القول في مسائل دائرة في الجنايات والعفو وما يتعلق بها
7140- مسألة: إذا جنى عبدٌ قيمته خمسةُ آلافٍ على حرٍّ، ورأينا تقويم [الأروش] (1) ، فبلغت قيمتُها عشرةَ آلاف، وكانت الجناية خطأً، وانتهى المجروح إلى مرض الموت، فعفا المجنيُّ عليه عن العبد، وكان لا يملك شيئاً، فالعفو ينصرف إلى السيد وهو المعنيُّ به، فلا (2) يدخل في الوصية للقاتل. ثم إن للسيد تسليم العبد، فلا دور، فيصح العفو عن الثلث.
فإن قيل: هلاّ قلتم: نزل العفو على ثلث الدية، ثم إذا سلّم العبد، فرقبته تتعلّق بثلثي الدية، فلا يستفيد السيد بالعفو على [هذا] (3) التقدير شيئاً؟ قلنا: الغرض من هذا ومن تحقيق المسألة يستدعي تقديم أصلٍ، وهو أن العبد إذا جنى جنايةً، فإنه يتعلق أرشها بالرقبة -وكان الأرش مثلَ قيمة الرقبة، حتى لا نقع في اختلاف الأقوال فيما [يُفتدَى] (4) العبد به- فلو أبرأ المجنيُّ عليه [العبدَ] (5) عن ثلث حقّه، فظاهر المذهب وما أشعر به كلام الأئمة أنه تنفك ثلث الرقبة عن تعلّق الأرش، وليس ذلك كتعلق الدين بالرهن؛ فإن مستحق الدين لو استوفى معظمَ الدين إذا برأ عنه [المدين] (6) ، فالمرهون يبقى موثقاً ببقية الدين، لا ينفك من ذلك شيء، والفرق أن وثيقةَ الرهن أُثبتت في الشرع لتوثيق كلِّ جزء من الدين بجميع الرهن، وتعلّقُ الأرش بالرقبة ليس في معنى وثيقةٍ على الحقيقة، وإنما حق مالية في رقبة العبد، وآية ذلك أنه ليس في ذمة السيد من الأرش شيء، فكان تعلّق الحق بملكه انبساطَ حق مالية
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: ولا.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: يتعدى.
(5) زيادة من المحقق.
(6) زيادة لإيضاح المعنى.(10/481)
على الرقبة، وهذا يقتضي التقسيطَ، وعلى هذا لو أبرأ السيدَ [عن] (1) بعض الأرش، لزم منه انفكاكُ قدرٍ من الرقبة عن التعلّق به، صرح الأستاذ -فيما حكاه- بهذا.
وغالب ظنِّي أن من جعل تعلّق الأرش بالرقبة بمثابة تعلق الدين بالرهن. وهذا -إن كان، فخروجه- على قولنا: إن الأرش يتعلق بذمة العبد [ولا يتعلق] (2) برقبته، فقد يضاهي من هذا الوجه المرهونَ، وتعلّق الدين (3) به.
7141- فإذا تمهد ما ذكرناه، قلنا: إذا سلّم مالك العبد العبدَ وقد ثبت إبراؤه، فالذي رأيناه للأصحاب وأهل الحساب أن إبراء المبرىء ينزل على ثلث الرقبة، ويسقط ارتباطُ حق الجناية به، وكذلك إذا أراد السيد أن يفديَه، وقلنا: إنه يفديه بأقلّ الأمرين، وكانت القيمة أقلَّ أو كانت مثل الأرش، فلا دور، والعفو نازلٌ على تخليص ثلث الرقبة، والسبب فيه أنه لا تعلّق لورثة المجني عليه المتوفَّى إلا هذا العبد، فلو لم يكن عفوٌ، لم نجد متعلَّقاً غيره، فإذا جرى العفو، [نزل] (4) على ثلث [العبد] (5) .
يخرج ممّا ذكرناه أنه إذا سلّم العبدَ ليباع، لم تَدُر المسألة، وحُكم بسقوط الحق عن ثلث رقبته.
فإن أراد أن يفديَه، وقلنا: إنه يفديه بالأقل، فهو كما لو سلّمه، فلا تدور المسألة.
وإن فرعنا على أن السيد يفدي عبده بالأرش بالغاً ما بلغ، والأرش عشرة [آلاف] (6) وقيمة العبد خمسة آلاف، والتفريع على الوجه المشهور، المعتد به، وهو
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) مكان بياض قدر كلمتين.
(3) الصحيح في المذهب الوجه الأول. (ر. فتح العزيز: 7/233، والروضة: 6/286) .
(4) في الأصل: يدل.
(5) في الأصل: التعلق.
(6) في الأصل: ألف.(10/482)
أنا نفك عن الرقبة بقسط [الأرش] (1) ، فالمسألة تدور.
7142- وحسابها أن نقول: صح [العفو] (2) في شيء من العبد، وبطل في عبدٍ إلا شيئاً، يفديه صاحبه، فضعِّفه؛ لأن الدية ضعف القيمة، فنقول يفديه بعبدين إلا [شيئين] (3) ، فيحصل مع [ورثة] (4) العافي عبدان إلا [شيئين] (5) يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيثبت عبدان في معادلة أربعة أشياء، ونقلب الاسم، فنقول: العبد أربعة، والشيء اثنان، والاثنان من الأربعة نصفها، فصحّ [العفو] (6) في نصف العبد وانفك، ويأخذ ورثة المقتول نصفَ الدية وهو خمسة آلاف (7) ، والمنفك من العبد ألفان وخَمسُمائة، [فاعتدل] (8) الثلث والثلثان. ولو فككْنا العبدَ وغرّمنا السيدَ ثلثي الدية، لكان ما تبقى لورثة العافي أكثرَ مما جرى العفو فيه.
فهذا بيان الدور وسبيله.
7143- ولو كانت قيمة العبد ألف درهم والدية عشرة آلاف وقد جرى العفو كما صورنا، فالوجه أن نقول: صح [العفو] (9) في شيء وبطل في عبد إلا شيئاً، وفدى السيدُ باقيَه، وهو عبدٌ إلا شيئاً بعشرة أمثاله؛ لأن الدية عشرةُ أمثال القيمة، فيكون عشرة أعبد إلا عشرة أشياء تعدل شيئين، فبعد الجبر وقلب الاسم يصير العبد اثني عشر، والشيء عشرة، وهو خمسة أسداس الاثني عشر، فيصح العفو في خمسة أسداس العبد، ويفدي السيد سدسه بسدس الدية، وهو ألف وستُّمائة وستة وستون
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: العقد.
(3) في الأصل: شيء.
(4) في الأصل: الورثة.
(5) في الأصل: شيء.
(6) في الأصل: العبد.
(7) في الأصل: ألف. والمنصوص عليه فيما رأيناه من كتب النحو أن الأعداد من 3-10 لا تضاف
إلا إلى جمع. (انظر ابن عقيل) .
(8) في الأصل: فاعدل.
(9) في الأصل: العبد.(10/483)
وثلثان، وهي ضعف الأسداس التي يصحّ فيها العفو.
وإن قلنا: إن الفداء يقع بأقلِّ الأمرين برىء ثلث العبد، وفدى [ثلثيه] (1) بثلثي قيمته، ولم يكن في المسألة دَورٌ.
7144- ولو كانت قيمة العبد عشرة آلاف والدية [ثلاثة] (2) آلاف، [فإن] (3) اختار تسليمَ العبد، سلّم ثلثي العبد ليباع، وصح العفو في ثلثه.
وإن اختار الفداء، فإن قلنا: يلزمه أن يفديه بأقل الأمرين، لزمه أن يفديَ ثلثيه بثلثي قيمته.
وإن قلنا: الفداء يقع بالدية بكمالها، فحساب المسألة أن نقول: صح العفو في شيء من العبد، والسيد يفدي الباقي، وهو عبدٌ إلا شيئاَّ بَثلاثة أمثاله ومثلِ ثُلثه؛ فإن نسبة الدية كذلك تقع. ولكن لا بد من الاستثناء ليقع التضعيف، فيفدي عبداً إلا شيئاً بثلاثة أعبد إلا ثلاثة أشياء وثلث شيء، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يعدل ثلاثة أعبد وثلثُ عبدٍ خمسةَ أشياء وثلثَ شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب الاسم؛ فيكون العبد ستةَ عشرَ، والشيءُ عشرةً، وهو خمسة أثمانها، فيصح العفو في خمسة أثمان العبد، ويفدي ثلاثةَ أثمانه بثلاثة أثمان الدية، فما يبذله في الفداء مثل ثلاثة أثمان قيمة [الدية] (4) ، وهو ضعف خمسة أثمان [العبد] (5) .
7145- ولو كانت قيمة العبد ستةَ آلاف واختار الفداء [وقلنا] (6) الفداء يقع بالدية؛
__________
(1) في الأصل: ثلث.
(2) في الأصل: عشرة آلاف. وقد أرهقنا هذا الخطأ الإرهاق كله، فظللنا نقلب امتحان المسألة على الأَوْجه الحسابية يوماً كاملاً ليل نهار، ولم تصح. فأخذنا نراجع العمل في إجراء المسألهَ، فنجده سليماً صحيحاً، وأخيراً هدانا الله إلى أن الخلل في وضع المسألة. وهذا نموذج واحد من آلاف النماذج لمعاناة التصحيح عن نسخةٍ وحيدة. والله وحده المستعان الموفق.
(3) في الأصل: وإن.
(4) في الأصل: قيمة ثلث وثلث.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: أو قله (انظر صورتها) .(10/484)
فإن العفو يصح في شيء منه، ويفدي باقيه، وهو عبد إلا شيئاً بمثله ومثل [ثلثيه] (1) لأن الديةَ مثلُ القيمة، ومثلُ ثلثيها، فيحصل مع ورثة العافي عبدٌ وثلثا عبدٍ إلا شيئاً وثلثي شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر [والمقابلة يكون] (2) عبد وثلثا عبد يعدل ثلاثة أشياء وثلثي شيء، فنبسطهما أثلاثاً، ونقلب الاسم، فيكون العبدُ أحدَ عشرَ والشيء خمسةً، فيصح العفو في خمسة أجزاء من أحد عشر جزءاً من العبد، ويبطل في ستة أجزاء [منه] (3) ، ويفدي السيد الأجزاء بمثلها، ومثل ثلثيها، وذلك عشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً [من العبد] (4) ، وهي ضعف ما جاز العفو فيه.
وإن كانت قيمة العبد أحد عشر ألفاً والدية عشرة، فلا دَوْرَ، فإن المسألة إنما تدور إذا زاد الأرش على مبلغ القيمة، على قولنا يقع الفداء بالأرش بالغاً ما بلغ، فإن اختار سيدُ العبد الفداء، [فدى] (5) ثلثيه بثلثي الدية، وصح العفو في ثلث الرقبة. وإن اختار البيع، [سَلّمَ ثُلثيه فيباع منه] (6) بقدر ثلثي الدية.
7146- مسألة: إذا جرت جنايةُ العبد والعفُو عنه، كما صورنا، وكان للعافي تركة، وكانت القيمة أقلَّ من الدية، فترك السيد ضعفَ القيمة، جاز العفو في جميعه، لأن السيد لو اختار التسليم، لم يكن للورثة غيرُ قيمته.
وإن ترك أقلَّ من ضعف قيمته، ضممنا تركتَه إلى قيمة العبد، [وحصل لسيد] (7) العبد ثُلث هذه الجملة، [فبرأ ذلك المقدار من العبد] (8) .
7147- وإن كانت القيمةُ أكثرَ من الدية، فاجمع الدية والتركة وقل: للسيد ثلثُ ذلك من العبد.
__________
(1) في الأصل: ثلثه.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: فيه.
(4) زيادة من المحقق.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: "وإن اختار البيع (فيباع سلم ثلثه أسباع فيه) بقدر ثلثي الدية".
(7) في الأصل: وجعل السيد العبد.
(8) عبارة الأصل: من العبد فبرأ ذلك المقدار.(10/485)
المثال: إذا كانت قيمة العبد ثلاثين ألفاً، وتركةُ المقتول خمسة آلاف درهم، وقد عفا عنه، ضممنا تركتَه إلى ديته، والدّية كانت عشرة آلاف، [بقدر] (1) تقويم الإبل، فنضم التركة وهي خمسةُ آلاف إلى الدية وهي عشرة آلاف، فيكون خمسةَ عشرَ ألفاً، وإنما قدرنا هذا التقديرَ لأنه لا يستحق في رقبة العبد أكثر من الدية، [فيحصل لسيد] (2) العبدِ ثلث ذلك، وهو خمسة آلاف، وذلك نصف الدية [فيبرأ] (3) نصف العبد من نصف الدية، ويفدي السيد نصفَه بنصف الدية، أو يسلِّم نصفَه ليباع منه بمقدار نصف الدية، فيجتمع مع ورثة العافي عشرةُ آلاف، وهو ضعف ما جاز العفو فيه.
7148- وإن ترك العافي عشرين ألفاً وقيمة ديته عشرة آلاف، جاز العفو في جميعه؛ لأنه خلّف لورثته ضعف ديته، وليس له في رقبته إلا مقدار الدية، فإذا عفا من الرقبة، فقد خلّف [مثلي] (4) الدية، وخرج (5) التبرع.
7149- وإن كانت قيمته عشرة آلاف والدية مثلها، وترك العافي ألفَ درهم، فنضم الألف إلى عشرة الآلاف، فيكون المجموع أحدَ عشرَ ألفاً للسيد ثلثُها، وذلك ثلاثة آلاف وثلثا ألف، وهو ثلث العبد وثُلثُ عُشْرِ عبد، فيأخذ ورثة العافي الباقي من العبد، فيضيفونه إلى التركة، فيكون ضعفَ ما جاز العفو فيه.
7150- فإن كانت قيمتُه [ألفاً] (6) والتركةُ ألفٌ، والديةُ عشرة آلاف، فإن اختار السيدُ التسليم، ضممنا التركة إلى القيمة، فيكون ألفي درهم، لسيد العبد ثلثها، وهو ستمائة وستة وستون وثلثان، فذلك مثل ثلثي العبد، فصح العفو في ثلثيه، ويسلّم ثُلثَه ليباع، فيحصل معهم ألفٌ وثلثُ ألف، وذلك ضعف ما جاز العفو فيه.
__________
(1) في الأصل: فنقدر.
(2) في الأصل: فيجعل السيد.
(3) في الأصل: فذلك.
(4) في الأصل: مثل.
(5) في الأصل: خرج (بدون واو) .
(6) ساقطة من الأصل. وأثبتناها أخذاً من سياق المسألة.(10/486)
وكذلك إن اختار الفداء، وقلنا: الفداء يقع بأقل الأمرين من الدية والقيمة.
وإن قلنا: الفداء يكون بالدية، فإنا نقول: صح العفو في شيء من العبد، ويفدي السيد باقيه بعشرة أمثاله، وذلك عشرة آلاف إلا عشرةَ أشياء، فنضمها إلى التركة، فيكون أحد عشر ألفاً إلا عشرةَ أشياء؛ فإن ألف التركة لا استثناء فيه، ويعدل شيئين، فبعد الجبر وقلب الاسم يكون الفداء اثني عشر والشيء أحد عشر، فيصح العفو في أحدَ عشرَ جزءاً من اثني عشر جزءاَّ مَنه، ويفدي جزءاً واحداً بعشرة أمثاله، ومع ورثته ألف درهم، وهي بالسهام اثني عشر جزءاً، فيحصل في يد ورثة العافي اثنان وعشرون جزءاً ضعف ما جاز فيه العفو.
7151- وإن كانت قيمته خمسة آلاف والدية عشرةُ آلاف، وترك خمسة آلاف (1) ، واختار سيدُ العبد التسليمَ أو الفداء، وقلنا: الفداءُ بالأقل، فلا دور.
وطريق المسألة: أن نضم التركة إلى القيمة يكون عشرة آلاف، لسيد العبد منها ثلثها وذلك ثلاثة آلاف، وثلث ألف، يأخذها من عبده، وهي ثلثا العبد، ويدفع ثلثَ العبد ليباع في الجناية، أو يفديه بثلث القيمة.
وإن قلنا: الفداء يقع بالدية، واختار الفداءَ، وقع الدّور، ويصح العفُو في شيء من العبد، وبطل في عبد إلا شيئاً، ويفدي الباقي [بضعفه] (2) ، فيكون عبدين إلا شيئين، ومعه في التركة عبد، فيكون ثلاثة أعبد إلا شيئين، إذ لا استثناء في التركة، فإذا جبرنا وقابلنا وقلبنا الاسم، كان العبد أربعةً، والشيء ثلاثة، وهي ثلاثة أرباعها؛ فيصح العفو في ثلاثة أرباع العبد، [ويفدي] (3) ربعَه، وذلك ألفٌ ومائتان وخمسون، يفديها بضعفها، وهو ألفان وخَمسُمائة، ثم نزيد عليها تركة العافي، وهي خمسة آلاف، فيكون مع الفداء سبعة آلاف وخَمسُمائة، وهي ضعف ما جاز العفو فيه؛ لأن العفو جاز في ثلاثة أرباع العبد، قيمتها ثلاثةُ آلاف وسَبعُمائة
__________
(1) في الأصل: وترك ألفاً في خمسة ألف.
(2) في الأصل: لضعفه.
(3) في الأصل: وتقدير.(10/487)
وخمسون، وقد حصل مع ورثة العافي ضعفها.
فإن كانت قيمة العبد خمسة آلاف وترك العافي عشرةَ آلاف، صح العفو في جميع العبد، لأن قيمة العبد إذا ضمت إلى التركة، صارت ثُلثاً، فهو قدرٌ مقدّر.
[وإن] (1) اختار التسليم [لم] (2) يلزمه التسليم مع وفاء التركة، وإذا لم يلزم التسليم، لم يلزم الفداء؛ فإن لزوم الفداء إنما يجري إذا لزم التسليم، واختار (3) الفداء.
7152- فإذا [لزم] (4) الفداء، فإن فرعنا على أنه حيث يفدي، يفدي بالأكثر، وهذا [تدور مسائله إن كانت القيمة أقلَّ من الدية أو أكثر منها، مثاله:] (5) فإن كانت قيمته ثلاثين ألفاً، ولم يكن للعافي تركة، ولكن كان عليه دينٌ أربعةُ آلاف درهم، فأسقط الدين من الدية وهي عشرة آلاف، يبقى منها ستة آلاف، يصح العفو في ثلثها، وهو ألفان، وذلك خُمسُ الدية، فَبَرأَ خُمس العبد من الجناية، ويفدي السيد أربعة أخماسه بأربعة أخماس الدية، وهي ثمانية آلاف، فيُقضى منها الدينُ، وهو أربعة آلاف ويبقى مع ورثة العافي أربعةُ آلاف: ضعفُ ما جاز العفو فيه.
وإن اختار السيد التسليم سلّم أربعة أخماسه ليباع منها بمقدار أربعة أخماس الدية، لا دور أصلاً؛ فإنه إنما يتوقع الدور حيث يدور [عند] (6) اختيار الفداء شرطَ أن يكون الفداء أكثرَ من مقدار قيمة المفدي، والقيمة في هذه المسألة أكثر.
والذي زدناه في هذه المسألة أنا حططنا مقدار الدين عن الدية أولاً، وإنما فعلنا ذلك، لأن العفو لا يجري في المستحق بالدين، وهو مقدم على الوصية، فرددنا الوصيةَ إلى ثلث ما تبقى [بعد] (7) مقدار الدين.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: ثم.
(3) في الأصل: فاختار.
(4) في الأصل: لم يلزم.
(5) زيادة اضطررنا إليها.
(6) في الأصل: عنه.
(7) في الأصل: بغير.(10/488)
وإن كانت القيمةُ كما ذكرنا، والدين عشرة آلاف، فصاعداً، بطل العفو أصلاً، وفداه السيد بالدية، أو سلّمه ليباع [منه] (1) بمقدار الدية، فإن الدية مستغرقةٌ بالدين، فلا يبقى للعفو والوصية محل.
7153- فإن كانت قيمته خمسة آلاف وعليه من الدين ألفان، واختار التسليم أو الفداء -وقلنا: الفداء يقع بأقل الأمرين- فأسقط الدينَ من قيمته، تبقى ثلاثة آلاف، للسيد ثلثها بالوصية، وهو ألف، وذلك خُمس العبد، فيصح العفو في خُمسه، ويسلم أربعةَ أخماسه [للبيع] (2) أو يفديَه بأربعة أخماس قيمته، [وهي] (3) أربعة آلاف، يُقضى منها الدين وهو ألفان، يبقى لورثة العافي ألفان، وهي ضعف ما جاز فيه العفو.
وإنما حطَطْنا الدينَ من مقدار القيمة، لأن الدين حقُّ الورثة لا يتعلق إلا بمقدار القيمة.
وإن قلنا: الفداء يقع بالدية، دارت المسألة؛ فإن الأرش أكثرُ من القيمة، فنقول: صح العفو في شيء منه، وبقي عبدٌ إلا شيئاً، فيفدي الباقي منه بضعفه، وهو عبدان إلا شيئين يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون عبد وثلاثة أخماس عبد يعدل أربعةَ أشياء.
وبيان ذلك أنا إذا انتهينا إلى معادلة عبدين إلا شيئين، نحط مقدار الدين [مما] (4) في جانب الورثة، فيبقى عبدٌ وثلاثة أخماس عبد إلا شيئين، تعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يعدل عبدٌ وثلاثة أخماسِ عبدٍ أربعةَ أشياء، فنبسطهما أخماساً ونقلب الاسم، فيكون العبد عشرين، والشيء ثمانية، فيصح العفو في [خمسي] (5) العبد،
__________
(1) في الأصل: فيه.
(2) في الأصل: بالبيع.
(3) في الأصل: وبقي.
(4) في الأصل: ما في.
(5) في الأصل: خمس.(10/489)
وفدى السيد باقيه وهو ثلاثة [أخماسه بضعفها] (1) ، وهو ستة آلاف، فيُقضى منها الدين، وهو ألفان، يبقى مع الورثة أربعةُ آلاف. ضعفُ العفو.
7154- مسألة: عبدٌ قيمته ألف درهم جرحَ رجلاً خطأً، فعفا عن الجناية وما يحدث منها، وأوصى لرجل بثلث ماله، ولا مال له غيرُ ما استحق من الدية.
فإن كان أرشُ الجناية قدرُ الدية، كقطع [اليدين مثلاً] (2) ، بطلت الوصية بالثلث؛ لأن العفو يستغرق الثلث، وهو منجَّزٌ متقدِّم.
وإن كان أرشها أقلَّ من الدية كالموضحة (3) باليد [يُقدّم العفو عن] (4) الجاني في مقدار الأرش؛ فإنه منجّز، والعفو عطية في المرض ناجزة، فإن فضل من الثلث شيء، كان لصاحب الثلث.
وأما العفو عما (5) يحدث، ففي إجازته خلاف مشهور، سيأتي مستقصىً في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
7155- وإن كان أرشُ الجناية ربعَ الدية، فعفا عنه، وعفا عما يحدث من جنايته، وأوصى لآخر بثلث ماله، فالسيد مقدَّمٌ بربع الدية، وقد بقي نصف سدس إلى قيمة الثلث، فنقول الآن: إذا صححنا العفو عما سيحدث، وفرضنا وصيةً، ففي تقديم العفو عما سيحدث احتمالٌ ظاهر، يجوز أن يقال: العفو عما سيحدث [مقدم] (6) على الوصية، فإنّا إذا صححناه، فقد نجزناه، حتى لو أراد مُطلِقه أن يستدركه، لم يجد إلى استدراكه سبيلاً، كالهبات المنجزة في الحياة، والرجوع عن الوصية ممكن بعد الوصية، وإذا دبّر عبدَه، فحكم لفظه تنْجيزُ العتق مع الموت، ولكن لما كان ملحقاً
__________
(1) في الأصل: ثلاثة ألف.
(2) زيادة من المحقق.
(3) الموضحة: هي الجرح الذي يبدي وَضَح العظم، وبهذا سميت موضحة. وفيها خمسٌ من الإبل (ر. روضة الطالبين: 9/262، وحلية الفقهاء: 196) .
(4) زيادة مكان بياضٍ بالأصل.
(5) من أثر التشويش في ترتيب الصفحات الذي أشرنا إليه من قبل نعود إلى 168 ش.
(6) في الأصل: مقدمه.(10/490)
بالوصايا يقبل الرجوعَ قبل حدوث ما يحدث، فلما لم [يمكن الرجوع عن العفو عما يحدث] (1) ، دلّ ذلك على التحاقه بالمنجَّز من التبرعات.
ويجوز أن يقال: هو ملتحق بالوصايا، من جهة أن العفو وإن جرى لفظاً، فإنما يقع عند تقدير الموت؛ فإنّ من جوّز الإبراء [عما لم يحدث] (2) يستحيل [أن يقول بمنع الرجوع] (3) ؛ فإن هذا خلاف الإبراء في معناه وصيغته، فمن هذا الوجه يقع الإبراء مع الموت، وتقع الوصية مع الموت، فيظهر التحاق الإبراء عما سيكون بالوصية.
وفي النفس شيء من الرجوع عن الإبراء المُنشأ في المرض عما سيكون؛ فإن المريض الواهب المقبض لا يرجع؛ لأنه لم يَبْنِ الهبةَ على الموت، والعفو عن الدية مبني [على] (4) الموت في وضعه كعتق [المدبَّر] (5) ، فلا يبعد أن يثبت الرجوع فيه، فإن ثبت، لم يبق إشكال في التحاقه بالوصية، وإن لم يثبت الرجوع، فالتردد على ما وصفناه.
وإنما تصفو هذه المسألة إذا لم نفرض حدوث شيء قبل الموت؛ فإن ذلك لو فُرض، لكان واقعاً في الحياة، فيقدّم قطعاً على الوصية، فليقع الفرض فيه إذا عفا عما سيحدث، ثم لم [ينجّز] (6) [العفوَ مع] (7) أنه لها أرش، ولكنه مات.
وليقع التفريع بعد هذا التنبيه على ما ذكره الأستاذ من التحاق [العفو] (8) عما سيحدث بالوصايا.
7156- فنقول: أما الربع، وهو أرش الجناية الواقعة، فالسيد مقدّمٌ، والعفو [منه] (9) صحيح عنه، ثم إذا صححنا العفو عما سيحدث، فقد عفا المجروح بهذه
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: من جوز الإبراء عالم نجز.
(3) في الأصل: أن يقال بمنع الوجوب.
(4) في الأصل: عن.
(5) في الأصل: الدين.
(6) في الأصل: يجز.
(7) مكان بياضٍ بالأصل.
(8) مكان بياضٍ بالأصل.
(9) منه: الضمير يعود على المجني عليه. وفي نسخة الأصل: (فيه) بدلاً منه.(10/491)
الجملة عن [ربع] (1) الدية، واستوفى السيد الربعَ، فتبقى له ثلاثة أرباع، والموصى له بالثلث يضرب بالثلث؛ فإذا ردَّ الورثةُ الزيادةَ على الثلث، وقد استوفى السيد الربعَ بحق التقديم، [فالباقي من الدية] (2) إلى الثلث نصفُ سدس، فيضرب فيه السيد بثلاثة أرباع، ويضرب الموصى له بثلث [والأجزاء] (3) تعول من اثني عشرَ إلى ثلاثةَ عشرَ، فيأخذ السيد من نصف السدس تسعةً من ثلاثةَ عشرَ، ويأخذ الموصى له بالثلث أربعةً من ثلاثةَ عشرَ.
ولو لم يعفُ المجروح [منجَّزاً] (4) ، ولكن أوصى بأن يُعفى عنه، وأوصى لإنسان بثلث ماله، فالوصيتان عند ردّ الورثة الزائدَ تنحصران في الثلث؛ فالسيد يضرب بكل [التركة] (5) وصاحب الثلث يضرب بثلثه؛ فإن السيد أُوصي له بكل التركة، وأوصى لآخر بثلث التركة، فيقع الثلث عائلاً، وتكون الأقسام في الثلث على هذه النسبة: للسيد ثلاثة أرباع الثلث، وهو ربع العبد، وربعه للموصى له بالثلث، ويسلّم السيد ثلاثة أرباع العبد ليباع في الجناية، أو يفديَه بثلاثة أرباع قيمته على قولٍ، ولا مال غيره، فيأخذ صاحبُ الثلث من ذلك ربعَ الثلث، ويبقى لورثة العافي ثلثا قيمة العبد.
ومن رأى الفداء بالدية، فقد تقع المسألة في تفاصيل أقدار القيمة والدية في المعادلات المقدّمة.
وسنعيد هذه الصورة وأمثالَها في نوادر أبواب الدور، إن شاء الله عز وجل.
7157- مسألة: إذا قتل عبدان لرجلين رجلاً خطأً، وقيمةُ كل واحد منهما ألف درهم، [ودية] (6) المقتول عشرةُ آلاف، ولم يكن له مال غيرُ ديته، وعفا المجروح قبل زهوق النفس عن العبدين جميعاً، ورد الورثةُ الزيادة على محلّ الوصية، نُظر:
__________
(1) في الأصل: بيع الدية.
(2) تقديرٌ من المحقق مكان بياضٍ بالأصل.
(3) في الأصل: والآخر.
(4) في الأصل: متخيراً.
(5) في الأصل: الثلث.
(6) في الأصل: ورثة.(10/492)
فإن اختار السيدان تسليم العبدين للبيع، دفع لكل واحد منهما ثلثي عبدِه، وصح العفو في ثلث كل عبدٍ؛ فإنه لا [تعلّق إلا بالعبدين] (1) ، وكأنهما التركة، فإذا سُلّما، انتظم تسلُّم العفو في ثلث كل واحد منهما.
وإن [اختارا] (2) الفداء، ورأينا التفريع على أن [الفداء] (3) ببذل الأرش، فالوجه أن نقول: ينفذ العفو في شيء من كل واحد من العبدين، وسيدُه يفديه بخمسة أمثاله، يعني بخمسة أمثال الباقي بعد تنفيذ التبرع، وإنما راعينا هذه النسبة؛ فإن الدية مقسومةٌ في التعلق على العبدين، فيخص كلّ واحد منهما خمسةُ آلاف، وقيمة كل عبد ألفٌ، فنقول: يسقط بالعفو من كل عبد شيء، فيبقى عبدان إلا شيئين، ثم كل واحد من السيدين يفدي عبده بخمسة أعبد تقديراً إلا خمسة أشياء؛ فإن المفدي فيه استثناء، وإذا تضعف الفداء، كان تضعّفه على هذه النسبة أيضاً، فيحصل لورثة العافي من السيدين عشرة أعبد إلا عشرة أشياء، وذلك يعدل ضعفَ ما نفذ العفو فيه منهما، وقد نفذ العفو في شيئين منهما، فضعفهما أربعة أشياء، فنجبر ونقابل، ونقول: الأعبد العشرة المقدّرة نجبرها بعشرة أشياء، ونؤيد على عديلها مثلها، فتعدل عشرةُ أعبد أربعةَ عشرَ شيئاً، ثم نقلب الاسم، فيكون العبد أربعة عشر والشيء عشرة، وخرج منه أن كل عبد يُفرض أربعةَ عشر، وينفذُ العتقُ في عشرةٍ منه، والعشرة من الأربعة عشر خمسةُ أسباعها، فقد صح العفو في خمسة أسباع كل واحد منهما، ويفدي كلُّ سيّدٍ سُبعَيْ عبدِه بخمسة أمثالها، وهي عشرة أسباع، وذلك ضعفُ الخمسة الأسباع التي صح العفو فيها.
وإن اختار أحدهما [البيع] (4) ، والآخر الفداء، والتفريع كله على الفداء بالأرش، فالمسألة تدور منها.
وإن كانا لو سلّما عبديهما، لم تدُرْ؛ من قِبل أن التصرف في تسليم [العبدين
__________
(1) في الأصل: يتعلق إلا العبد.
(2) في الأصل: اختار.
(3) فى الأصل: العادي.
(4) في الأصل: الربع.(10/493)
يقع] (1) في القيمتين، ويتعين تقسيمهما ثلثاً وثلثين.
وإن اختارا الفداء بالأرش، وقد اختلف مقدار المبذول فداءً ومقدار قيمة العبدين [إذ] (2) زاد الفداء على القيمة، فالمسألة تدور.
7158- وإذا فدى أحدُهما وسلّم الثاني، فمقدار التركة يختلف بفداء أحدهما، فتدور المسألة في حق المسلِّم، كما تدور في حق الفادي، والطريق أن نقول: نفذ العفو في شيء من عبد مَنْ سلّم العبدَ، وفي [شيء من] (3) عبد من فدى، فنقول: نفذ العفو في شيء من العبد المسلّم، ونفذ في شيء من المفدي، وفدى مولاه باقيه بخمسة أعبد إلا خمسة أشياء، فيجتمع لورثة العافي ستةُ أعبد إلا ستةَ أشياء: خمسةٌ أخذوها [فداءً، وأحدٌ] (4) هو العبد المسلّم، والأعبدُ الستة مع ما فيها من الاستثناء تعدل ضعفَ العفو، وهو أربعة أشياء، وبعد الجبر والمقابلة وقلب الاسم من الجانبين يكون العبد عشرة والشيء ستة، [فبان] (5) أن العفو نفذ في ثلاثة أخماسِ كلِّ واحدٍ منهما، ودفع المسلِّم [خُمسي عبده للبيع] (6) ، وفدى الآخر [خُمسي عبده بخمسي] (7) نصف الدية، وخمسا نصف الدية ألفان، وخمسا العبد المسلّم أربعُمائة، [فيجتمع] (8) لورثة العافي ألفان وأربعُ مائة، وهي ضعف ما نفذ من العفو في العبدين.
7159- وإن كانت قيمة أحدهما ألفاً، وقيمة الآخر ألفين وباقي المسألة كما تقدم.
فإن اختارا الدفع، دفع كلُّ واحد منهما ثلثي عبده، ونفذ العفو في ثُلثه؛ إذ
__________
(1) في الأصل: العبد يرتفع.
(2) في الأصل: "إن".
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: فداه وأخذ.
(5) في الأصل: فبين.
(6) في الأصل: خمس هذه البيع.
(7) في الأصل: خمس عبده بخمس.
(8) في الأصل: يجتمع.(10/494)
لا متعلق إلا العبدان، ولا نظر في التسليم إلى [القيمة] (1) ، فينفذ لا محالةَ العفو في ثلث كل واحد منهما.
وإن اختارا الفداء، والتفريع على أن الفداء بالأرش، فنقول: نفذ لسيد العبد الأَدْوَن [العفوُ في] (2) شيء، وفدى باقيه بخمسة أمثاله، وذلك خمسةُ أعبد إلا خمسةَ أشياء، وجاز [لمولى] (3) العبد الأرفع العفوُ في شيئين؛ فإن عبده ضعفُ العبد الأدون، وفدى باقيه بخمسة أعبد إلا خمسةَ أشياء، فاجتمع لورثة العافي عشرةُ أعبد إلا عشرة أشياء تعدل ضعف [العفو] (4) ، وهو ستة أشياء؛ [فإنا] (5) قدَّرنا العفوَ ثلاثةَ أشياء: شيئاً من الأدون [وشيئين] (6) من الأرفع، فنجبر ونقابل، فتصير عشرةُ أعبد في معادلة ستةَ عشرَ، فنقلب الاسم ونجعل العبد ستَّةَ عشرَ والشيءَ عشرة، فينفذ العفو في عشرة من ستةَ عشرَ من كل عبد، فهو خمسةُ أثمان كل عبد، ويفدي مولى الأدْون ثلاثةَ أثمان عبده بثلاثة أثمان نصف الدية. ويفدي مولى العبد الأرفع ثلاثة أثمان عبده بثلاثة أثمان نصف الدية.
7160- وفي هذه المسألة لطيفة بديعة، تُخيِّل إلى الناظر خبلاً وإشكالاً، ونحن نذكر وجه التخيل، ثم نبيّن تقويمَ المسألة، فنقول: قد ذكرنا في ابتداء وضع المسألة أن العفو ينفذ في شيء من العبد الأدْون، ثم قلنا: إنه ينفذ [في] (7) شيئين من الأرفع، وعلّلنا ذلك بتضعيف قيمة الأرفع، ثم قلنا: في منزلة الفداء: يفدي مولى الأدْون ما بقي من عبده بخمسة أعبدٍ إلا خمسةَ أشياء، ويفدي صاحبُ العبد الأرفع ما بقي من عبده بخمسة أعبد إلا خمسة أشياء، وكان [النظر إلى] (8) العبارات الجبرية يقتضي أن
__________
(1) في الأصل: بالدية.
(2) في الأصل: بالعبد شيء، وفدى ... إلخ.
(3) في الأصل: المولى.
(4) في الأصل: العبد.
(5) في الأصل: فإذا.
(6) في الأصل: وشيئاً.
(7) في الأصل: من.
(8) مكان بياضٍ بالأصل.(10/495)
نقول: صاحب العبد الأرفع يفدي ما بقي من عبده بخمسة أعبد إلا عشرةَ أشياء؛ فإن كلَّ واحد من المالكين حقه أن يفدي ما بقي من عبده مع رعاية حساب التضعيف، وقد بقي من العبد الأدْون عبدٌ إلا شيئاً [وخمسة أثمانه خمسة] (1) أعبد إلا خمسة أشياء.
وقياس هذا أن العبدَ الأرفع إذا [بقي منه] (2) عبدٌ إلا شيئين، [فخمسة أثمانه] (3) خمسة أعبد إلا عشرةَ أشياء، ولو قدرتَ نقصان عشرة أشياء [من] (4) هذا العبد الأرفع، لم ينتظم الحساب، ولم تعتدل الأقسام أجزاءً، وسر الفصل أن العفو ينبسط على العبدين على نسبةٍ واحدةٍ في الجزئية، وكل واحدٍ منهما يتعلق به نصف الدية، ومهما نفذ العفو في العبد، نزل على رقبته، فإذا نزل على رقبتي العبدين استويا في الجزئية قطعاً كما لو [سُلِّما] (5) في البيع؛ فإن العفو ينزل على [ثلث] (6) رقبة [كلٍّ] (7) منهما، ثم تتفاوت القيمة؛ فإن ذلك ينقص من التركة. ولو لم نتعرض له، لم يصح حساب التعديل في الأجزاء، ولمّا انتهى إلى الفداء، فالفداء يقع على الأجزاء، وأجزاء الدية على العبدين على وتيرةٍ واحدة، فاضطر في مسلك الجبر إلى التفاوت (8) فيما ينفذ التبرع [فيه] (9) ، ولما آل إلى الفداء والفداء منزل على العبدين وأجزائهما على قدر واحد، فكان الفداء في العبد الأرفع كالفداء في العبد الأَدْون.
هذا ما ذكره الأستاذ. وقد أنهينا نهايته، وذكرنا أقصى الإمكان في تقدير ما تخيّله.
وفيه غلطٌ ظاهر لايليق بمنصبه أن يعتمده، وهو محمول على هفواته.
__________
(1) مكان خللٍ في الأصل هكذا [وخُمسه أشياء وخمسة أعبد ... ] .
(2) مكان بياضٍ بالأصل.
(3) في الأصل: وخمسة أضعاف خمسة أعبد إلا عشرة أشياء ...
(4) في الأصل: في.
(5) في الأصل: سلمنا.
(6) في الأصل: ثلاثة.
(7) ساقطة من الأصل.
(8) في الأصل: إلى كل التفاوت.
(9) في الأصل: منه.(10/496)
7161- وبيانه على الجملة أن [فرض المسألة أن] (1) العبدين مختلفان: قيمةُ أحدهما ألف، وقيمةُ الثاني ألفان، وإذا اختلفت القيمتان، اختلفت النسبة، بحسب اختلافهما، فالذي [يصرفه] (2) مالك العبد القليل القيمة بعد تقدير العفو في بعضه يناسب ما بقي من قيمة العبد على قدر تنبيه الحساب.
[والذي يصرفه] (3) مالك العبد الكثير [القيمة] (4) من الأرش يناسب ما بقي على وجهٍ آخر، كما سنوضحه في ذكر وجه الصواب.
وبالجملة لا ينبغي أن يشك ذو عقل في أن عبداً قيمته ألف لو جنى وفُرض العفو والفداءُ تفريعاً على الأرش، فاقتضى تعديل الحساب فيه نسبةً، فلو فُرض عبدٌ آخر أرفع أو أدون وجنى، فتلك الجناية لا تغيّر حساب الفداء الأول، بل وجه الصواب أن يفرد كلُّ عبدٍ بحسابه، ويُجعلَ كأنه الجاني، ونطرد بطريق الحساب في القدر الذي يلزمه من الدية، ثم كل حسابٍ في عبدٍ إذا عُدِّل، استقام على الثلث والثلثين، وإذا كان كذلك، فالمجموع يعدَّل على هذا. ولكن تختلف نسبة الأجزاء في كل عبد، وهذا لا يقدح في حق الورثة.
فنقول: إذا جنى العبد الذي قيمته ألف، فالأرش المتعلق به خمسةُ أمثاله، فنفتتح الجبر، ونقول: صح العفو في شيء منه، وبطل في عبد إلا شيئاً، فإذا فداه مولاه، قلنا له: الأرش عليه خمسةُ أمثاله، فافد باقيه بخمسة أمثاله، فيفديه بخمسة أعبد إلا خمسةَ أشياء، وهي تعدل شيئين ضعف العبد، فنجبر ونقابل، فيعادل خمسة أعبد سبعةَ أشياء، فنقلب الاسمَ، ونجعل العبد سبعةً، والشيء خمسة، ونقول: جرى العفو صحيحاً في خمسة أسباع هذا العبد، وفدى السيد سبعيه بخمسة أمثالها من الدية؛ إذ النسبة كذلك بين الأرش وبين القيمة، وخمسة أمثال السبعين عشرة أسباع وهي ضعف خمشة أسباع، فاعتدل هذا الحساب.
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: يعرفه.
(3) في الأصل: الذي يعرفه مالك العبد ...
(4) زيادة اقتضاها السياق.(10/497)
ثم نعود ونقول العبد الكثير القيمة، وهو الذي قيمته ألفان تعلق برقبته خمسة آلاف، ونسبتها من قيمته أنها مثلا القيمة ومثلُ نصفها، أو ضعفُ القيمة ومثلِ نصفها. ونبتدىء الجبر، ونقول: صح العفو في شيء، وبطل في عبد إلا شيئاً وعلى السيد على قول الفداء بالأرش أن يفدي ما بقي بالنسبة التي وضعناها بين الأرش التام والقيمة الكاملة، والنسبة [بينهما] (1) ما تقدم ذكره، فنفدي عبداً إلا شيئاً بعبدين ونصف عبدٍ إلا شيئين ونصف شيء، وهذا يعدل ضعف العفو، وهو شيئان، فنجبر ونقابل، فيقع عبدان ونصفُ عبد، في مقابلة أربعة أشياء ونصف شيء، ونبسط ما في الجانبين أنصافاً، فتصير الأشياء تسعة والعبد خمسة، ثم نقلب العبارة، فيصير العبد تسعة والشيء خمسة، ونقول: [نفذَ] (2) العفو على خمسة أتساع العبد، وفدى السيد أربعة أتساعٍ بمثله ومثلِ نصفه. ومثلا الأربعة ومثل نصفها عشرة، والعشرة تقع ضعفَ الخمسة، فقد اعتدل هذا الحساب على نسبة الأتساع.
وهذا التفاوت لا بدّ منه لتفاوت القيمتين، وأبان هذا التفاوت تفاوتاً بين الأرش والقيمة؛ إذ نسبة الأجزاء كنسبة الكل. فإذا كان الأرش على نسبةٍ من القيمة، وكل جزء من الأرش على مثل تلك النسبة من الجزء الذي يماثله من القيمة، فهذا وجه الصواب، لا شك فيه.
7162- مسألة: إذا جنى عبدان على حُرٍّ خطأً قيمةُ كلِّ واحد منهما ألفٌ، والدية قيمتها عشرة آلاف، كما صورناها في المسائل، فعفا المجروح في مرضه عنهما، ثم مات أحد العبدين، وقد بقي العبد الثاني، فقد ذكر الأستاذ جوابين عن الأصحاب في هذه المسألة: فقال في أحدهما: - إنه لا يحتسب بالميت وما جرى فيه من عفو، ولا يحتسب في حساب الورثة، [ويقدَّر] (3) كأنه لم يكن، وكأن العبدَ القائم انفرد [بالتزام] (4) أرشها خمسة آلاف، وقيمته ألف، ثم حكى ذلك إذا جرى العفو ولا تركة
__________
(1) في الأصل: عنهما.
(2) في الأصل: بذل.
(3) في الأصل: ويفدى.
(4) مكان كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: كتابه. (انظر صورتها) .(10/498)
إلا خمسة الآلاف المتعلقة بالرقبة، وأن (1) السيد [إن] (2) اختار تسليمَ العبد، [فقد صح] (3) العفو في ثلثه، وسلّم ثلثيه للبيع. وإن اختار الفداء بالأرش، ففداء [ثلثيه بثلثي] (4) نصف الدية. هذا مقتضى الحساب إذا انفرد العبد بالتزام هذا القدر من الأرش، ثم جرى العفو عن جميع ما التزمه.
هذا جوابٌ.
والجواب الثاني: أنه يُحتسب بما خص العبدَ الذي مات من العفو، وإذا احتسبنا بذاك، اقتصر حسابُه [على] (5) تبعيض العفو في حق العبد الحيّ، فإنا نقول: يجوز العفو في شيئين من العبدين، ثم قد فات تحصيل التركة من العبد الذي مات، فيحصّل من العبد الباقي ما يقع ضعفاً [لما نفذ من الميت والحي] (6) ، سواءٌ سُلّم الحي [للبيع] (7) أو فداه مولاه.
فإن سلّمه مولاه، قلنا: هذا العبد الحيّ [إلا شيئاً معادل] (8) لأربعة أشياء، ضعفِ العفو في العبدين، ثم بعد الجبر وقلب الاسم يكون الشيء خُمس العبد، ويصحّ العفو في خمس كلِّ واحدٍ منهما، ويدفع صاحب العبد الحيّ أربعة أخماس عبده، وهو ضعف الخُمسين اللَذيْن صح العفو فيهما من العبدين.
هذا معنى هذا الجواب إذا أراد مالك العبد الحي [تسليمه للبيع] (9) .
وإن اختار مالك [العبد] (10) الفداء فدى باقيه وهو عبد إلا شيئاً بخمسة أمثاله،
__________
(1) في الأصل: "أن" بدون واو.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: سبعيه بسبعي نصف الدية.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: لما فقدم الميت والحي سواء ... إلخ (انظر صورتها) .
(7) في الأصل: السبع.
(8) مكان كلمة لما نستطع قراءتها كاملة، رسمت هكذا: (لانتسبابه) انظر صورتها.
(9) في الأصل: تسليم البيع.
(10) زيادة من المحقق.(10/499)
وذلك خمسة أعبدٍ إلا خمسةَ أشياء، تعدل أربعة أشياء، فبعد الجبر وقلب الاسم، يكون الشيء خمسة [أتساع] (1) العبد، فيصح العفو في خمسة أتساع كل واحد منهما، ويفدي مولى العبد الثاني أربعة أتساعه بأربعة أتساع نصف الدية، فيقع ذلك ضعفَ الخمسة أتساع كل واحد من العبدين؛ فإنا نقدر كل ألف من الآلاف الخمسة تسعة، فمجموعها خمسة وأربعون، ثم نأخذ أربعة أتساعها، وهو عشرون، والعشرون من الأتساع إذا أُلِّفت، كانت ألفين وتُسْعَين، وقد صححنا العفو في خمسة أتساعٍ من كل عبد، ومجموعها عشرة أتساع، وهي [تساوي أربعة أتساع نصف الدية] (2) وما قدمناه: ألفان وتُسعان.
هذا بيان الوجهين. توجيههما: من قال بالوجه الأخير، احتج بأن عفوه قد جرى في العبد، ثم لم يحصل الورثةُ إلا على ما حصل من جهة العبد الحيّ [تسليماً] (3) أو فداء، فينبغي أن يبقى للورثة ضعف [العفو] (4) النافذ في العبدين.
ومن لم يدخل العفو عن العبد [الذي مات] (5) في الحساب، احتج بأن فائدة [العفو] (6) ترجع إلى السيد، وهو [المعفو] (7) عنه في الحقيقة، ولذلك قلنا: العفو صحيح وإن كنا نمنع للوصية للقاتل، والعبد قاتل، وإذا مات العبد قبل الفداء، وقبل استقراره بالامتناع عن بيعه، فلا يجب على السيد شيء، ونتبيّن بالأََخرة أن ذلك العفو لم يصح في أصله، فلا معنى للاعتداد وإدخاله في الحساب.
هذا بيان الجوابين وتوجيههما.
7163- مسألة: إذا جنى عبدان خطأً على حُرٍّ، وقيمة أحدهما ألفٌ وقيمة الآخر
__________
(1) في الأصل: أسباع.
(2) مكان بياضٍ بلأصل.
(3) في الأصل: سليماً.
(4) في الأصل: "العبد"0
(5) مكان بياضٍ بالأصل.
(6) في الأصل: العبد.
(7) في الأصل: العفو.(10/500)
عشرة آلاف، فلو عفا عن الأدْون دون الأرفع، فصاحب العبد الأرفع إن اختار التسليم، باع نصفَ عبده، وصرف الثمن إلى الأرش، ثم العفو في الأدون، فإنا نُصيِّر قيمةَ الأَدْون [عفواً كلَّها] (1) ، والذي حصل للورثة من العبد الأرفع أكثر من ضعف قيمة الأدون.
فإن عفا عن الأرفع دون الأدْون، فصاحب العبد الأدْون إن اختار تسليمه، سلّمه إلى البيع، فإن العفو لم يتناوله، وصاحب العبد الأرفع يدفع ثلاثة أعشار عبده، [إن] (2) اختار التسليم؛ فإن ثلاثة أعشار الأرفع ثلاثة آلاف، فإذا ضممنا إليها العبدَ الأدْون الذي لم ينله العفو، صار أربعة آلاف، وقد صح العفو عن ألفين من الأرش المتعلق بالأرفع، فإنه كان تعلق به خمسةُ آلاف، وسقط عنه الآن [تعلّق قيمة الأدْون] (3) ، والحاصل في يد الورثة من ثلاثة أعشار العبد الأرفع، وكل قيمة الأدون ضعفُ ما سقط من الأرش.
فإن اختار صاحب الأرفع الفداء، فداه بثلاثة أخماس نصف الدية، وهو ثلاثة آلاف، وينتظم الحساب كما ذكرناه. والطريق فيه أن نضم قيمةَ الأدون إلى نصف الدية الواجبة على مولى الأرفع، فيكون ستة آلاف، ويسقط عن مولى الأرفع ثلث ذلك، وهو ألفا درهم، ويؤدي ثلاثة آلاف، لتنضم إلى قيمة الأدْون.
7164- مسألة: لو قتل عبدٌ رجلين خطأً، فلكل واحد منهما في رقبته الدية، فإن اختار السيد التسليم والدفعَ، بيع العبد وتوزعت قيمته على الديتين نصفين.
وإن اختار الفداء، وقلنا: [الفداء] (4) بالقيمة، أُلزم قيمةً واحدة.
وإن فرعنا على الفداء بالأرش [أُلزم] (5) ديتين كاملتين.
فإن عفا أحدهما عنه في مرضه، فقد حُكي عن ابن سريج أنه قال: يدفع إلى ورثة
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: فإن.
(3) في الأصل: تعليق القيمة.
(4) في الأصل: العبد.
(5) مكان بياضٍ بالأصل.(10/501)
العافي ثلثا نصفه، وإلى الآخر الذي لم يعفُ نصفَه كاملاً؛ كأنه رأى نصفَ العبد متعلّقاً بأحدهما والنصف متعلقاً بالثاني.
ثم ينبني على ذلك تنفيذُ عفو العافي في ثلث محل حقه وبقاء [أثلثي] (1) حقِّه لورثته.
قال الأستاذ: هذا غير مستقيم على مذهب الشافعي، ومذهبه أن دية كل واحد من القتيلين تتعلق بجميع العبد [مع] (2) الآخر، وإذا كان كذلك، فعفو أحدهما استفاد منه [السيد ثلثَ] (3) الدية، فيبقى للورثة المزاحمة بثلثي الدية، ولورثة الذي لم يعف المزاحمة بتمام الدية، فيقع التضارب على هذه النسبة: يضرب ورثةُ من لم يعف بديةٍ تامة، ويضرب ورثة من عفا بثلثي الدية، فينقسم العبد على خمسة أسهم، لورثة العافي منها الخمسان، ولورثة الآخر ثلاثة أخماس.
مسائل دائرة تتركب من العفو عن الجناية والعتق في العبد وما يتصل بذلك
7165- مسألة: إذا أعتق عبداً لا مال له غيرُه في مرضه، ثم قتله، ومات ذلك العبد المعتَق، ومات [بعده] (4) مولاه.
ففي هذه المسألة وأمثالها خلاف تبعناه: [من أصحابنا] (5) منْ قال: لا يعتِق شيء من العبد، فإنا لو حكما بعتقه في المرض، أو بعتق شيء منه، أُلزمنا أن يبقى للورثة ضعفُ ما ينفذ العتق فيه؛ فإذا كان لا يبقى للورثة شيء، فيستحيل أن ينفذ [عتق] (6) المريض في شيء.
ومن أصحابنا من قال: نحكم بنفوذ العتق في جميعه؛ فإنه إذا كان لا يبقى للورثة
__________
(1) في الأصل: وبقاء ثلثاً في حقه لورثته.
(2) مكان كلمة تعذر قراءتها (انظر صورتها) .
(3) عبارة الأصل: استفاد منه لثلث الدية.
(4) في الأصل: بعد.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: عبد.(10/502)
في علم الله، فليس تركة، وإنما يثبت حق الورثة في التركة.
ونحن نُجري مسائلَ مفرعةً على أنه لا يعتِق منه شيء إذا مات قبل موت مولاه، وما ذكرناه فيه إذا لم يخلِّف السيدُ المعتِق شيئاً.
فإن كان السيد ترك مالاً إذا قضى منه ديةَ العبد، بقي للورثة ضعفُ قيمته، صار حراً. وإن ترك من المال ما لا يبلغ ذلك [فقد] (1) يعتق بعضُه ويرق بعضُه، وذلك إذا خلَّف ما إذا أديت الدية منه، بقي [ما] (2) يقصُر عن ضعف قيمة العبد.
ثم إن كان يعتق كلُّه، فسيده لا يرثه؛ فإنه قاتله، فإن كان [للعبد] (3) وارث بسببٍ
ورثناه، وإن لم يكن، فميراثه لأقرب عصبة السيد من الذكور.
7166- المثال: إذا أعتق عبداً قيمتُه مائة دينار، وقيمة ديته لو كان حراً خَمسُمائة دينار، فقتله السيد بعد الإعتاق، وخلّف السيد سَبْعَمائة دينار، فالعبد حر، ويخرج من تركة السيد خَمسُمائة دينار، تكون لورثة العبد، ويبقى لورثة السيد مائتا دينار، وهي ضعف قيمة العبد.
7167- فإن كان جميعُ ما خلّف السيد خَمسَمائة دينار، تبعّض العتق والرق، وحسابه من طريق الجبر أن نقول: قد عتَق منه شيء، ووجب به من الدية على السيد خمسةُ أمثاله، وذلك خمسة أشياء؛ لأن الدية خمسةُ أمثال القيمة، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد تلف ذلك بالقتل، ولم يبق للورثة، وإنما بقي مع ورثة السيد من التركة خَمسُمائة، وهي خمسةُ أعبد، فيخرج منها ما لزم من الدية وهو خمسة أشياء، فيكون الباقي معهم من التركة مثلَ خمسة أعبد إلا خمسةَ أشياء، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ ما عتق من العبد، فنجبر ونقابل، فيعدل خمسةُ أعبد سبعةَ أشياء، فنقلب الاسمَ، فيصير العبد سبعة، والشيء خمسة، وهي خمسة أسباع العبد، وقد عتق خمسةُ أسباعه، ورَقَّ سُبعاه، وتلف بالقتل، واستحق ورثةُ العبد خمسةَ أمثال
__________
(1) في الأصل: وقد.
(2) في الأصل: مما.
(3) في الأصل: العبد.(10/503)
ما عتق، وذلك [ثَلاثُمائةٍ] (1) وسبعةٌ وخمسون ديناراً وسُبع دينار، وبقي للورثة من التركة سبعاها، وهو [مائة واثنان وأربعون] (2) ديناراً وستة أسباع، وهي ضعف ما عتق من العبد؛ لأن الذي عتق منه خمسة أسباعه، وقيمتها أحدٌ وسبعون ديناراً وثلاثة أسباع دينار.
وحساب المسألة بطريق الدينار والدرهم: أن نجعل العبد ديناراً ودرهماً، ونُجيز العتق في درهم، ويستحق ورثةُ العبد خمسةَ أمثاله بالدية، وذلك خمسةُ دراهم، وبطل العتق من الرقبة في دينار، وقد تلف ذلك الدينار، وبقي لهم من التركة خمسةُ أمثاله، وهي خمسة دنانير، فمعهم من التركة خمسة دنانير، تعدل ما عتق، وذلك درهمان، فنقلب الاسم، فيكون الدرهم خمسةً والدينار اثنين، ومجموعهما سبعة، والخمسة من السبعة خمسةُ أسباعها.
وحساب المسألة بطريق السهام: أن نأخذ [من] (3) العبد بالحرية سهماً، ويتبعه [بالدية] (4) خمسة أسهم، ولورثة السيد سهمان ضعف سهم الحرية، فذلك ثلاثة أسهم، فنُسقط منها سهماً، وهو الذي تلف من العبد، يبقى منها سبعةُ أسهم، وذلك سهام العبد، [وعَتَقَ] (5) منه مقدار سهام الدية. وفيما قدمناه مَقْنَع.
7168- فإن كانت قيمة العبد مائتي دينار، وقيمة الإبل في دية الحر أربعمائة دينار، وترك السيد سِتَّ مائة دينار، وقلنا: عتَقَ منه شيء واستحق من الدية ضعفه وهو شيئان، وذلك لورثة العبد، ورَقَّ منه عبدٌ إلا شيئاً، وقد تلف ما رق، وبقي مع ورثة السيد من التركة ثلاثة أعبد إلا شيئين: ضعفُ ما عتق منه، فبعد الجبر وقلب الاسم، يصير العبد أربعةً والشيء ثلاثةً وهي ثلاثة أرباعها، فيعتق ثلاثة أرباعه، وهي مائة وخمسون ديناراً، للورثة ضعفها من الدية وهو ثَلاثمائة. ورق منه ربعه، وقد
__________
(1) في الأصل: ثلثاه.
(2) في الأصل: مائتان واثنان وأربعون.
(3) سقطت من الأصل.
(4) في الأصل: بالحرية.
(5) في الأصل: وأعتق.(10/504)
تلف، وبقي للورثة من التركة ثَلاثُمائة دينار، وهي ضعف ما عتق منه.
7169- مسألة: إذا أعتق عبدَه في مرضه وقيمته مائة دينار، ثم قطع إحدى يديه، فنقص من قيمته أربعون ديناراً، وقيمة ديته لو كان حراً مائتا دينار، وترك السيد مائتي دينار.
فحساب المسألة بالجبر: أن نقول: يعتق منه شيء، ويستحق العبد من أجله شيئاً بالدية؛ لأن ديته ضعفُ قيمته، وفي إحدى اليدين نصفُ ديته، فإن كان الواجب في نفسه شيئين، فالواجب في يده شيٌ وواحد، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وبه نقصٌ من قيمته بالجناية مثل [خُمسيْه] (1) ؛ فإنا قلنا: نقصَ من قيمته أربعون، فصار الباقي منه بعد النقصان ثلاثةُ أخماس عبد إلا ثلاثةَ أخماس شيء، فنزيد عليه التركة، وهي ضعفُ قيمة العبد، ونخرج مما اجتمع من الدية [والتركة] (2) شيئاً، فيبقى مع الورثة عبدان وثلاثة أخماس عبد إلا شيئاً وثلاثة أخماس شيء، وذلك يعدل شيئين، ضعف ما عتق، فبعد الجبر يكون عبدان، وثلاثة أخماس، تعدل ثلاثة أشياء وثلاثة أخماس شيء، فنبسطهما أخماساً، ثم نقلب الاسم فيهما، فيكون العبد ثمانيةَ عشرَ، والشيء ثلاثةَ عشرَ، فيصح العتق في ثلاثةَ عشرَ جزءاً من ثمانيةَ عشرَ جزءاَّ مَن العبد، وقيمتها بالدنانير اثنان وسبعون ديناراً وأربعة أجزاء من ثمانيةَ عشرَ جزءاً من دينار؛ لأن الذي عتق منه نصفه وتسعاه؛ فإن الثلاثة عشر من الثمانية عشر هكذا تكون: التسعة نصف الثمانيةَ عشرَ، والأربعة التي هي [تتمّةُ] (3) الثلاثةَ عشرَ تسعان من ثمانية عشرَ.
وبقي من رقبة العبد خمسةُ أجزاء من [ثمانيةَ عشرَ] (4) جزءاً، هذا هو الرقيق، وقيمتها بالدنانير سبعة وعشرون ديناراً وأربعة عشر جزءاً من ثمانية عشر جزءاً من دينار، فلما نقص خمساه بالجناية، نقص من هذا الباقي أيضاً خمساه، وذلك أحد عشر ديناراً وجزءان من ثمانيةَ عشرَ جزءاً من دينار، وبقي لورثة السيد من رقبته بعد
__________
(1) في الأصل: خمسه.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: قيمة.
(4) في الأصل: "من ثلاثة عشر".(10/505)
العتق والنقصان بالجناية ستةَ عشرَ ديناراً واثني عشر جزءاً من ثمانيةَ عشرَ جزءاً من دينار. ومعهم من التركة في الأصل مائتا دينار، يُقضى منها ما استحقه العبد من الدية، وهو مثلُ ما عتق منه، وذلك اثنان وسبعون ديناراً وأربعةُ أجزاء من ثمانيةَ عشرَ من دينار، فيبقى للورثة من الدنانير مائةٌ وسبعة وعشرون ديناراً وأربعةَ عشرَ جزءاً من ثمانيةَ عشرَ، ومن الرقبة ستةَ عشرَ ديناراً واثنا عشر جزءاً [من ثمانية عشر] (1) ، وجميع ذلك مائة وأربعةٌ وأربعون ديناراً، وثمانيةَ أجزاء من ثمانية عشر جزءاً من دينار، وذلك ضعف قيمة ما عتق منه يوم العتق.
ثم مما يجب التنبه له أن النقصان لا يؤثر في العتق؛ لأن العتق وصية مستوفاة تبيُّناً، والنقص معتبر في قيمة العبد؛ لأنه من التركة، والاعتبار في مقدار التركة يوم الموت.
7170- فإن أعتق في مرضه عبداً قيمته ثلاثون، ثم أجافته جائفة نَقصته عشرين (2) ديناراً، وقيمة ديته لو كان حراً تسعون ديناراً، وخلّف السيد ستين ديناراً؛ فإنه يعتق منه ثلاثة أخماسه، ونصف خُمسه.
وحساب ذلك أن نقول: عتق منه شيء، واستحق من الدية مثله؛ لأن الواجب في الجائفة ثلثُ الدية، وثلث ديته لو كان حراً مثلُ قيمته، فحصل مع ورثة السيد من رقبته عبد إلا شيئاً، وقد نقص ثلثاه بالجناية، فالباقي ثلث عبد إلا ثلث شيء، ومعهم من التركة [عبدان] (3) ، فالمجموع عبدان وثلث عبد إلا ثلثَ شيء، يقضى منها الدية، وهي شيء، فيبقى معهم عبدان وثلث عبد إلا شيئاً وثلث شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون عبدان وثلث عبد يعدل ثلاثة أشياء وثلث شيء، فنبسطهما ونقلب الاسم، فيكون العبد عشرة، والشيء سبعة، فنعتق سبعة أعشار، وهي ثلاثة أخماسه ونصف خمسه، وقيمتها يوم العتق أحدٌ وعشرون ديناراً، وبقي لورثة السيد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة الأصل: "نقصته بها عشرين ديناراً" والفعل متعدِّ مفعوله ضمير في محل نصب، فلا
حاجة لتعديته بحرف الجر.
(3) في الأصل: ثلث عبدين.(10/506)
من رقبته تسعةُ دنانير، وقد نقص بالجناية ثلثاها، وبقي منها ثلاثة دنانير، ومعهم من التركة ستون ديناراً، فذلك ثلاثة وستون ديناراً يقضى منها ما وجب بالجناية، وهو مثل ما عتق منه، وذلك أحدٌ وعشرون ديناراً، يبقى معهم اثنان وأربعون ديناراً، وهو ضعف ما عتق. ولا اعتبار في مقدار العتق بما نقص بعده؛ لأن العبد قد استوفى العتق قبل النقصان.
7171- مسألة: إذا أعتق في مرضه عبداً قيمته عشرون ديناراً، ثم قطع أجنبي إحدى يديه، وقيمة ديته لو كان حراً مائة دينار، وقد نقص من قيمته عشرة، ولا مال للسيد غيرُه.
فحساب المسألة أن نقول: يعتِق منه شيء يجب به [للعبد] (1) من الدية شيئان ونصف؛ لأنه لو كان حراً، لكانت ديته خمسةَ أمثال قيمته، فالواجب في إحدى [اليدين] (2) نصف الواجب في [النفس] (3) ، فإذا استحق بالعتق شيئاً، استحق به [من] (4) الدية شيئين ونصفاً، (وهذا العبد [.....] (5) تركة السيد، ولا وصية) ؛ فإن الأجنبيّ يغرَمه له، وبقي مع السيد من رقبته عبد إلا شيئاً، يستحق به ما نقص من قيمته [بالجناية] (6) ، والناقص منه مثلُ نصف العبد؛ فإن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، وقد أقر نقصان السوق على نسبة التنصيف، فاستحق السيد نصفَ عبد، ونقصَ نصف عبد، فيجتمع مما نقص واستحق عبدٌ إلا شيئاً، يعدل [شيئين، فنجبر، ونقابل، فيكون عبد يعدل] (7) ثلاثة أشياء، فنقلب الاسم فيهما، فيكون
__________
(1) في الأصل: العبد.
(2) في الأصل: المقولين.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: يضيق.
(5) الجملة بين القوسين غير مستقيمة بسبب كلمة غير مقروءة مكان النقط بين المعقفين. (انظر صورتها) ولعل فيها تصحيفاً وصوابها: وهذا القدر لا يزيد من تركة السيد، فإن الأجنبي يغرَمه للعبد. والله أعلم.
(6) في الأصل: بالخيار.
(7) زيادة من المحقق.(10/507)
العبد ثلاثةً، والشيء واحداً، فعلمنا أنه [يعتِق] (1) منه الثلث، ويبقى للسيد [ثلثاه] (2) وقد نقص نصفه، فبقي [السدس] (3) منه، فاستحق على الجاني مثلَ ما نقص، وقد نقص نصفُ قيمته، فيجتمع مع ورثته مما بقي واستحق ثلثان، وذلك ضعف الثلث الذي عتق [منه] (4) .
7172- وإن أعتق عبداً في مرضه، لا مال له غيرُه، وقيمته عشرون ديناراً، وقتله أجنبي، وقيمة ديته مائةُ دينار، وخفف ابناً.
فحساب المسألة أن نقول: عتَق منه شيء، وبطل العتق في عبدٍ إلا شيئاً، وقد تلف، إلا أن السيد يستحق مثل ما تلف على الجاني، فنجعل ما استحقه عبداً إلا شيئاً، وهذا يعدل ضعفَ ما عتق، وهو شيئان، فبعد الجبر وقلب الاسم يكون العبد ثلاثة والشيء واحداً، فقد عتَق منه ثلثُه، واستحق ثلثَ الدية على القاتل، تصرف إلى [ابنه] (5) إن قلنا: من بعضه حر يورث، أو إلى بيت المال في [قولٍ] (6) آخر، ويرق ثلثا العبد، وللسيد قيمة الثلثين على القاتل، وهو ضعف الثلث الذي عتق.
7173- مسألة: إذا أعتق عبداً قيمته ثلاثون ديناراً وقتله أجنبي، وقيمة ديته إن كان حراً أربعون ديناراً، وذلك بأن يفرضَ كافراً، ونقدّر السيد وارثاً، تفريعاً على أن من بعضه حر موروث، ولا وارث له سوى السيد، ونقدِّره وارثاً بغير جهة الولاء، فإنه لو لم يكن إلا الولاء، وهو مستحقٌ بعض الولاء [لا يرث إلا] (7) بعض الميراث، فنفرضه أخاً أو ابنَ عم.
__________
(1) في الأصل: يضيق.
(2) في الأصل: ثلثه.
(3) في الأصل: الثلث.
(4) في الأصل: فيه.
(5) في الأصل: إلى أبيه.
(6) زيادة من المحقق.
(7) مكان بياضٍ بالأصل.(10/508)
هذه صورة المسألة، وحسابها أن نقول: عتق منه شيء، ونوجب به من الدية مثلَه ومثلَ ثلثه؛ فإن الدية مثلُ القيمة ومثلُ ثلثها، وبطل العتق في عبدٍ إلا شيئاً، وقد تلف ذلك، واستحق به السيد مثلَه، فيجتمع ذلك إلى ما ورثه عن العبد بالدية؛ لأنه لا وارث له غيره، وقد حصل له بالقيمة عبد إلا شيئاً، وصرفنا إليه من الميراث شيئاً وثلثَ شيء؛ فإنه إذا عتق شيء، وجب مثله ومثل ثلثه، فنجبر الاستثناء الذي في [الرقبة] (1) فيبقى معه عبد وثلث شيء، يعدل شيئين ضعفَ ما عتق، فنقابل ثلث شيء بمثله قصاصاً، فيبقى عبد يعدل شيئاً وثلثي شيء، فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم
فيكون العبد خمسة، والشيء ثلاثة، فقد عتَق ثلاثة أخماسه، واستحق بذلك ثلاثة أخماس الدية، وهي أربعةٌ وعشرون ديناراً، ورقّ خمساه، وهو اثنا عشر ديناراً، واستحق السيد مثلها، كما (2) هلك، فيجتمع مع ورثته ستة وثلاثون ديناراً، وذلك ضعف ثلاثة أخماسه التي عتَقَت، لأن قيمة ثلاثة أخماسه [ثمانيةَ عشرَ] (3) ديناراً، وقد حصل مع ورثة السيد ضعفها.
7174- مسألة: إذا أعتق عبده في مرضه، وقيمته خمسون ديناراً، وقيمة دية الحر مائة دينار، فقُتل العبد وترك بنتاً وسيدَه، وكان السيد عصبتَه، فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ووجب من الدية شيئان؛ فإن الدية ضعف القيمة، ورق منه عبدٌ إلا شيئاً، وقد تلف، واستحق به السيدُ مثلَه على القاتل، وذلك عبد إلا شيئاً، وله أيضاً نصف ما وجب من الدية ميراثاً، وذلك شيء، فإن الدية [مِثلا] (4) العتق، والعتق شيءٌ، ونصف الدية شيء، فنضم ما ورثه إلى العبد الناقص باستثناء شيء، فيكمل العبد، فنقول: عبد كامل يعدل شيئين، فالشيء نصف العبد، وهو ما عتق منه، وقيمته خمسون ديناراً، [فنصفه] (5) خمسةٌ وعشرون، ووجب من الدية
__________
(1) في الأصل: الرقيق.
(2) كما: بمعنى (عندما) .
(3) في الأصل: ثلاثة عشر.
(4) في الأصل: مثل.
(5) مكان بياضٍ بالأصل.(10/509)
خمسون، ورجع إلى السيد بالميراث نصفها وهو خمسة وعشرون، وله على الجاني قيمة ما رق من العبد، وهو خمسةٌ وعشرون ديناراً، فالحاصل في يد الورثة خمسون ديناراً، وهو ضعف ما عتق من العبد.
7175- فإن كانت قيمة العبد ثلاثون ديناراً، وديته لو كان حراً خمسون ديناراً، وترك العبد امرأةً، وكان السيد عصبة، فنقول: صح العتق في شيء من العبد، ويجب من الدية مثله ومثل ثلثيه؛ لأن هكذا نسبة الخَمْسين من الثلاثين، فنقول: عتق شيء، ووجب شيء وثلثا شيء، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد تلف ذلك إلا أن السيد استحق به مثلَه من القيمة، واستحق ثلاثة أرباع المأخوذ من الدية، وهو شيء وربعُ شيء، فنزيده على عبدٍ إلا شيئاً، فيجتمع مع ورثة السيد عبد وربع شيء، يعدل شيئين، فنلقي ربع شيء وربع شيء قصاصاً، فيبقى عبد يعدل شيئاً وثلاثة أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً، ثم نقلب الاسم فيهما، فيكون العبد سبعة والشيء أربعة، وهو أربعة أسباعها، فنعتق أربعة أسباع العبد، ويجب أربعة أسباع ديته، وهو ثمانيةٌ وعشرون ديناراً وأربعةُ أسباع دينار، للمرأة منها ربعها، وذلك سبعةُ دنانير وسبع دينار، ويرجع الباقي إلى السيد بالميراث، وهو أحدٌ وعشرون ديناراً وثلاثة أسباع دينار. وله قيمة ما بطل فيه العتق وذلك ثلاثة أسباع العبد، وقيمتها بالدنانير اثنا عشر ديناراً وستة أسباع دينار، فيجتمع مع ورثته أربعةٌ وثلاثون ديناراً وسبعا دينار، وهي ضعف ما عتق من العبد، لأن العتقَ وقع في أربعة أسباعه، وقيمة أربعة أسباعه سبعةَ عشرَ ديناراً وسبعَ دينار.
7176- فإن كانت قيمته عشرون ديناراً وقيمة ديته لو كان حراً عشرة دنانير، وخلّف العبدُ امرأةً وبنتاً.
فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، واستحق به من الدية مثلُ نصفه، وذلك نصف شيء، وبقي للسيد عبد إلا شيئاً، وقد تلف، [ووجب له] (1) القيمة، وله بالميراث ثلاثة أثمان نصف [شيء] (2) ، وذلك ثُمن شيء [ونصف ثمن
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: الدية.(10/510)
شيء] (1) ، يعدل شيئين، فبعد الجبر يكون عبد يعدل شيئين وستة أثمان شيء ونصف ثمن شيء، فنبسطهما أثماناً، ومخرج نصف الثمن ستةَ عشرَ، ثم نقلب الاسم، فيكون العبد خمسة وأربعين والشيء ستةَ عشرَ، فيعتق منه ستةَ عشرَ جزءاً من خمسة وأربعين جزءاً، وذلك ثُلثُه وخمس تُسْعه، [وله] (2) من الدية مثل نصفها، وذلك [ثمانية] (3) ، للسيد منها ثلاثة أثمانها، وهي ثلاثة، وبطل العتق في تسعةٍ وعشرين جزءاً من العبد، والسيد يستحق قيمتها، وقد ورث ثلاثة أجزاء، فاجتمع مع ورثته اثنان وثلاثون جزءاً من خمسةٍ وأربعين جزءاً من العبد، وهي ضعف ما عتق.
7177- مسألة: إذا أعتق عبده في مرضه، فجنى العبد على أجنبي، فقطع يده، وقيمة العبد مائةُ دينار، وقيمة دية المجني عليه مائتا دينار، فلا يعتق من العبد شيء؛ لأن الجناية أرشُها مائة، وقيمة الرقبة مائة، فأرش الجناية محيطٌ بالرقبة، والدَّيْن مقدم على الوصية.
7178- ولو كانت المسألة بحالها غيرَ أن دية المجني عليه مائة دينار، ففي المسألة دَوْر؛ من قِبل أنا لو قدرنا نفوذ العتق في بعضه، لتوزع الأرش على الحرية والرق، وتعلّق بعضه بذمته في حصة الحرية، فينقص لذلك ما يتعلق [بالرقبة] (4) .
فنقول في المسألة التي فرضناها: عتق منه شيء ووجب على العبد في ذمته نصفُ شيء من الدية؛ فإن الجناية قطع يد، [ومن قطع يداً] (5) فأرشها نصف الدية، وبطل العتق في عبدٍ إلا شيئاً، ويلزمه أن يدفع نصفَه في الجناية إن أراد التسليم؛ لأن الدية مثل القيمة، وفي اليد الواحدة نصف الدية، فيلزمه أن يسلِّم نصفَ ما بطل العتق فيه، فيبقى معه نصف عبد إلا نصف شيء، يعدل شيئين ضعفَ العتق.
فبعد الجبر والمقابلة، يكون نصف عبد في معادلة شيئين ونصف، فنبسطهما
__________
(1) زيادة لا يصح الكلام إلا بها.
(2) في الأصل: وثلثه.
(3) في الأصل: ثمانية عشر.
(4) في الأصل: الرق.
(5) مكان بياضٍ بالأصل.(10/511)
أنصافاً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد خمسة، والشيء واحد، والواحد من الخمسة خُمسها، فيعتق خمس العبد، وقيمته عشرون ديناراً، ويرق أربعةُ أخماسه، وقيمته ثمانون ديناراً، ووجب من الدية خمسون ديناراً، على العبد منها خُمسها، عشرةُ دنانير في ذمته، والباقي على السيد وهو أربعون ديناراً، فإذا سلّم هذا القدرَ للبيع، بيع خمسان [قيمتها أربعون ديناراً، ويبقى خمسان] (1) مع ورثته قيمتها أربعون ديناراً، وهي ضعف قيمة ما عتق.
7179- فإن كانت قيمة العبد خمسين ديناراً، وقد أعتقه مولاه في المرض، فقتل بعد العتق [عبداً] (2) قيمته أربعون ديناراً، فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ورق عبدٌ إلا شيئاً، ويجب على السيد تسليمُ أربعة أخماسه؛ لأن الدية أربعة أخماس القيمة، فيسلِّم للبيع أربعةَ أخماس عبدٍ إلا أربعةَ أخماس شيء، فإنه إنما يسلِّم مما رق، ويعود العتق في شيء يلحق استثناء بما بقي، فيكون الأمر على ما نظمناه.
فإذا سلَّم أربعةَ أخماس العبد إلا أربعةَ أخماس شيء، بقي مع ورثته خُمس عبد [إلا خمس شيء] (3) ، وذلك يعدل شيئين، بعد الجبر يعادل [خمس عبد شيئين وخمساً] (4) فنبسطهما أخماساً، ثم نقلب العبارة فيكون العبد أحد عشر، والشيء واحداً، وهو جزء من أحد عشر جزءاً، فيعتق جزء من أحدَ عشرَ، ويرق منه عشرةُ أجزاء، فيسلِّم في الجناية أربعة أخماسها، وهي ثمانية أجزاء يبقى مع ورثته جزءان، ضعفُ ما عتق منه.
7180- فإن أعتق في مرضه عبداً قيمته أربعون ديناراً، فقتل العبدُ عبداً قيمته عشرة دنانير، فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ورق باقيه، وهو عبدٌ إلا شيئاً، ويجب على السيد تسليم ربعه [نعني] (5) ربعَ ما يرق منه، وإنما يسلم ربعه؛ لأن قيمةَ
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: رجلاً.
(3) في الأصل: إلا شيئاً.
(4) في الأصل: يعادل خمس شيء وخمساً.
(5) مكان بياضٍ في الأصل.(10/512)
المقتول ربعُ قيمة القاتل، وذلك ربع عبد إلا ربعَ شيء، فيبقى منه ثلاثة أرباع عبدٍ إلا ثلاثة أرباع شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة، تعدل ثلاثة أرباع عبدٍ شيئين وثلاثةَ أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد أحدَ عشرَ، والشيء ثلاثة، فيعتق منه ثلاثةُ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً، ويرق منه ثمانية أجزاء، ويسلّم منه جزءان، وهما ربع الثمانية، ويبقى معه ستة أجزاء من أحد عشر جزءاً من العبد، وهي ضعف ما عتق. فإن اعترض [معترضٌ] (1) أن الأرش إذا كان ربعاً كاملاً، فلِمَ يُسلّمُ ربعٌ ناقص بربعِ شيء؟ فالجواب عنه أن المقدار الذي يعتِق يتعلق به قسطٌ من الأرش، ويرد على [ذمّة] (2) الشخص الذي تبعض العتق فيه، فهذا ما ذكرناه.
7181- مسألة: إذا أعتق في مرضه أمةً قيمتها خمسون ديناراً، وهي حبلى، فجنى عليها أجنبي فأسقطت جنيناً ميتاً، ثم مات السيد، ونقص من قيمة الأمة عشرةُ دنانير، وكان الجنين رقيقاً [لولا] (3) طريان العتق، وله ورثة يحوزون ميراثه دون السيد.
فحساب المسألة بعد الوقوف على تصويرها. أن نقول: عتق منها شيء، وبطل العتق في أمةٍ إلا شيئاً، واستحق السيد على الجاني من [دية] (4) الجنين مثلَ عشر ما رق، فإن الواجب في الجنين الرقيق عُشرُ قيمة أُمِّه، فإذا تبعّض الحكم في الجنين، كان مقتضاه ما ذكرناه، فيجب على الجاني أن يغرَم للسيد مثلَ عُشر ما رَقَّ، وقد رقت أَمةٌ إلا شيئاً، فعشرها عُشر أمةٍ إلا عشرَ شيء، وقد نقص من قيمتها بعد هذا مثلُ خمس قيمتها، فاردده إلى العشرة، وذلك عُشْران، نقص مما معه عُشْران إلا عُشْري شيء؛ فإن النقصان وقع بعد العتق، فيبقى مع ورثة السيد تسعةُ أعشار أمةٍ إلا تسعةَ أعشار شيء؛ فإنها كانت أمةً إلا شيئاً، فضممنا إليها بسبب الجنين عُشرَ أمة، فكان المجموع أمةً وعُشرَ أمَةٍ إلا شيئاً وعُشرَ شيء، فحططنا لأجل النقصان عُشري أمة إلا عُشري شيء، فيبقى في أيدي ورثة السيد تسعةُ أعشار أمةٍ، تعدل شيئين وتسعة
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: دية.
(3) في الأصل: لو.
(4) مكان بياضٍ بالأصل.(10/513)
أعشار شيء، فابسطهما أعشاراً واقلب الاسم فيهما، فيكون الأمة تسعةً وعشرين، والشيءَ تسعةً، فيعتِق منها تسعةَ أجزاء من تسعةٍ وعشرين جزءاً، فيرق منها عشرون جزءاً، ويستحق السيد من أجل الجنين مثلَ عُشرها، وذلك جزءان، فالمبلغ اثنان وعشرون جزءاً، وقد نقص من قيمتها الخُمس، فنحسب الخُمسَ من رقِّ الأمة، لا من ضمان الجناية، وقيمة الرقيق منها عشرون، وحصة هذه العشرين من النقصان أربعة أجزاء، وبقي مع الورثة ثمانيةَ عشرَ جزءاً من سبعةٍ وعشرين جزءاً، وهي ضعف ما عتق منها.
وعلى الجاني عُشر ديةِ ما عتق من الأم لأجل الجنين، فإن [الحرّ منه] (1) مضمون بعشر دية ذلك القدر من الحرية في الأم، كما أن الرقيق منه مضمون بعشر قيمة ما يرق من الأم، ثم ذاك (2) لورثة الجنين، [ولا ينقص بذلك مال السيد] (3) .
7182- هذا كلام الأستاذ وفيه زلل ظاهر في الفقه، فإنه صوّر نقصان قيمة الجارية بسبب [الجناية وإسقاط الجنين] (4) ثم بنى المسألة حكماً وحساباً (5) على حطّ ذلك النقصان من الرِّق، ولم يتعرض لإيجاب أرش النقصان على الجاني، ولو أحاط علماً بوجوبه عليه، لما [أسقط] (6) ذلك النقصانَ؛ فإن الجاني يغرَمه، فإذا عُدم الجَبْر، [كان عدم تضمينٍ للجاني] (7) ما فرض من نقصٍ.
وإن تكلف متكلفٌ الذبَّ عنه، وقال: لعل النقصان الذي ذكره ليس نقصانَ عين الجارية، ولكن كانت الجارية لمكان الحمل تُشترى بخمسين، وإذا فارقها الحمل
__________
(1) في الأصل: العدد.
(2) إشارة إلى ضمان الجزء الحر من الجنين (تذكر تصوير المسألة، والتأكيد على أن للجنين ورثة.
(3) عبارة الأصل مقلوبة، فيها تقديم وتأخير واضطراب، هكذا "ولأنه بذلك مال السيد ولاينقص".
(4) مكان بياضٍ بالأصل مع تصرف في جزء كلمة في أول هذا البياض.
(5) في الأصل: حساباً (بدون واو) .
(6) في الأصل: "أفسد".
(7) مكان بياض بالأصل.(10/514)
تُشترى بأربعين، وهي في ذاتها لم تنقص، وإنما زايلها الحمل، ثم الحمل قد ضُمن بما يضمن به، فلا يُنظر إلى النقصان؛ فإن الجميع بين بدل الجنين وبين أرش النقصان الحاصل [فيه تكرار] (1) الغُرم. هذا وجهٌ، وسيأتي تفصيله مقوَّماً على أحسن نظم في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
7183- وفيما ذكرته غوائل ولكن ليس هذا موضع استقصائها. وما ذكرناه تكلفٌ؛ فإن الأستاذ صرح بنقصان الأمَة، وهي [أيضاً محل الجناية] (2) ، فإذا ظهر ما ذكره من الاشتراك، فالوجه جبر النقصان بالغرم وطرد المسألة على هذا النحو ولا حاجة إلى إعادتها.
7184- مسألة: إذا أعتق في مرضه أمةً حاملاً، فجنى عليها أجنبي، فألقت جنيناً لا وارث له غيرُ السيد، فالواجب في الجنين عُشر قيمة ما رق من الأم، وعشرُ دية ما عتَقَ منها، وكل ذاك للسيد بحق الملك والإرث.
فإن كانت قيمةُ الأمة خمسين ديناراً، وقيمة ديتها -إن كانت حرة (3) - مائةُ دينار [ونقص] (4) ، بالإسقاط عشرةُ دنانير.
فحساب المسألة أن نقول: عتق منها شيء ورقت الأمةُ إلا شيئاً، ونقص من قيمة هذا الباقي منها خُمسها، وذلك خمُس أمةٍ إلا خمس شيء، فصار الباقي أربعةَ أخماس أمةٍ إلا أربعة أخماس شيء، واستحق السيد بسبب الرق لأجل الجنين عُشرَ أمةٍ إلا عُشرَ شيء، فصار معه تسعةَ أعشار أمةٍ إلا تسعةَ أعشار شيء، واستحق أيضاً [من دية الجنين بنسبة] (5) [ما] (6) عتق منها وهو [عُشري] (7) شيء؛ لأن الدية ضعفُ
__________
(1) مكان بياض بالأصل.
(2) مكان بياض بالأصل.
(3) في الأصل: كانت في حرة.
(4) في الأصل: ونقصت.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: مما.
(7) في الأصل: عشر.(10/515)
القيمة، فنزيد عُشري شيء على [تسعة أعشار] (1) الأمة [إلا تسعةَ أعشار] (2) شيء، فيكون تسعةَ أعشار أمة إلا سبعةَ أعشار شيء، فإنا لما ضممنا عُشري شيء، نقصنا بهما الاستثناء، وكان معنا استثناء تسعة أعشار شيء، فيعود الاستثناء إلى سبعة أعشار شيء، فإذاً تسعةُ أعشار أَمةٍ إلا سبعةَ أعشار شيء يعدل شيئين، فإذا جبرنا وقابلنا، [فتسعة] (3) أعشار أمة تعدل شيئين وسبعةَ أعشار شيء، فابسطهما أعشاراً واقلب الاسم فيهما، فيكون الأمة سبعةً وعشرين والشيء تسعةً، وهو ثلثها، فنعتق منها الثلث وقيمته ستةَ عشرَ ديناراً وثلثان، ويرق منها [ثلثاها] (4) وذلك ثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث، ويستحق السيد مثلَ عشر ما رق منها، وذلك ثلاثة دنانير وثلث، ويستحق أيضاً من الدية ضعفَ عشر ما عتق، وهو مثل خمس ما عتق منها، وذلك ثلاثة دنانير وثلث، فجميع ما استحق السيد في الجنين (5) ستةُ دنانير وثلثان، ونقص من قيمة ما رق منها بعد نفوذ العتق الخُمس، فبقي من الجارية ستةٌ وعشرون ديناراً وثلثان، وانضم إلى ذلك بسبب الجبر (6) ستة دنانير وثلثان، فالمجموع ثلاثة وثلاثون، وهي ضعف قيمة الثلث منها يوم العتق؛ لأن ثلثها يوم العتق كان ستةَ عشرَ ديناراً وثلثي دينار.
وهذه المسألة جاريةٌ على نظامها إلا ما أعاده من فصل النقصان، فإنه [نظر إلى] (7) النقصان، ولم ينته لنقصانه بتغريم الجاني، ولا يخفى طرد وجه الصواب، والطريق ذكر المسألة من غير نقصان.
7185- مسألة: إذا أعتق عبدين في مرضه قيمة أحدهما خمسون ديناراً، وقيمة الآخر مائة دينار، ثم قتل السيدُ العبدَ الذي قيمته مائة دينار، وقيمة ديته لو كان حراً
__________
(1) في الأصل: سبعة أعشار.
(2) في الأصل: سبعة أعشار.
(3) في الأصل: بتسعة.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الجنين: أي ما رق منه وما عتق.
(6) أي جبر الجنين.
(7) مكان بياض بالأصل.(10/516)
مائتان، فإنا نُقْرع بين العبد الحي وبين العبد المقتول، فإن خرجت قرعةُ الحرية للعبد الحي منهما، عتَق ثلثه ورق ثلثاه، ومات المقتول على المذهب الظاهر رقيقاً، وليس الخوض فيه من غرضنا الآن.
وإن خرج سهم [المقتول] (1) ، فنقول: دارت المسألة.
وحسابها أن نقول: عتق منه شيء، ورق وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد تلف ما رق وما عتق، وبقي مع السيد عبدٌ آخر، قيمته نصف عبد، نقضي منه ديةَ ما عتق من المقتول، وهي ضعف ما عتق، فإذا قلنا: عتق شيء، فضعفه شيئان، فيبقى مع ورثته نصفُ عبد إلا شيئين، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون نصفُ عبدٍ يعدل أربعةَ أشياء، فنبسطهما أنصافاً، ونقلب الاسم منهما، فيكون العبد ثمانية، والشيء واحداً، فإذاً عتق منه [ثُمنُه] (2) ، وقيمته اثنا عشر ديناراً ونصف، ويجب نسبتها من الدية ضعفها، وذلك خمسةٌ وعمثمرون ديناراً، فتُقضَى من العبد الآخر الذي هو حيٌّ، فيبقى منه خمسة وعشرون ديناراً، وهي ضعف ما عتق.
والذي وجب عليه من الدية يكون لورثة المقتول إن كان له وارث، أو لبيت المال، ولا يرجع شيء منه إلى السيد، لأنه قاتل.
7186- ولو أعتق ثلاثة أعبد قيمة أحدهم ثلاثون ديناراً، [وقتله] (3) ، وقيمة الثاني ستون ديناراً، وقيمة الثالث تسعون ديناراً، [وقد خرجت عليه القرعة] (4) ، ثم قطع [يدَ] (5) الذي قيمته تسعون [وديته] (6) لو كان حراً مائة دينار، ونقص -بسبب الجناية من قيمته- عشرون ديناراً.
فحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، وبطل العتق في عبد إلا شيئاً، وقد
__________
(1) في الأصل: المعتق.
(2) في الأصل: ثمانية.
(3) زيادة على ضوء ما سيأتي من عرض المسألة.
(4) زيادة من المحقق اقتضاها سياق حساب المسألة.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: وقيمته.(10/517)
نقص من قيمته تسعاه، وصار الباقي منه سبعة أتساع عبد إلا سبعةَ أتساع شيء، ومعه العبد الذي قيمته ستون، وهو مثل ثلثي عبد، فصار جميع ما حصل عبدٌ وأربعة أتساع عبد إلا سبعةَ أتساع شيء، فيجب أن يقضي منه ديةَ يده، وهي خمسة أتساع شيء، لأن دية يده مثلُ خمسة أتساع قيمته، فيبقى معه عبدٌ وأربعة أتساع عبد إلا شيئاً [وثلاثة أتساع شيء، تعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون عبد وأربعة أتساع عبد] (1) تعدل ثلاثة أشياء وثلاثة أتساع شيء، فنبسطهما أتساعاً، فيكون العبد [ثلاثين] (2) ، والشيء [ثلاثة عشر] (3) وهي ثلثها وعشرها.
وقد [فات] (4) الذي قيمته ثلاثون، ورق الذي قيمته ستون.
الامتحان: أن نقول: إذا عتق منه ثُلثُه وعُشره، [فذلك] (5) تسعةٌ وثلاثون فى يناراً، وقد بقي منه أحدٌ وخمسون ديناراً، وقد نقص منها مثلُ [تسعيها] (6) وذلك أحدَ عشرَ ديناراً وثلث، لأن الناقص من قيمة العبد بالجناية تسعاه، فبقي منه [تسعةٌ وثلاثون ديناراً وثلثان] (7) ومعهم عبد قيمته ستون ديناراً، وذلك تسعةٌ وتسعون ديناراً وثلثان، فقضى منها ديةَ ما عتق منه، وذلك مثل خمسة أتساع ما عتق منه، وهي أحدٌ وعشرون ديناراً وثلثا دينار، وتبقّى لورثته ثمانيةٌ وسبعون ديناراً، وهي ضعف ما عتق منه.
7187- وإن خرجت قرعة العتق للعبد الذي قيمته ستون ديناراً، عتق ثلثاه، ونصفُ تسعه.
وحساب المسألة أن نقول: عتَقَ منه شيء ورق منه عبدٌ إلا شيئاً، وقد رجع قيمةُ العبد المقطوعة يده إلى سبعين ديناراً، وهي مثل عبد [وسدس] (8) ، فيبقى معه عبدان
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الحساب إلا بها.
(2) في الأصل: ثلاثة.
(3) في الأصل: ثمانية عشر.
(4) في الأصل: بان.
(5) في الأصل: وعشره وتسعة وثلاثون.
(6) في الأصل: تسعها.
(7) في الأصل: "تسعة وأربعون ديناراً وثلثان". وهو خطأ في الحساب واضح.
(8) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام بدونها.(10/518)
وسدس عبد إلا شيئاً، يعدل شيئين، فبعد الجبر يكون عبدان وسدس في معادلة ثلاثة أشياء، فنبسطهما أسداساً ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد ثمانيةَ عشرَ، والشيء ثلاثة عشر، وهي ثلثاها ونصف تُسعها، وقلنا: يعتق منه ثلثاه ونصفُ تسعه ورقَّ منه خمسةُ أجزاء من ثمانيةَ عشرَ جزءاً، ومعهم من العبد المقطوع يده مثل عبد وسدس عبد، بعد النقصان، فيكون الجميع عبداً وأربعة (1) أتساع عبد. وذلك ضعف ما عتق منه.
7188- فإن خرجت قرعةُ عِتْق العبد المقتول وقيمته ثلاثون، وقيمة ديته مائة دينار، عتق منه ثلاثة أرباعه ونصفُ ثُمنه.
وحسابه أن نقول: عتق منه شيء ورق باقيه، وهو عبد إلا شيئاً، وقد تلف هذا الباقي منه بالإتلاف، ومع ورثة السيد الذي قيمته ستون، وهو كعبدين بالنسبة إلى المقتول الذي خرجت القرعةُ عليه، والذي [نقصت] (2) قيمته بالقطع باقي قيمته بالنسبة إلى المقتول مثل عبدين وثلث عبد، فذلك أربعة أعبد وثلثا عبد، نقضي منها ما لزمه من الدية، وهو ثلاثة أمثال ما عتق من المقتول، [ومثل ثلثه] (3) فإذا كان المعتَق شيئاً وقع التمثيل بالأشياء، فعلى السيد لأجل الدية ثلاثة أشياء وثلثُ شيء، فيبقى مع ورثته أربعة أعبد وثلث عبد إلا ثلاثة أشياء وثلث شيء، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ العتق، فبعد الجبر، يكون أربعة أعبد وثلث عبد يعدل خمسة أشياء وثلث شيء، فنبسطهما ونقلب الاسم فيهما فيكون العبد ستة عشر، والشيء ثلاثة عشر، فنعتق ثلاثة عشر جزءا من ستةَ عشرَ جزءاَّ مَنه، وهو ثلاثة أرباعه ونصف ثمنه، وقيمتها أربعة وعشرون ديناراً وثلاثة أثمان دينار، وجميع تركة السيد مائة وثلاثون ديناراً (4) ، فالواجب عليه من الدية ثلاثةُ أمثال ما عتَق ومثلُ ثلثه، وذلك أحدٌ وثمانون ديناراً وربعٌ (5) ، فنحط
__________
(1) عبارة الأصل: "فيكون الجميع عبداً وثلاثة أجزاء وأربعة أتساع" وهو حشوٌ وخلل.
(2) في الأصل: تقتضيه.
(3) في الأصل: وقيل مثليه.
(4) مائة وثلاثون ديناراً، أي قيمة العبد الثاني وهي 60، وقيمة العبد الذي نقص بالقطع، وهي 70 بعد النقص. أما العبد الثالث الذي قيمته 30 فقد تلف بالقتل.
(5) أحد وثمانون ديناراً وربع: وذلك لأن الدية (100) والقيمة (30) فهي ثلاثة أمثال القيمة
وثلثها. وقد عتق منه 3/4 الثلاثين ونصف ثمنها (1/16) من 30، وذلك يساوي =(10/519)
ذلك من التركة، فيبقى من التركة ثمانيةٌ وأربعون ديناراً، وثلاثة أرباع دينار، وهي ضعف الأربعة والعشرين والثلاثة الأثمان.
7189- مسألة: إذا أعتق في مرضه عبدين قيمة أحدهما عشرون ديناراً، وقيمة الآخر أربعون ديناراً، فقطع مَن قيمتُه عشرون يدَ مَنْ قيمتُه أربعون، ونقص بسبب الجناية من قيمته عشرة دنانير، وقيمة ديته لو كان حراً ثمانون ديناراً، ولم يكن للسيد مال غيرُهم، فإنا نقرع بينهما، فإن خرجت قرعة العتق على المقطوع يده عتق ثُلثُه، والحساب أن نقول: عتق منه شيء واستحق من الدية مثل القيمة؛ لأن دية المجني عليه ثمانون، وهي ضعف القيمة، وأرش الجناية مثل القيمة، فإن أرش [اليد] (1) نصفُ بدل الجملة، فالواجب في الأرش وقع مثلَ العتق لا محالة، وبقي [من] (2) العبد عبد إلا شيئاً، وقد نقص منه ربعه، فيبقى منه ثلاثة أرباع عبد إلا ثلاثة أرباع شيء، ومعه عبد آخر: قيمةُ نصفه، فذلك عبد وربع إلا ثلاثة أرباع شيء، نقضي منها الدية، وهو شيء، يبقى عبدٌ وربعُ عبد إلا شيئاً وثلاثة أرباع شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيكون عبد وربع عبد، يعدل ثلاثة أشياء وثلاثة أرباع شيء، فنبسطهما أرباعاً ونقلب الاسم فيهما، فيكون العبد خمسةَ عشرَ، والشيء خمسة: هي ثلثها، فقلنا: إنه عتق منه الثلث، وقيمته يوم العتق ثلاثةَ عشرَ ديناراً وثلثُ دينار نعني قيمةَ الثلث، وبقي منه ستةٌ وعشرون ديناراً وثلثان، نقص منها بالجناية رُبعها، وذلك ستةُ دنانير وثلثان، فيبقى من الرقبة عشرون ديناراً، ومعه رقبةٌ أخرى قيمتها عشرون ديناراً، فيسلِّم منها في [المتبع] (3) مقدارَ الواجب في الدية، وذلك ثلاثةَ عشرَ ديناراً وثلثَ دينار، فيبقى من هذه الرقبة الجانية ستةٌ وثلثان، ومن المجني عليه عشرون ديناراً، والمجموع ستة وعشرون ديناراً وثلثا دينار، وذلك ضعف ما عتق من المجني عليه.
__________
= 1/2 22+ 7/8 1= 3/8 24 هذا قيمة ما عتق، فإذا ضرب في 1/3 3 (التي هي نسبة الدية من القيمة) كان المردود 1/4 81 ديناراً.
(1) مكان بياض بالأصل.
(2) في الأصل: ثمن العبد.
(3) كذا: "المتبع". انظر صورتها.(10/520)
7190- وإن خرجت قرعةُ العتق على الذي قيمتُه عشرون، عتَق خمسةُ أسداس ذلك العبد.
وحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، ورق منه عبد إلا شيئاً، ومعه العبد المجني عليه، وقيمته [بعد] (1) النقصان عبدٌ ونصف عبدٍ بالإضافة إلى العبد الذي العتق منه، فالمجموع عبدان ونصف عبد إلا شيئاً، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة [يكون] (2) عبدان ونصف عبد في معادلة ثلاثة أشياء، فنبسطهما أنصافاً، ونقلب الاسم، فيكون العبد ستةً والشيء خمسة، فقد عتق منه خمسةُ أسداسه، وقيمته ستةَ عشرَ ديناراً وثلثا دينار، وتبقى سدسه وقيمته ثلاثة دنانير وثلث دينار، ومع الورثة العبد المجني عليه، وقيمته بعد النقصان ثلاثون ديناراً، فالحاصل في أيدي الورثة ثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث دينار، وهي ضعف الستةَ عشرَ وثلثي دينار، التي هي قيمة ماعتق منه.
وهذا الجواب إنما يصح إذا لم يكن في يد هذا المعتَق الجاني ما يغرَم به لسيده أرشَ الجناية، فلو كان، لزادت التركة، واختلف الحساب.
مسائل في الهبة وجناية الموهوب على الواهب
7191- إذا وهب في مرضه عبداً، وأقبضه، لا مال له غيرُه، فقتل العبدُ الموهوبُ الواهبَ خطأً. فإن كانت قيمته مثلَ الدية، صحت الهبة في نصفه، وسُلِّم ذلك النصف في الجناية، وكذلك لو فداه الموهوب له، فالجواب يخرج كذلك، سواء قلنا: الفداء [بالأقل] (3) أو بالدية، فإن المقدارين [متساويان] (4) ، فيبقى نصف العبد لورثة الواهب، ويعود إليهم مثلُ نصفه بالفداء، أو بالتسليم (5) للبيع، فيكون الحاصل في
__________
(1) في الأصل: يعدل.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "بالأول".
(4) في الأصل: المتساويين.
(5) في الأصل: وبالتسليم.(10/521)
يد ورثة الواهب ضعفُ ما صحت الهبةُ فيه، وتُهدر الجنايةُ في نصفها؛ فإنها تكون واقعةً من النصف الذي بطلت الهبةُ فيه تبيُّناً، وجناية المملوك على مالكه مهدرة.
7192- وإن كانت قيمة العبد أقلَّ، وفرعنا على الأصح، وهو أن [الفداء] (1) يقع بالأقل، فيرجع الفداء إلى اعتبار القيمة، وتصح الهبة في النصف، ويبقى النصف، ويعود مثل نصفه بالفداء أو بالتسليم للبيع.
فإن قلنا: الفداء بالأرش، وكان الأرش ضعفَ القيمة أو أكثر، واختار الموهوب له الفداء، صحت الهبة في الجميع. وقد تدور المسألة.
7193- ونحن نذكر صوراً في الدور: منها: إن قيمة العبد لو كانت عشرين ألفاً، وقيمةُ دية الواهب عشرةُ آلاف، فنقول: صحت الهبةُ في شيء من العبد، وبطلت في عبد إلا شيئاً، ورجع إلى ورثة الواهب بالجناية نصفُ شيء؛ فإن الدية نصف القيمة، يبقى معهم عبد إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، وهو يعدل بعد الجبر والمقابلة شيئين ونصفَ شيء، فالشيء من شيئين ونصفٍ خمساه، فصحت الهبة في [خمسي] (2) العبد، وقيمته ثمانية آلاف، ويسلّم إلى ورثة الواهب مقدار [خُمسي] (3) الدية، وذلك مثل خمس الرقبة، فيحصل مع ورثة الواهب من الرقبة ومن الدية مثلُ أربعة أخماس الرقبة، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه.
فإن كانت قيمته ثلاثين ألفاً، وقيمة الدية عشرة آلاف، فتصح الهبة في ثلاثة أثمانه، وتبطل في خمسة أثمانه، ويرجع إلى ورثة الواهب بالتسليم أو بالفداء مثل ثلث ما صحت الهبة منه، وذلك ثمن واحد، فاجتمع معهم ستةُ أثمان، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه.
وطريق الحساب كما تقدم.
فإن كان قيمته ألفاً، واختار الموهوب له الفداء، وقلنا: إن الفداء يقع بالدية،
__________
(1) في الأصل: المقدار.
(2) في الأصل: خمس.
(3) في الأصل: خمس.(10/522)
تمت الهبة في جميعه، وفداه بالدية الكاملة.
وكذلك إذا كانت قيمته مثلَ نصف الدية أو أقلَّ.
فإن كانت قيمته ستة آلاف والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في شيء منه، وفداه بمثله ومثل ثُلثيه؛ إذ العشرة من [الستة] (1) على هذه النسبة تقع، وبطلت الهبة في عبد إلا شيئاً، ورجع بالفداء شيء وثلثا شيء، فاجتمع معهم عبد وثلثا شيء، يعدل شيئين، فنطرح ثلثي شيء بثلثي شيء قصاصاً، فيبقى عبد يعدل شيئاً وثلث شيء، فنبسطه أثلاثاً، ونقلب الاسم، فيكون العبد أربعة والشيء ثلاثة، وهي ثلاثة أرباعها، فقد صحت الهبة في ثلاثة أرباع العبد، وبقي مع ورثة العبد من الرقبة ربع عبد، ومن الفداء عبد وربع، فذلك عبد ونصف وهو ضعف ما صحت الهبة منه.
7194- مسألة: إذا وهب في مرضه عبداً لا مال له غيرُه، وأقبضه، فقتل العبدُ الواهبَ، فعفا عن الجناية الواهبُ، وأوصى بأرشها، فالهبة مقدمة على [العفو] (2) ، لتقدمها عليه بالوجود.
فإن كانت قيمته نصفَ الدية أو أكثر، بطل العفو؛ لأن الهبة تستغرق الثلث، فكأنه لم يعف، وجوابه على ما مضى إذا لم يكن عفو.
فإن كانت القيمة أقلَّ من نصف الدية، نظر: فإن اختار الموهوب له التسليم أو اختار الفداء، وقلنا: إن الفداء يقع بالقيمة، بطل العفو أيضاً، وكان حكمه على ما مضى، وإن اختار الفداء وقلنا: إن الفداء يقع بالدية، صرف الفاضل من الثلث عن الهبة في العفو، فإن كانت القيمة ألف درهم والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في جميعه، وصح العفو في شيءٍ منه، وفدى باقيه وهو عبد إلا شيئاً بعشرة أمثاله، وذلك عشرةُ أعبد إلا عشرةَ أشياء، وذلك يعدل ضعف ما يصح بالهبة والعفو، وقد صح بالهبة عبدٌ، والعفو شيء، فضعفهما عبدان وشيئان، فإذا جبرنا وقابلنا بعشرة أعبد في معادلة عبدين واثني عشر شيئاً، فنسقط عبدين بعبدين، فيعدل [ثمانية] (3) أعبد اثني
__________
(1) في الأصل: الستة عشر.
(2) في الأصل: الواهب.
(3) في الأصل: ثلاثة أعبد. وهو خطأ.(10/523)
عشر شيئاً، فنقلب الاسم فيكون العبد اثني عشر، والشيء ثمانية، وهي ثلثاه، فنقول صح العفو في ثُلثيه.
والامتحان أن الهبة صحت في جميعه وهو ألفُ درهم، وصح العفو في ثلثيه، وذلك ثلثا ألف، والوصيتان ألف وثلثا ألف، وبطل العتق في ثلث العبد، يفديه الموهوب له بثلث الدية، وذلك ثلاثة آلاف، وثلث ألف، وذلك ضعف ما صح بالهبة والعفو.
فإن كانت قيمته ألفين والدية عشرة آلاف، صحت الهبةُ في جميعه، وصح العفو في شيء منه، وفدى باقيه، وهو عبدٌ إلا شيئاً بخمسة أمثاله، وذلك خمسة أعبد إلا خمسة أشياء تعدل عبدين وشيئين، كما تقدم، فبعد الجبر والمقابلة وقلب الاسم، وإلغاء المثل بالمثل، يكون العبد سبعة والشيء ثلاثة، فيصح العفو في ثلاثة أسباع ألف، فالوصيتان (1) ألفٌ وثلاثة أسباع ألف، وبطل العفو في أربعة أسباع العبد وفداها الموهوب له بخمسة أمثالها، وذلك عشرون سبعاً، فبالاختصار والتأليف (2) يكون ألفين وستة أسباع ألف، وذلك ضعف ما صحت الهبة والعفو منه.
7195- مسألة: إذا وهب عبداً في مرضه وسلّمه، ثم إنه قتل الواهب قَتْلَ قصاصٍ، فالتفصيل في أن العفو إذا قُرن بالمال [أوْ جاء مطلقاً جائزٌ] (3) من غير رضا الجاني، فإن عفا مطلقاً [فهل] (4) يوجب المال؟ [يأتي] (5) مستقصىً في [كتاب] (6) الجراح، ولسنا نطوّل بذكره الآن. ونقتصر على ذكر ما يختص بغرضنا. فنقول: إذا عفا السيد الواهبُ عن القصاص [مطلقاً] (7) ، سقط القصاص، فإن عفا على مالٍ، كان
__________
(1) الوصيتان: أي الهبة والعفو.
(2) التأليف: أي تحويل الأسباع إلى آلاف. فكل سبعة أسباع تساوي ألفاً.
(3) مكان بياض بالأصل.
(4) في الأصل: فلا.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) زيادة لاستقامة العبارة.
(7) مكان بياض بالأصل.(10/524)
كما لو كان قتله العبد خطأً، واستمرت المسألة في [حكمها] (1) وحسابها على ما تقدم. وإن عفا على غير مالٍ، فتفصيل القول [في] (2) عفو المريض عن الدية في الجناية الموجبة للقصاص كتفصيل القول في المفلس، واستقصاء الكلام في [عفو] (3) المفلس عن الجناية الموجبة للقصاص وعن أرشها من أصول المذهب في كتاب الجراح. وكذلك القول في العفو مطلقاً من غير تعرض للمال نفياً وإثباتاً.
فإذا قتل العبدُ الموهوبُ الواهبَ خطأً وخلّف ورثةً فأبرءوا عن الدية، فقد قال الأستاذ: الإبراء منهم بمثابة استيفاء الحق. ثم لو فرضنا استيفاء الحق، لم يتغير من مقتضى المسألة على ما يوضحه الحساب شيء، فإنه إنما يستوفي ما يجب له، فإن زاد كانت الزيادة مردودةً، وكذلك الإبراء النازل منزلة الأداء لا يغيّر من حكم المسألة شيئاً، ووضوح ذلك يغني عن بسط القول فيه.
7196- فإذا كانت الجناية موجبةً للقصاص ثم فُرض العفو عن القود على وجهٍ لا يثبت المالُ معه من المطلق، فهذا يفرَّع على أن العفو في [العمد] (4) هل يقتضي المال مطلقاً؟ فإن قلنا: إنه لا يقتضي المال، [فهذا يتفرع] (5) على أن موجَب العمد القودُ المحض، والعفوُ المطلق لا يوجب المال.
فعلى هذا إذا جرى العفو مطلقاً، وكان المال لم يثبت في أصله، [لم] (6) يؤثر العفو في إسقاطه، فإذا لم يثبت المال، تجردت الهبة، وجُعل الجناية كأن لم تكن، ولو تجردت، لكان الحكم [فيها] (7) إذا جرت من المريض -ولا مال له غيرُ الموهوب - أن تحتسب الهبةُ من الثلث.
__________
(1) مكان بياض بالأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: عفة.
(4) في الأصل: العهد.
(5) في الأصل: وهذا لا يتفرع.
(6) في الأصل: ولم.
(7) في الأصل: منها.(10/525)
وإن قلنا: [الجنايةُ] (1) توجب المالَ، والعفوُ المطلَقُ لا يسقطه، فإسقاطه القصاصَ يُقرِّر المالَ إذا لم يتعرض له، ويعود التفصيل: إن الجناية الموجبةَ للمال الواقعةُ خطأً، وإن عفا العافي عن القود والمال، فالعفو عن المال بعد ما حكمنا بثبوته بمثابة الإبراء عن دية الخطأ، وقد ذكرنا أن الإبراء عن دية الخطأ [كاستيفائها] (2) وسبيلهما جميعاً: ألا يغيرَ حسابُ المسألة وفقهُها.
7197- فإن قتل العبدُ الواهبَ قَتْلَ قصاصٍ، وخلّف ابنين، فإن عفا الابنان جميعاً، تفرع على ما ذكرناه، وأن المال هل يجب بالقتل أم كيف السبيل فيه؟ فإن غلّبنا القصاصَ، فإن عفَوَا [على] (3) مال، التحقت المسألة بما إذا كانت الجناية خطأ؛ فإن المال إذا ثبت، استند إلى القتل عندنا. وإنما يظهر اختلاف القول فيه إذا جرى العفو على غير مال، فلو جرى العفو منهما على وجه لا يُثبت المال، فهو كما تقدم.
وإن قلنا: لا يثبت أصلاً، فهبةٌ مجردةٌ من مريضٍ.
وإن قلنا: يثبت المال، ويسقط بالإسقاط، فالإسقاط كالاستيفاء، والمسألة مشتملةٌ على هبةٍ وجنايةٍ مثبتةٍ للمال.
فإن عفا أحد الورثة على غير مال دون الثاني، فلا شك أن القصاص يسقط، ويثبت المال في حق من لم يعفُ، فالذي عفا يفرَّع أمرُه على ما ذكرنا. فإن قلنا: يثبت المال في حقه، ويسقط بإسقاطه، فهو بمثابة الإبراء عن المال إذا وقع القتل خطأً، وإن قلنا: المال لم يثبت بالقتل أصلاً في حق العافي، فوجه الجواب في المسألة أن نقول: [النصف] (4) الذي يتعلق حكمه [بالعافي] (5) حكمه في حقه كحكم هبةٍ مجردةٍ
_________
(1) في الأصل: لا جناية.
(2) في الأصل: واستيفائها.
(3) في الأصل: عن.
(4) في الأصل: النص.
(5) في الأصل: فالعافي.(10/526)
لا جناية فيها، وحكم النصف في حق من لم يعف كحكم هبةٍ مع جريان الجناية الموجبة للمال.
وليقع الفرض فيه إذا كانت القيمةُ مثلَ الدية، فنقول: أما العافي من الابنين، فالنصف في حقه كعبدٍ [تجردت] (1) فيه الهبة على الأوصاف المقدمة، فينفذ التبرع في ثلثه ويرتدُّ في ثلثيه، وثلثُ النصف سدس الجميع.
وأما الذي لم يعف، فالمال ثابت في حقه، فحكم نصفه كحكم عبدٍ فرضت فيه الهبة مع الجناية، وكان الأرش كالقيمة مثلاًً؛ حتى [لا يتفرعّ] (2) الحكم في التقاسيم وحكم مثل نصف ذلك أن ينفذ التبرع في النصف، ليكون نصف الباقي مع المال الذي يحصل بسبب الجناية ضعفاً لما يصح التبرع فيه.
فخرج من ذلك أن الموهوبَ له يرد الثلثَ: ثلثَ العبد إلى العافي بسبب انتقاض الهبة، ويسلِّم إلى الآخر الربعَ بسبب انتقاض الهبة، ويسلِّم الربع الآخر إلى من [لم] (3) يعف إن اختار التسليمَ في الجناية أو يفدي، فيحصل في يد من لم يعفُ نصفُ العبد أو مقدارُه، ويحصل في يد من عفا ثلثُ العبد، ويَسْلَم للموهوب له سدُسُ العبد بلا مال يبذله في مقابله؛ لمكان العفو.
هذا بيان فقه هذه المسائل.
7198- مسألة: لو وهب في مرضه عبداً وأقبضه، ثم إن العبد قتل أجنبياً خطأ، ثم قتل سيدَه، فإن اختار الموهوب له الدفعَ والتسليمَ [وكانت] (4) قيمةُ العبد قدرَ الدية أو أقلَّ، بطلت الهبة من أصلها، وكأنها لم تكن. ثم من حُكم ذلك [إهدار] (5) الجناية على السيد؛ [إذ] (6) تبيّن أن العبد جنى على مالكه. ونقول للورثة: إن سلمتم
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل، وفي أوله جزء كلمة هكذا (بحر) . مع وضع علامة (ح) تحت الحرف الأول.
(2) في الأصل: يتورع.
(3) زيادة من المحقق.
(4) فى الأصل: فكانت.
(5) في الأصل: إهداء.
(6) زيادة من المحقق.(10/527)
العبد بالجناية، فسلموه ليباع في دية الأجنبي، وإن أردتم الفداء، فافعلوا ما بدا لكم، ولا زيادة على ما قدمناه، من أن الهبة باطلةٌ من أصلها، وهذا عبد جانٍ، والورثة في تسليمه وفدائه بالخيار. هذا فتوى المسألة وحكمُها، وعليه ما ذكرناه أن القيمة إذا كانت مثل الدية.
7199- فلو فرضنا [نفاذ] (1) الهبة في [جميعه] (2) مثلاَّ، فموجبُه توجُّه الطَّلِبة بحكم الجناية على الموهوب له؛ [فإنه] (3) مالك الرقبة على تقدير صحة الهبة، فلو سلَّم العبدَ، [فإنه] (4) يكون بين الأجنبي والواهب نصفين؛ فإنّ تقدّم الجناية لا يثبت للمجني عليه أولاً حقَّ التقدم، وإذا سلّم الموهوبُ له نصفَ العبد إلى الواهب، فليس يسلَّم لورثته إلا النصف على هذا التقدير، ويستحيل أن يصحّ التبرّعُ في جملةٍ، ويسلم الورثةُ مثلَ نصفها، [بل] (5) موجَبُ الشرع أن يصح التبرع في [شيء] (6) ويسلم الورثة ضعفَه. فلو قلنا: يرجع النصف إلى الورثة، وتصح الهبة في الربع، بطلت الثلاثة الأرباع.
ثم إذا جنى على الأجنبي وعلى السيد الواهب، فتهدر الجناية على السيد ممَّا لم تصح الهبةُ منه، ويسلّم إلي ورثة الأجنبي المقتول كلُّه، فلا يبقى لورثة الواهب شيء، ولا نقدر الهبة في مقدارٍ [إلا] (7) وتهدر جنايةُ العبد على مولاه فيما بطلت الهبة فيه، ويسلم جميع ما بطلت الهبة فيه [إلى] (8) الأجنبي، فلا يتسق تصحيح الهبة في شيء أصلاً؛ فإن جميع قيمته مستوعَبةٌ [بدية] (9) الأجنبي. والمسألة فيه إذا كان العبد يسلم
__________
(1) في الأصل: بفساد.
(2) في الأصل: جميعها.
(3) في الأصل: فأما.
(4) في الأصل: مايه.
(5) في الأصل: إلى.
(6) مكان بياضٍ في الأصل.
(7) زيادة اقتضاها السياق.
(8) في الأصل: إلا.
(9) في الأصل: بفقه.(10/528)
[في] (1) الجناية، ولا يتصور أن يسلم شيء من العبد في الجناية على الواهب؛ فإنه إنما يسلم (2) ما تصح الهبة فيه، ولا يبقى وراء ما نقدّر فيه صحةَ الهبة لورثة الواهب (3) . وهذا ظاهر، ولكن على المنتهي أن يعتني بفهمه؛ فإنه فنٌّ من الدور، ولا انقطاع له، وسنبني عليه مسائل، فقد صح ما قدمناه في فتوى المسألة.
وهذا فيه إذا كانت القيمة قدر الدية أو أقلَّ، واختار الموهوبُ له تسليمَ العبد. وإن اختار الموهوبُ له الفداء في قول من رأى الفداء بالقيمة، فالجواب كما مضى؛ لأن الفادي بالقيمة لا يزيد على قيمة واحدةٍ في حق [الدّيتين] (4) فيقتضي الحساب ما ذكرناه.
فأما من رأى الفداء بالدية، نُظر: فإن كانت قيمتُه مثلَ نصف الدية أو أقل من [الدية] (5) في الجميع، فإن الفادي بالدية يفدي بديتين؛ [إذ] (6) شَرْط أن يفدي بأرش الجنايات بالغةً ما بلغت، وإذا فدى كلَّ قتيل بديته، فيقع العبد شطرَ الفداء أو أقلَّ من الشطر.
7200- وإن كانت قيمة العبد أكثرَ من [نصف] (7) الفداء إلى تمام الدية من غير مزيد، [كأن تكون ستة آلاف، والدية عشرة آلاف مثلاً] (8) ، فالحكم أن نقول: إذا زادت على النصف، ولم تزد على مقدار الدية، والتفريع على أن الفداء بالدية، بطلت
__________
(1) في الأصل: إلى.
(2) عبارة الأصل: "فإنه إنما ما يسلّم ما تصح الهبة فيه" وهي على ركاكتها خطأ. فالمعنى المقصود هو: أن المقدار الذي تصح الهبة فيه هو الذي يسلّم إلى ورثة الواهب، فإنه المقدار الذي صار بلهبة ملكاً للغير، لكن الذي لم تصح فيه الهبة، فهو على ملك سيده، فجنايته مهدرة، فلا يسلّم في الجناية، وإنما تتعلق برقبته دية الأجنبي المقتول في مسألتنا هذه.
(3) أي يسلم لورثة الأجنبي، وهذا ظاهر من التعليق السابق.
(4) في الأصل: الفئتين.
(5) في الأصل: الهبة.
(6) في الأصل: إن.
(7) ساقطة من الأصل.
(8) زيادة اقتضاها السياق.(10/529)
الهبة في الجميع، وتعليل ذلك أنا لو صححنا الهبة في الجميع [مثلاً] (1) ، وقلنا: الموهوب له يفدي العبدَ، فيسلِّم على هذا التقدير لورثة الواهب عشرةَ آلاف، وقيمة العبد ستة آلاف، فلا يكون ما سلم لهم ضعفَ الهبة.
ولو قلنا: تصح الهبة في نصف العبد مثلاً، فالموهوب له على هذا [التقدير] (2) يفديه بنصف الدية، فلا يحصل للورثة ضعفُ التبرع؛ فإن التبرع ثلاثة آلاف، ونصف الدية على ما قدرنا خمسةُ آلاف، فلا يكون الحاصل ضعفَ التبرع.
فإن قيل: قد بطلت الهبة في نصف العبد على هذا التقدير الذي نحن فيه، فينبغي أن نضم هذا النصف إلى نصف الدية، فيزيد المجموع على ضعف ما قدرنا التبرع فيه. قلنا: إذا كان الموهوب له يفدي على نسبة ما ملكه من العبد، وقد قدرنا له الملك في نصف العبد؛ فإنه لا يفدي في حق الأجنبي إلا بنصف الدية أيضاً، فيبقى له من حقه نصف الدية، والنصف الباقي من العبد [جنايته] (3) هدر على الواهب؛ فإنها جناية على المالك، فيتعين صرفُ ذلك النصف إلى الأجنبي.
وإن نقصنا مقدار الموهوب، لم يتخلص عن هذه النسبة، ولم ينتظم لنا اعتدال الثلث والثلثين، فلا يزال ينقص، ومنتهى ذلك الحكم بإبطال الهبة رأساً، وهذا الملك يجري من زيادة القيمة على نصف الدية إلى أن يزيد على تمام الدية، والتفريع على الفداء بالأرش.
7201- فإن كانت قيمته أكثرَ من الدية مثل أن كانت قيمته عشرين ألفاً والدية عشرة آلاف، فتصح الهبة في شيءٍ لا محالة، وتعليل صحتها على الجملة إلى أن نحسب أنا إذا قدرنا الصحة في جزءٍ على ما يقتضيه الحساب وأبطلنا الهبة في بقية العبد، وقدَّرنا تسليم البقية في الجناية، فلا حاجة إلى تسليم الكل، فيبقى للورثة شيء؛ فإن جرى الفداء بالأرش، فإن القيمة زائدة على الدية، وإن كان تبقى لهم شيء، فلا بد من نفوذ التبرع في شيء.
__________
(1) في الأصل: مالاً.
(2) في الأصل: التقدم.
(3) في الأصل: جناية.(10/530)
وسبيل الحساب أن نقول: صحت الهبة في شيء ورجع نصف ذلك الشيء إلى الواهب بسبب الجناية؛ فإن الهبة إذا صحت في شيء، وثبت الملك فيه، ثم فرضت الجناية على الواهب، فاختار من حصل له الملك الفداءَ (1) بالدية، والدية نصف القيمة، فلا بد وأن يرجع بالجناية نصفُ ما يخرج بالهبة، فقد استقام قولنا: صحت الهبة في شيء ورجع نصف ذلك الشيء [إلى ورثة الواهب] (2) ، ورجع نصفه أيضاً إلى ورثة الأجنبي، وبطلت الهبة في عبد إلا شيئاً، وورثة الواهب يلزمهم تسليمُ نصفهم إلى ورثة الأجنبي؛ فإنه إذا ثبت ملكٌ فيما بطلت الهبةُ فيه، تعلق ضمان الأجنبي بذلك القدر، فيبقى مع ورثة الواهب نصف عبدٍ إلا نصفَ شيءٍ [مضمومٌ] (3) إليه ما رجع إليهم بالجناية، وهو نصف شيء، فيبقى لهم نصف عبدٍ [لا استثناء منه] (4) ، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ التبرع، فالشيء ربعُ العبد، وهو الذي نفذت الهبة فيه، وقيمته خمسة آلاف، وبطلت الهبة في ثلاثة أرباع العبد، وورثة السيد يفدونها بثلاثة أرباع الدية، أو يسلمون ذلك القدرَ: ثلاثة [أرباع العبد] (5) ، فيبقى معهم مقدارُ سبعة آلاف وخَمسُ (6) مائة، والموهوب له يدفع الربع الذي صحت الهبة فيه إلى ورثة الواهب، وورثة الأجنبي نصفين، أو يفديه من كل واحد منهما بربع الدية، فيجتمع لورثة الواهب عشرة آلاف (7) ، وهي ضعف ما نفذت الهبة فيه، ونهدِر (8) الجناية على ثلاثة أرباع السيد؛ لأنها جناية على المالك.
7202- فإن [كان] (9) العبد قتل السيدَ أولاً، ثم قتل الأجنبيَّ بعده، وقيمته ألف
__________
(1) في الأصل: في الفداء.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: مضمون.
(4) في الأصل: إلا استثناء.
(5) زيادة من المحقق.
(6) يبقى 7500 لأن الباقي الذي بطلت الهبة فيه من العبد (15000) خمسة عشر ألفاً، فإذا أخذ منها 3/4 الدية التي هي 3/4 × 10000=7500، بقي 7500.
(7) يجتمع لهم (10000) عشرة آلاف، لأن الموهوب له سيدفع الربع الذي صحت الهبة، وهو خمسة آلاف، نصفين بينهم وبين ورثة الأجنبي، فيكون 2500 + 7500 = عشرة آلاف.
(8) نهدر من باب ضرب وقتل.
(9) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.(10/531)
درهم مثلاًً، فإن لم يُجز الورثةُ الهبةَ [فما] (1) تصح فيه الهبةُ على ما ذكرنا، [جنى] (2) أو لم [يجن] (3) على الأجنبي، والسبب فيه [أنه بقتل] (4) السيد [فاتت] (5) التركة، وانتقل الحق إلى الورثة، وإذا [فاتت] (5) التركة، [فات] (6) [ ... ] (7) ما صحت الهبة فيه ولا يتغير هذا بجنايةٍ أخرى من العبد بعد انتقال الحق إلى الورثة، ثم يفدي ورثةُ السيد [ما بطل] (8) فيه الهبة من الأجنبي، ويفدي الموهوب له ما صح فيه الهبة من ورثة كلِّ واحدٍ منهما؛ لأنه [جنى] (9) على الأجنبي وهو في ملك الورثةِ، والموهوبِ له.
وحسابه أن الهبة صحت (10) في شيء منه، ثم إن الموهوبَ له دفع نصفَ الشيء إلى ورثة الواهب، ونصفَه إلى ورثة الأجنبي، فحصل لورثة الواهب عبد إلا نصفَ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة بالبسط يكون الشيء خمسَي العبد، وهو الجاني بالهبة ويدفع الموهوبُ له الخمسين بالجناية، فيحصل لورثة الواهب أربعةُ أخماس العبد بقاءً وعوداً إليهم، وهي ضعف الهبة، ثم يدفعون ثلاثة الأخماس التي بطلت فيها الهبة إلى ورثة الأجنبي؛ لأنه جنى عليه، وهو في ملكهم.
فإن اختار الموهوبُ له الفداء، فمن رأى الفداء بالقيمة، فجوابه كذلك، ومن فدى بالدية، فإنه يقول: تمت الهبة في العبد؛ فإن الموهوب له يفديه من [كل] (11) واحد بالدية الثابتة، فيحصل في يد ورثة الواهب أكثرُ من الضعف.
فإن كانت قيمته ستةَ آلاف والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في شيء، وفداه بشيءٍ
__________
(1) في الأصل: فيما.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: تجر.
(4) عبارة الأصل: والسبب فيه مثل السيد.
(5) في الأصل: بانت.
(6) في الأصل: بان.
(7) كلمة غير مقروءة.
(8) في الأصل: فابطل.
(9) في الأصل: جرى.
(10) عبارة الأصل: أن الهبة إن صحت في شيء منه.
(11) زيادة من المحقق.(10/532)
وثلثي شيء، من كل واحد منهما؛ فإن التفريع على الفداء بالأرش والدية زائدة على القيمة [بثلثيها] (1) ، فيحصل لورثة الواهب عبدٌ وثلثا شيء يعدل شيئين، فنطرح [ثلثي شيء] (2) بثلثي شيء قصاصاً، فيبقى عبدٌ في معادلة شيء وثلث شيء، فنبسط ونقلب الاسم، فيكون الشيء ثلاثة أرباع العبد، وهي التي تصح الهبة فيه.
ثم الموهوب له يفدي من كل واحد منهما ما صحت الهبة فيه بثلاثة أرباع الدية، فيحصل لورثة السيد ثلاثة أرباع الدية وربع العبد وذلك تسعة آلاف، وهي ضعف الهبة، يفدي ورثة الواهب ربعَ العبد، أو يسلمونه في حق فدية الأجنبي؛ فإن الجناية على الأجنبي وقعت بعد قتل الواهب في هذه المسائل، وبعد استقرار الملك للورثة.
7203- فإن كانت قيمته والمسألة بحالها عشرين ألفاً والدية عشرة آلاف، صحت الهبة في شيء من العبد، وفداه الموهوب له من كل واحد منهما بنصف شيء، فيحصل لورثة الواهب عبدٌ إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، [فبعد] (3) الجبر والبسط وقلب الاسم يكون الشيء [خُمسا] (4) العبد، فنقول: تصح الهبة في [خمسيه] (5) ، ويرجع أحد الخمسين إلى ورثة الواهب بالجناية، وهو نصف ما صحت الهبة فيه، فيحصل لهم قدر أربعة أخماسه، وذلك ضعف ما صحت الهبة فيه، وجناية ثلاثة أخماسه على الواهب هدر، ثم يفدي ورثة الواهب ثلاثة أخماسه من الأجنبي بثلاثة أخماس الدية.
7204- مسألة: إذا وهب عبداً في مرضه، وسلّمه، فجنى العبد مع أجنبي، فقتلا الواهبَ خطأ. فإن كانت قيمته نصفَ الدية أو أقل، تمت الهبة، وفداه الموهوب له بنصف الدية، أو سلمه، وأخذ من الأجنبي نصف الدية، فيكون الحاصل في أيدي ورثة الواهب أكثرَ من ضعف الموهوب، وهو العبد.
__________
(1) في الأصل: بثلثها.
(2) في الأصل: ثلث شيء.
(3) في الأصل: فمقدار.
(4) في الأصل: خمس.
(5) في الأصل: خمسه.(10/533)
وإن كانت قيمته مثل الدية، فنقول: صحت الهبة في شيء، وفداه الموهوب له بنصف شيء؛ فإن الأرش يتعلق بالجانبين، فيخص المقدارَ الموهوبَ نصفٌ، فإن القيمة كالأرش، فنقول: إذا صحت الهبة في شيء ورجع من جهة الموهوب له نصفُ شيء، ويأخذ ورثة الواهب من الأجنبي نصف الدية وهو خمسة آلاف، فيجتمع معهم خمسةَ عشرَ ألفاً إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والبسط يكون الشيء [خمسي] (1) خمسة عشرَ ألفاً وذلك ستةُ الاف، وهو المقدار الذي صحت الهبة فيه من العبد، وذلك ثلاثة أخماس العبد، فيفديه الموهوب له بثلاثة أخماس نصف الدية، وذلك ثلاثة آلاف، ويأخذون من الأجنبي نصف الدية، فيجتمع مع ورثة الواهب اثنا عشر ألفاً، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه.
7205- مسألة: إذا وهب في مرضه عبداً، وأقبضه، فقتل العبد الموهوبَ له خطأً، وقيمته مثلُ الدية أو أقلَّ، ثم مات الواهب.
قلنا للورثة: إن [أجزتم] (2) الهبة، نفذت، وبطلت الجناية؛ لأنها على مالك الجاني، وإن لم تجيزوها بطلت الهبة جملةً؛ فإن الهبة لو صحت [في] (3) مقدارٍ، فالذي لا تصح الهبة فيه يجب تسليمه إلى الموهوب [له] (4) بحكم الجناية أو الدية، مثل القيمة، أو أكثر، فلا يبقى للورثة شيء. فإذا لم يبق لهم شيء، لم تنفذ الهبة في شيء، وإذا بطلت الهبة في جميعه، عند رد الورثة قُبل منهم تسليم العبد أو الفداء لورثة الموهوب له بسبب الجناية، فإن كانت قيمته عشرون ألفاً والدية عشرة آلاف، قلنا: جازت الهبة في شيء، وفدى الورثةُ باقي العبد بقدر نصفه؛ فإن الديةَ نصفُ القيمة، فيبقى معهم عبد إلا نصفَ شيء، كان عبداً إلا شيئاً بسبب الهبة، ثم جبره مما بقي نصفه، فبقي نصف عبد إلا نصف شيء، وهذا يعدل شيئين، فبعد الجبر
__________
(1) في الأصل: خمس.
(2) في الأصل: أخرتم.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة من المحقق.(10/534)
والمقابلة وقلب الاسم يكون [الشيء] (1) [خمسي] (2) نصف العبد، وهو بالإضافة إلى العبد خُمسه.
فنقول: صحت الهبة في خُمسه، والجناية هدَرٌ في هذا الخمس؛ فإنها جناية المِلْك على المالك، ويفدي ورثة الواهب أربعة أخماسه بأربعة أخماس الدية، وهو مثل [خمسي] (3) الرقبة، فبقي معهم خمساها، وهي ضعف ما صحت الهبة منه.
7206- فإن قتل العبدُ الواهبَ، ثم قتل الموهوبَ له، نظر: فإن اختار ورثةُ الواهب الهبةَ، صارت [جنايته] (4) على الموهوب له [هدراً] (5) وفداه ورثة الموهوب له، وفداه ورثة الواهب.
وإن لم يجيزوا الهبة، نُظر: فإن اختار ورثةُ الموهوب له الدفعَ، وقيمتُه قدرُ الدية أو أقل، قلنا: صحت الهبة في شيء منه، وسلم ورثةُ الموهوب له ذلك الشيء إلى ورثة الواهب بالجناية، فيحصل لهم عبد كاملٌ بقاءً وعوداً يعدل شيئين، فالشيء نصفُ العبد، وهو المقدار الذي صحت الهبة فيه، وتبطل الهبة في نصفه، ويهدر نصفُ دم كل واحد منهما، من جهة أن كل واحد منهم [كان مالكاً] (6) لنصفه في حال جنايته عليه، ويجب على ورثة كل واحد منهما تسليم نصف العبد بجنايته، فيصير ذلك قصاصاً.
وإن اختار ورثةُ الموهوب له الفداء، وقيمته نصفُ الدية أو أقلُّ، تمت الهبة، وصار دم الموهوب له هدَراً، وفدَوْه من ورثة الواهب بالدية.
وإن كانت قيمته عشرين ألفاً [والدية عشرة آلاف] (7) ، جازت الهبة في شيء، ورجع إليه بالجناية نصفُ شيء، فيحصل لورثة الواهب عبدٌ إلا نصفَ شيء، يعدل
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: خمس.
(3) في الأصل: خمس.
(4) في الأصل: جناية.
(5) في الأصل. هذا.
(6) مكان بياضٍ بالأصل.
(7) زيادة من المحقق.(10/535)
شيئين فبعد الجبر والمقابلة والبسط، يقع الشيء [خمسي] (1) العبد، وتصح الهبة في خمسيه، والموهوب له يفديه من ورثة الواهب [بخمسي] (2) الدية، وهو مثلُ خمس الرقبة، فيحصل لهم أربعة أخماس الرقبة، وهو مثل الهبة، ويهدر ثلاثة أخماس دم الواهب.
ويفدي ورثةُ الواهب ما بطلت فيه الهبة، وهو ثلاثة أخماس بثلاثة أخماس الدية من ورثة الموهوب له. فإن تقاصّوْا، بقي لورثة الموهوب على ورثة الواهب خُمسُ الدية.
7207- وإن قتل العبدُ الموهوبَ له، ثم قتل الواهبَ، وقيمته الديةُ أو أقل، بطلت الهبة، وهدر دم الواهب، وسلموه إلى ورثة الموهوب له بالجناية.
وإن كانت قيمته عشرين ألفاً، قلنا: جازت الهبة في شيء، وسلموا نصف الباقي بالجناية، يبقى معهم [نصف] (3) عبد إلا نصفَ شيء، فيأخذون من ورثة الموهوب [له] (4) نصف الشيء الذي تجب فيه الهبة بالجناية على الواهب، فيجتمع لهم نصف عبد لا استثناء فيه يعدل شيئين، فنعلم أن الشيء ربعُ العبد، وهو الجائز بالهبة، ونفدي ثلاثة أرباعه بثلاثة أرباع الدية من ورثة الموهوب له، ويفدي ورثةُ الموهوب له الربعَ الذي صحت الهبة فيه من ورثة الواهب بربع الدية، فإن تقاصا بقي لورثة الموهوب له على ورثة الواهب نصفُ الدية، يعطونه من ثلاثة أرباع العبد، فيبقى معهم نصف العبد، وهو ضعف الهبة، ويُهدر ربع دم الموهوب له، وثلاثة أرباع دم الواهب.
7208- مسألة: إذا وهب في مرضه عبداً وأقبضه، ثم وهبه الثاني في مرضه لثالثٍ وأقبضه، ثم قتل العبدُ الواهبَ الأول وهو في يد الثالث، ثم مات المريض الثاني ولا مال للواهبين غيرُه، نظر: فإن لم يجز ورثة الأول جميع الهبة، ولم يجز
__________
(1) في الأصل: خمس.
(2) في الأصل: بخمس.
(3) زيادة لا يستقيم الحساب بدونها.
(4) ساقطة من الأصل.(10/536)
[ورثة] (1) الثاني أيضاً، فإن كانت قيمته قدرَ الدية أو أقلَّ، بطلت هبة الثاني، وصحت هبة الأول في نصف العبد، وسُلّم بالجناية، فيجتمع لورثة المقتول نصف العبد [الذي بطلت فيه] (2) الهبة، ونصفه بالجناية، ولا يبقى لورثة الثاني شيء ينفذ فيه وصية.
وبيان هذا على وضوحه: أنا إذا قدّرنا قيمة العبد قدْر الدية مثلاً، وصححنا هبة الأول في نصف العبد، فالذي تبطل الهبة فيه نُبقيه لورثة الأول؛ إذ لا مجنيّ عليه غيرُ الأول، ثم يرجع إلى ورثة الأول بالتسليم ما صحت الهبة فيه من العبد.
والذي يقتضيه التعديل منه التنصيف، حتى يثبت لورثة الأول نصف العبد من جهة التنفيذ (3) ، ونصفه من جهة القود بالجناية، ويكون العبد ضعفاً للذي نفذ التبرع فيه.
ولا يُتصور مع هذا أن يبقى لورثة الثاني شيء، فلا جرم لم ينفذ تبرعه.
وإذا لاح هذا وقيمةُ العبد مثلُ الدية، فكذلك (4) إذا كانت قيمته أقلَّ من الدية.
وكل ذلك إذا لم يُجز ورثةُ الأول، ولم يجز ورثةُ الثاني. فإن لم يجز ورثةُ الأول [وأجاز] (5) ورثة الثاني هبةَ الثاني كاملةً، فسبيل الجواب أن نقول: الهبة تنفذ للثالث، ثم يقوم الثالث مقام الثاني. في الفداء والدفع، فما جاز للموهوب له الأول بالهبة، كان ذلك [للموهوب له الثاني] (6) .
وبيان ذلك أن الهبة من الثاني جرت قبل قَتْل العبدِ الواهبَ الأول، وإنما أبطلنا هبة الثاني عند رد ورثته؛ لأنا لو قدرناها، لم نُبق لورثة الثاني شيئاً على القياس الذي تقدم، وشرطُ تنفيذ التبرع مع رد الورثة ما يزيد على الثلث أن يبقى للورثة ضعفُ ما ينفذ [التبرّع] (7) فيه، وهذا لم يتأت مع [ردّهم] (8) ، فإذا أجاز الورثة، سقط
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مكان بياضٍ بالأصل.
(3) التنفيذ: أي تنفيذ الهبة.
(4) في الأصل: "وكذلك".
(5) في الأصل: اختار.
(6) مكان بياضٍ بالأصل.
(7) في الأصل: البلوغ.
(8) في الأصل: مع درهم.(10/537)
حقهم، ولم نحتج إلى إبقاء شيء لهم، وقد صحت هبة الثاني في مقدارٍ من العبد، وجرت الجنايةُ بعد الهبة والإقباض، وليس في تنفيذ هبةِ الثاني منعُ حقِّ ورثة الأول؛ فإن ذلك القدر يعود من الثالث إليهم، كما كان يعود من الثاني في الصورة الأولى، فلا منع من تنفيذ الهبة من الأول والثاني.
7209- وإن كانت قيمة العبد عشرين ألفاً، ولم يُجز [ورثة الأول، وكذلك ورثة الثاني لم يجيزوا] (1) .
فنقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد، وصحت هبة الثاني من ذلك الشيء في وصيته، وإنما غايرنا في العبارة بين محل [تبرّعهما] (2) ؛ لأن تبرع الثاني يقع جزءاً من محل تبرع الأول، وقد يلتبس الكلام إذا قلنا: ينفذ تبرع الثاني في شيء من الشيء الأول؛ فعبّرنا عن تبرع الثاني بالوصية، ثم [بعد ذلك] (3) يبقى مع ورثة الثاني شيء إلا وصية، وهم يدفعون نصفَه بالفداء إلى ورثة الأول، فبقي معهم نصفُ شيء إلا نصفَ وصية؛ وإنما يدفعون نصفَ ما بقي معهم؛ لأن الدية نصف القيمة، فيقع الفداء على هذه النسبة، فإذا بقي مع ورثة الثاني نصف شيء إلا نصفَ وصية، قلنا: هذا يعدل وصيتين ضعف ما تبرع الثاني، فبعد الجبر والمقابلة يعدل نصفُ شيء وصيتين ونصف، فنبسطهما أنصافاً ونقلب الاسم فيهما، فتكون الوصية خمس الشيء، فإنا قابلنا نصفَ [شيء] (4) بوصيتين ونصفٍ، فتقع الوصية الواحدة خُمسي نصفِ شيء، وخمسا النصف خُمس الكل، فانتظم قولنا: الوصية خمس الشيء، فإذا صحت هبة الثاني في خمس ما ملكه بالهبة، فنرجع بعد ذلك ونقول: صحت هبة الأول في شيء من العبد، فيبقى مع ورثته عبد إلا شيئاً، وهم يأخذون من الثالث ومن [ورثة الثاني] (5) نصفَ ما حصل في أيديهم بالجناية، وذلك ضعفُ نصف شيء، هذه النسبة
__________
(1) عبارة الأصل: "ولم يجز الورثة إلى ورثة الأول لم يجيزوا، وكذلك ورثة الثاني لم يجيزوا".
(2) في الأصل: ترفيعهما.
(3) في الأصل: ثم يعدل يبقى.
(4) ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: ومن ورثته.(10/538)
لا بد منها، لما قدّرنا من [وقوع] (1) الدية نصفاً للقيمة، فيجتمع مع ورثة الأول عبدٌ إلا نصفَ شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والبسط وقلب الاسم يكون الشيء خمسي العبد، فنقول: صحت هبة الأول في خمس العبد، وصحت هبة الثاني في خمس هذين الخمسين، والمسألة مُقامةٌ من خمسةٍ وعشرين سهماً، فنقول: العبد خمسةٌ وعشرون، وصحت هبة الأول في عشرة أسهم، وهي خُمسا هذا المبلغ، وتصح هبة الثاني في خُمس العشرة، وهو سهمان، يبقى مع ورثة الثاني ثمانية أسهم، يدفعون نصفها بالجناية، فتُدفع إلى ورثة الأول، فبقي معهم أربعة أسهم، وهي ضعف هبة الثاني، ثم الثالث يدفع [نصفَ] (2) ما حصل في يده، وهو سهم واحد بالجناية إلى ورثة الأول، فيجتمع مع ورثة الأول عشرون سهماً من الرقبة؛ فإنه بقيت في أيديهم خمسة عشرَ أولاً، ورجعت إليهم أربعةٌ من الثاني وواحدٌ من الثالث، وكان ذلك عشرين، وهي ضعف ما صحت فيه هبة الأول.
فإن أجاز ورثة الأول هبته، نفذت في جميع العبد لا محالة، فإذا رد ورثةُ الثاني ما يزيد على محل التبرع، صحت هبة الثاني في خُمس العبد، وبطل أربعةُ أخماسه، ودفع ورثةُ الثاني نصف ما في أيديهم بالجناية إلى ورثة الأول، وهو خمسا العبد.
وهذه [نسبة] (3) التنصيف، فيقع خمسا العبد أربعة أخماس الدية، ويدفع الثالث نصفَ الخمس إلى ورثة الأول، فيبقى مع ورثة الثاني خمساه، وهو ضعف هبته، فيجتمع لورثة الأول خمسا العبد ونصفُ خُمسه، وهو تمام [الدية] (4) ولا نحتاج إلى تعديل في حق الأول: الثلث والثلثين؛ فإن ورثته قد أجازوا تبرعه، ولكن يحصل لهم موجَبُ الجناية كَمَلاً؛ فإنهم لم ينزلوا عنه.
7210- فإن قتل العبدُ الموهوبَ له الأولَ، وهو الواهب الثاني ولم يقتل الواهبَ الأول، ثم مات الواهب الأول في مرضه.
__________
(1) في الأصل: رجوع.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: النسبة.
(4) في الأصل: الورثة.(10/539)
فإن أجاز ورثةُ الأول الهبةَ، نفذت الهبة في تمام العبد، وقيل [للثالث: أَرجعه] (1) إلى ورثة الثاني، أو افده منهم، كما ذكرناه قبلُ في العبد الموهوب إذا قتل الواهب.
فإن اختار الدفعَ، كان كلُّ العبد لورثة الثاني. فإن أجرينا هذه المسألةَ على [الترتيب] (2) الأول، فهي مفروضة [فيه] (3) إذا كانت قيمةُ العبد مثلَ الدية أو أقلَّ. فإذا اختار الثالث الدفعَ، فالجواب ما ذكرناه.
فنقول: صحت هبة الثاني في نصف العبد، ثم رجع ذلك النصف بالجناية، فكان تمامُ العبد ضعفاً لنصفه الذي صححنا الهبةَ فيه، وخرج الواهب الأول من [المسألة] (4) ؛ فإنّ ورثته قد أجازوا، [ولا] (5) جنايةَ على الأول؛ فكان الثاني مع الثالث في هذه المسألة كالأول مع الثاني في المسألة الأولى.
وما ذكرناه يجري إذا كانت قيمةُ العبد أقلّ من الدية، كما جرى وقيمتُه مثلُ الدية. وإن اختار الثالث الفداء على قولِ الأرش، وقيمة العبد نصفُ الدية، أو أقلُّ، فإنه يفديه بالدية، وتمت الهبة من الثاني في جميع العبد؛ فإن الدية تقع ضعفاً للعبد إن كانت القيمة نصفاً أو [أقلَّ] (6) من النصف.
7211- وإن لم يُجز ورثةُ الأول والثاني، والكلامُ في الصورة التي انتهينا [إليها] (7) ، بطلت الهبتان؛ والسبب (8) فيه أنا لو صححنا هبة الأول في جزءٍ من العبد، لاحتجنا إلى تسليم باقيه إلى الموهوب له الأول بالجناية، فلا يُسلَّم لورثة
__________
(1) في الأصل: لثالث: ارجع.
(2) في الأصل: ترتيب.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) مكان بياضٍ بالأصل.
(5) في الأصل: بلا.
(6) في الأصل: أكثر.
(7) زيادة من المحقق.
(8) في الأصل: فالسبب.(10/540)
الأول شيء، فإذا كانوا على [عدم الإجازة] (1) يُشترط أن يبقى لهم ضعفُ [ما تقرر] (2) التبرع [فيه] (3) ، وإذا بطلت الهبةُ الأولى لما ذكرناه، عاد الكلام إلى أن عبدَ الواهب الأول قتل الثاني في حياة الأول، فيسلّم بالجناية لا بالقيمة. وهذا الذي ذكرناه [إذا] (4) ردّ ورثة الأول، وقيمة العبد نصفٌ أو أقلُّ من النصف، فجرى على هذا النسق إذا كانت قيمةُ العبد مثلُ الدية أو أقل منه (5) وأكثر من النصف؛ وذلك أن القيمة إذا كانت مثلَ الدية، فلو صححنا [الهبة] (6) في بعض [العبد] (7) ، سلمنا الباقي بالجناية، وإنما نحتاج [في] (8) باقي العبد إلى قيمة الدية، فلا يسلّم لورثة الأول شيء، كما سبق تقريره.
7212- فإن كانت قيمته عشرين ألفاً، وقد رد ورثةُ الأول، فتصح هبته في شيء لا محالة؛ فإنا إذا صححنا الهبةَ في شيء، [وسلمناه] (9) بالجناية، فلا نسلم تمام الباقي؛ فإنه يقع الاكتفاء بل ننقص لزيادة القيمة، فيبقى للورثة شيء من الرقبة، فيجب تنفيذ الهبة بذلك القدر.
وحساب المسألة أن نقول: صحت الهبة في شيء من العبد، وسلموا نصف ما بطلت الهبة فيه بالجناية، وعليه نسبة التنصيف (10) ، ما قررناه مراراً، ونصف الباقي نصفُ عبدٍ إلا نصفَ شيء، فيبقى في يد الورثة بعد الهبة والتسليم بالجناية، نصفُ عبدٍ إلا نصفَ شيء، وذلك يعدل شيئين: ضعفَ الهبة، فإذا جبرنا وقابلنا،
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: تقدّر.
(3) في الأصل: منه.
(4) زيادة من المحقق.
(5) منه: أي المثل.
(6) في الأصل: الدية.
(7) مكان بياضٍ بالأصل.
(8) في الأصل: إلى.
(9) في الأصل: وسلمنا.
(10) نسبة التنصيف أي مراعاة أن الدية نصف القيمة. والعبارة فيها نوع قلق. وإن كان لا يمنع فهم السياق.(10/541)
كان الشيء [خمسي النصف] (1) وخُمسا النصف خُمس الكل، فقد نفذت الهبة في خمس العبد، وبطلت في أربعة أخماسه، ثم ورثة الأول يدفعون خمسين من الرقبة بالجناية، [إن] (2) فدَوْه بالأرش، فهو أربعة أخماس الدية، ولا [يصح هذا] (3) الجواب والمقدار إذا كانت أكثر، فيبقى معهم خمسا العبد، وهو ضعف ما نفذت الهبة فيه.
ويجتمع لورثة المقتول ثلاثة أخماس العبد بالهبة والجناية، فتتم هبة الثاني في الشيء الذي صحت فيه هبة الأول، لأنه يخرج من الثلث، ثم يفديه الثالث من ورثة الثاني بنصف الشيء، وذلك نصف خمس العبد. هذا لا بد منه لمكان الجناية.
7213- فإن قتل العبدُ الواهبَ الأول، ثم قتل الموهوبَ له الأول، وهو في يد الثالث، وقيمته نصف الدية أو أقلُّ، نظرنا، فإن اختار الثالث الفداء على قول الأرش، تمت الهبتان؛ فإنه يبذل [للأول] (4) الديةَ الكاملة، ويبذل للثاني أيضاً الدية، فيخرج التبرعان.
[وإن] (5) اختار الدفعَ، وكانت قيمة العبد قدر الدية أو أقلّ، صحت هبة الثاني في جميع ما وهب له الأول، وصحت هبة الأول في شيء من العبد، وهو صحيح للثالث، ثم يدفع الثالث نصف الشيء إلى ورثة الأول، ونصفَه إلى ورثة الثاني، فيجتمع لورثة الأول عبد إلا نصفَ شيء، إذ كان معهم عبد إلا شيئاً، فانضم إليه نصف شيء، فالجملة عبد إلا نصفَ شيء، يعدل شيئين، فنجبر ونقابل، فيصير الشيء خمسي العبد، وهو الذي نفذت هبة الأول فيه، وهبة الثاني تتم أيضاً فيه، ثم يدفع الثالث إلى ورثة كل واحد منهما خمساً واحداً، فيجتمع لورثة الأول أربعة
__________
(1) في الأصل: نصف الخمس.
(2) في الأصل: وإن.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: الأول.
(5) في الأصل: إن (بدون واو) .(10/542)
[أخماس العبد] (1) : ضعف هبته؛ إذ هبتُه خمسان. ثم ورثةُ الأول يدفعون إلى ورثة الثاني ما بطلت فيه هبةُ الأول، وهو ثلاثة أخماس العبد، فيجتمع لورثة الثاني أربعةُ أخماس العبد: ثلاثةٌ من ورثة الأول يسلمونها (2) بالجناية، وخمسٌ من الثالث، وهو ضعف هبة الثاني.
7214- فإن كانت قيمة العبد ستة آلاف، واختار الثالث أن يفدي من ورثة الأول، ويسلّم أو يدفع إلى ورثة الثاني -والتفريع على أن من يفدي يفدي بالأرش- فقد أراد أن يجمع بين حسابين مختلفين: أحدهما - حساب الفداء، والآخر- حساب التسليم والدفع.
فنقول: صحت هبة [الأول] (3) في شيء من العبد، وجازت (4) هبة الثاني في وصية من الشيء، وهذه الوصية هي التي يتعلق بها الفداء والتسليم، فهذا الثالث يفدي الوصية من الأول بمثلها ومثل [ثلثيها] (5) ؛ فإن القيمة ستة آلاف والدية عشرة، ونسبة العشرة من الستة هكذا تكون، ونعبّر عما يبذله في الفداء، فنقول: يفدي من الأول الوصيةَ بوصيةٍ وثلثي وصية، ويدفع ورثةُ الثاني إلى ورثة الأول ما بطل [فيه] (6) هبةُ الثاني، وقد كانت هبةُ الثاني شيئاً، فخرجت منه وصية، فيبقى في يد ورثة الثاني شيء إلا وصية، فحصل لورثة الأول عبد وثلثا وصية، وذلك أنهم كان لهم عبد إلا شيئاً بعد تنفيذ الهبة الأولى، وسلم الثالث إليهم وصيةً وثلثي وصية، ورد الثاني شيئاً إلا وصية، فقد انضم الشيء المستثنى إلى العبد، ولكن كان في ذلك الشيء الراجع استثناء وصية، وبه غَرِم الثالثُ من الدية مثلَ وصية وثُلثي وصية، فانجبر نقصان الشيء بالوصية الواحدة، فكمل العبد وفضل ثلثا وصية، فحصل لورثة الأول عبدٌ وثلثا
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام إلا بها.
(2) يسلّمونها: أي ورثة الأول. فهم يملكون ثلاثة الأخماس التي بطلت الهبة فيها، فعليهم مثلها من الجناية، وقد اختاروا التسليم.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: جازت. (بدون الواو) .
(5) في الأصل: ثلثها.
(6) في الأصل: منه.(10/543)
وصية، وهذا يعدل شيئين ضعفَ الهبة الأولى، فالشيء الواحد نصفُ عبد وثلثُ وصية، وهو الذي نفذت فيه هبة الأول، وبطلت هبة الأول في نصف عبد إلا ثلثَ وصية.
وبيان ذلك أنا جمعنا ما يتحصّل في أيدي ورثة الأول من العبد والفداء، فوجدناه عبداً وثلثي وصية، ثم بان لنا لما وقف هذا في مقابلة الشيئين أن الشيء الواحدَ نصفُ هذا المبلغ، ونصفه [نصف] (1) عبد وثلثُ وصية.
والآن بعد ما بانت قيمة الشيء، [فنردّ] (2) نظرنا إلى عبدٍ بلا زيادة؛ فإنا نريد أن نبين مقدار الهبة من عبد، فنقول: صحت الهبة من العبد الفرد في نصف عبد وثلث وصية، فيبقى من العبد الفردِ نصفُ عبد إلا ثلثَ وصية، فإذا بان أن الشيء نصفُ عبد وثلثُ وصية، فتخرج وصية الثالث من هذا، فيبقى منه نصف عبد إلا ثلثي وصية؛ فإن الشيء كان [نصف] (3) عبدٍ وثلثَ وصية، فنأخذ ثلث وصية، ثم ثلثي وصية من النصف، فيبقى نصفٌ إلا ثلثي وصية.
ثم ورثة الثاني يدفعون هذا الباقي، وهو نصف عبد إلا ثلثي وصية إلى ورثة الأول بالجناية (4) ، ثم هم يأخذون من ورثة الأول ما بطلت فيه هبةُ (5) الأول، وهو نصفٌ إلا ثلثَ وصية، ويأخذون أيضاً من الثالث الوصية كاملةً (6) بالجناية؛ لأنه قد فدى هذه الوصية من الأول بالدية، وإذا وقع التفريع على هذا، فالمطالبة لا محالة [بالتسليم] (7) .
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: فرد.
(3) زيادة من المحقق.
(4) يدفع ورثة الثاني هذا المقدار إلى ورثة الأول بالجناية، لأنهم يملكون هذا القدر من العبد الجاني على ورثة الأول، فلزمهم تسليمه.
(5) يأخذونه من ورثة الأول لنفس المعنى المذكور في التعليق السابق.
(6) هنا يرد الثالث الوصية كاملة فقط إلى ورثة الثاني، على حين ردّ لورثة الأول وصية وثلثي وصية؛ لأنه اختار الفداء من ورثة الأول بالأرش، وهو مثل القيمة وثلثيها. واختار في جانب ورثة الثاني الردّ والتسليم.
(7) زيادة اقتضاها السياق. والمراد تسليم الوصية.(10/544)
وإن فدى من الأ [ول بالدية] (1) وبقي قدر الوصية في (2) يده وا [لتفريع على اختياره الجمعَ بين الفداء و] (3) التسليم، كما وضعنا المسألة (4) ، فيسلِّم جميعَ الوصية إلى ورثة الثاني، فيجتمع لورثة الثاني نصف عبد وثلثا وصية؛ فإنهم أخذوا من الأول نصف عبد [إلا ثُلثَ وصية] (5) ، وأخذوا من الثالث وصية؛ فاجتمع لهم نصف عبد وثلثا وصية، وهذا الحاصل يعدل وصيتين. والوصية الواحدة تعدل ثلاثة أثمان العبد.
7215- وبيان ذلك أنا نقول: نصف عبد وثلثا وصية تعدل وصيتين، فنُقسط ثُلثي وصية من الوصيتين قصاصاً بثلثي وصية، [فيبقى وصية] (6) وثلث وصية في مقابلة نصف [عبد] (7) بلا زيادة ولا استثناء. فنبسط الوصية والثلث أثلاثاً، فتصير أربعة، وكل نصفٍ من [العبد أربعة أثلاث وصية، فتكون] (8) وصية من وصيةٍ وثلث ثلاثةَ أثمان العبد. وهذه هي النافذة بالهبة الثانية.
وكان قد بان أن الشيءَ نصفُ عبدٍ وثلثُ وصية، فزد ثلثَ وصية على نصف عبد، فيصير خمسةَ أثمان عبد.
وبيانه أن الوصية إذا عَدَلت ثلاثةَ أثمان، فثلث وصية يعدل ثمناً، والنصف أربعةُ أثمان، فنصفٌ وثلثُ وصيةٍ خمسةُ أثمان. [وهي الخمسةُ] (9) التي نفذت الهبة الأولى فيها، وصحت هبةُ الثاني من هذه الأثمان الخمسة في ثلاثة أثمان، يبقى مع ورثة الأول ثلاثة أثمان العبد، وهو ما بطلت فيه الهبة الأولى، ومع ورثة الثاني ثمنان،
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: وفي (بزيادة واو) .
(3) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل.
(4) فقد فرضنا أنه اختار أن يفدي من ورثة الأول بالأرش، ومن الثاني بالتسليم.
(5) في الأصل: وثلث وصية.
(6) زيادة من المحفق.
(7) زيادة لا يصح الحساب إلا بها.
(8) عبارة الأصل: "وكل نصفٍ من أربعة أثمان فتبقى وصية من وصية وثلث".
(9) في الأصل: الخمسة هي التي نفذت الهبة الأولى.(10/545)
ومع الثالث ثلاثة أثمان. هكذا انقسم العبد أثماناً عليهم.
ثم [فدى] (1) الثالث من ورثة الأول بثلاثة أثمان الدية، وهي مثل خمسة أثمان العبد؛ لأن الدية مثل القيمة، ومثلُ ثلثيها. فإذا كان المفدي ثلاثةَ أثمان، فمثلها ومثل ثلثيها خمسةُ أثمان، فقد حصل في يد ورثة الأول من الرقبة ثلاثةُ أثمان، ومن الفداء خمسة أثمان، ويأخذ أيضاً ورثةُ الأول من ورثة الثاني ما بطل فيه هبة الثاني، وهو ثمنان، فيجتمع لورثة الأول مما بقي من الهبة الأولى ومن الفداء، ومما بطلت فيه هبةُ الثاني عشرةُ أثمان: وهي عبدٌ وثمنان، وهو عبد وربع، وقيمة ذلك [سبعة آلاف وخَمسُمائة] (2) ، وهذه الجملة ضعف الهبة الأولى، وهي خمسة أثمان [العبد] (3)
[والعشرة ضعف الخمسة] (4) ، ثم ورثة الأول يدفعون إلى ورثة الثاني ما بطل فيه الهبة الأولى، وهو ثلاثة أثمان العبد، وقد سلّم إليهم الثالثُ ما كان صح له بالهبة الثانية، وهو ثلاثة أثمان العبد، فيجتمع لهم من هاتين الخمسين ستةُ أثمان، وهي ثلاثة أرباع العبد، وهي ضعف الهبة الثانية؛ فإن الهبة الثانية كانت ثلاثة أثمان.
فهذا إيضاح المسألة وبيان قياسها، وعلى ما ذكرناه فقس ما إذا [اختار] (5) الثالث الدفعَ إلى ورثة الأول والفداء من ورثة الثاني.
7216- فإن كانت قيمته عشرين ألفاً، فنقول: صحت هبة الأول في شيء، وصحت هبة الثاني في وصيةٍ من الشيء، ويدفع الثاني والثالث، ما في أيديهما إلى ورثة الأول بالجناية؛ فإن القيمة إذا كانت أكبر، استوى الدفع والفداء في مثل هذه الصورة.
فيحصل لورثة الأول عبدٌ إلا نصفَ شيء، وبيانه أنه صحت هبته في شيء ثم رجع
__________
(1) في الأصل: قضى.
(2) في الأصل: تسعة آلاف وخَمسمائة.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: العشرة ضعفا الخمسة.
(5) في الأصل: "أجاز". والمثبت اختيار منا مراعاة لاستعمال اللفظ ذاته في الحالة السابقة المقابلة لهذه.(10/546)
نصفُ الشيء مما صحت فيه الهبة الثانية، وهو المسمى الوصية، ومما بقي في يد الواهب الثاني نصفه إلى ورثة الأول. هذا حكم التسليم وموجَب النسبة إذا كانت [القيمة] (1) ضعفَ الدية، والدية نصف القيمة؛ فانتظم قولنا: حصل في يد ورثة الأول [عبدٌ] (2) إلا نصفَ شيء، ثم هذا يعدل شيئين، فيخرج من العمل وقد تكرر قياسه مراراً أن الشيء [خمسا] (3) العبد، وهو الذي نفذت الهبة الأولى فيه، ثم جازت هبة الثاني في وصية، فنقول: يبقى خمسا عبد إلا وصية، فيخرج نصف ذلك بالجناية، فيبقى مع ورثة الثاني خمسٌ إلا نصفَ وصية، وقد أخذوا بالجناية نصف
ما بطلت فيه الهبة الأولى، وذلك خُمسُ عبدٍ ونصفُ خُمسه، وأخذوا أيضاً من الثالث نصفَ الوصية، فاجتمع نصفُ عبدٍ.
وبيانه أنه حصل في أيديهم خمسٌ ونصف خمسٍ من الأوليين بسبب الجناية، وكان قد بقي في أيديهم مما صحت فيه الهبة الأولى ونفذت فيه الوصية الثانية خمس عبد ونصف وصية، فإنهم سلموا نصف ما كان بقي بالجناية الأولى، فيبقى في أيديهم خمسا عبد ونصف خمس عبد إلا نصفَ وصية، فلما [ضمُّوا] (4) نصفَ وصية، وهو ما أخذوه بالجناية من الثالث، [كمل] (5) في أيديهم نصفُ عبد، وهذا يعدل وصيتين، فالوصيةُ إذاً ربعُ العبد الذي صحت فيه الهبةُ الثانية، فنجعل قيمةَ العبد عشرين سهماً ليكون [للسهام] (6) خمسٌ ولخمسها ربعٌ.
ثم نعود فنقول: تصح هبة الأول في خمسيه، وهو ثمانية أسهم، وتبطل هبته في اثني عشر سهماً، وقد بان أن هبة الثاني ربع العبد وهو خمسة أسهم؛ يبقى في يد الثاني ثلاثة أسهم.
__________
(1) في الأصل: "قيمة" وهذه وأمثالٌ لها تشهد بعجمةٍ أصيلة قديمة لدى الناسخ.
(2) في الأصل: عشر.
(3) في الأصل: خمس خمسا.
(4) في الأصل: ضمنوا.
(5) في الأصل: كما.
(6) في الأصل: السهام.(10/547)
فيدفع ورثةُ الثاني إلى ورثة الأول نصفَ ما في أيديهم وهو أربعة أسهم (1) ، فيجتمع لورثة الأول ستةَ عشرَ سهماً، وهي ضعف ما صحت الهبة فيه، ويبقى مع ورثة الثاني سهم ونصف، ويأخذون من ورثة الأول نصفَ ما بطلت فيه الهبة الأولى، وذلك ستة. ويأخذون من الثالث نصفَ ما في يده وهو سهمان ونصف، فيجتمع لهم عشرةُ أسهم، وذلك ضعف هبة الثاني.
فإن فرضنا تقاصّاً بين ورثة الأول وورثة الثاني، بقي لورثة الثاني على ورثة الأول أربعة أسهم ونصف من العبد فيما يتراجعان فيه بحكم الجنايتين.
وبيان ذلك أن حق ورثة الثاني نصف ما في يده، وفي يده ثلاثة أسهم، وهي بقية الثمانية التي صحت الهبة الأولى [فيها] (2) ، فأخرجنا إلى الوصية خمسة، فإذا [هما تراجعا] (3) بحكم الجناية في هذا القدر، فإذا حَطّ (4) عن الستة أسهم ونصف، بقي لورثة الثاني على ورثة الأول أربعة أسهم ونصف سهم من عشرين سهماً.
وعلى هذا فقس كلما طوّلتَ المسائل.
والذي نوصي الناظرَ به أن يتخيّل بُعْدَ المسألة أولاً، وما فيها من الراجع بحكم الجناية، وأن يعدّل الثلث والثلثين، بعد أن يحصّل أقصى ما يمكن من الجهات، فينتظم له تمام المراد.
وقد نجز هذا القول، والحمد لله وحده.
__________
(1) هذا بحساب أنهم حصلوا من ورثة الثالث على نصف ما معهم وهو سهمان ونصف، فإذا ضموا إليها نصف الثلاثة 1/2 1 يكون المردود أربعة. وإلا فلم يبق معهم بعد الوصية إلا ثلاثة، فكيف يكون نصفها أربعة؟
(2) في الأصل: منها.
(3) في الأصل: فإذا سهما تراجع.
(4) حَط: نزل.(10/548)
مقالة تجمع نوادر في المسائل الدائرة من الفنون المختلفة
مسائل في استخراج المجاهيل في الدوائر المشتملة على العتق والكسب
7217- مسألة: إذا سأل سائلٌ، فقال: مريضٌ أعتق عبداً، فاكتسب ذلك العبدُ بعد العتق، وقبل موت السيد كسباً، فكان الذي عتَق منه النصفُ، كم كان كسبه؟
فنقول: كسبه مثل قيمته، وطريق استخراجه بالجبر أن نقول: إذا أعتق نصفَه، تبعه نصفُ كسبه، غيرَ محسوب عليه، ويلزم أن يبقى في يد الورثة ضعفُ العتق، وفي أيديهم نصف الرقبة، فيلزم لا محالة أن يبقى من كسبه مثلُ ما بقي من رقبته، وإذا كان الباقي من الكسب مثلُ نصف الرقبة، فكل الكسب ككل الرقبة.
وإن قيل: اكتسب العبد كما صورناه، واقتضى الحسابُ أن يعتِق ثلثاه، فكم مقدارُ كسبه؟
قلنا: إذا عَتَق ثلثاه، تبعه من كسبه ثلثاه غيرَ محسوب ولا معتدٍّ به، وبقي ثلث الرقبة، فيجب أن يبقى من الكسب مثلُ [ثلث الرقبة وضعفُ ثلث] (1) الرقبة، وذلك أن يكون باقي الكسب مثلَ الرقبة، لتكون رقبة وثلث ضعفاً للثلثين.
وإذا [دقَّقتَ] (2) ، [قلتَ] (3) : وقع في مقابلة ثلث الرقبة من الكسب مثلُ الرقبة، فينتظم هذا في مقابلة كل ثلث، ويكون الكسب ثلاثة أمثال الرقبة.
7218- وقد تقع أسئلةٌ مستحيلة لا تكاد تخفى على النظر، منها: أن يقول السائل: مريض أعتق عبداً، فاكتسب العبدُ بعد العتق، وقبل موت السيد كسباً، فكان الذي عتَق منه ربعُه، ولا دَيْنَ.
__________
(1) في الأصل: ثلث الرقبة ضعفي ثلثي الرقبة.
(2) في الأصل: وقفت.
(3) زيادة من المحقق.(10/549)
فالمسألة مستحيلة؛ فإنه لو لم يكتسب شيئاً، لعَتَقَ ثلثه، وبالكسب يزيد العتق ولا ينقص.
وكذلك إن قال -والتصوير على نحو ما سبق-: عَتقَ جميع العبد، كان ذلك محالاً؛ فإنه لو عتق جميعه، لتبعه جميعُ الكسب، وذلك محالٌ، فالعتق إذا زيد على الثلث إذا وقع كسب على ما صورناه، لا يتصور (1) أن يستغرق الرقبة.
7219- مسألة: إذا قيل: مريض أعتق عبداً، فكسب مثلَ قيمته، وانتقص من قيمة الرقبة وعتَقَ منه الخمسان، كم الذي نقص منه؟ قلنا: نقص من قيمته الثلثان.
وحساب المسألة أن نقول: عتق منه خمساه، واستحق خمسي كسبه، ورق للورثة ثلاثة أخماسه، ولهم ثلاثة أخماس [كسبه] (2) وثلاثة أخماس الكسب باقية لهم بلا نقيصة. فنحصر النقص في الرقبة، وقد علمنا أنه لو جُمع خمس واحد إلى الكسب السالم للورثة، لكفى وكان المجموع ضعفَ الخمسين، وقد بقي من الرقبة ثلاثة أخماسها، فعرفنا أن قيمتَها قيمةُ خمسٍ واحد، ونحكم بهذه النسبة على جميع الأجزاء، فقد رجع كلُّ جزء إلى ثُلثه.
ومما يجب التنبه له أن العتق النافذ في الخمسين بإعتاق القيمة التامة لا يزيد فيه بسبب نقصان القيمة؛ فإن النقصان لا يؤثر فيما نفذ العتق فيه. وهذا قد مهدناه في المسائِل الدائرة في العتق.
7220- فإن قيل: أعتق عبده في مرضه، فاكتسب ضعفَ قيمته، وزادت القيمةُ حتى عتِق ثلثاه، فكم الزيادة؟ قلنا: زاد على القيمة مثلُها. وسبيل استخراج القيمة أن نقول: إذا عتق ثلثاه، تبعه من الكسب ثلثاه، فتبقَّى ثلث الرقبة وثلث الكسب، ويجب أن يكون الحاصل في يد الورثة قدرَ عبدٍ وثلث، والكسب مع ثلث الرقبة [قدر] (3) عبدٍ، فيجب أن نفرض في القيمة زيادة مثلها، ثم نُجري ذلك على طردٍ في
__________
(1) في الأصل: "ولا يتصور". ولا محل (للواو) فهي في جواب إذا.
(2) في الأصل: نسبه.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.(10/550)
الأجزاء، وقد ذكرنا أن زيادة القيمة تجري مجرى الكسب، وأوضحنا في المسائل أن الكسب إذا كان ثلاثة أمثال الرقبة، فيعتِق من العبد ثلثاه. فإذا كان الكسب مثلَ الرقبة، فيجب أن يزيد مثل القيمة، حتى تصير الزيادة في القيمة مع الكسب ثلاثة أمثال الرقبة.
7221- وإن قيل: مريض أعتق عبداً، فكسب مثلَ قيمته، ونقصت القيمةُ، وكان الذي عتَق منه ربعُ العبد، قلنا: السؤال محال؛ لأنه لو تلف، لكان ثُلثه حراً، وتبعه ثُلث كسبه، وللورثة ثلثا كسبه، وهو ضعف ما عتق منه، فإذا كان حياً، فكيف [يقع العتق على رُبعه] (1) والكسبُ مماثل للقيمة الباقية.
فصل
جمع الأستاذ مذاهب رآها [غريبة] (3) من أجوبة ابن سريج في المسائل التي تتعلق أطرافها بالحساب، فلم نؤثر تركَها؛ فإنها مستفادة في الفقه.
وقد ذكرنا من قبلُ أن الجارية إذا أعتقها سيدها في المرض، فحملت بعد العتق من زناً أو زوجٍ، وولدت [ولداً] (4) أن حكمَ ولدها حكمُ كسبها إن أتت به وولدته بعد العتق وقبل موت السيد.
فإن علقت قبل موت السيد وولدت بعد موته، ولا مال له غيرُها، فالظاهر من قول الشافعي أن ذلك بمثابة كسبها بعد موت المولى. هكذا نقل الأستاذ. فلا يكون ذلك [الولد من] (5) التركة؛ لأنه (6) حدث في ملك الورثة، والاعتبار في الولد بيوم الانفصال؛ فإنه لا قيمة له ما دام حملاً، بل هو تابعٌ لأُمه. هكذا [نقل] (7) الأستاذ.
__________
(1) في الأصل: فكيف يقتضى العتق على أربعة.
(2) من هنا -والحمد لله- بدأ الاعتماد على نسخة أخرى مساعدة هي التي رمزنا لهابـ (ح) .
(3) في الأصل: عريّة.
(4) زيادة من (ح) .
(5) في الأصل: لوارث التركة.
(6) في الأصل: ولأنه.
(7) في الأصل: ذكر.(10/551)
ثم قال: قال ابن سريج: يحتمل أن نجعل قيمة الولد عند خروجه من التركة؛ [لأن] (1) العلوق بالحمل حصل في حياة المولى، فالوجه إسناد الحمل يوم الانفصال إلى حياة المولى، حتى نقول: كأنه مات عنه، والولد منفصل (2) على [ما عهدناه] (3) (4 عليه وقت الانفصال.
واحتج ابن سريج لهذا الوجه بأن قال: لو أوصى بحمل جاريةٍ 4) ، فالوصية صحيحةٌ على ظاهر المذهب، وإن كان ينفصل بعد الموت، [ولو كان حكم ما ينفصل بعد الموت] (5) كحكم ما يحدث حقاً بعد الموت على [ملك] (6) الورثة، لكانت الوصية بالحمل وصيةً بما يحدث ملكاً للورثة.
والمسألة محتملةٌ، وما نسبه ابن سريج إلى [نصّ] (7) الشافعي [متجه بالغ] (8) وفيه تفصيل [لا بد] (9) من التنبه له.
فإن كانت الجارية حاملاً على قيمةٍ، فلم تزد قيمتها بالحمل على قيمتها عند [الحيال] (10) ، فما ذكره الشافعي ظاهر، وتفصيل الغرض (11) فيه بسؤال وجواب.
فإن قيل: إذا زادت قيمةُ التركة بالسوق، أو زادت أعيانُها زياداتٍ متصلةً، فالزيادات الحاصلة من هذه الجهات محسوبةٌ من التركة، وتتعلق بها الديون، ولقد كان الحمل في البطن مملوكاً، فإن زادت بالانفصال، وجب أن تكون تلك الزيادة من التركة.
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) (ح) : ينفصل.
(3) في الأصل: عقدناه. و (ح) : مهدناه. والمثبت من عندنا ليتسق مع حرف الجر بعده.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ح) .
(5) زيادة من (ح) .
(6) في النسختين: (مالك) . والتصويب من المحقق.
(7) زيادة من (ح) .
(8) بياض في الأصل، والمثبت من (ح) .
(9) في الأصل: لأن.
(10) في الأصل: الحساب. والحيال بالمثناة عدم الحمل (مصباح) .
(11) (ح) وينفصل الغرض فيه سؤال ...(10/552)
قلنا: حكم الزيادات المتصلة، والتي ترجع إلى غلاء الأسعار في الديون كما ذكره السائل، فأما ما يتعلق [بتقدير الثلث والثلثين] (1) ، فالاعتبار فيه بحالة الموت، حتى إذا فرض مزيدٌ في القيمة بعد الموت، لم [يعتبر] (2) بذلك المزيدِ تعديلُ الثلث والثلثين، وإنما أورد ابنُ سريج ما أورده فيما يتعلق بالثلث والثلثين والزيادة بالعتق والنقصان [منه] (3) ، فلو مات وقيمة الجارية يوم الموت زائدةٌ لأجل الحمل، فهذه الزيادة لا بد من اعتبارها، نظراً إلى حالة [الموت] (4) في مقدار التركة، وليس هذا موضع النص وتخريجِ ابن سريج.
فهذا منتهى فقه المسألة.
7222- ونحن (5) [نقول بعده] (6) : إذا ملك جاريةً حاملاً بولد رقيق، فأعتقها في المرض، ثم ولدت بعد موته [] (7) ، قال الأستاذ؛ فيما حكاه من أجوبة ابن سريج: هذا يخرّج على الجوابين: أما على الوجه الأول - فانه عتَق ثلُثها، وعَتَقَ ثلثُ الولد لا محالة، فإنّ عِتْق [الأم يستتبع] (8) عتق الولد، وللورثة ثلثاها وثلثا ولدها، ولا [دور] (9) ؛ فإن الولادة [وقعت] (10) بعد الموت، وليس المقدار الرقيق من الولد محسوباً من التركة.
وعلى تخريج ابن سُريج يصير كما لو ولدته قبل موته، [فيعتبر] (11) الرقيق من
__________
(1) عبارة الأصل: بيعه بالثلث والثلثين.
(2) في الأصل: لم يغير.
(3) في الأصل: فيه.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) (ح) : والحق.
(6) في الأصل: نعدل بعد.
(7) في الأصل بياض قدر كلمتين، وفي (ح) الكلام متصل ولا زيادة، ولا بياض.
(8) في الأصل: الأمة يسيغ.
(9) في الأصل: ورد.
(10) في الأصل: رجعت.
(11) في الأصل، فيعسر.(10/553)
الولد في مقدار التركة، وهذا يقتضي مزيدَ العتق، وتدور المسألة، فإذا كان قيمة الولد مثلُ قيمة الأم، والتفريع على التخريج، فيعتق نصفُ الأم، ويتبعها نصف الولد، ويبقى للورثة نصف الأم ونصف الولد، وهما ضعف العتق (1) ، وما تبع الحرية من الولد غيرُ محسوب.
وقد تقدم هذا.
7223- ومما حكاه من المذاهب الغريبة (2) أن قال: من أعتق في مرضه جاريةً، ثم وطئها، ومهرُ مثلها مثلُ نصف قيمتها، ولم يكن له مال غيرها، [قال] (3) : قياس الشافعي أنه (4) يعتق منها [سبعاها] (5) ، [فرقَّ] (6) خمسة أسباعها، ولها سبعا عُقرِها، وهو مثل سبعها؛ فإن عُقرَها نصفُ قيمتها. قال (7) : ثم يقال للورثة: إن [بعتم] (8) سُبع رقبتها، وأعطيتموها [ثمنه] (9) بما استحقت من العُقر، فيبقى معكم أربعة أسباعها، ضعفُ ما عتَقَ، وإن أعطيتموها سُبعي مهرها من سائر أموالكم (10) ، ملكتم خمسةَ أسباعها، ثم ذكر أن الأمة إن اختارت أن تأخذ سُبع رقبة نفسها بديتها وما لَها من العُقر، [كانت أحقَّ من الأجنبي. وظاهر ما ذكره أنه يجب على الورثة أن يسلموا السُّبعَ إليها، ولا يبيعوه من الأجنبي، ولا خلاف أنهم لو أمسكوا السبع وبذلوا حقها من العقر] (11) ، كان لهم ذلك، وإنما ذكر ما ذكره فيه إذا أرادوا بيع سُبعٍ من أجنبي.
__________
(1) ذلك لأن العتق كان على الأم وحدها.
(2) (ح) : القريبة.
(3) في الأصل: فإن.
