبعُد أن يقال: إذا جرت مسامحةٌ منها حتى وافاها الطلاق، لزمها المصابرةُ إلى انقضاء العدة.
وإذا كان الزوج هو المتبرع بالمسكن الرفيع، فلا يبعد من طريق التعبد أن يلزمَه إدامةُ إسكانها إلى انقضاء العدة، وفي كلام المراوزة رمزٌ إلى ما ذكرناه، والقياس ما ذكره العراقيون.
ويخرج مما قالوه أنه إنما يلزم تعيينُ مسكنِ النكاح إذا كان على قدر استحقاقها من غير فرض مسامحةٍ منها وتبرّعٍ منه، فإذا صادفها الطلاق، والحالة هذه، تعين المسكنُ، ولم يكن متعيناً في النكاح؛ فإن الزوج لو أراد نقلها مع استمرار النكاح من مسكن إلى مسكن، جاز له ذلك، ولا تبقى خِيَرةٌ إذا وافاها الطلاق في مسكن، وهذا موضع التوطئة بعْدُ، وستأتي التفاصيل والمسائل، إن شاء الله.
فهذا قول كليّ في لزوم مسكن النكاح.
__________
(1) المعنى أننا قبل أن نذكر تفصيل الركن الثاني نلحق بما ذكرنا في الركن الأول كلاماً ...(15/218)
9842- فإن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن، ولكن كانا ينتقلان في الدور المستعارة، ثم جرى الطلاق، واسترد المعير العاريّة، فالزوج يبذل مؤنةَ السكنى، ويكتري مسكناًً لائقاً بحالها، وإليه تعيين ذلك المسكن؛ فإن العدة منسوبةٌ إليه، والغرضُ منها حفظ مائه أو الاحتباس بسبب رعاية حرمته.
هذا كلام في أصل السكنى، وانقسامِ الأمر فيه إلى الكلام في تعين المسكن الذي كان مسكنَ النكاح، والثاني في إلزام الزوج مؤنةَ السكنى إذا لم يكن للنكاح مسكنٌ متعيَّنٌ.
ويتصل بذلك لا محالة أنه يجب عليها أن تَقَرّ وتسكن موضعاً إلى انقضاء العدة، إذا لم يصادفها الطلاق في سفرٍ.
وإن صادفها الطلاق في سفر، فيأتي ذلك بعد هذا.
ثم إنا نتكلم بعد هذا التمهيد في ثلاثة فصول: فصلٌ يتعلق بتعيين المسكن.
وفصلٌ يتعلق بمنع الزوج عن المساكنة.
وفصلٌ في مؤنة السكنى عند ضيق المال.
[الفصل الأول] (1)
فأما ما نطلبه في تعين المسكن:
9843- إذا كان للزوج مسكن مملوك، فالمرأة لا تُزعج من ذلك المسكن حتى تنقضي العدةُ على القواعد التي قدمناها، فلو أفلس الزوجُ وأحاطت الديون به، ومست الحاجةُ إلى بيع المسكن، فالأصل المعتبر في القاعدة أنا لا نُبطل حقَّ السكنى من تلك الدار أصلاً، وإن تأخرت حقوق الغرماء.
ولكن إن كانت حاملاً، فلا سبيل إلى بيع الدار؛ فإن مدة الحمل مضطربة: ربما تُجْهِض المرأةُ، وربما تلد لستٍّ أو لتسعٍ، أو لأربعِ سنين، فيمتنع البيع للجهالة التي
__________
(1) العنوان من عمل المحقق.(15/219)
ذكرناها، وكذلك إذا كانت من ذوات الأقراء، فلا يصح بيع الدار؛ [إذ] (1) الأقراء تختلف، ولا ضبط لأكثر الطهر.
وإن كانت معتدة بالشهور، نظر: فإن كنا لا نتوقع طريان الأقراء على الشهور، فالمذهب الذي عليه التعويل أن بيع الدار قبل انقضاء الأشهر يخرّج على القولين في بيع الدار المكراة؛ وذلك لأن الدار مستحَقَّةُ المنافع في هذه المدّة، فصار كما لو كانت مستحَقَّةَ المنفعةِ للمستأجر.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أنا نقطع بمنع البيع، بخلاف الدار المكراة، واعتلوا بأن قالوا: قد تموت المعتدة في أثناء المدة، فتنقطع العدة، فهذا إذاً [يجرّ غَرَراً] (2) من هذا الوجه، وزعموا أن هذا لا يتحقق في الإجارة؛ فإن المستأجر لو مات لم يبطل حقه، بل ينتقل إلى ورثته، ولو فرض من المكتري فسخُ الإجارةِ، فقد يقول قائل: للبائع المكري إمساك الدار إلى انقضاء المدة. وقد فصلنا هذا في كتاب الإجارة والبيع.
وهذا الذي ذكروه غيرُ سديد؛ فإن أمر البيع لا يحمل على تقدير الموت، وشواهدُ ذلك في بيع الأعيان والسّلم واضحة.
هذا إذا كنا لا نتوقع طريانَ الأقراء على الشهور.
فأما إذا كنا نتوقع طريانَها، فللأصحاب طريقان: منهم من قطع بفساد البيع لتوقع طريان القرء، ثم الأقراء لا ضبط لها.
ومنهم من قال: الحكم بمقتضى الحال وهي من ذوات الشهور، فيخرج البيع على القولين، ثم إن صححنا البيعَ، فطرأ الحيض، فهذا عندنا يضاهي طريانَ اختلاط الثمار قبل القبض؛ فإنا نقول: لو كانت الثمار تختلط بطباعها لا محالة، فالبيع باطل، وإن اتفق اختلاطٌ طارىء، ففيه الخلاف المشهور في كتاب البيع، وليس هذا كطريان الإباق على العبد؛ فإن ذاك لا يبنى عليه الأمر، وطريان الحيض على مشاهدة من حكم الجبلّة كاتفاق اختلاط الثمار.
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل: "يجد عذراً" والمثبت من المحقق رعاية للسياق.(15/220)
9844- ويتم الغرض بسؤالين والجواب عنهما: فإن قيل: منعتم بيع الدار إذا كانت حاملاً، فما قولكم لو قال المشتري: منتهى مدة الحمل معلومة، وأنا آخذ بامتداد الحمل إلى أقصى مدة له، وأرضى، فنقول: هذا رضاً مع تحقق الغرر، وإذا فرض غرر مؤثر في العقد، لم ينفع الرضا فيه، وهذا بمثابة ما لو باع رجل عبداً بمالٍ، وعُلم قطعاً أنه لم يبعه بأكثر من مائة، فقال مالك الدار: بعتك الدار بما باع به فلان عبدَه، وطابت نفس المشتري بالمائة التي هي الأقصى، فلا يصح البيع.
والغررُ المجتنب المؤثر في العقد ينقسم: فمنه ما يثير نزاعاً، وهو مفسد، ومنه ما لا يثير نزاعاً ولكنه غرر بيّن، فلا يمتنع أن يكون مفسداً تعبداً من الشارع، [والقواعد] (1) التعبدية في المعاملات لا ترتفع بالتراضي.
9845- فإن قيل: هلا بنيتم الحمل على الغالب؟ أم هلا قلتم: إذا كان للمرأة عادةٌ في الحيض مطردة، فيقع الأخذ بها، حتى نحكم بالصحة على قول تصحيح بيع الدار المكراة؟ والسؤال يتأكد بشيء وهو أنه إذا لم يكن للنكاح مسكن، فقد نقول: تطلب المرأة مؤنةَ السكنى لأيام عادتها. هذا ظاهر المذهب، على ما سنذكر، إن شاء الله تعالى.
فإذا كان يتعلق حقُّ طلبِ المرأة بمؤنة السكنى لمدة العادة، وإن كان في ذلك إيقاع حيلولة بين الغرماء وبين ما يفوت من المال لأجل السكنى بناء على ظاهر العادة، فهلاّ قلنا: بيع الدار وساكنُها ذاتُ الأقراء يبنى على ظاهر العادة، ويخرَّج على [قولي بيع الدار المكراة] (2) ؛ والجواب: أنا لا نسلم إلى المرأةِ المالَ حتى تتصرف فيه؛ فإن حظها في السكنى، لا حقَّ لها في المال الذي تُحصّل به السكنى، وإفرازنا شيئاً من المال يغلب على الظن [تعلّقُ الاستحقاق به ليس بدعاً] (3) في قسمةٍ بين أقوام.
وعلى هذا بنينا وقف أموالٍ في التركات للخناثى وللحمل المنتظر، ثم جرى
__________
(1) في الأصل حرفت الكلمة إلى كلمتين هكذا: "والقول عد".
(2) في الأصل: على قولي أولا بيع الدار المكراة.
(3) في الأصل: " تعلق الاستحقاق وليس بدعاً " والتصرف بالزيادة والحذف من المحقق.(15/221)
الوقف في تلك الأصول مع تقابل الإمكانِ من غير ترجح، فإذا وقفنا هاهنا مقداراً بناء على ظاهر العادة، لم يكن ذلك بدعاً، وقد نقف ثَمَّ شيئاًً بين من يرث قطعاً وبين من يجوز أن يحجب أصلاً، فإذاً لم نأت بأمرٍ غريب، غير أنا لم نتجاوز العادة؛ إذ لا منتهى للأقراء تقف [عنده] (1) .
هذا منتهى قولنا في هذا الطرف.
فأما البيع [فقد] (2) تعبدنا فيه باجتناب الغرر، وامتناعُ التسليم في الحال [غررٌ] (3) ناجز، وفي زواله غررٌ، ونحن وإن قلنا: العادات قد تطرد، فيغلب فيها نقصان اليوم واليومين، وهذا القدر يظهر الغرر، فاستمر وجوب القطع ببطلان البيع، وخرج الجانب المقدم على الوقف الذي ليس بدعاً، وليس عقداً فينقدح فيه غرر، وهذا فقيه متين.
فإن قيل: هلا احتُمِل ما تتوقعون من زيادةٍ ونقصانٍ احتمالَكم ذلك في بيع الدار المشحونة بالأمتعة للبائع؟ قلنا: ذاك الاشتغال غير محتفلٍ بأصله، فلا ينظر إلى تفصيله، ولذلك قطعنا القول بصحة بيع الدار المشحونة، وأجرينا في بيع الدار المكراة القولين.
وقد انتجز الغرض به في هذا الفصل.
فأما
الفصل الثاني
وهو الكلام فيما تُضارِب المرأة [به] (4) عند ضيق المال، وضرب الحَجْر.
9846- قال الأئمة: إن كانت المرأة تعتد بالأقراء وقد أفْلس الزوج، وحُجِر عليه؛ فإنها تضارب بمؤنة السكنى لزمان عادتها الغالبة -إن كانت لها عادة-.
__________
(1) في الأصل: عندها.
(2) زيادة من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(15/222)
ونحن نفصل ذلك، فنقول: إن كانت من ذوات الشهور، فمبلغ ما تضارب به أجرةُ ثلاثةِ أشهرٍ، وإن كانت من ذوات الأقراء وعادتُها مختلفةٌ، فإنها تضارب بأجرة أقل ما يتصور انقضاء العدة به.
وإن كانت لها عادة مستقيمة، فظاهر المذهب أن مضاربتها تقع باعتبار زمانِ عادتِها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنها تضارب بالأقل أخذاً باليقين، ولا تعويل على العادة، وهذا ضعيفٌ، وقد يَنظُر المبتدىء إليه فيهَشُّ إليه مستمسكاً باليقين، وهذا باطل؛ فإنا لسنا نسلم ما تضارب به إليها، ولا نسلطها على التصرف فيه، بل نتركه عتيداً موقوفاً، وقد ذكرنا أن الوقف مُهيّأٌ لمَظِنةِ الإشكال، فلا معنى للاقتصار على الأقل، ولولا أنا لا نجد مَرَدّاً، لو جاوزنا العادة، لكان نظرنا في مجاوزتها، من جهة أن الغرماء يتسلطون على ما يسلّم إليهم، والقدر الذي نَقِفُه لا نضيِّع فيه حقّاً، بل نرتقب ما يكون، ولكن ليس وراء العادة مَردٌّ.
ولو كانت معتدةً بالحمل، فالمذهب أنها تضارب بمؤنة السكنى في تسعة أشهر، فإن هذا هو الغالب الذي إليه الرجوع، وذهب بعض أصحابنا إلى أن المضاربةَ تقع بمؤنة السكنى لمدة ستة أشهر. وهذا المسلك ضعيفٌ في الأقراء، كما ذكرناه، وهو على نهاية الضعف في الحمل؛ فإن الستة الأشهر مدةُ وضع الحمل الحيّ المستقل، ونحن نقضي بانقضاء العدة إذا أَجْهَضَت جنيناً بدأ التخطيط فيه، فينبغي أن يكون الأقل المعتبر مناسباً [لغرض] (1) انقضاء العدة، لا لبقاء الولد، ولا ضبط للأقل الذي يحصل الانقضاء به.
فإن قيل: بناء الفصل على أن الوقف لا يستدعي يقيناً، فهلا وقفتم المؤنةَ، أم هلا ضاربتم بالمؤنةِ لأربعِ سنين؟ قلنا: هذا لم يصر إليه من الأصحاب صائر؛ من جهة أنه على نهاية البعد، وتنقرض العصور والمئون من السنين ولا يبقى حملٌ أربعَ سنين، وهذا يناظر لو قيل به مجاوزةَ العادة مع النظر في سن اليأس؛ أخذاً بإمكان التباعد.
__________
(1) في الأصل: لفرض.(15/223)
9847- هذا منتهى الكلام في هذا الغرض، [ويُبنى] (1) عليه سؤال يرتبط به الفصلان في إشكالٍ مع الجواب عنه، فإن قيل: المضاربةُ بالمؤنة إذا لم يكن للزوج مسكن مملوك، وقلتم إذا كان للزوج مسكنٌ مملوك، فالمرأة تُقدَّم بحق السكنى، ويؤخرُ حقوق الغرماء.
قلنا: الفرق بين الأصلين أنه إذا كان للزوج مسكن مملوك، فهو متعيَّن لسكنى العدة، والمرأة فيه مختصةٌ به اختصاص المرتهن بالعين المرهونة. والحقوقُ المتعلقة بالأعيان مقدمةٌ على الديون، وإذا لم يكن للنكاح مسكن متعين، فإنما يتعلق حقها بمؤونة مُطْلَقةٍ، سبيلها سبيلُ الديون التي تلزم الذِّممَ، فجرت المضاربة على نحو ما ذكرناه.
فإن قيل: قد قدمتم فيما أسلفتم تردداً في تقديم حقوق الله تعالى على حقوق الآدميين، وفي عكس ذلك، فهلاّ قلتم: مؤنة السكنى في العدة من حقوق الله؟ قلنا: هذا خيال لا أصل له؛ فإن حق الله السكون؛ إذ لو تبرعت هي وبذلت المؤنة من مال نفسها، لكان ذلك ممكناً.
9848- وتمام البيان في الفصل أن المرأة إذا كانت معتدة بالأقراء، وكانت معتادةً، لها عادةٌ مستقيمةٌ، فلو زعمت أن عدتها انقضت بدون العادة، وقبلنا قولها، فالفاضلُ من هذا القدر إلى تمام عادتها مردود على الغرماء.
وإن زعمت أن عادتها زادت على ما عَهِدَتْه، فأحكام العدة باقية عليها، وذكر العراقيون ثلاثة أوجه في أنها هل تضارب بمزيدٍ في مقابلة ما ادعته من الزيادة، وجمعوا إلى الأقراء الحملَ، وطردوا فيها الأوجُهَ: أحدها - أنها لا تستحق مزيداً أصلاً، وقد انحسم الباب بما تقدم؛ إذ لو فتحنا هذا، لقدَّرنا مزيداً على ما ذكرت إلى غير ضبط، وقد تدعي تباعدَ الحيضة، ونقع في أمر لا ينفصل.
والوجه الثاني - أنها مصدَّقةٌ تستحق المضاربة بما ادعته؛ إذ النسوة مصدقات فيما يتعلق بانقضاء العدة.
__________
(1) في الأصل: فيبنى.(15/224)
والوجه الثالث - أن ذلك إن كان في الحمل، وزعمت أنها حاملٌ بعدُ، فإنها تضارب؛ إذ للحمل أمرٌ محدودٌ على حال.
وإن كانت من ذوات الأقراء، فلا تستحق مزيداً، فإنا لا نجد في الأقراء مرجعاً إلا إليها، وتصديقُها في ذلك يُفضي إلى إثبات مغارمَ عظيمةٍ بعيدةٍ عن الإمكان.
وهذا الذي ذكروه فيه إذا لم يعترف الغرماء بتصديقها، فأما إذا اعترفوا بتصديقها، فلا شك أنها تضارب بالمزيد، وتسترد من الغرماء حصة تلك الزيادة.
وحقيقة هذه الأوجه آيلة إلى أنها إذا ادعت مزيداً هل تصدق؟
9849- ولو لم تكن المسألة مفروضةً في [الإفلاس] (1) وضيق المال، وقد طلق الرجل امرأته، وجرت في العدة، فالزوج يُسكنُها على حسب ما ذكرناه، فلو كانت لها عادة، فادعت مزيداً على العادة، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب أنها تُصدَّقُ هاهنا وجهاً واحداً بخلاف ما ذكرناه.
والفرق أنا إذا قسمنا المال وبنينا المضاربة على أقدارٍ معلومة، [جرّ] (2) ذلك مناقضةً يعسر بعضها، فكان التردد لهذا السبب، وهذا المعنى لم يتحقق في حق الزوج، على أني لا أُبعد فيه أيضاً احتمالاً بسبب أنا لو صدقناها، لتمادت كذلك في دعواها إلى سن اليأس، وهذا أمر مجحف بالزوج.
وأما ما ذكروه من الفصل بين الحمل وبين الأقراء، فالذي أراه أنهم إن اعترفوا بالحمل، فالأصلُ عدمُ الولادة قطعاً، ويتعين [الرجوع إلى نفيها، وعلى من يثبتها الحجةُ] (3) ، وليس من حق هذا أن يدرج في الخلاف مع الأقراء، حتى يُفرضَ في الحمل والأقراءِ وجهان مطلقان، ونُفصِّلَ في الوجه الثالث بينهما. نعم، إن أنكروا كونها حاملاً أصلاً، فيتجه حينئذٍ إدراجُ هذه الصور في الخلاف، وردُّ الأمر إلى التفصيل في الوجه الثالث.
__________
(1) في الأصل: الإتلاف. وهو تصحيف عجيب.
(2) في الأصل: " جرى ".
(3) عبارة الأصل: الرجوع إلى نفيها الولاه وعلى من يثبتها الحجة.(15/225)
فأما
الفصل الثالث
فمقصوده القول في مساكنة الزوج المعتدةَ.
9850- فنقول: إذا كانت تعتد في مسكن النكاح، فليس للزوج مساكنتُها، إذا كانت المساكنة تؤدي إلى المضارّة، والمضارّة إنما تُتَلقَّى من المرافق، والمرافقُ التي هي العماد، وعليها التعويل: بيتُ الماء، والمطبخ، وبئر الماء. هذه المرافقُ؛ فإذا اتَّحدت، فليس للزوج أن يسكن قُطْراً من الدار، [وإن] (1) كانت فَيْحاً متسعة الأرجاء؛ فإن المرافق إذا كانت تقع مشتركة، فالضرر يتحقق لا محالة، والتناوب على المرافق [شديدٌ غيرُ محتمل] (2) سيّما بيت الماء.
وأما الممر والمجرى إلى خارج، فلسنا نرعى ذلك -والمعتدةُ حقها أن تلزم المسكن- فليس الممرُ من المرافق التي يليق بحال المرأة في العدة.
ولو كان في الدار حجرة منفردة بمرافقها على ما ذكرنا في تفسير المرافق، وكان الزوج يسكن الحجرة وهي مستقلة بمرافقها، فالمرأة تسكن الدار أو على العكس، فهذا ليس بمساكنة، ولا بأس بما ذكرناه.
9851- ومما يتعلق بالمساكنة أنه لا يحل للرجل أن يخلو بالمرأة في العدة، كما لا يحل له أن يخلو بأجنبية، وهذا يطرد في الرجعية [اطِّراده] (3) في البائنة؛ فإن الرجعية في حكم التحريم بمثابة البائنة.
ثم فسر الأئمة الخَلوةَ، فقالوا: إذا اتحدت المرافق، فلا يحل للزوج سكونُ الدار معها، ولو ساكنها كان خالياً بها. ولو كان معها محرم، فليس الزوج مستخلياً بها، ولو كان مع الزوج في الدار زوجةٌ أخرى، أو كان معه واحدةٌ من محارمه، فليس
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل: غير شديد المحتمل. والتصرف من المحقق.
(3) في الأصل: اطرادها.(15/226)
الزوج مستخلياً بالمعتدة، وإن كانت أجنبية ووقع الفرضُ فيها من غير عدة، فلا خَلوةَ، إذا تُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها.
وكذلك لو كان في الدار جاريةٌ للزوج، فلا خَلْوةَ، ولو خلا الرجل بأجنبيتين، أو مُعتدَّتين، أو بجمعٍ من النسوة، فهذا تردد الأصحاب فيه، فمنهم من رآه خَلْوةً؛ فإن كل واحدة منهن بالإضافة إلى الزوج كصاحباتها، ومنهم من قال: هذا ليس بخَلْوةٍ؛ فإن من اجتمع مع نسوة، فاجتماعهن يمنعه من الإقدام على محذور في غالب الأمر.
وهذا الاختلاف مأخوذ من تردد الأصحاب في أنه إذا اجتمعت نسوة لا محرم معهن. فهل يلزمهن أن يخرجن بأنفسهن إلى الحج، وأطلق الأصحاب من ذلك قولاً، فقالوا: إذا اجتمع مع الرجل والمرأة من يحتشمه الرجل، فلا يكون مستخلياً بها، وتفصيل هذا ما قدمناه.
ولكن ينشأ فما ذكرناه الآن أنه لو كان معهما صغيرة لا تميز أو مجنونة، فلا معوّل عليها؛ فإنها لا تُحتَشَم، ولو كان معهما مراهقةٌ مميزة تعقل، وتصف، وتذكر، وتحكي، [قالوا:] (1) ظاهرٌ عندنا أن ذلك يمنع من حصول الخَلْوة، والعلم عند الله.
ولو خلا رجلان بامرأة، فظاهر ما ذكره الأصحاب أن هذا خَلوة، وليس كخَلْوة الرجل بامرأتين، ولهذا لم نوجب على المرأة الفردة أن تخرج حاجّة مع جمع الرجال من غير زوج ولا محرم، وترددوا في خروج نسوة مجتمعات مع جمع الرجال.
ومما يتعلق بتمام الغرض في ذلك أن الدار لو كانت مشتملة على حجرة، فسكنت المرأة حجرةً منفردةً بمرافقها، وسكن الرجل الدار ذات المرافق، نُظر: فإن كانت الحجرة يُغلق بابها، فإذا فعلت ذلك، فلا خَلوة، وإن لم يكن للحجرة بابٌ، وبابُ الدار مغلق على الدار والحجرة، فالرجل مستخلٍ بها، وإن كان لا يراها، ولو كانت الحجرة ذاتَ باب له أغلاق وأرتاج، ولكن مرافقها في الدار، ولا ثالث، فالرجل مستخلٍ بها.
هذا تفصيل الخَلْوة.
__________
(1) في الأصل: قال. والقائل هم الأصحاب، فسياق الحديث والحكاية عنهم.(15/227)
9852- ونحن نذكر بعد ذلك أمرين يتعلق بينهما سرُّ الفصل: أحدهما - الخَلوة، وهي محرمة لله تعالى. والثاني - المضارّة، والمرعي فيه جانبها، وبيانه أنه لو ساكنها مساكنةَ مستخلٍ عصى ربَّه، وإن رضيت، ولو كان في الدار من يمنع حضورُه الخَلوةَ، ولكن كانت المضارَّة تظهر لاتحاد المرافق، فهذا يتعلق بخالص حقها، فإن احتملت هذه المضارّة، لم يعصِ الزوجُ، وإن أبت، وجب على الزوج الخروجُ رعايةً لحقها، قال الله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ، فاستبان أن المساكنة تشتمل على ما يتعلق بحق الله تعالى، وهو لا يسقط بالرضا، وإلى ما يتعلق بحقها.
والله أعلم بالصواب
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
9853- إذا (2) كان أسكنها مسكناً ضيقاً في النكاح لا يليق بها، ولكنها احتملته طلباً للأُلفة، فلما طلقها أبت أن تبقى، فالذي ذكره العراقيون أن لها أن تطلب مسكناًً، فليقع البناء على هذا؛ فإنه ظاهر.
ثم قال العراقيون والقاضي: على الزوج أن يطلب لها أقربَ مسكن إلى مسكن النكاح، ورأَوْا ذلك حتماً لا يسوغ إسقاطُه، وشبه القاضي ذلك بتفريعٍ لنا على قول نقل الصدقة، وقال: إذا منعنا نقلها، فعدِم من عليه الزكاةُ المستحقين في وطن الزكاة، فعليه أن ينقلها، ثم إنه ينقلها إلى أقرب المواضع، وهذا مما قدمت ذكره في نقل الصدقات في كتاب قَسْمها.
فالذي أرى القطع به هاهنا أن رعاية القرب من مسكن النكاح لا يجب أصلاً،
__________
(1) هذه البسملة موجودة في الأصل. وقد تركناها تيمناً وتبرّكاً.
(2) كان هنا في الأصل علامة أو عنوان (فصل) ولا معنى له هنا، فهو ذيل لفرعٍ من فروع الفصل السابق، ثم إن الإمام ختمه بما يدل على أنه ليس فصلاً مستقلاً، فقد قال: "وقد انتجز الوفاء بالفصول الثلاثة" أي التي كان وعد بها وقد مضت بموضوعاتها على ما رسم الإمام، فعدُّ هذا التعليق فصلاً تكون الفصول به أربعة وليست ثلاثة.
وعندي أن هذا من عمل الناسخ، والظاهر أنه كان قد أنقطع فترة ثم لما عاد استأنف بالبسملة وكلمة (فصل) . لا يصح إلا هذا. إن شاء الله.(15/228)
ولست أرى لهذا متمسَّكاً في الوجوب، بل أرى له أصلاً في الاستحباب. نعم، لا سبيل إلى الخروج من البلدة، فإنها منسوبة إلى سكون البلدة، ولو علل من أوجب رعاية القرب بهذا، لكان أمثلَ، ولا أصل له. وقد انتجز الوفاء بالفصول الثلاثة.
فصل
قال: " وإن كانت هذه المسائل في موته ففيها قولان ... إلى آخره " (1) .
9854- وذكر الشافعي إلى هذا الموضع تفصيلَ القول في مسكن المطلقة في العدة، واستفتح من هذا الموضع تفصيل مسكنِ المعتدة عدةَ الوفاة، وقد قدمنا اختلاف القول في أنها هل تستحق السكنى أم لا، ووجهنا القولين بما وقع الإقناع به.
فإن قلنا: إنها تستحق السكنى، فيتعين لسكناها مسكنُ النكاح، كما قدمنا ذلك في المطلقات، وإن لم يكن للنكاح مسكن، فالقول في مؤونة السكنى على حسب ما مضى، وإن فُرضت ديون، فالتركة في حكم مال المفلس المحجور عليه، ولا معنى لإعادة الفصول.
وإن قلنا: إنها لا تستحق السكنى، فلو تبرع الوارث وأسكنها مسكنَ النكاح [أو] (2) عَيّنَ لها مسكناًً، فهل يلزمها المسكن الذي عينه الوارث؟
ما حصلتُه من كلام الأصحاب أن ذلك إن كان في عِدَّةٍ يترتب وجوبها على شغل الرحم، فيتعين على المرأة أن تسكن حيث يُسكنها الوارث، وذلك بأن يطلّق امرأته ألبتة، ثم يموتَ عنها ولا يخلِّفَ مالاً، فإذا تبرع الوارث بتعيين مسكن، لزمها اتباع حكم تعيينه، إذا لم يكن عليها ضرار من جهة ضيق المسكن.
9855- وإن كانت العدة غيرَ مترتبة على شغل [الرحم] (3) كعدة الوفاة، نُظر: فإن كانت مشغولةَ الرحم بولد أو تقديرِ ولد مترتب على وطءٍ، فالأمر على ما ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/30.
(2) في الأصل: لو.
(3) سقطت من الأصل.(15/229)
وإن لم تُزفّ إليه، فهي غيرُ مشغولة [الرحم] (1) إذا كان الحالة هذه، ففي هذا ترددٌ للأصحاب: منهم من قال: إذا لم نوجب لها السكنى، فهي بحكم نفسها، غيرَ أنه يجب عليها لله تعالى أن تسكن سكون المعتدات، وذلك إنما يتأكد حقه عند فرض صون الماء وما نحن فيه لا يستند إلى ماءٍ مصون بالعدة.
ومن أصحابنا من قال: مهما تبرع الوارث بتعيين مسكن تعين عليها أن توافقه؛ فإن الوارث تارةً يدعي حرمة الماء، وتارة يدعي حرمة الزوج الذي منه العدة.
فإن لم يتبرع الوارث، أو لم يكن له وارث، فليس للسلطان أن يتبرع بإسكانها من بيت المال إلا أن تحتاج وتفتقرَ، ويُلزمها الشرع أن تلزم مسكناًً، وهي لا تملك ما يفي بمؤنة المسكن، فالسلطان يتداركُها حَسَبَ ما يتداركُ المحاويج.
وإن كانت تُزنّ بريبةٍ (2) ، فعلى الإمام أن يحصِّنها ويعيّن مسكناًً مرقوباً، وهذا من الأسباب المؤكدة لجواز بذل مال بيت المال، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في قَسْم الفيء والغنائم، وغوائل هذا الفن تتعلّق بالإيالة الكبيرة، ولعلنا نجمع فيها قولاً يشفي العليل ونبدي ما عليه التعويل.
فصل
قال: " ولو أذن لها أن تنتقل ... إلى آخره " (3) .
9856- ذكر الشافعي رضي الله عنه ثلاثة فصول ونحن نأتي بها مفصلة، ونلحق بكلٍّ مسائلَه ونستعين بالله تعالى.
الفصل الأول
فيه إذا أذن الزوج للزوجة في الانتقال من مسكن قبل أن يطلقها، ثم يطلقها أو يموت عنها.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) تزنّ بريبة: أي يظن بها السوء. والفعل: زنّ مثل ظنّ، وزناً ومعنى، تقول: زننته زنّاً: أي ظننت به خيراً أو شراً، أو نسبته إلى ذلك، وفيه قول حسان: حصانٌ رزان ما تزنّ بريبةٍ (المصباح) .
(3) ر. المختصر: 5/31.(15/230)
9857- ومقصود هذا الفصل نفصله بمسائلَ، منها: أنها لو انتقلت إلى دارٍ أخرى والبلدةُ واحدة في جميع مسائل هذا الفصل، ولا خروجَ منها، ولا مسافرةَ، فإذا أذن لها في الانتقال، فانتقلت، ثم صادفها الطلاقُ، لزمها أن تلزم المسكن الذي انتقلت إليه؛ فإن الاعتبار بالمسكن الذي يصادفها الطلاق فيه. وهذا ظاهر.
ولو انتقلت ببدنها، وخلّفت أمتعتها، وأظهرت الانتقال، ثم كانت تنقل الأمتعة بالخدم أو الأُجَراء، فإذا صادفها الطلاق، وهي في المنزل الثاني، اعتدت فيه، ولا اعتبار بالأمتعة،: خلافاً لأبي حنيفة (1) ، فإنه اعتبر المتاع، وزعم أنها لو انتقلت ببدنها ومتاعُها متخلفٌ، فالاعتبار إذا طلقت بالمسكن الذي فيه أمتعتها.
9858- ومن المسائل أنها بعد ما أذن الزوج لها في الانتقال لو أَجْرت تقدّمَ أمتعتِها إلى المنزل الثاني، وهي بعدُ قارّةٌ في مسكن النكاح، فإذا صادفها الطلاق وهي كذلك، اعتدت في المسكن الأول، وإن نقلت الأمتعة وعزمته (2) ، وأبو حنيفة خالف في هذه الصورة، وينتظم من مذهبنا في الصورتين أن الاعتبار بالبدن لا بالأمتعة.
ولو قدمت الأمتعةَ إلى المنزل الثاني، وخرجت تؤمّ ذلك المنزل، فصادفها الطلاق في الطريق، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: وجهان ذكرهما القاضي، وزاد العراقيون ثالثاً: أحد الوجوه - أنه يتعين عليها الانتقال إلى الثاني والاعتدادُ فيه.
والثاني - أنه يتعين عليها الانقلابُ إلى مسكن النكاح؛ فإنها مقرّة على المسكن الأول ما لم تنتقل، ولم يتحقق الانتقال بعدُ.
والوجه الثالث -الذي حكاه العراقيون- أنها بالخيار بين المنزلين: للأول حكم الاستدامة، والثاني حكم الانتقال، وقد تقلَّعت عن المسكن الأول بالانفصال عنه، وإذا تقابل هذان الوجهان، أنتجا تخيّراً.
والذي يغمض في هذا الفصل أن الزوج لما أذن لها في الانتقال لو أخذت تنقل الأمتعةَ بنفسها، فتمرّ وتجيء، وهي في ذلك لا تقصد بكل خَرْجةٍ ألاّ تعود، ولا بكل
__________
(1) ر. فتح القدير: 4/166.
(2) كذا: ولعل المعنى وعزمت الانتقال.(15/231)
دخلة أن تقيم في المنزل الثاني، غير أنها كانت تصحبُ الأمتعةَ، أو كانت تنقلها بنفسها، فكيف السبيل؟ وما الوجه؟
قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا انتقلت وقصدت الانتقال، ثم عادت إلى المسكن الأول لنقل متاعٍ، فصادفها الطلاق، فهي مضافة إلى المنزل الثاني، فلتعتدّ فيه، وهذا مفروض فيه إذا دخلت المنزل الثاني دخول منتقلة، غيرَ أنها خرجت وعادت إلى الأول لغرض النقل.
فأما إذا لم تُنجز بعدُ الانتقالَ، ولكن كانت في ترددها قاصرةً حركاتها على نقل المتاع، فهذا محل قصد النظر.
والرأيُ المبتوتُ أنها إذا كانت كذلك، فصادفها الطلاق في المنزل الثاني، فلا شك أنها تعتد فيه لاجتماع معنيين: أحدهما - كونُها في الدار حساً، والآخر - أنه محلّ قرارها، ولم يبق عليها شغل إلا نقلُ أمتعة، فيلحق هذا بتنجيزها قصد الانتقال، واعتقادها أنها انتقلت، وعليها شغل ستردد فيه.
ولو صادفها الطلاق وهي في المنزل الأول، وقد اتفق لها دَخْلةٌ أو دخلات في النقل، فهذا فيه احتمال: يجوز أن يقال: يُعتبرُ مكان المصادفة؛ فإنها لم تُنجز بعدُ قصد الانتقال، ويجوز أن يقال: يتعين للاعتداد المنزل الثاني، فإن ما يُصوَّر تأخيره من قصد الانتقال تكلف، وإذا دخلت ذلك المنزل مرّةً، لم يبق عليها أمرٌ إلا نقل الأمتعة، فهذا ما نراه.
وفقه هذا الفصل في تفصيل المسائل، وتبيين البعض منها عن البعض. هذا فصل من الفصول الثلاثة.
الفصل الثاني
في الإذن في المسافرة
9859- وهذا الفصل ينقسم قسمين: أحدهما - الإذن في المسافرة من غير نُقلة.
والثاني - في الإذن في المسافرة والنقلة.
فأما القسم الأول - فإذا أذن لامرأته في المسافرة من غير نُقلة، فالسفر لا يخلو إما(15/232)
أن يكون سفراً متعلقاً بغرض صحيح، وإما أن يكون غيرَ متعلق بغرض، ومن جملة ذلك سفرُ النزهة. فأما ما يتعلق بالأغراض الصحيحة، فكسفر التجارة، وسفرِ الحج، وسفرِ الزيارة المستحبة في الدين، فإذا أذن الزوج في السفر لغرض مما ذكرناه، أو لغرض آخر سواه.
فأول ما نذكره أن الشافعي قال: " لو طلقها الزوج بعد ما فارقت المنزل، لم ترجع " فذهب الأكثرون من الأصحاب إلى أنه أراد بمفارقة المنزل مفارقةَ البلدة، وذهب شرذمة من الأصحاب إلى حمل ذلك على مفارقة مسكنِ النكاح، وإن كانت في خِطة البلدة، وأضيفَ هذا إلى الإصطخري، فحصل قولان: أظهرهما - أن المرعي مفارقةُ خِطة البلدة، وذلك أن البلدة محلُّ سكونها من طريق النسبة الكلية، كما أن منزلها محلُّ سكونها، والدليل عليه: أنه لو لم يكن للنكاح مسكن متعين، تعينت البلدة، ولم يسَع الخروج منها، فاتضح أن الشرع يعيّن البلدةَ، كما يعيّن المسكن إن كان للنكاح مسكن، فاتجه اعتبار مفارقة البلدة.
ومن قال: الاعتبار بمفارقة مسكن النكاح، احتج بأنه إذا كان للنكاح مسكن متعيَّن، فحكم السكنى مقصور عليه، فإذا تعدته، كفاها ذلك.
وأيضاً، فإنها إذا فارقت مشمّرة مُبْرمةً عزمَها، وقد تكون باذلة مالاً في أُهَبها، فتكليفها الرجوع إضرار بها.
التفريع:
9860- إن اكتفينا بمزايلة مسكن النكاح، فلا كلام.
وإن اعتبرنا مفارقة الخِطة، فضبط هذا القول أنها متى صارت إلى مكانٍ إذا انتهى المسافر إليه، تَرخص تَرخُّص المسافرين، فقد فارقت، وتفصيل ذلك فيما استقصيناه في موضعه من كتاب الصلاة.
ثم من الأسرار التي يجب التنبيه لها أن الزوج إذا أذن لزوجته في الخروج من مسكن النكاح إلى دارٍ في البلدة، لا على قصد الانتقال، فإذا لحقها الطلاق، فحقٌّ عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وإن كان عليها في تلك الدار شغل يضاهي التجارة في حق المسافر، وإذا أذن لها في الخروج للتجارة وخرجت -على ما فصلنا معنى الخروج-(15/233)
فلها أن تمر على وجهها [آمّة] (1) إلى تحصيل الغرض.
فهذان أصلان اتفق الأصحاب عليهما. والفارق أن الخارجة للسفر متقلقلةٌ عن الوطن، ملابسةٌ أمراً له وقع في المعاش، ويعسر النزول عنه، [وفَلُّ] (2) العزم فيه، فسوغ الشرع التمادي.
وأما التردد في البلدة الواحدة من دار إلى دارٍ، فهيِّنٌ وليس من الأشغال الخطيرة.
9861- فإذا تقرر في العقد (3) ما نبهنا عليه، قلنا بعده: إذا لحقها الطلاق، أو بلغها خبر الموت بعد مفارقة البلدة، انطلقت لشأنها، فإذا انتهت إلى مقصدها، قضت حاجتها من التجارة أو غيرها من المآرب، ولا بأس عليها، وإن طال الزمان، ونقصت العدة، إتماماً لما همّت به وبنته على إذن الزوج.
ولو انتجزت حاجتها، لم تعرّج، ولم تقف، بل تنقلب إلى مسكن النكاح، إذا كانت تعلم أنها تدرك من بقية العدة زماناً تمكث فيه في مسكن النكاح، وإن علمت أنها بعد نجاز شغلها لو رجعت، لانقضت عليها العدة وهي في الطريق، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في هذا: فمنهم من قال: يلزمها أن تقيم في بلدة الغربة، فإنها إذا علمت أنها لا تنتهي في بقية العدة إلى مسكن النكاح، فالسكونُ أوْفق وأليق وهو أستر لها من السفر.
ومن أصحابنا من قال: ترجع، فإن انقضت عدتها في الطريق، فلا حرج عليها.
وهذا لا أعرف له وجهاً، فإنها إذا قطعت بأنها لا تنتهي إلى مسكن النكاح، فقصْدُها المسكنَ قصدٌ لا مقصود له. نعم، إذا جوّزت أن تنتهي إلى المسكن لو وُفِقَت لها وفاق، وجَوَّزت على حكم [الاعتياد] (4) خلافَ ذلك، فيجوز تقدير الخلاف
__________
(1) في الأصل: تامة. والمثبت من المحقق. وهذا اللفظ (آمّة) -بمعنى قاصدة- استفدناه من عبارة أخرى لإمام الحرمين في مسائل عبد الحق الصقلي.
(2) في الأصل: وقل (وفَلُّ أي حلُّه وصرفُه، وهو معطوفٌ على (النزول) أي يعسُر فكُّ العزم وصرفه والنزول عن الأمر الذي دخلت فيه) .
(3) أي إذا اعتقدت ووعيت ما نبهنا عليه.
(4) في الأصل: الاعتبار.(15/234)
هاهنا، ولكن ذلك الوجه الذي حكيناه على تثبُّتٍ في نقله وجدناه مشهوراً للأصحاب في الطرق، فلم نَرَ تَرْكه.
ولو انتجزت حاجتها قبل ثلاثة أيام، فلها أن تستتم المكث ثلاثة أيام؛ فإن هذا المقدار في حكم السفر أثبته الشرع مدة ليتأهب (1) لعدة السفر، وليس معدوداً من الإقامة، وإن انتجزت حاجتها في ثلاثة أيام فصاعداً، لم تعرج إلا أن لا تجد رفقة؛ فإنا لا نكلفها أن تغرر بنفسها. بل، لا نكلفها أن تتحمل مشقة ظاهرة خارجة عن حد الاقتصاد في الاعتياد، وإنما يطلب منها ألا تعرّج ولا تُقَصِّر (2) ، فأما أن تتكلف مشقة، وتصادم غرراً، فليس عليها ذلك، وسنخرّج في هذا قولاً بالغاً يقرب من التحديد، وإن لم يكن في محل التحديد.
هذا إذا كان سفرها متعلقاًً بغرض صحيح من الأغراض.
98620- فأما إذا لم يكن متعلقاً بغرض صحيح، فأول ما نذكره: أنها إذا بلغت المحل المقصود وكان الزوج أذن لها في أن تقيم في ذلك المحل عشرة أيام، فهل لها أن تستوفي المدة المذكورة أم يتعين عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح؟ فعلى قولين:
أحدهما - يجوز لها أن تستوفي تلك المدة جرياناً على موجب الإذن.
وهذا التوجيه عندنا خطأ.
والوجه أن نقول في توجيه هذا القول: إذا وطّنت نفسها على الإقامة وتهيأت لذلك، فلو كُلّفت قطعَ غرضها، فقد يتعطل عليها أُهَب وأسبابٌ كانت هيأتها للإقامة، كالمطاعم، وما في معانيها، فهذا هو الذي يُوجَّه هذا القول به؛ فإنّ إذن الزوج -على تفصيله- ينقطع بالطلاق، ويرتفع أثره بالكلية؛ فإن إذنه إنما يؤثر ما استمر حكمه على الزوجة، ولهذا المعنى نقول: إذا خرجت متجرة، فإنها تمتد في الجهة التي خرجت فيها، وليس امتدادها معلَّلاً ببقاء الإذن، وإنما تعليله بما ذكرناه الآن.
__________
(1) " ليتأهب ": أي المسافر.
(2) عرّج بالمكان أي نزل به، ووقف عنده (معجم ومصباح) والمعنى لا تتلبّث، ولا تتمهل، ولا تقصر في التأهب للرجوع.(15/235)
هذا أحد القولين.
والقول الثاني - أنها تقطعُ تلك المدة، وتشمّرُ للانصراف جهدَها، وهذا القائل يعلل بخفاء الغرض في الخروج للنزهة والإقامة لها، ويزعمُ أنه لا يظهر في قصد التنزه تصميمٌ على شغل به احتفالٌ ومبالاة، فليس في قطع المدة ضِرارٌ أصلاً، فتعيّن قطعها لذلك.
قال القاضي، وصاحب التقريب: إذا بلغها خبر الطلاق وهي مارّة في صوب النزهة، فهل يتعين عليها الانصرافُ حيث بلغها الخبر؟ هذا يخرج على القولين المذكورين فيه إذا بلغها الخبر في أثناء المدة. فإن قلنا: عليها أن تقطع المدة، فإذا بلغها خبر الطلاق أو الوفاة، لزمها الانصراف؛ فإنها ليست على غرض صحيح، وإن قلنا: لا يجب قطع المدة، بل يجوز استيفاؤها، فيجوز الامتدادُ في الصوب المقصود وقضاءُ الوطر منه على حسب ما كان يجوز لو استمر النكاح ولم يطرأ فراق.
9863- ومما يتصل بما نحن فيه أنها لو كانت مأذونة في الزيارة، فقد ذكرنا أن سفر الزيارة من الأسفار المتعلقة بالأغراض الصحيحة، فعلى هذا إذا بلغها خبرُ الوفاة أو الطلاق في أثناء الطريق، انطلقت ومرت على وجهها ممتدة إلى [الزيارة] (1) التي أنشأت السفر لها بخلاف سفر النزهة، فإنا ردّدْنا فيها القول. وسفرُ الزيارة في هذا المعنى بمثابة سفر التجارة.
ولو كانت بلغت موضعها والزوج قد أذن لها في أن تمكث عند من طلبت زيارته أياماً؛ فإذا بلغها خبر الطلاق، فهل يجب عليها قطعُ تلك المدة والتشميرُ للانصراف، فعلى قولين كالقولين في السفر للنزهة.
والسبب فيه أن الزيارة إلمامٌ وتجديد عهدٍ، فكل ما يزيد على ذلك يتصل بقياس النزهة، وقد ذكرنا أن السفر إذا كان سفر نزهة، ففي الانصراف قبل استيفاء المدة وفي الرجوع من وسط الطريق قولان، فسوّينا بين قطع المدة وبين قطع السفر، وفي سفر
__________
(1) في الأصل: زيارة.(15/236)
الزيارة قطعنا بأن لها أن تمتد في زيارتها قولاً واحداً، وردَّدْنا القول في استيفاء المدة، ونحن في ذلك كله نتبع المعنى دون الصُّوَر.
فأما التجارة، فالمرعي حصول الغرض فيها، فإن أذن لها في التجارة وفي الإقامة أياماً بعد انتجاز الغرض، فإذا حصل الغرض وبلغ خبرُ الوفاة أو الطلاق، فيخرّج القولان.
فهذا تحصيل القول في السفر الذي ليس سفر نُقلة، وقد استوعبنا بما ذكرناه القول في أحد القسمين.
9864- وأما القسم الثاني - وهو أن يأذن لها في سفر النقلة، فإذا خرجت وانتهت إلى المحل الذي إليه الانتقال، ثم بلغها الخبر، فلا تبرح حتى تنقضيَ العدة، والبلدةُ التي انتقلت إليها بمثابة مسكن تنتقل إليه بإذن الزوج قبل لحوق الطلاق.
وإن خرجت من بلدة النكاح، ولم تنته إلى البلدة التي إليها الانتقال، فماذا تصنع إذا بلغها الخبر عن الطلاق أو الوفاة؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يلزمها المضيُّ على وجهها إلى الموضع المعين؛ لأن بلدها الذي هو مقصودُ سفرها محل سكونها؛ من جهة أن ما كان محلاً للسكون فقد تقلّعت عنه، وانقطع حكمها عن سكناه، والبلد الذي بين يديها محل سكناها في قصدها.
والوجه الثاني - أنه يجب عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وذلك أن الطلاق لحقها قبل أن تلبَّس بتوطّن الموضع المقصود، فلترجع إلى مسكن النكاح، بناء على الاستدامة، ويخرّج في حقها الوجه الذي حكيناه عن العراقيين في التخيير، والبلدتان في سفر النقلة إذا توسطتهما بمثابة المسكنين في البلد الواحد إذا خرجت من المسكن الأول، وأمّت (1) الثاني على قصد الانتقال.
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أن الزوج لو كان أذن لها في أن تخرج إلى دار
__________
(1) وأمّت: أي قصدت. قلت: الحمد لله؛ جاءت هذه الكلمة لتؤكد صحة تغيير كلمة الأصل، ووضعها مكانها منذ صفحات، فقد ثبت صحة قولنا: إن هذه اللفظة من معجم الإمام ومفرداته.(15/237)
أخرى لتنزهٍ أو غيره، وكان أذن لها في أن تقيم أياماً؛ فإذا طلقها، رجعت إلى مسكن النكاح، بلا خلاف، ولو فُرض مثل ذلك في سفر النزهة، ففي الرجوع قبل استيفاء المدة الخلافُ الذي قدمناه.
والفرق في ذلك أن الانتقال من دار إلى دار لقصد الزيارة ليس من الأشغال التي يبالَى بها، وليس في قطع المدة -إذا لم يكن سفر- ضرار، وقد يتصور في قطع السفر وقطع المدة المأذون فيها تفاوتٌ في ترتيب المعايش وتعطّلٌ في المطاعم، فهذا هو الذي أوجب الفرق.
فأما إذا فرض الانتقال، فهو أمر مقصود يُحمل على غرض صحيح، ولا فرق في ذلك بين مسكنين في بلدة واحدة وبين بلدتين أو قريتين، فغرض الانتقال يقرب في ذلك، والعلم عند الله عز وجل.
فهذا ما أحببنا التنبيه عليه.
9865- ويتصل بهذا المنتهى أن الزوج إذا أذن لزوجته في الاعتكاف عشرة أيام تباعاً، فشرعت في الاعتكاف، ثم لحقها الطلاق، فهل يلزمها أن تقطع الاعتكافَ وترجعَ إلى التربص في مسكن النكاح؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تستوفي ما شرعت؛ فإنها لابست اعتكافاً مفروضاً، وبنته على إذنٍ صحيح، ونحن نجوّز أن يمتد -من جهةٍ- سفرُها إذا كان السفر متعلقاًً بغرض صحيح حتى لا يلحقَها ضرر، فلا نكلفها أن تقطع فرضاً شرعت فيه.
والقول الثاني - أنها تقطعه، فإن لزوم العدة ورعايةَ شرائطها أثبتُ؛ من جهة أنها تلزم شرعاً، والاعتكاف المنذور مما [يُدخله] (1) الناذر على نفسه، فلا يبلغ تأكُّده مبلغ تأكد ما يجب شرعاً، وجوباً لا دفع له.
ومما يجب ذكره في هذا المقام أن قطع مدة العبادة الواجبة مع اتحاد البلد من غير فرض سفر خرج على قولين خروج المدة المضروبة للنزهة في السفر.
ويتبين للإنسان بهذه المسائل افتراقُ الحضر والسفر، والأمر دائر في ذلك كلِّه على
__________
(1) في الأصل: يدخلها.(15/238)
مأخذ واحد، وهو النظر إلى الأغراض وتأكُّدِها.
9866- ثم لا يتبين حاصل ما ذكرنا الآن إلا بالتفريع: فإن قلنا: إنها تقطع الاعتكاف، وتتربص في مسكن النكاح، فإذا انقضت العدة، فهل يُحكم بأنها تبني على ما مضى من الاعتكاف، أم تستأنف؟ فعلى قولين قدمنا ذكرهما في كتاب الاعتكاف، وذكرنا أمثلةَ هذا الفن.
والذي أراه في ذلك أن القولين في أنها هل تقطع الاعتكاف مأخوذان من القولين في أن التتابع هل ينقطع؟ فإن قضينا بأن التتابع لا ينقطع، لزمها العود إلى مسكن النكاح، حتى إذا انقضت العدة، عادت إلى معتكفها، وبنت على ما مضى، وإن حكمنا بانقطاع التتابع، فالأشبه أن لا يلزمها الرجوع إلى مسكن النكاح؛ فإن ذلك إحباطُ ما تقدم من اعتكافها، ونحن نجوّز للمعتدة أن تخرج من مسكن النكاح في أوطارٍ لها وحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورة.
هذا حاصل القول في هذه الفصول.
9867- ثم لما ذكر الشافعي سفر النزهة والنقلة، نقل المزني عنه لفظةً واختلفت الرواية فيها، قال: قال الشافعي: " لا تقيم في المصر الذي أَذن لها في السفر إليه، إلا أن يكون أَذن لها فيه، والنقلةِ إليه، فيكون ذلك عليها " (1) وفي بعض النسخ "فيكون ذلك لها". والروايتان صحيحتان، فمن قرأ: " فيكون ذلك عليها " رجع به إلى مسألة النُّقلة؛ فإن مصابرة المكان المنتقَلِ إليه حتم، كما قدمناه.
ومن قرأ "فيكون ذلك لها" صرف ذلك إلى " ما أَذن لها في مقام مدة " فيكون هذا أيضاً على أحد القولين.
وقد انتجز الغرض في هذه المعاني.
9868- وذكر الشافعي بعد عقد هذه الأصول مسائل مقصودة في أنفسها وهي تبين القواعدَ السابقةَ، فمما ذكره أن المرأة إذا خرجت مسافرة مع الزوج، فطلقها أو مات عنها في أثناء الطريق، لزمها أن ترجع على أدراجها إلى مسكن النكاح، فتعتدَّ فيه،
__________
(1) ر. المختصر: 5/32. وعبارة النسخة التي معنا من المختصر: " فيكون ذلك عليها ".(15/239)
ولا نقول تتمادى إلى مقصدها، بخلاف ما لو أذن لها الزوج في سفر يلحقها الطلاق في أثنائه، والفرق أنها إذا خرجت مع زوجها، فسفرها منوط بصحبته، فقد انقطعت الصحبة، وما خرجت مستقلة، فوقوع الطلاق بمثابة انتهاء السفر.
