ولو قال: اشتريت منك هذا العبد على أن أعطيكَ ألفاًً، كان ذلك بمثابة ما لو قال: اشتريت منك هذا العبد بالألف.
فلا وجه عندنا إلا الجري على الطريقة الأولى (1) ، وحمل الخلل على النقل؛ فإنه على كل وجه مختل.
فصل
قال: " ولو أصدقها ألفاًً على أنَّ لها أن تخرج، أو على ألاَّ يخرجها من بلدها ... إلى آخره " (2) .
8503- قال الأئمة: الشرائطُ في النكاح قسمان: شرطٌ يقتضيه مُطلقُ العقدِ، وذلك أن يتزوجَها على أن يُنفقَ عليها، أو يَقْسمَ لها، أو ما أشبهَ ذلك، فالذي ذكره صحيح، والشرطُ متضمّنُ العقد.
فأما إذا كان الشرطُ بحيث لا يقتضيه العقد، فإنْ أثَّرَ في مقصودِ النكاحِ أثراً بيِّناً، أفسد النكاح، وذلك مثل أنْ [يؤقِّت] (3) النكاح أو يشترطَ ألاَّ يطأها. وإن اشترط أن يطلقها؛ فالمذهب: فساد النكاح، لتأثير الشرط في مقصود العقد. وذكر بعضُ أصحابنا قولاً: أن الشرطَ يَفْسُد والنكاح يصح، وهذا غير مُعتدّ به.
فلو شرط شرطاً فاسداً لا يعظم أثرُه في مقصود النكاح، مثل أن يشترط ألاَّ يتزوج ولا يتسرى عليها، وأنها تخرج من الدار متى شاءت، وأنه لا يطلقها، فهذه الشرائط تفيدها فوائدَ، وهي فاسدة.
وقد تكون الشرائطُ عليها، مثل أن يشترطَ ألاَّ ينفق عليها ولا يَقْسم لها، ويجمعَ بينها وبين ضرَّاتها في مسكن واحد.
فهذه الشرائطُ لا تُفسد النكاح، ولكنها تُفسد الصداقَ، فإنَّ الصداقَ يَفسُدُ بما
__________
(1) الطريقة الأولى: هي: البطلان في الصورتين اللتين حكاهما المزني.
(2) ر. المختصر: 4/33.
(3) في الأصل: يرتب.(13/145)
تفسد به أعواضُ العقودِ؛ من جهةِ أنَّ العِوضَ إذا لم يتجرّد، وانضمَّ إليه شرطٌ، صار عوضاً وشيئاً مجهولاً، ومساق ذلك يتضمن إفساد الصداق. ثم الفساد من جهةِ الجهالة يوجبُ الرجوعَ إلى مهر المثل، كما مهدناه.
8504- وقال محمد بنُ الحسن: إن زاد المسمى على مهر المثل [وزادها] (1) بالشرط، لغا الشرطُ، وصحت التسمية، وإن نقص عن مهر المثل، وكان الشرطُ ينقُصُها؛ فيلغو الشرطُ وتصحُ التسمية أيضاًً. وإن زاد في المهر ونقص في الشرط، أو زاد في الشرط ونقص في المهر، فسدت التسمية؛ لأنه زاد في المهر زيادة هي في مقابلة الشرط، فجَعَل الباقي مجهولاً، وإذا نقص المهرُ وزاد في الشرط، جعل الشرط في مقابلة ما نقص من المهر، فصار المهرُ مجهولاً.
وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد عن مسلك الفقه، وكنا نَوَدُّ لو كان مذهباً لبعض الأصحاب، حتى كنا نقول: الشرط الزائد مع المهر الزائد أو المنطبق على قدر مهر المثل ليس يعكس جهالةً على المهر، ولكن المعتمد عند الأصحاب أن المشروطَ فاسدٌ مضمومٌ إلى الصداق، والعوض يفسد تارةً بما ينعكس عليه من الجهالة، وتارةً باقترانه بفاسد.
وهذا يتطرق إليه كلام- هو منتهى النظر في المسألة، وهو: أنَّ ما ذكره محمد من أنَّ المهر الزائد أو المنطبق على القدر، لا يصير مجهولاً بالشرط الزائد، فلو كان صحيحاً، لكان يجبُ أن يُقال: إنْ زاد المهرُ ونقصَ الشرط، فالرجوع إلى مهر المثل، وكذلك إن نقص المهرُ وزاد الشرط، أو زادا ونقصا، فسد المهرُ بالاقتران، ولكن لا يقطع القول بأن الرجوع إلى مهر المثل. ويجوز أن يقال: [لو] (2) أثبت العوض دراهم وشرطاً، وذلك الشرطُ مجهولُ الأثر، وهما جميعاً مهر، فكان الرجوعُ إلى مهر المثل لذلك.
فهذا منتهى البحث، وقد ناقض محمد ما قاله في الصداقِ في البيع، فقال: لو باع ما يساوي ألفاًً بألفين وزقِّ خمر، وقبض المبيع، وتلف في يده؛ فإنه يغرم القيمة، وليس للبائعِ أن يقول: اطرحْ الزقَّ من ألفين ليصح العقدُ بالألفين.
__________
(1) في الأصل: وزاها.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(13/146)
فصل
قال: " ولو أصدقها داراً، فاشترط له، أو لها، أو لهما الخيار ... إلى آخره" (1) .
8505- نصّ الشافعي هاهنا على أن شرطَ الخيارِ يُفسدُ الصداقَ ولا يُفسدُ النكاحَ.
ونصَّ في القديم على أنَّ شرط الخيار في الصداق يُفسد النكاح.
فمن أصحابنا من حمل ما قاله في القديمِ على ما إذا شرط الخيار في النكاح نفسِه، حتى يثبت التخيير في رفعه على حكم الرؤية، فأما إذا خصَّص الصداق بالخيار، فلا يفسد النكاح، قولاً واحداً.
ومن أصحابنا من قال: إذا خصّص الصداق بالخيار، ففي المسألة قولان: أحدهما - إنه يبطلُ النكاحُ به، كما لو شرط في النكاح. والثاني - لا يبطل، كسائر الشروط الفاسدة في الصداق.
ثم إن قلنا: يبطل النكاحُ بشرط الخيار في الصداق، اختلف أصحابنا، فمنهم من عدّى هذا إلى كل شرطٍ فاسدٍ في الصداق، فطرد قولاً مثلَ مذهب مالك (2) في النكاح يفسد بفساد الصداق، ولا خلاف أن النكاح لا يفسد بالتعرية عن العوض، ولا خلاف أن النكاح لا يرتد برد الصداقِ بالعيب.
ومن أصحابنا من خصَّص القولين بفساد الصداقِ بجهة الخيار، وفرّق [بأن] (3) الخيار في [صيغته،] (4) وإن خُصّ بالصداق يتضمن الارتباط بالعقد الذي الصداق عوضٌ فيه، وشَرْطُ الخيار في أحد العوضين في البيع يتعدى إلى العوض الثاني، فإن كان الخيارُ في وضعه قابلاً للتخصيص؛ إذ لو خصّ بأحد المتعاقدين، لاختصّ به، فمع هذا لم يختص بأحد العوضين.
__________
(1) ر. المختصر: 4/33.
(2) ر. جواهر الإكليل: 1/309، القوانين الفقهية: 205، والإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/714 مسألة 1290، وفيه أن في المسألة روايتين.
(3) في الأصل: بين.
(4) في الأصل: صيغه.(13/147)
8506- ووراء ما ذكرناه طريقة أخرى مبنية مناسبة (1) ، ذكرها الصيدلاني في كتاب البيع، وهو أنَّ شرط الخيار صحيح [في الصداق وفي خيار المجلس في ذلك قولان] (2) ووجه خروج ذلك على القياس أن الصداقَ يتطرقُ إليه الردود والنكاحُ قائم بحاله.
8507- فإذا تمهَّد ما ذكرناه انتظمَ بعد ذلك الترتيبُ، فنقول (3) : في صحة الخيار في الصداق قولان. ولا خلاف أنَّ الخيارَ في النكاحِ نفسِهِ يُفسده، فإن صحَّحنا الخيارَ في الصداق، فلا كلام، وأثر الرد والإجازة يختص بالصداق.
وإن أفسدنا الخيارَ في الصداق، فهل يفسد النكاحُ به؟ فعلى قولين أصحهما: إنه لا يفسد. وإن أفسدنا النكاح به، فهل يفسد النكاحُ بسائر وجوه فساد الصداق سوى الخيار؟ فعلى وجهين.
8508- ثم قال الشافعي: " ولو ضمن أبُ الزوجِ نفقتَهَا عشر سنين ... إلى آخره " (4) .
فرض الشافعي المسألة في ضمان الأب، ولا اختصاص به، فلو فُرِض الضمانُ
على هذا الوجه من أجنبي، لكان كذلك.
وعرض المسألة أنَّ من ضمن النفقةَ في أيامٍ معدودة في الاستقبال وأعلَمَها، فهذا ضمان ما لم يجب بعدُ ووُجد سببُ وجوبه، وفيه الخلاف المعروف، والترتيب في الجديد والقديم، وقد ذكرناه في أول كتاب الضمان، وفي معناه إبراؤها عن نفقة أيام معدودة، ولسنا لإعادةِ تلك الفصول، وقد جرت على أكمل وجه في البيان في موضعها.
***
__________
(1) كذا. "ولعلها قياسية".
(2) عبارة الأصل: " في الصداق في ذلك، وخيار المجلس في ذلك قولان ". ولا يخفى ما فيها، وطريقتنا في تصحيحها.
(3) في الأصل: ونقول.
(4) ر.المختصر: 4/33.(13/148)
باب عفو المهر
8509- وقد تقدم أنَّ الزوجَ إذا طلق امرأتَه قبل المسيس، وقد جرى مُسمًّى صحيح، فإنه يتشطر. والمعتمد في ذلك قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . وقد تكلموا في قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ؛ فإنها استحقت الجميع بالعقد، ثم عاد النصف بالطلاق، قيل (1) : التقدير فنصف ما فرضتم لهن، ثم إذا اختص الاستحقاقُ في جانبها بالنصف، ارتدّ النصفُ الآخرُ إلى الزوج.
وقيل: المذكور النصف [لكن بغرض التثنية] (2) على النصفين، والمعنى: فنصف ما فرضتم لكم والنصف لهن.
8510- ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أراد به الزوجاتِ يعفون عن المهر، فيخلص الكل للأزواج، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] . وقد اختلف القولُ في الذي بيده عُقدة النكاح: فقال في القديم: هو الولي، وبه قال ابنُ عباس، ورجَّح الشافعي هذا القولَ في القديم من أوجه: أحدها - أنَّ قول ابنِ عباس مقدم [في] (3) التفسير؛ لأنه ترجمان القرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم وهو يمسحُ
__________
(1) في الأصل: وقيل.
(2) ما بين المعقفين محاولة لإقامة النص مع الاحتفاظ بأقرب صورة للكلمات الواردة في الأصل، وعبارة الأصل هكذا: " وقيل المذكور النصف لو ـعرص الـ ـسه على النصفين" (انظر صورتها) هذا. وقد راجعت المسألة في الأم، وأحكام القرآن للشافعي، والشرح الكبير، والروضة ومختصر العز بن عبد السلام، فلم أجد ما يفيد في تصحيح العبارة. (والكتاب ماثل للطبع حصلنا على هذا الجزء من مختصر ابن أبي عصرون، والحمد لله صدّق تقديرنا، فقد وجدنا العبارة عنده كما تصوّرناها، فلله الحمد والمنة) .
(3) زيادة من المحقق.(13/149)
رأسَهُ بيده -وكان إذ ذاكَ صبياً-: " اللهم فَقِّههُ في الدين، وعَلمهُ التأويل " (1) .
ومما ذَكَرهُ أنه تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فكان ذلك راجعاً إلى عفو يخلص به الصداق للزوج ليكون المعفوّ واحداً، وأيضاًً فإنَّ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فإنَّ (2) ذِكْرَ الزوج جرى على صيغةِ المخاطبة، وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ} على صيغة المُغايبة، ولا يحسن عطفُ المغيابة على المخاطبة في حق شخص واحد.
والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في الجديد- إنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وروى الشافعي هذا عن علي، وابنِ جريج (3) ، وابنِ المسيب، وغيرهم.
وأيضاًً فإنَّ الله تعالى ذَكَرَ خلوص الصداق له بعفوها، ثم عطف هذا عليه، فظهر أنَّ المرادَ عفوٌ يخلصُ به الصداق لها.
اشتملت الآية على ذكر الخلوص من الجانبين، وذكر التشطر والانقسام على الجانبين، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والأقرب للتقوى عفوُ الزوجِ، فأما عفوُ الأب عن حقِّ ضعيفةٍ، فلا يتَّصف بهذه الصفة. وقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} خطاب لهما.
8511- فهذا ذكرٌ للقولين على صيغة التردد في التفسير، وثمرتهما اختلافُ القول في أنَّ الولي هل يملك الإبراء عن صداقِ ولِيَّتِهِ؟ وفيه قولان: الجديد -إنه
__________
(1) حديث: " اللهم فقهه في الدين ... " رواه مسلم مقتصراً على لفظ: " اللهم فقهه " (مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ح 2477) وأما بالألفاًظ التي ساقه بها إمام الحرمين، فقد رواه أحمد في مواضع كثيرة من (المسند، منها: 1/266، 314) .
(2) في الأصل: " وأيضاًً، فإن ذكر الزوج جرى على صيغة المخاطبة ... ".
(3) ابن جريج، عبد الملك بن عبد العزيز، أبو الوليد، وأبو خالد، فقيه الحرم المكي، كان إمام أهل الحجاز في عصره، أول من صنف تصانيف العلم بمكة، رومي الأصل، من موالي قريش، مكي المولد والنشأة. توفي سنة 150 هـ. (ر. تاريخ بغداد: 10/400، وصفة الصفوة: 2/122، وتذكرة الحفاظ: 1/160، ووفيات الأعيان: 3/163، وتهذيب التهذيب: 6/402. وانظر الأعلام للزركلي) .(13/150)
لا يَملك. وهو مذهب أبي حنيفة (1) . ووجهه في القياس لائح؛ فإن الصداقَ مالٌ من أموالها، فلم يملك الأبُ إسقاطَه كسائرِ أموالِها.
والقول القديم: إنه يملك الإسقاط؛ لأنه أكسبها هذا المال في مقابلة البضع، ثم رجع البضعُ إليها، وهو على كمالٍ من الشفقة، ولا يُنكَر في جهات الاستصواب إسقاط المهر، فإذا صدر ممن كملت شفقته، كان محالاً على النظر.
التفريع (2) :
8512- إنْ منعنا العفوَ، فلا كلام. وإنْ جوزناه، فنفوذه مشروط بخمسة أشياء، أحدها - أن يكونَ الولي أباً أو جَدَّاً؛ إذْ لا مُجبر غيرهما.
والثاني - أن يفرض العفوُ قبل الدخول؛ فإنَّ المهر إذا تأكد بالدخول، فقد تحقق فواتُ البضع، ولأجله استقر العوض. فإنْ كُنا نتلقى إسقاطَ المهرِ من حملِ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} على الولي، فالعفوُ واردٌ في شطرِ الصداق، إذا فُرض وقوع الطلاق قبل الدخول.
والشرط الثالث - أن يكون العفوُ بعد الطلاق، أو يقعُ الاختلاعُ به؛ والسبب فيه اختصاص الآية أولاً بما بعد الطلاق، ومعتمد هذا القول الاتباع، وأيضاًً فإنها تبقى في أسر النكاح، فلو سقط مهرُها وهي [باقية] (3) في الزوجية، والزوج ربما يستمتع بها- فيفوت بضعها مجاناً.
والشرط الرابع - أن يكون الصداقُ دَيناً، فلو كانَ عيناً، لم يجز للولي هبته من الزوج. هذا ما صار إليه معظم أئمة المذهب، وتمسكوا بظاهر العفو؛ فإنه مُشعِرٌ بالإبراء، وأيضاًً فإنَّ الملكَ لا يستقر في الدين استقراره في العين. وكان شيخي أبو محمد يرى للولي على هذا القولِ هبةَ العين؛ اعتباراً بالإبراء عن الدين، وهو
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/290، حاشية ابن عابدين: 2/290، ومختصر اختلاف العلماء: 2/263 مسألة رقم: 734.
(2) في الأصل: والتفريع.
(3) في الأصل: ـ ـه في الزوجية.(13/151)
متجهٌ لا بأس به، وكان يُجَوِّزُ [الاختلاعَ] (1) على عين الصداق؛ اعتباراً بالدين. والصحيحُ ما صار إليه الجماهير.
والشرط الخامس - أن تكون صغيرةً عاقلةً بحيث يُرْغَبُ في مثلها، فإن كانت مجنونةً، فحكمها حكم الصغيرة العاقلة، وقالت المراوزةُ: لا ينفذ الإبراء عن مهر المجنونة؛ لأنه لا يُرغب فيها، وكأنَّا إنما نُجوّز اختلاعَ الصغيرة بمهرها، والإبراءَ بعد الطلاق؛ حتى يُرغب فيها، وهذا المعنى مفقود في المجنونة التي لا يتشَوَّفُ الخُطَّابُ إليها.
8513- ولو كانت ثَيِّبا بالغةً، فلا شك أن الأب لا يبرىء عن مهرها.
وإنْ كانت بكراً بالغة -والتفريع على تنفيذ إبراء الولي- هل ينفذ إبراؤه عن مهر البكر العاقلة؟ فعلى قولين: أحدهما - ينفذ، لملكه عُقدةَ النكاح؛ فإنه يملك إجبار البكر بالغة.
والثاني - لا ينفذ إبراؤه؛ فإنَّ الولاية إن كانت مستمرة على البضع، فلا ولايةَ للأب على مالها، وصداقُها من مالها.
وهذا يقرب مما قدمناه قبلُ من أن الأب هل يملك الانفراد بقبض مهر البكر البالغة السفيهة كالبكر الصغيرة، لثبوت الولايتين عليها؟
والصغيرةُ إذا ثابت بوطء شبهة، وإنما صورنا وطء الشبهة حتى لا يتقرر المهر بفرض المسيس من الزوج، فإذا ثابت الصغيرة تحت زوجها كما ذكرناه، فقد صارت إلى حالة لا يملك الأبُ تزويجَها فيها قهراً حتى تبلغ، فتأذن.
فقال أئمةُ المذهب: إذا كانت كذلك، لم يملك الولي إسقاطَ مهرها؛ فإنه لا يملك إجبارَها، وليس بيده عقدةُ نكاحها. وأبعدَ بعضُ أصحابنا بأن جوّز للأبِ أو الجدِّ العفوَ عند الطلاق أو بعده إذا كانت صغيرةً؛ نظراً إلى نفاذ ولايته في مالها، وهذا ضعيف، غيرُ معدود من المذهب؛ فإن ولايةَ المالِ لا تسلِّط على العفو والإسقاط، وإنما المتبع ما يُشعر به ظاهرُ القرآن، وهو يشير إلى ملك عقدة النكاح، والثيب الصغيرة في حق الأب بمثابة الثيب البالغة في التزويج.
__________
(1) في الأصل: الاطلاع.(13/152)
فصل
قال: " وأي الزوجين عفا عما في يده، فله الرجوع ... إلى آخره " (1) .
8514- هذا الفصل وفصول بعده تشتمل على مُكرَّرات، ونحن [نوفّر] (2) لها جهدَنا والتنبيهَ عليها من غير بسط.
وهذا الفصل مفروض في وقوع الطلاق قبل المسيس وتشطّرِ الصداق، ثم إذا تشطر الصداق، عيناً كان أو ديناً، يترتب عليه حكم الهبة والإبراء، فإن كان عيناً فالنصف له والنصف لها، فإن وهبت ما هو لها من زوجها، لم يخف تفريعُ الهبات، فإن كان في يدها سلَّمَته، وإن كان في يده، نُفرّع فيه ما إذا وهب مالكُ الوديعة من المودَع، وعاد التفصيل وإعادة القبض، وفيه اختلافُ قولٍ وتفصيلٌ طويلٌ تقصَّيناه في موضعه.
وإن وهب الزوجُ ما ارتدّ إليه منها، فالأمر كذلك.
وإن كان الصداقُ ديناً وسقط شطرُه، وبقي لها الشطرُ فأبرأت، فلا يخفى حكم الإبراء، والظاهر أنه لا يفتقر إلى القبول وفيه وجه بعيد ذكرناه.
8515- والذي نذكره في هذا الفصل أنَّ الهبةَ مستعملة في الأعيان، ولفظ الإبراء لا يستعمل في تمليك الأعيان، والعفو مختلف فيه، فالذي ذكره معظم المحققين: أن الهبة في الأعيان لا تصح بلفظ العفو؛ فإنه في معنى الإبراء.
وذكر القاضي أن العفو يجوز استعماله في الهبة، وظاهر قوله [فيما] (3) نقل عنه يدل على أن استعمال العفو في الهبة يختص بالصداق فيما يدور بين الزوج والزوجة، أو يصدرُ من الولي، على أحد القولين، فاستدلّ في هذا بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فذكر الله تعالى لفظ العفو مع انقسام الصداق
__________
(1) ر. المختصر: 4/34.
(2) في الأصل: نؤثر.
(3) في الأصل: فيها.(13/153)
إلى العين والدين، والألفاظ قد يأخذ بها صاحبُ المذهب من الشرع، وعليه بناء صرائح الطلاق.
وهذا الذي ذكره لم يرتضه غيره، وقالوا: ليس المرادُ بذكر العفو في القرآن [التنبيه] (1) على اللفظ الذي يستعمله الزوجان، وإنما المراد أنْ يتركَ كلُّ واحد منهما حقَّه، ثم طريق الترك فيه موكول إلى بيان الشرع. ثم لو صح ما ذكره في الصداق، للزم طرده في سائر الهبات.
8516- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا لم نر الإبراء والعفو من ألفاظ الهبات في الأعيان، فهل يلتحقان بالكنايات؟
وقد قدمنا تفصيلاً في أنَّ عقودَ التمليك هل تنعقدُ بالكنايات إذا كانت مفتقرة إلى الإيجاب والقبول؟
قال شيخي: الإبراء ليس كنايةً أيضاًً في هبة الأعيان، فإنه لا يتضمن تمليك الغير، وإنما معناه إسقاط المُبرِىء في حقَّ نفسه، وعماد الهبة تمليك المتّهب، وهذا متجه حسنٌ، لا يجوز غيره، وفي كلام القاضي ما يدل عليه أيضاًً.
وإذا كان الصداق ديناً، فاستعمل الإبراءَ، فهل يشترط القبول في الإبراء؟ وهل يشترط القبول إذا جرى الإبراءُ بلفظ الهبة؟ ففي المسألة وجهان. وهذا منتهى المراد في هذا الفصل.
فصل
قال: " ولو وهبت له صداقَهَا، ثم طلقها [قبل أن يمسّها] (2) ففيها قولان ... إلى آخره " (3) .
8517- إذا أصدقَ الرجلُ امرأته عيناً من الأعيان وسلّمها، ثم إنها وهبت عين الصداق من الزوج، وسلّمته إليه، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، والصداق قد عاد
__________
(1) في الأصل: المبينة.
(2) ساقط من الأصل. وأثبتناه من المختصر.
(3) ر. المختصر: 4/34.(13/154)
إليه بهبتها، فهل يرجع عليها بنصف قيمة الصداق؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - يرجع [عليها] (1) ؛ لأن الصداق عاد إليه بتمليكٍ منها، فصار كما لو [باعته منه] (2) ثم طلقها.
والثاني - لا يرجع عليها؛ لأنها عجّلت ما كان يستحقه عليها مؤجَّلاً بالطلاق، والمستحَق في المال إذا عُجّل، لم يبعد وقوعه الموقعَ عند دخول وقت الاستحقاق، كالزكاة إذا عُجّلت.
والأقْيس القول الأول؛ فإن العَوْد إلى الزوج، لم يكن عن جهة تعجيل حق الزوج (3) في الشطر.
ولو قدمت إليه الصداق زاعمة أنَّ نصفَه هبةٌ ونصفَه تعجُّلٌ لما يجب للزوج عند الطلاق، فلا يصح من الزوج التصرف في الشطر المعجل، ولا يصح التمليك فيه؛ فإنه على الحقيقة تعليق تمليك بما سيكون، ولا يقبل التمليكُ التعليقَ على أمرٍ منتظر.
وإذا رجع الصداقُ إلى الزوج ببيعِ محاباة، [فإنه] (4) يرجع عليها بنصف قيمة الصداق عند الطلاق؛ [فإنّ] (5) المحاباة في معنى الهبة، في كونها تبرعاً، على ما كان يذكره شيخنا، ولم أرَ في الطرق ما يخالفه؛ والسبب فيه أنا وإن كنا نعد بيع المحاباة من التبرعات، فالمبيع مقابَلٌ بالثمن وإن قلّ، وإذا كان مقابلاً به، استحال انصرافه إلى جهة استحقاق الزوج شطر الصداق عند الطلاق.
8518- ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين لا يختصان بالطلاق، بل إذا وهبت الصداق، ثم جرى ما يوجب ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، كالردة، ففي رجوع الزوج عليها بتمام القيمة القولان.
فلو باع رجلٌ عبداً بجارية، ثم وهب قابضُ الجاريةِ الجاريةَ من قابض العبد، ثم
__________
(1) في الأصل: إليها.
(2) في الأصل: اشترته منه.
(3) في الأصل: تعجيل حق الزوج حق في الشطر.
(4) في الأصل: وإنه.
(5) في الأصل: وإن كانت المحاباة في معنى الهبة.(13/155)
اطلع [قابض] (1) العبد على عيب قديم به، فردَّه، فهل يرجع على بائع العبد بقيمة الجارية؟ فعلى القولين، والمسائل متناظرة في جريان القولين فيها.
ثم رأيت في مرامز كلام الأصحاب تردداً لطيفاً في أنَّا إذا قلنا: لا يملك رادّ العبد الرجوعَ بقيمة الجارية، فهل يملك رده؟ وإن ردّ، فهل ينفذ ردُّه أم لا؟ وهذا محتمل حسن، وهذا من جهة أن [الغرض] (2) من الرد استرداد العوض، فإذا لم يثبت له حقُ الاسترداد، ففي رده بُعْدٌ، وليس هذا كالطلاق؛ فإنه لا مرد له، والفسوخ التي أُثبتت في النكاح ليس مقصودُها استردادَ الصداق، [فما] (3) ذكرناه من التردد في الرد بالعيب في المبيع.
8519- وما ذكرناه فيه [إذا كان الصداق عيناً، أما] (4) إذا كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فهل يرجع عليها بنصف الصداق؟
في المسألة طريقان: من أئمتنا من جعل فيها قولين كما في العين، ومنهم من منع الرجوع عليها عند الطلاق قولاً واحداً، وفرَّق بين العين والدين بأنها إذا أبرأت، لم تستوف الصداق، ولم يستقر ملكها فيه، بل أسقطته، وفي العين استقر ملكها. وكان شيخنا يقرب الطريقين في القطع وطرد القولين من اختلاف الأصحاب في أنَّ الإبراء: هل يفتقر إلى القبول أم لا؟
ولو كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها بلفظ الهبة، وحكمنا بأنه يفتقر إلى القبول، فهذا مرتب على الإبراء. والفرق اقتضاء الهبةِ التمليكَ، فكأنها ملّكت زوجها ما عليه.
فإنْ قيل، كيف سبيل الهبة في الدين، وركن الهبة القبض [وأين القبض] (5) في
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: العوض.
(3) في الأصل: "فيما".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(13/156)
الديون؟ قلنا: إذا وهب مستحقُّ الدين [الدينَ] (1) ممن عليه، فلا حاجة إلى تقدير القبض في هذه الحالة، ونحن قد نُبرم هبات من طريق آخر، كتقديرٍ من غير إجراء قبضٍ حسي، وكما أن القبض ركن التمليك في الهبة، فإنه يتعلق به حكم نقل الضمان، ثم إذا كان لرجل على رجل دين، فاعتاض عنه عيناً، فحكم الدين أن يسقط، ويكون كالعوض المقبوض المتلف في يد مستحقه.
ولو أصدق الرجل امرأته ديناً، ثم نقد ووفّى، فلما قبضت وهبت من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي هذه المسألة طريقان على العكس: إحداهما - القطع بأن الزوج يرجع عليها. والأخرى - طرد القولين.
8520- فيترتب مما ذكرناه ثلاثة أحوال: إحداها- فيه إذا كان الصداق عيناً، فجرت الهبة، ثم الطلاق، وفيها القولان.
والثانية - أن يكون الصداق ديناً، فتبرىءَ عنه، ثم يجري الطلاق قبل المسيس، وفيها طريقان، إحداهما - القطع بأنه لا رجوع عليها.
والحالة الثالثة - أن يكون الصداق ديناً، فيوفرَه الزوج، ثم إنها تهب ما تقبض، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بأنه يرجع عليها إذا طلقها.
ثم إذا كان الصداق في الذمة، ففُرض النقدُ، والهبة، والطلاق؛ فلا فرق بين أن يكون من ذوات الأمثال، وبين أن يكون من ذوات القيم. هذا كله إذا عاد جميع الصداق إلى يد الزوج، ثم فرض الطلاق قبل المسيس.
8521- فأما إذا أصدقها عيناً وسلّم إليها، ثم إنها وهبت نصف ذلك الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، فهذا يترتب على ما إذا عاد جميعُ الصداق إليه، ثم طلقها:
فإنْ قلنا: إذا رجع الجميع إليه، فإنه يرجع عليها بنصف القيمة إذا طلقها، فهاهنا نُثبت له حقَّ الرجوع في النصف لا محالة.
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها إقامة العبارة.(13/157)
ثم في كيفية الرجوع أقوال: أحدها - إن حق الزوج ينحصر في النصف الباقي في يدها، ويتعين الموهوب من حقها، وهذا كما قال الشافعي في الزكاة: إذا أصدقها أربعين شاة، وأخذ الساعي منها واحدة، ثم طلقها قبل المسيس، رجع عليها بمقدار عشرين شاة مما بقيت في يدها، ويتعين ما أخرجته من حقها. وكما قال في التفليس: إذا اشترى عبدين بمائتين، وقضى مائةً، وتلف أحد العبدين، ثم فُلّس، [وكانت] (1) قيمتاهما متساويتين، فإذا رجع البائع، انحصر حقه في العبد القائم، وهذا القول يعرف بقول الحصر.
والقول الثاني - إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الجملة، فيشيع ما أخرجته وما [أثبتته] (2) فيحصل للزوج مقدار النصف عيناً وقيمةً. و [هذا] (3) القول يُشْهر بقول الشيوع.
والقول الثالث - إنه بالخيار بين ما ذكرناه في القول الثاني، وبين أن يرجع في نصف (4) العين كلها.
وقد نصَّ الشافعي على القولين الآخرين في مسألةٍ في الصداق، وهي إذا أصدقها إناءين، فكسرت أحدَهما، ثم طلقها، نص على قولين: أحدهما - إنه يرجع في نصف الإناء الصحيح ونصف قيمة المنكسر، والثاني - إنه بالخيار بين هذا وبين أن يرجع في نصف قيمة الإناءين. والقولان المذكوران في مسألة الإناءين إذا انكسر أحدهما يمكن بناؤهما على تفريق الصفقة في الرد بالعيب إذا اشتملت الصفقة على عينين، ثم اطلع على عيب بأحدهما. ثم الأقوال الثلاثة تجري في مسألة إصداق أربعين شاة، وفي كل ما يناظر ذلك. وفي المسألة بحث سنذكره عند نجاز المنقول.
8522- قال الأئمة: لو وهبت المرأةُ النصفَ من أجنبي، ثم طلقها الزوج قبل
__________
(1) في الأصل: فكانت.
(2) وما أثبتته: أي أبقته في يدها. هذا. وقد قرأنا هذا اللفظ بصعوبة بالغة، على ضوء صورة الحروف المضطربة (انظر صورتها) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: " ... في نصف مهر العين كلها ".(13/158)
المسيس؛ فإنه يرجع في النصف، ثم في كيفية التوزيع والحصر والشيوع والتخيير الأقوال الثلاثة.
8523- وكل ما ذكرناه تفريع على قولنا: جميع [] (1) الصداق إذا عاد إليه، ثم طلقها، فإنه يرجع عليها بالنصف.
فأما إذا قلنا: لو رجع جميع الصداق إلى الزوج من جهتها، لم يرجع عليها عند الطلاق بشيء، فإذا وهبت منه النصف، ثم طلقها، ففي المسألة جوابان على الحصر والشيوع: أحدهما (2) - إنه لا يرجع، فكأنها عجلت يوم الهبة جميع ما كان يستحقه يوم الطلاق.
والوجه الثاني - إنه يملك الرجوع، ثم في قدر ما يرجع فيه جوابان: أحدهما - إنه يرجع في نصف ما بقي في يديها، وهو ربع الجملة، ونجعل الفائت بالهبة من الحقين النصف من حقه والنصفُ من حقها، وكأنها عجلت نصف ما كان يستحق عليها؛ لأن الحق شائع. وهذا اختيار المزني.
والثاني - إنه يرجع في تمام النصف، ويتعين حقها فيما وهبت، فتحصَّل أجوبةٌ: أحدها - إنه لا يرجع بشيء، وما قبضه من النصف هبة محسوب عليه.
والثاني - إنه يرجع بنصف الباقي فحسب، وهذا على الإشاعة.
والثالث - إنه يرجع بتمام النصف، وهذا على الحصر.
وتحقيق ذلك: أنَّا في قولٍ نحصر حق الزوج فيما قبض، وفي قولٍ نحصر حقها فيما وهبت، وفي قول نُشيع، فاستكمال الحصر من وجهين يقتضي جوابين: أحدهما - إنه لا يرجع بشيء، والثاني - إنه يرجع بتمام حقه، والإشاعة توجب التبعيض لا محالة.
ثم إذا قلنا إنه يرجع بتمام حقه، ففي كيفية الرجوع الأقوال الثلاثة التي قدمناها:
__________
(1) بياض بالأصل، قدر أربع كلمات، ولكن الكلام مستقيم بدون تقدير أي شيء.
(2) في الأصل: أو لأحدهما. وهو تحريف واضح.(13/159)
أحدها - إنه يرجع في النصف الباقي. والثاني - إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الكل. والثالث - إنه يتخيّر.
هكذا ذكر الأصحاب.
وهذا فيه وهمٌ؛ من جهة أنَّا نفرّع على منع الرجوع لو وهبت الكل، وعلى هذا إذا وهبت النصف، لم ينقدح الرجوع بتمام الحق عند الطلاق إلا على الحصر، وقول الحصر يوجب حصرَ حقه فيما بقي، فإعادة الأقوال الثلاثة لا معنى له.
هذا ما ذكره الأئمة نقلناه على وجهه.
8524- ونحن نقول بعد ذلك: إذا [وهبت] (1) المرأة جميع الصداق من الزوج، ثم طلقها، فقد مضى أصل القولين فيه.
فإذا وهبت النصف، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال، وكلها بينة، فإن حصرنا حق الزوج فيما بقي، فلا كلام، وإن أثبتنا له الرجوع إلى نصف ما بقي وإلى ربع قيمة الكل، فإنَّ أكثر أصحابنا لم يذكروا على هذا القول تخيراً، وإن تبعض الحق عليه، وذكروا التخير في القول الثالث.
وهذا فيه غموض؛ من جهة أن التبعيض يُثبت الخيار في أمثال هذه المسائل؛ فكان يجب أن نقطع بالخيار، وهذا فيه وقفة على الناظر؛ من قِبَل أنَّا قطعنا بإثبات الخيار، ففي المسألة قولان إذاً: أحدهما - إنه ينحصر حقه في النصف الباقي، فيخلص له العبد هبة ورجوعاً، والثاني - إنه بالخيار، إن شاء، رجع إلى نصف ما بقي، وإلى ربع قيمة الكل، وإن شاء، رجع إلى نصف قيمة الكل. وإن أثبتنا التبعيض بلا خيار، كان ذلك مناقضاً لأصلٍ بَيِّنٍ في المعاملات، وهو: أن التبعيض عيب.
8524/م- وإذا طلق الرج [امرأته، فصادف الصداق معيباً في يدها بعيب حادث
قبل الطلاق، فللزوج الخيار، إن شاء، رضي بشطر الصداق معيباً، وإن شاء، رجع
بنصف القيمة سليماً. فإذا كان التبعيض عيباً، وحُكم العيب في الصداق تخيير
الزوج، فرفْعُ التخيير بعيدٌ جداً]
__________
(1) في الأصل: وهب.(13/160)
فإن قال قائل: مبنى الصداق على التبعيض إذا فرض الطلاق، واحتمل ذلك على قول من الأقوال، لم (1) يكن لهذا الكلام تحصيل؛ فإن الطلاق يقتضي التشطير، وهذا (2) تربيعٌ. وإذا قلّ الجزء، قلّت القيمة على قدره، [فإذا] (3) كانت الجملة تساوي ألفين وكان نصفها عند فرض الإفراد يساوي أربعمائة، فالربع قد يساوي مائة وخمسين؛ فإن الرغبة في الجزء الكثير أكثر من الرغبة في الجزء القليل.
فإن قال قائل: إذا رجع النصف إلى الزوج بالهبة، ثم فرض الرجوع في ربع آخر إليه، فلا تبعيض في حقه. قيل: هذا أيضاًً لا حاصل له، من قِبَل أن الهبة غيرُ محسوبةٍ عليه، فينبغي أن يكون النظر محصوراً على هذا النصف الآخر، وقد تحقق التبعيض فيه، كما ذكرناه. فهذا منتهى البحث سؤالاً وجواباً.
8525-/والحق المستقيم على القياس: ردُّ الخلاف إلى قولين، ووجه قول من لا يُثبت الخيار -على بعده- أن التبرع على قول الإشاعة مَلَّك الزوجَ ربعَ العين وربعَ القيمة، مع أن في يدها النصف الكامل، [و] (4) إذا ملَّك الشرعُ الزوجَ المُطَلّق شيئاً، فإثباتُ الخيارِ -مع أن الشرعَ ملّكه كذلك- بعيدٌ. فإذاً؛ وجه نفي الخيار أن الإشاعة تقتضي التمليك على هذا الوجه، ولا خيار فيما اقتضاه الشرع. هذا هو الممكن، والوجه ما قدمناه. فهذه مباحثة في هذه الطرق.
8526- مباحثة أخرى: إذا طلق الرجلُ امرأته، وصادف الصداقَ معيباً في يدها، فقد ذكرنا أنه إن أراد، رجع بنصف القيمة، وكذلك لو تلف الصداقُ في يدها ثم طلقها.
وهذا كلام أطلقه الفقهاء وتساهلوا في إطلاقه، والغرض منه يبين بسؤال.
فإن قال قائل: يرجع الزوج بنصف قيمة الكل، أو بقيمة نصف الكل، وبينهما
__________
(1) لم يكن لهذا الكلام: جواب قوله: فإن قال قائل: ...
(2) (وهذا) : إشارة إلى رجوعه إلى نصف النصف.
(3) في الأصل: وإذا.
(4) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.(13/161)
تفاوت؟ قلنا: يرجع بقيمة نصف الكل؛ فإنه لم يفته إلاَّ نصف الكل، وهذا مما يجب إجراؤه في المسألة التي نحن فيها؛ فإنا أطلقنا ربع قيمة الكل، والمراد قيمة ربع الكل.
8527- ومن المباحثات في المسألة: التعرض لانكسار أحد الإناءين، وفي معناه: لو أصدقها عبدين، فعاب أحدهما، وقد حكينا قولين: أحدهما - إن الزوج يرجع بنصف الإناء الصحيح، ونصف قيمة المنكسر، والثاني - إنه يتخير بين ما ذكرناه، وبين الرجوع بنصف قيمة الإناءين. وقد ذكرنا أن هذا يخرج على تفريق الصفقة في الرد بالعيب.
وتصوير ذلك في التفريق: أن من اشترى عبدين، فوجد بأحدهما عيباً، فأراد ردّ المعيب منهما وإمساكَ الصحيح، ففيه قولان، وإن أراد، ردَّهما، كما تقرر هذا في كتاب البيع.
وهذا فيه نظر؛ فإنَّا في مسألة الإناءين ألزمناه -في أحد القولين- الرجوعَ إلى نصف الصحيح ونصف قيمة المنكسر، وفي القول الثاني خيرناه، فكيف ينطبق هذا الذي ذكرناه على ما جئنا به مثلاً في شراء العبدين، مع الاطلاع على عيب بأحدهما؟ وصورة القولين ثَمَّ: أنه يرد المعيب في قولٍ، ولا يرده وحده في قول؛ بل يردهما ويسترد الثمن، ثم على هذا القول طريق استدراكه للظُّلامة، [ردُّ] (1) الصحيح والمعيب. فإن لم يرد ذلك، فليقنع بالمعيب، وليمسكه مع الصحيح.
ونظير هذا من الصداق لو قلنا: طريق استدراكه أن يرد الإناءين ويطالبها بقيمة نصفهما، فإن أبى ذلك، فليقنع بنصف الإناء المنكسر مع [نصف] (2) الإناء الصحيح، وليس الأمر كذلك؛ فإنَّا نقول في مسألة الإناءين في أحد القولين: يتعين إمساك نصف الصحيح، وطلب نصف قيمة المنكسر، وهذا في التحقيق إلزام التبعيض إذا أراد الاستدراك.
__________
(1) عبارة الأصل ... طريق استدراكه للظلامة والصحيح والمعيب.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(13/162)
وفي القول الثاني - نخيّره بين التبعيض -وهو الأصل- وبين ردهما. وكان الأصل في البيع ردّهما. وإذا جوّزنا التبعيض، فهو دخيل، والأصل هاهنا التبعيض، وإذا أراد ردهما، فهو دخيل.
8528- ولن يحيط الناظر بحقيقة هذا ما لم يفهم فرقاً كلياً بين القاعدتين، وهو أن البيع مفسوخ [بالرد] (1) ، وهو متَّحد لا يتعدد بتعدد المعقود، فبعُد عند بعض العلماء إيراد الفسخ على بعضه، فينشأ منه منع التفريق. وأما رجوع الصداق إلى الزوج، فليس في حكم عقد يعقد، ولكنه رجوع قهري شرعي، غير أنا قد لا نرد إليه ما في رده إليه إضرار به، وينتظم من هذا أن استمساكه بنصف الصحيح على القاعدة؛ فإنه لا ضرار فيه. بقي طريقٌ للاستدراك في نصف المنكسر، فله الرجوع إلى نصف قيمته، فهذا [بَتٌّ] (2) لا كلام فيه، فإن أراد رد الصحيح مع المنكسر، فهذا خروج منه عن قاعدة الصداق؛ فإنَّ من اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً؛ فإنه يردهما باتحاد العقد، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا.
فقال قائلون: لا سبيل إلى ردهما في الصداق؛ لافتراق الأصلين، وتباعد القاعدتين، ونظر ناظرون نظراً ظاهراً من غير بحث عن تباعد القاعدتين، وقالوا: يملك الزوج ردهما. ولم يترك هذا القائل التمسك بجواز التبعيض، وكذا وقع لهذا الإنسان هذا، من حيث ظن أنَّ إفراد العين مشابه للعيب، وأن المشتري إنما يرد العبدين لذلك. ثم قد وجد في الصداق الردّ بالعيب مع إمكان دفع الضرر دونه؛ فإنَّ الزوج إذا صادف الصداق معيباً في يدها، رجع إلى نصف القيمة، ولو قالت: أجبرُ النقصَ لم يُبالَ بها. وهذا وهم؛ فإنَّ تميّز أحد العبدين عن الثاني ليس عيباً، وإنما سببه ما ذكرناه من اتحاد العقد.
[بان] (3) تحقيق القول في الأصلين، وانتظم منه أنَّا في البيع نقول في قول: يجمع ولا يُفرِّق. وفي قول: إن شاء فرَّق وإن شاء جمع. فإن أراد الزوج ألا يستدرك
__________
(1) في الأصل: بالردة.
(2) في الأصل: ثبت.
(3) في الأصل: فإن.(13/163)
الظلامة، استمسك بنصف الصحيح ونصف المنكسر. وتلك المناقشات فيه إذا كان يبغي استدراك الظلامة.
فهذا تمام المباحثة في الانعطاف على أطراف الكلام في المسألة. وقد انتظم قبلها النقلُ على وجهه.
فصل
قال الشافعي: "ولو خالعته بشيء مما عليه من المهر، فما بقي، فعليه نصفه ... إلى آخره" (1) .
8529- أورده المزني من الخلع، وغرضه إنما هو الاستشهاد بنص الشافعي على ما يدل على قول الشيوع؛ فإنا لما ذكرنا الهبة في بعض الصداق، أجرينا نصوصاً للشافعي دالَّةً على الحصر، فاختار المزني قولَ الشيوع - وهو الأصح والأَقْيَسُ.
وتمسك بنص الشافعي في المسألة التى سنذكرها وهي قليلة النَّزَل (2) ، ومدارها على أصول سابقة، ومن معه رشد من الفقه يُخرّج المسألة، ونحن نذكرها ولا نغادر شيئاً منها، فنحرص على الاختصار جُهدنا.
8530- فنقول: إذا اختلعت المرأة نفسها من زوجها نُظر: فإن كان بعد الدخول، فلا يخلو، إما أن كان إلى غير جنس الصداق، [أو على جنس الصداق] (3) ، فإن كان على غير جنس الصداق، مَلَك الزوج عليها العوض، ثم الخلع مفروض قبل المسيس، فيتشطر الصداق، فله عليها عوض الخلع، ولها عليه نصف الصداق.
__________
(1) ر. المختصر: 4/35.
(2) النَّزَل: بفتح النون والزاي المعجمة: من قولهم: رجل ذو نَزَل أي كثير الفضل والعطاء، و" فلان ليس بذي طُعْم وليس بذي نَزَل ": ليس له عقل ولا معرفة، وسحابٌ ذو نَزَل: كثير المطر، وطعام كثير النزل: كثير البركة (المعجم، والمصباح) . والمعنى هنا أن هذه المسألة قليلة الأثر والفائدة.
(3) زيادة اقتضاها الكلام.(13/164)
فإن خالعها على ما هو جنس الصداق، صح الخلع؛ فإنه لم يورده على الصداق. ثم يتشطر الصداق إن كان الخلع قبل المسيس، ويجب المسمى بكماله إن كان بعد المسيس. ثم تجري أقوالٌ في التقاصّ في قدر التساوي على ما ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
8531- وإن [خلعت] (1) نفسها بصداقها، وكانت مدخولاً بها، صح الخلع، وبرىء الزوج عن الصداق الذي كان استقر عليه بالمسيس.
وإن خلعت نفسها قبل المسيس بالصداق، لم تخل إمَّا أن تخلع بتمام المسمى، وإما أن تختلع بنصف المسمى، فإن اختلعت بتمام المسمى قبل الدخول، فحكم الخلع تشطير الصداق. فإذا كان الصداق ألفاًً، وقد جرى منها الاختلاع عليه، فنصف العوض المذكور حقُّ الزوج. فالعوض متبعِّض إذاً، بعضه مستحَق، وبعضه ثابت على ما تقتضيه المعاملة.
فيخرج في هذا المقام قَوْلا تفريق الصفقة: فإن أفسدنا الصداق (2) بالتفريق، جرى القولان في أن الصداق إذا فسد؛ فالرجوع إلى مهر المثل، أو إلى بدل العوض المسمى، فإن قلنا: الرجوع إلى مهر المثل، فالزوج يستحق عليها مهرَ مثلها، وقد سقط نصف المسمى، وهي تستحق نصفَ المسمى، فإن تجانسَ المالان، جرى أقوال التقاصّ.
وإن رجعنا عند فساد المسمى إلى بدله، فالمسمى دراهم، وبدلها دراهم؛ فإنها من ذوات الأمثال؛ فيستحق الزوج عليها ألفَ درهم، وهي تستحق على زوجها خمسمائة، ولا يخفى التقاصّ، هذا إذا فرعنا على أن التفريق مفسدٌ.
فأما إذا قلنا: التفريق لا يُفسد، فيصح نصف المسمى، وهو نصيبها من المهر.
ويجري الآن القول في أن للزوج الخيار، فإن فسخ (3) ، عاد القولان إلى أن الرجوع
__________
(1) في الأصل: أخلعت.
(2) أفسدنا الصداق: المراد أفسدناه بدلاً للخلع وعوضاً فيه، بسبب أن نصفه مستحقٌّ للزوج.
(3) أي فسخ عقد الخلع بسبب أن العوض الذي هو المهر المسمى خرج نصفه مستحقاً.(13/165)
إلى مهر المثل، أو إلى مثل جميع المسمى؟ ففي قولٍ يستحق عليها مهرَ مثلها، وفي قولٍ يستحق عليها مثلَ ما سمى، وهو ألف درهم. وإن اختار الإجازة، جرى الخلاف في أنه [يجبُر] (1) بالكل أو بقسطٍ، فإن قلنا: إنه يجبر بالكل، فيجبر الخلع بمقدار حصتها من المهر، وهو خمسمائة، فيسقط الشطر بالتشطير، ويسقط الباقي بالعوضية. وإن قلنا: يجبر بالقسط؛ فيرجع فيما هو مستحق بنصف مهر المثل، أو بنصف البدل، والبدل مثلٌ؟ فعلى القولين.
ولا يخفى أن ما ذكرناه من الخيار فيه إذا كان الزوج جاهلاً بحقيقة الحال في الشطر والتفرق.
هذا كله إذا كان الصداق ألفاًً [فاختلعت] (2) نفسها بالألف الذي هو صداق. ولو اختلعت نفسها بألف مطلَقٍ، فلا يكون صداقاً، ويصح الخلع، واستحق الزوج عليها الألف، وهي تستحق الخمسمائة.
8532- ولو أنها اختلعت نفسها عن زوجها بنصف مهرها -وهو خمسمائة- وهي غير ممسوسة، فهذا يصوّر على أوجه: أحدها- أن تقول: اختلعت نفسي بالخمسمائة التي تبقى لي، فإذا قالت ذلك، صح الخلع بتنصيصها على تخصيص المقدار الخالص لها، ثم لا يخفى أن موجب ذلك سقوط جميع المهر، النصف منه بحكم التشطر، والنصف بحكم المعاوضة.
والصورة الثانية - أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة شائعة من مهري، وصرَّحَت بما ينافي الاختصاص، فهذا تفريق؛ فإن النصف مما ذكرته مستحَق للزوج، والنصف لها، فيعود التفريع كما مضى، ولكن تختلف الأقدار. أما النصف من الألف، فيسقط بحكم التشطر، ويقع الكلام في النصف الثاني.
فإن أفسدنا العوض بالتفريق فيرجع الزوج -في قولٍ- إلى تمام مهر مثلها، وفي
__________
(1) في الأصل: يجر. والمعنى أنه إن أجاز عقد الخلع ولم يصح إلا نصف العوض -الذي نصيبها في الصداق المتشطر- فهل يجبر ما صح العقد فيه (وهو نصيبها) ويجعله وحده عوضاً للخلع؟ أم يجعل نصيبها قسطاً من عوض الخلع؟
(2) في الأصل: فأخلعت.(13/166)
قول إلى خمسمائة. وإن لم نُفسد واختار الزوج الفسخ، فالجواب كذلك. فإن اختار [الإجازة] (1) وقلنا: يجبر بالتمام، كان بدل الخلع مائتين وخمسين، والحكم أن الزوج يبرأ عن سبعمائة وخمسين بحكم التشطير والعوض ويبقى لها بقية المهر. وإن قلنا يجبر بالبعض، ففيما يرجع به قولان: أحدهما - إنه يرجع بنصف مهر المثل، فله عليها نصفُ مهرها، ويسقط من مهرها سبعمائة وخمسون، ولها عليه مائتان وخمسون.
الصورة الثالثة - أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة من المهر، ولم تصرح بالإشاعة ولا بما يختص بها، ولكنها أطلقت الاختلاع كذلك، فنقدم عليه تجديد العهد بما إذا قال الشريك في الدار بالنصف: بعت نصفي، فإن قال ذلك، صح، وإن قال: بعت النصف من هذه الدار. فمن أصحابنا من حمل ذلك على ملكه، ومنهم من حمله على الإشاعة، فمن حمل على النصف الذي له صحح، وإن حمل على الإشاعة؛ فإن النصف مما باعه له، والنصف لشريكه، فتتفرق الصفقة.
نعود إلى مسألتنا، ونقول: إذا اختلعت المرأة بخمسمائة على الإطلاق؛ فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خَرَّجَ هذا على بيع نصف الدار مطلقاً ممن يملك نصفها، ففي وجه نقول: اختلاعها بالخمسمائة محمول على اختلاعها بحقها الخالص، وهذا يلتفت على الحصر. وفي وجه نقول: اختلاعها واقع بحقها وحق الزوج. ثم تسترسل التفاريع على قوانينها. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الخمسمائة محمولة على الإشاعة، والفرق بين هذه الصورة وبين بيع نصف الدار [أن] (2) من يبيع نصفَ الدار مالكٌ لنصفها دون غيره، يُحمَلُ تصرفُه على ما يملك. وإذا اختلعت بالخمسمائة في مسألتنا، فقد أنشأت الاختلاع والمهر غير متشطر، وإنما يقع التشطر مع اختلاعها، فهذا موجَب القطع بالحمل على الإشاعة.
وقد يرد على ذلك أنها إذا خصصت بما يبقي لها، فهذا تعليق بما سيبقى إذاً، فهذا منتهى الكلام في هذا.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) زيادة اقتضاها السسياق.(13/167)
8533- ثم تعلق المزني بنص الشافعي في الحمل على الإشاعة في هذه المسألة التي نقلها، واستدل بنصه في مسألة هبة بعض الصداق، وقال: ينبغي أن تحمل هبة البعض [على] (1) الشيوع، كما نقله في مسألة الاختلاع ببعض المهر.
فاختلف أصحابنا في الجواب؛ فقال بعضهم: جرى الشافعي فيما نقله على قول الشيوع، وهذا النوع متداول بينه وبين الأصحاب.
وقال قائلون: نفرق بين مسألة الخلع وبين مسألة الهبة، ونقول في مسألة الخلع: اقترن سببُ استحقاق الزوج بتصرفها، فنفوذ التصرف واستحقافُ الزوج يلتقيان ويقربان، فكل ما وقع التصرف فيه يجعله عوضاً محسوباً من الحقين، حق الزوج، وحقها. وليس [كذلك] (2) مسألة الهبة؛ لأنها وهبت النصف في حالةٍ لم يكن للزوج فيها استحقاقٌ في عين الصداق، ولا سببٌ للاستحقاق، فكان تصرفها محمولاً على خالص حقها، وإذا حمل تصرفها على حقها الخالص، تعين صرف ما بقي إلى خالص حق الزوج، وقال هؤلاء: نظير مسألة الخلع أن يطلقها والصداق بعدُ في يدها بكماله، فلو تصرفت في النصف، فلا يكون تصرفها في خالص حقها، بل يجعل شائعاً في الحقين.
فصل
قال: " فأما في الصداق غيرِ المسمى، أو الفاسد، فالبراءة في ذلك باطلة؛ لأنها أبرأته مما لا تعلم ... إلى آخره " (3) .
8534- إذا نكح المرأة نكاحَ تفويض، فقد ذكرنا أن لها حقَّ طلب الفرض. فلو قالت: أسقطت حقي عن طلب الفرض، لم يسقط حقها. فلو أكبّت على الطلب، فبادر وطلقها، فقد كُفي الرجل أمر الطلب، وليس لها إلا المتعةُ قبل الدخول.
__________
(1) في الأصل: في.
(2) زيادة من المحقق.
(3) ر. المختصر: 4/35.(13/168)
8535- وإذا طلق الرجل امرأته في نكاح مشتمل على التسمية قبل المسيس، وحكمنا بأن شطر المهر لا يرجع إلى الزوج إلا باختيار التملك، فلو قال: أبطلت حقي في التملك، بطل حقه، ولا حاجة في ذلك إلى قبول المرأة، وإن فرعنا على أن صحة الإبراء تقف على القبول. وسبب هذا أن ثبوت حق التملك يضاهي ثبوتَ حق الشفعة، ثم حق الشفيع يبطل بالإبطال من غير قبول؛ فإن من يشترط القبولَ في الإبراء يحمله على التمليك. وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه.
هذا قول القاضي فيما نقله عنه من يوثق بنقله، ويظهر عندي ألا نحكم ببطلان حقه من التملك إذا فرعنا على الوجه الضعيف؛ وينزل إبطالُ حق التملك منزلةَ إبطال الواهب حقَّه في الرجوع في الهبة؛ فإنه لو قال: أبطلت حقي في الرجوع، لم يبطل حقه، ولغا ما جاء به.
فإن قيل: هلا شبهتم ذلك بالغانم يُبطل حقه عن المغنم؟ فإنه يَبطُل حقُّه من أجل أنه لم يملك المغنم، بل ملك أن يتملك. قلنا: لا بأس بهذا السؤال، ولكن الواهب يملك نقضَ ملكٍ قام للمتهب، والغانم يُبطل حقَّ تملّكٍ وليس تملّكه نقضاً لملك تام. فهذا تشبيه من طريق الظاهر. والتشبيه بالرجوع في الهبة أعوص، وذلك أن ملكها تم بالإصداق، وقد تلقّته من قِبل الزوج، وإذا أراد الزوج استراداد النصف، فإنما يسترجع ملكاً تاماً، فكان تشبيهاً بالرجوع في الهبة.
وهو بعيد عن حق الشفعة؛ من قِبَل أنه دَفْعُ ضرار، كالرد بالعيب، والشفيع داخل على ملك المشتري، فكان أصلُ حقه نازحاً عن القياس، ربطه الشرعُ بدفع الغرر، فإذا وقع الرضا به، لم يبعد سقوطه، ولهذا كان طلبُ الشفعة على الفور على الأصح، واختيار الزوج التملك ليس بهذه المثابة، والمسألة على حالٍ محتملة.
وقد قدمنا في صدر الكتاب تشبيه تملك الزوج بالرجوع في الهبة، فكان ذلك جرياناً على أحد الوجهين في الاحتمال.
8536- وإذا كان النكاح نكاحَ تفويض، فإن قلنا: لا تستحق المرأة بالعقد شيئاً، فلو أبرأت عن المهر، لم يصح ذلك منها؛ فإنه إبراء قبل الوجوب. وإذا فرعنا على(13/169)
أنها تستحق المهرَ بالعقد، نُظِر، فإن كانت عالمة بمهر مثلها، صح إبراؤها، وإن كانت جاهلة بمبلغ مهر المثل، فلا يصح إبراؤها فيما جهلته، وهل يصح إبراؤها في المقدار المستيقن؟ فعلى قولين.
وبيان ذلك أنها لو استيقنت أن مهرها لا ينقص عن ألف، وجوّزت أن يبلغ ألفين، فإذا أبرأت عن مهر مثلها لم يصح إبراؤها عما هي مترددة فيه. وهل يصح إبراؤها عن الألف المستيقن؟ فعلى ما ذكرناه.
فإن قيل: إذا فرعتم على أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، فهلا جعلتم إبراءها عن مهر المثل إذا علمته بمثابة الإبراء عما لم يجب، ووُجد سببُ وجوبه؟ [و] (1) في مثل هذا قولان؟ قلنا: ليس هذا بمثابة إبراء المرأة عن نفقة غدها؛ فإن النفقة وإن لم تكن واجبة في الحال، فالنكاحُ يفضي إلى وجوبها من غير سببٍ آخر، فاستمر القولان في مثل ذلك، ومهر المفوضة على قولنا: إنها لا تستحق شيئاً بالعقد لا يثبت إلا بسبب سيحدث، يتعلق إنشاؤه بالاختيار: كالفرض والمسيس. وقد ذكرت قولاً جامعاً في ضمان ما لم يجب في ترتيب القديم والجديد، والإبراءُ عما لم يجب بمثابة ضمان ما لم يجب.
8537- ومما يجب التنبه له أن نص الشافعي في كتبه يشير إلى أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، وفي هذا الفصل من نص الشافعي ما يدل على أنها تستحق بنفس العقد المهر؛ فإنه قال: " فأما في الصداق غير المسمى أو الفاسد فالبراءة في ذلك باطلة لأنها أبرأته مما لم تعلم ". فقوله: " الصداق غير المسمى " يشير إلى صورة التفويض. ثم أبطل الشافعي الإبراء، وعلل إبطاله بأنها أبرأت عما لم تعلم.
ولو كان الصداق غير واجب بالعقد، لكان تعليل إبطال الإبراء [بعدم الوجوب] (2) ؛ فإن ما لا يجب لا يعلل إبطال إسقاطه بكونه مجهولاً؛ إذ المجهول ثابت على الجهالة وهذا حسن.
__________
(1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: يعد من الوجوب.(13/170)
ولكن يتطرق [إليه] (1) حمل النص على تعرية النكاح عن ذكر المهر من غير إذن صريح من المرأة في التعرية. وقد ذكرنا أن هذا يقتضي ثبوتَ المهر، وليس من صور التفويض، وإنما يلتحق النكاح بالتفويض التام إذا صرَّحت المرأة بالرضا بإسقاط المهر.
والمفوضة لو أبرأت عن المتعة قبل الطلاق، لم يصح إبراؤها؛ لأن ذلك إسقاط ما لم يجب بعدُ، ولا يخرج على القولين المشهورين في أنَّ ما لم يجب، ووُجد سبب وجوبه، هل يصح الإبراء عنه؟ فإن وجوب المتعة محال على الطلاق الذي سيقع؛ فليس النكاح سبباً خاصاً في إيجاب المتعة، وقد ذكرنا هذا في إبرائها عن المهر، إذا قلنا إنها لا تستحق المهر بأصل العقد.
***
__________
(1) في الأصل: إلى.(13/171)
باب الحكم في الدخول وإغلاق الباب وإرخاء الستر
قال الشافعي: " وليس له الدخول بها حتى يعطيَها المال ... إلى آخره " (1) .
8538- للمرأة حبسُ نفسها عن زوجها، حتى يتوفر الصداقُ عليها كَملاً، وقد ذكرنا في البيع نصوصاً وأقوالاً في أن البداية [بالتسليم] (2) على من تجب من البائع والمشتري؟ فكان الحاصل أربعةَ أقوال: أحدها - إنه يجب على البائع البداية بتسليم المبيع أولاً.
والثاني - إن البداية تجب على المشتري.
والثالث - إنهما يُجبَران معاً.
والرابع - إنهما لا يُجبران، ولكن من بدأ منهما بتسليم ما عليه، أُجبر صاحبه على التسليم حينئذ.
والزوج في النكاح في مقام المشتري، والمرأة في مقام البائع، وتجري بينهما ثلاثة أقوال: أحدها - إنهما يجبران جميعاً إذا تنازعا البداية.
والثاني - إنهما لا يجبران، ولكن من بدأ منهما أُجبر صاحبه على تسليم ما عليه، فإن بدأت المرأة بتسليم نفسها، وجب على الزوج بعد تسليمها أن يسوق إليها صداقَها. فإن بدأ الزوج بتسليم الصداق، وجب عليها أن تسلم نفسها، إذا لم يكن بها عذر، كما سنصف المعاذير من بعدُ.
والقول الثالث - إنه يجب على الزوج البداية بتسليم الصداق، ولا يخرّج قولٌ: إنه يجب عليها البداية بتسليم النفس، وإن كنا ذكرنا قولاً في إيجاب البداية على البائع، فهي في مقام البائع ومحلِّه، والفارق أن المرأة إذا بدأت فسَلَّمت نفسها؛ كان في
__________
(1) ر. المختصر: 4/36.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(13/172)
تسليمها تفويتُ منفعة البضع على وجهٍ لا يُفرض الرجوع إليها، وليس كذلك البائع؛ فإنه إذا سلَّم، فلم يَفِ المشتري بتسليم الثمن، أمكن فرضُ رجوعه إلى المبيع؛ فإنه لا يفوت عنه بالتسليم.
8539- ثم إذا لم نوجب على واحد منهما البداية، فَمِنْ حُكْمِ هذا القول أن المرأةَ لا تطالِبُ زوجها بالمهر، ولا يثبت لها حقُ المطالبةِ به ما لم تُسَلِّم نفسَها، فإنْ سلَّمت نفسَها، ووطئها الزوج، استقر المهر، وحقت الطَّلبة. وإن مكّنت، فامتنع الزوجُ، توجهت الطَّلبةُ بالمهر، وإنْ لم يتقرر المهرُ، فيكفيها تسليطُها على الطلب وإن لم يقرر المهر.
ومن لطيف الكلام أنها لو مكنت، ثم امتنعت وأخذت تطلب، لم يكن لها الطلب؛ فإنها عادت إلى منع البداية، والذي جرى منها لم يكن بداية تامة. فبين التقريرِ واستقرارِ الطلب بالمسيس، وبين تفويت حق الطلب مرتبةٌ يفهمها الفطن. ثم هذه المرتبةُ شرطُها أن تستمر المرأةُ على التمكين منها ولا تُبدي إباءً.
وإذا قلنا: إنهما يجبران، فتصوير ذلك: أن يؤخذ الصداقُ من الزوج ويوضعَ على يديْ عدل، ثم تُجبرُ هي على تسليم نفسِها، فإذا سلَّمت نفسها سُلِّمَ الصداقُ إليها.
والذي نراه في ذلك أنها إذا سلمت، فلم يأتها الزوج؛ فعلى العدل تسليم الصداق إليها على القاعدة المقدمة. ولو قدّرنا تسليم الصداق إليها في هذا المنتهى، فَهَمَّ الزوجُ بوطئها، فامتنعت، فالوجه استرداد الصداق منها.
وإذا قلنا: الزوج يجبر على البداية بتسليم الصداق، وتملك المرأةُ الابتداءَ بطلب الصداق، فذلك إذا كان يتأتى منها التمكين، فأما إذا كانت على حالةٍ لا يتأتى من الزوج قِربانها، فلا تملك مطالبةَ الزوج بالمهر؛ فإن تسليم الصداق يجب أن يكون واجباً حيث يتأتى [منها] (1) استيفاءُ ما يقابل الصداق.
وإذا قلنا في البيع يبدأ المشتري بتسليم الثمن، فإنما يجب ذلك إذا كان البائع قادراً
__________
(1) في الأصل: من.(13/173)
على تسليم المبيع. فلو كان أبِق العبد بعد البيع، فالمشتري لا يطالَب بالثمن؛ فإن الثمن لا يجب وجوبَ قِيم المتلفات، وإنما يجب عوضاً، ووضع العوض يقتضي -وإن وقع البداية به- أن يقابل معوّضه.
8545- ولو وفّر الزوج الصداق على المرأة، فالقول في ذلك ينقسم، فإن أوجبنا عليه البداية، فذلك حيث يتصور منها التمكين، فإذا امتنعت، استرد ما سَلَّم.
وإن لم نوجب عليه البداية، فتبرع وبدأ، فامتنعت عن التمكين، لم يسترد الزوج، بل أُجْبرت على التمكين. وإن تبرع بتسليم الصداق وهي معذورة، ثم بدا له في الاسترداد، فهل له أن يسترد؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - له الرجوع؛ لأنه سلَّمَ في وقت لا يلزمه التسليمُ فيه، والامتناع قائم، وهذا وجه ضعيف. والأصح: أنه لا ينتزع ما سلم إليها؛ لأنه تبرع بالتسليم، فالرجوع بعد التبرع لا وجه له.
وإذا كان يذكر وجهين في المعذورة، فيتجه ذكرهما أيضاًً في التي لا علة بها، بل تلك أَوْلى؛ من جهة أن تسليم الزوج يحمل على توقع تمكينها، وإن كان متبرعاً. وإذا سلم وهي معذورة، فهذا أبعدُ من الانتزاع؛ فإن التسليم جرى مع توطين النفس على امتناع الوطء.
ولو نظم ناظمٌ هذا على العكس، لاتجه. فيقول: إن كانت معذورة فسَلَّمَ مع العلم بعذرها؛ لم يرجع. وإن لم تكن معذورة وأراد الرجوع، فوجهان. وكل هذا خبط.
والوجه: القطع بأنَّ المتبرع بالتسليم لا يرجع. فهذا تمام البيان في هذا الفن.
8541- ثم إذا ساق الزوج الصداق، فعليها التسليم، فإذا استَمْهَلَت، أُمْهِلَت ريثما تستعد وتتهيأ، ثم ذكر الأصحاب أن منتهى المَهَل ثلاثة أيام؛ فإن الاستعداد ممكن في هذا القدر من الزمان. وهذا الذي ذكروه تقديرٌ، ولا سبيل إلى التقدير من غير توقيف.
والذي يجب التثبت فيه: أن معظم ما يعتقده الناس استعداداً لا حاجة إليه، وإنما المعنيّ بالاستعداد في الشرع أن تهيىّء بدنَها بتنظف لا يكاد يخفى، وما عداه لا اكتراث(13/174)
به، فعلى هذا يقرب الزمان، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص.
8542- ثم ذكر الشافعي أن الصغيرة التي لا تطيق الجماع لا تسلّم إلى زوجها، وكذلك لو كانت مريضة مرضاً يضرُّ بها الوقاعُ ضرراً بيّناً، فالأمر على ما ذكرناه.
وإن كان لا يضرّ بها الوقاع، وجب تسليمها إلى الزوج. ولو قال الزوج: سلموها إليَّ وإن كان بها مانع، وأنا أنكفّ عنها، لم تسلم إليه وإن كان موثوقاً به؛ فإنَّ نزقات النفس ونزغات الشيطان لا تؤمن، ولذلك حرم الله تعالى استخلاء الرجل بأجنبية، وإن كان أعدلَ البريّة وأتقاهم.
وإن كانت حائضاً، وجب تسليمها، فإنه ينتفع بها على وجوه. ولا خلاف أن الزوج إذا حاول من زوجته الحائض الاجتماع معها في شعار، وطلب ضمّاً والتزاماً، فليس لها أن تمتنع، ولو جاز لها أن تمتنع، لوجب على الزوج أن يمتنع، وهذا على ظهوره ليس بالهين، ويعارضه القول في المريضة، فإن الزوج قد يستمتع بها من وجوه، وقد يهوى لقاءها ثم لا يؤتمن عليها.
وعن عائشة أنها قالت: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة فحضت، فانسللت، فقال: مالكِ، أَنُفستِ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: خذي ثياب حيضتكِ وعودي إلى مضجعك، ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار " (1) . وقد يدور في الخلد أن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة تقبيله نساءه وهو صائم. قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) حديث عائشة بهذا اللفظ (ما عدا قوله: ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار) رواه مالك في الموطأ، والبيهقي في السنن، وقد أنكر النووي هذه الزيادة، وقال: غير معروفة في كتب الحديث. ولكن هذا المعنى في الصحيحين، من حديث عائشة أنها قالت: " كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأتزر بإزارها ثم يباشرها " واللفظ لمسلم. (ر. الموطأ: 1/58، والسنن الكبرى: 1/311، والبخاري: كتاب الحيض- باب مباشرة الحائض، حديث رقم: 302، ومسلم: كتاب الحيض- باب مباشرة الحائض فوق الإزار- رقم: 293، وتلخيص الحبير: 1/294 حديث رقم: 231) .(13/175)
وسلم يُقَبِّل إحدانا وهو صائم، وكان أملككم لأرْبِه " (1) . بأبي هو وأمي، ولكن لا ينبغي أن يتمارى الفقيه في جواز استخلاء الزوج بزوجته وهي حائض.
فإن قيل: ما الفرق بين الحائض والمريضة؟ قلنا: المرعيُّ في حق المريضة خيفةُ الإضرار بها؛ فلها أن تمتنع، ولولي الصغيرة أن يمنعها، وتحريم وقاع الحائض يتعلق بحق الله تعالى، والوازع من الهجوم على المحرمات الوعيد، فإذا كان [الحِلّ] (2) قائماً بالنكاح، وكان الوطء محرماً، وقع الاكتفاء بإيضاح التحريم.
ولو رضيت المريضة بأن يخلو بها زوجها، لم يحرم عليه أن يستمتع بها استمتاعاً لا يضر. ولو عرفت المرأة أن الزوج يغشاها في الحيض، ولا يراقب الله تعالى فيها لو استخلى بها، فهل لها أن تمتنع؟ هذا فيه تردد، وليس يبعد تجويز ذلك لها، أو إيجاب ذلك عليها، والعلم عند الله تعالى.
8543- ثم إذا ثبت أن للمرأة أن تمتنع عن الوطء حتى يتوفر عليها صداقها، فلو مكَّنت، فأتاها الزوج، ثم أرادت بعد جريان الوطء أن تمتنع حتى يتوفر عليها الصداق، لم يكن لها ذلك؛ فإنَّ الوطأة الواحدة بمثابة وَطْآت العمر في تقرير الصداق، فليس لها بعدها امتناع، خلافاً لأبي حنيفة (3) ؛ فإنه جوَّز لها الامتناع بعد الوطأة الأولى.
ولو وطىء الزوج قهراً من غير مطاوعة، فمهرها يتقرر، فلو أرادت الامتناع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لها ذلك؛ فإنها لم تطاوع، والامتناع ممكن.
والثاني - ليس لها ذلك؛ لأن مهرها قد تقرر، وانتهى إلى حالة لا يتعرض بعدها
__________
(1) حديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه وهو صائم ... " متفق عليه (ر. البخاري: كتاب الصيام- باب القبلة للصائم حديث رقم: 1929، ومسلم: كتاب الصيام- باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة- حديث رقم: 1108) .
فائدة: يجوز في ضبط همزة (أَرَبه) الفتح والكسر فقد جاءت الرواية بهما (ر. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير) .
(2) في الأصل: الحد.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 188، مختصر اختلاف العلماء: 2/285 مسألة رقم: 769.(13/176)
[للسقوط] (1) ، فصار كما لو طاوعت، واسترجاع ما جرى غير ممكن، وليس كما لو اغتصب المشتري المبيع -على قولنا: للبائع حق الحبس- فإن المبيع [إن] (2) أمكن استردادُه، [استرد] (3) ورُدّ إلى يد البائع حتى يتوفر الثمن عليه.
8544- ثم ذكر الشافعي بعد ذلك فصلين من كتابين: أحدهما - النفقة، فإذا قالت المرأة لزوجها: مهما (4) سقت إليَّ صداقي مكَّنتُكَ، ثبتت نفقتها. ولو سكتت ولم تتعرض لذلك، ففي ثبوت النفقة قولان.
ثم تعرض لاختلاف القول في نفقة الصغيرة، وكل ذلك يأتي على الاستقصاء في كتاب النفقات إن شاء الله عز وجل.
8545- والفصل الثاني في الإفضاء (5) ، فإذا أتى الزوج زوجته فأفضاها، فالقول في تصوير الإفضاء وفي موجبه يأتي في كتاب الديات -إن شاء الله عز وجل- وحظّ هذا الباب منه أن الزوج لا يُمَكَّن من غشيانها بعد ذلك ما لم يندمل مارِنُها (6) ، فإن زعمت أنها لم تستبلّ (7) بعدُ، فلا رجوع إلا إليها وإن طال الزمان، فلا وجه إلا تصديقها مع يمينها، إلا أن يفرض إمكان الاطلاع. فإن كان كذلك، فللزوج أن يأمر أربعاً من النسوة الثقات حتى يطّلعن ويخبرن بحقيقة الحال، فإذا أخبرن بأنها قد بَرَأَت، مُكِّن الزوج من وطئها.
__________
(1) في الأصل: المسقوط.
(2) زيادة لاستقامة العبارة.
(3) في الأصل: فاستردّ.
(4) " مهما ": بمعنى (إذا) .
(5) الإفضاء: المراد به هنا، هو أن يجامع الرجل امرأته، فيهتك الحاجز بين المسلكين فيجعلهما واحداً، وقيل: جعل سبيل الحيض والغائط واحداً (المصباح، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) .
(6) المارن: المراد به هنا الغضروف الحاجز بين المسلكين، وأصله: ما لان من الأنف. (المعجم) .
(7) تستبل: أي تشفى وتتعافى.(13/177)
فصل
قال: " وإن دخلت عليه، فلم يمسها حتى طلقها ... إلى آخره " (1) .
8546- المقصود [بالكلام] (2) خَلوة الرجل بامرأته، وأنها هل تقرر الصداق من غير مسيس؟ وهل توجب العدة؟ فالمنصوص عليه للشافعي في الجديد: أن الخَلوة لا تقرر ولا توجب العدة، ولا يتعلق بها حكم.
وقال في القديم: الخَلوة [تقرر المهر، وتوجب العدّة] (3) ، ثم اختلف الأئمة في تنزيل القول القديم، فقال قائلون: الخلوة في القديم تنزل منزلة الوطء في تقرير المهر وإيجاب العدة، وتوجيه القولين مذكور في طيول المسائل.
وكنت أود أن يختص جريان القولين بتقرير المهر؛ من قِبل أنَّ تمكُّن المستحق من حقه في المعاوضات إن كان [ينزل] (4) منزلة استيفاء ذلك الإنسان حقَّه، فلا وجه مع هذا لإحلال الخَلْوة محل الوطء في إيجاب العدة المتعلقة بما يشغل الرَّحِم، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، بل من أجرى القولين أجراهما في التقرير وإيجاب العدة جميعاً.
ولما قال أبو حنيفة (5) : الخَلوة تقرر المهر، قضى بأنها توجب العدة، غيرَ أنه قال: إذا فرض طلاق بعد الخَلوة، واستقبلت المرأة العدة، فليس للزوج حقُّ الرجعة، وقطع أئمتنا بثبوت الرجعة تفريعاً على القديم؛ فإن الرجعة عندنا لا تنقطع إلا [باستيفاء] (6) العدة، أو استيفاء العدد، أو وقوع الفراق على عوض.
__________
(1) ر. المختصر: 4/37.
(2) في الأصل: الكلام.
(3) في الأصل: " في القديم: الخلوة ثم توتر ثم اختلف الأئمة ... " كذا بهذا الرسم، وهذا النقط (انظر صورتها) والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام.
(4) في الأصل: نزل.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف الفقهاء: 2/348، والمبسوط: 5/148.
(6) في الأصل: بانتفاء.(13/178)
ثم قال أبو حنيفة: الخَلوة إنما تقرر المهر إذا لم يكن في المرأة مانع من الوطء شرعاً، كالحيض، والنفاس، والإحرام، وصوم الفرض. واختلفت الرواية في صوم التطوع.
ثم قالوا: الخَلوة بالرتقاء والقرناء تقرر المهر وإن كان الوطء ممتنعاً طبعاً بحيث لا يتصور وقوعه. فهذا بيان اضطراب مذهبه.
8547- وقد ذهب المحققون من أئمتنا إلى أن الخَلوة بالرتقاء لا تقرر المهر؛ فإنه لا معنى لها؛ فإن الخَلوة إن نزلت منزلة الوطء؛ من حيث إنها تشتمل على التمكين من الوطء، فهذا غير ممكن في الخَلوة بالرتقاء، ولا أثر للخَلوة بها، والكَوْنُ معها في الملأ كالكون معها في الاستخلاء، فأما الخَلوة بالحائض والنفساء؛ فمال القفال إلى مساعدة أصحاب أبي حنيفة في أن الخَلوة لا تقرر مع هذه الموانع الشرعية وإن كان الوطء ممكناً، هذه طريقة الأئمة في الخَلوة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الخلوةَ لا تقرر المهر، ولا توجب العدة، وزعم أن الشافعي تردد قوله في القديم في أن الخَلوة إذا جرت، وادعت المرأة الوطء فيها، وأنكر الزوج؛ فمن المصدَّق؟ فعلى قولين: أحدهما - أن المصدَّق الزوج؛ فإن الأصل عدم الوطء. والثاني - القول قول المرأة مع يمينها، فإن الظاهر جريان الوطء في الخَلوة، فإن أنكر منكر هذا، قلنا له: الخَلوة في ادعاء الوطء كاليد في ادعاء الملك. والعلم عند الله تعالى.
***(13/179)
باب المتعة
قال الشافعي: " جعل الله عز وجل المتعةَ للمطلقات ... إلى آخره " (1) .
8548- المتعةُ اسم لمقدارٍ من المال يسلمه الزوج إلى زوجته إذا طلقها، وقد يسمَّى المتاع. وأمتع الحسنُ زوجةً طلقها اثني عشر ألف درهم، فقالت: " متاع قليل من حبيب مفارق " (2) . والأصل في الباب قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] وشهدت الأخبار وأجمعت الأمة على المتعة.
والكلام في ثلاثة فصول:
[الفصل الأول]
8549- في تفصيل المطلقات، وهن ثلاثة أقسام: مطلقة لم يفرض لها ولم يتّفق الدخول بها، فهي تستحق المتعة، ونصُّ القرآن شاهد فيه، قال تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] والإجماع منعقد على استحقاقها للمتعة في هذه الحالة.
والمطلقة الأخرى: هي التي فرض لها الصداق، وطلقت قبل المسيس، فلها نصف المفروض أو نصف المسمى في أصل العقد، ولا متعة لها في ظاهر المذهب.
وتقسيم القرآن أصدق شاهد فيه، فإنه تعالى لما ذكر المتعة في حق التي لم تُمس، ولم
__________
(1) ر. المختصر: 4/38.
(2) خبر إمتاع الحسن بن علي رضي الله عنهما في متعة إحدى نسائه، رواه البيهقي: 7/257،
والدارقطني: 4/30، 31 وضعفه صاحب التعليق المغني، وابن أبي شيبة: 5/156،
ومقدار المتعة عند البيهقي عشرون ألفاً، وعند الدارقطني وابن أبي شيبة عشرة آلاف، ولم يَرْو
واحدٌ منهم أنها كانت اثني عشر ألفاًً، كما قال الإمام.(13/180)
يفرض لها، قال في الآيات التي تلي هذه {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فدل فحوى الخطاب على أنَّ المتعة ونصف المفروض يتعاقبان على التبادل.
والمطلقة الثالثة: هي التي استقر لها مهر بالمسيس، ثم طلقها زوجها، ففي وجوب المتعة لها قولان: أحدهما - إنها لا تستحق المتعة، وهو المنصوص عليه في القديم، وبه قال أبو حنيفة. ووجهه أنه قد سلم لها المهر، ولا متعة مع المهر.
ونصف المسمى في مقابلة العقد، كتمام المسمى، أو كتمام مهر المثل بعد المسيس، فإذا كانت المتعة تَسقُط بسبب وجوب نصف المسمى أو المفروض قبل المسيس، فلأن تسقط إذا وجب جميع المهر على الاستقرار أولى.
والقول الثاني - وهو المنصوص عليه في الجديد: إنها تستحق المتعة؛ لأن ما سلّم لها من المهر في مقابلة منفعة البضع، لا في مقابلة العقد والطلاق.
وإذا جمعنا المطلقات وأردنا نظم الأقوال فيهن، انتظمت ثلاثة أقوال: أحدها- إنه لا متعة إلا للتي طُلِّقت قبل المسيس ولم يفرض لها، وهي المفوّضة.
والقول الثاني - إن لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم تُمس، فاستحقت نصف المهر عند الطلاق.
والقول الثالث - إن لكل مطلقة متعة من غير استثناء، وهذا القائل يلتزم إثبات المتعة للمطلقة قبل المسيس، وإن فرض لها واستحقت نصف المفروض، وهذا بعيد مخالف لظاهر التقسيم في المتعة والفرض.
الفصل الثاني
8550- يشتمل على الكلام فيما يوجب المتعة، وما لا يوجبها من أقسام الفُرَق، فنقول: أما الفُرقة الحاصلة بالموت؛ فإنها لا توجب المتعة وفاقاً، والميراث كافٍ، وكأنَّ المتعة أُثبتت لمستوحشةٍ بالطلاق، والتي مات عنها زوجها متفجعةٌ غيرُ مستوحشةٍ.(13/181)
فأما ما يجري من الفراق في الحياة؛ فقد قال الأئمة: كل فُرقة تصدر عن جهتها، إمَّا بأن تُنشئَها، أو يصدرَ منها سببٌ يتعلق به ارتفاعُ النكاح، فلا تناط به المتعة.
وما يصدر من الزوج لمعنًى فيها، كالفسخ بالعيوب، فإنه لا يتعلق به المتعة.
وأما ما ينفرد به الزوج لا لمعنى فيها، فيتعلق به استحقاق المتعة، ومن جملة ذلك الطلاق، ومنها ارتداد الزوج وإسلامه.
وقد نص الشافعي على أن الإسلام من الزوج يوجب المتعةَ، ذَكَرهُ في آخر كتاب المشركات. والخلعُ، وإن كان يتعلق بها، فالأصل فيه الزوج. وإذا فوض الطلاقَ إليها، فهو كما لو طلقها بنفسه؛ فإن عبارتَها مستعارة، وكأنَّ الزوج هو المعبِّر، فالفراق المنوط باللعان يثبت المتعة، فإنه مما ينفرد الزوج به، ولا يتوقف حصول الفراق على لعانها.
وإذا وقع الفراق بفعل من غير الزوجين، مثل أن ترضع امرأتُه [الزّوجةَ] (1) الرضيعة إرضاعاً مفسداً، فهذا يوجب المتعة.
8551- والضبط الجامعُ أن كل ما لو جرى قبل المسيس، لم يسقط به المهر المسمى، بل تَشَطَّر، فهو من موجبات المتعة، وكل ما يتضمن سقوطَ جميع المسمى لو جرى قبل المسيس، فلا تتعلق المتعة به. ثم إذا تعلقت المتعة بفُرقةٍ من الفُرق، فتجري فيها الأقسام الثلاثة المذكورة في الطلاق لا محالة، وعلينا في هذا القسم أن نُلحق [كل] (2) فرقة من الفُرق بالطلاق، ثم فيها الأقسام الثلاثة والأقوال الثلاثة.
وما قطعناه عن مضاهاة [الفُرق] (3) ، فإنا نحكم فيه بأنه لا تتعلق المتعة به، كيف فُرض، وصُوِّر، [وعلى] (4) أيةِ حاله قُدِّر.
ولا استثناء في شيء مما ذكرناه إلا في مسألة واحدة وهي: إذا اشترى الزوج زوجته، فالمذهب أن هذه الفُرقة تُشطِّر الصداق، ولا تتعلق بها المتعة؛ فإنَّ المتعة
__________
(1) في الأصل: المزوّجة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: الفراق.
(4) في الأصل: وأعلى.(13/182)
لو وجبت، لوجبت مع الفراق لمنْ يحصل الفراق في ملكه. فإذا اشترى زوجته، فقد ملك رقبتها، فلو وجبت المتعة لوجبت له، ويستحيل أن يجب له على نفسه شيء.
8552- ونقول على الاتصال بهذا، المتعة تجب بالفراق، ولا يتقدم وجوبها عليه، فلو زوّج السيدُ أَمَةً مفوِّضة، ثم باعها، فطُلقت في ملك المشتري، فالمتعة للمشتري؛ لأنَّ الطلاق هو الموجب للمتعة، وقد جرى في ملك المشتري، [فهذا] (1) قاعدة المذهب في الفُرق التي تقتضي المتعة والتي لا تقتضيها.
8553- وقد نقل المزني أنها إذا فسخت النكاح بعيب العُنَّة [لها المتعة] (2) ، وقد أجمع الأصحابُ على تغليطه، وصادفوا هذه المسألةَ منصوصةً للشافعي على العكس مما نقل.
وغلط بعضُ المصنفين، فقال: لا متعة في الخلع لتعلق الفراق بها، وهذا خطأ، بدليل أن الخلع يشطّر الصداق، [ونَقَل عن الأصحاب] (3) تردّدَهم فيه إذا ارتد الزوجان معاً، وتردَّدَهم فيما إذا اشترت الزوجة زوجَها المملوك. نعم، إن جعلنا الخلع فسخاً، فمن أصحابنا من تمارى في التشطير، فيليق بهذا القول ترديدُ الوجه في المتعة.
وغَلِطَ طوائفُ من الأصحاب في شراء الزوج زوجته، فحكَوْا أن المتعة تجب للبائع على المشتري، وقد رمز إليه الصيدلاني، وهذا عندي ليس من غلط الفقه، بل هو خللٌ في الفكر؛ فإن من صار إلى هذا بين أمرين كلاهما محال، إن قال: تجب المتعة قبل الفراق، كان رادّاً للإجماع. وإن قال: تجب مع الفراق، والفراق يحصل مع الملك، ثم المتعة تجب للبائع، فهذا مستحيل وإن وجبت متعة، على نفسه [لنفسه] (4) كان هذا كلاماً متناقضاً. فهذه غلطات نبهنا عليها بعد طرد المذهب على السداد.
__________
(1) في الأصل: في هذا.
(2) ساقط من الأصل. والمثبت من المختصر، ونص عبارته: " وأما امرأة العنين، فإن شاءت أقامت معه، ولها عندي متعة " والله أعلم. (ر. المختصر: 4/39) .
(3) زيادة من المحقق لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: فإن وجبت على نفسه، كان هذا.(13/183)
الفصل الثالث
في قدر المتعة
8554- ولا [قدر] (1) عندنا لأقلها، ولا لأكثرها، وهي موكولة إلى اجتهاد الحاكم، ثم هي تختلف باختلاف الأحوال على ما سنصفه، ونذكر ما بلغنا من قول الأصحاب نقلاً، ثم نرجع، فنبحث.
ذكر العراقيون وجهين في تقدير المتعة: أحدهما - أن أقل المتعة ما يتمول، فلو أمتعها الزوج بأقل ما يتمول، فقد خرج عما عليه.
وهذا القائل يقول: ما صح أن يكون صداقاً، صح أن يكون متعة في كل صورة.
والوجه الثاني -وهو الصحيح- أن تقديرها إلى الحاكم واجتهاده، وليس كالصداق؛ فإنَّ الصداق على التراضي، فكان كالأثمان، والمتعة أمر معتبر يفرض ثبوته في وقت التنازع، فيجب أن يكون له أصل يفرضُ الرجوع إليه، ونصُّ القرآن شاهد فيه، فإنه عز من قائل قال: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] .
ثم فرعوا على الوجهين، فقالوا: إن اكتفينا بأقلِّ ما يتموّل، فلا كلام، وإن أحلناه على اجتهاد الحاكم، فالحاكم يَعتبر ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعتبر حالَ الزوج لا غيرَ في اليسار والإعسار، ولا ينظر إلى حالها، فيقول: زوجٌ في حالِ زيدٍ ويسارِه، كم يكون أقل متعة منه في العادة؟ فيبني الأمرَ على هذا، قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
والوجه الثاني - أنه يعتبر حالها، فيقول: امرأة في مثل حال هذه بكم تُمَتَّع في العادة في أقل ما يُفرض؟ ولا يعتبر حال الرجل، وهذا الوجه مخالف لظاهر القرآن، فإنَّه تعالى قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال الإمام والدي: يعتبر في ذلك حالهما جميعاً، فيقال: مثل هذا الرجل ما أقلُّ ما يمتِّع به مثلَ هذه المرأة؟
__________
(1) في الأصل: تقدر.(13/184)
8556- هذا تردُّدُ الأصحاب، وليس فيما ذكروه تحويمٌ على المقصود، فضلاً عن الإخلال، وذلك أنه ما لم يبِنْ موقعُ المتعة ومنزلتُها لا يمكن أن يعتبرَ فيها ما ذكره الأئمة؛ فإنَّ الإنسان يختلف ما يبذله إذا اختلف جهاتُ المبذول، فما لم يَبِنْ محلُّ المتعة، أعِوضٌ هي أم مِنْحة؟ لا يظهر. وقد اتفق المحققون على أن المتعة لا يبلِّغها القاضي نصفَ المهر، وسبب هذا بينٌ؛ فإنها تجب حيث لا يجب نصف المهر، وكأنا نقنع بما يقلّ عن شَطر المهر إذا لم يحتمل الحالُ شَطْر المهر، فليتخذ الناظر هذا أصلَه.
قال القفال: لا تبلغ المتعةُ نصفَ المهر، كما لا يبلغ التعزيرُ الحدَّ، والرضخُ السهمَ، والحكومةُ الدِّيةَ.
وقال الشافعي في القديم: أستحب المتعةَ قدر ثلاثين درهماً، وإنما استحب ذلك لأثر ورد عن ابن عمر (1) . وقال الشافعي في بعض كتبه: ينبغي أن يفرض القاضي فيها مِقْنعةً أو ثوباً أو خاتماً. وقال القاضي: أي شيء فرضه بعد ما كان متمولاً جاز.
8556- هذا ما بلغنا من كلام الأئمة.
والذي يلوح لنا فيه بعد بناء الأمر على حطّ المتعة عن نصف المهر أن المتعة كاسمها إمتاعٌ وإتحافٌ يسدّ ممّا تداخلها من الفراق مسداً، وليس في الإمتاع عادةٌ مطردةٌ في الناس، حتى نرجعَ إليها من غير قاضٍ رجوعَنا إلى العادات، في القبوض والأَحراز، وأمور في المعاملات، فهذا يتعلق بنظر القاضي، حتى يَفْرِض قدراً يراه لائقاً، ثم يختلف هذا بالإعسار واليسار، ثم لا ضبط للتقدير، [في التعزير] (2) ؛ فإن التقدير يختلف باختلاف أحوال الناس في عرامتهم (3) وشراستهم، فرب صاحبِ عَبْرة (4) يكفيه
__________
(1) حديث ابن عمر، رواه البيهقي موقوفاً. (ر. السنن الكبرى: 7/244، والتلخيص: 3/392 ح 1685) . هذا وفي نسخة الأصل " حديث عمر".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) عرامتهم: أي عنفهم وشدّتهم، وشراستهم.
(4) عَبْرة: أي: دمعة. والمعنى رقيق القلب سريع الفيئة.(13/185)
[تبكيتٌ] (1) ، ورب [عَرمٍ] (2) خبيث، لا يردعه إلا الكثير من [التعزير] (3) ، ثم الحد مردٌّ لاعتبار التعزيزات؛ فإنها توقيفات الشرع.
فإن قال قائل: إذا كان المقصود من التعزير [التأديب] (4) والردع، فمن وصفتموه لا يرتدع؟ قلنا: إن لم يرتدع، فسيعود، وإن عاد، عُدنا، والإمام أقدر على معاقبته، ويدُه على الرقاب، وهو تحت ضبط الإمام.
وما ذكره العراقيون من أن الزوج لو أمتعها بأقلِّ ما يتمول، جاز، خارجٌ عن القانون. وما ذكره القاضي من ذكر أقل ما يتمول مضافاً إلى اجتهاد الحاكم، محمول عندي على ما إذا كان [حال] (5) الزوج تقتضي هذا، فلا نظن به على علو قدره أن يجوّز إثباتَ أقلِّ ما يتمول من غير رجوع إلى مستند، ثم يربط ذلك باجتهاد الحاكم.
هذا ما عندنا في ذلك، وقد مهدنا المطالب، والرأي فوضى (6) .
8557- ومما أجريناه في الكلام، نصفُ المهر، وهو المعتمدُ الفقيه، فإن لم يكن في النكاح مسمى، فالمعتبر نصف مهر المثل، وإن كان في النكاح مسمى، وفرّعنا على أن المدخول بها تستحق المتعة؛ فننظر في المتعة ونصفِ مهر المثل، أو ننظر في المتعة وهو نصف المسمى، هذا محتملٌ: يجوز أن يكون الرجوع إلى نصف مهر المثل؛ فإن المسمى متعلقه التراضي، والأصل الذي لا تعلق له بالتراضي هو مهر المثل، ويكون رضاها بأقلَّ من مهر المثل عن مسامحة، هذا هو الأشبه، والعلم عند الله تعالى.
***
__________
(1) في الأصل: تنكيت.
(2) في الأصل: " عُرة " وهو تصحيف.
(3) في الأصل: الغزير.
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل: " اختار" (هكذا بهذا الرسم والنقط) ولم أدر لها وجهاً. والمثبت تصرف منا.
(6) فوضى: أي مشترك، من قولهم: مالهم ومتاعهم فوضى بينهم: إذا كانوا شركاء فيه، يتصرف كل واحد منهم في جميعه بلا نكير. (المعجم) .(13/186)
باب الوليمة والنثر
قال الشافعي: " والوليمة التي تعرف وليمة العُرس ... إلى آخره " (1) .
8558- أبان أن الوليمة تنطلق على كل مأدبة في إملاكٍ، أو نفاسٍ أو خِتان، أو حادثِ سرور، ولكنها شُهرت بما يتخذ في العرس، وقد روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الوليمة في حضر ولا سفر " (2) . وروي " أنه أولم على صفية بسويق وتمر في السفر " (3) ودخل عليه عبدُ الرحمن بنُ عوف وعلى ثوبه أثر الصفرة فقال: " مَهْيَم ". وهذه كلمة تستعمل في [الاستفهام] (4) رآها البصريون من الأصوات كصه، ومه، وحيهلا، [وهيهات] (5) ، وقال الكوفيون معناه: ما هذا؛
__________
(1) ر. المختصر: 4/39.
(2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك الوليمة في حضر ولا سفر" لم نصل إلى حديث بهذا اللفظ، ولكنه مأخوذ من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته حيث أولم في السفر على صفية كما ذكر الإمام، ووفيناه بذكر روايته في التعليق الآتي بعد هذا مباشرة.
(3) حديث " أنه أولم على صفية بسويق وتمر " رواه أحمد: 3/110، وأبو داود: كتاب الأطعمة، باب في استحباب الوليمة عند النكاح، ح 3744، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في الوليمة، ح 1095، والنسائي الكبرى: كتاب الوليمة، باب الوليمة في السفر، ح 6601، وابن ماجة: كتاب النكاح، باب الوليمة، ح 1909، وابن حبان: 6/146، ح 4052. وكلهم من حديث أنس، وفي الصحيحين عن أنسٍ أيضاً " أنه صلى الله عليه وسلم جعل وليمة صفية ما حصل من السمن والتمر، والأقط. (ر. البخاري: كتاب النكاح، باب البناء في السفر، ح 5159، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته، ثم يتزوجها، ح 1365، وانظر تلخيص الحبير: 3/394، ح1687) .
(4) مكان بياضٍ بالأصل. و" مَهْيَمْ " بميم مفتوحة، فهاءٌ ساكنةٌ بعدها، فمثناة تحتية مفتوحة، بعدها ميم. ومعناها: ما حالك؟ وما شأنك؟ وما وراءك، فهي للاستفهام. (المعجم) .
(5) في الأصل: وسهات.(13/187)
فإنه يستعمل في السؤال فقال عبد الرحمن: تزوجتُ امرأة [من الأنصار] (1) ، وكانوا يتضمخون بالزعفران في العُرسِ، قال صلى الله عليه وسلم: " أولِمْ ولو بشاة " (2) .
ثم كما يأمر بالوليمة يأمر بإجابة الداعي على تفاصيلَ سنذكرها.
8559- والشافعي جعل وليمة العرس أَوْلى الدعوات، وغيرَها أخفَّ منها. ثم قال: " ومن تركها لم يَبِنْ لي أنه عاصٍ، كما تبين لي في وليمة العرس " (3) ، فكان هذا ترديد جواب منه في وليمة العرس، فمن أصحابنا من جعل في وليمة العرس وأنها هل تجب؟ قولين، وتمسك بظواهر الأوامر، ولم يردد الجواب في [وجوب] (4) غيرها.
وذهب المحققون إلى أن الوليمة لا تجب قولاً واحداً، وإنما التردد في وجوب إجابة الداعي؛ فإن لفظ التعصية نُقل في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: " من لم يجب الداعي فقد عصى أبا القاسم " (5) . ومن لم يوجب الإجابةَ حمل لفظ العصيان على المخالفة وتركِ التأسّي، وهذا غير بعيد على مذهب الاتساع في الكلام. وقد يقول القائل: أشرت على فلان برأيى، فعصاني.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لو أُهدي إليَّ ذراع، لقبلت، ولو دُعيت إلى كُراع، لأجبت " (6) . والمراد كُراع شاة. وقال بعض المتكلفين أراد بالكراع: كراع
__________
(1) زيادة لإتمام المعنى، أخذناها من نص الحديث.
(2) حديث " أولم ولو بشاة " متفق عليه. (ر. البخاري: كتاب النكاح، باب الوليمة ولو بشاة، ح 5167، ومسلم: كتاب النكاح، باب الصداق، ح 146) .
(3) ر. المختصر: 4/39.
(4) في الأصل: وجوبها.
(5) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة، بلفظ: "من دعي، فلم يجب، فقد عصى الله ورسوله ".
(ر. البخاري: كتاب النكاح، باب من ترك الدعوة، فقد عصى الله ورسوله، ح 5177، ومسلم: كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، ح 1432) وله ألفاظ عندهما، ولأبي داود من حديث ابن عمر: " من دعي إلى الوليمة، فليأتها " (ر. تلخيص الحبير: 3/394، 395 ح1689) .
(6) حديث: " لو أهدي إلي ذراع ... " رواه البخاري: كتاب الهبة، باب القليل من الهبة، ح 2568، وهو عنده بلفظ: " لو دعيت إلى ذراع أو كراع، لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو=(13/188)
[الغميم] (1) ، وهي قرية من المدينة على فراسخ، فيكون المعنى لو دُعيت إلى مسافة بعيدة، لأجبت، وهذا غير مستقيم والكُراع مقرون بالذراع.
ثم من حمل التردد في الوجوب على إجابة الداعي، لم يَفْصِل بين دعوة ودعوة ومن ردد الجواب في وجوب اتخاذ الدعوة خصص تردده بوليمة العرس.
ووصف أبو سعيد الخدري أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر فيما وصف: " كان صلى الله عليه وسلم يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعلف الناضح، ويحلب الشاة، ويركب الأتان، ويطحن مع الخادم، وكان لا يحمله الحياء على ألا يحمل البضاعة من السوق إلى أهله، وكان يسلم مبتدئاً، ويصافح الغني والفقير، ويجيب إذا دُعي ولو إلى حَشَف التمر، وكان هين المؤونة، جميل المعاشرة، بسَّاماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوسة، جواداً من غير سرف، رحيماً رقيق القلب ما تجشَّأ عن شِبع قط، ولا مدَّ يده إلى طمع " (2) . بأبي هو وأمي.
8560- وعلينا بعد ذلك أن نفصِّل الدعوةَ والإجابةَ، فنقول: إذا بعث واحداً وقال له: ادعُ من لقيتَه، فدعا واحداً، فلا عليه لو تخلف، فإنه غيرُ معيّنٍ بالدعوة، وإذا لم يتجرد قصدٌ إلى مدعو، فيجب أن لا يثقلَ التخلفُ على الداعي، ولو دُعي وعلم المدعوُّ أن في دار الداعي أقواماً لا يلائمون المدعوَّ -والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه ترددٌ للأصحاب، وهو أن يدعوَ رجلاً شريفاً مع طائفة من السُّفل والأراذل.
وإن كان المدعوُّ صائماً، لم يتخلف أيضاًً، بل يجيب ويحضر. ثم إن كان صومه
__________
= كراع، لقبلت " وطرفه في 5178 وهو بلفظ: " لو دعيت إلى كراع، لأجبت، ولو أهدي إلي كراع، لقبلت " وأحمد في مسنده: 2/424.
(1) غير واضحة ولا مقروءة بالأصل، والمثبت من (معجم البلدان) لياقوت.
(2) لم نصل إلى حديث لأبي سعيد بهذه الألفاظ، بل لم نصل إلى حديث في الشمائل على هذا السياق الذي يجمع كل هذه المعاني، وإنما في الشمائل أحاديث أخر ربما بمجموعها تجمع هذه المعاني. (رجعنا إلى الشمائل للترمذي، وشرحها جمع الوسائل، وكذا رجعنا إلى دلائل النبوة، وزاد المعاد، والخصائص الكبرى) .(13/189)
فرضاً بَرَّكَ ودعا، وأبدى عُذرَهُ، وإن كان صومه تطوعاً، وعلم أنه لا يعز على المضيف تركُ الأكل، لم يفطر، وإن علم أنه يشق عليه تركُ الأكل، فالأولى أن يفطر ويصومَ يوماَّ مَكانه. وإن علم المدعو في الأصل أنه لا يعز على الداعي امتناعُه -والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه احتمال. وقد روي: أن ابن عمر دُعي إلى دعوة مع جماعة، فمد يده إلى الطعام، ثم قال: " خذوا بسم الله، وأمسك، وقال: إني صائم " (1) .
وإن كان في مكان الدعوة منكراتٌ كالمعازف، نُظر، فإن علم أنه لو حضر لنُحِّيت ورُفعت تعظيماً له، فينبغي أن يحضر، ويكونُ حضورُه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن لم ينزجروا، ولم يكن له بمنعهم يدان، لم يُقِمْ وخرجَ، ولا يُقيم فيما بينهم ما بقي له اختيار.
8561- وإن كان في البيت صور، فإنا نتكلم فيها أولاً، ونقول: الصور الشاخصة والمستوية على السقوف والجدرات والأُزر (2) المرتفعة والسجوف (3) المعلقة ممنوعة، ويحرم الأمر بها وتعاطيها، وقد روي: " أنه دخل رجل على ابن عباس فاستخبره ابنُ عباس عن حرفته، فقال إني أنقش هذه الصور، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُحشر المصورون يوم القيامة، ويقال لهم انفخوا الروح فيما خلقتم، فما هم بنافخين، ولا يخفف عنهم العذاب. فقال الرجل: ما لي حرفة سواها، قال: فإن كنتَ فاعلاً، فعليك بصور الأشجار " (4) . وعن عائشةَ أنها قالت: " كانت لنا سَهوةٌ علقتُ فيها سُترة وعليها صورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، [وكان] (5) يدنو
__________
(1) حديث ابن عمر، رواه الشافعي في الأم: 6/181، والبيهقي: 7/263.
(2) الأزر: جمع إزار، وهو هنا حويّط يقام بجوار الحائط يلصق به، للتقوية، أو للزينة.
(3) السجوف: هنا بمعنى الستور.
(4) حديث ابن عباس متفق عليه، رواه البخاري: كتاب البيوع، باب التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك، ح 2225، ورواه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، ح 2110.
(5) في الأصل: وكانوا.(13/190)
منه وينصرف، فعل مراراً، ثم قال صلى الله عليه ومسلم: حُطِّيها، واتخذي منها نمارق " (1) .
ففهم العلماء من ذلك أن المحظور صور الحيوانات، فأما تشكيل الأشجار فلا بأس به.
ولو صور المصور حيواناً إلا وجهه، ففيه تردد: فمن أصحابنا من جوز ذلك، وجعل ما عدا الوجه خطوطاً وتشكيلاً كالأشجار. ومنع مانعون ذلك، فإنَّ سائر أعضاء الحيوان يُشعر بالحياة إشعار الوجه.
ثم فيما رويناه ما يدل على الفرق بين الصور المرفوعة وبين المحطوطة التي توطأ على الفرش والنمارق، ولعل السبب فيها أنها إذا كانت مرفوعة، ضاهت الأصنام، وإذا كانت موطوءةً مفترشة تحت الأقدام، فليست كذلك، وأيضاًً، فإنها إذا كانت مرفوعة كانت مُهيّأةً للنظر إليها، والمخادّ الكبار التي لا تتوسدُ، وإنما تهيأُ مرتفعةً شاخصة في معنى الستور.
ولبس الثياب المصورة كان يمنعه شيخي، ولعله أولى بالمنع من رفع الصور على الستور المعلّقة، وكان يقول: استعمال الثياب المصورة لا يحرم، فإنها تصلح للفرش، كما يتأتى تعليقها ولبسها، وإذا كان لها وجه في الاستعمال، حمل الاستعمال عليه، وعندي أن الذي يتعاطى التصوير هو الآثم بكل حال، وفي المسألة احتمال.
وإذا صادف الناهي عن المنكر سترةً معلقة وصورة، لم يفسدها، بل حفظها لتفرش. ثم في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة " (2) ، فيكره على موجَب الحديث دخولُ بيت فيه صورة ممنوعة، كما
__________
(1) حديث عائشة. رواه البخاري بأتمّ مما جاء به الإمام: كتاب اللباس، باب ما وطىء من التصاوير، ح 5954، 5955، ورواه النسائي: كتاب الزينة، باب التصاوير، ح 5356، 5357.
(2) حديث " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة " رواه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم صورة الحيوان، ح 2112. (وانظر تلخيص الحبير: 3/399، 400 ح 1696) .(13/191)
ذكرناه، ولا ينتهي الأمر إلى التحريم عند كثير من أصحابنا.
وكان شيخي يُلحق هذا بالمحظورات، ويُلزم الخروج من البيت، والأصح الاقتصار على الكراهية.
فصل
وقال في نثر السكر واللوز والجوز في العرس: " لو تُرك، كان أحبَّ إليَّ ... إلى آخره" (1) .
8562- أراد الشافعي كراهةَ الالتقاط؛ لأنه أُخذ بخُلسةٍ ونُهبة، وفيه خروج عن المروءة، وربما يخطِر للناثر أن يُؤْثر بعض الملتقطين. ولا يبعد أن يحمل ما ذكره الأصحاب على النثر أيضاً؛ فإنه سببُ الحَمل على الالتقاط. وعندي أن الأمر في ذلك لا ينتهي إلى الكراهة.
ومن لم يكن ذا حظ من الأصول قد لا يفصل بين نفي الاستحباب وإثبات الكراهية، وليس كذلك، ولفظ الشافعي مشعر [بالتهيب] (2) وحط الأمر عن رتبة الكراهية؛ فإنه قال: " لو تُرك كان أحبَّ إليّ ". ثم قد ينتهي الأمر في هذا إلى الإباحة إذا كان الناثر لا يؤثر أحداً، وكان المتطلعون عنده بمثابةٍ.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر إملاكاً فقال: أين أطباقكم، فأُتي بأطباق عليها جوز ولوز وتمر فنُثرت. قال جابر بن عبد الله راوي الحديث: فقبضنا أيدينا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما لكم لا تأخذون. قلنا: لأنك نهيتنا عن النُّهبى، فقال: إنما نهيتكم عن نهبى العساكر، خذوا على اسم الله، فجاذَبَنا وجاذبناه" (3) . فثبت الأصل بالخبر الصحيح.
__________
(1) ر. المختصر:4/40.
(2) كذا قرأناها على ضوء حروفها التي تداخلت بعضها في بعض، فصارت تقرأ: "بالتحفيذ" أيضاًً.
(3) الحديث عن النثر رواه البيهقي عن معاذ بن جبل، وقال عنه الحافظ: " في إسناده ضعف وانقطاع. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة عن معاذ نحوه، وأورده ابن الجوزي =(13/192)
ثم ما وقع على الأرض، فالحاضرون فيه شرَعٌ، يملكه من يبتدره، وإذا ثبتت يد إنسان على شيء منه، لم يُسلب منه، ولو غالبه مغالب، فهو غاصب، وإن وقع شيء في حِجر إنسان، فإن كان بسط حجره لذلك، لم يؤخذ منه، وكان احتواء الحِجر المبسوط لذلك بمثابة الأخذ باليد، وإن لم يكن قصد هذا ببسط حِجره، فهل يجوز الأخذ من حجره؟ قيل: لو كان لا يرغب فيه جاز، وإن عُلم أنه يرغب فيه، وإن لم يقصد بسطَ حِجره لهذا، ففي المسألة وجهان مبنيان على الطائر إذا فرخ في دار إنسان، فصاحب الدار أحق بالفرخ، ولكن لو ابتدره غيره فأخذه، فهل يملكه؟ فعلى وجهين.
8563- من تحجر أرضاً ليحييها، فابتدرها غيره وأحياها، فالأصح أنه لا يملكها، وفي المسألة وجه على بعد. ولو نشر ذيله فوقع فيه شيء، كان نشْرُ الحِجر مملّكاً بخلاف [المحجِّر،] (1) فإن الملك يحصل بمجرد إثبات اليد في المنثور، وما يحصل في الحِجْر على الصورة التي ذكرناها يُعد في يد صاحب الحِجر، ويُعدُّ إحرازاً لما احتوى عليه حِجْره [ومجرد] (2) إثبات اليد لا يملّك الموات حتى يُحيىَ كما ذكرناه.
ولو سقط من حجره ما وقع فيه، نُظر، فإن لم ينشره بقصد الأخذ، فإذا سَقَطَ، مَلَكَهُ من يبتدره، وإن كان من وقع في حِجْره راغباً فيه، وهو بمثابة ما لو عشش طائر في دار ثم طار الفرخ، فلا اختصاص لصاحب الدار بعد مفارقته دارَه. ولو نشر ذيله، أوآلة كانت معه، فوقع فيه شيء، ثم سقط منه، فهذا فيه احتمال، والظاهر أنه يملكه، ثم لا يزول ملكه بالسقوط، كما لو اعتُقِلَ صيد بشبكةٍ نُصبت على مدارج الصيود وانضبط بها، ثم حدث حادث فأفلت؛ فالظاهر أنه مِلك ناصب الشبكة.
__________
= في الموضوعات، ورواه فيها أيضاًً من حديث أنس، وفيه خالد بن إسماعيل وهو كذاب ... " ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/407 ح 1710، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/288، وشرح معاني الآثار: 3/50) .
(1) في الأصل: الحجر.
(2) في الأصل: وبمجرد.(13/193)
وفي الصيد وآلة اللقط وجه آخر؛ فإن العادة هي المرعية في هذه الأبواب.
وما تحتوي عليه الشبكة لا يوثق به أو يؤخذ، نعم لو أخذه آخذ لم يملكه. وكذلك القول لو أخذ آخذٌ ما وقع في آلة الملاقط لم يملكه، وإنما الكلام فيه إذا سقط بنفسه.
فصل
في أحكام الضيافة وما يتعلق بها
8564- إذا قَدَّم المُضيف الطعام، فالمذهب الظاهر: أنه لا حاجة إلى لفظٍ من المضيف، بل تكفي قرائن الأحوال في إفادة الإباحة. وأبعدَ بعضُ أصحابنا، فقال: لابد من لفطٍ منه، فليقل: كلوا بارك الله فيكم، أو ليأتِ بلفظ [يفيد] (1) هذا الغرضَ.
وليس بشيء.
ثم الضيف هل يملك ما يأكله؟ اختلف أصحابُنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يملكه أصلاً، وإنما يأكله على ملك المُضيف مباحاً، وهذا ما حُكي عن اختيار القفال.
ومن أصحابنا من قال: إنه لا يملك حتى يضعَها في فيه.
ومنهم من قال: لا يملكها حتى يمضغها بعضَ المضغ.
ومنهم من قال: لا يملكها حتى يزدردها، فإذا ازدردها، تبيّنا أنه ملكها مع الازدراد.
وفائدة هذا التردد ظاهر في إثبات الملك ونفيه.
وكان شيخي يصحح أن الضيف لا يملك، ويذكر هذه الوجوهَ في أن الإباحة هل تلزم، حتى لو رجع المضيف، لم يكن له الرجوع. وهذا لا بأس به، ولكن الأصح أن الإباحة لا تنتهي إلى اللزوم قط، ما لم يَفُت المستباحُ، وليس في الشرع إباحة
__________
(1) في الأصل: فيفيد.(13/194)
تُفضي إلى اللزوم إلا في النكاح، فإنا قد نختار أن المعقود عليه في النكاح ليس مملوكاً وإنما هو مستباح مستحق (1) .
ومن قال لا بد من لفظٍ في إباحة الطعام يشترط من الناثر لفظاً أيضاً. ثم لا يشترط تمليكاً وإيجاباً وقبولاً، بل يكتفي بأن يقول: خذوا، أو بأي لفظ في معناه.
8565- ومما يتعلق بما نحن فيه أنَّا إذا رأينا إجابةَ الداعي حتماً، فلو دُعي جمعٌ فأجاب بعضهم، هل تسقط الفرضية عمّن لم يجب سقوطَ فرض الكفاية في مثل هذه الصورة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يُنحَى بذلك نحو فروض الكفايات، وأقرب الأمثلة إلينا ردُّ جواب السلام على جمعٍ؛ فإنه إذا أجابه واحد منهم، سقط فرض الجواب عن الباقين.
وعندي أن ما ذكروه فيه إذا وُجِّهت دعوةٌ على جمع ولم يُخَصَّص كلُّ واحد منهم [بالتنقير] (2) ، فإن خصص كل واحد بالدعوة -والتفريع على وجوب الإجابة- فلا يسقط الفرض أصلاً عن البعض بحضور البعض، وعلى هذا القياسُ يجري في السلام [لو خُصِّصَ] (3) كلُّ واحد بتسليمة.
ولو حضر الدعوة، ولم يكن عذر يمنعه من الأكل، وكان يشق على المُضيف امتناعه؛ فقد ذكر العراقيون وجهين في وجوب الأكل بناءً على وجوب الإجابة. وهذا بعيد إن قيل به، فيكفي ما ينطبق عليه الاسم في التعاطي.
[فإن لم تكن دعوة،] (4) فالأكل والتطفل حرام، وفي الحديث: " من دخل دار
__________
(1) هذه القاعدة "ليس في الشرع إباحة تفضي إلى اللزوم إلا في النكاح، وأن المعقود عليه في النكاح ليس مملوكاً، وإنما هو مستباح، فيستحق" ذكرها ابن السبكي في الأشباه والنظائر: 1/369. ناقلاً إياها عن إمام الحرمين في النهاية وبنصها.
(2) في الأصل: التنويش. ولم أعرف لها وجهاً، مع تقليبها على كل صورة ممكنة من حروفها، بل لم نجد لها معنى في معاجم المعرب والدخيل. فقدّرنا أنها محرّفة عن (التنقير) : والتنقير هو دعوة الرجل باسمه: مأخوذ من قول القائل: نقَّرْتُ باسم فلان إذا دعوته من بين القوم (المصباح والمعجم) .
(3) في الأصل: واخصص.
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(13/195)
غيره بغير إذنه، دخل عاصياً وأكل حراماً " (1) . وإنما يفرض هذا والدعوة نَقَرى (2) ، فأما إذا كانت الدعوة جَفَلَى (3) ، وفتحت الباب ليدخل من شاء، فلا تطفل والحالة هذه. وقد نجزت المسائل المنصوصة في [السواد] (4) ، ونحن نرسم بعدها فروعاً لابن الحداد وغيره.
فرع:
8566- إذا قال السيد لعبده: انكح فلانة [الحرّة] (5) ، وأجعلُ رقبتك صداقها، فالإذن فاسد؛ فإن النكاح على هذا الوجه لا يصح؛ إذ المرأة لو ملكت رقبة زوجها في دوام النكاح، لانْفسخ النكاح، فكيف يفرض انعقاده ابتداءً مع تقدير حصول الملك في رقبة الزوج؟ ولو تعاطى السيد التزويج بنفسه على هذه الصفة، فزوجَ من عبده الصغير -أو الكبير على قول الإجبار- حرةً، وجعل رقبة الزوج صداقاً، فالذي قطع به الأصحاب: بطلانُ النكاح.
وكنت أود لو ذهب ذاهب إلى صحة النكاح وفساد الصداق، ثم كان الرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة، ولكن ما يصير إلى هذا صائر. والتعويل في المذهب على النقل.
وتعليل ما ذكره الأصحاب: أن من نكح امرأة وأصدقها خمراً، فإنا نفرض الصداق منفصلاً عن النكاح، حتى كأنه ليس عوضاً، وليست تسميةُ الخمر قادحةً في مقصود النكاح، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تؤثر في مقصود النكاح لا تُفسده. وأما جعل
__________
(1) حديث: "من دخل دار غيره ... إلخ " هو عند البيهقي: 7/265 بلفظ: " من دخل على قوم لطعام لم يُدع إليه، فأكل، دخل فاسقاً، وأكل ما لا يحل له " ورواه الطبراني في الأوسط بقريب من هذا اللفظ، ح 8266 وقد ضعفه الألباني في الإرواء: 7/16.
(2) نَقَرَى: بفتحات ثلاث للنون والقاف والراء المهملة، ومعناه أن تكون الدعوة خاصة يُعيَّن فيها من يدعى باسمه. من قولهم: نقرْتُ باسمه أي دعوته من بين القوم. (المصباح والمعجم) .
(3) جَفَلَى: وزان فَعَلَى بفتح الكل: وهي أن تدعو الناس إلى طعامك دعوة عامة من غير تخصيص أحدٍ باسمه. (المصباح والمعجم) . وإمام الحرمين ناظر في هذا إلى قول طَرَفة بن العبد:
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى ... لا نرى الآدبَ فينا ينتقر
(4) في الأصل: "الشواذ". ونذكر أن السواد هنا هو (مختصر المزني) .
(5) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام -مع ما سيأتي- بدونها.(13/196)
رقبة الزوج صداقاً، فنوعٌ من إفساد يقدح في مقصود النكاح، كما تقدم.
8567- ولو أَذِنَ لعبده في أن ينكِحَ أَمَةَ الغير، ويجعل رقبته صداقها؛ فهذا جائز؛ فإنه لا يصير مملوكاً للزوجة، إذ مالك الصداق سيد الأَمَةِ، ولا يمنع أن يجتمع الزوج والزوجة في ملك مالك؛ فإن للسيد أن يزوِّجَ أَمَتَهُ من عبده.
فإذا تبين ذلك، فلو انعقد النكاح على هذا الوجه، ثم طلق زوجته قبل المسيس؛ فحكم الطلاق [لعيل] (1) التشطير.
وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: يرتد نصف الرقبة إلى السيد الأول؛ فإن الرقبة خرجت من ملك السيد الأول، ونصف الصداق يرتد إلى من يخرج الصداق من ملكه، وليس هذا كما لو أصدق الأب عيناً من أعيان ماله زوجةَ طفْلِهِ؛ فإنا نقول: إذا بلغ وطلق، رجع نصفُ الصداق إلى الزوج، فإنَّا نقدر إصداق الأب عنه تمليكاً، ثم نحكم بأنه ثبت صداقاً عن ملك الطفل، ولا يتأتي في هذه المسألة مثل هذا، وليس بين كون العبد ملكاً للأول وبين وقوعه صداقاً مرتبة.
ومن أصحابنا من قال: لا يرتد نصف العبد إلى السيد الأول؛ لأن الطلاق هو المشطّر، وهو يقع والعبد في ملك الثاني.
وهذا الوجه عندي في حكم الوهم والغلط الذي لا يعوّل عليه، وذلك أن العبد هو الصداق، فلو فرضنا الصداق [غيرَه،] (2) وصورنا طلاقاً، لنظرنا على وجهٍ في حالة الطلاق، فأما إذا كان هو الصداق، فلا وجه إلا النظر إلى من خرج العبد عن ملكه.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين في أن العبد إذا نكح بإذن مولاه، والتزم المهرَ في الذمة، وأدَّاه من كسبه، ثم باع مالكُ العبد العبدَ، وطلق قبل المسيس، فالصداق إلى من يرتد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرتد نصف الصداق إلى [المالك] (3) الأول، وهو الوجه.
__________
(1) كذا. والسياق مفهوم على أية حالٍ بدونها.
(2) في الأصل: غرة.
(3) زيادة لإيضاح الكلام.(13/197)
والثاني - أنه يرتد إلى الثاني؛ نظراً إلى حالة الطلاق.
فهذا -على هذا الوجه- بعيد. والترتيب الصحيح أنه إذا أدَّى المهر مما اكتسبه في ملك الأول، ثم فرض الطلاق في ملك الثاني؛ فالنصف يرتد إلى الأول؛ لأن الأكساب كانت ملكَ الأول، ومِن ملكِهِ خرجت إلى الزوجة، فأما إذا جرى النكاح في ملك الأول، ثم باعه مولاه، فاكتسب في ملك الثاني ووفَّر الصداقَ، ثم طلق قبل المسيس، فالنصف يرتد إلى الأول أو إلى الثاني؟ فعلى وجهين.
وإذا ضممنا ما ذكره الشيخ أبو علي إلى ما رتَّبه الأصحاب، انتظم من مجموعه في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها - أن نصف الصداق يرتد أبداً إلى من جرى النكاح في ملكه.
والثاني - أنه يرتد أبداً إلى من يجري الطلاق في ملكه.
والثالث - أنه يفصل، فإن اكتسب في ملك الأول وأدّى، رجع الشطر إلى الأول، وإن اكتسب في ملك الثاني وأدّى، رجع الشطر إلى الثاني.
8568- ثم فرع الأصحاب مسألة إصداق العبد رقبة نفسه، فقالوا: إن حكمنا بأن شَطرَ الرقبة يرتد إلى الأول، فلا كلام، وإن حكمنا بأن الشطر يرتد إلى الثاني؛ فلا معنى للتشطر على الحقيقة، فإنه لو تشطر، لرجع إليه، فلا معنى لتقدير خروج الشطر عن ملكه وعوده إليه؛ إذ ليس يفهم الخروج إلا مع الدخول، وهذا غير معقول في هذه المسألة، فرجع فائدة الوجه إلى أنَّ صَرْفَنا حقَ التشطرِ إلى الثاني يوجب بقاء ملكه فيما كان يرجع لو كان مستحقُ التشطيرِ غيرَه.
ثم كل ما ذكرناه في باب شطر الصداق يتحقق في جميعه إذا جرى ما يوجب رد جميع الصداق، فإذا اطلع العبد على عيب بامرأته يُثبت مثلُه الفسخَ، ففسخ النكاح، فهذا يوجب ارتداد جميع الصداق، فإن قلنا: يرتد إلى السيد الأول، فيعود العبد ملكاً له، وإن قلنا: يرتد إلى ملك السيد الثاني؛ فحكم هذا ألا يخرج العبد عن ملكه، فإنه لو خرج منه لعاد إليه.
8569- ومما يتصل بذلك، أن العبد لو عَتَقَ في هذه المسألة، وكان أعتقه السيد(13/198)
الثاني، وهو مالك الأمة، فلو طلقها قبل المسيس، وبعد نفوذ العتق، فهذا يُفَرَّعُ على ما تقدم، فإن جرينا على المذهب الصحيح، وقلنا: نصف الصداق يرجع إلى السيد الأول، فالسيد الثاني -المعتِق- يغرم نصف قيمته للسيد الأولط. وإن فرّعنا على الوجه الثاني -وهو اعتبار يوم الطلاق- فمستحق الشَّطر هذا المعتَق؛ فإنه استقل بنفسه لما عتق، فرجع بقيمة نصف نفسه على سيده الثاني في الذي أعتقه. وكل ما يتفرع في نصف الصداق يتفرع في جميعه إذا جرى ما يوجب ارتدادَ جميع الصداق.
فرع:
8570- إذا أصدق ذمي امرأته الذمية خمراً، وقبضت الخمر في الشرك، ثم أسلما، فقد ذكرنا أنه ليس لها مهر المثل بعد ما انبرمت الحالة بالقبض في الشرك. فلو استحالت الخمر التي في يدها خلاً، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يرجع عليها بشيء؛ فعلى وجهين: أحدهما - يرجع عليها بنصف الخل، وهو اختيار ابن الحداد، وذلك لأن هذه العين تلك العين، وليس انقلابها خلاً من قبيل الزيادات المتصلة.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت له الرجوع بشيء؛ فإن انقلاب الخمر خلاً أكبر في مرتبته من الزيادات المتصلة، فإذا كانت الزيادة المتصلة تمنع من الرجوع في العين، فانقلاب الخمر خلاً بذلك أولى.
ولابن الحداد أن يقول: جرى إصداق الخمر في حالة كانوا يَرَوْنها مالاً في تلك الحالة، ثم جرى الطلاق، وفي يدها مال في الإسلام، وليس كالزيادات المتصلة؛ فإن مصيرنا إلى أنها (1) تمنع تشطّر الصداق، لا يَحْرِم الزوجَ، بل المرأة تغرم له نصف القيمة.
وهذا تكَلُّف. والأصح: الوجه الآخر؛ فإنا لا نلتفت إلى ماليةٍ في الإسلام.
التفريع:
8571- إن قلنا: لا يرجع الزوج بشيء من الخلّ، فلا كلام، وإن قلنا: الزوج يرجع بنصف الخل، فلو أنها أتلفت الخل، ثم طلقها قبل المسيس؛ ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه يرجع عليها بنصف مثل الخل التالف، وهو اختيار
__________
(1) الضمير يعود على الزيادات المتصلة، كما هو واضح.(13/199)
الخِضْري، فإنه إذا ثبت الرجوع، تعين الخل عند [بقائه] (1) ، فالوجه أنه يرجع بمثله عند تلفه؛ فإنه من ذوات الأمثال.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع عليها بشيء عند تلف الخل، وهذا اختيار ابن الحداد. ووجهه أن الخل إذا تلف قبل الطلاق، [لم يصادف] (2) الزوج خلاً، ولا أصدق خلاً، ونحن نعتبر (3) حالة الإصداق والقبض (4) القبض. وهذا فيه فقه.
والأصح ما ذكره الخِضري؛ فإن الخمر لما استحالت خلاً، قدرنا كأن الصداق كان خلاً.
8572- ومما يتعلق بهذه المسألة أنه لو أصدق امرأته جلدَ ميتة في الكفر، وقبضته، ثم أسلما، ودبغته، وطلقها قبل المسيس، اختلف أصحابنا على طريقين في المسألة: فمنهم من قال: فيها وجهان كالوجهين في الخمر إذا انقلبت خلاً.
ومنهم من قال: لا يرجع في هذه الصورة، وجهاً واحداً بخلاف مسألة الخل، والفرق بينهما أن التملّك تحقق في مسألة الجلد بقصدها وفعلها، فيظهر انفرادها بالجلد المدبوغ، بخلاف الخمر تنقلب خلاً.
ثم قال الشيخ [أبو علي] (5) : إن قلنا في مسألة الجلد: إن الزوج إذا طلقها يرجع في نصفه مدبوغاً، فلو [أتلفته] (6) ، ثم طلقها، قال: يجب القطع في هذه الصورة بأنه لا يرجع بشيء عند التلف، فإن الجلد ليس له مثل، بخلاف الخل، فلا سبيل إلى المثل، ولو أثبتنا للزوج حقاً تقديراً، لتعيّن في القيمة، ثم لو قدرنا الرجوع إلى القيمة فالاعتبار بقيمة يوم الإصداق، ولم يكن للجلد يوم الإصداق قيمة.
__________
(1) في الأصل: نقله.
(2) في الأصل: " ولم يصادف ".
(3) ونحن نعتبر: أي عند الرجوع.
(4) في الأصل: " أو القبض ". والمثبت مأخوذ من عبارة النووي، إذ قال:" ... لأن الرجوع في الصداق تعتبر قيمته يوم الإصداق والقبض". (الروضة: 7/303) .
(5) الزيادة من المحقق للتعريف فقط.
(6) في الأصل: أتلفه.(13/200)
وهذا الذي ذكره حسن، ولكن الاحتمال متطرق إلى الجلد، حيث انتهى التفريع إليه؛ فإنَّا نُقَدِّر كأن الصداقَ كان جلداً (1) ، وإنما نُثبت الرجوع في نصف العين لو بقي بتأويل تقدير الصداق كذلك يوم الإصداق.
ومن بقية المسألة أنها لو باعت الخل أو الجلد أو وهبته، فهو كما لو تلف في يدها، أو [أتلفته] (2) في كل تفصيل.
ثم جميع ما ذكرناه في النصف عند فرض الطلاق قبل المسيس، يتقرر في الجميع عند تقدير ارتداد الجميع.
فرع:
8573- إذا أصدق الرجل امرأته حلياً، فكسرته، ثم أعادت صيغته، ثم طلقها قبل المسيس، فلا يخلو إما أن أعادته على صيغة أخرى، أو أعادته على تلك الصيغة بعينها، فإن أعادته على صيغة أخرى، ثم طلقها قبل المسيس، فللزوج الامتناع؛ فإن ذلك وإن كان زيادة، فقد زالت الصنعة التي كانت، فكان ما نحن فيه بمثابة زيادة من وجه ونقصان من وجه آخر.
وإن عادت تلك الصنعة الأولى بعينها، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يثبت له الرجوع بنصف الصداق؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت له الرجوع إلى نصف [الحلي؛ فإنها] (3) عادت كما كانت، فصار كما لو أصدقها عبداً سميناً، فهُزل في يدها ثم عاد سميناً، كما كان من غير زيادة، ثم فرض الطلاق قبل المسيس، وإن كان كذلك، فالأصحاب -فيما نقله الشيخ- مجمعون على أنه يرجع بنصف العبد.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع بنصف [الحلي] (4) ، وللمرأة منعه، وهذا اختيار ابن الحداد، وليست كالسمن في الصورة التي ذكرناها؛ فإن هذه الصيغة عادت باختيارها وليست كالسمن، وهذا التردد يشبه اختلاف الأصحاب في أن تحصيل هذه الآثار هل يلحقها بالأعيان، أم كيف السبيل فيها؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب التفليس.
__________
(1) كان جلداً: أي مدبوغاً.
(2) في الأصل: أتلفت.
(3) عبارة الأصل: " يثبت له الرجوع إلى نصف فإنه ". والزيادة والتعديل من المحقق.
(4) في الأصل: الإناء. ولم يسبق للإناء ذكر في هذا الفرع.(13/201)
التفريع:
8574- إن قلنا: يرجع في نصف الحلي، فلا كلام. وإن قلنا:
لا يرجع، فبماذا يرجع؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يرجع في نصف قيمة الإناء (1) غيرَ مكسور، فإن كان من ذهب، فالواجب نصفُ قيمته وَرِقاً (2) ، وإن كان من [ورقِ] (3) ، فالواجب نصفُ قيمته ذهباً.
والوجه الثاني - أنها تغرَم مثلَ [نصف] (4) تِبر الحلي وزناً بوزن، ثم تغرَم نصف أجر مثل الصائغ من نقد البلد، وهذا قد قدمنا له نظيراً في البيع، وكل ذلك والحلي مباح، أو قلنا يجوز استصناع الإناء (5) وصنعته محترمة.
8575- ثم أجرى الشيخ أبو علي (6) في أثناء المسألة كلاماًً لا يختص بفرض الصداق، فقال: إذا غصبَ الرجل إناء من ذهب وزنه ألف، وقيمتُه ألف ومائة، وفرعنا على أنَّ اتخاذ الأواني محرم، فلو كسره الغاصبُ، فرجع إلى ألف، فهل يغرَم قيمة الصنعة؟ فعلى وجهين.
وهذا غريب غير متجه؛ فإن تلك الصنعة على هذا الوجه ليست متقوّمة، وما لا يتقوَّم لا يختلف الأمر فيه بين مُتلِف وبين مُتلِف.
ولو غصب جارية مغنية قيمتها لمكان الغناء ألفان، فتلفت أو رجعت إلى ألف، ونسيت ما كانت تحسنه، فهل يضمن الغاصب ما كان في مقابلة الغناء؟ فعلى وجهين ذكرهما.
ثم زاد فقال: من اشترى جارية مغنية تساوي ألفين بسبب الغناء، وقيمة رقبتها
__________
(1) عاد يعبر عن الحلي بالإناء.
(2) ورقاً: أي فضة، وذلك حتى لا يقع في الربا ببيع الذهب بالذهب.
(3) في الأصل: " من دون ".
(4) زيادة لتصحيح العبارة.
(5) استصناع الإناء: يصح هذا إذا قلنا في أول الفرع: " إذا أصدقها حلياً أو إناءً ".
(6) ثم أجرى الشيخ أبو علي ... : الإمام ينقل عن الشيخ أبي علي في شرح الفروع لابن الحداد، فكأنه يقول: ثم أجرى الشيخ أبو علي في أثناء شرحه لهذا الفرع كلاماً لا يختص بفرض الصداق.(13/202)
ألف، فإن اشتراها بألف، فيصح البيع، وإن اشتراها بألفين فقد حكى الشيخ في ذلك اختلافاً، فحكى عن المحمودي أنه أفتى ثَمَّ ببطلان البيع؛ فإنا لو صححناه، لصار تعليم الغناء مَكْسبةً وننسبُها إلى المقابلة بمال.
قال الشيخ أبو زيد: إن قصد بشرائها والمغالاة في ثمنها غِناءها؛ فلا يصح، وإن أطلق البيع، ولم يقصد ذلك صح. وقال أبو بكر الأودَني (1) : مِن أصحابِنا مَن قال: يصح البيع على كل حال، ولا يختلف بالقصود والأغراض.
وهذا هو القياس السديد.
فرع:
8576- إذا أصدق الرجلُ امرأتَه عبداً، فرهنته، ثم إنه طلقها قبل المسيس والعبد مرهون؛ فلا يرجع في نصف العبد مرهوناً على تقدير أن تفك الرهن وتسلّم إليه نصفَ العبد، فلو قال الزوج: أصبرُ وأنتظر، فإن انفك الرهن، رجعتُ في نصف العبد، فللمرأة ألا ترضى به؛ فإنها لو رضيت، لكان الحق باقياً في ذمتها، ولو قدرنا رجوع [العبد بالانفكاك] (2) ، فذاك منتظر، ولها ألا تصبر على شغل الذمة.
ولو قالت: أصبر حتى يفكَّ الرهنُ، فللزوج ألا يصبر ويطلب حقه عاجلاً.
ولو قال الزوج: رضيت بنصف العبد، وصبرت إلى فك الرهن وأبرأتكِ عن الضمان، وأنا متربص إلى فكاك الرهن، فإن سلِم فذاك، وإن لم يسلَم وتلف العبد، فلا عليكِ، فهل عليها أن تجيبه إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - عليها أن ترضى بما رضي به.
والوجه الثاني - ليس عليها، وشبه ذلك بما لو أصدق امرأته نخلاً، فأطلعت، وطلقها قبل المسيس، فلو قال الزوج: أصبر إلى أن تُجَدَّ الثمارُ، ثم أرجع في نصف النخيل ويكون الضمان [عليّ] (3) حتى [لو] (4) تلف حقي قبل الجداد، فلا يلزمها ذلك.
__________
(1) في الأصل: الأودي. وهو تصحيف.
(2) في الأصل: رجوع العين في الثاني.
(3) في الأصل: عليك.
(4) زيادة اقتضاها السياق.(13/203)
ولو قال: أخرجتك من ضمان العين في الحال، وأنا متربص فإذا جُدَّت الثمار، رجعت في النخيل، وإن تلفت، فلا عليك، فهل يلزمها ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما.
وهذا عندي غيرُ سديد، فإنَّ الصداق إذا كان نخيلاً -كما صوره- فطريق الكلام فيه يتعلق بالسقي، ورجوع فائدته إلى الشجرة، ومثل ذلك لا يجري فيما نحن فيه؛ [وتلك] (1) المسألة أجريناها على أحسن وجه. وما ذكره الشيخ من الوجهين يُفسد نظامها. وأما مسألة الرهن، فما ذكره من الخلاف فيه، بعيد أيضاًً؛ فإنه يبعُد أن يتملك النصف وهو مرهون، فإن ما لا يصح ابتياعه لا ينقلب إلى الزوج ملكاً، وإذا بعُدَ ملكُ النصفِ، فما معنى سقوط الضمان عنها؟ فالوجه: انحصار حقه في القيمة لا غير.
8577- ومما يتعلق بهذه المسألة أنها لو أجَّرت العبد المُصْدَقَ مدةً، وطلقها الزوج، والعبد في بقية المدة، فلا سبيل إلى فسخ الإجارة بعد لزومها، فإن أراد الزوج الرجوعَ بنصف القيمة، فهو حقه. ولو قال: أصبر إلى انقضاء الإجارة، ثم أرجع في نصف العبد، وضمان ذلك إلى أن يتفق الرجوع عليك، فليس له ذلك. ولو قال: أتربصُ إلى انقضاء المدة وقد أبرأتكِ في الحال عن ضمان حصتي، فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُجاب إلى مُلتَمَسِه.
والثاني - لا يُجاب، كما ذكرناه في الرهن.
فإن قيل: هلا خرجتم ذلك على أن الدار المكراة هل تباع؟ حتى تقولوا إذا لم يصح بيعه، امتنع الرجوع في نصفه، وإن قلنا: يجوز بيع المكرَى، فيجوز منه الرجوع فيه، [إن] (2) رضي به. قلنا: كان الإمام (3) يذكر ذلك ويختاره على هذا الوجه.
__________
(1) في الأصل: فتلك.
(2) في الأصل: وإن.
(3) الإمام: يقصد والده الشيخ أبا محمد. رضي الله عنهما وعن جميع أئمتنا.(13/204)
وحقيقة هذه المسألة تبتني على الصداق إذا تشطر، حيث لا منع، فنصيب الزوج مضمون أو غير مضمون؟ وقد ذكرنا اختلاف الطرق في ذلك.
فإن قلنا: [نصيبه] (1) في يدها غير مضمون إذا لم تتعدّ ولم تمتنع، فإذا رضي الرجل برجوع نصف المكرى إليه، وجب إجابته لا محالة.
وإن قلنا: نصيب الزوج مضمون على الزوجة ما دام في يدها، فإذا قال الزوج -والصداق مكرى-: رضيت بنصفه، فإن جوزنا بيع المكرَى، وقد رضي الزوج بالنصف ولم يبرئها عن الضمان، لم يجب، وإن أبرأها عن الضمان، فهل يصح الإبراء عن الضمان؟ هذا يبتني على أن المغصوب منه إذا أبرأ الغاصب عن الضمان هل يبرأ؟ وفيه خلاف قدمته، وهو مبني على أن الإبراء عما لم يجب، [ووُجد] (2) سببُ وجوبه هل يصح؟ ثم ثمرة هذا أنَّا إن صححنا الإبراء، أجيب الزوج وإن لم نصحح الإبراء، لم يجب.
8578- ومما يتعلق بهذه المسألة أيضاًً أن المرأة لو باعت العبد المُصْدَقَ قبل الطلاق، ورجع إلى ملكها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي الرجوع إلى عين الصداق وجهان مشهوران.
ولو أصدقها عبدَه فرهنته، ثم انفك الرهن، فطلقها قبل المسيس؛ فللزوج الرجوع إلى نصف العبد، ولا حكم لطريان الرهن، وإن كنا نقول: لو صادف الزوج العبدَ مرهوناً عند الطلاق لم يرجع في نصفه، وكذلك القول في الإجارة إذا طرأت وزالت قبل الطلاق.
ولو أصدقها عبداً فدبّرته، وفرّعنا على أنه لا يرجع في نصف المدبّر، إذا صادفه الطلاقُ مدبّراً، فلو دبّرته، ثم رجعت عن التدبير؛ فالذي عليه الجريان: أنه يرجع الآن.
قال الشيخ: لو طلقها والعبد مرهون، وقلنا: يمتنع الرجوع فيه، أو كان مدبراً
__________
(1) في الأصل: نصيبها.
(2) في الأصل: ووجه.(13/205)
وحصرنا حق الزوج في نصف القيمة، فاتفق أنه لم يرجع في نصف القيمة حتى انفك الرهن، وزال التدبير؛ فلو قال الزوج: قد زالت الموانع، فلا أرضى إلاَّ بنصف [العبد] (1) ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما: أحدهما - حقه في نصف [العبد باقٍ؛ فإنّ] (2) هذه الأسباب لو زالت قبل الطلاق، لثبت حق الزوج في العبد، فكذلك إذا زالت بعده وقبل انفصال الأمر.
والوجه الثاني - أنه لا حظَ له في العبد؛ اعتباراً بحالة الطلاق. وهذا هو الصحيح.
ثم إذا أثبتنا له حقَّ الرجوع إلى العين، فالظاهر عندنا أن الأمر في ذلك إليه حتى [لو] (3) استقر على طلب نصف القيمة، كان له ذلك؛ فإن الأمر في التغايير التي تلحق الصداق تتعلق بالاختيار، وإنما يتشطر [الصداق] (4) من غير اختيار -على الأصح- إذا لم [تُقْرن] (5) حالة الطلاق بسبب من هذه الأسباب.
ويجوز أن يقال: يتعين حقه على هذا الوجه في العين إذا لم يتفق قبضُ القيمة، ويكون هذا بمثابة ما لو لم يكن مانع حالة الطلاق. فإن استبعد مستبعدٌ ذلك [فيه] (6) ، فهو ميلٌ منه إلى أنه لا حق له في العين، وهو وجهٌ منقاس؛ لأنه ملك عليها نصف القيمة، وانفصل الأمر، وهذا منتهى الاعتبار في باب الصداق.
ومن أتلف على رجل مثلياً، ولم يصادف [للمتلَف] (7) مِثلاً، فهو مطالبٌ بالقيمة، فإن لم يتفق تغريمُه القيمةَ حتى وُجد المثلُ، فيتعين المثلُ، لا خلاف فيه.
فهذه مسالك النظر.
__________
(1) في الأصل: العين.
(2) عبارة الأصل: "أحدهما - حقه في نصف العين بأن هذه الأسباب لو زالت ... إلخ " وإقامة النص بالتعديل والزيادة من عمل المحقق.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: الطلاق.
(5) في الأصل تُفرض.
(6) في الأصل: " منه ".
(7) في الأصل: المتلف.(13/206)
فرع:
8579- ذكر الشيخ في أثناء كلامه فصولاً مستفادة يتعلق بعضها بالصداق ولا يتعلق بعضها به، ونحن نأتي بالفوائد منها.
فإذا أعتق الرجلُ أَمَتَهُ في مرضه المخوف، ونكحها؛ فقد قال الأصحاب: لا ترثه العتيقةُ بالزوجية، فإنَّ إعتاقه إياها في المرض وصية، ولا يُجمع بين الوصية والميراث، والمسألة من دوائر الفقه.
8580- ولو قال لأَمَته في مرض موته: " أعتقتكِ على أن تنكحيني "، فقبلت ذلك، عَتَقت ولزمتها القيمة، ثم إذا أعتقت بقوله وقبولها والتزمت القيمةَ، فلا يلزمها الوفاء.
فلو نكحها، وجعل ما لزمها من القيمة صداقَها، وكانت القيمة معلومةً، فيصح النكاح، ثم لا يخلو إما أن تكون قيمةُ العتيقة مثلَ مهر مثلها، أو كانت قيمتُها أكثرَ من مهر مثلها، فإن كانت [قيمتُها] (1) مثلَ مهر مثلها أو أقلَّ، فيصح النكاح وترثه.
وذلك أن العتق كما (2) وقع في حقها مجاناً ألا يكون، (3) وصية، فلا دَوْر، ثم قد صَرَفَ المعتِق قيمتها إلى مهرها، وليس فيه محاباة.
فأما إذا كانت أكثرَ من مهر مثلها، وقد نكحها المعتِق على قيمتها، فقد حاباها؛ فإن مهر مثلها إذا كان خمسمائة، وقيمتها ألف، فإذا أصدقها قيمتَها، فقد حاباها، فهل ترث؟ ذكر وجهين: أحدهما - أنها لا ترثه؛ فإنه قد حاباها في قيمتها، فكأنَّ نصف العتق وقع مجاناً، فيعود الأمر إلى الوصية بالعتق. ومفهوم قول ابن الحداد يشير إلى هذا الوجه، وهو ضعيف.
والوجه الثاني - أنها ترثه، وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره؛ فإن أصل العتق وقع بعوض المثل، والمحاباة رجعت إلى القيمة، فهو كما لو نكح حرة بأكثر من مهر مثلها، فإنها ترث والمحاباة تُردّ.
__________
(1) في الأصل: قيمته.
(2) كما: بمعنى " عندما، وهو استعمالُ غير صحيح ولا عربي، كما أشرنا إلى ذلك.
(3) في الأصل: " لتكون ".(13/207)
8581- ومما أجراه في أثناء الكلام أنه تعرض لاستبدال المرأة عن الصداق، وخرجه على القولين في أن الصداق مضمون باليد أم بالعقد؟ وهذا بيّن، ثم انتهى إلى الكلام في الاستبدال عن الثمن المتلزم في الذمة، فذكر فيه قولين، وهما مشهوران.
ثم قال: لو كان الثمن دراهم معينة؛ فالأصح: أنه لا يجوز الاستبدال عنها؛ لأنها تتعين بالتعيين، ونزلت منزلة سائر الأعيان. وذكر وجهاً أنه يجوز الاستبدال عنها إذا جَوَّزنا الاستبدال عن الثمن الواقع في الذمة؛ لأن الدراهم لا تعنى لأعيانها، وإنما تعنى لنقودها وماليتها، والقصود مرعية في جواز الاستبدال ومنْعه، ولذلك منعنا الاستبدال عن المُسْلَمِ فيه وإن كان ديناً في الذمة؛ فإن جنسه مقصود في وضع العقد، كما أن الأعيان مقصودة، فإذا لم يمتنع التحاق الدين بالعين في منع الاستبدال، لم يبعد التحاق بعض الأعيان بالديون التي يجوز الاستبدال عنها.
وهذا وجه بعيد؛ من قِبَل أن الدراهم إذا حكمنا بتعيينها، فالعقد ينفسخ بتلفها، وهذا يؤذن بضعف الملك فيها، فيبعد تصحيح الاستبدال عنها.
فرع يتعلق بالصيد والإحرام:
8582- لا بد فيه من تجديد العهد ببعض ما سبق في المناسك، فنقول: المُحْرِم ممنوع من ابتياع الصيد، فلو اشترى صيداً، فمن أصحابنا من أجرى في صحة شرائه قولين: أحدهما - إنه لا يصح الشراء ولا يملك الصيد.
والثاني - يصح الشراء ويملك. وهذا يستند إلى القول في أن المُحرِم إذا كان في ملكه صيدٌ قبل الإحرام، فإذا أحرم، فهل يزول ملكه عنه؟ فعلى قولين: أحدهما - يزول ملكه بنفس إحرامه.
والثاني - لا يزول أصلاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يزول الملك بالإحرام الطارىء قولاً واحداً. ولكن هل يلزم المحرمَ إرسالُ ذلك الصيد؟ فعلى قولين.
ومما يتعلق بذلك أنَّا وإن قلنا: [يتصور] (1) من المحرم أن يتملك صيداً في الابتداء
__________
(1) في الأصل: التصوّر.(13/208)
قصداً واختياراً، فالصيد يدخل في ملكه بالطرق التي لا اختيار فيها، كالإرث، ثم يلزمه إرساله، وهذا بمثابة قطعنا القول بأن الكافر يرث العبد [المسلم] (1) .
قال الشيخ: إذا قلنا: إن طروء الإحرام يزيل الملك عن الصيد، فلا يبعد على ذلك أن نقول: الإحرام يمنع حصول الملك بجهة الإرث؛ فإنه إذا قطع الملك المستدام، يجوز أن يمنع حصول الملك بجهة الإرث.
فهذا شيء ذكره من تلقاء نفسه، والمذهب الذي صار إليه الأصحاب أن الإحرام لا يمنع حصول الملك القهري؛ فإنه يبعد أن يرث شيئاً ولا يرثَ شيئاً، ثم يدخل في ملكه فيزول إن فرعنا على أن الإحرام يقطع دوام الملك.
ومما ذكره في مقدمة المسألة: التعرضُ للخلاف المشهور في أن رجوع نصف الصداق إلى الزوج هل يتوقف على اختياره؟ وهذا مما ذكرناه.
8583- ثم قال: إذا ارتدت المرأة قبل المسيس، اقتضى ذلك ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، ولا أثر للاختيار في ذلك وجهاً واحداً، وكذلك كل نكاح ينفسخ، ويجب من انفساخه ارتدادُ جميع الصداق، فلا أثر للاختيار. وهذا الذي ذكره حكايةٌ، وهو موثوق به فيما يحكيه. والفرق بين الطلاق وبين الفسخ، أن الفسخ بطباعه يقتضي ردَّ العوض، بخلاف الطلاق؛ فإنه تصرُّفٌ في العقد وليس فسخاً له.
وإذا ارتد الزوج، فارتداده يوجب تشطّر الصداق، والذي أراه أن الوجه الضعيف في اشتراط اختيار التمليك، يجري في النصف الذي يرتد إلى الزوج بردته؛ فإن ردة الزوج قبل المسيس، تنزل منزلة الطلاق، فهذا ما أردناه في ذلك.
8584- ثم نعود إلى فرع ابن الحداد، وقد ذكر صورتين: إحداهما - أن الرجل إذا أصدق امرأته صيداً، ثم أحرم الزوج، وارتدت المرأة قبل المسيس، فيرتد الصداق إلى ملك الزوج مع إحرامه؛ فإن هذا ملك ضروري، فكان بمثابة الإرث. وكذلك لو
__________
(1) في الأصل: الملى. (كذا) وما أثبتناه هو الموافق لحكم المسألة في مواطنها. والمعنى هنا: أن المحرم يتملك الصيد قهراً بالإرث ثم يلزمه إرساله، مثل الكافر الذي يتملك العبد المسلم بالإرث ثم يلزمه إرساله بالبيع.(13/209)
كان باع صيداً وهو مُحِلٌّ، ثم أحرم، فرُدّ عليه الصيدُ بالعيب؛ فإنه يدخل في ملكه، ثم يتعين عليه إرساله، فإن أرسله، فلا كلام. وإن بقي في يده حتى أحل، فهل يجب الإرسال في هذه الصورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب، وفاءً بما تقدم.
والثاني - لا يجب، ويكون بمثابة الكافر إذا أسلم عبده وألزمناه بيعه، فلم يبعه حتى أسلم، فلا يلزمه الآن بيعه.
ويترتب على هذا أنَّا إذا قضينا بأن الإحرام يقطع دوام ملك المحرم عن الصيد، فإذا اضطررنا إلى الحكم بارتداد الصيد إليه، فهل نقول: يرتد إليه ملكاً ويزول؛ تفريعاً على هذا الوجه، كما يرث الصيد ثم يزول ملكه؟ والظاهر: أنَّا نقول بهذا إذا فرعنا على زوال الملك، ولكن هذا القول ضعيفٌ. والتفريع على الضعيف يتخبط.
فأما (1) إذا طلق الزوج المحرم زوجته قبل المسيس والصيد في يدها، فإن قلنا: النصف من الصداق لا يرتد إلى المطلق إلا [باختيار] (2) التملك، فليس له اختيار التملك، فإذا امتنع الاختيار بسبب الإحرام، فله أن يغرِّمها نصفَ القيمة، وليس لها أن تقول: لا أغرم لك شيئاً، فإنك أُتيتَ من جهة نفسك هكذا.
وفي المسألة أدنى احتمال.
وإن قلنا: لا حاجة إلى الاختيار والطلاق مشطِّر بنفسه، فعلى هذا، إذا طلقها وهو محرم، فإن قلنا: لو اشترى صيداً ملكه، فإذا طلق، مَلَكَ نصفَ الصداق. وإن قلنا: لو اشترى لم يملك، فإذا طلق، فهل يملك نصف الصيد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يملك؛ لأنه اختار الطلاق (3) ، فأشبه ما لو اختار الشراء.
والثاني - يملك؛ لأنه ما اختار التملك.
__________
(1) هذه هي الصورة الثانية التي تقع قسيماً للصورة التي ترتد فيها الزوجة، وفد ذكرناها آنفاً.
(2) في الأصل: باعتبار.
(3) لأنه اختار الطلاق: المعنى أنه بإيقاعه الطلاق، والطلاق مشطّرٌ بنفسه، فكان كأنه أوقع الشراء والتفريع على أنه لا يملك الصيد بالشراء.
والوجه الثاني - يملك نصف الصداق، لأن إيقاعه الطلاق ليس اختياراً لتملك نصف الصداق (الذي هو الصيد) وإنما دخل نصف الصداق في ملكه قهراً.=(13/210)
وقد مضى معظم ذلك في كتاب الحج.
8585- ثم يتصل بذلك أنه إذا طلقها قبل المسيس وقلنا: يرتد إليه نصف الصيد، فموجب ذلك أن يتعين الإرسال عليه، ولكن إرساله عَسِرٌ؛ إذ ليس جميع الصيد عائداً إلى المُحرم، وإرسالُ البعض غيرُ ممكن. فإن لم يرسله حتى تلف في يده- والإحرام مستدام بعدُ؛ يضمن نصف الجزاء، وإن أرسله، فقد برىء عن الجزاء عند تقدير التلف، ولكنه يغرَم نصف القيمة للمالك (1) ، وهو الذي ورّط نفسه في هذا التضييق.
ويتعارض في هذه المسألة أمران متناقضان؛ فإنَّا لو قلنا: يجوز إرسال الصيد، كان ذلك تسليطاً على تفويت ملك الغير، وإن قلنا: ليس له إرساله، كان ذلك إذناً للمحرم في إمساك الصيد، والجمع بين الأمرين مستحيل.
ولو قال قائل: أوجبوا الإرسال، وضمِّنوه قيمة نصيب الشريك، وقد يجوز إخراج مال الغير في مظان الضرورات ومسيس الحاجات.
هذا خرَّجه بعض الحذاق على الاختلاف المعروف في أنه إذا اجتمع حقّ الله تعالى وحق الآدمي في أمرٍ مالي، فكيف الوجه فيه؟ فمن رأى تقديم حق الله تعالى، لم يُبعد أن يوجب الإرسالَ في هذه الصورة والتغريمَ.
ومن رأى تقديم حق الآدمي لم يُبعد أن يحرِّم الإرسال ويُلزمه إدامةَ اليد إلى الرد فيكون هذا صيداً يجب على المُحْرِم إمساكه.
ومن لم ير تقديمَ حق الله تعالى ولا تقديم حق الآدمي، فليس ينقدح على هذا إلاَّ أن يتخير في الإمساك والإرسال، فإن أرسل عُزِّر وغُرِّم، وإن أمسك عُزِّر، وإذا أتلف، لزمه الجزاء.
8586- وقد تَعْرِض عند ذلك مسألة أجريناها في الأصول (2) ، وهي: أنه لو اتفق وقوع إنسان على صدرِ مريضٍ بين مرضى، وعلم أنه لو استقر على من وقع عليه،
__________
(1) للمالك: المراد هنا الزوجة التي طلقها، حيث كان الصداق (الصيد) في ملكها.
(2) ر. البرهان في أصول الفقه: 2/فقرة: 1527-1534.(13/211)
لمات ذلك المريض، ولو انتقل منه، لهلك من ينتقل إليه، فالذي اخترناه أن هذه واقعة لا نُثبت فيها حكماً بنفيٍ ولا إثبات، فإنا كيف نفرض الأمر نقع في تجويز قتلٍ محظور، وإهلاكِ ذي روح محترم. والمصيرُ إلى إخلاء واقعةٍ خطيرة عن حكم الله تعالى في الشرع ليس بالهيِّن.
فليس يبعد عندنا أن يقال بنفي الحرج عنه فيما يفعل، وهذا حكمٌ. ولا يبعد أيضاًً أن يقال: انتقالك ابتداءً فعلٌ منك، واستقرارك في حكم استدامة ما وقع من سقوطك ضرورياً، وقد يتجه ذلك بأن الانتقال إنما يجب في مثل ذلك إذا كان ممكناً، ولو امتنع، فإيجابه محال، والممتنع شرعاً كالممتنع حِسَّاً وطبعاً، ولئن عظم وقع الكلام فيما يتعلق بالدماء، فالتخيير ليس بدعاً في الأموال، وما يتعلق بجزاء الصيد؛ فإنا قد نبيح الصيدَ للمحرم، وقد نبيح للإنسان مالَ غيره.
ولو وقع بين أوانٍ فلابد من انكسار بعضها، أقام أو انتقل، فيتعين في هذه الصورة القول بالتخيير.
فرع:
8587- يتعلق بضمان الأب مهر زوجة الابن.
وهذا قد أجريته فيما تمهد من الأصول، ولكن رأيت للشيخ تصرفاً فلم أجد بداً من الإعادة، وإن مست الحاجة إلى تكرير، فلا مبالاة به.
المنصوص للشافعي في الجديد: أن الأب إذا قبل لابنه الصغير نكاح امرأة، فلا يصير ضامناً للمهر بنفس النكاح، فإن ضمنه، صار ضامناً، كما يضمن سائر الديون اللازمة، فيلتزمها، ثم إذا ضمن وغرم، فهل يرجع بما غرم؟
قال الشيخ: إنْ قَيَّد ضمانَه بشرط الرجوع، ولَفَظَ ذلك صريحاً، فيملك الرجوع إذا غرم. وإن لم يشترط الرجوع، لم يضمن. واكتفى بعض المحققين بقصد الرجوع منه والنيةِ من غير لفظ، وهذا المسلك أفقه وأليق؛ وقد ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه يُكتفى بأحد شِقَّي البيع، فإذا كان يسقط التلفظ بأحد شِقَّي العقد، لم يبعد أن يسقط التلفظ بشرط الرجوع. ويمكن أن يُبنى ما ذكر الشيخ من اشتراط اللفظ وما اكتفى به غيره من النية والقصد؛ على الاختلاف الذي قدمناه في أنَّا هل نكتفي بأحد شِقَّي العقد أم لا؟ هذا تفريع على القول الجديد.(13/212)
وللشافعي قول في القديم أن الأب يصير ضامناً للمهر بنفس العقد، وإن لم يُصرح بالضمان، فإذا فرعنا على ذلك وغرم الأبُ ما ضمنه، قال الشيخ: لا يرجع به، وقد حكيت فيما تقدم مثل هذا من أجوبة القاضي، وقد شبهنا غرامته المهر بما تلتزمه العاقلة من أُروش الجنايات؛ فإنهم لا [يرجعون] (1) به على الجاني خطأً.
وقد قدمت أن إثبات الرجوع متجه، والقياس على تحمل [العقل] (2) بعيد.
وقد قدمنا في ذلك أوجهاً، ونحن نضم إليها مزيدَ بيانٍ، فنقول: لم يختلف العلماء في أن الصبي إذا بلغ، طولب بالمهر، والقاتل خطأً لا يطالب بأرش الجناية مع العاقلة، وإذا أبرأ مستحق الأرش القاتلَ، لم يكن لهذا الإبراء معنى، والمرأة إذا أبرأت زوجها الصغير عن الصداق، صح إبراؤها، وفيما قدمته قبلُ مزيد كشف.
8588- ثم من لطيف الكلام أن الأب إذا ضمن -على القول الجديد- ولم نُثبت له حق الرجوع، فإذا توجهت الطلبة عليه عن جهة ضمانه؛ فله أن يؤدي المهر من مال الطفل، فيكفيه ذلك غُرمَ الضمان. ولو قال المطالب: لست أوجه الطلب عليك من جهة الطفل، وإنما أطالبك بموجب التزامك وضمانك، فهذا لا حاصل له، فإن مقصوده الوصول إلى الدين.
ولو قال: أجزتُ مالي على الطفل، لم يتأت منه مع ذلك توجيه الطلب على الضامن في هذا المقام؛ فإن الضامن يقول: إذا كنت تطالبني، فلي غرضٌ ظاهر في تأدية الدين من مال الطفل. ولو طالب الأبَ بحكم الضمان مع إبراء الابن، اعتباراً بالعاقلة التي وقع الاستشهاد بها، فهذا محالٌ عندنا، فإن الطفل في مرتبة الأصيل، والأب في مرتبة الكفيل، فيستحيل إخراج الأمر عن حقيقة الضمان.
فرع:
8589- مشتملٌ على مسألةٍ دائرة فقهية سبقت في النكاح، ولكنا نُعيدها لدقيقةٍ مستفادة. فنقول: إذا أذِن السيد لعبده حتى نكح حرةً بمهرٍ، والتزم السيد ذلك المهرَ، إمَّا بصريح الضمان على الجديد، وإمَّا بحكم الإذن في العقد- على القديم،
__________
(1) في الأصل: يرفعون.
(2) في الأصل: العقد.(13/213)
ثم إنَّ الحرة اشترت زوجها من مولاه بالمهر، فالبيع مردود؛ فإنه لو صح، لانفسخ العقد، وإذا انفسخ قبل المسيس، ترتب عليه سقوطُ المهر، [وإذا سقط] (1) المهر -وهو الثمن- بطل البيع لعُروّه عن الثمن. ولو فرضت المسألة بعد المسيس، فهي مسألة الرؤيا، وفيها [تصرفٌ للقفال] (2) ، فلا حاجة إلى الإعادة.
وقد ذكر الشيخ أبو علي في هذا المنتهى كلاماًً هو الذي حملنا على رسم الفرع وإعادة ما فيه، وذلك أنه قال: إنما ذكر القفال ما ذكره بعد المسيس؛ لأنها إذا ملكت زوجها، سقط ما على العبد لها؛ فإنها مالكة، والمالك لا يستحق على مملوكه ديناً. قال: وهذا فيه نظر، فإنَّ المهر جُعِلَ ثمناً، وملك رقبة العبد لا يحصل إلا بإزاء سقوط المهر لأجل الثمنية. ثم إذا سقط المهر بهذا السبب -وهو مقتضى المعاوضة- فكيف يقال بعد ذلك: إذا ملكته، سقط بالملك عنه؟ ثم يسقط عن السيد كما يسقط الدَّين عن الكفيل ببراءة الأصيل؟ هذا قول الشيخ واستدراكُه.
8590- وفي المسألة نظرٌ دقيقٌ، فنقول: ما ذكره القفال وجلّى فيه رؤياه، ثم مراجعته المشايخ وتقريرهم إياه يُخرَّج على قاعدةٍ سنصفها، فنقول: اختلف أئمتنا في أنَّ من ملكَ دَيْناً على مملوك لغيره، ثم ملك ذلك المملوك، فهل يسقط الدين [سقوط] (3) انبتات؛ حتى إذا عَتَق، لم يطالبه المولى، أم يبقى الدين في ذمته وتسقط الطلبة في الحال، لتحقق إعسار العبد في حق المولى؟ فإنَّ ما يؤدي العبد الديونَ [منه] (4) في ديون المعاملات الكسبُ، وهو ملك المولى، وفائدة بقاء الدين في ذمته أنه إذا أعتق، طالبه إذ ذاك.
فنعود ونقول: المهر لا يسقط بعد المسيس. هذا ما عليه التفريع، فإذا كان المهر لا يسقط بحكم النكاح، فالمرأة إذا ملكت زوجها، فهل تستحق عليه الدين أم يسقط؟ قال القفال: إن قلنا: لا يسقط، فالمسألة لا تدور والبيع يصح، ولئن
__________
(1) في الأصل: وأسقط المهر.
(2) في الأصل: تصرف القفال.
(3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: منها.(13/214)
تعذّرت مطالبة المملوك لإعساره، فلا تعذر في مطالبة الضامن.
وإن قلنا: يسقط الدين عن المملوك بطريان ملكِ مستحِق الدين على رقبته، قال: فالمسألة تدور؛ فإن المهر يسقط بعلة طريان الملك وإن لم يسقط بعلةٍ في النكاح من فسخ أو انفساخ، فإذا كان الدين يسقط، فالمسألة تدور، وإن خالفت عِلَّةُ الإسقاط بعد المسيس عِلَّته قبل المسيس.
وقد حكينا استدراكَ الشيخ أبي علي.
وللمذهبين عندي وجهان إذا ذكرناهما، بان بهما حقيقةُ المسألة فنقول: إذا فرعنا على أن الدين يسقط بطريان الملك، فله مسلكان: أحدهما - أن يسقط الدين بملك الرقبة، كما ينسفخ النكاح بملك الزوج أو الزوجة، هذا وجه.
والوجه الثاني - أن يملك الدينَ على العبد، ثم يسقط، كما يملك من يشتري أباه الأبَ، ثم يعتِق عليه، فإن جعلنا نفسَ ملك الرقبة مسقطاً للدين، فمعناه أنه لا [يضادّه] (1) بل يعاقبه معاقبةَ الضد، فعلى هذا تدور المسألة، كما قال القفال؛ فإنَّ الملك وسقوطَ الديْن بعِلَّتِه، ووقوعَ الثمن، يُفرض على اقترانٍ ليس [فيه] (2) تقدم ولا [تأخّر] (3) ، فيلزم من هذا ما ذكره القفال.
وإن قلنا: من طرأ ملكُه يملك الدين ويسقط- كما ذكرناه في شراء القريب، فيتجه على هذا ما قاله الشيخ؛ فإن الدين إنما يسقط بتقدير ملك الدين وتعقيب السقوط إياه، فإذا صار الدين مستغرقاً بالثمنية، لم يسقط بالملك؛ لأنه لا يدخل في الملك مع الرقبة، حتى إذا دخل سقط.
فإن قيل: هل يتوجه تصرفُ الشيخ قبل المسيس؟ قلنا: لا، فإنَّ المهر يسقط قبل المسيس -على القول الأصح- بالفسخ الواقع قبل المسيس، ولا ينتظم فيه ما تكلفناه بعد المسيس للشيخ أبي علي من تقدير ملك الدين وترتُّبِ السقوط عليه.
والذي يوضح ذلك أنَّ استيعاب المهر مع جريان الفسخ المسقط للمهر محال،
__________
(1) في الأصل: يضامّه. والمثبت من (صفوة المذهب) .
(2) في الأصل: فيها.
(3) في الأصل: تأخير.(13/215)
ولهذا نص الشافعي على قول التفريق فيه إذا اختلعت المرأةُ نفسها بصداقها قبل المسيس؛ فإنَّ نفس الاختلاع يوجب التشطير، ولا يثبت العوض إلا على ما يقتضيه الخلع من التشطير، وهذا بَيِّنٌ.
8591- ثم ذكر الشيخُ مسألةً فرضها، وصور [الدَّوْرَ] (1) فيها، ونحن نذكرها على وجهها، فنقول: إذا سلَّمَ السيدُ ديناراً إلى عبده، وأذن له أن يتزوج به حرةً، فإذا تزوجها [بذلك الدينار] (2) ، وسلمه إليها، ثم إن السيد باع ذلك العبدَ من زوجته بذلك الدينار الذي قبضته صداقاً، وهي غيرُ ممسوسة، قال: لا يصح البيع للدَّوْر، وتدور المسألة، لمكان وقوع الفسخ قبل المسيس.
وذكر هذه المسألة بعد المسيس، وأجرى فيها (3) جوابَي القفال في مسألة الرؤيا.
وهذا فيه نظر بيِّن، فإذا وقع البيع بعد المسيس، فيجب القطع بصحة البيع، فإنَّ ما قدمناه في دينٍ في ذمة العبد يسقط على تقديرٍ قدمتُه، وإذا كان المهر عيناً، وقد ملكتْه قطعاً، واستقر ملكها فيه، فطريان الملك على الرقبة كيف يؤثر!؟
وهذا أراه وهماً وغلطاً (4) ؛ فإنَّ القفال بنى كلامَه على سقوط الدين عن ذمة العبد، ثم على سقوطه عن ذمة السيد؛ من حيث كان العبدُ أصيلاً والسيدُ كفيلاً، وشيء من هذا لا يُتخيل في الصداق المعين.
فرع:
8592- يشتمل على مُعادٍ وزوائدَ مستفادة.
إذا أذِن السيد لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، ففي متعلّق المهر اختلافٌ مشهور، ولو نكح بغير إذن سيده نكاح شبهة، فوطىء، ففي متعلق المهر اختلافُ أقوال أيضاً: أحدها- إنه يتعلق برقبة العبد. والثاني - يتعلق بذمته، فإن النكاح لم يجر بإذن السيد، فلم يتعلق المهر بكسبه، فرجع ظاهر ما ذكره الأصحاب إلى قولين وسيتبين قولٌ ثالث مفصِّل.
__________
(1) في الأصل: " الديون".
(2) في الأصل: بغير ذلك الدينار.
(3) عبارة الأصل: وأجرى القفال فيها جوابي القفال.
(4) في الأصل: وهما غلطا.(13/216)
قال ابن الحداد: وإن نكح حرةً بإذنها أو نكح أَمَةً بإذن سيدها، لم يتعلق المهر بالرقبة، وإن نكح امرأةً بغير إذن سيدها ووطئها، فيتعلق المهر بالرقبة في هذه الصورة.
فمِنْ أصحابنا مَن وافقه على تفصيله. فيقول: إن نكح أمةً بغير إذن سيدها، فيجب القطع بأن المهر يتعلق بالرقبة إذا وطىء، وإن كان بإذن السيد أو كان ذلك مع حرة، فيتردد القول في متعلق المهر. ومن أصحابنا من قال: إذا نكح أمةً بغير إذن سيدها ووطئها؛ فلا نقطع بتعلق المهر بالرقبة، بل نخرِّج المسألةَ على الاختلاف؛ فإن لرضا الأمة تأثيراً في الجملة، وإن لم يأذن السيد، والدليل عليه: أن الأَمَةَ إذا طاوعت على الزنا، فلا مهر لها على أحد الوجهين.
فينتظم في متعلق المهر أقوال: أحدها - إنه يتعلق بالرقبة من غير فصل.
والثاني - إنه لا يتعلق بالرقبة من غير فصل.
والثالث - إنه يفصل بين الحرة وبين الأمة تنكح من غير إذن سيدها.
فرع:
8593- إذا نكح الرجلُ أَمَةً نكاحاً فاسداً ووطئها، فعليه مهر مثلها، ثم يعتبر مهر مثلها بوقت الوطء دون العقد؛ فإنَّ العقد لم يُفد ملك البضع، بل لغا وفسد، فلا حكم له، وليس ذلك كنكاح المفوضة. [فإن] (1) لم نوجب بنفس العقد مهراً، ثم أوجبناه عند الوطء، فقد نعتبر في مقدار مهر المثل كمالَها يوم العقد، وذلك أن النكاحَ ملَّك البضع وأفضى إلى استيفائه، فكان اعتبارُ وقته محمولاً على كونه مملِّكاً للبضع، مفضياً إلى التسليط على الوطء، وهذا المعنى لا يتحقق في النكاح الفاسد.
ثم إذا وطىء الرجل المرأة في نكاح فاسد مراراً مع اتحاد الشبهة، فلا يلتزم إلا مهراً واحداً إجماعاً، ولو وطئها مع اتحاد الشبهة، وهي هزيلة ومهر مثلها خمسمائة، ثم حسنت، فوطئها مرة أخرى -والشبهة واحدة- ومهر مثلها ألف، فيلتزم الواطىء أكثرَ المهرين؛ فإنَّا نُقَدّر كأنَّ الوطء الأول لم يكن.
__________
(1) في الأصل: فإنا.(13/217)
والذي يحقق ذلك أن الحدود على الاندراج والتداخل، وهي مبنية على الاندفاع، فلو زنا عبدٌ في رِقِّهِ، ولم نُقم عليه الحد، فَعَتَقَ، [وزنا] (1) في الحرية، فإنا نقيم عليه حدَّ الأحرار.
فإن قيل: الأب إذا وطىء جاريةَ ابنهِ مراراً، فالشبهة واحدة، وهي حق الإعفاف، فيتحد المهر أم يتعدد؟ قلنا: ذكر الإمام (2) وجهين في ذلك، والمسألة محتملة لترددها بين وطء الشبهة وبين إتلاف المتقومات المتعددة. ويجب القطع بأنَّ الغاصب إذا وطىء الجاريةَ المغصوبة قهراً مراراً، يلزمه بكل وطأة مهر جديد؛ فإنَّ ذلك إتلاف محض، وليس فيه تخيل شبهة شاملة تتصف بالاتحاد.
فصل
8594- إذا زَوَّجَ الرجلُ أَمَتَهُ بصداق معلوم، ثم باعها، أو أعتقها، فالمهر بكماله للسيد المزَوِّج؛ سواء اتفق الوطء في ملكه، أو اتفق بعد زوال ملكه، وهذا إجماع.
ولو أَجَّرَ عبدَهُ سنةً، فمضى نصف المدة، فأعتقه؛ يجب الوفاء بالإجارة في بقية المدة، ثم هل يرجع بأجر مثل نفسه بعد العتق على سيده في بقية المدة؟ فعلى وجهين.
ولا خلاف في النكاح أنَّ الأمة وإن بقيت في النكاح بعد العتق، فلا مرجع لها على سيدها، بل جميع المهر للسيد. ثم إذا باعها السيد، فليس للمشتري أن يحبسها حتى يتوفر الصداق على البائع. وهذا محال تخيله. وكذلك لو أعتقها، فليس لها أن تحبس نفسها، فلو زوّج أمة مفوِّضة، ثم باعها، فإن جرى فرض المهر وهي ملك الأول، فالمهر للأول، وإن جرى الفرض في ملك المشتري، فهذا يبتني على أن مهر المفوضة يجب بالعقد أم لا؟ وقد تمهد هذا فيما مضى.
__________
(1) في الأصل: وزوى.
(2) " الإمام " يعني والده.(13/218)
فرع:
8595- إذا اختلف الزوجان في الصداق، فزعم الزوج أنه أصدقها هذا العبد، فأنكرته، وقالت: بل أصدقتني هذه الجارية؛ فالمذهب: أنهما يتحالفان؛ فإنهما اتفقا على مقابل المهر -وهو البضع- فكان اختلافهما في العوض موجباً للتحالف، وذكر الشيخ وجهاً ضعيفاً أنهما لا يتحالفان؛ فإن الصداق في حكم عقد مفرد عن النكاح، والنكاح على جانب منه، ولذلك لا يرتد برده ولا يفسد بفساده.
ثم [إذا] (1) اختلفا في الصداق نفياً وإثباتاً، فلم تجتمع دعواهما على شيء، فكان كما لو قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم، وقال المشتري: لا، بل اشتريت منك هذه الجارية بمائة دينار، فلا تحالف والحالة هذه، بل كل واحد منهما منفرد بدعوى لا تعلق لها بدعوى الثاني، فالوجه أن نفصل كل خصومة بطريقِ فَصْلها.
والصحيح أنهما يتحالفان.
وقد ذكرنا صور التحالف في كتاب البيع، ونحن نقتصر هاهنا على مقدار غرضنا في الصداق.
8596- فإذا تبين أصلُ الاختلاف، وظهر أن المذهب التحالفُ، فنفرض مسألة ذكرها ابن الحداد، ونخرّجُها على القاعدة.
فإذا كان في ملك الرجلِ أُمّ امرأة وأبوها، فنكحها وأصدقها أحدهما، ثم اختلفا، فقال الزوج: أصدقتُكِ أباكِ، وقالت هي: بل أصدقتني أُمي، فالمشهور أنهما يتحالفان، وفيه الوجه البعيد أنهما لا يتحالفان.
فنفرع ونقول: إنْ قلنا: يتحالفان، فإن حلفا جميعاً، استحقت المرأة مهر المثل ورَقَّت أمُّها التي ادعت عتْقَها بالإصداق، وأما أبوها فقد عَتَق بإقرار الزوج، ولا نجد بقيمته مرجعاً عليها؛ فإنها مُنكرة، وولاء الأب موقوف؛ من جهة أنه لا يدعيه أحد، هذا إذا تحالفا.
فأما إذا حلف الزوج على ما ادعاه وعرضنا اليمين على المرأة، فنكلت، فترق الأم
__________
(1) زيادة من المحقق، لاستقامة الكلام.(13/219)
كما ذكرنا، ويثبت أن الأب صداقٌ، ويعتِق بهذا الحكم، ولا مهر لها سواه، والولاء موقوف أيضاًً؛ لأنها منكرة.
وبمثلها لو قال: أصدقتُكِ أباك ونصفَ أمك، وقالت هي: بل أصدقتني أبي وأمي جميعاً، فإن تحالفا، عَتَقَ الأب ونصفُ الأم، فإن كانت موسرة، فيعتق الأب وتمامُ الأم. وإن كانت معسرة، فيعتق الأبُ ونصفُ الأم، ولها مهر مثلها في الصورتين، وعليها قيمة أبويها إن كانت موسرةً، وإن كانت معسرة فقيمة الأب ونصف قيمة الأم، ثم يقع التقاصّ في أطراف المسألة، وكيفما دارت المسألة، فلها مهر مثلها عند التحالف؛ لانفساخ الصداق.
وإن حلفت هي، ونكل الزوج عَتَق الأبوان، وإن كانت معسرة؛ فإنه ثبت الصداق على موجَب [قولها] (1) ، ولم ينفسخ، وليس لها مهر المثل؛ فإنها استوفت حقها.
وإن حلف هو ونكلت، عتق أبوها ونصفُ أمها إن كانت معسرة، وليس لها مهر المثل؛ إذا (2) ثبتت بيمينه جملةُ المقصود. وإن كانت موسرة، عتقا، ولا مهر لها، ويرجع عليها بنصف قيمة الأم؛ لمكان السراية، وقد ثبت عليها دعوى الزوج، فيثبت موجبها.
هذا كله تفريع على ظاهر المذهب، وهو أنهما يتحالفان.
8597- وإن فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه الشيخ في أنهما [لا] (3) يتحالفان، فقد قال: إذا ادعت المرأة أن أمَّها صداقُها، وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف رقَّت، وأما الأب؛ فإنه حرٌ بإقراره، ثم قال: لا حلف عليها، ولها مهر مثلها في هذه الصورة.
وعلَّل بأن الزوج إذا اعترف بعتق الأب، فلا يتجه منه أن يدعي (4) على الزوجة،
__________
(1) في الأصل: على موجَب ولها.
(2) إذا: هنا بمعنى (إذ) وهو استعمال فصيح، بينا صحته مراراً.
(3) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) أي ليس قوله: أصدقتك أباك دعوى عليها، بل هو دعوى لها.(13/220)
أي (1) أصدقتك هذا فاستحققتيه، ولسنا نفرع على قول التحالف حتى يتعرض كل واحد منهما للنفي والإثبات، بل نميز الدعوى عن الدعوى، ولا تكاد تصح صيغة في الدعوى للزوج؛ فإنه إذا كان ادعى أنك استحققتيه، [كان هذا] (2) دعوى لها لا دعوى عليها، وإن ادعى عليها أنك لا تستحقين مهر المثل، كان هذا جواب من يدعي عليه، لا ابتداء دعوى؛ فإن المرأة إذا ادعت حقها؛ فالقول قوله في أنه لا حق لك، فإذا انحسم سبيل دعواه عليها -والنكاح ليس عارياً عن المهر بالاتفاق- فلا وجه إلا الرجوع إلى مهر المثل.
وهذا الذي ذكره مشكل؛ فإن الصداق ليس ينفسخ إذا كانا لا يتحالفان، فيبعد أن نُثبت لها بطريق الدعوى عليه مهرَ المثل، فليقل الزوج: صداقكِ هذا لا مهرُ المثل.
والمسألة محتملة جداً.
فرع:
8598- ذكر صاحب التقريب أنَّا إذا حكمنا بأنَّ الصداق مضمون باليد، وقلنا: إنه مضمون على الزوج ضمانَ غصب، فلو وجدت به عيباً، فالمذهب: أن لها الردُّ، وإن كان من حكم المضمون بالغصب ألا يُردَّ [بالعيب، فإن] (3) من غَصب عبداً وتعيّب في يده، فالغاصب يرده معيباً، ويضمُّ إليه أرشَ العيب.
قال صاحب التقريب: قد ذهب بعض أصحابنا إلى أنا إذا جعلناه بمنزلة المغصوب؛ فإذا حدث به عيب في يد الزوج، فليس للزوجة خيار الرد، قياساً على الغصب، ولكن لها أرش العيب بالغاً ما بلغ، قال: ويُحكى ذلك عن أبي حفص الوكيل (4) من أصحابنا.
__________
(1) أي أصدقتك هذا فاستحققتيه: هذا تفسير لقوله: أصدقتك أباك.
(2) في الأصل: هذا كان.
(3) زيادة اقتضاها السياق، وهي نفس عبارة (صفوة المذهب) .
(4) أبو حفص الوكيل، عمر بن عبد الله، أبو حفص بن الوكيل الباب شامي، الإمام الكبير، من الأئمة أصحاب الوجوه، من نظراء أبي العباس، وأصحاب الأنماطي، ذكره ابن قاضي شهبة في الطبقة الثالثة، وهم الذين كانوا في العشرين الأولى من المائة الرابعة، وقال: إنه توفي بعد العشر وثلثمائة. (ر. طبقات السبكي: 3/470، وطبقات العبادي: 71، وطبقات الشيرازي: 110، وطبقات الإسنوي: 2/538) .(13/221)
وهذا وإن كان متجهاً في القياس، فهو بعيد في الحكاية.
وإذا قال قائل بهذا الوجه، لزمه طردُه على قولنا: إنه يُضمن باليد، ولكن لا يُضمن ضمانَ الغصب، وإن صح هذا مذهباً يفرَّع على مثله، فما ذكرناه في العيب المتجدد في يد الزوج.
فأما إذا فرض اطلاعٌ على عيب قديم كان قبل الإصداق، فتغريم الزوج أرشَ العيب بعيد، وإلزام المرأة الرضا بالظلامة بعيد أيضاً، فليتأمل الناظر ذلك. ولا اعتداد على الجملة بما ذكره، وأصلُ (1) المذهب ما قدمناه.
وذكر الشيخ -والدي- أبو محمد في الرد بالعيب طريقةً غريبة، فقال: الرد بالعيب يجري لا محالة، ولكن إذا ردت المرأة الصداق؛ فمن أصحابنا من قال: الرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنَّ الصداق ينفسخ بالرد، ونحن إنما نُثبت قيمةَ الصداق إذا تلف في يد الزوج؛ بناءً على أن عقد الصداق قائم، فإذا فُسخ الصداق بالرد، لم يبق متعلَّق.
وهذا لا بأس به، ولكن يُفسده اتفاقُ الأصحاب على إجراء القولين إذا كان الصداق حُرّاَ، أو تبين مستحَقاً، فردّ الصداق لا يزيد على اقتران المفسد، فالتعويل إذن على ما قدمناه.
فرع:
8599ـ ذكر صاحب التقريب في التفريع على أن عفو الولي عن المهر نافذ، أنا نشترط أن يقع العفو بعد الطلاق. وهذا قد تقدم ذكره، فلو جعل الولي المهرَ بدل الخلع، قال: في المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن الشرط إنشاء العفو بعد الطلاق، كما قدمنا تعليله.
والثاني - يجوز؛ فإنه وقع مقارناً للطلاق، فالواقع معه كالواقع بعده.
فرع:
8599 م- ذكر بعض المصنفين أن من جمع بين نكاح وبيعٍ صفقة واحدة، ففي صحة النكاح قولان، وهذا مدخول. والوجه: القطع بصحة النكاح، والتردد
__________
(1) في الأصل: " أصل المذهب ... " بدون واو.(13/222)
في صحة الصداق وفساده، وإنما أخذ هذا من تردد الأصحاب فيه إذا جمع نكاحَ مستحَلَّة ومحرم في عُقدة، فإنّّ نقْلَ قولٍ في فساد نكاح المستحَلَّةِ مشهور على ضعفه، وجمع الصفقةِ مختلفين من تفريق الصفقة.
وهذا غيرُ سديد والوجه ما قدمناه.
***(13/223)
كتاب القَسْمِ والنشوز
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ... إلى آخره " (1) .
8600- للرجال حقوق على النساء، كالتمكين، والاستقرارِ في البيت، ويدخل تحت التمكين التنظُّف والاستعداد بالاستحداد وغيره.
ولهن على الرجال المهرُ والنفقة والسكنى والكسوةُ، على ما ستأتي حقوقُها مفصلةً -إن شاء الله تعالى-. قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: 228] فاقتضى الظاهر تشبيه ما لهن بما عليهن، وهذا التشبيه في أصل الحق، والحقان متشابهان في التأكد ووجوب الوفاء به، وليسا متشابهين في الكيفية والصفة.
ثم فَسَّر الشافعي: المعروف المذكور في قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، فقال: "وجماع المعروف بين الزوجين كفُّ المكروه، وإعفاءُ صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيُّهما مطل [بتأخيره] (2) ، فمَطْلُ الغني ظلم " (3) .
ومعناه: جملة المعروف بين الزوجين أن لا يؤذي أحدُهما صاحبه، وينكفُّ عن إلحاق مكروه به، فالمرأة لا تؤذي الزوجَ بلسانها أو شراستها، والرجل لا يؤذِيها بوجوه الأذى، ويعفي كلُّ واحد منهما صاحبَه عن مؤنةٍ في طلب حقه، فيوفر الزوج الصداقَ عليها، ولا يحوجها إلى رفعه إلى القاضي، فقد تحتاج إلى بذلِ مؤونة ومعاناةِ مشقةٍ.
__________
(1) ر. المختصر: 4/41.
(2) زيادة من نصّ المختصر.
(3) ر. المختصر: 4/41، 42.(13/225)
وكذلك القول في المرأة فيما عليها له، ولا يُظهر واحد منهما كراهيةً في تأدية حق صاحبه، فالرجل لا يعبس عند إيفاء حقوقها بل يؤديها كاملة على طلاقة، والمرأة لا تعبس إذا قَرِبَها الزوج.
ثم قال: " فأيهما مطَلَ فمطل الغني ظلم "، والمطل: مدافعة الحق مع القدرة على التأدية، ولفظ " الغني " لا يختص باليسار والثروة، بل كل متمكن من تأدية حق مستقلٍّ به، فهو في حكم الغني. وللغني في أسماء الله تعالى معنيان أحدهما: المقتدر، والثاني: البريء عن الحاجة.
ومن حقوق المرأة على الرجل القَسْم، وهذا الكتاب بأبوابه معقودٌ له لا غير، فإن تطرق إليه حكم آخر، لم يكن مقصوداً بالكتاب.
8601- فنبتدىء، ونقول: الرجل لا يخلو إما أن يكون ذا زوجة واحدة، وإما أن يجمع بين زوجتين فصاعداً، فإن كان ذا زوجة واحدة، فلا يلزمه أن يبيت عندها، ولو لم يدخل عليها قط، فلا طَلِبةَ عليه إذا كان يوفيها حقوقها، والذي يقتضيه أدب الدين ألا يعطّلَها، فقد يُفضي تعطيلُها -إذا هي تاقت- إلى الفجور، وفي تعطيلُها إضرارٌ بها، ولست أُبعد إطلاَق لفظ الكراهية في تعطيلها، فإنَّا نسمح بإطلاق هذا اللفظ دون هذه الأمور التي أشرنا إليها.
وقد حُكي عن أبي حنيفة (1) أنه قال: ينبغي ألا يخليَ أربعَ ليالٍ عن ليلةٍ يقيم فيها عندها؛ فإنَّ أقصى ما يفرض من النسوة تحته أربع، ثم ينالُها من القَسْم ليلةً من أربع ليال.
وهذا غير مرضي عند أصحابنا؛ فإنَّ اعتبار أقدار الليالي حيث لا قَسْمَ محال، ولو نظر ناظرٌ إلى الإضرار ومؤنة أربعة أشهر، كان بعيداً، فإن كان الضرار لا يدفعه إلاَّ الاستمتاع، فهذا (2) غير مرعي في المبيت الذي نقرر القول فيه.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 190، البدائع: 2/333.
(2) في الأصل: وهذا.(13/226)
8602- وإن جمع بين نسوة [أو] (1) بين امرأتين، ثم أراد الإضراب عنهن؛ فلا معترض عليه، وهُنَّ بجملتهن -إذا أَعرض عنهن- كالزوجة الواحدة، فإن بات عند واحدة منهن، لم يكن له تخصيصها، بل عليه أن يَقسم بينهن ويسوي في المبيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، حُشر يوم القيامة وأحدُ شقيه مائل " (2) .
والذي ذكرناه من الأمر بالتسوية إنما هو فيما يتعلق بالأفعال، وأما القلوب، فلا يملكها إلاَّ مقلبُ القلوب، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] . قال المفسرون: لن تستطيعوا أن تعدلوا بالقلوب، فلا تتبِعُوا أهواءكم أفعالكم؛ [فإن] (3) من أتبع هواه فِعلَه، فقد مال كل الميل، فكان ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه بَيِّناً، وكان يحاول التسويةَ بينهن فعلاً، ويقول: " اللهم هذا قَسْمى فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك " (4) . وكان ذلك مشهوراً في الصحابة رضي الله عنهم، حتى
__________
(1) في الأصل: وبين.
(2) الحديث: "من كان له امرأتان ... " رواه أحمد في مسنده: 2/347، والدارمي: 2/193، ح 2206، وأبو داود: كتاب النكاح، باب القسم، ح 2133، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، ح 1141، والنسائي: كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه، ح 8890، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، ح 1969، وابن حبان رقم 4194، والحاكم: 2/186، وانظر (التلخيص:3/408 ح 1711) .
(3) في الأصل: قال.
(4) حديث: " اللهم هذا قسمي فيما أملك ... " رواه أحمد، والدارمي، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم عن عائشة، بلفظ: "هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " وأعلّه النسائي، والترمذي، والدارقطني بالإرسال.