(4) (ح) : لأنه.
(5) في الأصل: سبعها.
(6) زيادة من (ح) .
(7) (ح) : فإن.
(8) مكان بياضٍ بالأصل.
(9) ساقطة من الأصل.
(10) في (ح) : أقوالكم.
(11) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من (ح) .(10/554)
وهذا ليس على [وجهه] (1) لو أراد بما قال إيجاباً، فإنه لا حجرَ على الورثة في بيع ملكهم، ولا سبيل إلى تعيين المشتري عليهم، وقد سبق إيضاح هذا. وقدر الغرض الآن أنها تستحق مقداراً من العُقر ولا يكون ما تستحقه من الثلث، بل هو دَيْنٌ محقق محسوبٌ من رأس المال، ولا يحتسب ما يستحقه عليها.
7224- وذكر ابن سريج وجهين آخرين شاذّين سوى ذلك: أحدهما - أنه قال: يحتمل أن نجعل ما [غرِمه] (2) السيد من عُقرها من الثلث؛ لأنه وجب بسبب العتق، فينبغي أن يكون بمثابة العتق، حتى يحتسب من الثلث.
والحساب على هذا القول -إذا كان عُقرها مثلَ نصف قيمتها- أن نقول: عتَقَ منها شيء، وله بعُقرها نصفُ شيء محسوبٍ على التبرع، يبقى للورثة أمةٌ إلا شيئاً ونصفَ شيء، وذلك يعدل ضعفَ ما عتَق منها وضعفَ ما أخذت من مهرها، وذلك ثلاثةُ أشياء، ثم نجبر بعد ذلك ونقابل، فيصير [أمة] (3) تعدل أربعة أشياء ونصفَ شيء، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم فيهما، ونقول: صارت الأمة تسعةً (4) ، والشيء اثنين، وهو تسعاها، فيعتِق تسعاها ويرق سبعةُ أتساعها، ونأخذ تسعي عُقرها، وذلك مثلُ تسع رقبتها، فيبقى للورثة ثلثاها، وهو ضعف ما عتق منها، وضعفُ ما أخذت من المهر، وقد وقع العتق والعقر ثلثاً، وكان العُقر محسوباً عليها.
هذا وجهٌ ذكره ابن سريج.
وذكر مسلكاً آخر يؤدي في هذه المسألة إلى ما أدى إليه الوجه الأول في اعتبار
[الثلث والثلثين] (5) ، وذلك أنه قال: يحتمل أن يسقط مهرها ونُهدره، ولا نوجب منه شيئاً، ويُجعل كأنه وطىء أولاً ثم أعتق، لأنه لو لم يطأها، لعتق ثلثاها، فلا يجوز أن ينقص عتقها [عن] (6) الثلث بسبب شيء تستحقه على المولى. وعلى هذا
__________
(1) في الأصل: وجه.
(2) في الأصل: ما عسر فيه.
(3) في الأصل: إذ.
(4) (ح) : نسبة.
(5) في الأصل: التقييد الثلثين.
(6) في الأصل: من.(10/555)
الجواب [يعتق ثلثها] (1) ويرق للورثة (2) ثلثاها، ولا دور.
وهذان (3) الجوابان ضعيفان، لا اعتداد بهما، والمذهب الذي عليه التعويل ما قدمناه في ابتداء المسألة.
ومن عادة ابن سريج أن يذكر وجوهاً من الأجوبة يعدد بها طرقَ الاحتمال، كالذي يستفتح نظراً، [ولا يبغي بشيء منها تعيينَ مذهب فيظن الناظر] (4) أن ما [أبداه] (5) من الاحتمالات وجوهٌ، وليست وجوهاً.
7225- فإن كانت قيمتها مائة وعقرها خمسين (6) ، وترك السيد مائةَ درهم، وقد
أعتقها في المرض ثم وطئها، فالتفريع على [ما هو المذهب] (7) المعتد أن نقول: عتَقَ منها شيء بالوصية من يوم العتق، ولها نصف شيء بالعُقر تأخذه من المائة، فيبقى للورثة مائة درهم (8) إلا نصفَ شيء، يعدل ضعف ما عتق منها، وهو شيئان، فبعد الجبر والمقابلة يعدل مائةُ درهمٍ شيئين (9) ونصف شيء، فالشيء خُمسا المائة، فيعتِق خمساها، ولها خمسا مهرها، وذلك عشرون، ويعتق باقيها بالإحبال والاستيلاد من رأس المال، وقد عتق منها الخمسان، عتقاً محسوباً من التبرع، وأخذت [خمسي] (10) مهرها، وهو خمس المائة، ويبقى للورثة أربعة أخماس المائة، وهي ضعف ما عتَقَ منها بالإعتاق [المتبرع] (11) به المعدود من الثلث، وباقي العتق محمول على
__________
(1) زيادة من (ح) .
(2) عبارة الأصل: ويرق من المورثة، والمثبت عبارة (ح) .
(3) (ح) : هذان. (بدون واو) .
(4) في الأصل: ولا يبقى شيء منها يعتبر مذهب فنظر الناظر.
(5) في الأصل وفي (ح) : أداه.
(6) (ح) : خمسي.
(7) زيادة من (ح) .
(8) (ح) مائة: ويريد.
(9) (ح) : شيء.
(10) في الأصل: خمسا خمس مهرها.
(11) في الأصل: والتبرع، (ح) : التبرع (بدون واو) .(10/556)
الاستيلاد، وما يحصل بالاستيلاد محسوب من رأس المال.
ومن جعل عُقرها من الثلث، قال: تأخذ من المائة نصفَ شيء للعُقر كما ذكرناه، فتعدل المائة إلا نصفَ شيء ضعفَ ما عتَقَ منها بالوصية، وضعفَ ما استُحِق بالعُقر، وقد عتق منها شيء والعقر نصفُ شيء، وضعفهما ثلاثة أشياء، فبعد الجبر والمقابلة تعدل مائةٌ ثلاثة أشياء ونصفَ شيء، فإذا بسطناهما أنصافاً وقلبنا الاسم فيهما، صار الشيء (1) سُبعين، فنقول: يعتق (2) سبعاها يوم العتق قبل الاستيلاد، وتأخذ من المائة سُبعي مهرها، وذلك مثل سبع المائة، ويعتِق باقيها عند الموت بالاستيلاد، ويبقى للورثة ستةُ أسباع (3) المائة، وهي ضعف ما عتق منها بالإعتاق، وضعفُ ما استحقت من عُقرها.
ومن جعل الوطء هدراً، ولم يوجب مهراً، أعتق نصفها بالوصية يوم الإعتاق، ونصفها بالإحبال من رأس المال عند الموت، وللورثة المائةُ كلُّها، وهي ضعف ما عتق منها. والمذهب المسلك الأول (4) الذي ذكرناه.
مسائل في الوطء والإحبال من الشريكين،
أو من الواهب، أو من الموهوب له
7226- إذا وهب جارية لا مال له غيرُها من رجلٍ وأقبضه إياها، ثم وطئها الواهب في مرضه وأحبلها، وقيمة ولدها يوم السقوط خمسون درهماً: مثلُ نصف قيمة الأمة، وأسقطته في حياة الواهب.
فنقول: بطلت الهبة أصلاً؛ لأنه لا ينتظم للورثة ثلثان [ويتعلق ضعفاً للتبرع] (5) الذي تقرر، فإنه إذا نفذت الهبة في مقدارٍ منها، فيصير باقي الأمة مستهلكاً
__________
(1) (ح) : التي.
(2) سقطت من (ح) .
(3) (ح) : أتساع.
(4) ساقطة من (ح) .
(5) في الأصل: فتعلق ضعفا التبرع.(10/557)
بالاستيلاد، ولا يبقى في أيدي الورثة من الرقبة عند الموت، وما يثبتُ الاستيلاد [فيه يثبت فيه] (1) عتقُ الولد لا محالة، [فإذا] (2) لم ينتظم الثلث والثلثان، فالوجه [إبطال] (3) الهبة رأساً، والحكم بنفوذ الاستيلاد من الواهب في جميع الجارية.
فإن ترك الواهب مائتي درهم سوى الجارية، فنقول: نفذت الهبة في شيء منها، وعليه نصفُ شيء من عُقرها؛ إذا قدرنا عقرَها مثل نصف قيمتها، وعليه من قيمة الولد قدرُ ما جازت الهبة فيه، وهو مثل نصف شيء، ويعتق باقي الأمة بالإحبال من رأس المال، فيبقى للورثة مائتا درهم إلا شيئاً؛ فإنّا أخذنا من المائتين شيئاً من حساب العُقر [وقيمة الولد، فما يبقى من المائتين يعدل شيئين ضعف العتق، فبعد الجبر والمقابلة يكون] (4) مائتا درهم في معادلة ثلاثة أشياء، فيقع الشيء ثلث المائتين، وذلك مثل ثلثي الأمة، فتصح الهبة في ثلثيها، وتبطل الهبة في ثلثها، [وعليه] (5) ثلثا مهرها وثلثا قيمة الولد يوم السقوط، ومجموعهما ستة وستون وثلثان، وهي مأخوذة من المائتين ويعتِق ثلثها من رأس المال، ويبقى للورثة مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وهي ضعف ما جازت الهبة فيه. وما [أخذناه] (6) في حساب المهر، وقيمةُ الولد غيرُ محسوب، لما تقرر في هذه الأصول من وجوب الإتباع (7) والمقابلة والتعديل بين ما يبقى في يد الورثة من المائتين وبين ما تصح الهبة فيه، والاستيلاد ينفذ فيما بطلت الهبة فيه من رأس المال، ولا سريان للاستيلاد؛ فإنه يقع فيمن هو معسر؛ [إذ] (8) لا مالَ للميت إلا الثلث، وهو مستغرق بتبرعه.
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة. هكذا: وما يثبت الاستيلاد ويثبت رقبة عتق الولد لا محالة.
(2) في الأصل: فإنه.
(3) في الأصل: أن نبطل.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ح) . وننبه أنه كان في العبارة تصحيف أصلحناه، وذلك قوله: "فما يبقى من المائتين" فقد كانت (الجانبين) .
(5) في الأصل: وعليها.
(6) في الأصل: أجزناه. ولاحظ أن (الواو) هنا للاستئناف وليس العطف، وإلا لن يستقيم الحساب.
(7) المراد وجوب إتباع الكسب العتق.
(8) في الأصل: أو.(10/558)
فإن ترك ثلاثمائة والمسألة بحالها، تمت الهبة في جميعها، ولم تصر أمَّ ولد، وعليه عُقرها تاماً وقيمة الولد، ومجموعهما مائة درهم تأخذها من الثلاثمائة، ويبقى للورثة مائتان: ضعفُ ما صحت الهبة فيه، [فلست أفرّع] (1) على تخريج ابن سريج في احتسابه الغرامة مع الهبة من الثلث، ولا شك أنا لو فعلنا (2) ، لم ينفذ تمامُ الهبة؛ فإن الثلث يضيق عن قيمةِ الجارية وعُقرِها وقيمةِ ولدها؛ وتتبعّض الهبة. ولكن إذا نبهنا على مسلكٍ ضعيف في مسألةٍ أومسائل، وجب الاكتفاء به.
مسائل في إعتاق المريض أمةً [وتزوجه] (3) بها أو إعتاق المرأة عبدها [وتزوّجها] (4) به
7227- مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الوصايا الذي وضعه بخطه، لم يسمع منه: لو أعتق أمةً في مرضه، ثم نكحها وأصدقها صداقاً ملتزماً في الذمة، وكان لا يملك غيرَها.
قال رضي الله عنه: لم يجز عتقُه في جميعها، وعتَق بعضُها ورقَّ بعضُها، فإذا رق بعضها، بطل النكاح وبطل الصداق المسمى، فإن وطئها وبعضها حر، كان عليه بقدر ما عتق منها من مهر مثلها. وقال: فإن كانت قيمتها مائةً ومهرُ مثلها خمسون، عتق سبعاها ورق خمسةُ أسباعها، وعليه سبعا مهرها، وهو مثل سبع رقبتها. فإذا بيع ذلك منها في مهرها، بقي للورثة [أربعةُ] (5) أسباعها، وهي ضعف ما عتق منها. هذا كلام الشافعي. وقد ذكرنا هذا الجواب وفصلناه، ولكنا [تيمَّنا] (6) بنقل جواب الشافعي.
ثم قال الشافعي: هذا إذا [ردّ] (7) الورثةُ ما يزيد على الثلث، فإن أجاز الورثةُ
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل، والمثبت من (ح) .
(2) (ح) : جعلنا.
(3) في الأصل: وتزويجه.
(4) في الأصل: وتزويجها.
(5) في الأصل: خمسة.
(6) في الأصل: نبهنا.
(7) في النسختين: أراد.(10/559)
عتقها، صح النكاح وعتَقت يومَ أعتقها تبيُّناً، [وصادف النكاح] (1) حرة، وكان مهرها ديناً في ذمة المعتِق، وقد فرع الشافعى المسألة على القول الأصح في أن إجازة الورثة تنفيذُ وصية، وليس ابتداءَ عطية منهم، وإذا كان ذلك تنفيذاً، فالجواب على ما ذكره، فيقع العتق التام متقدماً على النكاح.
فإن جعلنا إجازة الورثة ابتداءً منهم، فلا يستند العتق التام إلى ما تقدم، ولا بدَّ من إنشائهم العتقَ في مقدار حقوقهم، [ويقع] (2) ذلك بعد الموت لا محالة والنكاح فاسد.
7228- فإن خلّف سيدها ضعفَ قيمتها، وقد (3) جرى الإعتاقُ على [المذهب] (4) الذي ذكرناه، فنقول [لها: إن أبرأته من مهرك، تم] (5) عتقك، وصح نكاحك وعليك [عدة] (6) [الوفاة] (7) ، ولا ميراث لك؛ لأنا لو ورثناك، لرجع العتق في المرض وصية، ولا وصية لوارث، فيلزم من التوريث ردُّ العتق، وإذا ارتد العتق، بطل التوريث، والمسألة من الدوائر الفقهية، وسنجمع منها مسائل في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه: إبطال الميراث أولى من إبطال الوصية؛ لأن في إبطال الوصية إبطالَ الميراث أيضاً، وإبطال الميراث لا يؤدي إلى إبطال الوصية، فالمائتان إذاً للورثة، والعفو نافذ، والنكاح صحيح. هذا موجَب النص، والميراث منقطع.
وما ذكرناه إذا أبرأت من المهر، فإن أبت أن تبرئه، فلا يتم العتق، ولا يصح النكاح؛ فإن المائتين لو قدر أخذُ المهر منها، لما وفت التركة بالقيمة.
__________
(1) في الأصل: وصارت بالنكاح.
(2) في الأصل: وبيع.
(3) في (ح) : فقد.
(4) في (ح) : الترتيب.
(5) هذه الجملة مصحفة في النسختين، فهي في الأصل: هكذا: فنقول له: إن من مهرك تم ... إلخ. وفي (ح) هكذا: فنقول لها: أين امراته من مهرك ثم عتقك ... إلخ. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق.
(6) في الأصل: هذه.
(7) مكان بياضٍ بالأصل. والمثبت من (ح) .(10/560)
ثم إن كان وطئها وهي غير مبرئة، فسبيل المسألة أن نقول: عتق منها شيء ولها بالمهر نصفُ شيء، وللورثة من المائتين والرقبة ثَلاثُمائة إلا شيئاً ونصفَ شيء يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة يكون الشيء سُبعين للثلاثمائة، وذلك ستةُ أسباع (1) الأمة، وهو الذي يعتق منها، ولها ستة أسباع مهرها، فبقي للورثة مائة وأحدٌ وسبعون وثلاثة أسباع، وهي ضعف ما عتق منها.
7229- مسألة: إذا أعتقت امرأةٌ عبداً في مرضها قيمته مائة، ثم تزوجته على مائة، ومهرُ مثلها خمسون، وماتت في مرضها، ولا مال لها غيرُه.
فإن أجاز الورثةُ العتق، صح نكاحها، وعليه المهر المسمى، سواء جرى الوطء، أو لم يجر، ولم يرثها؛ لأن توريثه يؤدي (2) إلى إبطال توريثه.
هذا إذا أجاز الورثةُ، والتفريع على أن إجازتهم تنفيذٌ وإمضاءٌ للوصية وليس ابتداءَ عطية.
وإن لم يُجز الورثة، رق (3) بعضُ العبد لا محالة، وإذا رق بعضُه، بطل النكاح، وسقط المهر المسمّى، فان لم يكن وطئها، فلا شيء عليه، وإن كان وطئها، فعليه من العُقر بقدر ما عتق منه، ولا شيء عليه في مقابلة ما رق؛ لأنها لا تستحق في رقبة رقيقها مالاً، فإن كان معه ما [يؤدي به ما يلزمه] (4) من عقرها، عتق خمساه، وعليه خمسا عُقرها خمسون درهماً، ويرق ثلاثة أخماسه.
وبيانه أنه إذا عَتَقَ خمساه ورق ثلاثة أخماسه، [وغرِم خُمسا العُقر] (5) ، وخمسا العقر مثلُ خمس الرقبة، فيحصل للورثة من الرقبة والعُقر أربعةُ أخماس، وهي ضعف ما جرى العتق فيه.
__________
(1) في (ح) : أتساع.
(2) في الأصل: لا يؤدي.
(3) عبارة (ح) : تبعض العبد.
(4) مكان بياضٍ بالأصل.
(5) الكلام غير مستقيم في النسختين؛ في الأصل: وعشر من خمس العقر، وخمسا العقر ... إلخ، وفي (ح) وغرم للعقر وخمسا العقر مثل.. والمثبت من (ح) بعد إكمال السقط.(10/561)
هذا إذا كان معه ما يؤدي منه ما يلزمه من المهر.
وإن لم يكن معه ما يؤدي به [ما يلزمه من] (1) المهر، كان ذلك ديناً عليه، ولا مال غيرُ العبد، ولا دَوْرَ.
والوجه الحكم بعتق ثُلثه، وإرقاق [ثلثيه] (2) . هذا حكم الحال، فإن ملك ما يؤدي منه ما عليه من المهر، عتق خمساه ولا [مزيد] (3) .
ثم إذا ترقَّى العتق إلى الخمسين، كان ذلك [تبيّناً] (4) ، ويحصل منه أن ما بين الثلث إلى قيمة الخمسين موقوفٌ.
فإن كان قد اكتسب بعد العتق وقبل موت السيد مثلَ قيمته، وهو مائة، عتق منه شيء، وله من كسبه شيء يؤدي منه [المهرَ] (5) : نصفَ شيء، يبقى للورثة من الرقبة والكسب مائتان إلا شيئاً ونصفَ شيء يعدل شيئين، فالشيء سبعا المائتين، وذلك أربعة أسباع العبد، فيعتِق أربعةُ أسباعه، وله أربعة أسباع كسبه، فيبقى للورثة ثلاثة أسباع العبد، وثلاثة أسباع الكسب، ثم العبد يؤدي من الكسب الذي حصل له أربعة أسباع العُقر وهي قدر سبعي الرقبة، فيحصل في يد الورثة ثلاثة أسباع الرقبة وخمسة أسباع الكسب، وجملته عبد وسبع، أو ثمانية [أسباع] (6) ، وهي ضعف ما حصل العتق فيه.
مسائل
من نوادر المحاباة في البيع والوصية
7230- مسألة: إذا أوصى الرجل بأن يباع كُرّ حنطة -وهو مالكه- قيمتُه ألفُ درهم من رجلٍ عينه، بكرٍّ قيمته خَمسمائة، وأوصى لآخر بثلثٍ من كُرِّه، فليس في
________
(1) زيادة من (ح) .
(2) في النسختين: ثلثه.
(3) في الأصل: كلمة غير مقروءة، وفي (ح) : مزية.
(4) في الأصل: شيئاً. والمثبت من (ح) .
(5) في الأصل: والمهر. وفي (ح) : بالمهر.
(6) في الأصل: أتساع.(10/562)
[التبرعين] (1) تقديمٌ، وهما على ازدحامٍ (2) ، فإذا لم يُجز الورثةُ الزائدَ على الثلث، وجب قسمةُ الثلث بين صاحب المحاباة وبين صاحب الوصية، ولا بد (3) من إجراء بيعٍ على صفة المحاباة، إذ لا سبيل إلى تسليم قدر المحاباة إليه من غير بيع، ولو فرض ذلك، لم يكن [تنفيذاً للوصية] (4) على مقتضاها.
وسبيل الحساب أن نقول: ثلث ماله ثَلاثُمائةٍ وثلاثةٌ وثلاثون وثلث. والمحاباة خَمسُمائة، فهو مثل الثلث، ومثل نصف الثلث، والثلث يقع سهمين، والمحاباة تقع ثلاثة أسهم، فالمجموع خمسة أسهم، فيجب لذلك قسمة الثلث [بينهما] (5) على خمسة.
ثم [وجه] (6) العمل أن [نقول] (7) : جاز البيع في شيء من الكُرّ، ورجع بالفرض شيءٌ قيمته نصفُ شيء، فيبقى من جهة التقدير بالقيمة كُرٌّ إلا نصفَ شيء، والمحاباة نصفُ شيء، وقد علمنا أن لصاحب الهبة بالوصية [مثل] (8) ثلثي وصية صاحب المحاباة، فإذا كانت المحاباة نصفَ شيء، فنزيد عليه [ثلثيه] (9) وثلثا النصف ثلثُ شيء، فمجموعهما خمسةُ أسداس شيء، فنُسقط ذلك من الكر الأرفع، فيبقى كرٌّ إلا خمسة أسداس شيء، وذلك يعدل ضعفَ المحاباة والهبة، وهو شيء وثلثا شيء، هذا ضعف خمسة أسداس شيء، فنجبر ونقابل، فيكون كُرٌّ في معادلة شيئين ونصف شيء، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون [الكر] (1) خمسةً، والشيء اثنين، فنعلم أن البيع صح في خُمسي الكر الأرفع، وبطل في ثلاثة أخماسه، ورجع
__________
(1) في الأصل: المتبرعين.
(2) (ح) : شيئان على ازدحام.
(3) (ح) : لا بد. (بدون واو) .
(4) في الأصل: تنفيذ الوصية.
(5) في الأصل: منهما.
(6) في الأصل: وجب.
(7) ساقطة من الأصل.
(8) في الأصل: قبل.
(9) في النسختين: ثلثه.
(10) ساقطة من الأصل.(10/563)
[بالثمن] (1) خمسا كر قيمتُه خمس كر، فالمحاباة إذاً خُمسُ كر، ولصاحب [الوصية] (2) مثلُ ثلثي المحاباة، وهي ثلثا خمس كر. فنسقط ذلك من الأربعة الأخماس الباقية، فبقي مع ورثة البائع ثلاثة أخماس كر وثلث خمس كر، وذلك ضعف ما جاز فيه المحاباة [والوصية] (3) .
فهذه المسألة التي أجريناها على السداد، وقعت في كتاب الأستاذ [مختلَّةً] (4) ؛ فإنه قال في تصويرها: إذا باع مريض كُرّاً قيمتُه ألفُ درهم بكُرٍّ قيمتُه خَمسُمائة درهم، ووهب لاخر من كره بمقدار ثلثه، ثم استمر على المنهاج الذي ذكرناه. وهذا [مختلٌ] (5) ؛ فإن المحاباة إن (6) تقدمت على الهبة، قُدِّمت، فإن لم يف الثلث بها، استوعبنا الثلث منها. هذا موجب التقديم.
فإن قدم الهبةَ، [فهي] (7) مقدمة على المحاباة إذا تمت بالقبض، على ما سيأتي ذلك في فقه الوصايا، إن شاء الله عز وجل، وفرض إنشائهما يتناقض، فالوجه في تصويرهما ردهما (8) إلى الوصية، وما ذكره الأستاذ على التسامح في التصوير [والثقة بفهم] (9) من يتفطن.
7231- مسألة: إذا باع كُرَّي طعامٍ قيمةُ كل واحد منهما ألفُ درهم من رجلين بكُرين قيمةُ أحدهما خَمسُمائة، وقيمة الآخر ستمائة.
فحق تصوير هذه المسألة أن نفرض إنشاء البيعين من وكيلين دفعةً واحدة، حتى لا تتقدم إحدى الصفقتين على الأخرى، فنعلم أولاً النسبة بين المحاباتين، فمحاباة
__________
(1) في النسختين بالهبة.
(2) في الأصل: الهبة، و (ح) : الكر. والمثبت اختيار منا.
(3) في النسختين: الهبة.
(4) في الأصل: مختلفة.
(5) في الأصل: محتمل.
(6) (ح) : وإن.
(7) في الأصل: في.
(8) (ح) : وردهما.
(9) هذا تقدير منا مكان بياضٍ قدر كلمة بالأصل مع الكلمة الثانية. وفي (ح) : كلمة غير مقروءة مع كلمة (بينهم) .(10/564)
أحدهما خَمسُمائة، ومحاباة الآخر أربعُمائة، فيجب قسمة الثلث بينهما على تسعة: لصاحب [الأربعمائة] (1) أربعةُ أتساع الثلث، ولصاحب الخَمسمائة خمسةُ أتساع الثلث.
وسبيل العمل (2) أن نقول: جاز البيع من كل واحدٍ من الكُرين في شيء، ورجع من أحدهما ما يساوي نصفَ الشيء، ومن الآخر ما يساوي ثلاثة أخماس شيء، وجملتهما شيءٌ ونصفُ خُمس شيء، فيبقى في يده كُرّان إلا أربعةَ أخماس شيء ونصف خمس شيء. وذلك أنا أجرينا البيع في شيئين، ثم رجع في عوض الصفقتين شيءٌ ونصفُ خمس شيء. فبقي الاستثناء بالشيئين في أربعة أخماس شيء ونصف خمس شيء، وذلك ضعف ما جرت فيه الوصيتان.
وقد علمنا أن وصية أحدهما نصف شيء، ووصية الآخر خمسا شيء وجملتهما تسعة (3) أعشار شيء، وضعفهما شيء وأربعة أخماس شيء. وإذا جبرنا وقابلنا، صار كران يعدلان شيئين وسبعة أعشار شيء، فنبسطهما أعشاراً، ونقلب الاسم فيهما، فيكون الكر سبعةً وعشرين، والشيء عشرين، فيصح البيع من كل واحد من الكرين في عشرين جزءاً من سبعةٍ وعشرين، المثل بالمثل [من] (4) الكر الأدْون كيلاً، فتخرج المسألة معدّلة.
والامتحان: أن البيع إذا جاز لصاحب الستمائة في عِشرين، كانت محاباته خُمسي عِشرين، وذلك ثمانية. ومحاباةُ صاحبِ الخَمسمائة عشرة، فالمحاباتان ثمانية عشر، وقد قسمنا الثلث بينهما على تسعة، فيجب أن يكون لورثة البائع ستة وثلاثون، ومعهم من الكرين ما بطل البيع فيه، وهو أربعة عشرَ؛ إذ فضل من كل كرٍّ سبعة [أجزاء] (5) ورجع بالعوض من أحدهما ما يساوي اثني عشر، ومن الآخر ما يساوي عشرة وجميع ذلك ستة وثلاثون، وهي ضعف المحاباتين، ومبلغ المحاباتين ثمانيةَ
__________
(1) في النسختين: الأربعة.
(2) العمل: يقصد به الحساب.
(3) (ح) : سبعة أعشار.
(4) في الأصل: بين.
(5) زيادة من المحقق.(10/565)
عشرَ، فليقسّم بين المشتريين على نسبة الأتساع: خمسةُ أتساع لصاحب الخَمسمائة، وأربعةُ أتساع لصاحب الأربعمائة.
7232- مسألة: إذا سأل سائل عن مريضٍ أعتق عبداً لا مال له غيرُه، واكتسب العبدُ مثلَ قيمته، [فكان] (1) ما عتق منه مثلُ خمسة أجذار قيمته. كم كانت قيمته؟ وكم كان كسبه؟ وكم عتق منه؟
فحسابه أن نجعل قيمتَه مالاً، ليكون ذا جذرٍ، ويكون كسبه أيضاً مالاً مماثلاً له، وقد علمنا أنه عتَقَ منه خمسة أجذاره: [يتبعه] (2) من كسبه [خمسة أجذاره] (3) ؛ لأن الكسب مثلُ الرقبة، فيبقى لورثة السيد من الرقبة والكسب مالان إلا عشرةَ أجذار، وذلك يعدل ضعفَ ما عتق منه، وهو عشرةُ أجذار، فنجبر ونقابل، فيكون [مالان يعدل عشرين] (4) جذراً، والمال الواحد يعدل عشرة أجذار. فإن قيل: مال يعدل عشرة أجذار، فمعناه يعدل عشرة أجذاره، فالجذر عشرة أجزاء من [اللفظ] (5) ، والمال مائة، وهو قيمة العبد، والكسبُ مثله، فيعتق من العبد، نصفه، وهو مقدار خمسة أجذاره.
7233- مسألة: فإن سأل سائل عن مريض وهب لأخيه في مرضه مالاً، فقبضه الموهوب له، ثم مات الموهوب له قبل الواهب، وخلّف بنتاً وأخاه الواهب، ولم يكن لهما مال غير ذلك الموهوب، فحصل في يدي بنت الموهوب له مثلُ جذري المال الذي صحت الهبة فيه. فكم مقدار المال؟
حساب المسألة أن نقول: ما تناوله (6) لفظُ الهبة مال، وقد علمنا أنه حصل في يدي بنت الموهوب له جذران، فقد رجع مثلُ ذلك إلى الواهب بالميراث، ونعلم أن حصة البنت نصف ما صحت الهبةُ فيه، فالهبة إذا صحت في أربعة أجذار المال وبطلت
__________
(1) في الأصل: لمكان.
(2) في الأصل: تسعة.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في النسختين: فيكون مالاً وعثرين جذراً. والمثبت تقدير من المحقق.
(5) في الأصل: الملفظ.
(6) هكذا قرأنا بصعوبة.(10/566)
في مالٍ إلا أربعة أجذار، ويرجع إلى الواهب بالميراث جذران، فيجتمع لورثته مالٌ إلا جذرين، وذلك يعدل ضعف ما صحت الهبة فيه، وهو ثمانية أجذار، فإذا جبرنا وقابلنا، كان مالٌ واحد يعدل عشرةَ أجذار، فجذر (1) المال عشرة، والمال كله مائة، وقد صحت الهبة في أربعة أجذاره، وهي [أربعون] (2) ، ورجع إليه نصفها بالميراث، وهو عشرون، فاجتمع مع ورثته ثمانون، وهي ضعف هبته، وصار في يدي بنت (3) الموهوب له عشرون، وهي مثلُ جذري المال. وقس على هذا ما تريد (4) من أمثاله.
فصل
في المسائل الخارجة بالمعادلات المقترنة
7234- قد ذكرنا ما وجدنا في كتاب الأستاذ، [وفي شروح التلخيص] (5) ومسائل ابن الحداد (6) الجبرية، ولم نألُ جهداً في تعليلها فقهاً وحساباً، وقد قدمنا ما وجدناه حائداً من مسائل الأستاذ عن قانون الفقه، وتداركنا بتوفيق الله تعالى خلَلَ النسخ (7) ، فجرت المسائل على حقها (8) ، إن شاء الله عز وجل. وكل ما قدمناه لم يعْدُ المفردات ومعظمها خرج بأطراف الجبر، وجرى في كل مسألةٍ ما مست الحاجةُ إليه.
__________
(1) (ح) : فجرى.
(2) في الأصل: أربعة.
(3) (ح) : ثلث.
(4) (ح) : ما يزيد. ولعل الصواب: ما يرد.
(5) زيادة من (ح) .
(6) (ح) : ومسائل ابن الحداد من المسائل الجبرية.
(7) يبدو أن خلل النسخ وأوهام النساخ داءٌ قديم، فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى هذا الكلام من الإمام، وكم عانى لتدارك الخلل في نسخٍ بينه وبين أصولها نحو مائة عام. فكم نعاني نحن وبيننا وبين هذه النصوص أكثر من ألف عام! مع فرق آخر -وهو الأهم- أعني عجزنا وقصورنا أمام علم أئمتنا الذين كانت صدورهم بحق خزائن العلم ومستودع أسراره، وكما قيل: كانت عقولهم من ذهب. نسأل الله العون والتوفيق.
(8) (ح) : في.(10/567)
والمعادلاتُ المقترنة (1) لا تقع في المعاملات المعتادة، وليست مما تمس إليها الحاجة في المسائل الشرعية، إلا أن يتصنع متصنع فيضع مسألةً شاذة، وإنما تعم الحاجة إلى المقترنة (2) في الهندسيّات (3) [أما في] (4) معانيها، [ونحن نرسم] (5) مسائل تخرج بالمعادلات المقترنة أوردها الأستاذ [مفرقةً] (6) في كتابه، ونحن [نأتيها] (7) مجموعة.
7235- مسألة دائرة في الجنايات تخرج بالمعادلات المقترنة.
لو أن عبداً قيمتُه ألفا درهم قتل رجلاً خطأً، فأوصى له المجني عليه بالأرش، وأوصى لرجلٍ بثلث ماله، ووقع الفرض في [الإيصاء] (8) بالأرش؛ فإن تنجيز العفو مقدم (9) على الوصية، وإذا وقع العفو موصىً به (10) ، زاحم الوصية.
تمامُ التصوير [أن] (11) سيد العبد اختار الفداء بالدية، والديةُ عشرةُ آلاف، ولا مال للمجني عليه الموصي بالعفو والثلث غيرُ العبد.
فحساب المسألة أن نجعل قيمة العبد درهمين: بفرض كل [ألفٍ] (12) درهماً، حتى لا نحتاج إلى ذكر الآلاف. فنقول: يجوز العفو في شيء من العبد، ويفدي المولَى باقيه، وهو درهمان إلا شيئاً بخمسة أمثاله، وهو عشرةُ دراهم إلا خمسةَ
__________
(1) (ح) : المقترفة.
(2) (ح) : المقترنات.
(3) (ح) : الهبة سيات.
(4) مكان بياضٍ بالأصل. وأثبتناها من (ح) .
(5) في الأصل: "ونجريه قسم مسائل" وهو تحريف غريب.
(6) في الأصل: معرّفة.
(7) في الأصل: نأتها. ولعل الصواب: ناتي بها.
(8) في الأصل: الأنصباء.
(9) (ح) : متقدم.
(10) ساقطة من (ح) .
(11) في الأصل: لأن.
(12) في الأصل: العبد.(10/568)
أشياء؛ فإن الدية على هذا الوجه تناسب القيمة، فقد حصل للمجني عليه عشرة دراهم إلا خمسةَ أشياء هذا (1) ماله، ونضم إليه ما جوزنا العفو فيه، حتى يتصرف في جميع ماله، فيصير ماله عشرة دراهم إلا أربعة أشياء، فننقص استثناء شيء [بردّنا الشيء الذي نفذ العفو فيه] (2) ، فيصير في يد ورثة المجني [عليه] (3) عشرة [دراهم إلا أربعة أشياء] (4) ، فخذ ثلث ذلك، وهي ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً [وثلث شيء] (5) .
هذا ثلث المال، والوصيتان محصورتان في الثلث؛ فإن المسألة مفروضةٌ في رد ورثة المجني عليه ما يزيد على الثلث. فإذا بان الثلث، وهو ثلاثة دراهم، وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، فسيد العبد يضرب في هذا الثلث بقيمة العبد، وهي درهمان، ويضرب فيه صاحب الثلث بثلث المال، وهو ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئاً وثلثَ شيء؛ فإن اقتسام الوصايا بالثلث عند الازدحام يقع على نسبة إجازة الوصيتين بكمالهما، فإذا تضاربا على هذا النسق، أصاب السيد شيء؛ فإنا قلنا: العفو شيء من درهمين، [فألق] (6) هذا الشيء من ثلث ماله، يبقى ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئين وثلث [شيء] (7) . هذا لصاحب الثلث؛ فإذاً للسيد شيء من الثلث، وللموصى له بالثلث ثلاثة دراهم وثلت درهم إلا شيئين وثلثَ شيء.
فنقول بعد هذا: قدرُ ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئين وثلثَ شيء من ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، كقدر شيء من درهمين.
وبيانه أن الوصية للسيد بدرهمين، والوصيةُ لصاحب الثلث بالثلث كَمَلاً، والثلث
__________
(1) (ح) : هما ماله.
(2) عبارة الأصل: يرد بالشيء الذي يعد العفو فيه.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) اتفقت النسختان على الخطأ، ففي الأصل: عشرة دراهم إلا عشرة. وفي (ح) : عشرة دراهم إلا عشرة دراهم. والصواب الذي يتفق مع الحساب ما ذكرناه. (عشرة دراهم إلا أربعة أشياء) .
(5) ساقطة من النسختين.
(6) مكان بياضٍ بالأصل.
(7) ساقط من الأصل.(10/569)
ثلاثة فى راهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، فإذا ردّ الورثةُ الزائد على الثلث من الوصيتين، نقصت كل وصيةٍ على نسبةٍ واحدةٍ، وذلك أنه لو اجتمعت وصايا إحداها (1) ألفان والأخرى ثلاثة آلاف، والأخرى ألفٌ، ورد الورثةُ الزائد على الثلث واقتضى الردّ رجوع [وصيته] (2) إلى نصفها، فكل وصيةٍ ترجع إلى نصفها، وتبقى الوصايا بعد نقصانها على التفاوت التي كانت عليه لو نفذت، فيخرج منه أن الوصايا إذا انتقصت عن أقدارها الكاملة برد الورثة الزائدَ على الثلث، فنسبة نقصان كل وصيةٍ منها في الكمال كنسبة سائر الوصايا، لا تختلف.
هذا معنى قولنا: نسبة الشيء من الدرهمين كنسبة ما نفذ وجاز للموصى له بالثلث من الثلث الكامل.
فإن كان الشيء من الدرهمين نصفها، فالذي سلّم للموصى له من الثلث نصف الثلث الكامل.
وقد بان أن النافذ من الدرهمين شيء، وبان أن [النافذ] (3) للموصى له بالثلث ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئين وثلثَ شيء، والثلث ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئاً وثلثَ شيء. وقد بان أن قدر الشيء من الدرهمين كقدر ثلاثة دراهم وثلثِ درهم إلا شيئين وثلثَ شيء من ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلثَ شيء.
7236- فنقول بعد ذلك: إذا ضربت ما أصاب صاحب الثلث ونَفَذ له في الوصية الثانية للسيد، وهو درهمان، كان ذلك كضربك ما أصاب المولى وصح له، وهو شيء في وصية صاحب الثلث وهي [تامة] (4) كاملة، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلثَ شيء، وحق الناظر أن يفهم هذا أولاً، ثم نبين وجهه، فنعبر [مرة] (5) أخرى ونقول: ما يستقر في إحدى الوصيتين بعد الرد والنقصان إذا ضرب في كمال
__________
(1) (ح) : أجراها.
(2) في الأصل: الوصية.
(3) زيادة من (ح) .
(4) في الأصل: باقية.
(5) في الأصل: فنعبر عنه في أخرى.(10/570)
الوصية الأخرى [من غير نقصان] (1) فإنه يردّ ما [يردّه] (2) ضربُ ما يستقر من الوصية الأخرى بعد الرد في تمام الوصية الأولى قبل الرد.
هذا معنى الكلام، وهو مقطوع به عند من أَلِف الحسابَ.
وبيانه إذا فرضنا عددين مختلفين، وفرضنا انتقاصهما على نسبةٍ واحدة، فضرب ما تبقى من أحد المبلغين في كل المبلغ الثاني كضرب ما يبقى من المبلغ الثاني في كل المبلغ الأول.
وبيان ذلك بالمثال: أنا إذا فرضنا عشرة وعشرين، ونقصنا من كل واحد من المبلغين نصفه، فضرب نصف العشرين في العشرة كضرب نصف العشرة في العشرين.
وإذا فرضت عشرة وسبعة رددت كل واحدٍ منهما إلى النصف، فضرب خمسة في سبعة خمسة وثلاثون وضرب نصف السبعة في عشرة خمسة وثلاثون.
فإذا ثبت بما قدمنا أن الشيء من الدرهمين كثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئين (3) وثلثَ شيء من ثلاثة دراهم وثلث إلا شيئاً وثلث شيء، فضربُ شيء، وهو المستقر بعد الردّ في الوصية الكاملة من الجانب الآخر، وهي ثلاثة دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلثَ شيء كضرب ثلاثة دراهم وثلثِ درهم إلا شيئين وثلث شيء، وهو المستقر بعد الرد في تمام الوصية الأخرى، وهي درهمان. هذا نعرفه قطعاً، ثم نبتدىء الضربَ على عبارات الجبريين، ثم لا يتبيّن استواء المردودين إلا بطريق الجبر، وبهذا يخرج المجهول الذي نبغي إخراجه.
فنقول: نضرب ثلاثةَ دراهم وثلثَ درهم إلا شيئين وثلثَ شيء في درهمين، فيردُّ الضربُ ستةَ دراهم وثلثي درهم إلا أربعة أشياء وثلثي شيء، وهذا بيّن لمن تأمل وأحكم ما ذكرناه في أصول الجبر في المسائل المقدمة.
ثم نعود فنضرب الشيء الذي جاز للمولى في الوصية [التامة] (4) من الجانب
__________
(1) في الأصل: حتى نفضل.
(2) مكان بياضٍ بالأصل.
(3) (ح) : شيء.
(4) في الأصل: الثانية.(10/571)
الآخر، وهي ثلاثةُ دراهم وثلث درهم إلا شيئاً وثلث شيء، فيردّ [ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا مالاً وثلثَ مال] (1) . والمبلغان متعادلان.
هذا الذي ذكره آخراً يعدل ستة دراهم [وثلثي] (2) درهم إلا أربعة أشياء وثلثي شيء، فنجبر الاستثناء من [الجانبين] (3) ونقابل، فيبقى مال وثلثُ مالٍ وستة دراهم وثلثا درهم في معادلة ثمانية أشياء.
ولسنا نُطوّل بإيضاح كل ضربٍ؛ فإنه بيِّنٌ. ثم إن الجبريين إذا انتهَوْا إلى مثل هذا المنتهى، ردوا حسابهم إلى مالٍ واحد، وإذا [فعلنا] (4) هذا، فقد نقصنا [ثلث مالٍ، وإذا نقصنا من مالٍ وثلثٍ ثلثَ مالٍ، فقد نقصنا] (5) ربعه، فننقص من كل ما معنا على هذه النسبة، فيكون مالٌ واحد وخمسة دراهم يعدل ستة أشياء. فقد انتهينا الآن إلى مسألةٍ من المقترنات (6) ، وهي مال (7) وعدد يعدل جذوراً.
وقد ذكرت في تمهيد قواعد الجبر [السبيل] (8) في ذلك. والوجه أن نعمد إلى الأشياء وهي الجذور فننصفها، ونصف الستة ثلاثة، فنضربها في نفسها، فيكون تسعة، فنسقط منها [العدد] (9) الذي مع المال، وهو خمسة، فيبقى أربعة من التسعة،
__________
(1) في الأصل: ثلاثة أشياء وثلث من إلا مالاً وثلث مال. والمثبت من (ح) . ونذكّر هنا بما فصله إمامنا من قواعد الجبر ومصطلحاته في أول كتاب الوصايا، حيث قال: "إنهم يعنون بالشيء الجذر، وأن الجذر إذا ضرب في نفسه ردَّ مالاً". فهنا لما ضربنا الشيء في (إلا شيئاً وثلث شيء) كان المردود مالاً وثلث شيء.
(2) في الأصل: وثلاثون.
(3) في الأصل: كلمة غير مقروءة والمثبت من (ح) . ثم المراد بالجانبين مردود الضرب في الحالتين، فتكون المعادلة هكذا: (1/3 6 دراهم وثلث إلا 1/3 4 شيء = 1/3 3 شيء إلا 1/3 1 مال) . وإجراء جبرها ومقابلتها سهلٌ ميسور.
(4) في الأصل: جعل. وفي (ح) : جعلنا. والمثبث اختيار منا.
(5) زيادة من (ح) .
(6) (ح) : المعنويات.
(7) حرفت في (ح) إلى: ما لو عده.
(8) حرفت في الأصل إلى: للسيد.
(9) في الأصل: القدر.(10/572)
فنأخذ جذرها وهو اثنان، فنلقيها من نصف الأجذار، وهو الثلاثة الباقية منها. فيبقى واحد، فنقول: بان لنا أن الشيء الذي أضفناه (1) إلى الدرهمين إن قدرنا العبد درهمين واحدٌ من اثنين، فقد صح [العفو] (2) في نصف العبد، وقيمته ألفٌ، وفدى سيدُه نصفَه بنصف الدية، وهو خمسة آلاف، فنضمُّها إلى النصف الباقي من العبد وهو ألفٌ، فالمجموع ستةُ آلاف وثلثها ألفان، وصاحب [العبد] (3) يضرب في الثلث بألفين، وصاحب الثلث يضرب بألفين، فاقتضى قسمةَ الثلث بينهما نصفين، فيأخذ كل واحد منهما ألفاً، ويبقى للورثة أربعةُ آلاف وهي ضعف ما جاز بالوصيتين.
7237- مسألة: إذا أعتق الرجل في مرضه عبداً قيمته ألفُ درهم لا مال له غيرُه، فقتله عبدٌ لرجل آخر قيمتُه ألف درهم، وللعبد المقتول بنتٌ حرة، والتفريع على أن المعتَق بعضُه يورث.
فإن اختار سيد العبد القاتل فداء العبد بالدية، فنحكم على هذا الجواب أن العبد المقتول [مات] (4) حراً والدية نصفها لبنته، ونصفها لعصبة المعتِق؛ فإن ما يستحقه [عصبة] (5) المعتِق يزيد على ضعف قيمة [العبد] (6) ، ويقع الفرض فيه إذا كان لا يخلّف المعتِق إلا العصبةَ، حتى ينتظم الكلام.
فلو كانت قيمة العبد المقتول أكثر مما ذكرناه، فنقول: ما دامت قيمته مثل ربع الدية، فيعتق كله إذا كنا [نرى الفداء بالدية] (7) ؛ فإن نصف الدية يصرف إلى بنته والنصف الآخر يصرف إلى ورثة المعتِق على ما وصفنا الورثة، فيكون نصفُ الدية ضعفَ القيمة، إذا كانت القيمة ربع الدية.
__________
(1) أضفناه: المعنى نسبناه إلى الاثنين، وليس جمعناه.
(2) في الأصل: العتق.
(3) (ح) : الهبة.
(4) في الأصل: كلمة غير مقروءة.
(5) في الأصل: لعصبة.
(6) في الأصل: المعتق. ثم معنى العبارة أن حصول ورثة المعتِق على نصف الدية، وهو أكثر من ضعف ما صح العتق فيه (وهو العبد كاملاً) يجعل العتق نافداً.
(7) في الأصل: نرد الفداء فالدية.(10/573)
ولا يخفى نُفُوذ العتق إذا كانت القيمة أقلَّ من الربع.
فإن كانت قيمة العبد [أكثر] (1) من الربع، مثل أن كانت نصفَ الدية، فلا ينفذ العتق في جميعه، بل نقول: عتق منه شيء واستحق [به من] (2) الدية شيئين؛ فإن الدية ضعفُ القيمة، ثم السيد المعتِق يرث منهما شيئاً واحداً (3) ، ويأخذ قيمة ما رق منه، وهو خمسة آلاف [إلا شيئاً] (4) ، وإذا ضممنا ذلك إلى ذلك الشيء الذي رجع إليه بالإرث من العتق، كملت خمسة آلاف، وزال الاستثناء، فإذاً خمسة آلاف تعدل شيئين، والشيء ألفان وخَمسُمائة.
فنقول عتق من العبد نصفُه، ويغرَم سيد القاتل لورثة المعتِق نصفَ قيمته وذلك ألفان وخَمسُمائة ويغرَم أيضاً نصفَ الدية على مقابلة ما عتق، وهو خمسة آلاف، للسيد منها ألفان وخَمسُمائة فيجتمع لورثته خمسةُ آلاف، فهي ضعف ما عتق من العبد. وهذا الطرف من المسألة يخرج بالمعادلة المفردة.
7238- وإن اختار سيد الجاني التسليم والدفع، ولم [يختر] (5) الفداء، وخلف العبدُ المقتول ابناً، فمعلوم أن قيمة القاتل لا تحتمل ديةَ ما عتق وقيمةَ ما رقَّ (6) [فحساب المسألة أن يضرب السيد منها بقيمة ما رقَّ] (7) ويضرب ابن العبد منها [بدية] (8) ما عتق، فيقتسمان قيمة العبد على ذلك، ولو كان المقدار الذي يعتِق معلوماً، لما احتجنا إلى الحساب المستخرج بطريق الجبر، وإنما [أُبهمت] (9)
__________
(1) في الأصل: أقل.
(2) عبارة الأصل: واستحق في الدية شيئين.
(3) شيئاً واحداً: لأن بنت المعتق ترث النصف فرضاً.
(4) في الأصل: إلا شيئين.
(5) في الأصل: ولم يجز.
(6) لا تحتمل دية ما عتق وقيمة ما رق: وذلك لأن القيمة أقل من الدية، فأي جزء عتق مهما كان ستكون ديته أكثر من قيمته. وهذا معلوم بداهة.
(7) زيادة من (ح) .
(8) في الأصل: يوم ما عتق.
(9) في الأصل: أتممتُ.(10/574)
المسألة؛ من جهة أنا لا ندري قبل العمل مقدارَ العتق ومقدار الرق.
فإذا كانت قيمةُ العبد المقتول ألفاً، وقيمة العبد القاتل ألفاً. وافتتحنا الحساب،
وجعلنا كل عبد درهماً، وقلنا (1) : العبد القاتل درهمٌ، فيضرب ابن العبد المقتول في قيمته، وهو درهم، بدية [الشيء] (2) ؛ فإن العتق شيء و [ديته] (3) عشرةُ أشياء، ويضرِب ورثةُ السيد بقيمة ما رق، وهو درهم إلا شيئاً، ونعلم أن نصيبهم من قيمة القاتل ضعفُ العتق وهو شيئان، ونصيب ورثة المقتول الباقي، وهو درهم إلا شيئين (4) ؛ فقد ضرب ابن العبد بعشرة أشياء، فأصابه درهم إلا شيئين (5) ، وضرب ورثة السيد بدرهم إلا شيئاً، فأصابهم شيئان.
فنقول: قدرُ (6) درهم إلا شيئاً من شيئين كقدر عشرة أشياء من درهم إلا شيئين.
وهذا على القياس الذي قدمناه في المسألة الأولى؛ فإن انتقاص المالين يقع على وتيرة واحدةٍ ونسبةٍ واحدة، فنضرب ما أصاب ابن العبد واستقرّ له، وهو درهم إلا شيئين في أصل ما يضرِب به ورثةُ السيد، وهو درهم إلا شيئاً، فيخرج من الضرب درهمٌ ومالان إلا ثلاثة أشياء، وسبب هذا أنك إذا ضربت إلا شيئاً في [إلا شيء] (7) ردّ مالاً زائداً، كما قدمناه في قاعدة الجبر، وقد ضربنا إلا شيئاً في إلا شيئين، زدنا (8) في حكم الضرب شيئاً، فإذاً الخارج من الضرب درهمٌ ومالان إلا ثلاثة أشياء.
ثم نعود فنضرب ما استقر لورثة السيد، وهو شيئان في أصل ما يضرب به [ابن] (9)
__________
(1) (ح) : وثلثا.
(2) في الأصل: المقتول.
(3) بياضٍ بالأصل، وفي (ح) : "فدية".
(4) (ح) : إلا شيء.
(5) (ح) : إلا شيء.
(6) قدر: المراد هنا نسبة درهم إلا شيئاً إلى شيئين. وأنها كنسبة: عشرة أشياء إلى درهم إلا شيئين.
(7) في الأصل: شيء (بدون استثناء) .
(8) عبارة (ح) : وقد ضربنا الاثنين في إلا شيئين وما في حكم الضرب بين ...
(9) ساقطة من الأصل.(10/575)
العبد، وهو عشرة أشياء، فيكون المردود عشرين مالاً، وهي [تعدل] (1) درهماً [ومالين] (2) إلا ثلاثة أشياء، فإنا قررنا استواء [المبلغين] (3) الخارجين من الضربين، فنجبرهما بالاستثناء ونلقي مالين من عشرين مالاً قصاصاً، فيكون ثمانيةَ عشرَ مالاً وثلاثة أشياء تعدل درهماً واحداً، فنرد الأموال إلى مال واحد، فإذا فعلنا هذا، رددناها (4) إلى نصف التسع؛ فإن الواحد من الثمانيةَ عشرَ نصفُ تُسعها، نرد كلَّ ما معنا من [الأجناس] (5) إلى هذه النسبة، والأشياء [الثلاثة] (6) التي كانت مع الأموال نصفُ تُسعها سُدسُ شيء؛ فإنها ثمانيةَ عشرَ سدساً، فنقول: مال واحد وسدس شيء، يعدل نصفَ تسع درهم.
وقد انتهت المسألة إلى مسألةٍ من المقترنات، وهي مال وجذر يعدل عدداً؛ [فإن الجزء من الجذر جذرٌ، والجزءُ من الواحد من جنس العدد] (7) ، وقد مهدنا في المقترنات أن سبيل هذا القسم منها أن نضرب الجذور في أنفسها، ونزيدَ مبلَغها على العدد، كما تمهد.
ثم (8) إذا استكملنا الطريق هاهنا، نذكِّر الفطن ما قدمناه، فنقول: [معنا] (9) مال وسدسُ شيء يعدل نصفَ تسع درهم، فنضرب سدس الشيء في مثله، على قياس ضرب الأعداد، لا على قياس ضرب الجذر في الجذر، ونزيد المردودَ على نصف تُسع درهم، فنبسط [المجموع من مائة وأربعة وأربعين جزءاً،
__________
(1) في الأصل: بعشرين.
(2) في الأصل: وشيء.
(3) في الأصل هكذا: الملبغين.
(4) (ح) : فقد رددنا.
(5) في الأصل: الأخماس.
(6) مزيدة من (ح) .
(7) عبارة الأصل: "فإن الجبر من الجذر والجذر والجبر من الواحد من جنس العدد". وعبارة (ح) : "فإن الجبر من الجذر، والجبر من الواحد من جنس العدد".
والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(8) عبارة (ح) : كما تمهد ثمَّ، وإذا استكملنا ...
(9) في الأصل: معه. و (ح) : منعنا.(10/576)
فيقع] (1) المبلغ إذا [ألَّفت] (2) تسعة أجزاء (3) من مائة وأربعةٍ وأربعين جزءاً من درهم، فخذ جذره (4) ، وذلك ثلاثةُ أجزاء من اثني عشر جزءاً من درهم، وإذا [ألفت] (5) ، قلتَ: ربع درهم، فانقص منه نصف الجذر المضروب في مثله قبل الضرب، وذلك نصف سدس، وإذا نقصت نصف سدس من ربع، بقي سدس الواحد، وهو الشيء المطلوب، فقد عتق من العبد سدسُه، ورق خمسةُ أسداسه، ثم [ابنُ] (6) المعتَق سدسه يضرب بسدس الدية، وهو ألفٌ وثلثا ألفٍ، فتكون قيمة القاتل بينه وبين ورثة السيد على ثلاثة أسهم ثلثاها لابن العبد، وهو سِتُّمائة وستةٌ وستون درهماً وثلثا درهم، وثلثها لورثة المعتِق وهو ثَلاثُمائة وثلاثةٌ وثلاثون وثلث، وهو ضعف السدس الذي عَتَق.
مسألة دائرة في العتق يخرج حسابها بالمعادلة المقترنة:
7239- إذا أعتق في مرضه عبداً قيمتُه تسعةُ دراهم، لا مال له غيرُه، فاكتسب العبد بعد العتق وقبل موت السيد اثني عشر درهماً، ثم مات العبدُ وخلف ابناً حراً، ثم مات الابن وخلف مولى أبيه ومولى أمه، ولم يكن له مال إلا ما ورثه عن أبيه، ثم مات المولى المعتِق.
فنذكر فتوى المسألة الخارجة آخراً (7) على التعديل المطلوب [قياساً] (8) وتقريباً، ثم نذكر طريق الحساب.
فنقول: العبد حين (9) مات كان نصفه حراً، ولما عتق نصفه الحرّ نُصّف ولاء ولده
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. ولم ترد في النسختين.
(2) بياضٍ بالأصل. وعبارة (ح) : على نصف تسع درهم، فالمبلغ إذا ألفت ...
(3) لما أستطع بعدُ معرفة لماذا كانت 9/144، مع أن نتائج الحساب تقول: إنها 12/144، برغم الاستعانة بأهل هذا الفن وجهابذته. وإن كانت النتيجة النهائية للمسألة صحيحة (الشيء = 1/6) . فهل في الكلام سقط أو تحريف؟ الله أعلم.
(4) في الأصل: فخذ من جذره.
(5) بياضٍ بالأصل.
(6) ساقطة من الأصل.
(7) في (ح) : إجراء.
(8) مكان كلمة لا تكاد تقرأ في النسختين.
(9) ح: حتى.(10/577)
إلى مولاه المعتق، وبقي نصف [الولاء لموالي أم الابن] (1) ، وملك العبد الذي عتق نصفه نصفَ كسبه ستةَ دراهم، وورث منه ابنُه ذلك على القول الجديد في التوريث فيمن مات وبعضه حر، ثم مات الابن، فورث السيد نصف ذلك، وهو ثلاثة، والنصف الباقي لمولى أمه، ومات نصف العبد رقيقاً، فلم يبق لورثة المولى من رقبته شيء، ولكن لهم نصف الكسب بسبب الرق في نصف العبد، وهو ستة، ويرجع إليهم نصف الباقي بالميراث عن ابن العبد؛ لأن لهم نصفَ ولاء الابن، فاجتمع لهم تسعةُ دراهم، وهي ضعف ما عتق من العبد؛ فإن العبد تسعة، وقد عتَقَ نصفُه.
7240- وحساب المسألة أن نقول: عتق منه شيء، واستحق من كسبه شيئاً وثلث شيء؛ لأن الكسب مثلُ قيمته، ومثلُ ثلثها، هكذا [يجب أن] (2) تُناسبَ الاثنا عشر التسعةَ، وتطّرد هذه النسبة في الأجزاء، فإذا استحق من كسبه شيئاً وثلثَ شيء، لأن الكسب مثلَ قيمته ومثل ثلثها، ويكون ذلك لابنه بالميراث، ثم مات الابن، ولا مال له غيرُ هذا الشيء وثلث الشيء، ورث (3) السيد من ذلك بقدر ما عتق من العبد، وهو بعدُ مجهولٌ إلى تمام العمل؛ فإنا لو علمنا قدرَ العتق، لم يبق إشكال.
فسبيل العمل أن نقول: يرث السيد من ذلك بقدر ما عتق من العبد، [وهو شيء] (4) ، ويرث مولى الأم منه بقدر ما رقّ من العبد؛ وهو عبدٌ إلا شيئاً؛ فيضرب السيد في تركة الابن بشيء، ويضرب مولى الأم فيه بتسعة دراهم إلا شيئاً، وهي الرقبة مع الاستثناء.
ونقول بعد ذلك: كان حصل في يد السيد من الكسب مقدارٌ، فنعلم أنه يأخذ من تركة الابن حصةً إذا ضمها إلى ما في يده من الكسب، كان ذلك شيئين ضعفَ العتق،
__________
(1) عبارة الأصل: " ... نصف المولى لمولى أم ... الابن" هكذا بترك بياض قدر كلمة. والمثبت عبارة (ح) .
(2) مكان بياض بالأصل. وهذا تقدير منا، حيث أضربت عنه (ح) ووصلت الكلام بدونه.
(3) جواب (إذا) في قوله: فإذا استحق من كسبه.
(4) ساقط من الأصل.(10/578)
وكان في يده من الكسب اثنا عشر درهماً إلا شيئاً وثلثَ شي، فالمسألةُ (1) على إبهام الجبر، وذكر الشيء مع الاستثناء، فإذا ضممته إلى ما في يده من الكسب، كان ذلك شيئين على [العبارات] (2) المستعملة في مسالك [الجبر] (3) فنقول: كان معه اثنا عشر درهماً إلا شيئاً وثلثَ شيء، فالذي يجعله شيئين على مراسم الجبر ثلاثةُ أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً..
وبيان ذلك أنه كان في يده اثنا عشر درهماً إلا شيئاً وثلثَ شيء، فضممتَ إلى ذلك ثلاثةَ أشياء وثلثَ شيء، فنُسقط استثناء الشيء وثلثَ الشيء، ويبقى اثنا عشر درهماً وشيئان، ولكن هذه الأشياء الثلاثة وثلثَ شيء لو جرد إثباتها، لزاد المال على ما نريد، فنصل بثلاثة أشياء وثلث الشيء استثناء اثني عشر، وإذا سقط اثنا عشر، بقي شيئان، وهو الذي نطلبه.
فإذا بان ذلك، فنلقي من تركة الابن المقدارَ الذي ضممناه إلى ما كان من الكسب في يد السيد، والتركةُ شيء وثلثُ شيء، فإذا ألقيتَ منه ثلاثةَ أشياء وثلثَ شيء إلا اثني عشر درهماً، تبقّى من تركة الابن اثنا عشر درهماً إلا شيئين.
وبيان ذلك أن التركة شيء وثلثُ شيء بلا استثناء، والأشياء الثلاثة وثلث شيء فيها استثناء اثني عشر، فإذا أسقطنا شيئاً وثلثَ شيء، وهي إثباتٌ [لا استثناء] (4) منه بشيء وثلث شيء مع الاستثناء، لم يستقم (5) ، بل يبقى من التركة اثنا عشر درهماً إلا شيئين.
فنعود بعد وضوح ذلك ونقول: السيد يضرب في التركة بحصة العتق، والعتقُ
__________
(1) (ح) : فاطلب.
(2) في الأصل: المسائل.
(3) زيادة من (ح) .
(4) في الأصل: إثبات الاستثناء فيه.
(5) لم يستقم: أي لم يستقم الحساب. وفي الكلام إيجازٌ بالحذف مفهومٌ من الشرح الحسابي السابق والمسألة حسابياً واضحة، وصورتها هكذا: 1/3 1 شيء - (1/3 3 شيء - 12 درهماً) وإذا جبرنا، كانت هكذا: 1/3 1 شيء - 1/3 3 + 12 درهماً ثم تصير هكذا: 12 درهماً - شيئين.(10/579)
شيء، فيضرب بشيءٍ من الولاء في التركة، [ويناله] (1) : ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً، ومولى الأم يضرب بما يقابل [العبد إلاشيئاً، وإن أردنا، قلنا: يضرب] (2) بتسعة دراهم إلا شيئاً، والذي يقابل هذا هو الباقي من التركة، فقد أخذ السيد من التركة ما أخذ، وقد أخذ من التركة ثلاثة أشياء وثلثَ شيء إلا اثني عشر درهماً، وذكرنا أنه بقي من التركة اثنا عشر درهماً إلا شيئين، فقد بان السبب الذي به يضرب السيد بشيء، والذي يصيبه [ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً.
والسبب الذي يضرب به موالي الأم بتسعة دراهم إلا شيئاً، والذي يصيبه] (3) اثنا عشر درهماً إلا شيئاً، فقد حصلت معنا أربعة أعداد متناسبة.
وبيان ذلك أن السيد يستحق من التركة حصةً، ومولى الأم يستحق حصةً مثلَ حصة السيد من الولاء الذي ثبت له كسبه، وإذا وجدنا أربعة أعداد، وكانت نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع، فضربُ الأول في الرابع كضرب الثاني في الثالث.
وإيضاح ذلك بالمثال: أنا إذا قدّرنا اثنين وأربعة وخمسة وعشرة، وقدرنا الأول الاثنين، والثاني الأربعة، والثالث الخمسة، والرابع عشرة، فنسبة الأول إلى الثاني بالنصف، ونسبة الثالث إلى الرابع بالنصف، ثم ضَرْبُ اثنين في عشرة بدل (4) ما يرده ضَرْبُ [أربعة] (5) في خمسة، وهذا مطرد لا شك فيه.
ونعود إلى مسألتنا، ونقول: نسبة ولاء السيد مما يستحق من التركة كنسبة ولاء مولى الأم مما يستحق من التركة، فإذا ضربتَ اثني عشر درهماً إلا شيئين، وهو الذي نقدره رابعاً، وهو مستحَق مولى الأم في قدر ولاء السيد، وهو شيء، ردّ الضربُ اثني
__________
(1) في النسختين: (ومثاله) وهو تصحيف أرهقنا استدراكه، لاتفاق النسختين عليه أولاً، ولخفاء الخلل الذي يقع بسببه ثانياً. والمثبت اختيار منا، هدانا إليه المولى سبحانه الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
(2) زيادة من (ح) .
(3) سقط من الأصل، والمثبت من (ح) .
(4) بدل: المراد مثل وقدر.
(5) في النسختين عشرة مكان الأربعة، (وهو خطأ حسابي اتفقت عليه النسختان) .(10/580)
عشر شيئاً (1) إلا مالين، وإذا ضربت ثلاثة أشياء وثلث شيء إلا اثني عشر درهماً، وهو الثاني في تسعة دراهم إلا شيئاً، وهو الثالث، اجتمع منه اثنان وأربعون شيئاً إلا ثلاثة أموال وثلث مال، وإلا مائة درهم وثمانية دراهم (2) ، وهذا المجموع يعدل المجموع الأول، وهو اثنا عشر شيئاً إلا مالين، فنجبر كل واحد منهما بما فيه من الاستثناء ونقابل، ونلقي المتماثلات منهما بأمثالها قصاصاً، فيبقى مال وثلث مال ومائة درهم وثمانية دراهم تعدل [ثلاثين] (3) شيئاً، فنرد الجميع إلى معادلة مال واحد، بأن ننقص من كل جنس منها ربعها، فيبقى مال واحد، وأحدٌ (4) وثمانون درهماً يعدل اثنين وعشرين شيئاً ونصفَ شيء.
وقد انتهت المسألة إلى معادلة مالٍ وعددِ جذور، وقد سبق لهذا نظير.
وطريق العمل الآن (5) : أن نأخذ نصف الأشياء ونحسبها عدداً، فنضربه في مثله، وهو أحد عشر وربع، والمردود بالضرب مائةٌ وستةٌ وعشرون ونصف وثمن، فننقص منها العدد الذي معنا في جانب المال، وهو الواحد والثمانون، يبقى منها خمسة وأربعون درهماً ونصف وثمن درهم، فنأخذ جذرها وذلك ستةٌ وثلاثة أرباع، فنسقطها من نصف الأشياء الباقية، وهو أحدَ عشرَ وربع، فيبقى منها أربعةٌ ونصف، فهي قيمة الشيء المطلوب، وأربعة ونصف من عبد قيمته تسعة نصفه، وقد عتق نصفه، واستمر ما ذكرناه من الفتوى قبل العمل.
__________
(1) (ح) : سهماً.
(2) وصورة هذه المعادلة بالأرقام هكذا: (1/3 3 شيء - 12 درهماً) (9 دراهم- شيء) فإذا ضربنا وجبرنا تصير هكذا: 30 شيء - 1/3 3 مال-108 درهماً + 12 شيء ثم تصير 42 شيء - 1/3 3 مال- 108 درهماً ثم تنتهي إلى صورة المعادلة: 1/3 1 مال+ 108 درهم= 30 شيء.
(3) في الأصل: ثمانين.
(4) (ح) : مال واحد وثمان.
(5) (ح) : من الآن.(10/581)
ولست للإطناب في مثل هذا، فإني لا أنتهض إلا لحل المشكلات وأرى الاجتزاء بالمرامز في الجليات.
الإمام
في نهاية المطلب(11/4)
مقالة تجمع فصولاً في الحساب تمس الحاجةُ إليها في المعاملات، والأرباح والجرايات، وتعديل الأثمان والمثمنات والغلاّت في الإجارات واجتماع الزكوات، وما في معانيها
7241- ليعلم الناظر [في مجموعنا هذا] (1) أنا بعد نجاز القول في الدور والوصايا والأبواب الحسابيّة التي تخرجُ المجاهيلُ منها بالجبر والمقابلة ووجوه المعادلة رأينا ألا نخلي كتابنا هذا عن فصولٍ تتعلق بالمعاملات، [والغرضُ منها] (2) لا يُحوِج إلى الجبر والطريق المستنبطة منه [ويقع] (3) الاكتفاء في معظمها بالضرب والقسمة. ورأيت الحاجة [أمسَّ] ُ (4) إليها منها إلى الدائرات الشاذّة من المفردات والمقترنات (5) ، ثم وجدت كلام الأستاذ أبي منصور البغدادي في كتابه المترجم بالتكملة في الحساب أحوى، (6) مجموع هذه الأبواب، فرأيت نقلَ ما أريد من كتابه، مع مزيد بسط في مواضع [إيجازه] (7) ، والله المستعان.
فصل
في بيان وجوه الحساب في توزيع الأثمان والمثمنات
7242- هذا مما يحتاج الفقيه إليه إذا حاول تقسيط الأعواض على المعوَّضات في تفريق الصفقة [أو الأجزاء] (8) .
__________
(1) بياض بالأصل. و (ح) وصلت الكلام بدون بياض فيها. وما إخاله إلا من تصرّف الناسخ.
(2) في الأصل: الفرض فيها.
(3) في الأصل: ووقع.
(4) في الأصل: تمس.
(5) (ح) : والمعبرات.
(6) مزيدة من (ح) .
(7) زيادة من (ح) .
(8) في النسختين: أولاً وآخراً. والمثبت اختيار منا. يظهر صوابه من مطالعة مسائل الفصل.(11/5)
فنقول: إذا قال القائل: إذا كان عشرة أَمْناء بثلاثة دراهم، فسبعة أَمْناء بكم؟ فقد ذكر السائل الثمن والمثمّن [معلومين] (1) في مقدارين، ثم ذكر مقداراً من المثمن، وسأل عما يخصّه من الثمن على النسبة التي ذكرها في المبلغين المعلومين.
فالوجه في هذا أن نأخذ جنسَ المثمَّن الذي وقع السؤال عن حصته من الثمن، ونضربه في الذي هو [من] (2) خلاف جنسه، وهو الثمن المعلوم الذي سأل السائل عنه، فسبعةُ أَمْناء مثمن وثلاثة دراهم ثمن، فنضرب السبعة في الثلاثة، فيبلغ أحداً وعشرين، فنقسم هذا المبلغ على المثمّن المعلوم المقابَل بالثمن المعلوم، وهو العشرة، التي هي من جنس المثمَّن، فيخرج من القسمة نصيبُ الواحد اثنان وعُشْر، فهذا ثمن سبعة أمناء.
وإن قال السائل: عشرة أمناء بثلاثة دراهم، كم يكون بخمسة دراهم؟ فاضرب الخمسة، وهي من جنس الثمن، في العشرة التي هي خلاف جنسها، فيردّ الضربُ خمسين، فاقسمها على الثلاثة التي هي من جنس الثمن، فيخرج نصيبُ الواحد ستةَ عشرَ وثلثان، فهذا مقدار ما يُشترى بخمسة دراهم.
والأصل أن نضرب اللفظ الثالث (3) الذي عنه السؤال فيما يخالفه في الجنس الذي تقدم ذكره، ونقسم المبلغ على ما يوافقه في الجنس، وقد تقدم ذكره، فما خرج، فهو المطلوب.
ومسائل هذا الفن كلها دائرةٌ على [أربعة أعداد معنا، نسبة] (4) الأول منها إلى الثاني
__________
(1) زيادة من (ح) .
(2) في الأصل: في.
(3) عبارة الأصل: والأصل الثالث أن نضرب اللفظ الذي عنه السؤال ...
وعبارة (ح) : والأصل في الثالث أن نضرب اللفظ الثالث الذي.
وهذه الصياغة اختيار منا؛ فلا معنى لوصف الأصل بأنه ثالث، فلم يسبق أولٌ وثانٍ، كما لا معنى لإسقاط وصف اللفظ بأنه (الثالث) مع أن الكلام في الأعداد الأربعة. كما لا معنى لعبارة (ح) : (في الثالث) .
ثم المراد باللفظ الثالث ذلك الذي يذكر ثالثاً في صياغة المسألة.
(4) عبارة الأصل: أربعة أعداد، ومعنا ستة نسبة ... إلخ.(11/6)
كنسبة الثالث إلى الرابع، وإذا كان واحد منها مجهولاً [أمكن] (1) إخراجه بالمعلومات التي يعطيها السائل.
وبيان ذلك أن السؤال يجري في المسائل التي ذكرناها وأمثالها في عددين معلومين، لا إشكال على السائل فيهما (2) ، ثم يذكر السائل عدداً من أحد الجنسين، ويسأل (3) عما يقابل عدده من الجنس (4) [الثاني] (5) ، فإنه يقول: إذا كانت العشرة بثلاثة، فالخمسة بكم، فالعشرة معلومة والثلاثة [الواقعة] (6) بمثالها معلومة، والخمسة مذكورة، والمطلوب عددٌ رابع يناسبها مناسبة الثلاثة من العشرة.
فهذا أصل هذه المسائل، وبيانُ استخراجها بالضرب والقسمة.
7243- وقد تقع قسمةٌ مؤلفةٌ من نسب، وذلك مثل أن يقول السائل: إذا كان خمسة وثمانون درهماً محمودية بمائة مسعودية، ومائة وثلاثون درهماً ملكية بمائة وعشرة مسعودية، فكم يقع من الملكية بثلاثةَ عشرَ درهماً محمودية؟ فهذه صورة المسألة.
فانظر كم نصيب ثلاثةَ عشرَ محمودية من الدراهم المسعودية، وهو أن تضرب ثلاثةَ عشرَ في مائة، وتقسم ما بلغ على خمسة وثمانين (7) ، فيخرج خمسةَ عشرَ وخمسةُ أجزاء من سبعةَ عشرَ جزءاً من المسعودية.
فاضرب الآن ذلك في مائة وثلاثين، واقسم ما بلغ على مائة وعشرة، فما خرج فهو ما يصيب [من] (8) الملكية [بثلاثةَ عشرَ درهماً] (9) محمودية.
__________
(1) في الأصل: لأمكن.
(2) (ح) : منهما.
(3) (ح) : ويسأل عليها باقدر من الجنس الثاني.
(4) في الأصل: الجنسين.
(5) مكان بياضٍ بالأصل.
(6) في الأصل: الرابعة.
(7) (ح) : وثلاثين.
(8) مزيدة من المحقق.
(9) في الأصل: بثلاثين درهماً محمودية.(11/7)
7244- فإن قال قائل: ثلاثةَ عشر [ذراعاً وشبرٌ] (1) في عرض أربعة أشبار بعشرة دراهم، كم ثمن ثلاثةِ أشبارٍ في أربعة أشبار؟ فحساب [الباب] (2) أن نجعل الثلاثة عشر [ذراعاً والشبرَ] (3) أشباراً، فتكون سبعة وعشرين شبراً، لأن [كل] (4) ذراع شبران (5) ، ثم نضرب هذا المبلغ في العرض وهو أربعة، فيبلغ مائةً وثمانيةً، [ثم نضرب ثلاثة أشبار التي عنها السؤال في عرضها، وهو أربعة، فتكون اثني عشر، ورجع الأمر إلى قول القائل: إذا كان مائة وثمانية] (6) بعشرة دراهم، فكم ثمن اثني عشر منها؟ فنضرب الاثني عشر في العشرة؛ فإن الاثني عشر المسؤول (7) عنها، مثمَّن والعشرة ثمن، [ونحن] (8) في الضرب [نضرب المسؤول] (9) عنه فيما يخالفه، ونقسم ما بلغ على مائة وثمانية، فيخرج درهم وتسع درهم، فهذا هو الثمن المطلوب.
7245- فإن قال [قائل] (10) : مائةُ شاةٍ خمسون منها كل ثلاث منها بدرهمين، وخمسون منها كل اثنين منها بثلاثة دراهم. كم ثمن كل خمسين؟
فاضرب خمسين في اثنين، واقسم المبلغ على ثلاثة، فيخرج ثلاثة وثلاثون وثلث، فهذا ثمن الخمسين التي كل ثلاثة منها بدرهمين.
ثم اضرب الخمسين في ثلاثة، واقسم المبلغ على اثنين، فيخرج خمسة وسبعون، فهذا ثمن الخمسين (11) التي كل اثنين منها بثلاثة دراهم.
__________
(1) في الأصل: ثلاثة عثر درهماً وشيئين.
(2) الأصل: المال.
(3) ساقط من الأصل. و (ح) : نجعل الثلاثة والشبر.
(4) ساقط من الأصل.
(5) ساقط من (ح) .
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(7) في الأصل: هي المسئول عنها.
(8) مكان بياضٍ بالأصل.
(9) ترك مكانها بياضاً ناسخ الأصل. وعبارة (ح) : ونحن في الابتداء نضرب المسؤول عنه.
(10) ساقطة من الأصل.
(11) عبارة الأصل فيها كلام مقحم هنا، هكذا: فهذا ثمن الخمسين واقسم المبلغ على التي كل اثنين منها بثلاثة دراهم.(11/8)
فاجمع المبلغين فيكون مائةً وثمانيةً وثلثَ درهم، هي ثمن المائة شاة، على اختلاف الثمنين.
7246- فإن قيل: ثلاثةٌ اشتروا شاةً بتسعة دراهم، على أن تكون الشاة بينهم على سبعة عشر سهماً: لواحدٍ منها تسعة، وللثاني منها ستة أجزاء، وللثالث منها جزآن، كم على كل واحدٍ من ثمنها؟ [فاحفظ] (1) مخرج الأجزاء منها، وهو سبعةَ عشرَ، فتأخذ التسعة وتضربها في الثمن، وهو تسعة، وتقسم ما بلغ على السبعةَ عشرَ، فيخرج أربعةُ دراهم وثلاثةَ عشرَ جزءاً من درهم.
فهذا مقدار الواجب من الثمن للذي له تسعةُ أجزاء من الشاة، وتضرب الستة أجزاء في الثمن، وهو تسعة وتقسم المبلغ على سبعةَ عشرَ، فيخرج ثلاثة دراهم وثلاثة أجزاء من سبعةَ عشرَ جزءاً من درهم. (2 هذا على من له منها ستة. وتضرب الجزأين في الثمن، فيكون ثمانيةَ عشرَ، وتقسمها على سبعة عشر، فيخرج درهم وجزءٌ من سبعة عشر جزءاً من درهم 2) ، وهذا ما يجب من الثمن على من له جزءان من سبعةَ عشر من الشاة.
7247- ولو قال القائل: كيف تقسم عشرة دراهم بين ثلاثة أنفس (3) على شرط أن يكون لواحدٍ النصفُ، ولآخر الثلثان وللثالث ثلاثة أرباع على قياس العول في الفرائض؟ فاطلب عدداً له نصف وثلث وربع، وأقلُّه اثنا عشر، فخذ نصفَه وثلثيه وثلاثة أرباع منه، وذلك ثلاثة وعشرون، فاحفظها؛ فإنها المقسوم عليها. ثم خذ نصف الأصل وهو ستة، فاضربها في العشرة، واقسم المبلغ على ثلاثةٍ وعشرين، فيخرج درهمان وأربعةَ عشر جزءاً من ثلاثة وعشرين جزءاً من درهم، فهذا نصيب صاحب النصف من العشرة.
__________
(1) في الأصل: فاضرب، وفي (ح) : تحفظ.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ح) .
(3) (ح) : ألفين.(11/9)
ثم خذ ثلثي الأصل وهو ثمانية، واضربها في العشرة، واقسم المبلغ على الثلاثة والعشرين، فيخرج ثلاثة دراهم وأحدَ عشر جزءاً من ثلاثةٍ وعشرين جزءاً من درهم، فهذا نصيب صاحب الثلثين.
ثم خذ ثلاثة أرباع الأصل وهو تسعة، فاضربها في العشرة، واقسم المبلغ، وهو تسعون على الثلاثة والعشرين، فيخرج ثلاثة دراهم وأحدٌ وعشرون جزءاً من ثلاثةٍ وعشرين جزءاً من درهم، فهذا نصيب صاحب الثلاثة أرباع.
7248- فإن قال القائل: بعت مائة شاةٍ: أوّلها بدرهم، والثانية بدرهمين، والثالثة بثلاثة، وكذلك ثمن كل شاةٍ زائدٌ على ثمن الذي قبلها بدرهم، كم ثمن المائة؟
فهذا كقول القائل: كم يبلغ العدد من واحد إلى مائة إذا جمع على التوالي، وذلك خمسة آلاف وخمسون.
ووجه ذلك إذا سئلنا عن مبلغ عدد من مبتدأ إلى منتهى على الوِلاء، مثل: أن يقول القائل: اجمعوا الأعدادَ المتواليةَ من واحد إلى عشرة، على الوِلاء. معناه واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة هكذا إلى العشرة. والمعتبر الصحيح في ذلك أن نجمع الطرفين منهما، و (1) نضرب مجموعهما في نصف عدّة (2) عدد الأعداد التي عنها السؤال، فما بلغ فهو المراد.
فإذا كان السؤال عن [الجمع] (3) من واحد إلى عشرة، فإنا نجمع بين الطرفين، فكان أحدَ عشر؛ فنصفه في نصف عدّة (4) الأعداد من واحد إلى عشرة، وذلك خمسة، فصارت خمسة وخمسين. فذلك هو المبلغ.
7249- فإن قال السائل: اجمع من الخمسة إلى العشرة، جمعنا الطرفين، وهما
__________
(1) (الواو) مزيدة من (ح) .
(2) (ح) : عشرة.
(3) في الأصل: الجميع.
(4) (ح) : هذه.(11/10)
الخمسة والعشرة، فصار خمسة عشرَ، فضربناها في ثلاثة؛ لأنها نصف عدد الأعداد من خمسة إلى عشرة، فإنها ستةُ أعداد، ونصفها ثلاثة، فصارت خمسة وأربعين، فهي المبلغ المطلوب.
7250- فإن قال السائل: مائة شاةٍ بعتُ [أولاها] (1) بدرهم والثانية بثلاثة، والثالثة بخمسة، ثم كذلك على قياس الأفراد المتوالية من الواحد إلى أي فردٍ شئت، فهذا من باب جمع الأفراد المتوالية من الواحد إلى أي فردٍ شئت.
والطريق فيه أن نأخذ نصف الفرد الذي هو الغاية، ونزيد عليه نصف درهم، ونضرب ما يبلغ في نفسه، فما بلغ فهو المقصود.
مثاله: أردنا أن نجمع الأفراد من واحد إلى تسعة، فنأخذ نصف التسعة، وذلك أربعةٌ ونصف، زدنا عليه نصف درهم، فكان خمسة، فضربناه في مثله، فصارت خمسةً وعشرين، فهو مجموع الأفراد، من واحد إلى تسعة.
7251- وإن قال السائل: بعت أولها باثنين، والثانية بأربعة، والثالثة بستة، وهكذا على توالي الأزواج، فطريقها طريقُ جمع الأزواج المتوالية، من اثنين إلى أي زوج شئت، فخذ نصف الزوج الذي هو الغاية، واضربه في مثله، فما بلغ فزد عليه نصف ذلك الزوج، فما كان، فهو المبلغ.
مثاله: أردنا جمعَ الأزواج من اثنين إلى عشرة فنأخذ نصف العشرة وهو خمسة، فنضربها في مثلها خمسة وعشرين، فزدنا عليها الخمسة، فصارت ثلاثين، فهي مبلغ الأزواج من اثنين إلى عشرة.
وقد تركت من جميع الأعداد مسائِلَ لسنا نطوّل بذكرها، وقد [يُفرض] (2) جميعها في الأثمان، وقد ذكرنا مقداراً يليق بهذا الباب.
__________
(1) في النسختين: أولا، والمثبت تقديرٌ منا. واجتماع النسختين على هذا الخطأ من علامات أنهما من أم واحدة.
(2) في النسختين: نفرض. والمثبت تقدير منا.(11/11)
فصل
في حساب الصرف في الدراهم والدنانير
7252- المثقال وزن درهم وثلاثة أسباع درهم بوزن [مكة] (1) ، فإذا أردت تحويل الدراهم إلى المثاقيل، فأسقط من أعداد الدراهم ثلاثة أعشارها، فما بقي فهو وزن الدراهم بالمثاقيل.
وإن أردت تحويل المثاقيل إلى الدراهم، فزد على عدد المثاقيل ثلاثة أسباعها، فما بلغ فهو وزنه بأوزان الدراهم المعروفة بوزن مكة.
مثاله: أردنا أن نعرف أن خمسة [دراهم] (2) كم مثقالاً هي؟ فأسقطنا من الخمسة ثلاثة أعشارها، وذلك بأن ضربناها في ثلاثة، وهو عدد الأعشار، فبلغت خمسةَ عشرَ، فقسمناها على مخرج الأعشار وهو عشرة، فخرج درهم ونصف، فأسقطناه من الخمسة، فبقي ثلاثةٌ ونصف، فهي وزن خمسة دراهم بالمثاقيل.
وإن أردنا أن نعرف أن خمسة مثاقيل كم هي بوزن الدراهم؟ زدنا على الخمسة ثلاثة [أسباعها] (3) وذلك بأن نضرب الخمسة [في] (4) عدد الأسباع، وهو ثلاثة، ونقسم المبلغ على مخرج الأسباع، وهو سبعة، فيخرج اثنان وسبع، فنزيد ذلك على الخمسة، فيبلغ سبعةَ دراهم وسبعَ درهم، فهو وزن خمسة مثاقيل بوزن الدرهم.
واعلم أن الذي يقابل أجزاء المثقال من أجزاء الدرهم مثلُ ما يقابل المثقال الواحد من الدرهم في العدد؛ وذلك أنه إذا كان الدينار بعشرين درهماً، فدانق (5) من الذهب بعشرين دانق من الفضة، وربع دينارٍ بعشرين ربع درهم، والحبة من الذهب بعشرين حبة من الفضة، وكذلك الباب كيف قدّر سعر الدينار.
__________
(1) في الأصل: ماله.
(2) سقطت من النسختين.
(3) في الأصل: أرباعها.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) الدانق: سدس درهم.(11/12)
فإذا قيل الدينار بثلاثةٍ وعشرين [درهماً] (1) ، [قلت] (2) الحبة من الدينار على هذا الصرف بثلاثةٍ وعشرين حبة من الفضة، فكل ست حبات دانق، وكل ستة دوانق درهم، فيكون ثمنُ الحبة من الذهب على هذا الصرف نصفَ درهم وخمسَ حبات.
وعلى هذا القياس يكون [أثمان] (3) أجزاء الدينار من الدرهم. إلا أن يقع السؤال [عن وزن] (4) شعيرة من الذهب؛ فإنه لا يقابله من الفضة مثلُ [ما يقابل] (5) الدينار من الدرهم؛ لأن [الحبة] (6) من الفضة في بعض المواضع شعيرتان. [وليست الحبة من الذهب شعيرتين، ولا ثلاث شعيرات، بل هي شعيرتان] (7) وكسر، فلا يستقيم في الشعيرات حساب سائر الأجزاء.
7253- وفي هذا الباب طرق من البسط بالضرب والقسمة، فنذكر على الاختصار ما يكفي منها:
إذا قيل: مثقالُ ذهبٍ بعشرين درهماً، كم ثمن دانقين ونصفٍ من الذهب؟
[فالمسلك] (8) المتقدم جارٍ (9) هاهنا.
وإن أردت غيره، فاضرب دانقين ونصفاً، وهي خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من دينار (10) ، إذا بُسطت بأنصاف الأسداس، فنضرب خمسة أجزاء من اثني عشر جزءاً من واحد في الثمن، وهو عشرون، فيبلغ [ثمانية] (11) وثلثا، فاقسمها على
__________
(1) سقطت من النسختين.
(2) في النسختين: وقلت.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) حرفت في الأصل إلى: عشرون.
(5) في الأصل: ما يقابله من الدينار من الدرهم.
(6) في الأصل: الجزء.
(7) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(8) في النسختين: بالمسلك.
(9) (ح) : المقدم جاري.
(10) تنبه هنا إلى أنه يستخدم لفظ الدينار مكان المثقال. فالمثقال هو الدينار، جرى على هذا هنا، (وانظر المصباح) كما جرى على الدينار = 6 دوانق.
(11) في الأصل: ثلاثة.(11/13)
الواحد وهو مقدار دينار (1) ، فتخرج ثمانية دراهم وثلث؛ فإن معنى (2) القسمة بيان نصيب الواحد، فذلك ثمنُ دانقين ونصفٍ من الذهب.
فإن أردت أن تحسب على طريق النسبة، قلت -و [قد] (3) علمنا أن دانقين ونصفاً من الدينار ربعه وسدسه-: [خُذ] (4) ربع الثمن وسدسه، فربع العشرين خَمسة وسدسها ثلاثة وثلث، فالمجموع ثمانية وثلث، وهي الثمن المطلوب.
وإن قيل: دينار بعشرين [درهماً] (5) [فأربعة] (6) دراهم [بكم] (7) تكون من الذهب؟ فاضرب الأربعة فيما يخالفه في الجنس وهو الدينار الواحد، فيكون أربعة فاقسمها على العشرين التي هي من جنسها، فيخرج خمساً واحداً، فبان أنه يقابل أربعةُ دنانير خمسَ دينار.
وهذا على قياس فضّ الأثمان على المثمنات في الباب الأول.
7254-[و] (8) إذا اختلفت الأوزان بين الدراهم والدنانير، وأردنا أن نتكلم في [الصرف] (9) بأن يقول القائل: مثقال ذهب بعشرين درهماً كم ثمن دانقين ونصفٍ من الذهب بوزن الفضة من الدراهم (10) ؟
فاضرب سبعةً أبداً في الثمن في هذا الباب وهو عشرون، تكون مائةً وأربعين، فأخرج من كل عشرة منها دانقين ونصفاً، يكون خمسة دراهم وخمسة دوانيق، فهذا ثمن دانقين ونصفٍ بوزن الفضة من الذهب.
__________
(1) (ح) : الدينار.
(2) (ح) : بقى.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في النسختين: فخذ. وهي مقول القول.
(5) ساقط من النسختين.
(6) في النسختين: بأربعة.
(7) في النسختين: كم.
(8) الواو ساقطة من النسختين.
(9) عبارة الأصل: في ذلك.
(10) (ح) : من مبلغ الدرهم.(11/14)
فإن قيل: كم ثمن وزن درهم من الذهب بوزن الدراهم، والصرفُ أربعة عشر، فقد علمت أن المثقال يزيد على الدراهم بثلاثة أسباعه، فذلك عشرة أسباع الدرهم، فيصير الدرهم أسباعاً يكون [سبعة] (1) [فاضربها] (2) في الثمن [يردّ] (3) ثمانيةً وتسعين فاقسمها على العشرة، فتخرج تسعة دراهم وأربعة أخماس درهم، فهي ثمن وزن درهم من الذهب.
وإذا قال القائل: الدينار بعشرين درهماً، كم ثمن قطعة من الذهب مجهول وزنها بزنة الفضة؟ فاضرب العشرين في سبعة (4) يكون مائة وأربعين، واقسمها على العشرة (5) ، وهي الأسباع التي ذكرناها، تخرج أربعة عشر (6) ، [فهي تقابل وزن جزء واحدٍ من الدينار: أي الذهب،] (7) فتقابل تلك القطعة من الذهب بمثل وزنها من الفضة أربع عشرة مرة.
فإن كان صرفُ الدينار بخمسةٍ وعشرين، [فاضرب الخمسة والعشرين في السبعة] (8) ، تكون مائة وخمسة وسبعين، فاقسمها على العشرة، فيخرج سبعةَ عشرَ ونصف، فخذ مثلَ وزن القطعة سبعةَ عشرَ مرة ونصف مرة.
والأصل في هذا أن نضرب الثمن في سبعة، ونقسم المبلغ على العشرة
__________
(1) في الأصل: سبعها.
(2) بياض بالأصل. وعبارة الأصل بعد هذا مضطربة خاطئة، هكذا: يكون سبعها، فاضربها إذاً الثمن يبقى ثمانية وسبعون، فاقسمها ... إلخ.
(3) في النسختين: يبقى.
(4) سبعة: التي هي أجزاء الدرهم.
(5) العشرة: التي هي أجزاء الدينار بالنسبة للدرهم، فالدينار: 3/7 1 وزن الدرهم.
(6) تخرج أربعة عشر: أي أن وزن الجزء من الدينار (الذهب) ثمنه 14 جزءاً بنفس الوزن من الدرهم (الفضة) فيكون ثمن قطعة الذهب المسؤول عنها من الفضة هو وزنها 14 مرة.
(7) زيادة من المحقق.
(8) عبارة الأصل فيها خطأ وتغيير: فإن كان صرف الدينار بخمسةِ وعشرين، فالتسعة تكون مائة وخمسة وسبعين ...(11/15)
[الأسباع] (1) ، لأن كل سبعة مثاقيل (2) وزن عشرة دراهم، وقس على هذا نظائره.
فإن كان مع المشتري من الفضة قطعةٌ لا نعرف وزنها، وأراد أن يأخذ بها من الذهب، فاعلم أن مستحَقه (3) من الذهب مثلُ نصف سبع وزن الفضة، إذا كان الصرفُ خمسةً وعشرين.
ومن أحاط بنسبة الأسباع، هان عليه استعمال هذه [المسالك] (4) .
فإن قيل: إذا كان [لك] (5) على رجل ثَلاثمائة درهم، ممّا (6) يكون في كل عشرة منها سبعة ونصف فضة، فأعطاك من دراهم في كل عشرة منها ستة دراهم فضة، كم تأخذ منه لتستوفي (7) الفضة؟ فاقسم السبعة والنصف على الستة (8) ، فيكون في كل عشرة من ا [لفضل] (9) واحدٌ وربع، فاضرب ثَلاثمائة في واحد وربع، فيكون ثَلاثَمائة وخمسة وسبعين درهماً، فهذا مقدار ما يأخذه. وهذا حساب تراضٍ، وإلا [فأقوال الفقهاء] (10) لا تخفى في بيع المغشوشة بالمغشوشة، مع اختلاف [العيار] (11) .
وإن كان الحق الواجب ثَلاثَمائة درهم من الدراهم التي في كل عشرة منها ستة فضة، فأراد أن [يردّ] (12) من الدراهم التي في كل عشرة منها سبعة ونصف فضة، فاقسم الستة على السبعة والنصف، فيكون أربعةَ أخماسها، فخذ أربعة أخماس
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل، وهو تقدير منا، فلم تحسن (ح) تقديره، فجاءت هكذا: " ... على العشرة أنه الآن كل سبعة".
(2) مثاقيل: أي دنانير.
(3) (ح) : الذي يستحقه.
(4) في الأصل: المسائل.
(5) في الأصل: ذلك.
(6) (ح) : ما يكون.
(7) (ح) : استوفى.
(8) (ح) : السيد.
(9) مكان بياضٍ بالأصل، وهو كذلك في (ح) .
(10) بياض بالأصل، وفي (ح) : وإلا قرار الفقهاء لا يخفى.
(11) في الأصل: المعتاد. والمثبت من (ح) .
(12) بياض بالأصل.(11/16)
ثلاثمائة، وهي مائتان وأربعون، فهذا مقدار ما يدفع منها.
7255- مسألة: إن سئلت عن رجل دفع إلى الصائغ خمسين مثقالاً ذهباً، وألقى عليه عشرين مثقالاً شَبَهاً (1) ، ثم قطع من الجملة قطعةً، وزنها عشرون [مثقالاً. كم فيها من الذهب؟ وكم فيها من الشبه؟
فاضرب المقطوع وهو عشرون] (2) في [الشبه الملقى عليه] (3) وهو عشرون، فبلغ أربعمائة، فاقسمها على مجموع الذهب والشبه، وذلك سبعون، فيبلغ خمسةً وخمسةَ أسباع، وذلك مقدار ما في القطعة [من الشبه.
ثم اضرب الذهب في الأصل، وهو خمسون في المقطوع وهو عشرون، فبلغ ألفاً، فاقسمها على السبعين، فيخرج أربعة عشر مثقالاً وسبعي مثقال، وذلك مقدار ما في القطعة] (4) من الذهب.
وإن أردت [أخذته] (5) من الشبه، فنقول: الجملة المخلوطة سبعون سبعاها شبه وخمسة أسباعها ذهب، فكل قطعة تُقطع فسبعاها شبهٌ وخمسة أسباعها ذهب.
فإن قيل: إناءٌ فيه من الذهب خمسةُ مثاقيل، ومن الفضة تسعةُ مثاقيل، ومن الرصاص خمسةُ مثاقيل، ومن النحاس سبعةُ مثاقيل، ومن الصُّفْر عشرة، ومن جوهر آخر ثلاثةَ عشرَ مثقالاً، ومن الشبه أحدَ عشرَ، فقطعت منها قطعة وزنُها ثمانيةُ مثاقيل، كم [فيها] (6) من كل جوهر؟
فاجمع عدد مثاقيل الإناء وهي ستون، وهي المقسومة عليها، ثم اضرب مثاقيل كل جنسٍ في الثمانية التي هي وزن القطعة، فما بلغ فاقسمه على الستين، فما خرج فهو مقدار ما في تلك القطعة من ذلك الجنس.
__________
(1) الشبه: بفتحتين من المعادن ما يشبه الذهب في لونه، وهو أرفع الصُّفر (النحاس) (المصباح) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) مكان بياض بالأصل، وفي (ح) " في الحملان، وهو عشرون ... ".
(4) ما بين المعقفين سقط كله من الأصل.
(5) بياض بالأصل، وأثبتناه من (ح) .
(6) في الأصل: منها.(11/17)
ونظير ما في هذه المسألة قول القائل: قارورة ملئت بالأدهان، فكان فيها عشرون رطلاً: منها ثمانية أرطال دهن الزئبق، وسبعةُ أرطال دُهن البنفسج، وخمسةُ أرطال دهن الورد، ملئت منها قارورة أخرى، فوسعت تسعةَ أرطال، كم فيها من الزئبق والبنفسج والورد؟ فاجمع الأدهان في الأصل، فتكون عشرين رطلاً، فهي المقسوم عليها، ثم اضرب أرطال الزئبق، وهي ثمانية في التسعة المفروزة، فتبلغ اثنين وسبعين، فاقسمها على العشرين، فيخرج ثلاثة أرطال وثلاثة أخماس رطل، فهي مقدار ما فيها من الزئبق، وهذا قياس غيره.
7256- مسألة: إذا قيل: دينار بأربعةَ عشرَ ونصفٍ [و] (1) دينارٌ بسبعةَ عشرَ ونصفٍ، وقد أخذت بدينار واحد من الصرفين ستةَ عشرَ درهماً، فبكم أخذت من الدينار الرخيص؟ وبكم أخذت من الغالي؟
فأسقط الضرب (2) الأقلَّ وهو أربعة عشر ونصفٌ من الضرب (3) الأكثر، وهو سبعةَ عشرَ ونصفٌ تبقى ثلاثة، فهي المقسوم عليها، فاحفظها. ثم أسقط أربعةَ عشر ونصفاً من الستةَ عشرَ، يبقى واحدٌ ونصف، فاقسمه على الثلاثة المحفوظة، فيكون نصفها، فتأخذ نصف دينار من الضرب الغالي، ويبقى للصرف الرخيص نصفُ دينارٍ.
فإن قيل: دينارٌ بثمانيةَ عشرَ درهماً مكسّرة، ودينار بأربعةَ عشرَ صحاح أردت أن تأخذ من الصرفين خمسةَ عشرَ درهماً بدينار واحد، فأسقط الصرف الأقلّ من الصرف الأكثر، يبقى أربعةٌ، فهي المقسوم عليها، فاحفظها، ثم انقص الأربعةَ عشرَ من المأخوذ، وهي خمسةَ عشرَ، يبقى واحدٌ، فاقسمه على الأربعة المحفوظة، فيخرج ربعٌ واحدٌ، فخذ من الدينار الغالي الربعَ، ومن الرخيص ثلاثة أرباع (4) .
__________
(1) الواو مزيدة من (ح) .
(2) (ح) : الصرف.
(3) (ح) : الصرف.
(4) في (ح) عقب نهاية المسألة: " بيع (كذا) ثمانية عشر، وثلاثة أرباع أربعة عشر " وصوابها (ربع) .(11/18)
7257- مسألة: إن قيل: [مثقال] (1) بعشرة ومثقال بثمانية ومثقال بعشرة كيف نشتري من الجميع مثقالاً بثمانية؟ فبابه أن نجمع الستة والثمانية والعشرة، فيكون أربعةً وعشرين، فاحفظها، ثم انظر الستة من الأربعة والعشرين كم هي؟ [فنجدها ربعها، فنقول: إذا كان المثقال بثمانية، فربعه بكم؟] (2) فيكون بدرهمين. وانظر إلى الثمانية وهي من أربعةٍ وعشرين فتجدها ثلثها فنقول: المثقال بثمانية فثُلثه بكم (3) ؟ فيكون بدرهمين وثلثي درهم.
وانظر إلى العشرة كم هي من الأربعة والعشرين؟ فتجدها ربعها وسدسها، فنقول: المثقال بثمانية فبكم ربعه وسدسه؟ فيكون [بثلاثة وثلث] (4) وقد حصل المقصود؛ فإنك إذا [ألّفت] (5) أجزاء الدينار بلغت ديناراً، وإذا ألفت أجزاء الدرهم بلغت ثمانية.
7258- مسألة: إذا قيل: دينارٌ بثلاثة دراهم وديناران بدرهم كيف نشتري منهما (6) ديناراً واحداً بدرهم؟
أو (7) قال: منٌّ بثلاثة دراهم، ومنوان بدرهم. كيف يُشترى منهما منٌّ واحد بدرهم؟ فاضرب ثلاثة دراهم في دينارين أو في المنوين، تكون ستة، فانقص منها واحداً أبداً، تبقى خمسة، فهي المقسوم عليها، فاحفظها.
ثم انقص من المنوان واحداً أو من الدينارين، يبقى واحد، فاقسمه على الخمسة فيخرج [خُمس دينار] (8) فنشتري خمساً من الغالي، ونشتري بدرهم أربعة أخماس من الرخيص.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. حيث كررت بعض الجمل مكانه.
(3) (ح) : فكم يكون بدرهمين.
(4) في الأصل: بثلاثة ذهب.
(5) في الأصل: ألقيت.
(6) (ح) : فيهما.
(7) في الأصل: وقال.
(8) في النسختين: ثلاثة أخماس درهم.(11/19)
فصل
في بيان [حساب] (1) الإجارات والغلات
7259- ومضمونه بيان معرفة مقادير الأجرة الموزعة على المعقود عليه من منافع دارٍ، أو عمل عاملٍ، ثم يلتحق بهذا المقصود نوادرُ في الحساب [تفيد] (2) الدُّرْبة (3) وا [لمرون] (4) .
فنقول: إذا كانت الأجرة في الشهر أو في السنة معلومةَ المقدار، وكانت لا تختلف باختلاف الأزمان، فأجزاء الأجرة تتوزع على أجزاء الزمان.
(5) [والذي به الاستدلال أن نقول: إذا كانت الأجرة في الشهر [ثلاثين] (6) ، فأجرة خمسة أيام [سدس] (7) الثلاثين؛ لأن الخمسة سدس الثلاثين، وهذا إذا كان الشهر ثلاثين يوماً.
ثم هو على قياس ما ذكرنا في الأثمان والمثمنات.
7260- مسألة: أجيرٌ يكتسب في الشهر عشرة، وإن تعطل غرِم خمسة [فعمل وعَطَل] (8) وخرج رأسأ برأس، كم عمل؟ وكم بَطَل؟
نجمع الغرم والغنم: خمسةَ عشرَ، فهو قدر عمله [وغُرمه، ثم نضرب الخمسة في أيام الشهر، ونقسم على خمسةَ عشرَ، فيخرج عشرة أيامٍ، هي أيام عمله] (9) ، وأجرته فيها ثلاثة وثلث.
__________
(1) زيادة من (ح) .
(2) في الأصل: تنفيذ.
(3) (ح) : الذرية.
(4) بياض بالأصل.
(5) من هنا بدأ سقط من الأصل، وأكملناه من (ح) .
(6) في الأصل الذي هو (ح) : "شيئا". والمثبت تصرف من المحقق.
(7) في الأصل، الذي هو (ح) هنا: " في من " هكذا حرفت كلمة (سدس) .
(8) في الأصل، الذي هو (ح) : يعمل عطل. والمثبت من عمل المحقق.
(9) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، الذي هو (ح) ، أي أنه ساقط من السقط الذي نكمله من (ح) . وانظر كم أجهدنا استنباط هذا الساقط وتقديره. ولله الفضل والمنة.(11/20)
ثم نضرب عشرة في أيام الشهر، ونقسم على خمسة [عشرة] (1) فيخرج (2) عشرون يوماً لبطالته، وغُرْمه فيها ثلاثة وثلث، فاستوى ماله و [ما] (3) عليه.
وإن كانت المسألة بحالها، يعمل ويعطل، وأخذ درهماً، جُمع عمله وغُرمه [فهي] (4) خمسة عشرَ، ثم نزيد الدرهمَ الذي أخذه على ما عليه؛ فيكون ستة، فنضربها في أيام الشهر، ونقسم على خمسةَ عشرَ] (5) ، فيخرج اثنا عشر يوماً، فهي أيام عمله، والباقي إلى تمام الشهر أيام العطلة.
وإن قيل: في هذه المسألة: [عمل و] (6) بطل، وردَّ الأجير درهماً، [فالقسمة] (7) على خمسةَ عشرَ، كما مضى. [فانقص] (8) ما عليه درهماً، يبقى منه أربعة، فاضربه في أيام الشهر، واقسم المبلغ على خمسةَ عشرَ، فيخرج ثمانية أيامٍ لعمله، وما بقي إلى تمام الشهر عَطَلُه.
7261- مسألة: إذا قيل: أجير أجرته في الشهر اثنا عشر درهماً وخاتم، عمل ثمانية أيام، فأخذ باجرته الخاتَم، كم قيمته؟
فانقص أيام عمله من أيام الشهر تبقى اثنان وعشرون يوماً، أجرة العمل فيها اثنا عشر، فاضرب الاثني عشر في أيام العمل، وهي ثمانية، واقسم المبلغ على الاثنين والعشرين الباقية، فتخرج أربعة دراهم وثمانية أجزاء من اثنين وعشرين جزءاً من درهم، فذلك قيمة الخاتم.
__________
(1) ساقطة أيضاً.
(2) في الأصل: ثم يخرج.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: في.
(5) إلى هنا انتهى السقط الذي كان من نسخة الأصل (ت 3) .
(6) سقط من الأصل.
(7) في النسختين: بالقسمة.
(8) في النسختين: ثم انقص.(11/21)
7262- مسألة: أجير عمل [ثمانية] (1) أيام من الشهر وأخذ خُمسَ كرائه ودرهماً، كم أصل كرائه؟
خذ خمس الشهر، وهو ستة، فانظر كم بينه وبين [....] (2) ثمانية وهو
اثنان، فذاك هو المقسوم عليه، فاحفظه. ثم اضرب الدرهم في الثلاثين واقسم المبلغ على اثنين، فيخرج خمسةَ عشرَ درهماً، وهي كراه، ويستحق في ثمانية أيام أربعة دراهم، وهي مثل خمس كراه وزيادةُ درهم.
فإن قيل: عمل ثلاثةَ أيام، فأخذ خُمس كراه إلا درهماً واحداً، فخذ خمس الشهر وهو ستة، فانظر كم بينها وبين الثلاثة التي عمل فيها، فخذ الفضل وهو ثلاثة، فهو المقسوم عليها، ثم اضرب الدرهم في الثلاثين، واقسم المبلغ على الثلاثة، فيخرج عشرة، فهو كراه في الشهر، يستحق في ثلاثة أيام عُشر الكراء وهو درهم، وذلك مثل خمس كرائه [إلا درهماً] (3) .
7263- مسألة: إن قيل: أجيرٌ أجره في الشهر شيء مقدر، عمل من الأيام مثل عدد ثلاثة أمثال أجره، فأصاب من الأجر فيما عمل أربعين درهماً، كم أجرته في الشهر؟
فاقسم ما أصاب من أجره وهو أربعون على ثلاثة؛ لأنه عمل مثل عدد ثلاثة أمثال أجره، فيخرج ثلاثةَ عشرَ درهماً وثلثَ درهم، فاضربها في عدد أيام الشهر وهي ثلاثون، فيبلغ أربعَمائة، فخذ جذرها، وهو عشرون درهماً، وذلك مقدار أَجْره في الشهر، فإذا عمل مثل ثلاثة أمثال أجرته وهي ستون يوماً، استحق أربعين درهماً.
7264- مسألة: أجير أجرته في كل يوم خَمسُ دراهم، وهو ينفق سُبعَ درهم، كم يجتمع له في الشهر؟ فاطلب مخرجاً له خُمس وسُبعٌ، وذلك خمسة وثلاثون، فخذ خُمسها، وهو سبعة وسبعها، وهو خمسة، فاطرح الأقل من الأكثر يبقى [اثنان] (4) فنضربه في أيام الشهر، يكون ستين، فاقسمها على الخمسة والثلاثين، فيخرج درهم
__________
(1) في الأصل: ثلاثة.
(2) بياض في الأصل، قدر كلمتين. والكلام مستقيم بدون تقديره، كما في (ح) .
(3) في النسختين خلل هكذا: مثل خمس كرائه في الشهر عشر دراهم.
(4) في الأصل: دينار.(11/22)
وخمسة أسباع درهم، فهذا ما يجتمع له في الشهر الواحد بعد النفقة.
فإن قيل: أجير أجره في كل يوم ثلثُ درهم فينفق سُبعَ درهم، في كم يجتمع له درهم؟
فخذ مخرجاً له ثلث وسبع، وأقله أحدٌ وعشرون، ثم خذ ثُلثَه: سَبعة لأجل ما يأخذ، وخذ سُبعَه: ثلاثة لأجل ما ينفق، فألق الثلاثة من السبعة، تبقى أربعة، فهي المقسوم عليها.
ثم اضرب الدرهم الواحد في الأحد والعشرين، واقسم ما بلغ على الأربعة، فتخرج خمسة وربع، ففي خمسة أيام وربع يجتمع له درهم.
فإن قيل: أجير أجره في كل خمسة أيام درهم، فينفق في كل سبعة أيام درهماً، في كم يوم يستفضل درهماً واحداً؟ وقد علمت أنه يستفضل في كل سبعة أيام خمسي درهم، فاضرب السبعة في اثنين ونصف يكون سبعةَ عشرَ يوماً ونصفَ يوم، ففي مقدارها يستفضل درهماً واحداً.
وإن شئت فاضرب الخمسة في السبعة، واقسم المبلغ على فَضْل ما بينهما، فيخرج سبعةَ عشرَ ونصفٌ، ففيها يستفضل درهماً واحداً.
فصل
في حساب الأرباح [والخسرانات] (1)
7265- ومضمون الفصل حساب الأرباح [والخسرانات] (2) ومقادير رأس المال مع الربح أو مقداره بعد الخسران. هذا هو الأصل المقصود، ثم نلحق به نوادرَ، إن شاء الله عز وجل.
فنقول: الوجه أن نقدم صوراً هيِّنةً قريبةَ المأخذ، ليتمهد فيها أصل الباب، فإذا تمهد، ترقّينا إلى ما يكاد يخفى على من [لا يحسن] (3) قياسَ الباب.
__________
(1) في الأصل: الجرايات.
(2) في الأصل: الجرايات.
(3) في الأصل: لا يجيز.(11/23)
فإذا قيل: ربح على رأس المال نصف مرة واحدة، فاضرب رأس المال في ثلاثة، واقسم المبلغ على اثنين، فما خرج فهو رأس المال مع الربح.
وإن ربح على رأس المال مثل ثلثه، فاضرب رأس المال في أربعة، واقسمه على ثلاثة، فما خرج فهو المال والربح. وإنما ضربناه في أربعةٍ لأن المال إذا زدت عليه ثلثه، كان المبلغ أربعة أثلاث، فهذا هو القياس، والضرب يقع في مخرج الجزء الزائد.
وإن ربح على المال ربعه، [فاضرب المال في خمسة؛ فإن المال إذا زيد عليه رُبعه، كان] (1) مع الزائد خمسة أرباع، والقسمةُ على مخرج الربع.
وبيان ما ذكرناه بالمثال: أن نقول: رأس المال عشرة، وقد ربح مثل ثلثها، فضربنا العشرة في أربعة فردّ أربعين، فنقسمها على ثلاثة، فيخرج نصيب الواحد ثلاثةَ عشرَ وثلث.
وإن ربح على العشرة مثل ربعها، ضربنا العشرة في خمسة، فيرد خمسين، فقسمناها على أربعة، فيخرج نصيب الواحد اثني عشر ونصفاً، وهو رأس المال والربح.
وإن قيل: ربح على رأس المال ثلاثة أرباعه، فاضرب رأس المال في سبعة، فإن رأس المال مع ثلاثة أرباعه سبعةُ أرباع، فقل عشرة في سبعة، فالمردود سبعون، فاقسم المبلغ على أربعة، فالخارج [نصيب الواحد] (2) ، وهو رأس المال والربح.
وإن قال: ربح على المال سبعةَ أعشاره، فاضرب المال في سبعةَ عشرَ، واقسم المبلغ على العشرة، فما خرج من القسمة، فهو المبلغ المطلوب.
وإن خسر مثل ثلث المال، فاضرب المال في اثنين؛ فإن معنى خسران الثلث أنه لم يبق إلا الثلثان، فاقسم المبلغ على ثلاثة.
وإن خسر مثلَ ربع المال، فاضرب المال في ثلاثة، واقسم المبلغ على أربعة.
__________
(1) زيادة من (ح) .
(2) في النسختين: نصيباً للواحد.(11/24)
وإن خسر ثلاثة أسباع المال، فاضرب المال في أربعة، واقسم المبلغ على السبعة.
وعلّةُ ذلك أن المال [قبل] (1) الخسران سبعة أسباع، فإذا نقص بالخسران ثلاثة، بقي أربعةُ أسباع، فلهذا يقع الضرب في الأربعة، [ثم القسمةُ] (2) أبداً على مخرج الجزء.
7266- فإن ربح صاحب المال على المال مراراً كثيرة ربحاً واحداً على نسبةٍ واحدة في كل مرة، مثل: ده يازده، أَوْ دو ازده (3) ، أو أكثر من ذلك، وأردت أن تعلم المبلغ بعد آخر ربح، فاضرب العشرة (4) في مثلها، أو (5) ما بلغ في العشرة، ثم كذلك بعدد مرات الربح إلا مرةً واحدة، واحفظ المبلغ، ثم اضرب العشرة مع ربحها أولاً في مثله، ثم ما بلغ في العشرة مع ربحها كذلك بعدد مرات الربح إلا مرةً واحدة، واحفظ المبلغ، ثم اضرب رأس المال في المبلغ الأكثر، واقسم ما بلغ على المبلغ الأقل، فما خرج، فهو رأس المال بعد الأرباح.
7267- مثاله: رأس المال خمسة وعشرون درهماً، ربح عليها ده دو ازده (6) ثلاث مرات، فنضرب العشرة في العشرة، فما بلغ في العشرة أقل من عدد الأرباح مرة، فبلغ ألفاً، فحفظناها. ثم ضربنا العشرة مع ربحها، وذلك اثنا عشر في الاثني عشر [مرتين] (7) ، فبلغ [ألفاً] (8) وسَبعمائة وثمانيةً وعشرين، فضربنا الآن رأس المال، وهو خمسة وعشرون في هذا المبلغ أكثر، وقسمنا المبلغ على الألف التي هي المبلغ
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: بما نقسمه.
(3) ده يازده أو دو يازدة: مصطلح فارسي مستخدم في لغة التجارة، ومعناه: تربح العشرة فتصير أحدَ عشرَ أو اثني عشر، وهذا يقابل قولنا الآن: عشرة في المائة أو عشرين في المائة، أو المائة مائة وعشرة أو مائة وعشرون.
(4) العشرة: رمز لرأس المال.
(5) (ح) : في ما بلغ.
(6) ده دوازده: أي العشرة اثنا عشر.
(7) زيادة من (ح) .
(8) في الأصل: ألفان.(11/25)
الأقل، فخرج ثلاثة وأربعون درهماً وخُمسُ درهم، فذلك مبلغ المال بعد الأرباح الثلاث.
ومما يجب التنبه له أنا نضرب العشرة في العمل الأول في نفسها، ولا ننظر إلى رأس المال، ثم نضرب العشرة وربحَها على الترتيب الذي قدرناه، ولا نتعرض لمقدار رأس المال، وإنما نتعرض لنسبة ده يازده وده دوازده [ثم] (1) نضرب بعد هذين العملين رأسَ المال بالغاً ما بلغ في المبلغ الأكثر، ولو كانت نسبة الربح غير مأخوذة من العشرة، فيجب أن يكون العمل من النسبة المذكورة، فافهم.
7268- وإن كان العمل في الخسران، فاضرب العشرة في مثلها، إذا كان [الخسران] (2) ده يازده أو ده دوازده، وتكرر مراراً، فإذا ضربت العشرة في مثلها، [فما بلغ في العشرة، ثم اضرب الثمانية -إذا كان الخسران ده دوازده- في مثلها] (3) ثم ما بلغ في الثمانية؛ لأن الثمانية هي الباقية من العشرة. ثم اضرب رأسَ المال في المبلغ الأقل، واقسم ما بلغ على المبلغ الأكثر، فما خرج، فهو الباقي من المال بعد [الخسرانات] (4) .
وبيانه في الخمسة والعشرين إذا [خسر] (5) عليها ده دوازده ثلاث مرات: ضربنا العشرة في العشرة [مرتين] (6) ، كما ذكرناه في الأرباح، فبلغ ألفاً، فحفظناها، ثم ضربنا الثمانية وهي الباقي من العشرة بعد نقصان [الخسران] (7) منها في مثلها مرتين فيبلغ خمسَمائة واثني عشر، ثم ضربنا رأس المال، هو خمسةٌ وعشرون في المبلغ الأقل، وهو خَمسُمائة واثنا عشر، وقسمنا ما بلغ على المبلغ الأكثر، وهو ألف،
__________
(1) زيادة من (ح) .
(2) في الأصل: الجبران.
(3) زيادة من (ح) .
(4) في الأصل: الجبرانات.
(5) مكان بياضٍ بالأصل.
(6) بياض بالأصل.
(7) في الأصل: الجبران.(11/26)
يخرج من القسمة اثنا عشر درهماً وأربعةُ أخماس درهم، فهذا هو الباقي من الخمسة والعشرين، بعد أن خسر فيها ثلاث مرات ده دوازده، فقس على هذا نظائره.
وفيما يجري على الاعتبار في الأرباح، ده يازده، وده دوازده. أما ده يازده، فهو العشرة واحد، فردّه على المبلغ عشرة، وإن كان رأس المال درهماً بلغ درهماً وعُشْراً، وإن كان رأس المال عشرة، بلغ أحدَ عشرَ. وإن كان المال أحد عشرَ بلغ اثني عشر درهماً وعشرَ درهم.
فأما خسران ده يازده، فالحسّاب (1) ينقصون العشرة واحداً كما يزيدون لربحِ ده يازده واحداً، فالربح زيادة عُشْر [والخسران] (2) نقصان عُشر.
وللفقهاء ترددٌ في الخسران يظهر [أثره في عقدٍ] (3) استعمل فيه لفظ خسران ده يازده.
وذلك مثل أن يشتري عبداً بعشرة، فإن باعه على ربح ده يازده، فهذا بيعٌ بأحدَ عشرَ.
وإن باعه بخسران ده يازده، فالذي ذهب إليه جمهور الفقهاء أن العشرة تجري أحدَ عشرَ، ونحط منها جزءاً. والذي رآه الحُسّاب أن لفظ خسران ده يازده معناه نقصان عُشْرٍ تامّ، وهو نقيصة درهمٍ من عشرة.
وما ذكره جماهير الفقهاء متجهٌ في اللفظ، ولا دفع (4) لهذا في الباب الذي نحن فيه؛ فإن هذا البابَ ليس مُداراً على الألفاظ ومعانيها، وإنما [هو مُدارٌ] (5) على ما يقع (6) . فإذا فرضوا نقصان العُشر، حسبوا هذا الحساب، وعلى هذا مجاري
__________
(1) (ح) : بالحساب.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: أمره في لفظ.
(4) كذا في النسختين، ولعلها: (ولا وقع) أي لا مجال ولا أثر.
(5) في النسختين: " وإنما هي مدارةٌ " ولا توجيه لها إلا بالتعسف والاستكراه، وإعادتها إلى الألفاظ.
(6) أي على واقع الحال والاتفاق.(11/27)
الخسران، والربحُ على ما وصفناه (1) ، مع [التباس في النقائص] (2) التي ذكرناها (3) .
مسائل من نوادر الأرباح والخسرانات مقصودة في أنفسها، وهي تهذب الأصول
7269- فإن قيل: رجل ربح على رأس ماله ده دوازده للعشرة اثنين، وكان رأس ماله ثمانيةً ونصفاً، فكم المبلغ؟ وكم حصل معه؟
فاضرب ثمانية ونصفاً باثني عشر، واقسم ما بلغ على العشرة، فتخرج عشرةُ دراهم وخُمس درهم، فهي المبلغ المطلوب.
وإن قيل: خسر على رأس ماله ده دوازده، وكان رأس ماله ثمانية ونصفاً إلى كم يرجع رأس ماله؟
فاضرب الثمانيةَ والنصفَ في ثمانيةٍ؛ لأنها الباقي من العشرة على قاعدة الحساب بعد نقصان ده دوازده، فيبلغ ثمانيةً وستين، فاقسمها على العشرة فتخرج ستةُ دراهم وأربعةُ أخماس درهم، فهذا هو الباقي المطلوب.
فإن قيل: اشترى متاعاً وباعه فربح ده سيزده (4) ، فبلغ ثمنُه أحدَ عشرَ درهماً، كم (5) كان رأس المال؟
فاضرب الأحد عشر في عشرة، واقسم ما بلغ على ثلاثةَ عثرَ، فتخرج ثمانية دراهم وستة أجزاء من ثلاثةَ عشرَ جزءاً من درهم. فهذا كان رأسَ ماله، [فإن قيل: اشترى متاعاً، وباعه بخسران سيزده، فرجع ماله إلى تسعة. كم كان رأس ماله] (6) ؟
فاضرب التسعة في ثلاثةَ عشرَ، واقسم المبلغ على العشرة، فيخرج أحدَ عشرَ
__________
(1) على ما وصفناه: أي ليس محل خلاف.
(2) في الأصل: التباين في النقائص. والنقائص: هي الخسرانات.
(3) راجع هذا الخلاف بصورة أكثر تفصيلاً في باب بيع المرابحة من كتابنا هذا.
(4) ده سيزده: أي العشرة ثلاثة عشرة.
(5) ساقطة من (ح) .
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(11/28)
درهماً، وسبعة أعشار درهم، فهذا كان رأسَ المال.
7270- مسألة: إن قيل: رجل اشترى من اللؤلؤ خمسةً بدرهم، وباع ثلاثةً بدرهم (1) ، وربح ثلاثين درهماً، كم كان رأس ماله؟
فاضرب الربح وهو ثلاثون في عدد ما باع عليه اللؤلؤ وهو ثلاثة، فيبلغ تسعين، فاقسمها على ما فضل ما بين الذي باع والذي اشترى، وهو اثنان، فيخرج خمسة وأربعون، فهذا رأس ماله.
وفيه طريق آخر، وهو أن تعلم أن الذي اشتراه بدرهم باعه بمثل ما اشتراه به، وبمثل ثلثي ثمنه، فكأنه اشترى خمسةً بدرهم وباع الخمسة بدرهمٍ وثلثي درهم، فربح على كل درهم [مثلَ] (2) [ثلثيه] (3) فكأنه ربح على رأس المال مثلَ ثلثيه، فإذا كان الربح ثلثين، فهي مثل ثلثي رأس المال، فزد على الثلثين نصفَها، تكون خمسةً وأربعين، فهي رأس ماله.
فإن قيل: اشترى خمسةً بدرهم، وباع [سبعةً] (4) بدرهم، وخسر ثلاثين درهماً، كم رأس ماله؟ فاضرب مقدار الخسران، وهو ثلاثون فيما باع، وهو سبعة، يكون مائتين وعشرة، فاقسمها على فضل ما بين السعرين، وهو اثنان، فيخرج مائة وخمسة، فهي رأس المال قبل الخسران.
ثم يتجه فيه قياس آخر، وهو أن نقول: إذا اشترى خمسة بدرهم، وباع سبعةً بدرهم، فقد باع ما شراه بدرهم بخمسةِ أسباع درهم، فخسر على كل درهم مثل سبعيه، وعلم أنه خسر رأس ماله على هذه النسبة، فهذا مالٌ سبعاه ثلاثون، فسُبعه إذاً خمسة عشرَ، فاضرب الخمسة عشرَ في سبعة يكون مائة وخمسة، فهي رأس المال.
7271- مسألة: إن قيل: ثلاثةٌ اشترَوْا سلعةً باثني عشرَ درهماً، فأعطى أحدهم
__________
(1) المعنى: أنه اشترى مقداراً كل خمسةٍ منه بدرهم، وباعه كل ثلاثة بدرهم، لا أنه اشترى خمسةً واحدة.
(2) زيادة من (ح) .
(3) في الأصل: مثله.
(4) في الأصل: تسعة.(11/29)
ثلاثةَ دراهم، والثاني أربعةً، والثالث خمسة، ثم باعوا، فربحوا عليها سبعة دراهم، كم نصيب كل واحد منهم من الربح؟ فالطريق أن نضرب نصيبَ كل واحد منهم من رأس المال [في السبعة التي هي الربح، ونقسم المبلغ على الاثني عشر، التي هي مجموع الأنصباء من رأس المال] (1) ، فما خرج، فهو نصيب صاحب النصيب من الربح؛ لأن كلّ شريك نصيبه من الربح على قدر نصيبه من رأس المال.
وبيان ذلك أن نضرب ثلاثة من رأس المال، وهي نصيب صاحب الثلاثة في السبعة التي هي الربح، فيردّ الضربُ أحداً وعشرين، ونقسم المبلغ على اثني عشر، فيخرج من القسمة نصيب الواحد: درهم وثلاثة أرباع، فنقول: هذا نصيب صاحب الثلاثة من الربح.
ثم نضرب أربعة في السبعة، فترد ثمانيةً وعشرين، ونقسم المبلغ على اثني عشر، فيخرج نصيبُ الواحد درهمين وثلث، فهذا نصيب صاحب الأربعة من الربح.
ثم نضرب الخمسة في السبعة، فترد خمسةً (2) وثلاثين، فنقسمها على اثني عشر، فيخرج من القسمة ثلاثة غير نصف سدس، فهذا نصيب صاحب الخمسة من الربح، ومجموع ما يخرج من القسمة سبعة.
وقد تتجه [طريقة] (3) أقرب (4) مما ذكرنا، وهي أن صاحب الثلاثة له ربع رأس المال، فله ربع الربح، وذلك درهم وثلاثة أرباع درهم، وصاحب الأربعة له ثلث رأس المال، فله من الربح ثُلثه، وهو درهمان وثلث، وصاحب الخمسة له من رأس المال [ربعه وسدسه] (5) ، فله من الربح ربعه وسدسه، وذلك درهمان وخمسة دوانيق ونصف.
7272- مسألة: إن قيل: رجل ربح على ماله الدرهم درهماً، وتصدق [بدرهم،
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ح) .
(2) (ح) : سبعة وثلاثين.
(3) زيادة من المحقق.
(4) (ح) : أربعة.
(5) في الأصل: أربعة وسدس.(11/30)
ثم ربح الدرهم درهماً، وتصدّق] (1) بدرهمين، ثم الدرهم درهماً، وتصدق بثلاثة دراهم [يعني رأسَ ماله، كم كان رأس ماله] (2) ؟
فخذ واحداً وأضعِفْه ثلاث مرّات، لأنه ربح ثلاث مرات، تكون ثمانية، فهي المقسوم عليها، فاحفظها، ثم خذ الصدقة الأولى، وهي درهم فأضعفه، وزد عليه الصدقة الثانية، وهي درهمان، تصير أربعة، فأضعفها، وزد عليها الصدقة الثالثة وهي ثلاثة، فتكون أحدَ عشر، فاقسمها على الثمانية المحفوظة، فيخرج درهم وثلاثة أثمان درهم، وهو رأس المال.
فإن قال: ربح للدرهم درهمين، وتصدق بخمسة، ثم ربح للدرهم درهماً وتصدق بعشرة دراهم، ثم ربح للدرهم درهماً، وتصدق بتسعة دراهم، فبقي معه درهمان، كم كان رأس المال؟
وقد ذكر الأستاذ في التكملة طريقةً في التضعيف [والجمع] (3) قد تطول على الناظر، ورأيت طريقة الجبر أقربَ منها وأحرى (4) وهي أولى، فكل مسألة مقصودها استخراج مجهولٍ، فنقول: نجعل رأس المال شيئاً، فلما ربح للدرهم درهمين، صار ثلاثة أشياء، فتصدق بخمسة دراهم، فبقي ثلاثةُ أشياء ناقصةً بخمسة دراهم، ثم لما ربح للدرهم درهماً، كان معنى ذلك أن ما بقي معه بعد خمسة دراهم تضعّف، فنقول: الآن معنا ستة أشياء ناقصةً بعشرة دراهم، فيكون الزائد مثل المزيد عليه، فتصدق بعشرة دراهم، فحصل معنا ستة أشياء ناقصةً بعشرين درهماً، فلما لربح للدرهم درهماً تضعّفت الأشياء الستة [بما] (5) فيها من الاستثناء، وكان معنا ستة أشياء ناقصةً بعشرين درهماً، فالآن إذا ضعفناها صارت اثنا عشر شيئا ناقصةً [بأربعين درهماً، فتصدق منها بتسعة دراهم، فحصل معنا اثنا عشر شيئاً ناقصةً] (6) بتسعةٍ
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) عبارة الأصل: وتصدق بثلاثة دراهم من رأس ماله. وكأن المعنى أنه تصدق بكل الربح مع رأس المال.
(3) في الأصل: والجملة.
(4) (ح) : وأجرى.
(5) في النسختين: معها فيها، والمثبت تقدير منا.
(6) ساقط من الأصل.(11/31)
وأربعين درهماً. فهذه الأشياء مع الاستثناء تعدل درهمين؛ فإن السائل قال: [بقي معه] (1) درهمان، فنجبر الأشياء بتسعةٍ وأربعين، ونزيد على الدرهمين تسعةً وأربعين، فتصير اثني عشر شيئاً كاملةً في معادلة أَحدٍ وخمسين، فنقسم الدراهم على الاثني عشر [شيئاً لمعرفة قيمة] (2) كل شيء، فيخرج من القسمة أربعةٌ وربع فانضمَّ إليه مثلاه، فصار المجموع اثنا عشر وثلاثة أرباع، فتصدق منها بخمسة، فبقي سبعة وثلاثة أرباع، ثم تضعف هذا المبلغ، فصار المجموع خمسةَ عشرَ ونصفاً، فتصدق منها بعشرة، فبقي خمسةٌ ونصف، ثم تضعف هذا، فصار أحدَ عشرَ، ثم يتصدق بتسعة، فبقي درهمان، فهذا قياس الباب.
وقد ذكر الأستاذ [صوراً جميعها تخرج على] (3) هذا المسلك.
فصل
في بيان حساب الزكوات
7273- هذا الفصل يشتمل على مقصودين: أحدهما - في تعجيل الزكاة قبل وجوبها بحولٍ أو أحوال.
والثاني - في إخراج الزكاة عن المال لسنين ماضيةٍ.
فأما تعجيل الزكاة، ففيه باب يحوي فقهه، وهو من أغمض أبواب كتاب الزكاة، وقدمناه على أحسن مساق، والقدر المطلوب هاهنا من ذلك الباب يترتب على مسألةٍ نذكرها:
فإذا ملك الرجل أربعين من الغنم، وانعقد الحول عليها، فأراد أن يعجّل زكاتَها، جاز ذلك، عند الشافعي، وإذا انقضى الحولُ، وفي يد المعجِّل تسعةٌ وثلاثون، فالشاة المعجلة وقعت محتومةً واجبةً عن الزكاة المفروضة، وتحقيق مذهب الشافعي
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل، قدر كلمتين، وعبارة (ح) : قال: بقي درهمين. (كذا) .
(2) في الأصل بياض قدر ثلاث كلمات. وعبارة (ح) : على الاثني عشر شيء (كذا) قيمة كل شيء.
(3) عبارة الأصل: ذكر الأستاذ تخريج هذا المسلك.(11/32)
أن الزكاة المعجلةَ في حساب النصاب كالمبقّاة في يد المعجِّل. فإذا [حال] (1) الحول، فالتقدير أن الشاة أخرجت الآن.
وأبو حنيفة لا يجوِّز تعجيل الزكاة عن نصاب، ويعتد بأن الشاة إذا قدّر إخراجها من الأربعين، وانقضى باقي الحول على تسعةٍ وثلاثين، فلا يصادف [منقرضُ] (2) الحول نصاباً، ولا تجب الزكاةُ، وإذا لم تجب [، لم يقع] (3) الاعتداد بما قُدّم على [قصد] (4) التعجيل. وعلى هذا الخلاف تجري مسائِل التعجيل.
فلو ملك مائة وعشرين شاة، [فعجل زكاتها شاة] (5) ، ثم نُتجت منها شاة قبل الحول، فحال الحول، وفي يده مائة وعشرون شاة، فعليه عند الشافعي شاةٌ ثانية؛ فإن غنمه لو كانت مائة وأحداً وعشرين، لكان واجبُها شاتين، والمخرَج المعجل في حكم الباقي على ملك المعجِّل فيما يتعلق ببيان مقادير [النصب] (6) ، وإذا نحن قدّرنا ضمَّ الشاة المعجّلة إلى المال، وقد زادت واحدة، لكان يجب فيها شاتان.
وأبو حنيفة يقول: إذا عجل شاةً عن مائةٍ وعشرين ونتجت (7) شاة، وحال الحول والغنم مائةٌ وعشرون، لم تجب شاةٌ أخرى؛ نظراً إلى ما انقرض الحول عليه، وهو مائةٌ وعشرون، والمخرَج المعجَّلُ لا يقدّر ضمُّه إلى المال الباقي في يد (8) المالك.
فهذا القدر الذي أردنا التنبيه عليه من فقه باب التعجيل.
7274- ونفرض الآن قولنا في الدراهم والدنانير، فإن زكاتها تجب بالجزئية على نسبةٍ واحدةٍ. فمهما (9) ملك الرجل نصاباً من أحد التبرين، عجّل زكاته -عندنا- إن أراد، ولم يعجلها عند أبي حنيفة؛ فإن النصاب ينقص بالمخرَج، فيحول الحول على
__________
(1) في الأصل: جاز.
(2) في الأصل: منصوص.
(3) في الأصل: ما يقع.
(4) في الأصل: نصب.
(5) زيادة من: (ح) .
(6) في الأصل: النصيب.
(7) (ح) : وتجب.
(8) (ح) : فيزيد المالك.
(9) "فمهما": بمعنى: فإذا.(11/33)
مالٍ ناقصٍ عن النصاب، فليقع الفرض فيه إذا ملك أكثر من النصاب، وأراد [التعجيل، فيبين] (1) تفاوتٌ في النسبة بين مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وذلك التفاوت بين الحساب [هو] (2) مقصود الفصل، فنقول: على مذهب الشافعي: مهما أراد تعجيلَ زكاةِ الذهب والورِق، أخرج ربعَ عشره، وعلى قولِ أهل الرأي يقسم ماله على أحدٍ وأربعين، فما خرج من القسمة بسهم واحد، فهو زكاته المعجَّلة، وذلك [أنه] (3) لا يرى ضم المخرَج إلى الباقي، فينبغي أن يكون المخرج زائداً على الباقي بناء على الأصل الذي مهدناه وبيّناه بالمسألتين المذكورتين في الماشية.
فإن أراد تعجيل نصفِ زكاته، فمذهب الشافعي أنه يخرج جزءاً من ثمانين جزءاً من ماله، فيقع ذلك ثُمن عُشر ماله، وهو نصف الزكاة.
وعلى مذهب أبي حنيفةَ إذا أراد تعجيلَ نصف الزكاة، أخرج من أحدٍ وثمانين جزءاً من ماله جزءاً.
وإن أراد تعجيل ثلث زكاته، فمذهب الشافعي أن ما عنده يقسم على مائةٍ وعشرين سهماً، فما خرج قسمةً لسهم واحد يخرجه، وقد عجل ثلث زكاته.
وعند أبي حنيفة يقسم ماله على مائةٍ وأحدٍ وعشرين جزءاً، فما خرج نصيب الواحد، عجّله، فهو يزيد أبداً جزءاً على ما يقدره الشافعي.
وإن أراد تعجيل ثلثي زكاته، قسم ما عنده من ورِقٍ على مائةٍ وعشرين في قول الشافعي، فما خرج عن القسمة نصيباً لواحد أخرج [ضعفه] (4) ؛ فإن نصيب الواحد من مائةٍ وعشرين ثلث، فإن أراد الثلثين، ضعّف.
وفي قول أهل العراق يقسّم مالَه على مائةٍ واثنين وعشرين، فما خرج لسهمين عجله، فتعتدل النسبةُ على رأيه.
__________
(1) في النسختين اضطراب، ففي الأصل: وأراد بالتعجيل تبيين تفاوت ... إلخ. وفي (ح) : وأراد التعجيل فإذا تبين تفاوت ... إلخ. والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون هو الصواب.
(2) في الأصل: وهو.
(3) في النسختين: إذ.
(4) ساقطة من الأصل.(11/34)
هذا بيان هذا المقصود.
7275- فأما المقصود الثاني وهو بيان إخراج الزكاة لسنين ماضيةٍ ما كان اتفق الإخراج فيها، والتفريع على أن تعلّق الزكاة بالعين [يخرجه] (1) عن إمكان تعلق الزكاة [به] (2) في السنة الأخرى على ما تمهد ذلك في فقه الفصل.
فإذا أردت تدارك زكوات المال في السنين [المنقضية] (3) والمال دراهمُ أو دنانيرُ، فانظر إلى عدد السنين، ثم ارجع، فاضرب الأربعين في مثله، فما بلغ فاضربه في الأربعين (4) ، وليكن عددُ الضرب على هذا النسق مثلَ عدد سني الزكاة إلا مرةً واحدة، فما بلغ، فاحفظه.
ثم اضرب تسعةً وثلاثين في مثلها، فما بلغ في تسعة وثلاثين بعدد سني الزكاة إلا مرةً واحدة، ثم اضرب المالَ الذي [تريد] (5) إخراجَ زكاتِه في الأقل، فما بلغ فاقسمه على المبلغ الأكثر، فما (6) خرج من القسمة نصيب الواحد، فهو مقدار الباقي من المال الذي أردت إخراج الزكاة منه لتلك السنين بعد إخراج الزكوات.
فإن أردت مقدار ما أخرجت، فقدّر (7) ما يبقى بعد المال الذي وصفناه (8) إلى قيمة (9) القدر قبل إخراج الزكاة. وهذا حساب الخسران؛ فإن الزكاة تنقصُ المال على نسبةٍ واحدةٍ، كما فرضنا في [الخسرانات وقوعها] (10) على نسبةٍ واحدةٍ، فتشابه مسلك (11)
__________
(1) في الأصل: مخرجة.
(2) مزيدة من (ح) .
(3) في الأصل: المنفصلة، وفي (ح) : النقضية. والمثبت تقدير منا.
(4) (ح) : فما بلغ فاضربه في الأربعين (كررتها مرتين) .
(5) مكان بياضٍ بالأصل.
(6) (ح) : فأخرج.
(7) (ح) : يقدره ما تبقى.
(8) (ح) : وصفته.
(9) (ح) : تتمة.
(10) في الأصل: الجبرانات وفرعها.
(11) (ح) : ملكا الحساب.(11/35)
الحساب، غير أن وجه النسبة في الأربعين هاهنا ووجه النسبة ثَمَّ يَجري في رأس مالٍ بقدره [وينسب] (1) الربح إليه كتقديرنا العشرة والربح ده يازده، والخسران ده يازده، واقتضى قولنا: ده يازده رعايةَ نسبة العشرة.
فصل
في حساب الجزية
7276- إذا قيل: ثلاثةٌ من العلوج جزية أحدهم ثمانية دنانير، وجزية الآخر عشرة دنانير، وجزية الثالث أربعةَ عشرَ ديناراً، فزيدت عشرة على [جزيتهم] (2) ، فكم نصيب كل واحد منهم من تلك الزيادة؟ فقياس الباب أن تجمع الثمانية، والعشرة، والأربعة عشر، فتكون اثنين وثلاثين، وهي المقسوم عليها، فاحفظها.
ثم اضرب نصيبَ كل واحد منهم من الاثنين والثلاثين في العشرة المزيدة (3) ، ثم اقسم المبلغ على الاثنين والثلاثين المحفوظة، فما خرج من القسمة هو نصيبه من الزيادة، وعلى هذا القياس يخرج نصيب صاحب الثمانية من الزيادة [ديناران] (4) ونصف، فنزيده على الثمانية التي هي أصل جزيته، (5 فتبلغ عشرة ونصفاً، ونصيب صاحب العشرة من الزيادة ثلاثةٌ وثمن، فتبلغ جزيتُه 5) ثلاثةَ عشرَ ديناراً وثمن دينار، ونصيب صاحب الأربعةَ عشرَ يجري منه على الترتيب المقدم في الضرب والقسمة، فيخرج نصيبه أربعة دنانير وثلاثة أثمان دينار، فتبلغ جزيته سبعةَ عشرَ ديناراً، وثلاثةَ أثمان دينار.
وهذا الحساب [بعينه هو الحساب] (6) الذي ذكرناه في زيادة ربحٍ على رؤوس
__________
(1) في الأصل: وسبب.
(2) في الأصل: جزء سهم.
(3) في النسختين: المزيد.
(4) في الأصل: دينار.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ح) .
(6) زيادة من (ح) .(11/36)
[أموال] (1) مختلفة الأقدار؛ فإن الجزية زيادةٌ نأخذها.
فإن كانت المسألة بحالها، ونقصت من جزية الجميع عشرةَ دنانير، فانقص من أصل جزية كل علج ما كنت تزيده عليه لو كانت الزيادة بدلاً عن النقصان، فما بقي، فهو جزيته الباقية، وهذه الجملة تجري في [الأخرجة] (2) على أصل من يراها إذا فرضت زيادة عليها أو نقصان منها.
7277- مسألة: فإن قيل: إذا مرّ حربي بعشّار يأخذ من كل أربعين درهماً درهماً، ومع من مرّ به عشرةُ أثواب، فأخذ العشار على هذا الحساب ثوباً، ورد عليه درهماً، كم ثمن كل ثوب؟
فطريق الباب أن نضرب الدرهمين في أربعين، فترد ثمانين، فاحفظها، ثم اقسم عددَ الأثواب، وهو عشرة على ما أخذه العشار، وهو واحد، فتكون عشرة، فانقصها من الأربعين يبقى منها ثلاثون، فاقسم عليها الثمانين (3) المحفوظة، فيخرج درهمان وثلثان، فذلك قيمة كل ثوب.
وإن أردت تقريباً بطريق النسبة، [قلت] (4) المسألة مفروضةٌ فيه إذا كانت الأثواب متساويةَ القيم لا محالة، فكل ثوب عُشر الجملة، فإذا اقتضى التعديل ردَّ درهمين، والمستحق ربعُ العشر، وكل ثوب عشر البضاعة، والدرهمان المردودان ثلاثة أرباع الثوب، فإذا [تقدّر] (5) ثلاثةُ الأرباع بدرهمين، فقيمة الربع ثُلثُ الدرهمين، وهو ثلثا درهم، فكل ثوب قيمته درهمان وثلثان، وقيمة الثياب ستة وعشرون درهماً وثلثان، وعشر هذا المبلغ درهمان وثلثان، وربع الدرهمين والثلثين ثلثا درهم، فقد أخذ الثوبَ، وهو يستحق منه مقدار ثلثي درهم، فيرد لذلك درهمين.
__________
(1) في الأصل: المال.
(2) مكان بياضٍ بالأصل.
(3) (ح) : الثنى.
(4) تقدير منا مكان بياضٍ بالأصل. وفي (ح) : ثلث.
(5) في النسختين: تقدم.(11/37)
7278- فإن أخذ منه العشّار ثوبين وردَّ عليه عشرين درهماً، كم ثمن كل ثوب؟
فاضرب العشرين في الأربعين، فالمردود في هذه المسألة ثمانمائة، فاحفظها ثم اقسم الأثواب، وهي عشرة على العدد الذي أخذه العشار من الأثواب، [وهو اثنان] (1) ، فيخرج خمسة، فانقصها من الأربعين، يبقى منها خمسةٌ وثلاثون، فاقسم عليها الثمانمائة المحفوظة، فيخرج اثنان وعشرون درهماً وستُّ أسباع درهمٍ، فذلك قيمة الثوبين المأخوذين، ويكون قيمة كل ثوب أحدَ عشرَ درهماً وثلاثةُ أسباع درهم.
وطريقة النسبة أن كل ثوب عُشر البضاعة، والثوبان خُمُسها.
وإن كان يأخذ من العشرة ربعها، فيأخذ من الخمس ثمناً، فالمستحق من الثوبين ثمنها، والعشرون درهماً في مقابلة سبعة أثمانها، فإذا كانت سبعة أثمان تساوي عشرين، فأردنا قيمة الثمن الآخر، زدنا على العشرين سُبعها، وهي اثنان وستة أسباع، فيخرج قيمةُ الثوبين، كما خرج بالضرب والقسمة.
ثم قيمةُ كل ثوب نصفُ ذلك أحدَ عشرَ وثلاثة أسباع.
فإن أخذ من عشرة أثواب [ثوباً، ورد عليه] (2) مثل جذر ما أخذ، كم ثمن كل ثوب؟
فقد علمت أن العشار إنما يطلب من عشرة أثوابٍ رُبعَ ثوب، فإذا أخذ ثوباً، لزمه أن يرد ثلاثة أرباع ثوب، فاقسم واحداً على ثلاثة أرباع، فيخرج واحد وثلث، فهذا جذر ما أخذ، فاضربه في مثله يكون واحداً وسبعةَ أتساع، فهذا قيمة كل ثوب.
والحساب يعتدل (3) إذا امتحنت.
وإن شئت فاقسم العشرة على [العدد] (4) الذي أخذه، وهو واحد، فتكون عشرة، فانقصها (5) من الأربعين، تبقى ثلاثون، واقسم الأربعين على هذه الثلاثين، فيخرج واحد وثلث، وهو جذر ثمن كل ثوب.
__________
(1) في الأصل: وهذا بيانه.
(2) عبارة الأصل: ثمن ما ورد علينا. والمثبت من (ح) .
(3) (ح) : معدل.
(4) في الأصل: القدر.
(5) (ح) : فابعضها.(11/38)
فإن أخذ منه ثوبين وردّ عليه جذرَ ما أخذ، فانقص ربعَ ثوبٍ من ثوبين؛ لأن له من عشرة أثواب ربعَ ثوب، [يبقى ثوبٌ] (1) وثلاثة أرباع، وهو الذي يلزمه رده، فاقسم الثوبين على واحدٍ وثلاثة أرباع، فيخرج واحدٌ وسبع، فهذا (2) جذر ثمن الثوبين.
وإن شئت، فاقسم العشرة الأثواب على الثوبين، فيخرج خمسة، فانقص الخمسة من الأربعين، تبقى خمسةٌ وثلاثون، فاقسم الأربعين على الخمسة والثلاثين، فيخرج واحد وسبع، فهو جذر ثمن الثوبين.
فصل
7279- مسألة: في حساب الأرزاق والجرايات تمس إليها حاجةُ الأمراء في إدرار الرزق على الجند المعقود.
إن قيل: قائدٌ أعطى جنده أرزاقهم، فأعطى أول رجل منهم درهماً، والثاني درهمين، والثالث ثلاثة، وعلى هذا وقع التفاضل بدرهم درهم، فلم يرضَوْا بذلك، فاسترجع منهم الدراهمَ، وقسمها بينهم بالسوية، فأصاب كلَّ واحد منهم ثلاثون درهماً. كم عدد الرجال وعددُ الدراهم؟
فأضعف نصيبَ الواحد منهم عند التسوية، وهو (3) ثلاثون، فيبلغ ستين، فانقص منه واحداً أبداً، يبقى تسعةٌ وخمسون، وهي عدد الرجال، فاضربها في ثلاثين، فما بلغ فهو عدد الدراهم.
ونظير هذه المسألة من طرائف الحساب أن يقال: جواري دخلن بستاناً فتناولت الأولى رمانة، والثانية اثنتين، والثالثة ثلاثة، وتفاوتن واحدةً واحدةً، ثم [اقتسمن] (4) بالسويّة، فأصاب كلّ واحدة سبعُ رمانات، فأضعف السبعة، وانقص من
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) (ح) : هذا.
(3) (ح) : وهم.
(4) في الأصل: اقسم.(11/39)
الضعف واحداً، تبقى ثلاثةَ عشرَ، وهي عددهن، ثم اضرب ذلك في سبعة، فما بلغ، فهو عدد الرمان.
فإن قيل: جيش خرج ربعه من مدينة أصاب أولُهم درهماً، والثاني درهمين والثالث ثلاثة دراهم، ثم تفاضلوا (1) بدرهم [درهمٍ] ، (2) ، فاقتسم (3) الجيشُ كلّه فيما (4) أصاب الربع منهم بينهم بالسوية، فأصاب كل رجل منهم خمسة دراهم، كم الجيش كلّه؟ وكم الدراهم؟
قياس الباب أن نضرب (5) أربعة -لقوله ربع الجند (6) - في اثنين أبداً، وإذا (7) كان التفاضل بدرهم درهم، فيكون ثمانية، ثم اضربها في الخمسة التي هي حصة كل واحد، يكون أربعين، أسقط منها واحداً أبداً تبقى تسعة وثلاثون، فذلك ربع الجند، وجميع الجند أربعة أمثاله، وهو مائة وستة وخمسون، فاضربها في خمسة، فما بلغ، فهو عدد الدراهم.
7280- فإن قيل والمسألة بحالها: أصاب الأولُ درهماً والثاني ثلاثة، والثالث خمسة، ثم تفاضلوا كذلك بدرهمين درهمين، ثم اقتسم كلُّ الجند ما حصَّل [ربع الجند] (8) فأصاب كل واحد منهم خمسة، فاضرب أربعة لقوله ربع الجند في خمسة، لقوله أصاب كل واحد منهم خمسة، فيكون عشرين، ولا حاجة إلى التضعيف في هذه المسألة؛ فإن التفاضل وقع بدرهمين درهمين، [فرُبع] (9) الجند عشرون، ولا يخفى العمل بعدّة [الضربات] (10) .
__________
(1) (ح) : فاضلوا.
(2) مزيدة من (ح) .
(3) (ح) : فانقسم.
(4) (ح) : فلما أصاب.
(5) (ح) : يصرف.
(6) (ح) : الجذر.
(7) (ح) : إذا. (بدون واو) .
(8) في الأصل: له مع الجند.
(9) في الأصل: فدفع.
(10) في الأصل: بعده والصواب. (وهذا من طرائف التصحيف، وما أكثرها) .(11/40)
فلو قال: أصاب كل واحد ثلاثة، فضربت الأربعة في ثلاثة، ولو [تفاضلوا] (1) بثلاثة ثلاثة، أو بأكثر، لضربت الأربعة فيما تفاضلوا به، وطردت المسائل على العمل المتقدم.
7281- فإن قيل: مائة درهم [وقفيز] (2) حنطة، [وقفيز] (2) شعير، [وقفيز] (2) ذرة تقسم على عشرين مسكيناً بالسويّة، والمرعيُّ الاستواء في [الماليّة] (3) ، فأصاب خمسة منهم الحنطة، وأربعة منهم الشعير، وثلاثة منهم الذرة (4) . كم ثمن كل قفيزٍ؟ وكم حصةُ كلِّ مسكينٍ؟ قياس الباب أن نجمع [عِدَّة] (5) القوم الذين أخذوا الأصناف وهم اثنا عشر، فنقسم المائة على الثمانية (6) ، وتعلم حصة كل واحد من الدراهم، فتعلم أن حصة كلِّ مَن أخذ صنفاً من الأصناف مثلُ ذلك المقدار، ثم نجمع تلك الحصص [ونستخرج] (7) [قيمة] (8) كل صنف. فإن أردت مسلك الحسّاب، قلت (9) : نقسم المائة على ثمانية، فيخص كل واحد منهم اثنا عشر ونصفٌ، فإذا أردت معرفة ثمن الحنطة، فاضرب الاثني عشر والنصف في عدد الذين أخذوا الحنطة، وهم خمسة، فيكون اثنين وستين ونصفاً، واضربها أيضاً في عدد الذين أخذوا الشعير، وهم أربعة، فيكون خمسين، المبلغ الأول قيمة الحنطة، وهذا قيمة الشعير، فاضربه (10) في عدد أصحاب الذرة، وهم [ثلاثة] (11) فيكون سبعة وثلاثين ونصفاً، فذلك ثمن الذرة.
__________
(1) في النسختين: غلط.
(2) في الأصل: وقفة.
(3) في الأصل: المسألة.
(4) وأخذ الثمانية الباقون المائة درهم.
(5) في الأصل: هذه، (ح) : عنده.
(6) الثمانية: أي الذين أخذوا المائة درهم.
(7) في النسختين: ونستثني.
(8) في الأصل: فيه.
(9) (ح) : ثلث.
(10) فاضربه: المراد الاثنا عشر، وليس قيمة الشعير.
(11) في الأصل: ثلاثون.(11/41)
فصل
في حساب البرد والفيوج (1) ، تمس الحاجة إليه في جواسيس الجنود
7282- إذا قيل: بَرِيدان أرسلتهما إلى موضع وأمرت أحدَهما أن يسير كلّ يوم عشرين فرسخاً، وأمرت الآخر أن يسير اليوم الأول فرسخاً، واليوم الثاني فرسخين، والثالث ثلاثةً، ثم يزيد سيرَه في كل يوم فرسخاً، ففي كم يوم يلحق الأول؟
قياس الباب أن نأخذ نصف الفضل الواقع في سير الثاني، وذلك نصفٌ؛ فإن سيره في كل يوم يفضل سيره في أمسه بواحدٍ، فخذ نصفه، وانقصه من مقدار [سيره] (2) في اليوم الأول، فيبقى نصفه، فنلقيه من العشرين، التي هي سير صاحب العشرين في كل يوم، يبقى تسعةَ عشرَ ونصف، فاقسمه على نصف التفاضل وهو نصف، فيخرج تسعة وثلاثون؛ فإن القسمة على الكسور معناها بيان حصة الواحد، فإذا كان النصف تسعة عشر ونصف، فالواحد تسعة وثلاثون، [فنقول] (3) يلحقه في تسعة وثلاثين يوماً.
فإن كان الأول يسير كل يوم عشرين فرسخاً، ويسير الآخر في اليوم الأول فرسخين، وفي الثاني ثمانية، وفي الثالث أربعة عشر فرسخاً، فكان يزيد كل يوم ستة فراسخ، فنصف التفاضل أكثر مقدار مسيره في اليوم الأول. فإذا [اتفق] (4) ذلك، فانقُص سيرَه في اليوم الأول، وهو اثنان من نصف التفاضل وهو ثلاثة، يبقى واحد، فزده على العشرين، واقسم المبلغ على نصف التفاضل وهو ثلاثة، فيخرج سبعة أيام، ففي مقدارها يلحقه.
7283- فإن قيل: بريد أرسله بشرط أن يسير كل يوم خمسة فراسخ، فسار عشرين
__________
(1) البُرد والفيوج: البرد جمع بريد، وهو هنا بمعنى الرسول، ومثله الفَيْج مفرد فيوج (معجم ومصباح) .
(2) في النسختين: نصيبه.
(3) في النسختين: فقد.
(4) في الأصل: ابين.(11/42)
يوماً، ثم أرسلت آخر بعد العشرين، وأمرته أن يسير كل يوم ثمانية فراسخ في كم يومٍ يلحق الأول؟
فانقُص الخمسة التي هي سير الأول من الثمانية التي يسيرها الثاني، يبقى ثلاثة، وهي المقسوم عليها. ثم اضرب أيام [المسير] (1) وهي عشرون في مقدار مسير السابق في كل يوم، وهو خمسة، فيبلغ مائةً، فاقسمها على الثلاثة المحفوظة، فيخرج ثلاثة وثلاثون وثلث، ففي مقدارها من الأيام يلحقه.
7284- فإن قيل: بريدان خرج أحدهما من بغداد إلى الكوفة يسير كلَّ يوم ثلث الطريق، وخرج الآخر في تلك الساعة من الكوفة إلى بغداد يسير كل يوم ربع الطريق، في كم من الزمان يلتقيان؟ خذ مخرج الثلث والربع، وهو اثنا عشر، فاجمع ثلثها وربعها، فتكون سبعة، فهي أجزاء اليوم، فاقسم الاثني عشر على السبعة، فيخرج واحدٌ وخمسةُ أسباع يوم، فيلتقيان في مقدار يوم وخمسة أسباع يوم.
فإن أردت أن تعرف ما قطعه كلُّ واحدٍ منهما، فاضرب السبعةَ في الاثني عشر، فيبلغ أربعةً وثمانين، [فهي أجزاء الطريق] (2) ثم أنت تعلم أن الذي يسير في كل يوم ثلثَ الطريق يسير في كل يوم وخمسة أسباع يوم ثمانيةً وأربعين جزءاً من أربعةٍ وثمانين. والذي يسير في اليوم ربع الطريق يسير في يوم وخمسه أسباع يوم ستةً وثلاثين جزءاً من أربعةٍ وثمانين جزءاً، فهذا مقدار مسيرهما، ويلتقيان على أربعة أسباع الطريق مما يلي بغداد، وثلاثة أسباعه مما يلي الكوفة.
7285- فإن قيل: بريد وجهتَه من بغداد إلى الرَّي وأمرته أن يسير إليها في خمسة أيام، وأمرت بريداً آخر أن يسير من الري إلى بغداد في سبعة أيام، فخرجا في ساعةٍ واحدة [يؤمّان مقصديهما] (3) في كم يلتقيان؟
الطريقُ أن نجمع الخمسة والسبعة، فالمجموع اثنا عشر، وهي المقسوم عليها،
__________
(1) (ح) : السبق.
(2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام إلا بها. وقد سقطت من النسختين.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.(11/43)
ثم اضرب الخمسةَ في السبعة، فتبلغ خمسةً وثلاثين، فاقسمها على اثني عشر، فيخرج يومان وأحدَ عشرَ جزءاً من اثني عشر جزءاً من يوم، ففي (1) مقدار ذلك يلتقيان.
7286- فإن قيل: بريدٌ وجهته إلى موضعٍ، وأمرته أن يسير كلّ يوم في قصده ثمانيةَ عشرَ فرسخاً، وفي انصرافه كلَّ يوم اثني عشر فرسخاً، فانطلق [وعاد] (2) في أربعين يوماً. في كم ذهب؟ وفي كم انصرف؟ فاجمع سيرَ الذهاب في كل يوم، وسيرَ الانصراف في كل يوم، فيبلغ [ثلاثين] (3) فهي المقسوم عليها، ثم اضرب سير الانصراف، وهو اثنا عشر في الأربعين التي هي المدة، فيبلغ أربعمائة وثمانين، فاقسمها على ثلاثين، فيخرج ستة عشرَ، فذلك زمان انطلاقه، [ومن ستةَ عشرَ] (4) إلى تمام الأربعين زمان انصرافه.
فإن أردت عدد الفراسخ، فاضرب أيام الانطلاق في ثمانيةَ عشرَ، وزمانَ الانصراف في اثني عشرَ، فما بلغ فهو عدد الفراسخ.
7287- فإن قيل: بريد سار من بلدٍ إلى مقصدٍ، فكان يسير كلّ يوم خُمس الطريق، ويرجع سُبع الطريق، في كم [يومٍ] (5) يقطع المسافة؟ فهذا يناظر مسألة من طرائف الحساب، وهو قول القائل حيّةٌ يخرج كل يوم خُمسها من جحرها ويدخل سُبعُها، في كم يوم يتم خروجها؟ فاطلب مخرج الخُمس والسبع، وهو خمسة وثلاثون، فخذ التفاضل بين الخمسة والسبعة، وذلك اثنان، فاقسم عليها الخمسة والثلاثين، فيخرج سبعةَ عشرَ ونصف، ففي مقدارها يتم قطعُ المسافة، وخروج الحية. وكذلك إذا قيل: رجل اكتسب كلَّ يوم خُمسَ درهم، وأنفق سبع درهم، في كم يوم اجتمع له درهمٌ؟ فجوابه ما مضى.
__________
(1) (ح) : يبقى.
(2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(3) في الأصل: ثمانين.
(4) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(5) زيادة من (ح) .(11/44)
فصل
في بيان حساب العصير المطبوخ
7288- يحتاج إليه [من ينتجون] (1) المثلث (2) ويحتاج إليه من يحاول تثليث العصير في إصلاح العصر من غير أن يتخذ منه مسكراً. وينبغي أن يكون القِدرُ الذي يُطبخ فيه قِدراً قاعدتها مسطحة [لا تقعُّرَ فيها] (3) والجدار المحيط مستديراً في ارتفاعها على الاستقامة والاستواء من غير تخريط (4) وعلى [داخل] (5) القدر خطوطٌ تقسّمها ثلاثةَ أقسام، ثم يطبخ العصير حتى ينتهي في [سكونه] (6) إلى العلامة الأخيرة. وهذا صناعةٌ.
وحظُّ الحساب من الفصل في مسائلَ منها، أن يقول القائل: قدرٌ فيها (7) ثلاثون دورقاً من العصير، وذهب منها بالطبخ خمسةُ دواريق، وعُرف ذلك بعلاماتٍ وخطوط، كانت على جدار القِدْر، ثم رفع من الباقي، وهو خمسةٌ وعشرون دورقاً ثلاثةُ دواريق، إلى (8) كم يُردّ الباقي، حتى يكون مثلثاً؟ قياس الباب أن [العدد] (9) الحلال -على رأي من يُحله (10) -[مِن] (11) اثنين وعشرين دورقاً كقدر عشرة دواريق -
__________
(1) مكان بياضِ بالأصل، وأثبتناها من (ح) على صعوبة في قراءتها.
(2) المثلّث: هو الشراب أو العصير يُطبخ حتى يذهب ثلثاه، فيصير حلالاً، ويكون من العنب خاصة. (حاشية ابن عابدين: 5/292) وهو لا يحلّ عندهم إلا بذهاب ثلثيه.
(3) في الأصل: لا يتغير منها، (ح) لا تقعر منها.
(4) أي ضيق من أعلى، لتكون مخروطية الشكل.
(5) في الأصل: واصل.
(6) في الأصل: سائرها.
(7) (ح) : صب فيها.
(8) (ح) : كم يردّ. (بدون إلى) .
(9) زيادة من (ح) .
(10) في النسختين: يحل.
(11) زيادة من (ح) .(11/45)
وهي الثلث (1) - من خمسةٍ وعشرين، وهي خمساها، فخذ [خمسي] (2) الباقي الذي هو اثنان وعشرون وذلك ثمانية دواريق وأربعة أخماس دورق، فإذا رجع الباقي إلى هذا المقدار، حلّ عندهم.
وبيان ذلك أنه لما رجع العصير إلى خمسةٍ وعشرين، كان [يحل] (3) بأن يذهب منه خمسةَ عشرَ دورقاً، وخمسةَ عشرَ ثلاثةُ أخماس الخمسة والعشرين، فلما [رفع] (4) من الخمسة والعشرين ثلاثةُ دواريق، فيجب رعاية نسبة الأخماس في الاثنين والعشرين، فليذهب منها ثلاثةُ أخماسها. وإذا أسقطت ثلاثةَ أخماس اثنين وعشرين، بقي ثمانيةُ دواريق وأربعةُ أخماس دورق كما ذكرنا. ولو رفعت من الخمسة والعشرين عشرة أو عشرين (5) ، لرددت الباقي إلى [خُمسيه] (6) ليحل.
هذا وجه رعاية النسبة.
ولو ذهب بالطبخ عشرةُ دواريق، ورفعت من الباقي خمسةَ دواريق، فالطريق أن نقول: لما [رجع] (7) بالطبخ إلى عشرين دورقاً، فكان يحل لو ذهب من الباقي عشرةٌ أخرى بالطبخ، وهو مثل نصف الباقي، فإذا رفعت خمسةً من العشرين، فلا نبالي بما ارتفع، واعتبرْ نسبةَ النصف من الباقي.
فإذا ذهب من الخمسةَ عشرَ الباقية سبعةٌ ونصف [يحلّ] (8) الباقي -على رأي من يُحله-.
وقس على هذا ما في معناه.
__________
(1) الثلث: أي ثلث الكل. فالعشرة هي التي تحلّ من الثلاثين، بعد ذهاب الثلثين.
(2) في النسختين: خمس.
(3) في الأصل: حل.
(4) في الأصل: رجع.
(5) عشرة أو عشرين: هذا تمثيل، يعني أياً كان المرفوع، كثيراً أو قليلاً، فيحل من الباقي خمساه.
(6) في الأصل: خمسه، وفي (ح) : خمسته.
(7) في النسختين: رفع. وهو خطأ واضح.
(8) في الأصل: على.(11/46)
7289- إن قيل: ثلاثون دورقاً ذهب بالطبخ منها خمسةُ دواريق، ثم رفع منها شيء مجهول، لا ندري مقدارَه، وكان حلال الباقي ثمانية دواريق، كم كان المرفوع منها؟ فالطريق أن نقول: لما رجع (1) بالطبخ إلى [خمسةٍ وعشرين] (2) ، كان يحل الباقي لو رجع إلى عشرة، وذهب منها خمسةَ عشرَ، فالخمسةَ عشرَ ثلاثة أخماس الخمسة والعشرين، ونسبة الأخماس تقتضي أن يذهب من كل خمسة ثلاثة، ويتحصل من كل خمسة دورقان، فإذا كان الحلالُ ثمانيةً، فنعلم أنها من عشرين دورقاً، فالمرفوع إذاً خمسة. ولو [بقيت] (3) ، لتحصّل (4) منها دورقان، وتمت العشرة، فإذا أنقصت العشرة (5) بدورقين، تبين أن المرفوع خمسة.
[قال] (6) الحُسّاب في هذه المسألة: قدرُ المرفوع من خمسةٍ وعشرين كقدر النقصان الذي في الباقي الحلال من ثلث جميع العصير.
وبيانه أن الثمانية نقصت عن ثلث العصير بخُمس العشرة، فبان أن المرفوع من خمسة وعشرين خمسُها.
فصل
في مسائل تتعلق بالسؤالات عند التلاقي
7290- رجلان اجتمعا على ثوبٍ ينادَى عليه، فقال أحدهما للآخر: إن أعطيتني ثلث ما معك فزدتُه على ما معي، تَمَّ لي ثَمَنُ هذا. وقال الآخر للأول: إن أعطيتني رُبع ما معك وزدتُه على ما معي تمَّ لي ثَمنُ الثوبِ. كم الثمن؟ وكم مع كل واحد منهما؟
__________
(1) (ح) : رفع.
(2) في النسختين: ثمانية وعشرين.
(3) غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها) .
(4) في الأصل: فيحصل.
(5) (ح) : العدّة.
(6) في الأصل: فإن.(11/47)
فنقول: نضرب مخرج الثلث وهو ثلاثة في مخرج الربع وهو أربعة، فيبلغ اثني عشر، فننقص منها واحداً أبداً، يبقى أحدَ عشرَ، فهو ثمنُ الثوب. ثم نرجع إلى الاثني عشر، ثم نعزل منه ثُلثَه، وهو أربعة، يبقى ثمانية، فهي [مع] (1) الأوّل، ثم نعزل منه (2) ربعَه، يبقى تسعة، فهي مع الثاني، والمسألة صحيحةٌ على الامتحان، [ولكنها] (3) قليلة الفائدة؛ فإن [أقل] (4) عدد صحيح يُفرض [منه] (5) هذا الذي ذكرنا [فقد] (6) يتصور تضاعف الثمن على هذه النسبة، وكأن الحُسَّاب [نبهوا] (7) بأقلّ عددٍ صحيح يصح فيه السؤال.
7291- فإن كانوا ثلاثة، فطلب الأول من الثاني ثُلثَ ما معه، وطلب الثاني من الثالث ربعَ ما معه، وطلب الثالث من الأول خُمس ما معه، ليتم لكل واحد منهم ثَمنَ الثوب، فاضرب مخرجَ [الثلث] (8) ، وهو ثلاثة في مخرج الربع، وهو أربعة، ثم ما اجتمع في مخرج الخمس، وهو خمسة. فبلغ ستين، فزد (9) عليه واحداً أبداً، إذا كان عددُ القوم فرداً، وإن كان عدد القوم زوجاً، فانقص من المبلغ واحداً، فالمبلغ في هذه المسألة أحدٌ وستون، فهذا ثمن الثوب، فإن أردت أن تعلم الذي (10) مع الأول، فخذ مخرج الثلث وألقِ منه واحداً، يبقى اثنان، فاضربه في مخرج الربع، فيبلغ ثمانية، فزد عليها واحداً أبداً، فيبلغ تسعةً، فاضربها في مخرج الخُمس، فيصير خمسةً وأربعين، فهي مع الأول.
__________
(1) ساقطة من الأصل. وفي (ح) : ربع. والمثبت تقدير منا.
(2) منه: أي الاثني عشر.
(3) غير مقروءة في الأصل.
(4) في الأصل: كان.
(5) في النسختين: منها.
(6) في الأصل: قد.
(7) ساقطة من الأصل.
(8) في الأصل: الثوب.
(9) ساقطة من (ح) .
(10) في (ح) : التي.(11/48)
وإن أردت أن تعلم ما مع الثاني، فاطرح ذلك من أحدٍ وستين، يبقى ستةَ عشرَ، فاضربها في ثلاثة، تكون ثمانيةً وأربعين، فهي ما مع الثاني. ثم اطرح هذا المبلغ من أحدٍ وستين، فيبقى ثلاثةَ عشرَ، فاضربها في أربعةٍ، فتصير اثنين وخمسين، وهي ما مع الثالث. والواحد الذي زدته على الستين إنما [هو] (1) مضروب الثلث في الربع، ثم في الخمس؛ فإنك إذا ضربتَ الثلث في الربع كان نصف سدس، وهو جزء من اثني عشر جزءاً، فإذا ضربته في الخمس، كان جزءاً من ستين جزءاً.
وهذا غامض لا يحيط به إلا [ماهرٌ] (2) في الحساب.
فعلى هذا إذا قال الأول للثاني: إن أعطيتني ثلاثةَ أخماس ما معك، صار معي ثَمنُ هذا الثوب، وطلب الثاني من الثالث أربعة أسباع ما معه، وطلب الثالث من الأول خمسةَ أثمان ما معه.
فاضرب المخارجَ بعضها في بعض، فتكون مائتين وثمانين، فنزيد عليها عدد الأخماس مضروباً في عدد الأسباع، ثم ما بلغ في عدد الأثمان، وذلك ستون، فيبلغ ثَلاثمائة وأربعين (3) ، فهي ثمن الثوب.
ثم خذ مخرج الخُمس: خمسة، فاعزل منها ثلاثةَ أخماسها، يبقى اثنان، فاضربهما في مخرج السبع، فيبلغ أربعةَ عشرَ، فزد عليها عددَ الأخماس مضروباً في عدد الأسباع، وذلك اثنا عشر، فيبلغ ستةً وعشرين، فاضربها في مخرج الثمن، فيكون مائتان وثمانية. فهذا رأس مال الأول. فنلقيه من ثمن الثوب، فما بقي، فهو ثلاثة أخماس مال الثاني، فزد عليه [ثلثيه] (4) ، فما بلغ، فهو مال الثاني، فنلقيه من ثمن الثوب كلِّه، فما بقي، فهو أربعة أسباع مال الثالث، فنضرب [رُبعه] (5) في سَبعةٍ، فما [بلغ] (6) ، فهو ماله.
__________
(1) في الأصل: بقي، وفي (ح) : هي.
(2) في النسختين: ما هو.
(3) فيبلغ ثلاثمائة وأربعين: أي بإضافته إلى ما خرج من ضرب المخارج.
(4) في النسختين: ثلثه.
(5) في الأصل: أربعة.
(6) في النسختين: بقي.(11/49)
7292- رجلان قال أحدهما لصاحبه: إن أعطيتني ثلث ما معك صار معي خمسةُ دراهم، وقال الآخر للأول: إن أعطيتني ربع ما معك، صار معي سبعةٌ.
بيانه أن نلقي من [ضرب] (1) مخرج الثلث [في مخرج] (1) الربع واحداً، فيبقى أحدَ عشرَ، فهي المقسوم عليها، فاحفظها؛ لأنها مخرج أجزاء الدرهم [الواحد] (2) في هذه المسألة، ثم نلقي من الخمسة ثُلثَ السبعة، يبقى اثنان وثلثان، فاضربها في مخرج الثلث والربع، فيبلغ اثنين وثلاثين، فاقسمها على الأحد عشر، فيخرج اثنان وعشرةُ أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من درهم، وهو الذي مع الأول.
ثم ألقِ من السبعة ربعَ الخمسة، يبقى خمسة وثلاثة أرباع، فاضربها في مخرج الثلث والربع وهو اثنا عشر، فيبلغ تسعةً وستين، فاقسمها على الأحدَ عشرَ، فيخرج ستةٌ وثلاثةُ أجزاء من أحد عشر. فهذا الذي مع الثاني.
7293- رجلان وجدا كيساً فيه دراهم، فقال أحدهما: إن أخذته وضممته إلى ما معي، صار معي خمسة أمثال ما معك.
وقال الآخر: إن زدته على ما معي، صار سبعةَ أمثال ما معك. كم في الكيس؟ وكم مع كل واحد منهما؟
فاضرب عدد الأمثال في عدد الأمثال: خمسة في سبعة، وانقص من المبلغ واحداً، يبقى أربعةٌ وثلاثون، فهي التي في الكيس.
ثم زد على الخمسة واحداً، فتبلغ ستة، فهي التي مع الأول. وزد على السبعة واحداً، فما بلغ، فهو الذي مع الثاني.
فإن كانوا ثلاثة ووجدوا الكيس، فقال الأول للثاني: إن أخذتُه أنا، صار معي ثلاثة أمثال ما معك، وقال الثاني للثالث: إن أخذته أنا، صار معي أربعة أمثال ما معك، وقال الثالث للأول: إن أخذته أنا، صار معي خمسة أمثال ما معك، فاضرب مخرج الثلث في مخرج الربع، ثم في مخرج الخمس، فيبلغ ستين. فانقص
__________
(1) عبارة النسختين: أن نلقي من مخرج الثلث والربع. والمثبت تقدير منا، رعاية للسياق.
(2) زيادة من (ح) .(11/50)
منه واحداً، يبقى تسعةٌ وخمسون، فهي التي في الكيس.
فإن أردت معرفة ما مع الأول، فخذ مخرج الأمثال التي ذكرناها، وهو ثلاثة، فزد عليها واحداً، واضرب ما بلغ في مثله، فيكون ستة [عشر] (1) فهي ما مع الأول، فزد ذلك على تسعة وخمسين، فيبلغ خمسةً وسبعين، فخذ ثلثَها: خمسةً وعشرين، فذلك مع الثاني، فزدها على تسعة وخمسين، فيبلغ أربعةً وثمانين، فخذ [ربعه: أحداً] (2) وعشرين، فهو ما مع الثالث.
7294- رجل معه كيس فيه دراهم، فسأله رجل عن مقدارها، فقال: ليتها لي، ومثلَها ومثلَ نصفها، ومثلَ ربعها، حتى أزيدَها على درهم لي [في بيتي] (3) فيتمَّ لي مائةُ درهم. كم في الكيس؟
خذ مخرج النصف والربع، لذكر النصف والربع، وهو أربعة، فخذها ومثلَها، لقوله: ليتها لي ومثلها، فيكون ثمانية، فزد عليهما نصفَ الأربعة وربعها، لذكره النصفَ والربعَ، فيكون أحدَ عشرَ، فهو المقسوم عليه، فاحفظه، ثم ألق من المائةِ واحداً، يبقى تسعةٌ وتسعون، فاضربها في مخرج النصف والربع، وهو أربعة، فيبلغ ثَلاثمائة وستةً وتسعين، فاقسمها على الأحد عشر المحفوظة فيخرج ستة وثلاثون، وهي عدد الدراهم التي في الكيس.
7295- فإن قيل: مالٌ عزلت منه ثُلثَه وربعَه، فبقي [منه] (4) ثلاثةُ دراهم؟ فمأخذ هذا الفن أن نعلم أنَّ مخرج الثلث والربع إذا عزلا، فالباقي ربع وسدس، فإذا كان الربع والسدس ثلاثة، لم يخف إخراج الباقي؛ فإنه إذا بانت قيمةُ جزء؛ [بان] (5) قيمة جميع الأجزاء، والسبيل المعروف أن نأخذ شيئاً له ثلث وربع، وذلك اثنا عشر، فنلقي منه ثلثه وربعه، تبقى منه خمسة، فهي المقسوم عليها، ثم اضرب الباقي، وهو
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: فخذ أربعة وعشرين.
(3) زيادة من (ح) .
(4) زيادة من (ح) .
(5) في الأصل، وفي (ح) : فإن.(11/51)
ثلاثة في مخرج الثلث والربع، وهو اثنا عشر، وقسم المبلغ على الخمسة المحفوظة، فيخرج سبعة وخمس، فهو أصل المال.
ومن هذا القبيل أن يقول القائل: قصبة ثلثها في الطين، وربعها في الماء، والخارج منها ثلاثة أذرع، أو سمكة رأسها ربُعها، وذنبها ثُلثُها، والباقي منها ثلاثة أمناء. كم وزن السمكة؟ أو كيسٌ (1) عزلت منه ثُلثَه وربعَه، فبقي منه ثلاثة أقفزة. كم مقدارُ الكيس؟ وهذا الفن من الجليات، لما ذكرناه في ابتدائه.
7296- فإن قيل: حوض له ثلاثة أنهار، ويملؤه واحد في ثلاثة أيام، والثاني في أربعة أيام، والثالث في خمسة أيام، فُتحت الأنهار إليه وأخذت في الانصباب في ساعةٍ واحدةٍ، في كم يمتلىء (2) ؟ فخذ عدداً له ثلثٌ وربعٌ وخمسٌ، لجريان (3) الثلاثة والأربعة والخمسة، وذلك ستون. فخذ ثلثها وربعها وخمسها، وذلك سبعةٌ وأربعون، فهي المقسوم عليها، ثم اقسم المخرج وهو ستون عليها، فيخرج واحد وثلاثةَ عشرَ جزءاً من يوم، ففي هذا المقدار يمتلىء الحوض.
فإن قيل: نهر [يملؤه] (4) في يوم، والثاني في يومين، والثالث في ثلاثة أيام، أُرسلت كلُّها إليه [في ساعة واحدة، ففي كم يمتلىء] (5) ؟ فخذ عدداً له نصفٌ وثلث، لذكره يومين وثلاثة، وذلك ستةٌ. ثم خذ لليوم الواحد ستة، و (6) لليومين نصف ذلك، وهو ثلاثة، ولثلاثة أيام ثلث ذلك، وهو اثنان، فاجمع ذلك كلَّه، فيكون أحدَ عشرَ، ثم اقسم المبلغ عليها، فيخرج ستة أجزاء من أحدَ عشرَ جزءاً من يوم، ففي مقدارها يمتلىء الحوض.
7297- فإن قيل: حوض طوله أربعون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً، وعمقه
__________
(1) (ح) : كرسي.
(2) (ح) : على.
(3) (ح) : عبارتها هنا مصحفة محرفة مضطربة، هكذا: فخذنا في الثلث والأربعة والخمسة، وذلك ستون.
(4) زيادة من (ح) .
(5) زيادة من المحقق.
(6) في (ح) كلمة مقحمة هنا لا معنى لها: لليوم الواحد ستة وليس لليومين ...(11/52)
ثلاثة أذرع، حفرنا إلى جنبه بئراً طولها ثلاثة أذرع في عرض ذراعين، كم يجب أن يكون عمقها حتى يسع البئرُ ماءَ الحوض؟ فاضرب طول الحوض في عرضه، ثم ما بلغ في عمقه، فيبلغ ألفين وأربعمائة، فاحفظها، ثم اضرب عرض البئر في طولها، يكون ستة، فاقسم عليها الألفين والأربعمائة، فتخرج أربعمائة ذراع، فهي عمق البئر.
7298- إن قيل: ثمانية أرغفة بين رجلين: لأحدهما ثلاثة، وللآخر خمسة، أتاهما ضيف، فجعلوا الأرغفة أثلاثاً متساوية، وأكلوها أكلاً متساويا، ولم يأكل أحد الرجلين صاحبي الأرغفة من أرغفة صاحبه، فأعطاهما الضيف ثمانية دنانير عوضاً عما أكله من رغفانهما، كيف يقتسمان الدنانير؟
فالجواب أن لصاحب الثلاثة الأرغفة ديناراً واحداً، والباقي، وهو سبعة لصاحب الأرغفة الخمسة.
وذلك لأن الأرغفة لما جُعلت أثلاثاً، صارت الخمسةُ منها خمسَ عشرةَ قطعة، وصارت الثلاثةُ تسعَ قطع، فذلك أربعٌ وعشرون قطعة، فقد أكل كل واحد منهما ثمانِ قطع، فصاحب الخمسة له خمسةَ عشرَ أكل منها ثمانية، وأكل الضيف من نصيبه سبعة، وصاحب الثلاثة له تسعُ قطع، أكل منها ثمانية، وأكل الضيفُ من نصيبه قطعةً، فلذلك كان لصاحب الثلاثة دينارٌ، ولصاحب الخمس سبعة دنانير.
7299- إن سئلتَ عن عددٍ إذا قسم على اثنين زاد واحداً، وإن قسم على ثلاثة زاد واحداً، وكذلك إذا قسم على أربعة، وعلى خمسة، وعلى ستة. وإن قسم على سبعة، خرج سواء، فبيانه أن نطلب أقل عدد يكون له هذه الأجزاء ما خلا السبع، فنجده ستين، فنزيد عليه واحداً، يكون أحداً وستين، فهذا إذا قسم على اثنين، أو ثلاثة، أو خمسة، أو ستة، يفضل واحدٌ، وإن قسم على سبعة، يفضل خمسة، وإن قسمت ستين على سبعة يفضل أربعة، فانظر في عدد [نضربه في الستين] (1) ونزيد على مبلغه واحداً، فنقسم ما بلغ على سبعة، فنجده خمسةً، فاضرب الخمسة في الستين، وزد على المبلغ واحداً، فيكون ثَلاثَمائةٍ وواحداً، فهو المطلوب.