وإذا خرجت بنفسها لغرضٍ لها، وقد تأهبت، فتتضرر بقطع ما همّت به.
ومما ذكره أنها إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم طلقها، فإن كان الوقت ضيقاً، خرجت وأنشأت السفر، وإن كان الطلاقُ لحقها وهي بعدُ مقيمة؛ فإن التحلل من الإحرام غير ممكن، وتكليفُها مصابرةَ الإحرام صعبٌ لا يحتمل، وبدون ذلك يجوز لها مفارقة مسكن النكاح، وإذا ضاق الوقت، فينضم إلى ما ذكرناه أنها لو صابرت فاتها الحج.
وإن اتسع الوقت أو كانت محرمة بعمرة، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: يلزمها ملازمةُ مسكن النكاح إلى انقضاء العدة؛ إذ ليست على خشية من الفوات والعدة ناجزة لا تقبل التأخير.
والوجه الثاني - وهو الذي اختاره القاضي وقطع به، أن لها أن تخرج، فإن مصابرة الإحرام مع ما فيه من وجوب التوقي عن أخذ الشعر والظفر واجتناب الطيب صعب، وفيه تعرض لالتزام مغارمَ كثيرة، وقد ذكرنا أنا بدون ما أشرنا إليه يجوز مفارقةُ مسكن النكاح.
ولو كان الزوج أذن لها في الحج، فلم تخرج، فطلقها، فأحرمت بالحج، وقد لحقها الطلاق في الحضر، فلا ينبغي لها أن تخرج، فلا حكم للإذن المتقدم؛ فإنه ينقطع أثر إذن الزوج بالطلاق. نعم، إذا خرجت تؤم البيت، فطلقها، فلها أن تستدَّ على وجهها، والذي ذكرناه فيه إذا لحقها الطلاق قبل أن تخرج.
وقد قدمنا فيما مضى معنى الخروج، فإنه مفارقة خِطه البلدة، ومفارقة مسكن النكاح.
ثم ذكر الشافعي مسائل في حج النسوة وأنهن متى يخرجن، ومتى يلزمهن الخروج إلى الحج، وقد قررنا هذه المسائل في موضعها من كتاب الحج، وقد انتهى المقصود من الفصلين.(15/240)
الفصل الثالث
يتعلق بالخلاف بين الزوجين نصفه ونذكر ما فيه
9869- إذا طلق الرجل امرأته، وكانت في دارٍ غيرِ دار الزوج، واختلف الزوجان: فقال الزوج: لم أنقلك، فارجعي إلى بيتي للعدة، وقالت: بل نقلتني!! نص الشافعي فيما نقله المزني على أن القول قولُها، وحكى المزني في الجامع الكبير عن الشافعي أنه قال: لو وقع هذا الاختلاف مع الوارث بعد موت الزوج، فقالت: نقلني أبوك. وقال الوارث، لم ينقلك، فالقول قول الوارث، وهذا يخالف ما نقله هاهنا.
وترتيب المذهب في ذلك أنهما إذا اتفقا على أنه قال لها: اخرجي مسافرة: إذا كان الاختلاف مفروضاً في قريتين أو بلدتين، فالقول قول الزوج في حياته، والقول قول الوارث بعد وفاته؛ فإن الإذن باتفاقٍ مفروض في التقييد باتصاف المرأة بالمسافرة.
ولو قال لها: انتقلي إلى تلك القرية أو إلى المسكن الآخر، ثم اختلفا، فالقول قولها لا محالة.
ولو قال: اخرجي، أو سيري، أو اذهبي، على الإطلاق: من غير تقييد بسفر، ولا انتقال، فإذا فرض الاختلاف، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول الزوج أو الوارث؛ فإن الأصل عدم الإذن في الانتقال، ولو كان أصل الإذن متنازعاً فيه، لكان القول قولَ الزوج، فكذلك إذا فرض التنازع في صفة الإذن.
والقول الثاني - أن القول قولُها، لأن الإذن محتمل، والظاهر معها؛ فإن الطلاق صادفها وهي كائنة في تلك الدار، وهذا يحل محل اليد في الخصومات، فكما يُجعل القول قولُ صاحب اليد، فكذلك يترجح جانبها لكونها في الدار الثانية.
9870- ومما يتم به بيانُ الفصل أن كلام الأصحاب يشير إلى أن الزوج لو أنكر أصل الإذن وادعته المرأة، فالقول قول الزوج، وإنما ذكروا القولين فيه إذا كان أصل الإذن(15/241)
ثابتاً والخلاف راجعاً إلى صفته، ولا يبعد تقدير خلاف إذا كان أصل الإذن متنازعاً فيه، بناء على ما لو فرض نزاع بين المالك وبين صاحب اليد في الإعارة، وقد قدمنا ذلك في كتاب العاريّة، والأصل تصديقُ من ينكر أصلَ الإذن، ثَمّ وهاهنا.
فصل
قال: " وتنتوي البدوية حيث ينتوي أهلها ... إلى آخره " (1) .
9871- البدوية إذا مات عنها زوجها أو طلقها، وكانت بين قوم سيّارة ينتجعون ويتبعون مواقع [القَطْر،] (2) لا يَلزمون مكاناً واحداً، فإنها تنتقل معهم حيث انتقلوا، وتعتد على انتقالها، وذلك في حقها بمثابة لزوم مسكن النكاح في حق الحضرية.
وإن كانت بين قوم لزموا موضعاً لا يظعنون عنه شتاء، ولا صيفاً، فإنها تلزم لزومها ولا تخرج، كما لا تفارق الحضرية مسكن النكاح.
وسر هذا الفصل أن انتقالها معهم لا يكون كلزوم مسكن النكاح، حيث [يُفرض] (3) للنكاح مسكنٌ في موضع إقامة، ودليل ذلك أنها لو انتهت في ممرها إلى قريةٍ وأرادت أن تقيم بها، جاز، وليس لها الانتقال من مسكن النكاح إلى غيره، فلا يعتقِدَنَّ الفقيه أن مسايرتَهم تلزمُها، ولكن يجوز لها اختيارُ مسايرتهم، حتى لا تستوحش بمفارقتهم، وإلا فليس الكَوْنُ معهم لزومَ موضعٍ، فيلزمَ.
وليس هذا كما لو خرجت لتنتقل؛ حيث يثبت لها الانتقال، فلو لحقها الطلاق في الطريق، فأرادت أن تمكث في بلدة في وسط الطريق لتنقضيَ عدتُها، لم يكن لها ذلك، فإنها خرجت عن مسكن بانيةً أمرَها على مسكن آخر، فقد لحقها الطلاق على حالة، فتلزمها، وتلك الحالة تُفْضي إلى محل انتقالٍ وتوطّن.
وأحوال البادية لا تنتهي إلى توطُّنٍ قط، وكل ذلك متفق عليه منصوص للأصحاب.
__________
(1) ر. المختصر: 5/33.
(2) في الأصل: النظر.
(3) في الأصل: يفوّض.(15/242)
9872- ومما يتعلق بذلك أن أهلها لو رحلوا وأقام [الأجانب] (1) ، فإن كانت آمنة لو أقامت واختارت المقام، فلها ذلك، فإن الإقامة أليقُ بصفة المعتدة، وإن كانت لا تأمنُ، فحقٌّ عليها أن ترحل مع الراحلين، وإن أمنت، ولكن كانت تستوحش بمفارقة الأهل، فظاهر المذهب أنها بالخيار: إن شاءت أقامت مع المقيمين، وإن شاءت ظعنت مع الظاعنين، وجواز الظعن لما ينالها من الوحشة.
ولا خلاف أن أهل المرأة المعتدة لو رحلوا عن البلدة، لم يكن لها أن ترحل وتفارقَ مسكن النكاح، وذلَك أن إقامتها مع المقيمين في البادية ليست إقامة على الحقيقة، ولذلك لم يوظف عليهم الجمعةُ، والبلدة محلٌّ للإقامة، فلا يجوز مزايلتها لوحشةٍ، ولا يبعد أن يقال: يتعين عليها الإقامة في مخيم المقيمين التزاماً لسكون المعتدات؛ فإن النقلة في النسوان تناقض التستر.
ولا خلاف أنه لو أقام أهلها، لم يكن لها أن تنتقل وتفارق المخيم.
هذا تمام القول في أحوال البادية.
ولو خرج أقاربها ليعودوا على قرب، فلا ينبغي أن تخرج معهم، ولي لها أن تخرج معهم؛ فإن ما اعتمده جمهور الأصحاب من الوحشة لا يتحقق هاهنا.
9873- ويتصل بهذا المنتهى امرأة صاحب السفينة إذا طلقها والسفينة في البحر، فلا محيصَ لها، فإن كانت من أقوام بحارين يعتادون التردد في البحر، فسبيلها كسبيل البادية، وإن لم يكن كذلك، وإنما ركبت لحاجة، فهي مسافرة مات عنها زوجها، وقد مضى التفصيل في ذلك، بيد أن الرجوع في البحر قد لا يمكن، فإن تيسر من غير عُسر -وقد خلَّفت مسكن نكاح- فسبيله ما تقدم.
وإن كانت تلقى عُسراً وغرراً، لم تكلّف ذلك.
ولو كان في البحر سفينتان بحكم الزوج، فقد يطرأُ إذاً تفصيل المساكنة: فإن كانت السفينة كبيرة تشتمل على حُجَرٍ وقطائعَ، وكل قطعة تنفرد بمرافقها، فلتنفرد
__________
(1) في الأصل: الأحاديث.(15/243)
بقطعة عن زوجها، وأمرُ الخَلْوة على ما تفصَّل. وإن كانت السفينة صغيرة، واستمكن الزوج من الانتقال إلى السفينة الأخرى، فحقٌّ عليه أن يفعل ذلك.
ومن أحاط علماً بما مهدناه من الأصول، هان عليه درك أطراف هذه المسائل.
9874- ثم قال الشافعي: " ولو تكارت منزلاً ... إلى آخره " (1) .
إذا غاب الزوج ولحقها الطلاقُ، وليس للزوج مسكن تأوي إليه المعتدة، فالقاضي يكتري لها مسكناًً يليق بها من مال الزوج، إن كان يجد له مالاً، وإن رأى الاستقراض عليه، فعل، وإن فوض إلى المرأة الاستقراضَ، جاز، ولا اختصاص لذلك بما نحن فيه، بل هو جارٍ في نفقةِ الزوجة وغيرها، وقدمنا في هرب الجمَّال مثلَ هذا.
ولو شغَرَتْ البقعةُ عن الحاكم، ففيه تفصيلٌ ذكرناه في مسألة الجمَّال (2) ، ولو استقلّت (3) مع إمكان [مراجعة] (4) الحاكم، فهذا أيضاً مما سبق تفصيله وسنجمع كلاماً حاوياً في كتاب النفقات -إن شاء الله- ونبين فيه انفصالَ النفقات عن السكنى، وانفصالَهما عن كراء الجمَّال، ونأتي فيه بمجامع، إن شاء الله.
ثم تعرض الأصحاب هاهنا للكلام فيه إذا انقضت مدةٌ لم تتمكن فيها من مال الزوج، فهل يبطل حقها في المدة الماضية من السكنى أم يستقر حقها استقرار نفقة الزوجات؟ وهذا من أصول كتاب النفقات فأوْلى تأخيره إليه.
***
__________
(1) ر. المختصر: 5/34.
(2) مسألة هروب الجمّال فصلها الإمام في كتاب الإجارة، باب كراء الإبل.
(3) استقلت: أي استقرضت بنفسها، مع إمكان مراجعة الحاكم.
(4) في الأصل: واجبة الحاكم.(15/244)
باب الإحداد
9875- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " (1) ومضمون الحديث باتفاق العلماء، إيجاب الإحداد على المتوفى عنها زوجها في مدة العدة، وتحريمُ الإحداد على غيرها إلا ثلاثَ ليالٍ، ونحن نذكر من يجبُ عليه الإحدادُ أولاً، ثم نذكر معنى تحريم الإحداد، ثم نبين وصف الإحداد.
والإحداد من الحَدّ وهو المنع، فالمحتدة ممتنعةٌ عن أسباب الزينة؛ وقال الأئمة: على المتوفَّى عنها أن تَحِد قولاً واحداً، فالرجعية لا تَحِد، فإنها في حكم الزوجات، فلا تحد، كما لا تحد الزوجة، والمطلقةُ البائنة هل يلزمها الإحداد؟ فعلى قولين: أحدهما - يلزمها الإحداد؛ لأنها معتدة عن الزوج لا يملك الزوج رجعتها، فصارت كالمتوفى عنها.
والئاني- لا يجب عليها الإحداد؛ لأنها معتدة عن طلاقٍ فأشبهت الرجعية.
والمعنى الذي يليق بهذا الأصل أن المتوفى عنها متفجعة على فراق الزوج وذلك لائق بحالها، والبائنة مجفوّةٌ بالطلاق في غالب الأمر، لا يليق بحالها تكليفُ التفجع.
وهذا يناظر الترتيب المذكور في التعريض بالخطبة، فإنه جائز في عدة الوفاة، حرامٌ في عدة الرجعة، وفي جوازه في عدة البينونة قولان، وليس هذا التناظر لفظياً، ولكن بين الأصلين تناسب من جهة المعنى؛ فإن المتوفى عنها زوجها لا يليق بها وهي
__________
(1) حديث "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث" رواه مسلم من حديث عائشة وحفصة رضي الله عنهما (الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، ح 1490) .(15/245)
مفجوعة أن تتشوف إلى الطالب قبل انقضاء العدة، فلم يحرم التعريض معها.
والرجعية زوجة، وسلطنةُ الز وج مستمرة.
والبائنة مجفوّة فكان صَدَرَ (1) هذا الترتيب قريباًً مما ذكرناه.
والتي ارتفع النكاح عنها بفسخ، اختلف الأصحاب فيها: فمنهم من ألحقها بالمطلقة المبتوتة، ومنهم من ألحقها بالموطوءة بالشبهة، ولا خلاف أن الموطوءة بالشبهة لا تَحِدّ في العدة، وكذلك أمُّ الولد لا تحِدّ إذا مات مولاها. فكأن بعض الأصحاب رأى أن النكاح زائل بجميع آثاره في حق المفسوخ نكاحها، وهذا ميل الأكثرين.
ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلا فرق بين الحرة والأمة، والمسلمة، والذمية، والصغيرة، والكبيرة، والعاقلة، والمجنونة، وأبو حنيفة (2) لا يوجب الإحداد على الذمية، ولا يثبته في الصغيرة والمجنونة.
ونحن إذا أثبتناه فيهما، أَمَرْنا الوليَّ يمنعها المحَدَّةَ (3) عنه.
هذا تفصيل القول فيمن يلزمه الإحداد.
9876- وقد ذكرنا أن الإحداد يحرم بحكم نصّ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير المعتدات، كما فصلنا القول فيهن؛ فإنه عليه السلام قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدّ على ميت فوق ثلاث " وهذا فيه سؤال وإشكال؛ فإن الإحداد اجتنابُ نوعٍ من الثياب، وتركُ استعمال الطيب، ولا يتحقق التحريمُ في ذلك لعينه، فالوجه صرف التحريم إلى القصد (4) ، فرب فعل يقترن به قصدٌ، فيحرمُ كالسجود بين
__________
(1) صَدَر: بمعنى صدور، وهو مصدر من مصادر الفعل (صدر) ولكنه غير مشهور بل غير مستعمل في لساننا الآن. وإن كان إمام الحرمين لا يستعمل غيره.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/395 مسألة 901، المبسوط: 6/59.
(3) المحَدَّة عنه: أي الممنوعة عنه.
(4) المعنى أن حرمة الطيب وهذه الأنواع من الثياب -على المعتدة- ليست لذات الطيب والثياب، وإنما لما يقترن بها من قصد، وهذا على ظهوره لا يضر ذكره، كما قال الإمام في ختام هذه الفقرة نفسها، ولكن التمثيل بالسجود للصنم يحتاج إلى كلام (انظره في التعليق الآتي) .(15/246)
يدي الصنم، [لو اقترن] (1) به قصد التقرب، فالتعويل على القصد، ولكن المقصود يحرم مع القصد (2) . وهذا على ظهوره لا يضر ذكره.
ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحداد ثلاثة أيام، فلعل السرّ في ذلك أن مخالفة الذمّي [في] (3) إظهار [التحزّن] (4) والرضا (5) بالقضاء أولى بالمؤمن.
والإحدادُ في العدة ضربُ حَجْرٍ على المعتدات، حتى لا يشتغلن بالتزين للرجال.
وتسويغُ التفجع على القريب والحميم في الثلاث رخصةٌ من الله؛ فإن النفوس قد لا تطاوع، واغتلامُ الحزن ينكسر في الثلاث، وهي منطبقة على أزمان التعزية، وفيها باب [ذكرناه] (6) في الجنائز، ثم هذا التحزن في هذه المدة لا يتخصص بالنسوة، ولا شك أنه رخصةٌ وتركه أولى، فإن الذي يقتضيه الدينُ استقبالُ القضاء بالرضا، والتلفّع بجلباب الصبر والاستسلام لأمر الله.
9877- وقد حان أن نذكر الآن الإحداد ومعناه، قال الشافعي: " وإنما الإحداد في البدن ... إلى آخره " (7) .
__________
(1) في الأصل: ولو اقترن.
(2) يفهم من كلام الإمام هنا أن المحرَّم ممن يسجد للصنم ليس فعلَ السجود بهيئته وحركاته، وإنما قصد التقرب والتعظيم للصنم، وهذا في أصله رأيٌ لأبي هاشم الجبائي المعتزلي، يقوم على أن (السجود) نوعٌ واحد من الأفعال، ومحالٌ أن يكون (الواحد) واجباً وحراماً، وطاعة ومعصية، وإنما يكون حراماً أو واجباً بحسب ما يقترن به من القصد. هذا أصل مذهب أبي هاشم.
حكاه الإمام عنه في البرهان وردَّه بقوّة، قائلاً: " إنه خروج عن دين الأمة، ثم لا يمتنع أن يكون الفعل مأموراً به مع قصدٍ منهياً عنه مع آخر " ا. هـ. وإجماعُ أهل السنة منعقد على أن الساجد للصنم عاصٍ بنفس السجود والقصد جميعاً.
وفي المسألة مزيد تفصيل وكلام لا يحتمله المقام. راجع: (البرهان في أصول الفقه: فقرة: 213، والمستصفى: 1/76، والإحكام للآمدي: 1/87، والمسوّدة: 84، وشرح الكوكب المنير: 1/390) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: تحزن.
(5) معطوفة على (مخالفة) .
(6) في الأصل: ذكرناها.
(7) ر. المختصر: /35.(15/247)
أراد رضي الله عنه بما ذكر أن المرأة لو آثرت تزيين منزلها بالفرش، وكلفت خدمها تنقيته من الأذى، وأمرتهم بأن يأخذوا زينتهم، فلا بأس بشيء من ذلك، وإنما الإحداد يتعلق ببدن المرأة. والغرضُ الظاهر ألا تتزين للرجال بما يُشوِّف الرجال إليها لو رمقوها، ثم هذا يتعلق بالملابس واجتناب الطيب، فلو لبست ثوب زينة، كانت تاركةً للإحداد
9878- ونحن نذكر الآن تفصيل القول في الثياب: والنظرُ فيه ينقسم: فيقع في الجنس، وفي اللون.
أما الجنس، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنها لا تلبس ثياب الإبرَيْسم كيف فرضت، وتكون وهي مُحدّة بمثابة الرجل في اجتناب لبس الحرير، وقد ذكرنا ذلك في مواضع من الكتاب.
وقال العراقيون: لها أن [تلبس] (1) الحرير إذا لم يكن مصبوغاً، واعتلوا بأن الحرير في حقها بمثابة سائر الثياب في حق الرجال، والأفقه ما ذكره المراوزة، فإنهن خُصّصن بلبس الحرير؛ لأنهن بمحل التزين للرجال، وهن في الإحداد ممنوعات عن التزين، فليرتفع ما خصّصن به للزينة.
ثم قال الأئمة: يحرم عليهن استعمال الحلي، ولم أر للعراقيين فيه ذكراً، والأليق بقياسهم التحريم؛ فإن الملابس لا بد منها، والحلي لا تستعمل إلا زينةً. وما عندي أن التختم يحرُم عليهن، وهو حلال للرجال. نعم، يمنعن من التختم بخاتم الذهب؛ فإن ذلك مما خُصصن به زينةً لهن.
فأما ما عدا الإبرَيْسم من أجناس الثياب، فلا يحرم عليهن لُبسه في زمان الإحداد، كالكتان والقطن، والخَزّ إن لم يكن من الحرير، وكل ما يحل للرجال لُبسه في الرفاهية من أجناس الثياب، فلا يحرم على المُحِدّة لُبسه.
هذا قولنا فيما يتعلق بأجناس الثياب.
__________
(1) في الأصل: تمسّ.(15/248)
9879- فأما الكلام في الألوان، فالقول الضابط فيها، أن كل لون تُصبغ الثياب به طلباً للزينة، فيحرم على المرأة لُبس الثوب المتلون به، وكل ما لا يقصد بصَبْغ الثوب به الزينةُ، فلا يحرم على المُحدّة لُبسُ الثوب المتلون به، فالأَسْود الكَمِد (1) ، والاكْهب (2) الكمِد، وما في معناهما لا يمتنع صبغ المُحِدَّة به، فأما الثوب الأحمر الخضِل (3) البراق، والأصفر الفاقع، وما أشبههما [فيحرم] (4) .
والمعنى المعتبر المطّرد في جميع الألوان: البرّاق المستحسَنُ في الملابس، ورب لونٍ كمِد يصقل الثوبَ المصبوغَ به فيُلْفى برَّاقاً، ولا يزداد [بالصبغ] (5) إلا سماحة.
ثم لا فرق فيما نمنع ونجيز بين ما يصبغ بعد النسج وبين مايصبغ غزله وينسج مصبوغاً، وإنما الممتنع ما ذكرناه من قصد الزينة، وليس ذلك خافياً في الناس.
وعن أبي إسحاق المروزي أنه قال: الممنوع ما صبغ بعد نسجه، فأما ما صبغ غزله ونسج، فلا منع فيه، وإن كان حسن المنظر، وهذا الذي ذكره يُبطله الخبر، وقاعدة الباب.
أما الخبر، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى المحِدّة عن لُبس عَصْب اليمن " (6) ، وهي من برود حِبَرة (7) ، يصبغ غزلها ثم ينسج.
__________
(1) الكمد: الذي لا صفاء فيه، وفعله: كَمِد (من باب تعب) أي تغير لونه، وذهب صفاؤه.
وكمِد الثوب: أخلق فتغير لونه. (المعجم والمصباح) فالمعنى الثوب الأسود الحائل السواد الذي لا صفاء فيه.
(2) الأكهب: يقال: كهِبَ لونه يكهَبُ كَهَباً: علته غبرة مشربة سواداً، فهو أكهب (المعجم) .
(3) الخضِل: من خضِل يخضَل خَضَلاً: إذا نَعُمَ، ومن معانيه أيضاً: ندي وابتل، فالمعنى الثوب الأحمر اللامع الزاهي الناعم (المعجم) .
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: بالصقل.
(6) هذه الرواية في النهي عن لبس عصب اليمن جاءت في رواية البيهقي من حديث أم عطية رضي الله عنها. وقد روي حديث أم عطية من عدة طرق كلها بإباحة عصب اليمن للمحتدة؛ والنص على استئنائه من النهي، ولذا علق البيهقي على رواية النهي قائلاً: ورواية الجماعة بخلاف ذلك. (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 7/439) .
(7) حبرة: وزان عنبة. والإضافة هنا بيانية (معجم ومصباح) .(15/249)
وأما قاعدة الباب فالنهي عن الزينة، وهذا لا يختلف بأن يصبغ الثوب منسوجاً، أو ينسج مصبوغاً، وقد يكون المنسوج من الغزل المصبوغ أحسنَ منظراً وأكثرَ رونقاً.
ولو صبغتْ ثوباً خَشِناً غليظاً [بصبغ] (1) براق، فقد تردد صاحب التقريب في ذلك، ثم حكى قولين، وما ذكره محتمل؛ فإن الصبغ في نفسه وإن كان حسناً، فلا تحصل الزينة به ما لم يكن الثوب المصبوغ به على اقتصارٍ في الغلظ، فإذا فحشت الخشونة، وإن حسن اللون، لم يعدّ لابسه متزيناً، ويجوز أن يحمل منعه على الرائي (2) من البعد، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإن النسوة لا يخامرن الرجال، بل يَلُحْن لهم من البعد. فهذا بيان ما يتعلق بالملابس.
9880- فأما النوع الآخر، فهو ما يتعلق باجتناب الطيب، وما يدنو [منه] (3) فالكلام في هذا يتعلق بقسمين: أحدهما - اجتناب الطيب، ولا معنى لإطالة التفصيل فيه، فنقول: يحرم على المحِدة من هذا القبيل ما يحرم على المُحرِم، وقد تفصل ذلك في كتاب الحج على أبلغ وجهٍ في البيان.
والنوع الثاني - ما يتعلق بالزينة وإن لم يكن طيباً، كالاكتحال بما يَزِين، قال الشافعي: لا بأس باستعمال الكحل الفارسي، وهو فيما أظن إلى البياض ما هو (4) ، قال الشافعي إنه لا يزيد العين إلا مَرَهاً (5) وقبحاً.
ونص في بعض المواضع على تجويز استعمال الإثمد، وأجمع الأصحاب على أنه قال في العربيات: ويغلب على ألوانهن السواد، ولا يبين الإثمد في أعينهن؛ فإنهن
__________
(1) في الأصل: يضيق.
(2) المعنى أنه من على البعد يُعجب ويلفت النظر، ويسرّ الناظر بلونه، فلا تظهر خشونته إلا عن قرب، والشأن المعهود أن النساء يَلُحن عن بعد فهذا وجه المنع مع الخشونة المتناهية.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) أي شديد البياض.
(5) المره: خلوّ العين من الكحل، وهو أيضاًَ مرضٌ في العين تَتَقرَّحُ منه. فالمعنى أن هذا الكحل الفارسي الأبيض لا جمال فيه، فهو عكس الكَحَل الذي تُمدَحُ به النساء، ويذكر جمالهن به.
ثم إنه يزيدها تقرحاً. (قلت: لعله يسبب هيجان الدمع من العين مثل بعض الأدوية) لمزيد من معاني المره (ر. المعجم) .(15/250)
مع اخضرار ألوانهن على كَحَل ظاهر في الخلقة، لا يزينهن التكحّل، وإذا استعملت البيضاء الإثمد زانها (1) ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلم وهي محِدّة على أبي سلم يعرّض بخطبتها، وكانت قد اكتحلت بالصّبر (2) فقال صلى الله عليه وسلم: " ما هذا " فذكرت رمداً بعينها، وأنها عالجته بالاكتحال بالصبر، فقال عليه السلام: افعليه بالليل وامسحيه بالنهار " (3) .
وإن كان بالمرأة رمد واحتاجت إلى استعمال كحل [يزينها] (4) فيتحتم عليها أن تفعل ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة.
وإن مست الحاجة إلى استعمال الكحل نهاراً، فلا بأس؛ فإن المعالجة إذا مست الحاجة إليها، خرج الاتحال عن كونه تزيُّناً، وكذلك إذا مست الحاجة إلى استعمال الطيب، فالأمر على ما ذكرناه.
9881- ولا ترجّل رأسها بالدّهن لما فيه من التزين. والنهي عن ذلك في باب الإحداد أقيس منه في باب الإحرام؛ فإن المحرم ليس ممنوعاً عما يتعلق بالتزين، وإنما يمنع من الطيب، ولا يتضح فيه معنىً.
وإن قال الإنسان -على بُعدٍ-: الطيبٌ داعيةٌ إلى الوقاع ناجزاً من غير ارتقاب تفزٍّ (5) ومزيد شيء في الجبلّة، فهذا على بعده لا يجري في الترجيل. وإزالةُ الشعث والغبر
__________
(1) معنى هذا أن تحريم (الإثمد) خاص بالبيضاء التي يظهر في وجهها، هكذا نقله الإمام عن (إجماع) الأصحاب، لكن الرافعي بعد أن نقل هذا عن الإمام، قال: " والظاهر عند أكثرين، أنه لا فرق بين البيضاء والسوداء، قالوا (أي الأكثرون) : أثر الكحل يظهر في بياض العين، ويدل عليه إطلاق الأخبار " (ر. الشرح الكبير: 9/495) .
(2) الصبر: كحل أصفر اللون. قاله الرافعي (السابق نفسه) .
(3) حديث أم سلمة رضي الله عنها في الإحداد والكحل رواه أبو داود: الطلاق، باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها ح 2302، والنسائي: الطلاق باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر، ح 3537، ورواه البيهفي في المعرفة (4679) ، وانظر التلخيص 3/477 ح 1819.
(4) في الأصل: زنها.
(5) التفزي التوقّد والنشاط: فزّ الرجل فزازة وفُززة: نشط وتوقد (المعجم) .(15/251)
ليست محرمة؛ فإن المُحرم [يستحم] (1) ويتدلك ويزيل الوسخ، ولكن يثبت في الآثار إلحاقُ الترجيل بالتطيب.
والمرأة أمرت بالإحداد، حتى لا تتزيّن؛ فيبعد (2) نهيها عن الطيب؛ ولا تزين فيه بُعْد نهي المحرم عن الترجل ولا تطيب فيه، والبابان على الجملة يتلاقيان.
ثم قال الأصحاب: المحرم ممنوع عن ترجيل لحيته بالدهن، كما أنه ممنوع عن ترجيل لِمّته، ثم قالوا: لو كان للمرأة لحية فرجّلتها بالدهن عَصَت ربها، فإن اللحية، وإن كانت تشينها، فالترجيل يغُضّ من القبح، هكذا ذكره الأصحاب.
9882- والمرأة ليست ممنوعة من التنظف، كالمحرم ولا حرج عليها إذا أزالت الوسخ عن نفسها، ومما لا تؤاخذ به الاستحداد (3) ، فإنها تتأذى لو لم تستحد تأذيها بالوسخ لو كلّفت استبقاءه، وليست هي محمولة في الإحداد على ضِرارٍ تحتمله، وإنما مقصود الإحدد أن لا تُدخل علمى بدنها تزيناً.
ولو أخذت تُجَعِّدُ [الأصداغ وتُضَعِّف] (4) الطُّرَرَ، فلست أدري ما أقول فيه!! لا يمتنع أن يكون هذا من فن التزين بمثابة استعمال الحلي، وإن لم يكن من الملابس، ولا نص للأصحاب في هذا، والظاهر الاقتصار على المأخذ الذي نص عليه الأولون.
والتحلي باللآلىء فيه تردد عندي؛ من جهة أنه لم يثبت تحريم استعماله على الرجال، وإنما ورد نص التحريم في استعمال الذهب، فإذا لم تكن اللآلىء من
__________
(1) في الأصل: يستجمّه.
(2) ننبه هنا أن البُعد ليس في نفي الحكم بتحريم الطيب على المحدّة، فقد أكد ذلك التحريم آنفاً بدون ترديد في الرأي، وإنما الاستبعاد هنا في إدراك المعنى والحكمة، أي كما نهي المحرم عن الترجل ولا تطيب فيه من غير إدراك سرّ النهي، فكذلك يقع نهيها عن الطيب ولا تزيّن فيه غير معقول المعنى. ويتضح ذلك من قوله الآتي قريباً. " وحق الناظر ألا يمشي بخطوه الوساع في أبواب التعبدات " والله أعلم.
(3) نذكر مجرد تذكير أن الاستحداد هو أخذ شعر العانة وإزالته.
(4) في الأصل: الأصداع، وتصنف.(15/252)
خصائص زينة النساء، فليست في معنى الذهب ولكنها تزيّنٌ، وزينتها تزيد على زينة الإثمد.
وحق الناظر ألا يمشي بخَطْوه الوساع في أبواب التعبدات؛ فإن المعاني الكلية وإن كانت معقولةً [مقبولة] (1) ، فمحل التعبد يمنع الاسترسال في طريق المعنى.
ومن بحث عن جريان الأولين في التفصيل، ورُزق التوسع في الأخبار والآثار، فلا يلقى مذهباً لأئمة السلف إلا مستنداً إلى أثر، وآثار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الباب مستندها ما فهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإحداد.
9883- ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلو تركته، انقضت العدة، غير أنها تأثم إن اعتمدت الترك، وكيف لا يكون كذلك، ولو تبرجت وفارقت مسكن النكاح، فالعدة تنقضي عليها، مع تركها أصلَ حالة التربص.
وقد انتجز غرض هذا الباب ونحن نعقد الآن فصلاً في معنى لزوم المعتدةِ المسكنَ، وما يجوز لها الخروج لأجله.
فصل
9884- المتوفى عنها زوجها والمبتوتة تلزمان مكان الاعتداد ولا يجوز للمتربصة أن تبرز لنزهة أو زيارة أو تجارة، وإنما تبرز لحاجة ظاهرة، ولا يُشترط انتهاءُ الحاجة إلى رتبة الضرورة، والزيارة في نفسها مقصودةٌ والغرض فيها واضح لائح، ولا يجوز الخروج لها، وكذلك التجارة، فلا يُعلّق جواز الخروج بالغرض، ولا يُشترط في جوازه الضرورة، والحاجة متوسطةٌ بينهما كما سنصفها، ونقرر القول فيها جهدنا، إن شاء الله.
فنقول: إن احتاجت إلى الخروج لحاجة تتعلق بالمطاعم والملابس ومؤنة السكن إذا استَرَمَّ، فإن وجدت من تستنيبه، فلتفعل؛ إذ لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، وإن لم تجد من ينوب منابها، فلا بأس عليها لو خرجت.
__________
(1) في الأصل: منقولة.(15/253)
والفرضُ في البائنة أو في المتوفى عنها، فإن الرجعية مكفيّةٌ، لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، ولا نفقةَ لبائن حائل، ولا للمتوفى عنها حاملاً كانت أو حائلاً. فإن وجبت النفقة للبائنة الحامل، فهي في أمر النفقة مكفية، فلا تخرج، وإن ضيعها المطلّق، ومست الحاجة إلى الخروج، خرجت، وكيف لا والزوجة لو ضيعها الزوج، لخرجت، على ما سيأتي تفصيل ذلك في النفقات، إن شاء الله.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن خروج الزوجة لا يمتنع إلا لحقِّ الزوج، فإذا انقطعت النفقة، فلها أن تخرج، وإن كانت قادرةً على أن تصابر وتنفقَ على نفسها من مالها.
والمعتدة المستحقة للنفقة إذا انقطع عنها إنفاق من يلزمه الإنفاق عليها، وكانت متمكنة من مصابرة مسكن النكاح من غير حاجة حاقّة، فليس لها أن تخرج؛ فإن العدة يتعلق بها حق الله تعالى على التأكد، ولذلك لا يسقط وجوب التربص وإن رضي مَنْ مِنه الاعتداد، بخلاف استقرار الزوجة في مسكن النكاح، مع استمرار الزوجية.
والتي لا زوج لها، ولا عدة عليها، لها أن تبرز من غير حاجة إذا كانت لا تتعرض لآفة.
هذا تأسيس القول في الحاجة.
9885- فإن قيل: قد قدمتم في مسائل المسافرة أن المرأة إذا لحقها الطلاق بعد خروجها تاجرةً، فإنها تتمادى على وجهها حتى تقضيَ وطرها، وقلتم: ليس للمعتدة أن تخرج عن مسكن النكاح زائرةً أو تاجرة، [فأبينوا] (1) هذه الفصول وأوضحوا أن ما قدمتم تجويزه، فهو لأثر إذن الزوج، حتى لو فرض مثل ذلك الإذن في مفارقة مسكن النكاح للتجارة، لجاز لها الخروج أم كيف السبيل فيه؟
قلنا: أما الإذن، فلا يبقى عليه تعويل بعد وقوع الطلاق وحصولِ البينونة، والدليل عليه أن الرجل إذا أذن لزوجته في أن تخرج حاجّة، ثم طلقها قبل أن تخرج وتُحرم، فليس لها أن تُحْرم وتخرج، فإن أثر الإذن ينقطع بطريان الطلاق، وقد صادفها الطلاق وهي في مسكن النكاح، فالتعويل إذاً في مسائل المسافرة على أنها
__________
(1) في الأصل: " فأثبتوا ".(15/254)
تتأهب للسفر، فلو قطعته، لنالها ضرر عظيم، فهذا هو المعتمد في تلك المسائل، وعليه بنينا الفرق بين أن يلحقها الطلاق وهي في البلدة، أو يلحقها وقد خرجت.
فهذا هو الذي عليه التعويل.
9886- فإن قيل: [المعتدة] (1) إذا بلغها الخبر بأن مقداراً صالحاً من مالها على شرف الضَّياع لو لم تخرج إليه ولم تتداركْه، فهل لها أن تخرج بنفسها حيث يضيعُ مالُها لو لم تخرج؟
قلنا: هذا محل التردد، ونحن نبين فيه أصلاً كبيراً، ونقول: كل باب بني على معنًى، ثم فرض انخرام ذلك المعنى بشيء، يقع معتاداً، فذلك المعنى يقتضي أن يطَّرد حتى لا ينخرم، وهذا بمثابة بنائنا باب القصاص على الوفاء بالعصمة والامتناع مما يؤدي إلى الهرْج، فلا جرم كل ما يفضي إلى ذلك، فهو مردود، فإذا فرضت مسألة نادرة، فلا مبالاة بها، والتذكير في هذا كافٍ.
فنقول بعد ذلك: اتفاق احتياجها إلى تدارك المال وصونِه عن الاختلال بنفسها في نهاية الندور؛ فإن الغالب أن النسوة لا يحتجْن إلى مباشرة هذه الأمور، ونائبُهن فيها أَقْومُ بها منهن، وغَنَاء الرجل المستناب أظهر من غَنائهن، والغالب أن المرأة إذا أرهقتها حاجةٌ أنابت فيها رجلاً.
فإن فرض فارض صورةً نادرة [لو] (2) جرينا فيها على موجَب الحاجة، لخرجت مسافرة وتبرّجت بارزة وتركت التربصَ، وإن لزمت التربصَ، ضاع مالها، فيتردد نظر الفقيه في هذا المقام بعض التردد، ويعترض له ضياعٌ على ندورٍ وتركُ التربص، وليس كالحاجة التي تغلب؛ فإن ترك التربص بها محمول على الحاجة الغالبة في الجنس.
ومما نجريه في قواعد الشريعة تنزيلُ الحاجة الغالبة العامة للجنس منزلةَ الضرورة الخاصة في حق الشخص، وأما الخاصة النادرة، ففيها النظر، ولكن ضياع
__________
(1) في الأصل: المعتمدة.
(2) في الأصل: " أو ".(15/255)
المال شديد، والتربص وإن كان واجباً؛ فإنه من قبيل الأمورِ التابعة، والآدابِ المتأكدة المترقِّية من نهاية الندب إلى أول درجة الوجوب.
فهذا وجه النظر.
والذي عليه الاستقرار أن المال إذا كان يضيع، وله خطرٌ وقدر، فلا بأس لو خرجت وإن فرض الضياع على وجه الندور. والحاجةُ إذا تعلقت باستصلاحٍ، وكانت نادرة، فلا يجوز ترك التربص لها.
فينتظم من ذلك أن الحاجةَ الغالبةَ إذا كانت لا تتعلق بضَياع في المال، وضرورةٍ في البدن، فيسوغ الخروج لها، والحاجة النادرة إذا كانت لا تفضي إلى ضياعٍ لا يجوز الخروج لها، وإن أدت إلى ضياع وإن كانت على الندور، فيجوز الخروج لها.
هذا ما رأيناه.
9887- ولا يجوز الخروج للاستزادَة، كالتجارة، وكذلك الخروج للعمارة التي ليس في تركها ضَياع، ويلتحق بذلك الزيارة؛ فإنها لا تبلغ مبلغ الحاجة الحاقة.
والحاجةُ المعتبرة هي التي يظهر ضررها لو تركت، ولو توالت، أفضت إلى الضرورة.
فهذا مجامع الكلام.
فإن قيل: الرجل الأقطع اليمين يقطع الأَيْمان ولا قصاص عليه، والحاجة له مُفْضية إلى ضياعٍ في الأطراف. قلنا: نعم، ولكن يعارضها أن الهجوم على الدماء لا على القواعد الشرعية شديد، وتركُ التربُّصِ في العدة قريب، على أنا قد نقتُل الأقطع إذا أفضت جراحاته إلى الزهوق، وليس إفضاؤها إلى الزهوق بدعاً.
وقد انتهى ما نريد. ورجعت مسائلُ السفر وخروجُ المرأة عن مسكن النكاح في زمن التربص إلى قاعدة واحدة، قد بانت للفطن.
9888- ثم قال الأئمة: إذا كانت تخرج لحاجتها، فلتخرج نهاراً، وليس يحل لها أن تخرج ليلاً، مع التمكن من الخروج نهاراً، والسبب فيه أنها إذا خرجت نهاراً، كانت مرقوبةً بالأعين، بعيدةً عن التعرض، مصونةً بلحظ اللاحظين، وإذا خرجت(15/256)
ليلاً بعُد [الغوث] (1) عنها [لو قُصدت] (2) ، وكانت متصديةً للآفات، وإنما ذكر العلماء هذا قطعاً لوهم من يظن أن الخروج ليلاً أليق بالتخدُّر والتخفّر، والأمر على الضد من هذا.
ولسنا نمنعها من الخروج ليلاً إذا وقعت حاجةٌ ليلية، وإنما ذكرنا ما ذكرنا فيه إذا ترددت بين الخروج ليلاً ونهاراً، فالحكم عليها أن تؤثر الخروج نهاراً ولزوم المسكن ليلاً، وهذا حتم على الوجه الذي ذكرناه.
هذا منتهى القول فيما يجوز للمرأة أن تخرج لأجله. وفيه نجاز الباب.
***
__________
(1) في الأصل: الفوت.
(2) في الأصل: ولو قصدت.(15/257)
باب اجتماع العدتين والقافة
9889- العدتان لو اجتمعتا، فلا يخلو: إما أن يكونا من شخص واحد، وإما أن يكونا من شخصين.
فإن كانا من شخص واحد، فلا يخلو إما أن يكونا متفقتين أو مختلفتين، فإن كانتا متفقتين، مثل أن يكونا جميعاً بالشهور أو بالأقراء، وتصوير اجتماعهما أن يطلّق الرجل امرأته طلقة رجعية، وتجرى في عدة الرجعية، وكانت عدتها بالشهور أو بالأقراء، فإذا وطئها الزوج في أثناء العدة فوطؤه وطءُ شبهة، وهو مقتضٍ للعدة، وهذا تصوير اجتماع العدتين.
وكذلك لو كانت في عدة بينونة، فوطئها الزوج بالشبهة، ظاناً أنها زوجته، فالعدة تجب، والتصوير على ما قدرناه.
فالذي أطلقه الأصحاب أن العدتين تتداخلان، والمعنيُّ بتداخلهما أن الذي مضى من العدة الأولى محسوب من تلك العدة على التمحّض، والذي بقي من تلك العدة يجري محسوباً عن العدتين: بقيةِ الأولى وابتداءِ الثانية، حتى إن كان مَضى قرءٌ وبقي قرءان، فجرى الوطء كما صورناه، فنحسب القرأين الباقيين من العدتين، فإذا انقضيا، فعليها بسبب وطء الشبهة قرء واحد، فإذا انقضى، فقد تخلت عن العدتين.
هذا هو المذهب، وعليه التعويل.
9890- وذكر الأصحاب تقديرين نذكرهما ونبين ضعفهما: قال قائلون: الوطء إذا ورد على العدة من النكاح، لم يوجب في الحال عدةً، وبقيّةُ العدة تمضي ممحّضةً عن الجهة الأولى، حتى إن كان بقي قرءان، فهما من عدة الطلاق، ثم تتربص الموطوءة قرءاً، ونحكم بأن الوطء الذي جرى لم يوجب إلا هذا القرء الواحد، ولا نحكم بأن القرأين الباقيين يجريان عن العدتين، والتزم هذا القائل طردَ هذا القياسَ من غير(15/258)
محاشاة، وقال: إذا مضى نصفُ قرء من عدة الطلاق، وجرى الوطءُ، فالباقي من العدة يجري محضاً عن جهة الطلاق، ثم إنها تتربص وراء ذلك بعضاً من قرء، ونقضي بأن الوطء أوجب هذا المقدار.
وهذا تلاعب بالأصول وتقديرٌ ينافي وضعَ الشريعة، فإنا لم نَرَ وطءَ شبهة في حُرَّة يوجب بعضَ قرء، وهذا التقدير لا يتغير به حكم، وإنما هو كلام أصدره بعضُ الأصحاب عن غير فكرٍ قويم.
وقال قائلون: إذا جرى الوطء بالشبهة قبل انقضاء عدة الطلاق، انقطع الاعتداد عن الطلاق، واستفتحت عدةَ الشبهة.
وهذا ساقط أيضاً، وقد أشار إليه القاضي في بعض ما نُقل عنه، والدليل على بطلان ذلك أن عدة الطلاق أثبتت لاستنادها إلى حرمة النكاح، ووطء الشبهة إنما يقتضي العدة لمشابهته الوطء في النكاح، فالحكم بانقطاع عدة الطلاق لمكان وطء الشبهة من باب رفع الأقوى بالأضعف.
ثم إذا جرى وطء الشبهة طارئاً على عدة الرجعة، فالرجعة لا تنقطع، ولو ارتفعت عدةُ الرجعة، لانقطعت الرجعة، ولو شبّب مشبِّبٌ في هذا المنع، كان خارقاً لحجاب الهيبة مستجرئاً على خرق الإجماع.
فلا وجه إلا ما قدمناه من تداخل العدتين على التفسير المقدم في احتساب البقية منهما، ووجوب استكمال العدة الثانية بعد انقضاء مدة الأولى، فهذا هو الأصل، وعليه التفريع، ولا عَوْد إلى غيره.
9891- فنقول: إذا جرى وطءُ الشبهة، فللزوج المراجعةُ في بقية العدة الأولى، فإذا انقضت تلك البقية، انقطعت الرجعة؛ فإنها في تربصها الواقع وراء عدة الرجعة متربصةٌ بمحض عدة الشبهة.
ولو فرضنا وطء الشبهة طارئاً على عدة البينونة (1) ، فالترتيب في التداخل على
__________
(1) المراد هنا البينونة بسبب غير استيفاء عدد الطلاق، وإلا فمن استوفى عدد الطلاق، لا يحق له تجديد النكاح إلا بعد أَن تنكح زوجاً غيره؛ ولذلك قال الإمام: " يجدد النكاح عليها برضاها على شرط الشرع " وإنما تكون عدة البينونة كالعدة عن الخلع مثلاً.(15/259)
ما قدمناه، ويجوز للزوج أن يجدد النكاح عليها برضاها على شرط الشرع في بقية العدة، وفي المدة التي تتربص فيها وراء عدة الطلاق، والسبب فيه أنها مترددة بين عدة النكاح وعدة الشبهة، وتجديد النكاح سائغ في العدتين ممن نسبت العدة إليه، فللمطلق التجديد في عدة الطلاق، وللواطىء بالشبهة التجديد أيضاً، وليس هذا كالرجعة في الصورة الأولى، فإنها تختص بعدة الطلاق ولا تتعدى إلى عدة الشبهة، فانقسم الكلام في الرجعية نفياً وإثباتاً، واطرد جواز النكاح فيه إذا جرى وطء الشبهة على عدة البينونة، وهذا لائح لا إشكال فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان من شخصٍ واحد، وكانتا من جنس واحد.
9892- فأما إذا اختلف جنس ما به الاعتداد والشخص الذي عنه الاعتداد واحد، وذلك بأن تُفترض إحدى العدتين بالأقراء، والأخرى بالحمل، وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يصادفها الطلاق وهي حامل، فتكون عدة الطلاق بالحمل، ثم يفرض الوطء طارئاًعلى الحمل.
وقد (1) يفرض الطلاق طارئاً على الحيال، فتلابسُ المطلقةُ عدة الأقراء، ثم يطرأ وطء الشبهة، ويحصلُ العلوق به، فهذا حملٌ طرأ على الأقراء.
وقد ذكر الأصحاب وجهين في أن العدتين هل تتداخلان من شخص واحد وما به الاعتداد مختلف: فمن أصحابنا من قال: تتداخلان كما لو كانتا متفقتين.
ومنهم من قال: لا تتداخلان، لاختلافهما، والتداخل يليق بالمتفقات، والدليل عليه أن الحدود يجري التداخل في المتَّفقات منها دون المختلفات.
فإن قلنا: بالتداخل وقد طرأ حملٌ على أقراء، أو طرأ وطء على زمان الحمل، فكما (2) وضعت انقضت العدتان من غير تفصيل: عدة الشبهة، وعدة النكاح، سواء كان الحمل من النكاح أو من وطء الشبهة، ثم له أن يراجعها في جميع مدة الحمل، فإن وضعت حملها، تخلت.
__________
(1) هذا هو الوجه الثاني في الفرض من الوجهين الموعودين.
(2) فكما: أي عندما.(15/260)
9893- وإن قلنا: لا تداخل مع اختلاف الجنس، فإن كان الحمل من النكاح، فعليها أن تعتد عن الشبهة بثلاثة أقراء، وللزوج الرجعة ما دامت الزوجة حاملاً، فإذا وضعت حملها، استقبلت ثلاثة أقراء ولا رجعة فيها؛ فإنها واقعةٌ عن وطء الشبهة على التمحّض.
فإن كانت المسألة مفروضة في عدة البينونة، فللزوج تجديد النكاح في زمَان الحمل، وفي الأقراء الثلاثة بعده؛ لأنها بين أن تكون معتدة عن نكاح، وبين أن تكون معتدة عن وطء شبهة، ولا يمتنع تجديد النكاح في العدتين جميعاً.
هذا إذا كان الحمل من النكاح ووطء الشبهة طارىء.
فأما إذا كان الحمل عن وطء الشبهة والتفريع على أن العدتين لا تتداخلان، فكما علقت عن الوطء بالشبهة، انقطعت عدة الطلاق حتى إن كان مضى قُرء، فعلقت، فهي معتدة عن وطء الشبهة في مدة الحمل، فإذا وضعته عادت إلى الأقراء، واستكملت ما مضى: ثلاثة أقراء.
هذا [تصوير] (1) العدتين من غير تداخل.
ثم الحكم أن الزوج لو صبر حتى وضعت، فله أن يراجعها في بقية الأقراء بعد وضع الحمل؛ فإنها عِدّة الرجعة على التمحّض، ولو أراد مراجعتها وهي حامل، وقد بينا أنها في مدة الحمل في عدة الشبهة، فهل تصح المراجعة؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الرجعة لا تصح، وهذا ظاهر القياس، ووجهه أنها ليست في عدة الطلاق. والرجعةُ إنما ثبتت في عدة الطلاق الرجعي.
والوجه الثاني - أن الرجعة تصح؛ لأن عليها بقيةً من عدة الرجعة، وهي ملتزمةٌ لها إذا وضعت حملها، فيكفي التزامها لذلك في إثبات الرجعة، وهذا الوجه على اشتهاره فيه [ضعف] (2) .
__________
(1) في الأصل: تصدير.
(2) زيادة من المحقق على ضوء السياق، وعلى ضوء المعهود من أسلوب الإمام، حيث النسخة وحيدة، ولم تسعفنا (صفوة المذهب) ؛ حيث لم تتعرض أصلاً لهذه الصورة، كما لم=(15/261)
9894- ولو فرضت هذه الصورة في عدة البينونة، فتجديد النكاح سائغ في الأحوال كلها لما قدمنا ذكره.
ثم إن جرى ما وصفناه في عدة الرجعة، فإذا ارتجعها حيث يصح الارتجاع، فتنقطع العدة بطريان الرجعة؛ فإنه يستحيل أن تكون مرتجعة مردودة إلى النكاح وتكون معتدة عمن هي مردودة إليه.
وكذلك إذا فرض تجديد النكاح والمسألة في عدة البينونة، فينقطع العدتان.
9895- ومما نفرعه أن الحمل إذا كان عن وطء الشبهة، وهو طارىء على عدة الرجعة -والتفريع على انتفاء التداخل لمكان اختلاف الجنس- فلو سئلنا عن لحوق الطلاق، وهي في مدة الحمل، أو عن جريان التوارث، لو فرض الموت في هذه الحالة، أو سئلنا عن الظهار الموجه عليها، فهذا كله يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في أن الرجعة هل تصح في مدة الحمل المترتب على وطء الشبهة، فإن جوزنا الرجعة، لحقها الطلاق، وكان الإيلاء والظهار بمثابة رجعتها، وإن لم [نصحّح] (1) الرجعة، لم يلحقها الطلاق، ولغا لفظ الظهار والإيلاء.
وكل ما ذكرناه فيه إذا طرأ الحمل على الأقراء، أو طرأ الوطء على الحمل الكائن في النكاح، والشخص واحد، ولم تر الدم على مدة الحمل.
9896- فلو طلقها وهي حامل، ثم وطئها، والتفريع على ألا تداخل، فلو رأت
__________
=تتعرض (الغاية في اختصار النهاية) لها أيضاًَ.