(ر. المسند: 6/144، وسنن الدارمي: 2/193، ح 2207، وأبو داود: كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، ح 134، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، ح 1140، والنسائي: كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه، ح 3943، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب القسم بين النساء، ح 1971، وابن حبان: 6/203، ح 4192، والحاكم: 2/187، وانظر التلخيص: 3/290 ح1563) .(13/227)
إن الناس كانوا يحسبون ليلةَ عائشةَ وينتظرون ليلتها، فمن أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، كان يُهديها في ليلتها، فشق ذلك على صواحبها، فأتين فاطمة وشكون إليها وحَمَّلْنَها رسالةً، فبَلَّغنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تحبين ما يحب أبوك، إنَّ جبريل لا يأتيني وأنا في فراشٍ سوى فراش عائشة " (1) . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسعُ نسوة، وهو يقسم لثمان منهن؛ فإنَّ سودة طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: راجعني لأُحشر في جملة نسائك، وقد وهبتُ ليلتي لعائشة فراجَعَها (2) ، وقيل:
__________
(1) حديث: "إن الناس كانوا يحسبون ليلة عائشة ... إلخ " رواه البخاري أتمَّ من هذا، ففيه استشفاع نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة أوّلاً، وقوله عليه الصلاة والسلام لها: "إن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة " ثم استشفعن ثانيةً بفاطمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بنية ألا تحبين ما يحب أبوك "، وليس نزول الوحي في ثوب عائشة في جواب فاطمة، وإنما هو في جواب أم سلمة، ثم إنهن أرسلن زينب بنت جحش ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم. كل هذا عند البخاري.
وهو عند مسلم مقتصراً على الاستشفاع بفاطمة وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو ما في البخاري، ثم الاستشفاع بزينب بنت جحش، وبدون ذكر لتحري ليلة عائشة بالهدايا.
وعند النسائي: مقتصراً على الاستشفاع بأم سلمة، بسبب تحري ليلة عائشة بالهدايا، والاستشفاع بفاطمة وزينب في أحاديث أخرى وعند أحمد من حديث أم سلمة وأن الاستشفاع كان بها والجواب على نحو ما في البخاري.
(ر. البخاري: كتاب الهبة، باب من أهدى إلى صاحبه، وتحرى بعض نسائه دون بعض، ح2580، وأيضاًً: 2574، 3775، ومسلم: كتاب الفضائل، باب فضل عائشة، ح 2442، والنسائي: كتاب عشرة النساء، ح 3396، 3403، وأحمد: 6/293) .
(2) حديث هبة سودة يومها لعائشة متفق عليه، رواه البخاري: كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك، ح5212، وأيضاًً: 2593، ورواه مسلم: كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، ح 1463.
وأما خوف سودة من الطلاق سبباً لهذه الهبة، فقد رواه أبو داود: كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، ح 1235، والترمذي: كتاب التفسير، باب ومن سورة النساء، ح 3040، وكذا عند الحاكم: 2/186.
أما تطليق سودة ومراجعتها، فهو عند البيهقي: 7/75، 297.(13/228)
أمره الله تعالى بها، فقال: "راجع سودة فإنها صوَّامةٌ قوَّامة " (1) .
8603- وكان صلى الله عليه وسلم لا يُخلّ بالقسْم، ولا يألو جهداً في رعاية التسوية، حتى في مرض موته، قيل: كان يأمر حتى يطاف به على حُجَر نسائه (2) وكان يستبطىء ليلة عائشة، ويقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ ففطِنّ مراده، وكان يُمرَّض في بيتِ عائشة إلى أن توفاه الله عز وجل. وعن عائشة أنها قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونحري في الليلة التي لم أظلم فيها أحداً " (3) . أرادت أنه اتفقت الوفاة في نوبتها الأصلية التي لم تكن من قِبَل سودة.
وقد ظهر اختلافُ الأصحاب في أنَّ القَسْم هل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كان يفعله تكرماً، كما قدمناه في أول كتاب النكاح، فمن أحلّهن في حقه محل الإماء لم يوجب القَسْم، كما تقدم شرحه في ذكر خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل
قال: "وعماد القَسْم الليلُ ... إلى آخره " (4) .
8604- المعتمد في زمان القسم الليل، لأنه سكنٌ، قال الله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص: 72] . وقال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] .
__________
(1) حديث: "راجِعْ سودة، فإنها صوامة قوّامة " لما أصل إليه.
(2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل في ثوب يطاف به على نسائه، وهو مَريض يقسم لهن " قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات إلا أنه منقطع (التلخيص: 3/290 ح 1562) .
(3) حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسأل أين أنا اليوم، أين أنا غداً، وأنه استأذن أن يمرّض في بيت عائشة، وأنها قالت: توفي صلى الله عليه وسلم في يومي بين سحري ونحري" رواه البخاري حديثاً واحداً: كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، ح 4450، ورواه مسلم أيضاًً، بغير إشارة إلى الاستئذان أن يمرّض في بيت عائشة: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، ح 2443.
(4) ر. المختصر: 4/43.(13/229)
وقد سمى الله تعالى الأزواجَ سكناً، فقال عز وجل: {أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] . وقولنا: "الأصلُ " (1) لا يتبين أثره الآن، وإذا انتهينا إلى تفريع المسائل، أوضحنا ذلك، إن شاء الله عز وجل.
ثم إنما يكون التعويل على الليل في حق معظم الناس، وعامة الخليقة؛ فإنهم ينتشرون في مآربهم وأوطارهم نهاراً، فإذا جنَّ الليل، ارتادوا السكونَ في مساكنهم والدَّعَة.
فلو فرض شخص يشتغل بالليل ويسكن بالنهار -كالحراس [ومن] (2) في معناهم، فعماد القسم في حقوقهم النهار؛ فإن المتبع فيه أن الأصل في القَسْم وقتُ السكون والدَّعةِ، فإن من ينتشر نهاراً لم يمنع منه، ولم يُلزم أن يدخل على صاحبة النوبة النهار، فإنا لو فعلنا هذا، لانقطع الناس عن معايشهم، ولصار الكافل العائل معولاً مكفولاً. وهذا أحد الآثار في الفرق بين الليل والنهار، كما سنجمعها في فصل بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو كان عند الرجل حرائرُ مسلماتٌ ... إلى آخره " (3) .
8605- غرض الفصل أن الكتابيةَ والمسلمةَ في القَسْم متساويتان؛ فإن حقوقهما متساوية، فإذا ساوى حقُّه على الكتابية حقَّه على المسلمة، فيجب أن يتساويا أيضاًً فيما تستحق كل واحدة على زوجها. وحقق الأئمة هذا فقالوا: استمتاع الرجل بالكتابية يتسع اتساع استمتاعه بالمسلمة، ولا ضِرار على ولده منها؛ فإن ولد المسلم من الكتابية مسلم.
8606- فأما إذا اجتمعت الرقيقة والحرة تحت حر مثلاً بطريق اجتماعهما، فالقَسْم
__________
(1) أي قولنا: الأصل في القَسْم الليلُ.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) ر. المختصر: 4/43.(13/230)
بين الحرة والأَمَة على [التفاضل] (1) عندنا وعند أبي حنيفة، خلافاً لمالك (2) ، فإنه قال: لا فرق في القسم بين الحرة والأَمَة، وهذا غير سديد.
ومعتمدنا: أولاً: ما روى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " للحرة ثُلثا القسم وللأمة ثُلثه " (3) . وفراشُ الأَمَة المنكوحة ناقص، وتمكُّنُ الزوجِ من الاستمتاع بها ناقصٌ، ويلحق الولدَ نقصُ الرق، فيليق بهذا ألا يسترسل الزوج في الاستمتاع بها توقياً من الولد، ولذلك لم يثبت نكاح الرقيقة في حق الحر إلا في محل الحاجة.
فإذا ثبت ذلك؛ فإذا كان تحته حرة وأمة، فالحرة على ضعف الأَمَة في القسم، فيقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة.
8607- ثم إذا فرض طريان العتق على الأمة؛ فأصل المذهب لا غموض فيه، ولكن قد تلتبس الصور، فالأَولى الاعتناء بتفصيل الصور، [فنبدأ] (4) بذكر التفصيل فيه إذا وقعت البدايةُ في نُوَب القَسْم بالحرة، ثم نذكر إذا ما وقعت البداية بالأَمة.
فإن وقعت البداية بالحرة، فعتقت الأمة، فلا يخلو إما أن تعتق في نوبة الحرة، أو في نوبة نفسها، فإن في نوبة الحرة، وكان يقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة، فالجواب المجمل إلى أن يُفصّل -أنها إذا عتقت في نوبة الحرة، صارت بمثابة الحرة الأصلية في القَسْم في مستقبل الزمان، وكأنَّ الرقَّ لم يكن، والتفصيل أنها إذا أعتقت في الليلة الأولى من ليلتي الحرة، فيكملُ الزوج الليلةَ الأولى للحرة، ثم هو بالخيار إن شاء اقتصر في حقها على هذه الليلة، وأقام عند العتيقة ليلة، ثم استدار عليهما ليلة ليلة،
__________
(1) في الأصل: التفاصيل.
(2) ر. المدونة: 2/198، الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 7232 مسألة رقم 1307.
(3) حديث: "للحرة ثلثا القسْم وللأمة ثلثه ": "رواه البيهقي من حديث سليمان بن يسار بهذا المعنى، ورواه أبو نعيم في المعرفة من حديث الأسود بن عويم، وروي عن علي مرسلاً " كذا قال الحافظ في التلخيص: 3/409 ح 1716، وانظر السنن الكبرى للبيهقي: 7/299، 300) .
(4) في الأصل: "فنقول".(13/231)
وإن أراد أن يقيم عند الحرة ليلتين [فإنه يقيم عند العتيقة ليلتين] (1) أيضاًً، فإنها التحقت بالحرة الأصلية، كما ذكرنا أولاً.
ولو عتقت في الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فإن أراد أن يتم تلك الليلة، ويقيم في بقيتها عند الحرة، فله ذلك، كما تقدم، ثم يقيم عند العتيقة ليلتين أيضاًًً، وإن كانت تلك الليلة قد تشطرت، فأراد أن يخرج في وسط الليل إلى العتيقة ويقيم عندها ليلة ونصفاً، فيجوز ذلك، ولو كان وَضْعُ القَسْم ابتداءً على أنصاف الليالي، لم يجز؛ فإنَّ تبعيض الليالي يُفسد غرضَ السكن وما فيه من مستمتَع.
ولكن إذا طرأ العتق في أثناء الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فربما يبغي الزوج أن يجعل القَسْم ليلة ليلة، ولو استتم نوبة الحرة ليلتين، لاحتاج إلى أن يقيم ليلتين عند العتيقة، فإذا لم يرد ذلك، فله أن يبعِّض هذه الليلة، ويرعى التسوية بينهما، وليس كما لو طرأ العتق في أثناء الليلة الأولى في نوبة الحرة؛ فإن نوبةَ القَسْم لا تنقُص عن ليلة في وضعه.
8608- ومما ذكره الأئمة في ذلك أن العتق لو جرى في الليلة الثانية، فأراد الزوج أن يفارق الحرة في بقية تلك الليلة ويبيت عند صاحبٍ له، فإذا فعل ذلك، فأراد أن يبيت عند العتيقة ليلة ويدور إلى الحرة بليلة ويدير النوبتين كذلك؛ قال الصيدلاني: له هذا، وما مضى من الليلة غيرُ محسوبٍ عليه، وهو مختطفٌ من البَيْن؛ فإنَّ ما جرى من التبعيض أفسد تلك الليلة، حتى كأنه لم يُقم في شيء منها عند الحرة، وهذا يؤكده تمهيد (2) عُذر الزوج؛ فإنه كان يتمادى على موجب الشرع في تفضيل الحرة، ثم كما (3) بلغه أتلف.
وهذا الذي ذكره خارج عن القياس في وجوب رعاية النَّصَفة، وتعيّن اعتبار التعديل، وتنزيل العتيقة إذا طرأ عتقها على نوبة الحرة منزلة الحرة الحقيقية،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) تمهيد عذر الزوج: أي قبوله. يقال: مهّدتُ له العذر: أي قبلته.
(3) كما: بمعنى عندما أو لمّا وقد أشرنا مراراً أنه من الاستعمالات غير العربية ولا الصحيحة.(13/232)
لا [تدرؤه] (1) التخاييل. فإذا كنا نقول: إذا أكمل للحرة ليلتين يبيت عند العتيقة ليلتين، فإذا بات عند الحرة ليلةً ونصفَ ليلة، ثم أراد أن يبيت عند العتيقة ليلة، فهذا قسْم على التفاضل، وسنذكر مناقشاتٍ (2) للأصحاب في أنصاف الليالي في المسائل التي ستأتي -إن شاء الله عز وجل-، فالوجه: القطع بأنه يُحسب عليه ما مضى من الليل.
فترتب من مجموع ما ذكرناه أن العتق إذا جرى في أثناء الليلة الأولى، فلا بد من إكمالها، ثم للزوج الخيار بين أن يدور بعد انقضائها إلى العتيقة، ويبيت عندها ليلة، فيردّ النوبة إلى ليلةٍ ليلة، وبين أن يبيت عندها إلى تتمة الليلتين، ثم يقيم مثلها عند العتيقة.
وإن جرى العتقُ في أثناء الليلة الثانية على الشطر مثلاً؛ فللزوج ثلاثة أحوال: إحداها - أن يتمها، ثم يمكث عند العتيقة ليلتين، والأخرى - أن يدخل على العتيقة في نصف الليل، ويقيم عندها ليلة ونصف، ثم يرتب من النوبة ما يريد، ويجتنب في وضع القَسْم تبعيضَ الليل في المستقبل، كما سنصفه، إن شاء الله عز وجل.
والحالة الثالثة - أن يخرجَ إلى صديق أو مسجد ويبيتَ (3) فيهما، قال الصيدلاني: إن ما مضى من الليل لا يحسب عليه، وقد أرى الأمر بخلاف ذلك، وكل هذا فيه إذا كانت البداية بالحرة وقد عتقت الأمةُ في نوبة الحرة.
8609- فأما إذا انقضت نوبة الحرة بكمالها ليلتين، وانتهت النوبة إلى الأمة، فعتقت في أثناء ليلتها؛ فالعتق الطارىء على نوبتها يثبت لها كمالَ نوبة الحرة، فيبيت عندها ليلتين، وحكم الطارىء إذا كان يقتضي كَمَلاً أن يقتضيَه إذا جرى قبل استيفاء حظ العبودية، ولذلك قلنا: إذا عتق العبد وقد طلق امرأته طلقة واحدة، فالعتق يُملّكه تتمة ثلاث طلقات.
وهذه الصورة التي ذكرناها في القسم أبعد عن اقتضاء مساواة الحرة من الصورة الأولى، وذلك أن نوبتها دخلت وهي على الرق، ثم ألحقناها بالحرة للعتق الطارىء،
__________
(1) في الأصل: " تدرؤها " ولعل هذا من آثار عجمة قديمة لدى الناسخ.
(2) في الأصل: في منافسات.
(3) في الأصل: وبات.(13/233)
وفي الصورة الأولى كملت الحرية فيها، وتقدمت على أول نوبتها، فوافاها أول النوبة وهي حرة فيها.
وما ذكرناه لم نقصد به الفرقَ بينهما؛ فإن الحكم في الصورتين واحد، ولكن أردنا التنبيهَ على حقيقة الحال، وترجح إحدى الحالتين من طريق المعنى على الأخرى.
ولو وفَّى الحرة نوبتها ليلتين، ثم وفَّى الأمة نوبتَها ليلة، ثم عاد إلى الحرة، فعتقت الأمة، فما مضى من النوبة في الرق لا التفات إليه، ولا يتوقع فيه مستدرك؛ فإنَّ العتقَ وقع بعد انقضاء تلك النوبة، وإنما يفيد العتقُ إلحاقَ الأمة بالحرة إذا طرأ في نوبة الحرة، أو في نوبة الأمة، فإذا انقضت نوبتان على رقها، ثم طرأ العتق في الثانية للحرة؛ فالنوبتان الماضيتان لا سبيل إلى تعقبهما بالتغيير، فإنا لو نقضناهما، لتعقبنا نُوَباً، وهذا يجرّ تغيير نُوَبَ الرق والحرية في سنين، ولا سبيل إلى التزام ذلك، نعم، إذا طرأ العتق في النوبة الثانية للحرة، فالعتيقة في هذه النوبة كالحرة.
وشبّه الفقهاء النوبةَ الأولى الماضيةَ في الرق أنها لا تعتبر، بما إذا طلق العبد امرأته طلقتين، ثم عتق وتحته زوجةٌ لم يطلقها، فالتي بانت البينونة الكبرى قبل العتق باستيفاء عدد العبيد فيها لا تتغير، وهي محرَّمة حتى تنكح زوجاً غيره، والعتق يفيده في الزوجة التي لم يطلقها، أو طلقها طلقة واحدة- تمامَ العدد.
8610- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البداية بالحرة في أول النُّوَب.
فأما إذا وقعت البداية بالأَمة، ووضْع القَسْم على أن يقسم لها ليلة وللحرة ليلتين، فإذا فرضنا عتق الأمة؛ فلا يخلو إما أن تعتِق في نوبة نفسها، وإما أن تعتق في نوبة الحرة، فإن عتقت في نوبة نفسها، التحقت بالحرائر، وللزوج الخيار إن شاء اقتصر على هذه الليلة، ثم يقسم للحرة الأصلية ليلة واحدة أيضاًًً، وإن أراد أن يبيت عند العتيقة ليلتين، فلا معترَضَ عليه ويبيت عند الحرة الأصلية ليلتين.
والجملة في ذلك أن الأمة إذا أعتقت في نوبتها، قدَّرنا كأنَّ الرقَ لم يكن وصورناها كالحرة (1) الأصلية.
__________
(1) في الأصل: كالحرية.(13/234)
فأمَّا إذا مضت نوبة الرقيقة على الرق، وانتهت النوبة إلى الحرة، فاُعتقت الأمة؛ قال الأئمة المحققون: يتعين على الزوج أن يوفيَ الحرةَ ضعفَ ما وفَّى الأمةَ، فإن قال: أوفّي الحرة ليلة، والعتيقة بعدها ليلة، وأردّ النوب إلى أفراد الليالي قلنا: لا، فإن شئت ذلك، فلا معترض عليك في الاستقبال، ولكن بعد توفية حق الحرة.
وإذا استوفت الأمة ليلةً، وانقضت نوبتها، استقر في الذمة للحرة ضعفُ ما كان للأمة، والليلة الواحدة في حق الأمة كالليلتين في حق الحرة. فإذا وفَّى الحرة ليلتين، فلو أراد بعد ذلك أن يرد القسْم إلى ليلة ليلة، فليفعل، ولا معترض.
8611- وتحقيق ذلك أنه لو كانت تحت الزوج حرتان، فكان يقسم ليلتين ليلتين، فلو قسم لإحداهما ليلتين، ثم لما انتهى إلى الثانية قال: بدا لي أن أرد النوبة إلى ليلة ليلة؛ قلنا له: وفّ الثانية ليلتين، فإذا انقضتا، فافعل ما شئت، فالليلة الماضية في حق الرقيقة كالليلتين في حق الحرة. هذا تمام البيان.
وقد رأيت هذه الصور مستقلةً بإفادة المقصود على أحسن نظام.
8612- ومما نلحقه بما تمهد؛ أن العتق إذا جرى في يوم الأمة كما لو جرى في ليلتها، وكل امرأة لها ليلة أو ليال، فلها مع كل ليلة يوم، وذلك اليوم محسوب من نوبتها، فإذا جرى العتق فيه كان كما لو جرى في ليلتها؛ فإن اليوم من النوبة.
8613- والعتق في بعض الأمة لا حكم له ما لم يتم. وهذا كما أن العتق في بعض الأمة لا يثبت لها حق الفسخ إذا كان زوجها رقيقاً.
ثم قال: "وللأمة أن تُحلّله من قَسْمها ... إلى آخره " (1) .
8614- سنذكر على الاتصال فصلاً في هبة المرأة حقها من القَسْم، والذي يتصل بهذا المقام أن الأمة إذا أسقطت حقَّها من القَسْم؛ فلا معتَرَض عليها.
وليس للسيد بعد إسقاطها أن يطلب حقها، فإنَّ ذلك من حقوقها الآيلة إلى جبلّتها، وما كان كذلك فسبيله التفويض إليها، [وكذلك نقول إذا آلى الزوج عن
__________
(1) ر. المختصر: 4/43.(13/235)
زوجته الأمة] (1) ، فحق الطلب للأمة، وكذلك إذا عنَّ عنها، فالطلب على التفصيل المعلوم يثبت لها، لا مدخل للسيد فيه.
فصل
8615- المرأة إذا وهبت نوبتَها، فذلك صحيحٌ منها على ما سنفصل القول فيه.
والأصل في ذلك -مع اتفاق العلماء- حديث سودة إذ وهبت نوبتها لعائشة (2) .
ثم قال الأئمة: إذا وهبت المرأة نوبتَها، فلهبتها ثلاثُ صيغ: إحداها - أن تُعيِّن لهبة نوبتها واحدةً من ضَرّاتها، والأخرى - أن تطلق الهبة ولا تعيِّن واحدةً، والثالثة - أن تقول: وهبت نوبتي لك أيها الزوج، فضعها حيث شئت، وإن أردت، فاقسمها على جميع ضراتي.
8616- فأما الصيغة الأولى - وهي إذا عينت واحدة من ضرائرها، فأقل ما نذكره: أن هذه الهبةَ شرطُها أن يساعِد الزوج عليها، فلو أراد الزوج أن يقيم عند الواهبة كما كان يقيم عندها قبل الهبة، فله ذلك؛ فإنها تملك إسقاط حق نفسها، فأما إسقاط حق مستمتَعٍ للزوج، فمحال.
وإذا لاح هذا، هان أمر الهبة، ورجع إلى أنه لو لم يبت عندها برضاها، جاز.
ولكن إذا عيَّنت واحدة من الضرات، تعيَّن صرف الهبة إليها، فلو قال الزوج: أنت قد أسقطت نوبتك، وأنا أصرفها إلى من أشاء، قلنا له: ليس هذا إليك.
وهذا (3) فيه إشكال [يحتاج] (4) إلى أن يُجاب عنه. وذلك أن تركها نوبتَها ليس حقاً [يُبذل] (5) ، بل هو حق يترك، [وتعيين] (6) الموهوبة يشعر بمضاهاة الهبةِ الهباتِ
__________
(1) في الأصل: وذلك نقول الزوج إذا آلى عن زوجته الأمة.
(2) مرّ آنفاً تخريج حديث سودة.
(3) في الأصل: وهذا ليس فيه إشكال.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: ببدل.
(6) في الأصل: وتعين.(13/236)
التي تتعلق بما يجوز بذله. والجواب: [إنها] (1) لم تعينها [بهذا] (2) ، ولكنَّ ترْكها حقَّها [هذا] (3) مشروط بهذا، [فكأنها] (4) رضيت بترك حقها على شرط أن يوضع في التي عَيَّنتها، والدليل عليه أنَّا لا نشترط قبولَ الموهوب [لها] (5) ، بل لو أبت، فالزوج يبيت عندها على الرغم منها (6) ، فهذا بيان هبتها من واحدة من ضراتها.
ومما يتعلق بذلك أنها إذا وهبت؛ فالهبة لا تلزم، فمهما أرادت أن ترجع رجعت، وهذا متفق عليه؛ لأن هبتها لم تشتمل على عينٍ تحتوي عليها يد، وإنما تركت حقاً يتجدد لها شيئاً فشيئاً.
8617- ثم الذي أطبق عليه معظم المحققين أنها إذا رجعت؛ فالهبة مستمرة إلى أن يبلغ [خبرُ] (7) رجوعِها الزوجَ، فلو مضت نُوبٌ [و] (8) الزوج لم يشعر برجوعها، فتلك النوب لا مستدرك لها، ولذلك قالوا: لو أباح [رجلٌ] (9) لإنسان [ثمار بستان] (10) أو غيرها مما يقبل الإباحة، فكان المستبيح يتمادى على تعاطي ما أُبيح له، فلو رجع المبيح، ولم يبلغ رجوعُه من أبيح له؛ فالإباحة دائمة قائمة في حقه.
قال شيخي: إذا رجعت المرأة ولم يشعر الزوج، فالمسألة تخرج على القولين المعروفين في أن الموكِّل إذا عَزَلَ الوكيلَ ولم يبلغ العَزلُ الوكيلَ، فهل ينعزل؟ على قولين، وهذا الذي ذكره جار على ظاهر القياس، ولكن اشتراط بلوغ الخبر أغْوص
__________
(1) في الأصل: إنما.
(2) في الأصل: لهذا. والمعنى أنها لم تبذل لها هذا الحق، والذي ليس في حقيقته من الحقوق التي تبذل.
(3) في الأصل: وهذا.
(4) في الأصل: فكانت.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) أي على الرغم من الموهوب لها.
(7) في الأصل: جر.
(8) الواو مزيدة من المحقق لاستفامة المعنى.
(9) في الأصل: رجلاً.
(10) في الأصل: بيمارستان.(13/237)
وأفقه؛ فإنَّ حقيقة القَسْم لا تؤول إلى حقٍّ مستحق يوفّى ويستأدى (1) ؛ ولهذا قُلنا: لو أعرض الزوج عن جميعهن، فلا طَلِبة عليه، لكنه إذا بات عند واحدة، لزمه أن يبيت عند الباقيات، فالغالب على القَسْم اجتناب ما يتداخلُهن من الغضاضة والأنفة بالتخصيص، فإذا سمحت واحدة بإسقاط حقها، فلا يتحقق من الزوج قصد التخصيص ما لم يبلغه خبرُ رجوعها، وكل ما ذكرناه فيه (2) إذا وهبت [وعيّنت] (3) .
8618- فأما إذا أطلقت الهبة ولم تخصص بها ضرة، ولم تُضفها إلى مشيئة الزوج، فإذا رضي الزوج بهذا، كان حكم هبتها أن تخرج من حساب النُّوب، وتنزل -إذا وهبت- منزلتَها لو بانت (4) .
فإذا كُنَّ أربعاً فوهبت واحدة نوبتها على الصيغة التي ذكرناها، وكان الزوج يقسم بينهن ليلة ليلة، أو كما يريد، فترجع فائدة هبتها إلى سقوط مزاحمتها وسرعة العود إلى كل واحدة.
8619- فأما الصيغة الثالثة في الهبة وهي: إذا [قالت] (5) للزوج: وهبت نوبتي منك، فضعها حيث تشاء، وخَصِّصْ بها من تشاء، فهذا مما اختلف فيه جواب الأئمة. فالذي قطع به شيخي واشتمل عليه تعليقه: أنَّ الهبة تقع على هذا النسق، فالزوج بالخيار، فإن شاء فض (6) نوبتها عليهن، كما لو أطلقت الهبة، وإن شاء خصص واحدة منهن. ووجه ذلك أن صاحبة الحق وهبت ذلك.
وقطع الصيدلاني جوابه نقلاً عن القفال بأنَّ الزوج لا يخصص واحدة منهن، والهبة المنوطة بمشيئته بمثابة الهبة المطلقةِ أو المضافةِ إليهن.
وهذا الذي ذكره فقيهٌ حَسن؛ وذلك لأنها إذا أسقطت حقها، فالزوج لا يستفيد
__________
(1) ويستأدى: أي يطلب أداؤه.
(2) في الأصل: فيه أن إذا وهبت.
(3) في الأصل: عتقت.
(4) أي تصير كما لو طلّقت.
(5) في الأصل: قال.
(6) فضّ: قَسَم.(13/238)
منها حقاً، وإنما هي تركت ما لها، فصار كأنها لم تكن، والحق الحقيقي للزوج، وليس لآحاد النسوة، إلاَّ ما أشرنا إليه من حق التسوية. فإذا أخرجت نفسها من البَيْن، صار كأنها لم تكن، واستعمل الصيدلاني في ذلك عبارة حسنةً واقعة، وذلك أنه قال: ليس له أن يقول: أجعل هذه الليلة [لواحدة] (1) ؛ فأبيت عندها ليلتين؛ إذ ليس للزوج أن يعد نفسه كإحداهن، فيثبت له ليلة من الهبة، وحقيقة هذا أنَّ الحق له، والتخصيص للنسوة.
ووجه ما ذكره شيخي أنها لو قيَّدت هبتها بتعيين ضرتها، تقيدت على تأويل أن هبتها مقيدة بصيغة، فتثبت على مقتضاها، كذلك إذا وهبت على شرط تخير الزوج، فلتتقيَّد هبتُها بمقتضى لفظها.
وللصيدلاني أن يقول: إذا ارتفع الحجر عن الزوج، فوَضْعُه النوبةَ فيمن يختارها ميل، وهذا هو المحذور في شَرعْ أصل (2) القسم، وإذا خصصت الواهبة واحدةً، فلا ميل من الزوج.
8620- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الواهبة لو خصصت واحدة من ضراتها واختصت، وكنا رتبنا نُوَبَهن بالقرعة، فإن كانت نوبة الواهبة إلى جنب نوبة الموهوبة، فالأمر قريب، فيجمع الزوج للموهوبةِ نوبتَها ونوبةَ الواهبة.
وإن كانت نوبة الواهبة منفصلة عن نوبة الموهوبة بليلة أو ليلتين، فإذا وهبت، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يأتي في حق الموهوبة بالليلتين وِلاءً؛ فإنها إذا كانت تستحق ليلتين، فلا معنى لتفريقهما عليه. والوجه الثاني - أنه يأتي بالليلتين على ما يقتضيه ترتيب نوبة الواهبة والموهوبة، حتى إن كانت نوبة الموهوبة في أول النوب، فيوفيها نوبتها، ثم يوفي التي لم تهب، حتى ينتهي إلى نوبة التي وُهبت، فيعود ويبيت عند الموهوبة تلك الليلة.
86201- ومما ذكره الشافعي في آخر هذا الفصل: أن الاعتياض عن حق القسم غير
__________
(1) في الأصل: الواحدة.
(2) في الأصل: أهل.(13/239)
جائز، والأمر على ما ذكره، ولا يجوز الاعتياض عن أمثال هذه الحقوق؛ فإنها في التحقيق تخصيصاتٌ تتعلق بالأَنَفةِ وطلبِ التسوية، ولا مسوِّغ للاعتياض عما هذا سبيله، وإذا منعنا الشفيع عن الاعتياض عن حقه من الشفعة، فلأن نمنع هاهنا من الاعتياض عن حق القَسْم أولى.
فصل
قال: "ولا يجامع المرأة في غير نوبتها ... إلى آخره " (1) .
8622- الفصل يشتمل على مقصودين: أحدهما - يتعلق بتحصيل قولنا: عماد القَسْم الليل.
والثاني - يتعلق بذكر ما لو جامع في نوبة إحداهن الأخرى.
فأما المقصود الأول فقد اشتهر من قول علمائنا أن عماد القسم الليل، وهو السكن، وعليه التعويل، والنهار التابع لليل يتعلق به حقُّ القَسْم أيضاًًً، ولكن لا يتأكد الحقُّ في النهار تأكده في الليل، ونحن نستعين بالله عز وجل ونبين حقيقة ذلك.
8622/م- فأما الليل فليس للزوج أن يخرج من دار واحدة ويدخل على أخرى، فلو [مرضت] (2) امرأةٌ ولم تثقل، فأراد أن يدخل عليها عائداً، فكيف السبيل، وما الوجه؟ أولاً: ليس [له] (3) الدخول على واحدة منهن من غير سبب، فلو فعل، باء بالإثم، وكان ظالماً، ثم إن كان الزمان الذي خرج فيه بحيث [يُحَسّ] (4) ويبين له قدرٌ من الليل، فعليه أن يقضيه لصاحبة النوبة.
وفي كلام من نقل عن القاضي أنه [لو] (5) بلغ ثلثاً من الليل، قضى، وهذا ليس
__________
(1) ر. المختصر: 4/43.
(2) في الأصل: فرضت.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: يحسن.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(13/240)
بشيء. وإذا كنا نوبّخ خصومنا بالتحكم بالتقدير، فلا ينبغي أن نبوء بمثل ما ننكره، فالأصل عندي أن يكون مقدار المفارقة بحيث لو نسب إلى الليلة، لأمكن أن يقال: جُزءٌ منها. وإن كان في قفته بحيث لا يُدرك جزئيتهُ من الليل، فليس في هذا المقدار إلاَّ التأثيم.
ويحتمل على بُعد أن يقال: يقضي لصاحبة الليلة مثلَ تلك الخرجة، وإن قل زمانُها، حتى إذا انتهت النوبة إلى التي كان دخل عليها، فيخرج من عندها، ويدخل على صاحبة النوبة الأولى.
هذا بيان القول فيه إذا دخل في نوبة واحدة على ضرتها من غير عذر.
8623- فإن مرضت له امرأةٌ وأشرفت على خوف الهلاك، فيجوز للزوج الانتقال إليها بالكلية للتمريض، حتى إذا بَرَأَت (1) ، قضت من نوبتها بعد [الاستبلال] (2) للواتي لم (3) يدخل عليهن، كما سيأتي ذلك في فصل مفرد، إن شاء الله عز وجل.
8624- فأما إذا مرضت واحدة ولم يتحقق انتهاؤها إلى الخوف، فالذي ذكره القاضي وطوائف من المحققين أن له أن يخرج إليها عائداً. قال صاحب التقريب: المذهب أنه لا يخرج إليها عائداً إذا لم تَنته إلى الخوف والثقل.
وذكر بعض الأصحاب قولاً أن له أن يخرج إليها عائداً، ثم قال: وهذا غلط والمذهب: أنه لا يجوز له الخروج. هكذا ذكر صاحب التقريب، والذي رآه صاحب التقريب غلطاً أفتى به طوائفُ من أئمتنا.
ثم إن خرج عائداً ومكث زماناً [يُحسّ] (4) ، وجب القضاء فيه، وإن كان لا [يحسّ] (5) ، فعلى الترتيب المقدم.
__________
(1) برأ المريض: يَبْرأ من باب (نفع) ويأتي أيضاًًً من باب (تعب) (المصباح: مادة: ب. ر. ى) .
(2) في الأصل: الاستبدال. والاستبلال: معناه البرء والشفاء.
(3) في الأصل: للواتي التي لم يدخل.
(4) في الأصل: يحسن.
(5) في الأصل: يحسن.(13/241)
والذي عندي أن المرض الذي أطلقوه لا بد فيه من ضبط أيضاًًً، فلا يجوز الخروج بكل ما يسمى مرضاً، ولعل الضبط في ذلك أن يكون المرض بحيث يجوز أن يقدّر مخوفاً، ودخوله عليها ليتبين، حتى يكون مبيته على فراغ (1) .
وكل ما ذكرناه في الليل، وفيه بقية، ينعطف [عليها] (2) كلامنا في النهار.
8625- فنقول: لا يتحتم على الرجل أن يلازم زوجته في نوبتها نهاراً؛ فإنَّا لو ألزمناه ذلك، لانقطع عن مكاسبه، فله أن ينتشر في بياض نهاره كما أشعر نصُّ القرآن بذلك، فقال عز من قائل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] . فرجع قوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى الليل، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} إلى النهار.
8626- ثم يتعلق بالنهار نوعان من الكلام: أحدهما - أن الزوج لو كان يخرج في نهارِ واحدةٍ وينتشر، وكان يلازم الأخرى في نهارها، فكيف الكلام فيه؟
فإن كان هذا عن اتفاق شغل، فلا مضايقة، وإن كان عن قصد، فهذا محتمل (3) : ما يدل عليه ظاهر كلام الأئمة أن ذلك غير ممتنع، وفيه احتمال ظاهر مأخوذ من كلامهم أيضاًًً، ووجه الاحتمال أن مدار القَسْم على ترك التخصيص واجتناب إظهار الميل، وهذا إذا تكرر في النهار ميلٌ ظاهر، إذا لم يكن شغلٌ محمول على الوفاق، ووجه الجواز حسم الباب عن الرجال، [إذا أرادوا الانتشار بها] (4) .
وهذا فصل.
والثاني - دخوله على التي ليست النوبة لها. أجمع الأصحاب على أنه لا يجوز له أن يدخل في نوبة واحدة على الأخرى ويجامعَها، هذا لا سبيل إليه؛ فإنه منتهى
__________
(1) حتى يكون مبيته على فراغ: أي يكون مبيته عند غير المريضة على فراغ بالٍ واطمئنان.
(2) في الأصل: عليه.
(3) فهذا محتمل: أي غير مقطوعٍ بحكمه، كما سيأتي بيانه، متصلاً به.
(4) كذا. بنفس هذا الرسم. انظر صورتها. ولعل في الكلام سقطاً، أوْ له وجهاً لم نهتد إليه.
والله المستعان.(13/242)
المقصود، وفيه الميل الأظهر وإبطالُ الاختصاص بحق النهار بالكلية.
وهل له أن يدخل في نهار واحدة على الأخرى من غير جماع، أم هل يُرعى في ذلك عذرٌ؟ اضطربت طرق الأئمة، ففي كلام العراقيين ما يدل على جواز الدخول إذا لم يكن وقاع، وهذا مضطرب لا ضبط فيه، ويلزم منه أن يجوز له الكَوْن عند التي لا نوبة لها في معظم النهار، أو في جميع النهار، وهذا بعيد.
وقال قائلون: لا يدخل عليها إلا لحاجةٍ ومهمٍّ، وبان من كلام هؤلاء أن الدخول ليلاً للمرض لا غير، والدخول نهاراً لا يجوز من غير حاجة، ويجوز عند ظهور حاجة، وإن لم يكن مرض، ولفظ الشافعي في [السواد] (1) يدل عليه، فإنه قال: " ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجةٍ، ويعودَها في مرضها في ليلة غيرها " (2) ، وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على تنزيل النهار منزلة الليل، والطرق محتملة وأبعدها رفع الحجر.
والذي أراه مقطوعاً به: أنه كما يحرم الجماع في نهار الليل؛ يحرم الدخول فيه على وجهٍ يغلبُ فيه جريان الجماع؛ فإن الذي يداخل صاحبةَ النوبة من ظهور جريان الجماع يداني جريانَه، والكلام في مثل هذا ينتشر، وأقصى الإمكان في الضبط ما ذكرناه.
8627- وقد بقي من الفصل المقصودُ الثاني، وهو الكلام فيه إذا جامع واحدة في ليلة غيرها، وقد ذكر العراقيون في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أنه إذا جامع في ليلةٍ غيرَ صاحبة النوبة، فقد أفسد الليلةَ، فعليه أن يقضيَ لها ليلة؛ فإنَّا وإن كنَّا لا نوجب
__________
(1) في الأصل: السؤال، وهو تحريف. ثم المراد بالسواد المختصر، كما نبهنا عند وروده مراراً من قبل.
(2) ر. المختصر: 4/43.
هذا، وقد قال الرافعي: "لا يجوز أن يدخل في نوبة واحدة بالليل على أخرى، وإن كان لحاجة، كعيادة وغيرها، فالذي نقله المزني في المختصر أن الشافعي رضي الله عنه قال: " ويعودها في مرضها في ليلة غيرها " فهو سهوٌ عند عامة الأصحاب، قالوا: وإنما قال الشافعي رضي الله عنه: " في يوم غيرها ". (ر. الشرح الكبير: 8/365) .(13/243)
التسويةَ بين النساء في الجماع، ونقول: هو موضع تلذذ لا إجبارَ عليه، فمن الأصول بناء الأمر على إمكان الوقاع، وتزجية (1) كل واحدة نوبتها بذلك، فإذا جرى جماعٌ -والغالب أن الليلة الواحدة لا تحتمل أكثرَ من وطأة واحدة- ففي هذا إفسادُ الليلة عليها؛ فعلى هذا، وإن عاد إليها وبات عندها، فلا حكم لهذه البيتوتة.
والوجه الثاني - أنه عصى بما فعل، ولكن لا يلزمه قضاءُ الليلة إذا لم يتفق مكثٌ في زمان محسوس، كما تفصّل من قبل، وهذا متّجه إذا ثبت أنه غير مطالَبٌ بالوطء.
والوجه الثالث - أنه إذا وطىء في ليلتها غيرَها من النساء، فيلزمه أن يصيب المظلومةَ في ليلة تلك التي وطئها في هذه النوبة، وهذا طريق استدراك هذا النوع من الظلم، وهذا القائل يُلزمه الوطءَ، وهو بعيد عن قاعدة المذهب، وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الوطء ليلاً.
8628- فأما إذا وطىء واحدةً في نهار الأخرى، فقد ذكرنا أنه كان ممنوعاً عن ذلك، وإقدامه عليه مُحرم، فإن قلنا: الوطء في الليل لا أثر له، فلا أثر له في النهار أيضاًًً. وإن قلنا: الوطء في الليل يفسده، أو يجب تداركه بالوطء في نوبة الموطوءة، فماذا نقول في الوطء نهارً؟ هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يكون النهار كالليل، ويجوز أن نقطع في النهار بالاقتصار على التعصية.
فصل
قال: "وإن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً ... إلى آخره" (2) .
8629- أقل نوب القسم ليلة، فلو أراد أن يقسمَ الليلةَ في وضع القسم، لم يكن [له] (3) ذلك؛ فإنَّ الاستئناس المطلوب ينبتر (4) ويفسد نظامه بتبعيض الليلة، ولو أراد
__________
(1) تزجية كل واحدةٍ نوبتها بذلك: من زجّى الشيء ساقه، تقول: زجّيت أيامي دافعتها وأمضيتها برفقٍ، والمعنى هنا أن القسم على رجاء إمكان الوقاع من كل واحدة وقضاء ليلتها به.
(2) ر. المختصر: 4/43.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) ينبتر: ينقطع. وهذا اللفظ مستعمل كثيراً في كلام الإمام بهذا المعنى.(13/244)
أن يقسم ليلة ليلة، فله ذلك، وكذلك لو أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، فلا معترض عليه في اختيار مقدارٍ من هذه المقادير.
وإن أراد أن يزيد النوبة على الثلاث؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز؛ إذ لا موقف بعد المجاوزة، والثلاث على حالٍ مدةٌ معتبرة في الشريعة في أصولٍ، ثم إذا لم نجد موقفاً وراء الثلاث، فربما نجعل النوبة ستة أو أكثر منها، وهذا يؤدي إلى مهاجَرةٍ في حق اللواتي تتأخر نُوبهن، ثم يترتب [عليها] (1) انتساج وحشة بين الزوج وبين المتخلفات، وإلى تأكد ألفة تنتهي إلى المِقَة، فيحصل من السرف في الازدياد مقتٌ ومِقَة (2) ، وقطعهما جميعاً عسر.
فإن قلنا: لا تجوز الزيادة على الثلاث، فلا كلام، وإن جوزنا الزيادة، ففي المسألة وجهان، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنا لا نقف في موقف، والثاني - أنا لا نتجاوز السبع؛ فإنه منتهى مدة روعيت في هذا الفن؛ لأن للبكر سبع ليال في حق العقد، فاتخذناه معتبراً.
8630- وعندنا أنَّ رفعَ الضبط وتفويضَ الأمر في أقدار النُّوب إلى الزوج لا يجوز أن يكون معدوداً من المذهب إلاَّ على وجهٍ، وهو أن [تُرتّب] (3) النوب بالقرعة على ما سنصفه، فيجوز أن نتخيل -على بُعدٍ- أن المدة وإن طالت إذا كان المحكَّمُ القرعةَ، فمن [تخرج لها] (4) تقع البدايةُ بها، فلا ينتسب الزوج إلى التهمة في الميل والإيثار.
وهذا أيضاًًً ليس بشيء؛ فإن المقدار الذي يتحتم [على] (5) الزوج لا يضرُّ به الوفاء به، فلو بدا له أن يقلل أو يكثر بعد الوفاء بالتسوية، فلا معترض عليه، والتفريع على البعيد أبعدُ منه، فليخرج هذا الوجه من المذهب.
__________
(1) في الأصل: عليهن. والضمير في (عليها) يعود على تلك النوب الطويلة.
(2) المقة: من ومق يَمِق مقة إذا أحب وعشق (المعجم) ولا يخفى على الفطن ما في الكلام من محسنات البديع.
(3) في الأصل: ترتيب.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: عليه.(13/245)
ولفظ الشافعي في المختصر: [وأكره] (1) مجاوزة الثلاث، وهذا هو الذي حمل بعض الأصحاب على جواز المجاوزة، والشافعي كثيراً ما يطلق الكراهية والمراد به التحريم.
ولم يتعرض أحد لذكر مدة الإيلاء، وإن كان زمانها معتبراً في الإضرار، ولو سبق إليه سابق، فشرْطُه ألا تزيد النوب على أربعة أشهر زيادة لا تنتهي النوبة إلى الواحدة بعد أكثر من أربعة أشهر.
وهذه احتمالات مختلطة.
فإن ثبت [أن] (2) [تعيين] (3) أقدار الزمان إلى الزوج على النسق الذي [ذكرناه] (4) ، فإذا كان يفتتح توظيف النُّوَبِ؛ فالمذهب أنه يحكِّم القرعةَ [أم] (5) الابتداءُ بواحدة باختياره؟
[من] (6) أصحابنا من قال: هذا إليه أيضاًًً، ثم تنتظم النوب.
8631- ومما يدور في الخلد أنَّا إذا منعنا الزوج من وطء زوجةٍ في نوبة زوجة، فهذا الوطء حرام، [أم] (7) ماذا نقول فيه؟ فإذا حرّمناه وقد صادف محل الحِلّ، كان بعيداً، وإن أحللناه، فهو ممنوع من الجماع بعينه، وليس كالصلاة في الدار المغصوبة، ومما يزداد به الغموض أنَّ الوطء ليس مُستحَقاً عليه لواحدة منهن، فإنه لو لم يطأ واحدة منهن، أو وطىء بعضَهن وانكف عن وطء بعضهن، فلا معترض عليه.
والذي أراه أن التحريم المضافَ إلى الوطء ينقسم: فمنه تحريم يرجع إلى عين
__________
(1) في الأصل: "ذاكره" وهو تصحيف عجيب يشهد بأن هذا الناسخ (يرسم) ولا يقرأ، والله المستعان.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: تعين.
(4) مكان بياض بالأصل.
(5) في الأصل: "والابتداء".
(6) في الأصل: ومن.
(7) زيادة لتوضيح المعنى.(13/246)
الوطء على التحقيق من غير تعلُّقٍ بحق الغير، هذا هو الذي نُطلق فيه التحريم من غير محاشاة كالوطء في غير محل [الحل] (1) ، ثم ينقسم هذا أقساماً لسنا لها، وفي وطء الحائض ما قدمته في بابه.
ومن الأقسام تحريمٌ يتعلق برعاية حق الغير إذا كان مُفضياً إلى إبطال حق له مستَحَق، وهذا كوطء الراهن المرهونة، حرمناه لإفضائه إلى هلاك المرهونة، أو إلى بطلان المالية الصالحة لوثيقة الرهن.
والقسم الثالث - ما نحن فيه، وهو تحريم الوطء لأجل إفضائه إلى إدخال مَغِيظَةٍ على الغير، وإن لم يكن ثَمّ حق مستَحَقّ.
فإذن لو (2) قال قائل: الوطء من جهة مصادفته محلَّ الحل ليس بمحرم، ومن جهة تضمنه جرَّ مغيظة وضراراً من هذا الفن، فهو محرم.
ثم اللائق بالتحقيق النظر إلى المحل والحل، والقطعُ بالإباحة وصرف التحريم إلى إيقاع المغيظة، لا إلى ما وقعت المغيظة به، والقول في هذا يغوص إلى مغاصات الأصول.
8632- ثم نختم الفصل بذكر إجماع الأصحاب على أنه لا يجب على الزوج التسوية بينهن في الجماع، فإنَّ ذلك موضع تلذذ، لا يليق بمحاسن الشرع الإجبار عليه والتسوية.
فصل
معقود في ظلم الزوج بعضَ نسائه بالقَسْم وإقامته عند صواحباتها 8633- فنقول: إذا ظلم واحدة، فبات عند ضراتها، ولم يبت عندها، يلزمه القضاء للمظلومة، وأول ما يتّضح القصد به أن نوبتها المستحقة وإن كانت ليلة من أربع ليال، فظُلْمها يقع على تفرق، فإذا ألزمنا الزوج القضاءَ، فإنه يوفيها حقها وِلاءً
__________
(1) في الأصل: المحل.
(2) جواب لو محذوف، تقديره: فقد أصاب، (أو نحوها) .(13/247)
تباعاً، وليس له أن يفرِّق القضاء. وهذا بمثابة ما لو أتلف أموالاً في أزمنة متفرقة على إنسان، فإنه يغرَمُها له دفعة واحدة. وإذا ترك صلوات في مواقيتها عاصياً بتركها، قضاها وِلاءً وإن تركها مفرقة.
ثم صورة الظلم والقضاء ما نَصِفه، فلو كانت تحته أربع نسوة، فبات عند ثلاث ستين ليلة، عند كل واحدة منهن عشرين، فإنه يقضي للمظلومة عشرين ليلة تباعاً.
ولو بات عندهن ثلاثين ليلةً، قضى للمظلومة عشر ليال، ولو كنَّ ثلاثة (1) ، فبات عند اثنتين عشرين قضى للمظلومة عشراً.
8634- وإن تصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها آخراً، فنكح جديدة، فالوجه أن يخص الجديدة بحكم الزفاف -كما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى-، إن كانت بكراً، فسبع، وإن كانت ثيباً، فثلاث، وهذا لا يحسب في حساب.
ثم هذه المظلومة تستحق عشر ليال، وإنما يقضي لها من حقوق [اللتين] (2) ظلم الزوجُ هذه بهما، والجديدة لم يظلم الزوج بها.
فقال الأئمة: الوجه أن نُدير الليالي بين المظلومة وبين الجديدة، فنقسم للجديدة ليلة، وللمظلومة ثلاثَ ليال، فتمضي ثلاث نوب، وقد وفّى المظلومة من العشر التي استحقتها تسعاً، فبقي ليلة واحدة، فلو وفاها، جرَّ ذلك عسراً على الجديدة في حقها؛ فإنَّ القضاء إذا انقضى يجب إعادة النوب، وربما لا تنتهي النوبة إلى الجديدة إلاَّ في الخامسة مع احتساب الليلة العاشرة، وحقها أن ترجع النوبةُ إليها في كل أربع ليال إن كانت النوبة ليلة، وهذا إذا وقع أفضى إلى ظلم الجديدة.
وكان شيخي يرتبك في هذه المسألة وتختلف أجوبته، ثم كان يستقر على [أن] (3) هذا تَحَيُّفٌ لازم لا بد منه؛ فإنه لا مستدرك فيه إلا بالتبعيض، وتبعيض الليل مفسد، ولو بعَّضنا، لأضررنا لأجل التبعيض بالأُوليين والمظلومة، وهذا يجر خبلاً، ونحن
__________
(1) ثلاثة: بالتاء، مع أن المعدود مؤنث، ولكن هذا جائز لتقدم المعدود.
(2) في الأصل: الليلتين.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(13/248)
قد نعدل عن المنصوص عليه في الزكاة إلى القيمة حذاراً من التشقيص.
وهذا الذي ذكره محمول على [مسلكٍ من] (1) إعمال النظر في صرف الكلام إلى تمهيد الوجه البعيد.
والذي [قطع] (2) به الأصحاب أن هذا التحيّف يجب استدراكه، ولا طريق في استدراكه إلاَّ التبعيض، ولا يقع ضرر التبعيض موقعاً إذا كان في معارضة إحباط حق.
فإذا ثبت هذا، فالوجه: أن يقضي للجديدة ثُلثَ ليلة؛ فإنَّ الليلة العاشرة دارت بين ثلاثٍ: المظلومة والأُولَيَيْن، فانقسمت عليهن أثلاثاًً، فليثبت للجديدة مثلما ثبت لكل واحدة، وهذا لطيف في مجاري الحساب؛ فإنَّ الظلم وقع في ليلة، والقسمة وقعت من ليلة وثلث ليلة، فإنَّ الذي يقتضيه الإنصاف التسويةُ بينهما، ولا سبيل في طلب التسوية إلا هذا، فإذا قضى لها ثلث ليلة، فالوجه: أن يخرج ويبيت عند صديق في بقية الليل، فإنَّ تخلل الفُرَج في النّوَب ليس ظلماً، إنما الظلم في الإقامة عند بعضهن تخصيصاً وترك بعضهن.
ولو كان يدير عليهن النُّوبَ ليلة ليلة، وكان يخلل في أثناء النوب فرجات، فلا بأس عليه.
فإن قيل: في أصل المسألة سؤال؛ فإن المظلومة إذا كانت تستحق قضاء عشرٍ وأدرنا النوبَ بينها وبين الجديدة على أربع، فكما نُثبت للجديدة في كل أربع ليلةً متجددة، فنثبت للمظلومة أيضاًًً ليلة متجددة، فما لنا نحسب لياليها من محض الظلم، ولا نثبت لها مما يتجدد في الزمان مزيداً؟ قلنا: هذا خيال؛ فإن اللتين وقع الظلم بهما (3) كانتا تستحقان من تلك الأيام شيئاً، فقد جرى [التدارك] (4) على نحو الظلم، وهذا متجه لا خفاء به.
__________
(1) في الأصل: ملك عن.
(2) في الأصل: وقع.
(3) اللتين وقع الظلم بهمات المراد الزوجتين اللتين بات عندهما، وظلم الثالثة قبل أن يتزوج الرابعة.
(4) في الأصل: بالتدارك.(13/249)
8635- ولو طلَّق المظلومة، فقد سقط حقُّها في الحال، ولكن بقيت مظلمتُها في القيامة وإن سقطت طَلِبتُها، ولو راجعها، فهي على حقها؛ فإن النكاح واحد، ولو أبانها ثم جدد النكاح عليها، قال القاضي: عليه قضاء ما ظلمها به في النكاح الثاني، وهذا متجه، وكأنَّا نقول: لم يسقط حقها، ولكن تَعذَّر إمكانُ إبقائه، فإذا عاد الإمكان، فالحق قائم كما كان.
ويتجه جداً تخريج هذا على القولين في عَوْد الأحكام في النكاح الثاني.
وأقربها شبهاً بما نحن فيه طَلِبة المُولَى عنها في النكاح الثاني. وقد ينقدح في ذلك فرق؛ فإنَّ عود [الحق] (1) في الطلاق فيه بُعدٌ، من جهة أنه [قطع] (2) حِلَّ نكاح مضى، وإيلاء المولي في وضع اليمين باقٍ، [بدليل] (3) أنه لو وطئها في النكاح الثاني، حنث.
وليس قضاء الظلم من هذه المآخذ، وإنما هو من المأخذ الذي ذكره، وهو عُسر التوفية، فإذا زال العسر، فالطلبة قائمة.
8636- ووراء ما ذكرناه غائلةٌ، وهي أن هذا إنما يتجه إذا جدد النكاح على المظلومة، واللواتي وقع الظلم بهن باقيات تحته، فإن استبدل بهن، فلا يقضي الظلم أصلاً؛ فإنه لو قضاه، لظلم الجديدات.
ولو لم يُفرض بينونة، ولكن ظلم واحدةً بعشرين ليلة، ثم لم يُبنها، بل أبان اللواتي وقع الظلمُ بهن، واستبدل عنهن جديدات، فلا يتصور القضاء؛ فإنَّ القضاء لا معنى له إلاَّ أن ينقطع عن اللواتي وقع الظلمُ بهن، ويشتغل بتوفية حق المظلومة، وهذا بيّن لا إشكال فيه.
__________
(1) في الأصل: الحث.
(2) في الأصل: "علّق" والمثبت اختيارٌ منا لأن الحديث عن نكاحٍ ثانٍ بعد بينونة قطعت الحل.
(3) في الأصل: بذلك.(13/250)
فصل
قال: "ويقسم للمريضة والرتقاء ... إلى آخره" (1) .
8637- حق القَسْم يثبت للنسوة، وإن كان بهن موانعُ طبيعيةٌ أو شرعيةٌ من الوقاع، فيقسم للمريضة، والرتقاء، والحائض، والنفساء، والتي ظاهر عنها -وإن كان لا يقربها حتى يُكَفِّر- وكذلك يقسم للصائمة، والمُحْرِمة؛ والسبب فيه أن المقصود الظاهر من القَسْم الإيناس، ولسنا ننكر أن المقصود الأقصى الوقاعُ، أو تزجيةُ الوقت على [رجائه] (2) ، ولكن عماد القَسْم الإيناسُ، واجتنابُ التخصيص، والحذرُ من الإضرار، بإظهار [الميل] (3) وهذا يتضمن إشراكَ اللاتي ذكرناهن، والتي آلى عنها زوجُها إذا انقضت مدة الإيلاء، فلها المطالبة بالطلاق، والمطالبة بحق القَسْم على البدل، وإليها الخِيَرةُ.
8638- ثم إن كان الزوج يسكن منزلاً، وكان يدعوهن في نُوَبهن، فعليهن أن يحضرنَه، ومن امتنع منهن، فهي ناشزةٌ، ويسقط حقها من القسم في نوبة امتناعها.
وإن كان يدور عليهن في مساكنهن، فليفعل من ذلك ما يراه.
وإن كان يُساكن واحدة منهن، وكان يدعو إلى دارها ضَرّاتِها، فلهن أن يمتنعن؛ فإنَّ مُساكنة الضَّرَّة لا تجب.
والقول في تفصيل المساكنة، واشتمالِ دارٍ على حُجَر يأتي مستقصًى في كتاب العِدد، إن شاء الله عز وجل، ومحل غرضنا: منْزِلٌ مُتحد لا يجوز للزوج أن يُسكنه ضرتين (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/43.
(2) كذا قدرناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف.
(3) في الأصل: المثل.
(4) خالف ابنُ أبي عصرون الإمامَ في هذا، فعقَّب قائلاً: "قلت: وهذا الإطلاق لا يصح؛ فإنهما إذا رضيتا بذلك، جاز" ا. هـ.(13/251)
ولو كان يدعو بعضَهن ويصير (1) إلى بعضهن في منزلها، فقد قال القاضي: ليس هذا من العدل والتسوية.
ولست أرى [الأمرَ] (2) في هذا بالغاً مبلغ [الحظر] (3) ، وإنما هو ممّا يُفرض من التفاوت في [التهلّلِ] (4) والاستبشارِ والوقاعِ نفسِه- وإن استُثْني الوقاع بخروجه عن الاختيار، فالاستمتاعات الاختيارية كالقبل [واللثم والالتزام] (5) لا تشترط [فيها] (6) التسوية.
وقد ينقدح في ذلك فرق، فإنَّ تخصيص البعض بالمسير إليها، وتخصيص البعض بالاستدعاء، قد يورث [ضغينةً] (7) وإظهارَ تفاوت في الميل والتقديم والتأخير، ومع هذا يجب القطع بأنَّ هذا القدر من التفاوت محتمل؛ لأنَّ تفاوت الأقدار والمناصب قد يقتضي هذا القدر، فلا ينتهي الأمر فيه إلى التحريم.
8639- ثم قال الشافعي: "وإن سافرت بإذنه ... إلى آخره " (8) .
إذا سافرت المرأة، ففي سفرها ثلاث مسائل: إحداها - أن تسافر دون إذن الزوج، فهي ناشزة، لا قَسْمَ لها ولا نفقة.
والمسألة الثانية - أن تسافر [الزوجة] (9) بإذن الزوج، بأنْ كان أشخصها في شغل من أشغال نفسه فنفقتها دارّة، وحقها من القسم ثابت، فإذا عادت وكان أقام في غيبتها عند ضراتها، فيجب عليه أن يقضيَ حقَّها، كما بيِّنا كيفية القضاء فيما مضى.
__________
(1) يصير: أي يمضي إلى بعضهن، كما عبر بذلك الرافعي والنووي.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "الحصر". والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.
(4) في الأصل: التملك.
(5) في الأصل: والقيم والإلزام.
(6) زيادة من المحقق.
(7) فى الأصل: مريضة.
(8) ر. المختصر: 4/44.
(9) في الأصل: الزوج. وهي صحيحة، ولكن جرى الفقهاء في الأبواب كالميراث والنكاح على استعمال (الزوجة) بالتاء لدفع اللبس.(13/252)
والمسألة الثالث - أن تخرج بإذن الزوض في حاجة نفسها ومُهمٍّ سَنَحَ لها، فإذا كان ذلك، فالمنصوص عليه في الجديد: أنه يسقط حقها من القَسْم ونفقتِها، وقال في القديم: لها القسم والنفقة؛ لأنها خرجت بالإذن والرضا. والصحيح: القول الجديد؛ فإنها اشتغلت عن الزوج بما هو خالص حقها، فيبعد أن يثبت حقها على الزوج وهي مشتغلة عنه، وهذا في القَسْم على نهاية الوضوح؛ من جهة أن طمعها في استمرار حقها من القسم مع اشتغالها بغرضها عن استيفاء الحق طمع في غير مطمع، فالإذن لا يفيدها إذاً إلا سقوطَ المأثم.
8640- ثم قال: "وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه ... إلى آخره" (1) .
ذهب أئمة المذهب إلى أنَّ الزوج إذا جُنَّ، فإنَّ حق القَسْم ثابت، كما كان من قبل، وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه، مع رعاية التسوية، وإن رأى، دعاهن إليه في نُوَبهن. ثم قالوا: لو ترك الوليُّ حقَّ واحدة، وخصَّ الزوجَ بالباقيات، فهذا ظلمٌ يجب تداركه بطريق القضاء كما تقدم، فإنْ تداركه الوليُّ بنفسه جاز. وإن أفاق المجنون، وقامت البينة على ما جرى من الظلم، واعترف به اللواتي وقع الظلم بهن، فيجب عليه أن يقضي إذا [استبلَّ] (2) واستبد (3) به.
وإن لم تقم بيِّنة، ولم يثبت اعتراف، فقول الولي غيرُ مقبولٍ في دعوى ظلمٍ جرى؛ لأنَّ الولاية قد انقطعت بالإفاقة؛ فلم يبق للولي سلطان. وإذا زال سلطان الولاية، زال بزواله قبولُ القول. هذا مسلك الأئمة المعتبرين.
8641- وذكر بعض المصنفين وجهين: أحدهما - ما ذكرناه.
والثاني - أن حق القسم يسقط بالجنون، فلا مطالبة على الولي برعايته؛ فإنَّ الغرض الأظهر من القَسْم الإيناسُ، والمحذورُ من التحيف فيه إظهارُ الميل،
__________
(1) ر. المختصر: 4/44.
(2) في الأصل: استقل. ومعنى استبل أي شفي.
(3) استبدّ به: أي ملك القضاء وانفرد بالتصرف.(13/253)
والإضرارُ بهذه الجهة بالتي يقع التخلف عنها، وهذان المعنيان مفقودان من المجانين.
وهذا لا بأس به، وإن لم أرَه إلا في هذا التصنيف ومؤلفه مجهول (1) عثورٌ (2) في المذهب.
وعندي وراء ذلك نظر، وهو أن مخاطبة الولي بأنْ يطوف به عليهن لا وجه لها؛ فإنَّ الزوج العاقل لو أراد التخلف عنهن، فلا مطالبة عليه، وإنما يُطَالَبُ الوليُّ بما يُطَالَبُ به الزوجُ لو لم يكن مَوْلياً [عليه] (3) .
ولو أدخل الوليُّ واحدةً على الزوج، فهل يجب عليه أن يُثبت لكل واحدة مثلَ هذا؟ هذا محل النظر، فالذي ذكره معظم الأصحاب: أنه يجب؛ تنزيلاً للولي منزلة الزوج. والذي ذكر في هذا التصنيف أن ذلك لا يجب على الولي؛ فإنَّ عماد القَسْم ما ذكرناه من اجتناب إدخال المغايظ على المحرومات بتمخصيص المخصَّصات، وهذا إنما يُفزع قلوبَهن من جهة الزوج، فأما الولي، فلا يتعلق بفعله هذا.
وما ذكره الأصحاب أظهرُ؛ طرداً للقياس الذي مهدناه من أن الولي مُخاطبٌ في المجنون بما يُخاطب به الزوجُ لو كان عاقلاً. ونحن وإن راعينا ترك الإضرار واجتناب المغايظ، فلسنا ننكر كونَ القسم حقاًً مطلوباً.
وبقي في المسألة نظر في أنهن لو جِئْنَ وقُلنَ: للزوج أن يتخلف عنا بجملتنا لو كان عاقلاً، بناءً على الاختيار والإيثار، ونحن في أثناء ذلك نرجو عودَه إلى القَسْم، وإذا
__________
(1) مجهول: أخشى أن تكون (جهول) . فبعض المصنفين الذي يقصده الإمام ليس مجهولاً! وقد صرّح النووي بأن صاحب هذا الوجه هو الفوراني. (الروضة: 7/347) . وغفر الله لإمامنا إمام الحرمين، فليس أبو القاسم الفوراني جهولاً، ولا مجهولاً، ولكنه "استيلاء النقص على البشر".
(2) عَثور: أي كثير العثرات. وقد أشرنا أنه يقصد بقوله: "بعض المصنفين" أبا القاسم الفوراني، وأنه كثير الحطّ عليه. ولكن لم يبلغ ذلك إلى الوصف بأنه (مجهول عثور) إلا هذه المرة. ومع ذلك يُظهر إعجابه بقوله، ويثبته في كتابه. ويا للعجب كيف يصنع الغضب حتى بالكبار!!
(3) في الأصل: عنه.(13/254)
جُن الزوج وأطبق الجنون، فلا إيثار له، فلو منعْتَه عنا، لكان ذلك إضراراً [بنا] (1) ؛ فقد يتجه إذا لم يكن على الزوج ضرر من الوقاع أن تجب إجابتهن، فظاهر النص دال عليه، فإنَّ الشافعي قال: وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه، وفحوى كلام الأئمة دالةٌ على حمل ذلك على التسوية، حتى لو فرض الامتناع عن إدخاله عليهن [جملةً] (2) ، فالمسألة محتملة جداً. وقد أشرنا إلى وجوه الكلام في أطراف المسألة، وما حكيناه من الوجهين في بعض التصانيف يمكن حمله على هذا الطرف أيضاًًً.
8642- ثم إن كان يُجن يوماً، ويُفيق يوماً، فليس من العدل أن نجعل نوبة الجنون لواحدة، ونوبةَ الإفاقة لواحدة، ولكن الوجه: أن [نبني] (3) نوبة الجنون ونوبة الإفاقة إمَّا على التناوب، وإمَّا على الجميع.
وحكى الأئمة أيضاًً للشافعي [قولاً] (4) في أنَّ الرجل إذا كان مفيقاً في نوبةِ واحدةٍ، مجنوناً في نوبة الأخرى، فأيام الجنون غيرُ محسوبة على التي كان الزوج مجنوناً في نوبتها، ونجعلُ كأنَّه غاب عنها، فإذا أفاق، وفّاها حقها مثلما وفَّى للأولى في حالة الإفاقة.
وهذا [يُحوج] (5) إلى تدبر؛ فإنَّ أيام الجنون على الجملة أيام قَسْم على ظاهر النص. وقول الأصحاب، [بإخراج] (6) أيام الجنون عن الاعتبار فيه بعضُ النظر: يجوز أن يُقال: إن لم ترض بالإقامة عندها في أيام الجنون وانتظرت الإفاقة، فلها ذلك؛ فإنها تقول: أقام عند صاحبتي عاقلاً والتسويةُ مرعية، فأما إذا [أقام عندها] (7) في الجنون، فهذا منها بمثابة الرضا بعيبِ ما يجوز رده بالعيب، فإن لم يكن بأيام
__________
(1) في الأصل: بينا.
(2) في الأصل. بجملته.
(3) في الأصل: بين.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: يخرج.
(6) في الأصل: فإخراج.
(7) في الأصل: أقامت عنده.(13/255)
الجنون اعتبار، فهذا يؤكد سقوطَ حكم القَسْم في أيام الجنون بالجملة، كما نقلنا التردد [فيه] (1) ، والله أعلم.
8643- ثم قال الأئمة: إن كان الزوج محجوراً سفيهاً، فهو في نفسه مخاطب بالتسوية بينهن؛ فإنه عاقل مكلف، ولا مدخل للولي في هذا.
8644- ثم قال: "وإن خرج من عند واحدة في الليل أو أخرجه السلطان ... إلى آخره" (2) .
إذا كان الزوج عند واحدة في نوبتها، فخرج في بقية الليل باختيارٍ، أو أخرجه السلطانُ، فقد تبعض على صاحبة النوبة حقُّها في هذه الليلة، فيجب على الزوج قضاءُ ما فاتها من حقها، ولم يصر أحدٌ من الأصحاب إلى أن ما مضى من الليل يبطُل ويتعطل حتى يجب قضاء الليلة بتمامها، وإن كنَّا ذكرنا وجهاً في أنه لو جامع في نوبةِ واحدةٍ ضرّتها، فقد بطلت الليلة، وهذا الوجه حيثما ذكرناه ضعيف. ثم الفرق لائح؛ فالذى يجب قضاؤه المقدارُ الذي فات.
ثم إذا أراد قضاءه وتحته امرأتان مثلاً، فالوجه: أن يبيت المقدار الذي كان فيه عند تلك الزوجة عند صديقٍ، أو في مسجدٍ، فإذا انتهى إلى الزمن الذي خرج فيه، عاد إليها وأقام عندها، ولا يضر تخلفه عن ضرتها في ليلة تامة؛ فإنّ تخلل التفريق والفُرَجُ في خلَلَ القسم ليس ظلماً، إذا لم يكن فيها مقيماً عند واحدة؛ فإذاً المقدار الذي كان فيه [ثاوياً] (3) عند صديق مستثنى من حساب نُوَبِ القَسْم، وإنما المحسوب المقدار الذي [يقضيه] (4) .
ثم التبعيض في هذه الصورة محتملٌ على الضرورة، وإن كنا نمنع من وضع القَسْم على أنصاف الليالي؛ فإنما نمنع ذلك على الاختيار، وإذا حَمل عليه اضطرارٌ في القضاء، فلا بد من احتماله.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/44.
(3) في الأصل: ثابتاً.
(4) في الأصل: يقتضيه.(13/256)
وإن أراد الذي يبغي قضاء نصفِ ليلة أن يبيت في النصف الأول عند زوجتيه؛ فهو ممكن، فليجعله نصفين في المقدار متساويين، يقيم في أحد النصفين -وهو ربع الليلة - عند إحداهن، ويبيت في الربع الآخر عند الأخرى، وقد حان وقت القضاء. والأشبه أن يقيم عند التي يقضي لها ثلاثةَ أرباع ليلةٍ ليلةً وِلاءً حتى [لا] (1) يحتاج إلى الانتقال.
8645- ثم قال: "وليس للأماء قَسْمٌ، ولايُعطَّلْن" (2) ، [لا] (3) خلاف أنه لا قَسْم للإماء، ولا قَسْم للمستولدات أيضاًًً، وإن ثبت لهن أحكام الفراش عند بعض العلماء، ثم كما لا قَسْم لهن مع الزوجات، لا قسم بينهن [والمولى] (4) بالخيار فيهن -وما ينشأ من إسقاط حكمهن، وهو عظيم الوقع على الحرائر المنكوحات-[أن] (5) الزوج لو أقام عند أَمَةٍ دهراً، فلا اعتراض عليه، مع العلم بما يتداخل الزوجات من ذلك، ولكن مقتضى الشرع أنهن مخرجات من الاعتبار نفياً وإثباتاً، وإنما يُطلب حق القسم إذا دخل على واحدة من المنكوحات، فللباقيات جينئذٍ أن يُطالبنه بالتسوية.
8646- ثم ذكر الشافعي فصلاً في إضرار الرجل بامرأته، ورفْعِها شكواها إلى مجلس القاضي، ونحن نرى تأخير ذلك إلى باب الحَكَمَيْن، وفيه نذكر إضرارها ونشوزَها عليه، والتباسَ الأمر بينهما، وقد عقد الشافعي في النشور باباً مُفرداً.
8647- ثم قال: "وله منعها من شهود جنازة أمها وأبيها، وما أحب ذلك ... إلى آخره" (6) .
للزوج أن يُلزم المرأةَ لزومَ البيت، ويمنعَها من الخروج حسماً (7) ، ويمنعها عن
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 4/44.
(3) في الأصل: في.
(4) في الأصل: والأولى.
(5) في الأصل: لهن.
(6) ر. المختصر: 4/44.
(7) حسماً: أي قطعاً (المعجم) .(13/257)
عيادة الوالدين إذا مرضا فضلاً عن زيارتهما، ويمنعها عن شهود تجهيزهما إذا ماتا، هذا الحق ثابت له إجماعاً.
ولكن قال الشافعي: "وما أحب ذلك". أراد: أني لا أستحب للزوج الغلوّ إلى هذا الحد؛ فإنه سرف يُفضي إلى الحمل على قطيعة الأرحام، ثم فيه حملُها على ما تمقُت به الزوَج وتفرَكُه (1) لأجله، ثم يتنغص العيش عليه، فيؤدي الأمر إلى قطع الوُصلة، والمسلك المستقيم رعايةُ القصد على التعميم، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا ينبغي أن يأذن لها في التبرج، ولا يمنَعها عن زيارة الأبوين وعيادِتهما، وشهودِ تجهيزهما، أو زيارةِ القبر، فأمَّا اتباع الجنازة إلى المقبرة؛ فإنه هُتكة وتكشف؛ فالأولى منعها.
***
__________
(1) تفرَكُه: أي تبغضه.(13/258)
باب الحال التي يختلف فيها حال النساء (1)
8648- مضمون الباب الكلامُ في حق [الزِّفاف] (2) . فنقول: إذا نكح الرجل بكراً أو ثيّباً، وعنده زوجات، فتُخَص المزفوفةُ إليه بحقٍّ في العقد غيرِ محسوب في نُوَبِ القَسْم، فإذا انقضى ذلك، كما سنصفه، عاد إلى ترتيب النُّوَب، فإن كانت الجديدة بكراً، خَصّها بسبع ليالٍ، وإن كانت ثيِّباً خَصّها بثلاث ليالٍ، ثم لا تحسب السبع والثلاث على الجديدتين، ولا يلزمه قضاؤهما في حقوق المتقدمات.
وأبو حنيفةَ (3) يجوِّز التخصيصَ، ويُلزم القضاءَ في البكر والثيب. ومعتمد الشافعي ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عند أم سلمة لما زُفت إليه ثلاثَ ليال، فلما انقضت، فارقها، فتعلقت برسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أهلك هوان! إنْ شئت سبَّعتُ عندك وسبَّعت عندهن، وإن شئت ثلّثت عندك ودُرت " (4) . وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للبكر سبع، وللثّيبِ ثلاث" (5) . فالباب موضوع على الخبرِ، ومقتضاه ما ذكرناه، فللبكر سبعٌ، فإنها نفورةٌ، فلا يزول ما بها من الحشمة والحياء إلاَّ بمدة، والثيِّبُ في ذلك دونها، ثم الرجوع في المقادير إلى التوقيف.
8649- ثم لو أقام عند الثيِّب سبعاً بطلبها ورضاها، أقام عند كل واحدة من
__________
(1) في الأصل: " باب الحال التي يحلف فيها منع النساء " والتصويب من المختصر.
(2) في الأصل: الرقاب.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 190، ومختصر اختلاف العلماء: 2/295 مسألة رقم: 785.
(4) رواه مسلم: 2/1083 كتاب الرضاع، ح 1460، ومالك في الموطأ: 2/529 كتاب النكاح رقم 14، وانظر التلخيص: 3/410، ح 1718.
(5) حديث أنس أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب إذا تزوج الثيب على البكر، ح 5214، ومسلم: 2/1084، كتاب الرضاع، ح 1461، وانظر التلخيص: 3/410 ح 1717.(13/259)
صاحباتها سبعاً سبعاً، وبطل حقُّ اختصاصها بحق العقد. وإن أقام عندها ثلاثاًً، لم يقض الثلاث.
وإن أقام عندها سبعاً من غير طلبها، لم يبطلُ اختصاصُها بالثلاث، ولم يقض لصواحباتها إلا الأربع الزائدة على مقدار حقها، والتعويل فيما ذكرناه على الخبر، فإنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن شئت سبَّعت لك وسبعت لهن -وهذا تصريح بقضاء السبع- وإن شئت ثلثت عنك ودُرت". معناه: عدت في الأدوار إلى أحسابها، ولم أقض الثلاث. وإنما قال هذا، إذ طلبت منه أم سلمة أن يقيم، فإذا لم يكن منها طلب، لم يملك الزوج إبطالَ حقِّ عقدِها بإطالة المقام عندها.
وذكر الأصحاب لِمَا ذكرناه من بطلان حقِ العقد نظيراً، وفي ذلك النظير كلامٌ، ولكنا نذكره، قالوا: لو قطع الجاني يدَ إنسانٍ من المرفق، فقطع المجنيُّ عليه يدَه من الكوع في القصاص، فليس له حكومة في الساعد؛ فإنه قَطَعَ ما لم يكن له قَطْعُه، وعدل عن حقه. وكذلك الثيب إذا عدل عن حقها إلى ما هو حق غيرها.
8650- ولو أقام عند البكر أكثرَ من سبع، لم يقض لضراتها إلاَّ مقدار الزيادة.
ولسنا نفي بمعانٍ جامعة فارقة، وإنما ندور على مقتضى الخبر، فإذا لم نجد متعلقاً فيه، رجعنا إلى التمسك بالقياس. ومن القياس الجلي ألاَّ يبطل حقُ صاحبِ الحقِ إذا أخذَ أكثرَ من حقه، فأجرينا الزيادةَ على حقِّ البكرِ على هذا القياس، وتركنا ما ذكرناه في حق الثيب من بطلان حقها -إذا طلبت الزيادةَ وأُجيبت- على موجب الخبر.
8651- ولو طلبت الثيب أن يقيم عندها خمسَ ليال، فهل يبطلُ حقُها بهذا المقدار من الزيادة أو بما دونها؟ أم يتوقف بطلانُ حقِها في الثلاث على أن تطلب السبعَ أم ببعض هذا؟ لم أرَ فيه نصاً، وفي المسألة احتمال تشيرُ إليه الترديداتُ التي ذكرناها.
8652- ومما يتعلق بالباب أنَّ المنكوحةَ إذا كانت أَمَة؛ فكيف القول في حق عقدها إذا زُفت؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: هي كالحرة، وإن كانت (1) أعلى منها في القسم المستمر في دوام النكاح؛ لأنَّ حقَّ العقدِ لغضِّ الحياء وكسر
__________
(1) وإن كانت أعلى: المراد الحرة.(13/260)
الحشمة، وهذا يرجع إلى الجِبلَّة، وما يتعلق بالجبلات من المُدد لا يختلف بالرق والحرية [ولذا لم يتطرق إليه فرقٌ في مدة العُنَّة والإيلاء] (1) وفيما ذكرناه احتراز عن العدّة.
ومن أصحابنا من رأى تنصيف حق العقد بالرق؛ فإنَّ هذا على مضاهاة القَسْم، وإن اختص بمزيد غرض، فإلحاقه بقاعدة القَسْم أولى.
فإنْ فرعنا على هذا الوجه الأخير، فلا وجه إلاَّ التنصيف، فللأَمَةِ البكر ثلاثُ ليال ونصف، والأيام على حسب ذلك، وللأَمَةِ الثيب ليلةٌ ونصف، والأيام كما ذكرناه، وليس ذلك كالأقراء، فإنَّا لا نثبت للأَمة في العدة قرءاً ونصفاً؛ فإنَّ القروء لا تتبعض، والليلة تتبعض.
فإن قيل: أليس تردَّدَ الأصحاب في الاعتداد بالأشهر، فقال قائلون: تعتد الأمة بشهرين، قلنا: سبب ذلك أنهم رأوا الأصل الأقراء، فأثبتوا شهرين في مقابلة قرأين.
والأصح أنَّ اعتداد الأمة بشهر ونصف. وهاهنا قطعوا بالتنصيف؛ إذ لا أصل يمتنع التبعيض فيه.
8653- ثم قال الشافعي: "ولا أحب أن يتخلف عن صلاة ولا عن شهود جنازة ... إلى آخره" (2) .
أراد بهذا أنَّ الزوج في إقامته أيام الزفاف عند زوجته ينبغي أن لا يترك إقامة الجماعات والخروج لها، وهذا إنما ذكره الشافعي على ظهوره؛ لأنَّ أهل الحجاز يعتادون لزومَ بيت العرس إلى انقضاء أيامٍ، لا يرون البروز فيها، فأبان أنَّ تلك العادة لا أصل لها.
***
__________
(1) عبارة الأصل: "وإذا لم يتطرق إليه بعد المدة العُنَّة والإيلاء" والمثبت تصرف من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/45.(13/261)
باب القَسْمِ للنساء إذا حَضَرَ سفرٌ
8654- نقول في صدر الباب: إذا أراد الانتقال إلى بلدة أخرى، فهو بين أمرين، إمَّا أن يستصحبَ جميعَ زوجاته، وإمَّا أن [يخلّفهن] (1) ، ولا معترض عليه في ظاهر الحكم في واحد من الأمرين.
وأمَّا إذا أراد أن يستصحب بعضَهن، وينتقلَ معها، ويخلِّف الباقيات، فهذا حرامٌ محض.
وإذا كنا نُحرِّم تفضيل امرأة بلحظة من القَسْم؛ لما فيه من إثبات التخصيص والميل، فالانتقال ببعضهن وتعطيل الباقيات أعظم من هذا.
والذي يدور في الخَلَد أنه إذا انتقل إلى بلدة أخرى، وأزمعَ إدامةَ الإقامة، وخلّف الزوجات بجملتهن، فقد يخطِر للفقيه أنهن يتضررن باحتباسهن عمرَهن. وليس كما لو كان يمتنع من الدخول عليهن وهو حاضر؛ فإنهن كنَّ يرجون أن يعود إلى المألوف من معاشرتهن، والعَوْدُ ممكن، [وأما] (2) إذا انتقل وخلّفهن، فهذا ضرر بيِّن، وليس ينتهي الأمر إلى التحريم.
8655- فإنْ لم يكن سفرُه سفرَ نُقلةٍ، فهو في الخِيرَتين المذكورتين في سفر النُّقلة على ما ذكرناه، فإنْ شاء خلّفهن ولم يستصحب واحدة منهن، وإن شاء سافر بهن.
ولو أراد أن يسافر ببعضهن ويخلِّفَ الباقيات، فليس له أن يفعل ذلك بانياً على تخيّره وإرادته؛ إذ ذلك لو فعله مناقضٌ لوضع القَسْم، من المنع عن إظهار الميل.
وحقه إذا أرادَ المسافرةَ ببعض نسائه أن يقرع بينهن، فيسافرَ بمن تخرجُ القرعةُ
__________
(1) في الأصل: يخلفن.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(13/262)
عليها، وإذا فعل ذلك، فالأيام التي تنقضي في سفره لا يلزمه [قضاؤها] (1) للمخلّفات إذا رجع إليهن.
والأصل في الباب، ما روي عن عائشة أنها قالت: "كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتُها سافر بها" (2) . ثم صح بطريق الاستفاضة أنه كان إذا رجع يجري على النوب في القَسْم.
وذكر الأئمة معنى كلياً -والتعويل على الخبر- ونحن نذكر منه ما ينضبط به المذهب إذا تفرعت مسائل الباب، فنقول: المرأة التي تخرج مع زوجها مسافرة، وإن كانت تحظى بصحبة الزوج، فإنها تشقى بما تلقى من محن السفر، وينضم إلى هذه سقوطُ اعتبار الرجل في تحكيمه القرعة. والمخلّفةُ وإن كانت تشقى بفُرقة الزوج، فهي على حظٍّ بالتردد والتودع (3) في البلد. فهذا أصل الباب. وأبو حنيفة (4) يُلزم قضاء أيام السفر للمخلّفات، ولا يجعل للقرعة أثراً في إسقاط القضاء.
8656- ثم ذكر أئمتنا مسائلَ مرسلةً تأتي على أطراف الباب، ونحن نأتي بها، ثم نجمعها في ربقة جامعة.
__________
(1) في الأصل: قضاؤه.
(2) حديث عائشة رواه البخاري: كتاب النكاح، باب القرعة بين النساء إذا أراد سفراً، ح 511، ورواه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، ح 2445، وانظر (تلخيص الحبير: 3/412 ح 1721) .
(3) التودع: الإقامة والدّعة.
(4) لم أر هذا عند الأحناف، لا في مختصر الطحاوي، ولا في مختصر اختلاف العلماء، ولا في حاشية ابن عابدين. بل وجدت عكس ذلك في الاختيار لتعليل المختار: 3/117، قال ما نصه: "ويسافر بمن شاء، والقرعة أولى ... ومن سافر بها لي عليه قضاء حق الباقيات؛ لأنه كان متبرعاً، لا موفياً حقاًً" ا. هـ. وحكى الرافعي عن الغزالي في الوسيط أنه قال: إن أبا حنيفة رحمه الله، قال بوجوب القضاء (ر. الشرح الكبير: 8/380، والوسيط: 5/300) . قلتُ، عبد العظيم. تبع الغزالي شيخه في هذا النقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو مخالف لما رأيناه عند الأحناف، فهل هو وهم في النقل، أم هو قول مهجور لأبي حنيفة رضي الله عنه؟ وانظر أيضاًًً (البدائع: 2/333، والهداية: 1/222) لترى أنهما أيضاًً يقولان بعدم القضاء للمخلّفات، وانظر أيضاًً: المبسوط: 5/219، وابن عابدين: 2/401.(13/263)
فمما ذكروه: أن الرجل إذا بلغ المقصد، فلو نوى مقام أربعة أيام، فعليه قضاؤها للمخلَّفات إذا رجع؛ فإنه في إقامته خرج عن حكم المسافرين، وهذا مما أجمع عليه أئمة المذهب، القاضي، والصيدلاني وغيرهما.
ثم إذا ابتدأ الرجوعَ، فهل يلزمه قضاءُ مدة الرجوع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - يلزمه؛ فإنه من وقت الخروج عن حد المسافرين، انقطع حكم السفر المُسقط للقضاء، فتلتحق أيام رجوعه بأيام إقامته.
والوجه الثاني - أنه لا يقضي للمخلفات أيام الرجوع؛ فإنه من وقت ابتداءِ الرجوعِ تركَ ما لابَسَهُ من الإقامة، وعاد إلى حكمِ السفر، وقد اقتضى السفر سقوطَ القضاء، وهو من وقت الرجوع مسافر.
وناصر الوجه الأول يقول: الظاهر يقتضي أن يقضي للمخلَّفات إذا خصص واحدة من الضَرَّات بالصحبة، ولكن القرعة اقتضت جواز التخصيص من غير قضاء، فإذا انقطع حكم القرعة بالإقامة، لم يعد حكمُها، ولا بد من استفتاح قرعة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك إلاَّ عند العَوْد، وفرضِ إنشاء سفر، وابتداء إقراع عنده، وهذا بمثابة ما لو اعتدى المودَع وضمن، فإذا ترك العُدوان، لم يعد أميناً؛ [إذ] (1) جرى الائتمان أولاً مطلقاً.
ثم إن حكمنا بأنه يقضي أيام رجوعه للمخلفات، فلا كلام، وإن حكمنا بأنه لا يقضي؛ فالذي قطع به الأئمة: أن الأيام التي لا يقضيها أولها من وقت خروجه متوجهاً إلى الوطن الذي به المخلّفات.
8657- وفي بعض التصانيف أنَّ أول الوقت [عند] (2) عزمه على [الانكفاء] (3) وقصده. وهذا غلط [صريح] (4) ؛ فإنَّ حكم الإقامة إذا ثبت لا يزول إلا بمزايلة المكان الذي ثبت حكم الإقامة فيه.
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل: عن.
(3) في الأصل: الانكفاف. والانكفاء: هو الرجوع.
(4) في الأصل: صحيح.(13/264)
وإنما وقع لهذا المصنف هذا من قول الأصحاب: إنه إذا قصد الإقامة، لزمه القضاء من هذا الوقت؛ فظن أن قصد الرجوع في قطع الإقامة كقصد الإقامة في قطع السفر، وهذا ظاهر السقوط، ولا مصدر له عن فكرٍ؛ فإنَّ الإقامة تحصل بمجرد القصد، كما تحصل [القِنية] (1) في البضائع لمحض النية، ولا تنقطع الإقامة إلاَّ بفعل السفر، كما لا ينعقد حول التجارة إلا بإنشاء عقد التجارة، فليس هذا إذاً معدوداً من المذهب.
وقد ذكر العراقيون اختلافاً للأصحاب على مناقضة هذا، فقالوا: إذا سافر الرجل ببعض نسائه عازماً على الانتقال إلى البقعة المقصودة، فهذا ظلم منه، وإذا انتهى إلى البقعة [المأمومة] (2) ، فالأيام التي تتفق الإقامة فيها (3) بها مقضية، والأيام [التي] (4) قطع [فيها] (5) المسافة من الوطن إلى البقعة، فعلى وجهين: أحدهما - أنها لا تُقضى؛ فإنها أيام سفر، والمسألة مفروضة في الإقراع واتباع خروج القرعة لا محالة.
والثاني - أن تلك الأيام مقضية؛ فإنها قصدُ ظلم، فكانت في معنى الظلم، وهذا [أوجه] (6) ، والوجه الأول مزيف، وليكن ميل الفقيه في الباب إلى القضاء، مهما وجد فيه مستمسكاً.
8658- وإذا أقام في البقعة التي قصدها، وثبت له حكم الإقامة، وانقطعت رخص المسافرين، ثم إنه أنشأ سفراً من تلك البقعة قُدُماً، وهو مُستدبر وطنَه مثلاً، فإن قلنا: أيام رجوعه إلى الوطن مقضية- فهذه الأيام مقضية، وإن قلنا: أيام الرجوع
__________
(1) غير مقروءة بالأصل. والقِنية: الاقتناء، يشير الإمام بها إلى أن من يملك عروضاً للتجارة، إذا نوى القِنية، أي نوى اقتناءها، واتخاذها لنفسه، ينقطع حول التجارة بمجرد نية القِنية.
(2) في الأصل: المأمونة.
(3) فيها: أي في البقعة المأمومة. وبها: أي بالزوجة التي معه. فالمعنى: الأيام قضاها في البقعة بهذه الزوجة.
(4) في الأصل: الذي.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: الوجه.(13/265)
لا تُقضى، فالحال ينقسم في تقدمه بالسفر، فإن بدا له هذا السفر الآن، ولم يكن [عازماً] (1) عليه في خروجه الأول، فهذه الأيام مقضية؛ فإنه أنشأ السفر عن إقامةٍ، وما كان عزم عليه قبلُ.
وإن كان نوى أن يمتد إلى بغداد، فأقام بالرَّي الإقامة التي وصفناها، ثم استتم سفرته إلى بغداد؛ فهذا فيه احتمالٌ، على قولنا: أيامُ الرجوع غيرُ مقضية، والأوجه هاهنا: وجوب القضاء.
ويجوز أن نَفْصل بين أن يقطع نيةَ السفر، ثم تبدو له فيعود، وبين أن يكون مستديماً لنية السفر الأقصى، ولكن نوى إقامة أيامٍ في بقعة، فتنتظم أوجه، وجهان عامَّان في النفي والإثبات، ووجه مُفَصَّل، كما نبهنا عليه.
ولو نوى مُقام المسافرين، فهو مسافر، لا يتغير من الحكم الذي ذكرناه في القسم شيء.
8659- وذكر العراقيون أنه إذا سافر ببعض نسائه سفراً قصيراً، فيلزمه القضاء، وزعموا أن القضاء إنما يسقط في السفر الطويل عند فرض القرعة المسقطة للاختيار، وكأنهم عدُّوا سقوط القضاء في مقابلة المشقة التامة.
وكان شيخي يتردد في هذا ويقول: من الرخص ما يتعلق بالسفر القصير والطويل وفاقاً، أو على قولٍ، وأحراها بالذكر الجمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً.
والوجه عندي: القطع بما ذكره العراقيون (2) ؛ فإنَّ ما نحن فيه يضاهي إسقاط العبادات، أو تخلية الأوقات منها. وهذا الفن لا يثبت إلا في السفر الطويل، والله أعلم.
فهذه المسائل أطلقها الأصحاب وما أحوجَها إلى رباط يحويها.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) لم يرجح الرافعي ولا النووي أياً من الوجهين، ولكنهما نقلا ترجيح صاحب التهذيب وصاحب التتمة للتسوية بين السفر الطويل والقصير (ر. الشرح الكبير: 8/381، والروضة: 7/363) .(13/266)
8660- وقد أجرى الأصحاب في صدر الباب النُّقلة، وهذا قد يخيِّل أن إقامة أيام وإن جرى العزم عليها لا توجب القضاء، ثم صرحوا بأنه لو أقام أربعة أيام على قصد وعزم- فهذه الأيام مقضية. وكل ما [ذكروه] (1) صحيح.
والضبط فيه أنَّ سفر النُّقلة ببعض النساء محرَّم، يعني تخصيصَ المخرَجة.
والسفرُ إذا لم يكن سفرَ نُقلة، وكانت الحاجة تَمَسُّ إلى إقامة أيام بالقصد، فهذا النوع من السفر مما يسوغ فيه تخصيص بعض النسوة بالقرعة، وليس كسفر النقلة، ويجب قضاء أيام الإقامة؛ لمكان التودّع (2) وزوال المشقة.
وإن كان السفر عرياً عن قصد النقلة، ولم تكن [فيه] (3) إقامة تزيد على مدة المسافرين؛ فيجوز الخروج ببعض النسوة بالقرعة ولا يلزمه القضاء.
8661- فالأسفار إذن على ثلاث مراتب.
[المرتبة الأولى:] (4) سفر النقلة، وهذا هو الذي لا يجوز الخروج فيه ببعض النسوة؛ فإنه لا يتصور أنْ يجمع من يقصد الانتقال بين قصد الانتقال وقصد القضاء، فيجرد قصدَه ظلماً، فكان مقصودُه محرماً.
والمرتبة الثانية: سفرةٌ (5) فيها تودّع يُسقط رخص المسافرين، فالخروج ببعض النسوة على شرط تحكيم القرعة جائز، ثم أيام الإقامة إذا انقضت مقضيةٌ؛ لما فيها من التودّع.
والمرتبة الثالثة -[هي] (6) سفرة طويلة لا [يتخللها] (7) ولا يتصل بمنتهاها،
__________
(1) في الأصل: ذكره.
(2) التودّع: أي الدعة والراحة من السفر.
(3) في الأصل: فيها.
(4) هذا العنوان من وضع المحقق.
(5) في الأصل: لسفرة.
(6) في الأصل: في.
(7) في الأصل: يتخيلها.(13/267)
[إقامة] (1) في أيام تزيد على مدة إقامة المسافرين، فيجوز تخصيص بعض النسوة [بالإقراع] (2) ، والقضاءُ منتفٍ في جميع الأيام، فإنَّ حكم السفر مطرد فيها.
8662- ثم ننعطف ونقول: إذا خرج بالبعض وقصدُه النقلة، وأقرع، فعلى أيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد خلاف، ذكره العراقيون وإذا كان على قصد إقامة أيام في منتهى السفر مثلاً، فأيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد غيرُ مقضية بلا خلاف.
وأما المرتبة الثالثة، فلا كلام فيه؛ فإنَّ جُملة الأيام عرية عن التودّع، وفيها دقيقة لطيفة، وهي: أنَّ المسافر [إن] (3) كان لا يقيم بمقصده إلاَّ يوماً واحداً؛ فإنه لا يقصر في المقصد ولا يفطر؛ إذ لو عُدَّ ذلك منزلاً، لكانت مرحلة واحدة كافية؛ لأجل أنها إذا حسبت ذهاباً ومجيئاً، صارت مرحلتين، [فإنا نميز] (4) الرخصة في السفر من غرض القَسْم؛ فإنَّا لا نوجب القضاء إذا لم يُقم في مقصده، وإن كان لا يقصر، لأن [مبنى] (5) هذا الباب على زوال التودّع، ومبنى الرخص على انتهاء السفر، والرجوع ابتداءٌ آخر.
والذي يقتضيه هذا القياس أنَّ السفر إذا كان مرحلة واحدة، فيجب أن يكون في إسقاط القضاء [كمرحلتين] (6) في التقصير (7) ، فإنَّ مدة الكون في خاصية الباب في منتهى السفر كالإقامة في مرحلة من المراحل، وهذا لطيفٌ حسن، والاحتمال مع ذلك قائم.
8663- ومما بقي في الفصل: الكلام في أيام الرجوع، فنبدأ بالمرتبة الثالثة، ونقول: أيام الرجوع في السفرة التي لا تودّع فيها كأيام الذهاب، وأيام الرجوع من
__________
(1) في الأصل: أقام.
(2) في الأصل: "بالإخراج".
(3) في الأصل: وإن.
(4) في الأصل: "فإنا نامن الرخصة".
(5) في الأصل: منتهى.
(6) في الأصل: لمرحلتين.
(7) كذا. ولعلها في القصر.(13/268)
السفرة المبنية على قصد النقلة على وجهين، والأصح فيها: القطع بوجوب القضاء؛ فإنه لم يجر إقراع له حكمٌ في ابتداء الأمر، ولست أرى لنفي القضاء وجهاً، ولكنه مشهور.
فأما أيام الرجوع من المقصد الذي أجرى فيه قصدَ الإقامة لا قصدَ الاستيطان، ففيه وجهان: أصحهما - أنَّا لا نقضي؛ فإنَّ السفرة جائزة بسبب القرعة، وإذا اطَّرد الجواز؛ فلا يُستثنى من سقوط القضاء إلاَّ أيام التودع.
8664- ومما يعترض في الباب أنَّ المسافر إذا قصد بقعة ولم يُزمع الإقامة في مدة، ولكن ربط أمره بانتجاز حاجة، فالقول في أنه هل يترخص إذا زادت إقامتُه على مدة المسافرين مذكور في الصلاة.
فإن أدمنا الرُّخَصَ، فالأيام غير مقضية، وإن أسقطناها وألحقناه بالمقيم؛ فالقول فيه كالقول في إبرام العزم على الإقامة أربعة أيام، فإن قيل: لا تودّع بمن يبرم عزمه [على الرحيل بانتجاز حاجته] (1) ، قلنا: أُلحق هذا الشخص بالمتودّع [بدليل] (2) سقوط الرخص.
8665- ومما يجري ركناً في الباب أنه لو خرج بواحدة من غير قرعة، فإذا آب، قضى للمخلفات إجماعاً، وينضم إلى وجوب القضاء عصيانُه بالخروج بالتي اختارها؛ فإنه أظهر الميل إليها، فاقتضى ذلك تعصيتَه وإلزامَه بالقضاء، فلا نظر -مع ما ذكرناه- إلى مقاساتها المشقة.
8666- ولم يختلف العلماء في أنه إذا أقام عند واحدة من نسائه في الحضر ليمرضها، فهذه الأيام مقضيةٌ للأخريات، فإن ماتت المريضة، خرجت من البين (3) ، ولم يظهر أثرُ وجوبِ القضاء في حق الباقيات، فالوجه أنْ نقدر كأنَّ التي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: بالمتودّع به ليل سقوط الرخص.
(3) البَيْن: هذه من ألفاظ إمام الحرمين التي رأيناها في البرهان وغيره، ثم ترددت هنا كثيراً، ومعناها واضح من السياق، وإن لم نجدها منصوصة في المعاجم بهذا المعنى.(13/269)
ماتت لم تكن. وإن استبلّت وبرئت، قضى تلك الأيام [للباقيات] (1) ؛ فإنَّ قيامه بتمريضها يقع [محضاً] (2) لها، وليس كذلك الخروج ببعضهن سفراً؛ فإنها وإن حظيت من وجه، شقيت من وجه.
ثم لا يجوز للرجل أن يقوم بالتمريض ويقطع النُّوبَ إلاَّ عند حاجة. وقد رأيت في هذا تردداً للأئمة، فالذي ظهر من كلام المعظم أنَّا نشترط أن يكون المرض مخوفاً، وأشار مشيرون إلى أنَّ الحاجة الحاقّة كافية، حتى إذا عظمت الآلام -وإن لم تبلغ مبلغ الإخافة [ولم] (3) تجد ممرضاً- فللزوج أن يقوم بتمريضها.
وإذا كان المرض مخوفاً، ووجدت المرأةُ من يقوم بتمريضها ففي جواز قيام الزوج بتمريضها تردد.
وحاصل المذهب أنَّ المرض إذا اشتدَّ ألمُه، [ولم تجد] (4) المرأة غيرَ الزوج، فللزوج تركُ النوب لتمريضها، [وإن وجدت] (5) غيرَه، فعلى التردد.
وللزوج القيام بتمريضها في المرض المخوف إذا لم تجد من يقوم مقامه، فإن وجدت، فعلى التردد.
وقد نجز مضمون الباب تأصيلاً وتفصيلاً، ونحن نذكر على إثر ذلك فروعاً مرتّبة المآخذ..
فرع:
8667- إذا سافر بواحدة بالقرعة -حيث يسقط القضاء- فلو تزوج بجديدة في خلال الطريق، فإنه يخصها بحق العقد ثلاثاًً أو سبعاً، ثم يَقْسِمُ بينها وبين التي سافر بها، فلو أراد أن يخلّف إحداهما ببلد، لم يجز إلا بالقرعة، وإذا فعل ذلك بالقرعة، فالتفصيل على ما قدمناه.
__________
(1) في الأصل: الباقيات.
(2) في الأصل: محض.
(3) في الأصل: إذ لم.
(4) في الأصل: ووجدت.
(5) في الأصل: وإن لم تجد.(13/270)
ولو خرج بامرأتين بالقرعة، جاز، فلو بدا له أن يخلِّف إحداهما ببلد، لم يجز إلاَّ بالقرعة.
ولو ظلم إحداهما في الطريق لصاحبتها، قضاها في الطريق، فإن لم يتفق القضاء حتى رجع، قضى للمظلومة من حق [التي] (1) ظلمها بها دون حق صاحبتها المتخلفتين.
ولو خرج منفرداً، ثم تزوج في الطريق، لم يلزمه أن يقضي للمخلَّفات [كل الأيام] (2) التي صحب فيها المُتَزَوَّجَةَ في السفر؛ لأنه خرج ولا حقَّ لهن، ثم تزوج في السفر، ولا يتصور عليه القَسْم بينهن، وإنما يجب الإقراع في اللواتي يجتمعن تحته حالة السفر، فإذا كان الإقراع يُسقط حق المتخلفات، فابتداء [الزواج] (3) بذلك أولى.
فرع:
8668- إذا كان تحته زوجتان، فنكح جديدتين، فقد ثبت لهما حق العقد، فلو أراد سفراً وأقرع، فخرجت القرعة على إحدى الجديدتين، فإذا سافر [بها] (4) ، فلا شك أن أيامها تندرج تحت صحبة السفر، إذا كان يصحبها.
فإذا عاد، فهل يلزمه أن يوفي الجديدةَ الأخرى حقَّ العقد -إذا لم يكن وفاها من قبل؟ والمسألة فيه إذا زُفَّت إليه، فلم يُقم عندها؟ اختلف أصحابنا في المسألة فيما نقله العراقيون، فمنهم من قال: لا يوفيها حق العقد؛ فإنَّ أيام حق العقد قد انقضت في سفره، كما انقضت نُوبُ القديمتين، ثم لا يجب قضاءُ نوب القديمتين، فلا يجب تدارك حق العقد.
ْومن أئمتنا من قال: يجب أن يوفيها حقَّ العقد، ولا يقاس حقُّ العقد في ذلك بالقَسْم، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي؛ والسبب فيه أن معنى التوحش قائم، وحق القَسْم قد يسقط بأسباب، وهو يجب شيئاً شيئاً، فإذا كان الرجل مسافراً على
__________
(1) في الأصل: الذي.
(2) في الأصل: بكل للأيام.
(3) في الأصل: الزوج.
(4) زيادة من المحقق.(13/271)
شرط الشرع، فلا يجب للمخلَّفات حقُّ القَسْم. وحق العقد يجب دفعةً واحدة، لا على قياس القسم؛ فإنَّ القسم [للتسوية] (1) ، وحق العقد حق مستَحقٌّ في الذمة، فلابد من الوفاء به.
وعندنا أنَّ ما ذكروه في المزفوفة. فأمَّا التي لم يزفها بعدُ إذا أدخلها في القرعة، ولم تخرج القرعة عليها، فإذا عاد وزفها؛ فيجب القطع بأن حقها -والحالة هذه- قائم.
ولو نكح جديدةً وزفها على قديمة، وخرج مسافراً، ولم يستصحب واحدة منهما، فإذا عاد، فالذي أراه أنه يلزمه أن يوفي المزفوفةَ حق العقد هاهنا، فإن مضت أيام في السفر غيرُ محسوبة عليه، وفي المسألة احتمال على حال، والعلم عند الله تعالى.
***
__________
(1) في الأصل: التسوية.(13/272)
باب نشوز المرأة على الرجل
8669- للمطيعة المنقادة النفقةُ والقَسْمُ على زوجها. والناشزة هي الممتنعة من التمكين، والأصل في الباب قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] . وقد ذكر الشافعي [للآية] (1) تأويلين: أحدهما - أنَّ هذه الخصال مرتبة على أحوالٍ تصدر منها، فإن خاف الزوج نشوزَها، ولم يبدُ بعدُ عينُ النشوز، بل بدت أماراته، [فيعظها] (2) حينئذٍ.
فإن لم تتعظ وأبدت النشوز، هجرها في المضجع، فإن أصرت وتمادت ولم تحتفل بالهجر في المضجع، ضرَبَها، واقتصد، عالماً بأنه لو أفضى الضربُ إلى الهلاك، أو إلى فساد عضو، ضمن.
وقد يرد لفظُ الجمع والمراد به ذكْرُ المراتب، والتخييرُ فيها على حسب وقوعها، قال الله تعالى في آية المحاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] ، فاللفظ للتخيير، والمراد به الترتيب على قدر الجرائم، هذا أحد التأويلين.
والثاني - أن [يحصر] (3) معنى الآية فيما بعد وقوع النشوز، وعند ذلك يجمع بين الوعظ والهجر والضرب، فإذا أمكن حمل هذه الخصال على الجمع -وظاهر الصيغة مُشعرٌ بالجمع-، فالأولى أن يحمل على ذلك، فعلى هذا معنى قوله: تخافون، أي: تعلمون النشوز. وقد يرد الخوف والمراد به العلم.
__________
(1) في الأصل: الأئمة.
(2) في الأصل: فيعظلها.
(3) في الأصل: يحضر.(13/273)
8670- واختلفت الأخبارُ في ضرب النساء، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تضربوا إماء الله" (1) فجاء عمر وقال: "يا رسول الله [ذَئِر] (2) النساء أي [نشزن] (3) واجترأن، فأذِن في ضربهن، فبسط الرجال أيديهم إلى ضرب النساء، وجاوزوا الحد، فأطاف بآل محمد أي: بحُجَرِ نسائه وأهل بيته صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثيرات كلهن يشتكين أزواجهن، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: لقد أطافَ الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلُّهن يشتكين أزواجهن!! خيارُكم خيارُكم لنسائكم، لا يضربن أحدُكم ظعينتَهُ ضربه أَمَته" (4) .
ثم تكلم الشافعي في ترتيب الكتاب والسنة، فذكر وجهين: أحدهما - أنه يحتمل أن تكون الآية وردت بإباحة الضرب، ثم نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه تنزيهاً، ثم لمَّا استطالت النسوة [بأذاهن] (5) على الأزواج أذنَ في ضربهن، فلما بالغوا، قال آخراً: خياركم خياركم لنسائكم، واستحث على الصبر على أذاهن والإعراض عن مجازاتهن على شكاسة الأخلاق وشراستهن، وهذا [لعمري] (6) هو الأصل.
__________
(1) حديث " لا تضربوا إماء الله " رواه أبو داود: كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، ح 2146، والنسائي كتاب عشرة النساء، باب ضرب الرجل زوجته، ح 9167، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب ضرب النساء، ح 1985، والحاكم: 2/ 188، 191، والبيهقي: 7/354، (وانظر تلخيص الحبير: 3/413) .
(2) في الأصل: دَبُرَ. بهذا الرسم وهذا الضبط.
وذئر النساء: من قولهم: ذئر يذأر ذأراً: أنف وغضب، واستعد للمواثبة، فذئر النساء: أي نشزن على أزواجهن، وذئرت المرأة على بعلها: نثزت، فهي ذئر وذائر (المعجم) .
(3) في الأصل: خسرن. وأرها محرفة عن (نشزن) .
(4) هذا الحديث مع ما قبله: "لا تضربوا إماء الله" أخرجه البيهقي على نحو سياقة إمام الحرمين تماماً إلا بعض ألفاظ، وفي آخره قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وايم الله لا تجدون أولئك خياركم" مكان رواية الإمام: "خياركم خياركم لنسائكم، لا يضربن أحدكم ظعينته ضربه أمته" (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 7/354) .
(5) في الأصل: "بذلتهن"، والمثبت اختيار منا على ضوء السياق، ويساعدنا على هذا الاختيار ورود الكلمة بعد ذلك بسطور.
(6) غير مقروءة في الأصل.(13/274)
8671- فإذا تبيَّن أصل الباب، فَسِرُّه وأهمُّ ما فيه: تصوير النشوز، ونحن نذكر فيه ما يشفي الغليل -إن شاء الله عز وجل-، ثم نذكر طرفاً من الكلام في ضربهن، ثم نذكر حكم النشوز.
8672- فنقول أولاً: لسنا نشترط في النشوز أن تمتنع المرأةُ امتناعاًً لا يدخل في إمكان الزوج ردُّها إلى الطاعة قهراً، بل إذا نشزت وتمكن الزوج من ردها، فهي ناشزة، هذا طرف أطلقناه، ويعارضه أنها لو كانت تمتنع امتناعاً يمكن عده من فنون التدلل والمجاذبة لتكون أشهى، فليس هذا من النشوز، وليس من شرط طاعتها المبادرةُ التي تُخرج من [خَفَر] (1) الحياء إلى تشوُّف التوقان، فما المعتبر إذن في تصوير النشوز؟
فنقول: إن خرجت عن مسكنه، فهي ناشزة على تحقيق، وإن استمكن من ردها. وإن كانت معه، ولكن كانت تمتنع على الزوج امتناعاً يحوجه إلى تأديبها، فقد يتعرض الرجل بسبب امتناعها لضررٍ؛ بسبب تخلف قضاء النَّهْمة والشهوة، فهذا نشوز؛ فإنَّ النشوز ضدُّ الطاعة.
والطاعة معلومة في المنقادة على حسب العادة، وقد تختلف بالبكارة والثيابة، وعلو المنصب، والتوسط في الدرجة، وهذا على تصوير لزوم المرأة أُبهة الحياء، والامتناع هو الذي يلحق إضراراً بالرجل بسبب تأخر الحاجة، أو يحوجه إلى أن ينتصب مؤدِّباً، والنكاح للإيناس والاستئناس، والذي يحقق ذلك: أن الطاعة تمكينٌ منها، وهي تستفيد به تقرير حقها، فإذا احتاج الزوج في تحصيله إلى تضرر أو مقاساة [كُلفة] (2) ، فله أن يتركها حتى يضيع حقها.
8673- والترتيب في ذلك أنها إذا خرجت من مسكن النكاح، فهي ناشزة كيف فرض الأمر، وإن لم تخرج وعُدّت مطيعةً، والزوج لا يحتاج في تحصيل الغرض منها إلى مقاساة كلفة، أو تعرض لضرر أو إقدام على ضرب؛ فهي مطيعة. وإن كان
__________
(1) في الأصل: خفة.
(2) في الأصل: كلفته.(13/275)
يحتاج إلى كُلفة أو ضرب أو تعرض لضرر، فهي ناشز.
ولو كانت تمكن من الوقاع، وتمنع مما عداه من جهات الاستمتاع، فكيف السبيل وهي ممكِّنةٌ من المقصود؟ فهذا نوع من النشوز، وأقرب أصلٍ إلى ذلك ما ذكرناه في الأَمَة، إذا كان السيد يسلمها ليلاً ولا يسلمها نهاراً، فذاك أولاً سائغ للسيد. ثم في وجوب النفقة خلاف، وما ذكرناه في الحرة غير سائغٍ لها، وهي مُمكَّنةٌ (1) من المقصود، ففي استقرار النفقة تردد، ولكنها مجبرة على ما يحاوله الزوج منها إذا كان لا يكلفها ما لا يسوغ.
فهذا قولنا في تصوير النشوز.
8674- وليس من النشوز أن تبذو (2) على زوجها، وتستطيل عليه سبَّاً وشتماً، فإنها إذا كانت تُمكِّن مع ذلك، فالتمكين [جارٍ] (3) ولا نشوز، وهي ممنوعة عن المسابّة مزجورة عنه، وإنْ أفضى الأمر إلى التعزير عُزِّرت، وفيه فضل نظر أذكره في فصل الضرب.
8675- فأما القول في الضرب؛ فالأولى ألاَّ يضرب، وليس كالولي في حق الطفل [العرِم] (4) ، فإنَّا نؤثر له أن يؤدبه، والفرق أنَّ الولي يؤدبه لاستصلاحه، والزوج يؤدب زوجته لتصلح له، والضرب ليس فيه توقيف، والجبلاَّت تختلف باختلاف الأحوال في احتمال الضرب، فالأولى ألاّ يتعرض للضرب المفضي إلى الغرر لحظّ نفسه [ففيه] (5) الحيدُ عن الصفح وحُسن المعاشرة.
__________
(1) ممكَّنة: بفتح الكاف هنا، والمعنى أنّ الحرة ليس لديها مانع يسوّغ لها عدم تمكين الزوج من أي جهة من جهات الاستمتاع، بخلاف الأمة لا يسلمها السيد إلا ليلاً.
(2) تبذو عليه: من قولهم: بذُو بذاةً وبذاءة، وبذَوْتُ عليهم وأبذيتهم، من البذاء وهو الكلام القبيح. (القاموس المحيط) .
(3) في الأصل: جازٍ (بالزاي) .
(4) العرم: من قولك عَرَم فلان يعرُم عَرْماً: اشتدّ وخبث، وكان شريراً (المعجم) .
(5) في الأصل: فيه.(13/276)
وإذا أراد الضربَ، ففي وقته تردد، ذكر العراقيون وجهين في أنَّ الزوج هل يُبادر الضرب بأول نشوز، أم لا يجوز له الضرب حتى يستمر أو يتكرر منها النشوز؟ [وتلقَّوْا] (1) ما حكَوْه من الاختلاف عن ظاهر القرآن؛ فإنَّه عز من قائل قدم ذكرَ الوعظ، ثم عقّبه بالهجر، ئم اختتم بالضرب، فنبّه سياقُ الخطاب على رعاية تدريج، ثم ظاهر كلامهم -[في] (2) هذا إذا نصروا المنع من الهجوم على الضرب- يشير إلى أنَّ الضرب يقع في الثالثة، [فإنهم] (3) لما نصروا الوجه الثاني رأَوْا هذه الخصال مجموعة كما (4) ظهر النشوز.
8676- وتحقيقُ القول في هذا يعطف الفقيه على النظر في حال من يقصد الإنسان في بدنه أو ماله، فإنَّ الدفْعَ يقع على التدريج، على ما سيأتي مشروحاً -إن شاء الله تعالى- حتى إذا كان الدفع ممكناً بتهييبٍ وزجرٍ في المنطق، لم يجُز الانتهاء إلى الفعل، ثم الأفعال تترتب على أقدار الحاجة، والقول في ذلك متيسرٌ سنضبطه في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
ويجوز أن يقول القائل: المنع من النشوز يجري على ترتيبِ دفع الصائل في رعاية التدريج، [ونهايته] (5) في أنَّ الصائل لا يُدْفع إلا بما يأتي عليه، فيجوز دفعه إلى ما يُفضي إلى هلاكه، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا، فانَّ [للتأديب] (6) موقفاً من طريق التقريب، لا يُتعدّى، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
ويجوز أن يقال: ليس ضربُ الناشزة في معنى الدفع، وإنما هو في معنى إصلاحها في مستقبل الزمان. وإذا كانت تنزجر في كل نوبة من النشوز، نقول: فقد تعتاد ذلك؛ فلا يمتنع أن يقال: إذا نشزت وظن الزوج أنَّ الوعظ يصلحها والهجرَ،
__________
(1) في الأصل: وتلقَّوه.
(2) في الأصل: وفي.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) كما: بمعنى عندما.
(5) في الأصل: "ونياهته". هكذا بدون نقط (انظر صورتها) .
(6) في الأصل: التأديب.(13/277)
فيقتصر. وإن ظن أنها ستمرن (1) وسيفسد حقه منها، فيضربها لتصلح له في المستقبل، وهذا هو الحق لا غير، وعليه يجري تأديب الأب ابنه، غيرَ أن الأب يصلحه له، والزوج يصلحها لنفسه.
8677- ثم المتبع في ذلك الظن، فإن ظهر للزوج سوء خلقها بنشوزٍ واحدٍ، ضربها، وإن قدر النشوز الواحد نادرة، لم يضربها، ويختلف هذا باختلاف الأحوال والأشخاص، ولا نطلب في ذلك يقيناً، ولا يجوز الإقدام على الضرب من غير ظن في أنَّ الاستصلاح يحصل به.
وإنْ أبت المرأةُ وتمادت؛ وكانت لا تنكفّ [إلا] (2) بالضرب المبرِّح، فليس للزوج أن يبرِّح بها، وينتهي إلى حالة توقع الخوفَ عليها؛ فإنَّ الغرض إصلاحُها، فإذا ظن أنها لا تصلح فَضَرَبَها، كان ذلك [حَنَقاً] (3) وشفاءَ غليل، وهو غير مسوّغ، هذا هو السر المتبع، ولو أفضى الضرب إلى الهلاك، وجب الضمان، وإنْ أفضى إلى نقيصةٍ ثبتت لمثلها حكومة، فعلى الزوج أن يضمنه.
وإن جرَّ الضرب شيئاً، ثم زال نوجب على الجاني (4) في مثل ذلك شيئاً على وجهٍ بعيد، والوجه هاهنا: القطع بأنه لا يجب على الزوج شيء.
فإن قيل ضرب الزوج إذا أفضى إلى نقيصة، فالبعض من هذا لو اقتصر عليه، لما كان موجِباً ضماناً، فهلاَّ جعلتم النقيصة بمثابة أثر يترتب على مستحِق وغير مستحِق؟ قلنا: إذا جاوزَ الزوجُ الحد، أَخرجَ بآخر فِعْلِه أوّلَه عن كونه إصلاحاً، فصار جميع ما صدر منه جناية، وسنصف هذا في أبواب التعزيرات من كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ستمرن: أي ستعتاد النشوز، من قولهم: مَرَنَ وجهه على الأمر: تعوّد تناوله بدون حياء أو خجل. (معجم) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: حقاًً.
(4) على الجاني: أي في الجنايات، غير ضرب الزوج كما هو واضح.(13/278)
8678- ومما أطلقه الأئمة ونطق به القرآن الهجرُ، وكان شيخي يهجرها في المضجع، ولا يترك [مناطقَتَها] (1) وراء ثلاث ليال؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وهذا فيه نظر عندنا؛ فلو رأى استصلاحها في مهاجرتها في المنطق، فلست أرى ذلك ممنوعاً، وهو أهون من الضرب. والذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو تَهَاجُر الأخوين من غير سبب يقتضيه في الشرع.
هذا بيان الهجر والضرب.
8679-[ويتصل] (2) به أنها إذا كانت تؤذيه في المنطق ولا تمتنع عليه، فهل له أن يؤذيها، أو يرفعها إلى السلطان؟ فيه ترددٌ بين الأصحاب، قال قائلون: هي فيما تأتي به وراء التمكين من موجبات التعزير، كالأجنبية، كما أنها في منعها حق الزوج من مال أو غيره مما يتعلق بحقوق الزوجية كالأجنبية.
وقال قائلون: يؤذيها الزوج على استطالتها، وبذاءة لسانها؛ فإنها وإن كانت ممكِّنةً مع ذلك، فهذا ينكِّد المعاشرة، ويكدّر الاستمتاع، ولسنا ننكر تعلقه بما يوجب استصلاحَ الزوجة في الحقوق الخاصة في النكاح.
فأما الحكم في سقوط النفقة، ففيه (3) تفاصيل تتعلق بكتاب النفقات.
***
__________
(1) في الأصل: مناطقها.
(2) في الأصل: ويبطل.
(3) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. ولذا انتقلنا إلى ص201 شمال، بدلاً من 200 شمال.(13/279)
باب الحكمين في الشقاق بين الزوجين
8680- الأحوال الدائرة في هذه الفنون بين الزوجين تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - أن يصدر العدوان من الرجل في إيذائها والإضرار بها، فإذا تحقق ذلك منه، منعناه من الإضرار، واستوفينا منه ما يمتنع عنه من الحقوق، وإن كان جسوراً لم نأمن أن يضربها ضرباً مبرِّحاً، وقد يفضي ذلك إلى هلاكها، فنحول بينها وبينه؛ فإنَّا إنْ ضربناه لضَرْبه إياها تعزيراً، فقد يضم لذلك [حنقاً] (1) ويبلغ منها مبلغاً لا يستدرك.
ثم إذا استشعر الوالي ذلك وضَربَ الحيلولة، لم يردّها إليه حتى تلين عريكتُه، وتظهر عاطفته، وذلك لا يتبين بقوله، وإنما يتضح بأن يُختبرَ ويوكلَ به في السر من يبحث عن مكنون ضميره فيها، فإذا غلب على الظن أنه مأمون في حقها رُدَّت إليه، وهذا يُضاهي البحثَ عن الإعسار وغيره من الأمور الباطنة المتعلقة بالنفي، ويتصل به استبراؤنا الفاسقَ إذا تاب.
وإن لم يتحقق إيذاؤه إياها، بل ظننا ذلك ظناً، فالوجه أن يأمر الحاكم من يراقبهما في السر والعلن، ولا يشترط أن يتحقق ذلك، ولا يضرب القاضي حيلولة بينهما بمجرد الظن إذا لم تبدر منه بادرة، فإذا بدرت، فقد يديم الحيلولة إلى ظهور الظن بالأمر، وإذا تحققنا الإضرار بها، فليس إلاَّ الحيلولة، فأما إلزام الطلاق، فلا.
8681- وإن تحقق العدوان منها، فهو النشوز، وقد مضى فيه باب، وإن توهمنا نشوزاً، فلا يدَ للقاضي، ويدُ الزوجِ متسلطة عليها، فإن بلغ الأمرُ مبلغاً يُعجز الزوجَ، استعان بالسلطان.
__________
(1) في الأصل: حقاً.(13/280)
8682- وإن نشبت خصومة بين الزوجين، وأشكل الأمر، فلم ندر من (1) الظالم منهما؟ وكان الزوج لا يصفح، والمرأة لا تفتدي، واشتبه حال الزوجين، فهذا موضع بعثة الحكمين، فيبعث الإمامُ حكمين عدلين حَكَماً من أهله، وحَكَماً من أهلها، حتى يخلوَ كل واحد من الحَكَمين بصاحبه، فيستطلعَ رأيه، ويعرفَ مكنونَ غرضه، ورغبته في صاحبه أو عنه، ثم [يلتقيان] (2) ، ويُثبتُ كلُّ واحد ما عنده؛ وإنما استحببنا أن يكونا من الأهلين؛ لأن انبساطهم أكثر، واطلاعهم على حقائق الأمور أمكن.
فهذا تصوير بعثة الحكمين.
والأصل في الباب نص الكتاب لقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، [وفي الآية] (3) وجهان من التأويل. قيل: معناه إن [يُرد] (4) الزوجان إصلاحاً، يوفق الله بينهما.
وقيل: معناه إن يُرد الحكمان إصلاحاً وجرَّدا قصدَهما في ذلك يوفق الله بين (5) الزوجين ببركةِ قصدِهما. وهذا ما فهمه عمرُ من الآية (6) ، فروي أنه بعث حكمين فرجعا، وقالا: لم يتم الأمر بينهما، فَعَلاَهُمَا بالدِّرةِ وقال: "الله أصدقُ منكما، لو أردتما إصلاحاًً، لوفَّق الله"، فرجعا واعتقدا إصلاحاً، فلما بلغا مكانهما، كانا قد أغلقا الباب [وتلاوما] (7) واصطلحا (8) .
8683- ثم [إن] (9) اتفق التئام الحال واصطلاح الزوجين، فذاك.
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) غير مقروءة في الأصل، لذهاب معظم حروفها، وقدرناها على ضوء السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: يريد.
(5) في الأصل: يوفق الله ذلك بين الزوجين.
(6) في الأصل: الأئمة.
(7) مكان كلمة ذهب بها التصوير من طرف السطر.
(8) أثر عمر رضي الله عنه لم نصل إليه.
(9) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.(13/281)
وإن [رأيا] (1) الحال بينهما [أبعد] (2) عن قبول الصلاح ورأيا الخصومة [ناشبة] (3) لا تنفصل، وظنا أن الوجهَ التفريق [بينهما] (4) ، فهل ينفذ الفراق بينهما إذا رأياه؟ للشافعي قولان في أن التحكيم من الولي [تولية] (5) أو هو توكيل من الزوجين، أحد القولين- أنهما وكيلان لا ينفذان أمراً إلا [برضا] (6) الزوجين، فالذي هو من جانب الزوج وكيله لا يطلِّق ولا يخالع ولا [يثبت أمراً بغير] (7) إذن الزوج، والذي من جانب المرأة لا يختلع عن المرأة بشيء من مالها إلا بإذنها.
وهذا [أحد] (8) القولين، وهو اختيار المزني، ووجهه أن الطلاق للرجال، ولا يتعلق به تصرف [متبرع] (9) دون الزوج، إلا في حق المولَّى كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وهو في حكم [المستثنى] (10) المخصوص الذي لا يقاس عليه، هذا في جانب الطلاق.
أما بذل مالها من غير [إذنها] (11) [بطلقة] (12) فعلى نهاية البعد عن قاعدة القياس.
8684- ومن قال بالقول الثاني قال: للحكمين أن يفرقا [إن] (13) رأيا التفريق،
__________
(1) في الأصل: رأينا.
(2) تقدير من المحقق، حيث ذهب التصوير بأطراف السطور.
(3) في الأصل: ناشئة.
(4) تقدير منا مكان كلمة ذهبت من طرف السطر.
(5) تقدير منا مكان كلمة ذهبت.
(6) اختيار من المحقق بدلاً من كلمة سقطت.
(7) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة، وأخرى ذهبت من طرف السطر (انظر صورتها، وغيرها من الكلمات التي قدرناها في هذه الصفحة) .
(8) تقدير منا مكان ما ذهب.
(9) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف.
(10) تقدير منا مكان الساقط.
(11) تقدير منا مكان الساقط.
(12) في الأصل: مطلقة.
(13) اختيار من المحقق.(13/282)
وهو الذي نصّ عليه في أحكام القرآن (1) ، واحتج بأن الله تعالى سماهما [في كتابه] (2) حكمين، والحكم هو الذي يحكم وينفذ ما يراه قهراً، ووكيلا الزوجين لا يسميان [حكمين] (3) . فإن قيل: قيَّد اللهُ تنفيذَ الأمرِ بإرادتهما، قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35] ، قلنا: إن حملناها على الحكمين، سقط السؤال، وإن حملنا قوله: {إِنْ يُرِيدَا} على الزوجين فالمعنى: إن [لاحت] (4) إرادةُ الصلاح مِن الزوجين، وفّق الله (5) بينهما.
وعن علي أنه بعث الحكمين بين [الزوجين] (6) وقال: "أتدريان ما عليكما، ما عليكما إن رأيتما أنْ تُفَرِّقا أَنْ تُفرقا، وإن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا [قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي] (7) ، فقال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، فقال عليٌّ: كذبت حتى تقر [بما أقرّت به] (8) " (9) . ووجه التعلق بقول علي: أتدريان ...
__________
(1) الذي في أحكام القرَان للشافعي يؤيد القول الأول ونص عبارته: " ... بعث حكماً من أهله
وحكماً من أهلها، ولا يبعثهما إلا مأمونين وبرضا الزوجين. ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو
يفرّقا إذا رأيا ذلك.
ثم قال: ولو قال قائل: يجبرهما السلطان على الحَكَمين كان مذهباً" (أحكام القرَان: 1/212، 213، والأم: 5/103، 104) هذا ولم نجد فيما رأينا من كتب المذهب من عزا الأقوال إلى كتب الشافعي إلا الرافعي، فقد عزا القولَ الثاني إلى (الإملاء) وليس إلى (أحكام القرآن) فلعل في الكلام سبق قلم أو وهماً. (الشرح الكبير: 8/391) .
(2) اختيار من المحقق.
(3) تقدير منا على ضوء السياق.
(4) تقدير منا على ضوء السياق.
(5) في الأصل: يوفق الله ذلك بينهما.
(6) تقدير منا.
(7) هذه الزيادة من نصّ رواية الشافعي في الأم.
(8) غير مقروء في الأصل، وأثبتناه من رواية الأم.
(9) حديث علي بهذه السياقة وبهذه الألفاظ، هو نص ما رواه الشافعي في الأم: 5/177، إلا أن إمام الحرمين قدّم " إن رأيتما أن تفرقا ... " على " إن رأيتما أن تجمعا ... " ورواه أيضاًًً النسائي في الكبرى: ح 4678، والدارقطني: 3/295، ح 189، والبيهقي: 7/305، 306، وعبد الرزاق: 6/512، رقم: 11885، 11887، وانظر تلخيص الحبير: 3/414 ح 1723.(13/283)
الحديث، [أنه] (1) فوض الفراق إلى [رأي الحكمين] (2) ولما قال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، رد عليٌّ عليه وقال: كذبت. فما معنى تكذيبه؟ لعله أبدى في الابتداء رضاً بما يستصوبه الحكمان، ثم رجع عنه، [فكان] (3) ذلك [منه] (4) خُلْفاً في الوعد فورد التكذيب عليه.
وإنْ تعلَّق ناصرُ هذا القول بأنَّ [الضرر] (5) مدفوع، ولسنا نرى للخصومة [الناشبة] (6) الملتبسة مدفعاً، وترك النزاع [والشقاق] (7) (8) يخالف مبنى الشرع، فهذا كلام كلي لا يتعلق به على السداد غرض جزئي في محل النزاع.
والذي يقتضيه القياس تقرير النكاح وضرْب الحيلولة بينهما؛ حتى لا يتنازعا.
ولا معتمد لهذا القول إلاَّ التمسك بظاهر القرآن والأثر.
التفريع على القولين:
8685- إن قلنا: الحكمان كالوكيلين، فسيأتي -إن شاء الله تعالى- تفريعُ القول في الوكالة في الخلع والطلاق، والفدر الذي ننجزه لإيضاح التفريع: أنَّا إذا جعلنا الحكمين في منزلة الوكيلين، فإذا لم يجر من الزوجين توكيل، فليس إليهما من الأمر شيء، إلاَّ التفقد والبحث عن محل اللبس، حتى يتبين للقاضي الظالمُ منهما من المظلوم، ثم مضى حكم الإنصاف (9) والانتصاف.
ولو وكَّلاَ ثم عَزَلا، أو عزل أحدهما، انعزل المعزول، ولو جُنَّا أو جنَّ أحدهما،
__________
(1) في الأصل: وأنه.
(2) تقدير منا مكان الساقط.
(3) في الأصل: وكان.
(4) اختيار منا مكان الساقط.
(5) اختيار منا مكان الساقط.
(6) في الأصل: الناشئة.
(7) تقدير منا.
(8) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. ولذا سننتفل إلى ص 200 ش.
(9) في الأصل: حكم في الإنصاف والانتصاف.(13/284)
فمن جُنَّ ارتفع التوكيل في حقه، وإذا أفاق عن الجنون، فالتوكيل زائل، فإن أراد أن ينفذ أمراً، فليبتدىء توكيلاً.
8686- وإن فرَّعنا على القول الثاني، وجعلنا ابتعاث السلطان تحكيماً، فلهما أن ينفذا ما يريان الصلاحَ فيه، فإنْ رأيا الطلاقَ، طلَّقَا على السخط من الزوج.
وذكر الأئمة أنهما يختلعان المرأةَ بشيء من مالها، وإنْ لم ترض. وهذا متفق عليه في التفريع على هذا القول.
فإن أنكر مُنكر بذلَ مالِ مطلقة في الافتداء بغير إذنها، فهو كتطليق زوجة إنسان من غير إذنه، والأموال قد تدخل تحت الحجر، والطلاق لا يدخل تحت الحجر، فإذا احتكم الحَكَمُ في الطلاق، لم يبعد فرض الاحتكام على مال الزوجة في طلب الصلاح.
8687- ثم نتكلم وراء هذا في أمور مهمة بها تمام البيان، فنقول أولاً: نصُّ القرآن مشعر ببعثه الحكمين، وهذا فيه تأمل على الطالب، فإنَّا إن اعتقدنا التحكيم [منهما في مرتبة] (1) الولاية، فالعدد يبعد اشتراطه في الوالي، وإن نزّلناهما منزلة الوكيلين، فالعدد ليس بشرط أيضاًً، وسنذكر في وكالة الخلع -إن شاء الله تعالى- أنَّ الشخصَ الواحدَ يجوز أن يكون وكيلاً في الخلع من الجانبين على أحد الوجهين، فإن كان يتجه رعاية العدد على قول التوكيل عند مسيس الحاجة إلى الخلع، فيلزم من مساق هذا الاكتفاءُ بوكيل من جانبه إذا كانت هي تختلع بنفسها.
فإذا جعلنا ذلك تحكيماً، ففي المسألة احتمال ظاهر، يجوز أن نتبع القرآن ولا نعقد لظاهره تأويلاً، ونشترط حكمين، ويجوز أنْ نحملَ العدد على الاستحباب، بدليل اتصاله بوصفٍ ليس مشروطاً، وهو قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِهِ} . {مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] وهذا مستحَب غيرُ مستحَق إجماعاً. وقد يشهد للاكتفاء بالحاكم الواحد حديثُ حبيبة (2) بنت سهل، فإنَّ الرسول قطع النكاح بينهما بتّاً لما اطلع على
__________
(1) في الأصل: فيهما ومرتبة.
(2) حبيبة بنت سهل الأنصارية هي زوجة ثابت بن قيس التي اختلعت منه فيما يرويه أهل المدينة،=(13/285)
أمرهما، كما سنذكر ذلك في صدر كتاب الخلع -إن شاء الله عز وجل-، ويقوى التمسك بتلك القصة في تنفيذ الطلاق حكماً وفي [الاتحاد] (1) الذي أشرنا إليه، والله أعلم.
8688- ومما يجب النظر فيه أنَّ الحكمين ينبغي أن يكونا على عقلٍ ودراية واستقلال بالاطلاع على خفايا الأمور، هذا لا بد [منه] (2) .
والعدالة لا شك مشروطة، فلا ثقةَ بمن يخون نفسَه ودينه.
ثم لم يشترط أحدٌ من أصحابنا أن يكونا مجتهدين، وكيف سبيل اشتراط ذلك؟ وقد لا يتصدى للفتوى في سعةِ رقعة إقليم إلاَّ الشخص الواحد، فكيف نرقبُ مجتهداً من أهله ومجتهداً من أهلها.
ولكن لا بُدَّ أن يكونا عالمين بحكم الواقعة، فالعقل يرشدهما إلى وجه الرأي والتحويم على الأسرار والخفايا، وحكم الواقعة تقريرٌ أو تفريقٌ على حسب الاستصواب.
وينشأ من هذا أنَّ الحاكم إذا ولّى حاكماً، وكان ما يتعلق به أمورٌ خارجة عن الضبط والنهاية، فلا بد من كون مولاّه مجتهداً؛ فإنه بالإضافة إليه بمثابته بالإضافة إلى الإمام الأعظم، فأمَّا إذا كان الحاكم خاصاً، فلا يشترط الاجتهاد من المحكّم، ويشهد له الحكمان، وهذا رمز إلى مراتب الولاة، وسنأتي فيها بالعجائب والآيات في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
فالذي تَنَخَّلَ من مجموع ما ذكرناه القول في العدد وصفة الحَكَمَيْن.
8689- ثم قال الأئمة: لا يبعث الحكمين بمبادىء الشر والشقاق، حتى يظهر
__________
=وسيأتي حديث ثابت بن قيس قريباً، في أول الخلع. (ر. الإصابة: ترجمة حبيبة بنت سهل) .
(1) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها) وهذا تقدير منا.
(2) في الأصل: فيه.(13/286)
التشاتم والتواثبُ والأمورُ المستكرهةُ المنكرة، وتنشب الخصومة على [التباسٍ] (1) لا يُفك ولا يُدرك في ظاهر الأمر.
ثم إذا كان رأي الحكمين أن يُفَرِّقا، فالتفريق يقف على استدعائهما، وإن كانت هي [المعنة] (2) فهذا ما يجب الوقوف عليه.
ثم إنْ قدرناهما وكيلين، لم يقف نفوذ حكمهما على حضور الزوجين، قياساً على تصرف الوكلاء. وإذا جعلناهما حَكَمين وقد اطلعا على حقيقة الحال، فلو رأى الحكمان الطلاق، فغاب الزوجان، فهل ينفذ تطليقهما مع قطعهما بشكايتهما؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يشترط هذا والمتبع الصواب الذي يريانه.
ومنهم من قال: لا قطع إلاَّ إذا كانا مكبين على الشكاية، ولا يشترط أحدٌ استدعاء الطلاق والاختلاع؛ فإن هذا لو شرط، فهو تنفيذ الفراق على حسب إذنهما، بل يكفي قيام الشكاية.
8690- ولو تراضيا وأظهرا الوفاق، فقال الحكمان: إنهما لا يفيئان، وسيرجعان إلى التنازع الذي ألفناه منهما مراراً، فلا تعويل على هذا، ولا سبيل إلى [الفراق] (3) .
8691- فالأحوال إذاً ثلاثة: إحداها - إبداء الوفاق، فلا فراق معه. والثانية - في إدامة [التلاوم] (4) والتخاصم، عند ذلك للحكمين أنْ يُطلّقا إذا رأيا.
والحالة الثالثة - أن [يغيبا] (5) بعد الشكاية أو يسكتا مع الحضور، وفيه التردد، والمسألة فيه إذا راجعهما الحكمان فآثرا السكوت.
__________
(1) في الأصل: القياس. وهو تصحيف سخيف أرهقنا أياماً حتى ألهمنا الله الصواب.
(2) كذا بهذا الرسم والنقط. ولم أعرف لها وجهاً، مع طول البحث والمعاناة.
(3) مكان كلمة ذهبت فيما ذهب من أطراف السطور.
(4) مكان كلمة غير مقروءة.
(5) في الأصل: يُعينا (بهذا الرسم وهذا الضبط) .(13/287)
فصل
قال: "ولو استكرهها على شيء أخذه منها ... إلى آخره " (1) .
8692- هذا الفصل من مسائل الخلع، ولكنه اتصل بتنازع الزوجين [بأخراه] (2) .
وصورة المسألة: أنَّ المرأةَ إذا قبلت الطلاقَ على مالٍ في ظاهرِ الحال، ثم ادعت [على] (3) الزوج أنه يلزمه ردُّ ما أخذ منها؛ لأنها كانت مُكرهة على الاختلاع، والزوج [ساكت] (4) ، وأقامت بيِّنة على الإكراه، وإنما فرضنا سكوته لغرض [يبين] (5) . قال: فالمال مردود عليها، والطلاق يُحكم بوقوعه رجعياً؛ لأنه لم يقر بطواعيتها.
ويمكن فرض المسألة فيه إذا كانت الدعوى على الوكيل من جهة الزوج، فأنكر الطواعية (6) [فالزوج] (7) لا يلزمه حكم إنكار الوكيل، وهذا فيه إذا قامت بيِّنةٌ على إكراهها على الخُلع قصداً.
فأمَّا إذا لم يكرهها على الخلع ولكن [كان] (8) يُسيء العشرةَ معها، ويؤذيها بالمشاتمةِ والضرب، فلو اختلعت وزعمت أنها كانت تبغي الخلاصَ من أذى الزوج، فلا يكون هذا إكراهاً، وإن كان ما يجريه الزوج من الضرب لو خوَّف المرأةَ به، لكانت مُكرهةً، وهذا بيِّن. وستأتي حقيقة هذه المسألة في كتاب الخلع، إن شاء الله عز وجل (9) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/50.
(2) كذا قدرناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف.
(3) تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف.
(4) تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف.
(5) في الأصل: تبين.
(6) عبارة الأصل: فأنكر واذكر الطواعية.
(7) تقدير من المحقق.
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) انتهى هنا الجزء العاشر، الذي اعتمدناه هنا أصلاً (نسخة وحيدة) من أول (باب الاختلاف في=(13/288)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
***
__________
=إمساك الأواخر) وجاء في خاتمة هذا الجزء ما نصه:
تم الجزء العاشر من نهاية المطلب في دراية المذهب. يتلوه الجزء الذي يليه -إن شاء الله تعالى- كتاب الخلع. والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
فرغ من نسخه عبد الصمد بن مرتضى بن رحمة بن رفاعة الكندي بتاريخ العشر الأول من شعبان المكرم سنة اثنتين وعشرين وستمائة.(13/289)
كتاب الخلع (1)
8693- الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب، فقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] .
فأباح الله تعالى الافتداء، ورَفَع الجُناحَ في أخذ المال عنه، ورفع الجُناح عنها في البذل، إذا استشعرا هَيْجَ الفتنة وقيام النزاع.
والأصل في الكتاب من جهة السنة؛ حديثُ حبيبةَ بنتِ سهل زوجة ثابتِ. بن قيس بن شماس، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم لصلاة الصبح، فرأى حبيبةَ على باب الحجرة، فقال: من هذه؟ فقالت حبيبة: لا أنا ولا ثابت.
واختلف في معنى قولها، فقيل: معناه: لا كنت ولا كان ثابت؛ إذ كنا سببَ شغل قلب رسول الله. وقيل معناه: لا أوافقه ولا يوافقني.
فلما دخل ثابت المسجد، قال له صلى الله عليه وسلم: "هذه حبيبة تذكر ما شاء الله أن تذكر". فقالت حبيبة: "كل ما أعطانيه عندي". فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "خذ منها" (2) . فجلست في بيت أهلها إلى أن خالعها، وأخذ المال منها، وجلست تعتد في بيت أهلها (3) .
__________
(1) من هنا بدأ العمل على نسخة ت 2 في جزئها الخامس والعشرين، وهي وحيدة أيضاًًً حيث انتهى الجزء العاشر من نسخة ت 3، والله وحده المعين، والهادي إلى الصواب.
(2) حديث ثابت بن قيس رواه البخاري: كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، ح: 5273، ورواه أبو داود: كتاب الطلاق، بالث في الخلع، ح 2229، (وانظر التلخيص: 3/415 ح 1724) .
(3) هذه عبارات الشافعي بنصها في المختصر: 4/50، 51.(13/291)
والإجماع منعقد على أصل الخلع. وليس في حديث حبيبة رضا ثابت بالطلاق، ولا جريانٌ بلفظ المخالعة، ولا محملَ لقصة حبيبة إلا ما ذكرناه في الحَكَمين.
ثم قال الشافعي: آية الافتداء في كتاب الله تعالى مقيَّدة بخوف النزاع. وهذا التقييد لا مفهوم له؛ فإنه يخرج على الغالب في العادة؛ فإن الزوجين لا يتخالعان وكل واحد منهما راغب في صاحبه، وقد تكرر الكلام على مثل هذا في المسائل.
وهذه القصة تدل على [أن] (1) ما يقدمه الزوج من ضرب (2) لا يحمل على الإكراه على الخلع، وفي هذا سر يليق به، وهو: أن ضرب الزوج إياها يرغّبها في الخلاص منه، فتختار الاختلاع. والإكراهُ على نفس الخلع لا يحدث فيها رغبةً في الخلع، وإنما طلب الخلع منها قهراً، فأتت به قهراً.
فعرض المزني وبعضُ الأصحاب لكلام في أن الخلع لا يوصف بالسنة والبدعة.
ولا معنى [للتّسرّع] (3) في ذلك، فإنه بين أيدينا (4) ، وسنذكره مستقصى في الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ورُوي عن ابن عباس أن الخلع ليس بطلاق ... إلى آخره" (5) .
8694- اختلف قول الشافعي في أن الخلع فسخُ النكاح على تراضٍ، أو هو طلاق على مال؟
فالمنصوص عليه في الجديد: أنه طلاق. وهو مذهب أبي حنيفة (6) واختيار المزني، وهو الصحيح، وبه الفتوى.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في قصة ثابت بن قي أنه كان قد ضربها (راجع حديثها برواياته المختلفة) .
(3) في الأصل: للشرع.
(4) بين أيدينا: أي سيأتي مستقبلاً.
(5) ر. المختصر:4/54.
(6) ر. مختصر الطحاوي: 191، والمبسوط: 6/171، ومختصر اختلاف العلماء: 2/465، مسألة رقم: 981.(13/292)
ونص في القديم على أن الخلع فسخٌ، [ومذهب] (1) عمر وعثمان وعليٍّ أن الخلع طلاق، ومذهب ابن عباس أنه [فسخ] (2) وتوجيه القولين مذكور في المسائل.
وأول ما نذكره -قبل استفتاح التفريع- أن من قال: "الخلع طلاق" من مذهبه أن النكاح لا يقبل الفسخ بالتراضي، بل جريان الفسخ فيه موقوف على دفع ضرار، وعلى صفةٍ تُضادّ دوامَ النكاح. وما يكون كذلك، فهو انفساخ، لا يتعلق بالقصد.
8695- فإذا تمهّد هذا، عُدنا إلى التفريع على القولين: فإذا جعلنا الخلع فسخاً، فهو صريحٌ باتفاق المفرّعين على هذا القول إذا جرى ذكرُ المال، فإن تخالعا من غير ذكر المال، فهذا يتفرع على قول الفسخ، ويتفرع على قول الطلاق.
ونحن نرى أن نؤخّر تفريعه على تفريع القولين، ثم نفرده، ونستقصي ما فيه.
فالخلع مع [المال] (3) إذاً صريح في الفسخ، فإذا [قالا: تفاسخنا] (4) على مالٍ ذكراه، فالمذهب الأصح: أن الفسخ صريح في إفادة المقصود.
وذكر العراقيون وغيرهم وجهاً أن الفسخ يكون كناية في هذا المقام؛ لأنه لا ذكر له في الشرع، ولا جريان له على الألسنة، والكنايات تتميز عن الصرائح بما ذكرناه.
وظهر اختلاف أصحابنا في المفاداة مع ذكر المال على قول الفسخ. فمنهم من قال: هي صريح كالمخالعة. ومنهم من قال: إنها [كناية] (5) .
ويقرب الاختلاف في هذا من تردد الأصحاب في لفظ الإمساك إذا استعمل في الرجعة:
فمن أصحابنا من قال: إنه صريح.
ومنهم من قال: إنه كناية.
__________
(1) في الأصل: وهو مذهب عمر وعثمان وعلي.
(2) في الأصل: خلع.
(3) في الأصل: الحال.
(4) في الأصل: "قلنا لا تفاسخنا" وهو تحريف عجيب. والتصويب من المحقق.
(5) في الأصل: كنايته.(13/293)
وكذلك اختلفوا في أن لفظ [الفك] (1) هل يكون صريحاً في العتق؟ وإنما نشأ الاختلاف في هذه المسائل عن أصل نُنبّه عليه، وهو: أن من أئمتنا من نظر إلى شيوع المفاداة والإمساك والفك، [في هذه الأغراض] (2) ، والصريحُ ما يشيع في إرادة مقصدٍ. [ومن] (3) أئمتنا من نظر إلى جريان هذه الألفاظ في الشرع.
[كالمفاداة] (4) في قوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . والإمساك في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] . والفك دي قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] .
وحاصل المذهب: أن ما جرى له ذكر في الشرع، وتكرر حتى صار مشهوراً في الشرع؛ فهو صريح، وإن لم يفرض فيه إشاعةٌ في العادة؛ فإنّ ما عُرف شرعاً، فهو المتّبَع، وعليه بنينا حملَ الدراهم في الأقارير على النُّقرة الخالصة، وإن كان قد يغلب العرف على خلاف ذلك، وعليه ألحق الشافعي [السَّراح والفراق] (6) بصرائح الطلاق لمَّا ألفاهما (7) متكررين.
فأما ما جرى في الشرع مرة واحدة، كالمفاداة، والإمساك، والفك، ولم يكن ذلك شائعاً؛ ففيه الوجهان.
وما شاع ولم يجرِ له ذكر في الشرع، فهل يلتحق بالصرائح؟ فعلى وجهين. ومنه
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. واعتمدناها من لفظ العز بن عبد السلام في المختصر، ومن كلام المؤلف الآتي قريباً.
(2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى.
(3) في الأصل: فمن.
(4) في الأصل: والمفاداة.
(5) المعنى أن من أئمتنا من جعل الصريح، هو ما شاع في إرادة المقصد، ومن أئمتنا من جعل الصريح ما جاء في استعمال الشرع.
(6) في الأصل: "ألحق الشافعي والقرآن بصرائح الطلاق" والتصويب والزيادة من المحقق.
(7) تكررت مادة (س. ر. ح) في القرآن الكريم بمعنى الطلاق سبع مرات: "أسرحكن" سورة الأحزاب: 28، "تسريح" سورة البقرة: 229، "سرِّحوهن" مرتين سورة البقرة: 231، وسورة الأحزاب: 49، "سراحاً" مرتين، سورة الأحزاب: 28، 49.
وجاءت مادة (ف. ر. ق) بمعنى الطلاق مرتين: "أو فارقوهن بمعروف" سورة الطلاق: 2، "وإن يتفرقا" سورة النساء: 130.(13/294)
قولْ القائل لامرأته: "أنت (1) عليّ حرام"، في هذه البلاد.
وما ذكرناه مرامز، وسيأتي استقصاؤها في أول الطلاق، إن شاء الله تعالى.
8696- ومما يتفرع على هذا القول: أنا إذا جعلنا (2) المخالعةَ صريحاً وقطعنا القول بذلك على الفسخ، ولا ذكرَ لها في الكتاب، فكيف خروج هذا على القاعدة التي ذكرناها؟ ولم يختلف أصحابنا أن المخالعة صريح في الفسخ -على قول الفسخ- وهذا في ظاهره يخرِم ما أصّلناه!
وسبيل الكلام عليه شيئان: أحدهما - أن الخلع جرى في عُرف نَقَلةِ الشريعة، حتى كان حَمَلةُ الشريعة يحملون على التلفظ بها، والأزواج إذا نطقوا بالخلع رأَوْه الأصل.
وليس كذلك قول القائل لامرأته: أنتِ على حرام.
ويتجه فيه وجه آخر، وهو أن الخلع إذا استعمل فسخاً، فالفسخ يضاهي حلولَ العقود، ولا حصر لألفاظ حلول العقود، وهي محمولة على الأشاعة، متلقّاة منها لا غير، والطلاق تصرف؛ فإنه ليس فسخاً، وليس يُشعر بإزالة مِلكٍ، فتطرّق إليه التعبّد تطرّقَه إلى النكاح. وكأن المعتمد فيه ورود الشرع والتكرر فيه.
8697- إذا تبين ما ذكرناه؛ فلو ذكر الزوج المخالعة على مال، وقِبلَتْه المرأة، ونوى الزوج الطلاق؛ فالذي قطع به المحققون: أنه لا يصير طلاقاًً بالنيّة، فإنه صريح في الفسخ، واللفظ الصريح الموضوع في محلّه، إذا قَصد مطلِقُه مقصوداً آخر غيرَ ما يقتضيه محلُّه؛ فاللفظ لا ينتقل؛ ولهذا قلنا: إن الزوج إذا ذكر الطلاق، وزعم أنه نوى ظهاراً، أو ذكر الظهار، وزعم أنه نوى طلاقاً؛ فاللفظ ينفذ في موضوعه الصريح، ويلغو القصد في غيره.
وقد يرد على ذلك لفظ التحريم؛ فإنه صريح في اقتضاء الكفارة إذا قال الرجل لزوجته: أنتِ عليّ حرام، ولو نوى به طلاقاً كان طلاقاً، وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: وأنت.
(2) في الأصل: جعلناه.(13/295)
والذي ننجزه الآن، أن لفظ التحريم لا يختص حكمه في اقتضاء الكفارة بالزوجية، وأن السيد لو قال لأمته: أنتِ عليّ حرام، التزم الكفارة، وفي ذلك نزلت سورة التحريم، فلم يختص التحريمُ بالنكاح (1) ، فيجوز ألا يختصَّ في النكاح بمقصود، هذا هو المذهب.
8698- ومن أصحابنا من قال: الخلع يصير طلاقاً بالنية (2) . وهذا ذكره شيخي وطائفة من العراقيين [والوجه] (3) فيه: أن الفسخَ والطلاقَ متساويان في بتّ الملك ورفعِ النكاح، فلم يبعُد نقلُه من رفعٍ إلى رفع، وليس كذلك الطلاق والظهار.
وهذا خيال لا حاصل له؛ فإن تعطيل الصريح لا وجه له، وفي حمل الخلع على الطلاق تعطيلُه في الفسخ، ويستحيل أن ينفذ الفسخ به، مع وقوع الطلاق، هذا لا سبيل إليه.
فلو [أجراه] (4) من لا [بصيرة له حيث لم ير لردّ] (5) الفسخ أثراً، وقال: ينفذ الفسخ والطلاق، قيل له: الفسخ بَيْنٌ، والطلاق لا يقع مع البينونة. فهذا ما أردناه في ذلك.
فإن قيل: النكاح ينفسخ بلفظ [الفسخ] (6) عند ثبوت الأسباب المقتضية للفسخ،
__________
(1) قوله: "لم يختص التحريم بالنكاح" إشارة إلى أن ما صح في قصة سورة التحريم وسبب نزولها، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل على نفسه، في قصة رواها مسلم في صحيحه. واختارها القرطبي في تفسيره. وهو موافق لما اعتمده المؤلف هنا. (راجع القضية في تفسير القرطبي، صحيح مسلم، وغيرهما إن شئت) .
(2) هذا الكلام تفريعٌ على القديم في أن الخلع فسخٌ لا طلاق.
(3) في الأصل: فالوجه.
(4) في الأصل: أجرى.
(5) ما بين المعقفين من تصرف المحقق بدلاً من عبارة الأصل التي جاءت هكذا "يضره له حيث لم يزرِد الفسخ أثراً" كذا تماماً بهذا الرسم وهذا النقط والضبط. والحمد لله. صدق تقديرُنا، فقد وجدناه بعينه في مختصر ابن أبي عصرون، بعد أن حصلنا على هذا الجزء والكتاب ماثل للطبع.
(6) زيادة اقتضاها السياق.(13/296)
ثم لو استعمل الزوج الفسخ، ونوى الطلاق وقع.
قلنا: لفظ الفسخ لا اختصاص له بالنكاح؛ فإنه يجري في كل عقد ينفسخ، ثم إنما ينفذ لفظ الفسخ إذا كان ثَمَّ موجِب له، فإن لم يكن، فلا نفاذ له، فلا يمتنع استعماله في الطلاق. فلو أطلق الزوج لفظ الفسخ، ونوى به الطلاق حيث يملك الفسخ، فالمسألة محتملة.
ويجوز أن يُقضى بوقوع الطلاق لصلاح اللفظ له وملكِه إياه، وهذا ما قطع به القاضي.
ويجوز أن يقال: ينفد الفسخ بصريح لفظه؛ إذ لا حاجة إلى قصده في الفسخ، ولا ينفذ الطلاق، كما ذكرناه في المخالعة، ولعل الفسخ أولى بالنفوذ إذا وُجد سببٌ له؛ فإن ما نُنفذه من الفسخ في الخلع يقتضي التراضي بالفسخ، فإذا لم يقصد الزوجُ الفسخَ، ولم يخطر له ببال، فالتراضي على الفسوخ مفقود، وهو سبب الفسخ.
فليتأمل الفقيه هذا المقام يجد له عوضاً.
8699- ومما نفرّعه على هذا القول: أنا إذا جعلنا الخلع فسخاً، فلا يصحّ من الأجنبي الاستقلالُ باختلاع المرأة على حكم الفسخ؛ فإن الفسخ المعقود بالتراضي شرطه أن يرتبط برضا الزوجين، فإن العقد يتعلق بهما، ولا يجوز أن يكون الأجنبي ركناً في فسخ التراضي.
فإن قيل: قد قطع الشافعي أجوبته بتصحيح خلع الأجنبي!
قلنا: سبب ذلك أنه فرّع على الجديد، ولم يُلفَ له تفريع على القديم. وكانت أجوبته محمولةً على أن الخلع طلاق. وإذا وقع التفريع عليه، فيصحّ من الأجنبي [افتداءُ] (1) المرأة بالطلاق عن زوجها بمال يبذله، وينزل هذا بمنزلة افتداء الرجل المستولدة من مولاها بمال يبذله عن مقابلة إعتاقه إياها، والسبب في ذلك أن الطلاق فُرقة ينفرد الزوج بها كالعتق، فإذا علّقه بمال [يلتزمه] (2) أجنبي على مذهب الافتداء،
__________
(1) في الأصل: الافتداء.
(2) في الأصل: يلزمه.(13/297)
لم يبعد [و] (1) الفسخ المنوط بالتراضي، يستحيل حصوله بين الزوج والأجنبي.
وقد بقي من التفريع على هذا القول مقدار صالح، ولكنا رأينا تأخيره لغرض لنا في الترتيب، ونعود الآن إلى التفريع على القول الآخر.
8700- فإذا قلنا: الخلع طلاق، فإذا ذكر معه المال، واتصل بالقبول؛ فظاهر المذهب أن اللفظ لا يعمل إلا بالنية.
ونص الشافعي في الأملاء على أن الخلع صريح في الطلاق أو كناية؛ [اختلف] (2) الأئمة في مأخذ القولين، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن هذا الاختلاف مأخوذٌ [من] (3) أن اللفظ إذا ساغ استعماله في الناس على قصد الطلاق، فهل يلتحق بالصرائح بسبب الشيوع وإن لم يتكرر في ألفاظ الشرع؟ وهذا لفظ مختلف فيه، وسنذكره ونستقصيه في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
فإذا؛ ظاهر المذهب: أن الصرائح منحصرة في الطلاق والفراق والسَّراح، ومعانيها بكل لسان.
وفي المسألة قول آخر: إن الخلع يلتحق بها لشيوعه في الاستعمال.
هذا مسلك لبعض الأصحاب، وهو الصحيح.
وذهب ذاهبون إلى أن سبب اختلاف القول ذكر المال، وهذا تمسكٌ بالقرينة.
ومذهب الشافعي أن الكنايات لا تلتحق بالصرائح بقرائن الأحوال: كالسؤال، والغضب، وما يظهر في مخايل الإنسان في قصد الطلاق. وسيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
فكان هؤلاء يستثبتون من جملة القرائن: المال؛ فإنه لا يُبذل هزلاً، ولا [يستبطر] (4) إلا لتوطين النفس على المفاداة. ويظهر أثر هذا الاختلاف في مأخذ
__________
(1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: واتفق.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.
(4) كذا. وهذه القراءة انتهينا إليها بصعوبة بالغة ولعل المعنى: يستبطر أي يستهان بالمال ويستخف به، من قولهم بطر النعمة إذا استهان بها وكفرها (المعجم) .(13/298)
القولين فيه إذا جرى لفظ الخلع من غير ذكر المال، وقد وعدنا أن نذكر هذا مفرداً مفرّعاً على القولين.
ومن فوائد التفريع على هذا القول أن الرجل إذا خالع امرأته ثلاث مرات، لم تحلّ له إلا بعد زوج، بخلاف ما إذا جعلناه فسخاً؛ فإن تكرر الفسوخ -وإن بلغ عدداً كثيراً- لا يؤثر في إيجاب التحليل، وتحريم العقد ممدود (1) إلى نكاح ووطءٍ فيه.
فهذا الذي ذكرناه؛ ذِكْرُ قواعد التفريع على القولين، ونحن نُلحق أموراً، أهمها: الكلام فيه إذا جرى الخلع من غير تعرّض لذكر المال.
فرع:
8701- إذا اختلع الزوجان، ولم يجرِ ذكر المال، فقال الزوج: خالعتك، فقالت: اختلعت نفسي، فهذا نفرّعه على قولنا: الخلع طلاق أوّلاً، ثم
نفرّعه على القول الآخر.
فإذا قلنا: إنه طلاق. قلنا: إنه صريح، فهذا ينبني على أن كونه صريحاً يُتلقى من ذكر المال أو من شيوع اللفظ؟ فإن تلقيناه من قرينة المال، فها هنا لا قرينة، فهو كناية، فيحتاج إلى النية.
ثم نفرّع أولاً على أن مأخذ القولين من الشيوع، وهذا ما صار إليه معظم الأصحاب.
فإن قلنا: اللفظ صريح. فإذا لم يتعرضا لذكر المال، فهل يجب المال؟ فيه وجهان: أحدهما - أن المال يجب وإن لم يذكراه؛ فإن اللفظ في العرف يقتضي المال.
والوجه الثاني - لا يثبت المال لعدم الذكر والتعرض له.
التفريع:
8702- إن قلنا: إن المال لا يثبت، فيقع طلقة رجعية، ثم هل يشترط القبول، أم يقع بمجرد قول الزوج؟ فعلى وجهين: أحدهما - إنه يقع [بمجرد] (2) قول الزوج؛ فإنه إذا نوى الطلاق، ولم يتعرض للمال، ولم يُثبت الشرعُ المالَ، فلا حاجة إلى قبولها، فكان ما جاء به طلاقاًً مجرداً في ممسوسةٍ من غير استيفاء عدد، فاقتضى ذلك جريانها في عدة الرجعة.
__________
(1) يوجد في الأصل كلمة غير مقروءة بعد كلمة (العقد) . والمثبت عبارة صفوة المذهب.
(2) في الأصل: مجرّد.(13/299)
والوجه الثاني - أنه لا بد من قبولها؛ فإن صيغة اللفظ مأخوذة من بناء المفاعلة.
ووضع باب المفاعلة على التعلق بشخصين، فإن كان مُشعراً بفعل كالمقاتلة والمضاربة، فذلك الفعل يدور بين شخصين، فإذا قال: خالعتك، اقتضى هذا في وضع اللسان قبولَها، فكأنه قال: إن قلتِ اختلعتُ، فأنت طالق.
وقد يتعلق الطلاق بالقبول، وإن كان المال لا يثبت.
والدليل عليه: أن الزوج إذا خالع زوجته السفيهة فقبلَتْ، وقع الطلاق رجعياً، ثم لا يثبت المال. ولو لم تقبل، لم يقع الطلاق، فلتكنَ المخالعة [الخالية] (1) عن ذكر العوض بهذه المثابة.
والذي يقتضيه القياس في هذا، أنه لو قال: خلعت عنك، ولم يقل: خالعتك، ونوى الطلاق، فلا حاجة إلى قبولها؛ فإن لفظه لم يصدر عن باب المفاعلة.
فإذا تبيّن هذا مفرّعاً على أن اللفظ صريح، ففيه تفصيل عندنا، به يتم الكلام، وهو: أن الرجل إذا قال: خالعتك، ولم يقصد بذلك التماس الجواب منها، وإنما قال على الابتداء: خالعتك، وهي [تنفي] (2) تنجيز الطلاق، فالوجه: القطع بأن الطلاق يقع، فان اللفظ يحتمل [التنجيز] (3) من غير تعليق بالقبول، وهو كما لو قال: قاطعتك وبارأتك، فالكنايات يُكتفى بها بدون ما ذكرناه من الاحتمال.
ولو قال: خالعتك ونوى طلاقاًً، [و] (4) هو يلتمس بذلك جوابها، فها هنا قد يتجه الخلاف في أن وقوع الطلاق هل يتوقف على قبولها؟ فالظاهر عندنا أنه إذا لم يثبت المال، لم يتوقف على قبولها؛ فإن الطلاق مما يتفرد الزوج به، وليس وقوعه مرتبطاً بمال يتوقف لزومه على التزامها، فلا وجه إلا تنفيذ الطلاق، وقصدُه التماسَ جوابِها لا أثر له بعد ما نوى الطلاق.
وسيأتي لذلك نظائر في مسائل التدبير من كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) زيادة اقتضاها استقامة العبارة.
(2) في الأصل: تتقي.
(3) في الأصل: التخيير.
(4) (الواو) زيادة من المحقق.(13/300)
والوجهان في أن المال هل يثبت بمطلق المخالعة يبتنيان على نظائر لهذه المسألة.
منها: أن الرجل إذا دفع إلى إنسان دراهم، وقال: قارضتك عليها حتى تتصرّف، ولم يسمِّ مقداراً من الربح، فهل يستحق أجرة المثل إذا عمل؟ فعلى وجهين.
وكذلك لو قال لمن استعمله على أشجار: ساقيتك (1) ، ولم يذكر له مقداراً من الثمر، فإذا عمل؛ فهل يستحق أجرة مثل عمله؟ فعلى وجهين. وقد تقدم في المعاملات في ذلك مثله.
وما أجريناه كله تفريع على أن الخلع صريح بطريق الشيوع.
8703- فأما إذا قلنا: إنه يلتحق بالصرائح بقرينة المال، فإذا لم يجرِ [ذكرُ] (2) المال، فهو كناية، [فتذكّر] (3) ذلك.
والتفريع على القول الصحيح -وهو أن الخلع كناية، وإن اشتمل على ذكر المال- فإذا قال: خالعتكِ، فقالت: اختلعتُ، فهذا ينبني على أن مطلق هذا اللفظ هل يقتضي المالية، أم لا؟
فإن حكمنا بأن مطلقه يقتضي المالية، فلا يخلو؛ إما أن ينوي الزوج الطلاق، وإما ألا ينوي، فإن نوى الزوج الطلاق، ونوت المرأة أيضاًًً طلب الطلاق؛ فالطلاق يقع بائناً، والرجوع إلى مهر المثل.
وإن نويا الطلاق، ولم يذكرا المال -والتفريع على أن مطلق اللفظ لا يقتضي المال - فلا يخلو؛ إما أن ينويا المال، وإما ألا يجري ذكر المال في ضميرها، كما لم يجرياه في لفظهما، فإن لم ينويا المال ولم يذكراه، وقلنا: اللفظ لا يقتضيه؛ فالطلاق يقع رجعياً.
فإن قيل: في هذا الكلام اضطراب؛ من جهة أن التفريع على أن الخلع كناية،
__________
(1) في الأصل: "ساقيتك لعملٍ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: فنذكر.(13/301)
فكيف ردّدتم الجواب في أن اللفظ هل يقتضي المال [بنفسه] (1) ؟
قلنا: وإن حكمنا بأن اللفظ كناية في اقتضاء الطلاق، فإنا نُجري الخلافَ في أنه هل يقتضي المال في [وضعه] (2) أم لا؟ فكان (3) التردد [باقٍ] (4) في أن هذا اللفظ هل يقتضي المال أم لا [يقتضيه] (5) ، هذا وجه الكلام، وقد انتهى إلى قولنا: اللفظ كناية في الطلاق وليس صريحاً في اقتضاء المال.
فلو نويا المال مع نية الطلاق، فالنية هل تؤثِّر في المال؟ والتفريع على أن اللفظ بنفسه لا يقتضيه. [اضطرب] (6) أصحابنا في المسألة.
فمنهم من قال: النية لا أثر لها في المال، فكأنها لم تكن. ومنتهى الجواب أن الطلاق يقع رجعياً، ويتجه هاهنا أن الطلاق لا يقع أصلاً؛ فإن الزوج نوى طلاقاًً بمالٍ، والتعويل على نيته، فإذا لم يحصل المال بنيته، ونيته في الطلاق متقيدة بالمال، فلا. يقع الطلاق، وهذا وجه فقيه.
ومن أصحابنا من قال: نية المال كذكر المال، فعلى هذا إذا نوى المال، ونوت المال، وثبتت نية الطلاق، فالطلاق يقع بائناً، وجهاً واحداً، تفريعاً على ما ذكرناه.
هذا تمام التفريع إذا قلنا: الخلع طلاق.
8704- فأما إذا فرعنا على أن الخلع فسخٌ، وقد جرى ذكر الخلع والقبول من غير مال - ونحن أوضحنا أن الخلع -على قول الفسخ- صريح في الفسخ؛ فالذي ذكره الأصحاب: أن هذا يُبنى على أن مطلق هذا اللفظ هل يقتضي المال؟ وجريان هذا الخلاف على نسق واحد.
فإن قلنا: اللفظ يقتضي المال بإطلاقه- وهو الذي اختاره القاضي وصححه.
__________
(1) في الأصل: نفسه.
(2) في الأصل: وصفه.
(3) فكان التردد: كان هنا تامة.
(4) في الأصل: "بان" والمثبت من (صفوة المذهب) .
(5) في الأصل: يقتضيها.
(6) في الأصل: اضطراب.(13/302)
ووجهه أن الخلع [حلّ] (1) النكاح، فكان في معنى عقد النكاح، ثم عقد النكاح إذا عري عن المهر من غير تفويض صريح ممّن يملك المهر، يجب فيه مهر المثل. فليكن الفسخ كذلك.
والدليل على تساويهما أن النكاح على العوض الفاسد ينعقد على مهر المثل، أو على قيمة العوض المسمى إن كان مما يُتقوّم. والخلع على العوض الفاسد في هذا كالنكاح، فإذا استويا عند تسمية العوض الفاسد، وجب أن يستويا عند [الإطلاق] (2) .
8705- فإن قيل: ما وجه من يقول: المخالعة المطلقة لا تقتضي مالاً، وما الفرق [بينها] (3) وبين النكاح المطلق؟ وما الذي أوجب القطع في النكاح، والترديد في الفسخ؟ وليس التفريع على قول الفسخ على حكم التفريع على قول الطلاق؛ فإن أصل الطلاق أن يكون بغير عوض، فإذا عُلِّق بالعوض، كان العوض دخيلاً فيه، والفسخ تلو النكاح، فيقتضي من العوض ما يقتضيه النكاح، فما وجه التردد إذاً؟
قلنا: لا يمتنع تخيل فرق أولاً؛ فإن النكاح جلْبُ استباحة البضع، فلا يبعد أن [يتأكد] (4) العوض فيه. والخلع متضمنه ارتداد البضع إليها، وهذا لا يستدعي العوض حسب استدعاء الجلب، فلا يمتنع أن يكون الخلع في ذلك دون العقد.
فإن قيل: جوّزوا [تخلية] (5) الخلع عن العوض -لما ذكرتموه- إذا وقع التصريح به، وقد ذكرتم قولين في النكاح المعقود على التفويض الصحيح هل يقتضي ثبوت المهر؟ فهلا طردتم هذا في الخلع؟ قلنا: لا يتعرض الأصحاب لهذا، ولم يسمح بهذا التقريب أحد، والذي يقتضيه القياس الحقّ قبولُ ذلك، والقولُ بإمكأنه؛ فإن
__________
(1) في الأصل: حدّ.
(2) في الأصل: "الطلاق".
(3) في الأصل: بينهما.
(4) في الأصل: بتأكيد.
(5) في الأصل: تخيله.(13/303)
الفسخ لما كان يتأكد من العوض فيه، أو كان وضعه على ارتداد المسمى، فكان يقال: أمر العوض فيه قهري؛ فإنه بناء وليس بابتداء، وهذا وجه بيّن- لو كان مذهباً لذي مذهب، ولم يصر إلى هذا أحد.
فإذا انبنى الخلع على تسمية العوض، كما انبنى النكاح عليه، ثم تردد القول في أن العوض هل يثبت في نكاح التفويض -وأصح القولين أنه لا يثبت- فما المانع من مثل هذا في الخلع؟
ثم كان يجب على هذا التقدير أن يقال: إذا حكمنا بخلوّ نكاح التفويض عن المهر، فالمسيس فيه يثبته وينبني عليه المطالبة بالفرض، كما تفصّل، وليس في الفسخ شيء من هذا، وكان يجب أن ينفذ الفسخ عارياً إذا عري -إما على قطع، وإما على قول ظاهر- ولم يقل [بهذا] (1) أحد من الأصحاب، ولست أحمل تركهم لهذا إلا على ضعف حرصهم في التفريع على القول الضعيف، وإلا فما ذكرناه واجب، وليس هو بأبعدَ من قول المحققين: إن الخلع مع الأجنبي مردود على قول الفسخ. ولم يصر إلى هذا أحد من الأئمة الماضين، ولكن المفرعين قالوا: جرت الأجوبة على قول الطلاق، وهذا منتهى الكلام.
8706- فإن قيل: هذا يضمّن الخلع -على قول الفسخ- ارتداد المسمى، كالفسوخ القهرية، حتى يكون الخلع في النكاح بمثابة الإقالة في البيع؟
قلنا: ليس [من الحزم] (2) في طلب الغايات أن يذكر الإنسان الأقيسةَ الكلية
الجليّة، ويترك حق خاصية العقد الذي فيه الكلام. ومن خاصية النكاح أن المهر إذا تقرر، ولم [يُنْقض] (3) العقد بخلل مقترنٍ بأصله، فالمسمى لا يسقط. [ولذلك] (4) لم يسقط إذا ارتدت المرأة بعد المسيس على الرأي الظاهر، ثم في النكاح تقرُّران:
__________
(1) في الأصل: بها.
(2) في الأصل: في الحزم.
(3) في الأصل: "ينقص" واضحة الضبط والنقط.
(4) في الأصل: وكذلك.(13/304)
التقرُّر الأكبر بالمسيس، وقد يليه التقرر بالموت. [والتقرّر] (1) الآخر (2) هو تقرر لا يتشطر [بالاختلال] (3) الواقع بالعقد (4) . وهذه الخاصيّة لا توجد في سائر العقود، والخلع فسخُ تراض لا يستند إلى خلل في أصل العقد، فامتنع سقوط المسمى [به] (5) بعد المسيس، وامتنع سقوط الشَّطر به قبل المسيس، فلما اختص بهذه الخاصية نزل على عوض مبتدأ، ثم كان في ذلك العوض، كالنكاح الوارد على الصداق، فهذا أقصى المضطرب في ذلك.
8757- فنعود بعد هذا إلى التفريع، فنقول:
إن حكمنا بأن مطلق الخلع يقتضي العوض، فتثبت البينونة بالفسخ، والرجوع إلى مهر المثل.
وإن قلنا: هذا اللفظ لا يقتضي المال، فيلغو الخلع، هكذا قال الأصحاب، من غاص منهم ومن قنع بالظاهر؛ إذ لا عوض، ولم يرَوْا خلعاً بلا عوض.
والذي أراه -على القياس الذي قدمناه- أن يثبت الفسخ ولا يثبت العوض، وهذا احتمال لا تعلق له بنقل.
وقد نجز التفريع على المخالعة المُطْلَقة العريّة عن العوض. والذي ذكره الأصحاب فيه، ثلاثة أوجه:
أحدها - أنه يلغو.
والثاني - أنه يقع طلاق رجعي.
والثالث - أن البينونة تقع، والمال يجب.
__________
(1) في الأصل: والتقرير.
(2) الآخر: يعني به التقرر بالموت.
(3) في الأصل: بالابتدال.
(4) قوله: بالاختلال الواقع بالعقد: معناه أن تقرر المهر بالموت لا يقبل التشطر، مع ما تعرّض له العقد من اختلالٍ، حيث لم يتم استيفاء المعقود عليه، وهو (البضع) ، فقد مات الزوج قبل المسيس.
(5) في الأصل: له.(13/305)
ثم هي على الطلاق طلاقٌ مُبِين، وعلى قول الفسخ فسخ.
هذا حاصل المنقول، وتحقيقه وتَنْسِبَتُه من القواعد على ما ذكرناه. وهذا الفرع لُباب التفريع على القولين، وبه [يعتاص] (1) الفصل، فإنه [نحا نحو] (2) كل قاعدة.
ثم إنا نذكر بعد هذا فروعاً مرسلة ونلحقها بالقواعد التي مهدناها.
فرع:
8708- إذا قالت المرأة: طلقني على كذا. فقال الزوج: خالعتك بكذا.
فإن فرعنا على أن الخلع فسخ، لغا قول الزوج، والنكاح قائم؛ فإن المرأة التمست الطلاق بألف، ولم يُجبها إلى ما التمست، بل فسخ، والفسخ دون الطلاق المبين؛ لأن الطلاق بالعوض يُبين، ويَنقُص العددَ، والفسخ لا ينقُص العدد، فقد سألت أعظم الفُرقتين، فأجابها إلَى أدناهما.
وإن قلنا: الخلع طلاق، وجعلناه صريحاً، أو نوى الطلاق، استحق العوض، ووقع الطلاق المبين، فإنه أجابها إلى ما التمست.
ولو قالت: خالعني بألف، فقال: طلقتك عليه، [والتفريع] (3) على أن الخلع فسخ، فقد التمست الفسخ، وأجابها إلى الطلاق، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه لا يقع شيء، [لأنهما] (4) لم يتفقا على شيء واحد.
والثاني - أنه يقع الطلاق ويثبت العوض؛ لأنها سألت فُرقةً لا تَنقُص العددَ، فحَصَّلَ الفرقةَ، وزادها نقصان العدد.
وحقائق هذه المسائل يتوقف انكشافها على تفصيل القول فيه إذا تخالع الزوجان، وجعلنا لفظ التخالع كناية أو تخاطباً بلفظ الكناية، ثم نفرض بينهما ريبة أحدهما.
__________
(1) في الأصل: يعتاض (بالضاد) ثم المعنى (بالصاد) : مأخوذ من (عَوِص) و (أعوص) ، والمراد أن بهذا التفريع على الأقوال، وتقعيدها، وتأصيلها على القواعد والأصول، يكون الفصل صعباً عويصاً، وليس أمراً هيناً رخواً.
(2) في الأصل: نجا من كل قاعدة.
(3) في الأصل: فالتفريع.
(4) في الأصل: لأنها.(13/306)
وهذا نذكره في باب مخاطبة الرجل امرأته، ورمزتُ إلى هذا الوعد لعلمي بأن ما ذكرته يختلج في صدور الأكياس.
فصل
قال: "ولو خالعها تطليقة بدينار على أن له الرجعة ... إلى آخره" (1) .
8709- إذا قال الرجل: خالعتك تطليقة بدينار، على أن لي الرجعة، فقبلت، أو قال: طلقتك طلقة بدينار على أن لي الرجعة.
تصوير المسألة: تدور على تطليقٍ بمال بصريحٍ أو كناية، مع شرط الرجعة؛ فالذي نقله المزني: أن الطلاق واقع، والعوض المذكور ساقط، والرجعة ثابتة. لم ينقل المزني عن الشافعي إلا هذا، واختار أن الطلاق يقع [بائناً] (2) ، والرجوع إلى مهر المثل، وشرطُ الرجعة ساقط.
ونقل الربيع عن الشافعي ما اختاره المزني، ولم يصحح في النقل غيره، ثم قال: وفي المسألة قول آخر إن الرجعة ثابتة، والدينار مردود.
وقيل: اختار الربيع ثبوت الرجعة وسقوط العوض، فنقل ما اختاره المزني، واختار ما نقله، فحصل في المسألة قولان إذاً.
8710- توجيه القولين: من قال بوقوع البينونة، عوّل على تغليب الفراق، ورأى شرط الرجعة شرطاً فاسداً. فالشرائط الفاسدة لا تدرأ بينونة [الخلع] (3) ، قياساً على جملة الشروط الفاسدة.
وإذا أردنا كلاماًً جامعاً في ذلك، قلنا: إذا كان المخالع من أهل الطلاق، والمرأة من أهل [التزام] (4) البدل، وقد تقابل الطلاق والبدل؛ فحكم ذلك البينونة، وما يناقضهما من الشروط مردود.
__________
(1) ر. المختصر:4/52.
(2) في الأصل: ثابتاً.
(3) في الأصل: والخلع.
(4) في الأصل: إلزام.(13/307)
ومن نصر القول الثاني، احتج بأن الطلاق اقترن به ذكر المراجعة والمال، وهما متناقضان، فإذا عسر الجمع بينهما، واستحال [انتفاؤهما] (1) ، فينبغي أن نثبت أقواهما، وأقواهما: الرجعة؛ فإنها تثبت من غير إثبات.
ويجوز أن يُعضَّدَ هذا القول، فيقال: الرجعة تُناقض البينونة، ومقصود الخلع: [البينونة] (2) فشرط الرجعة يناقض مقصود الخلع، فيدرؤه، وينزل منزلة عقد النكاح على شرط الانكفاف عن الوطء.
وقد يدخل على ذلك (3) أن النكاح المؤقت، ومضافه إلى بعض المنكوحة فاسدٌ، ومؤقتُ الطلاق مؤبد، ومبعّضه مكمّل. ولا شك أن أقيس القولين ما اختاره المزني.
8711- ثم إنه في اختياره استشهد بمسائل، نقل فيها نصوصاً، فنذكرها، ونذكر أقوال الأصحاب فيها.
فمنها: أنه قال: قال الشافعي: "إذا خالع زوجته بطلاقٍ على مال، وقال: مهما بدا لكِ أن تستردي العوض، فاسترديه، ولي الرجعة، فالطلاق يقع بائناً، والرجوع إلى مهر المثل، ويثبت عليها لازماً لا يدرأ" (4) .
والذي صار إليه معظم الأصحاب موافقتُه، [وطلبوا] (5) الجوابَ، والفرقَ بين هذه المسألة وبين صورة القولين. والذي تحصّل من الفرق أن البينونة في مسألة الاستشهاد ناجزةٌ [ومقتضى] (6) الشرط استدراكها إذا أرادت المرأة استرداد العوض، [وصورة] (7) القولين فيه إذا قرن شرط الرجعة بالمال.
__________
(1) في الأصل: انقضاؤهما.
(2) في الأصل: والبينونة.
(3) "يدخل على ذلك": أي يعارضه.
(4) ر. المختصر:4/53.
(5) في الأصل: وطلب.
(6) في الأصل: "بمقتضى".
(7) في الأصل: وسورة.(13/308)
والفرق يظهر بين التنجيز وشرط الاستدراك وبين [اقتران نفي] (1) البينونة بالعقد.
وذكر صاحبُ التقريب والشيخُ أبو علي أن من أصحابنا من رأى نص الشافعي في المسألة التي استشهد بها المزني جواباً على أحد القولين، وقال: إذا نصرنا القول الثاني، حكمنا بأن البينونة لا تقع في مسألة الاستشهاد؛ فإنه لم يبتّها، بل ردّدها؛ فثبتت الرجعة، وانتفى المال على القول الذي ننصره على المزني.
8712- ومما تعلق به المزني لنصرة القول الذي اختاره: أن الرجل إذا قال لمالكِ العبدِ: أعتق عبدك عني بألف على أن لك الولاء، فإذا أعتقه على هذا الشرط، فكيف السبيل فيه؟
نقل أن العتق ينفذ بالمال على المستدعي، وله الولاء، وشرط الولاء باطل مردود.
ومن أصحابنا من قال: الشرط باطل، ولكن لا يرتدّ العتق به، ولكن يرتد به طريق الاستدعاء في محاولة نقل الملك أولاً، وبناء العتق عليه؛ إذ العتق إن كان لا يقبل الرد، فطريق الاستدعاء يمكن إبطاله حتى إذا بطل، نفذ العتق على المنشىء (2) ، وله الولاء، ولا عوض.
وتعلق المزني بمخالعة الرجل امرأته السفيهة المحجورة، فإن الشافعي نص على وقوع الطلاق، وانتفاء العوض، وثبوت الرجعة. ووجه استدلال المزني أن المال لم يثبت، بحيث لم تكن المرأة من أهل الالتزام. وهذه المسألة ستأتي بما فيها، إن شاء الله تعالى، ولسنا للإطناب في محاجة المزني. وذَكَر في أثناء الكلام اختلاعَ الأمة المزوّجة نفسها، وسيأتي حكم اختلاعها، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: "وبين أمران في البينونة والمثبت من (صفوة المذهب) .
(2) المنشىء: أي المالك الذي سينشىء العتق.(13/309)
فصل
قال: "ولا يلحق المختلعةَ الطلاقُ ... إلى آخره" (1) .
8713- المختلعة لا يلحقها الطلاق في عدة البينونة؛ فإنها بائنة خارجة عن النكاح، والطلاق حلٌّ للنكاح، وخلاف أبي حنيفة (2) - مشهور، والرجعية يلحقها الطلاق في عدة الرجعة، وفي صحة مخالعة [الرجعية] (3) وجهان مشهوران:
أحدهما - أنها تصح، لأن الطلاق من غير عوض يلحقها، فيلحقها بالعوض، وأثر العوض اقتضاء البينونة، وليست [الرجعية بائنة] (4) .
الثاني - أنها لا تبين، ولا يصح الخلع، لأن نص الشافعي دالّ على أن الزوج إذا وطىء الرجعية، التزم مهر مثلها. فيبعد أن يكون بحيث يلتزم الزوج المهر بوطئها ويُلزمها بالخلع العوضَ.
وسنذكر التفصيل في وطء الزوج الرجعية، وتفصيلُ القول في الظهار والإيلاء إذا وُجّها على الرجعية، سيأتي في كتاب الظهار والإيلاءَ إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) ر. المختصر:4/54.
(2) ر. تحفة الفقهاء: 1/276، وفتح القدير: 4/81، 82، ومختصر اختلاف العلماء:
2/467- مسألة رقم: 984.
(3) في الأصل: الرجعة.
(4) في الأصل: الرجعة ثابتة.(13/310)
باب ما يقع وما لا يقع
قال: "ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاًً، في كل سنة تطليقة ... إلى آخره" (1) .
8714- نقدم على مقصود هذا الباب تفصيلَ القول في عَوْد الحِنث.
فإذا علق الرجل طلاق امرأته بصفةٍ، ثم بانت عنه بسبب من الأسباب، فسخٍ أو طلاقٍ مُبين، ثم عادت إليه، فلا يخلو: إما أن تبين من غير استيفاء عدد، ثم تعود.
وإما أن يطلقها ثلاثاًً، وتعود إليه بعد التحليل؛ فإن لم تقع الحرمة الكبرى وبانت، ثم جدد عليها نكاحاً، فوُجدت الصفة التي علّق الطلاق عليها في النكاح الأول في النكاح الثاني؛ فالمنصوص عليه في القديم: القطعُ بوقوع الطلاق. وفي الجديد قولان: أحدهما - يقع، وهو القول المعروف بعَوْد الحِنث. والقول الثاني - لا يقع.
توجيه القولين: من قال: يقع، احتج بأن التعليق جرى في نكاح، والصفة تحققت في نكاح، والنكاحُ الثاني مبني على النكاح الأول في عدد الطلقات؛ فإنه لو طلق طلقة واحدة، فبانت المرأة، ثم جدّد النكاح عليها؛ [فهي] (2) تعود إليه بطلقتين؟ فإذا انبنى النكاح على النكاح في العدد، وجب أن ينبني عليه في اليمين بالطلاق.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن التعليق جرى في النكاح الأول، وقد تصرّم ذلك النكاح، [فلينقضِ] (3) بما فيه؛ إذ لو نفذنا في النكاح الثاني يمينه السابقة في النكاح
__________
(1) ر. المختصر: 4/55.
(2) في الأصل: فهل.
(3) في الاصل: فليقض.(13/311)
الأول، لكنّا منفذين تصرفه في النكاح الثاني قبله (1) ، وهذا ينافي مذهب الشافعي.
هذا إذا كان النكاح الثاني قبل وقوع الحرمة الكبرى.
8715- فإن علّق طلاق امرأته، ثم طلقها ثلاثاً تنجيزاً، ثم نكحت زوجاً آخر، وعادت إلى الأول على شرط الشرع، ثم وُجدت الصفة التي علق الطلاق بها في النكاح الأول؛ فالمنصوص عليه في الجديد: القطع بأن الطلاق لا يقع، والحِنث لا يعود.
وفي القديم قولان.
وإذا جمعنا الصور وضممنا أجوبة القديم إلى الجديد، انتظم في عود الحِنث ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه لا يعود أصلاً إذا تخللت البينونة، وتجدد النكاح.
والثاني - أنه يعود كيف فرض الأمر نظراً إلى حالة التعليق ووجود الصفة، وهما واقعان في النكاح.
والقول الثالث - إن الحِنث يعود إذا لم تتخلل الحرمة الكبرى، فإن تخللت، لم يعد.
والمصير إلى عود الحنث بعد وقوع الثلاث على نهاية البعد، حتى لا يكاد ينتظم [تعبير] (2) فيه عن توجيه؛ فإن الرجل إذا علق ثلاث طلقات بوجود صفة، فإنما علّق ما يملك تنجيزه من الطلقات، فإذا أنجز ما علّق، فقد انحلّ ملكه المعلق، وكان التنجيز بمثابة الاستيفاء، فلا يبقى للتعليق متعَلّقٌ، ويستحيل بقاء تعليق لا متعلقَ له.
8716- وأبو حنيفة (3) فصّل في عَوْد الحنث بين أن يقع النكاح الثاني بعد تخلل الحُرمة الكبرى وبين أن يقع قبل تخللها، وهذا الفصل حسن في جانب نفي الطلاق
__________
(1) قوله: "لكنا منفذين تصرّفه في النكاح الثاني قبله": معناه أننا ننفذ التصرف في النكاح قبل أن يوجد النكاح، وهذا خلاف مذهب الشافعي، فعنده أن من قال: إذا تزوجت فلانة فهي طالق. لا تطلّق بهذا اللفظ.
(2) في الأصل: تغيير.
(3) ر. المبسوط: 6/95، ومختصر الطحاوي: 203، ومختصر اختلاف العلماء: 2/409 مسألة رقم: 915، ورؤوس المسائل: 420 مسألة رقم: 292.(13/312)
عند استيفاء الطلقات الثلاث، ولكنه أفسد على نفسه، حيث قال: إذا طلق الرجل امرأته، فبانت ونكحت زوجاً وأصابها، ثم عادت إلى الأول على شرط الشرع؛ فمذهبه: أنها تعود إلى الأول بثلاث طلقات. ثم بنى على هذا المذهب مسألةً في التعليق، فقال: إذا علّق ثلاث طلقات بصفة في النكاح الأول، ثم نجّز طلقتين، فبانت وأونكحتصيبت، وعادت إلى الأول، فوُجدت الصفة؛ قال: تطلق ثلاثاًَ، ومعلوم أنه لما نجّز طلقتين في النكاح الأول، فقد نجّز مما علق طلقتين، فإدامة التعلق بما نجّز محال.
وهذه المسألة لا تتصور على أصلنا؛ فإن النكاح الثاني عندنا مبني على النكاح الأول في عدد الطلاق، كما سيأتي القول في هذا [في] (1) الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
8717- وذكر الأئمة في تعليق العتق وعَوْد اليمين ما ذكروه في الطلاق. فإذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم زال ملكه عن الرقبة زوالاً لازماً، ثم عادت (2) إليه، فوُجدت الصفة في الملك الثاني؛ ففي وقوع العتق القولان المذكوران في عود الحنث في اليمين المعقودة بالطلاق إذا تخللت البينونة من غير استيفاء عدد، فإنه تخلل في الموضعين حالةٌ [لو] (3) فرض فيها وجود الصفة، لما وقع الطلاق ولا العتاق.
وذكر الأئمة لتنجيز الطلقات الثلاث بعد التعليق نظيراً من العتاق، فقالوا: إذا علق عتقَ عبد، ثم نجّز إعتاقه، ثم التحق بدار الحرب، وكان كافراً [فسبي] (4) ، وأُرقّ، ورأينا إرقاقه -على تفصيل في السِّير، سيأتي إن شاء الله عز وجل- فإذا عاد ملكاً لمن علّق عتقه، فوُجدت الصفة، ففي وقوع العتق -والحالة هذه- ما في وقوع الطلاق إذا عَلَّق [به، ثم] (5) نجَّز الطلقات الثلاث، ثم عادت إليه.
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) ثم عادت إليه: أي الرقبة.
(3) في الأصل: أو.
(4) في الأصل: يسبَى.
(5) في الأصل: ثم به.(13/313)
ووجه التشبيه لائح، فإنه إذا علقَ الطلاق، ثم طلق ثلاثاً، فقد نجز ما علق؛ وإذا علّق عتق عبده، ثم أعتقه تنجيزاً، فقد نجّز ما علّق؛ فإن العتق ليس مما يتعدد.