__________
(1) في النسختين: يضرب الستين.(11/53)
فهذه جملٌ ترشد إلن قواعد الحساب في المعاملات [لم نحب تخلية] (1) الكتاب عنها.
7300- ونحن (2) نذكر الآن فصلاً في قواعد النِّسب يستغني به الحاسب ويتخذه أصلاً مرجوعاً إليه؛ فإن أمَّ الحساب النسبة، وجملة الطرق ملتقاة منها، والنِّسب شيء لا تمس الحاجة إلى جميعها في المعاملات، كالنسب التأليفية التي يستعملها أصحاب الألحان، والنسب النَّظمية التي يستعملها أهل الهندسة في أضلاع المجسمات، وهي مثل قول القائل: زيادة الستة على الاثنين كزيادة التسعة على الستة، وكزيادة الأربعةَ عشرَ على العشرة.
والنسبة التي تمس حاجتنا إليها، وعليها تدور المعاملات في البيع والإجارة، والأرباح، والخسرانات، وبها يخرج ما غمض من مسائل الدور، والعين والدين، والوصايا، ومساحة الأشكال، فنعتني بذكر هذه النسبة في فصل نعقده (3) .
فصل (4)
7301- النسبة المطلوبة في هذه الأبواب على ضربين نسبة متوالية، ونسبة غير متوالية، فالمتوالية أن تكون نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثاني إلى الثالث، وكنسبة الثالث إلى الرابع، وكنسبة الرابع إلى الخامس، وكذلك ما زاد عليه من الأعداد المتناسبة على التوالي.
__________
(1) بياض بالأصل، والمثبت من (ح) .
(2) ح: فالحق نذكر الآن.
(3) إلى هنا انتهى هذا الجزء من نسخة ت 3، وجاء في خاتمته ما نصه:
آخر الجزء الثامن من نهاية المطلب في دراية المذهب.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
يتلوه في التاسع -إن شاء الله تعالى- فصل النسبة المطلوبة في هذه الأبواب على ضربين.
(4) من هنا بدأ اعتماد نسخة (ح) أصلاً (منتصف الورقة 23 ش) . وهي نسخة وحيدة إلى (الورقة 51 ش) حيث تجتمع معها نسخة (س) إن شاء الله.(11/54)
فأما النسبة التي هي غير متوالية، فهي التي يكون نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع، ولا تكون نسبة الثاني منها إلى الثالث كنسبة الأول إلى الثاني.
ونقول: متى كان عدد الأعداد المتناسبة فرداً، [كانت] (1) نسبتها متوالية لا محالة، ومتى كانت عِدّة الأعداد المناسبة زوجاً، فربما كانت نسبتها متوالية، وربما كانت غير متوالية، فمثال المتوالية في أربعة أعداد أن يكون أولها اثنين، [والثاني] (2) أربعة، والثالث ثمانية، والرابع ستة عشر.
ومثال غير المتوالية في أربعة أعداد أن يكون أولها اثنين، والثاني أربعة، والثالث ثلاثة، والرابع ستة، ومعاملات [المتعاملين] (3) في الشراء والبيع والإجارات تدور على النسبة التي ليست بمتوالية، والنسبة المتوالية عليها تدور معظم أصول المساحة، ومعظم أبواب المعادلات في الجبر والمقابلة، وكذلك أبواب الربح والخسران، وتعجيل الزكوات.
وكل ثلاثة أعداد متناسبة يقال فيها: نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثاني إلى الثالث، فإن نسبة الأول إلى الثالث كنسبته إلى الثاني، [....] (4) بالتكرير، وهذا كالاثنين والأربعة والثمانية، فالأول نصف الثاني، والثاني نصف الثالث، والأول إلى الثالث كالأول إلى الثاني [على] (5) معنى التكرير؛ فإن الأول إلى الثاني نصفه، والأول إلى الثالث [نصف] (6) نصفه.
7302- وإذا كانت ثلاثةُ أعداد متناسبة وعلم اثنان منها، أمكن استخراج الثالث، فإن كان الأول مجهولاً، ضرب الثاني في مثله، وقسم المبلغ على الثالث، فما خرج فهو الأول المجهول. وبيانه أبداً.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: والثالث.
(3) في الأصل: الثلثين.
(4) ما بين المعقفين مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(5) زيادة من المحقق.
(6) زيادة اقتضاها السياق والبيان.(11/55)
ويمثّل كنسبة عددٍ إلى الأربعة كنسبة الأربعة إلى الثمانية، ولم يذكر لك العدد الأول، فاضرب الأربعة في نفسها، واقسمها على الثمانية، فالخارج من القسمة هو العدد الأول، كأنه قيل: نسبة الاثنين إلى الأربعة كنسبة الأربعة إلى الثمانية.
فإن كان الثالث مجهولاً ضُرب الثاني في مثله، وقسم المبلغ على الأول، فما خرج فهو الثالث.
وإن كان الثاني مجهولاً، ضرب الأول في الثالث وأُخذ جذرُ ما بلغ، فما كان فهو الثاني، كقول القائل نسبة الاثنين إلى عددٍ كنسبة ذلك العدد إلى الثمانية، فنضرب الاثنين في الثمانية، فيخرج ستةَ عشرَ، فنأخذ جذرها أربعة، فهي العدد الثاني (1) .
والعلةُ (2) في ذلك أن ضرب الأول في الثالث يكون مثلَ ضرب الثاني في مثله أبداً متى كانت متناسبة على التوالي، وكل أربعة أعداد متناسبة متوالية أو غير متوالية، فإن ضرب الأول في الرابع كضرب الثاني في الثالث، ومتى ضرب الأول في الرابع وقسم المبلغ على الثاني، خرج الثالث، وإن قسم المبلغ على الثالث، خرج الثاني. ومتى ضرب الثاني في الثالث، وقسم المبلغ على الأول، خرج الرابع. وإن قسم المبلغ على الرابع، خرج الأول.
وبذلك نستخرج المجهول منها.
ومتى كانت أربعة أعداد متناسبة نسبةً متوالية، وعلم اثنان منها أمكن أن يُعلم المجهولان، فإن كانت الواسطتان مجهولتين، ضربنا العدد الأول في مثله، فما بلغ ضربناه في العدد الرابع، وأخذنا كعب ما بلغ، فما كان فهو العدد الثاني. وإن ضربنا العدد الرابع في [مثله] (3) ، ضربنا مبلغه في العدد الأول، وأخذنا كعب المبلغ؛ فإن ذلك العددُ الثالث (4) .
__________
(1) في الأصل: والثاني.
(2) عبارة الأصل مضطربة، هكذا: " والثلثه في العلة في ذلك ". فتصرفنا فيها بالحذف، وإضافة الواو.
(3) في الأصل: مثلهم.
(4) مثال ذلك، هذه الأعداد الأربعة المتوالية: 2-4-8-16 حاول أن تمتحن القاعدة، وستجدها إن شاء الله صحيحة.(11/56)
وإن كان الطرفان مجهولين، ضربنا الواسطةَ الأولى في مثلها، وقسّمنا المبلغ على الواسطة الثانية، فما خرج فهو الأول، وإن ضربنا الواسطة الثانية في مثلها، وقسمنا المبلغ على الواسطة الأولى، كان الخارج من القسمة مثلَ الطرف الرابع.
هذا إذا كانت نسبة الأعداد متوالية.
فإن كانت غيرَ متوالية، لم يكن منها ما ذكرناه الآن.
وكل خمسة أعداد متناسبة، فإنَّ ضرب الأول في الخامس مثلُ ضرب الثاني في الرابع، ومثل ضرب الثالث في مثله.
فإن كان الثالث مجهولاً، ضربنا الأول في الخامس، وأخذنا جذر المبلغ، فهو الثالث.
وكذلك إن ضربنا الثاني في الرابع، وأخذنا جذر ما بلغ، كان ذلك الجذرُ مثلَ الثالث.
فإن كان الأول مجهولاً، ضربنا الثالث في مثله، وقسمنا المبلغ على الخامس، فما خرج فهو الأول، وكذلك إن ضربنا الثالث في مثله، وقسمنا المبلغ على الخامس، فما خرج فهو الأول، وكذلك إن ضربنا الثالث في مثله وقسمنا مبلغه على الأول [خرج] (1) الخامس، وكذلك إن ضربنا الثالث في مثله وقسمنا المبلغ على الرابع، خرج الثاني.
وإن قسمناه على الثاني خرج الرابع.
وعلى هذا فقس.
7303- واعلم أن أم الطرق المُخرِجة [للمجاهيل] (2) الجبرُ، وما عداه فقبضةٌ منه، وكل مسألة تطرّق إليها تعادلٌ على الإفراد من غير اقتران، فسلِّط الجبر عليها، وأخرج المقصود منها، ومستنده التناسب الذي ذكرناه. ومن اطلع على سرّ النسبة، لم يحتج إلى الجبر، وإنما يتأتى النفوذ في النسبة بطول المرون والدُّرْبة، والجبرُ من
__________
(1) في الأصل: فخرج.
(2) في الأصل: " بالمجاهيل ".(11/57)
النسبة كعلم العروض (1) مع الذوق، فمن تطيعت (2) له النسبة في مجاريها، أغنته عما عداها، ومن تبلّد فيها، اتخذ مدارج الجبر ذريعة إليها، وإن نزّل المسألة واقتَرنت فيها المعادلات، فلا يُتصور إجراء المسألة إلى المسائل الثلاث المقترنة إلا بالنسبة، وهو أن يعرف تناسب نقصانين أو زيادتين، فيقول: نقصان كذا من كذا كنقصان كذا من كذا، وزيادة كذا على كذا كزيادة كذا على كذا، ثم لا بد في معظم المقترنات من الضرب بعد تحصيل النسبة، ويقع التردد بين أربعة متقابلات، فيضرب الجزء من أحد الجانبين في الكل من الجانب الثاني، ويفعل مثلَ ذلك في الطرف الآخر، ثم يأخذ [في] (3) الجبر والمقابلة، فيقع لا محالة في أحد الطرفين نوعان، وفي الطرف الثاني نوع واحد، ثم يجري على المراسم التي ذكرناها، وقد ينغلق الجواب فلا يتأتى فتحه؛ فإنك قد تحتاج إلى إخراج جذر، فتلقى ما يخرج جذره أصمّ، فلا يتبقَّى طريقٌ في فتح الجواب. وأقصى ما نقدر عليه أن نقول: ننقُص من كذا جذرَ كذا، ولا يتأتى منك البَوحُ به.
فهذا منتهى القول في غوامض حساب الكتاب.
والآن نعود بتوفيق الله تعالى إلى ترتيب المختصر إن شاء الله عز وجل، فقد يشتمل بعضُ فصول (السواد) (4) على ما يخرج إلى طرفٍ من [الحساب] (5) هينِ المأخذ، سهلِ المُدرك مستندٍ إلى حساب الفرائض وتصحح الكسور والضرب والقسمة. ومن أحكم ما قدمناه، استقلَّ بإخراج ما ينيبه (6) . والله الموفق للصواب.
__________
(1) يريد أن يقول: إن صاحب الذوق الشعري، لا يحتاج إلى علم العروض ليخرج شعره موزوناً، فكذلك النسبة والجبر.
(2) في الأصل: "يطيعه" وهو تصحيف جعل تاء المضارعة ياء، والتاء المفتوحة هاءَ. والمعنى: فمن لانَتْ له النسبة في مواضعها أغنته عما عداها.
(3) في الأصل: مِن.
(4) السواد: نذكر بما قلناه في تفسيره من قبل. وأنه يعني به مختصر المزني، وهذا المعنى لم تورده المعاجم المعروفة، فيما وصلنا إليه.
(5) في الأصل: أكساب.
(6) الفعل (ناب) واوي ويائي.(11/58)
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قال: ضعف ما يُصيب أحد ولدي، أعطيته مثلَه مرتين ... إلى آخره " (1) .
قد تقدم من (2) صدر الكتاب القول في معنى الوصية بنصيب أحد الأولاد، أو أحد الورثة، وأوضحنا الفرقَ بين أن يقول: أوصيت لفلان بنصيب ولدي وبين أن يقول: أوصيت لفلان بمثل نصيب ولدي، وبيّنا أن معظم أئمتنا لم يفصل بين اللفظين، وإنما فصل بينهما مالك، وذكرنا [مذهباً] (3) شاذاً عن بعض المتأخرين لم نعتدّ به مذهباً، وهذا الفصل يشتمل على بيان الوصية بالضعف.
فإذا كان له ابنان، فقال: أوصيتُ لفلان بمثل نصيب أحدهما، زدنا على فريضة الميراث سهماً، وقسمنا المال بين الموصَى له وبين الابنين أثلاثاً.
فلو قال: أوصيت لفلان بضعف نصيب أحد ابني، قدّرنا للوصية سهمين، ولكل ابن سهماً، إن أجازا ما زاد على الثلث، وكان معنى الضعف المثلين، وكأنه أوصى [بمثلي] (4) نصيب أحد الابنين، وهذا ظاهر.
ولو أوصى بضعفي نصيب أحد ولديه، قال الشافعي: للموصى له ثلاثة أمثال نصيب الولد، فأثبت الضعف الأول مثلين، ولم يثبت لمكان الضعف الثاني إلا مثلاً.
وقال على هذا القياس: لو أوصى لإنسان بثلاثة أضعاف النصيب، كانت الوصية بأربعة أمثال النصيب، ولو أوصى بأربعة أضعاف النصيب، كانت وصيةً بخمسة أمثال النصيب، فأثبت [مثلين] (5) ، [للضعف الأول] (6) ، وجعل أعداد الأضعاف بعده
__________
(1) ر. المختصر: 3/160. وعبارة الشافعي غير مقروءة تماماً في الأصل.
(2) كذا، وهي بمعنى (في) كما قال ابن هشام في (المغني) .
(3) في الأصل: مذهبها.
(4) في الأصل: مثل.
(5) في الأصل: مثلا.
(6) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.(11/59)
أمثالاً، وهذا لم أحط به، ولم أعقل معناه، وقد [تلقيتُه] (1) ، وهو رضي الله عنه [منفرد] (2) بمذهبه فيه.
قال الأستاذ أبو منصور: القياس أن يثبت للضعف الواحد مثلين ويثبت لكل ضعف مثلين؛ فإنه إذا ثبت أن الضعف مثلان، فالضعفان مثلان مرتين، وحكى الأستاذ أن الموصي لو قال: ضعفوا لفلان ضعفَ نصيب أحد ولدي، فالضعفان أربعة أمثال بلا خلاف، وإنما قال الشافعي ما قال: إذا قال الموصي: أوصيت لفلان بضعفي نصيب [ولدي] (3) أو أضعافِه. فإذا صرح بتضعيف [الضعف] (4) ، كان كلُّ ضعفٍ مثلين.
وهذا الذي قاله سديد، لا يجوز غيرُه.
7304-[وإطلاق] (5) الشافعي لفظه قد [يحوج] (6) المبتدىء إلى التأول، والشافعي رضي الله عنه أطلقها للبيان والتمثيل، وذلك أنه قال: إذا أوصى، وقال أوصيت لفلان بضعفي ما يصيب أحد ولدِي، فله ثلاثة أمثال ما لأحد أولاده؛ فإن كان نصيب أحدهم [درهماً] (7) ، فله ثلاثة، وإن كان نصيب الولد الذي عينه مائة أعطيته، ثَلاثَمائة، ولم يُرد رضي الله عنه أن حصة أحد البنين إن كان مائة درهم، زدنا للوصية ثَلاثمائة؛ لأن هذا يوجب أن يكون كل [الزحام] (8) داخلاً على الورثة دون الوصية، وليس كذلك، بل [العول] (9) يدخل عليهم كلِّهم، والذي أطلقه الشافعي عبارةٌ عن
__________
(1) في الأصل: (ـلقـ ـه) هكذا بدون نقط الأول والرابع.
(2) في الأصل: فتفرد.
(3) في الأصل: الذي.
(4) في الأصل: الضعيف.
(5) في الأصل: وأطلق.
(6) في الأصل: "يخرج".
(7) عبارة الأصل: فإن كان نصيب منهما، فله ثلاثة.
(8) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل: (انظر صورتها) .
(9) في الأصل: القول.(11/60)
السهام: أي إن كان نصيبُ أحدهم مائةَ سهم، زدنا للموصى له ثَلاثمَائة سهم، وقسمنا المال على ذلك، فهذا هو المراد.
فصل
قال: "ولو قال: أوصيت لفلان بنصيب أو حظ أو قليل أو كثير ... إلى آخره" (1) .
7305- إذا قال: أوصيت لفلانٍ بسهمٍ، أو نصيبٍ، أو شيءٍ، فهذه الألفاظ كلّها مبهمةٌ، والرجوع في تفسيرها إلى الموصي.
فإن مات قبل أن نتبين، فالرجوع بعد موته إلى ورثته. ثم مذهب الشافعي أنه لو فسَّر هذه الألفاظ مَنْ إليه التفسير بأقلِّ القليل، قُبل، وعلةُ المذهب أن هذه الألفاظ تضاف إلى أشياء مختلفة المبالغ، فسهمٌ من العشرة ينتظم إطلاقه، كما ينتظم إطلاقه من ألف، فإذا كان كذلك، ولا منتهى للمضاف إليه، فلا تقدير لهذه الألفاظ.
وأبو حنيفة (2) وافقنا في جميع هذه الألفاظ، خلا السهم؛ فإنه حمل مطلَقَه على السدس، وهذه الألفاظ في الوصايا بمثابتها إذا استعملت في الأقارير غيرَ أن الأقارير أخبارٌ، والإيصاء إنشاءُ عطية يتنجز بالموت، على الشرائط المرتبة في الوصايا.
7306- وأورد الأستاذ أبو منصور ألفاظاً في بعضها غموض وإشكال على ما يأتي الشرح عليها، إن شاء الله عز وجل.
[فمما] (3) ذكره أن الموصي لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي إلا شيئاً، قال: هو وصية بنصف الثلث وزيادة؛ فان المستحَق لو كان أكثر من هذا، لكان يقول: أوصيت لفلان بشيء أو بأقلَّ من نصف الثلث، [فلما] (4) ذكر الثلث والشيء، [بان] (5)
__________
(1) ر. المختصر: 3/160. وعبارته: " لفلان نصيب أو حظ أو قليل أو كثير ... إلخ ".
(2) لر. مختصر اختلاف العلماء: 5/25، مسألة: 2165.
(3) في الأصل: فهما.
(4) في الأصل: فيما.
(5) زيادة من المحقق.(11/61)
أنها تستعمل مستثنىً، إذا كان الباقي أكثرَ من النصف.
وهذا لم أره لأئمة المذهب في كتبهم، ولم أسمعه ممن تلقيتُ منه، والذي يقتضيه المذهب عندي على قطعٍ، أنه لو فسَّر ما يبقى من الثلث بعد الاستثناء بأقل القليل، قُبل منه؛ فإن لفظَ الشيء مبهمٌ صالحٌ للقليل والكثير، واستثناءُ المعظم غيرُ ممتنع؛ فإنه لو قال: أوصيت لفلان بعشرةٍ إلا تسعةً، كان الموصى به درهماً، [ولو] (1) أقرّ كذلك، صح استثناؤه؛ فاللفظ المطلق في الوصية والإقرار محمولٌ على الأقل.
فإن اتبع متبعٌ العرفَ، لم يستقم له هذا على قياس الشافعي رضي الله عنه، مع مصيره إلى أن الإقرار بالمال العظيم يجوز أن يحمل على الحبة والقيراط، فما دونهما.
7307- وقد رأيت لصاحب التقريب مسألةً حكاها في كتابه من (2) جواب الشافعي مسائلَ، وذلك أنه قال: قيل للشافعي: إذا أوصى رجل لرجل بأقلَّ من مائة دينار، فالموصى به كم؛ فقال الشافعي -فيما حكاه عنه- الموصى به تسعةٌ وتسعون ديناراً.
وهذا مما لا أحيط به، ولست أدري مأخذه من أصل الشافعي، ولا اغترار بأن يقول قائل: ذكر المائةَ فيُلزمها ونطرح لقوله: أقلّ من مائةٍ ديناراً واحداً؛ لأنه ذكر الدنانير، فأقلُّ محطوطٍ مع لزوم الدنانير دينارٌ.
والذي يقتضيه قياس الشافعي القطعُ بأنه موصٍ بأقلّ ما يتموّل؛ فإنه يجوز أن يقال: القيراط [أقلُّ] (3) من مائة دينار، ولا يعارض هذا إلا قولُ القائل: هذا غيرُ مستعمل في العرف؛ فقد أوضحنا أن العرف لا مبالاة به [في] (4) هذا المقام. هذا هو الذي [يجب] (5) القطع به.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) مرادفة لـ (عن) .
(3) زيادة من المحقق. ومعنى العبارة: أن من قال: أوصيت بأقلَّ من مائة، يجوز أن يحمل قوله على الوصية بقيراطٍ، فالقيراط يجوز أن يطلق عليه أنه أقلُّ من مائة دينار.
(4) في الأصل: من.
(5) في الأصل: معنى القطع به.(11/62)
ويتطرق إلى وضع الكلام فسادٌ آخر، وهو حمل الموصى به على ما يقل عن مائة وينحط عنها بقيراط؛ إذ [هو] (1) أقلّ [من مائة] (2) ، والمصير إلى حط الدينار تحكُّمٌ لا أصل له.
7308- وفيما ذكره الأستاذ أنه لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي إلا كَسْراً أو إلا شيئاً كثيراً، وأراد حمل ذلك على ما يزيد على نصف الثلث، جاز؛ لذكره الكثير، ثم لا وقوف بعد مجاوزة النصف في الاستثناء، ولا وجه إلا تجويزُ حمل الموصى [به] (3) على أقل ما يتمول، وهذا جارٍ على القياس لا نزاع فيه.
وقال: لو قال: أوصيت لفلان بأكثرِ مالي، فالوصية محمولة على ما يزيد على شَطر المال بأقل القليل؛ فإن الأكثر يَقتضي الزيادة على النصف لا محالة، ثم الزائد على الثلث موقوف على الإجازة.
وقال: لو قال: أوصيت لفلان بأكثرِ مالي، وبمثل نصفه، كان ذلك محمولاً على الوصية بثلاثة أرباعٍ وزيادة، وإن قلّ قدرُها. وإذا ثبت حملُ الأكثر على ما يزيد على النصف، فلا شك أن الجمع بينه وبين النصف يقتضي ما ذكره.
ولو قال: أوصيت لفلان بأكثرَ من مالي، فهذه وصية منه بجملة المال، ووصية بما يزيد عليه، ووصيته في الزائد على ماله ملغاة، فيبقى الوصية بالمال.
ولو قال: لفلان علي أكثر من ألف درهم، فيكون مقراً بألف وزيادة على هذا الموجب، وليس لقائلٍ أن يقول: إذا كنا نحمل المالَ العظيم في الإقرار على أقل القليل، ولا نُثبت بسبب الوصف بالعظم مزيداً، فيجب أن [يكون] (4) الوصف بالكثرة بمثابة الوصف [بالعظم] (5) ؛ فإن الوصف بالكثرة يعرض لتزايد القدر، وذكر العظيم مشعر بعظم المرتبة، كما تقدم تقريره في كتاب الأقارير.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: له.
(4) في الأصل: يكبر.
(5) في الأصل: العظيم.(11/63)
وهذا وإن كان [لائحاً] (1) فقد يعترض عليه تجويز حمل الكثرة على العِظم في المرتبة، ولكن لا يعوّل على هذا الذي يخطر، فالأصل ما ذكرناه.
فإن قيل: لو قال: لفلان عليَّ مال كثير، فالمقر به كم؟ قلنا: هو كقوله: لفلان عليّ مال عظيم أو كثير؛ إذ لا ضبط للكثير، وليس كما لو أضاف [الكثرة] (2) إلى مقدار، فيحمل على الزيادة عليه، مثل أن يقول: لفلان علي أكثر من ألف درهم، وهذا يجر [اختباطاً] (3) في الفكر. ولو قال: لفلان عليّ أعظمُ من ألف، فالوجه القطع بجواز حمل هذا على أقل القليل؛ فإن العظم ليس ناصاً على التعرض للمقدار والتفاوت به.
فهذا ما وجدناه وألفيناه مَعْرِضاً لنظر الفطن، فليتأمله المتأمل مستعيناً بالله جل وعز.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربع ماله ... إلى آخره " (4) .
7309- مضمون هذا الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها - الوصايا بأجزاء بحيث لا تزيد كل وصية على ثلث المال.
والآخر - بيان الوصايا بأجزاء، وبعضها يزيد على الثلث. وهذان النوعان منه إذا لم تزد الوصايا على أجزاء المال.
ومن متضمنات الفصل وهو الثالث - ذكر الوصايا الزائدة على مقدار المال.
فأما إذا لم تزد الوصايا على المال، ولم تزد واحدةٌ منها على الثلث، ولكنها بجملتها زائدة على الثلث، فالوجه أن نذكر في مفتتح الكلام إجازةَ الوصايا بجملتها من
__________
(1) في الأصل: لائماً.
(2) في الأصل: الكثيرة.
(3) في الأصل: احتياطاً.
(4) ر. المختصر: 3/60.(11/64)
جملة الورثة، ثم نذكر ردّ الزائد من جميعها على الثلث من جملة الورثة، ثم نخوض بعد ذلك في رد البعض للبعض مع إجازة البعض، والقول في التبعيض ينقسم أقساماً، سنشرحها إذا انتهينا إليها، إن شاء الله عز وجل.
فإن أجازوا الوصايا كلَّها، فالعمل (1) [فيها] (2) على ما تقدم في صدر الكتاب.
7310- وهذا الذي ابتدأنا ينقسم إلى ما يستغرق المال، وإلى ما ينقص عن الاستغراق، ويزيد على الثلث، فإن استغرق الوصايا المالَ، وقد أجيزت، فليس على الحاسب إلا أن يطلب مخرج أجزاء الوصايا، ويقيم سهامها.
وإن قصُرت أجزاء الوصايا عن استغراق المال، فالوجه -وقد أجاز الورثة- أن نطلب مخرج أجزاء الوصايا، ونقيم سهامَ فريضة الورثة، ونسلِّم إلى الموصى لهم وصاياهم، ثم ننظر، فإن انقسم ما فضل من فريضة الوصايا على فريضة الميراث، قسمناه، واكتفينا به، وإن انكسر، نُظر، فإن لم يكن بين ما فضل من فريضة الوصايا، وبين فريضة المواريث موافقة، ضربنا مخرج الوصية في سهام الفريضة، أو سهام الفريضة في سهام الوصية، وصحت القسمة من هذا المبلغ لا محالة.
فإن وافقت (3) البقية سهام الميراث بجزء، أخذنا جزء الموافقة من سهام الميراث، وضربناه في مخرج الوصايا، وصحت القسمة.
7311- وإن لم يُجز الورثة ما زاد على الثلث، وردّوا بأجمعهم مقدارَ الزيادة من
__________
(1) العمل: يقصد به الحساب.
(2) في الأصل: منها.
(3) مثال الأرقام التي لا توافق بينها: 2، 5، 7، 9 ... إلخ وضابطها: كل رقمين لا يوجد بينهما رقم يقبلان القسمة عليه بدون باقٍ، غير الواحد الصحيح. فالخمسة والسبعة لا يقسمان معاً على 2، ولا على 3 وهكذا.
أما الأرقام المتوافقة فمثالها، 4 مع 6، 8 مع 12، فيوجد بين كل رقمين رقم آخر يقبلان
القسمة عليه، وهو (2) ، فماذا ضربت ما خرج من قسمة أحدهما على (2) ، ردّ الرقم الذي تخرج منه الأسهم بدون باقٍ، مثل: 6/2 3 و3 × 4 = 12، والعكس صحيح، والمردود في الحالين (12) .(11/65)
جميع الوصايا ردّاً شائعاً، فالوجه أن نقسم الثلث بين أهل الوصايا، على نسب أقدار وصاياهم لو أجيزت، وأصل الحساب حينئذ أن نقيم سهام الميراث، ثم نطلب عدداً يخرج منه أجزاء الوصية، ثم نجمع أجزاء الوصية من ذلك العدد ونسميها سهام الوصية، ثم نأخذ ثُلثَه أبداً للاحتياج إلى الثلث والثلثين، ونقسم سهماً من الثلاثة على سهام الوصية، وسهمين منها على سهام الميراث، فتكون سهام الوصية في المعنى [كصنف] (1) انكسر عليهم سهمٌ، وكذلك تكون سهام الميراث كصنفٍ آخر انكسر عليهم سهمان، فان كان السهمان يوافقان سهام الميراث، بأن تكون سهام الميراث [نصفاً -ولا] (2) يتصور الوَفْق مع الاثنين إلا بهذا الجزء- ضربنا وفق سهام الميراث في سهام الوصية، فما بلغ فاضرب مبلغه في ثلاثة، وتصح القسمتان من هذا المبلغ.
وإن لم يكن بين السهمين وبين سهام الفريضة موافقة، فإن لم يكن لسهام الميراث نصف، ضربت جميع سهام الفريضة -يعني الميراث- في سهام الوصية، فما بلغ ضربته في ثلاثة، فما بلغ فمنه تصح القسمة.
فإذا أردت -وقد فرغت من الضرب- أن تُبيّن ما يثبت لكل واحد من الموصى لهم، أخذت العدَدَ الذي ضربته في ثلاثة، فقسمته على سهام الوصية، فما خرج نصيباً للواحد فهذا أصل الضرب فيه نصيب كل واحد من سهام الوصية، فما بلغ فهو نصيبه.
فإن أردت أن تبيّن ما لكل واحدٍ من الورثة، أخذت العددَ الذي ضربته في ثلاثة، فضاعفته أبداً لمكان الثلثين، وانحصار الوصايا في الثلث، فما بلغ قسمته على سهام الورثة، فما خرج [نصيباً للسهم] (3) ، فهو أصلٌ نضرب فيه نصيبَ كل واحد من الورثة، فما بلغ، فهو نصيبه (4) .
__________
(1) كذا قدرناها على ضوء السياق، فهي غير مقروءة في الأصل.
(2) في الأصل: تكون سهام الميراث نصف أو لا يتصور ... إلخ. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق.
(3) في الأصل: نصيب السهم.
(4) سيظهر هذا بوضوح في الصفحات التالية عند ذكر الأمثلة.(11/66)
وهذا الذي ذكرناه في تعيين أقدار أنصباء الورثة هو الذي سميناه في الفرائض طريقَ العطاء، هذا الذي ذكرناه هو الأصل في الحساب.
وقد أجرى الأستاذ طرقاً مقتضبة من هذا الأصل، لو وصفناها وصفاً كلياً، لم تسلم عن [إبطالٍ] (1) أو إبهام، فرأينا تأخير ذكرها إلى الأمثلة، وعندها يتضح مجموع الكلام.
7312- مثال: ميت خلَّف ثلاثةَ بنين، وأوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربع ماله، فإن أجاز الورثةُ الوصيتين، فسهام الورثة ثلاثة، ومخرج الوصية اثنا عشر، نُسقط منها الوصيتين، فهما سبعة، فالباقي خمسة لا ينقسم على سهام الورثة، ولا يوافقها، فنضرب سهام الورثة في مخرج الوصية، فتبلغ ستةً وثلاثين، منها تصح القسمة: كان للموصى له بالثلث أربعة، وهي الآن مضروبة في ثلاثة يكون له اثنا عشر، وكان للموصى له بالربع ثلاثة، وهي مضروبة في ثلاثة، فالمبلغ تسعة، وقد ذهب بالوصيتين إحدى وعشرون سهماً، يبقى خمسةَ عشرَ سهماً بين ثلاثة بنين، كان لكل واحد منهم سهم، وهو الآن مضروب في خمسة (2) .
فإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث، فسهام الوصية ثلاثة، وتخرج الوصية [من] (3) اثني عشر، نجمع الوصيتين منها فتكون سبعة، فنسميها سهام الوصية، ثم نأخذ ثلاثة، ونقسم منها سهماً واحداً على سهام الوصية، فهي هذه السبعة، فلا تصح
__________
(1) في الأصل: إبطاله.
(2) صورة المسألة بالأرقام:
. . . . . . . . . . موصى له ... موصى له ... 3 أبناء ... وأجاز الورثة
. . . . . . . . . . . . 1/3........ 1/4........ الباقي
مخرج الوصايا 12...... 4.......... 3........... 5 تنكسر أسهم الورثة على عدد الرؤوس
. . . . . . . . 36...... 12.......... 9........ 15 فنضرب عدد الرؤوس من مخرج الوصايا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لكل ابن 5
(3) زيادة من المحقق.(11/67)
ولا توافق، ونقسم منها سهمين على سهام الورثة، وهي ثلاثة، فلا تصح ولا توافق، فنضرب سهام الورثة في سهام الوصية، فتبلغ أحداً وعشرين، فنضربها في الثلاثة التي هي الأصل، فتبلغ ثلاثة وستين (1) ، منها تصح القسمة، فإذا أردنا أن نعرف نصيب كل موصىً له، أخذنا العدد الذي ضربناه في ثلاثة، وهو أحدٌ وعشرون، فقسمناه على سهام الوصية، وهي سبعة، يخرج ثلاثة، فضربنا كلّ وصية فيها، وصاحب الثلث سهامه أربعة من الأصل، فنضربها في هذه الثلاثة، فتبلغ اثني عشر، فهو نصيبه، وضربنا نصيب الموصى له بالربع من سهام الوصية، وهو ثلاثة في هذه الثلاثة الخارجة من القسمة، فبلغ تسعة، فهي نصيبه.
وإن أردنا أن نبيّن حصة كل وارث أضعفنا العدد المضروب في ثلاثة، وهو أحدٌ وعشرون، فبلغ اثنين وأربعين، فقسمناها على سهام الورثة، وهي ثلاثة، خرج أربعةَ عشرَ، فهي الأصل الذي نضرب فيه نصيب كل واحد من الورثة، ولكل ابن سهم، وهو مضروب في أربعةَ عشرَ، والمردود أربعةَ عشرَ، فهو حصة كل ابن.
هذا مسلك الكلام على الأصل الذي إليه الرجوع وبه الامتحان.
7313- صورة أخرى: إن ترك ثلاثةَ بنين وأوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدسه. فإن أجاز الورثة، فسهام الورثة ثلاثة ومخرج الوصية ستة، يسقط منها ثلثها وسدسها بالوصية، فيبقى ثلاثة منقسمة على سهام الورثة.
__________
(1) صورة المسألة بالأرقام:
موصى له ... موصى له ... 3 أبناء (ولم يجز الورثة)
1/3........... 1/4....... الباقي
12 4.......... 3.......... 5 نرد المسألة إلى (3) لنخرج الثلث والثلثين
3.............. 1...........2 لا يوجد توافق في الصنفين. فتضرب سهام
63........... 21......... 42 الورثة (3) × (7) التي هي سهام الوصية
..... 12......... 9 ... 14-14-14 فيخرج 21 فنضربها في الأصل 3 × 21 = 63
ومنها يصح إخراج كل الأنصباء.(11/68)
وإن لم يجيزوا، أقمنا سهام الفريضة، وهي ثلاثة، ونأخذ سهام الوصيتين من ستة، فنجمع ثلثها وسدسها، فيكون ثلاثة، فهي سهام الوصية، ثم نأخذ ثلاثة، فنقسم سَهْماً منها على سهام الوصية، فلا يصحّ ولا يوافق، ونقسم سهمين منها على الورثة، فلا تصح ولا توافق، ولا نحتاج أن نضرب سهام الورثة في سهام الوصية؛ لأنهما متماثلتان، فاكتفينا بإحداهما وضربناها في الثلاثة التي جعلناها أصلاً للوصية والميراث [جميعاً] (1) فبلغ تسعة، ومنها تصح القسمة: ثلثها ثلاثة [للموصى لهما] (2) : لصاحب الثلث سهمان، ولصاحب السدس سهم، والباقي ستة للورثة: لكل واحد منهم سهمان.
7314- فإن ترك ثلاثةَ بنين وأوصى لرجل بربع ماله ولآخر بخُمس ماله؛ فإن أجاز الورثة، فسهام الورثة ثلاثة، ومخرج الوصية عشرون، فنسقط منها الوصية وهي تسعة، والباقي أحدَ عشرَ لا ينقسم على سهام الورثة، ولا يوافقها، فنضرب سهام الورثة في مخرج الوصية، وهو عشرون، فيبلغ ستين، فمنها تصح القسمة، ولا حاجة إلى اعتبار السهام الثلاثة؛ فإن الوصايا زائدة على الثلث وقد أجازها الورثة، فلا حاجة إلى نسبة الثلث والثلثين. ثم كان للموصى له بالربع خمسة أسهم من عشرين، فنضربها في سهام الورثة وهي ثلاثة، فيبلغ نصيبه خمسةَ عشرَ، وكان للموصى له بالربع أربعة مضروبة في ثلاثة يكون اثني عشر. هذا طريق العطاء في الإجازة؛ لأنه يتضعف كل قسط بضرب سهام الورثة في العشرين، وذهب بالوصيتين سبعةٌ وعشرون، وبقي ثلاثةٌ وثلاثون، وقد كان لكل ابن في سهام الفريضة سهم، فاضربه فيما بقي من العشرين، وهو أحدَ عشرَ، فلكل ابن أحد عشر سهماً.
وإن لم يجيزوا، فسهام الوصية كما ذكرنا تسعة، وسهام الورثة ثلاثة، ثم نعمد إلى ثلاثة للاحتياج إلى نسبة الثلث والثلثين، فلا ينقسم سهمٌ على السبعة، ولا سهمان
__________
(1) في الأصل: جمعاً.
(2) في الأصل: من الموصى لهما.(11/69)
على الثلاثة، والثلاثة داخلة في التسعة، فنضرب التسعة في ثلاثة، فيرد سبعة وعشرين [نميز] (1) ثلثها تسعة: للموصى له بالربع خمسة من تسعة، وللموصى له [بالخمس] (2) أربعة، والباقي وهو ثمانيةَ عشرَ بين ثلاثة بنين: لكل واحد منهم ستة.
[فإن] (3) ترك ثلاثة بنين، وأوصى لرجل. بربع ماله، ولآخر بخُمسه، ولآخر بسدسه، فإن أجاز الورثة، فسهام الفريضة ثلاثة، ونطلب [عدداً تخرج] (4) منه أجزاء الوصية وهو ستون، فنأخذ منها أجزاء الوصية، ومجموعها سبعةٌ وثلاثون، والباقي منها ثلاثة وعشرون، ولا تصح على سهام الفريضة، ولا توافقها، فنضرب سهام الفريضة في مخرج الوصية، فتبلغ مائة وثمانين، فمنها تصح المسألة، ثم نقول: كان للموصى له بالربع خمسةَ عشرَ، نضربها في سهام الورثة، فيكون له خمسة وأربعون، وكان للموصى له بالخُمس اثنا عشر، نضربها في ثلاثة، [فتردّ] (5) ستةً وثلاثين، وكان للموصى له بالسدس عشرة، نضربها في ثلاثة، فيكون له ثلاثون. وقد ذهب مائةٌ وأحدَ عشرَ بالوصايا، وبقي من المال تسعة وستون للورثة، وقد كان لكل واحد منهم سهم، وهو مضروب في ثلاثة وعشرين الباقية من مخرج الوصية بعد إسقاط الوصايا، فلكل واحد منهم ثلاثة وعشرون.
فإن لم يجيزوا، فأجزاء الوصية سبعةٌ وثلاثون، كما قد ذكرنا، وأجزاء الميراث ثلاثة، فالوجه ما ذكرناه من قسمة ثلاثة على المبلغين، فنقسم [سهماً] (6) على سهام الوصايا، فلا ينقسم ولا يوافق، وكذلك القول في السهمين وسهام الورثة، وليس بين الثلاثة [: سهام الورثة وسهام الوصية] (7) وهي السبعة والثلاثون موافقة، فنضرب ثلاثة في سبعة وثلاثين، فتبلغ مائة وأحدَ عشرَ، ثم نضرب هذا المبلغَ في ثلاثة التي
__________
(1) في الأصل: نميزه.
(2) في الأصل: بالخمسة.
(3) في الأصل: بأن.
(4) في الأصل: عدد الجرح.
(5) مزيدة من المحقق.
(6) في الأصل: بينهما.
(7) زيادة من المحقق.(11/70)
بها تعديل الثلث والثلثين، فيبلغ ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين، فمنها تصح القسمة، ولا حاجة إلى الامتحان (1) .
هذا فيه إذا زادت الوصايا على الثلث، فأجازها الورثة أو [ردّوها] (2) ، ولم يكن في آحاد الوصايا ما تزيد على الثلث.
7315- فإن كان في آحاد الوصايا ما يزيد على الثلث، مثل أن يوصى بنصفٍ [وثلثٍ] (3) ، فالنصف زائد على الثلث، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن سبيل تخريج هذا النوع من المسائل كسبيل تخريج ما تقدم، فنفرض الإجازة من الورثة، ونجري قياسَ حساب الإجازة، ثم نفرض الردّ، ونقسم الثلث بين أهل الوصايا على النسبة التي اقتسموا [بها] (4) ما نالهم من المال عند الإجازة.
وأبو حنيفة (5) يقول: إذا ردّ الورثة، فالموصى له بالنصف لا يضرب إلا بالثلث، وإنما يتفاوت أصحاب الوصايا إذا كانت أجزاء وصاياهم متفاوتة بالثلث [فما] (6) دونه، ولم نُعد حساب هذا القسم لمّا وجدناه على الطَّرْز الأول من غير تفاوت.
هذا كله إذا أجاز الورثة جميعَ الوصايا، أو ردوا بأجمعهم ما زاد على الثلث.
__________
(1) نضع صورة هذه المسألة بالأرقام مثالاً آخر للإيضاح:
. . . . . . . .3 أبناء ... موصى له ... موصى له.... موصى له ... لم يجز الورثة ولذا نردّ
مخرج الوصية.............. 1/4...... 1/5........ 1/6.......... المسألة إلى (3) لنخرج
من 60........ 23........ 15...... 12........ 10 الثلث والثلثين.
3.............. 2..................... 1.................... نضرب سهام الورثة 3
333......... 222................. 111.................... في 37 سهام الوصية =
......... 74-74-74.......... 45-36-30............. 3 ×37 -111 ثم نضرب هذا
....................................................... في 3 = 3 × 111 = 333 ومنها تصح
....................................................... القسمة وبهذا ظهر نصيب كل وارث.
(2) في الأصل: أو زادوها.
(3) في الأصل: وثلثه.
(4) زيادة من المحقق.
(5) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 428.
(6) في الأصل: فيما.(11/71)
7316- فأما إن أجاز [البعضُ] (1) بعض الوصايا، ورد البعض، أو أجاز بعضهم جميعَ الوصايا، أو أجاز بعضهم بعضَ الوصايا، وأجاز غيره غير تلك [الوصايا] (2) ، فالقياس فيه أن نصحح المسألتين إحداهما على تقدير الإجازة من الجميع للوصايا كلها، والثانية على تقدير الرد من الجميع، ثم ننظر إلى المسألتين. فإن كانتا متباينتين، ضربنا إحداهما في الأخرى، وإن كانتا متوافقتين، ضربنا وَفْق إحداهما في جميع الأخرى، فما بلغ فمنه تصح القسمة.
وإن كانتا متداخلتين، صحت القسمة من أكثرهما، ولا يتصور أن يكونا متماثلتين.
ثم كيفية القسمة على تقدير الإجازة والرد تنكشف [مقترنة] (3) بضرب الأمثلة.
7317- مثال: ثلاثة بنين، وقد أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر [بخُمسي] (4) ماله. فإن أجازت الورثة، فسهام الميراث ثلاثة، ومخرج الوصية خمسةَ عشرَ، فنلقي ثلثَها وخمسها، وذلك أحدَ عشرَ، والباقي أربعة، لا يصح على سهام الميراث، ولا يوافق، فنضرب سهامَ الفريضة في مخرج الوصية، فبلغ خمسةً وأربعين، وكان للموصى له بالثلث خمسة مضروبة في ثلاثة، فله خمسة عشر، وكان للموصى له بالخُمسين ستة، فهي له مضروبة في ثلاثة تكون ثمانيةَ عشرَ، وقد ذهب بالوصيتين ثلاثة وثلاثون سهماً، وبقي منه (5) اثنا عشر، وكان لكل ابن من سهام الفريضة سهم، مضروب في الأربعة الباقية من مخرج الوصية، فيأخذ كلُّ واحد منهم أربعة من اثني عشر.
وإن لم يجيزوا، فالشافعي رضي الله عنه يقول: سهام الفريضة ثلاثة، ومخرج الوصية خمسةَ عشرَ، وسهام الوصية منها أحد عشر، فإذا جرينا على العمل الذي
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: الوصية.
(3) في الأصل: مقترناً.
(4) في الأصل: بخمس.
(5) منه: أي الأصل.(11/72)
رسمناه، فقد: بلغ العدد تسعة وتسعين، فمنها تصح [القسمة] (1) ، وبها يعتدل الثلث والثلثان، هذا في إجازتهم جميعاً للجميع، أو في ردهم جميعاً للزيادة في الجميع.
ونحن نذكر صوراً في رد البعض وإجازة البعض، وإنما ذكرنا ما قدمناه الآن اخر (2) ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه على مخالفة مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه.
7318- صورةٌ: رجل أوصى لرجل بالثلث ولآخر بالربع، وخلّف ابنين، فإن [أجازا، فمخرج] (3) الوصية من اثني عشر، نلقي ربعها وثلثها، وذلك سبعة والباقي خمسة للابنين، لا ينقسم ولا يوافق، فنضرب اثنين في اثني عشر، فيصير أربعة وعشرين، يصح لصاحب الثلث ثمانية ولصاحب الربع ستة، ولكل ابن خمسة.
وإن لم يجيزوا، [فطريق] (4) العمل في الرد أن نقول: سهام الوصية سبعة، وسهام الورثة اثنان، فنقسم الثلاثة على صنفين، ينكسر سهم على سهام الوصية، ولا يوافق، وينقسم [السهمان] (5) على سهام الورثة، فيعود الكلام إلى كسرٍ واحد، وهو سبعة، فنضربها في الثلاثة التي بها التعديل، فيرد واحداً وعشرين، فمنها تصح القسمة.
وإن أجازا لصاحب الثلث جميع وصيته ولم يجيزا الزائد من وصيّة الربع، فالربع ثلاثة أسباع الثلث، ولصاحب الثلث تمام الثلث.
[فطريق] (6) الكلام في هذه المسألة، وفي المسائل التي تترتب عليها مشتملة على جهات التبعيضات في الرد والإجازة أن يعدّ الإنسان العددَ الأقصى الذي يخرج منه جملة التبعيضات المفروضة أولاً، ثم نعلم أن المسائل تنقسم، فمنها ما لا يصح إلا من العدد الأقصى، ومنها ما يصح دونه، بعدد قريب، وليس من الوجه تخريج المسألة بعددٍ كثيرٍ، مع صحتها بعددٍ دونه.
__________
(1) في الأصل: القيمة.
(2) كذا.
(3) في الأصل: أجاز المخرج.
(4) في الأصل: بطريق.
(5) في الأصل: السهام.
(6) في الأصل: بطريق.(11/73)
والعدد الأقصى في هذه المسألة وأمثالها أن ننظر إلى الفريضة الجامعة للوصية والميراث في الرد العام من جميع الورثة في جميع الوصايا، وتلك الفريضة في هذه المسألة أحدٌ وعشرون، وننظر إلى فريضة الإجازة العامة من الجميع في الجميع، وهي أربعة وعشرون في هذه المسألة، فإن كان المبلغان متباينين، ضربنا أحدَهما في الثاني كدأبنا في كَسْرين، فإن كانا متوافقين، ضربنا وَفْق أحدهما في جميع الثاني، فهذا هو [العدد] (1) الأقصى، والمسائل كيف تصرفت في التبعيضات، تخرج منه على الوجوه التي سنذكرها، إن شاء الله.
ولكن إذا جوزنا أن يخرج بعض المسائل بعددٍ أقل من العدد الأقصى، فالوجه أن نتخذ فريضةَ الرد العام معتبراً ونقول: لو قسم الرد بالفريضة من أحدٍ وعشرين، [لكان] (2) لكل ابن سبعة وللوصايا سبعة: لصاحب الثلث أربعة منها، ولصاحب الربع ثلاثة.
7319- فإذا أجازا الزائدَ في الوصية بالثلث، ولم يجيزوا الزائد في الوصية بالربع، أقررنا الوصية بالربع على ثلاثة أسباع الثلث، وقد أخذ صاحب الثلث أربعة أسباع الثلث، وله بحكم إجازتها ثلاثة أسباع إلى قيمة الثلث، فنأخذ سُبعاً ونصفاً من كل ابن، فيحصل له ثلثٌ كامل، ولكن يبقى في يد كل ابن خمسةٌ ونصف، فإذا أردنا إزالة الكسر، ضربنا فريضة الرد في مخرج النصف، فردَّ اثنين وأربعين، ثم نعود فنقول: لصاحب الربع ثلاثة أسباع الثلث من هذا المبلغ، فهو ستة، ولصاحب الثلث تمام الثلث لمكان الإجازة، وهو [أربعة عشر] (3) ، فيبقى اثنان وعشرون، لكل ابن أحدَ عشرَ.
7320- وإن أجاز الابنان لصاحب الربع جميع وصيته، ولم يجيزا لصاحب الثلث، [ما زاد] (4) على حقه من الثلث، فالرجوع إلى فريضة الرد، وهي أحدٌ وعشرون، فلصاحب الثلث أربعة أسباع الثلث؛ إذ لا إجازة في حقه، ولصاحب الربع
__________
(1) في الأصل: العدو.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: أربعة.
(4) في الأصل: فازاد.(11/74)
ثلاثة أسباع الثلث من غير حاجة إلى إجازة وله بحق إجازة الابنين تمامُ الربع، وربع أحدٍ وعشرين خمسةٌ وربع؛ وقد أخذ منها ثلاثة، فيبقى سهمان وربع، نأخذ نصفها من كل ابن، وهو سهم وثمن، فيبقى في يد كل ابن خمسة أسهم وسبعة أثمان، فإذا أردنا رفع الكسر، ضربنا فريضة الرد في مخرج (1) الثمن وهو ثمانية، فيرد مائةً وثمانيةً وستين، وهذا هو العدد الأقصى، فإنك إذا ضربت سبعة وهي [الوَفق] (2) [لفريضة] (3) الرد في تمام لفريضة الإجازة، [ردّ هذا المبلغ] (4) [وهو] (5) مائة وثمانية وستون. فنقول: لصاحب الثلث أربعة أسباع الثلث من هذا المبلغ، وهو اثنان وثلاثون، ولصاحب الربع الربعُ الكامل: اثنان وأربعون، ولكل ابن سبعة وأربعون.
7321- فإن أجاز أحد الابنين الوصيتين جميعاً، ولم يجز الآخر واحدةً [منهما] (6) ، فنرجع إلى فريضة الرد، ونقول: الثلث للوصيتين على سبعة أسهم من غير حاجة إلى فرض إجازة، فإذا أجاز أحدهما، فصاحب الثلث [يأخذ] (7) من المجيز بعد [أربعة] (8) الأسباع نصفَ [تتمّة] (9) الثلث، وهو سهم ونصف، ويأخذ صاحبُ الربع من المجيز نصف تتمّة الربع، وهو سهم وثمن، فيكون الكسر بالنصف والثمن، فنضرب فريضة الرد في مخرج الثمن، فيرد العدد الأقصى [مائة وثمانية وستين] (10) ،
__________
(1) هنا عدة سطور مكررة من المسألة السابقة.
(2) في الأصل: الرفق. والمراد بالوفق العدد الذي يخرج من قسمة أحد الفريضتين على العدد الذي يتوافقان في القسمة عليه، والفريضتان عندنا في هذه المسألة 24 فريضة الإجازة، 21 فريضة الرد، وهما يتوافقان في القسمة على 3، والخارج يسمى الوفق، وإذا ضربت وفق أحدهما في كامل الآخر، كانت النتيجة واحدة 168 هكذا: 7×24= 168، 8×21= 168.
(3) في الأصل: في فريضة الرد.
(4) في الأصل: وهذا المبلغ.
(5) في الأصل: وهي.
(6) في الأصل: لها.
(7) في الأصل: نافذ.
(8) زيادة من المحقق.
(9) في الأصل: قيمة.
(10) زيادة من المحقق.(11/75)
ثم نقول: ندفع إلى الذي أجاز سهامه من فريضة الإجازة، فهي خمسة، فنضربه في ثلث فريضة الرد (1) ، يكون خمسة وثلاثين، فندفع إلى الذي لم يجز سهامه من فريضة الرد، وهي سبعة مضروبة في ثلث فريضة الإجازة، فيكون له ستة وخمسون، وهي الثلث، والباقي وهو سبعة وسبعون للموصى لهما، لصاحب الثلث أربعة أسباعها أربعةٌ وأربعون، ولصاحب [الربع] (1) ثلاثة أسباعها.
وإذا عرفت أن الفريضة تصح من المبلغ الأقصى، فالمسلك [الأيسر] (2) أن نقول: نُثلث هذا المبلغ، ونصرف إلى كل ابن ثلثاً، وهو ستةٌ وخمسون، ونصرف إلى الوصية ثلثاً، ثم نأخذ من المجيز من الابنين ما كان يخصه [لو] (3) أجاز الابنان جميعاً، وهو نصف تمام الثلث في حق صاحب الثلث، ونصف تمام الربع في حق صاحب الربع، فيبقى في يده خمسةٌ وثلاثون، ولو أجاز صاحبُه، لكان لا يبقى له إلا خمسة وثلاثون.
__________
(1) تكررت وستتكرر الإحالة إلى فريضة الإجازة وإلى فريضة الرد، فأحببنا أن نضع صورة الفريضتين على هيئة الأرقام أمام الناظرين تسهيلاً وتيسيراً لتصور المسائل:
. . . . . . . . . . . . فريضة الأجازة
. . . . . . . . . . . . موصى له بـ 1/3 موصى له بـ 1/4 ابنان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . 1/3............... 1/4...... الباقي
تصح المسألة من (12) ............... 4............... 3............5 تنكسر الـ 5 على 2
تصحيحاً من (24) .................. 8.............. 6......... 5، 5 فنضربها في 12 = 24
فريضة الرد
. . . . . . . . . موصى له بـ 1/3 ... موصى له بـ 1/4 ... ابنان
تصح من (3) .......................................... 1...... 2
يقسم الواحد بين الموصى لهما بنسبة 4: 3
ولا يتوافقان، فنضرب مجموعهما (7) في الأصل: 7 × 3 = 21، ومنه تصح المسألة
. . . . . . موصى له 1/3 ... موصى له 1/4 ... ابنان
21................. 4............... 3...... 7، 7
(2) الأيسر: هكذا قرأناها بصعوبة.
(3) في الأصل: ولو.(11/76)
وإذا بان [الغرض] (1) واتضح مسلك التصحيح، فلا حرج على من يغير ويقدر.
وإن شئت قلت: [هذه] (2) المسألة [تخرج من] (3) فريضة الإجازة: أربعة وعشرين، فنقسمها بين الاثنين ونقدر كأن لا وصية، فلكل ابن اثنا عشر، فخذ من الذي لم يُجز ثلثَ ما في يده أربعةَ أسهم؛ لأن الثلث جائز (4) عليه، [و] (5) هذا القدر في حقه مصروف إلى الوصيتين، فيبقى معه ثمانية، وخذ من الذي أجاز ثلث ما في يده وربع ما في يده؛ فإنه أجاز الوصيتين، وذلك سبعة، فيبقى في يده خمسةُ أسهم.
فيجتمع للموصى لهما أحدَ عشرَ سهماً، يقسمانها على سبعة أسهم، فلا تصح ولا توافق، فاضرب أصل الفريضة، وهو أربعة وعشرون في سبعة، تكون مائة وثمانية وستين، ثم سبيل تعيين الحصص أن تقول: للذي لم يُجز ثمانيةٌ من أصل الفريضة مضروبة في سبعة، وذلك ستةٌ وخمسون، وللذي أجاز خمسةٌ في سبعة، وذلك خمسةٌ وثلاثون، وكان للموصى لهما أحدَ عشرَ في سبعة، والمردود سبعةٌ وسبعون، أربعةُ أسباعها لصاحب الثلث، وهو أربعة وأربعون، وثلاثة أسباعها لصاحب الربع، وهي ثلاثة وثلاثون.
7322- فإن أجاز أحدهما لصاحب الثلث، وأجاز الآخر لهما، فإن أحببتَ، رجعت إلى فريضة الرد، وقلت: للوصيتين سبعةٌ من أحدٍ وعشرين، من غير حاجة إلى إجازة، ثم يأخذ صاحب الثلث ممّن أجاز الوصيتين نصفَ تمام الثلث، ويأخذ صاحب الربع منه نصفَ تمام الربع، فيحصل لصاحب الثلث من جهته سهم ونصف، ويحصل لصاحب الربع سهم وثمن، فيبقى في يده أربعة وثلاثة أثمان، ويأخذ صاحب الثلث ممّن أجاز الوصية بالثلث نصفَ [تتمّة] (6) الثلث، وهو سهم ونصف، ولا يرجع إليه
__________
(1) في الأصل: الفرض.
(2) في الأصل: وهذه.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) جائز عليه: أي لا يحتاج إلى إجازة الورثة.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: قيمة.(11/77)
صاحب الربع بمزيد، فيكمل الثلث لاجتماع الإجازتين في حقه.
ويحصل لصاحب الربع [أربعٌ] (1) وثمن، وإذا كان الكسر بالثمن، ضربنا فريضة الرد في ثمانية، فرد المبلغَ الأقصى، فهو مائة وثمانيةٌ وستون.
وقد يؤدي إلى ذلك أن نأخذ العمل من فريضة الإجازة، وهي أربعةٌ وعشرون، فنقول: لو لم يكن وصية لأخذ كل ابن اثني عشر، فخذ من الذي أجاز لهما ثلث ما في يده، وربع ما في يده، وذلك سبعة يبقى معه خمسة.
وخذ من الذي أجاز لصاحب الثلث ثلث ما في يده: أربعةً، وثلاثة أسباعها: سهمٌ وخمسةُ أسباع، والكسر سبعةٌ، فاضرب سبعةً في أربعة وعشرين، فيردّ المبلغَ الأقصى مائة وثمانية وستين. [لمن] (2) أجاز لهما من أصل الفريضة خمسة مضروبة في سبعة، وذلك خمسة وثلاثون، وللذي أجاز لصاحب الثلث هذه أربعةٌ وأربعون؛ فإنه كان له بعد إخراج الثلث وثلاثة أسباع الثلث مما في يده ستة وسبعان، فنضربها في السبعة، فيردّ أربعة وأربعين.
7323- وإن أجاز أحدهما لصاحب الربع وحده، وأجاز الآخر لهما، فالفريضة من مائة وثمانية وستين، على الترتيب الذي ذكرناه. وأن ينظر المتصرف لطريق العمل أخذ المبلغ الأقصى، وهو مائة وثمانية وستون، وقَسْمها بين الاثنين، كأنْ لا وصية، فلكل ابن أربعةٌ وثمانون، ثم يأخذ من الذي أجاز لهما ثلثَ ما في يده، وربع ما في يده، وذلك تسعة وأربعون، يبقى معه خمسةٌ وثلاثون.
وخذ من الذي أجاز لصاحب الربع ثلث ما في يده أولاً؛ فإن هذا جائز من غير حاجة إلى الإجازة، وهذا مصروف إلى الوصيتين على نسبة الأسباع، فيبقى في يد هذا الابن ستة وخمسون؛ فإن الثلث المأخوذ ثمانية وعشرون، فيجتمع للموصى لهما سبعة وسبعون، فيقسم هذا المبلغ بينهما أسباعاً: أربعةُ أسباعها وهي أربعة وأربعون، لصاحب الثلث.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: لما.(11/78)
وثلاثة أسباعها لصاحب الربع، وهو ثلاثة وثلاثون، وقد بقي لصاحب الربع إلى تمام الربع سبعةُ أسهم، يأخذها من الذي أجاز له وحده، فيبقى مع الذي أجاز له وحده سبعةٌ وأربعون.
7324- فإن أجاز أحدهما لصاحب الثلث وحده، ولم يجز الآخر لهما ما زاد على الثلث، فإن أحببت اتخذت فريضة الرد مرجوعَك، والثلث (1) بينهما على سبعةٍ من غير حاجةٍ إلى إجازة: لصاحب الربع ثلاثة أسباع الثلث، ولصاحب الثلث أربعة، ولكل ابن سبعة، ثم يأخذ صاحب الثلث من المجيز منهما نصفَ [تتمّة] (2) الثلث، فهو سهم ونصف، فيتطرق إلى المسألة الكسر بالنصف، فاضرب فريضة الرد، وهي أحدٌ وعشرون في اثنين، فتردّ اثنين وأربعين، فتصح القسمة من هذا المبلغ، فتصح منها المسألة.
وإن أجاز أحدهما لصاحب الربع وحده، ولم يجز الآخر لهما، فنرجع إن أردنا إلى فريضة الرد، فالثلث بينهما على سبعة من غير حاجة إلى إجازة، على النسبة التي ذكرناها، وقد بقي لصاحب الربع إلى تمام الربع درهمان وربع، يأخذ نصفها من الذي أجاز له، وذلك واحدٌ وثمن، فاضرب أحداً وعشرين في ثمانية، فترد العدَدَ الأقصى.
ووجه العمل بيّن.
7325- وإن أجاز أحدهما لصاحب الثلث وحده، وأجاز الآخر لصاحب الربع وحده، فالثلث بينهما على سبعة، ولكل ابنٍ سبعة، ثم يأخذ صاحب الثلث من المجيز نصفَ تتمّة الثلث، وهو سهم ونصف. ويأخذ صاحب الربع من المجيز نصفَ قيمة الربع، وهو سهم وثمن، فإذا انتهى الكسر إلى الثمن، فالمسألة تصح من العدد الأقصى بعدُ، وصحّ التصرف في عموم الرد وعموم الإجازة [وجهات] (3) التبعيض.
7326- إذا ماتت امرأة، وخلّفت زوجاً، وأماً، وأختاً من أب، فاوصت لرجل
__________
(1) عبارة الأصل: وثلث الثلث بينهما.
(1) في الأصل: قيمة.
(3) في الأصل: وجهاً من.(11/79)
بثلثي مالها، فأجازت الأم الثلثين، وأجاز الزوج النصفَ، وردّ ما جاوز النصف، ولم تُجز الأخت أكثر من الثلث.
ففريضة الميراث من ثمانية أسهم، أصلها ستة، وقد عالت بثلثها: للزوج ثلاثة، وقد أجاز النصف، فخذ نصف ما في يده، فيبقى معه سهم ونصف، وللأم سهمان، وقد أجازت الثُّلثين، فخذ ثلثي ما في يدها، وهو سهم وثلث، بقي معها ثلثا سهم، وللأخت ثلاثة، فخذ ثلثَ ما في يدها، وهو سهم، بقي معها سهمان، واجتمع للموصى له ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم، فاضرب الفريضة في ستة، فترد ثمانية وأربعين: للموصى له ثلاثة وخمسة أسداس مضروبة في ستة، فيجتمع له ثلاثة وعشرون سهماً، وللزوج سهم ونصف في ستة، وهو [تسعة] (1) ، وللأم ثلثا سهم في ستة يكون لها أربعة أسهم، وللأخت سهمان في ستة، فلها اثنا عشر.
ومن أحاط بما ذكرناه وصورناه، لم يخف عليه طريق القياس، واتسعت عليه المسالك في اعتبار طريق الرد والإجازة.
7327-[وقد] (2) بقي علينا من التراجم التي ذكرناها نوع واحد، وهو الوصية بجملة [التركة] (3) مع الوصية بجزءٍ منها. والذي قدمناه في الوصية بأجزاء لا تزيد على الثلث أو تزيد على الثلث ولا تستغرق المال، ثم قسمنا هذا القسم إلى أقسام سبقت.
فلو أوصى بجميع ماله لإنسان، وأوصى بثُلثه لآخر، وأجاز الورثة الوصيتين، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المال يقسم بين الوصيّتين على حساب العول، فجملة المال مستغرقة بصفة الوصية بالكل، والموصى له بالثلث يزحم بالثلث، فنأخذ مخرج الثلث، وهو ثلاثة ونُعِيلُها بثلثها، ونقسم المال كلَّه بين الموصى له بالجميع وبين الموصى له بالثلث أرباعاً. هذا قياس الشافعي رضي الله عنه في الباب.
ولو أوصى لرجلٍ بجميع ماله، وأوصى لآخر بربع ماله، جعلنا المال أربعة
__________
(1) في الأصل: سبعة.
(2) حرفت في الأصل إلى: دور.
(3) زيادة من المحقق على ضوء السياق.(11/80)
أسهم، وأَعَلْناها بربعها، فيصير المال خمسة أسهم، للموصى له بالجميع أربعة أخماسها، وللموصى له بالربع خمسها؛ ولا يخفى طريق [العوْل] (1) .
ولو ردَّ [الورثة] (2) الوصيتين جميعاً، قسمنا الثلث بينهما على نسبة قسمة الإجازة، فإن كان أوصى بكل المال لإنسان وبثلثه لآخر، فردّ الورثةُ الزائد [فالثلث] (3) مقسوم بينهما أرباعاً: ثلاثة أرباعه للموصى له بالكل، وربعه للموصى له بالثلث. واعتبر أبو حنيفة (4) في هذا النوع القيمة على الدعاوى، فقال: إذا كانت إحدى الوصيتين بالكل والأخرى بالثلث، فصاحب الكل يقول لصاحب الثلث: لا دعوى لك في الثلثين؛ فأستبدُّ بهما، والثلث الشائع بيننا أنت تدّعيه، وأنا أدّعيه، فنقسِّمه نصفين، ويخلص لصاحب الوصية بالكل خمسة أسداس المال، ولصاحب الوصية بالثلث سدسه، وقال: إذا رد الورثة الزائد، فالثلث مقسوم بينهما نصفين، وهذا خارج على أصله المشهور في ردّ ما يزيد على الثلث، فمن [ردّ] (5) الوصيّةَ الزائدةَ على الثلث في مقدارها إذا فرضت، رد [مثل هذه] (6) الوصايا.
فإذا تمهد هذا الأصل، بنينا عليه فصلاً مهمّاً متصلاً.
فصل
7328- إذا أوصى لرجل بعبد قيمته مائة، ولآخر بثلث ذلك العبد، أو بثلث ماله، ولا مال له غيرُ العبد، فإن أجاز الورثةُ، فالعبد بينهما على أربعةٍ: للموصى له بجميعه ثلاثة أرباعه، ولصاحب الثلث رُبعُه.
وإن لم يجز الورثة، فلهما ثلث العبد بينهما على أربعة: لصاحب الكل ثلاثة أرباع الثلث، ولصاحب الثلث ربع الثلث.
__________
(1) في الأصل: القول.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: بالثلث.
(4) ر. مختصر اختلات العلماء: 5/ 9 مسألة رقم 2153.
(5) في الأصل: جزء.
(6) زيادة من المحقق.(11/81)
وإن أجازوا نصفَ الوصيتين فسلِّم نصفَ العبد إليهما، فيقسمانه على أربعة أسهم: لصاحب [الكل] (1) ثلاثة أرباع النصف، فهي ثلاثة أثمان العبد، ولصاحب الثلث ربع النصف، وهو ثمن العبد. ولا يكاد يخفى ما لم نذكره قياساً على ما ذكرناه.
7329- ولو ترك [مائتي] (2) درهم والعبدَ، وقيمته مائة، وكان أوصى بجميع العبد لرجلٍ، وأوصى بثلث ماله لرجل آخر، وأجاز الورثةُ [الوصيتين، فللموصى] (3) له بالعبد ثلاثة أرباعه، ولصاحب الثلث ربعُ العبد [و] (4) ثلث الدراهم وذلك ستة وستون درهماً وثلثان.
ومما يجب التنبيه له أن الوصية بالعبد وصيةٌ بمقدار الثلث، والوصية الأخرى واقعةٌ بالثلث، فظاهر الأمر [يشعر أن الوصيتين وصية بالثلثين، وليس كذلك] (5) فإن الموصى له [بالثلث] (6) يشيع حقه في العبد، فيصير [مزاحماً] (7) للموصى له، فينقص حق الموصى له بالعبد بسبب زحمته، ولا تزاحم للموصى له بالثلث في الدراهم، فيأخذ ثلث الدراهم كَملاً عند فرض الإجازة، فيأخذ من العبد ثلثاً عائلاً وهو ربع، فيُجمَع للموصى له بالثلث من الدراهم ستة وستون وثلثان، ومن رقبة العبد خمسةٌ وعشرون، فالمجموع عنده أحدٌ وتسعون وثلثان. وينقص من حقه بسبب الزحمة ثمانية وثلث.
والموصى له بالعبد يأخذ ثلاثة أرباع العبد، وقيمتها خمسةٌ وسبعون، فينقص من حقه خمسة وعشرون، وهو مائة درهم [قيمته] (8) . والسبب فيه أن حقه ينحصر في
__________
(1) في الأصل: الملك.
(2) كذا قدرناها على ضوء ما سيأتي في تفصيل المسألة، وإلا فهي غير مقروءة.
(3) في الأصل: بالوصيتين، فالوصي.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: يشعر بثلثي الوصيتين بالثلثي، فليس كذلك.
(6) في الأصل: بالثلثين.
(7) في الأصل: متزاحماً.
(8) في الأصل: فيه.(11/82)
العبد، وهو مزحوم فيه، ويثبت للموصى له بالثلث ثلثُ الدراهم بلا زحمة، والمزاحمة في العبد.
7330- فإن لم يُجز الورثة ما زاد على الثلث، رددنا الوصيتين إلى الثلث لا محالة، والنظرُ الدقيق في كيفية قسمة الثلث بينهما، وهذا مقصود الفصل، وفيه وجوه من الإشكال: أحدها - أن إحدى الوصيتين لا تعدو غيرَ العبد ولا تعترض للورثة في [شتى] (1) الأعيان، وإنما حقهم [في الفوز بثلثي المال] (2) ، فكيف يعتبر الثلث؟ وما الوجه؟
قال الفقهاء الحسّاب، ومنهم شيخنا أبو بكر الصيدلاني: نتأمل فريضة الإجازة، فنعلم أنا نحتاج إلى تربيع العبد، والعبد ثلث، فإذا جعلنا ثلثا أربعة، جعلنا كلّ ثلث أربعة، ثم إذا أردنا استكمال الحساب، وجعلنا كل ثلث مربعاً مثلَّثاً، لإمكان تعرّض الرد إلى الثلث، [فنضع] (3) المسألة من اثني عشر أوّلاً، نضربها في ثلاثة، فترد علينا ستة وثلاثين، العبدُ منها اثنا عشر، فإذا أجاز الورثة الوصيتين، قلنا: للموصى له بالعبد تسعةُ أسهم، وهو ثلاثة أرباع العبد، وللموصى له بالثلث ثلاثةُ أسهم من العبد، وثلثٌ من المائتين، وقد جعلنا كلَّ مائة اثني عشر أيضاً، فتجمَّع لصاحب الثلث أحدَ عشرَ سهماً: ثلاثة من رقبة العبد، وثمانية (4) من المائتين، فإذاً [حصل] (5) لهما عشرون سهماً: تسعةٌ منها [لصاحب] (6) العبد، وأحدَ عشرَ سهماً لصاحب الثلث.
7331- فإذا فرضنا ردّ الوصيتين إلى الثلث، فالوجه أن نجعل الثلث عشرين (7) ،
__________
(1) في الأصل: نفس. والمثبت من اختيار المحقق.
(2) في الأصل: القدر ثلثي المال.
(3) في الأصل: فتضيع.
(4) ثمانية من المائتين: لأن كل مائة جعلناها اثني عشر، فالثلث من كل مائة أربعة.
(5) في الأصل: جعل.
(6) في الأصل: فصاحب.
(7) نجعل الثلث عشرين: لأن القسمة بين الموصى لهما تكون على هذه النسبة (11:9) (9) للموصى له بالعبد، (11) للموصى له بالثلث.(11/83)
وإذا جعلنا الثلث عشرين، جعلنا المال كلّه ستين، فالعبد منها عشرون، لصاحب الوصية بالعبد تسعةٌ منه لا غير، وللآخر ثلاثة منه، وبقي للورثة من العبد ثمانيةُ أسهم، وللموصى له بالثلث ثمانية (1) أسهم من أربعين سهماً من المائتين، والباقي وهو اثنان وثلاثون سهماً من المائتين للورثة، فيجتمع للورثة من المائتين والعبد أربعون سهماً، وهي ضعف الوصيتين.
وهذا هو المسلك الحق المستند إلى القانون المعتبر المتفق عليه، وهو قسمة الوصايا حالةَ الرد على نسبة قسمتها حالة الإجازة.
وقد لاح وجهُ حصر صاحب حق العبد في العبد؛ فإنا قدرنا سهامه من الثلث، وهي تسعة من عشرين، فحصرناها في العبد، ثم أثبتنا حق صاحب الثلث، على القياس الواضح.
7332- وذكر الأستاذ أبو منصور هذه المسألة، وجرى في حالة الإجازة على ما قدمنا، فلا خلاف فيها، فلما انتهى إلى الردّ [مال مسلكُه] (2) عن مسالك فقهائنا، ونحن نذكر ما ذكره على وجهه، ونبيِّن ما تخيله.
قال رضي الله عنه: إذا رُدّت الوصيتان إلى الثلث، [فالثلث بين] (3) صاحب العبد وبين صاحب الثلث (4) [يقتسمانه] (5) بالسوية، يضرب صاحب العبد بخمسين
__________
(1) ثمانية أسهم: فإنه قد حصل على ثلاثة أسهم من العبد، فلم يبق له إلا ثمانية، ليكمل حقه، وهو أحد عشر سهماً.
(2) في الأصل: "فقال ملكه". فانظر إلى أي حد وصل التحريف والتصحيف بالعبارة. والمثبت تقديرٌ منا، ما كنا لنصل إليه إلا بعون الله وإلهامه.
(3) في الأصل: بالثلث من.
(4) المراد بالثلث الذي بين صاحب العبد وصاحب الثلث هو ثلث المال كله، وليس ثلث العبد، ثم إن العبد يمثل كل ثلث التركة بالنسبة لصاحب العبد؛ حيث انحصرت وصيته في العبد، ولذا نراه يأخذ من العبد خمسين درهماً باعتبارها نصف الثلث، على حين ثبت حق الموصى له بالثلث شائعاً في العبد والدراهم، أي كل التركة، ولذا نراه يأخذ نصف السدس من كلٍّ منها.
(5) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها) .(11/84)
درهماً [ويأخذها] (1) من العبد (2) ، ولصاحب الثلث خمسون درهماً يأخذ مقدار ثلثها من العبد، وهو ستةَ عشرَ درهماً وثلثان، هذا ثلث الخمسين، وهو قيمة سدس العبد، ويأخذ ثلثي وصيته، وهو ثلاثة وثلاثون درهماً وثلثٌ من الدراهم (3) ، ويبقى للورثة ثلث العبد وثلثا الدراهم، وهي مائة وستة وستون درهماً وثلثا درهم، وجملة ذلك مائتا درهم، وهي ضعف الوصيتين؛ لأن الوصيتين جميعاً مائة درهم.
قال رضي الله عنه: إن شئت نسبتَ الثلث إلى الوصيتين، وخرّجت الجواب على النسبة، [ومبلغ] (4) الوصيتين مائتا درهم، ومبلغ الثلث مائة، فالثلث نصف الوصايا، فنأخذ هذه النسبة ونقول: لكل واحد منهما نصفُ وصية، فيكون لصاحب العبد نصف العبد؛ فإنه أوصى له بالعبد، ولصاحب الثلث نصف ثلث العبد؛ فإنه أوصى له بثلث العبد، ونصف الثلث سدس، وله أيضاً نصف ثلث الدراهم، وذلك سدس الدراهم، [فيجتمع] (5) له سدس العبد وسدس الدراهم، وهذه النسبة تجري مطردة، بلا مناقضة.
هذا كلام الأستاذ، ولا يخفى على الناظر. أنه خالف فيه المسلك الذي حكيناه عن الفقهاء؛ فإن الفقهاء نظروا إلى القسمة حالة الإجازة، فوجدوا الوصيتين قاصرتين عن الثلثين عند إجازة [الورثة] (6) على تفاوتٍ، فإنا قدرناها من عشرين، ورأينا صاحب العبد يأخذ من العشرين تسعة، وصاحب الثلث يأخذ أحدَ عشرَ، فإذا كان اقتسامهما على التفاوت حالة الإجازة، وجب أن يكون اقتسامهما الثلثَ على نسبة اقتسامهما حالة الإجازة. والأستاذ رحمةُ الله عليه لم يرْعَ التفاوتَ حالة الرد، وذهب إلى أن صاحب العبد يضرب مثل ما يضرب به صاحب الثلث، وليس الأستاذ -على علو قدره في دقائق
__________
(1) عبارة الأصل: ويأخذه هذا من العبد.
(2) ويأخذها (الخمسين التي هي نصف الثلث) من العبد؛ لأن حقه محصور في العبد، لا يتعداه.
(3) من الدراهم: أي المائتين، فإن التركة مائتا درهم مع عبد قيمته مائة.
(4) عبارة الأصل: وثلث مبلغ الوصيتين.
(5) في الأصل: ومجتمع.
(6) زيادة من المحقق.(11/85)
الحساب- ممّن يخفى عليه أن قسمة الرد على نسبة قسمة الإجازة، وقد ذكر هو تفاوتَ حالِ الإجازة، فلا بد وأن يكون لما ذكره غورٌ (1) في مقتضى الحساب.
والذي يلوح لنا منه أنه نقَصَ في حالة الإجازة حظَّ صاحب العبد؛ من جهة كونه مزحوماً فيه؛ إذ حقه منحصرٌ في العبد لا يتعداه، وقد صادفه فيه مزاحم، وانبسطت الزحمة على محل حقه بالثلث، واستبد صاحب الثلث بأكثرِ حقه من غير مزاحمة، والمزحوم عن حقه ليس بساقط (2) الحق.
وبيان ذلك بالمثال أن من قتل جماعة [ترتيباً] (3) ، فحق [الاقتصاص] (4) لأولياء القتيل الأول، وهذا حق تقديم، وإلا فحق القصاص ثابت لأولياء القتيل [الثاني] (5) ، وآية ذلك أن ولي القتيل الأول لو عفا، [انتقل] (6) لولي القتيل [الثاني] (7) حق (8) القصاص، ونظائر ذلك كثيرة في الشريعة، فالعبد إذاً موصى به لصاحب العبد، وآية ذلك أن صاحب الثلث لو ردّ الوصية [بجملتها، سُلِّم العبد إلى الموصى له به] (9) ، ولو رد الموصى له بالعبد الوصية، فالثلث من العبد ملكٌ للموصى له بالثلث، فليست الوصية بالثلث رجوعاً عن الوصية بالعبد، وإنما بينهما ازدحام، فكان التفاوت حالة الإجازة لقيام الازدحام، فإذا ردت الوصيتان إلى الثلث، ففي
__________
(1) في الأصل بدون نَقْط (الغين) . ولعل معناها: من غار الرجل في الأمر: دقق النظر فيه. (معجم) .
(2) المزحوم عن حقه ليس بساقط: المعنى أن صاحب العبد إنما أخذ نصيباً أقل من صاحب الثلث (عند الإجازة) لأنه كان مزحوماً، أما عند الرد وقسمة الثلث بينه وبين الموصى له بالثلث، فليس هناك زحمة، فقيمة العبد تسمح له بأن يأخذ نصف الثلث كاملاً، فلماذا ينقص عن صاحبه؟
(3) في الأصل مصحفة هكذا: تونننا.
(4) في الأصل: الاختصاص.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) ساقطة من الأصل.
(7) في الأصل: الباقي.
(8) عبارة الأصل: على حق القصاص.
(9) في الأصل: لو رد الوصية بالعبد بجملته سلّم إلى الموصى له به.(11/86)
العبد مضطرب، ويبقى منه للورثة مع توفية حق الوصيتين حسماً من الثلث.
وإذا زالت الزحمة، فالوصية بالعبد وصية بمائة، والوصية بالثلث وصية بمائة، ثم كما رُدّ صاحب العبد إلى نصف العبد، ولم نردّه إلى نصف ثلاثة (1) أرباعه، كذلك رُد الموصى له بالثلث إلى نصف الثلث كاملاً وهو السدس. فهذا المعنى [أوجب] (2) الفرقان بين حالة الرد والإجازة؛ فإن علة التفاوت حالة الإجازة زالت بالرد، فصار كل واحد منهما ضارباً بما أُوصي له به [لا بما] (3) يسلم له بالإجازة، والذي قدمته [عن] (4) الفقهاء، وإن كان جليّاً، فهذا [أغوص] (5) . ولو قلت: هو الصحيح، لم أكن مبعداً.
7333- ثم ذكر الأستاذ مسائل وأجرى فيها مسلكه هذا، ونحن نأتي بها ونجريها مرسلة حتى ننتهي إلى محل خلاف الفقهاء، فننبه حينئذ على وجه الخلاف.
ولو أوصى لرجل بعبدٍ بعينه، ولآخر بثلثه، ولثالث بسدسه، ولم يترك [غيرَ] (6) العبد، فإن أجاز الورثة، جعلنا العبد ستة أسهم؛ أخذاً من المخرَج الأقصى، ثم [نُعيل] (7) الستة بثلثها وسدسها. فإن أردنا، قلنا: نعيلها بنصفها (8) ، فنقسم العبد تسعة أسهم: للموصى له بجميعه ستة أسهم، وللموصى له بثُلثه سهمان، وللموصى بالسدس سهم؛ فيرجع حق الموصى له بالعبد إلى ثلثيه، ويرجع حق الموصى له بالثلث إلى تسعي العبد، ويرجع حق الموصى له بالسدس إلى [تسع] (9)
__________
(1) ثلاثة أرباعه: أي حظه من العبد عند الإجازة.
(2) في الأصل: أوجبت.
(3) في الأصل: لأنهما، وهو تصحيف بجعل الكلمتين كلمة واحدة.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: أعرض. ومعنى أغوص: أدق وأبعد، من قولهم: غاص على المعاني، كأنه بلغ أقصاها حتى استخرج ما بعد منها. (مصباح ومعجم) .
(6) في الأصل: عن.
(7) في الأصل: تفيد.
(8) بنصفها: لأن 1/3 + 1/6 = 1/2.
(9) في الأصل: نسعي.(11/87)
العبد، وترجع الحقوق على نسبةٍ واحدة.
ْفإذا كان الموصى له بالكل راجعاً إلى ثلثي حقه، والموصى له بالثلث أيضاً راجع إلى ثلثي الثلث؛ فإن [التسعين] (1) ثلثا الثلث، فنعلم أن التسع الثابت لصاحب السدس ثلثا السدس.
هذا إذا أجاز الورثةُ الوصايا.
فإن لم يجيزوا [فالثلث] (2) بينهم على تسعة: لصاحب العبد ثلثا ثلثه، ويُجعل العبد سبعة وعشرين؛ ليكون ثلثُه تسعةً (3) ، ولصاحب الثلث تُسعا الثلث سهمان من تسعة، أو سهمان من سبعةٍ وعشرين إذا نسبت إلى جميع المال، ولصاحب السدس تُسعُ الثلث، وهو سهم واحد من سبعةٍ وعشرين، ولا خلاف بين الأصحاب في هذا المقام؛ فإن الزحمة في ثلث العبد على نحو الزحمة في كله.
وإن أحببت قلت: مبلغ وصاياهم مرسلة من غير زحمة مائة وخمسون؛ فإن العبد مائة، وقد عالت الوصايا في الإجازة بمثل نصفها، والثلث ثلاثة وثلاثون وثلث، وإذا نسبت الثلث إلى الوصايا، كان مثلَ تُسعي الوصايا كلِّها (4) .
فإذا ردت إلى الثلث، فقل لكل واحد منهم تسعا وصيته (5) ، ولا تقل لكل واحد تُسعَا ما عُلم له في الإجازة، [فنقول: كان لصاحب] (6) العبد العبدُ كلُّه بالوصية المرسلة، وله الآن تسعاه، وإذا ردت الوصايا إلى الثلث، فلصاحب (7) الثلث ثلثا
__________
(1) في الأصل: السعي.
(2) في الأصل: بالثلث.
(3) فيكون لصاحب العبد 2/3 من 9 أي 6 يعني 6/27 ولصاحب الثلث 2/27، ولصاحب السدس
1/27 فالمجموع 9/27 أي ثلث العبد.
(4) وبيان أن الثلث بالنسبة إلى الوصايا = 2/9 هكذا 1/3 33 ÷ 150 = 100/450 (بعد تصحيح البسط) 100/450 = 2/9
(5) لكل واحد تسعا وصيته، بيانها هكذا = لصاحب العبد 6/27 = 2/9 من العبد، وصاحب الثلث
2/27 = 2/9 من ثلث العبد، وصاحب السدس 1/27 = 2/9 من سدس العبد.
(6) في الأصل: فنزل فاصاحب العبد.
(7) في الأصل: ولصاحب.(11/88)
وصيته، ووصيتُه ثلثُ العبد، وثلثاه تسعا ثلث العبد، فانسب كل جزء حالة الرد إلى الوصية المرسلة، فصاحب العبد وصيته العبد، فله تسعا العبد، وصاحب الثلث له ثلث العبد بالوصية، فله تسعا ثلثه عند الرد، وصاحب السدس له بالوصية سدسه الكامل أخذاً من لفظة الوصية لا بما يسلّم عند الإجازة مع الزحمة، فإذا كان له السدس بالوصية، فله تسعا سدس العبد.
7334- فإن ترك مائتي درهم سوى العبد، وأوصى لرجل بالعبد، وقيمتُه مائة، وأوصى لآخر بثلث ماله، وأوصى لآخر بسدس ماله. فإن أجاز الورثةُ الوصايا، فالعبد بين أهل الوصايا على تسعة أسهم: لصاحب العبد ثلثاه ستة، ولصاحب الثلث تسعاه سهمان، وله ثلث الدراهم أيضاً، ولصاحب السدس تُسع العبد وسدس الدراهم.
وهذه القسمة متفق عليها حالة الإجازة.
وإن لم يُجز الورثة، تضاربوا في الثلث بوصاياهم.
وعند ذلك يخالف جوابُ الأستاذ مسلكَ الفقهاء؛ فإن الفقهاء يقسّمون الثلث على التفاوت الذي وقعت عليه قسمة الإجازة، والأستاذ يقول: ذلك التفاوت كان نتيجة الزحمة، وقد زالت؛ فيضرب صاحب العبد في الثلث بكمال قيمته، وهو مائة، ويضرب صاحب الثلث بكمال ثلث المال، وهو مائة، ويضرب صاحب السدس بسدس المال على الكمال وهو خمسون، فيصير الثلث بينهم على خمسة أسهم: لصاحب العبد خمسا الثلث، ومبلغه أربعون درهماً، يأخذها من العبد؛ فإن حقه محصور فيه، وذلك خمسا العبد.
ولصاحب الثلث خمسا الثلث، وهو أربعون درهماً، يأخذ [ثلث] (1) ذلك من العبد وهو ثلاثةَ عشرَ درهماً وثلث، ويأخذ ثلثي وصيته، وهو ستة وعشرون درهماً وثلثا درهم، من الدراهم.
__________
(1) في الأصل: ثلثا من ذلك من العبد.(11/89)
ولصاحب السدس خُمس الثلث، وهو عشرون درهماً، يأخذ ثلث ذلك، وهو ستةُ دراهم وثلثا درهم من العبد، ويأخذ ثلثي العشرين من الدراهم؛ لأن العبد ثلث مال الميت، فكل من جرت له الوصية بجزءٍ شائع من المال فإنه يأخذ عند الرد ثلثَ ذلك الجزء من كل ثلث، والعبد ثلث.
وإن شئت قلت: مبلغ وصاياهم مائتان وخمسون، والثلث مائة وهي قدر خمسي الوصايا، فلكل واحد منهم خمسا ما أُوصي له [به] (1) ، فلصاحب العبد خمسا العبد، ولصاحب الثلث خمسا ثلث العبد وخمسا ثلث الدراهم، ولصاحب السدس خمسا سدس العبد وخمسا سدس الدراهم.
هذا طريقه المنقاس.
ومن اعتبر من فقهائنا حالة الرد بحالة الإجازة، أو مع القسمة على [التقاسم] (2) المعلوم حالة الإجازة قال في هذه الصورة: نجعل كل ثلث تسعة، ثم لصاحب العبد ستة من تسعة، [ولصاحب الثلث سهمان من تسعة العبد، وستة أسهم من المائتين،] (3) فيحصل له ثمانية أسهم، وللموصى له بالسدس سهم من تسعة من العبد، وثلاثة من المائتين، فلصاحب العبد ستة، ولصاحب الثلث ثمانية، ولصاحب السدس أربعة، والمجموع ثمانيةَ عشرَ، والمال سبعة وعشرون، فإذا أردنا القسمة حال الرد، نجعل الثلث ثمانية عشر، فنجعل المالَ أربعةً وخمسين، ونقسّم الثلث على التفاوت الذي ذكرناه في الإجازة.
7335- ولو أوصى بعتق عبدٍ لا مال له غيره، وأوصى لآخر بالثلث، فأجاز الورثة، ففي أئمتنا من يرى تقديم العتق على غيره من الوصايا، على ما سيأتي ذلك -إن شاء الله عز وجل- مشروحاً في موضعه، والأصح أنه لا يقدم؛ فإن المسألة مفروضةٌ في الوصية بالعتق، والوصايا لا يتفاوت ترتبها إذا لم يذكر الموصي تقديم بعضها.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(3) من المائتين: أي الدراهم. وعبارة الأصل هكذا: ولصاحب الثلث سهمان من العبد، فالعبد تسعة، وستة أسهم من المائتين.(11/90)
فإذا فرّعنا على هذا، وهو ظاهر المذهب، فالعبد من جهة الوصية بالعتق، ومن الموصى له بثلث العبد على حساب العَوْل ينعتق ثلاثة أرباعه (1) ، ويرِق ربعه: لصاحب الثلث.
فإن لم يُجز الورثةُ الزائد على الثلث، أوقفنا ثلثي العبد لهم، وقسّمنا ثُلثه بين جهة العتق وبين الموصى له بالثلث أرباعاً، فيعتِق ثلاثةُ أرباع ثُلثه، وذلك ربع العبد، ويصرف إلى صاحب الثلث ربعُ ثُلثه، وهو نصف السدس.
ولو ترك عبدين قيمةُ كل واحد منهما مائة، وأوصى بعتق أحدهما، وأوصى لآخر بثلث ماله، فأجاز الورثة، والتفريع على أنا لا نقدم الوصية بالعتق، ينعتق ثلاثةُ أرباع العبد المعني [بالعتق] (2) ، ويرق ربعُه للموصى له بالثلث، ويأخذ هو أيضاً ثلثَ العبد الآخر.
وإن رأينا تقديم العتق، أعتقنا العبد المعيّن بكماله وأبطلنا فيه حقَّ الموصى له بالثلث، وللموصى له بالثلث ثلثُ العبد الآخر.
وإن لم يجز الورثة، فمبلغ الوصيتين مائة وستةٌ وستون درهماً وثلثان، وقيمة الثلث ستة وستون وثلثان، فالثلث مثل خمسي الوصيتين، فلكل واحد منهما خمسا ما أوصى له به، فيعتق خمسا العبد، وذلك أربعون، ولصاحب الثلث خمسا ثلث كل عبد، وقيمة ذلك ستة وعشرون وثلثان.
وهذا أجراه الأستاذ على طريقته، وليس يخفى التفريع على مذهب الفقهاء.
7336- ولو ترك ثلاثة أعبد، قيمةُ كل واحد مائة، وأوصى بعتق أحدهم، وأوصى لآخر بثلث ماله، فأجاز الورثة، فمن لم يقدِّم العتقَ [فقد] (3) عتق ثلاثة أرباع العبد الذي أوصى بعتقه، [ورقَّ] (4) ربعُه لصاحب الثلث، وأخذ ذلك الإنسان أيضاً ثلث العبدين الآخرين.
__________
(1) ثلاثة أرباعه، بحساب العبد كله ثلاثة أسهم، والوصية بالثلث سهم، فيصير أربعة أسهم.
(2) في الأصل: للعتق.
(3) في الأصل: في.
(4) في الأصل: وأرق.(11/91)
وإن لم يُجيزوا، [فمبلغ] (1) الوصايا مائتان، والمعنى موجَب الوصايا، [لا أنّا] (2) نسلِّم [ذلك] (3) حالة الإجازة، على ما نبهنا عليه فيما تقدم، فمبلغ الوصيتين مائتان: عبدٌ قيمته مائة، وثلث ثلاثة أعبد قيمة كلِّ واحد منهم مائة، فالمجموع مائتان، والثلث مائة، وهي قدر نصف الوصايا؛ فلكل واحد نصفُ وصيته، يعتق نصفُ العبد، ولصاحب الثلث نصف ثلث كل عبد، على طريقة الأستاذ.
ومسلك الفقهاء واضح في تنزيل حالة الرد على التفاوت الذي ثبت حالة الإجازة.
7337- ولو أوصى لرجل بثوبٍ قيمته [مائة] (4) ، وأوصى لآخر بنصف ماله، ولآخر بسدس ماله، وترك الثوبَ وخمسمائة درهم.
فإن أجاز الورثةُ، قسَّمنا الثوب على عشرة أسهم على قياس [العبد: بأن] (5) نجعلَ الثوبَ ستةً، ونزيد عليها مثلَ نصفها، وسدسها، فيصير عشرةَ أسهم، يضرب منه صاحب الثوب بجميع الثوب، وهو ستة، ويضرب منه صاحب النصف بنصف الثوب [وهو] (6) ثلاثة، يضرب منه صاحب السدس بالسدس وهو سهم، فيكون [الثوب بينهم] (7) على عشرة أسهم: لصاحب [الثوب] (8) من الثوب ستةُ أعشاره، ولصاحب النصف ثلاثة أعشاره، ولصاحب السدس عُشرُه، ثم يأخذ صاحب النصف نصفَ الدراهم، ويأخذ صاحب السدس سدسَ الدراهم.
وإن لم يجيزوا، تضاربوا في الثلث بوصاياهم، لا بأقدار حصصهم حالة
__________
(1) في الأصل: المبلغ.
(2) في الأصل: لأنا.
(3) زيادة من المحقق.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: على قياس العدل ثمان. وهو تصحيف بالغ. ثم المراد بالعبد، العبد الموصى به في المسألة السابقة.
(6) في الأصل: بنصف الثوب وثلاثة.
(7) في الأصل: فيكون الثلث فيهم.
(8) ساقطة من الأصل.(11/92)
الإجازة، على طريقة الأستاذ [فيضرب] (1) صاحب الثوب بقيمته، وهو مائة، ويضرب فيه صاحب النصف بنصف المال وهو ثَلاثُمائة. ويضرب فيه صاحب السدس بسدس المال وهو مائة؛ فيكون الثلث بينهم على خمسة: لصاحب الثوب خُمس الثلث، وهو أربعون درهماً، يأخذه من الثوب، وهو [خمساه] (2) ، ولصاحب النصف ثلاثة أخماس الثلث، وهو مائةٌ وعشرون؛ فإن الثلث مائتان، فأخذ سدس ذلك من الثوب، وذلك عشرون درهماً، وهو خُمس الثوب، ويأخذ خمسةَ أسداس وصية من الدراهم، وذلك مائةُ درهم، فيكون قد أخذ من كل مائة خمسها، فيجتمع له مائةٌ وعشرون، وهي ثلاثة أخماس الثلث.
ولصاحب السدس خُمس الثلث وهو أربعون درهماً، بفضِّها (3) على المائتين، والمالُ مع [الثوب] (4) ستمائة، فنأخذ سدس ذلك، وهو ستة دراهم وثلثان من الثوب، وذلك ثلثُ خمس الثوب، ويأخذ خمسةَ أسداس وصيّة من الدراهم؛ لأن الميت جعل وصية صاحب النصف وصاحب السدس مشاعاً في جميع التركة، والثوبُ من التركة سدسها، يأخذ كل واحد منهما سدسَ وصيته من الثوب، وخمسةَ أسداسها من الدراهم؛ لأن الدراهم خمسةُ أسداس التركة، فنجعل الثوب خمسة عشر سهماً للموصى له به خمساه ستة أسهم، ولصاحب النصف خُمس الثوب ثلاثة أسهم ومائة درهم، ولصاحب السدس ثلث خمس الثوب سهم واحد، وثلاث وثمانون درهماً وثلث درهم.
وللورثة خمسة أسهم من الثوب، وهو ثلث الثوب، ولهم أيضاً ثلاثمائة وستة وستون درهماً وثلثا درهم.
__________
(1) في الأصل: مضروب.
(2) في الأصل: خمسه.
(3) فضّ الشيء: أي قسَّمه، والمعنى بتقسيم الأربعين درهماً وأخذها من المائتين، التي هي ثلث المال.
(4) في الأصل: مع العبد.(11/93)
7338- وإن شئت قلت على سبيل النسبة: مبلغ الوصايا خمسمائة: [الثوب] (1) وقيمته مائةٌ، ونصف المال، وهو ثَلاثُمائة، وسدسه، وهو مائة، والثلث مائتان وهي خمسا الوصايا، فإذا رُدت الوصايا، فلكل واحد خمسا وصية: لصاحب الثوب خمسا الثوب، ولصاحب النصف خمسا النصف، وهو مائة وعشرون؛ [فله خمس الثوب] (2) ثم له من كل مائة [خمسها] (3) ، [أو] (4) خمسا نصف الثوب، وخمسا نصف الدراهم.
ولصاحب السدس خمسا سدس الثوب، وخمسا سدس الدراهم.
7339- ولو أوصى لرجل بعبدٍ قيمته مائة، ولآخر بدارٍ [قيمتها] (5) مائتان، ولآخر بعَرْضٍ قيمته ثَلاثُمائة، ولم يترك غير ذلك، ولم يجز الورثة، فلكل واحد منهم ثلث العين التي أوصى له بها، ويدخل على كل واحد منهم من النقص بقدر ثلثي وصيته، وهذا واضح.
ولو ترك معها ستمائة درهم، فبلغ الثلث أربعمائة، وهي ثلثا الوصايا، فيأخذ كل واحد منهم ثلثي العين التي أوصى له بها.
وعلى هذه الطرق استخراج أمثال هذه المسائل، والله الموفق للصواب.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "فإذا أوصى لوارث وأجنبي، فلم يجيزوا ... إلى آخره" (6) .
7340- نذكر في مقدمة هذا الفصل تفصيلَ القول في الوصية للوارث على
__________
(1) في الأصل: العبد.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: خمساها.
(4) في الأصل: وخمسا.
(5) في الأصل: "قيمته" بتذكير الضمير العائد على الدار.
(6) ر. المختصر: 3/161.(11/94)
الكمال، ونبين طريقه، [ونصل] (1) به فرعاً لابن الحداد، ثم نعود إلى مضمون هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- فنقول أولاً: إذا أوصى الرجل لأجنبي بأكثرَ من ثُلثه، فالزائد على الثلث منوطٌ برأي الورثة، فإن ردّوه، ارتد، وإن أجازوه، نفذ.
ثم إجازتهم تنفيذ الوصية، أم هي منهم ابتداء عطية؟ فيه قولان، ذكرناهما في صدر الوصايا. هذا إذا كانت الوصية للأجنبي وهي زائدة على الثلث.
7341- فأما إذا أوصى لأحد ورثته، فالقول في ذلك ينقسم أقساماً قد يكون له وارث واحد، فيوصي له، أو يكون له ورثة، فيوصي لواحد منهم، أو يكون له ورثة فيوصي لجميعهم.
فإن كان له وارثان، فأوصى لأحدهما بشيء، فلا يخلو الوارث الثاني إما أن يجيز أو يرد، فإن ردّ، فلا شك في بطلان الوصية، سواء كان الثلث يحمل تلك الوصية، أو كان يضيق عليها.
فأما إذا أجاز الوارث الذي لم يوصَ له الوصيةَ، فهذا ينبني (2) على أن الإجازة ابتداء عطية أو تنفيذ وصية، وفيه القولان.
فإن قلنا: الإجازة ابتداء عطية، يصح ذلك، كأنَّ الوارث وهب لصاحبه، فتُراعى شرائطُ الهبات.
وإن قلنا: إن الإجازة للوصية تنفيذ لها، وليس بابتداء عطية، فعلى هذا اختلف أصحابنا في الوصية للوارث: فمنهم من قال: تنفذ الوصية له؛ فإن الوصية للوارث قلّت أو كثرت كالوصية الزائدة على الثلث في حق الأجنبي، فالمرعيُّ [حق] (3) الورثة. فإذا رضي من له الحق، وجب التنفيذ.
ومن أصحابنا من قال: لا تصح الوصية. للوارث، وإن أجازها الورثة. وهذا القائل يتمسك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث" (4) . وهذا
__________
(1) في الأصل: ويتصل.
(2) في الأصل: ينبني يُحمل على.
(3) في الأصل: أحق.
(4) حديث "لا وصية لوارث" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة، =(11/95)
القائل يزعم أن الوصية للوارث كالوصية للقاتل، على قولنا بإبطال الوصية للقاتل، وتلك المسألةُ (1) عند إجازة الورثة مختلف فيها أيضاً، ولكن الأصح أنه لا تنفذ بالإجازة؛ فإنها مردودة شرعاً نازلةً منزلة [أخذ] (2) القاتل الميراث، وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
وهذا القائل يحتج من طريق المعنى بأن يقول: لو كانت الوصية للوارث تنفذ لجهة الإجازة، لوجب الحكم بثبوتها في مقدار الثلث من غير حاجة إلى الإجازة؛ فإن مقدار الثلث مستحقٌّ للميت، يصرفه بالحق إلى الجهات التي يبغيها من التبرعات.
هذا كله إذا كان له وارثان، أو ورثة، فأوصى لبعضهم.
7342- فأما إذا كان له وارث واحد مستغرِق لجميع ماله، كالابن مثلاً، فأوصى له، فالقول في ذلك ينقسم: فإن أوصى له بملك شيء، فهو لغوٌ، لا معنى له؛ فإنه يستحق للكل إرثاً، فكيف يوصي له به.
وإنما يظهر أثر ذلك في الوقف، فلو وقف وله ابنٌ واحد داراً عليه، وكانت مقدار الثلث، فإن قلنا: لو كان له ابنان وأوصى لأحدهما بشيء، وأجاز الثاني، فالوصية مردود غيرُ [نافذة] (3) ، فعلى هذا يكون الوقف في الدار مردوداً إذا أوصى به، أو أنشأه في مرض موته، ولا معنى لإجازة الابن ذلك؛ فإنه لا يجوز وصيةً، تفريعاً على أن الوصية باطلة، لا تنفذ [بالإجازة] (4) ، وإن جعلنا التنفيذ ابتداء أمرٍ (5) ، فالوقف باطل
__________
= وكذا رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن خارجة. (أحمد: 5/267، 4/186، 187. وأبو داود: البيوع، باب في تضمين العارية، ح 3565، الترمذي: الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، ح 2120 وقال: حسن. وح 2121 وقال: حسن صحيح. النسائي: الوصايا. باب إبطال الوصية للوارث، ح 1641-1643. ابن ماجه: الوصايا، باب لا صدقة لوارث ح 2713، 2712) .
(1) أي إجازة الوصية للقاتل.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها) .
(3) في الأصل: غيرنا هذه.
(4) في الأصل: فالتنفيذ.
(5) ابتداء أمرٍ: المراد ابتداء عطية.(11/96)
أيضاً؛ فإن الإنسان لا يقف على نفسه، على المذهب [المعتبر] (1) ، كما سبق تقريره في كتاب الوقف.
وإن قلنا: إذا أوصى لأحد الابنين، [فأجاز] (2) الثاني، تجوز الوصيةُ، وتنفذ وصيتهُ، فعلى هذا إذا وقف على ابنه الدارَ، وهي قدر الثلث، لزمت الوصية في حقه، ولا حاجة إلى تنفيذه، وإجازته، ولو أراد ردّ الوقف، لم يجد إليه سبيلاً، فإن قيل: ألسنا في الوارثين [نعتبر] (3) الرضا في قدر الثلث أيضاً، فهلاّ اعتبرنا ذلك في حق الوارث الواحد، [حتى] (4) نقول: ما لم [يرض] (5) لا ينفذ الوقف؛ إذ في تنفيذ الوقف إزالة ملكه عن رقبة الدار؟ قال الشيخ أبو علي: إنّا اعتبرنا الرضا في الوارثَيْن من الذي لم يوصَ له؛ لأنه يقول: قد [فضَّله] (6) عليّ بالوصية، [فله ردُّ التفضيل] (7) وإن كان في قدر الثلث، وليس كذلك إذا كان الوارث واحداً؛ [فالوصية] (8) غير زائدةٍ على الثلث، [وليس فيها] (9) معنى التفضيل، [فالثلث] (10) مستحق للمورِّث (11) ، والتفريع على أن الوصية جائزة على الجملة للوارث، فاقتضت هذه الأصول تنفيذَ الوصية على اللزوم في قدر الثلث. هذا ما ذكره الشيخ.
ولم أر في الطرق ما يخالفه، وليس يخلو ما ذكره من احتمال؛ فإنا إذا كنا نجوِّز عند تعدد الورثة ردَّ التصرف في الثلث [للتفضيل] (12) ، فلا يبعد أن نثبت للابن الواحد
__________
(1) في الأصل: فالمعتبر.
(2) في الأصل: فإجازة.
(3) في الأصل: تعيين
(4) في الأصل: خمسي.
(5) في الأصل: يوصي.
(6) في الأصل: فعله.
(7) في الأصل: فلو ردّ له لتفضيل.
(8) في الأصل: بالوصية.
(9) في الأصل: فليس له.
(10) في الأصل: بالثلث.
(11) للمورّث: أي من حق المورّث أن يوجهه تبرعاً كما يشاء.
(12) في الأصل: التفضيل.(11/97)
ردّ الوصية بالوقف لتبقى الدار مملوكةً له، وقد ظهر من قول الأصحاب أن الوصية للوارث بالثلث كالوصية للأجنبي بالزائد على الثلث، فيظهر في وجه القياس أن يقال: لا ينفُذ الوقف في حق الابن [الواحد] (1) وصيةً ما لم يرض به، وهذا ذكرناه احتمالاً.
7343- والذي صح عندنا النقل فيه ما رويناه عن الشيخ، فليقع التفريع على ما ذكره، ثم تصوير هذه المسألة فيه إذا نجَّز الوقف في مرض موته، وكان الابن إذ ذاك طفلاً، فقبله [له] (2) ، ثم مات، فحاول الابن الرد أو الإجازة (3) .
وإن كانت الدار زائدةً على قدر الثلث، والابن واحدٌ، فلا شك أن له ردَّ الوصية في الزائد على الثلث، يعني الوقف، فأما قدر الثلث، فالكلام فيه على التفصيل الذي ذكرناه.
فأما إذا كان له وارثان، فأوصى لهما جميعاً، ولم تزد الوصايا على الثلث، فإن لم يفضِّل أحدَهما على الثاني، فلا معنى لهذه الوصية إذا كانت تمليكاً؛ فإنها عبارة عن استحقاقها على نسبةٍ يقتضيها الإرث.
وإن فضّل أحدَهما في الثلث على الثاني، [فذلك] (4) الفضل هو الوصية في الحقيقة، وهو كما [لو] (5) أوصى لأحدهما بزيادةٍ دون الثاني، وقد سبق الكلام فيه.
ولو وقف داراً عليهما، والدار قدرُ الثلث، فإن لم يفضّل أحدَهما على الثاني في قدر استحقاق الميراث، فإن قلنا: لا وصية لوارث، وهي مردودة شرعاً، لم يصح الوقف وصيةً، وإن صححنا الوصية، والتفريع على ما ذكره الشيخ، فيصح الوقف، ويلزم؛ [فإنه] (6) في قدر الثلث ولا تفضيل فيه.
__________
(1) في الأصل: الواصف.
(2) في الأصل: عليه. ثم المعنى أن الأب قبل الوقف عن الطفل، فهو وليه الطبيعي.
(3) يرى الرافعي أنه لا حاجة إلى التقيد بهذه الصورة؛ لأنه لو كان بالغاً وقبل بنفسه لنفسه، لم يمتنع عليه بعد الموت؛ إذ الإجازة المعتبرة هي الواقعة بعد الموت. (ر. فتح العزيز: 7/31، 32، والروضة: 6/114) .
(4) في الأصل: بذلك.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: مائة.(11/98)
7344- ولو خلّف ابناً وبنتاً، ووقف في مرض الموت عليهما داراً، وهي قدر الثلث، وجعل الدار وقفاً عليهما نصفين، فقد فضّل؛ إذ من حق الابن أن يكون على ضعف البنت في الاستحقاق، فإن فرعنا على ما انتهى إليه كلامُ الشيخ أبي علي آخراً، فالابن لا يخلو إما أن يجيز الوصية على وجهها، فتجوز وينفذ الوقف، وإما ألا يجيزها: [ويردّ الوقف، فإن ردّ] (1) ذلك، قال أصحابنا: للابن أن يقول: إذا كان النصف وقفاً عليّ، فليكن الربع وقفاً على البنت، فأرد الوقف في ربع الدار، فيصير نصفها وقفاً عليّ، وربعها وقفاً على البنت، والربع الذي عاد ملكاً يقسم بيننا: للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال الشيخ أبو علي: هذا هو الذي رأيته لمشايخ المذهب، والذي عندي (2) في ذلك أن الابن يقول: نصف الدار وقف عليّ على حكم شرط الواقف، والنصف على حكم شرطه وقفٌ على البنت، فأردّ الوقف في السدس، وأضمُّه إلى نصف الدار، فيحصل في يدي الثلثان: وقفاً وملكاً، نصفها وقفط عليَّ، وسدسها ملكٌ لي، ولا ينتظم في تعليل الحساب غيره (3) ؛ فإنه لو أبطل الوقفَ في الربع كما ذكره الأصحاب، فالربع مع النصف ثلاثة أرباع الدار، وهذا زائد على حساب التضعيف.
فإن قيل: الربع الذي رد الوقف فيه يقسم بينهما (4) ، فيقع مقدار الوقف [ثلاثة أرباع] (5) ، وإن كان كذلك، فاحتكام الابن في نقض الوقف في الربع هو المستنكر؛ فإنه يستبد بالوقف بالنصف، ويحتكم في الربع، فليقتصر استبداده [و] (6) تحكمه على مقدار الثلثين، وهذا يوجب أن ينقض الوقفَ في سدسٍ، ويضمَّه إلى الوقف في النصف.
__________
(1) في الأصل: أرد الوقف بأن أراد ذلك.
(2) والذي عندي.. " الكلام للشيخ أبي علي، كما صرح بذلك النووي في الروضة: 6/114 ".
(3) قال النووي: " قول أبي علي هو الأصح أو الصحيح أو الصواب " (ر. الروضة: 6/115) .
(4) يقسم بينهما: أي يقسم بينهما ملكاً لا وقفاً، للذكر مثل حظ الأنثيين.
(5) في الأصل: فيقع مقدار الوقف ثلثاً.
(6) زيادة من المحقق.(11/99)
وهذا الذي ذكره الشيخ [منقدحٌ] (1) حسن، ولا يمكنه أن يقول: لا أنقض الوقف، ولكن أردّ السدس إلى نصفي وقفاً، حتى يكون ثلثا الدار وقفاً عليّ، فإنه لو فعل ذلك، كان مخالفاً لشرط الواقف، والوقفُ وإن كان يُنقضُ بحقٍّ، فلا سبيل إلى تبقيته مع مخالفة شرط الواقف، والواقف لم يقف عليه إلا نصف الدار.
ثم قال الشيخ أبو علي: إذا كان السدس المضموم إلى نصفه ملكاً، فربع ما في يده ملكٌ؛ [إذاً، فللبنت أن تقول: أنا أجعل ربع ما في يدي ملكاً أيضاً، حتى أساوي الابن] (2) ، وهذا حسن بالغ؛ فإنا لو منعنا البنت من هذا، لكُنَّا مفضلين الابن عليها؛ فإن الملك أكملُ من الوقف، وقد ذكرنا أن الوصية للوارث إذا اقتضت تفضيلاً، فيجوز لغير الموصَى له من الورثة ردُّها، فإن كانت الوصيةُ في قدر الثلث، فيخرج من ذلك أن للمرأة أن ترد الوقف في نصف سدس، وللابن أن يرد الوقف في سدس، فيعود الأمر إلى رد الوقف في الربع مع قسمة ذلك الربع بينهما: ثلثاً وثلثين، ولكن لا يتم هذا إلا بهما.
والذي ذكره المشايخ مقتضاهُ -على ما نقله الشيخ أبو علي- انفرادُ الابن بنقض الوقف في الربع، وهذا لا وجه له، وغالب ظني أن الأئمة أرادوا بنقض الوقف في الربع نقضَه إذا رضيا به، وإن أرادوا نقضه فيه على معنى أن الابن يستبد به، فهذا خطأ صريح؛ فإن نقض الوقف عليها (3) محال، لا يصير إليه من يُعدّ من الفقهاء.
هذا بيان المقدمة في الوصية للوارث، ووجه الخلاف فيما يصح [وينفذ] (4) .
7345- ونحن الآن نعود إلى مقصود الفصل مستعينين بالله عز وجل. فنقول: مضمون الفصل يدور على بيان وصية الأجنبي ووارث، مع تقدير الرد والإجازة، وهذا يستدعي مع ما قدمناه تمهيدَ أصلٍ آخر، وهو أن الوصية للأجنبي إذا وقعت
__________
(1) في الأصل: ينقدح.
(2) في الأصل اضطراب وتكرار وخطأ في العبارة هكذا: " إذا فلا فللبنت أن تقول: إنما أجعل أيضاً ربع ما في يدي ملكاً أيضاً، حتى أساوي الابنين ".
(3) عليها: أي على صورة نقض الربع مستبداً.
(4) في الأصل: ونفذ.(11/100)
على قدر الثلث من غير مزيد، فهي منفذةٌ له، [وتصرف وصية الوارث بمقدار] (1) ، فالوارث لا يزاحم الأجنبي في قدر الثلث، ومقدار الثلث مسلَّم للأجنبي لا يزحمه الوارث فيه. هكذا ذكره الأستاذ أبو منصور حكايةً عن ابن سريج.
فنقول على مساق ذلك: لو أوصى للأجنبي بثلث ماله، وأوصى لواحد من الورثة بجميع ماله، فأجاز الورثة الذين لم يوص لهم الوصية، فالأجنبي يفوز بالثلث الكامل لا يزاحِم الموصى له من الورثة فيه، وللوارث الموصى له الثلثان، وتفريع هذا الفصل على تصحيح الوصية للوارث، كما تفصَّل المذهب فيه.
وإن لم يُجز الورثة ما جاوز الثلث، فللأجنبي الثلث الكامل، ولا شيء للوارث الموصى له، من جهة الوصية، وله حقه في الميراث.
7346- ولو أوصى لأجنبي بنصف [ماله] (2) ، ولوارثٍ بجميع ماله، فأجاز الورثةُ، فللأجنبي الثلث، لا يزاحَم فيه، [ويبقى له من] (3) وصيته السدس إلى تكملة النصف، فالكلام في الثلثين (4) ، والوارث الموصى له يضرب فيهما بالجميع،
__________
(1) في الأصل: ولتصرف وصية الإرث بمقدار.
(2) في الأصل: مال.
(3) في الأصل: كلمة غير ذات معنى، رسمت هكذا: (وَيومر) .
(4) فالكلام في الثلثين: المعنى أن الثلث للأجنبي أولاً بلا كلام، ولكن الكلام في توزيع الثلثين الباقيين، بين الأجنبي، وقد بقي له من وصيته 1/6، وبين الوارث الموصى له بالكل.
وسنرى أنه سيجعل الثلثين في حكم ماله كله، ويقسمها بين الوارث والأجنبي بنسبة 6 إلى 1، فالوارث له الكل ستة أسداس، والأجنبي له سدسٌ واحد، فالمسألة من 7، وتصح من 21 وصورتها هكذا:
أجنبي موصى له بالنصف.............. وارث موصى له بالكل
21 7 (ثلث المال من غير مزاحم) .... ـ
يبقى 14 بينهما على سبعة أسهم
2..................................... 12
وبذلك يحصل الأجنبي على 9 أسهم من 21، ويلاحظ أنه لم يزاحم في الثك (7) فأخذه كاملاً، ولكنه زوحم في السدس (الذي بقي له بعد الثلث ليصل إلى النصف) - فلم يأخذه كاملاً، وإنما عال، فأصبح 2/21 بعد أن كان سدس المال كله.(11/101)
والأجنبي يضرب فيهما بسدس، فنجمل الثلثين، ونُثبت السدس للأجنبي عائلاً، فنقسم الثلثين على سبعة أسهم، للوارث ستة أسباعه وللأجنبي سبعُه.
وتصح الفريضة من أحدٍ وعشرين سهماً، للأجنبي الثلث أولاً، وهو سبعة [وله] (1) سبع الباقي وهو سهمان، فيجتمع له تسعة أسهم، وهي ثلاثة أسباع المال، وللوارث الموصى له ستة أسباع الثلثين، وهو أربعة أسباع المال، وذلك اثنا عشر سهماً.
7347- ولو أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، وأوصى لأجنبي بنصف ماله، وأجاز الابنُ الذي لم يوص له الوصيتين، ورضي الابن الموصى له بحكم الحال، وموجَبِ القضية. فهذه مسألة سئل القفال رضي الله عنه عنها ببخارى، فابتدرها مجيباً، وقال: للابن الموصى له النصف، وللأجنبي النصف، فروجع في المسألة، وقيل له: المذهب خلاف ما ذكرته، قال القفال يجيب عن المسألة: فوجدت جواب ابن سريج (2) فيها مخالفاً لما [أفتيت] (3) به؛ فإن ابن سريج قال: للأجنبي النصف، وللابن الموصى له السدس والربع، وللابن المجيز نصفُ سدس يفوز به إرثاً.
ثم قال القفال: أطلت [كلامي] (4) في المسألة [عن] (5) جواب ابن سريج، وعنّ لي أن أخرّج المسألة على وجهين ذكرهما، [وبناهما] (6) على أصله.
7348- ونحن نمهد ذلك الأصلَ، ونقدمه، ثم نبين تصرّفَ القفال فيه، ونختتم المسألة بما عندنا.
فنقول: إذا كان لرجل ابنان، فأوصى لأحدهما بنصف ماله -وكل هذه المسائل
__________
(1) في الأصل: أو له.
(2) نقل الرافعي عن الأستاذ أبي منصور أنه حكى جواب القفال هذا عن ابن سريج، فقال في الفتح مستدركاً على إمامنا: " ونسب الإمام وغيره الوجه الأول إلى جواب القفال، والثاني إلى ابن سريج، ورأيت الأستاذ أبا منصور حكى الأول عن ابن سريج " ا. هـ (ر. فتح العزيز: 7/30) .
(3) في الأصل: أفيدت.
(4) كلامي: كذا قرأناها بصعوبة.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: ونفاهما.(11/102)
خارجةٌ على تصحيح الوصية للوارث، وعلى أن الإجازة [تنفيذ] (1) - فإذا طال الكلام ورُمت [مأخذه] (2) ، فالوجه الاكتفاء بأصح الأقوال في الأصول، فإذا وقعت الوصية بالنصف لأحد الابنين، وأجاز الثاني [فعند] (3) جميع أصحابنا في المنتهى الذي عليه نفرِّع أن النصف يفوز به الموصى له، ويقسمان النصف الثاني شطرين، وكأن النصفَ الموصى به مُخرجٌ من التركة غيرُ معتد به.
ولو أوصى لأحد الابنين بمقدار زائد على النصف، فقال: أوصيت لابني هذا بثلثَيْ مالي، فالذي ذهب إليه المحققون الجريانُ على القياس الذي قدمناه، وهو أنا نقدر الثلثين ونراهما وصيةً للموصى له، ثم إنهما يقسمان الثلثَ الثاني شطرين.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان الموصى به أكثرَ من النصف، فليس للموصى له إلا ذلك المقدار، ويستبد الابن الذي لم يوص له بباقي المال، لا يزاحمه فيه الموصى له.
توجيه [الوجهين] (4) : من قال: يفوز الموصى له بالموصى به ويشاطر أخاه في الباقي، احتج بصيغة اللفظ أولاً؛ فإن الموصي عبر عن الثلثين بالوصية، فليقعا موصىً بهما، فإذا وقعا موصىً بهما، وأجيزت الوصية، كانت الوصية لأحد الابنين بالثلثين كالوصية للأجنبي بالثلثين، فما يفضل من المال بعد الوصية تركةٌ يستويان في استحقاقه إرثاً، وقد اختص الموصى [له] (5) بالقدر الموصى به، ويستشهد هذا القائل [بما] (6) إذا أوصى [لأحد] (7) الابنين بنصف المال، فإنه يفوز بالنصف، ثم يقتسمان النصف الآخر شطرين.
ومن تمسك بالوجه الثاني فرّق أولاً بين الوصية بالنصف وبين الوصية بالزائد عليه، فقال: يبعد أن يُحمل لفظُ الوصية بالنصف على أن ذلك القدر حقُّ الموصى له
__________
(1) تنفيذنا.
(2) في الأصل: ما أخذه.
(3) في الأصل: نفذا.
(4) في الأصل: الوصيتين.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: ما.
(7) في الأصل: أحد.(11/103)
فحسب؛ فإنه يستحق هذا القدرَ بالإرث، فلو لم يثبت له إلا النصف، لأبطلنا فائدة الوصية بالكلية، فتبين لما ذكرناه حملُ الوصية بالنصف على حقيقة الوصية، ثم يبقى بعدها التساوي إرثاً في الباقي.
فأما إذا أوصى لأحد الابنين بأكثرَ مما يستحقه إرثاً له، لم يكن وصية، فيحتمل أنه قصد بذلك تخصيصَه بمزيد الزيادة، وتفضيلَه بها على أخيه، فتقع الوصية في تلك الزيادة، وإذا كان ذلك ممكناً، فالوصايا المترددة بين كثيرٍ وقليلٍ محمولةٌ على القليل، وليس كالوصية للأجنبي؛ فإنه لا استحقاق له إلا من جهة الوصية، والابن يستحق من جهة الإرث، [فاتجه] (1) حمل لفظ الوصية على [التفضيل] (2) بالقدر الزائد.
هذا بيان هذا الوجه.
7349- ومما يجب الإحاطة به أنه إذا أوصى لأحد بنيه بنصف [المال] (3) [و] (4) أجاز الثاني [فالذي] (5) يجب إطلاقه في عقد المذهب أن الابن المجيز الذي لم [يوص] (6) له أبطل حق إرثه في ربع المال بإجازة الوصية، والابن القابل للوصية أخذ النصف وصيةً، وليس في ذلك النصف ميراث، وكأنه [استبرأ] (7) عن حقه في ذلك النصف من الميراث [بالوصية] (8) ، فكان في [استبرائه] (9) مبطلاً حق إرث نفسه في ربعٍ بصرفه إياه إلى جهة الوصية، وهو في هذا الفقه نازل منزلة الابن المجيز في قطع حق الميراث عن نصف التركة، [ويرجع] (10) الإرث إلى نصف الباقي.
__________
(1) في الأصل: واتجه.
(2) في الأصل: التفصيل.
(3) في الأصل: المائة.
(4) الواو ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: "بالذي".
(6) في الأصل: يرض.
(7) استبرأ: كذا قرأناها بصعوبة بالغة.
(8) في الأصل: الوصية (بدون باء) .
(9) في الأصل: في سراه.
(10) في الأصل: ومرجع.(11/104)
7350- فإذا تبين هذا الأصلُ، [بان] (1) تصرف القفال بعده، فخرَّج عليه المسألة التي ذكرناها، وهي إذا أوصى لأحد ابنيه بالنصف، وأوصى لأجنبي بالنصف، ورأى فيها جوابين: أحدهما - ما سبق إليه [مبتدراً] (2) ، إذ سئل عنها، وهو أن النصف للأجنبي، والنصف للابن.
والثاني - ما حكاه عن ابن سريج وهو أن النصف للأجنبي، والسدسُ والربع للابن الموصى له، وللابن المجيز نصف السدس، فقال رحمة الله عليه: هذان الوجهان يخرّجان على الوجهين اللذين حكيناهما عن الأصحاب فيه إذا أوصى لأحد الابنين بأكثر من النصف.
وأول ما نحتاج إلى تقريره بيان تصوير هذه المسألة على الصورة التي فيها خلاف الأصحاب، فنقول: لما أوصى للأجنبي بالنصف، فالثلث يستحق له لا يزاحمه فيه الابنان، ولا حاجة فيه إلى الإجازة؛ فإنه يُستحَق من غير إجازة، فيبقى من المال الثلثان وقد أوصى لأحد الابنين بالنصف، فإذا أقررنا الثلث للأجنبي بحكم الاستحقاق، بقي الثلثان بين الابنين، فإذا فرضنا الوصية للابن بالنصف، كان النصف بالإضافة إلى الثلثين زائداً على القدر الذي يستحقه الموصى له بالإرث، فإن الذي يستحقه بالإرث ثلثٌ، ويستحق [أخوه] (3) ثلثاً، فإذا وقعت الوصية، فقد صادف محل خلاف الأصحاب. فإن قلنا: الموصى به إذا [أجيز أوْ رُدّ، اقتسم] (4) الابنان الباقي إرثاً، فعلى هذا النصفُ للابن والنصف للأجنبي؛ وذلك أنا إذا صرفنا إلى الابن النصفَ من الثلثين، وبقي سدس، فهو بين الموصى له وبين الابن الذي لا وصية له نصفين إرثاً، فيحصل للابن الموصى له نصفٌ [بالوصية] (5) ونصف سدس بالإرث، ويحصل للابن المجيز نصف سدس بالإرث.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(3) في الأصل: اجره.
(4) في الأصل: إذا أجيزا فرد وانقسم.
(5) في الأصل: فالوصية.(11/105)
فإن أجازا للأجنبي، [تكملة] (1) النصف، وقد أخذ الأجنبي الثلثَ، فالموصى له يجيز نصف سدس، والابن الذي لا وصية له يجيز نصف سدس، [فتمّ] (2) ملك النصف للأجنبي، وقد فاز الموصى له بالنصف وصيةً، فاستند الجواب الذي لم يقرره القفال على هذا الأصل تخريجاً على هذا الوجه، وهو أصح الوجهين.
فإن حكمنا بأن الموصى له بأكثر من حصته من الإرث لا حق له في الباقي، فعلى هذا يبقى للابن الذي لا وصية له سدسٌ، لا حظ فيه للابن الموصى له، والأجنبي يحتاج إلى سدس إلى تمام النصف، فإذا أجاز الموصى له هذه الزيادة في حق الأجنبي، وأجازها الابن الذي لا وصية له، فيُخرج كلُّ واحد منهما نصف سدس مما خلص له، فينتقص نصف الموصى له بنصف سدس لإجازته الأجنبي، ويُخرج الابنُ الذي لا وصية له نصفَ سدس، فيتم النصفُ للأجنبي، ويبقى للموصى له سدسٌ وربع، والذي لا وصية له نصف سدس. هذا وجه خروج جواب ابن سريج، فانتظم وجهان مستندان إلى وجهي الأصحاب، وقد انتهى كلامُ القفال، [تصرّفُه] (3) في هذه المسألة.
7351- ونحن نقول وراء ذلك: ليس ينقدح عندنا في المسألة جواب [إلا صرف] (4) النصف إلى الابن الموصى له، وصرف النصف إلى الأجنبي. هذا هو المسلك [القويم] (5) ، وما عداه احتيالٌ لا حقيقة له.
والذي يقرّر الحقَّ في ذلك أنّا إن فرعنا على أن الموصى له [من] (6) الابنين يفوز بالوصية، ويشارك في الباقي، فقد لاح أن للابن الموصى له النصفَ على هذا الوجه، فلا حاجة إلى إجازته.
__________
(1) في الأصل: فكلمة.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: ونضربه.
(4) في الأصل: جواب الآخر في النصف. وهو تصحيفٌ عجيب ظل يحوك في صدرنا أياماً حتى هدانا الله بفضله ومنه إلى إدراكه.
(5) في الأصل: القديم.
(6) في الأصل: في.(11/106)
وإذا فرعنا على الوجه الثاني، فعليه خرّج القفال وجهَ ابن سريج، كما بيّنه الآن، ولا خروج له عندي؛ فإنا على ذلك الوجه نقول: يفوز الابن الموصى له بالمقدار الموصى به، فيبقى السدس حقاً للابن الذي لا وصية له، فلا حاجة إلى إجازة الابن الموصى له، وإنما ترتبط الإجازة في حق الأجنبي بالابن الذي لا وصية له، ولا أثر لرد الموصَى [له] (1) ؛ فإنه لا يستحق من التركة إلا النصفَ الذي (2) أخذه من جهة الوصية، ولا إجازة من الوصية، فإذا قال الابن الذي لا وصية له: أجزت [وصية أبي] (3) كما قال، [فقد] (4) أسقط جميعَ حقه من المال، فانصرف السدس إلى تكملة نصف الأجنبي على الخصوص، ولا حاجة إلى إجازة الموصى له.
وإذا نظر الناظر إلى وصيةٍ [لشخصٍ] (5) مع طيب نفس من لا وصية له، فخروجه من التركة في موافقة أبيه، فكيف نطوّقه نصفَ سدس وهو لا يبغيه؟ والوصيتان مستغرقتان للتركة، فالوجه إذاً القطعُ بما أجاب به القفال أوَّلاً.
ولو أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، وأوصى [لأجنبي] (6) بنصف ماله، وأوصى لأجنبي آخر بثلث ماله، فأجاز الابنان ورضيا؟
موجبُ القضية في سبيل الجواب أن نقول:
نقدّر للأجنبيين الثلث، ولا نتعرض معه لكيفية [قسمته عليهما] (7) ، حتى يستتم ما يحصل لهما.
ونعود فنقول: قد خرج الثلث من غير حاجة إلى الإجازة، ومجموع وصيتي الأجنبيين خمسةُ أسداس المال، وقد خرج من غير حاجة إلى الإجازة الثلثُ، فيبقى نصف المال موصى به بين الأجنبيين، ولسنا نتعرض لكيفية وقوع ذلك النصف
__________
(1) في الأصل: ولا أثر لرد الموصى إنه فإنه.
(2) في الأصل: والذي.
(3) في الأصل: وصتي إلى.
(4) في الأصل: نفد.
(5) في الأصل: لشخصي.
(6) في الأصل: للأجنبي.
(7) في الأصل: قسمت عنها.(11/107)
بينهما، حتى نتبين الغرض [آخراً] (1) ، فقد بقي الثلثان من التركة، والأجنبيَّان يضربان فيهما بالنصف، والابن الموصى له بالنصف يضرب في الثلثين بالنصف، فإذا استوى ما يضربان [به] (2) [جُزئيةً] (3) وقدراً، اقتضى ذلك جعلَ الثلثين بين الابن الموصى له بالنصف، وبين الأجنبيين نصفين، فيقع الثلث للابن الموصى له، ويصرف الثلث إلى جهة [الأجنبيّين] (4) ، فيحصل لهما ثلثان، الثلث الأول من غير إجازة، والثلث الثاني [بالمضارَبة] (5) بعد وقوع الإجازة، ثم نقول: يُقسَّمُ الثلثان بين [الأجنبيّين] (6) أخماساً؛ فإن [وصية] (7) أحدهما النصف، ووصية الثاني الثلث، [فالقسمة] (8) على هذه الجزئية توجب نسبة الأخماس، فللموصى له بالنصف ثلاثة أخماس الثلثين، وللموصى له بالثلث خمسا الثلثين.
وللابن الموصى له بالنصف الثلث، وسبب نقصان حقه عن المبلغ الذي أخذه الأجنبي الموصى له بالنصف أنه استبد (9) بأجزاء من الثلث الذي لا [يزاحَم الأجنبي فيه] (10) ، وانحصر حقُّ الابن الموصى له في الثلثين، ثم اقتضى التضارب [بينهم] (11) النصفَ له: نصفَ الثلثين.
هذا هو الحق، وليس يسوغ الالتفات على ما فرعنا عليه نقلاً عن القفال؛ فإن
__________
(1) في الأصل: أحداً.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: فجُزية.
(4) في الأصل: الأجنبي.
(5) في الأصل: المضارب.
(6) في الأصل: الأجنبي.
(7) في الأصل: وجب.
(8) في الأصل: كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(9) استبد: أي انفرد وتميز عن الابن الموصى بأخذ أجزاء من الثلث الذي لا يزاحم الأجنبي فيه، ولا يحتاج إلى إجازة.
(10) ما بين المعقفين مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها) .
(11) في الأصل: بينه.(11/108)
ذلك الوجهَ، لم ينتظم، ولم نجد [له] (1) فائدة، فلا ينبغي أن يشغل الفقيه نفسه بالتعرض لمثله، على أن ذلك إنما تخيله الحذاق؛ من جهة أنه يبقى للابن المجيز شيء، فتخيلوا معنى تفضيل الموصَى له، واعتقدوا صرف الوصية إلى قدر التفضيل، والابن المجيز في هذه المسألة لا يسلم له شيء؛ فإن الوصايا عائلة زائدة على أجزاء المال.
هذا إذا أجاز الابنان للأجنبيين.
7352- فأما إذا قال الابن [الذي] (2) لا وصية له: أجزت ما [فعل أبي] (3) ، وقال [الابن] (4) الموصى له: رددتُ أنا ما يتعلق بي من الوصية الزائدة على الثلث للأجنبيين، فقد قال الأستاذ: سبيل الجواب أن نقول: أما الثلث، فإنه مصروف إلى [الأجنبيين] (5) من غير احتياج إلى إجازة، فيبقى الثلثان، ونقسم المسألة من ستة، ونقول فيها: لهما سهمان من ستة، كما سنبين القسمة بينهما، ثم نقدر سهمين في يد الموصى له، وسهمين في يد المجيز، ثم يفوز الموصى له بسهميه، فيبقى السهمان في يد المجيز، فيزدحم فيهما الابن الموصى له والأجنبيان على نسبةٍ واحدة، فيصرف نصفه وهو سهم إلى الابن الموصى له، ونصفه إلى الأجنبيين.
وبيان ذلك أن الأجنبيين كانا يضربان بالنصف، وهو سهم إلى الابن الموصى له [والابنُ الموصى له] (6) والأجنبيان على نسبة واحدة، فيصرف نصفه، وهو سهم إلى الابن الموصى له، ونصفه إلى الأجنبي.
وبيان ذلك أن الأجنبيين كانا يضربان بالنصف بعد إقرار الثلث، وضربهما [بسدس] (7) من كل واحد من الثلثين الباقيين، ثم إن الابن الموصى له لما (8) ردّ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: أرى.
(3) في الأصل: ما فعلا بن.
(4) في الأصل: للابن.
(5) في الأصل: الأجنبي.
(6) زيادة من المحقق.
(7) في الأصل: بسبع.
(8) عبارة الأصل: ثم إن الابن الموصى له وبيان لما ردّ ...(11/109)
ما يتعلق به، فقد رجع إلى حق الإرث في ثلث المال، فكأنه قطع عن هذا الثلث ضربَ الأجنبي، وقطع عنه أيضاً حكمَ الوصية في حق نفسه، واكتفى في هذا الثلث بجهة الإرث، فانقطع عن هذا الثلث حق الوصايا كلها، وبقي الأجنبيان على نسبة النصف في الثلث الباقي، وبقي الابن الموصى له على مثل تلك النسبة في ذلك الثلث؛ فإن [نصفي] (1) الجهتين ثبتا على قضية واحدة، ثم انقطعت الجهتان عن أحد الثلثين على نسبة واحدة، فبقي التضارب في الثلث الباقي على نسبة واحدة.
7353- هذا بيان مسائل الباب، وما مرت (2) من مسائل الكتاب [أعوصُ] (3) وأغمضُ منها، وسبب ذلك عسر تصوير الوصية للوارث؛ فإنه يستحق بجهة الإرث، فإذا صححنا له الوصية أُحوجنا إلى الوصية لمالكٍ في بعض ما أُوصي له، وحق الإرث قهري، والوصية [نحلة] (4) ، فاعتاصت مسائل الباب؛ لأنها استحدثت قضيةً في الوصايا، لا عهد بها.
7354- ومما نختم الفصلَ به أنَّا حكينا عن الأصحاب أن الوصية [للوارث] (5) والأجنبي إذا ثبتت، فالأجنبي مقدّمٌ بحقه: مقدارِ الثلث، والورثةُ لا يزاحِمون فيه؛ فإن الثلث محل حق الأجانب، وإنما تُفرض الزحمة من الوارث والأجنبي في الوصية الواقعة وراء الثلث. هذا هو الأصل، وعليه تفريع المسائل، وتعليله واضح.
7355- فلو (6) أوصى بثلث ماله لأجنبي ووارث، ثم ردّ الورثة الوصيةَ للوارث، فالسدس للأجنبي؛ فإن الموصي لم يوصِ له إلا بالسدس، لمّا جعل الثلث بينه وبين الوارث.
__________
(1) في الأصل: النصفي.
(2) ما مرت: (ما) نافية وليست موصولة.
(3) في الأصل: أغوض.
(4) في الأصل: نحيلية.
(5) في الأصل: الإرث.
(6) في الأصل: لو.(11/110)
ونُقل (1) أن أبا حنيفة صرف الثلث بكماله إلى الأجنبي في هذه الصورة، وهذا مذهب سخيف (2) ؛ من جهة أن صيغة الوصية في وضعها لم تقتضِ للأجنبي إلا نصفَ الثلث، فلئن بطلت الوصية في حق الوارث في مقدارٍ من الثلث، فإثبات الزيادة للأجنبي على ما يقتضيه لفظ الموصي [بحاله] (3) .
7356- ولو أوصى لأجنبي بثلث ماله، وأوصى لأحد الورثة بثلث ماله، ورد الورثةُ الوصيةَ للوارث، فتبقَى الوصيةُ بالثلث في حق الأجنبي.
ولو كانت المسألة بحالها ببيان (4) الورثة بردّ الوصيتين إلى الثلث، ثم يبطل حق الوارث، فيبقى للأجنبي السدس، كان ذلك محالاً منهم؛ لأن الوصية وقعت بالثلث للأجنبي، فلا حطيطة في حقه من الثلث قط. وأيضاً، فإن الورثة إذا أرادوا ردّ وصية [الوارث] (5) فكيف يقدرونه مزاحماً لا حق له.
ولو قالوا: نرد الوصيتين إلى الثلث، فيكون الثلث بين الوارث [وبين] (6) الأجنبي، قيل: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن الأجنبي (7) لا ينقص من الثلث، فإن الوصية وقعت في حقه بالثلث.
هذا قانون الباب.
7357- وقد حكى الصيدلانيُّ مسألةً وفيها وجهٌ عن القفال أخرت حكايته، لأنه ليس معتداً به، وهو من الهفوات، ولولا [الثقة] (8) بنقله، وعلو قدر المنقول عنه، لما استجزت نقلَه:
__________
(1) ونُقل: كذا بصيغة التمريض. ولم أصل إلى هذا في كتب الحنفية.
(2) سخيف: أي ضعيف، يقال: ثوب سخيف إذا كان ضعيفاً غير متداخل النسج، أو رق وضعف من البلى (معجم ومصباح) فليس للكلمة ما تحمله الآن من معنى السب والشتم.
(3) في الأصل: بحال.
(4) ببيان الورثة: أي مع بيان الورثة لردّهم.
(5) في الأصل: الإرث.
(6) في الأصل: من.
(7) عبارة الأصل: فإن من الأجنبي.
(8) في الأصل: الثقلة.(11/111)
فنذكر تلك المسألة، قال: إذا أوصى لأجنبي بثلث ماله وأوصى لكل واحد من ابنيه بثلث ماله، فأجاز كل واحد من الابنين لصاحبه، ولم يجيزا للأجنبي.
فالمذهب المبتوت أن الأجنبي يستحق ثلثَ المال، ولا معنى لقولهما: " لا نجيز للأجنبي "؛ فإن الثلث مستحق للأجنبي، لا حاجة فيه إلى الإجازة، ولا أثر فيه للرد كما قدمناه.
وحكى عن القفال وجهاً ثانياً أن للأجنبي ثلث أسهل (1) الثلث؛ فإن ثلثه كان شائعاً في أثلاث المال، وإذا ردّ الابنان حقَّه عن ثلثيهما، فقد سقط ثلثا الثلث. وهذا ليس بشيء، وهو خرمٌ للقاعدة التي أجمع الأصحاب عليها. وإذا لم يكن للوارث أن ينقص حق الأجنبي في الثلث، حيث لا وصية للوارث، فكيف ينتظم من الابنين أن ينقصا ثلثه بأن فرضت لهما وصية. ثم لا حاصل للوصية بمقدار الإرث؛ إذْ لكل واحد من الابنين الثلث، فالوصية بالثلث المستحق بالإرث لا حاصل له.
هذا تمام المراد في ذلك.
فرع متعلق بالوصية للوارث:
7358- إذا وقف الرجل داراً لا يملك غيرها على ابنه وابنته لا يرثه غيرُهما، فقد مضى هذا في فرع ابن الحداد، ولكنا رسمنا هذا الفرع لمزيد [معنى] (2) ، فلو ردّا الوقفَ في الزائد على الثلث، ارتد الوقفُ بردهما في الثلثين، وبقي الوقف في مقدار الثلث. ثم الثلثان يقسمانها للذكر مثل حظ الأثثيين، ويبقى الثلث موقوفاً بينهما، والوقف لازمٌ فيه، تفريعاً على الأصل الذي فرعنا عليه مسألةَ ابن الحداد.
فإن قيل: إن كان الوقف في ثلث الدار بينهما نصفين، فهذا خلاف ما يقتضيه وضع القسمة؛ فإن حق الذكر ضعفُ حق الأنثيين، فهذا الساري (3) تفاضلٌ في
__________
(1) كذا. والعبارة مستقيمة بدونها.
(2) زيادة من المحقق.
(3) كذا. ومعناها: الحاصل الواقع.(11/112)
الحقيقة بالإضافة إلى حق الذكر والأنثى في الميراث، وقد ذكرنا أن الأب لو أراد أن يفضّل بعضَ ورثته على بعض في الثلث الذي هو محل تصرفه، لم يكن له ذلك على المذهب.
فإن قلنا: الوقف في الثلث بينهما على التفاوت، كان ذلك على خلاف شرط الواقف، فإن موجبَ شرطه التسويةُ بينهما، فإن رُدَّ الوقف في مقدار لحق الورثة في الملك (1) ، فتغييّر شرط الواقف في المقدار الذي يصح الوقف فيه محال. قلنا: [الشرط] (2) أولاً أن الوقف على التفاوت، ووجه الجواب عما ذكره القائل من خروج الوقف عن شرط الواقف أنا نقدّ الثلثين مثلاً في جانب الابن، والثلث في جانبها، ثم الابن نقضَ الوقف في ثلثي حصته، ونفرض [نقْضَ] (3) ثلثي حصتها، فيبقى ثلث حصتها، وهو تسع، ويبقى ثلث حصته وهو تسعان (4) .
وإن أحببت قلت: نقدر الدار في يد كل واحد منهما على حكم الوقف المرسل، ثم الابن يسترد سدسها؛ حتى يكون في يده ضعف ما في يدها. ثم الذي يسترده لا يبقى وقفاً، ثم يزداد في نقض الوقف حتى [يرجع] (5) إلى ما ذكرناه.
فرع:
7359- إذا خلف رجل ورثةً وأعيانَ أموال، فأوصى لكل واحد منهم بعينٍ من أعيان ماله، وكانت قيمة تلك العين على قدر حصة ذلك الشخص الذي عيّن له تلك العين، فلم يفضِّل في أقدار المالية، وإنما خصص كلاً بعينٍ.
مثل أن يخلف بنين وأعبداً قيمهم متساوية، وأوصى لكل واحد من بنيه بعبد معيّن.
__________
(1) المعنى: أنه إذا جاز ردّ الوقف في مقدار لحق الورثة، فلا يجوز تغيير شرط الواقف لذلك في المقدار الذي يصح الوقف فيه، بل هو محال.
(2) في الأصل: الشرى.
(3) في الأصل: بعض.
(4) وهو تسعان: معنى ذلك أنه يبقى موقوفاً من حصتها 1/9 الدار، ومن حصته 2/9 فالمجموع 3/9، وهي 1/3 الدار، فيقع الثلث موقوفاً على التفاوت.
(5) في الأصل: رجع.(11/113)
فقد اختلف أئمتنا في ذلك على وجهين. قال قائلون: ينفُذُ ذلك، وليس لبعضهم أن يبطل التعيين على البعض؛ فإن حقوقهم في المقادير لا في الأعيان، بدليل أنه لو باع داراً منه في مرض موته بثمن مثلها، لم يُنقض ذلك عليه، ولم يكن تعيين الدار له بالبيع وصية.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك وصية وللبعض أن يبطل على البعض؛ فإن للناس في الأعيان أغراضاً واضحة، فلا يجوز إبطالها بطريق الشرع، وليس كالبيع؛ فإنه عقدٌ لازم، فإذا خلا عن المحاباة، نفذ البيع لوضعه في أصل الشرع.
فصل
قال: " ويجوز الوصية لما في البطن وبما في البطن ... إلى آخره " (1) .
7360- هذا الفصل مشتمل على مقصودين: أحدهما - الوصية للحمل، والثاني - الوصية بالحمل.
فأما الوصية للحمل، فإنها جائزٌ بشرطين: أحدهما - أن ينفصل الحمل حيّاً، ويكون بحيث تصح الوصية لمثله حالة الانفصال، ولو انفصل ميتاً، فلا وصية، ولا يُقضَى بأنها صحت وبطلت، بل نتبين أنها لم تصح، ولا فرق بين أن ينفصل ميتاً بإجهاض من غير جناية، وبين أن ينفصل بجناية جانٍ، وإنما ذكرنا هذا على [وضوحه] (2) ؛ لأنا قد نقيم [الولد] (3) المنفصل بالجناية مقام الولد المنفصل [حياً] (4) في قاعدة الغرور؛ فإن المغرور لا يغرم قيمة الولد إذا انفصل ميتاً، ويغرَم قيمته إذا انفصل حياً، وإذا انفصل بجناية يقوَّم ويرجع [عليه] (5) ، على تفصيلٍ طويل سيأتي، إن شاء الله عز وجل في كتاب النكاح.
__________
(1) ر. المختصر: 3/161.
(2) في الأصل: على وخرجه.
(3) في الأصل: الدار.
(4) في الأصل: حملاً.
(5) ساقطة من الأصل.(11/114)
فأحببنا أن نقطع وهم من يظن أنا نفصل بين السقوط بالجناية، وبين السقوط من غير جناية، كصنعنا في الغرور؛ فإن هذا الأصلَ وهو الوصية مداره على استيقان حياة الموصى له. وهذا المعنى يفوت بانفصال الجنين ميتاً، سواء انفصل بجناية [أو] (1) غيرها.
هذا أحد الشرطين.
7361- والشرط الثاني أن يكون العلوق بالولد الموصى له متحققاً حالة الوصية، فإذا أوصى لحملٍ بشيء، فأتت المرأة به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، فقد استيقنا وجودَ الحمل حالة الوصية.
ولا ينبغي للفقيه أن يصرف فكره إلى اشتراط كون الحمل حياً حالة الوصية؛ فإن هذا لا مطلع عليه والحملُ جنين، فيكفي وجود العلوق حالة الوصية، وتحقق الحياة حالة الانفصال.
ولو أتت المرأة بالولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوصية، فلا شك في بطلان الوصية؛ فإنه أوصى للحمل الكائن، وقد تحقق أنه لم يكن حالة الوصية حملٌ.
ولو أتت بالولد لأقلَّ من أربع سنين، وأكثر من ستة أشهر، نُظر: فإن كانت المرأة تحت زوج يُظن أنه يغشاها، فلا تصح الوصية لجواز أنها علقت بعد الوصية بوطء الزوج إياها.
ولو لم تكن ذات زوج، فأتت بولدٍ لأكثرَ من ستة أشهر، فهل تصح الوصية له؟
فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الوصية لا تصح لجواز حدوث العلوق بعد الوصية بوطء شبهة، أو سفاح.
والوجه الثاني - أن الوصية تصح؛ إذ لا سبب يستند إليه تجدد الوطء [وتقدير] (2) وطء الشبهة والزنا بعيد، ودوام الحمل أكثر من ستة أشهر غالبٌ غيرُ نادر؛ فإن الوضع على الستة والسبعة من النوادر التي تذكر.
__________
(1) في الأصل: له.
(2) في الأصل: وتقديم.(11/115)
هذا تأسيس الكلام.
ولو قال للحامل: أوصيت لحملك من فلانٍ بكذا، فأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، ولمدة يقتضي الشرع التحاقه بمن نسبه إليه، استحق الوصية إذا انفصل حياً، حتى لو كان طلقها، فأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأكثر من ستة أشهر من وقت الطلاق، وأقلّ من أربع سنين، فالولد يلحق والوصية تثبت.
فإن قيل: ذكرتم أن الوصية لا تثبت ما لم تستند إلى تعيين، وثبوت النسب.
[وثبوتُ النسب] (1) في الصورة التي ذكرتموها ليس مستيقناً.
قلنا: أولاً تحقق الوجود، فلا طريق لثبوت النسب إلا ظاهرُ الإمكان، مع تقدم الفراش، فيحمل قوله في النسب على الممكن فيه.
ولو أتت بالولد لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الفراق، لما كان النسب مقطوعاً به [حسّاً] (2) ؛ فإن كون الحمل من رجل معين غيبٌ لا اطلاع عليه، ولكن يكفي ويكون [النسب] (3) محكوماً به. نعم، لو أتت بالحمل لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأكثرَ من وقت الطلاق [حيّاً] (4) ، ولأقل من أربع سنين من الوصية والطلاق، فالنسب يثبت، والوصية لا تثبت؛ فإن ثبوت النسب يعتمد الإمكان [و] (5) قد تحقق وثبوت الوصية يستدعي استيقان الوجود حالة العقد، وهذا المعنى لم يتحقق.
هذا أصح الوجهين.
ومن أئمتنا من أثبت الوصية إذا لم تكن ذات زوج، ولم يبنِ الأمرَ على تقدير وطء شبهة أو سفاح، على ما قدمنا ذكره.
ثم ذكر صاحب التقريب مسائل فيه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل رسمت هكذا (احا) .
(3) في الأصل: النسبة.
(4) في الأصل رسمت هكذا (اخا) كسابقتها، وزادت فنقطت الأول.
(5) ساقطة من الأصل.(11/116)
[مسائل] (1) في الوصية للحمل
7362- منها: أنه لو قال الموصي: أوصيت لحمل فلانة بكذا، فخرج اثنان حيان، فالوصية لهما جميعاً.
ولو خرج أحدهما حيّاً والآخر ميتاً، فجميع الوصية للحي، ويجعل كأن الميت لم يكن، ولا نقول: إن الوصية تتقسط على الولدين، ثم تبطل حصة الميت، وليس كما لو أوصى لحي وميت ابتداء، فإنا قد نسقط قسطاً من الوصية، على ما سيأتي ذلك مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
هذا ما ذكره صاحب التقريب، ووجهه أن الميت غيرُ معتد به في الحمل، وكأنه عَلقَة أو مُضغة، ولا حمل إلا الحي، وليس يخلو ما ذكره [عن كلام] (2) ؛ فإنه لو أوصى لحمل امرأة، فانفصل ميتاً، فقيل: الوصية باطلة كما إذا ابتدأ، فأوصى لميت، والميت حمل، فلا (3) تصح الوصية له، فلا يبعد عن القياس أن نقول: لو نيطت الوصية [بالحمل] (4) وهو حي وميت، فليبطل قسطٌ منها يقابل الميت.
7363- ومما ذكره صاحب التقريب أنه لو قال: إن كان حملك غلاماً، فقد أوصيت له بألف، فأتت بغلامين، فلا شيء لواحد منهما؛ فإن حملها عبارة عن جميع ما يحتوي عليه رحمها، فقد بان أن حملها لم يكن غلاماً، بل كان غلامين. وكذلك لو أتت بغلام وجارية.
7364-[ومثله لو] (5) قال: إن كان في بطنك غلام، فقد أوصيت له بألف، فخرج غلام وجارية، صح الألف للغلام؛ فإنه كان في بطنها غلام، ومثله لو خرج غلامان،
__________
(1) في الأصل: مسألة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) عبارة الأصل: " والميت حمل ولكن لا تصح الوصية له ... " والمثبت تصرفٌ منا، ساعدنا عليه أن كلمة [لكن] أقحمت من الناسخ بين السطور.
(4) في الأصل: للحمل.
(5) في الأصل: وبمثله أو.(11/117)
فالوصية ثابتة، ثم ذكر قولين بعد الحكم بثبوت الوصية: أحدهما - أن الخيرة في ذلك إلى الوارث [يصرف الألف] (1) إلى أي الغلامين شاء، ولا سبيل إلى التشريك؛ فإنه ما أوصى لجميع الحمل، بل أوصى لغلام في البطن، والوارث ينزل منزلة الموروث في التعيين.
هذا قولٌ.
والقول الثاني - أنه لا خيار للورثة في ذلك، ثم على هذا القول قولان: أحدهما - أن الموصى به مقسوم على الغلامين نصفين، إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، واسم الغلام يتناول كلَّ واحد منهما. وقد ثبتت الوصية، والقول الثاني - أنه مالٌ مشاعٌ بينهما، يدّعيه كل واحد منهما، فهو موقوف إلى أن يصطلحا.
وهذا يضاهي مسألة ستأتي في نكاح المشركات، وهي أن الكافر لو أسلم عن ثمانٍ، وأسلمن معه، ولم يتفق أن يختار أربعاً منهن، فإذا مات قبل الاختيار، فظاهر المذهب أنه يوقف بينهن ميراث زوجة إلى أن يصطلحن.
وفي المسألة قولٌ آخر حكاه صاحب التقريب: أن الميراث مفضوضٌ عليهن بالسوية؛ إذ ليس إحداهن أولى به من صواحباتها. وليس هذا كالطلاق المبهم، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
7365- ولو قال الرجل: أوصيت لأحد هذين الرجلين بألفٍ، وأشار إلى زيد وعمرو، ثم توفي قبل التعيين.
قال صاحب التقريب: هذه المسألة كمسألة الحمل، وقد قال: إن كان في بطنك غلام، فقد أوصيت له بألف، فانفصل غلامان، ووجه التشبيه [بيّن] (2) ، وقد ينقدح للفقيه فرقٌ بينهما؛ فإن قوله: أوصيت لأحدكما تنصيصٌ منه على تخصيص أحدهما بالاستحقاق، وحرمان الثاني، فيبعد قول الاشتراك في هذه المسألة، ويجرى قولُ تعيين الوارث، وقول الوقف بينهما.
__________
(1) في الأصل: ينصرف الأول.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(11/118)
وإذا قال: إذا كان في بطنك غلام، أمكن أن يُتخيّل من لفظه صرف الوصية إلى جنس الغلامين؛ إذ ليس في لفظه نفيٌ وإثبات بين غلامين، ومسألة نكاح المشركات بالوصية لأحد الرجلين أشبه؛ فإن الزوجية لا يفرض شيوعها في ثمانٍ، على ما سنصف ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
7366- ولو أوصى بشيء لحمل امرأة من زيد، فأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوصية، [فظاهر الإمكان] (1) يلتحق فيه [بزيد] (2) ، لكن زيداً نفاه باللعان، فقد حكى العراقيون والشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أن الوصية لا تثبت؛ فإن النسب من زيد قد انتفى، وشرط ثبوت الوصية ثبوتُ النسب من زيد.
والوجه الثاني - حكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي: إن الوصية تثبت، وإن انتفى النسب باللعان؛ فإنه يثبت ظاهراً [للإمكان] (3) ، وهو يعتمد للنسب، فإن نفينا النسب -لضرورةٍ داعية- باللعان، فلا ينقطع الإمكان المعتبر في باب الوصية، حكَوْا ذلك، وزيفوه [وعدّوه] (4) من غلطاته.
7367- ولم يتناه الشيخ (5) في تزييف ذلك، وبنى عليه مسألة أخرى، تتعلق بأحكام النسب، فقال: لو أتت امرأةُ الرجل [بولدين] (6) توأمين من بطن واحدٍ، فنفاهما الزوج باللعان، فلا شك أنهما يتوارثان بقرابة الأم، فإنهما يُنسبان إلى الأم، وإن كانت زانيةً، فهما إذاً أخوان من الأم، وهل يثبت بينهما أخوة الأب حتى يقال: إنهما أخوان من أبٍ وأمٍّ؟
ذكر الشيخ وجهين مأخوذين من المأخذ الذي ذكرناه في الوصية: أحدهما - أن
__________
(1) ما بين المعقفين مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: زيد.
(3) في الأصل: ظاهر الإمكان.
(4) في الأصل: وعلّوه.
(5) الشيخ: المراد به الشيخ أبو علي السنجي.
(6) في الأصل: مولدين.(11/119)
الأخوّة من الأب لا تثبت بينهما؛ لأن الأبوة لم تثبت، بل انتفت. والأخوة من الأب متفرعة على الأبوة.
والوجه الثاني - أنه تثبت بينهما أخوة الأب؛ تعويلاً على الإمكان، وقيام الفراش، وكأن هذا القائل يزعم أن أثر اللعان في النفي يختص بالملاعِن؛ فإن اللعان حجةُ خصوص.
وهذا لا حاصل له، وهو من خيالات الاحتجاج.
فإن قيل: هلا تردد الأصحاب في أن الرجل إذا قذف امرأته بأجنبي (1) ، [والْتعن فلا يندفع عنه الحد] (2) ؛ من جهة أن اللعان يختص بالنكاح ولا يتعلق بالأجنبي (3) ؟ قلنا: هذا مما يتوجه به أحد الوجهين، ثم الأصحاب [عدّوا] (4) ذكر الأجنبي من الضرورة (5) ، على ما قررناه في مسائل اللعان.
7368- ومما ذكره الشيخ أبو علي رحمة الله عليه في شرح الفروع أنه لو أوصى لحمل امرأة، فأتت بولد لدون ستة أشهر من وقت الوصية، ثم أتت بولدٍ آخر لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأقل من ستة أشهر من الولادة، فالوصية مصروفةٌ إلى
__________
(1) بأجنبي: أي سمّى الزاني الذي قذفها بالزنا به.
(2) ما بين المعقفين مكان عبارة غير مستقيمة، وفي أولها كلمة قرأناها بصعوبة (انظر صورتها) .
(3) المعنى لا يندفع عنه حد قذفه للأجنبي الذي ذكره؛ لأن أثر اللعان يختص بالنكاح، ولا يتعداه إلى غير الزوجين. والمذهب أن اللعان يُسقط حقَّ الأجنبي الذي قذفها به في المطالبة بالحد (ر. الروضة: 8/344) .
(4) في الأصل: عدداً.
(5) عدوا ذكر الأجنبي من الضرورة: أي إذا قذف الزوج امرأته بأجنبي عيّنه، فيذكر اسمه ضرورة في صيغة اللعان عند ملاعنته زوجته، فيشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا بفلان، فإن فعل ذلك سقط عنه الحد بقذف هذا الأجنبي، فإن لم يذكره، لم يسقط عنه الحد، وجاز لهذا الأجنبي أن يطالب بحده حدّ القذف، قال النووي: هذا هو الأظهر.
فعلى هذا إن أراد إسقاط حق الأجنبي، فطريقه أن يعيد اللعان ويذكره. قلت (عبد العظيم) : جعل ذكره الأجنبي ضرورة ردُّ على من قال: إن اللعان يختص بالنكاح، ولا يتعلق بالأجنبي. (ر. روضة الطالبين: 8،/344، 345) .(11/120)
الولدين جميعاً؛ فإنا تبيّنا أنهما حملٌ واحد؛ تحققنا الوجود بانفصال الولد الأول دون ستة أشهر، [وتحققنا من وجود الثاني لانفصاله بعد الأول لدون ستة أشهر] (1) فانتظم من مجموع ذلك أنا استيقنا وجودهما جميعاً حال الوصية.
وهذا ظاهر [لا إشكال] (2) فيه.
وقد انتهى تفصيل القول في الوصية للحمل.
7369-[ونحن] (3) الآن نذكر الوصية بالحمل فنقول: الوصية بالحمل جائزة إذا تحقق وجوده حالة الوصية، [بان] (4) تأتي الأم به لأقلّ من ستة أشهر من وقت الوصية.
فإن كانت الوصية [بحمل بهيمة] (5) ، فالرجوع [فيها] (6) إلى أهل الخبرة، فإن [زعموا] (7) أنه لم يحدث علوق بعد الوصية، فالحمل [موصىً] (8) به إذا انفصل.
وليس عندنا في حمل البهائم ضبط في الأوقات [يُرجَع] (9) إليه، على حسب ما ذكرناه في بنات آدم؛ فإن العلماء اعتنَوْا بتتبع أوقات الحمل في النسوة، وأحاطوا بالأكثر والأقل، وحكَّموا الوجودَ (10) في ذلك تحكيمهم إياه في أقل الحيض وأكثره، وأوقاتُ الحمل في البهائم تختلف باختلاف أجناسها، فليقع الرجوع إلى أهل الخبرة، فإن قطعوا بطريان الحمل، فلا وصية، وإن قطعوا بوجوده، أثبتنا الوصية.
فإن كان قَرُبَ الزمان، فترددوا، فلم يُبعدوا طريان الحمل بعد الوصية، أبطلناها.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "ظاهر الإشكال" وهو عكس المعنى المراد.
(3) في الأصل: والحق الآن.
(4) في الأصل: منها.
(5) في الأصل: ليحمل بهبة.
(6) في الأصل: منها.
(7) في الأصل: فإن فاعلموا.
(8) في الأصل: مرضي به.
(9) في الأصل: رجع.
(10) الوجود: أي الوقوع، وذلك هو المنهج الاستقرائي بعينه الذي يتبع في هذه الدراسات.(11/121)
ومما يختص بهذا الطرف أنه لو أوصى لإنسان بحمل جارية منكوحة، فلو انفصل الحمل ميتاً، فلا أثر للوصية، ولو انفصل بجناية جانٍ وألزمناه ما يلزم في الأجنة (1) المملوكة [فالوصية] (2) ثابتة، وما أُلزمه الجاني مصروف إلى الموصى له، وليس كما إذا كان الحمل موصىً له، ثم انفصل ميتاً بجناية جانٍ؛ فإنا لم نصادف للموصى له حياة، فوقعت الوصية [لمن] (3) لم نعلم حياته، والحمل لا يمتنع تعلّقُ [الحكم] (4) به حملاً، وإذا انفصل بجناية جانٍ، قام الغرم على الجاني مقام حياة الجنين لو انفصل حياً؛ فإن المالية دامت بالتزام الجاني بدل الجنين.
وهذا واضح.
7370- ولو أوصى بالحمل كما ذكرنا، فانفصل حياً ومات، فمؤونة تجهيزه على الموصى له، ولو انفصل ميتاً، فالذي أراه أن الموصى له لا يلتزم مؤنة تجهيزه؛ من جهة أن الوصية تعتمد ثبوت المالية، أو ثبوت كون الموصى به منتفعاً به، ولم يتحقق واحد منهما، إذا انفصل الحمل ميتاً، فالوجه أن يتبع الحمل الجارية، فيقوم بتجهيزه من يقوم بمؤونة الجارية.
7371- ومما يتعلق الفصل [به] (5) أنا إذا جوّزنا الوصية بالحمل، فيجوز استثناء الحمل من الوصية بالجارية، وذلك بأن يوصي لإنسان بجاريةٍ حاملٍ دون ولدها، وهذا على خلاف حُكمنا في البيع؛ فإنه لما لم يجز إفراد الحمل بالبيع، لم يجز استثناء الحمل عن بيع الجارية، على ما فصلتُ المذهبَ فيه في كتاب البيع.
ولا خلاف أنه لو أوصى بجاريةٍ لشخصٍ وبحَمْلها لآخر، صح، ولو أطلق الوصية بالجارية الحامل، ولم يتعرض لحملها بنفي ولا إثبات، [ففي] (6) اشتمال الوصية على
__________
(1) في الأصل: الأجنة والمملوكة.
(2) في الأصل: بالوصية.
(3) في الأصل: إن.
(4) في الأصل: الكل.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: وفي.(11/122)
الحمل احتمال ظاهر، مستنده إلى تردد العلماء في أن الحمل هل يحل محل أجزاء الأم في تناوله الاسم المطلق الواقع على الأم؟ ولهذا التفات على قواعد يكفي التنبيه عليها.
ثم إن قلنا: لا يدخل تحت الوصية بالجارية، فإنه يبقى ملكاً للموصي، ثم يخلُفه الورثةُ فيه.
صيان قلنا: تتناوله الوصيةُ، فإذا انفصل قبل موت الموصي، وقد كان موجوداً حالة الوصية، فهو يوصي به.
فإن أوصى بالجارية مطلقاً، وقضينا باشتمال الوصية على الحمل، فلو أوصى بعد ذلك بحملها لآخر، فإن رجع عن الوصية الأولى، ثبت الرجوع، واختص الموصى له الثاني بالحمل، وإن لم يرجع عن الوصية الأولى، ازدحمت وصيتان على الحمل، وكان هذا كما لو أوصى بعبدٍ لزيد، ثم أوصى به لعمرو، فالعبد بينهما نصفان.
وحساب المسألة يقام على قاعدة [العول] (1) ، فهذه مسألة عالت [بكلها] (2) ويقتضي ذلك التنصيف.
7372- ومما يتعلق بهذا المقصود أنه لو أوصى بحمل جاريةٍ، ثم تحققنا أنه لم يكن حالة الوصية حملٌ، ولكن الجارية علقت بعد الوصية، فليس الحمل الحادث موصىً به.
وإن تردد الأمر، فهو على القياس [المقدّم] (3) في الوصية للحمل.
7373- ولو قال الموصي: أوصيت لك [بما] (4) ستحمل هذه في المستقبل، أو أَوْصى [بنتاجٍ اعتاده] (5) في المستقبل.
__________
(1) في الأصل: القول.
(2) في الأصل: وكلها. ومعنى عالت بكلها، أي ضعفها، أي بمثل الأصل.
(3) في الأصل: العدم.
(4) في الأصل: ما.
(5) كذا قرأناها بعد جهدٍ جهيد. فحمداً لله ملهم الصواب.(11/123)
ضبطُ (1) المذهب في ذلك أن الوصية بمنافع الدار وغيرها في المستقبل جائزة وفاقاً -على ما سنعقد في ذلك فصلاً على أثر هذا، إن شاء الله عز وجل- وإن (2) كانت المنافع معدومة في الحال؛ لأن الشرع ألحق [توقّعَ] (3) الوجود منها حالاً على حال بتحقق الوجود في الأعيان، ولذلك صحت الإجارة، ومقصودُها المنافع التي ستكون.
فأما إذا أوصى بما سيكون من حمل، أو نتاجٍ، ففي صحة الوصية وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تصح قياساً على المنافع.
والثاني - لا تصح؛ فإن ارتقاب وجود المنافع تباعاً ووِلاء في الاعتياد ملتحق بالحاصل الكائن، والنتاج والولد [أعيان] (4) لا يستند التوقع فيهما إلى ثبت واطراد في الاعتياد.
ولو أوصى لإنسان بالثمار التي ستكون في مستقبل الزمان، فلأئمتنا طريقان: منهم من ألحق هذه الوصية بالوصية بالنتاج المنتظر والحمل المتوقع؛ من جهة أن الثمار إذا وجدت، كانت أعياناً كالنتاج والولد، وليست كالمنافع؛ فإن المنافع في وجودها لا تبقى، فلا تعويل على وجودها؛ إذ لا ننالها بعد الوجود، ولو لم يكن التصرف متقدماً على وجودها، لم يُتصوّر فيها التصرف، والأعيان إذا وجدت، بقيت، فأمكن ارتقاب وجودها حتى يعتمدَ التصرفُ الوجودَ المستمر.
ومن أئمتنا من ألحق الثمار بالمنافع، فقطع بجواز الوصية بها، واستدل هؤلاء بأن قالوا: وجدنا في قبيل الثمار تصرفاً لازماً وارداً على الثمار المتوقعة، وهي المساقاة، فالتحقت الثمار لذلك بالمنافع، وليس في قبيل المعاملات ما يلزم على الحمل والنتاج في الاستقبال.
__________
(1) ضبط المذهب: حقه أن يكون بالفاء جواباً للشرط. ولكنه جعل الجواب مفهوماً، تقديره: فما الحكم؟ وجاءت هذه استئناف كلام.
(2) وإن كانت: متعلق بقوله: جائزة.
(3) في الأصل: يرفع.
(4) في الأصل: عيان.(11/124)
وإن التفت ملتفتٌ إلى السّلم في الحيوان، فهو [منقطع عما] (1) نحن فيه؛ فإن معتمد السلم الذَّيْن الواقع في الذمة معلوماً بالوصف مقدوراً عليه عند توجه الطلب، وعلى الفقيه تكلف في الحكم بأن المسلم المتعين بالتسليم هو المسلَم فيه، ولولا أن سبيل تأدية الديون هذا، لقلنا: ليس المقبوض مسلماً فيه. والوصايا إذا أضيفت إلى نتاج [أغنام] (2) بأعيانها، فهي بعيدةٌ عن وضع السَّلَم؛ فإن التعيين والسلم يتنافيان.
7374- ومما يتصل بتمام القول في ذلك [أنا] (3) إن منعنا الوصيةَ بما سيكون من حمل، أو أجزناها، ففي الوصية للحمل الذي سيكون تردد [ظاهرٌ للأصحاب] (4) :
قال العراقيون: المذهب في ذلك المنع؛ فإن حق الوصية أن ترتبط بالموجود وتصح الوصية له حال الإنشاء، والعدمُ يضاد [الإثبات] (5) . ولا تصح الوصية لكل ثابت فكيف تصح [لمن] (6) لا ثبوت له.
وحكَوْا عن أبي إسحاق المروزي أنه أجاز الوصية [لمن] (7) سيكون، وزيفوا مذهبه في ذلك.
وليس ما قاله أبو إسحاق بعيداً عندنا؛ من جهة أن الوقف يصح على من سيكون، إذا وَجَد الوقفُ مورداً في الحال، وهذا سبيل وقف الرجل على أولاده، وأولاد أولاده ما توالدوا، ولو كان الوقف منقطع الأول، وكان وروده على [متوقع] (8) ، ففيه اختلاف قدمته في كتاب الوقف، والوقف من التصرفات الناجزة اللازمة، فإذا تطرق إليها خلافٌ في صورةٍ، فاللائق بالوصية القطعُ بصحتها فيها؛ فإن مبنى الوصية على
__________
(1) في الأصل: مقتطع ما نحن فيه.
(2) مكان كلمة لم نستطع قراءتها بعدُ، رسمت هكذا: (الحمام) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: تردد الأصحاب ظاهر. والمثبت تقدير منا؛ فهو المعهود دائماً في عبارات الإمام.
(5) في الأصل: لا ثبات.
(6) في الأصل: إن.
(7) في الأصل: من.
(8) في الأصل: يتوقع.(11/125)
التوقع، وإذا كان يستأخر القبول فيها عن الإيجاب، فليس الاستئخار بعيداً في وضعها.
وهذا نجاز القول في الوصية للحمل، والوصية بالحمل.
فصل
قال: " ولو أوصى بخدمة عبده، أو بغَلّة داره، أو بثمرة بستانه، والثلث يحتمله، جاز ذلك ... إلى آخره " (1) .
7375- اتفق الأئمة على صحة الوصية بمنافع الدور وغيرِها، من العقار، والعبيد، والدواب، وكلُّ منفعة يثبت استحقاقها بطريق الإجارة يصح الوصية بها، ثم أصل القول فيها أنها ليست إعارةً على قاعدتنا، ولذلك تلزم الوصية بها إذا اتصفت بالقبول، والعواري لا تلزم.
وأبو حنيفة رحمه الله (2) زعم أن الوصية بالمنافع في معنى الإعارة، ولكنها من حيث إنها تقع بعد موت المبيح تلزم؛ فإن الرجوع في العاريّة يثبت للمعير، وتنقطع العاريّة بموته، وابتداء الوصية يقع بعد [موت] (3) الموصي، فكان لزومها لذلك.
وليس الأمر على هذا الوجه عندنا؛ ولكن الإعارة لم تلزم؛ من جهة أنها نِحْلةٌ وهبة، وركنُ لزوم الهبات القبض، والقبض لا يلزم في المنافع؛ من حيث إنه لا يتحقق وجودها، والوصية [منيحة] (4) ولكنها لا تستدعي في تمامها الإقباضَ؛ فإنها تلزم بالقبول إذا وسعها الثلث في الأعيان من غير جريان القبض [فيها] (5) .
وحقيقة المذهب في المنافع الموصى بها أنها [تصير] (6) ملكَ الموصَى له، كما أن
__________
(1) ر. المختصر: 3/161.
(2) ر. البدائع: 7/352، والهداية: 4/252.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: منحية.
(5) في الأصل: منها.
(6) زيادة من المحقق.(11/126)
الأعيان تصير ملكاً للموصى له، [وآية] (1) ذلك أنه ينفذ تصرفه في المنافع بالإجارة، والمستعيرُ لا يصح منه إجارة المستعار، والمنافع لا يستوفيها ملكاً، وإنما يستوفيها على حكم الإباحة، وهي قريبة الشبه من إباحة الطعام للضيفان.
ولهذا المعنى لم تكن العين الموصى بمنفعتها مضمونةً على الموصى له، بخلاف العين المستعارة؛ فإن المستعير لا يثبت له استحقاق في المنافع، والموصى له يستحق لها، على ما قدرنا مسالك الجمع والفرق في مسألة العارية.
فهذا بيان حقيقة الوصية بالمنفعة.
7376- ثم إنا نذكر بعد هذا أصولاً في هذه القاعدة، ونذكر في كل أصل ما يتصل به؛ فإن شذت مسائل رسمناها فروعاً، على [دأبنا] (2) في أصول المذهب.
7377- فممّا نرى تقديمَه القولُ في بيع العين الموصى بمنفعتها، فإن كانت المنفعة الموصى بها [مُقدّرةً] (3) مضبوطة بأمدٍ مضروبٍ، فالقول في جواز بيع [العين] (4) الموصَى بمنفعتها كالقول في بيع الدار المستأجرة؛ فإن الاستحقاق في المنفعة والاستيلاء على العين بسببها ثابتٌ في الموضعين، والاستحقاق مؤقت.
وإن أوصى الموصي بمنفعة عينٍ أبداً، فالوصية صحيحة، لم يختلف في صحتها علماؤنا وإن قال قائل: إنها مجهولة، فالجهل لا ينافي صحة الوصية، وإنما يراعَى الإعلام في [الأعواض] (5) والمعوّضات في عقود [المعاوضة] (6) ، ثم العين الموصى بمنفعتها [أبداً] (7) لا يصح بيعها إذا لزمت الوصية، وتمت بالقبول، وفي الثلث.
هذا هو المذهب الظاهر.
__________
(1) في الأصل: رواية ذلك.
(2) في الأصل: رأينا.
(3) في الأصل: فقدره.
(4) في الأصل: العتق.
(5) في الأصل: الأعراض.
(6) في الأصل: المعارضة.
(7) في الأصل: إنه.(11/127)
وذكر العراقيون من طريق التنبيه وجهاً عن بعض الأصحاب في تخريج بيع العين الموصى بمنفعتها أبداً على القولين، وصرح بنقل هذا الوجه الشيخ أبو علي في الشرح، وهذا بعيد؛ فإن العين مسلوبةُ المنفعة.
ووجهُه على بعده أن الملك في الرقبة لا يَنقُص [بها] (1) ، وامتناع الانتفاع ينزل منزلة امتناعه بزمانة (2) العبد، ولم يختلف علماؤنا في جواز بيع العبد الزَّمِن، الذي لا انتفاع فيه.
وهذا ملتبس؛ من جهة أن المعتمد في منع البيع ثبوتُ يد مستحق المنفعة، وامتناعُ إزالتها، وهذا لا يتحقق في الزَّمِن.
والتعلق بالنكاح في توجيه الوجه البعيد أمثلُ؛ فإن النكاح معقود على التأبيد، ثم لا يمتنع به البيع في الرقبة.
7378- وإذا جرينا على المسلك الأصح، وهو المنصوص عليه للشافعي، وصححنا الوصية بالثمار التي ستكون في المستقبل كتصحيحنا الوصيةَ بالمنافع، فتفصيل القول في بيع الأشجار الموصى بثمارها، كتفصيل القول في بيع العين الموصى بمنفعتها، [فالمقدّر] (3) من الثمار كالمقدّر من المنافع، والاستحقاق على التأبيد في الثمار يضاهي المنفعة المؤبدة في ترتيب المذهب في بيع الأعيان.
وكان شيخي أبو محمد يقطع القول بأن [الوصية] (4) بأولاد الأمة في مستقبل الزمان لا تمنع بيعها قولاً واحداً؛ فإن منافعها باقية، وولدُها ليس مما يؤثِّر ويقدح في تمام الملك في الرقبة، وكان [يتردّد] (5) في بيع المواشي الموصى بنتاجها، وصغْوُه الأظهر إلى صحة بيعها.
ويتجه عندي تصحيح بيع الأشجار الموصى بثمارها؛ فإن الذي يتجه اعتماده في
__________
(1) بها: أي الوصية بالمنفعة. وفي الأصل: منه.
(2) الزمانة: مرض يدوم، والاسم منها: الزمن. (مصباح) .
(3) في الأصل: كالمقدّر.
(4) في الأصل: بأن الموجب.
(5) في الأصل: تردّدَ.(11/128)
منع بيع العين الموصى بمنفعتها استيلاء المنتفع بها، [وإدامة] (1) اليد عليها، لا سقوطُ المنفعة؛ فإنا لو اعتمدنا سقوطَ المنفعة، لترددنا في بيع المعضوب (2) الزَّمِن، ولا تكاد تثبت اليدُ على الأشجار للموصى له بثمارها؛ فإنه [يبغي] (3) ثمارها إذا برزت الثمار، ولا تطّرد يده اطراد يد الموصى له بالمنفعة والمستأجر، وهذا بمثابة النكاح؛ فإن الزوج وإن كان يستحق [الاستخلاء] (4) بزوجته الأَمة لقضاء الوطر منها، فليست يده يد استيلاء، ويد السيد أغلب وأعلى من يده.
فانتظم [مما] (5) ذكرناه تردّدُ الأصحاب في المنافع، كما تفصل المذهب فيها، والقطعُ بأن الوصية بولد الجارية [لا تمنع] (6) بيعها، وفي المواشي الموصى بنتاجها تردّدٌ [للأصحاب، ونزَّلوا] (7) الأشجار الموصى بثمارها منزلة الأعيان الموصى بمنافعها، وفي ذلك شيء نبهت عليه.
7379- ومما يتعلق بهذا الأصل أن ابن الحداد قال: إذا أوصى رجل لرجل بدرهم من غلّة [داره] (8) ، وكانت أجرة الدار مائة درهم، فإذا كانت الوصية [مؤبّدة] (9) ، امتنع البيع في جميع رقبة الدار؛ جرياً على الأصح في أن التأبيد يمنع البيع، وغرضه بذكر هذه الصورة أن يبيّن أن البيع ينحسم في جميع الدار، وليس للقائل أن يقول: ينبغي ألا يمتنع البيع إلا فيما [يُدرّ] (10) مقدارَ الدرهم من الدار؛ فإن الدار قد ترجع غلتها إلى مقدار درهم، وهذا من قول ابن الحداد دليل على امتناع بيع الأشجار
__________
(1) في الأصل: وامه.
(2) المعضوب: الذي لا حراك به عجزاً وزمانة (مصباح) .
(3) مكان كلمة لم نُساعد على قراءتها بعدُ، رسمت هكذا " معى ".
(4) في الأصل: الاستخلال.
(5) في الأصل: ما.
(6) في الأصل: لا يقع.
(7) في الأصل: تردد الأصحاب تركوا الأشجار ... إلخ.
(8) في الأصل: دايرة.
(9) في الأصل: مرتدة.
(10) في الأصل: بعد.(11/129)
الموصى بثمارها؛ فإنه فرض [مسألته] (1) في الوصية بالولد، ولم يفرضها في إثبات حق الانتفاع [الذي] (2) يستدعي استيلاء يده على رقبة الدار.
هذا تمام الغرض في هذا الركن.
7380- ومن أركان الفصل القولُ في كيفية اعتبار خروج المنفعة الموصى بها من الثلث، فنقول: هذه الوصية معتبرةٌ من الثلث اعتبار غيرها، فالموصي وإن كان خلّف على ورثته تركته، فالمنافع التي ستوجد بعد وفاته ملحقة في اعتبار الوصية بها من الثلث، باعتبار التركة، [فلينتبه] (3) الناظر عند ذلك.
وقد نقول: منافع أعيان التركة ليست من التركة، حتى لا يتعلق بها قضاء الديون [وتنفيذ] (4) الوصايا، ولعلنا نذكر تحقيق ذلك في أثناء الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
وسبب هذا أن الوصية بالمنافع [تنقُص] (5) قيمةَ الأعيان، وتؤثر [فيها] (6) أثراً بيّناً.
فهذا وجه عدّ الشرع [المنافع] (7) من الثلث، وأيضاً، فإن ما أدخله من المنافع في تصرفه صار كالناجز المحصل، فإذا أوصى بها، فكأنها حصلت.
7381- فإذا وضح بالتنبيه الذي ذكرناه [الأصلَ المجمعَ] (8) عليه، وهو اعتبار الوصية بالمنافع من الثلث - فالكلام بعد هذا في بيان ما يحسب من الثلث، والوجه أن نقسم القول، فنقول:
الوصية لا تخلو إما أن تقع على التأبيد، وإما أن تقع على التأقيت؛ فإن وقعت على
__________
(1) في الأصل: مسألة.
(2) في الأصل: التي.
(3) كذا قرأناها بصعوبة وقدرٍ كبير من التوسم.
(4) في الأصل: "فتنفيذ".
(5) في الأصل: يقتص.
(6) في الأصل: بها.
(7) في الأصل: بالمنافع.