وعند مراجعتنا لكتب المذهب وجدنا الرافعي والنووي يحكمان على هذا الوجه بأنه الأصح. فهل هذا موضع من مواضع مخالفة إمام الحرمين للأصحاب -على ندرة ذلك-؟ أم أن تقديرنا للكلمة الساقطة غير صحيح؟
ربما جعلنا نطمئن إلى اختيارنا للكلمة وحُكْمنا على هذا الوجه بالضعف، أن الإمام الغزالي في الوسيط ذكر الوجهين بدون ترجيح، فهل في هذا ما يشير إلى صحة اختيارنا؟ ربّما.
(ر. الشرح الكبير: 9/459، والروضة: 8/385، والوسيط: 6/137) .
(1) في الأصل: تصح.(15/262)
الدم على ترتيب الحيض في مدة الحمل، فإن قلنا: الحامل لا تحيض، فلا حكم لما رأت.
وإن قلنا: الحامل تحيض، فإذا رأت ثلاثة أقراء في مدة الحمل، فقد قال أبو حامد في هذه الأقراء: تحتسب عن عدة الشبهة، والسبب فيه أنا لا نثنِّي العدة، ولا ننفي التداخل والشخص واحد إلا لرعاية التعبد المحض، فإذا جرت صورةُ الأقراء في مدة الحمل، فينبغي أن يقع الاكتفاء بما نراه من صور أدوار الحيض والطهر، فإذا وضعت حملَها، فقد اجتمع وَضْعُ الحمل وصُورةُ الأقراء، وهذا ما كنا نطلبه.
وصحح القاضي هذا الوجه ولم يحك غيره.
وكان شيخي أبو محمد يقطع بأن صور الأطهار التي رأتها في زمان الحمل لا مبالاة بها أصلاً، ووجودُها كعدمها، وكان يقول: الأقراء الموضوعة عدةً هي التي يمكن أن يقال فيها: إنها تدلّ على براءة الرّحم، فإنها في وضع الشرع أُثبتت استبراءً، ثم اطّرد ثبوتها مع يقين البراءة؛ حسماً للباب، وهذا كابتناء عدة الطلاق على الوطء؛ فإنه على الجملة شاغل الرحم، ثم لا التفات على آحاد الصور.
وهذا الذي ذكره حسن بالغ، والدليل عليه أن الزوج إذا وطئها بشبهة، وقد كانت حاملاً عند الطلاق، فلو كنا نكتفي بصورة الأطهار، لكنا نكتفي ببقية الحمل، إذا لم تر دماً؛ فإن الوطء جرى وهي حامل، وليست من ذوات الأقراء إذ ذاك إذا كانت لا ترى دماً.
فإذا كنا نقول: إذا وضعت، استقبلت الأقراء؛ لأنها سترى الأقراء بعد الوضع، فلأن نقول: لا يقع الاعتداد بصور الأطهار، مع قيام الحمل أولى؛ فإنها تكون جاريةً في عدتين معاً، ولكن إن التزمنا التعديد، فلا ينبغي أن نخالف هذا الأصل.
وكل ما ذكرناه تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان عن شخص واحد.
9897- فأما إذا كانت العدتان من شخصين، فلا يخلو إما أن تكونا متفقتين أو مختلفتين.
فإن كانتا متفقتين، مثل أن تكونا بالأقراء، أو بالأشهر، فلا يخلو والحالة هذه:(15/263)
إما أن تسبق عدةُ الزوج، وإما أن تسبق عدة الوطء بالشبهة.
فإن سبقت عدة الزوج بأن طلقها فاستقبلت الأقراء، ثم وطئها واطىء بشبهة، فالبداية بعدة الزوج؛ فتستكمل عدة الزوج ثلاثة أقراء، ثم تبتدىء وتخوض في عدة الشبهة.
فإن كانت رجعية، فللزوج مراجعتها في عدة النكاح. ثم كما (1) يراجعها تنقطع عدة النكاح، وتخوضُ في عدة الواطىء بالشبهة.
ولو كانت في عدة البينونة والصورة كما ذكرناه، فهل للزوج أن يجدد عليها النكاح في عدة النكاح؟ فعلى وجهين: أحدهما - للزوج ذلك، كما له أن يراجعها في عدة الرجعة.
والثاني - ليس له ذلك؛ فإنه لو نكحها، لكانت محظورة عليه من كل وجه، ووضع النكاح ينافي إيرادَه على محرّمة من كل وجه، مع إمكان الاستمتاع حساً، وهذا القائل يقول: الرجعية في هذا المقام بمثابة ارتجاع المحرّمة، وهو جائز، والنكاح بمثابة نكاح المحرّمة، وهو محرم ممتنع.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت عدة الزوج أسبق.
فأما إذا كانت عدة الواطىء بالشبهة أسبق [كأن] (2) وطئها في صلب النكاح، وشرعت في عدة الشبهة، ثم طلقها الزوج، والاعتداد بالأقراء ولا حمل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تبدأ بعدة الزوج، لقوة النكاح، فعلى هذا تعتد عن الزوج بعد الطلاق بثلاثة أقراء، ثم تستكمل عدة الواطىء بالشبهة: فإن كان مضى قُرء في النكاح قبل الطلاق، تربصت قرأين.
هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أنها تستكمل عدة الشبهة بحق السبق، ثم تستأنف العدة عن الزوج بعد انقضاء عدة الشبهة.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) في الأصل: كأنه.(15/264)
التفريع:
9898- إن حكمنا بأنها تبتدىء عدة الزوج كما (1) طلقها، فإن كان الطلاق رجعياً، ملك رجعتها، في عدة الطلاق، ثم تنقطع العدة عن الزوج بالرجعة، وتعود إلى عدة الواطىء بالشبهة، فتكملها بعد الرجعة.
وإن كانت هذه المسألة مفروضة في عدة البينونة، فهل ينكحها؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما من قبل.
وإن فرعنا على أنها تستكمل عدة الشبهة، لحقِّ السبق، ثم تستأنف الاعتداد عن الزوج، فعلى هذا لا يخلو الطلاق إما أن يكون رجعياً وإما أن يكون بائناً: فإن كان الطلاق رجعياً، فلو تركها حتى تستكمل عدة الشبهة، وعادت إلى عدة النكاح، فيرتجعها في عدة النكاح، وإن ارتجعها وهي في استكمال عدة الشبهة، فهل تصح الرجعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تصح الرجعة؛ لأنها ليست في عدة النكاح.
والثاني - تصح؛ لأنها ملتزمة لعدة الرجعة، فهي بسبب الالتزام على عُلقة بيّنة من الرجعة.
هذا إذا كان الطلاق رجعياً.
فإن كان بائناً والتفريع على تقديم عدة الشبهة بحقّ السبق، فإن تركها حتى انقضت عليها عدة الشبهة، ثم أراد تجديد النكاح عليها، فله ذلك.
ولو أراد تجديد النكاح عليها قبل انقضاء عدة الشبهة، لم يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن النكاح لو أنشأه مُصادفَ عدة الغير، فلا سبيل إلى تصحيحه.
وبيانه أنا لو قدرنا صحة النكاح لما انقطعت هذه العدة، ومن المستحيل أن ينعقد نكاحٌ في عدةٍ والنكاح لا يقطعها.
وجميع ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان متفقتين: كانتا بالأقراء [أو] (2) بالأشهر.
9899- فأما إذا كانتا مختلفتين، فالوجه فرض اختلافهما في الحمل والأقراء.
__________
(1) كما: بمعنى عندما. (وقد تكرر ذلك كثيراً، ولكن نضطر لذلك أحياناً خشية الإيهام في العبارة) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.(15/265)
أما إذا كانت عدة النكاح بالحمل، وعدة الوطء بالشبهة بالأقراء، أو كان الأمر على العكس، فلا شك أن العدتين لا تتداخلان، كيف وقد ذكرنا أنهما لا تتداخلان مع اتفاقهما، والاختلاف يؤكد منعَ التداخل.
ثم الذي نصدّر الفصل به أن الحمل مقدّم على الأقراء، سواء كان من النكاح أو من الوطء، وسواء قُدِّر سابقاً أو قدر لاحقاً، بعد الخوض في الأقراء؛ فإن الحمل لا مدفع له، والاعتداد به يقع عمن منه الحمل لا محالة، فلا يبقى للتقدم والتأخر في ذلك موقع.
ثم الصور تستوعب الغرض: فإن كان الحمل من الزوج [كأن] (1) طلقها وهي حامل، فوُطِئت بالشبهة، فالجواب أنها إذا وضعت حملها، استقبلت الأقراء على الواطىء بالشبهة.
ثم إن كانت رجعية، فيرتجعها الزوج في زمان الحمل، فإنها معتدةٌ عنه، ثم إذا راجعها وهي حامل، فهل يحل له وطؤها قبل وضع الحمل؟ تردد المحققون في هذا، فصار صائرون إلى الحِلّ؛ لأن الرجعة وقعت وهي بعدُ لم تَخُض في عدة الشبهة؛ فإنها إنما تخوض في عدة الشبهة إذا وضعت حملها، فلا مانع من الحِلِّ في الحال.
ومن أصحابنا من قال: هي محرّمة؛ فإنها، وإن لم تكن في عدة الشبهة، فهي على عُلْقة عظيمة، من عدة الشبهة؛ من حيث إنها ستستقبلها، ولو أحللناها لتوالى وطآن، وهذه صورة لا يستحسنها الشرع، والتردد الذي ذكرناه في حِلِّ الوطء يجري في صلب النكاح [مثله] (2) إذا كانت المرأة حاملاً من زوجها، فوطئها واطىءٌ بالشبهة، فعدة الواطىء لا تنقضي بوضع حمل الزوج، ولكنها إذا وضعت تخوض في العدة بعد الوضع، فهل يستحل الزوج وطأها ما دامت حاملاً؟ فعلى التردد الذي ذكرناه.
هذا الخلاف في الحِلّ يقرب بعضَ القرب منه إذا كانت في عدة الشبهة، وكانت
__________
(1) في الأصل: كأنه.
(2) في الأصل: منه.(15/266)
بحيث ستعود إلى عدة الرّجعة، فهل يصح من الزوج رجعتُها بناء على عُلقة عدة الرجعة؟ فيه الخلاف المقدم: فإن قلنا: يرتجعها، لأنها ستعود إلى عدة الرجعة، [فلا يستحلّ] (1) هاهنا وطأها؛ نظراً إلى انتظار عودها إلى عدة الشبهة؛ وإذا كنا ننتظر عودها إلى عدة الشبهة، فكأنها الآن في عدة الشبهة.
وإن قلنا: لا يحل رجعتُها إذا كانت ستعود إلى عدة الرجعة، نظراً إلى الحال، فعلى هذا نقول: الحامل ليست في عدة الشبهة من الحال، فيحل وطؤها.
ومأخذ الكلام في تحليلِ الوطء وتصحيحِ الرجعة يؤول إلى أنا نعتبر الحال أو نعتبر ما يُفضي المآل إليه؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه.
9900- وإذا كانت حاملاً عن الزوج والعدةُ بالحمل مصروفةٌ إليه، فإذا وطئها واطىء بشبهة، فرأت على الحمل ثلاثة أقراء على الترتيب المستقيم، والتفريع على أن الحامل تحيض، فقد قال القاضي: قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنها إذا وضعت حملها، وقد انقضى في زمان الحمل ثلاثةُ أقراء، فنقضي بانقضاء العدتين، كما إذا كانت العدتان من شخص واحد، والتفريع على أنهما لا يتداخلان إذا اختلف الجنسان.
وهذا في نهاية البعد عندنا؛ فإن احتباس المرأة في زمنٍ واحد في عدة رجلين لا يلائم مذهب الشافعي، وفي أصل هذا المذهب من البعد ما نبهنا عليه، من أن الأقراء في وضع الشرع، إنما يقع الاعتداد بها إذا كانت دالّةً على براءة الرحم، فأما ما يُصادَف منها في حالة قيام الحمل، فليست على حكم القرء الشرعي المعتد به.
هذا إذا كان الحمل من الزوج.
فأما إذا كان الحمل من الواطىء بالشبهة، فلا شك أن الاعتداد عنه [يتقدّم] (2) ، فإذا جرى الوطء في صلب النكاح، وفُرض العلوق عن الوطء بالشبهة، ثم طلقها الزوج، وهي حامل عن الواطىء بالشبهة، فالعدة عن الواطىء بالشبهة
__________
(1) في الأصل: فلا يستحيل.
(2) في الأصل: " تقدم ".(15/267)
[تتقدم] (1) ، فإذا وضعت، استقبلت العدة عن الزوج بالأقراء.
ثم إن كان الطلاق رجعياً، فهل يرتجعها في مدة الحمل؟ فعلى الوجهين المقدمين؛ فإنها في الحال ليست في عدة الطلاق، ولكنها ستصير إليها إذا وضعت، وقد تمهد الخلاف في مثل ذلك.
فإن كان الطلاق بائناً (2) ، فالزوج لا يملك نكاحها؛ فإنها في عدة الواطىء بالشبهة، فالعدة تمنع ابتداءَ النكاح عن غير مَنْ منه العدة، والمعتبر فيه أن كل عدة لو فرض فيها نكاح لم تنقطع العدة، فالنكاح لا يصح.
والواطىء بالشبهة لو أراد أن ينكحها وهي حامل، نظر: فإن كان الطلاق رجعياً، لم يجز، فإنها في حكم الزوجات، وطريان هذه العدة عن الواطىء بمثابة طريان عدته في صلب النكاح، فإذا وطىء واطىءٌ بشبهة زوجة إنسان، فالعدة تمضي والنكاحُ مستمر، كذلك عدة الشبهة في حق الرجعية لا تخرجها عن عُلقة الزوجية، فيستحيل من الواطىء أن ينكحها.
9901- ولو كان الطلاق بائناً، فأراد الواطىء أن ينكحها في عدة نفسه، فهذا على الخلاف، فإن الزوجية زالت بالبينونة، وهي الآن في عدة الواطىء؛ لأنها حامل عنه، لكنها ستعود إلى عدة الزوج إذا وضعت، وهذا يناظر ما لو كانت في عدة الزوج، ومصيرها إلى عدة الشبهة.
فلو أراد الزوج أن يجدد نكاحها، ففي تجويز ذلك خلاف قدمناه، فلا فرق بعد البينونة بين الزوج والواطىء بالشبهة في الترتيب الذي ذكرناه، فمن نكح منهما وهي في عدة غيره، فنكاحه مردود، ومن نكح منهما وهي في عدة الناكح، ولكنها ستصير إلى عدة الآخر، ففي صحة النكاح وجهان: أحدهما - المنع.
والثاني - الصحة.
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) كأن كان على مال.(15/268)
وهذا إذا كان مفروضاً في الحمل يحوج إلى مزيد تأنق في الترتيب، وذلك أنا نقول:
إن كان الحمل من الزوج، والطلاق رجعي، فقد ذكرنا أن الرجعة تصح، وإن كانت ستصير إلى عدة الشبهة، ولكن عدة الشبهة لا تثبت ما لم تضع الحمل، وهل يحل للزوج وطؤها قبل وضع الحمل؟ فعلى وجهين.
فإذا تبين هذا، عدنا إلى ترتيب النكاح، فلو كان الطلاق بائناً، نظرنا: فإن كان الحمل من الزوج والطلاق بائن، فهل ينكحها؟ إن قلنا: لو ارتجعها والطلاق رجعي لا يحل له [وطؤها] (1) في مدة الحمل، فإذا نكحها والطلاق بائن، ففي المسألة الوجهان؛ فإن النكاح لا يستعقب حِلاً بوجه، هذا هو الذي أوجب تخريج الخلاف.
وإن قلنا: لو ارتجعها، لاستحلها، فهل يجدِّد النكاحَ؟ هذا يترتب على ما إذا قلنا: إنها تحرم في مدة الحمل، فإن قلنا ثَمّ: يصح النكاح، فلأن يصح النكاح هاهنا أولى.
وإن قلنا ثَمّ: لا يصح، فهاهنا وجهان، والفرق أنا لو قدرنا صحةَ النكاح، لاستعقب النكاح حلاً؛ تفريعاً على ما انتهينا إليه.
فإن قيل: ما وجه فساد النكاح إذا كان يستعقب حلاً؟ قلنا: إنها ستصير إلى عدة الشبهة، وهذا فيه ضعف؛ فإن مصيرها إلى عدة الشبهة إذا لم يُوجب تحريمها في الحال ينبغي أن لا يمنع نكاحها. ثم إذا صارت إلى عدة الشبهة، فهذه عدة طارئة على النكاح.
ولو طلق زوجته واستفتحت الأقراء، ثم وُطئت بالشبهة بعد مضي قرء، وعلقت عن الواطىء بالشبهة، فعدة النكاح تنقطع لا محالة، وتصير معتدة عن الواطىء بالشبهة، ثم إذا وضعت الحمل، بَنَت على ما مضى قبل العلوق، فتستكمل عدة الزوجية بقرأين، وليس المعنيُّ بانقطاع العدة إحباطَ ما مضى، ولكن المراد الانقطاعُ مع الاحتساب بما مضى.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(15/269)
هذا تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان من شخصين، وكانتا مختلفتين إحداهما بالحمل والأخرى بالأقراء.
9902- وقد تمهد من أصل الشافعي أن العدتين لا تتداخلان [إلا] (1) من شخصٍ واحد، وقد نص الشافعي في التعريض بالخِطبة على أن الحربيّ إذا طلق زوجته، فنكحها حربيّ [آخر] (2) ، ثم طلقها، فلا يجمع عليها بين عدتين.
وقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما - أنهما لا يتداخلان من الحربيين، كما لا يتداخلان من المسلمَيْن؛ فإن لعدة الكفر حكماً لا ينكر، والدليل عليه أن الكافر إذا نكح كافرة في العدة ثم أسلما -والعدة باقية - فنحكم بفساد ذلك النكاح، إذا أدركت العدةُ زمانَ الإسلام؛ فإذا ثبت أصل اعتبار العدة، فلا وجه للفرق بين المسلمَيْن والكافِرَيْن في امتناع تداخل العدتين.
والقول الثاني - أن العدتين تتداخلان من الحربيين؛ فإنه لا يثبت لهما من تأكد الحرمة ما يثبت للمسلمين، وأصل العدة مرعيٌّ والكفار في حكم الشخص الواحد.
وهذا غير سديد، والأصح في القياس إذا سلكنا طريقةَ القولين، القول الأول، وعليه جرى الشيخ أبو بكر الأَوْدَني في المناظرة، فإنه أُلزم مسألةَ العدتين من الحربيين، فارتكب (3) وقضى بأنهما لا يتداخلان.
ومن أصحابنا من قال: إذا نكحت الحربية حربياً وألم بها، انقطعت عدة الأول باستيلاء الثاني، وأملاك الحربيين وحقوقُهم عرضةٌ للسقوط بالاستيلاء، ولو قهر حربي حربية، وكانت زوجة لحربي، فإنه يصير بالقهر مسترقاً للحربية، ويرتفع النكاح، فإذا كان النكاح يرتفع، فلا يبعد أن تنقطع العدة انقطاعاً لا يعود، فهذا إذاً قَطْعٌ للعدةِ الأولى، وليس من تداخل العدتين في شيء.
__________
(1) سقطت من الأصل، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(2) زيادة لإيضاح الكلام.
(3) ارتكب: هذا اللفظ استخدمه الإمام أكثر من مرة، ولم أجده مفسَّراً في مظانه من مجموعات وكتب المصطلحات الخاصة بالجدل والمنطق والفلسفة، والذي يتضح من السياق أن معناه هو "التعسف واللجوء إلى الوجه الذي لا أصل له فراراً من إلزامه أمراً آخر" والله أعلم.(15/270)
وقد انتجز القول في تداخل العدتين من رجل واحد، ومن رجلين، ثم تكميل الكلام يستدعي ما نذكره الآن.
9903- فنقول إذا أتت المرأة بولد لستة أشهر، فصاعداً، ولدون أربع سنين من يوم الفراق، وأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الوطء، فالولد يلحق بالزوج [وينتفي] (1) عن الواطىء.
ولو أتت بالولد لأكثرَ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر من يوم الوطء، فهو ملحق بالثاني.
وإن أتت به لأقلَّ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر فصاعداً من يوم وطء الشبهة، فيحتمل أن يكون العلوق بهذا المولود من الأول، ويحتمل أن يكون من الثاني.
فإذا أشكل الأمر، فهذا [أوان القائف] (2) فنريه معهما القائفَ، ونلحقه بمن يُلحقه القائفُ به، والقول فيما يعتمده القائف، وفي إلحاقه وصوابِ منطقه وخطئه يأتي مستقصىً في آخر الدعاوى، إن شاء الله.
وقد ذكر الأصحاب طرفاً صالحاً من الكلام في القائف هاهنا، فرأيت تأخيره إلى موضعه -إن شاء الله- ونذكر ما يتعلق بأمر العِدة، ونقتصر عليه فنقول: إذا تردد المولود كما وصفناه، وأَرَيْنا الولد القائفَ: فإن ألحقه بالزوج، فعدته تنقضي بوضع الحمل، والمعتبر في عدة الواطىء بالشبهة الأقراء.
وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، فالمعتبر في عدة الزوج الأقراء.
ومضى تفصيل الكلام في كل صورة من هاتين الصورتين: أوضحنا ما إذا كان الولدُ منه -نعني الزوج- وبيّنا حكم الرجعة، وتجديدَ النكاح في عدتي الرجعة والبينونة، وذكرنا الحكم في نقيض ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة.
9904- وإن تردد المولود بينهما، ولم نجد بياناً من القائف، وذلك بأن يُشكل
__________
(1) في الأصل: يلحق بالزوج منتفي عن الواطىء.
(2) في الأصل: أمان القائف.(15/271)
الأمر عليه أو بأن يلحقه بهما، أو لا نجد قائفاً، فالصورة مشكلةٌ في أمر النسب، وسيأتي حكم الإشكال في مقتضى النسب.
9905- وأما حكم العِدّة -والنسبُ مشكلٌ- كما ذكرناه- نقدّم (1) على هذا أصلاً مقصوداً في نفسه، رتبه العراقيون، والشيخُ أبو علي رضي الله عنه.
ثم نرجع إلى المسألة التي نحن فيها، وإن أحببنا ذكرناها في أثناء الترتيب، فنقول:
إذا وطىء أجنبي المعتدة عن الزوج بشبهة، ولزمتها عدتان، فلو أتت بولد لزمان لا يحتمل أن يكون من الأول، ولا من الثاني، وذلك بأن تأتي به كثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوطء بالشبهة، فإذا وضعت مثلَ هذا الحملَ، فهل تنقضي بوضعه عدةٌ؟
قال العراقيون: من أصحابنا من قال: لا تنقضي بوضع هذا الحمل، لا عدةُ الزوج، ولا عدةُ الواطىء بالشبهة؛ فإن من أصلنا أن وضع الحمل إنما يوجب انقضاء عدة مَن الحملُ منه، وهذا الحمل ليس ملتحقاً بالأول ولا بالثاني، فلو حكمنا بانقضاء عدة واحدة منهما على التعيين، لكان ذلك باطلاً، من وجهين: أحدهما - أن الحكم بالانقضاء مقتضاه التحاق الولدِ الموضوعِ بمن حكمنا بانقضاء عدته، والثاني - أن تعيين أحدِهما تحكُّم.
والوجه الثاني - حكَوْه عن الشيخ أبي حامد، وهو أن عدة أحدِهما تنقضي لا بعينه وتعتد بالأقراء عن أحدهما.
ثم رتَّب الشيخ أبو حامد ترتيباً حسناً، ذكره الشيخ أبو علي واستحسنه، وذلك أنه قال: الولد الذي لا يُحتمل لحوقُه بالزوج أصلاً لا تنقضي العدة به، وهو مثل أن تأتي زوجة الصبي، وهو ابن ثمان بولد، فلا تنقضي عدتها عنه بوضع ذلك المولود، ولو أتت المرأة بولد نسبُه ملتحق لو لم يفرض نفيه باللعان، ولكن نفاه الزوج،
__________
(1) جواب أما (بدون الفاء) .(15/272)
[والْتعن] (1) على نفيه، فالنسب منتفٍ، والعدة تنقضي بوضعه، اتفق الأصحاب عليه؛ فإن النسب وإن انتفى باللعان، فلحوقه ممكن، وأمر انقضاء العدة يتعلق بالإمكان والرجوع فيه إلى قول المرأة، [ولئن] (2) نفينا الولد لأجل اللعان، لم نرفع الحكم بانقضاء العدة عند ظهور الاحتمال.
ولو أتت المرأة بولد حكمه أن ينتفي بلا لعان ولكن يحتمل أن يكون من الزوج مع قضائنا بانتفائه من غير لعان، وذلك بأن يطلق الرجل زوجته [طلقة] (3) مبينة، فتأتي بالولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت الطلاق المبين، فهذا ولد لا يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح؛ فلأجل هذا ينتفي عن الزوج بلا لعان؛ فإنه إنما يلحق النسبُ الذي يُحتَمل تقديرُ علوقه من النكاح، فعند ذلك يُلحِقُ الفراشُ النسبَ بصاحب الفراش، فلا ينتفي عنه من غير لعان.
فأما إذا زال إمكانُ العلوق في النكاح، فالولد ينتفي من غير لعان، ولكن الإمكان غيرُ زائل بالكلية؛ إذ من الممكن تقدير وطءٍ من الزوج بالشبهة بعد الطلاق المبين، ولو فرض ذلك، لكان النسب لاحقاً، ثم تنقضي العدتان على المذهب الصحيح بوضع الحمل، على التقدير الذى ذكرناه.
9906- فإذا تصُورت المسألة، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد أن العدة تنقضي في هذه الصورة من الزوج لما ذكرناه من الاحتمال، [وإن كان] (4) النسب منتفياً من غير لعان.
والتعليل ما ذكرناه من الاحتمال، وحققنا أن انقضاء العدة يعتمد الاحتمال، فالولد المنتفي بلا لعان إذا تطرق إليه احتمال العلوق كالولد المنفي باللعان؛ فإنهما جميعاًً منتفيان، والاحتمال شامل للمسألتين.
__________
(1) في الأصل: والنفي على نفيه.
(2) في الأصل: فلأن.
(3) في الأصل: طلقتم.
(4) في الأصل: فإن كان.(15/273)
وإنما افترقت المسألتان في [السبب] (1) الذي حصل الانتفاء به؛ فإنه حصل في أحدهما باللعان، وفي الأخرى بأمرٍ متعلق بالزمان، والذي يحقق الجمع بينهما أن الملاعن لو استلحق الولد بعد نفيه، للحقه، والذي أتت زوجته المطلقة بالولد لأكثر من أربع سنين لو استلحق الولد بتقدير الوطء بالشبهة بعد الطلاق، للحقه الولد، فهما جميعاًً منفيان معرّضان للّحوق في المسألتين، وليس كما لو أتت امرأة ابن ثمان بولد؛ فإنه لا يتعرض للّحوق قط، فهو الذي لا تنقضي العدة بوضعه.
وإذا تردد الأمر بين عدّتين، وأشكل مع نفينا الولدَ عن كل واحد منهما، وذلك بأن تأتي بالولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا تنقضي عدة واحد منهما؛ فإن النسب منفيٌّ عنهما، وليس أحدهما أولى بتقدير الاستلحاق من الثاني، والحكم بالانقضاء على الإبهام غير متّجه.
والوجه الثاني -وهو اختيار الشيخ أبي حامد- أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه، وهذا اختياره، وهو الصحيح عند أئمة المذهب؛ فإن المعتمد في انقضاء العدة الاحتمال وهو متحقق في حق كل واحد منهما، وجهه في الزوج تقدير وطءٍ بعد الطلاق، ووجهه في الواطىء تقدير وطء قبل الوطء الذي ظهر لنا، ولكن يتصور الالتحاق بهما جميعاًً فيبهم الأمر ويُقضى بانقضاء إحدى العدتين، ونأمرها بأن تتربص ثلاثة أقراء، فيقع الاعتداد بها عن أحدهما، وإذا فرغت عن الوضع والتربص، فقد تخلّت عن العدتين.
هذا هو الترتيب الحسن البالغ.
9907- ومن أصحابنا من قال: إذا أتت المطلّقة بولدٍ بعد الطلاق لزمانٍ لا يحتمل أن يكون العلوق به من صلب النكاح، ووقع القضاء بانتفائه من غير لعان، فلا تنقضي العدة بوضعه أيضاً، وهذا يضاهي أحد الوجهين فيه إذا تردد الولد بين الرجلين، والفرق بين صورة التردد وبين هذه الصورة عسرٌ، وهذا القائل يقول: إنما تنقضي
__________
(1) في الأصل: النسب.(15/274)
العدة بوضع ولد لاحقٍ أو بوضع ولد يلحق لولا اللعان، فأما الولد الذي ينتفي من غير حاجة إلى النفي، فلا تنقضي العدة بوضعه.
وهذا وإن أمكن توجيهه، فالفقه ما ذكره الشيخ أبو حامد.
فإذا تبين هذا، ألحقنا به (1) أن الولد المتردد بين الزوج والواطىء إذا التحق بالقيافة بأحدهما، فلا حكم للاحتمال في حق الثاني، بل كما يلحق الولد بمن ألحقه القائف به فكذلك يُعيّن ذلك الشخص، ونقول: تنقضي العدة عنه، فإذا قيل لنا: الاحتمال قائم في حق (2)
9908- ولو لم نجد قائفاً، أو وجدناه ولم يبيّن، فالوجه أنه تنقضي عدة أحدهما بوضعه (3) ، لا بعينه؛ لأنها أتت به لزمان الإمكان منهما.
وقد ذكرنا أنها لو أتت به بحيث يحتمل أن يكون من النكاح [ويحتمل] (4) أن يكون من وطء الشبهة أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه بوضعه، وإن انتفى نسبه عنهما، فمع احتمال أن يكون من كل واحد منهما وجب الحكم بانقضاء إحدى العدّتين.
وإذا أشكل أمر الولد وأمر العدّة [ولم] (5) يمكن جعل العدة بالحمل من الزوج؛ فإن كان الطلاق رجعياً، فارتجعها في الحمل، فنبني على أن الحمل لو كان من الوطء، وقد طرأ على الأقراء، ففي صحة الرجعة -بناء على أنه ستعود إلى عدة الرجعة
__________
(1) ألحقنا به أي بالبيان الذي بيّناه. (وفي الأصل: ألحقناه به) .
(2) هنا سقطٌ قدره لوحتان من المخطوط، وهو نسخة وحيدة للأسف، وهاتان اللوحتان موجودتان، ولكن ذهب بالكتابة فيهما ما ذهب، فلم يبق إلا خيال لبعض العبارات في أطراف الصفحات.
وسنضع مكان هذا الذي ذهب مختصر ابن أبي عصرون، فهو يأتي بألفاظ الإمام تقريباً، وطريقته أنه يترك بعض التفاصيل في الشرح، وبعض الكلمات، ويحافظ بعد ذلك على ألفاظ الإمام، ولا نجد له إلا ألفاظاً يربط بها بين الجمل، مع شيء من التقديم والتأخير، ونادراً إبدال لفظ مكان لفظ.
(3) بوضعه: أي الحمل.
(4) في الأصل: ولا يحتمل.
(5) في الأصل: لم (بدون الواو) .(15/275)
- خلاف، فإن قلنا: تصح الرجعة، والحمل للواطىء بالشبهة (1) فإذا أشكل، وارتجع، صحت الرجعة؛ لأن الحمل إن كان من الزوج، فقد ارتجع في عدته، وإن كان من الوطء، فيصح، بناءً على أن مصيرها إلى عدة الرجعة بوضع الحمل.
وإن قلنا: لا يصح إذا تعين الحمل للواطىء بالشبهة، فإذا أشكل، لم نحكم بصحة الرجعة لاحتمال أن الحمل لغير الزوج، فإن أراد تصحيح الرجعة، فالوجه أن يراجعها مرتين مرة في الحمل، ومرة في الأقراء بعد الوضع؛ لأنه قد أتى برجعة صحيحة في عدته، ولو اقتصر على رجعة في أحد الحالين، لم يصح.
ولو كان الطلاق بائناً، فجدد نكاحها في مدة الحمل، لم يصح؛ لجواز وقوعه في عدة الشبهة، وكذا لو نكحها في الأقراء بعد الوضع، ولو نكحها مرة في زمان الحمل، ومرّة في مدة الأقراء، فقد وقع أحد النكاحين في عدة منسوبة إليه، ولكن لم يتعين النكاح الصحيح، ففيها وجهان: أحدها - يصح نكاحٌ غير متعيّن، كالرجعة غير متعينة. والثاني - لا يصح نكاح -على إبهام أمرهما- موقوف، والنكاح لا يوقف ابتداؤه، والرجعة تقبل ما لا يقبله النكاح، ولذلك لا تصح رجعة المحرمة، وتصح الرجعة من المحرم، ولا يصح نكاح المحرم ولا المحرمة، وفي وجهٍ بعيد لا يصح الرجعة مع الإحرام كما لا يصح النكاح.
9909- وأما النفقة؛ فإذا كان الطلاق مبيناً، والحمل يتردد بين الزوج والواطىء، فالنفقة واجبة؛ لأن البائنة تستحق النفقة مع الحمل، ولو كان الحمل من الواطىء، ففي وجوب النفقة عليه قولان، ومع الإشكال لا يطالب بها واحدٌ منهما قبل الوضع، لاحتمال أنه (1) من الشبهة، فإذا وضعت، وألحقه القافة بالزوج، أو انتسب المولود إليه بعد البلوغ، فعلى الزوج نفقة زمان الحمل، وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، ففي وجوبها عليه القولان، ولا تسقط النفقة بمضي الزمان، وإن أوجبناها على الزوج، وقلنا: تجب للحمل، فهو كإيجابها على الواطىء، وإن قلنا: للحامل، لم تسقط عنه.
__________
(1) الرقم هنا لمختصر ابن أبي عصرون.(15/276)
ولو نكحت المعتدة غالطةً نكاح شبهة، فلا نفقة لها؛ لأنها كالناشزة، وقد ثبت النشوز مع الجهل به.
فصل
9910- المطلقة الرجعية إذا وطئها أجنبي بشبهة، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فارتجعها في مدة الحمل، ثم وضعته، وألحقته القافة بالشبهة، ففيها (1) وجهان، والأولى القطع بصحتها، لأنا إن نظرنا إلى التبين (2) فتصح، والنظر إلى التردد حالة الارتجاع لا أصل له، والأولى استصحاب عدة الطلاق. نعم، في تجديد نكاحها خلاف يقرب ويتجه، وقد قدرنا فرض رجعتين إحداهما في الحمل والأخرى في الأقراء، والمذهب تصحيح الرجعة، وذكرنا في إيقاع النكاحين مرتبين وجهين.
فصل
9911- صح النقل عن الأصحاب أن الزوج إذا طلق زوجته ثم كان يعاشرها معاشرة الأزواج، فلا تنقضي العدة.
وقال المحققون: هذا خارج عن القياس؛ فإن العدة انقضاء زمان، ثم على المرأة تعبدات محتومة في العدة أولاها بالمراعاة التربص، وترك التبرج، والانعزال عمن كان زوجها، وقد يتعلق بها الإحداد، ثم لو تركت جميع (3) ذلك، وانقضى الزمان، نحكم بانقضاء عدتها. هذا هو القياس، ولا يعرف فيها خلاف أنها لو كانت تخالط الرجال الأجانب تنقضي عدتها، وإن أثمت. والمنقول لم يوجد نصاً للشافعي في شيء من كتبه.
__________
(1) فَفِيها: أي في الرجعة.
(2) أي تبينا بعد الوضع وإلحاق القافة أنه راجعها في عدة الحمل من وطء الشبهة.
(3) الرقم هنا لصفحات مختصر ابن أبي عصرون.(15/277)
قال القاضي: لم يفرق الأصحاب فيما ذكروه بين البائنة والرجعية، وأرى الفرق بينهما، فأقول: مخالطة البائنة لا أثر لها في المنع من انقضاء العدة، لانقطاع علائق النكاح، فالمطلق أجنبي. والرجعيةُ إذا خالطها مخالطة الأزواج، فيجوز ألا تنقضي العدة؛ لأنها في حكم الزوجات، وهي زوجة بخمس آيات من كتاب الله تعالى، ولا يعتد بالعدة في صلب النكاح الذي منه تعتد، والقياس ألا تعتد إلا بائنة، وعدة الرجعية مع بقاء أحكام من الزوجية مشكل، فيشترط لها الاعتزال.
وهذا حسن، [والاحتمال] (1) قائم؛ لأن طلاقها أعقب الاعتداد، وأثبت التحريم، فوجب أن تعتد بمضي الزمان، وما ذُكر من المخالطة مبهم، ولم يريدوا به الوطء، بل على [زعمهم] (2) يكفي أن يخلو بها، ولا يكفي دخول دار هي فيها من غير خلوة، ولو مضى من العدة شيء، ثم اتفقت خلوة واحدة، لم ينقطع ما مضى، ويمتنع الاحتساب بزمان الخلوة.
ولو كان يخلو بها ليلاً، ويفارقها نهاراً، فينزل على المعتاد من معاشرة الزوجات، وليس بمعتاد امتداد الخلوة بالزوجات، فالزمان المتخلل بين الخلوتين قدر العادة لم يحتسب به من العدة، ولو خلا بها، ثم طال انقطاعه عنها، حسبت المدة الطويلة، ولا يتجه غير التلفيق.
وهذا تفريع مضطرب جرّه خروج الأصل عن القياس (3) والقول بتداخل العدتين يشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى، فلا يبطل ما مضى، لكنه في لحظة، فلم يتعرضوا له، ولا يعتد بزمان الوطء من عدة الوطء بالشبهة، ولا من عدة الطلاق على قياس قول الأصحاب (4) .
__________
(1) في الأصل: والإحمال.
(2) في الأصل: زعمكم.
(3) الرقم هنا لصفحات مختصر ابن أبي عصرون.
(4) إلى هنا انتهى المنقول من مختصر ابن أبي عصرون، وفي فقراته الأخيرة تكرار وتداخل مع ما بعده من نسخة الأصل من النهاية.(15/278)
9912- (1) قد ذكرتم في تداخل العدتين أن المطلِّق إذا وطىء زوجته الرجعية، ثبتت عدة الشبهة، وجرى الحكم بتداخل العدتين، وهذا يُشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى. قلنا: نعم، الوطء لا يبطل ما مضى، ولكنه في لحظة، فلم يقع من الأصحاب التعرض لها، ولو أنها غير معتد بها، ولا شك أن زمان الوطء لا يعتد بها (2) من عدة الشبهة، ولا يُعتد بها على قول الأصحاب من عدة الطلاق، فهذا ما يجب التنبه له.
9913- ومما يتصل بهذا أن الرجل إذا نكح امرأةً نكاح شبهة، وكان يغشاها، فلا خلاف أنه لا يمضي من العدة شيء ما دام يغشاها، ولا نقول: كما (3) وطئها الوطأة الأولى، شرعت في العدة، ثم تلفق الأوقات المتخللة بين الوطآت ونقضي بأنها كالمعتدات في تلك الأوقات، غير أن الوطأة الأخيرة تستعقب عدةً كاملة. هذا لم يقله أحد، وهو يؤكد ما ذكرناه في الرجعية من أن معاشرة الزوج إياها يمنع الاحتساب بالعدة.
نعم، اختلف القول في ابتداء العدة من أي وقت تحتسب. فأحد القولين- أنه يحتسب من الوطأة الأخيرة.
والقول الثاني - أنه يحتسب من وقت التفريق بينهما، وهذا الأصل قد تقدم بالرمز إليه، ولم نستقصه في موضعٍ، ونحن نقول هاهنا: القولان في ابتداء العدة عن الواطىء بالشبهة مذكوران كما أوردناه الآن، فإن قلنا: ابتداء العدة من آخر وطأة، فلا كلام، وإن قلنا: من وقت التفريق، فيعترض عليه أن الشبهة لو انجلت وتبين زوالها، وكان يديم المعاشرة على علمٍ بالتحريم القاطع، فالوجه عندنا أن نقول: هذا لا يمنع انقضاء العدة. والمعنيُّ بافتراقهما انجلاء الشبهة لنا. [وفي] (4) هذا فضل نظر، سنعود إليه من بعدُ إن شاء الله.
__________
(1) عوْدٌ إلى نصّ النهاية. والله المعين.
(2) بها: أنث الضمير على معنى " اللحظة "، وقد تقدم التلفظ بها.
(3) أي عندما.
(4) في الأصل: في هذا (بدون واو) .(15/279)
9914- ومما يتصل بهذا الآن أن المعتدة عن الزوج إذا نكحت نكاح شبهة على ظن أن العدة قد انقضت، وافترشها مَن نكحها على الشبهة، فالعدة تنقطع من وقت العقد، ومنهم من قال: تنقطع من أول وطأة تتفق من الزوج على الشبهة، ثم متى تعود إلى البناء على العدة الأولى؟ ذكر الأصحاب القولين اللذين ذكرناهما في نكاح الشبهة في الاعتداد من المفترش على الشبهة فقالوا: تعود إلى بقية العدة الأولى من آخر وطأة في قولٍ وتعود إليها من وقت التفريق على قولٍ، فذكروا في العَوْد إلى العدة ما ذكروه في ابتداء العدة [عن] (1) الواطىء بالشبهة إذا لم يكن نكاح الشبهة وارداً على عدة.
وهذا فيه إذا لم تحبل من المفترش في العدة، فإن حبلت، فلا شك أن عدة الحبل إذا بأن الأمر مقدمةٌ على بقية العدة الأولى، كما تقدم تفصيل هذا في تداخل العدتين.
فيخرج مما ذكرناه الآن ما استبعده القيّاسون من أن مخامرة الزوج المعتدةَ في العدة يمنع من انقضاء العدة ليس من البعيد، وهو خارج على هذا الأصل الذي ذكرناه الآن؛ فإن نكاح الشبهة والمخامرة بحكمه إذا تضمن منع انقضاء العدة، فمخامرة الزوج لا يبعد أن تتضمن منع انقضاء العدة.
9915- ثم ينشأ من هذا المنتهى وجوه من الرأي من أهمها أن نقول: ما ذكره الأصحاب من أن المخامرة من الزوج تمنع انقضاء العدة يجب أن يكون محمولاً على ما إذا كان يخامرها ظاناً أن النكاح باقٍ، فيكون معاشرته إياها على مضاهاة النكاح الفاسد يطرأ على العدة، وتخرج خروجاً حسناً.
فأما إذا طلقها ثلاثاًً مثلاً، وعلم أنها محرمةٌ عليه، فأخذ يعاشرها مع القطع بالتحريم، فيجب ألا يؤثر هذا النوع من المخالطة في انقضاء العدة، إذ لو فرض اختلاطها بالأجانب مع العلم بالتحريم لما أثر ذلك قطعاً، فلا يضر أن تُجعل مخالطة المطلق معتبراً (2) بمخالطة الأجانب [و] (3) يخرج منه أن مخالطة الرجعية تمنع على كل
__________
(1) في الأصل: والنفي.
(2) معتبراً، أي مقيسة بمخالطة الأجانب.
(3) زيادة من المحقق.(15/280)
حال؛ فإنها تقع على حكم الشبهة، وكيف لا، وقد صار إلى تحليل الرجعية طوائف من العلماء.
ومما ينشأ من ذلك أن من نكح معتدة وافترشها ففي وقت انقطاع العدة خلاف قدّمته، فإذا خرّجنا عليه مخالطة الزوج المعتدة، ورأينا تنزيل المخالطة على الشبهة، فيجب أن نقول: نفس المخالطة تمنع انقضاء العدة من غير اشتراط وطء؛ فإن هذه المخالطة مستندة إلى وطء النكاح مترتبة عليه، وليس كذلك حكم نكاح الشبهة إذا طرأ.
والذي نقله الأئمة عن الأصحاب أن نفس المخالطة من الزوج تمنع العدة، ولم يفصّلوا بين الشبهة والعلم بالتحريم، والذي ذكرته من التنزيل على حالة ظن الحلّ لست أرى منه بداً؛ فإن الزوج إذا كان يخالط المطلقة ثلاثاً أو كان يزني بها، فلست أرى الزنا قاطعاً، ولا معاشرة الزناة مؤثرة.
9916- ومما يتصل بتمام القول في ذلك أن نكاح الشبهة إذا طرأ على العدة، واتصل به الوطء، ثم انكف الناكح وانعزل، وهو على اعتقاد الافتراش، فانقضت مدة العدة في زمان انعزاله، فالذي تقتضيه القواعد التي مهدناها أن العدة لا تنقضي إذا كان في علم الله أنه سيعود إلى وطئها، فلا ينبغي أن نغيّر القواعد بالصورة.
والضابط فيه أنا لو صوّرنا نكاح شبهة من غير طريان على العدة، ثم صورنا وطأتين بينهما انعزال في مدة طويلة، فلا نحكم بانقضاء العدة عن الواطىء بالشبهة، وكل ما يمنع انقضاء العدة عن الواطىء، يمنع العوْد إلى العدة التي طرأ نكاح الشبهة عليها، وهذا هو المعتبر الحق الذي لا يسوغ الحيْد عنه.
وبالجملة استمرار الشبهة واتحادها وانسحابها حكمٌ بيّن في وضع الشرع، وآية هذا أن نكاح الشبهة إذا اشتمل على وطآت كثيرة، فلا يجب إلا مهر واحد، وإن تعددت الوطآت.
ولو فرض تعدد الشبهات، وتخلل الانجلاء في أثنائها، واشتملت كل شبهة على وطء، لتعددت المهور.(15/281)
9917- ومما يدور في الخلد أن من نكح معتدةً نكاح شبهة- ورأينا التفريع على انقطاع العدة قبل الوطء، فإذا نقول لو لم تزف حتى انجلت الشبهة؟ وماذا نقول إذا زفت، ولم يتفق الوطء حتى انجلت الشبهة؟
أما إذا لم تزف حتى انجلت الشبهة فلست أرى إلا القطع بأن العدة لا تنقطع؛ فإن صورة النكاح لا تُفضي إلى ملابسة، ثم كانا على ظنٍّ مجرد، فزال، فالعدة على استمرارها. هذا ما أراه.
فأما إذا زُفّت، وكان الناكح على الشبهة يلابسها ولا يطؤها، فانجلت الشبهة، فهذا فيه تردد عندي: فإن كنا نفرع على أن انقطاع العدة لا يتوقف على جريان الوطء؛ من جهة أنا إنما نحكم بالانقطاع قبل الوطء إذا جرى الوطء، فنجعل ما تقدم على الوطء كالمقدمة له. والتابعُ قد يسبق وقد يلحق.
فينتظم بعد هذه الشبهات صور: إحداها - أن تزف فيطأ، فالعدة تنقطع من وقت الزفاف على هذا الوجه الذي نفرع عليه، وفيه الخلاف المشهور.
الصورة الأخرى - أن تزف ولا يتفق الوطء وتنجلي الشبهة، وفيه التردد الذي ذكرته.
ولو لم يتفق الزفاف حتى انجلت الشبهة، فالوجه عندي القطع بأنه لا تقطع العدة، وإذا اتصل النكاح بالوطء، وفرعنا على أن انقطاع العدة قبل الوطء، فإنه تنقطع من وقت الزفاف، [أم] (1) تنقطع من وقت النكاح؟ فيه شيء لا يخفى وجه الاحتمال فيه.
وأما ما كنا ذكرناه في أن الموطوءة في نكاح الشبهة من غير فرض عدة سابقة متى تبتدىء العدة من الواطىء، وأشرنا إلى القولين، ثم قلنا على قول التفريق: يعني التفريق بالذات والجسد أم انجلاء الشبهة، وإذا انجلت وأدام المخامرة، فهل تنقضي العدة، فالوجه الآن بعد تمهّد الأصول أن نجعل مخامرة الواطىء بالشبهة مع يقين التحريم بمثابة مخامرة الزوج البائنة مع يقين التحريم.
فهذا نجاز القول في هذا الفصل.
__________
(1) في الأصل: هل.(15/282)
وقد خلطت حكمَ نكاح الشبهة والعدة عن الواطىء بالشبهة، وحكمَ انقطاع العدة بطريان النكاح، وحكمَ معاشرة الزوج خلطاً، وبيان هذا الفصل في خلطه؛ فإن هذه الفصول الثلاثة ناشئة من أصلٍ واحد والله أعلم.
فرع:
9918- إذا نكح الرجل معتدةً نكاح شبهة، ثم تبين الفساد، واجتنبها فخلت عن العدة الأولى، فللّذي نكحها على الشبهة أن ينكحها بعد التخلي من العدة.
هذا هو المذهب، وعليه التعويل.
وللشافعي قول في القديم: أن المنكوحة على الفساد في العدة محرّمة على الناكح أبداً. واعتمد في هذا قضاء عمر. ومعظم أقواله القديمة تخالف الأقيسةَ الجلية، وتستند إلى أقضيةٍ وآثارٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُمسك [بطرفٍ] (1) من المعنى الكلي. وقال: من نكح معتدة فقد تعجل الاستحلال قبل أوانه، فعوقب بالحرمان والتحريم المؤبد، كما يعاقب قاتل موروثه بحرمان ميراثه أبداً.
ثم سبب الشافعي بشيء لا بد من التنبه له، فقال: " الناكح في العدة منتسب إلى إفساد النسب وخلط المياه لإقدامه على النكاح قبل الاستبراء "؛ فقال العراقيون: هذا الذي ذكره يوجب أن من وطىء زوجة الغير بشبهة؛ فإنها تحرم عليه على الأبد؛ فإن النكاح في العدة وهي تابعةُ النكاح الصحيح وعُلقته إذا كان توجب تحريم الأبد، فالوطء في النكاح لأن يوجب ذلك أولى.
وفحوى كلام الأئمة في التفريع يدل على أن من زنى بمعتدة أو منكوحة، لم يكن زناه سبباً لتحريمها؛ من جهة أن الزنا لا يتضمن اختلاط النسب؛ إذ لا نسب لزانٍ، ولا ينتسب إلى الزاني ولدٌ، وفيه جواب: إن من نكح أجنبية خلية عن النكاح والعدة نكاح شبهة، فلا تحرم عليه ولا يجري القول القديم فيه، وإنما يجري ذلك القول في الواطىء في نكاحٍ أو عدة مترتبة على النكاح، ولا يمتنع عندنا جريان هذا القول في عدة الشبهة؛ فإن نكاح الشبهة فراش يترتب عليه النسب، كما يترتب على النكاح الصحيح.
__________
(1) في الأصل: يطوف.(15/283)
وبالجملة لا أصل للقول القديم، وهو مرجوع عنه، ولولا إقامة الرسم ومحاولة نقل ما بلغني، لما كنت أعد الأقوال القديمة مذهباً للشافعي.
وقد يعترض من طريق المعنى أن الزنا يفسد النسب من قِبل أن الزوج إذا تحقق الزنا بزوجته تسلّط على قذفها ونَفَى ولدَها باللعان، ولكن قطع الأصحاب بأن الزنا لا يحرّم المزني بها على الزاني، وقد صح عندنا من مذهب بعض السلف أن المزنية محرّمة على الأبد على الزاني، وهذا فيما أظن رواية عن مالك (1) ، والعلم عند الله.
فرع:
9919- إذا وطىء الرجل حرةً حسبها مملوكته، فوطئها على هذا الظن، فعليها أن تعتد عدة كاملة: ثلاثة أقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، أو ثلاثة أشهر، ولا نظر إلى تفصيل ظن الواطىء، والاعتدادُ بكمالها في نفسها. والحرةُ إذا أَخذت في الاعتداد أكملت العدة.
ولو وطىء أمةً وحسبها حرة: مثل أن يقدِّرها منكوحته الحرة، فإذا بأن أنها أمة، ففيما تستقبله من العدة وجهان: أحدهما - أنها تعتد بقرأين نظراً إليها وأقصى عدة الأمة قرءان إذا كانت حائلاً.
والوجه الثاني - أنه يجب عليها عدة كاملة ثلاثة أقراء نظراً إلى ظن الواطىء، ويجوز أن يعتبر ظنه؛ إذ عليه تثبت حرية الولد إذا وطىء أمة الغير ظاناً أنها زوجته الحرة فنحكم بأن الولد تعلق حراً، اعتباراً بظنه، وإن كان مقتضى القياس أن يتبع الولدُ الأمّ في الرق والحرية، ولذلك أوقفنا ولد الحر من زوجته الأمة.
9920- ثم عقد الشافعي باباً مضمونه شيئان: أحدهما - أن الرجعية إذا مات عنها
__________
(1) لم نصل إلى هذه الرواية عن مالك، والمعروف من مذهبه كراهة التزوج بالزانية وجواز ذلك بعد الاستبراء. أما القول بتأبيد تحريم الزانية على الزاني فقد نسبه القاضي عبد الوهاب في (عيون المجالس) للحسن البصري. (ر. المدونة: 2/187، عيون المجالس: 3/1074 مسألة 760. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/701 مسألة 1256، 1257. الكافي لابن عبد البر: 244. القوانين الفقهية: 212. الشرح الصغير: 2/349، حاشية الدسوقي: 2/220) .(15/284)
الزوج تنتقل إلى عدة الوفاة بخلاف [البائنة] (1) ، لأن الرجعية في معنى الزوجات يلحقها الطلاق، والإيلاء والظهار، ويجري التوارث بينهما (2) والبائنة أجنبية لكنها مستبرأة عن النكاح.
والمقصود الثاني - أن الرجعية إذا ارتجعها الزوج ثم طلقها من غير مسيس بعد الرجعة، فإنها تستأنف العدة أم تبني على ما كان منها؟ فيه قولان قدمنا ذكرهما، وكذلك إذا طلق الرجعية في العدة، وأتبع الطلاق الطلاق، ففيه ترتيب مضى وتفريعات بالغة لا نعيد منها شيئاًً. وهذا مضمون الباب.