8718- ومما يتعلق بأطراف المسألة: أنا إذا رأينا عَوْد الحنث، فلو علق الطلاق في النكاح الأول، ثم أبان زوجته، فوُجدت الصفة في زمان البينونة، فلا شك أن الطلاق لا يقع لمصادفة الصفة حالةً لو أنشأ الطلاق فيها تنجيزاً لَمَا وقع.
وإذا عادت، ثم وجدت تلك الصفة في النكاح الثاني؛ فالذي صار إليه أئمة المذهب: أن الطلاق لا يقع [وإن] (1) فرعنا على عَوْد الحنث، واعتلّوا بأن الصفة لما وجدت في زمن البينونة، انحلت اليمين انحلالاً لم تصادف إمكان إعمال، فانحلّت بلا عمل، فإذا انحلت، استحال أن يقع في النكاح الثاني شيء. ووجه ذلك أن اليمين لا تنعقد إلا مرة واحدة (2) . فإذا وجدت بعد المرة، فقد زال متعلَّق اليمين، وعسر الحكم بالصفة، فكان موجب ذلك أن تنحل اليمين بلا خلاف.
وحكى العراقيون عن أبي سعيد الإصطخري وجهاً أن اليمين لا تنحل، لأن يمين الزوج معقودة على طلاق يُمْلَك في زمان يُتصور من فيه التنجيز والتنفيذ، ويستحيل عقد اليمين بالطلاق على زمان البينونة، وإذا لم تنعقد على زمان البينونة، لم تنحل بما يقع في زمان البينونة. وهذا متجه على مذهب الشافعي، ولكنه بعيد في النقل، غيرُ معتد به.
ومما يتعلق بهذا الأصل؛ أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها قبل الغد، فانقضى الغد في البينونة، ثم عادت، فلا شك أن ذلك الطلاق المؤقت لا يقع. ولا يخرّج في هذه الصورة وأمثالها مذهب الأصطخري؛ فإن الوقت الذي علق الطلاق به، قد انقضى قبل النكاح الثاني، فلا يتصور وجوده في النكاح الثاني، حتى نتكلم في وقوع الطلاق وعدم وقوعه، وأما مذهب الأصطخري فيه إذا كان متعلق الطلاق صفةً يتصور وجودها في النكاح الثاني.
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) هنا سقطٌ في نسخة الأصل -وهي وحيدة- وقد ألحقه أحد مطالعي النسخة بالحواشي وهو نحو ورقة كاملة، فالله المستعان على فك رموزه.(13/314)
8719- ومما يتعلق بأصل عَوْد الحنث؛ أن الرجل إذا قال لامرأته: إذا بِنْتِ ونكحتكِ ودخلتِ الدار في النكاح الثاني، فأنتِ طالق، ثم بانت ونكحها، فدخلت الدار؛ فالذي ذهب إليه أئمة المذهب أن الطلاق لا يقع أصلاً. وإن فرّعنا على عَوْد الحِنث؛ فإنه صرح بتعليق الطلاق في نكاح قبل انعقاده، وهذا لا يراه الشافعي ولا يسوّغه.
ومن أصحابنا من قال: يخرّج هذا على قول عَوْد الحِنث؛ فإن النظر إلى وقوع المعلَّق في النكاح مع وقوع الصفة في النكاح، وهذا بعيدٌ مع التصريح بإضافة الوقوع إلى النكاح الثاني، حتى لا يفرضَ انحلال اليمين في النكاح الأول [هكذا أجروه] (1) .
والوجه أخْذه من عود الحنث بعد استيفاء الثلاث؛ فإن الحنث ينطبق على ما يتجدد بالنكاح الثاني من مِلْك.
8720- ومما كان يفرعه شيخي في هذا الأصل: أن الرجل إذا علق طلقة واحدة بصفة -وهو يملك الثلاث- ثم قال: نجّزتُ تلك الطلقة التي علّقتها، فتنتجز الطلقة لا محالة. وهل ينحل التعليق؟ هذا ينبني على أنه إذا نجز الثلاث، فهل ينحل التعليق حتى لا يعود في النكاح الثاني؟ فإن قلنا: لا ينحل التعليق، فلا (2) معنى [لحَلِّ] (3) التعليق بالجهة التي ذكرناها.
فإن قلنا: ينحلّ التعليق لو استوفى الطلقات، فإذا علق واحدةً، ثم نجز واحدة، وزعم أنها التي علقها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن التعليق ينحلّ،
[ووجهه] (4) بين.
والثاني - أنه لا ينحلّ، ويبقى التعليق مرتبطاً بما بقي من الطلقات؛ فإنه ما كان متعلقاً بطلقة معينة. ولا خلاف أنه لو علق طلقة، ثم نجّز طلقة مُطْلَقة، فالتعليق
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير منا على ضوء السياق، امحت الكلمات، أو كادت.
(2) انتهى اللحق أو السقط، وعدنا إلى منتصف الورقة 15 ش.
(3) في الأصل: لحمل.
(4) في الأصل: ووجه.(13/315)
لا ينحلّ؛ فقوله: نجزت ما علّقت تصرّفٌ منه في فكّ التعليق، وليس ذلك إلى المعلِّق.
هذا تمام البيان في تمهيد أصل عَوْد الحنث، ولهذا الأصل تكرُّرٌ في الكتب على ما يليق بمقاصدها، وفيما ذكرناه الآن مَقْنع.
8721- وقد عاد بنا الكلام إلى مضمون الباب. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً: في كل سنة واحدةٌ، رجعنا إليه، فإن زعم: أنه أراد مُدَد السنين وتنكيرَها، ولم يرد السنة المعروفة العربية [المستفتحة] (1) بالمحرم، فالجواب -ومراده ما وصفناه- أنه يقع في الحال طلقة؛ لأنه يكون في سنةٍ لا محالة، وقد أوقع الطلقات الثلاث في [ثلاث] (2) سنين، فلتقع كلُّ طلقة في سنة، وموجب ذلك وقوعُ طلقة في الحال؛ لأنه في سنة، ولم يعلّق الطلقات الثلاث بانقضاء ثلاث سنين.
ثم إذا حكمنا بوقوع طلقة في الِحال؛ لأنه في سنة، فلو راجعها، وامتدّت عدة الرجعة بتباعد الحيضة، أو امتداد زمان الحمل، حتى مضت اثنا عشر شهراً؛ [فتقع عليها الطلقة الثانية فإن راجعها، وطالت العدة إلى اثني عشر شهراً] (3) أخرى، فيقع عليها الطلقة الثالثة، فتلحقها الثلاث في أربعة وعشرين شهراً ولحظةٍ، وهذه اللحظة الزائدة: وقتُ وقوع الطلقة الثالثة. والوقتُ الذي وقع فيه الطلقة الأولى محسوب من السنة الأولى. وهذا بيّن لا يخفى دَرْكُ مثله على الفطن.
وما ذكرناه فيه إذا تمادت عدة الرجعية، وارُتجعت المرأةُ على نظمٍ يقتضي وقوع الطلقات كما صورناه.
فإن لحقها الطلقةُ الأولى، ولم يرتجعها، وانقضت عدتها قبل مضي السنة الأولى، [وبانت] (4) ، فإن نكحها، فتمت اثنا عشر شهراً من يوم تلفظه بالطلاق
__________
(1) في الأصل: المستحقة.
(2) زيادة اقتضاها إقامة العبارة.
(3) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها استقامة العبارة، وهي من عمل المحقق.
(4) في الأصل: فأبت.(13/316)
[وعَقْدِه] (1) اليمين، فهل تلحقها الطلقة الثانية؟ فعلى القول الممهد في عَوْد الحنث.
وقد قدمنا فيه الأقوالَ، والترتيبَ البالغَ [الكافي] (2) ، والكلامُ في الطلقة الثالثة على ذلك يخرّج.
ولو لحقتها الطلقةُ الأولى، وانقضت عدتها في السنة الأولى، ولم يجدد عليها النكاحَ حتى مضت السنة الثانية، فقد انحلت اليمين في الطلقة الثانية؛ [فإنه كانت نهايتها] (3) بانقضاء السنة الثانية. وليس هنا محل تخريج الإصطخري (4) ، -بل هو كما لو قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها قبل الغد، وتصرّم الغد على البينونة، ثم جدد النكاح- فلا (5) يقع الطلاق، [ثم هل يقع الطلاق] (6) الثالث لو امتدت العدة (7) ، [وهل] (8) تنحل اليمين بمضي تلك اللحظة؟ قلنا: لا تنحلّ؛ فإن أمد الطلاق الثالث منتهٍ. غير أنا ابتدرنا (9) الحكم بوقوعه لنحقق دخول الوقت، وكل طلاقٍ أضيف إلى زمانٍ ممتد إضافة الشيء إلى ظرفه الزماني، فإنه يقع في أول جزء منه. فإذا كانت المرأة بائنةً في الجزء الأول من السنة الثالثة، لم يقع الطلاق.
__________
(1) في الأصل: وعدّه.
(2) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف.
(3) ما بين المعقفين قرىء بصعوبة بالغة على ضوء الظلال الباقية للكلمات. وعبارة العز بن عبد السلام: "فتنحلّ اليمين المعلقة بها" (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم: 115ش) .
(4) عبارة العز بن عبد السلام: فإن لم يتزوجها حتى مضت السنة الثانية، فتنحل اليمين المعلقة بها، بوفاق الإصطخري. (ر. الغاية في اختصار النهاية: 3 لوحة رقم 115 ش) .
(5) كذا قرأناها بصعوبة بالغة.
(6) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق.
(7) قوله: "ثم هل يقع الطلاق الثالث لو امتدت العدة ... إلخ" مرتبط بما قبل العبارة المعترضة.
والمعنى أنه لو امتدت العدة حتى دخلت في السنة الثالثة، ومضت منها لحظة تسع وقوع الطلاق، فهل يقع الطلاق الثالث بمضي تلك اللحظة، أم تنحل اليمين.
(8) في الأصل: فهل.
(9) ابتدرنا الحكم بوقوعه: أي حكمنا بوقوعه إن قلنا بعود الحنث. لكن يعترض هنا أن المرأة لم تكن محلاً لوقوع الطلاق عند دخول السنة الثالثة.(13/317)
فإذا نكحها [في أثناء السنة الثالثة، فهذا النكاح جرى في أمد الطلاق الثالث] (1) ثم إن قلنا: بعَوْد الحنث، فكما (2) نكحها، طلقت؛ فإن هذا زمانٌ من السنة الثالثة، وهو بمثابة ما لو قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها، فمضى صدرٌ من الغد، ثم جدد النكاح عليها في بقيةٍ من الغد، ورأينا عود الحنث، فالطلاق يقع كما (3) ينكحها.
هذا كله فيه إذا قال: أردت بقولي: في كل سنة طلقة، تنكيرَ السنين، ولم أُرد تعريفها بالسنين العربية.
8722- فإن قال: أردتُ السنين العربية، طُلّقت في الحال طلقة، لأنها تقع في سنةٍ عربية. وكلما أهلّ المحرم، طُلقت طلقةً أخرى. وقد تقع الطلقة [الأولى] (4) في آخر لحظة من السنة، وتقع الثانية في اللحظة الأولى من السنة؛ فتلحقها طلقتان في لحظتين. والفرق بين [هذه] (5) المسألة وبين الأولى مستبين؛ فإن المسألة الأولى مقتضاها تقدير السنين من وقت نطقه، فانتظم ذلك الترتيب على ما مضى، وهذه المسألة مبنية على ما يقع من السنين العربية، لا على ما يقدره الحالف.
والغرض التام في ذلك يتّضح بذكر مسألة واستغراب، وجوابٍ عنه.
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً في كل يومٍ طلقة، [فإن] (6) قال ذلك وهو في يوم، فتقع واحدة في الحال، وتقع الثانية كما (7) طلع الفجر في اليوم الثاني، ولا يتوقف الوقوع على أن ينتهي في اليوم [الثاني] (8) إلى الوقت الذي انعقد فيه اليمين في اليوم الأول. وإن قال: أردت تنكير اليوم، فالجواب كذلك. فإن قيل: هلا
__________
(1) ما بين المعقفين انمحى تماماً أو كاد، وقدرناه على ضوء المعنى وظلال الكلام وآثاره الباقية.
(2) فكما: أي عندما.
(3) كما ينكحها: أي عندما ينكحها.
(4) في الأصل: الأخرى.
(5) زيادة لإقامة الكلام.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) كما: بمعنى عندما.
(8) في الأصل: الأول.(13/318)
حسبتم بعد وقوع الطلاق [زمانَ] (1) يومٍ: مثلاً يقع الطلاق في وقت الزوال، فيتربص إلى انتهاء اليوم الثاني إلى وقت الزوال. وهذا في التحقيق مضي يوم مضى شطره أمس ولم [يمض] (2) مقدار يوم في اليوم الثاني؟ قلنا: سبب ذلك أنه إذا علّق الطلاق باليوم وجعله ظرفاً؛ فإذا قال: في كل يوم، فكما (3) طلع الفجر شرعت في جزء من أجزاء اليوم، وليس كذلك السنة المنكرة؛ فإنها تطلق على اثني عشر شهراً. فإذا نظر الناظر إلى مسألة الأيام، ومسألة السنين المنكرة، ابتدر اعتقاد الفصل بينهما، ثم تعسر العبارة عن مكنون الضمير. ويُستنكر أمثالُ ذلك في مسائل الطلاق؛ فيقع الاعتناء
بتَرْصيف العبارة، وتطبيقها على المعنى.
ونحن نقول: السنة تنكر، وتعرّف، فيقال: أقبلت السنة إذا قرب هلال المحرم، واليوم يعرّف وينكّر. وليس يبعد اعتقاد التبعيض فيه أيضاًًً؛ فإِن الرجل إِذا قال لامرأته وقت الزوال: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فلا تطلّقُ حتى تغرب الشمس، ويدخلَ اليومُ الثاني، وينتهي إلى وقت الزوال.
ولكن الألفاظ المطلقة في الأيام ظاهرةٌ في الأيام المعرفة. والسنين المطلقة ليست ظاهرةً في السنين العربية؛ فإنّ تعرّف الأيام أظهرُ من تعرف السنين؛ كيف؟ وطبقات الخلق على اختلافٍ في تعريف السنين، ولسنا على توقيفٍ حاقّ في تعريف السنين العربية، فكان قولُ القائل: أنت طالق ثلاثاًً في كل سنة طلقةٌ ظاهراً في احتساب السنة المنكرة من وقت القول، وقول القائل: "في كل يوم" ظاهرٌ في اليوم المعروف؛ حتى يُعدَّ احتسابُ يوم من يومين في حكم الشاذ، الذي [يلتبس] (4) الفكر عليه، إذا لم يُرِد (5) .
__________
(1) في الأصل: أزمان.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) فكما: أي عندما.
(4) في الأصل: يلتمس.
(5) من أراد يريد.(13/319)
8723-[و] (1) هذا يتبين بمسألتين: إحداهما - أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل سنة طلقة، فراجعناه في قصد التعريف والتنكير، فزعم أنه لم يكن له قصد، فهذا عندنا ملتحق بمسائلَ ستأتي في الطلاق -إن شاء الله تعالى- مستندةً إلى قاعدةٍ لا سبيل إلى الخوض فيها الآن، ولكنا ننجز الجواب والفتوى على حسبها، فنقول: إذا زعم أنه أطلق اللفظ، ولم ينو تنكيراً ولا تعريفاً، ففي المسألة وجهان أخذاً من كلام الأئمة في قواعد الطلاق: أحدهما - لفظه يحمل على التنكير؛ فإن إطلاق الرجل قولَه سنة من غير تعريف محمول على سنة يضعها [ويعتبرها] (2) من تلقاء نفسه. هذا هو الغالب
في حكم الإطلاق.
والوجه الثاني - يحمل على السنة العربية؛ فإنه لا تعريف في كلامه. وقد يترجح أحد القولين على الثاني بمصادفته التعريف الشرعي.
وإذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً في كل يوم طلقة، وزعم أنه لم ينو تعريفاً ولا تنكيراً، فهذا محمول على اليوم المعرّف بلا خلاف؛ [فإنه] (3) المفهوم السابق إلى الأفهام، ومبتدأُ الأيام منفصلةٌ في الصورة بتخلل الليالي.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً في كل يوم طلقة، وزعم أنه أراد تكميل اليوم الذي كان فيه بساعات اليوم الآتي، فهو إن صدق في حكم الله تعالى محمول على حكم نيّته [تديّناً] (4) . وإن قال: فاقبلوه مني ظاهراً، فهل [يحمل] (5) على هذا ظاهراً ويقبل قوله؛ فعلى وجهين سيأتي أصلهما، إن شاء الله عز وجل: أحدهما - أنه يقبل، لظهور الاحتمال مع النية، ولا مطمع في تمهيد هذه القواعدِ بعدُ، ومقدار غرضنا الآن إظهار الفرق بين السنين والأيام، وقد لاح على أبين الوجوه، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) الواو زيادة اقتضاها للسياق.
(2) في الأصل: "ويغيرها".
(3) في الأصل: فإن.
(4) في الأصل: بيّناً.
(5) في الأصل: محمل.(13/320)
8724- وإذا قال: أجرتك هذه الدار ثلاثَ سنين، فابتداء المدّة من وقت العقد، وإذا قال: أجرتكها ثلاثة أيام، وأنشأ العقد وقت الزوال، استكملنا الأيام بالتلفيق كالسنين، ولا فرق بين السنين والأيام في ذلك، والسبب فيه ارتباط الإجارة باستغراق المدة في الموضعين، والطلاق إنما يقع في أوقاتٍ من السنين والأيام.
وهذا تمام الغرض.
* * *(13/321)
باب الطلاق قبل النكاح
قال الشافعي رحمه الله: "ولو قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق ... إلى آخره" (1) .
8725- إذا قال الرجل لأجنبية: إن نكحتك، أو إذا نكحتك، فأنت طالق. فهذا التعليق قبل النكاح لغوٌ، وإذا نكحها، لم تطلق.
وإذا قال: كل امرأة أنكحها، فهي طالق، فقوله لغو. وقاعدةُ المذهب أن التعليق تصرفٌ من مالك الطلاق في الطلاق [بما] (2) يقبله الطلاق من التعليق، فإذا لم يملك الطلاقَ، [كان] (3) تصرفه فيه لغواً. وقال أبو حنيفة (4) : التعليق إذا أضيف إلى النكاح على [الإطلاق] (5) أو على التعيين في مخاطبة واحدة، صح، وإذا فرض النكاح عَمِل.
وقال صاحب التقريب: تردد جواب الشافعي في القديم، ونقل من كلامه [ما يدلّ] (6) على أن قوله في القديم مثلُ مذهب أبي حنيفة، وتارة ينقل قولاً [بعيداً] (7) وتارة ينقل تردداً، وقد يقول: الطلاق لا يعلّق قبل النكاح في المشهور من قوله، والصحيح من مذهبه.
وهذا لم أره إلا في طريقته، فنقلته على وجهه، وتعرضت لصيغ كلامه،
__________
(1) ر. المختصر: 4/56.
(2) في الأصل: ما.
(3) في الأصل: وكان.
(4) ر. تحفة الفقهاء: 2/294، والمبسوط: 6/129.
(5) في الأصل: الطلاق.
(6) في الأصل: وما يدل.
(7) في الأصل: معبداً.(13/322)
ولا عَوْدَ إليه، والمسألةُ [خلافية] (1) مشهورة.
8726- وقد أجرى الأئمة فيها مسائلَ مذهبيةٍ، ونحن نذكرها ونستعين بالله تعالى.
فمنها أن العبدَ يملك على زوجته طلقتين، فلو علق الطلقة الثالثة مع الطلقتين، فقال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم عَتَق، ودخلت المرأة الدار بعد العتق، ففي وقوع الطلقة الثالثة وجهان: أقيسهما - أنه لا يقع، تخريجاً على [القاعدة] (2) التي ذكرناها معتمداً في المذهب، وذلك أنه علق الثالثة في وقت كان لا يملكها، فلزم إلغاء تعليقه.
والوجه الثاني - أنه يقع؛ فإنه لما علّق، كان مالكاً للنكاح، فصدر تعليقه عن ملك مستقىً عن ملك الأصل، وشبه بعض الفقهاء هذا بالإجارة، فإنها تصدر عن مالك الرقبة، والمنافُع [مستجدةٌ شيئاً فشيئاً] (3) .
وهذا تكلف، فإن الإجارة أُثبت أصلها للحاجة ثم [المنافعُ] (4) تترتب خِلقةً ووجوداً، فجعلت كالموجود، وأما العتق (5) ، فإنه ليس مما يُقضى بوقوعه، بل هو متوقع، ولو قيل: الغالب دوام الرق، لكان سديداً.
8727- ومنها أن الرجل إذا قال لأمته: كل ولدٍ تلديه، فهو حر، وكانت حائلاً فعلقت بولدٍ بعد التعليق، فإذا ولدته، فهل ينفذ العتق فيه؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا ينفذ؛ لأن الولد لم يكن موجوداً حالة التعليق.
والثاني - أنه ينفذ العتقُ لصَدَره عن مالك الأصل، والعتق أولى بالنفوذ في هذه المسألة من الطلاق الثالث في مسألة العتق؛ لأن من ملك الأصلَ، فذلك يملّكه الولدَ، وملك العبد النكاحَ لا يملكه الطلاقَ الثالث.
ثم إذا نفذنا العتق والطلاقَ في المسألتين، فلا حاجة إلى إضافة الطلاق إلى حالة
__________
(1) في الأصل: الخلافية.
(2) سقطت من الأصل.
(3) عبارة الأصل محرفة هكذا: مستوحد شيا.
(4) في الأصل: النافع.
(5) المراد عتق العبد الذي علق ثلاث طلقات.(13/323)
الملك، بل يكفي أن يقول العبد: إذا دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاً، ثم يعرضُ العتق ويكفي أن يقول لأمته: إذا ولدت ولداً، فهو حر، ولا حاجة أن يقول: إذا ولدت ولداً في ملكي.
8728- ومنها كلامٌ في النذر، فإذا قال الرجل: إن شفى الله [مريضي] (1) فلله عليّ إعتاقُ عبدٍ، فإذا شفي المريض، [لزم] (2) الوفاء بالنذر وإن لم يكن في ملكه عبدٌ حالة النذر، والسبب فيه أن التعويل في هذا النذر على الالتزام المطلق في الذمة، والديون كذلك تلزم الذمم؛ فإنها لا تتعلق بالأعيان، وإذا كنا نحتمل هذا في أثمان البياعات مع بعدها عن قبول الأغرار، فلا بعد فيها في النذور القابلة للمجاهيل، وضروب الأغرار.
ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبداً إذا ملكته، فهذا صحيح؛ فإن النذر على هذا التقدير يُلتزم، وعلى هذا الوجه يُفرض الوفاء به.
ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبدَ زيدٍ هذا إن ملكتُه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: النذر يبطل؛ فإن معتمده التصرفُ في ملك الغير قبل ملكه، فيبطل، كما بطل تعليق العتق والطلاق قبل الملك.
والوجه الثاني - أنه لا يبطل؛ لأن معتمد النذر الذمة، والذمة مملوكة للملتزم، والطلاق يتمحض إيقاعاً في العين؛ فإذا لم [يملك] (3) العين، لغا تصرّفُه فيه.
8729- وإذا قال: [أوصيت] (4) لفلان بألف درهم، وكان لا يملك إذ ذاك حبة، ثم ملك ما يفي بالوصية، فالمذهب تصحيح الوصية، كما لو نذر نذراً مطلقاً وهو لا يملك شيئاً. وأبعد بعض أصحابنا، فأبطل الوصية بأنها ليست التزاماً في الذمة، والنذر التزامٌ، فكان المنذور ديْناً.
__________
(1) في الأصل: مرضي.
(2) في الأصل: ولزم.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: أرضيت.(13/324)
والذي عليه التعويلُ التسويةُ بين البابين؛ فإن الوصية تقبل من الإطلاق ما يقبله النذر، فمطلَقُها وإن لم يكن دينا كمطلَق النذر [إن] (1) كان ديناً. وإذا استويا في قبول الإطلاق والمطلق لا يرتبط بالعين، فلا فرق في الغرض المقصود.
وإذا قال: لو ملكت عبد فلان، فقد أوصيت لك به، ففي الوصية وجهان: أحدهما - أنها لا تصح، لوقوعها في عينٍ غير مملوكة، فكانت كتعليق العَتاق والطلاق قبل الملك.
والثاني - تصح، لأن الوصية مبناها على الغرر والخطر، ونفوذها في وقت زوال ملك [الموصي] (2) ، وكان شيخي يقول: إذا صححنا الوصية مضافة إلى العين، وصححنا النذر مضافاً إلى العين، فشرطهما أن يقيّدا بتقدير الملك، فيقول الناذر: إن ملكت هذا العبدَ، ويقول الموصي إن ملكتُ هذا العبدَ، فلو وجه الناذر على عبد الغير مطلقاًً فقال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد، ووجه الوصية كذلك على ملك [الغير] (3) فالنذر والوصية باطلان.
والظاهر عندنا ما ذكره. وإذا سلم الخائضُ في المسألة الوصيةَ والنذرَ المتعلقين بالعين، ورتب عليه اشتراطَ الإضافة إلى الملك عسُر عليه الكلام في المسألة.
8730- وإذا قال: إن تزوجتُ فلانة، فقد وكلتك في طلاقها، فالوجه القطع ببطلان الوكالة؛ فإنه تصرفٌ في الطلاق قبل الملك، وقد اختُلف في أن الوكالة هل تقبل التعليق، والطلاقُ قابلٌ للتعليق، فإذا لم يجز تعليق ما يقبل التعليق قبل النكاح، فكيف تصح الوكالة؟
ولو قال: وكلتك في بيع عبد فلان أو عتقه إذا ملكتُه، وفي طلاق فلانة إذا نكحتُها، ثم ملك، ونكح، ففيما نُقل عن القاضي وجهان في هذا.
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) في الأصل: الوصي.
(3) في الأصل: العين.(13/325)
[والوجه] (1) عندي القطع بالفساد؛ فإن الوكالة لا يصح تنجيزها، والتصرف غير ممكن، فلا فرق في المعنى بين هذه الصورة [والصورة] (2) الأولى.
***
__________
(1) في الأصل: فالوجه.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(13/326)
باب مخاطبة المرأة بما يلزمها من الخلع وما لا يلزمها
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قالت له امرأته: إن طلقتني ثلاثاًً، فلك عليّ مائةُ درهم، فهو كقول القائل: بعني ثوبك هذا بمائة درهم ... إلى
آخره" (1) .
8731- هذا الباب غمرة الخلع، وفيه خاصيته ومعظمُ مسائلِه، وسبيلنا أن نصدّره بذكر قاعدة الخلع وطباعها ومبناها في الاشتراك والتمحض؛ حتى نتخذَها أصلاً متبوعاً، ومتعلَّقاً مرجوعاً، وسنبين ما يجري من المسائل على السَّنَن، وما يميل بعض الميل من الشواذ.
قال الأئمة: الخلع إن حكمنا بكونه فسخاً، فهو محمول على حقيقة المعاوضة من الجانبين؛ فإنه فسخٌ بمالٍ، وليس كالفسوخ التي تَرِدُ على العقود الأُخر إذا (2) حكمنا [بارتداد] (3) الأعواض من غير ذكرٍ لها، والخلع إذا جعلناه فسخاً لا يَرِد على العوض المسمى في العقد، وإنما يرد على بدلٍ جديد، كما سبق تقريره، وإذا كان فسخاً في نفسه، [حلّ] (4) محل حقيقة المعاوضة حتى لا يقبَل التعليقَ. وهذا الباب العظيمُ القدر ليس موضوعاً لقول الفسخ، فإن المسائل تتشعب من الطلاق على المال.
8732- ونقول قبل الخوض في تمهيد القاعدة: في لفظ (السواد) (5) إشكال، فإن الشافعي قال: "إذا قالت: إن طلقتني ثلاثاًً، فلك مائة درهم، فهو كقول الرجل
__________
(1) ر. المختصر: 4/57.
(2) إذا بمعنى: "إذ".
(3) في الأصل: ارتداد.
(4) في الأصل: حالاً.
(5) السواد: المراد به مختصر المزني.(13/327)
بعْني ثوبك هذا بمائة درهم". وهذا التشبيه فيه اشتباه؛ فإن قول الرجل: "بعني" ليس على صيغة التعليق، وإنما هو التماس إيجاب، وقول المرأة: "إن طلقتني" تعليق منها، فكيف يتشابهان؟ ولو قال الرجل: "إن بعت مني" فهذا اللفظ فاسدٌ، لا ينعقد به البيع. فنقول: غرض الشافعي تشبيهُ أحد البابين بالثاني في وقوعهما التماساً بعوض، ثم يقع الالتماس في كل باب على ما يليق به، فالبيع لا يقبل التعليق، فلم يَلِقْ به [إلا] (1) الاستدعاءُ الجازم، والخلع يتطرق إليه التعليقُ، فيقبل الاستدعاءَ بصيغة التعليق؛ فإذاً قصدُه المقابلة بينهما في المعنى لا في الصيغة.
8733- ونحن نبتدىء بعد ذلك قاعدةً تبين حقيقة الخلع ووضعَه من جانب الزوج وجانب المرأة، والكلامُ في الطلاق على المال، أو التفريع على أن الخلع طلاق.
[فالخلع] (2) إذاً طلاق مقابَل بعوض، وهو في جانب الرجل ينتمي إلى التعليق والمعاوضة، والخلع في جانبها معاوضة نازعةٌ إلى الجعالة، ثم من حيث اشتمل الخلع في [جانب] (3) الرجل على الطلاق [واستيداء] (4) البدل والمال، تطرق إليه حكم التعليق في الطلاق، ومعنى تطرقه إليه أنه قد يجري في مسائل الخلع موجب تعليق الطلاق، ومن آثاره على الإجمال، ألا يفرض الرجوع [عنه] (5) ؛ فإن من علق الطلاق، ثم رام الرجوع عن تعليقه، لم يجد إلى ذلك سبيلاً.
وقد يتفرع في جانب الزوج حكم المعاوضة، حتى يثبت له الرجوع عن قوله، كما إذا قال الرجل لمن يخاطبه: بعتك عبدي هذا بألفِ درهم، ثم رجع عن قوله قبل أن يجيبه المخاطَب، فالرجوع يثبت، ولا ينعقد العقد بما يفرض من القبول بعد تقرير الرجوع عن الإيجاب.
ْفهذا معنى قولنا: الخلع في جانبه يعتزي إلى التعليق وإلى المعاوضة، وليس من
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام إلا بها.
(2) في الأصل: والخلع.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: "واستبدال". وهو تحريف مضلّل.
(5) في الأصل: إليه.(13/328)
حق المنتهي إلى هذا الفصل أن يعتقد تبيّن المقصود منه جزءاً جزءاً على طباع سائر الفصول، بل ينبغي أن يعلم أن تمام البيان فيه موقوف على نجازه، وسبيلُ التدريج إليه إطلاق [الأصول] (1) على الإجمال، ثم بيانها موقوف على انقضاء الفصل.
8734- وذكر الأئمة أن الخلع في جانبها معاوضة، وزاد المحققون أنها معاوضة نازعةٌ إلى الجعالة، ثم قد يجري لها لفظ التعليق في استدعاء الطلاق، بأن تقول: إن طلقتني، فلك ألف، فإن ظن المبتدىء الفطن أن هذا يناقض ما قدمناه من اختصاص التعليق بجانب الرجل، قلنا له: لسنا ننكر جريان صيغة التعليق في جانبها؛ فإن صيغة التعليق تجري في الجعالات؛ إذ يقول القائل: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا كذا، وهذا سائغ.
والغرض من الفصل بين الجانبين أن جانب الزوج يشتمل على تعليق الطلاق، وقد يجري على صيغة لا يُفرض الرجوع عنها، وليس في جانبها تعليقٌ [لا يفرض] (2) الرجوع [عنه] (3) ؛ فإنها إذا قالت: إن طلقتني، فلك ألفٌ، ثم قالت: رجعت عما قلت، [فإذا] (4) طلقها، لم يلزمها شيء، ويقع الكلام في أن الطلاق هل يقع أم لا؟
[و] (5) نفصله في المسائل، إن شاء الله تعالى.
ولو قال الرجل: إن أعطيتِني ألفاًً، فأنت طالق، ثم قال على الاتصال قبل أن تعطيه: رجعتُ عما قلت، لم يكن لرجوعه حكمٌ، فالنفي والإثبات في التعليق راجع إلى ما ذكرناه من قبلُ: إنّ في جانب الزوج الطلاقَ، يعلّقُه على وجه لا يملك الرجوع عنه، وليس في جانبها الطلاقُ، وإنما في جانبها سؤال الطلاق، فالتطليق بالمال يكون في معنى التعليق، وسؤال الطلاق في معنى الجعالة.
فلا يمتنع جريان صيغة التعليق من الجانبين؛ فإن صيغة التعليق تجري في الجعالة
__________
(1) في الأصل: الأصلال. وهو جمع غريب لكلمة أصل.
(2) في الأصل: ولا يفرض.
(3) في الأصل: عنها.
(4) في الأصل: وإذا.
(5) (الواو) زيادة من المحقق.(13/329)
والطلاق، وأما الرجوع، فقد يمتنع من جانب الزوج؛ لأنه [تعليق للطلاق] (1) إن عَلّقَ، وتعليق الطلاق لا يقبل الرجوع. [والتعليق] (2) في جانبها يقبل الرجوع؛ فإنها تسأل الطلاقَ بمالٍ، وسؤال الطلاق يقبل الرجوع.
8735- ثم جَمَع الحذاق مسائل متفنّنةً، يثبت في بعضها حكمُ المعاوضة في جانب الزوج، ويثبت في بعضها حكمُ التعليق المحض، ويجتمع في بعضها حكم التعليق والمعاوضة، [و] (3) إذا أطلقنا التعليق في أثناء الكلام بعد هذا، عنينا تعليقَ الطلاق الذي لا يقبل الرجوع، فنأتي بالمسائل، ثم نذكر بعدها وجهَ التحقيق، ثم نذكر تحقيق الكلام في جانبها، ونخوض بعد الانتجاز في مسائل الباب فنبدأ بجانبه فنقول:
المعاوضة تُغلَّب في الحكم؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته: طلقتك على ألف. أو قال: أنت طالق على ألف، فلو أراد الرجوع وصيغة لفظه على ما ذكرناه، صح رجوعه، فلو قبلت بعد ذلك، فلا حكم لقبولها، والنكاح قائم، وما تقدم من لفظ الطلاق ينتقض [برجوعه] (4) وهذا من أحكام المعاوضة، فالخلع إذاً في جانبه فيما ذكرناه ينزل منزلة البيع؛ فإن من قال: بعت عبدي بألفٍ، ثم رجع قَبْل القبول، انقطع الإيجاب بالرجوع.
ومما يثبت في أحكام المعاوضة أنه يختص القبول بالمجلس كما في البيع.
ومنها أنه إذا قال: طلقتك ثلاثاً على ألف، فقالت: قبلت طلقة بثلث ألف، فلا يصح ذلك، ولا يقع شيء، كما لو قال: بعتك هذا العبد بألف فقال المخاطب: قبلت البيع في ثُلثه بثلث ألف، فلا يصح البيع؛ لاختلاف الإيجاب والقبول.
فهذه مرامز توضّح أنه قد يثبت حكم المعاوضة في جانبه.
__________
(1) في الأصل: تعلّق الطلاق.
(2) في الأصل: والتعلّق.
(3) (الواو) مزيدة من المحقق.
(4) في الأصل: رجوعه(13/330)
8735/م- وقد يغلب التعليقُ في مثل قوله: متى ما أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، أو متى شئت، فأنت طالق. أو متى ما ضمِنتِ ألفاًً، فأنت طالق. فأحكام التعليق تتمحّض في هذه [الصور] (1) ؛ فإن الزوج لو أراد رجوعاً وألفاظه ما ذكرناه، لم يمكنه، وهذه من مقتضيات التعليق في التطليق، ولا تختص أحكام هذه المسائل بالمجلس، فلو أعطت، وضمنت، أو شاءت بعد انفصال المجلس، حكمنا بوقوع الطلاق، كما لو قال: متى ما دخلت الدار، فأنت طالق، فلا رجوع، ولا اختصاص بزمانٍ، ولا حاجة إلى قبولٍ من جهتهما. وهذا من موجبات التعليق.
8736- وقد تجري مسائلُ [يجتمع] (2) فيها حكم التعليق والمعاوضةِ جميعاً: فإذا
قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، أو إن ضمنتِ ألفاًً، فأنت طالق، وإن شئت، فأنت طالق على ألف، فيثبت في هذه الألفاظ حكم التعليق وحكم المعاوضة، أما حكم التعليق، فلا يملك الزوج الرجوعَ على قياس تعليقه الطلاق، ولا حاجة إلى قبولها لفظاً على حسب قبولها المخالعة المطلقة المعقودة على [نحو] (3) صيغة التعليق. فإن كان التعليق بالإعطاء، فهو فعلٌ، فإن أتت به، وقع الطلاق. وإن كان معلّقاً بالضمان أو المشيئة، فلا بد من اللفظ، وضمانها ومشيئتها تحقيق لصفة التعليق، وليس في معنى قبول المخالعة المطلقة التي ينزل القبول في مثلها منزلة القبول في البيع.
وممّا يَثبتُ مضاهياً لأحكام المعاوضات في هذه المسائل الأخيرة أنا نشترط أن يتحقق متعلّق الطلاق على الفور في زمان اتصال القبول بالإيجاب، فإذا قال: إن أعطيتِني، فليقع الإعطاء على الفور، ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فلا فور.
فهذه تنبيهات، والتحقيق بين أيدينا.
8737- ومما رأيت إثباته هاهنا سؤالٌ وحكاية جوابٍ، وهذا قضّيتُ العجبَ
__________
(1) في الأصل: الصورة.
(2) في الأصل: مجتمع.
(3) في الأصل: "نجر" كذا بهذا الرسم وهذا النقط.(13/331)
منه، ولست [أثبته] (1) لأنقص به أحداً، فإنما غرضي منه التنبيهُ على الوجه الفاسد، حتى إذا أعقبتُه الوجهَ الحق، استفاد الناظر مُدركَ الحق؛ فالتزمه، ومسلكَ الباطل فاجتنبه.
قال من لا أعدل به أحداً من بني الزمان (2) : سألت القاضي -وهو على التحقيق حَبْر المذهب - لِم غلّبنا في بعض هذه المسائل حكمَ المعاوضة؟ وغلّبنا في بعضها حكمَ التعليق؟ وأثبتنا الأحكام على الاشتراك في بعضها؟ وحكى في جوابه: أنه قال:
"لما اشتمل الخلعُ من جانبه على التعليق والمعاوضة، وفَّرنا على الأصلين حُكْمَيْهما".
فعاد السائل مُباحثاً، وقال: لم أثبتنا حكم المعاوضة حيث أثبتنا، ولم أثبتنا حكمَ التعليق حيث أثبتنا، وحكى من جوابه: "أنه لما ثبت الشبهان، ولم يترجح أحدهما على الثاني، فلا معاب في إثبات الحُكْمين".
ثم عاد السائل قائلاً: هلا عكسنا، فأثبتنا حكمَ التعليق حيث أثبتنا حكم المعاوضة، وأثبتنا حكم المعاوضة حيث أثبتنا حكم التعليق، وحكى من جوابه: "إنا
لو فعلنا ذلك، لتوجه السؤال كما توجه الآن، وتسلسل الكلام".
ولا أدري علام نعمل هذه المفاوضة وما فيها من السؤال والجواب، وهي مبنية على أن ما أثبتنا من أحكام المعاوضة وأحكام التعليق في المواضع التي [ذكرناها] (3) [إنما تحكّمنا بها وبتعيين] (4) محالها؟ وسببُ جمعنا لها اشتمال الخلع على التعليق والعوض، ثم انبنى الجواب الأخير على هذا العقد؛ إذ قال: لو [قلبنا] (5) الأمر، لكان السؤال على هذا النسق، وكيف يسوغ أن يعتقد الجواب التحكُّم في دين الله من غير ثبتٍ ودليلٍ يقتضي تخصيصَ كل حكم بمحله؟ ولست أحمل ذلك إلا على الوهن
__________
(1) في الأصل: أثبت.
(2) لما يترجح عندنا بعدُ من يعنيه الإمام هنا.
(3) في الأصل: ذكرناهما.
(4) في الأصل: إنما تحكما بها.
(5) في الأصل: قلنا.(13/332)
وزيادات الكلام التي لا يحتفل بها، ولا تعد من الأصول، وقد لا يخلو عنها كلام المحققين.
8738- ونحن نقول والله المستعان، وعليه التكلان: الخلع في جانب الرجل طلاقٌ على مال، أثبته على الصيغة المتهيئة للمعاوضات المحضة، يثبت فيها أحكام المعاوضة من جواز الرجوع، والاختصاص بالمجلس، وامتناع وقوع الجواب مخالفاً للإيجاب، وذلك إذا قال: خالعتك أو طلقتك على مالٍ يذكره ويسميه، فإذا وقع اللفظ كذلك - والمعاوضة المحضة ليس فيها صيغة التعليق- غلب حكم المعاوضة.
وإن قال: متى ما أعطيتِني ألفاًً، فأنت طالق، فقد جاء بصيغة التعليق، وبعُد [الفرضُ] (1) من المعاوضة المحضة، فتثبت أحكام التعليق، التي منها: امتناع الرجوع، وعدم اشتراط القبول، وعدم التخصص بالمجلس، وقُرب الزمان، [و] (2) المتبع في ذلك صيغة اللفظ، فما كان تعليقاً امتنع الرجوع، ولأجله لم يفتقر إلى القبول، ولم يختص بزمان؛ لأن قوله "متى ما" يتضمن التصريحَ بهذا الزمان، فقد جرت هذه الأحكام على موجَب صيغة اللفظ.
وإذا قال: "إن أعطيتني"، فهذا تعليق؛ فامتنع الرجوع عنه، ولكن قول القائل: إن أعطيتِني ليس صريحاً في هذا الوقت، ولا ينكر صلاحيته للزمان المتراخي والزمان المتصل، فلما تقابل الاحتمالان، وفي اللفظ ذكر العوض، والمعاوضةُ تقتضي الفور، غلّبنا أحدَ الاحتمالين لذلك، فجرى هذا مأخوذاً من اللفظ ومعنى المعاوضة، ولكن كان اللفظ صريحاً في التعليق، فامتنع الرجوع وتردد في الزمان [متردِّدٌ مردِّداً] (3) أحد الاحتمالين بموجب المعاوضة.
هذا مبنى الاشتراك، وإذا استندت هذه الأحكام إلى موجَبات الألفاظ، فأي حاجة إلى هذا التردد الغث الذي حكيناه في الجواب؟
__________
(1) في الأصل: الغرض. وقدّرنا صحتها بالفاء (الفرض) ؛ لأن المعنى فرضُ المسألة وتصويرها.
(2) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.
(3) عبارة الأصل: "وتردد في الزمان متردداً أحد الاحتمالين".(13/333)
8739- فإن قيل: لم جوزتم ترديد هذه العبارات، ثم رتبتم على الألفاظ مقتضياتها؟ قلنا: فيما مهدناه جوابُ هذا؛ فإن الخلع لما كان طلاقاً بمال، فإلى
الزوج أن يوقعه على صيغة المعاوضة، وله أن يوقعَه على صيغة التعليق، وسببُ جواز إيقاعه على صيغة المعاوضة ما فيه من العوض، فإذا سوّغ الشرع مقابلةَ الطلاق بالمال، كان كتسويغه مقابلةَ عبدٍ بمال، فهذا هو الذي جوز إيقاعه معاوضةً، فإن غمض على الإنسان [جوازُ] (1) مقابلة الطلاق بالمال، فهذا خروج عن مقصود الكتاب [وتشوّفٌ] (2) إلى قاعدة كلية إن أحببنا، اقتصرنا فيها على التعبد، وإن أحببنا، ذكرنا الكلمة الكليّة، وهي [حصولها] (3) إذا أرادت الافتداء على ما يُشعر به قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وسبب جواز إيقاعه على صيغة التعليق أن الطلاق يقبل التعليق، فلا امتناع في تعليقه بمالٍ، وهذا هيّنٌ [و] (4) الألفاظُ المشتركة منزّلة على جواز التمحض في الوجهين.
فإن قيل: هلا قلتم: الطلاق لا سبيل إلى الرجوع عنه كيف فرض؟ قلنا: إلى مالك الطلاق التصرف فيه، فإن نجّزه، انتجز، وإن جرد تعليقه، فحكمه امتناع الرجوع، وإن أدرجه في صيغة معاوضة، فكأنه يعلّقه إن لم يرجع، وهذا بمثابة [إفضاء] (5) الكتابة الفاسدة إلى العتق على قاعدة التعليق، ثم الرجوع فيها ممكن؛ لأنها أُثبتت على صيغة يتطرق إليها جوازُ الفسخ، ومالكُ العتق لم يجزم تعليقه، وهذا الفن ليس هو بالعسر.
وكل ما ذكرناه في بيان تردد الخلع من جانب الرجل.
8740- فأما ما ذكرناه من كون الخلع في جانبها معاوضةً نازعةً إلى الجعالة، فإنا نبيّن هذا بالمسائل، فنقول: إذا قالت: "إن طلقتني، فلك ألف" إنما يحتمل
__________
(1) في الأصل: جوازه.
(2) في الأصل: "وتشوق" ولكن المشهور المعروف في لغة الفقهاء هو (التشوف) بالفاء.
(3) في الأصل: "تحصيلها".
(4) (الواو) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: اقتضاء.(13/334)
صيغة التعليق منها على قاعدة الجعالة، تنزيلاً لقولها منزلة قول القائل إن رددت عليّ عبدي الآبق، فلك كذا.
وإن قالت: طلقني ثلاثاًً على ألف، فطلقها واحدة، استحق [ثلث الألف] (1) .
ونفرّق في هذا [بين] (2) جانب الرجل والمرأة؛ فإن الرجل إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاًً بألف، فقالت: قبلت طلقة [بثلث] (3) ألف، لم يقع شيء. وإذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة، استحق [ثلث الألف] (4) ، والفارق أن قوله: أنت طالق ثلاثاًً بألف على صيغة المعاوضة، وهذا يستدعي في جانبها قبولاً على نعت الموافقة، فإذا لم يكن قبولها موافقاً لإيجاب الزوج، كان باطلاً، فكأن لا قبول. فهذا خارج على الأصل المقدّم.
وإذا قالت: طلقني ثلاثاًً على ألف، فطلقها واحدة، فثبوت قسطٍ من العوض يخرّج على قاعدة الجعالة؛ فإن من قال: رُدَّ عبيدي الأوابق ولك كذا، فإذا ردّ واحداً منهم، استحق بحصته.
8741- وإذا قالت امرأتان لزوجهما: طلقنا بألف، فطلق إحداهما، استحق مقداراً من العوض، وفيما يستحقه قولان سبق أصلهما، وسيأتي تفصيلهما في المسائل، إن شاء الله تعالى، وهذا أيضاًًً خارج على قاعدة الجعالة.
ثم المرأةُ في جميع الصور تملك الرجوعَ عن قولها قبل صدور الجواب عن الزوج، سواء ذكرت صيغةَ التعليق، فقالت: إن طلقتني، أو ذكرت صيغة
الاستدعاء، فقالت: طلقني بألف، وذلك بأنها [إن] (5) استدعت أو علقت، فليس في جانبها إلا بذل العوض، غير أنا نحتمل ما يسوغ في الجعالات من جهة أنها تلتمس
__________
(1) في الأصل: ثلاث آلاف.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: بثلثه.
(4) في الأصل: ثلثه الألف.
(5) زيادة اقتضاها استقامة العبارة.(13/335)
من زوجها أمراً قابلاً للتعليق [بالأغرار] (1) والأخطار، فاحتمل منها التعليق. وهذا كما ذكرناه في الجعالة، فنا احتملنا فيها صيغة التعليق لاتّصاف المطلوب بالغرر؛ من جهة الجهالة. وهذا تأسيس الكلام في بيان الخلع من جانبها.
8742- ومما يتصل بهذا أنها لو قالت: متى ما طلقتني فلك ألف، فظاهر لفظها يقتضي التصريح بالزمان الممتد، وقد أوضحنا في جانب الرجل أنه إذا قال: متى أعطيتني ألفاًَ فأنت طالق، فالإعطاء لا يتخصص بالزمان القريب، فلو أعطت على الاتصال أو بعد طول الزمان، وقع الطلاق.
وإذا قالت المرأة: متى طلقتني، فلك عليّ ألف، فإن طلقها على الاتصال، استحق العوض، وإن أخر، ثم طلق، لم يستحق العوضَ.
وهذا موضع وقوفِ وتأمل من وجوهٍ فنكشف المباحثة عنها: أحدها - أنا جعلنا الخلع في جانبها في معنى الجعالة، والجعالة تقبل ربطَ المقصود بزمان متراخٍ، فإن الرجل إذا قال: إن رددت عليّ عبدي الآبق، فلك دينار، فمهما رد ذلك الإنسان عبدَه، استحق الجُعل المسمى، فلو كان استدعاؤها الطلاق بمثابة الجعالة، وقد صرحت بالتأخير ومدّ الزمان، وأتت بلفظة تُشعر به، لوجب أن يقال: مهما طلق، استحق العوض اعتباراً بالجعالة؟
قلنا: [هذا] (2) سؤال واقع؛ فإن التأخير تطرّق إلى الخلع من جانبها، إذ [قالت:] (3) متى أعطيتني، فكان لا يبعد أن يتطرق التأخير إلى جانبه، إذا كانت هي المستدعية؛ فإن استدعاءها يدور بين طِباع الجعالة والطلاق، وكلاهما قابلان للتأخير؟
وسبيل الجواب عن هذا أن نقول: أما الجعالة، فإنما سوغها الحاجة الماسة إليها، ولا يتأتى فيها تحصيل المقصود على التعجيل، فإنها تُفرض في الأمور
__________
(1) في الأصل: "بالأعراز" (ولولا أنه أكد العين برسم عين صغيرة تحتها ما أثبتنا هذا الفرق) .
(2) في الأصل: وهذا.
(3) في الأصل: قال.(13/336)
المجهولة العسيرة كرد الإباق وغيره، فاستحال اشتراط تعجيل المقصود فيها، وإذا استدعت المرأة الطلاق، فتعجيله ممكن، ولو فرض تأخير الطلاق في زمانٍ منفصل، [لخرج] (1) عن أن يكون متعلقاً باستدعائها؛ فإن الزوج مالكٌ للطلاق مستقلٌ بإيقاعه، والعرف غالب باستقلاله فيه، فهو حري بأن يقع صادراً عن ملك الزوج، ولا يقع عن غير هذه الجهة إلا بارتباطٍ ظاهر، ومن ضرورة فرض الارتباط اتصالُ تعليقه باستدعائها، فإذا انقطع، كان في وقوعه عن جهة الاستقلال كالصريح في نفوذه في بابه، ثم الصريح لا ينصرف عن بابه [بالقصد] (2) ، فهذا هو الذي أوجب اتصالَ
الطلاق باستدعائها، ليقع مرتبطاً بالمال، والجعالة في هذا الحكم بائنةٌ بعيدةٌ عن الطلاق، وإذا [شبهنا] (3) أصلاً بأصل [لم يُستنكر] (4) افتراقُهما. فهذا نوع من البحث.
8743- فإن قيل: هلا قلتم: الخلعُ [يفسُد] (5) إذا استدعت الطلاقَ بلفظةٍ مصرِّحة بامتداد الزمان؛ فإن ما ذكرتموه يقتضي أن امتداد الزمان وانفصالَ الطلاق عن استدعائها يُبطل مقصودَ الخلع، وإذا عقد العقد بلفظٍ لا يطابق مقصودَه، وجب الحكمُ بفساده.
قلنا: قولها متى طلقتَني فلك ألف، كما (6) ثبت أول الزمان المتصل، فقد أفاد لفظُها التعرضَ للزمان المطلوب، وتضمّن مَهَلاً بعده هو يفسح على الزوج، فاستقل العقد بالوقت المتصل، وبطل ما فيه من مَهَلٍ، وكأنها ذكرت الوقت المطلوب وزادت.
فإن قيل: الزيادة فاسدة، فأفسدوا الخلع بها، وقولوا: إذا أجاب الزوج على
__________
(1) في الأصل: يخرج.
(2) في الأصل: القصد (بدون الباء) .
(3) في الأصل: أشبهنا.
(4) في الأصل: لم تستنكره.
(5) في الأصل: يفيد.
(6) كما: بمعنى (عندما) .(13/337)
الاتصال، وقعت البينونة، وفسد العوض لفساد لفظ العقد، ثم لا يخفى حكم فساد العوض.
قلنا: ما ألزمت المرأة الزوجَ شيئاً حتى يكون ذلك في حكم الشرط، ولم يتحقق منها التزامٌ أيضاًًً، واللفظة التي ذكرتها صالحة للوقت، وما قدّرناه من اقتضاء التعجيل قرينة في تقييد اللفظ، فصح العقد. وهذا هو المنتهى البالغ.
وسيأتي تمام شرحه إذا انتهينا إلى هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- فإن ما ذكرناه من المسائل بين أيدينا، وإنما ذكرنا تراجمها للتنبيه على القاعدة، فإذا تقررت القاعدة بها، فسنقررها مفصّلة بالقاعدة إذا انتهينا إليها، إن شاء الله تعالى.
8744- وكل ما ذكرناه في الطلاق على المال متحقق في [العتق] (1) على المال، فالعتق من جانب المولى تعليق ومعاوضة، وهو من جانب المستدعي معاملةٌ نازعة إلى الجعالة، ولسنا نعني بما ذكرناه الكتابة، وإنما نعني قولَ المولى: أعتقتك على كذا، واستدعاءُ العتق من العبد.
فأما الكتابة، فلها طِباع آخرُ، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، ولا يمكن أن نحكم عليها بمضاهاة الخلع؛ فإن فاسدها جائز، وفاسد الخلع نافذ إذا لم يجر ما يردّ الطلاق، فيرد المال، وفي الكتابة دون تنجيز العتق مقاصدُ، وهي معاملةٌ برأسها، فالذي يشبَّه بالخلع العتقُ على المال.
وقد نجز القول في تمهيد القاعدة التي هي مرجوعُ الباب [وقطبُه] (2) . ونحن نخوض بعد ذلك في مسائل الباب -إن شاء الله تعالى- على الترتيب.
8745- فأول ما ذكره الشافعي التعرض للصلات التي يستعملها الزوج المطلِّق على المال، ثم تتصل به الصلات التي تستعملها المرأة في استدعاء الطلاق.
إذا قالت المرأة: طلقني بألف أو على ألف. فقال الزوج: "طلقتك"، أو "أنت طالق"، على الاتصال المرعي، فالطلاق يقع، ويثبت العوض المسمى على
__________
(1) في الأصل: العين.
(2) في الأصل: "وقطبها".(13/338)
الصحة، ولا حاجة إلى أن يذكر الزوج المال ويعيدَه، بل يكفي اتصال طلاقه بالتماسها.
وإذا قال الرجل: بعتك عبدي هذا بألفٍ، فقال المخاطب: قبلت، أو اشتريت، كفى ذلك، وانعقد البيع، وإن لم يتفق إعادةُ العوض.
ويتصل بهذا الطرف أن الزوج لو قال: طلقتها ابتداءً، ولم أقصد جوابَها، وقد يستفيد بذلك الرجعةَ، ونفيَ البينونة، فالوجه تصديقُه؛ فإنه مستقل بالتطليق، وقوله مستقل بالإفادة، وليس كما لو قال القائل للرجل: أطلقتَ امرأتَك؟ فقال: نعم؛ فإنا نجعل ذلك على ظاهر المذهب إقراراً بالطلاق؛ لأن قوله نعم ليس بمفيدٍ على استقلاله، وإنما يفيد بتقدير بنائه على السؤال، وإذا قال: بعتُ منك عبدي هذا بألفٍ، فقال: اشتريت، ثم زعم أنه لم يقصد جواب المخاطَب، فهذا فيه احتمال؛ من قِبل أن قوله ليس [بمستقلٍّ] (1) في الإفادة، وليس كقول الزوج طلقتك؛ فإنه [مستقلٌّ] (2) دون تقدم ستدعائِها.
ولو قالت المرأة: لم تقصد إجابتي، لم يُقبل قولها؛ فإنا لا نشترط قصدَه في الإجابة، بل نشترط ألا يقصد الابتداء، ولا يمتنع أن يقال: لا بد من قصده، حتى لو فرض وقوعُ قوله وفاقاً -من غير ربطٍ بما سبق منها - يقع الطلاق رجعياً؛ فإن التواصل بين الكلام المستقل والاستدعاء إنما يحصل بقصد التواصل.
فتحصّل مما ذكرناه أنه إذا وصل الطلاقَ باستدعائها، وزعم أنه قصد إسعافها وبناءَ الجواب على التماسها، صح، وانتظم الخلع.
وإن قال: قصدتُ ابتداءَ التطليق، صُدّق؛ فإن اتّهم حُلّف؛ لأنه [يبغي] (3) نفيَ البينونة، وإن اتفق إطلاقُ اللفظِ من غير قصدٍ في الربط -وفي تصويره عُسْر - فالظاهر أنه محمول على الابتداء، وسيأتي في ذلك نظائرُ في مسائل الطلاق، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: بمستقبل.
(2) في الأصل: مستقبل.
(3) في الأصل: ينغي.(13/339)
8746- ولو قالت: طلقني، ولك ألف، فطلقها، ثبت العوض. هذا ظاهر ذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة (1) : لا يثبت العوض بهذه الصيغة؛ فإن قولها: [ولك ألف] (2) إخبارٌ، وليس التزاماً بخلاف قولها: طلقني بألفٍ، أو على ألف، المسألة مشهورة معه.
وكذلك إذا قالت: طلقني ولك عليّ ألف، فمذهبنا ما ذكرناه.
وذكر القاضي في أثناء المسائل وجهاً خرجه من تلقاء نفسه أن هذا لا يكون التزاماً لمال، ثم نظم وجهين: أحدهما - أن المال يثبت، لأن العرف جارٍ باستعمال هذا للفظ على إرادة التزام المال، فقرائنُ المال شاهدةٌ، والغرض من قيود الألفاظ قرائنها الإفهام بها. وقال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] وهذا جرى ي تسمية أجرةٍ أو جعالة في القصة المشهورة.
والوجه الثاني - أن المال لا يثبت بهذه الصلة؛ لأنها ابتداءٌ وليست بناءً على لفظٍ صرِّح به في اقتضاء الإلزام والالتزام، ثم اللفظ الواقعُ ابتداءً صريحٌ في [العلّة] (3) هذا الذي ذكره وإن [أمكن] (4) توجيهه، فهو مخالف للنص وما عليه الأصحاب، ثم لظن به أنه لا يطرده فيه إذا قالت: طلقني، ولك عليّ ألف، والعلم عند الله تعالى.
هذا قولنا في الألفاظ التي تصدر من المرأة المستدعية للطلاق.
8747- فأما الرجل إذا ابتدأ وقال: طلقتك بألف، أو قال: طلقتك على ألف، قوله يستدعي المال، فإن قبلته، قُضي بثبوت البينونة، وإن لم تُجب، ولم تلتزم لمال [لم] (5) يقع الطلاق.
ولو قال الرجل ابتداءً: طلقتك، أو أنت طالق، ولي عليك ألف، فهذه المسألة
__________
(1) ر. المبسوط: 6/180، البدائع: 3/152.
(2) في الأصل: "ولك علي ألف". وهذه الصورة ستأتي بعد سطور.
(3) في الأصل: العدّة.
(4) في الأصل: "أصلن" بهذا الرسم تماماً.
(5) في الأصل: ولم.(13/340)
ذكرتُها في أثناء الباب، وأنا أرى ذِكْرَها في هذا المقام، حتى ينتظم الكلام في الصّلات التي تصدر منها ومنه جميعاًً. قال الشافعي: "إذا قال الزوج: طلقتك ولي عليك ألف، وقع الطلاق رجعياً، وكان كما لو قال: طلقتك وعليك حج". وتعليل ما ذكره بعد العلم بأنه متفق عليه بين الأصحاب - أن قوله: "طلقتك" [مستقلٌّ] (1) في إيقاع الفراق، فلا يتعلق بشرط وعوضٍ إلا بصلة تُشعر بربط الطلاق إشعاراً صريحاً، وإذا قال: "طلقتك ولي عليك ألف" [فهو] (2) صريح في الإخبار، ولا يمتنع أن يقال: طلَّق، ونجّز، وأخبر (3) .
فإن قيل: إذا قالت: طلِّقني ولك ألف، فلا يمتنع أيضاًًً حملُ قولها على الإخبار، قلنا: نعم هو كذلك، ولهذا اتجه تخريج القاضي، كما قدمنا ذكرّه، وإن
أردنا فرضاً، لم نعدمه؛ فإن استدعاء الطلاق ليس كلاماً نافذاً، وإذا اقترن بذكر المال، أفاد المجموعُ استدعاء الطلاق بالمال، وإذا قال الرجل: طلقتك، فهذا ْمستقل في تقيّد (4) الطلاق على الإطلاق، فلا يرتبط إلا بلفظ صريح. ويتجه أن يقال: قول المرأة: "طلقني" وإن [كان لا يلزمُ به طلاقٌ] (5) ، فهو صريح في استدعاء الطلاق، فلا يتعلق إلا بصلة متصلة تقع صريحاً في اقتضاء الربط.
8748- ومما يتصل بهذا أن الزوج لو قال بعد صدور الصلة التي وصفناها: أردت بقولي: "وعليكِ ألف" اشتراطَ الألف، وكان مرادي بقولي وعليكِ ألف ما يريده القائل بقوله: "أنت طالق بألف"، فهذا لا يقبل منه في ظاهر الأمر، هكذا قال شيخي وأئمة المذهب.
__________
(1) في الأصل: مستقبل.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) قوله: طلق، ونجز، وأخبر: معناه أنه يمكن أن يقال تفسيراً لقوله: "طلقتك، ولي عليك ألف" إنه طلق ونجز الطلاق، وأخبر بما له عليها.
(4) تقيّد الطلاق على الإطلاق: أي وقوعه مطلقاً من غير مال.
(5) في الأصل: "وإن كان لا ـه" كذا بهذا الرسم. والمثبت تقدير منا.
وعبارة العز بن عبد السلام: "بخلاف سؤالها؛ فإنه لا يفيد شيئاً بمجرده" (ر. الغاية: ج3 لوحة 117 ش) .(13/341)
ووجدت لأصحابنا تردداً فيه إذا توافقا على أنه أراد ذلك، فمنهم من قال: لا أثر للتوافق، والطلاق [رجعي] (1) بعد قوله: "طلقتك"، وقوله بعد ذلك: "ولي عليك ألف" صلةٌ لا تصلح للتعليق والربط، فهو كما لو قال: "طلقتك فاستعيني" (2) ثم زعم أنه أراد بذلك أمراً يخالف الحكم بوقوع الطلاق، [فلا] (3) أثر لقوله، والطلاقُ نافذ.
ومن أصحابنا [من قال:] (4) إذا توافقا، كان الطلاق واقعاً بالمال؛ فإن قول القائل " وعليك ألف " لا ينحطّ عن الكنايات في اقتضاء العوض، وللقائل الأول أن يقول: لو كان كذلك، لصُدِّق الرجل وحده، لأنه قال محتمَلاً، ويجوز أن يجاب عنه بأن هذه الكناية يعارضها التصريح بالطلاق [المستقل] (5) والأصل تنفيذه على [الاستقلال] (6) .
ويتفرّع على ما ذكرناه أن الرجل لو ادّعى أنه عنى بالصلة التي ذكرها المالَ وإلزامَه، فأنكرت المرأة ذلك، فإن قلنا: لو تصادقا عليه، تعلق الطلاق بالمال، فالقول الآن قول الزوجة؛ فإن الأصل والظاهر معها، وللزوج أن يحلّفها على [نفي] (7) العلم: لا تدري أن الزوج أراد ربطَ الطلاق بالمال. وإن قلنا: لو تصادقا، [لم] (8) يتعلق الطلاق بالمال، فلا حكم للاختلاف، [والحكم أن الطلاق لا يتصور تعلُّقُه وارتباطه مع هذه الصّلة.
وهذا إنما ذكرناه فيه إذا قال الزوج: أنت طالق وعليك ألف.
8749 - فأما إذا قال: أنت طالق على أن لي عليك ألفاًً، قال صاحب التلخيص:
__________
(1) في الأصل: الرجعي.
(2) فاستعيني. كذا قرأناها بصعوبة.
(3) في الأصل: ولا.
(4) زيادة من المحقق، لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل: المستقبل.
(6) في الأصل: الاستقبال.
(7) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(8) في الأصل: فلم.(13/342)
" هذا شرط والصيغة مشعرةٌ به " ونقول له؛ ماذا أردت بهذا؟] (1) فإن زعم أنه أراد بذلك اشتراط ضمان الألف عليها حتى كأنه قال: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً، وتفصيل ذلك يأتي على الاستقصاء من بعدُ، إن شاء الله تعالى. قال صاحب التقريب: إذا فسر هذا اللفظَ بهذا، قُبل منه؛ فإنه زاد على الصلة الأولى صلةً رابطةً إذا (2) قال: على أن لي عليكِ ألفاًً، وليس كما لو اقتصر، فقال: طلقتك ولي عليك ألف، وذلك أنه لو اقتصر، فذلك إخبار بعد تطليق، وإذا قال: طلقتك على أن لي عليك ألف، فهذا شرط بعد التطليق، فإذا استعقب الطلاقُ شرطاً، صار الطلاق
__________
(1) هنا أمورٌ عدة بيانها كالآتي:
أ - عبارة الأصل مضطربة مختلة فقد جاءت هكذا: "والحكم أن الطلاق لا يتصوّر تعلّقه وارتباطه مع هذه الصلة، وقد ذكر صاحب التخليص على الاتصال. فهذا إنما ذكرناه فيه إذا قال الزوج: أنت طالق وعليك ألف، فلو قال: أنت طالق على أن لي عليك ألفاًً فنقول له: ماذا أردت بهذا" هكذا كانت العبارة، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء عبارة الغزالي في البسيط 4 لوحة: 119 ش.
ب- جاء في الأصل: صاحب التخليص. وليس في كتب الشافعية التي جاءت في طبقات السبكي، وطبقات الإسنوي كتاب بهذا الاسم. فهو إذاً محرّف عن (التلخيص) لابن القاص، وهو الذي يذكره الإمام في هذا الكتاب، وتكرر مراراً منها أربع عشرة مرة في كتاب الطهارة.
ج- لم نجد في التلخيص الذي بين أيدينا هذا الكلام الذي أشار إليه الإمام، وحكاه الغزالي، فهل هو وهمٌ في النهاية أم خلل من الناسخ، وتبعه الغزالي؟ أم أن في نسخة التلخيص التي بين أيدينا سقطاً؟ أم أنه في موضع آخر من الكتاب لم نصل إليه؟ والعلم عند الله.
د- مقتضى قول صاحب التلخيص: "هذا شرط والصيغة مشعرة به" أن الطلاق يقع رجعياً، ولا مال، ويلغو الشرط. وهو ما اختاره الغزالي في الوجيز مصرحاً به، كما في الوسيط أيضاًًً.
هـ- المعتمد في المذهب أنه يقع بهذا طلاق بائن ويلزم المال إذا قبلت. هذا ما حكاه العراقيون عن النص في الأم. وأودعه أبو بكر الفارسي في عيون المسائل، وقطع به صاحب المهذب وسائر العراقيين (ر. الشرح الكبير: 8/434، والروضة: 7/405) .
إذا قال: هي بمعنى "إذ". وهو تعبير صحيح وعليه شواهد من النثر والشعر أكدنا ذلك من قبل أكثر من مرة.(13/343)
مشروطاً بالشرط الذي استعقبه، ثم قال صاحب التقريب: إن فسر بالضمان، قُبل، كما ذكرنا.
وإن قال: لم أرد تعليق [الطلاق] (1) بضمانها، ولكن أردت تعليق [الطلاق] (2) بالتزامها وقبولها، وأحللتُ قولي على أن لي عليك ألفاً محل قولي: أنت طالق بألف، أو على ألف. قال صاحب التقريب: لا يقبل هذا التفسير منه.
وفي كلام غيره من الأصحاب ما يدل على أن تفسيره بما ذكره مقبول.
فانتظم منه [أنه] (3) لو فسره [بتعليق] (4) الطلاق بالضمان، قُبل منه، ولو فسره بتعليق الطلاق بقبول المال في الحال، ففيه الخلاف والتردد الذي ذكرناه عن صاحب التقريب وغيره. ثم إذا فَسَّرَ بالضمان وقبلناه وفاقاً، [فلتعليق] (5) الطلاق بضمان المال صيغتان: إحداهما - أن يقول: "أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً"، والصيغة الأخرى أن يقول: "متى ضمنت لي ألفاً". فإن قال: "إن ضمنت لي ألفاً"، كان ذلك محمولاً على الفور، وإن قال: "متى ضمنت"، كان على التراخي، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فإن قال: أنت طالق على أن لي عليك ألفاًً، فهذا متردد بين قوله: إن ضمنت، [وقوله متى ضمنت] (6) ولعل جملة نقلي (7) ما يقتضي الفور أشبه.
وهذا منتهى الكلام في الصلات التي يستعملها الزوجان في ذكر المال استدعاءً وابتداء.
8750- ومما يتعلق بهذا المنتهى أن الرجل إذا قال: بعني عبدك بألف، فهذا
__________
(1) في الأصل: الضمان.
(2) في الأصل: الإطلاق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: يتعلق.
(5) في الأصل: فتعليق.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) جملة نقلي: يريد أن معظم ما نقله عن أئمة المذهب أقرب إلى اقتضاء الفور.(13/344)
صحيح صالح لعقد البيع. ولو قال: بعني عبدك على ألف درهم، صح. ولو قال بعني عبدك [ولك علي] (1) ألف درهم، فقد ذكر القاضي فيه وجهين: أحدهما - أنه يصح كما يصح ذكر المال بهذه الصلة من التي تستدعي الطلاق.
والوجه الثاني - أنه لا يصح، لأن الخلع على الجملة يَقْبل من التوسع ما لا يقبله البيع، ولهذا يصح الاستدعاء فيه بلفظ التعليق، وذلك إذا قالت: إن طلقتني، فلك ألف. ولو قال المستام: إن بعتني عبدَك، فلك ألف، لم يصح.
فصل
قال: "ولو قالت له: اخلعني، أو بتّني، أو أبنِّي، أو ابرأ مني، أو بارئني، ولك عليّ ألف ... إلى آخره" (2) .
8751- ذكر الشافعي هذه الألفاظَ وهي كناياتٌ في الطلاق، وقرنها بذكر المال، وأجراها على حكم الكناية، وتصرف في تفاصيل القول في [النيات] (3) ، كانت أو انتفت، كما سنصف، وهذا يدلّ من نصه على أن الخلع لا يصير صريحاً بقرينةٍ من المال.
وقد ذكرنا عن بعض الأصحاب طريقة في أن الخلع يلتحق بالصرائح على أحد القولين بقرينة المال. وهذه الطريقة تخالف النصَّ، فليقع التفريع على أنها كنايات.
ثم قال صاحب التقريب: إذا قلنا: الخلع طلاق، فنجعل هذه الألفاظ كنايات وإن اقترنت بذكر المال، على المسلك الصحيح الموافق للنص.
وإذا قلنا: إن الخلع فسخ، فإذا جرت هذه الألفاظ مقرونةً بذكر المال، فهل تكون صريحةً في الفسخ، أو كناية؟ فعلى وجهين.
__________
(1) في الأصل: "ولي عليك" وهو خطأ واضح يخالف السياق والسباق.
(2) ر. المختصر: 4/57. هذا وقد كانت العبارة في الأصل هكذا: "ولو قالت له: أو بني، أو أبني، أو ابرأني، أو بارئني" والمثبت من نص عبارة المختصر.
وتمام العبارة: "وهي تريد الطلاق، وطلّقها، فلها ما سمّت".
(3) في الأصل: "البيان ".(13/345)
وهذا بعيدٌ.
والطريقةُ المذكورة على الصحة أن هذه الألفاظَ كناياتٌ في الطلاق على قول الطلاق، وفي الفسخ على قول الفسخ؛ [والوجه] (1) الآخر الذي ذكره صاحب التقريب وجهٌ [ليس] (2) به مبالاة إلا أن يقول القائل: الكلامُ في الألفاظ [في] (3) الفسخ أوسع؛ ولذلك قطعنا بأن لفظ الخلع صريح في الفسخ، وإن جعلنا المسألة على قولين في أنها هل تكون صريحاً في الطلاق إذا قلنا: الخلع طلاق. وهذا مما لا يعتد به، ولكن صرح صاحب التقريب بنقله، ولم يقله من تلقاء نفسه.
8752- فنعود إلى تفصيل الكنايات مع ذكر المال -والتفريعُ على قول الطلاق، والتفريعات التي سنذكرها في الألفاظ التي رسمناها - بمتابعة التفريع في لفظ الخلع على قول الطلاق، مع المصير، إلى أنه كناية، فنقول: إن نويا الطلاق، [وقع] (4) الطلاق ولزم المال، وإن لم ينويا، لغا اللفظُ، النكاح قائم.
وإن نوت المرأة استدعاء الطلاق، ولم ينو الرجل بلفظه الطلاقَ، لغا اللفظ؛ فإن المتبع [في] (5) إنشاء الطلاق وقَصْدِه الزوجُ.
ولو نوى الرجل الطلاقَ ولم تنوِ المرأةُ الطلاقَ في استدعائها، ينظر: فإن كانت قالت: خالعني على ألف، وقال الرجل: خالعتك على ألفٍ، فجرى ذكر البدل من الجانبين، وقد نوى الرجل الطلاق، ولم تنو المرأة استدعاء الطلاق، فالجواب في المسألة أنه لا يقع شيء؛ فإن الرجل صرح بذكر المال، ثم لا سبيل إلى القضاء بثبوت المال إذا لم تنو المرأة استدعاء الطلاق، وإذا لم يثبت -لما ذكرنا - لم يقع الطلاق المرتبط به.
فإن قيل: هلا نزّلتم هذا منزلة ما لو خالع الرجل امرأته السفيهة المحجورة؛ فإن
__________
(1) في الأصل: للوجه.
(2) زيادة من المحقق على ضوء السياق.
(3) مزيدة لاستقامة الكلام.
(4) في الأصل: ووقع.
(5) في الأصل: من.(13/346)
الطلاق يقع عندكم رجعياً، ويتعلق وقوعه بصورة القبول من المرأة، وإن كان المال لا يلزم؟ فاحكموا بأنها إذا قبلت المال في مسألتنا [بوقوع] (1) الطلاق رجعياً متعلقاً بصورة [قبولها] (2) . قلنا: لا سواء؛ فإن المرأة إذا كانت من أهل الالتزام، فالطلاق معلَّق بوقوع الالتزام منها، فإذا لم تنو، لم تلتزم، وسنتكلم في المحجورة بما يشفي الغليل، إن شاء الله.
8753- وإن قالت الزوجة: خالعني على ألف، ولم تَنْوِ استدعاءَ الطلاق، فقال الرجل: خالعتُك، ولم يذكر المال، غيرَ أنه نوى الطلاقَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع به شيء؛ لأنه جواب لسؤالها، وهو مرتب عليها، وهي قد ذكرت المال صريحاً، ولكن امتنع حصول المال؛ لأنها لم تَنْوِ ربطَ التزامها بالطلاق، ولا ارتباط للزومٍ إلا بجهة الطلاق، وإذا لم يلزم المال، فقول الزوج مشروط في قرينة الحال بثبوت المال، وإذا لم يثبت السبب الذي قدمناه، لم يقع شيء. وهذا أقيسُ الوجهين.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق الرجعي، وينقطع قولُها عن قوله؛ بسبب أنها لم تلتزم المال على الصحة، والزوج في لفظه لم يذكر المال أيضاًً، وكلامه مع النية [مستقلٌّ] (3) في اقتضاءٍ الطلاق، وليس كما لو أعاد الرجل المال؛ فإن هذا لو فرض الابتداء به، لم يقع به الطلاق من غير فرض جواب.
وهذا كلام مزخرف (4) ؛ فإن الحال في اقتضاء المال من جهة بناء قوله على قولها بمثابة تصريحه بذكر المال.
وقد يرد على هذا أيضاًًً أن الرجل يقول: قَوْلي: "خالعتك" لا [يقع] (5) به الطلاق من غير نية؛ فإنا نفرع على أنها كناية، وأنا ما نويت الطلاق على الإطلاق؛
__________
(1) في الأصل: يوقع.
(2) في الأصل: قبلها.
(3) في الأصل: بمستقل.
(4) في مختصر ابن أبي عصرون: "منحرف" ويبدو أنها هي الصواب.
(5) في الأصل: لا يقطع.(13/347)
إنما نويته مقيّداً بثبوت المال، وهذا يُحْوِج إلى نوعٍ من البحث.
وإذا قال الرجل لامرأته: أنت بائن، ثم زعم أنه أضمر بقلبه تعليق الطلاق بصفة، كدخول الدار ونحوه، فالأصح أنه مدين فيما بينه وبين الله تعالى، كما سنذكره في مسائل الطلاق -إن شاء الله عز وجل- ولكن لا يقبل قوله باتفاق الأصحاب ظاهراً، وإنما ذلك الذي قدمناه في حكم الباطن والتديين.
فأما إذا قال: أنت بائن، وزعم أنه نوى طلاقاًً معلّقاً بصفةٍ، فهذه المسألة فيها تردد بين فحوى كللام الأصحاب: يجوز أن يقال: يُحكَمُ بوقوع الطلاق ظاهراً، كما لو صرح بالطلاق، وزعم أنه أضمر التعليق؛ فإن الكناية مع نية الطلاق بمثابة صريح الطلاق، وقد ألحقتها النية بالصريح، ثم إنه أضمر وراء ذلك تعليقاً، فكان حكمه أن يُدَيَّنَ. ويجوز أن يقال: لا يحكم بوقوع الطلاق ظاهراً؛ فإن النية ليست جازمة، ْواللفظة ليست مستقلة، فقد اعترف بنية مضطربة، فلا نحكم بوقوع الطلاق.
عُدْنا إلى المسألة التي كنا فيها: إذا لم يُعدِ الزوجُ ذكرَ المال، [فالوجه] (1) هاهنا ألاّ نحكم بوقوع الطلاق؛ لما بين قوله وقولها من الارتباط. ولكن ذكر القاضي فيه وجهين، وصحح ما لا يصح عندنا غيره.
هذا إذا ذكرت امرأة المال في استدعائها، وأعاد الزوج المال، أو لم يُعده.
8754- فأما إذا قالت: خالعني، ولم تذكر مالاً، ولم تنو الطلاق، فقال الزوج: خالعتك، وزعم أنه نوى الطلاق، فأحسنُ مسلك في هذا أن نقول: أختلف أصحابنا في أن التخالع المعرَّى عن ذكر العوض هل يقتضي المالية؟ وقد ذكرناه وبيّناه على نظائرَ له. فإن قلنا: التخالع مقتضاه المال، وإن لم يجر فيه ذكرُه، فهو كما لو ذكرت المال. وقد مضى التفصيل فيه.
وإذا قلنا: مطلق التخالع لا يقتضي المال، وهي لم تَنْوِ طلبَ الطلاق، والزوج نواه، فالظاهر هاهنا يقع. فإن قيل: ألستم ذكرتم خلافاً في أن التخالع إذا عري عن ذكر العوض، ونوى الزوج الطلاق، فهل يفتقر ذلك إلى قبولها، وإن كان المال
__________
(1) في الأصل: والوجه.(13/348)
لا يثبت؟ قلنا: ذاك ذكرناه وسردنا نَظْمَه على أحسن وجه، وهذه المسألة تخالف تيك؛ فإنا فرضنا الأولى فيه إذا ابتدأ الزوج، وقال: خالعتك، وهذه المسألة التي نحن فيها مصوّرة فيه إذا استدعت المخالعة، فأجابها الزوج، فالاستدعاء ينزل منزلةَ القبول المتأخر عن الإيجاب.
فمن [جمع] (1) ما ذكرناه إلى ما قدمناه، اتسق له من المجموع ترتيبٌ يحوي المقصود. وقد كنت أحلت في التفريع على قولي الفسخ والطلاق تمامَ البيان فيما يتعلق بالنيات على هذا الفصل، وقد وقع الوفاء به.
فصل
8755- إذا قالت المرأة: طلقني بألف، فقال: "أبنتك"، أو أتى بكناية أخرى، وزعم أنه نوى الطلاق؛ فالذي قطع به المراوزة: أنه يستحق المال؛ فإن
الكناية مع النية بمثابة الصريح، وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه قال: لا يقع الطلاق؛ من جهة أنها قد تقصد أن يطلقها صريحاً؛ إذ الرجوع في الكناية إلى نية الزوج، وهو بين أن يَصدُق بالإخبار عنها أو يَكذب، [وللأصحاب] (2) أن يقولوا إذا كان مؤاخذاً بإقراره ظاهراً، فلا تعويل على قصدها ومرادها. ولو صرح الرجل بالطلاق، تطرق إليه إضمار ما لو صدق فيه لم يقع الطلاق، وهي الإضمارات التي تنبني عليها مسائل التدبير.
فصل
قال الشافعي: "ولو قالت له: أخلعني على ألف، كانت له الألف ما لم يتناكرا ... إلى آخره" (3) .
8756- وهذه لفظة مبهمةٌ، يُلغَز بأمثالها، وما كان من حق المزني أن يودعها
__________
(1) في الأصل: جميع.
(2) في الأصل: فللأصحاب.
(3) ر. المختصر: 4/57. وفي الأصل: "ولم يتناكرا" والتصويب من نص المختصر.(13/349)
كذلك في (السواد) (1) ؛ فإن التصانيف إن بنيت على [البسط، اتسع] (2) فيها الكلام تكريراً، وتقريراً، وتحريراً. وإن بنيت على الإيجاز، اعتمد الموجِز أقصر لفظةٍ عن المعنى المطلوب، وجعلها ناصّةً عليه من غير قصور ولا ازدياد، وهو الكلام البليغ، فأما التعبير عن المعاني المشكلة بالمجملات، فغير ذلك أجمل بالمزني.
[ومَحْمل] (3) كلامه، ووجه تسويغه أن يقال: قد بناه على ما تقدم، وقد أبان فيما سبق [صريحَ] (4) الخلع استدعاءً وجواباً، وابتداءً بالإيجاب [أو] (5) القبول، فكان قوله في هذه المسألة محالاً على ما تقدم من تصوير شِقي الخلع، وفرض التناكر بعده مهمٌّ.
8757- إن أصحابنا اختلفوا في تفسير قوله: "ما لم يتناكرا" قال قائلون: معناه وقع الطلاق ما لم يتناكرا النية: إذا زعم الزوج أنه لم ينو، وادعت المرأة أنك نويت، فالقول قول الزوج مع يمينه.
وقد تجري صورةٌ [تُنكر] (6) المرأة فيها النيةَ، فلا تلتزم المال، ولا يقع الطلاق، كما تقدم التصوير فيه. فإذا فرض هذا، فالقول قول المرأة مع يمينها، وفائدة حلفها أن تدفع [التزام] (7) المالِ عن نفسها. فالذي قطع به الأصحاب أنها إذا حلفت، فلا مال عليها [لا] (8) المسمّى، ولا ما يرجع من المسمى إليه (9) . غير أن الزوج أقر بالبينونة؛ إذ نوى وادعى أنها نوت، فكان مؤاخذاً بإقراره.
__________
(1) السواد: هو المختصر. كما هو واضح، وقد تكرر ذلك مراراً.
(2) في الأصل: البسيط اتسعت.
(3) في الأصل: ويحمل.
(4) في الأصل: تصريح.
(5) في الأصل: والقبول.
(6) في الأصل: منكر.
(7) زيادة لاستقامة العبارة.
(8) في الأصل: إلا.
(9) "ولا ما يرجع من المسمى إليه": المراد الشطر الذي يرجع إليه من المسمى إذا كان ذلك قبل
المسيس.(13/350)
هذا بيان هذه المسألة، ولتكن على الحفظ؛ فإن بين أيدينا مسألةً تكاد تخالف هذه. وإذا انتهينا [إليها] (1) استفرغنا الفكر في الفرق والجمع، إن شاء الله عز وجل.
ثم من حمل كلام الشافعي على هذا المحمل، أو على المحمل الأول في اختلاف [النِّيّتين] (2) صرف الاستثناءَ في قوله: ما لم يتناكرا إلى وقوع الفراق. وإن صُورت [على] (3) إنكار المرأة النية، فالفراق واقع بحكم الإقرار، والاستثناء في قوله ما لم يتناكرا راجع إلى الألف، والتأويل في هذه الصورة أوقع؛ فإنه قال: كانت له الألف ما لم يتناكرا، فاقتضى اتصال الاستثناء بالألف رجوعَه إليه.
هذا مسلك الأصحاب.
8758- وقيل معنى قوله: "ما لم يتناكرا" أن الخلع يثبت والمال يلزم، إلا أن يرجع الرجل عن إيجابه قبل قبولها إن كان المبتدىءَ بالإيجاب، أو ترجع المرأة عن استدعائها قبل الإسعاف إن كانت هي المبتدئة.
وحظ الفقيه من هذا الفصل ما ذكرناه من أن الرجوع ممكن إذا جرت صيغة العقد من الزوج، ولم يأت بتعليق صريح، والمرأة ترجع عن استدعائها على أي وجه فرضت صيغة كلامها.
ويتصل بهذا الطرف أنهما لو [تخالفا] (4) على التواصل المعتبر ظاهراً، ثم قال الزوج: قد رجعتُ قبل قبولها، فهل يُقبل قوله؟ الذي نراه [القطعُ بأنه] (5) لا يقبل قوله، فإن صورة قوله مع صورة العقد جرت، وادعى الزوج - بعد جريانها - ما يتعقب العقد بالإفساد، فكان كما لو وكل وكيلاً بعقد، ثم نفذ الوكيل العقد، فادعى الموكِّل أني كنت عزلتك قبل أن عقدتَ، فهذا لا يُقبل بعد جريان ظاهر العقد من الوكيل.
فإن ادعى علمها بالرجوع، حلّفها. وما ذكرناه في هذا الطرف يجري في
__________
(1) في الأصل: إليه.
(2) في الأصل: البينتين.
(3) في الأصل: عليه.
(4) في الأصل: تحالفا.
(5) في الأصل: القطع به أن.(13/351)
جانبها (1) . وفائدة إجرائه إلزامُه المالَ المسمّى في ظاهر الأمر، كما ذكرناه.
ومن أصحابنا من قال: معنى قوله: "ما لم يتناكرا": ما لم [يتخالفا] (2) في المسمى مقداراً أو جنساً. وهذا ظاهر كلامه؛ فإنه تعرض للمسمى وثبوته، ثم ذكر التناكر، ثم لم يستتم جواب المسألة، وتمامُ الجواب أنهما يتحالفان، ثم الرجوع إلى مهر المثل، والإخلال بتمام البيان محمول على ظهوره. هذا هو الممكن فيه.
فصل
"وإن قالت: على ألفٍ ضمنها لك غيري، أو على ألف فَلْسٍ ... إلى آخره" (3) .
8759- هذا الفصل يستدعي تقديمَ [أكثرَ من] (4) أصلٍ، والتعرضَ لبيان أطرافها، وإذا أجريناها إلى منتهى الغرض، انعطفنا على (السواد) (5) وما فيه.
الأصل الأول في بيان اختلاف الزوجين في تواجب العقد في جنس المسمّى ومقداره، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على ألف درهم، فقالت: قبلت [على] (6) ألف فَلْسٍ، فيلغو الخلع، والنكاحُ قائم؛ فنّ شرط انعقاده التوافقُ في الاستيجاب والإيجاب، أو في الإيجاب [والقبول] (7) ، فإذا اختلفا، فلا تعاقد، وكلام كل واحد منهما في حكم ابتداء الكلام، لا تعلق له بما قبله وبعده، وسنبين الآن أنها إذا أطالت فصلاً زمانياً بين إيجابه وقبولها، لم نقض بثبوت الخلع أصلاً؛ لما في إطالة الفصل من الإشعار بالإعراض، مع أنا لا نبعد تخلل الفاصل بعذر، فإذا كان نظام العقد ينقطع بما ذكرناه، فكيف يلتئم ولا تعلّق لأحد الكلامين بالثاني.
__________
(1) أي: أنها تحلِّفه إذا رجعت قبل قبوله، وادعت علمه برجوعها.
(2) في الأصل: يتحالفا.
(3) ر. المختصر:4/57.
(4) زيادة من المحقق اقتضاها عود الضمير الآتي في الجملة، وستجد فعلاً أكثر من أصل.
(5) السواد: هو مختصر المزني كما ذكرنا ذلك مراراً.
(6) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(7) زيادة لاستقامة العبارة.(13/352)
والآن إذا انتهى الكلام إلى رعاية التواصل، فهو مذكور في الفصل الذي يعقب هذا إن شاء الله تعالى.
8760- ومما يتعلق بهذا الفصل، وهو مَزِلّةٌ اضطرب فيها الطرقُ، وحقٌّ على من يبغي دَرْك الغايات أن يَصرف الاهتمامَ إليه. والوجهُ فيه أن نذكر [طرق] (1) الأصحاب طريقةً طريقةً، وننقل ما قالوه على ثَبَتٍ، ثم ننعطف، فنبدي ما فيه من الإشكال، ونبيّن على الاتصال ما يُنتج الإشكال، ثم نرجع رجعة أخرى، ونوضّح أن ما ذكرناه، وإن كان قياساً، [فهو] (2) مائل عمّا قال الأئمة بعض الميل، ثم نذكر وراء ذلك الممكنَ في توجيه ما نقلناه.
فلتقع البداية بتصور ما نريد، والتصوير مختلف أيضاًًً، والذي نقل عن القاضي أن الرجل إذا قال لامرأته: "أنت طالق على ألف"، ولم يتعرض للجنس المعدود بها، وقالت المرأة: "اختلعت على ألف" ولم توضح أيضاًً الجنسَ، ثم قال الرجل: عنيتُ به الدراهم، وأنتِ تعلمين ذلك، وقالت المرأة: عنيتُ به الفلوس وأنتَ تعلم أني عنيت بذكر الألف الفلوسَ، قال القاضي فيما نَقَل عنه من أثق به: يتحالفان، والرجوع إلى مهر المثل.
ووجهُ الإشكال فيما قال أنه فرض العقدَ معقوداً بألف مرسلة، ثم أخذ يدير التنازع على ما صورنا، وبنى عليه التحالف. وهذا في نهاية الإشكال؛ فإن إطلاق الألف حقُّه أن يفسد العقد، حتى يلزمَ الرجوع إلى مهر المثل، ولا أثر للتنازع، وموجَبُ هذا القياسِ البيّنِ أنهما وإن تطابقا على إرادة الدراهمِ بالألف المطلق، فالعقد لا ينعقد على الصحة، و [تحصل] (3) البينونة، فيقع الرجوع إلى مهر المثل؛ فإن العقود لا تعتمد في إبانة أعواضها النيّات، وإنما النظر في الإعلام والجهالة إلى صيغ الألفاظ لا غير، واللفظ مجملٌ مرسل في صورة المسألة.
__________
(1) في الأصل: طريقة.
(2) في الأصل: وهو.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(13/353)
وذكر العراقيون مسلكاً آخر وغيروه قليلاً عما حكيناه عن القاضي، فقالوا: إذا قال الرجل: خالعتك على ألف درهم، ولم يكن في البلد نقد مطرد في الجريان؛ بل كانت فيه نقودٌ مختلفة، قالوا: إن اتفقا على أنهما قصدا ألفاًً معلومة من صنوف الدراهم، وتوافقا، فيصح الخلع، وذكر القاضي في الألف المرسلة مثلَ ذلك، إذا فرض التوافق على الجنس، ثم بنى العراقيون على ما قدروا من التصادق، فقالوا: لو أطلقا ألف درهم، ثم اختلفا، فذكر كل واحد منهم جنساً وصنفاً أنكره الثاني، فهل يتحالفان؟
قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنهما [لا] (1) يتحالفان؛ فإن التحالف لا يجري في النيات، وإنما يجري في صفة الألفاظ والعقود. وهذا ليس بشيء، والأصح التحالف، وهو الذي قطع به القاضي.
وذكر صاحب التقريب الألف المرسلة من غير ذكر جنس أصلاً كما ذكره القاضي، ثم سلك مسلك القاضي في التفريع.
8761- ونحن بعدُ في مساق النقل، ولكنا نذكر في كل فصل من المنقولات ما يتعلق به في تهذيب النقل. فنقول الآن: لا معنى للتقييد بألف درهم إن صح الانعقاد مع اختلاف النقود، ولا فصل بين الألف المرسلة والمقيدة بجنس، هذا لا شك فيه. والبحث بعدُ أمامنا.
وذكر شيخنا أبو محمد طريقةً أخرى في المسألة، فقال: إن لم يتعارفا، ولم يتواضعا على أن المراد بالألف ماذا، فليس إلا القطع بفساد الخلع والرجوع إلى مهر المثل؛ فإن الجهالة متمحضة، لا دارىء لها سابقاً ولا [مقترناً] (2) . وإن تواضعا على أن يعيّنا بألفٍ جنساً ونوعاً تواصفاه وأحاطا به، فالذي أطلقه (3) أنهما لو توافقا على موجب التعارف، وزعما أنهما عيّنا صنفاً تواضعا عليه، فالخلع ينعقد.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: مقرناً.
(3) أطلقه: أي الشيخ أبو محمد.(13/354)
وهذا الذي ذكره -إن كنا نستمسك بالقياس الجلي- يلتفت على التردد في مهر السر والعلانية، كما تقدم ذكرهما في كتاب الصداق، وقد أوضحنا ثَمَّ أن الاعتبار بالعلانية، ولا حكم لما جرى في السر من اصطلاح وتواضع. وإذا كان كذلك، فمقتضى هذا [يوجب] (1) إظهارَ مذهبٍ في أن الخلع يفسد؛ نظراً إلى اللفظ المبهم في صيغته.
ثم قال شيخي بانياً على طريقته: لو قالت المرأة في هذه الصورة: أنا عنيت ألف فَلْسٍ، وإن كان تعارفنا على الدراهم، وقال الزوج: لا، بل أردتِ ما وقع التعارف عليه. قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أنهما يتحالفان، وإليه ميل النص، كما سننقله -إن شاء الله تعالى - بعد الفراغ عن نقل الأصحاب.
والثاني - أنهما لا يتحالفان، بل الوجه الرجوع إلى [نيتها] (2) ؛ فإن الاطلاع عليها عسر، فالقول قولها مع يمينها.
ثم قال: إن قلنا: يتحالفان، فإذا حلفا، فالرجوع إلى مهر المثل، وإن قبلنا قولها (3) ، فأثر قبول قولها مع اليمين مُصيِّرٌ الألفَ مبهمة مجهولة؛ فإنها ليست منكرة للمالية في الخلع، فالرجوع إلى مهر المثل لها (4) هذا ما ذكره، وزاد على الأصحاب، فقال: إبهام الألف مع فرض تقديم التعارف في الصداق والأثمان والأعواض جُمَع يخرّج على هذا التفصيل، فلا فرق. هذا منتهى كلامه.
وقد قال العراقيون إذا ذكروا الخلاف في التعارف إذا قلنا: لا يتحالفان، فالرجوع إلى مهر المثل لوقوع الاستبهام.
__________
(1) في الأصل: "موجب".
والمعنى هنا أن الإمام يستدرك على شيخه القطعَ بأن الخلع ينعقد لو توافقا وزعما أنهما عينا صنفاً تواضعا عليه، ويرى الإمام أن القياس الجلي على مهر السر والعلن يقتضي إظهار مذهبٍ هنا في أن الخلع يفسد، لا القطع بانعقاده. والله أعلم.
(2) في الأصل: "أثبتهما" والمثبت من (صفوة المذهب) .
(3) وإن قبلنا قولها: أي مع يمينها.
(4) عبارة الأصل أقحمت فيها لفظةٌ هكذا: " ... فالرجوع إلى مهر المثل لها -فأثر- هذا ما ذكره" وهذه الفقرة -مع ذلك - فيها نوع اضطراب وقلق مع ما قبلها.(13/355)
8762- وعلينا في استتمام النقل صورٌ ذكرها القاضي على منهاج طريقه، فنذكرها، قال: [لو تخالعا] (1) والألف مطلق لا تعرّف بالتعارف. إذا قال الرجل: عنيتُِ بالألف الدراهم وأنت تعلمين [وخالفت] (2) المرأة، فقالت: بل عنينا الفلوس وأنت تعلم؛ فإنهما يتحالفان، والرجوع إلى مهر المثل.
وقال أيضاًًً: لو تخالعا على ألف مطلق، واتفقا على أنه لم يكن منهما نية، فالخلع فاسد، والرجوع إلى مهر المثل؛ إذ الفرقة لا ترد، وسبب فساد الخلع جهالة البدل في الصورة التي ذكرناها.
وذكر متصلاً بهذا أنه لو خالعها على شيء، أو ألف شيء [فالرجوع] (3) إلى مهر المثل. وهذا دالٌّ على أن الخلع على الشيء خُلع على مجهول، والجهالة لا تزول بالتطابق على النية، حتى لو قالا: أردنا بالشيء درهماً، فلا حكم لتوافقهما على الإرادة، وكذلك القول فيه إذا قال ألف شيء، وإنما أجرى ما ذكرناه من تنزيل اللفظ على النية إذا جرى ذكر الألف المطلقة، ورأى الألفَ المطلقة قابلةً لأثر النية والقصد، بخلاف الألف المقيد بالشيء.
ومما ذكره أن الرجل إذا قال [و] (4) قد جرى الألف: عنيتُ بها الدراهم، وأنت عنيتِ الفلوس، وأراد بذلك دفع الفرقة؛ فإن الأمر لو كان كذلك، لم تقع الفرقة، وكان كما لو صرح الرجل بذكر الألف درهم، فقبلت المرأة بألف فلس؛ فإن [القصود] (5) إذا كانت تؤثر، فهي نازلة منزلة العبارات متفقها كمتفقها ومختلفها كمختلفها، ولما قال الرجل: عنيتُ أنا الدراهم وعنيتِ أنت الفلوس، قالت المرأة: أنا عنيت الدراهم أيضاًًً، فالرجل كما قدمناه يقصد دفع الفرقة، فلا نقبل قولَه عليها
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(3) في الأصل: والرجوع.
(4) الواو زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: المقصود.(13/356)
[ونحكم] (1) بوقوع الفرقة، وهذا منقاس حسن. ثم قال: وله عليها مهر المثل لتعذر تسليم المسمى.
وهذا مشكل كما سننبه عليه.
ومما ذكره أن الرجل لو قال: [عنيتُ] (2) الدراهم وأنتِ عنيت الفلوس، [فقالت:] (3) أنا عنيتُ الفلوس كما ذكرتَ، ولكنك عنيتَ الفلوس أيضاًًً. قال: الطلاق واقع لوجود الإيجاب والقبول، وعليها مهر المثل. وهذا مشكلٌ أيضاًًً، كما سنذكره إن شاء الله عز وجل.
8763- فهذا منتهى [الغرض] (4) في نقل قول الأصحاب وتفريعهم، ونحن نتكلم وراء ذلك على جهة المباحثة فيما قدمنا نقله، ونرى الكلام منقسماً إلى ما يتعلق بالأمور الكلية، وإلى ما فرعه الأصحاب عليها.
8764- فأما الكلام على الكليّات، فحاصل ما ذكره الأصحاب يحصره طريقان: إحداهما -وإليه ميْلُ معظم الأئمة - المصيرُ إلى تثبيت العوض بالنية والقصد، من غير تقدّم تواطؤ وتعارف.
والثانية -[مبناها] (5) على التعارف. فأما [إن] (6) لم يكن التعارف، فقد رأيناهم مجتمعين من طريق النقل والفحوى على أن الشيء إذا ذكر، لم يثبت بالنية، وإنما الذي ذكرناه في عددٍ لا يَبين المعدود فيه، [كما] (7) لو ذكر عدد، وضم إليه مجهول، مثل أن يقال: ألف شيء، فهذا لا يثبت أيضاًًً بالنية، وإنما يثبت عدد لا يقرن بمجهول.
__________
(1) في الأصل: وحكم.
(2) في الأصل: عنينا.
(3) في الأصل: فقال.
(4) في الأصل: الغوص.
(5) في الأصل: منقضاها.
(6) في الأصل: فأما من لم يكن التعارف.
(7) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.(13/357)
ثم انقسم هؤلاء بعد الإجماع الذي حكيناه في محله، فاكتفى المعظم بذكر العدد المطلق. وشرط العراقيون ذكر الجنس، مثل أن يقول: "ألف درهم"، ثم قالوا: يتعين بالنية نوع من الجنس، وإن كانت الدراهم مضطربة في البلدة. والممكنُ في توجيه ما قالوه أن الشيء إذا ذُكر، فهو لفظ مصوغٌ للإبهام، وكذلك إذا أضيف إليه، أو فسر العدد به، فقيل عشرون شيئاً، فلا تؤثر النية في إزالة الجهالة واللفظ موضوع لإثباتها. وإذا قيل: ألفٌ، فبيانه إتمامٌ، فاعتقدوا أن النية تتمم، ثم خرّجوا هذا على تطريق الكنايات إلى النوايا بالطلاق، وقالوا: عماد الخلع الطلاق، فإذا كان لا يمتنع انعقاد الخلع بما هو كناية في الطلاق تعويلاً على النية، [فكذلك] (1) البدل إذا ثبت ثبوت الكناية، لم [يبعد إتمامُه] (2) بالقصد والنية، ثم افتراق الأئمة في ذكر الجنس والسكوت عن النوع، وأن هذا أهل، (3) يشترط أم لا؛ محمولٌ على ما نذكره. تخيّل (4) العراقيون أن الألف بمثابة الشيء، فإذا وُصل بجنسٍ (5) ، كان النوع بعده إتماماً.
وهذا إن صحت الطريقةُ خَورٌ وجبنٌ. والسبيل أن العدد المطلق مفسر بالجنس والنوع، وهذا شديد الشبه بترددٍ حكيناه في أن بيع ما لم يره المشتري إذا صح، فهل يشترط فيه ذكر الجنس أم لا، وإن شرط معه ازديادٌ على الجنس؟ فيه تردد قدمناه في موضعه. وهذا تقريب شبَهي، والمأخذان مختلفان.
والمأخذ الحقيقي هاهنا تشبيه أحد ركني الخلع [بالعوض] (6) ، والثاني - يعني تشبيه لفظ العوض- بلفظ الطلاق، وقد تحققتُ أن الأصحاب لم يحتملوا هذا في
__________
(1) في الأصل: وكذلك.
(2) في الأصل: لم يتعدّ إتمامَه (بهذا النقط والضبط) .
(3) في الأصل: قيل. (وهو تصحيف خفيّ أرهقنا أياماً حتى ألهمنا الله صوابه) .
(4) قوله: "تخيل العراقيون ... إلخ" كلام مستأنفٌ، تفسير وبيان لقوله: "ما نذكره".
(5) قوله: "فإذا وصل بجنسٍ ... إلخ" معناه أن الألف إذا وصل بجنس، مثل أن يقول: "ألف درهم" يكون النوع إتماماً مثل أن يقول: "ألف درهم هروية" فالدرهم جنس، والهروية نوع.
(6) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.(13/358)
المعاوضات المحضة. وسبب التردد في الخلع ما أشرنا إليه.
8765- هذا منتهى الإمكان في ذلك الإشكال [بحاله] (1) ؛ فإن العوض لا يثبت إلا معلوماً، ويختص الخلع بأن العوض المجهول فيه لا يدرأ البينونة المقصودة، بل يُرجع إلى مهر المثل، فأما إثبات المجهول عوضاً بالنية، فلا سبيل إليه، ولو قيل به، لزم مثله في الشيء قطعاً.
والذي تكلفناه خيالٌ؛ فإن النية تَحمل اللفظَ على إحدى جهات الاحتمال، ولا تصير كالصلة الزائدة فيه، والألف [شائع] (2) في جميع معدودات العالم كالشيء وأظهر منه الألف المضافة إلى الشيء، فلسنا نرى للنية وقوفاً (3) مع ذكر الشيء، فليفهم الناظر ما نقدم، وليقطع بما فيه من الاضطراب.
ولو طرد طاردٌ هذا في المعاوضات كلِّها، لكان أقرب، وقد قال الفقهاء: الجعالة مع ابتنائها على الغرر والجهالة يجب أن يكون العوض معلوماً [فيها] (4) بالجهة التي تعلم بها أعواض البيع، والقدر الذي هو المتعلق أن الجهالة احتملت في الجعالة للضرورة، ولا ضرورة في ذكر لفظ الكناية في الخلع. ثم انعقد الخلع بكناية الطلاق إجماعاً؛ تعويلاً على النية، والدليل عليه أيضاًً أن من محض حكم الطلاق التعليق، ثم وجدنا مالاً يُملّك بالتعليق في الطلاق من غير لفظٍ مملِّكٍ فيه. ولذلك إذا قال الرجل: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فإذا أعطت ألفاًً، مَلَكَ، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله عز وجل.
ولهذا الفصل وقعٌ عظيم في نفس الفقيه لما فيه من الميل عن القياس، مع ما فيه
من اتفاق معظم الأصحاب، فليقع التعلق بهذا الذي ختمنا الكلام به.
وقد نجز الكلامُ على طريقةٍ واحدة.
__________
(1) في الأصل: محالة. (ولعلها: لا محالة) ويكون المعنى: لا محالة (أي لا حيلة) بعد هذا البيان لإنهاء الإشكال.
(2) في الأصل: سائغ.
(3) كذا. ولعلها (موقعاً) .
(4) في الأصل: فبه.(13/359)
8766- فأما من يراعي التعارف، فلم أر هذا أوّلاً لغير شيخنا وأنا أخشى أنه ارتاع من مخالفة القياس، فظن أن الأصحاب أرادوا التعارف، وأنا أشك في أن الأصحاب لم يريدوه، فإن صح التعويل على التعارف، فالنظر على حسب ما يليق بهذا أن نقول: المذهب الأصح أن التواضع [السّري] (1) لا تعويل عليه، وإنما الحكم للّفظ المعلن المذكور حالة العقد، فكان يجب على هذا أن يخرّج التعارف على الخلاف، ولكن ينقدح مع ما نبهنا عليه فرقٌ، وهو أن التواضع إذا وقع على ألفٍ في السر، ثم جرى ذكرُ الألفين، فموجب التواضع تغيير اللغة في هذه المسألة، وإذا جرى التواضع على حمل الألف على نوعٍ، فهذا من باب التواضع على تفسير مجملِ [ما ذكراه] (2) صريحاًً وقصداه آخراً. وهذا وإن كان فيه بعض الإخالة، فليس يَدُلّ (3) .
فإن كان في المسألة فقهٌ، فلا يعدو وجهين: أحدهما - أن الرجوع إلى مهر المثل في جميع هذه المسائل، وهذا هو القياس الجلي، ولكني لم أر هذا لأحدٍ من الأصحاب، حتى [يسند] (4) إليه مذهباً.
والوجه الثاني - ما ذكرته من فصل الكناية، وهذا وإن كان غامضاً، فهو لائق بفقه الخلع، على ما سنكمل الأنس به في مسائل الباب -إن شاء الله تعالى- أما التعارف والبناء عليه، فليس من القياس الجلي في شيء، وليس من الفقه الذي رأيناه تخصيصاً بالخلع في شيء.
وقد نجز الكلام في هذا الفن مباحثةً في التفصيل، مع تقدير القول بثبوت الألف بالنية.
فإذا اعترف الزوجان بأنهما لم ينويا شيئاً، فالرجوع إلى مهر المثل؛ فإن المعتمد النية، فإذا لم تكن (5) ، تحققت الجهالةُ، فانجرّ القول إلى القياس الجلي المطلوب.
__________
(1) في الأصل: البريء.
(2) في الأصل: ما ذكرناه.
(3) كذا. (انظر صورتها) .
(4) في الأصل: لسند.
(5) تكن: كان هنا تامة.(13/360)
وكذلك إذا [اتفقا] (1) على أن أحدهما لم ينو، فالألف لا تثبت بمجرد نية من ينوي، ولا يقع الطلاق من غير عوض، فلا طريق إلا مهر المثل.
وإن كان تنازعا في النية، فزعم أحدهما أنه نوى الدراهم المعلومة، وزعم الثاني أنه نوى الفلوس، فهذا فيه [تثبت] (2) ؛ فإن لم يدع أحدهما على الثاني شيئاً، ولكن أخبر عن نية نفسه، فليس هذا محلَّ التحالف بلا خلاف، والسبيل فيه الرجوع إلى مهر المثل، كما قدمناه.
وإن قال الرجل مثلاً: عنيتُ الدراهم وعنيتِ أنت الدراهم، وقالت المرأة: عنيتُ الفلوس وعنيتَ أنت الفلوس، وادعى كل واحدٍ مع ما ذكرناه عِلْمَ صاحبه، فهذا موضع تردد الأصحاب، فمنهم من قال: يتحالفان، وهو بمثابة ما لو اختلفا في عوض الخلع تصريحاً به، فقال الزوج: خالعتك على ألف درهم وقالت: بل خالعتني على ألف فلس، ولو اختلفا كذلك، لتحالفا، ثم الرجوع إلى مهر المثل، وهذا الوجه هو الذي قطع به القاضي، وهو القياس إن يثبت الأصل الذي ذكرناه؛ فإن النية نازلة في هذا الأصل منزلة النطق المصرح به.
8767- وذكر العراقيون وجهاً آخر: أن التحالف لا يجري؛ فإن هذا تحالفٌ في النية، والقياس أن يرجع في صفة كل نية إلى الناوي، وهذا يعارضه أن القياس أن يرجع في صفة كل قول إلى القائل، وفي صلة كل عقدٍ إلى العاقد، ثم إذا اختلف المتعاقدان في صفة العقد، تحالفا؛ إذ ليس أحدهما بأن يصدق أولى من الثاني، وإذا كانت النية مرجوع العقد، كانت كاللفظ، وليس كما لو وجد التناكر في نية الطلاق؛ فإنا إذا صدقنا الزوج، انعدم العقد، وهاهنا البينونة واقعة، والرجوع في صفتها إلى لفظ.
قال العراقيون: إذا قلنا: لا يتحالفان، فلسنا نحلّف واحداً منهما؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، ولو قدرنا تحليف كل واحدٍ منهما، لكان يقتضي هذا ألاّ
__________
(1) في الأصل: اتفقتا.
(2) في الأصل: تثبيت. والمعنى هنا: "فيه تفصيل".(13/361)
يقع الفراق بمثابة ما لو قال الزوج: خالعتك بألف درهم، فقالت: قبلت بألف فلس، ولو جرى ذلك، لم يقع شيء؛ فإنها لم تقبل ما طلقها عليه. وإذا رجع الخلاف إلى النية، فالبينونة واقعة بلا خلاف. فإن جرى التوافق في اللفظ وهو المعتمد في وقوع البينونة، ولا سبيل إلى دَرْئها، فإن قلنا: القول قولها فيما تعني، عارضه أن القول قوله فيما يعني، [فينتظم] (1) من مجموعه جهالة لا دَرْءَ لها، فالرجوع إلى مهر المثل، وليس في هذا كبير فائدة إلا أن الحلف يسقط، وإسقاط الحلف في نهاية البعد؛ فإن الأيمان لا تُعنى لأعيانها، وإنما يتوقع منها نكولٌ وردّ يمينٍ أو نكول [عن] (2) يمين الرد وإقرار، فحسْمُ باب الحلف لا وجه له. وإذا لم يحسم، فليس أحد الجانبين أولى من الثاني، ثم ثمرة الوجهين جميعاً الرجوعُ إلى مهر المثل، وإذا كان كذلك، فلا معنى لرد قياس التحليف مع الموافقة في المقصود.
وقد انتهى الكلام في ذلك.
8768- فلو قال الرجل: عنيتُ بألفٍ [دراهم] (3) ، وأنتِ تعلمين أني عنيتُها، وقالت المرأة: عنيتُ بالألف الفلوسَ وأنت تعلم أني عنيتُها، ولم يزيدا على هذا، ولم يدع واحد منهما على صاحبه أنك عنيتَ ما عنيتُ، فالذي نقله موثوق به عن القاضي أنهما يتحالفان، والرجوع إلى مهر المثل.
وهذه الصورة مشكلة؛ من جهة أن الزوج لا يستمر له دعوى الألف عليها ما لم يدع أنها قبلت الألف، وإنما صح قبولها بلفظها ونيتها، وكذلك القول في الطرف الآخر، فكيف الوجه في ذلك؟ الذي عندي فيه أن المراد بهذه الصورة هو المراد بالصورة الأولى؛ فإنه إذا قال: علمتِ ما عنيتُ معناه قبلتِ ما علمتِ، ففي التصوير إيجازٌ، وإلا، حاصل الكلام: أنك علمتِ قصدي وبنيتِ قبولك على ما علمتِ، وكذلك القول في جانبها.
فأما إذا لم يدّع الزوج عليها قبولَ الدراهم، والمرأة لم تدّع على الزوج التطليقَ
__________
(1) في الأصل: ينتظم.
(2) في الأصل: من.
(3) في الأصل: درهم.(13/362)
بالفلوس، فكيف الوجه فيه؟ هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ: وهو أنهما لو اتفقا على اختلاف النيتين، وقد قال الزوج: خالعتك على ألفٍ، فقالت: قبلتُ الألف، وتصادقا على اختلاف القصدين، فالذي يجب القطع به أن الطلاق يقع ظاهراً، فإن اللفظين متوافقان ظاهراً، وليقع الفرض في التصريح بالطلاق، ولكنَّ [أثرَ توافقهما في اختلاف القصد أن الزوج لا يطالبها] (1) بمالٍ؛ فإنه معترف بأنه لم يوجد [منها] (2) التزام ما ألزمها الزوج، ولكن لا يقبل قوله في رد البينونة المغلّظة بظاهر اللفظ.
فإن قيل: هذا حكم الظاهر، فما حكم الباطن في علم الله تعالى لو فرض اختلاف النيتين؟ قلنا: قياس الأصل الذي بنينا عليه هذه التفاريع أن النية مع الألف المطلقة بمثابة اللفظ الصريح.
ولو قال: خالعتك على ألفِ درهم، فقالت: قبلت بألف فلس، لم يقع الطلاق.
ولو قال لامرأته: أنت طالق، وزعم أنه نوى طلاقاً عن [وثاقٍ] (3) ، فإن كان صادقاً، فالحكم أنه لا يقع الطلاق باطناً، ولكن يَعلمُ من نفسه صدقَ نفسه، فهو باطن يمكن الاطلاع عليه، فكان باباً من أبواب الفقه متميزاً عن الغيب. وتخالفهما في النية لا يطلع عليه واحد من الزوجين، فليس هذا من المواطن الملتحقة بأبواب التديين (4) ، بل هو بمثابة ما لو قال زيد: إن كان هذا الطائر غراباً، فامرأته طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً، فامرأته طالق، فلا يُحكم بوقوع الطلاق على زوجة واحدٍ منهم، إذا تحقق اليأس من درك الحقيقة، وما يقدّر متعلقاً بعلم الله تعالى غيبٌ لا يقع به حكم، لا في الظاهر، ولا في الباطن، لكن الطلاق يتعلق به احتياطٌ، والاحتياط في مسألتنا الحكمُ بوقوع الطلاق البائن منهما.
8769 - مباحثةٌ أخرى: حكينا من تفريعات القاضي أنه إذا قال الرجل: عنيتُ
__________
(1) عبارة الأصل: " ... أثر توافقهما في اختلاف القصد من الزوج لا يطالبهما بمال".
(2) في الأصل: منهما.
(3) في الأصل: وفاق.
(4) أبواب التديين، وقاعدته ستأتي في كتاب الطلاق إن شاء الله.(13/363)
بالألف الدراهمَ، وأنتِ عنيت الفلوس، وقالت المرأة: بل عنيتُ الدراهم، فلا يقبل قوله عليها، وهي تدعي موافقته، ويحكم بوقوع الفرقة المبينة. وحكينا أنه قال: له عليها مهر المثل لتعذر تسليم المسمّى. أما الحكم بوقوع الفرقة فبيّنٌ بناء على ظاهر اللفظ وما فيه من التوافق، وأما إيجاب مهر المثل عليها، فلا يستقيم على الأصل، لأن الزوج يدّعي أن الطلاق لم يقع، وإذا لم يدع الوقوع كيف يثبت له العوض، وهو لا يدّعيه بموجب قول نفسه، ومن لا يدّعى مالاً كيف يطالِب به؟ فإن قال قائل: لو صدّقها من بعدُ أنها عنت (1) الألف التي عناها هو؟ قلنا: إذ ذاك نطالبها بالمسمى المعيّن، لا بمهر المثل.
8770- مباحثةٌ أخرى: حكينا في تفريع القاضي أن الزوج إذا قال: عنيتُ الدراهمَ وأنتِ عنيتِ الفلوس، وقالت المرأة: بل عنيتَ أنت الفلوسَ، وأنا عنيتُ الفلوس، قال: الطلاق واقع لوجود الإيجاب والقبول، وعليها مهر المثل.
أما وقوع الطلاق، [فبعيد؛ لاعتراف] (2) الزوج بأنها عنتِ الفلوس، ولو عَنَتْها، لكانت نيتها كلفظها، ولو صرحت، لما وقع شيء إذا تخالفا، وإذا لم يقع شيء، لم يثبت عوض.
ونحن نختم هذه المباحثات بشيء، فنقول: لعل القاضي يقول: إذا توافقا على القصد، فالقصد مع اللفظ كاللفظ الصريح، وإن لم يقصدا شيئاً، فهو خلع بمجمل.
__________
(1) عنى الشي: قَصَده. من باب (رمى) . تقول: عنيتُ أنا الدراهم، وعنَتْ هي الفلوس.
(2) عبارة الأصل مضطربة، ومتناقضة؛ ففد جاءت هكذا: "أما وقوع الطلاق، فبين، لا نزاع، لاعتراف الزوج بأنها عنت الفلوس". هكذا تقرأ (بعد تصويب ما فيها من تصحيف) والتناقض واضح فالتعليل لظهور وقوع الطلاق، هو في الواقع تعليل لعدم وقوعه. ويشهد لصحة قولنا وتصويبنا -على وضوحه - عبارة العز بن عبد السلام، فقد قال: "ولو قال: أردتُ الدراهم، وأردتِ الفلوس، فقالت: بل أردنا الفلوس، وجب مهر المثل عند القاضي، ولا وجه لما قال، لاعتراف الزوج ببطلان الالتزام؛ فإن اللفظ لو وقع كذلك لم تطلّق" (ر. الغاية في اختصار النهاية: جزء 3 ورقة 118 ش) . وانظر الروضة: 7/432، 433. (وأخيراً انظر صورة عبارة الأصل، فقد يبدو لك فيها قراءة أخرى) .(13/364)
وإن اختلف قصدهما، بطل القصد؛ فإن شرط صحة القصدين بتوافقهما، فإذا اختلفا، بطلا، وصار كما لو لم يقصدا شيئاً. وهذا يعضده أن الطلاق لا مردّ له إذا وجد التوافق من طريق اللفظ، وعن هذا يظهر أن التردد في الباطن لا حاصل له، وإن كان ذلك غيباً فيما ذكرناه.
8771- فإذاً الأحوال ثلاث: إحداها - أن يتوافقا في القصد، كاللفظ.
والحالة الثانية - أن يختلفا، فيدّعى كلٌّ مقصوداً من نفسه، ويدعي مثلَ ذلك من صاحبه، فهذه صورة التحالف.
والحالة الثالثة - أن يختلف القصدان فيحكم ببطلانهما، ورجع الخلع إلى العوض المجهول.
ويخرج من هذا أن القصد معتبر في الوفاق ساقط في الخلاف، فإن كان هذا ينساغ، فعليه تخرج أجوبة القاضي في التفريع، فإن وجب اعتبار القصد في الخلاف كما يجب اعتباره في الوفاق، فلا تصح أجوبته فيما ذكرناه من التفريعات المتأخرة.
وكل ما ذكرناه أصل واحدٌ من الأصلين الموعودين.
8772- الأصل الثاني يتعلق بخلع الأجنبي بنفسه، وتوكيل المرأة إياه، وتوكيله المرأة، فنقول: لم يختلف العلماء -في أن الأجنبي لو سأل الرجلَ أن يطلق زوجته على مال، فأجابه- أن الخلع يصح، والعوض يلزم الأجنبي.
والمرأةُ لو وكلت أجنبياً حتى يختلعها من زوجها بمال تبذله المرأة، فذلك صحيح. وإن وكل الأجنبي أجنبياً، صح أيضاًًً، ولو وكل أجنبي المرأة حتى تخلع نفسها عن زوجها بمال يبذله الأجنبي الموكِّل، جاز. وهذه الأصول متفق عليها.
ثم من كان وكيلاً بالاختلاع، نُظر. فإن أضاف لزوم المال إلى موكِّله، لم يتعلق الطَّلِبةُ به، وكان في البَيْن سفيراً رسولاً. وإن التزم مطلقاًً ونوى بالتزام المال جهةَ موكله، فتفصيل القول في مطالبته كتفصيل القول في مطالبة الوكيل بالشراء، وقد سبق الكلام مستقصى في العُهدة. والمقدارُ الذي تمسُّ الحاجة إلى إعادته أن مستحق المال لو لم يصدِّق الوكيل في دعوى الوكالة، فله مطالبته، وإن صدقه، فظاهر المذهب أنه(13/365)
يطالبه أيضاًًً؛ لالتزامه وإضافته لفظ الالتزام إلى نفسه، ثم هو يرجع على موكِّله رجوعَ الضّامن على المضمون عنه.
ومن أصحابنا من قال: [إن] (1) اعترف بكونه وكيلاً، لم يطالبه، كما لا [يطالَب] (2) السفيرُ.
هذا بيان الأصل الذي حاولنا تقديمه.
8773- ونعود بعد ذلك إلى النص (3) ، فنقول: تعرض الشافعي لاختلاف الزوجين في [أمرين:] (4) أحدهما - هذا الذي نحن فيه الآن، والآخر - الاختلاف في الفلوس بالدراهم.
فأما تفصيلَ القول في الاختلاف المتعلق بالخلع عن جهة الغير، فإنا نبتدىء تفصيلَ ذلك، ونستعين بالله، وهو خير معين، ونقول: إذا قال الزوج: طلقتك على ألفٍ عليك، وقالت المرأة: أنا لم أتعرض لقبول الألف، وإنما قبلها عنك فلان الأجنبي، وجرى الخلع بينكما، فالبينونة واقعة بإقراره، والقول قولها في نفي الاختلاع مع يمينها، فإنها أنكرت أصل تعلّق العقد بها، [ولا] (5) يستحق الزوج على ذلك الأجنبي شيئاً أيضاًًً؛ فإنه بريء بموجب إقراره وقوله، فينفذ الحكم بالبينونة (6) ، ثم لا يملك مالاً؛ إذا (7) اختلعت المرأة على نفي الالتزام. وهذه الصورة بيّنة.
ولو قال: خالعتك على ألف التزمتِه مطلقاًً، وقالت المرأة: قلتُ قبلتُ عن فلان
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: يطالبه.
(3) نذكّر بنص الشافعي، وهو: "فإن قالت: اخلعني على ألفٍ ضمنها لك غيري، أو على ألف فلسٍ، وأنكر، تحالفا، وكان له عليها مهر مثلها".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: فلا.
(6) خالف في ذلك ابنُ أبي عصرون؛ إذ قال: "قلتُ: لا يكفي في ثبوت البينونة إقراره، بل إقراره وتصديقها أنه خلعها، وقوله: إن القول قولها في تنفِ الاختلاع سهو؛ فإنها لم تنفي الاختلاع، وإنما نفت الالتزام، أو مباشرة الاختلاع" ا. هـ.
(7) إذا اختلعت: بمعنى إذ.(13/366)
ألفاًً، ولم أضف الالتزام إلى نفسي. وقد قدمنا فيما سبق أن السفير لا ضمان عليه، وهي لو صُدِّقت سفيرةٌ على رتبة الرسالة، وإذا جرى الاختلاف على هذه الصيغة، فقد ذكر المراوزة أنهما يتحالفان والرجوع إلى مهر المثل، وعللوا بأنهما اتفقا على جريان العقد مبهماً، واختلفوا في صفة العقد على الوجه الذي وصفناه؛ فاقتضى ذلك أن يتحالفا.
8774- وذكر العرا قيون وجهين: أحدهما - أنهما يتحالفان، كما ذكره المراوزة.
والثاني - أنهما لا يتحالفان؛ فإنها أنكرت أصل الالتزام كما (1) ادعت السفارة؛ ومن أنكر أصلَ الالتزام والأصلُ براءة ذمته، فالوجه أن يحلّف (2) . وهذا الوجه متجه منقاس، غير أنهم نقلوه، وأفسدوه بالتفريع، فقالوا: لا تحالف ولكن يلزمها مهر المثل، وهذا على نهاية السقوط؛ فإنها أنكرت أصل الالتزام، فإن كانت مصدَّقة، فكيف تطالب، وأثر التصديق أن يثبت الحكم على صفته إذا لم يكن نزاع، ولو صدق الزوج زوجته فيما ادعته من السفارة، لكان لا يلزمها شيء، وهذا واضحٌ لا [دفْع] (3) له.
فإن قيل: ما الذي تعتمدونه في إثبات التحالف بينهما؟ قلنا: جرى أصل العقد وما فيه من الالتزم، واعترفت المرأة بالالتزام، ولكنها ادعت سقوطه بإضافتها اللزوم إلى غيرها، فأمكن أن يكون في هذا تردد في التصديق [ونقيضه] (4) ، ووجه التصديق أوضح، والوجه الآخر متضح؛ فإنها صاحبة الواقعة، ففي توكّلها عن الأجنبي بعدٌ، وإذا احتمل الأمران على استواء، انطبق عليه احتمال صدق الزوج وكذبه على هذا النسق؛ وهذا يوجب استواء الجانبين، ومقتضاه التحالف. ثم التحالف موجبه الرجوع إلى مهر المثل، ثم الرجوع به على من رجع البضع إليه. هذا وجه التحالف.
والقياس الحق أن لا تحالف؛ فلا مال عليها، ويخاطب الزوج بموجب إقراره،
__________
(1) كما ادّعت السفارة: بمعنى عندما ادعت ...
(2) فالوجه أن يحلّف: أي أن القول هنا قول الزوجة مع يمينها، ولا يحلّف الزوج ليردّ قولها.
(3) في الأصل: وقع.
(4) في الأصل: ونقضه.(13/367)
ويقضى عليه بالفرقة، ولا مرجع له على أحد بالمال، كما لو قال لامرأته: خالعتك أمس على ألف فقبلتِها، فأنكرت، [فالبينونة] (1) تثبت بموجب إقراره، ولا يثبت المال.
8775- ثم ذكر صاحب التقريب مسألة متصلة بما نحن فيه، فقال: إذا جرى الخلع بين الرجل وامرأته، فأطلقت المرأة التزامَ المال، ثم قالت: أردت بمطلق قولي ولفظي ألفاًً يؤديها موكلي فلان، ولم أقصد التزاماً يخصّني، فقد ذكر صاحب التقريب هاهنا قولين: أحدهما - أنهما يتحالفان، وأن هذا الاختلاف إلى مقدار العوض وجنسه.
والقول الثاني - أن القول قولُ الزوج؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا [أطلقتْ قولها وقبولها] (2) ، والظاهر أنها التزمت العوض في خاصتها، فالقول قول الزوج لهذا الظاهر؛ والتحالف إنما يجري إذا استوى الجانبان في احتمال الصدق والكذب.
ثم ذكر قولاً ثالثاً - أن القوال قول المرأة؛ فإنها الناوية، فهي أعرف بنيّتها وقَصْدها؛ [فالرجوع إليها] (3) ، وهذا قول ملتبس.
ونحن نقول في كشف الغطاء فيه: إن كنا نطالب الوكيل الملتزمَ باللفظ المطلق -وهو ظاهر المذهب - فهذا الاختلاف لا خير فيه؛ فإنها معترفة بأنها مطالَبةٌ بالمال كيف فرض الأمر.
وإن فرعنا على أن الوكيل لا يطالَب، فإن أضاف الالتزام إلى نفسه، فهذا الكلام مختل محتاج إلى التفصيل، فإن أنكر الزوج أصلَ التوكيل، فلا معنى للترديد الذي ذكر. وإن اعترف بالتوكيل وردّ النزاع إلى نيتها، فهذا [أوان] (4) الاحتمال على بُعد.
والوجه -مع الاعتراف بالتوكيل والتفريع على أن الوكيل لا يطالب بالعهدة في العهد
__________
(1) في الأصل: فالبينة.
(2) في الأصل: إذا طلقت وقولها وقبولها.
(3) في الأصل: "فالزوج عليها" والمثبت من (صفوة المذهب) .
(4) في الأصل: فهذا وإن الاحتمال.(13/368)
المطلق- أن تُصدّق المرأةُ؛ فإنها الناوية، وهي أعرف بنية نفسها، فالكلام كيفما فرضته [مختبط] (1) لا أصل له.
8776- وأما الكلام في الاختلاف في الدراهم والفلوس، فقد مضى موضحاً في الأصل الأول إذا (2) ذكرنا القاعدة ومحل التحالف على أبلغ وجه يتعلق بإمكاننا.
8777- ولم يبق الآن إلا نقلُ اللفظ في (السَّواد) على وجهه، وردُّ النظر إليه.
قال الشافعي: "فإن قالت: على ألف ضمنَها لك غيري، أو قالت: على ألف فلسٍ وأنكر، تحالفا، وكان له عليها مهر مثلها" هذا هو اللفظ الذي نقله المزني.
أما التحالف في الضمان، فليس يحتمل اللفظُ إلا صورة واحدة، وهي أن يقول الزوج: أطلقتِ الالتزام، وتقول المرأة: بل أضفتُه إلى غيري. هذا هو الذي قطع المراوزة فيه بالتحالف، على موجب النص.
وحكى العراقيون فيه وجهين: أحدهما - التحالف.
والثاني - أنهما لا يتحالفان وعليها مهر المثل، وقد ذكرنا أن القياس ألا يتحالفا ولا [يلزمها] (3) شيء، ولكن لم أر أحداً من المعتَبرين يصير إلى هذا، [فأُسنِدُه] (4) إليه أو أعلقه بفحوى كلامه.
فإن قال قائلٌ: هذا القياسُ، أمكن حمل نص الشافعي على مجمل، ولكن لا معنى للتشاغل به. وأما قول الشافعي في الفَلْس، فليس يبعد حمله على اختلافهما في الدراهم والفَلْس صريحاً، ونفرض النص فيه إذا قال الزوج: خالعتك على ألف درهم وقبلتِه، وقالت: بل خالعتني على ألف فلس فقبلتُه. ولكن في المذهب ما فيه من وجوه الإشكال (5) .
__________
(1) في الأصل: مخبط.
(2) إذا: بمعنى (إذ) .
(3) في الأصل: يلزمهما.
(4) في الأصل: وأسنده.
(5) عبارة المختصر هذه محلّ الإشكال، علق عليها الرافعي في الشرح الكبير قائلاً: "ظاهر هذا النص يقتضي التحالف فيما إذا أقرّت بالاختلاع، وقالت: ضمن المال فلان، ولا وجه فيها =(13/369)
وغايتنا أن ينتهي كل فصل إلى حقيقته، ولا نغادر شيئاً من وجوه الاحتمال، ونحيل المذهب على النقل الصحيح، فنكون جمعنا بين وجوه القياس، وبين تحقيق النقل، والتنبيه على حقيقة الفصل.
8778- ومما ذكره القاضي في أعقاب المسألة: أن الرجل لو قال: طلقتك على ألف عليك، ولم أشترط ضمان الأجنبي، وقالت: طلقتني بألفٍ عليّ على أن فلاناً الأجنبي ضامن، فهذه المنازعة لا معنى لها؛ فإنها أقرت بالالتزام تحقيقاً، وذكرت شرط ضمانٍ لو صح، لم ينفعها، وإنما كانت تُثبت مزيدَ تعلّقٍ للزوج، فكأنها [ادّعت] (1) للزوج حقاًً، والزوج يُنكر، وهذا ثابت لا شك فيه.
فصل
قال: "ولو قالت: طلقني ولك عليَّ ألف درهم، فقال: أنت طالق على الألف إن شئت، فلها المشيئة وقتَ الخيار ... إلى آخره" (2) .
8779- نقول في مقدمة الفصل: إذا كانت صيغة قول الرجل على صيغة [المعاوضة] (3) ، فتقتضي جواباً عاجلاً، كما يقتضيه الإيجاب في البيع والإجارة، ونحوهما من المعاوضات [المفتقرة] (4) إلى الإيجاب والقبول، والذي ذكره
__________
= للتحالف؛ بل هي مطالبة وإن كان هناك ضامن. فاختلف الأصحاب: حكى الحناطي عن بعضهم أن المسألة غلط من الكاتب. ومنهم من قال: الجواب راجع إلى صورة الاختلاف في الفلس؛ فربما جمع الشافعي بين مسألتين، فأجاب في إحداهما، وترك جواب الأخرى والأكثرون ردوا الجواب إليهما، واختلفوا في محل النص" انظر تفصيل الصور والطرق التي وصل بها الرافعي إلى سبع طرق. في الشرح الكبير: 8/474، 475.
(1) في الأصل: أودعت.
(2) ر. المختصر: 4/57، 58. والمثبت نص عبارة المختصر، فقد كانت عبارة الأصل مضطربة هكذا: "ولو قالت له: طلقني ولك علي ألف درهم، فقال: أنت طالق على ألف إن تثبتت لها المشيئة وقت الخيار".
(3) في الأصل: المعارضة.
(4) في الأصل: المقرة.(13/370)
الأصحاب فيه الاتصالُ، والإحالةُ على العرف، وقد تقصَّيت هذا في البيع، وأوضحتُ أن المنتهى المطلوبَ فيه أن لا يتخلل زمانٌ يشعر تخلُّله بإعراض المخاطَب عن الجواب؛ فإذا تخلل مثله، انقطع.
ومن لطيف الكلام في ذلك أنه لو أمكن تردده ليفكر ويرعى المصلحة، ويرى ما عنده، فلا معوّل على هذا، فإن الإيجاب والقبول مبنيان على تقديم الرأي، ومن يوجب يبتدىء الكلام، وغرضه أَخْذُ الجواب على الفور، لا تفويضُ الأمر إلى المخاطب ليرى [رأيه] (1) . فإذا تخلل ما يقطع الاتصال الذي ذكرناه، بطل التواصل، ولو وجد قبول من بعدُ، لم ينفع. والمذهب أنه لو تخلل كلامٌ يسير لو فرض بدله سكوت لما انقطع، فلا أثر لتخلل ذلك الكلام، ونصُّ الشافعي: [شاهد] (2) فيه؛ فإنه قال: "لو خالع امرأته، فارتدت، ثم قبلت، ثم عادت قبل انقضاء العدة، وهي ممسوسة، فالخلع واقع"، فلم يجعل تخلل كلمة [الردة] (3) قاطعة للجواب عن الإيجاب.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أن تخلّل كلامٍ من القابل بين الإيجاب والقبول يقطع القبول، وهذا غير سديد؛ فإنه [لا يدلّ] (4) على الإعراض، والنص يخالف ما قال، كما ذكرته.
ولو طال الزمان، وكان المجلس الواحد جامعاً لهما، فينقطع العقد، ولا أثر لاتحاد المجلس، لم يختلف فيه أئمة المذهب. وقد يُطلق الشافعيُّ لفظ المجلس في مثل ذلك، ولا يعني به المجلس الذي يتعلق به خيار المجلس؛ فإن ذلك المجلس وإن طال، امتد الخيار بامتداده، فمن أطلق المجلس [عَنَى] (5) المجلسَ القصير الذي يليق بمجلس المخاطب على ما سبق تفصيله. ولو وُجد الإيجابُ، ففارق المخاطَبُ
__________
(1) في الأصل: برأيه.
(2) في الأصل: مشاهد.
(3) في الأصل: الرّد.
(4) في الأصل: لا يزل.
(5) في الأصل: على.(13/371)
المجلسَ مفارقةً ينقطع بها خيار المجلس، ولكن قَرُبَ الزمان، فأجاب، ففي العقد وجهان، والأصح الانعقاد؛ تعويلاً على الزمان، فمن لم يحكم بانعقاده، جعل المفارقةَ مشعرةً بالإعراض.
8780- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الخلع عريّاً عن التعليق، وقال الزوج خالعتك، أو طلقتك بألفٍ أو على ألفٍ. فأما إذا ذكر الزوج لفظ التعليق، فقد يستدعي قوله فوراً، وقد لا يستدعيه، فإذا قال لامرأته: متى ما ضمنت، [أو متى ضمنت أو مهما] (1) ضمنت ألفاًً، فأنت طالق، فهذا على التراخي. وإذا قال: إن ضمنت ألفاًً، فأنت طالق، فهذا يقتضي أن تضمن على الفور.
فأما حمل متى، وما، ومهما، وأي وقت على التراخي، فلصريح اللفظ،
ولقبول الخلع لهذا المعنى. وقد قررناه عند تمهيد الخلع وحقيقته وماهيته وما فيه من شوب (2) ، واسترداد، وتمحّض، فأما حمل [إن] (3) على الفور، فليس من جهة استدعاء (إن) فوراً، فإنه شرطٌ والشرط، ينبسط على الأزمان. وإذا قال الرجل لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، لم يقبل ذلك فوراً، ولكن يقترن بـ (إن) العوضيةُ، وهي مقتضية التعجيل، و (إن) الشارطة ليست صريحة في اقتضاء التأخير، فاقتضت القرينةُ الفورَ، وليس كما لو قال: متى أو متى ما ضمنت، فإن ذلك تصريح بتجويز التأخير. ومقتضى النصوص لا تدرؤه القرائن.
8781- وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت. فهذا يقتضي مشيئتها على الفور والاتصال، وإن لم يكن في الكلام معنى، وليس كما لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، وليس هذا من مقتضيات كتاب الخلع. ومهما جرى ذكر طلاقٍ من غير تعرضٍ
__________
(1) عبارة الأصل: قال لامرأته: "متى ما ضمنت أو متى ما مهما ضمنت".
(2) من شوْبٍ، واسترداد، وتمحض: يريد شوب الجعالة والعوض، واسترداد العوض إذا قلنا بأنه فسخ، والتمحّض للعوضية. ويشير إلى ما سلف قريباً في (باب مخاطبة المرأة بما يلزمها من الخلع) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.(13/372)
لذكر [عوض] (1) ، فهو معترض في الخلع، فليُلْحَقُ بمسائل كتاب الطلاق.
ولكن إذا جرى هذا وهو مجمع عليه، فلا بد من الإشارة إلى تعليله، مع [إحالة] (2) تحقيقه على كتاب الطلاق، فنقول: أما احتمال دخول الدار للتأخير، وما في معناه في قوله: إن دخلت، فبيّنٌ، لا حاجة إلى كشفٍ، وإنما نميز عن هذا القبيلِ إذا قال: أنت طالق إن شئتِ، فسببه أن قوله: إن شئتِ معناه استدعاء جواب، فكأنه إذا قال: إن شئت يلتمس منها جواباً بذكر المشيئة، وشرط الجواب أن يكون متصلاً بالخطاب، وعليه ابتنى وجوبُ ترتيب الجواب في العقود على الإيجاب، وإلا فالعوضية في عينها ليس فيها إشعار بالتواصل الزماني، ولكنها تذكر في ابتداء وجوب وإيجاب وقبول وتفاوض مبناه في [التجاوب] (3) على التواصل عرفاً وعادة، حتى يعد السكوت المتطاول فيه إعراضاً.
فإذا كان يتحقق استدعاءُ الجواب في قوله: إن شئت، وإن لم يكن عوضٌ، فهذا يقتضي التواصلَ الزماني لا محالة، وهذا إنما يتحقق فيما يجوز أن يقدر جواباً. فأما الدخول فيما عداه من الأسباب، فلا يصلح أن تكون أجوبةً، فلم يكن لشرط [الاتصال] (4) فيه معنى.
ومما لا يخفى مُدركه، ولا بد من ذكره في ترتيب الكلام أن المرأة إذا قالت: أشاء أن تطلقني. فقال: أنت طالق إن شئت، فما تقدم من قولها لا يكفي؛ فإن التعليق على هذه الصيغة يقتضي وقوع المشيئة [في] (5) المستقبل بعد صدور التعليق؛ فإن الشرط لا يعقل تعلقه إلا بالمستقبل.
ولو كانت دخلت الدارَ، فقال الزوج: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق ما لم تستأنف دخولاً، إلا أن يكون قال: إن كنت دخلت الدار، فأنت طالق.
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: إحاطة.
(3) في الأصل: التجاوز.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: من.(13/373)
وستأتي هذه الألفاظ وحقائق معانيها في كتاب الطلاق.
8782- فإذا ثبتت هذه المقدمات قلنا بعدها: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على ألفٍ، فهذا يستدعي قبولاً منها على الاتصال. وإن قال: أنت طالق إن شئت [فهذا يستدعي جواباً منها] (1) على الاتصال، كما تقدم، ولو جمع بينهما فقال: أنت طالق على ألف إن شئت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يكفيها أن تقول (2) : شئتُ على الاتصال، وينتظم الخلع، ولزوم المال ووقوع البينونة بقولها: شئتُ. وهذا قد يدل عليه فحوى كلام الأئمة كالقاضي وغيره، وهو ظاهر كلام الصيدلاني.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من الجمع [بين] (3) لفظ القبول ولفظ المشيئة.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يكتفى [منها] (4) أن تقبل.
أما من اكتفى بلفظ المشيئة، فوجهه أن قول الرجل: أنت طالق [إن شئت] (5) ليس [في صيغته تعرُّضٌ من طريق التصريح] (6) لقبولها، ولكن لما لم يتصور منه أن يحتكم بإلزامها مالاً، اقتضى ذلك منها التزاماً، فكان قولها في معنى الضَّمَن (7) ، كما وصفناه. فإذا قال: أنت طالق على ألفٍ إن شئت، فقد جعل متعلَّقَ الطلاق ولزومَ المال قولَها المجردَ شئتُ، فيجب أن يتعلق الأمران جميعاً به.
ولو قال الرجل لمن يخاطبه: بعت منك عبدي بألف درهم إن شئت؛ فالبيع
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة الأصل: أن تقول: إن شئتُ.
(3) في الأصل: من.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) زيادة من المحقق.
(6) عبارة الأصل: "ليس في صيغة تعرض من طريق ليصرح لقبولها " كذا بهذا الرسم تماماً.
(7) الضَّمن: الضمان والالتزام، من قولهم: ضمن ضَمَناً وضمانة التزم. (المعجم) وهو مصدر مسموع معروف مدونٌ في أواسط المعاجم، ولكنه غير مستعمل الآن، وهذا يُلزم من يتعرّض للنصوص التراثية بالتأني والتمهل وألا يسارع بالتخطئة والتغيير لما لا يجده مألوفاً عنده.(13/374)
لا ينعقد؛ فإنه لا يقبل التعليق؛ إذا (1) وضع البيع على المعاوضة المحضة، ومتضمنها أن يكون صَدَرُ شقَّي العقد من المتعاوضين على نسق واحدٍ، مع اجتناب التعليق من الجانبين جميعاًً، فهذا وجه هذا الوجه.
وأما من قال: لا بد من الجمع بين الإيجاب والقبول ولفظ المشيئة، فوجه قوله أن الزوج لما قال: أنت طالق على ألف، فهذا منه لو تجرد يقتضي اجتماعَهما: اجتماع القبول ولفظِ المشيئة منها، فليأت بهما جميعاً. ثم لا ترتيب، فإن شاءت قالت أولاً: قبلت وشئت. وإن شاءت قالت: شئت وقبلت.
والأصح الأول، ولا يستقيم على الفقه المعتبر في الخلع إلا ما ذكرناه في توجيه الوجه الأول. والذي يؤكده أنه لو قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فإذا أعطت ألفاًً، طُلِّقت وإن لم يوجد من جهتها تمليك؛ نظراً إلى ظاهر التعليق، واكتفاء بما يسمى إعطاء في الحقيقة. فإذا كان كذلك، فالاكتفاء بلفظ المشيئة في الحكم بوقوع الطلاق ولزوم المال جائز على هذا القياس.
فأما من يقول: لا بد من قبولها (2) ويقع الاكتفاء به، فاشتراط قبولها عنده موجبه [ما] (3) تقدم، وأما عدم اشتراط لفظ المشيئة [فقبولها] (4) المجرد في العرف يعد جواباً عن جميع كلام الرجل. وهذا القائل يغلّب مقتضى المعاوضة، ويشترط القبول؛ فإنه الركن.
وهذا الوجه عندي غلط صريح، ولم أره إلا لشيخي، فلا يجوز عده من المذهب، ولولا تكرر سماعي [منه] (5) لما أوردته، فيبقى الوجهان المقدمان، وأوضحهما الاكتفاء بلفظ المشيئة كما تقدم.
8783- ثم يتفرع على ما ذكرناه أنا إذا اشترطنا لفظ المشيئة، واكتفينا به، فلا يصح
__________
(1) إذا: بمعنى: إذ.
(2) قبولها: أي قولها: قبلت.
(3) في الأصل: بما.
(4) في الأصل: وقبولها.
(5) في الأصل: فيه.(13/375)
من الزوج الرجوع عنه؛ فإنه تعليق مجرد، والرجوع عن التعليق غير ممكن.
ومَنْ شرط [الجمعَ] (1) بين القبول وبين لفظ المشيئة، فهل يجوّز للزوج الرجوعَ قبل أن تقبل المرأة [وتشاء] (2) ؟ فيه تردد ظاهر، بسبب اشتمال كلام الزوج على المعاوضةِ (3) والتعليقِ جميعاًً، ووجه الاحتمال بيّن، ولكن لست أجد لهذا الوجه أصلاً، والوجه الاكتفاء بلفظ المشيئة، ثم مَنعُ الرجوع كما تقدم.
فهذا تمام ما أوردناه في ذلك.
8784- عدنا إلى صورة المسألة إذا قالت المرأة: طلقني واحدةً بألف، فقال الزوج: أنت طالق بألفٍ إن شئت. فهذا الذي ذكره يُخْرِج كلامَه عن كونه كلاماًً جواباً لها؛ فإنه لو اقتصر على قوله: أنت طالق، لكان ذلك إسعافاً وجواباً، فإذا قال: إن شئت فهذا يقتضي أمراً في الاستقبال؛ لما قررناه من أن الشرط مقتضاه معلّقٌ بالاستقبال لا محالة.
ثم إن كنا نعد اقتصارها على القبول إذا [ابتدأ] (4) الرجل فقال: أنت طالق بألفٍ إن شئت وجهاً [مرتباً] (5) ، فلا بد على هذا من تجديد القبول، [وما] (6) تقدم من استدعائها لا يكفي؛ لأن قوله: إن شئت، تضمن معنىً في المستقبل لا محالة، قولاً كان أو لفظ مشيئة، فوضح أن المرأة إذا سبقت واستدعت التطليق بالمال، فقال الزوج: أنت طالق بألفٍ إن شئت، فالقول الوجيز المشعر بكمال المقصود أنا نجعل كأن استدعاءها لم يكن، وكأن الزوج ابتدأ، فقال: أنت طالق بألف إن شئت، ثم التفصيل ما قدمنا ذكره.
8785- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن المرأة لو قالت: طلقني واحدة بألف،
__________
(1) في الأصل: الجميع.
(2) في الأصل: وتشاهد.
(3) في الأصل: المعارضة.
(4) في الأصل: اشتد.
(5) في الأصل: مريباً.
(6) في الأصل: وإذا تقدم.(13/376)
فقال الزوج: أنت طالق، ولم يُعد ذكرَ المال، وقع كلامه جواباً، واستحق المال الذي التزمته. وبمثله لو قالت: طلقني واحدةً بألف، فقال: أنت طالق إن شئت، ولم يذكر المال، فقد بطل أثر استدعائها، وصار الرجل كالمبتدىء، [في هذا] (1) القول، وإذا ابتدأ، فقال: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئتُ، وقع الطلاق [رَجعياً] (2) ، ولم يثبت المال، فكذلك إذا قالت: طلقني بألفٍ، فقال: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئتُ وقع الطلاق رجعياً؛ [فإنا] (3) جعلنا قوله ابتداء، وقطعناه عن كونه جواباً.
8786- ثم قال المزني نقلاً عن الشافعي: إذا قال: أنت طالق على ألف إن شئت، فلها المشيئةُ وقتَ الخيار، وأراد بذلك اشتراطَ اتصالِ لفظ المشيئة، كما تقدم، وعبر عن الاتصال بوقت الخيار، وأراد الوقتَ الذي يجري فيه إمكان الرجوع عن الإيجاب قبل القبول، وهو الذي يسمى وقتَ [القبول] (4) .
8787- ثم ذكر (5) بعد هذا ألفاظاً مضطربة، وكلاماًً هو جواب مسألة لم يذكرها بعد، فقال متصلاً بما ذكرناه: "وإن أعطته إياها وقت الخيار، لزمه الطلاق". وهذا جواب لما لم يجر له ذكر، وهو أن الرجل إذا قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق.
فمن جواب هذا أنها إن أعطته على الاتصال، وقع. فلم يذكر المسألة وذكر جوابها.
ثم قال: "وسواء هرب الزوج أو غاب أو أبطأت بالألف" وهذا غير منتظم أيضاًًً، فإنه عطف هذه المسألة على وقوع الطلاق، والحكم فيها أن الطلاق لا يقع إذا شرطنا اتصال القبول والإعطاء. وفي كلامه خبطٌ ظاهر، وشرطنا ألا نطنب في التعرض (للسواد) والاعتراض عليه، إذا لم يكن لنا غرض فقهي، فهذا نجاز المسألة.
__________
(1) في الأصل: فهذا.
(2) في الأصل: ورجعنا.
(3) في الأصل: فإن.
(4) في الأصل: القول.
(5) أي المزني، والعبارات التي سيوردها، تجدها في المختصر: 4/58.(13/377)
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق إن أعطيتني ألف درهم ... إلى آخره" (1) .
8788- هذا الفصل عُدّ من مشكلات الكتاب (2) ، وسبب الإشكال فيه اشتماله على خواصَّ للخلع سبق تعليلُ بعضها، وفيه أيضاًًً حُكمٌ قدمتُ في الأقارير استقصاءه، يتساهل فيه الفقهاء، ولم يفردوه هاهنا، فاجتمعت جهاتٌ من الإشكال، ونحن نأتي، بمضمون هذا الفصل موضّحاً، إن شاء الله عز وجل.
فإذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، فأول ما نذكره أنه لا حاجة في ذلك إلى قولٍ لفظي منها، فإنه لم يعلّق الطلاق على قولٍ؛ فلا يقتضي قولاً أو يتضمنه. وبيان ذلك أنه علق الطلاق على فعلها إذا (3) قال: "إن أعطيتني" وأخرج قولَه عن صيغة المعاوضة، التي تقتضي إيجاباً وقبولاً، فلا نشترط قولاً منها أصلاً. ثم الذي يجب البحث عنه في ذلك أنها إذا جاءت وسلمته إليه، فقد نقول: إنه يملكه على ما سيأتي ذلك في أثناء الفصل -إن شاء الله تعالى- وهذا تمليكٌ بمجرد فعلٍ من غير قبول.
وليس في قاعدة الفصل خلاف، وغموضه في أنه عديم النظير، وإلا فالتمليك في درك العقول في معنى التمليك بالفعل، والصحيح أن القبض في الهبة هو [المملِّك] (4) دون اللفظ المتقدم عليه. واتفق الأصحاب على ما ذكرناه أن من الهدايا والمنح ما لا يفتقر إلى اللفظ، وما يؤثر عن ابن سريج من كون المعاطاة معاقدة يتأكد بهذا.
8789- ثم مما يتعلق بهذا أنها إذا جاءت بالمشروط ووضعته بين يدي الزوج، فإنه يدخل في ملكه قهراً، وإن لم يأخذه؛ فإنه ذكر لفظةً معناها الإعطاء، وهذا متحقق
__________
(1) ر. المختصر:4/85.
(2) واضحٌ أن المراد مشكلات كتاب الخلع.
(3) إذا: بمعنى إذ.
في الأصل: الملك.(13/378)
من غير أخذ بالبراجم (1) ، وليس يملك الزوج الرجوعَ عما قال.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن الطلاق لما قبل التعليق بالقول والفعل والالتزام والقبول، وقد أثبت الله المال في المفاداة في حكم الرخصة، فثبت المال في الجهة التي يثبت تعليق الطلاق فيها. فهذا ما أردناه في ذلك، وهو واضحٌ -إن شاء الله عز وجل- لائق بخاصية الخلع.
8790- ثم قال الأئمة: إذا قال: إن أعطيتني ألفَ درهم، فأنت طالق. فيبنغي أن تأتي بالألف وازنةً، فلو أتت بألفِ درهمٍ معدودةٍ لا تزن ألفاًً [لم يقع شيء] (2) . ولتكن نقرة خالصة، ولتكن مضروبةً مسكوكة، والقول في هذا مما تقدم استقصاؤه في كتاب الأقارير.
ونحن نذكر هاهنا ما تمس الحاجة إليه، فنقول: الدراهم في الشريعة وازنة، والدرهم هو النقرة كالرِّقة والورِق، وإذا كانت الفلوس لا تسمى دراهم، فالمغشوش الذي بعضه نحاس [ليس] (3) درهماً؛ فإن جنس النحاس لا ينقلب بسبب [مخالطة] (4) النقرة، وقد تقدم تقرير هذا في الأقارير.
ومما ذكرناه ثَمَّ أنه لو أقر بدراهم، وفسرها بدراهم معدودة، لم يقبل منه إلا إذا كان ببلدة يعمّ فيها الدراهمُ النقصُ المعدودة غيرُ الوازنة، فإذا أقر في مثلها بألف درهم، وفسرها بالمعدودة والنقص الجارية الغالبة في البلد، ففي قبول تفسيره وجهان، ذكرناهما في الأقارير.
8791- ولو قال الزوج: إن أعطيتني ألف درهم، وفسرها بالنقص في بلد يغلب فيه جريانها، وزعم أنه أراد النقصَ، فكيف التصرف فيه؟ قال الأئمة: هذا يخرّج
__________
(1) في الأصل: بالمزاحم. وهو تصحيف أرهقنا كثيراً. والأخذ بالبراجم يراد به القبض باليد كما هي عبارة العز بن عبد السلام في اختصاره للنهاية. والبراجم هي رؤوس السُّلاميات، والمراد رؤوس الأصابع التي بها القبض والأخذ (المصباح والمعجم) .
(2) ساقطة في الأصل، وأثبتناها من (صفوة المذهب) .
(3) زيادة اقتضاها السياف.
(4) في الأصل: فمخالطة.(13/379)
على الوجهين المذكورين في الإقرار؛ فإن المرعيّ في لفظ الأقارير مثلُ المرعي في صيغ [التعليق] (1) وهذا حسن.
ولكن وراءه غائلة لا بد من التنبيه لها، وهي أن الزوج إذا فسر الدراهم بالنقص المعدودة، فهذا يتضمن وقوع الطلاق دون الوازنة، فإذا كان ما يقوله محتملاً [وفيه] (2) توسيع وقوع الطلاق، فيجب القطع والحالة هذه [بقبول] (3) قوله.
وإنما يظهر أثر الاختلاف في عكس هذه الصورة، وهي أنه إذا كان في بلدة دراهم معدودة تزيد على الوازنة في زنتها، فإذا فسر الدراهم التي علّق وقوع الطلاق بعطائها، [بالمعدودة] (4) التي تزيد زنتها على الوزن المعلوم في الوازنة، وكانت تلك الدراهم غالبة، فينقدح حينئذ فيه ذكرُ الوجهين؛ لمكان النية الموافقة للعادة الجارية.
ولو أقر بألف درهم، ثم فسر إقراره بألف معدودة يزيد زنتها على وزن الوازنة، فلا شك في قبول تفسيره، وإنما الخلاف فيه إذا فسرها بالنقص، ولا حاجة إلى الإطناب في هذا؛ فإنه واضح.
ولو قال المقر: لفلان علي ألفُ درهم. ثم فسره بالمغشوشة، وكانت غالبة جارية في محل الإقرار، ففي قبول تفسيره وجهان، وهما الوجهان المذكوران في النقص؛ فإن المغشوشة نقرتها ناقصة، ونقصانها لا ينجبر بالنحاس.
وإذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، وكان لفظه مطلقاًً، فهذا محمول على النقرة الخالصة، ولو قال: أردت بذلك المغشوشة، فيجب القطع بقبول تفسيره؛ فإن ما قاله محتمل، وفيه توسيع وقوع الطلاق.
فليتأمل الناظر هذه الأمور الجليّة التي لم يتعرض لها الأئمة لوضوحها.
8792- ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك إذا انتهى الكلام إلى هذا المنتهى أن من اشترى شيئاً بألف درهم، في بقعةٍ دراهمُها الجارية نقصٌ، فالذي يرى الأصحابُ فيه
__________
(1) في الأصل غير مقروءة (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: وقت.
(3) في الأصل: مقبول.
(4) في الأصل: فالمعدودة.(13/380)
أن مطلق الدرهم في البيع والمعاوضات محمولة على الدراهم الجارية في العرف.
وليس الأمر على هذا الإطلاق عندنا.
ونحن نفصل القول فيه ونستعين بالله تعالى - فنقول: إذا كان في أيدي الناس نقود من أصنافٍ مختلفة النقوش والسكة، وكان الغالب في المعاملات صنفٌ منها، فإذا أطلقت الدراهم -والحالة هذه- انصرفت إلى ما يغلب، وصار جريان العرف واطراده بالمعاملة في ذلك الصنف بمثابة التقييد لفظاً [فيُفيد] (1) اقترانُ العرف من الإعلام ما يفيد التقييدُ نطقاً ولفظاً.
ولو كانت النقود كما وصفناها، فقال الرجل: لفلان عليّ ألف، فلا يتقيد المقرّ به بالنقد الغالب. وكذلك لو قال الرجل لامرأته - والنقود كما وصفناها: إن أعطيتني ألفَ درهم، فأنت طالق، لم يختص هذا بالنقد الجاري في البلد، بل لو أتت بألف من أي نقدٍ كان، وقع الطلاق بعد أن تكون وازنة.
وهذا موضع استفراق (2) ؛ فإن النقد الغالب يتعين في المعاملات، ولا يتعين في الأقارير، ولفظ التعليق. وهذا عندنا -في المعنى والفقه- ليس بتفاوتٍ، وطريق الكلام فيه [أن المعاملات إخبارٌ عمّا نصف] (3) ، والإقرار إخبارٌ عن ماضٍ، ولا يمكن أن نحكم على العادة بالاطراد فيما تقدم، فلا يتحقق كون العادة قرينة في المخبرَ عنه، فبقي الإجمال في الصنف.
وكذلك إذا قال لامرأته: إن أعطيتني ألف درهم. فليس تعليق الطلاق أمراً معتاداً، فلا يصير اطراد الاعتياد قرينةً فيه، وتحقيقه أن العادة لا معنى لها على الانفراد، والمعنيّ بجريانها، جريانُ المعاملات، والتعليقُ ليس مما يتكرر جريانه في الدراهم، [فكان] (4) مطلق الدراهم يجري على مقتضى الإطلاق فيها، ومقتضى الإطلاق التعميم بأي صنف أتت به وقع الطلاق، إذا كان نقرة وازنة. هذا في اختلاف النقود.
__________
(1) في الأصل: فعيد.
(2) موضع استفراق: أي طلب الفرق.
(3) عبارة الأصل: أن المعاملا عمت نصف.
(4) في الأصل: وكان.(13/381)
8793- فأما إذا كان الجاري في البلد دراهمُ ناقصةٌ في الوزن، فهذا موضع النظر، فاسم الدراهم [مقيدٌ] (1) بالنقرة الوازنة، فإذا جرى العرف بخلاف ما يقتضيه الاسم، فإذا قال المقر: أردت النقص تمسكاً بالعرف، ففيه وجهان. وإذا أراد من علَّق الطلاق تفسير لفظه في هذا المقام بالنقص المعدودة، فقد ذكر الأصحاب وجهين.
ولا معنى لهما عندي، بل الوجه القطع بالقبول؛ فإن فيه توسيعَ الطلاق، والاحتمال في ذلك كافٍ.
فإذا جرى ذكر الدراهم في المعاملة في الموضع الذي دراهمه الغالبة نقصٌ، فهذا فيه اختلاف بين الأصحاب، فالذي ذهب إليه المعظم أن العرف مقيِّدٌ في المعاملات وطريق الفرق فيه ما ذكرناه من جريان المعاملات، وعدم ذلك في التعليق، وحققنا في الإقرار استناده إلى سابقٍ لا تحكّم فيه بعرف.
ومن أصحابنا من قال: اسم الدراهم صريح في الوازنة، والعرف لا يغيّر الصريح عن معناه ووضعِه، وليس هذا كما قدمنا ذكره من إثبات أثر العرف في إعلام نقدٍ من النقود المختلفة؛ فإن ذلك إعلام بطريق القرينة في محل الإبهام، ولو حملنا الدراهم على الناقص، لكان ذلك تغييراً لموجب النص الصريح، والعرف لا يغير [النصوص ومعناها] (2) وهذا إن كان له اتجاه في المعنى لكن (3) المشهور حمل الدراهم في المعاملات على النقص إذا كانت غالبة، وإنما الخلاف في الأقارير، وفي التعليق الذي قدّمته. فهذا ما عليه بناء المذهب. وقد أوضحنا الفرق بين المعاملة.
8794- ومما [نتمّم] (4) به الغرض في ذلك، القولُ في الدراهم المغشوشة، وإجمال الكلام فيها أولاً أنها بمثابة النقص في الإقرار والتعليق، وإنما نفصّل [فيها] (5) ذكر المعاملات. فنقول: يعترض في المغشوشة أصلٌ آخر، وهو أن مقدار النقرة إن
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: المنصوص ومعناهما.
(3) في الأصل: ولكن.
(4) في الأصل: نقيم.
(5) في الأصل: فيهما.(13/382)
كان مجهولاً في الدراهم، ولم يكن لها جريان، فلا يصح [التعويل] (1) عليها لا مذكورة ولا معيّنة؛ فإن الجهالة على هذا الوجه تمنع الثبوت في الذمة.
وإذا عيّنت، فأشّر إليها، [فالإشارة] (2) بمثابة الإشارة إلى تراب المعدن.
[فإن] (3) كان لها جريان في العادة، مع أن مقدار النقرة [مجهول فيها] (4) ، ففي صحة التعامل بها وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع وأبوابٍ من المعاملات. وتعويل من يجوّز على الجريان، والصحيحُ [المنعُ] (5) .
وإن كان مقدار النقرة معلوماً -ففي طريق العلم به توقف، فإنه مما لا يعاين، فإن أمكن العلم به فبقول ثقات - فيزول في هذه الصورة [الجهلُ] (6) بالمقصود، وتصير الدراهمُ المعلومةُ العيار المغشوشةُ بمثابة الدراهم المعدودة والنقصُ في الوزن. وقد تفصّل القولُ فيها. فهذا تمام القول في هذا الفن.
8795- ومما يخرج مما قررناه أنا إذا قيدنا لفظ التعليق بالعرف الجاري في الموضع، فقد يقتضي الحالُ حملَ الدراهم على المغشوشة في الإقرار، ولكن الوجه عندي فيه أنه إذا قال المُقر: أردت المغشوشة، ففي قول منه -وعرف الموضع مساعدٌ - الوجهان، فلو لم يدع أنه أراد المغشوشة، فالوجه عندي مطالبته بالخالصة، وسبب ذلك أن العرف لا جريان له في الأقارير، فاسم الدراهم على اقتضاء الخلوص والزنة التامة. ولكن إن زعم أنه أراد ما يجري به العرف في المعاملة، فقد يعذره بعضُ الأصحاب بسبب جريان المعاملة، وهذا لا قطع به، ولا يمتنع أن يقال: إن تراجع فيما أراد، فإن زعم أنه لم يرد شيئاً، فإقراره محمول على الغالب في المعاملة.
هذا تردد لطيف يجب تدبره.
__________
(1) في الأصل: التعليل.
(2) في الأصل: بالإشارة.
(3) في الأصل: وإن.
(4) في الأصل: مجهولين فيه.
(5) في الأصل: المتبع.
(6) في الأصل: والجهل.(13/383)
وأما إذا جعلنا للعرف أثراً، وقد جرى التعليق في الطلاق، أو العتاق، فإن قال: أردت الدراهم المغشوشة، فالوجه عندي القطع بتصديقه لما فيه من توسيع الطلاق.
وإن أطلق، فالوجه القطع بحمل لفظ المطلق على الخالصة الوازنة.
ومن أصحابنا من ذكر وجهاً وهو صادر عن غير بصيرة ودراية بحقائق الأشياء ووضعها.
وقد انطوى إلى هذا المنتهى أصلان: أحدهما - تعلّق الإعطاء بفعلٍ مجرد من غير قول من جهتها.
والثاني - الكلام في الخلوص والنقصان.
8796 - ونحن نبتدىء -بعد هذا- الكلامَ في مقصود آخر، والبناءَ على الفرق بين المعاملات وألفاظ المُعلِّقين، فنقول: إذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، وكان في البلد نقد غالب وزان خالص، فإذا جاءت بألفٍ من النقد ووضعته بين يدي الزوج، قُضي بوقوع الطلاق، لتحقق الصفة، ثم ما أعطته من جنس النقد فيملكه الزوج ولا يجري فيه رد واسترداد، وقد وقع الطلاق وجرى الملك في المعطى معاً.
ولو أتت بألف درهم وازنة خالصة، ولكن النقد الغالب في البلد غيرُ ذلك الذي أتت به، وليقع الفرض إذا كان النقد الغالب خالصاً وازناً أيضاًًً، ولكن الاختلاف في جودة السكة وزكاتها (1) ، وفي لين النقرة وانْطراقها، وفي خشونتها، فالذي ذكره الأئمة أن الطلاق يقع، كما ذكرناه، ثم الزوج لا يملك ما جاءت به، ولكن يرده ويسترد ألفاًً من نقد البلد؛ فإن الذي تقتضيه المعاملة التقييد. بنقد البلد، والذي يقتضيه التعليق اتباع الاسم، فوقع الحكم بوقوع الطلاق لتحقق الاسم، وثبت الرجوع إلى النقد الغالب لموجب المعاملة. هذا قول الأصحاب.
وهذا مشكل. فليتأمله المنتهي إليه؛ فإن الطلاق إنما يقع لتحقّق الصفة
__________
(1) زكاتها: كذا بهذا الرسم تماماً. (ولعل المعنى المر اد صفاؤها وحسنها) .(13/384)
[وتمليك] (1) الدراهم، فلئن كان ما جاءت به على حقيقة الصفة، فليتحقق فيه التمليك؛ فإن الإعطاء معناه التمليك، فالذي يقتضيه القياس الحق أن يتملّك الزوج ما يقع الطلاق بالإتيان به، وإن كان يجب اتباع النقد الغالب، فيجب أيضاًًً أن يتوقف وقوع الطلاق على ما هو المملوك.
وهذا لا مطمع في دفعه.
[و] (2) في نص الشافعي في (السواد) ما يدل على أنا لا نرجع إلى نقد البلد، ولكن إذا أتت بالدراهم وهي نقرة وازنة، وقع الطلاق للاسم، فإن كانت النقرة معيبة، فعليها ألفٌ خالصة غيرُ معيبة، ولم نرجع إلى النقد الغالب. وهذا فيه دفعٌ لنوعٍ من الإشكال، وهو المصير إلى نقد البلد؛ فإنه لم يعتبره، ولكن لما وضح قصد التمليك في الألف، اقتضى ذلك السلامةَ من العيوب، كما يقتضيه كل ما أُثبت عوضاً. وهذا ليس ينفي الإشكال بالكلية؛ فإن القياس يقتضي ألا يقع الطلاق إلا بما يجري الاستحقاق فيه، وما يقع الطلاق به فينبغي ألا يبدّل.
وقد أجمع الأصحاب في الطرق [على] (3) أن الرجوع إلى نقد البلد إذا كان في البلد نقد غالب.
وهذا مع اشتهاره لا وجه له أصلاً، وفي إيجاب الإبدال [لعين] (4) المعيب إشكالٌ قائم أيضاًً، ولكنه أمثل من الرجوع إلى نقد البلد، والله أعلم.
وقال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: من أصحابنا من قال: إذا وقع الطلاق إذا جاءت بالألف الخالصة الوازنة، فالرجوع إلى مهر المثل، وعلَّل هذا القائل [بأن التمليك] (5) من غير إلزام والتزام، وعقدٍ مشتملٍ على شقيه بعيدٌ. ولكن الزوج لم
__________
(1) في الأصل: تمليك. (بدون الواو) .
(2) الواو زيادة من المحقق.
(3) سقطت من الأصل.
(4) في الأصل: تعين.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(13/385)
يرض بوقوع الطلاق من غير مال، وفسد التملك بلفظ الإعطاء مع [الفعل] (1) ، [فكان] (2) مجموع ذلك يقتضي الرجوع إلى مهر المثل.
ولو أتت [بألفٍ] (3) ، يقع الطلاق بمثلها، وكان النقد الغالب من ذلك الجنس أيضاًًً، فهذا القائل يقول: الألف الذي به [وقع الطلاق] (4) مردود، والرجوعُ إلى مهر المثل؛ لما ذكرناه، من أن لفظ التعليق لا يفيد معنى التمليك على التمام، وليس خالياً عن اقتضائه أيضاًًً، فهذا بيان هذا الوجه.
ومما نجري في ذلك أيضاًًً أن من يحمل لفظ المعلِّق على موجب العرف في الدراهم النقص والمغشوشة، كما قدمناه، فيلزمه أن يقول: إذا أتت المرأة بألف -والنقد الغالب غيره- فلا يقع الطلاق؛ لأن اللفظ يتضمن [التقيّد] (5) بالعرف. وهذا بعيد، ولكنه مستند إلى ما تقدم تقريرُه وحكايتُه عن بعض الأصحاب.
8797- فهذا تمام ما قيل فيه. والمذهب الحكم بوقوع الطلاق إذا جاءت، بألف وازنة خالصة، ثم إن كانت موافقة لنقد البلد، فالزوج يملكه. وإن كان النقد مخالفاً لما أتت به، وقع الطلاق، ورد الزوج ما جاءت به وطالبها بألفٍ من النقد. وإن لم يكن بين ما أتت به وبين النقد إلا تفاوتٌ في النوعين، فإن [تراضيا بما جاءت به] (6) جرى الملك فيه، كما سبق تقريره في السَّلم إذا أتى المسلم إليه بما يخالف، النوع الموصوف والجنس جامعٌ، ولا وجه للخصوص في ذلك، والقياس ما تقد التنبيه عليه من وقوع الطلاق إذا أعطت ما وصف، وتعلق الملك بعينه، وما حكاه الشيخ أبو علي من الرجوع إلى مهر المثل فيه [غَوْص] (7) في الفقه. فهذا تمام الاطلاع على حقيقة هذا الطرف.
_________
(1) في الأصل: "الفصل". ثم المراد (بالفعل) أنها جاءت بالألف وأعطتها.
(2) في الأصل: وكان.
(3) في الأصل: "بالألف" والمثبت من (صفوة المذهب) .
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) في الأصل: "النقد". وهو تصحيف ظاهر.
(6) عبارة الأصل: فإن تراضيا الزوجين بمالِ به جرى الملك ...
(7) في الأصل: "عوض".(13/386)
8798- ومما يتعلق بتمام الكلام أنه إذا قال: إن أعطيتني ألفاًً، فهذا يقتضي أن تأتيَ به على الفور في زمان قبول العقد، حتى لو فرض تخللُ زمانٍ ينقطع بمثله الإيجاب عن القبول، فإذا أتت بالألف بعد ذلك، لم يقع الطلاق.
وهذا مما مهدناه عند ذكر أصل الخلع وماهيته. وقد اتفق الأصحاب على هذا في طرقهم.
ورأيت في شرح التلخيص أن من أئمتنا من قال: قوله: إن أعطيتني ألفاً لا يقتضي الفور، كما أن قوله إن دخلت الدار لا يقتضي الفور، فإن التواصل إنما يليق بكلامين: أحدهما التماس جواب، والثاني جواب عنه.
وهذا وإن أمكن توجيهه، فهو بعيد في الحكاية، لا تعويل عليه، وسيأتي فصلٌ في أنه إذا قال: [إن] (1) أعطيتني ألفَ درهم، فهذا محمول على تسويغ التأخير.
فهذا بيان أصول الفصل، والتنبيهُ على موقع الإشكال فيه، والانفصال عما يمكن الانفصال فيه (2) .
8799- ثم مما ذكره الشافعي في ذلك أنه إذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فلو أتته بألفي درهم، وقع الطلاق، ولا أثر للزيادة التي جاءت بها، وليس كما لو قال: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت ألفين، فلا يقع شيء، والفرق أن القبول جواب الإيجاب، فإذا خالفه في الصفة، خرج عن كونه جواباً. وإذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فالإعطاء ليس جواباً، وإنما هو فعل، وإذا جاءت بألفين، فمما جاءت به ألف درهم، ولا اعتبار بالزيادة.
ولو قال: إن ضمنتِ لي ألفَ درهم، فأنت طالق، فقالت: ضمنت ألفي درهم، وقع الطلاق، ولا يلزمها إلا الألف؛ فإن الضمان وإن كان قولاً منها، فليس أحدَ شِقَّي عقد، حتى يشترط وقوعه على وفق النسق الصادر من. الرجل. والدليل عليه أن
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "فيه" بمعنى (عنه) .(13/387)
الضمان مما يقبل التأخير إذا ذكر الزوج لفظاً مقتضاه التأخير، وذلك إذا قال: متى ضمنت لي ألفاًً، فأنت طالق.
8800- ومما نذكره وهو ختام الفصل أنه إذا قال: إن أعطيتني ألفَ درهم، فأنت طالق، والتفريع على أن الطلاق لا يقع إلا بالنقرة الخالصة، فلو أتت بالنقرة المطبوعة وكان النقد الغالب مغشوشاً معلومَ العيار، والبناءُ على أخذِ التملك من النقد الغالبِ وأخذِ الوقوعِ من الدراهمِ الخالصةِ الوازنة، فموجب ذلك أن تسترد الدراهم الخالصة وتغرم للزوج المغشوشة.
وهذا في نهاية الإشكال، كما تقدم من الكلام الواضح في المسألة أنها إذا أتت من التبر بزنة ألف درهم [أو بما] (1) فيه وزن الألف، فلا يقع الطلاق، إذا كان المذكور دراهمَ؛ فإن النقرة لا تسمى دراهم ما لم تطبع، وإذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأتته بدرهم خسرواني وزن ألف درهم، ففيه كلام ذكرته في الإقرار بألف درهم، فيطلب في موضعه.
فصل
قال: "ولو قال: متى أو متى ما أعطيتِني ... إلى آخره" (2) .
8801- قد ذكرنا التفصيل فيه إذا قال: إن أعطيتني، وأوضحنا أن هذا محمول على الفور، وكذلك إذا قال: إذا أعطيتني، فهو في اقتضاء الفور بمثابة قوله: إن أعطيتني. ولو قال: متى أعطيتني، أو متى ما أعطيتني، فهذا لا يقتضي التنجيز، ولكن الأمر موسّعٌ عليها؛ فإن اللفظ صريح في اقتضاء التأخير، فإن أخرت، فمهما أعطت على القرب أو البعد، حُكم بوقوع الطلاق، وليس هذا بدعاً إذا ثبت ما قدمنا ذكرَه من إيقاع لفظ التعليق من غير اشتراط لفظٍ من جهتها في القبول.
وكذلك إذا قال: متى ضمنت لي ألفاًً، فمهما ضمنت على القرب أو البعد، وقع
__________
(1) في الأصل: أو بأنا فيه.
(2) ر. المختصر:4/85.(13/388)
الطلاق؛ فإن ضمانها ليس يُنحى به نحو قبول المال المذكور في صيغة المعاوضة.
وإنما سبيله سبيل تحقيق الصفة التي هي متعلق الطلاق، وهو بمثابة الإعطاء إذا قال: إن أعطيتني، أو متى أعطيتني.
8802- فإذا تبين هذا، فنقول: إذا قال: متى أعطيتني، فلا شك أنها بالخيار إن شاءت أعطت، وإن شاءت لم تعط، ولكن إذا جاءت بالألف على الوجه الذي يقع به الطلاق [ووضعته] (1) بين يديه، فلا حاجة إلى قبضه إياه بالبراجم (2) ، هذا يسمى إعطاء على الحقيقة، ثم إن كان لا يفرض فيه إبدال، فكما (3) جاءت به ملكه الزوج، [ردّه أو لم يردّه] (4) ، فإنه بعد ما قال، فلا يجد سبيلاً إلى الرجوع عن موجب قوله، وإذا حصل ملكه فيه، فلا يمكنه إخراجه عن ملكه إلا بطريق شرعي من الطرق المُرسِلة للأملاك.
وإذا جاءت بها وجرى الملك فيها، سقط خيارها أيضاًًً، فلا تملك استرداده؛ فإن الملك يثبت فيه على اللزوم.
وإذا كان علق الطلاق بضمانها، فهي بالخيار [إن شاءت، ضمنت] (5) وإن شاءت لم تضمن، فإذا ضمنت، لزمها الوفاء بما ضمنت، ولا خِيرَةَ بعد الضمان، وجريان الالتزام.
8803- ومما يتعلق بهذا أنه إذا قال إن أعطيتني ألف درهم، فهذا مذكور على الجهالة، ولكنه يحصل الحنث (6) بالاسم، ثم يتفرع المذهب على حسب ما تقدم.
__________
(1) في الأصل: رضيته بين يديه.
(2) بالبراجم: أي بالأصابع، وتناوله باليد. كما مرّ آنفاً.
(3) فكما: بمعنى عندما. وقد ذكرنا من قبل أن هذا استعمال غير فصيح، بل غير عربي كما فال النووي.
(4) في الأصل: الراده أو لم يردّه.
(5) زيادة لاستقامة نظم الكلام.
(6) الحنث: كذا بهذا الرسم بكل وضوح. ولعل استعمالها هنا من باب الأضداد، فالمعنى أنه يحصل الأداء والإعطاء إذا وضعت بين يديه ألفاًً مما يطلق عليه اسم الدراهم.(13/389)
وإذا قال: متى ضمنتِ، أو إن ضمنت ألفَ درهم، فالألف مجهول، والضمان فيه على الجهالة ضمانُ (1) مجهول، ولكنه يتعلق بما إذا أعطت ألفَ درهم، ثم سبيل الرجوع إلى النقد الغالب على ما تقدم، ويتجه في الضمان جدّاً الرجوع إلى مهر المثل كما ذكرناه في مسألة الإعطاء؛ فإن التعويل على اللفظ في الضمان، فإذا جرى على صيغة الجهالة، اتجه فيه الرجوع إلى مهر المثل. فظاهر المذهب أنها تضمن الألف، وتطلّق، ثم يستحق عليها ما يستحق إذا قال: إن أعطيتني ألف درهم. هذا هو المذهب. ثم الوجه الذي ذكره الشيخ (2) في الرجوع إلى مهر المثل يعود.
وإن وصف، فقال: إن أعطيتني ألف درهم صفتها كذا وكذا، وبالغ في الصفة، فإذا أتت به، فيجب القطع على الطريقة المشهورة بأنها إذا جاءت بها على [ما] (3) وصف، استحق الزوج عينَ تلك الدراهم، وإنما التردد في الرجوع إلى نقد البلد على قول الأصحاب، أو إلى ألفٍ سليمة من العيب على ظاهر النص فيه إذا ذكر الألف مطلقة. ويجري مع الإعلام واستقصاء الوصف الطريقةُ التي ذكرها الشيخ؛ من جهة أنه تلقَّى الفساد من جهة أن التمليك من غير لفظ من جهتها بعيد. وإذا كان السبب هذا، لم يختلف بأن يكون الألف موصوفة، أو لم تكن.
ومما يتعلق بهذا أنه إذا قال: إن ضمنت لي ألفاًً ووصف الألف، واستقصى الوصف، فضمنت، فما ذكره الشيخ أبو علي من الرجوع إلى مهر المثل يجري هاهنا أيضاًًً. فإن قيل: معتمده في مسألة الإعطاء أن التمليك من غير قبولٍ من جهتها بعيد. وإذا كان متعلق الطلاق بالضمان وهو يحصل بقولها، فما وجه الرجوع إلى مهر المثل؟ قلت: ضمانها ليس قبولاً لإيجاب، وإنما هو التزام مستقل بنفسه منقطعٌ عن إيجاب من جهة الزوج، ولذلك يُتصور تأخير الضمان عند قول الزوج إذا قال: متى ضمنتِ، كما يتصور ذلك في الإعطاء.
فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.
__________
(1) ضمانُ مجهول: خبر للمبتدأ فالضمان فيه ...
(2) الشيخ المراد هنا: الشيخ أبو علي.
(3) زيادة من المحقق.(13/390)
8804- ولو قال: إن أقبضتني ألف درهم. فهذا على ظاهر المذهب لا يتضمن تمليكاً، فإذا أقبضته، لم يملك الزوج ما قبض، ولم يملك عليها شيئاً غيره، وكان الطلاق الواقع رجعياً، بمثابة ما لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق.
ومن أصحابنا من قال: قوله " أقبضتني " بمثابة قوله: "أعطيتني" في التفاصيل التي قدمناها. وهذا بعيد لا تعويل عليه. وإذا قال: "إذا أقبضتني"، وحملناه على التعليق المحض من غير تمليك، فلا يبنى ذلك على الفور، كما لو قال: إن دخلت الدار، وليس كما لو قال: إن أعطيتني ألفاًً. فإن هذا محمول على الفور، لما فيه من معنى المعاوضة.
8805- ولو قال: إن أعطيتني ألف درهم، أو متى أعطيتني، ثم أكرهها على الإعطاء، فلا يقع شيء؛ لأن هذا عطاء تمليك والإكراه ينافي التملك.
وإذا قال: إن أقبضتني، وقد بان أنه محمول على التعليق من غير رعاية العوضية، فإذا أكرهها، فأقبضته، مكرهةً، فهذا يخرّج على القولين في أن الصفة التي علق الطلاق بها إذا وجدت على صفة الإكراه، فهل نحكم بوقوع الطلاق.
وسيأتي شرح ذلك بما فيه في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
ثم إذا قال: إن أقبضتني، فجاءت به وأوقعته بين يديه، فهذا إقباض، لا يشترط في تحقيق الإقباض أن يقبض الزوج بالبراجم. ولو قال: إن قبضتُ من مالِكِ ألفاًً، فأنت طالق، فقبض من مالها قهراً، وقع الطلاق قولاً واحداً، فإنه قَبَضَ مختاراً وقبضُه متعلَّق الطلاق، فيعتبر الاختيار فيه، ولو أُكرِه فقبض مُكرَهاً، فقولان.
8806- فهذا غاية ما يتعلق بهذا الفصل في هذا المعنى، والغائلة الكبرى من الفصل فيه إن قال: إن أعطيتني ألف درهم، فجاءت بألفٍ مغصوبة، وسيأتي هذا في فصل مفرد على ترتيب (السواد) (1) ويستكمل فيه الغرض، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) السواد: مختصر المزني كما تكرر مرات ومرات.(13/391)
فصل
قال: "ولو قالت له: طلقني ثلاثاًً ولك ألف درهم ... إلى آخره" (1) .
8807- إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاًً بألف درهم، فطلقها واحدة، وقعت الطلقة بثُلث الألف، سواء أعاد ذكر العوض، أو لم يتعرض لذكره، إذا خرج كلامه جواباً، وأجراه على شرط الاتصال الزماني. هذا مما مهدناه عند ذكرنا أصلَ الخلع [وماهيتَه] (2) ، وفرقنا فيه بين الجانبين، فأوضحنا أن المرأة إذا استدعت ثلاثاًً بمال، فأجابها الزوج إلى بعض ما استدعت بقسطه من المال، [نفذ] (3) ، وثبت قسطٌ من المال. ولو قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً بألف، وقالت: قبلت طلقةً بثلث الألف، لم يقع شيء، وقدمنا في إيضاح الفرق بين الجانبين ما فيه مَقْنع.
ثم إذا كانت المرأة هي المستدعية، فلا فرق فيما ذكرناه من جريان التبعيض [بين] (4) صلةٍ وصلةٍ إذا استوت الصلات في جواز الاستعمال واقتضاء التعويض.
فإذا قالت: طلقني ثلاثاًً على ألف، أو طلقني ثلاثاً، ولك عليّ ألف، أو طلقني ثلاثاًً ولك ألف، فإذا طلقها واحدةً، بانت به، واستحق عليها ثلثَ الألف، كما لو قالت: طلقني ثلاثاًً بألف.
وأبو حنيفة (5) خصص جريان التبعيض بصلة (الباء) فقال: إذا قالت: طلقني ثلاثاًً بألف، فطلقها واحدةً، استحق ثلث الألف، وأما إذا قالت: على ألف، أو لك ألف، فلا يستحق الزوج بإجابتها إلى بعض ما سألت شيئاً؛ واعتقد الفرق بين (الباء) و (على) صائراً إلى أن الباء تقتضي التعويض المحقق، والتعويضُ من مقتضاه مقابلة
__________
(1) ر. المختصر: 4/58.
(2) في الأصل: ما وهبته.
(3) في الأصل: بعد.
(4) في الأصل: من.
(5) ر. المبسوط: 16/173، 174، ومختصر الطحاوي: 202، وحاشية ابن عابدين: 2/562، 563.(13/392)
الجملة بالجملة وتوزيع الأبعاض على الأبعاض. (وعلى) كلمةُ شرطٍ ومن مقتضى الشرط وجودُ كمال الشرط في ثبوت المشروط.
وهذا الذي ذكره خيالٌ لا أصل له، والصلات مستوية في اقتضاء التعويض، وجريان التبعيض. ثم ما أشرنا إليه من التعويض لا يكفي في إجراء التبعيض، حتى نضم إليه نزوعَ المعاوضة في جانبها إلى الجعالة، كما سبق تقريرها. وإذا جرى كلام على البسط تأصيلاً، فلتقع القناعة بإحالة الفروع عليها. هذا أصل الفرع.
8808- ولو سألت المرأة ثلاثاً بألف. وكان الزوج لا يملك إلا الطلقة الأخيرة، فطلقها تلك الطلقة. قال الشافعي: يستحق عليها تمامَ الألف. وقال المزني: لا يستحق عليها إلا ثُلثَ الألف، وذكر أبو إسحاق المروزي طريقة أخرى، اختارها لنفسه، وقد نزّل عليها نصَّ الشافعي بزعمه، فنذكر طريقته، ثم نذكر تصرفه على النص.
قال: الحكم يختلف بعلم المرأة وجهلها، فإن كانت تظن أن الزوج يملك عليها ثلاث طلقات، فإذا طلقها الطلقةَ الأخيرة، وكان لا يملك غيرها، لم يستحق عليها إلا ثلث الألف، ولو كانت عالمةً بأنه لا يملك عليها إلا الثالثة، فسألت الثلاث بالألف، فطلقها الثالثة، استحق تمام الألف، كما قاله الشافعي؛ لأنها لما سألت الثلاث مع العلم بأنه لا يملكها، حُمل سؤالها على تحصيل [الحُرمةِ] (1) الكبرى.
هذا أصل كلامه. ثم تصرف على النص، وزعم أن قول الشافعي، في ثبوت الألف بالطلقة الثالثة محمول على ما إذا كانت عالمةً [بأن] (2) الزوج لا يملك إلا الثالثة.
فنقول: لا يستقيم تصرفُ المروزي على النص لمسألةٍ تص عليها الشافعي في [الكبير] (3) ؛ فإنه قال: لو قالت له: طلقني ثلاثاًً بألفٍ، وكان بقي له عليها طلقتان، فإن طلقها واحدة، استحق ثلث الألف، وإن طلقها ثنتين، استحق كل الألف. ولم
__________
(1) في الأصل: الجهة الكبرى. وهو من طرائف التصحيف.
(2) في الأصل: لأن.
(3) في الأصل: الكثير. والكبير هو من كتب الشافعي.(13/393)
يفرق بين حالة العلم وحالة الجهل، وهذا لا يستقيم على مذهب المروزي؛ فإن المرأة لو كانت عالمة، فمقتضى أصله أن الزوج يستحق عليها بالطلقة نصف الألف، تنزيلاً للعوض على معلومها. وقد قال الشافعي: لو طلقها طلقة استحق ثلث الألف، فإن حُمل استحقاق الثلث على جهلها، [فمذهبه] (1) أنها إذا كانت جاهلة فلو طلقها الطلقتين، استحق ثلثي الألف، فلا يستمرّ مذهب المروزي في هذه المسألة منطبقاً على النص، ولأن الشافعي أجرى جوابه في الطلقتين على نسق واحد، فقد بطل تصرفه (2) ، وبقي مذهبه.
8809- ومسائل الفصل مُدارة على ثلانة مذاهب: أحدها - النص، والآخر مذهب المزني، [والثالث مذهب المروزي] (3) ونحن نذكر قواعد المذاهب موضحة، ثم نذكر وجوهَها، ثم نفرع المسائلَ عليها.
أما مذهب الشافعي، فقاعدته أن المرأة إذا سألت الثلاثَ، فحصَّل الزوج لها الحرمة الكبرى، استحق عليها تمامَ العوض المسمى، ولا نظر إلى العدد، ولا فرق بين أن يكون الزوج مالكاً للثالثة أو لاثنتين، ومهما حصلت الحرمة الكبرى، تعلق (4) به استحقاق تمام العوض. وإن لم تحصل الحرمة الكبرى يوزّع المال المبذول على [العدد] (5) المسؤول، ونُظر إلى ما أوقعه الزوج، فوجب بقسطه من العوض؛ نظراً إلى التوزيع الذي ذكرناه، ولا فرق بين أن تكون عالمة أو جاهلة.
وبيان ذلك -على قدر الحاجة إلى تمام التفريع- أنها لو سألت ثلاثاًً وكان الزوج يملك واحدة أو اثنتين، فاستوفى ما يملكه؛ فإنه يستحق تمام العوض. ولو كان يملك طلقتين مثلاً، فطلقها واحدة، استحق ثلث الألف؛ لأنه لم يحصّل الحُرمة
__________
(1) في الأصل: فمذهبها.
(2) تصرفه: الضمير يعود على المروزي، والمعنى بطل تصرفه في نص الشافعي، فلا يستقيم، ولكن بقي مذهبه في التفريق بين علم المرأة وعدمه.
(3) زيادة لاستقامة الكلام.
(4) في الأصل: وتعلّق.
(5) مكأنها بالأصل كلمة (المال) مضروباً عليها.(13/394)
الكبرى، فيوزع المبذول على العدد المسؤول، وهي قد سألت الثلاث، فلم يجبها إلا إلى واحدة. هذا [أصل] (1) النص.
وأما قاعدة مذهب المزني، فتوزيع البدل على العدد المسؤول أبداً، سواءٌ حصّل الزوجُ الحرمةَ الكبرى، أو لم يحصِّلها.
وأصل مذهب المروزي أنها إن كانت جاهلة، فالبدل موزع على العدد المسؤول كما قاله المزني. وإن كانت عالمة بأن الزوج لا يملك تمام المسؤول، فالعوض يقابِل معلومَها وإن علمت أنه لا يملك إلا واحدة، فالعوض في مقابلته. فإن علمت أنه يملك طلقتين يوزع البدل على ما علمته ملكاً للزوج. فإن طلقها بثنتين استحق التمام؛ فإنه استوفى جميع ما علمت. وإن طلقها واحدةً، وهو يملك اثنتين، استحق نصف البدل؛ توزيعاً على معلومها، لا على مسؤولها.