(8) في الأصل: لأصل الجميع.(11/130)
التأبيد، والتفريعُ على الأصح، الذي هو الأصل في أن الوصية بالمنفعة على التأبيد إذا لزمت، [امتنع] (1) منها بيع العين.
فإذا فرعنا على هذا، فقد اختلف أئمتنا فيما يعتبر خروجه من الثلث، فمنهم من قال: المعتبر خروجُ قيمة العين من الثلث؛ فإنها مسلوبة المنفعة في جهة الوصية، والتصرفات ممتنعة على الورثة بحيلولةٍ دائمةٍ، وكأن العين مستهلكة [من] (2) حقوقهم، وكأن الوصيةَ واقعةٌ بالرقبة.
ومن أصحابنا من قال: تعتبر قيمةُ المنافع وخروجُها من الثلث؛ فإنها الموصى بها، والسبيل في اعتبارها أن نقول: هذا العبد كم يساوي مع وفور المنفعة؟ فيقال: مائة، فنقول: كم قيمته، وهو مستحق المنافع؟ فيقال: عشرة، فنتبين أن قيمة المنفعة تسعون.
فهذا وجهُ الوصول إلى معرفة قيمة المنفعة، ومعنى اعتبارها من الثلث.
التفريع على الوجهين:
7382- إن اعتبرنا خروج الرقبة من الثلث، فلا كلام، ومعنى اعتبار الرقبة اعتبار خروج قيمتها موفورةَ المنافع.
فإن قلنا: الاعتبار بخروج قيمة المنفعة من الثلث، على ما أوضحنا معنى ذلك، فالمقدار الذي يُفرض قيمةَ الرقبة وهي مسلوبة المنفعة هل يحسب على الورثة من التركة أم لا يحسب عليهم؛ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها محسوبة على الورثة من التركة؛ فإنها حقهم وملكهم استحقوها إرثاً.
والوجه الثاني - أنها لا تحتسب من مقدار الوصية؛ فإن الموصى بها المنفعة، ولا تحسب على الورثة، لوقوع الحيلولة المؤبدة بينهم وبينها (3) .
هذا أصل القول فيما يحتسب من الثلث، إذا كانت المنافع مؤبدة في مقتضى الوصية.
__________
(1) في الأصل: انتفع.
(2) في الأصل: في.
(3) أي لا تحسب على هؤلاء، ولا على هؤلاء، هذا هو الوجه الثاني.(11/131)
وعلينا في ذلك بقية سنذكرها، إن شاء الله عز وجل إذا تكلمنا في الوصية المؤقتة، فنقول:
7383- قدمنا التفصيل في أن الموصى بمنفعته على التأقيت هل يجوز بيعه؟ فإن قضينا بجواز بيعه، فلا خلاف أن المحتسب من الثلث أجرة المنافع لا غير.
وقد يعترض في هذا المنتهى إشكال؛ فإن المنافع ليست بتركةٍ على الحقيقة -كما نبهنا عليه- فكان يجب أن نجعل الموصي بالمنافع في حكم من لم يتصرف في التركة، وهذا غير سديد؛ فإنه لو كان كذلك، [لانتفت] (1) الوصية بالمنفعة رأساً؛ فإنها تصرفٌ في حق الورثة، فإذا نفذنا الوصية، دلّ [ذلك على] (2) أن المنافع ملحقةٌ بالتركة في هذه القضية، وأيضاً، إن الوصية بالمنفعة تؤثر في قيمة العين، وتقلل الرغبة فيها. هذا إذا قلنا: الوصية المؤقتة لا تمنع البيع.
فأما إذا قلنا: الوصية المؤقتة تمنع بيعَ العين ما دامت، فلأئمتنا طريقان: منهم من قطع بأن المحتسَب من الثلث قيمة المنافع، ومنهم من خرّج المسألة على وجهين، كالوجهين المقدّمين في الوصية بالمنفعة على التأبيد.
أحدهما - أنا نعتبر خروج قيمة الرقبة لمكان الحيلولة الواقعة في [الحال] (3) ولا ننظر إلى توقع انقضاء الحيلولة بانقضاء المدة المضروبة.
والوجه الثاني - أن الذي يعتبر خروجُه المنافعُ، ولا مبالاة بالحيلولة الناجزة في العين إذا كانت عرضة الزوال.
فإن قيل: هلا جعلتم الحيلولة الواقعة في العين [بمنزلة] (4) الحيلولة الحاصلة في الثمن [بالأجل] (5) المضروب [فيه] (6) ، حتى تسلكوا بهذا مسلك البيع بالثمن
__________
(1) في الأصل: لانتفعت.
(2) ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: الحالة.
(4) في الأصل: منزلة.
(5) في الأصل: بالأصل.
(6) في الأصل: قيمة.(11/132)
المؤجل؟ قلنا: هذه الحيلولة، مع حصول العين، وتوقع الزوال لا مبالاة بها؛ فإنا لا نعرف خلافاً في أن المريض إذا أجّر داره بأجرة مثلها، والتفريع على أن الدار المستأجرة لا تباع، فلا نقول: إذا مات المكري في أثناء المدة نبيع [عقاره] (1) بالنقص؛ فإن الإجارة من عقود الغبطة، وكان أوقع حيلولةً [بعوض] (2) .
ولو باع عَيْنَه بعوض، لنفذ فيه، فلا فرق إذاً بين الإجارة، وبين الوصية بالمنفعة [إلا أن] (3) الإجارةَ معاوضة، والوصية تبرّع، ثم حق ما كان تبرعاً أن يحتسب من الثلث؛ فإنّ الثلث يستحق للمريض لا يعترض عليه فيما يوقعه [فيه] (4) .
هذا بيان أصل المذهب في أنَّ المحتسب من الثلث [ماذا؟] (5) قيمة المنفعة أو قيمة العين في الوصية المؤقتة والمؤبدة.
7384- ومما نستكمل به بيان هذا الفصل أن الثلث إذا ضاق عن احتمال الوصية بالمنفعة، واقتضت الحالُ، رَدَّ الوصية إلى الثلث، ففي كيفية ردها كلام، نحن نفصّله، فنقول:
إن كانت الوصية بالمنفعة مؤقتةً، [كأن] (6) أوصى بخدمة عبده عشر سنين، فقد ذكرنا أن الاعتبار بخروج المنافع من الثلث، فعلى هذا إذا كان العبد يساوي مائة، وما كان خلّف سواه شيئاً، فنقول: منافعه عشرَ سنين كم تساوي؟ فإن قيل: إنها تساوي ثُلُث المائة، والعبد الآن دون منافعه في العَشْر يساوي ثلثي المائة، فالوصية منفّذة؛ فإنها خارجة في الثلث والثلث [وافٍ] (7) بها.
وإن كانت المنافع في عشر سنين تساوي خمسين، والعبد مع استحقاق منافعه في
__________
(1) في الأصل: عقده.
(2) في الأصل: بعرض.
(3) في الأصل: الآن.
(4) في الأصل: توقعه عنه.
(5) في الأصل: فإذا.
(6) في الأصل: وكان.
(7) في الأصل: داقر.(11/133)
العشر يساوي في الحال خمسين، فلا بد من ردّ الوصية إلى الثلث، وقد اختلف أصحابنا في كيفية ردها، فمنهم من قال: ننقص من المدة ونردها إلى قدر الثلث، ويكون جميع العبد مستحَق المنفعة في أقلَّ من المدة التي ضربها، على ما يقتضيه الحساب.
والوجه الثاني - أنا لا ننقص من المدة، ولكن ننقص من الرقبة، فنقول: إذا كان الثلث لا يفي باستحقاق جميع منفعة العبد عشرَ سنين، وكان يفي باستحقاق منفعة ثلثي العبد، أو ما يتفق عشْرَ سنين، فنرد الأجرة (1) إلى بعض الرقبة في تمام المدة، ولا ننقص من المدة شيئاً.
وارتضى الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، وذلك أن المدة قد تختلف أجرتها، فلو نقصنا من المدة، وقعنا في جهالة يتعذر ضبطها.
ويمكن أن يقال: هذان الوجهان متعلّقان بأن البيع هل يُمنع في الرقبة لمكان الوصية؟ فإن قلنا: إن البيع لا يمتنع في الرقبة، فينقدح خروج الوجهين لما ذكرناه في الوجه الثاني [الذي] (2) اختاره الشيخ. وإن قلنا: البيع يمتنع في الرقبة، فالظاهر ردّ الأجرة، وأن [ننقص] (3) الرقبة حتى ترتفع الحيلولة عن بعضها (4) ، وينطلق [فيه] (5) تصرف الورثة، وكل ذلك على أن المعتبر خروج المنفعة من الثلث، فإذا اعتبرنا خروجَ الرقبة، فلا يخفى أنا نرفع الحيلولة عن ثلثي الرقبة إذا لم يخلِّف غيرَها.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الوصية بالمنفعة مؤقتة.
7385- فأما إذا كانت الوصية بالمنفعة مؤبدة، والتفريع على الأصح، وهو امتناع البيع في الرقبة، فلا يتجه في هذا القسم إذا طلبنا ردّ بعض الوصية إلا تبعيضَ الأمر في
__________
(1) الأجرة: المراد قيمة المنفعة وتقديرها.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: نقص.
(4) ترتفع الحيلولة عن بعضها: المعنى أن نجعل الوصية بمنافع جزء من الرقبة، لا كل الرقبة، مثل خمسة أسداسها أو نحو ذلك.
(5) في الأصل: قيمة.(11/134)
الرقبة؛ فإنا إن اعتبرنا خروج الرقبة من الثلث، لم يخف ذلك، وإن اعتبرنا خروج المنفعة، فالمنفعةُ مؤبدة، لا نهاية فيها، ولا ضبط لها، ولا يمكن التصرف [فيها] (1) بالتبعيض، ولا وجه إلا تبعيض الوصية على الرقبة؛ حتى تثبت على التأبيد في بعض الرقبة، على ما يقتضيه الحساب.
هذا تمام البيان في معنى احتساب هذه الوصية من الثلث، ونحن نختتمه بذكر سؤالٍ على وجه ضعيف وجواب عنه فنقول:
7386- إذا فرعنا على الوجه الضعيف في أن الوصية بالمنفعة على التأقيت توجب احتساب الرقبة [من] (2) الثلث، فإذا كان أوصى بمنفعة عبده سنةً، ولم يكن له مالٌ غيرُ العبد، فالذي يقتضيه التفريع على الوجه الضعيف ردُّ الوصية إلى ثلث العبد ورجعها عن الثلثين.
فإن قيل: إذا انقضت المدة، انطلق الحجر عن جميع الرقبة، واستمكن الورثة من جميع الرقبة، فلا تقع الوصية ثلثاً، وليس كان ينقدح ذلك في الوصية المؤبدة، من حيث إن الوصية المردودة إلى [الثلث مردودة إلى] (3) ثلث العبد متأبداً، وتنزل منزلةَ وقف جزء من العبد، وتحبيسه، [وهذا] (4) لا اتجاه له، والوصيةُ مؤقتة.
قلنا: هذا يُضعف هذا الوجهَ، ويبين [سقوطه] (5) .
ثم الممكن في توجيه [هذا] (6) الوجه أن الوصية بالمنفعة المؤقتة مقصودُها تمكّن الموصى له من المنفعة مدة معلومة، ثم اقتضى وقوع الحيلولة ردّ الاعتبار إلى الرقبة، فإذا انقضت المدة التي ضربها الموصي، فقد انقضى ثلث مقصوده، وكأن هذا القائل لا ينظر إلى القيمة، وإنما يثلّث المنحة في نفسها بفضِّها على أجزاء العبد، فلئن انطلق
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) في الأصل: عن.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: فهذا.
(5) في الأصل: سقوط.
(6) ساقطة من الأصل.(11/135)
الحجر عن العبد، فهذا انطلاق على حسب مقتضى الوصية.
والذي ذكرناه لا ثبات له؛ فإن الوصايا تعتبر من الثلث على قياس القيم وأقدارها، وهذا النوع من التثليث لا ينتظم فيه اعتبار القيمة أصلاً؛ فإنا اعتبرنا قيمة الرقبة وثبتنا التثليث عليها، ثم الثلث المصروف إلى الوصية استرددناه، ورددناه إلى الورثة.
وقد نجز المقصود.
7387- ومما يعد من أركان الفصل القول في نفقة العبد الموصى بمنفعته.
حاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أصحها - أن نفقة العبد تجب على الورثة؛ فإن ملك الرقبة لهم، والنفقة تتبع ملك الرقبة إذا لم تثبت عوضاً في عقد، وهذا احتراز عن نفقة النكاح؛ فإنها بنيت على مضاهاة الأعواض، ولا ينظر إلى خروجها عن الضبط؛ فإنها تعارض (1) معوضاً خارجاً عن الضبط، وهو منفعة البضع.
هذا ظاهر المذهب في نفقة العبد الموصى بمنفعته.
ومن أصحابنا من قال: النفقةُ على الموصى له بالمنفعة، وهذا الوجه حكاه صاحب التقريب، ووجهه تشبيه استحقاقه المنفعة باستحقاق الزوج منفعة البضع.
وهذا رديء، لا اتجاه له، والذي أرى القطعَ به تخصيصُ حكاية هذا الوجه بالوصية المؤبدة، فإنها إذا كانت مؤقتة، كان العبد الموصى بخدمته بمثابة العبد المستأجر، ثم نفقة العبد المستأجر على المالك، ثم [بنى] (2) صاحب التقريب فِطرة العبد على الخلاف في النفقة؛ فإن الفطرة تتبع النفقة، فإن أوجبنا نفقةَ العبد على الورثة، فعليهم زكاة فطره، وإن أوجبناها على الموصى له، فعليه زكاة فطره.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً في النفقة، فقالوا: نفقة العبد تتعلق بكسبه [وحق] (3) الموصى له وراء عمل العبد في تحصيل [مؤنته] (4) . ثم قالوا: إن عجز العبد عن
__________
(1) تعارض: المعنى تقابل وتساوي.
(2) في الأصل: بين.
(3) في الأصل: وعن. وهو تصحيف خفي لم ندركه إلا بفضل من الله بعد معاناة شديدة.
(4) في الأصل: مؤنة.(11/136)
الكسب، فصاحب هذا الوجه لا يوجب نفقته على الورثة، ولا على الموصى له، بل يوجبها في بيت المال.
وهذا فيه ضعف؛ من جهة أن صرف نفقة [المملوك] (1) على بيت المال مع استظهار (2) المالك وبقائه بعيدٌ، وكان لا يبعد في قياس هذا الوجه أن يقال: النفقة تتعلق بالكسب، فإن لم يكن، انقلب وجوبُها إلى الوارث، أو إلى الموصى له.
فإن قيل: لم تذكروا متعلق الوجه الذي حكاه صاحب التقريب سوى التحكم بالتشبيه بالنكاح. قلنا: ذاك وجهٌ بعيد لا يتوجه، ثم الذي يظهر التعلّقُ به أنا لو صرفنا المنفعة إلى الموصى له أبدأ، [وصرفنا] (3) كلّ العبد ومؤونته على الوارث، لثقل وقع ذلك، وانضمّ إلى الحيلولة غُرم النفقة. وليس هذا كنفقة العبد المستأجر؛ فإن المكري اعتاض عوضاً من المنفعة، وعوض المنفعة في موجب العادة يقابل احتمال النفقة، وقد يظهر مع هذا التنبيه طردُ ذلك الوجه الضعيف في الوصية المؤقتة بالمنفعة.
ثم ما ذكرناه في النفقة يطّرد في الكسوة، وفي جملة المؤن الواجبة على المالك في [مملوكه] (4) .
7388- ومما [يُعد] (5) من أركان الفصل الكلام في الجناية على هذا العبد، وفي جنايته.
ونحن نبدأ بالجناية عليه، والقول فيه ينقسم إلى الكلام في [قتله] (6) ، وإلى الكلام في الجناية على أطرافه.
__________
(1) في الأصل: المملوكة.
(2) استظهار: معناها هنا قدرة.
(3) في الأصل: وضربنا.
(4) في الأصل: مملوك.
(5) في الأصل: يعمل.
(6) في الأصل: مثله.(11/137)
فإن قتله قاتل قتلاً يوجب المالَ، التزم قيمتَه، وفيمن تصرف إليه القيمة اضطرابٌ للأصحاب:
فذهب ذاهبون منهم إلى أن القيمة مصروفةٌ إلى الورثة، وقد بطلت الوصية، وانقطعت؛ فإن الموصى له كان يستحق منفعته ما دام حياً، فإذ قتل، فقد [انتهت] (1) الوصاية به نهايتها، كما ينتهي النكاح بموت [الزوجة] (2) وقتلها؛ [فالقيمة] (3) تسلم إلى مالك الرقبة، وهو الوارث.
ومن أصحابنا من قال: نصرف [تلك] (4) القيمة إلى [شراء] (5) عبدٍ ونقيمه [خادماً] (6) للموصى له بالخدمة، حتى نكون مقيمين [لحق] (7) مالك الرقبة [ولحق] (8) مالك المنفعة.
وأبعد بعض أصحابنا، فزعم أن القيمة مصروفةٌ إلى الموصى له بالمنفعة، وزعم هذا القائل أن هذا الوجه يخرّج على اعتبار خروج قيمة الرقبة من الثلث، فإذا كنا نعتقد ذلك، فكأنا اعتقدنا كونَ العبد مستوعباً بحق الموصى له؛ فإذا قُتل، صرفنا القيمة إلى من اعتبرنا خروج القيمة من الثلث في حقه، ولا شك أن هذا الوجه إن صح النقلُ فيه إنما يجري إذا كان العبد موصىً [بمنفعته] (9) أبداً.
والوجه الثاني [المذكور] (10) قبل هذا، يجري مع تأقت الوصية؛ فإن صاحب
__________
(1) في الأصل: انبنت. وقد سوغّ لنا التغييرَ رعايةُ المزاوجة التي يريدها الإمام في عبارته: انتهت.. نهايتها.
(2) في الأصل: الوصية. وهو تصحيف قريب، بل هو سبق قلم في الواقع.
(3) في الأصل: بالقيمة.
(4) في الأصل: ملك.
(5) سقطت من الأصل.
(6) في الأصل: "حال ما" كذا تماماً (انظر صورتها) وتأمل هذا التصحيف، وكيف الوصول -بفضل الله - إلى سرِّه، وحقيقته.
(7) في الأصل: بحق.
(8) في الأصل: ونحن.
(9) كذا قرأناها بصعوبة (انظر صورتها) .
(10) في الأصل: المدرك.(11/138)
ذلك الوجه يرى شراء عبد بتلك القيمة، ثم إذا مرّت المنفعة وانقضت المدة، خلصت الرقبةُ ومنفعتها للوارث.
فإن قيل: أليس العبد المستأجر إذا قتل في أثناء المدة، ارتفعت الإجارة في بقية المدة، فما الفرق بين الإجارة وبين الوصية المؤقتة؟
قلنا: الإجارة عقد معاوضة، وإذا لم يَسْلَم فيه المعقود عليه [إن تملكه] (1) ، فحكم [المعاوضة] (2) الانفساخ، ثم إنه [يرجع] (3) بقسط من [العوض] (4) ولا [تبعض] (5) في الوصية، فلو قطعناها، لكان ذلك إحباطاً (6) لحق الموصى له.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً رابعاً من أصل المسألة وقال: القيمة [تُفضُّ] (7) على المنفعة [به، وعلى] (8) الرقبة، [وهي مسلوبة المنفعة] (9) ، فينصرف ما يخص المنفعة إلى الموصى له، وما يخص الرقبة إلى الوارث، وسبيل تقويم المنفعة [إن] (10) كانت مستحقة على التأبيد أن يقال: منفعة هذا العبد كم تساوي؟ والعبد مسلوب المنفعة كم يساوي؟ فإن قيل: كيف يتأتى تقويم المنفعة، [وهي] (11) مجهولةُ المقدار؟ قلنا: سبيل [تقويم المنفعة سبيل] (12) تقويم الرقبة؛ فإن قيمة الرقبة تتعلق برجاء البقاء، ولو علم طالب الرقبة أنها فائتةٌ على القرب، لم يرغب فيها، ثم القيمة معلومةٌ
__________
(1) كذا تماماً. ولم نساعد على قراءتها. ولعلها: "لمن يملكه".
(2) في الأصل: المعارضة.
(3) في الأصل: رجع.
(4) في الأصل: العرض.
(5) كذا قرأناها بصعوبة. (انظر صورتها) .
(6) إحباطاً: إهداراً (المصباح) .
(7) في الأصل: تفيض.
(8) في الأصل: فيه على.
(9) في الأصل: " وهي مسئلة به المنفعة " وهو تصحيف بالغ الخفاء، أُلهمنا من فضل الله قراءته، (وانظر صورة هذه الجملة) .
(10) في الأصل: وإن.
(11) في الأصل: وقال.
(12) زيادة اقتضاها السياق.(11/139)
مع تردد في طرفي البقاء، فكذلك القول في المنفعة.
ويتأتى [تقويم] (1) المنفعة على وجهٍ آخر، قدمنا ذكره في فصل الخروج من الثلث، فنقدر العبد منتفعاً به، فنضبط قيمته، ثم نقومه مسلوب المنفعة، فالقدر الذي ينحط مع تقدير الانتفاع قيمةُ المنفعة.
وما ذكرناه فيه إذا قُتل العبد قتلاً يوجب المال.
7389- فإن قتل قَتْلَ قصاص، فقد أجمع أئمتنا على أن المالك -وهو الوارث - يثبت له حق طلب القصاص، وإذا اقتص من القاتل، سقطت الوصية، وصار كما لو مات العبد الموصى بمنفعته حتف أنفه.
وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت للموصى له حقَّ طلب القصاص، وهذا غلطٌ غيرُ معتد به؛ فإن طلب القصاص [والقتيل] (2) مملوك من خواص أحكام ملك الرقبة، وإنما غلِط هذا القائل [من] (3) مصير بعض الأصحاب إلى صرف القيمة بكمالها إلى الموصى له بالمنفعة، وهذا لا [متعلَّقَ به] (4) ؛ فإن القيمة قد تصرف إلى حق من لا يطلب القصاص، كالمرتهن إذا قتل العبد المرهون في يده.
هذا كله إذا كانت الجناية على نفسه.
7390- فأما إذا قطع الجاني يدَ العبد، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في مصرف الأرش، فقال قائلون: الأرش مصروف إلى الوارث؛ فإنه بدل الطرف الفائت، والطرف ملكُ مَن الرقبة ملكه.
وحكى صاحب التقريب وجهاً آخر: وهو أنا ننظر إلى ما انتقص من المنفعة، وإلى ما انتقص من قيمة الرقبة، فنفضّ الأرش عليهما، ونصرف ما يجبر نقصانَ الرقبة إلى الوارث، وما يخص نقصان المنفعة إلى الموصى له بالمنفعة. وإذا اعتبرنا نقصان
__________
(1) في الأصل: تقوّم.
(2) في الأصل: القتل.
(3) في الأصل: في.
(4) في الأصل: لا يتعلق فيه.(11/140)
القيمة، نظرنا إلى قيمة عبد مسلوب المنفعة، ونسبنا النقصان إليه، وهذا الوجه هو الذي حكيناه في الجناية على النفس.
وصار صائرون إلى أن ما يقابل المنفعة من القيمة مصروف إلى الموصى له بالمنفعة، وما يقابل الرقبة منها مصروف إلى الوارث.
ولم يصر أحد إلى صرف تمام الأرش إلى الموصى له بالمنفعة، وإن [ذُكر] (1) في القيمةِ والجنايةُ على النفس.
ولم ير أحدٌ صرف الأرش إلى عبدٍ أو شقصٍ من عبد، حتى يستحقه الموصى له بالمنفعة.
هذا قولنا في الجناية على العبد الموصى بمنفعته.
7391- فأما التفصيل في جناية العبد الموصى بمنفعته، فنقول: إذا كان هو الجاني، وجنى جناية مذهبها المال، فالأرش يتعلق برقبته، وحق الموصى له لا يمنع من ذلك، كما أن ملكَ المالك، وحقَّ المرتهن لا يمنع من تعلق الأرش بالرقبة، ثم إن فداه الوارث، وتخلّصت الرقبة، فحق الموصى له بالمنفعة قائم كما كان، وإن امتنع الوارث من فدائه لم يلزم الفداء، ولكن يباع العبد إن مست الحاجة إلى بيع جميعه.
فإن قيل: هلا قلتم يمتنع بيعُه لأنه مسلوب المنفعة؟ قلنا: حق الأرش مقدّم على حق الموصى له، وهذا كما أن المرهون لا يباع دون إذن المرتهن، وإذا جنى بيع، وأُبطل حق المرتهن.
فإن قال الموصى له عند امتناع الوارث من الفداء: أنا أفديه، فإن قبل المجني عليه الفداء، فلا كلام؛ فإن الأجنبي لو فدى العبد الجاني وقبله المجني عليه، انفلت [من] (2) الجناية، وإن قال المجني عليه: لست أقبل الفداء، فقد ذكر الأصحاب
__________
(1) في الأصل: وإن ذكروا.
(2) ساقطة من الأصل.(11/141)
وجهين في أنه هل يجبر على قبول الفداء؟ أحدهما - لا يجبر كالأجنبي؛ فإنه لا حق له في الرقبة، والأرش يتعلق بالرقبة.
والوجه الثاني - يجب قبول الفداء فيه؛ [فإن في فداء العبد فداء حقه] (1) ، وفي بيعه انقطاع حقه.
وقد أجرى الأصحاب هذين الوجهين في العبد المرهون إذا جنى، وامتنع الراهن من فدائه، وأراد المرتهن أن يفديه، حتى لا ينفك حق [استيثاقه] (2) ؛ [ففيه] (3) الوجهان اللذان ذكرناهما في الموصى له، ولعل تصحيح الفداء من المرتهن أوْجَهُ؛ لأن حقه متعلق بالعين، ولهذا تصرف قيمة المرهون إذا أُتلف إليه من غير تردد، وفي قيمة العبد الموصى بمنفعته إذا قُتل ما ذكرناه.
7392- ومما يعدّ من قواعد الفصل التفصيلُ فيما يملكه الموصى له بالمنفعة، وفي تصرفاته [بمنافع] (4) البدن، فلا شك أنه يملكها، وبنى الأصحاب عليه أنه لو احتطب أو احتش، أو صاد، فهذا الاكتسابُ للموصى له بالمنفعة، ولو كان محترفاً، فأجر أعماله له.
فإن اكتسب [كسباً] (5) نادراً مثل أن يهب منه إنسان شيئاً فيتّهبه، ففي هذا الفن وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يستحقه الموصى له، وإنما [يستحقه] (6) الوارث بحق ملك الرقبة.
والثاني - أنه يستحقه الموصى له بالمنفعة.
هكذا أطلق الأصحاب الخلاف، وهو يحتاج إلى فضل بيان، فالاتهاب ليس مما يتعلق بعمل العبد، فالوجه في تنزيل الخلاف والوفاق أن نقول: كل كسب يحصّله
__________
(1) عبارة الأصل: كان في بناء العبد بناء حقه.
(2) في الأصل: استئنافه.
(3) في الأصل: فيه.
(4) في الأصل: بما منافع البدن.
(5) في الأصل: أكساباً.
(6) في الأصل: يستحق.(11/142)
عملٌ، فهو للموصى له بالمنفعة، وكل كسب لا يحصله ما [يعدّ من الأعمال] (1) [كذلك العبد الذي اتهب] (2) ، ففيه خلاف: من أصحابنا من قال: هذا لا [يعاوضه] (3) عمل، ولا يقتضيه نوعٌ من المنفعة، بل التغليب فيه لهبة الواهب، فيجب صرفه إلى مالك الرقبة.
فإن أردنا في ذلك ضبطاً، [فكل] (4) ما يمتنع على العبد من أعماله، حتى يراجع مولاه، فهو المنفعة التي يتعلق بها الاستحقاق، فأما قوله وحكمه، فمما لا يحتاج العبد في إطلاقها إلى مراجعة مولاه.
هذا قاعدة المذهب.
ثم الذي ذكره العراقيون [أن] (5) منفعة البضع تدخل تحت مطلق الوصية بالمنفعة؟ وبنَوْا عليه أن الجارية الموصى [بمنفعتها] (6) لو وطئت بشبهة، فالمهر للموصى له بالمنفعة، هذا هو [المعتدّ به] (7) ولا شك أن قياس المراوزة يخالف هذا؛ فإن منفعة البضع مما لا يصح الوصية به، فلا يتعلق الاستحقاق بمنفعة البضع بنحلةٍ وهبةٍ إذا بقي الملك في الرقبة للواهب المتبرع، فيجب ألا يدخل تحت الوصية بالمنفعة إلا المنفعةُ التي تستباح بالإعارة، وتستحَق بالإجارة.
ثم ترقى بعض الأصحاب من منفعة البضع إلى الكلام في الولد، فذكروا وجهين في أن الجارية الموصى بمنفعتها لو أتت بولد رقيقٍ، فالملك فيه للوارث، أو للموصى له.
وهذا خرّجوه على أن [استفادة] (8) الولد فيها [كاستفادة] (9) الأكساب، واشتمال الرحم على المولود كاشتمال الشبكة على الصيد.
__________
(1) في الأصل: ما بعد من الأعمار.
(2) في الأصل: كترك العبد اتهب.
(3) في الأصل: "يعارضه".
(4) في الأصل: وكل.
(5) سقطت من الأصل.
(6) في الأصل: منفعتها.
(7) كذا قدرناها (انظر صورتها) .
(8) في الأصل: استعارة.
(9) في الأصل: كاستعارة.(11/143)
وهذا في نهاية البعد؛ فإن الولد يعد في وضع الشرع جزءاً من الأم لا يملكه إلا من ملك الأمَّ، إلا أن تفرض الوصية ناصّةً على الأولاد، فيخرّج القول حينئذٍ على الاختلاف في الوصية بالأولاد في الاستقبال، والوصية بالثمار.
وذكر بعض أصحابنا الولدَ على وجهٍ آخر، فقالوا: الولد المملوك ملكُ الوارث، ولكن هل يصير الموصى له بالمنفعة مستحِقاً لمنفعة الولد، كما أنه مستحق لمنفعة الأم؟ فعلى وجهين: وهذا [أبعد] (1) من الخلاف المحكي في صرف ملك الولد إلى الموصى له بالمنفعة؛ فإن ذلك على بعده محمول على التشبيه بالعبد، والخلاف في منفعة الولد مع تسليم الملك فيه للوارث، لا اتجاه له على مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ فإنه لا يُتبع الولدَ الأمَّ في هذه الأشياء، ولذلك لم يحكم بتعدِّي الرهن من الأم إلى الولد، وقد سبق استقصاء القول فيما نُتبع الولدَ فيه الأصلَ، وفيما لا نتبع، وفيما يُختلف فيه.
7393- ومما يتعلق بتمام القول في هذا الفصل الكلامُ في وطء الجارية الموصى بمنفعتها، فالذي ذكره الأئمة المعتبرون في نقل المذهب أن وطأها محرم على الوارث؛ من جهة أن الوطء يسبب العلوقَ، والعلوقُ يُفضي إلى [الطَّلْق] (2) ، وهو من أسباب الهلاك، والحملُ ناجزاً يؤثِّر في تنقيص المنفعة.
ولم يختلف علماؤنا في تحريم وطئها على الموصى له، ومَنْ ذهب إلى أن عُقرها إذا وُطئت بشبهة مصروف إلى الموصى له، لم يخالف في تحريم وطئها عليه. وهذا أصدق آيةٍ على فساد صرف استحقاق منفعة البضع إلى الموصى له.
وحكى الصيدلاني في مجموعٍ له في الخلاف وجهين عن الشيخ الإمام سهل (3) في
__________
(1) في الأصل: البعد.
(2) في الأصل: المطلق.
(3) الإمام سهل: هو سهل بن محمد بن سليمان، أبو الطيب الصعلوكي، الفقيه الأديب مفتي نيسابور وابن مفتيها، النجيب ابن النجيب (ابن الأستاذ أبي سهل) جمع بين العلم والعمل، تخرج به جماعة من الفقهاء بنيسابور، وسائر مدن خراسان ت 404 هـ (طبقات الشافعية لابن السبكي: 4/393 وما بعدها) .(11/144)
أن الوارث هل يستبيح وطء الجارية الموصى بخدمتها؛ تعويلاً على الملك؟ وهذا بعيد.
فإن صح النقل فيهما، فالوجه تنزيلهما على وطء الراهن الجاريةَ المرهونة إذا كانت صغيرة، لا يتوقع علوقها، وقد قدمنا في الرهن أن الوطء مع إمكان الإعلاق محرم، وإذا كان الإعلاق مأموناً، ففي تحريم الوطء وجهان (1) : فينبغي أن يخرّج وطء الوارث الجارية على هذا القياس.
فإذا فرعنا على الظاهر، وهو أن الوطء محرّم، فلا شك أن الوارث إذا وطىء لم يستوجب الحد، لمكان ملكه في الرقبة، وهل يلتزم المهرَ؟ هذا يخرّج على ما قدمنا من أن مهر مثل الجاربة إذا وطئت بشبهة هل ينصرف إلى الموصى له؟ فإن صرفناه إليه، فعلى الوارث مهرُ المثل، وإن لم نجعل المهر [مصروفاً] (2) إليه، فهو للوارث.
فعلى هذا إذا وطىء الوارث، لم يستوجب بالوطء مهراً.
وأما الموصى له، فلا خلاف في تحريم وطء الجارية عليه، فإن وطئها، وقلنا: منفعة البضع مصروفةٌ إليه استحقاقاً، وإن امتنع عليه استيفاؤها، فلا حد عليه إذا وطىء، فإن قلنا: منفعة البضع لا تصرف إليه، فيلتزم بالوطء على الشبهة المهرَ للوارث، وإن لم يكن شبهة، فقد قطع العراقيون بانتفاء الحد.
ولا يمتنع عندي أن يجب عليه الحد كما يجب على [المرتهن] (3) إذا وطىء الجارية المرهونة.
والعراقيون بنَوْا ما قالوه على مصيرهم إلى أن المهر للموصى له، فقد ذكرنا أن القياس الظاهر عندنا أن منفعة البضع لا تُصرف إلى الموصى له، ولست أدري ماذا يقول العراقيون فيه إذا أوصى بمنفعة بُضع جاريةٍ لإنسان دون منفعة بدنها؟ فإن قضَوْا
__________
(1) يحرم الوطء إن كانت ممن تحبل، وإذا أمن العلوق، فوجهان، أظهرهما التحريم. (ر. العزيز: 7/114، والروضة: 6/190) .
(2) كذا قدرناها على ضوء السياق، وصورة أحرفها المصحفة المحرفة (انظر صورتها) .
(3) في الأصل: الموصي.(11/145)
بانصراف الاستحقاق إليه، فهذا سخف خارج عن قاعدة الشريعة، وإن أبطلوا ذلك، [كان] (1) [إقراراً] (2) بإثبات الاستحقاق فيه تبعاً. مع أن منفعة البضع لا تفهم مندرجة تحت الوصية بالمنافع.
فهذا تمام القول فيما يندرج تحت الوصية بالمنفعة.
7394-[فأمّا] (3) تصرّف الموصى له في المنفعة، فإنه يتصرف فيها انتفاعاً، وله إباحة المنافع بالإعارة، وله إيراد عقد الإجارة عليها، ومن حقوقه إثبات اليد على العين الموصى بمنفعتها، فاختلفت الأئمة في أنه هل يملك المسافرة بالعبد الموصى بمنفعته: فذهب بعضهم إلى أنه يملك ذلك؛ لأن ملكه ثبت في جميع جهات الانتفاع المسوَّغة للملاك.
[ومن] (4) أئمتنا من منع المسافرة لحق الملك في الرقبة، واستدل بأن زوج الحرة يسافر بها حيث شاء، وزوج الأمة لا يسافر بها.
ولكنْ بين النكاح وبين استحقاق المنفعة (5) فرقٌ؛ فإن للمولى أن يسافر بالجارية الزوجة، ولا يمنعه من المسافرة حقُّ الزوج.
والوارث لو أراد المسافرةَ بالعبد الموصى بمنفعته، لم يكن له ذلك قطعاً، والضابط لتصرفاته حكمنا بالملك الحقيقي له في المنفعة، ولأجل هذا قطع من يعوَّل على نقله من الأئمة بأن الموصى له بالمنفعة إذا مات، انتقل الاستحقاق إلى وارثه (6) .
وأبعد بعضُ الأصحاب، فذهب إلى انقطاع الحق الموهوب للموصى له وعَوْدِ الاستحقاق إلى وارث الموصي إذا بقي بعده.
وهذا ساقطٌ غيرُ معتد به.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: إفراد.
(3) في الأصل: فأمها.
(4) في الأصل: ففي.
(5) الأصح أن له المسافرة بالعبد الموصى له بمنفعته (ر. الروضة: 6/188) .
(6) الصحيح أن الوصية بالمنافع تنتقل إلى الوارث (ر. الروضة: 6/186) .(11/146)
ولو وطىء الوارث الجارية الموصى بمنفعتها، وأولدها، صارت أم ولدٍ له بمصادفة العلوق الملكَ.
ولا خلاف أن الموصى له إذا وطىء وأعلق، لم يثبت الاستيلاد، وإن درأنا الحدَّ، ولم نُلزمه المهر، وصرفنا إليه القيمة عند القتل، فلا سبيل مع هذه الأصول إلى الحكم بالاستيلاد؛ لأن وطأه لم يصادف ملك الرقبة. نعم، إن حكمنا بأن الولد لو حدث رقيقاً لكان له، [فالولد] (1) حر؛ فإنه لا يعلق مولوده ملكاً له، ثم إذا كان المُولدُ الوارثَ، فالوصية بالمنفعة تبقى مع ثبوت الاستيلاد.
7395- ومما يتصل بهذا المنتهى أن العبد الموصى بخدمته لا ينكح إلا بإذن المالك، والموصى له بالمنفعة: أما المالك، فلا بد من استئذانه؛ فإن التزوج تسلط على الاستمتاع، وذلك يؤثر في الملك، ولا بد من استئذان الموصى له بالمنفعة [فإن ذلك يؤثر في استيفاء المنفعة] (2) .
وذهب بعض الأصحاب إلى أن إذن الموصى له بالمنفعة كافٍ، وهذا القائل يقول: إنما يفتقر نكاح العبد الخالص لمولاه إلى إذنه، لتعلق المهر والنفقة بالكسب، ولا معنى للنظر إلى ما في الوطء من [إنهاك] (3) القوى؛ فإن ذلك بعيد، غيرُ مدرك بالحس.
والدليل عليه أنه لو صح نكاحه، لم يكن للسيد أن يحجر عليه، ويكلّفه الاقتصادَ (4) ، والحكمُ في ذلك [مَيْلَ] (5) النفس، والنظر في الضارّ منه خوضٌ في التطبيب الذي لا ينتهي إليه نظر الفقيه، وهذا يقرب (6) من المأكل؛ فإن معظم [الاعتلال] (7) من الإكثار أو الإقلال في المطعم، ولا حجر على العبد فيه،
__________
(1) في الأصل: بالولد.
(2) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق. وعبارة الأصل: " ... الموصى له بالمنفعة في الملك، وذهب ... إلخ".
(3) في الأصل: إنها.
(4) الاقتصاد: أي في الوطء.
(5) في الأصل: مثل.
(6) كذا قرأناها بصعوبة.
(7) في الأصل: الأعلاك.(11/147)
[فالعهدة] (1) إذاً في افتقار النكاح إلى الإذن أنه إذا صح، تعلقت حقوقه بالكسب، والكسب مستحق للمولى.
فإذا تبين ذلك، فالمنافع والاكساب للموصى له، فليقع الاكتفاء بإذنه في النكاح.
فإن كان الموصى [بخدمته] (2) جارية، فلا بد في تزويجها من إذنهما جميعاً وفاقاً؛ فإن التزويج ينقُص من القيمة، وما ينقص من القيمة يؤثر في الملك لا محالة. ثم قال فقهاؤنا: الولي في التزويج الوارثُ، ولكن لا بد من رضا الموصى له، وهذا حسن ظاهر.
7396- ومما ألحقه الأصحاب بالقواعد المقدمة القولُ في [بيع] (3) الوارث العبدَ الموصَى بخدمته، وقد اختلف أصحابنا في ذلك على ما تقدم الشرح فيه.
فإن ملّكنا الوارثَ البيعَ، فلا شك في نفوذ إعتاقه.
فإن قلنا: لا ينفذ بيعه، فالذي قطع (4) به معظم الأصحاب أن إعتاقه ينفذ، ثم بنَوْا عليه أن العتق إذا نفذ، بقيت المنفعة مستحقةً للموصى له.
وقد ذكر شيخي وطوائف من الأئمة أن العبد المستأجر إذا عَتَق في أثناء مدة الإجارة، هل يملك فسخ الإجارة؟ فعلى وجهين، فالرأي في الإجارة القطعُ بأنه لا يملك الفسخ (5) .
فأما إذا كانت الوصية بالمنفعة، فهذه [منيحة] (6) ، [ويتجه] (7) في ذلك ترددٌ لمثابة الاستحقاق، والظاهر [أنْ لا خيار] (8) [في أن الاستحقاق يهدم] (9) كما إذا أُعتقت
__________
(1) في الأصل: فالعهد.
(2) في الأصل: بحق.
(3) في الأصل: جميع.
(4) وهو المعتمد الذي عليه الشيخان: الرافعي والنووي (ر. العزيز: 7/112، والروضة: 6/189) .
(5) وهو المعتمد (ر. العزيز: 7/112، والروضة: 6/189) .
(6) في الأصل: "قبيحة" (انظر صورتها) والمثبت من اختيارنا.
(7) زيادة من المحقق على ضوء عبارة الإمام في مثل هذه العبارات.
(8) في الأصل: أن الأخيار.
(9) كذا تماماً، لا تقرأ إلا هكذا. والعبارة قلقة، ولكن المعنى مفهوم من السياق والسباق، وهو =(11/148)
الأمة تحت زوجها الحر؛ فإن النكاح مؤبد عليها، وهو رق كما قال المصطفى صلى الله عليه، وإنما ثبت الخيار [للمعتَقة] (1) تحت العبد للخبر (2) .
ويجوز أن يقال: إذا أُعتق العبد الموصى له بخدمته أبداً، [يُخيّر] (3) كالأمة تُعتَق تحت العبد؛ فإنها لو عتقت تحت حر، [لرجع] (4) إليها حظ ظاهر في [الاستمتاع] (5) ، فلا ضرار إلا استمرار حكم النكاح. ولو أثبتنا حق الانتفاع للموصى له بعد الحرية، لكان دوام هذا الاستحقاق كالاسترقاق، وهذا يزيد على ما ينال [المعتقة] (6) من الضرار تحت العبد.
فإن قيل: إذا أثبتم الخيار، فهل يحتمل أن يقال: تنقطع الوصية من غير حاجة إلى خيار؟ قلنا: لم يصر إلى ذلك أحد من الأصحاب، وإذا كنا نثبت الوصية بالمنفعة على التأبيد والملك في الرقبة [بعدُ للموصي] (7) ؛ فلا يبعد أن تبقى المنفعةُ مستحقةً بعد زوال الملك، ولكن الخيار يعتمد الضرار، كما قدمناه.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
ثم من [قالى] (8) : نفقة الموصَى [بمنفعته] (9) على المالك، فإذا [أعتقه] (10) يتخلص
__________
= أن الظاهر أنه لا خيار للعبد المعتق واستحقاق الموصى له بمنفعته قائم، كما أنه لا خيار للمعتقة تحت حُرّ.
(1) في الأصل: المعتق.
(2) الخبر: يشير إلى قصة بريرة.
(3) في الأصل: مخير.
(4) في الأصل: فرجع.
(5) في الأصل: الاستحقاق، والمثبت من هامش الأصل، والمقصود بالحظ الظاهر في الاستمتاع أن يد السيد ارتفعت عنها، فلا يستطيع أن يأخذها عن زوجها، وأن يسافر بها كما كان له الحق في ذلك قبل عتقها.
(6) في الأصل: المعتق.
(7) في الأصل: بعد الموصى.
(8) في الأصل: ملك.
(9) في الأصل: فمنفعته.
(10) في الأصل: أعتق.(11/149)
من النفقة، وإن قلنا: النفقة على الموصى له، فالاستحقاق دائم عليه؛ فإن سبب الاستحقاق عليه ثبوت المنفعة له على التأبيد، وهذا المعنى دائم مع حصول الخدمة.
فرع:
7397- الصحيح من المذهب أنه لا يجوز (1) إعتاق الموصى بمنفعته عن الكفارة؛ لعجزه عن الكسب لنفسه، فأشبه ذلك عجزه عن الكسب بالزمانة.
ومن أصحابنا من قال: يصح إعتاقه عن الكفارة لكمال الرق والأطراف، فليقع النظر في ذاته وصفاته، لا في مصرف منافعه.
فرع:
7398- ذهب طوائف من أئمتنا إلى أن مكاتبة العبد الموصى بخدمته غيرُ صحيحة (2) ، فإنه ليس قادراً على أكساب نفسه لنفسه، وقال هؤلاء: يجوز كتابة العبد المؤاجَر في مدة الإجارة.
ومن أصحابنا من صحح الكتابة؛ تعويلاً على صرف الصدقات إليه، ويجب أن يكون في مكاتبة العبد الزمن هذا التردد.
ومن منع كتابة العبد الموصى بمنفعته رأى هذين التصرفين متناقضين. فعلى هذا من أوصى بالمنفعة، ثم [كاتب] (3) ، كانت الكتابة من الموصي رجوعاً عن الوصية بالخدمة، والذي قدمناه من منع الكتابة مفروض في الوارث إذا أراد مكاتبة العبد بعد استقرار الوصية بالمنفعة.
فرع:
7399- إذا غصب رجلٌ العبد الموصى بمنفعته أياماً، وعطل منافعه على مستحقها، فإنه يغرَم له أجرة المثل، من جهة أنه أتلف عليه المنافعَ المملوكة له.
ولو غصب غاصب العبد المستأجَر في أثناء المدة، وضيّع منافعه على المستأجر، فقد ذكرنا أن المذهب الصحيح أنه لا يغرَم شيئاً للمستأجِر، وإنما يغرَم أجر المثل للمالك المكري ويحط (4) عن المستأجِر قسطاً من الأجرة المسماة.
__________
(1) هذا هو المعتمد في المذهب (ر. العزيز للرافعي: 7/112، وروضة الطالبين: 6/189) .
(2) عدم صحة الكتابة للعبد الموصى بخدمته هو المعتمد في المذهب. (ر. روضة الطالبين: 6/189، والعزيز: 7/113) .
(3) زيادة من المحقق.
(4) يحط: أي المالك.(11/150)
والفرق بين الموضعين أن المنافع إذا لم تتلف في يد المستأجِر، فليست مضمونة عليه، بل هي محسوبةٌ على المكري، ثم [عهدة] (1) العقد توجب ما ذكرناه، وليس في الوصية بالمنفعة عوضٌ يفرض سقوطه في مقابلة تضييع المنفعة على الموصى له، فلا وجه إلا تغريم الغاصب قيمة ما يتلفه من المنفعة لمستحقها ومالكها، ومستحقُّها الموصى له.
فرع:
7399/م- إذا ذكَر للمنفعة وقتاً، لم يخف حكم التأقيت، وقد بان حكم التأبيد أيضاً.
فلو أوصى لإنسانٍ بمنفعة عبد، ولم يتعرض لتأقيتها، ولا لتأبيدها، فالذي ذكره الشيخ أبو علي في الشرح القطعُ بحمل ذلك على التأبيد؛ فإن العقود المطلقة القابلة للتأبيد محمولةٌ على التأبيد.
هذا ما ذكره، ولم أر في الطرق ما يخالف ذلك.
فصل (2)
قال: " فإن كان أكثرَ من الثلث، فأجازه الورثة في حياته، لم يجز ذلك إلا أن يجيزوه بعد موته ... إلى آخره " (3) .
7400- الوصية إذا كانت زائدةً على الثلث، فلو أجاز الوارث الزيادة قبل موت الموصي، فإجازته ملغاة لا أصل لها؛ فإنها [حدثت] (4) عنه قبل أن يثبت له حق الإرث، فكذلك لو استأذن الموصي ورثته، فأوصى وزاد، فتلك الزيادة لا تنفذ.
وهذا بمثابة ما لو أذن الشفيع لشريكه في بيع الشقص وإذا باع نثبت الشفعة [ولا] (5) أثر للإذن المتقدم.
__________
(1) في الأصل: عهد.
(2) من هنا بدأ عندنا نسختان: نسخة الأصل (ح) ، ونسخة (س) مساعدة.
(3) ر. المختصر: 3/162.
(4) في الأصل: حدوث.
(5) مزيدة من: (س) .(11/151)
وكذلك إذا قبل الموصى له الوصية في حياة الموصي، فقبوله مردود؛ فإنه لا يدخل وقتُ القبول ما لم [يمت] (1) الموصي، فهو على خِيرَته بعد موته. وإن قبل في حياته. فكذلك إن رد الوصية، فلا حكم لرده في الحياة. ولو كان يؤثر قبوله ورده في حياة الموصي لاشتُرط اتصالُ القبول بالإيصاء، وسيكون لنا إلى هذا [عودة] (2) في أثناء الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فصل
أورده صاحب التقريب، مضمونه يشابه الوصيةَ بالمنفعة على التأبيد، وله تعلق بالثلث ومقدارِه وتفصيل الإجازة.
7401- قال رضي الله عنه: إذا أوصى لإنسان بدينارٍ كلَّ سنة، ولم يذكر مقدارَ الدنانير، ومنتهى السنين، قال: تصح الوصية بالدينار الواحد في السنة الأولى؛ فإنه مضبوط لا شك فيه.
فأما بقية الدنانير في السنين المستقبلة، فقد ذكر صاحب التقريب فيها قولين: أحدهما - أن الوصية باطلة فيها؛ فإن ضبطها غير ممكن، ولا ندري كم مبلغها، لنقدر خروجها من الثلث، وقد يتفق معها وصايا، فلا يتحقق مبلغ حصة هذه الوصية في المضاربة، ولو صححناها، لبقينا في موجَبها أبداً.
هذا أحد القولين.
والقول الثاني - أنه لا تبطل الوصية في باقي السنين؛ فإن الجهالة لا تتضمن بطلان الوصايا، كالوصية بالمنفعة.
ومن قال بالقول الأول، (3 نفصل عن الوصية بالمنفعة، بأن قال: الوصية بالمنفعة 3) على التأبيد غايتها أن تقتضي احتساب العبد من الثلث، ولتقويم المنفعة
__________
(1) في الأصل: يجب.
(2) في (ح) : "مردّة".
(3) ما بين القوسين ساقط من (س) .(11/152)
جهةٌ أوضحناها، أما إخراج دينار في كل سنة من غير ذكر نهاية، فهو مشكل جداً.
ثم اختار (1) من القولين تصحيحَ الوصية، وقال مفرعاً على هذا:
7402- إذا ثبتت هذه الوصية، فلا يخلو: إما أن يكون في التركة وصايا سواها، أو لا يكون في التركة وصيةٌ غيرُها.
فإن لم يكن في التركة وصيةٌ غيرها، فلا شك أن الورثة لهم أن يتصرفوا في ثلثي التركة؛ إذ لهم رد الوصية في الثلثين، فأما الثلث، فهل ينفذ تصرفهم [فيه؟] (2) فعلى وجهين ذكرهما: أحدهما - ينفذ تصرفهم فيه، بعد إخراج الدينار الواحد؛ فإن مِلْكه متحقق، ولا يُدرى هل يستحق الموصى له في مستقبل الأعوام أم لا.
والوجه الثاني - أن الثلث يوقف؛ فإن الموصى له إذا قبل الوصية، فقد ثبتت، ولا نهاية لها، فلا وجه إلا وقفُ الثلث. فإن رأينا الوقفَ، فلا كلام، فإذا بقي من له الحق على مر السنين، حتى استوعب بالدنانير الثلث، فذاك.
فإن مات قبل ذلك، فبقية الثلث مردودةٌ على الورثة.
وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن الوصية بالدنانير إلى غير نهاية، كالوصية بثمار الأشجار من غير نهاية، فإذا صححنا الوصية بثمار الأشجار، ثم مات الموصى له بها، فالوجه إقامة وارثه في الاستحقاق مقامه.
7403- والغرض في ذلك يبين بفرض ثلاث مسائل: إحداها - الوصية بالمنفعة، فالمذهب الظاهر أن الموصى له إذا مات، قام وارثه مقامَه، وخلفه في الاستحقاق.
وفيه وجهٌ بعيد ذكرناه (3) .
وإذا (4) أوصى بثمار الأشجار، فتخصيص الاستحقاق به وقطعه عن الورثة يظهر
__________
(1) اختار: أي صاحب التقريب.
(2) سقطت من النسختين.
(3) في الأصل: ما ذكرناه.
(4) المسائل الثلاث التي فرضها هي: 1- الوصية بالمنفعة. 2- الوصية بثمار الأشجار. 3- الوصية بالدينار كل سنة. ففي هذه المسائل يظهر التدرج في قطع الوصية بعد موت الموصى له، ففي الوصية بالمنفعة هو وجه بعيد، وفي الوصية بثمار الأشجار يظهر بعض الظهور، وفي الوصية بالدينار يظهر جداً.(11/153)
بعض الظهور؛ فإنّ في الوصية بالثمار احتمالاً في أصلها.
وإذا أوصى بأن يُصرفَ إلى إنسان (1) كلَّ سنة دينار، [فمات] (2) ذلك الشخص، فيظهر في هذه (3) الصورة جداً انقطاعُ الوصية بموته، ويتجه أيضاً إذا صححنا الوصية أن يدوم الاستحقاق لورثته، ولهذا الإشكال في التفريع خرج قولٌ في إبطال الوصية.
ولو قيدَ الكلامَ بصرف دينار إليه كل سنة ما بقي، فلا شك في أن ذلك ينقطع بموته.
فإن صورنا المسألة في هذه الصورة، أو فرعنا على ما قطع به صاحب التقريب من حمل الوصية على الدنانير التي تكون على سني عمر الموصى له، فنقول: [نصرف] (4) الثلث على وجه الوقف، ونصرف إلى الموصى له ديناراً ديناراً، فإن استغرق الثلثَ في حياته، [فذاك] (5) . وإن مات، وقد بقي من الثلث بقية، رددناها على الورثة.
فإن قلنا: لا يُوقف الثلث، فالورثة يتصرفون فيه، ومهما استحق عند انقضاء سنة ديناراً، طالب الورثةَ به، وكان ذلك بمثابة ما لو اقتسم الورثةُ التركة، ثم ظهرت وصية.
وهذا فيه نظر؛ فإنه إذا ظهرت وصية تتبَّعْنا تصرَّفَ الورثة في الثلث [بالنقض] (6) ، فإن كان الأمر كذلك في مسألتنا، فلا فرق. وظاهر كلام صاحب التقريب أن تصرّفهم في الثلث ينفذ، ولا يُتْبَع بنقض.
وهذا فيه إشكال واحتمالٌ ظاهر، وبين المسألة التي نحن فيها وبين ظهور الوصية فرقٌ؛ من جهة أن [الدنانير] (7) تنقسم على أواخر السنين في هذه المسألة وتثبت ديناراً ديناراً، وليس كالذي [يبين] (8) أنه كان ثابتاً، ولم نعلمه.
__________
(1) عبارة (س) : إلى كل إنسان كل سنة.
(2) في الأصل: فاق.
(3) في الأصل: في أن.
(4) في الأصل: نقف.
(5) في الأصل: بذلك.
(6) في الأصل: فالنقض.
(7) في الأصل: الدينار.
(8) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، وساقطة من (س) .(11/154)
وجميع ما ذكرناه فيه إذا تجردت تلك الوصية، ولم يكن معها وصايا.
7404- فأما إذا أوصى بوصايا ومن جملتها الوصيةُ التي ذكرناها (1) ، فإن [جعل] (2) الوصية التي ذكرناها معلّقةً بعُمر الموصى له، فقد قطع صاحب التقريب بأن الثلث يُفضّ على مستحقي الوصايا في الحال، ولا نؤخر حقوقهم؛ فإنا لا نضبط مبلغ الوصية الأخرى، فلا وقف في حقوقهم، وإنما الاختلاف في وقف الثلث في حق الورثة إذا تجردت الوصية التي نحن فيها (3) ، والفرق أن الثلث إن وقفناه، فهو حق المتوفَّى، ومحل تبرعاته، فلا بُعد لو [حُلْنا] (4) بين الورثة وبينه، فأما إذا ثبتت وصايا ناجزة، فالثلث محلُّ حقوقهم، فيبعد أن نقف الثلث إلى أن نتبين منتهى هذه الوصية المجهولة، فإذا فضضنا الثلث على الدينار الذي انتجز من هذه الوصية في هذه السنة وعلى سائر الوصايا، فإذا انقضت سنة أخرى، استحق الموصى له ديناراً وضارب به أربابَ الوصايا، واسترد منهم ما يقتضيه التقسيط في ذلك القدر، ثم لا يزال يفعل ذلك في كل ما يستحقه حتى تنتهي الوصية.
وهذا الذي ذكره بيّنٌ إذا كانت الوصية مقيّدة بحياة الموصى له، فأما إذا لم تتقيّد بحياته، ورأينا أن نقيم ورثته مقامه، فهذا مشكلٌ لا يُهتدى إليه، وحاصله مضاربةُ [أقوام] (5) حقوقُهم مقدرة بما لا نهاية له.
ولو قيل: إنه لا يضارب إلا بمقدار الثلث، ويبطل ما وراءه، لانتفاء النهاية عنه، لم يبعُد. وهذا الإشكال في مضاربة الوصايا؛ فإن الورثة إذا [ردّوا الوصية إلى الثلث] (6) انحصرت فيه، والغموض في مضاربة ما لا نهاية له أقداراً متناهية، فيجوز
__________
(1) هذا التفصيل متصل بقوله السابق: إذا ثبتت هذه الوصية، فلا يخلو إما أن يكون في التركة وصايا سواها أو لا يكون.
(2) في الأصل: فصَلَ.
(3) في (س) : نشأ منها.
(4) في النسختين: حملنا.
(5) في الأصل: أقدام.
(6) في الأصل: ردوا إلى الوصية إلى الثلث.(11/155)
أن تبطل الوصية في الزائد على الثلث، ويكون هذا في هذه المسألة مناظراً لمذهب أبي حنيفة (1) في رده ما يزيد من الأجزاء على الثلث إذا رُدّت الوصايا إلى الثلث، وهذه مناظرة لفظية، وإلا [فما] (2) ذكره أبو حنيفة باطل؛ فإنه أبطل السدس من الوصية بالنصف، وهو [مقدّر] (3) ، وإنما الغموض في هذه المسألة من جهة انتفاء النهاية عن الوصية.
وينقدح أن يقال: يضارب بمقدار المال كله، حتى كأنه أوصى له بكل المال، ثم ردت الوصايا إلى الثلث، فإنا نثبت المضاربة بالزائد على الثلث.
ومنتهى الأمر تقدير الوصية بجميع المال، ثم هذا التضارب يقع شيئاً شيئاً.
كذلك قال صاحب التقريب.
ويجوز أن يقال: يوقف له القدر الذي ذكرناه، إما في تقدير الثلث وإما في تقدير الكل، بحكم المضاربة.
وقد قال صاحب التقريب: إذا قال: ادفعوا إلى فلان في انقضاء كل سنة ديناراً إلى عشرين سنة، فهل نقف هذا القدر له في معارضة الوصايا؟ فعلى وجهين.
7405- فليتأمل المتأمل أطراف هذه المسألة ولْيقْضِ العجبَ منها، وفي [اختباط] (4) تفاريعها يظهر للإنسان بطلان الوصية، وليت شعري ما قول الأصحاب فيه إذا قال: أوصيت لفلان بما لا نهاية له من الدنانير؟ هذا فيه تردد، فينقدح إبطال الوصية؛ فإنها [وقعت] (5) بغير ممكن، ويجوز أن يقال: هي وصية بالمال كله، والعلم عند الله عز وجل.
__________
(1) ر. المبسوط: 28/121 وما بعدها.
(2) في الأصل: بما.
(3) في الأصل: مقدار.
(4) في الأصل: "احتياط ".
(5) في الأصل: "رفعت".(11/156)
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال أعطوه رأساً من رقيقي ... إلى آخره" (1) .
7406- إذا قال الموصي: أعطوا فلاناً رأساً من رقيقي، فمضمون هذا اللفظ الوصيةُ له بمملوك من جملة مماليك، ومقصود الفصل بيانُ مقتضى هذا اللفظ، وإيضاحُ المعنى الذي يكون وفاء في المطلوب منه، فإذا كان للموصي عبيد وإماء، فأعطى الوارثُ الموصى له عبداً أوْ أمةً من جملة رقيقه، فقد خرج عن موجَب الوصية ومقتضى لفظها؛ فإن الرقيق يتناول الذكر والأنثى.
ولو كان في رقيقه خنثى، فالمذهب الصحيح أنه مجزىء، وبذلُه كافٍ؛ فإن اسم الرقيق يتناوله.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أنه لا يجزىء، ولا يكون بذله وفاءً باللفظ؛ فإن هذا الاسم يتناول ما يفهم منه [في] (2) العرف، والخنثى يندر اتفاق وجوده، فلا يتناوله الاسم العام.
وهذا عريّ عن التحصيل، لا اعتداد به؛ فإن الاسم العام، وهو رأس من الرقيق يتناول الخنثى تناوله للذكر والأنثى، ولو قال الرجل: [مماليكي] (3) أو أرقائي أحرار، دخل الخنثى [بحيث يعتِق] (4) ، فإن [منع] (5) صاحب التقريب [ذلك] (6) ، كان في نهاية البعد، وإن سلّمه، وفرّق بأن المماليك إذا [تناولت] (7) الجميع عموماً،
__________
(1) ر. المختصر: 3/162.
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: ما يمكن.
(4) في الأصل: يجب العتق.
(5) في الأصل: يقع.
(6) في الأصل: وكل.
(7) في الأصل: تنازلت.(11/157)
لم يبعد اشتمال اللفظ على الخنثى مع جريانها على مقتضى عمومها؛ فإن اللفظ المُجرى على حقيقة عمومه يتناول [النادر] (1) مع تناوله لغيره، وإذا قال: رأساً من رقيقي، فحمل على النادر الذي لا يخطر بالبال دون غيره، كان بعيداً، فهذا الفرق لا حاصل له؛ فإن قوله: رأساً من رقيقي وإن كان مقتضاه بذلَ واحدٍ، فهو مضاف إلى لفظ جامع شامل على أصل، فهذا الوجه (2) .
7407- ولو قال: أوصيت لفلان برأسٍ من رقيقي، ولم يكن له رقيق حالة [الإيصاء] (3) ، ولم يمت عن رقيق أيضاً، فالوصية باطلة، فإنه أضاف الموصى به إلى أرقائه، فإذا لم يكن له مماليك، فلا أصل ولا مستند للفظه.
ولو قال: أوصيت لفلان برأس من رقيقي، ولم يكن له حالة الإيصاء رقيق، ثم ملك مماليك، ومات عنهم، فالمذهب أن الوصية تنفذ في واحد منهم.
ومن أصحابنا من قال: الوصية مردودة؛ فإن لفظه حالة الإيصاء لم يجد متعلقاً فلغَى وبطل، ثم لا أثر لوجود الأرقاء بعد ذلك، وهذا يضاهي ما لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي، وكان لا يملك إذ ذاك شيئاً أصلاً، ثم تموّل ومات عن مال، فالأصح أن ثُلث ماله مصروفٌ إلى وصيته.
ومن أصحابنا من قال: الوصية مردودة؛ لأنها لم تتناول مورداً، [ولم] (4) تثبت بمتعلَّقٍ حالة الإنشاء.
ولم يختلف أصحابنا أنه لو كان يملك درهماً، فقال: أوصيت لفلان بثلث مالي، فخوله الله تعالى مالاً جماً، ومات، فثلث جميع ما خلف مصروف إلى وصيته.
هكذا ذكر الشيخ أبو علي في صورة الوفاق والخلاف في شرح التلخيص.
__________
(1) في الأصل: النار.
(2) الوجه: خبر هذا. والمعنى أن هذا هو الوجه المعتمد.
(3) في الأصل: الإحياء.
(4) في الأصل: أو لم تثبت.(11/158)
فعلى هذا لو كان قال؛ أعطوه رأساً من رقيقي، وكان يملك إذ ذاك أرقاء، ثم ملك غيرهم ومات، فللوارث أن يسلّم رأساً من الذين استفادهم بعد الإيصاء.
ولو قال: أعطوه رأساً من مماليكي، وكان لا يملك إلا مملوكاً واحداً ومات على ذلك، ولم يخلّف غيرَه من المماليك، فهذا اللفظ فيه خبلٌ، واضطراب؛ من جهة أنه أضاف المملوك الموصى به إلى مماليكه، وليس له جمع من المماليك يصح إضافة المملوك الموصى به إليهم، ولكن الذي يقتضيه المذهب القطع بتنزيل وصيته على ذلك المملوك الواحد، وإن لم نجد في ملكه جمعاً من المماليك، يضيف ذلك العبدَ إليهم؛ فإنا وجدنا متعلقاً لوصيته، فاستقلت به، ولا مبالاة بأن يختل بعد هذا المتعلق لفظهُ.
ولم يختلف أصحابنا في أنه إذا أوصى برأسٍ من رقيقه، وكان له جمع من الأرقاء، فماتوا إلا واحداً منها، نزلت الوصية عليه.
7408- ومما يتصل بمقصود الفصل، وهو المعتبر فيه -وعلى المنتهي إلى هذا الموضع من هذا الفصل أن يتامل ما نلقيه إليه- أنَّ هذه الوصية مفروضةٌ فيه إذا أطلق الموصي لفظه، وأرسل وصيته، وحاول أن تنفذ فيما ينطلق عليه لفظُه، ولم يضمر إرادةَ تعيينٍ من رقيقه، فمسائل الفصل مدارةٌ على هذه القاعدة، والغرض بيان مقتضى هذه الصيغة عند الإطلاق.
وعلى هذا قال الأئمة: لو أوصى برأسٍ من رقيقه، وكان له جمع من المماليك، فانتحى الوارث معيَّناً منهم، واعتمد أحسنهم قدراً، أجزأ ما يُخرجه عن الوصية؛ فإن اسم رأسٍ من رقيق يتناوله، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
فإن قال الموصى له: لم يُرد الموصي هذا، لم يردّه، على أن نُفهمه معنى عموم اللفظ وشمول الصيغة ونبين له أن المسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يعيّن الموصي بلفظه أحداً من مماليكه، وإنما أراد أيَّ واحدٍ كان من أرقائه.
ولو قال الموصى له: إنه أضمر واحداً منهم، وإن أبهم لفظه، فليس يبعد أن يضمر مع الإطلاق، وإن كان لفظه عاماً؛ فإن سيد المماليك لو قال: واحد منهم(11/159)
حُرٌّ، ثم زعم أنه عنى عند اللفظ متعيناً منهم، تبيّنا نزول العتق عليه.
وكذلك إذا قال الزوج: واحدةٌ من نسائي طالق. وأضمر عند إطلاق هذا اللفظ واحدةً متعينة منهم في نفسه، فهي المطلقة.
وإن أطلق إبهام العتاق والطلاق، ولم يضمر معيناً، خوطب بإيجاب التعيين عليه، على ما ستأتي هذه المسائل مشروحةً في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
7409- فإذا وقع التنبيه لها، فنقول: الموصى له غير بعيد عن الاحتمال، ولكن لا نقبل دعواه، ما لم يعيّن عبداً، وما لم يقل هذا مَعْنِيُّه ومرادُه؛ فإن الدعوى المبهمة مردودة ممّن يبغي مالاً.
ثم إن عين، فالقول قول الورثة، فإن قالوا: لم يعيّن، ولم يُضمر تعييناً أصلاً، وإنما أبهم اللفظ ليُجرى على [مقتضى] (1) عمومه، فالرجوع إلى أقوالهم.
وإن فرض عرْضُ يمين، فالقول في صيغتها يأتي في سياق الكتاب، فليس تفصيلها من غرضنا الآن.
7410- ولو قال: اشتروا عبداً من مالي وسلموه إلى فلان، فاشترى الورثة عبداً معيناً، وسلموه إلى الموصى له، وقع الاكتفاء به في قول أصحابنا المعتبرين؛ تعلّقاً بما ذكرناه من مقتضىً، وتشبيهاً لهذا بما لو قال: أعطوه رأساً من رقيقي، وكان فيهم معيب [فقصدوه] (2) وأخرجوه إلى جهة الوصية.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الوصية إذا كانت متقيّدة بالشراء، فلا يقبل [فيها] (3) معيب؛ فإن الشراء يقتضي سلامة المشترَى، ولذلك يثبت الرد بالعيب.
فإذا قال: اشتروا عبداً أو مملوكاً، وسلموه إلى فلان، فقد أوصيت [له به] (4) ،
__________
(1) في الأصل: يقتضي.
(2) في الأصل: يقصدوه.
(3) في النسختين: منها.
(4) في الأصل: لزيد.(11/160)
فربْطُه المملوكَ الموصى به بجهةٍ مقتضاها طلب السلامة يقتضي السلامة.
وهذا لا أصل له؛ فإن الوصية تستقل بموجب اللفظ، واللفظ عام، كما سبق تقريره، فلئن كان مقتضى العهدة في البيع ثبوت خيار الرد، فلا تعلق لهذا بوضع الوصية، والدليل عليه أن الرجل إذا وكل وكيلاً ليشتري له مملوكاً، وأطلق التوكيل ولم يقيّده بالسلامة، فاشترى الوكيل عبداً، ثم اطلع على عيب به، وكان العبد مع ذلك العيب يساوي الثمن المذكور، فالبيع يصح عن الموكل؛ حملاً على مقتضى الاسم المطلق، ثم عهدة العقد تقتضي ثبوتَ الخِيَرة في الرد، فلزم تنزيل الوصية على العبد المشترى وإن كان معيباً، ثم لا عهدة في الوصية حتى نفرض رد العبد فيها.
7411- ومما يتعلق بتحقيق الفصل أنه إذا قال: أوصيت لفلان برأسٍ من رقيقي، وكان له مماليك، فماتوا قبل [موت] (1) هذا الموصي، انقطعت الوصية.
وكذلك لو ماتوا بعد موت الموصي، وقَبْل قبول الموصى له، فلا فائدة للحكم ببقاء الوصية؛ فإنها لو ثبتت، لكانت متعلقة بعبد من العبيد الذين خلّفهم الموصي، فإذا ماتوا موتاً لا يُعقب ضماناً على آخر، فقد فاتت الوصية في أعيان العبيد، ولم يُعقب موتُهم أَبْدَالاً، وعَسُر الوفاء، ونزل هذا منزلة ما لو ماتوا قبل وفاة الموصي.
7412- ولو أوصى برأس من رقيقه، فقُتِل أرقاؤه في حياته قتلَ ضمان، فاتت الوصية؛ فإنّ نَفَذ (2) الوصية ما بعد الموت، وقد [مات] (3) ولا رقيق له.
ولو قتلوا بعد موته، وقبل قبول الموصى له، نزلت قيم العبيد القتلى منزلة العبيد بأنفسهم، فيعيّن الوارث [قيمة] (4) من شاء من المماليك.
__________
(1) في الأصل: ثبوت.
(2) في (س) : مقرّ. واخترنا ما في الأصل: (نَفَذَ) لما عهدناه في أسلوب الإمام من استخدام المصدر على وزن (فُعول) بصيغة (فَعَل) مثل صَدَر مكان صدور، وحدَث مكان حدوث، ونفذ مكان نفوذ.
(3) في الأصل: فات.
(4) في الأصل: فيه.(11/161)
وعلى الناظر تأملٌ في هذا؛ فإن الأقوال [مختلفة] (1) في أن الملك في الموصى به متى يحصل للموصى له؟ ففي قولٍ يحصل الملك بنفس موت الموصي، ويستقر بالقبول.
وفي قولٍ يقف الأمر على القبول، فإن قُبل، تبيَّنا استنادَ الملك إلى موت الموصي، وإن ردّ الموصى له الوصية، تبيّنا انتفاء الملك أصلاً، ومسألتنا مفروضة [فيه] (2) إذا قُتل العبيد، وقَبِل الموصى له الوصية بعد قتلهم، [فيستدّ] (3) على القولين المذكورين صرفُ قيمة عبد إلى حقه؛ فإنا نتبيّن على الوقف، أو نحكم على تحقق أن عبداً من العبيد قُتل ملكاً للموصى له.
وفي أصل المسألة قولٌ ثالث، وهو أن الملك يحصل للموصى له بالقبول، فعلى هذا يقع قبوله [بعد] (4) فوات رقاب المماليك، والوصية [بواحدٍ] (5) منهم، فقد يُشْكل ورود الملك على قيمة عبد ابتداء، ولكن أطلق الأصحاب ما حكيته، والممكن منه أنا وإن حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول، فللموصى له حق في الموصى به قبل القبول.
وآية ذلك أنه يستبد بتملكه، ولا يقدر أحد على إبطال هذا الحق عليه، وليس كحق القبول في البيع والهبة بعد الإيجاب من الموجِب؛ فإن الموجِب لو أراد بعد التلفظ بالإيجاب أن يُبطل إمكان القبول، تُصوِّر ذلك منه، ولا يتصور من الورثة قطع حق القبول، فخرج منه أنا وإن حكمنا بأن [القبول] (6) يستعقب الملك، فلسنا ننكر
__________
(1) في الأصل: مختلف.
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: "فيستمر". وفي (س) : فيستتم. والمثبت اختيار من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والأوفق للمعنى؛ فإن (يستد) معناها (يستقيم) ؛ فهي لا شك أوفق من (يستمر) التي تصحفت إليها على كثير من النساخ.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: واحد.
(6) في النسختين: المقبول.(11/162)
ثبوت حق الموصى له قبل القبول، فالحقوق اللازمة الماليّة إذا تعلقت بأعيانٍ (1) ، لم يمتنع انتقالُها من الأعيان إلى أبدالها، كحق الموصى [له] (2) ، فهذا هو الممكن.
ولا يبعد عن القياس أن يقال: إذا حكمنا بأن القبول يستعقب الملك، تسقط الوصية [و] (3) تفوت بفوات الأعيان قبل القبول، وهذا ابتداء احتمال من طريق النظر، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، فلا (4) اعتداد به.
7413- ولو قتل العبيد بعد موت الموصي وقبل القبول إلا واحداً منهم، فالذي ذكره أئمتنا في الطرق أن للورثة أن يصرفوا الوصية إلى قيمة [قتيلٍ] (5) ، كما لو قتلوا بأجمعهم، ولهم إخراج العبد الباقي.
ووجه ما قالوه أن [القتلى بمثابة] (6) الأحياء في بقاء الوصية؛ إذ لو قتلوا، لكانت الوصية قائمة، فبقيت خِيرَةُ الورثة، ولا فرق بين الحي الباقي وبين [القتلى] (7) .
وقطع العراقيون قولهم بأنه يتعين على الوارث تسليم العبد الباقي، وإن كان لو قتلوا جميعاً، لعيَّنُوا [أيَّةَ] (8) قيمةٍ شاؤوا، واعتلّوا بأن قالوا: الأصل في الوصية إخراج (9 رأسٍ من الرقيق، فما دام ذلك ممكناً، فالوفاء بحق الوصية إخراج 9) رقيق؛ فإن فاتوا من عند آخرهم، أقمنا الأبدال لتعلق الوصية بالأعيان مقام الأعيان.
وهذا الذي ذكروه فقيه (10) متجه، وما ذكره أصحابنا المراوزة ممكن غيرُ بعيد.
__________
(1) (س) : بالأعيان، لم يمتنع المرجوع من الأعيان إلى إبدالها.
(2) سقطت من النسختين.
(3) زيادة من (س) .
(4) (س) : على اعتداد فيه.
(5) في الأصل، كما في (س) : القتيل.
(6) في الأصل: أن القتل عليه بمثابة ...
(7) في الأصل: القتل.
(8) في الأصل: به.
(9) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(10) (س) : غير متجه.(11/163)
7414- ولو أوصى بعبد معيَّنٍ لإنسانٍ، فقُتل ذلك العبد قبل موت الموصي قَتْلَ ضمان، فقد فاتت الوصية بفوات العبد، ولا تعويل على القيمة؛ فإنه لم يوص (1) بالقيمة، ولما قتل العبد، لم يقع مثلُه في وقتٍ ثبت فيه ملكُ الموصى له، أو حق تملكه.
فلو قتل بعد موت الموصي وقبل القبول، فإذا قبل الموصى له، كانت القيمة له، وهذا خارج على ما قدمناه من قول الأصحاب.
7415- وقد نجز الغرض في الفصل المفروض فيه إذا قال: أعطوه رأساً من رقيقي، وتبين أن شرط هذه الوصية أن يخلّف أرقاء، أو رقيقاً، كما بينا ذلك مفصلاً.
7416- فلو قال: أوصيت لفلان بعبد من مالي، أو قال: أعطوا فلاناً رقيقاً من مالي، فلا يشترط في صحة هذه الوصية أن يخلف مملوكاً، ولكن لو لم يخلف مملوكاً أصلاً، اشترينا من الثلث مملوكاً، وصرفناه إلى جهة الوصية.
ولو خلف مملوكاً [أو] (2) مماليك، ولفظ وصيته: أعطوا فلاناً عبداً من مالي، فلو أراد الورثة أن يشتروا عبداً ويسلموه إلى الموصى له، فالذي صار إليه المحققون أن لهم ذلك، ولا يتعين عليهم إخراج عبد من عبيد التركة؛ فإنهم لو لم يكونوا، لاستقلت الوصية في مكان تحصيل العبد من المال، فلا أثر [لوجود العبيد ولعدمهم] (3) .
ورأيت في بعض التصانيف رمزاً إلى أنه يتعين تسليم عبد من الموجودين، إذا كانوا في التركة، فإن لم يكونوا، فتحمل الوصية حينئذ [على] (4) تحصيل العبد من التركة.
وهذا غير معتد به، ولا سبيل إلى عد مثله من المذهب.
__________
(1) (س) : فإنه لو فرض، ولو قتل العبد لم يقع مثله.
(2) في الأصل: له.
(3) في الأصل: "فلا أثر لوجوه السيد واحد منهم".
(4) سقطت من النسختين.(11/164)
فصل
قال: " ولو قال: شاةً من مالي ... إلى آخره " (1) .
7417- إذا أوصى بشاةٍ من ماله، فالمذهب الذي عليه التعويل أن اسم الشاة ينطلق على الذكر والأنثى، فلو أخرج كبشاً أو تيساً أجزأه؛ فإن الهاء في الشاة ليست هاء التأنيث، وإنما هي هاء التوحيد، فيما يتميز الواحد فيه عن الجمع بالهاء، على قياس التمر والتمرة، والجوز والجوزة، [فقولك] (2) شاة أصله شاهة، ويتبين ذلك بقولك في التصغير شويهة، والتصغير يرد المحذوف إلى أصله.
هذا هو المذهب.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فحمل الشاة على الأنثى. ثم لا خلاف أن الضانية والماعزة، مندرجان تحت الشاة، فيجوز للوارث أن يخرج من أي نوع شاء، ولو أخرج سخلة، فظاهر النص أنها تجزئه، وهو الذي قطع به صاحب التقريب وأئمة العراق، ومعظم المراوزة.
وذكر الشيخ أبو بكر في مجموعه في طريقة القفال، [في روايةٍ أن] (3) السخلة لا تجزىء؛ فإن اسم الشاة لا يتناولها، كما أن اسم الرجل والمرأة لا يتناولان الطفل.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه في الوصية بالشاة: " لو أخرج الوارث صغيرة، أجزأت "، فحمل الشيخ أبو بكر (4) الصغيرة على جذعةٍ من الضأن صغيرة الجثة، وهذا الذي ذكره وإن كان له اتجاه على حالٍ، فهو خلاف ما صرح به الأصحاب أجمعون في طريقهم؛ فإنهم متفقون على إجزاء السخلة، وذلك أن اسم الشاة يتناول
__________
(1) ر. المختصر: 3/162.
(2) في الأصل: فقد ذكر.
(3) في الأصل: من عقد نفسه فإن.
(4) الشيخ أبو بكر: المراد به الصيدلاني، كما سيصرّح بذلك بعد سطور.(11/165)
في اللسان ما يعد من جنس الغنم، والسخالُ من جنس الغنم، ويكمل بها نصاب الجذاع [والثنايا] (1) في الزكاة، فلا اغترار [بما ذكره] (2) الصيدلاني، والتعويل على الجنس كما [ذكرناه] (3) ، ثم إن جرى جارٍ على ما رآه (4) اعتُرِض له بالجذعة من المعز؛ فإنها غيرُ مجزئة في الضحايا، والظاهر أنها مقبولة في الوصية بالشاة. [فإنها منزلة على مرتبة السخال والجذاع، والله أعلم] (5) .
7418- والكلام في الفرق بين أن يقول: شاة من غنمي أو شاة من مالي، والكلام في موت الشياه وقتلها، والفرق بين قتل جميعها وبقاء بعضها كما ذكرناه في الأرقاء، فلا معنى لإعادة ما تقدم. وإنما نذكر في كل فصل ما يتجدد فيه، والقول في المعيبة والسليمة، كما سبق.
7419- ولو أوصى لإنسان ببعيرٍ، فالنص أنه محمول على الذكر، لا تجزىء الناقة فيه.
وقد ذهب طوائف من أئمتنا إلى أن الناقة مقبولةٌ، فكان هذا منهم قولاً مخرَّجاً، وهو موافقٌ للغة؛ فإن من كلام أئمة اللسان أن البعير من الإبل، كالإنسان يتناول الذكر والأنثى، والجمل كالرجل، والناقة كالمرأة. هذا وضع اللسان.
وما ذكره الشيخ أبو بكر في أن السخلة لا تجزىء عن الشاة الموصى [بها] (6) على الإطلاق يظهر (7) في البعير؛ فإنه قد يبعد حمله على فصيلٍ وحُوارٍ [ومن] (8) قبل
__________
(1) في الأصل: والبقايا.
(2) في الأصل: ما ذكرناه. والمثبت تصرف من المحقق. وأما (س) : فلا أثر لما ذكره الصيدلاني.
(3) في الأصل: ذكره.
(4) ما رآه: الضمير يعود على الصيدلاني، والاعتراض واضح إن شاء الله.
(5) زيادة من: (س) .
(6) في الأصل: مهما.
(7) في الأصل: ويظهر.
(8) في الأصل: وقد. والمثبت تقدير منا. وعبارة (س) مضطربةٌ فيها سقط هكذا: يبعد حمله =(11/166)
السخال في الغنم طرَدَ مذهبَه في الفُصلان ولم يُناقَض.
ثم قد ذكرنا أن مذهب جماهير الأصحاب أن الشاة مترددة بين الذكر والأنثى، والهاء للتوحيد، وما يخالف هذا بعيدٌ.
7420- واشتهر خلاف الأصحاب في الوصية بالبقرة والبغلة، فذهب بعضهم إلى أن البقرة محمولة على الأنثى، وكذلك البغلة، وذهب آخرون إلى أنها مترددة بين الذكر والأنثى تردد الشاة، ورأيت الطرق متفقةً على أن الكلب محمولٌ على الذكر من جنسه، لا غير.
وهذه الفصول المتداخلة تقتضي ترتيباً، فنقول:
ما لا يتخيل فيه التأنيث ويجري في قبيله تمييز الواحد عن الجمع بالهاء، فالمذكور بالهاء واحدٌ من الجنس، وهذا كالجوزة والتمرة واللوزة والشجرة والنخلة ولا [تعويل] (1) على ما يُذْكر في النخيل من الذكور والإناث، والجنس الذي تتحقق فيه الذكورة والأنوثة من جهة الخلقة ينقسم، فمنه ما يتميز فيه الذكر عن الأنثى بالهاء، مع اتحاد البناء، وهذا بمثابة الكلب والكلبة، والحمار والحمارة، فالاسم المذكور مع الهاء الأنثى، ومن غير هاءٍ للذكور. وعليه (2) يخرّج قول الأصحاب في حمل الوصية [بالكلب] (3) على الذكر، وإن خطر لإنسانٍ فيه إشكال، فسببه [ردّ] (4) الاسم إلى العجمية، وليس في لغة العجم فرق بين الذكر والأنثى.
فأما ما لم يثبت في اللسان فيه [فرق] (5) بين الذكر والأنثى بالهاء ثبوتاً متحققاً
__________
= على فصيل وجوب قبل السخال في الغنم، طرد مذهبه في الفضلا.
(1) في الأصل: تحويل.
(2) في الأصل: بدون واو.
(3) في الأصل: بالطلب.
(4) في الأصل: بردّه.
(5) في الأصل: رق.(11/167)
منقولاً، [ففيه] (1) اختلاف الأصحاب، وهذا ينقسم: فمنه ما غلب منه إرادة التوحيد، حتى لا يكاد العرب تفهم منه التأنيث، وهو كالشاة، وفيه ما لا يبعد فهم التأنيث منه، وهو كالبقرة والبغلة، [فظهر] (2) الخلاف في البقرة والبغلة [للتردد] (3) بين التوحيد والأنوثة، وبُعد الخلاف في الشاة.
فهذا ما يجب ضبطه في هذه المسائل.
7421- ولو أوصى لإنسانٍ بدابةٍ، فاسم الدابة في اللسان ينطبق على ثلاثة أجناس: الخيل، والبغال، والحمير، ولا يندرج تحتها الإبل، وإن كانت [مركوبة] (4) ، وهذا متفق عليه، ومعناه في اللسان واضحٌ، لا إشكال فيه.
ثم تردد أئمتنا في لفظ الدابة، إذا جرت في [مصر، وقد] (5) قيل: إن أهلها لا يفهمون منه إلا الحمار، فلو فرضت بلدة لا يفهم أهلها من الدابة إلا الفَرَس، نفرض (6) الكلامَ [على] (7) ما يتحمل اللفظ على موجب اللسان ليتردّد بين الأجناس الثلاثة (8) : الخيل، والبغال، والحمير، أو يُحمل اللفظ على موجب عرف المكان؟ فيه تردد للأصحاب: فمنهم من لم يبال بالعرف [لظهور] (9) معنى اللسان، ومنهم من حمل اللفظ على موجب عرف المكان؛ فإن العرف قرينة الألفاظ.
7422- ويتصل بهذا الفصل أن ألفاظ العقود في النقود قد تحمل على الدراهم
__________
(1) في الأصل: وفيه.
(2) في الأصل: فظاهر.
(3) في الأصل: المتردد.
(4) في الأصل: في كونه.
(5) في الأصل: في مصروفة.
(6) نفرض الكلام ... إلخ جواب (فلو فرضت بلدة) والاستفهام مقدّر.
(7) مزيدة من المحقق.
(8) عبارة (س) : ففرض الكلام ويحمل اللفظ على موجب اللسان لتردد بين الأجناس الثلاثة ... إلخ.
(9) في الأصل: بظهور.(11/168)
المغشوشة إذا كانت بيّنة العيار جاريةً في المعاملات، وقد ذكرنا أن الإقرار بالدراهم محمول على المطبوع من النقرة، وذكرت وجه ذلك على ما ينبغي، ولم أر للأصحاب في الوصية بالدراهم شيئاً، ووجدت صَغْوَهم الأظهرَ إلى تنزيل ألفاظ الوصايا منزلة ألفاظ المقرّين (1) ، ولكن لا يبعد عن الاحتمال عندي صرف الوصية بالدراهم إلى الدراهم الجارية في المعاملات، والظاهر إجراء الوصية مجرى الإقرار، والعلم عند الله تعالى.
وتمام القول في حمل الألفاظ على العرف يأتي في كتاب الأَيمان، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو قال: أعطوه كلباً من كلابي ... إلى آخره " (2) .
7423- الوصية بالكلب الذي يجوز اقتناؤه صحيحة، والكلب الذي لا يُقتنى لا تصح الوصية به، وقد فصلنا في كتاب البيع ما يصح اقتناؤه، وما لا يحل اقتناؤه، وذكرنا تفصيلاً في الجرو الذي ينتفع به إذا كبر.
والقدر الذي يُكتفى به هاهنا ما ذكرناه من الرجوع إلى جواز الاقتناء، (3 وعماد جواز الاقتناء 3) الانتفاع المشروع، ثم البيع وإن كان ممتنعاً، فالوصية جائزة؛ فإن البيع يستدعي الملكَ المطلقَ التامّ، والوصية لا تقتضي ذلك، بل أقرب معتبر فيها الوراثة، فكل ما يتعلق به حقُّ الإرث تتعلق الوصية به إذا انتفع الموصى له انتفاع الوارث.
وهذا فيه احتراز عن القصاص [وحدّ القذف] (4) ؛ فإن الوارث ينتفع به من جهة
__________
(1) (س) : الألفاظ المفروضة.
(2) ر. المختصر: 3/163.
(3) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(4) في الأصل: وجه الفرق.(11/169)
شفاء الغليل، وهذا لا يحصل للموصى له، والوارث يخلف الموروث في الانتفاع بالكلب المنتفع به، والموصى له بمثابة الوارث، وهذا يجري مطرداً في الأعيان النجسة التي يجوز الانتفاع بها، كالزبل والخمرة المحترمة، والجلدِ القابلِ للدباغ قبل الدباغ، [فالوصية] (1) جائزة بهذه الأشياء؛ تعويلاً على تعلق استحقاق الوراثة بها مع التقييد الذي قدمناه.
ثم إن قال: أوصيت لفلان بكلب من كلابي، وله كلاب، فالوصية نافذة.
ولو قال: أوصيت لفلان بكلبٍ من مالي، ولم يكن له كلاب، فالوصية باطلة، فإن سبيل تقدير صحة الوصية ابتياع كلبٍ، وتسليمه إلى الموصى له، وهذا لا سبيل إليه؛ فبطلت الوصية.
7424- ومما يتعلق بمقصود الفصل كيفية اعتبار خروج الكلب من الثلث: قال الأئمة: إن كان له مال سوى الكلب، فالكلب خارج، وإن كان لا يملك إلا دانقاً، ولم يخلف على ورثته غيرَ ذلك الدانق (2) ، وعللوا بأن ما خلّفه من المال، وإن قل قدرُه، فهو أعلى قدراً من الكلاب؛ فإنها لو قُتلت، لم تُضمن، ولا يصح بيعها.
وعلى هذا لو أوصى بكلابه، وخلف درهماً، أو أقلَّ، فالكلاب بجملتها مسلمةٌ، والوصية بها نافذةٌ.
وذكر العراقيون هذا المسلك، وحكَوْا وجهاً آخر معه، وهو أنه لا أثر لوجود المال وعدمه في الوصية بالكلاب، حتى لو كان في يده كلب، وخفف مالاً جمّاً، وقد أوصى بذلك الكلب، فالوصية تقع بثلث الكلب، وذلك أن الكلب ليس من قبيل الأموال، وليست الأموال من جنس [الكلاب] (3) ، والثلث المعتبر من ثلاثة أجزاء،
__________
(1) في الأصل: بالوصية.
(2) مكانها بياض في (س) .
(3) في الأصل: الكلام.(11/170)
فإذا لم يكن الكلب من جنس المال، فعدُّه جزءاً من المال محال، فلا أثر إذاً للمال كان [أو] (1) لم يكن.
وهذا الذي ذكروه بعيد، لا أصل له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أوصى بكلب أو كلاب، ومعه شيء من المال، فأما إذا لم يكن له إلا الكلاب، فأوصى بكلب منها، فللأصحاب في المعتبر الذي إليه الرجوع في الخروج من الثلث، أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالعدد لا غير، إذ لا قيم (2) لها فتعتبر.
ومن أصحابنا من قال: [تعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة، ومبنى الثلث على هذا التقدير.
ومن أصحابنا من قال:] (3) مبنى الثلث على اعتبار منافعها، وهذا قريب من اعتبار قيمتها، فإن قيمتها لمكان منافعها.
هذا منتهى القول في ذلك.
ومن تمامه أنه لو أوصى لإنسان بكلب [أو] (4) خمر محترمة وأُهب، لم تدبغ بعدُ، فلا يمكننا اعتبار العدد في ذلك، ولا يتجه إلا قيمتها لو كانت لها قيمة، فإن منافعها لا تتجانس، فتعتبر.
ومن أصحابنا من يقول: إذا أخلف، (5) كلاباً وأزقةً من الخمر المحترمة، فتعتبر الأعداد. وهذا بعيد.
***
__________
(1) في الأصل: إذا.
(2) (س) : قيمة.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: وله.
(5) في الأصل: تكلف.(11/171)
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال: طبلاً من طبولي ... إلى آخره" (1) .
7425- الطبل له ثلاثة محامل: أحدها - طبل العطارين (2) ، والثاني - طبل الحرب، وفي معناه طبل الحجيج، والثالث -[طبل] (3) اللهو، وهو الذي يضربه النسوة والمخنثون، وهو المسمى [الكوبة] (4) .
فأما طبل الحرب وطبل الحجيج [وطبل] (5) العطارين، فيجوز بيعها، وتصح الوصية بها.
وأما طبل اللهو وهو الكوبة، فمن آلات الملاهي، وسبيله سبيل المعازف، ثم الضبط فيها أنه إذا وجب تغييرها إلى حدٍّ (6) يُسقط عنها الاسمَ المذكور، فالبيع باطل فيها وفاقاً.
فإن قيل: هلا صححتم البيع (7) [ونزلتموه] (8) على الأجزاء التي تبقى بعد التغيير؟ فإن آلات المعازف لا تبطل [بالكلّية] (9) ولكنها تغير وتفسد فيها الصيغة التي [تتهيّأ] (10) لهو لأجلها. ويبقى أجزاؤها ورُضَاضها، وقد ذكرنا (11) في الغصوب
__________
(1) ر. المختصر: 3/163.
(2) طبل العطارين هو سفَط لهم، والسفط وعاءٌ يخبأ فيه الطيب ونحوه (ر. الروضة: 6/121) .
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: الكربة. والكوبة الطبل الصغير المخصّر (مصباح) .
(5) في الأصل: كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) وهي بمعنى عَيبة أو وعاء.
(6) (س) : جهة.
(7) عبارة (س) : صححتم البيع الواقع على الأجزاء.
(8) في الأصل: تركتموه.
(9) في الأصل: بالكلمة.
(10) في الأصل: نبهنا.
(11) (س) : ذكرنا طرق الأصحاب.(11/172)
طرق الأصحاب في [المنتهى] (1) الذي لا يتجاوز في الكسر والتغيير؟
قلنا (2) : البيع وإن كان سائغاً في الرضاض، فلا يصح إيراده على آلة اللهو قبل الترضيض. وهذا متفق عليه.
والسبب فيه [استحثاث] (3) الناس على الانكفاف عن التصرف في آلات الملاهي، ولو جوزنا بيعها، ثم حملناه على [الأجزاء] (4) التي تبقى، لكان هذا تنجيزَ (5) تصرف فيما أمرنا باجتنابه، والتباعدِ عن التصرف [فيه] (6) ، فنخرّج عليه أنه لو قال: " بعتك هذا "، وأشار إلى كوبة أو بَرْبَط، فالبيع باطل، وإن لم يسم؛ فإن تعليل البطلان ما ذكرناه من الانكفاف عن التصرف فيه رأساً.
ثم إذا بان فساد البيع فيها، فالوصية بالآت الملاهي فاسدة أيضاً.
فإن قيل: قد صححتم الوصية بالكلب وإن منعتم بيعه، فهلا صححتم الوصية بآلات الملاهي، حملاً على رُضاضها؛ فإن الوصية تحتمل ما لا يحتمله البيع، ولذلك صححنا الوصية بالكلب وإن لم نصحح بيعه؟
قلنا: حق من يبغي دَرْك حقائق المذهب ألا يتبع الألفاظ، ويضرب عن المعاني، فالمعنى الذي لأجله رددنا البيعَ هو المنع (7) من تعاطي هذه الأشياء، والجريان على شعار الدين في الانكفاف عن التصرف في هذه الأشياء، وهذا المعنى يجري في الوصية جريانَه في البيع، والدليل عليه أنا أخذنا الوصية من الوراثة، وقلنا: ما يستحقه الوارث لا يمتنع الوصيةُ به، ثم طبل اللهو لا يبقى في يد الوارث، فإذا كان
__________
(1) في الأصل: المسمى.
(2) في (س) : فإن.
(3) في الأصل: استحقاق.
(4) في الأصل: الأجرام.
(5) كذا في النسختين ولعل الصواب تجويز.
(6) زيادة من المحقق. وفي (س) والتباعد عنه.
(7) (س) : المتبع.(11/173)
لا يبقى في يد الورثة، فلا يصح الوصية به، غيرَ أن الوارث لا يستحقه طبلاً، ولو [رُضّض] (1) ، لكان الرضاض ملكَه إرثاً.
وإذا أبطلنا الوصية بطبل اللهو، لم نثبت للموصى له حقاً في رضاض الطبل، ومُكَسَّره (2) ؛ فإن الوصية من العقود، فإذا أُبطلت، قُدّر كأنها لم تكن، والإرث خلافة ضرورية، ووضعُها يقتضي أن يكون الوارث كالموروث، وقد كان الطبل مقرّاً على الموروث، وملكُه مستمر في المكسّر المغيّر.
7426- ولو أوصى لإنسان بطبل لهو، وكان يخرج عن صلاحية اللهو بتغييرٍ، كما فصلناه في كتاب الغصوب، واسم الطبل يبقى مع انتهاء التغيير المستحق نهايته، فقد قال العلماء: تصح الوصية بالطبل على هذا الوجه؛ فإن الاسم الذي اعتمد به الوصية يمكن تقريره وتنزيلُ الوصية عليه، فصحت [الوصية] (3) على هذا النسق، واتفقت الطرق عليه.
ويجب على مقتضى ذلك القطع بتصحيح الوصية بمكسّر الطبل، أو رُضاض العود؛ فإنه جَعل موردَ العقد لفظاً مشعراً بمملوك محترم، وكأنه قال: رضضوه وسلموا إليه رضاضه، والوصية تقبل التعليق.
7427- ولو قال صاحب [البَرْبَط] (4) : بعت منك رُضاض هذا، لم يصح البيع؛ فإن البيعَ لا يحتمل التعليق، فقوله: بعتك رضاضه تقديره: إذا رُضّض، فقد بعتك رُضاضه. ثم ليس للترضيض منتهى يوقف [عنده] (5) على ضبط.
فإن قلنا: يكفي في تغيير البَرْبط نزعُ الأوتار منه، فقال: بعتك هذا دون وتره [أو] (6) محلولاً الوتر (7) .
__________
(1) في الأصل: رخص.
(2) الواو مزيدة من (س) .
(3) في الأصل: الوجه.
(4) في الأصل: الربط.
(5) في الأصل: هزه. وهو تصحيف طريف.
(6) زيادة من المحقق.
(7) عبارة (س) : بعتك محلولاً عن الوتر هذا دون وتره أو محل عن الوتر. فهذا ... إلخ.(11/174)
فهذا يقرب من بيع ذراعٍ من خشبة تُعنى للحطب، والعلم عند الله.
7428- ولو باع إناء من فضة، وكان اتخذ آلة من آلات الملاهي من الفضة، فإذا باعه، فهذا [محتمل] (1) عندي؛ فإن الصنعة، وإن لم تكن محترمة في آلة اللهو، وفرعنا على منع استصناع الآنية من التبرين، فالمقصود الأعظم نفاسة الجوهر، والصنعة تابعة، وليس كذلك الآلات المتخذة من الجواهر الخسيسة، كالخشب وغيرها؛ فإن المقصود الأظهرَ منها الصنعةُ، والرضاضُ بعد التكسير تابع غير مقصود، فيجوز أن يكون النظر إلى المقصود في النوعين، حتى يصحّ بيع الإناء وآلات الملاهي من التبرين.
ولا يجوز بيع آلات الملاهي من الخشب؛ فإن عماد المقصود فيها الصنعة، وهي مستحقة التغيير.
ويجوز أن يقال: لا يصح البيع في النوعين نظراً إلى الصنعة، فإن ما يبقى من آلة الخشب متموّل، وإن قل قدره.
فإذا ثبت ما ذكرناه، قلنا بعده:
7429- إذا أوصى بطبلٍ من طبوله، وله طبولُ حرب، وطبول لهوٍ، فالوصيةُ محمولةٌ على طبل الحرب، ثم للوارث أن يعيّن من طبول الحرب ما شاء.
ولو قال الوارث: لفظُ الطبل يتناول طبلَ اللهو، وطبلَ الحرب، والطبول موجودة في تركته، فلست أحمل لفظه على طبول الحرب ليصحّ، بل أحمله على طبل اللهو ليفسد، فنقول له: إذا أوصى، فقد أثبت والتزم، فلا بد من إثبات وصيته ما وجدنا إلى الإثبات سبيلاً.
[فانتظم] (2) من هذا أن اللفظ إذا تردد بين محملين يصح في أحدهما، ويفسد في الثاني، فهو محمول على الوجه الذي يصح [فيه] (3) ؛ فإن الموصي أثبت للوصية لفظاً
__________
(1) في الأصل: محمل.
(2) في الأصل: فأعظم.
(3) في الأصل: منه.(11/175)
وقصد إثباته، فلاح [لنا] (1) من لفظه وقصده الإثبات، [فمِلنا] (2) إليه.
ولو تردد لفظُ الموصي [بين] (3) الكثرة والقلة، حملناه على القلة؛ فإن اللفظ مع القلة [مستقل] (4) والوصية ثابتة، ونحن على تردد في الزائد على حد القلة، فلا يثبت ما ترددنا فيه.
هذا أصل المذهب.
7430- وقال الأئمة: لو أوصى بعودٍ من عيدانه، فاسم العود ينطلق على البَرْبط، وعلى العود الذي هو خشب كالعصا وغيرها، فاللفظ يحمل على العود الذي تصح الوصية به، لتناول اللفظ للنوعين، قياساً على ما ذكرناه في طبل اللهو والحرب.
7431- وممّا ذكره الشافعي رضي الله عنه الوصية بالقسيّ (5) ، فنقول: إذا أوصى بقوسٍ من قسيه، أو [من] (6) ماله، اندرج تحت لفظه قسيُّ العجم، وقسيُّ العرب، وقسي الحُسبان، والحُسبان سهام صغار، ترمى على قسيِّ العجم (7) ، وهي المسماة نازك (8) ، ولا يدخل تحت اسم القوس قوسُ النَّدْف ولا قوس الجُلاهق، وهو قوس البنادق؛ فإن قسيّ النَّدْف مشبهة في الصورة بالقسي لمكان أوتارها، فكان تسميتها قوساً بحق التشبيه لا بوضع الاسم، وكذلك قوس الجُلاهق. هكذا ذكره الشافعي وأطبق الأئمة عليه.
__________
(1) في الأصل: له.
(2) في الأصل: حملنا.
(3) في الأصل: من.
(4) في الأصل: مستقلة.
(5) ر. الأم: 4/21، والمختصر: 3/167.
(6) ساقطة من الأصل.
(7) الحسبان: مرامي صغار لها نصالٌ دفاق يرمي بها الرجل في جوف قصبة، ينزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها، فلا تمر بشيء إلا عقرته ... وقوسها فارسية صلبة. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 591) .
(8) في (س) : المسماة بالنبل، وتسمى أيضاً: (النيزك) ، وهو الرمح القصير. (ر. معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة، والمصباح أيضاً) .(11/176)
ولو جرت الوصية في ناحية لا يعرف فيها إلا نوعٌ من هذه الأنواع، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه في الوصية بالدابة في القطر الذي لا يفهم منها إلا صنفاً واحداً.
وهذه المسألة وتيك تخرّجان على أن المتبع موجب اللسان في إطلاق اللفظ، أو ما يفهم منه في طرد العرف؟.
7432- ولو أوصى بقوس معيَّنٍ، وكان عليه وترٌ، فقد ذكر العراقيون وجهين في دخول الوتر في الوصية: أقيسهما عندنا - أنه [لا يدخل الوتر؛ لأنه ليس جزءاً من] (1) القوس متصلاً به اتصال صيغة.
والآخر - لا اتجاه له وإن ذكره العراقيون، ولعلهم إنما يقولون هذا في القوس المعيّن، أو في قوسٍ من قِسيٍّ كلها موترة، فأما إذا لم يكن على القسيّ أوتار، وقال: اشتروا قوساً [وسلموه] (2) إلى فلان، فلا يجوز أن يُتخيلَ خلافٌ في أنه لا يجب ضمُّ وترٍ إلى القوس الموصى بها.
وما ذكروه من الخلاف في دخول الوتر تحت الوصية بالقوس يجب طرده في بيع القوس الموتر؛ فإن ما يؤخذ من الألفاظ ولا يختلف فيه موجب الوصيةِ والبيعِ [يجب] (3) طَرْدُ البابين [فيه] (4) على قضية واحدة.
7433- ومن تمام القول في هذا أنه إذا كان عند الرجل قسيُّ ندْفٍ أو قسي جُلاهق، فقال: أوصيت لفلان بقوسٍ من قسيَّي، فالوصية تُصرف إلى قوسٍ من قسيّ الندف؛ فانه ليس [يملك] (5) غيرَها، فإضافته القوس إلى ما يملك تصريحٌ منه بقوس الندف، وهو كما لو قال: أوصيت لفلان بقوس ندف.
__________
(1) عبارة الأصل: لا يدخل على الوتر ليس جزءاً من القوس.
(2) في الأصل: ذكره.
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: منه.
(5) في الأصل: تمليك.(11/177)
ولو كان له قسيُّ ندفٍ، فقال: أوصيت لفلان بقوسٍ، أو قال: أعطوه قوساً، لم يصرف ما أوصى به إلى ما عنده، فالقوس محمولة على قوس الرمي لا غير. وإن كان يظن الظان أنه يريد بالقوس [ما] (1) عنده.
ولو قال: أعطوه عوداً من القسي، فقوس العرب يُتخذ من نبعة واحدة، وليست القوس غيرَها، فالوصية تحمل على عودٍ مهيىءٍ لقوس العرب. فأما قسيُّ العجم، فهي مركبة من [أجناس شتى] (2) ، وقد يكون الخشب أقلها، فلا ينتظم لفظ العود فيها، فيتعين الصرف إلى أعواد قسي العرب، وأمثال هذا سهلة مع إحكام الأصول.
فصل
قال: " ويجعل وصيته في الرقاب والمكاتبين ... إلى آخره " (3) .
7434- إذا قال: "اجعلوا ثلث مالي في الرقاب"، فهو موضوع في المكاتبين عندنا، وعند أبي حنيفة (4) رحمه الله، وقال مالك (5) : يُشترى بثلث ماله عبيد يعتقون.
واتفق العلماء على أن الرقاب في صيغة الوصية محمولة على ما يُحمل عليه قول الله تعالى في آية الصدقات: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] غيرَ أنا حملنا الرقاب في آية الصدقات على المكاتبين، وحملها مالكٌ على صرف قسط (6) الصدقات إلى شراء عبيد ليعتقوا.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: من أجناس مجتمعة من قسي. وفي (س) : من أجناسٍ مجتمعة من شتى. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى.
(3) ر. المختصر: 3/163.
(4) ر. البدائع: 2/45، حاشية ابن عابدين: 2/60.
(5) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/421 مسألة: 616، جواهر الإكليل: 1/139، والتهذيب للبرادعي: 1/445.
(6) في الأصل: وقسط.(11/178)
فإن قيل: اسم الرقاب يتناول المكاتبين والأرقاء، فلِمَ يتعين في الوصية الحمل على المكاتبين؟ قلنا: رأى العلماءُ لفظَ الرقاب لفظاً عاماً في اللغة، خاصاً في عرف الشريعة، فغلّبوا [اللفظ] (1) الشرعي، كما غلبوا لفظ الصوم، والصلاة، والحج، فإنها إذا جرت في وصيةٍ، أو نذر، أو يمين، كانت محمولةً على عرف الشرع، فكذلك القول في الرقاب.
ثم إذا قال: ضعوا ثلث مالي في الرقاب، فلا بد من وضعه في ثلاثة من المكاتبين فصاعداً، والاقتصار على الثلاثة جائز، والزيادة حسنة جائزة، والنقصان ممتنع، وكذلك الوصية للفقراء والمساكين، وما في معانيهم.
والقول الضابط [فيه] (2) أنه إذا أوصى لأشخاصٍ، تعيّن استيعابهم، ثم إذا كانت الوصية مطلقةً، يجب صرف الموصى به إلى جميعهم بالسوية من غير تفصيل، وإذا أوصى بشيء لموصوفين لا [حصر] (3) لهم، وكانت الصفات فيهم عوارض لا تلزم، كالفقر، والمسكنة، والغُرم، والكتابة، فهذه الوصية مستقلّة بأقلّ الجمع، ولا نقصان من الأقل، وأقل الجمع في وضع الشرع ثلاثة، ويجوز الازدياد على الأقل إلى غير نهاية، والأمر مفوض إلى رأي الوصي إذا كانت الوصية مطلقة. وفي حكم هذا القسم جواز تفضيل [البعض] (4) على البعض، حتى لو رأى الصرف إلى ثلاثة، فصرف المعظم إلى واحد منهم، وصرف إلى كل واحد من الباقين مقداراً نزراً، جاز ذلك، على ما سيأتي تقرير هذا في قَسْم الصدقات، إن شاء الله عز وجل.
7435- ولو أوصى لأقوامٍ يبعد عن الإمكان حصرهم، وكانوا موصوفين بصفات ملازمة لهم، لا تحل محل العوارض التي يفرض طريانُها وزوالُها، وهذا بمثابة الوصية للعلويّة، فأنسابهم في حكم الصفات اللازمة، وحصرهم غير ممكن، ففي
__________
(1) في الأصل: "العرف".
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: لا حصة.
(4) ساقطة من الأصل.(11/179)
صحة الوصية لهم قولان؛ فإن الصفات إذا لزمتهم، تضمن ذلك كونَهم مقصودين بأعيانهم، وليسوا كالموصوفين بما يعرِض ويزول؛ فإن الأشخاص ليسوا معينين، فإنما العَرَضُ يتبع الصفة التي يقع التعرض لها في جمعٍ، وسيأتي تفصيل القول في الوصية للعلوية وغيرهم، وإنما اعترض ذكرهم لاستيعاب أقسام الكلام، والغرض الآن أن الاقتصار على ثلاثة في الوصية للرقاب سائغ، كما يسوغ الاقتصار على ثلاثة في صرف سهام الرقاب من الزكاة إليهم، ثم الوصي إن صرف الموصى به إلى ثلاثة من المكاتبين، فقد وفَّى، وإن صرف الموصى به إلى اثنين وفات الأمرُ، فإنه يغرَم حصة ثالث، وفي القدر الذي يغرَمه خلاف مشهور.
ومن أصحابنا من قال: يغرَم له أقلَّ ما يتموّل، فإنه لو صرف إليه ذلك القدر ابتداء، لكان خارجاً عن العهدة [وافياً] (1) بموجب الوصية، فخرج عن عهدة [الغرم، بما كان يخرج به عن عهدة] (2) الوصية ابتداء.
ومن أصحابنا من قال: يلزم لمكاتب ثلث الموصى به، فإنه غرم واحداً من ثلاثة، وانتسب إلى المخالفة الملزمة للغرامة، فيجب أن يكون مطالباً بمقدارٍ منضبط، وأقرب الأمر الفَضُّ على رؤوسٍ ثلاثة. وسنشرح هذا أيضاً في قَسْم الصدقات، إن شاء الله عز وجل، فاكتفينا بذكر مراسمَ في التقاسيم.
7436- فإن قيل: إذا صححتم الوصية للعلوية، فهل توجبون استيعابهم؟ قلنا: إيجاب ما لا يستطاع محال، فالوصية إذا صحت لهم، فهم نازلون منزلة الفقراء، فيجوز الاكتفاء بثلاثة منهم، ثم لا يجب التسوية، بل يجوز تفضيل البعض على البعض، كما ذكرناه في الفقراء، ثم إذا أوجبنا على الوصي أن يغرم لمكاتبٍ ثالث شيئاً، فقد قال القفال [فيما] (3) حكاه الصيدلاني: ليس لهذا الوصي أن يدفع بنفسه ما لم يلزمه إلى مكاتبٍ؛ فإنه إنما يسلم إلى المكاتَبَيْن [ما] (4) يسلِّم بحكم الوصية،
__________
(1) في الأصل: رانياً.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) في الأصل: فما.
(4) في الأصل: "فما".(11/180)
وكونه وصياً، وهو الآن غارم، وليس وصيّاً [فيما] (1) يغرمه ولا مؤتمناً، فيتعين عليه أن يسلم ما يلزمه إلى حاكمٍ ليقبضه منه. ثم لو ائتمنه ذلك الحاكم فأمره بصرفه إلى مكاتب، جاز له ذلك امتثالاً لأمر الحاكم، وهذا حسن ظاهر.
فصل
قال: "فإن لم يبلغ ثلاث رقاب، وبلغ أقل من رقبتين ... الفصل" (2) .
7437- ذكر المزني هذا الفصلَ معطوفاً على الوصية للرقاب، وفي العطف إخلالٌ؛ فإن مضمون هذا الفصل الكلامُ في صرف ثلث المال إلى عبيد يشترَوْن ويعتقون، ومضمون الفصل الأول في صرف طائفة من المال إلى جمعٍ من المكاتبين، فإذا قال بعد نجاز الكلام في المكاتبين: " فإن لم يبلغ ثلاث رقاب وبلغ أقل من رقبتين "، لم ينتظم مبتدأ هذا الكلام مع مختتم الفصل الأول، وكان الوجه أن يبتدىء، فيقول: " لو أوصى بصرف شيء من ماله إلى شراء عبيدٍ، فلم يبلغ [ثلاث] (3) رقاب، فحكمه كذا ".
نعود إلى مقصود الفصل وفقهه ونقول:
7438- إذا أوصى بصرف ثلث ماله إلى شراء عبيد ليعتقوا، فلا بد من صرفه إلى ثلاثة من العبيد؛ لأن اللفظ لفظ الجمع، فإن لم يوجد بثُلثِه ثلاثةُ أعبد، فقد قالت الأئمة المعتبرون من المراوزة: نصرف الثلثَ إلى عبدين [نفيسين] (4) ، فإن لم يتأت إلا صرفُه إلى عبدين، وفضل فضلٌ لم نجد به رقبة، ولم نجد عبدين يستوعب [ثمنهما] (5) الثلثَ، فالفاضل مردود على الورثة، والوصية باطلةٌ فيه، ولا يجب
__________
(1) في الأصل: مما.
(2) ر. المختصر: 3/163.
(3) في الأصل: ثمن، و (س) : ثمان، والمثبت تقدير منا أخذاً من عبارة المزني المذكورة آنفاً.
(4) في الأصل: شيئين.
(5) في الأصل: منها.(11/181)
صرف ذلك الفضل إلى شقصٍ (1) من عبد، وعللوا هذا بأنه ذكر العبيد، واسم العبد لا ينطلق على شقص من عبد.
هذا مسلك أئمتنا المراوزة.
وأخذ العراقيون مأخذاً آخر، وقالوا: لا يرتدّ الفاضل إلى الورثة، بل يجب صرفه إلى شقصٍ من عبد؛ فإن غرض الموصي أن يصرف الثلث إلى جهة العتق، فإن تمكنا من الوصول إلى تحصيل العتق في أشخاصٍ، فعلنا ذلك، وإن لم نقدر على تحصيل العتق في [جمعٍ] (2) من الأشخاص، حصلناه في شخصٍ أو شخصين، فإن فضل فضلٌ، [فصرفه] (3) إلى شقصٍ أقربُ إلى مقصودِ الموصي من رده إلى الورثة.
ثم قالوا: إن أمكن صرف الثلث إلى عبدين نفيسين يستوعب ثمنهما الثلث، وأمكن صرفه إلى عبدين دونهما مع صرف الفاضل إلى شقص، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب أن نشتري العبدين النفيسين؛ حتى لا يؤدي إلى التبعيض. وهذا المسلك حتمٌ. قالوا: وهو اختيار ابن سريج.
والوجه الثاني - وهو اختيار أبي إسحاق فيما حَكَوْه أنه يجب أن نشتري عبدين، ونُفْضل، ونشتري بالفضل جزءاً من ثالثٍ؛ فإن هذا أقربُ إلى مقصود الموصي؛ إذ من مقصوده ربطُ العتق [بجمع] (4) .
وطريق العراقيين بعيدةٌ عن طريق المراوزة؛ فإنهم لم يرَوا لشراء الشقص وإعتاقه وجهاً، وإذا [فرض] (5) ، لم يقع عن جهة الوصية عندهم.
__________
(1) (س) : بعض.
(2) في الأصل: جميع.
(3) في الأصل: فنصرفه.
(4) في الأصل:، بجميع، وفي (س) : "بجميع الثلث" والمثبت تصرّف من المحقق رعاية للمعنى المقصود.
(5) في الأصل: مرض.(11/182)
فالخارج من أقوال الأئمة [أن] (1) الصرف إلى ثلاثة من غير تشقيص إن أمكن تعيّن. ولو في أخسّاء من المماليك.
وإن لم نجد ثلاثة، ووجدنا عبدين وشقصاً، فالمراوزة قاطعون بردّ الفضل إلى الورثة، والعراقيون قاطعون بوجوب صرفه إلى شقصٍ.
وإن [تصدّى] (2) لنا شراء نفيسين وشراء عبدين دونهما مع شراء شقصٍ في ثالث، [فقد] (3) ذكر العراقيون وجهين، كما قدمنا، وقطع المراوزة بما حَكوه من اختيار ابن سُريج.
7439- ثم قال العراقيون: إذا قال المريض: اشتروا عبداً وأعتقوه عنِّي، فاشترى الوارث عبداً وأعتقه، ثم ظهر دينٌ مستغرق للتركة، نُظر: فإن كان اشترى من عين التركة، فقد بان بطلان البيع؛ إذ لا وصية مع الدين ولا ينفذ صرف شيء من التركة إلى ثمن العبد المشترى، لمكان الدَّين المستغرِق للتركة، فالعبد مردود على بائعه، والعتق فاسدٌ، وثمن العبد يُسترد ويصرف إلى الدين. وإن كان اشترى العبد في الذمة وأعتقه، نفذ البيع والعتقُ؛ فإن البيع اعتمد الذمة، فصح للوارث (4) ، ثم يَسْري العتقُ منه مطلقاً في ملكه، فلا مرد له. وهذا واضح لا خفاء به.
فصل
قال: "ولو أوصى أن يحج عنه، ولم يكن حج حجةَ الإسلام ... الفصل" (5) .
7440- ذكرنا صدراً صالحاً في الاستئجار على الحج المفروض والمتطوّع به في كتاب الحج، وقد يتكرر في أثناء الكلام بعضُ تلك القواعد.
__________
(1) في الأصل: إلى.
(2) في الأصل: تعدى.
(3) في الأصل: نفذ.
(4) (س) : من الوارث.
(5) ر. مختصر المزني: 3/164.(11/183)
فإذا استجمع الكامل شرائط الاستطاعة، والتزم حجةَ الإسلام، ومات فتحصيل الحج دين من رأس التركة، أوصى به أو لم يوصِ. وقال أبو حنيفة (1) : إذا مات ولم يوص، لم يحج عنه، وطرد هذا في الزكوات المستقرة في حالة الحياة، فقال: إذا مات من تجمعت عليه الزكاة، ولم يوصِ بأدائها، لم تُخرج من ماله، وإن لقي الله عاصياً، وإن أوصى بإخراجها، أُخرجت من ثُلثه إن وفّى بها.
وكان شيخنا أبو محمد رحمة الله عليه يحكي هذا قولاً قديماً للشافعي رضي الله عنه، ولم يتعرض لحكاية هذا أحد من الأئمة الذين يبعد أن يشذ [عنهم] (2) قريب وبعيد.
ثم معتمد أبي حنيفة رحمة الله عليه افتقارُ الزكاة إلى النية، ثم إن صدرت النية من ملتزم الزكاة، فذاك، وإلا (3) قامت نية من يستنيبه مقامَ نيته، فإذا مات، فقد فات صدَرُ (4) النية منه، ولم يوص، فتقوم نية وصيِّه ومأموره مقام نيته.
وهذا لا يستقيم على أصلنا مع مصيرنا إلى أن السلطان يأخذ زكوات الممتنعين، كما صح ذلك في سيرة الصديق رضي الله عنه، وإنما تردد أصحابنا في أن السلطان إذا أخذ الزكاة قهراً، وسقطت طَلِبتُه، فهل تسقط الزكاة عمن عليه باطناً بينه وبين الله تعالى؟ فيه اختلاف ذكرناه في موضعه من الزكاة. ثم كنا نقول في مراجعة شيخنا أبي محمد: القياس إن لم يكن من هذا القول [بُدّ] (5) أن يقال: إذا أوصى، فالزكاة محسوبة من رأس المال؛ فإن متعلق هذا المذهب [تعذّرُ] (6) النية وسقوطُ الزكاة بتعذرها، فإذا جرت الوصاية، فقد أمكنت النية على طريق النيابة، فليؤدِّ الزكاة ديناً، فكان يأبى هذا ويقول: "القول القديم مثلُ مذهب أبي حنيفة، فالزكاة تسقط إذا لم
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 247 مسألة: 141، حاشية ابن عابدين: 2/28، 5/415.
(2) في الأصل: منهم.
(3) (الواو) مزيدة من (س) .
(4) صدر النية: أي صدور.
(5) في الأصل: به.
(6) في الأصل: يعتذر.(11/184)
تجر وصية، فإن جرت، فهي من الثلث"، وهذا لا أعرف له وجهاً أصلاً.
رجع بنا الكلامُ إلى التفريع على أصل المذهب، فنقول:
7441- إذا استقر الحج في ذمته ومات، [فحجة] (1) الإسلام الواقعة ركناً ميقاتية، هذا هو الركن، فيستأجر من الميقات أجيراً بأجرة قريبة، ويتأدى حج الإسلام به.
ولو كان نذر حجاً في صحته، لزمه الوفاء به إن استطاع إلى الحج سبيلاً، فلو مات قبل الوفاء، ففي الحجة المنذورة قولان: أحدهما - أنها دَيْنٌ، كحجة الإسلام من رأس المال (2) ، ووجهه أنه وجب في الصحة، فاستقر في الذمة، فكان ديناً لله تعالى كحجة الإسلام.
والقول الثاني - أنها لا تكون من رأس التركة؛ فإن الناذر أدخل الوجوبَ على نفسه، فيجوز أن يقال: يُلزمه الشرع الوفاء به في تمكنه، فأما أن يصير ما أدخله على نفسه مزاحماً [لحقوق] (3) الورثة، فلا.
وهذا التوجيه فيه مخيلةٌ (4) من الفقه، وهو معنى (5) قول بعض الأصحاب: إن هذين القولين [مبنيان] (6) على أن [المنذور] (7) هل يثبت له حكم الواجب شرعاً أم لا؟ وهذا فيه لبس وتعقيد؛ فإن الذي ذُكر من التردّد في أن الواجب بالنذر هل يأخذ حكم الواجب شرعاً؛ معناه أن من نذر لله تعالى صلاةً، ثم صلى قاعداً مع القدرة على القيام، فهل يخرج عن موجَب نذره؟ فهذا ومثله يخرّج على القولين في أن الواجب بالنذر هل يتقيد بالشرائط المرعية في الواجب شرعاً، ففي قولٍ نحمل [النذر] (8) على
__________
(1) في الأصل: بحجة.
(2) جعلهما النووي وجهين، وقال: إن هذا أصحهما (ر. الروضة: 6/197) .
(3) في الأصل: بحقوق.
(4) (س) : فيه مختلف في الفقه.
(5) في الأصل: وهو معنى عن قول بعض الأصحاب. وفي (س) : وهو خارج عن قول بعض الأصحاب.
(6) في الأصل: ينتهيان.
(7) في النسختين: النذور.
(8) في الأصل: القدر.(11/185)
ما يسمى صلاة؛ اتباعاً للفظ، وفي قول نحمله على مضاهاة الواجب شرعاً؛ تقريباً وتشبيهاً. فهذا مأخذ ذلك.
فأما القول في أن المنذور هل يكون من رأس التركة يبعد (1) أخذه مما ذكره هؤلاء.
والخلاف في احتساب الكفارة من رأس التركة، وقد لزمت الكفارة في الصحة، كالخلاف في الملتزم بالنذر؛ فإن الكفارات دخلت عليه بتسبُّبِه إلى التزامها، وليست من وظائف الشرع، فنزلت منزلة المنذور.
وهذا فيما يجري في الصحة.
والنذرُ الذي يصدر من المريض في مرضه المخوف من الثلث، لا خلاف فيه، وكذلك الكفارات التي تجري أسبابها في المرض.
ونقول وراء ذلك: نذر الصحة إن (2) جعلناه ديناً، فلا كلام. وإن لم نجعله ديناً، فالذي أشعر به كلام الأئمة أنه لا بد من الوصية فيه، فإن لم تكن (3) ، [سقط] (4) بالكلية.
وفي بعض كلام المحققين ما يدل على أنها تخرج من الثلث، وإن لم يكن وصية؛ فهي مستحقة من الثلث، ونفسُ جريان النذر في حكم الوصية به، وكذلك القول في الكفارات وأسبابها.
وهذا فقيهٌ حسن.
7442- ومما نذكره في قاعدة الفصل أن الوصية بحج التطوع هل تصح؟ فعلى قولين (5) مشهورين ذكرناهما في المناسك، والأصح في الفتوى الصحة، وهو الذي
__________
(1) بدون الفاء في جواب (أما) كدأب الإمام في اختيار هذه اللغة الكوفية.
(2) في الأصل: وإن.
(3) فإن لم تكن: أي فإن لم توجد الوصية.
(4) في النسختين (سقطت) . والمثبت تصرف من المحقق، فالفاعل ضمير يعود على النذر.
(5) في الأصل: وجهين قولين، وفي (س) وجهين: والتصويب من العزيز للرافعي، والروضة للنووي، وقد قال: إن الأظهر صحة الوصية بحج التطوع. (ر. العزيز: 7/121، والروضة: 6/195) .(11/186)
تشهد له [الآثار] (1) والأقيسُ أنها لا تصح؛ فإن الحج عبادةٌ بدنية وإجراء النيابة في المفروض منه في حكم الضرورة المتبوعة بطريق الرخصة، والوصيةُ بالتطوع مستغنى عنها.
ثم ذكر طوائف من أئمتنا أنا إذا صححنا الوصية بالحج تطوعاً، فهل تقدم على سائر الوصايا، أم هي مساوية لها في المرتبة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها مقدَّمة. والثاني - أنها مساوية، وهذا ترددٌ وذكر اختلاف قول، لستُ أعرف وجهه؛ فإن الوصية بالحج ليست على مرتبة من التأكيد تقتضي تقديمَها، وكيف يُدّعى ذلك وفي (2) أصل صحتها قولان: أحدهما -[عدمُ] (3) الثبوت، والمشهورُ اختلاف القول في تقديم الوصية بالعتق على ما سواه من الوصايا، وذلك لسلطان العتق في نفوذه، كما سيأتي شرح ذلك في مسائل الوصايا بالعتق.
وذكر الشيخ أبو علي طريقة ناصة على الحقيقة تشفي الغليل، وعليها التعويل عندي: قال رضي الله عنه: الوصية بحج التطوع لا تقدم على غيرها من الوصايا إلا أن ينص الموصي على تقديمها، فتقدم حينئذ بحكم الإيصاء، كما سنصف ذلك أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
والحجة المنذورة في الصحة إذا قلنا: إنها محسوبة من الثلث، قال رضي الله عنه: هل تقدم على سائر الوصايا؟ فعلى قولين: أحدهما - لا تقدم؛ لأن محلها الثلث.
والثاني - أنها مقدمة لتأكد لزومها في حالة الصحة. وهذا في نهاية الحسن.
ثم قال رضي الله عنه: نُجري في الوصية بالحج والوصية لزيد وعمرو بشيءٍ الاختلافَ في أنه إذا ازدحم على [المال] (4) المتضايق حق الله تعالى، وحق الآدميين، فالمقدم أيُّهما؟ وفيه أقوال ستأتي، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: الاختيار.
(2) في الأصل: في صحتها (بدون واو) .
(3) في الأصل: أحدهما عن الثبوت ... وعبارة (س) : قولان لبعدها من الثبوت.
(4) في النسختين: "الحال" والمثبت من اختيارنا.(11/187)
فإن قلنا: المقدَّم حقُّ الله تعالى، اتجه عليه تقديمُ الحج على الوصية للآدميين، وإن لم نَرَ ذلك، فقد نقدم حقَّ الآدمي في قول وقد نُسوِّي.
فأما الوصية بالحج والوصية بالصدقة إذا اجتمعا، فلا وجه لتقديم الوصية بالحج.
وكل ما ذكرناه في حكم المقدِّمة لمقصود الفصل.
7443- ونحن الآن نعود إلى غرض الفصل ونقول:
قد بينا أن حجة الإسلام إذا قرّت في الذمة، فهي دين، فلو كان أوصى الرجل بوصايا، ثم قال: أحِجوا عني حجةَ الإسلام من ثلثي، فقوله هذا محمول على مزاحمة الحج للوصايا، حتى إذا زاحمها، وقلت الوصايا [بمزاحمته] (1) إياها، فإن تحصّل ما يتأدى الحج به من المضاربة، فهو المراد، وإن لم يتحصل من مزاحمة الوصايا ما يتم به الحج، أكملناه من رأس المال.
هذا إذا صرح الوصي بالإحجاج عنه من ثُلثه، وكان عليه حجةُ الإسلام، وقد استكمل الاستطاعة في حياته.
ولو قال: أوصيت إليكم أن تُحجوا عني إنساناً، ولم يتعرض للثلث ولاعتبار الحج منه، ولكنه ذكر لفظ الوصية، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على ما حكاه العراقيون، فذهب بعضهم إلى أن هذا [ينزل] (2) منزلة تصريحه بالإحجاج عنه من ثلثه، حتى يقتضي مزاحمةَ الوصايا؛ فإن الوصية لفظةٌ مشهورةٌ فيما يحسب من الثلث، فجرى مجرى التصريح بالحَسْب (3) من الثلث.
وذهب آخرون إلى أن الحج لا يزاحم الوصايا إذا لم ينصّ الموصي على اعتباره من الثلث؛ فإن الإيصاء بمثابة الأمر، ولو قال: أحجوا عني إنساناً، لم يتضمن مجردُ
__________
(1) في الأصل: المزاحمة.
(2) في الأصل: نزلت.
(3) (س) : في الاحتساب.(11/188)
الأمر مزاحمةَ الحج للوصايا، ثم ذكروا صورةً أخرى، ورتبوا [فيها] (1) الخلاف على ما ذكرناه، وقالوا: إذا قال: أوصيت إليكم أن تُحجوا عني وأن تصدقوا بكذا، وتعتقوا رقبة، فذكر لفظ الوصية في الحج [وقَرَنه] (2) بما هو محسوب من الثلث، فهل يتضمن هذا في الحج مزاحمة الوصايا به؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا أطلق الوصية بالحج، ولم يقرنه بتبرعٍ محسوبٍ من الثلث، وهذه الصورة الأخيرة أولى بحَسْب الحج فيها من الثلث؛ فإنه انضم إلى لفظ الوصية ذكرُ الحج مع تبرعٍ يحسب من الثلث في قَرَنٍ، والإقران في الذكر من ضروب البيان.
ولو [أمر] (3) بالإحجاج عنه، وقرن الحجَّ بتبرعٍ، ولم يَجْر لفظُ الوصية، ففي [مزاحمة] (4) الوصايا بالحج خلاف، والأظهر أنا لا نزاحم به، إذا لم يجْرِ لفظُ الوصية؛ فإن مجرد الاقتران لا يستقل بنفسه تبييناً، ولكن إذا جرى لفظٌ له مقتضىً، فالاقتران يؤكده.
هذا مجموع القول في ذكر الحج أمراً وإيصاء، وتصريحاً بالحَسْب من الثلث، وذكْرِ غيره معه.
7444- وما ذكرناه في الحج، وهو دين يحتسب من رأس المال يجري في جملة الحقوق التي سبيلها أن تكون من رأس المال.
فإذا نصّ مَنْ عليه الحق على حَسْبه من الثلث إذا أطلق لفظَ الإيصاء أو قرنه بتبرعٍ، فالتفصيل في المزاحمة على ما ذكرناه في الحج، وفاقاً وخلافاً.
7445- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا فرعنا على تقديم الوصية [بحجّ] (5) التطوع على الوصايا، فإذا أوصى [من] (6) عليه حجةُ الإسلام، فإن تحصل الحجة من
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) في الأصل كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: [ونسريه] .
(3) في الأصل: أصر.
(4) في الأصل: تزاحمه.
(5) في الأصل: فحج.
(6) سقطت من الأصل.(11/189)
ثُلثه؛ فالذي دلّ عليه فحوى كلام الأئمة أنا على تقديم الحج على الوصايا نقدم حجة الإسلام على الوصايا جُمَع، فلا مزاحمة، حتى إن لم يفضل من الثلث شيء، بطلت الوصايا، وإذا فضل عن تمام الحج شيءٌ، صرف الفضلُ إلى الوصايا [وفُض] (1) عليها، فتثبت المزاحمة في الثلث بحج الإسلام على حسب المزاحمة من حج التطوع والوصايا.
ومن أصحابنا من قال: نحن وإن قدمنا حجة التطوع على الوصايا، فإذا أوصى أن يوقع حجة الإسلام في الثلث، لم نقدمها، وذلك أنا نتلقى الاحتساب في الثلث من قوله المشعر بإرادة (2) المزاحمة، وإلا فحجة الإسلام حقُّها أن تُقدَّمَ على الثلث، فإن أثّر تقديمُها في [تقليل] (3) الثلث، فلا بد من ذلك، فأما مزاحمة الوصايا في محل الوصايا، فمتلقى من [قصد] (4) الموصي، لا من مقتضى حجة الإسلام.
نعم، إن قال: قدموا حجِّي في ثلثي على الوصايا، فيقدّم حينئذٍ عليها؛ اتّباعاً للفظه.
7446- ومما نذكره في استكمال هذا أنا إذا صححنا الوصية بحجة التطوع، فإذا أطلق الوصية بها، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن الوصية المطلقة بالحجة محمولةٌ على حجة [ميقاتية] (5) ، أم هي محمولة على حجة ينتهض لها قاصداً من دويرة الموصي؟ أحدهما - أنها محمولة على ميقاتية، ولعل هذا هو الظاهر؛ فإن ألفاظ الموصي محمولة على أقل المعاني، فلذلك تحمل الوصية [بالمال] (6) على أقل ما يتموّل، كما يحمل الأقرار عليه. واسم الحج ينطلق على الحج الميقاتي، فليقع الاكتفاء به.
__________
(1) في الأصل: ونص، وفي (س) : ومضى. والمثبت اختيار المحقق على ضوء السياق والمعهود من ألفاظ الإمام.
(2) في الأصل: فإرادة.
(3) في الأصل: تعليل.
(4) في الأصل: فصل.
(5) في الأصل: منقاسة.
(6) في الأصل: فالمال.(11/190)
والوجه الثاني - أن الوصية المطلقة محمولة على إحجاج قاصدٍ من دويرة الموصي؛ إذ هذا هو العرف الغالب، وهو المفهوم من الحج المطلق، فإذا أراد مريدٌ الحجَّ الميقاتي، قيده بذلك. والعرف إذا اقترن باللفظ، كان اللفظ محمولاً على موجب العرف، فإذا تبين ذلك، فلو قال في حجة الإسلام: أحجوا عني رجلاً من ثلثي، فالحج من الميقات مردودٌ إلى الثلث لغرض المزاحمة، وهل يتضمن الأمر بالإحجاج ترشيحَ قاصدٍ من دويرة الموصي؟ اختلف أصحابنا في ذلك أخذاً من الوصية المطلقة [بحج] (1) التطوع، فمنهم من قال: لا يُحَج عنه إلا من الميقات، والمزاحمة تقع بالحجة الميقاتية، ومنهم من قال: ذكْر الحج في محل الوصايا يتضمن أن نرشح عنه قاصداً من دويرته.
وكان شيخي يقول: الأمر المطلق بالحج والحج ركنٌ لا يتضمن [الإحجاج] (2) من دويرته، والأمر على ما قال.
وقال الأصحاب كافة: إذا فرعنا على أن حج التطوع مقدم على الوصايا، فهذا [فيه] (3) إذا كان المبذول للأجير مقدارَ أجر مثله، فإن كان بذل له الموصي أكثرَ من أجر مثله، فتلك الزيادة الموصى بها لا تقدم على الوصايا قولاً واحداً؛ فإن سبب التقديم في الحج قوةُ الحج، أو شرفه، أو ما يرى (4) ، وهذا يختص بالحج، فإذا فرضتَ نِحْلة ومزيداً (5) في الأجرة، فذلك الزائد كالوصايا.
وذكر شيخي أبو محمد أن من أصحابنا من رأى تقديم الزائد على أجر المثل في الحج على الوصايا إذا وقع التفريع على تقديم الحج؛ فإن (6) ما يثبت عوضاً في الحج يتبعه في مقتضاه، ويكتسب حكمه. وهذا بعيدٌ، لم أره إلا له.
__________
(1) في الأصل: فحج.
(2) في الأصل: بالإحجاج.
(3) في الأصل: منه.
(4) أو ما يرى: أي إرادة الموصي ذلك.
(5) سقطت من (س) .
(6) (س) : فأما.(11/191)
7447- ثم إن ابن الحداد ذكر مسألة وأخرى معها ثم شعّبهما الأصحاب بالتفريع.
قال ابن الحداد: إذا كان على الإنسان حجةُ الإسلام، وقد وضح أنها ميقاتية.
فإذا قال: أخرجوا حجة الإسلام من ثلثي، [وأخرجوا] (1) أجرته إلى فلان، وسمى زيداً مثلاً، وقرر الأجرة، وقال مائة، وكان مقدار أجرته أجرة المثل، وأوصى لعمرٍو بما يبقى من ثلثه بعد الحج، وأوصى لبكرٍ بثلث ماله، وخلّف تسعمائة، فإن أجاز الورثة الوصايا، صرفنا ثلثاً كاملاً، وهو ثلاثمائة إلى الموصى له بالثلث، وصرفنا من ثلثٍ آخر مائة إلى الحج، وصرفنا الباقي من هذا الثلث وهو مائتان إلى عمرو، وهذا ترتيب القسمة حال الإجازة.
ولو رد الورثة الوصايا إلى الثلث، وأبطلوا الزائد عليه، والثلث ثلاثمائة في هذه الصورة، فحاصل ما ذكره الأئمة في كيفية القسمة بين الوصايا ثلاثة أوجه: أحدها - غلطٌ على المذهب.
والثاني - مزيّفٌ.
والثالث - المذهب.
7448- أما الغلط، فجواب ابن الحداد، قال: يصرف مائة إلى الحج، ويقسم باقي الثلث وهو مائتان بين عمرو الموصى له بباقي الثلث بعد الحج، وبين بكر الموصى له بالثلث، واعتلّ ابنُ الحداد بأن قال: لو ثبت الوصية بالحج مع الوصية بالباقي بعد الحج، والمسألة كما صورناها، [لقلنا: للحجّ] (2) مائة، والباقي [للموصى] (3) له بما يبقى من الحج، ولو فرضنا الوصية بالحج مع الوصية بالثلث، لقلنا مع ردّ الورثة الزائدَ على الثلث: نصرف إلى الحج مائة، ونصرف إلى الموصى له بالثلث مائتين، فإذا كان كل واحد من الرجلين في الوصية بالباقي، والوصية بالثلث
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: فقلنا صحَّحَ مائة.
(3) في الأصل: يعرض له ما يبقى.(11/192)
يستحق مائتين، فإذا اجتمعا مع الحج وقد بان مساواة ما يستحقه كل واحدٍ لما يستحقه صاحبه، فإذا اجتمعا، استويا. فهذا [إذاً مصير منه] (1) إلى تقديم الحج.
ثم فرع بعد هذا على مذهب أبي حنيفة؛ فإنه يُقدّر في قسمة الرد -بين الذين لهم الوصية- حالةَ انفراد كل واحد منهم، ولهذا يقول: الموصى له بالنصف يساوي الموصى له بالثلث عند رد الوصيتين إلى الثلث؛ لأن الورثة إذا ردوا الزائد وفرض انفراد الموصى له بالثلث، فليس له إلا الثلث، ولو فرض عند ردهم انفراد الموصى له بالنصف، فليس له إلا الثلث، فإذا اجتمعا في المسألة اشتركا على استواء في الثلث.
هذا مذهب أبي حنيفة (2) .
ونحن نقول: الاعتبار في حالة الرد بنسبة القيمة حالة الإجازة، والموصى له بالنصف يفضُل الموصى له بالثلث حالة الإجازة؛ فيتفاضلان في الثلث حالة الرد على نسبة التفاضل حالة الإجازة، كذلك نقول في مسألة ابن الحداد: [لو] (3) أجيزت الوصايا، فالحج مائة، وللموصى له بالباقي مائتان، وللموصى له بالثلث ثَلاثُمائة، فإذا رُدّت الوصايا إلى الثلث، ورأينا تقديم الحج، يجب أن تكون القسمة بين صاحب الثلث والباقي على [التفاضل] (4) ، كما سنصفه عند ذكرنا الوجه الثالث إن شاء الله.
هذا جواب ابن الحداد وبيان خطئه.
وهذا الجواب وإن صدر عن رجل عظيم القدر، فليس معدوداً من المذهب؛ فإنه غلطٌ لا يستراب فيه.
7449- والوجه الثاني - وهو المزيّف الضعيف مذهب ابن خَيْران، قال: وجدنا الثلثين حالة الإجازة على ستة أسهم بين الوصايا والحج: للحج منها سهم،
__________
(1) في الأصل: فهذا إذ لا مصير منه، و (س) : وهذا أولاً تضمن منه إلى يم الحج، والمثبت تصرف من المحقق.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/9 مسألة رقم 2153، ومختصر الطحاوي: 158.
(3) في النسختين: ولو. (ولا محلّ للواو، فحذفناها) .
(4) في الأصل: الفاضل.(11/193)
وللموصى له بالباقي سهمان، وللموصى له بالثلث ثلاثة أسهم، فنتخذ هذه النسبة أصلاً في الرد، ونقول: للموصى له بالثلث ثلاثةُ أسهم من ثلاثمائة، وهو مائة وخمسون، وللموصى له بالباقي سهمان، وهو مائة، ولجهة الحج خمسون.
والثلاثمائة كذلك تنقسم إذا قسمت أسداساً.
وهذا الذي ذكره ركيك بالغٌ في الرداءة؛ فإن الموصى له بالباقي [مؤخر] (1) عن تقدير تمام الحج، فالتبعيض من الحج ساقط رديء، وقد وافق ابن خَيْران في أن الموصي لو صرح بتقديم الحج، فقال: قدموا الحج بمائة، وما فضل فهو إلى تمام الثلث لعمرو، فلا يدخل النقص -إذا كان كذلك- على الحج، وقوله ما فضل من الحج تصريحٌ بتقديم الحج، ونظره إلى سهام الإجازة نظرٌ (2) من حيث الظاهر لا غوْصَ (3) فيه؛ فإن الباقي من الحج وقع سهمين، فإذا ردّت الوصايا، فينبغي أن نعتبر الباقي من الحج، ثم ننظر كم يقع.
فقد بطل هذا المذهب.
وما ذكره ابنُ الحداد، وإن لم يخرّج على مذهب الشافعي رضي الله عنه، فهو خارج على مذهب أبي حنيفة.
7450- والمذهب الصحيح أنا إذا رأينا تقديمَ الحج، أخرجنا للحج مائة، وقسمنا الباقي بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالفضل من الحج أخماساً؛ فإن الوصية بالثلث والوصية بالباقي على هذه النسبة [وقعتا] (4) حالة الإجازة، إذا صرفنا إلى الحج مائة، وإلى الموصى له بالثلث ثلاثمائة، وإلى الموصى له بالباقي مائتين، فنرعى هذه النسبة في الوصيتين بعد تقديم الحج؛ فإنا على تقديمه نفرع.
فإن لم نر تقديمَ الحج، فالوجه أن نقول: كنا صرفنا حالة الإجازة ثلثاً إلى الحج،
__________
(1) في الأصل: مرجو.
(2) عبارة (س) : ونظره إلى سهام الإجازة تطرق خبر الظاهر لا عوض منها.
(3) في الأصل: عوض منها.
(4) في الأصل: وقلنا.(11/194)
والفاضل منه كان مصروفاً إلى من له الباقي، وصرفنا ثلثاً إلى الموصى له بالثلث، فنجمع الحج والوصية بالباقي بعد الحج، ونصرف إليهما نصف الثلث، ونصرف إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث، ثم الحج من نصف الثلث وهو مائة وخمسون مائةٌ كاملة، والباقي وهو خمسون للموصى له بالباقي، ونصرف نصف الثلث وهو مائة وخمسون إلى الموصى له بالثلث.
هذا هو الوجه الصحيح الذي لا يسوغ غيرُه، فرّعناه على تقديم الحج على الوصايا كلّها، ثم فرعناه آخراً على تقديم الحج على إحدى الوصيتين، وهي الوصية بالباقي.
7451- صورة أخرى: إذا جرت الوصايا على ما ذكرنا، ثم رد الورثة الزائد على الثلث، وكان الثلث مائة وخمسين، ورأينا أنه لا نقدم الحج على جميع الوصايا، وهو الأصح، فعلى هذا نجعل الثلث نصفين، وسبيله (1) أن نقول: صاحب الحج، وصاحب الباقي بعد الحج نجعلهما حزباً، وصاحب الحج يقول للموصى له [بالثلث] (2) : أنا والموصى له بالباقي نأخذ مثل ما تأخذ [فأَعُدُّ] (3) الموصى له بالباقي عليك، حتى أشاطرك، فاني وصاحبي مضافان إلى الثلث، ثم أفوز بنصف المائة والخمسين، ولا أدفع إلى صاحبي شيئاً، وأُعَادِكَ (4) به، كفعل الأخ من الأب والأم مع
__________
(1) (س) : وسيأتي.
(2) في الأصل: فالثلث.
(3) في الأصل: مثل ما نأخذفاً عند الموصى له ... وفي (س) : مثل ما نأخذ ما عدا الرضى. والمثبت تقدير منا، على ضوء السياق.
(4) وأعادك به: يمثلون هذه المسألة من مسائل الوصية بمسائل المعاداة في ميراث الجد مع الإخوة، فهنا يقول صاحب الحج للموصى له بالثلث: أنا والموصى له بالباقي بعد الحج إلى تمام الثلث، نشاطرك الوصيةَ نصفين، ثم أفوز أنا بالنصف كاملاً ولا أدفع للموصى له بتمام الثلث بعد أجرة الحج شيئاً، وذلك مثل مسألة (المعادّة) من مسائل ميراث الجد مع الإخوة، حين تجمع الفريضةُ الأخَ الشقيق وأخاً لأب مع الجد، فهنا يُحسب الأخُ لأب، ويُعدّ على الجد، ويُقسم له ثلث التركة، ثم يعود الأخُ الشقيق، فيأخذ نصيب الأخ إلى نصيبه؛ لأن الأخ لأب يُحجب بالأخ الشفيق، ولكنه احتُسب على الجد؛ لأن الجد يعجز عن دفع الإخوة لأب إذا اجتمعوا معه منفردين عن الأشقاء، فإذا اجتمعوا مع الأشقاء، وهم أقوى، كان الجد عن =(11/195)
الأخ من الأب، [والجد] (1) ؛ فإن الأخ من الأب، وإن كان محجوباً بالأخ من الأب والأم، فإنه يعدُّه على الجد (2) ، ونقدر الأخ من الأب ضارباً في ثلثي التركة حتى لا يخص الجدَّ إلا ثلث، ثم ما يقدّر للأخ من الأب يفوز به الأخ من الأب والأم، كذلك صاحب الحج يشاطر صاحب الثلث بضم صاحب الباقي إلى نفسه، ثم يفوز بجميع الشَّطر؛ فإنه أقلُّ (3) من المائة التي يستحقها، فلا يفضل منه شيء.
هكذا (4) ذكره أئمة العراق وصاحب التقريب وكلُّ معتبرٍ في المذهب، فلا فرق بين المعادّة في الفرائض، وبين ما ذكرناه هاهنا. ومن [قبيل] (5) المعادَّة ردُّنا الأمَّ إلى السدس في فريضة فيها أبٌ وأخوان وأم؛ فإن الأخوين وإن سقطا بالأب، فهما معدودان على الأم، والأب يقول: أنا حاجبهما، فهما محسوبان عليك.
وقال ابن خَيْران: اعتبرْ حالة الإجازة، فإذا كان الثلث مائةً وخمسين، فالثلثان (6) ثلاثمائة، فلو أجاز الورثة الوصايا، فعلمنا للموصى له بالثلث مائة وخمسون، وللحج مائة، والباقي من الثلث الثاني وهو خمسون للموصى له بالباقي بعد الحج، فقد وقعت القسمة في الإجازة في هذه الصورة أسداساً، ولكن وقع للحج سهمان في الإجازة وللباقي سهم وللثلث ثلاثة أسهم، فإذا ردّت الوصايا إلى مائة وخمسين، قسمناها على ستة أسهم: لصاحب الثلث [منها] (7) ثلاثة أسهم، وهو خمسة
__________
= دفعهم أعجز، فهم إذاً يُحسبون على الجد، ثم يسلّم نصيبهم للأشقاء، وما أحسن قول صاحب الرحبية:
واحكم على الإخوة بعد العَدِّ ... حكمَك فيهم عند فقد الجد
(1) في الأصل: والأم.
(2) في الأصل: بعده على الجد به، ونقدر.
(3) (س) : أولى.
(4) (س) : هذا.
(5) في الأصل: قبل.
(6) أي عندما يجيز الورثة صرف الثلثين.
(7) في الأصل: فيها.(11/196)
وسبعون، ولصاحب الحج سهمان، وهو خمسون، ولصاحب الباقي سهم، وهو خمسة وعشرون.
وهذا ظاهر السقوط، وتبيّن بقوله في هذه الصورة ضعفُ مذهبه [وإن] (1) جرى على قياس واحد؛ لأن ما ذكره لو كان نسبة حقيقية بالجزئية، لكانت لا تختلف بقلة المال وكثرته، وقد (2) خص صاحب الباقي في المسألة الأولى مائتان وخص الحجَّ مائة، والسبب فيه أن الباقي هو المعتبر، وقد اختلف قدر الباقي، ولا باقي في مسألتنا عن الحج، بل ليس [ما بقي] (3) معنا بمقدار الحج، فيظهر بطلان مذهبه، واتضح أن المسلك الحق ما ذكرناه.
وفي نفسي من المعادّة شيء؛ من جهة أن صاحب الباقي [مترتب] (4) على الحج (5) ، فكيف يعادّ به صاحبُ الحج صاحبَ الثلث، والأخ من الأب يزاحم الجد مزاحمة الأشخاص، وكذلك الإخوة في فريضة فيها أبٌ وأم، (6 وإذا لم نعتبر المعادّة، ولم 6) نعتبر الحج، قلنا فريضة فيها حج بمائة، ووصية بثلث، وهما محصوران في الثلث، والثلث مائة وخمسون، فيجب أن نصرف للحج سهمين ولصاحب الثلث ثلاثة أسهم، [وهذا احتمال] (7) ، والأصل ما ذكره الأصحاب من المعادّة.
7452- صورة أخرى: إذا كان ترتيب الوصايا على ما صورنا، والثلث مائةٌ، وقد جرت الوصية بالثلث، وأجرةُ الحج مائةٌ.
فنقول: أما الوصية بما تبقى بعد أجرة الحج إلى الثلث، فباطلةٌ في هذه الصورة؛
__________
(1) في الأصل: ولو.
(2) عبارة (س) : بقلة المال وكثرته، وحظ الحج مائة، والسبب فيه أن الباقي في المسألة الأولى مائتان، وحظ الحج فيه مائة، والسبب فيه أن الباقي هو المعتبر ... إلخ.
(3) عبارة الأصل: بل ليس في معنا ما بقي بمقدار الحج.
(4) في الأصل: مترقب.
(5) في الأصل: على أن الحج.
(6) ما بين القوسين سقط من (س) .
(7) في الأصل: وهو الاحتمال.(11/197)
فإن الأجرة مستغرقة للثلث، فليس يفضل منها شيء، والمعادّة التي ذكرها الأئمة في الصورة المتقدمة لا معنى لها في هذه الصورَة؛ فإن المعادّة إنما تجري بين ثلاثة أشخاص فصاعداً، إذا كان الذي يقع المعادة به [يُفرضُ استحقاقُه] (1) مع واحد من الثلاثة إذا لم يكن (2) الثالث، كالجد والأخ من الأب والأم والأخ من الأب، فالمعادّة تقع بالأخ من الأب؛ من جهة أنه لو كان مع الجد وليس معهما أخ من أب وأم يقاسم الجدَّ، فيعدّه الأخُ من الأب والأم على الجد.
وإذا كان من يُفرض المعادّة به (3) لا يرث مع أحدٍ في الفريضة، فلا معنى للمعادّة به، وهذا كالأخ من الأم مع الجد، والأخِ من الأب والأم.
والوصيةُ بالباقي إذا كلان الثلث زائداً على المائة التي هي قدر الثلث يقدّر ثبوتُها لو تفردت الوصية بالحج، فيجوز أن يقع [بتلك] (4) الوصية معادّة مع الموصى له بالثلث، فأما إذا كان الثلث على مقدار أجرة الحج، فلا يتصور للوصية بالباقي ثبات (5) . ثم إن رأينا تقديمَ الوصية بالحج، فالوصية بالثلث ساقطة، كما سقطت الوصية بالباقي، والثلث مستغرَق بأجرة الحج، وهو مصروف إليها، وإن لم نر تقديم الحج، [فالثلث] (6) بين الحج وبين الموصى له بالثلث؛ فإن الحاج يضرب بمائة والموصى له بالثلث [يضرب] (7) بالثلث، وهو [مائة] (8) فيما نطلقه في أول المسألة إلى أن تظهر غائلتها.
7453- ثم المسألة تدور لا محالة؛ فإنها مفروضة في الوصية بحجة الإسلام،
__________
(1) في الأصل: ففرض استحقاق. و (س) : بعوض استحقاق، والمثبت تصرف منا.
(2) يكن الثالث: كان هنا تامة.
(3) سقطت من (س) .
(4) في الأصل: لملك، و (س) : لتلك.
(5) (س) : فلا يتصور الوصية بالباقي بثلث.
(6) في الأصل: بالثلث.
(7) في الأصل: يصرف.
(8) في الأصل: بمائة.(11/198)
والثلث في الصورة التي ذكرناها لا يفي بمقدار الحج، فلا بد من استكمال أجرة الحج من رأس المال، وإذا أخذنا من رأس المال مقداراً، نقص (1) الثلث، وقلّ ما يحصل المضاربة [به] (2) [ويزداد] (3) المأخوذ من رأس المال، ولا ننفصل (4) إلا بالحساب، ومهما لم تف حصة الحج [بأجرة الحج] (5) وهو حجة الإسلام، [دارت] (6) المسألة؛ للاحتياج إلى أخذ التكملة والقيمة من رأس المال.
ثم قال الأصحاب: وجه الدور في هذه المسألة أن يقال: نأخذ من رأس المال شيئاً مجهولاً، فيبقى مال ناقص شيئاً، فثلثه وهو مائة ناقص بثلث شيء، فنقسم ذلك بين الحج وبين الموصى له بالثلث نصفين، يخص كلَّ واحد منهما خمسون ناقصاً بسدس شيء؛ فإن الثلث مائة ناقصة بثلث شيء، وفي يد الحاج شيء وخمسون درهماً ناقصاً بسدس شيء، فنجبر الخمسين بسدس شيء من هذا الشيء الذي أخذناه، فصار خمسين وخمسة أسداس شيء، وذلك يعدل مائة، فيذهب الخمسون بالخمسين، ويبقى خمسة أسداس شيء تعدل خمسين، فالشيء يعدل [ستين] (7) ، فنعود ونقول: الشيء المأخوذ من رأس المال ستون، يبقى مائتان وأربعون، ثلثها ثمانون، أربعون منها لعمرو الموصى له بالثلث، وأربعون للحج، وإذا ضم إلى [ستين] (8) ، كملت المائة.
قال الشيخ القفال: هكذا عَمَلُ (9) أصحابنا، وهو غلط عندي؛ لأنا إذا أخذنا
__________
(1) (س) : مقداراً من الثلث.
(2) ساقطة من الأصل، وعبارة (س) : وقل ما يحصل بالمضاربة.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) ولا ننفصل: المعنى ولا يتم بيان المسألة إلا بالحساب.
(5) زيادة من (س) .
(6) في الأصل: وارث.
(7) في الأصل: شيئين.
(8) في الأصل: شيئين.
(9) (س) : ذكره أصحابنا، والأولى نسخة (عمل) فهذا يشبه المصطلح عند الفقهاء يريدون به الحساب.(11/199)
الستين من رأس المال، وكان الثلث بعد الستين ثمانين، فالموصى له بالثلث يجب أن [يضرب] (1) بثمانين؛ فإن الثلث إنما يقام ويعدّل بعد أخذ الديون من رأس المال، والحاج يضارب بالمائة التامة بحكم الوصية.
فالمسلك الحق في الفقه لو صحت هذه الصورة أن يضرب الحاج بعشرة أسهم، ويضرب الموصى له بالثلث بثمانية أسهم. وإذا جرى التضارب كذلك، ازداد نصيب الحج، واختلف الحُسَّاب في المأخوذ من رأس المال، وعلى عبارة الجبر يضارب الحاج بمائةٍ كاملة، ويضارب الموصى له [بالثلث بمائة ناقصة ثلث شيء، فالتضارب في مائة ناقصة ثلث شيء، وصاحب الحج يضرب] (2) بمائة تامة، هذا كلام القفال (3) ، ويجب بحسبه في الصورة التي ذكرناها أن يكون المأخوذ من رأس المال [أقلَّ] (4) من ستين، فإنا لو أخذنا الستين [وأثبتنا] (5) المضاربة بالمائة، [لزاد] (6) ما يحصل على مائة.
ونحن نقول: ما ذكره القفال من تغليط الأصحاب صحيح لا مراء فيه [ووجهه] (7) ما أبديناه من كلامه.
__________
(1) في الأصل: يصرف.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (س) .
(3) في هامش نسخة الأصل حاشية عبارتها كالآتي:
" هذا من كلام الإمام الأجل أبي نصر القشيري رضي الله عنه " ثم بعد هذا مباشرة: "قوله: الحاج يضارب بالمائة التامة فيه نظر: إذا وقع له شيء من رأس المال، فلا يضارب بمائة تامة، لأنه يؤدي إلى أن يقال: يضارب بأكثر من المائة، لأنه وقع له شيء من رأس المال، فالوجه ما ذكره الأصحاب لا غير. وما قاله القفال يؤدي إلى ألا ينقضي حكم المسألة أبداً، وهو محال" ا. هـ بنصه من هامش نسخة الأصل.
(4) في الأصل: يقل.
(5) في الأصل: وأثبثت.
(6) في الأصل: أراد.
(7) في الأصل: وجهه.(11/200)
هذا القدر من كلام الشيخ [الإمام] (1) أبي نصر القشيري (2) رحمة الله عليه (3) ، ثم لم يذكر (4) رضي الله عنه وجه الصواب في الحساب.
ونحن إن وفق الله تعالى نذكر ما يحضرنا في هذه المسألة، إن شاء الله عز وجل فنقول وقد نجزت مسائل الحج بما فيها: قد (5) ذكر أئمة العراق في مسألة ابن الحداد وهي الوصية بالحج وبما بقي إلى تمام الثلث مع الوصية بثلث لثالثٍ شرطاً لم أره إلا لهم، وذلك أنهم قالوا: إذا تقدمت الوصية بالحج وبما بقي من الثلث، ثم جرت الوصية بثلث بعد ذلك، [فالأجوبة] (6) كما قدمناها في أطراف المسألة.
فأما إذا تقدمت الوصية بالثلث، ثم جرى بعدها الوصية بالحج وبما يبقى بعد الحج إلى الثلث، فالوصية بالباقي إلى تمام الثلث باطلة؛ فإنه قد تقدم ذكر الثلث كاملاً، فالوصية بما يبقى بعد الثلث فاسدة في اللفظ.
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) الإمام أبو نصر القشيري، هو الإمام بن الإمام، الأستاذ أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري. الفقيه الفرضي.
أحد النوابغ المرموقين، والهداة المهديين، إمام العلم والعمل. تخرّج بوالده، ثم بإمام الحرمين، فقد لازمه وواظب على درسه وصحبته ليلاً ونهاراً، ولزمه حتى حصّل طريقته في المذهب والخلاف.
بلغ من نبوغه وعلوّ شأنه أن نال التقدير والإجلال من شيوخ عصره، وأئمة وقته، وتوّج ذلك أن شيخه إمام الحرمين كان يعتدّ به ويستفرغ أكثر أيامه معه، واستفاد منه بعض مسائل الحساب في الفرائض والدور والوصية؛ ودوّن ذلك منسوباً إليه في كتابه هذا (نهاية المطلب) .
وبحقٍ قال السبكي: "وأعظم ما عظم به أبو نصر أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية من النهاية، وهذه مرتبة رفيعة".
توفي الإمام أبو نصر سنة 514 بنيسابور.
(طبقات السبكي: 7/159، والإسنوي: 2/302، وابن الصلاح: 1/546) .
(3) الترحّم من الناسخ، وإلا فإن أبا نصر توفي -كما ترى- بعد إمام الحرمين.
(4) (س) : يدرك وجه الصواب.
(5) في النسختين: وقد.
(6) في الأصل: فالأوجبة.(11/201)
وهذا الذي ذكروه لا أصل له؛ فإنه [و] (1) إن جرى ذكر الثلث، فالوصية بالباقي بعد الثلث من الحج مقدرة من ثلثٍ آخر، ولا يمتنع تقدير [فضلٍ] (2) من الحج إذا قُدّر ثلث آخر؛ فإن ذلك الباقي مضاف إلى الحج، وما تبقى منه إلى تمام ثُلثٍ.
7454- ومما كان يذكره شيخنا أبو محمد رضي الله عنه أن الوصية بالحج إذا تقيدت بترشيح رجل من بلدةِ الموصي، فإن وجدنا وفاء نفذناه، وإن لم نجد وفاءً، رَدَدْنا الحجة إلى الميقات، وإن كان [يفي] (3) ما ظفرنا به ببعض الطريق قبل الانتهاء إلى الميقات، فإنا نُحجّ شخصاً من نصف الطريق، وكلما طالت مسافة القصد، كان [الحج] (4) أفضل. وبالله التوفيق (5) .
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى بأمةٍ لزوجها وهو حُرّ ... إلى آخره" (6) .
7455- هذا الفصل وفصول بعده يستند إلى الملك متى يحصل للموصى له في الموصى به؟ ونحن نمهد قاعدة المذهب في هذا أولاً، ونوضح ما فيه أصلاً وتفريعاً، ثم نعود إلى تتبع الفصول المذكورة في (المختصر) على وِلائها، فنقول أولاً: الإيجاب في الوصية لا بد منه، وهو لفظةٌ دالةٌ على التمليك نصّاً صادرةٌ من
__________
(1) الواو زائدة من (س) .
(2) في الأصل: حصل.
(3) في الأصل: يثمن.
(4) في الأصل: بالحج.
(5) هنا في نسخة الأصل: تمت المجلدة الرابعة عشرة بعون الله وحسن توفيقه. وبعدها البسملة في أول الفصل، وأبقيناها تيمناً.
(6) ر. المختصر: 3/164.(11/202)
الموصِي، وذلك مثل أن يقول: أوصيت لفلان بكذا، أو ملكته كذا، أو أعطوه كذا، أو سلموا إليه من مالي كذا، فهذه الألفاظ وما في معانيها إيجابٌ من الموصي.
وتردد أئمتنا فيه إذا قال: وهبت لفلان كذا، ورام الإيصاء، لا تنجيز [الهبة] (1) : فمنهم من قال: هذا إيصاء، كقوله: ملكت فلاناً، ومنهم من قال: لا تصح (2) الوصية بهذه اللفظة؛ فإنها صريح في الهبة المنجزة، فإذا لم يترتب عليها مقتضاها في تنجيز الهبة، بطلت.
فهذا بيان ما يكون إيجاباً.
فإذا ذكر صيغةً صريحة في الإقرار، فهي إقرار، وليست [إيصاءً] (3) ، وذلك كقوله: هذا العبد لفلان، حتى لو أراد حملَ ذلك على الإيصاء، لم يُقبل منه، ولو قرن باللفظ ما يخرجه عن كونه إقرار، مثل أن يقول: هذا العبد من مالي لفلان، فالإقرار على هذه الصيغة باطل، وهل يكون هذا إيصاءً مع عُروّه عن إنشاء تمليك؟ فيه تردّدٌ واحتمال (4) . ولو قال: جعلت هذا العبدَ لفلان، فهذا إيصاء (5 لتصريحه بإثبات الملك له، ولو قال: عيّنتُ هذا العبدَ لفلان، فما أرى ذلك إيصاء 5) ؛ فإن التعيين له يتردد بين معانٍ: أحدها وعْدٌ بالإيصاء، كأنه قال: عينته له لأوصي له [به] (6) ، ويجوز أن يريد بلفظه [تعينه] (7) للوصية بالمنافع، وإذا تقابلت جهات الإمكان، فلا نجعل اللفظ إيجاباً في الإيصاء، فإن زعم من [يُقرّ] (8) أنه أراد إيصاء، فالظاهر عندي صحةُ الإيصاء (9) بالكنايات إذا اقترنت بالقصود والنيات. وقد ذكرت
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(2) وهو الأصح، ذكره النووي في الروضة: 6/140.
(3) في الأصل: اسيا (انظر صورتها) .
(4) المعتمد في المذهب أنه يصح، قاله النووي (ر. الروضة: 6/140) .
(5) ما بين القوسين سقط من (س) .
(6) في الأصل: بها.
(7) في الأصل: تعينها.
(8) في الأصل: بعد.
(9) وهو المعتمد: (ر. الروضة: 6/140) .(11/203)
تردداً في انعقاد البياعات بالكنايات، والسبب فيه استدعاء البيع جواباً ناجزاً من المخاطب به، وذلك يستدعي إفهاماً وهو عَسِرٌ بالكناية، وسأجمع في ذلك قولاً جامعاً [في] (1) كتاب الخلع، إن شاء الله تعالى، والإيصاء لا يستدعي في الحال (2) جواباً ولذلك قَبِل التعليقَ بالأغرار والأخطار.
فهذا بيان ما يقع إيصاء، ثم لا خلاف أن الوصية لا تستدعي جواباً من الموصى له في الحال، بل أجمع أئمتنا على أنه لو قبل، لم يكن لقبوله في حياة الموصي حكم، ولو أراد الردّ بعد موت الموصي، لكان على خِيَرته فيه، وكذلك لو ردّ الوصيةَ في حياة الموصي، لم يكن لرده حكم، وهو على خِيرَته في القبول بعد موت الموصي، ثم لا خلاف أن القبول لا بد منه، كما سنصفه، ولا يشترط مبادرة القبول من الموصى له كما (3) بلغه موت الموصي، ولكن الخيار إليه في التأخير والتعجيل.
7456- فإذا تبين ما ذكرناه، افتتحنا بعده غرضنا في أن الملك متى يحصل للموصى له في الموصى به؟ وقد اختلفت النصوص، وحاصل الأقوال في ذلك ثلاثةٌ: أحدها - أن الملك يحصل بموت الموصي من قَبْل القبول، ولكن لزومه منوط بالقبول، فإن قبل الموصى له، لزم الملك، واستقرّ إذا وفّى الثلث، وإن ردّ، انقطع الملك بعد ثبوته.
والقول الثاني -وهو أعدل الأقوال وأمثلها- أن الملك موقوف (4) مراعى، فإن قبل الموصى له، تبيّنا أن الملك حصل بموت الموصي إسناداً إليه، وإن تأخر القبول عنه بمدة مديدة. وإن ردّ، تبينا أن الملك لم يحصل.
__________
(1) في الأصل: من.
(2) في (س) : جواباً في الحال.
(3) كما بلغه: كما بمعنى عندما، وهذا استعمال جرى كثيراً في لسان الإمام، وتبعه فيه تلميذه أبو حامد الغزالي، وقال النووي في التنقيح: " وليست بعربية ولا صحيحة " وقد أشرنا إلى هذا من قبل أكثر من مرّة.
(4) وهو كما قال الإمام، فهو المعتمد في المذهب (ر. الروضة: 6/143) .(11/204)
والقول الثالث - أن الملك يحصل للموصى له في الموصى به عند تمام قبول الموصى له؛ فالقبول يستعقب الملك على هذا القول.
7457- التوجيه: من قال: الملك يحصل بموت الموصي، احتج بأن هذا ملكٌ يقتضيه الموت، مع تقدم الإيصاء، فشابه الملك الذي يقتضيه التوريث، غير أنا نسلّط الموصى له على الزد إن أراده، حتى لا يدخل على اللزوم في ملكه ما لا يريده، ولو كان القبول يستعقب الملك في المقبول، لوجب اشتراط اتصال القبول بالإيجاب، فلما لم يكن كذلك، بل كان القبول المتصلُ بالإيصاء في حياة الموصي مردوداً ساقطَ الأثر، دلّ أن عماد الملك الموتُ بعد الإيصاء.
ومن قال: الملك يحصل عقيب القبول، احتج بأن قال: القبول معتبر بالاتفاق، إنما الكلام في أثره وفائدته، وكل تمليك اعتبر القبول فيه وجب أن يكون القبول مؤثراً في تحصيل الملك، حتى لا يتقدم حصول الملك عليه، وأيضاً؛ فإن إدخال الأشياء في أملاك الناس قَهْراً من غير ولاية بعيدٌ عن قاعدة الشريعة، وإن ثبتت (1) لهم الخيرة في الرد. وسيتضح وقع هذا في التفريع.
وأما وجه قول الوقف، فواضح، وفيه الجمع [بين نكت] (2) الأقوال؛ فإن القبول لا بد منه، وليس هو على قياس القبول في سائر العقود، وللموت أثر بيّن في اقتضاء تحصيل الملك، فالوجه ربط الملك بالقبول في معرض التبيّن والإسناد.
7458- فإذا ظهرت الأقوال نقلاً وتوجيهاً، فأظهرها في نصوص الشافعي قولُ الوقف، وأبعدها في النقل قولُ استعقاب القبول الملك، ويلي قولَ الوقف في الظهور قولُ حصول الملك بموت الموصي.
وأول ما نذكره في تأسيس الأقوال قبل الخوض في تفصيل التفريع عليها أنا إن حكمنا بوقوع الملك بالموت، فالرد نقضٌ للملك، وإن حكمنا بالوقف، فمعناه لائح، وإن حكمنا باستعقاب القبول الملكَ، فالملك في الموصى به بعد موت
__________
(1) (س) : وإن لم تثبت لهم الخيرة.
(2) في الأصل: من نكة.(11/205)
الموصي إلى قبول الموصى له لمَنْ؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - أن الملك للوارث [فيه] (1) .
والثاني - أن الملك [يبقى للميت، فإذا فرض القبول، فإذ ذاك يملك الموصى له.
توجيه الوجهين:
7459- من قال: الملك] (2) للوارث احتج بأن الموصى به مملوك، وليس يحتمل مذهب الشافعي إثباتَ مملوك لا مالك له، ويستحيل بقاء الملك للميت؛ فإن الموت مقطعةٌ للأملاك، ومِن أدنى آثاره أن يخرج الميت عن كونه مالكاً، فيتيعن إسناد الملك إلى الوارث.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الملك لو وقع بالموت للوارث، لكان الموصى له متملّكاً عنه، (3 وهذا بعيد عن وضع الوصية، مع أن الموصي مملِّك والموصى له يتملك عنه 3) ولا يبعد تقدير بقاء الملك له إلى اتفاق التملك بالقبول، حتى يكون ملكُ الموصى له مترتباً على ملك الموصي، وإن كان لا يبعد بقاء الدّين على الميت تحقيقاً، فكذلك لا يبعد بقاء الملك له، وقد صار صائرون من أئمتنا إلى أن الأكفان على ملك الميت، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
فإذا ثبتت الأقوال تأصيلاً، افتتحنا التفريع عليها، [حتى إذا استكملنا ما أراد الله من التفريع، خرَّجنا على مجاري التفريعات] (4) فصولَ السواد (5) ، إن شاء الله.
7460- فإن قلنا: الملك في الموصى به يحصل بموت الموصي، فيتفرع على ذلك القولُ [في] (6) الزوائد، والمغارم، وانقطاع النكاح إن كان أوصى مالكُ الجارية
__________
(1) في الأصل: منه.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(4) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(5) السواد: المراد به مختصر المزني، كما تكررت الإشارة سابقاً.
(6) في الأصل: والزوائد.(11/206)
برقبتها لزوجها، يتفرع أيضاً عتقُ الموصى به على الموصى له إن كان ابنه أو أباه أو غيرهما من الأصول والفصول. فهذه الأحكام لا بد من تفريعها.
فأما القول في الفوائد كالأكساب، والنتاج الحادث، والثمار وما في معانيهما من الفوائد المنفصلة، فالقول الوجيز فيها أن الوصية إذا اتصلت بالقبول والتفريع على أن الملك يحصل بالموت، فتلك الزوائد تساق بجملتها إلى الموصى له، ولو أتلف بعضَها متلفٌ قبل القبول، غرِم البدلَ للموصى له؛ فإنه اجتمع أمران: أحدهما - حصول الزوائد في وقت ملكه، على القول الذي عليه التفريع، والثاني - استقرار الملك عليه آخراً بالقبول. هذا إذا قبل.
فإن ردّ الوصية، ارتد الملكُ وانقلب إلى الورثة، وكان تركةً يؤدى منه الديون وتنفّذ منه الوصايا الثابتة. وفي تلك الزوائد وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تنقلب إلى الورثة وتتبع الأصل في انقلابها.
والوجه الثاني - أن الملك يرتد في الموصى به، وتبقى الزوائد في ملك الموصى له ملكاً لازماً لا يملك رده.
توجيه الوجهين: من قال: إنها تبقى على اللزوم، احتج بحصولها في الملك مع اختصاص الرد بمحل الوصية، ولو أراد الموصى له ردّ الزوائد، لم يملكه، كما (1) لو حدثت زوائد على العين المشتراة (2) في يد المشتري، ثم [إذا ردّ] (3) المشتري بعيب اطلع عليه، فالزوائد تبقى له، ولا ترتد بردّه، وهذا مما نقله الشيخ أبو بكر في أثناء كلامه.
ووجه الوجه الثاني - أن الزوائد ترتدُّ تابعةً؛ إذ لو قضينا ببقائها على ملك الموصى له، لكان ذلك تسبباً إلى إدخال شيء في ملكه قهراً، وهو مطلق لا حجر عليه، وهذا بعيد عن القواعد، وينضم إليه أن الملك قبل حصول القبول ضعيف؛ فيليق بارتداده
__________
(1) (س) : حتى لو حدثت.
(2) (س) : المستردة.
(3) في الأصل: أراد ردّ المشتري.(11/207)
استتباع الزوائد، وقد ذكرنا في التفريع على أقوال الخيار في البيع أنه إذا حدثت [زوائد] (1) في زمان الخيار، ثم أفضى العقد إلى الفسخ، والتفريع على أن الملك في زمان الخيار للمشتري، فإذا ارتد ملكه في المبيع، فهل يرتد الزوائد؟ فعلى خلافٍ مشهور، وبقاء الملك للمشتري في الزوائد مع ردّ الأصل أوجه من بقاء الملك في الزوائد في الوصية؛ فإن عقد البيع جرى بإيجابه وقبوله على حسب اختيار المشتري على حالٍ، فإن بقّينا له زوائدَ. صادفنا في ذلك [مستنداً من] (2) اختيار المشتري، ولم يجْرِ في الوصية قبل القبول اختيارٌ، [فيبعد] (3) عن القواعد إلزام الموصى له الملكَ في الزوائد على وجهٍ لا يملك نقضَه وردَّه.
ولا شك أنه يلتحق بالزوائد [العُقر] (4) الذي يجب على الواطىء بالشبهة بين [موت] (5) الموصي والقبول، وهو مندرج تحت ما أطلقناه من قيم الفوائد؛ فإن منافع البضع من الفوائد التي تجري بين موت الموصي وقبول الموصى له، والعُقر قيمةُ ما أتلفه الواطىء من منافع البضع.
وكذلك القول في أجرة المنافع إذا وجبت على الغاصب للعين الموصى بها.
هذا منتهى قولنا في الزوائد عند فرض القبول والردّ، تفريعاً على أن الملك يحصل بالموت.
7461- فأما ترتيبُ القول في المغارم التي من جملتها زكاة الفطر، فإذا فرض استهلال هلال شوال بين موت الموصي وقبول الموصى له، فزكاة الفطر تجب على الموصى له إن قبل الوصية على ظاهر المذهب؛ فان الملك كان في الرقبة حالة الاستهلال للموصى له، ثم أفضى إلى القرار بالقبول، وقد ذكرت هذا بما فيه
__________
(1) في الأصل: زايد.
(2) في الأصل: مستند إلى.
(3) في الأصل: فبعد.
(4) في النسختين: العقد.
(5) زيادة من المحقق، سقطت من النسختين.(11/208)
مستقصىً في كتاب الزكاة، وأتيتُ في ترتيبه وتوصيفه بالعجائب والآيات، فليتأمّله مَنْ يريده في موضعه (1) ، ولْيَجمع بين ما ذكرتُه ثَمَّ وبين ما جمعتُه ها هنا لتتم القواعد جُمَع.
والقول في النفقات والمؤن بين الوفاة والقبول يخرج على هذا القانون، فإن [أفضى] (2) الملك إلى القرار، فالمؤن بجملتها على الموصى له، وإن رد الموصى له الوصيةَ، فلا أحد من الأصحاب يستجيز إلزام الموصى له بالمؤن بين الموت والرد؛ فإن هذا إن قيل به هجومٌ عظيم على القواعد، وليس هذا كإلزامه ملكَ الزوائد حتى لا يمكن ردّها، نعم، وفي إلزامه الزوائد إلزامُه مؤن الزوائد، وهذا والحق أحق ما قيل فيه بعيدٌ، ولكنه متعلق بملك يقرّ (3) في الزوائد، فكان يقرب بعض القرب، وإنما الأمر الذي لا يحتمل إلزام المؤنة مع ارتداد الملك في الأصل.
وقد يعترض وراء ما ذكرناه إشكال، وهو أن الموصى له إذا كان يؤخر القبولَ والنفقاتُ التي تسد الحاجات جاريةٌ لا تقف، فمن المطالب بها؟
الوجه أن نقول للموصى [له] (4) : هل لك في تعجيل القبول [أو] (5) الرد؟ ولا نُلزمه واحداً [منهما] (6) ، فإن قبل، لم يخف حكم القبول ولزوم النفقات، وإن ردّ، لم يخف حكم الردّ وانقلابُ المؤن إلى الورثة، وإن قال: لست أقبل الآن، ولست أردّ، وليس لكم حملٌ على أحد هذين، فيتجه جداً إن قال ذلك، أن يُطوَّقَ النفقةَ (7) ونلزمه إياها؛ بناء على حصول الملك، وهو مقتدر على صرف المؤن عن نفسه بالرّدّ، ولو لم نقل هذا، والنفقاتُ لا تقف، وإلزامُ الورثة ولا ملك لهم محال،
__________
(1) الزكاة ج 3 ص 387.
(2) في الأصل: أمضى.
(3) (س) : تقرر.
(4) سقطت من الأصل.
(5) في الأصل: والرد.
(6) في الأصل: منها.
(7) (س) : أن نلزمه النفقة.(11/209)
والإنفاق من التركة محالٌ، وردُّ المؤن إلى بيت المال بعيد - لم نجد للمقال مساغاً، ثم لا نعدَم للإلزام مثالاً، فإن من طلق على الإبهام إحدى امرأتيه طلاقاً مبيناً، وامتنع عن بيان المطلقة منهما، فعليه [التزام] (1) نفقتهما جميعاً -كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل- وإن كانت إحداهما بائنة، وكذلك القول في النسوة [الزائدات] (2) على منتهى العدد إذا أسلم عليهن زوجُهن، وأسلمن، ثم امتنع الزوج عن اختيار أربع منهن، فنفقتهن واجبة عليه في زمان التوقف، وليس ينقدح مسلك آخر سوى ما ذكرناه.
فإن قيل: إذا مضت مدة [الخيار] (3) على ما [وصفناه] (4) ، ثم اختار الموصى له الردّ، قلنا: النفقة المقتضاة منه جاريةٌ، [لا استدراك] (5) لها، ولا تراجع فيها؛ فإنه أُتي من قِبَل نفسه، ولم يختلف أصحابنا في أن الزوج إذا توقف عن البيان زماناً، وألزمناه النفقةَ، ثم بيّن، فما ألزمناه من النفقة لا يرجع به، هذا والمطلقةُ بائنة لا اعتصام لها في النفقة إلا [تأخر البيان] (6) ، والملك على القول الذي عليه نفرع ثابت للموصى له، وقد انضم إليه توقُّفُه مع القدرة على التنجيز.
7462- فلو فرضنا الموصى له غائباً، وعسر (7) الوصول إليه، وتعذرت مراجعته، فنفقة العبد الموصى به ممن تؤخذ في الحال؟ الوجه (8) أن يقال: إن أمكن استكساب العبد، فعلنا ذلك، فإن كان لا يكسب، ولا يستقل به، فلسنا نرى في الحال مأخذاً
__________
(1) في النسختين: إلزام.
(2) في الأصل: الزائد.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: وضعنا.
(5) في الأصل: الاستدراك.
(6) مكان كلمة لم نساعَد على قراءتها، فاستغلقت علينا (انظر صورتها) . وفي (س) يمكن أن تقرأ على استكراه: "إلا التبيين المتأخر".
(7) (س) : وتيسر.
(8) (س) : فالوجه.(11/210)
إلا بيتَ المال؛ إذ لا ملك للورثة فيطالبوا، وإنما يطالب بالنفقة مالكُ الرقبة، ولا سبيل إلى التعطيل، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
ثم إذا قبل الموصى له الوصية، فالرجوع عليه بما أخرجناه من بيت المال منقدحٌ، وقد استقر الملك عليه آخراً، ويثبت للسلطان هذا النوع من التسلط، وهو بمثابة ما لو أنفق على عبيدِ غائب لمسيس الحاجة إلى الإنفاق عليهم، فإذا رجع المالكُ، رجع السلطان عليه، وإن ردّ الموصى له الوصية لمّا بلغه خبرها، [ففي] (1) الرجوع عليه بالنفقة [بُعدٌ] (2) ؛ من جهة أن في ذلك إلزامَه مؤنةً من غير اختيارٍ منه، ومن غير تردّد مع العرض عليه، ولا سبيل أصلاً إلى الرجوع على التركة والورثة؛ فإن الملك لم يكن لهم، والنفقة تتبع الملك، كما رآه الناظر.