***
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(2) عبارة الأصل فيها كلمة غير مقروءة وأخرى مقحمة، هكذا: " ويجري التوارث بينهما [ ... الزوج] ، والبائنة أجنبية ".(15/285)
باب عدة المفقود وغيره
9921- إذا غاب الرجل عن امرأته ولم ينقطع أثره، ولم يخفَ خبره، وطالت مدة الغيبة، فالنكاح قائم، والمرأة محبوسة في حِبالة الغائب، إلا أن يُفرضَ إعسارٌ بالنفقة، وذلك يأتي في كتاب النفقات، إن شاء الله.
هذا قولنا وإن تضررت بسبب الغيبة؛ وهذا بمثابة ما لو انقطع الزوج عن زوجته في الحضر، واكتفى عنها بالجواري والسُّرِّيات، فليس لها إلا الاستمرار على النكاح.
9922- وإن انقطع الخبر وخفي الأثر، وكان لا يُعلم حياتُه ومماته، فهذا موضع القولين الجديد والقديم، على ما سنذكرهما الآن، ونتأنق أولاً في التصوير، ونقول:
إن خفي الأثر، وانقطع الخبر، انقطاعاً يُشعر مثله بالموت، ويغلب على الظن؛ من جهة أن الحي تنتشر أخباره وينقلها الواردون والوافدون، وفي مثل هذه الصورة نُجري القولين في أنه هل تجب فطرةُ العبد الغائب على هذا الوجه؟ ولو أُعتق عن الكفارة هل نقضي ببراءة الذمة؟ فإن كان انقطاع الخبر على هذا الوجه، فهذا موضع جريان القولين.
وإن انقطع الخبر وأمكن حمله على تنائي الديار، وانتهاء الرجل في الإبعاد في الأسفار إلى مكان لا يتواصل الرفاق من [مثله غالباً] (1) ، فالانقطاع على هذا الوجه لا يُغَلِّب على الظن الموتَ، وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في أن القول القديم هل يجري في مثل هذه الصورة؟ ظاهر الكلام أنه يجري مع احتمالٍ وتردّدٍ.
__________
(1) عبارة الأصل: وانتهاء الرجل في الإبعاد في الأسفار إلى مكان لا يتواصل الرفاق من فالانقطاع. والمثبت من تصرف المحقق.(15/286)
هذا [كلامنا في] (1) تصوير محل القولين.
9923- ونبتدىء بعد ذلك ذكرَ القولين: قال في القديم: تتربص بعد انقطاع الأخبار أربعَ سنين، ثم تعتد بعدها عدة الوفاة أربعةَ أشهر وعشراً، ثم تنكِح إن شاءت.
قال الشافعي: قلدت فيه عمرَ بنَ الخطاب (2) ، وفيه طرف من المعنى وهو أن الضِّرار إذا عظم مدفوعٌ، وقد نفسخ النكاح بالعجز عن الإنفاق والاستمتاع وغيرهما مع تعرضهما للزوال، فإذا جاز الفسخ بهذا الضرر اليسير، فلأن يصح بالضرار المتفاحش فيما نحن فيه أولى.
وقال الشافعي في الجديد: تصبر حتى يأتيَها يقينُ طلاقه أو وفاتِه، وعنى باليقين أن يثبت سبب الفراق بطريق من الطرق الشرعية وبيّنةٍ من البينات، ثم تتوقف إن استبهم الأمر ما عُمّرت، وبقيت، وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "امرأة المفقود امرأته ما لم يأتها يقين طلاقه أو وفاته" (3) . وعن علي رضي الله عنه أنه قال: " امرأة المفقود لا تتزوج " (4) ، ولا عبرة بالصور، فإنه لو تحقق انتقاله إلى قُطرٍ والأخبار متواصلة، فالضرار محقق [ولا] (5) يثبت حق الفسخ.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه رجع عن قوله القديم، وغلّط (6) من يعتقد بالقول القديم، وصار إلى أنه لو قضى به قاضٍ نقضت قضاءه.
وهذا المسلك يجري في معظم الأقوال الجديدة بالإضافة إلى القديمة؛ من قِبل أن
__________
(1) في الأصل: كلام منافي.
(2) انظر الروايات عن عمر رضي الله عنه في الموطأ: 2/575، السنن الكبرى: 7/445، كنز العمال: 9/695- 699.
(3) حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه رواه الدارقطني (3/312) ، والبيهقى (7/445) .
قال الحافظ: وإسناده ضعيف (ر. التلخيص: 3/466 ح 1802) .
(4) أثر علي رضي الله عنه. رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/63 ح 207) والبيهقي في الكبرى: 7/445، والمعرفة: 6/72. وانظر التلخيص: 3/473 ح 1812.
(5) في الأصل: فلا.
(6) في الأصل: وغلط على من يعتقد بالقول القديم.(15/287)
التعويل في [نقض] (1) القضاء على مصادفة قضاء القاضي سبباً معلوم بطلانه، وكذلك يجري الجديد مع القديم، فإنه بنى أقواله القديمة على اتباع الأثر، وتَرْكِ القياس الجلي، وتحقق عنده في الجديد أن ذلك باطل، فبنى نقضَ القضاء على معتقد إصرارٍ مقطوع به.
قال أبو حنيفة (2) : يلزمها أن تمكث حتى يستكمل الزوج مائة وعشرين سنة، ثم تنكِح؛ لأن هذا أقصى سن الآدميين في زماننا فيما بلغنا. وهذا الذي ذكره مخالفٌ للقياس والسنة.
9924- فإن فرعنا على القول القديم، فأول ما يقع البداية به أن الأربع سنين هل يضربها القاضي أم كيف السبيل فيها؟ أما مدة الإيلاء، فمن وقت الإيلاء، من غير حاجة إلى الضرب من جهة القاضي، وكذلك المدد المرعية في ضرب العقل على العاقلة يعتبر ابتداؤها من وقت الجناية، كما سيأتي، إن شاء الله.
ومدةُ العُنّة لا بد من استنادها إلى ضرب القاضي.
وإذا قلنا في التي تباعدت حيضتها: تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد، فلا حاجة إلى ضرب القاضي، وهذه المدّة التي نحن فيها مما ظهر فيه اختلاف الأصحاب أخذاً من فحوى كلامهم: فقال قائلون: لا بد من رفع الحكم إلى الحاكم لينظر ويرى رأيه، ثم نبتدىء ضربَ المدة، وهي أربعُ سنين.
وقال قائلون: تمضي هذه المدة من غير ضربٍ من جهة القاضي.
وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في أنا إذا أثبتنا حق الفسخ بسبب الإعسار بالنفقة، فهل [تنفرد] (3) المرأة بالفسخ إذا تحقق الإعسار، أم القاضي يتولى ذلك؟ فيه اختلاف سيأتي مشروحاً.
ووجه قُرب ما نحن فيه من الإعسار أن الإحاطةَ بانقطاع الأخبار لا بد
__________
(1) في الأصل: بعض.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 405، المبسوط: 11/35، مجمع الأنهر: 1/714.
(3) في الأصل: تتضرر.(15/288)
[فيها] (1) من اجتهاد وبحثٍ، وكذلك القول في الإعسار؛ فإنه إنما يُتوصّل (2) إليه إذا طُلب للزوج مال، فلم يوجد، فاستوى الأصلان فيما نحن فيه.
ثم إذا ضُربَ المدةُ بعد ما قررناه [ومضت] (3) ، واعتدت أربعةَ أشهر وعشراً، فلا يثبت موت ذلك الغائب إلا في هذه القضية، فلا يقسّم ورثتُه مالَه، ولا يقع الحكم بعتق مدبّريه وأمهاتِ أولاده.
والذي اختاره القاضي أنه لا بد من حكم الحاكم في ضرب المدة، كمدة العُنَّة.
9925- وإذا أردنا أن نوجز كلاماً على المدد، قلنا: مدة الإيلاء تستند إلى أمرٍ مقطوع به، وكذلك مدة ضرب العقل على العاقلة، ومدة العُنَّة مستندها دعاوى، وفرضُ إنكارٍ أو إقرار، والدعاوى لا تصح إلا في مجلس الحكم، وهذه المدة التي نحن فيها مستندها اجتهاد من غير حاجة إلى دعوى لما ذكرناه في الإعسار.
9926- ثم تمام التفريع على القول القديم أنها إذا تربصت في السنين، ثم اعتدت أربعة أشهر وعشراً، ونكحت، فعاد الزوج الأول، فكيف الوجه؟ فنقول: إن لم تنكِح، فالزوج العائد أحق بها، والزوجية قائمة.
وإن كانت قد نكحت، فالزوج الأول العائد بالخيار بين أن ينتزعَها من الزوج الثاني، ويغرَم له مهرَ مثلها. قال القاضي: هكذا حكى الشيخُ تفريعَ هذا القول، وهو مذهب عمر.
وقد تأملت طرق الأصحاب في التفريع على القول القديم وألفَيْتُها على نهاية الاضطراب، وأنا أذكر جميع الطرق على وجوهها، ثم أسلط المباحثة عليها.
فالذي حكاه القاضي في التفريع أن الزوج الأول إذا عاد، فالخيار إليه؛ فإن أقر الزوجةَ تحت الزوج الثاني، غرّمه مهرَ مثل الزوجة، واستمر نكاح الزوج الثاني.
وإن أراد ردَّ الزوجةَ إلى نفسه، ثم الزوج الثاني يُغرّم الزوجَ الأولَ مهرَ مثل الزوجة.
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) في الأصل: يتواصل.
(3) زيادة من المحقق.(15/289)
وهذا على نهاية الميل عن القياس والقواعد.
وكان شيخنا والصيدلاني يحكيان هذا القولَ على نسقٍ آخر، وما [ذَكَرا فيه] (1) أمثل، قالا: إذا عاد الزوج الأول، فنقول: له الخيار، فإن اختار ردَّ الزوجةَ إليه، رددناها إليه، وقلنا: قد بان لنا أن النكاح في حقك لم يرتفع قط، والنكاح الثاني لم ينعقد أصلاً.
وإن اخترتَ تركها على ما هي عليه، فنتبين أن النكاح في حق الثاني قد صح.
ثم لا يثبت للزوج الأول العائد الخيارُ إلا مرةً واحدة، فإن استردها لم يغرَم للزوج الثاني شيئاً، وإن اختار تَرْكَها فعلى الزوج الثاني أن يغرَم للزوج الأول مهرَ مثل زوجته؛ فإنه قد فوّت على الزوج الأول النكاح فيها، فأشبه ذلك التزام المرضعةِ مهرَ المثل.
9927- وحاصل هذا القول يرجع إلى أن أصل القول القديم مبني على دفع الضرار، ثم ليس الأمر مقطوعاً به؛ فإن النفقة دارّةٌ، وحقوق النكاح قائمةٌ، ولا ضرار: [إلا من جهة] (2) الانقطاع عن الاستمتاع، فلم ينفذ ارتفاع النكاح ظاهراً وباطناً، فإذا عاد الزوج فيعظم الأمر لو قلنا: ليس له استردادُ زوجته، [ولو ألزمناه] (3) الاستردادَ وقد نكحت زوجته وولدت، لعظم وقع هذا، فجرى التفريع مردَّداً ناشئاً من وقف العقود. ولكن نجَّزنا الإحلالَ للزوج الثاني، وهذا غريب على قانون الوقف، ولكنا تبينا تنجيز الإحلال على غلبة الظن في الموت، ثم انعطفنا آخراً على أصل الوقف. هذا مأخذ التفريع.
ثم قلنا: إن أقر الأولُ الزوجةَ تحت الثاني، فقد بأن أن الثاني أفسدَ نكاح الأول وقَطَعه، فغرِم المهرَ، فأما إذا اختار استردادَ الزوجةِ، فتغريم الثاني الأولَ المهرَ
__________
(1) في الأصل: " وما ذكر في " والمثبت من المحقق.
(2) في الأصل: لا من جهة ...
(3) في الأصل: وألزمناه.(15/290)
بعيدٌ، ولم يُفسد الأولُ على الثاني شيئاً، ولكنه خيّب ظنَّه والظن يخطىء ويصيب.
فافترق ما حكاه القاضي، وما حكيناه في المهر؛ فإن القاضي حكى التغريم من الجانبين، ونحن أثبتناه من أحدهما، وهو أقرب، ووجه ما حكاه القاضي مذهب عمر إن صح هذا التفصيل منه.
9928- وذكر بعض المصنفين مسلكاً آخر بدعاً نأتي به على وجهه، فقال: إذا رجع الزوج الأول، [فلا] (1) خلاف أن نكاحه مفسوخ، ولا سبيل إلى استرداد الزوجة بحكم النكاح الأول، أما النكاح الثاني، ففيه وجهان: أحدهما - أن الخيار فيه إلى الزوج الأول، فإن فسخ نكاح الثاني انفسخ، وإن أَمَرَّه ولم يفسخه، بقي ولم يرتفع، ثم قال: إذا فسخه يغرَم الأولُ للثاني عند فسخه مهرَ مثل الزوجة.
هذا أحد الوجهين -فيما زعم-.
والوجه الثاني - أنه كما (2) ظهر الأول، انفسخ نكاح الثاني بنفس ظهوره، وقد انفسخ نكاح الأول، كما قدمناه.
وهذا الذي ذكره هذا الرجل يخالف ما ذكره جميعُ الأصحاب، وما أراه إلا غلطاً محضاً؛ فإنه قطع بانفساخ نكاح الأول، ثم قال في [وجهه] (3) الأول: إذا عاد، [له] (4) حق فسخ النكاح، وهو لا يستفيد بفسخ نكاحه شيئاًً إلا أن يجدد النكاح عليها إن رضيت، ولا نظير لهذا النوع من الفسخ.
فهذا نقل هذه الطريقة.
9929- وأما العراقيون، فإنهم ذكروا مسلكاً آخر، وأتَوْا مما يقرب بعضَ القرب، فقالوا: إذا تربصت أربع سنين، ثم اعتدت عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشراً، وسلَّطْناها على النكاح، وأظهرنا القضاءَ بالفراق، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها -
__________
(1) في الأصل: " ولا ".
(2) كما: أي عندما.
(3) في الأصل: في وجه.
(4) زيادة من المحقق.(15/291)
أن الفراق يقع عن الأول ظاهراً وباطناً، فعلى هذا لو عاد الأول، فتبقى الزوجة منكوحة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار لأحد، ولا تَراجُعَ ولا تغريمَ بوجهٍ من الوجوه، والفراق الواقع بهذا السبب بمثابة الفراق الواقع بالإعسار بالنفقة أو غيره من الأسباب.
والوجه الثاني - أن الفراق الذي قضينا به ظاهرٌ، ولا نحكم بنفوذه باطناً على الغيب، وفائدة ذلك أن الزوج الأول لو عاد، فهي زوجة الأول، ولا خيار: لا للأول ولا للثاني، بل هي زوجةُ الأول قطعاً، والذي جرى من الثاني وطء شبهة في نكاح الغير.
والوجه الثالث - أن الزوج الأول إذا عاد بعد ما قضينا بالفراق وتزوجت، فلا ننقضُ ما قضينا به، وهي زوجة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار ولا تغريم.
وإن عاد الأول، وسلطنا المرأة على أن تتزوج لكنها لم تتزوج، فهي مردودة إلى الأول حتماً، ولا خيار.
وهذا القائل يجعل عَوْد الزوج الأول بمثابة وجود الماء في حق المتيمم، ويجعل النكاح بمنزلة الشروع في الصلاة، ولو وجد المتيمم الماءَ قبل الشروع في الصلاة، بطل التيمم، ولو شرع في الصلاة ثم وجد [الماء] (1) ، لم يكن له حكم، فالحكم بالفراق بعد التزوج مبتوتٌ ظاهراً وباطناً، وهو [قبل] (2) التزوّج على التردد.
ثم لم يُثبتوا الخيارَ ولا الرجوعَ بالمهر في شيء من هذه الأوجه، بل صرحوا ببطلان الخيار والرجوعِ إلى الغرم، ثم زادوا على ذلك، فذكروا مذهبَ عمرَ في القول القديم، على ما ذكرناه في طريقة شيخنا والصيدلاني، ثم قالوا: هذا مذهب عمر والشافعي قال بأصل مذهبه، ولم يوافقه في التفريع.
9930- هذا بيان طرق الأصحاب، وإن استقام شيء [منها] (3) فلا يستقيم إلا
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: مثل. وهو تصحيف (على قربه) أرهقنا كل الإرهاق، حتى ألهمنا الله صوابه.
(3) في الأصل: عنها.(15/292)
طريقةُ العراقيين، وهم أثبت النقلة نقلاً وأصحهم حكاية؛ فإن مذهب عمر في الأصل قد يعتضد بوجه من الرأي، وهو دفع الضرار، ونحن قد [نرفع] (1) النكاح بالشقاق الدائم على أحد القولين إذا اعتاص علينا فصل الخصومة، فليس ذلك بدعاً.
ثم الحد الذي يجب أن ننتهي إليه في عود الزوج ما ذكره العراقيون، ومجاوزتُه إبعاد نُجعة عن أصول الشريعة.
وأنا أضرب في ذلك مثلاً، وأقول: حديث المصراة والمحفّلة متفق على صحته، وأصل الخيار غيرُ بعيدٍ عن القياس، ومضمون الحديث في [إثبات مقابلة] (2) صاعٍ من التمر في مقابلة اللبن، وفيه بُعدٌ عن القياس، والأصحُّ ثَمَّ اتباعُ الخبر في الأصل والتفصيل؛ فإن الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما وافق من قضاء عمر وجهاً من النظر، لم يبعد التمسك به.
فأما [ما بَعُدَ] (3) بعداً عظيماً، فلا سبيل إلى التزامه؛ فإن الخوض فيه يدعو إلى قياسٍ آخر لا عهد به في الشريعة.
9931- ومما يتم به التفريع أن الفسخ الذي جرى القضاء به، وترتب عليه إقدامها على النكاح، هو ارتفاع النكاح أصلاً أو إنشاءُ فسخ؟ وجدتُ كلام الأصحاب متردداً في هذا من غير تصريح بنفيٍ ولا إثبات، وهو لعمري محتملٌ، يجوز أن يقال: يرتفع النكاح، ويُشعر بذلك أمرُنا إياها بعدّة الوفاة؛ فإن هذه العدة لا تليق بفسخِ يُنشأ وفراقٍ يقطع النكاحَ. هذا وجهٌ.
ويجوز أن يقالَ: لابد من فسخٍ؛ فإنا لا نعرف خلافاً في أنها لو رضيت وصابرت، لاستمرت على ظاهر النكاح.
ثم إذا أثبتنا إنشاء الفسخ، تردد الرأيُ في أنها تُنشئه أم القاضي على حسب التردد في الفسخ بالإعسار، كما سيأتي، إن شاء ألله تعالى؟
ثم إن حكمنا بارتفاع النكاح، فهو بعد أربع سنين ليستعقب عدةَ الوفاة، وإن
__________
(1) في الأصل: يرتفع.
(2) في الأصل: في مقابلة إثبات ...
(3) في الأصل: يعدّ.(15/293)
حكمنا بأنه لا بد من إنشاء الفسخ، ففي النفس تردد، ولعل الأشبه أنه يقع بعد الأربع سنين والعلم عند الله.
9932- ثم قال العراقيون: إذا فرعنا على القول القديم؛ وشرعت المرأة في التربص أربعَ سنين، فلها طلب النفقة من مال الزوج الأول في السنين الأربع، وهذا تصريح منهم بأن الحكم بارتفاع النكاح بعد ذلك، فإذا استفتحت التربّص أربعة أشهر وعشراً، فليس لها طلبُ النفقة، وإن بأن لنا أنها كانت حاملاً، لأنها تربصت على نيّة عدة الوفاة، والمعتدة عدة الوفاة لا تستحق النفقة.
وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا بنفوذ الفراق ظاهراً وباطناً. وإن قلنا: الفراق لا ينفذ باطناً عند عود الزوج الأول، فإذا عاد، فقد بأن أنها كانت زوجة، فيحتمل ما قالوه من سقوط النفقة؛ فإنها كانت على اعتقاد الاعتداد، وهذا لا ينحط عن النشوز، ويحتمل أن تستحق النفقةَ إذا عاد الزوج الأول، فإنها لم تُحدث شيئاًً، وإنما أضمرت عقداً مجرداً والعقد المجرد لا يكون نشوزاً مخالفةً، كما لو أضمرت أن تبرح ووطّنت النفسَ عليه، ولكن منعها من إيقاع ما اعتقدته مانع، فلا تكون ناشزة بمجرد النية.
وللأول أن ينفصل (1) ويقول: ليس الاعتداد إلا تربصاً في مسكن النكاح، وقد وُجد هذا مع انضمام القصد إليه، وإضمار التبرج (2) عزم متعلق بأمرٍ موعود غيرِ موجود.
هذا تمام التفريع على القول القديم.
9933- فأما إذا فرعنا على القول الجديد، فحكمنا عليها أن تصابر النكاحَ إلى ثبوت يقينِ الموتِ، أو الفراقِ، فإن نكحت، [فالنكاح] (3) فاسد، قال الشافعي: قضاء القاضي به منقوض، وقد بيّنا وجه ذلك.
__________
(1) " وللأول أن ينفصل ": الانفصالُ هنا (من مصطلحات الجدل) ومعناه ردّ حجة الخصم ودفع ما أورده عليه من إشكالات، والمعنى هنا أن لناصر القول أو الوجه الأول أن يقول: ليس الاعتداد إلا تربصاً ...
(2) التبرج: المراد هنا النشوز الذي فيه الكلام.
(3) في الأصل: والنكاح.(15/294)
ثم قال الأصحاب: إذا نكحت، صارت ناشزة على الزوج، وسقطت نفقتها، وهذا الذي ذكره الأصحاب بيّنٌ إذا برزت عن مسكن النكاح.
فأما إذا جرى النكاح، ومضت أيام قبل اتفاق الزفاف وجريانِ الخروج من مسكن النكاح، فظاهر كلام الأصحاب أنها تكون ناشزة، وقد يتطرق إلى نظر الفقيه في هذا احتمالٌ، كما قدمته في التفريع على القول القديم عند خوضها في عدة الوفاة وتجريدها القصدَ إليها.
وسقوطُ النفقة بالنكاح المجرد تفريعاً على الجديد أَوْجَه؛ إذ قد صار إلى تصحيح هذا النكاح عمرُ بنُ الخطاب، ثم طوائفُ من العلماء بعده، والنكاح أمرٌ أنشىء وظهر، وليس كالتربص على قصد الاعتداد.
فهذا ما أردناه نقلاً وتنبيهاً.
فلو فُرِّق بينها وبين الزوج الثاني، وعادت إلى ملازمة حكم الزوج الأول، فهل تعود نفقتُها قبل أن يبلغ الخبر زوجَها الأول، فعلى قولين سيأتي ذكرهما في كتاب النفقات -إن شاء الله- في كل نشوز يجري في غيبة الزوج، ثم يفرض تركه والعَوْدُ إلى الطاعة قبل بلوغ الخبر، إن شاء الله.
9934- ثم قال الأصحاب: إذا نكحت والتفريعُ على الجديد، فأتت عن الزوج الثاني بولد، فالكلام في إلحاقه بالأول أو بالثاني وفي تردده بينهما على حسب ما تقدم الرمز إليه فيما سبق، واستقصاؤه في باب القائف، إن شاء الله.
ثم الزوج الأول يعود، ونكاحه قائم، ويحال بين الزوجة والزوج الثاني، غيرَ أنها تعتد عن الزوج الثاني في صلب نكاح الأول عدةَ الشبهة، وفي ابتدائها القولان المقدمان: أحدهما - أنها من آخر وطأة. والثاني - أنها من وقت الافتراق.
ولو كانت أتت بولد، فلحق بالثاني، وكان يحتاج إلى اللِّبأ (1) ، الذي لا يعيش الرُّضَّع إلا به، فلا بد من تمكينها من ذلك، وإن لم نجد مرضعاً ذاتَ لبنٍ غيرَها، وكان الولد لو فطم، لهلك وضاع، فلا مَحال بينه وبينها، ثم نفقتُها ساقطةٌ في مدة
__________
(1) اللِّبأ: وزان عنب أول اللبن عند الولادة.(15/295)
اشتغالها بالرضاع إن كان يتعذّر استمتاع الزوج، فنفقتها تُدَرُّ عليها، وسيأتي تقرير هذا الأصل في كتاب الرضاع، إن شاء الله.
ولو أذن الزوج الأول للزّوجة في الإرضاع الذي يتعذر بمثله الاستمتاع، فإن لم يكن الإرضاع واجباً عليها، وكنا نجد مرضعةً سواها، فإذنُ الزوج الأول في الإرضاع بمثابة ما لو أذن لها في أن تسافر في شُغل نفسها، وقد اختلف القول في أنها لو سافرت بإذن زوجها في شُغل نفسها، فهل تسقط نفقتها؟
وإن كان إرضاعُها حتماً، وكان في ترك الإرضاع ما يؤدِّي إلى ضَياع المولود، فإذا أذن الزوج، فهذا فيه تردُّدٌ عندنا: يجوز أن يقال: لا حكم لإذنه؛ فإن الإرضاع مستحَقٌ، وإذا أسقطنا أثر إذنه، ففائدتُه سقوط النفقة قطعاًً؛ فإن الإرضاع وإن كان واجباً، فهي التي تسببت إلى ذلك، وجرّت إلى نفسها الإرضاع.
ويجوز أن يقال: إذا أذن لها في الإرضاع -وإن كان واجباً- فالمسألة تُخرّج على القولين المذكورين فيه إذا سافرت بإذن زوجها في شغل نفسها.
ولو أذن السيد لعبده في الإحرام بالحج، لم يمكن تحليله، وأبو حنيفة يقول: له أن يحلله؛ فإن إذنه في الإحرام لغوٌ، مع تصور الإحرام منه، وتلك المسألة تنفصل عما نحن فيه؛ فإن الشافعيَّ حمل الإذن في الإحرام على استدامته، وليس يتحقق مثلُ هذا فيما نحن فيه، فإن ابتداء الإرضاع وإدامتَه جميعاً واجبان في الصورة التي ذكرناها.
وقد يتصل بالتفريع على القول الجديد ما أشار إليه المزني، وهو أن الزوج في الغيبة لو مات، وتبين فساد النكاح الثاني، فيجتمع عليها عدة الوفاة، وعدة الوطء بالشبهة.
وقد تمهد القول في أن العدتين لا تتداخلان، وذكرنا الفرق بين أن يتقدم موجَب العدة من جهة الزوج وبين أن يتأخر، ولا حاجة بنا إلى إعادة تلك الفصول.
***(15/296)
"باب استبراء أم الولد من كتابين" (1)
9935- الأصل في الاستبراء ووجوبِه السنةُ والإجماعُ، فأما السنة، فما روي أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سبي أَوْطاس: " ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائِلٌ حتى تحيض " (2) وأجمع المسلمون على أصل الاستبراء، وإن اختلفوا في التفاصيل، ثم التربص الواجب ينقسم في أصل الوضع إلى ما يجب بعد المسيس عند زوال النكاح، وإلى ما يجب في ملك اليمين.
ثم ما يجب على أثر النكاح يُسمّى عِدّة لتعلقه بعَددٍ من الأطهار أو الحيض على اختلاف العلماء.
والذي يجب بسبب ملك اليمين يسمى استبراءً، ومعنى الاستبراء يشمل النوعين، ولكن شُهر ما يتعلق بملك اليمين بلقب الاستبراء، وما يتعلق بحرمة النكاح بلقب العدة.
أما ما يتعلق بالعدة، فقد سبق استقصاؤه.
9936- وهذا أوان استفتاح القول في الاستبراء، وفي هذا الأصل ركنان: أحدهما - يشتمل على تفصيل القول في الاستبراء عند زوال الملك.
والثاني - ينطوي على تفصيل الاستبراء عند جلب الملك، وقد عقد الشافعي في كل ركن باباً وبدأ بباب الاستبراء عند زوال الملك.
__________
(1) هذا العنوان بهذا النص في (المختصر) وهو بتمامه:
(باب استبراء أم الولد) : من كتابين. امرأة المفقود وعدتها إذا نكحت غيره وغير ذلك ... الخ (ر. المختصر: 5/43) .
(2) حديث: "ألا لا توطأ حامل حتى تضع ... " الحديث. رواه أحمد 4/173، وأبو داود: النكاح، باب في وطء السبايا، ح 2157، والدارقطني: 3/257، والبيهقي في الكبرى: 7/449.(15/297)
فإذا أعتق الرجل أم ولده أو مات عنها، فعَتَقت بموته، فعليها الاستبراء بقرء واحد، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، فإنه أوجب عليها أن تتربص ثلاثَ حيض، ونظر إلى كمالها بالحرية مع أول جزء من الاستبراء، ومعتمدُنا أن الزائل عنها ملك يمين، والتعويلُ في إيجاب العدة ذات العَدَد على زوال النكاح، وهذا ما قررناه في (الأساليب) (2) ومجموعات الخلاف.
ثم الذي نذكره قبل الخوض في مقصود الباب أن القرء الواحد الذي أطلقناه في الاستبراء في هذا الباب الذي مضمونه زوال الملك، والقرء الواحد الذي سيأتي اعتباره في الباب الثاني، وهو جلب الملك طهرٌ أم حيض؟ ذكر الأئمة قولين وقالوا: أصحهما والجديد منهما - أنه حيض واحدٌ.
والقول الثاني - أنه طهرٌ.
توجيه القولين: من قال: إنه طهر، قاس على القرء المعتبر في العدة؛ إذ لا فرق بين البابين إلا في الاتحاد والتعدد، وقد بان أن الأقراء المعتبرة في العِدد هي الأطهار، فليكن الاستبراء واحداً منها، ولعل هذا يترجح في الاستبراء بشيءٍ، وهو أن التعبد في الاستبراء أغلب، ولهذا يجب الاستبراء على من اشترى جاريةً من امرأة، أو من ملكِ صبيٍّ لا يطأ مثلُه، فإذا غلب التعبدُ على الباب، لزم قطعُ النظر عن اعتبار ما هو علامة براءة الرحم.
ومَنْ قال بالقول الثاني، احتج بظاهر الخبر المنقول في سبي هوازن، واحتج أيضاًً بأن قال: إذا اتحد المعتَبر هاهنا وقد تمس الحاجة إلى تبرئة الرحم عن شغل سبق،
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/406 مسألة 912، رؤوس المسائل: 442 مسألة 312، اللباب: 3/82.
(2) (الأساليب) أحد كتب الإمام في الخلاف. وأما مجموعات الخلاف، فهي كتبه في (علم الخلاف) وله في هذا المجال.
1- الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية.
2- العمد.
3- غنية المسترشدين. ولم يصلنا من هذه الأربعة إلا الدرّة المضية.(15/298)
فيجب أن يكون ذلك الواحدُ المعتبر علامةً دالة على براءة الرحم، وليس كذلك الأطهار في العِدد؛ فإنها تقع محتوِشَة بالدماء، فيحصل تربصُها في الزمان الذي كان [تحل فيه] (1) لزوجها، وهو الطهر، ويحصل معه دلالاتٌ من براءة الرحم، وهذا المعنى لا يتحقق والقرء المعتبر واحد، فيجب تغليب ما يدل على براءة الرحم.
وأيضاًً فإن النكاح [يُجَدّد] (2) بعد العدة، فانقضاؤها يفيد حِلَّ النكاح، فلا يضرّ أن تنقضي العدة بالطعن في الحيض؛ فإن الحيض لا ينافي صحة النكاح، وأما الاستبراء في الملك، فإنما يُعنى لاستعقابه حلَّ الوطء، فلو جعلنا الاستبراءَ بالطهر، لما حلت بالحيض.
هذا توجيه القولين.
التفريع:
9937- إن حكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فلا خلاف أن بعض الحيض لا يقع الاكتفاء به، ولو دخلت وقتَ الاستبراء، وهي في بقية من الحيض، فلتطهر، ثم لتحض حيضة كاملة، وهذه الحيضة هي المحسوبة استبراء، ثم إذا طهرت من الحيضة الثانية، فاستبراؤها الحيضةُ الثانية، [وما تقدمها من طهرٍ غيرُ معتد به] (3) ، وإن كانت محرمةً فيه، إذا فرعنا على الأصح الأظهر، وهو أن الاستبراء بالحيض.
فأما إذا قلنا: الاستبراءُ بالطهر، فنذكر صورتين، ونأتي فيهما باضطراب الأصحاب: الصورة الأولى - إذا صادفها العتق في الجزء الأخير من الحيض، وتربصت للاستبراء طهراً كاملاً، وطعنت في الحيض، فهل نقول: كما (4) طعنت قضينا بأنها تحل، إذا فرعنا على أن الاستبراء طهر؟
ظاهر كلام المشايخ في التفريع على هذا القول أنها لا تحل ما لم تمض الحيضةُ، حتى يحصل دليلُ براءة الرحم؛ فإنا أقمنا الأطهار في العدد أقراءً معتداً بها بجريان
__________
(1) في الأصل: تحبل منه.
(2) في الأصل: يجد.
(3) في الأصل: وما تقدم غير معتد، وإن كانت محرمة فيه.
(4) بمعنى عندما طعنت.(15/299)
حيضتين أو حِيَض دالّة على البراءة، فيجري الطهر الواحد معتداً به بشرط أن ينضم إليه حيض كامل.
وهذا وإن كان مشهوراً -ذكره الشيخ أبو علي [أنه] (1) المذهب- فيحتمل أن يكون الطعن في الحيض يخرجها عن الاستبراء، وهذا هو القياس، على القول الذي نفرع عليه.
ولست فيه على ذِكر احتمالٍ مجرد، بل في كلام الأصحاب ما يدل عليه؛ فإنّ الحيضة [إن كانت] (2) هي المعتبرة، فهذا تفريعٌ على أن الاستبراء بالحيض، وإن كان المعتبر الطهر، فيجب الاكتفاء بالطعن في الحيض، لاستبانة انقضاء الطهر، ومحال أن يقع آخرُ التربص معدوداً من التربص. نعم، قد يقع هذا في الأول من حيث أنا ننتظر بعده ما تعتد به.
ويتجه على هذا تردُّدٌ في أن الطعن في الحيض باللحظة الواحدة هل يكفي، أم لا بد من مُضي أقل الحيض استظهاراً، ليُعلَم أن ما رأته ليس دمَ فساد، وهذا قد قدمنا له في كتاب العدة نظيراً.
هذا تفصيلُ القول فيه إذا جرى موجِب الاستبراء في الجزء الأخير من الحيض، ووقع الطهر الكامل بعده.
9938- فأما إذا جرى موجِب الاستبراء في أثناء الطهر، والتفريع على أن الاستبراء بالطهر، فالذي ذهب إليه المحققون من الأئمة أن بعض الطهر طهر، كما أن بعض الطهر في العدة طهرٌ، ويعود الكلام إلى أن الطعن في الحيض هل يكفي، أم لا بد من مضي الحيضة الكاملة؟ وقد قدمنا ذلك في الصورة المتقدمة على هذه.
ومن أصحابنا من قال: بعض الطهر لا يقع الاعتداد به على القول الذي نفرع عليه، بل نقول: لا احتساب بالبقية، فتحيض، ثم تطهر طهراً كاملاً، ثم تحيض، وهذا أورده المعلِّقون عن القاضي.
__________
(1) في الأصل: "من" وسوغ لنا هذا التغيير الحكمُ بالضعف على مقابله. (ر. روضة الطالبين: 8/425) .
(2) في الأصل: وإن كانت.(15/300)
ويمكن أن يقال في توجيهه: إنا أقمنا بعض الطهر في العدة مقام طهر كامل، لأن العدة أقراء، وهي ذات عَددٍ متعلقةٍ بالزمان، ومن شائع الكلام تسمية شيئين وبعض الثالث في الزمان بصيغة الجمع، كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وإنما وقت الحج شهران، وبعض من الثالث، فأما الواحد من الجنس لا (1) ينطلق على بعضه.
ثم إذا اشترطنا طهراً كاملاً، فيجب القطع بأن الطعن في الحيضة الثانية كافٍ: إما بلحظة وإما بيوم وليلة، لأنه مضى حيض كامل، قبل هذا الطهر، فليقع الاكتفاء به إن كنا نطلب علامةً دالّة على براءة الرحم، بل يكفي الطعن في الحيضة الثانية.
هذا بيان ما يقع الاستبراء به إن كانت المستبرأة من ذوات الأقراء.
9939- فإن كانت من ذوات الأشهر، فقد قدمنا في المطلقة الأمة ثلاثة أقوال إذا كانت من ذوات الأشهر: أحدها - أنها تعتد بشهر ونصف.
والثاني - أنها تعتد بشهرين.
والثالث - أنها تعتد بثلاثة أشهر.
ويجري في الاستبراء قولان: أحدهما - تُستبرأ بشهر واحد؛ فإن الشهر الواحد في مقابلة القرء، والقول الثاني - أنها تستبرأ بثلاثة أشهر؛ فإنها أقل مدة يدل مضيُّها على براءة الرحم، كما سبق تقريره في العِدد.
وإن كانت المستبرأة حاملاً، نظر: فإن كانت حاملاً ممن منه الاستبراء، فإذا وضعت الحملَ، حصل الاستبراء، وهو الأصل في كل ما يتطرق إليه اعتبار براءة الرحم، قال منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع ".
هذا إذا كان الحمل عمن منه الاستبراء، فأما إذا كان الحمل عن أجنبي: زناً، فإذا وضعته في زمان الاستبراء، فالمشهور الذي ذهب إليه الجماهير أن الاستبراء ينقضي بوضعه، لعموم قوله: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع "؛ ولأن المرعيَّ فيه قيامُ دلالة
__________
(1) جواب أما بدون الفاء.(15/301)
البراءة، ووضمع الحمل إذا خلا الرحم بوضعه أول الأدلة على البراءة.
وذكر القاضي وجهاً آخر أن الاستبراء لا ينقضي بوضعه، قياساً على العدة، فإنها لا تنقضي بوضع حملٍ نقطع بانتفائه عن الزوج، ثم قال: الوجهان يمكن بناؤهما على القولين في أن الاستبراء بماذا في حق ذات الأقراء؟ فإن قلنا: الاستبراء بالحيض، فكأنا [نعوِّل] (1) على ما يدل على براءة الرحم، وإن قلنا: الاستبراء بالطهر، فكأنا نرعى تعبداً في الباب، فيليق بهذا ألا يحصل بوضمع الحمل العالق عن الزنا المحض.
هذا كلامه رضي الله عنه.
وقد انتجز ما يقع الاستبراء به ولا اختصاص لما ذكرناه بالباب الذي افتتحناه.
9940- ونحن الآن نخوض في مقصود الباب، فنقول: إذا أعتق الرجل أم ولده، ولم يقدم على العتق استبراءً، أو عتقت بموته، ولم يتقدم على الموت الاستبراءُ، فيجب الاستبراء بقُرء، كما سبق تفصيله، ويحرم نكاحُها في زمان الاستبراء، على من يبغي نكاحها.
ولو اشترى جاريةً ووطئها، ثم أعتقها، وجب الاستبراء، كما يجب في المستولدة إذا أعتقها أو عَتَقت بالموت.
فأما إذا [استبرأ] (2) مالكُ المستولدة أمّ ولده، ثم زوجها، فالأصح المشهور صحةُ التزويج، على ما سيأتي في أمهات الأولاد.
ولو كانت مشغولةَ الرحم منه، فأراد أن يزوِّجها، لم يجد إلى تزويجها سبيلاً، وكذلك لو وطىء جاريتَه القِنّة ثم استبرأها، فله أن يزوّجها. ولو وطئها ثم أراد أن يزوجها من غير استبراء، فالنكاح باطل عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة (3) .
والأصل الذي يجب الإحاطة به أن اشتغال الرحم بالماء المحترم يمنع تسليط الغير
__________
(1) في الأصل: نعود.
(2) في الأصل: اشترى. وعلى قرب هذا التصحيف إلا أنه طوّح بنا في مهامه بعيدة، من تقدير خرم وسقط، ومن تقدير تصحيف آخر، وبعد معاناة طويلة ألهمنا الله سبحانه سرّ الخلل وهدانا إلى الصواب. سبحانه له الفضل والمنة.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/326 مسألة 822.(15/302)
على الشغل قطعاًً، وما يفرض من تعبدات العدد وراء هذا.
ثم مواقع الكلام منها تختلف، فقد يتمحض التعبد، وقد يتجه الحمل على حسم الباب، مع الالتفات على أصل الشغل، فأما التسليط على شغل رحم مشغول، فلا يتخيله ذو بصيرة في الشريعة.
9941- فإذا تبين ما ذكرناه من صحة النكاح في دوام الملك على العتيق المستولدة إذا جرى الاستبراء، وانتظم معه الحكم بفساد النكاح قبل الاستبراء عن الشغل الواقع، فيبتني على ذلك غرضنا، ونقول: إذا جرى استبراءٌ في الملك مسلِّط على النكاح، ثم لم يتفق التزويجُ حتى عَتَقَت أم الولد، أو عَتَقَت القِنّة، ففي وجوب الاستبراء ثلاثة أوجه: أحدها - لا يجب الاستبراء؛ فإن التزويج كان جائزاً قبيل العتاقة، فليجز بعدها، فإن العتاقة أزالت الملك، وما جدّدت ملكاً حتى نقولَ: تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب القطع ببراءة الرحم، كما سيأتي في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثاني - أنه لا بد من الاستبراء كتبدّل الحال، والتي عتَقَت ملكت نفسها بالعَتاقة، كما يملك المشتري الجاريةَ بناء على ملك البائع، وكما يملك السابي المسبيةَ بناء على الحرية الأصلية، ثم تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب الاستبراء، فتجددُ العَتاقة المفيدةِ ملكَ العتيقة نفسَها يوجب الاستبراء.
والوجه الثالث - أنا نَفْصِل بين القِنَّة تعتِق، وبين المستولدة، فنقول: لا بد من استبراء المستولدة إذا عتَقَت فإنها على الجملة تُشابه المفترَشات، وقد ثبتت لها بعضُ أحكام الفراش في لحوق الولد، وجريان اللعان على أحد القولين. وأما القِنّة إذا عتَقَت، فليس عتقها زوالاً لفراش ولا ملكاً جديداً.
هذا بيان الأوجه الثلاثة.
9942- ولو اشترى الرجل جاريةً، ولم يدر ما كان قبل شرائه، واستبرأها، ثم أعتقها، فهذا أحد الصور المدرجة في الأوجه.
ولو استبرأها البائع قبل البيع، ثم باعها، فأعتقها المشتري، ولم يطأها، فهل يجوز تزويجُها من غير استبراء؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا استبرأها(15/303)
المشتري ثم أعتقها. [والصورة] (1) الأخيرة أولى بوجوب الاستبراء، وامتناعُ التزويج قبله؛ من جهة أن الاستبراء لم [يوجد] (2) قَبْلَ الملك المتقدم على العتق، والدليل عليه أن المشتري لو أراد أن يطأها تعويلاً على استبراء البائع، لم يكن له ذلك (3) وفاقاً، فإذا لم يؤثر ذلك الاستبراء في استباحته إياها بملك اليمين، وجب ألا يؤثر في تزويجها.
ويتّصل بهذا أن المشتري لو أراد تزويجها، وقد تقدم الاستبراء من البائع، ففي المسألة وجهان مع دوام الملك، وسبب هذا الخلاف أن التزويج مبني على الاستبراء، والاستباحةُ بملك اليمين ليس تعتمد تقدّم شغل، بل هو تعبد محض، كما سنذكره في الباب الثاني.
ولهذا نقول: من اشترى جارية من امرأة لم يستبحها بملك اليمين حتى يستبرئها، وإن لم يجر وطء.
9943- ولن يقف الناظر على سر الاستبراء ما لم يَنْفصل له باب التزويج عن باب الاستباحة بملك اليمين.
ويتم غرضنا في ذلك بسؤال وجواب عنه، فإن قال قائل: صورتم الاستبراء من البائع، وبنيتم عليه تصرفاً وخلافاً، ومعلوم أن الزوج لو استبرأ امرأته أقراءً، ثم طلقها لم يكن لذلك الاستبراء الجاري في صلب النكاح أثر، وذلك بسبب جريانه في حالة استمرار الحِل عليها، وهذا محقق في استبراء البائع؛ فإنه إذا استبرأها، فالاستحلال دائم بملك اليمين؟
قلنا: الاستبراء المطلوبُ لأجل النكاح لا يبعد جريانه في ملك اليمين أصلاً، وعليه بنينا استبراء الرجل مملوكته لزوجها، فهذا الأصل متفق عليه، فبنينا عليه استبراء البائع، وذكرنا تزويج المشتري، فانتظم الكلام على السداد، ولاح انفصال الباب عن الباب. وهو الأمر كله في هذا المنتهى.
__________
(1) في الأصل: بالصورة.
(2) في الأصل: "لم يَجْر" وهو خللٌ واضح. والتصويب من (صفوة المذهب) .
(3) لم يكن له ذلك لتجدد الملك. وهو أحد أسباب وجوب الاستبراء.(15/304)
لا جرم، نقول: إذا استبرأ البائع الجاريةَ ثم باعها، لم يستبحها المشتري باستبراء البائع وجهاً واحداً، إذا أراد الاستباحة بملك اليمين، فلا أثر إذاً للاستبراء في الملك في الاستباحة بالملك، وإنما التردد في استباحة النكاح بالاستبراء الجاري من البائع.
9944- ومن تمام البيان في ذلك أن السيد إذا أعتق المستولدةَ حيث يجب الاستبراء ويحرم التزويج من الغير، فهل يحل له أن يتزوجها في زمان الاستبراء؟ فعلى وجهين.
توجيههما: من قال: يحل، قال: لأن الاستبراء عنه، فأشبه عدة الزوج وعدة الوطء بالشبهة، وللزوج أن ينكح المعتدة عنه إذا لم تحرم عليه بالثلاث، وكذلك ينكح الواطىء بالشبهة المعتدةَ عنه.
ومن قال: لا يجوز، قال: تجددت عليها حالةٌ، فلا يُقدم على استباحتها ما لم يمض استبراءٌ، ونفس الإقدام على النكاح استباحة، فصار هذا كالاستباحة بملك اليمين.
ولو باع رجل جارية ولم يرفع يده عنها، واستقال البائعُ فيها، فأقيل؛ فإنه لا يستبيح الوطء ما لم يستبرىء.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أن استباحة النكاح في مسائل الاستبراء هل يُنْحَى بها نحو استباحة الوطء بملك اليمين، وفيه الخلاف الذي قدمناه.
[فإن] (1) أحببت أَخْذَ ذلك على قرب، قلت: إذا استبرأها، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها؟ فيه اختلاف سبق ذكره: فإن أوجبنا الاستبراء وإن كنا نجوز التزويج قبله بناء على الاستبراء الواقع، فلا محمل لهذا الاستبراء إلا التعبدُ، فعلى هذا إذا أراد السيد بعد إعتاق أم الولد والقِنّة أن ينكحها، لم يكن له ذلك، حتى يمضي الاستبراء تعبداً.
وإن قلنا في الصورة الأولى: لا يجب الاستبراء، ويجوز التزويج من الغير، فإذا منعنا التزويج من الغير، فلا يبعد ألاّ يمنع السيد من التزوج وقد انكشف الغطاء بالانتهاء إلى هذا المنتهى، والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: بأن.(15/305)
فصل
قال: " فإن مات سيدها وهي تحت زوج أو في عدة ... إلى آخره " (1) .
9945- مسائل هذا الفصل تستدعي تقديمَ أصلين مقصودين في أنفسهما أحدهما - أن المولى إذا زوج أم ولده، حيث يجوز التزويج، ثم أعتقها وهي مزوّجة، أو مات عنها، فالمنصوص عليه أنه لا يجب الاستبراء عليها، وذلك لأن العتق صادفها مشغولةً بحق الزوج، والذي يحقق ذلك أن حق افتراش المولى زال بالزوجية، وصارت مفترشة للزوج بالنكاح، فطريان العتق لا أثر له، والنكاح منعقد، ولئن كان الاستبراء على وجهٍ شرطاً بعد العتق في ابتداء نكاح، فهو محمول على التعبد، فأما فرض تأثير العتق في دوام النكاح، ولا شغل من غير الزوج، فبعيدٌ عن مدارك الفقه.
وذكر بعض أصحابنا قولاً آخر أُراه مخرجاً، ذكره الشيخ وغيرُه من أحبار المذهب: أنه لا بد من الاستبراء -كما سنصفه ونفصله-.
9946- فإن قلنا: لا يجب الاستبراء، فإن جرى العتق في دوام النكاح، فلا استبراء، ولو كان الزوج طلقها أو مات عنها، وكانت في العدة، فجرى العتق، فلا استبراء أيضاًً. والعبارة التي استعملها الأصحاب في توجيه نفي الاستبراء: " أن العين صادف اشتغالها بزوجيةٍ أو حق زوجية، ولم يتضمن انحلالُها عن افتراش المالك، فلا يجب الاستبراء مترتباً على زوال ملكه ".
فعلى هذا لو صادفها العتق وهي في اللحظة الأخيرة من عدة الزوج، فلا استبراء أصلاً.
وإن قلنا: يجب الاستبراء، نظر: فإن جرى العتق وهي في العدة، كان الاستبراء بالإضافة إلى العدة بمثابة عدة من شخص يطرأ سببها على عدة الزوج، فالوجه تقدم عدة الزوج، فلتستكملْها، ثم تبتدىء الاستبراء، بعد نجاز العدة، كما تفعل ذلك إذا وُطئت بشبهة في أثناء عدة الزوج، ولم تعلق عن الواطىء.
__________
(1) ر. المختصر: 5/44.(15/306)
وإن جرى العتق في أثناء النكاح، فهو بمثابة ما لو جرى وطءُ شبهة في أثناء النكاح، ولو فرض ذلك، لتعين استقبال العدة على أثر الوطء، إذ ليس للنكاح منتهى [نرتقب] (1) الانتهاءَ إليه، وزوالَ النكاح به، فلا بد من استعقاب سبب العدّة العدةَ.
كذلك إذا جرى العتق في أثناء النكاح، فالوجه استقبال الاستبراء على الاتصال بالعتق.
والمذهبُ الصحيح الذي عليه التعويل أن العتق في النكاح والعدّة لا يوجب الاستبراء.
ولو وطئت المستولدة بشبهة، وخاضت في العدة، فأعتقها مولاها، فالأصح إجراء ذلك مجرى النكاح، والعدة عن النكاح، حتى نقول: العتق لا يوجب الاستبراء على المذهب الصحيح، وفيه القول المخرج.
ومن أصحابنا من قال: يوجبُ الاستبراءَ ولا يمنع من وجوبه عدةُ الشبهة؛ فإنها ليست فراشاً ولا تابعاً لفراش، وهذا غير سديد. فهذا أحد الأصلين الموعودين.
الفصل الثاني
في بيان ما إذا طلق زوجُ المستولدة المستولدةَ مع بقاء الملك
9947- فإذا طلقها بعد الدخول، واعتدت عن الزوج، ثم عتَقَت بعد العدة، فهل يجوز تزويجها من غير استبراءٍ جديد، أم لا يجوز تزويجها حتى تستبرأ؟ [في] (2) المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أنه لا حاجة إلى الاستبراء، وفيما تقدم من العدة عن الزوج مقنع في إفادة براءة الرحم، ثم لم يوجد من المولى بعدها افتراش وشغل رحم، فليقع الاكتفاء بما تقدم.
والقول الثاني - أنه لا بد من الاستبراء بعد العَتاقة؛ فإن الاستبراء بتبدل الحال إما من الرق إلى الحريّة، وإما من الحرية إلى الرق، وإما من ملكٍ إلى ملك، فلا حكم
__________
(1) في الأصل: مرتب.
(2) زيادة من المحقق.(15/307)
لما مضى من العدة عن الزوج، والعتقُ يوجب برأسه استبراءً.
وهذان القولان مأخوذان من الأصل الذي مهدناه في صدر الباب، وهو أن المولى لو استبرأ الجارية المستولدة أو القِنة، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها من غير استبراء؟ فيه الخلاف المقدم، ووجه التداني في المأخذ بيّن، فإنه استبرأها في الأصل الأول، ثم أعتقها، وهاهنا جرى الاستبراء عن الزوج، ثم اتفق الإعتاق.
فإن قال قائل: العدة عن الزوج، والاستبراء إن يثبت، فهو عن المستولد.
والأصل الذي تقدم فيه إذا استبرأ السيدُ أمَّ الولد عن نفسه، ثم أعتقها. قلنا: الأمر كذلك، ولكن سبيلُ الكشف في هذا أنه ما زوّجها إلا وقد استبرأها استبراءً معتبراً، ثم تخلل النكاح، وجرى الاستبراء عنه، فكان العتق مترتباً على الاستبراء الأول المقدم على النكاح، فلا فرق إذا بين المسألتين إلا أن نكاحاً جرى، واستبرأت العدة منه، وهذا القدر كافٍ في التنبيه على الغرض.
9948- ومما يتعلق بتمام الغرض منه أن الزوج لو طلقها واستقبلت العدةَ، والملك مطرد عليها، ثم انقضت العدة وحصل العتق متصلاً بالانقضاء، ولم تعد إلى حكم المستولِد في لحظة بعد العدّة، فهل يجب الاستبراء لأجل التزويج من الغير؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يجب الاستبراء، لأنها لم تعد بعد العدة إلى فراش المولى، ولكنها كانت معتدة، ثم عتَقَت.