هذا بيان أصول المذاهب الثلاثة. ولم ينسب أحد من الأصحاب مذهبَ المزني إلى مذهب الشافعي ومتبعيه إلا الشيخَ أبا علي، فإنه حكى أن بعض الأصحاب رأى مذهب المزني تخريجاً ملحقاًً بالمذهب. وهذا متجه؛ [و] (2) في كلام المزني، ما يدل عليه؛ فإنه قال: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا، والذي يقتضيه الإنصاف تقديمُ تخريجه على تخريج غيره، فإذا كان تخريج ما ذكره على قياس الشافعي، فهو تخريج منه وقد يجانب مذهبُه الشافعيَّ ويخترع لنفسه مقالة؛ فإذ ذاك لا يُلحق بالمذهب.
8810- توجيه المذاهب: أما مذهب المزني، فوجهه ظاهر؛ فإنها إذا سألت الثلاث بالألف، فقد قابلت عدداً بمبلغٍ، فإذا لم يحصّل الزوج من العدد إلا بعضَه بَعُد أن يستحق تمامَ البدل المسمى. ثم أكد المزني ذلك وتشوف إلى تقدير سؤال وأجاب عنه، فقال: إن نظرنا إلى حصول الحرمة الكبرى، فليست هي حاصلة بالطلقة الثالثة، وإنما تحصل باستيفاء العدد، والاستيفاءُ لا ينحصر معناه على الثالثة، بل إنما يحصل بالطلقتين السابقتين وبالثالثة المنجّزة، وإذا لم يجبها إلى العدد، فلم يأت بما
__________
(1) في الأصل: هذا الأصل.
(2) (الواو) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(13/395)
هو مقتضى الحرمة، ومقتضى اللفظ مقابلةُ الألف بالثلاث.
وأما وجه النص، فهو أن الطلقات لا تُعنَى لأعيانها، وإنما الغرض الأحكامُ المرتبةُ عليها، والمقصود الأقصى منها الحرمةُ الكبرى، فإذا حصّلها الزوج بالطلقة الثالثة، فقد حصل تمام مقصودها، والعدد لعينه لا معتبر به، فإن الأموال إنما تقابل بمقاصدَ معقولةٍ.
فلا يبقى بعد ذلك إلا ما أورده المزني من إحالة الحرمة على الطلقات الثلاث، وقد يشبِّه المزني ذلك بإحالة السُّكر على الأقداح السابقة واللاحقة. وهذا موضع التثبت، [فللقدح الأول والأخير] (1) أثرٌ في العقل مخامرة وتخميراً. ولا يحصل بالطلقة الأولى من تحريم النكاح شيء، ولو فرض حصولٌ لا يتبعّض، وإذا شبه المشبه ما نحن فيه بتغريق السفينة بتثقيلها بكثرة الشِّحنة، وكلُّ قدرٍ يُغوِّص من السفينة قدراً، فلا نظر إلى هذه الأجناس، والذي نحن فيه ليس في معناها؛ فإن شيئاً من حرمة العقد لم يحصل، وإنما تحصل حرمةُ العقد خصلةً واحدةً -من غير ترتب وتبعّض- بالطلقة الثالثة.
ثم إذا وضح أن النظر إلى تحصيل المقصود، فالمناقشة في العلة لا معنى لها. وقد حصّل الزوج كلّ المقصود، وما كان حَصل من هذا المقصود شيء قبلُ.
وأما وجه مذهب المروزي، فهو أنها إن كانت جاهلةً، فقد ثبتت المقابلة على معادلة المسمى ما سألته من العدد، فيجب رعاية قصدها، وهي مقدورة. فأما إذا سألت الثلاث، والسؤال يتعلق بالاسقبال، فيستحيل حمل سؤالها على محالٍ، فيتعين حمله على المقصود الذي علمته.
وهذا ليس بشيء، وليس ينقدح إلا النص، ومذهبُ المزني؛ فإنه يجوز أن يقال: إذا علمت أنه لا يملك الثلاث، وسألت الثلاث، قصدت تنقيص المسمى، إذا استوفى الزوج ما يملك.
هذا بيان أصول المذاهب تمهيداً وتوجيهها.
__________
(1) ما بين المعقفين مكان كلمات مضطربة رسمت هكذا: " فلا قدح بل الآخر والأولة ".(13/396)
8811- ونحن نوضحها الآن بالمسائل الجليّة، ثم نأتي بعدها بالمسائل التي فيها بعض الغموض، ونختتم الفصل بمسائل أوردها صاحب التلخيص، ونذكر فيها ما ذكره الشارحون، إن شاء الله تعالى.
فنقول: إذا كان يملك عليها طلقة، فسألت ثلاثاًً بألف، فطلقها الثالثة؛ فإنه يستحق تمام الألف على النص، ويستحق ثلثه على مذهب المزني توزيعاً للبدل المبذول على العدد المسؤول، والمروزي يقول بمذهب الشافعي إن كانت عالمة، وبمذهب المزني إن كانت جاهلة.
وإن كان الزوج يملك عليها طلقتين، فسألت ثلاثاً بألف، فتفريع المسألة على النص أنه إذا طلقها الثنتين، استحق الألفَ بحصول الحرمة الكبرى، وإن طلقها واحدةً من الثنتين، استحق ثلث الألف توزيعاً للمبذول على العدد المسؤول؛ فإنها سألت الثلاث، ولم يحصّل الزوجُ مقصود الثلاث، ولم يوقع إلا طلقة واحدة.
وأما المزني؛ فإنه يقول: إن طلقها ثنتين، استحق ثلثي الألف، وإن طلقها واحدةً، استحق ثلث الألف؛ فإنه يوزع البدل على العدد المسؤول أبداً.
والمروزي يفصّل بين أن تكون عالمة أو جاهلة، ويقول: إن كانت جاهلة، فطلقها طلقتين، استحق ثلثي الألف، وإن كانت عالمةً فطلقها طلقتين، استحق تمام الألف، وإن طلقها طلقة، استحق نصف الألف؛ توزيعاً للبدل على معلومها لا على مسؤولها، فيكون مذهبه في حالة علمها وقد طلقت طلقةً واحدة مخالفاً للنص ومذهب المزني.
8812- ولو قالت: طلقني عشراً بألف وكان يملك عليها ثلاثاًً أو اثنتين أو واحدة.
فالتفريع على النص أنه إن حصّل الحرمة الكبرى، استحق تمام العوض المسمى، وإن لم يحصّل الحرمةَ الكبرى، بل طلّق واحدة من الثلاث، أو واحدة من اثنتين؛ فإنه يستحق عُشر البدل؛ توزيعاً له على العدد المسؤول. فإن كان يملك ثلاثاًً فطلق اثنتين استحق خمس البدل؛ لأن ما أتى به خمس العشرة.
وعلى مذهب المزني البدل يتوزع أبداً على العدد المسؤول، حتى لو كان لا يملك(13/397)
إلا واحدة، لم يملك بإيقاعها إلا عشر البدل، وإن حصلت الحرمة الكبرى.
وذكر الشيخ أبو علي في بعض مجاري كلامه أن المزني لا يوزع إلا على العدد الشرعي، فإن زاد السؤال، فالتوزيع مردود إلى الثلاث. وهذا فيه احتمال على مذهبه؛ فإن مذهبه مدارٌ على ركنين: أحدهما - رعاية المقابلة اللفظية، وهذا القياس يقتضي التوزيع على العشر فصاعداً، كيفما اتفق السؤال؛ نظراً إلى اللفظ. والركن الثاني - أنه يقول: الحرمة لا تحصل بالطلقة الأخيرة وحدها، بل تحصل [بها] (1) والطلقتين السابقتين، فعلى هذا لا يبعد رعايةُ الثلاث، والمنعُ من [تعدّيها] (2) في الاعتبار؛ فإن الحرمة الكبرى تتعلق في الثلاث على رأيه. وهذا وإن كان له اتجاه، فالمذهب المعروفُ به التوزيع على العدد بالغاً ما بلغ.
وأما المروزي، فإنه يبني مذهبه على العلم والجهل، ولا تكاد المرأة تجهل أن عدد الطلاق لا يزيد شرعاً على الثلاث، فنذكر السؤال على هذا التقدير: فإذا سألت عشراً، وكان الزوج يملك ثلاثاًً مثلاً، فالبدل موزع على الثلاث، فإنها منتهى العدد في علمها، فيقع التوزيع على معلومها، ويكمّل البدل باستيفائه تمام المعلوم.
وإن فرض فارض امرأة حديثة العهد بالإسلام، لم يبلغها العدد الشرعي في الطلاق، فإذا سألت عشراً على تقدير أن الزوج يملك ذلك، فالتوزيع يقع على مسؤولها.
ومن أصحابنا من تصرف على المروزي، وقال: إنما يؤثر جهلها إذا لم يتعدَّ الحصرَ الشرعي، فإن تعدته، فلا معوّل على جهلها. وهذا ضعيفٌ، ومذهبه أن جهلها مهما تُصوّر معتبرٌ في العدد الشرعي، وفي الزائد عليه.
فإن قيل: حكيتم على الجملة خلافاً (3) على طريقة المروزي والمزني في العدد الزائد على العدد الشرعي، وقطعتم باعتبار العدد الزائد على مذهب الشافعي، فما السبب فيه؟ قلنا: ما حكيناه أولاً من مذهب المزني، والمروزيِّ مزيفٌ، لا اعتداد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: قعد بها.
(3) في الأصل: حكيتم على الجملة أنه خلافاً.(13/398)
بمثله. ثم له (1) وجه على المذهبين، أما مذهب المزني، [فمعوّله] (2) أن الحرمة تناط بالثلاث، وهذا يوجب حصره النظر في الثلاث.
والمروزي إنما يحصر اعتبار الجهل فيما يفرض جهله، وما يندر جهله لا معوّل عليه.
أما إذا فرعنا على النص [فالتعويل] (3) على شيئين: أحدهما - تحصيل الحرمة الكبرى، وهي المقصود، فإذا لم تحصل الحرمة، فلئن قيل: الزائد على الحرمة لغوٌ، فالمرأة قابلت المال بالثلاث. وبالزائدة (4) عليها، فليقع نظر الفقيه في مقابله، وليعتقد أنه إذا ألغى مقابل المال، لغا المال، وهذا المعنى يوجب التقسيط على المقصود لا محالة، وهذا التقسيط لضبط [المذهب] (5) وإلا فالتقدير إسقاط سبعة أعشار الألف بطريق الإلغاء، فلا تبقى إلا ثلاثة أعشار، فيثبت بالواحدة عشر، وبالثانية عشر آخر، وبالثالثة التمام لحصول الحرمة الكبرى، وكأن الألفَ على حصول المقصود، ويتطرق الإلغاء إليه دون المقصود.
فهذا تفريع جليات المسائل على أصول المذاهب.
8813- ونحن الآن نأخذ في المسائل الغامضة، فنقول: إذا قالت: طلّقني ثلاثاً بألف، وكان يملك عليها ثلاثاًً، فقال في جوابها: أنت طالق واحدةً بألف واثنتين بغير شيء، فتلحقها الطلقة الأولى، وتبين بها، ولا يقع الأخريان؛ لأنها تصير مختلعة بالأولى، والمختلعة لا يلحقها الطلاق. هذا ما ذكره الصيدلاني والقاضي، والأئمة المعتبرون في المذهب.
وفي المسألة إشكالٌ لا دفع له، وذلك أنها لما سألت الثلاثَ بألف، فقد سألت كل طلقة بثلث ألف، وقد قال الزوج في جوابها: أنت طالق واحدة بالف، فلم يقع
__________
(1) له: الضمير يعود على الخلاف.
(2) في الأصل: فمعلوله.
(3) في الأصل: والتعويل.
(4) وبالزائدة: أي الطلقات الزائدة على الثلاث.
(5) في الأصل: مذهب.(13/399)
كلامه على موافقة تقديرها، وعلى مقتضى مقابلتها، وإذا خالف كلامُ الزوج استدعاءَ المرأة، لم يكن كلامه إسعافاً، وإذا أظهر الزوج خلافاًً، صار مبتدئاً غير مجيب، فالذي يقتضيه القياس الحقُّ أن الطلقة الأولى لا تقع؛ لأنه ربط وقوعها بالتزام الألف، ولم يسبق من المرأة استدعاء ذلك، ولم تقبل أيضاًً الألف على حسب قوله بعد قوله (1) ، وإذا لم تقع الطلقة الأولى، وقعت الطلقتان الأخريان رجعيتين. هذا هو الذي لا يجوز غيره، وإذا كان الكلام على مقتضى لفظٍ، وهو على حسب ما ذكرناه قطعاً ولم نصادف على مخالفته نصاً، فلا وجه للتماري في التعلّق بالحق.
هذا منتهى المراد في ذلك، نقلاً واستدراكاً.
والذي ذكره الأصحاب أن الطلقة الأولى تقع بثلث الألف، وتصير المرأة مختلعة، وهذا على نهاية الخبط (2) والفساد.
8814- ولو قالت: طلقني ثلاثاًً بألف، فقال: أنت طالق طلقة مجاناَّ بلا عوض، وطلقتين بألف درهم. فنقدم على المسألة تجديد العهد بأن الرجعية هل تُخالع؟ وفي ذلك قولان: أصحهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن مخالعتها تصح؛ فإنه إذا كان يلحقها الطلاق بلا عوض يلحقها الطلاق بالعوض.
والقول الثاني - أن الطلاق بالعوض لا يلحقها، وهو منصوص عليه في القديم.
وهذه المسألة مفرعة على هذا الأصل، ونحن نصوّرها على وجهٍ لا يلحقها غائلة، ونعيد تصوير الأولى على حسبها حتى يتبين الغرض في النفي والإثبات، ثم نعود إلى ما في المسألة من غائلة، فنقول: إذا قالت: طلقني ثلاثاًً بألفٍ، فقال الزوج: طلقتك واحدة بثلث الألف، واثنتين مجاناً، فتقع الواحدة بثلث الألف، فإن الزوج موافق فيها موجب استدعاء زوجته، ولا تلحق الطلقتان بعدها؛ فإنها صارت مختلعة.
__________
(1) على حسب قوله بعد قوله: أي أن قوله صار ابتداء إيجاب يستدعي منها قبولاً بعده. (2) خالف الإمام أئمة المذهب كما رأيتَ، وقد استقرّ المذهب على رأي الإمام، فقد قال الرافعي والنووي عن كلام الإمام: " حسن متجه " وقالا عن رأي أئمة المذهب: " إنه بعيد " (ر. الشرح الكبير: 8/454. والروضة: 7/420) .(13/400)
ولو قال في جوابها وسؤالها كما مضى: أنت طالق واحدةً مجاناً بلا عوض، واثنتين بثلثي الألف. فهذا يخرّج على أن الرجعية هل تخالع؟ فإن قلنا: إنها تخالع، ثبت ثلثا الألف، وإن قلنا: إنها لا تخالع، فلا يثبت للزوج شيء من المال، ثم إذا لم يثبت المال، فالذي قطع به الأصحاب وقوع الطلاق من غير عوض. وهذا من الأصول، فليتنبه له الناظر، وليقف عنده؛ فإنا نبتدىء فنقول:
من طلق امرأته طلقةً رجعية، وقلنا: الرجعية لا تخالع، فإذا قال لها: أنت طالق على ألف درهم، فقالت: قبلت، فالطلاق يقع رجعياً؛ فإنه إن كان لا يلحقها الطلاق بعوض يلحقها الطلاق بغير عوض، فتصير الرجعية في هذا المقام كالمبذرة السفيهة. وقد نص الشافعي وأطبق الأصحاب على أن الزوج إذا قال لامرأته السفيهة المبذرة: أنت طالق على ألف درهم، فقالت: قبلت، فالطلاق يقع رجعياً.
ولا شك أن الرجعية في المعنى الذي ذكرناه بمثابة المبذرة، إذا تُصوِّر تطليقُها من غير عوض، وقد وُجد القبول منها على صيغةٍ واحدة، وهما من أهل العبارة، بل عبارة الرجعية إذا لم تكن مبذرة أولى بالصحة.
فإن عاود معترضٌ، وأبدى إشكالاً ينعكس على السفيهة، كان كلاماًً في غير موضعه. ثم الذي عليه التعويل في السفيهة أن الطلاق على صيغة المعاوضة يعتمد صورة القبول، ولا يعتمد اللزوم، والدليل عليه أنه إذا قال لامرأته المُطْلَقة (1) : أنت طالق على زِقِّ خمر، فقالت: قبلت، وقع الطلاق، والمقبول لا يلزم. ولو التزمت مهر المثل في مقابلة قول الزوج، لم يقع شيء، فاستبان أن التعويل في وقوع الطلاق على التوافق في القبول، على شرط صحة العبارة. وسنُجري مسألة السفيهة بعد ذلك [ونزيدها] (2) كشفاً، والغرض المنتجز الآن تشبيه الرجعية بالمبذرة. وهذا واقعٌ لا رفع له.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنها إذا قالت: طلقني ثلاثاًً بألف، فقال: طلقتك واحدة بلا عوض، وطلقتين بثلثي الألف، فلا خلاف في وقوع الثلاث، ولكن إن
__________
(1) " المطلقة " أي غير المحجور عليها، فهي هنا في مقابلة السفيهة.
(2) في الأصل: وندبرها.(13/401)
صححنا [مخالعة] (1) الرجعية، وقعت الطلقتان الأخيرتان بثلثي الألف، وإن منعنا مخالعة الرجعية، وقعت الطلقات الثلاث من غير عوض؛ فإن الأولى وقعت رجعية، ثم امتنع بعدها ثبوت العوض.
هذا تفصيل القول مع فرض المسألة من غير غائلة.
8815- فأما إذا سألت ثلاثاًً بألفٍ، فقال: أنت طالق واحدةً مجاناً، واثنتين بالألف، فإن جوزنا مخالعة الرجعية، فالوجه القطعُ بثبوت الألف، ولا حكم لما في لفظه من مخالفة المرأة؛ فإنها قابلت الثلاث بالألف، وقابل هو طلقتين بالألف، والسبب فيه أنه حصّل الحرمة الكبرى، وقد ذكرنا أنه إذا حصلها، فلا نظر إلى العدد، وهذا حكم النص، وعليه التفريع.
فإن فرع مفرّع المسألة على مذهب المروزي في حاله، فينقدح في هذه الصورة ألا تقع الطلقتان على موجب القياس الذي ذكرناه، من جهة مخالفة الزوج استدعاءها، وليست هذه المسألة بمثابة الأولى؛ فإنها مفروضة فيه إذا طلق الطلقة الأولى بالألف، مع العلم بأن الأولى لا تفيد الحرمة الكبرى، فاتجه فيها القياس الذي ذكرناه، من جهة [مخالفة الزوج استدعاءها] (2) وإن كان مذهب الأصحاب على مخالفته.
8816- ومما نفرعه أن المرأة إذا قالت: طلقني واحدة على ألف، فقال: أنت طالق ثلاثاًً، قال الشافعي في هذه المسألة: طلقت ثلاثاً وله الألف. وقال أبو حنيفة (3) : لا يستحق عليها شيئاً، وأبو يوسف ومحمد مع الشافعي.
معتمد المذهب أنه أجابها إلى ما سألت، وزاد. ولم يخالف أبو حنيفة في أنها إذا سألت ثلاثاً بالألف، فطلقها واحدةً، استحق ثلث الألف، وهذا أقرب إلى مخالفتها. وما ذكرناه فيه إذا قال: أنت طالق ثلاثاًً في مقابلة قولها: طلقني واحدة.
فإذا لم يُعد الزوج ذكرَ المال، فالجواب كما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: المخالعة.
(2) في الأصل: مخالعة الزوج استدعائها.
(3) ر. المبسوط: 6/182، وحاشية ابن عابدين: 2/562.(13/402)
وإذا قالت: طلقني واحدةً بألف، فقال: أنت طالق ثلاثاً بألف، أو على ألف، فهذا موضع التردد؛ من قِبَل أنها قابلت واحدةً بألف، فقابل الزوج في جوابها ثلاثاًً بألف، فاقتضى ما جاء به الزوج مقابلة طلقة بثُلث الألف، فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب وقوع الثلاث [و] (1) استحقاق الألف كالصورة الأولى، وهي إذا لم يُعد الزوج ذكرَ المال؛ ووجهه أنه أتى بما سألت وزاد.
[و] (2) في بعض التصانيف عن القفال أن الثلاث تقع، ويستحق الزوج ثلث الألف؛ لأنها رضيت بواحدة على العوض، ولم يثبت العوض إلا على مقابلة ملك الواحدة، ولكن لا ترتّب في الطلقات حتى يقال: ثبت الطلاق بمالٍ، ولم [يلحقه] (3) غيرُه.
وفي هذا التصنيف وجهٌ آخر، وهو أنه يقع طلقة واحدة فحسب؛ لأن التوافق لم يقع إلا على طلقة واحدة، والزوج قابل الطلقتين الأخريين بمالٍ، والمرأة لم تقبله، وهذا والذي حكاه عن القفال ليسا بشيء؛ إذ لوْ صحّ هذا المسلك، لوجب أن لا يقع شيء؛ من قِبل أنه قابَل كلَّ طلقة بثلث الألف. وهذا يخالف استدعاءها.
8817- ولو قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف، فقال: أنت طالق واحدة بثلث الألف، لم يقع شيء؛ فإن الاختلاف [بين] (4) الإيجاب والقبول لا فرق فيه بين الزيادة وبين النقصان.
ولو قال الرجل: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال: اشتريته بألفين، لم ينعقد البيع، ولم نقل: أتى بالألف وزاد فلغت الزيادة، فلو كانت المسألة التي نحن فيها تخرّج على القاعدة التي شبَّب بها هذا المصنف حكايةً عن القفال، لوجب المصير إلى أنه لا يقع شيء، ثم كان لا يفرّق بين أن يعيد الزوج ذكرَ الألف وبين أن يذكرَ
__________
(1) (الواو) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: (في) بدون واو.
(3) في الأصل: يلحق.
(4) في الأصل: من.(13/403)
الألفَ إذا [طلق] (1) ثلاثاًً؛ فإنه وإن لم يُعد ذكرَ الألف، [فهو] (2) معادٌ ضمناً، وعلى هذه القاعدة تثبت الأعواض.
فإن قال قائل: فما الجواب [فيما] (3) شبّبتم به في إعادة الألف، وفي السكوت عنه؟ قلنا: خروج المسألة على أنه إذا طلقها ثلاثاًً، فقد حقق غرضها، فلا نظر بعد ذلك إلى شيء.
وهذا مشكلٌ في صورةٍ سَهْلُ المحتمل في الأخرى، فأما الصورة السهلة، فهي إذا طلقها ثلاثاًً؛ فإنه استوفى ما عنده، وصارت الحرمة الكبرى في حكم الخَصْلةِ الواحدة، فلا تقسيم ولا تبعيض بعد حصولها، وكانت سألت فُرقةً مخففة، فأجابها مغلظة، وينقدح عليه عكس هذه الصورة.
وأما الصورة التي فيها عسر هي (4) إذا قالت: طلقني واحدةً بألف، فقال: أنت طالق ثنتين بألف، فلم يتحقق في هذه الصورة حرمةٌ مغلّظة، نتّبعها ونترك العدد، والمقابلة تختلف في الصورة ويترتب على اختلافها اختلاف الاستدعاء والإجابة، ولم ينص أصحابنا على هذه المسألة بعينها، ولكن قياس كلامهم القطعُ بوقوع الطلقتين.
وينقدح عندي في هذه الصورة مذهب أبي حنيفة، فليتأمل الناظر مواقف الكلام ومواقع الأشكال.
8818- وقد انتهى ما أضمرناه من تفريع المسائل الغامضة على القواعد المقدّمة.
ونحن نذكر بعدها ما يتعلق بكلام صاحب التلخيص (5) من الزوائد -والله المستعان.
فمما ذكره أن المرأة إذا سألت طلقتين [أو ثلاثاً وهو لا يملك] (6) إلا الواحدة،
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة هكذا (قلق) .
(2) في الأصل: وهو.
(3) في الأصل: كما.
(4) نذكر أن سقوط الفاء في جواب (أما) لغة كوفية، جرى المؤلف عليها غالباً.
(5) ر. التلخيص لابن القاص: 511.
(6) عبارة الأصل: طلقتين ثلاث وهو لا يحلل إلا الواحدة.(13/404)
والتفريع على النص، وقال الزوج في جوابها: طلقتك اثنتين [الثانية منهما] (1) بألف، فلا يستحق من العوض شيئاً؛ فإنه عرَّى الطلقة الأولى عن العوض، وكان لا يملك غيرها. وقد أتى بذكر الطلقتين أولاً على صيغةٍ تقتضي الجمع، ثم جاء بها تقتضي الترتيب؛ إذ ذَكرَ الثانية، ومن ضرورة الثانية أولى، وهذا لائح، فإن قال في جوابها: أنت طالق اثنتين الأولى منهما بألفٍ، استحق تمام الألف، ولغا تقدير الطلقة الثانية.
وكل ذلك يخرّج على أنا لا نرعى العدد مع تحصيل الحرمة الكبرى.
ولو سألت طلقتين، وهو لا يملك إلا واحدة، فقال في جوابها: أنت طالق طلقتين، ولم يتعرض لذكر المال وتقديرهِ المقابلةَ، ولما راجعناه، قال: لم يكن لي نية تقدير مقابلة، ولكني زدتُ على ما أملك لفظاً، فكيف السبيل فيه؟ نقول أولاً: لو نوى صرفَ الألف إلى [الأولى] (2) استحق تمام العوض، [أما] (3) لو لفظ أو نوى صرف الألف إلى الثانية -كما صورناه أولاً- لم يستحق شيئاً.
وإذا قال: لم يكن لي نية، فقد ذكر الشيخ وجهين: أحدهما - أنه لا يستحق شيئاً؛ فإنه يجوز تقدير الأمر على وجهِ لا يستحق شيئاً، ويجوز خلافه، [والأصل] (4) براءة الذمة.
والوجه الثاني - وهو اختيار [أبي زيد] (5) المروزي أنه يستحق تمام العوض لتحصيل الحرمة الكبرى؛ فإنه لم يأت بما يناقض استحقاقَ العوض. وهذا هو الصحيح.
والذي يقتضيه كلام الشيخ أنه لو قال: نويت مقابلة الثانية بالعوض لا يستحق.
وهذا فيه نظر عندي، فإنه إذا لم يتلفظ بهذا، ولفظه للجمع، فلا يختلف مقتضاه الصريح بنية باطلة.
__________
(1) في الأصل: الثالثة منها.
(2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) فىِ الأصل: كما.
(4) في الأصل: والوجه.
(5) مكان كلمة غير مقروءة في نسخة الأصل. وأبو زيد المروزي غير أبي إسحاق المروزي الذي سبق مذهبه آنفاً.(13/405)
ومما ذكره من هذا الجنس أنه لو كان يملك طلقة كما صورنا، فقالت المرأة: طلقني اثنتين بألف، فقال في جوابها: طلقتك اثنتين بألف، فقابل الأولى في لفظ بهما، والتفريع على مذهب الشافعي ونصه، قال الشيخ: اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: يستحق تمام الألف، وهو الصحيح؛ فإن الحرمة الكبرى مهما حصلت، لم يبق بعد حصولها نظر إلى تفصيل المقابلة، وكما لا يعتبر التوزيع على ما سألت إذا أجيبت إلى الحرمة الكبرى، فلا يعتبر التوزيع على ما لفظ الزوج به.
ومن أصحابنا من قال: لا يستحق إلا نصف العوض، وهو خمسمائة؛ فإنه قابل الطلقة المملوكة بخمسمائة، فلا يستحق أكثر منها.
وهذا ساقط مع حصول الحرمة الكبرى، كما قدمنا. وليس كما لو قالت: طلقني اثنتين بألفٍ، وكان يملك ثلاثاًً، فقال: طلقتك واحدة بخمسمائة؛ فإن تلك الواحدة تقع بالخمسمائة؛ إذ ليس فيها تحصيل الحرمة الكبرى.
8819- ومما فرعه أن المرأة لو سألت طلقة بألف، وكان الزوج يملك عليها ثلاثاًً، فقال في جوابها: أنت طالق وطالق ثم طالق، نُراجعه. فإن قال: أردتُ مقابلة الألف بالطلقة الأولى، فلا يلحقها بعدها طلاق. فإذا [قال:] (1) أردت [إيقاع] (2) الطلقة الأولى بلا عوض، [وإيقاع] (3) الثانية بالألف، ثم إيقاعَ الثالثة، فهذا يخرّج على مخالعة الرجعية، فإن قلنا: يلحقها الطلاق بالعوض، طُلّقت طلقتين الأولى بغير عوض، والثانية بالألف، ولا تقع الثالثة. وإن قلنا: الرجعية لا تخالع، لم يستحق الزوج من العوض شيئاً، [وطلقت] (4) المرأة ثلاثاً بناء على أن الرجعية إذا خولعت، وقلنا: لا يصح مخالعتها، فيقع الطلاق من غير عوض، قياساً على السفيهة.
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: ارتفاع.
(3) في الأصل: فإيقاع.
(4) في الأصل: فطلقت.(13/406)
ولو قال الزوج: أردت بالطلقة الأولى والثانية رجعتين بلا عوض، [وأردت] (1) مقابلة الثالثة بالعوض، فالذي ذكره الأصحاب أن ذلك يخرّج على القولين في مخالعة الرجعية، وهو بيّن لائح. فإن جوّزنا مخالعتها، وقع الطلاق، واستحق الزوج الألف كَمَلاً، وإن منعنا مخالعة الرجعية، وقع الثلاث، ولم يستحق الزوج شيئاً.
وقال الشيخ أبو علي في الشرح: إذا طلق الرجل امرأته طلقتين، وجرت في عدة الرجعية، فخالعها على الثالثة، صحت المخالعة على الثالثة قولاً واحداً؛ فإنه يتعلق بها مزيد فائدة، وهي الحرمة الكبرى، وإنما القولان في مخالعتها بالطلقة الثانية، وهذا تفصيلٌ لم أعرفه (2) ، ولم أره إلا له، وليس فيه كبير معنى؛ فإن الخلع بالطلقة [الثانية] (3) يفيد البينونة وبتَّ النكاح، فإذا لم يصحح الخلع مع ذلك، فأي أثر للحرمة الكبرى في التصحيح.
8820- ثم إن صاحب التلخيص أتى بكلام مضطرب، وأعاد صوراً أجاب فيها بخلاف ما سبق من جوابه في أعيانها، فكانت هذه المسألة معروفةً بكثرة عثراته، ونحن لا نذكر ما لا يفيد معنى ولا يجدي فقهاً، فالذي يتعلق به -على كل حال- شيٌ أنه قال: إذا [كان] (4) الرجل يملك طلقة واحدة، فسألت المرأة ثلاثاًً، فقال في جوابها: أنت طالق ثلاثاً، قال: يثبت الرجوع إلى مهر المثل، وقد سألت الطلاقَ الثلاثَ بالألف (5) ، ولم يتعرض لهذا الكلام فيما تقدم، بل أطلق ما أطلقه الأصحاب من ثبوت البدل المسمى إذا [حصلت] (6) الحرمةُ الكبرى، واتفق معظم الأصحاب على
__________
(1) في الأصل: فأردت.
(2) خالف ابنُ أبي عصرون الإمامَ في هذا، حيث قال معقباً: "قلتُ: إن غَرُبَ هذا القولُ عنده، فهو معروف عند أهل العراق، وأما أثره، فظاهرٌ؛ فإنها تقصد بالعوض تأكيد البينونة، وحصولُها بالثالثة آكد لا محالة، وإنما جاء الخلاف في الثانية؛ لأنها لا تفيد إلا الحرمة وقد حصلت بالرجعة الأولى" ا. هـ.
(3) في الأصل: "الثالثة ". وهو خطأ لا يستقيم الكلام معه.
(4) في الأصل: قال.
(5) ر. التلخيص لابن القاص: 512.
(6) في الأصل: جعلت.(13/407)
تغليطه في إثبات مهر المثل، وتناقضُ كلامه بيّنٌ لا حاجة إلى تكلفٍ في إيضاحه. قال الشيخ أبو علي: وجدت نسخاً من التلخيص أصلح فيه ذكر مهر المثل [وحذفه] (1) .
ووجدتُ (2) لبعض الأصحاب وجهاً غريباً أنها إذا سألت ثلاثاًً والزوج لا يملك [إلا] (3) واحدة أو اثنتين، فحصّل الحرمة الكبرى بإيقاع ما يملك -أن البدل المسمى يسقط، والرجوع إلى مهر المثل؛ لما حصل من الاختلاف بين القولين، والمسمى إنما يثبت عند التوافق المحقق؛ ولا سبيل إلى تعرية الحرمة الكبرى عن العوض؛ فكان الرجوع إلى مهر المثل.
وهذا ليس بشيء، وبأمثاله تختبط أصول المذهب. وأنا لم أذكره وأنا أسوق ترتيبَ المذهب، وأخّرت ذكره؛ حتى لا يعدّ من المذهب.
وقد [انتهى] (4) هذا الأصلُ العظيم من الخلع مشتملاً على أكمل البيان، منبهاً على مواقع الإشكال، وإلى الله الابتهال في الإكمال.
فصل
قال: "ولو بقيت له عليها طلقة، فقالت: طلّقني ثلاثاً بألف، واحدةً أحرم بها عليك ... إلى آخره" (5) .
8821- إذا كان الرجل يملك طلقة واحدة، فقالت المرأة: طلقني ثلاثاً واحدةً أحرم بها، وثنتين إن نكحتني، فقد ذكر أصحاب القفال صورتين: إحداهما - أن تستدعيَ منه ثلاثَ طلقات بألفٍ: واحدةً تنجز الحرمة، واثنتين يلتزمهما في الذمة إذا نكحها يوماً، نجّزهما. هذه صورة.
فإذا نجّز الطلقة التي يملكها، والتزم طلقتين، فالذي ذكره الأئمة المراوزة أن
__________
(1) غير مقروءة في الأصل، والمثبت من (صفوة المذهب) .
(2) ووجدتُ: هذا كلام الإمام، وليس حكاية كلام الشيخ أبي علي.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(5) ر. المختصر: 4/59.(13/408)
الطلاق المنجز ينفذ بالمال، ولكن المسمى لا يثبت، والرجوع إلى مهر المثل.
والسببُ فيه أنها قابلت المال بتنجيز والتزامٍ في الذمة، والتزامُ الطلاق في الذمة فاسدٌ، فشرطه فاسد مفسد؛ وإذا فسدت صيغة العقد والطلاقُ المنجَّز لا مردَّ له، وقد تثبت المالية، فينحصر [أثر] (1) الفساد الواقع في صيغة العقد في المال المسمى. وهذا النوع من الفساد يوجب الرجوع إلى مهر المثل، على ما سنعقد في ذلك فصلاً جامعاً لمحل الخلاف والوفاق.
ثم لو فرض نكاحٌ، فلا شك أن الزوج لا يطالَب بالوفاء بما التزمه من الطلاق؛ فإنا أفسدنا الالتزامَ، ولو وجب الوفاء، لصح الالتزام.
8822- الصورة الثانية: أن تقول: طلقني الواحدة التي تملكها، وعلّق طلقتين إن نكحتني يوماً ولك ألف، فإذا نجّز ما ملك، وعلق الطلقتين، كما استدعت، فالتعليق مردود، فإنه تعليقٌ للطلاق قبل النكاح، وصيغة استدعائها فاسدة [و] (2) الرجوع إلى كمال مهر المثل، كما ذكرناه في الصورة الأولى المشتملة على التزام الطلاق بدل التعليق. فهذا منتهى ما بلغنا من قول أصحاب القفال.
8823- وذكر صاحب التقريب في المسألتين طريقةً أخرى حسنةً، فقال: قد جمعت المرأة بين طلاقٍ يصح الاعتياض عنه، وبين طلاقين لا يصح الاعتياض عنهما، وقابلت الكلَّ بعوض، فالوجه تخريج ذلك على تفريق الصفقة، ولو جمع الرجل في صفقة واحدة بين عبد يملكه، وعبدٍ مغصوب أو حُرٍّ، وفسد العقد في المغصوب أو الحر، ففي فساده في المملوك قولان، فليكن الأمر كذلك في الطلاق.
فإن قلنا بصحة تفريق الصفقة، فيصح الخلع متعلّقاً بالمسمى في الطلاق المنجز.
وإن حكمنا بالفساد لم يُرَدّ الطلاق، ولكن نحكم بفساد ما يقابله من المسمى، ثم نفرِّع عليه أنا إذا صححناه، فللمرأة الخيار، بسبب تبعّض المقصود صحةً وفساداً.
فإن أجازت، فبكم تجيزه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تجيز بتمام المسمى. والثاني
__________
(1) في الأصل: بأثر.
(2) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.(13/409)
-أنها تجيز بقسطٍ، فيلزمها ثلثُ المسمى، والطلقات في حكم التوزيع متساويةً بلا خلاف بين الأصحاب. وإن فسخت، ارتد البدل بجملته إليها، وكان الرجوع إلى مهر المثل في المذهب الظاهر.
وكل ما ذكرناه تفريع على تصحيح تفريق الصفقة، وإن أفسدناها، فالرجوع إلى مهر المثل، لا غير، كما حكيناه عن الأولين.
وهذا الترتيب حسن، لم يتعرض القفاليون إليه، ذكره صاحب التقريب، وأورده العراقيون على هذا الوجه.
فإن قيل: إذا [لم تصححوا] (1) باب التفريق، فهلا قلتم: إنا وإن أفسدنا الصفقة بسبب التفريق، فلا يلزمها إلا قسط من المسمى؟ قلنا: هذا ليس بشيء، فإنا إذا أفسدنا العقد، ولزم الرجوع إلى المال، فالوجه الرجوع إلى قيمة ما فات على الزوج، وقيمة ما فات على الزوج مهر المثل، ولو [عُدْنا] (2) إلى أعداد الطلقات والتوزيع عليها، لكان هذا حكماً بالصحة، وقضاءً بثبوت المقابلة، وهذا ظاهر، ولكني لا أرى التبرّم بذكر الظواهر في الكتب المنعوتة بالإشكال.
فإن قيل: هل تتوجه طريقة القفالين بشيء؟ قلنا: أجل، وجهُهُ أن الطلاق الملتزمَ في حكم ما لم يحصل (3) ، ولا يقدّر مضموماً إلى غيره، حتى يخرّجَ على قاعدة التفريق، ولا وقع له إلا من جهة تنزيله فاسداً مفسداً.
8824- ومما يهجِس في القلب تقويةُ الصحة على نص الشافعي، فإن المرأة لو سألت ثلاثاً وكان الزوج لا يملك إلا واحدةً، فطلقها [تلك] (4) الواحدة، فإنه يملك تمام المسمى من غير حكمٍ بتقسيطٍ ولا فسادٍ؛ [نظراً] (5) إلى تحصيل الحرمة
__________
(1) في الأصل: إذا صححتم.
(2) في الأصل: قدرنا.
(3) عبارة الأصل: ما لم يحصل به ولا يقدر مضموماً.
(4) مكان كلمة غير مقروءة.
(5) في الأصل: ينظر.(13/410)
الكبرى، فإذا كنا نُحبط أثر سؤالها في طلقتين، ونصحح البدل المسمى ونُثبته، فإلغاءُ سؤالها التزامَ طلقتين أو تعليقَهما أولى.
ويجب أن يخرّج على هذا القياس ثبوتُ البدل المسمى، وإن أفسدنا البدلَ، و [قلنا] (1) : الرجوعُ إلى مهر المثل، اتجه ما [ذكره] (2) في شرح التلخيص من الرجوع إلى مهر المثل إذا سألت الطلاق [ثلاثاًً] (3) والزوج لا يملك إلا واحدة أو اثنتين.
فليتأمل الناظر ذلك يرشُد.
8825- ومن بقية الكلام في المسألة أنا إذا جرينا على طريقة المراوزة، ورأينا إفساد المسمى والرجوعَ إلى مهر المثل، فلو نجّز الطلقة التي يملكها، ولم يسعفها بالتزام طلقتين، ولا بتعليقهما، فكيف الوجه؟ هذا مُتَرَدَّ؛، فليتأمله الناظر، فإن قلنا: لا أثر لإسعافه بذكر الالتزام والتعليق، فكلاهما في حكم اللغو المطَّرح، ويجب على مساقه إثبات البدل المسمى على الصحة، نظراً إلى ما حصل من الحرمة الكبرى.
وإن قلنا: لا بد (4) أن يذكر الزوجُ الالتزام أو [التعليق] (5) ، فيجب أن يقال: إذا لم يفعل، فتقع الطلقة الثالثة (6) [بلا عوض] (7) ، وهذا بعيد جداً. وإن قيل: يجب [بما] (8) نجّز ثلثُ العوض، فهذا تصحيح [التفريق] (9) وهو خوضٌ في طريق صاحب التقريب في تفريع التفريق، إجازةً وفسخاً، وصحة وفساداً.
8826- فإذاً اتجه في الصورتين المذكورتين في الفصل ثلاثُ طرق: أحدها- طريقة التفريق.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " ذكره ".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: ولا بدّ (بزيادة واو) .
(5) في الأصل: تعلّق.
(6) الثالثة: أي التي يملكها.
(7) في الأصل: فلا عوض.
(8) في الأصل: ما.
(9) زيادة من المحقق.(13/411)
والأخرى - تصحيحُ المسمى، وإلغاءُ التعرض للزائد على الطلقة المملوكة، والاكتفاءُ بتحصيل الحرمة؛ تخريجاً على النص في أن الزوج إذا [كان] (1) يملك واحدةً والتمست المرأة ثلاثاًً، فلا نظر إلى التماسها، والتعويلُ على تحصيل الحرمة.
والطريقة الثالثة - لأصحاب القفال: وهي القطع بإفساد المسمى، وحملُ ما جاءت به على شرطٍ فاسد مفسد. وهذه الطريقة هي التي تصح على السَّبْر.
والفصلُ بين ما نحن فيه وبين استدعائها ثلاثاًً والزوج يملك واحدة أنها لم تُظهر مقصوداً مرتقباً، وإنما طلبت أمراً ناجزاً، ومقصودُها تحصيل الحرمة الكبرى. وفي مسألتنا طلبت الحرمة الكبرى، ورامت وراءها أمراً مرتقباً معلقاً، أو ملتزماً، ففسد قصدُها، وهو معقول، وليس ما أبدته مما ينضم إلى ما طلبته في الحال، حتى يلحق بالتفريق، ولا وجه لإلغائها، فكان مؤثراً في إفساد الصيغة.
ثم إذا ذكرت اشتراط الالتزام [أو] (2) التعليق، فالوجه بعد المباحثات القطعُ بأنا لا نشترط أن يتلفظ بالتزام أو تعليق؛ فإنهما فاسدان، ولا معنى لاشتراط الإتيان بالفاسد، وليس كما لو علق طلاقاً بأمر يفسد من جهتها؛ فإنه لا بد لها من الإتيان به لتطلّق؛ فإن تعليق الطلاق بما يفسد في نفسه صحيحٌ في ذاته، فخرج [أنها] (3) إذا اشترطت الالتزام أوالتعليق، فطلقها الزوج الطلقة التي يملكها، كفى ذلك والرجوع إلى مهر المثل.
فصل
قال: "ولو خالعها على أن تكفل ولده عشر سنين ... إلى آخره" (4) .
8827- هذه المسألة عدها بعضُ الناس من مُعْوصات الخلع، وليست منها، وهي في التحقيق متلطفة (5) في الكتاب، وفي مثلها أوثر قبضَ الخُطَى في البيان، والإحالةَ
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: والتعليق.
(3) في الأصل: منها.
(4) ر. المختصر: 4/59-60.
(5) كذا: وربما كان صوابها (متطفلة) .(13/412)
على الأصول، وهي في التحقيق مبنية على الاستئجار على الإرضاع والحضانة، وأن الصفقة إذا جمعت عقدين مختلفي الحكم كالبيع والإجارة، ففي صحة الصفقة خلاف.
ومما يجرى في أركان المسألة أن السَّلم في شيء واحد إلى [آجال] (1) هل يجوز؟ وفيه قولان. وكذلك السلم في أصنافٍ إلى أجل واحد فيه قولان؟ وجملة هذه الأصول سبقت مقررة في مواضعها، ونحن نكتفي بالإحالة عليها إذا تعلقت أطراف الكلام بها.
8828- ومما يجرى في المسألة [أن] (2) من استأجر امرأة لترضع له مولوداً عيَّنه، فلو مات ذلك المولود في أثناء مدة الرضاع، فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه نظر. فإن كانت أجنبية منه، ففي فسخ الإجارة [واستبقائها] (3) ، وجواز الإتيان بولد آخر تفصيلٌ طويل، ذكرته في أول كتاب الصداق، فيه إذا استأجر رجل خياطاً حتى يخيط له ثوباً معيناً، أو حتى يعلّم له صبياً، فإذا فات المحل الذي تضمنت الإجارة إيقاعَ العمل فيه، ففي انفساخ الإجارة الخلاف المقدم. فإن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ لفوات المحل الذي تقع فيه، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ، فلو كانت المستأجرة أمَّ الرضيع، فإذا مات الرضيع، ففي انفساخ الإجارة قولان: أحدهما - وهو الأقيس أنها لا تنفسخ، كما لو كانت أجنبية من الرضيع.
والثاني - أنها تنفسخ؛ فإن الغرض يختلف في درور اللبن [ونكادته] (4) وكل ذلك
__________
(1) في الأصل: إلى الأجل. وهو خطأ واضح؛ فإن ذلك ليس محل خلاف. وإنما الكلام في إطعام الطفل إلى سنوات أي آجالٍ. وعبارة العز بن عبد السلام: "وأسلم في جنسين إلى أجل وأجناسِ إلى آجال". (ر. مختصر النهاية: 4/122) وعبارة الرافعي عن الصورة، "تتضمن عقدين مختلفين؛ فإن السبيل في الإرضاع والحضانة سبيلُ الإجارة، وفي الطعام والإدام سبيل السلم، وأيضاًًَ فإنه يتضمن السلم في أجناسٍ مختلفة إلى أجل، والسلم في جنسِ واحد إلى آجالٍ متعاقبة" (ر. الشرح الكبير: 8/430) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: واستيقافها.
(4) في الأصل: ونكاته. وقوله: " ونكادته " أي قلته، من قولهم نكِد ماء البئر (بكسر ثانيه) :=(13/413)
مستقصىً في موضعه. وسيأتي قواعد في الاستئجار على الإرضاع في كتاب الرضاع مشتملة على ما ذكرناه.
ويتصل بالمسألة الكلامُ في بدل الخلع إن أفسدناه أو صححناه، ويتصل الكلام بالتبعيض إذا جرى الاستيفاء في البعض، وعَسُر استيفاء الباقي. فهذه الأصول إذا كانت على ذُكر الإنسان لم يخف عليه تفريع المسألة.
8829- وصورة مسألة الكتاب أن يخالع الرجل امرأته على أن ترضعَ ولده، وتكفله عشر سنين، [ويذكر] (1) الإرضاعَ والحضانةَ، وقد نقول: الإرضاع يكفي؛ فإنه يستتبع الحضانة، ويذكرَ أجناس الأطعمة في كل يوم قدراً وصنفاً، ويتعرضَ [للكسوة] (2) إن كانت مقصودة في المعاملة، ويعتني بالإبانة فيها؛ فإنها تختلف بالصغر والكبر، والصبي إلى النمو ما هو.
هذه صورة المسألة؛ والشافعي نص على تصحيح المعاملة [تفريعاً] (3) على تصحيح الصفقة إذا اشتملت على عقود مختلفة؛ إذ في المعاملة إجارةٌ واستحقاقُ عينٍ، وأجناسٌ موصوفة إلى أجل واحدٍ في كل يوم، وجنسٌ إلى آجال، ولا حاجة إلى الإطناب. ثم إن كان الطعام كِفافاً، فلا كلام، وإن كان المقدّر فاضلاً عن الكفاية، فهو للزوج. وإن كان الصبي [رغيباً] (4) ، لا يكفيه المقدّر، فالمزيد على الأب إن لم يكن الطفل [غنياً] (5) .
وإن ماتت المرأة وراء مدة الإرضاع، فلم يبق عليها عمل، فالأعواض المؤجلة عليها تحل بموتها، وإن كان عليها عمل، فالإجارة تنفسخ في بقية المدة، ولا تنفسخ
__________
= أي قل ماؤه، والناكد الدابة قليلة اللبن. (المعجم) .
(1) في الأصل: وذكر.
(2) في الأصل: " البنوّة ".
(3) في الأصل: تفرعاً.
(4) في الأصل: غريباً. "ورغيباً": أي نهماً كثير الأكل، من قولهم رغُب فلان: اشتد نهمه وكثر أكله، فهو رغيب ورغِّيب. (المعجم) .
(5) في الأصل: "رغيباً " وهو تصحيف، والمعنى: إن لم يكن الطفل غنياً، فالزيادةُ على الأب.(13/414)
فيما مضى على الأصح، فإن المقبوض التالف (1) لا يقبل الفسخ على الظاهر. وإن حكمنا بالانفساخ في المستقبل، فلا تنفسخ المعاملة في الأعيان على الأصح وإن اتحدت الصفقة، لاختلاف الصنف والحكم والمقصود.
ثم يتفرع وراء ذلك الكلامُ في أن بعض العوض إذا انفسخت المعاملة فيه، فالرجوع إلى قيمته، أو إلى قسط من مهر المثل. كل ذلك بيّنٌ، لا حاجة إلى الإطناب بذكره.
ومن لا يستفيد الاستقلالَ بتفريع مثل ذلك [إذا انتهى] (2) إلى هذا المنتهى، فليس من أهل النظر في هذا المجموع.
8830- وما ذكرناه مرامزُ مفرّعةٌ على تصحيح المعاملة، فإن أفسدت (3) ففي المسألة طريقان: أحدهما - أن المسألة تخرّج على قولين في أن الرجوع إلى مهر المثل أو إلى أبدال هذه الأشياء مِثلاً أو قيمةً. ومن أصحابنا من قال: الرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً، فإن الفساد راجعٌ إلى صيغة المعاملة. ولو كنا نجوّز الرجوع إلى الأبدال المختلفة، لأثبتنا المبدلات المختلفة. وهذا سيأتي مشروحاً في الفصل الذي نجمع فيه تفصيلَ القول في فساد بدل الخلع -إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو قال: أمرك بيدك فطلقي نفسك إن ضمنتِ لي ألف درهم ... إلى آخره" (4) .
8831- وإذا قال الرجل لامرأته: طلقي نفسك، فهذا توكيل منه إياها أو تمليك؟ في المسألة قولان: أحدهما - أنه توكيل، فعلى هذا إن طلقت نفسها على الفور، جاز. وإن طلقت نفسها بعد زمان، وبعد مفارقة المكان الذي جرى التفويض فيه،
__________
(1) المقبوض التالف: التالف هنا بمعنى المستهلك، أي المنفعة التى استهلكت وأتلفت فى مدة الإجارة التي مضت قبل موتها.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: أفسد.
(4) ر. المختصر: 4/60.(13/415)
جاز، وكانت بمثابة الأجنبي يقول له الزوج: طلق زوجتي؛ [فإن] (1) ذلك تفويض لا يستدعي استعقاب تنفيذ الطلاق.
والقول الثاني - أن التفويض إلى المرأة تمليك، وليس بتوكيل؛ فإن البضع يرجع إليها. بتطليقها نفسها تصير مالكةً لنفسها، وسيأتي القولان بتوجيههما وتفريعهما في كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى.
8832- وقدر غرضنا منهما الآن أنا إن جعلنا ذلك تمليكاً، اقتضى ذلك استعقابَ تطليق نفسها؛ فإن التمليك يجري مجرى المعاقدة، على ما سيأتي ذكره مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
ثم إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً، فإذا ضمنتْ، طُلّقت.
وإذا قال لها: طلّقي نفسك إن ضمنت لي ألفاًً، فإنها تملك تطليق نفسها بشرط أن تضمن ألفاًً، فإذا ضمنت [وطَلَّقَتْ] (2) فقد تعاطت الشرطَ والمشروطَ، وكل ذلك مسوّغ في اتساع باب تعليق الطلاق بإعطاء المال، [واتساع] (3) صدره لقبوله؛ [فلم يَخْفَ] (4) بعده اتباع التعليق، فإن قيل: هي المتسببة إلى السبب الملزم للمال، وهي الملتزمة؟ قلنا: الالتزام بالضمان في التطليق يقع بإيقاع الزوج، أو بإيقاع من يفوِّض إليه الزوج.
ثم [لو] (5) قال لها: طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفاًً، ورأينا أن تفويض الطلاق بمجرده يقتضي استعجالَ التطليق، فإذا ضمّ إلى تفويض الطلاق شرط ضمان المال، تأكد اشتراط الابتدار.
وإن قلنا: مجرد التفويض لا يوجب الابتدار، فإذا قال لها: طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفاًً، فالأصح أن هذه الصورة تقتضي الابتدار في الضمان والتطليق؛ فإنه
__________
(1) في الأصل: كان.
(2) في الأصل: تطلَّقت.
(3) في الأصل: واتسع.
(4) في الأصل: لم يخف.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(13/416)
لو قال لها: إن ضمنت لي ألفاًً، اقتضى ذلك بداراً، فليكن الأمر كذلك والطلاق مفوض.
ومن أصحابنا من قال: إذا جعلنا التفويض توكيلاً، وهو على التراخي، ثم ما فيه من اقتضاء التراخي يستتبع أمر المال في معنى التأخير، فمهما ضمنت ملكت أن تطلق نفسها بحكم التوكيل، وهو كما لو قال الرجل لأجنبي: طلق امرأتي إن ضمنت لي ألف درهم، فهذا محمول على التأخير؛ إذ قد يجري مثل هذا في [غيبتها] (1) .
والآن يتعلق هذا الكلام بأطراف التوكيل في الخلع، وسيأتي مستقصىً في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
8833- ثم إذا قلنا: تطليقها وضمانها على الفور، فإليها التقديم والتأخير، وليكن الأمران جميعاً على التواصل، فتقول: طلقت نفسي، وضمنت ألفاًً أو ضمنت ألفاًً وطلقت نفسي، ولا حرج فيما تُقدِّم أو تؤخر.
فإن قيل: إذا قالت: طلقت نفسي تحكمون بوقوع الطلاق؟ قلنا: لا يقع الطلاق حتى تضمن، ولا نقول: إذا ضمنت، تبيّنّا وقوعَ الطلاق قبل الضمان؛ فتطليقها نفسها مع الضمان كتطليق الزوج إياها على شرط الضمان. ولا يتخيل الفقيه غير ذلك.
ولو قالت: ضمنت الألف، وطلقت نفسي، فلا نحكم بأن الضمان يُلزمها مالاً قبل أن تطلّق، بل يقع [الاثنان معاً] (2) .
ومما يتعلق بذلك أنا إذا قلنا: التفويض إليها توكيلٌ، ولم نحكم بأن ذكر المال يقتضي فوراً، فلو أخرت تفريعاً على هذا الوجه، فطلقت نفسها، ثم ضمنت المال بعد زمان متخلل بين التطليق والضمان، فلا ينفذ الطلاق؛ فإنا وإن أخرنا تطليقها، فلا فصل بين الطلاق والضمان؛ فإنه لا يثبت واحد منهما. دون الثاني. وكذلك لو قال: طلقي نفسك متى ضمنت، فقوله " متى " يؤخر عن تفويضه لا عن تطليقها.
__________
(1) في الأصل: "عينها" والمثبت بمساعدة ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل: الآن معاً.(13/417)
فصل
قال: "ولو قال: إن أعطيتني عبداً، فأنت طالق ... إلى آخره" (1) .
8834- مضمون الفصل الكلام فيه إذا ربط الكلامَ بعوض مطلقٍ، أو معين، والقولُ في ذلك مضطربٌ في الطرق، ونحن نرى أن نجمع العوض في نوعين، ونأتي في كل واحد منهما بالمسائل اللائقة مرسلةً، ونذكر في كل مسألة ما بلغنا من قول الأئمة، حتى إذا استوعبنا مضمون كل نوعٍ بالمسائل، انعطفنا بعدها على ذكر جامعٍ ضابطٍ إن شاء الله عز وجل، ثم نختتم الفصلَ بعثراتٍ وقعت لا نعدُّها من المذهب، ولا نرى تَرْك نقلها.
8835- فأحدُ النوعين فيه إذا علّق الزوج الطلاق على عوض يحصل بفعلٍ، مثل أن يقول: إن أعطيتني.
والثاني فيه إذا جرى العوض على صيغةِ المخالعةِ والمعاوضة من غير تعليق من الزوج، وهذا النوع يستدعي قبولاً، لا محالة، كما بان فيما تقدم، وسيزداد وضوحاً.
8836- فأما مسائل التعليق، فإذا قال لامرأته: إن أعطيتني عبداً، فأنت طالق، فإذا جاءت بعبدٍ يتصوّر إجراء التمليك فيه من جهتها، نحكم بوقوع الطلاق لوجود الصفة، ولا فرق بين أن يكون ذلك العبد معيباً، أو سليماً؛ فإن التعويل في الحكم بوقوع الطلاق على تحقيق الاسم، وإمكان الإعطاء، وهذا ناشىء من الأصل الذي تمهد قبلُ في أن الرجل إذا قال لها: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، فإذا أعطته، طُلِّقت، وقد تملّك الزوج عينَ ما تأتي به، إذا كان الألف معلوماً، على ما تقدم تفصيله وإيضاحه.
وقد يقتضي الحال ردَّ ما جاءت به ومطالبتَها بألفٍ [غيرِها] (2) على ما تفصّل، فإذا
__________
(1) ر. المختصر: 4/60.
(2) زيادة من المحقق.(13/418)
جرى التعليق على العبد المطلق، فهذا مجهولٌ لا محالة، والمجهول لا يُستحق عوضاً، فيقع الطلاق إذاً، [والعبد] (1) مردودٌ عليها، ثم الرجوع إلى مهر المثل في هذه الصورة قولاً واحداً؛ فإنا إذا لم نثبت الشيء عوضاً لكونه مجهولاً، فلا طريق إلا الرجوع إلى مهر المثل.
8837- هذا إذا أتت بعبدٍ هي مالكته، ويتصور منها إجراء التمليك فيه، فإن غصبت عبداً وجاءت به، فقد ذكر الأئمة وجهين في وقوع الطلاق: أحدهما -وهو الذي مال إليه المحققون، وقطع به معظمهم، منهم القاضي- أن الطلاق لا يقع؛ فإن الإعطاء متضمنه التمليك، فينبغي أن تأتي بما يتصور منها التمليك فيه، حتى إن فرض عدم جريان الملك فيه، فلا يكون من جهتها، وإنما يأتي تعذُّر جريان الملك، من جهةٍ أخرى، فتُسمَّى مُعْطية؛ من حيث بذلت الوسع والإمكان الصادر منها، فعند ذلك تسمى مُعطية، والذي يُحقِّق هذا أن الرجل قد يقول: أعطيت فلاناً شيئاً، فلم يقبله، فإذا أتى بمغصوبٍ، وقال: قد أعطيت فلاناً، فلم يقبل، كان كلامه مضطرباً، ورُدّ عليه: وكيف أعطيتَه، ولم يكن لك؟
فهذا بيان هذا الوجه.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإنها لو أتت بعبدٍ مملوك لها، وصيغة التعليق ما وصفناه، وهو قوله: إن أعطيتِني عبداً، فالزوج لا يملك عبدها المملوك لها، فإذا كان هذا لا يُفضي إلى جريان الملك فيما تأتي به، فلا معنى لاشتراط كونه مملوكاً لها، بل يكفي أن يكون عبداً يُتصور فيه على الجملة إجراء الملك، حتى لو [أتت بحُرٍّ] (2) ، لم نقضِ بوقوع الطلاق؛ من جهة أنها لم تأت بعبدٍ.
والذي أراه من متن المذهب الوجهُ الأول، ولا ينبغي أن يغتر الناظر بما ذكرناه في الوجه الثاني؛ فإن اللائق بعقد الخلع ذلك الوجه.
__________
(1) في الأصل: فالعبد.
(2) عبارة الأصل: "حتى لو أبت لم نقض بوقوع الطلاق" والتصويب والزيادة من عمل المحقق، بناءً على المعنى المفهوم من عبارة ابن أبي عصرون.(13/419)
8838- ثم فرع القاضي على ذلك الوجه، فقال: إن قال: إن أعطيتني زقَّ خمر، فأنت طالق، فجاءت بخمرة محترمة مستحَقَّة لغيرها، فهل يقع الطلاق؟ ذكر فيه تردداً، فشبه الخمر في وجهٍ بالعبد المغصوب، وقطعها عن العبد في وجهٍ؛ من حيث لا يتصور في جنسها جريان الملك، وقال في توجيه المسلك الأول: الاختصاص في الخمر [ليس] (1) في حكم الإطلاق إلى إمكان الإعطاء والبذل، وإن كان ذلك الجنس لا يقبل نقل الملك. فهذا منتهى تصرف الأئمة فيه.
8839-[وإذا عين الزوج عبداً] (2) ، وعلق الطلاق بإعطائها، وقال: إن أعطيتِني هذا العبد، فأنت طالق، فإن كان العبد ملكَها وأعطته إياه، وقع الطلاق، وملك الزوج العبد؛ فإن التعيين أعلمه.
ولو خرج ذلك العبد مستحقاً، فقد خرّج العراقيون وجهين في وقوع الطلاق: أحدهما - أن الطلاق لا يقع، وهو اختيار ابن أبي هريرة؛ لأنه علق الطلاق بإعطاء ذلك العبدِ المعيّنِ، والإعطاء تمليك، فإذا كنا لا [نوقع] (3) الطلاق والعبد المذكور في الإعطاء مطلق إذا جاءت به مغصوباً، وإن كان العبد المطلق لا يتصور أن يملّك على هذه الجهة، فإذا اتجه اشتراط إمكان الإعطاءِ والتمليكِ ثَمَّ، فاتجاه ذلك في العبد المعيّنِ أولى، مع العلم بأنه لو كان مملوكاً لها، وأتت به، لملكه الزوج.
وهذا متجه حسن.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع، وهو الذي قطع به القاضي؛ لأن الإعطاء جرى ظاهراً، والفرقة لا تُرد، ثم ذكر القاضي أن الفرقة بينونة [مع ردّ] (4) العبد، والأمر على ما قال، فإنها إن وقعت، فلا سبيل إلى تقديرها إلا بمال، والفرقة الواقعة بالمال بينونة.
__________
(1) في الأصل: يسر.
(2) في الأصل: إذا كان الزوج عبداً.
(3) في الأصل: نرفع.
(4) زيادة من المحقق، على ضوء السياق، لا يتم الكلام إلا بها أو بمثلها.(13/420)
ثم الرجوع إلى قيمة العبد المعيّن أو إلى مهر المثل؟ فعلى قولين معروفين في بدل الخلع والصداق.
وإن قال الزوج: إن أعطيتني هذا العبدَ المغصوب، فأنت طالق. هذا يفرّع على ما إذا لم يذكر المغصوب واقتصر على إعطاء العبد المعيّن. فإن قلنا: يقع الطلاق في الصورة الأولى، فلأن يقع في هذه الصورة أولى؛ فإنه إذا ذكر المغصوب أشعر بقناعته بإقباضها إياه هذا العبد، وإن لم يكن ملكاً لها، فيصير الإعطاء مع ذكر المغصوب دالاً على أنه ليس يبغي التمليك.
وإن قلنا في الصورة الأولى: إن الطلاق لا يقع، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع؛ فإن الإعطاء في المغصوب غيرُ ممكن، فإذا ذكر الإعطاء وأضافه إلى المغصوب، فقد علّق الطلاق بمستحيل، فكان كما لو قال لامرأته: إن بعت الخمر، فأنت طالق، أو قال: إن صليتِ محدِثةً؛ فأنت طالق، فإذا أتت بصورة البيع في الخمر، وبصورة الصلاة مع الحدث، لم يقع الطلاق على مذهب الشافعي.
والمزنيُّ يخالف في هذا.
ونحن لا نجد بداً من رمزٍ إلى المذاهب في ذلك.
8840-[فإذا] (1) عقد الرجل يمينه على البيع المطلق، لم يحنث بالبيع الفاسد، هذا ظاهر المذهب، وللشافعي نصٌّ في النكاح دالٌّ على أن الفاسد يدخل تحت الاسم المطلق الواقع على الجنس؛ فإنه قال: "لو أذن لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً، وأصاب، فالمهر يتعلق بكسبه". ولا يُتصوّر أن يتعلق بكسب العبد إلا دينٌ رتب على إذن السيد، وهذا وإن لم يكن منه بدٌّ، فهو ضعيف.
فأما إذا علق اليمين على الامتناع عن بيعٍ فاسد، مثل أن يقول: والله لا أبيع الخمر، فإذا باعها، فمذهب المزني أنه [يحنث] (2) ، وقد اشتهر من طائفة من
__________
(1) في الأصل: وإذا.
(2) في الأصل: يذهب. (وهو سبق قلم) ثم الذي في (صفوة المذهب) عكس هذا، ونصه: " ولو قال: والله لا أبيع الخمرَ، فباعه، لم يحنث عند المزني، وإليه ذهب الجمهور، ودل عليه النص ".(13/421)
الأصحاب موافقتُه. والذي ذهب إليه الجمهور، ودل عليه النص أنه لا يحنث. وهذا فيه إذا أطلق اللفظ. فأما إذا قال: عنيت بيميني أني لا أقول: بعت هذه الخمرة، فيحنث إذا قالها. وسيأتي تفصيل هذا في الأَيْمان، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: لا يقع الطلاق (1) ، فلا كلام. وإن قلنا: يقع الطلاق، فالذي ذكره القاضي والصيدلاني أن الرجوع. إلى مهر المثل قولاً واحداً في هذه الصورة، لأنه لما قال: إن أعطيتني هذا المغصوب، فلفظه فاسد، وقد ذكرنا هذا الفن في كتاب الصداق، وأوضحنا ما فيه من مستدرك [وحكينا] (2) عن الأئمة قولين في أن الرجوع إلى القيمة أو إلى مهر المثل.
وذكر القاضي في بعض أجوبته أن الطلاق يقع رجعياً؛ لأنه قَنِع بهذا، وطرد هذا فيه إذا قال: إن أعطيتني خمراً، أو هذه الخمرة، فأنت طالق. قال: من أصحابنا من قال: يقع الطلاق رجعياً، وهذا متجه في القياس.
[وهو] (3) في نهاية البعد في الحكاية، ولا يقبل مثله إلا من مثل القاضي.
وإذا قال: [إن أعطيتني ميتة، كان كما إذا قال:] (4) إن أعطيتني خمراً، أجمع الأئمة عليه. وهذا لأمكان الانتفاع بالميتة في وقت الضرورة، أو بأن تجعل طعمة للكلاب والجوارح، أو بأن تعتقد مطلوبة في بعض الملل كالخمر.
8841- ولو قال: إن أعطيتني هذا الحرَّ، فالكلام في وقوع الطلاق كما مضى.
وإذا حكمنا بالوقوع، فالأظهر أن الطلاق رجعيٌّ، ومن أصحابنا من أثبت البينونة والمالية، ثم يعود التردد في أنا نخرّج القولين، أو نقطع بالرجوع إلى مهر المثل.
__________
(1) عودٌ إلى ذكر الوجهين فيما إذا عين عبداً مغصوباً، وقال: إن أعطيتني هذا العبد المغصوب.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: وهذا.
(4) المثبت تصرّف في العبارة بالزيادة من المحقق، على ضوء المعنى، وأخذاً من عبارة العز بن عبد السلام، إذ قال: "والتعليق بإعطائه الميتة كالتعيق بإعطاء الخمر اتفاقاً؛ للانتفاع بها في الضرورات، وإطعام الجوارح". (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج3 ورقة 123ش) .(13/422)
هذا ما أردناه في أحد النوعين الموعودين، وهو ربط الطلاق على صيغة التعليق بإعطاء العوض.
8842- فأما الكلام في المخالعة وإجراء الإيجاب والقبول من غير تعليق، فإذا قال الزوج: خالعتك على عبدٍ، فالطلاق يقع بقبولها، ولا حاجة إلى الإتيان بالعبد، والتقدير خالعتك على التزام العبد. ثم إذا قبلت، وكانت عبارتها صحيحة، وكانت من أهل الالتزام أيضاًًً، فيقع الطلاق بقبولها، ويلزمها مهر المثل، إذا (1) العبد مجهول.
وإن كانت صحيحة العبارة، ولم تكن من أهل الالتزام، فالذي وجدت [الطرق متفقة] (2) عليه أن الطلاق يقع رجعياً بقبولها، ولا مال.
والمذهب الذي عليه التعويل أنه لو قال لزوجته الصبية: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت [لم] (3) يقع الطلاق؛ إذ لا قول لها، وهي مسلوبة العبارة. ومن أصحابنا من خرج هذا على خلافٍ سيأتي ذكره -إن شاء الله عز وجل- في أن الرجل إذا قال لزوجته الصبية: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، فهل نحكم بوقوع الطلاق؟ فقال هذا المفرّع: إذا حكمنا بوقوع الطلاق بلفظها في المشيئة فنحكم أيضاًًً بوقوع الطلاق بلفظها في قبول العوض. وهذا وإن كان له اتجاه، فهو بعيد؛ فإن ألفاظ العقود مستلبة على أصل الشافعي من الصبي والصبية، ولا يطرد سلب قولها في غير العقود.
8843- ولو خالع الرجل على معين وجرى القبولُ ممن هو من أهله، ثم خرج ذلك المعيّن مستحقاًً، فلا خلاف في وقوع الطلاق، وليس كما لو علّق الطلاق بإعطائه، فخرج مغصوباً؛ فإن التعويل على صيغة المخالعة في وقوع الطلاق، على الإيجاب والقبول. ثم إن صح المسمى سُلِّم، وإن فسد وأمكن إثبات المالية، وقعت البينونة،
__________
(1) إذا: بمعنى إذ.
(2) في الأصل: الطريق عليه.
(3) في الأصل: فلم.(13/423)
وفي المال الذي يثبتُ التفصيل المشهور. وإن عسر إثبات [المالية] (1) ؛ بأن تكون المختلعة سفيهة، أو رجعية، وقلنا: لا تخالع الرجعية- فالطلاق يقع لصورة الإيجاب والقبول، ثم يكون رجعياً.
هذا وضع الباب في ذلك. والأصل مطرد، لا اضطراب فيه إلا عن جهة أصلٍ لا نجد بداً عن ذكره مقصوداً ثم إذا ذكرناه ونقلنا ما فيه، نبهنا على مخالفته الأصلَ الذي مهدناه في النوع الثاني، ثم ننظر فيما ينقدح في المباحثات.
8844- ونبتدىء فنقول: إذا [جاء أبُ] (2) الصبية إلى زوجها وقال: خالعها بهذا، وأشار إلى عبد هو ملك الأب، فإذا خالعها الزوج على ذلك العبد، صح الخلع، واستحق الزوج ذلك العبد. ولو جاء أجنبي واختلعها عن زوجها بمالٍ يبذله، [فالخلع] (3) صحيح، على ما مضى ذلك في صدر الكتاب.
ولو جاء الأبُ بعبدٍ من مال ابنته، واختلعها عن زوجها به، وظن الزوج أنه مِلْك الأب، فالبينونة تقع، والرجوع على الأب بقيمة ذلك العبد المعين أو بمهر المثل؟ فعلى قولين.
ولو قال الأب: هذا عبدها وقد اختلعتها به، فقال الزوج: خالعتها به، فالذي أطلقه الأصحاب أن الطلاق يقع رجعياً. أما الوقوع، فسببه ثبوت الإيجاب والقبول، [وأما] (4) سقوط المالية، فسببه أن الأب أضاف العبد إلى ملكها، وفي ذلك قطع طمعه عنه، فكانت هذه مخالعة لا مالية فيها، ووقوع الطلاق بعد الإيجاب والقبول بمثابة مخالعة المحجورة؛ فإنّ تعذر استحقاق عبد الصبية بمثابة تعذر التزام ذمة المحجورة مالاً.
هذا ما ذكره الأصحاب.
وقالوا: لو لم يُضِف العبدَ إلى ملك الزوجة، وورد الخلع عليه مطلقاً، وكان
__________
(1) في الأصل: الملك.
(2) في الأصل: إذا جاءت.
(3) في الأصل: والخلع.
(4) في الأصل: وإنما.(13/424)
الزوج عالماً بأنه ملك الزوجة، ففي المسألة وجهان: [أحدهما -] (1) أن الطلاق يقع رجعياً، كما لو أضيف العبد إلى ملكها لفظاً، وكان علمه بكون العبد ملكاً لها بمثابة إضافة العبد إلى ملكها.
والوجه الثاني - أن الفرقة بينونة، ويرجع الزوج [على] (2) الأب بقيمة العبد، أو مهر مثل الزوجة.
هذا ما نقله الأصحاب، وقالوا على معارضته: إذا قال الرجل لامرأته: خالعتك على هذا العبد المغصوب، فقالت: اختلعت، وقعت الفرقة بائنةً، وفيما يرجع [به] (3) الزوج على زوجته قولان: أحدهما - أنه يرجع عليها بقيمة العبد المعين.
والثاني - أنه يرجع عليها بمهر مثلها، وليس يخفى أن هذه المسألة في ظاهرها تخالف مسألة اختلاع الأب مع إضافة [العوض] (4) إلى ملك الصبية، وذلك أن الإضافة إلى ملكها بمثابة إضافة العبد المغصوب في المسألة الأخرى إلى ملك المغصوب منه، واعترف كل من نحا نحو الغوّاصين ولم يرض بالاختصار على الظواهر أن الفرق بين المسألتين عسر؛ فإن الأب من أهل الاختلاع استقلالاً، كما أن المرأة تختلع نفسها، وفي العبد المضاف إلى ملكها مالية، والعصاة يتنافسون على الأموال المغصوبة، كما يتنافس أصحاب الخمور في الخمور، وإن لم تكن متمولة.
8845- ثم أتى بعض النقلة عن القاضي بما لا أوثر نقلَه [والاحتفالَ] (5) به. والذي يتعين نقلُه أن كثيراً من أئمتنا صار إلى أن المخالع على العبد المغصوب لا يستحق مالاً، ويقع الطلاق رجعياً، كما ذكرناه في اختلاع الأب ابنته بعبد يضيفه إلى ملكها، ثم طرد [هذا] (6) في المخالعة على الخمر، وقضى بأن الرجل إذا قال لامرأته:
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: إلى.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: الغرض.
(5) في الأصل: والاحتمال.
(6) في الأصل: هؤلاء.(13/425)
خالعتك على هذه الخمرة، أو على هذا [الخنزير] (1) ، أو على هذه الميتة، وقالت: قبلت، قُضي بوقوع الطلاق رجعياً.
ولست أنكر إمكانَ توجيه هذا؛ فإن من يذكر الخمر لا يبغي غيرها، وليست الخمر مالاً، وليس الخنزير مالاً، وليس يبعد عن قاعدة القياس إبطالُ المقصودِ الفاسد والاعتقاداتِ الحائدة عن موجب الشرع، وبناءُ الأمر على حكم الدين، وكذلك إذا جرى التصريح بذكر [الغصب] (2) .
ولكن هذا لا يوافق ظاهر المذهب، ومقتضى النصوص. وإن عُدّ هذا الذي ذكرناه قولاً، فيجب لا محالة على مقتضاه أن نُخرِّج في هذه المسألة -وهي مسألة الأب- قولاً آخر من ظاهر المذهب، فكان يجري قولان في المسألتين: أحدهما - أن الطلاق [يقع] (3) رجعياً في هذه المسائل، سواء فرض من الأب في حق ابنته، أو فرض بين الزوج وزوجته.
هذا لا بدّ منه على مقتضى الترتيب الذي ذكرناه.
8846- والذي أراه في هذا المجال أن معظم الناظرين في هذه المسائل المتعارضة، لم يُنعموا النظرَ فيها، ولم يجشّموا أنفسهم دَرْك معانيها، والذي يجب القطع به أن مخالعة الزوج زوجته على مغصوبٍ مع التعرض لذكر الغصب، أو على خمرٍ أو خنزير، مع التعرض لذكرهما يوجب بينونةً وماليةً، كما مهدنا [المذهب] (4) فيه.
فبقي لنا النظر في مسألة الأب، وأنا أقول فيها: تلك المسألة مفروضةٌ فيه إذا كان يختلع الأبُ ابنته بحكم الولاية متصرفاً عنها، [فذكره] (5) عبدَها مع إضافة الملك إليها مشعر بهذا القصد، وكل من يتصرف عن الغير فيضيف التصرف إليه، فليس قبولُه
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: الغصوب.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: بذالمذهب.
(5) في الأصل: وكره.(13/426)
التزاماً في حق نفسه، وليس كالمرأة إذا التزمت الخمر؛ فإنها قصدت خلعَ نفسها، [وافتداءَها] (1) بما تبذله من مالٍ أو شيء يُحصَّل في العرف بمال. وهذا فرق ظاهر.
وإذا كنا نقول: إذا خالع الرجل امرأته المحجورة لا تثبت المالية؛ لأنها ليست من أهل الالتزام في حق نفسها، فالأب ليس من أهل الالتزام في حق ابنته إذا كان يتصرف بحكم الولاية لها.
ووراء ما ذكرناه سرٌّ، لا اطّلاع عليه إلا عند نجاز الفصل، وتمامُ الكلام أن الأب يُتصوّر أن يختلع ابنتَه اختلاع الأجنبي إياها؛ فإن هو قصد أن يختلعها اختلاع الأجنبي لا على حكم الولاية، فالاختلاع على هذا القصد يُلزمُه الماليةَ، حتى لو اختلعها بعبد ابنته، [وكان] (2) كما لو اختلعت المرأة نفسها بعبد مغصوب. وتمام البيان بين أيدينا بعدُ.
8847- وقدرُ غرضنا الآن التنبيهُ على مسلك الفرق على الجملة [فممّا] (3) نذكره وننقل ما فيه، وإن أخر الشافعي ذكره أن الأب إذا قال لزوج ابنته: طلِّقْها وأنت بريء عن صداقها، أو على أنك بريء عن صداقها، فإذا طلقها الزوج بناءً على ما ذكره الأب، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أن الطلاق [يقع] (4) رجعياً، ولا شك أن هذه المسألة تخرّج أولاً على أن الأب هل يملك الإبراءَ عن الصداق، وقدمنا تفصيل ذلك في موضعه.
فإن رأينا للأب الإبراء، فقد نقول: له أن يختلعها على البراءة من الصداق، والزوج يبرأ. وهذا مما قدمناه، فلا عَوْدَ إليه، والتفريع على أنه لا يملك الإبراء، فعلى هذا لا يبرأ الزوج بسبب الاختلاع، ويقع الطلاق رجعياً، هذا مقتضى النص، وهو الذي ذهب إليه جمهور الأصحاب.
وذكر صاحب التقريب وجهين في أن الطلاق هل يقع إذا حكمنا بأن البراءة
__________
(1) في الأصل: واقتداها.
(2) في الأصل: كان (بدون واو) .
(3) في الأصل: مما.
(4) زيادة اقتضاها السياق.(13/427)
لا تحصل، وقد ذكرهما بعض المصنفين، ولا تعويل على ما ينفرد ذلك المصنف بنقله؛ فإنه كثير العثرات غيرُ موثوق به، ولكني رأيت لصاحب التقريب وجهين في وقوع الطلاق، ذكرهما، وكررهما فنقلناهما على تحقيقٍ.
8848- ونحن الآن -بعون الله- نوضّح المسالك وننزل المسائل على مراتب، ينجح الفقيه بها، ويرتاح بذكرها، [ولا تظن بعدها أن الشافعي في أسطر مقاربة بين كلام متهافت] (1) .
فنقول: إذا خالع الرجل زوجته المبذرة، فقبلت، فهي صحيحة العبارة، وقد وجد منها صيغة الالتزام على الصحة، ولكن قضى الشرعُ بأنه لا يلزمها شيء؛ فاعتمدَ وقوعُ الطلاق صحةَ قبولها، [ولم يلزم] (2) المال، ونتيجة هذه الجملة وقوعُ الطلاق.
وإذا قال الأجنبي: وكّلتني فلانة بأن أختلعها بكذا، فقال الزوج بانياً على ذلك: خالعتها بكذا، فقال الوكيل: قبلت عنها، وكان كاذباً في التوكيل، لم يقع الطلاق، لأن الأجنبي لم يضف إلن نفسه، ولم يصدُق في دعواه الوكالة، فلم يعتمد الطلاقُ قبولاً صحيحاً.
وإذا اختلع الأب ابنته بحكم الولاية، وأبان ذلك في صيغة لفظه، فهذا خارج عن ولايته، ولكنه أطلق الاختلاع، ولم يضف لفظ الاختلاع إلى ابنته، بل بناه على ولايته، وهو ممن يتصور منه أن يخالع بنفسه مخالعة الأجنبي، فتردد الأمر وتطرّق إليه إمكان المصير إلى الطلاق، فلا يقع كما ذكرناه في مثله الأجنبي الآن، وإن وقع فهذا القبول أضعف من قبول المحجورة، فقد بان وجه التردد في الوقوع، وينبني عليه وجه سقوط المالية.
ونحن نقول الآن: إذا اختلع الأب ابنته بمال نفسه، فهذا محمول على اختلاع
__________
(1) كذا. جاءت هذه العبارة بين المعقفين بهذا الرسم تماماً. ولا أدري موقعها، ولا ما فيها من تصحيف -إن كان- أو نقص. والله أعلم، والسياق متصل ومفهومٌ مع رفعها من البين، كما فعل ابن أبي عصرون في مختصره، إذ تركها كاملةً.
(2) في الأصل: ومن لم يلزم.(13/428)
الأجنبي، وإن اختلعها بمالها، وأضاف المال إلى ملكها، فهذه المسألة التي ترددنا فيها وقوعاً أولاً، ثم أوضحنا سقوط الماليّة. وإن قال الزوج: اختلعتَها عن نفسك اختلاع الأجنبي، وبذلت مالَها بذلَ المغصوب، ولكن الاختلاع وقع مطلقاًً، فالظاهر في هذا تصديق الأب، فإنّ إضافة العوض إلى مالها أصدقُ شاهد فيه.
ولم يبق في المسألة إلا نظرٌ واحد، وهو أن صاحب التقريب ذكر الوجهين في وقوع الطلاق في البراءة عن المهر، ولم يذكر ذلك الوجه في اختلاعه بعبدها، والصحيحُ عندنا أنه لا فرق بين المسألتين إذا ظهر قصده التصرف عنها. وإن أردنا فرقاً، فتنزيل الخلع على البراءة نصٌّ في التصرف عنها في ذلك العقد، وتنزيله على عبدها قد يتأخر عن هذا، وفيما ذكرناه انتجاز المقصود بكماله.
8849- ووراء ذلك مسألة: وهي أن الأب إذا قال: خالعها، وقد ضمنت لك براءتها عن مهرها، قال الأصحاب في هذه الصورة: المذهبُ وقوع الطلاق، وإذا وقع الطلاق، فهل يجب على الأب مال، فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء كما لو قال: وأنت بريء أو على أنك بريء، فإن البراءة لا يصح ضمانها بل لا ينتظم الضمان فيها.
والوجه الثاني - أن الغرم يتعلق بالأب في هذه اللفظة، فإنه أضاف الضمان لنفسه.
وذكر بعض المحققين وجهاً مفصلاً حسناً، فقال: نراجعه فيما عنى الضمان، فإن قال: أردت ضمان البراءة في عينها من غير مزيد، لغا ضمانُه. وإن قال: أردت أنك إذا غرمت أو طالبت أديت عنك، فهذا التزام مالية، فيجوز أن يقتضي ضمانَها.
وهذه المسائل بجملتها فيما إذا جرت المخالعة إيجاباً وقبولاً، واستدعاءً وإسعافاً. فأما إذا قال الزوج: إن برئتَ عن صداقها، فهي طالق، فلا شك أن الطلاق لا يقع إذا كانت البراءة لا تحصل.
8805- وقد حان أن نذكر ضابطاً على التحقيق، فنقول: إذا جرى التخالع إيجاباً وقبولاً، فالطلاق يعتمد صحةَ القبول، ثم ثبوت المالية يعتمد كون القابل من أهل الالتزام، وصحة العوض لا تخفى جهاتها.(13/429)
وإن تردد الأصحاب في وقوع الطلاق، فليُطْلب ذلك من ضعف القبول، وإن ترددوا في سقوط المالية مع وقوع الطلاق، فذلك مأخوذ من صحة القبول، وضعف الالتزام، وإن كان لفظ الزوج مبنياً على التعليق، مثل أن يقول: إن أعطيتِ، فالطلاق يقع من تحقيق الصفة، فإن كانت مقتضية تمليكاً، فلا يتوقع فيها طلاق رجعي [وإذا] (1) لم يكن التمليك ممكناً، فإن الصفة معدومة. وأنا أقول: إذا قال للمحجورة: إذا أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فأعطته، لم يقع شيء.
فهذا تنزيل هذه المسائل على منازلها، وتخريجها على أصولها [ما أمكن] (2) [وأملنا] (3) ألاّ ينتهي إلى هذا ناظرٌ إلا ترحم على جامعه (4) . والله ولي الأجابة بمنّه ولطفه.
فصل
قال: "ولو خالعها بعبدٍ بعينه، ثم أصاب به عيباً، ردّه ... إلى آخره" (5) .
8851- بدل الخلع ينزل منزلة الصداق في كل تفصيل ويجري فيه القولان في أنه مضمون باليد أو بالعقد، فبدل الخلع في يدها كالصداق في يد الزوج. ثم الكلام فيما إليه الرجوع كالكلام في الصداق، بلا تباين، ولا مزيد حرف. وقد تقصّينا القول في الصداق، فلم أر لإعادة ما قدمته معنى.
ومن جملة [ما نذكره] (6) هاهنا الردُّ بالعيب، فإذا جرت المخالعة هاهنا على صيغة الإيجاب والقبول على عين مالٍ، نفذت الفرقة؛ تعويلاً على القبول، فإذا وجد الزوجُ
__________
(1) في الأصل: إذا (بدون واو) .
(2) في الأصل: وأمكن.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) رحم الله إمام الحرمين، ورضي عنه، وتقبل منا ومنه. هذا، وقد استجاب ابن أبي عصرون للإمام، فقال في مختصره: " والله يرحمه من جامع ". ويرجو العبد الفقير إلى رحمة ربه محققه دعوة بخير من كل ناظرٍ فيه، والله يتقبل ويعين ويغفر ويرحم.
(5) ر. المختصر: 4/61.
(6) في الأصل: ما ذكره.(13/430)
بالعوض المعيّن عيباً، مَلَك ردَّه، كما تملك المرأة رد الصداق، ثم القول فيما يرجع به الزوج عليها كالقول فيما ترجع [به] (1) على الزوج في الصداق.
8852- ثم قال الشافعي: "ولو خلعها على ثوب على أنه مَرْوي، فإذا هو هَرَوي ... إلى آخره" (2) .
يقول: إذا خالعها على ثوب هروي، فالصورة في ذلك تختلف، ونحن نُجري أمثلةً والخلعُ إيجاب وقبول، ثم نذكر أمثلةً والخلعُ على صفة التعليق.
فأما إذا كان إيجاباً وقبولاً، وفُرض اشتراط صفة في العوض [وقع] (3) اختلافها، فذلك ينقسم إلى العوض الموصوف في الذمة وإلى العوض المعيّن؛ فإن كان موصوفاً في الذمة مثل [أن] (4) يقول: خالعتك على ثوب هروي، صفته كذا وكذا، وأخذ يُطنب إلى استغراق المقصود، فإذا قبلت المرأة، قُضي بوقوع البينونة بنفس القبول؛ بناء على ما تمهد من الأصول. ثم هي مطالبة بالثوب الموصوف، فإن أعطته مروياً، ردّه عليها، وطالبها بالثوب المستحق الذي أحاط الوصفُ به.
ولو قال: خالعتك على هذا الثوب المروي أو على هذا الثوب، على شرط أنه مروي، فإذا قالت: قبلت، حكم بوقوع الطلاق. قطع الأئمة أجوبتهم به؛ فإن الفرقة بالمخالعة المتعلقة بالإيجاب والقبول، تعتمد القبول، ولا نظر إلى الصفة المشروطة، كانت [أو تخلّفت] (5) . والدليل عليه أنه لو قال: خالعتك على هذا الخلّ، فقالت: قبلت، ثم تبين أن المشار إليه خمر، فالفرقة تقع، وكذلك إذا قال: خالعتك على هذا العبد؛ فإذا المشار إليه حر، وقعت الفرقة. فإذا كان الخروج من المالية لا يمنع وقوع الفرقة، فالخروج من صفةٍ إلى صفةٍ بهذه المثابة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/61.
(3) في الأصل: مع.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: كانت لو اختلف.(13/431)
ثم إذا شرط كونَ الثوب المشار إليه مروياً، [فبان] (1) أنه هروي، وقع الحكم بنفوذ الفرقة، فالعوض [لا] (2) يفسد بالاختلاف في الصفة، وآيةُ ذلك أن الزوج لو رضي به، جاز له ذلك، وإذا كان [الاختلاف] (3) في صفاتِ الأعواض في المعاوضات المحضة لا يوجب فساد العوض، فبدل الخلع بذلك أولى.
ثم إن رضي الزوج بذلك، فلا كلام، وإن لم يرض به، فله الرد، وليس ذلك بدعاً؛ [فإن] (4) ما يتطرق إليه خيار الرد بالعيب يتطرق إليه خيار الخُلف، ثم إذا [ردّ] (5) ، ففيما يرجع به قولان: أحدهما - أنه يرجع إلى مهر المثل. والثاني - أنه يرجع بقيمته. وهذان القولان في أنه إذا ردّ العوضَ بالعيب، فإلى ماذا يرجع؟ ثم إذا أثبتنا له الرجوع [يرجع] (6) بقيمة الثوب المروي على ما شرط، إذ لو كان يرجع بقيمة الهروي، لقنع بالثوب الهروي من غير رد.
وما ذكرناه فيه، إذا اتحد الجنس، فكان الثوبان من القطن مثلاً، لكن [إن] (7) اختلف النوع بالجنس، فالأمر على ما بيناه.
فإن كان الثوب الذي أشار إليه، وشرط كونه مروياً، كان كتاناً، [والهروي] (8) قطن، فإذا اختلف الجنس، فلو أراد الزوج أن يستمسك بالثوب المعاين المعيّن، فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: ليس له ذلك، ولو رضي به، لم يملكه؛ فإنه ليس من جنس ما ذكره، فلم يجد إلى ملكه سبيلاً، وهو كما لو خالع على عبدٍ، ثم قبض أمةً من غير فرض اعتياض، حيث يجوز الاعتياض، وليس كذلك
__________
(1) في الأصل: فقال.
(2) في الأصل: أو لا.
(3) في الأصل: يختلف.
(4) في الأصل: وإن.
(5) في الأصل: زاد.
(6) زيادة من المحقق.
(7) زيادة اقتضاها السياق.
(8) في الأصل: والمروي.(13/432)
إذا اتحد الجنس؛ فإنّ قبض النوع عن النوع سائغ على [ما سنذكر] (1) في ذلك ضابطاً جامعاً.
وذكر الشيخ أبو حامد وجهاً آخر أن [للزوج] (2) أن يقنع بالثوب المعين، وإن لم يكن من جنس ما وصفه، وذلك أنه أشار إليه الزوج، إذ خالع عليه، وقال: خالعتك على هذا الثوب، فكانت الإشارة غالبةً على الذكر والوصف. وهذا يداني اختلافَ الأصحاب فيه إذا قال: بعتك هذه النعجة، فإذا هي عجل، ففي صحة العقد، وانعقاده خلاف معروف، ذكرناه في البيع.
8853- والأمر المتبع في هذا أن ما لا يجوز الاعتياض عنه كالمسلم فيه لا يجوز أن يؤخذ فيه جنس عن جنس، ويجوز أن يؤخذ المعيب عن السليم. وهل يجوز أن يؤخذ فيه نوع عن نوع؟ فيه اختلاف، وإذا جوزنا الاعتياض عن الثمن، فكل ما منعناه في السلم نجوّزه في الثمن، ولكنا نشترط إجراء عقد، وما نجوّزه في السلم نجوّزه في الثمن من غير عقد، ومحل الاختلاف جوازاً ومنعاً في السلم يستعمل في الثمن في الافتقار إلى عقد، وعدم الافتقار إليه.
وما يُفرض من خُلف في الأعيان المعيّنة، فإن اتحد الجنس، انعقد العقد، وجاز الاستمساك بالمعيّن، فإن اختلف الجنس، ففي انعقاد المعاوضة خلاف، وفي فساد الخلع به خلاف، والفرقة جائزة على اعتماد القبول، ثم إن لم يفسد العوض، جوزنا الاستمساك به، وإن أفسدنا العوض ردّدنا القولين في الرجوع، ففي قولٍ يرجع إلى مهر المثل، وفي قولٍ يرجع إلى قيمة الثوب لو كان على ما وُصف به.
وكل ما ذكرناه ترديد للمسائل، والخلع إيجابٌ وقبولٌ.
8854- فأما إذا كان الخلع على صيغة التعليق، فإذا قال: إن أعطيتني ثوباً مروياً، فأنت طالق، فإذا أعطته هَرَوياً، لم تطلق؛ فإنّ معتمد الطلاق وجودُ الصفة في هذا النوع. ثم إن جاءت به مروياً، وقع الحكم بالطلاق، ولم يخْفَ التفصيلُ بعده إذا كان
__________
(1) في الأصل: ذكر.
(2) في الأصل: الزوج.(13/433)
الثوب مجهولاً، وكان بمثابة ما لو قال لها: إن أعطيتِني عبداً، فأنت طالق. فإن كان الثوب موصوفاً بالصفات المرعية في السلم، فلا يقع الطلاق ما لم تتحقق الصفات فيما جاءت به.
وليس هذا بمحل الرضا إنما يتعلق الإتيان به؛ فإن الطلاق لا يقع إذا علق بصفاتٍ ما لم تتمحض تلك الصفات. وإن كان على الصفات المذكورة المستقصاة، وقع الطلاق، وملك الزوج ما جاءت به؛ فإن الثوب أثبت مُعْلَماً مبيّناً، فصح عوضاً، وصلح لكونه مملوكاً عوضاً.
8855- ولو علق الطلاق وأشار إلى العين وذكر الوصف، ففي لفظه تعليق وإشارة ووصف، وذلك مثل أن يقول: إن أعطيتني هذا الثوبَ وهو هروي، فأنت طالق.
فإن أعطته، وكان مَرْوياً، لم يقع الطلاق؛ لأن قوله [وهو] (1) هروي معناه الشرط المحقق، والتقدير إن أعطيتني هذا الثوب، فأنت طالق إن كان هَرَوياً. فإذا تعلّق الطلاق بصفتين، استحال أن يقع بإحداهما.
ولو قال: إن أعطيتني هذا الثوب الهَرَوي، فأنت طالق، فكان [مَرْويّا] (2) على خلاف ما ذكر، فقد ذكر القاضي جوابين في هذه الصيغة: أحدهما - أن الطلاق لا يقع، كما لو قال: إن أعطيتني هذا الثوب وهو هروي.
والثاني - أنه يقع؛ [لأن] (3) الهروي لا يعطى معنى (4) الشرط في قوله: هذا الثوب الهروي، إذ معناه الثقة بكونه هروياً، والثقةُ تنافي الشرط. وقوله: وهو هروي، فيه معنى التردد، فيتطرق إليه إمكان الشرط والتعليق، [والتعليق] (5) على التحقيق في معنى الشرط.
__________
(1) في الأصل: وغير هروي.
(2) في الأصل: "هَرَويّاً " وهو سبق قلم كما يتضح من تصوير المسألة.
(3) في الأصل: لا الهروي.
(4) في صفوة المذهب: (لا يُغني مَغْنَى الشرط) .
(5) زيادة لاستقامة الكلام.(13/434)
فصل
قال: "ولو أخذ منها ألفاًً على أن يطلقها إلى شهر ... إلى آخره " (1) .
8856- مضمون الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها - في طلب التزام طلاق مؤخر في الذمة بمال مبذول في الحال.
والثاني - استدعاء تعليق الطلاق ومقابلته بمال.
والثالث - استدعاء طلاق على الفساد بمال.
فأما استدعاء التزام الطلاق مؤخراً، فمن صورته أن تقول المرأة لزوجها: [طلقني] (2) غداً أو بعد شهر -على ما يتفق الاستدعاءُ فيه- ولك ألف درهم، فمقتضى [الاستدعاء] (3) التأخيرُ في التنجيز، ومقابلة الالتزام في الحال [بالمال] (4) .
فنقول: إن طلق الزوج في الوقت المعين على حسب الاستدعاء، فإن قصد إيقاعَ الطلاق في ذلك الوقت جواباً عمّا التمسته ووفاءً بما التزمه لها، واعتقد صحة ذلك، فالطلاق يقع بائناً، ويثبت المال على الفساد؛ فإنّ شرط المال مع استئخار الطلاق، [يوقع] (5) الشرط فاسداً؛ إذ وضع الخلع مع ارتباط المال بالطلاق على الاتصال.
ثم قال الأصحاب: الواجب في هذه الصورة مهرُ المثل؛ فإن فساد العقد جاء من فساد الصيغة ومخالفتِها وضعَ الشرع. وإنما يجري القولان في أن الرجوع إلى مهر المثل أو قيمة المسمى إذا كان الفساد ناشئاً من المسمى، فيجري قول في العدول عنه إلى قيمته، فأما إذا جاء الفساد من الصيغة، فلو ثبتت المالية على الصحة، لثبت المسمى، فاقتضى ما ذكرناه الرجوعَ إلى مهر المثل.
__________
(1) ر. المختصر: 4/62.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: استدعاء.
(4) في الأصل: فالمال.
(5) في الأصل: على.(13/435)
ولو أنشأ الزوج الطلاق في الوقت المعيّن، وقصد أن يكون ذلك ابتداءَ إيقاعٍ منه، من غير تقدير وفاء بملتزَم، فيقع الطلاق رجعياًً.
وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف، فقال: " أنت طالق "، على الاتصال، وقصد ابتداءَ الطلاق، لا إيقاعَه جواباً، فالطلاق يقع رجعياً، ولكن بينه وبين الله تعالى، ولا يصدّق في دعواه الانفرادَ والاستبدادَ مع اتصال لفظه بلفظها.
وإذا انفصل الطلاق ووقع في الوقت المستدعى في المسألة التي نحن فيها، ثم زعم أنه قصد ابتداءً، فالظاهر عندنا أنه يُصدّق ظاهراً، وتنفصل هذه المسألة عن الجواب المتصل في الأمر الظاهر.
ولو قال: قصدتُ جوابها وإسعافَها، ولكن علمت فساد العوض، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق مُبينٌ، فيثبت الرجوع إلى مهر المثل، كما قدمناه لا يتغير الحكم بعلمه بالفساد وجهله [به؛ فإن المسلمَ يعلم تسميةَ الخمر فاسدة] (1) ، وإذا سماها، ثبتت المالية في الخلع، وسبب هذا أن المالية تثبت بقصد المالية، والعلم بالفساد لا ينافي قصد المالية، وكيف ينافيه والشرع قاضٍ بالمالية.
وفيما نقل عن القاضي أنه إذا علم الفساد، لم يستحق، وكان الطلاق رجعياً في محل الرجعة. وهذا كلام رث لا حاصل له. والممكن في توجيهه أن الطلاق إذا انفصل عن استدعائها، ضعف عن اقتضاء المال، ورجع إلى عنصره (2) ووجب حمله على إطلاقه.
وهذا إنما كان يستقيم لو كان يبغي البدل، مع ظن الصحة مصيراً إلى أن الطلاق إذا انفصل، فلا محمل له إلا الابتداء، فإذا لم يقل هذا، فلا رجوع إلا إلى الفرق بين [العلم] (3) بالفساد والجهل به.
__________
(1) ما بين المعقفين مكان عبارة الأصل المضطربة، التي جاءت هكذا: "لا يتغير الحكم بعلمه بالفساد وجهله بضمان المشلة يعلم تسمية الخمر فاسدة ... إلخ " والحمد لله صدّقَنا (صفوة المذهب) .
(2) إلى عنصره: أي إلى أصله.
(3) في الأصل: العمل.(13/436)
8857- ومما يتصل بهذا القسم الذي نحن فيه أن المرأة إذا قالت: خذ مني ألف درهم، وأنت متخير في تطليقي إلى شهر، فإن عجلْتَه أو أخرته، فلك ألف إذا أوقعته في المدة المذكورة. قال الأصحاب: إذا أخر ثم طلق (1) ، فهو كما لو قالت: لك ألف لو طلقتني غداً أو بعد شهر، فطلقها في الوقت المعيّن، وزعموا أن التفاصيل بجملتها تعود كما قدمناها. وفصل القاضي في هذه الصورة بين أن يكون عالماً بالفساد، وبين أن يكون جاهلاً به. وهذا منه (2) وإليه، ولو صح، فهو متروك عليه.
والذي قطع به الأصحاب أنه إذا طلق على قصد الوفاء لها، استحق مهر المثل لفساد الصيغة.
8858- وهذا أوان التنبيه لأصل عظيم قد ذكرناه في تمهيد ماهية الخلع، وهو في ظاهر الأمر على مناقضة ما ذكرناه الآن، وذلك أن المرأة إذا قالت لزوجها: متى ما، أو مهما طلقتني فلك ألفٌ، فهذا اللفظ صريح في التأخير، ثم المأثور عن الأصحاب أنه إن طلقها على الفور، استحق المسمى، وإن تأخر الزمان، فطلقها، لم يستحق شيئاً.
وهذا على القطع يخالف ما ذكرناه الآن في الصورة الأخيرة؛ فإن قول القائل متى ما صريحٌ في اقتضاء التأخير، وتسويغه، فهو يناظر قولها: أنت بالخيار في تطليقي عاجلاً أو إلى شهر، فلئن كان الزوج بمبادرة الطلاق في المسألة المبنيّة على (متى ما) يستحق البدل المسمى، فيجب أن يستحق أيضاًً البدلَ المسمى إذا ابتدر الطلاق وإن خيرته؛ فإن (متى ما) يعطى إفادة التخيير في التعجيل والتأخير، وإن كان لفظ التأخير في مسألتنا مفسداً للمسمى؛ حتى يقال: وإن ابتدر الزوج الطلاق لا يستحق المسمى، وإنما يستحق مهر المثل، فيجب على مساق هذا أن يفسد الخلع إذا وقع استدعاء الطلاق بلفظ (متى ما) .
__________
(1) ثم طلق: أي في المدة.
(2) كذا " منه وإليه " ولعل صوابها (وهذا معزو إليه) .(13/437)
وإنما نشأ هذا الإشكال من المسألة الثانية، وهي إذا قالت: "لك ألف، وأنت بالخيار في تطليقي عاجلاً، وفي تأخير الطلاق إلى شهر"، واستدعاؤها يستحيل على التعجيل والتأخير، ويلزم أيضاًً أن يقال: إذا كان الاستدعاء بلفظ (متى ما) ، فأخر الطلاق على قصد الإجابة إنه يستحق مهر المثل.
وبالجملة، لا فرق بين المسألتين، وقد انتظم في مسألة (متى ما) صحةُ الخلع إذا ابتدر، وعري الطلاق عن البدل إذا تأخّر، وانتظم هاهنا للأصحاب الرجوع إلى مهر المثل إذا اتصل الطلاق، وإثبات مهر المثل إذا انفصل على قصد الإجابة، فيجب قطعاً نقل جواب كل واحدٍ من المسألتين إلى أختها، وإجراء وجهين فيهما جميعاً. وقد وجدت هذا الذي ذكرتُه في مرامزِ كلام صاحب التقريب، حكاية عن تصرفات ابن سريج.
8859- ومما يكمل به البيان أنها إذا قالت: طلقني غداً بألف، وأثبتنا العوض على الشرط المقدم إذا أجابها في الوقت المعين، فلو عجل الطلاق قبل الوقت المؤقت، ففي استحقاقه العوض احتمال؛ من جهةٍ خالف غرضها، [ومن جهةٍ] (1) عجل الفراق، وقد تقدم لهذا نظير فيه إذا استدعت الفسخ -على قولنا الخلع فسخ- فطلقها، فكيف يكون الأمر في ذلك؟ فيه اختلاف قدمنا ذكره.
ولو قالت: طلقني غداً بألفٍ، وطلقها بعد غدٍ، لم نثبت شيئاً بلا خلاف؛ فإنه أخر الطلاق، وهو في وضعه منافٍ لاستحقاق العوض، فلا هو وصل، ولا هو أتى به على وفق استدعائها، بل أخر عنه، فهذا منتهى القول في ذلك.
ومن القول الجليّ في هذا النوع أنه لا يستحق عليها شيئاً ما لم يأت عليها العدد (2) فيطلقها، إذا كان يبغي التأخير؛ فإن استحقاق المال يقترن في كل حساب بوقوع البينونة لا يتصور ترتب أحدهما على الثاني، لأن البينونة تقع بالمال.
ومهما رجعت المرأة عن قولها قبل تنفيذ الطلاق، بطل المال، وانقطع مسلك
__________
(1) عبارة الأصل: ... خالف غرضها ومن توجه عجل الفراق.
(2) ما لم يأت عليها العدد: يريد ما لم يحن الموعد المحدد ويطلق فيه.(13/438)
استحقاقه، ولا فرق بين أن تقول: إن طلقتني غداً، فلك ألف، [وبين أن تقول: طلقني غداً على ألف] (1) والأمر في جانب الزوج بخلاف هذا؛ فإنه إن قال: خالعتك على ألف، ملك الرجوع قبل إجابتها، وإن قال: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، لم يملك الرجوع، والسبب فيه أن الطلاق إذا علق، لم يتصور الرجوع عنه [لا] (2) لصيغة التعليق، وذلك أن الطلاق في نفسه إذا علق، لم يملك الرجوع عنه. وكم من تعليق يُرجَع عنه.
والمرأة إنما تعلق المالَ وذكرَه، فكانت بمثابة ما لو قال الرجل: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا، فإذا أراد الرجوعَ، كان له ذلك، وقد ذكرنا أن الخلع في جانبها معاوضةٌ نازعةٌ إلى الجعالة.
وهذا نجاز الكلام في نوع واحد من الأنواع الثلاثة المذكورة في الفصل.
8860- فأما النوع الثاني وهو الكلام في مقابلة تعليق الطلاق بالمال وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يبتدىء الرجل، فيقول: أنت طالق غداً على ألف درهم، فتقول: قبلت.
والصورة الأخرى - أن تقول المرأة مبتدئةً: علق طلاقي على مجيء الغد، ولك ألفُ درهم. وذكر صاحب التقريب وجهين في أن الخلع هل يصح كذلك، وهل يثبت البدل المسمى أم لا؟ حكاهما عنه الصيدلاني، ورأيتهما في كتابه: أحد الوجهين - أن المسمى يثبت؛ فإن معلَّق الطلاق كمنجزه؛ من جهة أنه لا مردّ له بعد إجرائه، وليس في حكم الوعد والالتزام في الذمة، حتى يظهرَ فيه الوجه الذي قدمناه في الفساد، والتعليقُ متصل بذكر المال وقبوله، ومن لم يستبعد إثبات المسمى في قول الرجل: متى أعطيتني ألف درهم مع الاستقصاء في وصفه، فينبغي ألا يستبعد تصحيح مقابلة التعليق بالمال. هذا أحد الوجهين.
__________
(1) زيادة من المحقق على ضوء السياق وحمداً لله، فقد وجدناها عند (ابن أبي عصرون) .
(2) في الأصل: " إلا لصيغة.. " ومعنى " لا لصيغة التعليق " أن امتناع الرجوع إذا علق الطلاق يرجع إلى طبيعة الطلاق، لا إلى أن العقد معلق، فكم من تعليق يجوز الرجوع عنه.(13/439)
والوجه الثاني - أن الخلع يفسد على معنى أن المسمى لا يثبت؛ فإن وضع الخلع على تنجيز تخليص المرأة بما تفتدي به نفسَها، والتي عُلّق طلاقها زوجة قبل وجود الصفة، وقد تتأخر الصفة، فكان ذلك مخالفاً لوضع الخلع، فلزم الرجوع إلى مهر المثل، ولا خلاف أن المال لا يثبت في ذمتها، ما لم تتحقق الصفة؛ فإن الطلاق يقع عندها، ويستحيل ثبوت المال عليها متقدماً على حصول الفراق.
وذكر شيخي أبو محمد وجهاً ثالثاً، حكاه عن [شيخه] القفال، وذلك أنه قال: من أصحابنا من فرق بين الابتداء إذا كان منه وبين ما إذا ابتدأت؛ فإن ابتدأ الزوجُ، وقبلت المرأة، صح البدل، وثبت المسمى، وإن ابتدأت المرأة بالاستدعاء ووضعت استدعاءها على تعليق الطلاق، لم يصح ذلك منها، وكان مآلُ الأمر بالرجوع إلى مهر المثل.
وهذا عندنا تخيل لا حاصل له؛ فإن التعليق إذا كان يقبل المقابلة بالمال، فإذا استدعت، فقد استدعت بالمال قابلاً للمقابلة، فلا أثر لتقدم قولها وتأخره.
وذكر القاضي وجهاً آخر- أن المال لا يثبت؛ لأن المعاوضة لا تقبل التعليق، وإذا لم يثبت المال، لم يقع الطلاق؛ فإنه علق على مال.
وهذا أولاً ضعيف؛ فإن وقوع الطلاق ينبغي أن يناط بالقبول، فإذا قال الزوج: أنت طالقٌ غداً بألف، فقالت: قبلت، فحصول القبول في هذه الصورة على صيغة حصول القبول في الطلاق المنجّز؛ إذ لا تعليق للطلاق بثبوت المال، وإنما تعليقه بصفة وبوقتٍ، فالمصير إلى أن الطلاق لا يقع غفلةٌ عظيمة. نعم، إن قيل: لا يثبت المال بجهة التعليق، فهو [فقهٌ] (1) على حال. ثم يجب أن يكون التفريع عليه أن الطلاق يقع رجعياً.
8861- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا علق الطلاق، وذكر مالاً، كما وصفناه، فقبلت المرأة، فلو أرادت المرأة الرجوعَ قبل وقوع الطلاق، لم تجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الأمر استقر بالتعليق والقبول، وصار التعليق كالتطليق.
__________
(1) في الأصل: فقيه.(13/440)
فإذا فرعنا على فساد المسمى [كان الجواب كمثله] (1) ، والسبب فيه أن الطلاق تعلق تعلقاً لا يُستدرَك، وارتبط بالمال ارتباطاً لا يحتاج معه إلى تجديد قبول، فلا يختلف الأمر بفساد المسمى وصحته، وليس كما لو استدعت منه أن يطلقها غداً؛ فإنها تملك الرجوع [لو أرادت] (2) حتى نقول: لو رجعتْ، ولم يشعر الزوجُ، فطلقها على قصدِ الإسعاف، نفذ الطلاق عارياً عن العوض.
وقد ينقدح فيه اشتراط بلوغ الخبر، كالتوكيل والعزل، والأظهر أنا لا نشترط بلوغ الخبر؛ فإن هذا في حكم الرجوع عن أحد شقي العقد قبل صدور الشق الثاني من العاقد.
فقد انتظم مما ذكرناه أن المرأة في صورة التعليق لم تلتزم بعدُ مالاً عليها، ولا نجد سبيلاً إلى دفع ما سيلزمها عند وقوع الطلاق، وكأنها التزمت أن تلتزم، وينشأ من هذا المنتهى تأكيدٌ لما قدمناه، وهو أن الطلاق [لو] (3) أُخّر، ثم أوقع، لم يتعلق به استحقاق مالٍ، وقد استنبطتُ هذا من قول الأصحاب فيه إذا قالت: متى طلقتني، فلك ألف. وقد صرح القاضي في التعليق بأن المال لا يثبت في وجهٍ إذا كان لا يثبت هاهنا وقد انعقد التعليق، فلأن لا يثبت في الطلاق المنشأ بعد زمان مستأخر أولى.
وقد نجز القول في مقابلة تعليق الطلاق بالمال.
8862- فأما الفن الثالث، فهو أن تستدعي طلاقاً، وتذكر من حكمه ما لا يوافق الشرع، مثل أن تقول: طلقني بألفٍ طلقةً يمتد تحريمها إلى شهر، ثم ينقضي. فإذا قال: أنت طالق طلقةً إلى شهر، فالطلاق يقع على موجَب الشرع، مسترسلاً على الأزمان، ثم قال الأصحاب: يفسد العوض [الذي] (4) سمَّت، بسبب فساد الصيغة، والرجوع إلى مهر المثل، وقياس هذا بيّن، على ما ذكرناه.
ولو قالت لزوجها: طلقني نصف طلقة بألف، فقال: أنت طالق نصف طلقة،
__________
(1) في الأصل: كالجواب كمثل.
(2) في الأصل: ولو أرادت.
(3) زيادة اقتضاها استقامة الكلام.
(4) زيادة من المحقق.(13/441)
فكيف السبيل؟ هذا فيه تردد؛ من قِبل أن ما استدعته فاسد في لفظه، وإن كان الشرع يكمله، وهذا بمثابة استدعائها طلاقاً إلى شهر، فوقوعُ الطلاق مطرداً على الأزمان حكمُ الشرع، كذلك تكميلُ الطلقة الملفوظ بها نصف طلقة موجب الشرع، فوجب أن لا يكون بين المسألتين فرق.
وكذلك لو قالت: طلق يدي أو طلق نصفي بألف، ففي المسألة تردد، واحتمال، والاحتمال في هذه الصورة الأخيرة أظهر، فإنها تُبنى على خلافٍ للأصحاب -يأتي- في أن من قال لامرأته: نصفك طالق، فالطلاق يصادف النصفَ، ويسري، كما يفرض مثل ذلك في العتق، أو يكون تطليق النصف عبارة عن تطليق الكل؟ والظاهر في المسائل كلها الرجوع إلى مهر المثل. وقد نقلنا نصَّ الأصحاب فيه إذا استدعت الطلاق إلى شهر أن الرجوع إلى مهر المثل.
فليتأمل الناظر هذه المسائل.
فصل
قال: "ولو قالتا: طلقنا بألفٍ، ثم ارتدتا ... إلى آخره" (1) .
8863- نُجدد العهدَ في مقدمة الفصل بما مهدنا ذكره في كتاب الصداق. نقول: إذا خالع الرجل امرأتيه بمالٍ سماه، فقبلتا، فالبينونة تقع، وفي صحة البدل قولان تمهد أصلهما فيما مضى: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإنه لا يدري بماذا يطالِب كلَّ واحدة، وكلُّ واحدة منهما مستقلّةٌ بنفسها فيما تلتزِم وتطالَب به.
والقول الثاني - أن الخلع صحيح، وتعدُّدُ المرأتين بمثابة ابتياع عبدين بألف.
فإن لم نصحح التسميةَ، فالرجوعُ إلى مهر المثل، فيطالِب كلَّ واحدة منهما بمهر مثلها؛ فإنّ سبب الفساد الجهالة، ومهما (2) كان فساد البدل بسبب الجهالة، فالرجوع إلى مهر المثل.
__________
(1) ر. المختصر: 4/62.
(2) " مهما " بمعنى (إذا) .(13/442)
وإن حكمنا بصحة المسمى، فالأصح الذي عليه التعويل أنه يتوزع على مهور أمثالهما، فإن كان مهراهما متساويين، فعلى كل واحدة نصفُ البدل المسمى، وإن كانا مختلفين، وزعنا المسمى على مقداريهما، وتطالَب كل واحدة منهما بما يخصها.
وذكر الشيخ أبو بكر (1) قولاً آخر: أنا نوزع المسمى بالسوية على رؤوسهما، فلا ننظر إلى تفاوت المهرين وتساويهما.
وهذا لم أره إلا له، وأجراه القاضي قولاً، ولم يزيفه، ثم وجّهه الصيدلاني بأن الطلاق هو المقابَل بالمال، وطلاقُها وطلاق صاحبتها لا يختلفان في سبيل العدد، كما لا تختلف طلقات امرأة.
وهذا ضعيف، لا أصل له؛ فإن المقابَل بالمال أبضاعُهما، وسبيل حَلِّ النكاح عنهما الطلاقُ، فلا معنى للنظر إلى أعداد الطلاق، ثم أعداد النسوة.
ثم إن صح هذا الذي ذكره، فيتفرع عليه أمران: أحدهما -[أنه] (2) يجب القطع بصحة الخلع إذا كان تفريع التوزيع يُفضي إلى هذا، وربّ أصلٍ [يستبدل] (3) بفرعه في إجراء الترتيب. هذا لا بد منه، فيقال: إذا كنا نرى التوزيع على الرؤوس، فالبدل
__________
(1) الشيخ أبو بكر: المراد به هنا: الصيدلاني.
(2) في الأصل: أن.
(3) في الأصل: " يستبسل ". وأما الاستبدال الذي يشير إليه، فبيانه أن الأصل الذي جدد الإمام العهد به هو أن الرجل إذا خالع زوجتيه بمالٍ سماه، فالبينونة تقع، وفي صحة المسمّى خلافٌ: من قال: " لا يصح " علّل بالجهالة؛ فإنه لا يدري بماذا يُطالب كلَّ واحدةٍ منهما.
ومن قال: " يصح " جعل الرجوع إلى نسبة مهر المثل من المسمى: أي يطالب كل واحدة بما يساوي نسبة مهر مثلها من المسمّى.
ثم ذكر الصيدلاني قولآ آخر وهو أن المسمى يوزع بينهما بالسوية على الرؤوس، ووجّهه بأن المقابل بالمال هو الطلاق وهو لا يختلف من زوجة لأخرى.
فإذا صح هذا- وهو مفرع على صحة المسمّى، فنعتبر هذا الفرع أصلاً، ونقلب التفريع، ونقول: إذا كان التوزيع على الرؤوس فالمسمى ثابثٌ، وإذا كان التوزيع على مهر المثل، ففي صحة المسمى خلاف (هذا هو إبدال الأصل بفرعه) .(13/443)
المسمى ثابت، وإن كنا نقدر التوزيع على مهر المثل، ففي صحة المسمى الخلاف الذي ذكرناه.
ومما يجب تفريعه على ذلك أن الرجل إذا قال في مخاطبة امرأتيه، وكان يملك على كل واحدةٍ ثلاث طلقات: طلقتك يا زينب واحدةً، وطلقتك يا عَمْرة اثنتين بألف درهم، فإذا كنا نرى التوزيع على التسوية، فهذا فيه تردد، والظاهر أن المطلقة اثنتين تلتزم ثلثي الألف، والمطلقة واحدة تلتزم الثلث؛ نظراً إلى أعداد الطلاق في المرأة الواحدة، وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أن التوزيع على الرؤوس، [ولا نظر] (1) إلى أعداد الطلاق، فيكون البدل المسمى منشطراً أبداً بين اثنتين، وإن تفاوت الواقع عليهما من أعداد الطلاق.
8864- ولو قال الزوج لامرأتيه: أنتما طالقان على ألف، فقبلت إحداهما، ولم تقبل الأخرى، لم تطلق واحدة منهما. [هكذا] (2) ذكر الأصحاب. وهذا لعمري جارٍ على ظاهر المذهب فيه إذا قال الرجل لشخصين: بعت منكما عبدي هذا بألف درهم، فقال أحدهما: قبلت البيعَ في نصفه بخمسمائة، فالذي ذكره أئمة المذهب أن القبول لا يصح على هذا الوجه، ما لم يساعد صاحبه، وإن فرعنا على المذهب المشهور والقول المنصور على أبي حنيفة، ورأينا أن لأحدهما أن يتفرد برد ما اشتراه عند الاطلاع على العيب، وإن لم يساعده الثاني في الرد (3) .
هذا الذي ذكرناه في القبول هو المذهب المقبول، وقد اشتهر عن الأصحاب ذكرُ منعٍ فيه، والحكمُ بتصحيح القبول من أحدهما في القدر الذي يخصه من الملك، بالقدر الذي يلزمه من الثمن، ولم أر هذا لمعتمدٍ في المذهب. وغالب ظني أنه من
__________
(1) في الأصل: والنظر إلى أعداد الطلاق.
(2) في الأصل: وهذا ذكر الأصحاب.
(3) المعنى هنا: أن المذهب هو عدم تصحيح القبول في البيع، إذا قبل أحدهما بخمسمائة، حتى ولو قلنا: يجوز لأحدهما أن ينفرد برد ما اشتراه عند الاطلاع على العيب، وإن لم يساعده الثاني، فيما إذا كانا قبلا معاً، ثم اطلعا على عيب بالعبد.(13/444)
ارتكاب (1) الخلافيين، وقد حكيت هذا في كتابٍ واستشهدت بمسألةٍ من الخلع، ولم أتثبت فيها على ما ينبغي.
8865- وهذا أوان التفصيل على التحصيل الذي عليه التعويل. فنقول: إذا كان البادىء الزوج، فقال لامرأتيه: أنتما طالقان بألف. فإذا قبلت إحداهما، ولم تقبل الثانية، لم يقع شيء، كما لو قال مالك العبد: بعت عبدي هذا منكما بألف درهم، فقبل أحدهما دون الثاني، لم يصح. والخلع أولى بألا يصحَّ ببعض القبول فيه، لما فيه من تضمين التعليق.
وإن صح في البيع تصحيحُ القبول من أحدهما دون الثاني، لم يمتنع خروج مثله في
__________
(1) ارتكاب الخلافيين: تكرر هذا اللفظ (ارتكب) بأكثر من صيغة من صيغ الاشتقاق، في مواضع كثيرة على طول هذا الكتاب، ومنها على سبيل المثال قوله في خطبة الكتاب: "وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ غريب منقاس ذكرت ندوره وانقياسه، وإن انضم إلى ندوره ضعف القياس نبهت عليه ... وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً أنبه عليه". وحين يعرض للاجتهاد في القبلة، يعقب على أحد الوجوه في صورة من الصور قائلاً: "وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعدٌ ظاهر" وفي باب آخر يعقب على أحد الوجوه قائلاً: "ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلاف" وفي كتاب النكاح يعقب على إحدى المسائل قائلاً: "ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فرقاً، وارتكب طرد القياس في المسالتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى فيهما نص الشافعي، وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً ... ".
هذه نماذج لورود هذا اللفظ، وصورٌ من اشتقاقاته، ولقد تبادر إلى الذهن أن هذا (الارتكاب) أحد مصطلحات علم الجدل والمناظرة، فبحثت واستقصيت جهدي في كل مظانه: في الكافية في الجدل لإمام الحرمين، المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي، واصطلاحات المتكلمين والفلاسفة للآمدي، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وتعريفات الجرجاني، وكليات أبي البقاء، ثم غريب ألفاظ الشافعي، ثم معاجم اللغة، ثم معجم الألفاظ التي شرحها ابن خلكان في الوفيات.
ويبدو أن المراد بالارتكاب هنا التعسف وركوب الطريق غير السوي، يظهر ذلك من سياق العبارات التي أمامنا، والذي يرشح هذا التفسير أن هذا (الارتكاب) يكون عادة من أئمة الخلاف، عند نصرة كل صاحب رأي لرأيه، فيعتسف أيّ طريق، انتصاراً لرأيه، وفراراً من إلزامات خصمه. والله أعلم.(13/445)
الخلع؛ فإنه وإن اشتمل على معنى التعليق، فهو في هذا المقام كالمعاوضة المحضة؛ إذ يجوز للمخالع إذا لم يأت بلفظ التعليق أن يرجع قبل القبول، وهذا أصدق الآيات في تغليب معنى المعاوضة في الفن الذي نطلبه.
والمعتمد في منع تبعض القبول مخالفة القبول لما أشعر الإيجاب باستدعائه، فإن من قال: " بعت منكما " مستدعٍ لجوابهما على الاقتران، فهذا ما يجب التعويل عليه، ولهذا قلنا: لو قال الرجل: بعتك عبدي هذا بألفٍ، فقال المخاطب: اشتريت بألفين، فالبيع لا ينعقد، وكان من الممكن إحباط الألف الزائدة والمصير إلى أنها ملغاة، ولكن شرط القبول موافقة الإيجاب على وجهٍ [لو فرض غير مستقلٍّ] (1) لانْبنَى على ما تقدم، وذلك أن المخاطَب إذا قال: قبلت، فهذا لا يستقلّ لو انفرد، ولكنه نفذ لابتنائه على ما تقدم.
وإذا قال البائع: بعت عبدي هذا منكما بألف، فقالا: اشتريناه بالألف، صح وقد تحققت الموافقة على النهاية. ولو قال: بعت هذا العبدَ منكما بألف، فقال كل واحد منهما: اشتريتُ نصفه بنصف الألف. فهذا فيه احتمالٌ عندي؛ من قِبَل أنه خاطبهما على صيغة تقتضي جوابهما، فإذا ذكر كل واحد منهما عبارة تصلح للانفراد ورّث ذلك احتمالاً، والظاهر الصحة بحصول الغرض من الموافقة في المعنى، ثم لا نشترط أن ينطقا معاً، بل إذا قال أحدهما: قبلت، ثم قال الثاني بعده: قبلت، والأمر على التواصل، والزمان الجامع المرعي الشامل، جاز. وهذا هو الممكن.
ولو قال رجلان: بعنا عبدنا هذا -وهو بيننا نصفان- منك بألف، فقال لأحدهما: اشتريت نصيبك بخَمسمائة، فالذي أطلقه الأصحاب أن البيع لا يصح في بعض العبد إذا أراد الاختصار عليه، ومنعُ الصحة في هذه الصورة أَعْوصُ وأغمض من منعها [إذا] (2) اتحد البائع وتعدد القابل، فكل واحد منهما يعرب عن ملكه، ولا تعلّق له بملك صاحبه، فإن صح تبعيض القبول فيه إذا قال الشخص الواحد: بعت عبدي
__________
(1) في الأصل: " أو فرض عن مستقبل ".
(2) في الأصل: وإذا.(13/446)
منكما، فلا شك أن هذا يُخرّج فيه إذا قالا بعنا منك. وسنذكر صوراً في استدعاء النسوة الطلاق؛ فإنا الآن فيه.
إذا ابتدأ الزوج وقال: خالعتكما، أو خالعتكن. [فلو خالع] (1) امرأتين بألف، وكانت إحداهما سفيهة، والأخرى مُطْلقة (2) ، فقبلتا، وقع الطلاق وفاقاً، ثم الطلاق الواقع على السفيهة رجعي، وطلاق المُطْلقة بائن.
فإن قيل: قد [تبعض] (3) الأمر في لزوم العوض، فهلا حكمتم بأن ذلك يمنع وقوع الطلاق؟ قلنا: المرعي القبول. وقد ذكرنا أن قبول المحجورة في اقتضاء الطلاق، كقبول المُطْلقة، فإذا حصل الوفاق في القبول، لم يمتنع افتراق الأمر في لزوم المال وانتفائه. ووقوع البينونة على إحداهما، والطلاق الرجعي على الأخرى.
فهذا قدر غرضنا الآن في ابتداء الرجل بالمخالعة.
8866- فأما إذا سألت امرأتان الطلاق، وقالتا: خالعنا بألفٍ، فإن أجابهما، وقال: خالعتكما، أو طلقتكما: فالبينونة واقعة، وفي صحة المسمى القولان المقدّمان؛ فإن مأْخذهما لا يختلف بأن يكون الزوج هو المبتدىء، أو تبتدىء النسوة بالاستدعاء.
ولو قالت امرأة: طلقني [وضَرَّتي] (4) بألف، فقال: طلقتكما، فالمسمى صحيح هاهنا، بلا خلاف، فإن القائلة متحدة، غير أنها أدخلت نفسها وضرتها في العقد، وتعدّدُ المعقود عليه لا يؤثر، إذا تحقق اتحاد العاقد، وليس كما إذا سألتا، فأجابهما؛ فإن كل واحدة منهما مستقلّة بالالتزام. وهذا ظاهر مغنٍ بظهوره عن مزيد الكشف.
ولو [قالتا] (5) : خالعنا أو طلقنا بألف، فقال في جواب إحداهما: طلقتك،
__________
(1) في الأصل: ولو.
(2) مطلقة: أي غير محجورة.
(3) في الأصل: يتبعض.
(4) في الأصل: " وحدي " وهو تصحيف مضلَّل.
(5) في الأصل: قلنا.(13/447)
فالطلاق يقع [بائناً] (1) ، وهذا التبعيض لا ينافي وقوع الطلاق، وليس كما إذا قال: خالعتكما بألف، فقبلت إحداهما؛ فإن الطلاق لا يقع على القابلة، كما حكيناه عن الأصحاب؛ فإن قوله محمول على مقتضى المعاوضة والمعاوضة في مثل هذه الصورة تقتضي الاجتماع في القبول، فجرى ما قدمناه على هذا القياس.
فأما إذا قالتا: طلقنا بألف، فطلق إحداهما، فكل واحدةٍ على استدعائها، لا تعلق لها بصاحبتها، وليس كما لو قال الطالبان: بع منا هذا العبد بألف، فباع نصفه من أحدهما، فالبيع باطل؛ لأنه معاوضة [محضة، والمعاوضة] (2) المحضة تقتضي توافقاً حقيقياً بين الجواب والإيجاب، واستدعاءُ الخلع في النسوة، وإن كان معاوضة، فهي نازعة إلى جعالة، ولو قال: رجلان أبق عبداهما: رُدّ عَبْدَيْنَا ولك كذا، فرد عبد أحدهما، استحق مقداراً، فإذا [استدعتا] (3) ، فأسعف إحداهما، استحق مقداراً من المال، ثم لا يتصور استحقاقُه المالَ من غير تقدير [وقوع] (4) البينونة.
ومن استنبط في (5) تبعيض القبول في البيع قولاً، إنما استنبطه من إجابة [الزوج] (6) إحداهما وقد ابتدأتا الاستدعاء، ثم طرد هذا حيث يلزمه، وقال: إذا قال مالك العبد: بعت منكما هذا العبدَ بألف، فقبل أحدهما دون الثاني، صح.
وهذا [الباني] (7) ليس على وجهه؛ فإن الذين قالوا في الخلع إذا استدعتا ابتداءً،
__________
(1) في الأصل: ثانياً.
(2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: استدعا.
(4) في الأصل: توقع.
(5) " في " تأتي مرادفة لـ (مِن) .
(6) غير مقروءة في الأصل.
(7) في الأصل: " الباقي " والمثبت تصرّفٌ منا على ضوء السياق، فالمعنى أن هذا الباني أي المستنبط على وجهه الصحيح.
وعَبارة ابن أبي عصرون: " قال الإمام الاستنباط ليس على وجهه ".(13/448)
فأجاب إحداهما، ثبت المال وتقع البينونة أطلقوا [القول] (1) بأن الزوج إذا ابتدأ، فقال: خالعتكما بألفٍ، فقبلت إحداهما دون الثانية، لم يقع شيء. فإذا لم نُجز [استنباط] (2) التبعيض من صورة إلى صورة في الخلع، فكيف يجب استنباط التبعيض في (3) الصورة التي ذكرناها في البيع مع إطلاقنا بأن الخلع في مثل تلك الصورة لا يتبعض القول فيه.
8867- ومن الأسرار اللطيفة فيما نحن فيه في قواعد الخلع أن الزوج إذا استعمل في مقابلة الطلاق بالمال صيغة المعاوضة، اقتضى ذلك عدمَ التبعّض في القبول قياساً على المعاوضة [المحضة] (4) . وإن استعمل صيغة التعليق، فأولى، وذلك بأن يقول لامرأتيه: إن أعطيتماني ألفاًً، فأنتما طالقان. فإذا إعطته [الألف] (5) إحداهما دون الأخرى، لم تطلق المعطية؛ فإنّ التعليق بالصفتين فصاعداً يقتضي الاجتماع في الصفات. وهذا بيّن في قاعدة التعليق، [فإن إيجاب الزوج] (6) لا يخلو عن المعاوضة والتعليق، وكل واحدة منهما تقتضي الجمع.
وإن كان الاستدعاء من النسوة، فهن يلتمسن ما يقبل الغرر، فيصير قبول الطلاق للغرر في حقهن مُلحِقاً استدعاءَهن باستدعاء الأعمال في الجعالة؛ إذ ليس منهن تعليق، وإنما منهن بذلُ مال غيرَ أنهن يبذلن الأموال في مقابلة ما يقبل الغرر، ولهذا قال المحققون: ما يصدر منهن معاوضة نازعة إلى الجعالة.
وانتظم من هذا أن الزوج إذا ابتدأ [فمعاوض] (7) أو معلّق، والمرأة إذا استدعت، فليس من جانبها ما تملك [تعليقه] (8) . فإذا ارتبط المال بما يقبل الغرر، كان إسعاف
__________
(1) في الأصل: الزوج.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) بمعنى (مِنْ) .
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: " أعطت إحداها " والتعديل والزيادة من (صفوة المذهب) .
(6) في الأصل: فإذا جابت.
(7) في الأصل: بمعاوض.
(8) في الأصل: تطليقه.(13/449)
الزوج على قياس إسعاف العامل المجعول له؛ فإذا تحقق هذا، وقال: طلقتك يا هذه، فالبينونة تثبت، والكلام بعد ذلك فيما يلزمها، وهذا خارج على ما إذا [خالعهما فقبلتا] (1) .
فإن قلنا ثَمَّ: على [كلّ] (2) واحدة منهما تمامُ مهر مثلها، فعلى التي خصها بالإجابة مهرُ مثلها، وهذا حكمٌ بفساد العوض. وإن قلنا ثَمّ: المسمى يوزع عليهما بالسّويّة، فهذه التي خصها الزوج بالإجابة عليها نصف البدل الذي ذكرناه.
وإن قلنا: إذا خالعهما بألف، فقبلتا الألف، فعلى كل واحدة منهما من المسمى مقدار مهر مثلها، فهذا القول لا يخرج هاهنا؛ لأنه إذا خالعهما، فقبلتا، وصححنا المسمى، فنقول: المسمى معلوم في نفسه، فلا يضر الجهل في التوزيع، وإذا خص إحداهما بالإجابة، فإذا كنا نفرع على التوزيع على مهر المثل، فلم يثبت في حق هذه المجابة إلا مقدارٌ مجهول من المسمى في أول الأمر، وليس هذا جهالة توزيع بعد إعلام العوض على وجهٍ. وإذا صدر القبول منهما، فالألف بكماله ثابت، وهو معلوم، فأمكن أن يعتمد العقد إعلامَ الألف، وإذا لم يجب [إلا] (3) إحداهما، فأول [العوض] (4) مجهول إذا كنا نرى التوزيع على أقدار مهر المثل؛ فإذاً لا ينقدح فيه إذا أجاب إحداهما إلا قولان: أحدهما - الواجب مهر المثل.
والثاني - أن الواجب نصف المسمى إذا كنا لا نرى التوزيع، فأما إثبات مقدار من المسمى بتقدير توزيعه على المهرين، فلا سبيل إلى المصير إليه. وإذا أجابهما، انتظم على إفساد التسمية وتصحيحها ثلاثةُ أقوال: أحدها - أن على كل واحدةٍ مهر مثلها.
والثاني - أن على كل واحدة من المسمى مقدار ما يقابل مهرها عند القسمة على أقدار المهرين (5) .
__________
(1) في الأصل: " خالعها قبلنا " وواضح ما فيه من تصحيف. والمثبت من (صفوة المذهب) .
(2) في الأصل: كذا.
(3) في الأصل: إلى.
(4) في الأصل: العرض.
(5) لم يذكر القول الثالث، وهو أن على كل واحدة منهما نصف المسمى. (ولعله تركه لوضوحه) .(13/450)
وقد نجز تمام المقصود في ابتدائه بالمخالعة وابتدائهن بالاستدعاء وما يفرض من جمع وتفريقٍ في القبول منهم، وفي إجابة من الزوج.
8868- ثم ابتدأ الشافعي هذا الفصل وغرضه الكلامُ في طريان الردة، ونحن نقول: إذا قالت المرأة: طلقني بألف، ثم ارتدت قبل إجابة الزوج، فأجابها الزوج بعد ردتها، فنذكر غرضَ الشافعي، ثم ننعطف على ما يتعلق به من الإشكال، قال الشافعي: إذا كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فإذا ارتدت، انقطع النكاح بردّتها، ولغا طلاق الزوج؛ فإنه يقع بعد انفساخ النكاح.
وإن كانت مدخولاً بها، فليس يخفى أن انفساخ النكاح موقوفٌ عندنا، فإن أصرت على الردة، تبيّنا أن النكاح انفسخ مع الردة وأنها استقبلت العدة بعد الردة. وإن عادت إلى الإسلام في زمن العدة، تبيّنا أن [الردة] (1) لم تقتضِ انفساخ النكاح، والخلعُ يخرج على هذا التقدير، فإن أصرت حتى انقضت مدة العدة، لغا طلاق الزوج، وبان أن صدوره من الزوج بعد الانفساخ، وإن عادت، فالطلاق واقع، والخلع صحيح، هذا مراد الشافعي.
8869- ثم يتطرق إلى ما ذكر أسئلةٌ وأجوبة عنها، مثلاً: إنّ قائلاً لو قال: هذا النص هل يدل على أن تخلل كلام بين الإيجاب والقبول لا يوجب انقطاع أحدهما عن الثاني؟ قلنا: قد استدل بهذا النص من صار إلى أن تخلل الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول، لا يؤثر، ووجهُ الاستدلال أن الشافعي صحح الخلع مع تخلل كلمة الردة إذا جرت بعد الدخول، وفرض العوْد إلى الإسلام قبل مدة العدة.
وهذا فيه نظر عندي من قِبل أن الشافعي صور مسألته فيه إذا استدعت المرأة الطلاق، ثم ارتدت، ثم أجاب الزوجُ، فالكلام صادر من المرأة بعد فراغها عن الاستدعاء، وإنما يقع التناقش والبحث [فيه إذا] (2) جرى الإيجاب، فتكلم القائل بكلامٍ غير القبول، ثم قبل. وهذا يناظر ما لو تخالع الرجل مبتدئاً، فارتدت المرأة،
__________
(1) في الأصل: العدّة.
(2) في الأصل: فيه ما إذا.(13/451)
ثم قبلت، والشافعي لم ينص على الردة في هذه الصورة، وإنما ذكر الردة في الصورة الأولى.
وقد يجري في هذا نوع آخر من السؤال، وهي أنها لما ارتدت، كان يجب أن نجعل ارتدادها رجوعاً [منها] (1) ؛ فإن الردة تُغنيها عن طلب الفراق، فهلا أشعرت الردة برجوعها؟ وسبيل الجواب أن الردة لا تَعْني الرجوعَ عن الاستدعاء، ولكن المرأة إذا لحقتها شِقوةُ الردة، لم تقصد بالردة أمراً سوى ما بدا لها، ثم الانفساخ حكم الشرع. فهذا وجه التنبيه على ذلك.
8870- ومن تمام الكلام في ذلك أن الرجل إذا خالع امرأتين، ثم ارتدتا بعد الدخول، وقبلتا أو استدعتا وارتدا، وأجابهما الزوج، فإن أصرّتا، لم يخف حكمهما، وإن رجعتا، لم يخف أمرهما.
وإن أصرت إحداهما ورجعت الأخرى؛ فإن كان الاستدعاء منهما، ثم جرى الأمر كما ذكرنا، فهذا بمثابة ما لو استدعتا ولا ردة، فأجاب إحداهما. وقد مضى هذا.
وإن ابتدأ الزوج المخالعة، فارتدتا، ثم قبلتا، فقد يتجه ألاّ نصحّح قبولهما وإن عادتا؛ لتخلل الكلام؛ بناء على أن الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول قاطعٌ؛ وليس هذا كالصورة الأولى.
وإن صححنا الخلع ولم نجعل الكلام في نفسه قاطعاً، فإن أصرتا أو عادتا، لم يخف الحكم. وإن أصرَّت إحداهما وعادت الأخرى، فليتأمل الناظر هذا الموقف؛ فإنَّ القبول في حق المُصِرَّة باطل؛ فقد ذكرنا أن إحداهما إذا قبلت دون الأخرى، لم يثبت الخلع في حق القابلة، ولم يقع الطلاق؛ فقد ينظر الناظر إلى أنهما قبلتا، ثم أبطلنا قبول إحداهما، وقد يخطُِر له تقريب هذا مما إذا كانت إحداهما محجورة، والأخرى مطْلَقة، وليس الأمر كذلك. فنجعل كما لو قبلت إحداهما، ولم تقبل الأخري؛ فإنا أبطلنا القبول في حق التي قبلت، وجعلنا كأنا لم تقبل، فوجود ذلك القبول وعدمه بمثابةٍ، ووضوح ذلك يغني عن كشفه. وقبول السفيهة صحيح إذا
__________
(1) في الأصل: " عنها ".(13/452)
انفردت، فإن الطلاق يتعلق به، وإن كان رجعياً.
فصل
8871- ثم قال الشافعي: "ولو قال لهما: أنتما طالقان إن شئتما ... إلى آخره" (1) .
مضمون هذا الفصل قد سبق موضحاً، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شئت ولم يذكر عوضاً، اقتضى ذلك مشيئةً على الاتصال، وإذا قال لها: أنت طالق بألف إن شئت، فقد ذكرنا تردد الأصحاب في ذلك، واخترنا أنه يكفيها أن تقول: شئت، ثم ذكر الشافعي فرضَ الكلام في امرأتين بأن يقول الزوج لهما: أنتما طالقان بألف إن شئتما، والغرض لا يختلف، وإنما قصد الشافعي أنه لا بد من [مشيئتهما] (2) . وهذا بيّن مبيّنٌ على الأصول المقدمة.
فصل
" قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال له أجنبي: طلق فلانة ولك عليّ
ألف ... إلى آخره" (3) .
8872- غرض الفصل أن بذل المال على الطلاق من الأجنبي جائز وإن لم تشعر المرأة، ولم تأمر، وهذا لا خلاف فيه. والتردُّدُ الذي ذكرناه في صدر الكتاب في الخلع الذي يختلف القول. في كونه فسخاً أو طلاقاًً، فأما الطلاق نفسه، فيجوز للأجنبي بذلُ المال عليه، ثم يصح منه أن يختلع [امرأةً] (4) على عينٍ من أعيان مال نفسه، ويصح منه أن يختلعها على مالٍ يلتزمه في ذمته، ثم إذا انفرد بذلك، نفذ اللزوم عليه، ولم يجد مرجعاً.
وإن أمرته المرأة بأن يختلعها، نُظر: فإن شرطت له الرجوعَ [عليها] (5) بما يغرَم،
__________
(1) ر. المختصر: 4/62.
(2) في الأصل: مشيئتها.
(3) ر. المختصر: 4/63.
(4) في الأصل: امرأته.
(5) في الأصل: عليه.(13/453)
رجع إذا غرِم، وإن أطلقت الإذن، فغرم الأجنبي، فهل يرجع عليها؟ فعلى وجهين. وكان شيخي يقول: من ضمن مالاً عن إنسان بإذنه، ولم يشترط الرجوع عليه، فإذا غرِم، ففي الرجوع خلافٌ مشهور.
وإذا وكل رجلٌ رجلاً حتى اشترى له عبداً بمال في الذمة، فاشترى، وغرم الثمن، فالمذهب الذي يجب القطع به أنه يرجع على الموكِّل، وذلك أنه حصّل له ملكاً بعوض، فيبعد أن يعتقد المشتري سلامةَ الملك له في المبيع من غير عوض. وإذا اعترف الموكِّل بالتوكيل، لم يختلف الأصحاب في أنه لو أراد البائع مطالبته بالثمن، أمكنه، فالإذن في البيع إذاً بمثابة الإذن في الضمان مع التقيد بالرجوع.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فألحق المشتري إذا ضمن بالضامن إذا غرم. وهذا بعيد.
والمرأة إذا أذنت لأجنبي في الاختلاع، ولم تذكر الرجوع عليها، فهذا بين الضمان وبين التوكيل بالشراء: شَبَهُه بالتوكيل من جهة أن منفعة الخلاص تعود إليها، كما أن الملك في المبيع يقع للموكِّل بالشراء. ويُضاهي الضمانَ من جهة أن الضامن يُتصور أن ينفرد بالضمان والأداء، والأجنبي يُتصور أن ينفرد بالاختلاع والتخليص.
فهذا بيان هذه المنازل. وحقيقةُ القول في الوكيل بالخلع والاختلاع ستأتي في فصلٍ مفرد بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
8873- ثم اختلاعُ الأجنبي الزوجةَ مع كونه مُجْمَعاً عليه خارجٌ على مذهب الافتداء؛ فإن المرأة في أسر الزوجية، [وحِبَالة] (1) النكاح، وقد سمى الله تعالى الاختلاعَ افتداءً، وأثبته على صيغةٍ تُشعر بالرخصة، فقال عز وجل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وشبه الشافعي اختلاعَ الأجنبي بافتداء الأسرى.
ولو قال الرجل لمالك المستولدة: أعتقها، ولك ألف، أو على ألف، فأعتقها، استحق الألفَ المسمى على باذله، وخرج هذا على مذهب التخليص والافتداء؛ فإن الملك في رقبة المستولدة لا يقبل النقل، كحق الزوج في زوجته.
ولو قال الرجل لمالك عبدٍ: أعتقه عنِّي بألفٍ، فأعتقه، صح، ووقع العتق عن
__________
(1) في الأصل: وجعالة.(13/454)
المستدعي بناء على تقدير انتقال الملك إليه أولاً، ونفوذ العتق عن المستدعي في ملكه.
ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك بألف، فأعتقه، ولو قال: [أعتقه بألف] (1) ، ولم يضف العتق إلى نفسه، فأعتقه، وقع العتق عن المالك. وهل يستحق العوض على المستدعي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يستحقه إذا (2) كان من الممكن أن يقابل المالَ المبذول بنقل الملك إليه ونفوذ العتق عليه، وهذا لو فعله، كان على قياس المعاوضة، فإذا كان قياس المعاوضة ممكناً، فالمعاملة التي مساغها الافتداء يبعد أن تنفذ؛ إذ محلها الضرورة.
ولو قال: أعتق أم ولدك عني بألف، فإذا أعتقها، وقع العتق، ولم يستحق على المستدعي شيئاً؛ فإنه شرط في استحقاق المال عليه وقوع العتق عنه. هكذا ذكر الأصحاب.
ولو قال الأجنبي للزوج: " طلق زوجتك عني بألف "، فطلقها، فالوجه القطع أنه يستحق الألف؛ فإنه لا تخيّل لوقوع الطلاق عن المستدعي، ووقوع العتق عن المستدعي ممّا يُتخيل على الجملة. نعم، لا يمتنع أن يقال: يفسد لفظ الأجنبي بقوله: " طلقها عني ". ثم أثر فساد اللفظ الرجوعُ إلى مهر المثل.
والذي يتعلق بتمام البيان في المسائل أن الأجنبي إذا قال: " طلقها بألفٍ أو على ألفٍ "، فإذا طلقها، استحق عليه الألف. ولو قال الأجنبي: " طلقها ولك ألف " فقد ذكرنا تردُّداً في أن المرأة لو استدعت الطلاق بهذه [الصيغة، فهل] (3) يُستحق العوض عليها. والأجنبي [أولى بالتردّد من المرأة] (4) ؛ فإنه أبعد عن غرض الخلع، فكان جانبه أولى بصلةٍ مصرِّحة بمعنى المعاوضة.
__________
(1) في الأصل: " أعتقتُه بألف ".
(2) إذا: بمعنى (إذ) ، وهو استعمال سائغ عليه شواهد من الشعر والنثر، كما أوضحنا ذلك قبلاً.
(3) في الأصل: بهذه الصفة فهو.
(4) عبارة الأصل: " والأجنبي من على المرأة " ولعل فيها سقطاً أو تصحيفاً. والحمد لله ما قدرناه وجدناه بنصه في (صفوة المذهب) .(13/455)
فصل
قال: "ولا يجوز ما اختلعت به الأمة إلا بإذن سيدها ... إلى آخره" (1) .
8874- الأمة إذا اختلعت نفسها عن زوجها، فلا يخلو إما أن تختلع بإذن السيد أو تختلع بغير إذنه. فإن اختلعت بإذن السيد، لم يخل إما أن تختلع على عينٍ من أعيان مال السيد، وإما أن تختلع بمالٍ ملتزَم في الذمة. فإن اختلعت بإذن السيد على عين من أعيان ماله، صح ذلك، واستحق الزوج تلك العين فإن اختلعت بعوض ملتزَم تعلّق العوض بكسبها، وكان عوض الخلع عليها بمثابة الصداق على العبد المأذون له في النكاح، ويُخرَّج في بدل الخلع [القول القديم] (2) في أن السيد هل يصير بنفس الإذن ضامناً لعوض الخلع، وهذا أجريناه في الصداق، ولا فرق بينه وبين الخلع.
هذا إذا اختلعت بإذن السيد.
8875- فأما إذا اختلعت نفسَها عن زوجها بغير إذن مولاها، فلا يخلو إما أن تختلع بمالٍ في الذمة، أو تختلع [بعين من أعيان] (؛) الأموال. فإن اختلعت بمالٍ في الذمة، فقد تردد الأئمة في هذا، فذهب طوائفُ إلى أن اختلاعها فاسد، والمراد بفساده فساد التسمية، أما البينونة فواقعة، والمال يلزم ذمةَ الأمة على التفصيل الذي سنذكره في التفريع، إن شاء الله تعالى. هذا ما ذكره الصيدلاني وشيخي وبعض المصنفين.
وقطع الشيخ أبو علي جوابه بأن الخلع يصح، والمسمى يثبت. فحصلنا على وجهين. وقد ذكرت اختلاف الأصحاب في العبد لو ضمن مالاً بغير إذن مولاه، فهل يصح ضمانُه أم لا؟ وذكر الشيخ أبو علي في هذا الفصل أن العبد لو اشترى شيئاً بغير إذن مولاه، ففي صحة شرائه وجهان، وقد فصلنا هذا فيما تقدم في موضعين.
والذي يتعلق بغرضنا الآن في ضمان العبد بغير إذن مولاه وجهان، وفي اختلاع
__________
(1) ر. المختصر: 4/63.
(2) في الأصل: " والقول القائم " وهو تصحيف واضح، والتصويب من (صفوة المذهب) .
(3) في الأصل: بغير أعيان الأموال.(13/456)
الأمة بغير إذن مولاها وجهان. والضمان والاختلاع في مرتبةٍ واحدة؛ لأنه لا يتضمن واحد منهما تصرفاً في حق المولى، لا في الرقبة، ولا في الكسب [وإنما] (1) تفرض المطالبة بالملتزم بعد العتق [إذا] (2) فرض يوماً من الدهر.
وإذا اشترى العبد بغير إذن مولاه، ففي صحة الشراء وجهان مرتبان على الضمان، والشراءُ أولى بألا يصح؛ لأن من ضرورته ثبوت الملك [في] (3) المبيع، ويستحيل أن يملكه العبد، وإن ملكه المولى قهراً، كان بعيداً. ثم إن صححنا الضمان، لم يطالب العبد من مكاسبه، ولا تتوجه [عليه] (4) الطّلبة ما دام الرق. وإن أفسدنا الضمان، فأثر إفساده إلغاؤه، حتى لا تتوجه الطَّلبة بالمضمون بعد العتق أيضاًً.
[وأما الاختلاع] (5) فسواء أفسدناه أو صحَّحناه، فالبينونة واقعة، والأمة مطالبة إذا أعتقت. وأثر الخلاف ثبوت المسمّى، ولا مطالبة به إلا بعد العتق. وإن أفسدنا الاختلاع، فالحكم ثبوت مهر المثل، والمطالبة به بعد العتق.
وأما التفريع في البيع إذا صححناه، فقد مضى مستقصىً في كتاب البيع.
8876- ومما نفرعه اختلاع المكاتبة، فإذا لم نصحح اختلاع الأمة، لم نصحح اختلاعها بعوض ملتزم في الذمة، ولكن البينونة واقعة، والطّلبة تثبت بعد العتق؛ فإن بدل عوض الخلع مشبَّهٌ بالتبرع، وبذل ما يستغنى عن بذله.
وإن جرى اختلاعها بإذن المولى، فهو [كالتبرع] (6) بإذنه، وفي تبرع المكاتب بإذن المولى قولان سيأتي ذكرهما -إن شاء الله عز وجل- فيِ كتاب الكتابة، والغرضُ أن نبين أن اختلاعها بمثابة تبرعها.
__________
(1) في الأصل: وإنها.
(2) في الأصل: وإذا.
(3) في الأصل: من.
(4) في الأصل: عليها.
(5) في الأصل: " وإن العتق " وما بين المعقفين تقديرٌ منا على ضوء السياق والسباق، وهو قريب من لفظ العز بن عبد السلام في الغاية.
(6) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.(13/457)
8877- وإن اختلعت الأمة بعينٍ من أعيان مال السيد من غير إذنه، فالزوج لا يستحق العين. ولكن إن جعلنا الأمة من أهل الاختلاع في الذمة، فهي كالحرة تختلع بمالٍ مغصوبٍ، غيرَ أن الحرة قد تطالب إذا كانت موسرة، والأمة بمثابة الحرة المعسرة بمطالبتها بعد العتق. ثم فيما تطالب به قولان: أحدهما - أنها بعد العتق تطالب بقيمة تلك العين المذكورة عوضاً.
والثاني - أنها تطالب بمهر المثل.
وكل ذلك تفريع على أن الأمة من أهل الاختلاع.
فإن لم نجعلها من أهل الاختلاع، فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً؛ فإن إحالة الفساد على خروجها من أن تكون من أهل الاختلاع أولى وأقرب، فإذا كانت إحالة الفساد على غير العوض، فالوجه الرجوع إلى مهر المثل. والأمر في هذا قريب.
والمكاتبة إذا اختلعت بعينٍ من أعيان مالها بغير إذن المولى، فالزوج لا يستحق تلك العين، وهي كالأمة إذا اختلعت بعينٍ من أعيان مال السيد، فإن اختلعت بإذن السيد، ففي المسألة قولان مبنيان على تبرع المكاتب بعينٍ من أعيان ماله.
هذا منتهى المراد.
وزعم صاحب التلخيص أن اختلاعها بإذن المولى لا يصح، وإن صححنا تبرعها بإذن المولى. وهذا مزيف متروك لا حاصل له.
فصل (1)
قال: "وإذا أجزتُ طلاق السفيهة بلا شيء ... إلى آخره" (2) .
8877/م- لا [يختلف] (3) المذهب أن السفيه ينفذ طلاقه، وهو مما لا يدخل تحت الحجر المطرد بسبب السفه، وليس الطلاق كالعَتاق، والفارق أن الطلاق
__________
(1) من هنا، من أول الفصل بدأ العمل عن نسخة مساعدة، هي التي رمزنا إليها بـ (ت 6) .
(2) ر. المختصر: 4/64.
(3) في الأصل: يخالف، والمثبت من (ت 6) .(13/458)
لا يُتلف ما يلتحق بالأموال المحضة، والإعتاق إتلافٌ محض، ولا ينفذ من المبذر التصرفاتُ في المال، ولا يصح منه الاستقلالُ بالنكاح، ويصح النكاح بعبارته إذا أذن الولي، فلو أذن له في [بيعٍ خاص] (1) على حسب المصلحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يصح كالنكاح.
والثاني - لا يصح؛ لأن النكاح من حاجته وضرورته، وليس محضَ مال، ولكن وقف على الإذن لما فيه من استحقاق المهر. وأما البيع، فتصرف في المال المحض.
ثم إذا كان طلاق المحجور نافذاً، فلو طلق بمال، نفذ، وصح، قلّ المال أو كثر؛ لأن طلاقه إذا كان ينفذ من غير عوض، فلأن ينفذ مع العوض أولى.
والعبد يطلِّق مجاناً، ولو طلق على مال، صح ونفذ، ودخل المال في ملك المولى قهراً، كما يدخل في ملكه ما [يحتطبه] (2) العبد وما يصطاده، واختلف الأصحاب فيما يتّهبه العبد من غير إذن المولى، كما تقدم ذكره، والفرق بين الهبة وبين بدل الخلع واضح مذكور في موضعه.
ثم إذا خالع السفيه على مالٍ وحكمنا (3) بصحته، [لم] (4) نفرق بين أن يكون البدل المسمى مثلَ مهر المثل، أو أقل منه. ثم ما يأخذه من البدل لا يترك تحت يده [بل] (5) يلتحق بسائر أمواله، فيمتنع (6) تصرفه فيه، وإن لم يكن عليه حجرٌ في تحصيل هذا [العوض] (7) أصلاً ومقدارً، وكذلك إذا احتش، أو احتطب، أو اتّهب، فما يحصل [بهذه] (8) الجهات باختياره، فالحجر عليه مطرد في جميعه (9) .
__________
(1) في الأصل: في مبيع خص. والمثبت من (ث 6) .
(2) في الأصل: يخبطه.
(3) في (ت 6) : وقضينا.
(4) في الأصل: ولم.
(5) في الأصل: من. والمثبت من (ت 6) .
(6) في (ت 6) : ويمتنع.
(7) في الأصل: الغرض. والمثبت من (ت 6) .
(8) في الأصل: فهذه.
(9) (ت 6) : جميعها.(13/459)
فصل
قال: "ولو اختلفا، فهو كاختلاف المتبايعين ... إلى آخره" (1) .
8878- إذا اختلف المتخالعان بعد جريان الخلع في قدر بدل الخلع، أو صفته، أو جنسه، فقال الرجل: قد خالعتك على ألفٍ، وقالت: "بل على خمسمائة، أو قال: خالعتك على ألفٍ صحاح، فقالت: بل مكسرة، أو قال: خالعتك على خمسين ديناراً، فقالت: بل على ألف درهم. فإذا اختلفا على وجهٍ من هذه الوجوه، فإنهما يتحالفان، والفرقة لا ترتد، والرجوع إلى مهر المثل؛ فإن البضع في حكم المبيع الفائت؛ وإن اختلف المتبايعان على وجهٍ من الوجوه التي ذكرناها في الثمن، وكان المبيع قد تلف في يد المشتري، فمذهبنا أنهما يتحالفان، والبائع يرجع على المشتري بقيمة المبيع، فمهر المثل في معنى قيمة المبيع.
وإذا اختلفا في العدد، والمسؤول، فقالت المرأة: طلَّقَني ثلاثاًً سألتُها بألف، وقال الرجل: بل طلقتك واحدة سألتِها بألفٍ، فهذا الاختلاف يجر التحالف أيضاًًً.
ولكن القول قول الزوج في نفي ما عدا الواحدةَ المقَرَّ بها.
وأثر الاختلاف والتحالف يرجع إلى بدل الخلع، فإذا تحالفا، سقط البدل المسمى، ويرجع الزوج عليها بمهر مثلها. وإنما لم يؤثر [اختلافهما في تغيير أمر الفراق؛ لأن الطلاق] (2) لا مرد له، ولا يتصور نقضه (3) ، فيجري في أصله على القياس الذي يقتضيه الشرع. وإذا كان الزوج هو المطلق، فالقول قوله في الأصل، ثم في العدد، واختص أثر الخلاف (4) بالعوض؛ فإنه يلحقه الفسخ، والرد، والفساد، والاستبدال، وهذا بمثابة اختلاف الزوجين في مقدار الصداق، وإذا تحالفا، اختص أثر التحالف بالصداق وتسميته، والنكاح قائم لا يزول بفرض الاختلاف في مقدار
__________
(1) ر. المختصر: 4/64.
(2) في الأصل: اختلافها في تعيين محل الاختلاف: لأن الفرق. والمثبت من (ت 6) .
(3) (ت 6) : تعقبه.
(4) (ت 6) : الاختلاف.(13/460)
العوض؛ والسبب في ذلك أن البدل في النكاح والخلع ليس ركناً، بل هو في حكم الدخيل الذي يستقلّ الفراق دونه.
8879- ومما يتصل بهذا الفصل نصٌّ نقله القفال عن (الكبير) (1) ونحن ننقله على وجهه، ونذكر كلام الأصحاب فيه، ثم نوضّح المسلك الحقَّ الذي لا سبيل إلى مخالفته، قال: نص في (الكبير) على أن المرأة لو قالت لزوجها: سألتك أن تطلقني ثلاثاًً بألفٍ فطلقتني واحدة، وقال الرجل: بل طلقتك ثلاثاً، كما استدعيتِ. قال الشافعي: إن لم يكن قد طال الفصل، وقع الثلاث، وإن طال الفصل، ومضى ما يبطل (2) خيار القبول، فالطلقات واقعة بإقرار الزوج، ويتحالفان؛ لأنه يدعي عليها كمال الألف، وهي تقرّ بثلثها، وإذا تحالفا، فالرجوع إلى مهر المثل.
[هذا هو النص، والوجه أن نبين طريق الإشكال في الاتصال، ونذكر ما قال الأصحاب] (3) في هذا الطرف.
ثم نذكر وجه الإشكال في الانفصال، ونبين ما قيل فيه، ثم ننص على ما هو الحق عندنا.
فأما إذا قرب الزمان ولم يمض ما يفصل الإيجاب عن القبول، فقال الزوج ما قال، والزمان متصل، فالنص يقتضي أن الزوج يستحق المسمّى، ونجعل قوله الصادر منه بمثابة إنشاء الطلاق؛ فإنه لم ينفصل بعدُ الإيجابُ عن القبول، والإنشاءُ ممكن. هذا معنى النص، وظاهرُ الكلام.
ووجه الإشكال فيه أن الزوج إن كان طلّقها قبل هذا القبول طلقةً واحدة، [فقد] (4) بانت بها، [وإذا بانت] (5) بواحدة، لم يلحقها بعد الواحدة طلاق، وإن قرب الزمان،
__________
(1) الكبير: ويسمى الجامع الكبير، وهو الأم، وهذا النص موجودٌ في الأم المطبوع: 5/190.
(2) (ت 6) : "فليبطل" بدل "ما يبطل".
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 6) .
(4) في الأصل: فقبلت.
(5) زبادة من (ت 6) .(13/461)
فما معنى تنزيل قوله على الإنشاء؟ ولو فرض الإنشاء، لما وقع على التحقيق الذي ذكرناه. هذا وجه الإشكال.
8880- ومما ذكره المحققون في محاولة حلّ هذا الإشكال ما لا يتبين [إلا بتقديم مقدّمة] (1) : فإذا قال الرجل لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، تلحقها الطلقةُ الأولى، وتبين بها، ولا تلحقها الثانية. ولو قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق. فإذا دخلت الدار، فهل يلحقها طلقتان، أم لا يلحقها إلا واحدة؟ فعلى وجهين، سيأتي أصلهما، والتفريعُ عليهما في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
فإذا بانت المقدمة قال قائلون بعدها: إذا استدعت المرأة طلقتين أو ثلاثة بمال، فقال الزوج في جوابها: " أنت طالق [وطالق] (2) "، ففي لحوق الطلقة الثانية الوجهان المذكوران فيه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: " إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق ". والجامعُ أن صفة الدخول تجمع الطلقتين المعلّقتين به، وكذلك استدعاء المرأة يجمع قولي الزوج إذا قال: أنت طالق وطالق؛ فإن استدعاءها في الطلقة الثانية على حسب استدعائها في الأولى، وكذلك القول في الثالثة إن فرضت على صيغة العطف والتقطيع.
ثم هذا القائل يقول: إن كان الزوج طلق طلقة بثلث ألف، والزمان بعدُ على حد الاتصال، فلا يفوت تطليقٌ آخرُ يُنشئه في إسعافها بالطلاق على أحد الوجهين، فينتظم على هذا إمكان الإنشاء، وإن سبق تطليقٌ بجزء من الألف. ووراء ذلك سؤال سنورده ونجيب عنه، إن شاء الله تعالى.
هذه طريقة أوردناها في الدروس، وهي غير مرضية؛ فإن الذي يجب القطع به أن المرأة إذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف، فقال في جوابها: أنت طالق وطالق [وطالق] (3) لا يقع إلا طلقة واحدة، وهي الأولى؛ فإنها تبين بالأولى، ولا تلحقها الثانية والثالثة
__________
(1) في الأصل: إلا بتقدمة.
(2) زيادة من: (ت 6) .
(3) زيادة من نسخة: (ت 6) .(13/462)
بعد البينونة، ويكون هذا كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، فتبين بالأولى، ولا تلحقها الثانية، وليس ذلك بمثابة ما لو قال لها: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار؛ وذلك أن وقت الطلاقين ينطبق على أول الدخول، ويتحقق اجتماعهما في الزمان، فليس أحدهما أولى بالوقوع من الثاني، وإذا أنشأ، فالإنشاء مأخوذ من لفظه، واللفظُ مرتب، ويستحيل أن يقع معنى اللفظ الثاني قبل اللفظ. وإذا كان يقع مع اللفظ واللفظ مؤخر عن الأول، فلو وقع باللفظ الثاني طلاقٌ، لصادف بائنةً؛ وهذا بعينه يتحقق في جواب السائلة عدداً بمال، فإنه إذا قال: أنت طالق وطالق، فيقع طلاق مع فراغه عن اللفظ الأول، فلو وقع بالثاني طلاق [آخر] (1) ، لكان بعد البينونة بالطلاق الأول لا محالة، [والبائنة] (2) لا تطلق عند الشافعي؛ فلا وجه لتخريج وجه في وقوع ما ينشئه ثاني بعد وقوع الأول.
8881- ولو قال قائل: " أحمل كلام الشافعي على ما إذا قالت: سألتك ثلاثاًً بألف فطلقتني واحدةً بألف، ورامت بذلك ألا يقع شيء، ولا يلزمها من البدل شيء "، فلا معنى [للإطناب] (3) في هذا الفن؛ فإن النص مصرح بخلافه، ومحلُّه مفروض (4) فيه إذا قالت: استدعيتُ ثلاثاً بألف فطلقتني واحدة، وأطلقتْ، ثم مقتضى (5) إطلاق الطلاق الواحد أن يقع بثلث المسؤول. هذا هو النص.
على أنا قد حكينا عن الأصحاب خبطاً في الصورة التي ذكرناها، وهي إذا سألت ثلاثاًً بألف، فقال: أنت طالق واحدة بألف، فهذا مما حكينا فيه كلامَ الأصحاب وأوردنا عليه المباحثات من جهتنا، فلا حاصل لحمل الكلام على هذا المحمل والتطويل لا يفيد.
فإن قيل: أي غرضٍ في الحمل على هذه الصورة؟ قلنا: لو جرى جارٍ على
__________
(1) سقطت من الأصل، والمثبت من: (ت 6) .
(2) (ت 6) : الثانية.
(3) في الأصل: للإيجاب.
(4) في الأصل: ومفروض.
(5) (ت 6) : حكم.(13/463)
القياس، لقال: إذا استدعت ثلاثاً بألف، فقال في جوابها:- أنت طالق واحدة بألف، فلا يقع شيء، ولا يكون ما جاء به جواباً لها، فإذا كان الزمان على القرب والاتصال، فيتصور منه إسعافها على الموافقة الآن، فإذا تصور المساعفة، انبنى عليه حمل قول الزوج على إنشاء الطلاق، ولكن لا نرى الحمل على هذا المحمل، النص ظاهره وفحواه يخالف هذه الصورة.
8882- ثم وراء ذلك كله إشكال عتيد، وهو أن الزوج أقرّّ بأنه طلقها ثلاثاً، ولم ينشىء الطلاق (1) ، وقوله متردد بين الصدق والكذب، فكيف يقع الطلاق؟ وسبيل الجواب أن من يملك إنشاء شيء فقد يجعل إقراره بمثابة إنشائه له، ولهذا نظائر عند الأصحاب، منها: أن الزوج إذا ادّعى أنه ارتجع زوجته، فأنكرت الزوجةُ الرجعةَ في [بقاء] (2) العدة ودوامها، فنفسُ إقرار الزوج بالارتجاع [قد نجعله] (3) إنشاءَ ارتجاع، وإن كان كاذباً، وسأذكر هذا وأجمع إليه نظائره في كتاب الرجعة، إن شاء الله تعالى.
وما ذكرناه من تنزيل الإقرار منزلة الإنشاء مشكلٌ لا يستقيم فيه تعليلٌ فقيه، كما سنوضحه في المحل الذي ذكرناه، ولكن لو قدّرنا أن الأمر كذلك، فلا انتفاع بهذا مع ما قدمناه من أن الطلاق السابق يمنع إنشاء الطلاق بعده، وإن قرب الزمان.
وإذا انحسم إمكان الإنشاء مع قرب الزمان، فلا معنى للانشغال مع ذلك بتنزيل الإقرار منزلة الإنشاء، ولم [يُحوِّم] (4) أحد من الأصحاب على هذا الإشكال والاعتناء به إلا شيخنا أبو بكر (5) ؛ فإنه حوّم، ولم يَرِدْ، فكان كالذي ينتبه ثم يتغافل.
8883- ونحن نذكر الآن وجه الحق ونقول: إذا قالت المرأة: سألتك ثلاثاً بألف
__________
(1) (ت 6) : الثلاث.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) في الأصل: فجعله.
(4) في الأصل: يَحُمْ. ورجحنا المثبت من (ت 6) لأنه المعهود في لفظ الإمام.
(5) شيخنا أبو بكر: المراد به الصيدلاني.(13/464)
فطلّقتني واحدةً، فقال [الزوج] (1) ما طلقتك قبلُ، وإنما أطلقك ألآن، ثم طلّقها، والزمان قريب، والوقت متصل، فالوجه القطع بأن الثلاث تقع، ويستحق الزوج المسمى بكماله، بناءً على ما ذكرناه من اتصال الوقت، وما ادّعته عليه من التطليق الواحد لو تحقق، لامتنع نفوذُ غيره، ولكن القول قولُ الزوج في نفي ما ادعته قبلُ؛ فإنه المطلِّق وإليه الرجوع في النفي والإثبات، والعدد والمقدار. هذا على [هذا] (2) الوجه متجه.
ولو قال الزوج: قد طلقتك قبلُ ثلاثاًً، وهي تزعم أنه طلقها واحدة، فلا [ينفع] (3) -والصورة هذه- قُرْبُ الزمان؛ فإن الإنشاء بَعْدَ ما مضى غيرُ ممكن.
بقي أن الزوج هل يصدق في أنه طلقها ثلاثاً أم لا؟ والوجه المبتوت الحكم (4) بوقوع الثلاث لإقراره بها، ولكن لا يقبل قوله عليها في استحقاق تمام المسمى (5) ؛ فإن الرجوع إليها فيما يستحق عليها، كما أن الرجوع إليه في عدد الطلاق.
وهذا بمثابة ما لو قال القائل: إن رددت عليّ عبيدي الثلاثة الأُبَّق (6) ، فلك ألف.
فقال المجعول له: قد رددتهم، فلا يقبل قوله، ولا يستحق من الجعل شيئاً ما لم يثبت الردّ بالبينة أو بإقرار الجاعل، فالوجه إذاً أن نقول: لا يستحق عليها إلا الثُّلثُ؛ فإن هذا المقدار متفق عليه، والباقي متنازع فيه، فالقول قولها مع يمينها.
هذا هو الذي [لا] (7) يجوز غيره [وإنما] (8) يحرص الحارص على تخريج وجهٍ
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(3) في الأصل: يقع.
(4) (ت 6) : أنا نحكم.
(5) (ت 6) : استحقاق المسمى بكماله.
(6) الأُبَّق على وزن فعّل مضعف العين المفتوحة، وهو مطرد في فاعل صحيح اللام صفة، مثل راكع وركّع، ولكن المسموع الوارد في المعاجم (اللسان والمصباح) أُبّاق، على وزن فاعل وفعال، مثال: كافر وكفار.
(7) سقط من الأصل. وزدناه من (ت 6) .
(8) زيادة من (ت 6) .(13/465)
لقولٍ مشكل إذا كان يتطرق إليه إمكان. فأما إذا لم ينسلك فيه ظن (1) ، فلا وجه لمصادمة القطع. والسبيل في مثل هذا الحملُ على الزلل في النقل، أو الخلل في النسخ (2) ، ولا معصوم إلا من عصمه الله تعالى.
هذا منتهى الكلام في هذا الطرف.
8884- وتمامه أن الزوج إذا قال: ما أجبتك قبلُ، ولكن طلقتك ثلاثاًً الآن، فقد ذكرنا أنه يستحق تمام المسمى، ولكن يتوجه عليه يمينٌ من جهتها، فتقول: تحلف بالله أنك لم تطلقني طلقة في جواب سؤالي قبيل هذا. فيتعين عليه أن يحلف إن أراد المسمى (3) . وقد ذكر الصيدلاني اليمين في ذلك على هذا الوجه، ولكنه [لم يَبُحْ بالتصوير] (4) على التفصيل الذي ذكرناه، فإن أراد ما ذكرناه، فقد طبق مفصل الحق، [ولكنه حوّم عليه] (5) ولم يَرِدْه، وإن أراد أن المرأة تحلّفه (6) : أنك ما طلّقتني واحدة [قَبْلُ، والزوج يزعم] (7) أنه طلقها قبلُ ثلاثاً، فلا خير في هذه الصورة؛ فإن الزوج إذا أسند قوله إلى ما تقدم، ولم ينكر إجابتها من قبل حتى ينشىء الإجابة في الحال، فيؤول الأمر إلى النزاع فيما كان، وموجبه أن قول الزوج مقبول عليه في الثلاث، ولا يُقبل قوله عليها في استحقاق المسمى.
ولست أبعد أن المنتهي إلى هذا الفصل، إذا كان ذا فكرٍ قد يخطُر له أن مقصودها في الثلاث قد حصل [بحكمنا] (8) على الزوج وقضائنا بوقوع الثلاث، فيجب أن يكون مصدّقاً في استحقاق المسمّى.
__________
(1) (ت 6) : الظن.
(2) يشير إلى الخلل المحتمل في النص الذي فيه الكلام، والذي نقله القفال عن (الكبير) وقد طرّق هذا الاحتمال إلى النص أيضاًً (العز بن عبد السلام) ولكن جعله منقولاً عن الأم. مما يؤيد قولنا في تعليق سابق: إن الجامع الكبير هو بعينه (الأم) .
(3) فإن نكل لم يجب المسمى.
(4) في الأصل: لم ينجح على التصوير.
(5) زيادة من (ت 6) .
(6) في (صفوة المذهب) : " تحلف ".
(7) عبارة الأصل: قبل والزوج فزعم.
(8) في الأصل: بحكمها.(13/466)
وهذا تلبيس لا يقنع به طالبُ غاية؛ فإنا حكمنا عليه ظاهراً حكمنا في (1) الأقارير، وقد لا يكون الأمر في الباطن كذلك. ومن الأصول الممهدة أن قول الإنسان مقبول فيما هو عليه، وليس مقبولاً فيما يجب على غيره.
8885- وسيبين ما ذكرناه بذكرنا الطرف (2) الآخر، فنقول: إذا انفصل الزمان، فموجب النص أن الزوج لا يستحق كمالَ المسمى، ولو كان على الحكم بوقوع الثلاث معوّلٌ، لقضينا باستحقاقه المسمى [وإن] (3) انفصل الزمان؛ اعتماداً على قضائنا عليه بموجب إقراره.
ثم قال الشافعي: لا يستحق المسمى إذا طال الزمان، وهذا حق. وقال (4) فيما نقله النقلة: يتحالفان؛ لأنه يدعي عليها كمال الألف، وهي [تقرّ بثلثها] (5) ، وهذا أبعد عن التحقيق من الطرف (6) الأول؛ فإن التحالف إنما يجري إذا كان الاختلاف آيلاً إلى [صفة العقد] (7) أو إلى صفة عوضه، فإذا حصل التوافق على أن المطلوب ثلاث والبدل ألف، ووقع النزاع فيما وقع من الزوج، [فالتحالف] (8) في هذا محال، والوجه القطع بأنه لا يستحق عليها إلا القدر المتفق عليه، وهو ثلث الألف. وإذا لم يتجه التحالف [لم يتجه الرجوع] (9) إلى مهر المثل.
ثم لا يخفى (10) أن الزوج لو أراد أن يحلفها على المسلك الحق، حلفها على نفي
__________
(1) (ت 6) : بالأقارير.
(2) المراد بالطرف الآخر، حالة ما إذا انفصل الزمان، ومضى وقتٌ لا يصلح بعده إنشاء القبول.
(3) في الأصل: وإذا.
(4) (ت 6) : وفيما نقله النقلة (بدون قال) .
(5) تقريب مثلها.
(6) (ت 6) : طرف الأول.
(7) في الأصل: إلى صيغة الصفة أو إلى صفة عوضه.
(8) في الأصل: والتحالف.
(9) عبارة الأصل: وإذا لم يتجه التحالف، فالرجوع إلى مهر المثل.
(10) عبارة (ت 6) : ثم لا يخفى أن الزوج لو أراد أن يحلفها، لم يتجه الرجوع إلى مهر المثل. ثم لا يخفى أن الزوج لو أراد أن يحلفها على المسلك الحق حلفها على نفي العلم.(13/467)
العلم؛ فإن يمينها تتضمن نفي فعلٍ للغير. ومن الأصول التي تكررت في المعاملات وستقرر في الدعاوى والبينات -إن شاء الله تعالى- أن اليمين إذا تضمنت نفي فعل الغير فصيغها نفي العلم.
فإن قال قائل: هلا قلتم: الزوج من وجهٍ مصدق في [التطليق] (1) والمرأة مصدقة في عدم التزام [تمام] (2) البدل، فيتعارض الأصلان، ولا يكون أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، وإنما ينشأ التحالف من استواء الجانبين. ثم إذا تحالفا، فلا وجه إلا الرجوع إلى قيمة البضع الفائت؟ قلنا (3) : إن كان لما نقله الأصحاب وجه، فهو هذا، ولكنه تلبيسٌ عندنا؛ فإن الزوج في إقراره بمثابة البائع يدعي تسليمَ المبيع إلى المشتري وتلفه في يده، مع إنكار المشتري للقبض، وهذا بيّن لا غموض فيه.
فلم نغادر إذاً طرفاً لم ننته إليه نقلاً وإيضاحاً، وغايتنا في هذا الكتاب إنهاء كل فصلٍ نهايته. والله ولي التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فصل
قال: "ولو قال: طلقتك بألفٍ، فقالت: بل على غير شيء ... إلى آخره" (4) .
8886- إذا ادعى الرجل أنه طلقها على ألف، فأنكرت التزام الألف قبولاً واستدعاء، حكمنا بوقوع الطلاق على صفة البينونة على إقرار الزوج، والقولُ في نفي البدل قولُها، وهذا يؤكد الأصلَ الذي مهدناه، وإن كان وضوحه مغنياً عن الاحتياج إلى الاستشهاد، ولكن ذلك [النص] (5) المشكل حكاه القفال عن الأم (6) ، ولم ينقله
__________
(1) في الأصل: التعليق.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) (ت 6) : فأما إن كان.
(4) ر. المختصر: 4/64.
(5) في الأصل: الفصل.
(6) قال الإمام آنفاً: حكاه القفال عن (الكبير) ، وهنا يقول عن (الأم) ، وقد وجدنا النص في كتاب الأم: 5/169. فدلّ ذلك على أن (الكبير) هو بعينه (الأم) .(13/468)
المزني، وكل ما يضاف إلى الأم، فهو من الأقوال القديمة (1) .
8887- ولو قال السيد لعبده قد أعتقتك على ألفٍ، فأنكر العبد التزام الألف، نفذ الحكم بالعتق، ولم يلزم المال. ولو قال: بعت منك إياك بألف، فأنكر، أو قال: بعت منك هذا العبد بألف، [فأعتقته] (2) ، فالعتق ينفذ في هذه المسائل، ولا يثبت المال على المنكر.
وبمثله لو قال: بعت منك هذا العبد بألف، ولي عليك ثمنه، فأنكر المدعَى عليه البيع، فلا يؤمر المقِرُّ بتسليم العبد إليه، والسبب فيه أن مستحِقَّ الحق في هذه الصورة الأخيرة هو الذي ادعى صاحبُ العبد كونه مشترياً وأنكر هو حقَّ نفسه، فيستحيل أن يثبت حقه، على الرغم منه، والعتق في المسائل التي ذكرناها لله تعالى فلا يرتد إذا جرى الإقرار به، ومن الأصول الثابتة أن من أقر بشيئين وأحدهما يضره، والثاني ينفعه قُبل قوله فيما يضره، ورُدّ فيما يضر غيره.
فرع:
8888- قال صاحب التقريب: إذا قالت المرأة: طلقني على شيء أو على مال، فقال: أنت طالق على ألف درهم، فالرجوع إلى مهر المثل والبينونة تقع بهذا الذي بينهما. وسبب الرجوع إلى مهر المثل أنهما لم يتراضيا على معلوم.
وهذا يحتاج إلى مزيد تفصيل، فيجوز أن يقال: إذا قال المرأة: طلقني على شيء فغرضها بذلك أن تلتمس [منه] (3) تطليقها على عوض، حتى إذا طلّقها على عوض قبلت، هذا ظاهرٌ في قول المرأة: طلقني بعوض، أو طلقني بما تريد.
لأتخلّص بقبول مرادك (4) ، فعلى هذا لا يحكم بوقوع الفرقة.
__________
(1) قول إمام الحرمين هنا: " كل ما يضاف إلى الأم، فهو من الأقوال القديمة " مخالفٌ للمشهور المعروف من أن (الأم) الذي بأيدينا من عمل الشافعي بمصر، ويبدو أن أسماء كتب الإمام الشافعي كانت تتداخل، فكتابه البغدادي (الحجة) هو القديم بيقين، وكان يُسمّي المبسوط، وكان (الأم) أيضاًً يسعى (المبسوط) فمن مثل هذا كان التداخل، والوهم.
هذا ويمكن أن تكون (الأم) مصحفة عن (الإملاء) . والله أعلم.
(2) في الأصل: " فأَعتقه " والمثبت من (ت 6) ومن (صفوة المذهب) .
(3) زيادة من: (ت 6) .
(4) " لأتخلص بقبول مرادك " المعنى لأتبين مرادك، فأقبله، فتقع البينونة، فكأنها تستنطق منه=(13/469)
وسبيل التفصيل في ذلك أن نقول: إذا أرادت المرأة الاستدعاء الجازم، المغني عن القبول، فالحكم ما ذكره صاحب التقريب، وتعليله بيّن. وإن زعمت أنها أرادت استنطاقه بشيء يقدّره لتقبله، ففي قبول ذلك منها احتمالٌ ظاهر: يجوز أن يقال: لا يقبل ذلك منها، ويحمل قولها على الاستدعاء الجازم، كما لو قالت: طلقني بألف، فقال طلقتك بألف، ويجوز أن يقال: هذا منها استنطاق الزوج بابتداء الإيجاب الذي يقتضي استعقابَ القبول. وفي المسألة احتمال ظاهر.
ولو قالت: طلقني بشيء، فقال في جوابها: أنت طالق بشيء، فالأظهر هاهنا حمل استدعائها على الجزم الذي يكتفى به، وليست [المسألة] (1) خاليةً عن الاحتمال، والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال: " ويجوز التوكيل في الخلع، حراً كان، أو عبداً ... إلى آخره" (2) .
8889- هذا الفصل بقية الكتاب، وهو من الفصول المنعوتة (3) -والله ولي التوفيق عند كل عسر- فليقع تصدير الفصل بمن يجوز أن يكون وكيلاً في الخلع، فنقول أولاً: للزوج أن يوكل بالمخالعة، وللمرأة أن توكل من يختلعها عن زوجها، والتوكيل جارٍ (4) من الجانبين. ثم (5) نذكر وراء هذا من يجوز أن يكون وكيلاً [للزوج في المخالعة، ثم نذكر من يجوز أن يكون وكيلاً] (6) للمرأة في الاختلاع.
8890- فأما الضبط فيمن يجوز أن يكون وكيلاً للزوج في المخالعة، فقد قال الأئمة
__________
= الإيجاب، فإذا قال ما طلبته، كان عليها القبول.
(1) مزيدة من: (ت 6) .
(2) ر. المختصر: 4/64.
(3) كذا بحذف الجار والمجرور. فالمعنى: المنعوتة بالعسر، أو الغموض أو نحو ذلك، يظهر هذا من الدعاء: "والله ولي التوفيق عند كل عسر".
(4) (ت 6) : جاري. ولعل الأولى: جائز.
(5) (ت 6) : ثم نحن نذكر وراء ذلك.
(6) زيادة من: (ت 6) .(13/470)
الماضون: من ملك مباشرةَ الخلع لنفسه بنفسه، تُصُوِّر أن يكون وكيلاً للغير في الخلع، فللرجل أن يوكل حراً أو عبداً، ومحجوراً عليه بالسفه؛ فإن العبد يستبد بالمخالعة، وكذلك المحجور المبذر.
وقالوا: للمسلم أن يوكل ذمياً في مخالعة امرأته المسلمة؛ إذ الذمي قد يخالع زوجته المسلمة، وذلك بأن تسلم ذمية تحت ذمي بعد الدخول، فإذا خالعها، ثم جمعهما (1) الإسلام، بان أن الخلع كان صحيحاً. وهذا الذي ذكره الأصحاب منتظمٌ في النفي [والإثبات] (2) والطرد والعكس، ولكنْ فيه تقييد [ليس يفيد] (3) فقهاً على ما نؤثره.
ولو كان (4) يتصور تطليق الذمي [زوجةً مسلمة] (5) ، لصح أن يكون وكيلاً [لمسلم] (6) في تطليق زوجته، تعويلاً على صحة عبارته. ولهذا قلنا: الذمي على المذهب الأظهر [لا] (7)
__________
(1) تصوير صحة الخلع من الذمي للمسلمة يكون بأن يتزوج ذمّي من ذمية، ثم تسلم وحدها، فإذا خالعها، ثم جمعهما الإسلام، بمعنى أنه لحق بها مسلماً قبل أن تنقضي العدة، فنتبين أن العقد الذي كانا عليه ماضٍ، وبالتالي نتبين أيضاًًً أن الخلع كان صحيحاً.
(2) سقطت من الأصل.
(3) زيادة من: (ت 6) .
(4) (ت 6) : ولو كان لا يتصور.
(5) في الأصل: زوجة المسلم.
(6) زيادة من (ت 6) .
(7) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين. وأقول: سقطت، بمعنى أنها سقطت من الناسخ، وتوارد عليها النساخ، ولم تسقط من الإمام، ودليلنا على ذلك أمران:
الأول: بناء العبارة، فالقول بالجواز مخالف للضابط الذي قرره الإمام، وساق العبارة
مساق التعليل، ويظهر ذلك بشيء من التأمل.
الثاني: أن المسألة ليست خلافية في المذهب، ولم يذكر أحد فيها خلافاً، ولم يحكه أحد عن الإمام لا من المتقدمين ولا من المتأخرين (استقصينا كتب المذهب في هذه المسألة في بحث لنا مطول، لا تحتمله هذه التعليقات) ولكن وجدنا البلقيني أشار إليه مخطئاً الإمام، ولم يحمله على الناسخ، إلا أن البلقيني انفرد بهذا وحده بين المتقدمين والمتأخرين فيما نعلم ولم يتبعه أحد. والله أعلم.
هذا وبينما الكثاب ماثل للطباعة جاءنا هذا الجزء من صفوة المذهب لابن أبي عصرون فوجدنا عبارته هكذا: "ولهذا على المذهب الأظهر يجوز أن يتوكل الذمي لمسلم في قبول =(13/471)
يجوز أن يكون وكيلاً في تزويج مسلمة، [والتزوّج] (1) بها لمسلم.
8891- ومما ظهر الاختلاف بين أصحابنا فيه أن المرأة هل يجوز أن تكون وكيلة في الطلاق بالعوض [وغير العوض] (2) : فمن أصحابنا من قال: يجوز أن يوكل الرجل امرأة حتى تخالع زوجته وتطلقها بمال، ويجوز أن يوكل امرأةً حتى تطلق زوجته من غير مال؛ إذ لا خلاف أن الرجل إذا قال لامرأته: طلّقي نفسك، فطلقت نفسها، نفذ الطلاق بلفظها؛ وإذا كان قولها صالحاً للطلاق في هذا المحل الذي حكينا الوفاق فيه، فلا يمتنع أن تكون الأجنبية وكيلة في تطليق الزوجة، ولمّا [استُلبت] (3) عبارة المرأة في طرفي النكاح، لم يتصور منها على الصحة تزويج [ولا تزوّج] (4) .
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن تكون المرأة وكيلة في الطلاق، ولا يقع الطلاق بعبارتها، كما لا ينعقد النكاح بلفظها، وهذا القائل يقول: تفويض الرجل الطلاق إلى المرأة ليس توكيلاً، وإنما هو تمليك، [وقد رمزنا] (5) إلى هذا الأصل، وأحلنا استقصاءه على كتاب الطلاق. وقال الأصحاب: الخلاف في أن المرأة هل يجوز أن تكون وكيلةً في الطلاق مأخوذ من الخلاف في أن الرجل إذا فوّض الطلاق إلى امرأته، فهذا تمليك أو توكيل؟ فإن جعلناه توكيلاً، لم يمتنع توكيل المرأة بالطلاق، وإن جعلناه تمليكاً، اختص التمليك بالزوجة، ولم يُتصوّر من غيرها عبارةٌ صحيحة عن الطلاق، ولولا [اشتهار هذا] (6) الخلاف،
__________
= نكاح مسلمة" ا. هـ. فهل هذا هو الحكم عند الإمام؟ وإذا كان كذلك يبقى السؤال: لماذا لم يحكه أحد عنه، إلا البلقيني؟! وتبقى المسألة محل نظر! (ر. الشرح الكبير: 7/557، الروضة: 4/300 و7/66) .
(1) زيادة من المحقق.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) في الأصل: "استقبلت" وهو تحريف واضح.
(4) في الأصل: يتزوّج.
ثم معنى العبارة أن الأمر في الطلاق يختلف عنه في النكاح بالنسبة للمرأة، فعبارتها في عقد النكاح مستلبة، ولكنها في الطلاق معتبرة.
(5) في الأصل: "وقد رصرفا" هكذا بهذا الرسم. وهذا من مستبشع التصحيف.
(3) في الأصل: استشهاد الخلاف.(13/472)
لتناهيت (1) في تزييف منع توكيل المرأة؛ فإنه إذا صح تمليك المرأة، فلأن يصح توكيلها أولى، فقد يتوكل في الشيء من لا يملكه؛ ولذلك لنا: يجوز أن يكون العبد والكافر والفاسق [وكلاء] (2) في النكاح على الرأي الأصح. وإن كانوا لا يلون النكاح على الاستقلال؛ فلا حاصل إذاً لهذا الخلاف؛ ولكنه مشهور مذكور في كل طريق.
هذا قولنا فيمن يصح أن يكون وكيلاً بالتطليق على مال، والمخالعة من جهة الزوج.
8892- فأما من يكون وكيلاً لها، [فكل من يكون من أهل العبارة في الطلاق يجوز أن يكون وكيلاً لها في] (3) سؤال الطلاق. وقال الأئمة: إن خالف مخالف في المرأة هل يجوز أن تكون وكيلة عن (4) الزوج، فلا خلاف أن المرأة يجوز أن تكون وكيلة عن [الزوجة] (5) في الاختلاع؛ فإن الأصل في الاختلاع المرأة، وقد نص الشافعي على أن المرأة إذا اختلعت نفسها وضرتها بمالٍ، صحَّ. وإذا كان يصح منها أن تختلع ضرتها من غير توكيل من جهتها، فلا يمتنع أن تكون وكيلة أيضاًً.
هذا تفصيل القول فيمن يجوز أن يكون وكيلاً من الجانبين. وفي تنبيهنا على من يجوز أن يكون وكيلاً إيضاح لمن لا يكون وكيلاً.
8893- وإذا تبين هذا، خضنا بعده في تصرف الوكيل على الموافقة والمخالفة: فنبيّن تفصيلَ القول فيما يصدر من وكيل الزوج، ثم ننعطف، فنبين ما يصدر من وكيل الزوجة.
فأما وكيل [الزوج] (6) ، فلا يخلو إما أن يكون موكلاً بالمخالعة المطلقة، وإما أن
__________
(1) كذا. ولعل الأولى: "لما تناهيت".
(2) في الأصل: وكيلاً.
(3) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 6) .
(4) (ت 6) : عن جانب الزوج.
(5) في الأصل: الزوج.