ولا يبعد أن يقال: إذا كنا نرى ارتداد الزوائد إلى الورثة إذا رُدّت الوصية، فينقلب عليهم الرجوع بالنفقات التي جرت، ونقول بحسبه: إذا كنا نُبقي الزوائد للموصى له مع ردّه الأصلَ، فلا يبعد أن يرجع السلطان عليه [بالمؤنة] (3) ، هذا مسلكٌ في الاحتمال، [والفرق أظهر] (4) فيه؛ فإن إثبات الملك للغير (5) أقرب إلى [الأصول] (6) من إلزامه مؤنةً من غير اختياره، ومن غير تسببه إلى التوقف، وانقلاب الزوائد على الورثة على مذهب الاتباع من وقت ارتداد الملك، وليس ذلك على الإسناد إلى ما تقدم، فينتظم من مجموع ذلك ألا يكون لبيت المال [مرجع] (7) .
هذا منتهى القول في الزوائد والمؤن والمغارم، تفريعاً على أن الملك يحصل بموت الموصي.
__________
(1) في الأصل: مع.
(2) في الأصل: بعيد.
(3) في الأصل: بالدية.
(4) في الأصل: والفرق فيه، وفي (س) : والمعنى أظهر فيه، والمثبت اختيار منا، وهو تلفيق من النسختين مراعاة للمعنى والسياق.
(5) (س) : المعين.
(6) في الأصل: الوصول.
(7) في الأصل: يرجع.(11/211)
7463- فأما القول في انفساخ النكاح إذا فرضنا الوصية بزوجة الموصى له والتفريع على أن الملك يحصل بموت الموصي، فالنكاح ينفسخ بنفس موت الموصي، وذلك أن الملك ينافي النكاح منافاة المضادة، ويستحيل أن تكون زوجة الإنسان مملوكته، وكل ما يتلقى من التضاد، فلا فرق فيه بين الضعيف وبين القوي.
وإن فصل فاصل بين الملك الضعيف والقوي في إفادة الزوائد (1) واقتضاء المغارم، فلا معنى لذلك فيما ينافي الشيءَ منافاة الضد، فخرج من ذلك أن الوصية إذا كانت بزوجة الموصى له، فالنكاح ينفسخ، سواء قَبِل الوصيةَ أو ردَّها، فإن الرد على هذا القول لا يبيّن لنا أن الملك لم يكن، ولكنه يقطع ملكاً حاصلاً.
7464- فأما القول [في] (2) حصول العتق، فإذا كان الموصى به ابنَ الموصى له، فإذا قبل الوصية، عتق عليه ابنُه.
وهل يحكم بحصول العتق قبل القبول، حتى نقول: لو ردّ، لم ينفذ الرد؟ هذا محل التردد والاختلاف، وللمسألة التفاتٌ على قواعد نشير إليها، منها: أن المشتري إذا أعتق العبد المشترى في زمان الخيار، والتفريع على أن الملك له مع الفرض في ثبوت الخيار للبائع أيضاً مع ثبوته للمشتري، فقد اختلف أصحابنا في نفوذ العتق.
وبين مسألتنا وبين ما ذكرناه فرق ظاهر؛ من قِبَل أنا لو نفّذنا العتق في الصورة التي ذكرناها، لأفضى ذلك إلى إبطال خيار البائع، وإبرام العقد على الاستبداد، والحق في القبول للموصى له، وليس لأحدٍ معه حق، فيجوز أن يقال: نظير الوصية من البيع ما لو كان المشتري منفرداً بالخيار، والملك له، ولو كان كذلك [فعتقه] (3) ينفذ باتفاق الأصحاب.
وبين هذه المسألة الأخيرة من البيع وبين الوصية فرق، فإن المشتري اختار
__________
(1) عبارة (س) : في انتفاء المغارم وإفادة الزوائد.
(2) في الأصل: من.
(3) في الأصل: معتقه.(11/212)
التملك، وأثبت لنفسه مستدركاً، فإذا ضم إليه الإعتاق، كان ذلك منه قطعاً للخيار، والموصى له لم يوجد منه اختيار للوصية، ولو حكمنا بحصول العتق، لكان هذا إثباتَ ملك له على اللزوم قهراً، من غير اختيار من جهته؛ فإن العتق لا يترتب إلا على ملك، ثم العتق يستعقب الولاءَ، ومن حكم نفوذ العتق عليه لزوم (1) الولاء له، فقد تبين بما ذكرناه تردد [الرأي] (2) في المسألة.
وحاصل ما ذكره الأئمة أنه إن ردّ الوصية ففي (3) الحكم [بنفوذ] (4) العتق متقدماً على ردّه -وفيه (5) ردُّ ردِّه (6) - وجهان: أحدهما - أنه يحصل؛ لسلطان العتق ونفوذه، وسقوط حق غير الموصى له.
والثاني - أنه لا ينفذ؛ لبعد إثبات الولاء له على [قهرٍ] (7) ، وهو مطلق لا اعتراض عليه (8) .
هذا إذا رد الوصية.
فإن قبلها، فالعتق هل ينفذ مع الموت متقدماً على القبول؟ فعلى وجهين (9) .
وظن بعض الأصحاب أن هذه الصورة تترتب على الأولى، وهي أولى بنفوذ العتق منها؛ من جهة إفضاء الوصية إلى القبول.
وهذا كلامٌ قليل الجدوى [والفحوى] (10) ؛ فإنا لسنا نفرع على [قول] (11)
__________
(1) (س) : نفوذ.
(2) في الأصل: الثاني.
(3) (س) : بقي.
(4) في الأصل: نفوذ.
(5) وفيه: أي نفوذ العتق، فهو ردٌّ ومنع للموصى له من الردّ؛ ففيه ردٌّ لردّه.
(6) عبارة (س) : وفي ردّه وجهان.
(7) في الأصل: على جهة.
(8) الجمهور على أنّ الموصى له يملك الردّ، وأن العتق لا يحصل قبل القبول (الروضة: 6/146) .
(9) إن قلنا: يملك بالموت، أو الملك موقوف، نتبين أنه عتق عليه يوم الموت، وإن قلنا: يملك بالقبول، عتق عليه حينئذ (ر. الروضة: 6/146) .
(10) في الأصل: والفتوى.
(11) زيادة من (س) .(11/213)
الوقف، حتى نتبين بالقبول استناد قوة إلى الملك السابق.
وإذا حكمنا بنفوذ العتق، فلا أثر للقبول، [ولا] (1) معنى للترتيب. وحاصل المذهب حصول الخلاف قبل القبول، [فُرض الردُّ أو القبول] (2) .
وقد نجز ما أردناه من تفريع الأحكام الأربعة (3) على قولٍ واحد.
7465- فأما إذا فرعنا على الوقف، فالكلام الوجيز فيه أن الموصى له إن قبل، ثبتت هذه الأحكام على قضية الملك اللازم، فلا نقول: نتبين إسنادَ الملك إلى حالة الموت على جوازٍ [حتى] (4) نتردد في الزوائد، وحصولِ العتق، ترددنا في الملك قبل القبول على قولنا يحصل الملك بنفس الموت، وذلك لأن ذلك الملك وإن حكمنا به، فهو جائز، وإذا أسندنا الملك على قول الوقف نُسنده تاماً، ولسنا نقول: نسند ملكاً على الضعف، فلنثبت أحكام الملك التام. وهذا واضح.
وإن فرضنا الرد، لم يثبت في حق الموصى له حكمٌ من الأحكام المترتبة على الملك؛ فإنا نتبين أنْ لا ملك أصلاً، ولكن [يعترض] (5) في هذه الحالة فقهٌ يناظر ما ذكرناه من حال الإجازة، وهو أن تلك الأحكام بجملتها للورثة؛ فإن القبول كما (6) يُبيّن استنادَ الملك التام إلى ما تقدم، فالردّ يبين تقرر الملك التام للمالك.
فليفهم الناظر [ما ذكرناه من] (7) أمثال ذلك، وإن كان من الجليّات؛ فمعظم الزلل ينشأ من الغفلة عن الجليّات.
7466- فأما إذا حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول [ولا] (8) يتقدم عليه
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) في الأصل: فرضي الرد والقبول.
(3) الأحكام الأربعة هي: 1- الزوائد. 2- النفقات والمغارم. 3- انفساخ النكاح. 4- العتق.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: يعبر من.
(6) ساقطة من (س) .
(7) زيادة من (س) .
(8) في الأصل: لا (بدون واو) .(11/214)
تحققاً ولا تبيّنا، فنفرّع الأحكام الأربعة، ونقول: أما الزوائد الحاصلة بعد موت الموصي وقبل قبول الوصية، فسبيل الكلام [فيها] (1) أن نقول: لا يخلو الموصى له إما أن يقبل الوصية وإما أن يردّها، فإن ردّها، فلا شك أنه لا حظ له في الزوائد، ثم هي تابعة للملك، وقد ذكرنا وجهين في أن الموصى به بعد الموت وقبل القبول ملك مَن؟ فإن قلنا: إنه ملك الميت، فالزوائد تحدث على هذا التقدير، ثم تكون إرثاً وحكمه حكم التركة يقضى منه الديون، وتنفّذ منه الوصايا.
وإن قلنا: الموصى به بين الموت والقبول ملكُ الوارث، فالزوائد حيث انتهى الكلام بمثابة الزوائد المستفادة من التركة، والظاهر من المذهب أن زوائد التركة لا تقضى منها الديون؛ فإن التركة مرتهنة بالديون، وهي مملوكة للورثة، فلا يتعدى حقوق مستحق الديون إلى الزوائد، والفوائد.
[ومن] (2) أصحابنا من يثبت لزوائد التركة حكمَ التركة، وهذا لا خروج له إلا على قول من يقول: التركة لا يملكها الورثة إذا كانت مستغرقة بالديون، فانتظم إذاً وجهان في أن الزوائد تركة أم هي خالصُ حق الورثة.
هذا كله إذا ردّ الموصى له الوصيةَ.
فأما إذا قبلها، ففي الزوائد الحاصلة بعد الموت وقبل القبول وجهان: أحدهما - أنها للموصى له نظراً إلى قرار الملك.
والثاني - أنها مجراةٌ على القياس الذي قدمناه فيه إذا ردّ الوصية؛ فإنا لسنا نفرعّ على قول الإسناد، فوجود طريان الملك بعد الزوائد. وعدمه بمثابة واحدة، وقد قدمنا في كتاب البيع أنه إذا حدثت زوائد في زمان الخيار -والتفريع على أن الملك للبائع- ثم أفضى العقد إلى اللزوم، فالزوائد مختلف فيها: من أصحابنا من جعلها للبائع؛ فحدوثها في حالة ثبوت الملك له، ومنهم من جعلها للمشتري؛ نظراً إلى قرار الملك في الأصل.
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) في الأصل: وفي.(11/215)
والضابطُ فيما هذا سبيله أنه إذا ثبت [حقُّ] (1) الملك لجهة، ثم استقر على تلك الجهة، فالزوائد لتلك الجهة؛ فإنه اجتمع كونُ الملك حالة حصول الزوائد، والقرارُ من الآخر.
فإن كان الملك لجهةٍ والقرارُ على أخرى، ففي الزوائد وجهان: أحدهما - أنها تتبع جهة الملك حالة حصول الزوائد. والثاني - أنها تتبع جهة القرار، ثم إن جعلنا الزوائد للموصى له، فلا كلام، وإن لم نجعلها له، فهي على التفصيل الذي ذكرناه فيه إذا رد الموصى له الوصية.
7467- فأما القول في المغارم، فلم أر أحداً من أصحابنا يتبعها قرارَ الملك، مع تردّدهم في الزوائد، وكان لا يبعد عن القياس تنزيلُ الغرم منزلة الغُنم، ولكن تتبع الملك الناجز.
ثم يعرض في ذلك أنه ملكٌ ضعيف، وفي تعلق زكاة الفطر بالملك الضعيف خلاف [قدّمته] (2) في كتاب الزكاة على أبلغ وجهٍ في البيان.
7468- فأما القول في انفساخ النكاح، فنقول: إذا كان حصول الملك للموصى له يقف على القبول، ثم يحصل معه، ولا (3) يستند إلى ما تقدم تبيّناً، فلا يخفى حكم الموصى له في النكاح، فإذا قبل الوصية في زوجته المملوكة، انفسخ النكاح، ولا خفاء ببقاء النكاح قبل القبول.
هذا حكمه.
فأما إذا كانت الجارية الموصى بها زوجة الوارث، والتفريع على أن الملك لا يحصل للموصى له إلا مع القبول، فقد ذكرنا خلافاً في أن الملك في الموصى به ما بين موت الموصي إلى قبول الموصى له لمَنْ؟ من أصحابنا من قال: إنه للميت، فعلى هذا لا ينفسخ نكاح الوارث، فإنه لا يحصل الملك له.
__________
(1) في الأصل: "جواز".
(2) في الأصل: قد بينته.
(3) في الأصل: فلا.(11/216)
ومن أصحابنا من قال: إن الملك للوارث إلى اتفاق القبول، فعلى هذا هل يحكم بانفساخ نكاح الوارث؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ينفسخ نكاحه بحصول الملك له في زوجته، وقد أوضحنا أن الملك والزوجية يجريان مجرى الضدين، وإذا كان انتفاء الزوجية بالملك على مضاهاة اعتقاب الضدين، فلا نظر إلى الضعف والقوة في الملك، قياساً على ملك المشتري في زمان الخيار؛ فإن من اشترى زوجته على شرط الخيار، وفرّعنا على أن الملك للمشتري، انفسخ النكاح بالملك الجائز.
ومن أصحابنا من قال: لا ينفسخ نكاح الوارث؛ فإن هذا الملك تقديرٌ اضطررنا إليه؛ من جهة أنا لا نرى إثبات ملك لا مالك له، فوضْعُ هذا إذا فرض القبول من الموصى له لا يفضي إلى مقاصد الأملاك وحقائقها، وليس ذلك كملك المشتري في زمان الخيار؛ فإنه ملك واقع في سبيل جلب الملك؛ [فأثبت منّا قضاءً] (1) ولو رد الموصى له الوصية، فقد [تقرر] (2) ملك الوارث، فمن قال بانفساخ نكاح الوارث إذا قبل الموصى له الوصية، فلا شك أنه يقول بانفساخه إذا ردّ.
ومن قال: إذا قبل الموصى له، لم ينفسخ نكاح الوارث؛ لأن ملكه في زوجته الموصى بها تقدير، فالأظهر أنا نحكم الآن باستناد الانفساخ إلى وقت موت الموصي، وهذا لطيفٌ؛ فإن حكم الإسناد يليق بقول الوقف، وقد اتجه في هذا الطرف، والتفريعُ على أن الملك يحصل بالقبول. وسببُ اتجاهه أنا لم نحكم بانفساخ النكاح إذا فرض القبول من الموصى له من حيث إن ذلك الملك كان مقدّراً، والآن إذا رُدّت الوصية، واستمر ملك الوارث، صار التقدير تحقيقاً، وهذا يتضمن الانعطافَ على ما تقدم.
__________
(1) في الأصل: ما ينسَبُ مناقضاً (هكذا بكل وضوح بهذا الضبط) وفي (س) : فانتسب مناقضاً (هكذا بهذا التنوين، مع صعوبة في قراءة الكلمة الأولى) والعبارة قلقة مع كل هذا.
(2) زيادة من (س) .(11/217)
وقيل (1) : لا نحكم بانفساخ نكاح الوارث قبل الرد، وإنما نحكم بانفساخه إذا ردّ الموصى له؛ فإنَّ التحقيق يثبت من وقت الردّ، وهذا متجه، والأول ألطفُ وأغوص في الفقه.
7469- فأما القول في بيان من يعتِق على الوارث، أو على الموصى له، فإن كانت الوصية بمن يعتق على الموصى له، فحصول العتق يتوقف على القبول، فإن الملك به يحصل على القول الذي نفرع عليه، ثم إذا حصل، استقرّ، فلا يُتصور للموصى له على هذا القول ملك جائز في الوصية الصحيحة التي يحتملها الثلث.
فأما إذا كان الموصى به ممن يعتق على الوارث، فإن قلنا: الملك للميت ما بين الموت إلى القبول، فلا إشكال، وإن قلنا: الملك للوارث، فهذا ملكُ تقدير، وقد اتفق الأئمة على أنه لا يعتِق على الوارث؛ فإن الملك تقديرٌ، كما ذكرناه؛ وفي الحكم بنفوذ العتق إبطالُ الوصية، وهذا محال، وليس هذا العتقُ لو حكم به موجباً غُرماً على الوارث؛ فإن الغرم إنما يثبت في سرايات العتق إذا ترتبت على أسباب اختيارية (2) ، ولا سبيل (3) إلى إبطال الوصية، فليفهم الناظر مواقع الكلام، ومأخذ الأحكام، وليقض العجب من محاسن الشريعة. نعم، لو رد الموصى له الوصية، لم يبعد أن يستند نفوذ العتق إلى ما تقدم إن كان العتق ينفذ في الملك الضعيف.
وقد انتهى تفريع الأحكام على الأقوال الثلاثة.
7470- ومما يتعلق بتمام القول في هذا الأصل بيانُ المذهب في موت الموصى له بعد موت الموصي [وقبل] (4) القبول والرَّد، فإذا مات الموصي [ولم] (5) يتفق من
__________
(1) (س) : ومن أصحابنا من قال: لا نحكم بانفساخ ...
(2) (س) : إجبارية.
(3) (س) : ولا سبب.
(4) في الأصل: قبل. (بدون واو) .
(5) في الأصل: لم. (بدون واو) .(11/218)
الموصى له قبول ولا رَدٌّ حتى مات، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن وارث الموصى له بالخيار: إن شاء، قبل الوصية، وإن شاء، ردّها.
وقال أبو حنيفة (1) تلزم الوصية بموت الموصى له، وهذا في نهاية الضعف؛ فإنه إلزامٌ يتضمنه عقدٌ مع أقوامٍ مطلقين، وكان ينقدح في القياس القضاء ببطلان الوصية، لو كان مذهباً لذي مذهب؛ من جهة أن الموصى له قد مات، ففرضُ القبول من غيره، وليس القابل موصًى له [بعيدٌ] (2) ، ولم يصر إلى هذا أحدٌ نعلمه من العلماء. فإذا لم يصح هذا مذهباً، وبطل لزوم الوصية من غير قبول، لم يبق بين هذين الطرفين إلا إحلالُ الوارث محل الموروث.
وهذا المنتهى يشعر بدقيقة، وهي أن قبول الوصية ليس على حقائق قبول العقود، ولهذا استأخر عن الإيجاب، مع إمكان فرضه متصلاً بالإيجاب، ولكن الإيصاء يُثبت عند الموت للموصى له حقَّ التملك بالقبول، ولا يبعد أن يجري الإرث في حق التملك، كالشفعة على مذهبنا. ثم أبو حنيفة أبطل الشفعة بموت الشفيع، وألزم الوصيةَ بموت الموصى له.
7471- فإذا ثبت [أن] (3) وارث الموصى له بالخيار في القبول والرد، فإن فرعنا على قول الوقف، لم يكن [بين] (4) قبول الوارث وردّه، [وبين] (5) قبول الموصى له وردّه فرقٌ؛ فإن قبل الوارثُ الوصية، [تبيّنا] (6) أن الملك كان حصل بموت الموصي للموصى له، ثم خلفه إرثاً على ورثته، وننُزلُ قبولَ الوارث منزلة قبول الموصى له في حياته.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 157، الاختيار: 5/65.
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: كان.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: ومن.
(6) في الأصل: ثبتت.(11/219)
وإن رد الوراثُ الوصيةَ، [تبيّنَّا] (1) أن الملك لم يحصل أصلاً، ونُنزل ردّ الوارث منزلةَ ردّ الموروث نفسه.
7472- وإن قلنا: الملك يحصل للموصى له بموت الموصي، وقبولُه للوصية [تقريرٌ] (2) للملك، وردُّه [قطعٌ لملكٍ حاصل من غير تبيّنٍ وإسناد، فقبول الوارث وردُّه] (3) بمثابة قبول الموصى له وردّه، ولا يظهر على هذا القول أيضاً [مزيد] (4) حكمٍ.
7473- فأما إذا قلنا: الملك في الموصى به يحصل بالقبول، فقد [يعتاص الكلام بعض الاعتياص] (5) في قبول الوارث، أما ردّه، فلا إشكال فيه؛ فإنه يستأصل الوصية ويقطع أثرها.
7474- فأما إذا قبل الوارث والتفريع على قول القبول، فقد اختلف أصحابنا على وجهين حكاهما صاحب التقريب: فذهب بعضهم إلى أن الوارث إذا قبل تقدّم الملكُ في الموصى به إلى ألْطف لحظة قبل موت الموصى له.
ومن أصحابنا من قال: يحصل الملك مع قبول الوارث من غير تقدم.
توجيه الوجهين: من قال بتقدم الملك، احتج بأن الموصى له هو المقصود بالوصية؛ فيستحيل أن نثبت الوصية من غير أن يثبت للموصى [له] (6) ملكٌ في الموصى به، فاضطررنا إلى الإسناد على الحد الذي ذكرناه. وإن كنا لا نفرع على قول الإسناد والوقف.
__________
(1) في الأصل: ثبتت.
(2) في الأصل: مقدمة.
(3) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(4) في الأصل: مزية.
(5) في الأصل: يعتاض الكلام بعض الاعتياض، وفي (س) : يعترض الكلام بعض الاعتراض. والمثبت تقدير منا بناء على معهود ألفاظ الإمام.
(6) مزيدة من (س) .(11/220)
ومن قال بالوجه الثاني احتج بأنّ التفريع إذا كان على قولٍ، فلا يجوز أن يترك أصله في تفصيله، وأصل قول القبول استعقاب القبول للملك، فيبعد أن يتقدم عليه.
التفريع على هذين الوجهين:
7475- إن حكمنا بأن الملك يتقدم على موت الموصى له، فالموصى به تركة الموصى له، ولا غموض.
وإن حكمنا بأن الملك يحصل مع قبول الوارث، فعلى هذا الوجه وجهان:
أحدهما - أن الملك يحصل للميت، ثم ينتقل إلى القابل إرثاً.
والثاني - أن الملك يحصل ابتداء للوارث.
توجيه الوجهين: من قال: يحصل الملك للميت، والموصى به تركة يُقضى منها ديون الموصى له، وتنفّذ منه وصاياه، احتج بأن الوصية للمتوفى لا لوارثه، فيستحيل أن تستقر الوصية من غير أن [يستند] (1) الملك إلى الموصى له.
ومن قال: الملك يحصل للوارث، احتج بأن الميت يستحيل أن يثبت له ملكٌ على الابتداء، فيثبت الملك لمن خلفه، وحلّ محله. وهذا القائل يقول: استحق وارث الموصى له [حق] (2) التملك، وهذا هو الموروث، وهو بمثابة إجراء الإرث في حق الشفعة، فإذا أقمنا الوارث في الشفعة مقام الموروث، فالملك يحصل في الشقص المشفوع للوارث ابتداء، وإن كان تلقي الملك مترتباً على حقّ موروث. ومال اختيار صاحب التقريب إلى هذا الوجه.
التفريع:
7476- إن حكمنا بأن الملك يستند إلى حياة الموصى له، فلو كان الموصى به ممن يعتِق على الموصى له تبيّناً، [فإنه] (3) يعتق عليه، على ما سيأتي
__________
(1) في الأصل: يستبد. و (س) بدون نقط.
(2) في الأصل: من.
(3) في النسختين بأنه.(11/221)
التفصيل في أن القريب كيف يعتِق على القريب في مرض موته؛ والمقدار الذي ننجزه أن المريض إذا ورث قريبه، عتق عليه من رأس المال، وتقدير الملك للموصى له لا اختيار فيه، فكان كالإرث على ما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: الملك يحصل مع قبول الوارث للميت، فإذا كان الموصى به ممن يعتِق على الموصى له، فإنه لا يعتِق على الموصى له، فإنا قدّرنا الملك بعد موته، ولا ينفذ العتق على الميت، على ما سنبين ذلك في مسائل نجمعها في العتق في هذا الكتاب.
وإن قلنا: الملك يحصل للوارث، وكان الموصى به ممن يعتق على الموروث في حياته، ولا يعتق على الوارث، بأن كان ابنَ الموصى له وأخَ الوارث القابل.
نعم، تردد أئمتنا على هذا الوجه في شيءٍ وهو أن الوارث إذا ملك الموصى به، فهل يجعل هذا في حكم تركة الموصى له، حتى يقضى منه ديونه؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ليس ذلك تركته؛ فإنه لم يدخل في ملكه، فصار كالشقص المأخوذ بالشفعة.
ومنهم من قال: هو في حكم تركة الموصى له؛ لأن الوارث ملكه بسببه، وليس كالمبيع المشفوع؛ فإنه مملوك بعوضه لا بالإرث، وإنما الموروث حق تملكه، والموصى به في مسألتنا مملوكٌ بالوصية للميت، فشابه ذلك ما لو كان نصب شبكة في حياته وتعقّل بها صيدٌ بعد موته، فالمذهب الظاهر أن الصيد يثبت له حكم تركة الميت؛ لترتب الملك على سبب وجد منه في حياته، والملك المستفاد مشبه في مأخذه (1) بالغُرم اللاحق، ولو كان حفر بئراً في محل (2) عدوان، وتردى فيها بعد موته متردٍّ مضمونٌ، صار الضمان وإن طرأ بعد الموت كالدين الذي التزمه الميت في حياته.
__________
(1) (س) : تأخره.
(2) (س) : في ملك غيره.(11/222)
ومن أصحابنا من لم يجعل الصيد المتعقل بالشبكة تركةً، كما ذكرناه في الموصى به إذا قبله الوارث، ويبعد أن يقال: الصيد يدخل في ملك الميت، ثم ينتقل عنه، وإن ذكرنا هذا وجهاً في الموصى به؛ وذلك أنا اضطررنا إلى هذا في الوصية لعلمنا أن الموصى له هو المقصود بالوصية المملكة.
هذا منتهى الكلام في حصول الملك في الموصى به إذا قبله الموصى له أو قبله وارثه.
وقد ذكرنا طرفاً من هذا في كتاب الزكاة، ولكنا أوجزناه، وحق من ينتهي إلى هذا الفصلِ من كتاب الزكاة أن يحيل الناظر إلى هذا الكتاب.
7477- ونحن نذكر بعد هذا -إن شاء الله تعالى- أصولاً نقلها المزني عن الشافعي رضي الله عنهما ونذكر في كل فصل ما يليق به، ونحرص ألا نعيد ما أوضحناه من أحكام الرّدّ والقبول.
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى بأمةٍ لزوجها وهو حر، فلم يعلم حتى وضعت له بعد موت سيدها أولاداً ... إلى آخره " (1) .
صورة المسألة أن السيد إذا أوصى بأمةٍ لزوجها الحر، ومات الموصي وتأخر القبول حتى وضعت أولاداً، ثم قبل الزوج الوصية. قال الشافعي رضي الله عنه: " عَتَق الأولاد ولم تكن أمهم أمَّ ولد له، حتى تلد بعد القبول بستة أشهر فأكثر؛ لأن الوطء قبل القبول وطء نكاح، والوطء بعد القبول وطء ملك " (2) .
وهذا النص مشكلٌ، وفي ظاهره تناقضٌ، كما سنوضحه في معرض السؤال، ثم نذكر الممكن [والواجب] (3) .
فإن قيل: الأولاد إنما يعتقون عليه إذا حكمنا بأن الملك يحصل بموت الموصي،
__________
(1) ر. المختصر: 3/164. وتمام النص: "فإن قبل، عتقوا، ولم تكن أمهم أم ولد حتى تلد منه بعد قبوله بستة أشهر فأكثر" كما سيأتي بعد سطور.
(2) السابق نفسه.
(3) في الأصل: والمرات. والمثبت من (س) .(11/223)
فيحدث الأولاد [مملوكين] (1) لمن الأم مملوكة له، وإذا وقع التفريع على هذا، فيجب على موجبه أن يكون النكاح منفسخاً مع الموت، ثم يثبت الاستيلاد لمصادفة الإعلاق ملكَه، وإن كان الملك الضعيف لا [يستقرّ] (2) فيه الاستيلاد على رأيٍ، فهو وجهٌ، وقد ذكرته. ولكن موجَبه أن الملك الضعيف لا يفيد الملك في الأولاد.
وإن قيل: يحصل الملك في الأولاد إذا بان استقرار الملك، [فيلزم] (3) أن يثبت الاستيلاد (4 إذا بان استقرار الملك، فنفْيُ الاسيتلاد 4) مع إثبات الملك في الأولاد، والقضاءُ بعتقهم عليه مشكل جداً.
7478- ومن [أراد] (5) فقه هذا الفصل، فقد قدمنا قواعد المذهب، وتفاريعها، وإنما غرضنا الآن الكلام على النص.
فمن أصحابنا من غلّط المزني في [النقل] (6) ، ونسبه إلى نقل جوابين للشافعي مفرعين على قولين (7) .
ومن أصحابنا من قال فَرْض الكلام فيه إذا علق الولد بوطءٍ قبل موت الموصي؛ فإن الاستيلاد لا يثبت (8 به، لا شك 8) فيه؛ من قِبَل أن الوطء إذا فرضناه قبل موت
__________
(1) في الأصل: مملوكة.
(2) في الأصل: لا يفيد.
(3) في الأصل: فيلزمهم.
(4) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(5) في الأصل: أراده. وعبارة (س) : ومن أراد معرفة هذا الفصل.
(6) في الأصل: في النص.
(7) مفرعين على قولين: بيان ذلك أن قوله "عتِقوا" تفريع على حصول الملك بالموت، وقوله: "ولا تصير أم ولد" تفريع على حصوله بالقبول.
وقال الأكثرون -في تفسير تخليط المزني في النقل- بل هو تفريع على قول الوقف، وأراد الشافعي " بالقبول " في قوله: " حتى تلد منه بعد القبول " أراد " الموت " فسماه قبولاً، لأنه وقت القبول.
وقال بعضهم: لفظ الشافعي " الموت " لكن المزني سها فيه فجعله " القبول " ا. هـ من الروضة: (6/154) .
(8) ما بين القوسين ساقط من (س) .(11/224)
الموصي، فهو جارٍ في وقت لا ملك فيه للواطىء، ولكن فرضنا الولادة بعد موت الموصي وأتبعنا الولدَ الأمَّ في الملك تفريعاً على أن الحمل يتبع الأم في الوصية المطلقة، على ما أوضحنا ذلك فيما سبق. وهذا لا بأس به.
ولكن في نص الشافعي ما يدرأ هذا؛ فإن الشافعي رضي الله عنه لما منع الاستيلاد علّل، فقال: لم تصر أم ولد لأن الوطء متقدم على قبول الوصية، فاعتبر تقدم الوطء على القبول، لا على موت الموصي.
وليس يتجه عندنا للنص تأويلٌ إلا من وجهٍ واحد، وهو أن نقول: لعلّه فرّع على أن الملك يحصل بالقبول، فلا ملك في الجارية إذاً قبل القبول، ولكنا قد نقول على قول القبول: إذا حدثت زوائد قبل القبول، ثم استقرت الوصية بالقبول، فالزوائد تكون للموصى له؛ نظراً إلى قرار الوصية، لا إلى الحالة التي حدثت فيها الزوائد، ولكن الاستيلاد لا يتقدم ثبوته على الوقت الذي يثبت الملك فيه، وهذا وإن كان منتظماً يبعد أن يفرِّع الشافعي عليه.
ومهما [نعرض] (1) لقول القبول؛ -فإن الملك يحصل به- ابتدره [فريق] (2) ، وقال: هذا قولٌ ينكسر (3) عندنا، ثم ما ذكرناه في استحقاق الزوائد التي تقدمت على وقت ملك الأصل وجهٌ ضعيف على قولٍ ضعيف؛ فحَمْلُ نص الشافعي عليه استكراهٌ بيّن، وميلٌ عن مجاري كلام الشافعي، فلا وجه إلا نسبة المزني إلى الإخلال بالنقل، فَشَرْطُنا في كتابنا هذا ألا نتعدى قدرَ الحاجة في التنبيه على الغرض فيما يتعلق [بنص] (4)
__________
(1) في الأصل: يعرض، و (س) : تعرض.
(2) في النسختين: فريقه.
(3) كذا في النسختين. وأكاد أقطع بأنها مصحفة محرفة عن عبارة لم نُساعَد على إدراكها. والله المعين.
(4) في الأصل: "بفعل" وفي (س) : "بسواد المختصر". والمثبث اختيار منا على ضوء ما قاله إمام الحرمين في مقدمته، إذ قال: "ولا أعتني بالكلام على ألفاظ السواد، فقد تناهى في إيضاحها الأئمة الماضون" (انظر مقدمة المؤلف ص7 من الجزء الأول) .(11/225)
سواد المختصر (1) ، وبعد كمال البيان للفقه والمعنى، [فقد] (2) أوضحنا فقه الفصل فيما تقدم.
7479- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن مات قبل أن يقبل أو يرد، قام ورثته مقامه ... إلى آخره " (3) .
ذكر الشافعي رضي الله عنه قبولَ ورثة الموصى له بعد موت الموصَى له من غير قبول ولا ردّ، ثم فرض هذه المسألة في الصورة الأولى حيث يفرض حصول أولادٍ للجارية الموصى بها قبل موت الموصى له.
ثم قال: " إذا قبل ورثةُ الموصى له الوصيةَ عَتَق الأولاد " (4) . وهذا فرّعه على أن الأولاد تدخل في ملك الموصى له، ثم يعتِقون عليه [بتقدير] (5) ثبوت الملك فيه، وهذا ينقدح على قول الوقف، ويجري منقاساً حسناً، وكذلك [يجري] (6) تفريعه
__________
(1) سواد المختصر: لأول مرة يجمع بين اللفظين ويضيف (السواد) للمختصر، فقد كان يضع أحدهما مكان الآخر، فتارة كان يقول: سأجري على ترتيب (السواد) ، وأخرى يقول: ونعود إلى ترتيب (المختصر) .
وقد أشرنا من قبل إلى أنه يضع لفظ (السواد) بمعنى (المتن) أو (الأصل) ، وأن هذا المعنى غير وارد في المعاجم، وقد أفادني شيخي الشيخ محمود شاكر -برد الله مضجعه- بأن لفظ (السواد) يرد في لسان بعض الأئمة بمعنى (الأصل) أو (المتن) ، وهو استعمال كان مألوفاً عندهم. ورحم الله شيخي فقد كان -عندما أفادني بذلك- في أخريات أيامه، وفي حالة لم تسمح لي بالإثقال عليه وطلب المواضع والنصوص التي جرى فيها هذا الاستعمال، وما كان هو بقادرٍ على ذلك لو أراد (رحمه الله رحمة واسعة) .
نعود لجمع إمام الحرمين هنا بين اللفظين، فأقول: إنه واضح -إن شاء الله- فالمعنى: "متن المختصر" وهي ألفاظ الشافعي التي "تناهى الأئمة الماضون في الكلام عليها".
(2) في الأصل: وقد.
(3) ر. المختصر: 3/165.
(4) هذا معنى كلام الشافعي، أما لفظه -كما في المختصر: 3/165- فهو: "فإن قبلوا، فإنما ملكوا أمةً لأبيهم، وأولادُ أبيهم الذين ولدت بعد موت سيدها أحرار، وأمهم مملوكة".
(5) في الأصل: بتقدمه.
(6) في الأصل: يخرج.(11/226)
متجهاً على قولنا: إن الملك يحصل (1 بموت الموصي، ويتفرع أيضاً على قولنا: الملك يحصل بالقبول 1) ولكن يتقدم على موت الموصى له، ويُجعل كأنه قبل ثم مات.
وهذا أبعد المحامل لكلام الشافعي؛ فإنه لا يكاد يفرّع على قول القبول، وإن جرى منه ذكر هذا القول، لم يزد على تزييفه، ثم إن المزني ذكر مسألة الوارث [ونبّه] (2) بعد ذكرها لما في الكلام من الاختلاف في المسألة الأولى، حيث حكم الشافعي بعتق الأولاد ولم يحكم بثبوت الاستيلاد، وقد مضى القول فيه.
7480- ثم تكلم الأصحاب في مسألة قبول الورثة، فقالوا: إذا مات الموصى له بولده (3) مثلاً، فقام وارثه مقامه في القبول، وحكمنا بأن الولد يعتِق، فهل يرث أباه مع الوارث القابل للوصية؟ قالوا: هذا مما ينظر فيه إن كان يؤدي توريثه إلى حرمان القابل وإخراجِه عن أن يكون وارثاً، فلا يرث الولد المقبول، وإن حكمنا بنفوذ العتق وصحة القبول، وذلك مثل أن يخلّف الموصى له (4) أخاً فقبل الأخ له ولده (5) ، فلو ورّثنا الولد يخرج الأخ من أن يرث؛ فإن الابن يحجب الأخ عن الميراث، والمسألة فيه إذا كان الولد ابناً. ثم إذا قدرنا حرمان الأخ وخروجَه عن كونه وارثاً، لم يصح قبوله؛ وإذا لم يصح القبول، لم يعتِق الابن، وإذا لم يعتِق، لم يرث، ففي توريثه إبطالُ توريثه. وهذا من [الدوائر] (6) الفقهية، وسنجمع منها مسائلَ في كتاب النكاح نبيّن بها قواعدَ الدوائر الفقيهة -إن شاء الله عز وجل- وهذه المسألة منها.
7481- وإن كان القابل لا يخرج عن كونه وارثاً، بتقدير توريث الابن المقبول،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(2) في الأصل: وبينه.
(3) (س) : بعد موت الموصي مثلاً، فقام وارثه ...
(4) (س) : يخلف الموصى له ابناً وأخاً، فقبل الأخ، فلو ورّثنا ... إلى آخره.
(5) فقبل الأخ له ولده: أي قبل أخو الموصى له ولدَه الموصى به، أي ولدَ الموصى له. وإنما رجحنا عبارة الأصل هذه لما رأيناه من عبارته الآتية بعد سطور، حيث وصف الابن بأنه الابن المقبول.
(6) في الأصل: من الزوائد.(11/227)
وذلك مثل أن يخلف الموصى له ابناً [حُرّاً] (1) فقبل الوصيةَ بالابن المملوك، فإذا عتِق، فللأصحاب وجهان في أنه هل يرث: أحدهما أنه يرث؛ لأن القابل لا يخرج عن كونه وارثاً بتوريث هذا الابن.
والوجه الثاني -وهو اختيار القفال رحمه الله- أن الابن المقبول لا يرث أيضاً في هذه الصورة؛ لأن القابل بتوريث هذا المقبول [يخرج] (2) عن أن يرث جميع المال من جهة مشاركة المقبول [في استحقاق الميراث لو ورّثناه، فلو كان كذلك، فلا يصح القبول] (3) في كل الوصية؛ [إذ لا يصح القبول في كل الوصية] (4) إلا ممن يرث كلَّ المال، ومن يرث البعض [يقبل] (5) البعض، ولا (6) سبيل إلى أن يقبل هذا الابن الذي كان رقيقاً بنفسه ليعتِق، فإن ورّثناه، لم يصح قبولُ أخيه له إلا في البعض، وإذا كان كذلك، لم يعتِق منه إلا البعض، والمعتَق بعضُه لا يرث، ففي توريثه إبطال توريثه من جهة التبعيض، وقد لاح أن هذا المقبول لا يتعاطى (7) قبول الوصية؛ فإن الوصية لأبيه، فكيف يقدر الرقيق على قبوله، فليس يتجه إذاً إلا ما ذكره (8) القفال رضي الله عنه، واختاره.
7482- ثم قال الأئمة: من [ورَّث] (9) الابنَ المقبول، فينبغي أن يخرّج توريثه على قول الوقف، أو على قولنا يحصل الملك بموت الموصي، فيقتضي هذا أن يحصل العتق سابقاً على موت الموصى له، وهذا وإن صورناه كذلك، ففيه الإشكال الذي ذكره القفال؛ فإنا لو ورثنا ذلك الابنَ، لاحتجنا إلى فرض القبول منه، ويستحيل أن
__________
(1) في الأصل: حياً.
(2) في الأصل: تخريج.
(3) زيادة من (س) .
(4) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: فقبل.
(6) عبارة (س) : ومن يرث البعض، ولا سبيل إلى ...
(7) عبارة (س) : لا يتعاطى قبول الوصية لابنه، وكيف يقدر الرقيق ...
(8) ما ذكره القفال: أي عدم توريث الابن المقبول مع أخيه القابل.
(9) في الأصل: أرّث.(11/228)
يتقدم حصول العتق فيه على وقت قبوله، فإنه لو أقدم على القبول رقيقاً، فقبوله باطل، ولو أقدم على القبول حراً، [فقد] (1) حصل العتق دون قبوله.
وهذا كلام مضطرب، وسنأتي فيه وفي أمثاله بما يشفي الغليل في [الدوائر] (2) الفقهية من كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
7483- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى بجاريةٍ، ومات، ثم وهب للجارية مائة دينار ... إلى آخره " (3) .
غرضُ هذا الفصل الكلامُ في أن الزوائد التي تحصل من الموصى به بين (4) موت الموصي. وقبول الموصى له، أو قبول ورثته فتلك الزوائد لمن؟ والمائة (5) الموهوبة كسبٌ متجدد في الحالة التي ذكرناها.
[وقد ذكرنا] (6) بيان الأكساب والزوائد وإيضاح من يملكها على أحسن وجه في الترتيب، وأوقع نظامٍ في التفريع، فلا حاجة إلى [إعادته] (7) .
وقد نجز الكلامَ في [أقوال] (8) الملك في الموصى به، وأنه متى (9) يحصل، وكيف [يتشعب] (10) المذهب في تفريعاته، وتخريجات الأحكام الأربعة التي هي المعتبر (11) وإليه الرجوع. والله ولي التوفيق، وهو [بإسعاف] (12) راجيه حقيق.
__________
(1) في الأصل: قد.
(2) في الأصل: الرواية.
(3) ر. المختصر: 3/165.
(4) في (س) : بعد.
(5) في الأصل: المائة (بدون واو) .
(6) زيادة من المحقق، حيث سقط من النسختين.
(7) في الأصل: إعادة.
(8) في الأصل: أموال.
(9) ساقطة من الأصل.
(10) في الأصل: يحصل.
(11) في الأصل: المعتبرة.
(12) في الأصل: باستعانة.(11/229)
فصل
قال: " ولو أوصى له بثلث شيء بعينه، فاستُحِق ثلثاه ... إلى آخره " (1) .
7484- إذا أوصى لإنسان بثلثٍ من عبدٍ أوْ دارٍ أو غيرهما من الأعيان، وكنا نقدّر أن العبد بكماله ملكُ الموصي، وأنه خصّصَ بوصيةٍ ثلثَه، ثم تبين استحقاق ثلثيه وأن الموصي كان لا يملك منه [إلا] (2) الثلث، فإن لم يخلف سوى ذلك الثلث، وردّ الورثةُ الوصيةَ في الزائد على الثلث، فالوصية ترجع إلى ثلث الثلث لا محالة.
وإن خلف من الأموال ما يفي ثلثُها بتمام الثلث الموصى به، فالمنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه القطعُ بأن جميع الثلث موصًى به.
وذهب بعض السلف إلى أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث الثلث؛ فإنّ ذكر الثلث جرى شائعاً، فكأنه أوصى بثلثٍ من كل ثلث، فإذا ثبت الاستحقاق في الثلثين، بطلت الوصية بثلثي الثلث، وهذا مذهب أبي ثور وزفر، والذي يستقيم على قياس الشافعي تنفيذ الوصية في جميع الثلث الموصى به.
وترتيب المذهب [في هذه المسألة] (3) وغيرها [من] (4) هذه الأجناس أن مَنْ كان يملك الشقص من دارٍ، فباعه، ولم يضفه إلى نفسه، مثل أن يقول: بعتك [نصف] (5) هذه الدار، وكان مالكاً لنصفها، ولم يقل: بعتك النصف الذي أملكه، فهل نحمل بيعَه المطلق على ما يملكه [أم] (6) نشُيعه في جميع الدار، حتى نجعلَه جامعاً بين بيع النصف من نصفه وبين بيع النصف من النصف الذي [له] (7) ؟ فيه اختلاف.
__________
(1) ر. المختصر: 3/167.
(2) زيادة من (س) .
(3) سقط من الأصل.
(4) في النسختين: في.
(5) في الأصل: بنصف.
(6) في الأصل: لزم. وهو تحريف واضح. وفي (س) : أو.
(7) في الأصل: ليس فيه اختلاف.(11/230)
والأوجه عندنا تصحيح البيع في النصف الذي يملكه؛ فإنه باع النصفَ، وله النصفُ، [والشيوع ينافي التميز] (1) ، فلا حاصل لقول القائل: باع بعضَ ماله، وبعضَ ما لشريكه.
وقد ذكرنا هذا في كتاب البيع.
7485- فإذا أوصى بجزءٍ يستحقه من عبد أوْ دارٍ، ولم يضفه إلى ملك نفسه، فإذا صححنا البيع في جميع حصته، فلا إشكال في نفوذ الوصية أيضاً في جميعها، وإن جعلناه في البيع بائعاً بعضَ ما يملك، فالوجه حمل الوصية على جميع ما يملك، من جهة أن وضع الوصية [حملُها] (2) على الصحة إذا ترددت بينها وبين الفساد؛ ولهذا قال الأئمة إذا أحضر الإنسان طبلين طبلَ حرب وطبلَ لهو، وقال: بعتك أحدَهما [فالبيع] (3) لا يُحمل على طبل الحرب، ولكن يُقضى بفساده، لما في لفظه من التردّد، وإذا أوصى بطبل من طبوله، وله طبل لهو وطبل حربٍ، فالوصية محمولةٌ على طبل الحرب؛ لتصح؛ فيجب على هذا المقتضى صرفُ الوصيةِ إلى تمام حصة الموصِي.
وذهب ابن سريج من أصحابنا إلى أن الوصية تصح في جزءٍ من حصته، وينفصل عن البيع؛ من حيث إن البيع قد يفسد كله، لتفرق الصفقة، والوصية لا تبطل لتفرق الصفقة في المقدار الذي تصح منه لو أُفرد بالوصية.
ثم حاول ابن سريج فرقاً بين مسألة الطبل وبين مسألة الشيوع، فقال: إذا أوصى بطبل من طبوله، ففي حمل وصيته على طبل اللهو إبطالُها بالكلية، مع ظهور [قصد] (4) الموصي في تصحيحها وقبولها للتردّد والورود على المجاهيل، وإذا صححنا الوصية على مذهب الإشاعة في جزءٍ من الحصة التي أطلقها الموصي، فقد
__________
(1) في الأصل: وللشيوع ما في التميز.
(2) في النسختين: وحملها.
(3) في الأصل: بالبيع.
(4) في الأصل: القصد.(11/231)
وجدت الوصية متشبثاً، مع استمرار قياس الإشاعة، فانفصل بذلك عن مسألة الطبل.
هذا منتهى الغرض في المسألة.
فصل
قال: " ولو قال: ثلث ما لي للمساكين، قُسم ثلثُه في ذلك [البلد] ... إلى آخره " (1) .
7486- قد مضى في كتاب الزكاة صدرٌ من الكلام في نقل الصدقات، وسنذكره مستقصى، إن شاء الله تعالى في قَسْم الصدقات، وغرض هذا الفصل أنا إن جوّزنا نقلَ الصدقات، فالوصية للمساكين لا تختص بمساكين [البقعة] (2) التي جرت الوصية فيها. وإن منعنا نقلَ الصدقات الشرعية، فالوصايا المطلقة المضافة إلى موصوفين لا ينحصرون هل يجوز نقلها أم تتقيد بقيد الصدقات الشرعية؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يجب تنزيل الوصية المطلقة على موجب الزكاة، وهذا ما إليه [صغوُ] (3) معظم الأصحاب.
وقد يوجّه بأن الألفاظ التي أجريت (4) عن مستحقي الزكاة إذا جرت في ألفاظ الموصين، فهي محمولة على معانيها في الزكوات الشرعية، وهذا كذكر أبناء السبيل والرقاب وغيرها، فإذا كانت ألفاظ [الموصين محمولة] (5) على معاني ألفاظ الكتاب والسنة في أصناف الزكاة [فالألفاظ] (6) المطلقة في الوصايا ينبغي أن تتقيد بما تتقيد به
__________
(1) ر. المختصر: 3/167. وفي النسختين: قسم ثلثه في ذلك الثلث. والتصويب من المختصر.
(2) في الأصل: النفقة.
(3) في الأصل: صعود.
(4) (س) : أعربت.
(5) في الأصل: ألفاظ المؤمنين محمولاً.
(6) في الأصل: بالألفاظ. و (س) : والألفاظ.(11/232)
الألفاظ المطلقة في الكتاب والسنة، ثم المساكين وإن أطلقوا في الزكاة محمولون على مساكين البلدة التي بها [أمال] (1) الزكاة، فكذلك إذا قال الموصي: أوصيت بثلثي للمساكين، وجب حملهم على مساكين بلده.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك في الوصايا، فإنا إنما منعنا النقل في الزكوات لأخبارٍ وآثار وأقضية مصلحية تجري في وظائف الزكوات، فأما الوصية، فليس فيها ما يوجب منعَ النقل، والدليل عليه أنه يصح للموصي أن يصرف وصاياه قصداً إلى غير مساكين بلده، فاتباع موجَب لفظ [الموصي] (2) أولى من حمله على الزكاة.
فصل
قال: " ولو أوصى له بدارٍ، كانت له وما يثبت فيها ... إلى آخره " (3) .
7487-[أراد أن] (4) الوصية بالدار بمثابة بيع الدار، فكل ما يدخل تحت إطلاق اسم الدار في البيع، فهو داخل تحت مطلق تسمية الدار في الوصية.
وقد ذكرنا في كتاب البيع ما يندرج تحت البيع إذا سميت الدار، وأوضحنا موضع الخلاف والوفاق، وهذا لا إشكال فيه، ولكن نتكلم في مسألة وراء هذا، ونحن نذكرها، ونذكر نقيضها (5) .
7488- فإذا أوصى بدارٍ لإنسان، فانهدمت في حياة الموصي، أو انهدم بعضُها، فذلك النقض مختلفٌ فيه: فمن أصحابنا من قال: إنه (6) يخرج عن الوصية، فإن اسم
__________
(1) في الأصل: قال.
(2) في الأصل: "المولى".
(3) ر. المختصر: 3/168..
(4) زيادة من (س) .
(5) في (س) : تفصيلها.
(6) ساقطة من (س) .(11/233)
الدار [لا يتناول النقض، ولا يُستحق بالوصية إلا ما يبقى تحت اسم الدار] (1) عند قرار الوصية، كما سنوضح المعنى بقرارها.
ومن أصحابنا من قال: النقضُ موصى به؛ اعتباراً بحالة الإيصاء، واسم الدار كان متناولاً لهذه الأجزاء التي تحطمت بالانهدام، فيبقى تحت قضية اللفظ، وإنما [يتغير] (2) قرار الوصية فيما يتعلق بتغاير الأملاك، أو فيما [يشعر] (3) بالرجوع عن الوصية في حق الموصي؛ فإنه لو أوصى بحنطة ثم طحنها، فقد يكون هذا رجوعاً منه عن الوصية؛ من جهة إشعار طحنه باستعمال الطحين، وصرفه عن الاعتياد والإبقاء للموصى له، فأما انهدام الدار، فليس من هذا القبيل، وليس من الفقه تشبيه هذا بالنقض في حق [الشفيع] (4) ؛ فإن المبيع إذا انهدم قبل ثبوت ملك الشفيع فيه، ففي أخذه النقضَ خلافٌ قدمناه في كتاب الشفعة، وذلك الأصل ينفصل عما نحن فيه؛ فإنه لا يؤخذ من الألفاظ، والإطلاقات، وإنما [يرتبط بأصلٍ حُكمي] (5) ، وهو أن الشفعة لا تتعلق إلا بالثوابت.
ثم إن قلنا: نقضُ الدار (6) يبقى تحت مقتضى الوصية إذا انهدمت الدار قبل موت الموصي، فلو انهدمت بعد موته، فإن قلنا: الملك على الوقف أو يحصل بالموت، فالنقض للموصى له إذا قبل الوصية.
وإن قلنا: يحصل الملك بالقبول ففي النقض خلاف مرتب على ما إذا انهدمت الدار قبل موت الموصي، وهذه الصورة أوْلى باستحقاق النقض فيها؛ من جهة أن الموصي إذا مات، [فقد] (7) دخل وقت إمكان القبول، وهذا الآن على مضاهاة الشفعة مع بُعد الوصية عن قياس الشفعة.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(2) في الأصل: يعتبر، و (س) : تغير.
(3) في الأصل: يشرع.
(4) في الأصل: المبيع.
(5) في الأصل: يربط بأصل حكمٍ.
(6) (س) : الدواير.
(7) في الأصل: وقد.(11/234)
هذا بيان انهدام الدار.
7489- فأما نقيض ذلك، فلو أوصى بدارٍ، ثم زاد في بنائها، [فتغييراته بها] (1) لا تكون رجوعاً عن الوصية، بخلاف طحن الحنطة؛ فإن الحنطة تُطحن لتؤكل، والتغايير في الدار لا تشعر بمناقضة الوصية.
إذا أحدث زوائد في البناء، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن تلك الزوائد هل تدخل في الوصية؟ وهذا الاختلاف يبتني على أن أجزاء الدار من الدار تنزل منزلةَ أطراف العبد من العبد أم يثبت لأجزاء البناء حكم الاستقلال؟ وفيه خلاف ذكرناه في البيع، [وأعدناه] (2) في أثناء الكتب، ونحن نحصّل القول فيه الآن مجموعاً، فنقول:
7490- إذا باع رجل داراً، فاحترق سقفها، فمن أصحابنا من يقول: احرّاق السقف من الدار بمثابة تعيّب العبد المبيع، فإن سقطت يدُه أو تناله آفةٌ أخرى، فللمشتري الخيار، فإن فسخ، استرد الثمن، وإن أجاز، أجاز بجميع الثمن.
ومن أصحابنا من قال: احتراق السقف بمثابة تلف مبيعٍ مضمومٍ إلى مبيعٍ مع اتحاد الصفقة واشتمالها عليهما، فهو كما لو اشترى الرجل عبدين، فتلف أحدهما، فالبيع ينفسخ فيه.
والرأي الظاهر أنه يسقط قسطٌ من الثمن، كما ذكرناه في تفريق الصفقة.
ثم عبّر الفقهاء عن هذا، فقالوا: أجزاء الدار في وجهٍ كالصِفة (3) للمبيع، وفي وجهٍ هي مبيعة في أنفسها، وكل جزء متقوّم من الدار مبيع في نفسه.
فبنى الأئمةُ زيادةَ العمارة في الدار على هذه القاعدة، فقالوا: إن جعلنا أجزاء الدار كالصفات [فزيادةُ] (4) الأعيان في العمارة الجديدة بمثابة كبر الغلام الموصى به،
__________
(1) في الأصل: فتعين أنه لها. و (س) : فتغيراته بها.
(2) في الأصل: واعتبرناه.
(3) (س) : كالصفقة.
(4) في الأصل: وزيادة.(11/235)
ونموّ الفسيل [الموصى به] (1) وجملة الزيادات المتصلة.
وإن (2) قلنا: لكل جزء من الدار حكمُ الاستقلال، فلا (3) تدخل الزيادة المحدثة في الدار تحت الوصية.
7491- وهذا كلام مختلط عندي، والوجه القطع [بأن] (4) زيادة الأعيان لا تدخل تحت الوصية؛ فإنا لو فتحنا هذا الباب، وأقمنا الزيادة صفةً حقيقةً (5) ، لزمنا منه ما صار إليه أبو حنيفة (6) من أن الغاصب إذا استعمل الأعيان المغصوبة في دارٍ ابتناها على عرصته المملوكة، صارت الأعيانُ المغصوبة صفة لملك الغاصب، حتى لا تنتزع، ويُلزم (7) بدلها؛ لأنه [فوّتها] (8) على مالكها. ثم أبو حنيفة وإن طرد هذا في الغصب، لم [يجره] (9) في الدار المشفوعة إذا زاد المشتري من أعيان ماله في بنائها، ولم يَقُل: الشفيع يأخذه؛ لأن ما زاده انقلب صفة للرَّبع المشفوع، فلا سبيل إلى اعتقاد حقيقة الصفة في الأعيان التي تزاد، ومن انتسب إلى التحقيق من أصحاب أبي حنيفة لم يعتمد في مسألة غصب الساجة (10) إلا محاذرة إلحاق الضرار بالغاصب،
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) (س) : فإن.
(3) (س) : ولا.
(4) في الأصل: لأن.
(5) (س) : حقيقية.
(6) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/178 مسألة: 1867، الاختيار: 3/62.
(7) (س) : وإنما يلتزم.
(8) في الأصل: فوته.
(9) في الأصل: يجزه، و (س) : ينجزه.
(10) الساجة: خشبة من أخشاب البناء. وصورة المسألة أن يغصب غاصب ساجة، فيدخلها في بناء دارٍ له على أرضٍ مملوكة له، فعند أبي حنيفة لا نلزمه نزع الساجة وردّها، بل نلزمه قيمتها؛ والعلة عند أبي حنيفة أن الساجة صارت في حكم (صفةٍ) من صفات البناء، فخرجت عن حقيقتها. ولكن من انتسب إلى التحقيق من أصحاب أبي حنيفة لم يجعل علّة عدم إلزامه نزع الساجة أنها صارت صفةً من صفات البناء، وإنما جعل العلة محاذرة إلحاق الضرار بالغاصب إذا كلفناه هدم داره لنزع الساجة وردّها.(11/236)
ورأى وجه النظر من الجانبين ألاّ نهدم بناء الغاصب ونغرّمه قيمة الأعيان المغصوبة.
ولئن (1) تخبط أصحاب أبي حنيفة، لا يليق بمذهب الشافعي مثلُ هذا.
نعم، اشتهر الخلاف في تلف أجزاء الدار في يد البائع، وليس ذاك من جهة التردّد في أن أجزاء الدار صفاتٌ، ولكن سبب الاختلاف أن الدار بيعت جملةً واحدةً، فوقع البيع في غرض المتعاقدين على صيغة (2) مقتضاها ألا تُفردَ (3) الأجزاء بالثمن، وليست أجزاء الدار في حكم قصد المتبايعين مع عرصة الدار بمثابة عبد [مضمومٍ] (4) إلى عبد في البيع (5) ، ولست أعرف خلافاً أن البائع لو زاد في الدار المبيعة من أعيان ملكه قبل القبض، [فالمشتري] (6) ينزعها أو يكلف البائع نزعها.
وإذا كان كذلك، فلا يتجه أصلاً تخيّل الخلاف في أن الأعيان التي زادها الموصي تدخل تحت الوصية، ولكن ذكرتُ ما ذكره الأصحاب، وقد حكاه الصيدلاني أيضاً ثم نبهنا على تحقيق القول [فيه] (7) ، ولم يختلف أصحابنا في أنه لو باع سقفَ داره، أو خشبةً من السقف، وسهل [رفعها] (8) ، وتسليمها من غير تغير ظاهر في الأعيان التي اتصلت الخشبة بها [أن البيع جائز] (9) وما جاز إفراده بالبيع كيف ينتظم فيه كونُه صفةً على التحقيق؟
هذا منتهى القول في هذا الفصل.
__________
(1) (س) : وقد تخبط.
(2) (س) : صفة.
(3) (س) : تنفرد.
(4) في الأصل: مضمون.
(5) (س) : المبيع.
(6) في الأصل: فالمثوي.
(7) في النسختين: منه.
(8) في الأصل: بيعها.
(9) زيادة من (س) .(11/237)
[مسائل مختلفة] (1)
ثم ذكر ابن الحداد وغيره مسائلَ في الوصايا مختلفة، ومتجانسة، [وأنا أرى] (2) وضعَها هاهنا، فنرسم مسائل، ونضمّن كلَّ مسألة ما يليق بها.
7492- مسألة: إذا أوصى لرجل بعشرة دراهم، وأوصى لآخر بعشرة، وأوصى لثالثٍ بخمسة، وشرط أن نقدم صاحب الخمسة على أحدهما، وضاق الثلث عن احتمال الوصايا بجملتها، مثل أن يوصي لزيد بعشرة ولعمرٍو بعشرة وخالدٍ بخمسة، وشرط تقدّمَ خالدٍ على عمرٍو بخمسته، والثلث عشرون.
فالوجه أن نضع المسألة عريّةً عن شرط التقديم، ثم نذكر موجَب التقديم، فإذا لم يقدم [أحداً] (3) من هؤلاء الثلاثة، ولم يتسع الثلث لجميع الوصايا، فينقدح في [تخريج] (4) المسألة مسلكان قريبان تقدّما في المسائل، أو تقدم أمثالُهما: أحدهما - أن نضبط مبلغ الثلث، ومبلغ الوصايا، ثم نضيف الثلاثة بالنسبة إلى الوصايا، وننفذ (5) من كل وصية مثلَ تلك النسبة.
وبيان ذلك أن الثلث عشرون وجملة الوصايا خمسة وعشرون، فإذا أضفت عشرين إلى خمسة وعشرين، كانت العشرون أربعة أخماس الوصايا (6) ، فلكل واحد من مستحقي الوصية أربعةُ أخماس وصيته: لصاحب العشرة أربعة أخماسها، ولصاحب الخمسة كذلك، فيكون لصاحب كل عشرة ثمانية، ولصاحب الخمسة أربعة.
ويتجه مسلكٌ آخر، وهو مسلك التضارب، وذلك بأن ننسب الوصايا بعضها إلى
__________
(1) العنوان من عمل المحقق.
(2) في الأصل: وإن أدى.
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: تحريم.
(5) (س) : وتقدم.
(6) ساقطة من (س) .(11/238)
بعض، ونقدرها سهاماً على أقل [ما معنا] (1) : لصاحب الخمسة على سهمٍ، وصاحب كل عشرة على [سهمين] (2) ، فيضربون بخمسة أسهم في عشرين سهماً، ونجري العشرين خمسة أسهم، يأخذ صاحب كل عشرة جزأين من العشرين، أو خُمسين من العشرين، ويأخذ صاحب الخمسة جزءاً، وإن أحببت، قلت: خُمساً فيؤدي إلى ما ذكرناه. فإذا قدرنا قسمة العشرين بين هذه (3) الوصايا من غير تقديم، (7 [فنبيّن] (4) على هذا التقديمَ (5) ، [فنقول] (6) : يأخذ صاحب الخمسة أربعةً من غير تقديم 7) ، ويأخذ كل واحد من صاحبيه ثمانية، فنقدر لزيدٍ ثمانية ولعمرٍو ثمانية ولخالدٍ أربعة، ثم يأخذ خالدٌ من عمرٍو ما يكْمُل له به الخمسةُ، وهو سهمٌ، فيبقى في يد عمرٍو سبعة، وفي يد زيد ثمانية، ويكمل لخالد خمسة، ولا خفاء بهذا، ولكنه أوّل مسألة ذكرها ابن الحداد في هذا الكتاب.
7493- مسألة: تشتمل على تفصيل القول فيمن يعتق على المريض في مرض موته، فنقول: جهات الملك في مرض الموت ثلاثة في غرض المسألة: إحداها - الإرث، فإذا ورث المريض من يعتِق عليه، يثبت الملك إرثاً، ويترتب عليه حصول العتق من رأس المال، هذا متفق عليه؛ فإنه ملك قهري حصل من غير عوض، ووقع حصوله مستحَقاً بجهة العتاقة، فلا احتساب من الثلث.
ولو اشترى المريض من يعتق عليه، واحتمل الثلثُ العتقَ عَتَق عليه، وإن لم يسع الثلثُ تمامَ القيمة عَتَق منه القدرُ الذي يسعه الثلث، ورق باقيه، وهذا متفق عليه.
والعتق ملحقٌ بالتبرعات إذا كان الملك متلقَّى من جهة الشراء والابتياع.
__________
(1) في الأصل: ما مر بنا.
(2) في الأصل: سهم.
(3) في الأصل: وهذه (بزيادة واو) .
(4) في الأصل: ونبين.
(5) التقديمَ: مفعول نبيّن، وليست بدلاً من (هذا) . والمعنى نبين كيفية التقديم لأحد الموصى لهم.
(6) في الأصل: ونقول.
(7) ما بين القوسين سقط من (س) .(11/239)
ولو اتهب من يعتق عليه، أو كان أُوصي له به، ومات الموصي [وجاز] (1) قبول الوصية، فقبلها في مرضه، فهل يجب العتق من ثُلثه أم ينفذ (2) من رأس المال؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي رضي الله عنه: أحدهما - أنه من رأس المال؛ من جهة أن الملك لم يحصل بعوضٍ، فصار كالملك المستفاد إرثاً.
والثاني - أنه محسوب من الثلث؛ فإنه تملّكٌ على اختيارٍ، فإذا حصل في ملكه باختياره، ثم قُدِّر العتق، كان كما لو اتهب عبداً ثم أنشأ إعتاقه.
وهذا الوجه ركيكٌ، لا اتجاه له، والاستشهادُ بالاتهاب والإعتاق باطلٌ؛ فإنه لو ورث عبداً، ثم أعتقه، كان العتق محسوباً من ثلثه، فلا تعويل إذاً إلا على كون العتق مستحقاً، مع أنه لم يبذل عوضاً في تحصيله حتى [يعدّ] (3) بذله نقصاناً وخسراناً في المال، وإذا كان العتق مستحقاً، فلا أثر لاختيار الملك وإنما يؤثر اختيار العتق [لو كان] (4) متعلقا بالاختيار.
7494- ثم إن (5) اشترى من يعتِق عليه بمثل قيمته، فالوجه (6) أن يحسب من الثلث، حتى لو فرض دينٌ مستغرِقٌ، [فالعتق بجملته مردودٌ] (7) ، على ما سنبين شرحَه في أثناء المسألة، إن شاء الله تعالى.
وإن اشترى من يعتِق عليه بأقلَّ من ثمن مثله، فإن قلت: العتق فيما يتهبه من الثلث، فلا إشكال في هذه المسألة.
[وإن] (8) فرعت على المسلك الحق، وهو أن العتق فيما يتهب من رأس المال،
__________
(1) في الأصل: وصار.
(2) (س) : أو يعدّ.
(3) في الأصل: يعدل.
(4) في الأصل: لكان.
(5) (س) : من اشترى.
(6) (س) : فالوجه الحسب من الثلث.
(7) في الأصل: بالعتق فجملته مردودة.
(8) في الأصل: فإن.(11/240)
فيجب أن يقال: إذا اشترى ابنَه وقيمتُه ألفٌ بخمسمائة، فنقدّر المحاباة بمثابة المستفاد على حكم الاتهاب، وإنما يتحقق التبرع في المقدار المبذول من العوض؛ من جهة أنه بذل العوض، ولم يستبدل عنه ما يبقى ملكاً.
7495- وتمام البيان في هذا الفصل أنا حيث نقول: يعتِق على المريض ابنُه أو أبوه بجهةٍ (1) ، فلا كلام، وحيث لا يحكم بحصول العتق فيه، مثل أن اشترى ابنه بمثل قيمته وعليه دينٌ مستغرق، فالمذهب أن الشراء يصح (2) والابن لا يعتِق، ويسلَّم إلى جهة الديون رقيقاً.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت العقبى تقتضي ردَّ العتق، فلا يصح الابتياع في أصله، حتى لا يُفضي إلى أن يتصرف في ابنه الواقعِ في ملكه حسب التصرف في الأرقاء والعبيد، [والأظهر] (3) الأصح تصحيح الابتياع، والمصير إلى أنه يباع في الديون.
7496- ومما يلتحق بهذه القضايا أنا حيث نحسب العتق من الثلث، ثم وسع (4) الثلث القيمة، [ولا] (5) مزاحمة من دَيْن؛ فإنه يعتِق ولا يرث؛ لأنه لو ورث وعتقه محسوب من الثلث، لكان العتق [مصروفاً] (6) إلى حطه (7) وصية له، والوصية للوارث مردودة، [وإذا رددناها] (8) ، فلا إرث (9) ، ففي توريثه منع توريثه، وهذا ملتحق بالدوائر الفقهية.
__________
(1) ساقطة من (س) .
(2) "فالمذهب أن الشراء يصح" استقر المذهب فعلاً على ذلك، فالنووي جعل المسألة على وجهين أصحهما هذا (ر. الروضة: 6/204) .
(3) في الأصل: فالأظهر.
(4) (س) : يسع.
(5) في الأصل: فلا.
(6) في الأصل: مضروباً.
(7) (س) : حط.
(8) في الأصل: والمردد الإرث.
(9) فلا إرث: لأنه لا عتق.(11/241)
وحيث نحكم بأن العتق ينفذ من رأس المال، فإذا عتِق مَن (1) ملكه عتقاً مستحقاً محسوباً من رأس المال، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يرث: أحدهما - وهو الصحيح (2) أنه يرث؛ لأنه [لا] (3) مانع من توريثه؛ فإن عتقه لم يقع في حكم الوصايا، فهو بمثابة ما لو عتَقَ في حالة الصحة.
والوجه الثاني - أنه لا يرث، وهو اختيار الإصطخري، ولست أعرف هذا وجهاً، ولكنّ الشيخ أبا علي [استدلّ له] (4) بأن قال: العتق حصل، وفيما نحتسب جنسَ العتق فيه من الثلث، فلا نظر إلى خروج هذا العتق عن القياس.
ولا ثبات لمثل هذا الكلام؛ فإن العتق لاسمِه ولقبِه لا يعتبر من الثلث، وهو منقسم: فمنه ما يحسب من الثلث، ومنه ما لا يحتسب، فلا حاصل [تحت] (5) ما قال.
واستشهد بمسألة [فقال] (6) : إذا نكحت المرأة في مرضها بدون مهر مثلها، فيصح ذلك منها، ولا يحسب من الثلث، فإنها حابت في عوض البضع، وليس البضع [ممّا يبقى] (7) للورثة، قال: فهذا فيه إذا كان الزوج بحيث لا يرثها، مثل أن يكون رقيقاً أو مسلماً، وهي كافرة (8) ، فأما إذا كان الزوج يرثها، فيلزمه مهرُ مثلها كَمَلاً، فكأنا قدرنا ذلك وصيةً في حق الزوج الوارث، وإن لم نقدره وصيةً في حق غيره.
هكذا ذكره الشيخ، وأطلق [جوابه] (9) في الفرق بين من يرث وبين من لا يرث.
__________
(1) (س) : في.
(2) ما قاله الإمام من أن هذا هو الصحيح استقر عليه المذهب، فقد قاله النووي بلفظه (الصحيح) . (ر. الروضة: 6/204) .
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: استدركه.
(5) في الأصل: يجب.
(6) في الأصل: وقال.
(7) في الأصل: بما بقي، و (س) : مما بقي.
(8) كافرة: المراد ذمية كما صرح بذلك في الروضة: 6/133.
(9) في الأصل: حرازه.(11/242)
وكان شيخي رضي الله عنه لا يفصل، ويقول: المحاباة بمهر المثل في النكاح من المريضة صحيحة مع الوارث وغير الوارث. وهذا متجهٌ حسن (1) ، وسيأتي كلام في نكاح المريضة ونكاح المريض، إن شاء الله عز وجل، هذا منتهى المسألة.
7497- مسألة: مشتملة على تفصيل القول في الوصية لمن نصفه حر ونصفه رقيق، والغرض يتعلق [بصورتين] (2) : إحداهما - أن يوصي لشخص نصفه حرٌ ونصفه رقيق لغير وارثه.
والصورة الثانية - أن يكون النصف الرقيق ملكاً لوارث (3) الموصي.
فأما إذا كان الرقيق منه ملكاً لمن لا يرث الموصي، فممَّا نجدد العهدَ به قبل الغوص (4) في المسألة أن من وهب شيئاً لعبد غيره، فإن قبل العبدُ الهبة بإذن مولاه، صحت الهبة، ووقعت للمولى، وكذلك إن أوصى لعبدٍ بشيء، فقبِل الوصية بإذن السيد، فالوصية تصح، ويقع الملك في الموصى به للسيد.
فإن قبل الهبة والوصيةَ من غير إذن السيد، ففي (5) المسألة وجهان قدمناهما في مواضع: أحدهما - أن القبول باطل، ولا تصح الوصية ولا الهبة، فإنهما لو صحتا، لثبت الملك للمولى قهراً، والعبد محجورٌ عليه على حالٍ، فلا يصح منه أن يُكسب (6) مولاه مالاً بعقدٍ من غير إذنه.
والوجه الثاني - أن القبول يصح، ويثبت الملك للمولى، [إن] (7) لم يردّه، كما لو احتش العبد أو احتطب، وكما لو خالع زوجته على مالٍ؛ فإن عوض الخلع يدخل في ملك المولى قهراً.
__________
(1) والوجه المعتمد، هو الوجه الأول الذي سماه الإمام الصحيحَ (ر. الروضة: 6/133) .
(2) في الأصل: بصورتهن.
(3) (س) : للوارث.
(4) (س) : الخوض. وهي في الأصل محرّفة إلى (العَوْض) .
(5) (س) : في.
(6) (س) : يكتسب.
(7) في الأصل: وإن لم.(11/243)
فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، عُدنا إلى تفصيل المسألة:
7498- فإذا أوصى الرجل (1) لشخص نصفه حر ونصفه مملوك لأجنبي، فقبل الموصى له الوصية دون إذن المالك، ففي صحة القبول على مقابلة (2) الرق وجهان، كالوجهين فيه إذا كان عبداً قِنّاً: فإن قلنا: يصح قبول المملوك دون إذن المالك، فقد ثبتت الوصية، [ولا] (3) كلام.
[وإن] (4) قلنا: لا يصح قبوله فيما يخص الرقيق منه، فقد بطل القبول في نصف الوصية.
وهل يصح في النصف الآخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أنه يصح؛ فإنه لو كان عليه معترَضٌ في مقدار الرق منه، فلا [يعترض] (5) في مقدار الحرية.
والوجه الثاني - أنه لا يصح القبول في شيء؛ فإنا لو صححنا القبول، وأثبتنا ذلك القدرَ المقبولَ لمقدار الحرية منه، لم يصح ذلك؛ من قِبل أنّ كل ما يستفيده، فحقه أن ينقسم على شطريه، [واختصاصُ] (6) بعضه بالتملك على وجهٍ لا يَشيع [محالٌ] (7) ، فإن حصرنا، بطل الحصر، وإن أشعنا وأثبتنا البعضَ الذي صححنا القبولَ منه بينه وبين مالك رقّه، [انعكس] (8) الأمر إلى إدخال شيءٍ في ملك المالك من غير إذنه، وهذا لا ينتظم قط؛ فيجب القضاء ببطلان أصل الوصية.
__________
(1) (س) : الوكيل.
(2) كذا. وفي (س) تقرأ بصعوبة (معاملة) . والمعنى واضح على أية حال. فهو يقول: في صحة القبول لما يقابل الجزء الرقيق وجهان.
(3) في الأصل: فلا، و (س) : بلا.
(4) في النسختين: فإن.
(5) في الأصل: يتعرض، وفي (س) : فليعترض.
(6) في الأصل: اختصاص. (بدون واو) .
(7) في الأصل: بحال.
(8) في الأصل: إن عكس.(11/244)
7499- ولو وَهَبَ ممّن نصفه حرّ ونصفه رقيق، وأبطلنا الهبة في نصيب المالك، فهل تصح الهبة في حصة الحرية؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه في الوصية، غير أن الهبة تنفصل عن الوصية في قضيةٍ (1) ظاهرة، وهي أن القبول في الهبة إذا أبطلناه لأنه لم [يصدر] (2) عن إذن المولى، فلو أذن المولى بعد تخلل الفصل وانقطاع الرابطة المرعية بين الإيجاب والقبول، فلو أذن السيد من بعدُ، فلا يصح القبول إلا أن يجدّد الواهب الهبة.
وإذا أبطلنا القبول في الوصية لعدم الإذن، ثم أذن المولى، [فجدّد العبدُ] (3) قبولاً، فيصح القبول الآن ويحصل، كأن القبول الأول لم يكن، وهذا ظاهر، والغرض أمرٌ وراء هذا، وهو أن السيد لو ردّ الوصية، فهل يفسد بردّه (4) سبيلُ القبول من بعدُ، حتى لو بدا له أن يأذن في القبول، وقد [ندم] (5) على ما قدّم من الردّ، فلا ينفذ إذنه بعد الردّ، أم كيف السبيل فيه؟ هذا مما يتعين الاعتناء (6) به، والاهتمام بفهمه.
فنقول: الهبة إذا قبلها العبد بإذن المولى، فالملك [فيها] (7) يقع للمولى من غير واسطة، ولهذا قطع الأصحاب بأن الوصية لعبدِ الوارث وصيةٌ للوارث، (8 والهبة من عبده في مرض الموت تبرع على الوارث 8) ومع هذا لو قبل السيد الهبةَ، والمخاطب عبده (9) ، لم تنعقد الهبة بقبول السيد، وإن كان الملك واقعاً له، لأنا نرعى في القبول
__________
(1) في الأصل: نصيبه.
(2) في الأصل: يعدر.
(3) في الأصل: مجرّد الهبة.
(4) (س) : يردّ.
(5) في الأصل: قدم.
(6) (س) : الاهتمام به والاعتناء بفهمه.
(7) في الأصل: فيما.
(8) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(9) (س) : غيره.(11/245)
نظماً يقتضيه الإيجاب (1) ليكون جواباً عنه، والسيد لم يخاطَب به، [فلا] (2) يقع جوابه لو وقع، ولو ردّ السيد وكان حاضراً لما وَهَب من عبده، فإن شرطنا في قبول العبد إذنَ السيد، وأبطلناه بعدم الإذن، فالردّ أبلغ من عدم الإذن، وإن صححنا قبول العبد من غير إذن المولى، فلو زجره عن القبول، فالظاهر عندي أن الهبة تصح، ويقع الملك للمولى، ويكون كما [لو نهاه] (3) السيد عن مخالعة امرأته على [مالٍ،] (4) فخالف سيدَه وخالعها، [فعوض] (5) الخلع يقع في ملك السيد قهراً وإن نهى عن الخلع زجراً، فكأن العبد في قبول الهبة على هذا القول الذي فرعنا عليه ليس محجوراً عليه، والقبول يعتمد صحة لفظه.
هذا قولنا في الهبة.
7500- فأما في الوصية فلو قبل سيدُ العبد الوصية بعد موت الموصي بناءً على أن الملك يحصل له، [فكأنه الموصى له] (6) على التحقيق، فهذا فيه احتمال ظاهر عندي، يجوز أن يقال: لا تثبت الوصية [بقبول] (7) المولى قياساً على الهبة، ويجوز أن يقال: تثبت الوصية بقبول المولى؛ فإن قبول الوصية [يخالف في وضعه] (8) القبول في العقود، ولهذا ينفصل عن الإيصاء (9) ، ويقع بعد خروج الموصي عن أن يكون من أهل التصرفات، ويموتُ الموصى له فيخلفه الوارث، وهذا ينص على الغرض (10) :
__________
(1) ساقطة من (س) .
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: لزمناه.
(4) في الأصل: ماله.
(5) في الأصل: بعوض الخلع.
(6) في الأصل: فكان للموصى له، و (س) فكان الموصى له. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق.
(7) في الأصل: لقبول.
(8) عبارة الأصل: فإن قبول الوصية في وضوه.
(9) الإيصاء: المراد الإيجاب، أي ينفصل القبول ويتأخر عن الإيجاب.
(10) في الأصل: العوض.(11/246)
فإذا [كان] (1) الوارث يقبل، وليس موصىً له، فلا يبعد أن يقبل السيد وإن لم يسمَّ (2) في الوصية، نظراً إلى [مصير] (3) الملك إليه.
ثم ينبني على هذا أنا إن (4) صححنا قبولَ السيد، فيجب (5) أن يبطل ردُّ (6) العبد لو ردّ.
ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بصورة يعارَض بها إذا قيل له: نحن وإن أقمنا الوارث مقام الموروث في قبول الوصية، فلو كان الموروث ردّ الوصية، [لبطلت] (7) ، وإذا مات، لم يصح قبول وارثه، فهلا قلتم: قبول السيد يصح، ولو ردّ العبد، لارتدت الوصية؟ فإن (8) الموروث لو قبل، لكان الملك له، فهو الأصل في الوصية، فترتد الوصية بردّه، بخلاف العبد، [وهذا] (9) واضحٌ لا غموض فيه.
7501- وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن بين مالك نصفه وبينه مهايأة، وكانت أعماله وأكسابه تقع (10) مشتركة.
[فأما] (11) إذا جرى بينه وبين مالك [رِقِّه] (12) مهايأة، ووقع التواضع بينهما على أن
__________
(1) في الأصل: بان.
(2) (س) : يستمر.
(3) في الأصل: يصير.
(4) (س) : لو.
(5) (س) : لوجب.
(6) (س) : بردّ.
(7) في الأصل: لبط.
(8) فإن الموروث: متعلق بقوله: ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بصورة يعارض بها ... إلخ فهذا ردٌّ على السؤال: فهلاّ قلتم ... إلخ. ببيان الفرق بين قبول وراثة الموصى له وقبول السيد عن عبده الموصى له، حيث إن الموصى له هو الأصل في الوصية، فلو ردّ لا يصح أن يبطل ردُّه بقبول الورثة، والعبدُ هو الأصل في الوصية، ولذا لا يمكن أن يبطل ردُّه بقبول السيد.
(9) في الأصل: وهو.
(10) ساقطة من (س) .
(11) في الأصل: فإنا.
(12) في الأصل: ربه.(11/247)
يعمل ويكتسب في مدةٍ (1) تواضعا عليها لمالك رقه، ويكتسب في مدةٍ لنفسه، فالأكساب المعتادة كالاحتشاش، والاحتطاب، واستحقاق أجرة العمل، إذا كان الشخص صانعاً، فهذه الأكساب تدخل تحت قضية (2) المهايأة وفاقاً، وأثر دخولها تحتها أن صاحب كلِّ مدَّة يختص بما يقع فيها من كسب، فإذا كانت النوبة للشخص، اختص بأكسابه فيها اختصاص [الأحرار، وإذا كانت النوبة لمالك الرق، اختص بالأكساب فيها اختصاص] (3) المالك بأكساب عبده الخالص.
وظهر اختلاف أصحابنا في أن الاكساب [النادرة] (4) هل تدخل تحت المهايأة، وعدّوا من جملتها قبول الوصايا والهبات. وهذا الاختلاف (5) ذكره المصنفون ولم يوضحوا مأخذه، [وأنا أتحيل] (6) لهذا الخلاف وجهين ومسلكين: أحدهما - أن قبول الهبة والوصية ليس مما يحتاج فيه إلى إعمال منفعته (7) ، وإنما هو لفظةٌ لا تحول بين العبد وبين جميع الأعمال التي يلابسها، والمهايأة ترد على المنافع، حتى كأنها قسمة فيها، وتصير المنفعة في كل نوبة حقَّ صاحب النوبة، كما يصير حق منفعة الشبكة لمن يستأجرها، وإذا اصطاد بها والمنفعة له، فالصيد ملكه، [فالأكساب] (8) إذاً تبعُ المنافع، وقبول الهبة والوصية لا يتعلق [ببذل] (9) منفعة، فلم يدخل في المهايأة التي وضعت لاقتسام المنافع، وإذا كان كذلك، تعيّن قسمة الموهوب على
__________
(1) في (س) : يده.
(2) ساقطة من (س) .
(3) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(4) في الأصل: الباردة.
(5) (س) : خلافٌ.
(6) في الأصل: وأنا حيل (هكذا بإهمال الأول والثاني) والمثبت من (س) بإهمال الحاء أيضاً، فهل هي من التحيل (بالمهملة) بمعنى التفنن، أم هي بالمعجمة من التخيل؟ أم هي: أنخل؟ بنون فخاء معجمة؟ الله أعلم.
(7) كذا. والمعنى واضح وهو أن قبول الهبة ليس مما يحتاج إلى بذل جهد واستهلاك طاقة.
(8) في الأصل: بالاكتساب، و (س) : والأكساب.
(9) في الأصل: بعدل.(11/248)
الرق [والحريّة] (1) سواء جرت المهايأة أو لم تجر.
هذا بيان مسلك الخلاف.
ويجب أن نقول بحسبه: لو كانت الهبات غالبة في [قُطرٍ] (2) ، وكانت لا تعد من النوادر، فهي خارجة على الخلاف أيضاً؛ تلقِّياً [مما] (3) ذكرناه في المنافع واختصاص أثر المهايأة بها.
ويجوز أن يقال: [مأخذ] (4) الخلاف [الندور] (5) والعموم (6) كما أطلقه الأصحاب، ووجهه أن المهايأة المطلقة ترد (7) على ما يجري في العرف، فلا يمتنع أن يقول المولى، أو الشخص: إنما أوردنا المهايأة على ما يجري العرف به، وما يندر، [يبقى] (8) على حكم التقسّط والتوزّع، فعلى هذا إذا عمت الهبات في قُطرٍ، دخلت تحت المهايأة، وإنما الخلاف فيه إذا كانت الهبات والوصايا نادرة.
ويجري على هذه الطريقة تفصيلٌ آخر، وهو أنهما لو صرحا بإدراج الأكساب النادرة تحت المهايأة، لدخلت تحتها؛ فإن الخلاف [في] (9) هذا المسلك محمول على (10 أنهما وضعا المهايأة 10) على ما يجري العرف الغالب به، فإذا وقع التصريح بإدراج الأكساب النادرة، اندرجت.
وإن سلكنا المسلك الأول في اتباع المنافع وتنزيل المهايأة عليها، فلا أثر للتصريح
__________
(1) في الأصل: والهُريّة. (وهذا التصحيف يشهد بأثر عجمة قديمة في لسان الناسخ المتعرب) .
(2) في الأصل: نظر.
(3) في الأصل: بما.
(4) في الأصل: يأخذ.
(5) في الأصل: المنذور.
(6) والعموم: المراد الشيوع والكثرة عكس القلّة والندرة.
(7) (س) : تنزل.
(8) في الأصل: فبقي.
(9) في الأصل: من.
(10) ما بين القوسين سقط من (س) .(11/249)
بإدخال الهبات، ولو وقع التصريح كذلك، لما دخلت.
التفريع:
7502- إن قلنا: قبول الهبات والوصايا لا تدخل تحت المهايأة، فقد مضى التفريع فيه إذا لم يكن مهايأة، فنقول: وإن جرت المهايأة، فلا أثر لجريانها في قبول الهبات والوصايا.
وإن قلنا: إنها تندرج تحت المهايأة، فالنظر إلى النوبة: فإن وقع ما يعتبر -كما سنشرحه، إن شاء الله- في نوبة الشخص، فيخلص له الموهوب والموصى به، وإن وقع في نوبة المولى [يخلص] (1) له ما وقع في نوبته، ثم الاعتبار بالإيصاء أم بقبول الوصية؟ وهذا الذي أبهمناه الآن (2) .
اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: الاعتبار بالإيصاء؛ فإنه ابتداء العقد، وهو الأصل، وعليه يترتب القبول.
ومنهم من قال: الاعتبار بالموت وما بعده، كما سنشرحه، إن شاء الله تعالى؛ فإن أوان قرار الوصية يدخل بالموت. والقائل الأول يحتج في اعتبار الإيصاء بالالتقاط، فإنا إذا جعلنا العبد من أهل الالتقاط وأدرجناه تحت المهايأة، فالاعتبار بيوم الالتقاط لا بيوم انقضاء الحول.
فإن قلنا: الاعتبار بيوم الإيصاء، فلا كلام.
وإن قلنا: الاعتبار بالموت وما بعده، فهذا يتفرع على أن الملك في الموصى به متى (3) يحصل؟ فإن قلنا: إنه يحصل بالموت إما تحقيقاً وإما تبيُّناً، فالنظر إلى اليوم الذي يقع الموت فيه.
وإن قلنا: يحصل الملك في الموصى به بالقبول، فعلى هذا القول وجهان:
أحدهما - أن العبرة بالقبول، فإنه يستعقب الملك.
والثاني - أن العبرة بالموت، وإن فرعنا على قول القبول؛ فإن الأصل في الباب
__________
(1) في الأصل: يتخلص، و (س) : فيخلص.
(2) عبارة (س) : وهذا الذي أبهمناه. والآن اختلف ...
(3) (س) : متى ما يحصل.(11/250)
الموت، وهو (1) الذي يُثبت حقَّ القبول، ويمكِّن الموصى له منه، فليكن الاعتبار به. قال الشيخ أبو علي: يتصل بذلك أنه لو وهب لمن نصفه حرّ ونصفه عبد في يوم سيده، وقبض في يوم نفسه، فالهبة في يوم من؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الموهوب يصرف إلى من وقعت الهبة (2) في يومه؛ فإن الهبة هي الأصل، وعليها يترتب الإقباض. قال الشيخ: وهذا الاختلاف ينبني على أن عقد الهبة هل يقتضي الملك مع ثبوت الخيار للواهب في الرجوع ثم القبض يلزمه ويُتمُّه؟ أم نقول القبض يستعقب [الملك] (3) ويقتضيه وعقد الهبة لا يقتضيه؟ فيه اختلاف قولٍ قدمناه في كتاب الهبات، فإن حكمنا بأن عقد الهبة يُثبت الملك قبل الإقباض، فالاعتبار باليوم الذي وقع العقد فيه، وإن قلنا: الملك يحصل بالقبض، ففي المسألة وجهان كالوجهين المفرعين على قولنا: إن الملك في الموصى به يقع بالقبول.
وجميع ما ذكرناه فيه إذا وقعت الوصية لمن نصفه حر ونصفه رقيق لأجنبي.
7503- فأما إذا أوصى لمن نصفه حر ونصفه مملوك لوارثه (4) ، فالكلام في المهايأة جرت أو لم تجر، وفي (5) أن قبول الوصايا هل يدخل تحت المهايأة؛ [قد] (6) تقدم.
ونحن نقول الآن: إن (7) تصورت المسألة بصورةٍ لو فرضت فرْضَ المالك الأجنبي، لكان الملك بكماله للمالك، فالوصية في مثل تلك الصورة مردودة في مسألتنا؛ فإنا لو صححناها، لكانت للوارث، والوصية للوارث مردودة.
وإن تصوّرت المسألة بصورة لو فرضت والمالك فيها أجنبي، لكانت الوصية (8)
__________
(1) (س) : وهذا الذي.
(2) (س) : إليه.
(3) في الأصل: العتق.
(4) هذه هي الصورة الثانية من صورتي المسألة، والتي أشار إليها منذ عدة صفحاتٍ مضت.
(5) (س) في أن قبول ... (بدون واو) .
(6) في النسختين: فقد.
(7) (س) : تصوّر المسألة.
(8) (س) : المسألة.(11/251)
تقع للشخص (1) المنقسم، [فالوصية] (2) تصح بجملتها لهذا الشخص في مسألتنا.
فإن (3) اقتضى التفريع في الأجنبي قسمة الموصى به على السيد والشخص، فقد قال الشيخ أبو علي: إن انتهينا إلى ذلك، أبطلنا الوصية أيضاً؛ فإن البعض منها ينصرف إلى مالك الرق، وصرفه في مسألتنا إلى الوارث غيرُ جائز، فتبطل الوصية رأساً، واستشهد في ذلك بالإرث؛ فإن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن من نصفه حر ونصفه عبد لا يرث؛ فإن التوريث بنصفه الرقيق ممتنع، فإن فسد التوريث بالبعض، من جهة أنا لو ورّثناه بنصفه الرقيق، لصرفنا ذلك القدرَ إلى مالك الرقيق، وهذا يؤدي إلى توريث أجنبي من حميمه (4) ، ثم كما (5) أبطلنا الإرث أبطلناه رأساً.
وهذا الذي قاله فيه نظر. أما الإرث، فمذهب الشافعي رضي الله عنه فيه ما ذَكَر؛ فإن الانقسام فيه متعذر، وأما الوصية، فلا يمتنع أن (6) يقال فيها: تبطل الوصية في حصة الوارث، وتصح في حصة الشخص (7) ؛ فإن التبعيض ليس بدعاً (8) في الوصايا؛ فإن الوصية الزائدة على الثلث تتبعض عند [ردّ] (9) الورثة. فهذا ما أردناه.
[ويتفرع] (10) على هذا المنتهى شيء (11) ، وهو أن من أوصى لإنسان بوصية خارجة من الثلث، فقبل [الموصى] (12) له بعضَها، وردّ بعضها، فيجوز أن يقال:
__________
(1) الشخص المنقسم: المراد به المنقسم بين الرق والحرية. وفي (س) : المقسّم.
(2) في الأصل: بالوصية.
(3) (س) : وإن.
(4) كذا فى النسختين.
(5) كما: أي عندما. وهذا استعمال خاص بإمام الحرمين، وتبعه فيه الغزالي. "وليس بصحيح ولا عربي" قال ذلك النووي في التنقيح (وأثبتناه مراراً من قبل) .
(6) (س) : فلا يمتنع أن تبطل الوصية.
(7) الشخص: أي الذي نصفه حر ونصفه مملوك لوارث الموصي.
(8) (س) : يُرعى.
(9) في الأصل: بعض.
(10) في الأصل: فيتفرع.
(11) ساقطة من (س) .
(12) في الأصل: للوصي.(11/252)
يصح ذلك، ويجوز أن يقال: لا يصح. ووجه المنع تشبيه قبول الوصية بالقبول في الهبة، ولو قبل الموهوب له الهبة في بعض ما وهب منه (1 لم يصح القبول 1) في شيء، ومن فرق تمسك بما أشرنا إليه من الفرق بين قبول الوصايا وبين القبول في الهبة وغيرها من العقود. وسنذكر أن الموصى له إذا مات قبل القبول، وخلّف ذرية، فقبل بعضهم وردّ بعضهم، فالقبول قد يثبت في حق من قبل، وإن تضمن تبعيضاً في الوصية.
7504- ومما ذكره الشيخ أبو علي في خاتمة المسألة أن الرجل لو قال [لمن] (2) نصفه حر ونصفه عبد: أوصيت لنصفك الحر، فكيف السبيل في ذلك؟ قال: قال القفال: هذه الوصية باطلة في كل مسلك؛ فإن الإيجاب لا يجوز توجيهه على نصف الشخص.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً أن الوصية تصح وإن توجهت على بعض الشخص، وطرد هذا الوجهَ في الهبة أيضاً إذا وُجّهت على البعض.
وكشْفُ القول في هذا أن نقول: إن حكمنا بأن الهبة والوصية لا تدخل تحت المهايأة، وأنهما يقعان على الاشتراك لا محالة، وإن جرت مهايأة، فتخصيص الوصية والهبة بالبعض الحر (3) على خلاف موجَب [التبرّع] (4) ، فتبطل، وإن لم يتعد وقوع [التبرّع] (5) بالوصية والهبة لهذا الشخص بحكم المهايأة.
فإذا وقع التوجيه على النصف الحر، نظر: فإن لم يكن مهايأة، بطلت أيضاً؛ فإن مقتضى الحال ألا (6) تختص الهبة والوصية.
وإن كان [ثَمَّ] (7) مهايأة، فإن وقع ذلك في نوبة السيد، بطلت أيضاً، فإن هذا
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .
(2) في الأصل: بأن.
(3) (س) بالبعض جرت.
(4) في النسختين: الشرع.
(5) في الأصل: الشرع.
(6) (س) : لأن تختص.
(7) في الأصل: "به" وعبارة (س) مضطربة فيها تقديم وتأخير. هكذا: فإن مقتضى الحال =(11/253)
على مناقضة الواجب. وإن وقع هذا في نوبة العبد، والتفريع على أن التبرع يقع (1) له لو خُوطب به كله، فإذا خوطب به نصفه الحر، ففي صحة ذلك وجهان: أحدهما - الفساد لاختلال اللفظ والمعنى، أما اللفظ فبيّنٌ، وأما المعنى، فلا يتصور أن يتّهب نصفٌ، وهذا الشخص في نوبته يتهب بنصفيه، ولكن نصفه الرقيق في نوبته عوضٌ عن نصفه الحر في يوم سيده.
والوجه الثاني - أن الهبة تصح؛ فإن [قرار] (2) الملك بالحرية، وهي متبعضة بمخاطبة الجزء الحُرّ [منه] (3) مخاطبة للمالك؛ فإنّ النصف الرقيق منه لا يملك لنفسه.
وللمسألة الآن التفاتٌ في الوصية على ما إذا قبل الموصى له بعضَ الوصية، وليست المسألة كتلك (4) ؛ فإن ما ذكرناه يجري في الوصية والهبة، وتبعيض القبول يختص بالوصية؛ فإن من قال لشخص (5) : وهبت منك هذا العبد، فقال المخاطب: قبلتُ الهبةَ في نصفه، لم يصح وفاقاً.
وقد نجزت المسألة، ولم نغادر ما تمس الحاجة إلى ذكره، إن شاء الله تعالى.
7505- مسألة: السيد إذا أوصى لعبده القنِّ بثلث ماله، فإن نص على إدخال ثلث [رقبته] (6) في الوصية، دخل فيها، وإذا قبل الوصية عَتَق ثلثُه ولا يسري العتق، وهذا أصلٌ جارٍ في العتق الوارد (7) على بعض العبد بعدَ موت الموصي بالعتق؛ فإن العتق
__________
= ألا تختص الهبة والوصية، وإن وقع ذلك في نوبة السيد، بطلت أيضاً، فإن هذا على مناقضة الواجب. وإن وقع في نوبة العبد، فإن كان ثم مهايأة، فإن وقع ذلك العبد والتفريع.
(1) سقطت من (س) .
(2) في الأصل: إقرار.
(3) في الأصل: به.
(4) (س) : كذلك.
(5) (س) : قال لشخص: وهبته منك هذا العبد.
(6) في الأصل: وصيته.
(7) عبارة (س) : العتق الوارد على بعض الموت الموصي بالعتق.(11/254)
إنما يسري على موسرٍ، والميت معسر وإن خلَّف وَفْراً كثيراً، ومالاً جمّاً، ولا (1) يجوز صرف الثلث إلى رقبته بالكلية، وإن وفّى الثلث بقيمته وزاد؛ لأنه أوصى له بثلث ماله، فيستحق الثلث في كل صنف على مقتضى الوصية، ولا يجوز صرف حصتِه (2) من جميع الأصناف إلى رقبته؛ فإن ذلك لو قدرناه، لكان مخالفاً لصيغة الوصية، فيعتِق إذاً [منه] (3) ثلثه، وتبقى الوصية له، وبعضه حر وبعضه رقيق للورثة [فما يقابل] (4) الرقيق منه تبطل الوصية فيه.
وفي بطلان الوصية فيما يقابل الجزء الحر منه ما قدمناه في المسألة المتقدمة على هذه (5) ، واختيار (6) الشيخ القطعُ ببطلان الوصية فيما يقابل الحرية [تخريجاً] (7) لذلك على منع توريث من بعضه حر، وقد أوضحنا وجه الاحتمال، وطريقَ الفرق بين الميراث وبين الوصية.
7506-[ومما] (8) يتعلق بما نحن فيه أن من أوصى بأن يُعتَق عبدٌ عينه من عبيده، ووفَّى الثلث به، فالوصية تنفذ، ولا حاجة إلى قبول العبد؛ فإن الغالب في العتق حق الله تعالى، والعبد المعين لا يملك إبطال حق الله، فلا حاجة إلى قبوله؛ إذ لا ترتدّ الوصية بردّه.
ولو قال: أوصيت لعبدي هذا برقبته، فمآل هذه الوصية أن [يَعتِق] (9) ، فهل يُشترط قبول العبد؛ فإنّ سبيل حصول العتق في هذه الجهة أن يملك العبد رقبته ويعتِق؛ هذا فيه تردّد تلقيتُه من فحوى كلام الأئمة؛ فيظهر أن نقول: لا حاجة إلى
__________
(1) (س) : فلا.
(2) (س) : حصة.
(3) في الأصل: فيه.
(4) في الأصل: فالقابل.
(5) (س) : على هذا.
(6) واختيار (الواو زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين) .
(7) في الأصل: يجري.
(8) في الأصل: وفيما.
(9) في الأصل: يعين.(11/255)
قبوله، لما ذكرناه من أن مقصود هذه الوصية إعتاقُه، فصار (1) كما لو أوصى بأن يُعتق.
ولا يمتنع أن يقال: الوصية تتوقف على قبوله، وهذا الوجه أفقه، ووجهه أنه لم يوصِ بتحصيلِ العتق، ولكنه أوصى لعبده بملك رقبته، فليس العتق في مقصود الوصية مطلوباً للموصي على جزمٍ، وكأنه قال: "إن اختار عبدي قبولَ الوصية عَتَقَ بالوصية"، وإن لم [يقيّد] (2) باختيار القابل؛ فهي في وضعها مقيدةٌ بذلك شرعاً.
وهذا التردد الذي ذكرته يجري في الوصية للعبد بثلث المال، مع التصريح بإدخال رقبته في الوصية، فيجوز أن نقول: يعتق ثُلثه من غير قبول؛ فإن الوصية في رقبته عتاقةٌ محضة، ويجوز أن نقول: لا بد من قبوله، وإن ردّ الوصيةَ، ارتدت وكان رقيقاً للورثة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أوصى لعبده بثلث ماله، وصرح بإدخال ثلث رقبته في الوصية.
7507- فأما إذا أطلق الوصية له بثلث ماله، ولم يتعرض لإدراج رقبته تحت مقتضى وصيته، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب بعضهم إلى أن ثلث رقبته يدخل في الوصية، وهذا اختيار ابن الحداد، ووجهه أن اسم المال يتناول رقبة العبد؛ فإنه من ماله، فأشبه ما لو صرّح بإدخال رقبته في الوصية، وقد تقدم بيان المذهب فيه (3) .
ومن أصحابنا من قال: لا تدخل رقبته في الوصية؛ فإن المخاطب لا يدخل فيما هذا سبيله تحت الخطاب، فإذا قال: أوصيت لك (4) ، اقتضى ذلك أن يكون الموصى به غيرَ الموصى له، وهذا في إطلاقه يمنع دخوله تحت الموصى به، وهو كما لو قال لوصيّه: اصرف ثلث مالي إلى الفقراء، فلو كان الوصي (5) فقيراً، لم يجز له أن يأخذ من الثلث شيئاً.
__________
(1) (س) : فيصير.
(2) في الأصل: وإن لم يقاتل.
(3) ساقطة من (س) .
(4) (س) : لكن.
(5) (س) : الموصي.(11/256)
ومن نصر الوجهَ (1) الأول، انفصل عن هذه المسألة بأن قال: الصرف يقتضي إقباضاً من الوصيّ (2) ، وقبضاً من الآخذ، وذلك لا يتأتى من الوصي في حق نفسه، والوصية بالملك لا تقتضي قبضاً وإقباضاً.
فإن قلنا: يدخل ثلث العبد تحت الوصية المطلقة، عَتَقَ الثلث منه، فكان الكلام في باقي [العبد] (3) على ما تقدم.
وإن قلنا: لا يدخل ثلثه في الوصية، فلا يعتِق شيء منه، وإذا لم يعتق، وقعت الوصية بكمالها للورثة، فبطلت.
7508- مسألة: إذا كان بين رجلين عبدان مشتركان لكل واحدٍ [منهما] (4) النصفُ من كل عبد، وقيمة كل عبدٍ ألفُ درهم، فأعتق أحد الشريكين في مرضه نصيبه من العبدين، وكان ثلث مال هذا المريض ألفا وخَمسَمائة، فقد استوفى بالإعتاق من ثلثه ألفاً، وبقي إلى تمام الثلث خَمسمائة، ومحل تصرفه ثلثُه، وهو في مقدار ثلثه موسرٌ في تبرعاته، فلا بدّ من تسرية عتقه في مقدار خمسمائة، ولا مزيد؛ فإنه فيما وراء الثلث معسرٌ، وعتْق المعسر لا يسري، فإذا ثبت ذلك، فكيف يسري هذا (5) المقدار؟ أنفضُّه على العبدين أم نُقرع بينهما، ويحصل تمام العتق لأحدهما؟
قال ابن الحداد: نَفُضّ العتق على العبدين، ولا نقرع.
وقال في مسألةٍ تُداني هذه بالإقراع.
وصورتها كما ذكرناها، غيرَ أنه لم [ينجز] (6) الإعتاق في مرضه، بل أوصى بإعتاق
__________
(1) (س) : القول.
(2) (س) : الموصي.
(3) في النسختين: في باقي الثلث.
(4) سقطت من الأصل. وفي (س) : منهم.
(5) (س) : فكيف يسري؟ أنفضه.
(6) في الأصل: يجز.(11/257)
نصيبه من العبدين بعد موته [وأوصى] (1) بتكميل [العتق] (2) فيهما، وردّ الورثة الزائد على الثلث، فيعتِق نصيبه، ويسري مقدارُ خمسمائة، ثم قال في هذه الصورة: نقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، [نكمل العتق فيه، وقد تم الثلث، فيعتق عبدٌ كامل، ويعتق النصف] (3) تنجيزاً من الثاني.
فاختلف أصحابنا في المسألتين: فمنهم من قال: لا فرق بينهما، وفيهما جميعاً وجهان: أحدهما - أنا نفضُّ السراية إلى تمام الثلث عليهما؛ لأن المقتضي للسراية قد تحقق فيهما جميعاً، فليس أحدهما أولى بسراية العتق فيه من الثاني.
والثاني - أنا نقرع بينهما؛ فإن مذهب الشافعي رضي الله عنه جميعُ (4) العتق بالقرعة، وسراية العتق لا تزيد على إنشاء العتق، ولو أعتق ثلاثة أعبدٍ لا مال له غيرهم؛ فإنا نردّ بالقرعة العتقَ إلى واحدٍ، إذا استوت قيمتهم، ونعتق واحداً، ونرق اثنين، وإن كان ذلك مخالفاً لقصده، وقد أثبت لكل واحد منهم حقّاً في العتاقة (5) ، فلم نعتبر قصدَه، وحكّمنا القرعة، فلتكن السراية بهذه المثابة.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على جوابي ابن الحداد فيهما، فقال في إنشاء العتق في النصيبين: نفضّ السراية إلى تمام الثلث على العبدين، ونقرع في مسألة الوصية بالإعتاق والتكميل، والفرق عند هذا القائل بين المسألتين أنه إذا أعتق نصيبه من العبدين، فليس له في تكميل العتاقة قصدٌ [وإنما] (6) السراية حكمٌ ينفذ عليه، وإن لم يُردْه، فليس أحدُ العبدين أوْلى به من الثاني، وإذا أوصى بإعتاق نصيبه من العبدين، وأوصى بالتكميل، فقد ظهر قصدُه في تكميل العتاقة، ولم يمكن ذلك في
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: العدّة.
(3) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(4) كذا في النسختين. ولعل صوابها: (تنفيذ أو تحقيق) . والمعنى أن مذهب الشافعي اعتماد القرعة -عند الإبهام- في العتق.
(5) (س) : في الوصية.
(6) في الأصل: قصدوا بالسراية.(11/258)
العبدين إذا ردّ الورثة الزائد على الثلث، [فكان] (1) التكميل في أحدهما [قريباً من] (2) مقصوده، ولم يوجد من المعتِق في المرض ذلك القصد.
وهذا ضعيفٌ، لا ثبات له، ولا يتجه على مذهب الشافعي رضي الله عنه إلا التوصل إلى إكمال العتق في أحدهما بطريق القرعة في الصورتين جميعاً.
قال الشيخ رضي الله عنه: لو قال المريض في الصورة التي صورناها: أعتقت العبدين، وعبر عن إعتاقهما جميعاً، فالوجه تنزيل هذه المسألة على حكم مسألة الوصية؛ فإنه لما أعتقهما، ظهر قصدُه في طلب كمال الحرية، فكانت هذه الصورة (3) بمثابة ما لو أوصى بتكميل العتق فيهما، ولو كان ثلثه بحيث لا يفي بتكميل العتق في أحد العبدين.
ولو صرفنا تمام ثلثه إلى أحدهما، لم يكمل عتقه، فيجوز أن يقال: إذا تصورت مسألة الوصية بهذه الصورة، فالعتق إلى تمام الثلث [مفضوضٌ] (4) على العبدين؛ فإنا لا نستفيد بتخصيص العتق بأحدهما إكمالَ [إعتاقه] (5) .
هذا منتهى القول في ذلك.
7509- ومن تمام البيان فيه أنا لما صوّرنا المسألة في الوصية، وأردنا تصوير السراية، لم نجد إليها سبيلاً؛ فإن العتق الوارد بعد الموت على بعض العبد لا يسري على الميت قط، لما حكمنا به من أن الميت بمثابة الحي المعسر.
ومن لطيف القول في ذلك أن الثلث محلّ تصرف الميت في [مرضه] (6) وبعد
__________
(1) في الأصل: وكان.
(2) في الأصل: "فكان التكميل في أحدهما قوياً وهو مقصوده" و (س) : قويّاً من مقصوده، والمثبت تصرفٌ من المحقق. عسى أن يكون صواباً.
(3) (س) : المسألة.
(4) في الأصل: منصوص.
(5) في الأصل: إضافة.
(6) في الأصل: فرضه.(11/259)
موته، وقد يتخيل [الفطن] (1) [تسرية] (2) العتق إلى تمام ثُلثه، وليس الأمر كذلك؛ فإنه [لو] (3) لم يوصِ ولم يتبرع، لكان ثُلثه لورثته، فإنما يكون الثلث محلاً لتبرعاته إذا أنشأها؛ فإذا لم يوجد منه إنشاء تبرع، فباقي ثلثه ملكُ ورثته.
وهذا حسنٌ بالغ.
7510- مسألة: إذا ملك ثلاثة أعبد قيمة كل واحد ألف، ولا مال له سواهم، ْوقال: أعتقوا بعد موتي من كل عبد نصفَه، فقد زادت الوصية على الثلث، فإن أجازها الورثة، نفذت، وإن ردّوها، رُدّت الوصية إلى مقدار [نصفي] (4) عبدين، ويتميز ذلك بالقرعة، فنقرع (5) بينهم، كما سيأتي تفصيل القرعة في كتاب العتق إن شاء الله عز وجل، فإذا خرجت قرعة الحرية على واحدٍ، عتق نصفه ورق باقيه، فإذا خرجت قرعةٌ أخرى على عبد آخر، عَتَق نصفُه ورق باقيه، ورق العبد الثالث بكماله.
وهذا الذي ذكرناه يستند إلى أصلين: أحدهما - أن العتق الوارد على بعض العبد لا يسري على (6) الميت، هذا أصلٌ متفق عليه، كما [تكرر] (7) تقريره وتعليله.
والأصل الثاني - أنا لا نجمع نصفي عبد [من] (8) عبد، حتى نعتق عبداً كاملاً، ونرق [عبدين] (9) والسبب فيه أنه لم يتعرض لطلب إكمال العتق، حتى يتوصل إلى ذلك، ولو في عبد واحد، وليس كما إذا قال: أعتقوا العبيد الثلاثة، فإنا نعتق واحداً، ونرق اثنين إذا استوت قيمتهم.
__________
(1) في الأصل: النظر.
(2) في الأصل: قرية.
(3) زيادة من (س) .
(4) فى الأصل: وصفية.
(5) قال النووي: هذا هو الأصح (ر. الروضة: 6/206) .
(6) على الميت (ساقط من س) .
(7) في الأصل: تقدّر.
(8) في الأصل: في.
(9) في الأصل: عبديه.(11/260)
ولو أعتق في مرض (1) موته أنصاف هؤلاء العبيد الثلاثة، ثم مات من مرضه، لا مال له غيرُهم، قال الأئمة: نقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رِقّ، فنُعتق منه عبداً كاملاً، ونرق عبدين، ولا نظر إلى ذكره (2) الأنصاف (3) ؛ فإن المالك إذا ذكر العتق في البعض، كان كما لو وجه العتق على كمال العبد.
ولو أعتق العبيد الثلاثة تنجيزاً، ورُدت الوصايا إلى الثلث؛ فإنا نعتق واحداً، ونرق اثنين، وليس كذلك إذا أوصى بإعتاق أنصاف العبيد بعد موته؛ فإن الإعتاق في الأنصاف مضاف إلى وقت لا يتصور سريان العتق فيه، ولا [يتعدّى] (4) ما وراء الثلث إلى ملك من يقع العتق عنه.
والقول الوجيز فيه: أن إنشاء العتق من المريض في البعض بمثابة تنجيز العتق في الكل. هكذا ذكره الشيخ، وهو متَّضح، ولم أر فيما ذكره خلافاً للأصحاب.
ولو كان له عبدان لا مال له سواهما، فقال: أعتقوا من هذا نصفه، ومن هذا ثلثه بعد موتي، وقيمة كل عبد ألف، فقد زاد على الثلث، فنقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على صاحب النصف، عتق نصفه، وعتق من الآخر سدسه، وقد تم الثلث.
وإن خرجت القرعة على صاحب الثلث عتق ثلثه، وعتق من صاحب النصف ثلثه، وقد تم الثلث.
ولو قال في مرض موته: أعتقت من هذا نصفه، ومن هذا ثلثه، فهو كما لو قال: أعتقتكما؛ فإن العبارة عن الثلث في حق المريض بمثابة توجيه العتق على الجميع، ولو قال: أعتقتكما، أقرعنا سهماً، فمن خرجت قرعته، عتق فيه ثلثاه، ورق ثلثه، ورقّ العبد الآخر بكماله.
__________
(1) (س) : في مرضه.
(2) (س) : إلى ما ذكره من الأنصاف.
(3) وهذا هو الذي قاله النووي (ر. الروضة: 6/206) .
(4) في الأصل: يعز.(11/261)
7511- مسألة: إذا أوصى لرجل ببعض عبدٍ، والعبدُ ممن لا يعتق على الموصى له، ولكن كان بحيث (1) يعتِق على وارثه، فلو مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبول الوصية، فالوارث بالخيار، إن شاء قبل الوصية، وإن شاء ردّها، فإن قبلها عَتَقَ عليه ذلك الجزء الموصى به، وهل يسري العتق إلى الباقي إذا كان الوارث القابل موسراً؟ هذا يستند إلى أصلٍ سيأتي استقصاؤه في كتاب العتق -إن شاء الله تعالى- وهو أن من ورث في صحته نصفاً من ابنه، وعتَقَ عليه، لم يسر العتق إلى الباقي وإن كان الوارث موسراً؛ لأنه لم يتسبَّب إلى تحصيل الملك في المقدار الذي عتق عليه، فيبعد أن يلزمَه غرمٌ في الباقي، وإذا بعُد تغريمه، امتنعت السراية؛ فإنها من غير غُرم محال.
ولو اشترى النصفَ ممن يعتق عليه، وجرى القضاء بنفوذ العتق فيه، فالعتق يسري إلى باقيه إن كان المشتري ذا وفاءٍ بقيمة الباقي، والسبب فيه أنه أقدم على تحصيل الملك [قصداً بمسلك وُضِعَ لجلب] (2) الملك مباشرة من غير تخلل واسطة.
ولو اشترى المكاتب ابنَ سيده، ثم عجز عن أداء النجوم، فردّه مولاه إلى الرق، فلا شك [أن] (3) ابن السيد يعتِق عليه لدخوله في ملكه، فلو كان اشترى المكاتَب نصفَ ابن سيده، ثم جرى التعجيز، والإرقاق وعَتَق عليه ذلك النصف، فهل يسري العتق إلى باقيه؛ فعلى وجهين: أحدهما - يسري؛ لأن سبب الملك إرقاق المكاتب ورده قِنّاً، وذلك جرى باختيار السيد، فأشبه ما لو اشترى النصف من ابنه.
والوجه الثاني - أن العتق لا يسري؛ فإن الملك في بعض الولد ليس مقصوداً في عينه، وإنما جرى القصد في الإرقاق، ثم ترتب عليه انقلاب أكساب المكاتب إليه، ولهذا نظائر ستأتي مشروحة -إن شاء الله- فيما نذكره (4) ، وهو:
__________
(1) (س) : ممن يعتق.
(2) في الأصل: قصد المسلك موضع بجلب.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (س) : ومما نذكره مسألة ابن الحداد.(11/262)
7512- مسألة ابن الحداد: من أوصى لإنسان بنصف عبد، وكان ذلك العبد ممن يعتِق على وارث الموصى له، فمات الموصي، ومات الموصى له، وقَبِل الوارثُ الوصية، فهذا يخرّج على أن وارث الموصى له إذا قبل الوصية، فالملك يحصل للموصى له، ثم ينتقل إرثاً إلى الوارث، أم يحصل الملك للوارث ابتداء؟ وقد ذكرنا تقرير ذلك على أبلغ وجه في البيان.
فإن فرعنا على الأصح وهو أن الملك يحصل للموصى له، ثم ينتقل إرثاً إلى الوارث، فإذا نفذ العتق في ذلك المقدار الموصى به، فهل يسري؟ فعلى الوجهين المقدمين؛ فإنه قد قصد واختار، ولكن لم يقع الملك له من غير واسطة، بل تضمّن قبولُه تحصيلَ الملك للموصى (1) له، ثم ترتب عليه انتقالُ الملك إليه، فالتحق هذا بمسألة المكاتب وما في معناها.
وهذه المسائل تدار على ثلاث صور: إحداها - ألا يكون لمن يعتِق عليه اختيار أصلاً، فإذا جرى مثل هذا في البعض وعتِق، لم يسر.
والصورة الثانية - أن يختار مباشرة التملك، كما إذا ابتاع البعضَ من [ولده] (2) أو اتهب، فإذا عتِق عليه، سرى إذا كان موسراً.
والصورة الثالثة - أن يختار سبباً يُفضي إلى حصول الملك بواسطة، فإذا حصل العتق، ففي السريان وجهان.
وإن قلنا: وارث الموصى له يملك الموصى به من غير تقدير إرث، فهذا يلتحق بما إذا اتهب البعض من [ولده] (3) أو اشتراه.
7513- مسألة: إذا قال: أعتقوا فلانة بعد موتي، أو قال: إذا مت، فهي حرة، وكانت حاملاً ولم يستثنِ حملَها، ولا تعرض له، فإذا أعتقت الجارية بعد موته، والحملُ جنين، قال الشيخ أبو علي: يسري العتق إلى الحمل إذا وسع الثلث.
__________
(1) (س) : تحصيل الملك له.
(2) في الأصل: داره.
(3) في الأصل: داره.(11/263)
فإن قيل: لو أوصى بإعتاق قسط من عبده، نفذ (1) العتق فيه، ولم يسر، مع أن وضع العتق على السريان، ولو أعتق أحدُ الشريكين نصيبَه من عبدٍ مشترك، وكان موسراً، نفذ العتق إلى نصيب صاحبه، ولو كانت الجارية الحامل ملكاً لزيد وكان حملها ملكاً لآخر، [فإن] (2) فرضت الوصية بالجارية لزيد وبحملها لعمرٍو، فإن أعتق [مالك] (3) الجاريةِ [الجاريةَ] (4) لم يسر العتقُ إلى الولد. فإذا كان لا يسري العتق في البعض في حق الميت إلى باقي العبد، مع أن العتق يسري إلى ملك الغير، فكيف يسري العتق من الأم إلى الحمل، مع أن عتق الأم لا يسري إلى الولد المجتنّ في البطن؟ أجاب الشيخ عن هذا، [بأن] (5) قال: العتق لا ينفذ في الحمل على مذهب السريان، ولكن اسم الجارية يتناول التي سماها مع جنينها، ولهذا يشتمل البيع الوارد على الأم الحامل على حملها.
هذا قول الشيخ، وقد قدمت لبعض الأصحاب أن الوصية بالجارية مطلقاً لا تتضمن الوصية بحملها (6) ، وإذا كان كذلك، فيخرج من هذا أن الوصية بإعتاق الجارية يجوز ألا يتناول ولدَها، وقد بطل (7) السريان على الميت، فينتظم منه أن العتق لا يتعدى إلى (8) الحمل، وهذا متجه، وإن قطع الشيخ بما ذكرناه.
7514- ولو كانت الجارية حاملاً، وقال: أعتقوا عيْنَ (9) هذه دون حملها، فاستثنى الحملَ مصرحاً [ناصّاً] (10) فإذا أعتقت الجارية، فهل يعتِق ولدُها؟ ذكر الشيخ
__________
(1) (س) : تعدى.
(2) في الأصل: بأن.
(3) في الأصل: بمالك.
(4) مزيدة من (س) .
(5) في الأصل: وقال.
(6) (س) : بجملتها.
(7) (س) : يبطل.
(8) (س) : على.
(9) (س) : عنى.
(10) زيادة من (س) .(11/264)
أبو علي وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أنه لا يعتِق ولدُها، وهو المذهب المبتوت الذي يبعد عن القياس غيرُه؛ فإنا إن قلنا في صورة الإطلاق: يعتِق الولدُ لاشتمال الاسم على الحمل، فهذا لا يتحقق مع التصريح باستثناء الحمل، وقد ذكرنا أن السريان لا سبيل إلى الحكم به في حق الميت.
والوجه الثاني - أن الولد يعتِق، وإن استثناه إذا اتسع الثلث، كما سنصف التفصيل فيه -إن شاء الله- ووجهه أن الحمل بمثابة عضو من الأم في قواعدَ، أَوْلاها بذلك العتقُ، لما له من السلطان، فاستثناؤه ينزل منزلة استثناء عضو منها، بعد توجيه العتق عليها، مثل أن يقول: أعتقت هذه إلا يدها.
ولو قال لجاريته الحامل بولد رقيق في مرض موته: أنت أو حملُك حر، فردّد العتقَ بين الأم وبين الولد، قال الأئمة: نقرع بعد موته بين الحمل وبين الأم؛ فإن خرجت القرعة على الحمل عتَق واقتصر العتق عليه؛ فإن المذهب الأصح الذي نقله المعتبرون أن العتق لا يسري من الحمل إلى الأم بخلاف الأعضاء؛ فإن المالك لو وجه العتقَ على عضو من مملوكه، عتق المملوك، كما سيأتي مشروحاً في كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى - فإن خرجت القرعة على الأم عَتَقت.
والمسألة مفروضة فيه إذا كان الثلث يسع الأم والولدَ جميعاً معاً، فإذا عتقت والثلث يتسع (1) ، فهل يعتق الحمل؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا أوصى بإعتاق الأم واستثنى الولد، وذلك أن ترديد العتق بين الأم والولد يتضمن ألا يجمع العتق فيهما. فإن قلنا: الحمل لا يعتق، فوجهه اتباع قول المريض، وإن قلنا: إنه يعتق، فوجهه تنزيله (2) منزلة عضوٍ من الأم في العتق الغالب، وهذا يقتضي أن يسري العتق من الحمل إذا وجه عليه إلى الأم، كما ينفذ العتق الموجه على طرف من أطراف المملوك، ولم يصر أحدٌ من أئمة المذهب إلى ذلك، إلا الشيخ أبو بكر الطوسي (3)
__________
(1) (س) : متسع.
(2) (س) : بين منزلة.
(3) الشيخ أبو بكر الطوسي، هو محمد بن بكر بن محمد أبو بكر الطوسي النَّوْقاني كان إمام أصحاب الشافعي بنيسابور، كان إمام العلم والعمل، عرف بالتقوى والزهد، والرغبة عن =(11/265)
رحمه الله [فإنه] (1) قال: يسري العتق من الحمل إلى الأم. وهذا فيه ضعفٌ؛ فإن انفراد الحمل بالحرية ليس بدعاً، والأمَةُ الرقيقة قد تَعْلق بولدٍ حر، وإنما يجب الحكم بنفوذ العتق إذا وُجّه على طرفٍ؛ لأنه لا يتصف (2) بالعتق، ففي ترك التسرية (3) تعطيل العتق، والحمل يعتق، وليس جزءاً شائعاً من الأصل.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الثلث يسع الأمَّ والحمل.
7515- فأما إذا خرجت القرعة على الأم واحتملها (4) الثلث وحدها، ولم [يحتمل] (5) حَمْلها، فإن قلنا: إن الحمل لا يعتِق إذا اتسع (6) الثلث واحتملها، فلا إشكال، فيقتصر العتق على الأم، وإن قلنا: العتق يسري إلى الولد [إذا اتّسع] (7) الثلث وإن استثناه صريحاً، ففي هذه الصورة وقد ضاق الثلث وجهان: أحدهما - أنا نعتق من الجارية مع الحمل ما يسعه الثلث، فيعتق منها مقدارٌ، ومن حملها مقدار، بحيث لا يزيد المقداران على الثلث، وذلك بأن نقوّمها حاملاً، ثم نرِق منها ومن ولدها ما يزيد على الثلث.
والوجه الثاني - أن الأم تعتق دون الحمل، وإن كنا نرى التسرية إلى الحمل، فنضطر (8) هاهنا إلى ترك التسرية؛ فإن الحمل يقع وراء الثلث، ولا يتعدى تبرع
__________
= الحياة وكراهية الدخول على السلاطين، تفقه به جماعة منهم الأستاذ أبو القاسم القشيري، نقل عنه الرافعي في الإجارة، بهذا اللقب، فقال: "وعن الشيخ أبي بكر الطوسي" ونقل عنه في الجنايات، وفي القصاص. توفي بنوقان في 420 هـ أربعمائة وعشرين للهجرة. (ر. طبقات الفقهاء: 132، وطبقات السبكي: 4/121، وطبقات الإسنوي: 2/157) .
(1) في الأصل: بأنه.
(2) (س) : لا ينصرف.
(3) (س) : التسوية.
(4) (س) : أو حملها الثلث وحدها.
(5) في الأصل: يحصل.
(6) (س) : امتنع.
(7) في الأصل: إذ لا يتسع الثلث.
(8) (س) : فيه ظهر هنا إلى ترك..(11/266)
المريض إلى [ما] (1) يقع وراء الثلث، فالحمل إذاً بمثابة الحمل الحر، ولو كانت حاملاً بولدٍ حُرٍّ، لنفذ العتق فيها ولا معنى لنفوذه في حملها وهو حر الأصل.
وقد نجز الغرض من المسألة.
7516- مسألة: الرجل إذا كانت له جاريةٌ مملوكة، ولتلك الجارية ابنان حرّان: أحدُهما من سيدها، وكانت علقت به حراً من السيد قبل أن ملكها، بأن نفرض وطء شبهة، أو وطئاً في نكاح على حكم الغرور، والولد الثاني كان من غير السيد -وتصويره سهل- فلو أوصى بهذه الجارية للابن الذي ليس منه، ومات الموصي وخلّف ابنه منها وارثاً، فإن كان الثلث يحمل الجارية، فلا يخلو إما أن يقبل الموصى له الوصية، وإما أن يردّها، فإن قبلها، عتِقت عليه؛ فإنها أمه دخلت في ملكه، وإن ردّ الوصية، عتقت أيضاً على ابنها من سيدها.
ولو كان الثلث لا يحتمل خروجها، فالابن الوارث لا يخلو إما أن يجيز الزائد على الثلث، وإما أن يردّ الزيادة: فإن ردّ الزيادة على الثلث وقبل الموصى له القدرَ الخارج من الثلث، فيعتق على الموصى له القدرُ الذي صحت الوصية فيه، ويعتِق على ابن السيد منها باقيها.
هذا إن أراد الوارث ردَّ الزائد على الثلث.
وإن أراد أن يجيز الوصية بكمالها، فقد قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: هذا يخرّج على أن الإجازة ابتداء عطية من المجيز أم تنفيذ وصية؟ وفيه قولان، فإن قلنا: إنها ابتداء عطية، فلا يجد الابن الوارث إلى إجازة الوصية في الزيادة سبيلاً؛ لأن حقيقة هذا القول أن الزائد على الثلث دخل في ملكه قطعاً، وإذا دخل عتق (2) ، فلا يتأتى ابتداء العطية فيما ملكه وعَتَق عليه.
وإن قلنا: الإجازة تنفيذ وصية، فإذا أجاز الابن الوارثُ، صحت الوصية، ونفذت بكمالها على الابن الموصى له إذا قبل الوصية، وتعتِق عليه لا محالة.
__________
(1) في الأصل: لما.
(2) (س) : ملك.(11/267)
وهذا فيه سرٌّ (1) يجب التنبّه له، وهو أن قائلاً لو قال: إذا منعنا ثبوت الخيار في شراء من يعتق على المشتري، فكأنا حسمنا مسلك ردّ الملك والعتق، وهذا القياس يقتضي أن نقول: لا يتخير الابن الوارث في إجازة الوصية، بل يعتِق عليه بعضُها، وتنقطع الخِيَرةُ، وهذا إن قيل به، فليس ببعيد. ولكن سرّ الفقه ما ذكره الشيخ، وهو أن الإجازة تنفذ على قولنا: إنها (2) تنفيذ وصية، فإن معنى هذا القول أنّا عند الإجازة نتبيّن أن الوصية بكمالها نفذت من الموصي، [إلا] (3) أن ذلك القدر الزائد يدخل في ملك المجيز، ثم يخرج بالإجازة، وسبيل تخيّره في الإجازة كسبيل تخير الإنسان في اتّهاب من يعتق عليه إذا وهب منه.
هذا تمام البيان في ذلك.
7517- ولو كان للرجل جاريةٌ، ولها ابن حرٌّ من غيره، وللسيد أخٌ، أو وارثٌ غيرُه، بحيث لا تعتِق الجاريةُ عليه، فإذا أوصى بالجارية لابنها، فلو لم [تخرج] (4) الجارية من الثلث، فاعتق الوارث القدر الذي لم يخرج من الثلث من الجارية، وقبل الموصى له الوصية، قال ابن الحداد: نفذ العتق على الموصى له، ولم يسْرِ العتق في حق واحدٍ منهما، بل ينفذ إعتاق الوارث في الزائد على الثلث إنشاءً، ويعتِق على الموصى له ما قَبِل الوصية فيه. هكذا قاله الشيخ أبو علي (5) .
قال الأصحاب: ما ذكره من نفي السراية من الجانبين مطلقاً غيرُ سديد، والوجه تخريج المسألة على القولين في أن الملك في الموصى به متى يحصل (6) ؟ فإن قلنا: يحصل مستنداً إلى موت الموصي، فعلى هذا يعتق على الموصى له قدرُ الوصية، ويسري عتقه إلى نصيب الورثة؛ فإن وقوع العتق تبيناً (7) يتقدم على إعتاق الوارث،
__________
(1) (س) : بحث.
(2) (س) : على قولنا: وصية.
(3) في الأصل: ولا.
(4) في الأصل: يجز.
(5) قاله الشيخ أبو علي: أي نقلاً عن ابن الحداد في شرح الفروع.
(6) عبارة (س) فيها خرم واضطراب: "في الملك في الموصى له متى يحصل مستنداً إلى ... ".
(7) ساقطة من (س) .(11/268)
والمسألة مفروضةٌ في بيان (1) الموصى له والوارث جميعاً.
وإن قلنا: إن الملك يحصل عقيب القبول، فينفذ عتق الوارث في قدر الزيادة، ويسري عتقه إلى نصيب الوصية؛ إذْ (2) لم يثبت في الوصية حق العتق بعد، فإذاً تثبت السراية على القولين، على خلاف ما قاله ابن الحداد، ولكن يختلف المذهب فيمن يسري عتقه، كما اقتضاه التفريع.
ثم إذا سرّينا عِتْقَ الوارث، فإنه يغرم للابن قيمة مقدار الوصية، وهذا يقع بدْعاً؛ فإن قيمةَ الأم غُرمت له، ولم تعتق عليه، والسبب فيه أن قبوله صادف الغُرْم، والقيمةُ لا تقبل العتق.
7518- ثم ذكر ابن الحداد على الاتصال بهذا مسألةً وأجاب فيها بجواب يخالف جوابه في هذه المسألة، فقال: لو أْوصى بعبدٍ لمن يعتِق عليه ولأجنبي، لكلِّ واحدٍ منهما النصفُ، فإن قبلا معاً، عتق نصيب الابن، وسرى عتقُه إلى الذي هو للأجنبي، إذا كان الابن موسراً، وكذلك إن قبل الابن نصيبه أولاً، فيعتِق نصيبه ويسري العتق إلى نصيب الأجنبي، ثم إن قبل الأجنبي الوصيةَ، فعلى الابن قيمةُ نصيبه، وإن ردّ الأجنبي الوصيةَ، ارتد نصيبه إلى الوارث، فيغرَم للوارث قيمةَ نصف العبد (3) .
قال: ولو قبل الأجنبي أولاً نصيبه، وأعتقه إنشاء، ثم قبل الابن نصيبه، فهذا يخرّج على القولين في أن الملك متى يحصل للموصى له؟ فإن قلنا: إنه يحصل له الملك عقيب القبول، فقد نفذ إعتاق الأجنبي في نصيبه، وسرى إلى نصيب الابن، ويغرَم للابن قيمةَ نصيبه.
وإن قلنا: إن الملك يستند إلى [مَوْت] (4) الموصي، فعلى هذا إذا قبل الابن،
__________
(1) "بيان" سقطت من (س) .
(2) (س) : أو لم يثبت.
(3) ويغرم للوارث قيمة نصف العبد: هذا يقع بدْعاً على حدّ تعبير الإمام الذي مرّ آنفاً، والسبب فيه أن ردّه صادف نصف القيمة، والقيمة لا تقبل العتق.
(4) في الأصل: "ثبوت".(11/269)
بان أنه عتَق نصيبه بعد الموت، وسرى العتق إلى نصيب الأجنبي.
هذا تفريع ابن الحداد على القولين أجراه على السداد، ولم يتعرض له في المسألة السابقة. وهذا زلل غريب؛ فإنه أغفل أصلاً، ثم ذكره وفرّع عليه على الاتصال، ولم يستدرك، ولم [يُسَبِّب] (1) بفرقٍ، وكيف نقدر الفرق في تفريعِ أصلٍ واحد!!
7519- مسألة: إذا أوصى بعبدٍ لأبيه الحرّ أو لابنه، ومات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبوله الوصية، وخلّف ابنين.
فإن ردّا الوصية، فلا كلام.
وإن قبلا، فظاهر المذهب أن الملك يحصل للمتوفى الموصى له، فعلى هذا يعتِق العبد على المتوفى، لأنه يدخل في [ملك من] (2) يعتِق عليه. هذا هو المذهب.
قال الشيخ: قد ذكر بعض أصحابنا: أنه لا يصح قبولهما، ولا قبولُ أحدهما؛ فإنا لو صححنا القبول، لحكمنا بالعتق على الموصى له، ولو عتق عليه، لثبت له الولاء، ولكان الورثة قد أَلْزَموه الولاء من غير اختيارٍ فرطَ منه في حياته، وهذا الوجه ضعيف.
هذا إذا قبلاه أو ردّاه.
فأما إذا قبل أحدهما الوصيةَ وردّ الثاني، فالذي ذكره الأصحاب أن القدر الذي قبله يعتِق على الميت. ثم إن كان في يد القابل من التركة ما يفي بالسراية، سرى العتق فيه، وبذل القابل القيمة مما في يده، وينفذ العتق على الميت [في] (3) هذه الصورة ابتداءً وسرايةً. هكذا ذكره الأصحاب. ولو لم يكن في يده من التركة شيء أصلاً، فلا يسري العتق.
ثم قالوا: يعتبر في ذلك ما في يد القابل من التركة، ولا يعتبر ما في يد صاحبه؛ فإنه ردّ الوصية، ولم يختر قبولَها.
__________
(1) في الأصل: "يسيب" وفي (س) : "تثبيت" مع إسقاط كلمة: (بفرق) .
(2) في الأصل: ملكه متى. (وس) : ملكن من.
(3) في الأصل: من.(11/270)
قال الشيخ: الذي عندي فيه أنه إذا قبل أحدُهما وردّ الثاني، فيعتق القدر الذي قبله، ولا يسري أصلاً؛ فإنه لو سرى، لسرى على الميت، وقد ذكرنا أن العتق لا يسري على الميت؛ لأن حكمه حكم المعسرين.
ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ، وما سواه غلط في القياس.
ثم قال رضي الله عنه: إذا قبل أحدهما، وعتق ما قبله، أو قلنا بالسراية على رأي الأصحاب، فسرى إلى التمام، فالولاء للميت، ويرث به الابن القابل، وهل يرث به الابن الذي لم يقبل؟ ذكر فيه وجهين: أحدهما - أنه يرث به؛ إذ الولاء [يثبت] (1) للموروث في الأصل، فاستوى فيه الورثة، وهذا هو الصحيح.
والثاني - أنه يختص بالإرث بالولاء من تسبب إلى جَلْبه، وهذا ضعيفٌ؛ فإن الولاء ليس يورث، بل يورث به، وإذا ثبت الولاء للموروث، وجب [توريث] (2) كافة الورثة به (3) .
7520- مسألة: إذا قال: إذا مت، فعبدي حر، أو قال: إذا مت، فاصرفوا إلى فلان كذا.
فإذا قُتل، فهو كما لو مات حتف أنفه؛ فإن كلّ قتيلٍ ميت (4) ، ويجب طرد هذا في (5) عاقبتي اليمين حنثاً وبرّاً.
ولو قال: إن مت من مرضي هذا، فعبدي حر، فبرأ [واستبلّ] (6) ، ثم مرض
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: توريثه.
(3) ساقطة من (س) .
(4) (س) : مريض.
(5) (س) : على مبنى اليمين.
(6) في النسختين: استقلّ. والمثبت تقدير منا على ضوء المعنى وعلى المعهود لدينا من ألفاظ إمام الحرمين. واستبلّ معناها شفي من مرضه وعوفي، من قولهم: بلّ من مرضه: بَرَأ (معجم ومصباح) .(11/271)
ومات، فلا يعتِق عبدُه؛ [فإنه] (1) علّق وصيتَه على هذا الوجه بموته من ذلك المرض، [فلم] (2) تثبت الوصية.
ولو مات، فاختلف الموصى له والوارث، فزعم الوارث أنه مات من مرضٍ آخر، وزعم الموصى له أنه مات من ذلك المرض بعينه. قال ابن الحداد: القول قول الوارث؛ فإن ما قاله محتمل، والأصل عدم ثبوت الوصية.
قال الشيخ: هذا هو المشهور، ومن أصحابنا من قال: القول قول الموصى له؛ فإنه قد ثبت موتُه، والأصل بقاء ذلك المرض، والوارث يدّعي زوالَه وارتفاعَ وصيةٍ ثبت أصلُها. وابن الحداد يقول: الوصية إنما تثبت إذا ثبت الموت من ذلك المرض.
والصحيح ما قاله ابن الحداد.
7521- مسألة: إذا قبل الموصى له الوصية، ثبت ملكه في الموصى به، ولم يتوقف حصوله على القبض والتسليم، بخلاف الهبات.
ثم الذي قطع به المراوزة أن الموصى له لو حاول ردّ الوصية بعد قبولها وقبْل القبض لم يكن له ردُّها، ولو ردّها، لم ترتد؛ فإن المنح والتبرعات إذا أفضت إلى تحصيل الملك، لم تَقبل الفسخ والنقضَ، والرجوعُ الذي أثبته الشرع في الهبات في حق بعض الناس في حكم تملك جديد أثبته الشرع.
وذكر العراقيون هذا وارتضَوْه، وحكَوا معه وجهاً آخر، وهو أن الموصى له بالخيار في الردّ -وإن قبل- ما لم يقبض، فإذا قبض (3) ، لم يصح منه الرد بعد القبض والقبول. وهذا ضعيف لا مستند له من أثرٍ ولا معنى، فلست أعتد به.
***
__________
(1) في النسختين: وإن. والمثبت تصرفٌ من المحقق رعايةً للسياق.
(2) في الأصل، وكذا (س) : لم. والمثبت تقدير منا اقتضاه سلامة العبارة.
(3) (س) : قيل.(11/272)
باب نكاح المريض
7522- إذا نكح المريض امرأة، صح النكاح وفاقاً، والمنكوحة ترث الزوجَ خلافاً لمالك (1) رحمه الله، وإياه قصد الشافعي رضي الله عنه بالرد، وقد أسرف مالك رضي الله عنه في طرفي نقيض، فقال: المنكوحة في المرض لا ترث، والمبتوتة في المرض ترث وإن انقضت عدتُها قبل موت الزوج، وذكر الأستاذ أبو منصور مذاهب للسلف مختلفة في نكاح المريض، لسنا لها.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ويلحق الميتَ من فعل غيره [وعمله ثلاث] ... إلى آخره" (2) .
7523- روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابنُ آدم، انقطع عنه (3) عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له" (4) . وقال
__________
(1) ر. الرسالة لأبي زيد مع غرر المقالة: 255، 256، والكافي لابن عبد البر: 248، وأيضاً: التسهيل: تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك: 4/122.
(2) ر. المختصر: 3/168. هذا. وفي الأصل: ويحمله ثلاثة. والمثبت من (س) وعبارة المختصر: قال في الإملاء: "يلحق الميت من فعل غيره ثلاث حج يؤدّى، ومال يتصدق به عنه، أو دين يقضى، ودعاء" ا. هـ. بنصه.
(3) هذا اللفظ (عنه) ليس في رواية النسائي ولا الترمذي، ولكنه عند أبي داود. مما يدفع التهمة الموجهة إلى الإمام بأنه لم ير (سنن أبي داود) ، وأنه كان لا يدري الحديث.
(4) حديث "إذا مات ابن آدم ... إلخ": رواه مسلم في الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ح 1631، وأبو داود في الوصية: باب ما جاء في الصدقة عن الميت، ح 2880، والنسائي في الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت، ح 3681، والترمذي في الأحكام: باب الوقف، ح 1376، والبخاري في الأدب المفرد: 20.(11/273)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادةً في أعمالكم" (1) . وقال عليه السلام: "تصدَّق وأنت شحيح بخيل، ولا تؤخر حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد صار لفلان" (2) .
7524- ومضمون هذا الفصل تفصيل القول فيما يقع عن الموتى، وقد أطلق الأئمة رضي الله عنهم في الطرق أن من تصدق عن ميت بصدقة، وقعت الصدقةُ عن الميت، ولا فرق بين أن يكون المتصدق وارثاً أو غير وارث، وقرنوا الصدقة بالدعاء، وقالوا: بركة الدعاء يُرجى التحاقها بالميت، من غير فصلٍ بين داعٍ وداعٍ، فكذلك صدقة التطوع، واحتجوا عليه بما روي أن [سعد بن عبادة] (3) قال لرسول الله عليه السلام: "إن أمي أُصمتت، ولو نطقت، لتصدّقت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم" (4) .
__________
(1) حديث "إن الله تصدق عليكم ... إلخ" أخرجه عدد من دواوين السنة بألفاظٍ قريب بعضها من بعض، فهو عند أحمد في المسند: 6/440، 441، وابن ماجه: كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، ح 2709، والبيهقي في السنن الكبرى: 6/269، والدارقطني في سننه: 4/150.
(2) قوله: "تصدق وأنت شحيح بخيل ... إلخ" هو من معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، أخرجه البخاري في الزكاة: باب فضل صدقة الصحيح الشحيح، ح 1419، 2748، ومسلم في الزكاة: باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، ح 1032، وأبو داود في الوصايا: باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، ح 2865، والنسائي في الوصايا: باب الكراهية في تأخير الوصية، ح 3641، وأحمد في المسند: 2/231، 250، 415، 447.
(3) في النسختين: "سعد بن أبي وقاص"، وهل هذا سبق قلم من النسّاخ أم هو وهم من إمام الحرمين؟ الله أعلم أي ذلك كان.
(4) هذا الحديث رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كلهم عن هشام (بن عروة) عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم جميعاً: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أمي افتُلِتت نفسها (أي ماتت فجاة) وأظنها لو تكلمت لتصدقت ... ".
فليس في هذه الرواية تصريح باسم السائل، ولكن الحافظ قال في الفتح إنه سعد بن عبادة، وسمى أمَّه أيضاً، فقال: إن اسمها عَمْرة، وقد جاء التصريح باسم السائل (سعد بن =(11/274)
هذا ما ذكره الأئمة في الطرق، ووجدت في بعض التصنيفات رمزاً إلى شيء يدور في خَلَد الفقيه، وذلك أن الصدقة نرجو لحوق بركتها الميت، فأما أن تقع عن الميت وصَدَرُها (1) من غير وارث، وهي متطوع [بها] (2) . فهذا بعيد عن القياس.
وقد ذكر الصيدلاني وغيره أنها تقع عن الميت، ومعنى وقوع التطوع عن الشخص أن يلتحق بأعماله، وكيف (3) يُفرض هذا، ولم يعمله، ولم يأمر به؟ نعم، إن تصدق الرجل (4) وقصد شخصاً، كان ذلك في معنى الدعاء له، فلا يبعد أن يخفف الله على (5) المتصدَّق عنه، وتنزل الصدقة وهي واقعة عن المتصدِّق منزلةَ الدعاء؛ فإن الدعاء يقع عبادة عن الداعي، وينال بركتَه الميت.
وفي حديث سعد تأملٌ للناظر، فإنه وارث، وللخلافة والوراثة أثر سنبيّنه في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى.
وأيضاً، فإنه لم يسأل عن وقوع الصدقة عن أمه، وإنما قال: أينفعها ذلك؟ فقال رسول الله عليه السلام: نعم. وليس يبعد عندي أن الأصحاب الأولين أرادوا هذا.
__________
= عبادة) في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنه. وصرح بذلك أيضاً حديث النسائي عن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه عن جده. وأما أبو داود، فقد جعل السائل المبهم في حديث عروة امرأة، وأبهم السائل في حديث ابن عباس، وجعله (رجلاً) . (البخاري: الجنائز، باب موت الفجاءة البغتة، ح 1388، والوصايا: باب ما يستحب لمن توفي فجأة، ح 2760، 2761، ومسلم في الزكاة، ح 51، وفي الوصية، ح 12، 13، رقم عام 1004، وأبو داود في الوصايا: باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية، ح 2881، 2882، والنسائي في الوصية: باب إذا مات الفجأة هل يستحب لأهله أن يتصدقوا عنه، وابن ماجه في الوصايا: باب من مات ولم يوصِ، ح 2717.
هذا، وليس في أيٍّ من هذه الروايات "أصمتت". وإنما كلها: افتلتت نفسها.
(1) صَدَرُها: أي صدورها، وهذا الوزن يجري على لسان الإمام لهذا المصدر ونحوه، فيقول في حدوث العالم: حَدَث العالم.
(2) في الأصل: فهذا. (أي مكررة) .
(3) في الأصل: "وكيف يفرض من هذا ولم يعمله، ولم يأمر به" وفي (س) : "وكيف يعمله ولم يأمر به".
(4) (س) : الميت.
(5) (س) : "يحقق الله ظنّ المتصدّق، وتنزل ... ".(11/275)
ولكن صرح المتأخرون بوقوع الصدقة عن الميت، وكان شيخي أبو محمد يبوح بهذا، ويعلله بأن النفوس متشوقة إلى إتباع الموتى الصدقاتِ، ومقتضى الشرع الحث على الصدقات بالجهات، فلا يمتنع أن يقع الحكم بوقوع الصدقة عن الميت، وهذا يعضده الزكاة؛ فإنها ركن الدين [وقوامها] (1) النية، ثم قد تقع معتداً بها من غير نية.
7525- فإذا تمهدت هذه المقدمة [أتبعناها] (2) باتفاق الأصحاب بأن من أعتق مملوكاً عن ميت متبرِّعاً، ولم يكن على الميت عتق، فالعتق لا يقع عن الميت، سواء كان المعتِق وارثاً أو غيرَ وارث.
وفرّق من أجاز التصدق عن الميت بين العتق والصدقة، بأن قال: العتق يُعقب ولاءً، وإثبات الولاء يتضمن [صدر] (3) العتق عن ملك من له الولاء بعد العتق، وتمليك الميت [بعيد] (4) بخلاف الصدقة.
وهذا كلام لا غَوْصَ له؛ فإن الصدقة عن الغير تقتضي صدرها عن ملكه، بَيْد أن الصدقة تفارق العتق بالولاء، وافتراقها في ذلك لا يوجب فرقاً في افتقار كل واحد منهما إلى الصدور (5) عن الملك.
7526- ولو مات وعليه كفارة، فقد قدمنا في الكفارات والمنذورات -وإن جرى التزامها في الصحة- قولين في أنها ديونٌ من رأس المال، أم سبيلها سبيل الوصايا؟
فإن (6) جعلناها ديوناً، وهو الأصح، وعليه تفريع الفصل، كما سنذكره الآن -إن شاء الله عز وجل- وإن جعلناها بمثابة الوصايا، فهي بمنزلتها في الاحتساب من الثلث، وهل (7) تسقط بالموت إذا لم يَجْر إيصاءٌ بها أم لا حاجة إلى الإيصاء؟ فيه تردد
__________
(1) في الأصل: وثوابها.
(2) في الأصل: انتفاها.
(3) في الأصل: تعدّر.
(4) في الأصل: بعده.
(5) (س) : الصدقة.
(6) جواب الشرط لم يُذكر، بل محالٌ لما سيذكره من تفريع.
(7) (س) : وهي.(11/276)
[مقتضبٌ] (1) من كلام الأصحاب: يجوز أن يقال: إنها تسقط على هذا القول؛ فإنها إذا حلّت محل الوصايا، فلا بد من تقدير (2) ذكرها والإيصاء بها.
والظاهر عندي أنه لا حاجة إلى ذكرها، وجريانُ أسبابها كافٍ، ولكنها قصرت عن الديون، من حيث أدخلها المرء على نفسه، وليست واجبة شرعاً ابتداء.
ونحن نعود بعد ذلك إلى التفريع على الأصح، وهو أنها ديون، ولا حاجة إلى فرض الإيصاء بها، فنقول: إن كان التكفير (3) الواجب بإخراج طعامٍ أو كسوة، فلا خلاف أن الوارث لو أخرجه، وقع الموقع، ولا فرق بين أن يخرجه من تركته، وبين أن يخرجه من مال نفسه إذا لم يخلّف الميت تركة. هذا متفق عليه.
ولو أخرج أجنبيٌ عنه ما وصفناه، فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب أنه يقع الموقع كما لو أخرجه الوارث، ووجهه أن وجوب الكفارة متحقق بعد الوفاة، وقد فاتت النية ممن عليه الكفارة، وفات تقدير الإنابة؛ فصار ما يخرج في حكم دَيْن محض، لا يفتقر إلى النية، ويصح من الأجنبي أن يؤدي ديْنَ الغير؛ من جهة أنه لا يفتقر إلى النية، ويمتنع [في] (4) حالة الحياة من الأجنبي تأدية الكفارة والزكاة عن الغير؛ من جهة أن نية من عليه ممكنة، واستنابته [متوقعة] (5) ، والآن [إن مات] (6) ، فقد فاتت النية وتوقعها، وانحسم مسلك الاستنابة.
ومن أصحابنا من قال: ليس للأجنبي أن يطعم عنه أو [يكسو] (7) ، وإنما ذلك للوارث؛ فإن للوراثة خلافة لا تنكر، فلا يبعد أن نقيم الوارث مقام الموروث، وتخصيص ذلك [بمن] (8) يخلف في الوراثة.
__________
(1) (س) : مغتصب.
(2) (س) : تقدم.
(3) (س) : التنفيذ.
(4) في الأصل: من.
(5) في الأصل: موقعة.
(6) في الأصل: إذا فات.
(7) في النسختين: يكسوه.
(8) في الأصل: ممن.(11/277)
ثم إذا كان للميت ورثة واشترطنا صدور الإطعام عن الوارث، فلا خلاف أن بعضهم لو استبدّ بالإطعام، جاز، وإن لم يخلّف الميت شيئاً، وهذا يؤكد تصحيح الإطعام من الأجنبي، فإن ما يُشترط (1) فيه خلافةُ الوراثةِ يُشترط فيه صَدَره من جميع الورثة، كالإقرار بالنسب.
7527- ولو لزمته كفارة فيها إعتاق، لم يخل العتق من أن يكون متعيّناً في ثبوته، أو يكون مع غيره على قضية التخير، كالعتق في كفارة اليمين.
فإن كان العتق متعيناً في وضعه كالعتق في كفارة القتل والظهار والوقاع في نهار رمضان، فإذا أخرج الوارث رقبةً وأعتقها عن المتوفَّى، فلا شك أنه إن أخرجه من تركته أو من مال نفسه وخلَّص التركة لنفسه، [فذلك] (2) حق يخرجه، ودين يؤدّيه، والتفريع على أن الكفارات الواجبة في الصحة ديون بعد الموت.
وإن لم يخّلف الميت شيئاً، وأعتق عنه وارثه من خاص ماله عبداً، صرفه إلى كفارته، وقع العتق عن المتوفى، ومن آثار وقوعه عنه أن الولاء له.
ولو أعتق أجنبي عنه عبداً والعتق متعيَّن، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الإطعام، والعتقُ أولى بألا يصح؛ لاستعقابه الولاءَ، وهذا في رأي [العلماء] (3) يقتضي تعلقاً بملك أو خلافة، ولذلك لم يصحح التطوعَ بالإعتاق من الأجنبي عن الميت من يصحح منه التصدقَ عن الميت تطوعاً، فقال: إذا أعتق الأجنبي عن الميت تبرعاً، وقع العتق عن المعتِق، وانصرف إليه الولاء، ولغا قصدُه الميتَ.
هذا إذا كان العتق متعيَّناً في الكفارة.
7528- فإذا (4) ثبت على قضية التخير كالعتق في كفارة اليمين، فإذا لم نجد من الميت إيصاء، فإن أطعم الوارث، أو كسا، وقع الموقع، وإن أعتق (5) عنه عبداً،
__________
(1) (س) : مشترط.
(2) في الأصل: بذلك.
(3) في الأصل: العليا.
(4) (س) : فأما إذا.
(5) (س) : وإن كسا أو أعتق عنه عبداً.(11/278)
ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق لا يقع الموقع؛ فإنه غير معيّن (1) ، وهو من هذا الوجه مُضاهٍ (2) للعتق المتطوع به، وقد ذكرنا أن الوارث لو أعتق عن الموروث متبرعاً، لم يقع عنه.
والوجه الثاني - أن العتق يقع عن الميت؛ فإن العتق مع الإطعام والكسوة على قضيةٍ واحدة، والتخيّر يتعلق بجميعها، وما اتفق إخراجه [منها] (3) يقع واجباً، ويلتحق في وقوعه بما يتعين، وقد ذكرنا أن العتق المتعيّن إذا صدر عن الوارث، وقع عن الميت موقع الإجزاء.
هذا إذا أطعم الوارث أو أعتق.
فأما إذا أطعم الأجنبي، فظاهر المذهب أنه يجزىء عن الميت إذا نواه وقصده، وفيه وجهٌ آخر ذكرناه.
فإن أعتق الأجنبي عن الميت في كفارة اليمين، ففي المسألة وجهان، إن أحببنا رتبناهما على الوجهين في الوارث، وهو أولى بألا يقع الموقع من الأجنبي، والفرق انتفاء الخلافة وثبوتها، وإن أحببنا، رتبنا الوجهين على الخلاف المذكور في إطعام الأجنبي.
هذا كله إذا لم يوص من عليه الكفارة.
7529- فأما إذا لزمته كفارة يمين، فأوصى بأن يعتق عنه، فإن وفى ثلثه، فذاك، وإن قصر الثلث -والتفريع على أن الكفارة ديْنٌ- فقد كان شيخي يقول: يجب الإعتاق عنه من رأس ماله.
وهذا ما أراه كذلك؛ بل ما دل عليه فحوى كلام الأئمة أن تعيين العتق في حكم الوصية.
وإن فرعنا على أن الكفارة دين؛ فإنه غير متعين، وفي إخراجه مغرم بيّن، وشيخنا
__________
(1) (س) : متعمد.
(2) (س) : يضاهي العتق.
(3) في الأصل: فيما.(11/279)
كان يقول: ما حكيته بناء على أن العتق في الكفارة أحد الواجبات الثلاثة، فإذا عينه تعين.
وهذا عري عن مساق الفقه، وتعيين العتق وفي غيره كفايةٌ [عنه] (1) مندوحةٌ بمثابة تعيين عبد شريف للإعتاق وفي عبد قليل القيمة مَقنعٌ، واستجماعٌ لشرائط الإجزاء.
وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في كتاب الأيمان، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو أوصى له ولمن لا يحصى، فالقياس أنه كأحدهم ... إلى آخره" (2) .
7530- إذا أوصى لزيدٍ وللفقراء بثلث ماله، فقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أقوال في المسألة، ولم يذكر شيخنا والصيدلاني إلا قولين منها: أحدهما - أن لزيد نصفَ الموصى به؛ فإنه (3) معنى في شخصه، والفقر معنى في نفسه، فكان إضافة الثلث إليه وإلى الفقراء بمثابة إضافة الثلث إلى شخصين، ولو قال: يصرف ثلثي إلى زيد وعمرو، فهو بينهما (4) نصفان.
والقول الثاني - أن زيداً كواحد من الفقراء.
ثم [لو] (5) أوصى للفقراء، فأراد الوصيّ صرفَ الموصى به إلى ثلاثة منهم، فله أن يصرف إلى واحد أقلَّ القليل، وكذلك الثاني، ثم [يخصص] (6) الثالث بتتمة الموصى به، فزيد إذا ضم إلى الفقراء بمثابة واحد منهم، إذا أوصى لهم دون غيرهم.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً، هو أن زيداً المضموم إلى الفقراء
__________
(1) في الأصل: "وغنية".
(2) ر. المختصر: 3/168.
(3) (س) : فإن زيداً معنى في شخصه.
(4) (س) : فيهما.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: تخصيص.(11/280)
يستحق (1) ربع الموصى به، فإنه لا بدّ من رعاية الجمع في الفقراء، وأقل الجمع ثلاثة، فيكون زيد رابعَهم، ثم هو مقصود في نفسه، فتصير الوصية في حقه بمثابة وصية أضيفت إلى أربعة، فلا ينحط حقه عن الربع، وليس كالواحد من الفقراء، فإنه لا حصر لهم.
وذكر الشيخ أبو علي طريقة أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: إنْ تعرض الموصي لفقر زيد، فقال: أوصيت لزيد الفقير وللفقراء، وكان زيد فقيراً، فتخرج المسألة على ثلاثة أقاويل: أحدها - أن له نصيبَ فقيبر، فأما إذا لم يصف زيداً بالفقر الذي هو وصف المضمومين إليه في الوصية، ولكنه قال: أوصيت لزيد وللفقراء، قالوا: فلا يخرج في هذه الصورة إلا قولان: أحدهما - له النصف.
والثاني - له الربع، فأما القول الثالث، فلا يخرج.
وهذه الطريقة ضعيفة.
ثم قال الشيخ: إذا قلنا لزيد مثل نصيب فقير، فقد اختلف أصحابنا في معنى ذلك: منهم من قال: معناه أنه لو أُعطي أقل [ما يتمول أجزأ] (2) ذلك، وهذا هو السديد، ومنهم من قال: ينظر إلى عدد الفقراء الذين يتفق (3) التسليم إليهم، فإن أعطى ثلاثة من الفقراء وأراد الاقتصار، فلزيد ربعُ الوصية [لا ننقص] (4) من الربع، وإن كان ينقص آحادَ الفقراء [ويزيد] (5) لبعضهم.
وإن أعطى خمسةً من الفقراء، فيعطيه السدسَ، وإن أعطى عشرة، فيعطيه من الوصية جزءاً من أحدَ عشرَ جزءاً من الوصية.
وهذا ضعيف جداً. هذا كله إذا ذكر في الوصية زيداً وأقواماً موصوفين غيرَ منحصرين بصفةٍ لا تلزم.
__________
(1) (س) : مستحق.
(2) في الأصل: ما يتموله أحد في ذلك.
(3) (س) : اتفق.
(4) في الأصل: منقصة.
(5) في الأصل: فيزيد.(11/281)
7531- فأما إذا قال: أوصيت لزيد وللبكريّة والعلويّة، فقد اختلف قول الشافعي في أن الوصية للعلوية والبكرية ومن في معناهم، وهم أقوام لا ينحصرون، وليسوا على صفة [يتوقّع] (1) تحولهم عنها، فأحد القولين - الوصيةُ لهم (2) باطلة.
والثاني - أنها صحيحة، وقد أشرنا إلى توجيه القولين فيما تقدم.
فإن صححنا الوصية، فهو كما [لو] (3) أوصى لزيد وللفقراء، وقد تبين التفصيل فيه. وإن لم نصحح الوصيةَ للعلوية، فالمذهب أن الوصية تصح لزيد [ثم] (4) في قدر ما يستحقه الأقوالُ والتفصيلُ الذي قدمناه.
ومن أصحابنا من قال: إذا أبطلنا الوصية للعلوية، فتبطل الوصية لزيد المسمى، وهذا يخرّج على القول الذي يقول: إنه يستحق ما يستحقه أحد الفقراء، على معنى أنهم إن اتفقوا ثلاثة، فله الربع وإن اتفقوا أربعة، فله الخمس، فإذا (5) بطلت الوصية للعلوية فلم يُعطَ واحدٌ منهم شيئاً [لنعتبر] (6) نصيبَ زيد به، فالوصية لزيد لا تثبت.
وهذا وإن كان فيه تخييل، فالأصل الذي عليه التفريع فاسد.
7532- ولو أوصى لزيد والملائكة (7) بثلث ماله، فالوصية للملائكة باطلة، والتفريع بعد هذا كالتفريع على ما [لو] (8) أوصى لزيد والعلوية وحكمنا ببطلان الوصية للعلوية.
__________
(1) في الأصل: فيوقع.
(2) ساقطة من (س) .
(3) زيادة من (س) .
(4) مزيدة من (س) .
(5) عبارة (س) : وإذا بطلت الوصية للعلوية، فلم يعد واحد منهم شيئاً لتعيين نصيب زيد به، فالوصية لا ثثبت.
(6) في الأصل: لتغير. و (س) : لتعيين. والمثبت تقدير منا، لا يصح غيره -إن شاء الله- ولا يستقيم المعنى إلا به. ومعنى "لنعتبر": أي لنقيس.
(7) (س) : والمالكية. ورسمت في الأصل هكذا: والمليكة. وترجيحنا (الملائكة) سيظهر صوابه فيما يأتي من عرض المسألة. هذا وكل موضع ذكر فيه (الملائكة) رسمته نسخة الأصل هكذا، وجعلته (س) المالكية.
(8) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.(11/282)
وفي هذا المنتهى أمرٌ لا بد من التنبيه [إليه] (1) وهو أنه إذا أوصى لزيدٍ وللفقراء، وقلنا: يستحق زيدٌ الأقلّ مثلاً، وهو أن تقليل نصيبه وتكثيره إلى الوصي (2) ، ولا اختيار للوارث فيه بحق الإرث.
فأما إذا أوصى لزيد والملائكة، وقلنا: لزيد الأقل في أوضاع هذه المسائل، فقد ذكر صاحب التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن اختيار الأقل فيه إلى الوصي (3) الذي [ننصبه] (4) فيصرف (5) إليه ما شاء من المسمى، ويرتدّ الباقي ميراثاً، حتى لو استوعب معظمَ ما وقع الوصية به جاز.
والقول الثاني - أن الخيار في هذه الصورة إلى الوارث، فلو قالوا (6) : لا تدفع إليه إلا درهماً أو أقل مثلاً، وقال الوصي (7) : ندفع إليه ألفَ (8) درهم فنتبع (9) الورثة.
قال الشيخ: لعل هذا هو الأصح؛ لأنه إذا أوصى لزيد والفقراء بثلثه [فكل] ، (10) الثلث يُستحق (11) بالوصية، فتعيين القدر إلى من [يُنصبُ] (12) وصياً في ذلك.
وفي هذه المسألة بطل بعض الوصية، وآل التنازع إلى القدر المستحق في الوصية، فالقول قول الورثة والعبرة بمرضاتهم.
وإذا أوصى لزيد، والبكرية، وأبطلناها في حق البكرية، فهو كما لو أوصى لزيد والملائكة.
__________
(1) في النسختين: له.
(2) (س) : الموصي.
(3) في (س) : الموصي.
(4) في النسختين: يصيبه. والمثبت تقدير منا.
(5) (س) : فينصرف.
(6) قالوا الجمع على معنى الورثة.
(7) (س) : الموصي.
(8) سقطت من (س) .
(9) (س) : فينبغي للورثة.
(10) في الأصل: فذلك.
(11) (س) : مستحق.
(12) في النسختين: يصيب.(11/283)
7533- قال: ولو أوصى لزيد ولجبرائيل عليه السلام، (1 فالوصية لجبريل باطلة، وتصح في حق زيد المضموم معه، ولا يخرج في هذه المسألة قولُ الفساد في حق زيد إذا ذكر مع الملائكة، ووجهه بيّن؛ فإن الفساد أتى من الجهل بعدد الملائكة، وجبريلُ 1) واحدٌ في نفسه.
ولو أوصى لزيد وللرياح بثلث ماله، فقد اختلف أصحابنا (2) في المسألة: فمنهم من قال: كل الوصية مصروف إلى زيد؛ فإن الرياح ليست من الأشخاص التي يتوهم إضافة العقود إليها، وليست كجبريل عليه السلام؛ فإنه من الأشخاص التي يتوهم ذلك فيه.
والوجه الثاني - وهو الصحيح أنه يستحق نصف المسمى كالمسألة الأولى، ولا نعتقد الرياحَ أعداداً.
ولو أوصى لزيد والجدار، أو غيره من [الجمادات] (3) ، فهو كما لو أوصى لزيد والرياح.
ولو أوصى لزيد ودابّةٍ لعمرو، فلزيد النصف، [وفي الوصية لدابة عمرو تفصيل سنذكره مفصلاً بهذا إن شاء الله] (4) .
فصل
مشتمل على ذكر من تصح الوصية له و [من] (5) لا تصح له
7534- فنعرض لما يكاد يغمض أو يتطرق إليه خلاف.
أما الوصية للوارث، فقد سبق القول فيه، وذكر صاحب التلخيص بعدها الوصيةَ
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .
(2) (س) : اختلف أصحابنا، فمنهم.
(3) في الأصل: الجدارات.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (س) . ولعل صوابها: (بعد هذا، إن شاء الله) .
(5) سقطت من الأصل، وأثبتناها من (س) .(11/284)
للقاتل، وفيها قولان مشهوران: أحد القولين - أنها تصح، وهو القياس (1) .
والقول الثاني - أنها لا تصح، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لقاتل" (2) . وهذا الحديث ليس على الرتبة العالية في الصحة، والصحيح لا وصية لوارث.
ثم سلك بعض الفقهاء مسلك التوجيه بطريق التشبيه بالإرث؛ فإن استحقاق الوصية يتعلق بالموت كالميراث، ثم زجر الوارث عن القتل (3) حتى لا يستعجل الميراث به، فحُرم ما يستعجله، وهذا يتحقق في الوصية تحققه في الميراث.
ثم اختلف أصحابنا في محل القولين على طرق:
فمنهم من قال: القولان فيه إذا تقدمت الوصية، ثم قتل الموصى له الموصي، فإنه في هذه الصورة ينسب إلى الاستعجال، فأما إذا [جرح] (4) رجلاً ثم إن المجروح
__________
(1) قال النووي: " المذهب الصحة مطلقاً " (الروضة: 6/107) .
(2) حديث "لا وصية لقاتل" رواه البيهقي: 6/281، بلفظ: "ليس لقاتلٍ وصية" من حديث علي رضي الله عنه، ورواه الدارقطني: 4/236، 237. وهو لا يحتج به كما هو مفهوم كلام إمام الحرمين، قال البيهقي: تفرد به مبشر بن عبيد الحمصي، وهو منسوب إلى وضع الحديث. وقال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف جداً.
هذا وقد عجب الحافظ في التلخيص من قول إمام الحرمين عن هذا الحديث: إنه ليس في الدرجة العالية من الصحة، وقال: "إنه ليس له في أصل الصحة مدخل" (التلخيص: 3/197 ح 1420) .
وتقديري أن هذا الكلام فيه نوع تحامل على إمام الحرمين من الحافظ، فإمام الحرمين لا يعنى بألقاب المحدّثين وتبويبهم وترتيبهم، فهو ليس من أهل هذه الصناعة، وإنما مراده هنا: أن هذا الحديث غير صالح للاحتجاج به كما هو فحوى كلامه. ولا يعني بقوله إنه صحيح، ولكن لم يبلغ الدرجة العالية من الصحة، لا يعني ما يفهم من ظاهر هذه العبارة، وإلا لو كان كذلك، لأخذ بالحديث، وبنى عليه الحكم ولم يردّه.
وفي كلام إمام الحرمين عن الأخبار ودرجاتها في كتابه البرهان، ما يشهد لما أقول، ومن ذلك قوله: "إن الردّ والقبول يعتمد على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه، لزمناه، وتركنا وراءه المحدّثين يتقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب" (البرهان: فقرة رقم 593) .
(3) (س) : الفعل.
(4) في الأصل: خرج.(11/285)
أوصى للجارح، فالوصية صحيحة إذا مات المجروح بالجرح السابق على الوصية قولاً واحداً.
ومن أئمتنا من قال: إن وقع القتل بعد الوصية، بطلت الوصية، كما سنصف بطلانها في التفريع، وإن تقدم الجرح، وتأخرت الوصية ووقع الموت بالجرح المتقدم، ففي المسألة قولان.
ووجه هذه الطريقة بناء الأمر على العمل بالخبر، ثم هو نصٌّ فيمن [تأخر قتله] (1) عن الوصية له.
وفي التعلق بالخبر نظرٌ إذا تقدم الجرح وتأخرت الوصية؛ من جهة أنا نفهم من حرمان القاتل حكم معاقبته بمنع مقصوده، وإن كان اللفظ ظاهراً.
وهذا يناظر تردّدَ الأصحاب في حرمان من يقتُل بحق لخروجه عن محل المعاقبة؛ [إذ المعاقبة] (2) على ترك التحفظ عند وقوع الخطأ، مع عموم قول رسول الله عليه السلام: "ليس للقاتل من الميراث شيء".
ثم حيث نقضي بصحة الوصية، فلا خِيرةَ للورثة، وحيث لا نقضي بنفوذها، اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: إذا أجازها الورثة، جازت، ومنهم من قال: لا تنفذ بإجازتهم، وهذا الاختلاف مفرّعٌّ على قولنا: إن إجازة الورثة تنفيذ وصية، فأما إن جعلنا إجازته (3) عند وجوب مراجعته ابتداء عطية، فابتداء وصية الوارث لقاتل الموروث [نافذ] (4) لا شك فيه.
ثم قال صاحب التلخيص: وإن منعنا الوصيةَ للقاتل، فلو قتلت أمُّ الولد سيدها، عتَقَت؛ فإن عتقها محسوب (5) من رأس المال، لا يسلك به مسلك الوصايا.
فأما المدبّر إذا قتل سيدَه، والتفريع على أن الوصية للقاتل مردودة، فقد اختلف
__________
(1) في الأصل: يأخذ مثله.
(2) في الأصل: أو المعاينة.
(3) إجازته: كذا في النسختين، ويستقيم الكلام على معنى: الوارث.
(4) في الأصل: فإنه.
(5) (س) : يحسب.(11/286)
أصحابنا: فمنهم من قال: القول فيه يخرّج على أن التدبير وصية أم تعليق عتق [بصفةٍ] (1) ؟ فإن جعلناه تعليقاً، نفذ العتق، ولم يؤثر القتل.
وإن جعلناه وصيةً، لم يعتِق على [منع] (2) الوصية للقاتل.
ومن أصحابنا من قال: سواء قلنا: إن التدبير تعليق أو (3) وصية، فتخرّج المسألة على أن العتق لا ينفذ إذا منعنا الوصية للقاتل، وذلك أن العتق على القولين محسوب من الثلث وفاقاً، وكل تبرع يكون محسوباً من الثلث، فهو في الحكم الذي نتكلم فيه وصية.
وأثر القولين في أن التدبير تعليق أو وصية يرجع إلى جواز الرجوع عن التدبير، فإن جعلناه تعليقاً، لم يجز الرجوع صريحاً.
7535- وذكر صاحب التلخيص فيمن لا تصح له الوصية: الحربي، وكلامه يقتضي أن الوصية له باطلة، واعتلّ في ذلك بانقطاع الموالاة بيننا وبينهم، قال الشيخ: هذا لم يقله أحدٌ من الأصحاب، بل قطعوا (4) بأن الوصية للحربي جائزة إذا لم يكن الموصى به سلاحاً، (5 فإن أوصى له بسلاح، فهو كما لو باع منه سلاحاً 5) ، وقد مضى تفصيل ذلك في كتاب البيع. وما ذكر صاحب التلخيص من التعرض للموالاة فإنه كلام عريٌّ عن التحصيل؛ فإن الوصية لا تقتضي الموالاة، ولا تعتمدها، ولست أدري ماذا كان يقول في الهبة من الحربي، وظاهر قياسه أنها كالوصية.
7536- والوصية للذمي منفذة؛ فإنهم في عوننا ونصرتنا، ويتعين علينا الذب عنهم [فالوصية] (6) حمل على إعانتهم بطائفة من المال؛ فإن المال أهون من تعريض النفوس للهلاك بسبب الذب عنهم.
__________
(1) في الأصل: نصفه.
(2) في الأصل: موضع.
(3) (س) : أم.
(4) قال النووي: إن جواز الوصية للحربي هو الأصح (الروضة: 6/107) .
(5) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(6) في الأصل: بالوصية.(11/287)
7537- ومما تعرض له صاحب التلخيص والشارحون القولُ في الوصية للعبد والوصية للدابة، فلتقع البداية بالوصية للعبد: أجمع الأصحاب على أن الوصية للعبد صحيحة، ثم بان لنا من حقيقة ترتّبهم أن الوصية تقع للعبد [في] (1) نفسه، ولكن إن كان من أهل الملك حالة القبول، وقعت الوصية (2 له، وإن لم يكن من أهل الملكِ حالة القبول، وقعت الوصية 2) لمالكه.
وبيان ذلك أنه إذا أوصى لعبدِ إنسانٍ بمالٍ، ثم عتق ذلك العبد في حياة الموصي، ثم مات الموصي، فإذا قبل هذا المعتَقُ الوصيةَ، صح قبوله، ووقع الملك في الموصى به له، ولو بقي مملوكاً حتى قَبِل الوصية بعد موت الموصي، فالملك في الموصى به يقع لمالكه.
ولو مات الموصي والعبد بعدُ مملوك لوارث الموصي، فأعتق الوارث العبدَ قبل قبول الوصية، قال الشيخ: هذه المسألة تخرّج على القولين في أن الملك في الموصى به متى يحصل للموصى له؟ فإن فرعنا على قول الوقف، وقلنا: إذا جرى القبول استند الملك تبيّناً إلى موت الموصي، فعلى هذا لا تصح الوصية؛ فإنها لو صحت، لاستند الملك إلى حالة الموت، وهو إذْ ذاك رقيقٌ للوارث، فلو قدّرنا فيه ملكاً، لكان للسيد.
وإن قلنا: يحصل الملك بالقبول، فيقع الملك للعتيق دون الوارث.
هكذا قال رضي الله عنه.
7538- وقال في هذه المسألة: لو باع الوارث العبدَ قبل قبول الوصية، [ثم إنه قبلها في ملك المشتري. فإن فرّعنا على قول الوقف] (3) والإسناد، فلا يصح القبول؛ إذ لو صح، لا نصرف الملك إلى الوارث، لأنه كان مالك رقِّه حالة موت الموصي.
__________
(1) في الأصل: من.
(2) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(3) ما بين المعقفين زيادة من (س) .(11/288)
وإن قلنا يحصل الملك بالقبول، فيصح القبول [ويقع] (1) الملك للسيد الثاني.
7539- فانتظم [ممّا] (2) ذكره الأصحاب أن الوصية للعبد تتعلق بالعبد على ترقّب (3) ما يكون، فإن عتَقَ قبل الموت، وقَبِل الوصيةَ بعد موت الموصي، انصرفت الوصية إليه.
ثم الأصحاب مع قطعهم بهذا أطلقوا القول بأن من لا تصح الوصية له لا تصح الوصية [لعبده] (4) ، فأرادوا إذا بقي رقيقاً إلى القبول، وهذا قد يتطرّق إليه من طريق المعنى احتمال، لأن الموصى له هو العبد، وليس وارثاً (5) ، ولكن لم يصر إلى هذا أحدٌ من الأصحاب أعرفه.
ثم (6) على قول القبول (7) يحصل الملك لمن يكون [مالك رقّ] (8) القابل وقت القبول، وهذا يدل على أن المالك ليس معنيّاً بالملك، وإنما متعلق الوصية العبدُ، ثم إن اتفق كونه حراً على التفصيل المقدم، فالملك له، وإن تبدّل الرق والملك، فالملك لمالكه، ولسنا نذكر هذا (9) التخريج [وجهاً] (10) ؛ فإن المذهب ما نقلناه وما ذكرناه نبنيه على طريق المعنى.
ومما يخطر للفقيه في ذلك التعرضُ لاشتراط إذن المالك، وقد فرعناه فيما تقدم، ووصلنا به القول في أن السيد لو قبل وردّ العبدُ، فكيف يكون أمره؟ -[وإن] (11) كنا
__________
(1) في الأصل: وقع.
(2) في الأصل: بما.
(3) (س) : ترتيب.
(4) في الأصل: لعبد.
(5) (س) : إرثاً.
(6) ثم: سقطت من (س) .
(7) قول القبول: أي القول بحصول الملك في الموصى به للموصى له بالقبول.
(8) في الأصل صحفت هكذا: بالطارق القابل.
(9) (س) : لهذا.
(10) في النسختين: وجه.
(11) في الأصل: فإن.(11/289)
ذكرناه لم يضر أن نرمز إلى إعادته- فإن لم نشترط إذنَ السيد في القبول، فلا أثر لردّه وقبوله، وإن شرطنا إذن السيد في القبول، ففي صحة قبول السيد في أوان القبول مع إعراض العبد أو مع (1) ردّه وجهان.
ومن تأمل هذه الأصول، لم يخف عليه من طرق الاحتمال شيء مع التزام (2) المنقولات عن الأئمة.
7540- ومما يتعلق بهذا الفصل أنه إذا أوصى لدابة زيد بشيء، فأول ما فيه أنا نستفصل الموصي في حياته، فنقول: ما الذي أردتَ بذلك (3) ؟ فإن قال: أردت بذلك تمليكَ الدابة، فتبطل وفاقاً؛ فإنه قصد بما أطلقه محالاً.
وإن قال: قصدت بذلك صرفَ الموصى به إلى (4) حاجة الدابة في علفها وسقيها، قال الأصحاب: صحت الوصية على تفصيلٍ نذكره.
وإن قال: لم أنوِ شيئاً أصلاً، قال الشيخ: تبطل الوصية؛ فإن ظاهرها تمليك الدابة، فلم تصح.
فإذا نوى الصرفَ إلى العلف، كما قلناه أو صرح به، ومات الموصي، قال صاحب التلخيص: إن قبل مالك الدابة الوصيةَ، ثبتت وإن ردّها، بطلت، [ورُدَّت] (5) ؛ فإن هذه الوصية تتعلق به؛ من حيث إنها تتعلق بمصلحة ملكه، ويستحيل أن نلزمه هذه الوصية حتى نتصرف في دابته بالعلف والسقي.
قال الشيخ: رأيت للشيخ أبي زيد أنه قال: تثبت الوصية، وإن لم يقبلها مالك الدابة؛ فإن الموصي قصد بذلك علفَ الدابة. وذلك حسبةٌ، "وفي كل ذات كبدٍ حرّى أجر" (6) .
__________
(1) (س) : أو ردّه.
(2) (س) : إلزام.
(3) ساقطة من (س) .
(4) (س) : إلى الدابة.
(5) في النسختين: واردت.
(6) حديث "في كل ذات كبد حرّى أجر" متفق عليه، أخرجه البخاري: كتاب الشرب والمساقاة، ح 2363، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم، ح 2244.(11/290)
قال الشيخ: وهذا ضعيفٌ جداً (1) ، ويلزم من مساقه تجويز الوقف والتحبيس على عبيد الإنسان ودوابّه.
7541-[ثم قال] (2) صاحب التلخيص: فإذا قبل صاحب الدابة الوصية، فإن (3) كان للموصي وصيٌّ، فلا يسلِّم الوصيُّ [ذلك] (4) الموصى به إلى صاحب الدابة، ولكن يخرجه بنفسه إلى علف الدابة، على حسب الحاجة.
قال الشيخ القفال: عندي أنه إذا قبل الوصية، قبض الموصى به، ولم يتركه في يد الوصي (5) ، ثم قال: عندي أنه لا يتعين عليه صرف ما قبضه بعينه إلى الدابة، ولكنه لو أراد صَرْف غيره إلى علفها وتملّكَ ما قبضه، فله ذلك، وحقيقة هذا الاختلاف ترجع إلى أنه هل يملك صاحب الدابة عينَ ما أوصى به أَوْ لا؟ فالقائل الأول لا يثبت فيه ملكاً 6) حقيقياً، ولكنه يصرفه إلى الدابة، والقفال يثبت الموصى به ملكاً لمالك الدابة، ومن هذا المنتهى ينعكس كلام [على] (7) الوصية للعبد، فإن الملك الحاصل في الموصى به للعبد تَسْميةً وإطلاقاً لسيده.
ثم لم يختلف أئمتنا في أنه لا يجب على السيد صرفُ الموصى به إلى مصلحة العبد، كما لم يختلفوا في أن الملك فيه يحصل للمولى.
وفي (8) تعليل ذلك، والفرق بين تعيين العبد في الوصية وتعيين الدابة سرٌّ لطيف، وهو أنّا (9) من وجه نقدّر العبد موصى له، حتى كان الموصى به واقعٌ [له] (10) ، ثم
__________
(1) قال النووي: إن اشتراط قبول المالك هو الأصح (ر. الروضة: 6/105) .
(2) في الأصل: فقال.
(3) (س) : فإن الموصي وصي، فلا يسلم.
(4) في الأصل: لك.
(5) (س) : الموصي.
(6) سقطت من (س) .
(7) زيادة من (س) .
(8) (س) : في (بدون واو) .
(9) (س) : أن في.