ومنهم من قال: في هذه الصورة أيضاًً قولان؛ فإنّ تبدّل الحال من الرق إلى الحرية قد تحقق.
وإذا ضممنا هذه الصورة إلى ما إذا تخلّت عن العدة، وبقيت على الملك، ثم عتَقَت، انتظم من مجموع ما ذكره الأصحاب وحكَوْه في الصورتين ثلاثةُ أقوال: أحدها - أنه لا يجب الاستبراء أصلاً، والقول الثاني - أنه يجب الاستبراء، والقول الثالث - أنه يفصل بين أن يتصل العتق بمنقرَض العدة، وبين أن يقع بعدها بزمان، فإن اتصل لم يجب الاستبراء، وإن انفصل وجب.
9949- ومما يتعلق بكشف المقصود في المسألة أنه لو زوج أم ولدٍ حيث يجوز له(15/308)
ذلك، ثم طلقها زوجها قبل المسيس، فأعتقها المولى، فهل يجب الاستبراء بسبب العَتاقة؟ هذا يخرج عندنا على الخلاف الذي قدمناه؛ فإن التي تطلق من غير مسيس كالتي تطلق بعد المسيس وتستبرأ بالعدة، فلا فرق، وسبب ذلك أن التعويل على الاستبراء المتقدم على النكاح المسلِّط على التزويج، وهذا الأصل جارٍ في الصورتين، فقد تناظرت الصور، ولاحظت أصلاً واحداً، وإن اختلفت في مبانيها.
وقد انتجز الموعود من تقديم الأصلين، ونحن نخوض بعدها في مسائل الفصل والله المستعان فنقول:
9950- إذا زوج الرجل أم ولده، ثم مات الزوج والسيدُ، فلا يخلو: إما أن يقع الموتان معاً، وإما أن يتقدم موت أحدهما على الثاني، فإن ترتب أحد الموتين على الثاني، نُظر فإن تعين السابق منهما، فالحكم ما نصفه، ونقول: إن مات السيد أولاً، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب الاستبراء، فإن العتق صادف اشتغالها بالزوجية، فلا استبراء. هذا ما عليه التفريع.
ثم إذا مات الزوج بعد ذلك بزمان قريب أو بعيد استقبلت زوجتُه عنه عدة الأحرار أربعة أشهر وعشراً، وليست مؤاخذةً باعتبار الحيض لأجل الاستبراء؛ فإن العتق لم يقتَضِ الاستبراء أصلاً لمصادفته النكاح.
هذا إذا سبق موت المولى.
فأما إذا سبق موت الزوج، فإنها تستقبل عدة الوفاة شهرين وخمسة أيام؛ لأنها كانت رقيقة لما مات الزوج، ثم ينظر في موت السيد، فإن مات بعد شهرين وخمسة أيام من موت الزوج، فقد انقضت عدة الوفاة عن الزوج، وحصل العتق بعد تخلّيها عن النكاح والعدة، وهل يقتضي هذا استبراءً عن السيد؟
نُظر إن وطئها بعد انقضاء العدة عن الزوج، ثم عتَقَت بموته، فيجب الاستبراء، وإن لم يطأها، فعتَقَت بعد العدة، ففي الاستبراء ما قدمناه من الخلاف؛ فإنها عائدة إلى الملك، والعتقُ مترتب على العود من غير تخلل شُغل بين العود وبين العتق، وإذا أعدنا الأقوال في هذا الفصل أشعر قولٌ ثالث بالفصل بين أن يحصل الموت بعد العود(15/309)
بلحظة، وبين أن يحصل الموت عقيب العود من غير فصل، ولم نُعد تلك الأقوال لا على صيغة الجمع ولا على صيغة التقسيم والترتيب، فإنا على قرب عهد بها.
هذا إذا مات السيد بعد مضي شهرين وخمسة أيام من موت الزوج.
فأما إذا مات السيد قبل مضي عدة الإماء، فلا يجب الاستبراء، تفريعاً على الأصح؛ فإن حصول العتق صادفها وهي مشغولة.
ولكن يعود اختلاف القول في أن البائنة إذا عتَقَت في خلال العدة، فهل تكمل عدة الحرائر، أم تكتفي بعدة الإماء، نظراً إلى حالتها في ابتداء العدة، واختلافُ القول في هذا مشهور، فإذاً تُكمل أربعةَ أشهر وعشراً في قول، وتكتفي بشهرين وخمسة أيام في قول.
هذا تفصيل القول فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني، وعلم السابق واللاحق.
9951- وأما إذا علمنا ترتب أحد الموتين على الثاني، ولكن أشكل علينا السابق والمتأخر، فلا يخلو إما أن نعلم أنه قد تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، أو نعلم أن المتخلل بين الموتين أقلُّ من هذا، أو يُشكل الأمرُ.
فإن علمنا أن المتخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، فالذي يجب العلم به قبل الخوض في التفصيل أن الاحتياط واجب المراعاة، فلا تخرج عما عليها إلا بيقين، وهذا أصلٌ ممهد في أحكام العِدد.
وإذا بان ذلك، قلنا بعده: إن كنا لا نوجب الاستبراء إذا عادت إلى الملك وعتَقَت، فالواجب عليها أن تتربص أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين، وإذا هي فعلت ذلك، فقد [خرجت] (1) عما عليها، وإنما أوجبنا المدة الكاملة لجواز أن يكون موت السيد متقدماً، ولو كان كذلك، لم نوجب الاستبراء، وأوجبنا من موت الزوج عدة كاملة أربعة أشهر وعشراً.
ولو قدرنا موت السيد متأخراً، فمقتضى هذا لو علمناه أن يُكتفى بشهرين وخمسة أيام، ولا استبراء إذا كنا نفرع على أن التخلي عن علائق النكاح والعود إلى حكم
__________
(1) في الأصل: جرت.(15/310)
المولى لا يوجب الاستبراء عند وقوع العتق، فإذاً لا استبراء كيف قدّر الأمر، وتجب العدة الكاملة في تقديرٍ؛ فأقصى الاحتياط الأخذ بأقصى الأمدين، واحتساب الابتداء من آخر الموتين.
فأما إذا فرعنا على أن العود إلى المولى إذا ترتب العتق عليه يوجب الاستبراء عن المولى، فعلى هذا وجوب أقصى الأمرين ممكنٌ، ووجوب الاستبراء ممكنٌ، وهي مؤاخذةٌ بالاحتياط، فعليها أن تعتبر الأمدين جميعاً، فتتربص من آخر الموتين أربعة أشهر وعشراً [فيها] (1) حيضة، فإذا اتفق لها ذلك، فقد خرجت عما عليها، وإذا تربصت أربعة أشهر وعشراً، ولم تحض وهي من أهل الحيض، صبرت إلى أن يمر بها حيضة، ولو مرت الحيضة بها في أوائِل التربص، كفى مرورها إذا وقع بعد آخر الموتين.
هذا بيان ما عليها، وقد أجرينا المسألة إلى هذا المنتهى مفرّعةً على أن العتق في خلال النكاح لا يوجب الاستبراء؛ فإنه المذهب المنصوص، فلم نر التفريع على مخرج ضعيف يضطرب به نظم الكلام.
9952- وحكى الشيخ أبو علي في الشرح وجه بعيداً وحكاه العراقيون، ونحن ننقله على وجهه، قال: قال بعض الأصحاب: إذا اعتُبِر الجمعُ بين الأمد الأقصى والحيضة، فلتقع الحيضة بعد مضي شهرين وخمسة أيام من العدة المنسوبة إلى الموت المعتبر ابتداؤها من آخر الموتين، حتى لو وقعت قبل ذلك لا يعتد بها، ثم بالغ الشيخ بعد حكاية هذا الوجه في التزييف والتضعيف.
وعندنا أن مثل هذا ليس وجهاً يحكى؛ إذ الوجوه الضعيفة إن كان صدَرُها عن رأي ضعيف، فقد تُذكر وتزيّف، وقد يقع منها ما هو باطل قطعاًً، ولكنه منسوب إلى [سوء] (2) النظر، والمسائل التي تعد من مسائل الاجتهاد قد يقع فيها نظر فاسد من بعض المجتهدين قطعاًً، وهذا الوجه الذي ذكره ليس من هذا الفن، بل صدَرَ عن غفلةٍ ونسيان.
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) غير مقروءة في الأصل.(15/311)
ونحن ننبه عليه، فنقول: لو جرت الحيضة بين الموتين، فلا اعتداد بها بوجه، وقد (1) صورنا تخلُّلَ شهرين وخمسةِ أيام بين الموتين، فنسي صاحب هذا الوجه أن ابتداء الأمد الأقصى من آخر الموتين، فكان في فكره بقية من أن الحيضة لا يعتد بها لو جرت من دوام النكاح، فقال ما قال عن هذا، فهذا إذاً عثرةٌ تقالُ، وليس وجهاً يقال (2) ، ولولا اشتمال الأصول على حكايته، لما حكيته.
هذا كله إذا تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام.
9953- فأما إذا تخلل بين الموتين أقلُّ من ذلك، فأقصى الاحتياط أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من آخر الموتين، ولا استبراء عليها تفريعاً على المنصوص؛ فإنه إن تقدم موت السيد، صادف العتقُ الاشتغال بالنكاح، ولم يجب الاستبراء، وإن تقدم موت الزوج، صادف حصولُ العتق بموت المَوْلى بقية من عدة الوفاة، فلم يجب الاستبراء؛ إذاً كيف فرض الأمر، وأمكن تقدمُ موت المولى [أوجبنا] (3) أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين.
9954- ولو لم نَدْرِ كم المتخلل من الزمان بين الموتين، فنوجب الأمرَ الأقصى مع الاستبراء، بناء على جواز تخلل شهرين وخمسة أيام فصاعداً، والتفريع على أن العود إلى حكم المولى يوجب الاستبراء عند العتق.
وقد بنينا أجوبتنا على أصلٍ مقطوع به وهو أنها لا تخرج عما عليها إلا إذا قطعت [بأداء] (4) كلِّ ما يقدَّر وجوبُه.
هذا كله تفريع المذهب فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني.
9955- فأما إذا ماتا معاً، فلا شك أنا لا نوجب الاستبراء؛ فإن ارتفاع النكاح وحصول العتق وقعا معاً، والاستبراء إنما نوجبه على طريقةٍ إذا عُهدت متخلية عن عُلقة
__________
(1) في الأصل: قد (بدون الواو) .
(2) تنبه لما في العبارة من جناسٍ وسجعٍ مطبوع.
(3) في الأصل: "فأوجبنا".
(4) في الأصل: بعادته.(15/312)
النكاح عائدةً إلى المولى ولو في لحظة، فإذا وقع الأمران معاً، فلا عَوْد ولا استبراء.
ويبقى النظر في أنها تستكمل عدةَ الحرائر أم كيف التفصيل فيهما؟ قد ذكرنا قولين في أن العتق لو طرأ على العدة والمعتدةُ بائنة، فتكمل عدة الإماء أم عدة الحرائر؟ ولو قدرنا تقدم العتق على ارتفاع النكاح بلحظة، ثم فرض ارتفاع النكاح عن حرة، فلا شك أنها تعتد عدةَ الحرائر، فإنها كمُلت وهي منكوحة، ثم صادفها الفراق، فلو وقع العتق مع الفراق من غير تقدم ولا تأخر، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: نقطع بوجوب عدة الحرائر؛ نظراً إلى ابتداء العدة.
ومنهم من قال: يخرج هذا على القولين في طريان العتق على عدة الإماء، وأقصى ما يسمح به ترتيب قولين على قولين.
ووجه هذا أن كمال العدة يتلقى من كمال الفراش، وهذه ما كانت على الكمال في الفراش قط، فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أحوال: أحدها - أن تكمل بالحرية ولو في لحظة ثم تطلّق، وحكمها كمال العدة. والأخرى أن تستفتح العدة ناقصة بالرق ويطرأ الكمال، وهذا محل القولين. والحالة المتوسطة بين الحالتين اللتين ذكرناهما- ارتفاع الكمال بالحرية مع الفراق، وفيها طريقان، وما ذكرناه من ترتيب الأحوال يجري في الموت الذي نحن في تفصيل حكمنا في الطلاق وغيره من أسباب الفراق.
9956- ولو لم نَدْرِ أوقع الموتان معاً أو تخلل بينهما زمان، ثم لم ندر [لو] (1) تخلل الزمان كم كان قدره؟ فالوجه الأخذ بالأحوط، وهو أربعة أشهر وعشر، مع مراعاة حيضة فيها أو بعدها.
وأمثال هذا لا أعدها من معاصات الفقه؛ فإن مدارها على فكرٍ، وإنما [أعواص] (2) الفقه في التفاف وجوه النظر، وتقابل معاني الأصول [ومعارضات] (3) الإحالات للأشباه القريبة على حكم المناقضة. والله المستعان في الجلىّ والخفي.
__________
(1) في الأصل: " ولو ".
(2) في الأصل: أحواص.
(3) في الأصل: وان تعارضات.(15/313)
فصل
قال: " ولو وطىء المكاتَب، أمته فولدت ... إلى آخره " (1) .
9957- ليس لمقصود هذا الفصل تعلق خاص بالاستبراء، [وتحصيلهُ] (2) سيأتي مستقصًى في [كتاب] (3) الكتابة، ولكنا لإقامة رسم الجريان على ترتيب (السواد) نقول: المكاتَب إذا اشترى جارية لم يملك الانفراد بوطئها، والتسرِّي بها دون إذن المولى، وإذا أذن المولى، فهذا من باب الإذن في التبرع، وللشافعي قولان في أن تبرعات المكاتب هل تنفذ بإذن المولى؟ فإن قلنا: إنها تنفذ، حلّت له الجارية إذا أذن المولى.
وإن لم تنفذ التبرعات بالإذن، لم يثبت حِلّ الوطء بالإذن، والقول فيما يكون تبرعاً من المكاتب من أصول الكتابة، وضبطُه ليس بالهين، والغرض الآن [إلحاقُ] (4) التسرِّي بالتبرعات.
ثم إذا وطىء الجارية فأتت بولد، فالولد يتكاتب عليه، وليس في كتاب الكتابة أصل أعظمُ وأطمُّ من أحكام الولد المكاتب، ثم تكاتب الولد يثبت، سواء فرعنا على أن الوطء يحل أم يحرم؟ وسواء فرض الوطء قبل الإذن أو بعده، ثم إذا ثبت التكاتب في الولد، فمن آثاره أنه لا يبيعه ولكن إن رَقَّ، رَقَّ الولد، وإن عَتَقَ عَتَقَ معه.
فأما القول في أمية الولد للجارية، فحاصل ما ذكره الأصحاب قولان: أحدهما - أن الأمية تثبت على نسق ثبوت تكاتب الولد.
والثاني - أنها لا تثبت أصلاً.
فإن قلنا: إنها تثبت، فمن آثارها ألا يملك المكاتب بيعها، كما لا يملك بيع
__________
(1) ر. المختصر: 5/45.
(2) في الأصل: وتحصيل.
(3) في الأصل: في كتابه.
(4) في الأصل: التحاق.(15/314)
الولدِ المتكاتب. ثم إذا رَقَّ رَقَّت، كما يرِق الولد، فإن عُلقةَ الحرية في أمية الولد لا تزيد على ما يثبت للولد، وإن عَتَقَ، تأكدت أمية الولد، وعَتَقَ الولد، وإن لم تثبت أمية الولد في الحال، فمن آثار ذلك أنه يجوز [للمكاتب] (1) بيعُها في [الحال] (2) .
9958- فلو عَتَق المكاتَب، فهل تثبت أمية الولد؟ نقدم على هذا تجديدَ العهد بما إذا وطىء الرجل جارية غيره بشبهةٍ، وأتت منه بمولود حرٍّ، فلا تصير أم ولدٍ له، ولكن لو اشتراها أو ملكها بجهة من الجهات، فهل تصير أم ولد له؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله.
فنعود ونقول: لو علقت الزوجة المملوكة من زوجها بولد رقيق، ثم اشترى زوجته، لم تصر أم ولد له عندنا، فإن الولد انعقد رقيقاً قنّاً [إِثْر] (3) العلوق.
وإذا وطىء المكاتب جاريةَ الغير بشبهةٍ حسبها زوجة نفسه، فالقول في ولده عويص، لسنا نخوض فيه. أما إذا وطىء جارية نفسه، فالولد [مكاتب] (4) ، فإذا عَتَق، والتفريع على أن أمية الولد لم تثبت في دوام الكتابة، فكيف السبيل فيها الآن؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنها لا تثبت؛ فإنها لم تثبت عند العلوق، ولم يكن الولد العالق حراً أيضاًً، فنُجري القولين عند حصول الملك على الأم.
ومن أصحابنا من ذكر في ثبوت الاستيلاد عند عتق المكاتب قولين؛ من جهة أن الولد العالق وإن لم يكن حراً لدى العلوق، فقد كان على عُلقة من الحرية، ثم انتهت تلك العُلقة إلى الحقيقة، فإن الولد يعتِق بعتقه، فلا يبعد تخريج القولين.
وغوائل الفصل تأتي في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: المتكاتب.
(2) في الأصل: الحالات.
(3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(4) في الأصل: " متكاتب ".(15/315)
9959- فإن قيل: أي تعلق لهذا الفصل بالاستبراء؟ قلنا: تقدم عليه المستولدةُ وحكمُها، فانجرّ الكلام إلى الاستيلاد في حق المكاتب، هذا ترتيب (السواد) ، ويمكن تكلفُ وجه بربط الفصل بالاستبراء، وذلك بأن يقال: إذا قلنا: المكاتب يستبيح الجارية بإذن المولى، وقد اشترى الجارية، فالاستبراء من وقت الملك أو من وقت الإذن، وهذا أصل من الأصول، يأتي في الباب الذي يلي هذا الباب، وقد أوفينا عليه.(15/316)
باب الاستبراء من كتابي (1) الاستبراء
قال الشافعي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أَوْطَاس ... إلى آخره " (2) .
9960- الباب المتقدم كان مقصوراً على طريان العتق على أمهات الأولاد أو الإماء الرقيقات، ومضمونُ هذا الباب في الاستبراء الذي يجب على من يتملك جارية، ويحاول استباحتَها بملك اليمين، وقد تجري مسائلُ يمتزج فيها مضمون البابين.
والأصل الذي عليه التعويل في هذا الباب أن من يثبت له ملك على رقبة جارية بشراء، أو اتهابٍ، أو وصية، أو إرثٍ، أو بسبي واسترقاق، فإنها لا تحل له حتى يستبرئَها، ثم ما يجري الاستبراء به قد مضى مستقصًى في الباب الأول، فلا حاجة إلى إعادته.
والأصل في الاستبراء نداءُ منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المسبيات، ثم أجمع العلماء قاطِبةً على أن كلَّ مِلكٍ متجدد -في اقتضاء الاستبراء- ينزل منزلة الملك الثابت على رقبة المسبية، ثم الاستبراء الثابت في هذا الفن يجبُ سواءٌ كانت المملوكةُ بكراً أو ثيباً، صغيرةً أو كبيرة، حاملاً أو حائلاً، وسواء ترتب الملك على شُغل سابق، أو حصل غيرَ مرتبٍ على شغل، فمن اشترى جارية من امرأة، أو من صبي لا يطاُ مثلُه، أو من رجل وما كان وطىء فعليه الاستبراء.
فإن جرى استبراء قبل البيع، فذلك الاستبراء لا أثر له في الاستبراء الواجب بسبب الاستباحةِ بملك اليمين، وقد قدّمنا في الباب الأول أن الاستبراء الجاري بالملك السابق هل يسلِّط المشتريَ على التزويج؟ فذاك الخلاف في التزويج، ولا خلاف بين
__________
(1) قد مرّ مثلُ هذا آنفاً أول أبواب الاستبراء، حيث قال: (باب استبراء أم الولد - من كتابين) وهذا العنوان هنا مثل سابقه مأخوذ من مختصر المزني، غير أنه هنا فيه بعض التغيير، فهو في المختصر: " (باب الاستبراء) من كتاب الاستبراء والإملاء " (5/45) .
(2) ر. المختصر: 5/45.(15/317)
الأصحاب في أن المشتري لو أراد استباحتها بملك اليمين، فالاستبراء الذي مضى قبل البيع لا يغني عنه شيئاًً، فليمثِّل الناظر الفرقَ بين البابين في نفسه؛ فإن التزويجَ مبناه على الشغل والبراءة، والاستبراءُ الواجب على المستبيح بملك اليمين مبناه على تجددِ الملك لا غير.
ومن هذا الوجه يتأكد التعبدُ في هذا النوع من الاستبراء؛ فإنه غير مربوط بشغلٍ سابق، بخلاف العدة المترتبة على فراق يجري في الحياة؛ فإنها لا تجب إلا بوطء، كما تمهد موضوع العدة.
ثم أوضح الأصحاب هذا الأصل بتصوير أملاك متجددة قد يستبعد المبتدىء وجوبَ الاستبراء عندها، فلو اشترى رجل جارية واستبرأها، ثم باعها، واستقال البيعَ بعد زوال الملك، فعليه أن يستبرئها مرةً أخرى، سواء قلنا: الإقالةُ فسخ أو بيع، فكل ما يجدد الملكَ، سواء كان بيعاً أو فسخاً؛ فإنه يوجب على من يبغي الاستباحة بالملك استبراءً جديداً، وسنعود إلى تقرير ذلك من بعدُ، إن شاء الله.
9961- فإن قيل: هل يُتصورمسلك يسقط الاستبراء ويسلّط على الوطء دونه؟ قلنا: نذكر حكايةً مستفادة جرت للرشيد مع أبي يوسف، ونستاق الحكاية على وجهها، ثم نأخذ في أصلٍ من أصول الباب يشتمل على الجواب عن إمكان إسقاط الاستبراء.
قيل: عُرضت جوارٍ على الرشيد، فوقعت واحدة منهن الموقعَ، فحَرَص على الإلمام بها قبل الاستبراء، فراجع العلماء في إمكان ذلك، فلم ير واحدٌ منهم مسلكاًَ يُسقط الاستبراءَ، وكان أبو يوسف في أخريات القوم، فقال: يا أمير المؤمنين لو رُفع مجلسي، فرفع على الكل، فقال: يا أمير المؤمنين، سيدها [يزوّجُها] (1) ، ثم تشتريها مزوَّجةً، فيطلقها الزوج، فتحل لأمير المؤمنين من غير استبراء.
وروي أنه قال: يزوجها أمير المؤمنين من بعض خدمه، ثم يأمره بتطليقها، فتحل له من غير استبراء، وقد شَهرَ أصحابُ أبي حنيفة الهارونية بين أظهرهم، واختلفوا
__________
(1) في الأصل: يتزوجها.(15/318)
فيها، فقال بعضهم: الهارونية هذه، ومضمونها التسبُّبُ إلى إسقاط الاستبراء.
وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أن الرشيد غاظه شيء من بعض حظاياه، وكانت في بيتٍ، فحلف لا تخرج منه، وراجع العلماءَ، فلم يجدوا للبرّ موضعاً، فقال أبو يوسف: الوجه أن تضرب عليها خيمةً تسترها عن الغِلمة، ثم تنقض البيتَ، فتخرج، ولا يحنث أمير المؤمنين، فإنها لا تكون خارجة من البيت المشار إليه.
وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أنه نظر إلى الجواري اللواتي خلّفهن عليه أبوه، فمال إلى واحدة منهن، فذكرت أن [أباه] (1) كان أصابها، فازداد حرصاً عليها، ولم يؤْثر اقتحام الحرمة، فقال أبو يوسف: لا يقبل قولُها فيما ادّعته من الإصابة (2) .
قال أئمتنا: أما مسألة اليمين المعقودِ على المنع من الخروج من البيت، فجوابنا فيها جوابُ أبي يوسف والسبب فيه أن الحنث والبرّ معقودان على البيت، وفي هذه انعدامُ متعلّقِ اليمين برّاً وَحِنثاً، فلا وجه إلا ما قاله أبو يوسف.
وأما ادعاء الجاريةِ إصابةَ الأب، فجوابنا يوافق جوابَ أبي يوسف؛ فإن الأصل عدمُ الإصابة، والملك على الجملة مسلّط، فلا يقبل قولُها.
ولا يخفى سبيل الورع على من يحاوله، ثم للتورع درجات مأخوذة من غلبات الظنون، فمهما (3) اقتضى ظاهر الشرع رفعَ الحظر، وغلب على الظن بسببٍ خفيٍّ محرِّمٌ، فلا حظر، ولكن الورع الاجتناب.
ثم ترتب الدرجات في الورع على حسب ترتب الظنون، وإلى هذا أشار الرسول
__________
(1) في الأصل: أباها.
(2) قصة حيلة أبي يوسف للرشيد في شأن الجارية، حكاها الخطيب البغدادي في تاريخه، وكذلك ابن خلكان، ولكن الأحناف لم يذكروها فيما رجعنا إليه من كتبهم، ولا في ترجمتهم لأبي يوسف، وكأن الأحناف ينكرونها ولا يصدقونها، بل يجعلون ذلك من الادعاء عليهم، وآية ذلك أن الكوثري أنكر هذه الحكاية، وعدها مكذوبة على أبي يوسف، ومن أشنع الفرى عليه (ر. تاريخ بغداد: 14/250، 251، وفيات الأعيان: 6/384، تأنيب الخطيب: 275، مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي: ص 47 التعليق رقم (1) للكوثري) .
(3) فمهما: معناها: فإذا.(15/319)
صلى الله عليه وسلم إذْ قال عليه السلام في القصة التي ستأتي في كتاب الرضاع: " كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما "؟ والذي يمهد ما ذكرناه في الورع تأصيلاً وتفصيلاً قول المصطفى عليه السلام: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " وهذا منه صلى الله عليه وسلم إحالةٌ للمتورّع على غلبات الظنون.
9962- وأما مسألة إسقاط الاستبراء، فإنها عسرة الخروج على مذهبنا؛ فإن اشترى الرجل جارية، لم يملك تزويجها؛ حتى نبني عليه سقوطَ الاستبراء، وقد قدمنا في الباب قاعدةَ المذهب، في أن التزويج يستدعي ترتباً على استبراء، ثم ذلك الاستبراء هل يشترط جريانه في ملك المزوّج، أم يكفي جريانه في ملك البائع؟ فيه تردد مهدنا أصلَه، وأوضحنا تفريعه.
وأبو حنيفة (1) يجوّز للذي يطأ مملوكة نفسه أن يزوجها عقيب الوطء، وهذا من فَضَحات مذهبه. وإن صورنا التزويج من ملك الجارية قبل بيعها، [فشرط] (2) تصحيح التزويج تقدم الاستبراء منه أيضاًً.
ثم لو كان تَقَدَّم الاستبراء منه، ثم زوج (3) ، واشتراها مَنْ طلبها مزوّجةً، وطلقها الزوج، ففي هذا اختلاف نصوص، واضطراب الأصحاب في الترتيب، وهو من أقطاب الباب.
وإن قال من يريد البيع والتزويج: قد [استبرأتُها] (4) ، فينقدح قبولُ قوله، ومن هذا الطرف ينتصب حيلةً على قولٍ سنصفه في إسقاط الاستبراء.
9963- ونحن الآن نخوض مستعينين بالله تعالى في هذا الأصل، وننقل ما فيه من النصوص، ونذكر اختلاف الأقوال، ولا يصفو الأصلُ ما لم نُجرِ وجوهاً من الانعطاف عليها عوداً على بدء، فنقول: نص الشافعي في الأم على مسألتين، وأجاب فيهما بجوابين ظاهرهما الاختلاف والتناقض.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 218.
(2) في الأصل: فنشترط.
(3) كذا: (زوَّج) بحذف المفعول: (زوّجها) .
(4) في الأصل: استبرأها.(15/320)
ونص عليهما في الإملاء، وأجاب فيهما بجوابين على الضدّ من جوابيه في الأم.
قال في الأم: " من اشترى جارية معتدة عن زوج، أو اشتراها وهي مزوجة، ثم طلّقها زوجُها، فاعتدت إن كانت ممسوسة، أو تخلّت من غير عدة إن لم تكن ممسوسة، فليس على المشتري استبراء مقصود؛ فإذا انقضت بقية عدة الزوج، حلّت للمشتري، وإن تخلّت عن النكاح من غير عدة، حلت له من غير استبراء " هذا نصه في إحدى المسألتين.
وقال في الأم أيضاً: " لو زوج السيد أمته حيث يصح تزويجها، فطلقها الزوج بعد المسيس، واعتدت، فعلى السيد أن يستبرئها بعد العدة، لا تحل له إلا باستبراء مقصود، يفرض جريانُه بعد انقضاء العدة عن الزوج ".
هذا بيان المسألتين، ونَقْلُ جوابي الأم [فيهما] (1) .
وقال في الإملاء: " من اشترى معتدة عن زوج، فانقضت عدتها، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراءٍ جديد مقصودٍ بعد انقضاء العدة ". وقال في الإملاء: " إذا زوّج السيد أمته، فمسها، ثم طلقها، واعتدت عن زوجها، حلت للسيد من غير استبراء على العدة " فجرى جواباه في الإملاء مضاداً لجوابيه في الأم.
هذا نقل النصوص، وأول ترتيب نبتديه أن نذكر في كل مسألة من المسألتين قولين على الإطلاق، ونوجههما، ونفرع عليهما، فإذا نجز الغرض من ذلك، انعطفنا على أول المسألة، وتصرفنا على مأخذ النصوص، ثم ننظر بعده فيما يكون.
فنقول أولاً: من اشترى جارية معتدة عن زوج، فانقضت العدة، فهل تحل للمتملّك من غير استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الأم أنها تحل من غير استبراء. والثاني - وهو المنصوص عليه في الإملاء أنها لا تحل إلا باستبراء مستفتَحٍ بعد العدة.
9964- توجيه القولين: من قال: لا حاجة إلى الاستبراء بعد مضي العدة، احتج
__________
(1) في الأصل: منهما.(15/321)
بأن قال: علة وجوب الاستبراء ثبوت الملك على الرقبة، وقد جرى ذلك والجارية مشغولة بالعدة، والعدةُ تُحرِّمها على مالك الرقبة من غير فرض استبراء مقصود في حق المالك، فكأن العلّة في اقتضاء الحكم استدعت محلاً، وهي فراغُ الجارية عن كل محرِّم سوى الاستبراء، وإذا كانت مشغولة، فقد فقدت العلة محلّها، وسقط أثرها، ثم الأثر الساقط لا يعود بفراغها؛ فإن العلة إذا لم تقتضِ حكمَها مقترناً بها، فقد خرجت عن كونها علة، وإذا هي فرغت، فقد مضت العلة، ولم يثبت تجددُ ملكٍ عند الفراغ.
هذا وجه قول الأم.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن قال: تجدد الملك يوجب استبراءً، فإن كانت الجارية مشغولةً، فقد تنجز بالعلة وجوب الاستبراء، وإنما تأخر أداؤه وإجراؤه، وهذا غير ممتنع، فإن من وطىء معتدة عن الزوج بشبهة ولم يحبلها، فالوطء يوجب العدة، ولكن تأدية عدة الوطء بالشبهة تتأخر إلى الفراغ من عدة الزوج.
وهذا القول أفقه وأوجه، وفيما ذكرناه انفصال عما وجهنا به القولَ الأول.
التفريع على القولين:
9965- إن قلنا بقول الأم، فلو اشترى مزوَّجة ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء أيضاً؛ تعويلاً على أنها كانت مشغولةً بحق الزوج عند حصول تجدد الملك، فإذا طلقها الزوجُ قبل المسيس، حلت للمشتري من غير استبراء، وعليه يُخرَّج جواب أبي يوسف موافقاً لهذا القول من مذهبنا، وليس فيه ما يخرِم أصلاً كلياً؛ فإن النكاح ترتب انعقاده على استبراء، ثم لم يوجد في النكاح شُغل رحم، فليس في إسقاط الاستبراء تسليطٌ على شغل رحم مشغول، وإنما فيه إسقاط استبراء ثبت أصله بعارضٍ اضطربت الظنون فيه.
وإذا فرعنا على قول الأملاء: فلو اشترى معتدةً، فالجواب ما تقدم، ولو اشترى مزوّجةً، فحق الزوج في وضعه على التأبّد، وتجددُ الملك إن أوجب الاستبراء، فتقديرُه وقوفُ أدائه على ارتفاع النكاح يوماًً من الدهر، ولا يرتبط [ارتفاع النكاح بمدة(15/322)
ينتظر انقضاؤها] (1) ، فيعترض في هذه الصورة ما نبهنا عليه.
ولكن إن كان كذلك، فمهما (2) خلت عن حق الزوج، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراء مفتتحٍ مقصود، وذلك الاستبراء لا ينقضي وهي تحت الزوج، بخلاف ما لو وطئت الزوجة بالشبهة، فإن العدة عن الواطىء تعقب الوطءَ، والسبب فيه أن تسلط الزوج بعد اشتغال الرحم بماء الواطىء بالشبهة محال، فلا وجه إلا أن تشتغل بالتربص عقيب الوطء. وإذا انقضت مدةُ العدة، عادت مستحَلّة للزوج.
فأما الاستبراء الثابت على المشتري، فيستحيل انقضاؤه في دوام التزويج؛ فإنه لو فرض ذلك، لم يستعقب حِلاً للمشتري، ووضعُ الاستبراء على أن يستعقب انقضاؤه الحِلَّ لمن عليه الاستبراء، فإذاً إذا اشترى مزوّجةً ومسها الزوج، ثم طلقها، فإنها تعتد عن الزوج، ثم يستبرئها المشتري، وإن لم يكن الزوج مسها، فكما (3) طلقها يستبرئها المشتري، وتحل له.
هذا بيان أصل القولين والتنبيه على التفريع عليهما في مسألة واحدة.
9966- فأما المسألة الثانية وهي إذا زوج السيد أمته، فمسها الزوج، وطلقها، واعتدت عن الزوج، فهل يتوقف استحلال السيد إياها على استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الأم أنه لا بد من استبرائها.
والقول الثاني - أنه لا يجب استبراؤها، بل تحل للمولى بعد انقضاء العدة من غير استبراءٍ جديد، وهذا هو المنصوص عليه في الإملاء.
9967- توجيه القولين: من قال لا يتوقف الاستحلال على استبراءٍ بعد العدة، احتج بأن الملك المطرد على الرقبة لم [يطرأ] (4) عليه زوالٌ وتجدُّدٌ، ولكن جرى من جهة الزوج شغلٌ، ثم انقضى ما هو استبراء عنه، وهو العدة، فوقع الاكتفاء به،
__________
(1) في الأصل: " ولا يرتبط الارتفاع النكاح بهذه ينتظر انقضاؤها " ففي العبارة تصحيف وآثار عجمة.
(2) فمهما: المعنى: فإذا.
(3) فكما: بمعنى عندما.
(4) في الأصل: يطرد عليه زوال.(15/323)
واطرد الحِل بعد مضيّه، وصار بمثابة ما لو وطئت زوجة الإنسان بالشبهة، فإذا انقضت عدة الشبهة، فالحل مستمر بحكم النكاح.
ومن قال بالقول المنصوص عليه في الأم، احتج بأن التزويج أثبت استحقاقَ حِلِّ البضع للزوج، ثم لا يعود استحقاق السيد إلا بانقضاء العدة، فينبغي أن يقتضي تجدد الاستحقاق في حل البضع استبراءً، وهذا أخصُّ باقتضاء الاستبراء من تجدد الملك على الرقبة.
هذا بيان توجيه القولين.
9968- ويتفرع عليهما ارتفاعُ التزويج من غير فرض مسيس، فإذا فرعنا على قول الأم، فطلّق الزوج الأمةَ قبل المسيس، لم يستحلّها المالك من غير استبراء لما أشرنا إليه من عَوْد الاستحقاق بعد زواله.
وإذا فرعنا على قول الإملاء، لم يجب على المالك استبراءٌ؛ لاطراد الملك على الرقبة، ولم يوجد من جهة الزوج شُغل يقتضي الاستبراءَ عنه.
9969- وإذا ثبت ما ذكرناه من إجراء القولين في كل مسألة، رجعنا بعد ذلك إلى الكلام على النص، فنقول: النصان المنقولان عن الأم في المسألتين ظاهرهما التناقض؛ من جهة أنه أوجب الاستبراء على المالك إذا زال التزويج الطارىء على الملك بناءً على تجدّد الاستباحة بعد زوالها، وهذا التعليل يقتضي أن يقال: إذا اشترى مزوّجة، ثم تخلت عن الزوج، تعيّن الاستبراء، لأنه يستحق استباحتها بتخلّيها عن الزوج، فلئن لم يقتضِ تجددُ الملك على الرقبة استبراء، لأنه صادفها مشغولة بحق الغير، فليقتضِ تخلّيها استبراءً لثبوت حق الاستباحة.
وكنت أود أن يكون تصرف الأصحاب في مسألتي الأم وجوابي الشافعي فيهما من طريق النقل والتخريج كما أشرت إليه من اختلاف الجوابين، ولم يصح عندي أن الشافعي ذكر المسألتين في الأم متواليتين، فيعسر لذلك طريق النقل والتخريج.
فإن والى الشافعي بين جوابيه في المسألتين، فالممكن في ضبط الجوابين بمسلكٍ واحد أن يقال في إيجاب الاستبراء: تجدُّدُ الملك على الرقبة، وتجدُّدُ الاستحقاق في(15/324)
الحِلّ في حكم [البيع] (1) الملحق بتجدد ملك الرقبة لو تجدد، فإذا اشترى الرجل جارية مزوّجة، وقد جرت العلة الظاهرة عادمةً محلَّها، ومحلُّها (2) فراغ الجارية، فإذا تعطّلت العلة الظاهرة، لم يكن لثبوت الحِل بعدها حكمٌ، وإذا زال الاستحقاق في استمرار الملك ثم تجدد، فهذا متجدد، فلا يمتنع أن يقتضي استبراءً، وهذا يناظر من أصل الشافعي تعطيله التوريث بالقرابة البعيدة بسبب القرابة القريبة إذا هما اجتمعتا لشخص واحد، وكانتا بحيث لا يجوز التوصّل إلى تحصيلهما، فالقرابة البعيدة كالمعدومة، وكأنْ لا قُرب بها مع القرابة القويّة القريبة، ولو تجرّدت القرابة البعيدة، لوقع التوريث بها. وهذا تكلُّفٌ.
9970- فأما الجوابان المنقولان عن الإملاء، فلا تنافيَ بينهما، ولا يلتفتان على اختلافٍ، بل هما مأخوذان من أصلين؛ فإنه لم يوجب الاستبراءَ إذا زال التزويج الطارىء على أصلٍ بيّن، وهو استمرار الملك، وأوجب الاستبراء إذا اشترى المزوّجة، وانقطع التزويج وعلاقته؛ لأنه رأى تجدد الملك على الرقبة موجباً استبراء، ثم أخره عن الزوجية وحقها.
9971- وينشأ من هذا المنتهى فصلٌ في تداخل الاستبراء، وقد قدمنا قولاً بالغاً في تداخل العدتين من شخصٍ واحد، وعدمِ تداخلهما من شخصين، ونحن نذكر ما يليق بالاستبراء من هذا الحكم، ونعتمد تصوير تعدد السبب، وفيه عسرٌ؛ من جهة أن السبب الأظهر [في] (3) إيجاب الاستبراء تجدد الملك على الرقبة، ومن ملك جارية ثم باعها قبل الاستبراء، انقطع وجوب الاستبراء عن الأول وفاقاً، وتجدد بملك الثاني سببٌ في اقتضاء الاستبراء، وليس ذلك كوطء الشبهة يطرأ على العدة؛ فإنه لا يتضمن قطع وجوب العدة الأولى، فلا جرم لا نقضي بتداخل العدتين، ونُقدِّم
منهما ما يقتضي الشرعُ تقديمَه.
__________
(1) في الأصل: البايع.
(2) في الأصل: أو محلها.
(3) في الأصل: من.(15/325)
فلا يتصور إذاً من هذه الجهة اجتماع سببين من شخصين مقتضيين للاستبراء، بل السبب المتأخر ينسخ المتقدمَ، ويقطعه ويستأصلُ موجَبه، فإذاً لا يتأتى فرضُ اجتماع السببين من شخصين إلا في صورةٍ واحدة، وهي أن يكون لرجلين جارية مشتركة، فلو وطئاها، فلا شك في تحريم الوطء، فلو أرادا تزويجها وقد وُجد من كل واحد منهما ما يشغل الرحم، ولو كانت مستخلصة لواحد، ورام تزويجها بعد الوطء، لم يجد إلى ذلك سبيلاً ما لم يستبرئها، فإذا تعدد الشاغل، فهل يقع الاكتفاء بحيضة، حتى إذا مضت يسوغ تزويجُها، أم لا بد من الاستبراء بحيضتين: حيضة عن هذا وحيضة عن الآخر؟ فعلى وجهين: من أصحابنا من قال: لا بد من استبراءين لتعدد السبب والشخص، قياساً على العدتين إذا وَجَبَتَا عن شخصين.
ومن أصحابنا من اكتفى بحيضة واحدة؛ فإن الغرض من هذا النوع من الاستبراء قيام علامة براءة الرحم، وهذا المعنى يحصل بالحيضة الواحدة.
وقرَّب أئمة المذهب هذا الاختلافَ من تردد الأصحاب في أصل الاستبراء وما هو المعتبر منه، فمن زعم أن الاستبراء بالطهر، كان ذلك منه تغليباً لمعنى التعبد، وذلك يقتضي التعددَ إذا تعدد الشخص والسببُ، ومن صار إلى أن المعتبر في الاستبراء الحيضُ دون الطهر، لم يبعُد عنده الاقتصار على الحيضة الواحدةِ؛ فإن سبيل دلالة الحيضةِ الواحدةِ إذا جرت على ترتب الأدوار كسبيل دلالة حيضتين فصاعداً.
هذا قولنا في تداخل الاستبراءين وامتناعِ تداخلهما.
9972- وأما القول في تداخل الاستبراء والعدة، فإذا اشترى الرجل جاريةً معتدة، فانقضت العدة، فقد ذكرنا جوابي الأم والإملاء، في أنه هل يجب بعد العدة استبراءٌ على المستبيح بالملك.
وقد يخطِر للفطن أن هذا يتنشأ من اندراج الاستبراء تحت العدة نفياً وإثباتاً، حتى إن حكمنا بالاندراج، لم نوجب استبراءً مقصوداً بعد مدة العدة، وإن لم نحكم بالاندراج، أوجبنا الاستبراء بعد العدة.
وهذا ليس على وجهه؛ فإن الأئمة طردوا القولين في المشتراة المعتدة سواء بقي(15/326)
من عدتها مقدار الاستبراء أو كان الباقي أقلَّ من مقدار الاستبراء، ولو كان ذلك مأخوذاً من التداخل، لاعتبرنا بعد الشراء مدة استبراء كامل؛ فإنا لما حكمنا بتداخل العدتين من شخص واحد، ثم فرضنا منه وطئاً، وقد بقي من العدة لحظة، فنعتبر من وقت الوطء عدة كاملة، فذلك الاختلاف مأخذه أن المشغولة إذا اشتريت، فالشراء هل يوجب الاستبراء فيها أم لا؟ والقولان جاريان أيضاًً في المنكوحة إذا لم يمسها زوجها، ثم تخلّت عن الزوجية من غير مسيس.
نعم، إن أردنا تصوير التداخل بين الاستبراء والعدة، فرضنا أَمةً مطلقة جارية في العدة، وقد وطئها السيد بالشبهة، فهي لا تزوج ما لم تتخلّ، فلو كان بقي من العدة مقدار استبراء [فهل] (1) يقع الاكتفاء به أم نقول: تنقضي العدة ونعتبر استبراءً عن السيد بعدها ثم تزوج؟ فعلى وجهين مأخوذين من تداخل الاستبراءين في الصورة التي قدمناها.
9973- هذا بيان نصوص الأم والإملاء على كماله، وقد لاح مخرج جواب أبى يوسف على قول النص عليه في الأم، كما قدمناه.
ونحن بعد ذلك نعقد فصلاً يحوي مقاصد الاستبراء، ونرسم فيه أنواعاً شاملة لا نغادر فيها غرضاً، وإن انسل عن الضبط مسألة أو مسائل، رسمنا فروعاً، إن شاء الله تعالى.
فصل
في بقية الاستبراء يشتمل عليها أنواع
9974- النوع الأول - في بيان ما يوجب الاستبراء وقد قدمنا في صدر الباب الأول أن ما يوجب الاستبراء ينقسم إلى ما يزيل الملكَ وإلى ما يثبت الملك، واستقصينا القولَ فيما يزيل الملك.
ونحن الآن نذكر التفصيلَ فيما يجدّد الملك، فنقول: السبب الأظهر، والمعنى
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(15/327)
المعتبر في ذلك ثبوتُ الملك على الرقبة ممن يتصور منه الاستحلال، فمن ملك -وهو ممن يستحل- جاريةً بمعاوضةٍ، أو تبرعٍ، أو إرث، أو عقدٍ، أو فسخٍ، أو سببي واسترقاقٍ جاريةً (1) ، تعيّن عليه استبراؤها، ولا تحل له دونه.
قيدنا الكلام بمن يتصور منه الاستحلال؛ فإن المرأة لو اشترت جاريةً، لم يلزم الاستبراءُ، وإذا اشترى الرجل واحدة من محارمه، فلا معنى للحكم بوجوب الاستبراء؛ فإن الاستبراء في معنى الأجل الذي إذا انقضى أفضى إلى الحلّ، فإذا لم يكن الحِلّ متوقعاً، لم يكن لتقدير الاستبراء معنى.
ثم مهما (2) تجدد الملك، فحكم وجوب الاستبراء ما ذكرناه، حتى لو اشترى جاريةً واستبرأها، ثم باعها، وانتقل الملك إلى اللزوم، ورُدّت عليه، وكل ذلك [في] (3) لحظة، فعليه أن يستبرئها مرة أخرى، وإن لم يطرأ شاغل؛ نظراً إلى التجدد المتأخر، ولا التفات للاستبراء على سابق (4) ، وليس يجب لأجل شغل متقدم، وإنما وجوبه يتعلق بتجدد الملك في نفسه، ثم لا فرق بين أن يكون تجدده بفسخٍ، أو بعقد كما ذكرناه.
ولو فرض التّقايل، فعلى الذي ترتد إليه الجاريةُ الاستبراءُ، سواء قلنا: الإقالة فسخ، أو قلنا: إنها بيع.
9975- وإذا باع الرجل الجاريةَ، وفرعنا على أن الملك يزول إلى المشتري في زمان الخيار، فلو فسخ البائع البيع، وارتدت الجارية إلى ملكه، فقد زال ملكه، ثم تجدد، فهل يلزمه الاستبراء، أم يشترط أن يكون زوال الملك على حكم اللزوم، والتجدُّدُ مترتبٌ عليه؟
ذكر طوائف من أئمتنا أن الاستبراء يجب؛ طرداً لما ذكرناه من النظر إلى تجدد الملك.
__________
(1) جاريةً: مفعول لقوله: " ملك " وقد كررها -بعد أن ذكرها- لطول الفصل.
(2) مهما: بمعنى (إذا) أو (كلما) .
(3) في الأصل: به لحظة.
(4) أي على ملكٍ سابق.(15/328)
وهذا عندي يُخرَّج على أصلٍ، وهو أن من باع الجارية ووقع التفريع على زوال ملكه، وكان الخيار ثابتاً للبائع، فهل يحل الإقدام على وطء الجارية؟ فيه كلام قدمناه في أول البيع، والمذهب الأصح أنه يحلّ للبائع وطؤها، ثم يقع الوطء فسخاً.
وذهب بعض أئمة المذهب إلى أن الإقدام على الوطء لا يحل، ولست أعيد تلك التفاصيل.
والغرض مما ذكرناه أنا إن حكمنا بأن الوطء يحرم على البائع، فإذا فسخ البيع، لم يمتنع وجوب الاستبراء عليه لمكان تجددِ الملك وترتبِه على تحريم الوطء.
فأما إذا حكمنا بأن الوطء مباح للبائع [لوقوعه] (1) فسخاً، فهذا يخرج على أصل مقصود في نفسه، وهو أن من نكح جارية واشتراها، ففي وجوب الاستبراء عليه خلاف، والأصح أنه لا يجب؛ لأنه نقلها من حلٍّ إلى حل. ومن أصحابنا من أوجب الاستبراء؛ نظراً إلى تجدد الملك، ثم إلى اختلاف الجهة.
ونقول بعد ذلك: إذا فسخ البائع البيع، فهذا يترتب على الخلاف الذي ذكرناه في شراء المزوّجة، فإن لم نوجب على الزوج الاستبراء، لم نوجبه على البائع إذا فسخ؛ فانتفاء الاستبراء في حقه أولى.
وإن أوجبنا الاستبراء على الزوج إذا اشترى زوجته، ففي البائع إذا فسخ -والتفريع على أنها مستحلةٌ له قبل الفسخ- وجهان مبنيان على المعنيين اللذين أشرنا إليهما في مسألة الزوج: فإن اعتمدنا النقلَ من جهة إلى جهة، فلا استبراء على البائع؛ فإنه نقلها من ملك إلى ملك، وإن اعتبرنا ثَمَّ تجدد الملك، فهذا المعنى متحقق في البائع.
هذا منتهى كلامنا في إيضاح تجدد الملك على الرقبة وبيان اقتضائه للاستبراء.
9976- ومما يتعلق بموجبات الاستبراء أن الرجل إذا كاتب جاريته، ثم إنها عجزت ورَقَّت أو أرقت نفسها اختياراً، فقد أجمع الأصحاب على أنه يجب على السيد أن يستبرئها وإن لم يزل ملكه عن الرقبة بالكتابة، والسبب فيه أن الكتابة أثبتت لها حق الاستقلال، حتى إنها تُعامِل سيدَها معاملةَ الحرائر، ولو وطئت، فالمهر لها، فإذا
__________
(1) في الأصل: لو نزعه فسخاً.(15/329)
تجدد احتكام السيد عليها بالعَوْد إلى الرق، كان ذلك بمثابة تجدد الملك على الرقبة في إيجاب الاستبراء.
ولهذا قال الأصحاب: إذا وطىء الرجل جاريةً بملك اليمين، وحرمت عليه أختها، فلو [ماتت] (1) التي وطئها، حلّ له وطء الأخرى، كما تحل له لو باع الأولى.
ولو زوج الرجل جاريته، ثم تخلّت عن الزوج، وما كان جرى مسيس، فهل يجب على السيد أن يستبرئها، فعلى القولين المنقولين عن الأم والإملاء، ويمكن تخريجهما على أن الزوج استحق الحل منها، وانقطع ذلك من السيد، ثم إذا تخلت وعاد استحقاق [السيد] (2) فهل يكون هذا التجدد في الاستحقاق بمثابة التجدد في ملك الرقبة بالتجدد في الرق بعد الكتابة؟ فعلى قولين.
9977- ولو ارتدت الجارية وحرمت لردتها، ثم أسلمت، ففي وجوب الاستبراء خلاف، والأولى ترتيبه على القولين في ارتفاع الزوجية.
والأوجه في المرتدة انتفاءُ وجوب الاستبراء؛ فإن الردة وإن حرمتها؛ فإنها ما حلت لغير المولى، والزوجة حلت للزوج، [وثبوت] (3) استحقاقه الحل في معنى الأملاك المحققة، والردة لا تقطع الملك، وإنما تنافي الحلّ. نعم، أثرها ظاهر في قطع النكاح كما سبقت مسائله.
ولو أحرمت الجارية، ثم تحللت، فقد ذكر الأصحاب خلافاًً في وجوب الاستبراء اعتباراً بالردة؛ فإن المرتدة محرمةٌ كالمُحرِمة، فلا أثر للإحرام والردة في قطع ملك اليمين وإنهاء تصرف المالك، والأصح أن الاستبراء لا يجب إذا أسلمت المرتدة، أو تحللت المحرمة.
ولست أرى لترتيب المُحْرِمة على المرتدة وجهاً -وإن كان شيخي يتولع به- لأن
__________
(1) في الأصل: كانت.
(2) في الأصل: الزوج.
(3) في الأصل: وثبت.(15/330)
الإحرام يترتب على الردة في أحكام النكاح، فأما في ملك اليمين، فلا فرق بينهما، وليس الإحرام فيما ذكرناه كالصوم؛ إذ لا خلاف أن الصائمة إذا أفطرت، استحلت للمولى؛ فإن الصوم لا يحرم وجوه الاستمتاع، وإنما يحرم الوطء والتلذذ المفضي إلى الإنزال، والإحرام يحرم جميعَ وجوه الاستمتاع، فجرى الخلاف فيه على بُعدٍ، كما ذكرناه.
9978- ومما نلحقه بهذا النوع أن الرجل إذا أسلم في جارية ووصفها، ثم سلمت إليه جارية، فلم يجدها على الصفات؛ فإن رضي بها، استمر ملكه فيها، وإن ردها، وعاد إلى المطالبة بالجارية على الصفات المطلوبة، فهل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدّت عليه إذا لُقيت غيرَ مستجمعةٍ للصفات المذكورة؟
فعلى قولين مبنيين على أن ملكه هل زال عنها إذا سلمها ثم عاد، وفيه قولان ذكرناهما في كتاب البيع في مسائل الصرف، وكلُّ مقبوض عن جهة الديون إذا لم يكن على الصفات المستحقة، فردّ فهل نقول: زال الملك فيه وعاد؟ فعلى القولين، والشرط أن يكون بحيث لو رضي القابض به، لاستمر ملكه فيه؛ إذ لو لم يكن كذلك، فلا بد في تصوير ملكه من عقدٍ واعتياضٍ إن كان الدين مما يصح الاعتياض عنه.