(6) زيادة من (ت 6) .(13/473)
ينصّ الزوج على مبلغ من المال، فإن نص على مبلغٍ معلوم، وقال: طلّق زوجتي بمائة دينار، فلا يخلو الوكيل إما أن يوافقه، وإما أن يزيد، وإما أن ينقص. فإن خالعها بالمقدار المذكور، نفذ الخلع، وثبت البدل، وإن زاد على المقدار المسمّى، ثبت ما سماه الوكيل، وكان ما جاء به في حكم الموافقة. وهذا بمثابة ما لو قال مالك العبد للوكيل: بع عبدي هذا بمائة، فإذا باعه بمائتين، نفذ البيع بهما. وقد قررنا هذا وما يليق بجوانبه في كتاب الوكالة.
وإن خالف الوكيل الزوجَ، فنقص وخالع بأقلّ من المقدار المسمى، فالمذهب [المبتوت] (1) الذي عليه التعويل أن الطلاق لا يقع؛ فإن الوكيل لا يملك الاستقلال بالتطليق، وإنما يطلّق مأذوناً، وإذا خالف، لم يكن مأذوناً.
وذكر بعض أصحابنا قولاً مخرجاً في وقوع الطلاق على ما سنذكر -على الاتصال - أصله في هذا الفصل، إن شاء الله تعالى.
ولسنا نفرع على القولين حتى نذكر صورةً أخرى.
8894- فإذا وكل الزوج بالمخالعة مطلقاً، ولم ينص على مقدارٍ من العوض، فقال: خالع زوجتي هذه، فالذي ذكره الأصحاب أن الوكيل إذا خالعها بمهر مثلها، أو أكثرَ من مهر مثلها، نفذ وصح (2) ، وكان بمثابة ما لو باع الوكيل المطلق ما وكّل ببيعه بثمن المثل، أو بأكثر من ثمن المثل.
فأما إذا خالعها بأقلَّ من مهر مثلها، فظاهر النص في الإملاء وفيما حكاه الربيع أن الطلاق يقع على تفصيلٍ سنذكره في التفريع، إن شاء الله تعالى.
وخرّج مخرجون [قولاً] (3) أن الطلاق لا يقع؛ فانتظم من هذا أن ظاهر النص في التوكيل المطلق وقوعُ الطلاق، وإن جرت المخالعة بدون مهر المثل، وظاهر النص أن الزوج إذا عين مقداراً، فخالع الوكيل بأقلّ منه، فالطلاق لا يقع. وخرج الأصحاب في كل صورة قولاً على خلاف النص.
__________
(1) ساقطة من الأصل، وهي في (ت 6) .
(2) (ت 6) : فقد صح.
(3) زيادة من: (ت 6) .(13/474)
فأما وجه التخريج [في صورة] (1) الإطلاق، فبيّنٌ؛ فإنه مخالف، والعقدُ المطلق محمول على عوض المثل، فلذلك جعلنا الوكيل المطلق بالبيع إذا باع بأقل من ثمن المثل مخالفاً، نازلاً منزلة ما لو عين له مالك المتاع مقداراً من الثمن، فباع بأقلَّ منه، فليكن الأمر كذلك ها هنا. وإذا ظهرت المخالفة، وبطل استقلال الوكيل بنفسه، [لم] (2) يبق إلا رد الطلاق.
فإن قيل: هذا بيّن، فما وجه نفوذ الطلاق على ما اقتضته النصوص؟ قلنا: الطلاق مأخوذ من اللفظ، مُدار على التطليق (3) ، فإذا قال الزوج: خالع زوجتي، فالذي جرى من الوكيل يسمى مخالعة، فيجب تحقيق التطليق بحكم اللفظ، وليس كالمبايعات؛ فإنها مدارة على العادات. وفيما قدمناه من تنزيل العقود على النقود الغالبة وقطع تعليق الطلاق عن هذا الأصل ما يؤكد هذا (4) .
فإن قيل: ما وجه تنفيذ طلاق الوكيل الذي عيّن له الموكل مقداراً، فخالع بأقلّ منه؟ قلنا: [أول] (5) ما نوجه به أن نستدل بالتوكيل المطلق مع فرض المخالعة بأقلّ من مهر المثل، وعلى الجملة، [يضعف] (6) توجيه هذا. وقد أضرب عن حكايته كثير من الأئمة.
هذا بيان القولين في وقوع الطلاق وعدم وقوعه.
8895- ونحن الآن نفرّع ونستعين بالله عز وجل: فإن قلنا: لا يقع الطلاق، فقد لغا لفظ الوكيل، ولا حكم لما جاء به.
ان حكمنا بأن الطلاق واقع، فقد ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص قولين:
__________
(1) في الأصل: بصورة.
(2) في الأصل: ولم.
(3) في (ت 6) : "التعليق".
(4) لفظ (هذا) سقط من: (ت 6) .
(5) في الأصل: الأول.
(6) في الأصل: فضعف.(13/475)
أحدهما - أن [الزوج] (1) بالخيار إن شاء أجاز ما فعله الوكيل وتنفذ البينونة، وإن شاء، ردّ المال [وردّ البينونة، ووقع الطلاق رجعياًً؛ فإن الطلاق إن كان يقع بحكم اللفظ، فالبينونة لا تثبت إلا بالمال، والمال لم يثبت على موجب الإذن، فهذا نوع من التخيير.
وحكى قولاً آخر مخرجاً عن ابن سريج أن الزوج بالخيار، إن شاء أجاز ما - فعله الوكيل، وإن شاء ردّ المال] (2) والطلاق أصلاً (3) .
فإن قال قائل: هذا بعينه مصير إلى وقف الطلاق، وقد ذكرتم في المعاملات للشافعي قولاً في وقف العقود، ثم ذكرتم الآن الوقف من وجهين، وقفاً في البينونة والرجعة، ووقفاً في رد الطلاق قلنا: لو كان هذا مأخوذاً من وقف العقود، فالممكن فيه اختصاص [الطلاق بمزايا يقتضي بها مزيد النفوذ] (4) ، فقد يقول القائل: نحن وإن لم نجوز وقف سائر العقود، فقد نجّوز وقف الطلاق لما أشرنا إليه. وهذا ليس على [الحد الذي] (5) أرتضيه؛ فإنا لو أخذنا هذا من وقف العقود، لوجب تعطيل [التوكيل] (6) فيها، ولوجب أن يقال: إذا أقدم أجنبي على مثل ما وصفناه، فالكلام في إجازة الزوج وردّه على ما تقدم.
وهذا انحلال وخروج عن الضبط. ونحن نستفرغ الوسع في توجيه ما حكيناه، ونقول: أما الحكم [بوقوع] (7) الطلاق في إطلاق الوكالة، فمأخوذ من اللفظ، وما ينبني الطلاق عليه. في الحنث والبر، فليتخذ الناظر هذا معتمده. ثم وراء ذلك مالٌ (8) ، فيجوز أن يُفرض فيه [خيار] (9) .
__________
(1) عبارة الأصل: أن الزوج الخيار.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (ت 6) .
(3) أصلاً: أي لا يقع رجعياًً ولا بائناً.
(4) عبارة الأصل: اللفظ ثم إنا يقتضي لها مزيد النفوذ.
(5) زيادة من: (ت 6) .
(6) في الأصل: الوكيل.
(7) في الأصل: فوقوع.
(8) (ت 6) : قال.
(9) في الأصل: خيال.(13/476)
ثم ينقدح من فرض ردّه قولان: أحدهما - أن الطلاق لا مرد له؛ فإن ارتدّ المال، بقي الطلاق عريّاً؛ فكان رجعياًً، ويجوز أن يقال: وقع الطلاق، ولكن ارتبط بمالٍ يقبل الرد، وهو لم يرض بالطلاق المطلق، فينعكس رد المال على رد الطلاق، وليس هذا [كردّ] (1) عوض الخلع بالعيب؛ فإن الطلاق لزم متعلقاً بعينه، فلم يكن له بعد لزومه مردّ، وهذا النوع من الرد الذي نحن فيه ينعكس على أصل [الإذن] (2) ومن طلب أكثر من هذا في هذا المقام، وقع في الوقف، مع ما فيه من الفجاجة.
8896 - وبالجملة لسنا ننكر سقوط القولين جميعاً في رد البينونة، وأصل الطلاق، ولم أر هذين القولين إلا للشيخ أبي علي، والأصحابُ في الطرق مجمعون على أن الفرقة إذا وقعت، كانت بينونة لا خِيرَةَ في ردها، وحكَوْا عن الشافعي بعد القضاء بلزوم البينونة (3) قولين على وجهٍ آخر أحدهما - أن الطلاق إذا وقع بالمقدار الذي سماه الوكيل، نفذ وتم، والرجوع إلى مهر المثل، فينفذ الطلاق لموجب الإطلاق، وفقضي، بفساد التسمية للإخلال بما يجب أن يُرعى في المال، ونتيجةُ هذه الجملة الرجوعُ إلى مهر المثل.
ْوالقول الثاني - أن الزوج بالخيار: إن شاء، فسخ ورجع إلى مهر المثل، وإن شاء، قنع بذلك المقدار ورضي به، وقد يكون له فيه غرض، وقد يكون عيناً وهو يبغيه، ولا يريد إسقاطه.
فإن قيل: فما وجه القولين؟ قلنا: [الأوجه] (4) ثبوتُ مهر المثل، وجهه لائح.
وأما وجه [قول] (5) الخيار، فهو أنا إذا نفذنا الطلاق، لم يمكننا أن نقطع القول بفساد المسمى، ولم يمكننا أن نهجم على إبطال حق الزوج من المال، فكان يتجه ما ذكرناه أن يتخير الزوج، كما نصصنا عليه.
__________
(1) في الأصل: الرد.
(2) في الأصل: الأذى.
(3) (ت 6) : بلزوم البينونة على قولين.
(4) في الأصل: إلا وجه ثبوت مهر المثل.
(5) زيادة من (ت 6) .(13/477)
8897- ولا ينبغي للمفرّع أن يذكر هذه التفاريع في غير صورة الإطلاق؛ فإن المذهب المبتوت أن الزوج إذا عين للوكيل مقداراً وأمره بالمخالعة [به] (1) ، فخالف وخالع بأقلّ منه، فالطلاق لا يقع؛ فلا حاجة إلى تفريع المسألة بعد الحكم بوقوع الطلاق. ولو فرّع مفرع على أن الطلاق يقع مع المخالفة لصريح (2) الإذن، لَسَمُجَت التفاريع؛ فإن ما ذكرناه وتكلفناه إنما يلطف [موقعه] (3) مع إطلاق اللفظ، واشتماله على مقتضى العموم مع الالتفات على قاعدة الحِنث والبر [من وجه] (4) ، ومع النظر إلى اختلال المال في الأثناء من [وجه] (5) ، والخلع مركب من أصول متعارضة، فجرى ترتيبٌ عليه طلاوةُ [القبول] (6) وإن كان التحقيق مخالفاً [له] (7) . فأما إذا فرض التصريح بالمخالعة (8) ، فتبعد تلك التفاريع.
8898- ومما يدور في الخلد أن الرجل إذا قال للوكيل: خالع امرأتي، فهل نقول: مجرد ذكر المخالعة يشعر بالمال؟ وهل يخطر لذي النظر في المغمَضات [تخريجٌ] (9) هذا على ما إذا قال الرجل لامرأته.: " خالعتك "، فقالت: اختلعت.
ولم يُجرِ واحدٌ منهما للمال ذكراً؟ ففي ثبوت المالية كلام ذكرتُه في أول الكتاب.
يجوز أن يقال (10) : التوكيل بالمخالعة بمثابة التوكيل بالبيع، [ولو قال: بع عبدي، كان ذلك محمولاً على البيع] (11) بالعوض.
__________
(1) زيادة من: (ت6) .
(2) (ت6) : بصريح.
(3) في الأصل: موضعه.
(4) في الأصل: في ذلك.
(5) في الأصل: من وجهه.
(6) في الأصل: والقبول.
(7) في الأصل: لها.
(8) أي بمقدار من المال يحدده الزوج، فهذا مفهوم مما ذكره في صدر الكلام على التفريع، فهو في مقابلة التوكيل المطلق. هذا. وفي نسخة (ت 6) : المخالفة.
(9) في الأصل: تخرج.
(10) يجوز أن يقول الففيه.
(11) زيادة من (ت6) .(13/478)
ويجوز أن يقال: ليست المخالعة كذلك، فإنها كناية في وضعها، ومن محالّ ترددها إرادة الخلع بها من غير مالٍ، فليكن في هذا مزيد نظر، وإذا (1) قال الرجل للوكيل: طلق امرأتي بمالٍ، أغنى هذا عن ذكر المخالعة، وكان تصويراً في الإطلاق من غير تعرض لمقدارٍ في المال.
وقد انتجز بعون الله ولطفه تفريع القول في تصرف الوكيل من جهة الزوج.
8899- فأما تفصيل القول في تصرف الوكيل من جهة المرأة، فنقول: لا تخلو المرأة إما أن توكل بالاختلاع مطلقاً من غير تنصيص على مقدار من المال، وإما أن تنص على مقدار من المال، فإن نصت على مقدارٍ من المال، وقالت لوكيلها: اختلعني بكذا. فإن وافق الوكيل واختلعها بذلك المقدار، صح، ونفذ. وإن وقع الاختلاع بأقل من ذلك المقدار، صح أيضاًً، وكان ذلك تناهياً في الموافقة، وهو بمثابة ما لو قال الرجل لوكيله: اشتر لي هذا العبد بألف، فإذا اشتراه الوكيل بخمسمائة، فقد وافق وزاد، فالنقصان في هذا الجانب بمثابة الزيادة في ثمن المبيع من الوكيل بالبيع.
8900- وإن خالف الوكيل واختلعها بأكثر مما سمَّت، فهذه مخالعة متضمنها جرُّ ضرار ومزيدُ غرم، فلا يخلو الوكيل إما أن يضيف العقد والقبول إليها، وإما أن يطلق الاختلاع، ولا يضيف إليها.
[فإن أضاف إليها] (2) وقال: اختلعتها بألفٍ من مالها أو بألفٍ عليها، فظاهر النصوص في الكتب الجديدة والقديمة أن الطلاق يقع.
ومذهب المزني أن الطلاق لا يقع، وليس يخفى اتجاه القياس فيما اختاره المزني؛ فإن هذا الوكيل لم يضف الاختلاع إلى نفسه، فينزل العقد عليه، وإنما أضاف إليها، وهي لم تلتزم بنفسها هذا المقدار، ولم تأذن لوكيلها في التزامه، فاقتضى القياس أن يكون هذا القبول لاغياً بمثابة المعدوم، وإذا انتفى القبول -والإيجابُ يتعلق به- كان
__________
(1) (ت 6) : فإذا.
(2) زيادة من: (ت 6) .(13/479)
بمثابة ما لو قال الرجل لامرأته: أنت طالق بألف، فسكتت، ولم تقبل. هذا وجه ما ذكره المزني، ولم أر أحداً من الأصحاب يرى مذهبه قولاً مخرجاً في المذهب على [اتجاهه] (1) .
والذي أراه أن يُلحَق مذهبُه في جمبع المسائل بالمذهب؛ فإنه [ما انحاز] (2) عن الشافعي في أصلٍ [يتعلق] (3) الكلام فيه بقاطعٍ، وإذا لم يفارق -الشافعيَّ- في أصوله، فتخريجانه خارجةٌ على قاعدة إمامه، فإن كان لتخريج مخرِّج التحاقٌ بالمذهب، فأولاها تخريج المزني لعلوّ منصبه في الفقه، وتلقّيه أصول الشافعي [من فَلْق فيه] (4) وإنما لم يُلحق الأصحابُ مذهبَه في هذه المسألة بالمذهب؛ لأن من صيغة تخريجه أن يقول: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وإذا انفرد بمذهبٍ، استعمل لفظةً تشعر بانحيازه، وقد قال في هذه المسألة لما حكى جواب الشافعي: " ليس هذا عندي بشيء "، واندفع في توجيه ما رآه بما ذكرناه.
8901- فإن قيل: ما وجه القول المنصوص عليه؟ قلنا: "الإذن قد صدر منه على الجملة، والوكيل جرى في أصل الاختلاع على الإذن، وإنما خالف في العوض، وقد تمهد في أصل الشرع أن العوض ليس ركناً في الخلع، حتى يفسدَ الخلعُ بفساده، [وإذا] (5) كانت الفرقة تقع بالمخالعة على الخمر مع القطع بأن القبول في الخمر باطل، [وكان] (6) من الممكن أن يقال: إذا لم تكن الخمر مقبولة، فإضافة القبول إليها لاغٍ، [فلما] (7) تعلّق بقبول الخمر وقوع الطلاق شرعاً، وليست الخمر مقبولة شرعاً، (8 دل على ما ذكرناه 8) ، وليس الطلاق المتعلق بالقبول بمثابة الطلاق المعلق بالصفات؛
__________
(1) في الأصل: اتجاه.
(2) في الأصل: فإنه إنما انجاه عن الشافعي.
(3) في الأصل: متعلق.
(4) زيادة من: (ت 6) .
(5) في الأصل: وإن.
(6) في الأصل: فكان.
(7) في الأصل: فأما.
(8) ما بين القوسين ساقط من (ت 6) .(13/480)
فإن الطلاق إذا علقه مالكه بصفة، فلا فرق بين أن تكون تلك الصفة محظورة ديناً، وبين أن تكون مباحة؛ فإن تقدير وقوع الطلاق في التحقيق يرجع إلى تأقيت الطلاق، وكأن مالك الطلاق قال عند وجود الصفة المذكورة: أنت طالق، هذا مسلك التعليق، فلا يختلف إذاً -على هذا- التعليقُ باختلاف المتعلقات.
وأما القبول، [فالطلاق] (1) يقع به على حكم تصحيح القبول أخذاً من أحكام المعاوضات، فإذا وقع الطلاق بقبول الخمر، تبين أن فساد العوض لا أثر له، فقد قبل الوكيل عنها حقّاً، ولكن أتى وراء القبول بما هو فاسد في حكم إذنها، فوقع الطلاق لذلك.
هذا وجه النص والمذهب.
التفريع:
8902- إذا تبين أن الطلاق واقعٌ، فالمذهب الصحيح أن المسمَّى يسقط، والرجوع إلى مهر المثل، بناء على ما وجهنا به المذهب من القياس على فساد العوض، وهذا من باب الفساد الراجع إلى صيغة اللفظ، ثم موجب هذا الرجوع إلى مهر المثل.
وفي المسألة قول آخر أن على المرأة الموكِّلة أكثرَ الأمرين من المائة التي سمَّتها، ومن مهر مثلها، [فإن كان ما سمّته أكثر من مهر مثلها، فعليها بذلُ ما رضيت به، وإن كان مهر مثلها أكثرَ مما سمته، فعليها مهرُ مثلها] (2) .
وحقيقة القولين لا تتبين إلا بمعاودات ومباحثات.
أما القول الذي صححناه في التفريع، فمأخذه من إفساد التسمية، وهذا لائحٌ.
وأما القول الثاني، فليس القائل به قاطعاً بالفساد، ولكنه يقول: إذا سمى الوكيل مائتين وسمت المرأة مائة، فقد أتى الوكيل بالمقدار الصحيح، وضم إليه ما لا يصح، وهو الزيادة، وكأنه لا يقطع القول بالفساد.
__________
(1) في الأصل: في الطلاق.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 6) .(13/481)
ومما يسوغ الاحتجاج به لهذا القول أن المبالغة في تقرير (1) فساد التسمية توجب رفع الإذن من البَيْن، وهذا تورط في مذهب المزني. وإنما يتجه الحكم بوقوع الطلاق لاشتمال قول الوكيل على ما فيه بعض الموافقة. وإذا لم يقدر هذا، كان ذلك استئصالاً للإذن ورفعاً له، ثم هذا القائل إذا لم يجزم القول بالفساد، كان موجَب [ما يؤصّله] (2) أن ينظر إلى ما رضيت بالتزامه، فإن كان مثلَ مهر المثل أو أكثر، ألزمنا الزوجَ الرضا به، وإن كان أقلّ من مهر المثل، فيثبت عند ذلك للزوج حقٌّ؛ من جهة إخلاف ظنه، ولا معتبر ينظر إليه إلا فوات البضع وإيجاب قيمته، وهذا إيجاب مهر المثل، من غير فساد ولا تقدير خيار وفسخ، ولكن يثبت للزوج حق لم نجد له مأخذاً إلا القيمة، ووجد من المرأة التزامٌ، [فتردّد] (3) النظر بينهما على ما حكيناه. هذا هو الممكن في توجيه هذا القول.
والقول الأسدُّ الرجوعُ إلى مهر المثل جزماً، من غير تفصيل.
ثم سواء أوجبنا مهر المثل، أو ألزمنا أكثر الأمرين مما سمّت أو مهر المثل، فليس على الوكيل غرم، ولا ضمان؛ فإنه أخرج نفسه من البَيْن، ولم يضف الالتزام إلى نفسه [أصلاً] (4) .
التفريع على القولين:
8903- إن جزمنا (5) القول بثبوت مهر المثل، فلا كلام، ويجب تمامه، وإن زاد على ما سماه الوكيل.
وإن فرعنا على القول الثاني وقد سمت المرأة مائة، ومهر المثل مائة وخمسون، وسمى الوكيل مائتين، فالواجب مائة وخمسون، ولو كان مهر المثل تسعين،
__________
(1) عبارة (ت 6) : في تقدير فساد القيمة توجب وقع الإذن.
(2) في الأصل: ما وصله.
(3) في الأصل: وتردد.
(4) زيادة من (ت 6) .
(5) (ت 6) : جرينا.(13/482)
فالواجب مائة، ولو كان مهر المثل ثلاثمائة، فالأصح أنا (1) نوجب المائتين؛ فإن الزوج رضي بهما فيما سماه الوكيل، فكما يلزم المرأة المائة وإن كان مهر المثل أقل منها لالتزامها، فكذلك يلزم الرجل الاكتفاء بالمائتين إذا كان مهر المثل أكثر منهما، لأنه رضي بهذا المقدار، فإنّ (2) رضاه معتبر، كما كان رضاها معتبراً. ومهر المثل دائر بينهما.
هذا تفصيل القول فيه إذا أضاف الوكيل ما ذكره من المسمى الزائد إلى التزام المرأة.
8904- فأما إذا لم يتعرض للإضافة إليها، ولكن أطلق اختلاعها بالمائتين، فالخلع نافذ، والبينونة واقعة، فإنها إذا كانت تقع والخلع مضاف إليها على خلاف إذنها، [فلأن] (3) تقع والاختلاع مطلق أولى.
ثم ما الذي يجب على الوكيل؟ أولاً - أجمع أصحابنا على أن المرأة لا تخرج من البَيْن، ولا يقال: لمّا خالف الوكيل مقدار ما سمَّته، وأطلق القبول والالتزام، كان هذا بمثابة ما لو اختلع بنفسه من غير توكيل. هذا لم يصر إليه أحدٌ من الأصحاب، [إذا أطلق الالتزام، ونوى الموكّلة] (4) .
ثم فيما يجب عليها (5) وعليه قولان: أحدهما - أنا ننظر إلى مهر المثل، فنوجبه على المرأة إذا كان أكثر مما سمّت، ونوجب على الوكيل تكملة المائتين. وبيان ذلك أنها سمَّت مائة، ومهر المثل مائة وخمسون، وقد سمَّى الوكيل مائتين، فنوجب عليها مائة وخمسين، ونوجب على الوكيل الخمسين، تكملة المائتين. وإن كان ما سمته أكثر من مهر المثل، بأن كان مهر المثل تسعين، وما سمته مائة، وما سماه الوكيل مائتان، فعلى المرأة المائة، وعلى الوكيل المائة الأخرى. ولو بلغ مهر مثلها
__________
(1) عبارة (ت 6) : فالأصح أن الزوج لا يستحق إلا المائتين، فإنه رضي بهما فيما سماه الوكيل.
(2) عبارة (ت 6) : فكان رضاه معتبر، كما أن رضاها معتبر.
(3) في الأصل. فلا.
(4) زيادة من (ت 6) .
(5) (ت 6) : فيما يجب عليه قولان.(13/483)
مائتين، فكمال مهر المثل عليها [على] (1) هذا القول.
فإذاً الواجب عليها أكثر الأمرين، فإذا لم يبق شيء إلى تمام المائتين، فلا طلبة على الوكيل، وإن بقي شيء، فعلى الوكيل إتمامه.
وفي المسألة قولٌ آخر، وهو أقيس عند أئمة المذهب، وذلك أنا لا نُلزم المرأةَ إلا ما سمَّت، فلا نحط ولا نزيد، ونوجب على الوكيل إتمام المسمى من عند نفسه.
وحقيقة القولين في هذه الصورة تؤخذ أولاً من أن الفساد لا يتطرق إلى التسمية؛ فإن الالتزام جرى من الوكيل مطلقاً، [ومطلق] (2) الالتزام صحيح منه من غير توكيل، وليس كما لو أضاف إليها على الخُلف؛ فإن [الإضافة] (3) فاسدة، وبم يوجد منه التزامٌ [مطلق] (4) ، حتى ننزّل عليه.
[فإذا فُهم هذا، نقول بعده: إنا في القول الأول نقول: قد تعلق الخلع بها] (5) على حالٍ؛ إذ لو لم يتعلق بها، [لبرئت] (6) بالكلية، ولاختص الوكيل بالالتزام، وهذا لا سبيل إليه لما بنينا المذهب عليه من أن قاعدة الخلع لا تزول بالتغاير في [التسميات.
نعم، قياس مذهب المزني] (7) انصراف الاختلاع عنها بالكلية إلى الوكيل؛ فإنه ينزل الاختلاع منزلة الابتياع؛ وإذا كان الرجل وكيلاً بابتياع عبد بمائة، فإن أضاف
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) في الأصل: ونطلق.
(3) في الأصل: الافة.
(4) في الأصل: منطلق.
(5) عبارة النسختين هنا مضطربة، فقد جاء في الأصل: فإذا فهم هذا القولين بعد أنا في القول الأول نقول وقد تعلّق الخلع بها ...
وفي (ت 6) : فإذا فهم هذا بيان القولين بعده: أما في القول الأول: قد تعلق الخلع بها.
والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق، وألفاظ النسختين.
(6) في الأصل: الترتب.
(7) عبارة الأصل: في التسميات، فقياس مذهب المزني.(13/484)
الشراء إلى الموكل وأوقعه بمائتين، كان الشراء باطلاً، وإن أضافه إلى نفسه، انصرف عن الموكل، ووقع عن الوكيل. هذا قياس المزني.
8905- وإذا فرعنا على مذهب الشافعي، فلا بد (1) من تعليق الخلع بالمرأة، ثم إذا تعلق بها وقد جرى على خلاف ما رسمت، دار الأمر عليها بين ما سمّت، وبين مهر المثل، فلزمها الأكثر منهما، ثم ذكرنا في الصورة الأولى أنه إذا قَصَر (2) الأكثرُ عن المائتين، فلا يجب على الوكيل شيء، والسبب فيه أنه لم يلتزم، بل أضافه [فكان] (3) خارجاً عن الغرم، وقد التزم في مسألتنا، فلزمه الوفاء بما [التزمه] (4) هذا بيان هذا القول.
[والأقيس] (5) القولُ الآخر؛ فإن اعتبار مهر المثل إنما يحسن إذا كنا نشَوبُ الخلعَ أثر الفساد. وهذا إنما يتجه إذا فسدت التسمية بالإضافة، وهاهنا لم تفسد، وإنما (6) جرت مطلقة، فإن كان يتعلق بالمرأة شيء، فلا التفات على مهر المثل، وإنّما الالتفات إلى ما التزمته، قلّ أم (7) كثر، وعلى الوكيل التتمّة.
وعلى (8) هذا أطلق الغواصون القولَ بأن هذا أقيسُ من الأول، ولم يعتبر أحد من الأئمة مهرَ المثل جزماً في هذه الصورة، بخلاف صور الإضافة على الفساد؛ فإن تلك الإضافة فسدت، فكان الرجوع إلى مهر المثل في القول الصحيح، والتسميةُ المطلقة صحيحة في صيغتها؛ فلم ينقدح مهر المثل (9 على جزم 9) ، ثم سرّ المذهب في
__________
(1) (ت 6) : فإنا نبين تعلق الخلع بالمرأة.
(2) قَصَر: من باب قتل، تقول قصر السهم من الهدف لم يبلغه، وقصر الطعامُ نقص وغلا.
(المعجم والمصباح) .
(3) في الأصل: وكان.
(4) في الأصل: ألزمه.
(5) في الأصل: والأتتس. (وهو تحريف عجيب رسم الناسخ الكلمة مشوّهة بغير معنى) .
(6) (ت 6) : فإنها.
(7) (ت 6) : أو.
(8) (ت 6) : وعن هذا.
(9) ما بين القوسين سقط من (ت 6) .(13/485)
هذا أن المقدار الذي يلتزمه الوكيل منفرد به، فهو مطالب به، والزائد عليه يتخير الزوج فيه، إن شاء طالب به المرأة، وإن شاء طالب به الوكيل، ثم هو يرجع به على الموكلة. هذا على المذهب المشهور في العهدة.
وإن قلنا: لا يطالَب الوكيل بعهدة العقد، فالقدر الذي يتوجه الطلبة به على المرأة لا يطالب الوكيل به إذا اعترف الزوج بكونه وكيلاً، ولم يكن بينهم اختلاف، وكانت (1) هذه الصورة بمثابة ما لو بذلت المرأة مالاً، ووكلت وكيلاً، فقال الوكيل: إن زوجك لا يخالعك بهذا المقدار، فلا عليك، وأنا اختلعك بما يطلبه، وإن زاد على ما بذلتِ، فالخلعُ يَقْبل هذا؛ فإن الأجنبي إذا ملك الافتداء من خالص ماله [والبضع] (2) يرجع عليها لا حظ للأجنبي فيه، فيقبل التبعيض على موجب الافتداء.
هذا نظر الشافعي. وقد بان تحقيقه.
ثم إن حكمنا بأن المرأة تغرم الأكثر مما سمت ومن مهر المثل، فإن زاد مهر مثلها عن المائتين، فالزوج لا يطلبه أصلاً. وقد ذكرنا هذا في الصورة الأولى، وهو في هذه الصورة أوضح. وأجرينا في الصورة الأولى قولاً أن مهر المثل يجب بالغاً ما بلغ، وإن زاد على ما سماه الوكيل، ولا شك أن ذلك القول لا يجري هاهنا؛ فإن صورة الإضافة اتجه فيها الفساد، وموجبه الرجوع إلى مهر المثل، ولا يتجه الفساد في هذه الصورة التي ذكرناها.
هذا تفصيل المذهب فيه إذا أضاف الوكيل العوض (3) إليها، أو أطلق التزامه، ولم يُضف ولكنه نواها (4) .
8906- فأما إذا قصد اختلاعها من تلقاء نفسه، أو أطلق ولم (5) ينوها، نزل الخلع عليه وانقطعت الطّلبة عن المرأة. وهذا بينٌ لا إشكال فيه.
__________
(1) (ت 6) : وكأن.
(2) في الأصل: فالبضع.
(3) (ت 6) : العرض.
(4) نواها: أي الإضافة.
(5) (ت 6) : ولم يبدها بذل.(13/486)
8907- ولو أضاف الوكيل المال إليها، كما قدمنا التصوير فيه، ولكنه ضمن عنها. وإيضاح التصوير أنها إذا وكلته بأن يختلعها بمائة، فقال الوكيل: اختلعتها بمائتين من مالها، على أني ضامن، فهذه الصورة ذكرها الصيدلاني، وزعم أن حكمها حكم ما لو أطلق التسمية والالتزام، ولم يضف إليها.
وهذه هفوةٌ بيّنة؛ فإن الإضافة إذا فسدت، فالضمان لا يردّها إلى الصحة، فيجب طرد القولين المذكورين في صورة الإضافة إليها، حتى يتبين ما يجب.
ثم إذا استمر القولان على نحو ما جرى ذكرهما، فهذه الصورة [التي ذكرها] (1) تمتاز عن الأولى في حكمٍ وهو أنا لم نلزم الوكيل في الإضافة إليها شيئاً، وهاهنا نُلزمه ما يلزمها من جهة الضمان. فإن قيل: لم لا تلزمونه التتمّة إلى المائتين؟ قلنا: لأنه لم يضف التزام العوض إلى نفسه، وإنما أقام نفسه كفيلاً، والكفيلُ لا يستقل بنفسه في الغرم. فهذا ما يجب التنبيه له.
8908- وكل ما ذكرناه فيه إذا وكلت المرأة وكيلاً بالاختلاع، وسمت مقداراً من المال، فأما إذا أطلقت التوكيل (2) ، ولم تتعرض لتسمية مقدار، فحق الوكيل إن أراد أن يجري على مرتبة الوكالة ألا يختلعها بأكثر من مهر المثل. فإن اختلعها بمهر المثل أو أقلَّ، فذاك، والخلعُ نافذ على الصحة. وإن اختلعها بأكثر من مهر المثل، فالزيادة على مهر المثل كالزيادة على المقدار المسمى إذا كانت سمَّت مقداراً.
ثم يختلف الأمر بأن يضيف إليها أو يطلق الالتزام. فإن أضاف إليها، فهو كالإضافة إليها وقد كانت سمّت فزاد الوكيل. وإن أطلق، فهو كالإطلاق في الصورة الأولى.
والجملة أن مهر المثل في صورة إطلاق التوكيل بمثابة ما لو (3) سمت إذا فرض من الوكيل الزيادة عليه، فلا فرقَ، غيرَ أن المسألة تمتاز عن المسألة بأمرٍ يرجع إلى
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) (ت 6) : الوكيل.
(3) (ت 6) : بمثابة ما سمت.(13/487)
الصورة، وهو أنا قد نجري فيه إذا سمت شيئاً قولاً في أنه يلزمها أكثرُ الأمرين مما سمّت أو مهر المثل. وهذا لا يتصور جريانه في الإطلاق، فإنها ما سمت شيئاً، فلا ينتظم التردّد في حقها [بين] (1) شيئين، ولكن لا يلزمها إلا مهر المثل، والكلام في أن الوكيل هل يلتزم تتمة المسمّى يخرّج على القياس المقدّم؟ فإن أضاف الالتزام إليها، لم يضمن شيئاً، وإن أضاف الالتزام إلى نفسه، فهو كما لو أضاف الالتزام إلى نفسه في صورة التسمية.
هذا منتهى القول في تصرف وكيل المرأة ألاختلاع.
وكل ما ذكرناه فيه إذا اختلع الوكيل بجنس ما سمت -إن كانت سمت- فوافق المقدارَ، أو زاد، أو نقص.
8909- فأما إذا حاد الوكيل عن الجنس الذي سمت، وذكر جنساً آخر، وذلك بأن تسمّي دراهم، فيختلع الوكيل على الدنانير، قال القاضي: إن أطلق الاختلاع، صح، ووقع عن [الوكيل] (2) ، وبطل أثر الوكالة، وكان بمثابة ما لو اختلع أجنبيٌّ [زوجة] (3) إنسان بمالٍ من عند نفسه، وهذا إذا أطلق الالتزام.
وإن أضاف الالتزام إليها، فسد ولم يقع الطلاق، وهذا يؤكد مذهب المزني في الصورة الأولى؛ فان أصل التوكيل جارٍ منها، والفساد راجع إلى التسمية، فإذا كان فساد التسمية في المقدار لا يمنع وقوع الطلاق، ففساد الجنس لا يبعد ألا يؤثر، ولم أر هذا التفصيل (4) في الجنس والمقدار إلا للقاضي، وإن أراد المريد فرْقاً، لم يعدمه على شرط أن ينطاع لتركيب (5) الخلع [ولا يبغي] (6) فيه كلاماًً مجرداً، فنقول:
__________
(1) في النسختين: من.
(2) في الأصل: التوكيل.
(3) في الأصل: ووجه.
(4) (ت 6) : الفصل.
(5) (ت 6) : لتركب.
(6) في الأصل: ولا ينبغي.(13/488)
[المخالفة] (1) في الجنس إعراضٌ بالكلية عما قالت، [والمخالفة] (1) في المقدار [إتيان] (2) بما ذكرت مع مزيدٍ، كما تقدم.
ومما يجب تجديد العهد به التوكيلُ في النكاح، فإذا وكلت المرأة في أن تُزوَّج بمائة، فزُوِّجت بخمسين، فالذي ذهب إليه القفال أن النكاح لا ينعقد. وقال بعض الأصحاب: ينعقد بمهر المثل، فإن حكمنا بأنه ينعقد، فهذا يطابق الخلع في أصله؛ من حيث إنه لا تندفع البينونة [بخلافٍ] (3) يجري في العوض.
وإن جرينا على طريقة القفال، احتجنا إلى فرقٍ بين النكاح والخلع، والممكن فيه التعلّق (4) بغلبة الطلاق وجريانه، وتصحيح فاسده، وتكميل مبعّضه، وتأبيد مؤقته، والنكاح لا يحتمل شيئاً من ذلك؛ [فإذا] (5) وكل الرجل وكيلاً حتى يقبل له نكاح امرأة بألف (6) فقبل الوكيل النكاح بألفين، [فاختيار] (7) الشيخ (8) أن النكاح لا ينعقد، وقال بعض الأصحاب: ينعقد، والرجوع إلى مهر المثل، والحكم بالانعقاد بعيد (9) في هذا الطرف.
وقد انتهت المسألة نهايتَها، وبلغت مبلغاً لا مزيد عليه، ولكن ليس من الممكن
__________
(1) في الأصل: والمخالعة.
(2) في الأصل: إثبات.
(3) في الأصل: ـحلا.
(4) (ت 6) : التعليق.
(5) في الأصل: وإذا.
(6) (ت 6) : بألف درهم.
(7) في الأصل: فاختار.
(8) الشيخ: المراد به هنا القفال. وهو على خلاف اصطلاحه، فحيثما قال (الشيخ) مطلقاً بغير قيد فهو يعني به الشيخ أبا علي السنجي، والذي سوغ مخالفة هذا الإطلاق هنا هو أن القفال قد سبق له ذكر في الصورة المقابلة لهذه الصورة، وهي: " إذا وكلت المرأة في أن تزوج بمائة فزوجت بخمسين " ويؤيد أنه يعني بالشيخ هنا القفال، أن السبكي في (الأشباه والنظائر) نقل هذه المسألة، وكلامَ إمام الحرمين فيها بنصه، ثم عقب قائلاً: وأظنه يعني بالشيخ -هنا- القفال، ففي كلامه ما يشير إلى ذلك (ر. الأشباه والنظائر: 1/367) .
(9) ساقطة من (ت 6) .(13/489)
إنهاء كل مسألة إلى حدٍّ يفهمه كل أحد، ولن يحيط بمأخذ الكلام في هذه المسألة إلا دربٌ (1) فقيهٌ عالم في الفقه سديدُ القريحة شديدُ الطلب للغايات (2) .
فرع:
8910- إذا وكل الرجل وكيلاً حتى يخالع زوجته بمائة، فوكلته المرأة حتى يختلعها بمائة، فكان وكيلَه ووكيلَها، فهل يصح ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح، كما لا يصح مثله في البيع والإجارة، والسبب فيه أنه إيجاب وجوابٌ، ولا ينتظم صدورهما عن شخص واحد، والأب مستثنىً عن هذا القياس، كما قدمناه في كتاب النكاح.
والوجه الثاني - أنه يصح؛ لأن الطلاق يقبل ما لا تقبله المعاوضات المحضة، ولذلك صح فيه الخلع، وجرت البينونة، ولزم العوض من غير فرض قبول إذا قال الزوج: إن أعطيتني ألفاًً، فأنت طالق، فجاءته (3) بالألف، وقع الطلاق، وثبت المال، على التفاصيل المقدمة، فإذا لم يبعد هذا، وفيه اكتفاءٌ بقولِ واحدٍ من أحد الجانبين، [فالاكتفاء بشخصٍ واحدٍ] (4) لا يكون بدعاً، [فإن منعنا هذا (5) ، لغا لفظ الوكيل] (6) ، ولم يقع شيء.
وإن صححنا، فهل يقتصر الوكيل على أحد الشقين، أم لا بد من الإتيان باللفظين المعبّرين عن الشقين؟ فعلى وجهين ذكرناهما في الأب إذا كان يعامل ابنه الطفل، وكان شيخنا أبو محمد يحكي في هذه المسألة مسألةً عن القفال وتردداً من جوابه فيها، وهي أن [مستحق] (7) الحق إذا وكل رجلاً باستيفاء حقه من إنسان، فوكّله ذلك الذي
__________
(1) دَرِبٌ: بالمهملة المفتوحة ثم مهملة مكسورة والثالث باء موحدة: ماهرٌ حاذق، من درب يدرَب (باب تعب) يقال: درب على الشيء: مَرِنَ وحَذِق، ودرب به: اعتاده وأولع به.
(المعجم والمصباح) .
(2) عبارة (ت 6) : إلا دربٌ في الفقه سديد القريحة شديد الطلب.
(3) (ت 6) : فإذا جاءته.
(4) في الأصل: والاكتفاء بشرط واحد.
(5) هذا: إشارة إلى توكيل شخص واحد في الخلع من الرجل والمرأة، فيكون وكيلاً عنهما معاً.
(6) عبارة الأصل: فإن معنا هذا الغا لفظ التوكيل.
(7) في الأصل: يستحق.(13/490)
عليه الحق بإيفاء حقه، فانتصب وكيلاً عن الموفي والمستوفي، فكيف سبيل هذه الوكالة؟
لا شك أنه لا يظهر للفساد في هذا أثر، ولكن لو فرض منه الاستيفاء، ثم تلف في يده ما قبضه، فإن حملناه على كونه وكيلاً بالاستيفاء [فما يتلف في يد وكيل الاستيفاء] (1) يكون من ضمان مستحِق الحق، وإن قدرناه موفياً، فما يتلف في يد وكيل الموفي يكون من ضمان من عليه الحق.
وإذا كان موكلاً من الجانبين [وفرض] (2) التلف في يده، فهو ضمان مَن؟ ترددَ جوابُ القفال في ذلك، والوجه أن نقول: إن قصد القبضَ عن جهة من وكله بالاستيفاء، فلا شك أن ما يتلف في يده يكون من ضمان مستحق الحق. وإن لم يقصد شيئاً، فالمسألة مترددة قريبةٌ من تقابل الأصلين، والعلم عند الله تعالى. وإن قصد القبض عن الموفي، فليست المسألة خاليةً عن الاحتمال أيضاًً والله أعلم.
***
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) في الأصل: وفوّض.(13/491)
باب (1) الخلع في المرض
قال الشافعي رضي الله عنه: "ويجوز الخلع في المرض كما يجوز البيع ...
إلى آخره" (2) .
8911- نجدد العهد بالنكاح في المرض، ثم نذكر الخلع، فالمريض إذا نكح بقدر مهر المثل، أو أقل، فلا حرج عليه [ولا يحتسب ما يسوقه صداقاً من الثلث؛ لأن ذلك معدودٌ] (3) من حاجته، ولا مطلع على حاجته إلا من جهته، فنكاحه بمثابة شرائه لذائذ الأطعمة، ولا معترَض عليه في شيء من ذلك، [وإن] (4) استوعب مالَه بمهور الأبكار وقضاء الأوطار.
وإن نكح بأكبر من مهر المثل، فالزيادة تبرع، فإن كانت المرأةُ وارثةً، فالزيادة مردودة، وإن كانت ذمّية لا ترث هذا المسلم، أو كانت أمة والمهر لمولاها، فالزيادة تبرعٌ محسوب من الثلث (5) .
8911/م- ولو خالع المريض زوجته، فلا معترض عليه، ولا مؤاخذة بمقدار بدل الخلع، فإنه لو طلق مجاناً، جاز فإذا طلّق بمالٍ ثبتَ وإن قلّ. وهذا كما ذكرناه في مخالعة السفيه زوجته، والزوجات لا يتعلق بهن حقوق الورثة، كأمهات الأولاد.
وقد ذكرنا طرفاً من الكلام فيه إذا أعار المريضُ نفسَه، وخدم غيره، وأوضحنا كلام الأصحاب في أن بذل منافعه هل يحسب من الثلث، أم يقال: لا يحتسب؛ فإن
__________
(1) (ت 6) : فصل.
(2) ر. المختصر: 4/66.
(3) ما بين المعقفين زيادة من (ت 6) .
(4) في الأصل: فإن.
(5) (ت 6) : التلف.(13/492)
منافع بدنه لا تبقى لورثته؟ وقد ذكرنا هذا ونظائره في كتاب الوصايا.
8912- فأما المرأة إذا نكحت في مرض الموت، نظر: فإن نكحت بمهر المثل أو أكثر، فذاك. وإن نكحت بأقلَّ من مهر المثل، فإن كان الزوج حراً يرثها، انعقد [العقد] (1) ، وثبت مهر المثل، ولا وصية لوارث (2) .
وإن كان الزوج عبداً فالمسامحة مع السيد، وظاهر المذهب أن ما حابت به وصيةٌ محسوبةٌ من الثلث.
ومن أصحابنا من قال: ليس بوصية؛ فإن منافع بضعها لا تبقى لورثتها، وإنما الشرع فيما يبقى للورثة لولا التبرع.
8913- وإن اختلعت المرأة في مرض الموت نفسَها من زوجها بمهر المثل، أو أقل، لم يحتسب من [ثُلثها] (3) وقال أبو حنيفة (4) : يحتسب، وهذا بناه على أصله في أن البضع لا يتقوّم عند الخروج من النكاح. وإن كان قد تقوّم عند الدخول في النكاح.
وأما المكاتبة إذا اختلعت أو المكاتب إذا نكح، فينبغي ألا تُتلقّى هذه التصرفات من تصرفات المريض؛ فإن لها مأخذاً سيأتي موضحاً في كتاب الكتابة، إن شاء الله عز وجل.
وإن اختلعت نفسها بأكبر من مهر المثل، فالزيادةُ وصية (5) .
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) ولا وصية لوارث: المعنى أنه لا تحسب المحاباة لزوجها الحر الذي يرثها من الثلث، فإنه لا تجوز له الوصية. على حين لو كان الزوج عبداً، وقبلت نكاحه بأقل من مهر المثل، فالمحاباة في هذه الحالة للسيد، فتحسب من الثلث، حيث تجوز له الوصية لأنه غير وارث، كما هو واضح من العبارة الآتية.
(3) في الأصل: ثمنها.
(4) ر. المبسوط: 6/192، مختصر اختلاف العلماء: 2/470 مسألة: 992.
(5) لأنها محاباةٌ بغير عوض، فعوض الخلع هنا هو مهر المثل.(13/493)
فصل قال:
"ولو كان خالعها بعبد يساوي مائةً ومهر مثلها خمسون ... إلى آخره" (1) .
8914- صورة المسألة عرية عن مقصود الفقه، ولكن في لفظها وفتوى الشافعي فيها تعقيد، والغرض التنبيه عليه، ووجه الجواب عنه.
والصورةُ مريضةٌ اختلعت نفسها على عبدٍ يساوي مائة، وهو جميع مالها، ومهر مثلها خمسون، فالخلع يثبت، وقدر مهر المثل يثبت لا محالة، والزائد عليه وصية، فينفذ ما يسعه الثلث، وهو سدس العبد، فيسلم للزوج ثلثاه: النصفُ بحكم الاستحقاق، والسدس بحكم التبرع، فإن السدس ثلث الباقي. غير أن الزوج بالخيار من جهة التبعّض (2) . ثم إذا فسخ، فالرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة.
هذا جواب المسألة. غير أن المزني نقل في جواب المسألة: " أن الزوج بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد ونصف مهر مثلها، وإن شاء، رده ورجع بمهر مثلها "، وأخذ يعترض ويقول: "لا بل يستحق نصف العبد، لأنه [قدر] (3) مهر المثل، ويستحق من الباقي ما يحمله الثلث " (4) .
قال أصحابنا: ما ذكره المزني صحيح. ثم منهم من غلطه في النقل، وقال: إنما قال الشافعي: الزوج بالخيار إن شاء أخذ ما يخصه من العبد، وإن شاء رده ورجع بمهر المثل، ولم يقل ونصف مهر المثل.
وهذه المسألة لا تُلفى منصوصة على الوجه الذي نقله المزني في شيء من كتب الشافعي. وقال بعض أصحابنا: لفظ الشافعي أن الزوج بالخيار إن شاء أخذ نصف
__________
(1) ر. المختصر: 4/66.
(2) المعنى أن الزوج إذا لم يسلم له العبد كاملاً، وتبعّض بينه وبين الورثة، كان هذا عيباً موجباً للخيار، فإن فسخ ولم يرض بالاشتراك في ملك العبد، فله مهر مثلها أو القيمة.
(3) زيادة من (ت 6) .
(4) ر. المختصر: 67.(13/494)
العبد، ونصفُه (1) مهر المثل، فحذف المزني الهاء، وقال: إن شاء أخذ نصف العبد، ونصفٌ (2) مهر مثلها، فنوَّن النصفَ، وحذف المزني التنوين.
ومن أصحابنا من حمل ما نقله المزني على ما إذا أصدقها عبداً يساوي مائة درهم، ثم خالعها عليه قبل الدخول، فعاد النصف إليه بحكم الطلاق قبل الدخول، فله الخيار بين أن يأخذ النصف [الباقي مع نصف مهر المثل، لأجل النصف] (3) المستحَق له بالطلاق، وبين أن يرده ويرجع بمهر المثل. وهذا منتظم، ولكن لا فائدة في قوله: ومهر مثلها خمسون. فهذا منتهى القول في ذلك والله أعلم.
***
__________
(1) (ت 6) : ونصف.
(2) (ت 6) : ونصفه.
(3) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 6) .(13/495)
باب خلع المشركين
حكم خلع المشركين حكمُ أنكحتهم وما يبذلون من الأبدال، كما يبذلون منها في الصداق وقد مضى القول مفصلاً فيما يقبض في الشرك، وفيما يقبض في الإسلام، فلا معنى لإعادة [ما مضى مقرّراً] (1) ، ثم يذكر الأصحاب مسائل خالف أبو حنيفة فيها، ونحن نذكرها ونبين مذهبنا فيها.
فرع:
8915- إذا اختلعت قبل قبض المهر على عين أو دين، لم يسقط مهرها عن ذمة الزوج عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2) ، فإنه قال: المخالعة توجب براءة ذمة الزوج عن مهر المرأة قبل المسيس وبعده، وإن لم يجر للمهر ذكر، وهذا أخذه من لفظ الخلع والاختلاع، وهو وسوسة لا حاصل وراءها.
فرع:
8916- إذا خالع امرأته على خمرٍ أو خنزير، فالخلع فاسد، وعليها مهر المثل، على الرأي الظاهر؛ فإن الخمر والخنزير يعسر تقويمها. وقال أبو حنيفة (3) : [يقع] (4) الطلاق، ولا شيء عليها، وإن كان العوض يثبت لو كان صحيحاً وهذا بناه على أصله في أن البضع لا يتقوّم في الخروج من النكاح، والرجوع إلى مهر المثل تقويم للبضع.
فرع:
8917- إذا خالع على مالٍ مؤجل على الحصاد والدياس، فسد العوض، والرجوع إلى مهر المثل، وعند أبي حنيفة (5) يصح، ويتعجل المال ويفسد الأجل.
__________
(1) في الأصل: وما مضى مفرداً، وفي (ت 6) : ما مقرراً. والمثبت تصرف من المحقق، فهو اختيار من النسختين.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 191، مختصر اختلاف العلماء: 2/466 مسألة: 983.
(3) ر. المبسوط: 6/191، مختصر اختلاف العلماء: 2/470 مسألة 991.
(4) زيادة من (ت 6) .
(5) ر. المبسوط: 6/191.(13/496)
فرع:
8918- إذا خالعها على ما في كفها، فسد العوض، والرجوع إلى مهر المثل، وقال أبو حنيفة (1) : إذا أصاب في كفها شيئاً، فهو العوض، فإن لم يصب، فله ثلاثة دراهم. وما ذكرناه تفريع على الرأي الظاهر في أن بيع الغائب لا يصح على هذه الصفة.
فرع:
8919- إذا قالت: أبرأتك عن مهري بشرط أن تطلّقني، فقال الزوج: أنت طالق، فالبراءة لا تصح؛ فإنها معلّقة والتعليق يفسدها، ثم طلاق الزوج جرى مطلقاًً من غير تعليق، ولو قال الزوج: إن أبرأتني، فأنت طالق، فقالت: أبرأتك، فالطلاق بائن، فإن التعليق من جهته غير ممتنع، وهو بمثابة ما لو قال: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً، ولو قال الزوج: طلقتك فأبرئيني، وقع الطلاق، ولا يلزمها الإبراء؛ لأنه نجّز الطلاق، واستدعى الإبراء.
وفي كتاب الخلع فروع ممتزجة بقواعد الطلاق، رأينا تأخيرها إلى آخر الطلاق والله المعين.
***
__________
(1) ر. المبسوط: 6/187.(13/497)
ولو اعتنى الفقيه بحل مشكلات الفقه، كان أولى من الاشتغال بتعقيدات في الصورة.
الإمام
في نهاية المطلب(14/4)
كتاب الطلاق
قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ... إلى آخره" (1) .
8920- الأصل في الطلاق آيات في الكتاب معروفة، وسننٌ ستأتي في مواضعها على حسب مسيس الحاجة إليها، إن شاء الله عز وجل، وأجمع المسلمون على أصل الطلاق.
وهو في اللسان من الإطلاق يقال: أطلقتُ البعير إذا أرسلته وحللت عقاله، وأطلقتُ الأسيرَ إذا خلّيته، وهو لفظ جاهلي ورد الشرع باستعماله وتقريره، وقيل: كان الطلاق الجاهلية على أنحاءٍ: الطلاق، والفراق، [والسَّراح] (2) ، والظهار، والإيلاء، وأنتِ عليّ حرام. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء الشرع بنسخ البعض وتقريرِ البعض.
ثم الشافعي صدّر الكتاب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . قيل: التقدير: يأيها النبي قل لأمتك: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن. وقيل: المذكور النبي في صدر الآية وهو وأمته معنيّون، والشاهد فيه رجوعُ الخطاب إلى الجمع في قوله إذا طلقتم النساء، والكلام في ذلك يطول، وما ذكرناه كافٍ، ثم قوله: "طلقوهن لعدتهن" معناه طلقوهن لوقت يشرعن عقيبه في العدة، وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ: "فطلقوهن لقُبل عدتهن" والظاهر أن هذا كان يذكره تفسيراً.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 68.
(2) صحفت كلمة (السراح) في الأصل إلى كلمة غير مقروءة ولا معنى لها: (النراح) .(14/5)
ثم الكتاب [مبدوءٌ بالكلام] (1) في الطلاق البدعي والسني، وهما لفظان أطلقهما أئمة السلف، وتداولهما فقهاء الأعصار، ونحن نذكر فقه الفصل موضحاً، ثم نأتي بالعبارات، ونستعين بالله تعالى، وهو خير معين.
8921- فنقول: يحرم على الرجل أن يطلق زوجته المدخول بها في زمان الحيض من غير عوض ولا رضاً من جهتها، هذا متفق عليه.
وكذلك إذا جامع امرأته في طهر، ولم يتبين أنها حامل أو حائل، فيحرم عليه تطليقها في الطهر الذي جامعها فيه من غير عوض.
هذان أصلان ثابتان بالوفاق، ومستند الإجماع فيهما الحديث، وهو: ما روي أن ابنَ عمرَ طلق امرأته في الحيض، فسأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "مُره فليراجعها حتى تطهرَ، ثم تحيضَ، ثم تطهرَ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" (2) هذا رواية مالك عن
__________
(1) في الأصل: يبدو الكلام.
(2) حديث طلاق ابن عمر امرأته بهذا السند: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبهذه الألفاظ، لا ينخرم منها حرف واحد، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الطلاق، باب وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّة} ح 5251، ولهذا الحديث روايات أخرى عند البخاري، باختلافٍ في اللفظ، وزيادات، وهي بأرقام: 4908، 5252، 5253، 5258، 5264، 5332، 5333، 7160.
وهو عند مسلم: كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف، وقع الطلاق، ح 1471، والرواية الأولى بذات السند: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبذات الألفاظ التي ساقها البخاري، وهي التي جاء بها إمام الحرمين كما أشرنا آنفاً.
وللحديث عند مسلم روايات عدّة بلغت العشرين كلها عن ابن عمر، منها أربع عن نافع عن ابن عمر، وثلاث عن سالم عنه، وباقيها عن ابن سيرين، ويونس بن جبير، وعبد الله بن دينار، وطاوس، وأبي الزبير، وهي بألفاظ وزيادات تختلف عن السلسلة الذهبية، أي الرواية الأولى التي أشرنا إليها وبينا أنها ذات رواية البخاري.
والحديث عند أبي داود أيضاً في كتاب الطلاق - باب طلاق السنة والبدعة (4) ، الأرقام من 2179 إلى 2185، والأول منها هو ما جاء عند البخاري ومسلم عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وبذات الألفاظ. والأحاديث الباقية فيها ما أشار إليه الإمام من رواية سالم، ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين.(14/6)
نافع عن ابن عمر. وروى سالم ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين عن ابن عمر، وفيه: "مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر" (1) ، وسنتكلم على هاتين الروايتين بعد تمهيد القاعدة في السُّنّة والبدعة، فنقول:
يحرم إنشاء الطلاق بعد الدخول عرياً عن العوض في زمان الحيض، والذي نضبط المذهب به أن هذا يؤدي إلى تطويل عدتها؛ فإن بقية الحيض لا يعتد بها، وإلى ذلك أشار الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تُطلق لها النساء" فعلل تحريم الطلاق بإفضائه إلى تطويل العدة، ولا مزيد على علة صاحب الشرع صلوات الله عليه.
ولو خالعها، فلا حظر ولا تحريم.
ولو طلقها [برضاها] (2) من غير ذكر عوض، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك سائغ؛ لمكان رضاها، فصار كما لو اختلعت نفسها.
والثاني - لا يجوز (3) ؛ فإن حدود الشرع ومواقف التعبدات لا تختلف بالرضا والسخط.
8922- فإن قيل: [على] (4) ماذا بنيتم أولاً تحريم الطلاق في الحيض؟ قلنا: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: "مره فليراجعها" ارتفع عبد الله إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيت لو طلقتُها ثلاثاً"؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إذن عصيت، وبانت امرأتك" وما قال عبد الله ما [قال] (5) معانداً، وقدرُه أعلى من هذا، وإنما قال مستفهماً؛ لأنه ما كان بلغه أمرُ (6) البدعة
__________
(1) ت6: "حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر". وفي هذا خلل واضح، فهو مخالف لما في كتب الحديث، ثم أي فرق إذاً بين هذه الرواية والتي قبلها.
(2) في الأصل: بغير رضاها.
(3) عدم الجواز هو الأصح المعتمد في المذهب. قاله النووي (الروضة: 8/4) .
(4) زيادة من (ت6) .
(5) في الأصل: كان.
(6) في الأصل: بلغه من أمر البدعة والسنة.(14/7)
والسنة في الطلاق، وبنى الأمر على ظاهر الشرع في أن من ملك تصرفاً، لم يُحْجر عليه فيه، وأشعر بذلك قوله: "أرأيت لو طلقتها ثلاثاً" فأبان له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التطليق في الحيض عصيان.
فإن قيل: من أين أخذتم نفي التعصية في المخالعة؟ قلنا: أخذناه من حديث زوجة ثابت في أصل الخلع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالافتداء وأمره بالقبول، ولم (1) يستفصل، وهو يجري افتداء مخلِّصاً ولا يليق بروْم التخليص [والتخلّص] (2) تخير الأوقات، والنظر في تفاصيل الحالات. هذا أصل المذهب.
ثم اتفق حملة الشريعة على أن الطلاق -وإن كان محرَّماً (3) - نافذٌ، ولا اكتراث بمخالفة الشيعة في ذلك. فهذا ركن.
8923- والركن الثاني في المنع من الطلاق في الطهر الذي وقع الوقاع فيه، [والطلاق عريٌّ عن البدل. وذكر القاضي خلافاً في أن الخلع في الطهر الذي جرى الوقاع فيه] (4) هل (5) يحرم؟ والسبب فيه أن تحريم (6) الطلاق في عقد المذهب [يرتبط] (7) بما يفرض من التندّم إن ظهر ولد؛ فإن الإنسان قد يُؤثر طلاق زوجته، وإن كانت أم ولده، لم يطلقها، فيلحقه الندمُ لو طلق (8) ثم تبين الحَبَل، (9 وفي حالة الحيض يرتبط بتطويل العدة 9) ، فإذا كان المستند هذا فقد نقول: اختلاعها [في الحيض] (10) يشعر بكمال رضاها؛ فإنها لا تبذل المال إلا على طمأنينة، فيؤثِّر هذا
__________
(1) ت 6: ولم يفصل ولم يستفصل.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) ت 6: محترماً.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(5) عبارة الأصل: في الطهر الذي وقع الوقاع فيه هذا تحريمٌ والسبب فيه ...
(6) ت 6: التحريم.
(7) في الأصل: ويرتبط.
(8) في الأصل: ولو طلّق.
(9) ما بين القوسين سقط من (ت 6) .
(10) زيادة من (ت 6) .(14/8)
في رضاها بطول العدة، وأما الطلاق في الطهر الذي جرى الوقاع فيه، فمستندٌ إلى أمر الولد، ولا يؤثر رضاها في أمر الولد.
وهذا الذي ذكره القاضي غيرُ مرضي؛ فإن التعويل على الندم لأجل الولد ليس بالقوي، وقد أوضحنا فساد ذلك في (الأساليب) ، ولولا أن الشرع تعرض للعدة والنهي عن تطويلها، لما عللنا بذلك أيضاً، فالوجه تنزيل الخلع على الخروج عن السنة والبدعة؛ تعويلاً على الحديث، والمعنى الكلي الذي أشرنا إليه.
وكان شيخي أبو محمد يحكي عن شيخه القفال أن الأجنبي إذا اختلع المرأة من غير رضاها (1 في زمان الحيض فالخلع محظور؛ فإنه لم يصدر عن رضاها 1) . وهذا الذي ذكره متجه حسن (2) .
ويجوز أن يقال: الخلع كيف فرض [لا يكون بدعياً] (3) . وهذا الذي يليق بمذهب الاقتداء، والظاهر ما ذكره القفال؛ فإن المعتمد (4) في إخراج الخلع عن البدعة الحديث، وهو وارد في المرأة التي رامت الاختلاع بنفسها.
8924- ثم قال الأصحاب: المذهب ينضبط في السنة والبدعة [ونفيهما] (5) من جهتين، فإن أحببنا (6) أخرجنا اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة وقلنا: هن خَمْسٌ: [المختلعةُ] (7) ؛ للمعنى الذي ذكرنا، وغيرُ المدخول بها؛ فإنه لا عدة عليها، ولا دخول، فيتوقع منه الولد، والحاملُ ليس في طلاقها بدعة؛ فإن عدتها لا تطول،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 6) .
(2) ما قاله القفال هو الأظهر عند الرافعي، والأصح عند النووي (ر. الشرح الكبير: 8/483، والروضة: 8/4) .
(3) في الأصل: ولا يكون بدعاً.
(4) ت 6: فإن معتمد المذهب.
(5) في الأصل: وتقسيمهما.
(6) ت 6: أوجبنا. وهو تحريف لعله مقصود من الناسخ؛ فإنه على علم بما يكتب، ولكنه أبعد النجعة -إن كان قاصداً- فأوجبنا من الإيجاب، أي الإثبات المقابل للنفي، على حين المذكور غير هذا، وقد نص المؤلف في الفقرة التالية على مقابل هذا الضابط، فقال: وإن أثبتنا.
(7) سقطت من الأصل.(14/9)
وإذا كان حملها بيّناً، فالظاهر أن الطلاق يصدر على وجه لا يستعقب ندماً، ولا بدعة في عدة الصغيرة؛ فإنها تعتد بالأشهر، وهي لا تطول ولا تقصر، وكذلك الآيسة لا بدعة في طلاقها.
فإن قيل: إن كانت الصغيرة لا يتوقع حبلها، فالآيسة قد يتوقع ذلك منها، وقد ينفتق رحمها ويعود حيضها، فتَعْلَق. قلنا: البناء على ظواهر الظنون، ولو [راجع] (1) الرجل امرأته الآيسة، وكان قد واقعها، فليس فيها مرد متوقع حتى يطلّق عنده.
فهذا ضبط اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة، والطلاق فيهن لا ينعت بحظر [ولا] (2) بسنة.
وإن أردنا الضبط من جانب الإثبات قلنا: البدعة إنما تلحق الحائض الممسوسة في الطلاق العريّ عن البدل والرضا، وتلحق التي جومعت في طهرها، وهي من ذوات الأقراء.
ثم الطلاق المحظور البدعي ما يصادِف -على الشرائط المقدَّمة- حيضاً، أو طهراً وقع فيه وقاع، والطلاق السني هو الذي يصادف طهراً عرياً عن الوقاع. هذا هو الأصل المعتبر في الباب.
8925-[وقد قال الشيخ أبو علي] (3) : إذا استدخلت المرأة ماء الزوج، كان ذلك في إثارة البدعة كالجماع؛ فإنه يتعلق به خشية ندامة الولد.
ولو أتاها في غير المأتى، وعلم أن الماء لم يسبق إلى الرحم، فهل يثير هذا الوطءُ بدعة؟ فيه تردد، وميل الشيخ إلى أنه لا يثيرها.
والظاهر عندنا أخْذُ ذلك من العدّة، وقد ذكرنا أن هذا الوطء هل يتضمن العدة؟
__________
(1) في النسختين: "ولو جامع" والمثبت تقديرٌ منا، والمعنى "ولو راجع الرجل امرأته الآيسة، وكان قد واقعها، فليس فيها مردّ متوقع حتى يطلّق عنده" فيكون المعنى: لو أمرناه بمراجعتها لأنه طلقها بعد وقاعها، فما المردّ المنتظر الذي يطلّق عنده. والله أعلم.
(2) في الأصل: إلا بسنة.
(3) في الأصل: قال أبو علي.(14/10)
ولو وطىء امرأته في زمان الحيض، ثم مضت بقية الحيض، قال (1) : البدعة قائمة حتى تحيض حيضة أخرى بعد الطهر.
وهذا فيه احتمال؛ فإن بقية الحيض يدل على عدم العلوق.
وقال: المرأة إذا طلبت الفيئة من الزوج المولي بعد المدّة، فلم يفىء، وطلبت الطلاق وهي في زمان الحيض، طلقها الزوج (2) أو القاضي ولا بدعة، وهذا متفق (3) عليه. وإن ذكرنا خلافاً في سؤال الطلاق؛ لأن هذا طلب حق، فكان مخالفاً لسؤالٍ من غير استحقاق.
فصل
قال: "وأحب أن يطلقها واحدة لتكون له الرجعة ... إلى آخره" (4) .
8926- قال الأئمة: إيقاع الطلاق في الأصل مكروه من غير حاجة، واحتجوا عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وأحبها إليه العتاق" (5) والفقهاء قد يتساهلون في إطلاق الكراهية، وأرباب الأصول
__________
(1) "قال: البدعة قائمة" القائل هو الشيخ أبو علي، كما صرح بذلك الرافعي في الشرح الكبير: 8/488. هذا. وفي نسخة ت 6: (فإن) بدل (قال) . وهو تصحيف مضلّل.
(2) ت 6: طلقها الزوج ولا بدعة أو القاضي.
(3) قوله: "متفق عليه": هذا فيما إذا طلق القاضي على المولي، أما إذا طلق هو في الحيض فقد قال الرافعي: "وكان يجوز أن يقال: هو بدعي؛ لأنه بالإيذاء والإضرار أحوجها إلى الطلب، وهو غير ملجأ إلى الطلاق، بل هو يتمكن من أن يفيء إليها، والمطلوب أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق؛ فلا ضرورة له إلى الطلاق في الحيض، (ر. الشرح الكبير: 8/483) وبمثله قال النووي في الروضة: 8/4.
(4) ر. المختصر: 4/69.
(5) حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في كراهية الطلاق، ح 2178، ورواه ابن ماجه أيضاً: كتاب الطلاق، ح 2018، بدون زيادة "وأحبها إليه العتاق"، ولكن رواه الدارقطني في سننه بهذه الزيادة، بلفظ: ما خلق الله شيئاً أحب إليه من العتاق، ولا شيئاً أبغض إليه من الطلاق (ر. سنن الدارقطني: 4/35 رقم 94) وانظر (تلخيص الحبير: 3/417 ح 1725) .(14/11)
لا يطلقون هذا اللفظ إلا على تثبت، فإن ظهر غرض يستحثّ على الطلاق كمخيلة ريبةٍ واستشعار نشوز، فالكراهية لا تتحقق، وإذا كان لا يهواها وربما لا تسمح نفسه بالتزام مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فلا كراهية في الطلاق والحالةُ هذه.
فالكراهية لا يتجه إطلاقها إلا عند زوال الحاجات والأغراضِ التي يُطلِّقُ العقلاء لأجلها، وإن لم يكن غرضٌ ولا حاجة، فلا بأس بإطلاق الكراهية. ثم حيث تُطلق الكراهية، لا نفرق بين [الواحدة] (1) والعدد. وإن ظهر غرضٌ ترتفع الكراهية لأجله، فقد نقول: لا يستحب جمع الطلقات، ويستحب أن يفرقها، ولسنا ننكر أن وضعها في الكتاب والسنة يشعر [بالاستحثاث] (2) على تفريقها؛ حتى لا يلقى الإنسانُ ندماً، ولا ينتهي الأمر إلى [إطلاق] (3) لفظ الكراهية، حيث لا كراهية، في أصل التطليق.
8927- ومذهب الشافعي أن الجمع بين الطلقتين والثلاث، لا سنة فيه ولا بدعة، وإنما تتعلق السنة والبدعة بالزمانين المذكورين على التفاصيل المقدمة: أحدهما - زمان الحيض. والثاني - الطهر الذي وقع [الوقاع] (4) فيه. وأبو حنيفة (5) يحرم الجمع، كما يحرم التطليق في الحيض وفي الطهر الذي جرى الوقاع فيه، والمسالة مشهورة معه في الخلاف.
وقد قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: جمع الطلقات لا معصية فيه. ولكن هل يقال: السنة تفريقها؟ فعلى وجهين، واحتمل كلامه معنيين: أحدهما - التردد في استحباب التفريق حكماً. وأحد الوجهين أن ذلك لا يوصف بالاستحباب، [والأمر] (6) فيه إلى مالك الطلاق، وفي كلامه ما يدل على أن اسم السنة هل يتناول
__________
(1) في الأصل: الواحد.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) في الأصل: الطلاق.
(4) زيادة من (ت 6) .
(5) ر. المبسوط: 6/4، 7، ورؤوس المسائل: 408 مسالة: 282، والاختيار: 3/121.
(6) في الأصل: فالأمر.(14/12)
التفريق؟ فعلى وجهين، ولا شك أن البدعة لا تتناول الجمع عندنا، ومقتضى هذا أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وزعم أنه نوى التفريق على الأقراء يُصدَّق ظاهراً، وهذا بعيدٌ مخالفٌ للنص والمذهبِ، والسنةُ والبدعةُ يتعاقبان، أما التردد في الاستحباب، فللاحتمال إليه تطرُّقٌ، والظاهر الاستحباب، ومنع لفظ السنة.
8928- ثم قال الشافعي: "لو طلقها طاهراً بعد جماع، أحببت أن يرتجعها ... إلى آخره" (1) . والمراد بذلك أنه إذا طلقها بدعياً في زمان الحيض، فإنا نستحب ونؤثر له أن يرتجعها، والأصل في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم [في قصة ابن عمر] (2) ؛ حيث قال: "مُره فليراجعها". وتعليل ذلك أنه إذا طلقها في الحيض، فقد طوّل العدة عليها، وإذا طلقها في طهر جرى الجماع فيه، تعرّض لندامة الولد، فإذا تمادى، ولم يرتجع، كان في حكم من يُديم المعصيةَ مع القدرة على قطعها، وإذا ارتجع، زال ما كنا نحرّم الطلاق لأجله، من تطويل العدة، والتعرض للندامة.
وقد ينشأ من هذا الموضع سؤال: بأن يقول قائل: هل توجبون الارتجاع؛ فإن في الارتجاع قطعُ الضرار عنها بتطويل العدة، وكذلك القول في الارتجاع في الطهر الذي جرى الجماع فيه؟ وقد يشهد لوجوب الارتجاع لو صِير إليه ظاهرُ قوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها".
قلنا: أجمع الأصحاب على [أن] (3) الارتجاع لا يجب، ثم أجمعوا على [أن] (4) ترك الارتجاع لا [يلتحق بما] (5) يُقضى بكونه مكروهاً (6) ، وأكثر ما أطلقوه في ذلك أنا نستحب أن يرتجعها.
__________
(1) ر. المختصر: 4/70.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) زيادة من (ت 6) .
(4) سقطت من الأصل.
(5) زدناها من (ت 6) .
(6) قال النووي: "في هذا نظر، وينبغي أن يقال: ترك الرجعة مكروه، للحديث الصحيح الوارد فيها، ولدفع الإيذاء". (ر. الروضة: 8/5) .(14/13)
فالجواب إذاً عن السؤال أن الارتجاع مقصوده الظاهر تداركُ حقٍّ (1) وجلبُ منفعةٍ، ويبعد المصير إلى وجوبه؛ لينبني عليه انتفاء تطويل العدة، وأصل التطليق محرّم للخبر وللمعنى، فإذا جرى، فلا يبلغ المحذور من الطلاق المحظور مبلغاً يوجب لأجله رجعةً مقصودها في الشرع جلبٌ أو استدراكٌ.
8929- فإذا ثبت أن الرجعة لا تجب، ولكنها تُستَحَب، فقد قدمنا في صدر الكتاب روايتين وهذا أوان الكلام عليهما: روي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى [تطهر، ثم] (2) تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء". وروى سالم بنُ عبد الله ويونس بنُ جبير ومحمد بن سيرين: ["مره فليراجعها، فإذا طهرت، فإن شاء فليطلقها"] (3) وفي ظاهر الروايتين
__________
(1) عبارة ت 6: أن الارتجاع لو وجب ومقصوده الظاهر. تدارك حق أو جلب حق، ويبعد المصير ...
(2) هذه الزيادة من متن الحديث في البخاري ومسلم برواية مالك عن نافع عن ابن عمر. فهذا هو الصواب في هذه الرواية، وهو بعينه لفظها الذي ساقه الإمام آنفاً في أول كتاب الطلاق، ولولا أن الإمام ساق هذه الرواية على هذا الوجه من قبل، لأثبتناها كما هي، ولعددناها من الوهم في الحديث، وعلقنا عليها بذلك.
(3) في النسختين جاءت رواية سالم ويونس وابن سيرين بهذا النص: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر".
وما أثبتناه بين المعقفين هو نص رواية من الروايات الواردة عن سالم ويونس وابن سيرين تضاف إلى رواية أخرى أثبتناها في أول الكتاب، وكلها على كثرتها واختلاف لفظها، وما فيها من زيادات تؤدي هذا المعنى. (حاشا رواية واحدة عن الزهري عن سالم، فقد جاءت على نحو رواية نافع) .
وقد لخص أبو داود قضية هذه الأحاديث فقال: "قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر يونس بنُ جبير، وأنس بن سيرين، وسعيدُ بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبو الزبير، ومنصور عن أبي وائل، معناهم كلهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك".
ثم قال:
"قال أبو داود: وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر، وأما رواية =(14/14)
تفاوت، وموجب الرواية [الأولى] (1) أنه يراجعها إذا طلقها في الحيض، ثم يمسكها، حتى تنقضي بقية الحيض ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر. وظاهر الرواية [الثانية] (2) فيه تردد؛ فإنه قال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض" ثم تطهر، فظن بعض الناس أن المراد بقوله: "حتى تحيض" حتى تنقضي بقية الحيض، فإذا طهرت، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها.
وكان شيخي أبو محمد يذكر في ذلك وجهين من متن المذهب: أحدهما - أن المستحب ألا يطلقها كما (3) طهرت من بقية الحيض، وهذا هو الذي ذهب إليه
__________
= الزهري عن سالم، ونافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك".
ثم قال:
"قال أبو داود: وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن، عن ابن عمر نحوُ رواية نافع والزهري. والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير" ا. هـ بنصه.
قلت (عبد العظيم) : كان لا بدَّ لنا من تصويب هذه الرواية أيضاً ليتسق الكلام مع تغيير وتصويب الرواية الأولى (رواية نافع) وتستقيم كل ذلك مع صحيح روايات الحديث الموجودة في البخاري ومسلم وأبي داود، وهو متفق أيضاً مع ما أورده إمام الحرمين -من قبل- لصحيح رواية نافع، ولما أشار إليه في نسخة الأصل عن رواية سالم ويونس وابن سيرين.
وأما ما جاء هنا من اضطراب وخلل، فهو من خلل النساخ وعجلتهم، وكأني بهم هنا كتبوا نص الروايتين من ذاكرتهم لا من الأصل الذي أمامهم، يرجح ذلك -إن لم يؤكده- أن إمام الحرمين ساق الروايتين على وجههما الصحيح -من قبلُ- في نسخة الأصل، مع أنها من النسخ السقيمة. والله وحده الأعلم بما كان.
ثم أقول: تعليقُ أبي داود في سننه على الأحاديث يوحي إلينا أن إمام الحرمين كان علم بهذا التعليق، مما يغلب على الظن أنه كان يراجع سنن أبي داود، وأن سنن أبي داود هي ما كان يعنيه حينما يكرر قوله: "وفي الكتاب الذي يرجع إليه في الأحاديث" فهل أنا على صواب؟
(راجع إن شئت البخاري، ومسلم وسنن أبي داود في المواضع والأرقام التي أشرنا عند رواية مالك عن نافع عن ابن عمر في أول كتاب الطلاق) .
(1) في النسختين (الثانية) .
(2) في النسختين (الأولى) وسوغّ لنا هذا التغيير، ما كان قبلُ من تصحيح الروايات.
(3) كما: بمعنى (عندما) .(14/15)
الجمهور، والسبب فيه أنه لو طلقها كما طهرت، لكانت الرجعة مقصودة لأجل الطلاق، حتى كأنه (1) ارتجعها ليطلقها، وهذا لا يليق بمحاسن الشرع في آداب العشرة بين الزوجين في الدوام والفراق. نعم، إذا تركها على حكم النكاح طهراً كاملاً، ثم حاضت، ثم طهرت، فنحمل مضي الطهر الأول على إمساكها في زمان الاستمتاع.
8930- ومن أصحابنا من قال: [لا بأس] (2) لو طلقها في الطهر الأول؛ فإن الرجعة قطعت أثر الطلاق البدعي، وأزالت تطويل العدة، فإذا طلقها كما (3) طهرت، فهذا الطهر محسوبٌ، وليس فيه ندامةُ ولدٍ.
ثم على هذين الوجهين يُخَرَّج تنزيل رواية ابن عمر، فإن قلنا: لا بأس لو طلقها كما طهرت، فقوله: حتى تحيض ثم تطهر محمول على انقضاءِ الحيض (4 واستفتاح الطهر. وإن جرينا على الوجه الأصح، فقوله حتى تحيض 4) محمول على حيضة مستأنفة بعد طهر، وهذا ظاهر اللفظ؛ فإنَّ حَمْل الأفعال والأحوال مع صيغة الشرط على استفتاح الأمور في الاستقبال أظهر من حملها على انقضاء ما به الملابسة.
فإن فرعنا على الوجه الظاهر، فقد ذكر الأئمة وجهين في أنا هل نؤثر وهل نستحب للزوج أن يجامعها في الطهر الأول؟ فقال قائلون: لا يُطْلَقُ في هذا الاستحبابُ، والأمر إلى الزوج. وقال آخرون: يستحب ما ذكرناه إذا لم يكن عذر؛ فإنه إذا لم يواقعها، كان تربّصه في الطهر والحيضة بعده محمولاً على أن يطلقها في الطهر الثاني، وقد بنينا الأمر بالرجعة على خلاف هذا.
ولو طلقها في الحيض، وراجعها في الحيض، وأصابها في زمان الحيض، ثم طهرت، والتفريع على أنا نؤثر للزوج أن يطلّق في الطهر الثاني، فذلك الأمر مستدام، ولا حكم للوطء الذي جرى في زمان الحيض؛ فإنه وطء محظور منهي عنه، فلا يتعلق
__________
(1) (ت 6) حتى أنه.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) كما: بمعنى (عندما) وستأتي بهذا المعنى من نفس الموضع.
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 6) .(14/16)
به غرض مطلوب في الشريعة فوجودُه كعدمه، وإنما ذكرنا هذا حتى لا يظن ظان أنه إذا راجعها ووطئها في الحيض، فقد أخرج الرجعة عن أن تكون لأجل الطلاق.
ولو طلق امرأته في طهرٍ جامعها فيه، ثم راجعها، كما ذكرناه (1) ، فلا شك أنه لا يطلقها، ولو طلقها، لكان الطلاق بدعياً؛ لأنه وقع في طهر جرى فيه وقاع، فإذا حاضت، ثم طهرت، فله أن يطلقها الآن، ولا يشترط في إقامة الأَوْلى والمستحبِّ أكثرُ من ذلك.
ولو طلق [امرأته] (2) في طهر جامعها فيه، ثم راجعها في الحيض، والتفريع على الأصح؛ فإنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي هذا؛ لأن الرجعة تكون لأجل الطلاق.
ولو طلقها في طهر لم يجامعها فيه، ولم يكن الطلاق بدعياً، غير أنه راجعها في الحيض، حكى القاضي عن الأصحاب أنهم قالوا: لا نستحب له أن يطلقها إذا طهرت؛ فإنه لو طلقها كما (3) طهرت -وقد راجعها في الحيض- لكانت الرجعة لأجل الطلاق، ثم قال: والذي عندي أنه لا بأس عليه لو طلقها كما طهرت؛ لأن الطلاق الأول لم يكن بدعياً في الأصل، ونحن إنما نأمر بالرجعة، ثم بالإمساك على التفصيل المذكور إذا كان الطلاق الواقع بدعياً، وهذا الذي اختاره القاضي هو المذهب الذي لا يُعْرَف غيره، ولم أر حكاية غيره لغير القاضي (4) .
فهذا تفصيل القول في استحباب الرجعة والإمساك بعدها، وما يتعلق به من خلاف ووفاق.
فرع:
8931- إذا قال الرجل لامرأته التي هي بمحل السنة والبدعة: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فمعلوم أن الطلاق ينطبق على الجزء الأخير، وذلك الجزء
__________
(1) ت 6: أمرناه.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) كما: بمعنى عندما، وهو استعمال قال عنه النووي: إنه غير صحيح وغير عربي، وقد نبهنا
على ذلك مراراً.
(4) الأمر كما قال إمام الحرمين، المذهب ما اختاره القاضي، لا ما حكاه، وقد وصف النووي هذا الوجه الذي حكاه القاضي بالضعف (ر. الروضة: 8/8) .(14/17)
لا يكون من العدة، وهي تستفتح طهراً معتداً به؛ فليس في هذا التطليق تطويل العدة عليها؛ فاختلف أصحابنا فيه: فذهب القياسون إلى أن الطلاق لا يكون بدعياً؛ لأنه ليس فيه تطويل عدة، ولا ندامة ولد، وذهب آخرون إلى أن الطلاق بدعي؛ لمصادفته الحيض، وهذا القائل يعتضد بالرجوع إلى التوقيف والتعبد، ويهون عليه تضعيفُ طريقِ الرأي والتعويلِ على المعنى؛ لما نبهنا عليه قبلُ وقررناه في المسائل.
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فللشافعي قول: إن الانتقال من الطهر إلى الحيض قرءٌ معتد به. فإن فرعنا على هذا، فالطلاق سنّي لمصادفته الطهر، وإفضائه إلى تقصير العدة. وإن قلنا: لا يعتد بذلك قرءاً، فللأصحاب وجهان: أقيسهما - أن الطلاق بدعي؛ لأنها تستقبل حيضة كاملة لا يعتد بها، وإذا كنا نجعل الطلاق في أثناء الحيض بدعياً؛ لأن بقية الحيض غيرُ معتد بها، فلأن نقول: الطلاق بدعي إذا استقبلت حيضة لا اعتداد بها أولى.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق سني؛ لمصادفته الطهر الذي لم يجرِ فيه جماع، وهذا القائل يلتفت على التعبد واتباع التوقيف، كما تقدم شرحه.
فصل
قال: "وإن كانت في طهر بعد جماعٍ ... إلى آخره" (1) .
8932- هذا الفصل مُصدَّر بقُطبٍ يتعلق بمقتضى الألفاظ، فنقول: الطلاق يُنجَّز ويُعلّق، ثم تعليقه تارة يكون على صيغة الشرط، وتارة يكون على صيغة التأقيت، وهما جميعاً معدودان من التعليق. فأما الشرط، فهو الذي يتعلّق بما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون، مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فهذا شرط محقق، وأما التأقيت، فمثل قول الزوج: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، فهذا تأقيتٌ وليس شرطاً؛ فإن الشرط هو الذي [لا يُقطع] (2) بوقوعه، والتأقيت مبني على
__________
(1) ر. المختصر: 4/70.
(2) في الأصل: لا يقع.(14/18)
القطع في المتعلَّق، وعن هذا قال سيبويه: "إذا قال القائل: إذا قامت القيامة كان (1) كذا وكذا: فهذا إيمان بالقيامة (2) ، وإذا قال: إن قامت، فهذا تردد في التصديق بها". وعن هذا قال أئمة اللسان: قول القائل: إن طلع الفجر، فأنت (3 طالق، كلامٌ معدول عن الوجه المستحسن، فإن الفجر يطلع لا محالة، وإذا قال: إذا 3) طلع الفجر، فأنت طالق، فهذا هو النظم الجاري في كلام الفصحاء.
وقد يجري الطلاق معللاً بعلة، فحكم الطلاق أن يتنجّز، ثبتت (4) تلك العلة أو انتفت، وبيانه أنه لو قال: أنت طالق لرضا فلانٍ، [وزعم] (5) أنه أراد تعليل إيقاع الطلاق بالرضا، فالطلاق ناجزٌ رضي ذلك الشخص أو سخط، وذلك أن المعلِّل ليس يعلِّل (6) الطلاق بالعلة، وإنما يُنجِّز الطلاق ثم يبتدىء، فيعلل تنجيزَه بسبب، فالتعليل كلام مبتدأ لا ينشأ ليرتبط الطلاق به وجوداَّ وعدماً. وسنذكر مسائل هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل.
8933- ثم نقول بعد هذا: استعمال اللام في الأوقات محمول على التأقيت بالاتفاق، وبيانه أنه إذا قال: أنت طالق لهلال رمضان، فهو بمثابة قوله: إذا استهل هلال رمضان، فأنت طالق؛ والسبب فيه أن اللام مستعملة مع الأوقات للتأقيت بها، وهذا شائع في لغة الفصحاء، وهي أظهر من قول القائل: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، وينضم إلى ذلك أن تخيّل التعليل بالأوقات بعيد عن الوهم؛ فإن التعليل إنما
__________
(1) في الأصل: وكان كذا وكذا.
(2) لأن (إذا) معناها التحقيق، فمن قال: "إذا قامت القيامة كان كذا وكذا"، معناه أنه متحقق من القيامة مؤمن معتقدٌ بمجيئها.
لكن لو قال: "إن قامت القيامة، كان كذا وكذا" فقد جعل القيامة موضع التردد، لأن وضع (إن) في اللغة للتردد في الشرط.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 6) .
(4) الورقة رقم 133 (ي، ش) مكررة.
(5) في الأصل: فزعم.
(6) ت 6: يعلق.(14/19)
يقع بمثل السخط والرضا، و [ما في] (1) معناهما، فأنتج [مجموع] (2) ما ذكرناه أن اللام مع الوقت تأقيت.
8934- وإذا قال الرجل لامرأته التي تعتورها حالةُ السنة والبدعة: أنت طالق للسُّنة، نُظر: فإن كانت في زمان سُنَّة، وهو طهر لم يجامعها فيه، انتجز الطلاق في الحال، وهو بمثابة ما لو قال عند الاستهلال: أنت طالق لهلال رمضان، فيقع الطلاق مع الهلال.
وإذا قال لامرأته في زمان الحيض: أنت طالق للسُّنة، لم تطلق في الحال حتى تطهر، ثم تُطلَّق، فتحمل اللام على التأقيت بوقت السنة، كما قدمنا ذلك في إضافة اللام إلى الأوقات؛ والسبب فيه أن اعتوار زماني السنة والبدعة على المرأة يُظهر قصدَ التأقيت من اللام.
وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، وكانت في زمان الحيض، أو كانت في طهر جامعها الزوج فيه، فالطلاق ينتجز، ولو قال لها وهي في طهرٍ لم يجامعها فيه: أنت طالق للبدعة، لم ينتجز الطلاق، حتى تصير إلى زمان البدعة، فإن لم يجامعها، فحاضت، طُلِّقت، وإن جامعها في ذلك الطهر، فقد انتهت إلى زمان البدعة، فتطلق أيضاً، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
والغرض الآن أن نبين أن قول الزوج: أنت طالق للسنة وللبدعة محمول على التأقيت، لا على التعليل.
8934/م- ولو قال [لامرأة] (3) لا يتصور فيها سنة ولا بدعة: من النسوة الخمس اللواتي قدمنا ذكرهن: أنت طالق للسنة، انتجزت الطلقة في الحال. وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، انتجزت الطلقة، ولم نرتقب فيها المصير إلى حالة السنة والبدعة، وبيان ذلك بالتصوير أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة أو للبدعة، فلا يحمل الأمر على تقدير دخول ومصيرٍ [بعده] (4) إلى التعرض لطوارىء السنة
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) في الأصل: مجموعه.
(3) في الأصل: لامرأته.
(4) في الأصل: فعده.(14/20)
والبدعة، وإن لم يكن هذا بعيداً عن التوقّع والانتظار.
وقد نص العراقيون على أنه إذا قال لها: إذا صرت من أهل السنة، فأنت طالق، ولم يكن مدخولاً بها، فالطلاق لا ينتجز، بل يرقب الدخولَ، والمصيرَ إلى حالة السنة.
فإن قيل: إذا كان هذا غيرَ بعيد عن التوقع، فهلا حملتم قولَ الزوج عليه؟ قلنا: حمل السنة والبدعة على الوقت إنما يظهر في التي تتصدّى لهما، وتتعرض لاعتوارهما [عليها] (1) ، فيصيران في [حقها] (2) كاعتقاب الجديدين (3) ، وتوالي الليل والنهار، فيستبق إلى الفهم والحالة هذه إرادة الوقت، واللامُ في وضعها للتعليل، وإنما تستعمل في الوقت إذا قُرنت بذكر الوقت أو قرنت بما يمرّ ويجري جريان الوقت، وإلا فالسنة والبدعة لفظتان مستعملتان في الشرع، لا جريان لهما في اللغة، وإنما استعملتا شرعاً على الخصوص، فلا يُعدَّى بهما موضعهما، ولا تحمل اللام في حق من يعتورها السنة والبدعة على التأقيت، وصرح الأئمة لفظاً [وفحوى] (4) بما يدل على أن من قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً، بل يديّن باطناً، كما سنذكره في باب أصل التديين؛ وإنما لم نقبل ما ذكره باطناً لظهور اللام في التعليل، وانعدام القرينة في اقتضاءِ التأقيت.
8935- ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق لوقت السُّنّة، فهذا فيه تردد عندي؛ من حيث صرح بالوقت: يجوز أن يقال: قوله لوقت السنة، كقوله للسنة، ويجوز أن يقال: إن فسر لفظه بمصيرها إلى حالة السنة يقبل ذلك منه، ويجوز أن يقال: إن فسره بالطهر، وفسر وقت البدعة بالحيض، وإن لم يكن دخول قبل ذلك منه، ولو أطلق اللفظ، وزعم أنه لم يكن له نية، فالظاهر وقوع الطلاق.
فليتأمل الناظر المسالة؛ فإنها محتملة.
__________
(1) في الأصل: عليه.
(2) في الأصل: حقه.
(3) الجديدان: هما الليل والنهار، فالجملة مترادفة مع ما بعدها.
(4) في الأصل: ونجوى.(14/21)
8936- ولو قال لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، فإن زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً، سواء رضي فلان أم سخط، على ما قررناه في أصل التعليل.
ولو أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد تعليلاً، ولا تأقيتاً، انتجز الطلاق؛ فإن صيغة اللفظ تقتضي تنجيزها، ولم يظهر ما يدفع التنجيز.
ولو زعم أنه أراد التعليق بوقت رضا زيد، فهذا مقبول باطناً إن صُدِّق، فهل (1) يقبل ذلك منه ظاهراً؟ فعلى وجهين، ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أنه لا يقبل منه؛ فإن الرضا ليس مما يؤقت به، وهو مما يعلل به، فكان التعليلُ أظهرَ، وإذا غلب التعليل، كان موجبه انتجاز الطلاق.
والوجه الثاني - أن ما قاله مقبول [ظاهراً] (2) ؛ فإنه مُحْتَمَل غيرُ بعيد، فإذا (3) لم يَبْعُد ما قال، صُدِّق، وسيأتي ضبط هذه الأبواب -إن شاء الله عز وجل- على ما ينبغي.
ثم قال الصيدلاني: إذا قال: أنت طالق لقدوم فلان، فمطلق هذا محمول على التأقيت؛ فإنه يَظهر التأقيت بالقدوم، ويبعد التعليل به، بخلاف الرضا.
ثم ينتظم من هذه الجملة أن اللام مع الوقت تأقيت، وهو (4) مع الرضا وما في معناه مما يُتخيل التعليل به [تعليلٌ] (5) في الإطلاق.
وإن أريد به [التأقيت] (6) صُدق المرء باطناً، وهل يصدق ظاهراً، فعلى وجهين.
وما يظهر التأقيت به ينقسم إلى ما يتكرر بتكرر الزمان كالسُّنّة والبدعة، وإلى ما لا (7) يتكرر تكرر الأزمان، [كقدوم زيد.
__________
(1) ت 6: وهل.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) ت 6: وإذا.
(4) وهو: أي حرف اللام.
(5) زيادة من (ت 6) .
(6) في الأصل: التعليل.
(7) ت 6: وإلى ما يتكرر.(14/22)
فأما ما يتكرر تكرر الأزمان] (1) وَيَكُرّ كُرورَها، فمطلق اللام فيه للتأقيت، كقول الرجل للمرأة (2) التي هي [بصدد] (3) السُّنة والبدعة: [أنت طالق للسُّنّة أو للبدعة] (4) هذا للتأقيت كما ذكرناه.
وأما ما يظهر فيه قصد التأقيت ولا يكرّ كرورَ الزمان، كقول القائل: أنت طالق لقدوم زيد، وزيدٌ غير قادم، وإنما يُنتظر قدومُه، فالذي قطع به الصيدلاني أن مطلق ذلك تأقيت، ولم أر في الطرق ما يخالف هذا، وهو متجِهٌ، فلا [مزيد] (3) عليه.
ولو قال لامرأته: أنت طالق لدخول الدار، فالظاهر أن مطلق هذا محمول على التعليل، وإن زعم أنه أراد بذلك تأقيتاً، فهو قريب من قوله: أنت طالق لرضا فلان مع زعمه أنه أراد بذلك تأقيتاً وتعليقاً بوقت الرضا، ومعنى التعليق في الرضا قد يغلب وإن أمكن أن يُتخيل في دخول الدار؛ فالوجه ألا يُفرّق بين البابين.
هذا [هو] (6) الضبط في استعمال اللام فيما نحن فيه من السنة والبدعة، وفيما في معناه.
8937- وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أنه إذا قال للتي لا سنة فيها ولا بدعة: أنت طالق للسنة، انتجز الطلاق للسنة، كما ذكره الأصحاب.
ولو قال: أنت طالق للبدعة، فالمذهب أن الطلاق ينتجز، كما ذكرناه عن الأصحاب، وحكى عن الأصحاب وجهاً: أنا ننتظر مصيرها إلى حالة البدعة؛ فإن طلاق السُّنَّة يمكن حمله على ما يسوغ، وأما طلاق البدعة، فلا مساغ له إذا لم تكن المرأة من أهل البدعة.
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) ت 6: لامرأته.
(3) في الأصل: مصدر.
(4) زيادة من (ت 6) .
(5) في الأصل: يزيد.
(6) مزيدة من (ت 6) .(14/23)
قال الشيخ: والصحيح وما عليه الأئمة أنه يقع الطلاق في الموضعين سواء [وصف] (1) الطلاق بالسنة أو البدعة.
8938- ثم نعود إلى تفصيل الطلاق [السني والبدعي في حق التي يُتصور في حقها السنة والبدعة] (2) : [فإذا] (3) قال لامرأته وهي في طهر [لم] (4) يجامعها فيه: أنت طالق للسنة، وقع الطلاق، فانطبق انتجازه على وقت السنة، وإن كانت في حالة الحيض، لم تطلق حتى ينقضي حيضها وتشرع في الطهر، فإذا شرعت فيه، وقع الطلاق مع أول جزء من الطهر، ولا يتوقف وقوعه على أن تغتسل، خلافاً لأبي حنيفة (5) ، ولا فرق عندنا بين أن يكون حيضتها منقطعة على أكثر الحيض أو على أقله أو أغلبه.
ولو قال [لها] (6) : أنت طالق للبدعة. فإن كانت في حالة البدعة، وقع في الحال، وإلا فحتى تصير إلى حالة البدعة: فلو كانت في طهر لم يجامعها فيه، وقد قال لها: أنت طالق للبدعة، فإن كان خلاّها ولم يجامعها حتى حاضت، طلقت مع أول جزءٍ من الحيض.
وإن كان قال لها [ذلك] (7) وهي في طهر لم يجامعها فيه، فلو جامعها في هذا الطهر قبل أن تحيض، وقع الطلاق كما (8) غيب الحشفة؛ فإنها انتهت إلى وقت البدعة.
__________
(1) في الأصل: سواء خلف الطلاق.
(2) عبارة الأصل: إلى تفصيل الطلاق والسني والبدعي في حق الذي يُتصور في حقه السنة والبدعة
(3) في الأصل: وإذا.
(4) زيادة من (ت 6) .
(5) ر. البدائع: 3/91.
(6) مزيدة من (ت 6) .
(7) في الأصل: قال لها إذ ذاك.
(8) كما: بمعنى عندما.(14/24)
8939- ثم الكلام مفروض فيه إذا كان الطلاق المعلَّق رجعياً، [فينظر] (1) : فإن أَخْرجَ ثم أولج، فالحد لا يجب؛ لأنها رجعية، والمهر سيأتي مفصلاً في كتاب الرجعة. وعقد المذهب فيه أنه إذا وطىء الرجعية وتركها حتى انسرحت، التزم مهر مثلها. وإن راجعها، ففي المسالة وجهان.
هذا ظاهر المذهب وأصله، وسيأتي ذلك مشروحاً في كتاب الرجعة، إن شاء الله عز وجل. كذلك إذا غيب الحشفة ووقع الطلاق، ثم نزع وأعاد فأولج، فهذا جماع مستحدث صادف رجعية.
ولو أولج الحشفة أول مرة، وحكمنا بوقوع الطلاق، فمكث أو تمم الإيلاج، فلا شك أن الحد لا يجب؛ لأنه مخالطٌ رجعية، فأما المهر، فقد سكت الشافعي عن ذكر وجوب المهر هاهنا، ونص على أنه إذا أصبح المكلف مجامعاً في نهار رمضان ولم ينزع، تلزمه الكفارة، والنصان في ظاهر الأمر مختلفان: قول الشافعي هاهنا يدل على أن المكث والاستدامة لا يكون بمثابة النزع والإعادة، ونص الشافعي في الصيام مصرح بأن الاستدامة بمثابة ابتداء الجماع.
وقد ذكر القاضي هاهنا طريقين للأصحاب: قال: منهم من قال: في المهر والكفارة قولان: أحدهما - أنهما يجبان تنزيلاً للاستدامة منزلة الابتداء. والثاني - (2) لا تجب الكفارة ولا المهر.
توجيه القولين: من لم يوجبهما قال: الجماع واحد، فلا ينقسم حكمه، ولم يتعلق بأوله كفارة، [ولا مهر] (3) ، فلا يتعلق بالدوام ما لم يتعلق بالابتداء
ومن قال بالقول الثاني (4) قال: صورة الجماع موجودة بعد وقوع الطلاق وطلوع
__________
(1) في الأصل: منظر.
(2) في (ت 6) : "ومنهم من قال:".
(3) في الأصل: فلا مهر.
(4) في الكلام ما يسميه علماء البلاغة (اللّفّ والنشر) فالقول الذي ذكره باسم (الثاني) هو (الأول) .(14/25)
الفجر. قال القاضي: ومن أصحابنا (1) من لم يوجب المهر هاهنا وأوجب الكفارة وأقر النصين على ظواهرهما، وفرق بأن قال: الزوج إذا وطىء زوجته وقع الطلاق بأول وطءٍ، وهذا الوطء قد تعلق به المهر؛ من جهة أن مهر النكاح يشمل على الوطآت كلها، فوقع الاكتفاء باشتمال ذلك المهر على هذه الوطأة [والوطأة] (2) الواحدة لا يتعلق بها مهران. والوطء في حكم الكفارة ليس في هذا المعنى؛ فإنه لم يتعلق بأوّله كفارة، وقد وجدت صورته في وقت العبادة ومن أصلنا أن الجماع المانع من الصيام كالجماع القاطع للصيام، فهذا وجه الفرق.
وما ذكره القاضي من تخريج [نفي] (3) الكفارة غريب في النقل، وإن كان متجهاً.
وما ذكرناه في المهر فيه إذا استدام الوطء، ووقع التصوير فيه إذا كنا نوجب المهر عند النزع والإعادة، ثم نتردد في أن الاستدامة هل تكون بمثابة النزع (4) والإعادة.
ولو أصبح وهو مخالط أهله، ثم قرن بأول الإصباح النزعَ، فلا كفارة، ولا [فطر] (5) كما قدمناه في كتاب الصيام.
ولو وقع الطلاق في الصورة التي نحن فيها، وكما (6) وقع، نزع ولم يعرّج (7) ، فالأصحاب متفقون على أن المهر لا يجب؛ لأن النزع انكفاف عن العمل، ولا يتعلق بالانكفاف عن العمل ما يتعلق بالإقدام عليه.
8940- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو قال لامرأته في الطهر الذي لم يجامعها فيه: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، ثم جامعها، فكما غابت الحشفة طلقت ثلاثاً، ثم ننظر: فإن أخرج ثم أولج، فهذا إيلاج بعد وقوع [الثلاث،] (8) وهو موجب للحد مع العلم
__________
(1) هذا هو الطريق الثاني.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) زيادة من (ت 6) .
(4) ت 6: الشرع.
(5) في الأصل: ولا نظر.
(6) وكما وقع: وعندما وقع الوطء.
(7) ولم يعرّج: أي لم يستمر في المخالطة. من عرّج بالمكان إذا نزل به وأقام (المعجم) .
(8) في الأصل: الطلاق.(14/26)
بحقيقة الحال، وإن مكث أو تمم الإيلاج مع العلم بوقوع الطلاق، فظاهر المذهب أنه لا حد عليهما؛ فإن الوطأة لا يتبعض حكمها، والحد لم يتعلق بأول هذه الوطأة، فلا يتعلق بدوامها.
وذهب بعض أصحابنا إلى إيجاب الحد؛ فإن صورة الوطء ثابتة مع القطع بالتحريم. ولو غيّب الحشفة واستدام، وتمم الإيلاج كما صورنا، فإن أوجبنا الحد، لم يجب المهر، وإن لم نوجب الحد، فالمهر على الخلاف الذي تقدم.
ولو وقع الثلاث بالتغييب، كما صورنا، ونزع كما (1) وقع، فلا حد ولا مهر، لما ذكرناه من أن الانكفاف عن الفعل لا يحل محل الإقدام عليه.
ولو قال لامرأته وهي في زمان البدعة: أنت طالق للسُّنّة في هذا الوقت، وأشار إلى وقت البدعة وقع الطلاق، ولغا [التقييد] (2) بالسنة؛ لأن الإشارة أغلب في هذا المقام من العبارة.
فهذا تفصيل القول وترتيبه في ذكر السُّنة والبدعة.
فصل
قال: "ولو كان قال في كل قرءٍ واحدة ... إلى آخره" (3) .
8941- قد ذكرنا من أصل الشافعي رضي الله عنه أنه ليس في [جمع] (4) الطلقات وتفريقها سُنَّة ولا بدعة، ونقول على موجب هذا: إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وكانت في زمان السُّنّة ولفظُه [مطلق] (5) ، فالطلاق (6) الثلاث ينتجز في الحال، وكذلك لو كانت في زمان البدعة، فقال: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، فلا أثر
__________
(1) كما: عندما.
(2) في الأصل: التقبيل.
(3) ر. المختصر: 4/70.
(4) في الأصل: جميع.
(5) في الأصل: طلق.
(6) ت 6: فالطلقات تتنجز.(14/27)
لذكر البدعة في الثلاث، كما لا أثر (1) لذكر السنة، واللفظ مطلق.
ولو زعم أنه أراد بقوله: أنت طالق ثلاثاً للسنّة تفريقَ ثلاث طلقات على ثلاثة أقراء فهل يقبل ذلك منه ظاهراً أم باطناً؟ وكيف التفصيل فيه؟ هذا سنذكره في آخر الفصل مع إمكان البيان في التديين، إن شاء الله تعالى.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً في كل [قُرء] (2) طلقة، فالقرء في قاعدة المذهب عند الشافعي طهر بين حيضتين، هذا هو الأصل. فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء واحدة، فلا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها أو تكون غير مدخول بها.
فإن لم تكن مدخولاً بها، وكانت من ذوات الحيض، نظر: فإن كانت في حال الطهر، وقعت عليها طلقة، وبانت.
وإن كانت في حالة الحيض، لم يقع في الحال شيء؛ فإن اسم القرء لا ينطلق على الحيض عند الشافعي، فإذا انقطع دمُها، وشرعت في الطهر، وقعت الطلقة وبانت، وإن تركها، لم يَلْحَقْها إلا تلك الطلقة.
وإن نكحها (3) وشرعت في الطهر الثاني، ففي لحوق الطلاق في النكاح [الثاني] (4) بعد تخلل البينونة قولا حِنث اليمين، وقد استقصينا ذكرهما.
ولو لم يجدد النكاح حتى مضت الأقراء المتوالية، ثم نكحها، لم تطلّق؛ لأن السبب المحنِّث قد جرى في حالة البينونة، ولم يتعلق الحنث به، فانحلّت اليمين، وقد استقصينا هذا الطرف فيما تقدم متصلاً بالكلام في عَوْد الحِنث.
هذا إذا لم تكن مدخولاً بها.
8942- فأما إذا كانت مدخولاً بها، فلا يخلو: إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، [فإن كانت حائلاً] (5) وهي من ذوات الأقراء، وقال الزوج ما قال وهي في حالة الطهر،
__________
(1) ت 6: يؤثر.
(2) في الأصل: فرق.
(3) أي بعقدٍ جديد، فهي غير مدخولٍ بها، فلا عدة عليها.
(4) في الأصل: البين.
(5) زيادة من (ت 6) .(14/28)
فتلحقها طلقة رجعية، ثم إذا طهرت ثانياً، لحقتها طلقة أخرى، فإذا طهرت ثالثاً، وقعت الطلقة الثالثة.
ثم الطلقةُ الثانية والثالثة لحقتا وهي في حالة الرجعة، ووقوع الطلاق على الرجعية هل يقتضي عدة (1) مستأنفة؟ هذا مما قدمنا اختلاف القول فيه، وأحلنا استقصاءه على كتاب العدة، فلا معنى للخوض فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت حائلاً.
8943- فأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو: إما إن كانت ترى الدم، أو كانت لا ترى الدم: إن كانت لا ترى الدم: [وقد] (2) قال الزوج: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فتلحقها طلقة في حالة الحمل لا محالة، وهذا مما يجب التثبت فيه. وقد ذكرنا أن القرء عبارة عن حال احتباس الدم بين حيضتين، والحامل تكون كذلك؛ فإن الحيضة تحتبس في زمان الحمل، وحكم الحامل كحكم الحائل في طهر يتطاول زمانه، ثم إذا وضعت الحملَ، انقضت العدة، وبانت، فإذا طهرت من النفاس، لم يلحقها الطلاق الثاني؛ لأنها بائنة؛ فإن نكحها في مدة النفاس، ثم طهرت [من] (3) النفاس في النكاح الثاني، فيعود اختلاف القول جديداً وقديماً في عَوْد الحِنْث.
ولا معنى لتكرير الصورة بعد وضوح المقصود.
ولو راجعها في زمان الحمل قبل الوضع، فإذا طهرت من النفاس، لحقها طلقة أخرى؛ فإن النكاح لم يتعدد، وإذا لحقها هذه الطلقة، استأنفت العدة قولاً واحداً؛ لأن انقضاء العدة يتعلق بوضع الحمل، وهو إن ارتجعها قبل الوضع، فقد مضى بعد الرجعة ما يتعلق به انقضاء العدة لولا الرجعة، فلا وجه لتخيّل بناء القرء على وضع الحمل، وهذا موضع رمزٍ وعقد جُمل في العِدد، واستقصاءُ الكلام فيها محالٌ على كتاب العدة.
__________
(1) ت 6: استنئاف عدة.
(2) في الأصل: فقد.
(3) في الأصل: في.(14/29)
8944- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الحامل لا ترى دماً، فأما إذا كانت ترى دماً [على] (1) ترتيب الأدوار ونظمها، فقد اختلف قول الشافعي في أن دم (2) الحامل على الترتيب المنتظم هل يكون حيضاًً أم لا؟ فإن قلنا: إنه دم فسادٍ، فلا حكم له، وهو كما لو قال: لو لم (3) تَرَ دماً، وقد تقدم التفصيل.
فإن حكمنا بأن ما تراه دمُ حيض فإذا كان قال: "أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة"، وكانت الحامل في حالة الحيض، لم يقع الطلاق؛ لأن القرء عبارة عن طهر محصور بين حيضتين، وهذه الحامل لها حيض وطهر. وإن قال لها ذلك وهي في زمان الطهر، فيقع لتحقق اسم القرء، وهل يتكرر الطلقات الثلاث بتكرر الأقراء عليها وهي حامل؟ فعلى وجهين: أقيسهما (4) - أنه يتكرر؛ لأنا إذا أثبتنا الحيض والطهر، وحققنا اسم القرء، فيجب على موجب ذلك أن يتكرر الطلاق بتكرر الأقراء.
الوجه الثاني - أنه لا يتكرر؛ لأن الطلاق إنما يتكرر إذا كان الطهر محتوشاً بدمين دالّين على براءة الرحم، [وهذا] (5) المعنى لا يتحقق في هذه الأطهار، وأما الطلقة الأولى، [فإنا] (6) حكمنا بوقوعها كما نحكم بوقوع الطلاق إذا كانت لا ترى دماً، ولكنا توقفنا في وقوع الطلاق، ولم نوقعه وهي حائض.
ثم قال الأصحاب: من حيث إنه يوجد طهر محتوش بدمين يختص وقوع الطلاق به، ومن حيث إن الدمين لا يدلاّن على براءة الرحم قلنا: لا يتكرر وقوع الطلاق بتكرره، وهذا وإن كان ظاهراً في الحكاية (7) ، فالقياس ما تقدم؛ فإن الطلاق إنما يتحقق بتحقق الاسم، واسم الأقراء يتكرر، والزوج لم يعلّق الطلاق بأقراء دالة على
__________
(1) مزيدة من (ت 6) .
(2) ت 6: في أن ما تراه الحامل على الترتيب المنتظم.
(3) ت 6: كما إذا لم تر دماً.
(4) ت 6: أحدهما - وهو الأقيس.
(5) في الأصل: هذا (بدون الواو) .
(6) في الأصل: فإن.
(7) وهذا هو الذي قال عنه الرافعي: "إنه الأصح"، ولم يتكلم على موافقة الأول للقياس.
(ر. الشرح الكبير: 8/500) .(14/30)
براءة الرحم، فلا معنى لاعتبار البراءة في هذا المقام. وكل ما ذكرناه إذا قال لامرأته وهي من ذوات الأقراء: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة.
8945- فإذا قال لامرأته- ولم تحض قط: أنت طالق ثلاثاً في كل قرءٍ واحدة، فالذي عليه الأصحاب أنا لا نحكم بوقوع الطلاق في الحال، ولكن إذا حاضت هل نتبين أن الطلاق وقع عليها باللفظ السابق؟ فعلى وجهين مبنيين على أنها إذا رأت الدم في خلال العدة بالشهور، فهل نحتسب ما مضى قرءاً؟ فيه قولان (1) مبنيان على أن القرء عبارة عن ماذا؟ وفيه قولان: أحدهما - أنه عبارة عن طهرٍ يحتوشه دمان، فعلى هذا لا نحتسب ما مضى لها قرءاً؛ لأنه لم يكن بين دمين.
والقول الثاني - أن القرء عبارة عن الانقلاب من الطهر إلى الحيض [أو من الحيض إلى الطهر] (2) ، فعلى هذا نحسب ما مضى لها قرءاً من العدة، ونحكم بوقوع (3) الطلاق تبيّناً.
وإذا قال للآيسة القاعدة (4) عن الحيض: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فإن عاودها الدم بعد ذلك، فلا خلاف في وقوع الطلاق، وإن استمرت على التقاعد واليأس، فهل يلحقها الطلاق أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يلحقها الطلاق؛ لأنها انتقلت من الحيض إلى هذه الحالة.
والثاني - أن الطلاق لا يلحقها؛ فإن القرء طهر بين دمين، وهذا نقاء تقدمه دمٌ، ولم يستأخر عنه دم، والقرء بمعنى الطهر (5) محمول على قول القائل: قرأت الماء في الحوض، والطعام في الشدق، وهذا إنما يتحقق إذا كان يجتمع في زمان النقاء دمٌ في الرحم، ثم يزجيه الرحم.
هذا تصرف الأصحاب في تعليق الطلقات بالأقراء.
__________
(1) ت 6: فعلى وجهين مبنيين.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) هذا الوجه هو الأظهر في الصغيرة والآيسة، قاله الرافعي (ر. الشرح الكبير: 8/500) .
(4) ت 6: للآية المتقاعدة.
(5) ت 6: والقرء معنىً طهرٌ محمول.(14/31)
8946- وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً أن الرجل إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة: أن الأقراء في حقها هي الأشهر، فتلحقها ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر؛ فإن الأشهر في حقها مُقامة مقام الأطهار المحتوشة بالدماء.
وهذا ضعيف جداً؛ لأنه مائل عن مأخذ الباب، والتعليقاتُ تؤخذ من قضية اللسان، وقد يُلتفت فيها على العادات، فأما النظر إلى تنزيلات الشرع أشياء مقام أشياء، فليس [من] (1) حكم هذا الكتاب (2) وموجبه أصلاً. ولا شك أن العرب لا تسمِّي الأشهر أقراء أصلاً، لا في الصغيرة، ولا في حق الآيسة، فليكن التعويل على موجب اللفظ.
فهذا إذاً وجهٌ غير معتد به.
وقد انتهى تفصيل القول في [تعليق أعداد الطلاق] (3) على الأقراء.
8947-[ونحن الآن نستفتح] (4) مسألة متصلة بهذا النوع، ونبتدىء بسببها القولَ في التديين (5) ، فنقول: إذا قال الرجل: أنت طالق ثلاثاً للسُّنة [ونوى تفريقها على ثلاثة أقراء، فقد ذكرنا أن السُّنة والبدعة لا تتعلقان بالجمع والتفريق، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً للسّنة] (6) ، وزعم أنه أراد تفريقها، لم يقبل ذلك منه في ظاهر الحكم، وإن علم الله تعالى منه الصدق فيما ادّعاه، فلا تقع [الطلقات] (7) الثلاث معاً بَيْنه
__________
(1) في الأصل: في.
(2) ت 6: الباب. والمراد (كتاب الطلاق) .
(3) في الأصل: في تعديد إطلاق على الأقراء.
(4) في الأصل: ونحن لا تستفتح.
(5) التديين: من قولهم ديّن فلان فلاناً إذا تركه وما يعتقد (المعجم) والمعنى هنا أن الحكم بالطلاق يقع ظاهراً، ولا يقع باطناً، وبمعنى آخر يقع قضاء ولا يقع ديانة، فالرجل إذا علم من نفسه الصدق، وأنه لم يكن يريد الطلاق، فبوسعه أن يُمسك زوجته ويعاشرها معاشرة الأزواج، ولكن إن ارتفع إلى مجلس القضاء لا يمكن للقاضي إلا التفريق وإيقاع الطلاق.
(6) زيادة من (ت 6) .
(7) في الأصل: الطلاق.(14/32)
وبين الله تعالى، وعبّر الفقهاء عن هذا فقالوا: لا يُقبل منه في الظاهر، ولكن يُدَيّن بينه وبين الله.
8948- ونحن نذكر الآن قاعدة التديين، ونستعين بالله تعالى، فنقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فالذي جاء به لفظ صريح، فلو قصد به الطلاق أو أطلقه ولم يقصد به شيئاً، ولم يَهْذِ بلفظه، ولم يحكه، وقع الطلاق ظاهراً وباطناً.
ولو نوى بقوله طالقٌ التطليق عن وثاق، أو حل أسير وحَجْر، فإذا أبدى هذا، لم يقبل منه في ظاهر الحكم، ولكن إذا لم يثبت لفظه في مجلس القضاء، وكان صادقاً بينه وبين الله تعالى، لم يقع الطلاق في حكم الله وعلمه.
ولو قال: أنت طالق وأضمر (1) ألا يقع، وأجرى على ضميره: أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك، فهذا يقع ظاهراً وباطناًً.
8949- وطريق الضبط في هذا الطرف أنه إذا ذكر لفظاً صريحاً، وزعم أنه أضمر [معنىً] (2) محتملاً، وفي صيغة اللفظ احتماله، فلا سبيل إلى مخالفة الصريح في ظاهر الحكم، ولكن إن صدق وفي اللفظ احتمال، فلا يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، وسنقرر ذلك عند ذكرنا الصرائح وأحكامها، إن شاء الله تعالى.
ولو أضمر مع صريح الطلاق شيئاً [لا ينبىء] (3) اللفظ عنه في صيغته ووضْعِه، ولو جرى (4) ذكرُ المعنى الجاري في الضمير متصلاً بالكلام الظاهر، لما كان الكلام منتظماً، ويُعدّ ما جاء به متهافتاً، لا يجرّد العاقلُ القصدَ إلى نظم مثله، فهذا مردود ولا حكم له.
ومثال هذا القسم ما لو قال: أنت طالق، ونوى طلاقاً لا يقع، فهذا لو صرح به، لكان لغواً مُطَّرحاً، لا مبالاة بمثله، والطلاق واقع، فقد خرج الضمير عن صيغة
__________
(1) ت 6: أو أضمر.
(2) في الأصل: لفظاً.
(3) في الأصل: لا ينشأ.
(4) ت 6: ولو ذُكر المعنى الجاري في الضمير.(14/33)
اللفظ، وعن معنىً ينتظم مع اللفظ لو فرض وَصْلُه [به] (1) فلا طريق (2) إلا الإلغاء ظاهراً وباطناً.
ولو أضمر ما لا يُشعر اللفظ به في صيغته، ولكن لو وُصل بالكلام وأظهر، لكان ينتظم الكلام معه، وذلك مثل أن يقول: أنت طالق، ثم يقول: نويت وأضمرت إن دخلتِ الدار، وأضمرت إلى شهرٍ، أو ما جرى هذا المجرى من تأقيتٍ أو تعليقٍ، فإذا أضمر شيئاً مما ذكرناه، وذكرنا ضبطه، فلا شك [أنا لا نقبل] (3) منه في الظاهر ما زعم أنه أضمره، ولكن هل يُديّن بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين: أقيسهما أنه لا يديّن؛ فإن التديين يجري إذا كان ما يضمره [لائقاً] (4) بمعاني اللفظ [على بُعدٍ] (5) ، فأما إذا لم يكن اللفظ مشعراً به على قرب ولا بعد، فالإضمار فيه نيّةٌ مجردة، ولا تعلق لها بلفظٍ، والنية المجردة (6) لا أثر لها عند الشافعي؛ ولهذا نقول: إذا أجرى معنى الطلاق [جزماً على قلبه، لم يقع الطلاق] (7) ظاهراً وباطناًً، وخالف مالك (8) في هذا.
والوجه الثاني - وهو ظاهر قول الأصحاب أنه إذا علَّق بضميره، تعلّق بينه وبين الله، والتحق بقواعد التديين.
8950- وعلى هذا الخلاف يُخرّج ما إذا قال: أنت طالق، ثم زعم أنه أضمر (إن
__________
(1) مزيدة من (ت 6) .
(2) في الأصل: فلا يقع طريق إلا الإلغاء.
(3) في الأصل: أن لا نقبل.
(4) في الأصل: لأنه.
(5) في الأصل: على ما بعد.
(6) ت 6: والنيات بمجردها.
(7) زيادة من (ت 6) .
(8) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب: 2/746 مسألة رقم: 1351، والمعونة على مذهب عالم المدينة؛ 2/851، وعيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/1226 مسألة: 853، والقوانين الفقهية: 231، وحاشية الدسوقي: 2/385، والتاج والإكليل للمواق بهامش شرح الحطاب: 4/58.(14/34)
شاء الله تعالى) وقد نص الشافعي في عيون (1) المسائل: أنه [لو] (2) قال لامرأته: إن كلمت زيداً، فأنت طالق، ثم قال: أردت بذلك إن كلمتِه شهراً، [فالحكم] (3) بعد انقضاء الشهر يرتفع، فلو كلّمتْه (4) بعد الشهر، لم يقع الطلاق باطناًً.
وللفقيه في هذا أدنى نظر؛ فإن قول القائل: إن كلمتِ زيداً يتعلق بالأزمان على العموم، وحملُ اللفظ الصالح للعموم على الخصوص من تأويل اللفظ على بعض مقتضياته، وانتهى الأمر في تردد الألفاظ بين العموم والخصوص [إلى] (5) نفي طائفة من العلماء [صيغةً] (6) مجردة ظاهرةً في العموم، وهذا لاعتقادهم تردّدَ الألفاظ في هذين المعنيين. وليس هذا كما لو قال: أنت طالق، وزعم أنه أضمر: إن دخلت الدار، فإن هذه الصيغة وما في معناها لا التفات للفظ عليها بوجهٍ من الوجوه.
[فما] (7) نقل عن الشافعي ملحق بقوله: أنت طالق مع دعواه أنه نوى الطلاق عن الوثاق.
فهذا تصرّف الأصحاب في أصول التديين.
ويلتحق بالأصل الذي مهدناه ما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً وزعم أنه أراد التفريق على الأقراء، فهذا لا يُقبل ظاهراً، وهل يُدَيَّن؟ يلتحق هذا بما لو زعم أنه أضمر تأقيتاً أو تعليقاً؛ فإنه ليس في قوله: أنت طالق ثلاثاً ما يشعر بما ذَكر. ولكن لو ذكره، لانتظم الكلام معه.
__________
(1) يلوح لنا أنّ المقصود بعيون المسائل هو كتاب (عيون المسائل في نصوص الشافعي) للإمام أبي بكر الفارسي، ولقد راجعت الشرح الكبير للرافعي، والروضة للنووي، والبسيط والوسيط للغزالي، ومختصر العز بن عبد السلام وجميعها تذكر المسألة على أنها من منصوصات الشافعي، ولكن لا أحد من هؤلاء الأئمة الكرام ذكر موضع ورودها. والله أعلم.
(2) زيادة من (ت 6) .
(3) في الأصل: والحكم.
(4) في الأصل: فلو قال كلّمته بعد شهر.
(5) في الأصل: في.
(6) في الأصل: وصيغة.
(7) في الأصل: وممّا.(14/35)
وإن قال: أنت طالق ثلاثاًً للسُنة، ثم زعم أنه نوى التفريق على الأقراء، فالظاهر [إلحاق] (1) هذا بما لو أضمر تأقيتاً أو تعليقاً، كما ذكرناه، ولا يتغيّر الحكم بتقييد الثلاث بالسُّنة، فإن هذا اللفظ في إشعار اللغة لا يقتضي تفريقاً، وإذا رددنا لفظ السنة إلى موجب الشريعة، فقد قدمنا من مذهب الشافعي أن السُّنة والبدعة لا تعلق لهما بالجمع والتفريق.
فهذا بيان الحكم في هذه المسألة وتنزيلها على مرتبتها في التديين.
8951-[وللألفاظ في الطلاق] (2) مسالك كنت أوثر جمعها، فبدا لي أن أؤخرها حتى يحصل الإلف بمجاري الكلام في الألفاظ. ومعظم مسائل هذا الكتاب مُدارةٌ على مقتضى الألفاظ، وهي معتبر الكتب المتعلّقة بقضايا الألفاظ، فالوجه أن نُجري في كل فصل ما يليق به، ثم نختتم الكلام بضوابط [تُنزَّل الألفاظ] (3) على مراتبها، ونبيّن مقاصد الشرع فيها، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة ... إلى آخره" (4) .
8952- إذا قال لامرأته المتعرضة للسُّنة والبدعة: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسُّنة وبعضهن للبدعة، راجعناه فإن أراد تنجيز طلقة واحدة في الحال توافق السُّنة (5) أو البدعة وتأخير اثنتين إلى الحالة الثانية، فيقع على هذا الترتيب، فإن تفسيره البعض [بواحدة] (6) في الحال ليس بعيداً عن مقتضى الظاهر.
__________
(1) مزيدة من (ت 6) .
(2) في الأصل: والألفاظ في الظاهر.
(3) زيادة من (ت 6) .
(4) ر. المختصر: 4/71.
(5) في الأصل: والبدعة.
(6) في الأصل: واحدة (بدون باء) .(14/36)
[وإن] (1) أراد فيما زعم تعجيل طلقتين على حسب موافقة الوقت في السُّنة والبدعة وتأخير طلقة إلى ارتقاب الحالة الأخرى، فهذا ممكن محتمل، وتفسيره فيه مقبول ظاهراً، وذلك أن البعض لا يختص في حكم اللسان، ولا في موجب العرف بمبلغ، وهو لفظ مبهم يتناول الواحد والزائد على الواحد، فإذا فسره كان بمثابة من يفسر مجملاً، فيحمله على بعض جهات الاحتمال، فلم يمتنع قبول حمل (2) البعض على الواحدة و [على] (3) الثنتين.
وإن زعم أنه أراد بالبعض نصف الثلاث وقعت ثنتان في الحال، لأن نصف الثلاثة واحدة ونصف، وكأنه نجّز طلقة ونصفاً، ولو فعل ذلك، لوقعت طلقتان، وهذا بيّن في جهات الاحتمال.
ولو طلق وزعم أنه ما نوى شيئاً، ولكن أجرى هذا اللفظ، فالذي نقله المزني عن الشافعي أنه يقع في الحال ثنتان، ثم قال من تلقاء نفسه: "أشبه بمذهبه عندي أن قوله بعضهن يحتمل واحدةً، فلا يقع غيرها" (4) ، فأوضح من قياس الشافعي أنه لا يقع عند الإطلاق إلا واحدة، وأورد هذا على صيغة التصرف على مذهب الشافعي وقياسه، ولم يورده مختاراً لنفسه، وأنا أوثر أن ننظر في كل كلام له إلى ما أشرنا إليه، فإنْ تصرف على المذهب وأجرى قياسه، فهو تخريج على مذهب الشافعي وتخريجه أولى بالقبول من تخريج غيره، وإن لم يتصرف على قياس المذهب، واستحدث من تلقاء نفسه أصلاً، فيعدّ ذلك مذهبَه، ولا يلحق بمتن المذهب، فليكن ما قاله في هذه المسألة تخريجاً، والمنصوص وقوع طلقتين، ومذهب المزني وتخريجه على مذهب الشافعي أنه لا يقع إلا طلقة.
8953- التوجيه: وجه النص أن الثلاث موزعة على بَعْضَين مضافة إليهما،
__________
(1) في الأصل: وإنما.
(2) ساقطة من (ت 6) .
(3) مزيدة من (ت 6) .
(4) ر. المختصر: 4/71.(14/37)
فاقتضى إطلاق الإضافة التقسيط، على التنصيف (1) وموجب هذا إثبات طلقةٍ ونصف على حسب الحالة الناجزة، والطلقة والنصف طلقتان، فينتجز طلقتان، ويتأخر طلقة. وهذا القائل يوجّه النص بمسألة: وهي أن صاحب اليد في الدار لو قال: بعضها لفلان وبعضها لفلان، فمقتضى هذا اللفظ الاعتراف لكل واحد منهما بشطر الدار.
وأما وجه مذهب المزني، فهو أن البعض لفظ مجمل، كما قدمنا تقريره؛ فإن ذكر صاحب اللفظ تفسيراً، قبلناه وإن أطلقه، تردد بين القليل والكثير، فوجب تنزيله على الأقل؛ فإنا لا نوقع من الطلاق إلا المستيقن، وما تقدم ذكره من التسوية خيال لا يقع [بمثله] (2) الطلاق.
فإذا نصرنا مذهب المزني وعددناه قولاً مخرجاً، لم نسلم مسألة الإقرار بالدار.
ومن عجيب الأمر أن الأصحاب نقلوا مسألة الدار (3) [نقل] (4) من يرى أن الدار مشطرة بموجب اللفظ، حتى [لا يراجَع فيها] (5) المقِر. وهذا خارج عن الضبط، فالوجه القطع بأنا إذا فرعنا على تخريج مذهب المزني، فما ذكره المقر لفظٌ مبهم لا استقلال له، ولا بد فيه من مراجعة المقِر، وإن عسرت مراجعته، كان إقراراً مبهما لا يُطَّلَع على معناه ومقدارِ المقَرّ به. ونظائر ذلك كثير في الأقارير.
وإذا فرعنا على النص، فيجب القطع بالرجوع إلى قول المقر، كما ذكرناه في الطلاق، فإن عسر الرجوع عليه، فقد يجوز حمل اللفظ على التنصيف والتشطير.
وهذا كلام ملتبس، ولا وجه في مسألة الإقرار إلا الرجوع إلى قول المقر، وكل ما كان مُجملاً يُرجع فيه إلى تفسير مُطلِقه، فإذا عسر درْك تفسيره، استحال أن يُتََلَقَّى
__________
(1) ت 6: التسوية.
(2) في الأصل: بمثابة.
(3) ت 6: مسألة الإقرار.
(4) زيادة من (ت 6) .
(5) في الأصل: لا يراجعها فيه.(14/38)
من اللفظ ما يُلحقه بالظواهر، [ويخرجه عن المجملات] (1) ، فإن مخالفة الظاهر غيرُ مقبولة في المعاملات، وإن عُدّ التفسير بياناً للمجمل، وجب القضاء بالإجمال عند عدم التفسير.
8954- وقد يخطر [في] (2) ذلك للفطن شيء، وهو أن المعظم لا يسمى بعضَ الشيء، واسم البعض ينطلق على النصف فما دونه، وإذا تقابل البعضان، أشعر ذلك بأن كل بعض ليس المعظم، فيجب القضاء بتنزيل البعضين على الشطرين.
[وهذا الآن يُظهر] (3) استفادة التنصيف من اللفظ، ومساق هذا يقتضي ألا يقبل منه حمل البعض على الطلقة الواحدة، وقد ذكرنا أنه لو حمل البعض على طلقة منجزة وطلقتين مؤخرتين، قُبل ذلك منه، وهذا يلتحق بفن من الفنون في الطلاق، وهو أنا قد نحمل لفظاً في الإطلاق على محمل، فإذا قال صاحب اللفظ أردت غيره يُقبل منه ذلك ظاهراً، [وهذا] (4) فوق درجة التديين، وسيأتي نظائر لهذا، إن شاء الله تعالى. فإذاً المطلق محمول على التنصيف لما ذكرناه، وإذا حمل البعض على الواحدة، ففي قبول ذلك منه احتمال.
وقد ذكر صاحب التقريب أوالعراقيون، (5) فيه وجهين: أحدهما - أنه يقبل، وهو الصحيح، إذ لفظ البعض يحتمل الواحدة احتمالاً بيناً.
والثاني -وهذا اختيار ابن أبي هريرة- أنه لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ ينجز الطلقتين على النص، وإذا لاح هذا، انتظم منه أن مقتضى النص أن اللفظ ظاهر في التنصيف مستقلٌّ بإفادته وفي (6) حمله على خلافه احتمال ظاهر النص، وهل يقبل
__________
(1) في الأصل: ونلحقه بالمجملات.
(2) مزيدة من (ت 6) .
(3) في الأصل: وهذا لا يظهر.
(4) في الأصل: وهو.
(5) مزيدة من (ت 6) .
(6) في الأصل: في (بدون واو) .(14/39)
الحمل على خلاف الظاهر؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، ومقتضى مذهب (1) المزني أن اللفظ مجمل لا ظاهر له، وموجب هذا قبول تفسيره، فإن عدمنا [التفسير] (2) ، نزلناه على الأقل.
ولو قال صاحب المقالة: أردت تعجيلَ بعضٍ من كل طلقة في الحال، فهذا مقبول وينتجز الطلقات الثلاث؛ فإن أبعاض الطلاق مكمّلةٌ على ما سيأتي شرح ذلك، على ترتيب مسائل الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق أعدل أو أحسن ... إلى آخره" (3) .
8955- إذا قال لامرأته: أنت طالق أعدل الطلاق، أو أكمل، أو أحسن، أو أفضل، أو أجمل الطلاق، فإنْ أجمل هذه الألفاظ، انصرفت إلى ما ينصرف إليه لفظ السُّنة، فكأنه قال لها: أنت طالق للسنة، فإن كانت حالها موافقة للسنة، تنجزت الطلقة، وإلا انتظرنا حالة السنة.
وما ذكرناه فيه إذا كانت المرأة بصدد السنة والبدعة؛ فإن أراد بهذه الألفاظ السُّنة، فقد طابق قصدُه ظاهرَ ألفاظه.
وإن قال: عنيت بما أطلقته من هذه الألفاظ تنجيز الطلاق في الحال، فرأيت أحسن أنواع الطلاق أعجلَها، فيتعجل الطلاق؛ فإن ما ذكره محتمل، ومهما ذكر احتمالاً مقتضاه (4) إيقاع الطلاق، فهو مقبول، وإن كنا قد لا نقبل في نفي الطلاق مثل ذلك المعنى ظاهراً، وإنما نحيل قوله على التديين.
فإن (5) قال: أردت بما أطلقت من الألفاظ تأخير الطلاق، وإن كان في زمن
__________
(1) في الأصل: ومقتضى ذلك مذهب المزني ...
(2) فى الأصل: التفسيرين.
(3) ر. المختصر: 4/71.
(4) في الأصل: احتمالاً معناه مقتضاه.
(5) ت 6: فلو قال.(14/40)
السّنة؛ فإني رأيت المَهَل أجملَ من مفاجأة الطلاق، فهذا لا يقبل، إذا كان حالها موافقاً للسُّنة؛ والسبب فيه أنه يبغي نفيَ الطلاق في الحال، ثم ليس لمنتهى وقوع الطلاق ضبط لفظي ولا شرعي، فإنه إن أراد التأخير من حال السُّنة إلى حال البدعة، فهذا يخالف الشرع، والألفاظَ الشرعية، وإن أراد التأخير إلى طهرٍ آخر، فلا ضبط له، فليس انتظار طهر ثانٍ أولى من انتظار طهر ثالث، والمرأة في الحال في طهر لم يجر فيه جماع، فخرج من مجموع ما ذكرناه أن هذه الألفاظ عند إطلاقها محمولة على السنة، حتى إذا كانت [المرأة] (1) في حالة بدعةٍ، تأخر الطلاق إلى وقت السنة، وإن نوى تعجيلاً على خلاف السنة، فقوله عليه مقبول. وإن كانت في حال السنة، ونوى تأخيراً عن احتمالٍ يُبديه، فذلك غير مقبول منه ظاهراً. ولا شك أنه يُديّن على ما مهدنا أصل التديين.
8956- ولو قال لامرأته: أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وأوحشه، أو أفضحه أو أفظعه؛ فإن أطلق هذه الألفاظ، ولم ينو بها شيئاً، فهو كما قال: أنت طالق للبدعة، ولا يخفى حكم هذه اللفظة، فإن كانت في زمان بدعة، تنجز الطلاق. وإن كانت في زمان سُنة، تأخر وقوع الطلاق إلى مصيرها إلى حالة البدعة. ولو كانت في حالة سُنّة، فقال: أردت بأقبح الطلاق أعجله، قُبل ذلك منه وانتجز الطلاق، وإن كان في حالة بدعةٍ، فقال: [أردت بالأقبح ما يتأخر] (2) ويُنتظر، لم يقبل ذلك منه؛ لأنه لا ضبط ولا توقف ينتهي إليه، كما ذكرناه في الأحسن واكمل.
والذي يختلج في الصدر من هذه المسألة أنه إذا قال: أنت طالق [للسنة، وكان وقت السنة منتظراً، فالكلام محمول على التأقيت، وكذلك القول فيه إذا قال: أنت طالق للبدعة] (3) .
فأما إذا قال: أنت طالق أجمل الطلاق [أو] (4) أقبح الطلاق، فهذا في ظاهره
__________
(1) مزيدة من (ت 6) .
(2) عبارة الأصل: أردت ما لا يتأخر.
(3) زيادة من (ت 6) .
(4) في الأصل: "وأقبح".(14/41)
تنجيزٌ مع وصفٍ، وليس في صيغة اللفظ ما يقتضي تعليقاً، أو تأقيتاً. ولو قال قائل: مُطلَقُ هذا اللفظ التنجيز، ثم ينظر في مُفسده على التفاصيل المقدمة، لكان هذا كلاماً جارياً على صيغ الألفاظ ومعناها.
وليس ما ذكرناه مذهباً لذي مذهب؛ فإن الأصحاب مجمعون في الطرق على أن الأحسن وما في معناه مطلقُه محمول على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للسُّنة، والأقبح محمول عند الإطلاق على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للبدعة
فهذا بيان الفصل نقلاً واحتمالاً.
8957- ثم ذكر الشافعي أنه لو قال: أنت طالق طلقةً حسنة، [كان] (1) كما لو قال: أنت طالق للسنة، وكذلك ما في معنى هذا اللفظ.
وإذا قال: أنت طالق طلقة قبيحة، فهو كما لو قال: أنت طالق للبدعة.
ومنتهى التقريب (2) في هذا الفصل أن الأحسن صفةُ مدح، وهذا مفهوم من هذا اللفظ، فلا محمل له أولى من [السُّني، والأقبح صفة ذم، فلا محمل له أولى من] (3) المحظور المحرّم.
ولو قال: أنت طالق طلقة حسنةً قبيحةً، فقد جمع بين النقيضين، وتنتفي الصفتان لتناقضهما، ويبقى الطلاق المطلق، وهو محمول على التنجيز، وكذلك لو قال: أنت طالق طلقة لا سُنيّة ولا بدعية، وكانت متعرضة لهما جميعاً، فتتعارض الصفتان وتسقطان في النفي، كما سقطتا في الإثبات، ويبقى الطلاق المطلق.
ولو قال للتي لا تتعرض للسنة والبدعة: أنت طالق للسنة والبدعة، فالصفة ساقطة والطلاق مُطلق، وحكم الانتجاز كما ذكرناه.
__________
(1) مزيدة من (ت 6) .
(2) ت 6: التقرير.
(3) زيادة من (ت 6) .(14/42)
8958- ثم قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق إذا قدم فلان للسُّنة ... إلى آخره" (1) . إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسُّنة، فالقول الوجيز في هذا الفصل أنا ننظر إلى قدوم فلان، وإلى حالة المرأة عند قدومه، ونقول: كأنه قال لها عند قدومه: أنت طالق للسنة، ثم لا يخفى حكم ذلك.
وكذلك لو قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهو كما لو قال: عند قدومه أنت طالق للبدعة.
ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو قال هذا القول والمرأة حالة قوله لم تكن من أهل السنة، ولا من أهل البدعة، ثم صارت من أهلها، فقدم زيد، فالحكم بحالها عند قدوم زيد، ولو كانت من أهل السنة والبدعة، ثم خرجت عن أن تكون من أهل السنة والبدعة باليأس والتقاعد، فالاعتبار بحالها عند قدوم زيد.
وكل ما ذكرناه يندرج تحت قولنا: نجعل ما ذكره بمثابة ما لو قال لامرأته عند قدوم زيد: أنت طالق للسنة أو البدعة.
ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهذا التعليق في نفسه بدعة؛ لأن الطلاق لا يقع به إلا موجب البدعة، وإذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسنة، فتعليقه هذا ليس محظوراً، ولو قال لامرأته: إذا قدم زيد، فأنت طالق، ولم يتعرض لوصف الطلاق عند القدوم بالسُّنّة والبدعة، فإذا قدم زيد، طلّقت، وإذا (2) كان في زمان بدعة، وقع الطلاق [بدعيّاً، وإن كانت في زمان سنة، وقع الطلاق] (3) سنياً.
هذا قولنا في صفة الطلاق الواقع.
8959- فأما التعليق نفسه، فليس فيه تعرض لسنة وبدعة، وإنما هو تعليق طلاق بصفة، فظاهر كلام الشافعي على أن التعليق لا يتصف بالبدعة؛ فإن الأمر متردد، ولم
__________
(1) ر. المختصر: 4/72.
(2) ت 6: فإن كانت.
(3) زيادة من (ت 6) .(14/43)
يقصد المعلّق اعتماد إيقاع الطلاق في وقت البدعة.
وحكى من يوثق به من أصحاب القفال أنه كان يقول: التعليق [على] (1) الإطلاق بدعة، إذا كان لا يمتنع وقوع الطلاق في وقت البدعة؛ لأنه متردد بين أن يقع الطلاق بدعيّاً، وبين أن يقع سنياً وغيرَ بدعي، والتردد بين المعصية وغيرها في نفسه معصية.
وهذا الذي ذكره القفال وإن كان معتضداً بمسلك من المعنى [فهو] (2) بعيد من وجهين: أحدهما - أنه في حكم الهجوم على ما اتفق عليه الأولون؛ فإن تعليق الطلاق على الصفات [لم] (3) يحظره أحد، والآخر - أن تحريم الطلاق بسبب تطويل العدة أو بسبب ندامة الولد ليس جارياً على قياس جلي؛ فإنما التعويل الأظهر فيه التعبّد، فلا ينتهي الأمر إلى مصير التعليق بدعيّاً لجواز إفضائه إليه، إذا لم يوجد من المطلّق تجريد قصد إلى مصادفة البدعة.
فصل
قال: "ولو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق ... إلى آخره" (4) .
8960- مضمون هذا الفصل الكلامُ في مسألتين: إحداهما - أن يقول الرجل لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، والأخرى أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فنبدأ بما إذا قال لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق بوجود الحمل في بطنها حالة التعليق، فلا نحكم بوقوع الطلاق في الحال للشك القائم والتردد، والأصل بقاء النكاح، ولكن إن أتت بولد لستة أشهر (5) ، فقد استيقنّا وجود الحمل حالة التعليق، فنقضي بوقوع الطلاق تبيّناً، واستناداً (6) ، ثم تقضي العدة بوضع
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: فهذا.
(3) سقطت من الأصل.
(4) ر. المختصر: 4/72.
(5) هذا الحكم مبني على تقدير أقل الحمل بستة أشهر، فإذا ولدت لستة أشهر بعد يمين الطلاق المعلّق، فمعنى هذا أنها كانت حاملاً بيقين وقت عقد اليمين.
(6) تبيناً واستناداً: أي نحكم بوقوع الطلاق مستندين في هذا الحكم إلى ما تبيناه من وجود الحمل =(14/44)
الحمل، ولو أتت بولد لأكثر من أربع سنين، فكما (1) مضت أربع سنين تبيّنا حيالها (2) حالة التعليق، فلا يقع الطلاق.
وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وأقلَّ من أربع سنين، فإن لم (3) يطأها بعد عقد اليمين، وقع الطلاق، لأنا وإن كنا نجوّز أن يكون علوقها بعد العقد، فالأمر محمول على أن العلوق من الزوج والوطء [المتقدّم] (4) على اليمين، وإذا كان كذلك، فيقدر الحمل موجوداً حالة التعليق، ونقضي بوقوع الطلاق.
وذكر الأئمة قولاً آخر: أن الطلاق لا يقع، لجواز أن يكون العلوق بعد اليمين، والأصل بقاء النكاح، وهذا القائل يقول: لا نحكم بوقوع الطلاق ما لم [نتيقن] (5) وجود الحمل حالة اليمين.
وإذا كان (6) الزوج يطؤها بعد اليمين، وأمكن إحالة العلوق على الوطء المتجدد بعد اليمين، فلا خلاف أنا لا نحكم بوقوع الطلاق، ولو وطئها بعد اليمين فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من ذلك الوطء الجاري بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء، فإن إمكان العلوق لا يسند إليه (7) .
فتحصل من مجموع ما ذكرناه أنه إذا جرى بعد اليمين وطء يمكن إحالة العلوق
__________
= وقت اليمين (وقد سبق لنا أن شرحنا معنى التبين والاستناد) .
(1) فكما مضت أربع سنين: أي عندما مضت أربع سنين.
(2) تبينا حيالها: هذا الحكم مبني على تقدير أقصى مدة للحمل بأربع سنين، فإذا جاءت بولد لأكثر من أربع سنين -بعد تعليق الطلاق على حملها- تبينا باليقين أنها لم تكن حاملاً عندما علق طلاقها.
(3) اشترط عدم الوطء -بعد اليمين- هنا؛ لأنه لو وطئها بعد اليمين، لكان العلوق محتملاً من هذا الوطء المتجدد.
(4) في الأصل: المقدر على اليمين.
(5) في الأصل: نتبين.
(6) ت 6: ولو كان.
(7) هذا الحكم بعدم إمكان العلوق من الوطء بعد اليمين، إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر، مبني -كما هو واضح- على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا ولدت لأقل من ستة أشهر، بعد اليمين - تبينا يقيناً أنها كانت حاملاً عندما علق الطلاق على حملها.(14/45)
عليه (1) ، لم يقع الطلاق، وإن استيقنا وجود الولد حالة التعليق، بأن أتت به لدون ستة أشهر، حكمنا بوقوع الطلاق، وإن لم يجر وطء بعد اليمين، أو جرى وطء لا يمكن إحالة العلوق عليه، ولكن كان يمكن إحالة العلوق على وطء من غير الزوج، فالشرع في إلحاق النسب يقدر استناد العلوق إلى الوطء المتقدم على اليمين (2) غير أن سبيل الاحتمال غير منحسم بأن يفرض العلوق بعد اليمين من غير الزوج، فظاهر المذهب الحكم بوقوع الطلاق.
وفي المسألة قول آخر [أنّا لا] (3) نحكم بالوقوع للتردد الثابت والأصل بقاء النكاح.
8961- ثم إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فإلى أن نتبين (4) من العواقب ما ذكرناه، هل يحل للزوج وطؤها أم كيف الطريق؟ قال الأصحاب: لا يطؤها حتى يستبرئها، فإنه ذكر لفظة الطلاق، ووقوعه غير بعيد، وأمر الأبضاع على التشديد. ونقل العراقيون قولاً [آخر] (5) أن الوطء لا يحرم، بل يكره، فحصل قولان في تحريم الوطء: أحدهما - أنه محرم، لما قدمناه. والثاني - أنه مكروه غير محظور، لأنا لم نستبن وقوعَ المحرم، ثم إذا حرمنا الوطء، وقلنا: يستبرئها، فلا يطؤها حتى تنقضي مدّة الاستبراء. وبكم يستبرئها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون،
والقول في حرةٍ خوطبت بما ذكرناه. فأحد الوجهين أنه يستبرئها [بثلاثة أقراء؛ فإن الاستبراء في حق الحرة لا ينقص عن ذلك.
والثاني أنه يستبرئها] (6) بقرء واحد، كما تستبرأ الأمة المملوكة؛ لأن هذا ليس بعدّة، واعتبار العَدد في الأقراء يتعلق بالعِدد، وإنما الغرض بهذا الاستبراء استظهارٌ
__________
(1) يعرف ذلك إذا علمنا أقل مدة الحمل وأقصاها، وقد مضى أنها ستة أشهر في الأقل، وأربع سنين في الأقصى.
(2) ت 6: على العقد.
(3) في الأصل: ما لا نحكم.
(4) ت 6: نتبين وقوع الطلاق من العواقب ...
(5) في الأصل: واحداً.
(6) ما بين المعقفين زيادة من (ت 6) .(14/46)
وتعلق بعلامة. ثم قالوا: إن قلنا: يستبرئها بثلاثة أقراء، فهي أطهار [على] (1) ما سيأتي في العِدد، إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: يستبرئها بقرء واحد، فسبيله كسبيل استبراء المملوكة، ثم المذهب الصحيح أنه حيضة، وفيه وجه أنه طهر، وسيأتي ذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ثم إذا مضى الاستبراء على ما ذكرناه، فيحل للزوج وطؤها. ومما ذكره العراقيون أنه لو استبرأها أولاً -إما بقرء أو أقراء، وظهر عنده براءتها في ظاهر الحال- ثم قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق. فهل يحل وطؤها بناءً على الاستبراء المتقدم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحل لحصول علامة براءة الرحم، وليست في اعتداد على التحقيق؛ حتى نعتبر فيه الترتيب، ونقضي بأن العدة إنما يعتد بها إذا ترتبت على الطلاق.
والوجه الثاني - أنه لا حكم للاستبراء المتقدم، كما لا حكم للعدة قبل الطلاق، والاستبراء قبل الشراء (2) .
8962- ومما يتعلق بذلك [أنا] (3) إذا أمرناه بالاستبراء، فمرّت بها صورة الأقراء، ثم أتت بولدٍ لزمانٍ يُعلم وجوده حالة اليمين، فنتبين بالأَخَرة أن الوطء صادف مطلَّقة، وأن [ما] (4) كنا نحكم به أمرٌ ظاهر، وقد بان أن الحكم بخلافه، ثم لا يخفى تفصيل القول في المهر، وتجدّد العدة، وغيرهما من الأحكام. وإذا أمرناه بالاستبراء، فمضى شهر أو شهران وأكثر، فلم ير قرءاً وهي من أهل الأقراء؛ فإنه يجتنبها، فإن انقطاع الحيض عنها من مخايل الحمل، وهذا يؤكد التحريم، ثم الأمر يبين بوضعها الحمل وعدم وضعها، كما تقدم.
ولو كانت في سن الحيض، ووقت إمكان الحيض، فقال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، وما كانت حاضت من قبل، فالعدة في حق مثل هذه -لو طلقت- بالأشهر؛
__________
(1) زيادة من (ت 6)
(2) قبل الشراء: أي شراء الأمة.
(3) سقطت من الأصل.
(4) زيادة من (ت 6) .(14/47)
فإذا اعتدت بالأشهر، نكحت، وجعلنا مضيّ الأشهر علامة على براءة الرحم؛ حتى يجوز لها أن تنكح، وإذ ذاك توطأ، ثم في الحكم بانقضاء العدة حكمٌ بانبتات النكاح، [فإن] (1) الرجعية زوجة ما دامت في العدة.
فخرج مما ذكرناه أن الأشهر في حق هذه في مسألتنا إذا لم تكن حاضت [قبلُ] (2) بمثابة الأقراء، فإذا مضت الأشهر، حلّ له وطؤها إلا أن تظهر بعد الأشهر علامة الحمل، فإذ ذاك يمتنع. وذاتُ الأشهر إذا رأت علامة [الحمل] (3) بعد الاعتداد بالأشهر لم تنكح، وإذا استرابت، ففيها كلام (4) ، سيأتي في كتاب العدد، إن شاء الله تعالى.
هذا تمام البيان فيه إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق.
8963- وقد يتعلق بهذا أنه لو قال للمتقاعدة الآيسة: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فهل يحل له الإقدام على وطئها؟ حق هذه المسألة أن تبنى على أن الاستبراء المتقدم هل يؤثر في إباحة الوطء أم لا؟ فإن جعلناه مؤثراً وقد تحقق اليأس، فالظاهر أنه يحل له وطؤها. وإن لم نعتبر ما تقدم على عقد اليمين، فاستبراؤها بالأشهر محتملٌ.
وكل ذلك كلام في مسألة واحدة من المسألتين الموعودتين.
8964- فأما المسألة الثانية، وهي أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ومعناه إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق في هذه المسألة بعدم الحمل، وكان معلقاً في المسألة الأولى بوجود الحمل، فنقول أولاً: لو أتت بولد لأقل من ستة أشهر، فلا يقع الطلاق؛ لأنا تحققنا وجود الحمل عند عقد اليمين، والطلاق معلق على عدم الولد، وإن أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، أو لم تأت بولدٍ
__________
(1) في الأصل: في الرجعة.
(2) مزيدة من (ت 6) .
(3) سقطت من الأصل.
(4) ت 6: تفصيل سيأتي.(14/48)
في أربع سنين ولا بعدها، نحكم بوقوع الطلاق، لعلمنا بأنها لم تكن حاملاً حالة عقد اليمين.
وإن أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، ولأقلَّ من أربع سنين، واحتمل أن يكون الحمل موجوداً يوم الحلف، واحتمل ألا يكون، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين، فالأظهر أنها حبلت بما سبق من الوطء قبل اليمين، وأنها كانت حاملاً قبل (1) اليمين، ونحكم في هذه الصورة بأن الطلاق لا يقع وجهاً واحداً؛ إذا الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، والظاهر استناد العلوق إلى ما تقدم، فاجتمع الظاهرُ والأصلُ في نفي الطلاق.
ولو حلف كما صورنا، ثم وطىء بعد اليمين، فأتت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من وقت اليمين، نظر: فإن أتت به لأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء؛ فإن إمكان العلوق لا يستند إليه، فوجوده في غرضنا كعدمه. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت اليمين ومن وقت الوطء بعد اليمين، ففي وقوع الطلاق وجهان في هذه الصورة: أحدهما - يقع؛ لأن الظاهر [أنه محمول] (2) على الوطء بعد اليمين، وأنها كانت حائلاً قبله.
والوجه الثاني - أنه لا يقع؛ لجواز أن [تكون] (3) حاملاً وقت اليمين، وأن الزوج وطئها، وهي حامل، ولا يقع الطلاق بالشك، وإنما يقع باليقين، وقد يقع بالظاهر، وليس في الوطء المتجدد ما يظهر الحيال وعدم الحبل قبله وهذا ما اختاره صاحب التقريب، وهو لعمري مختار.
8965- ثم نتكلم وراء هذا في حل الوطء وتحريمه، ووجوب الاستبراء، فإذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فلم نتبين بعدُ حِيالَها وحَملَها، فهل يحرم الإقدام على وطئها قبل أن نتبين الأمرَ؟
__________
(1) (ت 6) : وقت اليمين.
(2) في الأصل: أنها محمولة.
(3) مزيدة من (ت 6) .(14/49)
قد ذكرنا تعليق الطلاق بالحمل قبلُ، وهذا تعليق الطلاق بعدم الحمل، وذكرنا فيه إذا علق الطلاق بالحمل قولين في تحريم الوطء، والأصل عدم الحمل، فإذا علق الطلاق بالحيال، فالتحريم أغلب هاهنا؛ من جهة أن الأصل عدم الحمل، والطلاق يقع بعدم الحمل.
8966- والذي تحصّل من مسلك الأصحاب في المسألتين طريقان: أحدهما - أنه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، يحرم الوطء في الحال قولاً واحداً. وإذا قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق؟ فهل يحرم الوطء في الحال؟ فعلى قولين.
والطريقة الأخرى عكس هذه، فإذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، فمن أصحابنا من قال: لا يحرم الوطء، بل نكرهه قولاً واحداً؛ فإن الأصل عدم الحمل.
وإذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فهل يحرم الوطء أم يكره؟ فعلى قولين.
فإذا جمع الجامع الطريقين، فحاصل القول في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها - التحريم فيهما.
والثاني - الكراهية فيهما، مع رفع التحريم.
والثالث - أن الوطء يحرم إذا كان الطلاق معلقاً بعدم الحمل، ولا يحرم إذا كان معلقاً بالحمل.
ثم إذا بان الكلام في التحريم، وجرينا على أن الوطء يحرم فيه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا انكف عنها، فمضى بها قرء أو قرءان على انتظام الأقراء، ولم يظهر بها حمل، قال صاحب التقريب والقاضي: نحكم بوقوع الطلاق وتبيّنا حِيالَها حالة [عقد] (1) اليمين، ثم تكون الأقراء بعد عقد اليمين عدتَها، فلها أن تنكح.
وإذا جعلنا الاستبراء في هذه المحال بقرء واحد، حكمنا بوقوع الطلاق إذا مضى قرء، واحتسبنا هذا القرء من عدتها، وأمرناها باستقبال قرأين آخرين بَعْده، ويتم انقضاء العدة، فالذي ذكره المحققون أنا نحكم بوقوع الطلاق عند مضي ثلاثة أقراء تبيّناً وإسناداً
__________
(1) مزيدة من (ت 6) .(14/50)
إلى وقت اليمين. وإذا مضى قرء واحد، فهل نحكم بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين.
8967- وفي هذا المقام وقفة على الناظر؛ فإنا إن ذكرنا تردّداً في المسألة الأولى: وهي إذا قال: "إن كنت حاملاً، فأنت طالق" - في أن وطأها هل يحل بقرء واحد، فسببه أن الأصل الحِل، ونحن نبغي علامةً على البراءة، فأما الحكم بوقوع الطلاق بقرء واحد، فبعيد، وليست النفس خالية عن التردد في الحكم بوقوع الطلاق بعد ثلاثة أقراء، فما الظن بالقرء الواحد؛ فإن الرجل إذا طلق امرأته، فأصل الطلاق البتُّ، [ولذلك] (1) حرمت الرجعية، فإن نحن أحللنا الرجعية بعد ثلاثة أقراء للأزواج، فسببه مضي علامات البراءة بعد الطلاق (2) ، وهاهنا الطلاق واقع بالعلامات عند الأصحاب.
ولكن هذا الذي ذكرناه توسّع في الكلام؛ فإن الذي رأيناه للأصحاب أنه إذا مضت ثلاثة أقراء، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن الأقراء علامة على براءة الرحم، وعلى هذا بنينا انقطاعَ الرجعة [وبينونةَ] (3) الرجعية وحِلَّ نكاحها لغير المطلّق، وكان من الممكن أن نأمرها بالتربص إلى انقضاء أكثر مدة الحمل (4) ، فإذا قضى الشرع بإحلالها بناء على علامة البراءة، فيقع القضاء بوقوع الطلاق بناء على علامة البراءة، وقد عَلَّق الطلاقَ على عروّ رحمها عن الولد، إذ قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا قامت علامة الاستبراء بقرء أو أقراء قَبْل اليمين، فهل نحكم بوقوع الطلاق كما (5) علقه بالحيال؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما.
ومما يجب ترتيبه على ذلك أنه إذا قال لامرأته: إذا برىء رحمك فأنت طالق، يجب تخريج هذا على ما ذكرناه من مضي القرء والأقراء، ويجب القطع بأنه إذا مضت ثلاثة أقراء والزوج مجتنبها، فيقع الطلاق، وفي القرء الواحد الخلاف.
8968- ولو قال: إن استيقنت براءة الرحم، لم نقض بوقوع الطلاق ما لم يمض
__________
(1) في الأصل: وكذلك.
(2) ت 6: طلاق.
(3) في الأصل: وتبين به.
(3) أكثر مدة الحمل: أي أربع سنوات.
(5) كما: عندما.(14/51)
أكثر مدة الحمل، ونعود إلى التنبيه مرة أخرى، ونقول: بنى الأصحاب وقوع الطلاق على حكم الشرع بأن الأقراء دالة على براءة الرحم، وذلك حكم مقتفىً، وتعبد متبع بعد وقوع الطلاق، وكنت أود لو طلبنا في تعليق الطلاق يقين الصفة؛ فإن الأيمان مبنية على معاني الألفاظ، ولا فرق بين أن يقول القائل: إن قدم زيد، فأنت طالق، [وبين أن يقول: إن استيقنت قدوم زيد، فأنت طالق] (1) ، فتحقيق القدوم مطلوب، وإذا قال: إذا استيقنت حيالك، فأنت طالق، فوقوع الطلاق بثلاثة أقراء محال، فإذا قال: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فالحكم بوقوع الطلاق من غير استيقان الحيال بعيد عن موجب الأيمان، وقضايا الألفاظ. وقد وجدت لشيخنا (2) ما يدل على هذا، فلذلك عدت إليه، والعلم عند الله تعالى.
8969- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا قال لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ثم مرّ بها ثلاثة أشهر، ولم تر دماً، فإن كانت من ذوات الأقراء، لم نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا لا نحكم بأن عدتها تنقضي بالأشهر لو كانت مطلَّقة، ولو كانت على سن الحيض ولكن لم تحض، وقد قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، ومضت بها ثلاثة. أشهر، فالأشهر في حق هذه عدةٌ بعد الطلاق، مسلِّطةٌ على التزويج، فإذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً [أو كنت حائلاً] (3) ، فأنت طالق، فقياس قول الأصحاب وقوع الطلاق. وهذا على نهاية البعد؛ فإن مضي الأشهر الثلاثة أو مضي شهرٍ واحدٍِ على طريقةٍ أخرى يُفضي إلى الحكم بوقوع الطلاق، مع أن الأصل بقاء النكاح، والطلاقُ لا يقع بالشك.
ثم قال الأصحاب: إذا حكمنا بوقوع الطلاق بعد مضي ثلاثة أقراء في ذوات الأقراء، فأتت بولد بعد ذلك لأقل من ستة أشهر [من وقت اليمين] (4) ، بان أن الطلاق الذي حكمنا بوقوعه لم يقع؛ فإنا استيقنا أنها حامل حالة عقد اليمين، والطلاق
__________
(1) زيادة من (ت 6) .
(2) لشيخنا: المراد والده.
(3) زيادة من (ت 6) .
(4) في الأصل: في وقت الطلاق.(14/52)
معلّق بالحيال. [وإذا] (1) أتت بالولد لأكثر من ستة أشهر، فإن لم يطأها بعد اليمين، قالوا نتبين أن الطلاق لم يقع أيضاً، وإن وطئها بعد اليمين وطأً يمكن إحالة العلوق عليه، ففي [نقض] (2) ما حكمنا به من الطلاق وجهان.
هذا كلام الأصحاب، وقد أتينا فيه بأكمل البيان، نقلاً وتنبيهاً على محالٌ الاحتمال. والله المستعان.
فصل
قال: "ولو قالت له: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته ... إلى آخره" (3) .
8975- صورة المسألة أن الزوجة جاءت إلى زوجها مشاجِرةً، وهي تزعم: أنك نكحت امرأة وهو يترضّاها ويأبى، ويزعم أنه لم ينكح، وهي مصرّة في خصامها، فقال: كل امرأة لي فهي طالق، وهو يبغي تصديق نفسه، فلو استثنى باللسان السائلة المشاجرة، وقال: كل امرأة لي غيرُك فهي طالق، فلا تطلق السائلة، وطُلِّقت سائرُ زوجاته سواها، وإن لم يستثنها باللسان، ولا عزلها بالقلب، فظاهر كلام الشافعي أن الطلاق لا يقع ظاهراً، فإنه قال: طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته.
فاختلف أصحابنا فذهب بعضهم إلى أن الطلاق يقع على السائلة؛ فإن قوله: كل امرأة لي، لفظٌ يعم السائلَة وغيرَها، فيجب إجراؤه على عمومه، فإذا زعم أنه خصصه، لم يقبل ذلك منه في الظاهر؛ فإنه خلاف الظاهر، وهذا القائل سلك مسلكين في نص الشافعي: أحدهما - أنه حمله على التديين والباطن، ولا يخفى على من أحاط بأصل التديين أنه إذا كان صادقاً في استثناء السائلة بنيته، لم يقع الطلاق عليها باطناً. هذا مسلك. وربما قال هذا القائل: النقل مختلٌّ، والخلل من المزني.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق لا يقع على السائلة ظاهراً، والزوج مصدَّق،
__________
(1) في الأصل: إذا (بدون واو) وت 6: وإن.
(2) في الأصل: بعض.
(3) ر. المختصر: 4/72.(14/53)
وإذا اتهم حلّف، وقد مال القاضي إلى هذا، واحتج عليه بأن قرينة الحال تصدقه فيما يدّعيه، والكلام يظهر بقرينة الحال ظهورَه بقيود المقال، وسنذكر في ذلك أصلاً ممهداً في الفروع، ومن صوره أن الرجل إذا حلّ القيد عن زوجته، ثم قال: أنت طالق، وزعم أنه أراد تطليقها عن قيدها، وإنشاطها عن عقالها، وقد جرى ذلك ظاهراً، [فهل] (1) يصدَّق في حمل لفظ الطلاق على حل الوثاق والحالةُ هذه؟ فعلى اختلاف [بين] (2) الأصحاب، وهذا يجري مهما (3) اقترن باللفظ ما يُظهر قصد (4) التديين، وسيأتي ذلك مفصلاً، إن شاء الله عز وجل.
8971- ثم ذكر القاضي كلاماً آخر بدعاً، فقال: "إذا قال: نسائي طوالق، وله أربع نسوة، ثم زعم أنه عزل واحدة منهن بقلبه، فهل نقبل ذلك منه في ظاهر الحكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُقبل؛ لأن اللفظ العام قابل للتخصيص، وإذا وجدنا جريان ذلك في الكتاب والسنة، لم نُبعِد قبولَه ظاهراً، ويُصدَّق الزوج فيه".
وهذا غريب، لم أره لغيره، ويلزم على مقتضاه أنه إذا قال: عبيدي أحرار، ثم
__________
(1) في الأصل: أنها تصدق.
(2) في الأصل: من.
(3) مهما: معناها هنا (إذا) ، وهذا المعنى غير منصوص في المعاجم. وهذا الاستعمال جاء في كتاب (العين) للخليل بن أحمد حين قال: "إذا سئلتَ عن كلمة، وأردت أن تعرف موضعها، فانظر إلى حروف الكلمة، فمهما وجدت منها واحداً في الكتاب المقدّم، فهو في ذلك الكتاب" انتهى من مقدمة كتاب العين، نقلاً عن رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس) للشيخ أحمد شاكر، وهي مستلّة من مقدمته لتحقيق وشرح (جامع الترمذي) وقد اعتنى بها فأفردها بالنشر وعلق عليها أخونا الكريم العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة- برّد الله مضطجعه، فكان من تعليقاته النفيسة، تعليقُه في هذا الموضع على كلام الخليل بن أحمد هذا، واستعمال (مهما) بمعنى (إذا) فقال:
"قول الخليل هنا: (فمهما) ، لفظُ (مهما) هنا بمعنى (إذا) ، وهذا المعنى لم يذكر في (المعاجم) ، ولم أر له شاهداً في كلام العرب فيما وقفت عليه، والعمدة في كلام اللغويين ما يروونه لا ما يلفظونه. وقد وجدت هذا الاستعمال في كلام الإمام الغزالي في "المستصفى من علم الأصول" اهـ. (ر. تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: ص 47، وهامش رقم (1) من نفس الصفحة) .
(4) ت 6: معنى التديين.(14/54)
زعم أنه لم يرد بالعبيد إلا ثلاثة منهم واستثنى الباقين، فيجب خروج تصديقه ظاهراً على هذا الخلاف، ولم يفرض هذه المسألة في قرينةِ حالٍ؛ حتى يستمر تخريجها على رفع القيد مقترناً بقوله: أنت طالق عن وثاق، ثم قال القاضي لو قال: نسائي طوالق، وزعم أنه عزل ثلاثاًً وبقّى واحدة، فلا يقبل ذلك منه؛ فإن الواحدة لا ينطلق عليها لفظ النساء، ولا توصف بالطوالق، ولم يذكر التفصيل فيه إذا زعم أنه استثنى ثنتين وأراد بالطلاق ثنتين. [ولعلّنا] (1) نذكر هذا الجنس في مسائل الاستثناء.
وبالجملة قبول الخصوص مع صدور اللفظ عاماً من الزوج في هذا (2) الحكم غلطٌ عندنا صريح، وإنما صار إلى هذا من صار؛ من ظنه أن تخصيص العموم سائغ مطلقاً، وليس كذلك؛ فمن قال: نسائي لم يحمل هذا إلا على جميعهن، ولا يجوز تقدير التخصيص في هذا المقام، ومن أحاط بمسالك كلامنا في الأصول، لم يخف عليه دَرْكُ هذا، ولا مطمع في دركه (3) هاهنا. ثم [من] (4) أخذ من ظاهر كلام الأصوليين أن العموم يخصص، وجب معه مطالبة المخَصِّص بالدليل، فكان يجب أن يحمل هذا على طلب قرينة مُصدِّقة.
فهذا منتهى القول في الفصل.
8972- وقد ضَرِي أئمةُ المذهب بحكاية شيء عن بعض المعتبرين في هذه المسألة (5) : قيل: إن رجلاً من أئمة المذهب ب (طَبَسَ) (6) كان يستقرىء (7) إلا أن
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) ت 6: في ظاهر الحكم.
(3) ت 6: ولا مطمع في تقرير ذلك هاهنا.
(4) سقطت من الأصل.
(5) المسألة: المراد مسألة الإمام الشافعي، التي دار عليها الفصل، وهي قوله رضي الله عنه: "ولو قالت له: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، طلقت امرأته التي سألته، إلا أن يكون عزلها بنيته".
(6) طَبَس: مدينة في برّية بين نيسابور وأصبهان وكرمان (معجم البلدان) .
(7) يستقرىء: أي يطلب ممن يقرأ عليه أن يقرأ عليه عبارة الشافعي المشار إليها آنفاً هكذا: إلا أن يكون عزلها.(14/55)
يكون عزلها (بثُنْيته) ، والثُّنية هي الاستثناء، وكان يرى أن السائلة تُطلّق إلا أن تُستثنى لفظاً.
وهذا الذي ذكره كلام منعكس عليه؛ فإنه نسب الأصحاب إلى التصحيف، والتصحيف مع اعتدال الحروف قد يقع سيّما إدْا قرب المعنى، فأما الغلط في الهجاء فممّا يوبّخ به صبيان المكاتب، وقول القائل: (بثنيته) خمسة أحرف سوى الضمير، وقوله بنيّته أربعة أحرف، فلا حاصل لما [جاء] (1) به، وليس كلُّ ما يهجِس في النفس يُذكر.
8973- وقد جرى في هذا الفصل ما ينتظم أصلاً، وشرطنا أن نذكر في كل فصل ما يليق به، ثم نذكر -إن شاء الله عز وجل- في آخر الكتاب فصلاً ضابطاً، يقع جمعاً للجوامع وربطاً للأصول اللفظية.
فمما انتظم في هذه المسألة أن تخصيص العموم إذا جرى في الضمير، امتنع معه وقوع الطلاق باطناً، وهل يقبل ذلك ظاهراً إذا اقترن باللفظ قرينة كسؤال السائلة في لفظ الكتاب (2) ، ففيه التردد الذي ذكرناه للأصحاب، وإن لم تكن قرينة، فادّعى اللافظ باللفظ العام التخصيص، فقد ذكر القاضي في قبول ذلك وجهين، وأسلوب كلامه أن الطلاق صريح في حكم النص، فلا يقبل في الظاهر ما يخالفه، والعام ظاهرٌ في وضع الشرع ليس بنص، فهل يُقبل من اللافظ به تخصيصُه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه.
وإذا أطلق الزوج كناية ولم ينو شيئاً، لم يقع شيء، فالألفاظ إذاً في طريقه: نصٌّ: لا يُقبل في الظاهر ما يخالفه.
[وظاهر] (3) : لو أطلق، نفذ كاللفظ العام، وإذا ادّعى مُطلِقه تخصيصَه، ففي قبوله وجهان.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) الكتاب: المراد به هنا المختصر.
(3) في الأصل: فظاهر.(14/56)
وكناية لا يسمَّى لفظاً ظاهراً في اقتضاء الطلاق، فلا يُعْمَلُ مطلقُه.
وهذا ترتيب حسن، ولكن العموم في المقام الذي ذكره في حكم النص عند المحققين، كما نبهنا عليه.
وسنعود إليه في مسائل الطلاق، إن شاء الله تعالى (1) .
***
__________
(1) جاء هنا في نسخة الأصل (ت 2/328) ما نصه:
تم الجزء الثالث والعشرين من كتاب نهاية المطلب يتلوه -إن شاء الله تعالى- في الجزء الرابع والعشرين
باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وسلم.(14/57)
باب ما يقع من الطلاق وما لا يقع (1)
قال الشافعي: "ذكر الله الطلاق في كتابه بثلاثة أسماء ... إلى آخره" (2) .
8974- هذا الفصل مشتمل على بيان صرائح الطلاق وكناياته، فنقول: الألفاظ التي تستعمل في الطلاق تنقسم إلى الصريح والكناية، فالصريح ما يَعْمل من غير افتقارٍ إلى النية، وهو مُنحصر في ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأخذ الشافعي الصرائح من التكرر في ألفاظ الكتاب، قال الله: {فَارِقُوهُنّ} [الطلاق: 2] ، وقال: {سَرِّحُوهُنّ} [البقرة: 231] وقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وتكرُّرُ لفظ الطلاق في الكتاب ظاهرٌ، وأشهر هذه الألفاظ وأظهرها الطلاق، فهذا الذي جرى في الجاهلية والإسلام، وأطبق عليه معظم طبقات الخلق، ولم يختلف في كونه صريحاً العلماء، ومذهب أبي حنيفة (3) أن الصريح هو الطلاق لا غير، وقد حكى العراقيون قولاً قديماً للشافعي موافقاً لمذهب أبي حنيفة في أن الصريح لفظ الطلاق لا غير، والفراقُ والسراحُ ملتحقان بأقسام الكنايات.
ثم الألفاظ الصادرة عن الطلاق صرائحُ: جرت أسماء، أو أفعالاً، فإذا قال: أنت طالق، أو طلقتك، أو أنت مطلَّقة، وقع الطلاق.
وإذا جرينا على الأصح، وقضينا بأن الفراق والسراح صريحان، فلو قال: فارقتك أو سرحتك، فالذي جاء به صريحٌ.
ولو قال: أنت مفارَقة أو مسرَّحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن اللفظ صريح، كما لو قال: أنت مطلقة.
__________
(1) نبدأ من هنا العمل على نسخة وحيدة، لا وجود لغيرها، ومن الله وحده نستمد العون، وهي نسخة (ت 6) من الورقة 26 شمال.
(2) ر. المختصر: 4/72، 73.
(3) ر. المبسوط: 6/77، البدائع: 3/106.(14/58)
والثاني - أن اللفظ كناية؛ فإن الفراق والسراح [ما] (1) ظهرا وما اشتهرا اشتهار الطلاق، ومعتمد الشافعي في إلحاقهما بالصريح جريانهما في الكتاب، ثم لم يجر ذكرهما إلا على صيغ [الأفعال] (2) ، فأما المفارقة والمسرَّحة، فلا ذكر لهما، والمطلقة مذكورة في القرآن مع شيوع لفظ الطلاق.
ولو قال لامرأته: أنت الطلاق، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنه ليس بصريح؛ فإنه غير معتادٍ، وليس جارياً على قياس اللسان، أيضاً، وكان كالمعدول عن الوضع والعرف.
ومن أصحابنا من قال: إنه صريح، لأن لفظ الطلاق، لا يطلق -كيف فرض الأمر - إلا على قصد الفراق، فإن جرى لفظٌ على خلاف ما يعرف ويؤلف، فالاعتبار بأصل الكلمة.
ولو قال لامرأته: أطلقتك، أو أنت مُطْلَقة، واستعمل صيغة الفعل أو الاسم، من الإطلاق، فهذا لم يتعرض له الأصحاب، وفيه تردد بيّن؛ فإن الإطلاق شائع في حلّ الوثاق وإطلاق الدواب عن رباطها، وإطلاق الأسرى والمحبوسين، وإخراج اللفظ عن كونه صريحاً أقربُ وأظهر عندنا في هذا منه إذا قال: أنت الطلاق؛ فإن الطلاق لا معنى له في الاستعمال إلا الفراق، بخلافه.
ومن أسرار الصرائح أن يظهر اللفظ على غرض، [ويعد استعماله في غيره نادراً] (3) وإذا كان الاستعمال في غير جهة الطلب شائعاً، أشعر هذا بالخروج عن الصرائح في الجهة المطلوبة، على ما سنذكر التحقيق في آخر الفصل، عند نجاز المنقولات.
__________
(1) في الأصل: لما.
(2) في الأصل: صيغ الألفاظ. وهو تصحيف. سوّغ لنا تغييره وتصحيحه سياق الكلام وفحواه، ثم أكد ذلك قولُ العز بن عبد السلام: "والصريح هو الطلاق والسراح والفراق، وكذلك الأسماء والأفعال المأخوذة من الطلاق، كقوله: طلقتك، أو أنت مطلقة، وكذا الفعل من السراح والفراق، وفي الاسم كقوله: أنت مسرّحة أو مفارقة وجهان" (الغاية في اختصار النهاية: جزء3 ورقة 135 يمين) .
(3) في الأصل: "ويعد استعماله وغيره قادراً" وهو تصحيف واضح. والمثبت تقدير من المحقق.(14/59)
8975- وممّا يتعلق بذلك أن الأصحاب قالوا: معنى الطلاق بالعجميّة صريح، وزعموا أن معناه: "توهشته اي". وحكى بعض المصنفين (1) عن الأصطخري أنه لا صريح بغير لسان العرب، وهذا غريب لا أصل له (2) ، وإنما اشتهر الخلاف عن الأصطخري في النكاح، كما قدمنا ذكره في الألفاظ المشتملة على ألفاظ النكاح.
ثم كان شيخي أبو محمد يقول: كل لفظةٍ معدودة من الصرائح في العربية إذا ذكر معناها الخاص بلسان آخر، فهو صريح؛ فمعنى قول القائل: أنت طالق "توهشته اي" ومعنى قوله: طلقتك "دشت بازْداشْتَم"، ومعنى فارقتك: "از تو جُدَا كَرْدَم، ومعنى سرحتك: "تُراكسيل كردم".
وقال القاضي: الصريح من هذه الألفاظ "توهشته اي"، فأما قوله: "دستت باز داشتم" فليس بصريح.
وهذا غير سديد؛ فإن قول القائل: "دشت بازداشتم" هو تفسير قوله طلقتك، وإذا كان قوله: "توهشته اي" صريحاً؛ من حيث إنه معنى قوله: "أنت طالق" فقوله: "دشت بازداشتم" هو معنى قول القائل: "طلقتك" فلا معنى لإبداء المراء في هذا. أما معنى فارقتك وسرحتك، فالظاهر أنه ليس بصريح؛ فإنا في المفارقة والتسريح على تردد، كما نبهنا عليه. وإذا اختلف الأصحاب في المفارقة والمسرَّحة مع اتحاد اللغة، فهذا في معنى المفارَقة والتسريح أظهر.
فهذا ما رأينا نقلَه، ولا بد الآن من الكلام في مأخذ الصرائح.
8976- الذي يقتضيه الفقه أن الصريح إذا لم يتعلق به توقيف وتعبد، يؤخذ من الشيوع، ومحاولةِ أهل العرف حصرَ اللفظ في مقصودٍ، فإذا اجتمع هذان المعنيان، ترتب عليهما ابتدار المعنى إلى الأفهام؛ فإن التردد ينبت من إشكال اللفظ في نفسه،
__________
(1) بعض المصنفين: المراد به أبو القاسم الفوراني كما أشرنا مراراً من قبل، والتعبير عنه بهذا الأسلوب دائماً، هو نوع من الحط عليه، على حد تعبير ابن خلكان.
(2) يضغف الإمامُ الفورانيَّ في هذا النقل عن الإصطخري، ويصفه بالغرابة، وهذا ما قاله السبكي، وأشرنا إليه من قبل.(14/60)
ومن جريانه في معانٍ، فإذا ظهر لفظٌ على إرادة معنى واحد، فهو يُفهِمه ويُعلِمه، وحكمنا في مساق الفقه أن من صدر منه لفظ يبتدر فهمُ الناس معناه، فإذا زعم أنه أراد خلاف ما تبتدره الأفهام، كان ما أضمره خلافَ ما أظهره، وعند ذلك تترتب مسائل التَّديين؛ فإنّ ما يُدَيّن المرء فيه يتعلق بمقتضى اللفظ، ولكنه خلاف ما يظهر منه، ويندر من ذي الجدّ أن يطلقه على خلاف معناه المستفيض إلا أن يريد إلغازاً أو تعقيداً، ثم حُكمنا أنا لا نقبل في الظاهر خلاف الظاهر، ولا نصدِّق من يبدي إضماراً على خلاف ما أظهره، هذا معنى الصريح.
وقد يثبت في النكاح تعبّد قررناه في بابه، فلا ينبغي أن يكون على ذلك الباب التفات.
وقد أطبق الفقهاء قاطبة على أن المعتبر في الأقارير والمعاملات إشاعة الألفاظ وما يفهم منها في العرف المطرد، والعباراتُ عن العقود تُعنَى لمعانيها، وألفاظ الطلاق عبارات عن مقاصد، فكانت بمثابتها، وموجب هذه الطريقة أن لفظة أخرى لو شاعت في قُطْرٍ وقومٍ شيوع الطلاق -كما قدمنا معنى الشيوع- فهو صريح، وعلى هذا الأصل قول القائل لامرأته: أنت عليّ حرام، أو حلال الله عليّ حرام، ملتحق في قُطرنا وعصرنا بالصرائح.
8977- وذهب ذاهبون من الأصحاب إلى أنا لا نزيد على الألفاظ الثلاثة: الطلاق، والفراق، والسراح. ولا نظر إلى الظهور والشيوع، وهذا القائل اعتقد أن مأخذ الصرائح يتعلق بالتعبدات والتلقِّي من لفظ الكتاب وتوقيف الشارع، وقد يعتضد في ذلك بإلحاق الشافعي الفراق والسراح بالصرائح، [وليست أكثر اختصاصاً] (1) من
__________
(1) عبارة الأصل: "وليس أنا اختصاص من الباين ... " وواضحٌ أن فيها خللاً لا ندري سببه، أهو تصحيف وتحريف أم خرم، أم هما معاً.
والصواب الذي لا يحتمل السياق غيره، يؤديه -إن شاء الله- هذا المثبت بين المعقفين، تصرفاً من المحقق، فالمعنى أن الشافعي رضي الله عنه ألحق الفراق والسراح بصريح لفظ الطلاق، مع أن البائن والبتة، والبتلة، والخلية ليست أقل اختصاصاً بالطلاق -في لسان العرب- من الفراق والسراح، فدل ذلك على أن مأخذ الصرائح التلقي من لفظ القرآن، وتوقيف الشارع.(14/61)
البائن، والبتة (1) ، والبَتْلَة (2) ، والخليّة، في لسان العرب فإذا خصّصها الشافعي بالإلحاق وبالصرائح، أشعر هذا برجوعه إلى مورد الشرع.
وهذا يتطرق إليه نوعان من النظر: أحدهما - أنا لا نُبعد شيوع الفراق والسراح في العرب في بلادها، وهذا فيه بعض النظر، فإن الشافعي تعلق بالقرآن. والوجه الآخر من النظر - أنه ليس في إلحاق الفراق والسراح بالصّرائح ما ينفي التعلق بالإشاعة؛ إذ لا يمتنع أن يقول القائل: للصرائح مأخذان: أحدهما - الجريان في ألفاظ الشرع.
والثاني - الشيوع في الاستعمال، كما سبق تفسيره.
وفي [النفس] (3) شيء من الفراق والسراح؛ فإنه لم يظهر لنا من الخطاب قصد بيان لفظ التسريح والمفارقة، ولكن جرى معنى ترك النسوة وحل ربقة النكاح في مقابلة ذكر الإمساك، فإنه قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ففهم المخاطبون أن الزوج مأمور بأن يمسك المرأة أو يخلّي سبيلها، فالغرض الذي سيق الخطاب له ترديد الزوج بين هذين المقصودين، وليس من الغرض الظاهر أن يقول لها: سرحتك، وهو بمثابة قول القائل: أكرم هذا السائل، أو سرحه. ليس المراد بهذا: قُلْ له: انسرح. وكذلك القول في فارقوهن. وأما الطلاق، فقد اشتملت الآي على الاعتناء بألفاظها وعددها، ويقوى على هذا المسلكِ القولُ القديمُ الموافق لمذهب أبي حنيفة في حصر الصريح في لفظ الطلاق.
وتحصَّل من مجموع ما ذكرناه تردّدُ الأصحاب في مأخذ الصريح، كما أوضحناه.
8978- وحكى القاضي عن شيخه القفال أنه كان يقول في لفظ التحريم: إذا قال الرجل: حلال الله عليّ حرام، ونوى طعاماً صُدّق، وإن أطلقه وكان أَنِساً بالفقه عالماً
__________
(1) البتة: من البت والقطع، فقوله لامرأته: أنث بتة أي مقطوعة، وبتّ طلاق امرأته أي طلقها طلاقاً لا رجعة فيه (المعجم والمصباح) .
(2) البتْلة: من البَتْل وهو القطع: بَتَله بتلاً: قطعه، ويمين بَتْلة: قاطعة، وصدقة بَتْلة: منقطعة عن صاحبها خالصة لوجه الله. (المعجم) ، فالمعنى هنا "أنت بتلة" أي مقطوعة العقد والصلة.
(3) في الأصل: "التفسير" وهو تصحيف واضح.(14/62)
بأن الكناية لا تعمل إلا مع النية، فإذا أطلق اللفظ ولم ينو، لم يقع الطلاق، فإن كان [عاميّاً] (1) ، سألناه عما سبق إلى فهمه من إطلاق عامّي آخر لهذه الكلمة، فإن زعم أنه يسبق إلى فهمه الطلاق قيل له: لفظك محمول على فهمك لو كان اللافظ غيرك.
وهذا توسط بين الصريح والكناية وضربٌ من التحكم.
8979- ونحن نبُدي في هذا أصلاً ضابطاً ونقول: اللفظ الصريح المتفق عليه الشائع في طبقات الخلق هو الطلاق، فحكمه أن يعمل مطلَقُهُ ممن صدر منه، ومن أبدى فيما زعم عقداً ونيّة بخلاف موجب اللفظ، التحق بباب التديين.
هذا قسم.
ويعارضه الكناية التي سنصفها، وهي لفظة محتملة غير شائعة في الطلاق، فسبيل هذا القسم ألا يعمل اللفظ إلا مع النية، ومطلَقُه لاغٍ، والرجوع إلى قصد المطلِق.
ويتخلل بين الصريح الّذي قدمناه وبين الكناية قسم ثالث يعمل مطلَقه عند الأصحاب من غير نيّة، فإذا زعم صاحب اللفظ أنه قصد خلاف الظاهر، فقد يقبل ذلك منه ظاهراً، ويكون في قبوله خلافٌ.
وبيان ذلك بالمثال أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أحسن الطلاق، فمطلَق هذا محمول على الطلاق السُّني، وإن لم ينو الزوج الطلاق السّني، ولو زعم أنه أراد بالأحسن تعجيل الطلاق في زمن الحيض، فهو مقبول منه، فهذا يحمل مُطلَقه على محملٍ، ويجوز العدول عنه بالقصد. وسيأتي لهذا نظائر.
ثم تنقسم المسائل: فقد يتفق الأصحاب على إعمال اللفظ على جهةٍ عند الإطلاق، ويختلفون في أن تلك الجهة هل تتغير بالقصد المخالف لها، وقد يتفق الأصحاب على إعمال القصد على وجه ويختلفون في الإطلاق، وهو مثل قول القائل: أنت طالق طالق طالق، فلو زعم أنه أراد التأكيد، قبل منه، ولم يقع إلا طلقة واحدة، ولو قال: لم أقصد التأكيد، ولكن أطلقت هذه الألفاظ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نحكم بوقوع الثلاث إذا كانت المرأة مدخولاً بها.
__________
(1) في الأصل: عاماً.(14/63)
والقول الثاني - أنه لا يقع إلا واحدة.
ولكل أصلٍ من هذه الأصول ضابطٌ سيأتي مشروحاً -إن شاء الله- وإنما ذكرنا هذا المقدارَ لغرضٍ، فنقول: الطلاق لا يصرفه عن معناه إلا هازل، أو منفردٌ بقصد إلغازٍ، ولفظ التحريم قد يجرى استعماله مصروفاً عن قصد الطلاق، فإذا أُطلق، فهو شائع في قصد الطلاق، فينقدح [فيما] (1) هذا سبيله أن يصدّق في الظاهر من زعم أنه نوى غير الطلاق. وإن قال: لم أنو شيئاً، انقدح فيه الحمل على موجب الألفاظ.
وانتظم من هذا أن ما استمرت الاستفاضة فيه كلفظ الطلاق، فلا معدل عنه إلا على حكم التديين، وما شاع شيوعاً بيّناً، ولكن قد يعتاد بعض الناس استعماله على قصدٍ آخر، فما كان كذلك، وهو زائد على الألفاظ الثلاثة، فهو محلّ تردد الأصحاب: فمنهم من لم يلحقه بالصرائح، ولم يُعمل مطلَقه، ومنهم من ألحقه بالصرائح، وجعله كلفظ الطلاق. ومنهم من فصَّل بين أن يقصد غير الطلاق، وبين أن يُطلقه، كما حكيناه عن القفال رضي الله عنه، ثم على رأيه إن صار لفظ التحريم في الشيوع كالطلاق، التحق بالطلاق، فهذا وجه في الصرائح.
8985- فأمّا الكنايات فقد وصفناها ومن ضرورتها أن تكون مشعرة بمعنى الطلاق، ولكن لا تكون شائعة على التفسير المقدم، فما كان كذلك، افتقر إلى النية ولغا مطلَقُه، وهذا كالخليّة (2) ، والبرية (3) ، والبائنة (4) ، وما يشبهها وقد قسمها الأصحاب إلى الجلية وإلى الخفية، فالجلية منها ما ظهر معناها، وقد يجري
__________
(1) في الأصل: فيها.
(2) الخلية: أصلها مأخوذ من ناقة خليّة، أي مطلقة بغير عقال، ترعى حيث شاءت. ثم قيلت في طلاق المرأة (المصباح) وفي غريب ألفاظ الشافعي: معناها أنها خلت منه وخلا منها، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. (فقرة: 717) من الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي.
(3) البرية: مسهلة الهمزة: "أي برئت منه وبرىء منها". قاله الأزهري (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 718) .
(4) البائنة: الأفصح البائن، وهي من بان الشيءَ إذا فصله وقطعه، فهو بائن، ومنه: بان صاحبه إذا فارقه وهجره (المعجم) و (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) .(14/64)
استعمالها جرياناً ينحط عن الاستفاضة والحصر في معنى الطلاق، وما ذكرناه من الألفاظ من الجليّات ومنها: الخلية، والبريّة.
والخفيةُ كقول القائل لامرأته: اعتدي، واستبرئي رحمك، والحقي بأهلك، وحبلُكِ على غاربكِ، ولا أَنْدَه سرْبَك (1) ، واغربي، واذهبي، وتجرّعي وتجردي، وما في معناها، مما يشتمل على تقديرٍ أو استعارةٍ. والتقدير في مثل قولك: اعتدّي: معناه طلقتُ، فاعتدي، والاستعارة في مثل قولك: تجرّعي، أي معناه: تجرعي مرارة الفراق، وكذلك حبلك على غاربك، وما في معناه.
وإذا ذكر لفظة ليس فيها إشعارٌ بمعنى الطلاق، وزعم أنه نوى الطلاق، لم يقع شيء؛ لأن اللفظ غير مشعرٍ، والنية المجردة لا تتضمن وقوع الطلاق، وقد يتردد الأصحاب في بعض الألفاظ، فإذا قال لها: كلي، أو تنعمي، فهذه الألفاظ لا إشعار فيها، ولو قدّر مقدر فيها معنى الطلاق على بُعدٍ، عُدَّ ذلك من التعقيد الذي لا يتعلق بأصناف البيانا، ودرجاتِ الألفاظ المستعملة في المقاصد.