(10) زيادة من (س) .(11/291)
لا حرج على الموصى له في الموصى به، غير أنه ليس من أهل الملك، فيثبت الملك لسيده، ثم لا حرج على السيد؛ فإنه بمثابة العبد، حتى كأنه نابَ عنه في الملك، وخرج العبد من الوسط. [و] (1) لا يتصور فرض هذا من (2) الدابة، ولا بد من تعليق الوصية بالدابة إذا علقت بها، فإذا لم تتعلق بها [لتقبل أو لتردّ] (3) انصراف الوصية إليها [عند حالة تطرأ] (4) ، ولا بد من ربطٍ وفاءً بالوصية، فرأى الأصحاب صرْفَ الموصى به إلى مصلحتها، ثم لما كانت مملوكة، لم يتأت التصرف فيها دون المالك، فَشُرِط قبول المالك على شرط الوفاء بتخصيص الموصى به بالدابة.
والقفال رضي الله عنه جعل الوصية للدابة وصيةً لربّها، وهذا وإن كان يخلِّص مما ذكرناه، فإنه (5) يورّط في غائلة عائصة؛ لأن اتباع الوصية لا بد منها، فإن أضيفت إضافة صحيحة، وجب الوفاء بها، وإلا وجب إفسادها.
ثم ذكر القفال في تحقيق مذهبه مسألةً [مستشهداً بها] (6) ، وهي أنه لو مات رجل، [فدفع] (7) إنسان إلى وارثه ثوباً ليكفنه به، [فإن] (8) له أن يستأثر به، ويكفنه في ثوب من عنده، وهذا خرجه على المذهب الصحيح في وضع الكفن، فإنه ملك الوارث، ولكنه (9) مستغرَقٌ بحاجة الميت. هذا أصح الوجوه، فكأنه رضي الله عنه رأى بذل الثوب من الباذل إحلالاً منه الثوبَ محل الكفن (10) .
__________
(1) الواو ساقطة من الأصل.
(2) (س) : في.
(3) عبارة (س) : لتقبل انصراف الوصية إليها. وفي الأصل: لتقبل أو لتقدير انصراف الوصية إليها، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق.
(4) كذا في النسختين، ويمكن أن تقرأ: عند حالة نظرا.
(5) ساقطة من (س) .
(6) في الأصل: يستشهد أنها.
(7) في الأصل: فيدفع.
(8) في الأصل: فاتفق له.
(9) (س) : ولكنه مستغرقاً لحاجته.
(10) (س) : محل الكفن كما قال. قال الشيخ: وهذا ...(11/292)
قال الشيخ: وهذا الذي ذكره في الثوب أبعد [منه] (1) في الدابة. وهو كما قال؛ فإن باذل الثوب لم يملّكه أحداً، وإنما بذله ليدرج فيه الميت، فإما أن يرتسم رسمه (2) وإما أن يرد عليه.
ثم قال الشيخ: إن حكمنا بما ذكره القفال، فربُّ الدابة يملك الموصى به ويقبض، ولا [يعترض] (3) .
وإن قلنا: إنه لا يملكها، فإن كان ثمَّ وصيٌّ، فهو ينفقه على الدابة، وإن لم يكن، فقد تردد فيه كلام الأصحاب. فالظاهر من كلامهم أنه إذا لم يكن وصي، صرف المال إلى مالك الدابة، ثم ليس له إبدالُه، بل ينفقه على حسب الإمكان.
[وقال] (4) قائلون: ينصب القاضي في ذلك قيّماً حتى يقوم بتنفيذ الوصية.
7542- ومن فقه (5) هذه المسألة أن الموصي إذا وصى للدابة، ومات قبل البيان، نرجع (6) إلى الورثة، فإن قالوا: نوى الصرفَ إلى العلف، صحت، وإن قالوا: نوى تمليك الدابة، بطلت، ولمالك الدابة تحليفهم، وإن قالوا: لا نعلم، فيحلفون على نفي العلم، وتبطل الوصية، وتصير كما لو قال الموصي: لم يكن لي نيّة.
7543- ثم ألحق الشيخ أبو علي بآخرِ هذا الكلام مسألةً، وهي أن رجلاً لو وقف شيئاً على مسجد واقتصر عليه، وقال: ينبغي أن نفصل القول في ذلك على الواقف، فإن قال: نويت تمليك (7) المسجد منافع الوقف، فالوقف باطل، وكذلك إن قال: لم تكن لي نية بل أطلقت الوقف، ولو قال: قصدت صرف رَيْع الوقف إلى مصالح
__________
(1) في الأصل: أبعد بما ذكره في الدابة.
(2) في النسختين: يرسم. وارتسم رسمه امتثل أمره، من قولهم: رسم له بكذا: أي أمره به (معجم ومصباح) .
(3) في الأصل: يعرض.
(4) في الأصل: فقال.
(5) (س) : بقية هذه المسألة.
(6) (س) : فنرجع.
(7) ساقطة من (س) .(11/293)
المساجد، فالوقف يصح حينئذ، وأجرى إضافةَ الوقف إلى المسجد مجرى إضافة الوصية إلى الدابة.
وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإنه شبه الوقف على المسجد بالوصية للدابة وبينهما فرق واضح؛ فإن الوصية للدابة نادرةٌ شاذة إذا ذُكرت لأهل العرف، استنكروها (1) ، فتعينت مراجعة صاحب اللفظ، وأما الوقف على المسجد، فقد عم استعماله في إرادة مصالح المسجد عموماً ظاهراً، فينبغي أن يحمل مطلقُه على ما يقصد منه في عموم الاستعمال. والله أعلم.
هذا منتهى القول في الوصية للعبد والدابة.
7544- ومما ذكره صاحب التلخيص في أطراف الكلام في ذكر من تصح الوصية له ومن لا تصح الوصية له، قال: إذا جوزنا الوصية للقاتل، ومنعنا الوصية للوارث، فلو أوصى لوارثه بشيء، ثم إن الوارث قتل موروثه، فحكم التفريع على منع (2) الوصية للوارث وتصحيحها للقاتل أن تصح الوصية، وهذا ظاهرٌ؛ من قِبَل أن القاتل خرج عن كونه وارثاً بالقتل.
وإنما أوردت هذه المسألة على ظهورها؛ لاقتضاء الكلام إلى حالةٍ يصير القتل فيها سبباً لتصحيح الوصية.
ثم [ممّا] (3) أجراه أن عبداً لو جرح رجلاً، فأوصى له المجروح، فالوصية تصح، وإن منعنا الوصيةَ للقاتل؛ فإن هذه الوصية ترجع فائدتها إلى السيد، فليتأمل الناظر التفات هذا الفصل، ومصير (4) الوصية للعبد تارةً إلى أن العبد هو الموصى له، وتارةً إلى أن الموصى له مولاه. [والقتل الحاصل منه] (5) أن ما يتعلق بنسبة الموصى له إلى
__________
(1) في الأصل: واستنكروها.
(2) عبارة (س) : فحكم التفريع على الوارث ...
(3) في الأصل: بما.
(4) (س) : وهل الوصية للعبد، وهي في الأصل: ومسير (بالسين) .
(5) في النسختين: "والقول الحاصل فيه" والمثبت تقدير من المحقق، بناء على مقتضى السياق، =(11/294)
الاستعجال (1) ، فالعبد فيه لا يكون موصىً له، فإنه لا يتحصل على طائل، فينسب إلى استعجاله.
وإذا كان العبد لوارث الموصي، فنقدّر كأن الوصية للوارث؛ فإن الموصي ممنوع عن تفضيل الورثة، فلو صححنا الوصية لعبد الوارث، كان هذا مسلكاً اختياريّاً (2) في تفضيل الورثة. وما (3) يرجع إلى القبول وحكمه، فالنظر فيه إلى العبد وإنما (4) يمتحن حذق المهرة في الفقه إذا اشتملت المسألة على معانٍ متعارضة، تكاد أن تتناقض، حيث صححنا الوصية للعبد القاتل، ولم نصححها لعبد القاتل، وأفسدناها لعبد الوارث؛ نظراً (5) منا في ذلك كله إلى من إليه تصير الفائدة، فذلك فيه إذا بقي رقيقاً لذلك الشخص، فلو عتَق في حياة الموصي، فقد تبين رجوع الفائدة إليه، وهو القابل أيضاً نقدره موصى له قطعاً، وانظر هل فيه ما يمنع صحة الوصية من قتل أو غيره واجْرِ فيه على القياس، مستعيناً بالله عز وجل.
7545- و [مما] (6) أجراه الشارحون الوصية للمرتد، قالوا: هي بمثابة الوصية للحربي؛ فإنه لا عاصم للمرتد من سيف الإسلام كما لا عاصم للحربي، وقد ذكرنا [أن] (7) الوصية للحربي جائزة في ظاهر القياس، وقد حكى صاحب التلخيص [منع] (8) الوصية للحربي من نص الشافعي، ووافقه في النقل من يوثق بنقله (9) .
__________
= فالمعنى: أن العبد الموصى له إذا قتل لا ينسب إلى استعجال الموصى به. والله أعلم (ر. الروضة: 6/108، والشرح الكبير: 7/22) .
(1) في (س) إلى الاستعمال ... استعماله.
(2) في (س) : اختياراً.
(3) في (س) : ومما.
(4) (س) : وإنما يتبين تصرف المهرة.
(5) (س) : نظيرا هذا كله.
(6) في الأصل: بما.
(7) في الأصل: بأن.
(8) في الأصل: بيع.
(9) في الأصل: بفعله.(11/295)
والذي صار إليه فقهاء الأصحاب تصحيحُ الوصية للحربي بكل ما يجوز بيعه منه، فأما الوصية للمرتد فأولى بالصحة؛ لأنه في عصام (1) الإسلام، وقتلنا إياه ليس حدّاً مقاماً عليه، وإنما [نجدّد له] (2) الإسلام بالبرهان الظاهر، فإن عاند، فبالسيف الباتر، ومذهب الشافعي أنه يحكم له وعليه بما (3) يحكم به على المسلمين، ويجوز أن يقال: إذا حكمنا بأن الردّة تزيل ملكه، فالوصية ضعيفة حريِّة بالفساد.
وأحكام المرتدين ستأتي مستقصاة في آخر كتاب قتال أهل البغي، إن شاء الله عز وجل.
فصل
في بيان من تصح منه الوصية (4)
7546- البالغ العاقل الحر المسلم تصح وصيته، ووصية [الذمي] (5) نافذة إذا وافقت (6) شرط الشرع.
وهي على أقسام منها أن يوصي لشخص، وقد سبق التفصيل فيمن تصح الوصية له، فالقول فيمن يوصي الذميُّ له كالقول فيمن يوصي المسلم له.
ومن الأقسام أن يوصي بما يكون قربة عندنا وعندهم، فإذا رفعت إلينا وصيته، والثلث متسع، أجزناها ونفذناها، كالوصية بعمارة المسجد الأقصى.
وألحق الشافعي بذلك عمارة قبور الأنبياء عليهم السلام، وهذا حسن؛ فإن قبورهم مشاهد قوم، وعمارتها قُربة، وكان شيخي يميل إلى ذلك في قبور مشائخ
__________
(1) (س) : عاصم.
(2) في النسختين: نجدده إلى الإسلام.
(3) (س) : مما.
(4) (س) : فيه الوصاية.
(5) في الأصل: الدين.
(6) (س) : وافقه.(11/296)
الإسلام وعلماء الدين، بناءً على ما ذكرناه، والضابط فيه أن كلَّ قبرٍ يزار تقرباً، فعمارة نعشه لإدامة الزيارة قُربةٌ (1) .
وكذلك إذا أوصى الذمي للفقراء أو لجهة من جهات الخير، ولو أوصى بما هو قربة عندنا، وليس قربةً عندهم، مثل أن يوصي بعمارة مساجدنا، فالوصية نافذة على شرطها في محلها.
ولو أوصى بما يكون قربةً عندهم، معصيةً عندنا كعمارة الكنائس والبيع وبيت النيران، فالوصية إذا رفعت (2) إلينا، أبطلناها.
هذا مذهب الشافعي، رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة (3) وأبو يوسف تجاز هذه الوصية، وكذلك أجازوا الوصية بالخمر والخنزير من ذمي لذمي.
7547- ومما يتعلق بالفصل وصية الصبي المميز، وفيها قولان للشافعي رضي الله عنه: أحدهما -[أن] (4) وصيته جائزة، وكذلك تدبيره، وهو مذهب طوائف من العلماء، وقد عُزي هذا القول بتصحيحها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروي أيضاً عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهما.
ورمز الشافعي رضي الله عنه إلى طرفٍ من المعنى، فقال: الوصية لا تنجِّز حجراً، ولا تمنع تصرفاً، فإذا كانت لا تفوّت مقصوداً مالياً، فإن بقي، فالمال عتيد، وإن مات، كانت الوصية ذُخراً.
__________
(1) ما حكاه الإمام عن الشافعي، وعن والده هنا، هو ما استقر عليه المذهب، فقد أقره شيخا المذهب: الرافعي، والنووي. قال في الروضة: "يجوز للمسلم والذمي الوصية لعمارة المسجد الأقصى، وغيره من المساجد، ولعمارة قبور الأنبياء، والعلماء، والصالحين؛ لما فيها من إحياء الزيارة والتبّرك بها" ا. هـ (6/98) .
كما أقره المتأخرون من أئمة المذهب واستقروا عليه، انظر على سبيل المثال: حاشية قليوبي على شرح الجلال المحلي على المنهاج (3/159 سطر 12) .
(2) (س) : إذا وقعت أبطلناها.
(3) ر. المبسوط: 28/94، الاختيار لتعليل المختار: 5/84.
(4) زيادة من (س) .(11/297)
والتعويل على الآثار أولى مع مصير الشافعي رضي الله عنه إلى أن الصبي لا عبارة له في العقود الواردة على الأموال (1) .
هذا أحد القولين.
وقال الشافعي رضي الله عنه في موضع آخر: لا تجوز وصيته، ولا تدبيره، وهو مذهب ابن عباس واختيار المزني.
7548- ثم قطع الأصحاب أقوالهم (2) بتصحيح الوصية والتدبير من السفيه المبذر؛ فإن عبارته صحيحة، ولذلك كان من أهل الطلاق والإقرار بالجناية الموجبة للقصاص، واستلحاق الولد ونفيه باللعان.
7549- ولو أوصى مملوك أو مكاتب، فالوصية [لا يقع تصحيحها في الحال، فلو ماتا على الرّق، تبينّا فساد الوصية] (3) . وإن عتقا وتموّلا وماتا - فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمن (4) أصحابنا من قال: تصح الوصية، نظراً إلى صحة العبارة ابتداء وإلى الحرية انتهاءً.
ومن أصحابنا من قال: لا تصح الوصية؛ فإنها جرت والرق مستمر، فإن أراد تصحيحها، [فليُنشئها] (5) بعد الحرية.
***
__________
(1) ما رجحه الإمام من عدم جواز وصية الصبي هو الأظهر -في المذهب- عند الأكثرين (ر. الروضة: 6/97) .
(2) (س) : ثم قطع الأصحاب بتصحيح الوصية ...
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) (س) : فمنهم.
(5) في النسختين: فلينسبها.(11/298)
باب
الوصية للقرابة
قال: "ولو قال: ثلثي لقرابتي، أو لذوي رحمي أو لأرحامي ... إلى آخره" (1) .
7550- هذه الألفاظ إذا استعمل الموصي واحدةً منها، لم يختلف حكمها، فقوله: أوصيت لقرابتي، أو لذي رحمي أو لأرحامي عباراتٌ عن معبَّر واحد.
والعلماء مضطربون في الوصية للقرابة، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا قال: أوصيت لقرابتي، أو لأقاربي بثلث مالي، فإنا لا نفضِّل الأدنى والأقرب على البعيد [إذا كان البعيد] (2) قريباً ولا فصْل بين المحرم وغير المحرم، ولا فرق بين الغني والفقير، والذكر والأنثى، والموصى به مفضوضٌ عليهم بالسويّة.
وتعليل ما ذكرناه بيّن، ومقتضى اللفظ شاهدٌ عليه.
والذي يغمض في هذا الفصل؛ من طريق الانتشار [المحوج] (3) إلى [الضبط] (4) أن المدلين بالأجداد العالية من بين الأعمام قد يكثرون وينتشرون انتشاراً عظيماً، وللعلماء اضطرابٌ في طلب موقف ينتهون إليه ولا يتعدَّوْن، فقال (5) أبو يوسف (6) : ننتهي إلى أعلى (7) أبٍ له في الإسلام، ولا نتعدى إلى آباء الشرك، ونصرف الوصية إلى
__________
(1) ر. المختصر: 3/168، 169.
(2) زيادة من (س) .
(3) في النسختين: المخرج.
(4) في الأصل: النمط.
(5) (س) : وقال.
(6) ر. الاختيار: 5/78.
(7) (س) : أبعد.(11/299)
المنتسبين من ذلك الأب العالي فمن دونه.
ونحن لا نصير إلى هذا؛ فإنه خارج عن الضبط، وإذا لم نرتضِ هذا، فأين الموقف مع عموم لفظ القرابة؟ المعتمدُ (1) في هذا مأخوذ من كلام الشافعي رضي الله عنه، ولم يقصر (2) الشيخُ أبو بكر في التعبير عن مراد الشافعي رضي الله عنه: الوصيةُ (3) [تصرف] (4) إلى البطن الأدنى الذي ينتمي إليه ويعرف به دون الأباعد، واستشهد، فقال: إذا كانت الوصية للقرابة والرجل من بني شافع، فالوصية مصروفة إلى بني شافع دون سائر بني المطَّلب، أو سائر بني عبد مناف، أو سائر قريش؛ فإن الشافعي وإن كان مطّلبياً مَنَافياً قُرشياً، فإنما يشهر بشافع.
فهذا هو الضبط التام في ذلك، ولا ينتهي رهط الرجل إلى الخروج عن الضبط حتى تكون وصيته لقرابته كوصيته للعلوية؛ فإنهم إذا انتشروا هذا الانتشار، وكثروا هذه الكثرة، اشتملوا على شُعب والموصي من شعبةٍ هو يشهر بها.
ثم قال أئمتنا: ما ذكره الشافعي رضي الله عنه في حمل الوصية للقرابة من الرجل الشافعي على بني شافع (5 محمول على عهده القريب بأرومة شافع 5) وجُرثومته، والآن، فقد انتشروا، ولكل موصٍ ينتمي إلى الأب العالي الشافعي بطن يخصّه وهم فصيلته التي تؤويه، ولا يخفى على الفطن بعد ذلك حقيقة المراد، ثم كل من نصرف إليه من الوصية للقرابة شيئاً، فهو يُدلي إلى الميت بأسلوب من أساليب القرابة لا محالة.
7551- وقال الأئمة: إن كان الموصي من العجم، دخلت تحت اسم قرابته القرابةُ من قِبَل الأب، والقرابةُ من قِبل الأم، وهذا الذي ذكره الأصحاب (6) واضح؛ فإن
__________
(1) (س) : والمعتمد.
(2) (س) : يفض أبو بكر في التعبير عن مراد الشافعي في الوصية تصرف.
(3) الوصية تصرف ... إلخ تفسيرٌ للمعتمد المأخوذ من كلام الشافعي.
(4) في الأصل: تنصرف.
(5) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(6) ساقطة من (س) .(11/300)
اسم القرابة في وضع اللسان شامل للقرابة من جهتي الوالدين.
قال الشيخ أبو بكر وجمهور الأصحاب: إن كان الموصي من العرب وقد أوصى لقرابته، فالوصية لقرابته من قبل أبيه لا غير، وزعم الأصحاب أن العرب لا تفهم من القرابة في عرف لسانها إلا الذين يدلون (1) به من قبل آبائه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً أنه لا فرق بين العربي والعجمي، وقرابة الأم داخلون تحت إطلاق اسم القرابة، كما ذكرنا في العجم، وهذا -وإن استبعده الأئمة- متجهٌ جداً موافق للغة، ومن (2) موجب اللسان، ولا مستمسك لحمل القرابة في حق العربي على الذين يدلون من قبل الأب إلا من [جهة] (3) ادعاء عرفٍ غالب في العرب، وهذا لم أتحققه من عرفهم على أني أكثرت مخالطتهم، وأصل اللسان يشمل الجانبين، والقرابة إن عُرضت على الاشتقاق، فهي من القُرب، وإن كان مختصاً بقرب النسب.
7552- ومما يتعلق بهذا الفصل أنه إذا أطلق الوصية للقرابة، فهذا الاسم يتناول الورثة ومن ليس وارثاً، ثم قال الصيدلاني: إذا أبطلنا الوصية للوارث، فهي مصروفة بجملتها إلى الذين لا يرثون من القرابة، وقال غيره: نجعل الوصية مضافة إلى من تصح الوصية له، وإلى من لا تصح الوصية له، وظاهر القياس في مثل هذا الموضوع تقدير التقسيط على الكل، ثم المصير إلى إبطال ما يقابل الورثة، وتصحيح ما يقابل من ليس بوارث.
وذكر طوائف من أصحابنا أنه إذا أوصى للقرابة، فالأولاد والأبوان لا يدخلون في الوصية، وذهب آخرون إلى أنهم يدخلون تحت اسم القرابة، وإذا دخلوا، أمكن فرضهم بحيث لا يرثون لاختلاف دين.
وقد يوصي الرجل لقرابة زيدٍ، فتمس الحاجة إلى التعرض لدخول أولاده وأبويه، ومن أدخل هؤلاء، تمسك بموجب اللسان، ومن لم يدخلهم تمسك بموجب
__________
(1) (س) : يكون.
(2) (س) : اللغة وموجب اللسان.
(3) في الأصل: حرية.(11/301)
العرف؛ فإن الأصول لا يسمَّوْن قرابة في إطلاق اللسان، ومن سمى أباه وابنه وأمه قرابته، كان ذلك في العرف تعقيداً وإلغازاً.
ثم الذين لم يدخلوا الأبوين اختلفوا في الأجداد والجدات، وأولاد الأولاد، فمنهم من أدخلهم، ومنهم من لم يدخل واحداً من الأصول ولا واحداً من الفصول، وإن بعُدوا، وخصّص القرابة بالذين يقعون على جانب من عمود النسب.
ولو أوصى للأقرب فقال: أوصيت بثلثي لأقربهم بي رحماً، فقد قال الأئمة: تسلم الوصية إلى أقربهم بأبيه وأمه؛ فإنه ذكر الرحم، وهذا يتناول جانبَ الأب والأم جميعاً، ويستوي في ذلك العربي والعجمي.
قال الصيدلاني: ظاهر كلامه دليل على أن اعتبار جانب الأم في حق العربي سببُه ذكرُ الرحم والقربُ به؛ فإن لفظ الموصي على ما صور (1) : "أوصيت لأقربهم بي رحماً" وهذا يقتضي أنه إذا قال: أوصيت لذوي رحمي -والموصي عربي- دخل تحته المدلون بالأم، وكذلك إذا قال: أوصيت لأرحامي، وإنما يحمل لفظ العربي على المدلين بجانب الأب إذا ذكر القرابة، ولم يتعرض للرحم، فعلى هذا إذا قال: أوصيت لأقرب قرابتي، ولم يتعرض للرحم والموصي عربي، فيجب على مساق [ما] (2) حكاه الصيدلاني ألا نعتبر جانب الأم؛ فإن الذي ذكره الموصي القرابة مع صيغة تشعر بالأدنى.
ثم أجمع الأصحاب على أن الأقرب يتناول الأبوين والولد، وإنما التردد فيه إذا ذكر لفظ القرابة ولم يتعرض للأقرب، وتعليل ذلك بيّن؛ فإن الإنسان إذا أشار إلى شخص، وقال: هذا قرابتي، وكان أباه أو ولدَه، فلفظه تعقيد، وإذا قال: هذا أقرب قرابتي، ثم فسره بالأب والولد، قبل منه، ولم يعدّ ذلك تعقيداً.
7553- فإذا [تبين] (3) أصل الكلام في هذا عدنا بعده إلى من تصرف إليه الوصية
__________
(1) (س) : على ما صور، وهو قوله: أوصيت لأقربهم ...
(2) في الأصل: بما.
(3) في الأصل: بيّن.(11/302)
للأقرب على شرط التحرز من صرف الوصية إلى وارثٍ، كما قدمناه، وإذا أردنا أن نتوسع في تصوير الأقرب مع تصحيح الوصية له، فرضنا الكلام في وصية الرجل لأقرب قرابات زيد، فتجري لنا جميع الصور، فنقول أولاً: لسنا نتبع الميراث في هذه القاعدة؛ فإنا نرى قريباً مدلياً [بالعصبة] (1) لا يرث كابن البنت، ويرث أولاد عمومة الجد مع وقوعهم حاشية على البعد، والوصايا تنفذ على مقتضى الألفاظ، فلسنا نحكم إذاً فيما [ننفي] (2) ونثبت الميراث، ولكنا نتبع لفظ الأقرب، فإن ظهر لنا معناه في مسألة، [تبيّنا] (3) الجواب قطعاً، وإن ترددنا، أنشأنا ترددنا عن إشكال في معنى اللفظ، ونحن نعلم أن الأقرب يشير (4) إلى قرب الدرجة، ويشير أيضاً إلى قوة القرابة، هذا معلوم من معنى اللفظ، وما يفهم منه في مجرى العرف.
ومما نمهده قبل المسائل أن الأقرب يتعلّق بجانب الأب والأم جميعاً، والمُدْلي بالجهتين (5) نقدمه على المختص بإحداهما على الترتيب الذي سنذكره، إن شاء الله عز وجل.
ومن أهم [ما] (6) يجب الاعتناء به أنه إذا قال: أوصيت لأقربهم لي رحماً، فقد يظن الفقيه أن لفظ الرحم يختص بجانب الأم، وليس الأمر كذلك؛ فإن الرحم المطلق في القرابة لا يعنى به مقرّ (7) الولد، وإنما شاع هذا اللفظ في القرابة، واللفظ إذا شاع على وجهٍ لم يلتفت إلى اشتقاقه، كالدابة؛ فإنها في الأحكام اللفظية محمولة على حيوان مخصوص، وإن كانت مشتقة من الدبيب.
7554- فإذا تمهدت هذه الأصول، افتتحنا بعدها المسائل، وخرّجناها على مقتضاها، فلفظ الأقرب يتناول الأب والأم على وجهٍ واحد، والموصى به بينهما
__________
(1) في الأصل: بالوصية.
(2) في الأصل: فيما نبقي ونثبث، و (س) : فيما نبغي ونثبت.
(3) في الأصل: يثبت.
(4) (س) : أن الأقرب إلى قرب الدرجة يشير.
(5) (س) : بالجهة.
(6) في الأصل: مما.
(7) (س) : مقدار.(11/303)
بالسوية، والابن والأب في قياس الطرق مستويان، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الذي صححوه.
والثاني - أن الابن أولى، وهذا على بعده قد يتجه [فيه] (1) كلام له غوصٌ في الفقه؛ فإن الوصية إذا وقعت لأقرب الناس بفلان، فقد يعتقد أن لفظ القرب في الولد أحرى منه في الأب، فإن ولد الرجل قريب منه، [وقد لا ينساغ] (2) هذا في [الأب] (3) انسياغه في الولد؛ فإن الولد قريبٌ من والده، وولده قريب منه، فهذا تخيل يؤول إلى معنى اللفظ، لا اتجاه [له] (4) على بعدٍ، والأصح التسوية؛ فإن القرب من أسماء الإضافة، وما قرب من شيء، قرب ذلك الشيء منه، وإنما يختلف [النسب] (5) والأسماء، فالولد قريب من أبيه؛ من جهة كونه بعضه، والأب قريب من الولد من جهة كونه أصله، فلا وجه إلا التسوية (6) .
ولا يخفى أنه إذا اجتمع أولاد الدِّنْية (7) والأحفاد، فالأقربون أولادُ الدِّنْية، وهكذا البطون إذا اجتمعوا والوصية للأدنَيْن (8) : أولاد الدِّنية.
ولو كان في الدرجة الأولى من الأحفاد [أولادُ] (9) البنات [وكان أسفل بنو بني
__________
(1) في الأصل: منه.
(2) في الأصل: وقولاً ينساغ.
(3) في الأصل: "الولد".
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: للتسبب.
(6) خالف النووي في ذلك، فقال: الأصح تقديم الابن. (ر. الروضة: 175) وكذا الرافعي، إذ قال: إنه الأظهر: (ر. العزيز: 7/101) .
(7) الدِّنية: بالدال المهملة مشدّدة مكسورة = الأقرب من قولهم: هو ابن عمي، أو ابن خالي، أو ابن عمتي أو خالتي دِنيةً، دِنياً، بالتنوين، ودُنيا ودِنيا بغير تنوين أي: لحّاً، بلام وحاء مهملة مشددة، أي لصيق القرابة من: لحت القرابة بيننا تَلِح لحاً: دنت ولصقت (ر. القاموس: د، ن، ي، والمعجم: ل. ح. ح) .
(8) (س) : والوصية لأدنى، ولو كان في الدرجة الأولى ...
(9) في الأصل: وأولاد (بالواو) .(11/304)
البنين، فالوصية لأولاد البنات] (1) ؛ فإنهم الأقربون، ولا نظر إلى الميراث، ولا فرق بين الذكور، والإناث.
قال شيخي: لو اجتمع أسباطٌ متسفلون، وإخوة [فالأسباط] (2) مقدمون في الاستحقاق، وإن بعدت درجتهم؛ لأنهم ينتمون بالتعصبة؛ فقرابتهم أقوى وإن بعدوا، ولسنا نعلل [هذا] (3) من طريق المعنى، ولكنا نرعى أن هؤلاء وإن بعدوا، فهم المفهومون من الأقربين إذا اجتمعوا مع الإخوة، وهذا متجةٌ ظاهر.
وإذا اجتمع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب، فالأخ من الأب والأم أولى؛ لأنه جمع القرابة من الجهتين، وهو مقدم أيضاً على الأخ من الأم لما ذكرناه.
ثم الأخت من الأب والأم مقدمة على الإخوة [من الأب] (4) لما ذكرناه من اجتماع القرابتين، فلا التفات إلى الذكورة والأنوثة ومسالك التوريث.
وابن الأخ وبنت الأخ بمثابةٍ واحدة في الاستحقاق، وإن اختص بالإرث ابنُ الاخ.
والأخ من الأب مع الأخ من الأم مستويان، وكل واحد منهما على قرابة واحدة.
فالضابط في هذا الفن استعمال الدرجة والقوة.
وابن الأخ من الأب يتقدم (5) على ابن ابن الأخ من الأب والأم؛ لأن قرب الدرجة في هذا المقام أولى بالاندراج تحت الأقرب من الاختصاص بمزية (6) قرب مع البعد في الدرجة.
7555- وذكر الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب قولين في الجد والأخ من الأب
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (س) .
(2) في الأصل: بالأسباط.
(3) في الأصل: بهذا.
(4) زيادة من (س) .
(5) (س) : مقدم على ابن الأخ من الأب والأم، فإن قرب.
(6) عبارة (س) : من الاختصاص ثم الأقرب مع البعد.(11/305)
والأم أو من الأب: أحد القولين - أن الأخ مقدم على الجد؛ لأن [إدلاءه] (1) بالابن وإدلاء الجد بالأب، وإدلاؤه بالبنوة، والإدلاء من جهة البنوة أقوى.
والقول الثاني - أنهما سواء (2) ، وقد ذكرنا إجراء هذين القولين في عصبات الولاء.
وينشأ من هذا إشكال يحيك في صدر الفقيه، وذلك أن سبب اختلاف القول في الولاء أن التعويل في التوريث بالولاء على قوة العصوبة، والبنوةُ أجلب للعصوبة من الأبوة، ولمَّا رأينا في التوريث بالقرابة التسويةَ بين الجد والأخ، ولم نردّد القولَ، كان السبب فيه أن التوريث بالقرابة لا يقتصر على طريق العصوبة.
[فهذا] (3) نظر كلي في التوريث بالقرابة والولاء. ومن [لا] (4) يُجري القولين في الجد والأخ يقول: في الجد وابن الأخ قولان: أحدهما - أن الجد أولى، ويسقط ابن الأخ.
والثاني - أن ابن الأخ أولى لقوة قرابته، ولا [مزيد] (5) في الضعف على هذا (6) ؛ فإن تقديم ابن الأخ وإن تسفل في الوصية للأقرب [في] (7) نهاية السقوط، وإنما اتجه هذا في الولاء لاتباع العصوبة، [فأما] (8) صرف الوصية إلى الأقرب، فمأخذه موجب اللفظ، [وقد] (9) ذكرنا أن هذه المسألة لفظية، ثم أوضحنا أن من كان على عمود النسب أصلاً وفصلاً، فهو في حكم العرف وفهمِ الخطاب أولى باسم الأقرب، ثم
__________
(1) في الأصل: "الإدلاء". ثم العبارة -مع هذا- فيها شيء؛ فالجد والأخ كلاهما يدلي (بالأب) ولكن الفرق أن الأخ ابنُ الأب، والجد أبوه، فليس فيهما من يدلي بالابن.
(2) اختار النووي الأول، ووصفه بالأظهر. (ر. الروضة: 6/175) .
(3) في الأصل: بهذا.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: يزيد.
(6) المذهب تقديم الجد على ابن الأخ، قاله النووي (الروضة: 6/175) .
(7) في الأصل: من.
(8) في الأصل: فإنا.
(9) في الأصل: فقد.(11/306)
حكينا عن شيخنا أن الأحفاد وإن سفلوا مقدمون على الأخ القريب.
ومَنْ ضبط ما قدمناه وأحاط بما [نبهنا] (1) عليه الآن، لم ينقدح له وجه من الرأي إلا تقديم الجد على الأخ؛ فإن تَحَامَل، يسوي بينهما، أما تقديم الأخ، فبعيدٌ عن مأخذ الكلام في المسألة، ولست أذكر مثل هذا لأغيّر (2) المذهب؛ فإن التعويل على النقل فيه، ولكن لا بد من تنبيه.
ولا شك في تقديم بني الإخوة على الأعمام، وإن بعدوا، وكذلك يقدّمون على [بني] (3) الأعمام، والسبب فيه تعلقهم بقوة قرابة الأخوّة، فهذه قوةٌ مقدمة على قرب الدرجة، وليس كقوة ابن ابن الأخ من الأب والأم مع قرب ابن الأخ من الأب؛ فإن القرب مقدم على هذا [القدر من] (4) القوة؛ فإن الأخوّة جامعة، وقرب الدرجة أجلب لاقتضاء اسم الأقرب من الاختصاص بأخوّة مع البعد في الدرجة.
ولم يختلفوا أن الجد مقدم على الأخ من الأم، وقالوا: في أب الأم وأخ الأم قولان؛ فإن أبا (5) الأم أصلٌ، وأخ الأم يدلي إلى الأم بالبنوة، ولا نظر إلى الميراث.
قال الصيدلاني: أبو الأم بمثابة أبي الأب، وأخو الأم بمثابة الأخ من الأب فيجري قولان: أحدهما - أن الأخ من الأم مقدم. والثاني - أنهما سواء، وهذا [خبط] (6) لا ينساغ للفقيه.
فإن قيل: إخوة متفرقون وأخوات مفترقات؟ قلنا: الوصية لأولاد الأب والأم من الذكور والإناث بالسوية.
__________
(1) في الأصل: بنينا.
(2) (س) : إلا عن المذهب.
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: القرب في القوة.
(5) هكذا يزاوج بين الاستعمالين للأسماء الخمسة في مسألة واحدة، بل سطرٍ واحد.
(6) في الأصل: حط.(11/307)
فإن قيل: بنو إخوة مفترقون وبنات إخوة مفترقات؟ قلنا: الوصية لبني الإخوة وبنات الإخوة من الأب والأم بالسوية.
7556- والأعمام والعمات يشتركون في الاستحقاق، وإن اختلفوا في الإرث، ويجب القضاء بالتسوية بين الأخوال والأعمام للاستواء في الدرجة، وقرابة الأم كقرابة الأب.
فهذا بيان معنى الأقرب، مهّدنا أصوله، ثم هذبنا الأصول بالصور، ونصصنا على محل الإشكال، وهو الجدّ والإخوة، فلم يبق مالا يخرج على الأصول التي ذكرناها.
7557- ثم يتشعب من هذه الأصول مسائل ذكرها العراقيون وغيرهم من أئمة المذهب منها: أنه إذا أوصى لأقرب الناس به رحماً، [فإذا كان] (1) أقرب الناس به وارثاً، ورددنا الوصية للوارث، قالوا: فالوصية تبطل في هذه الصورة؛ فإن الأقربين خرجوا عن استحقاق الوصية، وامتنع تصيير الوصية إلى الأبعدين لمكانهم، وهذا قياس الطرق.
ومما ذكروه أنه إذا أوصى لجماعة من الأقربين [لزيد] (2) ، وذكر في هذا لفظاً يقتضي الجمعَ، فلو كان لزيد ثلاثة من البنين، وجمعٌ من بني البنين، فلا شك أن الوصية مصروفة إلى البنين [دون بنيهم] (3) .
قالوا: فلو كان له ابن واحد وابنا ابن، فللابن الثلث والباقي لابني الابن.
وكذلك لو كانوا ثلاثة (4) ، فللابن الثلث والباقي بينهم، يعني بين البنين.
وزعموا أن ضبط المذهب في ذلك أنا [إن] (5) وجدنا من الأقربين ثلاثة، صرفنا
__________
(1) في الأصل: قال: إذا كان ...
(2) في الأصل: من الأقربين بزيد، و (س) : وزيد.
(3) في الأصل: دون بني بنيهم.
(4) أي أبناء الابن.
(5) زيادة من (س) .(11/308)
الكلَّ إليهم، وإن لم نجد منهم ثلاثة، فنصرف إلى من وجدنا ما يخصه لو كانوا ثلاثة، فإن كان واحداً، فالثلث، ثم نصرف الباقي إلى الذين في الدرجة الثانية.
وليس ذلك كما لو أوصى الرجل لأقرب الناس به رحماً، فإنا نبطل الوصية للورثة إذا كانوا هم الأقربين، ولا نقول: إذا لم نجعلهم مستحقين نرتفع إلى غيرهم، وذلك أنهم وجدوا ولم (1) يستحقوا، فهو كما لو ردّوا الوصية فبطلت الوصية بردهم، وليس كذلك إذا ذكر لفظ الجمع، ثم لم نجد من الأقربين إلا واحداً أو اثنين، وهذا ذكره على هذا الوجه صاحب التقريب موافقةً للعراقيين حرفاً حرفاً، والكلام في هذا المقام لطيفٌ جداً.
فإذا قال: أوصيت لأقرب الناس لي، فكان أقرب الناس به وارثاً محجوباً عن الوصية، فوجوده يحجب من بعُد، وإذا ذكر لفظ الجمع، ثم لم يوجد في الدرجة الأولى جمع، فكيف يثبت الحجب، ولم يتحقق جمع؟ ثم إذا لم يثبت الحجب (2) دخل في الاستحقاق من بَعُد، ولكن لمن قرب اختصاصٌ، فاستحق الثلث، فهذا جواب متركب من قواعد حسنة ينجح بمثلها الفقيه.
7558- وتمام هذا الفصل في مسائل نذكرها للشافعي وللأصحاب تتعلق برعاية الجمع، قال الشافعي رضي الله عنه: إذا أوصى لقرابة فلان أو لأقربائه، فسواء كان له قريب واحد أو اثنان أو ثلاثة، فالوصية لهم، والأقرباء صيغة جمع إن كان في القرابة نظر (3) .
ووجه ما ذكره الشافعي رضي الله عنه أن لفظ الجمع في هذا المقام لا [يعني الجمع] (4) ، وإنما الغرض الصرف إلى جهة القرابة، فإن جرت لفظة الجمع، فالغرض أن يستوعب قرابة ذلك الرجل، ثم يذكر الذاكر الجمع وهو يبغي
__________
(1) (س) : وإن لم يستحقوا، كما لو ردّوا الوصية بردهم.
(2) (س) : الجمع.
(3) كذا في النسختين.
(4) في الأصل: يعين للجميع.(11/309)
[الجهة] (1) والصنف، وقد يحمله على ذكر الجمع استيعاب جمعٍ إن كانوا، وليس من غرضه قصرُ الوصية إذا لم يبلغوا جمعاً.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا ذكر لفظ الأقرباء، فلم يكن [له] (2) إلا قريب واحد، فليس له إلا ثلث الوصية، وهذا يتيسر توجيهه. وما ذكره الشافعي أفقه وأليق بمعنى الكلام.
فإن أوصى لذي قرابته وله قريب واحد، فلا خلاف أن الوصية مصروفةٌ إليه بكمالها. والذي أطلقه الأصحاب أن الوصية للقرابة لا تتضمن جمعاً؛ فإن القرابة ليست من أبنية الجمع، وإذا قيل: قرابة فلان، فمعناه ذو قرابته. وإذا قال: أوصيت لذوي قرابة فلان، وقريبُه واحد، فهل يكون له جميع الوصية؟ فهذا لفظ مشعر [بالجمْع] (3) وهو بمثابة قوله: أوصيت لأقرباء فلان؟ ظاهر النص أن الوصية مصروفة إلى قريب واحد إذا لم يكن غيره.
ومن أصحابنا من قال: لا تصرف جميع الوصية إلى ذلك الواحد، ثم هؤلاء يفضّون الوصية (4) على تقدير جمع، وأقل الجمع في هذه المسائل ثلاثة.
وإذا تبين ما ذكرناه، فلو أوصى للأقربين، كان كما لو أوصى للأقارب في أنه هل يُحمل هذا على اقتضاء الجمع لا محالة، أو تصرف الوصية بكمالها إلى واحد إن لم نجد من الأقربين غيره؟
وقد ذكرنا مسألةً في الأقربين، وفرضنا ابناً، وأحفاداً، وتلك المسألة تخرّج على وجوب رعاية الجمع. فإن فرعت على النص وأردت تخريج تلك المسألة، [فنصوّر] (5) في صيغة الوصية تقييداً بلفظةٍ تقتضي جمعاً لا محالة، مثل أن يقول:
__________
(1) في الأصل: الجمعة.
(2) في الأصل: لهم، و (س) : فلم يكن له قريب واحد.
(3) في الأصل: الجميع.
(4) (س) : يفضون على تقدير جمع.
(5) في الأصل: سنصور.(11/310)
أوصيت لجماعة من [أقرباء] (1) فلان، ثم تتفرع تلك المسألة، وتنساق على حسب ما قدمناه.
7559- وقد نجز القول في الوصية للقرابة والأقربين، ونحن نذكر ألفاظاً نفرض إجراءها في الوصايا، ونذكر معانيها. فقد كثر اختباط الفقهاء فيها، وقد نذكر في بعضها مذاهب بعض السلف، لأغراضٍ لنا صحيحة.
فإذا قال: أوصيت لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن آل رسول الله كل من يحرم عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، واعتمد الشافعي في هذا هذا الأصلَ، وهو تحريم الصدقة؛ فإنهم أقيموا في هذه القاعدة مقام رسول الله عليه السلام، وهذا حسن.
وقال مالك: آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقيل: آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمّتُه. وهذه اللفظة فيها استبهام، واشتقاق اللفظ -إن لم يُقدّر فيه قلبٌ [وإبدال- من قولك] (2) آل يؤول، فكل من آل إليك أمره فهو من آلك، وقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] أراد به الذين ضلّوا بسببه، وآل ضلالُهم إليه.
ومن الناس من يقول أصل الآل الأهل، فأبدلت الهاء همزة، فصار أَأْلاً، ثم استثقلوا اجتماع الهمزتين فأبدلوا الثانية ألفاً، فصار آلاً، واللفظة على [حالٍ] (3) فيها [تردد] (4) .
ثم الشافعي رضي الله عنه قطع جوابه في آل الرسول صلى الله عليه وسلم للأصل الذي وجده فيهم من تحريم الصدقة، [ونزّل] (5) ذلك منزلة القرينة المشاعة في العرف، ورأى تقييد هذا اللفظ المتردّد بها.
__________
(1) في الأصل: أقرب.
(2) في الأصل: وإبداله من قبلك.
(3) في الأصل: حالها.
(4) في الأصل: يتردد.
(5) في الأصل: وينزل ذلك.(11/311)
فلو أوصى رجل لآل زيد وعمرو، ولم نتبين معنى لفظه، فمن أصحابنا من أبطل الوصية، لاستبهام اللفظ وتردده بين القرابة، وأهل الدِّين، وأصحاب الموالاة، وغيرها من الجهات.
ومن أصحابنا من صحح الوصية؛ فإن الاحتكام بإبطال الوصية لا معنى له.
وهذه المسألة قطبٌ يقاس به كل وصية تشتمل على لفظ مجمل متردد بين جهات من الاحتمالات يعسر [جمعُها] (1) ، ويعسر الاحتكام بتعيين بعضها، ثم من صحح الوصية اختلفوا: فمنهم من قال: الوصية للآل كالوصية للقرابة، ومنهم من قال: نصحح الوصية [ونفوضها] (2) إلى اجتهاد الحاكم، ثم سبيل الحاكم أن يرعى الأصلح في جهات الاحتمال، فإن أدى اجتهاده في معنى اللفظ إلى جهة، اتبع رأيه فيها، ولو كان [نصب] (3) وصياً، فقد قال هؤلاء نتبع رأي الوصي أيضاً، وهذا فيه نظر؛ لأنه ليس مسلّطاً على أن يفعل ما يشاء، وليس مجتهداً يرجع إلى اجتهاده، فينتظم مع الوصي وجهان: أحدهما - أن الرجوع إلى رأي الحاكم. والثاني - أنه يجوز الرجوع إلى رأي الوصي.
7560- فلو أوصى لأهل بيت رجل، فقد اختلف أصحاب الشافعي في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الوصية لأهل البيت كالوصية للآل، ومنهم من زاد على معنى الآل الزوجة؛ فإنها أصلٌ في معنى لفظ أهل البيت.
ولو أوصى لأهل رجل، ولم يقل: أوصيت لأهل بيته، فقد قال [بعض] (4) الأصحاب: هذه الوصية تختص بالزوجة، وقال بعض أصحابنا: تعم كلَّ من يلزمه نفقته، والوجه الأول مذهب أبي حنيفة (5) ، والوجه الثاني مذهب أبي يوسف ومحمد.
__________
(1) في الأصل: جميعها.
(2) في الأصل: ونفرضها.
(3) في الأصل: نصبه.
(4) زيادة من (س) .
(5) ر. البدائع: 7/350، الاختيار: 5/77.(11/312)
ولو أوصى لأهل امرأة، فهذا يخرّج على الخلاف المقدم، فمن قال: الأهل معناه الزوجة، فالوصية باطلة، ومن حمل الأهلَ على من تلزم نفقته، صَرَفَ الوصيةَ إلى من يلزمها نفقتهم.
7561- ولو أوصى لأختانه، فقد قال أبو حنيفة (1) : يدخل فيها زوج كل ذات رحم محرم [منه] (2) ويدخل أيضاً كلُّ ذي رحم محرم من ذلك الزوج.
وقال أصحاب الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: الوصية للختن وصيةٌ لزوج البنت، واختلفوا في أزواج الأخوات ولم يتعدَّوا هذا [الحدّ] (3) ، وقطعوا القول بأنه لا يدخل أزواج العمات والخالات وغيرهم من المحارم. والأصحُّ التخصيص بأزواج البنات.
ثم سنذكر خلافاً في أن الأحفاد في الوصية للأولاد هل يدخلون تحت اسم الأولاد، فمن أدخلهم تحت الوصية للأولاد، أدخل أزواج الإناث من الأحفاد تحت الوصية للأَخْتان، فلو أوصى للأَخْتان، وكانوا قد طَلَّقوا البنات طلاقاً [يقطع] (4) الزوجية، وصادفنا البناتِ غيرَ ذواتِ أزواج يوم موت الموصي، فلا وصية للذين كانوا أزواجاً، فإنهم لم يكونوا أختاناً عند الموت، وقد يتجه [فيه] (5) قول [أنّا] (6) نعتبر حالة الإيصاء، وهذا يخرّج على أنا إذا ردَدْنا الإقرار للوارث، فيعبتر كونه وارثاً يوم الإقرار، أو يُعتبر ذلك يوم الموت؟
وكان شيخي أبو محمد يقول: هذا التردّد في الاقرار للوارث على قول ردّ الإقرار، فإنا [قد نعلّل] (7) ردَّ الإقرار بالتهمة، فأما الوصايا [فالاعتبار] (8) فيها بحالة
__________
(1) البدائع: 7/350، الاختيار: 5/77.
(2) في الأصل: فيه.
(3) في النسختين، الحدود.
(4) في الأصل: فقطع.
(5) في الأصل: منه.
(6) في الأصل: أنما.
(7) في الأصل: فإنا به إبطال.
(8) في الأصل: فلا اعتبار.(11/313)
موت الموصي؛ فإنها ليست مبنية على [التهمة، ومقرّ] (1) الوصايا يوم الموت، فعلى هذا لو أوصى لأَختان بناته، وما كن مزوّجات، ثم تزوجن، وكن في حِبالة (2) أزواجهن يوم موت الموصي؛ فالوصية مصروفة إلى أزواجهن، ولو كن متزوجات يوم الموت فقبل الأزواج الوصية، ثم أبانوا البنات، فالوصية قد استقرّت لهم، ولو طلقوا ثم قبلوا، فإن وقع التفريع على أن الملك بالموت أو هو موقوف فالوصية تثبت لهم، وإن قبلوها بعد البينونة، فإن حكمنا [بأن الملك يحصل في الوصية بالقبول، ففي المسألة وجهان: أحدهما -] (3) أن الوصية تبطل إذا تقدمت البينونة على القبول؛ فإن التعويل [في] (4) هذا القول على القبول، وما كانوا أزواجاً يومئذ.
والوجه الثاني - أن الوصية تثبت؛ فإن القبول إن (5) استعقب الملك، فالاعتبار في صفة الموصى له بيوم الموت، والمسألة محتملة.
ولو تزوجن بعد موت الموصي، فهذا فيه تردّد أيضاً، مأخوذ مما ذكرناه، فإن اعتبرنا يوم الموت أو فرّعنا على الوقف، لم نصرف الوصية إليهم، وإن فرعنا على قول القبول، ففيه تردد مأخوذٌ ممّا قدمناه في تقديم البينونة على القبول، وإن طلق الزوج طلاقاً رجعياً، فهو زوج [ووجهه بيّن] (6) .
7562- ولو أوصى [لأصهاره] (7) فقد قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه: الوصية للأصهار وصيةٌ لأبوي المرأة، فإن أوصى لأصهار نفسه، دخل تحت الوصية أبو زوجته وأمها، وإن كانت له زوجات، دخل تحت الوصية آباء الزوجات وأمهاتهن
__________
(1) في الأصل: التهم، وتقر الوصايا.
(2) الحِبالة -بكسر الحاء- شبكة الصائد، واستعملت هنا مجازاً بمعنى رباط الزوجية.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: على.
(5) (س) : قد استعقب الملك.
(6) في الأصل: ووجهين (تداخلت الكلمتان) .
(7) في الأصل: لأمه إن.(11/314)
فحسب، ولم يدخل تحتها أبوا امرأة ابنه (1 ولا أبو امرأة أبيه 1) . وإذا خرج هؤلاء، فما الظن بسائر القرابات؟
والوصية للأحماء كالوصية للأصهار.
ثم إذا جعلنا الوصيةَ للأصهار وصيةً لأبوي الزوجة، ففي أجدادها وجداتها تردد بين الأصحاب سيأتي له نظائر، إن شاء الله عز وجل.
7563- ولو أوصى لأمهاتٍ [رجل، فالجداتُ] (2) من قبل الأم يدخلن لا محالة؛ فإنه لما ذكر الأمهات على صيغة الجمع، عرفنا أنه لم يُردْ قصرَ الوصية على الوالدة، وفي دخول الجدات من قبل الأب تردُّدٌ، والأظهر أنهن لا يدخلن.
وإن أوصى لآبائه، دخل تحت ذلك الأجداد من قبل الأب، وهل يدخل الأجداد من قبل الأم؛ فعلى اختلافٍ وتردُّدٍ بين الأصحاب.
ولو أوصى لأجداده، دخل الأجداد من الجهتين بلا خلاف.
وكذلك إذا أوصى لجدّاته دخلت الجدات من الجهتين بلا خلاف، الوارثات منهن والساقطات عن الإرث بمثابةٍ في استحقاق الوصية.
7564- ولو أوصى [لبني] (3) فلان، نُظر: فإن كانوا محصورين، وقد عزاهم إلى أب معلوم، وكان له بنون وبنات، فظاهر المذهب أنه يختص بالوصية الذكورُ من أولاده.
ومن أصحابنا من قال: يدخل جميع أولاده الذكور منهم والإناث، وهذا بعيدٌ، لا اعتبار به.
ولو أوصى لبني فلان، وذكر [قبيلة، مثل أن يوصي] (4) لبني شافع، فقد اتفق
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(2) في الأصل: دخل بالجدات.
(3) في الأصل: لشيء.
(4) في الأصل: وذكر قبله إن وصى لبني شافع.(11/315)
الأصحاب على أن اللفظ لا يخصص بالذكور؛ فإن القبائل يعبر عنها على هذا الوجه، ولكن يتعرض للتفصيل إمكانُ حصرهم، فإن كان الحصر ممكناً، فالوصية صحيحة، وإن لم يكن الحصر ممكناً، ففي المسألة القولان المذكوران في الوصية للعلوية ومن في معناهم.
7565- ولو أوصى لأولاد رجل، يتناول الذكور والإناث، وهل يختص بأولاد الدِّنية (1) ، أو يتناول الأحفاد؟ فيها خلاف مشهور، وظاهر النص أنه يختص بأولاد الصلب، فإن جعلنا اللفظ شاملاً لأولاد الصلب والأحفاد، فلا كلام، وإن خصصنا الوصية بأولاد الصلب عند وجودهم، فلو قال: أوصيت لأولاد فلان، ولم يكن له أولاد صلب إذْ ذاك وكان له أولاد أولاد، ففي المسألة خلاف.
ثم إن قلنا: إنهم يدخلون، فيدخل أولاد بنيه، وهل يدخل أولاد بناته على هذا الوجه؟ وجهان، وسبب التردّد أن انتساب أولاد بنيه إليه بوسائط [البنين] (2) ، وانتساب أولاد بناته إلى أزواجهن، وهذا معنى قول القائل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (3)
وإن أوصى لإخوة فلان، فقد قال أبو حنيفة (4) والشافعي: إن كانوا ذكوراً استحقوا الوصية وإن كن إناثاً، لم تصرف الوصية إليهن، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً إخوة وأخوات، فمذهب أبي حنيفة وظاهر نص الشافعي أنه يختص بالوصية الإخوة دون الأخوات، وقال أبو يوسف ومحمد: هو لجميعهن.
__________
(1) (س) : الذرية.
(2) في النسختين: "البنت".
(3) البيت من شواهد ابن عقيل (الشاهد رقم 51) قال محيي الدين عبد الحميد: "نسب جماعة هذا البيت للفرزدق، وقال قوم: لا يُعلم قائله مع شهرته في كتب النحاة وأهل المعاني والفرضيين". (شرح ابن عقيل: 1/233) .
(4) ر. البدائع: 7/345، الاختيار: 5/81، 82.(11/316)
7566- ولو أوصى لمولاه، فاسم المولى يتناول المعتِق، وهو المولى (1 الأعلى، وقد يتناول المعتَق، وهو المولى 1) الأسفل، قال مالك (2) : الوصية للمولى مصروفة إلى الأسفل. وقال أبو حنيفة (3) : إن لم يبين، فالوصية باطلة، وقال أبو ثور: يقرع بين الأعلى والأسفل، وحكى البويطي عن الشافعي قولين: أحدهما - أنه يوقف بينهم حتى يصطلحوا.
والثاني - أنه يقسم بين الأعلى والأسفل.
وهذا إذا وُجد الموليان، فإن كان لا يوجد إلا أحدهما، صرفت الوصية إلى ذلك الصنف، فإن اقتضى الحال صَرْفَ الوصية إلى المعتَقين، فكل من يثبت له الولاء عليه داخلٌ تحت الاستحقاق سواء كان متبرعاً بالعتق، أو مؤدياً فرضاً، كالذي يعتق عن كفارة أو وفاء [نذر] (4) ، وهل يدخل تحت الوصية أمهات الأولاد والمدبّرون الذين يعتِقون عند الموت؟ اختلف أصحاب الشافعي [في ذلك] (5) فمنهم من قال: لا يدخل هؤلاء، وبه قال محمد بن الحسن، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف.
ومنهم من قال: يدخلون، وهو الرواية الثانية عن أبي يوسف، وليس ذلك بعيداً عن القياس، ومولى الموالاة والمحالفة ليس من الموالي عند الشافعي رضي الله عنه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(2) ر. المدونة: 6/74، حاشية الدسوقي: 4/433.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/57 مسألة 2191، البدائع: 7/342.
(4) في الأصل: يقدر.
(5) زيادة من (س) .(11/317)
فصل
7567- إذا أوصى لجيرانه، فقد قال الزهري (1) : حدُّ الجوار أربعون داراً من كل ناحية، وهذا هو الذي ذكره العراقيون مذهباً لنا، ولم يعرفوا غيره، واستدلوا فيه بمذهب عائشة رضي الله عنها، والظن بها أنها لا تحتكم بذلك إلا [عن] (2) ثبت عندها (3) .
وللعلماء في ذلك مذاهب مختلفة، والظاهر من مذهب أصحاب الشافعي أن الجار هو الملاصق من الجوانب لا غير، وهذا مذهب أبي حنيفة (4) ، وهو القياس؛ لأن الجار من المجاورة، ومعناها الظاهر الملاصقة، فإن حُملت على مزيدٍ، فلا منتهى له يوقف عنده، فيجب الاقتصار على القدر المعلوم.
واختلف أصحابنا في الذين يجمعهم زقاق غير نافذ، فهل نجعلهم جميعاً جيرانا؟ فيه اختلاف، ومحل الخلاف في الذين لا يلاصقون.
وكذلك اختلف الأصحاب في الجار المحاذي وإن كانت السكة نافذة، وسبب الاختلاف أنه يسمى في العرف جاراً، وقد يقال: في تقسيم الجيران: جار ملاصق، وجار مقابل.
ثم من [رأى] (5) إدخال الجار المحاذي، فلا يشترط الحذاء المحقق على معنى
__________
(1) الزهري: سبق له ذكرٌ في الطهارة، وفى الفرائض.
(2) في الأصل: بمن.
(3) قال النووي عن الصرف إلى أربعين داراً: هذا هو الصحيح المعروف للأصحاب، والثبت الذي يشار إليه عند عائشة رضي الله عنها: "أربعون داراً جار". وفي رواية: "أوصاني جبريل بالجار إلى أربعين داراً" رواه البيهقى: 6/276، وقال: كلاهما ضعيف، وإنما يعرف عن طريق الزهري مرسلاً ا. هـ رواه أبو داود في المراسيل بسند رجاله ثقات ر. التلخيص: 3/201 ح 1427.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/50 مسألة 2185، الاختيار: 5/77.
(5) في الأصل: رأس.(11/318)
المسامتة، ولكن لو زال عن الحذاء قليلاً، فهو كالمحاذي، والضبط في هذا الفن أن يكون داره من دار الموصي بحيث يتوقع منها ضرار الاطلاع، وفي مثل ذلك نذكر ضرار الجار ونقيضه، وهذا نبينه على تفصيلٍ في اتساع الطريق وضيقها؛ فإن الشارع إذا اتسع، فلا يكون المحاذي من الجانب الآخر جاراً.
وإذا ضممنا إلى ما ذكرنا ما ذكره العراقيون ورأوه مذهباً، انتظم منه أوجهٌ، لا يخفى تعدادها، فهذا اقصى الإمكان في ضبط معاني هذه الألفاظ المشكلة.
وإنما ذكرنا في بعضها مذاهب العلماء إشعاراً بإشكالها؛ حتى يأخذ الفقيه في نظره فيها حِذْرَه، ويتثبت في الفتوى جهده، فقد بلغنا في بعض مسموعاتنا أن المسألة الجلية كانت تُعرض في جمع من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتفادَوْن (1) في الجواب، ويحيل البعض على البعض، فربما يخرج السائل ولا جواب معه.
7568- ومما يتعلق بالألفاظ المذكورة في الوصايا أنه إذا أضاف الوصيةَ إلى صنفٍ من أصناف الزكاة، فسيأتي بيان أوصافهم في قَسْم الصدقات.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن الفقراء يتميزون عن المساكين، والفقير أشد حالاً من المسكين، فإن وقعت الوصية للفقراء والمساكين جميعاً، فرَّقنا بينهما بما سنذكره في الصدقات، وإن أوصى للفقراء، فهذا الاسم في الانفراد [يصلح] (2) للفقراء والمساكين جميعاً، لم يختلف علماؤنا فيه، وكذلك إذا أوصى للمساكين، فهو يتناول الفقراء وأهل المسكنة، وكأن اللفظين لا يستقل واحد منهما بمزيّة حتى يجتمعا، [فنتحقق] (3) عند اجتماعهما فرقاً.
__________
(1) (س) : يتدافعون.
(2) في الأصل: أصلح، و (س) : لا يصلح. والمثبت تقدير منا على ضوء الآتي من عبارة الإمام.
(3) في الأصل: مسحر (هكذا بدون نقط) وفي (س) : يتنجز، والمثبت تقدير منا.(11/319)
فصل
7569- إذا أوصى لأرامل بني فلان فقد قال الشعبي (1) : هذا يقع على الرجال والنساء، وبه قال إسحاق بن راهويه (2) واستدلوا بقول [جرير] (3) :
هذي الأرامل قد قضيت حاجتَها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وقال الشافعي رضي الله عنه: الأرامل هن اللواتي مات عنهن أزواجهن، أو بِنَّ عنهم بسبب من الأسباب.
ثم اختلف أصحابنا في أنا هل نشترط مع ذلك فقرهن ليدخلن تحت الوصية للأرامل؟ وظاهر النص يشير إلى اشتراط الحاجة والخِلة، ثم إن كن محصورات، صحت الوصية، وإن لم يكنّ محصورات، صحت الوصية أيضاً، ويحمل على أقل الجمع.
وليست الوصية لهن كالوصية للعلوية؛ فإن ما وصفن به لا يلزمهن أيضاً [كما لا] (4) يلزم الفقر والمسكنة.
ولو أوصى لأيامى بني فلان، كانت الوصية مصروفة إلى غير ذوات الأزواج، والفرق بين الأيامى والأرامل أن الأرملة هي التي [كان] (5) لها زوج، والأيم هي التي ليست ذاتَ زوج في الحال، ولا فرق بين أن يتقدم لها زوج أوْ لا تكون نكحت قط، ثم لا فرق عندنا بين الأبكار والثُّيب (6) ، فاسم الأيامى يشملهن، وفي اشتراط الفقر،
__________
(1) الشعبي: سبق له ذكر في الفرائض.
(2) إسحاق بن راهويه: سبق في الفرائض.
(3) في النسختين: الفرزدق، والتصويب من اللسان، والأساس. وقال في الأساس: ولا يقال شيخ أرمل إلا أن يشاء شاعر تمليح كلامه، ثم ساق البيت شاهداً.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: هي التي لأن لها زوج. وهذا يؤكد ما قلناه في وصف النسخة.
(6) الثُّيب: بضم المثلثة مشدّدة، وبفتح المثناة التحتية المشددة. قال في المصباح: إنه من كلام المولَّدين وليس بمسموع.(11/320)
والوصيةُ للأيامى تردّد كما ذكرنا في الأرامل؛ فإن كلّ واحد من اللفظين يشعر بعدم الكافل، وذلك يشير إلى الحاجة.
ولو أوصى لكل ثيب من بني بكر، فالذي ذهب إليه أكثر أصحابنا أن الوصية للنساء دون الرجال، وهو مذهب أبي حنيفة (1) .
ومن أصحابنا من قال: يدخل الرجال الذين جامعوا تحت اسم الثيب.
وكذلك لو أوصى لكل بِكرٍ من بني فلان، ففي المسألة وجهان في دخول الرجال.
وإنما صار إلى الوجه الضعيف من صار إليه لقول رسول الله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائةٍ وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم" (2) .
7570- ومن الألفاظ التي تستعمل في الوصايا الغلمان، والشيوخ، والكهول، والأطفال، والصبيان، والفتيان، قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد (3) : الغلام من لم يحتلم ولم يبلغ خمس عشرة سنة، وكذلك القول في الطفل والصبي، وكذلك الذراري.
وفي طريق العراقيين ما يدل على أنا لا نشترط في الذراري الصِّغر، وهم النسل والأولاد كيف كانوا، ومن خالف في أن اسم الولد هل يتناول الحافد، ذهبوا إلى [أن] (4) الذرية يتناول الأولاد والأحفاد، فقال أبو يوسف: يكون الإنسان بعد البلوغ فتًى إلى ثلاثين سنة، ثم كهلاً إلى خمسين سنة، ثم يكون بعدها شيخاً إلى آخر عمره.
وقال محمد بن الحسن: هو بعد البلوغ فتى إلى أربعين سنة، ويسمى شاباً في هذه المدة، ثم يكون كهلاً إلى خمسين، ثم شيخاً إلى آخر عمره، وهذه الألفاظ معانيها مشكلة في الإطلاق، ولكنا نعلم أن الطفولية إلى تهيؤ الجبلّة لثبوت مادة الزرع فيها،
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 7/348.
(2) الحديث سيأتي في الحدود إن شاء الله.
(3) ر. الاختيار: 5/81.
(4) سقطت من الأصل.(11/321)
ثم من هذا الوقت في كل جبلّة [نموٌّ] (1) وازدياد في الجسم والقوى، ثم إذا انتهى النمو، ظننا [وقوفاً] (2) في مدة، فإذا انتهى ابتدأ النقص.
والشباب من كمال الجبلّة وتهيئها لأن تولد مادة تصلح لمثلها، ومن هذا الوقت شباب إلى منقرض وقت النمو، ووقتُ الوقوف كهولة.
فإذا ابتدأ النقصان الجبليِّ، فهو شيخوخة إلى منقرض العمر.
ثم هذه الأطوار لا تنضبط بمددٍ معلومة في جميع الجبلات؛ فإنها مختلفة في البنية والقوى، وورد في الشرع [ضبطٌ زماني] (3) في البلوغ إن استأخر الحكم، فلو ورد مثلُه في هذه الأطوار، لاتبعناه، هذا إلى اختلال الأبنية [بالاعتلال] (4) والعوارض، فكيف السبيل والذي أطلقه الأصحاب الرجوع إلى العرف، وإلى ما يفهم منه في الجبلات المختلفة؟
ولست أرى في ذلك متمسكاً شرعياً أو جبليّاً، والقدر الذي ورد الشرع به ذكْر الأربعين، فإنها الأشُدّ في التفسير الظاهر، وقد شهد بذلك نصّ القرآن قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] وإذا غمض المدرك في شيء، واستبهم الأمر، اكتفى الفطن بالمتعلق الذي لا يتعلق بمثله إذا اتسع المجال.
هذا، ولا نصَّ لصاحب المذهب، وليس ما [نُجريه] (5) من الأمور الوجودية، كأدوار الحيض، وسن الاحتلام، ومدة الحمل في الأقل والأكثر.
ولست أنكر [مع] (6) ذلك الالتفاتَ إلى شيئين: أحدهما - الضعف الذي لا يحمل على الأعراض والأمراض، ووخط المشيب الذي لا يحمل على الندور، مع أنه قد
__________
(1) في الأصل: ثمر.
(2) في الأصل: وقوف.
(3) في الأصل: ضبط زمانٍ.
(4) في الأصل: الأعلال.
(5) في الأصل: ما تحريمه.
(6) في الأصل: منع.(11/322)
يُمتَّع بالسواد الشيخ ويبادر الشابَّ الشيبُ، هذا إلى الاستمساك [بما المرء] (1) فيه إلى ظهور الزوال، على أني ذكرت من مذهب السلف ما يضطرب (2) ذو الرأي فيه.
7571- ولو أوصى ليتامى بني فلان، فيستوي في ذلك الذكور والإناث، وهم الذين لا آباء لهم، [ولا يتم] (3) بعد البلوغ، اتفق عليه أصحابنا، ونطق به الخبر الصحيح (4) ، وهل يشترط الفقر، واسم الأيتام مطلق؟ فعلى وجهين، وهذا الخلاف يجري في كل صفة [تذكر] (5) في الوصية مشعرة بعجزٍ في النفس أو انقطاعٍ كامل، كالوصية للعميان والزمنَى والأرامل واليتامى والأيامى.
فأما الوصية للصبيان، فلا تقتضي فقراً وفاقاً، وكذلك الوصية للشيوخ.
ولا يخفى على المتأمل الفرق.
ثم يجري في جميع المسائل انحصار الموصى لهم وخروجهم عن الحصر، وترتيب المذهب على ما تقدم في بيان محل الوفاق والخلاف.
7572- ولو أوصى لعقب فلان، يتناول ذلك الأولادَ والأحفادَ وإن سفلوا، ولا فرق بين الذكور والإناث.
وذكر بعض الأصحاب أنه إذا كان لمن أوصى لعقبه أولادُ صُلبٍ (1 وأولاد أولادٍ،
__________
(1) في الأصل: بما المرافيه. وفي (س) : بما ألم فيه. والمثبت قراءة للأصل على ضوء المعنى والسياق.
(2) "يضطرب" من (المضطرب) بمعنى المجال والسعة، والمعنى: ذكرت من مذهب السلف ما فيه مجال لتدبر الرأي واختياره.
(3) في الأصل: ولا يتهم.
(4) الحديث: رواه أبو داود: الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم، ح 2873، قال الحافظ: أعله العقيلي، وعبد الحق، وابن القطان والمنذري، وحسنه النووي، متمسكاً بسكوت أبي داود عليه، ورواه أيضاً الطيالسي والطبراني في الصغير. ر. تلخيص الحبير: 3/217 ح 1463.
(5) في الأصل: صفة تؤكد.(11/323)
فالوصية مصروفةٌ إلى الأَدْنَيْن، فإن لم يكن له أولاد صلب 1) ، فإلى الأقرب فالأقرب (2) من الأحفاد.
وهذا غير صحيح عندي؛ فإن اسم العقب في وضعه يتناول الأولاد وأولاد الأولاد، وإن سفلوا، فلا معنى لتخصيص هذا اللفظ المطلق بالأدنَيْن، ولعل الذين رأَوْا ذلك أخذوه من الخلافة، فإن أولاد الدِّنْية يعقبون من الموروث [خلافة] (3) ، فإن لم يكونوا، فأولاد الأولاد يعقبونه، وهكذا على ترتيب البطون.
ولو أوصى لعقب فلانٍ، ومات الموصي، والمذكورُ عقبه حيٌّ بعدُ، قال جماهير الأصحاب: بطلت الوصية؛ فإنه ما دام حيّاً، فليس يعقبه أحد، وهذا جارٍ على قياس تقديم الأقرب فالأقرب؛ فإنا إذا كنا نفهم من العقب من يعقب، فالحي لا يعقبه أحدٌ وهو حي، ومعنى العقب عند هذا الإنسان من [تقدّم العقب غيرُه] (4) .
والظاهر عندنا (5) أن الوصية تصح إذا كان له أولادٌ؛ فإنهم يسمون أعقاباً في حياة الإنسان.
7573- ولو أوصى لورثة إنسان، فالوصية لكل مَنْ ورثه من ذكر أو أنثى بنسب أو بسبب، غير أن الموصى به في الإطلاق موزّع عليهم بالسوية، وإن اختلفت حصصهم في الاستحقاق بالميراث.
ولو أوصى لورثة فلان ومات الموصي ومن يُنسب الورثةُ إليه حي، فقد قال الأصحاب: تبطل الوصية، وقولهم في هذا أظهر؛ فإن الوراثة لا تتبين في حياة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(2) (س) : فالأقرب بالإرث.
(3) في الأصل: خلاف.
(4) في الأصل: تقدم يعقب عنده.
(5) هذا الذي اختاره الإمام هو الذي قطع به صاحب (العدّة) وجعله مذهبنا، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى. ا. هـ عن النووي في الروضة: 6/180.(11/324)
الإنسان. فإن كان يتطرق إليه احتمال، فيشترط فيه الوقوف إلى أن يموت، ونتبين من يرثه من الموجودين [عند موت الموصي.
وإذا قلنا: تصرف الوصية إلى عقبه وهو حي] (1) فقد يحتمل أيضاً أن نتوقف حتى نتبين من يعقبه.
ومن هذا التنبيه يتبيّن ظهور كلام الأصحاب.
ولو أوصى لورثة زيد، ثم مات ولم يكن [له] (2) وارث خاص، فالوصية باطلة، ولا نقول: كأنه أوصى للمسلمين، لأنهم يرثونه؛ فإن الوراثة في هذه المنزلة حكم لا يتلقى مثله من موجب الألفاظ.
ولو أوصى لورثة فلان، فمات فلان، وخلفته بنتٌ واحدة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة على وجهين: منهم من قال: يصرف إليها جميع الوصية، وإن لم نقل بمذهب الردّ.
ومنهم من قال: نصرف إليها نصفَ الوصية ويبطل النصف منها.
ثم قال الأصحاب: إن أوصى لعصبة فلان، فمات الموصي وفلان حيّ، فالوصية تصح لعصبته، ولا يشترط موته في استحقاق الوصية عند موت الموصي، وليس كالورثة؛ فإن هذا اللفظ يشعر بالوراثة، ولا وراثة في الحياة، وليس كالعقب؛ فإنه يشعر بالخلافة، ولا خلافة في الحياة. وهذا حسن متجه.
ثم قال الأصحاب (3) في الوصية للعصبة: "أولاهم بالوصية أولاهم بالعصوبة" وهذا مستقيم لا يسوغ غيرُه؛ فإن حكم العصوبة يثبت للأقربين.
هذا منتهى ما بلغنا من الكلام في هذه الألفاظ المدارة في الوصايا.
__________
(1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (س) .
(2) مزيدة من (س) .
(3) عبارة (س) فيها خلل: ثم قال الأصحاب للوصية بالعصبة: أولاهم بالعصوبة، وهذا مستقيم.(11/325)
ولو أوصى لعترته، قال العراقيون: قال ثعلب (1) وابن الأعرابي (2) : العترة هم الذرية، وقال القُتبي (3) : العترة هم العشيرة، وعشيرة الرجل قرابته، وردّد العراقيون قولَهم لتردد أئمة اللغة. والله أعلم.
***
__________
(1) ثعلب وابن الأعرابي: هما من أئمة اللغة.
وثعلب هو: أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني، أبو العباس، إمام الكوفيين في النحو، صاحب الفصيح، ومجالس ثعلب، ومعاني القرآن، وإعراب القرآن ت 291 هـ.
(ر. أعلام الزركلي، وتذكرة الحفاظ: 2/666 ترجمة رقم 686 من الطبقة العاشرة، ورقمه فيها 32، وتاريخ بغداد: 5/204 ترجمة رقم 2681) وهو في تذكرة الحفاظ: أحمد بن يحى بن يزيد (بدلاً من زيد) .
(2) ابن الأعرابي هو: محمد بن زياد، أبو عبد الله، علامة باللغة، وأحد المشار إليهم في معرفتها، ومن أشهر حفاظها، كان ثقة، قال عنه ثعلب المذكورآنفاً: انتهى إليه علم اللغة، له العديد من المؤلفات بين مخطوط ومطبوع توفي سنة 231 هـ (ر. تاريخ بغداد: 5/282 - ترجمة رقم 2781، والأعلام للزركلي) .
(3) القتبي هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري، أبو محمد اشتهر بابن قتيبة، ولكن إمام الحرمين يذكره باسم القُتبي، وهو العلامة الكبير، ذو الفنون، نزل بغداد، وصنف وجمع، وبعُد صيته، كان ثقة ديناً فاضلاً، من المكثرين تصنيفاً، فمن ذلك: غريب القرآن، غريب الحديث، ومشكل القرآن، ومشكل الحديث، وإصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث.
ذكره إمام الحرمين في البرهان في مراتب العلوم، والخلاف في المحسوسات، وهل كلها في درجة واحدة؟ وقال عنه: "إنه ولاّج هجوم على ما لا يحسنها". وقد ردّ هذا عن القتبي العلامة المحقق السيد أحمد صقر، في مقدمته لتحقيق تأويل مشكل القرآن، فراجع هذا إن أحببت، توفي ابن قتيبة سنة 276 هـ، وقيل: 270. (ر. صير أعلام النبلاء: 13/296، وتاريخ بغداد: 10/170-171، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/281، والبرهان لإمام الحرمين: فقرة: 52، والأعلام للزركلي) .(11/326)
باب ما يكون رجوعاً في الوصية
7574- العطايا المحتسبة من الثلث تنقسم، فمنها: ما ينجزها المريض في حياته ويتممها في ظاهر أمره، فما كان كذلك لم يملك هو في نفسه استدراكه، وإن كنا قد نردّ ما يزيد منهما على الثلث، إذا مات من مرضه الذي يتبرع فيه، وهذا كالعتق المنجز والهبات المبرمة بالقبض والصدقات، والإبراء المنجّز، والمحاباة في البيع والشراء.
وأما الأعطية التي [يُضيفها] (1) إلى حالة الموت، [فهي] (2) محسوبة من الثلث، فجملتها وصايا، والموصي بها يملك الرجوع في جميعها، إلا التدبير، ففيه قولان: أحدهما - أنه بمثابة الوصايا، وفائدة ذلك تمليك المدبِّر الرجوع عن التدبير لفظاً، مع إدامة الملك على الرقبة.
والقول (3) الثاني - أنه [تعليق] (4) عتق. وفائدة ذلك أنه لا يملك الرجوع عن التدبير لفظاً، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب التدبير، إن شاء الله تعالى.
وحظ هذا الباب منه ما يتعلق بحكم الرجوع، هذا تمهيد قاعدة الباب.
7575- ثم التبرعات الجارية في مرض الوفاة إذا تمت تصرف المتبرَّعُ عليه تصرف مثله لو جرى التبرع في الصحة من المتبرّع، وإن كنا في الزائد على الثلث [ننعطف
__________
(1) في الأصل: تصنيفها.
(2) في الأصل: وهي.
(3) (س) : والوجه الثاني.
(4) في الأصل: يتعلق.(11/327)
نتعقب] (1) تلك التصرفات بالنقص [تبيّناً] (2) من غير إنشاء نقض، وقد نتبين بطلان جميعها، إذا ركب المريضَ دينٌ مستغرق المال.
ومما يفارق التبرعاتُ فيه الوصايا المضافةَ إلى الموت أن الوصايا تقع محسوبة من الثلث، وإن وقع الإيصاء بها في الصحة؛ نظراً إلى حالة الموت، والتبرعات الواقعة في الصحة لا تحتسب من الثلث، ولو جرى تعليق في الصحة [في] (3) عتقٍ ووجد الصفة في مرض الموت المعلق، فللأصحاب وجهان مشهوران في أن الاعتبار بحالة التعليق أم بحالة وقوع العتق؟ وسيأتي شرح ذلك في موضعه من كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
7576- وقد تمهد أن الرجوع في الوصايا سائغ، والباب معقود لبيان ما يكون رجوعاً عن الوصية وما لا يكون رجوعاً عنها، فنقول: ما يقع به الرجوع ينقسم إلى ما هو صريحٌ في الرجوع، وإلى ما يتضمن الرجوع.
فأما التصريح في الرجوع، فإذا قال: رجعت عن هذه الوصية، أو قطعتُها، أو رفعتها، أو أبطلتها، أو نسختها، فهذه الألفاظ [وما في معناها] (4) رجوعٌ.
ولو قال: حرمت هذه العين على فلان، وكان قد أوصى له بها، فظاهر المذهب أن هذا يكون رجوعاً عن الوصية؛ [فإنا] (5) نكتفي في ثبوت الرجوع [بمخايل] (6) وعلامات في الأقوال والأفعال، سنشرحها في الباب، ولفظ التحريم أوضح منها وأولى [بإفادة] (7) الرجوع.
7577- ولو قيل له: أوصيتَ لفلان، فأنكر، وقال: ما أوصيتُ، فالذي ذهب إليه
__________
(1) في الأصل: ينعطفه يعقب، و (س) : نعطيه تعقب. والمثبت تقديرٌ منا.
(2) في الأصل: ميتاً.
(3) في الأصل: (من) .
(4) في الأصل: وما يعطى منها.
(5) في الأصل: فإنما.
(6) في الأصل: بحال.
(7) في الأصل: فأفادة.(11/328)
الأصحاب، وهو ظاهر النص أن هذا يكون رجوعاً، وقد يتجه في هذا نوعٌ من الاحتمال؛ من جهة أنه قد ينسى الوصيةَ، فينكرها، والإنكار إخبار، وليس بإنشاء قطع (1) .
ولو قيل له: أوصيتَ لفلان، فقال: لا أدري، فهذا لا يكون رجوعاً عند الشافعي رضي الله عنه إذا كان أوصى، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
فهذا ما يكون رجوعاً تصريحاً، أو تلويحاً بقولٍ مقصودٍ في إظهار الرجوع.
وانتظم منه أن النص في الرجوع يقطع الوصية، واللفظ الظاهر كالتحريم فيه تردّدٌ، والتصريح [بالإنكار] (3) ملتحق بالظاهر عندي، والنص قول الأصحاب فيه ما ذكرته، وهذا كلامٌ في قسمٍ واحدٍ.
7578- فأما القسم الثاني، فهو ما لا يكون رجوعاً صريحاً، ولكنه يتضمنه، وذلك ينقسم إلى تصرفاتٍ بالأقوال وإلى تصرفاتٍ بالأفعال.
فأما الأقوال، فما يتضمن [بتَّ] (4) الملك، فلا شك أنه يقتضي رجوعاً [مثل أن يوصي بعبد لإنسان، ثم يبيعه] (5) بيعاً لازماً، فهذه التصرفات تنفذ متضمنةً رجوعاً.
فأما ما لا يتصف باللزوم [ولكنه] (6) يشعر بقصد الرجوع، فقاعدة المذهب أنه يتضمن الرجوع، فإن كان من تردّدٍ [في] (7) بعض المسائل، فهو لاعتقاد من يتردد في بُعد المسألة عن القاعدة.
__________
(1) (س) : قطعي.
(2) رُوي في البدائع عن أبي يوسف في نوادره "أنه قال في رجل أوصى بوصية ثم عُرضت عليه من الغد، فقال: "لا أعرف هذه الوصية" قال: هذا رجوع منه" ثم عرض صاحب البدائع، صوراً ومسائل متعددة، فلتراجع. (البدائع: 7/380) .
(3) في الأصل: بالأفكار، (س) : بإنكاره. والمثبت اختيار منا.
(4) في الأصل: بقاء.
(5) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(6) في الأصل: ويمكنه.
(7) ساقطة من الأصل.(11/329)
قال الأئمة: لو عرض العينَ الموصى بها على البيع، كان ذلك رجوعاً منه، وإن لم يبعها، وكذلك قالوا: لو وكل ببيعها، كان ذلك بمثابة العرض على البيع، فلعله أظهر في الدلالة على قصد الرجوع.
ولو رهن، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يكون رجوعاً؛ فإن مقصود الرهن بيعُ المرهون في الدين، فلا ينحط الرهن عن العرض على البيع.
والوجه الثاني - أن الرهن لا يكون رجوعاً؛ فإن [الذي] (1) يُضمر إبقاء الوصية قد [يرهن] (2) الموصى به لحاجة [باديةٍ] (3) مع إبرامه العزم على فك الرهن، فليس الرهن إذاً من علامات الرجوع، وليس كذلك العرض على البيع؛ فإنه تحكُّمٌ خاص في الدلالة على البيع القاطع للوصية.
ولست أرى في الرهن فرقاً بين أن يتصل بالإقباض وبين ألا يتصل به؛ فإنه إنما يكون رجوعاً -إذا كان- لدلالته على القصد، وهذا لا يختلف بوجود الإقباض وعدمه.
ولو وهب العين الموصى بها، يجب القطع بكون ذلك رجوعاً؛ فإن الهبة عقد تمليك، وظهور القصد كافٍ، ثم لا يتوقف حصول الرجوع على الإقباض، وذكر بعض الناقلين خلافاً في الهبة قبل القبض، وهذا مما لا نستجيز عدَّه من المذهب.
وإذا رأينا العرض على البيع رجوعاً، فإذا جرى البيع على شرط الخيار، لم يسترب الفقيه في كونه رجوعاً، وإن فسخ العقد، وسرُّ هذا الفصل أن [مبنى] (4) الوصية على تقدّم الإيصاء على القبول بزمانٍ متطاولٍ، والعقود التي ينبني انعقادها على الإيجاب والقبول المتصلين لو تخلل [بينهما] (5) قاطع، لقضينا بانقطاع الإيجاب عن
__________
(1) في الأصل: الذين.
(2) في الأصل: رهن.
(3) في الأصل: بإذنه.
(4) في الأصل: معنى.
(5) في الأصل: فيهما.(11/330)
القبول، ولا يشترط في الوصية وقبولها تواصلٌ زماني، ولكن إذا جرى من [الموصي] (1) عَلَمٌ ظاهر في الرجوع، كان ذلك خَرْماً للإيصاء، وقطعاً له.
وهذا يتضح بذكر أصولٍ يفرض في مثلها رجوع، والغرض بذكرها امتيازها عما نحن فيه، فالراجع في هبته بعد الإقباض وإن ملك الاستبداد بالرجوع لا يصح رجوعه بالمخايل والعلامات؛ فإن رجوعه في حكم تملك جديد، حتى نقول: لو أعتق العبدَ الموهوبَ المسلَّمَ (2) ، لم ينفذ عتقه عند بعض الأصحاب، ما لم يقدِّم على العتق رجوعاً، ولو باع، فالبيع أولى بالرّد من العتق.
ومن باع عبداً بشرط الخيار، ثم عرضه على البيع، فلسنا نرى العرض على البيع فسخاً منه، بخلاف الوصية.
7579- والغرضُ في ذلك يتبيّن بنظم ترتيبٍ: أما الرجوع في الهبة بعد التمام، فيليق به التصريح بالرجوع؛ فإن الهبة بعد التمام أفادت تمام نقل الملك، وليس [ملك] (3) الرجوع في الهبة خياراً في عقدٍ، وإنما هو تسلط -على ملك الغير- شرعيٌّ.
(4 والرتبة الثانية 4) في الفسخ -[الفسخُ] (5) من البائع في زمان الخيار، [فهذا] (6) يصادف جوازاً من العقد، ولكن العقد [ثَمَّ يسعه] (7) ، فإن لم يصرح الفاسخ بالفسخ، فلا بد من أحد أمرين: إما أن يتصرف تصرفاً يستدعي نفوذُه الفسخَ، كالإعتاق والبيع، وإما أن يأتي بعلامة في نهاية الظهور كالوطء.
ولسنا نلتزم الآن ذكرَ تلك التفاصيل؛ [فإنا] (8) استقصيناها في أول البيع، وإنما
__________
(1) في الأصل: المرض.
(2) ساقطة من (س) .
(3) في الأصل: تملك. و (س) : وليس ملك الهبة في الرجوع.
(4) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: هذا.
(7) كذا بالأصل، وفي (س) : لم نسعه.
(8) في الأصل: فإنما.(11/331)
غرضنا التنبيه على المراتب لنفصل البعض منها عن البعض.
7580- ثم الذي نستقصيه الآن ما يتعلق بالوصية، [فالوصية] (1) إذاً مستأخرة عن المرتبتين؛ من جهة أنه لم يثبت إلا أحد شقيها، فلا هي أفضت إلى إثبات حق، ولا أدّت إلى انعقاد عقد، فوقع الاكتفاء بعلامةٍ تخرم الإيصاء.
والذي يدور في الخَلَد عند ذلك أنه لو عَرَضَ الموصى [به] (2) على البيع، ثم قال: كنت نسيت الإيصاء به، أفنقول: انبتّت (3) الوصية ظاهراً وباطناً، أم نقول: الوصية بحالها؟ هذا فيه تردد، والظاهر انقطاع الوصية ظاهراً وباطناً؛ فإنه اختل الإيصاء في هذه العين بما جرى [وانقطع] (4) الإيصاء عن القبول. وفي المسألة احتمال.
7581- ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى لإنسانٍ بعبد، ثم إنه دبره، فهذا يستدعي تقديم مسألةٍ مقصودة في نفسها، وبها يحصل الغرض فيما ذكرناه: أجمع الأصحاب في الطرق على أن من أوصى بعبدٍ معين لزيد، ثم لم يتعرض لتلك الوصية، وأنشأ (5) إيصاءً بذلك العبد لعمرو، قال فقهاؤنا: العبد مشترك بين الرجلين إذا تمت الوصية؛ فإن كل واحد منهما [موصًى له، فيصيران فيه بمثابةٍ] (6) ، وإذا ازدحم شخصان على هذه النسبة على عينٍ، اقتضى ذلك تشطيرها بينهما، وقد ذكرنا في ذلك قواعد ومسائل في الوصية بالكل والجزء، ثم نبهنا في هذا على [دقيقة] (7) وقلنا: الاقتسام يقع على حكم الازدحام من غير فرض رجوع عن الوصية الأولى، حتى لو لم يقبل الموصى له الثاني ورَدَّ، فالعبد بكماله مصروف إلى الأول، وهكذا يكون سبيل القسمة التي تقتضيها الزحمة.
__________
(1) في الأصل: والوصية.
(2) في الأصل: الموصى له.
(3) (س) : فنقول: ثبتت الوصية.
(4) في الأصل: ما يقطع. وعبارة (س) : في هذه العين وانقطع الإيصاء.
(5) (س) : وأوصى أيضاً بذلك العبد لعمرو.
(6) في الأصل: فإن كل واحد منهما يصرف منه بتمامه.
(7) في الأصل: على وفقه.(11/332)
ومن (1) لم يعتقد هذه المسألة حسيكة في باب الرجوع، فليس من الفقه على حظّ؛ فإنا إذا كنا نرى ارتفاع الوصية بالعلامات القريبة، فالوصية [بكمال] (2) الموصى به لغير الموصى له الأول في نهاية الظهور في قصد الرجوع عن الوصية الأولى.
[وقد] (3) قال الأئمة: إن ذكر في الوصية الثانية لفظةً تدل على الرجوع عن الأولى، كان رجوعاً عنها، وذلك أن يقول: العبد الذي أوصيت به لفلان قد جعلته لفلان، أو العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان، أو العبد الذي أوصيت به لفلان قد أوصيت به لفلان. وقالوا: هذه القرائن تتضمن الرجوع عن الوصية الأولى، وإنما يحمل الأمر على ازدحام الوصيتين إذا جرت الوصية الثانية مطلقةً، من غير تعرضٍ للوصية الأولى، وما ذكروه الآن من أن الرجوع يثبت في الوصية الأولى جارٍ على قياس الباب، وإنما الإشكال في أن الوصية كيف لم تكن رجوعاً عن الوصية السابقة؟ فهذا لا وجه في تعليله إلا أن الوصايا يثبت فيها أصل الازدحام، وصار ذلك قانوناً متبعاً [وأصلاً] (4) في حكم المتفق عليه، (5 فالوصايا تزدحم على الثلث إذا زادت عليه ورُدّت إليه 5) ، [فكل ما ظهر حمله على الزحمة ولم يقترن] (6) به أمر زائد على اقتضاء الزحمة، فهو محمول عليها.
فأما إذا انضم إلى ذلك مزيدٌ في التعرض [للوصية] (7) الأولى، فإذ ذاك يقع الحكم بالرجوع. فهذا هو الممكن في ذلك.
7582- رجعنا إلى ما ذكرناه من تدبير العبد الموصى به، قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا أوصى الرجل بعبده لإنسان، ثم إنه دبّر ذلك العبدَ، ولم يتعرض للوصية
__________
(1) (س) : ولم يعتقد هذه حسيكة.
(2) في الأصل: فكمال.
(3) في الأصل: فقد.
(4) في الأصل: وامتلا.
(5) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(6) في الأصل: فكل ما حمل ظهر على الزحمة، ولم يعنون به.
(7) في الأصل: بالوصية.(11/333)
الأولى، كان التدبير رجوعاً عن الوصية، وليس كما لو أوصى لزيدٍ بذلك العبد، ثم أوصى به لعمرو وأطلق الوصية الثانية؛ فإن الوصيتين تزدحمان على العبد، وذكروا مسلكين في طلب الفرق: أحدهما - أن مقصود التدبير (1) العتقُ، وهو مخالف لمقصود الوصية بملك الرقبة، فإن اختلف المقصودان، ظهر بالثاني قصد الرجوع عن الأول.
هذا وجه.
والثاني - أن العتق يحصل إذا وسعه الثلث، في المدبر بالموت، والقبول يقع بعده، فيتقدم نفوذ مقصود التدبير على قبول الموصى له الأول. هذا ما ذكره الأئمة.
قال صاحب التقريب: إن حكمنا بأن التدبير تعليقُ عتق بصفةٍ؛ فإنه يكون رجوعاً عن الوصية (2) في مقصودها ووضعها، والعتق المعلق عند وجود الصفة كالعتق المنجز عند التعليق.
فأما إذا حكمنا بأن التدبير وصيةٌ بالعتق، فإذا أوصى بعبد لإنسان، ثم دبره، فقد ذكر فيه وجهين: أحدهما - أن ذلك يكون رجوعاً عن الوصية الأولى، فيثبت التدبير في جميع العبد، وهذا ما قطع به الأصحاب.
والوجه الثاني - أن ذلك لا يكون رجوعاً عن الوصية الأولى، ولكن [يثبت] (3) حق التدبير على الزحمة في جميع العبد، ويبقى حق الوصية الأولى كذلك في جميع العبد، كما لو أوصى لزيد بعبد، ثم أوصى لعمرٍو بذلك العبد، ثم حكم الازدحام يقتضي التنصيف كما ذكرناه، فيعتِق نصفه بحكم التدبير، ويبقى نصفه موصىً وهذا الذي ذكره صاحب التقريب وإن كان متجهاً في القياس، فهو مخالف لما
__________
(1) (س) : الترتيب.
(2) عبارة (س) : فإنه يكون رجوعاً عن الوصية لزيد بملك الرقبة، فإن التدبير تعليق بصفة، وهذا القول يخالف الوصية في وضعها ومقصودها.
(3) في الأصل: لا يثبت.(11/334)
ذكره أئمة المذهب، فلو دبّره، ثم أوصى به لرجل، فإذا قلنا: التدبير وصية، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الوصية برقبة العبد رجوعٌ عن التدبير؛ فإن الوصية مع التدبير متناقضان. ولا شك أن صاحب التقريب يطرد وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أن الوصية رجوع عن التدبير، والثاني - أن التدبير والوصية يزدحمان.
وإن قلنا: إن التدبير تعليق عتقٍ بصفة، وقد تقدم واستأخرت الوصية، فالوصية ساقطة؛ فإن التدبير لا يزول بالرجوع عنه، والوصية لا تنجز حقاً، بخلاف تنجيز الإعتاق، وبخلاف البيع والهبة مع الإقباض، فإذا امتنع الرجوع، نفذ العتق المعلق بالموت معه، ولا أثر للوصية.
7583- ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى بعبدٍ لزيد، ثم قال: بيعوه بعد موتي، وتصدقوا بثمنه، فالأمر بذلك رجوع عن الوصية؛ فإن الأمر بالبيع يناقض استبقاء الرقبة حتى يفرض الازدحام فيها.
ولو أوصى بأن يباع العبد بعد موته ويصرف ثمنه إلى الفقراء، ثم أوصى بأن يصرف [ثمنه] (1) في الرقاب، فهذا يقتضي الازدحام، فيتضمن تشطير الثمن بين الجهتين.
وقد نجز الغرض في ذكر الأقوال التي تتضمن الرجوع عن الوصية.
7584- فأما الأفعال، فإنا نعدّد منها جملاً ذكرها الأصحاب، ونشير إلى ما اعتمدوه في قياسها، ثم نذكر المسلك المرتضى عندنا.
قال أئمتنا: إذا أوصى لإنسان بحنطة معيّنة، ثم طحنها الموصي، فيكون الطحن رجوعاً عن الوصية، وكذلك لو أوصى بالدقيق، ثم عجنه وخبزه.
وقالوا أيضاً: لو أوصى بشاةٍ لإنسان، ثم ذبحها، كان الذبح رجوعاً عن الوصية، وكذلك لو أوصى بثوبٍ، ثم قطعه وفصله، فالقطع والتفصيل رجوع.
[وتعلق] (2) الأصحاب في تعليل ثبوت الرجوع في هذه المسائل بزوال الاسم،
__________
(1) في الأصل: عنه.
(2) في النسختين: "واعتمد". والمثبت اختيار منا ليستقيم الكلام مع قوله: (بزوال الاسم) .(11/335)
فقالوا: هذه التصرفات تزيل الأسماء التي تعلقت الوصية بها، فتحولت وزالت، وحدثت أسماء أخرى، فكان الموصى به في حكم التالف المعدوم، وهذا الذي ذكروه من التعليل غيرُ مرضيّ عندنا، بل المعتمد أن نقول: لما أوصى بالحنطة، فبقاؤها إلى نفوذ القبول فيها مظنون ممكن، فإذا اختار طحنها، استبان بهذه العلامة أنه يبغي استعمال الدقيق، وكذلك إذا خبز الدقيق، فقد صرفه به عن جهة البقاء الممكن له إلى جهةِ هو فيها متشوف إلى الاستعمال، وكذلك القول في الشاة والذبح، والثوب والقطع والتفصيل.
7585- ولو أوصى لإنسانِ بلحمٍ، ثم شواه، فمن يرعى زوال الاسم، فالاسم لم يزل، فلا يبعد أن تبقى الوصية، ومن راعى ظهور علامة الاستعجال والاستعمال، فقد ظهر هذا المعنى.
وذكر العراقيون وجهين فيه إذا أوصى بخبز، ثم دقّه واتخذه فتيتاً: أحدهما - أن ذلك رجوع بمثابة طحن الحنطة الموصى بها.
والثاني - أنه ليس برجوع؛ فإن الدق لم يسلبه اسمَ الخبز، فلا تنقطع الوصية بهذا القدر من التغيير.
ولو أوصى لإنسان بجاريةٍ، ثم كان يستخدمها، لم يكن الاستخدام رجوعاً؛ فإنه ليس علامة في قطع الوصية؛ إذ الإنسان يوصي بعبده، ثم لا يعطل منافعه.
وكذلك لو أوصى بجارية لإنسان، ثم زوّجها، فأما إذا أوصى بها ثم وطئها، فالطريقة المشهورة أنه إن عزل عنها، لم يكن ذلك رجوعاً، وكان الوطء كالاستخدام، وإن لم يعزل عنها، فيكون ذلك رجوعاً حينئذ؛ فإن ذلك يدل على استبقائه إياها لنفسه، والتسري بها.
ومن أصحابنا من قال: الوطء رجوعٌ كيف فرض (1 ومنهم من قال: إنه ليس برجوع كيف فرض 1) . وهذا أضعف الوجوه.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .(11/336)
7586- وقد أجرى الأصحاب في أثناء الكلام في هذه المسألة مسألةً من اليمين، وهي أن مالك الجارية إذا قال: "والله لا أتسرى بها"، فمتى يحنث؟ ذكروا في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن التسري يحصل بالوطء نفسه.
والوجه الثاني - أن التسري إنما يحصل إذا لم يعزل، فأما إذا عزل، لم يكن الوطء تسرياً، ولم يحنث في يمينه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً - وهو أنه إذا أفرزها عن خادمات المهنة وحصّنها، وظهر من قصده إرادة الاستئثار [بها] (1) ، كان ذلك تسرياً، وإن لم يجر وطء، وهذا وجه ضعيف، لا استناد له إلى ثبت.
7587- ومما يتعلق بهذا القسم أن يوصي بعينٍ، ثم يُحدث فيها زيادةً من غير أن يسقط اسمُها، وذلك مثل أن يوصي بدارٍ، ثم يزيد في بنائها، مع بقائها تحت اسم الدار، فهذه الزيادة لا تكون رجوعاً عن الوصية؛ فإنها لا تشعر [باستئثاره] (2) بالدار، ومن راعى زوال الاسم، فالاسم غير زائل، [وقد] (3) ذكرت تفصيل المذهب في أن تلك الأعيان التي زادها هل تدخل تحت الوصية.
وإن أوصى لإنسان بدار عينها، ثم غيرها، واتخذ منها خاناً، [فالذين] (4) ذهبوا إلى زوال الاسم وبقائه، حكموا ببطلان الوصية، ورأوا هذا التغيير رجوعاً عن الوصية، لأن اسم الدار قد زال. وهذا فيه احتمال عندي؛ لأنه ليس فيما فعله ردُّ العرصة إلى حكم نفسه [باستعمالٍ] (5) وصرفٍ عن الجهة الأولى، وإنما هذه عمارة رآها وأجراها، وقد ذكرت أن التعويل على الاسم ليس بالقويّ.
__________
(1) في الأصل: بما.
(2) في الأصل: بإيثاره.
(3) في الأصل: فقد.
(4) في الأصل: فالذي.
(5) في الأصل: باستعجال.(11/337)
7588-[ولو] (1) أوصى بثوب مفصل غير مخيط، ثم إنه خاطه، فقد قال الشافعي وأبو يوسف: لا يكون ذلك رجوعاً، وتعليله بين؛ فإن الاسم لم يتغير على مذهب من يراعي الاسم، والطريقة التي ذكرناها لا تجرى في هذه المسألة. وقال أبو حنيفة ومحمد (2) : يكون ذلك رجوعاً.
ولو أوصى لإنسان بقطن ثم حشا به جُبة، فقد قال من يعوّل على بقاء الاسم وزواله من أصحابنا: تبقى الوصية؛ فإن اسم القطن [باقٍ، والصحيح عندي أن ذلك رجوع عن الوصية؛ فإن القطن] (3) إذا حشا به الجبة، فهو إلى الفساد والاتساخ، وسقوط القيمة، والخروج عن معظم المقاصد المتعلقة بالقطن، وهذا يشعر بصرفه عن جهة الوصية إلى جهة الاستئثار والاستعمال.
7589- ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى لإنسانٍ بحنطة معينة، ثم إنه خلطها بحنطة أخرى من عنده، فهذا يكون رجوعاً عن [الوصية] (4) ، فإنّ فعله يُعسِّر تسليمَ الحنطة المعينة [فيتضمن] (5) هذا رجوعاً عن موجب الوصية، وهذا ظاهر متفق عليه.
ولو أوصى لإنسان بمقدارٍ من الحنطة من جملة حنطة كثيرة، مثل أن يقول: أوصيت لزيد بصاعٍ من حنطة هذا البيت، فلو أنه خلط بحنطة البيت حنطةً أخرى، فقد قال صاحب التقريب: إنْ خلط حنطة البيت بمثلها، فلا يكون ذلك رجوعاً، وإن خلطها بأجود منها، كان رجوعاً، وإن خلطها بأردأ منها، فعلى وجهين.
أما ما ذكره من الخلط بالمثل، فقد اتفق الأصحاب عليه؛ من جهة أنه في وصيته لم يعتمد تعيين مقدار من الحنطة، فلا يكون الخلط مخالفاً لمقصوده. فأما إذا خلط
__________
(1) في الأصل: فلو.
(2) ر. تبيين الحقائق: 6/186، مجمع الأنهر: 2/694.
(3) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(4) في الأصل: الهبة.
(5) في الأصل: فيضمن.(11/338)
بالأجود، فقد لا يسمح بالتسليم لمكان الجودة، وإن خلط بأردأ، فيتعارض فيه معنيان: أحدهما - أنه إذا سمح بالحنطة الأولى، فإنه يسمح بالأردأ أيضاً، وهذا يعارضه أنه قد لا يرضى للموصى له بالأردأ، [فلهذا خرَّج] (1) صاحب التقريب المسألة على وجهين.
وينقدح عندنا من طريق الاحتمال كون الخلط رجوعاً في الأقسام كلّها، فإنه يتعذر به التسليم من تلك الحنطة الأولى، والوصية ضعيفة يتسرع البطلان إليها.
ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، ثم خلطها بمثلها، أو أجود أو أردأ منها، فإنه يتعذر تسليم المبيع، وكل ما يتعذر [بسببه] (2) تسليم المبيع فبالحري أن يقدر رجوعاً عن الوصية في هذا الفن.
هذا تمام البيان فيما يكون رجوعاً عن الوصية.
7590- واتسق من مضمون الباب أن التبرعات [المنفذة] (3) في المرض لا يملك المتبرع الرجوع فيها، والوصايا المحضة يملك الرجوع فيها صريحاً وضمناً، والتدبير لا ينزل منزلة التبرع المنفذ؛ من جهة أن السيد له بيعُ المدبّر وتنجيز إعتاقه، والتصرف فيه بجميع الجهات التي ينصرف بها في المملوك القنّ، فالتدبير من هذه الوجوه مباين للتبرعات المنجزة، ولكن في [نزوله] (4) منزلة التبرعات المحضة -حتى يجوز التصريح بالرجوع فيه- قولان كما ذكرنا.
***
__________
(1) في الأصل: فإنه أخرج.
(2) في الأصل: نسبُه.
(3) في الأصل: المتقدمة.
(4) في الأصل: نزولها.(11/339)
باب المرض الذي يجوز فيه العطية ولا يجوز
7591- مقصود هذا الباب متعلق بتنجيز التبرعات؛ فإن الوصايا المعلقة بالموت محسوبة من الثلث، سواء فرض إنشاؤها في الصحة أو في المرض، والتدبير في هذا المعنى نازل منزلة الوصايا؛ ومن هذا ظهر إلحاقه بالوصايا؛ فإنّ عِتق المدبر من الثلث، وإن جرى تدبيره في الصحة؛ فإنما تفترق الحال إذاً بين أن يكون الموصي صحيحاً أو مريضاً مرض الموت في التبرعات المنفذة كالعتق، والهبة، والمحاباة، وما في معناها.
فإن كان المرض مخوفاً وأفضى إلى الموت، [فهي] (1) من الثلث، وإن جرت وانتهت في الصحة، أو في مرض غيرِ مخوف، فمن رأس المال.
7592- ثم لا مطمع في الاطلاع على تقاسيم الأمراض والمَيْز بين المخوف منها وغير المخوف؛ فإن العلم بذلك ليس [بالهيّن] (2) وهو يتعلق بفنٍّ معروف قد يستوعب طالبُ الكمالِ فيه العمرَ (3) ، ثم لا ينال مطلوبَه، والعجب أن الفقهاء خاضوا في عدّ المخوف من الأمراض وغير المخوف منها، ولست أرى التزام ذلك، و [إن] (4) اعتلقتُ طرفاً صالحاً منه، ولكن الوفاء به غير ممكن، فالوجه أن نقول: ليس المرض المخوف هو الذي تندرُ النجاةُ منه وُيؤئِس المعالجَ؛ فإن البرْسام معدودٌ من الأمراض المخوفة، [والنجاة] (5) منه ليست بالنادر، فلا ينبغي أن يظن الفقيه أن
__________
(1) في الأصل: فهو.
(2) في الأصل: كلمة غير مقروءة.
(3) واضحٌ أن الفن الذي يشير إليه هو فن الطب.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: والتي.(11/340)
المخوف هو الذي يغلب الهلاك منه، حتى يعد الاستبلال والبرء منه في حكم النادر، ولكن يكفي ألا يكون الهلاك منه في حكم النادر، فليتثبت الناظر في هذا [العقد] (1) فإليه الرجوع، فإنا إذا كنا نرعى الخوفَ، كفى [فيه] (2) ظهور توقع الموت وإن لم يغلب عليه يلتحق ببقية [النوادر] (3) .
والمرض الذي ليس بمخوف هو الذي يندر ترتب الموت عليه، لأجل ذلك لا يكون توقع الموت [منه] (4) في حكم [المظنون] (5) .
7593- فلو كان المرض مخوفاً، وجرت فيه تبرعات ثم اتفق البرء منه، فجملة التبرعات منفَّذة نازلة منزلة ما يقع في الصحة، وهذا لا شك فيه؛ فإن الخوف المعتبر إنما يظهر أثره إذا أفضى إلى الموت.
7594- وإن كان ذلك المرض بحيث لا يعد مخوفاً، ولكن اتفق ترتب الموت عليه، فهذا لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتفق الموت من سبب عارض سوى ما كنا نعرفه، وإما أن يتفق غلطٌ ممن رجعنا إليه في نفي الخوف، والغلط يفرض من وجهين: أحدهما - ألا يكون ذلك المرض من الجنس الذي ظنه مَنْ إليه الرجوع، وإما أن يكون من ذلك الجنس، ولكنه لم ينسبه إلى قوّة المريض النسبة الصحيحة؛ فإن القوة إذا انحطت، فالمرض الذي لا يكون مخوفاً من القوي مخوف في حق الضعيف؛ إذ القوةُ حمالةُ الأمراض، وعلى قدرها الخوفُ وظنُّ البرء.
فإن ثبت طريان سبب آخرَ مخوفٍ، فالموت محال عليه، والتبرع الذي جرى في المرض الأول بمثابة التبرع في الصحة.
__________
(1) في الأصل: الصفة.
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: بالنوادر، و (س) : يلتحق نقيضه بالنوادر.
(4) في الأصل: عنه.
(5) في الأصل: المضمون.
وعبارة الأصل فيها اضطراب وخلل: في حكم المضمون، فلو كان المضمون، فلو كان المرض المخوف ... إلخ.(11/341)
وإن بان أن سبب الموت ذلك المرضُ بعينه، ولكنه أفضى إلى الموت لضعف المريض وعجزه عن الاستقلال، [فقد بان أنّا ظنناه] (1) غير مخوف وكان مخوفاً.
فإن قال قائل: لو لم يكن ضعفٌ، ولم يتجدد سبب آخر، واتفق الموت؟ [قلنا: هذا ما لايكون في مستقر العادة، وعليه الكلام] (2) .
ومما يعترض في ذلك أنه إذا اتفق مرضٌ غيرُ مخوف في ظاهر الظن، وترتب الموت عليه، وقال أهل البصر: لا بد من تجدّد [سببٍ] (3) باطن في الأعضاء الرئيسية، فالتبرع المتقدم على ذلك تبرع [في] (4) الصحة.
وإن جوز من [إليه] (5) الرجوع تجدّدَ سببٍ، وجوز أن يكون الموت من ذلك المرض بسبب ضعف القوة، وأنه لم يتأمل مقدار المرض والقوة، فالظاهر -إذا كان كذلك، [وعسُر] (6) الاطلاع على الحقيقة- إلحاقُ المرض بالأمراض المخوفة. وفيه احتمالٌ من جهة أنا نستصحب حكم الصحة إلى تحقق نقيضه، وقد يطرأ مثل هذا في إفضاء الجرح إلى الموت مع اعتراض هذه الاحتمالات، وحاجتنا تمس إلى دَرْك ذلك لإيجاب القصاص ونفيه، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
7595- ومما يجب الاعتناء بدركه أن العليل إذا كان لا يعدّ في مرض مخوفٍ ونشأت (7) علة أخرى، فإن قال أهل البصر: العلة الأولى تُفضي إلى هذه [العلة] (8) إفضاءً مظنوناً مخوفاً، فالعلة الأولى إذاً مخوفة، وإن قالوا: يندر
__________
(1) في الأصل: "بعد أن ظنناه غير مخوف".
(2) في الأصل: قلنا: ما لا يكون في مستقر العادة، فلا شيء عليه الكلام.
(3) في الأصل: "فسببٌ".
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: عليه، و (س) : البر.
(6) في الأصل: وعند.
(7) عبارة الأصل: في مرضٍ مخوفٍ به نشأت علة أخرى.
(8) زيادة من (س) .(11/342)
إفضاؤها إلى هذه العلة، فالأولى ليست مخوفة، وما يجري فيها من تبرع ملتحق بتبرع الصحة.
ولو لم تتجدد علّة، ولكن تزايدت، والعلة واحدة، فهكذا (1 سبيل إفضاء 1)
العلل إلى الموت؛ فإنها مقسومة إلى التزايد والانتهاء والانحطاط، والقوى يقسّمها مهرةُ الأطباء على هذه الأطوار، فيبنون على ذلك ظنَّ البرء والهلاك، فإذا جرى التبرع في ابتداء حمّى، وقد لا يطّلع الطبيب على جنس الحمى، وهي منقسمة إلى المخوف وغير المخوف، فإذا ظهرت أعراضها، وبان للطبيب أنها مخوفة، فابتداؤها بحكم التبين مخوفٌ، ولكنه عرفه الآن وليس ما يتجدد من اطلاعه تجرّد علةٍ.
هذا هو الذي لا بد من بناء الباب عليه.
ثم ما ظهر كونه مخوفاً، لم يخف حكمه إذا أفضى إلى الموت، وما لم يكن مخوفاً لم يخف حكمه، وما أشكل الأمر فيه، فالرجوع إلى أهل البصر، ثم إن فرض نزاع، لم يثبت كون المرض مخوفاً إلا بشهادة مسلمَيْن عَدْلين من أهل العدالة، ولا يقبل فيه رجل وامرأتان، وإن كان مقصود الشهادة التعرضَ للمال؛ فإن المشهودَ به المرض وصفتُه، وهو ليس بمالٍ، وليس [موجِبَ] (2) مالٍ بنفسه، بل هو ينفصل عن الأحكام المالية، فإن كانت الشهادة على علةٍ بامرأة على وجهٍ لا يطلع الرجال عليها غالباً، فإن تلك العلة تثبت بشهادة أربع نسوة، وإذا ثبت بِشهادتهن تثبت أيضاً بشهادة رجلين وشهادة رجل وامرأتين.
وإن أشكل الأمر على الذين راجعناهم، كما صورتُ الإشكال في صدر الباب، وذلك بأن يفرض مرضٌ ليس مخوفاً في صنفه ويتقدّر الموت، ثم يتردّد الظن في أن الموت كان لعلّةٍ طارئةٍ، أو هو محمول على ذلك المرض بعينه، مع اعتقاد إفضائه إلى الهلاك بسبب ضعف قوة المريض. هذا فيه تردّدٌ، وقد قدمته. والشهادة تمس الحاجة إليها عند ادّعاء علةٍ وإنكارها، فأما إذا ثبتت علةٌ، ووقع الاتفاق على صنفها،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .
(2) في الأصل: مرحب.(11/343)
وآل الكلام إلى أنها مخوفة أم لا، [ورجع] (1) النزاع إلى نسبة قوة المريض إلى العلة، وهذا يختص بدركه الماهرون من علماء الطب، فلا بد مع الإشكال من مراجعة خبير موثوقٍ به.
ثم الذي أراه أن ذلك لا يلحق بمراتب الشهادات من كل الوجوه، بل يلحق بالتقويم وتعديل الأقساط في القسمة، حتى يختلف الرأي في اشتراط العدد (2) ولفظ الشهادة. هذا منتهى حظ الفقه من الباب.
7596- ولو ذهبت أتبع ما ذكره الفقهاء من تقاسيم العلل التي عدُّوها وأنّى لهم بها، لأتيتُ بكلام [سخيفٍ] (3) ، ولو [ستمددتُ] (4) مما حَظِيتُ به من هذه الصناعة، لأتيت بكلام كثير في غير موضعه، وهو لا يثمر فائدةً.
وهذا يضاهي محاولة [إغراق] (5) الكلام في أدلة القبلة في بابها.
7597- ومما أجراه المزني أن قال: "السل ليس بمخوف"، وهذا كلام مدخولٌ، لا يرتضيه أرباب البصائر، وإن كان يرى أن العلل المزمنة التي ليست بالحادة، ليست مخوفة، كالدِّق (6) والاستسقاء وما في معناهما من الأعلال التي يظهر [الخوف] (7) فيها، وليست سريعة الانقلاب إلى البرء، أو الهلاك، فهذا بعيد مع تحقق الخوف.
فليتأمل الناظر ما يمر به.
__________
(1) في الأصل: وراجع.
(2) قطع النووي بأن المذهب اشتراطُ العدد وغيره مما يشترط في الشهادة. (الروضة: 6/129) .
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: استهدفت.
(5) في الأصل: اعراف.
(6) الدِّق: حُمّى تعاود يومياً، تصحب السلّ غالباً (معجم) وعرفه الرافعي بأنه داءٌ يصيب القلب ولا تمتد الحياة معه غالباً (فتح العزيز: 7/45) .
(7) في الأصل: الحوت، و (س) : القول. والمثبت تقدير منا.(11/344)
7598- والهرَم في الشيخ الكبير ليس يلتحق بالأمراض المزمنة، (1 فافهموا ترشدوا.
وإنما يتطرق الكلام إلى الأمراض المزمنة 1) من وجهين: أحدهما - أن الأئمة قالوا: الحامل ليست في حالة خوف، وإنما تُعدّ في حالة الخوف إذا طُلقت (2) ، وإن كنا نعلم أن كل حاملة (3) تضع أو تجهض، وإلى أي المصيرين صارت فإلى الخوف مصيرها، ثم لم تجعل في حالة خوف قبل الطّلْق (4) . هكذا. ولكن المرض المزمن ينفصل عنه، من جهة أن صاحبه مريض في الحالة الراهنة [وذات] (5) الحمل على [أحوال الصحة] (6) إلى أن تُطْلَق، ويتطرق إلى الأمراض المزمنة أنها إذا لم تكن حادّة، فقد تمكّن من العلاج في طول المدة، وهذا مما يجب التنبه له.
والذي يتحصل عندنا في ذلك أن نمزج إمكان العلاج، وطول المدة بقوة المريض (7) ، وتقع القضية على حسب ذلك، فإن قال [أهل] (8) البصر مع ما ذكرناه: الخوف غالبٌ، فالمرض مرض الموت إذا أفضى إليه، ولا نظر إلى طول المدّة وقصرها، والله أعلم.
وقد ذكرنا في أثناء الكلام مسألةَ الحامل، وهي مقصودة، فلتعرف كما وصفناها.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(2) طُلقت: بضم فكسر: أصابها وجع الولادة. (معجم ومصباح) وضبطت في (س) بثلاث فتحات، وهو من أوهام الناسخ.
(3) حاملة: المشهور المعروف (حامل) بغير (هاء) ؛ لأنها صفة مختصة، وربما قيل: (حاملة) بالهاء؛ أرادوا المطابقة بينها وبين حملت، وقيل أرادوا مجاز الحمل، إما لأنها كانت كذلك أو ستكون، فإذا أريد الوصف الحقيقي قيل: حامل بغير هاء. (قاله الفيومي في المصباح) .
(4) (س) : ... في حالة خوف، ولكن ...
(5) في الأصل: ودار.
(6) في الأصل: الأحوال الصحة، و (س) : الأحوال الصحيحة. والمثبت تصرف من المحقق.
(7) (س) : المرض.
(8) ساقطة من الأصل.(11/345)
فصل
7599- نص الشافعي رضي الله عنه على أن الرجل إذا كان في قُطرِ وقع فيه الطاعون الغالب، وعم طريانه، فأمر المقيم في ذلك القطر مخوفٌ، وإن لم [يطعن] (1) بعدُ.
وكذلك من كان في التحام القتال بعد التفاف الصفين، وازدحام القسي، فأمره مخوف وإن لم يجرح بعدُ.
وقال في أهل السفينة إذا هاج البحر والتطمت الأمواج وانتهَوْا إلى حالة مخوفة: هم في حالة خوف، وإن لم تنكسر السفينة بعدُ. هذه نصوص الشافعي رضي الله عنه، ثم نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من قُدّم ليقتص منه غيرُ مخوف ما لم يجرح (2) ، فمن أصحابنا من جعل في هذه المسائل كلها قولين، وكذا في أسيرِ في يد طائفة من الكفار يقتلون الأسارى. وهذا اختيار المزني؛ فإنه [لم ير فرقاً] (3) في هذه المسائل، من جهة أنا إن نظرنا إلى الشخص، فهو صحيح في بدنه، وإن نظرنا في توقّع إلمام الخوف به، فهذا المعنى حاصل.
ومن أصحابنا من فرق بين مسألة القصاص، فأجراها على النص وبَيْن غيرها من المسائل، وقال: يغلب من المسلم أن يرحم إذا ملك واقتدر، وقد يرغب في المال، فيعفو، وهذا لا يتحقق في سائر المسائل، وهذا الفرق لا يكاد يتضح.
والذي يعترض في نفس الفقيه أنا إذا حكمنا [بالخوف] (4) في هذه المسائل، فالحامل وإن لم تُطلَق بعد لا يمتنع أن تلحق بالمسائل التي ذكرناها، وهذا احتمال أبديناه، والذي ذكره الأصحاب أنها ما لم تطلق لا يثبت مقتضى الخوف [في] (5) حقها.
__________
(1) في الأصل: يظن.
(2) ر. المختصر: 3/172، 173، والأم: 4/36، 37.
(3) في الأصل: فإنه لم يرض.
(4) في الأصل: حكمنا الحرف.
(5) في الأصل: من.(11/346)
ثم قال (1) : "ومن أنفذته الجراح فمخوف" قال الأصحاب: صاحب الجائفة مخوف، وكذا صاحب الجراحة الواصلة إلى العظم، وكذلك إذا انتهت إلى مجتمع اللحم.
والذي عندنا في هذا أن نذكر للفقيه ما ذكره الأئمة في الجراح التي توجب القصاص، على ما سيأتي القول فيها مشروحاً، إن شاء الله.
وقد قالوا: من قطع إصبع إنسان أو أنملة من أنامله، فالجرح جرحُ قصاص، وردّدوا الخلاف في الإبرة تغرز في غير مقتل، فإن كانوا يجرون حكم الخوف في الوصايا ذلك المجرى، فقد اتسق القياس في [البابين] (2) .
وإن كان أئمة المذهب يَفْصلون بين البابين ويخصصون الخوف بالجوائف والجراحات المنتهية إلى مجتمع اللحم، وقد تبين أنهم لم يرعَوْا هذا في وجوب القصاص، كان هذا من مشكلات المذهب، والممكن إن كان الأمر كذلك أن يقال: الجراح الموجبة للقصاص نيط القصاص بهما، وإن كانت لا تؤدي إلى القتل غالباً محافظة على صون الأرواح؛ فإن أغوار الجراح لا تنضبط، ولا يُدرى كيف وصولها إلى التجاويف والتلافيف، فعلِّق القصاص بقبيلها، حسماً للباب وردعاً للجناة، فأما القضاء بالخوف، فينبغي أن يتبع وقوع الخوف، وظاهر كلام الأئمة الفرق بين البابين.
وقد نجز مقصود الباب.
7600- وذكر صاحب التلخيص مسائل وأقوالاً غريبة تتعلق بأحكام الأمراض، ونحن نذكر الزوائد منها وإن كان لا يليق بعضها بهذا الكتاب، فمما ذكره اختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في إقرار المريض للوارث، وفيه قولان مشهوران ذكرناهما في كتاب الأقارير، والذي زاده صاحب التلخيص أنه حكى قولاً أن إقرار المريض للأجنبي
__________
(1) قال: أي الشافعي. انظر: السابق.
(2) في الأصل: الباقين.(11/347)
في مرضه بمنزلة تبرعه عليه (1) ؛ من جهة أنا لا نأمن اتخاذ الإقرار ذريعة إلى صرف طائفةٍ من ماله إلى الأجنبي، إذا علم أن التبرعات الزائدة على الثلث مردودة. وهذا القول بعيد جداً، قال الشيخ: لم يحكه أحد غيره.
7601- ومما حكاه أن الجنون يُسقط الصلاة أداءً وقضاءً، والإغماء إذا استغرق وقت الصلاة ينزل منزلة الجنون، فتسقط به الصلاة أداء وقضاء، وأما الصوم، فالمنصوص أن الجنون يسقطه، فلو مرت أيام من رمضان في الجنون، ثم أفاق المجنون، فلا قضاء، ولو مرت أيام في الإغماء، فيجب قضاء الصوم، والذي زاده صاحب التلخيص أن من أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الجنون والإغماء نقلاً وتخريجاً: أحدهما - لا يسقط الصوم بواحد منهما، ويجب القضاء فيهما عند زوال العذر. والثاني - لا يجب القضاء في أحدٍ من العذرين، وهذا لم أره لأحد من أصحابنا غيره.
ومما ذكره متعلقاً بأحكام الأمراض: أن الصائم إذا مرض في رمضان، وخشي زيادة الأوجاع، فله أن يفطر، وقد ذكرت في كتاب الصيام تقريب القول في الأمر المرعي في المرض الذي يبيح الفطر.
7602- قال الشيخ (2) متصلاً بهذا: ما يجوّز للصائم في رمضان أن يُفطر قد (3) يجوّز لمن لزمته كفارة الظهار أن يترك به صومَ الشهرين، فيتحول إلى الإطعام، وإن كانت الكفارة تقبل التأخير. هذا ما ذكره الشيخ، وقطع [به] (4) وفيه تأمل على الناظر. نعم، لا يشترط أن يكون المرض مزمناً لا يرجى زواله حتى يجوز التحول، ولكن إن قلنا: الاعتبار في الكفارات بوقت (5 الوجوب وكان مريضاً إذ ذاك، فيجوز التحول إلى الإطعام، وإن قلنا الاعتبار بوقت 5) الأداء، ففي هذا
__________
(1) تبرعه عليه: فيها تضمين (تبرَّع) معنى تصدَّقَ. ثم عبارة (س) بدون لفظ (عليه) .
(2) الشيخ: هو الشيخ أبو علي السنجي، فعنه ينقل إمامنا أقوال صاحب التلخيص الغريبة.
(3) (س) : ما يجوز للصائم في رمضان أن يفطر به ولمن لزمته كفارة الظهار ...
(4) زيادة من (س) .
(5) ما بين القوسين ساقط من (س) .(11/348)
أدنى نظر، يجوز أن يقال: إذا أطعم وهو مريض أجزأه الإطعام كما قال الشيخ، ويجوز أن يقال: إذا دام المرض شهرين، فالأمر على ما قال، وإن انقطع دون الشهرين، ففيه تردد والأظهر ما ذكره الشيخ.
***(11/349)
باب الأوصياء
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يجوز الوصية إلا إلى بالغٍ حر عدلٍ ... إلى آخره" (1) .
7603- نَصْبُ الأوصياء (2) جائز، وجوازه متفق عليه، وقد صار أبو حنيفة (3) وأصحابه إلى أن الوصاية تنزل منزلة الولاية، وليس الأمر كذلك؛ فإنها نيابة، غيرَ أنا نشترط في الأوصياء كثيراً من صفات الولاة، من جهة أن الوصاية أُثبتت مصلحةً، ولو رُدّ الأمر فيها إلى ظاهر (4) القياس، لما صحت؛ فإن قياس النيابة أن تنقطع بموت المستنيب، من جهة أن النائب فرعُ المستنيب، فيبعد أن يتصرف بعد خروج أصله من التصرف، ولكن أثبت الشرع [الوصاية] (5) نظراً للأطفال، وقياماً بالوصايا، وهي في النيابات تنزل منزلة الوصايا في التصرفات؛ فإن التصرفات حقها أن تنقطع بانقضاء العمر، ثم نفذت الوصايا بعد منقرض العمر، كذلك نفذت الوِصاية غير أنها أثبتت خارجة عن قياس وضع النيابة لمسيس الحاجة إليها، فاشترط لذلك اتصاف المنصوب بالصفات التي تطابق المصلحة، فظن أبو حنيفة أن اشتراط هذه الصفات ألحق الأوصياء بالأولياء، ثم ناقض هذا، فجوّز للإنسان أن ينصب عبدَه وصيّاً على أطفاله (6) ، ولم يجوّز أن يوصي إلى عبدٍ لأجنبي، ونحن لا نجوّز الوصاية إلى عبدٍ.
__________
(1) ر. المختصر: 3/172.
(2) (س) : الأولياء.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 4/367، 5/448.
(4) ساقطة من (س) .
(5) في الأصل: الوصية.
(6) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/72 مسألة رقم 2206، وحاشية ابن عابدين: 5/448.(11/350)
7604- والصفاتُ المرعية في الأوصياء خمسٌ: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والعدالة. ذكر الأصحاب هذه الصفات. والرشدُ لا بد منه؛ فإن من لا يستقل وإن كان عدلاً لا يصلح للقيام على الأطفال، وتنفيذِ الوصايا، وإنما اشترطنا العدالة في الوصاية ولم نشترطها في الوكالة؛ من جهة أن من يوكل وكيلاً من أهل التصرف فإنما يوكله في حق نفسه، ويُحل تصرفَه محل تصرف نفسه، فلا معترض عليه. والوصي يتصرف في حق غير الموصي، فيجب أن يُرعى فيه استجماع الصفات التي ذكرناها.
فقد قال علماؤنا: إذا وكل الرجل وكيلاً، ثم قال له موكله: وكِّل فيما فوضت إليك وكيلاً، فليس لذلك الوكيل أن يوكِّل فاسقاً؛ فإنه إنما يوكّل على غيره؛ فيجب أن يرعى المصلحة فيه؛ فلا يوكِّل إلا موثوقاً به صالحاً.
وكذلك لمالك المال أن يودعه عند فاسق، والمودَع في نفسه إذا احتاج إلى المسافرة، وجوزنا له أن يودع الوديعة التي (1) عنده، فيتعين عليه أن يودعها عند عدلٍ موثوق به.
ثم اشتراط التكليف بيِّنٌ؛ فإلب التصرف لا يصح إلا من مكلّف، واشتراط العدالة معلَّلٌ بما ذكرناه، واشتراط الحرية سببه أن العبد لا يستقل بنفسه؛ ولذلك لم يكن من أهل الولايات.
ثم مذهب الشافعي رضي الله عنه أن المكاتب لا يجوز أن يكون وصياً، كالقِنّ؛ فإنه وإن كان مستبداً بنفسه في تصرفاته وأكسابه، فلا يستقلّ استقلالاً تاماً، ولذلك يمتنع عليه كثير من التصرفات، وعند أبي حنيفة يجوز أن يكون المكاتب وصياً، وهذا أيضاً يناقض قول أصحابه (2) : [إن] (3) الوصي بمثابة الولي.
وأما اشتراط الإسلام فسببه أنا [لا نثق بكافر] (4) ، فإن أوصى مسلم إلى كافرٍ، لم
__________
(1) ساقطة من (س) .
(2) ر. الاختيار: 5/67، وحاشية ابن عابدين: 5/448.
(3) في الأصل: فإن.
(4) في الأصل: لم نثق بكافر.(11/351)
يصح، وإن أوصى كافر إلى مسلم، صحت الوصاية، وإن كان يتصرف في حقوق أطفالٍ من الكفار، وهذا يوضح أن الوصاية ليست ولاية.
ولو نصب كافرٌ كافراً وصياً، ورفعت الوصاية إلينا، فهل ننفذها؟ وهل نقضي بها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وهذا يقرب من التردّد في أنا هل نحكم بولاية الكافر على ابنته الكافرة؟ وإذا كان الظاهر [أن] (1) ولي الكافرة كافر، فالظاهر أيضاً تنفيذ وصاية الكافر إلى الكافر، وهذا إذا كانت الوصاية (2) لا تتعلق بحقوق المسلمين، مثل أن ينصب كافر كافراً في حقوق أطفاله الكفار، فأما إذا كان أوصى للمسلمين بوصايا، ونصب وصياً في تنفيذها [فيبعد] (3) تصحيح الوصاية إلى كافر [في] (4) مثل هذا.
7605- ثم قال أئمتنا العراقيون: هذه الأوصاف التي شرطناها في الوصي في أيةِ حالةٍ تراعى وتعتبر؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنها تعتبر يوم الموت، فإذا تحققت يومئذ، نفذت (5) الوصاية مع القبول، ولا يضر اختلالها قبل ذلك. وهذا أصح الوجوه، وهو الذي قطع به المراوزة؛ فإنا نعتبر في أركان الوصية حالة الموت، فكذلك في الوصاية.
والوجه الثاني - أنا نعتبر حصول هذه الشرائط في وقتين: أحدهما - وقت عقد الوصاية من الموصي، والثاني - حالة الموت، ولا يضر اختلالها بين هاتين الحالتين.
والوجه الثالث - أنه يشترط تحققها في الوقتين، ويشترط دوامها بينهما، حتى لو اختل شيء منها ما بين الوصاية والموت، بطلت الوصاية.
وهذا ضعيفٌ، لا أصل له.
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) (س) : الوصاية تتعلّق [بدون (لا) ] .
(3) في الأصل: سغة (بهذا الرسم) .
(4) ساقطة من الأصل.
(5) (س) : تقررت.(11/352)
7656- ثم إنهم لما ذكروا هذه الأوجه بنَوْا عليها حكمَ القبول، فقالوا: إن لم نعتبر الأوصافَ في حياة الموصي، فلا حكم على هذا [القول] (1) لقبول الوصي ورده في حالة الحياة، كما لا حكم لقبول الموصى له ورده في حياة الموصي.
وإن قلنا: إنا نعتبر (2) الأوصاف في حياة الموصي، فلا خلاف أنا لا نشترط قبول الوصي متصلاً بالإيصاء، فإن الوصي قد يكون [غائباً] (3) ، ولكن لو قبل الوصي المستجمع للأوصاف في حياة الموصي، فهل يثبت قبوله؟ ولو رد الوصاية هل يلزم رده؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - يلزم ردّه، ويثبت قبوله فيكونان كالرد والقبول بعد موت الموصي، والثاني - لا حكم لهما أصلاً.
وهذا هو الصحيح الذي لم يعرف المراوزة غيرَه.
ومما ذكره العراقيون في الأوصياء خلافُ الأصحاب في أن الأعمى هل يجوز أن يكون وصياً؟ (4 وهذا فيه احتمال 4) .
7607- ومما يتعلق بتمام القول في هذا الفصل تغير الوصي عن الصفات المشروطة في الوصاية بعد قبول الوصاية، واستقرارها: أما ما يُصيِّره مَوْليّاً عليه كالجنون، فلا شك أنه يُخرجه عن كونه وصياً، ثم إذا عقل، لم يعد وصياً بعد الانعزال.
فأما إذا فسق الوصي، [فالذي] (5) دلّ عليه ظاهر كلام الأصحاب أنه ينعزل، ولا ينفذ بعد فسقه تصرفهُ بالوصاية.
وقد ظهر اختلافٌ بين الأصوليين في أن الإمام الأعظم لو فسق هل ينخلع بفسقه (6 أو يخلع 6) ؟.
__________
(1) في الأصل: فلا حكم على هذا القبول الوصي، و (س) : فلا حكم على هذا القول للوصي. والمثبت تصرّف من المحقق.
(2) (س) : إنا لا نعتبر.
(3) في الأصل: غالباً.
(4) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(5) في الأصل: والذي.
(6) ما بين القوسين ساقط من (س) .(11/353)
وذكر الفقهاء قريباً (1) من هذا الخلاف في فسق القضاة والولاة الذين تلقَّوا الولاية من تولية الإمام، والقدر الذي نذكره هاهنا أن فسق الأئمة مختلفٌ فيه، ولو قلنا: الظاهر أنهم لا ينعزلون بنفس الفسق، لكان ذلك مستقيماً، والسبب فيه أن استمرار العصمة بعيد، والمصير إلى انخلاع الإمام بالفسق يخرم ثقة الخلق بالإمامة والزعامة، وليس وراء الإمام ناظر، فالوجه ألا يطلق القول [بانعزاله] (2) .
وأما القضاة فللخلاف فيهم مجال؛ من جهة أن نظر الإمام محيطٌ بهم، فإن حكمنا بانعزالهم، لم يجرّ ذلك [خللاً] (3) ؛ فإن الإمام مستقل بالاستبدال عنهم من غير إفضاء الأمر إلى انتشار الرأي.
فأما الوصي؛ فإنه ليس ولياً، والعدالة مشروطة في منصبه اشتراط العقل، وهو من العقود الجائزة، فطريان الفسق عليه كطريان الجنون.
7608- ثم الوصاية لا تثبت إلا بالقبول على الرأي الظاهر، ومن أصحابنا من أحلّها محل الوكالة، وخرّجها على الخلاف المذكور في أنا هل نشترط القبول من المستناب؟ ثم إذا قبل الوصاية، لم (4) يلزمه الوفاء بها، وله أن يعزل نفسه، كما للوكيل أن يعزل نفسه.
وخالف أبو حنيفة (5) في هذا، فأوجب على الوصي الوفاء بالوصاية إذا قبلها.
7609- ومما يتصل بهذا الفصل أن الوصي إذا خرج عن كونه وصياً، تعين على السلطان أن ينصب قيّماً، ويقيمه مقامه، حتى لا تتعطل أمور الأطفال، وتنفذ الوصايا المنوطة بالأوصياء.
هذا إذا خرج الوصي عن كونه وصياً، (6 فأما إذا لم يخرج عن كونه وصيّاً 6) ،
__________
(1) عبارة الأصل: وذكر الفقهاء قرباً قريباً من هذا الخلاف.
(2) في الأصل: ما يزاله.
(3) في الأصل: خلا، و (س) : أصلاً.
(4) (س) : قبل الوصاية من لم يلزمه الوفاء بها.
(5) ر. الاختيار: 5/66، وحاشية ابن عابدين: 5/447، 448.
(6) ما بين القوسين سقط من (س) .(11/354)
ولكن عظمت أشغاله، وكان وحده لا يستقل بها، فالسلطان يضم إليه من يعينه حتى لا يتطرق الاختلال إلى مقصود الوصاية.
ولو لم يكن على الأطفال وصي، فحقٌ على القاضي أن يقيم عليهم قيِّماً على الشرائط التي ذكرناها في الإيصاء، فإذا نصب قيماً، ولم يستقلّ ذلك القيم بجميع الأشغال، فالقاضي إن أراد، صرفه، وأقام مستقلاً بالأمر. وإن أراد أن يضمّ إليه مضموماً، فعل.
ووصيُّ المتوفَّى إذا لم ينعزل ولكنه لم يستقل، فليس للسلطان أن يعزله؛ فإنه ما تلقَّى الوصاية من جهته، وإنما للسلطان بل عليه أن يضم إليه من يدرأ الخلل؛ حتى يحصل الاستقلال بهما، فأما القيم فأمره إلى الوالي، إن أراد صَرْفَه من غير سببٍ، لم يُعترض عليه.
هذا منتهى القول في الأوصياء، وصفاتهم المرعية، وبيان ما يطرأ عليهم، وتفصيل القول في القبول والردّ.
7610- ونحن نذكر الآن ما يتعلق بالأوصياء فنقول: إن كان في الورثة أطفالٌ، أو مجانين، وكان المتوفى يليهم لو كان حيّاً، فله أن ينصب وصياً (1) عليهم؛ حتى يرعاهم. وإن كان الأطفال إخوةَ الميت، فهو لا يليهم حياً، فلا يصحّ أن ينصب عليهم وصياً، بل أمرهم مفوّض إلى السلطان، وهذا بيّن.
ولو لم يكن في الورثة مَوْليٌّ عليه، فلا معنى لنصب وصي على الورثة، ولكن إن أوصى بوصايا وفوض تنفيذها إلى الوصي، فهي إليه، ثم الوصايا قد تكون لجهاتٍ عامة، كالوصية للفقراء أو لبناء المساجد، أو لعمارة الثغور، وغيرها من وجوه الخير، فإن فوض تفصيلها إلى رأي الوصي، فلا معترض عليه ما وافق الشرع، وإن أوصى لمعيّنين، ونفذت الوصايا باتّساع الثلث وقبول الموصى لهم، فلا يكاد يظهر للوصي أثر، سيّما إذا كانت الوصية بأعيانٍ؛ فإن الذين لهم الوصية يأخذونها ولا يراجعون الأوصياء.
__________
(1) (س) : ولياً.(11/355)
وإن أوصى بإعتاق عبد معين، فإنشاء الإعتاق إلى الوصي، وإن كان لا يملك العدول عن العبد المعين، والدليل عليه أن ذلك العبد المعين لا يعتِق، ما لم يُعتق.
وأما قضاء الديون، فلا يتعلق منه أمرٌ بالوصي؛ فإن الورثة لو أرادوا قضاء الديون من أموالهم واستبقاء أعيان التركة لأنفسهم، كان لهم ذلك؛ فإن أبَوْا أن يؤدوها من أموالهم، وأرادوا -وهم أهل رشدٍ لا يولّى عليهم- أن يتعاطَوْا بيعَ التركة وصرفَ الثمن إلى الغرماء، وكان المتوفى فوّض ذلك إلى الوصي، فهذا فيه تردّدٌ؛ من جهة أن الوصي نائب عن الموصي، فلا يبعد أن يقال: إذا لم يؤدِّ الورثةُ الديون من أموالهم، فله أن يتولى البيع ويحتاط، ولا يعترض عليه.
ويجوز أن يقال: التعويل على الورثة في ذلك. فليتأمل الناظر هذا الموضع.
فأما تجهيز الميت إذا لم يجْر فيه وصيةٌ منه في تعيين ثوب، أو مالط، فهو بمثابة الديون، وقد قدّمنا فيها تفصيل المذهب، ومحلَّ الوفاق وموضعَ التردّد.
وأما ردُّ الغصوب والودائع، فليس يتعلق بالأوصياء؛ فإن مُلاك الأعيان يأخذونها. نعم، مؤنة ردّ الغصوب من التركة، وسبيل تلك المؤنة كسبيل الديون.
7611- والمرأة إذا خلفت أولاداً، ونصبت عليهم وصياً، فهذا يخرّج على الخلاف المشهور في أن المرأة في نفسها هل تلي أطفالها إذا لم يكن لهم أب [كافل] (1) ؛ فإن قلنا: إنها تليهم، فلها أن توصي إلى إنسان وتنصب وصياً عليهم، وإن قلنا: إنها لا تلي في حياتها، فلا يصح منها نصبُ الوصي على أطفالها.
__________
(1) في الأصل: كامل.(11/356)
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى إلى رجلين، فمات أحدهما، أو تغيّر ... إلى آخره" (1) .
7612- إذا نصب الرجل وصيين في أمورِ أطفاله وتنفيذ وصاياه، لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها - أن يجوِّز لكلٍّ منهما أن يستقل بالتصرف.
والثاني - أن يشترط عليهما أن يجتمعا في الأمور، ولا ينفرد واحدٌ منهما بنفسه.
الثالث - أن يطلق الإيصاء، ولا يتعرض لإثبات استقلال كل واحد منهما، ولا لنقيضه.
فأما إذا أثبت لكل واحد منهما أن يستقل، فلا إشكال، ولكن لو كان أوصى بصرف طائفةٍ من ماله إلى المساكين، مثلاً، وكل واحد منهما مستقل بنفسه، فلو أراد أحدهما أن يصرف الموصى به إلى أقوام من المساكين بعينهم، وأراد الثاني أن يصرفه إلى آخرين معينين عنده، فنقول أولاً: إن اتفق سبقُ أحدهما إلى التنفيذ، فلا [معترض] (2) لما نفذه على موجب الشرع، وقول الموصي.
وإن اجتمعا وتنازعا، فمن أصحابنا من قال: الحاكم يقرع بينهما. وهذا فيه بعدٌ؛ فإنّ استعمال القرعة من غير ثبتٍ شرعي في كل موضع لا سبيل إليه، ولم يرد في مثل هذا استعمال القرعة.
ومن أصحابنا من قال: السلطان يضع ذلك المال فيمن يراه، على وَفْق الوصية والشرع، ويتركهما يتنازعان. هذا إذا كان فوّض إلى كل واحد منهما أن يستقلّ، فأما إذا شرط [اجتماعهما] (3) ، واعتضاد كل واحد منهما [بالآخر] (4) أو أطلق الإيصاء
__________
(1) ر. المختصر: 3/173.
(2) في الأصل: يتعرض.
(3) في الأصل: اجتماعها.
(4) زيادة من (ص) .(11/357)
إليهما، [فعندنا] (1) أن إطلاق الإيصاء [يقتضي] (2) ألا ينفرد كلُّ واحد منهما، كما لو قيّد الإيصاء بالاجتماع؛ فإن غرضه من جمعهما [صدور] (3) الأمر عن رأي اثنين.
وهذا من [الأغراض] (4) الظاهرة والمقاصد البينة، ثم كل ما أوضحنا أنه لا يتعلق بالوصاية، فلا معنى لربطه باجتماعهما، وهذا كردّ الودائع والغصوب، وكتسليم الأعيان الموصى بها إلى الموصى لهم؛ فإن هذه الأشياء لا وصية بها، ولا أثر للوصاية فيها.
فأما ما يتعلق بالوصاية، فلا يستقل [واحدٌ] (5) منهما بنفسه.
هذا مذهب الشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة (6) يرى لكل واحد منهما أن يستقلّ، وهذا بناه فيما زعم أصحابه على أن الوصاية ولاية، في خبطٍ لهم طويل، لسنا له الآن.
ولو كان أوصى بعتق عبد معين، فلا بد من اجتماعهما، ولا ينفرد بإعتاق ذلك العبد المعين أحدُهما؛ فإن الشرط اقترانهما في كل تصرف، [لا بد] (7) من إنشائه وإعتاق ذلك العبد المعين بهذه المثابة.
__________
(1) في الأصل: بعيداً.
(2) مزيدة من (س) .
(3) في الأصل: يقدّر.
وعندي أنها (صَدَر) كدأب الإمام في جميع كتبه في استعمال هذا المصدر، وأن الذي أمامنا من تصرّف الناسخ.
(4) في الأصل: الاعتراض.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) الذي رأيناه في كتب الأحناف أن هذا قول أبي يوسف، وأما أبو حنيفة ومحمد، فعندهما يبطل فعل أحد الوصيين، إلا إذا أجازه صاحبه، فيجوز دون عقد جديد. (ر. حاشية ابن عابدين: 5/449، ومختصر اختلاف العلماء: 5/76 مسألة رقم 2210، والاختيار: 5/67) .
(7) في الأصل: فلا بد.(11/358)
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن اختلفا، قُسّم بينهما ما كان ينقسم ... إلى آخره" (1) .
7613- أراد رضي الله عنه بذلك أن الوصيين إذا تنازعا في حفظ المال، فإن كان يجمعهما مسكن واحد، فإنهما يشتركان في مراقبة المال وصونه بالحفظ الممكن المعتاد، وإن كانا يسكنان مسكنين، قال الشافعي رضي الله عنه: إن كان المال قابلاً للقسمة، قسم بينهما، واستقل كل واحد منهما بحفظ حصته.
وإن كان المال مما لا ينقسم، وتعذر اشتراكهما في الحفظ، فإن اتفقا على رجل موثوق به واستحفظاه، فجائز، وإن لم يتفقا وتنازعا [انتزعه] (2) الحاكم من أيديهما ووضعه على (3) يدي عدل رضاً.
[هذا] (4) ما ذكره الشافعي رضي الله عنه، وهو من مشكلات الباب وسؤالاته.
7614- فإن قيل: التفويض المطلق عند الشافعي إلى الوصيين يقتضي أن يشتركا في وجوه الاستصلاح، ولا ينفرد واحد منهما بوجه من الوجوه دون صاحبه، فإذا [اقتسما] (5) المالَ، فكل واحد منفرد بحفظ مقدار، والاشتراك في الحفظ [يزيد] (6) في الاحتياط، فليس المحفوظ في كلاءتين والملحوظ بعينين (7) ، كالمحفوظ بعينِ واحدٍ، كما أن التصرفات الصادرة [عن] (8) رأيين مختصة [بمزيد] (9) احتياط، فإذا
__________
(1) ر. المختصر: 3/173.
(2) في الأصل: انزعه.
(3) (س) : في يد عدلٍ هذا ما ذكره ...
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: انتها المال.
(6) في الأصل: من يد.
(7) ساقطة من (س) .
(8) في الأصل: في.
(9) في الأصل: بمؤيد.(11/359)
اشترطنا صدور التصرفات عن نظرهما، فلمَ نجوز اختصاص كل واحد منهما بحفظ مقدار من المال لا يشاركه فيه صاحبه؟
قلنا: معظم هذه الأحكام المتلقاة من الألفاظ راجعٌ إلى حكم العرف، فإذا فوض الرجل تصرفاً إلى اثنين، اقتضى ذلك أن يشتركا فيه. هذا [موجب] (1) اللفظ ومعناه، في فهم أهل العرف، وهو لائق أيضاً بالمقاصد، فرأى الشافعي رضي الله عنه أن نسبة تفويض التصرف بالوصاية إلى اثنين بمثابة توكيل رجلين ببيع أو غيره من التصرفات، فأما الاشتراك في الحفظ، فمّما يعسر تكليفه، ولا يُفهم من تفويض الوصاية إلى رجلين أن يتخذا مسكناً واحداً، ويشتركا في حفظه، فاقترن موجب العرف باللفظ، واحتكم عليه. وأما إصدار التصرفات عن نظرين، فمعتاد.
هذا ما يتوجه به النص، وما ذهب إليه جمهور الأصحاب.
7615- وذهب صاحب التقريب إلى طريقة [خالف] (2) بها الأصحاب، وذلك أنه قال: إن فوض الوصاية إليهما على أن يستقل كل واحد منهما، فلا شك أنه لا يمتنع على هذا المقتضى استقلالُ كل واحد بحفظ مقدار من المال.
وإن كانت [إضافة] (3) الوصاية إليهما تقتضي أن يشتركا في التصرفات ولا ينفرد بها واحد، فإن اقتسما المال بينهما على ما ذكرناه لينفرد كلُّ واحد منهما بحفظ مقدار، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك [لا يسوغ] (4) ؛ فإن الاشتراك فيه ممكن، وموجب التفويض الاشتراك، كما ذكرناه في التصرفات.
وهذا قياسٌ بيّنٌ.
والوجه الثاني - أن ذلك سائغ وتوجيهه ما ذكرناه.
ثم فرع على الوجهين، وقال: إن فرعنا على ظاهر النص (5) ، فإذا تنازعا، قسم
__________
(1) في الأصل: موجبه.
(2) في الأصل: خالد.
(3) في الأصل: إجابة.
(4) في الأصل: لا يشرع.
(5) (س) : ظاهر المذهب.(11/360)
المال بينهما إن كان مما ينقسم، وإن فرّعنا على الوجه الثاني، قيل لهما: إما أن تشتركا في الحفظ وفاءً بموجب التفويض المطلق المقتضي للاشتراك، وإما أن تمتنعا [من] (1) ذلك، فيرى القاضي في حفظ المال رأيه.
ثم إن أخرج الإمام أو القاضي المال من أيديهما عند امتناعهما من الاشتراك في الحفظ، فهل للقاضي أن يستحفظ فيه رجلاً واحداً، أم يستحفظ فيه رجلين؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لو أراد أن يستحفظ رجلاً واحداً، جاز؛ فإن اشتراكهما كان متلقّىً على الوجه الذي عليه التفريع من لفظه الموجِب لذلك، وكان لفظه مختصاً بهما.
فإذا امتنعا، انقطعت [قضية] (2) الوصاية، وصار كأنه لم يوصِ أصلاً، ولو خلّف رجلٌ ذريةً، ولم يوصِ، فالقاضي بحكم نظره ينصب عليهم قيماً، كذلك في هذه المسألة.
والوجه الثاني - أنه يستحفظ رجلين؛ فإن الوفاء بذلك ممكن، وهو من مقاصد الموصي. وهذا ضعيفٌ لا شيء.
قال صاحب التقريب: هذا إذا كان المال مما ينقسم، فإن كان مما لا ينقسم، ففي المسألة وجهان (4 على موجب [النظر] (3) فإن قلنا في المال المنقسم: إنه لا يقسم بينهما، بل ينتزعه القاضي منهما، فهذا متحقق في المال الذي لا ينقسم، ثم التفريع فيه ما تقدم، وإن قلنا: يقسم القاضي المال بينهما، فإن كان مما لا ينقسم قال: في المسألة وجهان 4) أحدهما - أنه ينتزعه منهما؛ إذ لا سبيل إلى القسمة، وقد امتنعا من الاشتراك في الحفظ.
والوجه الثاني - أن [الوالي] (5) يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته سلّم إليه المال.
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: نصبه.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ما بين القوسين سقط من (س) .
(5) في الأصل: الولي.(11/361)
هذا تفصيل القول في حفظهما وتنازعهما فيه.
7616- ومما يجب الإحاطة به [أنا] (1) أطلقنا وجوب الاشتراك في التصرفات، وليس المعنى به أن يتلفظا بإيجاب البيع وقبول الشراء، ولكن الغرض أن يجري كل تصرف صادر عن نظرهما ورأيهما، فإذا حضرا العقد ونظرا، ثم قال أحدهما لصاحبه: اشتر هذا بكذا أو بعه، ووافق العقدُ رأيهما، فذلك جائز وفاقاً، وكذلك إذا وكلا من يبيع ويشتري بحضرتهما، فهو جائز لصدور العقد عن رأيهما.
ولو وكلا من يشتري على ما يرى أو يبيع كذلك من غير أن يراجعهما، لم يجز ذلك.
فإن قيل: إذا [ارتضيا] (2) ذلك، فقد جرى التوكيل عن رأيهما؟ قلنا: هذا رأيٌ يتضمنه إثبات الاستقلال لشخص، وهو مخالف لرأي الموصي وموجب لفظه المقتضي للاشتراك، كما تقدم ذكره.
فإن قيل: قد تكلفتم تعليل انفراد أحد الوصيين بحفظ مقدار بالعرف، [فهلا] (3) قلتم: إذا ارتضى أحدهما بحفظ الثاني وأمانته وفوّض إليه الحفظ [جاز] (4) ، كما لو فوض إليه إنشاء عقد؟ قلنا: إنه يرى أولاً رأيه في العقد، ثم [يفوّضه] (5) بمرأى منه، أو على غيبةٍ قريبة لا يختلف [في] (6) مثلها وجوه الرأي، فأما الحفظ، فالمنفرد مستقل به ولَحْظُ صاحبه منقطع عنه، وهو بمثابة ما لو فوض أحدهما إلى الثاني النظرَ في التصرفات، وجوز له أن ينفرد بها من غير مراجعة صاحبه في تفاصيل العقود، ولو [فعل] (7) ذلك لم يجز. فهذا منتهى الغرض.
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل. هكذا (استقر ـا) وفي (س) هكذا: (استوصا) .
(انظر صورتها في الجزء الأخير (قائمة الألفاظ التي تعذر قراءتها) .
(3) في الأصل: وهلاّ.
(4) مزيدة من (س) .
(5) في الأصل: ثم يعرضه. و (س) : نُفْرضه (بهذا الضبط) والمثبت تصرف من المحقق.
(6) في الأصل: من.
(7) في الأصل: ولو نفل ذلك.(11/362)
فصل
قال: "وليس للوصيّ أن يوصي ... إلى آخره" (1) .
7617- إذا نصب وصيّاً، ولم يجعل إليه أن يوصي بتلك الوصاية إلى وصيٍّ عند موته، فليس له أن ينصب وصياً؛ فإن الوصاية [تقتضي] (2) تفويضَ التصرف المذكور إلى الوصي، فأما إقامته غيرَه مقام نفسه عند انقطاع تصرفه، فليس من مقتضيات الوصاية، ولا مما يقتضيه العرف، حتى يُعتقَد تقيّد اللفظ به.
نعم، إذا وكّل الوصي المطلقُ في حياته وكيلاً صالحاً موثوقاً به، فهو جائز؛ [فإنّ] (3) العرف يقتضي اقتضاءً ظاهراً [تجويز] (4) ذلك، وهذا كما أن العامل في القراض يوكّل ويستنيب في تفاصيل تصرفاته، ولا ينصب مقارضاً.
فأما إذا قال: أوصيت إليك بكذا فقُمْ فيه، وأوْصِ إذا حضرتك الوفاة بهذه الوصاية إلى وصيّك، ففعل ممتثلاً لإذنه، ففي جواز ذلك قولان: أحدهما - أنه يجوز، لأن الموصي الأول أذن في ذلك، ورضي به.
والقول الثاني - لا يجوز؛ لأن الوصاية [المتعلّقة] (5) بموته المتصلة به جائزة شرعاً جوازاً خارجاً عن القياس، كما سبق التنبيه عليه (6 في صدر الباب 6) .
فأما إثبات أوصياء متعاقبين يخلف البعض منهم البعض، فلا توقيف [فيه] (7) والأصل مفتقر إلى التوقيف.
__________
(1) ر. المختصر: 3/174.
(2) مزيدة من (س) .
(3) في الأصل: قال.
(4) في الأصل: يجري.
(5) في الأصل: ألا تعلقه.
(6) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(7) في الأصل: منه. وساقطة من (س) .(11/363)
ولو قال للأول: أنت وصيي في كذا وكذا، فإذا متَّ وأوصيتَ إلى رجل، فهو وصيي فيما أنت وصيي فيه، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بأن من يعيّنه الوصي الأول إذا حضرته الوفاة [يصير] (1) وصياً (2 للموصي الأول؛ فإنه هو الذي نصبه وصياً 2) نصباً [معلقاً] (3) ، والتعليق غير ممتنع في نصب الأوصياء؛ إذ لو قال: أنت وصيي إلى أن يبلغ هذا الصبي رشيداً، ثم هو وصيي، أو قال: أنت وصيي، فإذا [قدم] (4) فلان، فهو وصيي، فهذا جائز (5) .
ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الصورة التي ذكرناها، وفرق بأنه إذا عيّن شخصاً وعلّق الوصية إليه بمقدمه، فهو جائز قولاً واحداً؛ لأنه عالم به، وإذا قال: من أوصيتَ إليه، فهو وصيِّ، فهذه جهالة تقطع نظر الموصي عن الوصي الثاني، ولا يصح نصب الوصي كيف كان، بل لا بد من رعاية صفات فيمن ينصب وصياً، فإذا كانت رعايتها إلى الوصي الأول، فهو المتخير (6) إذاً، والصور (7) التي ذكرناها في تعليق الوصاية مفروضة في معيّنين (8) .
والصحيح قطعُ القول بانتصاب الوصي الثاني وصيّاً بنصب الوصي الأول، ولا حاصل في الجهالة التي ذكرناها، حتى ذهب ذاهبون من الأصحاب إلى تغليط المزني في نقل القولين في الصورة التي قطعنا القول فيها. وقد ذكر قولين في هذه الصورة.
__________
(1) في الأصل: يوصي.
(2) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(3) في الأصل: متعلقاً.
(4) في الأصل: تقدم.
(5) هذا هو المذهب. قاله النووي (ر. الروضة: 6/314) .
(6) (س) : متخير.
(7) (س) : والوصية.
(8) قال النووي في قوله: "لو متَّ، فوصيك وصيِّي": باطلة على الأظهر، وقيل: قطعاً.
وقيل صحيحة قطعاً (ر. الروضة: 6/314) وقال العز بن عبد السلام في الغاية في اختصار النهاية: جاز على الأصح. (ر. ورقة 22 من الجزء الثالث) .(11/364)
فرع:
7618- إذا نصب وصيين، وجعل إليهما التصرف جمعاً، فقد ذكرنا أنه لا ينفرد أحدهما بالتصرف، فلو فسق أحدهما، أو مات، فيقيم القاضي مقامه آخر، فلو أدى اجتهاد القاضي إلى تفويض الأمر إلى [الثاني] (1) ، ورآه مستقلاً كافياً ليكون منصوباً من جهته، ووصياً من جهة الميت، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يجوز؛ فإن الميت لم يرض إلا بشخصين، فلا بد من ارتسام رسمه.
والثاني - يجوز؛ فإن رسمه [إنما يمتثل] (2) ما بقي الوصيان، فإذا خرج أحدهما عن الوصاية [تعذَّر] (3) اتباع [أمره وفات] (4) رعاية اجتماعهما، ثم القاضي يرى رأيه.
قالوا: كذلك إذا ماتا جميعاً، أو فسقا، فهل يتعين على القاضي نصبُ شخصين أم يجوز أن ينصب شخصاً واحداً؟ فعلى. وجهين، وذكر الخلاف في هذه الصورة بعيد؛ فإنه إذا بقي أحدهما، فهو متعلّق الوصاية، فلا يبعد اشتراط ضمِّ شخص آخر إليه؛ فإذا خرجا جميعاً بالفسق عن الوصاية، أو ماتا، فقد زالت الوصاية بالكلية، فصار كما لو لم يوصِ أصلاً.
فصل
7619- إذا نصب وصيّاً (5) ، وعيّن له شغلاً، لم يكن له أن يتصرف في غير ذلك الشغل المعيّن، خلافاً لأبي حنيفة (6) . وسرّ (7) المذهب على ما بنينا الباب عليه، من أن الوصاية نيابة مترتبةٌ على الاستنابة، فلا تعدو محلّ الإذن كالوكالة.
__________
(1) في الأصل: "الباقي".
(2) في الأصل: ألا يمثل.
(3) في الأصل: ـعله.
(4) في الأصل: أمر وفا رعاية.
(5) (س) : ولياً.
(6) ر. حاشية ابن عابدين: 5/461.
(7) (س) : وبناء المذهب.(11/365)
فرع:
7620- الجد أب الأب أوْلى عند عدم الأب، فلو أوصى [الأب] (1) في أمور أطفاله إلى أجنبي، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن الوصي هل يتصرف بالوصاية؟ منهم من قال: الوصاية باطلة مع الجد أب الأب، إذا كان مستجمعاً لشرائط الولاة؛ فإن الوصاية إنما أثبتت لعدم الولي الخاص، وولاية الجد أقوى، وهو بالتصرف والنظر أولى من الوصي الأجنبي.
ومن أصحابنا من قال: الوصي أولى؛ لأنه بمثابة الأب بعد وفاته، فكان مقدّماً على الجد، كما يتقدم وكيل الأب على الجد في حياة الأب، وهذا التردد في ولاية الأطفال.
فأما إذا وصى إلى أجنبي صرف صدقةٍ أو غيرِها من جهات التبرعات، فهو أولى من الجد، لا خلاف فيه.
7621- ثم عقد المزني باباً في تصرف الوصي في مال اليتيم وقد أتينا به على أحسن مساق في كتاب البيع، وذكر فصولاً من الفروع: أولها - أن الوصي لا يملك التزويج بالوصاية، وهذا وما يتصل به سيأتي في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
7622- وقد نجزت المنصوصات من كتاب الوصايا، ونحن نرسم مسائل انسلّت عن ضبط الأبواب، ونأتي بها على غير نظام ترتيب، وبنجازها [نجازُ] الوصايا، إن شاء الله عز وجل. منها: إن المريض في مرضه المخوف لو قدّم بعضَ الغرماء بتمام حقه، وكانت التركة تضيق عن جملة الديون، ولو قسمت، لنقص حق كل واحد منهم، فإذا توفي والمسألة كما صورناها، فهل نسترد من الذي قدمه المقدار الذي يزيد على حصته عند المضاربة؟ فعلى وجهين حكاهما صاحب التقريب عن ابن سُريج: أحدهما - لا نسترد شيئاً، ونُمضي ما فعله؛ فإن ما صدر منه لا يسمّى تبرعاً أصلاً.
والوجه الثاني - أنا نسترد؛ فإن ما يفعل في المرض بمثابة ما يوصي به، ولو أوصى بتقديم بعض الغرماء، لم نقدمه.
__________
(1) في الأصل: الآن.(11/366)
7623- ومنها أنه لو ضمن عن وارثه في مرضه لأجنبي، قال الأصحاب: لا يصح ذلك؛ فإنها وصية لوارث، أو نازلة منزلة الوصية؛ إذْ لو أدى لأدى عن وارثه. ولو ضمن في مرض موته ديناً عن أجنبي لوارثه، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يصح، كالصورة الأولى لتعلّق الضمان بوارثه.
والوجه الثاني - أنه يصح؛ فإنه لم يزد الوارث على حقه المستحق شيئاً، وهذا فيما إذا ضمن ضماناً يثبت له الرجوع على [المضمون عنه] (1) وليس يتضح بين المسألتين (2) في الضمان -الأولى وهذه- فرقٌ سديد.
7624- ومنها لو قال لإنسان: ضع ثلثي فيمن شئت وأين شئت. فلو أراد الوصي أن يضعه في نفسه، فيكون مستحقه، قال صاحب التقريب: ليس له ذلك. وفيه احتمال عندنا على بُعد.
قال: ولا يضعه أيضاً في وارث [الموصي] (3) ؛ فإنه وإن لم يقصد وارثه، فإذا رددنا الوصية للوارث، فلا ينبغي (4) أن يصل شيء من الوصية إلى الوارث، سواء قصد بها أو أطلقنا الوصية ولم نقصد بها، فلا يدفع إليه شيء في الحالتين.
ثم قال: فلو دفع قسطاً مثلاً من الثلث في هذه المسألة إلى الوارث على سبيل الوصية، فما الحكم فيما دفعه إليه؟ فذكر (5) فيه وجهين: أحدهما - أنه يُسترد، ويردّ إلى الوصي ليضعه حيث شاء.
__________
(1) في الأصل: على يسر.
(2) عبارة (س) أكثر وضوحاً هنا: "وليس يتضح في الضمان فرقٌ سديد بين المسألتين: الأولى وهذه".
(3) في الأصل: الوصي.
(4) عبارة (س) : فلا ينبغي أن يصل من الوصية للوارث، سواء قصد بالوصية أو أطلقت الوصية ولم يقصد بها، فلا ندفع إليه شيء في الحالتين. والعبارة -على القراءتين- فيها شيء.
(5) (س) : قد ذكر. والذي "ذكر وقال" هو صاحب التقريب.(11/367)
والثاني - أنه ينقلب ذلك القدر ميراثاً، فإنه وضعه حيث شاء، فانتهى تصرفه في ذلك القدر، ولكن لما بطل رُدَّ ميراثاً. وهذا ليس بشيء.
7625- منها لو قال المريض وقد نصب وصياً: "قد أوصيت بثلثي لرجل [سميته] (1) لوصي هذا، فإذا مت، [وجاء] (2) فذكره وسماه، فصدقوه فيما يقول، وسلموه إلى من يسميه، فإنه صادق". فإذا سمى ذلك الوصي رجلاً، وكذبه الوارث فله تكذيبه؛ فإنه يجوز أن [يكذب] (3) وقد كلف ورثته بتصديقه فيما يجوز كذبه فيه.
نعم لو شهد الوصي لذلك الرجل وحلف مع شاهده، ثبت المقصود.
7626- ومنها أنه إذا كان للمريض دين على وارثه، وقد ضمن عن الوارث أجنبي، فأقر في مرض موته أنه استوفى الدين من الوارث، فقد اختلف قول الشافعي في أن الإقرار للوارث هل يقبل. فإن قلنا: لا يقبل إقراره للوارث، فيبقى الدين على الوارث، ولا يبرأ عنه بإقرار المريض. فأما الأجنبي، فهل يبرأ عن الضمان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يبرأ عن الضمان؛ فإن الإقرار وإن رُدّ في حق الوارث، وجب قبوله فيما يتعلق بحق الأجنبي.
والثاني - أنه لا يبرأ؛ فإن أصل إقراره مردُودٌ في حق الوارث وبراءة الكفيل تبعٌ لبراءة الأصيل في مثل هذه الصورة.
وبمثله لو كان له دين على أجنبي، والوارث ضامنٌ به، فأقر [بأني قبضتُ] (4) ذلك من الأصيل يقبل إقراره في حق الأصيل، وهل يبرأ الضامن الوارث؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يبرأ؛ لأن الإقرار في حق الوارث مردود.
والثاني - يبرأ؛ فإن الإقرار إذا قبل في الأصل، [فبراءة] (5) الوارث تقع تبعاً. ثم
__________
(1) في الأصل: سميت.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: يكون.
(4) في الأصل: ثاني بنصيب.
(5) في الأصل: ببراءة، (س) : وبراءة. والمثبت من المحقق.(11/368)
ذكر صاحب التقريب مسلكاً ثالثاً فقال: إن رددنا الإقرار في حق الوارث، لم يبعد أن نردّه في حق الأجنبي؛ من جهة أن الإقرار لا يتبغض في هذا المقام، فإذا وجب ردّه، فالوجه تعميم ذلك؛ إذ يستحيل مطالبة الضامن مع الحكم ببراءة الأصيل.
7627- ومنها مسألة فرّعها صاحب التقريب على قولنا: إن الوصية للقاتل باطلة، فقال: لو أوصى لزيد بألف ولعمرو بألفٍ، وخلّف ابنين، فأقام أحدهما بيّنة أن زيداً قتله، وأقام الثاني بينةً أن عمراً [قتله] (1) فقد ذكر أقوالاً متشعّبة من [أصول] (2) مشهورة في الدعاوى: أحدهما - أن البيّنتين تتهاتران (3) وتسقطان جميعاً مقرراً وصيتهما.
والقول الثاني - أن كل واحد من الابنين يستحق نصفَ الدية على الذي ادعى أنه قتل أباه، ويبرأ عن حصته من الوصية، ويكون نصف وصيته على الابن الذي لم يدّع أنه قتله.
والقول الثالث - أنه يجعل كما لو قتلاه اشتراكاً، فتسقط الوصيتان، ويشتركان في الدية. وهذا قول بعيد، لا أصل له.
7628- ومنها أنه لو وقف ذمِّيٌّ على كنيسة شيئاً، فرفع إلينا، فلا ننفذ [وقفه] (4) ، ومثله لو كان نفذه قاضيهم، ثم رفعوه إلينا، قال: فيجوز ألا ننقضه، ونجعل إبرام قاضيهم بمثابة ما لو اشترى واحد منهم خمراً وقبضه؛ فإنا لا ننقض [عهدهم] (5) .
والصحيح أنه لا أثر للقضاء في ذلك، بل لا وقع لأحكام قاضيهم.
7629- ومنها أنه لو قال لأمته: إذا مت فأنت حرة، على ألا تتزوجي، فإذا مات، فإن قبلت ذلك، عَتَقَت. قال (6) : ولا بد من قبولها، وإن كان لا يلزمها
__________
(1) في الأصل: فله.
(2) في الأصل: أمور.
(3) تتهاتران: تهاتراً: ادعى كل واحد على الآخر باطلاً، والتهاتر: الشهادات التي يكذب بعضها بعضاً. (المعجم) فالبينتان تتهاتران، أي تكذب كل واحدة منهما الأخرى وتسقطها.
(4) في الأصل: رفعه.
(5) في الأصل: عندهم.
(6) قال: القائل صاحب التقريب، كما صرح بذلك العز بن عبد السلام في مختصره.(11/369)
الامتناع من التزوج، ولكن قال: لا بد من القبول لتعتِق، كما لو أعتق الرجل أمته على خمرٍ؛ فإنها لا تعتِق ما لم تقبل، وسيأتي أصل ذلك في النكاح، والخلع -إن شاء الله عز وجل- ثم ينبغي أن يقع قبولها بعد الموت، هكذا قال.
ثم قال: ولو قال لأمته المسلمة: إذا مت، فأنت حرة إن بقيتِ على الإسلام، فلا تَعتِق بالموت ما لم تقبل.
ثم قال: إذا قبلتْ عَتَقت، ويلزمها قيمتُها، كذلك القيمة تلزم إذا التزمت أن لا تتزوج.
وهذا الذي ذكره صاحب التقريب في الإسلام [بعيد] (1) ؛ فإن الإصرار على الإسلام ليس مما يتخيل مقابلته بمال، بخلاف الامتناع عن التزوج؛ فإنها في امتناعها معطِّلة على نفسها حقَّها من [الاستمتاع] (2) ، فالوجه أن نجعل التعليق بالإصرار على الإسلام تعليقاً محضاً.
ثم في النفس شيء من الحكم بعتقها في الحال، فإن عنى بقوله: إن [بقيت مسلمة] (3) بقاءها على الإسلام إلى وقت موته، فلا إشكال، وإن عَنَى بقاءها على الإسلام إلى موتها، فالحكم بالعتق ولم يتحقق ما يكون منها فيه نظر، إذا أخرجنا التزام (4) ذلك على قياس المعاوضات، ولا يتبين حقيقة [الأمر] (5) ما لم تمت على الإسلام في ظاهر الأمر، ثم يستند (6) الحكم.
ولفظ صاحب التقريب في المسألة أنه قال: إذا متُّ، فانت حرة [إن] (7) بقيتِ على الإسلام، وهذا تعليقٌ في صيغته.
__________
(1) في الأصل: بعد.
(2) في الأصل: المستمتع.
(3) في الأصل: يثبت مسلماً.
(4) (س) : إلزام.
(5) في الأصل: الأمن.
(6) أي يثبت الحكم بالاستناد إلى التعليق السابق.
(7) في الأصل: فإن.(11/370)
ولا يبعد أن يقال: لو قال لها: إذا مت، فأنت حرة إن لم تتزوجي، فذكر امتناعها على صيغة التعليق لا على صيغة الإلزام المقتضي للقبول، فلا نحكم بحصول العتق في الحال ما لم ينقضِ عمرها.
ثم يعترض في هذا إشكال، وهي أنها إن تزوجت، فقد خالفت، وإن استقلت (1) ، فهذا فاسد، والفاسد لا حكم له، وإن زوجها الوارث، فإذ ذاك نتبين أنها ما عتقت، وسيأتي دقائق العتق والتدبير والتعليقات إن شاء الله عز وجل.
فرع (2) :
7630- لو أوصى بجاريةٍ لإنسان ومات الموصي، فعلقت بعد الموت بمولودٍ، وانفصل قبل القبول، قالوا: الولد (3) إما أن يكون للورثة على قولٍ، أو للموصى له، ولا يكون محسوباً من التركة، حتى يُقضى منه الدين، وطرد العراقيون هذا في جميع زوائد التركة إذا فرضت [قبل] (4) اتفاق صرف التركة إلى الديون. هذا ما ذكره العراقيون، ثم قالوا: من ذهب مذهب الإصطخري فقال: إذا كان في التركة دين، فلا يملك الورثةُ التركةَ، فعلى هذا ما حصل من زيادة فيكون حكمها حكم التركة.
7631- ومما ذكره العراقيون أنه إذا أوصى بعبدٍ قيمته مائة وخلف مائتي درهم، وكانتا غائبتين، وتعذر الوصول إليهما في الحال، فلا يسلم جملة العبد إلى الموصى له في الحال؛ فإنا لا ندري تَسْلمُ الدراهم للورثة أم لا تسلم؟ ولكن نصرف ثلث العبد إلى جهة الوصية، ونرقب العاقبة.
ثم قال العراقيون إذا صرفنا ثلث العبد إلى الوصية، فلا نقول: إن تصرف الورثة ينفذ في بقية العبد، فإنا نقدّر وصولَ المال إليهم، ولو وصلت الدراهم يسلم تمامُ العبد.
__________
(1) "استقلّت" أي بعقد النكاح.
(2) في (س) : فصل.
(3) في الأصل: الولد له إما أن يكون ...
(4) في الأصل: مثل.(11/371)
ثم إذا منعناهم من التصرف في ثلثي العبد، فهل ينفذ تصرفات الموصى له في الثلث الذي صرفناه إليه في الحال؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينفذ تصرفه فيه؛ فإنه يسلم له ثلث العبد على كل حال، فلا شيء يتوقع مما ينقص هذا الثلث، وليس كذلك الورثة؛ فإنا [إنما] (1) منعناهم عن ثلثي العبد، حتى تصل إليهم التركة.
والوجه الثاني - أنه لا ينفذ تصرف الموصى له في الثلث رعاية للتسوية بين الورثة وبين الموصى له؛ إذ يبعد أن لا يسلم للورثة شيء ولا ينفذ تصرفهم، وينفذ تصرف الموصى له.
وناصر الوجه الأول يقول: إذا كان لا يطمع الورثة في ثبوت حق لهم في الثلث، فلا معنى للحجر على الموصى له فيه، وهو يتعين لاستحقاقه لا محالة، ثم إن لم يتصرف الورثة، فسببه بيّن، وعلته ظاهرة، والضرورة في أطراف المسائل تؤدي إلى أمثال هذا.
7632- وهذا الفصل لا يشفي ما لم نفصل القول في الغيبة: فإن كان المال الغائب بحيث يعسر الوصول إليه لخوفٍ، أو لسبب من أسباب الحيلولة، فيظهر فرض المسألة التي ذكرناها هاهنا، ولا يجوز بيع مثل هذا المال؛ فإنه غير مقدور عليه، إلا أن يفرض بيعُه ممن يقدر عليه.
فأما إذا كان المال غائباً والطرق آمنة، وكان الوصول إليه في العرف يُعدّ [متيسراً] (2) ، وقد جرت الوصية بالعبد الحاضر، فقد رأيت في كلام الأئمة تردّداً في أن هذه الغيبة هل تعد حيلولة مع إمكان التصرف في المال أم لا؟ وبنَوْا على هذا التردّد اختلافاً في أنه هل يجب إخراج الزكاة عنه، مع وجوبها فيه، وهذا القدر لا يُلحق المال بالمجحود والمغصوب حتى يَخْرجَ في أصل وجوب الزكاة قولان، ولكن إذا وجبت هل يجب تنجيز الإخراج؟ فيه الخلاف الذي أشرنا إليه، فإن أوجبنا
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل: تيسيراً.(11/372)
إخراج الزكاة في الحال، [فلا أثر لهذه الغيبة، وإن لم نوجب إخراج الزكاة في الحال] (1) فيجوز أن نقول: لا يسلم إلى الوصية إلا ثلث العبد، ولكن يجب القطع بنفوذ تصرف الموصى له؛ لأن تصرفات الورثة نافذة في المال الغائب.
هذا تمام ما أردناه.
فصل
7633- إذا أوصى أن يحج عنه فلان بمائة، ففي المسألة أحوال: أحدها - أن يكون الحج فرضاً، وكانت المائة أجرَ المثل، فلا شك أنها من رأس المال، فإن حج [ذلك] (2) المسمى، فذاك، وإن لم يحج، أحججنا عنه غيرَه.
فإن وجدنا من يحج بأقلّ من مائة، أحججنا عنه ذلك الإنسان. فلو قال ذلك [المعين] (3) : قدِّروا هذا وصيةً لي، فأحجوني بالمائة، وإن قدرتم المائة تبرعاً [فالثلث] (4) وافٍ. قلنا: ما ذهب إليه معظم الأصحاب أنا لا نجيبه إلى ذلك؛ فإنه ليس متبرَّعاً عليه، والوصية إنما تنفذ بالتبرع، وهو بمثابة ما لو قال: لا تبيعوا تركتي في صرفها إلى ديوني إلا من فلان، فهذه الوصية باطلةٌ لا معنى لها.
ولو كانت المائة أكثر من أجر المثل، فالزيادة على أجر المثل وصية، فإن لم يكن المعيّن وارثاً ووفى الثلث، وجب إحجاج ذلك المعيّن، فإن لم يحج ذلك المعيّن، أحججنا آخر بأجر المثل، أو أقل إن وجدنا من يسامح.
ولو كان الحج تطوعاً، وجوزنا النيابة [فيه] (5) ، فالأجرة بكمالها من الثلث، وإن لم يحج الشخص الذي عينه الموصي، فهل نستأجر غيره (6 ليحج؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نستأجر غيره فتبطل الوصية 6) كما لو قال: اشتروا عبد فلان فأعتقوه، فلم
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(2) في الأصل: بذلك.
(3) في الأصل: المبين.
(4) في الأصل: والثلث.
(5) في الأصل: منه.
(6) ما بين القوسين سقط من (س) .(11/373)
يبع فلان العبد؛ فإنا لا نشتري عبداً آخر.
والوجه الثاني - أنا نستأجر [غيره] (1) ؛ فإن المقصود الظاهر الحج، فلا نعطل المقصود الظاهر [بتعذّر] (2) تحصيله من جهة شخص معين، وليس كما لو عين العبدَ؛ فإن مقصودَه الظاهر تحصيل العتق لذلك العبد.
ولو عين لحج التطوع وارثاً، وسمى له أكثر من أجر المثل، فالزيادة وصية، والوصية للوارث باطلة، فإن حج الوارث عنه بأجر المثل، فذاك، وإن أبى، أحججنا عنه غيرَه بأجر المثل.
ولو قال: أحجوا عني رجلاً بألف درهم، وكان الألف زائداً على أجر مثل كل من يحج، ولم يعيّن أحداً، فمن أصحابنا من قال: هذه الزيادة باطلة؛ فإنه لم يعيّن لاستحقاقها رجلاً، وليس صرف هذه الزيادة من [جهات الخير] (3) ، فلا معنى له، فنُحِج عنه بأجر المثل.
ومن أصحابنا من قال: الوصية صحيحةٌ، ويجب تنفيذها، والتعيين إلى الوصي.
وهذا تمام مسائل الوصايا.
***
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: يمنعه وتحصيله.
(3) في الأصل: من جهة الجنس.(11/374)
كتاب الوديعة
7634- قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [النساء: 58] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علامة المنافق ثلاث: إذا قال كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (1) وقاعدة الوديعة متفق عليها، وتردد [فقهاؤنا في] (2) تسميته عقداً.
وهذا الاختلاف سببه أن القبول ليس شرطاً من المودعَ وفاقاً، [وإنما] (3) اختلف الأصحاب في التوكيل بالعقود وما في معناها، والأصح أنه لا يشترط القبول في الوكالة على أي وجهٍ فرضت، وقد سبق تفصيل هذا في كتاب الوكالة، وليس [للاختلاف] (4) في أن الإيداع عقدٌ فائدة فقهية.
ثم الأمانة تثبت تبعاً لمقاصد في عقود، وتثبت مقصودةً في الإيداع، (5 فأما حصولها تبعاً 5) ، فمثل ثبوت حكم الأمانة في الرهن، والإجارة، والقراض، ورقاب الأشجار في المساقاة، وكل ما يقبض مستحق المنفعة سبيلها ما ذكرناه.
ومعنى قول الفقهاء: "الائتمان مقصود في الإيداع" أن نفس الإيداع حكمٌ من المودِع بائتمان المودَع؛ فإنه أحله محل من يؤتمن، فكان مؤاخذاً بوضع الإيداع ومقتضى الائتمان، وإلا فمقصود الإيداع حفظ الوديعة، ولا حظ للمودَع من الوديعة أصلاً.
__________
(1) حديث: "علامة المنافق" متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ... إلخ". (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/12 ح 38) .
(2) في الأصل: فقهاً وتأخر عقداً.
(3) في الأصل: فإنما.
(4) في النسختين: الاختلاف.
(5) ما بين القوسين ساقط من (س) .(11/375)
ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا أودع رجل وديعة، فلم يثق بأحدٍ يجعلها عنده، فسافر بها بحراً وبراً، ضمن ... إلى آخره" (1) .
7635- مضمون هذا الفصل أن المودع إذا طرأت عليه حالة حملته على المسافرة، أو أراد أن يسافر مختاراً من غير إرهاق واضطرار، فماذا يصنع بالوديعة؟ أيسافر بها أو يودعها؟ قال الأئمة: إذا أراد المودع المسافرة، وكان صاحب الوديعة حاضراً، فيتعين عليه ردُّها كما سنصف معنى رد الوديعة، إن شاء الله، وإن لم يكن حاضراً، وكان وكيله بقبض الودائع والحقوق حاضراً، فانه يسلمه إليه، ولا طريق غيره. [ولو لم] (2) يجد مالكَ الوديعة، ولا وكيلاً من جهته، فإن كان في الموضع حاكم، راجعه وسلّم الوديعة إليه، ثم الحاكم إن قبضها بنفسه، فذاك، وإلا أقام في حفظها موثوقاً به، فينزل ذلك القائم منزلةَ الحاكم.