ومن المغالطات في السؤال أن يقول قائل: لو أقرض رجلٌ جارية، ثم استردها في عينها، فهل عليه أن يستبرئها إذا لم يوجد من المستقرض وطء، والجواب أن ذلك يجب.
فإن قيل: هلا خرجتم هذا على أن المستقرض متى يملك ما استقرض؟ قلنا: إقراض الجواري لا يصح إلا على قولنا: إن المستقرض ملك بنفس الاستقراض [القرضَ] (1) .
ومن أحاط بالأصول السابقة، كفته هذه المرامز، فإن لم يقف عليها المنتهي إليها، فليطلب أصولها من مواضعها.
__________
(1) في الأصل: " والقرض ".(15/331)
وقد نجز الكلام في هذا النوع، وهو تفصيل ما يوجب الاستبراء.
9979- النوع الثاني - في بيان ما ينافي الاعتداد بالاستبراء، فنقول: من ملك جارية، وتم ملكه فيها على اللزوم، وثبتت يده عليها، فإذا كانت بحيث تحل له لولا الاستبراء، فإذا مرت بها حيضة، كانت استبراء.
ولو اشتراها على ما صورنا وكانت مجوسية، فمرت بها حيضة، ثم أسلمت، فهل يقع الاعتداد بتلك الحيضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها استبراء كافٍ بجريانها في الملك التام. والثاني - أنها ليست باستبراء؛ فإن الاستبراء هو الذي يوجب تحريم المستبرأة، ولم تكن الحيضة في حق المجوسية كذلك؛ فإنها كانت محرمةً بدينها، وقد ذكرنا أن الاستبراء بالإضافة إلى الحل بعده يضاهي الآجال في الديون؛ من حيث إنها تحل بانقضائها، وتتوجه الطلبة بها عند انتهائها، والمجوسية محرمة ما دامت متمسكة بدينها، وحالها بعد الحيضة كحالها في زمان مضيها.
9980- وطرد أصحابنا هذا الاختلاف على هذا النسق في تملك المرتدة، ومضي الحيضة في زمن الردة.
وطردوه أيضاً في تملك المحرمة وانقضاء الحيضة في دوام الإحرام.
ومنشأ الخلاف في هذه المسائل من قيام التحريم بسببٍ غيرِ الاستبراء.
ولا خلاف أن هذه المعاني لا تنافي انقضاء العدة ومضيَّها، والفرق أن العدة تتعلق بشغلٍ سابق أو حرمةٍ متقدّمة، والاستبراء لا يتعلق بسابق، وإنما يتعلق باستجلابِ مطلوبٍ في الاستقبال.
ثم ذكر بعض الأصحاب في الردة إذا طرأت على الملك، والإحرامِ إذا طرأ ثم زال خلافاًً في أنه هل يجب الاستبراء؟ وقد أشرنا إلى ذلك في النوع الأول من الفصل.
والذي اختاره المحققون أن طريان هذه الأشياء ثم زوالها لا يتضمن إيجاب الاستبراء؛ فإنه لا يتحقق بزوالها تجدد ملك واستقلال، وتجدد الحِلّ لا يوجب استبراءً لتحل، وإنما يثور من فرض هذه المعاني خلافٌ في الاعتداد بالاستبراء معها، كما ذكرناه.(15/332)
ومما يتعين على الناظر في حقائق المذهب أن يميز الأصولَ ومثارَ الفروع منها، إذا التفّت في المضايق.
ولو اشترى الرجل جارية وبقيت في يد البائع حتى مرت عليها حيضة، فالأصح أنها تقع استبراء.
وذكر الأصحاب وجهاً آخر مشهوراً في أنها لا تقع استبراء، ووجهوه بأن الملك غيرُ مستقر عليها قبل القبض، والعقدُ عرضةُ الانفساخ، وإنما يقع الاعتداد بالاستبراء إذا جرى في ملك مستقر.
وهذا غير سديد مع الحكم بلزوم الملك للمشتري.
9981- ولو اشترى جارية على شرط الخيار وقبضها، فمرت بها حيضة، فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، فلا تقع الحيضة استبراء، وإن قلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري، ففي الاعتداد بتلك الحيضة استبراءً وجهان: أحدهما - أنها تقع استبراء لمصادفتها ملكَ المشتري. والثاني - لا تقع استبراء لضعف ملكه.
وهذا قريب من مأخذ الخلاف في الجارية قبل القبض؛ فإنْ خطر لمرتِّبٍ أن يجعل مسألة الخيار أولى بأن لا نعتد فيها بالحيضة؛ من جهة جواز الملك، لم يبعد ذلك، على شرط أن نقول: لو تلفت الجارية في يد المشتري، انفسخ البيع، [فتستوي] (1) المسألتان في التعرض للانفساخ، وتختص مسألة الخيار بالجواز.
وإن قلنا: لا ينفسخ [البيع] (2) بالتلف في يد المشتري في زمان الخيار، اعتدلت المسألتان ولم يلح [فرقٌ به] (3) مبالاة.
وإن مرت الحيضة في زمان الخيار في يد البائع، ففي وقوع الاستبراء خلاف مرتب لا يخفى إيضاحه، وإن قبض المشتري الجارية، وكان منفرداً بالخيار -والتفريع على أن الملك له- فيجب القطع بالاعتداد بالاستبراء، فإن الملك لازم للمشتري بمعنى أن الغير لا يَنْقُضُ عليه، والخيار مزيد سلطنة له.
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: برؤية مبالاة.(15/333)
وإذا مرت الحيضة بالجارية الموهوبة في يد الواهب، فلا اعتداد بها؛ فإن الملك في الجارية للواهب قبل الإقباض، وإن قلنا: إذا حصل الإقباض، استند الملك تبيُّناً إلى الهبة، فالوجه عندنا القطع بأن الحيضة لا يعتد بها.
وقد ينقدح على بُعْدٍ الاعتدادُ بها إذا جرت في الملك المتبيَّن.
ومن أُوصي له بجارية ونفذت الوصيةُ وقبلها الموصى له، فجرت الحيضة في يد الورثة قبل قبض الموصى له وبعد قبوله، فالحيضة (1) استبراء صحيح؛ فإن الملك في الوصية لا يتوقف على القبض.
وحكى صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن الحيضة لا تقع استبراء، وبالغ في تزييفه، وليس هذا عندنا في رتبة الوجوه الضعيفة، بل هو خطأ قطعاً من قائله. وقد نجز هذا النوع.
9982- النوع الثالث في بيان ما يحرم من المستبرأة في زمان الاستبراء فنقول: جميع وجوه الاستمتاع محرمة في زمان الاستبراء، وهذا يطَّرد في كل مستبرأة.
والمسبيةُ محرمة الوطء في زمان الاستبراء، وفي تحريم سائر وجوه الاستمتاع اختلاف مذكور في الطرق: من أصحابنا من طرد القولين بوجوب التحريم في جميع وجوه الاستمتاع؛ قياساً للمسبية على المستبرآت جُمَع، وهذا قياس واضح.
ومنهم من لم يُحرّم من المسبية جميعَ وجوه الاستمتاع، واعتلّ بأن سبب تحريم الاستمتاعات من المستبرآت تجويزُ أن تكون أمَّ ولد لغير المشتري، ولو قدر ذلك، لكانت محرمة على غير المستولد، والحربيةُ المسبية لو تبين أنها حامل، لكان الرق جارياً عليها وعلى حملها، وإذا كانت الحرة تسبى، فالمستولدة تسبى.
والاستبراء في المسبية في حكم التطهير لها، حتى تنتفض عن ماءٍ إن كان، وهذا يوجب التخصيصَ بالوطء، والذي يؤيد الكلام أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأمره في سبايا هوازن، وقال: " ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائلٌ
__________
(1) في الأصل: والحيضة.(15/334)
حتى تحيض "، فاقتضى النداء الاقتصارَ على تحريم الوطء، وكانت السبايا مختلطات بالمسلمين، ويغلب على الظن امتداد الأيدي إليهن، فلما لم يحرم الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلا الوطءَ، مع الحال التي وصفناها، اقتضى ذلك تخصيصَ الوطء بالحظر.
9983- ثم ينقدح عندنا في التفريع على هذا الوجه أمر بدعٌ، وهو تنزيل المسبية منزلة الحائض، حتى يجوزَ الاستمتاع بما فوق السرة وما تحت الركبة، وترددَ المذهبُ في الاستمتاع بما دون الإزار مع توقِّي الوطء، ولو كان لا يجري هذا لحق الاستبراء يجرى لحق الحيض.
ثم إذا قلنا: الاستبراء بالحيض، ولا يَحْرُمُ إلا الوطءُ؛ [والاستمتاعُ] (1) بما تحت الإزار، فلست أرى لإيجاب الاستبراء معنى إلا إذا كانت حاملاً، أو سُبيت في بقيةٍ من الطهر، أو قلنا الاستبراء بالطهر.
فأما إذا صادف السبيُ أولَ الحيضة، وفرعنا على أن الاستبراء بالحيض، فلا يكاد يظهر في حق السابي لوجوب الاستبراء معنى.
واتفق الأصحاب على طرد وجوب الاستبراء في الأبكار من الجواري، وحكى صاحب التقريب في البكر المسبية وجهاً بعيداً أنه لا يجب استبراؤها، وخصص هذا الوجه بالمسبية، وهو مطَّرحٌ مزيّف لا اعتداد به.
ثم إذا جرينا على الأصح، وحكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فإذا انقضت حيضة كاملة، فتحريم الوطء يدوم عندنا بسبب الحيض إلى الاغتسال، فلا تحل الحائض إذا طهرت ما لم تتطهر، وسائر وجوه الاستمتاع إن كان التحريم منوطاً بالحيض حكمها حكم دوام الحيض.
وإذا حرمنا وجوهَ الاستمتاع لأجل الاستبراء، ثم انقضت الحيضة، فالمذهب أن ما حرم لأجل الاستبراء يحل، ولا يبقى التحريم إلا فيما يقتضي الحيض تحريمه.
وفي بعض التعاليق المعتمدة عن القاضي حكاية وجه بعيد منسوب إلى بعض الطرق
__________
(1) في الأصل: "إذ الاستمتاع".(15/335)
المعتمدة أن تحريم وجوه الاستمتاع لأجل الاستبراء يدوم إلى الاغتسال، وهذا ليس بشيء، وقد بحثت عن الطرق، فلم أجد لهذا الوجه ذكراً في شيء منها.
فرع:
9984- إذا ملك جارية من ذوات الأقراء والتفريع على أن الاستبراء بالحيض، فتباعدت حيضتها، كان القول فيها كالقول في المعتدة إذا تباعدت حيضتها، وقد مضى ذلك مفصلاً.
ولو قالت الجارية: قد حضت، فللمولى تصديقها، ولو أراد أن يحلفها لم يكن له ذلك؛ فإن الأيْمان إنما تجري في الخصومات، ولا سبيل إلى الإجبار على اليمين، ولو نكلت لم يتجدّد بنكولها حكم، فلا معنى لتحليفها.
ولو قالت: لم أحض، وقال المولى: لقد حضت، فالقول قولها؛ فإنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فلو أراد السيد أن يحلّفها، فلست أرى لذلك وجهاً أيضاً؛ فإنها لو نكلت لم يستمكن المولى من الحلف، لما ذكرناه من أنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فإذا استحال الإجبار على اليممن، والنكولُ لا يفيد أمراً، فلا معنى للتحليف.
ولو قال المولى: قد أخبرتني أنها حاضت، فمثل هذه الواقعة لا ترتفع إلى مجلس الحكم، فإن ارتفعت الأمة متحرّجة فيما زعمت، وذكرت أن السيد يغشاها من غير استبراء، وقال السيد؛ قد استبرأتها، فهذا مشكل عندي، والأوجه تصديق السيد؛ إذ لو لم يكن كذلك، لحال الشرع بين المستبرأة وبين المولى، [كما يحول] (1) بين المعتدة وبين مَنْ منه العدّة؛ وهذا يبين أن الاستبراء بابٌ من التقوى، وظّفه الشرع على المولى، ولم يُثبت للأمة فيه خصاماً.
وفي المسألة احتمال.
وحقيقة القول في هذا ترجع إلى أن الجارية هل لها حق المخاصمة في ذلك أم لا؟ وقد ذكر القاضي في مسألة تقترب من هذه تردداً، وذكر أنه ذكره أصلاً، ونحن نصف ما قاله رضي الله عنه:
__________
(1) في الأصل: كما لا يحول بين المعتدة وبين من منه العدة.(15/336)
إذا ورث الرجل جاريةً من أبيه أو ابنه، وزعمت الجارية أن المتوفَّى كان أصابها في الحياة، فللوارث ألاّ يصدقها، والورع أن يجتنبها، وقد ذكرنا هذا في مسائل أبي يوسف، فلو أرادت الجاريةُ أن تحلِّف الوارث، فهل لها ذلك؟
تردد القاضي فيه، ثم بنى تردده على أصلٍ، وهو أن الأبرص إذا اشترى جارية، فهل لها الامتناع عن تمكينه من الوطء؟ فيه اختلاف. فإن قلنا: لها ذلك، فقد أثبتنا لها طرفاً من الحق في الوطء، إذا ساغ لها أن تتخيّر السليم عن المعيوب، وتمتنع عن قربان المعيب، فلا يبعد على ذلك أن يثبت لها [حق] (1) الخصام إذا كانت تعتقد خطراً.
وهذا المسلك يجرى حيث انتهى الكلام إليه في الاستبراء. والله أعلم.
فرع:
9985- إذا اشترى الرجل جارية حاملاً من نكاح، فوضعت، فإن كان النكاح قائماً، أو كانت مطلقة، فهذه مسألة الأم والإملاء، وقد مضت على الاستقصاء.
وإن كانت حاملاً من الزنا، فوضعت الحملَ، فالمذهب الظاهر أن الاستبراء يحصل بوضعها الحمل، وإن كانت العدة لا تنقضي بوضع ولد الزنا؛ وذلك أن العدة منسوبة إلى مَنْ منه العدة، فليكن الولد منسوباً إليه، وهذا المعنى لا يتحقق في الاستبراء، فليقع الاكتفاء فيه بصورة وضع الحمل.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الاستبراء بوضع الحمل من الزنا؛ فإن الغالب على الاستبراء التعبد لا البراءة، وولد الزنا لا حرمة له.
ولا خلاف أن المسبية إذا وضعت الحمل، حلّت للسابي، ولا نبحث عن سبب علوقها تعلقاً بظاهر نداء المصطفى عليه الصلاة والسلام: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ".
فرع:
9986- المستبرىء إذا وطىء المستبرأة لم يلتزم بوطئها إلا المأثم ولم ينقطع الاستبراء، وليس كالعدة، فإنا قد ذكرنا من مذهب بعض الأصحاب على
__________
(1) في الأصل: من الخصام.(15/337)
تفاصيلَ أوضحناها أن الانعزال شرط في الاعتداد بالعدة.
ثم إذا وطىء الجاريةَ وهي في أثناء الحيضة، فعلقت، فإن كان مضى من الحيض يوم وليلة، فالذي نراه أن الاستبراء تَمَّ، وإن كان يغلب على الظن أن الحيض انقطع بسبب العلوق؛ فإن الذي مضى حيض تامٌّ، فلا نظر إلى السبب الذي أوجب انقطاعه، وفائدة ما ذكرناه أنه يستحلّ وطأها في زمن الحمل، وقد انقضى الاستبراء.
ولو لم يمضِ من الحيض يوم وليلة، فوطئها، فعلقت، واحتبس الحيض بسبب العلوق فيما يظن، فلا يعتد بما مضى من الدم؛ فإنه أقل من الأقل، والاستبراء إنما يقع بحيضٍ تام.
ونقول في مثل هذه الصورة: لو كانت تركت الصلاة، فهي مأمورة بإعادتها، وإن كنا نظن أن سبب احتباس الحيض العلوقُ؛ فإن هذه الأمور مظنونة، ونظرُنا إلى مقدار الدم، وأسبابُ الاحتباس [مغيّبة] (1) لا تُحيط العلومُ بها، فخرج من ذلك أن الاستبراء [فيها] (2) إذا وضعت هذا الحمل. والذي أراه أن وضع الحمل استبراء؛ فإن هذا لا ينقص [عن] (3) حيضة، والعلم عند الله.
9987- وقد جمعنا في الزوائد كلاماً لابن الحداد في الاستبراء، وقد [فَضَضْنا] (4) جميعه على القواعد، ولم يَشذّ منه إلا فرعان لا يتعلقان بالاستبراء:
أحدهما - أن من نكح أَمةً ثم اشتراها، ووقع الحكم بانفساخ النكاح، فمضت ستةُ أشهر من وقت الانفساخ، وأتت الجارية بولد يمكن أن يكون العلوق به من النكاح، فالولد يلحق السيد الذي كان زوجاً، وإن لم يوجد منه إقرار بالوطء في ملك اليمين؛ وذلك أن النسب يلحق بإمكان العلوق من النكاح، والمملوكة لا تنحط عن البائنة، ولو أبان الرجل زوجته، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، للحق النسبُ لا محالة، ثم إذا لحقه النسب، لم تصر الجارية أم ولد له؛ لأنه لم
__________
(1) في الأصل: معيّنة.
(2) في الأصل: فيما.
(3) في الأصل: من.
(4) في الأصل: قصصنا.(15/338)
يعترف بوطء في ملك اليمين، ونحن إنما ألحقنا النسب لاحتمال كون العلوق في النكاح، وهذا لا يُثبت أميةَ الولد.
وحكى القفال وجهاً بعيداً أن الجارية تصير أم ولد؛ لأنه لحقه منها ولد في ملك اليمين، لزمان يحتمل أن يكون العلوق منه في ملك اليمين، وهذا ضعيف لا أصل له.
9988- وإذا فرعنا على الأصح، وهو أنها لا تصير أم ولد، فلو أقر بوطءٍ في ملك اليمين، واحتمل أن يكون الولد منه، واحتمل أن يكون من النكاح، والتفريع على أن أمية الولد لا تثبت لو لم يقر بالوطء في ملك اليمين، فهل تثبت أمية الولد إذا أقر بالوطء في الملك؟
هذا فيه تردد عندنا؛ من جهة أن ثبوت النسب ليس متوقِّفاً على الوطء في ملك اليمين؛ إذ لو لم يقر بالوطء، للحق أيضاًً، وأميةُ الولد تبعُ الولد، ويجوز أن يقال: تثبت أمية [الولد] (1) ؛ فإن الإقرار بالوطء يُثبت فراش ملك اليمين، والفراش اللاحق [ينسخ] (2) حكم الفراش السابق وإن شملهما الاحتمال.
ولذلك قلنا: إذا تزوجت المرأة وأتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من زوج قبله، فالولد يلحق الثاني، حتى لو نفاه الثاني باللعان، لم يلحق الأول أيضاً، [والأولى] (3) أن نقول: لا يقوى الافتراش بملك اليمين على فسخ أثر فراش النكاح؛ من جهة أن الإمكان كافٍ في فراش النكاح، ولا حاجة إلى الاعتراف بالوطء، بخلاف ملك اليمين، وأيضاً فالناكح والمالك واحد، والتناسخ في حقه أبعد.
ولو نكح الرجل أمة، ثم طلقها قبل المسيس، فوطئها السيد، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من النكاح، ويحتمل أن يكون من الوطء الجاري من السيد، فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن نلحقه بالسيد، ويجوز أن نعتقده متردداً بين السيد وبين
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: يفسخ.
(3) في الأصل: والأول.(15/339)
الزوج، وهذا لما أشرت إليه من تخلف ملك اليمين في النسب عن النكاح، والله أعلم.
9989- والثاني (1) الذي أجراه في أثناء الكلام فيما نظن أنا لم ننص عليه في مسائل العِدد: أن الرجل إذا خالع امرأته الممسوسة، وجرت في العدة، ثم جدد النكاح عليها، فلو طلقها من غير مسيس، فقد تمهد أنها تعود إلى بقية العدة (2) ، فلو جدد النكاح عليها، ثم مات عنها، فعليها عدة الوفاة، وهل تكتفي بها أم يعتبر معها حصول بقية العدة التي كانت تعود إليها لو طلقت؟
هذا يخرج على الخلاف في أن العدتين هل تتداخلان من شخصٍ واحد إذا اختلفتا، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وصورناه في الحمل والأقراء، وهذا الاختلاف محقق فيما به الاعتداد، وفي الجهة التي عنها الاعتداد.
فإن قيل: كيف تجوّزون على أحد الوجهين الاكتفاء بالأربعة الأشهر والعشر، مع جواز أنها مشغولة الرحم بالوطء الأول في النكاح السابق؟ قلنا: هذا كما لو وطىء الرجل زوجته ومات عنها، فقد اكتفى الشرع بأربعة أشهر وعشر، وإن كانت هي من ذوات الأقر اء. والله أعلم وأحكم.
***
__________
(1) الثاني من فرعي ابن الحداد المشار إليهما آنفاً بأنهما شذّا عن الإحاطة، فلم يعرض لهما في أثناء الباب.
(2) هذه الصورة نص عليها الإمام من قبل في باب عدة الإماء (انظر ص200 من هذا الجزء) أما ما رسم له الفرع ظنّاً منه أنه لم ينص عليه من قبل -وهو صادق في ظنه- فهو ما سيأتي بعد هذا في الصورة التالية، أي إذا جدد النكاح، ثم مات عنها، فالتزمت عدة الوفاة ... إلخ.(15/340)
كتَابُ الرَّضَاعِ
9990- حرمة الرِّضاع (1) ثابتة بنص القرآن والسنة المتلقاة بقبول الأمة، وهي من الأصول المجمع عليها، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (2) ، ثم ذهب طائفة من ضَعَفة الفقهاء إلى أن أصول المحرمات مستفادة من نص الكتاب تنصيصاً وتنبيهاً؛ فإنه تعالى نصّ على تحريم الأمهات، والتحريم المضاف إلى الأصول شملها والفروعَ، فكان ذلك ظاهراً من طريق النص والفحوى على تحريم الأصول والفروع، ثم نص على تحريم الأخوات،
فدل على أن ما يقع على جانب الأصول والفصول [يضاهي] (3) في الحرمة النسَب.
وهذا ليس مما يعتد به.
أما تحريم الأمهات والمرتضعين منهن، فمنصوص عليه، وكذلك تحريم الأخوات، ومن زعم أن الكتاب مستقلٌّ بالدلالة على تعميم التحريم في قواعد الرضاع، فليس على بصيرة في النظر في الصيغ وما يتلقى منها، وإن كان ما ذكره هؤلاء إشارة إلى تمهيد طريق القياس، فليس القياس من فوائد الألفاظ، وليست الألفاظ مرشدةً إليه، ولا دالةً عليه، وإنما يتلقى العمل بالقياس من الإجماع، كما تقرره الأصول.
__________
(1) الرّضاع: بفتح الراء وكسرها؛ ولذا لا نضبطها، فكيفما قرأْتَ صادفتَ صواباً.
(2) حديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، متفق عليه من حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما (البخاري: الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، ح 2645، 2646، مسلم: الرضاع، باب يحرم من الرضاعة من يحرم من الولادة، ح 1444، وباب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، ح 1447) .
(3) في الأصل: مضاهي.(15/341)
على أنا لو رُددنا إلى القياس، لم نتوسع فيه في أصول الرضاع، فإن اقتضاء الرضاع الحرمةَ والمحرميةَ ليس مما [يستدّ] (1) فيه قياسٌ معنوي أو شبهي، فلا وجه إلا القطعَ بأن الكتاب تضمّن تبيينَ أصولٍ من الرضاع، ولم يجر تخصيصه إياها على صيغةٍ تتضمن نفيَ ما عداها، فمضمون الكتاب استفتاحُ الكلام في الرضاع، واستتمامه متلقّىً من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه السلام: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وهذا من جوامع الكلم؛ فإنه شامل لقواعد حرمة الرضاع، لا يغادر منها شيئاًً ولا يتطرق إليه تأويل، ولا مثنوية، ولا حاجة فيه إلى تتمةٍ بتصرف قائس.
9991- ثم لما نظر الشافعي إلى مضمون الكتاب والنصِّ الشامل الكامل المنقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، رأى أن يعقب هذا الترتيبَ بالتصريح بإثبات الحرمةِ في جانب الفحلِ؛ فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " مستقل بإفادة التحريم في جميع القواعد.
والذي يكاد يُردّ عنه نظرُ الناظر الحرمةُ في جانب الفحل وانتشارُها؛ من جهة أن اللبن ينفصل عن الأم، فذكر الشافعي على الاتصال بتمهيد القواعد لبنَ الفحل، توطئةً لأصل الكتاب، ثم عقد في لبن الفحل باباً من بعدُ، والحرمة تثبت في جانب الفحل، وتنتشر على مذاهب جماهير العلماء.
والشاهد لذلك حديث خاصّ ناصٌّ يعضد موجَبَ العموم من قوله عليه السلام:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وهو ما روي أن أفلح بن أبي القُعَيْس، وفي بعض الروايات أفلح أخا أبي القُعَيْس استأذن على عائشةَ، فاحتجبت منه فقال: تَحَجَّبين مني؟ أنا عمك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك زوجة أخي بلبان أخي، فقالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل، ثم راجعت عائشة رسول الله فقال عليه السلام: " إنه عمك تربت يمينك، فليلج عليك " (2) .
__________
(1) في الأصل: يستمر. والمثبت تصرّف من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ إمام الحرمين.
(2) حديث ابن أبي القعيس متفق عليه (البخاري: النكاح، باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، ح 5239. مسلم: الرضاع، باب تحريم الرضاع من ماء الفحل، ح 1445) .(15/342)
وسئل ابن عباس عن رجل له زوجتان أرضعت إحداهما غلاماً، والأخرى جارية، هل تحرم المناكحة بينهما، فقال: " اللقاح واحد " (1) وأراد رضي الله عنه بذلك انتسابَ ألبان الزوجتين إلى الزوج الواحد، وذلك يقتضي الأخوةَ من جهة الأب.
ونقل نقلةُ المذاهب عن عبد الله بنِ عمرو، وعبد الله بنِ الزبير، وعائشةَ أنهم كانوا لا يثبتون الحرمةَ وانتشارَها في جانب الفحل (2) ، ثم لم يصحح الأئمةُ الخلاف عن عائشةَ لصحة الحديث المنقول عنها.
وذهب إلى نفي حرمة الفحل الأصم (3) [وعلقمةُ] (4) وإسماعيلُ بن عُليّة (5) .
وهذا المذهب لا عمل به ولا صائرَ إليه، والقول فيه يتصل بما ينعقد الإجماع فيه مسبوقاً بالخلاف.
9992- ثم إن المزني أتى بقواعد الرضاع مبددة، ونحن لا نؤثر مخالفةَ ترتيبه،
__________
(1) حديث ابن عباس رضي الله عنه، رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/24 ح 73) والترمذي: الرضاع، باب ما جاء في لبن الفحل، ح 1149 وانظر التلخيص: 4/9.
(2) مذهب عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وعائشة رضي الله عنهم في لبن الفحل، انظر الروايات عنهم في سنن سعيد بن منصور: 1/237 وما بعدها، السنن الكبرى للبيهقي: 7/451 وما بعدها، تلخيص الحبير: 4/10.
(3) الأصم، أبو العباس محمد بن يعقوب النيسابوري، الورّاق، المعروف بالأصم. ولد سنة 247 هـ. أخذ عن الربيع، وروى عنه كتب الشافعي. كان محدّث وقته بلا مدافعة، وعرف بالأصم لإصابته بالصمم في شبابه. توفي سنة 346 هـ. (ر. طبقات الإسنوي: 1/76، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/133، العقد المذهب: 50، تذكرة الحفاظ: 3/860، سير أعلام النبلاء: 15/452) .
(4) في الأصل: عُليّة. والتصويب من صفوة المذهب.
وعلقمة هو أبو شبل علقمة بن قي بن عبد الله النَخَعي الكوفي، التابعي الكبير الجليل والفقيه البارع، أكبر أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. كان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون، توفي سنة 62 هـ. (ر. طبقات الشيرازي: 79، تهذيب الأسماء واللغات: 1/342، سير أعلام النبلاء: 4/53) .
(5) إسماعيل بن عُليّه. الإمام أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن شهم الأسدي مولاهم، البصري، وعُليَّة أُمُّه. مذكور في مختصر المزني في نكاح المشرك والأضحية. توفي سنة 94 هـ وقيل 93 هـ. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/120، 121، سير أعلام النبلاء: 9/107) .(15/343)
ولا نرى الانحدار عن صَدْر الكتاب من غير تقعيد وتمهيد، يَطّلع به الناظرُ على معظم المقاصد.
وترتيبُ الشافعي أولى متبع، وقد تشوّف إلى استيعاب التمهيد؛ إذ ذكر أصول الحرمات، وتعرض للبن الفحل، فنقول: لحرمة الرضاع أصول وفروع، فالأصول ثلاثة أشخاص: المرأة المرضعة، والصبي المرتضع، والرجل الذي [أدرّ لبنَ] (1) المرأة على الولد المنتسبِ إليه، وهو المسمى الفحلَ في هذا الكتاب، والمرتضع بحكم الرضاع ولدٌ، والمرضعة أمٌّ، والرجل الذي وصفناه أبٌ، فهؤلاء أصول الحرمات.
ثم الحرمات لا تقتصر على الأصول، بل تنتشر منها، وقد يتمحضُ الانتشارُ في جهةِ الرضاع، وقد يُمزَج النسبُ بها، فليعتقد الفقيهُ أن المرتَضِعَ في منزلة الولد في الحرمة والمحرميّة، ثم تنتظم الحرمةُ بينه وبين من تعتزي الأم إليه على حسب انتظامها بين الولد وبين المنتسبين إلى أم الولادة، فيحرم المرتضعُ على أمهات المرضعة، وآبائها، وأخواتها، وأخواتهم؛ فإنهم يقعون منه على مراتبِ الأخوالِ والخالاتِ.
ولا تثبت الحرمة بين المرتضع وبين بني إخوة المرضعة وبني إخوتهم، فإنهم يقعون من المرتضع في مرتبة بني الأخوال، وأولاد الخالات، وهم لا يحرمون في النسب.
وحرمة الرضاع في انتشارها لا تُبِرّ (2) على جهة النسب. وهذا النسق بين المرتضع وبين أب الرضاع، والمنتسبين إلى أب الرضاع، أو المتصلين به بجهة الرضاعة على حسب ما ذكرناه في المرضعة.
هذا بيان أصل الانتشار من المرضعة، وأب الرضاع.
9993- وأما انتشار الحرمة من جانب المرتضع، فكل من يحرم المرتضعُ عليه، فيحرم أولادهُ عليه، وإن تَسفّلوا.
__________
(1) في الأصل: كدّر أن المرأة. وهو تصحيف بشع لا وجه له.
(2) لا تُبرّ: لا تزيد.(15/344)
ولا انتشار للحرمة في جانبه إلا إلى أولاده، فلو كان للمرتضع أخ من نسب أو رضاع، فإنه لا يحرم على المرضعة.
فإن قيل: ألستم ادّعيتم استقلال قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الشمول والترقي عن التأويل؛ إذ قال عليه السلام: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "؟ قلنا: أجل هو كذلك؛ فإن قيل: أخ الابن وأخته يحرمان على الأب إذا كان الابن المسؤول عنه نسيباً؟ قلنا: ليس هذا من تحريم النسب، ولكن الرجل إذا كان له ابن نسيب، فأخوه ابنه أو ربيبه، فيتأتَّى التحريم من الصهر، وليس من ضرورة بنوة الرضاع اتصال صهرٍ بها، ومقتضى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما يحرّمه النسب يحرمه الرضاع، وهذا مستمر لا قصور فيه ولا استثناء فيه.
9994- وإن بسطنا القول في انتشار الحرمة، عُدنا وقلنا: المرضعةُ أم، وأبوها جد، وأمها جدة، وأخوها خال، وأختها خالة، وأولادها إخوة، وأعمامها وأخوالها وعماتها وخالاتها كالأعمام [والعمات] (1) والأخوال والخالات الأَدْنين، وعلى هذا الوجه تنتظم حرمة النسب.
وهذا القول بعينه يجري في أب الرضاع، وأولادُ المرتضع، وأحفادُه، وإن تسفّلوا بمثابة الأولاد، وإخوته وأخواته لا يحرمون؛ فإن النسب لا يحرمهم أيضاًً، وأبوه لا يحرم، فإن أب الابن زوج الأم.
وقال قائلون: انتشار حرمة الرضاعة كانتشار حرمة النسب إلا أن أخت الابن النسيب محرمة، لأنها بنت الأب إن كانت أختاً من الأب، أو بنت أم الابن، فتقع ربيبةً للأب، وأختُ المرتضع لا تحرم على أب الرضاع؛ لأنه لا يلزم أن تكون مرتضعة أيضاً، ولا يلزم أن تكون ربيبة، وأم أم ابن النسيب محرّمة؛ لأنها صهره، وأم أم المرتضع لا تحرم؛ لأنه لا يلزم أن تكون صهره، فلا استثناء إذاً إلا من جهة الصهر، كما ذكرناه.
9995- وإذا وضح الغرض على البسط، فنجمع قولاً وجيزاً يحوي القواعد،
__________
(1) سقطت من الأصل.(15/345)
ولا يشَذُّ منه في أصل الحرمة أصلٌ، فنقول: الأصول ثلاثة كما ذكرنا: الأب، والأم، والمرتضع، ثم كل من يحرم على الأب من النسب والرضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني الإخوة والأخوات؛ فإنهم محرمون عليه، وهم يقعون من المرتضع أولاد الأعمام والعمات.
ونقول في المرضعة هي محرمة لأمومة الرضاع، وكل من يحرم عليها بنسب أو رضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني إخوتها وأخواتها، كما ذكرناه في الأب؛ فإنهم يقعون من المرتضع أولاد الأخوال والخالات.
وأما المرتضع في نفسه، فيحرم أولادُه من النسب والرضاع، كما يحرم هو، ولا يحرم إلا أولادُه وأحفاده.
فهذا هو الضابط الجامع.
9996- ومما يوصَى الطالب به ألا يُغفل التفاف الرضاع بالنسب، ويجري الكلام مجرى واحداً، ونحن نضرب في ذلك مثالاً، فنقول: [أمّك] (1) من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من أرضعك -يعني الفحل- أو ولدت من أرضعتك، أو ولدت من أرضعك، أو أرضعت من ولدتك، أو أرضعت من ولدك وليعتبر الناظر التفافَ الرضاع والنسب بهذه المرتبة.
ولا مزيد على ما ذكرناه نحن في عقد الجُمل.
9997- ولما ذكر صاحب التلخيص تشبيه الرضاع بالنسب، وأراد الاستثناء -فإن مجموعه مقصور على الاستثناء- استثنى ما لا حاجة إليه، وقال: الرضاع كالنسب إلا في الميراث، والولاية، وأخذ يعدد ما لا حاجة إليه.
والقول الكامل فيه أن الرضاع لا يضاهي النسب إلا في الحرمة والمحرمية، قال الأئمة: الأمهاتُ ثلات: أم النسب، وهي ذات محرمية رحم، ويجتمع فيها الحرمة والمحرمية، وأم الرضاع، ولها المحرمية والحرمة، والأم الثالثة هي التي خلفت رسول الله بالزوجية قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] . وكان أمر الحرمة
__________
(1) في الأصل: أمّكن.(15/346)
على الأبد، ولا محرمية، وقد انعقد ما أردنا عقده، ونعود بعده إلى ترتيب (السواد) .
فصل
قال: " والرضاع اسم جامع يقع على المصّة والمصتين ... إلى آخره " (1) .
9998- أبان الشافعي رضي الله عنه أن اسم الرضاع ينطلق على المصة والمصتين فصاعداً، وهو اسم جنس يجمع الواحد والجمع، وأراد بذلك أنه لو لم يرد في صحيح الأخبار ما يدلّ على اشتراط العدد في الرضعات، لأثبتنا الحرمة باسم الرضاع، ولكن صح أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا برَضَعات، وأبو حنيفة (2) لم يرع العدد وأثبت الحرمة بما ينطلق عليه اسمُ الرضاع.
والأخبارُ الواردة في العَدَد كثيرة، منها ما رواه ابن الزبير عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا تحرّم المصة ولا المصتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان " (3) وروت أم الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان " (4) فثبت أصل العدد، ثم رأى الشافعي أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا بخمس رضعات، واعتمد في ذلك حديث عائشة (5) ، وهو مشهور مدون في الصحاح.
__________
(1) ر. المختصر: 5/49.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/314 مسألة 811، مختصر الطحاوي 222.
(3) حديث ابن الزبير: " لا تحرم المصة ولا المصتان " رواه أحمد والنسائي وابن حبان والترمذي، وقال: الصحيح عند أهل الحديث من رواية ابن الزبير عن عائشة (ر. المسند: 6/96، 247، النسائي: النكاح، باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك عن عائشة، ح 5456، 5457. الترمذي: النكاح، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، ح 1150، ابن حبان: 6/214. التلخيص: 4/9 ح 1840) .
(4) حديث أم الفضل: " لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ". رواه مسلم: الرضاع، باب في المصة والمصتان ح 1451، وانظر التلخيص 4/9 ح 1840.
(5) حديث عائشة: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمْن، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يُقرأ من القرآن " والحديث رواه مسلم: الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، ح 1452، وأبو داود: النكاح، باب هل=(15/347)
وذهب ابن أبي ليلى وداود (1) ، وغيرهما إلى أن حرمة الرضاع تثبت بثلاث رضعات، واعتمدوا في ذلك حديثَ ابن الزبير وأمِّ الفضل، قال المزني: أسمِع ابنُ الزبير رسول الله؛ فقال رضي الله عنه: سمعه وهو ابن تسع، وقال أئمة الحديث مات رسول الله وهو ابن تسع، فلعل الشافعيَّ أراد آخر ما سمعه في آخر العهد، ولا شك أنه ولد بعد الهجرة بسنة، فإنه لما قدم رسول الله عليه المدينة مهاجراً زعمت اليهود أنهم سَحَروا المسلمين؛ فلا يولد لهم ذكر، وانقضت سنة، ولم يولد للمسلمين ذكر، وأول مولود من الغلمان ابنُ الزبير، بعد انقضاء سنة، ولما وُلد، كبّر المسلمون.
وقيل: كَبَّرَ أصحاب الحجاج يوم صلب ابن الزبير، فقالت أسماء أم ابن الزبير ذاتُ النطاقين: المكبرون عليك يوم ولدت خير من المكبرين عليك يوم قتلت.
فقد اعتمد قوم حديثَ ابن الزبير في نفي الحرمة عن المصة والمصتين، وبَنْوا إثبات الحرمة على المفهوم، فإن التخصيص بالأقدار [يقتضي] (2) مخالفةَ الحكم للمقدّر المنصوص عليه.
9999- واعتمد الشافعي الحديث الناص على الخمس، قالت عائشة: " أنزلت عشرُ رضعات يحرِّمن فنسخن بخمسٍ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مما يتلى من القرآن".
وهذا قد يعترض فيه إشكال، فإن الحديث، وإن كان مدوّناً في كل صحيح، فمضمونه أن الرضعات الخمس كانت ضمن آيةٍ تتلى من القرآن، ونحن لا نراها بين الدفتين، فلعها أرادت أنها كانت تتلى حُكماً. والقول في ذلك يطول، وليس من الحزم الزيادة على المعنى المطلوب في كل فنّ.
وحمل الشافعي حديث المصة والمصتين على جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال مخصوص، وواقعة سئل فيها عن المصتين، فخرج جوابُه على وَفْق
__________
=يحرم ما دون خمس رضعات، ح 2062، والترمذي: الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، ح 1150، ومالك في الموطأ 2/608.
(1) ر. المحلي: 10/10.
(2) في الأصل: يفضي.(15/348)
السؤال، وهذا [يعضده] (1) ما روي عن صعصعة بن صُوحان أنه قال: [سئل] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحرم الرضعة والرضعتان؟ فقال عليه السلام: " لا تحرم الرضعة والرضعتان " (3) . وصح من مذهب عائشة اعتبارُ خمسِ رضعات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سالم: " أرضعيه خمساً يحرم عليك "، كما سنصفه بعد هذا إن شاء الله. فهذا القدر كافٍ في تأسيس المذهب.
وموضع استقصائه مسائل الخلاف.
10000- وأول ما نبتديه بعد ذلك أن الرجوع في أعداد الرضعات إلى حكم العرف، ولا نظر فيه إلى مقدار اللبن يقل أو يكثر، والمعتبر في ذلك من طريق التمثيل الأكلاتُ في موجَب البِرّ والحِنث في الأَيْمان، والرجل إذا تعاطى لقمة واحدة وأكلها، ثم انكف، فالذي صدر منه أكلة، ولو نُصبت المائدة بين يديه والألوان تختلف وتأتي على الوِلاء المعتاد في الأكلة الواحدة، فهذا وإن كثر أكلةٌ واحدة، كذلك المصّة الواحدة إذا تحقق وصول شيء من اللبن بها إلى الجوف، ثم فرض الاقتصار عليها رضعةٌ واحدةٌ.
ولو التقم الصبي الثدي واستكثر من الارتضاع، وتطاول الزمن على التواصل المعتاد، فهو رضعة واحدة، ولو كان الصبي في أثناء الارتضاع يلفظ الثدي، ويلهو ثم يعود في زمنٍ لا يقطع اعتبارَ التواصل، فكل ما يجري رضعة، ولو استنفد ما في أحد الثديين، فنقلته المرضع إلى الثدي الآخر، فهذا ليس رضعة جديدة، بل [كل] (4) ما يعد نوبة في الإرضاع، فهو رضعة.
والقول في ذلك ظاهر غير مُحوجٍ إلى طلب مسلك في التقريب يُعتاد؛ فإن العادة بيّنة فيما يعد نوبة من الرضاع، وإنما تنقطع النوبة بزمان يتخلل قاطعٍ للتواصل، وقد
__________
(1) في الأصل: يعضد.
(2) سقطت من الأصل.
(3) حديث صعصعة بن صوحان رواه مسلم من حديث أم الفضل رضي الله عنها (الرضاع باب في المصة والمصتان، ح 1451) .
(4) في الأصل: كان.(15/349)
يؤثِّر عندنا في ذلك المقصود؛ فإن الأم إذا أرضعت وانصرفت، فلم يطل الزمان فاستعبر الصبي أو نابه ما يقتضي تسكينَه، فلو عادت إليه وأرضعته، فهذا يعد رضعة ثانية، وإن كانت لو أدامت الإكباب على الإرضاع، لكان لا يبعد تخلل مثل هذا الزمان مع العود إلى الرضعة الأولى، وهذا لا ينكره من [يهتم] (1) بدرك المعارف (2) .
ويتخلل في الأكلة من الزمان ما لا يعتد به، فلو قام الرجل مضرباً، ثم عاد لأمرٍ اقتضى العَوْدَ وافتتح الأكل، عُدّ أكْلة واحدة، فالرجوع إذاً إلى المعارف؛ فإن بانت في الاتحاد والتعدد، جرى الحكم بحسبها.
وإن تردد الرأي بين اتحاد الرضعة وتعددها، تردُّدَ إشكال، لا تردُّدَ اجتهاد، فالأصل الاتحاد، وعدم وقوع الحرمة المنوطة بالعدد، وإن تقابل اجتهادان في اقتضاء الاتحاد والتعدد، ثار الخلاف، وهذا جارٍ في كل ما يتلقى من العرف.
10001- وقد قال العراقيون حكايةً: من أصحابنا من قال: إن الرضاع إنما ينقطع ويتعدد بإضراب الصبي، فلو لم يُضرب وقامت المرأة، ثم عادت وتكرر ذلك مراراً، فالكل رضعة.
وهذا قول سخيف؛ فإن مأخذ الكلام في التعدد والاتحاد الاسمُ، وهو متلقى من العرف، فإذا قامت المرأة، وتخلل زمانٌ قاطع، ثم عادت، عُدّ ذلك رضعتين، فلا معنى للنظر إلى إضراب الصبي، والذي ذكروه [على بعده] (3) إذا دام تشوُّف الصبي إلى الرضاع في الزمان المتقطع، فأما إذا انقطع تشوفه، فهذا ملتحق بإضرابه. والأصلُ على الجملة فاسد.
10002- ومما يتصل بالعدد في الرضاع ما نصفه، فنقول: تعدد الارتضاع من الثدي على ما وصفناه، وأما إذا احتُلب اللبنُ من الثدي، فتناوله الصبي من الظَّرف، فتفصيل ذلك أنه لو احتلب منها بدُفعة ووصل المحتلَب إلى جوف الصبي بدُفعة، فذلك
__________
(1) في الأصل: من يتهم.
(2) المعارف: المراد هنا الأعراف، جمع عُرف.
(3) في الأصل: على بعد منه.(15/350)
رضعةٌ، والمعنيّ بالدُّفعة ما وصفناه في الرضعة، فلو كان اللبن المجتمع يوجد على تواصل في الانصباب، فهو دُفعة واحدة، وإن كان يتأتى الاتحاد شيئاًً شيئاًً، فهو دُفعة، فنعتبر في اتحاد الدُّفعة ما نعتبره في اتحاد الأكْلة والشَّرْبَة.
ولو احتلب من المرأة بدُفعة وأوصل اللبنَ المجموعَ بدُفعات خمس، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الرضعات متعددةٌ، نظراً إلى تقطع الوصول وتخلل التواصل، وهذا بمثابة [ما] (1) لو فرض هذا التعدد في الارتضاع من الثدي. والقول الثاني - أن الرضعة واحدة؛ فإن اللبن المجموع في الظرف في حكم الشيء الواحد، والنظر إليه، ولا حكم لتعدد تعاطيه وتناوله، وليس ذلك كالارتضاع من الثدي يتجدد حالاً على حال، والأفقهُ القولُ الأول.
ولو احتلب اللبن من الثدي بخمس دفعات، على ما وصفنا التعدد، وجُمع المحلوب في كل دُفعة في ظرف، ثم أوصلت الألبان بدُفعات على أعداد الظروف إلى الصبي، فهذه رضعات؛ فإن التعدد متحقق من الجانبين ولم تختلط الألبان فتُعدَّ شيئاًً واحداً، فيجب القطع بالتعدد.
ولو احتُلب اللبنُ بخَمس دُفعات، وجمعت الدُّفَع في ظرف واحد، فاختلطت، ثم أُوصلت إلى الصبي في خمس دُفعات، ففي هذه الصورة طريقان: من أصحابنا من قطع بحصول العدد؛ لتحقق التعدد في الاختلاط والإيصال إلى جوف الصبي، وليس كما لو احتُلب دُفعة، فأوصل بدُفعات؛ فإن التعدد وجد في أحد الجانبين دون الثاني.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة؛ نظراً إلى اتحاد اللبن المجموع في الظرف، وإذا اتحد وكان لا يتجدد شيئاًً شيئاًً، فهو في حكم الشيء الواحد، فالاعتبار باتحاده في نفسه دون تعدد الحلب.
10003- فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنه إذا اجتمع ثلاثُ خلالٍ: التعددُ في الحلب، وتمييز المحلوبات، والتعدد في التعاطي، قطعنا بثبوت التعدد في الرضعات.
__________
(1) في الأصل: بمثابة لو فرض.(15/351)
وإن تحقق الاتحاد في هذه الجهات، قطعنا باتحاد الرضعة.
وإن اتحد الحلب، وتعدد التعاطي، فقولان، وإن تعدد الحلب وتعدد التعاطي واتحد اللبن المجموع في الظرف، فطريقان، وإن تعدد الحلب واتحد التعاطي، فالقطع بالاتحاد لا غير.
وحكى العراقيون في هذه الصورة وجهاً بعيداً في أن حكم التعدد يثبت إذا تعدد الاختلاف. وهذا أخرناه حتى لا يُعتَدَّ به، وعلى الفقيه ألاّ يغفل فيما أطلقناه من التعدد عن حقيقة التعدد؛ فإن من احتلب مقداراً ولها قليلاً، ثم استتم، فهذه حلْبة واحدة، وكذلك القول في التعاطي.
فرع:
10004- إذا كان للرجل امرأتان، فأرضعتا مولوداً، وتوالى الإرضاع منهما، بحيث لو فرض ذلك من امرأة واحدة، لكان رضعة واحدة، فالمذهب أن ما صدر منهما رضعتان؛ لتعدد المرضِع، وهو بمثابة تعدد المرتضِع.
وذكر العراقيون وجهاً مزيفاً في أنه لا يثبت حكمُ التعدد مع تواصل الزمان في الإرضاع، ثم قالوا: إذا لم يثبت حكمُ التعدد، لم يثبت الرضاع أصلاً؛ فإن الرضعة الواحدة لا يمكن انقسامها، لتنتسب كل واحدة إلى بعض مرضعة، فالوجه إحباط الرضعة بالكلية، حتى لو صدر منهما ذلك على هذه الصفة مراراً، لم تحصل حرمة الرضاع.
وهذا عندنا في حكم العبث والتلاعب بالفقه وقد نعود إلى طرف من ذلك في مسائلَ تأتي بعد هذا.
فصل
10005- لما ذكر الشافعي أن الرضاع اسمٌ جامع، وأبان أنا لو خُلِّينا والإطلاقُ فيه، لاستوى فيه القليل والكثير، والواحد والعدد، ولكن ثبت اعتبار العدد بالأخبار.
قال: وكذلك إطلاق الرضاع لا يختص بزمانٍ، ولكن ورد التعبد باختصاص أثره(15/352)
بمدة الرضاع، [وتبين لنا أن إرضاع الكبير] (1) لا يؤثر، ولا يحرّم.
وقد روي أن سهلة بنت سهيل، قالت: كنا نرى سالماً ولداً؛ وكان يدخل علينا وإنا فُضُلٌ فراجعت رسول الله في أمره، فقال عليه السلام " أرضعيه خمسَ رضعات " (2) ففعلتْ، وكانت تراه ابناً من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة فيمن أحبت أن يدخل عليها من الرجال، وكانت ترى إرضاعَ الكبير مثبتاً للحرمة في حق الناس كافة؛ تعلقاً بحديث سهلةَ وسالمٍ، وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدٌ من الناس، وقلن: ما نرى الذي أمر به رسول الله إلا رخصةً في سالم وحده.
وروى الشافعي أن أم سلمة قالت في الحديت: هو لسالم خاصة، وفي هذا الأصل تصرّفٌ للشافعي رمز إليه المزني، ولم يستقصه؛ وذلك أن خطاب الرسول عليه السلام إذا اختص بمختصٍّ في حكاية حال، فحكم الصيغة اختصاصُ الحكم بالمخاطب، وإذا قضينا بأن الناس في الشرع شَرَعٌ، حكمنا بأن حُكْمه على معيّن حكمٌ على الناس كافة، فهذا متلقى من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإجماع، ومستند اعتقادهم في هذا ما كانوا يشاهدون من قرائن الأحوال في قصد رسول الله التعميمَ.
فإذا اضطرب رأيهم في قصد التخصيص، واللفظُ في نفسه مُختص بالمخاطب، لم يجز تعميمُ الحكم؛ سيّما إذا اعتضد خلافُه بما يستقل دليلاً، وقد قال عز من قائل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ} [البقرة: 233] ، فأثبت تمامَ الرضاعة في الحولين، فاقتضى مفهومُ الخطاب أن ما بعدهما ليس في حكم الرضاعة؛ إذ ليس بعد التمام أمر معتبرٌ منتظر، ولا يمكن حمل هذا على اعتياد الناس؛ فإنهم على أنحاء مختلفة.
ورأيت في بعض المجموعات حديثاً رواه صاحب الكتاب بإسناده عن سفيان بن
__________
(1) في الأصل: وتبين لها أن الرضاع الكبير.
(2) حديث سهلة بنت سهيل: "كنا نرى سالماً ولداً.." الحديث. رواه الشيخان (البخاري: النكاح، باب الاكفاء في الدين، ح 5088. مسلم: الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح 1453) .(15/353)
عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا رضاع إلا في الحولين " (1) فتبين انحصار أثر الرضاع في الحولين واختصاص سالم بما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة سهلةَ بنتِ سهيل امرأةِ أبي حذيفة.
10006- ولو جرت رضعات فوقع الشك في أنها هل بلغت خمساً أم لا؟ فالحرمة لا تثبت؛ فإن الأصل الحل، وانتفاء الحرمة، وسيأتي هذا من بعدُ.
ولو جرت الرضعات الخمسُ، وأشكل الأمر، فلم ندر أنها وقعت في الحولين، أو بعدهما، أو واحدة منها بعدهما، فهذا يقرب من تقابل الأصلين؛ فإن الرضاع قد قامت صورتهُ وعددهُ، والأصل بقاء المدة، وهذا يعارضه أن الأصل الحِلُّ وعدمُ الحرمة، فأشبه ما لو شك الماسح في انقضاء المدة، فالأمر محمول على انقضائها ردًّا إلى إيجاب غسل الرجلين، كذلك الأصل الحِلُّ.
ولعلنا نأتي بمسائل في الشكوك المتعلقة بأبواب الرضاع.
فصل
قال: " والوجور كالرضاع ... إلى آخره " (2) .
10007- مقصود الفصل بيان المحل المعتبر الذي يشترط وصول اللبن إليه، فنقول أولاً: ما لا يُفطر الصائم لا يتعلق به حرمة الرضاع، وقد مضى ذلك في كتاب الصوم مستقصًى، وما يُفطر الصائم من الواصلات إلى الجوف ينقسم: فمنه ما يصل إلى محل التغذية كالمعدة، ومنه ما لا يصل إلى محل التغذية، وإن كان باطناً يتعلق بالوصول إليه الفطرُ.