ولو قال: اشربي، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق وإن نواه. ومن أصحابنا من قضى بوقوع الطلاق حملاً على تقدير: اشربي كأس الفراق، وهذا بعيد.
فهذا بيان مراتب الألفاظ في عقد الباب.
ولو قال لامرأته: لستِ لي بزوجة، فهذا إقرار صريح بنفي الزوجية، كما سنفصله في فروع الطلاق. ولو قصد به إنشاء الطلاق، فالمذهب أنه يقع، لإشعار اللفظ بذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن اللفظ صريح في الإقرار والإخبار، وهذا ليس بشيء.
__________
(1) في الأصل: ولا أندره سربك، والتصويب من الشرح الكبير والروضة.
ومعنى لا أنده سربك: أي لا أزجر إبلك، من نده الرجل: صات، ونده البعيرَ ونحوه: زجره وطرده عن أي شيء بالصياح، وكان من طلاقهم من الجاهلية أن يقول الرجل: "اذهبي فلا أنده سربك" (المعجم. وفي الزاهر: "لا أنده سربك، أي لا أرعى إبلك ولا أردها عن مرعى تريده، لأنك لست لي بزوج، فاذهبي مع مالك حيث شئت".(14/65)
8981- فإذا تبين أن الكنايات لا تعمل بأنفسها، فمذهب الشافعي أنها لا تعمل مع القرائن أيضاً من غير نيّة، والرجوعُ في النية إلى الزوج، فإذا سألت الطلاق، فقال: "أنت بائن"، وظهر من مخايله أنه قصد إسعافها، فلا تعويل على ذلك عند الشافعي، وإذا قال: لم أقصد الطلاق، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك الكلام فيه إذا أجرى الزوج بعض هذه الألفاظ في حالة الغضب، وقد ظهرت على مخايله التبرم بالمرأة، ومحاولة الخلاص منها، فالرجوع مع ذلك كلِّه إلى نيته.
وخالف أبو حنيفة (1) على تفصيل له في الألفاظ، فأعمل قرائن الأحوال، وقرينة السؤّال.
فإن قال قائل: قد ذكرتم في مأخذ الأصول (2) أن قرائن الأحوال تثير العلوم الضرورية، فإذا اقترنت تلك القرائن بألفاظ الزوج، فكيف ترون الرجوع إلى نيَّة الزوج، وقد علمتم قصده بقرائن الحال؟ قلنا: لا ينتهي الأمر في قرائن الأحوال في مأخذ الفقه إلى هذا المنتهى، وهي متفاوتة جداً، وليس من قواعد الفقه فتح أمثال هذه الأبواب؛ فإن مُدركَ قرائن الأحوال في القصود عسرٌ جداً، فحسمنا هذا الباب حسماً.
وقد تُعتمد القرائن في تحمل الشهادات مع ابتناء أمرها على طلب التحقيق، فالذي يشاهد صبياً يمتص ثدياً فيه لبنٌ قد يشهد على ارتضاعه، ولا تعويل على القرائن فيما نحن فيه، وسبب ذلك أن الصبي لا تردد فيه إذا كان يمتص ثدياً فيه لبن، ومخاطِب زوجته لا ينتهي إلى منتهى يحكم على قصده قطعاً، وقد يشهد بذلك اختياره كنايةً مع إمكان التلفظ الصريح. فهذا ما يجب التنبيه فيه.
8982- ثم إذا بان أن النية لا بد منها، فلو قدّم النيةَ، ولما تلفظ، لم يكن ناوياً مع اللفظ، لم يقع شيء؛ فإن النية منقطعة عن اللفظ، واللفظُ متأخر عن النية، ولو قدّم اللفظ، ثم نوى، فالجواب كذلك.
__________
(1) ر. البدائع: 3/106، تبيين الحقائق: 2/215.
(2) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 503.(14/66)
ولو استفتح النية مع اللفظ وتمت نيته، وبقي من لفظه شيء، فظاهر المذهمب وقوعُ الطلاق. ومن أصحابنا من قضى بأنه لا يقع.
ولو استفتح اللفظ عريّاً عن قصد الطلاق، ثم أتى بالنية في أثناء اللفظ، وانطبق آخر النية على انتجاز اللفظ، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن الطلاق يقع؛ نظراً إلى وقت انتجاز اللفظ. والثاني - أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم ينشىء اللفظ على قصد الطلاق، فقد مضى صدرٌ منه عرياً عن قصد الطلاق، وباقي اللفظ لا يستقل بنفسه فتجرّدت النية عن اللفظ.
ولو فرضنا إنشاء النية واللفظ، ثم انتجز اللفظ وما تمت النية بعدُ، لم يقع الطلاق.
وقد ذكرنا أمثال هذه الصور في نية الصّلاة مع تكبيرة الإحرام، وبين الأصلين فرق يتنبه له الفقيه، وهو أن نية الصلاة ليست قصداً إلى معنى التكبير، ونيةُ الطلاق قصدٌ مختص بمعنى اللفظ واللفظ دونه لا يستقل، والنية وتكبيرة الإحرام ركنان في الصلاة [وليست] (1) النية قصداً إلى خاص معنى التكبير. ثم سرُّ النية القصدُ، والقصد لا يطول، [وقد] (2) يفرض فيه تردد إلى التجرُّد، ومن كان هذا على ذُكره استغنى عن كثير من تطويلات الفقهاء، ثم القصد خصلةٌ، فلا يتصور انبساطها، واللفظ منبسط، فحق الاقتران أن يُقرن اللافظ القصدَ بأول اللفظ، ثم يُديم ذكرَ القصد لا عينَه، والذكر العلمُ، وكذلك الحفظ.
8983- وإذا أطلق الزوج لفظاً في الكناية، وزعم أنه لم ينو الطلاق، فالقول قوله، وللمرأة تحليفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلها أن تحلف، فإذا حلفت يمينَ الرد، قُضي بوقوع الطلاق، فإن قيل: على ماذا يُحمل يمينها ولا اطلاع لها على قصد الزوج؟ قلنا: معتمد يمينها قرائن الأحوال والمخايل الدالة على القصود، فلها أن تعتمد أمثال ذلك، وتبني يمينها عليه، وسنوضح في الدعاوى والبينات أن الأيمان تعتمد ذلك.
__________
(1) في الأصل: ليست (بدون واو) .
(2) في الأصل: قد (بدون واو) .(14/67)
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق من وثاقٍ ... إلى آخره" (1) .
8984- كل ما لو ادعى الزوج القصدَ فيه،؛ دُيّن (2) ، ولم يُقبل في الظاهر، فإذا وصله بلفظٍ حُمل أول اللفظ عليه، فإذا قال: أنت طالق عن وِثاقٍ، لم نقضِ بوقوع الطلاق، بهذا اللفظ؛ فإن الكلام منتظم، وأول النطق مربوط بآخره، وهذا يضاهي أصلَ الاستثناء، وحكمنَا بتصحيحه، كما سيأتي، وكذلك إذا قال: فارقتك إلى المسجد، أو سرحتك إلى أهلك، حتى تتنزهي وتعودي، فكل ذلك مقبول.
ومما ذكره الفقهاء أن الرجل إذا أطلق لفظةً صريحةً ونوى ما لا يقبل، [فهو لا يقبل] (3) ظاهراً، ولكن يُديَّن الزوج فيه، فلو ادعى الزوج شيئاً من هذا، لم يقبل قوله، ولو قال لامرأته: أنت تعلمين ذلك مني، فهو لغو؛ فإنها وإن صدّقته فيما ادعاه، فالطلاق لا يندفع رعايةً لحق الله تعالى، فلا مساغ للتحليف في هذا المجال؛ فإن الغرض من عرض الأيمان أن يرعوي المستحلَف أو يقرّ، [وقد] (4) ذكرنا أن إقرار المرأة لا أثر له، فلا معنى لتحليفها.
فصل
قال: "ولو قال لها: أنت حرة يريد الطلاق ... إلى آخره" (5) .
8985- غرض الفصل أن لفظ الإعتاق كنايةٌ في الطلاق، ولفظ الطلاق كناية في الإعتاق، وأبو حنيفة (6) يمنع إعمال الطلاق في الاعتاق، ومعتمد المذهب أن الكناية
__________
(1) ر. المختصر: 4/73.
(2) دُيّن: أي ملّك أمر دينه، وتُرك وما يدين الله به بينه وبين نفسه.
(3) زيادة من المحقق لا ستقامة الكلام.
(4) في الأصل: قد: بدون واو.
(5) ر. المختصر: 4/74.
(6) ر. رؤوس المسائل: 416 مسألة: 285، إيثار الانصاف: 186.(14/68)
تتطرّق إلى البابين جميعاً، ومعنى الكناية لفظٌ محتمل مشعرٌ كما قدمناه، وجملة كنايات الطلاق والعتاق مشتركة في البابين.
8986- والذي يستثنى من الإشعار أن الرجل إذا قال لامرأته: "أنت طالق" وزعم أنه نوى ظهاراً، فالطلاق مشعرٌ بمعنى الظهار، وإذا قال لها: أنت عليَّ كظهر أمّي، ونوى بذلك الطلاق، فاللفظ مشعر بمعنى الطلاق، ولا يعمل واحد من اللفظين في مقصود الثاني.
والضابط فيه: أن اللفظ إذا كان صريحاً في بابه، ووجد نفاذاً، فلا سبيل إلى ردّه عن العمل فيما هو صريح فيه، وإذا كان يعمل لا محالة فيما هو صريح فيه، فيستحيل أن يكون صريحاً نافذاً في أصله ووضعه، ويكون كناية منويَّة في وجه آخر.
فإن قيل: إن كان يبعد صرف الصريح عن معناه، فأيُّ بعدٍ في الجمع (1) بين المعنيين؟ قلنا: اللفظة الواحدة إذا كانت تصلح لمعنيين، فصلاحها ليس يقتضي اجتماع المعنيين، وكذلك القول في كل لفظ مشترك سبيل صلاحه للمعاني أن يصلح لكل واحد منهما على البدل، فأما أن تكون مجتمعة اجتماع المسميات تحت صيغة الجمع، أو تحت لفظٍ عام، فلا. فإذا تعين إجراء اللفظ صريحاً، امتنع إجراؤه في معنى آخر، فإذا استعمل الطلاق في العتاق، فليس الطلاق صريحاً واجداً محلّه حتى ينفذ، وكذلك العتاق، إذا استعمل في الطلاق.
8987- ولو قال لعبده: اعتدَّ واستبرِ رحمك، وزعم أنه نوى العتق، لم ينفذ؛ فإن هذا اللفظ في حكم المستحيل في حقه، وقد ذكرنا أن الكنايات لا بد وأن تكون مشعرةً بالمعنى المقصود.
وإذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: اعتدي واستبرئي رحمك، وزعم. أنه نوى الطلاق، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يقع الطلاق؛ لأنها إذا لم تكن ممسوسة، فليست من أهل العدّة. والأظهر - وقوع الطلاق؛ فإنها محل العدة على الجملة، إذا توافت شرائطها، والإشعار كافٍ، وهو بيّنٌ.
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة: هكذا "فأي بعد في المعنيين الجمع بين المعنيين".(14/69)
ولو قال لأمته: اعتدي واستبرئي رحمك، فلا [شك] (1) أنه إذا نوى العتق، عَتَقت. ولو قال لأَمَته: أنت عليّ كظهر أمي، ونوى العتق، فالظاهر أنها تَعتِق، وذكر القاضي وجهاً - أنها لا تعتق؛ فإن هذا اللفظ بعيد عن الإشعار بالعتق.
وهذا لا أصل له، والوجه القطع بوقوع العتق؛ تعويلاً على الأصول التي مهدناها.
8988- وقد يعترض على مضمون هذا الفصل أن الرجل إذا قال لأمته: أنت علي حرام، فمطلق هذا صريح في اقتضاء كفارة اليمين، كما سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله تعالى، ثم لو نوى به العتق، نفذ العتقُ، وهذا يَرِدُ على قولنا: الصريحُ إذا وَجَد نفاذاً، لم ينتقل عنه، وسأقرّر هذا على وجهه في فصل التحريم، إن شاء الله تعالى، وهو بين (2) أيدينا.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق واحدةً بائناً ... إلى آخره" (3) .
8989- مضمون هذا الفصل أن البينونة الباتّة لملك النكاح منوطةٌ عندنا بوقوع الطلاق مع انتفاء العدة (4) ، أو بوقوع الطلاق مع العوض، وإذا فرض استيفاء العَدد، انضم إلى زوال ملك النكاح تحريم عقد النكاح، حتى يجري التحليل، فأما وقوع الطلاق مع قيام العدة من غير عوض، ولا استيفاء عَددٍ؛ فإنه يستعقب سلطان الرجعة لا محالة، ولو أراد الزوج أن ينفي الرجعة من غير عوض ولا استيفاء عدد، لم يكن لذلك معنى مع قيام العدة، وكان كمن يريد تحريم عقد النكاح من غير استيفاء عدد، وما ذكرناه مكرراً من العدة إشارة إلى شيئين: أحدهما - أن الطلاق إذا لحق التي ليست مدخولاً بها، فلا عِدَّةَ، فلا جرم كان الطلاق مُبيناً، وكذلك إذا صادف الطلاقُ
__________
(1) في الأصل: فلا ظاهر.
(2) بين أيدينا: أي أمامنا بمعنى أنه سيأتي بعدُ.
(3) ر. المختصر: 4/74.
(4) انتفاء العدة: أي عدم وجوبها أصلاً، أو انتهائها وعدم بقائها.(14/70)
ممسوسة، وجرت في العدة، فهي رجعية، فإذا لم يرتجعها زوجها حتى انقضت العدة، بانت، والسبب فيه انتفاء (1) العدّة والرجعة مع بقاء الطلاق.
وأبو حنيفة (2) ينفي الرجعة بمسلكين: أحدهما - أن يطلّق الزوج ممسوسة من غير عوض، ويشترط قطع الرجعة، فالرجعة تنقطع عنده بشرط القطع.
والمسلك الثاني - أن يقع الطلاق بكناية من الكنايات تُشعر بالبينونة، فإذا نوى الطلاق بها، كان الطلاق مُبيناً لا محالة، وإن لم يقصد الزوجُ قطعَ الرجعة.
فانتظم من مذهبنا أن الرجعة لا تنقطع بالقطع، ولا بلفظة، وإنما تنقطع بالعوض، وعدم العدة، واستيفاء العَدد.
فصل
8990- المرأة إذا ادّعت على الزوج أصلَ الطلاق، فأنكره أو ادّعت عليه نية الطلاق، فدعواها مسموعة واليمين معروضة، ومردودة (3) ، ولو لم تدّع، فشهد شاهدان حسبةً على الطلاق، سُمعت شهادتهما؛ فإن حق الله تعالى غالب في الطلاق، وآيةُ غلبته أن الواقع لا ينتفي بتراضي الزوجين.
فلو ادعى واحدٌ من الناس على رجل أنه طلق امرأته، فهذا ليس بدعوى، فإن كانت عنده شهادةٌ، فليقمها من غير دعوى، والمرأة لو أرادت أن تَشهد على طلاق الزوج، لم تجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الحظ يرجع إليها من الخلاص، ولها مقام الدعوى.
__________
(1) انتفاء العدة والرجعة: يستخدم الإمام هنا "انتفاء العدة" بمعنى عدم بقائها وانتهائها، وبمعنى عدم وجوبها أصلاً. وذلك واضح تماماً في قوله في أول الفصل: "مضمون هذا الفصل أن البينونة الباتة لملك النكاح منوطة عندنا بوقوع الطلاق مع انتفاء العدة، أو بوقوع الطلاق مع العوض ... إلخ".
(2) ر. المبسوط: 6/73، رؤوس المسائل: 400 مسألة 283، البدائع: 3/112، إيثار الإنصاف: 170.
(3) أي معروضة على الزوج، ومردودة -عند نكوله- على الزوجة.(14/71)
ْولو طلقها زوجُها طلقةً رجعيةً، ثم زعمت المرأة أنه طلقها طلقة أخرى، فإن راجعها، فلها أن تدعي حينئذٍ، وإن أرادت أن تدعي وهي جارية في عدة الرجعة، فظاهر المذهب أن دعواها مسموعة؛ فإن الرجعية زوجة، ومن أصحابنا من قال: لا تسمع دعواها؛ فإنه ليس لها غرض صحيح في الحال؛ إذ الحيلولة ناجزة، والرجعة لا تنقطع بالطلقة الثانية. والأصحُّ الأول.
فصل
قال: "ولو كتب بطلاقها، فلا يكون طلاقاً إلا أن ينويه ... إلى آخره" (1) .
8991- نقول في صدر الفصل: الأخرس يقيم إشاراته المُفْهمة مقام عبارات الناطق، فيقع بإشارته طلاقُه وعتاقه، ويصح بيعُه وشراؤه وسائرُ عقوده، وحلوله وردوده، ثم يقع طلاقه بإشارةٍ لها رتبة الصّريح، ويقع بإشارة ونيّة لها رتبة الكناية، وتصح أقاريره ودعاويه، ولا تطويل؛ فإشارة الأخرس كعبارة الناطق.
ولم يختلف أصحابنا إلا في الشهادة، فمنهم من صحح شهادة الأخرس، ومنهم من أباها، ولعله الأصحُّ.
وممّا يتعلق بتحقيق ذلك أن الأخرس إذا أبلغ في الإشارة، فالصّريح منها ما يفهم منها الطلاق، ولا يختص بفهمه أصحاب الفطنة والدرْك، بل يعمّ دركُ المقصود منه، فهذا يُلحق إشارته بالصريح الذي يفهم منه الطلاق على شيوع، فإن ترددت إشارته، وكانت صالحةً للطلاق ولغيره، أو كان يختص بدَرْكه الفطن، فهذا يلحق بالكناية.
وإذا أبلغ الأخرس في الإشارة، ثم زعم أنه لم ينو الطلاق، فالذي يظهر عندي أن هذا يلتحق بالقسم المتوسط بين الصريح والكناية حتى يتردّد فيه، [كما لو استعمل اللفظ الشائع في الطلاق، وقال:] (2) قصدت غير الطلاق، وليس كلفظ الطلاق في
__________
(1) ر. المختصر:4/75.
(2) عبارة الأصل: "حتى يتردّد فيه فتوى قوله قصدت غير الطلاق ... " وهي غير مستقيمة، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء ما حكاه -بمعناه عن الإمام- كل من الرافعي والنووي، فعلى سبيل المثال قال الرافعي: "ولو بالغ في الإشارة، ثم ادّعى أنه لم يرد الطلاق، قال =(14/72)
حق الناطق (1) ، فهذا، غائصٌ فقيه، فليتأمله الناظر.
8992- ومما وقع في الوقائع أن الأخرس إذا أشار في الصلاة بالطلاق أو بغيره من العقود [والحلول] (2) ، فلا شك أنا نُنفّذ منه مقتضى إشاراته، وإذا [نفَّذناها] (3) ، ففي القضاء ببطلان الصلاة تردّد، والظاهر أنها لا تبطل، وقد قدمنا ذكر ذلك فيما تقدّم.
وإذا كتب الأخرس بالطلاق، نفذ الطلاق [منه] (4) ؛ فإن الكِتْبة (5) أوقع في البيان من الإشارة، ولو قدر على الكِتْبة، فأشار، نفذت إشارته؛ فإن الكتابة في مرتبة الإشارة، فليفهم الناظر هذا، وإن كانت الكتابة منتظمة والإشارات لا نظم لها.
8993- فإذا ثبتت هذه المقدمات، استفتحنا بعدها القول في كتابة الناطق، فنقول: القادر على النطق إذا كتب الصّيغة الجازمة بالطلاق، قال الأئمة: إن كتب، وقرأ، ونوى، وقع الطلاق.
فإن قيل: إذا قرأ، فقد صرّح ونطق، فأيّ حاجةٍ إلى النيّة؟ قلت: نعم، هو كذلك، ولكن القراءة مع النظر في المكتوبات يتأتى حملها على محمل الحكاية، فيتنزل هذا عندنا -وإن كان اللفظ صريحاً- منزلة ما لو قال: في حالِ حَلّ قيدها: أنت طالق، ثم زعم أنه أراد تطليقها عن وثاق، وفيه التردد الذي قدمناه. وإن صرح وقال: إنما أريد أن أحكي، فهذا كما لو قال: أنت طالق عن وِثاق.
__________
= الإمام: هو كما لو فسّر اللفظة الشائعة في الطلاق بغير الطلاق " (ر. الشرح الكبير: 8/536) .
(1) المعنى: أن الناطق إذا ذكر لفظ الطلاق صريحاً، ثم زعم أنه لم ينو الطلاق، لم يقبل منه، بخلاف الأخرس إذا أبلغ في الإشارة المفهمة حتى يفهم منها الطلاق جميع الخلق، ولا يختص بذلك ذوو الفطن، فهذا ملحق بصريح اللفظ، ولكنه يختلف عن اللفظ الصريح بأنه لو زعم أنه لم ينو الطلاق التحق عند الإمام بالقسم المتوسط بين الصريح والكناية.
(2) في الأصل: والحلود. (وهو تصحيف واضح) .
(3) في الأصل: فإذا نفذ فلها.
(4) في الأصل: فيه.
(5) الكتبة: الكتابة، تقول: كتب كتابة، وكِتْبة بكسر فسكون، وكَتباً بفتح وسكون، والاسم الكتابة، لأنها صناعة، كالتجارة والعطارة. (المصباح) .(14/73)
وإن كتب ولم يقرأ، ونوى الطلاق، فقد نص هاهنا [على] (1) الوقوع (2) ، ونصَّ في الإملاء على أنه إذا كتب بطلاق زوجته ونوى، لم يقع طلاقه، وقال في كتاب الرجعة: ولا يكون رجعة إلا بكلام، كما لا يكون نكاح ولا طلاق إلا بكلام (3) .
فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن الطلاق لا يقع؛ فإن الكاتب قادر على العبارة، فليعبر عن غرضه؛ فإن العبارة أصل البيان، والكتابةُ فعلٌ.
والقول الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإن الكتابة مما يتفاهم بها العقلاء، وهي أحد البيانين.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق بالكتابة مع النية قولاً واحداً، وما ذكره في الرجعة قصد به الردَّ على أبي حنيفة (4) في مصيره إلى أن الوطء رجعة، ثم استمر في كلامه كما وصفناه، ونصُّ الإملاء عند هذا القائل محمول على الأخرس، أو على الغائب، كما سنبين التفصيل فيه.
ثم فرّع الأئمة الحاضر وجعلوه أولى بأن لا يقع طلاقه بالكتابة؛ من جهة اقتداره على الإفهام بالنطق والكلام، والغُيَّبُ يعسر عليهم المناطقة، فتصير الكتابة في حقهم بمثابتها في حق الأخرس.
والذي تحصّل من كلام الأصحاب طريقان في الحاضر، وطريقان في الغائب على العكس، فأما الطريقان في الغائب، فمن أصحابنا من قطع بوقوع الطلاق، ومنهم من ذكر قولين.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) نص هاهنا على الوقوع: المراد في المختصر، وهي العبارة التي صدّر بها الفصل: "ولو كتب بطلاقها، فلا يكون طلاقاً إلا أن ينويه".
(3) يريد بحكاية هذا الكلام أن يشير إلى القول المخرج من هذه العبارات: "ولا يكون رجعة إلا بكلام، كما لا يكون نكاح ولا طلاق إلا بكلام" حيث يؤخذ من هذا أنه إذا كتب ونوى ولم يتلفظ لا يقع الطلاق، فإنه لم يتكلم ولا طلاق إلا بكلام.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 192، المبسوط: 6/19، مختصر اختلاف العلماء:2/388 مسألة: 893، اللباب: 3/54.(14/74)
[وفي] الحاضر طريقان على العكس: منهم من قطع بأن طلاقه لا يقع بالكتابة، ومنهم من قال: قولان.
وينتظم من الغائب والحاضر ثلاثة أقوال.
8994- ثم إذا تمهد الأصل، فالكلام وراء ذلك في أمور: منها تفصيل القول فيما يتعلق بالكِتْبة من الأحكام سوى الطلاق، ومنها ما يكتب عليه، ومنها اتباع الألفاظ [المُثْبتة] (1) في الكتب وبيان صيغتها.
فأما القول فيما يتعلق بالكتابة، فترتيب المذهب فيه أن الأحكام المتعلقة بالألفاظ تنقسم إلى ما لا يفتقر إلى القبول، وإلى ما يفتقر إلى القبول، فأما ما لا يفتقر إلى القبول، فهو كالطلاق والعتاق والإبراء والعفو عن الدّم، فهذه الأشياء هل تحصل بالكِتبة؟ فيها التفاصيل التي قدمناها في الطلاق، ثم المذهب المقطوع به أن الكِتْبة بمجردها، لا تتضمن وقوع الطلاق، حتى تنضم إليها النية، ولا يحصل بها الإبراء والعفو والعتق كذلك، حتى يقترن بها نيات هذه الأشياء، وحكى الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً غريباً أن صيغة الكِتبة إذا كانت صريحاً لو فرض النطق بها، وقع الطلاق من غير نيّة، وهذا بعيد، لم أره لغيره.
8995- والتحق بهذا المنتهى أن الناطق لو أشار إشارة الأخرس، فهل يقع الطلاق بإشارته، قال شيخي: كان القفال يُجري إشارة الناطق بمثابة كتابته، وكان ميله إلى أن الإشارة من الناطق أولى بالإحباط من الكتابة؛ فإن الكتابة مألوفة من الناطقين على اطراد، سيما في حالة الغيبة بخلاف الإشارة، فإنها لا تصدر على قصد الإفهام إلا على ندورٍ، أو في حالة هزء، ثم إذا صدر من الناطق -على قولنا بإعمال إشارته- ما لو صدر من الأخرس، لكان صريحاً، فكيف سبيلها؟ الوجه القطع بأنها كناية عن الناطق كالكتابة، وإن كانت صريحاً من الأخرس.
وكان شيخي يقطع بأن الكتابة صريحٌ من الأخرس. ولي في هذا نظر؛ فإن كتابة الكاتب، قد تقع لنظم حروف وامتحان قلم، ومحاكاة خط، فإن انضمّ إلى الكِتبة
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة: رسمت هكذا (المثهته) .(14/75)
قصدُ الإفهام بها، فلا ريب حينئذ في أن الكتابة مع مخايل قصد الافهام كالإشارة لو أبلغ فيها. فهذا قولنا فيما لا يفتقر إلى القبول.
8996- فأما ما يفتقر إلى القبول، فينقسم إلى النكاح وغيرِه: فأما غير النكاح.
كالبيع والإجارة والهبة وما في معناها، نفرضها (1) مع الغَيْبة، ثم نذكر حكمَها مع الحضور:
فأما إذا جرت الكتابة بالبيع في الغيبة، فمن ضرورة ذلك انقطاع كتابة من يبتدىء عن قبول من يَرِدُ الكتابُ عليه، فيجتمع في ذلك إقامة الكتابة مقام اللفظ، وفيه التردد الذي ذكرناه في الطلاق والعتاق وما في معناهما مما لا يشترط القبول فيه، وتأخُّرُ (2) أحد شقي العقد عن الثاني، وهذا لا يقتضي تأكيداً في المنع لا محالة، فينتظم منه ترتيب القولين في البيع على القولين في الطلاق، والبيعُ أولى بالمنع.
فإن قيل: ما وجه الجواز، وقد انفصل أحد الشقين عن الثاني؟ قلنا: في ذلك وجهان: أحدهما - أن نجعل ورود الكتاب بمثابة افتتاح الإيجاب، ويتبعه القبول على الاتصال. والوجه الثاني - أن القبول إنما يشترط اتصاله بالإيجاب لأن الموجِب أنشأ كلامه على وجه يقتضي جواباً متصلاً، وإذا كتب الكاتب، فكتابته تقتضي الموافقة على حسب ما يليق بالعرف في مثل ذلك، وهذا حسن، ولكن يلزم على مساقه أن يقال: إذا أوجب في الحضور إيجاباً مقترناً بجواز تأخّر القبول، وجب تجويزه، ولا صائر إلى هذا إلا أبو حنيفة (3) ، فإنه جعل مدّة المجلس وإن [طالت فُسحةً] (4) في ذلك، ونحن لا نقول به، فينضم إلى ما ذكرناه مسيسُ الحاجة في التكاتب، وهذا لا يتحقق في التخاطب. ويتصل بذلك أنه إذا ورد الكتاب، فهل يشترط اتصال القبول بالاطلاع على الكتاب أم لا؟ الوجه القطع باشتراطه على المعنيين؛ إذ لا حاجة بعد الاطلاع، وقد جعلنا الاطلاع كإنشاء الإيجاب.
__________
(1) جواب (أما) بدون الفاء. وهذا جارِ كثيراً في أسلوب الإمام، وهي لغة كوفية.
(2) وتأخرُ: معطوف على كلمة (إقامة) من قوله: فيجتمع في ذلك إقامة الكتابة ... إلخ.
(3) ر. المبسوط: 6/211، فتح القدير: 2/412، البدائع: 3/114.
(4) في الأصل: وإن طالب فسخه في ذلك.(14/76)
ولو قال الغائب: بعت داري هذه من فلان، وأُشهد عليه، فإذا بلغ الخبر مَنْ هو في مقام المشتري، فهي كالكتابة، بل هذا أولى بالصحة لوجود اللفظ.
هذا بيان البيع وما في معناه.
8997- فأما النكاح، فهو أولاً يترتب على البيع إذا فرض بالكتابة في حالة الغيبة، فليرتب على البيع، والفرقُ ما في النكاح من التعبد والتضييق في العبارات، ثم يتفرع على النكاح افتقاره إلى الشهادة. فإن صححنا النكاح وقد جرى من الغائب لفظُه، وشهد عليه عدلان، وشهدا على قبول من يبلغه الخبر، فقد ثبت ركن الشهادة، وإن شهد على قول الزوج عدلان، وشهد على قبول القابل عدلان آخران، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن النكاح لا ينعقد؛ لأن واحداً منهم لم يشهد على عقد تامٍ.
ومن أصحابنا من قال: يصح النكاح؛ لأن العقد لو جُحد أمكن إثباته بهم، وهو المقصود. وهذا فيه إذا لَفَظَ الموجِب والقابلُ بالإيجاب والقبول. فأما إذا كتب، ولم يتلفظ، فالإشهاد على الكتابة ممكن، ولكن الكتابة كناية، ولا اطلاع على نية الكاتب، وإن زعم أنه نوى بعد الكتابة، فهذا إشهاد على الإقرار، ولا يقع الاكتفاء بالإشهاد على الإقرار، فالذي يقتضيه قياس الشافعي القطعُ بأن هذا لا يصح. ولكن أجرى كثير من الأصحاب القولين في الكتابة في النكاح، ولعلهم رأَوْا هذا محتملاً لضرورة الغيبة، وهذا بمثابة احتمال انقطاع الإيجاب عن القبول بسبب حاجة الغيبة.
هذا منتهى الكلام في هذه القاعدة.
8998- ويتفرع عليه الكتابة في الحضور، وقد قدمنا أن الكتابة في الحضور أبعد عن الجواز؛ لانتفاء حاجة الغيبة، فإن منعنا، فلا كلام. وإن جوزنا، فقد يمكن فرض اتصال الكتابة بالقبول في الشهود والحضور، فإن كان كذلك، لم يبق إلا إقامة الكتابة من غير حاجةٍ مقام العبارة. وإن انقطع الإيجاب عن القبول في الشهود والحضور، فنقطع بالمنع، وهو بيّن.
8999- ثم يتفرع على هذه القواعد مسائل سهلة المأخذ، فإذا كتب إلى إنسان بأنّي وكلتك في بيع مالي وعتْقِ عبدي، فهذا يترتب على أنه لو شافهه بهذا هل يفتقر إلى(14/77)
القبول؟ فإن قلنا: لا حاجة إلى القبول مع المشافهة، فالقول في ذلك كالقول في الكتابة في الطلاق والعتاق. وإن شرطنا القبول في ذلك، التحق بالقسم الذي يفتقر إلى الإيجاب والقبول، وقد ذكرنا حكم الكتابة في هذا القسم.
وهذا نجاز الكلام في حكم الكتابة في هذه الأقسام.
9000- فأما القول فيما يُكتب عليه، فالكتابة على الرَّق، والقرطاس، والألواح، والنقر في الأحجار والخشب، كلها بمثابة واحدة. ولو خط على الأرض خطوطاً وأفهم، فالجواب كما ذكرناه. وإذا فهم الفاهم [ما كتبه] (1) وبلّغه (2) ، كان كما لو بلّغ كتابه.
ولو رسم الأسطر على الماء أو على الهواء، فلا حكم لهذه الكتابة؛ فإن الكتابة حقها أن تقع بياناً، ولا انتظام لها على الهواء أو الماء. نعم، لا يمتنع أن يلتحق هذا بالإشارات؛ فإن هذه الحركات قد يُفهم منها شكلُ الحروف، فتتنزل منزلة الإشارات المفهمة.
9001- فأما الكلام في صيغ الكتابة ومقتضياتها، وما يطرأ على الكُتب من التغايير، فهذا خاصية الفصل وينبسط فيه الكلام بعض الانبساط، فإذا كان في الكتاب: "أما بعد فأنت طالق". فإذا وقع الحكم بالكتابة تبيّنا وقوع الطلاق من وقت الكتابة؛ فإنه لم يعلّق الطلاق ببلوغ الكتاب ووصوله، بل نجّزه؛ إذ قال: "أما بعد، فأنت طالق".
وإذا قال: إذا بلغك كتابي، فأنتِ طالق، فلا يقع الطلاق ما لم يبلغها، وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي فأنت طالق، فلا يقع الطلاق بنفس البلوغ ما لم تقرأ أو يُقرأ عليها، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: فاكتبه.
(2) وبلّغه: المعنى أن واحداً فهم المكتوب في الكتاب، ثم قام بتبليغه إلى المكتوب إليه، من غير أن يحمل إليه الكتاب، فهو يكون كتسليمه الكتاب.(14/78)
9002- وإذا انمحى الكتاب، فإن بقيت [رقوم] (1) يُفهم منها الغرض، وقع الطلاق المعلق ببلوغ الكتاب، وإن انمحى ودرس، ولم يبق ما يُفهم منه مضمون الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً ببلوغ الكتاب؛ فإن هذا خرج عن كونه كتاباً بالانمحاء، والدّليل عليه أن الكاتب لو كان كتب: إن بلغك كتابي، ثم محا بنفسه، فاتفق بلوغ ذلك القرطاس، فلا إشكال في أن الطلاق لا يقع، فإذا انمحى كان كما لو محاه الكاتب بنفسه.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن الطلاق يقع؛ فإن هذا وإن انمحى يسمى كتاباً، ويقال: "أتاني كتاب فلان"، وإن انمحى.
وهذا الذي ذكره بعيدٌ؛ فإنه إنما يسمى كتاباً بتأويل أنه كان كتاباً، ووضوح ذلك مغْنٍ عن بسطه.
9002/م- والكلام يتعلق [بعد ذلك] (2) بسقوط بعض الكتاب ووصول بعضه، ونحن نتكلم فيه إذا وصل أسطرُ الطلاق وسقط غيرها، ثم نتكلم في سقوط الأسطر التي فيها الطلاق. والتقسيمُ الجاري في ذلك أن نقول: الكلام في أربع مسائل: إحداها - في سقوط أسطر الطلاق من الكتاب.
والثانية - في سقوط الأسطر التي هي من مقاصد الكتاب، لكنها غير الطلاق.
والثالثة - في سقوط أسطر فيها التسمية والتصدير، أو الحمد والصلاة في آخر الكتاب.
والرابعة - في سقوط البياض من طرفي الكتاب أو حواشيه.
فأما إذا سقطت أسطر الطلاق، وكان في الكتاب: إذا بلغك كتابي، فأنت طالق، فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الصورة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علّقه ببلوغ الكتاب، والكتاب عبارة عن مجموعِه، وقد سقط مقصود الكتاب، فكأن الكتاب لم يصل.
__________
(1) في الأصل: وقوم.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها توضيح الكلام.(14/79)
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ إذ يقال: وصل الكتاب، [وإن] (1) كان سقط منه
شيء.
والوجه الثالث - أنه يفصّل: فيقال: إن قال: إن جاءكِ كتابي هذا، لم يقع؛ لأن
الإشارة تحوي جميعَ الأجزاء. وإن كتب: إن جاءكِ كتابي، ولم يشر، وقع؛ لأنه
جاءها ما ينطلق عليه اسم الكتاب.
المسألة الثانية - إذا سقط غير الطلاق، ولكن كان من متضمنات الكتاب، كعُذرٍ
مُقدَّمٍ على الطلاق، أو ذكرِ حالٍ منها يتضمن توبيخاً، وهو معقَّبٌ بالطلاق، فإذا سقط
ما يشتمل على هذه الفنون، وكانت الأسطر المحتوية على الطلاق باقية، فتعود الأوجه،
ولكن هذه الصورة أولى بوقوع الطلاق؛ فإنه فصّل الطلاق، وهو الغرض والمنتهى.
المسألة الثالثة- إذا سقط من الكتاب محلّ التصدير والحمد، ففيه الخلاف،
والأظهر وقوع الطلاق؛ فإن الساقط لم يَفُت بسقوطه شيء من مقاصد الكتاب، وإنما
سقطت مراسم ليست معنيّة.
والمسألة الرابعة - في سقوط البياض، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الطلاق يقع؛
لأن الكتاب محل الأسطر، والحواشي متصلةٌ وليست مقصودة أصلاً. وأشار بعض
الأصحاب إلى إبداء احتمال في هذا؛ فإنّ حواشي الكتاب تُعدُّ من الكتاب، ويحرم
على المحدث مس حواشي المصحف، كما يحرم عليه مس الأسطر.
وكنت أحب لو أجرينا في هذه المسائل -أعني المسائل الثلاث الأُوَل- الفرقَ بين
أن يبقى معظم الكتاب، أو يسقط معظمه؛ فإن للمعظم أثراً ظاهراً في بقاء الاسم.
ولو قال: إذا بلغك طلاق، فانت طالق، فبلغ الكتاب إلا الأسطر التي فيها ذكر
الطلاق، لم يقع وفاقاً، وكذلك إذا بلغ تلك الأسطر التي فيها ذكر الطلاق من غير
تفصيل. وإذا بنينا على أن الانمحاء يُخرج الكتاب عن كونه كتاباً، فالانمحاء بمثابة
السقوط في البعض.
فهذا تفصيل القول فيما يلحق الكتاب من التغايير.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.(14/80)
9003- وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فلم تقرأ، ولم يُقرأ عليها، لم يقع الطلاق، ولو قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فكانت قارئةً، فقرىء عليها، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن الطلاق لا يقع؛ فإنها لم تقرأ. والثاني - يقع؛ لأن هذا يراد به الاطلاع على مضمون الكتاب، لا صورة القراءة. وهذا يحصل بأن يُقرأ عليها، كما يحصل بأن تقرأ بنفسها.
ولم يختلف علماؤنا في أنها لو طالعت الكتاب، وفهمت ما فيه، ولم تلفظ بكلمةٍ، وقع الطلاق وإن لم يوجد قراءة؛ وهذا يؤكّد أن قراءة الكتاب محمولة على الاطلاع على ما فيه.
ولو كانت أُمِّيَّة، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق يقع إذا قرىء الكتاب عليها؛ فإن القراءة في حقها محمولة على الاطلاع لا غير.
وأبعد بعض من لا احتفال به، فجعل تعليق الطلاق بالقراءة في حق الأمية بمثابة تعليق الطلاق على محال، وهو كما لو قال: إن صعدت السماء، فأنت طالق، فالطلاق لا يقع، لعدم الصعود، وإن كان محالاً.
وإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فلم تره، ورأى غيرها، فسنذكر أن الطلاق يقع، وإن كانت الرؤية ممكنة منها، بخلاف ما لو قال: إذا قرأت كتابي وكانت قارئة، فلم تقرأ، وقُرىء عليها، والفرق أن قراءة غيرها ليست قراءتها، والرؤية قد يراد بها العلم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] معناه: ألم تعلم ربك، وسيأتي هذا الفرع بما فيه، إن شاء الله.
ومما فرعه صاحب التقريب: أنه إذا قال: إذا بلغك نصف كتابي، فأنت طالق، فبلغها الكتاب كله، فهل نقضي بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين: أحدهما- يقع؛ فإن الكتاب يشتمل على نصفين، ففي بلوغه بلوغ نصفه.
والثاني - لا يقع؛ فإنّ النصف في هذا المقام إنما يُطلق لغرض التبعيض، فإذا لم يتحقق التبعيض، لم تتحقق الصفة.
وقد انتهى ما يتعلق بفصل الكتاب؛ فقهاً، وإيضاحاً لموجب صيغ الألفاظ.(14/81)
فصل
قال: "ولو قال لامرأته: اختاري، أو أمرك بيدك ... إلى آخره" (1) .
9004- مقصود الفصل الكلام فيه إذا فوّض الزوج الطلاق إلى زوجته، ونحن نقول: تفويض الطلاق إلى أجنبي توكيلٌ على التحقيق، ثم الأصحاب ربما يفصلون بين التوكيل وبين الأمر كما تقدم استقصاؤه في كتاب الوكالة، وبيانه أن الرجل إذا قال لصاحبٍ له: وكلتك ببيع عبدي أو إعتاقه، أو طلاق زوجتي، فهذا توكيل على الحقيقة.
واختلف الأصحاب في أنه هل يشترط القبول فيه أم لا؟ كما مضى.
وإن قال: بع عبدي، من أئمتنا من قال: هذا أمرٌ غيرُ مفتقر إلى القبول وجهاً واحداً، وإنما المطلوب [عنده] (2) الامتثال والارتسام فحسب، ومنهم من قال: هو توكيل على صيغة الأمر، ويجري فيه الخلاف في القبول، كما يجري فيه إذا قال: وكلتك.
ثم إن لم نشترط القبول، لم يتقيد إيقاع المطلوب بزمانٍ إذا لم يكن التوكيل مقيداً بمراعاة زمان، بل إن امتثل الوكيل أو المأمور على الفور أو بعد زمان، جاز ونفذ.
وإن قضينا بأن القبول لا بدّ منه، فالاتصال مرعيٌ في القبول لا محالة، ثم الكلام في تنفيذ المقصود لا يشترط فيه تعجيلٌ ولا اتصالٌ إذا لم يشترط الآمر والموكّل تعجيلاً.
9005- فأمّا إذا فوض الزوج الطلاق إلى زوجه، فقال لها: طلقي نفسك، فقد اختلف قول الشافعي بأن هذا تمليك، أو توكيل بالطلاق، فأحد القولين أنه توكيل، أو أمرٌ كما قدمته، والقول الثاني أنه تمليك.
التوجيه: من جعله توكيلاً، اعتبر المرأة بالأجنبي، فإن مالك الطلاق الزوج،
__________
(1) ر. المختصر: 75.
(2) في الأصل: عند (بدون هاء الضمير) .(14/82)
ومن يطلّق بأمره مأمور من جهته، فلا فرق بين أن يتصل الأمر بالزوجة أو بأجنبي.
ومن قال بالقول الثاني، احتجّ بأن التفويض إليها يتضمن تمكينها من أن تملك نفسها، وهذا الأثر يرجع إليها، ويتصل بها، فكان قوله طلقي نفسك خارجاً عن محض التوكيل.
التفريع:
9006- إن جعلنا التفويض إليها توكيلاً، فلا فور عليها، فإن طلقت على الاتصال نفسَها، فذاك. وإن طلقت نفسَها بعد زمان متطاول، وبعد مفارقة ذلك المجلس، جاز، وهل يشترط قبولها أم لا؟ فعلى ما ذكرناه من تردد الأصحاب في أن الآمر هل يفتقر إلى القبول. والمسألة فيه إذا قال لها: طلقي نفسك.
وإن حكمنا بأن التفويض تمليك، فالجواب يقتضي الفورَ، وهو بمثابة قبول العَقْد مع إيجابه، فإن خلّلت زماناً متطاولاً ينقطع بمثله الإيجاب عن القبول، فلا تملك أن تطلق نفسها بحكم التفويض الأوّل، كما لا يملك المخاطب بالإيجاب القبول بعد تطاول الزمان. هذا مسلكُ الأصحاب في التفريع.
ومما فرَّعوه على قول التمليك أن الزوج لو رجع عن تفويضه على الفور قبل أن تطلّق نفسها، انقطع ملْكها التطليق، ولم ينفذ الطلاق إن طلّقت نفسها؛ لأنا إذا جعلناها مملكة [فهي] (1) بمثابة القابلة للخلع إذا خاطبها الزوج بالإيجاب فيه، وهذا يقبل الرجوع.
وقال ابن خيران: "إذا فرعنا على قول التمليك، فليس للزوج الرجوع بعد التفويض، ولو رجع، لغا رجوعه، ونفذ تطليقها نفسَها، على الاتصال". واعتل بأن قال: كأن الزوج قال لها: إذا تلفظت بتطليق نفسك، فأنت طالق.
وهذا وجه مردود لا أصل له، والعجب أن شيخي كان لا يحكي في التفريع على قول التمليك غيرَه، وكان يعبر عنه، ويقول: "هو تمليك مضمّن بتعليق" مشيراً إلى أن الرجوع غير ممكن بتضمّن (2) التمليك التعليق.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) بتضمن التمليك التعليق: أي بسبب تضمن التمليك التعليق.(14/83)
هذا نظم المذهب.
9007- وسلك القاضي مسلكاً آخر، فقال: نرسم القولين في أن التفويض تمليك أو توكيل، ونقول: الأصح [أنه] (1) تمليك، وهو المنصوص عليه في معظم الكتب.
والقول الثاني - أنه توكيل، ولا يُرى للشافعي منصوصاً إلا في الأمالي المتفرقة.
فإن حكمنا بأنه تمليك، فالفور لا بد منه.
ثم غلط هاهنا بعض أصحابنا، فقال: يمتد جوابها امتداد المجلس، كخيار المكان، وهذا غلط غير معتدّ به، وإنما غلطُ هذا القائل من قول الشافعي "ولا أعلم خلافاً، أنها إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس أو تُحدثَ قطعاً لذلك أن الطلاق يقع عليها" (2) . والشافعي كثيراً ما يطلق المجلس ويريد به مجلس الإيجاب والقبول، والمعنى رعاية التواصل الزماني، كما قدّمنا ذكره.
وقد يطلق مثل هذا في الخلع، ولم يجسر أحدٌ من أصحابنا [على] (3) حمل ذلك على المجلس الذي يناط بمنتهاه انقطاع خيار المجلس.
قال (4) : وإذا فرعنا على أن هذا توكيل، فيحتمل أن نقول: تطليقها ينبغي أن يكون على الفور أيضاً؛ فإن توكيل الزوج المرأة يشعر بتمليكها لفظاً، والتمليك اللفظي يقتضي جواباً عاجلاً، ولهذا قلنا: إذا قال لزوجته: "أنت طالق إن شئتِ"، اقتضى ذلك فوراً في المشيئة، بخلاف ما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فيتضمن قوله طلِّقي نفسك جواباً عاجلاً والتماسَ تنفيذٍ أو إعراضٍ، ثم قال: وهذا إذا قال لها: طلقي نفسك.
ولو قال: وكلتك أن تطلقي نفسكِ، وصرّح بلفظ التوكيل، قال القاضي: يحتمل أن يقال أيضاً في هذه المسألة: يختص بالمجلس، كما وصفناه، وإن صرّح
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/75، 76.
(3) زيادة من المحقق.
(4) قال: القائل هو القاضي، فما زال كلامه مستمراً.(14/84)
بالتوكيل؛ لأنه يشوبه شُعبة من التمليك، فعلى الطريقين يكون جوابها على الفور سواء لَفَظَ بالتوكيل، أو لم يلفظ به.
وهذا الذي ذكره فقيهٌ حسن، ولكنه منفرد به من بين الأصحاب.
9008- والمقدار الذي رمز إليه المحققون أنا إن قلنا: هذا توكيل، فحكمها حكم [الوكيل] (1) ، وإن قلنا: هذا تمليك، فهل يصح من الزوج توكيلها أم كل تفويض منه إليها يتضمن تمليكاً؟ فعلى ترددٍ وخلاف، وهذا محتمل، وإيراده على هذا الوجه أمثل.
ولو قال على قول التوكيل: طلقي نفسك متى شئت، أو متى ما شئت، فهذا لا يقتضي فوراً أصلاً؛ فإن معتمد القاضي مسألة التعليق بالمشيئة. ولو قال: مهما (2) شئت، فأنت طالق، فلا فور، بل مهما شاءت، طلَّقت، فإذا كانت المشيئة تقبل التأخير، إذا قيّدت بالتأخير، فليكن الأمر كذلك في التوكيل.
ومما يهجس في النفس أن من قال: التفويض توكيل، ولا يقتضي تطليقاً منها نافذاً في الحال، فكيف وجه القطع باقتضاء قول الرجل: "أنت طالق إن شئت فوراً"؟ فإن مسألة المشيئة عندي تتوجه بتمليكها الأمر، والتمليك مضاهٍ للإيجاب المستعقب للقبول، وإلا فلا فرق في العربية بين قول القائل لامرأته: أنت طالق إن شئت، وقوله: أنت طالق إن كلمت زيداً، والمستعمل في المسألتين أداة الشرط، وأُمُّ بابه (3) ، وحكم الشرط ألا يتخصّص بزمان، بل يسترسل على الأزمان المبهمة.
فليتأمل الناظر هذا فإنه [عويصٌ] (4) . وسنعود في الفروع إلى مسألة المشيئة، إن شاء الله.
وكل ما ذكرناه فيه إذا فوّض الطلاق إليها بلفظٍ صريح، وطلّقت نفسها بلفظ صريح.
__________
(1) في الأصل: التوكيل.
(2) مهما شئت: (مهما) بمعنى (إذا) .
(3) وأمّ بابه: المراد (إن) فهي أمّ باب الشرط.
(4) في الأصل: عريض، والمثبت تقدير منا، على ضوء أسلوب الإمام.(14/85)
9009- فأما إذا فوّض إليها في ظاهر الأمر بكناية، فأجابت بكناية، أو اختلف الجانبان في ذلك، فالتفصيل فيه إذا قال لها: أمرك بيدك، أو فوضت أمرك إليك، أو ملكتك أمرك، أو قال: اختاري نفسك، فهذه الألفاظ كنايات منه، فإذا أجابت بكناية، فقالت: اخترت نفسي، أو أبنت نفسي، فيتعين الرجوع إليهما، فإن زعما أنهما نويا الطلاق تفويضاً وإيقاعاً، وقع رجعياً إذا كانت بمحل الرجعية.
ولو لم ينو الزوج، لم يقع وإن نوت، ولو نوى تفويض الطلاق إليها ولم تنوِ المرأة إيقاع الطلاق، لم يقع الطلاق، فإنها الموقعة المطلِّقة، فينقسم لفظها إلى الصريح وإلى الكناية.
وقال أبو حنيفة (1) : يقع الطلاق، وإن لم تنوِ إذا نوى الزوج، وكأنّ كلام المفوِّض معادٌ في جوابها، وهذا ساقطٌ لا أصل له. وهذه المسألة مشهورة في أصحاب رسول الله عليه السلام وهي ملتطم خلافهم، والمسألة مشهورة بالتخيير والاختيار، فإذا قال الزوج: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، فقد ذهب عمرُ وابنُ عمرَ وابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ وعائشة إلى أنها لو اختارت نفسها، وقعت طلقة رجعية، ولو اختارت زوجها، لم يقع شيء (2) ، وحيث حكموا بالوقوع أرادوا إذا وجدت النية من الجانبين، وروي عن علي أنها لو اختارت نفسها وقعت طلقة بائنة، وإن اختارت
زوجها وقعت طلقةً رجعيةً، وبه قال زيد، وروي عن عائشة لما بلغها عن علي أنها لو
اختارت زوجها وقعت طلقة رجعية اشتدّ إنكارها عليه، وقالت: خيّر رسول الله
صلى الله عليه وسلم نساءه أترى كان ذلك طلاقاً (3) ؟
__________
(1) ر. المبسوط: 6/210، تبيين الحقائق: 2/220، فتح القدير: 2/410.
(2) وردت هذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في مصنف ابن أبي شيبة:5/58-61 -كتاب الطلاق- باب ما قالوا فى الرجل يخير امرأته فتختاره أو تختار نفسها.
والأمر على ما قال إمام الحرمين فيما روي عن عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة، أما ما روي عن علي، فهو: "إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة وهو أملك بها".
(3) السابق نفسه.(14/86)
ومما يتعلق بالفصل أن الزوج لو أنكر نية الطلاق، فالقول قوله مع يمينه. والمرأة لو قالت: نويت الطلاق كما نويتَ، فقال الزوج: ما نويتِ أنت، فقد ذكر القاضي وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن القول قولها؛ فإن المرأة هي الناوية، وإليها الرجوع، ولا مطّلع على النية إلا من جهتها. نعم، إن أراد تحليفها، كان له ذلك.
ومن أصحابنا من قال: القول قول الزوج، وهذا ضعيف لا أصل له، ووجهه - على بعده- أن الأصل بقاء النكاح، وعدم وقوع الطلاق، وهي تزعم أن الطلاق وقع بنيتها المنضمّة إلى لفظتها.
9010- ولو ذكر الزوج في التفويض كناية، فقال: اختاري، أو أبيني نفسك، أو بتِّي نفسك، فقالت: طلقت نفسي، فالمذهب الظاهر أن الطلاق يقع إذا اشتمل جانب الكناية على النية.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق. حكاه العراقيون عن ابن خَيْران، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يكون جوابها على صيغة التفويض إليها.
قال القاضي: وهذا الخلاف يجري في التوكيل، فلو قال لأجنبي: طلق زوجتي، فقال: أبنتها، ونوى الطلاق. ولو قال: أبن زوجتي أو خلّها ونوى الطلاق، فقال الوكيل: "طلقتها". أو "هي طالق"، فيخرّج الخلاف.
ولو قال لزوجته: أبيني نفسك، فقالت: خلّيت نفسي، وَوُجِدت نية الطلاق من الجانبين، فلا يخفى تخريج هذا على ظاهر المذهب، والطلاق واقع.
فأما إذا قلنا: اختلافُ الشقين صريحاً وكناية يمنع وقوعَ الطلاق، فإذا جرت الكناية من الجانبين، ولكن اختلفت الصيغتان، ففي المسألة تردد على هذا الوجه الضعيف. ولعلّ الأوجه الوقوع تعويلاً على النية؛ فإن اللفظ لا استقلال له في الجانبين.(14/87)
فصل
قال: "وسواء قالت طلقتك أو طلقت نفسي ... إلى آخره" (1) .
9011- إذا قال الرجل لامرأته: أنا منك طالق، قال الأصحاب: إن نوى إيقاع الطلاق عليها، وقع الطلاق، وإن لم ينو إيقاع الطلاق عليها، لم يقع، وزعموا أن قوله: أنا منك طالق صريح في بنيته وصيغته، ولكنه أضيف إلى [الرجل] (2) ، فهو بمثابة الكنايات؛ فإن المرأة محل الطلاق، فإذا أضيف الطلاق إلى الرجل، كان على تأويل إضافته إليها، من حيث إنه منها على سبب منتظم بينهما. وكذلك إذا قال الرجل: أنا منك بائن، قال الأصحاب: لا بدّ من نيتين إحداهما نيّة أصل الطلاق، والثانية نية الإيقاع عليها.
9012- وأصل هذه المسألة مقرر في (الأساليب) ، ولا نجد بداً من ذكر طرفٍ مما ذكرناه فيها أوّلاً: ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى أن الرجل معقود عليه في حقها، كما أنها معقود عليها في حقه، وأكثروا في هذا سؤالاً وانفصالاً.
ونحن لم نرتضِ هذا المسلكَ؛ فإن المرأة لا تستحق من بدن زوجها ومنفعة زوجها شيئاً، فلا معنى لكونه معقوداَّ عَليه لها وفي حقها، وإنما المستحِق هو الزوج ومنافعها أو حِلُّها مستحَق له، فلا وجه إلا القطع بأنّ مورد العقد محل الاستحقاق.
ولكن إذا قال الزوج: أنا منك طالق، انقدح في هذا وجهان: أحدهما - أن على الزوج حجْراً من جهتها، وإن لم يكن معقوداً عليه؛ فإنه لا ينكح أختها، ولا أربعاً سواها، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، أمكن حمل ذلك تقريراً على حَلّ السبب المقتضي لهذا الحَجْر.
والوجه الثاني - أن المرأة مقيدة، والزوج في حكم القيد، وقد يقال: حُلّ القيد،
__________
(1) ر. المختصر: 4/77.
(2) في الأصل: محل. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.(14/88)
كما يقال: حُل المقيّد، فإضافة الطلاق إلى الزوج تتجه من غير أن يفرض معقوداً عليه.
ثم إذا قصد الزّوج الطلاق، ولم يضف الطلاق إليها، فالذي صار إليه جمهور الأصحاب أن الطلاق لا يقع، كما قدمنا ذكر ذلك.
وذهب طوائف من المحققين إلى أن قصد الطلاق كافٍ، وإن لم يضفه لفظاً وعقداً إليها. وهذا اختيار القاضي، وهو القياس تحقيقاً، فإن الطلاق نقيضُ العقد، وإذا ارتفع العقد، فلا حاجة إلى التنصيص على محلٍّ نطقاً أو نية وقصداً.
وهذا الكلام فيه إبهام بعدُ، فإن الرجل لو قال: أنا منك طالق، وقصد الطلاق، ولم يقصد تطليق نفسه، فالأمر على ما ذكرناه.
وإن قال: أنا منك طالق، ونوى تطليق نفسه، فكيف السبيل؟ وعلى ماذا يحمل هذا القصد؟ وهل نقول: الطلاق صريح ولا حاجة فيه إلى التعرض للمحلّ؟
أما مذهب الجمهور، فبيّن، وأما المذهب الآخر، فقد بان منه أنه [إن] (1) لم يقصد إلا الطلاق على الإطلاق، كفى، وإن جرّد قصده إلى تطليق نفسه، فالوجه عندنا ألا يقع، لأن كونه محلاً لإضافة الطلاق -و (2) ليس محلاً للعقد، ولا استحقاق للمرأة فيه - بعيدٌ (3) فهذا كلام لا يستد (4) مطلَقُه، حتى يصرف بتأويل إلى مصرفٍ صحيح.
ثم الجمهور قالوا: ينصرف إليها، وقال آخرون: يكفي أن يقطع عن تخصيصه بنفسه، فأما تنفيذه مع تجريده القصد في إضافة الطلاق إلى نفسه فبعيدٌ جداً.
وقد ذكر بعض الخلافيين أن اللفظ صريح، وإن قصد تطليق نفسه، وهذا لا احتفال به. وشبّه مشبهون هذا بما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، من حيث إن لفظ الطلاق جرى على صيغة مستبشعة حائدةٍ عن جهة العرف في الاستعمال.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) "وليس محلاً للعقد" (الواو) هنا واو الحال. فالمعنى: والحال أنه ليس محلاً للعقد، ولا استحقاق للمرأة فيه ...
(3) بعيدٌ: خبر (أن) في قوله: لأن كونه محلاً لأضافة الطلاق.
(4) لا يستدّ: أي لا يستقيم.(14/89)
هذا تمام البيان في ذلك، ويترتب عليه فصل متصل بما تقدم من تفويض الطلاق إليها.
9013- فلو قال لها: طلقي نفسك، فقالت: طلقتك، فخاطبته، فقال الأصحاب: إن قصدت تطليق نفسها وقع، وقال المحققون: يكفي قصدها الطلاق، وفي تخصيصها الطلاق بالزوج على قصد وعمدٍ الكلامُ الذي ذكرناه.
والمسألة ليست خاليةً عن تردّد الأصحاب في أن الرّجل إذا فوّض إليها صريح الطلاق، فأتت بالكناية، فهل يحكم بوقوع الطلاق؟ فإن قولها: طلقتك على مخاطبة الزوج كناية كما قدّمنا.
9014- ولو قال السيد لعبده: أنا منك حُرّ، فهذا مما اشتهر فيه خلاف الأصحاب: فمنهم من قال: يحصل العتق إذا نواه، كالطلاق. ثم الترتيب في تنزيله على العبد، وفي إطلاقه، على ما مضى.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل العتق أصلاً؛ فإن الملك لا يوجب حجراً على المالك، والنكاح يوجب حجراً على الناكح.
ولو قال الرّجل لامرأته: أعتدُّ منك واستبرىء رحمي، ونوى الطلاق، فهذا مما اشتهر فيه ذكر وجهين: والوجه - إلغاء اللفظ؛ لأنه غير منتظم في نفسه، والكناية لفظة يظهر انتظامها في معنى، ولكن لا تتعين لذلك المعنى، فإذا كان الكلام في نفسه مثبَّجاً (1) معدوداً لغواً، فلا معول عليه.
فصل
قال: "ولو جعل لها أن تطلق نفسها ... إلى آخره" (2) .
9015- نصدّر هذا الفصل بكلام في نية العدد: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً، أو طلقتك ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث، سواء كانت المرأة مدخولاً بها،
__________
(1) مثبَّجاً: أي مختلطاً معمّى غيرَ واضح. من ثبجَ الرجل الكلامَ والخط ثَبجاً؛ عمّاهما، ولم يبينهما.
(2) ر. المختصر: 4/76.(14/90)
أو غير مدخولٍ بها، وقول الزوج ثلاثاًً لا يُقطع عن صدر كلامه؛ فإنّه منعطف عليه تبييناً وشرحاً وإيضاحاً، وليس في حكم كلام مبتدأ.
ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق، وطالق، فإنها تبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الثانية؛ فإن المعطوف عليه مستقلٌّ بنفسه، وليس المعطوف بياناً له، ولا كشفاً لمعناه، فإذا استقل الكلام الأول بعد موجبه، فتبين المرأة.
ثم قال الفقهاء: قول الرجل: أنت طالق ثلاثاًً مشتمل على مفسَّر وتفسير، وزعموا أن قوله ثلاثاًً ينتصب على التفسير، وهذا جهل بالعربية، وذَهاب عن وضع اللسان، وبابُ التفسير والتمييز مشهور بين النحاة، وليس هذا منه، بل قول الزوج ثلاثاًً نعتُ مصدرٍ محذوف والتقدير: أنت طالق طلاقاً ثلاثاًً، وهو كقول القائل: ضربت زيداً شديداً، والتقدير ضرباً شديدأ.
9016- ثم معتمد المذهب، والقطبُ الذي عليه تدور المسائل أن الفعل من الطلاق والاسمَ المشتق يُشعران بالمصدر لا محالة، والمصدر يصلح للواحد والجنس، فتَطرَّق إمكانُ العدد، فإنْ لَفَظَ الزوج به، فذاك، وإن قال: أنت طالق، ونوى عدداً، وقع العدد الذي نواه، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، فاستبان أن الفعل من لفظ الطلاق والاسمَ صريحان في أصل الطلاق، صالحان للعدد على التردّد، والنيةُ شأنها تعيين وجهٍ من وجوه التردد.
ولو قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ونوى الثلاث، أو ثنتين، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن ينصب قوله واحدةً نصبه قوله ثلاثاًً، والآخر أن يقول واحدةٌ بالرفع، فأمّا إذا نصبَ قوله واحدةً، فهذا يستدعي ذكر مقدمة، ستأتي مشروحةً في موضعها، إن شاء الله، ونحن نذكر مقدار غرضنا منها.
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ولم يخطر له إلى استتمام اللفظ الاستثناءُ،
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/411 مسألة 918، تبيين الحقائق: 2/197، اللباب: 3/41.(14/91)
ثم لمّا تم لفظ الطلاق، خطر له أن يقول على الاتصال: إن شاء الله؛ تداركاً لما تقدّم، فقال: إن شاء الله متصلاً، فقد قال أبو بكر الفارسي - في كتابه المترجم مسائل الإجماع: يقع الطلاق في هذه المسألة إجماعاً، ووافقه معظم الأصحاب في دعوى الإجماع، وتعليلُه: أن لفظ الطلاق تم، ثم حاول استدراكه من بعدُ، فكان قصده في الاستدراك مردوداً.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن شرط وقوعه ألاّ يُجري على الاتصال به لفظاً ما يكون استدراكاً. وهذا الوجه على اشتهاره مزيّفٌ، لا تحصيل له، وسنعود إلى ذلك في مسائل الاستثناء، إن شاء الله.
9017- فنقول الآن: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ثم زعم أنه قصد بجميع كلامه ثلاث طلقات، وبسط قصده على أوّل كلامه وآخره، فهل يقع الثلاث؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: لا يقع الثلاث؛ لأن لفظه يناقض قصدَه، والقصد بمجرده لا يعمل ولا ينفذ [في] (1) الثلاث واللفظ على مناقضته، كنية الطلاق عند ذكرٍ من الأذكار عند قراءة القرآن. هذا إذا نوى الثلاث بجميع اللفظ.
ولو نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، ثم خطر له أن يقول واحدة، فعلى طريقة الفارسي يقع الثلاث؛ فإنه طبق نية الثلاث على لفظ محتملٍ لها، ثم أتى بعد ذلك بلفظٍ يناقض ما تقدّم، فلا حكم له.
وإن جرينا على الوجه الضعيف وأعملنا الاستثناء الذي وصله لفظاً، وإن قصده بعد نجاز اللفظ، فيخرّج على ذلك الوجهان المذكوران فيه إذا نوى بجملة اللفظ الثلاث.
وإذا ضممنا هذه الصورة إلى الصورة الأولى، انتظم فيها أوجهٌ: أحدها - أن الثلاث تقع، والثاني - أنها لا تقع. والثالث - أنه إن نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، تقع، وإن نوى الثلاث بمجموع اللفظ، لا تقع.
ولو قال: أنت طالق واحدةً، وزعم أنّي أردت طلقةً واحدةً ملفّقاً من ثلاث
__________
(1) في الأصل: فيه.(14/92)
طلقات، وقعت ثلاث طلقات، [فإنّ] (1) ما قاله ممكن، والطلاق الواحد الملفق حكمه ما ذكرناه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً أن الثلاث لا تقع؛ لأن لفظ الواحد ينافي العدد، وتقدير التلفيق بعيد عن الدّرْك، والنياتُ إنما تعمل إذا كانت تطابق وجهاً مفهوماً من صيغة اللفظ.
والخلاف في هذا يقرب من تردد الأصحاب في ألفاظٍ اختلفوا في إلحاقها بالكنايات، كما سنصفها من بعدُ، إن شاء الله.
9018- ولو قال لامرأته: أنت واحدةٌ، ونوى الثلاث، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أنها تقع على تأويل حمل الواحدة على التوحّد والتفرد عن الزوج، والمرأة قد تنفرد عن زوجها بطلقة، وقد تنفرد عنه بثلاث طلقاتٍ، وذكر القاضي هذا، وصححه، وحكى معه وجهاً آخر: أن الثلاث لا تقع، لمنافاة لفظة الواحدة لها.
وهذا فيه نظرٌ دقيق عندي، فأقول: إن خطر له التوحّد وربطَ الطلاق به، على التفصيل الذي ذكرناه، فلا يجب أن يكون في هذا خلاف. وإن نوى الثلاث، ولم يخطر له وجهُ حمل الواحدة عليها، فهذا فيه احتمال، وينبغي أن يكون هذا المسلك على ذُكر الفقيه في مسائل ستأتي على القرب.
9019- ومما وصله الأصحاب بهذا المنتهى أنه لو قال لامرأته: أنت طالق واحدةٌ -بالرفع في واحدة- فهذا يُبنى على ما لو قال لها: أنت واحدةٌ، وقد ذكرنا أن الأصح أنه إن نوى الثلاث، وقع. فلو قال: أنت طالق واحدةٌ يُحمل هذا في العربية على إتباع الصفةِ الصفةَ، وكأنه قال: أنت طالقٌ أنتِ واحدةٌ.
ثم الكلام -في إفراد الواحدة بالذكر- ما (2) ذكرناه.
وقد يعترض في هذه المسألة وفيه إذا قال: واحدةً بالنصب الفرقُ (3) بين أن يكون
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) ما ذكرناه: خبر لقوله: ثم الكلام في إفراد الواحدة بالذكر.
(3) الفرقُ: فاعل يعترض.(14/93)
صاحب اللفظ معرباً أم غيرَ معرِبٍ، وهذا فنٌ سيأتي، ولسنا نخوض فيه الآن، والتنبيهُ عليه كافٍ.
9020- ولو قال لامرأته: أنت طالق، فماتت، فقال: ثلاثاً، ووقع موتُها مع قوله ثلاثاًً، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الثلاث تقع، لأن الموقَع هو الطلاق، وقد صادف حالة الحياة والثلاث منعطفة على الطلاق، فلا يضر وقوع اللفظ الثاني في حالة الموت.
والوجه الثاني - أنه لا يقع شيء؛ لأن جميع الكلام في حكم المقصود الواحد، فإذا وقع بعضه في حالةٍ تنافي وقوعَ الطلاق، لم يقع الطلاق، كما لو قال لامرأته: "أنت طالق"، فوقع اللام والقاف في حالة موتها.
والوجه الثالث - أنه يقع طلقة واحدة؛ فإن قوله: "طالق" مستقل بإفادة الطلاق، وهذا صادف الحياة، فوجب إعمال هذا، وإحباط ما يقع بعد الموت.
ولو قال: أنت طالق، وكان على عزم الاقتصار عليه، فماتت، فقال: ثلاثاً، فلا شك أن الثلاث لا تقع في هذه الصورة، وينتفي الوجه الثاني أيضاً، فلا يبقى إلا الحكم بوقوع الواحدة.
وهذا يلتفت على مسألة الفارسي إذا قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن شاء الله، وقد ذكرنا أن المذهب إلغاء الاستثناء، وفيه وجةٌ أن الاستثناء لا يلغو، ويبعد أن نقول في التفريع عليه: إنه لا يقع شيء على وجهٍ؛ فإنه أتى بما لو قصده ابتداء، لما وقع شيء في وجهٍ.
ولو قال: إن شاء الله بعد موتها، والتفريع على الوجه الضعيف، فيجب القطع بأن الاسثتناء لا يعمل - والله أعلم.
ولو كان قصد أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله مع موتها، هذا محتمل لمصادفة الاستثناء حالة الموت.
وسنعود إلى هذا في فروع الاستثناء، إن شاء الله.(14/94)
9021- وإذا قال لامرأته: أنت بائن، ونوى ثنتين، وقعتا، كما إذا نوى واحدةً أو ثلاثاًً، وقال أبو حنيفة (1) : يقع الثلاث إذا نواها، وتقع الواحدة، ولا يقع الثنتان، وله في ذلك مسلك اشتملت الأساليب على ذكره والردّ [عليه] (2) .
وكل ما ذكرناه في تأسيس المذهب في احتمال اللفظ للعدد إذا كان منشىء الطلاق هو الزوج.
9022- ونحن نعود وراء ذلك إلى مسائل تتعلق بتفويض الطلاق؛ فإذا قال الرجل: لامرأته: طلقي نفسك واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، وقعت الواحدة، ولغا الزائد.
ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت نفسها واحدةً، وقعت الواحدة. وقال أبو حنيفة (3) : إن فوّض إليها ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، كما ذكرنا، وإن فوض إليها واحدة، وطلّقت نفسها ثلاثاً، لم يقع شيء.
ولو قال لامرأته: طلقي نفسك، ونوى تفويض الثلاث إليها، فقالت: طلقت نفسي، ونوت الثلاث، وقعت الثلاث؛ فإن التفويض بالنية في العدد بمثابة التفويض بالكنايات، مع العلم بأن التعويل فيها على النية.
فإذا قال: أبيني، فقالت: أبنت نفسي، فلا بد من النية في الجانبين، فالقول في النية المتعلقة بعدد الطلاق كالقول في النية المتعلقة بأصل الطلاق.
ولو قال لها: طلقي نفسَك، ونوى الثلاث، فقالت: طلقت نفسي، ولم تتعرض للنية، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يقع إلا طلقةٌ واحدة؛ فإنها لم تنو العدد، فنفذ اللفظ فيما هو صريح فيه من غير مزيد، وهو كما لو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي واحدة.
__________
(1) ر. المبسوط: 6/73، مختصر اختلاف العلماء: 2/421 مسألة 921، الاختيار: 3/133، اللباب: 3/42.
(2) زيادة من المحقق.
(3) ر. البدائع: 3/124، إيثار الإنصاف: 156، الاختيار: 3/137.(14/95)
وذهب بعض الأصحاب إلى أن الزوج إذا نوى الثلاث ولم تتعرض المرأة للنية، وقد جرى النطق بالصريح من الجانبين، فيقع الثلاث؛ تعويلاً على نيته؛ فإنه فوض إليها لفظ الطلاق، وهو تَولَّى قصدَ العدد.
وهذا ضعيفٌ جداً؛ إذ لا خلاف أنه لو قال: أبيني نفسك، ونوى، فقالت: أبنت نفسي، لم يقع الطلاق تعويلاً على نيته، فليكن الأمر كذلك في العدد؛ فإن الصريح كناية في العدد.
9023- ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: "طلقت نفسي"، أو قالت: "طلّقتُ"، ولم تتلفظ بعدد ولم تنوِه (1) ، فقد قال القاضي: يقع الثلاث؛ فإن قولها جرى جواباً، والإيجاب في حكم المعاد في الجواب، وقد يجري القبول على وجهٍ لا يفهم لو قدر منفرداً، ولكنه ينتظم مع ابتداء الخطاب بسبب البناء عليه، ثم قال: ليس هذا كما لو قال: طلقي نفسك، ونوى الثلاث، ولم يتلفظ بها، فقالت: طلقت نفسي ولم تنو الثلاث، وذلك أن العدد في جانب الزوج مربوط بالنية، فلا يمكن بناء كلامها على النية، فإن التخاطب لا يقع إلا بالنية وهي على الجملة لا تحل محل الصّريح.
هذا كلامه.
وقد ذكرنا خلافاً فيه إذا نوى الزوج العدد، ولم تنو المرأة، ومن تمسك بالوجه الضعيف، وحكم بأنّ الثلاث تقع، فله أن يعتضد بما إذا قال الزوج صريحاً: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي.
ولنا تفصيلٌ ونظر في تصريح الزوج بتفويض الثلاث مع اقتصارها على الطلاق من
__________
(1) عبارة الأصل، فيها تكرار، وزيادة هكذا: "ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: "طلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي، ولم تتلفظ ... "
والتعديل والتصويب من المحقق على ضوء مختصر العز بن عبد السلام، فقد جاء فيه: "وإن قال: طلقي نفسك ثلاثاًَ، فقالت: طلقت نفسي، أو قالت طلقت، ولم تنو العدد، طلقت ثلاثاً عند القاضي ... " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ورقة 139 يمين جزء: 3) .(14/96)
غير ذكر عددٍ، [فنقول] (1) : إن كان التفريع على أن تفويض الطلاق تمليكٌ، وجوابها بمثابة القبول في مقابلة الإيجاب، فيتجه ما ذكره من بناء كلامها على كلامه؛ فإن قولها على قول التمليك بمثابة القبول مع الإيجاب.
فأما إذا جعلنا التفويض توكيلاً، فالوجه أن لا يقع الثلاث؛ فإنّ تصرف الوكيل لا ينبني على التوكيل، وإنما هو افتتاح تصرّف، ولو كان مبنياً على التوكيل، لشُرط اتصاله به.
ومن قال: يشترط على قول التوكيل اتصالُ كلامها بالتفويض، فقد يخطر له ما ذكره القاضي أيضاً.
ويجوز للفقيه أن يقلب هذا الترتيب، فيقول: إن جعلنا التفويض توكيلاً، فلا نبني كلامها على كلامه، وإن جعلناه تمليكاً، فالمسألة محتملة: يجوز أن يسلك فيه مسلك البناء، كما ذكره القاضي، ويجوز أن يقال: لا يبنى قولها على قوله؛ فإنها متصرفة على الابتداء تصرفاً له صيغة التمام، وليس كالقبول الذي لا يقع إلا شقّاً، والدليل عليه أنه لو قال: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي واحدة، وقعت الواحدة، ولو قال: طلقي نفسك واحدة، فطلقت نفسها ثلاثاًً وقع من الثلاث واحدة، ولو كان تطليقها مع تفويضه كالإيجاب والقبول، لما وقع الطلاق مع الاختلاف؛ فإن الرجل لو قال لمن يخاطبه: بعت منك عبدي هذا بألف، فقال: اشتريته بألفين، لم ينعقد العقد، ولم نقل: ينعقد بالألف ويلغو الألف الزائد، وهذا النوع ينفذ من الوكيل.
هذا منتهى القول في تفويض العدد مع تصوير موافقتها ومخالفتها لفظاً وقصداً.
9024- ثم قال الشافعي: "ولو طلق بلسانه واستثنى بقلبه ... " (2) وهذا طرف من أطراف التديين، وقد استقصيناه فيما تقدم.
__________
(1) في الأصل: ونقول.
(2) تمام العبارة: "ولو طلق بلسانه، واستثنى بقلبه، لزمه الطلاق، ولم يكن الاستثناء إلا بلسانه. (ر. المختصر: 4/76) .(14/97)
فصل
قال: "ولو قال: أنت عليَّ حرام يريد تحريمها بلا طلاق ... إلى آخره" (1) .
9025- هذا الفصل نفرضه حيث لا نحكم بأن لفظ التحريم صريح في الطلاق، ثم نذكر مقصود الفصل، حيث نحكم بكونه صريحاً في الطلاق.
9026- فإذا لم نجعله صريحاً في الطلاق وقد قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أو قال: حرّمتك، أو أنت محرّمة، فقد قال الأصحاب: إن نوى بما قال طلاقاً، فهو طلاق.
وإن نوى الظهار، فهو ظهار.
وإن نوى تحريم ذاتها على نفسه، تلزمه كفارة اليمين بنفس اللفظ، ولم يتوقف لزومها على إلمامه بها.
وإن أطلق اللفظ، ولم يقصد شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أن اللفظ صريح في إيجاب الكفارة.
والثاني - أنه كناية بحيث لا يجب بمُطْلَقه من غير نيةٍ شيءٌ.
والثالث - أنه كناية في حقّ الحرة، صريحٌ في حقّ الأمة إذا خاطبها به، وهذا الوجه ذكره العراقيون.
9027- التوجيه: من جعله صريحاً في إيجاب الكفارة، تعلق بظاهر قوله تعالى في مخاطبة النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيات [التحريم:1-3] ، والصحيح في سبب نزولها أنه عليه السلام خلا بمارية القبطية في نوبة حفصة، فاطلعت عليه، وقالت: أفي بيتي؟ وفي يومي؟ فاسترضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبها،
__________
(1) ر. المختصر: 4/76.(14/98)
وحرّم مارية على نفسه، فنزلت الآية وقال تعالى في مساقها: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) ، ثم مقتضى القرآن إيجاب الكفارة بنفس اللفظ من غير تعرّض لقصد،
__________
(1) قصة تحريم مارية القبطية على هذا النحو الذي ساقه إمام الحرمين رواها سعيد بن منصور في سننه: 1/390 ح 1707، والبيهقي في الكبرى: 7/353، ورواها الدارقطني من حديث عمر في السنن: 4/41، 42 ح 122، وأبو داود في المراسيل: 202 ح 240.
وهو عند النسائي من حديث أنس بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] : سنن النسائي الصغرى: كتاب عشرة النساء، باب الغيرة، ح 3411، ومن حديث أنس أيضاً أخرجه الحاكم في المستدرك، بلفظ النسائي، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه" وأقره الذهبي (ر. المستدرك: 2/493) .
قال الحافظ بعد أن ساق هذه الأحاديث: "وبمجموع هذه الطرق، يتبين أن للقصة أصلاً، أحسب، لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل رحمه الله عن طريق النسائي، وكفى بها صحة، والله الموفق" انتهى كلام الحافظ (ر. تلخيص الحبير: 3/421، 422، ح 1732) .
قال عبد العظيم: خرّج الحافظ في التلخيص هذه الأحاديث، عن قصة مارية وحفصة كما أوردها الرافعي في الشرح الكبير، ولم يتعقبه -كعادته- بذكر الأحاديث (الأصح) التي اتفق عليها الشيخان البخاري ومسلم، وغيرهما، وجاء فيها قصة أخرى لنزول الآيات، لا علاقة لها بمارية، ومخالطتها في بيت حفصة، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنةِ جحش، ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن: أيتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلتَ مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، فال: "لا، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحداً" (البخاري، كتاب التفسير: سورة التحريم، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ، ح 4912، وانظر أرقام: 5216، 5267، 5268، 5431، 5599، 5614، 6691، 6972) وبنحوه رواه مسلم عن عائشة، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته، ولم ينو الطلاق، ح 1474، ورواه أيضاً ابن سعد، وابن المنذر، وعبدُ بن حميد، وابن مردويه، قال ذلك الألوسي، وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن عائشة أن شرب العسل كان عند حفصة، والقائل سودة وصفية.
قال النووي عند شرح حديث مسلم: هذا ظاهر في أن الآية نزلت في سبب ترك العسل، وفي كتب الفقه أنها نزلت في تحريم مارية ثم نقل عن القاضي عياض قوله: الصحيح في سبب =(14/99)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح، قال النسائي: إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية" انتهى كلام النووي ناقلاً إياه عن القاضي عياض.
ثم قال النووي: "قال القاضي بعد هذا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب".
ثم أقول: قال الألوسي: "وبالجملة الأخبار متعارضة، لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح، أن الآية في قصة العسل، لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح". ثم قال الخفاجي: نقلاً عن النووي أيضاً: "الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله عنها" انتهى ما قاله الألوسي نقلاً عن الخفاجي ناقلاً إياه عن النووي. (روح المعاني: 28/146، 147) .
وبهذا أصبح القائل إن الصحيح أنها في قصة العسل، وأن قصة مارية لم ترد من طريق صحيح، وأن الصواب أن شرب العسل كان عند زينب، أصبح القائل لكل هذا هو النووي في شرح مسلم. والواقع أن النووي نقله عن القاضي عياض وبالرجوع إلى حاشية الشهاب الخفاجي، برئت ساحة الألوسي، فالذي قَوَّل النووي ما لم يقله هو الخفاجي في حاشيته، حيث نسب إليه جازماً ما حكاه عن القاضي عياض، فقد قال الشهاب عند تفسير أول سورة التحريم: "اختلف في سبب النزول: فقيل: قصة مارية، وقيل: قصة العسل، وقال في شرح مسلم: الصحيح أنها في قصة العسل، لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح ... وفي شرح مسلم أيضاً: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب" انتهى بنصه كلام الخفاجي، وعنه أخذه الألوسي، وكم من الأبحاث أخذت عن الألوسي ونسبت إلى النووي ما لم يقله بل نقله عن القاضي عياض!!! ووقوع الخفاجي في هذا (الوهم) أو هذا (التسرّع) شاهد صدق على قصور البشر.
الخلاصة: وخلاصة ما تقدم نجمعها في أمور:
ا- أن الأحاديث في سبب نزول الآيات متعارضة بعضها في قصة العسل، وبعضها في قصة مارية.
2- أن أحاديث قصة العسل في أعلى درجات الصحة؛ فهي في الصحيحين وغيرهما.
3- أن قول القاضي عياض: إن قصة مارية لم تأت من طريق صحيح لم يخالفه فيه أحد، إذا حملناه على تفاصيل القصة من مخالطة مارية في بيت حفصة، وحوار حفصة في ذلك، فهذا بالاتفاق لم يأت من طريق صحيح.
4- احتج الحافظ ابن حجر في إنكاره على القاضي عياض -قال: أحسب أن للقصة أصلاً- بأمرين: =(14/100)
وهذا بمثابة ذكر الظهار وكفارته في آيات الظهار.
ومن قال: مطلق التحريم لا يكون صريحاً في اقتضاء الكفارة، احتج بأنّ الزوج لو نوى به الطلاق، لكان طلاقاً، ولو كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، لما جاز نقله عما هو موضوع فيه، كالطلاق إذا نوى الزوج به ظهاراً، وكالظهار إذا نوى به طلاقاً.
ومن قال بالوجه الثالث، اعتمد القرآن وسببَ نزوله، وقال: المعتمد في هذا الأصل الكتاب، وهو وارد في المملوكة، والحرّةُ مشبَّهةٌ بالمملوكة، فلا يمتنع أن يكون اللفظ صريحاً في موضوعه.
9028- ثم مذهب الشافعي أن التحريم حيث يوجب الكفارة لا يتنزّل منزلة اليمين، حتى يقال: يتوقف وجوب الكفارة على مخالفة التحريم بالإقدام
__________
= أ- مجموع الطرق.
ب- رواية النساني من حديث أنس.
وأقول: ليس في الأمرين ما يردّ كلام القاضي عياض، أما مجموع الطرق، ففيه ما فيه، وليس هذا الموضع مما يعتمد فيه التصحيح أو التقوية بمجموع الطرق.
أما حديث النسائي، فليس فيه تفاصيل القصة، بل لفظه كما رواه الحافظ نفسه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} فيبقى قول القاضي عياض: "لم تأت قصة مارية من طريق صحيح" على صوابه، حيث يردّ القصة التي تحوي هذه التفاصيل.
ثم يأتي هنا السؤال: هل يجوز الترجيح بقوة الرواية؟ وهل يمكن الجمع بين القصتين، كما جعله الحافظ احتمالاً في الفتح، وكما قاله الشوكاني في تفسيره.
ولكن يجب أن نؤكد عند الجمع أن تحريم مارية لم يكن على هذا النحو الذي ورد في الفصة، فليس هذا ثابتاً باتفاق، بل يجب الوقوت عند ما رواه النسائي: "حرمها على نفسه" فليس من الرواية ولا من الدراية أن نخترع تفاصيل لسبب التحريم إذا صح أصله. والله أعلم.
وأختم بتساؤل: هل يفهم من قول الإمام النووي في شرح مسلم: "وفي كتب الفقه أنها نزلت في تحريم مارية" هل يفهم من هذا نوع إنكارٍ على الفقهاء؟ لا سيما وأنه لم يتعرض للقضية أصلاً وأعرض عنها تماماً في (الروضة) . الله أعلى وأعلم.
ونضيف ملاحظة أخرى، هي أن كتب الفقه اعتمدت هذه القصة -قصة مارية- دون قصة العسل على ضعف قصة مارية؛ لأنها هي الأوفق للتمثيل والاستشهاد في تحريم الأبضاع، فهذا عذرهم، والله أعلم.(14/101)
والاستمتاع، وأبو حنيفة (1) جعل لفظ التحريم يميناً بمثابة قوله: "والله لا أطؤك" ثم أقامه إيلاءً في النكاح، وحلفاً في ملك اليمين، ثم لم يخصص أصله بالفروج، بل قضى بأن تحريم الأطعمة والأشربة وغيرها من المستحلاّت بمثابة اليمين المعقودة على الامتناع منها. فإن خالف اليمين، وجبت الكفارة.
وما ذكرناه من اقتضاء التحريم الكفارةَ يختص بفرج الحرّة والأمة ولا يتعداهما إلى ما عداهما من المستحلات، وسنذكر حقيقة هذا في أول كتاب الأَيْمان، إن شاء الله.
9029- ولو قال لزوجته أو أمته: أنت عليّ حرام، ثم زعم أنه أراد الحلف على الامتناع من الوطء، ففي قبول ذلك منه وجهان: أحدهما - أن اليمين لا تنعقد، وهو الذي صححه أئمة المذهب؛ فإن عماد اليمين ذكرُ اسمٍ معظَّم أُمرنا بالإقسام به إذا أردنا القسم، ولفظ التحريم ليس صريحاً فيه ولا كناية، وإنما لفظ التحريم ذكر المقسَم فأين القسم والاسم المقسَم به؟
ومن أصحابنا من قال: يثبت القسم إذا نواه؛ فإن موجب القسم عند الحنث يضاهي موجب التحريم، وقد قال أهل اللسان: "قول القائل: "لأدخلنّ الدار" قسمٌ، واللام لام قسم" فليس يبعد تحصيل اليمين بالنية إذا جرى مقصود اليمين بعبارة مؤكدة.
وهذا غير مرضي؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن الرّجل إذا قال: لأدخلن الدار، ونوى القسم، لم يكن مقسماً، وأحكام الشرع لا تؤخذ من تقديرات العربية، واليمينُ منها منوطةٌ تعبداً باسم الله، أو بذكر صفةٍ من صفاته الأزلية.
ثم من جعل التحريم بالنية يميناً تردَّدُوا في لفظ التحريم في سائر المستحلاّت كالمطاعم والملابس وما في معناها، فقال القيّاسون من هؤلاء المفرّعين: التحريم يصير يميناً بالنية في جميع هذه الأشياء.
وقال آخرون: التحريم إنما يصير يميناً في المنكوحات والإماء.
__________
(1) المبسوط: 6/70، مختصر اختلاف العلماء: 2/413 مسألة 922، حاشية ابن عابدين: 2/553.(14/102)
ومما يجب الإحاطة به أن هذا الخلاف الذي ذكرناه آخراً إنما نشأ من لفظة الشافعي، وهي أنه قال: "إذا حرم زوجته، يقال له: أصب وكفّر" (1) ، فظن ظانون أنه رضي الله عنه أوجب الكفارة بالإصابة على تقدير اليمين، وليس الأمر كذلك، بل أراد أن التحريم لا يحرّم وطأها بخلاف الظهار، فإنه يثبت تحريماً ممدوداً إلى التكفير، فأبان الشافعي أن التحريم لا يوجب حجراً أو حظراً في الوطء.
فإن قيل: هلا كان التحريم كالظهار؟ قلنا: لو كان كالظهار، لكان ظهاراً، فهو إذاً لا يقتضي التحريم، ولكن يقتضي وجوب الكفارة، وهو نازع من وجهٍ إلى اليمين، وليس يميناً ويشبه في ظاهره الظهارَ، وليس ظهاراً ولا في معناه.
9030- ولو قال لنسوة: حرمتكن وقصد تحريم أنفسهن، فيلزمه كفارة واحدة أم كفارات بعددهن؟ فعلى قولين ذكرهما صاحب التقريب والقاضي، وكان شيخي وطوائف من أئمة المذهب يقطعون بأن الكفارة تتّحد، فمن ذكر القولين قرّب التحريم المضاف إلى النسوة في هذا المقام من الظهار، [فلو] (2) قال الزوج لنسوةٍ: أنتنّ عليّ كظهر أمّي، ففي تعدد الكفارة قولان، سيأتي ذكرهما.
ومن قطع باتحاد الكفارة، فوجهه أن الظهار يُثبت التحريم في النسوة، ويشابه الطلاق من هذا الوجه، والتحريم لا يثبت في ذواتهن ويشابه اليمين من هذا الوجه، ويشابهها أيضاً في صفة الكفارة.
ومن سلك طريقة القولين قال: وجوب الكفارة في التحريم لا يتوقف على المخالفة، فكان حريّاً بأن يشبّه بالظهار، ولو خاطب إماء وحرمهن بكلمة، فهو كما لو حرّم نسوة بكلمة.
ثم إن قضينا باتحاد الكفارة إذا خاطب النسوة أو خاطب الإماء، فلو قال لنسوته وإمائه أنتن محرمات عليّ، أو حرمتكن، فمن أصحابنا من قال: لا تجب إلا كفارة
__________
(1) ر. المختصر: 4/76. (وأصله في الإملاء رواه عنه المزني في المختصر) .
(2) في الأصل: ولو (بالواو) .(14/103)
واحدة تفريعاً على اتحاد الكفارات إذا خاطب نسوةً مجردات أو إماء منفردات، وهذا ظاهر القياس.
ومن أصحابنا من قال: هاهنا تتعدد الكفارة لتعدد الجهة نكاحاً وملكاً.
وهذا خيالٌ لا أصل له، وإن كان مشهوراً، حكاه الصيدلاني وغيره، ثم صاحب الوجه الضعيف حيث انتهى التفريع إليه لا يوجب إلا كفارتين؛ نظراً إلى تعدد الملك والنكاح، وهذا كلام مضطرب، والوجه تنشئة الخلاف من عدد المحرمات منكوحات كنّ، أو إماء، أو مختلطات.
9031- وكل ما ذكرناه مفروض فيه إذا لم يكن لفظ التحريم صريحاً في الطلاق.
فإن كان صريحاً في الطلاق لاستفاضته وشيوعه، وتفريعنا على أن مأخذ الصرائح الشيوع، فإذا أطلق التحريم، فهذا نفرّعه على أن التحريم في اقتضاء الكفارة صريح أم كناية؟ وتحقيق القول فيه أنا إن حكمنا بأن مأخذ الصرائح الشيوع، فلا يتصور كون لفظ التحريم صريحاً في البابين؛ فإن المعنيّ بالشيوع أن لا يستعمل في اطراد العادة إلا في معنىً، ولا يقع الحكم للفظ بكونه صريحاً إلا بشرطين: أحدهما - الاستفاضة، والآخر - أن لا يستعمل إلا في معنى المطلوب.
وإذا بان أنا نضم إلى الشيوع الحصر، فلا يتصور أن يشيع لفظ على الحد الذي ذكرناه في معنيين مع اتحاد الزمان والمكان، وهذا بمثابة إطلاق الغلبة في النقود، فالغالب هو الذي يندر التعامل على غيره، ويستحيل تقدير الغلبة في نوعين؛ فإنّ قصارى هذا التقدير يجرّ تناقضاً، وهو أن كل واحدٍ منهما أغلب من الثاني، فيلزم منه إثبات شيئين كلّ واحدٍ أغلب مما هو أغلب منه. فإذا شاع اللفظ في مسألتنا في أحد المعنيين، كان صريحاً فيه كناية في الثاني.
9032- وإن جوزنا أن يكون للصريح مأخذان: أحدهما - ورود الشرع، والآخر - الشيوع على النعت المقدّم، واعتمادُ الشرع في باب الصرائح يشهد له نصُّ الشافعي على أن الفراق والسراح صريحان، وإن عرفنا قطعاً أنهما ما شاعا شيوعاً يتميزان به عن الخليّة، والبريّة، والبائن.(14/104)
فلو فرض شيوع التحريم في الطلاق وفرعنا على أن الصرائح تؤخذ من مأخذ الشرع أيضاً، فهل ينتهي التفريع إلى كون التحريم صريحاًً في البابين؟ وكيف السبيل في ذلك؟ هذا فيه نظر يجب الاهتمام به، ولا يتجه فيه إن أثبتنا المأخذين إلا أمران: أحدهما - أن نسلك مسلك التغليب إذا جرى اللفظ مطلقاً، ونعتقد أن الطلاق أغلب مثلاً لوجوه لا تكاد تخفى، واللفظ يطابق المعنى إذا كان طلاقاً؛ فإن الطلاق يحرم النفس، والتحريمُ الموجب للكفارة لا يحرم النفس. هذا مسلكٌ.
وإن انقدح للفقيه استواء الوجهين، فلا مطمع في تحصيل معنيين بلفظ واحدٍ، هذا ما لا سبيل إليه وإن جرّد القاصد قصده إليهما جميعاًً؛ لأن اللفظ الواحد لا يصلح لمعنيين جميعاً إذا لم يوضع في وضع اللسان للجمع، فلا يتجه إذاً إن لم ينقدح وجهٌ في الترجيح إلا أنه يخرج عن كونه صريحاًً في البابين جميعاًً، لتعارض العرف والشرع، واستحالة الجمع، وامتناع تخصيص أحد الجانبين، فلا [يعمل] (1) اللفظ إذاً في أحد المعنيين إلا بالقصد.
هذا منتهى النظر.
9033- ومن لطيف الكلام في هذا أن الصريح [الذي هو] (2) على الدّرجة العليا.
كالطلاق، فإنه لا يُعدَل عن ظاهره إلا على مسلك التديين، ويلتحق الظهار به أيضاً لاستوائهما في الجريان في الجاهلية والإسلام، وكل ما يلتحق بالصرائح لعموم عرفٍ متجدّدٍ -فالعرف لا ثبات له- فقد يعرض استعقاب العرف عرفاً آخر، وقد مهدنا في قاعدة الصرائح أن من الألفاظ ما يعمل مطلَقُه، وتنصرف النية فيه، وهذا من ذاك، فالتحريم إذا شاع على الحدّ الذي نعهده، فلا يكاد يبلغ مبلغ شيوع الطلاق في كل زمانٍ ومكانٍ، ولا يعد مستعمل التحريم في غير مقصود الطلاق آتياَّ بَشاذًّ نادرٍ، بخلاف من يستعمل الطلاق ويبغي غير معناه، ومن أحاط بهذه المرتبة من الصرائح، بنى عليه ما ذكرناه، من أن التحريم وإن كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، فيصير طلاقاً بالنية.
__________
(1) في الأصل: يعلم. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: الصريح (النهوُ) على الدرجة العليا (بهذا الرسم تماماً) .(14/105)
هذا تحصيل القول في ذلك، وتبليغه المرتبة الأقصى في البيان.
9034- ومما يتعلق بتمام الكلام في فصل التحريم أنه لو قال لأمته التي هي أخته من الرضاع أو النسب: حرّمتك، أو أنت عليّ حرام، وزعم أنه أراد تحريمها في ذاتها، فلا تلزمه بهذا القول كفارةٌ، لأنه وصفها بما هي متصفة به من التحريم، وإنما يُلزم لفظُ التحريم الكفارةَ إذا خاطب به مستحلّه، فيناقض لفظُه موجَبَ الشرع، فيعدّ ما جاء به كلاماً مخالفاً للشرع، ثم تعبّد الشرعُ فيه بكفارة.
وإذا قال لأمته المعتدة، أو المرتدة، أو المزوّجة، أو الوثنية، أو المجوسية: أنت عليّ حرام، وأراد تحريمها في ذاتها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لايلزمه شيء لأنه وصفها بالتحريم في حالةٍ كانت فيها محرّمة، فلا تناقض، ولا حلف.
والثاني - يلزمه لأنها بمحل أن يستبيحها بتغاييرَ تلحق.
وإذا خاطب بالتحريم امرأته المُحْرِمة، ففيه وجهان، كما ذكرناه.
وأطبق المحققون على أنه لو خاطب الرجعية، لم يلتزم شيئاً، لأنها مُحرَّمة خالية عن الحلّ، وفيها احتمال من طريق المعنى، وإن لم نجد فيه نقلاً.
وإذا خاطب بالتحريم الصائمة والحائض، التزم الكفارة؛ فإن تلك العوارض لا حكم لها، والتحريم لا يعم أيضاً جميع وجوه الاستمتاع، ولفظ التحريم عام من جهة الوضع.
فإذا قال لامرأته: أنت عليّ كالميْتة، أو الدم، أو الخمر، أو الخنزير، فهو كما لو خاطبها بلفظ التحريم، ويمكن أن يقال: إن جعلنا التحريم صريحاً لمورد القرآن، فهذه الألفاظ لا تكون صرائح، والعلم عند الله. وقد انتجز قولنا في قاعدة التحريم.(14/106)
فصل
قال: "فأما ما لا يشبه الطلاق مثل قوله: بارك الله فيك ... إلى آخره" (1) .
9035- غرض الفصل أنّ شرط ما يوصف بكونه كناية أن يكون مشعراً بالمقصود، ثم إن ظهر إشعاره، لم يخف كونه كنايةً، وإن خفي، فقد يُثيرُ خفاؤهُ خلافاً. فلو قال لامرأته: تجرّعي أو تردّدي أو ذوقي، فهذه الألفاظ كنايات، فإنها من طريق الاستعارة تشعر بالفراق، ولو قال: اشربي، وزعم أنه نوى الطلاق، فوجهان، قدمنا ذكرهما، ومن جعله كناية قدّر فيه اشربي كأس الفراق.
وكان شيخي يقطع بأن قوله: "كلي" ليس بكنايةٍ، وألحق القاضي والعراقيون كلي بقولهِ: "اشربي" وهذا فيه [بعد] (2) ولو قال: بارك الله فيك، أو اسقيني، أو أطعميني، أو ردّديني، أو ما أشبه ذاك، فليس بطلاق، لأن هذه الألفاظ غيرُ مشعرةٍ بالفراق.
وإن حملها حامل على معنىً بعيد، عُدَّ متكلفاً، آتياً بما يلتحق بقسم التعقيد والإلغاز.
ولو قال: "أغناكِ الله"، ونوى الطلاق، فقد ذكر العراقيون وجهين، ومأخذ أحدهما من قوله عزّ وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] فكأنَّه قال لها: فارقيني يغنك الله. وهذا بعيد، ولا يجوز أن يحمل على ذلك قوله: "بارك الله فيكِ"، وإن أمكن على بعدٍ أن يقول: أردت أغناك الله؛ فلا تنتهي التقديرات في الكنايات إلى هذا المنتهى.
فليقس القائس على محل الوفاق والخلاف ما لم نذكره.
فصل
9036- ثم قال الشافعي: "ولو قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً [للسُّنة] (3) وقعن معاً ... إلى آخره" (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 4/77.
(2) في الأصل: بعيد. والمثبت اختيار من المحقق.
(3) زيادة من نص المختصر.
(4) ر. المختصر: 4/77.(14/107)
9037- مقصود الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاً وقعت الثلاث عند الشافعي وأصحابه، وهو مذهب عامة العلماء.
وذهب بعض السلف إلى أنه لا يقع إلا واحدة، وهذا إنما قاله بسبب أن قول الرجل: "أنت طالق" مستقلٌّ بنفسه، فينبغي أن تبين المرأة، به فإذا بانت، لم يلحقها إلا واحدة. ومعتمد مذاهب العلماء أنّ آخر الكلام منعطفٌ على أوّله، كما أنّ أوّله مربوط بآخره، وقوله: "ثلاثاً" من تمام قوله: "طالق".
ولو قال للّتي لم يدخل بها: "أنت طالق وطالق" بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية وستأتي هذه المسائل بما فيها موضحة إن شاء الله تعالى.
***(14/108)
باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره
قال الشافعي: "وأي أجلٍ طلّق إليه لم يلزمه قبل وقته ... إلى آخره" (1) .
9038- إذا علق الرجل طلاق زوجته بأمرٍ في الاستقبال، تعلّق به، ولم يقع قبل تحققه، ولا فرق بين أن يكون ما علّق الطلاقَ به مما يأتي لا محالة، وبين أن يكون الظن متردداً فيه: قد يكون وقد لا يكون؛ فإذا قال: إن دخلت الدارَ، فأنت طالق، فهذا مما لا يقطع بكونه (2) .
فإذا قال: إذا طلع الشمس، فأنتِ طالق، فهذا مما يكون لا محالة، والطلاق لا يقع في الموضعين قبل تحقق الصفة؛ خلافاً لمالك (3) ؛ فإنه قال: إذا علق الزوج الطلاق بما يكون لا محالة، انتجز الطلاق في الحال، وإنما يقف وقوفه على وجود الصفة إذا لم تكن مستيقنة الكون، قد تكون وقد لا تكون.
9039- ثم ذكر الشافعي مسائل في ذكر الأوقات التي تُفرض متعلقاً للطلاق والعتاق، والغرض منها بيان معاني الألفاظ المستعملة فيها، فقال: "لو قال في شهر كذا ... إلى آخره" (4) .
إذا قال الزوج لزوجته: أنت طالق، في أول شهر رمضان، طلقت كما (5) أهلّ الهلال.
__________
(1) ر. المختصر: 4/77.
(2) بكونه: أي بوجوده.
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/748 مسألة 1357، وعيون المجالس له: 3/1227 مسألة 854.
(4) ر. المختصر: 4/77.
(5) كما: بمعنى عندما.(14/109)
ولو قال: أنت طالق في شهر رمضان، وقع الطلاق مع أوّل جزء منه، وكذا إذا قال: في أول شهر كذا، أو في غرّة شهر كذا، أو في أول غرة شهر كذا، فالطلاق في هذه المسائل يقع مع أول جزء من الهلال، والأصل المعتمد أن اسم الشهر إذا تحقق، فقد تحققت الصفة التي هي متعلق الطلاق، والطلاق ليس معلَّقاً بدوام الصفة، ولا بنجازها، فاقتضى ذلك الوقوع مع أول الاسم.
ومن دقيق الكلام في هذا أنه قد يظن الظان أن الوقت ظرفٌ للطلاق وشرط الطلاق الواقع فيه أن يحتوش بزمان سابق، وهذا تقدير محال، فالمعنيّ بالظرف الزماني انطباق فعلٍ على زمان، فأما اشتراط تقدم [زمان] (1) أو تأخّر، فلا.
9040- وإذا قال: أنت طالق في يوم كذا، وقع الطلاق مع أول جزء من الفجر، وقال أبو حنيفة (2) : يقف وقوع الطلاق على انتهاء ذلك اليوم بغروب الشمس، وهذا بناه على أصلٍ له في العبادات، وذلك أنه قال: "كل فعلٍ عُلِّق بوقتٍ موسّع، تعلّق بانتهاء ذلك الوقت" كمصيره إلى أن الصلاة تجب بآخر الوقت، وهذا جهل بموضوع البابين: أما الصلاة، فإن ربط وجوبها بآخر الوقت أخذاً من أن المؤخِّر لا يعصي، فهذا له وجهٌ على حال، وفي معارضته كلامُ أصحابنا. فأما مأخذ وقوع الطلاق المعلق، فمِن تَحقُّق الصفة، ولا وقوف بعد تحقق الصفة، وليس هذا مأخوذاً من وجوبٍ حتى ينظرَ الناظرُ في إثبات المعصية ونفيها.
9041- وإذا قال: أنت طالق في آخر شهر رمضان، ففي المسألة وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها تطلق في آخر جزء من آخر الشهر؛ فإن ذلك الجزء هو الآخر حقاً.
والوجه الثاني - أنها تطلق مع أول جزء من ليلة السادس عشر؛ فإنه إذا مضى النصف الأول عُدَّ ما بعده آخراً، وهذا أول الآخر. وقد ذكرنا أن الطلاق يقع كما (3) تحقق الاسم.
__________
(1) في الأصل: زماني.
(2) ر. فتح القدير: 3/376، حاشية ابن عابدين: 2/445، الفتاوى الهندية: 1/368.
(3) كما: أي عندما.(14/110)
وإذا قال: أنت طالق في أول آخر الشهر، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر، فإنا أوضحنا أن النصف الأخير ينطلق عليه اسم الآخر، والجزء الأول من النصف الثاني أول الآخر، وهذا بناء على ما ذكرناه من أنه إذا قال: أنت طالق في آخر الشهر، يقع الطلاق في الجزء الأول من ليلة السادس عشر، وأولُ الاَخِر والآخرُ بمثابة، فإن الآخر، وإن كان مطلقاً، فنحن نكتفي بأوله.
هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع كما (1) طلع الفجر من اليوم الأخير من الشهر، وهذا بناء على قولنا: إذا قال لامرأته: أنت طالق آخر الشهر تطلق مع الجزء الأخير، فإذا ضَمَّ إلى الآخر أوّلاً مضافاً إليه، وقال: أنت طالق في أول آخر الشهر، طلبنا أقرب أولٍ إلى الآخر، فوجدناه اليوم الأخير.
والمسألة محتملة حسنة.
9042- ولو قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، ففي المسألة أوجه ذكرها العراقيون وغيرهم: أحدها - أنها تطلّق مع آخر جزء من الليلة الأولى من الشهر؛ فإن هذا أقرب زمان يضاف فيه الآخر إلى الأول.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع مع آخر جزء من اليوم الأول، فنعتبر الليلة واليوم في الأولية، ثم نأخذ آخر هذا الزمان.
والوجه الثالث - أنا نحكم بوقوع الطلاق مع آخر جزء من اليوم الخامس عشر، فإن النصف الأول يعدّ أول الشهر، وآخر هذا الأول ما ذكرناه.
9043- ولو قال وهو في بياض نهار: إذا مضى اليوم فأنت طالق، طلقت بغروب شمس ذلك اليوم، وإن لم يبق من اليوم إلا لحظة، لأنه عَرَّف اليوم، فاقتضى التعريف ما ذكرناه.
ولو قال والحالة هذه: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق حتى ينتهي في الغد إلى الوقت الذي عقد اليمين فيه، لأنه نكّر اليوم، فالاسم المنكر
__________
(1) أي: عندما طلع الفجر.(14/111)
يقتضي مسمّى كاملاً، وسبيلُ [التكميل] (1) ما ذكرناه.
ولو قال بالليل: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فيقع الطلاق بغروب شمس الغد.
ثم لا يخفى أن الطلاق يقع مع الغروب، وهو أول جزء من الليلة المستقبلة، فلا يقع الطلاق مع آخر جزء من النهار؛ فإن الطلاق معلق بمضي النهار.
9044- ولو قال: أنت طالق في سَلْخ شهر رمضان، ففي ذلك أوجه: قال العراقيون: يقع الطلاق مع آخر جزء من الشهر؛ إذ به الانسلاخ.
وقال قائلون: يقع الطلاق كما (2) يطلع الفجر من اليوم الأخير، وهذا ما ذكره القاضي.
ويحتمل أن يقال: يقع الطلاق مع أول جزء من اليوم الذي يبقى معه ثلاثة أيام إلى آخر الشهر؛ فإن السلخ يطلق على الثلاثة من آخر الشهر، كما أن الغُرة تطلق على الثلاثة من أول الشهر.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر - أنه إذا مضى من الشهر جزء، وقع الطلاق؛ فإن هذا أول الانسلاخ. وهذا على نهاية السقوط وليس مما يعتدّ به.
ولو قال: أنت طالق عند انسلاخ شهر رمضان، لم يتجه فيه إلا القطع بأنه يقع مع آخر جزء من الشهر، ووجهه لائح.
9045- ووصل الأصحاب بهذا أنه إذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فإذا رأى الهلالَ غيرها، وهي لم تره، فالذي ذكره الأصحاب أن الطلاق يقع؛ فإن الرؤية تُطلَق والمراد بها العلم، ولو قال: أردت بالرؤية العيان، فلا شك أن هذا مقبول باطناً، إن كان صادقاً بينه وبين الله تعالى، وهل يقبل ذلك ظاهراً؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقبل؛ لأن الرؤية المطلقة إذا أضيفت إلى الأهلّة عُني بها في الظاهر وقوع الهلال وثبوته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" وأراد العلم به.
__________
(1) في الأصل: التمليك. وهو تصحيف طريف.
(2) كما: أي عندما.(14/112)
والوجه الثاني - أنه يُقبل؛ فإن إرادة العيان بالرؤية ليس من الأمور البعيدة.
ولو قال: إذا رأيت فلاناً، فأنت طالق وكان غائباً، فقدم، فلم تره، فالظاهر حمل ذلك على العيان، وذلك أنا قلنا ما قلنا في الهلال لجريان الاعتياد فيه، وللألفاظ مجاري مختلفة باختلاف المحالّ؛ فإن الذي لم ير الهلال قد يقول -إذا غاب عن بلده -: ورأينا الهلال في الليلة الفلانية، ولا يقول: رأيت فلاناً وما رآه، والسبب فيه أن رؤية الأشخاص فيها أغراض، وليس في رؤية الهلال غرض، [وينبغي] (1) للمحصل أن يعتقد أن مجاري العبارات التي يستعملها أرباب العقول لا تختلف إلا لأغراض مختلفة قد يظهر مُدركها، وقد يخفى.
وقال القفال: إذا ذكر الرؤية بالفارسية وأضافها إلى الهلال، فهي العيان، لا العلم، وهذا إنما قاله؛ من جهة أن الرؤية تطلق في العربية والمراد بها العلم، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] وهذا الذي ذكره القفال فرقٌ متخيل بين اللغتين، لكن فيه خلل ناجع، وهو أنا لا ننكر أن المعنى الأظهر للرؤية العيانُ إذا لم يُعدَّ إلى مفعولين، فإذا قلت رأيت زيداً، كان ظاهره عاينت زيداً، وإذا عدّيته إلى مفعولين كان بمعنى الظن كقولك: رأيت زيداً عالماً، فإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، كان هذا على معنى العيان في اللغة، وإنما حملنا ظاهره على العلم للعُرف واكتفاء الناس فيه برؤية الغير، وهذا يتحقق في لغة العجم، فلا فرق إذاً بين اللغتين.
فصل
قال: "ولو قال إذا مضت سنة، فأنت طالق، وقد مضى من الهلال
خمسٌ ... الفصل" (2) .
9046- إذا قال لامرأته: إذا مضت السنة، فأنت طالق، انصرفت إلى السنة العربية المفتتحة بالمحرم، فإذا كان في بقيةٍ من السنة، فانقضت، وقع الطلاق وإن
__________
(1) في الأصل: "ولا ينبغي".
(2) ر. المختصر: 4/78.(14/113)
كانت تلك البقية لحظة، كما ذكرناه في اليوم المعرّف.
ولو قال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فلفظه يقتضي سنة كاملة؛ لما ذكرناه من أن الاسم المنكّر محمول على المسمى الكامل، والسنة الكاملة اثنا عشر شهراً بالأهلة، ولا معتبر بالشهور العجمية، وفي التواريخ شهور مختلفة يعرفها المقوّمون وفيها كبائس، ولا اعتبار بشيء منها في الآجال المطلقة في عقود الإسلام، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] ثم عمّ في عرف أهل الدين إطلاق السنة والأشهر على هذا المراد، فانضمّ إلى التعبد عمومُ العرف، فالسنة الكاملة اثنا عشر شهراً، فإن لم ينكسر الشهر الأول ومضت اثنا عشر شهراً بالأهلة، طُلِّقت، ولا يتصور ألا ينكسر الشهر الأول إلا بأن يعلق الطلاق على وجه يتأتى هذا الغرض فيه، وهو أن يقول: إذا مضت سنة من أول رمضان، فأنت طالق؛ فيتأتى اعتبار الأشهر بالأهلة.
9047- فأما إذا أنشأ وقال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فقد يعسر تصوير عدم انكسار الشهر الأول؛ فإن قوله يقع في شهرٍ، والتنبيهُ في هذا كافٍ.
فإذا انكسر الشهر الأول، فهذا الشهر المنكسر لا بد وأن يكمل ثلاثين يوماً، سواء خرج ذلك الشهر ناقصاً، أو كاملاً.
ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: نعدّ بعد مضي [كسر هذا] (1) الشهر الأول أحدَ عشرَ شهراً بالأهلة، ثم نكمل ذلك الشهرَ الذي انكسر من الشهر الثالث عشر، حتى إذا كان مضى من الشهر الذي انكسر خمسٌ، ثم عددنا بعد هذا الشهر المنكسر أحد عشر بالأهلة من بين ناقص وكامل، فننظر الآن في حساب الشهر الأول المنكسر، فإن كان كمل ذلك الشهر ثلاثين، فقد مضى خمسة وعشرون، فنحسب من هذا الشهر خمسة أيام، فإن كان ذلك الشهر ناقصاً، فنحسب من ذلك الشهر أربعة وعشرين، ونحسب من الشهر الثالث عشر ستة أيام.
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة.(14/114)
هذا معنى استكمال ذلك الشهر ثلاثين يوماً. وقال أبو حنيفة (1) : مهما (2) انكسر السْهر الأول، انكسر سائر الشهور، فإذا وجب اعتبار التكميل في الشهر الأول، وجب اعتبار التكميل في كل شهر، وقد قال بهذا بعض أصحابنا.
ووجهه أنه إذا انكسر الشهر الأول، فالوجه أن يكمل من الذي يليه؛ فإنّ السنة لا تنقطع أيامها، فيستحيل أن نحتسب منها شهوراً والشهر الأول معلق، لم يمض بعد، فإذا كان يجب أن يكمل الشهر الأول، فينكسر الثاني بالأول، ثم ينكسر الثالث بالثاني وهكذا إلى نجاز السنة، وهذا المذهب مطرود في العِدد والآجال الشرعية والأيْمان، وهو على ما فيه من الإخالة بعيدٌ؛ فإن اعتبار الأهلّة أصل غير منكر، وخروج اعتبار الأهلة في أحد عشر [شهراً] (3) محال، وإذا كان كذلك، فلا وجه إلا ما ذكرناه أولاً.
فصل
قال: "ولو قال لها: أنت طالق الشهرَ الماضي ... إلى آخره" (4) .
9048- مضمون الفصل الكلام فيه إذا قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، والكلام في ذلك يقع على وجوه: أحدها - أن يُطلِق هذا اللفظَ، ولا يتعرض لقصد ونيةٍ، فالحكم أنه يقع الطلاق في الحال، ويلغو قوله الشهر الماضي. وسبب [ذلك] (5) أن قوله: "أنت طالق" صريح في التنجيز، وقوله: "الشهر الماضي" لفظ ملتبسٌ متردّد بين جهات، كما سنذكرها، فإذا لم يقصد بلفظه شيئاً، سقط أثر المجمل منه، وعمل اللفظ المستقل. ولو أطلق اللفظ، فلم نتمكن من مراجعته، حتى مات أو جنّ، فيحكم بالوقوع في الحال؛ بناء على ما ذكرناه من استقلال اللفظ باقتضاء التنجيز.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/380 مسألة 885.
(2) مهما: واضح أنها هنا بمعنى إذا.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. المختصر: 4/78.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(14/115)
9049- ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أن يقع في الحال الطلاق، ولكن يترادّ إلى الشهر الماضي، ويستند إليه، ويتنجز في الحال وينعكس إلى ما مضى، فهذا الذي قاله كلام لا أثر له، والطلاق يتنجز في الحال، ولا ينعكس على ما تقدم؛ فإن التصرف في الزمان الماضي بأمرٍ ينشأ في الحال مستحيل، وقضايا (1) الألفاظ لا تتقدم عليها قط.
وحكى بعض الأئمة عن الربيع أنه قال: لا يقع الطلاق؛ فإنه قصد طلاقاً [يعتمد] (2) الانعكاس، وفي لفظه إشعارٌ به، والطلاق على هذا الوجه مستحيل، والمستحيل لا يقع، وقال الأئمة: هذا من تصرف الربيع وتخريجه، وتصرّفُه إذا لم يوافق قاعدة المذهب مردود، والمقبول منه منقولُه لا مقوله، واستدل الربيع على ما قال بان قال: إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل، لم يقع، مثل أن يقول: لامرأته إن طرْتِ أو صعدتِ السماء، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق.
ومن أصحابنا من قال في مناكرة الربيع: إن قال: "إن طرتِ، فأنت طالق"، يقع الطلاق، وفي الوصف والتعليق تصرفٌ للأصحاب نذكره، ثم نوضح الصحيح فيه. قالوا: إذا وصف الطلاق بصفة مستحيلة لا يُنظم في الجدّ مثلُها، لغت الصفة ويقع الطلاق، مثل أن يقول: "أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك"، فقد وصف الطلاق بصفة مستحيلة، وهذه الصفة لا يتخيلها ذو عقلٍ وتحصيل، فقيل: الطلاق نافذ وحظّ الهزل منه مردود، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً" فالثلاث واقعة والاستثناء المستغرق مردود، وإن وصف المطلِّق الطلاقَ بصفة مستحيلة حكماً، ولكن لا يبعد أن يتخيلها متخيل، وذلك كقول القائل: أنت طالق الشهر الماضي، فإذا أراد طلاقاً شابَه الانتجازُ في الحال، والانعكاس على ما مضى، فالطلاق واقع، والصفة باطلة؛ بناء على حكم الشرع، بإبطال تلك الصفة.
وقال الربيع: لا يقع الطلاق؛ فإن الذي أوقعه من الطلاق لا يتصور وقوعه على النعت الذي ذكره، وهو لم يوقع غيره.
__________
(1) وقضايا الألفاظ: بمعنى مقتضياتها.
(2) في الأصل: يعتدّ.(14/116)
وهذا مردود عليه؛ فإن اللفظ صريح في اقتضاء التنجيز، وهو لم ينف التنجيز في الحال، ولكنه ذكر وراء التنجيز أمراً محالاً، فوجب الحكم بالتنجيز أخذاً باللفظ والقصد، ووجب إلغاء الانعكاس؛ فإنه مستحيل، ثم الربيع جعل الوصف كالشرط، وقال: إذا ذكر الانعكاس، فكأنه قال: "إن انعكس الطلاق على الزمان الماضي، فأنت طالق الآن". وهذا كلام مستكره متكلَّف.
9050- ثم نعود بعده إلى تعليق الطلاق بالمستحيلات: فإذا قال: "إن صعدت السماء، أو إن طرتِ، أو إن أحييت ميتاً، فأنت طالق" فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الفنون ثلاثة أوجه: أحدها - أن الطلاق يقع بقوله: أنت طالق ويلغو التعليق المحال؛ فإن التعليق إنما يثبت إذا أمكن، وجرى شرطاً يرتقب حصوله لتعلق المشروط به، فإذا لم يكن كذلك، كان خارجاً عن حقيقة التعليق، ويلزم إبطاله لخروجه عن وضعه، وإذا بطل، بقي التطليق من غير تعليق.
والوجه الثاني - وهو الذي قطع به معظم الأئمة أن الطلاق لا يقع؛ فإنه لم ينجزه فيتنجز، بل علقه، ثم إن كان التعليق في ممكن، فالوجه أن ينتظر [و] (1) إذا كان التعليق في غير ممكن، فغرض الزوج أن يمتنع وقوع الطلاق حسب امتناع الصفة التي [ذكرها] (2) .
والوجه الثالث - أنه إذا قال: إن [طرتِ] (3) أو صعدت، لم يقع الطلاق، لأن الربّ تعالى موصوف بالاقتدار على إقدارها على الطيران، والترقي في السماء، فهو من الممكنات والمقدورات، فإذا قال: "إن أحييت ميتاً"، يقع الطلاق؛ لأن هذا من المستحيلات؛ لأن إحياء الموتى لا يتصف بالاقتدار عليها إلا الإله الأزليّ، فيتحقق التحاق هذا بالمستحيلات، فلا يبعد إلغاء التعليق فيه، هذا ما ذكره الأصحاب.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: ذكرناها.
(3) في الأصل: طردت.(14/117)
9051- والوجه عندنا القطعُ بمخالفة الربيع في الصفة، والقطع بأن التعليق في المستحيل وغير المستحيل يمنع انتجاز الطلاق؛ فإنا لو نجّزناه، لأوقعنا طلاقاً لم يوقعه، وليس يخرج على الانتظام تعليق الطلاق بما لا يكون على قصد أن الطلاق لا يقع، كما أن الصفة المذكورة لا تكون، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فاقتضى ظاهر الخطاب من جهة الصيغة تعليقَ خروج الكفار من النار على أن يلج الجمل على هيئته في سم الخياط على ضيقه، وهذا مستحيل، والمقصود أنهم لا يخرجون أبداً، كذلك القول في تعليق الطلاق بالمحال.
9052- ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهرَ الماضي" أن الطلاق يصادف في وقوعه الشهرَ الماضي، [وإن] (1) كان لفظ الإيقاع حاصلاً الآن. وهذا يتميز عن الصورة المتقدمة بشيءٍ، وهو أنه في الصورة المتقدمة قصد التنجيز في الحال مع العكس على ما مضى، فكان المذهب الحكم بالتنجيز، وإبطال قصد العكس، وهو في هذه الصورة يبغي ألا ينجّز في الحال طلاقاً، وإنما يعكسه على ما مضى ويقدّر وقوعه فيما سبق، ثم هو يسترسل على الزمان استرسال الطلاق، فإذا أراد ذلك، فلفظه غير بعيد عن الإشعار بهذا. وقد يتخيل بعض الناس إمكان ذلك، فيخرج ما أبداه عن الهزل الذي لا يخفى مُدركه، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم يقصد تنجيزه، وقصْدُ الإيقاع على ما رَامَ غيرُ ممكن.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإنه ليس يُنكَر انبساط الطلاق على الزمان الذي أنشأ اللفظ فيه، فهذا الزمان من مضمّنات قصده في الطلاق، فلينتجز في الوقت وليلغُ ما يزيد على ذلك. والشافعي ذكر في هذه الصورة لفظةً محتملة مترددة، فقال: "إيقاع الطلاق الآن في شهرٍ مضى محال" (2) فمن أصحابنا من قال: لا يقع؛ لأنّ الشافعي أحاله، والمحال لا يقع، ومنهم من قال: يقع؛ لأنه نجَّز الطلاق، والإحالة في الصفة مُخْرَجة من البَيْن، فيجعل كأنه أطلق، ولم يصفه.
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) ر. المختصر: 4/78.(14/118)
وكان شيخنا يقول: إذا قال: أردت إيقاع الطلاق في الحال ووقوعه في الشهر الماضي، فيقع في الحال، ولو قال: أردت إسنادَ الإيقاع والوقوعَ إلى الشهر الماضي، ففيه وجهان مشهوران، وفي لفظه تعقيد.
والأولى في التفصيل ما ذكرناه، فإن أراد الإيقاع في الحال على شرط الانعكاس، فهذه صورة الرّبيع، وإن أراد أن يسند (1) وقوع الطلاق بإيقاعه ولفظه المسموع منه في الحال، فهذه صورة الوجهين، فأما إسناد الإيقاع والوقوع إلى ما مضى، فكلامٌ مضطرب، وقصد شيخنا ما ذكرناه، وإنما التعقيد راجع إلى العبارة.
9053- ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أردت بقولي: "أنتِ طالق الشهرَ الماضي" أنك قد طلقك زوج في الشهر الماضي، فأردت الإخبار عنه، قال الأصحاب: إن أقام بينة أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، قُبل منه ما يدعيه في معنى لفظه، ثمّ وإن اتهم مع ذلك، حُلِّف، وإن لم يمكنه أن يُثبت أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، فلا يقبل ذلك منه، ويحكم بانتجاز الطلاق. هكذا قال الأصحاب.
وفي القلب من هذا شيء؛ فإن اللفظ إذا كان محتملاً، وهو صاحب اللفظ والإرادة، فإذا فسر لفظَه بممكنٍ، فلا يبعد أن يقبل تفسيره، ثم يكذَّب في إخباره، وإذا كنا نجعل المسألة على وجهين فيه إذا فسر لفظه بمحال، وهو إسناد [الوقوع] (2) إلى ما مضى، حتى نقول في وجهٍ: لا يقع الطلاق، فلا يبعد أن ينزل لفظه إذا فسره بالإقرار منزلة ما لو ابتدأ، فقال: قد طلّقكِ في الشهر الماضي زوجٌ غيري، وهذا لا يوجب وقوع الطلاق منه، وإن كان كاذباً؛ فإذاً هذا متجهٌ على ما ذكرناه، ولو كان قوله لا يحتمل الإقرار، لَما جاز الحملُ عليه، وإن أمكنه أن يثبت بالبينة طلاقاً من زوج.
ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أني طلقتك في نكاحٍ في الشهر الماضي، ثم جددت عليك [نكاحاً] (3) بعد البينونة، فهذا بمثابة ما لو فسر
__________
(1) أن يسند وقوع الطلاق: المعنى أن يوقعه في شهرٍ مضى، أي واقعاً من ذلك الوقت.
(2) في الأصل: الوقاع.
(3) في الأصل: نكاحها.(14/119)
لفظه بطلاق صدر من زوجٍ غيره، والتفصيل فيه ما مضى.
9054- ولو قال الزوج: أردت بهذا أني طلقتك في الشهر الماضي طلقة رجعية، وأنتِ الآن في عدّة الرّجعة، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن لفظه محتمل، وهو متضمنٌ ثبوتَ الطلاق في هذا النكاحِ إقراراً به، وإذا تردد لفظه بين الإقرار وبين الإنشاء والنكاحُ متّحد، فالوجه تصديقه من غير أن يُحْوَج إلى بيّنة، وغاية الأمر أن يُحَلَّف.
ونقل بعض النقلة عن القاضي أنه قال: إن صدّقته المرأة، قُبل ذلك منه، وحُمل قوله على الإقرار بالطلاق، وإن كذبته، فالقول قولها؛ لأن الظاهر منه إيقاع الطلاق في الحال، فنحكم إذاً بوقوع طلاقين: أحدهما - إنشاء، والآخر - إقرار منه، وهذا كلام مضطرب، لا يجوز نسبةُ مثله إلى القاضي؛ فإنا إن قلنا: لا نقبل تفسيره بالإقرار، فقد يكون لهذا وجه؛ فإن صيغة الإيقاع أغلب، والدليل عليه أنه لو قال: "أنت طالق"، فهذا في ظاهره صفة، فلو قال: أردتُ أني طلقتك؛ فأنت الآن بحكم التطليق الماضي طالق، فهذا غير بعيد عن صيغة اللفظ، ولكنّه لا يقبل.
فلو قال قائل: لا يقبل حَمْلُ قوله: أنت طالقٌ الشهرَ الماضي على الإقرار أصلاً، لكان كلاماً، ويلزم منه ألا يُقبل إقرارُه إذا فسره بتطليق زوج غيره أو بتطليقه في نكاح آخر، وإن أقام بينة عليه؛ فإذ قُبل ذلك على الشرائط المقدّمة وقال هذا الناقل في هذه المسألة: لو صدَّقَتْه قُبل، ولا أثر لتصديقها؛ فإن الطلاق يتعلق بحق الله، فلو قال لامرأته: أنت طالق، وزعم أنه أراد طلاقها عن وِثاق، لم يقبل منه ظاهراً، ولو صدَّقته المرأة، فلا تعويل على تصديقها، فلا وجه لهذا التفصيل.
وينبغي أن يقال: تفسير الرجل قولَه بالإقرار، ويُحَلّف، ويُفْصل بين هذه الصورة وبين ما إذا حُمل لفظه على الطلاق من [غيره] (1) ، أو منه في نكاح آخر؛ لأن هذا إنكار منه للطلاق في هذا النكاح، فإن لم يُقْبل حَمْلُه اللفظَ على الإقرار، وجب ألا
__________
(1) في الأصل: من غير (بدون هاء الضمير) .(14/120)
يؤثر تصديقُها، ووجب ألا يقبل [حمل كلامه على طلاق غيره] (1) ، وعلى طلاقه في نكاح آخر.
9055- فإن قيل: "لو قال الزوج: إذا مات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات
قبل مُضيّ الشهر"، فالطلاق لا يقع في هذه الصورة، فهلا غلبتم الإيقاع في ظاهر الحال، كما لو قال: أنت طالق الشهرَ الماضي؟ قلنا: علق الطلاق بما لا يستحيل أن يُتصور: أن يبقى ذلك الشخص أشهراً، وهو الظاهر الذي عليه بناء الأمر، فإن اتفق استئخار موته، وقع الطلاق قبل موته بشهرٍ، وإن مات قبل مضيّ الشهر، فلفظه صريح في ترتيب الطلاق على هذا النسق، فإذا جرّ محالاً، لم نوقع الطلاق، وهذا قد يقوّي مذهب الربيع في الحكم بأن الطلاق لا يقع، إذا أراد إيقاع طلاقٍ في الحال على أن ينبسط منعكساً على ما مضى.
9056- ولو قال لامرأته: أنت طالق غَدَ أمس، أو أمس غدٍ: على الإضافة في الموضعين، فيقع الطلاق في اليوم؛ فإن اليوم غدُ أمسٍ، وأمسُ غدٍ.
ولو قال: أنت طالق غداً أمسِ من غير إضافةٍ، وقع الطلاق غداً، ولغا ذكر أمسِ، وكذلك لو قال: أنت طالق أمسِ غداً، لغا ذكر أمس، وطلقت غداً.
وهذا فيه نظر عندنا؛ فإنه إذا قال: أنت طالقٌ أمس، فهذا بمثابة قوله: أنت طالق الشهرَ الماضي، فلو أطلق هذا اللفظ، لانتجز الطلاق في الحال، فذكرُه غداً مع ذكره أمس لا يغيّر هذا المعنى، ولا يؤخر الطلاق [في] (2) الحال. وهذا بيّن إذا تأملته.
9057- وممّا نذكره متصلاً بهذا الفصل أنه إذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق قبله بشهر، فقدم قبل مضي الشهر، لم يقع الطلاق؛ فإنا لو قضينا بوقوعه، لقدمناه على القدوم بشهر، ثم هذا يتضمن أن يتقدم وقوع الطلاق على لفظ المعلِّق وهذا محال.
__________
(1) في الأصل: حمله على كلامه على طلاق غيره.
(2) في الأصل: من.(14/121)
وكذلك إذا قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبله بشهر، فإذا ضربها قبل مضي شهرٍ، لم يقع الطلاق.
وإذا علق بالقدوم والضرب على ما صوّرنا، فقَدِم الشخص المذكور بعد شهرٍ، ووقع الضرب بعد شهرٍ، قضينا بوقوع الطلاق متقدماً على القدوم والضّرب بشهر، على نحو ما ذكره المعلّق.
وقال أبو حنيفة (1) : إذا ذكر القدومَ أو غيرَه، ثم أسند الطلاق إلى شهر قبل الصفة المذكورة، فلا حكم للزمان المذكور، والطلاق يقع عند القدوم والضّرب، سواء تخلل شهر أو لم يتخلل، ووافق أنه إذا قال: إذا مَات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات بعد شهرٍ. أن الطلاق يقع مستنداً (2) ، ولو قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبل ضربي بشهر، ثم ضربها قبل شهر، فقد ذكر أن الطلاق لا يقع، ثم تنحلّ اليمين، بهذا الضرب حتى لو ضرب بعد ذلك بشهرٍ أو أشهر، لم يقع الطلاق أيضاً؛ فإن اليمين انحلت بالضرب الأوّل، ولم يمكن وقوع الطلاق (3) .
ولو قال قائل: الضرب المعقود عليه هو ضرب يتصور أن يقع الطلاق قبله بشهر، فموجب هذا ألا تنحل اليمين بالضرب الأول، لما كان هذا بعيداً؛ تخريجاً على أن صفة اليمين إذا وجدت في حالة البينونة لا تنحل اليمين، قد ذكرنا هذا في أول الخلع محكيّاً عن الإصطخري، وسنعود إلى هذه الأجناس في فروع الطلاق، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولو قال لها: أنت طالق إذا طلقتك ... إلى آخره" (4) .
9058- هذا من أصول الكتاب، وهو كثير التدوار في المسائل، ومضمونه الكلامُ
في (إن) ، و (إذا) ، و (متى) ، و [متى ما] (5) إذا اتصلت بالإثبات، أو اتصلت
__________
(1) ر. الفتاوى الهندية: 1/368.
(2) يقع مستنداً: أي يقع منذ الوقت الذي حدده، فيقع قبل القدوم والضرب بشهرٍ كما علقه.
(3) كل هذا حكاية قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
(4) ر. المختصر: 4/78.
(5) في الأصل: (وميتما) وهو تحريف واضح.(14/122)
بالنفي، وفيه بيان تعليق الطلاق على التطليق، وعلى وقوع الطلاق، والفرق بين الممسوسة وغير الممسوسة.
فإذا قال لامرأته: "إن طلقتك، فأنت طالق" أوقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق، أو متى طلقتك، أو [متى ما] (1) طلقتك"، فإن كانت مدخولاً بها فطلقها، طلقت بالتنجيز، وطلقت بالتعليق، فتلحقها طلقتان. ثم هذه الألفاظ لا تقتضي فوراً، فمهما (2) طلقها، لحقها [طلاقان] (3) : [طلاقٌ] (4) بحكم التعليق الماضي، وانتجز ما نجزه.
ولو قال: (إن) طلقتك أو (إذا) أو (متى) ، أو (متى ما) طلقتك، فأنت طالق. [فهذه] (5) الألفاظ لا تقتضي قط بداراً، وكذلك إذا أضيفت إلى دخول الدار وغيرها من الصفات.
وإن أضيفت إلى ما يقتضي عوضاً [، فإن] (6) و (إذا) يحملان على الفور، فإذا قال: (إن) أعطيتني ألفاً [أو إذا] (7) أعطيتني ألفاً، فهذا يقتضي الفور، كما قدّمناه في أصول الخلع.
فأما (متى) و (متى ما) و (مهما) ، فإنها لا تقتضي الفور، وإن قرنت بطلب العوض.
هذا أصل المذهب، وقد مهدناه في الخلع.
والفقهُ المتبع في هذه الأبواب أنّ (متى) ، و (متى ما) (8) ، و (مهما) بمثابة
__________
(1) في الأصل: (وميتما) وهو تحريف واضح.
(2) مهما بمعنى إذا.
(3) في الأصل: طلاقاً (بالنصب) .
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: وهذه.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: وإذا.
(8) في الأصل وميتما: كذا يرسم (متى ما) . ولعله أراد وصل (متى) مع (ما) ، فرسم الألف =(14/123)
قولك أيّ وقتٍ، وهذا تنصيص على إدخال الأزمنة كلها، فإذا قرنت بالعوض، فالنص لا يحال (1) ، والخلع يقبل التأخير والتعجيل.
وأما (إن) و (إذا) ، فليسا ناصَّين على الأوقات وإدخالِ جميعِها تنصيصاً، [فإذا] (2) اقترن بهما قصد التعويض، انتصب التعويض قرينةً في تخصيص (إن) و (إذا) بالزمان المتصل، هذا إذا كان في الكلام قصد تعويض.
فإن لم يجر ذكر العوض، (فإنْ) و (إذا) بمثابة (متى) و (متى ما) في التأخير، فإذا قال: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، لم يقتض ذلك فوراً في الدخول، وكذلك إذا قال: (إذا) دخلتِ الدار و (مهما) (3) بمثابة ما لو قال: (متى) أو (متى ما) دخلتِ الدارَ فأنت طالق.
والمشيئة في الصفات مستثناة، فإذا قال: أنت طالق إن شئت، اقتضى ذلك فوراً، بخلاف قوله: إن دخلت، وإن كلمت زيداً، وما جرى هذا المجرى، والسبب فيه أن تفويض الطلاق إلى المشيئة يتضمن تمليكها نفسها، والتمليك يقتضي قبولاً أو ما في معنى القبول متصلاً بالتمليك، وسنذكر مسائل المشيئة، إن شاء الله عز وجل.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنّ (إن) و (إذا) محمولان على الفور عند ذكر العوض، و (متى) و (متى ما) يجريان على التأخير، و (إن) و (ومتى) و (متى ما) في الصفات كلها على التأخير إلا في المشيئة.
__________
= المقصورة (ياءً) ، ثم جاء الخطأ في وضع النقط فقدم التحتية، وأخر الفوقية، وكأنه كان يريدها هكذا (متيما) .
(1) كذا في الأصل تماماً (رسماً ونقطاً) والمعنى واضح على أية حال، وهو أن (متى) و (متى ما) و (مهما) إذا قرنت بالعوض، فلا تقتضي الفور، فإنها تنبسط على الأزمنة كلها، بخلاف (إن) و (إذا) .
(3) في الأصل: وإذا.
(4) هنا ينص الإمام على أن مهما فيها معنى الظرفية، وقد علمت قريباً -في بعض تعليقاتنا- ما قاله النحاة في هذا الموضوع.(14/124)
9059- ولو علق الطلاق بنفيٍ، نظر في هذه الأدوات، فإن قال: إن لم أطلقك (1) إن لم أضربك، إن لم تدخلي الدار، أو ما جرى مجرى هذه الصفات، (فإنْ) في جميعها لا تقتضي فوراً، كما لو ربط بالإثبات. فقوله: إن [لم تدخلي] (2) كقوله: إن دخلت في أن لا فور فيهما جميعاًً.
وإذا قال: إن لم أطلقك، فأنتِ طالق، فالأمر على التراخي والتمادي ما بقي الزوجان، وأمكن التطليق وتوقعه، فلو ماتت أيسنا حينئذ من التطليق، فنحكم بوقوع الطلاق قُبَيْل مَوتِها، فإنه كان قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق. وقد تحقق أنه لم يطلقها.
وإن مات الزوج، فقد تحقق اليأس بموته أيضاًً، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل موته، ولو جن الزوج، فلا يأس من التطليق، بل نتوقع الإفاقة، فلو اتصل الجنون بموت الزوج، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل الجنون، فإنا تحققنا بالأَخرة أن الطلاق تعذّر من وقت الجنون.
ولو قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بفسخٍ، وجدّد عليها نكاحاً، ففي عَوْد الحِنث قولان: فإن حكمنا بأن الحنث يعود، فكأنها لم تَبِنْ، ويعود استمرار توقع التطليق على الترتيب الذي ذكرناه.
وإن قلنا: الحِنث لا يعود، فهذا موقفٌ يجب التوقف عنده للوقوف على ما فيه،
فإذا قال: إن لم أضربك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بطلاق أو فسخٍ، فالضرب بعدُ غير مأيوس -وإن بانت عنه- فلو ضربها بعد البينونة أو بعد نكاحٍ، فالطلاق المعلق بعدم الضرب لا يتوقع له وقوع، فإنه قال: إن لم أضربك، [فقد] (3) ضربها، ولو لم يضربها في النكاح الأول، فبانت، وماتت أو نكحها، وماتت في النكاح الثاني، فالطلاق المعلّق في النكاح الأول لا يقع في النكاح الثاني؛ فإنا نفرّع على منع العَوْد،
__________
(1) الكلام هنا جارٍ على حذف حرف العطف، وهو جائز صحيح، والمعنى: إن لم أطلقك، أو إن لم أضربك، أو إن لم تدخلي الدار.
(2) في الأصل: إن تدخلي (بدون لم) وهو لا يستقيم مع السياق.
(3) في الأصل: وقد.(14/125)
وقد تحقق اليأس من الضرب، وعجزنا عن إيقاع الطلاق في النكاح الثاني.
9060- وإن صوّرنا في البائنة موتها من غير تجديد نكاح، فهذا يُغني عن التفريع على عود الحنث، فنقول: إذا تحقق اليأس من الضرب آخراً، وعسر الحكم بوقوع الطلاق قبيل موتها؛ فإنها بائنة، أو منكوحة نكاحاً جديداً لا يقع فيه الطلاق المعلق في النكاح الأول؛ فإذا كان كذلك، فهل نتبين أنها طلقت في النكاح الأول قبيل البينونة؟ هذا موضع النظر.
والوجه ألا نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا إنما نحكم بوقوع الطلاق عند تعليق الطلاق بالنفي متى تحقق اليأس، فوقْتُ وقوع الطلاق يتقدم على اليأس بلحظة، وقد صادفت هذه اللحظة بينونةً، أو نكاحاً جديداً، ولو ذهب ذاهب إلى ردّ الطلاق إلى النكاح الأول ليأسٍ بعده، استرسل هذا الكلام إلى أصل، لم يصر إليه أحد من الأصحاب، وهو أن نقول: إذا تحقق اليأس والنكاح واحد، فنتبيّن عند اليأس وقوع الطلاق من وقت اللفظ.
وهذا من دقيق الفقه، فتأمّلوه ترشدوا.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إسناد الطلاق إلى وقت اللفظ إذا تحقق اليأس، وهذا محتمل؛ من جهة أن المذهب الأصح أن المستطيع المستجمع لأسباب الاستمكان إذا لم يحج وقد تمادت سنون في الاستطاعة، فنحكم بأنه يموت عاصياً، وفي الأصحاب من يبسط المعصية على أول وقت الاستطاعة، ومنهم من يحصر التعصية في السنة الأخيرة، فليتنبه الناظر لما يُنَبّه له.
ولم نقل هذا ليكون وجهاً؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الطلاق لا يستند إلى وقت اللفظ، والزوج متسلط على الوطء إجماعاً، وإن كان بيده أن يضرب ويخلّص نفسه من هذا التوقع.
9061- ونعود بعد ذلك إلى ما كنا فيه، فنقول: إذا قال لامرأته: "إن لم أطلقك، فأنت طالق"، ثم انفسخ النكاح بسببٍ، وماتت على البينونة، فقد عسر التطليق بالانفساخ، ثم اتصلت البينونة بالموت، فهذا عندنا بمثابة الجنون إذا طرأ،(14/126)
وقد قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، فإذا جنّ، فالجنون لا يقطع توقع التطليق بتقدير الإفاقة، ولكن إذا اتصل بالموت أسندنا اليأس إلى أول الجنون، كذلك البينونة تنافي التطليق، ولا تنافي توقّعه، فإذا استمرت البينونة إلى الموت، كان بمثابة اتصال الجنون بالموت، فيلزم من هذا المساق إسناد اليأس إلى الفسخ، فليقع الطلاق قُبَيْله.
وليتصوّن المرء الآن من الوقوع في الدَّوْر؛ فإن الطلاق المعلق لو كان رجعياً، انتظم فيه تصوّر الفسخ، وإن كان بائناً، وقع في قاعدة الدَّور، فلا التفات إليها؛ فإنها بين أيدينا (1) ، وسنفري فيها فريّنا (2) ، والله المستعان.
9062- والغرض الآن الفرق بين أن يقول: إن لم أطلقك فأنتِ طالق، وبين أن يقول: إن لم أضربك، فأنت طالق، فإن اليأس عن التطليق يستند إلى أول البينونة؛ فإن البينونة تنافي التطليق، والبينونة لا تنافي الضرب، فاليأس من الضرب يقع قبيل الموت، ولا يصادف محلاً للطلاق.
ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فانفسخ النكاح بردةٍ أو غيرها، ثم جدد عليها نكاحاً، فالتطليق يتصوّر في النكاح الثاني، وإن منعنا عَوْد الحنث، فإن الذي يمتنع هو الطلاق المعلّق لا التطليق في صورته، وصورة التطليق في النكاح الثاني
__________
(1) بين أيدينا: أي أمامنا.
(2) وسنفري فيها فريّنا: يقال: فلانٌ يفري الفريّ، وهو أن يبالغ في الأمر حتى يتعجب منه، والفريّ الأمر العظيم.
وإمام الحرمين هنا ناظرٌ إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمر بن الخطاب: "فلم أر عبقرياً يفري فريّه" (ر. غريب الحديث للخطابي: 2/571) وفي القاموس: الفريّ كغني يأتي بالعجب في عمله. والحديث متفق عليه، رواه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ح 3634، وأطرافه في 3676، 3682، 7019، 7020.
ورواه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، ح 2393.
وتمام الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني على قليبٍ عليها دَلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غرباً، فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً يفري فريّه".(14/127)
كالضرب، فلا يتحقق اليأس من التطليق قبيل الموت، ثم إذا منعنا عَوْد الحنث لا يتصوّر وقوع الحِنث في تلك اللحظة.
وهذه أصول بيّنةٌ للفطن ملتبسةٌ على من لا يردّ نظره إليه.
9063- وكل ما ذكرناه نفرّع على تعليق الطلاق بنفيٍ بكلمة (إن) التي هي أم باب الشرط، فلو علق الطلاق [بنفيٍ] (1) واستعمل (إذا) أو (متى) أو (متى ما) أو (مهما) فقال: إذا لم أضربك أو إذا لم أطلقك فأنت طالق، فالقول في (متى) و (متى ما) كالقول في (إذا) فإذا مضى من الزمان ما يسع التطليقَ أو الضربَ أو صفةً أخرى علق الطلاق بها، ولم يأت بما ذكره، يقع الطلاق الذي علقه، وليس كما لو قال: إن لم أطلقك.
ولا يستقل بمعرفة الفرق بين (إن) و (إذا) من لم يفهم طرفاً يتعلق بهذا الفصل من العربية، فنقول: (إذا) ظرفُ زمان، وهو اسم مشعر بالزمان، وكذلك (متى) و (متى ما) ، و (إن) حرف، وليس بظرف، وليس اسماً للزمان. فإذا قال القائل: إذا لم أطلقك، فمعناه أيُّ وقت لم أطلقك، فأنت طالق، فقد علق طلاقها بوقت لا يطلقها فيه، فإذا مضى وقت لم يطلقها فيه، فقد وُجدت الصّفة التي علق الطلاق بها، و (إن) ليس اسماً لوقتٍ، وإنما هو حرف مسترسلٌ على الاستقبال، لا إشعار فيه بزمان.
هذا هو الفرق ويترتب عليه أنّ (متى) و (متى ما) في معنى (إذا) ؛ فإن معناهما أي وقتٍ لم أطلقك، وابتناؤهما على التأخير في مثل قوله: متى أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، لا يغيّر غرضَنا في المقام الذي نحن فيه، فإن متى تنطلق على الزمان القريب انطلاقه على البعيد، والطلاق يقع بأول الاسم، فإذا تحقق الزمان الأول عريّاً عن التطليق، فقد وُجدت صفة الطلاق، ثم يتسق من هذا أن آثارها تقع على الفور، بخلاف ما إذا فرضت في إثبات الأعواض في مثل قول القائل: إذا أعطيتني مع قوله: متى أعطيتني، والسبب فيه ان متعلق الطلاق ثمَّ اعطاءٌ، فإن قرن بلفظ لا ينص على
__________
(1) في الأصل: فبقي. وهو تصحيف واضح.(14/128)
عموم الزمان، اقتضت قرينة العوضية تعجيلاً، وإن قرنت بلفظ ناصٍّ على عموم الأوقات، حمل على العموم، والطلاق بالإعطاء والزمان ظرفُه.
والمعتمد فيما نحن فيه تحقق زمان عارٍ عن الصفة.
وهذا بيّن لا إشكال فيه.
والذي ذكرناه قاعدة المذهب.
9064- والذي سنذكره بعدُ فيه غيرُ معدودٍ من متنه وأصله، ولذلك أخرته، ولا أجد بداً من ذكره؛ لأنّي وجدته في تصانيف الأئمة مسطوراً. قال العراقيون: من أصحابنا من لم يتضح له الفرق بين (إن) و (إذا) في النفي، فقال: أجعل المسألة فيهما على قولين نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن الأمر يُحمل فيهما على الفور إذا كان متعلَّق الطلاق نفياً، فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فمضى أقل زمان إمكان الطلاق، وقع الطلاق، كما لو قال: إذا لم أطلقك.
والقول الثاني - أنّ (إن) و (إذا) بمثابةٍ واحدة، ولا يقع الطلاق منهما ما لم يتحقق اليأس من الطلاق كأنْ لو كانت الصفةُ إثباتاً؛ فإنَّ (إن) و (إذا) في الإثبات مستويان في قول القائل: إن دخلت الدار، وإذا دخلت الدار، وهذه الطريقة مزيفة، نقلها العراقيون وبالغوا في تزييفها، وذكرها الشيخ أبو علي على هذا النسق، وحكى عن صاحب التلخيص أنه قال: إذا قال: إذا لم أطلقك [أو إن لم أطلقك] (1) ، فكلاهما على التراخي، وهذا خطأ، وهو مذهب أبي حنيفة (2) .
ومما نذكره بعد عقد المذهب أن صاحب التقريب، قال: إذا قال: إذا لم أطلقك فأنت طلاق، فهذا على الفور عند الإطلاق، فلو قال: أردتُ بذلك إن فاتني طلاقك فأنت طالق، فهل يقبل ذلك منه أم لا؟ ذَكَر وجهين وأجرى الكلامَ على أن (إذا) في
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها بمعناها عند صاحب التلخيص، ونص عبارته: "ولو قال لامرأته: أنت طالق إذا لم أطلقك، أو إن لم أطلقك، لم يقع الطلاق حتى يموت أحدهما؛ فتطلق واحدة" (ر. التلخيص لابن القاص: 523) .
(2) ر. البدائع: 3/131، تبيين الحقائق: 2/206، الاختيار: 3/128.(14/129)
الإطلاق مع النفي للفور، فإن [حَمَل] (1) المطلقَ على التراخي بالتأويل الذي ذكرناه، ففي قبول ماجاء به في الظاهر وجهان. وهذا الذي قاله حسنٌ، ملتحق بمتن المذهب؛ لما فيه من الاحتمال.
ثم شبَّب في مساق كلامه بشيء، فقال: إذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق. ثم قال: أردت متى أعطيتني، فيحتمل أن يُقبل ذلك. وهذا عندنا يجب ألا يُتردد فيه؛ فإنه فيما يبديه موسّعٌ للطلاق، وكل ما يقبل التديين فيه، فإذا قاله الرجل وهو عليه (2) فيقبل، ولكن يتطرق إليه أنه قد يقصد استحقاق العوض المتراخي؛ فيجب أن يقال: إن وافقته المرأة في تصديقه، استحقَّ العوض، وإن أبت وقد أتت بالعوض في زمانٍ متراخٍ، فهذا الآن محتمل.
وقد نجز الكلام على (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) في النفي والإثبات، مع العوض ومن غير عوض. ويلتحق (بمتى) و (متى ما) و (مهما) قولك: أيّ وقتٍ، وأي حين، وأي زمانٍ، فهذه الألفاظ بمثابة قولك: (متى) في كل تفصيل.
وقد نجز بنجاز هذا ركنٌ واحد من مضمون الفصلِ المعقود، وقد بيّنا أن مضمونه ثلاثة أركان. وهذا الذي مضى ركن.
9065- الركن الثاني في تفصيل القول في المدخول بها وغير المدخول بها في الأغراض التي نُجريها، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إن طلقتك، فأنت طالق، أو إذا طلقتك، أو متى، فإذا طلقها، انتجز ما نجزه، ووقع الطلاق الذي علَّقه بالتطليق؛ إذ قال: إن طلقتك، فأنت طالق.
9066- ثم هذه الألفاظ، وهي (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) ليس فيها اقتضاء التكرار، وإنما فيها عموم [الزمن] (3) ، ثم اليمين تنحل بمرة واحدة،
__________
(1) في الأصل: حمله.
(2) كذا. والسياق واضح على أية حال.
(3) في الأصل: الزمنه.(14/130)
ولا أثر لهذا، والطلاق ثلاث، وإنما يظهر أثر ما نقول في العتاق، فإذا قال: "مهما أعتقت عبداً من عبيدي، فعبد آخر معه حرّ"، فإذا أعتق عبداً، عتق عبدٌ، ولو أعتق بعد ذلك عبداً لم يعتِق عبدٌ آخر بحكم التعليق المقدم، فإن اليمين انحلّت بالكرَّة الأولى.
والصّيغة المقتضية للتكرار في العربية قول القائل: "كلما ضربتك، فأنت طالق" فإذا ضربها، طلقت، ثم لو ضربها مرة أخرى، طُلّقت طلقة أخرى، وكذلك حتى تستوعب الطلقات، ولو كانت أعداد الطلاق أكثر من الثلاث، لاسترسلت كلمة (كلما) على جميعها.
9067- ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إن طلقتك، أو إذا طلقتك، فأنت طالق، فإذا طلقها، انتجز ما نجّز، ولم تلحقها الطلقة المعلّقة، والسبب فيه [أنها تبين] (1) بالطلاق [المنجز] (2) ، وإذا بانت، لم يلحقها طلاقٌ ثانٍ مع البينونة، وهذا متفق عليه، وتعليله بيّن.
وقد يتصل به سؤال وجواب عنه، وبهما يحصل الغرض.
فإن قيل: إذا قال الرجل [لامرأته] (3) التي لم يدخل بها أو (4) للمدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، فالطلاق متى يقع؟ قال قائلون: الطلاق يترتب على دخول الدار؛ فإن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فليترتب الطلاق على الدخول، ونقول: دخولٌ والطلاق بعده، كما يترتب عتق القريب المشترَى على حصول الملك.
وقال المحققون: يقع الطلاق مع الدخول، لا قبله ولا بعده، وأما المصير إلى أن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فهذا لا ننكره من معناه، ولكنه ترتُّبُ اللفظ في هذا المقام، وليس الغرض تأخير وقوع الطلاق عن الدخول، وإنما الغرض تطبيق التطليق
__________
(1) في الأصل: أنها إذا نبيّن.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وتوضيح العبارة.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: وللمدخول.(14/131)
على الدخول، غير أن الفاء تُستعمل جزاءً والجزاء ينتظم كذلك، وإلا فلا يستريب ذو عقلٍ أن غرض الناطق تطبيق الطلاق على الدخول، حتى كأنّ الدخول علّته.
وإذا قال القائل: صيغة الجزاء تتضمن تعقيباً أيضاًً؛ فإن الرجل إذا قال: إن جئتني، فأنا أكرمك، تضمّن هذا ترتُّبَ الإكرام على المجيء.
قلنا: إذا كان الجزاء فعلاً ينشأ ويكون مربوطاً [بالشرط] (1) ، فمن ضرورة وقوع الفعل أن يترتب، وليس كذلك وقوع الطلاق؛ فإنه حكمٌ لا يمتنع تقدير حصوله على الاقتران، بل لا يمتنع تقدير حصوله متقدماً؛ فإنه لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، قبْل [دخولك] (2) بيوم، أمكن تقدير الوقوع كذلك، وهذا جزاءٌ متقدم على الشرط، غير أنّ وجه انتظام الجزاء فيه يرجع إلى نسق اللفظ، ثم الجزاء مرتبط بالشرط على معنى أنه لا يحصل دونه، فإن قُرن، اقترن، وإن قُدّم، تقدّم، وهذا منتظم من طريق اللفظ، ولكن شواهد الحكم في المذهب تدل على الوقت، وآية ذلك أن الرجل المريض إذا قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حرّ، ثم أعتق سالماً في مرضه، فإن وفّى الثلث به فحسب، عَتَق سالم فحسب، وهذا يدل على ترتيب العتق في غانم على سالم.
ولو قال: أعتقتكما، ازدحما على الثلث، ومما يدل على الترتيب أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم طلقها، وقع ما نجّزه، ولم يلحقها الطقة المعلّقة، وهذا لا يخرّج إلا على أصل الترتيب؛ فإنا لو قدّرنا وقوع المعلّق مع وقوع المنجز، لم يبعد الحكم بوقوعهما، والمصير إلى أنها بانت بهما؛ فإن قيل: لا يلحقها الطلاق المعلّق، دل هذا على ترتب المعلق في وقوعه على المنجّز، وهذا يشعر بترتب كل طلقة على الصفة، وهذا بالغٌ في الإشكال؛ فإن الذي يقتضيه اللفظ ما ذكرناه من الجمع، والذي يقتضيه مذهب الفقهاء الترتيبُ، وما حكيته في ترتّب الوقوع على الدخول، وفي وقوعه معه نقلته من كلام الأصحاب.
ثم لم يختلفوا أن التي لم يدخل بها لا تطلق الطلقة المعلّقة على التطليق المنجز،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: دخوله.(14/132)
وإن كان يظنّ ظانّ أن الترتب من آثار الفاء، قيل له: هذه المسائل لا تختلف أحكامها بأن تذكر الفاء فيها أو لا تذكر؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فحكم هذا ما قدمناه: من أنه إذا طلقها لم يلحقها الطلاق المعلّق، ولو قال: أنت طالق إذا طلقتك، فلا (فاء) والجواب كما مضى، فإذا طلقها انتجز ما نجّز، ولم يقع ما علّق، ولعلنا في الفروع نعود إلى مزيد مباحثةٍ في ذلك.
9068- والقدر الذي هو غرض الفصل أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنتِ طالق، أو أنت طالق إذا طلقتك، فإذا طلقها وقع ما نجّز، ولم يلحقها ما علَّق.
وكذلك قال الشافعي: إذا قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها أو طلقها على مالٍ، نفذت بينونة الخلع، ولم يلحقها الطلقة المعلقة؛ فإن المختلعة لا يلحقها الطلاق عندنا كالبائنة قبل المسيس، فالبينونة بالخلع في منافاة لحوق الطلاق كالبينونة لعدم العدة في حق التي لم يدخل بها.
هذا بيان هذا الركن.
9069- والركن الثالث من مضمون الفصل متصل بما نجّزناه الآن، وهو القول في تعليق الطلاق وتسمية التعليق تطليقاً، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق. فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بالتعليق الأول على التطليق، والمقصود من ذلك أنه قال أولاً: إذا طلقتك، فأنت طالق، وقال بعد ذلك: إذا دخلت، فأنت طالق، فصار تعليق الطلاق بالدخول مع الدخول بمثابة تنجيز التطليق بعد التعليق الأول.
ولو قال لها أولاً: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال بعد ذلك: إذا طلقتك فأنت طالق، فدخلت الدار، فوقع الطلاق بوجود الصفة، فإنها لا تطلق بسبب قوله إذا طلقتك، فأنت طالق؛ فإنه لم يطلقها بعد هذا القول، ولم ينشىء التعليق بعد هذا القول أيضاً، بل جرى التعليق بالدخول متقدماً على قوله: إن طلقتك.
فانتظم من مجموع هذا أنه إذا قال: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم نجّز(14/133)
[هذا] (1) بعد هذا، وقع ما نجّز وما علّق بالتطليق.
ولو أنشأ تعليقاً بعد قوله: إن طلقتك، فنفس التعليق لا يكون تطليقاً، ولكن إذا وجدت الصفة، وقد جرى التعليق بعد قوله: إن طلقتك، كان التعليق مع الوقوع بمثابة التطليق من بعدُ.
ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بتعليق الطلاق بالوقوع، فإنه علق لحوق الطلاق بوقوع الطلاق لا بالتطليق، وهذا بيّنٌ.
ومما نجريه متصلاً بهذا أنه إذا قال لها: إن أوقعت عليك طلاقي، فأنت طالق،
ثم قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت الدار، لحقها طلاقان كما قدمنا.
وهو كما لو قال: إن طلقتك، فأنت طالق، ثم علق الطلاقَ من بعدُ.
9070- ووجدت للعراقيين أنهم قالوا: إذا قال للمرأة المدخول بها: إذا أوقعتُ
عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، طُلّقت بدخول الدار، ولم تطلّق بسبب قوله السابق: "إن أوقعتُ عليك طلاقي" طلقة أخرى، وكأنهم قد رأَوْا أنه إذا علق طلاقها، فهذا لا يكون إيقاعَ طلاق عليها، وإنما يتحقق الإيقاع [بالتنجّيز] (2) ، من غير توسط سببٍ وتعليق وهذا مردود في قول المراوزة، باطلٌ قطعاً على قياسهم، وكنت أحسب هذا خللاً واقعاً في نسختي، ثم طالعت نسخاً ومجموعات وتعليقاتٍ معتمدةً، فوجدت الأمر مثبتاً على هذا النسق. فإن كانوا يقولون ما يقولون فيه إذا قال للمدخول بها: إن أوقعت عليك طلاقي ولا [يقولونه] (3) فيه إذا قال: إذا طلقتك، [فالفرق] (4) بين التطليق وإيقاع الطلاق عسرٌ.
وإن عمّمُوا هذا في الإيقاع والتطليق، فهو خروج عما عليه الفقهاء؛ فإن التعليق
__________
(1) في الأصل: هكذا.
(2) في الأصل: بالتنجز، وواضح أن الفعل نجّز.
(3) في الأصل: ولا يقولون.
(4) في الأصل: والفرق.(14/134)
على الاختيار تطليقٌ في اللسان، فإذا قال الرّجل لامرأته: "إن قمت، فأنت طالق" فقامت وطُلِّقت، يقال: طلّق فلان زوجته، وهذا لا سبيل إلى إنكاره.
9071- ومما نذكره في هذا الفصل أنّ (كلّما) كلمة تتضمن التكرار [في العربية] (1) بخلاف (متى ما) و (مهما) فإنهما يعمّان الأزمان ولا يقتضيان التكرار، فإذا قال لامرأته المدخول بها: كلما وقع عليك طلاقي، فأنتِ طالق، ثم طلقها طلقت ثلاثاًً؛ فإنه يقع عليها بالتنجيز طلاق، وبالتعليق السابق طلاق، ثم يتكرر، ولو زادت أعداد الطلاق على الثلاث لاستوعبتها الكلمة، وتضمنت وقوع جميعها.
9072- وذكر الأصحاب فرعين هذّبوا بهما أصلين: أحدهما - معنى التكرار المتلقَّى من قول القائل كلّما.
والثاني - يتضمن تمهيد تأخر التعليق وتقدّمه، والفرق بينهما إذا قال: إن طلقتك
فأنت طالقٌ.
9073- فأمّا الفرع الموضِّح لمعنى التكرر، فإذا كان للرجل أربع نسوة وعبيد، فقال: كلما طلقت واحدةً منكن، فعبدٌ من عبيدي حرّ، وكلما طلقت ثنتين منكن، فعبدان من عبيدي حرّان، وكلما طلقت ثلاثاًً منكن، فثلاثة أعبدٍ من عبيدي أحرار، وكلّما طلقتُ أربعاً، فأربعة أعبدٍ من عبيدي أحرار.
فالمسلك الحقّ في هذه المسألة: أنه عَقَدَ أربعةً من العقود بكلمةِ (كلما) وهي للتكرار، فيتكرر العتق بتكرر كلّ عقد منها، ولكن ما حُسب في مرّة لا يحسب هو ولا شيء منه في عقدٍ مماثلٍ له، فإذا طلّق واحدة، حنث في يمين الواحدة، وعتَق عبدٌ، فإذا طلّق الثانية، حنث في يمينين يمين الواحدة، فإنها على التكرر، ويمين الاثنين؛ لأنه لما طلقها صار مطلقاً لواحدة أخرى سوى الأولى، وصار مطلقاً بتطليقها ثنتين، فيعتِق إذاً ثلاثةُ أعبدٍ سوى ما تقدم: عبدٌ بتطليقه الثانية وهي واحدة، وعبدان بسبب تحقق طلاقين على امرأتين، فقد عَتَقَ من العبيد أربعة.
__________
(1) في الأصل: التكرار والعربية.(14/135)
فإذا طلق الثالثة، حنث في يمينين: يمين الواحدة ويمين الثلاث؛ لأنه بتطليقها صار مطلقاً واحدة أخرى، وكلمة (كلما) للتكرار، وصار محققاً تطليق الثلاث؛ لأن هذا مع الأوليين قبلها ثلاث، فيعتِق الآن أربعةُ أعبدٍ سوى ما تقدّم: واحد بالحنث الواقع بتطليق الواحدة، وثلاث بتطليق الثلاث؛ فيكمل العتق في ثمانية. ولا يحنث في يمين الاثنين مرة أخرى، لأن الثانية التي قبل الثالثة حسبت في يمين الثنتين مرة، فلا تحسب في يمين الثنتين مرة أخرى؛ فإن هذا يؤدي إلى تكرير الحنث مراراً، مع اتحاد صنف اليمين، ومحلّ اليمين. فإذا طلق الرابعة، حنث الآن في ثلاث الأيْمان: يمين الواحدة، ويمين الأربع؛ لأنه حقق طلاق الأربع، وحنث في يمين الثنتين مرةً أخرى، لأن الرابعة مع الثالثة ثنتان، فيعتق سبعة عبيدٍ، ويكمل الذين عتقوا خمسة عشر، ولا يحنث مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن الثالثة والثانية حسبتا في يمين الثلاث، فلا يحسبان مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن ما حسب في عقدٍ لا يحسب في عقد مثله.
وهذا كما لو قال لها: كلما دخلت الدار، فأنت طالق، فإذا دخلت الدار مرةً طلقت، فإذا دخلت ثانيةً طلقت طلقةً واحدةً، ولا يقال: تطلق طلقتين طلقة بهذه الدخلة وطلقة بالدخلة الأولى؛ لأن الدخلة الأولى حسبناها، فلا نحسبها في مثلها مرة أخرى.
وإذا طلق النسوة الأربع دفعة واحدة، عتق من العبيد خمسة عشر؛ إذ لا فرق بين أن نجمع تطاليقهن، وبين أن نُرتبه، فحكم اللفظ ومقتضى التكرار لا يختلف.
هذا هو المذهب الذي عليه التعويل.
ومن أصحابنا من قال: إذا طلق الثالثة يحنث في يمين الثنتين مرّة أخرى فيبلغ مجموع الذين يعتقون سبعة عشر.
وهذا غلط صريح، وإن كان مشهوراً؛ لأنا لو حنثناه بالثالثة في يمين الثنتين، لزم أن نحنثه أيضاً بالرابعة في يمين الثلاث، ونحكم عليه بعتق عشرين عبداً، وهذا لا قائل به.(14/136)
9074- وكل ما ذكرناه إذا قال: كلما طلقت، فَعَقَد الأيْمان بكلمةِ (كلما) ، فأما إذا قال: إن طلقت واحدةً من نسائي، فعبد من عبيدي حر، وإن طلقت ثنتين، فعبدان حرّان، وإن طلقت ثلاثاًً، فثلاثة من عبيدي أحرار، وإن طلقت أربعاً، فأربعة من عبيدي أحرار.
فإذا طلقهن ترتيباً أو جمعاً عَتَقَ من عبيده عشرة، فلا ننظر إلى عدد الأيمان ومعقود كل يمين، ولا يكرّر الحنث في واحدة منها، فعدد الأيمان أربعةٌ: يمين بواحدة، ويمين باثنتين، ويمين بثلاث، ويمين بأربع، فنأخذ مضمون الأيمان من غير تكرر، فيبلغ عشرة.
وفي بعض التصانيف ذكر صِيغَ هذه الأيمان بكلمة كلما، والجوابَ فيها أنه يعتِق عشرةٌ من العبيد؛ فهذا غلط صريح لم أذكره ليلحق بالوجوه البعيدة، ولكن سبب ذكره التنبيهُ على أن هذا من عثرات الكتّاب، وما ذكره جواب الأيمان المعقودة، (بإن) و (متى) و (متى ما) ؛ فإن هذه الكلمة لا تتضمن التكرار.
فأما إذا كانت الكلمة متضمنة تكراراً، فلا تنحلّ اليمين بالواحدة بأن يطلّق واحدةً، وكذلك القول في الثتنتين.
9075- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن معنى التكرار أن لا نحل يميناً بحنث في مثله، ولكن لا نحسب شيئاً واحداً مرتين في يمينين متماثلين.
وإذا اختلفت صيغ الأيمان، فحينئذ يحسب النسوة عن جهاتٍ في الأيمان المختلفة.
فهذا فرعٌ مهدّنا به أصل التكرار.
9076- فأما الفرع الثاني، فإنا نمهدّ به معنى تقدم التعليق وتأخره.
فإذا كان للرجل امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مهما طلقت عمرة، فحفصةُ طالق، ثم قال: مهما طلقت حفصة فعمرةُ طالق، ثم إنه بدأ بحفصة وطلقها، فتطلق بالتنجيز وطلقت عمرة بالحنث؛ لأنه علّق طلاق عمرة بتطليق حفصة، وعادت طلقة على حفصة؛ لأنه علّق طلاق حفصة بطلاق عمرة في الابتداء، لما قال: مهما طلقت(14/137)
عَمرة فحفصة طالق، وقد طلق عمرة بعد هذا بأن علق طلاقها بتطليق حفصة، ثم نجّز تطليق حفصة.
وقد ذكرنا أن التعليق إذا اتصل به الوقوع، كان تطليقاً.
ولو بدأ بعمرة وطلقها، طُلِّقت بالإيقاع والتنجيز، وطلقت حفصة بالحنث؛ لأنه علّق طلاقها بطلاق عمرة ولا تعود طلقة على عمرة، وإن كان علق طلاقها بطلاق حفصة؛ لأن هذا [وقع] (1) على حفصة بحكم تعليق طلاقها بطلاق عمرة، وهو سابق على يمين عمرة.
وليس في هذه المسألة غائلة، وإنما الذي فيها فهمُ التقدم والتأخر في التعليق، وسبب ما فيها من أدنى تعقيدٍ أن المبتدىء ينظر إليها، فيرى تطليقاً وتعليقاً، فيلتبس عليه معنى التعليق لذكره مع التطليق.
وبيان ذلك أنه إذا قال لعمرة: إذا طلقتك، فحفصة طالق، فهذا تعليق طلاق حفصة، وإن خوطبت عمرة بالتطليق. وإذا قال لحفصة: إذا طلقتك، فعمرة طالق، فهذا تعليق طلاق عمرة، وإن خاطب بالتطليق حفصة، فليفهم الفاهم التعليق، ولينظر إلى تقدّمه وتأخّره.
9077- ومما ذكره الأصحاب في اختتام هذا الفصل أنه إذا قال لامرأته: إن لم أطلقك، فأنت طالق، أو إن طلقتك، فأنت طالق. فهذا تعليل في موجب العربية، ومن ذكر [لفظَ] (2) الطلاق وعلّله، وقع الطلاق، ولم ينظر إلى العلّة كانت أو لم تكن، وتقدير الكلام: أنت طالق لأن لم أطلّقك، ثم اللام تحذف وتستعمل، هذه الكلمة كذلك في اللغة الفصيحة، ولو استعمل هذا اللفظ من لا يَفْصِل بين أنَ وإنِ في العربيَّة، فهو محمول على التعليق، وسنذكر هذا الأصل في الفروع، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: وقوع.
(2) في الأصل: رسمت هكذا (لللفظ) .(14/138)
فصل
قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق إذا قدم فلان فقدم به ميتاً، [أو مكرهاً] ... إلى آخره" (1) .
9078- غرض الفصل بيان الإكراه والاختيار والعمد والنسيان، ولكنه مفروض في صفة تجتمع فيها غوامض، وينفصل باتضاحها قطبٌ من الأقطاب. ونحن نقول في مفتتح الفصل:
9079- إذا قال القائل: والله لا أدخل الدار، فحُمل وأدخل الدار قهراً، لم يحنث؛ فإن هذا ليس بدخول، ولو أمَرَ حتى حُمل وأدخل الدار حَنِثَ؛ فإن هذا يسمى دخولاً، وركوبه الأكتافَ كركوبه دابّهً، وأَمْرُ الحاملين بالدخول به كإمالته العنان إلى صَوْب الدار، ولو حُمل وكان قادراً على الامتناع وأدخل الدار، فلم يأمر ولم يزجر، فهذا فيه تردد، سيأتي مشروحاً في كتاب الأيْمان، إن شاء الله تعالى.
ولو حلف بالله لا يدخل، فأكره حتى دخل بنفسه، ففي حصول الحنث قولان: أحدهما - أنه يحنث؛ لأنه دخل الدار.
والثاني - لا يحنث؛ لأن فعل المكره كالمسلوب، واختياره فيه موجوداً كالمفقود.
ولو نسي يمينه، فدخل الدار، ففي حصول الحنث قولان، وللأصحاب مسلكان في ترتيب النسيان على الاستكراه، والاستكراه على النسيان، وسيأتي ذكرهما في الأيْمان.
والقدر الذي تمس حاجتنا إلى ذكره الآن أن سبب الخلاف في النسيان أن الناسي غير هاتكٍ لحرمة اليمين، وليس بهاجمٍ على المخالفة، هذا هو المرعي.
فأما المكره، فسبب الخلاف فيه قضاء الشرع بتضعيف اختياره، ويتحقق فيه أيضاًً عدم الانتساب إلى اعتماد الهتك.
__________
(1) ر. المختصر: 4/79. والزيادة بين المعقفين من نصه.(14/139)
ومن نسي صومه [فأكلَ] (1) ، لم يفطر، ومن أكره على الأكل، فأكل، ففي حصول الفطر قولان.
وهذه نبذة مست الحاجة إليها، فذكرناها واستقصاءُ أصولها وفصولها في كتاب الأيمان.
9085- ونبتدىء بعد ذلك الكلامَ في الطلاق، فنقول: إذا علق الرجل الطلاق بصفة، فلا يخلو إما [أن] (2) يعلقه بصفةٍ تصدر منه، وإما أن يعلّقه بصفة تصدر من المرأة، وإما أن يعلقه بصفةٍ تصدر من أجنبي:
فإن علّق الطلاق بصفةٍ تصدر منه، فالمذهب الصحيح أنه يجري فيه الخلاف في الإكراه والنسيان، ولا خلاف أنه لو حُمل وأدخل كرهاً، لم يقع الطلاق، فلو نسي اليمين، فدخل أو اكره حتى دخل بنفسه، جرى في كل صورةٍ من النسيان والإكراه قولان.
وكان القفال يقول: إنما يختلف القول في الإكراه والنسيان إذا كانت اليمين بالله، فالتعويل في اليمين بالله على تعظيم اسم الله تعالى، والتعويل في تعليق الطلاق بالصفات على وجود الصفات على أي وجهٍ فرضت.
وهذا مختص بالقفال. والأصحاب على طرد الخلاف في الباب، والسبب فيه أن الغرض في اليمين بالطلاق الامتناع عن أمرٍ، فإذا كان قصد اليمين هذا، فقد يتوهم خروج النسيان والاستكراه عنه. وهذا يجري مطرداً في اليمين بالله تعالى، وفي اليمين بالطلاق والعتاق، والدليل عليه أن الإكراه على الطلاق بمثابة الإكراه على اليمين بالله.
وإذا فرض الإكراه في سبب الحنث، فوجه تضعيف الاختيار في سبب الحنث بالطلاق في الطلاق كوجه تضعيفه في سبب الحنث في اليمين بالله تعالى، والدليل عليه أن من حلف لا يدخل الدار، لم يعصِ بالدخول، ولم تؤثر اليمين عندنا في تحريم ما كان مباحاً قبل اليمين، فلا انتساب إذاً إلى هتك الحرمة والشرعُ لا يحظر المخالفة، فالذي
__________
(1) في الأصل: فالحل.
(2) سقطت من الأصل.(14/140)
ذكره القفال إنما [يستدّ] (1) على مذهب أبي حنيفة (2) في مصيره إلى أن اليمين يحرّم الحلال.
هذا إذا كانت اليمين بالطلاق ومعقودةٌ على فعل الزوج.
9081- فإن علّق الطلاق بفعل المرأة؛ فإن قال ذلك وهي لم تسمع، ولم يقصد الزوج إسماعها اليمين حتى تنزجر -بسبب الطلاق-من الصّفة المحلوف عليها-، فالمذهب الأصح أن الطلاق يقع إذا دخلت الدار مكرهةً على الدّخول، وذلك أنه لم يعلق الطلاق بقصدها، ولم يظهر [من] (3) تعليقه منعُها من الدخول، حتى يحمل ذلك على العمد، فوجب الحملُ على صورة الدخول. نعم، لو حملت وأدخلت، فهذا لا يسمى دخولاً، فلا يقع الطلاق؛ لأن الصّفة لم توجد.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في دخولها مكرهة؛ لأن الإكراه على أحد القولين يضعف اختيارها، ويلحقها -وإن دخلت- بالمحمولة المُدخَلة. وهذا فقيه حسن، أورده القاضي واختاره، ولا يمكن فرض النسيان في هذه الصورة؛ فإن المسألة موضوعة فيه إذا لم يكن عندها علم [عن] (4) اليمين، فإذا دخلت مختارة، ولا علم عندها، طلقت بلا خلافٍ.
هذا هو التفصيل فيه. إذا علق طلاقها، وهي لم تشعر.
9082- فأما إذا علّق طلاقها وهي تشعر، فيظهر أنه يقصد أن يكون الطلاق مانعها من الدخول، فإذا أُكرهت، فدخلت مكرهةً، كان إجراء القولين في هذه الصورة أظهر من إجرائهما في الصورة الأولى.
ولو نسيت يمين الزوج، جرى القولان على الأصح.
__________
(1) في الأصل: "يستمرّ" وما أكثر ما تصحفت هذه الكلمة على النُّسّاخ.
(2) ر. فتح القدير: 4/56.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: من.(14/141)
والقفال إذا كان لا يُجري القولين في فعل الحالف إذا نسي أو أكره، فلا شك أنه لا يجريهما فيه إذا كان المعقود عليه فعلَ المرأة.
9083- فأما إذا كان المعقود عليه فعلَ أجنبي، نظر: فإن جرى اليمين من حيث لا يشعر، فلا يتصور فرض النسيان فيه، ولكن إذا أكره ذلك الشخص، فوُجد منه متعلّق الطلاق مكرهاً، ففيه طريقان للأصحاب: أظهرهما عندنا - إجراء القولين لضعف الاختيار، وتخيّل التحاق فعل المكره بأحوال المحمول.
وإن شعر ذلك الأجنبي بيمين الحالف، لم يخلُ إما إن كان ممّن لا يُبالي بيمين الحالف ولا يزعه ذاك عن فعله، أو كان ممن يمتنع بسبب حلف الحالف، فإن كان ممّن لا يمتنع بسبب حلف الحالف، فلا يبالي ببرّه وحنثه، فمثل هذا الشخص إذا بلغه خبر اليمين، ثم نسيها، فلا أثر للنسيان منه؛ فإن الفرق بين الناسي والعامد إنما يظهر في حق من يمتنع في الذكر، فيجوز أن يُعذر إذا نسي.
فأما المكره، فالرأي عندنا طرد القولين فيه؛ لما ذكرناه من تأثير الإكراه في سلب حكم الاختيار.
وإن كان ذلك الأجنبي ممن يرتدع ويمتنع بسبب يمين الحالف، فإذا نسي، اختلف مسلك الأصحاب؛ من حيث لا تعلق للنكاح به، ويتجه عندنا طرد القولين في النسيان.
ولو حلف الحالف بمشهدٍ من زوجته، وعقد على فعل زوجته، ولم يقصد منعها، وإنما أراد تعليق الطلاق على الصفة مهما وجدت، فالوجه القطع بأن النسيان لا أثر له.
والضابط فيه أنه إن أسقط أثر النسيان بعدم العلم باليمين، أو بعدم مبالاة المحلوف عليه بحلف الحالف، أو يقصد الحالف التعليق على الصفة المجردة من غير قصد في المنع بسبب الطلاق، فلا وجه لذكر الخلاف في النسيان. والقولان في الاستكراه جاريان.
هذا بيان هذه التفاصيل على القواعد المحققة.(14/142)
9084- ونعود إلى ترتيب (السواد) (1) فنقول: إذا علق طلاق امرأته بقدوم زيد، فقدم مختاراً، قضينا بوقوع الطلاق.
وإن كان مكرهاً، فعلى القولين.
وإن كان غير عالم باليمين، ففيه التفصيل المقدّم.
ولو أدخل البلدة محمولاً، لم يقع الطلاق، ولو رد إلى البلدة ميتاً، لم يقع الطلاق.
وهذا المذكور في السواد قسم من الأقسام التي استوعبناها.
9085- ثم قال: "ولو قال: إذا رأيتُه، فرآه في تلك الحالة، حنث ... إلى آخره" (2)
إذا قال لامرأته: إذا رأيتِ فلاناً فأنتِ طالق، فرأته حياً أو ميتاً، وقع الطلاق، ولسنا لتعليل البيِّنات (3) ، وكذلك إذا رأته والمرئي نائمٌ أو سكران، ولو رأته في المنام، فهو حلم، لا يقع به طلاق، ولو رأته وهو في ماء، والماء بلطفه يحكيه، فالظاهر عندنا القطع بوقوع الطلاق، فإنه رؤي حقّاً، وصار الماء اللطيف بين الناظر والمنظور إليه بمثابة أجزاء الهواء.
وحكى من يُعتمد عن القاضي أن الطلاق لا يقع، وهذا لا اتجاه له؛ فإن ما ذكرناه رؤية في الإطلاق والعرف والحقيقة، وهو انكشافٌ في وضع الشريعة، ولهذا جعلنا الواقف في الماء اللطيف الذي يحكي العورة عارياً، وقضينا بأن صلاته لا تصح، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
نعم، إذا نظر في المرآة وخَطَر من ورائه مَنْ حَلَف على رؤيته، فتراءى له ذلك الخاطر في المرآة، أو في الماء، فهذا فيه احتمال. وإن كان ذلك المرئيُّ في الحقيقة
__________
(1) السواد: المراد به مختصر المزني.
(2) ر. مختصر المزني: 4/79.
(3) البينات: أي الواضحات التي لا تحتاج إلى تفسير وتسبيب.(14/143)
مرئيّاً، ولكن سبب التردد العرفُ وإطلاقُ أهله بأني لم أر فلاناً، ولكني رأيت مثاله في المرآة.
ولو قال لامرأته، وهي عمياء: إن رأيت فلاناً، فأنت طالق، فالمذهب أن هذا لغوٌ فيها؛ فإن الطلاق معلق بمستحيل، فلا يقع.
ومن أصحابنا من جعل قوله: إن رأيت فلاناً بمثابة قوله: إن رأيت الهلال، ثم رؤية الغير تقوم مقام رؤيتها، غير أنا نفعل هذا في مسألة الهلال؛ حملاً للرؤية على العلم، ومن سلك هذا المسلك في رؤية زيد وعمرٍو، لم يكتف بالعلم بوجود من علّقت اليمين به، ولكنه حمله على أن يحضر عنده، ويقرب منه، ويجلس منه مجلس المخاطبة، وهذا محمول على قول الضرير قد رأيت اليوم فلاناً، وأحطت بما عنده، والمراد أنِّي حضرته وشهدته.
ثم لو رأته وهي مجنونة أو سكرانة، وقع الطلاق؛ لأن رؤية السّكرانة والمجنونة
صحيحة.
9086- وألحق الأصحاب مسائل بهذا الفن منها: أنه لو قال لها: إن مسست فلاناً، فأنت طالق فمسته حياً كان أوميتاً، طُلِّقت، ولو كان بين البشرتين حائل، لم تطلق.
وقد ذكرنا تردداً في أن لمس شعر المرأة هل يوجب نقض الطهارة؟ وفي مسّ الشعر تردد لبعض الأصحاب؛ فإن مسألة الملامسة متلقاة من ظاهر الكتاب، والتصرف فيها متعلق بصيغ الألفاظ، والوجهُ عندنا القطعُ في اليمين بأن الحنث لا يحصل.
ولو قال: إن ضربتِ فلاناً فأنت طالق، فضربته حياً، وقع الطلاق، ثم الذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا نشترط أَلَماً، وإن لم يكن مبرّحاً شديداً، وذهب طوائف من المحققين إلى أن الألم ليس بشرطٍ، والضَّربُ يحصل بصدمةٍ وإن كانت لا تؤلم، ورُبّ شخص يُضرب مجتمع اللحم منه بجُمعِ كفك، فيلتذّ به التذاذ المغموز بالغمز، وهذا ضرب، ولو وَضَع حجراً ثقيلاً على عضوٍ-من ذلك المعيّن- ضعيفٍ، فانطحن تحته، فهذا إيلام، وليس بضرب.(14/144)
ولو ضربته ميتاً، لم تطلق؛ فإن الضرب المطلق في العرف لا يحمل على ضرب الميت.
والذي أطلقتُه من الصدمة لا ينبغي أن يعتمد الإنسان مُطلَقها؛ فإن من ضرب أنملةً على إنسان لا يتصور أن يقع بمثله إيلام، لم يتعلق بها بَرٌّ ولا حنث، فالمحكَّم إذاً ما يسمى ضرباً، وهو صدمٌ بما يفرض منه وقوع الألم، حصل الألم أو لم يحصل.
ولو قال: إن قذفتِ فلاناً، فأنت طالق، فقذفته حياً أو ميتاً، طُلقت؛ لأن قذف الميت كقذف الحي إطلاقاً، وحكماً.
ولو قال: إن قذفت فلاناً في المسجد، فأنت طالق، فالشرط في حصول الحنث أن تكون القاذفة في المسجد. هكذا قال الأصحاب.
ولو قال: إن قتلت فلاناً في المسجد، فالشرط أن يكون المقتول في المسجد، والفرق أن نفس القذف يُجتنبُ في المسجد، ولا يفهم من إضافة القذف في المسجد إلا كون القاذف في المسجد؛ فإن هتك حرمة المسجد بإنشاء القذف فيه. وإذا أضيف القتل إلى المسجد، فُهم من مُطلَقه [إيقاعُه] (1) بالمقتول وهو في المسجد.
هذا ما ذكره الأصحاب. ولم يحملوا القتل في المسجد على كون القتل في المسجد بتأويل أن يرمى إلى ذلك المعيّن أو يناله برمح والقاتل في المسجد والمقتول خارج المسجد، والأمر على ما ذكروه، واللفظان مطلقان.
فأما إذا قال: أردت بالقذف في المسجد كَوْن المقذوف في المسجد، وأردت بالقتل في المسجد كون القاتل في المسجد، فهل يقبل ذلك منه ظاهراً؟ هذا فيه احتمال بيّن وتردُّدٌ ظاهر؛ من قِبل أن قوله في المسجد ظرفٌ متردد بين القاذف والمقذوف، والقاتل والمقتول، وهو في محض اللغة الفصحى صالحة لهما.
والذي ذكرناه في الإطلاق موجَب العرف تلِّقياً من الهتك، فإذا فسّر لفظةً بما يصح على اللسان (2) ، وينطبق على اللغة، وجب أن يكون في قبوله خلاف، وهذا من
__________
(1) في الأصل: إيقاع.
(2) يصح على اللسان: المراد تداول الألسنة والعرف.(14/145)
أصول الكتاب، فمن خالف اللغة إلى ما لا يبعد انسياغُه في العرف، كان في قبوله ظاهراً خلاف، ومن خالف العرف إلى ما يوافق اللغة ولا يبعد بعداً كليّاً عن العرف، ففى قبول تفسيره خلاف.
وإذا أكثرنا المسائل في الظاهر والباطن، وحصل الأُنس بها، هان ضبطها في الآخر.
9087- ثم قال: "ولو حلف لا تأخذ مالك عليّ ... إلى آخره" (1) .
إذا قال: إن أخذتَ مالك عليّ، فامرأتي طالق، فإذا أخذه، وقع الطلاق، سواء أعطاه الحالف، فأخذه، أو أخذه قهراً من غير إعطاء منه، وكذلك لو أجبره السلطان فأعطى فأخذه مختاراً، أو أخذه السلطان من ماله وسلّمه إليه، فإذا أخذه على اختيارٍ، وقع الطلاق، والتعويل على أَخْذه كيف فرض.
ولو كان عليه دين، فقال من عليه الدّين: إن أخذتَ مالك عليّ، فأخذه قهراً - ولا امتناع ممن عليه الدّين- فلا يكون هذا آخذاً لماله رجعةً، فلا يقع الطلاق إلا حيث يكون راجعاً إلى حقه، وهو في الصورة التي ذكرناها غاصبٌ، واليمين معقودةٌ على أن يأخذ ماله.
ولو أجبره السلطان، فأخذ ماله -والأولى فرض ذلك فيه إذا كان عيناً من الأعيان- فإذا كان مجبراً على الأخذ، ففي وقوع الطلاق قولان مذكوران في المكره على ما تفصّل.
ولو قبض السلطان حقه قهراً، حيث يجوز للسلطان ذلك، فهذا يحل محل أخذه حكماً، ولكن لا يحصل الحنث؛ فإن التعويل في الأَيْمان على الأسماء والإطلاقات، لا على الأحكام.
ولو حلف لا تأخذ مني مالك عليّ، فإن أعطاه مختاراً، فأخذه حَنِثَ، ولو أخذ السلطان ماله وسلمه إلى مستحقه المحلوف عليه، فلا حِنْث؛ لأنه حلف لا تأخذ منّي، وهذا ليس أخذاً منه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/79.(14/146)
ولو أجبره السلطان على التسليم، ففي هذا نظر [يبين] (1) بتقديم أمرٍ عليه، وهو أن مستحق الحق لو سلبه من الحالف، وقد حلف لا تأخذ مني، فالظاهر عندنا أن الطلاق يقع. وفي كلام القاضي ما يدل على أن الطلاق لا يقع، وفيه على حالٍ إخالةٌ واحتمال؛ فإن الإنسان إنما يقول: أخذت مني إذا كان عن طواعيةٍ من المعطي، وإن لم يكن، يقال: سلبت مني.
وهذا بعيدٌ والوجه ما قدمناه.
قال القاضي: لو أجبر السلطان الحالف على التسليم، فعلى قولين، وهذا بناه على اشتراط الاختيار في الإعطاء، ونحن لا نرى هذا أصلاً، والتعويل على أخذ المحلوف عليه من يد الحالف أَعْطَى أو لم يُعط، رضي أو كرِه.
ولو حلف لا يعطيه، فأعطاه مختاراً ذاكراً، حَنِث، ولو كان مكرهاً أو ناسياً، فعلى الخلاف، ولو أخذه السلطان وسلمه إلى صاحب الحق، فلا حنث.
ومن أحكم الأصول، هانت عليه المسائل.
9088- ثم قال: "ولو قال: إن كلمتِه، فأنت طالق ... إلى آخره" (2) .
إذا قال لها: إن كلمتِ فلاناً، فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع، وسمع، وقع الطلاق. وإن لم يسمع لعارض لفظ (3) ، وذهول في المكلَّم، فقد قال الأصحاب: يقع الطلاق، وفي هذا نظر سننعكس عليه به، إن شاء الله.
ولو كان المكلَّم أصمَّ، فكلمته على وجه لا يسمعه الصم، ويسمعه من لا صمم به، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أن الطلاق يقع؛ فإن هذا يسمى تكليماً، وليست اليمين معقودة على الإسماع.