ولو أراد أن يسافر بالوديعة أو يودعها عند إنسان مع القدرة على مراجعة الحاكم، لم يكن له ذلك، ولو فعل، ضمن.
فأما إذا خلا المكان عن حاكم يراجَع، ولم يكن في الموضع صاحب الوديعة ولا وكيله، فلو أراد المودع أن يودع الوديعة عند أمينٍ، فظاهر النص هاهنا أن له ذلك.
وقال (3) الشافعي في كتاب الرهون: العدل الذي عدّل الرهن عنده، [لو] (4) أراد سفراً، فأودع ما عنده عند أمين، ضمن. وإنما قال ذلك في شغور المكان عن الحاكم، فلم ير علماؤنا بين المسألتين فرقاً، وجعلوا المسألتين على قولين: أحدهما - أنه يضمن؛ لأنه المودَع والمستحفظ، والحفظ أمرٌ خاص، وليس للمأمور في الشغل الخاص أن يقيم غيرَه مقام نفسه، فإذا فعله، كان مخالفاً لموجب الإيداع مجاوزاً لما يتضمنه أمر المالك.
__________
(1) ر. المختصر: 3/175.
(2) في الأصل: ولم يجد.
(3) في الأصل: قال الشافعي (بدون واو) .
(4) في الأصل: أو.(11/376)
والقول الثاني - أنه لا يضمن؛ فإنا لو ضمناه، وقد تمس الحاجة إلى المسافرة، لكان ذلك ضربَ حجر عليه، وفي هذا خرمُ أصل الإيداع؛ فإن المودَع متبرع، ولهذا صُدِّق فيما يدعيه من ممكنٍ من الرد والتلف؛ إذ لو لم يصدَّق، لما رغب في الحفظ متبرعٌ. كذلك لو اقتضت الوديعة حجراً، لجر ذلك امتناعَ الناس عن حفظ الودائع. وحق ما يتفرع من الأصول أن يرد إليها ويجري على حسب أصولها.
ومما يذكر أنه لو سافر بالوديعة حيث لا حاكم، ولا مالك، ولا وكيل، فإن كانت الطرق مخوفة، فلا شك في امتناع المسافرة بالوديعة. فإن كانت الطرق آمنةً آهلة، [والمعنيُّ] (1) بالأمن فيها غلبة الظن في السلامة، من غير قيام سبب من الخوف معلوم أو مظنون، ومن حكم تصوير الأمن قيام أسبابه: من إيالة ضابطة، ويدٍ من الوالي العدل بطَّاشة، وترتب من الناس في الأطراف، حتى لو لم [يعلم بسبب الأمن، فالمسافرة غرر] (2) وإن لم يكن سبب الخوف [بهذا] (3) القدر لا بد من الإحاطة به في بيان معنى الأمن.
فإذا كانت الطريق آمنة على ما فسّرنا، فالذي أطلقه الأصحاب منع المسافرة، وحكَوْا فيه خلاف أبي حنيفة (4) ، وأقاموا المسألة خلافية. وهذا ظاهر المذهب.
وذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الذي صححه ورآه أصل المذهب.
والوجه الثاني - أن المسافرة بالوديعة جائزة، وهذا الوجه يوافق مذهب أبي حنيفة، ووجهه على بعده أن يده مستدامة، والمسافرة مع الأمن بمثابة الإقامة، والأموال المضنون بها كأموال الأطفال يسوغ المسافرة بها.
7636- فهذه مسائل أوردها الأصحاب في الطرق، فجمعناها مرسلة. ونحن الآن ننعطف عليها، ونذكر رباطها والفقه المعتبر فيها.
__________
(1) في الأصل: فلا نعني بالأمن.
(2) في الأصل: لو لم يعم سبب الأمن بالمسافرة عذر.
(3) في الأصل: هذا.
(4) ر. المبسوط: 11/122، الاختيار: 3/27.(11/377)
فأما تعين مراجعة المالك ووكيله والحاكم، فلا إشكال فيه، إلا أن المودع إن سافر مضطراً أو محتاجاً، فيتعين على الحاكم أن يقبل الوديعة منه، إما بنفسه أو بإقامة صالح للحفظ.
فأما إذا كان سفرُ المودع عن اختيار من غير حاجة حاقّة، ولا ضرورة مرهقة، فإذا راجع الحاكم، فإن أسعفه الحاكم، فلا إشكال، وهل يجب على الحاكم أن يسعفه؟
[هذا] (1) مما اختلف فيه العلماء المتكلمون في أحكام الإيالات -والشريعة بحاجة إليها، وليس للفقهاء اعتناء بها- فمنهم من قال: يجب على الحاكم ذلك؛ على أصل وجوب الإعانة وهو من أقطاب الإيالة.
والثاني -[لا يجب] (2) ذلك؛ إذ لا حاجة، والقيام بمآرب الخلق غيرُ ممكن.
ولا خلاف أن المودع لو أراد رفعَ اليد عن الوديعة وتسليمَها إلى الحاكم، لم يجب على الحاكم قبولها منه، مع استدامة الإقامة. هذا القدر كافٍ، ولا نتعداه فنقع في دقائق أحكام الإيالة.
7637- فأما ما ذكرناه [عند] (3) [شغور الناحية] (4) عن الحاكم من التردد في جواز الإيداع وجواز المسافرة، ففي هذا المقام نظرٌ من وجوه: من أصحابنا من لم ير المسافرة أصلاً إذا لم يكن ضرورة، وسأصف الضرورة في أثناء الفصل، إن شاء الله.
فهؤلاء يقولون: في الإيداع قولان، وعليهم تفصيلٌ لا بد منه، فإن وقعت ضرورة أرهقت المودع إلى الخروج، وقد منعناه من المسافرة بالوديعة، فالذي أراه هاهنا القطعُ بأنه إذا أودع، لم يضمن؛ فإنا لو ضمّناه، لصار الإيداع متضمناً عهدةً، وهذا يخالف وضعَ الوديعة.
وبيان ذلك أن الأحوال المتقلبة قد تُفضي إلى الضرورات المزعجة الحاملة على الخروج، فإن قلنا: لو أودع -والحالةُ هذه- يضمن، فلا سبيل إلى المسافرة [إذا
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) في الأصل: لا يجوز.
(3) في النسختين: بعد.
(4) في الأصل: شعوب.(11/378)
كان] (1) يجر ذلك ما ذكرناه من [إفضاء] (2) الإيداع في بعض الأحوال إلى ضمانٍ لا محالة، وتحقيقه أن الضرورة المزعجة تسوّغ له الخروج إن لم توجبه، فإن قلنا: يمتنع الإيداع، والمسافرةُ بالوديعة ممتنعةٌ، فهذا [جمع] (3) النقيضين.
[وإن] (4) قلنا: يجوز له الإيداع على شرط الضمان، كان هذا خروجاً عن وضع الوديعة بالكلية؛ فإن وضع الوديعة على أن كل ما يسوغ لا يضمن.
وإذا لم تكن ضرورة، ففي هذا نظر دقيق في أنا نحرّم عليه الخروج؛ لمكان الوديعة، أم نقول: له الخروج، ولا يسافر بالوديعة ويودع على شرط الضمان؟
وهذا فيه احتمال عظيم؛ [فإنا] (5) إن حجرنا عليه لمكان الوديعة، كان عظيماً، وأدنى ما فيه امتناعُ الناس. عن قبول الودائع، وليس هذا [هيناً] (6) في الوديعة؛ فإنا بنيناها على مخالفة الأصول لتحقيق مقصودها، فصدَّقنا المودع، وهو في مقام المدَّعين [وآية ذلك أنه يقيم البينة فتسمع، ثم نقبل] (7) قوله ويحلف لو اتهم، ولا يقال: [هلا] (8) أشهدت على الرد الذي ادعيت، وليس من الكلام [الرضي] (9) أن يقول القائل في دفع هذا الإيداعُ هو الذي تضمَّن ذلك؛ فإن المودع لم يضمن تصديق المودع في كل ما يقول، بل فقه الباب مصلحة كلية وهي ما أشرنا إليه من سقوط حظ المودع في حفظ الوديعة، وإذا سقط حظ الإنسان في شيء، لم يرغب في [التعرض] (10) لعهدته، فلو تضمن الإيداع حجراً، [لكان] (11) هذا أدعى إلى امتناع
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: إمضاء.
(3) في الأصل: جميع.
(4) في الأصل: فإن.
(5) في الأصل: فأما.
(6) في الأصل: بيّنا.
(7) في الأصل: إنه كذلك يقيم البينة فلمع (كذا) . ثم نقل قوله.
(8) في الأصل: هذه.
(9) في الأصل: الوصيتين (كذا) .
(10) في الأصل: المتعرض.
(11) في الأصل: لمكان.(11/379)
الناس من [قبول] (1) الوديعة. هذا وجهٌ.
وليس يمتنع أن يقال: الوديعة [تقيّده] (2) كما يلزمه [في الإيداع] (3) الحفظ إلى أن [يجد ربَّها] (4) .
هذا فن من النظر.
ويجوز أن يقال: لا يتقيد ويودع، ولكن هل يضمن عاقبة الأمر؟ فيه القولان المذكوران.
7638- وأما ما ذكرناه من المسافرة، فإن منعناها، فلا كلام، ولكن إن جرت ضرورة لو لم نفرض معها المسافرة بالوديعة، [لضاعت] (5) ، وذلك بأن يُقدَّر في البلد [نهبٌ] (6) أو ينجلي أهلُه، فالمسافرة بالوديعة سائغة [هاهنا] (7) إذا كانت الطرق آمنة [وسأصف] (8) تعليل ذلك في ضابطٍ أذكره في آخر الفصل، إن شاء الله عز وجل.
وإن لم نرجح المسافرة بالوديعة إلى [حفظها] (9) وصونها عن الضياع، فهي ممتنعة على هذه الطريقة.
فأما من جوز السفر، ففيه تردّدٌ عندي في أنه هل يجوّز صاحب هذا المذهب الإيداع أم كيف السبيل فيه؟ يجوز أن يقال: يمتنع الإيداع (10) عنده؛ فإن فيه رفع اليد [عن] (11)
__________
(1) في الأصل: وقول.
(2) في الأصل: تعيده.
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: يحرز بها.
(5) في الأصل: أضاعت.
(6) في الأصل: نها (كذا) .
(7) في الأصل: ضامنا.
(8) في الأصل: وسأصرف.
(9) في الأصل: حطها.
(10) عنده: أي عند صاحب هذا المذهب.
(11) في الأصل: من.(11/380)
الوديعة، وإقامة يد المودعَ (1) مقام [يد] (2) المأمور (3) بها. وهذا تصرّفٌ يليق بالولاية لا يقتضيه الأمر الخاص في الشغل الخاص، والمسافرة بالوديعة [تُديم] (4) يده عليها، والسفر من أطواره.
ويجوز أن يقال: إنما يجوز المسافرة إذا لم يجد المودعَ أميناً يضع الوديعة عنده، [وهذا] (5) ظاهر كلام الصيدلاني في مجموعه، [فإنه] (6) قال: "فإن لم يكن حاكم، فحينئذ يودعها أميناً، فإن لم يجد أميناً، فله أن يسافر بها حينئذ، ولا يضمن" هذا لفظه. ووجه ذلك أن السفر عُدَّ عذراً في باب الوديعة، والإيداع عند الأمناء أوثق وأوفق لمقصود الأمانة من التعرض لغرر السفر.
ثم قال العلماء: المنع من المسافرة فيما إذا لم يكن الإيداع في سفر، فإن كان الإيداع في السفر، فإن المودعَ يتمادى على وجهه في سفره، ولا نقول: الوديعة تثبطه، ولا نقول [أيضاً] (7) : إذا انتهى إلى موضع يتأتى الإقامة [فيه] (8) نُلزمه أن يقيم، بل يتمادى إلى منتهى مقصوده، ولا حجر، ولا نقول إذا انتهى إلى مقصود سفره: نثبّطه عنده، بل يؤوب إلى وطنه، ولا يخفى على الفقيه هذا. نعم، إذا عاد إلى وطنه، ثم أراد أن يسافر [مرة أخرى] (9) فهل له المسافرة بالوديعة بعد هذا؟ فيه احتمال ظاهر، يجوز أن يقال: له ذلك؛ فإن المودِع قنع به مسافراً، فلا منافاة بين السفر وبين مقصود المودع.
ويجوز أن يقال: إنما قنع المودعُ بسفره لعلمه بأنه إلى القرار مصيره، وليس في
__________
(1) أي المودعَ الثاني.
(2) في الأصل: اليد.
(3) (س) : المأمون.
(4) في الأصل: قد تم.
(5) في الأصل: فهذا.
(6) في الأصل: فإن.
(7) في الأصل: امضا (كذا) .
(8) في الأصل: فيها.
(9) مزيدة من (س) .(11/381)
حاله ومقاله ما يتضمن الرضا بسفره أبداً.
فهذا ما أردنا أن نذكره في تتبع المسائل التي أطلقناها وتنزيلها على حقائقها.
[فصل]
7639- ونحن نذكر الآن فصلاً عليه التعويل [فنقول] (1) : الأوامر وإن كانت مطلقة، فإذا قيدتها الأحوال ومجاري العرف، تقيدت بها، وعلى هذا بنينا بطلان بيع الوكيل المطلق بما عزَّ وهان، وهذا أصلٌ قد عرفه من ينتهي نظره إلى هذا المحل من هذا [الكتاب] (2) ؛ فإذا أودع رجل وجوّز للمودَع المسافرة، فهذا كلام مقيد، وإن أطلق، قلنا: تمنع المسافرة على الرأي الأصح؛ من جهة التغرير؛ إذ لو صح هذا لامتنعت المسافرة بأموال اليتامى، ولكن قرينة الحال تقتضي تثبيت الوديعة في محل الإيداع؛ فإن الغالب أن الإنسان يودع ويسافر بنفسه، فكأن الإيداع يقترن به من العرف ما يقتضي منعَ المسافرة به. ولهذا خلّفه المودِع وسافر، [فالمتبع] (3) العرف إذاً.
فأما الإيداع عند أمين، فليس [يضيق] (4) العرف عن احتمال [ضيعة] (5) المسافرة؛ فإن المودِع قد يقدّر مسيس [حاجة] (6) المودَع إلى المسافرة، ثم يبغي منه أن يحتاط في الوديعة جهده، فهذا ما لا بد من مراعاته، ومن لم يمزِج (7) العرف في المعاملات بفقهها (8) ، لم يكن على حظ كامل فيها.
وقد نجز مقصود الفصل.
__________
(1) في الأصل: وهو.
(2) في الأصل: المكان.
(3) في الأصل: والمتبع.
(4) في الأصل: مضيق.
(5) في النسختين: صيغة. ثم العبارة مضطربة في النسختين وفيها تكرار هكذا: عن احتمال صيغة عن احتمال المسافرة.
(6) في الأصل: الحاجة.
(7) (س) : يخرج.
(8) (س) : تفقهاً.(11/382)
7640- ونحن نلحق به مسائل خرجت عن يد الضبط تتمةً للغرض.
منها أن المودَع إذا أراد أن يدفن الوديعة وُيغَيِّب، نُظر: فإن دفنها في مضيعة، فلا شك في الضمان بالخروج عن مقتضى الائتمان.
وإن دفنها في موضع حريز، [قال] (1) الأصحاب: إن لم يُطلع على مدفنها أحداً، صار ضامناً، وهذا يستقيم على الأصل؛ فإن كل مال [يفرض] (2) محرزاً، فحقيقة الحرز فيه تستدعي مراقبةً من عين كالئةٍ على ما سنذكر تقدير ذلك في صفات الأحراز من كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الأصحاب: إن أطلع عليه أميناً وأعلم بمكانها، جاز ذلك.
وهذا فيه فضل نظر على [المتأمل] (3) ؛ فإن بعض الأئمة أطلق الإطلاع مع كون الموضع حريزاً، وشرط إطلاع أمينٍ على المدفن المحرز، وقال أئمة العراق: لا يكفي إطلاع أمين حتى يكون المدفن تحت يد ذلك الأمين، وهذا الذي قالوه حسن متجه، ولست أرى في ذلك خلافاً بين الطرق، والإطلاع الذي ذكره [عن] (4) العراقيين محمول على ما ذكره العراقيون؛ ولكنهم بيّنوه وفصّلوه. والذي يوضح ذلك أن موضع الإطلاع إذا لم يكن تحت يد المُطْلَع، فلا يكون محفوظاً برعايته، حتى لو فرض الدفن في دار وفيها سكان، والمطلَع لا يداخلهم، فلا أثر لإطلاعه في الحفظ المقصود، وإن كانت الدار خالية والمطلَع لا يدخلها، ولكنه يرعاها من فوق رعاية الحارس، أو من الجوانب، فلا يكاد يصل إلى الغرض، وإن أحاطت بالدار حياطتُه وعمها من الجوانب رعايتُه، فهذه هي اليد التي تليق بالوديعة، وهي التي عناها العراقيون، ويكون المدفن الآن في حكم بيت مرعيٍّ من جوانبه على العادة في مثله، والبيت [مغلقٌ، فهذا ما] (5) يجب الاتفاق عليه.
__________
(1) في النسختين: فإن.
(2) في الأصل: فوض.
(3) في الأصل: التأمل.
(4) في الأصل: عند.
(5) في الأصل: معلق فيه أما يجب.(11/383)
ثم يبتني على ذلك أن التعويل على يد هذا المُطلَع، لا على الدفن، وإذا كان على هذا الوجه، فقد غاب المودعَ، واستودع أميناً، فيلتحق بالتفصيل المقدم في أن المودعَ هل يودع؟ وقد مضى الخلاف فيه وتنزيله على الترتيب الواضح الحق.
وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على أن تقرير الوديعة في موضعها، وتفويض الرعاية إلى أمينٍ أوْلى أن ينتفي الضمان فيه من نقل الوديعة بالكلية إلى يد مودعَ، ولم ينكر تخريجَ الخلاف مع [ما ذكره] (1) من الترجيح، وهذا الذي أشار إليه لست أرى له وقعاً في اقتضاء الترتيب؛ فإن التعويل على يد هذا المطلَع لا غير، وقد تبدلت اليد، فلا أثر لاتحاد مكان الوديعة.
هذا منتهى البيان في ذلك.
7641- ومما يتصل بهذا الفصل أن صاحب التقريب قال: إذا أودع رجلٌ وديعةً عند إنسان في قريةٍ خربة، ثم بدا للمودَع أن ينتقل منها إلى قرية حصينة آهلة، فإن لم يكن بين القريتين من المسافة إلا ما يقع بين محِلّتين للبلد، والأمن مطّرد، فلا بأس بالانتقال بالوديعة والحالة هذه. فأما إذا كان بين القريتين مسافة تزيد على الحد الذي ذكرناه، وكانت القرية الخربة موضعَ حفظٍ على حالٍ، ولكن القرية التي إليها الانتقال أحرز وأحصن، فإن كانت المسافة بين القريتين مسافةَ القصر فصاعداً، فالانتقال بالوديعة مسافرةٌ بها، وقد استقصينا القولَ في المسافرة بالوديعة مع إمكان الإقامة.
وإن كانت المسافة قاصرة عن مسافة القصر، فإن جوّزنا الانتقال والمسافة مسافة القصر، فلا شك في جوازها إذا قصرت المسافة، وإن منعنا المسافرة عند بعد المسافة، قال: ففي الصورة التي [تقرب] (2) المسافة فيها وجهان.
ومقصود صاحب التقريب يتضح بذكر مراتب: فالمسافرة مع بعد المسافة وإمكان الإقامة على وجهين. والمسافرة مع قرب المسافة واستواء قرية الإيداع والقرية التي إليها الانتقال على وجهين مرتبين على الصورة الأولى، وإن قصرت المسافة وكانت
__________
(1) في الأصل: ما ذكرناه.
(2) في الأصل: تعرف.(11/384)
قرية الإيداع خربة والقرية التي إليها الانتقال حصينة، ففي المسألة وجهان، وهذه الصورة أولى بالجواز من التي تليها، وهي مع تصوير الخراب في قرية الإيداع مفروضة فيه إذا كان الحفظ في القرية الخربة ممكناً، ولا يعد تقرير الوديعة فيها تضييعاً.
هذا منتهى المراد في ذلك.
فصل
قال: "وإن تعدّى في الوديعة ثم ردها إلى مكانها ... إلى آخره" (1) .
7642- مضمون هذا الفصل بيان ما يصير به المودعَ ضامناً، وقد مهدنا ثبوت الأمانة في حق المودَع مقصودة، ونحن نوضح الآن ما [يُخرجه] (2) عن الائتمان ويثبت عليه الضمان، فنقول: الأسباب المضمّنة في الوديعة شتَّى: منها التضييع، فإذا وُجد من المودَع ما يعد تضييعاً وتركاً للاحتياط [المعتاد] (3) في الحفظ؛ فإنه يصير ضامناً، ولا حاجة إلى تفصيل التضييع؛ فإن فيما ذكرناه وسنذكره من وجوب رعاية جهات الحفظ، ما يوضح أن ما يخالفها يكون مضيعاً. هذا وجهٌ في اقتضاء الضمان.
والوجه الثاني - الانتفاع بالوديعة، فإذا كانت الوديعة ثوباً، فلبسه، أو دابة فركبها من غير حاجةٍ ماسة في الحفظ إلى الركوب، ضمنها؛ فإنه في حالة انتفاعه يتعدّى، ويده يد عدوان، ولو كان ينتفع بالإذن [فيضمن] (4) لكونه مستعيراً، فما الظن بما إذا انفرد بالانتفاع؟
ومن الوجوه المقتضية للضمان مخالفة المودَع في أمره، وهذا أصلٌ يجب الاعتناء بفهمه، فقد ثبت على الجملة أن المخالفة إذا تحققت، كانت مقتضيةً للضمان، وهذه الجملة [تستدعي] (5) تفصيلاً.
__________
(1) ر. المختصر: 3/176.
(2) في الأصل: يخرج.
(3) في الأصل: للعتاد.
(4) في الأصل: يتضمن.
(5) في الأصل: فتستدعي.(11/385)
فنقول: إذا قال مالك الوديعة للأمين: احفظ هذه الوديعة في هذا البيت، تعيّن موضعَ الحفظ، و [إن] (1) لم يصرح بالنهي عن النقل عنه، فلو نقل المودَع الوديعة إلى بيت مساوٍ للبيت المعيّن في الإحراز أو إلى بيت أحرز من المعين، فهذا النقل غيرُ ممتنع، ولا يخفى أن النقل من بيت إلى بيت ومن دارٍ إلى دار، ومن محِلّة إلى محِلة، وكل ذلك في بلدة واحدة لا امتناع فيه، وليس ينزل منزلة المسافرة بالوديعة. هذا متفق عليه.
والذي زدناه أن التعيين لا يؤثر في المنع منه إذا كان على الصورة التي وصفناها؛ فإنّ قول المالك: احفظ هذه الوديعة في هذا البيت غيرُ محمولٍ على الحجر على [الأمين] (2) ، وإنما يحمل على [الأمر] (3) بصَوْن الوديعة في هذا البيت، أو فيما يحل محله في الإحراز (4 وإذا لم ينتقض غرض المالك في الإحراز 4) فلا [أرب] (5) له في أعيان [البيوت] (6) .
وإن نقل المودَع الوديعةَ إلى بيت [خرب] (7) في نفسه كان يجوز للمودَع حفظ الوديعة فيه لو كان الإيداع مطلقاً، ولكنه كان دون البيت المعيّن في الإحراز، فالنقل ممتنع على هذا الوجه؛ [فإن فيه مخالفة لغرض المودع في الإحراز، والمخالفة على هذا الوجه] (8) تؤثر في اقتضاء الضمان.
هذا إذا أمره بحفظ الوديعة في بيت ذكره، ولم ينهه عن نقلها منه إلى غيره، فأما إذا قال: احفظ الوديعة في هذا البيت أو في هذه الدار، أو في هذه المحلة، ولا تنقلها إلى موضع آخر، فإذا عين ونص على النهي عن النقل، فنقل المودعَ، لم
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: الابن.
(3) في الأصل: على الابنين.
(4) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(5) في الأصل: اـ ـت (كذا) .
(6) في الأصل: الـ ثوـ (كذا) .
(7) في الأصل: خربة.
(8) ما بين المعقفين زيادة من (س) .(11/386)
يخلُ [إما] (1) أن يلجئه إلى النقل ضرورة أو لم يكن ضرورة، فإن ظهرت ضرورة تقتضي النقل مثل أن يظهر في المحل المعيّن حريق [أو غيره] (2) من الآفات، فإذا نقل والصورة (3) هذه، لم يضمن أصلاً.
وزاد العراقيون في صورة الضرورة تفصيلاً، فقالوا: لو ترك الوديعة في البيت المعين، ولم ينقلها مع القدرة على النقل حتى تلفت، فهل يضمنها؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - أنه يضمن؛ لأنه عرضها للتلف.
والثاني - لا يضمن، فإنه راعى فيه إذْن المودع، وقد نهاه عن النقل صريحاً.
ولو قال: لا تنقلها وإن خفت عليها أو أيقنت بتلفها، فلو تركها، لم يضمنها وفاقاً، ولو نقلها والحالة هذه، قالوا: لا يضمن [أيضاً] (4) وإن خالف صريح قوله؛ [فإن قوله] (5) إنما يراعى فيما فيه تحفظ وإحاطة، فأما ما يخالف ذلك، فقوله فيه ساقط الأثر.
وهذا الذي ذكروه آخراً [محتمل] (6) .
[ويظهر] (7) عندنا مع التصريح بالنهي عن النقل عند خوف التلف وجوب الضمان على الناقل، وسنبين بعد عدّ المسائل ما يوضح فقهها ويربط نظامها، وإذ ذاك نعود إلى هذا التردد، إن شاء الله.
هذا كله إذا عين ونهى عن النقل، وطرأت ضرورةٌ تقتضي النقلَ، فأما إذا لم تكن ضرورة في النقل، والمسألة مفروضة فيه إذا عين موضعَ الحفظ، ونهى عن النقل عنه، فإذا نقل، فلا يخلو إما أن ينقلها إلى بيتٍ دون البيت المعين في الإحراز، فإن كان
__________
(1) في الأصل: إنما.
(2) في الأصل: وغيره.
(3) في الأصل: الصورة (بدون واو) .
(4) في الأصل: امضا.
(5) زيادة من (س) .
(6) في الأصل: يحتمل.
(7) زيادة من (س) .(11/387)
كذلك، ضمن، فإنّ تجرُّد التعيين [من] (1) غير نهي عن النقل يوجب الضمان في هذه الصورة، فلا يخفى ثبوت الضمان مع النهي عن النقل.
وإن نقلها الأمين إلى بيت مثلِ البيت المعين، أو إلى بيت أحرزَ منه، فقد ذكر صاحب التقريب والعراقيون وجهين: أحدهما - أنه [يضمن] (2) ؛ لأنه خالف صريحَ قول المودِع من غير ضرورة.
والثاني - لا يضمن أصلاً، كما لو كان اقتصر المالك على تعيين البيت ولم ينه عن النقل [فالنقل] (3) لا [يُضمِّن] (4) في هذه الصورة، وإن كان فحوى التعيين وموجبه من طريق اللفظ ينبىء عن ترك النقل، فليكن الحكم كذلك مع التصريح بالنهي عن النقل.
وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على وجه ثالث - وهو أنه إن نقل إلى مثله، ضمن؛ فإنه لم يزد احتياطاً وخالف، وإن نقل إلى أحرز منه، لم يضمن، وتصير (5) زيادة الحرز مقابلة للمخالفة.
7643- فهذا ذكر المسائل في هذا المقصود، وتحقيق المعنى يستدعي اطلاعاً على معنيين: أحدهما - الاعتناء بفهم العرف، وليعلم الناظر أن كل حكم يُتلقَّى من لفظٍ في تعامل الخلق، وللناس في ذلك القبيل من التعامل عُرفٌ، [فلن] (6) يحيط بسرّ ذلك الحكم من لم يحط [بمجاري] (7) العرف؛ فإن الألفاظ المطلقة في كل صنف من المعاملة محمولة من (8) أهلها على العرف فيها، فإذاً إذا قال: احفظ الوديعة في هذا البيت، ولا تنقله منه، فالعرف يقتضي حملَ هذا القول من المالك على تعيين مقدار
__________
(1) في الأصل: بين.
(2) في الأصل: يتضمن.
(3) في الأصل: والنقل.
(4) في الأصل: يتضمن.
(5) (س) : وتفيد زيادة الحرز معادلة الخلاف.
(6) في الأصل: فلم.
(7) في الأصل: لمحازي.
(8) (س) : بين أهلها.(11/388)
الإحراز بالبيت المعيّن، فإن فرضت ضرورة؛ فهي خارجة [عرفاً] (1) عن موجب القول؛ فإن العاقل لا يحتكم على المستحفَظ المتبرع بما يؤدي إلى إتلاف ملكه، فهذه التقييدات لا يفهم منها في الإيداع تعريض الوديعة للتلف، وكذلك لو كانت [الضرورة] (2) في نفس المؤتمن، فلا يفهم أرباب العقول من قول المالك التماسه من المودعَ تعريض نفسه للهلاك، أو [ما] (3) في معناه لمكان [وديعته] (4) ، فقد خرجت الضرورة الراجعة إلى الوديعة والضرورة الراجعة إلى المودَع عن حكم التقييد والتعيين، ولا يتمارى في هذا ذُو لُبٍّ.
فأما إذا لم تكن [ضرورة] (5) وقد جرى التعيين، والنهيُ عن النقل، تعارضَ في هذا المقام وجوهُ الرأي، فيجوز أن يقع الاعتماد على قدر الإحراز بناء على ما نبهنا عليه، ويجوز حمل تقيد المودِع على حسم باب النقل من غير ضرورة؛ فإن النظر قد ينقسم في المنقول إليه، فيحاول المالك حسمَ النقل، ويعد هذا من الأغراض [الواضحة] (6) في هذا الصنف، ونظائرها في الشرعيات [والحسيات] (7) كثيرة، لسنا نطوّل بذكرها.
وهذا أصلٌ رأينا التنبيه عليه.
7644- والمعنى الثاني - أن التحكم على المودَع بأمورٍ لا تليق بمصلحة الحفظ [في] (8) الوديعة ممنوع عند المحققين، وهو في حكم القول الملغى، الذي لا مبالاة به، وقد قربه هؤلاء من الشرط الفاسد الذي لا يتعلق بمقصود العقد، كقول القائل:
__________
(1) في الأصل: عنها.
(2) في النسختين: الوديعة، والمثبت تقدير منا، على ضوء المعنى والسياق.
(3) في الأصل: كما.
(4) في الأصل: وديعة.
(5) في الأصل: ضرورياً.
(6) في الأصل: ولو أوضحه.
(7) في الأصل: والـ حمـ اـ. كذا (انظر صورتها) .
(8) في الأصل: له.(11/389)
بعتك هذا العبد على شرط ألا تطعمَه إلا ألذ الأطعمة، فهذا وما في معناه لغوٌ مُطَّرح.
ومن الأصحاب من لا يرى مخالفة اللفظ الصريح، وإن لم يتعلق بمصلحة الوديعة؛ بناء على أصلٍ، وهو أن الحفظ مربوط بإذن المالك، ولا حق للمودَع فيه، فيجب تنزيله على حكم [نصِّه] (1) الصريح وينشأ من هذا التردد ما ذكرته في حالة الضرورة، فإذا كان قال: لا تنقله وإن أشفى على الهلاك وأيقنت بتلفه، فما ذكره العراقيون إحباطٌ (2) منهم لتعيينه من غير [غرض] (3) صحيح يرجع إلى مصلحة الحِفظ، وما ذكرناه يرجع إلى اتباع إذنه، إذْ نصَّ وصرح، فإذا قال: احفظه [في] (4) هذا البيت، ولا تنقله، فحالة الضرورة مستثناة بحكم العرف، والاحتمال تطرق إلى اللفظ إذا اقترن العرف به، ويجري اللفظ إذا لم يُرد التقييد على ما ذكرناه مجرى اللفظ العام، والعرفُ المقترن به في حكم المخصص، وهذا بمثابة ذكر الدراهم في العقود، مع تعيين العرف لنقدٍ من النقود.
فإن قال: لا تنقل وإن خفت الهلاك [أو أيقنت] (5) به، فهذا قطعٌ للعرف الآن، ويعود النظر إلى [احتكامه] (6) بما لا غرض فيه، كما ذكرناه. هذا مدار هذه المسائل.
7645- ومما يتعلق بغرض هذا الفصل وفيه استكماله أن الرجل إذا أودع عند إنسان دابَّةً، وكان لا يليق بمنصب المودعَ القيامُ بحفظها وسياستها، وإنما يُقيم مثلُ هذا المودَع في حفظ الدابة عبداً أو أجيراً مأموناً، فمطلَق الإيداع لا يُلزم المودَعَ تولِّي
__________
(1) في الأصل: بنصه.
(2) في (س) : احتياط. (وهو تصحيف واضح) ، فالمعنى أن العراقيين أحبطو، أي أبطلوا تعيينه مكان الحفظ والنهي عن النقل منه وإن هلكت الوديعة؛ لأن ذلك مخالف لغرض الحفظ والصيانة للوديعة.
(3) في الأصل: عوض.
(4) في الأصل: من.
(5) في الأصل: واـ ـق (كذا) به وهذا.
(6) في الأصل: إحكامه.(11/390)
الحفظ، وهذا مما يقضي العرف به قطعاً من غير [تحيّل] (1) ولا تردد.
ومما يتعلق بذلك أن دار المودَع إذ كانت لا تتهيأ لمرابط الدواب لعزتها أو لضيق مضطربها، فحكم العرف يقتضي حفظ الدابة في الإصطبل القريب من الدار، وإن بعُد واطّرد العرفُ في احتمال مثله في مثل هذه الدابة، فلا [يمتنع] (2) حفظها في ذلك الموضع.
وإن كان لا [يمتنع] (2) في العرف ربطُ الدابة في دار المودَع، فإذا أراد أن يربطها في حرم [الدار] (3) وهي منه بمرأيً ومسمع، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين، وهما محمولان على صورة يتردد النظر في العرف فيها.
ومن أحاط بالأصل الذي مهدناه، [هان] (4) عليه دَرْك محل الوفاق والخلاف (5) .
7646- ومما يتعلق بتتمة المقصود، وهو مما يجب الاعتناء به أن المودَع لو وكل حفظ الوديعة إلى عبده المأمون (6) عنده، أو إلى زوجته، أو ولده، أو من يأتمنهم من دونه (7) ، فكيف السبيل فيه؟
هذا فيه [التباس] (8) مترتب على [التباس] (8) العرف، ونحن نأتي فيه بالواضحة إن شاء الله عز وجل، فإذا كان الموكول إلى العبد ومن في معناه النقلُ وإغلاقُ الباب، والحراسة، ومحل [الفعل] (9) مرعي بنظر المودَع، فهذا لا منع فيه؛ فإن الوديعة في يد المودَع.
__________
(1) في الأصل: تحصل.
(2) في الأصل: لا يمنع.
(3) في الأصل: الدابة.
(4) في الأصل: ضمان.
(5) في الأصل بعد كلمة الخلاف كلمة غير مقروءة.
(6) (س) : المأذون.
(7) (س) : ذريته.
(8) في الأصل: الناس.
(9) في الأصل: النقل.(11/391)
وإن [سلم] (1) الوديعة إلى من يستبدّ بيده، ولكن رآه أهلاً لذاك وربما يضع عنده ذخائره، فإذا أراد التسليم إليه بالكلية، فهذا ممنوع؛ فإنه إيداع من المودَع من غير سفرٍ، ولا ضرورة، والذي يقتضيه عرف الإيداع خلاف هذا قطعاً، ولا ينبغي أن ينظر الفقيه إلى أن المودَع يفعل بالوديعة ما يفعله بملك نفسه في الاحتياط المعتبر في الحفظ؛ فإن هذا لا يجوز اعتقاده، مع تبدل اليد على التحقيق، فإنما المودَع هذا الشخص المعين، فقد [خرج] (2) هذا أيضاً، ومهما [ارتكبت] (3) المسائل وشملها السؤال على إبهام، فالرأي [التقليل] (4) من المسائل وإخراج الواضحات من محل النظر ليستدَّ النظر في محل الإشكال، فقد آل النظر إذاً إلى أمر المودَع [عبده] (5) بردّ الوديعة إلى مَحْرَز والسيد لا يلحظ المَحْرَز، بل يكتفي فيه بنظر العبد وحراسته. هذا محل النظر.
فالذي يشعر به فحوى كلام الأئمة تجويز هذا. وفي بعض التصانيف التصريح بمنع ذلك إذا لم يكن الشيء مرعيّاً من جهة المودَع. أما وجه هذا المذكور آخراً، وهو أن التسليم إلى العبد إزالةٌ لليد [ولحفظ] (6) المودَع المؤتمن، فكان في معنى تسليم الوديعة إلى صديق مأمون موثوق [به] (7) ، وهذا له إيضاح في القياس، ووجه ما دل عليه قول الأئمة حملُ الأمر على العرف؛ فإن الإنسان إذا أودع وديعةً عند بعض أماثل الناس، فيبعد أن يكلفه تولِّي الحرز ومراقبة الحرز، والانقطاع عن الانتشار في الحاجات والمآرب، فإذا كان ذلك بعيداً في العرف، ولا طريق مع مفارقة المنزل إلا استحفاظٌ عند موثوق به، أو استحفاظُ متصلٍ بالإنسان كالزوجة ومَنْ في معناها.
__________
(1) في الأصل: تسلم.
(2) في الأصل: صرح.
(3) في الأصل: ارتبكت. ورجحنا هذا المثبت من (س) ، لأن هذا (المصطلح) قد تكرر من قبل في مثل هذا السياق.
(4) في الأصل: التعليل.
(5) في الأصل: عنده.
(6) في الأصل: ويحفظ.
(7) في الأصل: مأمون به موثوق.(11/392)
[فهذا] (1) مسلك عندنا يجب القطع به؛ فإن حمْل المودَع على خلاف ما ذكرناه يخالف العرف المطّرد، وقد أوضحت أن الألفاظ في المعاملات محمولة على موجب العرف المطرد.
فإذا قيل: هذا في حكم إبدالِ يدٍ بيد. قلنا: ليكن (2) كذلك، والمحكّم العرف، وليس كإيداع أجنبي ليس من المتصلين بالمودَع.
والجملة الضابطة في (3) ذلك اتباعُ العرف المستمر على نسق، فإن لم نجده، اتبعنا صيغة اللفظ. وقولُ المودِع: "أودعتك" متضمنهُ اختصاصه باليد وما أخرجه العرف خرج، وما لم يقيّده العرف، فاللفظ فيه مُجرىً على فحواه، وهذا بمثابة حملنا التوكيلَ بالبيع المطلق على بيعٍ [بالنقد] (4) عريٍّ عن الغبن، وإن كان البيع في وضع اللسان متناولاً للبيع بالغبطة والغبن.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الإيداع المطلق يتقيد عرفاً بالاستعانة بالمختصين، وإن كان يقتضي ما يعرض من الأحوال زوالَ اليد.
ومما يتعلق بذلك أنه لو سلم الوديعة إلى عبده، وكان لا يطالع المَحْرَز في الأحايين، [فهذا] (5) فيه بعض التردد، من جهة أنه لا يمكن الحكم على العرف فيه بالاطراد.
7647- وحاصل الكلام في ذلك يوضحه ذكرُ صور: إحداها - أنه لو أودع [مطلقاًَ فأراد المودع] (6) الخروجَ لحاجاته، واستحفاظَ من [يثق به] (7) من متصليه، وكان يطالع المحرَز في عوداته، [فهذا] (8) هو الذي رأينا القطعَ بحمل الإيداع المطلق على
__________
(1) في النسختين: "وهذا".
(2) في النسختين: لكن. والمثبت اختيار من المحقق رعاية للمعنى.
(3) في الأصل: الضابطة له في ذلك.
(4) في الأصل: النقد.
(5) في الأصل: وهذا.
(6) زيادة من (س) .
(7) في الأصل: ثبوته.
(8) في الأصل: وهذا.(11/393)
تجويزه، وهو الذي [اقتضاه] (1) كلام الأئمة في الطرق.
وفي هذه الصورة ذكر بعضُ المصنفين (2) امتناعَ ذلك إلا بإذن المودِع، وهذا غير معتد به.
والصورة الأخرى - أن يفوّض الحفظ إلى بعض المتصلين به من عبد أو زوجةٍ، أو ولدٍ، أو أجيرٍ، وكان لا يلاحظ الوديعة أصلاً، فهذا موضع التردد.
والصورة الأخرى - أن يكون الحِرز خارجاً عن دار المودَع ومسكنه الذي يأوي إليه، وكان لا [يطالعه] (3) المودع، [فالظاهر] (4) هاهنا المنعُ، وتضمين المودع.
فأما (5) إذا سلم الوديعة إلى من ليس متصلاً به، واستحفظه فيها، فهذا ممتنع قطعاً مخالف للفظ وللعرف. هذا منتهى المراد في مخالفة المودَع وموافقته في طريق الحفظ.
7648- ومما يضمّن المودَع جَحدُه [لأصل] (6) الإيداع، فإذا جحد المودَع الإيداع كاذباً، والوديعة في يده؛ فإنه يصير بالجحد غاصباً، ولو تلفت الوديعة في يده بعد الجحد، كانت مضمونة عليه.
فإن قيل: لو جحدها غالطاً، ثم لما ثبتت له حقيقة الحال اعترف، فكيف السبيل؟ قلنا: حكم الجحد في الظاهر اقتضى تضمينه، ودعوى الغلط [منه] (7) مردودة، فإذا ثبت حكم الغصب بالإنكار، لم تعد الأمانة بالإقرار.
__________
(1) في الأصل: اقتضا.
(2) "بعض المصنفين" يعني به الإمام أبا القاسم الفوراني، كذا يرمز إليه الإمام دائماً، ولا يصرح باسمه لجفوةٍ كانت بينهما (أشرنا إلى ذلك مراراً) .
(3) في الأصل: لا يطالبه.
(4) في الأصل: والظاهر.
(5) في نسخة الأصل اضطراب واقحام فقد كانت هكذا: فأما إذا سلم وكان في مطالعة المودع قال الوديعة إلى من ليس ... إلخ.
(6) في الأصل: لاحل.
(7) زيادة من (س) .(11/394)
ولو ادعى الغلط، ثم أقر، فصدقه مالك الوديعة في دعوى الغلط، فالذي نراه أن الضمان لا يجب مع تصادقهما.
7649- وقد ذكرنا أن الانتفاع بالوديعة مضمِّن؛ فلو لبس الثوبَ المودَعَ ظاناً أنه ثوبُه، ثم كما (1) استبان انكفّ، فالذي نراه القطعُ بأنه لا يضمن، كما ذكرناه في الجحد، ولو انتفع وادعى ما ذكرناه من الغلط، لم يصدق في ذلك؛ فإن ظاهر الانتفاع مضمِّن.
7650- ولو ألقى الوديعةَ في مضْيعة، [ضمن] (2) ، فلو كان ذلك عن جهل، فلا شك أنها لو ضاعت، ضمنها، ولو لم تضع وتذكر المودعُ فردَّها إلى [المحرَز] (3) ، فهذا فيه نظر؛ فإن التضييع من أسباب التلف، وكل ما كان من أسباب التلف لا يفصل في اقتضائه الضمانَ بين أن يقع عمداً أو خطأً، ووجه، تطرّق الاحتمال [إلى] (4) ذلك [أنه] (5) إذا استدرك، خرج ما جرى عن كونه سببَ التلف.
7651- نعود إلى الجحد، فنقول: إذا جحد المودَع الإيداع، وكانت الوديعة تلفت قبل جحده مع استمرار الأمانة، فإن تحقق ذلك، فلا ضمان على الجاحد، فإن جَحْده لم يجر إلا بعد تلف الوديعة على حكم الأمانة، وكل عين تلفت على حكم [لم ينقلب] (6) ذلك الحكم بطارىء يطرأ، وظهور التلف قد يكون باعتراف من المالك، فلو أراد الجاحد أن يحلف بعد الجحد على التلف قَبْلُ، لم يقبل يمينه؛ من جهة أن
__________
(1) كما: عندما. هكذا يستعمل الإمام هذا اللفظ، وهو ليس بعربي ولا صحيح، كما قال النووي في تنقيحه، وقد مرّ هذا التعليق مفصلاً.
هذا. وعبارة (س) : "فلما استبان" ولكنا آثرنا "كما استبان" مع غلطها، لأنها نسخة الأصل أولاً. ولأنها إحدى خصائص ولزمات الإمام ثانياً، وترجح لدينا أن هذا التصحيح تصرفٌ من ناسخ (س) . والله أعلم.
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: المخزن.
(4) في الأصل: لأن.
(5) في الأصل: آفة.
(6) في الأصل: اـ ـعلـ ـ كذا.(11/395)
جحد الإيداع في الأصل مناقضٌ دعوى التلف؛ فإن من ضرورة التلف تحت يده جريان الإيداع.
ولو أراد أن يقيم بينة على تلف الوديعة قبل الجحد، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن البينة لا تسمع [فإن] (1) شرط سماعها ترتيبها على دعوى صحيحة ودعواه التلف تناقض جحدَه الإيداع، وإذا بطلت دعواه، لم تصادف البينةُ مستنداً صحيحاً.
والوجه الثاني - أن البينة مسموعة؛ فإنه رجع عن جحده، وكذّب نفسَه فيه، وأنشأ الآن قولاً ممكناً، والدعوى قولٌ ممكن، فإذا اعتضدت [بالبينة] (2) ، ثبت المقصود بها، وإنما لا تقبل البينة إذا كان قول [مقيمها] (3) عند إقامتها يناقضها.
والضبط [في] (4) ذلك أن قول المقيم إن ناقض البينة لدى الإقامة، والبينةُ مفتقرة إلى الدعوى، فهي غير مسموعة، وإن سبق قولٌ يناقض ورجع [عنه] (5) القائل وكذب نفسه فيه، وأقام على وَفق القول الثاني بينةً، ففي قبول البينة خلاف وتردد.
وهذا يقرب من أصلٍ نشير إليه [ونفرضه] (6) متصلاً بما نحن فيه، فنقول: إذا جحد الإيداع، ثم ادعى التلف قبل الجحد، ولم يجد بينة، ولم نحلِّفه بجحده السابق، فلو قال لمالك الوديعة: احلف بالله لا تعلم تلف الوديعة قبل جحدي، فهل له أن يحلّفه؟ فيه تردد للأصحاب. وظاهر المذهب أنه [يحلِّفه] (7) . ولو أقام بينة قبل منه، ولو ادعى ردَّ الوديعة قبل الجحد، فهو كما لو ادعى تلفها، ولو جحد، ثم اعترف، وقال: تلفت الوديعة بعد جحدي، فالضمان ثابت عليه، فإنه صار بالجحد غاصباً، وانقلبت الوديعة مضمونة، فلو تحقق التلف، لكان على حكم الضمان.
ولو ادعى الرجل على رجل وديعة، فقال المدّعى عليه: مالكَ عندي شيء، ثم
__________
(1) في الأصل: بل.
(2) في الأصل: البينة.
(3) في الأصل: يقيمها.
(4) في الأصل: من.
(5) في الأصل: عند.
(6) في الأصل: ويعد.
(7) في الأصل: يحلف.(11/396)
أقر بالإيداع، أو قامت البينة عليه، فادعى بعد ذلك تلفاً، أو ردّاً، فقوله مقبول، فإنه لم ينكر الإيداع، وإنما قال: ليس عندي لك شيء، فدعوى التلف توافق ذلك الكلام؛ لأن من تلفت الوديعة عنده، فهو صادق في قوله لمالكها: مالك عندي شيء، أو لا يلزمني دفع شيء إليك.
هذا بيان الجحد واقتضائه سقوطَ حكم الأمانة، مع ما يتعلق به من جهات التداعي.
7652- ومما يتضمن التضمين في الوديعة وهي من أصول الكتاب تركُ الإيصاء.
وبيان ذلك: أن من كانت عنده وديعة، وهو في حال الصحة واستمرار السلامة، فلو مات فجأة أو قتل غيلة، ولم يتمكن من الإيصاء، فلا ضمان؛ فإنه لا ينسب إلى التقصير ما استمر [في] (1) السلامة، وإن كان أدب الدين يقتضي ألا يبيت المسلم ليلةً إلا ووصيته مكتوبة عنده، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ترك الأولى في هذا لا يوجب الضمان.
ولو مرض الرجل [وتمييزه] (2) قائم، فلم يُوصِ، أو حبس ليقتل، واستمكن من الإيصاء فتركُ الإيصاء يتضمن الضمان، كما سنفصله الآن، إن شاء الله تعالى.
والمرض الذي أطلقناه هو المرض المخوف الذي يحسب التبرع فيه من الثلث، إن لم يبلغ المرض هذا المبلغ، فهو ملتحق بالصحة، والهرمُ من غير مرض ملتحق بالصحة في تنفيذ التبرع من رأس المال، وفيما نحن فيه من أمر الإيصاء، [فإذا] (3) ترك الشيخ الإيصاء [ثم] (4) فاجأته المنية بغتةً، فلا ضمان، فإذا تحقق التقصير بترك الإيصاء، [أو] (5) أوصى إلى فاسق غيرِ موثوق به، فإذا تلفت الوديعة بعد موته، وجب الضمان في تركته؛ من جهة أنه بإعراضه وتركه الدّلالة على الوديعة، مع ظهور
__________
(1) في الأصل: من.
(2) في الأصل: في تمييزه.
(3) في الأصل: إذ ترك الشيخ.
(4) مزيدة من (س) .
(5) في النسختين: وأوصى.(11/397)
النُّذُر وشواهد الموت يُعدّ مضيعاً للوديعة، والتضييع من أسباب الضمان، كما تقدّم ذكره.
7653- ولو كانت الوديعة تلفت في حياته على حكم الأمانة، فترْكُ الإيصاء لا يثبت ضماناً، فإن فائدة الإيصاء الدلالة على الوديعة الباقية، حتى لا تضيع.
7654- ولو أوصى إلى عدلٍ وذكر له الوديعة، فإن عيّنها، فذاك، وإن وصفها، وكان في تركته من جنسها، فإذا جحدها الورثة، ولم يعرفوها وما كان عيّن الموصي، فالضمان واجب؛ من جهة أنه لو عين وميّز، لما كان يلتبس الأمر، فترْكُه التعيين، وفي تركته أمثال الوديعة [بمثابة] (1) تركه الإيصاء أصلاً.
ولو لم يكن في تركته من جنس تلك الوديعة التي وصفها، ولكنا لم نجد تلك الوديعة الموصوفة في التركة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا ضمان، فإن من الممكن أن الوديعة تلفت بعد موته، قبل تمكن الورثة من الرد، ولو اتفق ذلك، فلا ضمان، فيجب حمل الأمر على وجهٍ لا يقلب الأمانة عن حقيقتها، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان إلا أن يقيم الورثة بيّنةً على تلف الوديعة قبل موت المودَع المؤتمن أو بعد موته وقبل التمكن من الرد، فإن الوديعة ثبتت، والظاهر أنها لو تلفت، لتمكن الورثة من بيان تلفها. وإذا مات وهو المؤتمن، فحق الوديعة [ثابت] (2) في التركة إلى أن تقوم بيّنة تتضمن نفيَ الضمان.
7655- ولو مات ولم يوصِ، فجاء مالك الوديعة، وادعاها [ونسب] (3) الميت إلى التقصير بترك الإيصاء فيها، فقال الورثة: لعله لم يوصِ لتلف الوديعة على حكم الأمانة في يده، فاعترفوا بأصل الإيداع، أو قامت البينة عليه وادعَوْا ما ذكرناه، فهذه المسألة مترددة في الضمان، فإذا كان أبو إسحاق يرى نفي الضمان حيث لم تصادَف الوديعة في
__________
(1) في الأصل: مثابة.
(2) في الأصل: مات.
(3) في الأصل: ونسبوا.(11/398)
التركة بعد الإقرار بها والإيصاء، فلا شك أنه يبقى الضمان في الصورة التي ذكرناها آخراً، وهي ادعاء التلف قبل الموت، وحَمْلُ ترك الإيصاء عليه. ومن أوجب الضمان وخالف أبا إسحاق، فقد يوجب الضمان في هذه الصورة، ونفيُ الضمان في هذه الصورة أولى.
ثم إن ادعى الورثة التلفَ، فالأمر على ما ذكرناه، وإن قالوا: عرفنا الإيداع، ولكن لم ندر كيف كان الأمر، ونحن نجوّز أن الوديعة تلفت على حكم الأمانة، فلم يوص لأجل ذلك (1) ، ولا ثَبتَ (2) ، [ففي ذلك قولان: فإن ضمّناهم] (3) حيث يجزمون دعوى التلف، فلأن نُضمِّن هاهنا أولى. وإن لم نضمنهم في [هذه] (4) الصورة الأولى، ففي هذه وجهان: أحدهما - أن الضمان يجب؛ لأنهم لم يذكروا مُسقطاً، ولم يدّعوه.
والوجه الثاني - أن الضمان لا يجب، لأن أصل الوديعة على الأمانة، والأمر متردد كما ذكره الورثة، فعلى من يدعي الضمانَ إثباتُه، والأصح الوجه الأول في هذه الصورة الأخيرة.
ويتصل بهذا الفصل كلام يتعلق بالورثة في الدعوى، وسنذكره في فصول الكتاب، إن شاء الله تعالى؛ فإن غرضنا الآن عدُّ ما يوجب الضمان في الوديعة، والقدرُ الذي ذكرناه في الإيصاء وتركه كافٍ في [غرضنا] (5) .
7656- ومما نذكره في [المضمِّنات] (6) أن المودَع لو نقل الوديعة نقلاً مسوَّغاً كما تفصَّل ذلك فيما تقدم، ونوى عند النقل تغييب الوديعة والاستبدادَ بها، فإنه يصير ضامناً لأن (7) هذا فعلٌ مبتدأ منه اقترن به قصد العدوان، ولو لم يجدّد نقلاً، ولم يُحدث فعلاً، ولكنه نوى التغييب والاستبداد، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن مجرد
__________
(1) (س) : لأجل التلف.
(2) لا ثبتَ: أي لا دليل.
(3) في الأصل: في ذلك قولاً واحداً هم حيث يجزمون.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: عوضنا.
(6) في الأصل: الضمنات.
(7) ساقطة من (س) .(11/399)
النية [لا] (1) يتضمن تضمين المودَع.
وحكى العراقيون والشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن مجرد النية يتضمن التضمين، كما أن مجرد نية الاقتناء تقطع حول التجارة.
ولو طرح المالك الوديعةَ في يد المودَع، فنوى المودَع مع الأخذ الخيانةَ، فظاهر المذهب أنه يضمن لاقتران النية بأول الأخذ، وهذا بمثابة ما لو التقط الملتقط وقرن بالالتقاط قصد التغييب، وما عدا ذلك غيرُ معتد به.
والمذهب المبتوت ما ذكرناه.
7657- وقد نجز القول فيما يتضمن تضمين المودَع وآل حاصلها إلى التضييع، والانتفاع، ومخالفةِ المالك، والجحْدِ، وتركِ الإيصاء، وهو من أسباب التضييع.
7658- وقد تبين القول في نية الخيانة، ووضح محل الخلاف والوفاق، ثم النية التي ذكرناها تجريد القصد، فأما ما يخطر [من الهواجس] (2) من ضروب الوساوس وداعيةُ الدين يدافعها، فلا حكم لها.
وإن تردد الرأيُ ولم يجزم قصداً، فالظاهر عندنا أن هذا لا حكم له حتى [يجرّد] (3) قصده في العدوان.
(4 فإذا نجز بيان العدوان 4) فإذا اعتدى (5) المودَع وضمن [فترك] (6) سببَ العدوان، وإن لم يعُد أميناً عند الشافعي رضي الله عنه، وكان طريان العدوان في قطع الوديعة وحكم الأمانة بمثابة طريان الجنون على الوكيل، ثم إذا جن الوكيل وحكمنا بانعزاله، فلو أفاق لم يعُد وكيلاً، والمسألة من [طيول] (7) مسائل الخلاف.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: في الفواحس (كذا) .
(3) في الأصل: يحرز.
(4) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(5) (س) : اعترف.
(6) في الأصل: قبول.
في الأصل: ظنون.(11/400)
فلو قال المالك: [ائتمنتك فيما تعدّيتَ ابتداء، ولم يبدّل يده، ففي زوال الضمان مع استمرار اليد الأولى وجهان مشهوران، ذكرناهما في مواضعَ من كتاب الرهن وغيره، فلو قال المالك] (1) : أبرأتك عن الضمان، ففي زوال الضمان وجهان مبنيان على [أن] (2) الإبراء عما لم يجب ووجد سببُ وجوبه هل يصح أم لا؟
وبيان ذلك أن الضمان في [الأعيان] (3) المضمونة إنما يجب عند تحقق التلف، ولكن العدوان قبل التلف سببٌ في الضمان، فإذا أبرأ من له الحق عن الضمان قبل التلف، كان ذلك إبراء عما وجد سببه، ولم يجب بعدُ.
وفي هذا أدنى نظر؛ فإن الإبراء لو كان يوجد من هذا المأخذ، للزم على مقتضاه أن نقول: إذا أتلف العين بعد الإبراء لا يضمن قيمتها، وهذا بعيد لم [يسمح به] (4) الأصحاب.
ولو قال قائل: إنما أبرئه بشرط ألا يجدد عدواناً، فهذا إبراء مشروط، والإبراء على هذا الوجه يفسد، فالوجه إذاً في إجراء الوجهين ردُّهما إلى أن الضمان هل يسقط بإسقاط المالك حتى تعود العين أمانة؟ فعلى وجهين، فيكون الإبراء إذاً في معنى ائتمان جديد كما قدمناه.
وهذا نجاز الفصل بما فيه.
فصل
7659- نقل المزني مسائل متفرقة في أحكام الأمانة إذا دامت، وفيما [يصدَّق] (5) المؤتمن فيه، وأنا أرى جمعَها تحت ضوابط؛ حتى تُلفَى أحكامُ الأمانة مجموعةً
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (س) .
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: الإعارة.
(4) في الأصل: لم يصح الأصحاب.
(5) في الأصل: يتصدق.(11/401)
متصلةً بذكر أسباب العدوان [المناقضة] (1) للائتمان.
فنقول: إذا ثبتت الأمانة وانتفت أسباب العدوان، فلو فرض تلف الوديعة، فلا ضمان.
وإذا لم تكن الوديعةُ مضمونةَ العين، فليست مضمونة الرد.
[وقد] (2) أجمع علماؤنا على أنه لا يجب على المودَع ردّها بنفسه، ولا يلزمه مؤنةٌ بسبب الرد، وإنما الذي عليه أن يخلّي بين المودِع المالك وبين الوديعة، حتى يأخذها بنفسه، فأما تولّي الرد وتعاطيه بالنفس أو بالغير، فمما لا يجب على المودَع وفاقاً.
7660- ثم من أحكام الأمانة [تصديق] (3) المودَع، وفي ذلك تفصيلٌ، وهو مقصود الفصل، و [تصديقه] (4) يتعلق بشيئين: أحدهما - دعوى التلف.
والثاني - دعوى الردّ.
فأما القول في دعوى التلف، فإن ادعى المودَعُ التلفَ بسبب خفي ممكن ليس يجب في حكم العرف ظهوره إذا وقع، فالمودَع مصدق فيه مع يمينه، فإن حلف، انقطعت الطَلِبةُ (5) عنه، وإن نكل عن اليمين، رُدت اليمين على المالك، ثم إنه يحلف على نفي العلم؛ إذ لا يمكنه أن يثبت اليمين في نفي التلف وبقاء العين، فتكون يمينه في نفي التلف كيمينه على نفي فعل الغير. هذا هو المذهب المعتمد.
ومن أصحابنا من يكلّفه جزمَ اليمين؛ من جهة أنه من الممكن أن يطّلع على بقاء العين في الوقت الذي ادعى المودَع تلفها فيه، وإذا كان هذا ممكناً، فجزمُ اليمين ممكنٌ أيضاً، وسيأتي تفريع هذا وأصله في الدعاوى والبينات.
ثم إن العراقيين ذكروا (6) ترتيباً حسناً في ادعاء الأمين التلف، فنسوقه على وجهه، ثم نذكر مسالك المراوزة.
__________
(1) في الأصل: المتناقضة.
(2) في الأصل: فقد.
(3) في الأصل: بتصديق.
(4) في الأصل: وبتصديقه.
(5) (س) : المطالبة.
(6) (س) : ذكروا في هذا ترتيباً في ادعاء.(11/402)
7661- قال العراقيون: إن ذكر المودَع سبباً في التلف ممكناً، وكان مثله لا يظهر في العادة، فيتعذر إقامة البينة عليه، فالقول قوله مع يمينه.
وإن ذكر سبباً يظهر مثله في العادة ويتيسر إقامة البينة عليه، مثل أن يدعي هلاك الوديعة بحريق في الدار ظاهرٍ وغيرِه، مما شأنه أن يظهر، كالنهب العظيم، وسيلٍ [جارف] (1) ينقلب على السكة أو (2) المحِلة، قالوا: إذا ادّعى المودَع التلف بجهة من هذه الجهات، فلا بد من إقامة البينة، ولا يُقبل قولُ المودعَ، ويمينه، وشبهوا ذلك في طرده وعكسه بقول القائل لامرأته: إذا حضت فأنت طالق، فإذا ذكرت أنها حاضت قُبل قولُها، وإن اتهمت، حلفت، وإن قال لها إذا ولدت ولداً، أو دخلت الدار، فأنت طالق، فإذا ادّعت أنها ولدت أو دخلت، لم يحكم بوقوع الطلاق حتى تقوم البينة على وجود الصفة التي تعلّق الطلاق بها، أو يعترف الزوج بها.
هذه طريقة العراقيين.
7662- وقال صاحب التقريب: إذا ادعى الأمين تلف الوديعة بحريقٍ في المحلة أو غير الحريق مما شأنه أن يظهر في العرف إذا وقع، فإذا ادعى المودَع ذلك، ولم يشتهر في الناس ما ادعاه، وحكمُ العرف أن يشتهر، فلا [يُصدق] (3) الأمين في دعوى ذلك، فإن الحالة مكذبة له، ومن ادعى أمراً [تكذبه] (4) المشاهدة فيه، فقوله غير مقبول.
ثم قال: ولو رام الأمين تحليفَ المودِع على نفي الحريق في هذه الصورة، فهل له [ذلك] (5) ؟
فعلى وجهين: أحدهما - ليس له تحليفه؛ فإن المشاهدة كذّبته في ذلك؛ إذ
__________
(1) في الأصل: سيلٍ جارٍ وينقلب.
(2) (س) : يتغلب على السكة والمحلة.
(3) في الأصل: يتصدق.
(4) في الأصل: يكذب.
(5) زيادة من (س) .(11/403)
الحريق الظاهر لا يخفى، وتتوفر الدواعي على نقله، فإذا لم ينقل بان الكذب، ولولا ظهور الكذب، لصدّقنا المودَع وحلفناه.
والوجه الثاني - أن له تحليفَ مالك الوديعة؛ فإنه لم ينحسم إمكان صدق المودَع بالكلية، وذلك بأن يُفرضَ حريق وانطفاء مع ذهول الناس، أو مع اشتغالهم بما ألهاهم عن التعرض لهذا الحريق، ولا يمتنع فرض مواطأة في ليلةٍ (1) حتى يخفوا ذكر الحريق.
وهذا محالٌ عظيم، وفيه تلبيساتٌ لا يستقلّ بفكِّها إلا المتبحرون في الأصول.
وحظ الفقه منه أنا في توجيه هذا الوجه إن قدَّرنا الإمكانَ، لزمنا تصديقُ المودَع، وإن لم نصدقه لظهور كذبه، لم ينتظم لنا [تصوّرُ] (2) إمكان صدقه، ولكن يجب أن [نعتقد] (3) أنا وإن بنينا الوديعة على تصديق المودَع، فلا يمتنع أن نشترط في ذلك ألا يعارِض قولَه أمرٌ في نهاية الوضوح، وإذا لم يظهر ما يناقض قولَه، فإذ ذاك [نصدّقه] (4) .
وهذا يناظر النزاع بين الزوجين في الوطء، حيث نجعل القولَ قول الزوج في إثبات الوطء؛ نظراً إلى استبقاء النكاح.
وهذا الأصل في هذه القاعدة ينزل منزلة أصل الائتمان في الوديعة؛ فإن الشرع اقتضى تصديق (5) الزوج في الوطء، مع أن الأصل عدمه؛ لاستبقاء النكاح، كما [جعل] (6) القولَ قول المودَع في دعوى التلف، مع أن الأصل عدمه لتحقيق معنى الأمانة.
ثم لو ادعت المرأة أنها عذراء، وشهد بعذرتها نسوة ثقات، فلا يصدق الزوج في دعوى الوطء لظهور كذبه، ولكن من حيث إنا نجوز عوْد العُذرة على بعد نجوّز للزوج وإن لم يصدّق أن يحلّف المرأة، فلا يمتنع أن يجري في الوديعة حالةٌ ظاهرة،
__________
(1) كذا في النسختين.
(2) في الأصل: نتصور.
(3) في الأصل: نمتنع.
(4) في الأصل: "مصدّق".
(5) (س) : "فإن الشرع يصدق الزوج ... ".
(6) في الأصل: "كما أن القولَ قول المودَع ... ".(11/404)
لا يصدّق معها الموع، ولكن من حيث لا يزول أصل الإمكان على استيقان لا يمتنع تحليفُ المودَع [مالكَ] (1) الوديعة.
فإن قيل: فلم كانت مسألة العُذْرة متفقاً عليها؟ قلنا: لأن عَوْد العُذرة ليس متعلّقاً بمطّرد العادة، بل هو أمر يرتبط بالجبلة، وأما الحريق، فخفاؤه يكاد يخرم العادة، فاقتضى ذلك تردداً.
هذا [منتهى] (2) ما ذكره الأئمة نقلاً.
7663- وقد تحصّل من مجموع ما ذكروه ثلاث طرق: أما العراقيون - فإنهم قالوا: إذا ادعى شيئاً في التلف يهون إثباته بالشهادة، لم يصدّق، ولم نقنع بيمينه، وإنما نقنع بيمينه إذا ادعى سبباً خفياً، وألحقوا دعوى الرد بالأسباب الخفية؛ لأن العادة جارية بإخفاء الودائع بأخذها (3) .
7664- وأما المراوزة، فإنهم رأوا [تصديقَ] (4) المودع، وإن ظهرت مخايل [كذبه] (5) ، ويكتفون بإمكان صدقه، قرُب أو بعُد (6) ، ويفصّلون القول في الحريق، ويقولون: إن كان ليليّاً بحيث يتوقع انطفاؤه من غير اطلاع، وفرض في طرفٍ من البلدة، فخفاؤه نادر، ولكنه ممكن، فالمودع يصدق مع يمينه. فإن كان الحريق نهاراً بحيث نستيقن أنه لو كان، لما خفي، فلا سبيل إلى التصديق، ولا يبقى تنازع.
7665- وأما صاحب التقريب، فإنه أثبت منزلةً يظهر فيها الكذب ولا ينقطع الإمكان، كما صورناه، وقضى فيها بأن المؤتمن لا يصدق لظهور الكذب، ثم ردّد الجواب في تحليف المالك.
وطريقُه ينفصل عن طريقة العراقيين؛ من جهة أنهم يقولون: علامة الكذب وإن لم
__________
(1) في الأصل: تحليف المودِع في ذلك الوديعة.
(2) زيادة من (س) .
(3) كذا في الأصل، وفي (س) : "وأخذها". والمعنى: عند أخذها.
(4) في الأصل: بتصديق.
(5) في الأصل: كونه.
(6) أي بعد الامكان وقُربه، أي أمكن على بعدٍ أو على قرب ٍتصديقه.(11/405)
يظهر إذا كان [إثبات] (1) سبب التلف ممكناً بالشهادة، فلا يحلف المودع.
فهذا بيان الطرق.
فقد خرج مما ذكرناه أن المودع مصدَّق في ردّ الوديعة يحلف عليه، وهو مصدق في دعوى التلف أيضاً، وهذا الأصل متفق عليه، وإنما تردد الأصحاب في التفاصيل.
7666- ومما يتعلق بأحكام الائتمان أن المودَع لو ادعى الرد على رسول المودِع، فأنكر الرسول القبض، وأنكر المالك وصولَ الوديعة إلى يده، فالقول في هذا المحل قولُ المالك، وقول الرسول إن ارتبطت الدعوى به، والسبب (2) في ذلك أن المؤتمن لم يدع رد الوديعة على من ائتمنه، وإنما ادعى ردها على الرسول، وهو لم يأتمنه.
ومن قواعد الشريعة أن الأمين إذا ادعى الرد على من لم يأتمنه، لم يقبل قوله مع يمينه، ولهذا نقول: إذا ادعى الوصي ردّ مال الطفل عليه بعد بلوغه، لم نكتف بقول الوصي ويمينه، فإنه (3) وإن كان أميناً، [فقد] (4) ادعى الرد على من [لم] (5) يأتمنه، وهو الطفل الذي بلغ، وقد شهد بذلك نص القرآن، فإنه عز من قائل قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] والأمر بالتأكيد [بالشهود] (6) يشعر بأن الراد لا يصدق في المردود عند تقدير الجحود، وهذا يعضد التلويح الذي ذكرناه في أن المودِع لما أحل المودَع محل المؤتمنين [فقد التزم تصديقَه] (7) وهذا يختص بما يدور بينه وبين المؤتمن، فأما من لم يأتمنه، فليس ملتزماً بتصديقه. فإذا اعتضد الحكم [بظاهر] (8) القرآن [وطرفٍ] (9) من المعنى اللائق بالموضوع الذي فيه الكلام، وجب الاكتفاء به.
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: السبب (بدون واو) .
(3) ساقطة من (س) .
(4) في الأصل: وقد.
(5) في الأصل: من لا يأتمنه.
(6) في الأصل: الشهود.
(7) في الأصل: فهذا لزم بتصديقه.
(8) في الأصل: فظاهر القرآن.
(9) في الأصل: وطرق.(11/406)
وعلى هذا الأصل لو ادعى الأب الردَّ على ولده بعد بلوغه ورشده، لم يقبل قوله لما ذكرناه.
7667- ولو أراد المودَع سفراً، وجوزنا له أن يودِع الوديعةَ عند أمين، فإذا فعل، ثم ادعى المودَع الثاني الردّ على المالك، [وأنكر] (1) المالك، لم يصدَّق المودَع (2) على المالك؛ لأن المالك لم يأتمنه، وإنما [يُصدّق] (3) المودَع في الرد إذا ادعى على من أحلّه محل الأمناء.
7668- وينشأ من هذا المنتهى أصل، وهو أنا إذا جوزنا للهامّ بالسفر أن يودع الوديعة عند أمينٍ، فلو فعل، وانطلق، ثم عاد فأراد الاسترداد من المودع الثاني وردّ الوديعة إلى يده، [فهذا] (4) فيه احتمال ظاهر؛ من جهة أن يده زالت عن الوديعة بالكلية، فلو جوزنا له أن يسترد الوديعة، لكان هذا في حكم ائتمان جديد، وهذا يبعد على أصل الشافعي.
ويمكن أن يقال: له رد الوديعة إلى يده؛ لأنه الذي أزال اليدَ على حكم الأمانة، وفعل ما له أن يفعله، فكان له العود إلى ما كان عليه، وهذا [يشبه] (5) تردّدَ الأصحاب في أن [وكيل] (6) الوكيل [هل هو] (7) وكيل الوكيل حتى ينعزل بعزله وجنونه، أم هو وكيل الموكِّل؟ فالمودَع من المودَع على هذا الخلاف يخرّج: فإن جعلنا المودع الثاني في حكم المودع من المالك، فعلى هذا كأن المودع الأول خرج من [البين] (8) ، ولكنا مع هذا لا نصدقه إذا ادّعى الرد على المالك؛ من جهة أنه لم يصدر منه ائتمان له.
__________
(1) في الأصل: وأمكن.
(2) لم يصدق المودَع: أي الثاني.
(3) في الأصل: يتصدّق.
(4) في الأصل: وهذا.
(5) في الأصل: الشبه.
(6) في الأصل: وكل.
(7) زيادة من (س) .
(8) في الأصل: اليمين.(11/407)
7669- وعلى هذا يخرّج حكمٌ كثر فيه اضطراب الأصحاب، وهو أن الرجل إذا غصب وديعةً من يد المودَع، فهل للمودَع الدعوى عليه واسترداد العين المغصوبة من يده؟ فيه اختلاف بين الأصحاب: منهم من جوز له ذلك؛ من جهة أنه مستحفَظٌ في الوديعة باستحفاظ المالك، مأمور بالذب عن الوديعة، ومن تمام الذب عنها استردادُها من غاصبها، [فالإيداع] (1) المسلِّط على الحفظ [يُسلّط] (2) على الاسترداد ورد العين إلى الحفظ.
7670- ومن تمام البيان في الفصل الذي خضنا فيه [أنّا] (3) إذا جوّزنا للمودَع [أن يستحفظ عبده وزوجته، إما في ساعات من الليل والنهار،] (4) وإما على العموم، فلو أراد صرف زوجته وولده [عن] (5) القيام بالحفظ، ورد الوديعة إلى يده على حكم الاستبداد، فهذا مسوّغ لا خلاف فيه، وذلك أن استحفاظَه هؤلاء في حكم الاستعانة بهم، وهو الأصل في الوديعة، فإن أراد أن يخرجهم من [البين] (6) ، كان له ذلك؛ فإنهم وقعوا أتباعاً وكانت يده باقية، وإن قام بالحفظ غيرُه.
هذا تمام البيان في هذا الأصل.
7671- ولو قال المودع: رددت الوديعة إلى مأمورك ووكيلِك [باستردادها] (7) وهو فلان، فقال مالك الوديعة: ما وكلته قط، فالقول قول المالك، ولو قال: كنت وكلته [بقبض] (8) الوديعة [ولكنك] (9) لم تسلم إليه الوديعة، فالقول في ذلك قول
__________
(1) في الأصل: بالإيداع.
(2) في الأصل: يناط.
(3) في الأصل: أما.
(4) مابين المعقفين زيادة من (س) .
(5) في الأصل: على.
(6) في الأصل: التبين.
(7) في الأصل: باسترداد.
(8) في الأصل: فقبض.
(9) في الأصل: وكلتك.(11/408)
المالك؛ فإنه الآمر ومنه صَدَرُ (1) الأمر. والمودَع لم يدّع الرد على المودِع نفسه.
ولو قال الوكيل: قد استوفيتُ الوديعةَ وصُدّق من المودَع في ادعاء تسليمها إليه، وأنكر الموكِّل هذا، وقال: تواطأتما عليّ، فلا أنت استرددت، ولا هو ردّ، فالقول أيضاً قول الموكِّل، لم يختلف الأصحاب فيه.
[فإن] (2) قيل: [إن] (3) لم تُصدقوا المودَع لأنه ادّعى الرد على غير من ائتمنه، فالوكيل بالقبض إذا قال: قبضتُ، يجب أن يكون مصدّقاً.
وهذا أصلٌ عظيم في الوديعة، وبه نتبين سرّ [الكتاب] (4) . فنقول: لا شك أن من ادعى قبضاً، فالأصل عدم قبضه، ومن ادعى رداً، فالأصل عدمُ رده، [ولكن] (5) ورد الشرع بتصديق المودَع إذا دار النزاع بينه وبين المالك، حتى [لا يضمَّن] (6) المودَع، فتخرج الأمانة عن حقيقتها، فالمقصود الأظهر في تصديق المودَع تحقيقُ حكم الأمانة ونفي موجَب الخيانة، والوكيل إذا قال: [قبضتُ] (7) ولم يصدقه الموكل، فلا ضمان عليه، ولا تبعة [فلا] (8) معنى لإلزام الموكِّل بتصديقه.
ولو صدق الموكل المودَع في تسليم (9) الوديعة إلى الوكيل، وأنكر الوكيل قَبْض الوديعة وجحده، فالموكل هل يضمِّن المودَع، من جهة أنه [قصّر] (10) ؛ حيث ردّ ولم يُشهد؟
فيه اختلاف مشهور:
__________
(1) صَدَر: بفتح أوله وثانيه، أي صدور.
(2) في الأصل: وإن.
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: الكاتب.
(5) زيادة من (س) .
(6) في الأصل: يتضمن.
(7) في الأصل: قبضته.
(8) في الأصل: ولا.
(9) ساقطة من (س) .
(10) في الأصل: مصر.(11/409)
من أصحابنا من قال: له تضمينه؛ لأنه ضيع الوديعة، حيث سلمها، ولم يستوثق بالإشهاد.
ومنهم من قال: لا ضمان؛ فإنه اعترف بأنه [سلّم] (1) الوديعة ممتثلاً أمره، وما كان [شرط] (2) المالك الإشهاد في تسليم الوديعة.
وأطراف الكلام في الأمانات تدور على التصديق من غير [إحواج] (3) إلى [إقامة] (4) بينة، وقد ذكرنا لهذا نظائرَ في الوكالة وغيرها من الكتب، من أقربها أن الرجل إذا وكل باستيفاء دين له على رجل، فقال الوكيل: قد استوفيتُ ودفعت إليك، فقال الموكل: ما استوفيتَه، فالقول قول الآمر؛ إذ لو ثبت على الوكيل أنه لم يستوف، لم يكن متعدياً، ولا ضامناً، وإذا كان لا يلزمه من تكذيبه ضمان، فالخصومة ترد إلى أصلها، وهو أن الأصل عدم الاستيفاء.
7672- وبمثله لو قال: بع هذه السلعة واقبض الثمن، فباعه بثمن حالٍّ، ثم اختلفا، فقال: قبضتُ الثمن وتلف عندي، أو [دفعته] (5) إليك، وقال الموكل: لم تقبض، بل سلمت المتاع قبل قبض الثمن، فالقول في هذا المقام قولُ الوكيل؛ لأن الموكل يدعي عليه تعدّياً وضماناً؛ فإن تسليم المبيع قبل قبض الثمن عدوانٌ موجِب للضمان، ونحن لا نورِّط الوكيل في الضمان بقول الموكل، فاستبان أن الدَّوران على ثبوت الضمان على الوكيل وانتفائه عنه، فإذا لم يكن في تكذيبه ما يوجب تضمينه، فلا يبعد أن لا يصدق إذا تعلقت الخصومة بثالث.
وقد استقصينا هذا الفصل من أحكام الوكالة في كتابها، وذكرنا أنا في هذه المسألة الأخيرة إذا صدقنا الوكيل؛ حتى لا ننسبه إلى عدوان، فهل ينفذ هذا التصديق
__________
(1) في الأصل: مسلم.
(2) في الأصل: مشرط.
(3) في الأصل: إخرا، و (س) : إحراج. والمثبت تصرّف من المحقق.
(4) في الأصل: إقام.
(5) في الأصل: دفعت.(11/410)
في حق المشتري؛ حتى نحكم بسقوط الثمن عنه؛ إذ هذا [مقتضى تصديق] (1) الوكيل في قبضه، فإذا صدق الوكيل في قبض الثمن، تضمن ذلك براءةَ المشتري.
[و] (2) اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من حكم ببراءة المشتري لِما ذكرناه، ومنهم من لم يحكم ببراءته، وصار إلى أن فائدة تصديق الوكيل تبرئتُه عن الضمان، حتى لا ينسب إلى العدوان، بسبب [رفع] (3) اليد عن المبيع قبل تسليم الثمن (4) .
وقد استقصينا الكلام في جوانب هذه المسألة، وأوضحنا الإشهاد ومعناه، وموتَ الشهود، فلا معنى لإعادته.
7673- وقدرُ غرضنا من مساق هذا الفصل أن المودَع إنما [يُصدّق] (5) مع مؤتمِنه ومودِعه، فإذا تعلق النزاع بمن لم يأتمنه، فلا يصدقه من لم يأتمنه، فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في حكم الأمانة.
7674- وبقية الفصل أن المودَع ذا فعل شيئاً يقتضي تضمينه في حالة الاختيار، ولا [يقتضيه] (6) في حالة الاضطرار، كنقل الوديعة أو المسافرة بها على التفاصيل المقدمة، فإذا تلفت الوديعة، فادعى المودَع اضطراراً يخرج به فعلُه عن كونه مضمّناً، وأنكر المودِع ما ادّعاه من الاضطرار، فالقول قول المؤتمَن المودَع، وكل نزاع يدور بين المالك وبين المودَع من هذا الفن، فكأن المالك يدعي سببَ تضمينٍ والمودَع ينفيه، أو كأن المودعَ يدعي سبباً يدرأ الضمان وكأن المالك ينفيه، فالقول قول المودَع في جميع ذلك. ثم هذا يُعرَض على تفاصيل الطرق التي أوضحناها في خفاء الأسباب وظهورها.
__________
(1) في الأصل: يقتضي بتصديق.
(2) الواو: زيادة في (س) .
(3) في الأصل: رفيع.
(4) زيادة في (س) : "هذا لا يتعدى الوكيل وتبقى المطالبة على المشتري".
(5) في الأصل: يتصدق.
(6) في الأصل: يقتضي.(11/411)
وقد نجز ما حاولنا، في معاقد أحكام الأمانة وجرى هذا مع الفصول المقدمة تمهيداً لأصول الكتاب.
فصل
قال: "ولو أودعه دابّةً، وأمر بعلفها وسقيها ... إلى آخره" (1) .
7675- إذا أودع عند إنسان دابة، ولم يتعرض لعلفها وسقيها، وغاب، فليس للمودَع أن يعطلها، ويقطعَ عنها ما تحتاج إليه، خلافاً لأبي حنيفة (2) . ومعتمدُ المذهب أن قبول الوديعة يتضمن القيام بحفظها واستدامتها، وليس من استدامتها أن تعطل حتى تهلك، وهذا يعتضد بالعرف أيضاً، فإن الدّواب لا تُقْبل لتقتل وتترك حتى تموت وتهلك ضياعاً وجوعاً.
ثم للمودَع أن يرفع الأمر إلى القاضي ليستقرض على المالك (3) إن رأى ذلك، أو يبيع الدابة إن رأى بيعها، ولسنا [نطوّق] (4) المودَع الإنفاق من عند نفسه، شاء أم أبى، مع التمكن من الجهة التي ذكرناها، فإن إلزام الإنفاق من غير سبب في الالتزام لا وجه له، وإن لم [يجد] (5) المودَعُ الحاكمَ فأنفق وأشهد (6) واقتصد، فهل يرجع على مالك الدابة؟ اختلف أئمتنا في ذلك على طريقين: فمنهم من خرجه على قولين [ذكرناهما] (7) فيه إذا هرب الجمّال، ومست حاجة المكتري إلى استئجار من يقوم بتعهد الدّواب، ولم يجد حاكماً يراجعه، فإذا استأجر من مال نفسه لمسيس الحاجة، ففي ثبوت الرجوع على الجمّال قولان.
__________
(1) ر. المختصر: 3/176.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 4/551.
(3) (س) : على بيت المال.
(4) في الأصل: نطرق، (س) : نلزم.
(5) في الأصل: يجز.
(6) ساقطة من (س) .
(7) في الأصل: ذكرنا مما.(11/412)
فقال قائلون- المودع إذا أنفق في [مثل] (1) هذه الصورة، كان على ما ذكرناه من
الخلاف.
ومن أصحابنا من قال: [لا يرجع] (2) المودَع قولاً واحداً، والفرق أن المكتري يستحق على الجمال القيام بتعهد الجمال لتتهيأ لحمل الأثقال، فإذا هرب الجمال، فاستأجر المكتري، كان ذلك تسبباً منه إلى استيفاء حقٍّ مستحَقّ، وهذا المعنى لا يتحقق في حق المودَع؛ فإنه المقصّر لمّا قبل الدوابَّ من غير تعرضٍ لعلفها وسقيها.
ولو أذن القاضي للمودَع أن ينفق ليرجع بما ينفقه، فقد ذكر أصحابنا في ذلك خلافاً، [وقد] (3) أوضحنا مثلَ هذا الخلاف في مثل هذه الصورة من مسألة الجمّال.
وهذا الخلاف لا يُتلقى مما قدمناه فيه إذا لم يجد الحاكم فأنفق؛ فإن الحاكم إذا رأى الاستقراض على ربّ الدواب أو رأى بيعَ دوابه، كان له ذلك، والمودَع مع الحاكم لا يستبد، فإذا كان أراد الحاكم أن يأذن له لينفق ويرجع، فوجه الامتناع فيه عند من يمنع أنه في حكم [المقرض] (4) القابض، وهذا يبعد اجتماعه في حق الشخص الواحد [ومهما] (5) تعلق أمرٌ بالحاكم وردَّدنا فيه رأياً، لم نعنِ به أن الحاكم لو أدى اجتهاده والمسألة مجتهد فيها، لم نتبع اجتهادَه؛ فإن اجتهاد القضاة متبع بلا خلاف، وإنما الذي نمهده مسلك [النظر] (6) حتى يرى القاضي فيه رأيه، فإن [استقرّ] (7) رأيه على شيء، اتبع.
7676- ثم إذا أوجبنا على المودَع أن ينفق على الدابة، فالقدر الذي يجب إنفاقه
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: لا يراجع.
(3) في الأصل: فقد.
(4) في الأصل: المقبض.
(5) في الأصل: ومما.
(6) في الأصل: النظري.
(7) في النسختين: "استمر" والمثبت من تصرف المحقق.(11/413)
مما يتعين إنعام النظر فيه، فنقول: أما المقدار الذي يقيها الهلاك، فلا بد منه، وكذلك إذا كانت [تتعيّب] (1) ، وإن كانت لا تهلك، فيجب أن يصونها عما يعيّبها؛ فإن التعيب في معنى التلف.
ولا نكلف المودع أن يستفرغ الوسع في تسمينها، والذي يضطرب الرأي فيه أنها إذا كانت على حالةٍ وحدٍّ من السمن عند الإيداع، فهل يشترط أن يعلفها علفاً يبقيها على حدِّها أم نقول: لو انحطت عن ذلك الحد قليلاً، لم يضر، إذا لم ينته النقصان إلى حدّ العيب؟ هذا فيه نظر واحتمال (2) ، ولعل الأوجه أنها إذا كانت على غايةٍ من السمن لا يشترط استبقاؤها على ما كانت عليه، وإن كانت على اقتصاد، فيتردد الرأي، والاحتمال متطرق إلى جميع أطراف المسألة.
7677- ومما يتعلق بهذا أن المودع لو حبس الدابة، ولم يعلفها حتى هلكت، فإن لم تكن [جائعةً] (3) لمّا (4) ثبت يده عليها، ثم حبسها، فهلكت جوعاً، لزمه الضمان. ولو كانت عند الإيداع على حدٍّ من الجوع، فحبسها، وازداد الجوع وتمادى، فنفقت الدابة، وكان نفوقها بسبب الجوع السابق وما انضم إليه، فهذا يستدعي تقديم مسألة ستأتي مشروحة في الجراح، إن شاء الله تعالى، وهي أن الرجل إذا حبس إنساناً وأغلق عليه باباً حتى مات جوعاً، وكان على حدٍّ من الجوع لما حُبس، فانضم ما زاد إلى ما كان، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يجب الضمان؛ فإن الحابس لو حبسه في مثل الزمان الذي جرى الحبس فيه ولم يكن جائعاً عند ابتداء الحبس [فهذا] (5) القدر كان لا يهلكه، ولم يوجد منه إلا الحبس في هذا القدر، فلا يؤاخذ بتلفٍ ترتب على الجوع السابق. هذا وجه.
والوجه الثاني - أن الضمان يجب؛ فإن حبسه صادف موصوفاً بالجوع، فكان
__________
(1) في النسختين: تعيبت. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) (س) : واجتهاد، ولعل الأصح.
(3) في الأصل: جائفة.
(4) (س) : فإن لم تك جائعة لم ثبتت يده عليها.
(5) في الأصل: وهذا.(11/414)
مهلكاً لمصادفته جائعاً، وهذا ينزل منزلة ما لو ضرب رجلاً مريضاً مُدْنفاً سياطاً لا يهلك الصحيح بها ويقصد بها قتل المريض، فإذا مات، كان الضرب موجباً للقصاص؛ فإن المريض يُقصد قتله بهذه الضربات. (1 فقال الأئمة إذا حبس المودَعُ الدابة وكانت جائعة 1) فتمادى الجوع إلى الموت، ففي وجوب الضمان وجهان مرتبان على الوجهين في حبس الآدمي، وجعلوا الصورة التي ذكرناها في الوديعة أولى بسقوط الضمان فيها؛ من قبل أن المودعَ [له] (2) أن يحبس الدابة على الجملة، وليس يجوز لمن حبس آدميا أصلُ الحبس.
وسنذكر في كتاب الجراح، إن شاء الله وجهاً ثالثاً في أن الضمان يتقسط؛ فيسقط بعضه ويجب بعضه، ولا طريق إلا التنصيف؛ فإنّ وقْع الجوع في الباطن [يختلف] (3) أولاً وآخراً، وهذا وجه لا بأس به، وإذا خرج في حبس الآدمي، خرج في حبس الدابة [من غير] (4) علف أيضاً.
7678- ولو قال مودِع الدابة: أودعتها عندك، فلا تعلفها ولا تسقها، ولا عليك لو ماتت، فلو حبسها حتى هلكت، فلا شك أنه يأثم، ويأثم مالكُها، والذي قطع به الأصحاب انتفاء الضمان؛ فإن الضمان حق مالك الدابة، وقد أباح التسبب إلى إهلاكها. وحكى العراقيون وجهاً عن الإصطخري أن الضمان يجب على المودَع، ولست أدري لهذا وجهاً؛ فإنه إن قال ذلك من جهة تحريم ترك العلف، فيلزمه على مساقه أن يقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل عبدي هذا، فقتله يلزمه الضمان، فإن طَرَد مذهبَه في هذه الصورة، فقد استجرأ على مخالفة الإجماع، وإن رام [فرقاً لم] (5) يجده، ولست أعد مثل هذا من متن المذهب، ولكني لا أجد بدّاً من حكايته.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: يخلف.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: "في ماله يجده". وهذا من شواهد وعلامات سوء هذه النسخة، وأن ناسخها يرسم ولا يقرأ.(11/415)
7679- ومما يتعلق بالفصل أن المودِع لا يكلفه القيام على الدابة بنفسه وتعاطي سقيها، وهذا يخرّج على ما مهدته في استعانة المودَع بعبده والمتصلين به، ولو كانت الدابة [تخرج] (1) للسقي، فإن أخرجها [عبدٌ أو أجير] (2) ، فلا بأس، وذلك مع اطراد الأمن واعتدال الحالة؛ فإن طرأت حالة في البلدة تقتضي أن ألا تسلّم الدابة إلى مملوك أو سايس، فيجب على المودَع أن يرعى في كل حالة ما يليق بالعرف فيها، والتعويل في التفاصيل على العرف، وأعرف الناس به أعرفهم [بفقه] (3) المعاملات.
فصل
قال: "فلو حوّلها من خريطة إلى أحرز منها ... إلى آخره" (4)
7680- نصوِّر هذا الفصل بفض الختم والشدّ، فنقول: إذا كانت الوديعة في خريطة، وعليها ختم المودِع، فإن فض المودَعُ الختم، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب في الطرق أن المودَع يصير ضامناً للوديعة بفض الختام.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً أن فض الختم لا يوجب الضمان، وهذا غريب (5) جداً، ووجهه على بعده أن فض الختم ليس من الأسباب المضمّنة التي ذكرناها في صدر الكتاب، ولو كان منها، لكان يلتحق بالتضييع، وليس فض الختم [تضييعاً] (6) ؛ فإن الختم لا يزيد في الصون والإحراز، وهذا متجه في القياس، ولكن ظاهر المذهب ما قدمناه.
فإن قيل: فما وجه ظاهر المذهب؟ قلنا: فض الختم فعلٌ يشعرُ بخيانة المؤتمن،
__________
(1) في الأصل: فخرج.
(2) في الأصل: عبداً وأخبر (بهذا الضبط والإعجام) . وهو تصحيف فاضح.
(3) في الأصل: بصفة.
(4) ر. المختصر: 3/177.
(5) لم يصف النووي هذا الوجه بالغرابة، بل حكاه أولاً، ثم ذكر الآخر، وقال: إنه الأصح. (ر. الر وضة: 6/334) .
(6) في الأصل: متضيعاً.(11/416)
وإذا ظهرت مخيلة الخيانة، [ارتفعت] (1) الأمانة، وهذا يتقوى بالعرف؛ فإن الناس يعدّون من فض الختم خواناً، وقد ذكرنا أن مبنى الكتاب على العرف.
والذي يشهد له أن المودع إذا انتفع بالوديعة، ضمنها، وليس انتفاعه تضييعاً، ولكن يستبين به مخايل الخيانة، ومجاوزة حدود الأمناء.
هذا قولنا في فض الختم.
وألحق الأئمة بذلك حلَّ الشداد عن الكيس، إذا كان مشدوداً، وهذا فيه تفصيلٌ عندي، فإن كان الشدّ على وجهِ يقصدُ، وقد يكون إعلاماً حتى يستدل ببقائه على بقاء الكيس على ما كان، فهذا كالختم، فإن كان الشد قريباً، بحيث لا يقصد مثلُه في صوان (2) [أو إعلام] (3) فما [أراه] (4) مما يُبالَى به، والاحتمال يتطرق إليه على حال.
7681- ومما يتصل بذلك، وهو مقصودٌ في نفسه أن المودَع إذا فض الختم وضمّناه الوديعة، فلا كلام، وإن لم يكن الكيس مختوماً، ولا مشدوداً شدّاً معتبراً، فلو أخذ المودَعُ من جملة الدراهم درهماً، و [استنفقه] (5) ، ضمنه، ولا يضمن غيره، وإن ردّ بدلَه من مِلكه إلى الكيس، فالمردود إلى الكيس ملكُه، ولا يتأدى به ما عليه؛ فإن الدين لا يتأدى إلا [بمُقبضٍ] (6) وقابض، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه، فالدرهم إذاً مُقَرٌّ على ملكه، ثم إنا ننظر وراء ذلك، ونقول: إن كان [درهمه] (7) يتميز عن دراهم الكيس، [فلا] (8) تصير الدراهم مضمونة عليه، وإن اختلط درهمه بدراهم الكيس على وجه لا يتميز، فيصير ضامناً [لجميع] (9) دراهم
__________
(1) في الأصل: أو نفعت.
(2) (س) : جوان. والصوان بضم الصاد وكسرها ما يصان فيه الأمتعة.
(3) في الأصل: أو علام.
(4) في الأصل: رآه.
(5) في الأصل: وأشفقه.
(6) في الأصل: بمصيصٍ (كذا) .
(7) في الأصل: درهم.
(8) في الأصل: ولا.
(9) في الأصل: بجميع.(11/417)
الكيس، وكلُّ من خلط مال نفسه بمال غيره متعدياً، صار ضامناً لجميع مال الغير، وإن قل قدر ماله، والسبب فيه انبساط أثر الخلط على جميع المال.
هذا إذا أخذ درهماً واستنفقه، ثم رد بدله.
فأما إذا أخذ الدرهم من الكيس ولم يفض ختماً، ولا حل شداداً، ثم رد ذلك الدرهم بعينه إلى الكيس، نُظر: فإن كان ذلك الدرهم متميزاً عن سائر الدراهم، فالضمان لا يعدوه إلى سائر الدراهم، وإن اختلط ذلك المضمون بسائر الدراهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يضمن جميعَ الدراهم؛ فإن الدرهم المردود إلى الكيس مضمون؛ بناء على أن المودع إذا ضمن عيناً من أعيان الوديعة لم يعد أميناً فيها بردها إلى الصون المطلوب منه، فالدرهم إذاً وإن رُدّ مضمونٌ، وإذا تحقق الاختلاط، فلا درهم يشار إليه إلا ويجوز أن يكون ذلك الدرهم، [فانبسط] (1) الضمان على الجميع، وصار كما لو خلط درهماً من دراهمه بتلك الدراهم.
والوجه الثاني - أنه لا يضمن إلا درهماً؛ فإنه لم يتعدّ إلا في درهمٍ، ولمّا رده، فهو [مال] (2) صاحب الوديعة، فلا عدوان في الخلط.
7682- ومما يليق بهذا المنتهى أنه إذا وضع وديعة عند إنسان والتمس منه أن يجعلها في ظرفٍ من ظروفه، فإذا فعل المودَع ذلك، ثم أراد إخراج الوديعة من ذلك الظرف، وردَّها إلى ظرفٍ آخر، فلا بأس إذا لم يكن في النقل من الظرف المعيّن إلى ظرفٍ آخر إخلال بالإحراز، وحطٌّ عن حدّ الحرز الأول. وأعظم منازل الظروف -إن كان لها أثر في الإحراز- أن تكون كالبيوت. ولو قال المالك احفظ [هذه] (3) الوديعة في هذا البيت، فنقله إلى بيت آخر، لم يضرّ ذلك إذا اقتصر على التعيين، ولم ينه عن النقل، فإن نهى عن النقل، فقد مضى تفصيل المذهب فيه.
__________
(1) في الأصل: ما ـسط.
(2) (س) : ملك.
(3) مزيدة من (س) .(11/418)
[فإن] (1) كان الظرف يؤثر في الإحراز، بأن يعسر قرضه (2) وقطعه، فهو بمثابة البيوت إذا عينت. هذا إذا كان الظرف للأمين.
فأما إذا كان الظرف لصاحب الوديعة، فأخرج المودَع الوديعة من ذلك الظرف وحفظها دونه، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن هذا يضمّنه الوديعة، وينزل منزلة فض الختم، وحل العِفاص والوِكاء؛ فإن التعرض لإخراج الوديعة من ظرفها تفتيش، والتفتيش عن الودائع من شيم الخوّان.
والوجه الثاني - أن ذلك لا يضر، وليس هو في معنى الفض والحل؛ فإنهما يشعران بطلب الاطلاع على أقدار الودائع، وهذا هو المحذور، فإذا كان الكيس مفتوحاً، فليس في تمييزه (3) من الدراهم طلبُ اطلاع، والكيس مع الدراهم في حكم وديعتين، فإذا أراد المودَع أن يحفظ وديعتين في بيتين، [فلا] (4) حرج عليه.
هذا منتهى القول فيما يتعلق بالختم، والحل، والشدّ.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شرط ألا يرقد على صندوق ... إلى آخره".
ثم قال: "ولو شرط أن يربطها في كمه، فأمسكها في يده ... إلى آخر الفصول" (5)
7683- جمع الشافعي رضي الله عنه [بين] (6) مسائل، وضابطُها واحد، وجامعها من طريق التصوير أن يذكر مالكُ الوديعة في حفظها جهةً مخصوصة في الكيفية، ثم إن
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) (س) : قضه.
(3) تمييزه من الدراهم: أي فصله عنها، وحفظ كل منهما على حدة.
(4) في الأصل: ولا.
(5) ر. المختصر: 3/178.
(6) في الأصل: من.(11/419)
المودَع يخالف تلك الجهة إلى أخرى، وذلك مثل أن يدفع دنانير إلى إنسان ويقول له: اربطها على كمك، فاحتوى عليها المؤتَمن بكفه، فهذا احتياطٌ من وجه، وإن كان مخالفةً لما ذكره المودِع، وقد اختلف طرق الأصحاب في ذلك.
فالطريقة المشهورة نأتي بها على وجهها، ثم نلحق بها غيرَها، فنقول: إن لم يَجْرِ من صاحب الوديعة تنصيصٌ على [كيفية] (1) الحفظ، فلا معترض على المودَع: ربطَ الوديعة في كمه، أو أمسكها في كفه؛ فإن هاتين الجهتين في الحفظ بمثابة بَيْتين في الدار، وكل واحد منهما يتصف بكونه حرزاً معتاداً في مثل الوديعة المفروضة، فالمؤتمن يتخير في حفظ الوديعة في أي بيت شاء.
فأما إذا عين صاحبُ الوديعة نوعاً من الحفظ مثل أن يقول: اربطها في كمك، فاحتوى عليها بكفه، فالربط على الكم يختص بنوعٍ من الاحتياط في بعض الأحوال، فإنه لو غفل أو غلبته عيناه، فالمربوط على الكم لا ينسلّ، ولا يتبتّر (2) ، فلو كانت الوديعة في كفه، وغلبته عيناه، لاسترخت أنامله، وانسلت الوديعة.
والضبط في الكف قد يكون أحرز في بعض الأحوال، فإن غاصباً لو أراد [سلب] (3) الوديعة من حافظها، فكونها في الكف أحوط وأضبط من كونها [مربوطة] (4) على الكُم، وكذلك الطَّرار قد يهون عليه [حلّ] (5) الكُمّ، واستخراج ما فيه، ولا يعصم عنه الربط، ولا يتوصل الطرار إلى ما يحتوي المرء عليه بكفه.
فإذا لاح ذلك، ابتنى عليه ما ذكره الأصحاب، قالوا: إن عيّن مالك الوديعة الربطَ على الكم، فضبط المودَعُ في الكف، فضاعت الوديعة، نظر: فإن جاء الضياع من جهة الانتشار والانسلال عند النوم، والغفلة، وجب الضمان؛ فإن الضياع جاء من
__________
(1) في الأصل: كفة.
(2) (س) : ولا ينتشر.
(3) في الأصل: سبيل.
(4) في الأصل: مربوط، و (س) : مربوطاً. والمثبت من تصرف المحقق.
(5) في الأصل: طو (كذا) الكم.(11/420)
الجهة [المحذورة] (1) التي يكون الربط فيها أحوط من الاحتواء بالكف، وإن جاء الضياع من جهة [سلب، ونهبٍ، فمانعَ المودَعُ الوديعة] (2) جهده، ثم غُلب، فلا ضمان؛ فإن الاحتواء بالكف أحوط في مثل هذه الحالة.
وحكى الأصحاب نصاً على هذا الوجه عن الشافعي، وذلك أنه قال: "إذا سلم مالكُ الوديعة ماله إلى المؤتمن، وقال: احفظه في هذا البيت، ولا تُدخل عليه زيداً، فخالف المودَع وأدخل ذلك الشخص الذي نهاه المالك عن إدخاله، فضاعت الوديعة، نظر: فإن جاء الضياع من جهة دخول ذلك الشخص، واطّلاعه على الوديعة، بأن سرق هو أو دلّ سارقاً، [وجب] (3) الضمان، وإن جاء الضياع من جهةِ غير هذا الداخل، فلا ضمان. وبنى الأصحاب على ذلك تعيينَ البيت في مثل قول المودع: احفظ الوديعةَ في هذا البيت، فنقله إلى بيت آخر، وكان في كل واحد من البيتين نوعٌ من الاحتياط ليس في الثاني، فإذا ضاعت الوديعة، نظر: فإن تحقق الضياع من جهة قصور البيت المنقول إليه عن البيت المعيّن، وجب الضمان، وإن لم يأت الضياع من جهة القصور، لم يجب الضمان، وذلك مثل أن يكون البيت المنقول إليه أقوى جداراً، وأطولَ سَمْكاً (4) ، وأمتن أساساً، ولكنه كان يتاخم شارعاً، والبيت الآخر أضعف من المنقول إليه، ولكنه لا يتاخم الشارع، فإن أتى الضياع من جهة النقب والبيت المنقول إليه أمنع للنقب، فلا ضمان. ولا يخفى تصوّر نقيض ذلك في الجهة المحذورة، وهذه الطريقةُ المشهورة.
7684-[قال صاحب التقريب لما استاق هذا الترتيب على وجهه: هذا هو المشهور] (5) من المذهب، ويحتمل عندي أنه إذا خالف في جهة الحفظ التي عيّنها
__________
(1) في الأصل: المحروزة.
(2) في الأصل: من جهة سل ونهب، فما بقي المودع جهده.
(3) في الأصل: فأوجب.
(4) سمكاً: ارتفاعاً.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من (س) .(11/421)
مالك الوديعة، فضبط في كفه، [وقد] (1) أمره بالربط، أو ربط وقد أمره بالحفظ في اليد أنه يضمن في الحالتين، سواء جاء الضياع من الجهة المحذورة، أو من جهة أخرى، واعتلّ بأن قال: إذا كان الضمان ممكناً في جهة المخالفة على وجهه، فقد حصل من المودَع تعرض للضمان على الجملة، فإذا تعرض للضمان في بعض (2) الأحوال لأجل المخالفة، وجب أن يصير ضامناً بسبب المخالفة كيف فرض الضياع.
وهذا وإن كان له اتجاه في المعنى، فهو غريب، ويلزم على مساقه أنه إذا نقل الوديعة من البيت المعيّن إلى غيره، وكان بين البيتين تفاوت في جهتي الحفظ أنه يجب الضمان. وفي كلام صاحب التقريب ما يتضمن ذلك.
فأما إذا استوى البيتان في جهات الحفظ، فإذ ذاك إذا نقل، فلا ضمان -وإن عين المالك أحد البيتين- إذا لم يصرح بالنهي عن النقل عنه.
7685- وذكر العراقيون مسلكاً آخر، ولم يتعرضوا لشيء من هذه التفاصيل التي ذكرناها، فقالوا: إذا أمره بأن يضبطه ربطاً على الكم، فحفظه في كفه، فقد اختلف نص الشافعي في أنه إذا ضاع هل يضمن أم لا؟ ولم يذكروا في اختلاف النص التفصيل الذي حكيناه في طريقنا.
ثم قالوا: اختلف أصحابنا فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن الضبط في الكف أولى وأحرز، ومنهم من قال: لا، بل الربط على الكم أحرز وأولى.
فإن قلنا: الكف أحرز، فإذا أمره بالربط، فضبط في كفه، لم يضمن، ويكون كما لو قال: احفظه في هذا البيت، فنقله إلى أحرزَ منه، [وإن] (3) قلنا: الربط في الكم أحرز من الضبط في الكف؛ فإنه يضمن إذا احتوى عليه بكفه؛ لأنه ترك الأحوط في مخالفته، فكان كما لو عين له بيتاً ليحفظ الوديعة فيه، فنقلها إلى بيت دونه في الحِرز، فلم يتعرض العراقيون لما ذكره أئمتنا المراوزة [من] (4) اتفاق الفوت بالجهة
__________
(1) في الأصل: فقد.
(2) ساقطة من (س) .
(3) في الأصل: فإن.
(4) في الأصل: في.(11/422)
المحذورة عند فرض المخالفة، وإنما مهدوا أولاً تردُّداً في الأحوط، ثم بنَوْا عليه حكمَ الضمان، إذا فرضت المخالفة.
ومن تمام طريقهم أن المسألة عندهم مصوّرة فيه [إذا] (1) نص على جهة وخصصها بالذكر، ولم ينه عن الانتقال عنها، ونزّلوا هذا منزلة ما لو عين بيتاً، وقال: احفظ الوديعة فيه، ولم يصرح بالنهي عنه إلى غيره.
فلو نص على جهة في الحفظ، وصرح بالنهي عن غيرها مثل أن يقول: اربطها على كمك ولا تترك الربط ولا تعدل عنه إلى الحفظ في الكف، [فإن] (2) كان كذلك، فهو بمثابة ما لو قال: احفظ الوديعة في هذا البيت، ولا تنقلها إلى غيره، وقد ذكرنا أنه إذا نقل إلى بيتٍ أحرزَ مما عين أو مثلِه، ففي المسألة وجهان، كذلك يجري هذا الاختلاف في هذه الصورة.
ومما يرد على طريقهم أن قائلاً لو قال في تأسيس الكلام: الربط والضبط متساويان، أو في كل واحد منهما نوعٌ من الاحتياط ليس في الثاني، والأحوال التي [تُحوج] (3) إلى خاصة كل واحدة من الجهتين [متعارضة] (4) الإمكان، ونتيجة هذا الحكمُ بالتساوي.
ومهما ذكر العلماء في شيئين ترجيحين، وذهب كل فريق إلى تغليب الجهة التي رآها [فيتجه] (5) عند الناظر، إذا استدّ نظره استواء الجهتين لما نبهنا عليه.
هذا منتهى طريق العراقيين.
7686- فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاث طرق: إحداها - للمراوزة، وهي تدور على النظر إلى وجه الهلاك، بعد تبين ما يخص كل جهة به من الاحتياط
__________
(1) في الأصل: إذ لا نص.
(2) في الأصل: وإن.
(3) في الأصل: تخرج.
(4) في الأصل: متوارضة.
(5) في الأصل: منتجة.(11/423)
ونقيضه، فإن اتفق الفوات من الوجه المحذور [من] (1) الجهة المنتقل إليها، وجب الضمان وإن اتفق الهلاك من غير الوجه المحذور في الجهة المنتقل إليها، فلا ضمان.
والطريقة الثانية لصاحب التقريب - وهي أنا نوجب الضمان إذا فرض الانتقال من الجهة المعيّنة إلى الجهة الأخرى، سواء كان الفوات بما يحذر في تلك الجهة أو بغيره.
والطريقة الثالثة للعراقيين - وقد تفصلت على وجهها.
ويُجري الفطن في أثناء ما ذكرناه في الجهتين تفصيل القول في تعيين البيت والنقل منه إلى آخر، والتفطّن لما يختص به كل بيت من احتياط في الحفظ ونقيضٍ له، حتى إن كانا كذلك، فهما كجهتي الحفظ، فإن استويا، لم يخف تفريعهما.
وقد نجز تمام المراد في ذلك.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شرط ألا يرقد على صندوق ... إلى آخره" (2) .
7687- هذا متصل بما تقدم في تعيين طريق الحفظ والنهي عنه، وقصد الشافعي بهذا الردَّ على مالك (3) ؛ فإنه سلك مسلكاً لم يرتضه الشافعي، فقال: إذا نهاه عن الرقود على الصندوق، فرقد عليه كان برقوده عليه دالاً اللصوص على مكان الوديعة، والدلالة على الوديعة سببُ الضمان، فرد الشافعي عليه ذلك، ولم يجعل ما [تخيّله] (4) معتبراً؛ فإن كلّ محوط برعاية كالىءٍ فيه هذا المعنى، وقد أوضحنا أن الدُّور لا تكون أحرازاً بأنفسها [ما] (5) لم تكن ملحوظة بعينٍ كالئة، نعم إن [فرض] (6)
__________
(1) في الأصل: في.
(2) ر. المختصر: 3/177.
(3) ر. بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي: 2/186.
(4) في الأصل: حيلة.
(5) زيادة من (س) .
(6) في الأصل: عرض.(11/424)
غرض في الرقود أمام الصندوق، مثل أن كانت الوديعة [تؤتى] (1) من أمامها، فإذا فرض الرقود أمام الصندوق، فقد يعسر على من يبغي الصندوق إتيانه من جهة قدّام، ولو فرض الرقود على الصندوق تهيّأ إمكان الإتيان من الجهة المحذورة، فيلتحق هذا بما إذا عيّن جهة في الحفظ، كالربط على الكم والضبط في الكف، فتركَ الجهة المعينة، واختار أخرى [وقد] (2) مضى تفصيل ذلك، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل
7688- إذا مات المودَع، وخلف الوديعة، وأوصى بها، ولم ينسب إلى تقصير، فتلفت الوديعة في يد الوارث، فإن كان تلفها على القرب قبل التمكن من الرد، فلا ضمان أصلاً؛ فإن المودَع لم يقصر، ومن خلفه بالوراثة لم يقصر أيضاً، ولو مر زمان إمكان رد الوديعة، ثم تلفت في يد الوارث، فهذا فيه تردد يتعين الاعتناء بفهمه.
فليعلم الناظر أن الوارث ليس مودَعاً من جهة المالك، وموت المودَع لا يورِّثه حقَّ الحفظ في الوديعة، كما أن موت الوكيل لا يورث وارثه حقَّ التصرف الذي كان مفوضاً إلى الوكيل، فخرج منه أن الوارث فيما في يده بمثابة من يطيّر الريحُ ثوباً إلى يده، فليس له حكم المعتدين، وليس أيضاً أميناً من جهة المالك.
وقال الأئمة: إن لم يطلع على صاحب الثوب، لم يكن عليه طَلِبَة، وهذا فيه بعض النظر عندي، فالقول فيه يبنى على أن الثوب الذي وصفناه في حق من وقع في يده هل ينزل منزلة اللقطة أم لا، وفيه خلاف ذكرته في فصل الركاز من كتاب الزكاة، فإن جعلناه لقطة، لم يخفَ حكم اللقطة فيما يجب ويجوز فيها، وإن لم نجعله لقطة، فهو أمانة، وفي وجوب الإشعار بها تردد، والظاهر أنه لا يجب طلب مالكه؛ فإن وجوب التعريف في معارضة تسليط الملتقط على التملك، فإذا سددنا باب التملك، لم نكلف من وقع الثوب بيده القيام بالتعريف، وما ذكرناه يتضح بسقوط اختيار صاحب اليد.
__________
(1) في الأصل: "تُرى" وفي (س) : "تولى". والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: فقد.(11/425)
وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإشعار [به] (1) . ثم القول فيه يختلف [على] (2) تردد واحتمال، فيجوز أن يجب الإشعار أبداً، ويجوز أن يكتفى [بإشهاره والإشهار] (3) به إلى حدٍّ يغلِّب على الظن شيوع خبره، ثم لا يجب غيره، أما تقييد التعريف بالسنة على قياس اللقطة، فليس بالمتجه، مع أن انقضاء السنة لا يُعقِب حقَّ التملك، وليس يُبعد فقيهٌ (4) المصير إلى ذلك؛ من حيث إنه تعريف شرعي.
ولو اطلع صاحب اليد في الثوب على مالكه، يجب عليه إعلامه، وإن لم نوجب التعريف عند التباس المالك، فكذلك على الوارث في مسألتنا أن يُعلم صاحب الوديعة، فإن قصر في إعلامه بها، صار ضامناً.
هذا معنى قول الأصحاب: إن تلفت الوديعة قبل الإمكان، لم يضمن، وإن تلفت بعد إمكان الرد، ضمنها، والمراد إن تمكن من الإعلام، [فلم] (5) يُعلم، ولم يُرد الأصحابُ (6) أن الوارث يلزمه تعاطي الرَّد بنفسه، حتى إن كانت مؤنةٌ في الرد، وجب عليه التزامها، هذا ما لا قائل به [من] (7) الأصحاب.
7689- ولو ادعى الوارث الرد على المودَع، لم يقبل قوله، والسبب فيه ما مهدناه قبلُ من أنه ليس مؤتمناً من جهة المالك، وإنما تُقبل دعوى الرد من المؤتمن على من ائتمنه، وحكم الأمانة [إن] (8) ثبت في حق الوارث، فلم تثبت الأمانة مقصودة، والتصديق في دعوى الرد موقوف على ثبوت الأمانة قصداً.
7690- ولو ادعى الوارث التلفَ، فكذبه المودِع، فالوجه عندنا القطع (9)
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) في الأصل: عن.
(3) في الأصل: بإشعهاره والإشعار.
(4) (س) : وليس يبعد فيه.
(5) في النسختين: فلا.
(6) عبارة (س) : فلا نعلم تردد الأصحاب.
(7) في الأصل: في.
(8) في الأصل: إذا.
(9) (س) : الفصل.(11/426)
بتصديقه؛ لأنه ليس [معتدياً] (1) ويده يد أمانة.
وينقدح عندي هاهنا طريقةُ العراقيين في إيجاب الإشهاد، [إن] (2) كان السبب مما يمكن (3) الإشهاد عليه، وكان (4) الإشهاد ممكناً، ولهذا لم نصدقه في الرد؛ فإن الإشهاد على الرد ممكن.
هذا منتهى النظر في ذلك.
ولو ذكر المودَع أن الوديعة تلفت في يده، ومات قبل أن يحلف، فالأمر محمول على ذلك، ولمالك الوديعة أن يحلّف الوارث، ثم قال الأصحاب: إن تحقق الوارث تلف الوديعة، حلف عليه بناء على علمه، وإن لم يتحقق ذلك، وكان ظنه غالباً في صدق أبيه، فله أن يحلف على البت؛ بناء على ظنه بصدق أبيه.
وهذا قطب من أحكام الأيْمان سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل، في كتاب الدعاوى.
وإن غلب على ظنه كذب أبيه، لم يكن له أن يحلف.
وإن أمكن فرض استواء الأمرين في الاعتقاد من غير تصوير ظنٍّ غالب، ففي جواز الاعتماد على قول الأب [خلاف، سببه] (5) اعتضاد اليمين ببراءة ذمة الوارث، وسلامة التركة له.
ومن منعه من اليمين، اعتل بأن اليمين لا مستند لها من يقين [ولا] (6) ظن، والأصل بقاء الوديعة.
فهذه جملةٌ في أحكام الورثة، كنا وعدنا ذكرها، وقد نجز الغرض منها، وإذا
__________
(1) في الأصل: معتداً.
(2) في الأصل: وإن كان.
(3) (س) : يجب.
(4) (س) : وإن كان الإشهاد ممكناً.
(5) في الأصل: خلاف فيه وسببه.
(6) في الأصل: إلا ظن.(11/427)
ضمت (1) إلى ما ذكرناه في [الإيصاء] (2) وترك الإيصاء، كان المجموع كلاماً بالغاً في ذلك.
فصل
قال: "ولو ادعى رجلان وديعة، فقال المودَع: هو لأحدكما ولا أدري لأيكما هو ... الفصل" (3) .
7691- إذا ادّعى رجلان وديعةً، فقال المودَع: لا أدري لأيكما هو، وقد علمت أنه لأحدكما. فإن لم يدعيا علمه، فلا كلام لهما معه؛ فإنه ليس متعدياً باتفاقهما، ونسيانُه لا [يلحقه] (4) بالمتعدين وفاقاً، فليُحط الناظرُ بذلك، فهو قاعدة الفصل، فإذا لم يكن ضامناً، ولم يُدَّع عليه علمٌ، انقطعت الطَّلِبةُ عنه. هذا ما ذكره الأصحاب.
قال صاحب التقريب: هل للقاضي أن يحلّفه على نفي العلم، وإن لم يدّع الخصمان العلم؟ فعلى وجهين. ثم قال: إن قلنا: لا يحلّفه القاضي، وهو الأصح، فلا كلام، ووجهه أن هذا يتعلق بحقهما، وهما لا يدعيانه. قال: وإن قلنا: يحلفه القاضي، فهو استحبابٌ وليس باستحقاق، قطعَ جوابَه بهذا.
وهذا عندي كلامٌ مضطرب؛ فإن التحليف في حق الله من الزكوات إذا قضينا بأنه مستحب لغوٌ من الكلام، كما نبهت عليه في كتاب الزكاة، والحق في الزكاة لله، ويليق بحقوق الله تعالى احتياط القضاة، فأما إثبات التحليف في حق الآدميين، من غير دعوى، مع الحكم بأنه استحبابٌ، فكلامٌ (5) في نهاية السقوط والركاكة، ولكن
__________
(1) (س) : وإذا تضمنت هذه المقاصد إلى ما ذكرناه.
(2) في الأصل: الإمضاء.
(3) ر. المختصر: 3/178.
(4) في الأصل: يلحق.
(5) (س) : كلام (بدون الفاء) . وهذا أقرب إلى لغة الإمام.(11/428)
صاحب التقريب كرر (1) هذا في كتابه، فلم أوثر إخلاء هذا المجموع عنه، ولا يمكن حمل كلامه على تنبيه القاضي الخصمين على دعوى العلم؛ فإنه لم يُرد ذلك، ولم يتعرض له، ورأى التحليف إذا قيل به من مراسم القضاة، وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في إيضاح تداعيهما في الوديعة وقطعهما الدعوى عن المودع إذا [استفرغنا] (2) مقصودَ الفصل.
7692- ولو ادعى كل واحد منهما علمَه، فقال هذا: أنت تعلم أني مالك الوديعة، وقال الآخر مثلَه، فيحلف المودع بالله لا يعلم.
وذكر أئمتنا في طرقهم إن اليمين الواحدة تكفيه في حقهما، وقال أبو حنيفة (3) : لا بد وأن يحلف لكل واحد منهما يميناً، وهذا عندي محتمل في القياس؛ فإن خصومة كلِّ واحد منهما منفصلة عن خصومة الثاني، وهذا احتمالٌ، والمذهب ما نقلته.
ولو فرضنا حضورَ أحدهما، وادعاءه العلمَ، فأنكر المدعى عليه العلم، وحلف عليه، فإذا حضر الخصم الآخر، فهل يقع الاكتفاء باليمين السابقة؟ وليقع الفرض فيه إذا تعرض المودَع للتردد بينهما، فقال لما توجهت عليه الدعوى من الأول: لست أدري أودعتَ أم أودع صاحبُك فلان، فإذا جرى الحلف مع الأول، فهل يحلّفه الثاني؟ هذا لا نقل فيه، [وفي] (4) المسألة احتمال، ولا يبعد أن يثبت للثاني أن يحلِّفه، وتخصيص اتحاد اليمين [بشهودهما] (5) حال قيام الخصومة، وهذا فيه إذا وقع التعرض في جواب الأول للرجلين.
فأما إذا ادعى الأول، فكان من جواب المدعى عليه: إنك أودعتني أو رجل آخر لم
__________
(1) عبارة (س) : ولكن صاحب التقريب ذكره وكرره، فلم نؤئر إخلاء ...
(2) في الأصل: استغرقنا.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 4/500.
(4) في الأصل: ففي.
(5) في النسختين: شهودهما.(11/429)
يسمِّه، ولست أدري، فإذا حلف لا يدري أن المدعي (1) أودع عنده، فلا بد من تجديد اليمين إذا حضر الثاني.
ثم إذا حضرا وادعيا (2) ، وعُرضت يمين العلم، فلا يخلو إما أن يحلف بالله لا يعلم مَن المودِع المستحِق منهما، أو ينكل عن اليمين، فإن حلف: لا يدري من المستحِق منهما، قال صاحب التقريب: لا يخلو الخصمان إما أن [يحلفا] (3) بينهما أو ينكلا عن التحالف، أو يحلف أحدهما وينكل الثاني.
7693- فإن نكلا جميعاً، ولم يحلف واحد منهما، قال: فلا يدفع المال إليهما، ولا يقسم بينهما؛ إذ لم يُقم واحد منهما حجة، ولا يدَ أيضاً لواحدٍ منهما، فلا يقتسمانه، ولكن يوقف المال [بينهما] (4) كما يوقف كل مالٍ بين جماعة أشكل مستحقه منهم.
ثم إن أقام واحد منهما بينة، قضي بها، وإن اصطلحا، وتراضيا، فهو إليهم، ولعلنا نذكر في ذلك قولاً ضابطاً في نكاح المشركات، إن شاء الله عز وجل - يحوي أطراف الكلام في أمثال هذا الإشكال.
فخرج منه أنا على رأي صاحب التقريب لا نقسم الوديعة بينهما وجوباً، ولكنا نقف على التراضي أو البيان.
[وقال] (5) طوائف من أئمتنا -وهو مذكور في بعض المصنفات- إذا لم يحلفا، قُسّمت الوديعة بينهما قَهْراً، وسبيلهما كسبيل رجلين في أيديهما دارٌ، وكل واحد
__________
(1) (س) : أن المودع هو المدعي، فلا بد من تجديد اليمين.
(2) صورة هذه المسألة ست هي: 1- أن يصدفاه ولا يدعيان عليه. 2- أن يدعيا عليه، فيحلف على نفي العلم. 3- أن ينكل عن اليمين فتردّ عليهما فيحلفا. 4- أن ينكل عن اليمين فترد عليهما فينكلا. 5- أن ينكل عن اليمين فترد عليهما فيحلف الأول دون الثاني. 6- أن ينكل عن اليمين فترد عليهما فيحلف الثاني دون الأول. (وبمثله أيضاً لو حلف ثم حلفا أو نكلا، أو حلف أحدهما ونكل الآخر) .
(3) في الأصل: يحلف.
(4) في الأصل: منهما.
(5) في الأصل: قال (بدون واو) .(11/430)
يدعي الدار بكمالها لنفسه، فحكم الدار أن تقرر في أيديهما ويُقضى بظاهر الملك لكل واحد منهما في نصف الدار.
وهذا يمكن توجيهه بأن المودَع في إقراره [لهما] (1) سوّى بينهما، ولم يعيّن واحداً، وأبهم الأمرَ، واعترف بأن يده مستعارة، فصار كما لو ثبتت أيديهما على الوديعة.
وهذا وإن كان يتجه، فالأموال المشكلة تَرد على ذلك؛ فإن من أسلم على ثمان نسوة وأسلمن، فإضافة الربع أو الثمن إليهن على قضيةٍ واحدة، ليس بعضهن أولى به من البعض.
ثم لم يُطلق جماهير الأصحاب القولَ بوجوب قسمة الربع أو الثمن بينهن، على أنهم لم يُخلو ذلك الفصلَ عن المصير إلى قسمة ذلك بينهن وجوباً، على ما سيأتي.
وقياس ظاهر المذهب، ما ذكره صاحب التقريب.
ثم قال: إذا قلنا: يوقف المال، فهل تبقى تلك الوديعة في يد المودَع، أم تخرج من يده؟ فعلى قولين، وهذان القولان جاريان في نظائر ذلك: أحدهما - أنها تخرج من يده؛ فإنه أقر بأنه ليس بمستحق له، وثبت طلب الاسترداد من كل واحد من الخصمين، فيسلم القاضي الوديعة إلى عدل أو يحفظها بنفسه.
والقول الثاني - أنه يتعين تقريرها في يد المودَع؛ فإنه لو استخرجها من يده، لوضعها عند مثله، فاستدامةُ يده إلى البيان أولى.
وإن قلنا: للقاضي أن يُخرج الوديعة من يده، فلو رأى أن يستحفظه من تلقاء نفسه، لم يمتنع ذلك، ولكن لا بد منه.
هذا إذا حلف المودَع، ونكل الخصمان عن التحالف بينهما.
7694- فأما إذا حلفا جميعاً: هذا (2) حلف أنه المستحِق دون صاحبه، وكذلك صاحبه، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان حينئذ: أحدهما - أن الوديعة
__________
(1) في الأصل: بهما.
(2) (س) : فهذا.(11/431)
تقسم بينهما، ويكون كما لو تنازعا داراً في أيديهما وتحالفا، فلكل واحد منهما نصفها، كذلك هاهنا.
والوجه الثاني - أنه لا يجب قسمة الوديعة بينهما؛ فإن (1) يمينهما تعارضتا وتضادّتا [فلتسقطا] (2) ، ويلتحق الخصمان بما إذا نكلا، ثم لا شك أن من يقسم الوديعة بينهما في نكولهما يجري هذا الحكم في [حلفهما] (3) ، ثم قال: إذا لم تقسم الوديعة، لم تثبت أيديهما، وكانت الوديعة موقوفة، وقد مضى تفصيل القول في الوقف.
وكلُّ ما ذكرناه فيه إذا عرضنا اليمين على المودَع، فحلف بالله لا يعلم.
7695- فأما إذا عرضنا اليمين عليه في نفي العلم، فنكل عن اليمين، قال صاحب التقريب في كيفية ردّ اليمين على المدّعين وجهان: أحدهما - أن القاضي يبدأ بمن شاء منهما؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، فيحلف كل واحد منهما، والبداية موكولة إلى القاضي.
والوجه الثاني - أنه يُقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة يحلف أولاً ثم الثاني بعده.
7696- التفريع على الوجهين: إن قلنا: إنه يحلِّفهما بلا قرعة، فإذا حلفا، فقد ذكر صاحب التقريب ثلاثة أوجه [على هذا الوجه] (4) أحدها - أنه يسلّم إلى كل واحد منهما نصف العين ويغرِّمه (5) كلُّ واحد منهما نصفَ قيمة العين، وتعليل ذلك أن كل واحد منهما يقول: أثبتُّ بيميني استحقاقي للوديعة، وأنت بترك الإقرار حُلْت بيني وبين نصف الوديعة، ولما [نكلتَ] (6) عن اليمين لم تُعذَر (7) ، ولم تصدَّق على دعوى
__________
(1) (س) : لأن.
(2) في الأصل: فلتسقطنا.
(3) في الأصل: حلفها.
(4) زيادة من (س) .
(5) (س) : ويغرم كل واحد.
(6) في الأصل: نكل.
(7) (س) : ولم تعد.(11/432)
النسيان، فيتحصل من ذلك أن كل واحد منهما ينسبه إلى تفويت نصف الوديعة عليه، وموجب ذلك ما ذكرناه من تغريم كل واحد منهما إياه نصفَ قيمة الوديعة، وهذا الوجه لا يتضح إلا بذكر صفة اليمينين، [فيحلف] (1) كل واحد منهما على استحقاقه، وعلى علم المودَع باستحقاقه؛ فإنه بحلفه على علمه يُثبت تفويتَه، ولو (2) لم يحلف على علمه، لم يستحق عليه شيئاً من القيمة.
هذا أحد الوجوه (3) .
و [الوجه] (4) الثاني - أن العين تقسم بينهما، وليس لواحد منهما عليه شيء من القيمة.
وهذا الوجه يخرج خروجاً صحيحاً على قولنا: الشاهد على الملك إذا رجع عن شهادته بعد نفوذ القضاء، لم يغرم للمشهود عليه قيمةَ المشهود به، وكذلك إذا قال: [غصبتُ] (5) هذا العبدَ من فلان، لا بل من فلان، فالعبد مسلّم إلى الأول المقرّ له [أولاً] (6) ، وهل يغرم للمقر [له] (7) الثاني قيمةَ المقرّ به؛ من جهة انتسابه إلى التفويت عليه بالإقرار الأول؛ فيه قولان.
فالوجه الأول والثاني إذاً مأخوذان من هذين القولين.
7697- وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً - وهو أن العين لا تسلم إليهما، بل توقف بينهما، وهذا الوجه خارج على ما مهده من الخلاف في حلفهما بناء على تعارض اليمينين، فالذي يقتضيه الترتيب إذاً ذكر خلاف في أن العين هل تسلم إليهما أم لا؛ فإن قلنا: لا تسلم إليهما، وقد حلف كل واحد منهما على علمه، فهل يغرَم
__________
(1) في الأصل: فليحلف.
(2) (س) : فيها سقط واضطراب، هكذا: يثبت تفويته يعلم على علم.
(3) (س) : الوجهين.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: غصب.
(6) زيادة من (س) .
(7) زيادة من المحقق.(11/433)
القيمة للتفويت؟ فعلى وجهين مبنيين على ما ذكرناه من أن التفويت هل يوجب الغُرم؟ فإن قلنا: لا يوجبه، فالعين موقوفة، ولا غرم، وإن قلنا: التفويت يوجب الغرم، فالعين توقف، والغرم يجب، ثم يغرَم المودع لكل واحد منهما تمام القيمة؛ فإنه ينسب في حق كل واحد منهما إلى الحيلولة في العين.
وفي كلام صاحب التقريب [دقيقة] (1) على وجه الوقف، وهو أنه قال: إذا [أوقفنا] (2) العين، فيغرَم المودَعُ لكل واحد منهما نصفَ القيمة قولاً واحداً لتنجيز الحيلولة في العين الموقوفة، وهل يغرم تمام القيمة، أم (3) النصف الثاني من القيمة في حق كل واحد على التردد المتلقى من القولين في الشهادة والإقرار؟ وهذا حسن.
وكل ذلك تفريع على وقف العين.
فإن قلنا: العين تقسم بينهما، ففي تغريم المودَع لكل واحد منهما نصف القيمة الوجهان المقدمان.
هذا كله إذا نكل المدعى عليه، وحلف الخصمان.
7698- ولو نكلا، كان كما لو حلف المدعى عليه على نفي العلم ونكلا؛ فإن نكولهما أقام حكم [يمين] (4) الخصم وثبتت خاصية نكولهما، فالتحق هذا بما تقدم فيه إذا حلف ونكلا.
7699- ولو حلف أحدهما ونكل الثاني [فاز] (5) الحالف بالعين، وخاب الناكل؛ فإن نكوله كما يحرمه العين يحرمه الرجوع في القيمة.
[وكل] (6) ذلك تفريع على أحد الوجهين، وهو أنا لا نقرع بينهما.
__________
(1) في الأصل: حقيقة.
(2) في الأصل: وقفا.
(3) عبارة (س) : أم لا يغرم النصف الثاني من القيمة في حق كل واحد؟ فعلى التردد.
(4) في الأصل: عين.
(5) في الأصل: فإن.
(6) في الأصل: فكل.(11/434)
7700- فأما إذا قلنا: نقرع بينهما (1) ، فمن خرجت لها القرعة، [حلّفناه] (2) ، فإن حلف، فكيف السبيل فيه؟ ذكر صاحب التقريب وجهاً ظاهراً، ورمز بالثاني، فالذي أظهره أن الحالف يفوز بملك العين، وهذا فائدة القرعة، فلو قال الثاني: فأنا أحلف؛ حتى يشترك في العين، لم نُجبه إلى ذلك، ومن [آثار] (3) القرعة إعتاق عبد وإرقاق عبد، والخصمان هاهنا يدعي كل واحد منهما تمامَ الاستحقاق، والمدَّعى عليه معترفٌ بالاستحقاق لأحدهما لا بعينه، فلا يمتنع أن تؤثر القرعة في تعيين أحدهما. وقد قال الشافعي في أحد أقواله: إذا تعارضت بينتان، ورأينا استعمالهما، فإنا نقرع بين الخصمين، فمن خرجت له القرعة، فاز بالملك، وخاب صاحبه.
وإنما ذكرنا هذا حتى لا يستبعد الناظر اقتضاءَ القرعة اختصاص أحدهما بملك [العين] (4) . هذا وجه ظاهر.
ثم فرع عليه، وقال: إذا فاز من خرجت له القرعة -وحلف- بملك العين، فهل يغرم المودَع للثاني (5) إذا حلف؟ فعلى وجهين، وهما الوجهان المذكوران في أن إيقاع الحيلولة هل يتضمن تغريم القيمة؟ فإن قلنا: لا يغرم للثاني شيئاً، [فلا] (6) يحلِّفه أصلاً ويحلّف (7) من خرجت له القرعة لا محالة. وإن قلنا: الحيلولة توجب الغرامة، فيحلف الثاني، فإن حلف، استحق [تمام] (8) القيمة.
هذا كله بيان الوجه الذي أظهره، وهو اقتضاء خروج القرعة تخصيصَ من خرجت له القرعة باستحقاق العين.
__________
(1) نقرع بينهما: هذا أحد الوجهين اللذين يفرع عليهما، والآخر هو أن القاضي يبدأ بأيهما شاء، وقد مضى التفريع عليه.
(2) في الأصل: وحلفناه.
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(4) في الأصل: بملك اليمين.
(5) (س) : للثاني، فعلى وجهين.
(6) في الأصل: ولا.
(7) (س) : ويخرج.
(8) في الأصل: استحق أم القيمة.(11/435)
وأشار إلى وجهٍ آخر [وهو] (1) أن القرعة لا تفيد ذلك، ولا تقتضيه، ولكن فائدة القرعة بدايةٌ محضة باليمين، فإن خرجت القرعة لأحدهما، وحلف، حلّفنا الثاني، ثم يعود التفريع إلى أن القاضي يحلّف من شاء منهما، وقد مضى تفصيل [القول في] (2) ذلك.
7701- ثم إذا كانا يحلفان، فسبيل حلفهما فيما يتعلق بالعين ما نصفه، فنقول: من تقع البداية به (3) إن حلف، فيحلف أنه لا حق لصاحبه في العين، ثم إن نكل صاحبه، فعلى الذي حلف أولاً أن يحلف مرة أخرى على الإثبات، فيثبت له الاستحقاق بيمين النفي والإثبات، ولا يجمع في الابتداء بين النفي والإثبات. وإن نكل من بدأنا به، فحينئذ يجمع صاحبه -إن أراد أن يحلف- بين النفي والإثبات.
وتمام البيان في هذا يأتي في الدعاوى عند ذكرنا اختلاف رجلين في أيديهما دارٌ وكل يدعي تمامها [لنفسه] (4) ، فيدُ كلِّ واحد ثابتة في نصف الدار، وهو فيه مدَّعىً عليه، وهو مدعٍ في النصف الذي في يد صاحبه. وحكم يمين المدعى عليه أن يكون على النفي ويمين الردّ يكون على الإثبات، ولا يثبت يمين الرد إلا عند [نكول] (5) الخصم.
7702- وقد نجز تفصيل القول في مسألة الوديعة، وذكر الأئمة صورةً أخرى تتعلق بالغصب تناظر صورة الوديعة، وهي أن من في يده العين لو قال: غصبت هذه العين من أحدكما، ولا أدري ممن غصبت، فلا يكتفى منه بيمين واحدة على نفي العلم (6) ، بل كل واحد منهما يكلفه أن يحلف على البت: ما غصبتُ هذه العينَ منك (1 فإن أبى، كان ناكلاً عن اليمين، والفرق بين البابين أن المودَع غيرُ ضامن، وقد ذكرنا في
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) زيادة من (س) .
(3) (س) : من تقع البداية نحلفه إن حلف، فيحلف أنه لا حق.
(4) في الأصل: لنفيه.
(5) في الأصل: نكوله.
(6) (س) : على العلم.(11/436)
صدر الفصل أن نسيانه لا يُثبت له حكمَ العدوان، فاكتفينا منه بنفي العلم؛ فإنه إذا انتفى العلم عنه، انتفى الضمان، وانتفاء العلم في الغصب لا يدرأ الضمان، ولا يقطع الطَّلِبةَ عن الغاصب، فلاح الفرق.
ولو ادّعى أحدهما عليه الغصبَ، وكان سبق منه دعوى التردّد، وقال للذي وجه الدعوى عليه ما غصبت العين منك 1) ؛ فإنه يصير مقرّاً للآخر؛ لأنه [اعترف] (2) أولاً [بأن] (3) الغصب كان من أحدهما، فإذا جزم نفي الغصب في حق أحدهما، تعين الثاني لثبوت الغصب في حقه، فيسلّم العين إلى الثاني.
ثم هل يغرم للذي ادعى عليه، فأنكر الغصب في حقه شيئاً، وكيف السبيل فيه؟ لا شك أنه بمجرد الإنكار في حقه لا يغرم؛ فإنه لم يأت أولاً بما يقتضي ثبوتَ حق له، حتى ينتسب إلى إيقاع الحيلولة آخراً، نعم، لو أنكر دعوى الأول، وجعلنا ذلك إقراراً للآخر، فلو أقر للأول بعد ما أنكر، فهل يغرم للأول شيئاً؟ فعلى قولين وعلى هذين القولين يبتني أن الأول الذي أنكر حقَّه هل يملك تحليفه؟ فإن قلنا: لو أقر له بعد الإنكار، غرِم له، فيملك الأول تحليفَه لتوقع أن ينكل، فيحلف المدعي.
وإن قلنا لو عاد، فأقر للأول، لم يغرم له شيئاً، فليس للأول أن يحلّفه؛ فإن تحليفه إياه لا يفيد غُرماً، وقد استقر الإقرار المتلقَّى من الإنكار للثاني، وذاك لا مستدرك له، فلا معنى للتحليف.
وقد هذى بعضُ الأصحاب بشيء، لا فائدة فيه، ومثله يشوش المذهب، ويفسد القواعد، وذلك أن بعض من لا يحيط بسر الفقه، صار إلى أن الأول لو حلف يمين الرد، لا يستحق العين المغصوبة؛ بناء على أن يمين الرد ينزل منزلة البينة المقامة، ولا ينزل منزلة إقرار الخصم، ثم لو أقام الأول بيّنة، قضي له بها، وهذا ليس بشيء، وهو بإجماع أئمة المذهب غلطٌ، وسنذكره على الاستقصاء في كتاب النكاح، وفي كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .
(2) في الأصل: اعرف.
(3) في الأصل: فبان.(11/437)
فصل
7703- ذكر الأئمة رضي الله عنهم أن الصبي ليس من أهل أن يؤتمن (1) ، ويده لا تصلح لحفظ الودائع، ثم ذكر الأصحاب التفصيلَ في إتلافه الوديعة. وقد ساق العراقيون طريقةً جامعة في أحواله، فقالوا: إن ثبتت يد الصبي على مال إنسان، وجرى من مالك المال ما [يتضمّن تسليطَ] (2) الصبي على إتلافه، فإذا حصل بهذا الطريق مالٌ في يد الصبي، وأتلفه، فلا ضمان عليه، وهذا كما لو باع شيئاً من صبي، وسلّمه إليه، فالبيع فاسد، ولو أتلف الصبي ما قبضه، لم [يضمنه] (3) ؛ فإن مالك ذلك المتاع [سلّط] (4) الصبي على ذلك، ولا نظر إلى قول من يقول: إنما سلطه بعوض؛ فإن ذلك العوض ساقط، والتسليط على الإتلاف كائن، والساعي في تضييع المال هو المالك، ثم إذا لم يضمن في صباه، لم يلزمه الضمان بعد بلوغه، والضمان منفي عنه في الحال والمآل، ظاهراً وباطناً.
ومن أحوال الصبي في الإتلاف أن يتلف مالاً ابتداءً من غير صدور سبب من المالك، فإذا جرى ذلك على هذا الوجه، وجب الضمان في مال الصبي، يخرج [منه] (5) في صباه، ولا ينتظر بلوغه. وإن اتفق استئخار الطلب إلى ما بعد البلوغ، طولب بعد استقلاله.
ومن أحواله في الإتلاف أن يُثبت المالك له يداً مقصِّراً مغرِّراً بمال نفسه، من غير أن يسلطه على التصرف فيه، وهذا بمثابة ما لو أودع مالَه عند صبي، ففي الإيداع إثبات يدٍ له، ولكن ليس فيه تسليطهُ على التصرف، فإذا أتلف الصبي الوديعةَ، ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - يجب الضمان في مال الطفل، كما لو أتلف مالاً ابتداء.
__________
(1) (س) : لبس من أهل الإيداع.
(2) في الأصل: ما يضمن تصديق.
(3) في الأصل: يتضمنه.
(4) في الأصل: سقط.
(5) في الأصل: فيه.(11/438)
والثاني - لا يجب؛ فإن مالك المال هو المغرِّر المقصر.
والأول يقول: المالك لم يسلِّطه على الإتلاف، وإنما استحفظه في المال.
وهذه الأحوال الثلاث تجري في حق العبد، فإن باع المالك منه شيئاً، فالبيع مردود على المذهب، فلو أتلفه العبد، لم يتعلق الضمان برقبته، ولكنه يطالب بالقيمة إذا عتق.
ولو أودع عند عبدٍ من غير إذن المولى، فأتلف العبد الوديعة، ففي تعلق الضمان برقبته وجهان، والعبد يفارق الصبي من حيث إن ما لا يضمنه الصبي (1) من مال في صباه لا [يضمنه] (2) قط، وإذا أسقطنا (3) تعلق الأرش برقبة العبد وفاقاً، ثم عَتَق، طولب بقيمة المتلَف بعد زوال الرق، والسبب فيه أن المرعي في نفي الضمان عن الصبي حقه، وحقُّه مرعيٌّ في الحال والمآل، والمرعي في نفي تعلق الأرش بالرقبة حقُّ المالك، وحقه يزول بالعتق.
فلو جرى ما وصفناه من مملوك صغير، فإن كان ذلك لو صدر من صبي حر، لما وجب الضمان في الحال والمآل، فكذلك لا يتعلق الضمان بالصبي المملوك؛ فإنه كالصبي الحر، غيرَ أن الصبي الحر لم يتعلق به استحقاقٌ لغيره، بخلاف المملوك.
وحيث قلنا: يجب الضمان في مال الصبي الحر، فإذا صدر ذلك السبب من الصبي المملوك، تعلق الأرش برقبته.
وقد نجز تمام [المراد] (4) في ذلك ونجز بنجازه مسائل الوديعة، والله الموفق بالصواب.
***
__________
(1) ما لا يضمنه الصبي في صباه.
(2) في الأصل: يتضمنه.
(3) (س) : اشترطنا.
(4) في الأصل: الرد.(11/439)
كتاب قسم الفيء والغنيمة (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "أصل ما يقوم به الولاة من المال ثلاثة وجوه ... إلى آخره" (2) .
7704- نقل المزني عن الشافعي رضي الله عنه حصراً في أقسام الأموال التي [يأخذها] (3) الولاة ويرعَوْنها، وجعلها ثلاثة أقسام: الصدقات، والفيء، والغنيمة،
__________
(1) وضع الإمام هذا الكتاب (قسم الفيء والغنيمة) ، وما يليه (قسم الصدقات) هنا، التزاماً بترتيب السواد (مختصر المزني) الذي ألزم الإمامُ به نفسه، على تبرّمه أحياناً بهذا الترتيب (انظر مقدمة المحقق) وحق هذا الكتاب أن يوضع في السير، وحق قسم الصدقات أن يكون في آخر كتاب الزكاة.
وقد تبع إمامَ الحرمين في هذا الترتيب تلميذُه الغزالي في كتبه: البسيط، والوسيط، والوجيز، ثم تبعه البغوي في التهذيب، والتزم به الرافعي في الشرح الكبير، وفي المحرر، كما جرى عليه النووي في المنهاج، والعجب من النووي -رضي الله عنه- أنه خالف الرافعي، فنقل الصدقات إلى آخر الزكاة في الروضة مع أنها مختصر للشرح الكبير، وهو مع ذلك أبقى قسم الفيء والغنيمة مكانه بعد الوديعة وقبل النكاح. وهناك ترتيب آخر في المذهب، وهو ترتيب المهذّب والتنبيه للشيرازي، حيث جاء قسم الصدقات في آخر كتاب الزكاة، وقسم الفيء والغنيمة في كتاب السير.
وهناك اختلاف آخر في كتب المذهب، حيث جاء كتاب الأضحية عند مدرسة المهذب في كتاب الحج مع أحكام الهدي، أما مدرسة نهاية المطلب فجاءت الأضاحي في كتاب الصيد والذبائح، إلا ما كان من النووي في الروضة - أيضاً -دون المنهاج- حيث وافق ترتيب المهذب.
ومن الاختلاف أيضاً، كتاب العتق، حيث جاء في مدرسة المهذب بعد الوصايا وقبل الفرائض، أما مدرسة النهاية فالعتق في آخر الكتاب.
(2) ر. المختصر: 3/179.
(3) في الأصل: أخذها.(11/441)
فقال الأئمة: الأموال العامة التي يقوم الوالي بجمعها وجبايتها تنقسم إلى الأقسام التي ذكرها، [وللإمام التصرف في أموال الملاك المتعينين] (1) وتلك الجهات زائدة على الأقسام التي نقل المزني حصرها عن الشافعي، [وتصرف] (2) الوالي في المال الذي له مالك متعين يقع على ثلاثة أوجه: أحدها - التصرف بالولاية، وهو تصرفه في مال الصبيان والمجانين، والذين لم يُؤنس رشدُهم، فإذا لم يكن لهؤلاء أولياء، فالإمام وليهم، أو من يقوم مقامه من ولاة الإمام.
والوجه الثاني - من تصرفه أنه يأخذ الأموال من الممتنعين ويوفرها على مستحقها.
والوجه الثالث - تصرفه في أموال الغُيّب، وعلى الناظر توقفٌ في هذا القسم، فالمالك المطلق يفعل بماله ما يشاء على وفق الشرع، ولا يلزمه عمارة أملاكه، وحفظ أمواله، وله تعريضها للضياع، وإنما [يحجر] (3) الشرع عليه في ذوات الأرواح [لحرمتها] (4) لا لحق المالية منها، والوالي يتصرف بالولاية في مال الموْليّ عليه، على حكم النظر والغبطة، كما تفصل ذلك في الكتب، والسلطان لا يتصرف في أموال الغيّب بالغبطة المحضة، وإنما يتسلط على التصرف فيها بشيئين: أحدهما - إذا أشرفت على الضَّياع، والثاني - إذا مست الحاجة إليها في استيداء (5) حقوق ثبتت على الغائب، وهذا وإن ذكره أصحاب الإيالة، فهو ملتحق باستيفاء الحقوق من الممتنعين، ثم هذا مندرج تحت الولاية، [فإن] (6) الغرض الأظهر منها درءُ الضرار، وكف الأذى والانتصاف للمظلومين، ثم في الضياع على المتأمل تفصيلٌ، فإن ظهر وامتدت الغيبة وعسرت [المراجعة] (7) قبل وقوع الضياع، فيسوغ التصرف، كما سنفصله.
__________
(1) في الأصل: والإمام متصرف في أموال الملاك المعنيين.
(2) في الأصل: ويتصرف.
(3) في الأصل: عجز.
(4) بحريتها.
(5) استيداء: أي طلب أداء الحقوق.
(6) في الأصل: بان.
(7) في الأصل: المرجعة.(11/442)
وإن (1) أمكنت المراجعة، ولم ينقطع [الخبر] (2) انقطاعاً [يغلِّب] (3) على الظن اليأسَ من العَوْد قبل المستدرك، فلا يسوغ التصرف مطلقاً. أما التصرف عند ظهور الضياع واليأس من قرب العوْد، [فيحوج] (4) إلى بيان الضَّياع، وذكرِ تفصيل التصرف.
7705- فأما الضياع فيقسّم إلى الهلاك بالكلية وإلى الاختلال. [فأما الهلاك إذا خيف، فهو الضياع، وأما الاختلال] (5) فإن كان لا يتراقى (6) إلى تلف المعظم، ولم يكن سارياً، فلم يعدّه معظم العلماء ضَياعاً؛ فإنه لو بيع مال الغائب لخيفة الاختلال، لالْتحق ذلك بابتناء البيع في مال الغائب على النظر المحض والمصلحة، وهذا ما لا يسوغ المصير إليه.
وإن كان يتلف معظم المال، فقد أُحلّ المعظم في هذا محل الكل.
وما ذكرناه في غير الحيوان، فأما الحيوان؛ فإنه يباع بتطرّق الاختلال إليه لحرمة الروح، وأيضاً؛ فإن ذلك يتداعى إلى الهلاك والحيوان يباع على مالكه في حضرته إذا كان لا يستقل بالإنفاق عليه.
هذا قولنا في الضياع.
7706- فأما التصرف، فإن أمكن تدارك الضَّياع بالإجارة، اكتفى القاضي بها، ولم يبع، وإن كان لا ينسدّ الضياع بالإجارة، فله أن يبيع على الشرائط التي قدمناها، فإن قيل: لِمَ يتسلط الوالي على بيع مال الغائب عند إشرافه على الضياع والغائب ليس موليّاً عليه، ولا حق عليه [فيتأدّى] (7) من ماله الحاضر؟ قلنا: لا محمل لهذا من
__________
(1) (س) : وإن أمكنت المراجعة أو انقطع الخبر انقطاعاً يُغلِّب على الظن اليأس.
(2) في الأصل: الغيبة.
(3) في الأصل: فغلب.
(4) في النسختين: فيخرج.
(5) زيادة من (س) .
(6) (س) : يترامى.
(7) في الأصل: فيتمادى.(11/443)
طريق المعنى إلا حملُ [الأمر] (1) على العرف فيه، فإن الغُيَّب بقرائن أحوالهم لا يأبَوْن أن يَرعى حقوقَهم من [يلي] (2) المسلمين، وينتصب وزَراً (3) لهم، حتى لو فرض من المرء عند الغيبة نهيٌ عن البيع، [وانتهى] (4) الأمر إلى الضَّياع، فلسنا نرى البيع جائزاً والحالة هذه.
وبالجملة ليس يخلو بيع الوالي من غير استحقاق حق على الغائب فيما لا يجوز بيعه عليه بحضرته عن خلاف العلماء الناظرين في الإيالات، ولم أر للفقهاء اعتناء بتفصيل ذلك، والمسألة على الاحتمال، والظاهر جواز البيع على الشرط الذي ذكرناه، وإجارة القاضي لأملاك الغُيّب في معنى بيع الأعيان المشرفة على الضّياع؛ فإن المنافع متعرضة للضياع على ممر الزمان، ولم يجترىء على إطلاق [إجازة] (5) الإجارة في حق من لم تبعد غيبته أحد من العلماء فيما بلغنا.
ومما يتعلق بهذا القسم ملكٌ لا يتعين مالكه ويدُ الوالي تمتد إليه حفظاً، ولو أراد صرفه إلى جهة المصلحة، وقد تحقق وظهر اليأس من الاطلاع على مالكه، فهذا مما أطلق العلماء القولَ بجوازه، من غير اشتراط إشراف المال على الضياع، ونحن نجد نظير ذلك في اللقطة، وإن كان التعريف مشروطاً في تملكها، وذلك أنه لا يظهر اليأس من العثور على مالكها إلا بالتعريف، والذي ذكرناه في مالٍ ظهر اليأس من الاطلاع على مالكه.
فهذه جملٌ انتهت إليها تقاسيم الكلام في الأموال التي يتصرف الولاة فيها.
7707- وعاد بنا الكلام إلى مقصود الكتاب، وهو القول في قسمة الفيء والغنيمة فنقول أولاً:
اسم الفيء ينطلق في اللغة ووضع اللسان على الغنيمة انطلاقه على ما نظفر به من
__________
(1) في الأصل: الآية.
(2) في الأصل: تلف.
(3) (س) : وزيراً.
(4) في الأصل: وإذا انتهى.
(5) زيادة من (س) .(11/444)
أموال الكفار من غير قتالٍ، غيرَ أن الفقهاء اصطلحوا على تمييز ما نصيب من أموالهم بالقتال عما نصيبه منها من غير قتال، فسمَّوْا ما نصيبه بالقتال غنيمة، وما نصيبه من غير قتال فيئاً.
وهذا الباب مضمونه ذكر تراجم في مصارف الغنيمة والفيء على الجملة، ثم القول في تفاصيلها، وأوصاف المستحقين، وأقدار ما يستحقون، يأتي مفصلاً في أبوابٍ.
فأما الغنيمة، فأربعة أخماسها للغانمين إذا أرادوها وطلبوها، ولم يُعرضوا عنها، والخمس منها يقسّم على خمسة أسهم بالسوية: سهم للمصالح العامة، وسهم لذوي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم للمساكين، وسهمٌ لليتامى، وسهم لأبناء السبيل.
7708- فأما الفيء، فليقع الكلام أولاً في صفته التي يتميز بها عن الغنيمة، قال جماهير الأصحاب: كل مالٍ أصبناه من كافر من غير قتال وإيجاف خيل وركاب فهو فيء، ويدخل تحت ذلك ما يتخلى الكفار عنه مرعوبين لاستشعارهم الخوف من غير أن نقيم عليهم قتالاً.
ومن جملة الفيء، ما يخلِّفه ذمّي وليس له وارث خاص.
ومنه الجزية، والخراج المضروب على حكم الجزية، [ومنه] (1) مال المرتد إذا مات أو قتل مرتداً. هذا هو المذهب المشهور.
وذكر الشيخ أبو علي تفصيلاً نأتي به على وجهه، فقال: إذا همّ المسلمون بجرّ جيشٍ إلى بلاد الكفار، فتقاذف الخبر إليهم، فانجلَوْا وخلّوا أموالهم، فعثرنا عليها من غير قتال، قال: إن انجلوا قبل (2) تجهيز الجيش وبروزه في صوب بلدتهم، فالذي [تركوه] (3) وانكشفوا عنه فيء.
__________
(1) في الأصل: وفيه.
(2) (س) : من غير تجهيز.
(3) في الأصل: يذكروه.(11/445)
وإن تجهز الخيل وضربوا [معسكرهم] (1) وبرزوا في تلقاء أولئك الكفار، فانجلَوْا بعد ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك المال مغنوم، وهو كما لو التقى الصفان، [فولَّوْنا] (2) ظهورهم، ومنحونا أكتافهم من غير شهر سلاح، فما خلفوه إذا ولَّوْا منهزمين مغنوم، (3 كذلك ما انجَلَوْا عنه بعد تجهيز الجيش، كما وصفناه مغنوم 3) .
وهذا وجه بعيد لا يوافق قاعدةَ المذهب، فالأصح إذاً أن الذي انجلَوْا عنه فيء، لأنا لم ننصب قتالاً، وقصْدُ القتال ليس بقتال، ولو فتحنا الباب الذي أشرنا إليه، لزمنا منه موافقة أبي حنيفة في أصولٍ اتفق الأصحاب على مخالفته فيها: أحدها أنه لو نفق فرسُ الغازي قبل أن يلقى قتالاً عليه، فمذهب أبي حنيفة (4) أنه إن كان وطىء بلادَ الحرب، فله سهم فرسه وإن نفق. ونحن لا نرى ذلك أصلاً، ثم ما حكاه من الوجه البعيد لم يعتبر فيه أن ينجلي الكفار بعد دخول جند الإسلام دارَ الحرب، ولكن اكتفى [بالتأهب] (5) والتجهيز والحصول في المعسكر المضروب في تلقاء الكفار، وحمل هذا على ما يلقاه الظاهرون من المؤن في تجهزهم، وهذا الوجه [في] (6) نهاية الضعف. وإن قيل به، فالاقتصار على مجرد الظهور فيه بعدٌ أيضاً، ثم لا ضبط بعد ذلك، ولا وجه إلا إبطال هذا الوجه.
وقد ذكر صاحب التقريب هذا الخلاف أيضاً.
[فهذا] (7) تصوير الفيء.
__________
(1) في الأصل: بعسكرهم.
(2) في الأصل: وولونا.
(3) ما بين القوسين سقط من (س) .
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/441 مسألة: 1588.
(5) في الأصل: الـ ـا ـث (كذا) .
(6) في الأصل: على.
(7) في الأصل: وهذا.(11/446)
7709- ثم اختلف الأقوال في أربعة أخماس الفيء، فقال الشافعي في قول: إنها للمرتزقة خاصة، وهم الجنود المرتّبون للذب عن حَوْزة الدين، وهم أصحاب الديوان، كما سيأتي وصْفُهم، إن شاء الله تعالى. وهذا القائل يقول: كانت أربعة أخماس الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما استأثر الله به -وكان صلى الله عليه وسلم وَزَراً للمسلمين- خَلَفَه شوكةُ الإسلام وجندُه.
هذا قولٌ ظاهر.
والقول الثاني - أن أربعة أخماس الفيء مصروف إلى المصالح العامة، ولكن الإمام يبدأ بالأصلح فالأصلح، والأهم فالأهم، [وأهمُّ] (1) المصالح إقامة [أمور] (2) المرتزقة وكفاية مؤنهم، وتفريغ قلوبهم، وهذا موضع التوطئة، والشرحُ بين أيدينا، إن شاء الله تعالى.
والقول الثالث للشافعي، نص عليه في القديم أنا نجعل (3) الفيء خمسةَ أسهم: سهم منها للمصالح، والبداية بالأهم، كما وصفناه، وأربعة أسهم لذي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، فتحصّل إذاً [ثلاثة] (4) أقوال كما سردناها.
ثم المذهب الظاهر أن الفيء يخمّس، ومصروف خُمسه ما أشرنا إليه، وفي أربعة الأخماس قولان: أحدهما - أنها ملك المرتزقة. والثاني - أنها للمصالح، والقول القديم مهجور مرجوع عنه.
ثم إذا صححنا تخميس الفيء، طردنا هذا في كل ما يستفاد من كافرٍ من غير قتال، ويدخل تحته ما خلّفه الذِّمي الذي ليس له قريب خاص، ومال المرتد، والجزية، والخراج المأخوذ من أهل الجزية.
وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: أن ما أخذناه من الفيء بإرعاب الكفار من غير
__________
(1) في الأصل: واسم.
(2) في الأصل: أولاد.
(3) (س) : نجعل جميع.
(4) زيادة اقتضاها السياق.(11/447)
لُقْيان قتال، فهو الفيء المخمّس، وما أصبناه من كافر من غير قتال ولا إرعاب، فلا يخمس أصلاً، ثم ظاهر ما ذكره (1) أنا لا نخرِّج فيه تمليك المرتزقة على القول الظاهر؛ فإنهم أهل الإرعاب، فيكون الحاصل من غير إرعاب على هذا القول مصروفاً إلى ما يصرف إليه خمس الفيء الحاصل بالإرعاب.
هذا ظاهر كلام صاحب التقريب في تفريع هذا القول البعيد.
وذكر الشيخ أبو علي هذا القولَ، وذكره العراقيون أيضاً. ثم إذا فرعنا على ذلك، ففي الطرق تردد في الجزية؛ من جهة [أن] (2) الكفار، وإن كانوا يبذلونها على طوعٍ، فسبب بذلهم لها استيلاءُ يد الإسلام عليهم، واستعلاء كلمة الله، فكانت الجزية حريةً أن تلتحق بالفيء الحاصل بالرعب.
هذا بيان الجمل التي أردنا تصدير الكتاب بها، لتحل محل التوطئة، والتراجم، مع العلم بأن التفاصيل محالةٌ على الأبواب الآتية، إن شاء الله عز وجل.
7710- ومما يذكر أيضاً أن الله تعالى قال في محكم كتابه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] . فقال فقهاؤنا: ما كان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في يومنا هذا سهم المصالح، ولا فرق [بين] (3) سهم الله وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما يرجعان إلى سهم واحدٍ.
هذا مذهب الشافعي.
وذهب بعض العلماء إلى أن ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فهو مصروف إلى الإمام الأعظم؛ فإنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيخلفه فيما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم.
والشافعي حكى هذا المذهب عن بعض السلف، وردّ عليه، ولم يصح أن الخلفاء الراشدين كانوا يأخذون سهمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) (س) : ما ذكرناه لا يخرج.
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: من.(11/448)
ومما يتعلق بالقرآن أن ظاهره يدل في الفيء على القول البعيد المنصوص عليه في القديم، وهو أن جملة الفيء مخمّس، ولكن هذا الظاهر [مزالٌ] (1) باتفاق المعتبرين من العلماء، كما أن ظاهر القرآن أن الغانمين لا يختصون بالمغانم؛ فإنه عز من قائل قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ، ولكن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} يدل على أن أربعة أخماس الغنيم للغانمين، فإنه ما استثنى من الغنيمة إلا الخمس، وأضاف الباقي إلى الغانمين، إذْ قال عز وجلّ: {غَنِمْتُمْ} .
***
__________
(1) في الأصل: مراد. وفي (س) : "زال".(11/449)
باب الأنفال
7711- أراد الشافعي رضي الله عنه بالأنفال الغنائم، وهي ما أصبناه بالقتال، وقاعدة الباب أن أربعة أخماسها للغانمين.
ثم صدّر الشافعيُّ الباب بأسلاب [القتلى] (1) ، فمذهب الشافعي أن المسلم إذا قتل كافراً في القتال، مقبلاً غيرَ مدبر؛ فإنه يستحق سلبَه، والأصل في ذلك الأخبار الصحيحة (2) ، والنصوص الصريحة، كما ذكرناها في مسائل الخلاف. ثم الكلام يقع في هذا الفصل على وجوهٍ:
منها - القول في السبب الذي يستحق به السلب، فنقول: سببُ استحقاق السلب قتلُ كافر مقبل على القتال إلى أن قُتل غيرَ منهزم ولا مدبر، فلو [ولى] (3) الكفارُ وركب المسلمون أقفيتهم، فمن قتَل منهم منهزماً، لم يستحق سلبه، ولو ناوش مسلمٌ قِرناً من الكفار، وطفقا يقتتلان، ثم ولى الكافر بسبب بأس المسلم وبطشه، فاتّبعه وقتله، فظاهر المذهب أن ذلك [سببٌ] (4) لاستحقاق السلب. هكذا ذكره الشيخ أبو علي.
وإنما المنهزم الذي لا يستحق قاتلُه سلبَه هو الذي لم يخض في القتال [وولّى] (5) ، فأما
__________
(1) في الأصل: القتيل.
(2) الأخبار الواردة في السلب متعددة، وفيها أكثر من حديث متفق عليه، فمنها: "من قتل قتيلاً، فله سلبه". وهو متفق عليه من حديث أبي قتادة. أخرجه البخاري: كتاب فرض الخمس، ح 3142، ومسلم: كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح1751، (وانظر تلخيص الحبير: 3/223، 224، 225، الأحاديث من رقم 1475-1479) .
(3) في الأصل: ركب.
(4) في الأصل: بسبب.
(5) في الأصل: ووفى.(11/450)
الخائض في القتال إذا كانت [هزيمته] (1) بسبب تحامل قِرنه عليه فالذي هزمه إذا قتله استحق سلبَه.
وفي هذا تفصيل لا بد منه، وهو أنه إن ولّى من قِرنه، فاتّبعه رجل غيرُ من كان يبارزه وقتله، فالظاهر أن هذا القاتل لا يستحق سلبه، وكذلك من هزمه لا يستحق سلبه الآن؛ إذْ قتله غيره.
والهزيمة هي مفارقة المعترك مع الاستمرار على الفرار، [وأما التردد بين الميمنة والميسرة] (2) والقلب، فليس ذلك من الهزيمة، (3 وسنصف الهزيمة 3) وحكمَها في حق المسلمين، و [كذلك نصوّر الهزيمة وحقيقتَها] (4) إذا فرضت من الكفار، إن شاء الله تعالى.
7712-[ومن] (5) أسباب استحقاق السلب أن يثخن المسلمُ الكافرَ، ويُذهبَ بطشَه ومنعَتَه، فإذا فعل ذلك المسلمُ، استحق سلبَ ذلك الكافِر المثخن، فلو قتله قاتلٌ [وقد] (6) أثخنه أولاً مثخنٌ، فالسلب للمثخِن، لم [يختلف فيه] (7) علماؤنا؛ فإن المقصود إثخانه وإبطال بطشه، [وقد] (8) حصل بالأول.
فإن قيل: أليس روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلاً فله سلبه" فعلق استحقاق السلب بالقتل؟ قلنا: هذا ينزل على غالب العرف، والغالب أن القاتل هو الجارح أو المذفِّف (9) ابتداء، فاتجه تنزيل الخطاب عليه.
__________
(1) في الأصل: هزيمة.
(2) في الأصل: فأما التردد بين اليمنة واليسرة.
(3) ما بين القوسين سقط من (س) .
(4) في الأصل: "وعد ذلك قصور الهزيمة في حقها" وفي (س) : "وغير ذلك نتصور الهزيمة وحقيقتها" والمثبت تصرّف منا.
(5) زيادة من (س) .
(6) في الأصل: فقد.
(7) في الأصل: يخلف إليه.
(8) في الأصل: فقد.
(9) المدفف: من دفَّ عليه يدف (من باب قتل) ، ودفَّف تدفيفاً: إذا أجهز عليه وجرحه جرحاً يوحي بالموت. وهي بالمهملة والمعجمة. (المعجم والمصباح) .(11/451)
والدليل الخاص في ذلك ما روي أن شابَّين من الأنصار أثخنا أبا جهل يوم بدرٍ وقَطَراه (1) من فرسه، ثم صادفه ابنُ مسعود مثخناً فجثم على صدره، فناطقه أبو جهل، وأجاب ابنُ مسعود، وطال تحاورهما، ثم احتزَّ (2) ابنُ مسعود رأسه، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه الشابين، ولم يعط ابنَ مسعود منه شيئاً (3) ، فصار ذلك نصّاً، وحسن معه حمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعتاد، كما تقدم ذكره.
ولو قطع المسلم يدي قِرنه، وترك رجليه، أو قطع رجليه وترك يديه، فقد [ذكر] (4) العراقيون اختلاف نصٍّ أن هذا هل يكون إثخاناً، وأن ذلك لو صدر من مسلم، ثم جاء مسلم آخر [وأجهزه] (5) ، فالسلب لمن؟ وأجْرَوْا القولين في ذلك: أحدهما - أن السلب للأول؛ فإنه أزمنه وأبطل قوّته ومُنَّته.
والثاني - أن السلب للمجهِز، فإنه قد يبقى (6) فيه بعد قطع اليدين قتالٌ بسبب رجليه، وقد يعْدُو، فيجلب الكفار على المسلمين. وإن بقيت يداه، فقد يبطش بهما.
__________
(1) قطراه من فرسه: ألقياه عنه، يقال: قطر فلاناً: أي صرعه، وقطره فرسُه: ألقاه على أحد قُطريه (جانبيه) (المعجم) .
(2) احتزّ: يقال: احتزّ السياف رأسه، قطعها (المعجم) .
(3) قصة مقتل أبي جهل وسلبه، واردة في الصحيحين، أثخنه معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وجاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منهما يقول: أنا قتلتُه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيفيهما، وقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
(ر. البخاري: كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، ح 3141، 3964، 3988، ومسلم: كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح 1752) ، وانظر أيضاً (التلخيص: 3/223، 224 ح 1477) .
(4) في الأصل: حل.
(5) في الأصل: وأخره.
(6) (س) : بقي.(11/452)
وقد ذكر الشيخ أبو علي هذين القولين في الصورة التي ذكروها كما ذكروها، وزاد طريقةً أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: ليست المسألة على قولين، بل هي على حالين، فحيث قال: السلب للثاني أراد بذلك إذا لم يسقط [قتاله] (1) لقطع يديه أو رجليه، وحيث قال: السلب للأول أراد به إذا أزمنه بحيث لم يبق فيه قتال.
وهذه الطريقة هي الصحيحة التي لا يجوز غيرُها؛ فإن الإزمان [يختلف] (2) باختلاف الأشخاص، فرب رجل ليس بالأيِّد البالغ في القوة وإذا قطعت منه يد واحدة ينزف دمه بذلك، ويصير مثخناً، لا حراك [به] (3) ، وسقوطُ القوّة على قدر بنية القلب وقوته وضعفه، ورب رجل ذي مِرّة لا تسقط قوته بقطع يديه.
ولا يتضح المقصود من هذا الفصل إلا بمزيدٍ، فنقول: الكافر إذا أصابته ضربة، فسقط، ولم يبق فيه بقية يدافع بها، ولكن لو ترك، لثابت إليه نفسُه وآبت إليه مُنّته، ولكنه في الحال لا يبطش، ولا يُغنى غناءً، فالذي أراه أن هذا ليس بإثخان؛ فإنه لو ترك، لعاد كما كان حَنِقاً متغيظاً.
ولو جرح الكافر جرحاً لم يمنعه من القتال في الحال، ولكنا علمنا أنه لو ترك لأهلكته الجراحات بعد أيام، فهو في الحال ليس بمثخن.
7713- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المسلم إذا أسَر واحداً من الكفار وجاء به مأسوراً، فالظاهر أن ما عليه مِن سلبٍ لآسره؛ فإن إثبات اليد القاهرة عليه تحل محل الإثخان، فإن حكم يد الإسلام على الأسرى يُبتنى على استمرار الأسر.
هذا قولنا فيما كان معه، فلو [أرقّه] (4) صاحبُ الأمر، ففي ملك رقبته كلامٌ سأذكره في الفصل الثاني.
7714-[وهذا] (5) تفصيل القول في السلب، فأقول: كل ما يتصل بالكافر القتيل
__________
(1) في الأصل: فقاله.
(2) في الأصل: مختلف.
(3) في الأصل: فيه.
(4) في الأصل: أرقد.
(5) في النسختين: وهو.(11/453)
من سلاح أو جُنّة يُدرأ بها السلاح، فهو من سَلَبه، يُصرَف إلى قاتله، وسيفُه [ورُمحه] (1) ، وما تبعه من أسلحته ودابّته التي هي عتادُه الاكبر، كل ذلك سلَبُه، وثيابُ بدنه التي هو لابسها من سلبه؛ فإنها متصلة به، وهو حاملها، ويمكن إلحاقها بالجُنن؛ [فإن لكل] (2) ملبوس وإن رقّ وخفَّ أثراً في الدفع، وإن لم نُحسّ أثره في الدفع، فالثياب الخشنة الدافعة لو باشرت [البشرة] (3) ، أضرّت به، والقُمُص تحتها تهوّن محملها، فالقول الضابط في ذلك: أن [كل] (4) ما اجتمع فيه الحمل، وكونه سلاحاً أو [جُنة، فكونه] (5) سلباً لا شك فيه.
والسلاح الذي يحمله الفرس كالسلاح الذي يحمله الفارس، [فالسيف] (6) تحت الركاب، كالسيف الذي يتقلده الفارس، والرمح الذي يعتقله ويتأبطه كالرمح المنصوب على الفرس.
7715- وإن كان على وسط الكافر [هميان] (7) فيه شيء، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه من السلَب؛ لأن الكافرَ حامله.
والثاني - أنه ليس من السلب، بل هو مغنم مشترك، لأنه ليس سلاحاً ولا جُنّة، وليس آلةً للقتال، ولا عُدّة للدفع، وليس من الملبوسات أيضاً.
واختلف أئمتنا في أن الكافر لو كان على فرسٍ، وكان يُجنب آخر كالجنيبة (8) هل تعد من السلب؟ فيه وجهان: أحدهما - أنها ليست من السَّلَب؛ لأنها ليست متصلة
__________
(1) في الأصل: وربحه.
(2) زيادة من (س) .
(3) في الأصل: العشرة.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: جه فهو سلب.
(6) في الأصل: والسيف.
(7) في الأصل: هيمان. والهميان كيس يجعل فيه النفقة ويشد على الوسط. وهو معرّبٌ دخيل. قاله الأزهري (المصباح) .
(8) الجنيبة: الفرس تقاد ولا تركب (المصباح) .(11/454)
بالكافر اتصالاً يتأتى الاستعمالُ به، فكانت [الجنيبة] (1) بمثابة الصبي والرَّحْل الذي يكون مع الكافر.
والثاني أنها من السلب؛ فإن الجنيبة مع الفرس المركوب بمثابة سيفٍ تحت الركاب، وآخرَ متقلدٍ، والعادة جارية بالاستظهار بالجنايب، وأجرى الأصحاب الوجهين في الهميان والجَنيبة مجرى واحداً؛ فإن في الهميان صورة الاتصال والحمل، وإن لم يكن من الجُنَن والأسلحة، وفي الجنيبة حكم الأعتاد (2) على الاعتياد، وإن لم يكن متصلاً بالفارس في الحال، فاعتدلا من هذا الوجه.
7716- وظهر خلاف أصحابنا في الخاتم؛ لأنه ليس جُنّة، ولا آلة دفع، لكنه ملبوس محمول، فكان من وجهٍ كالهميان لاتصاله، وكان من وجه أخص بالكافر لأنه ملبوس يعتاد لبسه، واحتمال الهميان مما يندر جريانه، وقد يفرضُ الهميان دافعاً إذا كان فيه شيء، فإنه يدفع الأسلحة ويقي الموضع المستورَ به.
ولو كان على الكافر طوْقٌ من ذهب أو فضة، فإن كان قد يستعمل مثله وقاية للرقبة، فهو من الأسلحة، ولا نظر إلى الجنس، فإن المِغفر من الحديد من السلب، فلو كان من أحد التبرين، فهو من السلب أيضاً، وإن كان ذلك الطوق [لا يستعمل] (3) إلا زينةً، فقد ذكر العراقيون فيه وجهين وقربوهما من الخلاف في [الخاتم] (4) وهذا ليس على وجهه؛ فإن الطوق لا بد وأن يكون واقياً لما يستره، وأثره في الوقاية بيِّنٌ، لا حاجة إلى تقريره.
7717- ولو كان الكافر يقاتل راجلاً، وهو مستمسك بفرسه، فالفرس من سلبه.
هكذا قال الأصحاب، ولا يمتنع عندنا إذا تُصوّر ذلك أن نجعل ذلك الفرسَ كالجنيبة، ويظهر الفرق من جهة أن الفارس في حكم [المستغني] (5) في حاله عن
__________
(1) في الأصل: الحفية.
(2) ساقطة من (س) .
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: الحكم.
(5) في الأصل: المستعير.(11/455)
الجنيبة (1) بالفرس الذي هو مركوبه [والمترجل] (2) المستمسك بالفرس ليس [مستغنياً] (3) بشيء من جنس الفرس.
ولو كان معه غلامٌ، فليس من السلب، ولو كان الغلام حاملاً سلاحه يناوله متى شاء، فيجوز أن [يقال] (4) ذلك السلاح بمثابة الفرس المجنوب، ويجوز أن يقال: لا يكون ذلك السلاح من السلب، وإذا جعلنا الجنيبة سلباً، ففي السلاح الذي على الجنيبة ترددٌ ظاهر.
7718- والفرس الذي هو راكبه [مع ما] (5) عليه من سرج ومركب [كله] (6) من السلب فيما قطع به الأئمة المراوزة.
وكان شيخي يقطع [بأن] (7) المِنْطقة (8) من السلب وجهاً واحداً، وذكر العراقيون في المِنطقة خلافاً، وهذا بعيد، ثم يليق بهم أن يلحقوا مركب (9) الفرس بالمنطقة، ويجوز أن يفصِّلوا ويقولوا: [لا] (10) يتأتى استعمال الفرس دون المركب؛ فهو مما لا بد منه، بخلاف المِنطقة [ويتجه] (11) على قياسهم أن يلحقوا ما لا يُحتاج إليه من
__________
(1) عبارة (س) مضطربة: في حكم المستغني في حاله عن كالجنيبة عن بالفرس الذي.
(2) في الأصل: والمرجل.
(3) في النسختين: مستعملاً.
(4) في الأصل: "يكون".
(5) في الأصل: مما عليه.
(6) في الأصل: كل.
(7) في الأصل: في أن.
(8) المنطقة: اسمٌ لما يسميه الناس الحياصة، (والأصل الحواصة) وهي سيرٌ يشد به حزام السرج (القاموس المحيط والمصباح) .
(9) مركب الفرس: المراد به (الركابان) والركابان هما ما يُدخل الفارس فيهما رجليه، وجمعها (ركُب) بضمتين. (ر. صفة السرج واللجام، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: 60، 61) .
(10) في الأصل: لولا.
(11) في الأصل: وينحو.(11/456)
المركب بالمِنطقة، كالغُّرة (1) من اللجام، وأحذ [اللببين] (2) ، والكفاية حاصلة بواحدة، وكذلك ما يتعلق [بالزينة] (3) كالأطراف [المفضّضة] (4) من المعاليق (5) ونحوها.
وكل هذا خروج عن الأصل المعتبر، والوجه أن تعد جملة ملابس الفارس وملابس فرسه كيف فرض الأمر فيها من السلَب.
7719- ولو قيل: هلا قلتم: السلبُ كلّ ما يسلب من الكافر، مما لا يتأتى سلبه إلا بقتله أو إثخانه؛ فإن السّلَب من السَّلْب؟ قلنا: لا يطرد هذا مع قطع الأصحاب بأن الكافر لو كان على فرسه عَيْبةٌ فيها ثياب ونفقة، أو على الجنيبة عيبة، فالعيبة بما فيها مغنم مشترك، وليس من السلب؛ فإنه ليس سلاحاً، ولا ملبوساً، فإذا كان هذا قولنا في العيبة فمخيَّمه وما فيه من رحله مغنمٌ لا شك فيه.
7720- ولو كان معه فرسان يجنبهما، فالخلاف في واحد منهما؛ [فإنا] (6) لو جعلنا الفرسين المجنوبين سلَباً، [التزمنا] (7) ذلك في الثلاثة والأربعة فصاعداً، وإن كان يُسند الأمر في هذا إلى العادة، فليس وراء الجنيبة الواحدة عادة بها اعتبار، وإذا كان كذلك ووقع التفريع على أن السلب إحدى الجنيبين، فكيف سبيل التعيين؟
وما الوجه؟ هذا مشكلٌ محتمل، والغرض قد يتفاوت [بتفاوت] (8) الفرسين. هذا
__________
(1) الغرّة: المراد بها غرة اللجام، وهي من زينته وتحليته.
(2) اللببين: اللبب ما يشد على صدر الدابة، ليمنع تأخر الرحل والسرج، وهو يقع على لبان الفرس. وهو في الأصل سير واحد، ولببٌ واحد، فإذا كان من سيرين سمي الأول اللبب، والثاني (الكانف) فالتثنية هنا من باب التغليب. (السابق نفسه) .
(3) في الأصل: بالعر ـ ـه (كذا) تماماً بهذا الرسم.
(4) في الأصل: المصصعه (كذا) تماماً.
(5) المعاليق: هي السيور التي تكون في الخُروق التي في مؤخر الدفتين، والدفتان هما جانبا السرج مما يلي لحم باطن فخذي الفارس، فالمعاليق هي من نسيج السرج وزينته في الوقت نفسه. (ر. صفة السرج واللجام، لابن دريد: 48، 55) .
(6) في الأصل: فأما.
(7) في الأصل: لالتبس فيها ذلك.
(8) زيادة من (س) .(11/457)
[مقامٌ قد] (1) يخطر للفقيه فيه القرعة؛ فإن الفرس الذي تخرج القرعة عليه وإن شرف قدرُه لو صور وحده، لأخذه سلباً، فلا يظهر مع هذا تفاوت القيم.
ويجوز أن يقال: هذا إلى الوالي، وصاحب [الرأي] (2) أَخْذاً من مِلْكه التنفيل، كما سنذكره بعد هذا، ثم لا يقع تنفيل الإمام على حسب الوفاق، ولكنه ينظر إلى الحال والشخص، والغَنَاء، وكذلك يرى رأيه في تعيين الفرس، ويبني الأمر على مقتضى الاجتهاد. وهذا [أوْجه] (3) من القرعة.
وقد يخطر للفقيه تخيير القاتل؛ فإن مبنى استحقاقه السلبَ على الاختصاص [لما] (4) أبلاه من البلاء وأبداه من الغَناء، فلا يبعد أن يستحق السلبَ المتعيَّنَ وتعيينَ السلب.
وما ذكرناه من تخصيص الخلاف [بالجنيبة] (5) الواحدة، وقد (6) يتحامل المصور (7) ، فيفرض جنيبين، وهذا يعتضد تصويره باعتياد [جُندٍ] (8) من الكفار ذلك، والدورانُ على العادة في محل الوفاق والخلاف.
ثم لا بدّ -وإن قدَّرنا خلافاً في الجنيبين- من الرجوع [إلى] (9) العادة، ثم يُفضي الأمر إلى الإشكال الذي ذكرناه.
وإذا زاد العدد على العادة، والفارس إن احتمل من السلاح أكثر من العادة، فالزائد على العادة محمول وليس سلاحاً مستعملاً، وهو [يقرب] (10) من الهميان، كما تقدم،
__________
(1) في النسختين: هذا مقام وقد يخطر للفقيه ... (بزيادة الواو) .
(2) في الأصل: الدابة.
(3) في الأصل: الوجه.
(4) في الأصل: بما.
(5) في الأصل: فالجنيبة.
(6) (س) : قد يتحاول.
(7) في الأصل: من المصور.
(8) في الأصل: خيل.
(9) زيادة من (س) .
(10) في الأصل: مقرب.(11/458)
ثم يؤول الكلام إن جعلنا البعض سلباً إلى [التعيين] (1) وفيه التفصيل المقدم.