__________
(1) حديث: " لا رضاع إلا في الحولين " روي عن ابن عباس مرفوعاً، الدارقطني (4/174) ، والبيهقي في الكبرى (7/462) ، وقد صححه موقوفاً. ورواه مالك في الموطأ موقوفاً (2/462) ، وانظر التلخيص: (4/8 ح 1838) .
هذا. وهو عند الدارقطني بالسند نفسه الذي أورده الإمام مما يدل على أنه يقصد (ببعض المجموعات) سنن الدارقطني.
(2) ر. المختصر: 5/53.(15/354)
فأما ما يصل إلى محل التغذية، فيتعلق حرمة الرضاع به.
وما يصل إلى الباطن، ومثله يفطر، وليس محل التغذية، ففي تعلق حرمة الرضاع به قولان، كالحقنة؛ فإنها مفطرة، وإذا حقن الصبيُّ [اللبنَ] (1) ، ففي حصول حرمة الرضاع قولان: أحدهما - أنها تحصل اعتباراً بالفطر، وأيضاً فالتداوي من الأغراض المقصودة كالتغذي، ولو قيل: الأغذية في معنى الأدوية، والمقصودُ من استعمالها ردُّ الطبيعة المائلة بسَوْرة (2) الجوع إلى الاعتدال، لكان سديداً.
ومن راعى مكانَ التغذية ومَظِنتَها، تشوّف إلى معنى كلي مقصودٍ بقول (3) المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن الأنساب امتشجت من وشائج الخلق وأطوار النطف، والألبانُ تؤثر في البنية قريباً من تأثير مواد الزرع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم " (4) .
10008- وأما السعوط، وهو إيصال اللبن إلى الدماغ، فلأصحابنا فيه طريقان: منهم من أجرى فيه قولي الحقنة مَصيراً إلى أن الدماغ ليس فيه قوة عادية، وإنما يستعمل السعوط تداوياً كالاحتقان، ومنهم من قطع بأن السعوط يُثبت الحرمةَ قولاً واحداً، وإليه ميلُ الأكثرين.
وهؤلاء اعتقدوا إفضاء السعوط إلى التغذية، وهو لعمرنا كذلك، لأن الرأس تشارك فم المعدة، وبينهما عِرْقان لا ينتهي شيء إلى فم المعدة إلا ترقى جزء منه إلى الدماغ، ولا ينتهي إلى الدماغ شيء إلا انحدر منه جزء إلى المعدة، ولهذا يتقوّى الضعيف بالطّيب الذي يصل إلى دماغه، فإنه يردُّ جزءاً منه وإن قل إلى المعدة.
وإذا وصل اللبن إلى مثانة الصبي، فهو بمعنى الحقنة وإن زُرّق اللبنُ في إحليله فلم ينته إلى المثانة، كان ذلك خارجاً على الخلاف في أن ذلك هل يفطر الصائم؟ فإن
__________
(1) في الأصل: وإذا حقن الصبي الذي.
(2) سَوْرة الجوع (بالسين) شدّته وحدّته (المصباح) .
(3) يشير إلى الحديث الشريف الآتي. تعليق رقم (4) .
(4) حديت: " الرضاع ما أنبت اللحم ... " رواه أبو داود: النكاح، باب في رضاع الكبير، ح 2059، 2060، وأحمد (1/432) ، والبيهقي في الكبرى (7/461) .(15/355)
قلنا: إنه لا يفطره، فلا تتعلق الحرمة به، وإن قلنا: إنه يفطره، ففي تعلق الحرمة به القولان المذكوران في الحقنة.
10009- وقد ذكرنا تردداً في أن الصائم إذا قطّر في أذنه شيئاًً هل يفطر؟ فإن قلنا: إنه لا يفطر، لم يتعلق بوصول اللبن إلى داخل الأذن حرمة الرضاع، وإن قلنا: إنه يفطر، فالوجه تخريج الخلاف في حصول الحرمة على قولي الحقنة، وقد ذكر الشيخ أبو علي نص الشافعي في أنه لا تتعلّق به حرمة الرضاع.
ولو أصاب الصبي قَرْحٌ فوصل اللبن منه إلى الباطن، فهذا من المفطرات، ولكن إذا لم يكن ذلك الباطن محل التغذية، خرج القولان المذكوران في الحقنة.
ولم يختلف الأصحاب في أن الواصل بالمسامّ لا حكم له، كاللبن يقطّر على الرأس، وقد [يُفرض] (1) غوصُه وانتهاؤه إلى الدماغ، ولكن إذا كان الفطر لا يحصل به، فيستحيل أن تحصل حرمة الرضاع به.
فصل
قال: " وأدخل الشافعي على من قال ... إلى آخره " (2) .
10010- مقصود هذا الفصل الكلامُ في وصول اللبن إلى محل التغذية أو الجوف المعتبر بعد أن يلحقه التغايير بامتداد الزمان، أو الخَلْط، أو الصَّنْعة، فنقول:
عَقْدُ الفصل أن اللبن إذا وصل إلى الجوف المعتبر، تعلقت الحرمة به، سواء كان طريّاً، أو حائلاً بامتداد الزمان، فلو رابَ، أو جُبِّن أو أقّط، فوصل اللبن إلى الجوف، تعلقت به الحرمة.
ولم يعتبر الشافعي في ذلك اسمَ اللبن اعتباره اسم الإرضاع، حيث جعل العددَ والتخصّصَ بالزمان في حكم تخصيص العام؛ فإنه رأى في الشرع الاعتناءَ بالرضاع والإرضاع، وفهم على القطع وصولَ اللبن على أي جهةٍ فُرض، ولم ير للشرع اعتناءً باسم اللبن، فلم يكترث بالتغايير التي تلحقه.
__________
(1) في الأصل: يعرض.
(2) ر. المختصر: 5/54.(15/356)
وقد يعترض في ذلك أن اللبن إذا مُخض ومُيّز الزُّبد منه، فالباقي مَخيض، فلو أمكن مثل ذلك في لبن الآدميات، فكل جزء يصل إلى الباطن تتعلق الحرمة به.
هذا قولنا في التغايير التي تلحق اللبن.
10011- فأما إذا خلط اللبن بغيره، فنذكر التفصيل في خلطه بالماء، ثم نبيّن خلطَه بغيره، فإن خُلطَ بالماء، لم يَخْلُ: إما أن يكون الماء قليلاً، أو يكون بالغاً حد الكثرة.
فإن كان في حدّ القِلة، واختلط اللبن به، لم يخلُ: إما أن يكون اللبن غالباًً، أو مغلوباً.
فإن كان غالباً، فما وصل منه إلى الجوف المعتبر، فهو مثبت للحرمة.
وإن كان مغلوباً -وتصوُّرُ ذلك منه إذا كان لا يظهر من صفات اللبن شيء لا اللون، ولا الطّعم ولا الرائحة- فهل تتعلق حرمة الرضاع بإيصاله إلى الجوف؟ فعلى قولين: أظهرهما - أن الحرمة تتعلق به. والقول الثاني - أن الحرمة لا تتعلق به، وهو مذهب أبي حنيفة (1) .
توجيه القولين: من قال: تتعلق الحرمة به احتج بأن اللبن في حكم المستهلَك، فكأنْ لا لبن، والدليل عليه أن التوضُّؤ بهذا الماء جائز، وإن امتنع التوضؤ باللبن. والقول الثاني - أن الحرمة تتعلق به؛ فإن اللبن واصلٌ إلى الجوف، وهو المطلوب، وإذا تحقق وصوله، وجب تعلق الحرمة به.
ويقرب مأخذ القولين من أصلٍ ذكرناه في أحكام المياه، وهو أن المقدار [الذي] (2) لا يسعْ وضوءاً من الماء إذا كمل بالماوَرْد وهو مغلوب بالماء، ففي جواز التوضؤ به خلاف.
ووجهُ التقريب لائح، فإنا في وجهٍ نقول: المغلوب كالمعدوم، وفي وجه نُثبت
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 222، فتح القدير: 3/315.
(2) زيادة من المحقق.(15/357)
لوجوده المحقَّقِ الحكمَ، ونقول: المتوضىء به لم يستعمل الماء الطهور في أعضاء الوضوء على تحقيق.
10012- فإن قلنا: لا تتعلق الحرمة به لكونه مغلوباً، فلو أتى الصبيّ على جميع الماء، لم تتعلق الحرمة به.
وإن قلنا: على القول الأصح، وهو أن الحرمة تتعلق به، فلو شرب الصبي جميعَه، تعلقت الحرمة بمباشرته؛ فإن اللبن وصل بشرب جميعه إلى باطنه يقيناً.
وإن شرب من ذلك المختلط بعضه، والتفريعُ على القول الذي انتهينا إليه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الحرمة لا تثبت؛ لأنا لم نستيقن وصول اللبن إلى الجوف، ولسنا نُبعد أن يكون اللبن فيما بقي.
والوجه الثاني - أن الحرمة تثبت؛ فإن اللبن منبثٌ في الجميع، وجميع أجزائه منبسطة على جميع أجزاء الماء، ولو لم يكن كذلك، لكان ممتازاً عن الماء، ولكان يُحَسّ امتيازُه، وليس الأمر كذلك.
ثم الوجهان عندنا فيه إذا كان الباقي بحيث يمكن تقدير انحياز اللبن إليه، فإن عرفنا قطعاًً أن المقدار الذي شربه الصبي منه جزء من اللبن، قطعنا بحصول الحرمة على القول الذي عليه التفريع، وذلك بأن يكون الماء أرطالاً، واللّبن رَطلاً، فأبقى الصبي من الماء ما يعلم أن رَطلاً من اللبن يغيره لا محالة، وكان الماء صافياً، فقد أتى الصبي على اللبن، فلا يجري الخلاف هاهنا.
هذا إذا كان الماء في حد القلّة.
10013- وأما إذا كان الماء في حدّ الكثرة بالغاً قلتين، فهذا يرتب على الماء القليل؛ فإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل يُسقط حرمةَ اللبن، فالماء [الكثير] (1) بذلك أولى.
وإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل لا يسقط حرمةَ اللبن، فالاختلاط بالكثير الذي
__________
(1) في الأصل: "فالماء كثير" وهذا علامة على عجمة قديمة كانت عند الناسخ.(15/358)
يبلغ قلتين [يجري] (1) الترتيب فيه على عكس ما ذكرناه، فنقول: إن أتى على بعض الماء على الحد الذي ذكرناه، لم يتعلق به الحرمة، وإن أتى الصبي على جميع الماء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الحرمة تثبت وإن كان اللبن مغلوباً، كالماء القليل. والثاني - أن الحرمة لا تثبت؛ فإن هذا المبلغ من الشرع (2) على قوة غالبة، ولذلك لا يحمل نجساً مع استيقان انبثاث النجاسة فيه.
والأولى أن ننفصل عن هذا ونقول: أمرُ النجاسة واندفاعُها مبني على مسيس الحاجةِ والضرورة؛ فإن المياه إذا كثرت وبلغت مبلغاً لا تحويه الظروف والأوعية، فيعسر صونها عن النجاسة، ومن الأصول الثابتة العفوُ عن النجاسات التي يعسر التصوُّن منها، وهذا المعنى لا يتحقق في اللبن، فيجب أن نرعى فيه استيقان وصول اللبن إلى الجوف.
وإذا كان كذلك، فلو أتى الصبي على قُلَّةٍ من الماء، وقد مازج الماءَ رَطلٌ أو أكثر من اللبن، فلا يبعد تخريج ذلك على الخلاف، فإن هذا القائل يجعل الماء الكثير كالماء القليل، ولا يربط بما فيه من القوة الدافعة للنجاسة حُكماً، فيترتب عليه إخراج حد الكثرة عن الاعتبار.
10014- ومن تمام البيان في هذا الفصل أنا ذكرنا اللبن وكونَه مغلوباً أو غالباًً، وقد اختلف أئمتنا في معنى الغلبة، فذهب ذاهبون إلى أن المغلوب هو الذي لا يُحَسُّ له وصف، وإليه مصير الجماهير.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر أن المغلوب هو الذي يَخرُج بكثرة الماء عن كونه معتدّاً للتغذي؛ فإن الغلبة في كل باب تعتبر على حسب ما يليق به، والمعنيُّ بما ذكرناه أن يصير اللبن -وإن كان يحسُّ لونه مثلاً مع الماء- بحيث لا يغذي.
[وهذا الذي] (3) ذكره فيه خيالُ الفقه، ولكن التصوير لا يطابقه، فإن وصف اللبن إذا كان بادياً، فلا بد وأن يكون مؤثراً جنسُه في الغذاء، وإن كان يرق، وهذا
__________
(1) في الأصل: جرى.
(2) الشرع: المراد هنا الماء: أي إن هذا القدرَ من الماء، اعتبر الشرعُ فيه قوةً غالبةً ... إلخ.
(3) في الأصل: وهو الذي.(15/359)
بمثابة قِلَّةِ القدر، فإن القَطْرةَ إذا وصلت وإن لم يظهر لها غَناء في الغذاء محسوس بمثابة المقدار الصالح منه، وإنما نَظَرُنا في أنه إذا انغمرت جميعُ الصفات، هل يسقط إثرُ الغذاء؟
10015-[وكل] (1) ما ذكرناه فيه إذا اختلط اللبن بالماء، فأما إذا اختلط بغيره من الأطعمة والأدوية، فجميعها على أقدارها بمثابة الماء القليل؛ فإنه لا حدّ فيها للشرع في تميز الكثير عن القليل.
10016- ولا ثقة بدرك لُباب هذا الفصل إلا بالنظر في دقيقةٍ، وهي أن اللبن إذا اختلط بشيء اختلاطاً حقيقياً، ولم يُستيقن انبثاثُه على جميع أجزائه، وفُرض تعاطي الصبي طرفاً مما لا يستيقن انبثاثُ اللبن إليه، فالظاهر أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإن وصول اللبن مشكوك.
وجَبُن بعض أصحابنا، فأجرى حكمَ الحرمة مجرى الحكم بالنجاسة، فقد ثبت أن قطرة من البول لو وقعت في طرفٍ من ماء قارٍّ على ضَحْضَاحٍ منبسط، فيتصل بوقوعه حُكْمُنا بنجاسة الطرف الأقصى، فلا ينبغي للفقيه أن يُجري حكمَ اللبن هذا المجرى؛ فإن مدار هذه الفصول في الرضاع على استيقان وصول اللبن إلى الجوف، وإن كان مغلوباً، أو على إسقاط حكمه إذا غُلب.
والنجاسةُ معظم أحكامها مبنيّ على التقذّر وعيافةِ النفوس.
وهذا المعنى قد يحصل في الطرف الأقصى قبل انبثاث النجاسة حساً إليه.
ومن أصحابنا من أجرى اختلاطَ اللبن مجرى اختلاطِ النجاسة إذا قلنا: لا تسقط حرمةٌ مغلوبة، وهذا غفلة عن سرّ الباب وخلطُ الأصل بأصلٍ.
10017- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن القطرة من اللبن إذا قطّرت في فم الصبي، ومازجها ريقُه، وصارت مغلوبةً بالريق، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الحرمة تثبت، وبَنَوْا ذلك على عسر النظر إلى ما وراء الشفتين، وجعلوا القطرةَ الغائبة
__________
(1) في الأصل: فكل.(15/360)
بالوصول إلى الفم كالقطرة التي تغيب بمجاوزة الغلصمة، وقدّروا اختلاطها برطوبات الفمّ بمثابة اختلاطها برطوبات المعدة.
ومن أصحابنا من جعل الريق من حيث إنه من محلٍّ ملحقٍ بالظواهر بمثابة سائر المائعات التي يختلط اللبن بها؛ حتى يترددَ النظرُ في الغالب والمغلوب.
وقد نجز ما أردناه من تغايير اللبن بالصنعة والزمان والاختلاط.
10018- ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ لبن البهائم، فلا تتعلق به حرمة، وهذا لا غموضَ فيه، ولكنه قصد بإيراده الردَّ على عطاء؛ فإنه جعل الصبيين المجتمعين على لبن بهيمةٍ أخوين، وهذا من فَضَحات مذهبه؛ فإن الأخوةَ فرعُ الأمومة والأبوة، وأخ الإنسان ابن أبيه وابن أمه، وإذا استحال تقدير الأصل، استحال الفرع.
10019- ثم ذكر الشافعي لبن الميتة، فإذا ماتت المرأة، فاحتُلِبَ منها بعد الموت لبن، لم يتعلق به حرمةُ الرضاع عند الشافعي، فإن انفصاله جرى والجثة منفكة عن الحرمة الثابتة للأحياء، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك.
ولو احتلب اللبن منها، وهي حية، فماتت، فتعاطاه الصبي بعد موتها، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الحرمةَ تتعلق به، والسبب فيه أن الذي عليه التعويل في سقوطه [سقوطُ] (2) حرمةِ الميتة؛ [فإنها] (3) إذا ماتت واللبن في ثديها، فيتبعُ سقوطُ حرمة اللبن سقوطَ حرمة الأم؛ من جهة أنه اكتسب الحرمة من انسلاكه في مجاريها، وهي حية، فإذا لم ينفصل حتى سقط حرمتُها، فيسقط حرمةُ اللبن تبعاً، كما تثبت حرمتُه تبعاً.
وهذا المعنى إنما يتحقق إذا ماتت واللبن في ثديها، فأما إذا حُلب اللبن منها في حياتها، فسقوط حرمتها إذا ماتت يستحيل أن يتعدى إلى اللبن المفصول منها.
وبلّغني من أثق به أن القاضي كان يحكي وجهاً أن الحرمة لا تتعلق باللبن المحلوب
__________
(1) ر. مختصر اختلاف في العلماء: 2/320 مسألة 814، مختصر الطحاوي: 222.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: أنها.(15/361)
في الحياة إذا اتفق وصوله إلى الجوف بعد موت صاحبة اللبن، ورأيت هذا الوجه لبعض الأصحاب في طرق العراق.
ووجهه -على بعده في الحكاية- أن اللبن لو أثبتَ الحرمةَ، لثبتت الأمومة بعد الموت، والأمومة أم الحرمات في الرضاع، فيبعد ثبوتها بعد سقوط الحرمة، وهذا لو كان مشهوراً في الحكاية، لكان وجهاً متجهاً، وحكايته معروفة بين الخلافيين، وهذا الوجه مخالف للنص الذي نقله المزني.
فصل
قال: " ولو تزوج صغيرة ثم أرضعتها أُمُّه ... إلى آخره " (1) .
10020- افتتح المزني المسائل المطلوبةَ المنسوبة إلى مغمضات الكتاب وإن كانت بيّنة عند ذوي الفطانة، وإنما فيها ما يُحوِج إلى تجديد الفكر والإكباب.
[ولكني] (2) أرى أن أصدر المسائل التي بين أيدينا بأصلين: أحدهما - يتعلق بغُرم المهر: ونحن نقول فيه: إذا نكح الرجل صغيرةً رضيعة، فأرضعتها كبيرةٌ إرضاعاً يتضمن انفساخَ نكاحها، وذلك يفرض من وجوهٍ ستأتي مشروحة: منها أن تكون المرضعة أمَّ الزوج، أو ابنتَه، أو أختَه، فإن كانت أمَّه، فتصير الصغيرة أختَ الزوج، وإن كانت ابنتَه، فتصير حافدةَ الزوج، وحكمها حكم الولد، وإن كانت أختَه، صارت [بنتَ] (3) أخته، وصار هو خالها، وليس استيعاب وجوه الفساد من غرضنا الآن؛ فإنها ستأتي مستقصاةً بالصور، وفي الأصول التي مهدناها في صدر
الكتاب ما يرشد إلى جميع ذلك.
وغرضنا الآن التعرض للغُرم.
10021- فإذا أرضعت امرأةٌ الصغيرةَ الرضيعةَ إرضاعاً مفسداً للنكاح، فإنها تغرم للزوج -بسبب تفويتها عليه الزوجيةَ في الصغيرة- والكلام فيما تغرمه؛ فإن الرضيعة
__________
(1) ر. المختصر: 5/55.
(2) في الأصل: والذي.
(3) في الأصل: ابن أخته.(15/362)
غيرُ ممسوسة، فنذكر ما تغرَمُه المرضعةُ إذا أفسدت نكاحاً قبل المسيس، ثم نذكر حكم الغرم إذا أفسدت نكاحاً بعد المسيس.
فأما التفصيل فيما قبل الدخول، فالذي نصّ عليه الشافعي أن المرضعةَ تغرَم نصف مهر المثلِ قبل الدخول، ونص على أن الشهود إذا شهدوا على الطلاق قبل الدخول، ورجعوا عن الشهادة، بعد نفوذ الحكم، غرِموا تمامَ مهر المثل.
واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من قال: فيهما قولان بالنقل والتخريج: أحد القولين- أن الواجب نصف مهر المثل على المرضعة والشهود، إذا كان [الفَرْض] (1) قبل الدخول؛ لأن الملك إذا لم يتأكد بالدخول، كان [العوض] (2) فيه على حده، ويعرف عدم تأكده بعدم تأكد عوضه؛ فإن الصداق المسمى لا يستقر منه قبل المسيس إلا شطره إذا كان الفراق بالطلاق.
والقول الثاني - أنه يجب على المرضعة والشهودِ مهرُ المثل، فإن التفويت قد تحقق في ملكٍ تام لا نقصان فيه، ولولا تمامُه، لما انتظم الإقدام على الوطء، ولو فرض موتٌ قبل الدخول، كان كما لو فرض بعده.
10022- ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وقال: على المرضعة نصفُ مهر المثل قبل المسيس، وعلى الشهود إذا رجعوا تمامُ مهر المثل. والفرق أن المرضعة قطعت النكاح بالإرضاع، فقرب تشبيه ما تلتزمه من قيمة البضع بما يلتزمه الزوج من المسمّى إذا طلق قبل الدخول.
والشهود لم يقطعوا النكاح باطناً، وإنما أثبتوا حيلولةً لا مطمع في رفعها، والنكاح على زعمهم دائم والطَّلِبة بتمام المسمى متوجهة على الزوج، مع دوام النكاح قبل المسيس.
ومن أصحابنا من أقر النص في الشهود، ولم يخرّج فيهم من المرضعة (3) قولاً، وخرّج في المرضعة قولاً أنها تلتزم تمام مهر المثل.
__________
(1) في الأصل: الغرض.
(2) في الأصل: الغرض.
(3) أي لا يخرّج في الشهود قول نصف الصداق من القول الوارد في المرضعة.(15/363)
وهذا أقسط الطرق؛ فإن التبعيض في الشهود [لا احتمال] (1) فيه، [وإيجاب] (2) تمام المهر على المرضعة ظاهر في القياس؛ فإن تشبيهها بالمطلّق اكتفاءٌ من المشبِّه بتلفيق لا حاصل وراءه؛ من جهة أن المطلّق هو الذي أزال ملكه قبل أن يستوفيه، فارتدت المنافع إليها بجملتها، فقابل الشرع استمكانه منها ببعض الصّداق. وأما المرضعة إذا فوتت ملكه قبل أن يستوفيه فهي أحرى بأن تلتزم الكمال.
فليتأمل الناظر من كلامنا أمثالَ هذه المواضع.
هذا الذي ذكرناه قاعدةُ المذهب.
وقال أبو حنيفة (3) على المرضعة قبل المسيس نصفُ الصداق المسمى، وهو الذي يغرمه الزوج لزوجته التي فسد نكاحها بالرضاع، وهذا له اتجاه على حال؛ من جهة أن تقوّم البضع بقطع الملك فيه إلحاق له بالأموال المحضة، وليس هذا من قبيل استهلاك منافع البضع بالوطء، فإن تقوّمها بسبب تأكد الحرمة يضاهي تقوّم الحر إذا أتلف.
10023- وقد حكى الشيخ أبو علي وغيره قولين آخرين في المرضعة، سوى ما قدمناه: أحدهما - مثل مذهب أبي حنيفة، ووجهه ما أشرنا إليه، فإذا قطعنا النظر عن قيمة البضع، فلا بد من تغريمها ما ضيعته على الزوج من ماله، والمضيَّعُ ما بذله الزوج، وهو نصف المسمى.
والقول الثاني - أنها تغرَم له تمام المسمى؛ فإن الغرم إذا رجع إلى المسمى، فالتشطير لا يثبت إلا في حق الزوج.
وهذا بعيد لا أصل له؛ فإن التفويت يتحقق فيما يبذله أو فيما يلزمه بذله، وهو نصف المسمى.
ولو كان الزوج أصدقَ امرأته خمراً، واقتضى الحكم الرجوع إلى مهر المثل، فالقولان الزائدان لا يزيدان تحقيقاً، وان زادا تقديراً، فإنا في قولٍ نوجب نصف مهر
__________
(1) في الأصل: لاحتمالٍ فيه.
(2) في الأصل: بإيجاب.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/313 مسألة 810، مختصر الطحاوي: 221.(15/364)
المثل، وفي قولٍ نوجب تمام مهر المثل، غير أنا أجريناهما على قاعدة المذهب، فالنصف نصف قيمة البضع، والتمام تمام قيمة البضع، فإن أجرينا القولين الزائدين، فالنصف في محل نصف المسمى، والتمام في محل تمام المسمى.
10024- فإذاً تَجَمَّعَ في المرضعة أربعةُ أقوال في نكاح لا مسيس فيه: أحدها - أنها تلتزم نصف مهر المثل. والثاني - أنها تلتزم تمام مهر المثل. والثالث - أنها تلتزم نصف المسمى. والرابع - أنها تلتزم تمام المسمى.
وأما الشهود إذا رجعُوا قبل المسيس، ففيهم قولان: أحدهما - أنهم يلتزمون تمام مهر المثل، وهو الأصح. والثاني - أنهم يلتزمون نصف مهر المثل.
والذي أراه أن القولين المحكيين في المرضعة في نصف المسمى، وتمام المسمى يجريان في الشهود، فإن مأخذهما عدم تقوّم البضع من غير إتلاف ولا تملّك، وليس هذا كتقويمنا البضع في مقابلة الشقص الممهور؛ فإن ذلك تقويمُ تقدير، كما سبق في موضعه.
وذكر الصيدلاني وغيره من الأئمة قولاً آخر في الشهود، وهو أن الزوج إن كان بذل تمام المهر، فالشهود يغرمون التمام؛ لأنه أنكر الطلاق قبل المسيس، فلا يمكنه استرداد ما بذله، فإن كان لم يبذل من الصداق شيئاً أو بذل نصفه، لم يطالِب إلا بالنصف بعد نفوذ القضاء بالطلاق، فانتصب هذا قولاً مفصلاً خامساً.
والذي أراه أن هذا يحسن إذا كنا نغرّم الشهود المسمى نصفَه أو كلَّه.
فانتظم إذاً في الشهود خمسة أقوال.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان إفساد النكاح بالإرضاع قبل المسيس.
10025- فأما إذا تسببت المرضعة إلى إفساد النكاح بعد المسيس، وهذا يُتصور على وجوهٍ ستأتي مفصلةً نذكر منها صورةً للتمثيل: فإذا نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاحُ الكبيرة [على] (1) الرأي الظاهر، فإذا تغرم أمُّ الكبيرة لزوجها والكبيرةُ ممسوسةٌ؟
__________
(1) زيادة من المحقق.(15/365)
ما قطع به الأصحاب أنها تغرَم تمامَ مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنها فوتت النكاح بعد استقراره، وتأكده بالمسيس.
قال صاحب التقريب: حكى المزني في غير المختصر عن الشافعي أنه قال: لا يجب على المرضعة المفسدةِ للنكاح بعد المسيس شيء؛ لأن الزوج قد استوفى بالمسيس حقه، والوطأةُ الواحدة بمثابة وطْآت العمر، ولذلك تُقرِّر الصداقَ عليه، وبطل حق المرأة في حق حبسها نفسها، ولو ارتدت بعد المسيس، وانفسخ النكاح لإصرارها إلى انقضاء العدة، لم يسقط المسمى (1) ، حكى المزني ذلك عن الشافعي، وقطع الشافعي فيما نَقَل جوابَه بهذا، وهو مذهب أبي حنيفة.
ثم خرّج المزني قولاً أن المرضعة تلتزم مهر المثل، قال صاحب التقريب: كنت أقطع بهذا القول الذي خرجه، ولا أعرف غيره، حتى اطلعتُ على ما نقله المزني.
فانتظم في الغرم إذاً قولان بعد المسيس: أحدهما - أنه لا يجب شيء وهو مذهب أبي حنيفة، والقول الثاني - أنه يجب المهر بكماله وهو القول المشهور المنصورُ في الخلاف.
وإذا طردنا قولين في المرضعة، لزم إجراؤهما في الشهود على الطلاق بعد المسيس، إذا رجعوا عن شهادتهم.
وقد نجز القول الكلي فيما يتعلق بالغرم المتوجه على المرضعة.
10026- ونحن ننعطف على المسألة ونستفتح فيها حكماً آخر فنقول: إذا كان الإرضاع مثبتاً للغرم على التفصيل المقدم، فلا حكم لارتضاع الصبيّة، وإن كان لها فعلٌ واختيار، ولكنه في حكم المغلوب بالإضافة إلى الإرضاع.
هذا ما وجدته متفقاً عليه بين الأصحاب.
والممكن في تقديره أن ارتضاعَ الصبيةِ طِباعٌ، واختيارُ المُرضعة أغلبُ، وهذا يضاهي فتح القفص مع اتصال الطيران بالفتح؛ من جهة أن ابتغاء الطائر الإفلات طِباعٌ
__________
(1) الأَولى في التمثيل بالمرتدة أنها لا تغرَم المهرَ للزوج بانفساخ النكاح بردّتها بعد المسيس.
فبهذا استشهد النووي. (ر. الروضة: 9/22) .(15/366)
مع اتفاق الفتح، ولكن في ذلك الأصل أقوال ذكرناها.
ولا خلاف أن الارتضاع لا حكم له مع اتصال الاختيار بالإرضاع، فحق هذا الذي نحن فيه أن نستشهد به في نصرة بعض الأقوال في إفلات الطائر، ولا فرق بين أن يتصل الارتضاع بإلقام المرضعةِ الصبيَّ الثديَ، وبين أن ينفصل، وفي فتح القفص نَفْصل بين الاتصال والانفصال، كما تقرر في موضعه، والفرق أن فعل الفاتح انتهى بالفتح، فلا يمتنعُ اعتبارُ انفصالٍ عنه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المرضعة إذا ألقمت الصبيَّ الثديَ، فإدامتها الثدي في فم الصبي من فعلها، وهو بمثابة ابتداء الإلقام.
10027- ولو كانت المرضعة نائمة، فدبَّت الصبية إلى ثديها، والتقمت وارتضعت، فلا فعل ولا اختيار للمرضعة، فالمذهب الظاهر أن الفعل محالٌ على الارتضاع في هذه الصورة، وأثر الإحالة عليه شيئان: أحدهما - أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاً؛ لأنها لم تتسبّب، ولم تنسب إلى اختيار.
والثاني - أن مهر الصغيرة المسمى لها يسقط، لانتسابها إلى الارتضاع، وإحالتنا الحكم عليه، وهو بمثابة ما لو ارتدت الكبيرة قبل المسيس.
هذا ظاهر المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين سوى ما ذكرناه: أحدهما - أن هذه الحالة بمثابة ما لو أرضعت الكبيرة اختياراً وارتضعت الصبية، فلا حكم للارتضاع، والغرم محال على صاحبة اللبن، وحكى هذا الوجه عن الداركي (1) من أصحابنا.
وتوجيهه -على بعده- فيما نقله: أن صاحبة اللبن منتسبة إلى التقصير، وترك التحفظ؛ إذ نامت في مكانٍ وبالقرب منها مرتَضِعٌ.
__________
(1) الدَّارَكي، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد، أبو القاسم الدَّارَكي، أحد أئمة الأصحاب ورفعائهم، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وانتهى إليه التدريس ببغداد، وعليه تفقه أبو حامد الإسفراييني. تكرر ذكره في الروضة كثيراً، وذكر في المهذب في غير موضع. توفي سنة 375 هـ.
والداركي، نسبة إلى دارك (بفتح الراء) من قرى أصبهان. (ر. طبقات الشيرازي: 97، طبقات العبادي: 100، تهذيب الأسماء واللغات: 2/264، وفيات الأعيان: 2/361، طبقات السبكي: 3/330، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/141) .(15/367)
وهذا على نهاية البعد.
والوجه الآخر - أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاًً لزوج الصغيرة، وللصغيرة نصف الصداق المسمى، وهذا في التحقيق إسقاط أثر الإرضاع والارتضاع جميعاًً، وهذا أوْجَه قليلاً مما حكاه عن الدارَكي. أما سقوط الغُرم عن صاحبة اللبن، فبيّنٌ متجه.
وأما عدم سقوط جميع المسمى، فمعلل بحمل الارتضاع على الطباع حيث وجد، فيسقط أثره، وقد يعتضد هذا في الحسّ بأن الصبي ينفصل عن الأم، فيأخذ في الارتضاع، ولا يجوز أن يفرض له اختيار في هذه الحالة، وعليه حمل بعضُ المفسرين قولَه تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] .
فقد تحصّل في ارتضاع الصبية من الكبيرة النائمة ثلاثةُ أوجه: أحدها - إسقاط الغرم وإحالةُ الإفساد على الارتضاع، وهو الأول، والوجهان الآخران قد بانا، فانتظمت الأوجه.
10028- وإذا وقع التفريع على الأصح، وهو الوجه الأول، فلو قطَرَتْ قطرةٌ من ثدي صاحبة اللبن، وطيرتها الريح وفاقاً إلى غلصمة الصبية، فلم يوجد منها إرضاع ولا منها ارتضاع، فالذي ذكره الأصحاب تفريعاً على الوجه الأول المشهور أنه لا غرم على الكبيرة، وللصبية نصف صداقها على زوجها.
وإذا فرعنا على مذهب الدارَكي، فلا شك أنه يوجب الغرم على الكبيرة، وهو ضعيف لا تفريع عليه.
هذا قولنا في ارتضاع الصبية من غير إرضاع.
10029- ونحن ننعطف على المسألة انعطافاً آخر، ونأخذ في تفصيلِ أصلٍ آخر: ما رأيناه تمحيصٌ للأغراض والمقاصد في المسائل أقربُ إلى مسلك البيان من خلط الأحكام بعضها بالبعض، فنقول: إن وُجد من الصبية ارتضاعٌ، ومن صاحبة اللبن إرضاع، فلا حكم لارتضاعها، ولها نصف المسمى على زوجها.
وقد يعترض هاهنا سؤال، وهو أن الصداق إنما يتشطر إذا كان الزوج هو المطلِّق، فينضم إلى تمكنه من الاستمتاع، وإن لم يستمتع رفعُه النكاحَ بالطلاق،(15/368)
فيترتب عليه أن المسمى لا يسقط جميعه، وهاهنا لم يتسبب الزوج إلى رفع النكاح، وإنما ارتفع دونه قبل أن يصل إلى مقصوده.
فنقول: الأمر وإن كان كذلك، فنصف المسمى ثابت؛ فإن ارتضاع الصبيةِ عديمُ الأثر، فالرفع يغرّم الكبيرة، فيبعد أن يفوز بقيمة ما فُوّت عليه، ولا يغرَم للصبية من عوض العقد شيئاً.
نعم، لو قطرت قطرة من اللبن من غير قصد، ووصل إلى باطن الصبية من غير قصدٍ منها، وجرينا على الأصح في نفي الغرم عن صاحبة اللبن، فهاهنا انقطع النكاح من غير قصد من الزوج، ولم يُخلِّف انقطاعُ النكاح غرماً، فالمذهب المنقول أنه يجب على الزوج نصف المسمى كما ذكرناه، ووجهه أن النكاح لا يعرى عن شيء من العوض إذا لم يظهر انتساب المرأة إلى رفعه، ولا انتسابَ من الصبية في الصورة التي ذكرناها.
وفي هذه الصورة أدنى احتمال؛ من جهة أن الزوج لم يرفع النكاح، ولم يَفُز بعوض عنه.
وهذا مذهب مالك (1) ، وفي مسائلنا ما يناظر هذا.
وهذا احتمال. والمذهب ما قطع الأصحاب به.
10030- فإذاً يتسق في الغرض الذي نطلبه ثلاث صور: إحداها - أن يوجد الإرضاع (2) والارتضاع، فللصبية نصف المسمى.
والأخرى - أن ترتضع وصاحبة اللبن نائمة، فالمذهب سقوط مسماها، [لتجرد] (3) ارتضاعها، وحكينا عن الدارَكي وغيرِه وجهاً آخر أن لها نصفَ المسمى.
والصورة الثالثة - ألا يوجد من الصبية ارتضاع- في مسألة انفصال القطرة واتصالها بباطن الصبية- فالذي قطع به الأصحاب أنه يجب لها نصف المسمى على زوجها،
__________
(1) ر. حاشية الدسوقي: 2/505-، 506.
(2) في الأصل: أن يوجد الإرضاع للغرم والارتضاع.
(3) في الأصل: لتجدد.(15/369)
وقال مالك يسقط جميعُ المسمى، وما ذكرناه من الاحتمال توجيه مذهب مالك.
10031- ومما نختتم فصلَ الغرم به أن الرجل إذا نكح كبيرةً وصغيرةً، فأرضعت الكبيرةُ الصغيرةَ، وفسد نكاحهما، كما سنبين، أما أمر الصغيرة، فقد أوضحناه في الغرم، وأما الكبيرة؛ فإنها تسببت إلى إفساد نكاح نفسها أيضاًً بالإرضاع، وأثر ذلك أنه يسقط مسماها، ولا تغرم للزوج شيئاً، بخلاف المرضعة التي ليست بزوجة، وذلك لأن الضمان المتعلق بالمتعاقدين في المعقود عليه يختص بترادّ العوض.
فهذا أثر إفسادها نكاح نفسها.
وهذا فيه إشكال لا يليق استقصاؤه بالمذهب (1) ، وقد ذكرناه في مسائل (2) الخلاف.
وهذا نجاز أحد الأصلين المقدمين على مسائل الفصل، وهذا بيان الغرم، وما يجب وما يسقط.
10032- وأما الأصل الثاني - فنقول: إذا اتصل الصهر بحرمة الرضاع، تعلقت حرمة المصاهرة بما يجري، ولا فرق بين أن يتفق ذلك قبل النكاح، أو في دوامه، أو بعد ارتفاعه. والأصل متفق عليه.
10033- وبيانه بالمسائل أن المرأة إذا أرضعت صبيّةً، فنكح الصبيةَ رجل، فالتي صارت أمها بالرضاعة محرمةٌ على الزوج على التأبيد، والأمومة في هذه الصورة متقدمة على الزوجية وأم الزوجة محرمة على التأبيد.
ولو نكح الرجل صغيرةً وأبانها، فأرضعتها أجنبيةٌ خمساً في الحولين، حرمت هذه الأجنبية على الذي كان زوجاً للصبية، والأمومة تثبت بعد ارتفاع الزوجية،
__________
(1) بالمذهب. المراد به هذا الكتاب (نهاية المطلب) فهو يسمّى (المذهب الكبير) .
(2) مسائل الخلاف: المراد بها كتاب (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) ويسميه مسائل الخلاف، لأن مبناه وطريقته على ذكر المسائل الخلافية بعنوان (مسائل) فيقول: مسائل القراض - مسائل الرضاع ... وهكذا. وكلما انتقل من موضعٍ إلى موضع قال: مسألة. وهذا غير كتابه الآخر في الخلاف الذي يسميه (الأساليب) وذلك لأنه كلما انتقل من مسألة خلافية إلى أخرى قال: أسلوب آخر ... فسمي باسم الأساليب.(15/370)
ولكن كانت هذه الصبية زوجة، وقد ثبتت أمومة المرضعة، فلا نظر إلى تقدم الزوجية وتاريخ الرضاعة، وهذا متفق عليه لا نعرف فيه خلافاًً.
ولو نكح الرجل كبيرةً، ثم أبانها، فنكحت غلاماً رضيعاً قَبِل نكاحَها له أبوه، وكانت ذاتَ ابنٍ من الزوج الأول، فلو أرضعت زوجَها الرضيعَ بلبان الزوج الأول، فلا شك في انفساخ نكاح الرضيع؛ لأن الكبيرة صارت أمَّه، وتحرم هذه الكبيرة على الزوج الأول على التأبيد، فإنها من زوجات ابنه من الرضاع، وحليلة الابن من الرضاع محرمة على الأب، فقد أثبت إرضاعها بنوة الرضيع من الزوج الأول، وانعقد النكاح قبل ذلك، فصارت حليلة الابن.
وهذا ينبني على الأصل الذي مهدناه من أنا لا نعتبر التواريخ في ترتُّب الصهر على الرضاع والرضاع على الصهر.
ومما بناه الأئمة على هذه القاعدة أن رجلاً اسمه زيد لو نكح كبيرة، ونكح رجل اسمه عمرو رضيعة، ثم أبان كل واحد منهما زوجته، واستبدلا: فنكح زيد الرضيعة، ونكح عمرو الكبيرة، ثم أرضعت الكبيرة بعد الاستبدال الصغيرة، فنقول: أما الكبيرة فتحرم عليهما جميعاًً لأنها صارت أم زوجة كل واحد منهما؛ فإن الصغيرة نكحها عمرو أولاً ثم زيد، ولا نظر إلى التاريخ.
وأما الصغيرة، فنقول: إن لم يدخل زيد بالكبيرة لما كانت تحته، فنكاح الصغيرة [يتأتّى] (1) ، لأنها صارت ربيبة امرأة لم يدخل بها، وإن كان الأول دخل بالكبيرة، انفسخ الآن نكاح الصغيرة، لأنها صارت ربيبةَ امرأة مدخولٍ بها.
ولولا إقامة الرسم وطردُ الكتاب على نسق واحد في البيان، لرأيت طرح معظم هذه الأمثلة؛ لأن الفطن يتبرّم بها، ولا يكاد يخفى مداركها على أوائل النظر، ولكني أُجريها على صيغة البيان، وهذا معذرةٌ إلى الفقيه المنتهي إلى هذا المنتهى.
10034- قال ابن الحداد: إذا در لمستولدة الرجلِ لبنٌ على ولده المنتسبِ إليه، ثم إنه زوجها من عبد له صغيرٍ رضيع، فلو أرضعته، فلا شك في انفساخ النكاح.
__________
(1) في الأصل: يأتي.(15/371)
ثم حكى عن الشافعي أنه قال: لا تحرم المستولدة على مولاها، وقال معترضاً: الرأي تحريمها؛ فإن العبد الصغير صار ابناً للمولى (1) ، وهذه زوجة ابنه، وحليلة الابن تحرم.
فقال الأصحاب: إن صححنا النكاح، فلا شك أن الجواب المبتوت ما ذكره ابن الحداد، ولكن حمل الأصحاب النص الذي نقله على فساد النكاح.
ووجهوا للفساد ثلاثة أوجه: أحدها - أن التزويج من العبد الصغير لا يجوز؛ بناء على أن إجبار العبد الصغير على النكاح غيرُ جائز؛ من حيث إنه يُلزم ذمته مالاً.
والوجه الثاني في توجيه الفساد- منعُ تزويج المستولدة؛ فإنا قد نمنع ذلك في قولٍ، كما سيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله وحده.
والوجه الثالث - أن من زوج أمته من عبده، فالمذهب الأشهر والمسلك الأظهر أن النكاح يصح، وحكى الشيخ أبو علي وغيره وجهاً غريباً أن تزويج أمته من عبده غيرُ صحيح، وهذا -على بعده- موجه باستحالة ثبوت المهر، وإن كان كذلك، امتنع عقد النكاح؛ من جهة استحالة ثبوت العوض بالعقد وعند المسيس، وضاهى ذلك بدَلَ البضع.
ولست أدري أقدَّمنا ذكر هذا في النكاح؟ فإن لم نذكره، فقد ذكرناه الآن.
وإذا أفسدنا النكاح بوجهٍ من هذه الوجوه، لم تثبت الزوجيةُ مع الابن.
وإذا نكح ابنُ الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، ولم يطأها على الشبهة، لم تحرم على الأب، فإن النكاح إنما يحرِّم حليلة الابن على الأب وحليلة الأب على الابن إذا صح.
فهذا محمل النص الذي حكاه ابن الحداد.
وإن صححنا النكاح، فليس تحريم المستولدة على المولى مما يُتمارى فيه.
وقد نجز ما أردناه من تمهيد الأصل الثاني.
وقد حان أن نخوض في المسائل، ومعظمها منصوصة فلا يضر حفظها حتى تكون معتدة في الذكر وتتهذب الأصول بها، ونحن نأتي بها صورة صورة.
__________
(1) تذكّر (لبن الفحل) ، فالمولى هنا هو الفحل.(15/372)
فصل
قال: " ولو أرضعتها امرأة له كبيرة لم يصبها ... إلى آخره " (1) .
10035- نستغرق مقصود الفصل برسم الصور.
صورة: إذا كان تحت رجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرةُ الرضيعةَ، نظر: فإن أرضعتها بلبان الزوج، انفسخ نكاحهما، أما الصغيرة، فقد صارت بنت الزوج، وأما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء.
ان كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، فلا يخلو إما أن تكون مدخولاً بها، وإما أن لا تكون مدخولاً بها. فإن كانت مدخولاً بها، انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة، وحرمتا على الأبد: أما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء، والصغيرة ربيبةُ امرأةٍ مدخولٍ بها.
ان لم تكن مدخولاً بها، فلا شك في انفساخ [نكاحهما] (2) لثبوت البنوة والأمومة بينهما، والجمع بين الأم والبنت مستحيل، وليست إحداهما أولى بالاندفاع، وأما الكبيرة، فقد حرمت على الأبد؛ هذه العلة فيها كافية في انفساخ نكاحها؛ فإنها صارت من أمهات النساء، ولا تحرم الصغيرة على الأبد، وإنما ينفسخ نكاحها في الحال لما أشرنا إليه من الجمع، وإلا فهي ربيبة امرأة لم يدخل بها، فلو أراد أن ينكح الصغيرة ابتداء، أمكنه ذلك.
ولا يضر أن نُجريَ في بعض المسائل أحكامَ الغرم، وإن مهدنا أصله، وإحالةُ الإفساد على الكبيرة، والجريانُ على الأصح، فتغرمُ للزوج نصفَ مهر الصغيرة، ويسقط مهرها إن لم يكن مدخولاً بها، كما لو ارتدت قبل المسيس، وإن كانت مدخولاً بها، لم يسقط مهرها المسمى على الرأي الظاهر، كما لو ارتدت المرأة بعد المسيس، وقد ذكرت التفصيل في ذلك.
__________
(1) ر. المختصر: 5/55.
(2) في الأصل: نكاحها.(15/373)
والقدر المعتبر هاهنا تنزيل الرضاع بعد المسيس منزلة الارتداد، والزوج يغرم للصغيرة نصف مسماها.
10036- صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل كبيرة وثلاث صغائر، فأرضعتهن الكبيرة، لم يخف الحكم، إذا كان الإرضاع بلبان الزوج؛ فإنهن يصرن بناتِه.
وإن كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، نظر: فإن كانت مدخولاً بها، حرمت، وحرمن على الأبد من غير تفصيل؛ فإن الصغائر [يصرن] (1) ربائبَ امرأة مدخول بها، وتصير الكبيرة أمَّهن.
وإن كان الرضاع بغير لبن الزوج، وكانت الكبيرةُ غيرَ مدخولٍ بها، فهذا القسم يفصّل، فإن أرضعتهن أربعاً أربعاً على ما يتفق من جمعٍ وترتيب، ثم احتُلب اللبنُ وجعل في ثلاثة ظروف، وأوصل الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً من غير ترتيب، فيرتفع نكاحهن.
أما الكبيرة، فتحرم على الأبد؛ لأنها من أمهات النساء، والصغائر لا يحرمن على الأبد؛ لأن الكبيرة غير مدخول بها، فهن ربائب امرأة لم يتفق الدخول بها، ولكن ينفسخ نكاحُهن لثبوت الأُخوّة بينهن في حالة واحدة، والجمع بين الأخوات مستحيل.
ثم يغرَم الزوج نصف المسمى لكل صغيرة، ويسقط مهرُ الكبيرة، كما لو ارتدت قبل الدخول، وهذا حظها في نفسها من عهدة الإرضاع، وتغرم هي على الرأي الظاهر نصفَ مهر مثل كل صغيرة للزوج.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت قبل الدخول بغير لبان الزوج الصغائرَ الثلاث ترتيباً: الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فنقول: أما نكاح الكبيرة، فلا شك في ارتفاعه، وهي محرمة على الأبد، وإنما النظر في الصغائر، فإذا أرضعت الأولى خمساً، انفسخ نكاحها لاجتماعها مع الأم وقد تثبت الأمومة والبنوة من غير ترتيب، فلما أرضعت الثانية، لم ينفسخ نكاح الثانية؛ من جهة أنها لا تحرم على الأبد،
__________
(1) في الأصل: تصرفن.(15/374)
والكبيرة أقدمت على إرضاعها بعد انفساخ نكاحها، فلا يحصل الجمع.
فلما أرضعت الثالثة رضاعاً محرِّماً، انفسخ نكاح الثالثة، لا محالة؛ لأنها صارت أختاً للثانية وقد ثبتت الأخوة [بينها وبين] (1) الثانية في النكاح، والجمع بين الأختين ممتنع. هذا قولنا في الثالثة.
فأما الثانية، ففي ارتفاع النكاح قولان: أصحهما وأقيسهما - أنه لا ينفسخ نكاح الثانية، وعبر الأئمة عن القولين، فقالوا: الأخيرة التي ينفسخ نكاحها بسبب الاجتماع مع المتقدمة تصير مع المقدّمة كالمنكوحتين في عُقدةٍ واحدةٍ أم الأخيرة كالمُدخلة على المتقدمة؟ فعلى القولين: فإن جعلناهما كالمنكوحتين دفعة واحدة، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ نكاحهما جميعاًً، وإن جعلنا الأخيرة كالمُدخلة على الأولى، فينفسخ نكاح الأخيرة فحسب.
توجيه القولين: وجه القول الأصح أن الأُخوّة لا تقبل في ثبوتها الترتيب، ولا يتصور ثبوتها إلا بين شخصين، والأخوّة هي المفسدة، وإذا لم يكن فيها ترتب، وجب القطع بانفساخ النكاح فيهما جميعاً.
ووجه القول الثاني - أن الرضاع تمّ في الأولى، ولم يوجب انفساخاً، ثم الرضاع في الثانية بكماله، لم يتعلق بالأولى منه [فعل] (2) ؛ فكان ترتب الرضاع على الرضاع كترتب النكاح على النكاح.
وهذا ما لا [أشتغل] (3) بتقريره، وإنما هو تخييلٌ لا حاصل له.
ثم قال الأئمة: مهما (4) فرضنا امرأتين، وقد تمهد في أحدهما سببٌ، ثم جرى في الثانية سبب آخر حصل به جمعٌ محرِّم، فينفسخ نكاح الثانية، وفي انفساخ نكاح الأولى القولان.
__________
(1) في الأصل: وقد ثبتت الأخوة منها والثانية.
(2) في الأصل: فعلى.
(3) في الأصل: أستقلّ.
(4) مهما: بمعنى إذا.(15/375)
10037- واختلف الأصحاب في صورة نذكرها، وهي أن الرجل لو كان تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت أمُّ الكبيرةِ الصغيرةَ، فقد صارت الصغيرة أختاً للكبيرة؛ وإنما انتظمت الأخوة بينهما؛ لأن الكبيرة بنتُ المرضعة بالنسب، وهذا متقدم متمهد على إرضاع الصغيرة، فاختلف أصحابنا على طريقين: فقال الأكثرون: في انفساخ نكاح الكبيرة قولان، جرياً على القاعدة التي قدمناها؛ فإن البنوة بالنسبة متقدمة، والرضاع الذي تم به الأخوة متأخر، وكان كما لو أرضعت الزوجة الكبيرة صغيرة، ثم أخرى، ثم أرضعت الثالثة، فقد صارت أم الثانية بالرضاع، وتثبت الأخوة بين الثانية والثالثة بسبب تقدم بنوة الرضاع بين الكبيرة وبين الثانية، فلا فرق.
ومن أصحابنا من قطع بأن الكبيرة تحرم قولاً واحداً، إذا أرضعت أمها الصغيرة، لأن البنوة في الكبيرة تثبت لا بجهة الرضاع، فليس في الرضاع ترتب.
وهذا ليس بشيء، والوجه القطعُ بجراء القولين.
10038- عاد بنا الكلام إلى كبيرة وثلاث صغائر والكبيرة غير مدخول بها، والإرضاع ليس بلبان الزوج، فلو أرضعت واحدةً من الصغائر، ثم أرضعت ثنتين، فأوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهما معاً، فيبطل في هذه الصورة نكاح الصغائر الثلات: أما الصغيرة الأولى، فقد فسد نكاحها بسبب الجمع بين الأم وابنتها، وفسد نكاح الأخريين بحصول الأخوة فيهما معاً برضاعٍ جامع لا ترتب فيه.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت صغيرتين جميعاً، كما صورنا الجمع، ثم أرضعت الثالثة وحدها خمساً، فيرتفع نكاح الصغيرتين الأوليين المجموعتين لعلتين في الجمع: إحداهما - الجمع مع الأم، [والثانية] (1) - الاجتماع في الأخوة، ولا يبطل نكاح الصغيرة الثالثة؛ فإن رضاعها يجري ونكاحُ الكبيرة زائل، وكذلك نكاح الصغيرتين الأوليين، وليست هي ربيبة امرأة مدخول بها.