والوجه الثاني - أن الطلاق لا يقع؛ فإن ما جرى ليس تكليم الصمّ، فهو في حقه بمثابة همسٍ لا يسمعه السميع.
__________
(1) في الأصل: بين.
(2) ر. المختصر: 4/79.
(3) كذا، والمراد: لفظٌ عارض يشوّش على المكلَّم.(14/147)
واللفظ الذي ذكرناه يتفصّل -بعد الإحاطة بفصل الأصمّ- فإن كان اللفظ بحيث لا يتصوّر أن يسمع معه وإن جرّد المكلّم قصده في الدّرْك والإصغاء، فهذا فيه احتمال مأخوذ من تكْليم الأصمّ، وإن كان اللفظ بحيث يتصوّر السّماع معه، لو فرضت الإصاخة والإصغاء، لأمكن الإسماع، فيجب القطع هاهنا بالحِنث؛ فإنه يقال: كلمته فلم يُصغِ.
وقد ينقدح [في] (1) هذا نظر في تكليم الأصم إذا كان وجهه إليه، وهو أنه يعلم أنه يكلّمه، فالوجه هاهنا القطع بوقوع الطلاق، وكذلك القول في مثل هذه الحالة، والمانع اللفظ.
وإن كان كلمته على مسافة بعيدةٍ لا يحصل الإسماع في مثلها ولم يحصل، فلا يقع الطلاق، ولو اختطفت الريح كلامها وسحلته (2) في أذني المكلَّم، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق.
ولو كلمته ميتاً أو نائماً، لم يقع الطلاق، ولو هذت هي بالكلام، لم يقع الطلاق، وإن كان على صيغة تكليمه، لأن هذا لا يسمى تكليماً. وإن سمي كلاماً.
ولو جُنّت، فكلمته، قال القاضي: يقع الطلاق، وهذا يخرج على أنها لو أكرهت على التكليم هل يقع؟ فإنّ قصد المجنون أضعف من قصد المكره، وسنذكر في حصول الحِنث مع الجنون كلاماً بالغاً في كتاب الإيلاء، إن شاء الله.
ولو كلمته سكرانةً أنبني أمرَها على أنها كالصاحية أم لا؟ فإن جعلناها كالصاحية، وقع الطلاق، وإلا فهي كالمجنونة، ولو انتهت إلى السكر الطافح، فهذت، فهذيانها كهذيان النائم، وسيأتي على الاتصال بهذه الفصول أحكام السّكران.
__________
(1) في الأصل: من.
(2) سحلته: أي صبته، يقال: سحلت السماء أي صبّت الماء (معجم) ، والمعنى إذا كلمته من مسافة بعيدة، لا يكون الكلام من مثلها، ولكن الريح حملت كلامها إليه، فلا يسمى تكليماً.(14/148)
فصل
قال: "ولو قال للمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالقٌ ... الفصل" (1) .
9089- إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقعت عليها طلقة وبانت، ولم تلحقها الثانية، والثالثة؛ فإن اللفظة الأولى مستقلة بإفادة الطلاق، وليس ما بعدها تفسيراً لها؛ فإن استقلت، ثبت حكمها، وحصلت البينونة.
9090- وإذا قال للمدخول بها أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وأتى بهذه الكلمات على الوِلاء، وقعت الطلقة الأولى، ونظرنا في الثانية والثالثة، فإن زعم أنه نوى بهما الإيقاع، حُملتا على الإيقاع، وطُلقت ثلاثاًً، وإن نوى باللفظة الثانية والثالثة تأكيد اللفظة الأولى، قُبل ذلك منه، ولم [يقع] (2) إلا واحدة.
فإن قيل: لم كان كذلك، وكل لفظةٍ مستقلّة بنفسها في إفادة الطلاق والإشعار بمعناه، فالثانية كالأولى، والثالثة كالثانية، والتمسك باللفظ أولى من التمسك بقصدٍ يزيل فائدةَ اللفظ؟ قلنا: التأكيد من القواعد التي لا سبيل إلى إنكارها وجحدها، وهو من مذاهب الكلام، ثم أصل التأكيد عند أهل العربية ثلاثة أقسام: الدرجة العليا من التأكيد لتكرير اللفظ، وكأن الذي يكرره يبغي بتكريره شيئين: أحدهما - التوثق بإيصال الكلام إلى فهم السامع عند تقدير ذهوله وغفلته. والثاني - الإشعار بأن هذا اللفظ لم يسبق إلى لسانه؛ فإنه إذا كرّره قطع هذا الوهم، فهذا أمّ باب التأكيد، وهو ممثل بقول القائل: رأيت زيداً زيداً، ومررت بزيدٍ زيدٍ.
والمرتبة الثانية في التأكيد - تلي التكرار والإعادة، وهو كقول القائل: رأيت زيداً نفسه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/80.
(2) في الأصل: يقعد.(14/149)
والمرتبة الثالثة في التأكيد - الإتيان بألفاظ تؤكّد معنى ما تقدم، وهو كقول من يريد التأكيد في عمومٍ، فيقول: رأيت القوم أجمعين، ثم قد يتبعون هذه الكلمة بكلمٍ لا يستقل مفرده ولا يشتق من معنىً وهو كقوله: جاءني القومُ أجمعون أَكْتعون أَبْصَعون. فهذا مراتب التأكيد وأصلها التكرير، كما ذكرنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تحقيق أمرٍ كرّره ثلاثاًً.
فإذا كان هذا أصلَ التأكيد، وكل لفظةٍ من الألفاظ التي ذكرها ليست مُفردةً في الذكر، فإذا فسَّرها بالتأكيد، والتأكيدُ أصلٌ في نفسه، والتكرير أصل التأكيد، لَزِمَ قبول ذلك منه.
ولو أطلق هذه الألفاظ، ولم يذكر أنه قصد الإيقاع أو التأكيد، بل قال: لم يكن لي قصد، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها محمولة على تجديد الإيقاع، والثاني - أنها محمولة على التأكيد.
فمن حملها على الإيقاع، فتمسكه باستقلال كل لفظة لو أنفردت.
ومن حملها على التأكيد، احتج بما مهدّناه قبلُ من أنّ أصل التأكيد التكرير، ومن أراد التجديدَ، فالعباراتُ الجامعة للعدد معلومة، وقَصْدُ التجديد بتكرير الكلم ليس أصلاً، وقَصْدُ التأكيد بالتكرير أصل في بابه، والأصل أنا لا نوقع من الطلاق إلا ما نستيقن.
9091- ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق وطالق، لحقتها طلقتان، ولا مساغ لقصد التأكيد في ذلك؛ فإن المؤكِّد لا يعطف على المؤكَّد، وحكم كل معطوف أن يكون مجدّداً مستأنفاً حالاًّ محلّ المعطوف عليه في الفاصل والاستقلال.
ولو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، فالألفاظ متغايرة، والحكم وقوع الثلاث إذا كان مدخولاً بها، وذلك؛ لأن اللفظة الثانية معطوفة على الأولى، فلا تصلح لتأكيدها، واللفظة الثالثة متعلقة [بصلة] (1) لم يسبق لها ذكر، حتى يفرض فيها التكرير، فاستقلت كُلّ لفظة.
__________
(1) في الأصل: بصلته.(14/150)
9092- ولو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثم زعم أنه أراد بالثانية طلاقاً بائنا مجدّداً وأراد بالثالثة تأكيد الثانية، فهذا مقبول؛ فإن الثالثة على صيغة الثانية، وليس بينهما حائل يمنع من التأكيد، وهو متصل بالمؤكَّد. ولو قال: أردت إيقاع الأولى والثانية، وأردت بالثالثة تأكيدَ الأولى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن التأكيد على هذا الوجه باطل غير مقبول، وإذا بطل التأكيد، حُمل اللفظ على التجديد، فيقع ثلاث طلقات؛ لأن من شأن ما يقع التأكيد به أن يكون متصلاً بالمؤكَّد، غيرَ منفصل عنه، وهو قد نوى باللفظة الثانية تجديد الطلاق، وهي فاصلة بين الأولى والثالثة، فامتنع من تخللها قصدُ التأكيد، وإذا بطل التأكيد تعيَّن التجديد.
والوجه الثاني - أن قوله مقبول؛ فإن الغرض أن يؤكّد الطلاق السابق، ولا يرجع التأكيد إلى اللفظ، وإنما يرجع إلى معناه، واللفظة الثالثة متصلة بوقوع الأولى، والأولى والثالثة متشابهتان لا تتميز إحداهما عن الأخرى، والأصح عند المحققين الوجه الأول.
9093- ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، فيقع الطلقة الأولى والثانية وأما الثالثة، فإنها على صيغة الثانية، فإن أراد بالثالثة تأكيد الثانية، قبل منه.
وفي هذا أدنى غموض؛ لمكان واو العطف، وانفصال اللفظ به عن اللفظ، وقد
ذكرنا أن التأكيد ينافي الانفصال، ولكن لا خلاف أن قصده في التأكيد على ما ذكرناه مقبول، وسببه أن اللفظة الثالثة تكريرُ اللفظة الثانية، وقد ذكرنا أن أم التأكيد التكرير، والواو إذاً في الثالثة لا تكون عاطفةً، وإنما هي تكرير الواو الأولى، والكلمة بعدها تكرير الكلمة الثانية.
ولو أطلق ولم يقصد شيئاً، وقعت طلقتان معطوفة ومعطوف عليها، وفي الثالثة قولان، كما قدمناه. ولو قال: أردت بالثالثة تأكيد الأولى، لم يقبل منه وجهاً واحداً؛ فإنه مخالف للفظة الأولى باتصالها بالواو، فلا يصلح للتأكيد.
9094- ولو قال: أنت طالق طالق طالق، وزعم أنه قصد التأكيد، لم يقع إلا واحدة.(14/151)
فإن قيل: الكلمة الثانية ليست مصدرةً بالضمير، وكذلك الثالثة، والأولى مصدرة بالضمير؟ قلنا: هذا لا أثر له؛ فإن التأكيد يتعلق بالطلاق، ولا فاصل بين الألفاظ.
ولو قال: "أنت طالق طالق أنت طالق"، فالتأكيد يتطرق إلى الثانية مع الأولى، واللفظة الثانية انفصلت عن الثالثة بإعادة الضمير، ولا معول على هذا الفصل، فإن هذا الضمير ليس عاطفاً، حتى يقال: العطف يقتضي استئنافاً، فأمر التأكيد متجه، وإعادة الضمير محمول على التنبيه للتأكيد.
9095- وحكى صاحب التقريب نصاً للشافعي يكاد يخرِم ما قدّمناه من الأصل، ونحن نحكيه على وجهه، ونذكر تصرفه فيه، ثم نعود إلى ترتيب الفصل ونستوعب أطرافه وبقاياه. قال: قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق، وطالق، لا بل طالق، فيقع طلقتان بقوله: أنت طالق وطالق".
فلو قال: عَنيْت بقولي "لا بل طالق" تحقيقَ ما مضى وتأكيده، قال: قال: الشافعي يقبل ذلك منه. قال صاحب التقريب: جعل أصحابنا المسألة على قولين: أحدهما - هذا، وهو بعيد عن القياس.
والثاني -وظاهر النص في المختصر- أنه يقع الثلاث، كما لو اختلفت الألفاظ من وجهٍ آخر، مثل أن يقول: أنت طالق، وطالق، ثم طالق، فإن الطلقات تتعدد إجماعاً.
ثم قال صاحب التقريب: هذا فيه إذا قال: لا بل طالق. فلو قال: "طالق وطالق بل طالق" من غير (لا) ، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بوقوع الثلاث في هذه الصورة، ومنهم من جعل المسألة على قولين، كما قدمناه فيه إذا قال: لا بل طالق.
وهذا النص الذي حكاه صاحب التقريب حكاه العراقيون كذلك، وإذا بعد الشيء، استأنستُ بكثرة النقلة، ولا شك أن الذي يقتضيه القياس [أن] (1) يُحمل اللفظ
__________
(1) مزيدة من المحقق.(14/152)
على التجديد وامتناع [حمله] (1) على التأكيد، ولا ينبغي أن يُغيَّر أصلُ المذهب وقاعدتُه، بما يجري نادراً من حكايات النصوص.
والذي يمكن توجيه النص به: أنّ (بل) يتضمن استدراكاً في مخالفة ما مضى ومضادّته، حتى إن كان الكلام الأوّل نفياً، كان (بل) إثباتاً، وإن كان صَدْرُ الكلام إثباتاً، كان (بل) نفياً. هذا معنى الكلمة ووضعها، فإذا قال أولاً: أنت طالق، ثم قال آخراً: لا بل طالق، أو بل طالق، فهذه الكلمة ليست على وضعها في اقتضاء المخالفة فضعفت ووهت، وكانت كالساقطة المُطَّرحة، وهذا المعنى لا يتحقق في سائر التغايير الحاصلة بالصّلات المختلفة، وهذا لا بأس به.
على أنّ المذهب ما قدّمناه.
9096- ولو قال: "أنت طالق، وطالق، فطالق" وقعت الطلقات الثلاثة (2) .
فإن قيل الفاء كالواو في معنى العطف، فهلاّ جوزتم أن يكون اللفظ الثالث تأكيداً للفظ الثاني؟
قلنا: الفاء عاطفة، والعطف ينافي التأكيد وليست الفاء تكريرَ الواو، فإذا امتنع التكرير في الفاء، وجب إجراؤه على حقيقة العطف، والعطفُ مقتضاه الاستئناف.
9097- وإذا أردنا نظمَ هذه المسائل المتفرّقة تحت ترجمةٍ، قلنا: إذا تغايرت الألفاظ بصلاتِ عواطفَ مختلفة، فهي على التجديد.
وإذا لم يتخللها عواطف، فهي بين التجديد والتاكيد: فإن قَصَد التأكيد، قُبل، وإن قَصَد التجديدَ، نَفَذ. وإن أطلق، فعلى الخلاف، فإذا تخلل بين لفظين ما يمنع من التأكيد، وقعت الثنتان، وفي الثالثة ما ذكرنا من التفصيل، فإن أكد بها الثالثة، قُبل، وإن أكد الأولى، فعلى وجهين قدمنا ذكرهما.
__________
(1) في الأصل: لفظه.
(2) كذا (الثلاثة) بالتأنيث، وهو جائز صحيح، لتقدم المعدود، حيث تجوز الموافقة والمخالفة.(14/153)
9098- ولو قال: أنت طالق طلقةً، فطلقة، نص على وقوع طلقتين، ونص على أنه لو قال: "عليَّ درهمٌ فدرهم" لم يلزمه إلا درهم واحد، فمن أصحابنا من جعل في المسألتين قولين: بالنقل والتخريج، وهذا بعيد.
ومنهم من أجراهما على الظاهر، وفرّق بأن الطلاق إيقاعٌ لا يَدْرأُ لفظَه إلا مَحْملُ التأكيد، والفاء تمنع من التأكيد، والإقرار إخبار والإخبارُ يحتمل من التأكيد والتكرار ما لا يحتمله الإيقاع، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق طلقةً، بل طلقتين، فالمنصوص أنها تطلق ثلاثاًً، ولو قال: عليّ درهمٌ، بل درهمان، لزمه درهمان، ولو أعاد كلمة الطلاق على الهيئة الأولى في المجلس مع تخلل فصلٍ، وقعت طلقتان، ولو أعاد الإقرار على هيئته الأولى في مجلس أو مجلسين وأراد الإعادة، قُبل منه.
ولي في قوله: أنت طالق طلقة، بل طلقتين نظرٌ؛ فإنه ربما يبغي بهذا ضمَّ طلقةٍ إلى الأولى، فيتطرّق إمكان الإعادة على هذا التأويل، وهذا يتجه على النص الذي حكاه صاحب التقريب، بل هو أوجه منه.
ووجه ما ذكره الأصحاب أنه إذا قال: بل طلقتين، وجب حملهما (1) على الإنشاء، وإذا ذكرنا احتمال الضم، كان التقرير ضم إنشاء إلى إقرار، كأنه يقول: تيك الطلقة الأولى واقعة، والأخرى أُنشئها، وحَمْلُ الألفاظ في الطلاق على الإقرار بعيد.
9099- ولو قال: أنت طالق طلاقاً، فهي واحدة إن لم ينو أكثر منها؛ فإن قوله: طلاقاً مصدر، والمصدر إذا أُكّدّ الكلام به، لم يقتض تعديداً، أو تجديداً، وهو كقول القائل ضربت زيداً ضرباً.
فهذا بيان الأصول في مضمون الفصل، ولا فصل إلا ويترتب عليه فروع، وأنا أرى تأخيرها حتى تقع الفروعُ نوعاً، والأصولُ نوعاً.
__________
(1) في الأصل: وجب في حملهما على الإنشاء.(14/154)
9100- والذي أختتم به هذا الفصل، وهو سرٌّ لطيف أنه إذا قال لامرأته: "أنت طالق، إن شاء الله" على الاتصال، فسنوضّح أن الطلاق لا يقع إذا أنشأ اللفظ على قصد الاستثناء، والشرطُ أن يكون الاستثناء متصلاً، والمنفصل منه لا يعمل، فهذا مما يراعى فيه الاتصال، ومما يعتبر فيه الاتصال أيضاًً الإيجاب والقبول، وما في اللفظ المحمول على التأكيد يشترط اتصاله بالمؤكَّد (1) .
وأنا أقول: ليس اتصال المؤكِّد بالمؤكَّد والاستثناء بصدْر الكلام على مساق اتصال القبول بالإيجاب، بل يجب أن يكون اتصالُ كلام الشخص الواحد بكلامه أبلغ من اتصال القبول بالإيجاب، والمرعي في كل باب ما يليق به، فإذا انفصل القبول انفصالاً [يُخرجه] (2) عن كونه جواباً، ويُشعر الفصلُ بإعراض القابل عن الجواب، فهذا هو القاطع، وبدون ذلك ينقطع الاستثناء عن صدر الكلام؛ فإنَّ تواصُلَ الكلام الواحد فوق اتصال جواب خطاب، ويشهد لهذا أن تخلل كلام بين الإيجاب والقبول لا يقطع على الرأي الأصح.
والذي أراه أن تخلل كلام بين الاستثناء والمستثنى عنه يقطع الاستثناء، حتى لو قال: أنت طالق -قم يا عبدُ- ثم قال: إن شاء الله، لم يعمل الاستثناء، وقياس التأكيد كقياس الاستثناء، وقد يرد على هذا أنه إذا قال: أنت طالق طالق أنت طالق، ثم قال: أردت التأكيد باللفظة الثالثة، فهذا مقبول، كما قدّمته، وقوله في اللفظة الثالثة: "أنت" كلام زائد، ولكنه في معناه التنبيه للتأكيد، وما كان كذلك لم يكن فاصلاً قاطعاً.
وإذا ذكرنا هذا تبين أن السكتات إذا تخللت واللفظ واحد، فينبغي أن تكون أقصر ما يُفرض بين الإيجاب والقبول، ولا يشترط أن يجمع المتكلم الكلام والاستثناء، والتأكيد والمؤكَّد في نفسٍ واحد. هذا نجاز ما أردناه.
__________
(1) عبارة الأصل: " ... فهذا مما يراعى فيه الاتصال، ومما يعتبر فيه الاتصال أيضاًً الإيجاب والقبول، (وذلك الاتصال) وما في اللفظ المحمول على التأكيد يشترط اتصاله بالمؤكَّد" والتعديل بالحذف من المحقق.
(2) في الأصل "يخرج".(14/155)
فصل
قال: "وكلّ مكرهٍ ... إلى آخره" (1) .
9101- نذكر في هذا الفصل حكمَ الإكراه على الطلاق، والعتاق، والعقود، حتى إذا نجز وتفرّعت مسائله نختتم الفصل بالإكراه ومعناه، فنقول: طلاق المكره وعتاقه لا يقع إذا تحقق الإكراه، وأتى المكرَهُ بالطلاق على مقتضى الإكراه.
ولو جرى ما يكون إكراهاً، فطلق المكرَه على حسب الاستدعاء منه، وزعم أنه اختار إيقاع الطلاق، فيقع الطلاق [و] (2) لا يمتنع أن يوافق قصدُه واختيارُه صورةَ الإكراه من المكرِه.
وإن أُجبر على أن يقول لامرأته: أنت طالق، فقال ما قال [وهو] (3) مُجْبرٌ، ونوى تطليقها عن وِثاقٍ، لم يقع الطلاق.
وهذا نهاية التصوير في الإكراه؛ فإن اللاّفظ أتى بلفظه على مطابقة المجبِر للخلاص منه، ولم يأل جهداً في التغيير وصرف النية عن الفراق إلى غيره.
ولو أُجبر، فوافق، ولكنه لم ينو تطليقها عن وثاقٍ، وكان من الممكن أن ينوي ذلك، هل نحكم بوقوع الطلاق؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - وهو اختيار القفال أن الطلاق يقع؛ لأنه كان متمكناً من أن يورِّي، ويضمر ما ذكرناه، فيكون بقصده حائداً عن الفراق، فإذا لم يفعل، جرّ هذا إليه حكمَ المختارين؛ من حيث لم [يستفرغ] (4) وُسعه في الحَيْد عن الطلاق، وكان يقول: لو نوى الطلاق عن الوِثاق في حالة الاختيار، لم يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، ولكنه لا يصدّق إذا ادعى ما أضمره؛ من حيث إن الظاهر يكذّبه؛ فإنّ ذا الجدِّ لا يطلق لفظ الطلاق ومراده حلّ الوثاق، فإذا كان مكرهاً وأضمر حلَّ الوثاق، كان مصدَّقاً؛ لاقتران الإجبار بظاهر
__________
(1) ر. المختصر: 4/81.
(2) زيادة اقتضاها إيضاح العبارة.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: يتفرع.(14/156)
قوله، وهو (1) بمثابة الإقرار في الاختيار والإجبار، وإذا أقرّ بالطلاق كاذباً، لم يُحكم بوقوع الطلاق باطناًً، ولكن لو ادّعى أنه كان كاذباً في إقراره، لم يُصدّق، وإذا أكره على إقراره، ثم زعم أنه كان كاذباً، صُدّق؛ لأن ظهور الإجبار يُغلِّب على الظن صدقَه في دعوى الكذب في الإقرار. هذا أحد الوجهين وبيان اختيار القفال.
والوجه الثاني - أن الطلاق لا يقع، وإن لم يُوَرِّ؛ لأنّه أنشأ اللفظ مجبراً عليه، فسقط حكمه، ولم يأت بنيةٍ تُشعر باختياره.
هذا ما ذكره الأصحاب. وفي المسألة مزيد تفصيل عندي، فإن فرضت في غرٍّ غبيّ لا يفهم التورية، فلا ينبغي أن يكون في انتفاء طلاقه تردّدٌ، وإن كان المجبَر فقيهاً عالماً لمسألة التورية، ولم يفته ذكر هذه المسألة حالة الإجبار، فالأظهر عندنا أن الطلاق يقع، [وللاحتمال مجالٌ] (2) بيِّن إذا لم يقصد ولم يختر، وهذا محلّ الوجهين.
ولو كان الرجل عالماً ولكن أذهله الوعيد وبهَرَهُ السَّيفُ المسلول، فهو كالغِرّ الغبي الذي لا يذكر ولا يشعر.
9102- ومما نذكره في ذلك أن الأصحاب قالوا: لو أكرهه المكرِه على طلقةٍ، فقال: هي طالق ثلاثاًً، وقعت الثلاث؛ لأنه لمّا زاد على الطلقة المطلوبة منه، ظهر بذلك اختياره وقصدُه وإرادتُه الطلاق.
وقال الأصحاب: لو أكرهه على أن يطلقها ثلاثاًً، فطلقها واحدةً، وقع الطلاق.
وطردوا في ذلك أصلاً وقالوا: مهما (3) خالف المكرَهُ المكرِهَ بزيادة على ما طلبه أو بنقصان منه، نحكم بوقوع الطلاق؛ لأنه إذا خالفه، فقد أتى بغير ما طلبه، فكان كالمبتدىء بلفظه، وموجب ذلك الحكمُ بالوقوع.
وقالوا: لو أكرهه على أن يطلّق زوجته عَمْرة، فضمها إلى ضرّتها، وطلقهما،
__________
(1) وهو بمثابة الإقرار في الاختيار والإجبار: المعنى أن حكم لفظ المكرَه إذا ورَّى حكمُ الإقرار بالطلاق في حالتي الاختيار والإجبار.
(2) في الأصل: والاحتمال مجاز.
(3) مهما: بمعنى إذا.(14/157)
حُكم بوقوع الطلاق؛ بناء على ما ذكرناه من مخالفته إياه.
ولو أكرهه على تطليق امرأتين، فطلق إحداهما، قالوا: وقع الطلاق، كما لو أكرهه على ثلاث طلقات، فطلق واحدةً.
وقالوا أيضاًً: لو قال المكرِه: قُلْ: طلقتها، فقال: فارقتها، أو سرّحتها، حكم بوقوع الطلاق؛ طرداً للأصل الذي قدمناه، من أن المكرَه إذا خالف المكرِه المُجبِرَ، حكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن المخالفة تُصوِّر المكرَه بصورة المبتدىء المنشىء الذي لا ينبني كلامُه على استدعاء المجبِر.
ولي في هذه المسألة نظر: أما إذا أكرهه على طلاق عمرة، فطلّق عمرة وحفصة ففي تحقق الإكراه في عمرة وعدم وقوع الطلاق عليها احتمال بيّن ظاهرٌ؛ فإنه لا منافاة بين اختياره طلاقَ حفصةَ وبين كونه مجبراً على طلاق عمرة، فكأنه أتى بما استدعاه المجبر منه، وضمّ إليه ما كان في نفسه اختياره، والذي يحقق ذلك أنه لو كان على [نيّة] (1) أن يطلق حفصة، فقال المجبر: طلق عمرة معها، فهذا ظاهر في تحقق الإكراه في طلاق عَمْرة.
وأما إذا أكرهه على تطليق عمرةَ وحفصة، وطلق عمرة، فقد يظهر أنه يبغي بهذا إجابة المجبر في بعض ما قال، وهو يرجو أن يكتفي بذلك، فهذا فيه احتمال من هذا الوجه أيضاًً، والاحتمال في الصورة الأولى أظهر؛ من جهة أنه يتخلص [بما يفعله] (2) عن إرهاق من يجبره، ويتخلص عن الإكراه بتطليق واحدة، والمطلوب منه تطليق اثنتين.
ولو قال - وقد طلب منه طلاق اثنتين: أنت طالق وأنت طالق، فهذا مما يجب القطع به في كونه مكرهاً، فإنه ساعد (3) المجبر على هذه الصيغة، فكان بمثابة ما لو جمع طلاقهما في صيغة التثنية.
فأما إذا أجبره على طلقة، فطلق ثلاثاًً، فلا شكّ في وقوع الثلاث؛ فإن الذي صدر
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: ما يفعله.
(3) "ساعد" هنا بمعنى: أجاب، لا بمعنى أعان.(14/158)
منه يشعر بانشراح صدره للطلاق، ولا يتميز طلقة عن طلقة، وليس كامرأتين، يضم إحداهما إلى الأخرى. نعم، إذا أجبره على الثلاث، فطلق واحدةً، فهذا فيه من الاحتمال ما فيه إذا أجبره على تطليق نسوةٍ، فطلّق واحدةً.
9103- ثم قال الأئمة: الهازل بالطلاق يقع طلاقه، وهو الذي يقصد اللفظ دون المعنى، وليس هو الذي يقصد طلاقاً عن وِثاقٍ، فمطلَقُ اللفظ من الهازل يوقع الطلاق ظاهراً وباطناً، ولا يُلحقه بالذي ينوي طلاقاً عن وثاق، فإن نواه في هَزلِه باللفظ دُيّن، فإن الجادَّ يُدَيّن، فالهازل في معنى الجادِّ.
9104- وأما اللاغي، فلا يقع طلاقه، وهو الذي يبدُر منه لفظ الطلاق من غير قصدٍ، فلا يقع طلاقه.
وهذا في تصويره فقهٌ؛ فإن الرجل إذا سمعناه يتلفظ بالطلاق، ثم ادّعى أنه كان لاغياً، فقد لا يُقبل ذلك منه ظاهراً وإن كان مقبولاً باطناًً لو كان صادقاً، فصوّر الأصحاب اللّغوَ على [نيته] (1) فقالوا: إذا كان اسم زوجته طاهرة، فقال: يا طالقة، وذكر أن هذا سبق إلى لسانه، وانقلب لسانه في بعض حروف اسمها، فقرينة الحال قد تصدّقه، فقال الأصحاب: إن ادعى اللّغوَ والحالة هذه، صُدِّق.
ولو اقترن بقوله: أنت طالق حَلُّ وِثاق، ثم زعم أنّه أراد بالطلاق أنها محلولة الوثاق، ففي [قبول] (2) ذلك وجهان، والسبب فيه أن لفظ الطلاق مستنكر مع هذه الحالة، فإن العاقد لا يختار إطلاق هذا اللفظ، والمسألة مفروضة في اختيار اللفظ، فأما التفات اللسان في حرفٍ مع ظهور القرينة، فلا وجه إلا القطع بقبوله.
ووصل أصحابنا بهذا أن امرأته لو كان اسمها طالقة فقال: يا طالقة، وهو يقصد نداءها، لم يقع الطلاق، وكذلك لو كان اسم العبد حرّاً، فقال مولاه يا حرّ، وقصد النداء، لم يُقضَ بوقوع العَتاق، ولو قصد الطلاق، وقع الطلاق، ولو أطلق اللفظ ولا يقصد نداءً ولا إنشاءَ طلاق.
__________
(1) مكان كلمة تعذرت قراءتها (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: قبوله.(14/159)
فحاصل ما ذكره الأصحاب في العَتاق والطلاق وجهان، والمسألة محتملة جداً شديدة الشبه بما إذا قال: أنت طالق طالق طالق، ولم يقصد تجديداً ولا تأكيداً.
والإكراه على تعليق الطلاق يمنع انعقادَه، [كالإكراه] (1) على تنجيزه، وكذلك الإكراه على الأيْمان والنذور، والبيع والهبة، والأجارة، والنكاح، والعقود، [جُمَع] (2) وكان شيخي يقول: الهازل بالبيع فيه احتمال: يجوز أن يقال: هو كالجادّ، وكالهازل بالطلاق والعتاق، ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع من الهازل به؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدّهن جدٌ وهزلهنَّ جدٌّ: الطلاق والعَتاق والنكاح"31) وموجب الحديث التحاق النكاح بالطلاق.
وفيه إشكال؛ فإنه في معنى البيع؛ من حيث إنه لا يعلّق، ولا يصح باللفظ الفاسد، ولا يَشيع من الجزء إلى الكل، بخلاف الطلاق والعتاق.
9105- وأما الإكراه على الردة، فإنه يسلب حكمَها؛ قال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106] .
ومن فقهائنا من يقول: يجب التلفظ بالردة لابتغاء الخلاص، كما يجب شرب الخمر عند الإكراه عليه، وهذا خطأ عندنا، فلو أصرّ الأسير على الدّين الحق، واستقتل، جاز ذلك، بل هو الأولى، وسنذكر جُملاً من هذا في كتاب الجراح، إن شاء الله.
فإذا أكُره الحربيّ على الإسلام، فنطق بالشهادتين تحت السيف، حكم بكونه
__________
(1) في الأصل: فالإكراه على تنجيزه.
(2) في الأصل: مجمع.
(3) الحديث رواه الطبراني في الكبير: 18/304 ح 780، ورواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل، ح 2194، والترمذي: كتاب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، ح 1184، وابن ماجة: كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعباً، ح 2039، والدارقطني: 4/18، والحاكم في المستدرك: 2/197، 198، رووه جميعاًً بلفظ (الرجعة) بدل (العتاق) وقد صححه الحاكم وتعقبه الذهبي في أحد رجاله، ووافق الحاكم في تصحيحه صاحبُ الإلمام، وانتهى الحافظ ابن حجر إلى الحكم عليه بأنه (حسن) (ر. التلخيص: 4/423 ح 1737) .(14/160)
مسلماً؛ فإن هذا إكراه بحق، فلم يغير الحكم، اتفقت الطرق على هذا، مع ما فيه من الغموض من طريق المعنى، فإن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عن الضّمير منزلة الإقرار، والظاهرُ من المحمول عليها بالسيف أنه كاذب في إخباره.
ولو أكَره ذميّاً على الإسلام، فأسلم فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنا هل نحكم بإسلامه؟ والمصير إلى الحكم بإسلامه بعيد، مع أن إكراهه عليه غير سائغ، فلئن [استدّ] (1) ما ذكرناه في إكراه الحربيّ من جهة أنه إكراه بحقٍ، فلا ثبات لهذا المسلك والمكرَهُ ذميٌّ والإكراه ممنوع.
9106- ومما نلحقه بهذا الأصل [أنّا ذكرنا] (2) قولين في الإكراه على الصفة الّتي علّق العتق بها، مثل أن يقول الزوج: إن دخلتُ الدار، فأنتِ طالق، فإذا أكره على الدخول ففي وقوع الطلاق قولان، والفرق بين الإكراه على صفة الطلاق وبين الإكراه على تنجيز الطلاق أو تعليقه أنا نبطل اختيار المكرَه في التنجيز والتعليقِ بالإكراه المقترن به، وهذا لا يتحقق في الصفة؛ فإن قول القائل: إن دخلتُ الدار متناول لما ينطلق عليه اسم الدخول سواء كان على صفة الاختيار، أو على صفة الإجبار، فكان الحكم بوقوع الطلاق مأخوذاً من تناول العقد لطَوْرَي الإكراه [والاختيار] (3) ، وعقدُ اليمين على ما يوجد من المكره ممكن، فإنه لو قال في اختياره: إن دخلتُ الدار مكرهاً، فأنت طالق، فأجبر على الدخول فدخل، وقع الطلاق وفاقاً. وقد نجز ما أردناه في هذا الفن.
9107- وبقي من الفصل الكلامُ فيما يكون إكراهاً، وفيما لا يكون إكراهاً، وهذا غائصٌ عويص، قلّ اعتناء الفقهاء به، ونحن نرى أن ننقل فيه ما بلغنا، ثم ننعطف عليه، ونتصرّف فيه بترتيب المباحثات.
أما العراقيون، فقد ذكروا فيما يكون إكراهاً على الطلاق أوجهاً: أحدها - أنه
__________
(1) في الأصل: "استمرّ". وهذه اللفظة تصحفت كثيراً كثيراً على بعض النساخ - و (استدّ) أي استقام. وهي المناسبة للسياق.
(2) في الأصل: ما ذكرنا.
(3) في الأصل: والإجبار.(14/161)
التخويف بالقتل مع غلبة الظن بوقوعه لو لم يساعِف المجبَر.
والثاني - أن الإكراه هو التخويف بالقتل أو القطع.
والوجه الثالث - أنه التخويف بالقتل أو القطع أو إتلاف المال، وكل ما يصعب احتماله، ويعدّ في العرف من أسباب الإلجاء.
ثم قالوا: ويختلف ذلك بأحوال ذوي المروءات.
فهذا منتهى كلامهم.
ونقل (1) القاضي رضي الله عنه عن القفال طريقةً في حدّ الإكراه، وارتضى لنفسه مسلكاً، وحكى عن العراقيين مسلكاً:
أما ما حكاه عن القفال، فهو أنه قال: الإكراه أن يخوّفه بعقوبة تنال بدنَه عاجلاً، لا طاقة له بها، فلو قال: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتُك، أو إن لم تقتله، لأقطعنّ طرفاً من أطرافك، أو لأضربنّك بالسياط أو لأجوّعنّك، أو لأعطشنّك، أو أخلِّدُ الحبسَ عليك، فهذا كله إكراه.
فإن قال: أفعل بك هذه الأشياء غداً، لم يكن إكراهاً.
وإن قال: لأتلفَنَّ مالك، أو لأقتلنَّ ولدك، لم يكن إكراهاً؛ لأنّ هذه عقوبةٌ لا تنال بدنه.
وقال: إن قال: لأصفعنّك في السوق، والمحمول من ذوي المروءات، فليس هذا بإكراه، فإن احتمال هذا يصعب على أصحاب [المروءات] (2) ، والمتمسكون بالدّين ربما يؤثرون المشي مع الحفاء وتحسر الرأس (3) .
هذا ما حكاه عن شيخه القفال.
وقال رضي الله عنه: الإكراه عندي أن يخوّفه بعقوبة لو نالها من بدنه مبتدئاً،
__________
(1) يعرض هنا لرأي الخراسانيين (المراوزة) بعد أن انتهى من كلام العراقيين.
(2) في الأصل: الرعونات.
(3) يضرب هذا مثلاً لما يمكن أن يعاقب به ويكره به: الحفاء وتحسّر الرأس. وكأن المعنى: أن المتمسكين بالدين يتحملون أمثال هذا، ويؤثرونه على الخضوع والاستجابة للمكرِه المجيز.(14/162)
لوجب عليه القصاص، فعلى هذا إذا خوفه بتخليد السجن، لم يكن إكراهاً إلا أن يخوّفه بالتخليد في قعر بيتٍ يغلب الموت من الحبس فيه.
قال: وقال العراقيون: إنْ قال له: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتك، أوقطعتُ طرفَك، كان إكراهاً، ولو قال: إن قتلته، وإلا أتلفت مالك، لم يكن إكراهاً، وإن قال: إن أتلفتَ مال فلان وإلا أتلفت مالك، يكون هذا إكراهاً.
قال القاضي: الإكراه لا يختلف باختلاف المحالّ، فلا فرق بين أن يكون المطلوب من المكره قتلاً، أو طلاقاً، أو عِتاقاً، أو بيعاً، أو [عُقدة] (1) من العقود.
وفي بعض التصانيف: اختلف أصحابنا في صفة المكرَه: منهم من قال: إذا توعده بما لا تحتمله نفسه، والغالب أنه يحقق ما توعّد به، فهذا إكراه، ومنهم من قال: يختلف ذلك باختلاف عادة الناس، فالشريف إذا خُوّف بالصفعة الواحدة على ملأ من الأشهاد، فهو إكراه في حقه، وفي هذا الكتاب (2) : وإن خُوف بإتلاف المال والولد، فهل يكون إكراهاً؟ فعلى وجهين.
وكان شيخنا أبو محمّد يقطع جوابه بأن الإكراه يختلف باختلاف المطلوب، والإكراهُ على الطلاق دون الإكراه على القتل، ثم كان يختار أنّ الرجوع فيما يكون إكراهاً إلى ما يؤثر العقلاءُ الطلاقَ عليه، وهذا يجري في الحبس الطويل، والضربِ المبرّح، والنقصِ الظاهر من المروءة.
فهذا مجموع ما ذكر في هذا الفصل.
9108- ونحن نقول: إذا كان التخويف يتعلق بالروح، وذلك بأن يكون التخويف بالقتل، أو القطع الذي لو فرض وقدّر سريانه إلى الهلاك، لكان موجباً للقصاص، فهذا إكراهٌ في جميع المواضع، لا يجب أن يكون فيه خلاف، وإن ردّد العراقيون فيما حكيته جوابهم في التخويف بقطع الطرف.
__________
(1) في الأصل: عنده.
(2) هذا الكتاب: يعني به (بعض التصانيف) المشار إليه آنفاً، وصاحبه هو الإمام أبو القاسم الفوراني.(14/163)
وإذا كان التخويف بضربٍ لو فُرض وقوعُهُ، لكان من موجبات القصاص إذا أفضى إلى التلف، فهو بمثابة التخويف بقطع الطرف، وهذا جارٍ في كل محل، يخالف فيه من يخالف في التخويف بقطع الطرف إلا أن يكون التخويف بضرب لا يتصوّر البقاء معه، فيكون بمثابة التخويف بالقتل.
فأما إذا كان التخويف بتخليد الحبس، أو إتلاف المال، أو قتل الولد، فهاهنا موقف يجب التنبه له: ذهب ذاهبون إلى أن المرعي في هذا المقام أن يكون المطلوب من المجبَر أقلَّ في نفسه ممَّا خُوّف به، وبنَوْا عليه أنه إذا كان كذلك، فإنه سيؤثر الطلاق في غالب الأمر، فيكون محمولاً على اختيار الطلاق، ومن كان محمولاً على اختياره، سقط اختيارُه؛ فإن الاختيار الحقيقي هو الذي لا يكون المرء محمولاً عليه.
وإن كان المطلوب منه أكبرَ في النفوس مما يخوَّف به، فلا يتحقق الإكراه حينئذٍ، وهذا المسلك يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، فإن كان المطلوب قتلاً؛ فإن احتمال الحبس على انتظار الفرج [هو] (1) أهون من الإقدام على قتل مسلم.
وإن كان المطلوب الطلاق والعتاق، لم يهن احتمال الحبس، وهذا يرجع إلى الجبلّة، وليس من أوزان الفقه وتصرفه في الفرق بين الخطير وما دونه، بل لا تحتمل النفس الحبس والمطلوبُ الطلاق، فيصير محمولاً على اختيار الطلاق، وليس الأمر كذلك في القتل.
وعليه يخرّج الفرق بين المناصب والمراتب، والنظر إلى ذوي المروءات، وسرّ هذا المسلك ردّ الأمر إلى كون الإنسان محمولاً على اختيار ما يطلب منه.
فقد لاح أن هذا السبيل يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، وبين المطالَب والمطالَب.
9109- والطريق مبهمٌ بعدُ [وسنذكر] (2) فيه الممكن من التفصيل بعد تمام البيان في التقعيد والتأصيل.
__________
(1) في الأصل: وهو.
(2) في الأصل: سنذكر (بدون وأو) .(14/164)
ومسلك المحققين أن الإكراه هو الذي يسلب الطاقة والإطاقة، ولا يُبقي في غالب الأمر للمرء خِيَرَة التقديم والتأخير، حتى يصير كأنه لا اختيار له، والمخوّف بالقتل والقطع كذلك، [فلا يقع] (1) المطلوب منه لنظره وتخيره (2) .
فأما الذي يؤثر الطلاق على الحبس، فإنما هو مفضّلٌ حالةً على حالة، ومرتاد عيشة على عيشةٍ، واختياره صحيح، فلا يتحقق الإكراه والحالة هذه.
والذي فرضه الأولون من الموازنات، والنظر في الأقدار مسلكٌ من مسلك الرأي والاستصواب، فقد يُرهق الزمانُ المرءَ إلى أمثاله، فيستصوب له أن يطلّق أو يبيع، وليس هذا من الإكراه الحقيقيّ في شيء، فينحصر الإكراه على هذا المسلك فيما يكاد يُعدِم الاختيار، حتى لا يبقى إلا ما يؤثره من يفر من الأسد في وطء الأرض المشوكة، فقد يتخطاها الفارّ وهو لا يحس بوخز الشوك.
وبين هذه الطريقة والطريقة الأولى تباين عظيم.
ثم لا نفرّق فيه بين أن يكون الإكراه على إتلاف مالٍ قلّ أو كثر، أو على بيع مال، أو طلاق، أو قتلٍ، ولا يعترض على هذا إلا شيء واحد، وهو أنه لو خُوّف بإيلامٍ عظيم لا يصابَر، وإن لم يكن مما يقصد به القتل، فقد يحصل بمثل هذا قريبٌ من سلب الطاقة، وفيه نظر.
وأنا أقول: التخويف به لا يكون إكراهاً، أما مفاتحته (3) بالإيلام، ففيه [الاختلاف] (4) ، وليس هذا كالتخويف بالقتل؛ فإن وقوع الخوف أشد من وقوع هذا الإيلام.
هذا بيان تأصيل الطريقين.
9110- وعلينا بعد هذا أمران: أحدهما - التفصيل والآخر - الإشارة إلى العثرات: أما التفصيل، فتأصيل الطريقة الأخيرة بفصلها (5) ، ولا يرد عليها إلا الألم
__________
(1) في الأصل: ولا يقع.
(2) المعنى لقطع نظره وتخيّره بالإكراه.
(3) مفاتحته بالإيلام: المعنى بدء إيلامه.
(4) في الأصل: الاحتلام.
(5) بفصلها: أي كما هي عليه في بياننا وشرحنا لها.(14/165)
المرهق الذي ذكرنا، ومسألةٌ أخرى وهي أن الأخرق لو خوّف، فما يحسبه مهلكاً ولم يكن كذلك، فقد ينتهي إلى سقوط الاختيار، وهذا يُخرَّج على ما إذا رأى سواداً ظنه عَدُوَّاً، فصلى صلاة الخوف، ثم لم يكن كما ظنّ.
فأما الطريقة الأولى، فمن ضرورتها الفصل بين المطلوب والمطلوب، فالإكراه على القتل فوق الإكراه على الطلاق وإتلافه المال. ثم الإكراه على القتل يقع بالتخويف بالقتل لا غير في وجهٍ، أو بالتخويف بالقطع الذي يكون مثله عمداً في قتل النفس، فأما ما عداه، فلا يكون إكراهاً على القتل؛ فليس التخويف بإتلاف المال والولد إكراهاً على القتل.
فأما الإكراه على الطلاق، فلا يشترط فيه القتل والقطع، ثم قال الأصحاب: يختلف الإكراه باختلاف درجة المكرَه، كما حكيناه.
وذكروا خلافاً فيما يتعلق بغير بدن المطالَب: كالإكراه بإتلاف المال وقتل الولد ومن في معناه.
فينتظم منه أن ما يتعلق ببدن المطالَب المكرَه، فإن كان عقوبةً وإيلاماً، أو حبساً يهون الطلاق في مقابلته، فهو إكراه، ثم الآلام تختلف بقوّة المكرَه وضعفه، فقد يحتمل القوي الضربَ العنيف، والضعيفُ لا يحتمله، فهذا مما يختلف باختلاف الأبدان لا محالة، وما يرجع إلى حط الجاه، والغضّ من المروءة كالصفع على رؤوس الأشهاد، وتكليف الإحفاء وتحسر الرأس في الأسواق، فهذا مختلف فيه: فمن أصحابنا من لا يراه إكراهاً، ومنهم من يراه إكراهاً في حق من يعظم وقعُه في حقه.
هذا فيما يتعلق بالمُطالَب.
فأما ما يتعلق بغيره، فهو التخويف بإتلاف المال، وقتل الولد، أو الوالد، فهذا فيه اختلاف: فمنهم من يجعله إكراهاً، ومنهم من لا يجعله إكراهاً، ففي كلام العراقيين ما يدل على أن التخويف بالمال في مقابلة المال إكراه، وليس التخويف بإتلاف المال في مقابلة الطلاق إكراهاً.(14/166)
9111- هذا مجموع ما ذكروه. وهو خارج عن الضبط؛ فإن [انتقاص] (1) المروءات والأقدار التي يصعب وقعها أو يهون احتمالها بالإضافة إلى الروح لا تنضبط، ويرجع الأمر فيه إلى النظر في آحاد الأشخاص؛ فإنهم على تفاوتٍ ظاهر، وإن كانوا [يُعدّون] (2) داخلين تحت نوع أو جنسٍ.
وإذا جعلنا الإكراه بإتلاف المال إكراهاً، فالنظر ينتشر في هذا من [وجه] (3) أنا إن سوّينا بين القليل والكثير، كان ذلك مردوداً، فلا خطر في إتلاف الدرهم فما دونه، وإن نظرنا إلى نصاب السرقة، عارضه المقدار الذي تغلظ اليمين فيه، ثم هما جميعاً توقيفان، والذي نحن فيه معنى معقول، وهو الإلجاء الغالب المؤثر في توهين الاختيار، فإحالة هذا على التوقيفات محال، وأخذ هذا الأصل من جواز الدفع عن المال قلّ أو كثر بعيدٌ؛ فإن معنى الإلجاء يبطل بالكلّية، وإن رجعنا إلى عزة المال في النفوس وضِنّتِها بها، عارضه تخرّق الأسخياء، وهذا نَشَرٌ لا مطمع في ضمّه أصلاً، ولا ينقدح فيه إلا النظر إلى حال كل شخصٍ، ثم لا مطلع عليه إلا من جهته، والكلام يخرج عن ضبط الفقه، فيجب ردّ الإكراه إلى التخويف بالقتل، أو التخويف بما يؤدي إلى القتل، كما ذكرناه.
هذا منتهى التفريع.
9112- فأما العثرات، فعَدُّ القفال الحبسَ إكراهاً على القتل عثرةٌ، ولا سبيل إلى اعتقادها؛ فإن الحبس لا يسلب الاختيار، وهو في مقابلة القتل قليلٌ في كل مسلك، والجمع بين سقوط الطاقة وبين المصير إلى أن الحبس إكراهٌ هفوةٌ.
والقطع بأن التخويف بقتل الولد ليس بإكراه والحبس إكراهٌ هفوةٌ.
وقد انتهى الغرض على أكمل وجه في البيان.
__________
(1) مزيدة من المحقق لاستقامة الكلام، ولعلها سدّت مكان خرم أكثر من هذا.
(2) في الأصل: يغدون.
(3) في الأصل: من أوجه.(14/167)
فصل
قال: "ومغلوب على عقله خلا السّكران ... إلى آخره" (1) .
9113- أما المغلوب على عقله بالنوم، أو الجنون، أو الإغماء، فلا يقع طلاقه، وأما السّكران، وهو مقصود الفصل، فنتكلم في حكمه، ثم نتعرض لبيان السكر، فنقول: طلاق السّكران واقع في ظاهر المذهب، ولا يُلفى للشافعي نصّ في أنه لا يقع طلاقه، ولكن نصّ في القديم على قولين في ظهاره، فمن أصحابنا من نقل من الظهار قولاً إلى الطلاق، وخرّج المسألتين على قولين.
ومعظم العلماء صائرون إلى وقوع طلاق السكران، وذهب عثمان وابن عباس وأبو يوسف (2) والمزني وابن سُريج في أتباعٍ لهم إلى أن طلاق السكران لا يقع.
وأما سائر تصرفات السكران، فللأصحاب فيها طرق: منهم من قال: في جميعها قولان: أحدهما - حكمه فيها حكم الصاحي.
والقول الثاني - حكمه فيها حكم المجنون. والقولان مُجْريان في أقواله وأفعاله فيما له وعليه.
ومن أصحابنا من قال: ما عليه ينفذ، وفيما له قولان.
ومنهم من قال: أفعاله كأفعال الصاحي، وفي أقواله قولان؛ وهذا لمكان قوة الأفعال.
هذه مسالك الأصحاب، وأشهرُها طرد القولين في الجميع، ولا خلاف أنه مأمور بقضاء الصلوات التي تمرّ عليه مواقيتها في حالة السّكر، وإن كان السكر بمثابة الإغماء، على معنى أنه لا يتصور إزالته بالتنبيه، كما يُزال النّوم به.
__________
(1) ر. المختصر: 4/81. وتمام العبارة في المختصر: "وكل مكرهٍ ومغلوب على عقله فلا يلحقه الطلاق خلا السكران من خمر أو نبيذ".
(2) لم نجد في كتب الأحناف من نسب إلى أبي يوسف القول بعدم وقوع طلاق السكران، ولكنهم ينتقلون إلى الكرخي، والطحاوي وينسبون القول بعدم الوقوع إليهما (ر. بدائع الصنائع: 3/99، حاشية ابن عابدين: 2/424، مختصر اختلاف العلماء: 2/431 مسألة 941) .(14/168)
وكان شيخي يقول: من أُوجر (1) خمراً، وانتهى إلى السكر الطافح، فمرت عليه مواقيت صلوات، لم يلزمه قضاؤها، كالمغمى عليه.
وتردد الأصحاب في أنا إذا جعلنا السّكران كالصاحي، فهل نجعل صورة السكر حَدَثاً ناقضاً للطهارة؛ فإنه على صورة الإغماء، وقد قدّمنا هذا في كتاب الطهارة.
فهذا قولنا في أحكام السكران.
وقد قال الشافعي: إذا ارتد السكران، ثبت حكم الردة، ولكنّه لا يستتاب حتى يُفيق، وعن هذا النص نشأ للأصحاب الفرق بين ما له وعليه، والأَوْلى حمل ذلك على رعاية [مصلحته] (2) ، وإلا فالإسلام يصح ممن تصحّ منه الردة.
9114- فأما حدّ السكر، فقد نقل عن الشافعي أنه قال: إذا اختلط كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم، فهو سكران.
وقال قائلون: إذا أخذ يهذي في الكلام ويتمايل في المشي، فقد انتهى إلى السكر.
وقال بعض الأصحاب: السكران من لا يعلم ما يقول، وهذا يعتضد بظاهر قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] .
وهذه العبارات متقاربة، ولكنها ليست على الحدّ الذي أرتضيه في البيان، فأوّل السكر لا يسلب الكلامَ، ولا يُنهي السكران إلى الهذيان الذي يصدر مثله من النائم، ولكن السكران هو الذي يكون في كلامه وخطابه وجوابه وما يقوله ويفعله كالمجنون، وللمجنون مَيْزٌ وفهم، وهو يبني عليه الجوابَ والإصغاء وفهم الخطاب، فإذا انتهى السكران إلى مثل حاله، فهو في حد السكر.
ثم قد ينظم المجنون كلاماً وقد يخبطه، ولا تخفى تاراته في نظمه وخَبْطه، والمعنىُّ بكلام الشافعي إذا اختلط كلامه المنظوم أن يتطرق إلى كلامه الاختلاطُ الذي يتطرق إلى كلام المجانين.
__________
(1) أُوجر: من أوجرت المريض إذا صببت الدواء في حلقه (المصباح) .
(2) في الأصل: مصلحةٍ.(14/169)
ومن قال: السكران من يهذي ويتمايل، فالذي جاء به لا بيان فيه، والتمايل لا معنى له.
ومن قال: السكران من لا يعلم ما يقول، فعليه مراجعةٌ، لما ذكرنا من أن أصل العلم لا يمكن سلبُه من البهائم، فضلاً عن السكارى والمجانين، ومن أراد الإحاطة بهذا على التحقيق، فليجدّد عَهْده بمجموعاتنا (1) في حقيقة العقل، ثم ليَبْنِ عليه أن السكران من لا يتصف بالعقل، وإن نجّزنا طرفاً منه: فمن لا عقل له، [لا يتصوّر] (2) منه النظر العقلي، وإن ذكر من مباديه شيئاً، فهو عبارات الفقهاء، ولا يخفى عروُّه عن حقيقتها.
9115- فإذا دبّت الخمرة (3) ، انتشى الشارب وعَرتْه طَرِبَةٌ وهِزّةٌ، وهذا قد يَحُدّ (4) العقل، فليس من السكر (5) .
وبعد ذلك ما (6) وصفناه من السكر، مع بقاء أفعال وأقوال.
ومنتهى (7) السكر الاتصاف بصفة المغشي عليه.
__________
(1) بمجموعاتنا في حقيقة العقل: المراد مؤلفاتنا، ومباحثنا في حقيقة العقل، وللإمام كتاب بعنوان (مدارك العقول) لما نصل إليه بعدُ. وقد أشبع قضية العقل والعلم بحثاً في كتابه الفذّ (البرهان في أصول الفقه) في الفقرات من 36 إلى 69. وكان من نعم الله علينا أن هيأ لنا إخراج هذا الكتاب لأول مرة، بعد أن ظل مخطوطاً قروناً طويلة يُسمع به ولا يرى، فلله الحمد والمنة.
(2) في الأصل: "ولا يتصوّر" (بزيادة الواو) .
(3) أول صور السكر عند الإمام.
(4) يحدُّ العقل: من باب قتل. وهي هنا من معنى حدَّ السيفَ: إذا شحذه. كذا فسر الرافعيُّ كلام الإمام (الشرح الكبير: 8/566) .
والمعنى أن الخمر في أول أمرها قد تشحذ العقل، قبل أن تغيبه وتذهبَ به، وهذه أول مرحلة من مراحل السكر الثلاث - عند الإمام.
(5) فليس من السكر: أي هذه الحالة الأولى من حالات السكر ومراحله، وهي لا تحسب في أحكام السكران.
(6) هذه الحالة الثانية أو المرحلة الثانية من مراحل السكر.
(7) وهذه هي الحالة الثالثة، أو المرحلة الثالثة.(14/170)
ثم في هذا نظر.
فإن انتهى إلى حالة الإغماء وسقوط الاختيار بالكلية، فالوجه القطع بإلحاقه
بالمغمى عليه، حتى إذا بدرت منه كلمة الطلاق بُدورَها من النائم الهاذي، فلا حكم لها، وكذلك القول في أفعاله، فهي منزّلة منزلة ما يصدر من المغشي عليه.
وإنما التردد والكلامُ فيه إذا كان السكران على [مضاهاة] (1) المجانين.
وأبعدَ بعض أصحابنا فألحق ما يصدر من ذي السكر الطافح بما يصدر منه، وهو يفعل ويقول ويتردد، وهذا إنما أخذه من إيجابنا عليه قضاء الصلوات وإن انتهى السكر إلى رتبة الإغماء (2) .
ثم الفقه في الصّلاة يستدعي الإشارة إلى مسائل قدمناها في كتاب الصلاة، منها:
__________
(1) في الأصل: مضادّة. والمثبت تصرّفٌ من المحقق على ضوء السياق.
(2) لخص الإمام الرافعي هذا الفصل -في حدّ السكر- من كلام الإمام تلخيصاً حسناً، وليس في عرضنا لهذا التلخيص والترتيب من كلام الرافعي خروج على المنهج الذي نراه وندعو إليه، وألزمنا به أنفسنا، وأعني به عدمَ إثقال الكتاب المحقق بالتعليقات التي لا تخرج عن كونها شرحاً، أو تلخيصاً، أو إعادة صياغة، وإنما هو من صلب منهجنا حيث يدخل في (إضاءة النص) والإعانة على فهمه، فقد جاء كلام الإمام عن حدّ السكر متداخلاً يصعب ضبطه، وهذا ما سوّغ لنا أن نورد تلخيص الرافعي، وهذا نصه:
"ولم يرضَ الإمام عبارات الأصحاب، وقال: شارب الخمر تعتريه ثلاثة أحوال: إحداها - هزة ونشاط يأخذه إذا دبت الخمر فيه، ولم تستول عليه بعد، ولا يزول العقل في هذه الحالة، وربّما يحتد.
والثانية - نهاية السكر، وهو أن يصير طافحاً، ويسقط كالمغشي عليه، لا يتكلم، ولا يكاد يتحرك.
والثالثة - حالة متوسطة بينهما، وهي أن تختلط أحواله، فلا تنتظم أقواله وأفعاله، ويبقى تمييزٌ وفهم كلام.
فهذه الحالة الثالثة سكرٌ، وفي نفوذ الطلاق فيها الخلاف الذي بيناه.
وأما في الحالة الأولى، فينفذ طلاقه لا محالة؛ لبقاء العقل، وانتظام القصد والكلام.
أما في الثانية، فالأظهر عند الإمام، وهو المذكور في الوجيز أنه لا ينفذ؛ لأنه لا قصد له، كأنه جرى على لسانه لفظ، فهو كما يفرض في حق النائم، والمغمى عليه، ومن الأصحاب من جعله على الخلاف المذكور لتعدّيه بالتسبب إلى هذه الحالة، وهذا أوفق لإطلاق أكثرهم، والله أعلم" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/566) .(14/171)
أنّ من ردّى نفسه من شاهقٍ، فانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً، فإذا [استبلّ] (1) وبرأ، فالأصح أنه لا يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؛ من جهة أن الرخص والتخفيفات وإن كانت لا تثبت للعصاة، فالمعصية قد انقضت بالتَّرْدية، ودوامُ العجز كان بعد انقضائها.
ومن أصحابنا من أوجب القضاء تغليظاً على الذي عصى بترْدية نفسه. وإذا عاطت (2) المرأة فأَجْهَضَتْ جنيناً، ونُفِست، فالمذهب القطع بأنها لا تقضي الصلوات التي تمر مواقيتها في النفاس، وفيه خلاف.
ثم من يُلزم القضاء في الضروب التي أشرنا إليها يستدل بالسّكران؛ فإن الشّرب هو الذي يتعلق الاختيار به كترْدية النفس، وكالسعي في الاستجهاض، والسكر لا يقع مختاراً.
وفصل المحققون بين السكر وبين الصّنوف التي قدمناها بأن قالوا: مطلوبُ من يشرب السُّكر، وإلا فالسَّكر في نفسه والمشروب مرٌّ بشعٌ، وليس مطلوباً، ومبنى الشرع على التغليظ على من يبغي ما لا يجوز ابتغاؤه، فلما كان السُّكر شوْفَ النفس، التحق عند حصوله بمعصية مختارة، وانخلاع القدم، واسترخاء النفاس ليس مطلوبَ
__________
(1) في الأصل: "استقلّ"، وهو تحريف والتصويب من المحقق على ضوء أسلوب الإمام، واستخدامه هذا اللفظ في هذا المعنى دائماً و "استبلّ" أي شُفي وعادت إليه عافيته.
(2) عاطت المرأة: لم تحمل سنوات من غير عقم، وقيل: إن ذلك بسبب سمنها وشحمها (اللسان، والمعجم، والقاموس) .
ثم هي في الأصل غاطت (بالغين المعجمة) ومع ذلك فالكلمة (عاطت) غير مستقيمة في سياقها؛ إذ المعنى أن المرأة تفعل فعلاً تتسبب به إلى الإجهاض وإلقاء جنينها، وهذا لا تؤديه (عاطت) .
ولما أصل بعدُ إلى اللفظة التي يظن أن هذه حرفت عنها، مع تقليبها على جميع صورها الممكنة. والله أعلم.
الآن والكتاب ماثل للطبع حصلنا على صورة من هذا الجزء من (صفوة الذهب) ووجدنا الكلمة فيها واضحة وهي: "وإذا (عالجت) المرأةُ؛ فأَجْهَضَت" والمعنى إذا تسببت في الإجهاض وتعاطت أسبابه من شراب أو طعامٍ، أو فعلٍ. (فانظر واعجب كيف تصحفت الكلمة (عالجت) إلى (غاطت) !!!.(14/172)
النفوس، ثم السُّكر في عينه تركٌ للصلاة، أو سببٌ خاصٌّ فيه، فلم يُسقط قضاءَ الصلاة قولاً واحداً.
وأما الحكم بوقوع الطلاق، فمما يقع متفرعاً على السكر، وقد لا يتفرع، وكأن التردد فيه وفي أمثاله لما نبهنا عليه، والسُّكر بالإضافة إلى الصلاة عينُ الترك، أو سببٌ خاصّ في الترك.
9116- ومن تعاطى شيئاً يزيل العقل من غير حاجة عصى ربّه، ثم قال الأصحاب: حكمه إذ اختلط عقله كحكم السكران.
والذي أراه فيه أنه لا يُلحق بالسَّكران، والتحقيق فيه أن هذا النوع من زوال العقل إذا لم يكن مقصوداً، فهو عندنا في حكم الصّلاة كانخلاع القدم في حق من يردّي نفسه، وكالنفاس في حق المستجهضة.
وإذا كان الفقه المحض يقتضي إسقاط قضاء الصّلاة مع خلافٍ فيه، فالقطع بإلحاقه بالسكران لا وجه له، وكذلك إذا تسبب فجنّن نفسَه، ففي الأصحاب من ألحقه بالسكارى. وهذا غفلةٌ عن المعنى الذي نبهنا عليه.
ولما أراد المزنيّ نصرة مذهبه في أن طلاق السّكران لا يقع، احتج بالذي جنّن نفسه، ولم ير أنه يخالَف في وقوع طلاقه، وللأصحاب فيه التردد الذي حكيناه، وفي كلام القاضي ما يدل على القطع بإلحاقه بالسكارى، وهذا فيه خلل ظاهر لما نبَّهت عليه.
ولم يختلف أصحابنا في أنّ من أُوجر خمراً، فسكر، وطلّق، لم يقع طلاقه.
ومن تداوى ببَنْجٍ (1) ، أو غيره، فزال عقله، لم يقع طلاقه.
وإذا حرّمنا التداوي بالخمر، فالمتداوي بها عاصٍ بشربها، ولا يخفى الحكم وراء
ذلك.
***
__________
(1) ببَنْجٍ: البَنْج: مثال فلس، نبت له حب يخلِط بالعقل (المصباح) .(14/173)
باب الطلاق بالحساب
قال الشافعي: "ولو قال لها: أنت طالق واحدة في اثنتين ... إلى آخره" (1) .
9117- إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن قال: نويت واحدةً مع اثنتين -والمرأة مدخول بها- وقعت الثلاث، لأن ما قاله محتمل، ونحن نوقع الطلاق بأدنى احتمال يبديه، وإن كنّا لا ندفع الطلاق بمثله، وكلمةُ (في) قد تستعمل بمعنى (مع) قال الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} [الأعراف: 38] أي (مع) أمم.
وإن أراد جعل الطلقتين ظرفاً، ورأى الواقع واحداً هو المقصود بالوقوع، فهذا مقبول منه؛ فإن (في) معناه الظاهر إفادة الظرف، والإشعار به، ثم الذي في الظرف يخالف الظرف.
وإن أراد به الحساب -وكان عالماً به- حُمل لفظه على الحساب، ووقع ثنتان.
وإن أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد شيئاً، فقد ذكر القاضي وغيرُه من المحققين قولين: أحدهما - أنه محمول على الحساب، فيقع ثنتان.
والثاني - أنه لا يقع إلا واحدة؛ لأنه يحتمل الحساب، ويحتمل الظرف، ولا مزيد على المستيقن، وهو طلقة واحدة، وما زاد مشكوك فيه، وقرّبوا هذين القولين من قول الزوج لامرأته المدخول بها: أنت طالق طالق طالق، إذا زعم أنه أطلق لفظه، ولم يَعْنِ تأكيداً ولا تجريداً.
__________
(1) ر. المختصر: 4/81.(14/174)
وهذا في عالمٍ بعبارة الحساب يزعم أنه أطلق لفظه، ولم يخطُر (1) له معنى.
وفي بعض التصانيف ذِكْرُ قول ثالث، وهو أنه يقع ثلاث طلقات وذكره شيخنا، وهو بعيدٌ، ووجهه على بعده أنه يعرض لثلاث طلقات مع صلةٍ والأصلُ وقوع العدد الذي تلفظ به.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان عالماً بمراد الحُسّاب بمثل هذه اللفظة.
9118- فإن كان جاهلاً بمراد الحُسّاب، وقد أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون أنه لا يقع إلا واحدة إذا زعم أنه لم يكن له قصد. وينقدح عندنا خروج القول الذي حكيناه عن بعض التصانيف في إيقاع الثلاث، نظراً إلى التلفظ بها، ولكنني لست أثق بهذا القول.
ولو قال مُطلِق هذا اللفظ -وهو جاهل بالحساب وعبارةِ أهله-: أردت بهذا اللفظ ما يعنيه الحُسّاب، ولست عالماً به، ففيما يقع والأمر كذلك وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقع ما يقتضيه الحساب، فإنه قصد الطلاق، وربط العدد بمقصودهم، فيقع الطلاق ويراجع الحُسّاب في مقصودهم، وهو كما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فامرأته طالق، فليس هو على علم بموقع الطلاق في الحال، ولكن إذا تبينا تحقق الصفة، حكمنا بوقوع الطلاق تبيّناً.
والوجه الثاني - أنه لا يقع إلا واحدة؛ فإنه لم يفهم معنى اللفظ، والنياتُ لا تثبت على الإبهام، وإنما تثبت على التحقيق والتفصيل، ولا خلاف أن الأعجمي إذا نطق بالطلاق بلغة العرب، ونوى معناه عند أهله، ولم يفهمه عند إطلاق اللفظ، ثم وضح له معناه، لم يقع الطلاق باتفاق الأصحاب، وليس هذا كما لو علّق الطلاق على صفةٍ هو جاهل [بها] (2) فإن قصده إلى الطلاق ثابت ومتعلّقه مشكل، فيبحث عنه، ومعظم التعليقات كذلك تقع.
ويخرّج عندنا على هذا الخلاف أن يقول القائل: طلقت فلانة مثل ما طلق فلان
__________
(1) من بابي: ضرب وقعد.
(2) مزيدة من المحقق.(14/175)
زوجته، وكان لا يدري أنه طلق زوجته واحدة أو أكثر، فيقع الواحدة، وفي الزيادة الخلافُ الذي ذكرناه.
9119- وهذا أصلٌ، فلتسند إليه مسائله، وحاصله أن من لفظ ولم يدر أصلَ معنى الطلاق، ثم بُيّن له أنّ معناه الطلاق، فلا خلاف أنه لا يقع الطلاق، وإن علق الطلاق على مبهمٍ تعّلق به.
وإن قصد أصلَ الطلاق، وأبهم فيما زعم قصدَه في العدد وأحالَه على قول الغير، فهذا موضع التردد.
9120- ثم قال الشافعي: "ولو قال: أنت طالق واحدة لا تقع [عليك] (1) فهي
واحدة تقع" (2) .
والأمر على ما ذَكَر، فإنه أتى بالطلاق، ثم أتى بما يدفعه على وجهٍ لا ينظم ذو الجدّ مثلَه، فكان بمثابة ما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وسنعيد هذا في أصل الاستثناء، ونجمع من هذا الجنس محلّ الوفاق والخلاف.
فصل
قال: "وإن قال: واحدة قبلها واحدة، كانت طلقتين ... إلى آخره" (3) .
9121- إذا قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق وطالق، طلقت طلقتين على الترتب، فيلحقها واحدة بقوله الأول، والثانيةُ بقوله الآخر.
ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاًً، فالمذهب المبتوت أن الثلاث تقع عند الفراغ من قوله: ثلاثاً.
ومن أصحابنا من يقول: إذا فرغ عن قوله: ثلاثاًً، تبيّنا وقوعَ الثلاث بقوله: أنت طالق.
__________
(1) زيادة من متن المختصر.
(2) ر. المختصر: 4/82.
(3) ر. المختصر: 4/82.(14/176)
وهذا الخلاف مأخوذ [ممّا] (1) إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فماتت، ثم قال: ثلاثاً، فمن قال ثَمَّ: لا يقع شيء، فيقول في سلامة (2) الحال: يقع الثلاث عند قوله ثلاثاًً.
ومن قال ثَمَّ: يقع الثلاث، يقول في سلامة الحال: يقع الثلاث بفراغه من قوله: أنت طالق.
ومن قال ثَمَّ: إذا ماتت المرأة، وقعت طلقة بقوله: "طالق" في حياتها، فيلزمه على هذا المساق أن يقول: يقع طلقة بقوله طالق، ويتم الثلاث بقوله ثلاثاًً.
هذا مسلكٌ لبعض الأصحاب، وهو ساقط عندنا؛ فالوجه القطع بأن الثلاث تقع مع الفراغ من الكلام؛ إذ لا خلاف أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً، طلقت ثلاثاً، ولو كانت تطلق واحدة بقوله أنت طالق، لبانت ثم لا يلحقها غير الواحدة.
ومن لطيف الكلام في هذا أنه إذا أنشأ قولَه: أنت طالق، وعزم على أن يقول ثلاثاًً، فهذا ليس يطبِّق قصدَ الثلاث ونيّتَها على قوله طالق؛ فإنه بنى كلامه على أن يصرّح ويعوّل على ذكر الثلاث، فلا معنى للمصير إلى أنه في حكم من يقول: أنت طالق وينوي الثلاث، ولكن إن تمّ اللفظ واتَّسق على ما أراد، فالتعويل على اللفظ.
والوجه القطع بوقوع الثلاث مع الفراغ من اللفظ، وإن طرأ ما يمنع نفوذ الطلاق كالموت في المخاطبة، فيثور الإشكال الآن؛ فإن تعطيل لفظه، وقد أتى بما يستقل ويفيد في حالة الحياة محال، فاضطرب رأي الأصحاب عند طريان ما وصفنا، فمن [طرد] (3) القياس الذي قدمنا صائر إلى أن بعض اللفظ إذا وقع بعد الموت، لغا كلُّه، وهذا وهم، والمصير إلى وقوع الثلاث وهمٌ، والأقرب ألا يعطَّل ويُكتفى بموجب اللفظ المصادف للحياة.
__________
(1) في الأصل: فيما.
(2) سلامة الحال: أي عدم موت الزوجة.
(3) في الأصل: "طارد".(14/177)
وينتظم من هذا أنه إذا أنشأ الطلاق على أن يفسّره، فالأمر فيه موقوف؛ فإن انتظم اللفظ من غير مانع، قطعنا بوقوع الكل مع آخر اللفظ، وإن طرأ مانع، فعند ذلك يضطرب الرأي، كما نبهنا عليه.
9122- ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، فلا يلحقها إلا الطلقة الأولى. ولو قال: أنت طالق ثنتين، أو قال: أنت طالق ثلاثاًً، فيلحقها العدد المفسِّر إجماعاً.
9123- ولو قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقةٌ، أو أنت طالق طلقةً بعد طلقةٍ، فيلحقها طلقتان؛ فإنه وإن رتّب لفظه وجاء بالطلقتين في صيغتين، فالمدخول بها تحتمل الطلقات المتتابعات.
9124- ثم إذا لحقها طلقتان، فلا خلاف أنهما يقعان في زمانين؛ فإنه مصرّح بإيقاعهما كذلك، وذكر العراقيون وجهين في كيفية وقوع الطلقتين بهاتين الصيغتين بعد القطع بوقوعهما في زمانين: أحد الوجهين - أنه يتنجّز طلقةً، ويستبين وقوع طلقة قبلها. والثاني - أن المُوقَع المنجَّز يتنجّز ويعقبه طلقة أخرى.
وقد ذكر القاضي الوجهين على هذا النسق.
وهذا مضطرب عندي، فإنا ننظر إلى الطلاق المنجَّز، فإن قدّرنا وقوع طلقة قبله على معنى أنها تتقدم على لفظ المطلِّق، فهذا من المحالات؛ فإن الطلاق لا يتقدم وقوعه على لفظ المطلِّق، وإن نظرنا إلى الطلاق الموقَع، وقلنا: يقع [بعد] (1) طلاق آخر، فهذا أحد الوجهين الذي لا يفهم غيره في الإمكان والوقوع.
ولكن يسوغ للقائل الأول أن يقول: إذا قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، فلا يقع ما في ضمن قوله: أنت طالق طلقة، حتى يقدُمه طلاق، وهذا الطلاق الذي يتقدّم يقع أيضاًً بعد اللفظ، وكأن المعنى: أنت طالق طلقة من قبلها طلقة تقع، فهذا يزيل الخبط والاضطراب، ويقطع توهم الغلط.
__________
(1) في الأصل: "بعده طلاق" وهو مخالف للسياق.(14/178)
فإذا انتظم الوجهان، فتمام المراد أنه لو أراد بقوله: قبلها طلقة إسناد الطلاق إلى ما قبل تلفّظه، فيكون ذلك بمثابة قوله: أنت طالق الشهر الماضي، وقد قدمنا ما فيه من الأقسام، ويعترض في أقسام تلك المسألة أنه لو أراد الإيقاع في زمانٍ مضى، فهل يُحكم بالوقوع؟ فعلى وجهين. وفي هذه المسألة إن أراد بقوله: قبلها طلقة ما ذكرناه، فالكلام كالكلام المقدّم في الشهر الماضي، وإنما قطع الأصحاب بوقوع الطلقتين من غير إعادة تلك الأقسام، لبنائهم المسألة على ترتيب الطلقتين بعد اللفظ، ولا ينتظم والمسألة هكذا إلا مع تأخير وقوع مضمون قوله: أنت طالق، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه دقيق المُدرك.
9125- ونعود بعده إلى إطلاق الوجهين، ونفرّع عليهما أمر التي لم يدخل الزوج بها.
فإذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعد طلقة، فكيف الوجه؟ لا خلاف أنه لا يلحقها طلقتان؛ فإن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها في زمانين، ولا يتصور أن يلحق بها طلاقان في زمانين؛ فإنها تبين بأولهما، ولكن تلحقها طلقة واحدة أم لا يلحقها شيء؟ هذا محل النظر.
قال القاضي: إن حكمنا بأن مضمون قوله: "طلقة" يقع، ثم يتبعه طلقة، فهذه يلحقها طلقة وهي الموقعة وتبين، ولا يلحقها ما بعدها.
وإن قلنا: يتأخّر مضمون قوله طلقة ويقدُمها طلقة بقوله: "قبلها طلقة". قال القاضي: على هذا لا تطلق هذه أصلاً، واعتلَّ بأن قال: لمَّا قال لها: "أنت طالقة قبلها"، فحاصل كلامه: أنت طالق طلقةً مسبوقة بطلقةٍ، ولا يتصور في غير المدخول بها طلقة مسبوقة بطلقةٍ، وإذا لم يقع الطلقة المعيّنة بقوله: "أنت طالق طلقة" لا تقع الطلقة السابقة تقديراً؛ فإن الأُولى شرطها أن تكون قبل ثانيةٍ، وإذا عسرت الثانية، فالتي يقدرها سابقة لا يقال فيها قبلها، فعسُر إيقاع الطلقتين، ودارت المسألة. وهذا على نهاية الحسن واللطف.
ثم في المسألة غائلة، وذلك أن القاضي قال: من ذهب مذهب ابن الحداد،(14/179)
وصار إلى أن الدَّور يمنع وقوع الطلاق، فالجواب ما ذكرناه، من امتناع وقوع الطلاق على التي لم يدخل بها بالعبارة التي ذكرناها.
ومن ذهب مذهب أبي زيد ولم يُدِر المسألة قال: تلحق المرأة طلقة واحدة، فإن القول بالدّور -على أصله- باطلٌ.
9126- وهذا كلام مختلّ؛ من جهة أن صورة الدّور: أن يقول لامرأته: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبل تطليقي إياكِ ثلاثاً". فإذا نجّز تطليقها، لم يقع شيء على رأي ابن الحداد ومعظم الأصحاب، وسببه أنه لو وقع ما نجز، لوقع قبله ثلاثاًً، ولو وقعت الثلاث، لامتنع وقوع ما نجّز.
ووجه قول أبي زيدٍ أن الشرط لا يقف على المشروط، بل المشروط يقف على الشرط، وما نجّزه شرط، فليقع، ثم ننظر في الجزاء وتيسره وتعسّره.
والمسألة التي نحن فيها ليست من هذا القبيل؛ فإنه ليس في لفظ المطلِّق شرطٌ ولا جزاء، نعم، فيها صفة وموصوف، وارتباط على هذا الحكم؛ فإن كانت الطلقة المقدّمة المعنيّة [بقوله] (1) قبلها موصوفة بكونها سابقة، فلتقع لاحقة، وإن وقعت فردة، فليست سابقة، فهذا من باب تعذّر الصفة، ثم تتعذر المسبوقة تعذراً حقيقياً، إذ ليس من الممكن فرض طلقة مسبوقةٍ في التي لم يدخل بها إذا كان يوقعهما في قَرَن، فليس هذا مأخذ الدور، وإن كان يشابهه من طريق التعذر بالارتباط.
ولو صحّ هذا، لقال أبو زيد: لا يلحقها طلقة، وإن كان الشرط المنجّز عنده يقع في مسألة الدَّور.
9127- فالوجه وراء هذا أن نقول: إن أوقعنا مضمون قوله: أنت طالق أولاً، فهذه تلحقها طلقة، كما قدمنا، وإن رأينا في المدخول بها أن نوقع أولاً مضمون قوله قبلها، فيحتمل وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وتوجيهه الصفة والموصوف.
ويحتمل - أن نقول: يقع طلقة؛ فإنه قصد توزيع طلقتين على زمانين، ولا يكون طلقة قط صِفة لطلقة، فعلى هذا يلحقها الأولى، وكأن هذه العبارة بمثابة قول
__________
(1) في الأصل: بقولها.(14/180)
القائل: أنت طالق طلقةً وطلقةً، فإذاً نُجْري الوجهين على أحد الوجهين ونوجههما بهذا، فأما الأخذ من قول ابن الحداد وقول أبي زيد، فلا وجه له.
ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة، فاللفظان معناهما واحد، ولا حاجة بنا إلى تكلف [بيان] (1) ذلك، فليتأمله الناظر، واستواء هذين اللفظين في معنيهما كاستواء اللفظين الأوّلين في معناهما.
فإذا خاطب بما ذكرناه امرأته المدخولَ بها، وقعت طلقتان. وإذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقةٍ، أو طلقة بعدها طلقة، فتلحقها طلقةٌ لا محالة؛ فإن الطلقة الموقعة أولى، وإذا كانت أولى؛ فإنها تقع. وقد يتمسك الفطن بهذا محتجاً لأحد الوجهين في المسألة الأولى، ويقول: إن صح مذهب الوصف والموصوف، وجب أن يقال: لا تقع الطلقة الأولى؛ فإنها لا تقبل الوصف باستعقاب أخرى، وإذا امتنع هذا، فقد زالت الصفة، فيزول الموصوف.
وقد ينقدح عن هذا جواب لا يخفى؛ فإن الرجل إذا قال لأمته: أول ولدٍ تلدينه، فهو حر، فإذا ولدت عن نكاح أو سفاح عَتَق، وإن لم تلد بعده، وستأتي هذه الألفاظ بمعانيها، إن شاء الله.
9128- ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة [معها طلقة، أو مع طلقة، طلقت طلقتين] (2) واختلف أصحابنا في كيفية وقوعهما، فمنهم من قال: يقعان معاً؛ لأن كلمة مع للاقتران، والوفاءُ بمعنى لفظه، ممكن، فيجب الحكم بالإيقاع على نحو ما ذكره، ومعنى لفظه الجمع.
والوجه الثاني - أنه تقع طلقة وتعقبها طلقة أخرى؛ فإنه أتى بلفظتين ليست واحدة منهما تفسيراً للأخرى، وكل لفظة مستقلة، فليقع الطلاقان بهما في زمانيهما، وقد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه أولاً رعاية للسياق، ثم وجدناه بنصه -والحمد لله- في مختصر ابن عصرون (ر. صفوة المذهب: جزء3 ورقة 4 شمال) .(14/181)
صدرا منه في زمانين، فليقع كلّ طلاق عند منقرض كل لفظ، وليس كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً؛ فإن آخر الكلام بيانُ الأول.
ويتّصل ببيان الوجهين أنا إذا قلنا: يقع الطلاقان في وقتين، فلا إشكال أنهما يترتبان، وإن قلنا: يقعان معاً، فلا يقع بقوله: "أنت طالق طلقة" شيء، حتى يتنجّز الفراغ من اللفظ الأخير، ويتنزل اللفظان منزلة قول القائل أنت طالق ثلاثاًً، وقد أوضحنا أنه إذا جرى هذا اللفظ، ولم يطرأ مانع، وقع الثلاث مع الفراغ من آخر الكلام.
9129- فإذا تبين هذا فرّعنا على الصورة التي ذكرناها مخاطبة المرأة التي لم يدخل بها بما ذكرناه، فإذا قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو قال: معها طلقة، فإن قلنا: في المدخول بها يلحقها طلاق واحد، ثمّ يعقبه طلاق، [فإذا] (1) لم يكن مدخولاً بها، لحقها طلاق ولم تلحقها أخرى. وإذا قلنا في المدخول بها: إن الطلاقين [يلحقانها] (2) على جمع واقتران، فنقول: يلحق غيرَ المدخول بها طلاقان، كما لو قال لها: أنت طالق طلقتين.
وقال أبو حنيفة (3) : إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، أو بعد طلقة، تقع طلقتان.
وهذا يخالف جميعَ مسالكنا، وهو قول من لا يدري ولا يحيط بحقائق الألفاظ، فإن قوله: (قبلها) و (بعد) صريح في الترتيب والنصِّ على الزمانين. وقال: إذا قال لها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو بعدها طلقة وهي غير مدخول بها، لم يلحقها إلا طلقة واحدة.
فرع:
9130- إذا قال: أنت طالق طلقة تحت طلقة، أو قال: تحتها طلقة، أو فوق طلقة، أو فوقها طلقة، أو على طلقة، أو عليها طلقة. فقد قال الأئمة: هذا
__________
(1) في الأصل: وإذا.
(2) في الأصل: يلحقهما.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 198، المبسوط: 6/133، تبيين الحقائق: 2/213.(14/182)
بمثابة ما لو قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو معها طلقة؛ فإن هذه الصلات تقتضي من الجمع ما يقتضيها (مع) فكان الجواب فيها كالجواب في (مع) .
فرع:
9131- لو قال لغير المدخول بها: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار، فكم يلحقها من الطلاق؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلحقها إلا طلقة واحدة؛ لأن المعلَّق بلفظ بمثابة المنجّز عند وجود الصفة، فكأنه قال لها عند الدخول: أنت طالق وطالق، ولو نجّز ذلك على هذا الوجه، لم يلحقها إلا واحدة.
والوجه الثاني - أنه يلحقها الطلاقان، فإن كل واحد منهما معلّق بالدخول، ولو فرضا في حق المدخول بها، لقيل وقعا معاً مع الدخول، أو على الترتيب، كما أشرنا إليه، وليس كما لو نجَّز فقال: أنت طالق وطالق، فإن كل لفظ مستقل بتنجيز الطلاق، ولا تعلّق لأحد اللفظين بالآخر. ونحن في الطلاق المعلق لا نقدّر تصحيح النطق بالطلاق عند وجود الصّفة؛ فإنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم جُنَّ، فدخلت الدار، وقع الطلاق، وإن لم يكن الزوج عند دخول الدار من أهل التطليق، فإذاً الطلاقان يتساوقان في الدخول، ويقعان على جمع (1) .
وهذا فيما إذا قدّم الشرط وقال: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق.
فأما إذا أخّر الشرط، وقال: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار، فهذا رتّبه الأصحاب على ما لو قدّم الشرط. فإن قلنا هناك: يقع طلقتان فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يقع واحدة، فهاهنا وجهان، والأظهر وقوعهما؛ فإنه قدّم ذكر الطلاق، ثم ذكر الرابط من بعد، فكان مشبهاً بما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً.
وهذا الترتيب لا يتحصَّل عندنا والتعليق شرطٌ قدِّم أو أخِّر، والوقوع جزاء قدّم أو أخر، فلا يعتدّ بمثل هذا إلا من لا دُرْبَة له في نظم الكلام والعربيّة.
__________
(1) على جمع: أي يقعان معاً.(14/183)
فصل
قال: "وإن قال: رأسكِ أو شعرك ... إلى آخره" (1) .
9132- إذا أضاف الطلاق إلى جزء يتصل بها اتصال خِلقة مثل أن يقول: رأسُكِ أو يدكِ، أو شعركِ طالق، فيقع الطلاق، ولو أضاف الطلاق إلى جنينها، لم يقع الطلاق، اتفق (2) عليه نقلة المذهب.
ولو أضاف الطلاق إلى فضلات بدنها كالدمع، والريق، والبول، والعرق، وما في معناها، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يقع؛ لأن هذه الأجزاء لا يلحقها الحلّ والحرمة، [وليست متَّصلة] (3) بها اتصال خلقة؛ فإن قيل: ما الفرق بين هذه الأشياء وبين الجنين، والجنين متكون من فضلة منها؟ قلنا: ولكن له حكم الاستقلال والانفصال.
وإذا قال: روحك طالق، وقع الطلاق؛ فإنه يعبَّر به عن الجملة، وكأنه الأصل المقوِّم، وما عداه فرع.
وإذا قال: دمك طالق، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بوقوع الطلاق؛ فإن الدم في معنى الروح؛ إذ به قوام البدن، وليس من الفضلات التي تنفضها الطبيعة، كالبول وما في معناه.
ومنهم من قال نُجري الوجهين في الدم؛ لأنه غير متصل اتصال التحام والتئام وليس [الروح] (4) المقوِّم بمثابة الفضلات، ثم البدن لا يخلو عن الفضلات وتنفض الطبيعة بعضها، والدم كذلك.
ولو قال للمرأة: لبنك طالق، أو قال: منيّك طالق، قال الأصحاب: اللبن
__________
(1) ر. المختصر: 4/82.
(2) لم يسلّم الرافعي للإمام باتفاق الأصحاب نقلة المذهب على ذلك، ونقل عن أبي الفرج الزاز حكايته وجهاً في وقوع الطلاق إذا أضافه إلى جنينها. (ر. الشرح الكبير: 8/568) .
(3) في الأصل: وليس متصلاً بها.
(4) في الأصل: الزوج.(14/184)
كالرجيع والبول، فإنه يُنْتَفَض لا محالة، بخلاف الدّم القارّ في العروق. وإذا قال: منيك طالق، فهو في معنى اللبن؛ فإن ما يصير [منيّاً] (1) يُنْتَفَض ومادته الدّم، وما دام دماً لا يكون منيّاً.
ولو أضاف الطلاق إلى صفة من الصفات التي ليست من الأجزاء كالحُسن، والقبح، واللون، لم يقع الطلاق.
ولو قال: سِمَنُك طالق، فالسِّمَن جزء من أجزائها ملتحم [بها] (2) .
ولو قال: شحمك طالق، والشحم على الثَّرْب (3) كالشيء الجامد، ولا التحام له، ولا روح فيه وإذا اندلقت حشوةُ (4) الإنسان من الجرح فيُبَان الشحم منه ولا يألم، فهذا فيه ضرب من التردد (5) ، وليس عندنا مذهبٌ ننقله.
ولو قال: حياتك طالق والحياة صفة، فالأشبه أنها بمعنى الروح، ولا يختبطن الفقيه في الروح والحياة، فيقع فيما لا يعنيه.
9133- ولو أبينت أذنها فالصقتها بحرارة الدم والتحمت -إن أمكن ذلك وتُصوّر- فلو أضاف الطلاق إلى هذه الأذن الملتحمة، ففي وقوع الطلاق وجهان: أحدهما - أنه يقع للاتصال الحقيقي من جهة الخلقة.
والوجه الثاني - أنه لا يقع؛ لأنها مستحقة الإبانة والفصل لأجل الصلاة (6) ، فكأنها
__________
(1) في الأصل: ميتاً.
(2) زيادة من المحقق.
(3) الثرب: بالمثلثة المفتوحة، بعدها راء مهملة ساكنة، شحم رقيق يغطي الكَرِش والأمعاء (القاموس والمعجم) . وفوقه تتراكم الشحوم ومظاهر السّمن.
(4) حشوة الإنسان (بضم الحاء وكسرها) جميع ما في البطن عدا الشحم (المعجم) وخصها الفيومي في (المصباح) بالأمعاء.
(5) واضح أن ميل الإمام إلى عدم الوقوع كما يفهم من تصويره، وقد فهم ذلك الرافعي، ولم يوافقه، بل رجح الوقوع. (ر. الشرح الكبير: 8/568) .
(6) تعقب ابن أبي عصرون الإمام، فقال: "قوله: لأن هذه الأذن مستحقة الإبانة لأجل الصلاة لا يصح؛ لأن ما يبان من أجزاء الآدمي في حياته طاهر على المذهب، والصلاة معه تصح، وما عليه من دم معفو عنه، سيما إذا خيف من قطعه" (صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 5 شمال) .(14/185)
كالمبانة، وحكمها حكم الجماد والميتة، وهذه المسألة صوّرها الفقهاء وبنَوْا الحكم على اعتقاد تصوّرها، وهي ليست متصوَّرة، فإن ما أبين وفصل لا يلتحم قط في طرد العادة، وقد يبان البعض فيلتحم ما أبين، ومثل هذا لو أضيف الطلاق إليه وبعضه مبانٌ غير ملتحم، فالطلاق يقع مع انقطاع البعض قبل التحامه.
ولو أضاف إلى الأخلاط المنسلكة في البدن كالبلغم والمِرّتين (1) فسبيل الإضافة إليها كسبيل الإضافة إلى فضلات البدن، وليس كالدّم؛ فإن به قوام البدن، وهو مادة خَلَف ما ينحل من الإنسان.
9134- ومن بقية الكلام في هذا الفصل أنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء منفصلٍ أو إلى جزء شائع، وحكمنا بوقوع الطلاق، فللأصحاب اختلاف مشهور في تقدير ذلك، فمنهم من قال: يصادف الطلاق الجزء المعيّن، أو الشائع، ثم يسري منه ويستوعب، كما يسري العتق من النصف.
ومنهم من قال: تقديرُ وقوع الطلاق بتنزيل عضو أو جزء منزلة الكل، فإذا قال: يدك طالق، أو نصفك طالق، كان كما لو قال: أنت طالق، وإذا كان التقدير على هذا الوجه، فلا حاجة إلى تقدير توجيه الطلاق على البعض والتسرية منه إلى الباقي.
توجيه الوجهين:
9135- من قال يقدّر فيه التَّسرية استدلّ بمقتضى اللفظ أولاً، وبما استشهدنا به من التسرية في العتق.
__________
(1) المرّتين: المرة خلط من أخلاط البدن، وكان القدماء يعتقدون بأخلاط أو عناصر أربعة يجعلون لها التأثير في استعداد الإنسان ومزاجه، وهذه الأخلاط هي الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء. وكانوا ينسبون إليها فيقولون: دموي، وبلغمي، وصفراوي، وسوداوي (المعجم مادة: م. ر. ر، م. ز. ج) .
وقال الإمام هنا المرتين من باب التغليب، فهو يريد: الصفراء، والسوداء، والصفراء هي المرّة فسماهما معاً المرّتين. وهذا مفهوم من السياق، حيث ذكر الدم من قبل، وذكر هنا البلغم، فلم يبق من الأخلاط -التي كانت معروفة عندهم- إلا الصفراء والسوداء، فهما (المرتين) .(14/186)
ومن قال: لا تقدر التسرية احتج بأن الطلاق لا يفرض له ثبات على جزء شائع حتى يُبنى عليه التسرية منه، وليس كذلك العتق المضاف إلى الجزء الشائع وإذا كانت التسرية نتيجة إمكان الثبات على الجزء المذكور، وذلك غير ممكن في الطلاق، فيتصدّى بعد ذلك إبطال اللفظ وإلغاؤه، أو إعمالهُ بتنزيله منزلة مخاطبة الجملة، فإذا لم يمكن الإلغاء، لم يبق إلا الوجه الثاني.
والذي يحقق هذا أنه لو قال: أنتِ طالق نصف طلقةٍ، لم يفرض ثبوتٌ وسريان، بل جعل النصف عبارة عن الكل، فإذاً ثبت الوجهان، وفائدتهما أن الرجل إذا قال لامرأته: "إن دخلت الدار [فيمينك طالق، فقُطعت يمينها، ثم دخلت الدار] (1) فإن جعلنا تنفيذ الطلاق بتقدير التسرية من الجزء المعين، لم يقع الطلاق؛ لأن التسرية تستدعي تمكيناً من أصل، [وذلك] (2) الأصل زائل.
وإن جعلنا العبارة عن الجزء عبارة عن الكل، فالطلاق واقع، وقوله: يمناك بمثابة قوله: أنت طالق.
ولو قال لامرأته التي لا يمنى لها: يمناك طالق، فمن أصحابنا من خرّج هذا على التردد الذي ذكرناه؛ وقال: إن جعلنا ذكر الجزء كالكل، فالطلاق واقع، وإن قدرنا التسرية، لم يقع.
وهذا غير سديد في هذا المحل، والوجه القطع بأن الطلاق لا يقع؛ لأن العبارة لم تصادف معبَّراً، فكان كما لو قال لامرأته: لحيتك طالق، أو قال: ذكرك طالق.
وهذا يجب أن يكون متفقاًعليه.
ولو أضاف العتق إلى عضوٍ معيّن من عبدِه، اختلف الأصحاب فيه أيضاً على حسب ما ذكرناه في الطلاق؛ فإن تقدير تثبيت العتاق في الجزء المعيّن ليبنى عليه التسرية مستحيل، فكان العتاق فيه كالطلاق في الجزء الشائع والمعيّن. ولو قال مالك العبد: نصفك حرٌّ، فظاهر المذهب تقدير التسرية.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من صفوة المذهب جزء: 5 ورقة: 6 (يمين) .
(2) في الأصل: فذلك.(14/187)
ومن أصحابنا من قال: النصف في العبد الخالص عبارة عن الكل، ولا يسلك فيه مسلك التسرية؛ فإن العتق في المملوك الواحد لا يتبعض، وإنما تفرض التسرية من ملك إلى ملك.
9136- وما ذكرناه من الإضافة إلى الجزء المعين والشائع لا يجرى إلا فيما يقبل التعليق بالأغرار ويبنى على السّريان والغلبة. قال القاضي: إضافة الإقالة والفسوخ إلى الجزء المعين فاسد لاغٍ؛ فإن الفسوخ ينحى بها نحو العقود، ولا تُعَلّقُ كما لا تُعَلَّقُ العقود؛ فما لا تصح إضافة العقد إليه لا يصح إضافة الفسخ إليه، والإقالة بين أن تكون بيعاً أو فسخ بيع.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق بعض تطليقة ... إلى آخره" (1) .
9137- إذا قال لامرأته: أنت طالق بعض تطليقة، طلقت طلقة واحدة، وهذا على مذهب تنزيل العبارة عن البعض منزلة العبارة عن الكل، ولا تتخيل التسرية في ذلك.
ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة، أو أربعة أثلاث، أو خمسة أرباع، أو ما شابه ذلك، فزاد على الأجزاء الطبيعية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع إلا طلقة؛ فإنه أضاف الأجزاء التي ذكرها إلى طلقة واحدة، فكان الاعتبار بالمضاف إليه، فإن زادت الأجزاء، فالزائد ملغى؛ فإن الأضافة من غير مضاف إليه لاغية، لا حقيقة لها.
والوجه الثاني - أنه يقع طلقتان؛ فإنه زاد على أجزاء طلقة، فانصرف نصفان إلى طلقة وتمت بهما، والزائد محتسب من طلقة أخرى والطلاق على الغلبة والسّريان.
وحقيقة الوجهين ترجع إلى أن من الأصحاب من يعتبر المضاف إليه ولا يزيد عليه، ومنهم من ينظر إلى الأجزاء المذكورة، فإن كانت على قدر طلقة أو أقل، نفذت
__________
(1) ر. المختصر: 4/82.(14/188)
طلقة، وإن كان في الأجزاء المذكورة زيادة، فهي محتسبة طلقة أخرى.
9138- ويتفرع على ما ذكرناه مسائل: فإذا قال: أنت طالق أربعة أنصاف طلقة، ففي وجهٍ طلقة، والزيادة لاغية، وفي الوجه الثاني طلقتان.
وإذا قال: خمسة أنصاف طلقة، فهي في وجهٍ طلقة، وفي وجهٍ ثلاث طلقات؛ فإن الطلقتين يكملان بأربعة أنصافٍ، والنصف الخامس يُعتد به من الطلقة الثالثة.
وعلى هذا قياس سائر الأجزاء، إذا زادت على أجزاء واحدة.
9139- ولو قال: أنت طالق نصف طلقتين، وزعم أنه أراد نصفاً من كل طلقة، وقعت طلقتان، ولو أطلق لفظه، فالأصح أنه لا يقع إلا طلقة، فإنه يظهر حمل نصف الطلقتين على طلقة من غير أخذ جزء من كل طلقة.
ومن أعظم الأصول المعتبرة ألا نوقع الطلاق إلا على استيقان، أو ظهورٍ يلي الاستيقان، والضابط فيه أن يكون تقدير الحَيْد عن ذلك الظهور في حكم المستكره في الكلام المستبعد، وحمل نصف الطلقتين على طلقة لا استكراه فيه.
ومن أصحابنا من قال: يقع طلقتان؛ فإن نصف الطلقتين بمثابة نصف العبدين، ونصف العبدين نصفٌ من كلّ عبدٍ، فليكن الأمر كذلك في نصف الطلقتين.
فإذا حمل هذا على الإشاعة، لزم وقوع طلقتين، وينشأ من هذا أنه لو قال: لفلان نصف هذين العبدين، ثم قال: أردت أن أحد العبدين له، لم يقبل ذلك منه وفاقاً، والسّبب فيه أنهما شخصان، فلا شك لا يتماثلان، فإضافة النصف إليهما تتضمن إضافة النصف إلى كل واحد منهما لا محالة، وليس كذلك إضافة النصف إلى طلقتين؛ فإن الطلقتين تضاهيان عدداً محضاً من غير تمثيل معدودٍ، فإذا أضيف النصف إلى اثنين من العدد، اتّجه فيه الحمل على واحدٍ.
ومن سلك المسلك الآخر جعل الحكم المسمى بالعدد كالشخص الماثل.
هذا إذا قال: أنت طالق نصف طلقتين وأطلق.(14/189)
[فإن] (1) قال: أردت [بنصف] (2) الطلقتين طلقة، فإن حملنا المطلَق على هذا، فلا شك أنه إذا فسّر به قُبل، وإن لم يحمل المطلق على هذا، فإذا فسّر به، ففيه وجهان. ولهذا الفنّ أمثلة ومسائل مضى بعضها، وسنكمل الأُنس بذكر باقيها.
9140- وبالجملة الألفاظ ومعانيها على مراتبَ عندنا، فمنها: ما لا سبيل فيه إلى الإزالة ظاهراً وباطناًً، وهذا يفرض في جهات مخصوصة، وهو ممثل بأن يقول لامرأته: "أنت طالق"، ثم زعم أنه نوى طلاقاً لا يقع، فهذا مردود ظاهراً وباطناً، وضبطه أنه لو صرح به متصلاً، لرُدّ وأُلغي، فلا يزيد منويُّه على ملفوظه.
والرتبة الثانية - ما لا يُقبل فيه تغيير اللفظ ظاهراً، [ويدَيَّن] (3) اللافظ بينه وبين الله تعالى. وهذا كقول القائل: أنت طالق، مع إضماره التطليق عن الوثاق، وقد ضبطنا قاعدة التديين بما فيه أكملُ مَقْنع، وهذه المرتبة تضبط بأن يضم اللافظ ما لا يعتاد إرادته باللفظ مع اختلاف الأحوال، ثم ينقسم مسلك المذهب: فمن الأصحاب من يضبطه بما يمكن النطق به، ومنهم من يضبطه بذلك ويشترط معه إشعار اللفظ به في وضعه على بُعدٍ كالتطليق عن الوثاق.
والمرتبة الثالثة ظهور اللفظ في غرضٍ مع صرفه بتأويلٍ آخر إلى وجهٍ آخر، والصرفُ إلى ذلك الوجه قد يجري في مجاري الكلام، ولا يبعد بُعْدَ ما ذكرناه في المرتبة الثانية.
وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: قد يظهر التأويل حتى يكاد [يكون] (4) اللفظ في حكم المتردّد بين معنيين، فيظهر في هذا المقام ألا نحكم بالوقوع بحكم اللفظ.
وقد يخفى التأويل -وإن كان يفرض جريانه- فيغلب أن مطلِق اللفظ لا يُطلِق اللفظَ إلا على مقتضى ظهور؛ فإن أراد غيره صُرِف بالنية، فما كان كذلك يضطرب الرأي في حكم إطلاقه.
__________
(1) في الأصل: بأن.
(2) في الأصل: تنصيف الطلقتين.
(3) في الأصل: يبيّن.
(4) زيادة من المحقق.(14/190)
وقد يتناهى ظهور اللفظ، ويخفى التأويل، حتى يقتضي الرأيُ القطعَ بحمل المطلق على الوقوع، ويتردد الرأي في قبول التأويل في حكم الظاهر، فيصير التأويل في نظرٍ مائلاً إلى التديين، وفي نظرٍ يمتاز بتقدير إجرائه في الفرق وإن كان على ندور.
وتُهذَّب هذه الأقسام بأن نقول: إذا تردّد اللفظ بين أن يقع ولا يقع، وظهر التردّد، قطعنا بنفي الوقوع.
وإن تعلّى عن التردّد، وكان الوقوع أظهر، ولم ينته التأويل إلى الخفاء، [قطعنا] (1) بقبول التأويل؛ فترددنا في صورة الإطلاق.
وإن اتصل التأويل برتبة الخفاء، أعملنا اللفظ المطلق، وإن ادعى اللافظ صرفه إلى التأويل، ترددنا فيه.
وهذا الذي نذكره أقصى الإمكان في الضبط.
وميزان هذه الأقسام قريحة الفقيه على شرط الرسوخ في معرفة اللفظ والعادة.
9141- وما ذكرناه الآن مثال قسم من هذه الأقسام. فإذا قال: أنت طالق نصف طلقتين، فالذي نراه أن الحمل على طلقة مع الحمل على نصفي طلقتين في رتبة التقاوم واللفظ مردّد بينهما، فكان الأظهر أن المطلق [منه] (2) يحمل على الأقل، ومن أبدى فيه خلافاً؛ فلإلفه بالخلاف في الألفاظ المطلقة وعدم اعتنائه بمعرفة الإقرار (3) .
ولو قال: أنت طالق نصفي طلقتين، فاللفظ محمول على طلقتين كيف فرض وقدّر.
ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقتين، فالأجزاء المضافة زائدة على المضاف إليه، فمن راعى المضاف إليه، أوقع طلقتين، وألغى الزيادة، ومن راعى الأجزاء في أنفسها أوقع ثلاث طلقات على القياس المقدم.
__________
(1) في الأصل: وقطعنا.
(2) في الأصل: عنه. والمثبث تقدير منا. والمعنى أن المطلق من هذا النوع من الألفاظ يحمل على الأقل.
(3) غير واضحة بالأصل. وقراءتها على هذا النحو غير مُرْضية. (انظر صورتها) .(14/191)
ولو قال: أنت طالق خمسة أنصاف طلقتين، فمن راعى المضاف إليه، لم يزد على طلقتين؛ فإنه إذا ألغى الزيادة، لم يكترث بمبلغها، ومن نظر إلى الأجزاء أوقع الثلاث؛ فإنه لم يجد أكثر من الثلاث.
9142- ولو قال: أنت طالق سدس وثلث وربع طلقة، فالواقع طلقةٌ.
ولو قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وربع طلقةٍ وثمن طلقةٍ، فالمذهب الصحيح أنه يقع ثلاث طلقاتٍ؛ فإنه عطف الجزء على الجزء، وأضاف كل جُزءٍ إلى طلقةٍ، فاقتضى ذلك تغاير الطلقات المضاف إليها، وإذا تغايرت، انصرف كل جزءٍ إلى طلقةٍ، وهذا يقتضي التعدّد لا محالة.
ومن أصحابنا من قال: إذا نوى صَرْفَ هذه الأجزاء إلى طلقة واحدة، قُبل ذلك منه، وإن تعددت الألفاظ، ومثَّل هذا القائل المسألةَ بما لو قال: أنت طالق طالق طالق؛ فإن الألفاظ وإن تعدّدت تطرّق إليها إمكان التوحيد والتأكيد، فكذلك الطلقات وإن تعدّدت، فالأمر فيها على التردد، وإذا تردّدت الطلقات بين التأكّد والتجدّد والأجزاء مضافة [إليها] (1) ، تبع المضافُ المضافَ إليه.
وهذا ساقط لا أصل له، والأصل ما قدّمناه؛ وذلك أنه لو قال: أنت طالق طلقة طلقةً طلقةً، فالتأكيد مقبول، ولو خلل بين الطلقات صلاتٍ متغايرة، فهي على التجدّد، والإتيان بالأجزاء المتغايرة يفيد من التجدد في المضاف إليه ما تفيده الصلات المتغايرة، والمسألة مفروضة فيه إذا قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وثمن طلقة.
وقد يجرى ذلك الوجه الضعيف فيه إذا قال: أنت طالق ثلث طلقةٍ وثلث طلقة وثلث طلقةٍ.
9143- ومن قواعد هذا الفصل إيقاع طلقةٍ بين نسوةٍ، فإن هذا قد يُفضي إلى التبعيض، فكان منتظماً مع تبعيض الطلاق. فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت عليكن طلقة، وقع على كل واحدة منهن طلقة لا محالة، فإنه عمّمهن، وصرّح باشتراكهن، فكأنه طلق كل واحدة ربع طلقة.
__________
(1) في الأصل: إليهما.(14/192)
ولو قال: أوقعت عليكن طلقتين وقصد قسمة [الطلقتين] (1) عليهن على استواء وتعديل من غير إفراد كل طلقةٍ بالتوزيع على جميعهن، فمقتضى هذه القسمة أن يخص كل واحدة نصف طلقة، فيطلقن واحدة واحدة.
ولو قال: أردت كل طلقةٍ على جميعهن، فيخص كل واحدة منهن جزءان من طلقتين، فتطلق كل واحدة طلقتين.
ولو أطلق، ولم يتعرض لتفصيل القسمة، فلفظه في الإطلاق محمول على استواء القسمة من غير تقدير فضّ (2) كل طلقةٍ على جميعهن؛ فإن تقدير هذا تأويل بعيد، ولا تحمل اللفظة مع إطلاقه على التأويل البعيد.
وإذا قال الرجل لعبده: اقسم درهمين على هؤلاء الأربعة، لم يفهم المأمورُ منه تقسيمَ كل درهم على جميعهم.
9144- ولو قال: أوقعت بينكن تطليقةً، ثم زعم أنه أراد تطليق واحدة منهن دون الباقيات، والمعنيَّ باللفظ أوقعتُ طلقةً على واحدة منكن، فإذا كانت المطلّقة بينهن، فالطلاق بينهن، وهو كقول القائل وهو يتّهم بالسرقة واحداً من جمع: [المسروق] (3) لا يخرج من بين هؤلاء، فيطلِقُ اللفظ، وإن كان يرى أنه في يدٍ واحد منهم دون غيره من أصحابه. فإذا فسّر قوله: أوقعت بينكن تطليقة بما ذكرناه، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ التشريك وترك هذا المقتضى إزالةٌ للظاهر بتأويل بعيدٍ.
والوجه الثاني - أن هذا مقبولٌ منه، وهذا الوجه صححّه بعض المصنّفين، وزعم أنه الأظهر، وهو غير سديد. والصحيح حمل اللفظ على الاشتراك؛ لأن الطلاق أضيف إلى جميعهن بصلةٍ اتصلت بضميرهنّ.
__________
(1) في الأصل: الطلقة. وكذا في (صفوة المذهب) لابن أبي عصرون، والمثبت اختيار منا على ضوء ما يأتي من شرح الإمام للمسألة. والله أعلم.
(2) فض: أي تقسيم.
(3) في الأصل: والمسروق.(14/193)
وقد زيّف القاضي قبول تخصيص الطلاق بواحدة منهن، ولم يحك الشيخُ أبو عليّ هذا الوجهَ أصلاً، بل قطع بأنّ اللفظ محمول على الاشتراك، ثم الذين يصححون وجوب الحمل على الاشتراك ويضعّفون الوجه الآخر قاطعون بأن اللفظ المطلق من غير إبداء قصد محمول على الاشتراك.
ومن صحح قبول حمل الطلاق على واحدة لا بعينها ذكر في الإطلاق أن الظاهر الحَملُ على الاشتراك، وشبّب بوجهٍ مخالفٍ لهذا واللفظُ مطلق. وهذا باطل قطعاً، فلا شك في الحمل على الاشتراك في الإطلاق، وإنما التردد فيه إذا قال: أردتُ تطليق واحدة لا بعينها، والأصح أنه لا يقبل.
9145- ولو قال: أوقعت بينكن ثلاثَ طلقات، وأراد القسمة المستوية، أو أطلق اللفظ، فتطلّق كلّ واحدة طلقة، ويخصها من القسمة ثلاثةُ أرباع طلقةٍ، ثم تُكمّل.
ولو قال: أردت توزيع كل طلقةٍ عليهنّ، طُلقت كل واحدة ثلاثاًً، والمطلَق محمول على القسمة المستوية.
ولو قال: أوقعت بينكن أربعَ طلقاتٍ، وأراد الاستواء، أو أطلق، طلقت كل واحدة طلقةً، وأصابها من حساب القسمة طلقة.
ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات [وهن] (1) أربع، طُلِّقت كل واحدة طلقتين؛ فإن القسمة المستوية توجب أن يخص كلَّ واحدة طلقةٌ وشيء.
ثم هذا جارٍ في الست والسّبع والثمان.
فإن قال: أوقعت بينكن تسعَ طلقات وأراد القسمة المستوية أو أطلق اللفظ، طلقت كلُّ واحدة ثلاثَ طلقات؛ فإن تسوية القسمة على الأربع والمقسوم تسعة يوجب أن يخص كل واحدة [طلقتان وربع] (2) ، أو جزء [طلقة] (3) فَتُكَمَّلَ.
وإن أراد تقسيط كل طلقة، فقسمة الثلاث عليهنّ يوجب تكميل الطلقات في حق
__________
(1) في الأصل: ومن.
(2) في الأصل: "طلقتين وشيء" والمثبت من صفوة المذهب.
(3) في الأصل: أو جزء الطلاق.(14/194)
كل واحدة، فلا معنى لذكر هذا القسم وراء الثلاث (1) .
9146- ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات وكن أربعاً، فإن أطلق لفظه، طلقت كل واحدة طلقتين، كما تقدم، وإن قال: أردت تطليق واحدةٍ ثلاثاًً، وتطليق واحدة اثنتين، وتبرئة اثنتين عن الطلقات، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه: فمن أصحابنا من قال: لا يجوز إخراج واحدة منهن عن الطلاق؛ لما يقتضيه اللفظ من التشريك.
ومن أصحابنا من قال: يُقبل ذلك منه، وقد قدمنا هذا الخلاف.
ولو قال: أردتُ تطليق فلانة منهن ثنتين، وفضَّ ثلاث طلقات من الخمس على الباقيات، حتى يطلقن واحدة واحدة، فهذا ليس فيه إخراج واحدة عن أصل الطلاق، ولكن فيه تفاوت بينهنّ في المقدار، فمن قبل منه إخراج بعضهن عن قسمة الطلاق، فلا شك أنه يقبل هذا أيضاً، ومن لم يقبل إخراج بعضهن عن الطلاق، فهل يقبل التفاوت في القسمة؟ هذا فيه تردّد: من أصحابنا من قال: لا بد من تقدير التسوية والقسمة، ثم ننظر إلى ما يقتضيه حكم القسمة في حق كل واحدة.
وقطع الشيخ أبو علي بأن التفاوت في القسمة مقبول من تفسيره؛ فإنه أضاف الطلقات إليهن وأبهم القسمة مردَّدةً بين تخيّر التفاوت وبين التعديل، فإذا لم يأت ما يخالف الاشتراك [والإضافةُ] (2) مبهمة، اتّجه قبول تفسيره.
9147- ولو قال: بينكن -وهنَّ أربعٌ- عشرُ طلقات، فإن أراد القسمة المستوية قُبل، وطلقت كل واحدة ثلاث طلقات؛ فإنه ينالها طلقتان ونصفٌ.
ولو قال: أردت [فضَّ] (3) العَشْر على أن يكون ثلاث على زينب، وثلاث على عَمْرة، وثلاث على فاطمة، وواحدة على عائشة، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه واختيار الشيخ (4) فيه القبول.
__________
(1) المعنى: أنه سبق أن قلنا: إن قسمة الثلاث عليهن (الأربع نسوة) توجب تكميل ثلاث طلقات، فلا معنى لذكر هذا القسم في كل ما هو وراء الثلاث، أي زيادة على الثلاث.
(2) في الأصل: فالإضافة. والتصويب من المحقق. والله الهادي إلى الصواب.
(3) فضّ: أي قسمة. ثم هي في نسخة الأصل "نض" والتصويب من المحقق.
(4) الشيخ: المراد هنا أبو علي.(14/195)
ولو قال: أوقعت بينكن طلقتين وهُنّ أربع، ثم ادّعى أنه أراد تطليق اثنتين دُون الأُخريين، ففي المسألة وجهان، وكذلك لو قال: أوقعت بينكن أربعاً، ثم قال: أردت طلقتين على واحدة وطلقتين على واحدة، ففي المسألة الوجهان المذكوران.
ولو ادعى أنه أراد إيقاع الأربع على واحدة منهن، وفرّعنا على أنه يقبل منه تفسير التخصيص، فهاهنا تطلّق المعيّنة ثلاثاًً، وفي الطلقة الرابعة جوابان للقاضي: أحدهما - أنها تلغو، فكأنه قال لواحدة: أنت طالق أربعاً؛ فإنا إذا قبلنا التخصيص في الأصل، فهذا من موجبه.
والجواب الثاني - أن هذه الطلقة الرابعة توزّع على الثلاث الباقيات، حتى لا تضيع؛ فإن تفسير التخصيص إنما يقبل إذا لم يتضمن إحباط طلاقٍ مما جاء به.
والمسألة محتملة حسنة.
9148- ولو قال وتحته أربع نسوةٍ لثلاث منهن: أوقعت بينكن طلقةً، وحملنا هذا على الاشتراك، فيقع على كل واحدة منهنّ طلقة بحكم اللفظ، فلو قال للرابعة: أشركتك معهنّ -والمسألة لصاحب التلخيص (1) -، قال الأئمة فيها: إن لم ينو بقوله أشركتك طلاقاً، لم يقع شيء؛ فإنه كناية. وإن قال: أردت بذلك طلقةً واحدةً وعنيت بالإشراك أن تكون كواحدة منهن، فيقبل هذا منه؛ فإن هذا الاحتمال ظاهر.
ولو قال: أردت بالإشراك أن تصير الرابعة شريكة لكل واحدة من الثلاث على التفصيل، فينالها من شركة كل واحدة طلقة، فتطلق ثلاثاً.
ولو قال: نويت الإشراك، ولم يخطر لي لا الواحدة ولا الثلاث، فقد قال القفال فيما حكاه الشيخ أبو علي: إن هذه الرابعة تطلق طلقتين؛ فإنه نال الثلاث ثلاث طلقات، وهن حزِبٌ، وهذه الواحدة في مقابلتهن، وقد لحقهن ثلاث طلقاتٍ طلقة طلقةً، فإشراكها يتضمن أن تكون على النصف من ثلاث طلقات، فينالها طلقة ونصف، وإذا كمّلنا، أصابها طلقتان.
__________
(1) صاحب التلخيص هو ابن القاصّ، وقد سبقت ترجمته، وكتابه (التلخيص) طبع في مجلد متوسط، والمسألة في ص 520 منه.(14/196)
قال الشيخ أبو علي: الصواب عندي أن هذه الرابعة في صورة الإطلاق لا تطلّق إلا واحدة؛ فإن ظاهر التشريك في الطلاق يقتضي أن تكون كواحدة منهن، حتى تنزل منزلة الواحدة، هذا أقرب إلى الفهم، وأقرب إلى الدرك من جمع ثلاث طلقات، وتقدير التشطير [فيها] (1) والأمر على ما ذكره الشيخ، ولا اتجاه لغيره.
9149- ومما يتعلق بتمام المسألة أنه لو قال لأربع نسوة: أوقعت بينكن ثُلثَ طلقة وسدُس طلقةٍ ونصفَ طلقة. قالى العراقيون: يقع على كل واحدة ثَلاث طلقات، فإنه فصل الطلقات، وقسم كل جزء من طلقةٍ عليهنّ، وهذا الذي ذكروه ينبني أولاً على ما لو قال لواحدة: أنت طالق سدس طلقةٍ وثلث طلقةٍ ونصف طلقة، وهذه المسألة قدّمناها. فإن قلنا فيها: الواحدة لا تطلق ثلاثاًً إذا أطلق الزوج هذه الألفاظ، فهذا في القسمة أَوْلى، وإذا قلنا: الواحدة إذا خُوطبت بهذه الألفاظ، طلقت ثلاثاً، فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت بينكنّ سدس طلقةٍ، وثلث طلقة، ونصف طلقة، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: هو كما لو قال: أوقعت بينكنّ ثلاث طلقات، والقسمة المستوية لا توجب في ذلك إلا طلقة.
ويجوز أن يقال: لمّا أفرد ذكرَ كل جزء من طلقة، ظهر من ذلك قصد توزيع كل طلقة على الجميع، والتقديرُ قسمت عليكن طلقة، ثم أخرى، ثم أخرى.
ولو قال على الطريقة التي ارتضاها العراقيون: أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة، فهذا محتمل على قياسهم، يجوز أن يقال: تطلّق كل واحدة ثلاثاًً لما في لفظه من التفصيل، ويجوز أن يقال: هذا كما لو قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات، ويجوز أن يقدر فرقٌ بين هذا وبين أن يقول: أوقعت بينكن سدس طلقة، وثلث طلقةٍ، ونصف طلقةٍ؛ فإن في تغاير أجزاء الطلاق مزيد دلالة على تفصيل بعضها عن البعض بالقسمة، وليس في عطف الطلقة على الطلقة هذا.
__________
(1) في الأصل: فقهاً.(14/197)
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين، فهي واحدة ... إلى آخره" (1) .
9150- قدمنا في كتاب الأقارير أصل الاستثناء وتفصيلَه، والقولُ في صورة الاستثناء يتسّع في الأقارير؛ فإنّ فرض الأعداد ممكن، فيتوسع المجال في ورود النفي على الإثبات، والإثباتِ على النفي، ولا مزيد على الثلاث في الطلاق، وفيما قدمناه من الأقارير ما يُطْلع على تمام المقصود في الطلاق، ونحن نتوفَّى التكريرَ جهدنا، ولكن لا يمكن إخلاء هذا الفصل مما ذكره الأصحاب، فإن اقتضى الترتيب تكريراً، كان محتملاً، ونحن نحرص ألا نُخلي ما نذكره عن زوائدَ وفوائدَ.
وفي الاستثناء أصلان معتبران: أحدهما - الاتصال، وقد مضى بيانهُ وسببُ اشتراطه. والآخر - ألا يكون الاستثناء مستغرقاً للمستثنى عنه (2) ؛ فإن استغرق، كان مردوداً ولا يتوقف الرّد على بعضه، بل يَحبَط كلُّه، وينفُذ المستثنى منه بكماله.
ومن الأصول المرعيّة أن الاستثناء يناقض المستثنى عنه، فإن جرى بعد نفي، كان إثباتاً، وإن جرى بعد إثباتٍ، كان نفياً.
ومن الأصول أن الاستثناء المعطوف على الاستثناء في معناه، فلا يكون استثناء منه، بل يكون مع المعطوف عليه استثناء عما تقدم، وإن جرت صيغة الاستثناء بعد الاستثناء من غير واو عاطفة، فالثاني استثناء من الاستثناء الأول، ويجري على مضادته لا محالة.
9151- ونحن بعد الإشارة إلى الأصول نذكر المسائل؛ فإن قال: أنت طالق ثلاثاًً إلاّ ثلاثاً، طلقت ثلاثاً، وبطل الاستثناء، وصار كأنه لم يكن.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، طلقت ثنتين.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدة، وإلا واحدة، فقد استثنى طلقتين بعبارتين
__________
(1) ر. المختصر: 4/82.
(2) كذا. وفي نيابة حروف الجر بعضها عن بعض كلام معروف.(14/198)
معناهما واحدٌ، فكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين إلا واحدة، فاللفظة الأخيرة استثناء من الاستثناء؛ فإنها غير معطوفة، والتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، فهو إثباتٌ، إلا ثنتين لا تقعان، وهذا نفي ما أثبته، إلا واحدة تقع، وهذا إثبات ما نفاه.
وإذا عَطَف المستثنى عنه بعضَه على بعض، وأَتى بالعدد في صيغٍ وعَطَف البعض منها على البعض، ثم عَقّبه باستثناءٍ، فهل نجمع المستثنى عنه حتى كأنه في صيغةٍ واحدة أم نتركه على إفراده ونقطعه؟ ذكر القاضي وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي، وتصوير المسألة أن يقول: أنت طالق واحدةً، وواحدة، وواحدة، إلا واحدة. فقد ذكر ثلاث طلقات في ثلاث صيغ، فمن جمع تلك الصيغ، صحح الاستثناء، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، ومن يترك تلك الصيغ على تقطيعها، فالاستثناء عنده باطل، فإنه قال آخراً: وواحدة، ثم قال: إلا واحدة، فانصرف استثناء الواحدة إلى الواحدة، فكان مستغرقاً، والاستثناءُ المستغرق باطل.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فإن جمعنا الصيغ، لم يقع إلا طلقة واحدة، وكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين، ولو تركنا الصيغ على تقدّمها وتقطعها، وقع الثلاث وبطل الاستثناء؛ فإنه قال آخراً: وواحدة إلا ثنتين، فاستثنى ثنتين من واحدة والاستثناء زائد على ما يقع به الاستغراق.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة [وواحدة] (1) إلا ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث كيفما قدّرنا: ضممنا الصيغَ، أو تركناها مفرّقة.
9152- ولو عطف الاستثناءات بعضَها على البعض بحرف الواو، فالكل في معنى واحدٍ لما مهدناه من اقتضاء العطف الإشراك، ولكنا هل نجمعها على تقدير أنها كالمذكورة في صيغة واحدة أم نتركها على تقطعها ونفرّق صيغها؟ قال القاضي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(14/199)
وغيره: في المسألة وجهان كالوجهين فيه إذا عطف المستثنى عنه بعضه على البعض بالصيغ المتفرقة.
وبيان الغرض بالصور أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدةً، وواحدة، وواحدة، فإن جمعنا هذه الصيغ وجعلناها [كالصيغة] (1) الواحدة، بطلت بجملتها، ووقع الثلاث، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً.
ولو تركناها على تقطعها، فيصح الاستثناء في ثنتين وتبطل الصّيغة الأخيرة، فإنها مستغرقة، فيختص الإبطال بها، ويصير كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة وواحدة.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين وإلا واحدة، فإن جمعنا الصيغ، أوقعنا الثلاث، وصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرعنا على التفريق، فاستثناء الثنتين صحيح واستثناء الواحدة باطلٌ مردودٌ.
ولو قلب، فقال: إلا واحدة وثنتين، فالثلاث تقع على أحد الوجهين، ويقع ثنتان على الوجه الثاني، فإن الصّيغة الأولى في الاستثناء مشتملة على واحدة، والصيغة الثانية مستغرقة، وإذا بطل بعض مضمونها بطل الجميع.
9153- ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، إلا ثنتين، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع، إلا ثنتين تقع، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الثلاث تقع؛ لأن الاستثناء الأول، كان مستغرقاً فلغا، ولغا الثاني، لأنه استثناء من لاغٍ، وهذا ضعيف.
والوجه الثاني -وهو الأصح- أنا نصحح الاستثناءين، فنجعل الاستثناء الثاني منصرفاً إلى الاستثناء الأول على حكم المضادة، فيخرج الاستثناء الأول من كونه مستغرقاً، فإذا خرج عن كونه مستغرقاً، صحّ، والتقدير على ما قدمناه أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع إلا ثنتين تقعان فيعود الاستثناء الأول إلى واحدة، فيقع طلقتان، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة.
__________
(1) في الأصل: بالصيغة.(14/200)
والوجه الثالث - أن الاستثناء الأول يلغو، ويرفع من البين، فيقدّر كأنه لم يكن، فيبقى الاستثناء الثاني، والطلقات الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ولو قال ذلك، لم يقع إلا طلقة واحدة.
وهذا على نهاية الضعف، ولولا اشتهاره [وتوّلع الأصحاب بحكايته] (1) ، لما ضمَّنته هذا المجموع، فإنه خارج عن صيغة اللفظ، وعن حكم القصد والمراد، وليس في المصير إليه استمساكٌ بمقتضى فقهيّ.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة وواحدة وواحدة، وقع الثلاث إجماعاً؛ لأنا إن جمعنا، لم نخصص بالجمع جانباً، وكان التقدير أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرقنا، لم نخصّص بالتفريق واحداً من الجانبين، فيؤول الكلام إلى استثناء واحدة عن واحدة، فيقع الثلاث على التقديرين جميعاًً.
وكان شيخي أبو محمد يقول: "كل تفريق يؤدي إلى تصحيح الاستثناء، فهو مختلف فيه؛ ميلاً إلى إيقاع الطلاق".
ولا أصل لهذا؛ فإنا نتبع الألفاظ وصِيغَها، فإن عنّ لفقيهٍ تغليبُ وقوع الطلاق، عارضه أن الأصل عدم وقوعه، ومن الأصول الممهدة أنا إذا ترددنا في وقوع الطلاق، قلنا: الأصل عدم الوقوع.
9154- ومما يتعلق بتتمة الفصل أمرٌ فرّعه ابن الحدّاد، وتكلم الأصحاب فيه، وذلك أنه قال: إذا زاد المطلّق على العدد الشرعي في الطلاق، فالاستثناء بعده يتردّد كما نصف ونصوّر. فإذا قال لامرأته: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاًً، فقد اختلف أصحابنا في المسألة اختلافاً مشهوراً، فمنهم من قال: يقع الثلاث؛ فإن الخمس التي ذكرها عبارة عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، ولو قال، لوقعت الثلاث؛ لأن الاستثناء مستغرق.
والوجه الثاني - وهو اختيار ابن الحداد أنه يقع ما استبقاه بعد الاستثناء، والخمسُ إذا استثني منها ثلاث، بقيت ثنتان، فتطلق طلقتين، وسرّ هذا الوجه أنه ذكر الخمس
__________
(1) في الأصل: تولع الأصحاب حكايته.(14/201)
ليتوسّع في الاستثناء، فليقع ما يلغو في مقابلة ما يستثنى؛ إذ هذا طباع الاستثناء، وليقع ما بقي.
ولو قال: أنت طالق أربعاً إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فمن قال: الأربع عبارة عن الثلاث، يقول في هذه الصورة: لا يقع إلا طلقة، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ومن قال: يقع ما أبقى، حَكَم بوقوع طلقتين.
ولو قال: أنت طالق ستاً إلا ثلاثاًً، فيقع الثلاث على المذهبين، وخروجه بيّن، فإن من يعتبر ما يبقى بعد الاستثناء يقول: قد بقي ثلاث، ومن جعل الست عبارةً عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وهذا بيّن إذا تأمّلته.
ولو قال: أنت طالق طلقتين ونصفاً إلا واحدة، قال ابن الحداد: يقع الثلاث، وإنما بناه على أصلٍ ذكرناه في تقطيع العبارة، فكأنه قال: أنت طالق ثنتين وواحدة إلا واحدة (1) .
9155- ومما يتعلق بتمام الفصل أن بعض الطلقة في الإيقاع طلقةٌ، كما سبق تمهيده، وإن غالط مغالط وقال: لا يقع طلقةٌ بلفظ النّصف، ولكن إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق نصفَ طلقة، وقع الطلاق بقوله: "أنت طالق"، ولغا قوله: نصف طلقة. ولو قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع، لوقع، فذكر النصف بعد ذكر الطلاق لا معنى له.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو قال: أنت طالق طلقةً ونصفاً، وقعت طلقتان، ولا حيلة في الطلقة الثانية -وقد استقل الطالق بطلقة- إلا حملُ نصف طلقة على طلقةٍ، وكذلك لو قال: أوقعت عليك نصف طلقة، وقعت طلقة.
فهذا أصلٌ لا مدافعة فيه.
ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا نصف طلقة، وقعت الثلاث ولغا استثناء النّصف، هذا ما صار إليه حملة المذهب.
__________
(1) وقعت الثلاث لأننا جمعنا في جانب الإثبات ثنتين وواحدة، فصارت ثلاثاً، ثم لغا الاستثناء لأنه مستغرق، إذ هو استثناء واحدة من واحدة.(14/202)
9156- وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع ما ذكرناهُ، وحكى وجهاً غريباً أن النصف في الاستثناء بمثابة الطلقة، ونجعل البعض عبارةً عن الكل في الإيقاع والإسقاط، وهذا غريب، لم أرَهُ إلاّ لهُ.
ووجهه -على بعده- أنا نحكم بوقوع الطلقة إذا جرى ذكر بعضها، لا على مذهب السريان، كما تقدّم شرح ذلك، بل لا يتجه فيه إلا إقامة العبارة عن الجزء مقام العبارة عن الواحدة، ولعلّ السر فيه أن ما لا ينقسم فبعضه ككلّه.
وهذا غير صحيح؛ فإن الطلاق يُغَلَّب في وقوعه، والاستثناءُ مناقَضةُ الوقوع، وإذا استثنى من يبغي النفي بنصف طلقة، فقد ألغى نصف طلقةٍ والذي أبقاه يُكمَّل.
ولو كنا نجري على أن الجزء عبارة عن الكل فيما لا ينقسم، للزم أن نقول: ما قاله بعض أصحاب أبي حنيفة (1) في أن الرجل إذا قال: زوَّجْتك نصف ابنتي، كان بمثابة ما لو قال: زوجتك ابنتي، لم يختلف أصحابنا في أن النكاح لا يصح بذكر الجزء من المنكوحة.
فالتفريع إذاً على أن استثناء الجزء باطل، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقةً ونصفاً، بطل استثناء النصف، وصح استثناء الواحدة، ووقعت طلقتان.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين ونصفاً، فإن جعلنا النّصف عبارة عن طلقةٍ في الوجه الغريب الذي حكاه الشيخ أبو علي، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين وواحدة، ثم يقع هذا في أنا هل نجمع المفرّق؟ فيه التفصيل المقدّم.
وإن قلنا: إنَّ ذكر الجزء في الاستثناء باطل، فهذا فيه احتمال على هذا المقام: ظاهر القياس أن النصف يبطل، ويبقى استثناء ثنتين، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، [ولا يتجه فيه إعمال الاستثناء؛ لأن في إعماله إبطاله] (2) ، إذ لو عمل النصف، لصار الاستثناء مستغرفاً مع التفريع على أن المفرّق كالمجموع، ونحن نغلب وقوع الطلاق في هذه المنازل.
__________
(1) ر. المبسوط: 6/90.
(2) عبارة الأصل: "ويتجه فيه إعمال الاستثناء في إعماله إبطاله" والتصويب من صفوة المذهب ج 5 ورقة 11 شمال.(14/203)
ولو قال -والتفريع على الأصحّ-: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقتين إلا نصفَ طلقة، فهذا الاستثناء الأخير صحيح؛ فإنه إيقاعٌ، والتقدير أنت طالق ثلاثاًً تقعُ إلا ثنتين لا يقعان، إلا نصفاً [يقع] (1) .
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقة ونصف، فإذا فرعنا على الأصح، فذكر النصف باطل؛ لأنه للإسقاط لو صح، فالتعويل على هذا، فمهما (2) كان الاستثناء للإيقاع، صح فيه لفظ الجزء، ومهما كان للإسقاط لم يصح على الأصح.
وفي هذا نجاز مسائل الاستثناء، والله أعلم بالصواب.
فصل
قال: "ولو قال: كلّما ولدت ولداً، فأنت طالق ... إلى آخره" (3) .
9157- هذا الفصل يشتمل على أحكامٍ منوطةٍ بمقتضى الألفاظ، والقولِ في انقضاء العدة بوضع الحمل، وإذا اشترك في المسألة النظرُ في الألفاظ والكلامُ في الأحكام، أحوجت المسألةُ الناظرَ إلى مزيد تدبّر، ومضمون المسألة يتأدّى بمسألتين: إحداهما - مفروضة في لفظةٍ لا تقتضى التكرّر، والأخرى مفروضة [في لفظةٍ] (4) تقتضي التكرر، ثم تتشعب كل مسألة. ونحن نأتي في كل واحدة بما يليق بها.
9158- فإذا قال لامرأته: إن ولدت ولداً، فأنت طالق، فولدت ولداً، ثم أتت بولدٍ آخر لأقلّ من ستة أشهرٍ من ولادة الولد الأول، فيلحقها طلاق واحد بالولادة الأولى، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ولا يتكرر الطلاق؛ فإنه علّقه بقوله: (إنْ) ، وهو لا يقتضي التكرر، والولد الثاني يلحقه نسبُه، فإن الأول لحقه؛ إذ
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها في صفوة المذهب (الموضع السابق نفسه) .
(2) "مهما" بمعنى (إذا) .
(3) ر. المختصر: 4/82.
(4) زيادة اقتضاها السياق.(14/204)
العلوق به كان في النكاح والولد للفراش، والولد الثاني في معنى الولد الأول؛ فإنهما من بطن واحد، وحكم البطن لا يختلف احتمالاً ولحوقاً.
فإن كان بين الولدين -والمسألة بحالها- أكثرُ من ستة أشهُرٍ، فلا شك أن العلوق بالولد الثاني وقع بعد انفصال الأول؛ إذ لو كانا من بطنٍ واحدٍ، لما تخلل بينهما ستة أشهر، فإذا تبين أن العلوق بالثاني وقع بعد الأول، فهل يَلحق الولدُ الثاني الزوجَ؟
في المسألة قولان مبنيان على صورة نرسمها، ونُحيل استقصاءها على كتاب العدة، وهي أن الرجل إذا طلق امرأته طلقة رجعيةً، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من أربع سنين من وقت انقضاء العدة، وكان الطلاق رجعياً، فابتداء أربع سنين يحتسب من وقت الطلاق أو من وقت انقضاء العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو الأصح عند المحققين أنه يحتسب من يوم الطلاق؛ فإن الطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لاستحلال الافتراش، وإن كان الملك قائماً، ونحن إنما نلحق الولد بالفراش؛ لاطراد استحلال الافتراش، والطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لهذا المعنى، ولهذا استعقب الاعتدادَ، وهو غير معقول إلا في زمان الانعزال.
والقول الثاني - أن ابتداء السنين الأربع محتسب من آخر العدة؛ لأنّ الرجعية في العدة زوجة، وسلطنة الزوج قائمة عليها.
وسيأتي تحقيق ذلك توجيهاً وتفريعاً، إن شاء الله.
9159- وإذا أتت المرأة بولدٍ ولحقها الطلاق عند الولادة، ثم أتت بولدٍ بعد ذلك لستة أشهرٍ فصاعداً، فنحن نعلم قطعاً أن العلوق بالولد الثاني لم يكن في حال استمرار النكاح، كما نعلم قطعاً أنها إذا أتت بولدٍ بعد الطلاق الرّجعي لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، فالعلوق به لا يكون متقدّماً على الطلاق، فاستوت المسألتان في تحقق وقوع العلوق بعد الطلاق، فخرجت المسألة على قولين في لحوق الولد الثاني. فإن قلنا: الولد يلحق، فقد طُلِّقت هذه عند الولد الأول، ثم انقضت عدتها بوضع الولد الثاني، وإن قلنا: الولد لا يلحق، فلا تنقضي العدة به؛ فإن عدة الرجل إنما تنقضي بوضع المرأة حملها إذا كان الولد ملتحقاً بمن العدة منه.(14/205)
ولو أتت -والمسألة كما صورناها- بولدين بينهما أقل من ستة أشهرٍ، ثم أتت بثالث لأكثر من ستة أشهر من الولادة الثانية، فيلحقها طلقة بوضع الولد الأول، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ويلحقه الولدان، ولا يلحق الولد الثالث قولاً واحداً؛ فإنا نعلم أن العلوق به وقع بعد الولد الثاني، وهذا ثابت بوضع الولد الثاني، وعاد إمكان العلوق إلى زمان البينونة، وإذا كان كذلك، ترتب عليه انتفاءُ الولد الثالث؛ فإن الولد اللاحق قولاً واحداً هو الذي يمكن تقدير علوقه في صُلب النكاح، والولد الذي اختلف القول فيه هو الذي يمكن تقدير علوقه في زمان الرجعة، ولا يمكن تقديره قبل الطلاق.
ولو قيل: لو أتت بالولد الثالث لأكثر من ستة أشهرٍ من وضع الولد الأول، ولأقلَّ من ستة أشهرٍ من وضع الولد الثاني، وكان بين الثاني والأول أقلُّ من ستة أشهر، فكيف الحكم فيه إذاً؟ قلنا: هذه مغالطة والمسألة لا تتصور كذلك؛ فإن الرحم إذا اشتمل على أولادٍ، كانت المدة بين وضع الأول وبين وضع الآخر أقل من ستة أشهر، فإن الرحم تنتفض عما فيه وتبرأ عما عداه في أقلَّ من ستة أشهر.
وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظة لا تقتضي التكرار.
9160- فإن ذَكَر لفظة مقتضاها التكرار؛ فقال: كلما ولدتِ ولداً، فأنت طالق، فأتت بأولادٍ من بطن واحدٍ، فإن أتت بأربعة أولادٍ، لحقتها ثلاث طلقات، فتطلق بالوضع الأول واحدةً، وبوضعِ الثاني ثانيةً، وبوضع الثالث ثالثة، وتنقضي عدّتها بوضع الولد الرابع، ولا إشكال؛ فإن الطلقات كملت، وفي الرحم بقية.
فأما إذا ولدت ثلاثة أولادٍ من بطن واحدٍ، ولم يتخلل بين الأول والآخر ستة أشهرٍ، فيلحقها طلقتان: الأولى والثانية.
ثم المنصوص عليه في الجديد أن العدّة تنقضي بوضع الثالث، ولا يقع الطلاق بوضعه، ونص في الإملاء على أنّ الطلقة الثالثة تقع بالولد الثالث، وتستأنف العدة بالأقراء.
9161- فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قطع القولَ بأن الطلاق الثالث(14/206)
لا يقع أصلاً، وأنها تَبين بوضع الولد الثالث، ووجهه بيّنٌ؛ فإن الطلاق لو لم يلحقها، لبانت بالولادةَ؛ لمكان براءة الرحم، فإذا كان وضع الولد مقترناً بالبينونة، فالطلاق الثالث مضافٌ إذاً إلى حال البينونة، وهذا محالٌ، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فإذا طلقها تنجيزاً تنجّز الطلاق، ولا يقع ما علّقه؛ لأنها تبين بوقوع الطلاق الأول.
وهذا القائل يتأوّل نصَّ الإملاء ويحمله على ما إذا ولدت الولد الثاني، فراجعها وردّها إلى صلب النكاح، فولدت الولد الثالث في النكاح، فتلحقها الطلقة الثالثة، ثم تستقبل العدة، وتكون كما لو قال لامرأته الحامل بولد واحدٍ، وهو لا يملك إلا الطلقة الثالثة: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا ولدت، طُلِّقت، واستقبلت العدة.
وهذه الطريقة مستدّة في المعنى، ولكنها مخالفة للنصّ؛ فإن الأصحاب عن الإملاء نقلوا التصريح بتصوير اعتقاب الولادات من غير تخلل رجعةٍ.
والطريقة المشهورة طرد القولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الطلاق لا يقع بالولادة الثالثة، ووجهه مما ذكرناه.
والقول الثاني - أن الطلاق يقع، وقد تكلف الأصحاب توجيه هذا القول لاشتهاره، فلم يتحصّلوا على معنى عليه مُعوّل.
9162- وقد ذكر القفال مسلكاً نحن نذكره، ثم نوضح اختلاله، قال: اختلف قول الشافعي في أن الرجعية إذا طلقها زوجها في عدة الرجعة، فهل تستأنف عدةً إذا لحقها الطلاق أم تتمادى على العدة الأولى؟ وقد أشرنا إلى هذين القولين فيما سبق، وسنستقصيهما في العدد، إن شاء الله.
ثم إذا قلنا: تتمادى على العدة بانيةً، فلا كلام. وإن قلنا: يستعقبُ الطلاقُ عدةً جديدة، فالعدّة الأولى تنقطع، وتستأنف هذه عدة جديدة، ثم لا نقضي بأن الطلاق وقع، وهي في بقية من العدة الماضية، [ولكن نقول: يقع الطلاق على مفصل الانقطاع والاستقبال] (1) ، وهو كما لو قال لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار؛ فإذا
__________
(1) عبارة الأصل: ولا نقول: "يقع الطلاق على متصل الانقطاع والاستقبال"، والتصويب بالتعديل والتغيير من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 12 شمال.(14/207)
صادفها الطلاق، لم يكن الطلاق واقعاً في جزء من النهار، ولا في جزءٍ من الليل.
هذا كلامه.
وقال بانياً عليه: إذا حكمنا بأن الطلاق يقتضي عدّة مستقبلة، فالطلاق الثالث يلحق مع انفصال الولد، ويتصل به استقبال العدة، فلا يكون واقعاً في جزءٍ من العدة المستقبلة ولا في جزء من الزمان قبل تمام الانفصال، ولكن يقع على المتصل.
هذا ما ذكره.
9163- وهو كلام مضطرب، ولو التزمنا في هذا المجموع أن [نُري] (1) -بفضلةٍ في اللسان- الباطلَ في صورة الحقّ، لكنا مُلبِّسين، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، ومقصودنا فيه أن نوضح ما عندنا في كل مسألة على [حقيقتها] (2) ، وهذا مما يقطع قولَنا فيه بأن هذا القول لا يتوجه؛ فإن الولادة هي الانفصال، ويتحقق معه من غير ترتبٍ انقضاءُ [العدة] (3) ، فالطلاق المعلق على الولادة لا يقع إلا مع الانفصال، وحق الإنسان أن يتحفظ في ذلك جهده، ولا يقول إلا ما يُشعر بالتحقيق.
فإن قال القائل: يقع الطلاق بعد الانفصال؛ بناء على ما ذكرناه من قول الأصحاب في أن الطلاق المعلّق على الصفة يترتب على حصولها، فهذا وجهٌ، ولكن يزداد توجيه القول بعداً؛ فإن الانقضاء يحصل بالانفصال، وتقع البينونة معه حكماً؛ فإن هذا ليس تعليقاً وشرطاً مشروطاً، وإنما هو حكم شرعي.
فإن قلنا: يقع الطلاق مع الصفة، فيصادف أول حال البينونة، وإن قلنا: يترتب عليه، فيقع مسبوقاً بالبينونة، فلا وجه أصلاً.
وما ذكره القفال غير سديد؛ فإنه فرض حكماً في غير زمانٍ، وهذا خارج عن المعقول؛ فإن التي يقال فيها: ليست [مُطلَّقةً] (4) ، ثم يقال: طلقت، فمن ضرورة
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة بالغة على ضوء أطراف الحروف الباقية، واستجابةً للسياق.
(2) في الأصل: حقيقته.
(3) في الأصل: القول. والتصويب من (صفوة المذهب: ج 5 ورقة 13 يمين) .
(4) في الأصل: طلقة، والتصويب من صفوة المذهب (السابق نفسه) .(14/208)
حكم مرتب على حكم أن ينفصل كل واحد منهما عن الثاني بزمان، وقد تبيّن أن الطلاق لم يقع قبل تمام الانفصال، فليقع مع الانفصال أو بعده.
فأما [الفصل] (1) ، فكلام غير معقول، وأما ما استشهد به من قول الرجل لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار -وليس بينهما فاصل زماني- فالوجه عندنا القطع بأن الطلاق يلحقها في آخر جزء [من الليل أو آخر جزء] (2) من النهار، وبذلك تكون طالقاً بين الليل والنهار.
فإن قيل: هلا قضيتم بأن الطلاق يقع في أول جزء من الليل؛ قلنا: لأن معنى وقوع الطلاق بين الليل والنهار أن تكون متصفةً بالطلاق في منقطع النهار ومبتدأ الليل (3) ، وهذا إنما ينتظم على الوجه الذي ذكرناه.
9164- ثم إن أصحابنا اختبطوا وراء هذا من وجوهٍ نصفها، فقال قائلون: إذا قال الرجل لامرأته الرجعية: أنت طالق مع انقضاء العدة، ففي الحكم بوقوع الطلاق قولان مبنيان على القولين في مسألة الولادة. وهذا لا شك ينطبق على مسألة الولادة، ومن أقام القولين في مسألة الولادة، التزم إقامتهما في هذه المسألة.
والذي أُنكره من قول هؤلاء أنهم قالوا: القولان في مسألة الولادة مبنيان على ما لو قال لامرأته: أنت طالق مع انقضاء العدة. وهذا كلام سخيف؛ فإن الشافعيّ نصّ على القول البعيد في الولادة، ولا نصّ له في تعليق الطلاق بانقضاء العدة، فكيف يُبنى قولٌ منصوصٌ على صورة مفرعةٍ عليه. نعم، لو قيل: هذا القول يقتضي الحكمَ بوقوع الطلاق إذا قال: أنت طالق مع انقضاء العدة. لكان ذلك وجهاً.
9165- ومما ذكره بعض النقلة عن القاضي: أن هذا مفرّع عليه أن الرجل إذا قال للرجعية: أنت طالق في آخر العدّة، فهل يقع الطلاق أم لا؟ فإن قلنا: في مسألة الولادة بوقوع الطلاق، وقع الطلاق في هذه الصّورة.
__________
(1) في الأصل: المتصل. والتصويب من صفوة المذهب (نفسه) .
(2) زيادة اقتضاها السياق، على ضوء كلام ابن أبي عصرون في مختصره.
(3) عبارة ابن أبي عصرون: "لأن معنى كونه بينهما أن تتصف بالطلاق في منقطع أحدهما ومبتدأ الثاني" السابق نفسه.(14/209)
وإن قلنا في مسألة الولادة المُبرئة للرّحم: لا يقع الطلاق، فلا يقع فيه إذا قال: أنت طالق في آخر العدة.
وهذا غلط صريح؛ فإن آخر العدة من العدة، كما أن آخر اليوم من اليوم، وآخر الشهر من الشهر، وقد ذكرنا العبارات الدائرة في ذكر الآخِر والأول، وإذا لاح ذلك، فإضافة الطلاق إلى جزء من العدة كيف يمتنع وقوعها؟ وأين هذا من تعليق الطلاق بالولادة المُبرئة للرحم، والعدة تنقضي بالانفصال والطلاق يقع بالانفصال، أو يترتب عليه، والانفصالُ يعقب منقَرَضَ العدة [كما يعقب] (1) السّوادُ البياض من غير تخلل خلوّ عن اللون بينهما.
وإن ظنّ الناقل أن قول القائل في آخر العدة يقتضي كون زمان الطلاق ظرفاً، ثم ظنّ أن ما كان في ظرف يجب أن يكون محتوشاً به، فهذا وهم لا يشتغل بمثله طالبُ معنىً؛ فإن الظرف الزمانيّ هو الزمن الذي ينطبق عليه ما يضاف إليه ذو الظرف، فأما الإحاطة [به] (2) ، فمن خيالات النفوس.
ومن عجيب الأمر أن هذا القائل شبَّه قول القائل: أنت طالق في آخر جزء من العدة بقول الرّجل لامرأته: أنت طالق في آخر الحيض. ثم للأصحاب وجهان في أنه هل يبدّع بهذا الطلاق.
وهذا اضطراب فاحش، وخلطٌ للأصول، فما قدمناه من وقوع الطلاق مأخوذ من مصادفة الطلاق زماناً من الرجعة، وما استشهد به هذا القائل من إضافة الطلاق إلى آخر الحيض مأخوذ من التردّد في أنا نتبع التعبّد، وقد ورد النهي عن الطلاق في الحيض، أو نستمسك بطرفٍ من المعنى، وهو اعتبار تطويل العدة، وليس في إضافة الطلاق إلى آخر الحيض تطويلُ العدة، فقد تباعد الأصلان، وبان أن الطلاق المضاف إلى آخر عدة الرجعية واقع قطعاً، وليس هو ناظراً لمسألة الولادة، فلم نتحصل من
__________
(1) في الأصل: "كما لا يعقب" والتصويب بناء على السياق. وكلام ابن أبي عصرون (ر. صفوة المذهب: جزء 5 ورقة 13 شمال) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.(14/210)
المسألة على ما نوجّه به قول [القاضي] (1) ، ولم نقف في هذا وقوف ناظرٍ أو محيلٍ على ذي فكر بعدنا، ولكن القول الضعيف ضعيف كما وصفناه.
فصل
قال: "ولو قال: إن شاء الله، لم يقع ... إلى آخره" (2) .
9166- إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق، وهذا لا يختص بالطلاق، بل لو عقّب العِتاق أو البيعَ، أو الهبة، أو غيرَها من الألفاظ التي يتعلق بها العقودُ، أو غيرُها من الأحكام بالتعليق بالمشيئة، بطلت الألفاظ جُمعُ، ولم يتعلق الحكم بشيء منها.
ولو قال [مستحق] (3) الدم: "عفوت إن شاء اله "، فالذي جاء به ليس بعفوٍ.
وهذا سمّاه العلماء الاستثناء، وهو في التحقيق تعليق، وسبيل تسمية قول القائل: "أنت طالق إن شاء الله تعالى" استثناء، كسبيل تسمية قول القائل: أنت طالق إن دخلت الدار استثناء، وليس يبعد عن اللغة (4) تسمية جميع ذلك استثناء؛ فإن مَنْ أطلق قوله: أنت طالق، كان يقتضي لفظُه وقوعَ الطلاق على الاسترسال من غير تقيُّد بحالٍ، فإذا عقَّب اللفظ بالاستثناء، فكأنه ثَناه عن مقتضى إطلاقه، ثَنْي [الحبل] (5) عن امتداده، وإنما سُمّي قولُ القائل: أنت طالق ثلاثاً [إلا اثنتين استثناء] (6) ، لأن الاستثناء يَثْني موجب اللفظ عن الوقوع.
وممّا نمهده في صدر الفصل أن الرجل إذا قال: "أنت طالق إن شاء الله"، فهذا في التحقيق نفي بعد إثبات، وهو مقبول، وليس كقوله: لفلان عليّ عشرة إلا عشرة،
__________
(1) مكان كلمة تعذر علينا قراءتها، ورسمت هكذا (الاياا) انظر صورتها.
(2) ر. المختصر: 4/383.
(3) في الأصل: بمستحق.
(4) في صفوة المذهب: الفقه بدلاً من اللغة.
(5) في الأصل: الخبل. والمثبت من صفوة المذهب: جزءه ورقة 14 يمين.
(6) زيادة من صفوة المذهب (السابق نفسه) .(14/211)
وأنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإن الاستثناء المستغرق باطل، والمستثنى عنه نافذ بكماله، وفرّق الأصحاب بين البابين، بأن قالوا: الإتيان بالاستثناء المستغرق لا يبني عليه الجادُّ ابتداءً كلامَه، ولا يعدّ الكلام المتصل به منتظماً على جدٍّ وتحصيلٍ، وأمّا تعليق الكلام بالمشيئة، فمما يعدّ منتظماً، ثم قيل: الكلام بآخره.
وهذا يعتضد بأن قول القائل: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً تعقيبُ إثبات بنفيٍ على التناقض [المحض] (1) ، وقول القائل: "أنت طالق إن شاء الله" تعليقٌ بصفة صيغتها تتضمن التردّد؛ فإن مشيئة الله غيبٌ لا يُطَّلع عليه، فلم يكن مبنى الكلام على [التنافي] (2) والتناقض، ثم إن وقع الحكم بانتفاء الطلاق لأمرٍ يقتضيه الشرع، فهذا لا يرجع إلى اختلال الكلام في نفسه. هذا هو الفرق.
9167- وقد حكيتُ فيما أظن عن صاحب التقريب: أن التعليق بمشيئة الله تعالى لا يؤثر في إبطال الألفاظ، وهذا شيء غريبٌ لا تعويل على مثله، وقد قدّمت ذكرَه في كتاب الإقرار، فالتفريع إذاً على ما عليه الأصحاب.
ثم لا فرق بين الطلاق والعتاق؛ فإن مشيئة الله غيبٌ في جميعها. وعن مالك: أنه قال: العتق المعلق بمشيئة الله ناجزٌ، والطلاق المعلّق بالمشيئة لا يقع (3) ، وقد أورد إسحاق في مسند مُعَاذ بن جَبَل عن يحيى بن يحيى عن إسماعيل بن عيّاشٍ عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحُول عن معاذٍ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاذ ما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أحبَّ إليه من العتاق، وما خلق الله شيئاً على
__________
(1) في الأصل: المحيض، والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: التناهي، والمثبت من المحقق.
(3) هكذا يروي الإمام عن مالك رضي الله عنهما: "أن العتق المعلق بمشيئة الله ناجز، والطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع" ولكن الرافعي رضي الله عنه يقول: "روى هذا إمام الحرمين وجماعةٌ عن مالك، والأثبتُ عنه أنه لا يؤثر الاستثناء في العتق، ولا في الطلاق، وإنما يؤثر في اليمين بالله تعالى" (ر. الشرح الكبير: 9/34) وما قاله الرافعي صدَّقته مصادر الفقه المالكي وأمهات كتبه. (ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/748 مسألة: 1361، وعيون المجالس: 3/1240 مسألة: 864، وجواهر الإكليل: 1/351، والتاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب: 4/74، وحاشية الدسوقي: 2/392) .(14/212)
وجه الأرض أبغضَ إليه من الطلاق؛ فإذا قال الرّجل للمملوك: أنت حر إن شاء الله، فهو حرّ، ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق فيه" (1) ، وروى أبو الوليد في تخريجه في الأيمان عن معدي كَرِب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق أو طلّق واستثنى، فله ثُنَيَّّاه" (2) .
ولو قال أنت طالق: إن شاء زيد، توقف وقوع الطلاق على مشيئته، فإن شاء وقع، وإلا لم يقع، والاطّلاع على مشيئته منتظَرٌ كالاطلاع على سائر أفعاله وأقواله التي يفرض تعليق الطلاق بها.
9168- ولو قال: انت طالق إلا أن يشاء الله، فهذا فصلٌ فيه اضطرابٌ للأصحاب، والرأي في التدرج إليه أن نفرض في مقدمة الخوض في التعليق بالمشيئة تعليقاً بصفةٍ أخرى، ثم تعليقاً بنفيه، ثم نفرض التعليق على هذه [الصِّفة] (3) بمشيئة زيدٍ، ثم نعود بعد ذلك كُلِّه، ونبيّن الحكم فيه، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله تعالى، فنقول:
إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن دخل زيدٌ الدّار، فهذا طلاق متعلق ثبوته بثبوت الدخول، ولو قال: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدارَ، فالطلاق ثبوته متعلق بعدم دخول زيد الدار، والطلاق القابل للتعليق يتأتّى تعليقهُ بثبوت الصّفات، ويتأتى تعليقه بانتفائها؛ فإن التعويل على قول المعلِّق، والصفاتُ وإن أُخرجت مخرج الشروط،
__________
(1) حديث معاذ رواه إسحاق في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، وعبد الرزاق في مصنفه: 6/390 رقم 11331، ورواه الدارقطني: 4/35، والبيهقي في الكبرى: 7/361، وقال: حديث ضعيف، وقال الحافظ في المطالب العالية: منقطع، وكذا البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة. (ر. المطالب العالية: 1643، وإتحاف الخيرة المهرة: 5/79 حديث رقم: 4461، ونصب الراية: 3/235) .
(2) حديث معدي كرب رواه أبو موسى المديني في ذيل الصحابة، وبمعناه رواه البيهقي من حديث ابن عباس، ولفظه: "من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فلا شيء عليه، ومن قال لغلامه: أنت حر إن شاء الله، أو عليه المشي إلى بيت الله، فلا شيء عليه". قال الحافظ: وفي إسناده إسحاق بن أبي يحى الكعبي، وفي ترجمته أورده ابن عدي في الكامل وضعفه (ر. البيهقي: 7/361، والتلخيص 3/430 ح 1745، ونصب الراية: 3/235) .
(3) في الأصل: الصيغة.(14/213)
فهي في التحقيق بمثابة الأوقات لما عُلق بها، ويجوز أن يعلق الشيء بوقت ثبوت شيء، ويجوز أن يعلّق بوقت انتفائه.
ثم إذا قال الرجل: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدار، لم يحكم بوقوع الطلق، ما دام الدخول منتظراً من زيد؛ فإن مات وفات إمكان دخوله، حكمنا بوقوع الطلق.
ثم ما عليه الأصحاب أنّ الطلاق [يقع] (1) إذا تحقق اليأس من الدخول، ثم يسند وقوع الطلاق إلى ما قبل اليأس، كما تقدّم.
ولو قال لامرأته: "أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار"، [فإنه] (2) إن دخل، لم تطلق، وإن لم يدخل، طُلِّقت، كما إذا قال: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار، فقوله إلا أن يدخل زيد الدار يعطي من المعنى في الحال والمآل على طوري النفي والإثبات ما يعطيه قوله: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار.
وينتظم من ذلك أنه إذا قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، فالطلاق معلَّق بعدم دخوله.
9169- ومما لا يستريب فيه من لا يرضى بالتخابيل أن الطلاق بين أن يُنَجّز أو يعلّق، وهذا تقسيمٌ لا يُفرض عليه مزيدٌ.
فإن تعلّق الطلاق، فلا انتجاز في الحال، ومتعلَّق الطلاق نفي أو إثبات، وإن تنجز، فلا يجوز أن يكون له ارتباط بأمرٍ منتظرٍ، ولا يجوز أن يقدّر معنى التنجز، ثم يفرض [فيه] (3) مستدرك.
وإنما ذكرنا هذا حتى لا يعتقد الناظر أن قول القائل: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار تنجيز بعده مستدرك؛ فإن الطلاق المنجز لا يستدرك، ولكن حق الفقيه أن ينظر في عاقبة اللفظ ومغزاه؛ فإن رُوعي نفيٌ أو إثبات مأخوذ من اللفظ بوقوع الطلاق، فهو متعلّق الطلاق، والطلاق متعلّق به، ونحن نبني على هذا القول إذا قال: أنت طالق
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: إنه. والمثبت تصرف من المحقق.
(3) في الأصل: منه.(14/214)
إن لم يدخل زيد الدار، ثم [إن] (1) مات زيد ولم ندر أدخل أم لم يدخل، فالرأي الأصحّ أن الطلاق لا يقع؛ فإنا لم ندر هل انتفى دخوله، [فالطلاقُ] (2) متعلق بعدَمِ دخوله.
وأبعد بعض من لا بصيرة لهُ، وقال: إذا أشكل دخوله، فالأصل عدم دخوله، وهذا هذيان لا حاصل لمثلِه، فإنَّ توقع الدخول كتوقع عدم الدخول، وهما في مسلك الاحتمال متساويان، ويعارض تساويهما أن الطلاق لا يقع بالشك.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، ثم مات، ولم ندر أدَخَل أم لم يدخُل، فالذي ذهب إليه الجمهور كُثرهُ (3) أن الطلاق يقع، وإنما صاروا إلى هذا من حيث اعتقدوا أنّه نجّز الطلاق، ثم عقبه بمستدرك، فإذا لم يثبت الاستدراك، فالطلاق مقرّ على تنجيزه. وهذا عندنا خيالٌ (4) لا حاصل له؛ فإن مضمون قوله إلا أن يدخل زيد الدار تعليق، كما أن مضمون قوله إن لم يدخل زيد الدار تعليق، وإذا لم يتحقق متعلّق الطلاق، فالوجه القطع بأن الطلاق لا يقع (5) .
وعضَدُ هذا وتأييدُه بأن نقول: لم يعلق الزوج الطلاق بأن لا يعلم دخوله، وإنما علّقه بأن لا يدخل، معلِّقاً كان أو مستثنياً.
9170- فإذا ثبتت هذه المقدمة، رجعنا بعدها إلى تعليق الطلاق بمشيئة شخصٍ، فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، فمعناه في تنزيل الكلام وتقديره:
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: بالطلاق. والمثبت تصرف منا.
(3) كُثره: أي معظمه، فالكُثْر: المعظم. (معجم) .
(4) كذا خيال (بالخاء المعجمة والمثناة التحتية) وأرجح أنها (خبال) بالخاء المعجمة ثم بالموحدة التحتية. حيث يُكثر من هذا اللفظ.
(5) خالف الإمام هنا الجمهور، واستقر المذهب على رأي الإمام، قال الرافعي: "وأما الإمام، ففد اختار عدم الوقوع، وهو أوجه وأقوى في المعنى" (ر. الشرح الكبير: 9/38) .
وكذلك قال النووي: "واعلم أن الأكثرين قالوا بالوقوع فيما إذا شككنا في الفعل المعلق عليه، واختار الإمام عدم الوقوع في الصورتين، وهو أوجه وأقوى". ثم قال النووي في زياداته: قلت: الأصح عدم الوقوع، للشك في الصفة الموجبة للطلاق. والله أعلم" ا. هـ (ر. الر وضة: 8/98) .(14/215)
أنت طالق إن لم يشأ زيدٌ طلاقَك، أي إن شاء طلاقَك لم تطلقي، فكأنه علق الطلاق بأنْ لا يشاء الطلاق.
ثم ممّا يجب التنبّه له -على ظهوره- أنه إن شاء الطلاق لم يقع الطلاق؛ فإن متعلق الطلاق أن لا يشاء، ولو لم يبلغه الخبر، أو بلغه، فلم يشأ نفياً ولا إثباتاً حتى فات الأمر، وقع الطلاق؛ فإنه لم يعلِّق الطلاق بأن يشاء أن لا يطلِّق، وإنما علق الطلاق بأن لا يشاء أن يطلِّق، ثم تنتفي مشيئته بإعراضه وإضرابه، وتنتفي مشيئته بعدم الطلاق بأن يشاء الطلاق، ثم إذا شاء الطلاق، لم يقع بمشيئته الطلاق، وإنما يقع الطلاق بعدم مشيئته الطلاق.
وهذا يُحوج الناظر إلى أدنى تدبّر، وهو الذي يقفه على المقصود، وإيجاز اللفظ الكافي أنجع وأوقع في مثل ذلك.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمعناه كمعنى قوله: أنت طالق إن لم يشأ زيد، والتقدير أنت طالق إلا أن يشاء زيد أن لا تُطلَّق، فلا تُطلَّق.
9171- ومما يتعلق بهذا الفنّ سؤال وجواب. فإن قيل: إذا زعمتم أن متعلق الطلاق أن لا يشاء زيد الطلاق، واعتقدتم أن عدم مشيئته متعلَّقُ الطلاق، فلو شاء الطلاق، ثم أعرضَ، أو ترك، فقد تحقق عدم المشيئة، فأوقعوا الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فلم يشأ زيد زمناً، ثم شاء، فإن الطلاق يقع إذا شاء، والثبوت بعد النفي كالنفي بعد الثبوت؟
قلنا: هذا وهم وذهولٌ عن دَرْك معاني الألفاظ، (فالنفي) المرسل محمول على العموم والاستدراك، ولذلك يقتضي النهيُ استيعابَ الأزمنة بالانكفاف، و (الأمرُ) على الرأي المحقق لا يقتضي التكرار واستيعابَ الأزمان بتجديد الامتثال حالاً على حال، والتنبيه في مثل هذا كافٍ.
9172- فإذا تبيَّن هذا، عُدنا بعده إلى ما هو مقصود الفصل: فإذا قال القائل: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالذي حكاه الصّيدلاني أن الطلاق لا يقع، وحكى قولاً آخر أن الطلاق يقع، وزعم أن الشيخ لم يحكه، ونقل من يوثق به عن القاضي أنه كان(14/216)
يختار الحكم بوقوع الطلاق، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله.
ولستُ أنكر أن الفطِن الفقيهَ النفس قد يبتدر إلى هذا الجواب، ولكن لو تثبّت، وغضّ نَزَقَات (1) القريحة، ولم يُتْبع نظرَه بوادر مُضطرب النفس، وكان بصيراً بمعنى اللفظ، لتبيّن أن الوجه القطعُ بأن الطلاق لا يقع؛ وذلك أنه قال: إلا أن يشاء الله، فمعناه إلا أن يشاء الله أن لا يقع، فلا يقع، ومشيئةُ الله في تعلقه وعدم تعلّقه بالنفي والإثبات غَيبٌ، وقد أوضحنا بالمقدمات أن النفي في هذه الصّيغة متعلق بالطلاق، وليس الطلاق منجَّزاً، فهذا طلاق معلّق بنفي هو في حقنا غيبٌ، والأصل استمرار النكاح، وعدمُ وقوع الطلاق.
ثم قال قائلون من أصحابنا: إذا مات زيد، وكان قال الزوج: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، ولم ندر أشاء أم لم يشأ، فالطلاق واقع.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فمشيئة الله غيب، ولا نحكم بوقوع الطلاق. ثم أخذ يفرق ويقول: المشيئة صفةٌ طارئة على زيدٍ، فالأصل عدمها، ومشيئة الله صفته الأزلية، فلا يقال: الأصل عدمها.
وهذا كلام أخرق لا بصيرة معه؛ فإن الطلاق ليس معلّقاً بنفس المشيئة، وإنما تعلُّقه بعدم مشيئة عدَمِ الطلاق، ومشيئة الله تتعلق ولا تتعلق، فعدم التعلق فيها متعلَّق طلاق الرجل، فما معنى قول القائل: الأصل ثبوت مشيئة الإله؟
ومن ألف كلامَنا وغشيَ أطراف مجلسنا، استهان بمثل هذا الكلام؛ فلا فرق إذاً بين أن يموت زيد ويستبهم علينا مشيئته، وبين أن يقع التعليق بمشيئةٍ أزليةٍ تعلُّقها غيب مستبهَمٌ علينا، فلا يقع الطلاق في الوجهين.
9173- وقد انتجز تمام الغرض، على تبرّم منا بالإطناب فيه، فإنه واضح، ومن أنعم النظر في مقدّماته، لم يخْفَ عليه دَرْكُ المقصود من آخره.
وإنما إشكال الفصل في أن يقول القائلُ: إذا أشكل أمر زيدٍ يقع الطلاق، وإذا قال: إلا أن يشاء الله لا يقع، وهذا أمرٌ لا ينفصل أبداً.
__________
(1) نزقات: من النزق: وهو الخفة والطيش. (المعجم والمصباح) .(14/217)
وقد يقال: عدم مشيئة زيدٍ إذاً لا تبين. قيل: لكن [مشيئة الله عز وجل] (1) كذلك ثم إذا شاء الطلاق، فقد جزم العدم، لما ذكرنا من أن العدم المحلوف عليه حقه أن يستمر.
فهذه فصول كافية في غرضنا، ونحن نرى أن نصل بمختتم هذا الفصل فروعاً تتعلق بالمشيئة.
فروع:
9174- إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقد ذكرنا أن المشيئة تتعلق بالمجلس، والمعنيُّ بالمجلس قربُ الزمان المعتبر في اتصال الخطاب بالجواب، وقد قدمنا تعليلاً في ذلك، ومِلْنا في التعليل إلى ما في المشيئة من التمليك.
ولو قال: "أنت طالق إن شاء فلان"، لم يختص ذلك بقرب زمانٍ ومجلس، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن قدم فلان".
وإذا قال لأجنبي: إن شئتَ فامرأتي طالق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا على التراخي، كما لو قال: إن دخلت الدار. والثاني - إنه على الفور؛ فإنه استدعاء نطقٍ يقع جواباً، فحقه أن يكون على الفور، وقد قال الشافعي: في الإيلاء لو قال لها: والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، كان مولياً، فشَرَطَ المشيئةَ في المجلس، وإن لم تكن قد مُلّكت الطلاق، [لم] (2) يُعلّق بمشيئتها الطلاق. وهذا يؤكد أحدَ الوجهين في الأجنبي. ويجوز أن يفرضَ في محل النص [تخريجاً] (3) أخذاً من الخلاف المذكور في الأجنبي.
ويجوز أن يفرّق بينها وبين الأجنبي، [بأن] (4) الإيلاء قد يُفضي إلى الطلاق، فهي في حكم المملَّكةِ على هذا التقدير.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "ولم" بزيادة (الواو) وهو يقلب المعنى، إذ المقصود: أنها لو لم تملك الطلاق، لم يتعلق بمشيئتها، فهو عُلِّق بمشيئتها لأنها ملكته.
(3) في الأصل: تخريجٌ. والتصويب منا على ضوء السياق، فالمعنى: يجوز أن يفرض هذا الوجه تخريجاً من الخلاف المذكور في الأجنبي. وهذا قريب من عبارة ابن أبي عصرون.
(4) في الأصل: فإن.(14/218)
وإذا قال الزوج: امرأتي طالق إن شاءت، قال القاضي: هذا مما أتوقف فيه؛ فإنها لو شاءت، لوقع الطلاق، وملكت نفسها، فهي مخيّرة مُملّكة على هذا الرأي.
وينتظم ممّا ذكرناه أنه إذا خاطب امرأته بالمشيئة بحرف (إن) ، فهذا على الفور، لاجتماع معنى التمليك والاستنطاق بالجواب، ولو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فهذا لا يُحمل على الفور، لانتفاء معنى التمليك واستدعاء الجواب.
ولو قال لزيد: زينب طالق إن شئتَ، فوجهان لوُجُود استدعاء الجواب وانتفاء التمليك.
وإذا قال: امرأتي طالق إن شاءت، فهذا فيه معنى التمليك، وليس فيه استدعاء الجواب.
وفي هذا الفصل الأخير مستدرك عندي، فإذا قال: وامرأته حاضرة: امرأتي طالق إن شاءت، فيجوز أن يُتخيل في هذا تردد. وإن كانت غائبةً، فقال ما وصفناه، فيبعد اعتبار اتصال [الجواب] (1) ؛ فإن الحالة ناطقة بصريح التعليق والبعدِ عن قصد التمليك، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلتِ الدار، فقد ملكها التسبب إلى الطلاق، ثم لم يكن لهذا أثر في حمل الدخول على الفور، ويجوز أن نقول: إذا بلغها الخبر، فيحتمل أن يطلب منها الابتدار إلى المشيئة، وليس هذا بعيداً عن غرض المتكلم.
9175- وإذا قال: أنت طالق إن شئت أنت وأبوك، فمشيئتها تختص بالمجلس، وإن شاءت هي في المجلس، وأخّر الأبُ، ثم شاء، قال القاضي: لم يقع الطلاق، لأنه قرن بين مشيئة الأب ومشيئتها على الفور، فلزم من المشيئة المقترنة بمشيئتها ما يلزم من مشيئتها. وهذا حكاه رضي الله عنه، وراجعه أصحابه فيه، فأصر عليه.
والتحقيق أن مشيئة الأب قرينةُ مشيئةٍ يشترط فيها التعجيل والاتصال، فتكتسب مشيئةُ الأب من الاقتران التعجيلَ؛ فإن حقها أن تكون مقترنة بمشيئة الزوجة، وإذا
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ثم هي في عبارة ابن أبي عصرون.(14/219)
تعجّلت مشيئة الزوجة، واقترنت بها مشيئة الأب، كانت على التعجيل.
ويحتمل احتمالاً ظاهراً أن تكون مشيئتها على البدار والاتصال، ولا يجب رعاية ذلك في مشيئة الأب، وتقرّ كلّ مشيئةٍ على حكمها لو كانت مفردةً، وهو كما لو قال: أنت طالق إن شئت ودخلتِ الدار، فالمشيئة حقها أن تتنجّز، ودخول الدار لو استأخر، ثم وقع، وقع الطلاق.
9176- ولو قال: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: شئتُ إن شئتَ، فقال الزوج: شئتُ، لم يقع شيء؛ لأن المشيئة حقها أن تكون مبتُوتةً مجزومة؛ فإذا قالت: شئتُ إن شئتَ، فقد أخرجت ما قالت عن كونه خبراً عن المشيئة الحقيقية. وهذا واضح (1) .
9177- ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فشاء واحدةً، فالمذهب المشهور أنه لا يقع شيء؛ لأن معنى الكلام وتقديره الظاهر: "أنتِ طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فلا يقع شيء"، فعلّق عدم وقوع الثلاث بمشيئته واحدةً، وقد شاء واحدةً.
وهو كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يدخل أبوك الدار، فإذا دخل الدار، لم يقع شيء، فمشيئته واحدة بمثابة دخوله الدار في الصورة التي ذكرناها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنهُ يقع واحدةً، والتقدير عنده: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدة، فواحدة، فكأنه يقول: الثلاث يقعن إلا أن يكتفي الأب بواحدةٍ، فلا يقع إلا واحدة، وهذا التردد فيه إذا أطلق اللفظ، ولم يُرد شيئاً؛ فإن أراد وقوع واحدة على التأويل الذي ذكرناه في توجيه الوجه الضعيف، فلا شك أن الواحدة تقع؛ فإن التأويل وإن بعد، فهو مقبول، إذا كان مقتضاه وقوع الطلقة.
ومن قال: إنه يقع واحدة إذا أطلق لفظه، وهو الوجه البعيد، فلو قال اللافظ:
__________
(1) علق ابن أبي عصرون على هذا قائلاً: "قلت: بل لم تأت بالمشيئة في الحال، وإنما علقت وجود مشيئتها على وجود مشيئته" (ر. صفوة المذهب: جزء5 ورقة 16 شمال) فهو يرى عدم الوقوع موافقاً للإمام، ولكن يخالف في التعليل.(14/220)
أردت تعليق انتفاء الثلاث بمشيئته واحدة، فهل يقبل ذلك منه حتى لا يقع شيء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يصدّق، ولا يقع شيء.
9178- ولو قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت بلسانها: شئتُ، وكانت كارهةً بقلبها، فلا شك أنا نحكم بوقوع الطلاق ظاهراً، وهل يقع في الباطن؟ قال القفال: جرت هذه المسألة بيني وبين أبي يعقوب الأَبيْوَرْدي، فذهبَ إلى أنه لا يقع الطلاق باطناًً، كما لو قال: أنت طالق إن حضتِ، فقالَت حِضتُ كاذبةً، فهي مصدّقة ظاهراً، ولا يقع الطلاق باطناً.
قال القفال: قلتُ: يقع الطلاق باطناًً، وكأنه معلّق بوجود لفظ المشيئة وقد وجد، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء فلان، فقال: شئت، حُكم بوقوع الطلاق وصُدّق، ولو كان معتبر الطلاق مشيئةَ القلب، لكان ذلك بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن دخل فلان الدار"، فقال فلان: دخلتُ، لم يصدق، فدلَّ [على] (1) أن الطلاق معلق بالنطق بالمشيئة (2) ، وقد جرى قطعاً.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في هذا الكلام والاستدلال حذف لمعلومٍ أدى إلى ما يشبه التناقض. وبيان ذلك أنه يستدل على أن وقوع الطلاق غير معلّق بمشيئة القلب، فذكر دليلاً على ذلك عدم تصديق فلان إذا قال: "دخلتُ الدار" وهذا عكس المطلوب، فلو كان التعليق بالظاهر، لصدق ووقع الطلاق، ولكن في الكلام حذفٌ للعلم به، والتقدير: وإذا كان من المعلوم المسلم أنه إذا قال لامرأته: "أنت طالق إن دخل فلان الدار" فقال فلان: دخلت، وقع الطلاق، فدلّ ذلك على أن الطلاق معلق بوجود اللفظ الدال على المشيئة والدخول، لا على حقيقة ذلك، ولو كان معلقاً على حقيقة المشيئة، لم يُصدّق فلانٌ المعلّقُ بدخوله إذا قال: دخلتُ. ويشهد لمحاولتنا هذه تلخيص الإمام ابن أبي عصرون لكلام إمام الحرمين؛ إذ قال ما نصه:
"ولو قال: أنت طالق إن شئت، فقالت بلسانها: شئت -وهي كارهة- وقع الطلاق ظاهراً، وهل يقع باطناً؟ حكى القفال عن أبي يعقوب الأبيوردي أنه لا يقع، كما لو قال: أنت طالق إن حضت، فقالت: حضت -كاذبةً-، لم يقع في الباطن شيء.
وقال القفال: يقع باطناً؛ لأنه معلق بلفظ المشيئة؛ ولهذا لو قال: أنت طالق إن شاء فلان، فقال: شئت، صُدِّق ووقع الطلاق. ولو تعلق بمشيئة القلب، لكان بمثابة قوله: إن دخل فلان الدار، فأنت طالق، فقال: دخلت، وقع الطلاق" ا. هـ (صفوة المذهب/جزء 5 ورقة: 17 يمين) .(14/221)
قال القاضي: لعل ما ذكره الأبيوردي أصح، وما استدلّ به الشيخ (1) فيه نظر؛ من جهة أن تعليق الطلاق على مشيئتها فيه معنى التمليك، وهو يعتمد الإرادة ومحلها القلب، وليس في تعليق الطلاق على مشيئة زيدٍ معنى التمليك، [بل هو] (2) فيه لفظ مجرد منه ظاهراً وباطناًً.
وهذا كلام لا يشفي الغليل؛ فإن لفظ المشيئة مشعر بإرادة القلب في الموضعين، ولا وقع لملكها نفسها لو طلقت في هذا المقام، فالوجه في الجواب أن مشيئة زيدٍ وإن تعلقت بإرادة قلبه، فلا مطلع على إرادته إلا من جهته، وما كان كذلك، فلا طريق فيه إلا التصديق، وليس كما [لو] (3) قال: أنت طالق إن دخل فلان الدار؛ فإن الدخول يمكن أن يعرف لا من جهة الداخل.
ولو قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فقالت: دخلت، لم تصدق. ولو قال: أنت طالق إن حضت، فقالت: حضتُ، صُدّقت؛ لأن الحيض لا يعرَف إلا من جهتها، كما ستأتي المسائل المعلّقة على الحيض.
ومساق كلام القاضي دليل على احتكامه على أبي يعقوب؛ فإن الطلاق إذا كان معلقاً على مشيئة زيدٍ، فقال: شئت، ولم يرد بقلبه - أن (4) الطلاق يقع باطناً تعويلاً على اللفظ، وإنما لا يقع باطناًً إذا كان معلقاً بمشيئة المرأة ولم تُرد بقلبها، وهذا تحكُّم محال.
وأبو يعقوب أفقه من أن يسلّم الفرق بين المسألتين، ولكن المسألة تدور على [نكتة] (5) ، وهي أن المرأة لو أرادت الطلاق بقلبها ولم تنطق بالمشيئة، فإن كان
__________
(1) الشيخ: المراد به هنا القفال.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة من المحقق.
(4) المعنى أن الطلاق يقع ظاهراً وباطناًً إذا كان معلقاً بمشيئة زيد ولم يشأ بقلبه، بل بلفظه فقط، وإذا كان معلقاً بمشيئة المرأة، فلا يقع باطناًً إلا إذا شاءت بقلبها؛ لأن في التعليق بمشيئتها معنى التمليك، بخلاف الأجنبي. هكذا وبهذا التفريق رجح القاضي كلامَ الأبيوردي.
(5) في الأصل: ثلاثة، ورسمت هكذا (ثلثه) . ويعلم الله كم أضنانا هذا التصحيف، حتى بلغ بنا الضيق والضجر مبلغاً سدّ منافذ الفكر والطاقة نحو يومين، ونحن نراوح في مكاننا صباح =(14/222)
أبو يعقوب يزعم أن الطلاق يقع باطناً لتحقق إرادة القلب، ولكن لا يقع الحكم به لعدم الاطلاع، [فيستدُّ] (1) كلامُه، وإن سلّم أن الطلاق لا يقع باطناًً، فيضعف ما ذكره، ونتبين أن متعلق الطلاق اللفظُ المجرد.
والذي أراه أن استدلال القفال حَرَّفه النقلة، والخلل يتسرع إلى النقل، سيّما في العلوم المعنوية، وعندي أن القفال ألزمَ الأبيوردي وقوع الطلاق بإرادة القلب، فقال أبو يعقوب: يقع، فقال القفال: يجب أن يصدّق إذا أخبر عن إرادة قلبه، هذا يجب أن يكون مجال الكلام، ولأبي يعقوب أن يرتكب (2) مسألة الأجنبي، ويقول: يصدّق.
9179- فأما إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فأرادت بقلبها، ولم تنطق، فيجب القطع بأن الطلاق لا يقع باطناًً وظاهراً؛ فإنَّ شرطَ جوابها أن يكون على صيغة الأجوبة واتصالها بالخطاب، والكلام الجاري في النفس لا يكون جواباً، فكأن الزوج علق الطلاق بإرادة وجوابٍ، فإذا لم يتحقق الجواب، لم يقع الطلاق ظاهراً وباطناًً.
ولو قال لامرأته: أنت طالق متى شئت، فهي كالأجنبي، فإن الجواب غير ملتمسٍ منها.
9180- وانتظم من مجموع ما ذكرناه أن التعليق إن كان على مشيئةٍ تقع جواباً، فالطلاق لا يقع بمجرّد إرادة القلب ظاهراً وباطناًً. وإن شاءت على الاتصال، وهي كارهة بقلبها، وظهر اللفظ منها، فهذا موضع تردّد الإمامين (3) . وإن كان الطلاق معلقاً بالمشيئة من غير اشتراط صيغة الجواب، فإن وُجد لفظ المشيئة مع كراهية
__________
= مساء، حتى علم الله صدق عزيمتنا فألهمنا قراءتها، فله وحده الحمد والمنة، وإليه ألجأ لائذاً بحوله وقوته بارئاً من حولي وقوتي (انظر صورة الكلمة) .
(1) في الأصل: "فيستمرّ" والمثبت تقدير منا على ضوء معرفتنا بألفاظ الإمام. والله أعلم.
(2) سبق أن أشرنا إلى معنى (الارتكاب) الذي يعنيه إمام الحرمين في مثل هذا السياق. وهو واضح هنا من هذا السياق. فكل من يُلجئه مُناظره ويُلزمه ما لا يصح، فإذا لم يجد جواباً، والتزم ما لا يُسلّم ولا يصح، فهو (مرتكب) .
(3) الإمامين: القفال والأبيوردي.(14/223)
القلب، فالطلاق يحكم به ظاهراً وفي الباطن التردد الذي ذكرناه، وإن وجدت الإرادة باطناًً، ولم يوجد لفظ المشيئة، فمن لا يعتبر الباطن، يقول: لا يقع الطلاق باطناًً لعدم اللفظ، والأبيوردي قد يقول: يقع الطلاق بإرادة القلب باطناًً، إذا لم يجر في التعليق استدعاء جواب.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
فرع:
9181- ولو قال لزوجته الصبية: أنت طالق إن شئت، فقد قدّمنا ترددَ الأئمة في ذلك، وميلُ الأكثرين إلى أن الطلاق لا يقع، وهذا قد يؤكّد مذهب الأبيوردي، فإنه لو كان التعويل على مجرد اللفظ، فلفظها منتظم كائن، وذهب ذاهبون إلى أن الطلاق يقع، كما لو قال للصبية: أنت طالق إن تكلمتِ أو قلت: شئتُ، فقالت: شئت.
ولو قال لمجنونةٍ: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، لم يقع الطلاق وفاقاً، والسبب فيه أنا وإن كنا نعتمد اللفظَ، فالشرط صدَر (1) اللفظ ممّن يتصوّر أن يكون لفظه إعراباً عن مشيئة قلبه، ولا يثبت للمجنونة قصدٌ على الصحة، وليس هذا كما لو قال: إن تكلمتِ.
وإن قال: إن شئتِ، فقالت في سكرها: شئتُ، فهذا يخرّج على أن السّكران كالمجنون أو كالصاحي.
وكان شيخي يقطع بأنه لو قال للصبيّة: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت لا يقع شيء؛ فإنه لا عبارة لها في معاملات الأموال، وليس كما لو قال: إن شئت، فقالت: شئتُ، ففيه الخلاف المقدم.
وقال القاضي: قبول الصبيّة يجوز أن يكون بمثابة قبول المحجورة السّفيهة، حتى يقع الطلاق رجعياً، ولا يثبت المال. وهذا بعيد جداً.
ولو قال: طلّقي نفسك إن شئت، والتفريع على أن هذا تمليك يستدعي جوابها
__________
(1) صَدَرُ: أي صدور. وهذا الاستعمال لهذا المصدر هو الغالب، بل الدائم في لغة إمام الحرمين.(14/224)
على الفور، فللزوج الرجوع قبل أن تجيب. ولو قال لها: أنت طالق إن شئت، وأراد الرجوع قبل أن تقول: "شئت"، فلا يقبل رجوعه، فإن هذا في ظاهره تعليق، والتعليق لا يقبل الرجوع. كما لو قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، ثم قال: رجعتُ عما قلت، فلا أثر لرجُوعه. وإذا اتصل الإعطاء، وقع الطلاق.
فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت، والتفريع [على أن هذا تفويض، فلا يستدعي جوابَها على الفور] (1) ، فلو ابتدرت وقالت: طلقت نفسي [و] (2) شئت، فلا إشكال، ولو قالت: طلقت نفسي، فقال الزوج: رجعتُ -قبل أن تقول: شئت- فلا أثر لرجوعه؛ فإنه لم يبق إلا التعليق بالمشيئة، وقد ذكرنا أن التعليق لا يقع فيه الرجوع، ولو أراد الزوج أن يرجع قبل أن تقول: طلقت نفسي، نفذ رجوعه؛ فإن تفويض الطلاق يقبل الرجوع قبل أن [تجيب] (3) ؛ فقد اشتمل كلامه على ما يؤثر الرجوع فيه وعلى ما لا يؤثر الرجوع فيه. فانتظم الأمر في قبول رجوعه مرةً وردِّه
أخرى، كما وصفنا.
9182- ومما ذكره الأئمة في المشيئة أنه لو قال لامرأته: يا طالق إن شاء الله.
قالوا: يقع الطلاق، ويلغو الاستثناء؛ فإن الاستثناء إنما يعمل في الأخبار وصيغ الأفعال، فأما الأسامي، فلا عمل للاستثناء فيها.
وهذا فيه نظر؛ فإن الطالق وإن كان اسماً، فمعناه يعني طلقتك، ولو أراد أن يصرف اللفظ عن اقتضاء الإيقاع، لم يقبل منه أصلاً. وإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء والثلاث تقع تفسيراً لمصدرٍ يُضمِّنه الطلاق، وهو متعلق الاستثناء، فالوجه عندنا صحة الاستثناء، وانتفاء الطلاق. وقد وجدت هذا في مرامز المحققين.
ولو قال: يا طالق أنت طالق ثلاثاًً إن شاء الله، انصرف الاستثناء إلى الثلاث، ووقعت طلقة بقوله: يا طالق، وهذا بيّن.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، واستقامة الكلام.
(2) (الواو) زيادة من (صفوة المذهب: جزء 5 ورقة 18 يمين) .
(3) في الأصل: تجيز. والمثبت تقديرٌ منا.(14/225)
9183- ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله. قال الأصحاب: لا يقع عليها شيء؛ لأن قوله: يا طالق لا يعمل الاستثناء فيه، فانصرف إلى ما يقبل الاستثناء، وهو قوله: أنت طالق ثلاثاًً، وامتنع وقوعها، ولم نُوقع طلقة [بقوله] (1) يا طالق بعد إيقاع الثلاث؛ لأنه وصفها بالطلاق [لإضافة الطلاق] (2) الثلاث الذي أوقعها [إليها] (3) وقد لغت الثلاث؛ فلغا الوصف الصادر عنها، ولم ينقطع حكم الاستثناء بما تخلل بينه وبين المستثنى عنه من قوله يا طالق، لأنه على وفق المستثنى عنه من جنسه، فالاستثناء إنما ينقطع إذا تخلل بينه وبين المستثنى عنه ما ليس من جنس النظم الذي يتسق فيه الاستثناء، فلو قال: طلقتك يا فاطمة إن شاء الله، أو أنت طالق [ثلاثاًً] (4) ياحفصة إن شاء الله، فالاستثناء يعمل، ولايضرّ تخلل التسمية بين الاستثناء وبين المستثنى عنه.
وهذا فيه وجهان من النظر: أحدهما - ما قدمناه من صرف الاستثناء إلى الطالق، فلا امتناع فيه، فيتّجه إذاً ربط الاستثناء بالطالق وقطعه عن الثلاث، وإذا انقطع الاستثناء عن الثلاث وقعنَ، فيبقى الطالق القابل للاستثناء في وضعه، والاستثناء مختص به، ولكن لا يعمل في هذه المسألة بعد أن طلقت ثلاثاً.
ولا يمتنع أن يقال: يلغو الاستثناء، لتخلل "الطالق"؛ فإنه في حكم اللّغو الذي لا حاجة إليه، وليس كالتسمية؛ فإنها تجري على سَداد الكلام وحسن النظم، والطالق في قوله: "أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله" فضلةٌ [مستغنى عنها] (5) ، فيُقْطع الاستثناء ويقع الثلاث على هذا التأويل.
ويتجه وجهٌ آخر - وهو صرف الاستثناء إلى الثلاث وإبطال الثلاث، فيبقى قوله: "يا طالق"، فتطلق طلقة بذلك، ولا حاصل لقول من قال: هذه الصفة صادرة عن
__________
(1) في الأصل: لقوله.
(2) زيادة اقتضاها السياق، وهي في صفوة المذهب (السابق نفسه) .
(3) زيادة من المحقق.
(4) زيادة من صفوة المذهب (السابق نفسه) .
(5) في الأصل: فضلة مستغثة.(14/226)
الثلاث، بل هي مقالة مستقلة بنفسها، فيرتبط بها حكمها.
9184- ما سبق ثلاثة أوجه: أحدها - إنه لا يقع شيء وهو الذي حكاه القاضي.
والثاني - إن الثلاث تقع، وله معنيان.
والثالث - إنه يقع طلقة واحدة، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله يا طالق؛ فإنه لو قال هذا، بطلت الثلاث بالاستثناء، ويقع طلقة بقوله آخراً: "يا طالق".