ولا يكاد يخفى حكم الغُرم إذا لاح فسادُ النكاح.
__________
(1) في الأصل: الثاني.(15/376)
10039- صورة أخرى: إذا نكح رجل أربع صغائر، فجاءت أجنبية وأرضعتهن أربعاً أربعاً، ثم أوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً، فيفسد نكاحهن للاجتماع في الأخوة برضاعٍ لا ترتب فيه، والنظر في الجمع والترتيب إلى الرضعة الخامسة.
ولو أرضعت اثنتين معاً، ثم أرضعت الأخريين معاً، فسد نكاحهن لتحقق الجمع بين الأوليين وبين الأخريين.
ولو أرضعتهن على الترتيب، فلا ينفسخ نكاح الأولى لو اقتصرت على إرضاعها، فلما أرضعت الثانية، صارت أختاً للأولى، وانفسخ نكاح الثانية، وهل ينفسخ نكاح الأولى؟ فعلى القولين؛ لأن الرضاع قد تم فيهما، فإن جعلنا الثانية كأختٍ تدخل على أختٍ، فينفسخ نكاح الثانية ولا ينفسخ نكاح الأولى، وإن جعلناهما كالمجموعتين في نكاح واحد، بطل نكاحهما بالتدافع، فلما أرضعت الثالثةَ، فإن حكمنا بانفساخ نكاح الأولى والثانية، فلا ينفسخ نكاحُ الثالثةِ الآن؛ فإن الأخوة فيها لا تصادف [أُختاً منكوحة] (1) ؛ إذ قد ارتفع نكاح الرضيعتين قبلهما.
وإن فرعنا على القول الثاني، وهو أن نكاح الأولى لا ينفسخ، فينفسخ نكاح الثالثة؛ فإن الأخوة تثبت بينها وبين الأولى وهي في النكاح، فبطل نكاح الثالثة، ولما أرضعت الرابعة، فنكاح الرابعة ينفسخ لا محالة على القولين؛ فإنها صارت أختَ الأولى، وأختَ [الثانية] (2) ، والثالثةُ على القول الصحيح كانت منكوحة لما تم الرضاع في الرابعة، والأولى كانت منكوحة في القول الثاني لما تم الرضاع في الرابعة، فيفسخ نكاحها على القولين.
وتخرّج من خاتمة الأم (3) : إذا أرضعتهن ترتيباً أن نكاح الأربع ينفسخ آخراً على أصح القولين، وترتيبه أن ينفسخ نكاح الأولى عند تمام الرضاع في الثانية وينفسخ نكاح الثانية لا محالة، ثم ينفسخ نكاح الثالثة عند تمام الرضاع في الرابعة، وينفسخ نكاح الرابعة لا محالة.
__________
(1) في الأصل: " أخت المنكوحة " والمثبت من صفوة المذهب.
(2) في الأصل: "والثالثة" والمثبت من (صفوة المذهب) .
(3) وتخرج من خاتمة الأم: أي يستخلص من خاتمة المسألة الأم.(15/377)
وعلى القول الثاني ينفسخ نكاح الثانية، والثالثة، والرابعة، ويبقى نكاح الأولى.
ولو غيرنا الصور في الترتيب والجمع، وصورنا الجمع في ثلاث، ثم إرضاع الرابعة، أو عكس ذلك، لم يخف حكمه، فإذا أرضعت ثلاثاًً جمعاً، انفسخ نكاحهن، فإذا عادت فأرضعت الرابعة، لم ينفسخ نكاحها؛ إذ لا اجتماع لها مع أختٍ.
ولو أرضعت واحدةً، ثم أرضعت ثلاثاً جمعاً: أما الأولى لا ينفسخ نكاحها لو فرض الاقتصار على إرضاعها، وأما الثلاث، فينفسخ نكاحهن، وهل نعود فنقول: ينفسخ نكاح الأولى، فعلى القولين السابقين.
10040- صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات للزوج من أب وأم، هن أخوات أمه من أبيها وأمها، وأرضعت كل واحدة منهن صغيرة، فلا يحرمن على الزوج؛ فإنهن يصرن بنات خالاته، ولا امتناع في نكاح بنات الخالات.
فلو كانت المسألة بحالها، وقد جرى الإرضاع من الخالات كما صورنا، فجاءت أم أم الزوج وأرضعت الصغيرة الرابعة، فقد صارت هذه خالة الزوج؛ لأنها تصير أخت أمه؛ فتحرم هي، وكما تصير خالة للزوج تصير خالة للصغائر الثلاث اللواتي أرضعتهن الخالات من قبل؛ وذلك لأنها كما (1) صارت أختَ أم الزوج، وصارت لذلك خالةَ الزوج، كذلك صارت أختَ الخالات المرضعات، والخالاتُ المرضعات قد صرن أمهات الصغائر الثلاث، وأختُ الأم خالة، وإذا صارت الرابعة خالةَ الصغائر الثلاث، صارت الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، ولا يجوز الجمع بين الخالة وبنت أختها، ولكن هذا حصل برضاع مترتب، فبطل نكاح الرابعة للخؤلة مع الزوج، والجمع مع بنات الأخوات، وهل يبطل نكاح الصغائر الثلاث؟ فعلى القولين السابقين؛ لأن ذلك حصل برضاع مرتب.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأب والأم ثلاثَ
__________
(1) كما بمعنى عندما.(15/378)
صغائر، فجاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، فإنها تصير أختاً لأم الزوج من أبيها، فتكون خالة للزوج من الأب، وتصير أختاً للخالات المرضعات من جهة الأب؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأب والأم، وتصير الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، كما قدمنا ذلك. أما الرابعة فتحرم، وفي الثلاث القولان المذكوران.
وبمثله لو جاءت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأم فأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة، فتصير الرابعة خالة للزوج من قِبل الأب؛ فإنها أخت أمه من أبيها؛ إذ زوجة أم الأب أرضعتها بلبان أب الأم، ولا تصير الرابعة أختاً للخالات المرضعات؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأم، والرابعة صارت أخت الأم من الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة، وبينهن؛ لأنه لم يجمعهن أبٌ ولا أم، والأخوّة إنما تنتظم إذا انتسب شخصان إلى أب واحد ببنوة الرضاع [أو انتسبا] (1) إلى أمٍّ واحدة بهذه الجهة، فإذا لم يتحقق انتماء إلى أب ولا إلى أم، فلا أخوّة.
وإذا [كان] (2) لرجلٍ أخٌ من أبيه، وكان لذلك الأخ أخت من أمه، فأخته من أمه أجنبية من الرجل الأول الذي فرضنا الكلام فيه، وأخت الأخ حيث تحرم لا تحرم لأنها أخت الأخ، وإنما تحرم لأنها بنت الأب أو بنت الأم؛ لأن الأخوّة المحرِّمة حرمت من حيث إنها تفرعت على الأبوة أو على الأمومة، أو عليهما. وهذا واضح.
ولو كانت الخالات الثلاث عن أب، فجئن، وأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت أم أم الزوج، وأرضعت الرابعة؛ فإنها تصير خالة للزوج، كما تقدم، ولا تصير أختاً للخالات المرضعات لما ذكرناه، ووضوح ذلك يغني عن مزيد البسط فيه.
10041- ولو كانت تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث عمات للزوج من أب وأم وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة، فنقول: أما الثلاث؛ فإنهن صرن بنات عمات، فلو وقع الاقتصار [عليهن] (3) في الإرضاع- فعلى
__________
(1) في الأصل: إذا انتسبا إلى أم واحدة.
(2) سقطت من الأصل.
(3) سقطت من الأصل.(15/379)
ما مضى- لما ضرّ شيئاً؛ لأنهن صرن بنات عمات، وذلك غير ضائر، فلما أرضعت أمُّ الأب الرابعة، صارت عمةً للزوج؛ لأنها صارت أخت أبيه، فلا شك في فساد نكاحها، وكما صارت عمةً للزوج صارت أختاً للعمّات المرضعات، وصارت الصغائر الثلاث المرتضعات بنات أخوات الرابعة، فيحصل الجمع بين العمة وبين بنات الأخوات، ولكن حصل ذلك برضاع مرتب؛ إذ تم الرضاع في الثلاث الأُوَل، ثم حصل الإرضاع في الرابعة، فتحرم الرابعة بعمومة الزوج، وبعلة الجمع.
وهل تحرم الثلاث الصغائر المتقدمات؟ فعلى القولين الممهدين في أن الأخيرة كالمُدخلة على الأوائل أم هي مع الأوائل كالمجموعات في عقد؟
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا جاءت أم الأب وأرضعت الرابعة بلبان الأب، فالجواب كما تقدم؛ فإن في العمات المرضعات قرابة الأمومة، وقرابة الأبوة جميعاًً، فتحصل الأخوة بأحد الطرفين.
ولو كانت العمات المرضعات من جهة الأب فجاءت أم الأب، فأرضعت الرابعة، لا بلبان أب الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة وبين العمات، وكذلك لو كانت العمات من جهة الأم، فجاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، لم تصر الرابعة أختاً للعمات، ولم تصر المرتضعات بنات أخوات، كما تقدم تصوير ذلك على التقرير التام في مسألة الخالات.
10042- ولو كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات متفرقات، وهن أخت الأم من أبيها وأمها، وأختها من أبيها، وأختها من أمها، وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم الأم وأرضعت الرابعة، فالقرابة التي تحرّم الجمع تثبت بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأم، ولا يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأب ما يُحرِّم الجمع.
ولو كانت المسألة بحالها، فجاءت زوجة أب الأم، فأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، ثبت النسب المانع من الجمع بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأب، ولم يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأم سببٌ مانع.(15/380)
وإذا فرضنا إرضاع الثلاث من عمات متفرقات، انتظم مثل ما ذكرناه فيه، إذا جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة لا بلبان الأب، وكذلك إذا جاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، ثم حيث ينتظم السبب المانع، فالرابعة تحرم من كل وجه للعمومة والجمع، وهل يحرم اثنتان من الصغائر الثلاث على ما يقتضيه الترتيب؟ فعلى القولين، وعلى هذا فقِسْ إن شاء الله.
فصل
قال: " ولو تزوج رجل كبيرتين وصغيرتين ... إلى آخره " (1) .
10043- إذا نكح الرجل كبيرتين وصغيرتين، فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين على الترتيب، بأن أرضعت الأولى خمساً، ثم أرضعت الثانية خمساً، ثم جاءت الكبيرة الأخرى وأرضعت الصغيرتين على ترتيب إرضاع الكبيرة الأولى، فإن كان الإرضاع بلبان الزوج، فقد حرمت الكبيرتان والصغيرتان على الأبد، غير أن الكبيرة الأولى لما أرضعت الصغيرة الأولى، فسد نكاحها ونكاحُ تلك الصغيرة؛ فإنها صارت بنت الزوج وصارت الكبيرة من أمهات النساء، فلما أرضعت الصغيرة الثانية، فسد نكاحها أيضاًً، لأنها تصير بنت الزوج، فقد حصل فساد نكاح الصغيرتين بإرضاع الكبيرة الأولى.
وحكم الغُرم أن الكبيرة الأولى مدخول بها، وإذا (2) كانت ذاتَ لبنٍ من الزوجِ، واللبن دَرّ في النكاح، فلا يسقط مهرها بعد المسيس، كالردة بعد المسيس، وتغْرمَ نصفَ مهر مثل كل صغيرة على الرأي الظاهر.
والكبيرة الثانية لا تغرم شيئاًً، ولا يسقط من مهرها شيء؛ لأنها لم تتسبب إلى إفساد نكاح واحدة من الصغيرتين، وإنما أفسدت نكاح نفسها بعد المسيس.
وإن لم يكن إرضاع الكبيرتين بلبان الزوج، فلا يخلو إما أن كان دخل بهما أو لم
__________
(1) ر. المختصر: 5/58 (ثم هو بمعنى كلام المختصر، لا بلفظه) .
(2) في الأصل: إذا كانت (بدون واو) .(15/381)
يكن دخل بهما، فإن كان دخل بهما، حَرُمْن كيف فرض الأمر، فإن الصغيرتين تصيران من ربائب [امرأة] (1) مدخولٍ بها، فتثبت الحرمة على الأبد بسبب الصهر، وتصير الكبيرتان من أمهات النساء في كل وجه.
وإن لم يكن الإرضاع بلبان الزوج، وما كان دخل بالكبيرتين وجرى الإرضاع في الصغيرتين من كل كبيرة: أما الكبيرتان، فتحرمان على الأبد، لأنهما من أمهات الزوجات.
وأما الصغيرتان، فلا تثبت فيهما حرمةٌ على التأبيد، وإنما يلحقهما الخللُ من جهة الجمع.
فنقول: إذا أرضعت الأولى إحدى الصغيرتين [أَكْملَ] (2) الإرضاع، ثم أرضعت الثانية، فيرتفع نكاح الأولى للاجتماع مع الأم المرضعة، وأما الثانية، فلا يرتفع نكاحها؛ لأنها لا تجامع أُمَّاً في النكاح، وقد تقدم فساد نكاح الكبيرة [الأولى. وأما الكبيرة] (3) الثانية، فإن أرضعت [الصغيرة] (4) الأولى على الترتيب الأول، حرمت الكبيرة في نفسها على الأبد، لأنها من أمهات النساء، ولا نظر إلى التاريخ، للأصل الذي مهدناه من قبل، فإذا أرضعت الثانية، لم ينفسخ أيضاًً نكاح الثانية؛ لأنه لم يتحقق فيها محرمية ولا جمع.
ولو ابتدأت الكبيرة الثانية بالصغيرة الثانية على العكس من ترتيب الكبيرة الأولى، فيبطل نكاح الصغيرة الثانية للاجتماع مع الأم.
ثم حكم الغرم لا يخفى، فيسقط مهر كل كبيرة بجريان الإرضاع قبل المسيس، ثم النظر في فساد نكاح الصغيرتين، فكل كبيرة تسبّبت إلى إفساد نكاح صغيرة التزمت نصف مهر مثلها -على الرأي الظاهر- لزوجها، والزوج يلتزم نصف المسمى للصغيرة التي فسد نكاحها، فإنا لا نحيل على ارتضاع الصغيرة أمراً، كما تقدم.
__________
(1) زيادة لإيضاح الكلام.
(2) في الأصل: " وأكمل ".
(3) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) زيادة لوضوح العبارة.(15/382)
فصل
قال: " ولو كانت للكبيرة ثلاث بنات مراضع من نسب أو رضاع ... إلى آخره " (1) .
10044- إذا نكح الرجل كبيرة وثلاثَ صغائرَ، وكان للكبيرة ثلاث بنات مراضع فجئن، وأرضعن الصغائر، نُظر: فإن كانت الكبيرة مدخولاً بها، فيفسد نكاح الأربع في كل وجه؛ لأن الكبيرة تصير جدة الصغائر، فهي من أمهات النساء، وتصير الصغائر ربائبَ مدخولٍ بها؛ فإن الحافدة ربيبةٌ كالبنت، وإذا حرمن على الأبد -كيف فرض الرضاع على ترتيب أو جمع- فالتفصيل في الغرم.
فإن أرضعن ترتيباً، فالتي أرضعت الأولى تلتزم نصف مهر مثل الصغيرة الأولى لزوجها، وتلتزم تمام مهر مثل أمها؛ فإنها أفسدت نكاحها بعد المسيس، هذا هو المذهب الظاهر وعليه التفريع.
ولسنا نفرع على ما حكاه صاحب التقريب عن المزني في غير المختصر، وقيل: نقل المزني ذلك القولَ في المنثور، فلا ينبغي أن يكون إليه عَوْدٌ في كل مسألة.
فلما أرضعت البنتَ الثانيةَ، ثم البنتَ الثالثة، فسد نكاح الصغيرتين الأخريين للمحرمية، واختصت كل مرضعة بغرامة نصف مهر المثل للتي أرضعتها؛ وتختص مرضعة الأولى بغرامة مهر مثل الكبيرة؛ لأنها المفسدة لنكاحها.
10045- ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فجاءت بناتها المراضع وأرضعن الصغائر، فهذا يُفرض على الجمع والترتيب:
فإن جمعن الرضاع المحرِّم في الصغائر وأوقعنه معاً -وذلك يفرض في الرضعة الخامسة؛ فإنها لا حكم [للرضعات] (2) قبلها- فإذا حصل الرضاع على الجمع، فيفسد نكاح الصغائر بسبب الجمع بينهن وبين الكبيرة التي صارت جدة، والجدةُ أمٌّ في
__________
(1) ر. المختصر: 5/58، ونص عبارته: ولو كان للكبيرة بنات مراضع، أو من رضاع ...
(2) في الأصل: المرضعات.(15/383)
هذه الأبواب، [ثم] (1) تنفرد كل بنت بغرامة نصف مهر التي أرضعتها، ويشتركن في غرامة مهر الكبيرة؛ فإن أفعالهن لم تترتب، وقد صدر من كل واحدة ما لو انفردت، لكان ذلك محرِّماً للكبيرة، فالغرم الواجب بسبب الكبيرة مفضوضٌ عليهن.
هذا إذا حلبن ألبانهن وحصَّلن الرضعة الخامسة معاً، وكذلك لو ألقمنهن الثديَ، وتحقق وصول اللبن إلى الأجواف معاً.
ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها وجرى الإرضاع من البنات على ترتيب، فإذا أرضعت واحدةٌ واحدة إرضاعاً تاماً، بطل بذلك نكاح الكبيرة والصغيرة للجمع والمحرمية: أما المحرمية، فتحصل في الكبيرة، لأنها تصير [من] (2) أمهات النساء، وأما نكاح الصغيرة فيبطل بالجمع، ولا تثبت المحرمية.
فإذا جاءت البنت الثانية، وأرضعت صغيرة، ثم أرضعت الثالثةُ الثالثةَ، لم يبطل نكاحهما، إذ لا محرمية، والكبيرةُ غيرُ مدخول بها، ولا جمع أيضاً، ولا يثبت بين الصغيرتين سببٌ يُحرِّم الجمع؛ إذ تصير كل واحدة بنت خالة الأخرى، والجمع بين بنات الخالات لا يمتنع.
ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فأرضعت بنتان صغيرتين جمعاً، كما صورنا الجمع، وأرضعت الثالثةُ الثالثةَ من بعدُ، أما نكاح الكبيرة، [فيرتفع للمحرمية] (3) ، لا شك فيه، ويرتفع نكاح الصغيرتين للجمع مع الأم.
وحكم الغرم أن كل مرضعة منهما تختص بغرامة نصف مهر مثل التي أرضعتها، ويشتركان في غرامة نصف مهر مثل الكبيرة؛ لأنهما اشتركتا في إفساد نكاحها. ولما جاءت البنت الثالثة، وأرضعت الصغيرة الثالثة، فلا أثر لإرضاعها؛ فإنها لم تثبت في الصغيرة الثالثة محرمية؛ إذ لا دخول بالكبيرة، ولم يتحقق فيها جمع؛ فإن نكاح الكبيرة قد تقدم ارتفاعه.
وإن صورنا الأمر على الضد من ذلك، فأرضعت بنتٌ صغيرةً، وجمعت بنتان
__________
(1) في الأصل: لم تنفرد.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: فترتفع المحرمية.(15/384)
الرضعة الخامسة للصغريين الأخريين، فيرتفع نكاح الكبيرة بالمحرمية، ونكاح الصغيرة الأولى بالجمع، ولا يؤثر إرضاع البنتين الأخريين؛ فإنه لا يُثبتُ محرميةً ولا جمعاً، وهذه الصورة في نهاية الوضوح، وإنما نوردها لاشتمال (السواد) عليها.
10046- ثم ذكر ابن الحداد صوراً في الرضاع وما ينتظم منه من الحرمات ولست أرى ذكر واحدة منها لوضوحها، ولولا التزامنا ذكر مسائل السواد، لما أوردنا معظم الصور التي ذكرناها، اكتفاء بالأصول الممهدة، ولكن ذكر ابن الحداد فروعاً تتعلق بالمغارم مستفادة، منها أنه قال:
إذا كان للرجل ثلاث نسوة مرضعات وصغيرة، فأرضعت إحداهن الرضيعة رضعتين، وكذلك الأخرى أرضعتها رضعتين، وأرضعت الكبيرةُ الثالثةُ الرضعةَ الخامسةَ، فلا تصير واحدةٌ من الكبيرات المراضع أماً؛ فإن واحدة منهن لم تُكمل الرضعاتِ الخمسَ.
ولكنا نُصوِّر لبانَهن من الزوج ونقول: هل يصير الزوج أباً؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، سيأتي شرحه بعد هذا -إن شاء الله- أحد الوجهين- أنه يصير أباً لانتساب خمس رضعات إليه.
والثاني - أنه لا يصير أباً، لأن الأبوة تبعُ الأمومة وسيأتي هذا.
فليقع التفريع على ثبوت الأبوة، وتحرم الصغيرة على ذلك؛ لأنها صارت بنت الزوج على الوجه الذي عليه التفريع.
والكلام في الغرم بعد ذلك، فنقول: لم يتعلق بالرضعات الأربع الصادرة من الكبيرتين الأوليين إفساد النكاح، وإنما تم الرضاع بالخامسة الصادرة من الكبيرة الثالثة، فالذي رأيته منصوصاً للأصحاب القطعُ بأن الكبيرةَ الثالثةَ التي هي صاحبة الرضعة الخامسة تختص بالغرم؛ فإنها المفسدةُ.
ولا شك أن نكاح واحدة من الكبيرات لا ينفسخ؛ فإن الأمومة لم تثبت لواحدة.
وليس يبعد عندنا عن الاحتمال تشريكُ الكبيرتين الأوليين؛ فإن الرضعة الخامسة(15/385)
إنما وقعت خامسةً لتقدم أربع قبلها، ولا حاصل لقول من يقول: الحرمة بالخامسة، قالت عائشة: " فنسخن بخمس يحرّمن ".
وهذا يضاهي مسألةً للأصحاب سيأتي ذكرها في مسائل أسباب الضمان من كتاب الديات، وهي أن من شحن سفينة شِحْنةً على اعتدال، فجاء آخر ووضع فيها عِدْلاً (1) ، رسبت السفينة بسببه [وغرقت، فكم يغرم] (2) هذا الواضع؟ فيه تفصيل، وقد ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى التوزيع، وهذا الذي ذكرناه في الرضاع احتمال، يعتضد برجوع الشهود؛ فإنه لو شهد أربعة على الطلاق، وجرى الحكم، ثم رجعوا عن الشهادات واحداً واحداً، فالغرم على جميعهم، وإن كان انتقاص العدد المشروط يحصل برجوع الثالث، والمذهب ما نقلناه، وهذا احتمال أبديناه، وهو [دافعٌ] (3) لا بأس به.
10047- ولو كانت المسألة بحالها: ثلاث كبيرات وصغيرة، فأرضعت واحدةٌ الصغيرةَ رضعة، وأرضعت الثانيةُ رضعة، ثم احتلبتا لبنيهما، واحتلبت الكبيرة الثالثة لبنها، وجمعن هذه الألبان في ظرف، وأرضعن الصغيرة، فقد حصل بما صورناه خمسُ رضعات؛ فإن الأوليين قدمتا رضعتين، ولما جمعن ألبانهن، فكأنَّ كل واحدة أرضعت رضعة، فيحصل ثلاثُ رضعات بهذا اللبن المجموع، والتفريع على تحريم الصغيرة، وثبوت الأبوّة.
وغرضنا الكلام في الغرم، ولا شك أنهن يشتركن في الغرم بسبب الاشتراك في الرضعة الأخيرة، وذكر الشيخ أبو علي وجهين في كيفية فضّ الغرم عليهن: أحدهما - أن الغرم بينهن أثلاثاً؛ فإنهن اشتركن آخراً عند حصول التحريم، فالوجه فضُّ الغرم عليهن أثلاثاًً.
__________
(1) عِدْلاً: عدل الشيء مساويه في الوزن والقدر، والعدل أيضاً نصف الحمل يكون على أحد جَنْبي البعير، وهو الجُوالق، أو الغِرارة، وهو المراد هنا (المعجم والمصباح) .
(2) في الأصل: وغرمت وكم يغرم.
(3) في الأصل: واقع.(15/386)
والوجه الثاني - أنا نوجب على كل واحدة من الأُوليين [خُمسي] (1) الغرم، ونوجب على الثالثة خُمسَ الغرم، وحقيقة هذا الاختلاف يرجع إلى أنا هل نُدرج ما تقدم من الرضعتين من الكبيرتين في الحساب الذي عليه نَفُضُّ الغرمَ، فمن أصحابنا من لم يدرجهما، ولم يعتبرهما، ونظر إلى الاشتراك في الرضعة الخامسة.
ومن أصحابنا من أدرج الرضعتين السابقتين، وقال: إنما لا تعتبر الرضعات السابقة إذا انفردت الثالثة بالرضعة الخامسة على رأي الأصحاب، فأما إذا وجد من الأُوليين -وقد صدرت منهما الرضعتان- مشاركةٌ في الخامسة، فنُدخل ما سبق في الاعتبار، وهذا كما إذا انفردت بخمس رضعات محرمات، فالغرم محال على الرضعات الخمس.
وما ذكرناه تفريع على أن صاحبة الرضعة الخامسة إذا انفردت، انفردت بالغرم.
10048- صورة أخرى لابن الحداد في المغارم: رجل تحته كبيرتان وصغيرة، وكانتا ذات لبن من غير الزوج، وما دخل الزوج بهما، فأرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربعَ رضعات، فلا يتعلق بما صدر منهما حرمة؛ لأن واحدة لم تكمل الرضاع، فتصير أمّاً، وليس اللبن من الزوج، حتى يختلف الأصحاب في ثبوت الأبوة بخمس رضعات ملفقات من رضاعهما، فلو احتلبتا ألبانهما، فأوجرتا الصغيرة [فلا] (2) تثبت الحرمة المؤبدة في حق الصغيرة؛ لأنا فرضنا المسألة فيه إذا لم يدخل الزوج بالكبيرتين، فليست ربيبةَ مدخولٍ بها، ولكن يبطل نكاح الصغيرة بسبب الجمع مع الأم.
ثم تشترك الكبيرتان في غرامة نصف مهر مثل الصغيرة للزوج.
وأما الكبيرتان ففيهما نظر يبين الغرض فيه بعد التنبُّه لما قدمناه من أن الكبيرة إذا أرضعت بنفسها، وفسد نكاحُها ونكاحُ الصغيرة، فهي لا تغرم بسبب فساد نكاحها في نفسها للزوج شيئاً، ولكن إن كانت غير ممسوسة، سقط مهرُها، فهذا أثر إفسادها
__________
(1) في الأصل: "خمس" ولا يستقيم المعنى بهذا. والمثبت من تصرّف المحقق.
(2) زيادة من المحقق، يفسد الحكم بدونها.(15/387)
نكاح نفسها، وإن كانت ممسوسة، فالرأي الظاهر أنه لا يسقط من مهرها شيء لاستيفاء الزوج مقابل المهر.
فإذا تجدد العهد بهذا، فكل واحدة من الكبيرتين ساعية في إفساد نكاح نفسها، ويرتفع نكاح صاحبتها أيضاً، فهل تغرم إحداهما للزوج مهر صاحبتها الكبيرة، أم كيف السبيل فيه؟ قال الشيخ أبو علي: اجتماعهما على الرضعة الخامسة، واشتراكهما فيها يوجب إحالة انفساخ نكاح كل واحدة منهما عليهما جميعاًً، هذا موجَب الاشتراك.
فإذا كان كذلك فسَعْيُ كل واحدة في فسخ نكاح نفسها يوجب إسقاط المسمى، وسعي الأخرى في إفساد نكاحها يوجب الغرم للزوج، فالوجه أن نوفر على السببين موجَبَهما، ونقول: المسألة مفروضة فيه إذا لم تكونا ممسوستين، وقد تحقق الاشتراك، كما ذكرنا، فنسقط نصف المهر المسمى بسبب ارتفاع النكاح قبل المسيس، ويقع التصرف في النصف الباقي، فيرجع من النصف الباقي نصف وهو الربع، وتغرم كل واحدة لزوجها ربع مثل صاحبتها الكبيرة، فتستحق كل واحدة ربع المهر المسمى لها، وتغرم ربع مهر مثل صاحبتها.
قال الشيخ: هذا مما قلتُه تخريجاً، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، وهذا قد نقله شيخي عن القفال على هذا الوجه بعينه، وشبَّه تدافعَ النكاحين بين الكبيرتين باصطدام الفارسين، وذلك يقتضي التشطير، كما سيأتي مقرراً.
10049- قلت: هذا الذي ذكره الشيخ حسنٌ، ولكن لا يقف عليه الطالب إلا بالاطلاع على التفصيل، فإن أحاط به الشيخ ولم يذكره، فقد أخلّ، وإن لم يحط به، فإطلاقه على هذا الوجه خطأ صريح.
والغرض من هذا الفصل يبين بتقديم أصلٍ بيّنٍ، وهو أن الكبيرة لو أرضعت الصغيرةَ، وهما تحت زوج أربع رضعات، ثم احتلبت اللبن في ظرف، فتقدم إلى الظرف إنسان وأوجره الصبية، فالغرم على الموجِر لا على صاحبة اللبن.
فإذا تبين هذا، عدنا إلى التفصيل المقصود في المسألة، في مسألة الكبيرتين والصغيرة، فإذا أرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربع رضعات، نظر بعد ذلك، فإن(15/388)
احتلبت كلُّ واحدة لبن نفسها في ظرف، ثم أوجرتا الصبية بحيث أوصلتا اللبن إلى جوفها من غير خلط، وأقلت كل واحدة لبن نفسها، فيجب القطع في هذه الصورة بأن [كل] (1) واحدة من الكبيرتين لا تغرم شيئاً من مهر الكبيرة الثانية؛ فإن كل واحدة إنما فسد [نكاحها] (2) بثبوت الأمومة، وأمومة كل واحدة تثبت بإيجارها الرضعة الخامسة، ولو انفردت إحداهما بإرضاع الصغيرة خمساً بلبان غير الزوج، فلا تحرم الكبيرة الأخرى، ولا أثر إذاً لواحدة منهما في نكاح الأخرى في الصورة التي ذكرناها، فلا اشتراك، [وكلُّ] (3) واحدة منفردة باثبات أمومة نفسها، فيسقط مهر كل واحدة منهما، ولا تغرم إحداهما للزوج شيئاً من مهر الكبيرة الأخرى.
وكذلك لو ألقمتا ثديهما الصبية في الكرة الخامسة، وتحقق وصول اللبن إلى الجوف معاً، فالجواب كما ذكرنا، وإن كنا نتحقق أن اللبنين كانا يختلطان في فُغُرات (4) الصبي، ثم إن كانت تجرعه مختلطاً، فلا نظر إلى الاختلاط، والتعليل كما تقدم.
ولو احتلبتا لبنيهما في ظرف واحتملت إحداهما الظرفَ وأوجرت [الصبية] (5) ، فالجواب أن الموجرة يسقط مهرها، وتغرَم نصف مهر مثل الكبيرة الأخرى، لما مهدتُه قبلُ [من] (6) أن الغرم على الموجِر.
ولو اشتركتا في حمل الظرف وفيه اللبنان، وأوجرتا، فالاشتراك يأتي من قِبَل أن هذه حملت لبن تيك وتيك حملت لبن هذه، فيظهر الاشتراك؛ فإن لبن كل واحدة منهما يضاف حمله إليهما، وإحالة الغرم على الحمل وتعاطي الإيجار، فيتجه على هذا في هذه الصورة ما قاله الشيخ، ولا يتجه غيره. هذا حقيقة المسألة ومنتهاها.
__________
(1) زيادة لوضوح العبارة.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: في كل واحدة.
(4) فغرات: جمع فُغرة، والفغرة فمُ الوادي، والجمع فُغَر (المعجم) والمراد هنا فم الصبية في حركاته أثناء التقام الثدي.
(5) زيادة لإيضاح الكلام.
(6) في الأصل: في. ومع أن ابن هشام نصَّ على أن (في) تأتي مرادفة لـ (مِن) إلا أننا آثرنا تغييرها للإلف والعادة في زماننا هذا. والله أعلم.(15/389)
فصل
10050- إذا نكح الرجل صغيرة وكانت له خمسٌ من أمهات الأولاد، وذوات ألبان منه، أو كانت له زوجاتٌ مطلَّقات ذواتُ ألبان منه، والغرض تصوير مرضعاتٍ خمسٍ بألبان منتسبة إلى الرجل، فإذا أرضعت كل واحدة منهن الصغيرةَ رضعة، فحصلت خمسُ رضعات من خمس مراضع، فلا شك أن واحدة منهن لا تصير أُمّاً؛ إذ لم يصدر من [كل] (1) واحدة إلا رضعةٌُ واحدة، ولكن هل تثبت الأبوّة للرجل الدي انتساب الألبان إليه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الأبوة لا تثبت؛ إذ هي تبعُ الأمومة ولم تثبت الأمومة، فلا تثبت الأبوّة. والوجه الثاني - أن الأبوة تثبت لتعدد الرضعات، والألبان منتسبة إلى الرجل، فيجب ثبوت الأبوة، وإن لم تثبت الأمومة.
فلو كان لزوج الصغيرة خمس بنات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فلا تصير واحدة منهن أمّاً، وهل تثبت الجدودة للزوج؟ فعلى الوجهين المقدمين.
وكذلك لو كان للزوج خمس أخوات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فالمسألة على الخلاف.
وقد قال الأئمة: إذا اتحد الجنس في المراضع، فكن أمهات، أو زوجات= والزوجات مع أمهات الأولاد في حكم الجنس الواحد؛ فإن النظر إلى انتساب الولد- أو كن بنات الزوج، أو أخواته، فالخلاف في كل حال على نسق واحد، من غير ترتيب.
والذي أراه أن الألبان المنتسبة إلى الزوج أَوْلى (2) الصور بحصول الأبوة؛ لحقيقة الانتساب، حتى كأن الزوج هو المرضع، وهذا المعنى لا يتحقق والمراضع بنات الزوج أو أخواته؛ فإن الألبان لا تنسب إلى الزوج، ولم يوجد إلا صَدَرُ خمس
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: أو إلى الصور.(15/390)
رضعات من بنات شخصٍ واحد، فكأنهن في وجه كبنت واحدة في حق هذا الزوج.
وهذا تكلف، والترتيب يحسن بدون هذا، فلنقل: إذا أرضعت الزوجات وأمهات الأولاد رضعة رضعة، ففيه الخلاف، ولئن أرضعت خمسُ بنات، فهذا يترتب على المسألة الأولى، وهذه الصورة أولى بأن لا تثبت الحرمة فيها، والفرق ما نبهنا عليه. وإذا كانت المراضع أخوات، فانتسابهن ليس إلى الزوج، وإنما ينتسبن إلى أب الزوج فيجري مع أب الزوج الخلاف الذي جرى في بنات الزوج من غير ترتيب.
ثم إذا ثبتت الحرمة في حق أب الزوج تعدت إلى الزوج، فمسألة الأخوات كمسألة البنات، ولكن بَعْد فَهْم ما نبهنا عليه.
10051- ولو أرضعت الصغيرةَ خمسُ مراضع من جهات مختلفة وكانت كل واحدة لو استتمت الرضاع خمساً، لحرمت الصغيرة، فإذا أرضعت الصغيرةَ رضعةً زوجةٌ، وبنتٌ، وأمٌّ للزوج، وأختٌ، وجدةٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الصغيرة هل تحرم على الزوج؟ والوجه عندنا ألا تحرم؛ فإنه ليس ينتظم من اجتماعهن جهةٌ مسماة في القرابة؛ فإنه لا تثبت لواحدة منهن حرمة في نفسها، ولا يتأتَّى نسبة الجهات المختلفات إلى أصلٍ، فتعين لذلك ترتيب الخلاف في هذه المسألة على آخر مسألة ذكرناها، ورأيناها مرتبة على ما قبلها.
والفارق ما أشرنا إليه من أن الجهات إذا اختلفت، لم يتسق عن مجموعها جهةٌ معلومة مُقتضية للحرمة، وإذا اتحدت الجهة، انتظمت العبارة، [واستدّت] (1) النسبة.
فإن قيل: هذا بيّن، فما وجه التحريم؟ قلنا: كل واحدة من اللواتي ذكرناهن، لو استتمت الرضعات الخمس، لثبتت الحرمة، وفسد نكاح الصغيرة، فإذا وجدت من كل واحدة منهن رضعة، قدرنا الرضعات الخمس على الوجه الذي نتكلف توجيهَه
__________
(1) في الأصل: واشتدّت. والمثبت اختيارٌ منا على ضوء المعهود من عبارة الإمام. ومعنى: (استدّت) : استقامت.(15/391)
[مقتضية] (1) حرمةَ قرابةٍ، لسنا نسميها، ولا ننسبها إلى جهة ولا نَعْزيها، وليس الغرض إثباتَ الأسماء، ولكن عدد الرضعات من نسوة لو استكملت كل واحدة الرضاع، لثبتت الحرمة، وهذا من هذا الوجه يمكن تقريره.
10052- وذكر صاحب التلخيص في كتابه مسألة أجمع الأحاب على تغليطه فيها، وذلك أنه قال: لو نكح الرجل صغيرةً، فأرضعتها ثلاثُ بناتٍ للزوج مراضعَ رضعةً [رضعة] (2) ، ثم جاءت عمةٌ للزوج وخالةٌ، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، قال: في تحريم الرضيعة وجهان، وهذا مما لا يخفى غلطه فيها؛ لأن العمة لو استكملت الرضاع، لم يتعلق به فساد نكاح الصغيرة، وكذلك الخالة.
وإنما يتجه التحريم على البعد إذا صدرت الرضعات من نسوة لو استكملت كلُّ واحدة منهن العددَ، لفسد النكاح، وإرضاعُ العمة والخالة لا أثر له، وهو بمثابة ما لو أرضعت الصغيرةَ ثلاثُ بنات للزوج، ثم جاءت أجنبيتان، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، ولست أدري كيف يقع لمثل هذا الرجل المرموق مثلُ هذا الغلط، والذي يتفق وقوعه للأكبر الجوابُ على مذهب بعض العلماء على حسبان أنه جواب صاحب المذهب، ولا يبعد أن يميل النظر من قياس إلى قياس، فأما العمة والخالة، فلا أثر لإرضاعهما بإجماع الأمة، وليس هذا مما يُحمل الغلطُ فيه على زلَّة الفكر إذا اضطر إلى المضايق، فإن الحكم على خلاف ما ذكره مرتَجلٌ بأوائل الفهم، والله أعلم.
10053- ومن بقية الكلام في هذه المسألة أنه إذا أرضعت الصغيرةَ خمسُ بنات للزوج، فإن وقعت الرضعات متفرقات في أزمنة يتخللها فصول، بحيث لو فرض أمثالها والمرضعة واحدة، لكانت رضعات، فالجواب في هذا ما قدمناه، وخلاف الأصحاب على ما وصفناه.
وإن توالت الرضعات منهن في أزمنة متواصلة والارتضاع من الصبية دائم، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: النظر إلى المرضعات، وهن خمس،
__________
(1) في الأصل: تقتضيه.
(2) زيادة لإيضاح العبارة.(15/392)
فالرضعات خمس، ولتعدد الأشخاص أثرٌ في الحكم بتعدد ما يصدر منهم، كما للاتحاد أثرٌ في الإيجار.
هذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا تواصلت الأزمنة، لم يثبت العدد وحكمُه.
فإن فرعنا على الوجه الأظهر، فالكلام كما تقدم.
وإن فرعنا على أن ما صدر منهن لا يثبت له حكم العدد، فلو أرضعت واحدة منهن الصغيرة أربعَ رضعات بعد ما تقدم منها، فهل تثبت الحرمة؟ فعلى وجهين؟ أحدهما - أنها لا تثبت؛ فإنا إذا لم نحكم بعدد الرضعات، فكأن الصادر منهن في حكم الرضعة، وهي مفضوضة على جماعتهن تقديراً، ويلزم من ذلك نسبة بعض رضعة إلى كل واحدة، والواحد لا بعض له، فالوجه [إحباط] (1) تلك الرضعات، والمصيرُ إلى أنها وإن وقعت كأنها لم تقع، وكذلك لو تكررت الرضعات منهن على هذه الصفة مراراً عدة، فالجواب كما قدمنا ذكره.
هذا وجه وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صورة تقدمت من كلام العراقيين.
والوجه الثاني - أن الواحدة منهن إذا أرضعت أربعاً بعد ما جرى -بينهن على الجمعِ ما جرى، فنحكم بثبات الحرمة، لأنها أرضعت رضيعةً في الحولين خمساً، ومثل هذا لا سبيل إلى [درائه بالوساوس] (2) ، والتقديرات.
وهذا هو الذي لا ينقدح غيره.
فإن قيل: فإذا كنا نحتسب ما صدر من كل واحدة رضعة، فقد تعدّدت الرضعات. قلنا: نعم، هو كذلك، ولهذا كان الأصح أن الصادر منهن رضعات، ولكن يجوز أن يقال على الوجه الضعيف: هن بمثابة بنت واحدة تُرضع في دفعة لبناً كثيراً، فإذا رُدِدنا إلى اعتبار كل واحدة في نفسها، ردَّدْنا النظر إلى فعلها وإرضاعها.
هذا منتهى القول في هذا الفصل.
__________
(1) في الأصل: احتياط.
(2) في الأصل: وهذا لا سبيل إلى وراه بالوسايس. والمثبت تصرف من المحقق.(15/393)
10054- ثم أعاد المزني فصولاً ذكرناها في مقدمات الأصول الممهدة: منها أنه قال: لو نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة، فقد صارت الكبيرة والصغيرة أختين، وهذه المسألة التي اختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قطع القول بانفساخ نكاح الكبيرة والصغيرة، ومنهم من أفسد نكاح الصغيرة وخرّج الكبيرة على قولين.
ولو أرضعت جدةُ الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاح الصغيرة وصارت خالةَ الكبيرة والكبيرةُ بنت أختها والطريقتان جاريتان في الكبيرة، كما قدمنا، ولا حاجة إلى شرح ذلك.
وقد انتهى الكلام إلى هذا المنتهى.
وذكر بعده ما قدمنا ذكره من امتياز الرضاع عن النسب في مسائل تتعلق بالصهر وقد قررنا ذلك عند قوله " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
***(15/394)
باب لبن الرجل والمرأة
قال: " اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما ... إلى آخره " (1) .
10055- قد قدمنا في صدر الكتاب ثبوتَ حرمة اللبن في جانب الفحل، وانتشارها منه، وأوضحنا أن الولد إذا كان يُعزَى إلى الأم بالولادة وينتسب إلى الأب، فاللبن الدارّ عليه منسوب إليهما أيضاً، واللفظ الذي نقله المزني على [إيجازه] (2) ناصٌّ على المغزى، نعني قولَه: " اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما " وحاصل القول أن اللبن تبعُ النسب، ثم ينتشر انتشارَه، ويمتزج بالنسب، ويختلط النسب به، كما قدمنا ذكره، فإن زنت المرأة، [فولدها] (3) من الزنا معْزِيٌّ إليها في جميع الأحكام كولد الرِّشدة، وهو غير منسوب إلى الزاني، وقد أوضحنا أن الزاني ينكح بنت الزانية، وإن غلب أن العلوق منه، وإن تحقق ذلك، ففيه اختلافٌ، والأقيس طرد الباب.
ثم النكاح وإن لم يكن محظوراً، فهو مكروه، وفيما نقله المزني ما يدل على أن للشافعي قولاً مطلقاً في منع نكاح ولد الزانية في حق الزاني إذا غلب على الظن أن العلوق منه، وهذا لم يقبله الأصحاب، ورأَوْا القطعَ بأن النكاح لا يحرم، والكراهيةُ ثابتةٌ، وردّ الشافعيُّ على من لا يكره للزاني نكاحَ بنت الزانية، وظن المزني أن ما ذكره تحريمٌ، وليس الأمر كذلك.
فإذا تجدد العهد بولد الزنا، فاللبن يتبعه، فإذا أرضعت الزانية باللبن الدارّ على ولد الزنا، تثبت الحرمة من جهتها؛ لأن ولدَها منسوبٌ إليها زانيةً كانت، أو منكوحة، أو موطوءةً بشبهة، ولا يحرم المرتضع منها على الزاني؛ فإن اللبن يتبع
__________
(1) ر. المختصر: 5/59.
(2) في الأصل: على الجارة.
(3) في الأصل: فولده.(15/395)
النسب، وهو غير منسوب إلى الزاني، فاللبن الدارّ عليه غير منسوب إليه.
ولو وطىء الرجل امرأة بشبهة، فأتت منه بولد، والتحق النسب بالوطء، فاللبن الدارّ على الولد النسيب في أصل المذهب وقياسِه منسوب إلى الواطىء، فإذا حصل الإرضاع به، انتشرت الحرمة إليه انتشارها إلى الزوج.
وذكر صاحب التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن حرمة الأبوة لا تثبت، وإذا لم تثبت الأبوة، فلا انتشار.
والقول الثاني - أن الحرمة تثبت وتنتشر.
قال الشيخ أبو علي: استبعد بعض الأصحاب القولين، وقد رأيتهما لصاحب التقريب، ورأيتهما في الجامع الكبير للمزني، فهما يقربان من الاختلاف الذي كان يحكيه الأستاذ أبو إسحاق، في أن حرمة المصاهرة هل تثبت بوطء الشبهة، وكان من لا يثبت أبوة الرضاع وحرمة المصاهرة يقول: إثبات النسب ضرورة، وتبرئة الرحم بالماء المحترم بالعدة ضرورة، ولا ضرورة في إثبات المصاهرة، ولا في إثبات أبوة الرضاع.
ولا شك أن المذهبَ المعتبرَ الذي عليه التعويل إتباعُ اللبن النسبَ، والتسويةُ بين وطء الشبهة والوطء الحلال فيما يتعلق بحرمات اللبن؛ فإنّ قطع اللبن عن النسب يهدم الأصل الذي عليه تأسيس الكتاب، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
10056- ومما يتعلق بما نحن فيه الكلام في الولد المتردد [بين الزوج والواطىء بالشبهة واحتيج فيه إلى القافة] (1) والتفريع على أن اللبن الدارّ على الولد [الآتي] (2) من وطء الشبهة كاللبن الذي يدر على ولد النكاح -ولا عَوْد إلى ذلك القول القديم-.
فإذا نكحت المرأة في العدة نكاحَ شبهة، وغشيها الزوج الثاني على الفساد
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ولا يستقيم الكلام بدونها، وأثبتناها على ضوء عبارة (صفوة المذهب) جزء (5) ورقة: 197 شمال.
(2) في الأصل: اللائي.(15/396)
والشبهة، وتردد الولد بين الزوج المطلِّق وبين الواطىء على الشبهة تردُّداً يقتضي الرجوعَ إلى القائف، فإذا أرضعت المرأة باللبن الدارّ على هذا المولود المتردد، ففي الأصل قولان: أحدهما - وهو الأصح أن حكم اللبن حكمُ الولد، فإن ألحقه القائف بالمطلّق، فهو أب الرضاع، كما أنه أب النسب في المولود، فنقطع حرمة الرضاع عن الواطىء بالشبهة.
وإن لم نجد القائف، أو وجدناه، فتبلّد وتردَّد، ورددنا الأمر إلى انتساب المولود، فإن انتسب إلى الزوج، فأبوّة الرضاع له أيضاً، وإن انتسب إلى الواطىء بالشبهة، فأبوة الرضاع له، كما أن أبوة النسب في المولود له.
هذا أحد القولين، وهو الأصل وبه الفتوى، وهو معتضِدٌ بما أصلناه من إتباع اللبن [نسب] (1) المولود.
والقول الثاني في أصل المسألة - أن الحرمة تثبت للزوج المطلِّق والواطىء بالشبهة جميعاً؛ فإنه لا يمتنع في الرضاع ثبوت آباء، والأمر مشكل، والنسبة إلى كل واحد منهما كالنسبة إلى الآخر، فلا معنى لقطع هذا التساوي بانتسابٍ وقول قائف.
وأما انتساب شخص إلى أبوين في النسب، فمستحيل الكون، فاضطررنا فيه إلى التعلق بشيء في تعيين الأب.
وهذا القول ضعيف، وإن كان مشهوراً.
التفريع على القولين:
10057- إن قلنا: حرمة الرضاع وأبوّته ثابتة لهما، فلا كلام، ولا ينقطع ذلك بأن يُلحق القائف المولودَ بأحدهما، أو ينتسبَ المولود إلى أحدهما، بل يستمر هذا الحكم.
ولعل هذا القائل يُجري هذا في الظاهر؛ إذ لا سبيل إلى المصير إلى أن الأبوّة تثبت من جهة الرضاع باطناً لهما، والله عليم بأن الولد لأحدهما، ولكن هذا من
__________
(1) في الأصل: بسبب المولود.(15/397)
المسائل التي لا يتوصل فيها إلى درك الباطن، ولا ينقطع الحكم الذي جرى في الظاهر.
وإذا كان كذلك أطلق الفقيه القول بموجب الظاهر؛ من جهة أنه لا مطمع في ارتفاع هذا الحكم، وهذا بمثابة قولنا في مسألة الطائر، وقد قال زيدٌ: إن كان غراباً فامرأتي طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، وفات الطائر، وأُيس من الإحاطة به، فالحكم الذي يُجريه الفقهاء قاطبة أنه لا تطلّق زوجة واحد منهما، وهذا حكم متعلق بالظاهر، وإلا فزوجة أحدهما طالق في علم الله تعالى، غير أنه انحسم علينا مسلك الوصول إليه، وأيسنا من الإحاطة به، فأطلقنا الحكم بانتفاء وقوع الطلاق.
هذا حقيقة القول.
10058- وإن فرعنا على القول الثاني وهو أن اللبن يتبع نسب المولود في القيافة وانتسابِ المولود، فلو لم نجد قائفاً، ومات المولود الذي كنا نتوقع انتسابه، وقد أرضعت الأم باللبن الدار على الولد المتردد مولوداً، فما حكمه؟
أحسن مسلك في ذلك ما ساقه صاحب التقريب، فقال حيث انتهى التفريع إليه: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أن ولد الرضاع ينتسب [وينتمي] (1) إلى من شاء منهما. والقول الثاني - أنه يحرم عليهما. والقول الثالث - أن الأمر موقوف.
من قال: ينتسب ولد الرضاع اعتبره بولد النسب، فإنه ينتسب إذا تعذر القيافة، ومن قال: يحرم عليهما، قال: الانتساب في الولد النسيب محمول على نزوع النفس، وما يجده المولود من الميل الذي جبلت النفوس عليه لا يجده المرتضع، فلا وجه إلا إثبات التحريم من الجانبين.
فإن قيل: هذا هو القول الذي حكيتموه في أصل المسألة: أن حرمة الأبوة من جهة الرضاع تثبت من الجانبين. قلنا: ليس كذلك، فإن ذلك القولَ المذكورَ في أصل
__________
(1) في الأصل: وينتهي.(15/398)
المسألة يتضمن ثبوت [الحرمة] (1) من الجانبين، وإن ألحق القائف الولد بأحدهما أو انتسب المولود النسيب إلى أحدهما، وهذا القول الذي ذكرناه في إثبات الحرمة من الجانبين إنما يجري إذا تعذر تعيين أب النسيب بفقدان القيافة، وانتساب الولد النسيب، فإذا انحسم مسلك التعيين، جرى هذا القول، والقول الأول في أصل المسألة متضمنه إثبات التحريم من الجانبين مع إمكان القائف أو جريان الانتساب عند عدم القائف.
ومن قال بالوقف فإنما حمله عليه امتناع انتماء ولد الرضاع، وعسر عنده أيضاًً الحكم بإثبات الحرمة من الجانبين، فأطلق الوقفَ على ما سنبين حكمه.
قال صاحب التقريب: إن فرعنا على قول الوقف، فإذا يصنع هذا المرتضع، وكيف حكمه في الحل والحرمة إذا أضيف إلى الزوج أو الواطىء؟
قال: على هذا القول ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يخير المولود، فإن أراد أن يستحل مواصلة أحدهما، فعل، [ولا يواصلهما] (2) على الجمع، ولكن إن واصل أحدهما على مقتضى الاستحلال، ثم انقطع عنه، وأراد مواصلة الثاني، فله ذلك، ثم لو أراد العَوْدَ إلى الأول، فله ذلك، فيدور عليهما، ولا يجمع بينهما في الاستحلال، كالسيد إذا اشترى أختين، فإنه لا يجمع بينهما في الاستحلال، ولكن إذا وطىء واحدة، حرمت عليه الأخرى، فإن أراد استحلال التي حرمت، حرَّم الأولى، واستحل الثانية.
وهذا القول ضعيف، ووجهه الممكن أن تعميم التحريم لا سبيل إليه، ولا مطمع في تعيين جانبٍ، فإذا امتنع تعميم التحريم، وتحقق استواء الجانبين، لم يمتنع التردد بينهما، ويُرَدُّ أثر التحريم إلى المنع من الجمع، وهذا أضعف الأقوال؛ فإنّ ما تمهد من تغليظ الحكم في التحريم لا يحتمل التردد في حكم التخير والدوران من جانب إلى جانب؛ فإنه إذا دار على الجانبين، فقد اقتحم التحريم قطعاًً، فلا سبيل إليه.
__________
(1) في الأصل: الحرية.
(2) في الأصل: ولا يواصلها.(15/399)