9185- ولو قال: أنت طالق يا زانيةُ إن دخلت الدار، فالطلاق معلق بالدخول، ولا يضرّ تخلل ما جرى.
9186- ومما نذكره في خاتمة الفصل ونجمع فيه تراجم، أنه لو قال لامرأته: أنت طالق إن لم يشأ الله، فقد نص الشافعي على أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علقه بمحال؛ فإذا كان المحال لا يقع، كما لو قال: أنت طالق إن صعدت السّماء، فإذا استحال صعودها، انتفى الطلاق، وكذلك إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فعدم تعلق المشيئة بالطلاق مع وقوع الطلاق محال.
قال صاحب التلخيص: لو قلت: "يقع الطلاق"، لم أكن مُبعداً؛ فإنه خاطبها بالطلاق وقال بعده محالاً غيرَ ممكن في العقد، وما لا إمكان له لا تعليق به، وليس كالتعليق بصعود السماء؛ فإن الرب قادر على إقدار العبد عليه، وقد قدمنا خلافاً بين الأصحاب فيه إذا قال: "أنت طالق إن صعدت السماء" ورتبنا عليه جملاً تُوضِّح الغرض، وسنعود إليها في الفروع، إن شاء الله.
فانتظم فيه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق.
وحكى صاحب التقريب والشيخ أبو علي قولاً غريباً أن الطلاق يقع، ونقلا للشافعي نصاً أنه لو قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، فهو مظاهر، وطرد المحققون هذا القولَ في الطلاق، والعقودِ جُمَع والحلول، وكلَّ لفظ حقه أن ينجزم، ورام بعض الأصحاب أن يفرق بين الظهار وغيرِه، ولست أرى لذكر ما لا أفهمه وجهاً.
وقال بعض المحققين: الاستثناء بعد الإقرار باطل، فإذا قال الرجل: لفلان علي عشرة إن شاء الله، فالعشرة ثابتة، والاستثناء باطل؛ فإنه أخبر ثم رام بآخر كلامه أن(14/227)
ينفي، فأما ما هو إنشاء، فشرطه أن يصح اللفظ فيه، فإذا قال: إن شاء الله، لم يأت بلفظ صحيح، فلا يصلح اللفظ المضطرب للإثبات.
وكل ذلك خبطٌ والصّحيح أن التعليق بالمشيئة [يفنِّد] (1) جميعَ ما تقدم من إقرار وإنشاء، وحَل وعَقْد، وطلاق وظهار.
ولو قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، فالنص أنه لا يقع، وخَرَّج صاحب التلخيص الوقوع.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالصحيح أن الطلاق لا يقع، وقد أطنبنا
فيه.
وفي المسألة قولٌ آخر: إنه يقع، زعم القاضي أنه القياس، وهو غفلة منه، والصحيح أنه لا يقع. قال الصّيدلاني: كان القفال لا يذكر غيره.
9187- ومما نذكره متصلاً بالفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، ثم كما (2) تم اللفظ بدا له أن يقول: "إن شاء الله تعالى"، فقاله على الاتصال، ولكنه لم ينشىء اللفظ على قصد أن يعقبه بالاستثناء، قال أبو بكر الفارسي: لا خلاف أن الطلاق يقع؛ فإن الاستثناء أنشاه بعد وقوع الطلاق، وهذا المعنى ظاهر، لا مناكرة فيه، ولكنه جمعَ مسائلَ عويصةً، وادّعى الإجماع فيها، فلم تسلم له دعوى واحدةٍ منها، وخالفه الأصحاب في جميعها، فكذا (3) حتى ذكروا خلافاً في هذه المسألة، وكان شيخي يَعْزيه إلى الأستاذ أبي إسحاق، ورأيته لغيره.
ولست أرى له وجهاً؛ فإن الطلاق يقع مع تمام اللفظ، فإنشاء الاستثناء بعده تداركُ طلاقٍ واقعٍ. وأبو بكر ما نقل الإجماع في المسائل، ولكن ذكرَ مسائلَ غريبةً تستند إلى معانٍ ظاهرة لا مُدرك فيها إلا المعنى، ولا ينقدح فيها إلا وجهٌ واحد، وهذه المسألة من أظهرها.
__________
(1) في الأصل: يفيد. وفي صفوة المذهب: "يبطل". والمثبت اختيارٌ منا لأقرب الصور إلى الموجود في الأصل.
(2) كما: أي عندما.
(3) كذا بهذا الرسم (فكذا) . (انظر صورتها) .(14/228)
ثم ما ذكره يجري في التعاليق، فلو قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن دخلت الدار، فقاله، فالطلاق يتنجز على ما ذكر، والتعليق بعده طائحٌ (1) .
ومن خالف في مسألة الاستثناء يخالف في هذه. قال شيخي عن القفال: إذا قال: أنت طالق واحدة ثلاثاً إن شاء الله، فلا يقع شيء، وينصرف الاستثناء إلى جميع الكلام، والواحدة التي قدّمها معادة في الثلاث، فانصرف الاستثناء إلى [جميع] (2) الكلام.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء.
ولو قال: أنت طالق واحدةً وثلاثاً -بالواو العاطفة- إن شاء الله، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الاستثناء يرجع إلى الجميع؛ فإنه وإن عطف، فلا مزيد على الثلاث، وإذا تعلقت الثلاث بالمشيئة، لم يقع شيء.
والوجه الثاني - أن الطلقة الأولى تقع، والواو فاصلة.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً وثلاثاًً إن شاء الله، فوجهان: أحدهما - لا يقع شيء.
والثاني- يقع الثلاث، والواو فاصلة مانعة من انعطاف الاستثناء.
ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، فهذا مخرَّج على أنا هل نجمع ما يفرقه من الصيغ؟ فإن لم نجمع، وقعت الطلقة الأولى، وإن جمعنا، لم يقع شيء.
***
__________
(1) في هامش الأصل: "حاشية: أي ساقط" وعبارة (صفوة المذهب: 5/ورقة 19 يمين) : "فالطلاق يقع، ويلغو التعليق".
(2) في الأصل: يوم الكلام.(14/229)
باب طلاق المريض
قال الشافعي: "وطلاق المريض والصحيح سواء ... إلى آخره" (1) .
9188- طلاق المريض واقع كطلاق الصحيح، لا مراء فيه، ومقصود الباب الكلام في انقطاع الميراث، وتحصيلُ المذاهب في ذلك، فنقول: إذا طلق في الصحة، وأبان، انقطع الميراث، من الجانبين سواء اتفق موت الزوج، وهي في العدة بعدُ، أو مات بعد انقضاء العدة، وسواء كان الطلاق بسؤالها أو لم يكن بسؤالها.
وإن كان الطلاق رجعيّاً، فالرّجعية زوجة في الميراث: إن مات الزوج وهي في عدة الرجعية، ورثته، وإن ماتت في العدة ورثها.
9189- فأما الطلاق في مرض الموت، فإن كان رجعياً، فالتوارث قائم ما دامت في العدة، حتى لو ماتت قبل انقضاء العدة، ورثها الزوج ولو مات، ورثته.
ولو أبانها، نُظر: فإن أبانها بسؤالها أو اختلاعها، انقطع الميراث، ولم يكن الزوج فارّاً؛ لأنه غير مُتّهم؛ إذ هي الراغبة في البينونة.
وذكر العراقيون: أن من أصحابنا من أجرى القولين اللذين سنذكرهما في انقطاع الميراث، ونسبوهُ إلى ابن أبي هريرة، وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فهو معتضد بقصة عبد الرحمن بن عوف وزوجتِه تماضر (2) ، فإنها [سألت] (3) الطلاق، فطلقها
__________
(1) ر. مختصر المزني: 4/83.
(2) قصة عبد الرحمن بن عوف رواها الشافعي من حديث عبد الله بن الزبير، وقال: هذا حديث متصل (الأم: 5/138) ، ورواها عبد الرزاق في مصنفه (7/62 ح 12192) ، والبيهقي في الكبرى (7/329، 330) ، ورواها مالك في الموطأ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (2/571 ح 40) . أما الرواية التي فيها أن الطلاق كان بسؤال زوجة عبد الرحمن، فقد رواها مالك في الموطأ عن ربيعة (2/572 ح 42) .
(3) في الأصل: "سات" هكذا ولعلها صحفت إلى (شاءت) .(14/230)
ثلاثاًً، وورّثها عثمان. وهذا غير مُعتدٍّ به، وقد ذكرنا في الطلاق البدعي اتفاقاً في أن الخلع ليس بدعياً، وفي الطلاق بالسؤال [قولين، و] (1) لست أدري هل نجريهما [هاهنا] (2) في الاختلاع؟ ولا ينبغي أن نعتني بالتفريع على الضعيف.
9190- وإن لم تسأل الطلاق، فطلقها ثلاثاً، أو طلقها الطلقةَ الثالثة الباقية، أو سألت طلقةً أو طلقتين رجعيتين، فطلقها ثلاثاًً، فلا أثر للسؤال في هذا المقام، [فالمسائل] (3) يُخرّجُ في جميعها قولان: أظهرهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الميراث ينقطع، والعبارة المشهورة عن هذا القول: "أنا لا نجعله فارّاً، بل نقضي بانقطاع الميراث؛ لأن علة الوراثة عصمة الزوجية، وقد انقطعت".
والقول الثاني - أن الميراث لا ينقطع، نص عليه في القديم، واعتمد حديثَ عبد الرحمن -كما ذكرناه- في المسائل، وهو في القديم كان يقدم الأثر على القياس، والعبارة عن القول القديم: "أنا نجعله فارّاً ونتّهمه بقصد قطع الميراث، ونعاقبه بضدّ مقصوده، كما نحرم القاتلَ الميراثَ؛ من جهة أنا نتّهمه باستعجال الميراث".
ثم إذا فرّعنا على القديم، فعبارتنا عنه أنه فارّ، وإن جرت مسألة فيها خلاف وردَّدنا هذه العبارة بين النفي والإثبات، فليعرف الناظر هذا في صدر الباب، ثم ينتظم في التفريع على هذا القول اتباع التهمة، والتفريعات مطردة على هذا المعنى.
وإن لم يكن له ثبات في سبر النظر وإقامة الجدال، ورُبَّ معنىً نستعمله رابطةً للتفريعات، فيجري، ولا نرى التمسك به في الخلاف.
9191- فإن ورثنا المبتوتة، فإلى متى نورثها؟ فعلى أقوال: أحدها - أنا نورثها إلى أن تنقضي العدة؛ فإن مات الزوج قبل انقضاء العدة، ورثته، وإن مات بعد انقضاء العدة، لم ترث؛ فإنّ العدة تابع من توابع النكاح، وعُلْقَة من بقايا أحكامه، وهذا مذهب أبي حنيفة (4) .
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) زيادة رعاية للسياق.
(3) في الأصل: "والمسائل" والمثبت تقدير من المحقق.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف العلماء: 2/432 مسألة 942، طريقة الخلاف: 123 مسألة 51، إيثار الإنصاف: 179.(14/231)
والفول الثاني - أنا نورثها إلى أن تنكح، وهذا مذهب ابن أبي ليلى (1) ، ووجهه أن اعتبار العدة باطل؛ فإنها بائنة في العدة وبعد انقضائها؛ فلا معنى للنظر إلى العدة، ولو طلقها في الصحة، ثم مرض ومات وهي في العدة، لم ترثه، فإذا بطل اعتبار العدة، فالنظرُ إلى النكاح؛ فإنها لو نكحت، صارت محل أن ترث زوجها الثاني، فبعُد أن تورّث من زوجين، ولا يمتنع أن نجعل تزوجها إسقاطاً منها لحقها، والأولى التعلّقُ باستبعاد توريثها من زوجين.
والقول الثالث - أنا لا نُسقط ميراث المبتوتة بشيء إلا بأن تموت قبل زوجها، فلو نكحت أزواجاً، فميراثها قائم؛ فإن حق الإرثِ إذا ثبت لم يسقط، وإذا أدمنا توريثها بعد الزوجية، لم نُبق لمستبعدٍ متعلَّقاً، وهذا مذهب مالك (2) .
9192- وممّا نفرّعه أن المريض لو طلق زوجته التي لم يدخل بها، فإن قلنا في المدخول بها: إذا انقضت عدتها لم ترث، فغير المدخول بها لا ترث؛ إذ لا عدة عليها، وإن لم نعتبر العدة في المدخول بها، ورّثنا هذه، ثم إلى متى ترث؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها ترث إلى أن تتزوج.
والثاني - أنه لا ينقطع حقها من الميراث ما لم تمت قبل المطلِّق.
9193- ومن الأصول المفرّعة على القول القديم أنه لو كان تحته أربع نسوة، فطلقهن في مرض الموت، وتزوج بأربعٍ سواهن، ثم مات، ففي المسألة ثلاثة أوجهٍ: أحدها - أن حق الإرث للمطلقات، ولا ميراث للواتي نكحهن في المرض؛ فإنه نكحهن ونصيبُ الزوجات مستحَق من الميراث، فلا حظ لهن؛ إذ لا سبيل إلى حرمان الأوائل، ويبعد توريث أكثر من أربع.
والوجه الثاني - أن الميراث بين البائنات وبين المنكوحات؛ فإن البائنات لم ينقطع
__________
(1) ر. بداية المجتهد لابن رشد: 2/89، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 2/1243 مسألة 866، اختلاف الفقهاء للمروزي: 241 مسألة 98.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/750، 751 مسألة 1363-1365، عيون المجالس 3/1240 مسألة 865.(14/232)
استحقاقهن، وإذا ورثناهن، استحال أن نحرم المنكوحات، وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن نورث عدداً كثيراً من النسوة بفرض نكاحهن وطلاقهن.
والوجه الثالث - أن الميراث للمنكوحات، ويسقط بهن حق المطلقات، فإنا ورثناهن لتعلقهن بآثار [النكاح] (1) والمنكوحات الجديدات مستمسكات بعين النكاح؛ فكنَّ أولى من صواحبات العلائق والآثار.
وهذه الأوجه إنما تنشأ لزيادة [العدد] (2) على مبلغ الحصر، فلو طلق امرأة ونكح أخرى، فلا وجه إلا الاشتراك إذا كنا نفرّع على الوجه الأول، أو على الوجه الثاني، أمّا الوجه الثاني، فمقتضاه الاشتراك، وأما الوجه الأول، فمقتضاه تخصيص المطلقات في الصّورة الأولى، وهذا لا ينقدح في هذه الصورة؛ فإنا نقدّر كأنّ التي طلقت لم تطلق، ولو لم يطلق الأولى ونكح عليها أخرى، لاشتركتا، وهذا على وضوحه يجب ألا يُغْفَلَ عنه؛ إذ قد يظن [ظانٌّ] (3) أن الواحدة تستغرق الربع أو الثمن كالأربع، ويحسَبُ أن الخلاف يجري في مطلقة ومنكوحة، وليس الأمر كذلك؛ [فما] (4) ذكرناه من إدخال منكوحة على منكوحة، وهذا لا يتحقق مع الزيادة على الحصر.
فأما إذا فرعنا على الوجه الثالث، وهو أن الميراث للمنكوحات الأربع المتأخرات، فإذا طلق واحدة ونكح أخرى، فكيف الوجه وقد وجهنا الوجه الثالث باستمساك المتأخرات بحقيقة النكاح؟ نقول: لا ينقدح إلا التشريك؛ فإن التشريك بين اثنتين ممكن، وهذا كما لو نكح امرأتين، فأبان إحداهما في المرض -والتفريع على القديم- فالميراث بين الباقية في حالة النكاح وبين البائنة، فاستبان أن الأوجُه في فرض الزيادة على العدد المحصور.
9194- صورة أخرى: إذا طلق أربعاً وأبانهنّ، ونكح واحدةً، فإن رأينا تخصيص
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في صفوة المذهب.
(2) في الأصل: "العبد" وهو تصحيف واضح.
(3) في الأصل: طلق.
(4) في الأصل: (ما) والمثبت تصرف منا رعاية للسياق.(14/233)
المطلقات، حرمنا الجديدة، وإن رأينا الإشراك أشركنا، وإن رأينا في الصورة الأولى تقديم المنكوحات، [فلا] (1) وجه إلا صرف جميع ميراث الزوجات إلى الواحدة الجديدة، فإن الذي نحاذره الزيادة على العدد، وإذا عسر، خصصنا الميراث بأحد [الحِزْبَيْن] (2) والمنكوحة أولى.
ولو طلق واحدةً، ونكح أربعاً، فإن أشركنا، فلا كلام، وإن خصصنا المنكوحات، حرمنا المطلقة، وإن خصّصنا [المطلقات] (3) ، انفردت الواحدة [البائنة] (4) بجميع الميراث، وسقطت الزوجات.
9195- ولو علّق طلاقها في المرض نُظِر: فإن علَّقهُ بفعل نفسه، ثم أوجد ذلك،
فهو فارٌّ.
وإن علّق بفعلها، ولها منه بدٌّ، ففعلت وبانت، فليس بفارٍّ، كما لو سألت (5) .
وإذا ذكرنا قولاً بعيداً، لم نعُد إليه.
وإن لم يكن لها منه بدٌّ وكانت مدفوعةً إلى ذلك الفعل محمولةً عليه طبعاً أو شرعاً: كالنوم، والطهارة، وتأدية الفرائض، فالرجل فارّ.
وإن علّق الطلاق في المرض بفعل أجنبيّ أو بمجيء وقتٍ، أو جريان شيء من الحَدَثان (6) ، فتحقَّقَ ذلك، فالرجل [فارّ] (7) بمثابة المنجِّز في المرض.
__________
(1) في الأصل: ولا، والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: الجزأين. والمثبت تصرف من المحقق، ووجدناه في عبارة صفوة المذهب.
(3) في الأصل، وفي صفوة المذهب: "المطلقة" وهو تصحيف، حيث الكلام عن صورة طلاق
الأربع ونكاح أربع أخريات.
(4) في الأصل: الثانية، والمثبت تقدير من المحقق. ثم هي مصحفة أيضاًً في صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (20) شمال.
(5) كما لو سألت: أي سألت الطلاق.
(6) الحدثان: بفتحاث ثلاث ثم ألف مد بعدها نون: يراد بها هنا نوائب الدهر وحوادثه (ر. المعجم) .
(7) في الأصل: "فان" وهو تصحيف واضح.(14/234)
ولو علق الطلاق بفعلها، فنسيت، قلنا؛ إن لم يكن عندها علم من (1) اليمين، فالرجل فارّ.
وإن كان عندها علم، وظهر من قصده أنه رام منعها عن ذلك الفعل، فإذا نسيت وفعلت، وحكمنا بوقوع الطلاق مع نسيانها، فهل نجعل الرجل فارّاً؟ هذا يحتمل: إن نظرنا إليه، فإنه لم يجرّد تطليقها، وإن نظرنا إليها، فلم يوجد منها ما يحل محلَّ سؤالها الطلاق، والأشبه أنه فارّ؛ لأنه علق الطلاق في المرض، فوقع من غير قصدها، والمعلَّق على هذا الوجه كالمطْلَق.
وممّا يتعلق بذلك أنه إذا علق الطلاق بتطعّمها، فما حدّ الحاجة؟ أنجعلها على حدّ الضرورة كالتي لا تختار الطلاق ونجعلها دون الضرورة مختارةً أم نعتبر شيئاً آخر؟ وما قولنا في التَّفِلَة (2) ؛ هذا كلام منتشر.
أما الضرورة، فلا نرعاها، فإذا أكلت أكلاً عَدَمُه يضرّ بها، فليست مختارة، وإن تلذّذت بالطعام، وذلك يضرها، فنجعلها كالمختارة، وإن تلذذت والأكل ينفعها، فيجوز أن يُلحق بجنس الطعام؛ فإن الفصل بين هذه المراتب عسر، يعجز عنه مهرة الأطباء، ويجوز أن تجعل كالمختارة فيه.
والذي أراه أن التعويل في هذا على ظنّها، فإن ظنت تطعّمَها على حدٍّ يضر تركه، فليست مختارةً -وإن كان الأمر على ضدّ ذلك- بناءً على ما مهّدتُه في النسيان.
وإن ظنت أن ذلك التطعّم مضرّ، فهي مختارة وإن كان الأمر على خلاف ما ظنت، فهذا نوع من الكلام في تعليق الطلاق.
9196- ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا القولُ في تعليق الطلاق في الصحّة مع وقوعه في المرض، أو في زمنٍ يتصل بهِ، ونحن نفصِّل هذا بالمسائل.
__________
(1) كذا في الأصل وفي صفوة المذهب أيضاًً. والمعنى -كما هو واضح- أنها ليس عندها علم عن يمين تعليق طلاقها.
(2) التفلة: في الحديث: "وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات، ولا متزينات.
فالتفلة التي تركت زينتها هذا معناها في الأصل، ثم استخدم هذا في معنى الزهد والتقلل، والرغبة عن الطعام.(14/235)
فإن علق الصّحيحُ الطلاق بمقدمات الموت وما يُنبىء عنه، فهو فارٌّ، وإن جرى التعليق في حالة الصحة، وذلك مثل أن يقول: إذا وقعتُ في النزع، أو تردّدت روحي في الشراسيف (1) ، فأنت طالق، وإنما قطعنا بكونه فارّاً؛ لأنه اعتمد الفرار وأضافه إلى المحل الذي ينشأ منه التهمة.
وكذلك لو قال: أنت طالق قبل موتي بيوم أو يومين، وذكر مدة قريبةً، الأغلبُ أن مرض الموت ينبسط عليها، فإذا مات وتبيّنا بتاريخ تلك المدة أن الطلاق وقع في أولها، وأولها في الصّحة -كذلك اتفق (2) - فالرجل فارٌّ، والتعليقُ في الصحة والوقوع في الصّحة (3) ؛ فإن معتمد هذا القول تحقق التهمة.
وقد ذكرت في مقدمة الباب [أننا] (4) نعتبر التهمة تطرد في التفريع على القول القديم، وقد وقع الطلاق في هذه المسألة في وقتٍ لو نجّزه فيه لم يكن فارّاً (5) .
وكان شيخي أبو محمدٍ يقول: "إذا علق الصحيح الطلاق على الموت، أو على مرض الموت، ففي كونه فارّاً خلاف".
وهذا مجازفة وذهول عن المسألة. نعم، الصورة الأخيرة التي ذكرناها صعبة؛ فإن التّهمة وإن تحققت، فينبغي أن يقع أحد الطرفين في المرض، فتقدير الخلاف في هذا ظاهر.
وحكى من يوثق به أن القاضي قال في مجالس الإفادة: "إذا قال: إذا مرضت مرض الموت، فأنت طالق قبله بيومٍ، أو قال لعبده إذا مرضتُ مرض الموت، فأنت
__________
(1) الشراسيف: جمع شرسوف، وهو الطرف اللين من الضلع مما يلي البطن، والمعنى: إذا تردّدت روحي بين أضلعي عند خروجها. (المعجم) .
(2) أي صادف.
(3) كون التعليق في الصحة واضح، حيث أنشأه كذلك، وكون الوقوع في الصحة يظهر إذا علمنا أن الحكم بوقوع الطلاق كان قبل موته بيوم أو يومين، ولما ضبطنا التاريخ، تبين لنا أنه كان في حال الصحة يومئذٍ.
(4) في الأصل: أن.
(5) هذا هو موضع المفارقة في المسألة، أنه يعتبر فارّاً، مع أنه علّق ووقع المعلَّق في وقتٍ لو نجز فيه ما عَلّق لم يكن فارّاً.(14/236)
حرٌ قبله بيومٍ، قال: ليس بفارٍّ، وليس العتق من الثلث لوقوع الطلاق والعتق في حال الصحة".
وكان يجوز أن نقول: المطلِّق فارّ، والعتق من الثلث: أما الفرار، فالمتبع فيه التهمة، وهي لائحة، والشاهد لهذا المسألةُ التي [نذكرها] (1) الآن: وهي إذا قال: أنت طالق قبل موتي بيومٍ، ثم مضى يوم في أوّله صحيح، ومرض في آخره ومات، فالطلاق وقع في الصّحة، وهو طلاقُ فارّ على القياس البيّن، فليكن الأمر كذلك في تقديمه على مرض الموت.
ثم إذا تحقق هذا في الطلاق، فالعتق يتبعه، فكل طلاق يفرضُ طلاقُ فارٍّ، فالعتق إذا أقيم في محله، فهو عتق تبرّع.
9197- ولنا وراء هذا تصرفان: أحدهما - أنه لا يبعد فرق بين المسألة الأولى التي استشهدنا بها وبين الثانية؛ فإنه ذكر في الأولى أياماً يغلب على القلب انبساطُ المرض عليها، وصرّح في المسألة التي أفادها القاضي بالتقديم على المرض، فإن كانت تهمةٌ (2) ، فلتكن، فإنا لا نلتزم مضادّته في كل تهمةٍ، ولا بدّ من ضربٍ من الارتباط بالمرض. هذا وجهٌ. والأَوْجه أنه فارّ؛ فإنّ هذا ينشأ من استشعار الموت.
والوجه الثاني في النظر - أن ما ذكرناه من الفرار متجه، فأمَّا عتق يفرض وقوعه في الصحة ويختلف في احتسابه من رأس المال، فلا وجه له؛ فإن مأخذ الاحتساب من الثلث وقوعُ التبرّع في حالة الحجر، ومرض الموت يجرّ على المرء حجراً ويردّ مضطربة (3) إلى ثُلثه، فلا التفات في هذا على التهمة.
__________
(1) في الأصل: "ذكرناها" والمثبت اختيارٌ منا، على ضوء السياق، ويشهد لاختيارنا عبارة ابن أبي عصرون ونصها: " ... ويجوز أن يقال: إن المطلق فارّ، وإن العتق من الثلث؛ لأن المتبع في الفرار التهمة، وهي لائحة، ويشهد لهذه المسألة: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بيوم، فمضى يوم هو في أوله صحيح، ومرض آخره ومات، فالطلاق وقع في الصحة، وهو طلاق فارّ على القياس البيّن، فليكن الأمر كذلك" ا. هـ (ر. صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (21) شمال) .
(2) كانت تهمة: كان هنا تامة: أي فإن وجدت تهمة.
(3) مضطربة: المراد هنا تصرفاته.(14/237)
9198- ومما يتعلق بهذا أنه لو علق الطلاق في الصحة بفعل من أفعال نفسه، ثم مرض، فَفَعَله في المرض، قطع القاضي بأنه فارّ؛ فإنّه اعتمد سبب الطلاق في مرضه، فكان كما لو نجّز الطلاق في المرض، وهذا حسنٌ فقيه، وكان شيخي يذكر وجهين في هذه الصورة، والوجه عندي القطعُ بما ذكره القاضي؛ فإن عماد القول التهمةُ، وتحققُها في هذه الصورة كتحققها في تنجيز الطلاق.
وإن علَّق الطلاق في الصّحة بفعل أجنبي، أو بأمرٍ يجوز أن يقع في الصحة، ويجوز أن يقع في المرض مما لا يتعلق به، فاتفق وقوع ذلك في المرض، فحينئذٍ في المسألة قولان: أحدهما - أن الاعتبار بحالة التعليق، ولقد كان صحيحاً فيه، فليس فاراً.
والقول الثاني - أنه فارّ؛ نظراً إلى وقت وقوع الطلاق، ولعلّ الأقيس القولُ الأول؛ فإنّ التهمة لا تتحقق.
وكما طرد الأصحاب قولين في الطلاق طردوهما في العِتاق ومحلِّ احتسابه، وجريانُ القولين في العِتاق في الصورة التي انتهينا إليها حسنٌ تردداً في وقت التعليق ووقت النفوذِ.
فإن قال قائل: إذا كان عماد الفرار على التهمة، فكيف يخرج قول الفرار في الصورة التي ذكرتموها؟ قلنا: إذا علّق بصفةٍ مترددةٍ بين أن تقع في الصّحة أوالمرض، ولو أوقع في المرض، لاتّهم، فإذا أطلق التعليق بما يجوز تقدير وقوعِه في المرض، انبسط التعليق على زمانٍ لا تهمةَ فيه، وعلى زمانٍ فيه تهمة، فلا يبعد أن يُنْظَر إلى العاقبة. وإن وقع في زمانِ نفْي التهمة، فلا فرار، وإن وقع في زمان التهمة، جعلناه فارّاً.
وقال أبو حنيفة (1) : إذا وقع العتق في المرض، وقد جرى التعليق في الصّحة، فالعتق من الثلث، وإذا جرى تعليق الطلاق في الصّحة، ووجدت الصّفة في المرض، فلا يكون الزوج فارّاً، وتعلَّق في الفرق بفصل التهمة، وكنت أودّ لو كان ذاك مذهباً
__________
(1) ر. المبسوط: 6/157 وما بعدها.(14/238)
لأصحابنا. وقد قدمنا رمزاً إلى مثله في الفرق بين العتق والطلاق.
9199- ومما يتعلق بهذا أنه إذا أقرّ في المرض بطلاقها في الصحة، فليس بفارٍّ، وإقراره مقبول، ولو أقر في المرض بعتقٍ نجّزه في الصحة، فهو من رأسِ المال.
قال القاضي: يجوز أن يُخرَّج في المسألتين قولٌ آخر أنه يكون فاراً، والعتق من الثلث. وأقرب مأخذٍ لهذا أن المريض في حالة حجرٍ، والمحجور عليه إذا أقرّ وأسند إقراره إلى حالة الإطلاق، ففي قبول إقراره في الحالِّ قولان، كالمفلس يقرّ بعد اطراد الحجر عليه بدين [فيما مضى] (1) زعم التزامَه في حالة الإطلاق، فهل يزاحم المقَرُّ له سائرَ الغرماء؟ فعلى قولين، قدمنا ذكرهما.
ولو أبان في مرض الموت امرأته الأمةَ، فعَتَقَت أو امرأته الذِّمية، فأسلمت، أو كان الزوج عبداً، فطلّق ثم عَتَق، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يكون فارّاً في هذه المسائل؛ لأنه لم يكن متعرضاً للتهمة حالة الطلاق؛ فإن السبب المورّث لم يكن ثابتاً في ذلك الوقت، فإن طرأ سببٌ، فذلك لا حكم له.
وقد يتطرق إلى ما ذكرناه نظرٌ مأخوذ من إقرار الرجل لعمّهِ وله أولادٌ ذكور، فإذا جرى الإقرار في مرض الموت، ثم اتفق موت الأولاد ومصير العمّ وارثاً، والتفريع على أن الإقرار للوارث مردود، فهل يُردّ الإقرار في هذه الصّورة؟ فعلى قولين، وكذلك لو فرض الأمر على عكس ذلك، وقدّر المقَرّ له وارثاً لو فرض موت المقِرّ، ثم حدث حاجبٌ، ففي [قبول] (2) الإقرار قولان.
فلو قال قائل: إذا جرى الطلاق، ثم أفضى الأمر إلى الوراثة، فيخرّج كون المطلق فارّاً على ما ذكرناه من القولين في اعتبار الحال أو المآل، لم يكن ذلك بعيداً.
والضابط في الباب أن الوصية يُرعى فيها المآل حتى لو أوصى لأجنبيّة، ثم نكحها، فالوصية مردودة، ولهذا لم نفرق بين وصية الصحيح وبين وصية المريض؛
__________
(1) عبارة الأصل: مضى فيما زعم.
(2) في الأصل: "قبوله" والمثبت تصرف منا.(14/239)
فإن محل الوصية في حق الكافة بعد الموت، والإقرار تنجيز التبرّع في المرض؛ [فخرج] (1) على قولين في اعتبار الحال والمآل.
ولو أقرّ لأجنبية في مرضه، ثم نكحها، فهل نجعل ذلك إقراراً لوارثٍ؟ فعلى طريقين: منهم من قطع بقبول الإقرار، ومنهم من جعل المسألة على قولين، على الأصل الممهّد.
9200- ولو نكح ذمّي ذميةً، ثم أسلم الزوج في مرض الموت، وأصرت المرأة، وأفضى اختلاف الدّين إلى انقطاع [التوارث] (2) ، فلا يكون الزوج فارّاً إجماعاً؛ لأنّ الزوج أدّى مفروضاً عليه، ثم لا يتطرق التهمة إليه في قصد الحرمان، وكذلك لو فسَخَ النكاحَ بعيبٍ، فلا يُجعل فارّاً؛ لأنه استوفى حقاً مستحقاً له، فلم يُحمل ما جرى منه على قصد الحرمان.
ولو ارتدّ الزوج، فانبتَّ النكاح، ثم عاد، فهل نجعله فارّاً؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا لا نجعله فارّاً، لأنه لا يظن به أن يبدّل دينه لقصد الفرار، مع تمكنه من الطلاق.
والثاني - أنه فارّ، ولا يُمهَّد له عذر.
والمرأة لو ارتدت يجري الوجهان فيها، والأصح انقطاع ميراث الزوج عنها؛ فإنا وإن كنّا نطرد معنى التهمة، فلا ينبغي أن نبعد عن مورد الأثر، وهذا وارد في الطلاق والطلاق مثبَتٌ لرفع النكاح، والردة ليست تصرفاً في النكاح.
9201- وإن لاعن الزوج، نظرنا: فإن لم يكن ثَمَّ نسبٌ، وكانت لا تطلب اللعان، فقد قيل: إنَّه فارّ، كما لو أبانها بالطلاق، ولو كان ثَمَّ نسبٌ متعرّض للثبوت، فنفاه باللعان، أو طلبت اللعان، [ولو لم] (3) يلتعن، لعوقب على ما صدر منه من قذفٍ، فلا يكون فاراً.
__________
(1) في الأصل: يخرج. والمثبت اختيار منا.
(2) في الأصل "النكاح".
(3) في الأصل: "ولم" والمثبت من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (22) شمال.(14/240)
وفي كلام الأئمة رمزٌ إلى أن اللعان لا يكون فراراً، وإن لم يكن ثَمَّ نسبٌ ولا طلب؛ فإن التهمة بعيدة مع ما في اللعان من التعرض للشهرة والخزي، والطلاقُ ممكن دون ذلك.
9202- ثم إذا طلق الزوج زوجته وأبانها، فالقولان في توريثها منه لو مات، فأما إذا اتفق موت المبتوتة، فلا خلاف أن الزَّوج لا يرثها، والسبب فيه أنه المطلِّق المُؤْثرُ للقطع، وإذا كنا نقول: الطلاق إذا كان صادراً عن سؤالها، فينقطع ميراثها، فلأن ينقطع ميراث الزوج وهو المنشىء للطلاق أولى وأحرى.
***(14/241)
باب الشك في الطلاق
9203- صدر الشافعي الباب بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وردَ في الشك في الحدث، وذلك أنه قال: "إن الشيطان ليأتي أحدَكم بين إليتيه في الصّلاة، فلا ينصرفنّ حتى يسمع صوتاً أو يشمّ ريحاً" (1) فأمر صلى الله عليه وسلم عليه بالبناء على اليقين وطرح الشك، فاتبع الشافعي هذا الحديث، واتخذه أسوته في الشكوك الطارئة على محالّ اليقين، وأراد أن يبني مسائل الشك في الطلاق على هذا الحديث، وإنما استدلّ بهذا الحديث في صدر باب الطلاق لسببٍ وهو أن مالكاً (2) رضي الله عنهُ قال: "إن شك في عدد الطلاق أخذ بالأكثر"؛ بناء على أصل له، وهو أن الأصل المطرد إذا حدث فيه أصل آخر، فالتمسك عنده بالأصل الثاني، ولذلك يقول: لو شك في الحدث قبل الشروع في الصّلاة، لم يبن على يقين الطهارة، لأنه الآن متيقّن عدم انعقاد الصّلاة، فإذا عقدها، فهو على شك في الانعقاد، وإذا شك في الحدث بعد الشروع في الصّلاة، لم يخرج منها بما طرأ له من الشك؛ لأن الأصل انعقادُها. هذا أصله، فلم يُرد الشافعي أن يتمسك بمحلّ [مناقضة، وجعل] (3) ما يسلمه معتبره؛ فإنه لا يستنبط المعنى إلا من محالّ الإجماع، ولم يثق بإجماع، فاتخذ الحديث مستنده في قاعدة طريان الشّك على الأصل، ثم بنى عليه الكلام واتسع في الكلام.
9204- والمسلك الضابط في طريان الشكوك على الأصول لا يبين إلا بأن نذكر
__________
(1) حديث: "إن الشيطان ليأتي أحدكم ... " إلخ. أصل هذا الحديث متفق عليه: البخاري، ح 137، 177، 2056، وعند مسلم، ح 361، 362، وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في الخلافيات عن الربيع عن الشافعي، والمزني في المختصر عن الشافعىِ، ورواه البزار بلفظ قريب (مختصر زوائد البزار، ح 171، والبيهقي في السنن الكبرى بمعناه: 1/161، وكذا الحاكم: 1/134 وانظر: تلخيص الحبحر: 1/222 ح 170، 171) .
(2) ر. الإشراف 2/753 مسألة 1370، عيون المجالس: 3/1246 مسألة 871،
(3) في الأصل: "مناقضته ويجعل" والمثبت من صفوة المذهب جزء (5) ورقة: 23 يمين.(14/242)
عبارة الفقهاء ونبُدي ما فيها من الإشكال، ثم نأتي بالمعتبر الموثوق.
فعبارة الفقهاء: "إن اليقين لا يترك بالشك" وهذا مختلٌّ؛ فإن الشك إذا طرأ، فلا يقين. ثم إن حُمل هذا على ما مضى، وقيل: معنى قول الفقهاء إن اليقين السّابق لا يترك بالشك الطارىء، فليس هذا على هذا الإطلاق، ولكن القول في ذلك ينقسم، فإن طرأ الشك وأمكن الاجتهاد، تنوّع الكلام، فقد يتمهد مسلك الاجتهاد بالمتعلّقات الواضحة، كمسائلِ الاجتهاد في الطلاق التي اختلف العلماء فيها، وصار صائرون إلى أن الطلاق يقع، وذهب آخرون إلى أنه لا يقع، فالمتبع الاجتهاد، ولا حكم للنكاح السابق وما تقدم من استيقان انعقاده.
وإن جرى الاجتهاد وخفيت العلامة، فإن دعت الضرورة إليه، وجب التمسك به، وهذا كما إذا كان مع الرجل إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس، فلا سبيل إلا ترك الماءين، أو الاجتهاد في الأخذ بأحدهما، ولا سبيل إلى الترك، فتعيّن الاجتهاد.
وإن كان مع الرّجل إناء واحد وفيه ماء، [فشك] (1) في طريان النجاسة عليه، وغلبت عنده علاماتها، فهل يأخذ بالاجتهاد، وعلاماتُ النجاسة خفية، وقد أدرك خفاءها من أحاط بأبواب النجاسات. وإذا رَقتِ (2) العلامات إلى الظهور، وقدت في اليقين، فلا جرم اختلف القول في أنه هل يجب التمسك بالعلامات، أو يستصحب اليقين السابق، وهذا هو استصحاب الحال الذي يخوض فيه الأصوليون.
وإن انحسم الاجتهاد، وطرأ الشك، فعند ذلك يرى الشافعي أن يستمسك باليقين السابق، ولا يقيمَ للشك وزناً، وسببه من طريق المعنى أن الشّك يتعلق بمعتقدين متعارضين ليس أحدهما أولى من الثاني، ولا يخلو -في غالب الأمر- المرءُ عن الشك، سيّما إذا بُلي بأطراف الوسوسة، فرأى الشافعي التمسكَ باليقين المستصحب أولى، واعتضد فيما رآه بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا تأسيس الباب. ونحن نقول بعده:
9205- مَنْ شك في الطلاق، فالأصل بقاء النكاح، وله الأخذ بحكم استصحابه،
__________
(1) في الأصل: فشكه.
(2) رقت العلامات إلى الظهور: أي سَمَتْ وارتفعت، من الفعل رقا يرقو رَقواً (المعجم) .(14/243)
ولا يخفى الورع والأخذ به على أصحابه، ولو علم الطلاقَ، وشك في العدد، فالواقع القدر المستيقن، والمشكوكُ فيه لا يقع في الظاهر المحكوم به.
وكذلك العتق وما في معناهما. وعلى هذا بنى الشافعي الشك في أعداد ركعات الصّلاة.
9206- ثم إذا تمهّد أصل الباب، فنذكر صوراً تجرّ شكوكاً منها: أنه لو طار طائر، فقال الزوج: إن كان هذا غراباً، فامرأتي طالق، ولم يتبيّن له حقيقة الحال، فلا يقع الطلاق؛ لاحتمال أنه لم يكن غراباً، وكذلك لو قال: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وإن كان حماماً، فعبدي حرّ، فلا نحكم بالطلاق ولا بالعتاق، فإن الطائر قد يكون جنساً ثالثاً.
ولو قال: إن كان غراباً فعمرة طالق، وإن لم يكن غراباً، فزينب طالق، فتطلق إحداهما؛ فإن الطائر إما أن يكون غراباً أو لا يكون غراباً، فقد وقعت طلقةٌ مبهمة بين زوجتيه، وسيأتي هذا الأصل في الباب، فهو المقصود.
ولو صدر هذان القولان من رجلين: قال أحدهما: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فامرأتي طالق، فلا نحكم عند إشكال الأمر بوقوع الطلاق على زوجةِ واحد منهما، بخلاف ما لو اتحد الحالف وتعدّد المحلوف بطلاقه، والفرق أن الحالف إذا اتحد، فقد تعين الحانث، وأمكن توجيه الخطاب عليه بربط بعض أمره بالبعض، وحمله على مقتضى وقوع الالتباس، وإذا تعدّد الرّجلان، امتنع الجمع بينهما في توجيه خطاب، ومعلوم أن أحدهما لو انفرد بمقالته، لما حكمنا بوقوع الطلاق على زوجته، فإذا ذكر صاحبه شيئاً، استحال أن يتغيّر حُكْمنا على زيد بسبب مقالةٍ صدرت من عمرو، فيتعذر المؤاخذة إذاً.
وهذا قد يناظر ما إذا سمعنا صوت حدثٍ بين رجلين، ثم قام كل واحدٍ منهما
واستفتح الصّلاة، فلا معترض على واحد منهما؛ فإن كل واحد يورِّك (1) بالذنب على
__________
(1) يورّك بالذنب على صاحبه: أي يحمله عليه ويحمله إياه. يقال: ورّك فلان ذنبه على غيره توريكاً إذا أضافه إليه وقرنه به (اللسان والأساس) .(14/244)
صاحبه. نعم، إذا أراد أحدُهما أن يقتدي بالآخر، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، والإمام لا معترض عليه؛ فإنه في حكم المنفرد.
وبمثله لو تيقن الرجل -وقد صلى صلاة الصبح وصلاة الظهر- أنه كان محدثاً في إحداهما، والتبس [الأمر] (1) عليه، فلم يدر الصلاة التي كان محدثاً فيهما، فنأمره بقضاء الصّلاتين جميعاًً؛ فإن المحكوم عليه واحد، ولا يمتنع توجيه الخطاب عليه بمؤاخذة تتعلق بواقعتين، ثم سبيل الاستدراك قضاء الصّلاتين.
وفي مسألة الطلاق إذا اتحد الزوج واستبهم الأمر، فالطلاق يقع على إحداهما.
ولو فرضنا كلام الرجلين في العِتاق، لكان على هذا النسق، فإذا قال زيد: إن كان الطائر غراباً، فعبدي حر، وقال عمرو إن لم يكن غراباً، فعبدي حرّ، فلا نحكم بالعتق في واحد منهما؛ بناء على الأصل الذي قدمناه في الطلاق في مثل هذه الصورة.
9207- ولكن مما يجب التنبه له أنا وإن لم نحكم في حق واحدٍ منهما بحصول الطلاق والعتاق، فإنا نقول: إحداهما طالق، وأحد العبدين حرٌ في علم الله، وإن كنا لا نطّلع على ذلك، فقد يظهر أثر ما ذكرناه بمسألة تتصوّر في العتاق دون الطلاق، وهي أنه إذا جرى التعليق من مالكَي العبدين على حسب ما ذكرناه، فلا نحكم بالعتق في واحدٍ من العبدين؛ لاشتباه المحكوم عليه، غيرَ أن أحد العبدين لو صار إلى المالك الثاني بشراءٍ، أو بجهة من جهات الملك، فإذا ملكه، فلا بد من الحكم بالعتق في أحد العبدين؛ فإنّه اتحد المخاطَب الآن، ثم سبيل التفصيل فيه أنه إن لم يكن قال شيئاً سوى ما تقدم من التعليق، فنقول: أحد العبدين في يدك حرّ، فعيّن أحدهما، [والبحث] (2) عن سبيل البيان.
وبالجملة تصير الصورة كما لو قال ابتداء: إن لم يكن غراباً، فسالم حرّ، وإن كان غراباً، فغانم حرّ.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: والحنث.(14/245)
وإن كان قد قال: ما حنثتُ في يميني، فكما (1) ملك عبد صاحبه، حُكم بحرّيته عليه؛ لأنه إذا نفى الحنث عن نفسه، فلا بدّ وأن يكون صاحبه حانثاً، ومن أقر بحرّية عبدٍ لغيره، ولم يصدّق عليه، ثم اشتراه، فيؤاخذ بحكم قوله، ويُقضى بعتقه.
ثم في هذه الصورة التي انتهينا إلينا ليس له أن يرجع بالثمن على صاحبهِ؛ لأنه إنما عَتَق بحكم إقراره وإقرارُه مردود على البائع، وصاحبه مكذّبٌ له. فهذا أصل الباب.
9208- ثم ذكر الشافعي بعد هذا حنثاً واقعاً من رجل مردَّداً بين الطلاق والعتاق، وأنا أرى من الرأي أن أذكر التردد في طلاق زوجتين أو زوجات، وأعتبر [به] (2) التردد في العتاق، ثم أبني عليه تردداً بحنث بين الطلاق والعتاق.
فصل
قال: "ولو قال: إحداكما طالق ثلاثاًً منع منهما ... إلى آخره" (3) .
9209- إذا قال لامرأتين تحته: إحداكما طالق ثلاثاًً، فلا يخلو إما أن ينوي إحداهما بالقلب، أو يُطْلق إطلاقاً، ولا ينوي عند إطلاقه اللفظَ واحدةً منهما بعينها: فإن نوى بقلبه واحدةً منهما، فهي الطالق في حكم الله، ولكن الأمر مبهم، وهو محبوس عنهما، مأمور بالإنفاق عليهما؛ لأنهما في حبسه، وإن كانت إحداهما مطلقة ثلاثاًً، فيطالب بالبيان، ويقال له: بيّن المطلّقة عندك.
ثم قال الأصحاب: الطلاق يقع باللفظ السابق، فلا يتأخّر وقوعه إلى البيان الذي يطالب به، والعدة تحسب من يوم اللفظ على ظاهر المذهب، وخُرِّج قولٌٌ آخر: إن العدة محسوبة من يوم البيان.
وبنى الأصحاب هذين القولين الظاهر والمخرّج على القولين في أن المستفرشة
__________
(1) فكما: أي عندما.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وهي موجودة في صفوة المذهب. ومعنى "وأعتبر به التردد في العتاق": أي أقيس به التردد في العتاق.
(3) ر. المختصر: 4/85.(14/246)
بالنكاح الفاسد إذا فرقنا بينها وبين الواطىء بالشبهة، فالعدة من آخر وطأة أو من وقت التفريق بينهما، ووجه التشبيه أن الأمر ملتبس، فاختلف القول في تاريخ ابتداء العدة، كذلك إذا لم يُبيّن، فالأمر ملتبس في ظاهر الأمر مع كل واحدة، فإذا فرض البيان، كان هذا كالتفريق.
وهذا غير سديد، والأصح في استبهام الطلاق [الاعتداد] (1) بالعدة من وقت اللفظ، والسبب فيه أن استرسال الواطىء بالشبهة على المرأة ينافي صورة الانعزال الذي تتصف به المعتدة، فنشأ القولان من ذلك، وليس كذلك استبهام الطلاق؛ فإن الحيلولة ناجزة، وقد فرقنا بين الزوج وبينها، والنيّة مقترنة باللفظة، فالوجه تأريخ ابتداء العدة باللفظ.
ثم مما يتعلق بهذا القسم أن قوله: "إحداكما" غير صالح للتعيين في وضع اللسان، ولكنه صالح لكل واحدة منهما، فإذا انضمّت النية إلى اللفظ المبهم، صار اللفظ معها كالنّص في التعيين، وهذا كالكنايات؛ فإنها في نفسها صالحة لجهات من الاحتمالات، ثم يتعين الطلاق بالنية، كذلك القول المبهم المتردّد بين الزوجين يتعيّن بالنية، ويختصّ بإحداهما.
9210- ومما يجب ذكره أن اعتقاد ضرب الحيلولة بينه وبينهما صحيح، أطلقه الأصحاب، وحكموا به، كما ذكرناه، فليس [له] (2) أن يُقدم على [وطء] (3) واحدة ما لم يقدّم بياناً.
وهذا فيه فضل نظرٍ عندي؛ فإنه إذا كان يعرِف المطلّقة منهما باطناًً، وإليه الرجوع، وإذا قال صُدِّق، وإن اتهم حُلّف، فإذا أقدم على إحداهما، فما الوجه في سبب منعه؟ نعم، هو ممنوعٌ من غشيانهما جميعاًً، فأما إذا غشي إحداهما، فما سبب المنع والحالةُ كما وصفناها؟ قلنا: هذا محل التثبت، وإن كان ظاهراً عند المتأملين.
__________
(1) في الأصل: الاعتياد.
(2) زيادة رعاية للسياق.
(3) زيادة من معنى كلام ابن أبي عصرون في اختصاره (صفوة المذهب) .(14/247)
فنقول: إذا قال الرجل لامرأتيه: إحداكما طالق، ولم يشعر بهذا القول أحد، ونوى إحداهما، وكانت متعينة، فإذا لم ترفع الواقعة إلى القاضي، فالمطلقة في حكم الله هي المنويّة، ولا يجب حبسٌ ووقفٌ، وهو يقدم على استحلال المستحَلَّة عنده وعند الله تعالى.
وإنما مسألة الوقف فيها إذا ظهرت هذه الواقعة لمن إليه الحكم، فيقول: قد طلقتَ يا رجلُ وأبهمتَ، فحق عليّ ألا أتركك تختلط بهما كما كنت تفعل من قبل، ولست أجعل إقدامك على غشيان إحداهما بياناً، ولو رأيتك تغشاها، لم أتبيّن أنها المنكوحة؛ فإن الوطء لا يُعيِّن إذا كنت نويت المطلَّقة لمَّا أطلقت اللفظ، فقد تطوقتُ عهدةً في الشرع؛ إذ علمتُ وقوعَ الطلاق، وأشكل علي الأمر، ففصِّل، ثم أَقْدِم، فإذا قال: أيّها القاضي عنيتُ بالطلاق هذه، فالقاضي يرجع إلى قوله، ويزول الاستبهام، وبيانُه وإن استأخر بمثابة اقتران البيان بلفظه.
فإن سكتت الموطوءة، أضرب القاضي [عنه] (1) وقد تعينت المطلَّقة، وإن خاصمت تلك، قال القاضي: انكفّ عنها، حتى تنفصل الخصومة بينكما، كما سنبيّن فصل الخصومة.
فهذا سرّ القول في الحبس الذي ذكره الأصحاب.
وقد يخطر للفطن أن المرأة إذا لم تخاصم، وقال القاضي: أبهمتَ الطلاق، فاحلف بالله أنك عنيت بالطلاق من أبهمتها، فلست أرى للقاضي هذا؛ فإن الرجوع إلى الزوج في هذا، وإنما يثبت التحليف لذاتِ حظٍّ، وهي المرأة، ونحن إذا قلنا: يحلَّف من يؤدي الزكاة، فرأينا المقطوع فيه أنه استحبابٌ، ثم ذاك محض حق الله، والغالب في الطلاق والنكاح طلب الحظوظ.
9211- ومما أطلقه الأصحاب في ذلك -ولا بدّ فيه من مزيد كشفٍ- أنهم قالوا: إذا حبسناه عنهما [أو خلّينا] (2) بينه وبينهما، فيجب عليه أن ينفق عليهما، ويُدرَّ
__________
(1) زيادة لإيضاح الكلام، وفي صفوة المذهب: "كف القاضي عنه".
(2) في الأصل: وخلنا.(14/248)
عليهما من حقوق النكاح، ما كان يُدرّه قبل الإشكال الواقع، وهذا متفق عليه، ثم إذا [بيّن] (1) ، فلا يسترد النفقة المصروفة إلى المطلقة.
وهذا من النوادر؛ فإنه أنفق على مطلقة ثلاثاً، وقد تكون غير مدخول بها -حتى لا يرتبط الفكر بالعدّة- والسّبب فيه أنها كانت محبوسةً حبس الزوجاتِ، وقد يظن الظانّ أن النفقة إنما لا تستردّ لامتناع الزوج نكداً (2) عن التعيين مع تمكنه منه.
وهذا يرد عليه ما إذا لم يكن الزوج متمكناً من البيان، وذلك بأن يقول: إن كان الطائر غراباً، فزينب طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرة طالق، ثم حلّق الطائر ومرّ، وأيس من درك جنسه، فلا توانيَ من الزوج، وقد يقال: [هو] (3) الذي ورّط نفسه وزوجته في الإبهام، فَيَرِدُ عليه [ما لو] (4) طلق إحدى امرأتيه، ثم التبست المطلقة عليه بغير المطلقة، ولا مبالاة بالصور؛ فإن المخطىء في التزام الكفارة وحرمان الميراث ملحق بالعامد في وضع الشرع، وإن كنا نستبق إلى فهم التكفير من الكفارة ومضادة المقصود بالحرمان.
9212- وممّا يتعلق بتأصيل المقصود في الفصل أن الزوج إذا أبهم الطلاق، فحتمٌ عليه أن يبيّن ولا يترك الأمرَ مبهماً، ولو امتنع عن البيان وتركهما معلقتين، عصى ربَّه، وقد قدّمنا في نكاح المشركات أنه يتعين عليه اختيار أربعٍ إذا أسلم على أكثرَ من أربع نسوة، وذاك مبني على ضربٍ من التروِّي، ثم [لم] (5) نعذره في التأخير، وهاهنا المطلقة بيّنة عنده، فيتعين عليه إزالة الإبهام، وإن ادّعى إشكال الأمر عليه، فسنوضح ذلك في فصل الخصومات، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: تبين.
(2) نكداً. كذا بهذا الرسم تماماً، ومعناها -كما هو مفهوم من السياق- عناداً، ولم أصل إلى هذا المعنى في المعاجم المعروفة (اللسان- القاموس- الأساس- المصباح- المختار- الوسيط - النهاية في غريب الحديث) .
(3) في الأصل: هذا.
(4) زيادة اقتضاها السياق. وعبارة الأصل: "فيرد عليه أنه طلق إحدى امرأتيه".
(5) زيادة من المحقق.(14/249)
9213- ووجه الرأي عندنا أن نذكر ما يتعلق بالمسألة من فقه ونظرٍ إلى قضيةٍ لفظيّة، ثم نختتم الفصل بالخصومة وسبيل فصلها، ونحن الآن فيه.
إذا أجمل طلقةً وبيّن بقلبه المطلقة، فنستتم هذا الفصل قائلين: إذا طلبنا المبهِم بالبيان، وكان أجمل طلقةً بين امرأتين، فقال لمّا أخذناه بالبيان، وكان أجمل طلقة: هي هذه أو هذه، فنقول: ما زدتنا بياناً، والذي أتيتَ به عبارةٌ عن الإشكال، ولا نجعل قوله هذا تعييناً؛ فإن الكلام بآخره. وإن قال: أردتُ هذه وهذه، فقد أقر فيهما بالطلاق، فحكمنا بوقوع الطلاق عليهما بإقراره.
وإن قال: هذه بل هذه، تعينت الأولى بصدْر كلامه، ثم أراد أن يرجع عنه بقوله بل هذه، فلم يُقبل رجوعه في حق الأولى، وثبت إقراره في حق الثانية.
وإن قال: "هذه هذه" إن أشار بهذه الكلمة إلى إحداهما، وكرّر الكلمة في خطابها، فهي المتعينة، وإن واجهٍ إحداهما فقال: أردت هذه، ثم واجه الأخرى على الاتصال، وقال: هذه، حكمنا بوقوع الطلاق عليهما، كما لو قال: أردت هذه وهذه.
فلو قال: أردت هذه ثم هذه، قال القاضي: يتعين الأولى ولا تطلق الثانية، لأن كلمة ثم تقتضي التأخير والتراخي، فقد أثبت في الثانية على حكم الإخبار طلاقاً واقعاً على موجب التراخي، وهو إنما طلق واحدةً لا غير، ولم يسبق منه طلاقٌ يُحمَل على ترتيب.
وهذا كلام مختل؛ فإن قوله: "ثم هذه" اعترافٌ بالطلاق فيهما، فليَثْبُت وليَفْسُد ما جاء به من اقتضاء التأخير أو الترتيب، والدليل عليه أنه لو قال: أردت هذه وهذه، حكمنا بوقوع الطلاق عليهما، وإن لم يكن في لفظه ما يوجب وقوع الطلاق عليهما.
9214- ولو قال الرّجل لامرأتيه: إحداكما طالق، ونوى طلاقهما، فالوجه عندنا أنهما لا تطلقان جمعاً، وقد ذكرنا تردداً فيه إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة وزعم أنه نوى ثلاثاًً، وتلك المسألة قد يتطرق [إليها] (1) تأويل، أمّا حمل إحدى المرأتين
__________
(1) في الأصل: إليه.(14/250)
عليهما، فلا وجه له، وإيقاع الطلاق بمجرد النية لا سبيل إليه. ومع هذا إذا قال في التفسير: أردت هذه وهذه، وقع الحكم بوقوع الطلاق عليهما، وإن كان الإقرار لا يوقع الطلاق، وليس إقراره مرسلاً فيحمل على طلاق ماضٍ، ولكنه أحاله على اللفظ الذي أبهمه لما راجعناه مستفسرين، ثم هذا الحكم يقع ظاهراً، وسببه أن كل امرأة حكمها متميز عن حكم ضَرَّتها، وقد ثبت في حق كل واحدة إقرار، فجرى الحكم في حقهما بالطلاق، وإذا كنا لا نُبْعد هذا، فلا فقه في التمسك بما في "ثُمّ" من التأخير.
ويتفرع على ما ذكرناه أنه لو قال: أردت هذه بَعْد هذه، فقياس قول القاضي أن الثانية تطلق، فإنها وإن ذُكرت آخراً، فهي مقدَّمة في المعنى، إذ قال: "بعد هذه" والتي أشار إليها أولاً لا تطلق؛ فإنها المؤخَّرة في المعنى.
وهذا بعيد.
ولو قال: هذه قبل هذه، فالأولى تطلق، ولا تطلق الثانية على قياس القاضي، وهما طالقتان على المسلك الحق.
وسنكثر المسائل والصّور بعد ذلك لتدريب المبتدئين، ولا نعيد في كل صورة "أردتُ" وإن كنا نريده، ونقتصر على إطلاق "هذه" وما يتصل به من صلاتٍ.
9215- فلو كان تحته ثلاث نسوةٍ، وقد أبهم بينهنّ طلقة، فلمّا راجعناه أحبس واحدة منهن وحدها، وأحبس اثنتين مجتمعتين، ثم أشار إلى الاثنتين مثلاً، وقال: هذه وهذه، ثم وقف وقال: أو هذه. قال الأصحاب: الطلاق مردّد بين الثالثة الفردة، وبين الأوليين المجتمعتين، وعلى الزوج بيان، فإن بيّن في الثالثة، تعينت، وتعينت الأوليان للزوجية. هذا مقتضى اللفظ.
وإن عين الأوليين للطلاق، وقع الحكم بطلاقهما، وتعينت الثالثة للزوجية، ولو عيّن من الأوليين إحداهما، طلقت صاحبتها المجتمعة معها، فإنه قال أولاً: هذه وهذه مشيراً إليهما، والواو عاطفة مشرِّكة، فلا يفترقان.
وحاصل كلامه ترديد الطلاق بين واحدة فردةٍ إن طلقت، تعينت ثنتان للزوجية،(14/251)
وبين زوجتين تجتمعان في الطلاق وإذا تعينتا له، تعينت الثالثة الفردة للزوجية. وهذا بيّن.
وبمثله لو أشار إلى الفردة أولاً وقال: أردت هذه أو هذه وهذه، فالجواب كما مضى، ولا يختلف موجب اللفظ ومأخذه بتقديم الواحدة أو تأخيرها.
وما ذكرناه فيه إذا جعل الثلاث حزبين واحدةً واثنتين، ثم أشار على الصّيغة التي قدّمناها، وفَصَل بين الحزب والحزب بوقفةٍ، [فلو] (1) جرى على سرد الكلام واطرادهِ، وقال: أردت هذه أو هذه وهذه، ولم يفصل بين الواحدة والثنتين بوقفٍ في الكلام وسكتةٍ ولا بنغمةٍ تدلّ على التقطيع، بل قال مرسلاً: هذه أو هذه وهذه، فإذا جرى الكلام سرداً، احتمل أن تكون الثالثة معطوفةً على الأولى مضمومةً إليها، واحتمل أن تكون مضمومةً إلى الثانية، فلا بدّ من المراجعة. فإن زعم أنه أراد عطف الثالثة على الثانية، فالثانية والثالثة حزب والأولى حزب، ورجع التفصيل إلى ما إذا أشار إلى واحدة وقال: هذه، ثم فصل عنها ثنتين، وقال: أو هذه وهذه.
فإن زعم أن الثالثة مضمومة إلى الأولى معطوفة عليها، فالأولى [والثالثة] (2) حزب [والثانية] (3) حزب والكلام في ترديد اللفظ، كما مضى حرفاً حرفاً.
ولو اتَّسق الكلام من غير فصلٍ بوقفٍ ونغمةٍ، وقال: هذه وهذه أو هذه، فيحتمل أن تكون الثالثة مضمومةً إلى الثانية دون الأولى، ولو كان كذلك، طلقت الأولى وإحدى الأخريين من الثانية والثالثة، ويحتمل أن تكون الثالثة مضمومةً إليها (4) فتكون الأولى والثانية حزباً والثالثة حزباً، والجواب لو كان كذلك: فالرجوع إلى نيته في محالّ الاحتمال؛ فنقول: أبهم الطلاقَ بين فردةٍ وهي الثالثة وبين ثنتين وهما الأولى والثانية فتطلق الثالثة وحدها أو الأخريان جمعاً، كما قدّمنا نظائر ذلك، فيؤخذ بالبيان، كما مضى.
__________
(1) في الأصل: فله.
(2) في الأصل: "والثانية" وهو مناقض للسياق.
(3) في الأصل: "والثالثة" وهو مخالف للسياق.
(4) إليها: أي إلى الأولى.(14/252)
9216- ولو كنّ أربعاً، فأبهم بينهن طلقةً، ثم قال: هذه أو هذه أو هذه أو هذه، فما زاد بياناً، وإن قال: هذه وهذه وهذه وهذه، فقد أقر في الكل بالطلاق، وكذلك لو قال: هذه بل هذه بل هذه، فكل استدراك إقرارٌ مبتوتٌ في محل الاستدراك، وما فيه من الرجوع مردود. ثم إن قسم الأربع، فيتصوّر في تقسيمهن تحزيبات وتفريقات أكثر المتكلفون الصورَ فيها. ومن أحاط بمأخذ الكلام فيما قدمناه، هان عليه مُدرك الجميع، ولو كنتُ أرى فيها إشكالاً، لم أتبرم بتكثير الصور.
9217- والذي يجب اختتام الكلام به أنا ذكرنا في أثناء المسائل: الوقفةَ والنغمةَ، ويجب أن يكون عنهما بحث؛ فإنا بنينا هذا المجموع على التعرض لأمثال ذلك، فنفرض صورةً واحدةً، ونعيد فيها حكم الوقفة والنغمة، فإذا كنَّ ثلاثاًَ فحزَّبهنَّ حزبين، ثم قال: هذه وأشار إلى الفردة، ثم أقبل على المجتمعتين، وقال: أو هذه وهذه، فقد ذكرنا أن تفصيل الكلام يخالف سردَ الكلام وطردَه؛ إذ ذكرنا في السرد احتمالين، وذكرنا في التفصيل احتمالاً واحداً، ثم الذي ذكره القاضي أنا نَفْصل بالوقفة والنغمة، أما الوقفة، فهي أن يقول: "هذه" قال القاضي: ثم يقف لحظة، ويقول: مشيراً إلى الثنتين: أو هذه وهذه، فَذَكَر الوقفةَ وقيّدها باللحظة.
وأول ما يجب فهمه في ذلك أن المبيِّن يقول: أردت هذه، ويشير إلى واحدة مثلاً، فإن أطال الوقوف حتى انتهى إلى الانقطاع، ثم قال: أو هذه وهذه، طلقت الأولى، ولغا قوله: "أو هذه وهذه"؛ فإن هذا كلام لا استقلال له، فقد انقطع نظم الكلام بطول الفصل، فلم يرد القاضي بالوقفة الوقفةَ الفاصلة القاطعة للنظم، وإنما أراد وقفةً تدل على التفصيل مع انتظام الكلام، ولهذا قرّب الوقفةَ باللحظة، ثم عاد فقربها بالنغمة، وتلك النغمةُ لا تَبين بالكِتْبة (1) ومراسم الخط، ولكن يفهم الفطن معناها ووجهَ إفضائها إلى إفادة الفصل والإشارة إلى التحزيب.
9218- وفي هذا فضلُ نظرٍ على المتأمل، فإن ما ذكره ليس تعلقاً بالألفاظ، وإنما
__________
(1) الكِتبة بكسر الكاف: مصدر كتب يكتب. (المصباح) .(14/253)
هو من قبيل القرائن، والعملُ بالقرائن -وإن كانت دالَّةً في مجاري التخاطب- بعيدٌ عن مذهب الشافعي، فإنه لا يعوّل على القرائن في إلحاق الكنايات بالصرائح، وهذا الذي ذكرته تنبيهٌ على الإشكال، وإلا فالحق المبتوت الذي لا يجوز غيره ما ذكرناه من التعلق بدلالة الوقف، ونعتبر النغمةَ.
والقرائنُ التي ينكرها الشافعي هي مثل سؤال المرأة الطلاق، مع قول الرجل: أنت بائن في جوابها، وممّا أنكره الغضب، فإن أبا حنيفة (1) جعل الغضب قرينةً على الطلاق عند التلفظ بالكناية، والشافعي أبَى هذا؛ فإن السّؤالَ حالُ المرأة، والرجلُ قد يُسعِف وقد يخالف، والغضبان قد لا يطلق.
فالذي أنكره الشافعي هذه الضروب، فأما أصل القرينة، فلا ينكره ذو فَهمٍ، والدليل عليه أن الرّجل لو قال حاكياً: "أنت طالق" في درج كلام، وكانت زوجته حاضرةً، لم نقض بوقوع الطلاق، وإن جرّد قصدَه في مخاطبتها، وقع الطلاق، إذا لفظ الزوج بالصريح، وصيغة الحكاية كصيغة الخطاب لا تتميز إحداهما عن الأخرى إلا بتحديقٍ أو نغمة مخصوصة، أو وقفةٍ تقطع المخاطبة بالطلاق عن [انثيال] (2) الكلام، ولو لم يقل القائل بهذه الضروب، لما انتظم كلام، [ولالتبس] (3) ما يخاطِب به بما يحكيه.
وهذه الضروب من القرائن تورث العلومَ الضرورية، وعليها تُبْتَنى صيغ الألفاظ في الأخبار، والإقرار، والإنشاء، والأمر، والنهي، فوضح أن الذي أنكره الشافعي ما لا يُثبت العلمَ ويَبْقَى معه التردّدُ واللفظ كنايةٌ في نفسه، فأما ما يفيد العلم، فقرائن الأحوال مع الألفاظ كقيود المقال.
9219- وكل ما ذكرناه فيه إذا أبهم طلقةً -ونوى واحدةً بعينها، فأما إذا أوقع طلقة بين امرأتين أو نسوةٍ ولم يعين واحدةً منهنَّ بقلبه، فيطالب بتعيين واحدة، كما يطالب
__________
(1) ر. الهداية مع فتح القدير: 3/401.
(2) في الأصل: "أثناء" والمثبت تقدير من المحفق.
(3) في الأصل: "ولا لنفسٍ" وهو تصحيفٌ ألهمنا الله صوابه.(14/254)
في القسم الأول بتبيين المنوية المعنية عند إطلاق اللفظ، فالمطالبة في ذلك القسم بالتبيين، وفي هذا القسم بالتعيين.
ثم إذا عيّن واحدةً، فالطلاق يقع من وقت التعيين أو يستند إلى وقت التلفظ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يقع من وقت التعيين.
والثاني - أنه يقع من وقت اللفظ.
توجيه الوجهين: من قال: إنه يقع من وقت اللفظ، احتج بأمورٍ منها أنه جزم الطلاق ونجّزه؛ إذ قال: إحداكما طالق، وليس في لفظه تعليق، فلو أخرنا وقوع الطلاق إلى وقت التعيين، لكان ذلك مخالفاً لمقتضى قوله، وأيضاً؛ فإن التعيين؛ المتأخر ليس بياناً للكلام الأوّل، وليس إنشاءَ طلاق، فإذا كان لا يتأتى منه أن يقول: "عنيت بالطلاق هذه" على معنى الإخبار عما خطر له قبل [الطلاق] (1) ، [لم] (2) يكن قوله عنيت هذه طلاقاً، والطلاق لا بعض له، ويستحيل أن يصير التعيين مع اللفظ السابق بمثابة لفظ منتظم؛ فإن اللفظ الواحد أو الجملة الواحدة لا تتقطع، وقد تخلل بين الأول وبين هذا التعيين زمان ينقطع الوصل بمثله، فلا وجه إلا استناد وقوع الطلاق إلى اللفظ.
ومن قال: يقع الطلاق عند التعيين، احتج بأن الزوج يعين أيتهما شاء عن خِيَرةٍ وتشهٍ، ويستحيل وقوع الطلاق مبهماً من غير نزولٍ على محلٍّ مخصوصٍ ويستحيل بقاء الطلاق محوِّماً على محلٍّ إلى النزول عليه، فلا وجه إلا المصير إلى أنه يقع عند التعيين.
9220- وأهمّ ما يجب الاعتناء به فهْمُ هذا الخلاف وتنزيلُه على حقيقته، ثم ابتداء التفريع وراء ذلك.
ذكر القاضي أن هذه المسألة بينها وبين الكلام في أن القسمة بيعٌ أو إفراز حق مشابهةٌ ومضاهاةٌ في المعنى؛ فإن الشريكين في الدار المشتركة إذا اقتسماها، فوقع
__________
(1) في الأصل: "المسيس" ولعلها سبق قلم من الناسخ، فلا معنى لها في هذا الموضع.
(2) في الأصل: "ولم".(14/255)
بعض الأبنية في حصةٍ والبعض في حصّةٍ، فللشافعي قولان في حقيقة القسمة وماهيتها، قال في أحد القولين: القسمة بيعٌ، وكأن الذي وقع في حصته البيت الشرقي باع حصته من البيت الغربي الذي وقع في حصة صاحبه بحصّة صاحبه من البيت الشرقي، وإلا فالحقان كانا شائعين في البيتين، وهذا القائل يقول: ثبت اختصاص كل واحدٍ منهما بالقسمة ثبوتاً مبتدءاً. هذا أحد القولين.
والقول الثاني - أن القسمة إفراز حق، ومعنى هذا القول أنا نتبين بالأخرة أن حق كلّ شريكٍ من الدار ما تبين وتميز بالقسمة، ولا نُثبت لواحد منهما ملكاً مجدداً.
هذا بيان القولين، ووجه تشبيه ما نحن فيه بمأخذ القولين أنا في وجهٍ نقول: يقع الطلاق على إحداهما على إبهام، ثم إذا تعينت، تبين لها أنها الطالقة قبلُ.
وفي وجهٍ نقول: يقع الطلاق عند التعيين [كما يثبت] (1) اختصاص كل شريك عند القسمة.
وقد بالغ القاضي في استنباط ذلك، وأحسن في إيضاح وجه الشبه؛ فإن الدار كانت على الشيوع حساً، كما جرت اللفظة على الإبهام فيما نحن فيه، وتميُّزُ الحصة ثَمَّ كتعيُّن المطلقة والزوجةِ هاهنا، واستناد [التمييز] (2) ثَمّ إحرازاً أو إفرازاً كاستناد وقوع الطلاق هاهنا.
والمصير ثَمَّ إلى أن القسمة هي المفيدة للتخصيص على الابتداء بمثابة مصيرنا إلى أن التعيين هو الذي يفيد الوقوع متصلاً به غيرَ مستند إلى اللفظ.
وهذا وإن كان حسناً فالوجهان مستقلان في الباب دون هذا التشبيه.
9221- فأما من قال: يستند الطلاق إلى اللفظ، فوجهه بيّن؛ فإن صيغة الطلاق جازمة لا تعليق فيها، ولا سبيل إلى ردّ الطلاق، والتعيين يبيّن بالأخرة التي طُلقِّت أولاً، وهو كما لو أسلم المشرك على نسوة، فالإسلام يدفع الزائدات على الأربع، ولا يتوقف اندفاعهن على تعيين الزوج الممسَكات والمفارقات، غير أن تعيين
__________
(1) في الأصل: لا يثبت، والمثبت من عمل المحقق.
(2) في الأصل: البيتين. والتصويب من صفوة المذهب.(14/256)
الزوجات مرتبط باختيارالزوج، فإذا اختار أربعاً، تبيّنا أن صواحباتهن اندفعن بالإسلام، وتبيّن لنا ذلك آخراً مستنداً إلى الأول.
والقائل الثاني يقول: إيقاع الطلاق من غير محلٍّ محال، ولكن قول الزوج: إحداكما طالق جزمٌ منه في الإيقاع، فاقتضى إيقاع الحيلولة؛ فإن الطلاق -وإن لم يتم - صدر صدوراً لا يرد، فلم يستقل ليقع، ولم يتعلق لينتظر متعلقه، فكان مقتضاه إلزام الزوج إتمامَه ولو بعد حين، فإذا أتمه إذ ذاك وقع الطلاق، فكأنه أوجب الطلاق، ولم يوقعه، وأبو حنيفة (1) يصير إلى أن اللّعان يوجب الفراق ولا يوقعه، والإيلاء عنده (2) يوقع الفراق عند انقضاء المدة، وعندنا يوجبه إذا امتنع من الفيئة، وإبهام الطلاق فيما نحن فيه لا يوقع الفراق، ولكنه [فوق] (3) الإيلاء، فيوقع الحيلولة
ويلزم الإتمام.
والفقيهُ من يطلب في كل موضع ما يليق به، وقد اجتمع في هذه المسألة تنجيزٌ، فعسر ردّه، ولم يصادف محلاًّ متعيناً نُطقاً وعقداً، فمست الحاجة، إلى التعيين إذا (4) لم يجر التعيين أولاً، ثم كان الطلاق مفتقراً إلى التعيين غيرَ معلق به، فنشأ منه الخلاف في أنه واقعٌ أو واجب الوقوع.
هذا حقيقة الوجهين في وضعهما.
9222- ويتم الغرض والبيان بالتفريع، فنقول أولاً: إذا أبهم الطلقة، ولم ينو واحدة، فلا دعوى للزوجات، بخلاف ما لو أطلق اللفظ ونوى بقلبه، فإن للزوجات الدّعوى على الزوج: كل تدّعي أنك عنيتني-على ما سنذكر [في] (5) فصل التداعي والخلاف.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/505 مسألة 1050، مختصر الطحاوي: 215، المبسوط 7/19، 43.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/473 مسألة 998، رؤوس المسائل: 423 مسألة 295، المبسوط: 7/20.
(3) في الأصل: فوت. وهو تصحيف أجهدنا أياماً حتى ألهمنا الله صوابه.
(4) إذا: بمعنى (إذْ) .
(5) زيادة لإيضاح العبارة.(14/257)
وإذا لم يكن من الزوج نيّة، فالدعوى منهن لا معنى لها، ولكنه مطالبٌ بإنشاء التعيين عن خِيرَةٍ وتشهٍ، وهذا بمثابة مطالبة المسلم على النّسوة الزائدات على الحصر بأن يعيّن منهن أربعاً، فلهن الطَّلِبة، وليس لهن الدعوى.
9223- وممّا نفرع على ذلك أنا إن حكمنا بأن الطلاق يقع من يوم التعيين، فالعدة من ذلك الوقت.
وإن قلنا: من يوم اللفظ، [ففي] (1) احتساب العدة وجهان، كما تقدم ذكرهما فيه إذا لفظ بالطلاق وعيّن بالعقد والنية؛ وذلك أن الطلاق في المسألتين وقع من وقت اللفظ، ولكن لما التبس الأمر، اختلف الأصحاب في تاريخ أول العدة، كما تقدم شرح ذلك.
9224- ومما يتفرّع على ذلك أنه إذا أبهم طلقةً ثم وطىء واحدةً، وكان الإبهام بين امرأتين مثلاً، فينظر: إن نوى لمّا لفظ بالطلاق وعين بالقصد، فالوطء لا يكون تعييناً، واتفق الأصحاب أنه لا يكون تبييناً للتعيين السابق الحاصل [بالقصد] (2) ؛ فإن الوطء فعلٌ، والفعل لا صيغة له، ونحن جعلنا الوطء من البائع في زمن الخيار فسخاً، وجعلناه من المشتري إجازة؛ لأن الفسخ والإجازة أمران منشآن، فوقع الحكم بحصولهما، وإنما المستنكر وقوع الفعل بياناً.
هذا إذا نوى لما لفظ بالطلاق.
فأما إذا لم ينو، وكان مطالباً بالتعيين، فهل يكون الوطء الصادر منه تعييناً للمنكوحة حتى تتعين الأخرى بالطلاق، فعلى وجهين: قال القفال: الوجهان مبنيان على أن الطلاق يقع بالتعيين أو يستند إلى اللفظ، فإن حكمنا بأن الطلاق يقع بالتعيين، فالوطء لا يُوقع الطلاقَ، وإن حكمنا بأن الطلاق يقع باللفظ، فالوطء يضاهي اختيار الفسخ، أو اختيار الإجازة من المتعاقدَيْن، وكما اختلف الأئمة في أن الوطء هل يكون تعييناً للطلاق المبهم في التي يكف عن وطئها.
__________
(1) في الأصل: (نهي) وهو تصحيف واضح.
(2) في الأصل: "بالعقد" وهي كذلك في صفوة المذهب: جزء (5) ورقة 26 يمين.(14/258)
كذلك اختلفوا في العتاق إذا أبهم المالك العتق بين أَمَتين، ولم يعيّن واحدة منهما بقلبه عند تلفظه، فإذا وطىء إحداهما، فهل تتعين الموطوءة للملك والأخرى للعتق، فعلى الخلاف الذي ذكرناه، وأبو حنيفة (1) يفصل بين العتق والطلاق، فيقول: الوطء تعيين في الطلاق، وليس تعييناً في العتاق، والمسألة مشهورة معه في الخلاف.
9225- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه إذا أبهم الطلاق ولم ينو، فلما طالبناه بالتعيين في هذا القسم، قال: عَنَيْتُ هذه أو هذه، فنقول: ما زدتنا بياناً، ولم توقع تعييناً. وإن قال: هذه وهذه، أو قال: هذه بل هذه، تعينت الأولى، ولغا لفظه في الثانية، أما تعيين الأولى، فتعليله بيّن، وأما بطلان لفظه في الثانية، فسببه أن تعيينها للطلاق محالٌ، ولا مجال للحمل على الإقرار في هذا القسم والقضاء بموجبه، بخلاف ما إذا نوى عند اللفظ، ثم قال: هذه وهذه، أو قال: هذه بل هذه، فإنا نؤاخذه بموجب إقراره وإخباره عما مضى، ثم يعترض لنا قبول الإقرار الثاني وإن طال الرجوع على (2) الأول إذا لم ينو عند اللفظ، فلا مساغ للإخبار عن ماضٍ، والإقرار إخبارٌ عن ماضٍ، وإذا انحسم الإقرار، فالتعيين يصحّ على وجهٍ يقتضيه اللفظ، واللفظ لا يقتضي إلا مطلّقةً واحدةً، وقد ذكرنا أنه إذا قال: إحداكما طالق ونواهما لم تطلقا، وإنما تطلق واحدةٌ منهما، ثم إذا صح التعيين في واحدة، انحسم التعيين في الأخرى، وهذا فقه حسنٌ، وسواء فرّعنا على أن الطلاق يقع عند التعيين، أو يستند إلى اللفظ، فإن حكمنا بأن الطلاق يقع عند التعيين، فتعليل ما ذكرناه بيّن، وإن أسندنا الوقوع إلى اللفظ تبيُّناً، فاللفظ يكمل بالتعيين؛ فإنه لم يكن كاملاً إذا (3) طلّق ولا مقترناً بنيّةٍ، فإذا حصل إكماله آخراً، لم يقبل الإكمال إلا على صيغة اللفظ.
وتمام البيان فيه أنه إذا نوى عند اللفظ ثم قال: هذه بل هذه، فلا تطلق إلا واحدة في علم الله، والذي ذكرناه مؤاخذة تتعلق بالظاهر؛ لأنا وجدنا للإقرار مساغاً، وإذا
__________
(1) ر. طريقة الخلاف: 155 مسألة: 65، إيثار الإنصاف: 189.
(2) "على" بمعنى: "عن".
(3) إذا: بمعنى (إذ) .(14/259)
اتضح أن لا مساغ للإقرار، فلا وجه إلا ما قدّمناه، وهذا متضح لا إشكال فيه.
9226- وممّا نفرعه على هذا الأصل أنه إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق، ولم يعيّن واحدةً بنيّة، فلو ماتتا، وبقي الزوج، فالذي قطع به أئمة المذهب أن التعيين لا ينحسم بموتهما، وهذا يؤكد أحد الوجهين في استناد الوقوع إلى اللفظ، وإذا قلنا لمن يصير من الأصحاب إلى أن الطلاق يقع عند التعيين: كيف سبيل الحكم بوقوع الطلاق بعد الموت؟ وهلاّ قلتَ: إن الطلاق يمتنع وقوعه بعد فقدان المحل؟ يقول: إن هذا اللفظ وإن كان لا يوقع الطلاق ابتداء، فإنه يوجبه إيجاباً لا يُدفع، ولو حكمنا بأنه يفوت، لوجب أن نقول: إذا بدا للزوج ألا يعيّن، ورأى أن يبقيَهما على النكاح، فلا معترض عليه والنكاحُ يستمرّ، فإذا لم نقل ذلك، تبين أن الطلاق لا بد منه. وقد ذهب أبو حنيفة (1) إلى أنهما إذا ماتتا في الصّورة التي ذكرناها، فقد فات التعيين بموتهما. ومذهبه أن الطلاق يقع عند التعيين، وكان شيخي يميل إلى هذا المذهب، وليس هذا ملتحقاً بمذهب الشافعي، والمذهب المقطوع به ما ذكرناه.
ثم إن كنا نرى استناد الطلاق إلى اللفظ، فلا إشكال؛ فإن فرّعنا على أن الطلاق يقع عند التعيين في حياتهما، ففرض الوقوع عند التعيين بعد الموت محال، ولا بدّ من فرض استناد على هذا الوجه في هذه الصورة، ثم كيف الاستناد؟ وما المستند؟ المذهب الأصح أن الطلاق يستند إلى اللفظ في هذه الصورة، ويلتقي الوجهان؛ فإنا لم نجد إلى رد الطلاق سبيلاً، ولم يمكنا أن نحقّقه عند التعيين، وترددنا بين اللفظ والتعيين، فإذا عسر تحقيق الطلاق عند التعيين، استند إلى اللفظ تبيّنا.
ومن أصحابنا من قال: تطلق المعينة قبيل موتها، فإن عُمرها كان محلّ التعيين، فإذا تصرّم، رددنا وقوع الطلاق إلى آخر زمن يمكن فرض التعيين فيه، وهذا فقيه حسنٌ، وهو يناظر في الظاهر مذهب أبي حنيفة (2) في حكمه بَعتاقة المكاتَب الذي خلف وفاء إذا أخذت النجوم من تركته، فالعتق لا يحصل بعد الموت عنده، ولكن
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 199.
(2) ر. المبسوط: 7/216، رؤوس المسائل: 546 مسألة: 403، طريقة الخلاف: 177 مسألة 70، إيثار الأنصاف: 185.(14/260)
إذا أُدّيت النجوم، تبين حصول العَتاقة قبيل الموت، ويقرب هذا من قولنا برجوع المبيع إلى ملك البائع قبيل التلف، فيصادف الانفساخ ملكاً قائماً، وإن كان قيام الملك ينافي الانفساخ، ولكن لما عسر الحكم بالانفساخ بعد الموت، ودلّ الشرع على أن العقد لا يبقى مع تلف المبيع في ضمان البائع، فانتظم من مجموع ذلك أنا اضطررنا إلى إيقاع الفسخ بالموت قبله. ويكثر نظائر ذلك.
فصل
قال: "فإن ماتتا، أو إحداهما ... الفصل" (1) .
9227- إذا طلق إحدى المرأتين، ثم فرض طريان الموت قبل التبيين، أو قبل التعيين، فلا يخلو إما أن يفرض في جانبه وإما أن تموتا ويبقى، وإما أن تموت إحداهما ثم يموت الزوج.
فإن ماتتا وبقي الزوج، نظرنا: فإن كان لفَظَ ونوى وكان مؤاخذاً بالتبيين، فإذا بيّن الطلاق في إحداهما، سقط ميراثه منها، وبقي ميراثه من الأخرى، وبيانه لا شك مقبول، فلو ادّعى ورثةُ التي عينها للزوجيّة ليرثها أنه كان عيّنها للطلاق عند اللفظ، فالقول قوله مع اليمين ما عيّنها (2) ، فإن نكل، حلفوا وخرج الميراثان: أحدهما لإقراره، والثاني لقيام يمين الرد بعد إنكاره ونكوله.
وإن أطلق اللفظ أولاً، ولم ينو بقلبه ثم ماتتا -وقد ذكرنا أنه يعيّن بعد الموت- فإذا عين واحدة للطلاق، ورث الأخرى، ولا يتوجّه عليه الدعوى، وقد ذكرنا الآن أن التعيين لا ينحسم بموتها، وأبو حنيفة لمّا صار إلى انحسام التعيين، ورّث الزوج منهما جميعاً، ولكن لم يُثبت له تمامَ الميراث من واحدة منهما، وقضى بأنه يأخذ من تركة كل واحدة منهما نصف ميراث زوج.
وهذا كلام مختبط لا أصل له، فإن التعيين إن انحسم، فمقتضاه سقوط الطلاق رأساً، وإن ماتتا على الزوجية، فالزوج يرثهما ويثبت له من تركة كل واحدة منهما
__________
(1) ر. المختصر: 4/85.
(2) في الأصل: فالقول قوله مع اليمين مع ما عينها.(14/261)
ميراث زوج، وكان شيخي في ميله إلى هذا المذهب يُثبت له ميراثين، وفرّع أبو حنيفة مذهبه، فقال: إذا ماتت إحداهما، تعيّنت الحيّة للطلاق، ووقع الحكم بأن التي ماتت زوجة، وكان شيخي في تقدير اختياره وراء (1) المذهب يصحح هذا التفريع ويقول به، وهو لعمري صحيح لو صح الأصل، ولكن ما ذكره الشيخ إظهار ميلٍ، وما أجمع عليه الأصحاب أن التعيين لا ينحسم بالموت.
هذا كله فيه إذا ماتتا وبقي الزوج.
9228- فأما إذا مات الرجل وبقيتا، فهل يقوم الوارث مقام الزوج في البيان والتعيين؟ اختلف طرق أصحابنا: فمنهم من قال: في التبيين والتعيين جميعاًً قولان: أحدهما - يقوم الوارث مقامه في البيان والتعيين جميعاًً؛ لأن الوارث خَلَف الموروثَ، فيقوم مقامه في التبيين والتعيين جميعاً، كما يخلفه في حق الشفعة والردِّ بالعيب، وحبسِ المبيع واستلحاقِ النسب.
والثاني - لا يقوم الوارث مقامه؛ لأن حقوق النكاح لا خلافة فيها، فلا تتعلق الوارثة بشيء منها، كحق اللعان، وأقرب الأحكام شبهاً بما نحن فيه أن من أسلم (2) وتحته عشر ومات قبل البيان، فالورثة لا يقومون مقام المورّث في تعيين أربع، ولا يكاد ينفصل هذا عن إطلاق الطلاق من غير نيةٍ، هذه طريقة الأصحاب.
ومنهم من قال: إن كان نوى [لمّا] (3) لَفَظَ، فالوارث يقوم مقامه في البيان؛ إذ قد يكون للوارث اطلاع على ما نواه المورث، [كأن] (4) كان سمعه أو تبيّنه من مَخيلةِ حاله، وعلى مثل ذلك تَعْتَمد المرأة في الحلف إذا أفضت الخصومة إلى ردّ اليمين عليها.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: يقوم الوارث مقام المورث في التعيين إذا لم يكن اقترن باللفظ نية، فإن اقترن باللفظ نيّة، فهل يقوم الوارث مقام المورث في التبيين، فعلى قولين.
__________
(1) وراء المذهب: أي مع اختياره المذهب.
(2) في الأصل: أن من أسلم وأسلمت وتحته ...
(3) في الأصل: "لصّاً" وهو من عجائب وغرائب التصحيف.
(4) في الأصل: "فإن".(14/262)
وينتظم من جميع هذه الطرق أقوال: أحدها - أن الوارث يقوم مقام المورثِ في التبيين والتعيين.
والثاني - أنه لا يقوم مقامه فيهما.
والثالث - أنه يقوم مقامه في التبيين ولا يقوم مقامه في التعيين كالعدد الزائد في مسألة نكاح المشركات.
هذه طرق مرسلة.
وذكر الشيخ القفال طريقة مفصلة حسنة، موافقة لظاهر النص، فكان يقول: إن كانت المرأتان حيتين، فليس للوارث التعيين ولا البيان؛ لأنه [لا] (1) غرض للوارث في أن تكون المطلقة هذه أو تلك، فإن ميراث الواحدة ميراث الاثنتين ربعٌ أو ثمن، وإذا لم يكن له غرض، فهو كالأجنبي وليس كالزوج، فإنه صاحب الأمر، ومنه الواقعة، وإليه المآل.
9229- وإن ماتت إحداهما ثم مات الزوج، ثم ماتت الأخرى، فإن عين الوارث الميتة (2) للطلاق، قُبل قوله، فإنه أقر على نفسه بما يوجب حرماناً من حقٍ، واقتضى استحقاقَ حقٍّ عليه، فكان هذا من قبيل قبول الأقارير، فهذا مقبول قولاً واحداً؛ فإنه في التحقيق أضر بنفسه من وجهين.
وإن عين الطلاق في الحيّة بعد الزوج، فله في هذا غرض صحيح، وللقصد به تعلُّق، فإن هذا لو ثبت، يخلُصُ له ميراث أبيه، ويثبت حق الإرث في تركة الميتة، فهل يُقبل قول الوارث حتى يثبت غرضه في التركتين؟ فعلى قولين، ثم يحسن في هذا المقام إعادة الطرق في التبيين والتعيين.
9230- ولو كانتا ميتتين، فقد يظهر غرض الوارث في التعيين بأن يكون الميراث من إحداهما أكثر، وقد يكون له غرض في عينٍ من أعيان التركتين. وهذا كلام مستعارٌ، فلا ينبغي أن يكون إلى أقدار المواريث التفات أصلاً، والغرض أن يكون
__________
(1) في الأصل: لأنه اغرض للوارث.
(2) في الميتة: أي الميتة قبل الزوج، كما يفهم من السياق، ويزداد وضوحاً بما يأتي.(14/263)
للخصومة تعلّقٌ بالوارث، فلا نظر إلى الغرض مع هذا.
وإذا كانتا حيتين، فهذا المعنى معدوم، ولكن عبّر الأصحاب عما ذكرناه بالأغراض.
ولو كان أجمل عتقاً بين عبدين ومات وبقيا، فهذا محل القولين في بيان الوارث؛ فإن استحقاقه يتعلق بأحدهما، وهذا لا يتحقق في الزوجتين الحيتين.
9231- فحاصل كلام القفال وإليه ميل معظم المحققين أن الكلام يقع مع الوارث في ثلاث صورٍ: إحداها - ألا يكون له غرض في التبيين والتعيين، فلا نجعله من أهل واحدٍ منهما.
والثاني - أن تتعلق الواقعة بغرضه، فيأتي بكلام يَضرُّ به نفسَه، فيقبل ذلك منه قبولَ الأقارير.
وإن كانت الواقعة متعلقة بغرضه، وقال قولاً في البيان والتعيين ينفعه من كلّ الوجوه، أو ينفعه من وجهٍ، ففي قبول البيان والتعيين قولان. هذا مسلكه.
ثم يجري الفرق بين البيان والتعيين على المراسم التي قدمناها، حيث يجري اختلافُ القول في القبول، ويتطرق إلى ما ذكره من القطع بالقبول في صورة الإضرار أن يُقْبَلَ البيان إقراراً، وفي التعيين وإن كان مضراً التردد الذي ذكرناه.
9232- وأطلق العراقيون وصاحب التقريب إجراءَ القولين في تبيين الورثة وتعيينهم وإن لم يكن لهم غرض.
وهذه الطريقة ليست بالمرذولة، فإنا لا نقبل قول الوارث بغرضه، إذ قبول الأقوال لا يناط بأغراض القائلين، وإنما يناط بكونهم من أهل القبول تأصلاً أو خلافةً، وهذا المعنى يتحقق في حق الورثة وإن لم يكن لهم غرض.
وهذا لا بأس به إلا في صورة واحدة، وهي إذا أقر الوارث بما يضره، فيجب قبولُ ذلك وقطعُ القول بهِ، وشرطه أن يكون إقراراً، ولا يكون تعييناً، فهذه الصورة مستثناة، لا يرتاب فقيه في استثنائها؛ فإنه أقرَّ بحرمان نفسه واستحقاق غيره، وقبول ذلك لا مراء فيه.(14/264)
هذا منتهى القول فيما يقبل ويرد من تبيين الورثة وتعيينهم وذكْرِ اختلاف الطرق والمسالك.
9233- ثم يتفرع عليه أنا إذا لم نقبل قول الوراث والزوجتان ميتتان نُظر: فإن ماتتا بعد الزوج، وقفنا بين ورثتيهما ميراث زوجة من تركة الزوج، وإن كانتا حيتين، وقفنا بينهما ميراث زوجة.
وإن مات الزوج، ثم ماتت إحداهما والأخرى حيّة، وُقِف ميراث زوجةٍ بين الحيّة وبين ورثة الميتة، ولو ماتتا ثم مات الزوج، وُقِف لورثة الزوج من تركة كل واحدة منهما ميراث [زوج] (1) إلى أن يصطلحوا.
ولو ماتت إحداهما، ثم الزوج، ثم الأخرى، وُقِف لورثة الزوج من تركة الأولى ميراث زوج، ووقف من تركته لورثة الأخرى ميراث زوجة إلى أن يصطلحوا.
وإن أقبلنا، (2) قول الوارث، فقد يُفرض نزاع وخلاف، وسنذكره في فصلٍ مفردٍ عند نجاز الباب.
9234- وقد كنّا أخّرنا فصلاً في وقوع الإشكال بين الطلاق والعَتاق، وهذا أوان ذكره، وإذا انتجز، ذكرنا بعده الخلاف بين المطلِّق والزوجتين، ثم بين الزوجتين والورثة ونُلحق بهذا المنتهى فروعاً نستدرك ما انسلّ عن ضبط الأصول.
فصل
قال: "ولو قال: حنِثتُ بالطلاق أو العتاق، وقف عن نسائه ورقيقه ... الفصل" (3) .
9235- إذا حلف يمينين: إحداهما بالطلاق والأخرى بالعَتاق، وتيقّن الحِنث [في] (4) إحداهما، ولم يدر أنه حنث في أيتهما. وتصوير ذلك هيّن، فلو سَقَته في
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: قلنا.
(3) ر. المختصر: 4/85.
(4) في الأصل: مِنْ.(14/265)
ظلمة الليل جاريةٌ، فقال: إن كانت الساقية امرأةً من نسائي، فهي طالق، وإن كانت جارية، فهي حرة، وقد يفرض هذا في الطائر، فإذا قال: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وإن لم يكن غراباً، فعبدي حر.
هذا هو التصوير.
قال الشافعي: يوقف عن النساء والعبيد، ولا يمكّن من أن يستمتع بالنساء، ويتصرف في العبيد، ويؤمر بالإنفاق عليهم، لأنهم في حبسه، ثم يؤمر بالتبيين، كما تفصّل من قبل.
9236- ولو مات قبل البيان، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: في قيام الوارث مقامه في البيان أو التعيين قولان، كما ذكرناهما في المرأتين وفي العبدين، وكل كلام يجري في الطلاق المبهم الفرد، أو العَتاق المبهم الفرد، وجب أن يجري إذا ارتبط الاستبهام بالطلاق والعَتاق.
ومن أصحابنا من قطع القول بأن الوارث لا يبيِّن ولا يعيِّن إذا تعلق الإبهام بالطلاق والعَتاق، والسبب فيه أن القرعة تجري في العَتاق، وإن عارضه الطلاق.
وهذا من الهذيان الذي لا مبالاة به إلا أن يُجري صاحب هذه الطريقة مسلكه في العتق الممحّضّ؛ فإن العتق إذا تمحّض، فهو أولى بالقرعة منه إذا عارض العَتاقُ الطلاقَ.
ثم من قال بالبيان قدّمه على القرعة، كما في حالة الحياة.
وإن لم نقل بالبيان، أو قلنا به، ولكن لم يبيّن الوارث، فالقرعة تجري، فَنُقرِع بين الأمة والزوجة، فإن خرجت على الأمة عَتَقَت، وتعينت المرأة للزوجية؛ إذ لا يتصور التعيين إلا مع زوال الإبهام. ومن ضرورة زوال الإبهام ما ذكرناه.
وإن خرجت القرعة على المرأة، لم تطلق؛ فإن القرعة لا تؤثر في إيقاع الطلاق أصلاً، وإنما [أثرها] (1) في العتاق. ثم إذا خرجت القرعة على المرأة، وحكمنا بأن
__________
(1) في الأصل: أثرنا.(14/266)
القرعة لا تؤثر، فالمذهب المبتوت أن الأمر يبقى ملتبساً، ويسقط ما كنا نبغيه بالقرعة من البيان.
وفي بعض التصانيف أن القرعة تعاد مرّة أخرى عند بعض أصحابنا، وعندي أن صاحب هذه المقالة يجب أن يخرج من أحزاب الفقهاء؛ فإن القرعة إذا كانت تعاد ثانية، فقد تعاد ثالثة، ثم لا يزال الأمر كذلك حتى تقع على الأمة؛ فإن القرعة تُسْتَخْرجُ عليها. وحق صاحب هذا المذهب أن يقطع بعتق الأمة، وهذا لا سبيل إليه.
وذكر طوائف من أصحابنا أن الطلاق وإن كان لا يقع على المرأة، فالقرعة تؤثِّر في إرقاق الأمة.
9237- فقد تحصّل سوى الوجه الفاسد وجهان: أحدهما - أن الأمر يبقى ملتبساً في العتق، والطلاق. والثاني - أن الأمة تَرِقُّ.
فإن قيل: ألستم قلتم: إذا خرجت القرعة على الأمة، عَتَقت وتعينت الزوجة للزوجية، وقطعتم بهذا؟ فهلاّ قطعتم بأن الأمة ترِق؟ قلنا: لأن القرعة إذا وردت على الأَمَة، فقد خرجت على محلٍّ تؤثِّر القرعة فيه وهو العَتاق، وإذا خرجت على الطلاق، فلا أثر لهذا في هذا المحل، وإذا لم يكن لها أثر، لم يبعد أن تُلغى حتى يستمر اللبس.
ويتعلق بهذا الفصل مسائل لطيفة في الاختلاف، سنذكرها في فصلِ الاختلاف، وهذا أوان افتتاحه.
فصل
مشتمل على وجوه الاختلاف
مسائله:
9238- إذا قال الرجل لامرأتيه: إحداكما طالق، وكان نوى واحدةً منهما بقلبه، فلما طالبناه بالبيان، [فإن] (1) عيّن واحدة منهما تعينت، فإن لم تخاصم الأخرى، فلا تعرّض لهما ولا تبقى طَلِبةٌ من جهة السّلطان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(14/267)
وإن قالت الأخرى: نويتني وعنيتني، فالخصومة تدار بينهما: فيحلف الزوج بالله لم ينوها ولم [يعنها] (1) ، فإن حلف، انقطعت الخصومة، ويمينه على البت، فإنه ينفي فعلَ نفسه، فإن نكل، رُدَّت اليمين على المرأة، فإن حلفت، حكمنا بوقوع الطلاق عليها ظاهراً، لأجل يمينها، وقد نُثبت طلاق الأولى بإقراره.
وإن نكلت عن يمين الردّ، كان نكولها بمثابة حَلِفهِ.
ولو قال الزوج لما طالبناه بالبيان: قد كنت نويت وعنيت إحداكما ثم نسيت، فإن صدقناه، فلا طَلِبةَ، فإن المطالبة بالتعيين تأتي من جهتهما، فإذا رضيتا بالمقام تحت الاحتباس، فلا تعرض للسلطان. نعم، يُمنع من مُلابستهما جميعاًً، ومن مُلابسة كل واحدة منهما.
فأما إذا ادعى الرجل النسيان، فكذبتاه، فإذا سبقت واحدة وقالت: عنيتني، فقال في جوابها: لا أدري، فلا يقبل ذلك منه. ولو قال: حلّفوني بالله: لا أدري، لم نكتف بهذه اليمين منه، فإن المحلوف عليه فعله، فلتكن يمينه جازمةً، ولو فتحنا هذا الباب، لما توجهت يمين جازمة على من يُدّعى عليه استقراضٌ، أو إتلافٌ، أو قتلٌ أو غيرُها.
فإن قال الزوج: أتجوّزون صدقي؟ قلنا: نعم، فلو قال: فلم تطالبونني باليمين الجازمة، وأنا أمنحكم يميناً جازمةً في أني نسيت؟ قلنا: لا سبيل إلى إجابتك.
ولكن وراء هذا سرّ، وهو أنا لا نقضي بنكولك عن اليمين المعروضة عليك، بل نقول: اليمين مردودة على المدّعية، فإن حلفت، وقع القضاء بيمين الرد، وهي حجة جازمةٌ في الخصومة نازلةٌ في طريقةٍ منزلةَ البيّنة، وفي طريقةٍ منزلةَ الإقرار.
9239- ومما نذكره على الاتصال بهذا أنه لو كان قال: إن كان هذا الطائر غراباً فزينبُ طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرةُ طالق، ثم فرضت الدعوى منهما أو من إحداهما وكانتا لا تدعيان طلاقاً إلا من هذه الجهة، فلو قال: قلت ما قلت من تعليق
__________
(1) في الأصل: بعينها.(14/268)
الطلاق، وأنا في كِنٍّ والليلُ ملقٍ [سُودَ أكنافه] (1) على الآفاق، وقد مرّ الطائر، فكيف أطلع على جنسه، فاقنعوا مني بيمينٍ على نفي العلم؛ إذ لا خلاف أن المحلوف عليه لو كان أمراً أنفيه من فعل غيري، لكنت أحلف على نفي علمي به، مثل أني لو قلت: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، ثم ادّعت المرأة الدخول، كان يكتفى مني بالحلف على نفي العلم بالدخول؛ من جهة أن إحاطة العلم بنفي فعل الغير يعسر، وإذا كان يقع الاكتفاء بنفي العلم لتعذر الإحاطة، فإحاطة العلم بجنس الطائر في الصورة التي ذكرناها أعسر، والدَّرك فيه أبعد.
قلنا: إن سلمت المرأتان الصورة التي [ذكرها] (2) الزوج، فقد تحقق أن العلم منه بجنس الطائر غيرُ ممكن، فهذا اعتراف منهما بأنه ليس يعلم حقيقة الحال. وإن اعترفتا كذلك، فلا يتصوّر من واحدة منهما دعوى منضبطة عليه. وحكم هذه الصورة ما تقدم من أنهم إذا اعترفوا بالإشكال، تُرك الأمر مبهماً، وانقطعت طَلِبةُ البيان، ويلزمه أن يَرُد عليهما حقوقَ النكاح.
وإن ادعى الزوج حالةً لا يتصوّر معها الإحاطة بجنس الطائر، وأنكرت المرأتان ذلك، وادعت كل واحدة منهما على البت أنه طلقها، فلا يُكتفى منه بادعاء نفي العلم، وإن أبدى الجهلَ، جُعل ذلك إنكاراً منه، وعُرضت عليه اليمين الجازمة، فإن تمادى على ادعاء الجهل، جُعل ذلك بمثابة النكول عن اليمين، وتردّ اليمين على المدعية، فإن قال الزوج: إذا كان لا يمتنع صدقي في دعوى الجهالة، فكيف تستجيزون إثبات الطلاق؟ قلنا: لسنا نثبت الطلاق بنكولك عن اليمين، وإنما أثبتناه بيمينها الجازمة في إثبات الطلاق، ولكن سبيل الوصول إلى يمين الرد في ترتيب الخصومة ما ذكرناه.
وهذا قدمنا تقديره فيه إذا قال: إحداكما طالق، وكان قد عيّن بقلبه إحداهما، ثم زعم أنه نسي من نواها.
__________
(1) في الأصل رسمت هكذا: سودا كنا فيه.
(2) في الأصل: ذكرناها.(14/269)
9240- ولو ذكر في مجلس الحكم صورة الحال، وكانت المرأتان لا تدعيان الطلاق إلا من جهة التعليق في مسألة الطائر، فتقدمت امرأة كان علق طلاقها بكون الطائر غراباً، [فقد ادعت] (1) أن الطائر الذي علق الطلاق به كان غراباً، فهذه الدعوى يجب أن يجيب عنها؛ فإن التنازع محصور في صفة الطائر.
فالذي أراه أن الزوج ينفي كونه غراباً جزماً؛ فإن الاطلاع على جنس الطائر ممكن، وهو من قبيل الإثبات الذي حقه أن يحلف عليه جزماً، فإن ادعى الجهل، جُعل منكراً ثم ناكلاً، وتُعرض اليمين الجازمة على المدّعية. وإن كان الشيء في جنسه مما يفرض الاطلاع عليه، فلا ننظر إلى تفاصيل الصور، وهذا كما أنا إذا جعلنا اليمين على نفي فعل الغير على [نفي] (2) العلم، فلا نغيّر هذا الأصل بتصوّر الإحاطة بالنفي في بعض الصّور.
فإن قيل: نفي كون الطائر غراباً ليس بإثبات. قلنا: كم من نفي يجب أن يكون اليمين عليه جزماً، وإنما تكون اليمين على نفي فعل الغير على [نفي] (3) العلم فحسب، ونفي صفةٍ في طائر كإثبات صفة فيه، وسبيل العلم في البابين على نسق واحدٍ.
فهذا ما أراه في ذلك.
وبالجملة ما يفرض من إشكالٍ في ذلك بمثابة ما لو قال الزّوج: نسيت ما نويت، ولا ينفع الزوج ذلك، وإن كان ما يدّعيه ممكناً.
فهذا منتهى الغرض في ذلك.
9241- ومما نذكره في [الاختلاف] (4) أنه لو وقع الإبهام بين الطلاق والعَتاق، كما صورناه في جاريةٍ وزوجةٍ، فإن قال: حَنِثْتُ في العتق عَتَقت، وبقيت الدعوى للمرأة؛ فإن حلف الزوج، أنه لم يحنَث في طلاقها، انفصلت الخصومة، وإن
__________
(1) في الأصل: "فقال: أدعي" وهو تحريف لا يستقيم معه الكلام، والمثبت تصرّف من المحقق.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: اختلاف.(14/270)
نكل، رُدت اليمين على المرأة. ولو قال: لا أدري، لم نقنع منه بهذا، كما تقدّم ذكره.
ولو كان علق عتق عبيدٍ وطلاقَ نسوةٍ على الإبهام، فادّعت واحدة من النساء الحِنْث، فنكل الزوج، وحلفت، ثبت طلاقُها، ولم يثبت طلاقُ صواحباتها، وإن كان اليمين بطلاقهن والحِنْث لا يتبعّض، ولكن إنما ثبت الحنث باليمين ويمينُ واحدةٍ لا يثبت في حق الغير، وهذا كما لو مات رجل وخلّف ابنين، وكان له على إنسانٍ دين، فلو أقام أحدهما شاهداً وحلف معه ثبتت حصته من الدّين، ولم تثبت حصة أخيه، وهو على دعواه، ولو أقام أحد الابنين شاهدين، ثبت جميع الدّين في حق الأخوين، وهذا واضح.
ولو قال الزوج: إن دخلتُ الدار فأنتن طوالق، فادعت المرأة أنه دخل الدار وعرضنا اليمين عليه فنكل، فحلفت تلك المدعية، طلقت، ولم تطلق صواحباتها؛ لما ذكرناه.
وقد يعترض للإنسان أن الطلاق يتعلق بحق الله، ولكن حق الله لا يثبت في حق الغير بيمين الغير أيضاًً، وإذا كانت الدعوى تتوجه والخصومة تَتَرتّبُ تحليفاً ورداً، فالأصل الثابت الذي لا مراء فيه ما ذكرناه من أن اليمين لا تُثبت شيئاً في حق غير الحالف.
9242- ومن بقية الكلام في الاختلاف أن الذي أبهم الطلاق إذا مات، فقد ذكرنا أن الوارث هل يقوم مقامه في البيان، فإن قلنا: لا يُقبل بيانه، فلا تتوجه عليه الدّعوى؛ فإنه بمثابة الأجنبي في القول الذي نفرّع عليه.
وإن قلنا: إن بيانه مقبولٌ، فإن كان لا يتعلق به حقّ وغرض، ورأينا قبولَ قوله في بعض الطرق، وذلك مثل أن يموت الزوج ويخلّفَ زوجتين قد أبهم بينهما طلقةً مُبينةً، فلو امتنع عن البيان، فلا تتوجه عليه الدعوى منهما؛ فإنه لا يتعلق بعين واحدةٍ منهما [غرضه] (1) بوجهٍ.
__________
(1) في الأصل: "بغرضه".(14/271)
وإن كانت المسألة مفروضةً حيث يتعلق الأمر بغرضه مثل أن يكون الإبهام في عتق عبدين، فتتوجّه الدّعوى على الوارث، ثم [إن] (1) ادعى أحدهما أن أباه حَنِث، فإنه يحلف على نفي العلم: "بالله لا يعلم أن أباه حَنِث" ثم لا يخفى تمام الخصومة، لو فرض النكول والردّ.
فهذا تمام المراد، ثم ما لم نذكره لا يخفى قياسه، فلم نر المزيد على هذا.
وإذا كان الإبهام بين العتق والطلاق، ومات المبهِم وقلنا: تعيين الوارث مقبول، فإذا زعم أنه كان حَنِثَ في الطلاق، قُبل قوله، وللمرأة أن تحلِّفه، فيحلف على الإثبات أن أباه حَنِث في الطلاق.
ثم للعبد أن يحلّفه، فيحلف بالله: لا يعلم أن أباه حَنِث في عتقه؛ فإن اليمين في حقه متعلقة بنفي فعل الغير، وهذا جارٍ على الأصل الذي مهدّناه.
وقد نجز ما أردناه في ذلك والله المستعان.
فروع متعلقة بالباب:
9243- إذا أشار الرجل إلى امرأته وأجنبية، وقال: إحداكما طالق، ثم ادّعى أنه أراد بذلك الأجنبية، فهل يصدق في ذلك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب الأكثرون إلى أنه يصدّق فيما يدعيه؛ فإن قوله إحداكما صريح في الترديد بينهما.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق على زوجته، فإنه أرسل الطلاق بين أجنبية ليست محلاً لطلاقه، وبين زوجته، فينزل الطلاق على التي هي محل الطلاق، ويلغو موجبُ الترديد، وهو كما لو أوصى بطبلٍ من طبوله، وله طبل حربٍ وطبولُ لهو، فالوصية تنزل على طبل الحرب؛ فإنه محل الوصية الصّحيحة، والطلاق أولى بالنفوذ من الوصية.
ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن الزوج إذا قال: زينب طالق، وكانت زوجته تسمى زينب ثم قال: أردت بذلك جارتي وهي زينب، فالأكثرون من الأصحاب
__________
(1) زيادة من المحقق، مع أنها ساقطة أيضاًً من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 30 يمين.(14/272)
صاروا إلى أن الطلاق واقع، ولا يُقبل حمله إيّاه على الجارة؛ فإن الطلاق لا يردّ، ولا يحمل على [اللغو] (1) .
ومن أصحابنا من قال: يقبل ذلك؛ فإن لفظه محتمل له، والأصل بقاء النكاح ومال إلى اختيار ذلك القاضي، وهذا التردد في الظاهر.
فأما من أنكر قبول قوله ظاهراً لا (2) يُنكر أن الطلاق لا يقع باطناًً بينه وبين الله إذا صُدِّق.
والجهل لا يمنع وقوعَ الطلاق بلا خلاف، فلو كان نسي أن له زوجة، فقال: زوجتي طالق، طلقت.
ولو أشار إلى عبدٍ لأبيه وقال: أعتقتك، ثم تبين له أنه كان قال هذا وأبوه قد مات والعبد رجع إليه ميراثاً، فالعتق نافذ.
فرع:
9244- إذا أبهم طلقة مُبينة بين امرأتين، فيلزمه البيان أو التعيين، كما مضى تفصيله، ولو أبهم طلقةً رجعيّة بينهما، فهل يلزمه أن يُبيِّن أو يعيّن، فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه؛ فإن الرجعيّة زوجة.
والثاني - يلزمه؛ فإنها محرّمة، والحيلولة مستحقة بالطلاق الرجعي، والأصح الأول. والله أعلم.
فرع:
9245- إذا طار طائر، فقال زيد: إن كان غراباً فعبدي حر، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فعبدي حر، فلا نحكم بعتق واحد منهما، كما تقدم ذكره، فلو اشترى أحدهما عبد الثاني، فالشراء صحيح، ولكن إذا اجتمع العبدان في ملكه؛ فلا شك أن أحدهما في معلوم الله حر، وإنما كنا لا نحكم بهذا لتعدد المالكَيْن وتعذر
__________
(1) في الأصل: "ولا يحمل على موجب العادة" والمثبت من المحقق على ضوء عبارة ابن أبي عصرون، وهي: "فإن الطلاق لا يردّ، ولا يلغو"
وربما كان صوابها: "فإن الطلاق لا يردّ، ويحمل على موجب العادة" أي أن العادة لا تجري بتطليق الرجل زوجة جاره.
(2) جواب (أما) بدون الفاء.(14/273)
جمع الخطاب وهما متفرقان، فإذا اجتمع العبدان، في ملكٍ واحد منهما، فهما في حقه مجتمعان الآن، وهو مخاطب واحد.
وقد ذكر صاحب التقريب وجهين بعد التنبيه لما ذكرناه: أحدهما - أنهما إذا اجتمعا في يده وتصرّفه، فيوقف عنهما جميعاًً إلى أن يتبين الأمر، ويصير بمثابة ما لو كان العبدان جميعاًً في ملكه أو لا، فقال: إن كان هذا الطائر غراباً، فعبدي سالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فعبدي غانم حرّ، [وهوى] (1) الطائر وأشكل الأمر، وهذا أصح الوجهين، وقد قدّمت ذكره.
والوجه الثاني - أن يده لا تُقبض عن التصرّف في عبده الأوّل؛ لأن الحكم فيه هكذا جرى، فلا نغير الحكم المتقدم، وإنما نمنعه من التصرف في عبده الذي اشتراه، فإن هذا عبد جديد، فنجدّد فيه حكم الوقف، ثم لا نقطع في العبد الثاني بالحرية، ولكن نقفه عن التصرّف فيه إلى أن يبين حقيقة الأمر، والوجه الأول أقيس.
والله أعلم.
***
__________
(1) في الأصل: وهو.(14/274)
باب الهدم
9246- إذا طلق الرجل الحرّ زوجته ثلاثاً أو استوفى العبدُ ما يملك، فطلّق زوجته طلقتين، حرمت الزوجة وحرم نكاحُها، ثم يمتدّ تحريم النكاح إلى التحليل، كما قدمنا وصفه في الأبواب المتقدمة، وقد أطلق الفقهاء أن وطء الزوج المحلِّل يهدم الطلقات الثلاث، وترجمة الباب توافق هذا، وهذا فيه استعارة وتجوّز؛ فإن الطلاق بعد وقوعه لا يتصور هدمه، ولكن الطلاق الواحد والاثنين في حق الحر لا يحرِّم عقدَ النكاح، بل إن كان رجعياً، لم يخف حكمه، وإن كان مُبيناً، فلا بدّ من نكاح جديد، وإن استوفى ما يملك من الطلاق، تعلّق باستيفائه تحريمُ النكاح، ثم هو في التوقيف ووضع الشرع ممتد إلى اتفاق التحليل والتخلّي من الزوج المحلل، ثم يقال: انقضت الطلقات الثلاث، وانتهى حكمها، وصارت المرأة إذا نكحها الأول بمثابة أجنبية ينكحها الرجل ابتداء، فيملك عليها ثلاث طلقات.
ثم أطلق الفقهاء الهدم وعنَوْا به أنها تعود بثلاث طلقات، ولم يُريدوا أن تلك الطلقات الواقعة تُهدَم بعد وقوعها وتزول؛ إذ لو زالت، لعادت المرأة منكوحةَ الأول من غير احتياج إلى نكاح جديد.
ولو طلق امرأته طلقةً أو طلقتين، ولم يستوف العددَ، فانسرحت المرأة ونكحت وأصيبت، ثم تخلّت، ونكحها الأول؛ فإنها تعود إلى الأول ببقية الطلاق عندنا وعند محمد، وقال أبو حنيفة (1) : إذا نكحت ووطئها الزّوج، ثم تخلّت عن النكاح والعدة ونكحها الأول عادت إليه بثلاث طلقات، والمسألة مشهورة في الخلاف.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/409 مسألة 914، رؤوس المسائل: 420 مسألة 292، المبسوط: 6/95، طريقة الخلاف: 100 مسألة 42، إيثار الإنصاف: 162، الغرة المنيفة: 160.(14/275)
وقد نجزت المسائل المنصوصة في (السواد) (1) وما يتصل بها.
وهذا الكتاب من بين الكتب كثير الفروع والشعب؛ فإنه مبني على الألفاظ، ولا نهاية لما ينطق الناطقون به تنجيزاً وتعليقاً، وينضم إلى دَرْك الصيغ أمورٌ تتعلق بالعادات، والحاجة تَمس إلى الإحاطة بحقيقتها ضمّاً إلى دَرْك الألفاظ، ونحن لا نألوا جهداً في الإتيان بها والتنبيه على ضوابطَ فيها، وتقرير أصولٍ تهدي إلى المراشد فيما نذكره، وفيما ينسلّ عن ذكرنا وحفظنا، ونحرص أن نُجري الفروع مصنفةً، ونذكرها صنفاً صنفاً وما لا يدخل تحت ضبط التنويع نجمعه في مسائل شتى، وإلى الله الرغبة في التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فروع في تعليق الطلاق بالحيض:
9247- إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً مستأنفة، حتى لو كانت في خلال حيض، لم تطلق في الحال؛ حتى تطهر ثم تحيض، والسبب فيه أن الشرط يستدعي استئنافاً، وبقية الشيء لا تكون استئنافاً فيه لساناً وعرفاً، حتى لو قال لامرأته والثمار مُدركةٌ إذا أدركت الثمار، فأنت طالق، اقتضى ذلك إدراكاً مستأنفاً يأتي في العام القابل.
ثم إذا رأت دماً مستأنفاً، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإن كان على ترتيب الأدوار؛ فإنه قد ينقطع دون أقل الحيض ويكون دمَ فسادٍ، والطلاق معلق بالحيض، فإذا استمر الدم المسبوق بطهرٍ كامل يوماً وليلةً، تبينا أنه دم حيضٍ، ثم الطلاق يتبين وقوعه مستنداً إلى أول جزءٍ من الدّم؛ [فإنّا] (2) تحققنا آخراً أن ما رأته أولاً دمُ حيضٍ وتوقُّفنا، كان لنتبين.
ويعترض في ذلك أنها إذا رأت الدّم، فهل يجب اجتنابها في الاستمتاع ناجزاً؟ هذا بمثابة ما لو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، وقد ذكرنا في ذلك بياناً كافياً.
__________
(1) السّواد: المراد مختصر المزني، كما أشرنا مراراً من قبل.
(2) في الأصل: فأما.(14/276)
9248- ثم إذا قالت المرأة -وقد علّق الطلاق بحيضها-: "قد حضت"، فالقول قولها مع يمينها، ولو كذّبها الزوج، فلا معتبر بتكذيبه.
والذي عليه التعويل في ذلك يبينُ بتقسيمٍ: فإن علق الرجل طلاق امرأته بأمرٍ يظهر ويُتَصور إثباته بالبينة مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت طالق،. فإذا زعمت أنها دخلت، وأنكر الزوج دخولها، لم نصدقها، ولم نقض بوقوع الطلاق حتى يَثْبت الدخول بالبينة.
ولو قال: إن حضتِ، فأنت طالق، فقالت: "حضتُ"، صُدّقت مع يمينها، وقال الفقهاء: النساء مؤتمنات في أرحامهن، وزاد زائدون بياناً وقالوا: لا يتبين الحيض إلا من جهتها؛ فإن الدّم في عينه، وإن رُئي، فلا يمكن القضاء عليه بكونه حيضاً، ما لم تخبر بترتيبٍ في أدوارها، يقتضي ذلك كونَ ما تراه حيضاًً.
فهذا ما ذكره الأصحاب ووراءه كلام يأتي الشرح عليه، إن شاء الله.
ولو قال لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فزعمت أنها زنت، فالمذهب الذي عليه التعويل أنا لا نحكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن الزنا يفرض الاطلاع عليه لا من جهتها.
وقال بعض أصحابنا كل عملٍ خفيٍّ لا يفرض الاطلاع عليه، فهي مصدقة فيه، والزّنا منه، وهذا حائد عن التحقيق غيرُ معدودٍ من المذهب.
ولو قال الرجل لامرأته: إن أضمرتِ بُغضي، فأنت طالق، فزعمت أنها أضمرت، وقع الطلاق، وإن اتُّهمت، حُلّفت؛ إذ لا مطّلع على مكنون الضمائر إلا من جهات أصحابها، فلا وجه إلا أن نصدقها، وهذا أصل جارٍ في القصود والنيات المعتبرة.
9249- وما ذكره الأصحاب من الفرق بين الأفعال التي يتطرق إليها إمكان الإثبات وبين ما لا يُعلم إلا من جهة المرأة يكاد يوافق مذهب مالك (1) في ادعاء المودَع التلف، فإنه قال: إن ادعى سبباً جلياً يظهر مثله ويتأتى في الغالب الإشهاد عليه، فلا يقبل
__________
(1) ر. حاشية الدسوقي: 3/430، جواهر الإكليل: 2/141.(14/277)
قوله، وإن ادعى سبباً خفياً يعسر الإشهاد عليه، فيصدّق حينئذٍ.
وعندنا لا فرق في المودَع إذا أمكن صدقه، وذلك الكتاب مبني على أن صاحب الوديعة [يحُل] (1) محلَّ المؤتمنين في إيداعه، فكان التزامُ تصديقه فيما يمكن صدقه [فيه] (2) ، ولم يوجد من الزوج ائتمان المرأة في جليّ ولا خفيّ، فامتاز هذا بوضعه عن المودَع وقياسِه، وبان أنا إنما نُصدّق المرأة في ذكر الحيض، والإعرابِ عن معنىً في الضمير يفرض متعلَّقاً للطلاق؛ من جهة أن كل معلِّقٍ [بصفةٍ، فقضيةُ] (3) كلامه إمكان وقوع الطلاق عند وجود الصفة؛ فإن من ضرورة التعليق ترديد الأمر، فإذا كان [لا مطَّلِع] (4) على ما جعله متعلَّقَ الطلاق إلا من جهتها، وهي في التقدير مكذَّبة، فكيف الوقوع [ونفسُ] (5) تعليقه -وما به التعليق لا يأتي إلا من جهتها- في حكم الالتزام لتصديقها. وهذا أظهر من التزام المودِع تصديق المُودَع؛ فإن ذلك المعنى [لا يستدّ] (6) في ذلك الكتاب ما لم يُعضَّد بمصلحة الإيداع، كما قرّرناه في موضعه.
9250- وممّا يتعلق بهذا الأصل أنه لو قال لإحدى امرأتيه: إن حضت، فَضَرّتك طالق، فإذا زعمت أنها حاضت، لم نحكم بوقوع الطلاق على ضَرَّتها، وإنما تُصدّق في حق نفسها إذا علق طلاقها بحيضها، وهذا يكاد يخرِم ما مهدّناه من قولنا: لا يُطَّلع على الحيض إلا من جهة المرأة، ويعترض أيضاًً على ما ذكرناه عَضُداً للكلام، إذا (7) قلنا: التعليق يتضمن إمكان وقوع الطلاق على الجملة.
وسبيل الجواب عما نبهنا عليه أن المرأة إذا علق طلاقها بحيضها، فليست مصدَّقةً من غير يمين، وكلُّ مؤتمن، فمعنى ائتمانه الاكتفاءُ بيمينه، ثم تحليفها ممكن في حق نفسها، وإذا علق طلاق الضَّرّة بحيضها، فإن لزم تصديقُها من غير يمين، كان بعيداً،
__________
(1) في الأصل: (احمل) .
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: "معلق بصيغة كلامه"، والمثبت تصرّف من المحقق على ضوء السياق.
(4) في الأصل: لا يطلع.
(5) في الأصل: فنفس.
(6) في الأصل: يستمرّ.
(7) إذا:: بمعنى (إذ) .(14/278)
فإنه إثبات الطلاق من غير حُجّة، وإن حلفت، كان تحليفها لغيرها -ولا تعلّق للخصام بها- محالاً.
وقد يرد على هذا ما يتم البيان بالجواب عنه، وهو أن الرجل إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت وضرتك طالقان، فزعمت أنها حاضت، فهي مُصدّقة مع يمينها، والطلاق واقع عليها، ولا يلحق ضَرَّتَها وإن ثبت حيضها بيمينها المرتبطةِ بخاصّتها، والجواب أن اليمين وإن اشتملت على حق الحالف وحق غيره، فإذا ثبت حقُّ الحالف، لم يثبت حقُّ غيره؛ إذ الأيْمان بعيدةٌ عن قبول النيابة، وعن إثبات الحقوق لغير الحالفين.
ولو مات رجل وخلّف ابنين ودَيْناً، فادعى أحد الابنين الدين، وأقام شاهدين يثبت بالبينة حقُّه وحقُّ أخيه، ولو أقام شاهداً واحداً، وحلف معه، لم يثبت من الدّين إلا حصتُه، وإن تعرّض في اليمين لواقعةٍ يشتمل ذكرها على تمام الدين.
فهذا قاعدة الفصل.
9251- وإذا قال: إن حضت حيضةً، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً تبتدئها وتختمها بخلاف ما لو قال: إن حضت، فأنت طالق، فإنا نحكم بوقوع الطلاق مع أول جزءٍ من الحيض إذا تبيّناه باستمرار الدم يوماً وليلةً.
وإذا قال: إن حضت حيضةً، اقتضى ذلك حيضة كاملةً، ثم الطلاق يقع مع انقضاء الحيضة؛ فإنه متعلَّق الطلاق.
وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقان، فلو حاضت إحداهما لم تطلق الحائض، ولا صاحبتها؛ فإنه علّق الطلاقين على الحيضين، فلا وقوع ما لم تحيضا.
ولو قال: إن حضتما حيضةً، فأنتما طالقان، فللأصحاب وجهان: أحدهما - لا يقع على واحدة، وإن حاضتا؛ لأن مُطْلَقَ هذا اللفظ يقتضي أن تحيضا حيضةً واحدةً، وهذا مستحيل؛ فإنهما إذا حاضتا، فالصادر منهما حيضتان، فكأن الطلاق معلّق بمستحيل.(14/279)
والوجه الثاني - أنه يقع، لأن حمل قوله: "حيضة واحدة" على حيضةٍ واحدةٍ من كل واحدة ممكن، وإذا أمكن تنزيل اللفظ على ممكن له تصوّر، وجب حمل اللفظ عليه، فإن مبنى النطق على ألا يُلغى ما أمكن استعماله، وهذا قطب في الكتاب، فليتنبه المرء له، وهو إذا تردّد اللفظ (1) على وجه يحتمل استحالةً ويحتمل إمكاناً، فمن الأصحاب من لا يُبعد الحملَ على الاستحالة؛ حتى لا يقع الطلاق، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان حتى لا يلغو اللفظ؛ فإن التعرض للاستحالات يكاد أن يكون كالهزل، وهَزْلُ الطلاق جدّ. وعن هذا قال قائلون: الطلاق المعلَّق بالاستحالة على التصريح يتنجز ولا يتعلق.
ومن الأصل الذي نبهنا عليه قول القائل لامرأته وأجنبية: "إحداكما طالق"، فإذا زعم أنه أراد الأجنبية، فهو من فنّ الحمل على المحال، وفيه التردد الذي ذكرناه في فروع باب الشك.
وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما، فأنتما طالقان، فقالتا: حضنا، نظر: فإن صدّقهما، طُلِّقتا، وإن صدق إحداهما وكذَّب الأخرى، طُلقت المكذَّبة (2) ، لأن صاحبتها مصدّقة وقولها في حق نفسها مقبول.
هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب، ووجهه ما نبهنا عليه من أن المكذَّبة مصدّقة في حق نفسها، والمصدّقة يثبت حيضها بتصديقها، وأما المصدَّقة، فإنها لا تطلق؛ فإن حيضها وإن ثبت في حقها، فحيض المكدَّبة لا يثبت في حقها، فلم تطلق المصدَّقة؛ من جهة أن حيض المكذَّبة غيرُ ثابت في حقها.
وإذا كذبهما لما قالتا: حضنا، لم تطلق واحدة منهما: هذه لا تطلق؛ لأن حيض صاحبتها مردود في حقها، والأخرى لا تطلق بمثل هذه العلة.
__________
(1) في الأصل: إذا تردد اللفظ له على وجه يحتمل استحالة ...
(2) تطليق المكذَّبة؛ لأنه وقع الحيضان، حيضُها بإقرارها -فيما لا يعرف إلا من جهتها- وبحيض صاحبتها.
وعدم تطليق المصدَّقة؛ لأنه لم يقع الحيضان بالنسبة لها، فهي مصدّقة في حيضتها، أما صاحبتها، فلا اعتداد بحيضها وقد كُذِّبت.(14/280)
9252- وإذا قال لأربع نسوة: إن حضتن، فأنتن طوالق، وقلن: حضنا، فإن صدّقهن، طلقن وإن كذبهن، لم تطلق واحدةٌ منهن، لا لأنها مكذبة في حق نفسها، ولكن لأن طلاق واحدة لا يقع ما لم يثبت حيض الجميع، وحيض صواحبات كل واحدة لا يثبت في حقها، وظهور ذلك يغني عن الإطناب فيه.
وإن صدّق واحدةً منهن وكذب ثلاثاًً، فلا تطلق واحدة، وتعليله ما مضى، وكذلك إن صدّق ثنتين وكذّب ثنتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدةً، طلقت المكدَّبة، لأنها مصدَّقة في حق نفسها، وقد ثبت حيض صاحباتها بتصديق الزوج، ولا يطلق المصدقات، ولا واحدة منهن؛ لأن حيض المكذَّبة لا يثبت في حقوقهنّ.
وإذا تمهدت الأصول، وجب الاكتفاء في التفريع بالمرامز.
9253- فإذا قال: إن حاضت واحدة منكن، فصواحباتها طوالق، فإذا حاضت واحدة، لم تطلق الحائض، وطلقت صواحباتها، طلقة طلقة، وقد ذكرنا أنه لو كذب هذه، لم تطلق صواحباتها.
فإن قيل: كيف يصدقها ولا حجة؛ فإنها لا تحلف في حق الغير لو كُذّبت، ولا يعلم الزوج صدقَها قطعاً، والطلاق لا يقع من غير تثبّتٍ، وإن قيل إقرار الزوج يُلزمه موجَبَ قوله، فكل إقرار له مستند، فما مستند إقرار الزوج، وهو لم يتعرض لإقرار مرسلٍ بوقوع الطلاق، وإنما قال: "صُدِّقت في ادّعاء الحيض".
وهذا السؤال له وَقْعٌ؛ إذ لو قال الزوج: سمعتها، وأنا أجوّز أن تكون صادقةً وكاذبةً، ويغلب على ظنّي صدقُها، فلو لم يذكر إلا هذا، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإذا قال: صدقتِ، فلا مستند لتصديقها إلا هذا، وقد قال الشافعي: إذا اعترف السيّد بوطء أمتهِ، ولم يدع استبراءً، لحقه النسبُ، فإنه لو استلحقه، لم يُسنده إلى ما ذكرنا، فلا جرم جعل الشافعي الإقرار بالوطء استلحاقاً؛ إذ الاستلحاق معناه الإقرار بالوطء. فهذا نهاية السؤال.
وقد سمعت بعض أكابر العراق يحكي عن القاضي أبي الطيب (1) أنه حكى عن
__________
(1) القاضي أبو الطيب الطبري. سبقت ترجمته.(14/281)
الشيخ أبي حامدٍ (1) تردداً في الحكم بوقوع الطلاق إذا لم يكن للتحليف وجهٌ، فأما إذا حلفها، والمعلّق طلاقها، فاليمين حجّة، وحجج الشريعة مناط الأحكام، وينتظم منه [أنه] (2) إن اكتفى بتصديقها ولم يُحلِّفها، فالحكم بوقوع الطلاق مشكلٌ كما ذكرناه.
وهذا نقلتُه وأسندتُه، ولست أعتمد ذلك؛ فإن المعتمد ما أطبق الأصحاب عليه، وقد تتبّعت طرقاً منقولةً عن الشيخ أبي حامدٍ، فوجدتها عريّةً عن ذلك.
وسبيل دفع السؤال أن جواز الحلف قد يستند إلى مخايلَ وأحوالٍ دالةٍ على الصّدق؛ حتى جوّرنا للمرأة أن تحلف على نية الزوجِ الطلاقَ، ولا مستند ليمينها إلا مخايلُ تتبيّنها من قصده، ولا قطعَ؛ إذ لو كانت تيك المخايلُ تورث قطعاً، لما صُدِّق الزوج في أنه لم ينو الطلاق، فإذا كان مثل هذا مستند الحلف، والحلفُ حجة، فإذا استند الإقرار إليه كيف لا نحكم به، وإنما ذكرت السؤالَ والجوابَ، ونَقْلَ التردد، حتى نُرسِّخ التنبه لما ذكرته في قلب الناظر.
9254- ولو قال: أيتكن حاضت، فصواحباتها طوالق، فقلن: "حضنا". إن كذَّبهنّ، لم تُطلَّق واحدةٌ منهنّ، وإن صدّقهنّ، طُلّقن ثلاثاًً ثلاثاًً؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاثَ صاحبات، فتأتيها ثلاثُ طلقات من جهاتهنّ.
وإن صدّق واحدةً، طلقت صواحباتها طلقة طلقةً بلا مزيد، ولم تطلق المصدَّقة.
وإن صدق ثنتين، طلقت كل واحدة من المصدّقتين طلقةً لأن لها صاحبةً مصدَّقةً، فتأتيها من جهة صاحبتها طلقة، وطلقت المكدَّبتان طلقتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما صاحبتين مصدّقتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدة، طُلقت المكذَّبة ثلاثاًً؛ إذ لها ثلاث صاحبات مصدَّقات، فتأتيها من جهاتهن ثلاث طلقات، وتطلق كل واحدة من المصدَّقات طلقتين؛ لأن لكل واحدة صاحبتين مصدّقتين.
فهذا بيان أصول هذه الفروع والإرشاد إلى كيفية تفريعها.
__________
(1) الشيخ أبو حامد الإسفراييني. سبقت ترجمته.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(14/282)
فروع في تعليق الطّلاق بالولادة.
9255- قد قدمنا الأصلَ المقصود في ذلك فيما سبق، فإن عاد فيما نجدّده بعضُ ما سبق احتُمل، فلو قال لأربع نسوةٍ: إن ولدتنّ فأنتن طوالق، فلا تطلق واحدة ما لم تلدن.
ولو قال: كلما ولدت واحدة منكن، فأنتن طوالق، فولدت واحدة، طلقت الوالدة طلقةً، وطلقت صواحباتها طلقة طلقة؛ فإن الولادة متحدة بعدُ، فإذا ولدت الثانية وقد كانت في العدّة عن الطلقة التي لحقتها، انقضت عدتها في الجديد، ولم تلحقها طلقة أخرى، والأُولى لما ولدت وطلِّقت استقبلت العدة بالأقراء، وإذا كانت في بقية من عدتها، فتلحقها بولادة الثانية طلقة ثانية، والثالثة والرّابعة تلحقها طلقتان.
هذا الذي ذكرناه في الثانية تفريعٌ على الجديد، وإن فرعنا على القديم، قلنا: يلحقها أيضاًً طلقة ثانية، وتستقبل العدة بالأقراء، وهذا قولٌ لا ينقدح لي توجيهه، وقد نقلت ما قيل فيه.
فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها في الجديد عن طلقتين، وطلّقت الأولى الطلقة الثالثة إن كانت في بقية العدة، وتطلق الرابعة ثلاثاً، وفي القديم تطلق الثالثة الطلقة الثالثة، وتستقبل الأقراء، وتلحق الطلقةُ الثالثةُ الثانيةَ.
ومهما فرضت ولادة في مطلَّقة جاريةٍ في العدة، والطلاقُ يتعلق بالولادة، فالقول الجديد مقتضاه انقضاء العدة، والانسراح وعدم لحوق الطلاق، والقول القديم مقتضاه وقوع الطلاق واستقبال العدة بالأقراء.
وهذا في الولادة المبرئة للرحم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم.
9256- وإذا قال: كلما ولدتْ واحدةٌ منهن فصواحباتها طوالق، فولدت واحدة، طُلقت صواحباتها طلقة طلقة، فإذا ولدت الثانيةُ -والتفريع على الجديد، ولا عَوْد إلى القديم- انقضت عدّتها عن طلقةٍ، ووقعت على الأولى طلقة، وكملت للثالثة والرابعة طلقتان، فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها من طلقتين وكملت للأولى(14/283)
طلقتان، والرابعة ثلاث؛ فإذا ولدت الرابعة، انقضت عدتها عن ثلاث وكملت للأولى ثلاث إن كانت في بقية العدة.
وإن ولدت ثنتان منهن دفعةً، ثم ثنتان دفعة، وقعت على كل واحدة من الأوليين طلقة من جهة صاحبتها. وعلى كل واحدة من الأُخريين طلقتان بولادة الأوليين، إذ تأتي كلَّ واحدة منهما طلقتان من الولادتين، فلما ولدت الأخريان، وقع على كل واحدة من الأوليين -على تقدير بقاء العدة- طلقتان أخريان، فتكمل الثلاث في حق كل واحدة من الأوليين، ولم يقع على الأخريين بولادتهما شيء في الجديد؛ لأنهما ولدتا معاً، فصادف آخر انقضاء العدة في كل واحدة من الأخريين ولادة الأخرى، وإذا وجدت صفة الطلاق في حال انقضاء العدة، فلا فرق بين أن تكون تلك الصفة ولادة غيرها وبين أن يكون ولادتها.
فهذا بيان هذه الفروع ومنشؤها، وما لم نذكر منها، فالمذكور مرشد إليه.
فروع في المسائل الدائرة:
9257- إذا قال الرجل لامرأته: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، فطلقها، لم يقع عند ابن الحداد، ومعظمِ الأصحاب، وهذا مما يجرُّ ثبوتُ الطلاق فيه سقوطَه، وإذا كان كذلك، استدارت المسألة، وسقطت من أصلها؛ لأنّا لو أوقعنا الطلقة الّتي نجزها، للزمنا أن نوقع ثلاثاًً قبلها، ولو وقعت الثلاث قبلها، لامتنع وقوع هذه المنجّزة، وإذا امتنع وقوعها، امتنع وقوع الثلاث قبلها، فهذا معنى دورانها.
وذهب الشيخ أبو زيد إلى أن الطلقة المنجّزة تقع، وهذا مذهب (1) أبي حنيفة، واحتج محمدٌ لأبي حنيفة، بأن الجزاء إذا رُتّب على الشرط، ترتب عليه، ولا يترتب الشرط، على الجزاء في وضع الكلام، فيجب على هذا المقتضى تحقيقُ الشرط، والنظر في الجزاء، فإن أمكن إمضاؤه أُمضي، وإن كان من عُسرٍ، انحصر على الجزاء، فأما أن ينعطف الجزاء على الشرط، فبعيد عن وضع الكلام، وتمسك أبو زيد باستبعاده في انسداد باب الطلاق.
__________
(1) ر. فتح القدير: 3/371.(14/284)
وهذا ليس بذاك.
ووضع ابنُ الحداد هذه المسألة وذكر فيها زيادةً مستغنىً عنها، فقال: إذا [قال: " إن] (1) طلقتك طلقةً أملك رجعتك بعدها، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً " ولا حاجة إلى التقييد بالرّجعة، فإن المسألة تدور دون ذكرها لو قال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً".
وإن قال: إن طلقتك طلقة أملك رجعتك، فأنت طالق قبلها طلقتين أفادت الزيادة، ودارت المسألة، فلا تقع المنجزة، ولا المعلقة؛ فإنه لو وقعت المنجزة، لوقعت قبلها طلقتان، وتكون المنجزة ثالثة، والثالثة لا تستعقب الرجعة.
ولو أطلق فقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقتين" فإذا طلّقها طُلّقت ثلاثاً ولا دَوْر.
وإن قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقةً، دارت المسألة؛ فإنه لو وقعت المنجّزة، لوقعت قبلها طلقة، ولبانت المرأة، ثم لا تلحقها المنجّزة بعد البينونة، وتدور.
وإذا فرّعنا على القول بالدَّور وأراد الزوج أن يتّخذه ذريعةً، فليقل: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاً. ثم إذا أراد طلاقاً، فليوكل؛ فإن تطليق الوكيل لا يندرج تحت تطليق الزوج.
ولو قال: مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً، فينحسم عليه باب التطليق والتوكيلِ (2) على القول بالدور.
وقد يلزم على مذهب ابن الحداد تصوير انسداد الطرق من كل وجه بأن يقول: "مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، ومهما فسخت نكاحكِ، فأنت طالق قبله ثلاثاً"، فلا ينفذ منه لا فسخ ولا طلاق.
9258- ومذهب من ينكر الدورَ تنفيذُ المنجّزةِ وردُّ ما قبلها. هذا هو المشهور.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) أي: وباب التوكيل.(14/285)
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً على إبطال الدور أنها تطلق ثلاثاًً، قال: ثم اختلف الصّائرون إلى ذلك في وجه وقوع الثلاث، فمنهم من قال: يقع الثلاث المشروطة تقدمها، ولا تقع هذه التي أنشأها، وكأنه قال: مهما تلفظت بإنشاء طلقة، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فوقوع الثلاث موقوف على لفظه، وإن كان لا يقع بلفظه طلاق منجّز.
وهذا رديء لا خروج له إلا على مذهب من يحمل اللفظَ المطلقَ على الفاسد والصحيح جميعاًً، وعليه خُرّج قول للشافعي فيه إذا أذن الرجل لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، قال في قول: يتعلق المهر بكسبه.
وهذا بعيد لا يفرّع على مثله.
قال الشيخ: وقال قائلون: تقع الواحدة التي أنشأها واثنتان من الثلاث المعلّقة.
9259- فانتظم أوجهٌ: أحدها - الدّورُ والقولُ به، وعليه تفريع معظم الأصحاب.
والثاني - وقوع ما ينجّز؛ لأنه شرطٌ، وإبطال الجزاء.
والثالث - تكميل الثلاث، ثم له مأخذان حكاهما الشيخ، كما بيناهما.
9260- ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: مهما طلقتك، فأنت طالق قبلها، فالمسألة تدورُ على مذهب ابن الحداد، كما ذكرنا. فأما على مذهب أبي زيد فالطلقة المنجزة تقع، ومن قال ممن يخالف ابنَ الحداد في المسألة الأولى بوقوع الثلاث، فلا يوقع هاهنا أكثرَ من طلقةٍ واحدةٍ؛ فإن الطلقتين متباينتان زماناً ووقتاً، ويستحيل لحوق طلقتين كذلك بامرأة غيرِ مدخول بها، ولكن اختلف هؤلاء في أن تلحقها الطلقة المعلقة أو المنجزة، والمذهب عندهم وقوع المنجّزة.
9261- ومن صور الدّور في العتق أن العبد إذا كان مشتركاً بين شريكين، فقال أحدهما وهو موسر: مهما أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حرّ قبل نصيبك، والتفريع على تعجيل السّراية، فمهما (1) أعتق الشريك، لم ينفذ عتقه، فإنه لو نفذ، لنفذ عتق شريكه قبله وسرى إلى نصيبه، ثم كان لا ينفذ عتقه.
__________
(1) فمهما: "مهما" بمعنى إذا.(14/286)
ولو ذكر كلُّ واحد منهما لصاحبه مثلَ ذلك -وهما موسران- لم ينفذ عتقُ واحد منهما.
أما أبو زيدٍ، فإنه يمنع ذلك ويشتدّ على ابن الحداد؛ فإنه استبعد انحسام الطلاق على المطلِّق، وهذا حَسْمُ الإعتاق على المالك ممّن ليس مالكاً، فكأنّ كل واحد منهما حجر على صاحبه أن يتصرّف بأقوى التصرفات في ملكه.
9262- ومن صور الدّور في هذه الأجناس أن يقول لامرأته: إن وطئتك وطأ مباحاً، فأنت طالق قبله. فإذا وطئها، لم يقع الطلاق؛ فإنه لو وقع، لما كان الوطء مباحاً. قال الشيخ (1) : وأبو زيد يوافق في هذا؛ فإن الذي نحاذره انحسامَ الطلاق وانسداد باب التصرف، وهذا لا يتحقق في تعليقٍ بفعلِ (2) واحدٍ.
ولو قال لامرأته: إن ظاهرتُ عنكِ أو آليت عنك، فأنتِ طالق قبله ثلاثاًً، فلا يصح الإيلاء والظهار على أصل ابن الحداد للدّور، وعند أبي زيدٍ يصح الإيلاء والظهار؛ فإنه سدُّ بابٍ من التصرفات، ولا يقع الطلاق قبلهما.
ومن المسائل أن يقول للرجعية: إن راجعتك، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فلا يصح الرّجعة عند ابن الحداد للدّور، ويصح عند أبي زيدٍ، حتى لا يؤدي إلى حَسْم التصرف.
ومن الصور أن يكون للرجل امرأة وعبد، فيقول لامرأته: مهما دخلتِ الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر قبل دخولك، وقال لعبده مهما دخلت الدار وأنت عبدي، فزوجتي طالق قبل دخولك، ثم دخلا معاً، لم تطلق المرأة، ولم يعتِق [العبد] (3) وتعليله بيّن، والشيخ أبو زيد لا يخالف في هذه المسألة؛ لأنه ليس فيه سدّ بابٍ.
وذكر الشيخ صوراً واضحةً، لم أر في ذكرها فائدة. ومَنْ فَقُه نفسُه (4) لا يتصور أن
__________
(1) الشيخ المراد به -كما هو اصطلاح المؤلف- أبو علي السنجي، وهو هنا يحكي عن أبي زيد قوله بالموافقة.
(2) في الأصل ضبطت بفعلٍ.
(3) زيادة من المحقق.
(4) فقه نفسه: أي صار فقيه النفس، وإمام الحرمين يجعل فقْه النفس أحد شروط الاجتهاد؛ فهو =(14/287)
تُلقى عليه مسألة دائرة، فلا يتنبه أما من احتدّت قريحته، فإنه يبتدر فهمَ الدّور، ومن كان في دركه بطء يتبين الدّورَ إذا لم تنتظم المسألة.
9263- ومما ذكره أن قال: من أصحابنا من حكى عن ابن سُريج أنه قال: إذا قال لامرأته: مهما (1) طلقتك طلقة أملك فيها الرّجعة، فأنت طالق ثلاثاًً، قال ابن سريج - فيما حكاه هذا الحاكي: تدور المسألة، ولا يقع المنجّز ولا المعلّق؛ لأنه لو وقع ما نَجَّز، لوقع الثلاث، وإذا وقع الثلاث، لم تثبت الرّجعة، وإذا لم تثبت، لم تقع الثلاث، فلا يقع.
قال الشيخ: حُكي عنه هذا، ونُسب إلى كتاب له يسمى "كتاب العيبة" (2) ولم ينقلوا في هذه المسألة التقييد "بما قبلُ" [فلم] (3) يقل: مهما طلقتك طلقةً أملك الرجعة، فأنت طالق (قبلها) ثلاثاًً. قال الشيخ: ابن سريج أجلّ من أن يقول ذلك، فلعلّ المنقول سقطة من كاتب أو ناقل، والمسألة لا تدور، والثلاث تقع؛ لأنه إذا طلق واحدةً، استعقبت الرجعةَ، ووقع الثلاث على الاتصال بها مترتبةً عليها، وهي التي تقطع الرجعة؛ فلا وجه في الدور.
ولكن لو قال: إن طلقتك طلقةً رجعيةً، فأنت طالق معها ثلاثاًً، فإذا طلقها، فيجوز أن تخرّج المسألة على وجهين: أحدهما - لا يقع شيء؛ لأن الثلاث تقترن بالطلقة المنجَّزة، فلا تكون رجعيةً، فتدور المسألة.
والوجه الثاني - يقع الكل على الترتيب، وإن قُيّد بالجمع.
وهذا كاختلاف أصحابنا في أنه لو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت
__________
= الذي يمكن صاحبه من الإحاطة بالفقه، فيقول: "والصنف الثاني من العلوم -التي يجب على المجتهد الإحاطة بها- الفن المترجم بالفقه ... وأهم المطالب في الفقه التدرّب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهذا هو الذي يسمى فقهَ النفس، وهو أنفس صفات علماء الشريعة" (ر. الغياثي: فقرة رقم: 582) .
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: الغيبة.
(3) في الأصل: لم.(14/288)
طالق [طلقة معها طلقة] (1) ، فطلقها هل يقع الطلقة المعلَّقةُ؟ فيه وجهان ذكرناهما.
وعندي أن المسألة المنقولة عن ابن سريج على وجهها؛ فإنه قال: إذا طلقتك طلقة أملك فيها الرجعة، ولا يتصوّر ملك الرجعة مع وقوع الثلاث، فلا تتحقق الصفة (2) ، وإذا لم تتحقق، لم يقع [الثلاث] (3) . وتحقيقُ ذلك أنه لا يفرض حال فيها رجعة [لا يصادمها] (4) وقوع الثلاث؛ فالثلاث تمنع الرّجعة ولا تقطعها، فلا وجه لاستبعاد الشيخ؛ فإنّ ما ذكره إن كان متجهاً، فما ذكره ابن سريج أو حُكي عنه لا ينحط عن وجهٍ ظاهر.
فروع متعلقة بالتعليق بصفات الأولاد والحمل
9264- قد ذكرنا أنه لو قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فأتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، طلّقت، وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين، لم تطلق. وإن أتت لأقلَّ من أربع [سنين] (5) وأكثرَ من ستة أشهر، فقد تقدّم التفصيل فيه.
ونحن ننشىء الآن فروعاً تتعلق بتغايير الصيغ والألفاظ.
9265- فإذا قال: إن كنتِ حاملاً بذكرٍ، فأنتِ طالق، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، انقضت عدتها عن طلقةٍ؛ فإنه لم يتعلق الطلاق بالولادة، وإن وضعت أنثى فحسب، انقضت عدتها عن طلقتين، ولو وضعت ذكرين فحسب، فالطلقة واحدة، لا تزيد بزيادة الذكور، وكذا إن وضعت أنثيين، فيقع بالثنتين ما يقع بالواحدة، ولو وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث؛ فإنا تبينا أنها حامل بذكر وأنثى؛ فلحقها الثلاث، ولم يتوقف [وقوع الطلاق] (6) على الولادة، حتى نقع في تفريع مصادفة وقوع الطلاق انقضاء العدة.
__________
(1) في الأصل: إذا طلقتك، فأنت طالق معه. والمثبت من تصرف المحقق.
(2) الصفة: أي الرجعة، كما صرح بذلك في صفوة المذهب.
(3) زيادة لاستقامة المعنى.
(4) في الأصل: لا يصادفها.
(5) زيادة لاستقامة الكلام.
(6) زيادة اقتضاها السياق.(14/289)
9266- ولو قال: إن كان حملك ذكراً، فأنت طالق طلقةً. وإن كان أنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، [انقضت] (1) عدتها عن طلقة. وإن وضعت أنثى، انقضت عدتها عن طلقتين، وإن وضعت ذكراً وأنثى، لم يقع عليها شيء؛ لأن قوله: "إن كان حملك ذكراً" يقتضي أن يكون جميع حملها ذكراً، وكذلك قوله: "إن كان حملك أنثى" يقتضي كون جميع الحمل أنثى؛ فإذا كان البعض ذكراً والبعض أنثى، لم توجد الصفة في الوجهين جميعاًً، فلم يقع شيء.
ولو كانت المسألة بحالها، فأتت بذكرين لا أنثى معهما، أو أتت بأنثيين لا ذكر معهما، فقد قال القاضي: يقع الطلاق، وقوله: إن كان حملك ذكراً محمول على جنس الذكور، وقوله: إن كان حملك أنثى محمول على جنس الإناث.
وهذا ليس على وجهه عندنا، وكان شيخنا يقول: إذا أتت بذكرين، لم يقع شيء؛ فإن حملها زائد على ذَكَر، فهو كما لو أتت بذكر وأنثى، والاسم المنكور مقتضاه التوحيد في مثل ذلك، فإذا أتت بعددٍ، فصفة التوحيد غيرُ متحققة، وصار كما لو أتت بذكر وأنثى، والمسألة مفروضة فيه إذا كانت مُطْلقة، والحكم بوقوع الطلاق حملاً على الجنس في صورة الإطلاق بعيد.
نعم، إن قال: أردت الجنس، فنحكم بوقوع الطلاق للاحتمال الذي يبديه، وقد ذكرنا أن الطلاق يقع باحتمال خفيّ إذا أراده الرجل.
9267- ولو قال: إن كان ما في بطنك ذكرٌ فأنت طالق طلقةً، ولو كان ما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهو كما لو قال: إن كان حملك ذكراً وإن كان حملك أنثى. ولو قال: إن كان في بطنك ذكر، فأنت طالق واحدةً، وإن كان في بطنك أنثى، فأنت طالق ثنتين، فإذا ولدت ذكراً وأنثى، تبينا أنها طلقت ثلاثاً قبل الوضع، وانقضت عدّتها بآخر الولدين، والفرقُ ظاهر؛ فإن قوله: إن كان ما في بطنك تعبير عن جميع ما في البطن، وقوله: إن كان في بطنك لا يتضمن حصراً، ولكن يتضمن كون الذكر والأنثى، أو كونهما.
__________
(1) في الأصل: انقطعت.(14/290)
ولو قال: إن كان مما في بطنك ذكر، فأنت طالق طلقةً، وإن كان مما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهذا لا يقتضي أولاً كون جميع الحمل ذكراً أو أنثى؛ فإن كلمة (مِن) للتبعيض. ولكن لو أتت بذكرٍ، فالذي أطلقه الأصحاب أنها تطلق طلقة، وإن لم يشتمل رحمها على غيره، ولو كان في رحمها أنثى فحسب، طلقت طلقتين.
وهذا فيه بعض النظر، والوجه ألا يقع شيء إذا أتت بولدٍ واحدٍ؛ لأن (مما) مركّبٌ مِن (مِنْ وما) و (مِن) للتبعيض، فكأنّ الطلاق معلّق بالذكر إن كان بعضاً من الحمل، وإذا كان وحده لم يتحقق هذا المعنى.
وكذلك القول في الأنثى الفردة.
ولو أتت بذكرين، وقع الطلاق؛ لتحقق التبعيض، وكذلك القول في الأنثيين.
ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر، فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق ثنتين، فإن وضعت ذكراً، فطلقةٌ، وإن وضعت أنثى فطلقتان، وإن وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث طلقات.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الطلاق معلّقاً على الحمل.
9268- فأما إذا علّق بالولادة، فقد تمهّدت الأصول فيها، ولكنا نذكر مسائل.
فإذا قال: إن ولدت ذكراً، فأنت طالق طلقةً، وإن ولدت أنثى، فأنت طالق طلقتين، فلو ولدت ذكراً فحسب، وقعت عليها طلقةٌ، واعتدت بالأقراء، فإن ولدت أنثى [فحَسْب] (1) فطلقتان، وتعتد بالأقراء. وإن ولدت ذكراً وأنثى، فإن وضعتهما متعانقين دفعةً واحدةً، طلقت ثلاثاًً، واستقبلت العدة بالأقراء.
وإن وضعتهما على الترتيب، نُظر: إن وضعت الذكر أولاً، فطلقة وانقضت عدتها بالأنثى في الجديد عن طلقة.
__________
(1) في الأصل: "فبَسْ" و (بَسْ) كلمة فارسية معناها: حَسْب: أي فقط. (المعجم الكبير، والمعجم الوسيط) .
ولقد هممتُ بتركها في الصلب كما هي، لاحتمال أن تكون من الإمام، لكنّي عدت فاستبعدت ذلك، ورجحت كونها سبق قلم من الناسخ والله أعلم.(14/291)
وإن وضعت الأنثى أولاً، فطلقتان، وانقضت عدتها بالذكر عن طلقتين، على المذهب الجديد.
ولا يخفى القديم والتفريع عليه.
وإن أشكل المتقدّم منهما، أخذنا بالأقل وحكمنا بوقوع طلقةٍ.
وإن وضعت ذكرين وأنثى، نُظر: فإن وضعتهما ثم وضعت الأنثى، لحقتها طلقة بالأول فحسب، وانقضت العدّة بالأنثى.
وإن وضعت الأنثى أولاً، ثم وضعتهما على الترتيب، لحقتها طلقتان، وطلقة أخرى بالأوّل من الذكرين، وانقضت العدة بالثاني.
وإن وضعت الذكرين بعد الأنثى ملْتفَّين معاً، لحقتها طلقتان بالأنثى، وانقضت العدة بوضع الذكرين على الجديد، وعلى القديم يلحقها طلقة بأحد الذكرين بعد الثنتين، وتستقبل العدّة بالأقراء.
وإن وضعت في هذه الصورة ذكراً، ثم أنثى، ثم ذكراً، فطلقة، ثم طلقتان، وتنقضي العدة بالذكر الثاني عن ثلاث. وإن وضعت ذكراً وأنثيين، فالقياس على ما مضى.
9269- ولو كانت له امرأتان عمرة وزينب، فقال: كلما ولدَتْ واحدةٌ منكما، فأنتما طالقان، فولدت عمرة يوم الخميس [ولداً] (1) ، وزينب يوم الجمعة ولداً، ثم ولدت عمرة يوم السبت ولداً آخر، وزينب يوم الأحد ولداً آخر، فنقول: لما ولدت عمرة وقعت على كل واحدة منهما يوم الخميس طلقة، ووقعت على كل واحدة منهما يوم الجمعة طلقة أخرى، ثم تنقضي عدة عمرة بما ولدت يوم السبت عن طلقتين في الجديد، ووقعت بها طلقة أخرى على زينب، فكمل لها الثلاث وانقضت عدتها بولادتها يوم الأحد عن ثلاث.
ولو قال: إن ولدتِ أنثى، فأنت طالق طلقتين وإن ولدتِ ولداً، فأنت طالق طلقة، فولدت أنثى، طُلِّقت ثلاثاً؛ لأنها وضعت ما يسمى ولداً وما يسمى أنثى، فهو
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.(14/292)
كما لو قال: إن كلمت رجلاً، فأنت طالق، وإن كلمت زيداً فأنت طالق وإن كلمت فقيهاً، فأنت طالق، فكلمت زيداً وكان فقيها طلقت ثلاثاًً لاجتماع الصفات الثلاث به.
فروع في تعليق الطلاق بالحلف بالطلاق.
9270- إذا كانت له امرأتان زينبُ وعمرةُ، فقال: إن حلفت بطلاقكما، فعمرة طالق، ثم قال ثانية وثالثةً: إن حلفتُ بطلاقكما، فعمرة طالق، فلا يقع الطلاق أصلاً، فإنه انعقد يمينه أولاً، ثم لم يحلف بعدها بطلاقهما، بل حلف بطلاق عمرة، فإن المحلوف بطلاقها هي التي تطلق، ولم يقع التعرض إلا بوقوع الطلاق على عمرة، وهو قد علق الطلاق على أن يحلف بطلاقهما.
فلو قال أولاً: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، ثم قال: إن حلفت بطلاقكما، فزينب طالق، فلا تطلق بعدُ واحدةٌ منهما؛ فإنه علّق طلاق عمرةَ على الحلف بطلاقهما، فليقع بعد ذلك حلف بطلاقهما، ولم يحلف بعد ذلك إلا بطلاق زينب، فلو ذكر الحلف بطلاق زينب مراراً، فلا يقع الطلاق أصلاً.
ولو ذكر عمرة أولاً على الصيغة التي ذكرناها، ثم ذكر زينب على الصيغة التي وصفناها، ثم ذكر عمرة مرَّة أخرى، فتطلق عمرة الآن؛ فإنه حلف بطلاقها أولاً، وعلّق طلاقها بأن يحلف بطلاقهما، ثم جرى بعد ذلك حلف بطلاق زينب، ثم حلف بطلاق عمرة، فقد تحققت الصفتان، واجتمع اليمينان في حقها. وأما زينب، فلم يوجد بعدُ الحلف بطلاقهما بعد الحلف بطلاق زينب.
فصوِّرْ واحْكُم، وهذا سهل المُدرك.
9271- ولو كانت له امرأتان، فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها منكما، فصاحبتها طالق، قال صاحب التلخيص (1) : إذا سكت ساعةً يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما فلم يحلف، طلقتا، ولو قال مرةً أخرى: "أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فصاحبتها طالق" على الاتصال باليمين الأولى قال: قد برّ في اليمين الأولى، فإنه
__________
(1) ر. التلخيص: 522(14/293)
قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فإذا كرّر هذه اللفظة مرة أخرى، فقد حلف بطلاقهما جميعاًً، وبرّ في اليمين الأولى، ولكن انعقدت يمين أخرى، فإن كرّر ثلاثاً على الاتصال، برّت اليمين [الثانية] (1) ، وانعقدت اليمين الأخرى، فلو سكت عقيب اليمين الأخيرة لحظةً يتصور فيها الحلف بالطلاق، فلم يحلف طُلِّقتا جميعاً.
والمسألة فيها إشكال؛ من قِبل أنه جعل ما يجري مقتضياً للفور، حتى قال: لو سكت عقيب اللفظ لحظة، حكم بوقوع الطلاق بالحلف الأوّل، قال الشيخ أبو عليَّ: عرضت هذه المسألة على الشيخ القفال، وعلى كل مَنْ شرح التلخيص، فصوَّبوه.
والذي يقتضيه القياس عندي أن قوله: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فغيرها طالق، لا يقتضي الفور أصلاً، ولو سكت على ذلك، لم نحكم بوقوع الطلاق على واحدة منهما إلى أن يتحقق اليأس بأن يموت هو أو تموتا (2) .
وإنما قلنا ذلك، لأن الذي يقتضي الفور في هذه المنازل هو الذي ينطوي على ذكر وقتٍ مع التعلق بالنفي، مثل قوله: أيُّ وقتٍ لم أطلّق، أو إذا لم أطلّق، أو متى لم أطلّق، وقد نصّ الأصحاب على أنّه إذا قال: "متى لم أطلقك" فهذا يقتضي الفور، ولو قال: "إن لم أطلقك" فهذا على التراخي. وقوله: أيُّما امرأة ليس فيه تعرض للأوقات أصلاً.
والذي ذكره الشيخ أوضح من أن يُحتاج فيه إلى الإطناب، ولست أدري لما ذكره صاحب الكتاب وجهاً.
فإن قيل: قد نص الأصحاب على أنه لو قال لامرأته: (كلما) لم أطلقك، فأنت طالق، فهذا على الفور، وليس فيه تعرّض للوقت؟ قلنا: هذه المسألة صحيحة،
__________
(1) في الأصل: الثالثة.
(2) نسب ابن أبي عصرون هذا إلى صاحب التلخيص، وجعله من كلامه، ونصّ عبارته: "وقال صاحب التلخيص: وعندي أنه لا يقتضي الفور، ولا تطلق واحدة منهما حتى نيئس بموته أو بموتهما، لأن مقتضى الفور ذكر الوقت مع النفي" 1. هـ بنصه (ر. صفوة المذهب: جزء (5) - ورقة: 36 شمال) .(14/294)
وأجمع أهل العربيّة على أنّ (ما) في كلما ظرف زمانٍ، وأمّا قوله: فأيما امرأة فـ "أيّ" تسمية المرأة.
ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك، فهذا على الفور أيضاًً؛ فإن (ما) في هذه المنزلة بمثابة (إذا) ، فهو ظرف زمان.
9272- ومما نذكره في الحلف بالطلاق أن الرّجل إذا قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق، طلقت بهذا التعليق؛ فإنه حلف بطلاقها.
وبمثله لو قال بعد الكلام الأول: إذا طلعت الشمس، فأنت طالق، لم تطلق، هكذا ذكره ابن سريج رحمه الله، واعتل بأن اليمين ما يقصد بها استحثاث على إقدامٍ، أو على إحجامٍ، وذِكْر طلوع الشمس في الصّورة التي ذكرناها تأقيتٌ، ليس فيه حث على فعلٍ ولا على ترك فعلٍ، وقد وجدت الأصحاب على موافقته.
ولو قال: إذا دخلت الدّار، فأنت طالق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا يمين؛ لأنّ قصده المنع، فصار كما لو قال: إن دخلت الدّار.
والثاني - إنه ليس بيمين، والاعتبار باللفظ، وإذا للتأقيت.
ولو قال: إن طلعت الشمس، فأنت طالق، فقد ذكر بعض أصحابنا وجهين في أن هذا هل يكون يميناً؟ وهذا زللٌ؛ فإن ما لا يتصور الاستحثاث عليه لا يفرض اليمين فيه كيف صرفت العبارات.
مسائل شتى وفروع مختلفة:
فرع:
9273- إذا قال لامرأته: إن بدأتك بالكلام، فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك بالكلام، فعبدي حرّ، ثم كلمها، ثم كلمته، لم تطلق هي، ولم يعتق عبدها؛ لأن الزوج بتكليمها بعد عقد يمينها، لم يكن بادئاً بالكلام، وإنما كان تالياً، فإنها بدأته بقولها: إن بدأتك بالكلام فعبدي حرّ، والرمز في مثل هذا كافٍ، فلا نبسُط بعد هذا، إلا في محل الحاجة.
ولو قال لواحدٍ: إن بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فقال له ذلك الإنسان: إن(14/295)
بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فسلم كل واحد منهما على صاحبه دفعةً واحدةً، لم يحنث واحد منهما؛ لأنه لم يوجد منهما البداية بالسّلام، وانحلت اليمين.
فلو سلم أحدهما بعد ذلك، لم يحنث؛ فإن سلامه لا يقع ابتداء مع ما تقدم.
فرع:
9274- إذا قال لها: إن أكلت رمانةً فأنت طالق، وإن أكلت نصف رمانةٍ، فأنت طالق، فأكلت رمانةً كاملة، طُلقت ثنتين، لأنها أكلت رمانةً ونصفَ رمانةٍ، وهذا من الأصول؛ فإنّ (إن) [وإن] (1) كان لا يقتضي تكراراً، فإذا ذكر لفظ (إن) وجرى موجودٌ واحد تحت اسمين، فقد وجد الاسمان، فالتعدد من تعدد الاسم، لا من التكرار.
ولو قال لها: إن أكلتِ رمانةً، فأنتِ طالق، وقال: كلما أكلت نصف رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت ثلاثاًً، وهذا من أصل التكرار، وقد أكلت نصفي رمانة ورمانة، وفي المسألة الأولى تحقق اسمان: الرمانة ونصف الرمانة.
فرع:
9275- إذا كانت له امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مَنْ بَشَّر بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فبشرته حفصة، ثم عمرة، طُلقت حفصة، ولم تطلق عمرة؛ لأن البشارة هي الأولى.
ولو ذكرت حفصة كاذبةً، لم تطلق، فإذا ذكرت عمرة صادقة، طلقت.
ولو بشره أجنبي بقدوم زيد صادقاً، ثم بشّرتاه أو إحداهما، لم يقع الطلاق.
والبشارة الكلامُ الأول الصدق الذي يقرع سمع الإنسان.
ولو بشرتاه معاً صادقتين، طلقتا.
ولو قال: من أخبرني بقدوم زيدٍ فهي طالق، فأخبرتاه على الجمع أو على الترتيب صادقتين أو كاذبتين، طلقتا؛ فإن اسمَ الخبر يتناول ذلك كلّه.
9276- فرع لابن الحداد: إذا كان له امرأتان زينب وعمرة، فنادى عمرة، وقال: يا عمرة، فأجابت زينب، فقال: "أنت طالق"، فنَسْتَفْصِلُ الزوجَ أولاً، ونقول: هل عرفت أن التي أجابتك زينب أم ظننتها عمرة؟ فإن قال: عرفت أن التي أجابتني
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(14/296)
زينب، فيقال له: فما كان قصدك بعد ذلك؟ فإن قال: أردت تطليق زينب، ولم أرد تطليق عمرة، فيقبل قوله؛ إذ قد ينادي الرجل امرأةً، ثم لا يطلقها ويطلق غيرها، وربما نادى عمرة لشغل، فلما [أجابته] (1) زينب غاظه ذلك؛ فطلقها، فليس من ضرورة النداء السّابق أن تكون المناداة مطلّقةً.
ولو قال: علمت أن التي أجابتني زينب، ولكني أردت بقولي: "أنت طالق" تطليقَ عمرة، لا تطليق زينب. أما عمرة فتطلق ظاهراً وباطناً، فإنه سمّاها، وقال: أنت طالق، وأما زينب، فتطلق ظاهراً، فإنه خاطبها بالطلاق، ولا يقبل ما قاله ظاهراً في درء الطلاق عن زينب، ولكن يُدَيَّن باطناًً.
وفي هذا فضل نظر؛ فإنه إن نادى واسترسل في كلامه، ولم يربط قوله: "أنت طالق" بانتظار جواب، وبان ذلك في جريانه في الكلام واتحاد جنس صوته ونغمته، ثم قال: أردت عمرة، لم تطلق إلا عمرة ظاهراً وباطناً. وقد أوضحنا فيما تقدّم ظهور أثر النغمات والتقطيعات.
فأما إذا نادى منتظراً جواباً، فاتّصل جواب زينب، فقال: أنت طالق، وَرَبَط بالنغمة قوله على جواب زينب، فعند ذلك نقول: تطلق زينب ظاهراً وعمرة لا يظهر طلاقها والحالةُ هذه، غيرَ أنه إذا قال: نويتُها صُدِّق ظاهراً، وإلا فلا يتصوّر ظاهران على التنافي، غير أنا ذكرنا أن القصد الخفي في الوقوع ملحق بالظاهر.
هذا كله إذا قال: علمت أن المجيبة زينب.
9277- فأما إذا قال: حسبت أن التي أجابتني عمرة، وما ظننتها زينب [فخاطبتها] (2) بالطلاق على ظن أنها عمرة.
قال ابن الحداد: أما عمرة، فلا تطلق؛ فإنه ناداها وسمّاها، ثم خاطب بالطلاق غيرَها، فانقطع خطاب الطلاق عن النداء، فنجعل كأنّ النداء لم يكن، فلا يبقى فيها عُلقة إلا أنه ظن المخاطبةَ عمرة، وهذا لا يقتضي وقوعَ الطلاق على عمرة؛ فإنه لو
__________
(1) في الأصل: أجابتهاء
(2) في الأصل: فخاطبها. والمثبت تصرّف من المحقق ساعدنا عليه الإمام ابن أبي عصرون.(14/297)
خاطب واحدةً من نسائه وقال: أنت طالق، ثم قال خاطبتها على ظن أنها عمرة، فإذا هي زينب، فيقع على زينب المخاطبة، ولا تطلق عمرة. هذا قولنا في عمرة.
وهل تطلق زينب التي أجابت؟ ذَكَر فيه وجهين: أحدهما - تطلق، وهو الظاهر، ولهذا قطعنا الطلاق عن عمرة، ولو قيل: المخاطبة تطلق ظاهراً والتي ناداها أولاً هل تطلق أم لا؟ فعلى وجهين، لكان محتملاً.
فرع:
9278- إذا كان تحته امرأتان، فقال لإحداهما: أنت طالق إن دخلتِ الدار، لا بل هذه، وأشار إلى الأخرى، قال أصحابنا: إن أطلق لفظه، وتحقق أنه رام تطليق الثانية بقوله: "لا بل هذه" فمطْلَق ذلك يقتضي أن المرأتين جميعاًً تطلقان. إذا دخلت الأولى الدار.
ومعنى الكلام: "أنت طالق إن دخلتِ الدار لا بل هذه عند دخولك"؛ فلا يصح رجوعه عن طلاق الأولى ويُثبت الثانية، فيقع الطلاق عليهما جميعاً عند دخول الأولى.
ولو قال: أردت بقولي: "لا بل هذه" أن هذه تطلق إذا دخلت هي بنفسها الدار، فهل يُقبل ذلك منه أم لا، فعلى وجهين: أحدهما - يُقبل منه ويحمل الكلام عليه للاحتمال الظاهر فيه، وحقيقة عطف هذه على الأولى أن تكون مثلَها وشريكتَها في المعنى. ثم الأولى لا تطلق إلا بدخول الدار، فكذلك الثانية ينبغي ألا تطلق حتى تدخل بنفسها الدار؛ إذا فُسّر قوله بهذا.
والوجه الثاني -وهو اختيار القفال- أنه لا يقبل ذلك منه في الثانية على هذا الوجه، ولكن يحمل لفظه على طلاق الثانية بدخول الأولى، ولا يصدق فيما قاله من إرادة دخولها بنفسها، وتمسك فيما قاله بمسألة، وهي أنه قال: الطلاق يقع بالكناية تارةً وبالصّريح أخرى، والأيْمان لا تنعقد بالكنايات، وبيانه أنه لو قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق إذا دخلت الدار، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها، فإن أراد بذلك أن الثانية تطلق إذا طلقت الأولى، فيقبل منه ذلك، وإن أراد بذلك أنها إذا دخلت الدار بنفسها طلقت، كالأولى إذا دخلت، فلا يقبل ذلك منه.
وهذه المسألة التي استشهد القفال بها ربما لا تَسْلَم دعوى الوفاق فيها، والقول(14/298)
الجامع فيه: أنه لو حلف بالله على فعلٍ أو تركٍ، ثم قال: الفعلُ الآخَر مثلُ الفعل [الأول] (1) ، فلا يكون حالفاً؛ فإن عماد اليمين بالله تعالى ذكر الاسم المعظم، ولم يجر ذلك الاسم في الفعل الثاني الذي أشار إليه.
وإذا قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق، ثم قال لضرتها: "أنت شريكتها" ونوى التسويةَ بينهما في الطلاق، فهذا مقبول. ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال للأخرى أنت شريكتها، وأراد أنك تطلقين إذا طلقت فهذا يثبت؛ فإنه إشراك في الطلاق عند وقوعه.
ولو علق طلاق الأولى بصفة، ثم قال للأخرى: "أنت شريكتها" ونوى تعليق طلاقها بالدخول، فهذا محل الوجهين؛ فإن هذا يتردد بين الإشراك في اليمين وبين الإشراك في الطلاق، فإذا قلنا: يقبل الإشراك في الطلاق، فالتعليق قريب منه، ومن لم يَقْبل قوله في حق الثانية إن قال: أردت تعليق طلاقها بدخول نفسها، فلا يوقع عليها طلاقاً إذا دخلت الأولى، بل تُلغى اللفظة، ولو قال لإحدى امرأتيه: "إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا بل هذه" ثم زعم أنه نوى تعليق طلاق الثانية بدخولها في نفسها، فإن قبلنا هذا، فلا كلام، وإن لم نقبله، حكمنا بأنها تطلق بدخول الأولى؛ فإن قوله: "لا بل هذه" يترتب على كلام صريح في الطلاق منتظمٍ معه انتظاماً يقتضي الطلاق لا محالة، وقوله: أنت شريكةُ الأولى كلامٌ مبتدأ متردّدٌ، فإن حمل على محملٍ غير صحيح، بطل اللفظ والحمل.
فرع:
9279- إذا قال الرجل وتحته امرأتان: زينب وعمرة، فقال لزينبٍ: إن طلقتك، فعمرة طالق، وقال لعمرة: إن طلقتك، فزينب طالق، فقد علق طلاق عمرة ابتداء، ثم علّق طلاق زينب انتهاء، فلو طلق عمرة أولاً تنجيزاً، طُلِّقت، وطلقت زينب؛ فإنه قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، [وهل] (2) تطلق عمرة طلقة أخرى غير المنجزة بسبب أن الطلاق وقع على زينب -وقد قال: إن طلقت زينب فعمرة طالق-؟
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: فهل.(14/299)
طريق التحقيق في ذلك أن نقول: قد قال ابتداء: إن طلقت زينب فعمرة طالق، فمهما أنشأ بعد ذلك تعليق طلاق زينب، ثم وقع الطلاق بالصفة، فقد طلق زينب، ومعلوم أنه بعد ما ذكر أولاً تعليق طلاق عمرة، علق بعد ذلك طلاق زينب، حيث قال آخراً: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فلما طلقت زينب بوجود الصفة، فتعود طلقة إلى عمرة لا محالة، فتطلق طلقتين: طلقةً بالتنجيز، وطلقة بالصّفة، وزينب لا تلحقها إلا طلقة واحدة.
ولو كان المسألة بحالها ولكنه طلّق زينب أولاً، فتطلق عمرة؛ فإنه قد قال ابتداء: "إن طلقت زينب، فعمرة طالق" ولا تعود طلقة إلى زينب؛ وذلك أنه لم يعلق طلاق زينب إلا انتهاء، لمّا قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فينبغي أن تطلق بعد هذا عمرة إنشاء، أو يبتدىء، فيعلق بعد ذلك طلاقها، ولم يوجد بعد القول الأخير تعليق طلاق عمرة، وإنما علّق طلاقها قبل ذلك.
وعبرة هذه المسألة أنه لو قال لامرأته زينب: "إن دخلتِ الدار، فأنتِ طالق"، ثم قال لعبده: "إن طلقتُ زينب، فأنت حرّ"، فإذا دخلت الدار وطلقت، لم يعتِق العبد؛ فإن تعليق طلاق المرأة سبق تعليق العتق.
وبمثله لو قال [لعبده] (1) أولاً: إن طلقتها، فأنت حرٌ. ثم ابتدأ بعد ذلك فعلّق طلاقها بدخول الدار، فإذا دخلت، طلقت وحصل العتق.
هذا هو الأصل، وقد يحوّج بعض الصور إلى مزيد فكرٍ.
فرع:
9280- الذمي الحرّ إذا نكح امرأة وطلقها واحدة، ثم نقض العهد، واستُرِق، فأراد أن ينكح امرأته التي طلقها في الحرّية طلقةً واحدة، فنكحها بإذن السّيد، ملك عليها طلقةً واحدةً؛ فإنه طلقها من قبلُ طلقةً، وهي محسوبةٌ، ثم نكح وهو رقيق، ولا يملك الرقيق إلا طلقتين، وقد استوفى إحداهما.
وبمثله لو نكح في الكفر امرأة وطلقها طلقتين، ثم التحق بدار الحرب، فاستُرق بعد نقض العهد، وأراد أن ينكح تلك المرأة بعينها، قال ابن الحداد: له ذلك،
__________
(1) في الأصل: قال العبد.(14/300)
ويملك عليها طلقة واحدةً؛ والعلّة فيه أنه لما طلقها في الحرّية، لم تحرَّم عليه، إذ هو حر، فيستحيل أن يقال: طرْدُ الرق يحرم عليه امرأة لم تكن محرمة في الحرية.
قال الشيخ: من أصحابنا من قال: إذا طلقها ثنتين في الحرّية، ثم استُرق، فأراد أن ينكح تلك المرأة قبل أن تنكح غيره، فليس له ذلك؛ فإنه الآن عبد، وما مضى من الطلاق محسوب عليه، وقد سبقت طلقتان، فيجعل كأنهما سَبقتا في الرق.
والصّحيح الأول.
ومما [يلحق] (1) بهذه المسألة: أن العبد إذا طلق امرأته طلقةً واحدة، ثم عَتَقَ، فيملك عليها طلقتين في الحرّية، وبمثله لو طلق طلقتين، ثم عَتَقَ فالذي ذكره الأصحاب بأجمعهم أنه لا ينكحها حتى تنكح غيره.
قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه إذا عتق، فله أن ينكحها على طلقة، وهذا قد يخرّج على الوجه الذي حكيناه في الحرّ الذمّي إذا طلق طلقتين ثم استرق، فإن قلنا: الاعتبار برقّه في الحال، فلا [ينكحها] (2) . فنقول: الاعتبار بالحرية الطارئة، والحرّ يملك ثلاثاًً، وهذا بعيد جدّاً. ولكن حكى الشيخ الوجهين في المسألتين، وصرّح بالحكاية.
فرع:
9281- إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق واحدةً، ثم قال لها قبل الدخول: إذا دخلت الدار، فأنت طالق ثنتين، فإذا دخلت الدار، طلقت ثلاثاً؛ فإن مضمون اليمينين يقعان معاً.
ولو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق وطالق"، فلا تلحقها إلا الطلقةُ الأولى.
ولو قال لعبد من عبيده: إذا مت، فأنت حرّ، ثم قال لآخَر هكذا: إذا مت فأنت حر، فإذا مات لم يقدّم المذكور أولاً بالحرية وإن قَدّم ذكرَه، فهذا نظير تعليقين متعاقبين.
__________
(1) في الأصل: يليق.
(2) في الأصل: ينكح.(14/301)
ولو قال في مرضهِ: "سالم حرّ وغانم حر" فسالم مقدم؛ فإن العتق ينفذ فيه قبل التعبير عن غانم، وهذا نظير ما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، ولو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، فطلقها، وقعت المنجّزة، ولم تقع الأخرى بعدها؛ فإن المنجزة متقدمة، وقد أوضحنا هذا في الأصول.
ولو قال: مهما (1) أعتقت سالماً، فغانم حرّ، فإذا أعتق سالماً، فيكون عتقه مقدّماً على عتق غانم عند ضيق التركة.
9282- ولو قال لغير المدخول بها: "إذا طلقتك، فأنت طالق مع الطلقة المنجزة" ثم طلقها، فهل يقع الطلقةُ الأخرى عليها؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه: أحدهما - يقعان؛ لاجتماعهما واقترانهما.
والثاني - لا يقع إلا المنجّزة؛ فإنه غاير بينهما في اللفظ.
قال: وكذلك اختلف أصحابنا في أنه لو قال: إذا أعتقت سالماً فغانم حر معه، ثم أعتق سالماً، فهل يقدّم عتقه على عتق غانم، فعلى وجهين.
وكل ذلك مما قدمنا أصوله، فإن أعدنا شيئاً مما سبق، فالقصد الإفادة لا الإعادة.
9283- ومما ذكره رضي الله عنه أنه لو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" قال: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - لا يقع عليها شيء، وتدور المسألة، فإذا وقع عليها [طلقة] (2) وهي غير ممسوسة، فلا تلحقها الثانية، وإذا لم تلحقها الثانية، لم تلحقها الأولى؛ فإن الارتباط مشروط بينهما.
والوجه الثاني - تلحقها طلقتان: أما الواحدة فبقوله: أنت طالق طلقة، وأما الثانية بقوله (3) قبلها طلقة، فيلغو قوله: "قبلها" فيكون كما لو قال: أنت طالق الشهر الماضي، فكأنه جمع عليها طلقتين.
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا) .
(2) عبارة الأصل: "فإذا وقع عليها واقعة قبلها أخرى، وهي غير ممسوسة ... " والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المفهوم من المسألة.
(3) بقوله: جواب (أما) بدون الفاء.(14/302)
وهذا ضعيف لا اتّجاه له.
والوجه الثالث - أنه تلحقها طلقة واحدة، وهو المشهور نقلاً وتعليلاً، وسرّ الدّور في هذه المسألة قد ذكرته فيما تقدّم، وأوضحت أن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها بدفعتين في زمانين، وكيف وقوعهما وترتّبهما، فلا نعيد ما سبق.
والذي زدناه الوجه الذي حكاه الشيخ في وقوع الطلاقين على غير المدخول بها.
فرع:
9284- إذا علق العبد ثلاث طلقات بصفة، فقال لامرأته: إن دخلتِ الدار فأنت طالق ثلاثاًً، فعتَقَ العبد أولاً، ثم وجدت الصفة [بعدُ] (1) ، فقد اختلف أصحابنا اختلافاً مشهوراً، فذهب بعضهم إلى أنه لا يقع إلا طلقتان، فإنه كان لا يملك غيرهما حالة التعليق، وكان تعليقه للثالثة بمثابة تعليق الطلاق قبل النكاح.
والوجه الثاني - أن الثالثة تقع؛ فإنه كان مالكاً لأصل النكاح، والطلاق تصرّفٌ فيه. والأقيسُ الوجه الأول.
وإذا قال الرّجل لأَمته: إذا علقت بمولود بعد لفظي هذا، فهو حرٌ، فالولد الجديد إذا أتت به هل تنفذ فيه الحرية؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا ينفذ؛ لأنه لم يكن مالكاً لذلك المولود حالة التعليق؛ إذ شرط كون الشيء مملوكاً أن يكون موجوداً.
والثاني - ينفذ؛ نظراً إلى المِلْك في الأصل.
9285- ولو قال العبد لزوجته: إذا مات مالكي، فأنت طالق طلقتين، وقال السيد لذلك العبد: إذا مت، فأنت حرّ، فمات السّيد، وحصلت الحرية، قال ابن الحداد: يقع طلقتان، ويملك الرجعة، وعلّل فقال: لأن الطلاق [وقع بعد] (2) الحرية.
قال الشيغ: جوابه في المسألة صحيح، وتعليله باطل؛ فإنه قال: وقع الطلاق بعد الحرية، وليس كذلك، بل وقعا معاً؛ فإنهما عُلِّقا بالموت على وجهٍ واحد، فلا معنى لتقدم الحرية على الطلاق، وإذا وقعت الطلقتان في الحرية، اقتضى وقوعُهما
__________
(1) في الأصل: أولاً.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(14/303)
فيها استعقابَ الرّجعة، وليس كما لو وقعا في الرق.
وحكى الشيخ عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً أنها تحرم عليه؛ لأن الحرية لم تتقدم على الطلاق. وهذا على نهاية الضّعف.
وإذا فرعنا على ما أفتى به ابن الحداد، وهو المذهب الذي لا يجوز غيره، فلو قال العبد لزوجته: إذا مات سيّدي، فأنت طالق (1) في آخر جزء من حياته، وقال السيد: إذا مت، فعبدي هذا حرّ، فالطلاق يقع في زمان الرق، ولا رجعة؛ فإن الرّجعة لا تثبت بعد الطلاق، وإنما تثبت حيث تثبت مع الطلاق، ومعنى وقوع الطلاق في الرق وقوع الحرمة الكبرى، وهذا يناقض ثبوتَ الرجعة لا محالة، وهذا ذكرناه على وضوحه؛ ليقطع وهمَ من يظن أن وقوع الطلاق يستعقب الرجعة، وقد يطلق الفقهاء ذلك، وهو تجوّز منهم، والتحقيق ما نصصنا عليه.
فرع:
9286- لو تزوج الرجل بجارية أبيه، وعلّق طلاقها بموت الأب، فإذا مات، لم يقع الطلاق على ظاهر المذهب؛ لأن الملك يحصل في الرقبة، وحصوله يتضمّن انفساخ النكاح، فلو وقع الطلاق، لكان واقعاً على مملوكته، وهذا محال.
وأبعد بعض أصحابنا، وقال: يقع الطلاق.
وهذا وهمٌ وغلط، وإنما تخيّله من صار إليه؛ من حيث اعتقد أن الملك يحصل مع الموت، والانفساخُ يترتب عليه (2) ، كما يشتري الرجل من يَعْتِق عليه، فيملكه في لحظة، ثم يعتِق عليه، فظنّ ظانّون أن الانفساخ مع الملك كذلك يكون، وليس الأمر كذلك؛ فإن الانفساخ يحصل مع الملك، والملك مع النكاح يتعاقبان تعاقب الضّدين، وليس كما وقع الاستشهاد به؛ فإنا قدّرنا ملك القريب اضطراراً ليصحّ العقد، وهاهنا لا ضرورة إلى مناقضة الحقائق والقياسِ، ولا تناقض في الحكم بالملك والفسخ جميعاًً؛ فإن الملك سيبقى بعد الانفساخ مطرداً.
وقد قال أبو إسحاق المروزي: من اشترى قريبه، حصل الملك والعتق معاً.
__________
(1) فأنت طالق: أي طلقتين، كما هو أصل المسألة التي نفرع عليها.
(2) يعني أن الملك يقع أولاً، فإذا وقع الملك، وقع الطلاق المعلق عليه، قبل أن يقع الفسخ المترتب على الملك.(14/304)
وزعم أن موجب العتق الملك، وموجب الملك العقد، وقد وقع الموجبان معاً، ثم زعم أنه لا يمتنع ثبوت حكمين نقيضين يقتضيهما القياس، وإنما الممتنع وجود ضدّين حساً ووقوعاً.
وهذا على نهاية السقوط؛ فإن التناقض غير محتمل شرعاً وعقلاً.
وما ذكرناه فيه إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين، فالجواب على ظاهر المذهب ما ذكرناه؛ لأن الدين لا يمنع الميراث على الصحيح من المذهب، وقال الإصطخري: الدّين المستغرق يمنع الميراث، وعلى هذه الطريقة يقع الطلاق؛ لأنها لا تنتقل بالموت إليه.
فرع:
9287- إذا قال لامرأته: أنت طالق مع أول موتي، أو مع موتي، أو قال: أنت طالق مع انقضاء عدتك، فالمذهب أنه لا يقع الطلاق؛ فإنه جعل وقوع الطلاق مقارناً بحالة لا يتصوّر فيها نكاح، وإنما يقع الطلاق في وقت يفرض فيه النكاح لولا الطلاق، فصار كما لو قال: أنت طالق بعد موتي، أو بعد انقضاء عدتك، والمخاطبةُ رجعية.
ولو قال: أنت طالق مع آخر جزء من عدتك، فقد ذكر الأصحاب وجهين في وقوع الطلاق، ومنْعُ الوقوع ضعيف ساقط، ولا تعلق لاشتراط كون محل الوقوع [محبوساً] (1) .
وحكى الشيخ عن الخِضْري أنه قال: إذا قال: أنت طالق مع موتي [أوْ مع] (2) انقضاء العدة، يقع الطلاق، وهذا خرجه على القول عن (الإملاء) فيه إذا قال لامرأته وهي حامل بولدين: كلما ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت الولد الأول طَلَقت (3) ، وإذا ولدت الثاني، لم تَطْلُق بالولادة الثانية، وتنقضي عدتها على الصحيح المنصوص عليه في الجديد.
__________
(1) في الأصل: محتوشاً، والمثبت من (صفوة المذهب) ، والمعنى: لا يشترط أن تكون المرأة، التي هي محل وقوع الطلاق محبوسة للزوج، أي ليست في العدة.
(2) في الأصل: ومع.
(3) طلقت: بفتح اللام وضمها، -وهذا الضبطُ من نسخة الأصل- أي انحلت عنها عقدة الزواج (المعجم) .(14/305)