7721- ومما يتعلق بهذا الفصل أن من أسر كافراً، فأرقّه الإمام، ففي رقبته وجهان مشهوران: أوجههما - أنها لآسره؛ فإن رقبته أخص من سلاحه وثيابه.
ومن أصحابنا من قال: رقبتُه مغنمٌ؛ فإن الرق جرى فيه بعد الأسر.
ومما يتعلق بهذا أن الإمام لو رأى قتلَ الأسير، فلا معترض عليه، وليس للآسر أن يحتكم على صاحب الأمر بالإرقاق، ولا يغرم الإمام شيئاً للآسر، وإن قلنا: لو أرقه، لكان الملك في الرقبة للآسر (2) ؛ لأن قتل الإمام على حكم الاستصواب نازلٌ منزلة قتل الواحد من المسلمين قِرنه، فإنّ قتله [واقع] (3) بحق، فليفهم الناظر ذلك.
وكذلك لو منَّ عليه، فلا معترض، ولا غرم.
ولو فاداه، فله المفاداة، ثم المال المأخوذ من مفاداته فيه احتمال على الخلاف المذكور في رقبته إذا أرقّه الإمام، والأظهر أنه ليس للآسر مالُ المفاداة؛ فإنه ليس سلباً، ولا هو عين المأسور. والله أعلم.
هذا تمام القول فيما يُعدّ (4) من السلب، ويلتحق به، وفيما يخرج منه.
7722- ومما يتعلق بالسلب القولُ في صفة السالب القاتل: اختلف أئمتنا في أن من ليس (5) من أهل السهم وكان من أهل الرضخ، كالصبيان والنسوان والعبيد إذا جرى منهم قتلٌ، فهل يتعلق به استحقاق السلب؟ فمنهم من قال: يتعلق به استحقاق السلب؛ تعلقاً بظاهر قوله عليه السلام: "من قتل قتيلاً، فله سلبه".
ومنهم من قال: لا يستحق السلب إلا مَن هو من أهل استحقاق السهم في المغنم؛
__________
(1) في الأصل: التعين.
(2) (س) : للأسير.
(3) زيادة من (س) .
(4) (س) : يتعلّق.
(5) عبارة (س) : في أن من يكون من أهل الرضخ.(11/459)
فإن السلب واستحقاقه يتعلقان بكمالٍ في حال من هو من أهل القتال، فإذا قصر الشخص عن استحقاق السهم، كان بأن يقصر عن استحقاق السلب أولى.
وقد يعترض ها هنا احتمال في الطرف الآخر، وهو أن المسلم لو قتل صبياً من الكفار مراهقاً كان يقاتل، أو امرأة كانت تقاتل، ففي استحقاق سلبه احتمال؛ فإنه ليس من أهل القتال.
ولو قتل عبداً منهم، استحق (1) سلبه بلا خلاف؛ فإن ما يَلْقى من قتل عبد مثل ما يَلْقى من قتل حر، فإن عورضنا في هذا بأن قتال العبد منا كقتال الحر، قلنا: هو كذلك، ولكن الشرع لم يعلق به السهم، فترددنا في السلب.
7723- ومما يتعلق بالسلب، وهو تمامه وختامه، القول في أن السلب هل يخمس [ومن أين يؤخذ؟ وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال قائلون: لا يخمس] (2) السلب، بل تُنحَّى أسلاب القتلى، ويُقضى بفوز القاتلين [بها. هذا] (3) ظاهر الأخبار الدالة على [اختصاص] (4) القاتلين بأسلاب القتلى، وأيضاً إذا كان يختص القاتل بالسلب عن الغانمين، جاز أن يختص به عن أصحاب الخمس.
والوجه الثاني - أن السلب يخمّس؛ فإن اختصاص القاتل بسلب القتيل كاختصاص الغانمين بالمغنم، [فالقاتل] (5) في السلب كأنه الجُنْد كله فيه، ثم الخمس زاحم حقوقَ الغانمين، وكان يليق بطريق الرأي ألا يثبت الخمس إلا في الفيء، فلما لم يكن كذلك، دلّ على أن الخمس يتعلق بكل مغنوم.
__________
(1) عبارة (س) : ولو قتل عبداً منهم لا خلاف أنه يستحق سلبه.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (س) .
(3) في الأصل: بهذا، وهذا ظاهر ...
(4) في الأصل: إخلاص.
(5) في الأصل: والقاتل.(11/460)
فصل
قال: "والنفل من وجهٍ آخر، نفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنيمةٍ ... إلى آخره" (1) .
7724- معنى الفصل أن الإمام لو رأى أن يحرّض سرية من السرايا على اقتحام مخاوف، نفّلهم مقداراً مما يأخذون على خلاف ما يقتضيه اعتدال القسمة، مثل أن يقول لسريةٍ رأى اقتطاعَها عن كُثْر (2) الجند: نفّلتكم الربعَ، بحيث لا يخمس عليكم، هذا جائز للإمام. ذكر الشافعي البدْأةَ والرجعة، والمراد بالتنفل في البدأة أن يخصص سريةً تَقْدُم الجندَ وتُوغِل في العدو مبتدئة، هذا هو البدأة.
والرجعة [أن] (3) تنجرّ الراية وكُثْرُ الجُند متوجهةً إلى بلاد الإسلام، فيقتطع الإمام سريةً ويكلفُهم أن يرجعوا على أدراجهم، ويغتالوا طائفةً من الكفار، أو يهجموا على قلعة، أو يرجعوا لغرضٍ سوى ما ذكرناه، وهذا يشتدُّ عليهم، وهو الرجعة، ثم [التنفيل] (4) في البدأة من وجهٍ قد يكون أقلّ؛ فإن السرية لم تلق بعدُ [قتالاً] (5) ، والجند من ورائهم، وهم فئتُهم ووزرُهم.
(6 وإذا كُلِّفوا الرجعة 6) وقد عضّهم السلاح وفشا فيهم الجراح، والجند مشرِّقٌ، وهم مغرّبون، فهذا يكون أشقَّ عليهم.
وقد يكون الأمر على العكس، بأن نقدّر الكفار على أُهَبهم في الابتداء، فيعظم مصادمتُهم، ويقدّرون [مفلولين] (7) في الانتهاء، فتسهل الكرة عليهم.
__________
(1) ر. المختصر: 3/187.
(2) كُثْر الجند: معظمهم وعامتهم (معجم) .
(3) زيادة من (س) .
(4) في الأصل: السبيل.
(5) غير مقروءة في الأصل، هكذا: ـ ـالا (انظر صورتها) .
(6) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(7) في الأصل: "معلولين". ومفلولين يقال: فللتُ الجيش فلاً من باب قتل، فانفلّ: كسرته، فانكسر (مصباح) .(11/461)
والنظر في ذلك إلى الإمام، والأحوالُ على التباسٍ، فإن رأى التسوية بين التنفيل في البدأة والتنفيل في الرجعة، سوى بينهما، وإن رأى أن يجعلهما متفاوتين، فلا معترض عليه، ثم له أن يجعل ما في البدأة أكثر مما في الرجعة، وله عكس ذلك، والسبب فيه أنه لم يَرد في ذلك توقيف شرعي، نقف عنده؛ فكان الأمر مفوضاً إلى الرأي والاجتهاد. ولو صح في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفَّل على قدرٍ [في] (1) البدأة والرجعة، فليس ذلك -إن صح- تقديراً، وإنما هو حكم الوفاق.
ثم لا يحتكم صاحب الأمر بهذا؛ فإنّ التحكم بالتفضيل في المال، والحرمان [منه] (2) غيرُ سائغ، والمال إذا تعلق الأمر فيه بالزيادة والنقصان، والأثرة والحرمان خطر في الاجتهاد.
7725- ثم إذا تبين جواز التفضيل في [التنفيل] (3) ، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: إذا خصص الإمام قوماً بشيء، فنجبر ذلك النقصانَ للجند، ويكون جبران النقصان من خمس الخمس المرصد المصالح، وهؤلاء يرون هذا الجبران حتماً، وحكماً متبعاً لا يُتعدى، ثم يردّون الأمر إلى اختيار الإمام من وجهٍ، ويقولون: إن شاء الإمام -وقد نفّلَهم الربعَ، أو ما رأى- جاء بهذا القدر من سهم المصالح (4) ، ولم يخصص المتنفِّلين المفضلين بأعيان ما أَتوْا به، وإن أحب، فضّلهم بذلك القدر من أعيان ما أصابوه، ثم غرم لباقي الجند مقدارَ التفضيل من سهم المصالح، وهذا القدر لا معترض فيه.
هذا قولنا.
ومن أصحابنا من ذكر قولاً آخر: إن التفضيل في التنفيل جائزٌ للإمام، من غير أن
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في النسختين: فيه.
(3) في الأصل: السبيل.
(4) جاء بهذا القدر من سهم المصالح: المعنى أنه لا يترك لهم أعيان ما أخذوه من العدو، بل يعطيهم بدلاً منه من سهم المصالح، كما سيتضح من العبارة التالية.(11/462)
يجبر ذلك النقصان [لكُثْر] (1) الجند، فيخصص على حسب النظر في التنفيل، ثم لا يحتسب ذلك عليهم، بل يفوزون به فوْز القاتلين بأسلاب [قتلاهم] (2) من غير جبران.
وهذا القائل يقول: لا يخفى مسيس الحاجة إلى مثل ذلك في سياسة الحروب، وقد ورد فيه التفضيل في التنفيل، ولم يرد جبران النقصان، فإذا وجدنا التنفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفيناه موافقاً لوجه الرأي، [اتخذناه] (3) إمامَنا.
هذا قولنا في تنفيل السرية في البدأة والرجعة.
7726- ومن [أسرار] (4) المذهب في هذا أن الإمام لو لم يتعرض لهذا عند انبعاث السرية، ولكنهم لما أصابوا ما أصابوا أراد أن يخصصهم تفضيلاً وتنفيلاً ببعض ما أصابوه، فظاهر كلام الأصحاب أن هذا ممتنع بعد الإصابة والإحراز، وإنما يسوغ التفضيل والتنفيل قبل إصابة المغنم.
وسبب هذا أنهم إنما [يُفضَّلون] (5) ليحرصوا على الامتداد في الصوب الذي يراه الإمام.
ثم القول في ذلك معتضدٌ بالخبر (6) ، وهو وارد في اشتراط التفضيل عند ابتداء البعث.
__________
(1) في الأصل: أكثر، و (س) : لأكثر. والمثبت تصرف من المحقق. وكُثْر الجند: معظمه، والمراد هنا باقي الجند.
(2) في الأصل: قتالهم.
(3) في الأصل: اتخذناها.
(4) في الأصل: أسر المذهب.
(5) في الأصل: ينفصلون.
(6) يشير إلى حديث عبادة بن الصامت عند الترمذي، أنه صلى الله عليه وسلم نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث. قال الترمذي: وحديث عبادة حديث حسن.
وفي الباب عن ابن عباس، وحبيب بن مسلمة، ومعن بن يزيد، وابن عمر وسلمة بن الأكوع. ا. هـ بنصه من جامع الترمذي. ورواه أبو داود عن حبيب بن مسلمة (ر. الترمذي: ح 1561، وأبو داود: ح 2748، 2749، 2750، وانظر أيضاً تلخيص الحبير: 3/221 ح 1471) .(11/463)
فهذا ما وجدناه، ويتأيد ما ذكرناه بطرفٍ من المعنى؛ فإنهم إذا أحرزوا والجندُ وزرُهم ومرجعُهم، والغوث قريب منهم، فقد تعلق حق الجميع بما [حصّلوه] (1) ، فالتخصيص بعد تعلق حق الكافة مخالف (2) للتفضيل والتنفيل قبل (3) التحصيل.
7727- ومما اختلف الأصحاب فيه أن الإمام لو رأى في مصلحة القتال أن يقول للأبطال، أو الجند عامة: من أخذ مالاً، فهو له لا يزاحَم فيه، فهل يجوز ذلك؟
فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يجوز؛ فإن هذا تخصيص مخالفٌ لوضع الشرع [في] (4) تعديل القسمة، ولم يرد فيه ثَبَت.
ومِنْ أصحابنا من جوز هذا؛ بناء على التفضيل في (5) التنفيل في البدأة والرجعة، وهو متَّجِه في طريق الإيالة (6) ، وله نظير في مورد الشرع، وهو اختصاص القاتلين بالأسلاب.
ومن قال بالأول، انفصل عن هذا [بأن] (7) قال: التخصيص (8) بالسلب سببه بيّن؛ فإن نهاية البلاء الحسن والغَناء قتلُ الكفار، فأما الاشتغال بأخذ الأموال في حال قيام القتال، فمن الأسباب الحائدة عن وجه الرأي، ومن أعظم المكائد في الحروب أن يخلِّي الكفارُ الأموالَ (9) على رجالنا حتى ينكبّوا على التنافس فيها، ثم إنهم يعكرُون عكْرةً (10) ، ويرون ذلك خداعاً وغِرّة، هذا بيّن ظاهر في غالب الأمر.
ثم إن لم نجوّز ما ذكرناه، فلا كلام، وإن جوزناه، فهو بمثابة التنفيل
__________
(1) في الأصل: فصلوه.
(2) في الأصل: تعبد مخالف.
(3) (س) : سقط منها: قبل التحصيل.
(4) في الأصل: من.
(5) (س) : على التفضيل في البدأة والرجعة.
(6) (س) : الإماية.
(7) في الأصل: فإن.
(8) (س) : بأن التحصيص بالسلب سببٌ.
(9) في الأصل: والأموال.
(10) يعكرُون عكرة: من باب قتل: أي يرجعون ويكرون كرّة. (معجم ومصباح) .(11/464)
[الذي] (1) سبق شرحه، ويؤول الخلاف في وجوب الجبران من خمس الخمس، كما تقدم في ابتداء الفصل.
وإذا حيزت الغنائم، فمقتضى كلام الأصحاب أن التفضيل بعد حيازة المغانم غيرُ سائغ، وإنما هذا التردد قبل الحيازة. والله أعلم.
هذا منتهى القول في ذلك.
7728- ولو مست الحاجة إلى [ترجّل] (2) الفرسان، وكان يشتد القتال على الرّجّالة، ويهون على الفرسان، فأراد الإمام -والحالة هذه- أن يسوّي بين الرجّالة والفرسان، أو أراد تفضيل الرّجالة على حسب الرأي، [فهذا لا مساغ] (3) له؛ فإنه هجوم على مخالفة الوضع (4) في القسمة من غير تعلّقٍ بمستند من توقيفِ الشارع، وقد أجمع علماؤنا على أن تفضيل الفرسان على الرجّالة من التوقيفات المتبعة، وليست محمولةً على وجه الاستصواب، وهو بمثابة ما لو خصص الإمام بمزيد في المغنم الذين يباشرون القتال، وهذا لا يجوز، وما ذكرناه من تخصيصه كلَّ من يأخذ بما يأخذ على بُعده [مشبه] (5) بالسلب، فإذا لم نجد معتصماً شرعياً، فلا سبيل إلى تسليط وجوه [التأتي] (6) على [تغيير] (7) وضع الشرع في تعديل القسمة.
7729- ومما يتعلق بالفصل أنه لو جعل للسرية المبعوثة كلَّ ما غنمت وأصابت، فهذا مما تردد الأصحاب فيه، من جهة مخالفته للأثر والتوقيف، وإفضائه إلى الميل بالكلية عن تعديل القسمة.
__________
(1) في الأصل: الذين.
(2) في الأصل: توجل.
(3) في الأصل: وهذا لا يساغ، وفي (س) : فهذا الامتناع. والمثبت تصرف من المحقق.
(4) (س) : مخالفة وضع القسمة.
(5) في الأصل: منيّة (كذا) .
(6) التأتي: الترفق في الأمر، والتبصّر به حتى يأتيه من وجهه (معجم) . ثم هي في الأصل: "الثاني".
(7) في الأصل: تعيين.(11/465)
وما ذكرناه حقه أن يُرتب على ما لو قال: من أخذ شيئاً، فهو له؛ فإن التنفيل في البدأة والرجعة في جميع ما أصابه المبعوثون أمثل من إطلاق القول بأن (1) كل من أصاب شيئاً، فهو له.
وقد تمهد في مسلك المذهب أنا لا نحكِّم وجهَ الرأي في جميع المسائل، ولكن إن وجدنا في التنفيل أصلاً في التوقيف، اتبعناه، ثم تصرّفنا قليلاً في المقدار، فإن لم نجد أصلاً في التوقيف، ولم يستدّ (2) لنا قياس شبهي، وجب اتباع القواعد في تعديل القسمة، وامتنع التفضيلُ وإن وافق الرأيَ.
وإن وجدنا قياساً شبهياً [كما (3) ذكرناه في تشبيه] ما يصيب كل رجل بالسلب، فهو على التردد، والزيادة على الربع والثلث مأخوذة من مسألة إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لكونه في معناه، كإلحاقنا الأمة بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركاً له في عبدٍ قُوِّم عليه" وإذا وقع التنفيل في مقدار النصف، فهو مقطوع به جوازاً، وإن وقع في معظم ما يصيبه المبعوثون، فيحتمل تخريجه على الخلاف، وتنزيله منزلة ما لو [خصصهم] (4) بجميع ما يصيبونه، ثم حيث جوزنا التفضيل، ففي وجوب الجبران من سهم المصالح ما قد تمهد من الخلاف.
هذا منتهى القول في ذلك.
***
__________
(1) (س) : أمثل من القول بل كل من أصاب.
(2) يستدّ: أي يستقيم. وفي (س) : يستبن.
(3) (س) : قياساً شبهياً في جميع ما يصيبه كل رجل ...
(4) في الأصل: خصصه.(11/466)
باب تفريق القسم
قال الشافعي رضي الله عنه: "كل ما حصل ممّا غُنم من أهل دار الحرب، من شيء قلّ أوكثر ... الفصل" (1) .
7730- مسائل هذا الكتاب كثيرة الوقوع في مسائل السير، والأصحاب يخلطون الأبواب بالأبواب، وهذا يجرّ إلى التكرار، وإلى التعطيل، فالذي نراه أن نتخذ منصوصات المختصر إمامَنا، وما يقع وراءها، ولا يتصل بها، فهو محالٌ على أبواب السير، وبالجملة القدر اللائق بهذا الكتاب الكلامُ في كيفية القسمة، وأقدارها، والكلام في صفات المستحقين، فأما ما عدا ذلك، فحقه أن نذكره في كتاب السِّير.
7731- فنبتدىء، ونقول: كل ما أصابه الغانمون من منقولٍ أو عقارٍ تحقق الاستيلاء عليه، أو وقع في أيديهم من الذراري والنسوان [فسبيل ذلك التخميس، والقسمةُ بين الغانمين. والذراري والنسوانُ] (2) يَرِقّون بنفس الوقوع في القبضة، وينزلون منزلة الأموال المغنومة، ولا يخفى أن ما ذكرناه فيه إذا تمت الحيازة، وولّى الكفار، فأما ما دامت الحرب قائمة، وكنا نصيب منهم ويصيبون منا، وقد يستردّون ما نُصيبه، فلو اتفق وقوع شيء في أيدينا، ثم استردوه قبل انكشاف القتال (3) ، فلا نقول: ملكنا ما أخذنا ثم أخذوه من أملاكنا قهراً، حتى يكون سبيله كسبيل ما يأخذون من أموالنا، بل إذا استردوا، وانفصل الأمر، وانجلى القتال بعد ذلك، فلا ملك لنا فيما استردوه، وكذلك القول فيما يستردون من الذراري والنسوان، لا نجعلهم مقرّين
***
__________
(1) ر. المختصر: 3/188.
(2) زيادة من (س) .
(3) عبارة (س) : قبل انكشاف القتال، فالقول فيه، فلا نقول ...(11/467)
على حكم الرق بمثابة عبيد المسلمين، والغرض [أنا] (1) لا نثبت الملك عليهم حتى ينفصل القتال.
وما نصيبه من مجانينهم، فهو بمثابة نسائهم وذراريهم.
هذا قولنا في هؤلاء.
فأما رجال القتال من الكفار الأحرار إذا أسروا، وثبت الاستيلاء، فهؤلاء لا يَرِقون بنفس الأسر وفاقاً، ولكن الإمام يتخير فيهم بين أربع خلال، لا معترض عليه في شيء منها: فإن أراد أن يضرب رقابهم، فعل ذلك [على حسب الرأي، ولا خيرة على حكم الإمام] (2) وإن أراد أن يمنّ عليهم، ويطلقهم، فله ذلك، و [إن] (3) أراد أن يفاديهم، فله ذلك، وإن أراد أن يضرب الرق عليهم، فعل ذلك، ولا معترض عليه، وهو مأمور بينه وبين الله تعالى بأن لا يبني ما يختاره على [الإرادة] (4) المحضة، بل حقٌّ عليه أن يتبع وجهَ الرأي في تعيين قسم من هذه الأقسام، وله أن يقضي الأمر فيهم بهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام.
7732- ثم إن أرقهم، نُظر فإن كان انفرد بأسرهم آحادُ الرجال، ففي اختصاصهم تملك الرقاب الخلافُ [المشهور] (5) الذي ذكرته في فصل السلَب.
وإن اتفق الأسر من جميع الجند، فرقابهم مغنومة مردودة إلى المغنم.
وإن قال قائل: إذا رأينا [ضربَ الرق على المأسور] (6) ، وقد أُرقَّ إلى
__________
(1) في الأصل: أما.
(2) زيادة من (س) .
(3) سقطت من الأصل.
(4) في الأصل: الإفادة.
(5) زيادة من (س) .
(6) في النسختين: ضرب رقبة المأسور. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق، وعلى ضوء مختصر العز بن عبد السلام؛ فعبارته: "وإذا جعلنا رقاب من أسرهم الأجناد مغنماً، خُمِّست. ويحتمل أن لا تخمّس، إذا جعلنا الرقاب للأجناد، ومنعنا تخميس الأسلاب. = لكن الظاهر التخميس؛ فإن التخصيص لا يثبت إلا إذا انفرد المخصَّص بضربٍ من الغناء" ا. هـ بنصه.(11/468)
الآسر (1) ، ثم رأينا أن لا يخمس السلب، فإذا أسرهم الجند يرقون، ثم لا تخمس رقابهم، لم يكن ذلك بعيداً، والظاهر التخميس؛ فإن التخصيص إنما صادفناه عند اختصاص بعض رجال القتال بوجهٍ من الغناء، فإذا لم يكن كذلك، فالظاهر وجوب التخميس، (2 والإجراء على مناظم المغانم 2) .
7733- وإذا فادى الأسرى، فما يأخذه من أموال المفاداة ملحق بالمغانم، لا خلاف (3) فيه، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فادى به أسرى بدر، والسبب فيه أن التوصل إلى الأموال المأخوذة منهم، كان بسبب احتواء الجند على المأسورين.
7734- ثم إن اختار الإمام القتل، فوضع السيف فيهم، فإنما يفعل ذلك بالرجال المقاتلة الأحرار، دون الذراري والنساء والعبيد، فإن أشكل عليه بلوغُ واحدٍ، فله أن يأمر بالكشف عن مؤتزره، فإن لم يكن أنبت، ألحقه بالذراري، ومن أنبت، فله (4) ضرب رقبته. وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أسر رجالَ بني قريظة، ونزّلهم على حكم سعد (5) .
ثم القول في الإنبات وأنه (6) عين البلوغ أو علامته ليس مما نذكره الآن، وقد أجرينا فيه كلاماً [مُشْبعاً] (7) في كتاب الحجر، والقول في ادّعاء استعجال الإنبات مما ذكرناه ثَمَّ، وسنعود إليه في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) أُرق إلى الآسر. كذا في النسختين، والمراد جعلنا الرقاب للأجناد. والله أعلم.
(2) ما بين القوسين سقط من (س) .
(3) في الأصل: ثم لا خلاف فيه.
(4) (س) : فليضرب رقبته.
(5) خبر بني قريظة ونزولهم على حكم سعد، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، البخاري: كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، ح 3043، 3804، 4121، 6262، ومسلم: كتاب الجهاد، ح 64 رقم عام 1768.
(6) (س) : هل هو عين البلوغ، أو أمارة.
(7) في الأصل: شبعنا.(11/469)
7735- ومما يذكره الأصحاب في الكتابين أن واحداً من الأسرى لو أسلم بعد الإسار، فلا شك أنه يمتنع قتلُه، وقد قال الشافعي: "لو أسلموا بعد الإسار رُقوا"، وظهر اختلاف الأصحاب في هذا، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أنه لا يمتنع بإسلامهم بعد الإسار إلا القتل، ويتردّد الإمام فيهم على حسب الرأي بين المنّ، والفداء، والرق، فأما المن، فإذا كان يجوز في حق الأسير المصرّ على الكفر، فهو فيمن أسم أولى وأجوز، وإذا جوزنا الإرقاق، فالمفاداة أجوز.
ثم هؤلاء [يفتنّون] (1) في تأويل قول الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: "وإذا أسلموا بعد الإسار، رُقّوا" والغاية [المقبولة] (2) في التأويل أنهم قربوا من الرق، وهذا يناظر قول المصطفى عليه السلام من وقف بعرفة، فقد تم حجه، والمراد قرب من التمام، وأمن الفوات.
ويمكن أن يقال: المن مما يقلّ في تصرف الإمام، فلم يعتدّ به الشافعي، وكذلك المفاداة، [والغالبُ] (3) الإرقاقُ والقتلُ، فبنى الشافعيُّ رضي الله عنه على الغالب، وردّ النظر إلى القتل والإرقاق، ثم صادف القتلَ ممتنعاً، فقال: رُقُّوا. هذا هو الممكن في التأويل.
ومن أئمتنا من جرى على [ظاهر النص، وقال: من أسلم من الأسارى، رُقّ.
وهذا وإن كان يوافق] (4) ظاهر النص، ففي توجيهه عُسرٌ، [والممكن] (5) فيه أنه إذا أسلم، فالمن يتعلق بأهل الحرب الذين لم يلتزموا حكمنا، والمفاداة ينبغي أن تفرض من [أموال أهل الحرب] (6) أيضاً؛ فإن ابتداء ضرب مال على مسلم بمثابة ابتداء ضرب
__________
(1) في الأصل:، " ـ ـعبون "، والمثبت من (س) .
(2) في الأصل: المنقول، و (س) : المنقولة، والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء المعنى.
(3) في الأصل: والغالبة.
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(5) في الأصل: والتمكن.
(6) في الأصل: من أموالهم.(11/470)
جزية على مسلم، [والرق] (1) وإن كان أشد من ذلك، فقد نراه يجري ابتداء على أولاد المسلمين.
وإذا انحسم القتل، وبعُد المن والفداء، صار المأسور، وإن كان رجلاً كالصبي والمرأة، فهذا هو الممكن في ذلك.
7736- ومما يتعلق بما نحن فيه أن الأسارى لو قالوا: قبلنا الجزية، وكانوا ممن يجب تقريرهم على الجزية في جيشهم إذا لم يكونوا مأسورين، فالذي عليه الجريان أن اختيار الإمام في المن والفداء والإرقاق على ما كان، وإنما التردّد في أنه لو أراد أن يقتلهم، هل له أن يقتلهم؟
هذا مما اختلف فيه الأصحاب، فمنهم من قال: له قتلهم، ولا حكم لقبولهم الجزية وهم في قبضة الإسلام، وهذا ظاهرُ القياس (2) .
ومن أصحابنا من قال: يحرم القتل؛ فإن قبول الجزية من العواصم في الجملة كالإسلام، [فالإقدام] (3) على القتل مع قيام عاصم محرمٌ، كما لو أسلم الأسير.
وكأن [القتل] (4) بين هذين الوجهين في جواز القتل [يبنى] (5) على ما لو حاصرنا قلعة ليس فيها إلا النساء، فقبلن الجزية، فهل يحرم سبيهن لقبول الجزية؟ فعلى وجهين (6) سيأتي شرحهما في كتاب السِّير إن شاء الله تعالى.
__________
(1) زيادة من (س) .
(2) الأظهر تحريم القتل، قاله النووي (ر. الروضة: 10/298) .
(3) في الأصل: بالإقدام.
(4) في النسختين: القتال.
(5) زيادة من المحقق لاستقامة المعنى. ومع ذلك يبقى في العبارة نوع قلق، بل لعل فيها سقطاً.
(6) قال النووي: هذه المسألة على قولين، نص عليهما في الأم: أحدهما - يعقد لهن؛ لأنهن يحتجن إلى صيانة أنفسهن عن الرق، كما يحتاج الرجال للصيانة عن القتل ... ولا يؤخذ منهن شيء.
والقول الثاني - لا تعقد لهن الجزية، ويتوصل الإمام إلى الفتح بما أمكنه ... "فالقولان متفقان على أنه لا تقبل منهن جزية" ا. هـ ثم وصف كلام الإمام بالشذوذ، فقال: "وشذ الإمام، فنقل في الخلاف وجهين، وجعلهما في أنه هل يلزم قبول الجزية، وترك =(11/471)
ووجه البناء أن النسوة [لسن] (1) من أهل التزام الجزية، ولكن صورة التزامها هل تعصمهن عن الرق؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه، كذلك الأسير ساقط الاختيار، فإذا وجد منه التزامُ الجزية، فهو بمثابة التزام الجزية ممن ليس من أهلها، غير أن التأثير في الأسير يظهر في سقوط القتل، وفي النسوة في سقوط السبي.
وقد ذكر صاحب التقريب في كتاب السير وجهاً بعيداً حكاه وزيّفه، فقال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الأسير إذا (2) قبل الجزية، يجب إطلاقه، وإجابته إلى عقد الذمة، وتنزيله منزلة المختار من الكفار إذا طلب الذمة، وهذا في نهاية البعد؛ فإن الأسير إذا اسلم، لم يُطلَق وجوباً، وكان الإمام على وجهٍ مخيراً بين المن والفداء والإرقاق تخير نظرٍ واجتهادٍ.
وفي وجهٍ يرِق بنفس الإسلام، فلو أطلقنا الأسير القابل للذمّة، لكان أثر الأسر ساقطاً بالكلية، [فإن المختار مجالب إلى عقد الذمة إذا طلبه] (3) ويستحيل أن يبقى أثر الأسر مع الإسلام ويسقط أثره مع طلب الذمة.
ولكن وجه هذا الوجه على بعده أن الجزية من آثار الكفر، فإن عقدنا له الذمة، لم نُخله عن صَغار الكفر، ولو خلّينا المسلم حتماً واجباً، لكان الإسلام مُحبطا لآثار الإسار بالكلية، وهذا لا سبيل إليه.
7737- ومما يتعلق بأحكام الأسرى أن الإمام لو أراد أن يضرب الرق على الأسير وهو من عبدة الأوثان، فالمذهب المبتوت (4) الذي ذكره الأئمة أن ذلك جائز، ثم يصير اطّراد الرق عليه [عاصماً له] (5) ولا يجب قتله، بل لا يجوز؛ لحق الرق الثابت في رقبته للملاّك المحترمين، وليس كالمرتد؛ فإن الرق لا يعصمه.
__________
= إرقاقهن" ا. هـ ملخصاً (ر. الروضة: 10/302) .
(1) في النسختين: لـ ـس.
(2) في الأصل: وإذا.
(3) ما بين المعقفين زيادة من (س) .
(4) هذا ما استقر عليه المذهب، وقال عنه النووي: إنه الصحيح. (ر. الروضة: 10/251) .
(5) في الأصل: عاصمة.(11/472)
والكفار على أقسام: منهم من يقرّر على كفره بالذمة، وهم أهل الكتاب، والمجوس يسنّ بهم سنّة أهل الكتاب.
ومنهم من لا تعصمه الذمة، ولكن يُنظَرون مدّةَ التسييح (1) ، وهي أربعة أشهر، على ما سيأتي تفصيلها في السِّير، إن شاء الله عز وجل، وهؤلاء إذا رُقوا، دامت عصمتهم بالرق.
ومنهم (2) أهل الردة، ولا عاصم لهم من حكم الله بوجهٍ من الوجوه.
وقال أبو سعيد الإصطخري: "لا يجوز (3) إرقاق عبدة الأوثان، بل يتخيّر الإمام بين المن، والفداء والقتل فيهم". وإحلالُ هذا الكفر المغلّظ محل الردة نوعٌ من القياس، فإذا كان يجوّز المن والفداء، فقد خرم القياس (4) الذي اعتمده، فلا اعتداد بما ذكره أصلاً.
7738- ومما يليق بتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: الأسير إذا بذل الجزيةَ لا يجوز قتله، وجرينا على الأصح، وهو أنه لا يجب قبول الجزية منه وإطلاقُه، ولكن يحرم قتله، فلو أراد الإمام المنَّ عليه، فعل، وإن أراد إرقاقه، [نفذ] (5) ذلك منه، وإن أراد مفاداته ورأى المصلحة (6) ، وهو لا يبغيها ويأبى إلا الجزية وقبولها، فلا سبيل إلى إجباره على المفاداة؛ فإن الكلام لا ينتظم؛ إذ (7) لا يجبر عليها إلا بالقتل،
__________
(1) ساقطة من (س) .
(2) ومنهم: أي من الكفار.
(3) (س) : يجوز (بدون لا) .
(4) خرم القياس: أي قياس عبدة الأوثان على المرتدّين، ومعنى خرم القياس: أن المرتد لا يجوز في حقه إلا القتل، فكيف يجوّز المن والفداء في حق عبدة الأوثان، وقد قاسهم على المرتدّين.
قال النووي: والصحيح الأول، أي المقابل لقول الإصطخري (ر. الروضة: 10/251) .
(5) في الأصل: بعد.
(6) أي رأى الإمام المصلحة في المفاداة، والأسير لا يبغيها.
(7) (س) : فإن الكلام لا ينتظم إلا يجبر عليها، وهذا عود إلى القتل.(11/473)
وهذا عوْد إلى القتل الذي حكمنا بسقوطه، ولا يجوز أن يقال أيضاً: إذا لم يمتثل أمرنا في المفاداة، أحبطنا عصمته، وعاد الإمام إلى رأيه في قتله إذا رأى القتل؛ فإن التفريع على أن قبول الجزية عصمةٌ، فيتعين في الصورة التي انتهى الكلام إليها قبولُ الجزية منه.
فإن قيل: هذا الوجهُ (1) الذي حكاه صاحب التقريب (2) ، فإنه ألزم إطلاقَه وعقْدَ الذمة له، وتوظيفَ الجزية عليه.
قلنا: الفرق بين مذهبه وبين التفريع الذي انتهينا إليه أنه يرى إسعاف قابل الجزية، وإن كان الصلاح في إرقاقه، ونحن نقول: إذا كان الصلاح في إرقاقه أرقه، ونفذ الرق عليه قهراً، وإن لم يكن في إرقاقه مصلحة، ولو أرقّه، لصار كلاً [ووبالاً] (3) على المسلمين، [ولو أدى الجزية التي قبلها، ورأى الإمامُ قَتْلَه] (4) ، فإذا امتنع قتلُه بالجزية ولم [ير] (5) الإمام إرقاقَه، لم يتجه إلا إطلاقُه، وقبولُ الجزية منه.
7739- ومما نذكره من أحكام الأسارى أن الأسير قبل أن يجري الرقُّ عليه، وقبل أن ينفذ الإمام رأيه فيه، لو [ابتدره] (6) واحدٌ من المسلمين، وقتله (7) ، فقد أساء وتعرض لتعزير الإمام، ولكن يجب ألا نُضمِّنه؛ فإنه كافر غيرُ معصوم.
فإن قيل: لو كان الإمام يرى إرقاقهم، فمن قتل واحداً منهم، فقد فوّت الإرقاق، فهلا كان ذلك بمثابة تفويت الرق بالغرور، والمغرور يلتزم القيمة لمنعه الرق من الجريان؟ قلنا: ذلك الرق كان يجري لا محالة لولا الغرور، فالغرور دفع الرق الذي لا حاجة إلى تحصيله، والرق لا يجري على الأسير من غير ضرب، وأشبه
__________
(1) الوجهُ: خبر لقوله: هذا، وليست بدلاً.
(2) (س) : "فإن قيل هذا مذهب الإصطخري". ولم يسبق للإصطخري هذا الكلام، فهل صاحب التقريب حكى ما حكاه عن الإصطخري؟ هذا محتمل جدّاً.
(3) في الأصل: وقتالاً، و (س) : ووباً، والمثبت من تصرفات المحقق.
(4) في الأصل: ولولا الجزية التي هذا رأي الإمام قتله، فإذا امتنع ... والمثبت من (س) .
(5) في الأصل: ولم يقرّ الإمام.
(6) في الأصل: ابتدى.
(7) ساقط من (س) .(11/474)
الأشياء بما نحن فيه إتلاف الجلد القابل للدباغ قبل الدباغ؛ فإنه لا يوجب الضمان مع تهيُّؤ الجلد للدباغ ابتداءً [فإنشاء] (1) الدباغ كإنشاء الإرقاق، وليس ما نحن فيه كالخمرة المحترمة؛ فإن من أصحابنا من أوجب على متلفها الضمان، وهذا على بعده موجّهٌ بأن الخمرة لو تركت، فإلى التخلل مصيرها.
وقد نجز غرضنا من الكلام في الأسارى، فإن كان فيهم بقايا سنستدركها في [كتاب] (2) السير، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "وينبغي للإمام أن يعزل خمسَ ما حصل ... إلى قوله يرضخ لهم من الجميع" (3) .
7740- نصدّر هذا الفصلَ بالرضخ وأهلِه وبيان محله، فنقول أولاً: مستحق السهم المسلمُ الحر البالغ الذي [بلغ عدّه] (4) من أهل القتال، وإن كان يضعف غناؤه ويقلّ أثره، ويشترط مع ذلك كله ألا يكون مخذِّلاً، على ما سنصف المخذلَ وحكمَه.
7741- والنسوةُ والصبيان وأهل الذمة والعبيد أصحاب الرضخ.
ثم إن كانت النسوة [يُتصور] (5) منهن إعانة الجند في خدمةٍ، أو حفظ رَحل أو تهيئة طعام، أو غيره من وجوه المنفعة، فهم من أهل الرضخ، وكذلك الصبيان إذا كان ينتفع الجند بهم، فالجواب على ما ذكرناه.
وإن لم يكن في النسوة منفعة، وما كان بلغ الصبية (6) مبلغ النفع، فقد ظهر في
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) .
(2) زيادة من (س) .
(3) ر. المختصر: 2/188، 189.
(4) في الأصل: الذي لا تبلغ عنده.
(5) في الأصل: يتصد، و (س) : يصدر منهم.
(6) (س) : الصبي مبلغ المنفعة.(11/475)
كلام الأصحاب تردد في أنا هل نرضخ لهم؟ فمنهم من قال: لا رضخَ إلا لمن ينتفع الجند بحضوره، وهذا ظاهر القياس.
ومنهم من قال: [يرضخ] (1) لهم، حتى لا نكون حرمنا مسلماً شهد الوقعة، وشاهد المغنم، وإذ ندب الله تعالى إلى ذلك في قسمة بين ملاك متعينين في أملاك لازمةٍ لهم فقال عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فلا يمتنع إذاً تحتم ذلك في المغانم التي لا تثبت الأملاك [فيها] (2) إلا بالقسمة.
وقد أشار الأئمة إلى التيمُّن بحضور أطفال المسلمين ونسائهم، فلا يبعد أن يكون حضورهم مدْرأةً لظفر الكفار وأهل الذمة، وإذا حضروا، فهم أهل الرضخ، ثم إن حضروا (3 بإذن صاحب الراية، استحقوا الرضخ، وإن حضروا 3) ولا أمر ولا نهي، استحقوا الرضخ، فإنهم في منصب الذب عنا؛ إذ هم من سكان ديارنا.
وإن نهاهم الإمام [عن الحضور] (4) ، فلم ينتهوا، وحضروا، ففي المسألة تردد.
ويجوز أن يقال: لا يستحقون الرضخ لمخالفتهم.
ويجوز أن يقال: يستحقونه؛ فإن [الحضور] (5) في المغانم لا يختلف بالموافقة والمخالفة.
وأما نسوان أهل الذمة وأطفالهم، فقد ظهر [فيهم] (6) اختلاف الأصحاب.
والذي [نرى] (7) ذكره أوجه: أحدها -[أنا لا نرضخ] (8) لهم أصلاً.
والثاني - أنا نُجريهم مجرى أطفال المسلمين ونسائهم.
__________
(1) في الأصل: يوضح.
(2) في الأصل: منها.
(3) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: الحطوط.
(6) في الأصل: منها.
(7) في الأصل: ينتهي.
(8) في الأصل: أما لا نوضح.(11/476)
والثالث - أنا نرضخ لهم إن كان فيهم منفعة وغَناء، وإن لم يكن فنقطع بأن لا يرضخ لهم، وإن رضخنا لأمثالهم من أطفال المسلمين؛ والفرق أنا نستدفع بأطفال المسلمين كرّةَ الكفار وظفرتهم، ولا يتحقق هذا المعنى في أطفال الكفار.
7742- وأما المخذّل، فهو الذي يكسر قلوب الجند، ويسعى في تفريق كلمتهم، ويستحثهم على الهزيمة، ويُرعب قلوبَهم بالأراجيف، ويفتّر أعضاءهم، فإذا شهد الوقعة، وشعر الإمام به، صرفه قهراً، فإن [انغل] (1) في الجند، فلا سهم له، ولا رضخَ له، اتفق علماؤنا عليه، فلو اتفق منه قتلُ كافرٍ، وهو متمادٍ على تخذيله، وقد يتفق منه القتل في دفع أو إرهاقٍ إلى مضيق، فقد قطع أصحابنا بأنه لا يستحق سلَب القتيل، [والسبب] (2) في ذلك أنه ضرٌّ كله، وأثره عظيم، وضرره بيّن، ونحن إنما نُسهم أو نرضح لمن ينفع أوْ لا يضر.
فإن فرض فارض ضرراً من استصحاب الأطفال، فليس الضرر منهم، وإنما هو من ضرورة الحال، والمخذّل [مزجور بالحرمان] (3) عن وجوه الاستفادة.
7743- ومما نذكره في ذلك أن المريض الزَّمن الذي لا حراك به من أهل الرضخ، كما سنصف المرضى وأحوالَهم.
فهذا بيان من يستحق الرضخ.
7744- فأما القول في محل الرضخ، فحاصل ما ذكره الأئمة في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن الرضخ يخرج من المغنم قبل التخميس، ثم يقع التخميس بعد إخراج الرضخ، ووجه هذا تنزيل الإرضاخ منزلة المؤن، كمؤنة نقل المغانم إلى الموضع الذي تتهيأ القسمة فيه [فالإرضاخ] (4) ينزل هذه المنزلة.
__________
(1) انغل: يقال: انغلّ في الفلاة ذهب فيها، والمعنى دخل في الجيش، ولم ينصرف بصرف الإمام إياه (المعجم) .
(2) في الأصل: "فالبينة".
(3) في الأصل صحفت هكذا: من جوزوا الحرمان.
(4) في الأصل: كالإرضاخ.(11/477)
والوجه الثاني - أن المغانم تخمّس أولاً، ثم يؤخذ الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة.
ويحط قدر الرضخ عن قدر السهم كما سنصفه، فالرضخ إذاً عند هذا القائل من حصص الغانمين، ولكنه محطوط من السهم، كما يحط حق الراجل عن حق الفارس.
والوجه الثالث - أن الإرضاخ يخرج من السهم المرصد للمصالح، وقد ذكرنا فيما تقدم التنفيل في البدأة والرجعة، وذكرنا محل [التنفيل] (1) ، والخلافَ فيه، وقد ظهر عندنا أن من أصحابنا من ينزل النفل منزلة الرضخ، وقد تفصل القول في محله.
7745- ومما نذكره متصلاً بذلك أنه لو شهد الوقعة أهل الرضخ، ولم يشهد من أهل السهم أحد، فإذا استفادوا غنائم، فلأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها - أن المغانم تخمس، فيصرف الخمس إلى مصرفه، ويصرف أربعة الأخماس إليهم.
ومن أصحابنا من قال: [يفرز] (2) الخمس، ويصرف إلى أهله، ويصرف إليهم الرضخ على ما يراه الإمام، ويصرف الفاضل إلى تمام أربعة الأخماس إلى بيت المال، ويلقى في سهم المصالح. وهذا ضعيف غيرُ معقول؛ فإنا لا ندري كم ينصرف إليهم، وكم يقدر معهم من أصحاب السهام، فلا ضبط لهذا، ولا وجه له.
ومن أصحابنا من قال: ما أحرزوه لا يثبت له حكم الغنيمة أصلاً، وسبيله كسبيل ما يأخذه المسلمون سرقة، وما كان كذلك لا يخمّس، بل يصرف بجملته إلى السرّاق، على ما سيأتي شرح ذلك في [كتاب] (3) السّير إن شاء الله عز وجل.
ووجه ذلك أنهم ليسوا من أهل القتال، وإن قاتلوا، فهم أتباع، فإذا لم يكن معهم أصحاب السهام، فلا حكم لقتالهم.
7746- ثم إذا أضفنا مقداراً من الرضخ إلى العبد (4 فهو لمالك رقبته اعتباراً بجميع أكساب العبد 4) . ولو جرى الإحراز، وهم على الرق، ثم عَتَقوا قبل القسمة،
__________
(1) في الأصل: "النفل".
(2) في الأصل: يقدّر.
(3) زيادة من (س) .
(4) ما بين القوسين ساقط من (س) .(11/478)
فالحقوق للسادة، كما ذكرنا؛ فإن [الإحراز] (1) جرى في اطراد الملك على رقابهم، ولو عتقوا قبل انجلاء القتال، فهذا فيه احتمال، وسنذكره في الفصل الذي يعقب هذا الفصل، عند ذكرنا التغايير الطارئة على الجند في أثناء القتال، كنفوق الدوابّ واعتراض الأمراض وغيرها.
7747- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه أن الإمام يخرج الخمس، ويقرع بينه [وبين] (2) أربعة الأخماس، ولا يكاد يخفى كيفية الإقراع في ذلك، وهو محتوم لما في أعيان الأموال من الأغراض.
فصل
قال: "ثم يعرف عددَ الفرسان والرجّالة ... إلى آخره" (3) .
7748- إذا أفرز الإمام الخمسَ، وأراد قَسْم أربعة الأخماس بين الغانمين، فينبغي أن يعلم أولا الفضل الذي بين الفارس والراجل: مذهب الشافعي رضي الله عنه أن للراجل سهماً، وللفارس ثلاثة أسهم: سهمٌ في مقابلته وسهمان في مقابلة فرسه، وهذا إنما صرنا إليه من جهة توقيف الشارع، [وقد صحَّ الخبر] (4) على (5) حسب هذا.
ومن شهد الوقعةَ بفرسين، فالمذهب الظاهر أنه لا يسهم إلا لفرس واحد، وحكى شيخي عن بعض أصحابنا وجهاً أنه يسهم لفرسين، وهذا يقرب بعض القرب من مذهب من جعل الجنيبة من سلب الكافر القتيل بمثابة مركوبه، ثم لا مزيد على فرسين
__________
(1) في الأصل: الأخذ إن.
(2) في الأصل: ومن.
(3) ر. المختصر: 3/189.
(4) صحفت في الأصل هكذا: ويرضخ الجند على.
(5) الخبر المشار إليه، هو حديث ابن عمر المتفق عليه: جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً.
وهذا لفظ البخاري (ر. البخاري: كتاب الجهاد، باب سهام الفرس، ح 2863، ومسلم: كتاب الجهاد، باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، ح 1762) .(11/479)
في الموضعين، والوجه المحكي في أن الجنيبة سلبٌ معروف، وسببه بيّن، وإثبات السهم لفرسين مع اتحاد الفارس لم أره في مذهبنا إلا من جهة شيخنا (1) . وقد نقل الفقهاء هذا مذهباً عن الأوزاعي.
7749- ثم لا سهم إلا بسبب الخيل، وراكب البغل لا يستحق إلا ما يستحق الراجل، وكذلك القول في [راكب الحُمر] (2) . والإبلُ والفيلةُ، وإن كان فيها بعض الغناء، فالسهم الزائد للخيل.
والذي يعترض (3) في قلب الفقيه أن المسابقة جائزة على الخف والحافر، والمسابقة إنما جوّزت مع اشتمالها على الغرر المضاهي للقمار استحثاثاً على ركوب الخيل والإبل.
ولا اغترار (4) بهذا، فليس كل عُدّة تجوز هذه المعاملة عليها يزداد السهم بسببها، كالمناضلة (5) ، وهي الأصل دون سائر الأسلحة، فالغرض من المسابقة الاستعداد بالأهب، والسهام تؤخذ من (6) الدّواب التي تصلح للهرب والطلب والكرّ والفرّ، والإجماع يغنينا عن هذا.
7750- ولو أحضر الغازي فرساً رازِحاً (7) لا يكاد ينهض لضعفه، وهُزاله، فحق الإمام أو صاحب الراية أن يمنع من مثل هذا، إذا كان في الخيل الصالحة [والأهب] (8) العتيدة [ممتنَع] (9) ، كما يمنع من مصادمة القتال من غير سلاح، فلو اتفق إحضار مثل
__________
(1) المذهب الوجه الأول، وهو الذي قطع به الجمهور، كما قال النووي، وجعل الآخر (قولاً) حكاه بعضهم (الروضة: 6/384) .
(2) في الأصل: ركاب الجمل.
(3) (س) : والذي يعرض للفقيه.
(4) (س) : ولا اعتداد.
(5) المعنى أن المناضلة تكون بالسهام خاصة، ولا تزاد أنصبة الغانمين وأسهم بسبب رميهم بالسهام أثناء المعركة.
(6) المعنى أن السهام من الغنيمة تؤخذ زيادتها وتستحق بسبب الدوابّ التي تصلح للكرّ والفر.
(7) رازحاً: براء مفتوحة، وبعد الألف زاي مكسورة، هو المهزول البين الهزال. (مصباح) .
(8) غير مقروءة في الأصل.
(9) في الأصل: متسع، وممتنع أي منعة.(11/480)
هذا الفرس الذي لا غناء فيه، ففي تعلق السهم بإحضاره قولان: أحدهما - أنه لا يتعلق به استحقاق سهم؛ من جهة أنه لا غَناء فيه، فكان كالجنس الذي لا يتهيأ لمقاصد القتال من البغال والحمر وغيرها.
والقول الثاني - أنه يتعلق به استحقاق السهم؛ نظراً إلى الجنس؛ فإن اتباع آحاد الأفراس في الجند العظيم عسر، فالوجه الاكتفاء بالجنس، وحسم باب النظر في التفاصيل، وهذا بمثابة إيجاب الزكاة في الجَرْبى المراض من الماشية، مع علمنا بأن الشرع (1 لم يعلق الزكاة 1) إلا بالجنس المُرْفق (2) والمقدار التام.
ثم من أوجب السهم نظراً إلى الجنس، اشترط أن يكون الفرس بحيث يتأتى ركوبه، حتى (3 لو أحضر مهراً لا يركب أو فرساً لا يتأتى ركوبه 3) ، فلا يجوز أن يكون في مثل هذا خلاف؛ فإن متعلّق إثبات السهم [أن] (4) استحقاق السهم لا يتوقف على مصادمة الكفار، بل الوقوف في الصف كافٍ في الاستحقاق؛ من جهة أن المصطفّين وزرُ المقاتلين كرّاً وفرَّاً، فمن كان على فرسٍ في الصف أرعب بموقفه، ولا يطّلع العدو على صفة فرسه، وشرْطُ هذا أن يكون مركوباً (5) .
7751- ولو نفق الفرس قبل القتال، لم يستحق صاحبه إلاَّ سهمَ راجل؛ فإنه لم يلق القتال إلا راجلاً، ولا فرق بين أن يكون نَفَقُ (6) الفرس بعد دخول دار الحرب، أو قبل دخولها، خلافاً لأبي حنيفة (7) ، فإنه قال: إذا دخل بفرسه دار الحرب ونفق،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .
(2) المرفق: من أرفقه به نفعه. (معجم) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(4) في الأصل: واستحقاق.
(5) قال الرافعي: "وعن أبي إسحاق أنه لا خلاف في المسألة، بل القول بالإسهام محمول على ما إذا أمكن القتال عليه، والآخر على ما إذا لم يمكن". (فتح العزيز: 7/373) .
(6) (نفَقَ) أي (نفوق) كما في (س) . وغالباً يستعمل الإمام (فَعَلَ) مكان (فعول) ، مثل: صَدَر مكان صدور، وحَدَث مكان حدوث.
(7) ر. مختصر الطحاوي: 285، مختصر اختلاف العلماء: 3/441 مسألة: 1588.(11/481)
استحق سهم الفرس، وإن لم يلق عليه قتالاً، وإن قامت الحرب، [والفرس] (1) مركوب قائم، ثم نفق قبل انجلاء الحرب، فالحاصل ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يستحق سهم الفرس، حتى ينجلي القتالُ والفرسُ قائم، فإنّ الاستحقاق يستقر بانكشاف الحرب وانجلائها، فإذا تقدّر (2) نفوق الفرس قبل تحقق سبب الاستحقاق، لم يُستحق بسبب الفرس شيء.
والقول الثاني - أن صاحب الفرس يستحق سهم الفرس؛ لأنه لقي القتال عليه، وحصل الإرعاب منه في انتصاب الحرب.
والقول الثالث - أنه إن نفق قبل حيازة المغنم، فلا سهم بسبب الفرس، وإن نفق بعد حيازة المغنم، وقبل انجلاء الحرب، استحق صاحبه سهم الفرس، وسنوضح هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل - عند ذكرنا المددَ إذا لحقوا بهم متى يشاركون في المغنم، ومتى لا يشاركون فيه.
ولم يفصل أصحابنا بين أن يكون سبب الهلاك (3) جراحة أصابتها في الحرب [وبين] (4) أن يكون نفوقها لا بسبب القتال.
ولو مات الغازي في أثناء الحرب قبل انكشافها، فقد قطع الأئمة أقوالهم، بأنه لا يثبت له استحقاق في المغنم؛ حتى يقال: يخلفه الورثة فيه. وهذا يعضد أحد الأقوال في نفوق الدابة.
والمقدار الذي ذكر الأصحاب في الفرق أن الغازي إذا مات قبل انكشاف الحرب، فلا مستحق يُعزى إليه حقُّ المغنم، وإذا مات الفرس وقد أحضره صاحبه وأرعب به، [فلئن] (5) نفق الفرس، فمن يستحق بسببه قائم، وهذا الفرق فيه غموض [وبُعد] (6) .
__________
(1) في الأصل: فالفرس.
(2) (س) : اتفق تفوق.
(3) (س) : هلاك الدابة جراحة ...
(4) في الأصل: ومن.
(5) في الأصل: فليس.
(6) في الأصل: وتعذر.(11/482)
7752- ومما يتعلق بذلك أن الغازي لو مرض في أثناء القتال، قال الأصحاب: إن كان ذلك المرض بحيث لا يمنعه من القثال، فلا كلام، وهو من أهل القتال، واستحقاق المغنم. وإن كان ذلك المرض يمنعه من القتال، نُظر: فإن كان [ممّا] (1) يرجى زواله، فلا مبالاة به، وإن كان ذلك المرض مزمناً لازماً، بحيث لا يرجى زواله، ففي استحقاق السهم قولان: أحدهما - أنه لا يستحقه، لخروجه عن وصف المستحقين قبل انكشاف القتال، فصار كما لو مات في أثناء القتال.
والقول الثاني - أنه يستحق لبقائه، ويتصور إضافة استحقاقٍ إليه.
وهذان القولان -قبل أن ننعطف على هذه التفاصيل بالتتبع- يضاهيان القولين في نفوق الدابة؛ فإن نفوقها مع بقاء [صاحبها] (2) وإمكان إضافة الاستحقاق إليه (3 بمثابة سقوط قوّته مع إمكان إضافة الملك والاستحقاق إليه 3) فلا فرق، ومأخذ الخلاف في المسألتين متقارب.
وذكر بعض أئمتنا في سبب ثبوت السهم للمريض الذي زَمِنَ أن رأيه منتفع به، بأن يراجَع ويستشار، فلم يسقط الانتفاع به بالكلية، وهؤلاء ربما يترددون فيه إذا جُنّ، فمنهم من يجعل الجنون كالموت في إسقاط السهم قولاً واحداً.
ومنهم من أجرى القولين في طريان الجنون؛ لأن المجنون لا يمتنع إضافة الملك إليه، وهذا المسلك أفقه؛ فإن الرأي المجرد لو كان معتمداً في الباب، لوجب إثبات السهم للذي شهد القتال مريضاً، وبقي كذلك إلى الانجلاء، وليس الأمر كذلك.
فهذا ما ذكره الأصحاب.
7753- وفي بعض هذه الفصول تأمل على الناظر. أما ما ذكره الأصحاب من أن المرض إذا كان يرجى زواله، فما المراد بهذا؟
ليعلم المسترشد أن المراد برجاء الزوال توقُّع زواله في أثناء القتال، قبل انكشافه،
__________
(1) في الأصل: فيما.
(2) في الأصل: صاحبه.
(3) ما بين القوسين ساقط من (س) .(11/483)
وتقدير الكلام أن نفرض زوال ما اعترض، حتى يقدّرَ كأنه لم يكن، وما أراد الأصحاب توقعَ الزوال بعد انقضاء القتال، حتى لو كان ذلك المرض بحيث لا يتوقع زواله إلا بعد أيامٍ مثلاً، فهو في حكم المرض المزمن.
ومما يجب الاعتناء به أن من حضر الوقعة وبه (1) مرض يمنعه من القتال، فزَمِن مثلاً، فلا سهم له، ولكنه يستحق الرضخ، ولو كان به مرض لا يمتنع عليه معه ركوب الفرس، والوقوفُ في الصف، ولكن لا يتأتى منه مباشرة القتال، فلا سهم له، وذلك أنا وإن كنا نسهم لمن يقف في الصف ولا يقاتل، فيشترط أن يكون بحيث يتأتى منه القتال لو مست الحاجة إليه، وإنما يكتفى بالوقوف في الصف؛ لأن ترتيب القتال يقتضي ذلك؛ فإن جملة الجند لا يتأتى منهم بأجمعهم الاشتغال بالقتال دفعة واحدة، ولكنا نشترط ما ذكرناه من إمكان القتال عند مسيس الحاجة، فلو دام -من أول القتال إلى آخره- المرضُ الذي وصفناه، فلا سهم، والواجب الرضخ.
ولو كان من أهل القتال، فطرأ المرض الذي يرجى زواله -على ما فسرنا ذلك- فإن اتفق زوال ذلك المرض فذاك، وإن اتفق دوامه إلى انجلاء القتال، ففي هذا تردد ظاهر، يجوز أن يقال: إنه بمثابة المرض المزمن، ويجوز أن يقال: ليس هو بمثابته، وهو كالطارىء الزائل.
وهذا يلتفت على تردد الأصحاب في أن من مرض مرضاً مرجو الزوال، وامتنع عليه الاستواء على الدابة، فليس له أن يستأجر من يحج عنه، وإنما يستأجر [ذو العَضب] (2) الذي لا يرجى زواله، فلو استأجر المريض مرضاً مرجو الزوال من يحج، فحج عنه الأجير، ثم تمادى المرض وأفضى إلى الموت، ففي وقوع الحج عن المستأجِر قولان.
هذا ضبط القول في الأمراض [التي تعرض] (3) وتزول أو لا تزول.
فرع:
7754- إذا كان مع الرجل فرسه، ولكنه نزل ليقاتل راجلاً عند مسيس الحاجة إليه، والفرس مقود موجود بالقرب من صاحبه، ومهما مست حاجته إليه
__________
(1) (س) : ومرض مرضاً.
(2) في الأصل: والعضب.
(3) في الأصل: الذي يعترض.(11/484)
ركبه، فإذا كان كذلك، استحق سهم الفرس، لأنه مُرصَد معتد معه، فصار كما لو كان راكبه، هذا إذا كان الفرس بحضرته.
فأما إذا نزل الفرسان ليقاتلوا مترجلين في مضيق ثم درجوا فيه موغلين في القتال، وبعدوا عن الخيل، فهل يستحقون سهام الأفراس؟ حكى شيخي رضي الله عنه في ذلك وجهين: أحدهما - أنهم لا يستحقون؛ فإنهم [دخلوا] (1) القتال من غير خيل، ولم يكن الخيل بالقرب منهم، حتى يفرض منهم ركوبها إذا مست الحاجة إلى الركوب.
والوجه الثاني - أنهم يستحقون سهام الأفراس؛ فإنهم أحضروها الوقعة، والتزموا مؤنها، وهي موجودة، وما بعّدوها عن أنفسهم إلا لتولّجهم في المضيق الذي لا تنسلك الخيل فيه، وقد يرجعون على أدراجهم، فالخيل على هذه الصفة تعد عدة في المعترك (2) .
هذا منتهى القول في الخيل وما يلحقها من التغايير.
7755- فإذا تبين الغرض في ذلك، فإنا نذكر بعد هذا تفصيل القول في كيفية القسمة، فنقول: الغرض قسمة أربعة أخماس الغنيمة، فإن رأينا أخذ الرضخ من رأس الغنيمة، فليؤخذ المقدار الذي يفي بالأرضاخ، ثم الإمام لا يسوي بين مستحقي الإرضاخ مع التفاوت في الغَناء والأقدار، ولكنه يفاوت بينهم باجتهاده، وهي قريبة الشبه من الحكومات في أروش الجراحات، وهي مفوضة إلى اجتهاد الولاة، فالأمر في الرضخ على هذا الوجه يجري، ولا يظهر أثر الخلاف في أن الغنيمة (3) هل تخمس [أم] (4) لا؟ في أقدار الأرضاخ؛ فإنها سواء أخذت قبل التخميس أو بعدها، فالقاضي يقلّل ويكثِّر باجتهاده. وإنما يظهر الأثر في الخمس، فإن أفرزنا الخمس أوّلاً، كثر
__________
(1) في الأصل: رحّوا القتال (انظر صورتها) ولم أجد لها معنى، وفي (س) : وجدوا القتال والمثبت تقدير منا رعاية للسياق، مع ملاحظة أقرب صورة للكلمة الموجودة.
(2) جعل الرافعي والنووي مناط استحقاق سهم الفرس هنا احتمال الركوب، وإلا فلا (الشرح الكبير: 7/374، والروضة: 6/384) .
(3) (س) : القسمة.
(4) في الأصل: أو لا.(11/485)
قدره، ووفر مبلغه، وإن أخذنا الرضخ أولاً، انتقص الخمس.
وإن فرعنا على الأصح، وهو أن الأرضاخ تؤخذ من أربعة أخماس الغنيمة، (1 فهذا ممّا نقصده الآن، فنقول أولاً: إن لم يكن في المعسكر أحد ممن يستحق الإرضاخ، فإنا نقسم أربعة أخماس الغنيمة 1) بعد إخراج أسلاب القتلى على الغانمين، وننظر إلى الغانمين، فإن كانوا رجّالة، قسم المغنم عليهم بالسوية، وكذلك إن كانوا فرساناً لا يشوبهم راجل، قسمت الغنيمة عليهم بالسوية، ولا يظهر التفاوت، ولا فرق بين الوقوف في الصفوف وبين الذين يصلون (2) بنار القتال.
ولو كان الغانمون رجالة وفرساناً، فنقول: للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، والسبيل أن نضبط عدد الرجالة والفرسان، ونعتمد عدد الرجالة، ونضعّف (3) عدد الفرسان، فنعد كل فارس ثلاثة من الرجالة، ونقسم أربعة أخماس الغنيمة على منتهى العدد الخارج، ثم نصرف إلى كل راجل سهماً من السهام [المعدّة] (4) عنده، وإلى كل فارس ثلاثة أسهم، فإذا كان الجندُ ألفَ راجل، وألفَ فارس، فأربعة أخماس الغنيمة تقسم على أربعة آلاف سهم، على القاعدة التي ذكرناها.
هذا إذا لم يكن ثمَّ أصحابُ رضخ، فإن كان مع أصحاب السهام أصحاب رضخ، وقلنا: أرضاخهم تقع بعد التخميس من أربعة أخماس الغنيمة، فالوجه أن يضبط القاسم مبلغَ أربعة الأخماس، ويتأمل عدد [أصحاب] (5) السهام، ثم يرى رأيه في أصحاب الرضخ، وينهي اجتهاده نهايته في أقصى ما يراه لبعضهم، وفي أدنى ما يراه لبعضهم وأوسطهم، ويحط الرضخ الأعلى عن سهمٍ، ويثبت مقداره بالاجتهاد، ويثبت الأدنى والأوسط وينسبهما إلى الرضخ الأعلى، [ثم ينظر إلى كم ينتهي مبلغ الأرضاخ التي تعدّ للقسمة] (6) على عدد أصحاب السّهْمانِ، فيزيد ذلك المبلغ على
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(2) يصلَوْن: الفعل يتعدى بنفسه وبالباء.
(3) (س) : وبعضهم.
(4) في النسختين: المعدلة.
(5) زيادة من (س) .
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(11/486)
العدد الذي كان يبتنى عليه القسمة بين أصحاب السهام لو انفردوا، فتعتدل القسمة على هذا النسق، وذلك بأن يكون أصحاب السهام ألفاً من الرجالة، وألفاً من الفرسان، فأعداد السهام أربعة آلاف، ثم لما نظر في أصحاب الرضخ اجتهاداً كانوا ثلاثمائة مثلاً، وكان المبلغ الذي أخرجه لهم بالاجتهاد مائة وخمسين، فيضم هذا العدد إلى أربعة آلاف، ويقسم أربعة أخماس الغنيمة من هذا المبلغ كله، ويحط منه ما يحتاج إليه الرضخ، ويقسمه على اجتهاده بينهم، ثم يقسم السهام الباقية على أصحاب السهام.
ولو كان في أصحاب الرضخ فارس، فكيف الوجه في اعتبار حصته (1) ؟ أنحطها من سهم راجل؟ أم نحطها من ثلاثة أسهم لفارسٍ هو من أهل السهام؟ (2 الرأي أن نعتبره بفارس من أهل السهام 2) ، ونجعل كأنه ثلاثة من أصحاب الرضخ، ونقدر له ثلاثة مبالغ، ونحط كل مبلغ عن سهم من السهام المعدَّلة عندنا.
هذا هو الوجه لا غير، وقد وضح ما أردناه من كيفية تعديل القسمة.
فصل
قال: "ولو كان لرجل أجير يريد الجهاد ... إلى آخره" (3) .
7756- الوجه أن نذكر المسائل في هذا النوع مرسلةً، ونوضّح في كل مسألة ما قيل فيها، ثم نذكر عند نجازها ضابطاً لها.
فالمسألة الأولى في الأجير: فإذا استأجر الغازي من يخدمه أو يسوس دابتَه، أو يضرب أخبيته، ويقوم بما تمس إليه حاجته استئجاراً صحيحاً، فالظاهر الذي أجراه الأصحاب أنه [إن] (4) لم يقاتل كما (5) حضر الوقعة، لم يستحق السهم. وإن قاتل،
__________
(1) (س) : مراجعته.
(2) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(3) ر. المختصر: 3/190.
(4) زيادة من (س) .
(5) كما: بمعنى عندما. وقد سبق التعليق عليها مراراً، بأنها ليست صحيحة ولا عربية. (قاله النووي في التنقيح) .(11/487)
ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يستحق السهم مع الأجرة، أما الأجرة، فلعمله لمستأجِره، وأما السهم فلقتاله، وهو من أهل استحقاق السهم، ثم إنما يستحق الأجرة إذا لم يعطل من العمل الموظف عليه شيئاً، وذلك بأن يقع القتال في فترة من أعماله كان لا يحتاج إلى العمل فيها.
وإن عطّل عملَه في مقدارٍ من الزمان، يستحق السهمَ لقتاله، وسقطت الأجرةُ على مقابلة تعطيله الأعمال المستحقة عليه، إذا كانت الإجارة تعتمد المدّة. وهكذا ينتظم تصويرها.
والقول الثاني - أن الأجير لا يستحق السهم؛ لأنه لم يقصد الجهاد في خروجه وحضوره، وأيضاً فإنه [مستحَقُّ] (1) المنافع بالإجارة، فكان كالعبد، والعبد لا يستحق السهم، ولا يستحقه مولاه بسببه.
والقول الثالث - أن الأجير يخير بين الأجرة وبين السهم؛ لأنه متردّدٌ بين حالة المجاهدين وحالة الأجراء، [إن أترك] (2) الأجرة، تحقق أنه مجاهد فليستحق السهم، وإن استمسك بالأجرة، فلا سهم له، وتوجيه ذلك بيّن.
7757- ثم إذا شرطنا في استحقاق السهم إسقاط الأجرة، فحاصل ما ذكره الأصحاب في إسقاط (3) مقدار الأجرة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يكفيه [أن يسقط] (4) ساعة القتال، فإذا فعل ذلك، استحق السهم.
والثاني - أنه لا يستحق السهم [ما] (5) لم يسقط أصل الأجرة من يوم خروجه إلى منتهى القتال؛ فإنه بذلك يصرف خرجته إلى جهة الجهاد، ولا يكفي حط أجرة ساعة القتال.
والوجه الثالث - أنه يحط أجرته من وقت دخول دار الحرب. وهذا بعيد عن
__________
(1) في الأصل: يستحق.
(2) في الأصل: يترك.
(3) (س) : في مقدار الأجرة.
(4) زيادة من (س) .
(5) في الأصل: من.(11/488)
قواعدنا؛ فإنا لا نعتبر دار الحرب، ولا نعلّق بها حكماً في أصول المذهب.
فهذا ظاهر ما ذكره الأصحاب في الأجير الذي استأجره الغازي على عملٍ من أعماله التي يحتاج إليه. وقول إسقاط الأجرة فيه تأمل؛ [فإنا إذا كنا] (1) لا نُبعد الجمع بين استحقاق السهم والأجرة، [فمقتضى] (2) ذلك أن يعمل ويقاتل.
فإن قال قائل: هو في وقت قتاله [لا يتفرغ] (3) إلى ما يعمل لمستأجِره، فيترك عمله ويقبل على القتال بدله، وإذا ترك عمله، استحال أن يستحق الأجرة بكمالها.
قلنا: هذا تضيّق في التصوير، لا معنى له؛ فإن الأجير لا يعمل [دائباً والمكافحة] (4) في القتال لا تدوم أيضاً، فيمكن فرض القتال في فترات [لو] (5) ترك الأجير العمل [فيها] (6) لجاز له، ولما أثر بترك العمل في الأجرة.
وأما قولنا: لا يدوم القتال، فهو حق؛ فإن البطلَ الكرّار ربَّما لا يحتاج في جميع مدّة القتال إلا إلى [ضربات] (7) تجري مجرى الفُرص ينتهزها، وليس من الحزم في القتال أن يأتي بها إلا كذلك، وأوقاتها تلطف، وأزْمانُها تخفّ، وليس المعنىُّ بقولنا: قاتلَ الأجيرُ أن يدأب ضرباً، وطعناً، وانغماساً في العدو. وإذا تبين المراد، اندفع بمجرد التصوير السؤال.
وإن حكمنا بأنه لا بد من إسقاط الأجرة بجملتها إن أراد السهم، فالمراد منه أن نهضته إن كانت مقصورة على جلب الأجرة، لم يقصد الجهاد؛ فإن أراد أن يصرف نهضته إلى جهة [الغزو] (8) فيسقط حقه الأول، حتى يُقدَّر كأنه لم يخرج لمّا خرج إلا غازياً.
__________
(1) في الأصل: وإذ لم إن كنا.
(2) في الأصل غير مقروءة وكذا في (س) انظر صورتها فيهما. والمثبت تصرف منا.
(3) في الأصل: لا ينوع (انظر صورتها) .
(4) صحفت في الأصل بصورة غير ذات معنى (انظر صورتها) .
ثم المكافحة: المراد المواجهة من قولهم: كافح القوم أعداءهم: استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس (المعجم) .
(5) في الأصل: أو.
(6) في الأصل: بها.
(7) في الأصل: طريات.
(8) في الأصل: العدو.(11/489)
ومن قال: لا يلزمه (1 أن يسقط 1) أكثر من أجرة ساعة القتال، فهذا فيه أدنى تأمل؛ [فإنا] (2) إن صورنا لطفاً في أوقات القتال، فلا يقابل شيءٌ من الأجرة وقتَ القتال، فلا معنى لإسقاط الأجرة.
وإن صورنا القتال ممتدّاً في زمان يقابَل بالأجرة، فإذا اشتغل فيه بالقتال وترك العمل، سقطت الأجرة من غير إسقاط، ولم يبق لاسقاط الأجرة معنى، [وآل] (3) النظر إلى أن الأجير الذي استحق المستأجِر عملَه هل له أن يترك العمل المستحَق عليه ويشتغل بالقتال، فينبغي أن [يتأنَّق] (4) الفقيه في [توجيه] (5) هذا الوجه.
والسبيل فيه أن نقول: إذا قاتل في أوقات لطيفة، وهو واقف في معظم الأوقات في الصف موقف المقاتلين، وهو في ذلك يعمل لمستأجره، وقد يكون عمله مراقبةَ الرجل أو رياضةَ [دابةٍ] (6) هو راكبها، فيتصور الإتيان بالأعَمال مع تصوير القتال وينبني على ذلك أنه يستحق (7) الأجرة؛ لأنه لم يخلّ بها، فإن أراد السهم على الوجه الذي نفرعّ عليه، فينبغي أن نسقط أجرته في مدة المعركة؛ فإنه [وإن] (8) لم يكن مباشراً للقتال في جميع المدة، [فهو] (9) في حكم المقاتل إذا قاتل في بعض المدّة، فقد اجتمع القتال وتوفية الأعمال، والتخير بين إسقاط أجرةٍ وجبت وبين طلب الأجرة وترك السهم.
وعماد هذا الفصل أن من جاء مجاهداً وجرّد قصده في الغزو، فلو وقف في الصف، ولم يقاتل، لكفاه ذلك في استحقاق السهم، لا خلاف فيه، ومن لم يتجرد
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س) .
(2) في الأصل: فأما.
(3) في الأصل: ذاك.
(4) في الأصل: يرافق.
(5) في الأصل: تصوير.
(6) في الأصل: الدابة.
(7) (س) : ألا تسقط الأجرة.
(8) زيادة من (س) .
(9) سقطت من الأصل.(11/490)
قصده في الجهاد، فمجرد الوقوف من غير قتال، هو الذي فيه الكلام، والذي ذكره الأصحاب في تقسيم حال الأجير، حيث قالوا: "إن لم يقاتل، لم يستحق السهم".
أرادوا إذا وقف في المعركة، ولم يتعاط قتالاً، فخرج من ذلك أن الوقوف قتالٌ في حق من جرّد قصدَه، وليس هو قتالاً في حق الأجير على موجب هذه الطريقة، وسنذكر ترتيباً يخالف ذلك في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
وإن تعاطى القتال، ففيه الأقوال، كما قدمناه.
7758- ولو حضر البقعة تاجراً، فالذي ذكره بعض الأصحاب في الترتيب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في الصف ولم يقاتل، ففي استحقاق السهم قولان، والتجارة أضعف من الإجارة؛ فإنها ليست من الأشغال الشاغلة، ويتأتى الجمع بينها [وبين غيرها من الأشغال، وأيضاً؛ فإن التاجر لا يُستَحقُّ عليه] (1) عملٌ سوى القتال بسبب اشتغاله بالتجارة، وإبرامه عزمه عليها، والأجير كالعبد؛ من جهة أنه مستحَقُّ المنفعة، فاقتضى هذا الافتراقُ قلبَ الترتيب وإجراءه على مقتضى ما ذكرناه في الأجير، فإنا قلنا: إن الأجير إن لم يقاتل، لم يستحق السهم، وإن قاتل، ففي استحقاقه الخلاف المقدم، ونقول في التاجر: إن قاتل استحق، وإن وقف ولم يقاتل، ففي المسألة قولان.
7759- ولو كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فأفلت ذلك الأسير من ربطهم وتحيز إلينا، فالذي أجراه الأصحاب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في صف المسلمين، ولم يقاتل، ففي المسألة قولان، على الترتيب الذي ذكرناه في التاجر، ووجه التشبيه أنه يليق بحال الأسير إذا أفلت أن يقصد مقاتلة الكفار، والاشتفاء منهم، وليس يتحقق فيه ما ذكرناه في الأجير من كونه مستغرق المنفعة مستحَق العمل، فرأى الأصحاب تشبيه الأسير بالتاجر في الترتيب.
7760- ومما ذكره الأصحاب أن الإمام إذا استأجر من سهم المصالح أجيراً للقتال،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(11/491)
فقد أطلق الأصحاب أن ذلك جائز، ثم قالوا: إذا [حضر وقاتل] (1) ، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يستحق السهم، لأن عينَ قتاله مقابلٌ بالأجرة، فيستحيل أن يقابله استحقاقُ السهم، وليس كالمستأجَر على الخدمة والسياسة (2) ؛ فإنه [إن] (3) قاتَل، فليس [قتالُه مقابلاً] (4) بالأجرة قصداً.
ومن أصحابنا من جعل المستأجَر على القتال بمثابة المستأجر على الخدمة والسياسة، وجعل المسألة في استحقاق السهم على الأقوال التي ذكرناها.
ويخرج من هذا الترتيب أن سبب المستأجر على القتال أقوى من سبب المستأجر على [غير] (5) القتال من الأعمال، والاستئجار على الأعمال أقوى من التجارة، وإفلات الأسير.
فهذا ترتيب جماهير الأصحاب.
7761- فإن [اعترض] (6) على الفقيه إشكال في استئجار الإمام طائفةً على الجهاد، فلا ينبغي أن يستبعد ذلك على شرط الضبط بالمدّة، فإن فروض الكفايات يجوز الاستئجار على معظمها، كحمل الجنائز [وحفر] (7) القبور، وما في معناها، [وسنجمع] (8) في ذلك قولاً ضابطاً في أول كتاب الصداق، إن شاء الله عز وجل.
والذي يجب الاعتناء به في تصوير الإجارة إعلام العمل، وهذا [قد] (9) يغمض مع ذكر المدّة؛ لأنّ غوائل القتال وما تمس الحاجة إليه لا ينضبط. هذا فيه بعض
__________
(1) في الأصل: حضره وقاتل.
(2) والسياسة: أي سياسة الدابة.
(3) ساقطة من النسختين.
(4) في الأصل: بمثابة مقاتلاً.
(5) في الأصل: عين.
(6) في الأصل: اعتراض.
(7) (س) : وحمل.
(8) في الأصل: ونستجمع.
(9) في الأصل: به.(11/492)
النظر، ويمكن فرض بذل العوض (1) في معرض الجعالة، حتى تكون المعاملة أقبل للجهالة، فهذا مجموع ما أبهمه الأصحاب وأرسلوه من المسائل، مع مزيد شرح في التنبيه على المراتب.
7762- وذكر الشيخ أبو بكر في خاتمة هذا الفصل ما يشفي الغليل، وقال: كل مسألة قلنا فيها: إن لم يقاتل، لم يستحق السهمَ، وإن قاتل، فعلى أقوال، فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا: يستحق المقاتل، ففي الواقف قولان.
وكل مسألة قلنا فيها: إن قاتل، استحق، وإن وقف، فعلى خلاف، فمن أصحابنا من قال فيها: وإن قاتل فهل يستحق السهم؟ فعلى قولين. فيخرج من مجموع كلام الأصحاب في الإجارة والتجارة وإفلات الأسير واستئجار الإمام على عين القتال أقوال: أحدها - أن هؤلاء يستحقون إذا وقفوا وشهدوا المعركة وإن لم يقاتلوا.
والثاني - أنهم لا يستحقون السهم وإن قاتلوا.
والثالث - أنهم يستحقون السهم إن قاتلوا، ولا يستحقون بالوقوف المجرد.
والرابع - أن (2) التاجر يستحق والأجير لا يستحق.
والخامس - أنه يفصل بين أن يُسقط الأجرة أو لا يُسقطها، كما تفصل.
[وينشأ] (3) قولٌ آخر [من] (4) الفرق بين المستأجر على القتال وبين المستأجر لشغل آخر، وهذا كما أشرنا إليه في الترتيب المشهور من قوة بعض الأسباب وضعف بعضها. وإذا رأينا في الأجير أن يُسقط الأجرة، فلا شيء في حق التاجر يُسقطه، وقد ينقدح على بُعد أن يُشترط تصميمه على العزم على ترك التجارة، وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له.
__________
(1) (س) : بذل بعض العوض.
(2) (س) : أن الأجير لا يستحق، والتاجر يستحق.
(3) في الأصل: مـ ـلثا (انظر صورتها) .
(4) في الأصل: في.(11/493)
قال الشيخ أبو بكر: كأن الأقوالَ في هذه [المسائل] (1) ناشئة (2) من الخلاف في أن [القصد] (3) والنية هل تعتبر في الجهاد؟ ففيه خلاف: من أصحابنا من لا يعتبر القصدَ في الجهاد، وعلى هذا لا يبعد أن يسهم لهؤلاء، قاتلوا أو وقفوا ولم يقاتلوا.
ومن أصحابنا من اعتبر القصدَ في الجهاد، فعلى هذا تنفصل الأقوال كما تقدم ذكرها.
فهذا مجموع القول في هذه المسائل تأصيلاً وتفصيلاً.
ثم حيث قلنا: (4 إنه يستحق السهم، فلا كلام، وحيث قلنا 4) : لا يستحق السهم، فهل يستحق الرضخ، فعلى وجهين حكاهما الشيخ أبو علي والعراقيون، أنه يستحق الرضخ، ولا ينحط [عن] (5) الأطفال والمرضى في حكم المغنم، وهذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: لا يستحق الرضخ، فإن المعنى الذي أسقط السهم يتضمن إسقاط حقه بالكلية من المغنم، وهذا وإن كان له وجه، فالمذهب ما تقدم من استحقاق الرضخ.
فرع:
7763- إذا استأجر واحدٌ من المسلمين غازياً حتى يجاهد عنه، فالاستئجار باطل؛ فإن الجهاد مما لا يجري النيابة فيه، فلو اندفع (6) المستأجر على الغزو، ووفّى ما شرط عليه من العمل، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة، فإن العمل لم يقع عن المستأجِر، وهل يستحق السهم؟ فعلى قولين ذكرهما الأصحاب، وقربوهما من القولين في أن المستأجَر على الحج إذا نوى [الحج عن] (7) مستأجِره، وكان الأجير
__________
(1) في الأصل: المسألة.
(2) (س) : المسائل بأسرها ناشئة.
(3) في الأصل: المقصد.
(4) ما بين القوسين ساقط من (س) .
(5) في النسختين: من.
(6) (س) : تبرّع.
(7) ساقط من النسختين.(11/494)
صرورةً، فالحج يقع عن الأجير، وفي نفي استحقاق الأجرة اتفاقٌ بين الأصحاب، فلا أجرة، ولو صح الاستئجار على الحج، فأحرم الأجير عن مستأجِره على الصحة، ثم صرف الحجةَ إلى نفسه ظاناً أنها تنصرف إليه، وقضى المناسك على هذا القصد، ففي استحقاق الأجرة قولان، فجعل الأصحاب استحقاق السهم مع فساد الإجارة على خلافٍ، ولا شك أن هذا التردد يترتب على أن الإجارة على الجهاد، ولو صحت [من] (1) الإمام، فهل يستحق المجاهد السهمَ مع استحقاق الأجرة؟ وفيه الخلاف المقدم.
فإن قلنا: إنه يستحق الأجرة والسهمَ، فإن لم يستحق الأجرة لفساد الإجارة، فلأن يستحق السهم أولى، وإن قلنا: المستأجر على الصحة إذا استحق الأجرة لا يستحق السهم، فالمستأجر على الفساد إذا لم يستحق الأجرة، فهل يستحق السهم؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه. والمذهب أنه يستحق.
7764- ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك أن الواحد من المسلمين إذا استأجر من يغزو، ولم يقصد وقوع الغزو عنه، وإنما قصد إقامة هذا الشعار وتحصيلَ هذا الخير وصرف عائدته إلى الإسلام، ففي جواز الاستئجار من آحاد المسلمين وجهان (2) مبنيان على جواز الاستئجار على الأذان من آحاد المسلمين، وكل ذلك يأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل - في أول الصداق.
فرع:
7765- قال صاحب التلخيص: إذا كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فلما قاتلناهم، وانكشف القتال وانحازت كل فئة، قال: "فلو أفلت أسيرٌ بعد ذلك، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى قولين" (3) . فصوّر إفلات الأسير بعد انقضاء القتال، وهذا مأخوذ عليه عند جماهير الأصحاب؛ فإن التردد فيه إذا أفلت
__________
(1) في النسختين: عن.
(2) جزم النووي بعد الجواز، "لأنه إن لم يكن الجهاد متعيناً عليه، فمتى حضر الصفَّ، تعين، ولا يجوز أخذ الأجرة عن فرض العين" (ر. الروضة: 10/240) .
(3) ر. التلخيص: 461.(11/495)
والحرب قائمة، فأما إذا أفلت وقد أحرز المسلمون المغانم (1) فتخيل الخلاف في استحقاق السهم بعد ذلك بعيدٌ.
ثم إن تكلفنا وجهاً لما قاله صاحب التلخيص، فلعل السبيل فيه أن يفرض الأسير في الصف، وهو في أيدي الكفار، وينتهز منهم الغرة، فلعل صاحب التلخيص جعل كونه في الصف -إذا أفلت في العاقبة- وقوفَ قتالٍ، وهذا على بعده يُحْوج إلى فرض كونه مطلقاً غيرَ مربوط، ويحوج أيضاً إلى تصوير اتصاله بنا على قرب من انجلاء القتال، فلو بعد وتخلل اليوم أو أكثر، فلا يجوز تقدير الخلاف فيه.
والوجه القطع بتخطئة صاحب التلخيص؛ فإن السير لا غَناء فيه، ولا وقْع لوقوفه.
7766- ولو أسلم واحدٌ من الكفار، واتصل بنا قبل انجلاء القتال، فسبيله كسبيل الغزاة، [حتى] (2) يستحق السهم بالوقوف وإن لم يقاتل، فإنه يغلب على حاله وقد ترك دينه قصدَ الذبّ عن دين الله تعالى وليس كالأسير منا [يفلت؛ فإنه] (3) يغلب عليه قصد الفوز والنجاة، وهذا يضعف قصده في القتال، والله أعلم (4) .
__________
(1) (س) : الغنائم فيستحيل الخلاف.
(2) في الأصل: معنى، والمثبت من (س) .
(3) زيادة من (س) .
(4) إلى هنا انتهت نسخة (ح) التي اتخذناها أصلاً، بل هي نسخة وحيدة من أول:
فصل: قال الشافعي: لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بربع ماله.
ثم صارت (س) نصاًَ مساعداً لها من أول:
فصل: أورده صاحب التقريب.
واستمر الأمر على ذلك حتى انتهت (هنا) نسخة (ح) . وليس في خاتمتها تاريخ النسخ ولا مكانه ولا اسم ناسخها، ولا رقم الجزء المنتهي، ولا الذي يتلوه، ولا أول عبارة منه.
وكل ما جاء في هذه الخاتمة:
الحمد لله صلواته على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين
وحسبنا الله ونعم الوكيل.(11/496)
فصل (1)
قال: "ولو جاءهم مدد قبل انقضاء الحرب ... إلى آخره" (2) .
7767- إذا قاتل المسلمون وأحرزوا غنائم، وانجلى القتال، وانكشف الأعداء، ثم لحق بعد ذلك مددٌ لجند الإسلام، فمذهبنا أن المدد اللاحق بعد انجلاء القتال لا يشارك الجندَ فيما أحرزوه من المغانم.
وقال أبو حنيفة (3) : "إن لحقوا والجند بعدُ في دار الحرب يشتركون في المغنم، ولو تعلق جند الإسلام بدار الإسلام، ثم لحقهم مددٌ؛ فإنهم لا يشركونهم". فعندنا التعويل على الإحراز، ولا التفات إلى الدار.
وهذا الفصل يتطرق إليه ضربٌ من الانتشار المحوج إلى الضبط، فالوجه نقل ما ذكره الأصحاب، ثم الاعتناء بتمهيد الأصل ورعاية الضبط، فنقول:
ما يحصل في [يد] (4) الجند المجتمع من المغانم مشترك بينهم، لا يختصّ آخذ الأموال بها، وفيه سببان: أحدهما - أن ما يأخذه الآخذون إنما يقرون على أخذه لقتال المقاتلين، أو لوقوف المصطفِّين، فالأَخْذ وإن حصل من بعضهم، فهو مضاف إلى كلهم.
والمعنى الثاني - أنا لو خصصنا الأموال بآخذها، لكان ذلك خرماً لسبيل السياسة، فكأن الأموال على حالةٍ مطلوبُ الخلق، فإذا حصل العلم لرجال القتال بأن المال لآخذه، لابتدروا الأموال، وتركوا القتال، ثم قد يكون ذلك سبباً لظفرة الكفار، [ومن أدنى آثار] (5) ركوبهم علينا أن يستردوا ما أخذناه، وربما يضعون السيف في
__________
(1) من هنا بدأ اعتماد نسخة (س) ورقة (168 ي) أصلاً، بل هي وحيدة.
(2) ر. المختصر: 3/191.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/460 مسألة 1614، الاختيار لتعليل المختار: 4/127.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل غير مقروء ما بين المعقفين، فقد رسم هكذا: "لطفره الكفار من أد ـى اـا ركو ـهم عليا" كذا بدون نقط. (انظر صورتها) .(11/497)
المسلمين، فاقتضت مصلحة القتال أن تكون الأموال فوضى (1) .
وإذا نفذت طليعة من [كُثر] (2) الجند على الرسم المعتاد فيه، فإن أفادت هذه السرية المتقدمة شيئاً، لم يختصّوا به، بل يشركهم الجند فيه، إذا كانوا بحيث لا يتعدَّوْا الغوث منهم، وكذلك الجند إذا غنموا، فالسرية تشترك فيما أخذه الجند، والسبب فيه أن الغوث إذا كان لا يبعد، فالسرية المتقدمة مع كُثر الجند كالميمنة مع القلب، وهذا بيّن.
ولو نفذت سريتان من الجند، فأخذت كل واحدة صوباً، فهما من [كثر] (3) الجند على بُعد، لا يبعد معه الغوث، فكل سرية [تشرك] (4) الجندَ، والجند يَشْرك كلَّ واحدة من السريتين. وهل تشرك إحدى السريتين الأخرى فيما أصابته؟ على وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها تشرك الأخرى؛ فإنهما صادرتان عن جندٍ واحد والجمع بجملتهم متناصرون. وهذا هو القياس الذي قطع به المراوزة.
والوجه الثاني - أن إحدى [السريتين] (5) لا تشرك الأخرى؛ فإنها ليست متهيئة لنصر الأخرى، وإنما تستنصر كل فئة بنصر الجند إذا مست الحاجة إلى النصرة، وهذا ضعيف. والوجه الأول هو المذهب.
7768- ووراء ما أرسله الأصحاب نظرٌ من وجهين: أحدهما - يشتمل على القول في تقريبٍ يصار إليه في معنى لحوق الغوث وتعذره، والفقيه قد يكتفي في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الأمر، والتعويل على خبر ذوي الخبرة، وقد يختلف ذلك بتوعر
__________
(1) فوضى: أي شائعة لا اختصاص لأحد بشيء (المصباح) .
(2) في الأصل: "كر" كافُ وراء. وهو تصحيف سخيف أرهقنا كثيراً في البحث عن معنى لهذا اللفظ (كر) في المعاجم وكتب الغريب؛ لأنه تكرر أكثر من مرة. ثم ترجح لدينا أنه مصحف عن "كُثر": وكثر الشيء معظمه، وكثيره، فكُثْر الجيش أي عامته وجماعته. (القاموس والمعجم والمصباح واللسان) .
(3) في الأصل: "كر" مصحفة أيضاً عن كُثْر. وتكرار هذا التصحيف هو الذي أوقعنا في ظن الصحة لكلمة "كر" وجعلنا نبحث لها عن معنى كما أشرنا آنفاً.
(4) في الأصل: تشترك.
(5) في الأصل: الشريكين.(11/498)
الطرق [وسهولتها] (1) ، ويختلف بعزة الماء [ووجوده] (2) ، إلى غير ذلك مما يقطع على المسافرين، ومما يقرب مسيرهم، ويسهل وصولهم، وهذا لا [بأس] (3) به على ما فيه من الإبهام، والمعتمد فيه أن السرايا وكُثر الجند إذا كانوا في مواقع يتأتى منهم التناصر والتظافر [كانوا] (4) بمثابة الجند الواحد في المعترك الواحد، وإذا تقاذفوا وتبادَوْا (5) ، وكان لا يتأتى من فريق منهم الاستنجاد، وكل [فرقة] (6) مستقلة بقوتها، راكبة إلى منتهى [يقطعها] (7) عن الطوائف الأخرى، فيثبت لكل فريق حكم الاستقلال.
ثم الذي يمكن ضبطه في ذلك أن تكون المسافة بحيث يتأتى الانتشار في مثلها مع مكالحة (8) العدو. ولا يشترط أن يلحق الغوث في الحال، فإن ذلك لو فرض، لكانوا [معاً] (9) على صعيد واحد، ولكن إذا كان المستنجدون بحيث لو اشتغلوا بمطاردة العدو، وأرسلوا المستنجِدَ، للحقهم الغوث قبل أن [يُصطلموا] (10) ، فهذا هو المعنيُّ بالغوث.
وفيه دقيقة لا تخفى على أهل الحرب، هو أنه إذا كان بين يدي الجند، وبين السرية المبتعثة مسافة الغوث، كان الأعداء مرعوبين مذعورين بإمكان المدد، وذلك يفل من [عزمهم] (11) ، فيقع التواصل ناجزاً بهذا، والخوف على التقريب الذي ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: الطرق وسهولته.
(2) في الأصل: بعزة الماء وجوده.
(3) في الأصل: يأنس.
(4) في الأصل: كانه.
(5) تبادَوْا: أي تباعدوا، من قولهم: بدا فلانٌ إذا خرج إلى البادية (معجم) .
(6) في الأصل: فريق.
(7) في الأصل: منقطعة.
(8) مكالحة العدو: من قولهم: "كالحه" إذا واجهه بالخصومة (معجم) .
(9) في الأصل: وقفا.
(10) في الأصل: يصطرموا. ويُصطلموا: أي يستأصلوا، ويُقضى عليهم (معجم) .
(11) في الأصل: عدتهم.(11/499)
وذهب بعض الأصحاب إلى مسلك آخر، عليه يدل كلام شيخنا أبي بكر، وها أنا واصفه، قال: إذا تجرر عسكر من صوب، وكانوا ينحون (1) وطراً، فرأى من يسوسهم أن يفرق سرايا في جهاتٍ حتى [يشتمل على] (2) أطراف القطر المأموم (3) ، ويكون مددهم سببَ تبدد جمهور الأعداء، وقد يروْن محاصرة قلاع على الممرّ وحفظ مراصد، ثم ينأَوْن ويبعدون، بحيث لا يلحقهم معه المدد لو تحامل عليهم العدو، ولكن صاحب الراية يفعل ذلك على وجهٍ يبعد معه تحامل جيش جرار على سرية، فإنهم يأتون من الجوانب، والراية تخفق على كُثر العسكر، [وهذا الضرب من الرأي] (4) يعصم السرايا من أن يُقصَدوا، والغرض قُطر واحد بنواحيه، فلا تعويل على الغوث، والحالة على ما وصفناها، فإذا فرض والحالة هذه إصابة مغانم من السرايا، ردّوها على الجند، وإذا أصاب الجند شيئاً [شرّكوا] (5) فيه السرايا؛ [فإنّ] (6) صَدَرَ (7) الجميع عن رأيٍ واحد، والغرض في التحقيق غزاةٌ [واحدة] (8) . هذا مسلك اختاره المحققون.
7769- وقال الشيخ أبو بكر: لو كان الإمام الذي منه الصدَرُ والوالي في بلدة، فسيّرا سرايا في جهاتٍ، فأصابوا مغانم، [ومعظم الجند هؤلاء مع صاحب الراية في البلدة] (9) ، فمن فيها لا يشركون السرايا فيما أصابها (10) ، وإن كانت مواقعهم في القتال غيرَ بعيدة عن غوث صاحب الراية في البلدة، واحتج هؤلاء بخبرين: أحدهما -
__________
(1) ينحون: أي يقصدون ويتجهون إلى وطرٍ وغاية (معجم) .
(2) مطموسة في الأصل.
(3) المأموم: أي المقصود.
(4) في الأصل: وهذا الرأي من الضرب من الرأي.
(5) في الأصل: شركوه.
(6) في الأصل: فإذا.
(7) صَدَر: أي صدور. والمعنى أن الجميع يتحركون برأيِ واحد، وقيادة واحدة. واستعمال المصدر بهذا الوزن، لازمة من لازمات إمام الحرمين.
(8) في الأصل: "واحد" وهذا من آثار عجمة قديمة لدى الناسخ.
(9) في الأصل: ومعظم الجند مع هؤلاء صاحب الراية في البلدة. (فجاء الخطأ من وضع (مع) في غير موضعها) .
(10) أصابها: المراد ما أصابته من الغنائم.(11/500)
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة حنين، فبعث سرية إلى أَوْطاس ثم أشركهم [فيما] (1) أصاب بأوطاس، وبين حُنين وبين أَوْطاس مسيرة ليالٍ" (2) ، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارّاً بالمدينة، والسرايا تبتعث في الجهات، ويختصون بما يغنمون لا يُشرِكون المقيمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصيبون، قربت المسافة أو بعدت" (3) .
فتحصّل مما قاله الأصحاب مسلكان مختلفان: أحدهما - النظر إلى إمكان لحوق الغوث على النفير الذي ذكرناه، ومعتمد هؤلاء وقوعُ الجند -وإن تفرقوا- موقع الجند الواحد المتناصر، وإن كانوا كذلك، اشتركوا اشتراك الجند الواحد. وإن كانوا لا يتناصرون، فكلٌّ مستقل بقوته. وكل هؤلاء يقولون في حديث حنين: كان تجهّزه صلى الله عليه وسلم في صوب حنين. والخبر محمول على ذلك؛ فإن الحصار لم يقع قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين، وهؤلاء يقولون أيضاً: السرايا المنبعثة كانت [بمنأى] (4) عن غوث المقيمين بالمدينة، ويقولون: لو فرض وقوع
__________
(1) في الأصل: فلما.
(2) حديث سرية أوطاس رواه الشافعي في الأم: 4/70، ورواه عنه البيهقي في الكبرى: 6/335.
هذا وقد قال الحافظ في التلخيص: "حديث روي أن جيش المسلمين تفرقوا فغنم بعضهم بأوطاس، وبعضهم بحنين، فشركوهم" متفق عليه من حديث أبي موسى" ا. هـ.
والذي رأيتُه في البخاري ومسلم حديث سرية أوطاس، وليس فيه ذكرٌ للغنائم ولا لمشاركة من كان في حنين فيها، مع أن هذا هو موضع الاستدلال من الحديث. (ر. فتح الباري: كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، جزء 8/41 ح 4323، ومسلم: 2/1943 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما، ح 2498، وانظر تلخيص الحبير: 3/226 ح 1482.
ولفظ الشافعي في الأم: "مضت خيل المسلمين فغنمت بأوطاس غنائم كثيرة، وأكثر العسكر بحنين، فشركوهم" وعنه البيهقي بلفظه.
(3) حديث "أن السرايا كانت تخرج من المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغنم ولا يشاركهم المقيمون في المدينة" رواه الشافعي في الأم: 40/70، والبيهقي من طريقه في المعرفة. وانظر (التلخيص: 3/226 ح 1481) .
(4) في الأصل: تأتي.(11/501)
سرية بحيث يلحقهم غوث الجند المقيمين، فما يصيبونه [يشترك] (1) فيه المقيمون، ثم هؤلاء يسلمون أن هذا في الجند المتأهبين للخروج إذا بلغهم هائعة ومن عداهم، وإن قربوا إذا لم يكونوا متأهبين، فلا غوث منهم، وإن اشتغلوا بالتأهب يفوت الأمر وينزل بُعْد ذلك عن الحصول منزلة بعد المسافة هذا مسلك.
والمسلك الثاني - أن يشمّر قوم لصوب، ويبتُّوا أمرهم على ناحية، كما قدمنا وصفه، فالصادرون عن رأي واحد في حكم المتناصرين وإن كانوا لا يتناصرون، وعلى هذا الجندُ المقيمون في البلد ما بنَوْا أمرَهم على التشمر لأمدٍ يشاركهم السرايا فيه.
هذا منتهى كلام الأصحاب صريحاً وضمناً.
7770- وتمام البيان أن المدد إذا وقعوا في (2) الجند في المعترك موقعاً لو شعر الجند بهم، لاستنجدوا بهم، ولكنهم لم يشعروا، ثم انجلى القتال، ثم لحقهم المدد، فالذي رأيت الأصحاب متفقين عليه أن المدد لا [يشركون] (3) الجند، وهذا يعتضد [بمسلك] (4) من لا يعتمد التناصر، ويعوّل على الصدَر (5) عن رأيٍ واحد؛ فإنه ليس بين الجند والمدد رأي جامع. ومن يعتمد التناصر ينفصل عن هذا، ويقول: عدم شعور الجند بمكان المدد يحجزهم عن الاستمداد والاستنجاد، فكان ذلك بمثابة عسر الاستمداد.
وقد نجز الغرض، وضممنا فيه النشر جهدنا.
7771- وفي بعض المصنفات وجه محكي عن القفال، أخّرته حتى لا يوثق به ولا يعدَّ من المذهب: حكى صاحب التقريب: أن القفال كان يقول: إذا انبعثت السرايا والجند بعدُ في دار الإسلام، لم يشركوا، وهذا غلط صريح، ولم ينقل أحد
__________
(1) في الأصل: مشترك.
(2) كذا. وهي صحيحة؛ حيث تأتي (في) مرادفة لـ (مِن) . قاله ابن هشام في المغني.
(3) في الأصل: يشتركون.
(4) في الأصل: مسلك.
(5) الصدر: الصدور. مصدر صدر يصدر صدوراً وصدَراً.(11/502)
من أصحاب القفال هذا عنه، فإنّ التعويل على الدار لا يوافق مذهب الشافعي بوجهٍ؛ فإنّ معوّل الشافعي على المعاني لا على الديار.
7772- ولو لحق المدد والحرب بعدُ قائم، نُظر: فإن لم يحرز الجند المغنم حتى لحق المدد، فما يقع آخراً [ ... ] (1) بعد لحوقهم مشترك.
وإن كانوا أحرزوا مغانمهم، والحرب بعدُ [ناشبة] (2) والقوم مطاردون، فهل يُشرِك الجندُ المددَ فيما أثبتوا أيديهم عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يشركونهم؛ فإنهم لحقوا بعد إثباتهم الأيدي عليها، فأشبه ما لو لحقوا بعد انجلاء الحرب..
والقول الثاني -وهو الأصح- إنهم يشركونهم؛ فإنّ تلك الأيدي لا [حكم] (3) لها، وهي مع قيام المطاردة ضعيفة، بل هي عرضة للاستدراج لو كان للكفار عَكْرَةٌ (4) على المسلمين.
7773- ويتصل بهذا القولُ في القسمة، فنقول: إذا انكشف القتال، وتحاجز الفئتان، فقسمة الغنيمة جائزة، وإن كانت في دار الحرب، قال الشافعي: لو قلت: القسمة في دار الحرب أولى (5) ، لم أكن مبعداً؛ فإن ذلك أنفى للغُلول وأنقى للقلوب. وإذا تبدّد المغنم، خف محمله.
7774- ولو ثبتت الأيدي صورةً على مغانمَ والحربُ بعدُ قائمة، والمطاردة
__________
(1) بياض في الأصل قدر كلمة واحدة.
(2) في الأصل: ناشئة.
(3) في الأصل: يحكم.
(4) عكرة: أي رجعة. من قولهم: عكر يعكر (من بابي قتل وضرب) عطف ورجع (معجم ومصباح) .
(5) عبارة الشافعي في الأم: "السنة في قسم الغنائم أن يقسمها الإمام معجلاً على وجه النظر، فإن كان من معه كثيرون، آمنون في ذلك الموضع أن يكر عليهم عدوّهم، فلا يؤخر قسمه إذا أمكنه في موضعه الذي غنمه فيه، وإن كانت بلاد حرب" الأم: 4/65.(11/503)
دائمة، فلو اقتسموها، فالذي رأيت للأصحاب أن القسمة مردودة. ولست أبعد تخريج صحتها على القولين في أن المدد اللاحق هل يشترك في هذه الأعيان الواقعة في أيدي الجند قبل لحوق المدد، وهذا لا بد من تخريجه على ذلك. والله أعلم.
***(11/504)
باب تفريق الخُمس
7775- قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قد قدمنا في صدر الكتاب أن الغنيمة مخموسة، وكذلك الفيء، ومقصود هذا الباب المعقود إيضاح مصارف خُمس الغنيمة وخُمس الفيء.
وقاعدة المذهب أنّ خمس الفيء وخمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم متساوية، سهم منها للمصالح العامة، وهو السهم الذي يُرصد للمصالح، وكان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما استأثر الله تعالى به صرف سهمه إلى المصالح.
وسهمٌ لذوي القُربى، وسهمٌ لليتامى، وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل.
وما ذكرناه تراجم، ونحن نذكر الآن الشرح والتفصيل.
7776- فأول ما نذكر أن الشيخ أبا علي حكى في الشرح قولاً غريباً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقلب إلى رحمة الله تعالى ورضوانه، ارتفع سهمه، وعادت مصارف الخُمس إلى أربعة أسهم: أحدها - لذوي القربى (1) .
والثاني - لليتامى، والثالث - لأبناء السبيل، والرابع - للمساكين. وهذا قول غريب لم أره إلا في طريق شيخنا أبي علي.
وذهب بعض العلماء إلى أن السهم الذي كان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مصروف إلى خليفة الزمان؛ فإنه وزرُ المسلمين، [وهو] (2) الذي يقرب إلى القيام مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم تصح عندي نسبة هذا إلى أحد من أصحابنا.
__________
(1) في الأصل: أحدها - لذوي القربى واليتامى.
(2) في الأصل: وهذا.(11/505)
وفي بعض الطرق صيغةٌ مختلّة بهذا المعنى؛ فإنّ صاحب الطريقة قال: [ظاهر] (1) المذهب أن السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصرف إلى خليفة الزمان، ثم ذكر مذهب السلف (2) . وقوله ظاهر المذهب يشعر بخلافه، ولكنه إيهامٌ لا حاصل وراءه، فلا أصل لهذا الرمز، ولا للقول الغريب الذي حكاه الشيخ، ولا عوْد (3) إليهما. وهذا قولنا في السهم الذي يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7777- فأما سهم ذوي القربى، فإنه مصروف إلى بني هاشم، وبني المطلب.
ونعني الذي يكون من صلب بني هاشم وبني المطلب، وهم الذين ينتمون إلى هؤلاء بالآباء لا بالأمهات، فمن كانت أمه هاشمية ولم يكن أبوه هاشمياً، فليس من بني هاشم، وإنما الانتساب إلى الآباء وانتمائهم إلى الأجداد القديمة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من [صلبة] (4) بني هاشم، وبنو المطلب يقعون منه موقع بني عبد شمس [وبني] (5) نوفل. ثم خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب، ولم يعط غيرهم، وقد قيل: إن عثمان (6) بن عفان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبشمياً. فقال: يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك منهم، ولكن قرابتنا وقرابة بني المطلب واحدة، وقد أعطيتهم وحرمتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ بني المطلب لم يفارقونا في
__________
(1) مزيدة من المحقق على ضوء السياق كما سيظهر في السطر التالي.
(2) كذا. ولعلها: مذهب الشافعي، فبهذا تكون مختلفة.
(3) "لا عَوْد إليهما" قال النووي: و"هذان النقلان شاذان غريبان مردودان" (ر. الروضة: 6/355) وعليه فالمذهب أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده -بأبي هو وأمي- لمصالح المسلمين.
(4) في الأصل: صلبته.
(5) في الأصل: بنو.
(6) يسوق إمام الحرمين هذا الحديث على نحو ما ساقه الشافعي في الأم: 4/71 إلى حد كبير.
غير أن الشافعي رواه عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: أتيته صلى الله عليه وسلم أنا وعثمان بن عفان، فقلنا ... الحديث.(11/506)
جاهلية ولا إسلام، وشبك بين أصابعه" (1) . فأبان أن سبب اختصاصهم دون الذين هم في درجتهم من القرابة، ما كان منهم من موافقة بني هاشم في الجاهلية والإسلام وهؤلاء هم الذين حرموا الصدقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم سهمهم من خمس الغنيمة والفيء، ويقول: "إنّ الله قد أغناكم عن أوساخ أموال الناس بما أعطاكم" (2) .
ثم أجمع أئمتنا في الطرق أنهم يستحقون سهمهم، كانوا أغنياء أم فقراء، وهذا كما أن استحقاق الورثة للميراث لا يتخصص بالفقراء المحاويج، بل يستوي في استحقاقه الغني والمحتاج، كذلك هذا.
وكذلك أجمع الأصحاب على أن سهمهم مصروف إليهم على التفاوت بين الذكر والأنثى، فللذكر سهمان وللأنثى سهم، وهذا محتوم؛ فإن سبيله سبيل الميراث، وهذا السهم مصروف إليهم صرف التركة أو صرف باقيها (3) إلى الذكور والإناث من العصبة. ولا يجوز تفضيل البعض إلا من جهة الذكورة والأنوثة كما نبهنا عليه، فأما التفضيل بسائر الفضائل والمناقب، فلا سبيل إليه. فإن قيل: صح أن رسول الله
__________
(1) حديث: قرابة بني هاشم وبني المطلب رواه البخاري، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، قال البرقاني: وهو على شرط مسلم هكذا قال الحافظ في التلخيص: 3/216 ح 1462. وانظر (البخاري: كتاب المغازي، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام، ح 3140، وطرفاه في: 3502، 4229، وترتيب مسند الشافعي: 2/125، ح 411، 412، ومسند أحمد: 4/81، 83، 85، وسنن أبي داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذوي القربى، ح 2978، 2979، 2980، والنسائي: كتاب قسم الفيء، ح 4137) .
(2) حديث "إن الله قد أغناكم عن أوساخ الناس" رواه مسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، في قصة طويلة، بلفظ: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمدٍ، ولا لآل محمد" (صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، ح 1072) قال الحافظ: وفيه عند أبي نعيم في معرفة الصحابة من حديث نوفل بن الحارث: "إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم" (ر. التلخيص: 3/238 ح 1503) .
(3) باقيها: أي باقي التركة، بعض أصحاب الفروض.(11/507)
صلى الله عليه وسلم أعطى بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل، وفاضل بينهم (1) . قلنا: كان السبب أن بعضهم كان ذا أولاد بخلاف البعض، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه ونصيب أولاده (2) .
هذا قولنا في سهم ذوي القربى، وإن كان ذلك يقتضي التوريث بالعصوبة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم ذوي القربى الأجداد والأحفاد، فلا مزيد على ما صح النقل فيه.
7778- فأما اليتامى، فهم يتامى المسلمين الذين لا آباء لهم، وأما المستحقون ما كانوا أطفالاً، إذ لا يُتْمَ بعد البلوغ. ولا نفضّل في هذا الصنف ذكراً على أنثى.
واختلف أصحابنا في أنّا هل نشترط فقرهم؟ فمنهم من لم يشترط، وجعل الأيتام من المسلمين مستحقين لهذا السهم من الخمس، وإن كانوا أغنياء. ومن أئمتنا من قال: إنهم يستحقون إذا احتاجوا، ولا يستخقون إذا استغنَوْا (3) . وهذا القائل يزعم أن اليتم
__________
(1) هذه تكاد تكون عبارة الشافعي، إذ قال في الأم: "وأخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع عن الزهري عن ابن المسيب عن جبير بن مطعِم قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، ولم يعط منه أحداً من بني عبد شمس، ولا بني نوفل شيئاً، فيعطي جميع سهم ذي القربى حيث كانوا لا يفضِّل منهم أحداً حضر القتال على أحدٍ لم يحضره إلا بسهمه في الغنيمة، كسهم العامة، ولا فقير على غني، ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهماً، ويعطي الصغير منهم والكبير سواء، وذلك أنهم إنما أعطوا باسم القرابة، وكلهم يلزمه اسم القرابة.
فإن قال قائل: قد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل؟ قال الشافعي: فكل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا فيما وصفتُ من التسوية بينهم، وبأنه إنما قيل: أعطى فلاناً كذا لأنه كان ذا ولد فقيل أعطاه كذا، وإنما أعطاه حظه وحظ عياله" ا. هـ (الأم: 4/71) .
(2) خبر القسمة لسهم ذوي القربى، المشار إليه، وإعطاء بعضهم مائة وسق، وبعضهم أقل، المراد به قسمة سهمهم من خيبر، أورده ابن إسحاق في السيرة، وفيه: " ... ولعلي بن أبي طالب مائة وسق، ولعقيل بن أبي طالب مائة وسق وأربعين وسقاً، ولبني جعفر خمسين وسقاً ... ولأم الزبير، صفية بنت عبد المطلب أربعين وسقاً ... قال ابن هشام: قسمه على قدر حاجتهم، وكانت الحاجة في بني عبد المطلب أكثر، ولهذا أعطاهم أكثر". (السيرة النبوية لابن هشام: 3/1180) .
(3) هذا هو المشهور، وقيل الصحيح. (ر. الشرح الكبير: 7/333، الروضة: 6/356) .(11/508)
يشعر بعدم الكافل، وإنما لسهم هذا لحاجة ناجزة.
ثم الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب اشتراك كافة يتامى المسلمين في الاستحقاق. وانفرد القفال بأن قال: المراد يتامى المرتزقة (1) دون غيرهم، وهذا [....] (2) ولم يُساعَد عليه.
7779- وأما المساكين، فلا حاجة إلى وصفهم، وهم المساكين المذكورون في آية الصدقات، كما يأتي الكلام فيها، إن شاء الله تعالى.
7780- وأما أبناء السبيل، فهم المسافرون، وسيأتي وصفهم في الصدقات، إن شاء الله تعالى. وقد ذهب جماهير الأصحاب إلى [أنه] (3) تُشترط فيهم [الحاجة.
وحكى بعضهم] (4) وجهاً عن بعض الأصحاب أنا نصرف هذا السهم إلى كل من يَهُمّ بسفر، وإن لم تكن حاجة ماسة. وهذا غريب جداً لا تعويل عليه.
والمعتبر عندنا في الباب أن كل من سمي في البابين (5) ، فلا يختلف وصفه فيهما، ومن جملة ذلك أبناء السبيل.
فأما الذين لا ذكر لهم في آية الصدقات، فأصحاب القرابة منهم، ولا تشترط
__________
(1) يتامى المرتزقة: المراد يتامى المجاهدين أصحاب الديوان الذين يأخذون كفايتهم من الفيء، فإذا استشهد واحد منهم أو مات وترك يتيماً، فيأخذ كفايته من سهم اليتامى من الفيء، ولا يأخذ من الصدقات عند القفال، وقال الماوردي بقول القفال في المساكين، فقال في الأحكام السلطانية: "والسهم الرابع للمساكين، وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم من أهل الفيء، لأن مساكين الفيء يتميزون عن مساكين الصدقات لاختلاف مصرفهما".
قال الرافعي: وقد يحتج لهذا بظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن أهل الفيء كانوا بمعزلٍ عن الصدقة، وأهل الصدقة كانوا بمعزلٍ عن الفي".
(ر. الأحكام السلطانية: 127، والشرح الكبير: 7/333، 334) وقول ابن عباس، رواه البيهقي في المعرفة: 5/163.
(2) كلمة طمس أولها، وما بقي منها صورته هكذا (حـ ـلف) بهذا الرسم وهذا النقط.
(3) في الأصل: أن.
(4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) البابين: المراد باب قسم الفيء، وباب قسم الصدقات.(11/509)
حاجتهم. والمعتمد في ذلك الأخبار؛ فإنه صح في الأخبار "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم القرابة للأغنياء كما كان يعطي الفقراء منهم" (1) . فأما اليتامى، فلا ذكر لهم في الصدقات، وليس معنا فيهم ثبت من جهة الخبر، واسمهم مشير إلى الحاجة.
7781- ومما يتعلق بمقصود الباب أن الذي دل عليه النص وصار إليه جمهور الأصحاب أنه يجب على الإمام أن يوصّل كل سهم من هذه السهام إلى جميع المستحقين في خِطة الإسلام، لا يغادر منهم أحداً، وذلك مما يتمكن الإمام منه بأن [ينصب] (2) في [كل] (3) قُطر أميناً موثوقاً ذا خبرة ويأمره بضبط أعداد المستحقين، واتخاذ جرائد وسجلات تحوي أنساب ذوي القربى، ويضبط اليتامى وغيرَهم من مستحقي السهام. وإذا صدَرَ أمورُ الخِطة عن رأي واحد واتّسقت الطاعة وأمكنت الاستطاعة، فهذا هيّن.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أن الإمام لا يلزمه ذلك، ولكنه يأمر حتى يُصرف ما يتّفق من خمس الغنيمة في كل قطر إلى المستحقين من أهل ذلك القطر، حتى لا يحتاج إلى [جمع الجميع] (4) نقلاً (5) ، ثم يلزمه [تفريقها] (6) بعد جمعها. وهذا الذي ذكروه فيه إبهام.
ونحن نقول إن عنى أبو إسحاق بهذا أن يكل الإمام أهل كل قطر إلى ما يتّفق في
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي الأغنياء من سهم ذوي القربى، رواه الشافعي بلفظ: فقد أعطى صلى الله عليه وسلم أبا الفضل العباس بن عبد المطلب، وكان غنياً، لا دين عليه، ولا حاجة به، بل كان يعول عامة بني المطلب، ويتفضل على غيرهم لكثرة ماله، وما منّ به عليه من سعة خُلقه" (ر. الأم: 4/74) .
(2) مكان كلمة مطموسة.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: جميع الجميع.
(5) كذا قرأناها بصعوبة شديدة، وأعاننا على ذلك أن الناسخ كتب بعدها: "ثم يلزمه تفرقها بعد نقلها، ثم ضرب على كلمة (نقلها) وكتب مكانها: (جمعها) .
(6) في الأصل: تفرّقها.(11/510)
ذلك القطر من فيء أو مغنم حتى إن لم يكن، فلا شيء لهم -وربما [تمرّ] (1) السنون على أهل كل قطر ولا يُصيبون فيه فيئاً ولا مغنماً، ومساق هذا يقتضي لا محالة أن يُحرم قومٌ ويعطَى قوم- فإن أراد هذا، فهو مخالفُ لما عليه معظم الأصحاب والنصِّ.
وإن أراد بذلك أن للإمام ألا ينقل الأخماس من الأقطار ويُقرَّ في كل قطر المقدارَ الذي يليق بأهل ذلك القطر، فهذا قريب لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، على ما شرط أنه إن خلا قطرٌ، لم يُحرم أهله، ويبعث إليهم حظهم من حيث يستصوب.
7782- فإن قيل: أليس من يؤدي الزكاة لو أراد أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة، كان له ذلك؟ قلنا: نعم، ولكن آحاد الناس لو تكفلوا فضّ [صدقاتهم] (2) على المستحقين في خِطة الإسلام، وما في أيديهم يقلّ على سبيل الانبساط على كافة المستحقين [ويتعذر عليهم] (3) الإمكان لو أرادوه، ولا يقبل كلُّ مقدار بسطاً، فحسمنا هذا الباب.
أما الإمام، فإنه ينظر لأهل الإسلام نظر الشخص الواحد [لذويه] (4) المعدودين، حتى لو ضاع واحدٌ، [تداعى] (5) ذلك إلى انتسابه إلى التقصير في الضبط، فإذا كان يجب عليه أن يرعى آحادهم، فسبيل رعايتهم أن يبسط كل سهم على جميع مستحقيه، إذا كان يقبل الانبساط عليهم، ولو جُمع الزكوات عند الإمام، تعيّن عليه أن يرعى في الزكاة ما يرعاه في خمس الفيء والغنيمة.
ولكن يعترض في الزكاة قول منع النقل؛ فإن كان الإمام يرى النقل، فإنه يلتزم في جميع الزكوات إيصالها إلى المستحقين في الخِطة.
فإن قال قائل: هلا خُرّج في خمس الفيء والغنيمة قولٌ في منع النقل، كما خرج
__________
(1) مكان لفظة غير مقروءة.
(2) في الأصل: "صدقهم".
(3) في الأصل هكذا: "على كافة المستحقين [بياض قدر ثلاث كلمات] عليا عدهم الإمكان ... ".
(4) في الأصل: " لرو ـه " بدون نقط.
(5) في الأصل: يراعى.(11/511)
في الصدقات؟ قلنا: لا يمتنع أن يخرج، ولم يتعرض لذلك الأصحاب بالنفي والإثبات.
فإن قيل: أليس حمل الشافعي قول معاذ لأهل اليمن -"إئتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة" (1) - على الفيء؟ وهذا دليل من نصه على أن الفيء يُنقل. قلنا: لا يمتنع حمله على أربعة أخماس الفيء، فإنها مُرصدة للمرتزقة والجند المعقود بالمدينة، وإنما كلامنا في مصارف الخمس.
وهذا منتهى المراد في ذلك.
7783- ومن تمامه أنا [إن] (2) أوجبنا البسط على الكافة، فإن لم يكن الفقر مشروطاً فيهم، فيجب الفضّ على كافتهم بحيث يستوي الذكور في أقساطهم، وتستوي الإناث في حصصهم، وقد تقدم أن الأصل في الباب على تضعيف حق الذكور كما تقدم.
وإن شرطنا الحاجة في مستحقي بعض السهام، فلا يمكن التسوية بينهم، [ولا] (3) يتجاوز [سداد] (4) الحاجة، ويجعل الحاجات معتبره ومرجوعَه.
__________
(1) حديث معاذ أخرجه البيهقي، وعلّقه البخاري. (ر. السنن الكبرى: 4/113، والبخاري: كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة (بعد حديث 1447) ، وانظر تلخيص الحبير: 3/242 ح 1518) .
هذا، وفي (تنبيهٍ) للحافظ فسّر فيه غريب الحديث قال: "خميس: المراد به الثوب الذي طوله خمسة أذرع، كأنه عنى الصغير من الثياب. وقيل: لأن أول من عمله ملِكٌ باليمن يقال له: الخميس، أمر بعمل هذه الثياب، فنسبت إليه. وقال المحب الطبري: روي: "خميص" بالصاد، فإن صح، فهو تذكير خميصة. اهـ.
هذا وقد صحف في التلخيص: (ملك) إلى (مالك خميس) فأشكلت العبارة في طبعة عبد الله هاشم اليماني: 3/114، وطبعاً تبعه أبو عاصم في طبعة مؤسسة قرطبة، والتصويب من غريب أبي عبيد: 4/136.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) في الأصل: ولكن.
(4) في الأصل: اسداد.(11/512)
وإن كان المقدار الحاصل بحيث لا تنتهي حصة واحد منهم إلى مقدار سدّ الحاجة، أفيسوي الإمام أم يعطي على قدر الحاجات؟ فإن الأشخاص وإن كانوا هم المستحقين، [فالجهة التي اقتضت الصرفَ الحاجةُ، فكان للإمام أن يرعى الكثرة في أشخاصٍ] (1) بالإضافة إلى من قلّت حاجته.
وإن وقع بيد الإمام مقدارٌ [لو بسطه] (2) على أهل الخِطة [لما] (3) تُصوِّر أن ينبسط لقلّته [وكثرةِ] (4) المستحقين، فإذا تُصوّر الأمر كذلك، فالأمر مفوّض إلى اجتهاده، ثم سبيل اجتهاده أن يقدِّم بما معه الأحوج فالأحوج، وإن كانت الحاجة غير مرعية في مستحقي ذلك السهم. لا وجه غير ذلك؛ فإن التأخير على الجملة ممتنع والفضّ على الكافة غير ممكن، والتحكم لا سبيل إليه، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
7784- ومما ذكره الأئمة في هذا الباب أنه إذا جاء إلى الإمام إنسان، وادعى أنه من ذوي القربى، لم يعطه بدعواه حتى يثبته، فإن كان [نسبه مستفيضاً] (5) ، اكتفي به، وإلا ألزمه إثباته بالبينة، [إن] (6) أراد طلبَ حقه من ذلك السهم.
وكذلك لو ذكر أنه يتيم، فلا سبيل إلى اعتماد قوله؛ فإن اليتيم لا بد وأن يكون طفلاً، وقول الطفل غير مقبول، فعلى الوالي أن يبحث عن ذلك بطريق البحث عنه، ثم إذا استبان صغره، فلا بد وأن يتحقق عنده موت أبيه.
__________
(1) هذه الفقرة مضطربة تماماً، وقد حاولنا إقامتها بصورة غير مُرضية لنا، ولكن لم نستطع غيرها. والعبارة في الأصل هكذا: "فالجهة التي لصرف الحاجة مكان الإمام الكثرة في أشخاص بالإضافة إلى من قلت حاجته" ا. هـ بنصه. فمن وجد لها وجهاً، فليلحقها بالكتاب، وليغفر لنا، ويدعو لنا بالعفو وحسن العاقبة.
(2) في الأصل: الوسطة.
(3) في الأصل: كما.
(4) في الأصل: وكثرته.
(5) مطموس بالأصل. وأمكن قراءته على ضوء ما بقي من أطراف الحروف، وفحوى كلام العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية.
(6) في الأصل: وإن.(11/513)
فأما من جاء يطلب من سهم المساكين، وذكر أنه مسكين، فلا نكلفه إقامة البينة على مسكنته، وإن كانت البينة تقام على الإعسار، ولكن نكتفي بقوله، وسيأتي شرح [ذلك] (1) وأنه هل يحلّف إذا اتُهم - في موضعه من قسم الصدقات، إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(11/514)
باب تفريق أربعة أخماس الفيء
قال: "وينبغي للإمام أن يُحصي جميع من في البلدان ... إلى آخره" (1) .
7785- مقصود الباب الكلام في أربعة أخماس الفيء، وقد قدمنا في أول الكتاب اختلاف الأقوال في أربعة أخماس الفيء، وذكرنا أن القول الأشهر أنها مصروفة إلى المرتزقة، وهم الجند المرتبون المشمرون للإجابة مهما دعوا، وللجهاد مهما ندبوا، وهم شوكة الإسلام ونجدة الملّة، ولقبهم الخاص بين الفقهاء المرتزقة، والمراد أنهم بنَوْا أمرهم على الترصد للذب عن دين الله تعالى، وطلب الرزق من مال الله.
والمطوِّعة هم الذين ينهضون للغزو من غير أن يكونوا مدوّنين عند السلطان.
7786- وأول ما نذكره في صدر الباب أن الإمام إذا كان يصرف إلى المرتزقة حقوقهم من الفيء، فينبغي أن يعرف أقدار حاجاتهم، ويضبط عيال كل واحد منهم، والذين يتصلون به ممن يمونهم، حتى إذا ثبت عنده مبالغ الحاجات، فيعطي كل واحد منهم على قدر حاجته وعياله، ثم يجرّد نظره في آخر كل نوبة؛ فإن الأحوال في قدر الكفايات لا تجري على نسق واحد، وكذلك تختلف المبالغ والأقدار باختلاف الأسعار، فليكن الجميع على ذُكْره لتكون قسمته على بصيرة وثَبت.
ومما يرعاه منهم حاجاتهم في الأسلحة والمركوبات.
7787- ثم إذا فَضَّ عليهم من الفيء ما يسدّ حاجتهم، فإن لم يفضل شيء، فلا كلام، وإن فضل شيء فما يصنع بذلك الفاضل؟ فعلى قولين مبنيين على أن أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، [أم] (2) ليس لهم منه إلا الكفاية؟ وفيه قولان: فإن قلنا: ليس لهم إلا الكفاية، فالفضل يصرف إلى سائر وجوه المصالح، فإنا في هذا
__________
(1) ر. المختصر: 3/199.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(11/515)
القول لا نملِّكهم شيئاً، وإنما نكفيهم ليتفرغوا إلى الجهاد والقتال.
والقول الثاني - أن أربعة أخماس الفيء ملكُ المرتزقة، فعلى هذا إن فضل عن حاجاتهم شيء، فهو مردود عليهم.
وحاصل القول في هذا أنا وإن رأينا كفاية المرتزقة من المصالح، فإذا كُفوا المؤن؛ فقد كفى وتم الغرضُ.
وهذا القول يوجّه بأن المرتزقة لا اختصاص لهم بسببٍ يوجب لهم الملك، بخلاف الغانمين؛ فإنهم اختصوا بإثبات أيديهم على المغانم، فكفاية المرتزقة من أهم المصالح، فإذا كفوا المؤن، فقد كفى وتمّ.
فأما تمليكهم من غير صدور سببٍ منهم يقتضي الملك، فلا وجه له، فإذا ملكناهم كان السبب أنهم النجدة والعماد، وعليهم الاعتماد، ولو شغرت البلاد عن أهل الاستعداد، لهجم الكفار على الثغور، وكبسوا على المساكن والدور، فما يُظفر به من غير قتالٍ بسبب رعبٍ، فينبغي أن يستبدّ به الذين منهم الرعب، فعلى هذا تصرف الأربعة الأخماس إليهم ملكاً.
7788- وعلى المنتهي إلى هذا الموضع أن يصرف الفكرَ إلى أمرين: أحدهما - أن المغانم تقسّم على رؤوس الرجّالة والفرسان، ولا ينظر إلى المؤن التي يلتزمها (1) كل شخص، كما ينظر إلى الكفاية في المرتزقة، والسبب فيه أن المقتضي الظاهر في الملك الاستيلاءُ وإثباتُ اليد، وهذا مما يُرجع فيه إلى القوّة الناجزة، ثم للشرع توقيفٌ في الفرسان والرَّجالة، وهو مبني على التمكن الناجز والأمر الحاضر، [وفي هذا مقنع عن النظر إلى المؤن] (2) [ولكن] (3) سبب الملك في المرتزقة الإرعاب، وذلك يخرج عن الضبط، فالتفت الشرع فيه إلى المؤن، التي يلتزمها المرتصد
__________
(1) أي المؤن التي يحتاجها الفرسان والرجالة. فلا ينظر إليها عند قسمة الغنائم.
(2) من خبرتنا وتذوقنا لعبارات إمام الحرمين يلوح لي أن صواب العبارة هكذا: "وفي هذا قطعٌ للنظر عن المؤن". ولكنا نلزم أنفسنا دائماً احترام النص المكتوب ما دام له وجه. مهما كان قلقاً.
(3) في الأصل: وفي.(11/516)
للقتال، والبدار إلى هائعة الواقعة؛ إذ ليس ذلك استيلاء محققاً فيرعى.
هذا أحد ما يجب الاعتناء به.
ثم المؤن التي ذكرناها ينبغي ألا تنتهي إلى حدّ السرف واشتغال المرء بما لا يعنيه، وهذا بمثابة كفايتنا مؤن العبيد، فإن كان فيهم غناء (1) ، فليبلغوا ما بلغوا، وإن كانوا زمنى [ويقوم بهم] (2) مقدارٌ قريب -فقد يألف عبداً قدمت خدمته عنده- فلا (3) نَضَّايق بهذا القدر (4) ؛ فإن [ذلك] (5) خروج عن قانون الباب، فأما إذا كان يعتمد جمعَ الزمنى، فلا يجاب إلى كفايتهم من الفيء. هذا أحد الأمرين اللذين رأيت الاعتناء بهما.
والثاني - أن المرتزق لو كان ذا غنىً وثروة، فلا ينظر إلى ماله، ولا نقول: هو مستقلٌّ بماله، فلا نكفيه، ولكنا نكفيه من الفيء، ونترك له ماله عتيداً، لنكون أقمنا مؤنته من مال الله تعالى، فإذ ذاك يترصد لقتال أعداء الله تعالى.
ثم إذا قمنا بالمؤن وكفايتها، وفضل فاضل من المؤن -والتفريع على قول الملك- فإنا نقسم الفاضل على الرؤوس بالسوية، فإن المؤن قد زالت بالكلية، فإنها غير معتبرة، والفيء مضاف إليهم ملكاً، ولا فرق.
فإن قيل: هلا قسمتم الفاضل على نسبة الحاجات؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك وقد زالت الحاجات.
فإن قيل: هلا فضّلتم في الفاضل الفارسَ من المرتزقة على الراجل كصنيعكم في
__________
(1) غناء: أي كفاية ومعونة على القتال. وعبارة العز بن عبد السلام: "وإن اتخذ المرتزق عبيداً يصلحون للقتال، ليقاتلوا عند الحاجة، لم تجب مؤنتهم على النص. وقيل: تجب. وهو الأصح عند إمام الحرمين، وعلى النص: للإمام أن يأمر المرتزق باتخاذ عبيد لذلك، ويُكفى مؤنتهم من الفيء". ا. هـ بنصه (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم 35 يمين) .
وعبارة الرافعي: "فأما العبيد الذين تتعلق بهم مصلحة الجهاد، فينبغي أن يُعطى لهم، كم كانوا (ر. الشرح الكبير: 7/337) .
(2) مكان كلمتين تعذر قراءتهما.
(3) جواب قوله: وإن كانوا زمنى.
(4) عبر عن هذا العز بن عبد السلام، فقال: "ولو زمن عنده عبد قديم الصحبة، لم يضايق في كفايته". (ر. الغاية في اختصار النهاية: الموضع السابق نفسه) .
(5) مكان أربع كلمات مطموسات ذهب بها أثر بلل أصاب الأصل، فاستحالت قراءتها.(11/517)
الغنيمة؟ قلنا: هذا التفاضل قد نقدّر [الفراغ] (1) منه في مقام الكفايات، إذا قمنا بسد الحاجات.
فإن قيل: هلا فضلتم البعض على البعض بالمناقب والمآثر، والقرب من شجرة النبوة، والعلم والتقوى وغيرها من الفضائل؟ قلنا: هذا رأي أبي بكر: ترك التفضيل، واتبع الشافعيُّ رأي أبي بكر في هذه المسألة، وذكر مفاوضة جرت بين الخليفتين، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: "أتجعل من شهد بدراً وبيعة الرضوان واختص بالسوابق كمن يدخل في الإسلام آنفاً، قال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجرهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ" (2) .
وقد قال صاحب التقريب: إن اتسع المال، فرأى الإمام أن ينهج منهاج عمر، كان ذلك محتملاً، فذكر قولاً مخرجاً [عند] (3) اتساع المال، فلعله أراد بذلك أن يفاضل الإمام، ويكون في المال من التوسعة ما يرد به نُهمةَ المفضول، [ومال] (4) غيره إلى قولٍ مطلق غير مقيد باتساع المال.
وكان شيخي أبو محمد يقول: التصرف في ذلك قريبٌ من التصرف في حد الشرب؛ فإنا قد نفوض الرأي إلى الإمام كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
هذا والمذهب المعتمد ترك التفضيل، وهو الذي نص عليه الشافعي وبتَّ به جوابَه (5) .
وكل ما ذكرناه، والتفريع على أن أربعة أخماس الفيء ملكٌ للمرتزقة.
7789- ومما نفرعه أن نص الشافعي تردد في أنه هل يجب تمليكُ ذراري المرتزقة أم لا يجب ذلك فيهم، بل يصرف إلى المرتزقة مقدار كفايتهم، ويفوض الأمر في
__________
(1) في الأصل: الفرع.
(2) خبر مفاوضة عمر وأبي بكر في العطاء (رواه الشافعي في الأم 4/78، والبيهقي في السنن: 6/348، 349، والبزار، وهو في مختصر زوائد البزار: 1/718، 720 ح: 1329، وفي كشف الأستار برقم 1736. وانظر التلخيص: 3/230 ح 1490) .
(3) في الأصل: عنه.
(4) في الأصل: وأراد.
(5) ر. الأم: 4/78.(11/518)
الصرف إلى المرتزقة ولا نعترض عليهم؟ فذكر الأئمة قولين: أحدهما - أنه إنما يملّكهم كما تملك المقاتلة. والثاني - لا يملكهم؛ فإن هذا حق المرتزقة، وهم رجال القتال المستجمعون لصفات الغانمين الذين يستحقون السهام. والذراري ليسوا من المرتزقة، فلا معنى لتملكهم ما أُعد للمرتزقة.
فإن قلنا: لا يملِّكُ الذراري، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنهم يملّكون، فقد اختلف أصحابنا في تمليك بنات المرتزقة، فمنهم من أوجب ذلك طرداً للباب، ومنهم من خصص إيجاب التمليك بالغلمان الذين يتوقع أن يبلغوا رجالاً للقتال كآبائهم. ثم الذين أوجبوا تمليك [النساء اختلفوا] (1) في زوجات المرتزقة، وليس من بنات المرتزقة، فمال الأكثرون إلى أنه لا يجب تمليكهن.
وما ذكرناه لا يجرّ خلافاً في القَدْر المبذول، فإن الكل يدور على مقدار الكفاية، وفي كيفية صرف مقدار الكفاية التردد الذي ذكرناه.
فالذي هو التحقيق تمليك المرتزقة قدر كفايتهم ويفوّض الأمر إليهم.
ومنهم من رأى إيجاب تمليك كل واحد من المتَّصلين القدر لأجله في الكفاية.
هذا بيان صوره.
7790- ومما يتعلق بذلك أن الرجل من المرتزقة إذا مات وخلّف أولادً، فهل يجب أن يصرف إليهم من الأرزاق، وإن لم يكونوا من أهل القتال؟ فعلى قولين أيضاً: أحدهما - لا يجب؛ لأنهم ليسوا من المقاتلة، وليسوا تحت كفاية مقاتل. والثاني - يجب؛ فإن رجال المرتزقة إذا علموا أن ذراريهم لا يرزقون بعدهم لا يشمّرون للقتال، ولا يعرّضون أنفسهم ودماءهم للحتوف [وظُبات] (2) السيوف، وهم يعلمون أن صبيانهم بعدهم يضيعون وروي: "أن عمر كان لا يفرض لأولاد المرتزقة، ولا يفرض إلا للفطيم، فخرج ليلة يطوف، فمرّ بباب دار، فإذا بامرأة ولها صبيٌّ
__________
(1) مطموسة في الأصل: والمثبت تقدير منا على ضوء السياق.
(2) ذاهبة في الأصل: والمثبت من تقديرنا.(11/519)
يبكي، وهي تقول: حكم الله بيني وبين عمر، فوقف بالباب، وقال: مالَكِ ولعمر، فقالت: إن عمر لا يفرض إلا لفطيم، وقد فطمته قبل أوانه، ففرض عمر بعد ذلك للصغير فطيماً كان أو رضيعاً".
ثم إذا رأينا الفوض للصبي، فهو على قدر كفايته، وكلما يَفَع وترعرع ازدادت مؤنته، فيزيد الإمام في الفوض له.
ثم إذا قام بأقدار الحاجات وآل الأمر إلى قسمة الفاضل على قول التمليك، فالذي رأيته من فحوى كلام الأصحاب أنه يختص بالفاضل رجالُ القتال والذراري يكفيهم مقدار الكفاية، وإن قلنا إنهم يملكون. هذا ما رأيته، وفيه احتمال، والعلم عند الله تعالى.
7791- ومما يليق بقاعدة الباب أن توظيف الأعطية إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يجعلها مسانهة (1) ، فعل، وإن رأى أن يجعلها مشاهرة، فلا معترض.
والذي كان عليه ديوان عمر رضي الله عنه المسانهة (2) . وذلك أنّ مجالب الأموالِ المغانمُ والفيءُ. وذلك في الغالب لا يتكرر في السنة.
7792- فإن جُمع المال وتحصّل في قبضة الوالي وانقضت المدة التي ضُربت للأرزاق، فمات بعض المرتزقة بعد نهاية المدة وجباية الخمس، [فحصة] (3) ذلك الذي مات [تكون] (4) ملكاً له محقَّقاً مصروفاً إلى ورثته، وإذا كنا نقيم الوارث مقام الموروث الغانم إذا مات قبل قسمة الغنائم، مع العلم بضعف الملك فيها قبل القسمة، فالتوريث بعد انتهاء المدة وحصول المال ليس بعيداً.
7793- وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في المرتزق لو أعرض عن مقدار رزقه بعد
__________
(1) مسانهة: أي سنوية سنة بعد سنة.
(2) خبر أن ديوان عمر رضي الله عنه كان مسانهة، قال الحافظ: خبر تدوين عمر للدواوين رواه البيهقي في المعرفة (ر. التلخيص: 3/229 ح 1489، وانظر معرفة السنن والآثار: 5/169 ح 4016، 4017، والأم للشافعي: 4/81) هذا، وليس فيه أنه كان مسانهة.
(3) في الأصل: فحصر.
(4) زيادة من المحقق، فضلنا زيادتها بدلاً من تغيير ما بعدها إلى الرفع، وحمل الناسخ على الخطأ.(11/520)
انقراض الزمان وحصول المال، فهل يسقط حطه بالإعراض، أم الملك في حصته لازمٌ له كالملك الحاصل للورثة في حصصهم؟ فالمسألة محتملة، والأظهر عندنا أن الملك لا يقرّ؛ فإن الترتيب في ديوان المرتزقة ظاهر الإشعار بقصد (1) تحصيل الرزق.
والجهاد لا يحمل [إلا] (2) على قصد إعلاء [كلمة الله] (3) والذب عن الملة، فلا يقع المغنم فيه مقصوداً.
هذا إذا مات المرتزق بعد المدة وجباية المال.
فأما إذا جمع المال، فمات بعض المرتزقة في أثناء المدة المضروبة، فهل نقول: إنه يستحق جزءاً من حصته على قدر المدة؟ ذكر الأئمة قولين، وقربهما بعضهم من القولين في الجزية إذا مات الذمي في خلال السنة؛ فإن للشافعي قولين في أنه هل يجب مقدار من الجزية على قدر ما مضى من السنة؟ ووجه الشبه عند هذا القائل من تشبيه المدة بالمدة غير مرضي عند المحققين؛ من جهة أن مدة الجزية لا تنقص عن السنة أصلاً، وهذا توقيف شرعي متفق عليه، ومدة العطاء لا ضرب لها، ولو أراد صاحب الأمر أن يجعلها ستة أشهر أو أقل، جاز ولا معترض، وإذا كانت المدة تنقص وتنقسم ابتداءً، ولا يتصور مثل ذلك في الجزية، استبان أن [وجه] (4) البناء غير سديد.
والصواب توجيه القولين المذكورين في المرتزق إذا مات من غير بناء، فمن قال: إنه يستحق مقداراً من رزقه، ويصرف إلى ورثته بنسبة المدة والمال المستحق، فهذه (5) الإجارةُ والأجرة، ثم إذا انقضى شيء من مدة الإجارة، ففُرض انفساخُ الإجارة في بقية المدة بانهدام الدار، فالأجرة تتقسط ثبوتاً وسقوطاً.
ومن قال: لا يستحق المرتزق شيئاً إذا مات في خلال المدة شبّه الترصد بالارتزاق والترتيب في مرتبة الجند المعقود بالجعالة؛ فإن ما يفرض وقوعه مما يبعث فيه الجند
__________
(1) في الأصل: وبقصد.
(2) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) تقدير منا مكان كلمتين ذهبت أطرافها.
(4) في الأصل: أوجه.
(5) فهذه الإجارة: أي أنه شبه الارتزاق بالإجارة.(11/521)
لا ينضبط ولا يتطرق إليه الإعلام المرعي في الإجارة، فتشبيه [حالة المرتزق] (1) بالجعالة أولى. ثم حكمها ألاّ يُستحق ببعض [العمل فيها شيء] (2) من الجعل المضروب.
هذا بيان توجيه القولين من [....] (3) .
فصل
ذكر الشافعي رواية مالك بن أوس بن الحَدَثان عن عمر أنه قال: "ما من أحد منكم إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم أُعطِيَه أو مُنِعه" (4) . ثم ذكر الشافعي وجوهاً في هذا الأمر، منها أنه قال: لعله خاطب أهل الفيء والصدقة وقال ما قال وهو منتظم في حقوقهم.
ويجوز أن يقال: إنه ما من أحد من المسلمين إلا وله في أربعة أخماس الفيء انتفاع؛ فإن المرتزقة إذا رُتّبوا فيها، وكُفوا المؤن، وتشمروا لسدّ الثغور وحماية البيضة، فقد انتفع المسلمون قاطبةً بذلك، وكذلك إذا بنينا [القناطر] (5) ، والرباطات، والمساجد، [فينتفع بها] (5) الناس كافة في أحوالهم، [وكأنه قال] (5) ما من أحد إلا وقد [حُطّ عنه] (5) بهذا المال فرضُ كفاية، [فإنه] (5) كما لا يجوز تضييع الفقراء [لا يجوز] (5) تعطيل الثغور، فإذا صرف هذا المال إلى سد الثغور، رجع نفعه إلى المسلمين كافة. وهذا معنى الحديث، والأمر في ذلك قريب.
فصل
قال: "ولم يختلف أحد لقيتُه في أن ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للأعراب ... إلى آخره" (6) .
__________
(1) مكان كلمتين مطموستين تماماً.
(2) مكان كلمات ذهبت ولم يبق سوى أطراف بعض حروفها.
(3) مقدار كلمتين لم يبق إلا حرف (غـ) من الأولى منهما.
(4) ر. الأم: 4/79، والسنن الكبرى للبيهقي: 6/347، ومعرفة السنن والآثار: 5/162.
(5) الكلمات بين المعقفين تقدير منا مكان المطموس في هذه الصفحة.
(6) ر. المختصر: 3/201.(11/522)
7794- وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في [عبيد] (1) المرتزقة، وهذا أوان استقصائه، فنقول: إذا [اتخذ] (2) الرجل منهم [عبيداً زمنى] (2) لا يتأتى منهم الخدمة، ولا القتال، فلا [نلتزم بنفقاتهم] (2) ، ولو كان الرجل [مخدوماً] (2) فاتخذ عبداً مملوكاً لم ليخدمه، فإنا نكفيه مؤنة ذلك العبد من مال الفيء، إذ ذلك من الحاجة، وإن زاد على عبدٍ لخدمته، فقد قال الأصحاب: لا حق له [في الزائد] (2) ، ويقال للسيد: أعطيناك كفايتك وكفاية عيالك، وكفاية العبد الذي يخدمك، وليس لك من جهة الكفاية غيرُ هذه، وهؤلاء العبيد إن لم يمكنك أن تنفق عليهم، فبعهم. هذا ما ذكر الأصحاب.
وقد قدمنا فيما سبق أنه إذا أعد غلماناً للقتال، وكانوا صالحين، فيجب القيام بكفايتهم من مال الفيء، وليس في ظاهر النص في هذا اللفظ [تعرُّضٌ] (3) له؛ فإنه نص على أنا لا لانلتزم أكثر من مؤنة عبدٍ لخدمته.
واختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أن عبيد الحرب يجب القيام بمؤنهم، كما تقدم. والذي تعرض له الشافعي عبيد التزيّن والتجمل إذا كان لا يتأتى منهم القتال.
وهذا هو الصحيح.
ومنهم من قال: ليس للرجل المرتزق أن يتخذ عبداً للقتال، ولكن للإمام إن رأى ذلك ابتداءً [اقترح] (4) على المرتزق أن يفعل هذا.
وإن رأى أن يقيم مقام العبيد أحراراً أصحاب نجدة يترتبون في الديوان، فعل من ذلك ما استقر رأيه عليه. وفي المسألة احتمال. وظاهر النص أنا لا [نكفي] (5) من الفيء إلا خادماً واحداً.
وأما إن زاد المرتزق على زوجة واحدة، فظاهر النص أنا نكفي مؤن الزوجات،
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير منا مكان الكلمات المطموسة في هذه الصفحة.
(2) في الأصل: للزائد.
(3) تقدير منا على ضوء ما بقى من آثارحروفها.
(4) في الأصل: واقترح.
(5) في الأصل: نكتفي.(11/523)
وإن بلغن أربعاً، ومن أصحابنا من سلك بذلك مسلك المضايقة، ولم يذكر القيام بأكثر من مؤنة زوجة واحدة.
7795- ثم قال الشافعي: "وعليهم أن يغزوا إذا أغزوا، ويرى الإمام في إغزائهم رأيه ... إلى آخره" (1) .
وهذا بكتاب السير أليق، ولكنه ذكره هاهنا، فنشير إليه، ثم نعود إلى استقصائه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
فنقول: حق على المرتزقة أن يتبعوا رأي الإمام وأمرَه، وإذا ندبهم إلى الجهاد، لم يتثبطوا ولم يعارضوا رأي الإمام، بل طاروا إلى الجهة التي يعيّنها. وهذا فائدة إعدادهم واستعدادهم، فلا يكون لهم مشاركة في الرأي، ويكون إلى التأني (2) .
ولو أراد الإمام ندبهم، فلا شك أنه يُغزي كل طائفة إلى الصوب الذي يليهم، ويكون قد رتب في كل قطر أقواماً يكتفون به.
وهذا الفن يحتاج إلى فصل ثانٍ، وسيأتي مبيناً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
ولو أراد الإمام أن يندب طائفة من المطوّعة، فإن لم تحدث حالة يتعين القتال لها، فلا ينبغي للإمام أن يجزم أمره في ذلك؛ فإن المطّوعة ليس الجندَ المرتبين، والجهادُ في حقهم من فروض الكفايات، فلو جزم الإمام أمره من غير حادثة تقتضيه، لكان ملحقاً فرضَ الكفاية بمراتب فرائض الأعيان، وهذا لا سبيل إليه؛ فإن فعل الإمام، فهل يتعين امتثال أمره، وارتسام رسمه؛ بذلاً للطاعة على حسب الاستطاعة؟
وفيه اختلاف عظيم الوقع في حكم الإمامة، ونحن بعون الله نذكر من هذا طرفاً صالحاً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا المحالّ التي يتعين فيها الجهاد، والمواضع التي لا يتعين فيها الجهاد، فعند ذلك [نذكر تأصيل] (3) هذا الفصل وتفصيله، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 3/203، والأم: 4/79.
(2) كذا. ولعل المعنى: ويكون الإمام أميل إلى التأنِّي.
(3) مطموس تماماً في الأصل، والمثبت تقديرٌ منا.(11/524)
7796- ثم قال الشافعي: "ولا يعطى مجاهد من الفيء ... إلى آخره" (1) .
أراد بالمجاهدين الغزاة المطّوعة الذين لم يثبتوا أسماءهم في الديوان المشتمل على [العسكر المعقود] (2) والغرض من ذلك أن أربعة أخماس الفيء مقصورة على المرتزقة [المترتبين] (3) ؛ إذا جعلناها ملكاً لهم [ورددنا] (4) الفاضل من الكفاية عليهم.
وإن قضينا بأنهم لا يملكون الأربعة الأخماس، ولكنها مال مصلحة، ونحن نبدأ بهم [نكفيهم] (5) ، فعلى هذا لو أراد الإمام أن يصرف الفاضل من كفايتهم -الذي يجوز له صرفه إلى بناء القناطر والمساجد والرباطات- إلى طائفة من المطّوعة، فلا معترض على صاحب الأمر في ذلك؛ فإن [للنظر] (6) في مال المصالح متسعاً رحباً، وهذا بيّن، ولكن الأصل أن سهم الصدقات يصرف إلى المطّوعة، وهو المعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة: 60] فإذا [لم يحصل] (7) ذلك السهم من الصدقات، فإنا نصرفه إليهم على الشرط الذي سنذكره في كتاب قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى.
وإن اتفق ذلك السهم ووضعه في أهله واقتضى الرأي مزيداً، فلا [معترض على] (8) رأي الإمام كما ذكرناه.
ولو أراد الإمام أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إلى المرتزقة، لم يكن له ذلك إذا كان في مال الفيء متسع. فإن لم يكن في يده من مال الفيء شيء، وكان
__________
(1) ر. المختصر: 3/209.
(2) مطموس تماماً في الأصل، والمثبت اختيار منا.
(3) تقدير منا.
(4) في الأصل: وردّد.
(5) في الأصل: مكفيهم.
(6) في الأصل: النظر.
(7) في الأصل رسمت هكذا: "فإذا م ـحدد" وهي مع ذلك متلاشية وغير واضحة. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق، وعبارة العز بن عبد السلام في مختصره، قال: "ولو صرف شيئاً من فاضل الفيء إلى المطوعة، لم يجز إلا إذا جعلناه للمصالح، وفقد كفايتهم من الزكاة" (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم 36 يمين) .
(8) تقدير منا حيث طمست تماماً واستحالت قراءتها.(11/525)
المرتزقة مستظهرين بأموالهم، ولم يكونوا على الصفات التي [نشترطها] (1) في استحقاق سهم سبيل الله من الصدقات، فلا يجوز صرف ذلك إليهم.
فإن كانوا غير مستظهرين [ولو لم نكفهم] (2) ، لضاعوا، فإذا رأى الإمام والحالة هذه أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إليهم، ورأى انتهاضهم وهم المعدّون المستعدون أقرب من انتهاض المطوعة، فلا معترض على الإمام في ذلك.
وهذا الطرف الآخر سيكون لنا إليه عودة، إن شاء الله تعالى - في قسم الصدقات، وهذا التنبيه الآن كافٍ.
فصل
7797- ذكر الشافعي في أثناء كلامه أن ما مع الإمام من مال الفيء إذا فضل عن كفاية المرتزقة، فهو مردود عليهم، موضوع فيهم، إذا فرّعنا على أنه ملكهم، وإن لم نره ملكاً لهم، فأقرب وجوه المصالح صرف ذلك الفاضل إلى عُدد القتال قصداً ودفعاً، وأولاها أمر الثغور والحصون، وإعداد الكُراع والسلاح، ومن وجوه المصالح أرزاق الحكام والولاة وأمر الأحزاب وهم الشُّرَط، ثم ينبثُّ النظر إلى القائمين بإظهار شعار الإسلام، وهذا مما نبسط القول فيه، ونحن نأتي به ونستقصيه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
وقدر الغرض منه الآن أن المشهور من مذهب الشافعي أن الإمام لا يبقي في بيت المال شيئاً من مال وجوه المصالح، ما وجد مصرفاً لها مصطرفاً فيها، فإن لم يجد، ابتدأ في ابتناء رباطات ومساجد على حسب الرأي فيها، ولا يتصور انحسام هذه الجهات من الرأي، وتأسى الشافعي في ذلك بسيرة الشيخين؛ فإنهما ما كانا يدخران مال سنةٍ، بل كانا يصرفان مال كل سنة إلى مصارفه [ويشرفون] (3) إلى ما سيكون في السنة القابلة من الفتوح، وأخماس الغنائم والفيء.
وهذا وإن كان أشعر به ظاهر النص، فالذي ذهب إليه المحققون العارفون بأحكام
__________
(1) هكذا قدرناها بصعوبة بالغة، ونرجو أن يكون تقديرنا صحيحاً.
(2) اختيار من المحقق على ضوء المعنى وما بقي أطراف الحروف.
(3) ويشرفون: أي يتطلعون.(11/526)
الإيالة من الأصحاب أن الإمام لو أراد إعداد مالٍ (1) وذخيرة لجند الإسلام، أُهبةً لإلمام الملمات، ووقوع المهمات، فلا معترض عليه إذا فضل المال عن الوجوه اللائحة في المصالح.
وجميع ما ذكره الأصحاب لا يخرج عن أوجه (2) : أحدها - وهو ظاهر النص أنه يُخرج ولا يدّخر، ثم إن ألمت ملمة -والعياذ بالله- تعين القيام بكفايتها، فإنه يخاطب أصحاب الثروة من المسلمين. والقول في ذلك يطول، وهو من غمرة أحكام السير.
والوجه الثاني - أن له أن يعد في بيت المال ذخيرة، وهو أولى من كثيرٍ من وجوه المصالح، والنظر في ذلك إليه.
والوجه الثالث - أن يعد القدر الذي [أقرّه] (3) الأولون فيه باستفتاح مساجد ورباطات، فأما المصالح الدائمة، فلا يؤخر بسبب الاستعداد إذا واعد أداءُ المال شيئاً منها، وسيكون لنا في ذلك بسط، ومزيد كشفٍ، إن شاء الله عز وجل (4) .
***
__________
(1) إعداد مالٍ وذخيرة لجند الإسلام: أي ادخار مالٍ.
(2) لقد بسط الإمام هذا الموضوع في كتابه الغياثي - أكمل بسط وأوفاه (ر: الغياثي الفقرات من 346-408) .
(3) في الأصل: أمره.
(4) في نهاية نسخة الأصل، وهي نسخة وحيدة (س 339) ما نصه:
تم الجزء السادس عشر من نهاية المطلب في دراية المذهب، بعون الله وتيسيره والله الموفق وعليه الاعتماد يتلوه - إن شاء الله في الجزء السابع عشر باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ ولا ركاب.
كتبه وما قبله من الأجزاء الفقير إلى عفو الله وغفرانه الراجي لطفه ومغفرته عبد الله بن جبريل بن عبد الله الشافعى، غفر الله له ولوالديه، ولمن نظر فيه من المسلمين وذكره بالرحمة والرضوان. وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين.
اتفق الفراغ منه في العشر الأول من شهر جمادى الأخرى (كذا) أحد شهور سنة ... وثلاثين وستمائة.(11/527)
باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ وركاب (1)
7798- ظاهر المذهب أنّ الإمام لا يقسم ذلك العقار من الفيء، بل يستغله لأهل الفيء، ويصرف مستغلاتها إلى المصارف المقدمة.
وقيل: العقارات كالمنقولات، فإذا قلنا: هي مملوكة لأهل الفيء، كان سبيلها سبيل المنقولات.
وقيل: إنّ الإمام إذا أحب أن يصرف رقابها إلى مصارف المنقول صرف، وإن أحب، وقفَها وسبّلها على تلك الجهات، فأمّا سواد العراق، فله بابٌ.
فصل
7799- إذا أراد الإمام أن يتخذ ديواناً للعساكر يجمع أصنافهم، وأسماءهم، كان حسناً، وينصب صاحبَ الجيش، وهو ينصب [نقباء] (2) ، وكل نقيب ينصب [عُرفاء] (3) ، وكل عريفٍ يحيط بأسماء معروفين مخصوصين به، فالإمام يدعو عند حاجته صاحبَ الجيش، وصاحبُ الجيش يدعو النقباء، وكل نقيب يدعو عرفاء تحت
__________
(1) سقط من نسخ النهاية هذا الباب، وما بعده إلى آخر قسم الصدقات. والمثبت هنا من مخطوطة مختصر ابن أبي عصرون (صفوة المذهب) الجزء الثالث، حيث رأيناه في اختصاره يلتزم ألفاظ النهاية، وقلما يغير فيها لفظاً أو تعبيراً.
(2) في الأصل: "نقيباً" والمثبت من المحقق؛ إذ المراد جمع (نقيب) كما هو واضح من قوله: "وكل نقيب".
(3) في الأصل: "عُرفاً"، بضم العين وتنوين الفاء، وزن (فُعُل) بضم العين، وهو مطّرد في كل اسم رباعي، قبل آخره حرف مدّ، صحيح الآخر مثل: قضيب وقضب، وبريد وبرد؛ فلا يصح في (عريف) (عُرُف) ؛ لأنه صفة، بل يجمع على (فعلاء) حيث يطرد هذا الوزن في وصف مذكر عاقل على زنة (فعيل) بمعنى (فاعل) غير مضعف، ولا معتل اللام، ولا واوي العين، مثل: بخيل وبخلاء، وعريف وعرفاء. (ر. شذا العرف في فن الصرف: 108) .(11/528)
رايته، وكل عريف يدعو مسمَّين تحت ضبطه وأمره، فيسهل الأمر في جمعهم وتفرقهم، وفضِّ (1) الأعطية عليهم، وندب كل فريق إلى ناحية.
وحسنٌ أن يكون لكل فريق علامة يعرفون بها في الحرب، فقد كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7800- وأوّل من دوّن الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب؛ لمّا كثر المال، وانتشر الجند، واتسعت الخِطَّة، وتعذّر الضبط، قيل [له] (2) : إن مَلِك الشام كان يدون الدواوين، فرآه رأياً، فقيل له: ابدأ بنفسك، فقال: بل أقرّ نفسي حيث كنتُ؛ أبدأ برهط رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أجراهم في سهم ذوي القربى مجرى بني هاشم، فكان رضي الله عنه إذا وجد السن في بني هاشم قدّمه، وإذا وجده في بني المطلب قدمه، وجعل رأس الديوان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم استوت له عبد شمس ونوفل، وكان هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل بني عبد مناف، [فقدم] (3) عبد شمس؛ لأنه والمطلب إخوة هاشم لأبيه وأمه، ونوفل كان أخاه لأبيه؛ فرأى تقديم عبد شمس؛ لمكان عثمان وسابقته وفضله، ثم أعطى نوفلاً.
ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، ابنا قصي [أخوا عبد مناف] (4) ، فقدّم عبد العزى لمكان خديجة منهم؛ فإنها بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ولمكان الزبير بن العوام منهم؛ فإنّ العوام هو ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى أخو خديجة.
ثم أعطى عبد الدار، وذكر من فَضْل عبد العزى أنهم شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف المطَّيبين (5) ، وهو حلفٌ جمع طوائف، وتحالفوا وتمسحوا بطيبٍ
__________
(1) فضِّ العطاء فضّاً: أي قسمه، فهو مفضوض. (المعجم) .
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "فقد".
(4) في الأصل: "أخو عبد مناف".
(5) الصواب حلف الفضول، فلم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم حلف المطّيبين؛ فقد كان قبل مولده عليه الصلاة والسلام.(11/529)
كان معهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فحلفوا ألا يُقروا ظالماً بمكة، ولا يتركوا نصرة مظلومٍ، وكان ذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم انفردت له زُهرة بن كلاب بن [مرة] (1) فدعا بها تتلو عبد الدار.
ثم استوت له مخزوم بن يقظة بن مرة، ويقظة وتيم هما أخوا كلاب بن مرة، فقدم تيماً على مخزوم، لمكان أبي بكر الصديق، ثم دعا مخزوماً.
ثم استوت له عديٌّ بنُ كعب بن لؤي [أخو] (2) مرة، وسهمُ وجُمحُ (3) ، فكان الواجب أن يقدم عديّاً لمكان عمر ومكانة ابنته حفصة، ولم يفعل، فقدّم جمحاً على سهم، وخلط عدياً [بسهم] (4) فلما وصل إلى سهمه، كبّر تكبيرة عالية وقال: الحمد لله الذي أوصل إلي حقي (5) من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا عامرَ بنَ لؤي أخا كعب بن لؤي، قبيلة أبي عبيدة بن [الجراح] (6) ، فقال [أبو عبيدة] (7) : أكل هؤلاء يُدْعَون أمامي. فقال: يا أبا عبيدة اصبر كما صبرتُ، أو كلّم قومك -يعني قريشاً- فمن قدمك منهم على نفسه قدمتك عليه، وإن شئتَ قدمتك على نفسي.
ولما انتهى إلى معاوية جعل الحارث بنَ فهر بين أسد بن عبد العزى وبين نوفل، وقدمهم على سائر قريش، سوى عبد مناف.
7801- ثم لما فرغ عمر من قريش، دعا بالأنصار لمكانهم من الإسلام، ثم وضع
__________
(1) في الأصل: "ابن عبد مناف"، والتصويب من "نسب قريش" لأبي عبد الله، المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري.
(2) في الأصل: أخوا.
(3) سهم وجمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، فهما وارثا هصيص أخي عدي ومرة، فمن أجل ذلك دعيا مع عدي.
(4) في الأصل: "بجمح"، ولا يصح؛ فهو سهو واضح؛ فقد قال: "إنه قدم جمحاً".
(5) في المصادر: "حظي" (ر. الأم: 4/81، السنن الكبرى: 6/264، معرفة السنن والآثار: 5/169) .
(6) في الأصل: الجراحة.
(7) في الأصل: "أبي عبيدة".(11/530)
قبائل العرب على الترتيب. ثم أثبت العجم، وكان معتمده في الديوان شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه (1) .
ذكرنا هذا تيمناً.
فصل
7802- قال صاحب التلخيص: "من أخذ شيئاً من الغنيمة غالاًّ، مالوا إلى أن يحرق عليه رحله، إذا لم يكن فيه مصحف، وروى فيه خبراً" (2) .
فذهب معظم الأصحاب إلى تضعيف الخبر (3) ، وأنه غير معمول به، وإن صحّ، فهو منسوخ؛ لأنه لم يعمل به الخلفاء، ومنهم من وافقه، وهو بعيد.
وإن كان في الرحل مصحف، فقد قالوا: "لا يحرق -وإن [أمكن] (4) إخراج
__________
(1) قصة تدوين عمر للديوان رواها الشافعي في الأم: 4/81، 82، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى: 6/364، ومعرفة السنن والآثار: 5/169 ح 4016، 4017.
(2) لم نجد هذه العبارة بهذا النّص في التلخيص، وإنما العبارة في التلخيص المطبوع بين أيدينا جاءت بهذا النص: "ولو غل من المغنم شيئاً أحرق عليه رحله، وإن كان فيه مصحف بيع وتصدق بثمنه. قاله نصاً.
وهذا إذا كان الإمام عدلاً، وإذا لم يكن عدلاً، يحرّق، قلته تخريجاً" ا. هـ بنصه. (ر. التلخيص: 461) .
فلعل إمام الحرمين نقل عن صاحب التلخيص من كتاب آخر له، أو نسخة أخرى من التلخيص غير التي بين أيدينا، فهي طبعة لا خير فيها، ولا ثقة بها.
(3) الخبر الذي وجدناه في هذه الشأن رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد والحاكم والبيهقي عن صالح بن محمد بن زائدة. فال: "دخلت مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فأُتي برجل قد غلّ، فسأل سالماً عنه، فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه". قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً، فسأل سالماً عنه فقال: بعه، وتصدق بثمنه".
والحديث ضعفه البيهقي، والحافظ في التلخيص، وكذا ابن الملقن في البدر المنير.
(ر. أبو داود: الجهاد، باب في عقوبة الغال، ح 2713، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به؟ ح 1461، المسند: 1/22، الحاكم: 2/128، السنن الكبرى للبيهقي: 9/103، البدر المنير: 9/139، 140، التلخيص: 3/210 ح 2267) .
(4) في الأصل: كان.(11/531)
المصحف وإحراق الباقي- ولكن يباع رحله ويتصدق بثمنه"، وذلك في الخبر.
وهذا مما لم يُساعد (1) عليه.
قال: "وإنما هذا إذا كان الوالي عدلاً" (2) .
وكل ذلك خبطٌ لا أصل له، وعندي أنّ الخبر إن صحّ، فهو محمول على المنافقين الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ورد في الإحراق عليهم أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجماعة.
فصل
7803- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصطفي من المغنم شيئاً، ومنه سميت صفية، فقال بعضهم: لم يكن ذلك محسوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان محسوباً عليه من السهم الذي كان يعده للمصالح، وكان تخصيصه بالاصطفاء ليتميز ما كان [يَرْفده] (3) له.
***
__________
(1) أي صاحب التلخيص.
(2) ر. التلخيص: 461.
(3) يَرفِده: أي يُمسكه، من باب ضرب، رَفداً، ورِفادة (المعجم) هذا. وهي بالأصل غير منقوطة، ولا مضبوطة، ولكنها تقرأ هكذا بصعوبة.(11/532)
مختصر قَسْم الصَّدقات
7804- قال الشافعي: "الأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } [التوبة: 60] . ومن السنة: "أنه جاء رجلان إلى النبي عليه السلام، فسألاه الصدقة، فصعّد نظره فيهما وصوب، ثم قال: أعطيكما إن شئتما، ولا حظّ فيها لغني، ولا لذي مِرَّة سوي" (1) .
وأجمع المسلمون على أن الصدقات وظائف موظفة في أموال الأغنياء ومن في معناهم، والغرض الكلي منها صرف قسط من أموال الأغنياء إلى محاويج المسلمين.
7805- ولا يجب على ملاّك الأموال الباطنة صرف زكواتها إلى الولاة، بل يتولَّوْن تفرقتها على المستحقين.
وأما الأموال الظاهرة، ففي زكواتها قولان: أحدهما - يفرّقها الملاك كالباطنة، وهو المختار في الجديد.
والثاني -وهو مذهب أبي حنيفة (2) - وهو القديم: أنه يجب دفعها إلى الوالي لسيرة الصديق في مانعي الزكاة؛ لأن تولي الآحاد لا يؤخذ (3) منه بسطها على المستحقين، وإذا جمعها الإمام تأتى له ذلك؛ ولأنها وظيفة كلية. أعدت للحاجات العامة، فكأنها في السَّنَة تحل محل النفقات الدّارّة (4) يوماً يوماً لمن يمونه.
واختصّ ذلك بما يظهر؛ لأن للناس أغراضاً في إخفاء الأموال، وظاهرها لا يمكن إخفاؤه.
ووجه الأول أنها أحد أركان الدين، فيختصّ بأدائها من اختصّ بالتزامها؛ ولأن في منع الشافعي نقلها -في قولٍ- قصد التعميم؛ لأن أهل كل بلد إذا فرّق أغنياؤهم على
__________
(1) لم أصل إلى هذا الكلام منصوصاً للشافعي، لا في الأم، ولا في المختصر. فهو بمعناه.
(2) ر. بدائع الصنائع: 2/35، البحر الرائق: 2/248.
(3) كذا.
(4) الدّارّة: أي الدائمة المستمرة. (المعجم) .(11/533)
محاويجهم قربت من التعميم بتولِّي الإمام، إلا أنه لم يربط أحد جواز الدفع بمنع النقل، بل يجري الخلاف في النقل وإن لم يوجب دفعها إلى الأئمة.
7806- والأموال الظاهرة: المواشي، والمعشَّرات. والباطنةُ: النقدان، وعروض التجارة. والمعادنُ (1) إن قلنا: "واجبها صدقة" - ملحقةٌ بالظاهرة. والركازُ ألحقه بعضهم بالباطنة؛ لأنها لخفاءٍ (2) وضعاً ورفعاً، وقيل: تلحق بالمعادن.
وصدقة الفطر قيل: هي من الظاهرة؛ لأن وجوبها بيّن، ومتعلّقها تواصل الوقت، وقيل: تلحق بالكفارات، ولهذا لم يتعرض السعاة لجمعها، ولو جُمعت عظمت (3) مبلغُها.
وقيل: إن صدقات الأموال الباطنة كانت تسلم إلى الخليفتين، وصح أن عمر طلب من حِمَاس صدقة التجارة من أُهب كانت عنده (4) ، ثم رأى عثمان أن يكل زكاة الأموال الباطنة إلى أربابها. والذي يغلب على الظن أن الخليفتين كانا يقبلان زكاة الأموال الباطنة إذا جيء بها إليهما، ولا يطلبانها، ولو كان في حق الولاة أخذ جميع الزكوات، لما حطّه عثمان، وصحّ أن السعاة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمن الخليفتين كانوا يطلبون زكوات الأموال الظاهرة، ولم يصح بحثهم عن الأموال الباطنة، وندب عثمان إلى توليها أربابها لعلمه بما يؤول الزمان إليه.
__________
(1) المعادن جمع معدن، والمعدن مكان كل شيء فيه أصله ومركزه، وموضع استخراج الجوهر من ذهب ونحوه، وهو ما يعرف الآن بالمنجم، والمراد هنا بالمعادن ما يستخرجه المعدِّن (أي المستخرج) منها.
(2) لخفاءٍ: المعنى أن الركاز يوضع ويدفن في الأرض في خفاءٍ، ويبحث، وششخرج في خفاء، فهو لخفاءٍ وضعاً ورفعاً.
(3) كذا -بتأنيث الفعل، ووجههاً- إن لم تكن من سهو الناسخ- أن الفاعل ضمير مستتر، ومبلغُها بدل اشتمال (على ما في ذلك من تكلّف) .
(4) أثر عمر رواه الشافعي، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والدارقطني (ر. الأم: 2/46، مصنف ابن أبي شيبة: 3/183، مصنف عبد الرزاق: 4/96 ح 7099، سنن الدارقطني: 2/125، وانظر تلخيص الحبير: 2/246) .(11/534)
وإذا أوجبنا دفع زكوات الأموال الظاهرة إلى الإمام، فلو فرّقها ربها، لم تقع موقعها. وإذا قلنا: يجوز لربّ المال أن يفرقها بنفسه، فلو صرفها إلى الإمام، لجاز.
فصل
7807- في جواز نقل الصدقات قولان: أحدهما - يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... } الآية [التوبة: 60] ، من غير تخصيص بأهل بلد، وإنما دلّت على اعتبار صفات استحقاق الآخذين. والثاني - لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" (1) . وقال معاذ "من نقل صدقته وعُشرَه من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته، فصدقته وعُشره مردودان إلى مخلاف عشيرته" (2) .
وقيل: منع النقل يجري إذا كان مُلاّك الأموال يتعاطَوْن تفرقة زكاواتهم، فأمّا إذا تولاها الإمام، فلا يتجه القول بمنع النقل؛ لأن نظر الإمام في جميع أرباب الأموال، وجميع أهل الاستحقاق في جميع خِطة الإسلام، فيشقّ منعه من النقل.
ويتجه أن يقال: يرتب الإمام في كل قطر نائباً [يأمره بذلك] (3) ، فهو متيسّر، وإليه يشير قوله عليه السلام لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ في فقرائهم".
__________
(1) حديث معاذ سبق تخريجه.
(2) حديث معاذ في نقل الصدقة لم نجده بهذا اللفظ، وقد رواه بلفظ مقارب الشافعي في الأم، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسناده -كما قال ابن الملقن في البدر المنير- منقطع، والحديث رواه أيضاً سعيدبن منصور بإسناد قال عنه الحافظ في التلخيص: "صحيح متصل إلى طاوس".
هذا وقد اقتصر الحافظ على عزوه إلى سنن سعيد بن منصور، مع أنّ ابن الملقن في البدر المنير الذي هو أصل التلخيص عزاه أيضاً إلى البيهقي في السنن، وإلى الشافعي في الأم، فلعل الحافظ اكتفى بالصحيح. (ر. الأم: 2/78، السنن الكبرى: 7/9، البدر المنير: 7/400، التلخيص الحبير: 3/242 ح 1517) .
(3) في الأصل: بأمره ذلك.(11/535)
فإن قلنا: يجوز النقل، فلا كلام. وإن منعناه، فنقلَها وصرفَها إلى الموصوفين، ففيه قولان: أحدهما - لا تقع موقعها، وهو القياس. والثاني - تقع موقعها، لمصادفتها أهلَ الاستحقاق.
قال صاحب التقريب: من قال بهذا [يُعصِّيه] (1) ويُبرىء ذمته، ولا يمنع أن يرجع الأمر إلى كراهة، ولا [تُناقض] (2) المعصيةُ التبرئةَ.
فعلى هذا من كثرت زكاة أمواله، وإذا بسطها، قاربت محاويج القطر من الكفاية، فلو اقتصر على ثلاثة من كل صنف، فقد تبرأ ذمته إذا لم يكن في القطر من يرعى المحاويج غيره، لكن يعصي بتضييع أكثرهم؛ فتجتمع له المعصية والبراءة.
والحضري إذا استوطن بلدة أو قرية وماله فيها، وقلنا: لا يجوز النقل، فالمذهب أنه لا يجوز نقلها إلى قرية قريبة من بلده، منفصلةٍ عن وطنه لا يستبيح الخارج إليها الترخّص (3) . وقيل: يجوز النقل إلى ما دون مسافة القصر، وهو بعيد، وفيه رفع هذا القول؛ لأنه إذا جاز النقل إليها، فهي محل الصدقة، فيجوز أن ينقل منها إلى مثلها، ويتسلسل، ويرتفع هذا القول. والصحيح هو الوجه الأول.
أمّا البدوي إذا استقر في موضع من البادية، لا يبرح منه إلا براح الحضري من وطنه، فإذا منعنا النقل، فلهؤلاء النقلُ إلى ما دون مسافة القصر؛ لأنه ليس في البادية مراسم بلدة وخِطة، فهذا أقرب معتبر.
وقيل: لا يجوز أن ينقلوا الصدقة بحيث يتميز مخيمهم عن مخيم الحلّة الأخرى كتميز القرية عن القرية الأخرى. وهذا لا بأس به، والأول أشهر.
7808- فإن لم يجد في بلده إلا بعض الأصناف، فيصرف إليهم حقهم، ثم ينقل حق الباقين إليهم، أو (4) جوزنا النقل، وجب في هذه الصورة صرف فاضل الموجودين إلى من وجد منهم في بلد آخر.
__________
(1) في الأصل: يُعصّي.
(2) في الأصل: تناقضه.
(3) أي لا يجوز نقلها ولو إلى دون مسافة القصر.
(4) كذا. ولها وجه.(11/536)
وإن قلنا: لا يجوز النقل إذا وجد المستحقين في بلده، فعلى هذه قولان: أحدهما - يتعين صرف حصص الغائبين إلى الحاضرين ولا ينقل أصلاً. والثاني - يتعين النقل إلى بقية الأصناف؛ لأن الأصل رعايتهم، ولأنه لو لم يجد في بلد المال مستحقاً أصلاَّ، تعيّن النقل، فكذلك إذا فُقد البعض.
فإن قلنا: لا ينقل، ويفضّ على الموجودين، فلا كلام. وإن قلنا: ينقل هذه، فعلى قول منع النقل تداخل قول منع النقل وقول جوازه في الأصل، لكن إذا جوزنا في هذه النقل في هذه الصورة، نقله إلى أي موضع شاء. وإن قلنا: لا يجوز النقل في الأصل وإنما ينقل في هذه الصورة لعدم بعض المستحقين، فإنه ينقلها إلى أقرب المواضع إلى بلده، فإن وجدهم دون مسافة القصر، لم يزد عليها، وإن لم يجدهم دون مسافة القصر، فالجمهور على أنه ينقلها إلى مرحلتين، ولا يبلغ ثلاثة مراحل، ويراعي الأقرب فالأقرب، وإن زادت على مسافة القصر.
وقيل: إذا جاز النقل إلى مسافة القصر، فلينقُل إلى أين شاء. والأول أصح.
هذا إذا وجد في بلد الصدقة من كل صنف ثلاثة فصاعداً، وفقد بعض الأصناف جملةً.
فأما إذا وجد من كل صنف واحداً أو اثنين، فقد [قيس] (1) هنا على ما إذا وجد بعض الأصناف كاملاً، وفقد بعضهم، فإن قلنا ثَمَّ يفضّ على الموجودين، فهاهنا أولى، وإن قلنا ثَمّ يجب النقل، ففي هذه [قولان] (2) ؛ فجعلوا فقدان الأصناف أدعى إلى النقل من فقدان كمال العدد في كل صنف.
7809- والمعتبر وطن المال لا وطن المالك، قال العراقيون: ينبني على [هذا أن] (3) من أهلّ عليه شوال في بلدٍ وماله في غيره، ففيه وجهان: أحدهما - أن فطرته لبلده دون بلد ماله؛ لأنه حق يجب عن البدن، وليست في حقوق الأموال. والثاني - تصرف الفطرة في مستقرّ ماله؛ لأنه يعتبر فيها [المال] (4) . وبيان هذا الوجه الأخير إذا
__________
(1) في الأصل: "قبل" والمثبت تصرف من المحقق؛ رعاية للسياق.
(2) في الأصل: "قولاً".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: للمال.(11/537)
كان معه مقدار الواجب وهو في وطنه، وقلنا: لا يجوز النقل، لزمه إخراجه، وإن لم يجد قدر الواجب في وطنه، ففيه يخرج الوجه الذي ذكرناه في اعتبار وطن المال.
7810- ومصرف الفطرة مصرف الزكوات عند الجمهور، وقيل: تجري مجرى الكفارات، فيكفي صرفها إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين.
فإن قلنا: تصرف إلى الأصناف، جاء التفصيل الذي قدمناه في النقل، وإن قلنا: تجري مجرى الكفارات المالية، فمنهم من قال: هي كالزكاة في منع النقل، ومنهم من جوّز نقلها؛ لأنها ليست من الوظائف الراتبة، فلا يتطرق إليها الحكمة التي راعيناها في منع نقل الزكاة من الانبساط على جميع البلدان؛ لأن ذلك [يحسب] (1) في الوظائف الراتبة.
والوصايا المطلقة للفقراء وغيرهم هل يجوز نقلها إذا منعنا نقل الزكاة؟ وكذلك الخلاف فيما يلزم بالنذر المطلق؟
قلت (2) : العجب من قوله: الفطرة ليست من الوظائف الراتبة. وهل الوظيفة الراتبة إلا ما لازمت وقتاً لا تنفك عنه، وإن لم يجب في السنة إلا مرة كزكاة المال، بل الفطرة ألزم في الترتب من زكاة المال؛ فأكثر الخلق لا تلزمهم الزكاة؛ لعدم النصاب، والفطرة لازمة لمن هو من أهل العبادة.
قال: ومن لا يستوطن موضعاً ولا يستقر ماله، فلا يعتبر النقل في حقه، وجميع الأرض في حقه كالبلدة الواحدة.
ولو كان يتردد في إقليم فسيح، فالظاهر أن له أن ينقل الصدقة من ذلك الإقليم، وإن كان لا يخرج منه، وفيه احتمال.
ولو وجبت الزكاة وهو في بعض النواحي فقد قيل: الأولى أن يخرجها في محل وجوبها، ولم يوجب ذلك أحد من الأصحاب؛ لأن حكم الاستيطان غير ثابت للمال.
ولو كانت ماشية رجل تتردد بين قريتين شتاءً وصيفاً، ولا تتعداهما، فإن لم يكن
__________
(1) في الأصل: كلمة رسمت هكذا " محسـ ا " وبدون نقط.
(2) القائل ابن أبي عصرون، والمتعجب من قوله إمام الحرمين.(11/538)
بينهما مسافة القصر، فالذي أراه على قول المنع من النقل القطع بأنه لا يجوز إخراج الزكاة إلى غير القريتين. وإن كان بينهما مسافة القصر، ففيها احتمال ذكرناه في التردد في الإقليم. ولو اتفق وجوب الزكاة، والماشية في إحدى القريتين المتقاربتين، وقلنا: يمنع النقل، لم تتعين القرية التي وجبت الزكاة فيها لتفرقتها على الظاهر.
ومن وجبت عليه الزكاة في بلد ولا يجد فيه أحداً من أهل الاستحقاق، وربما احتاج في نقلها إلى قدرها أو زيادة عليه، فقد قال بعضهم: يلزمه النقل ومؤونته وإن عظمت. ولا تحتسب من الزكاة، قال: وهذا بعيد، والأصح أنه لا يجب، ويخالف الساعي إذا جمع الزكوات، واحتاج في نقلها إلى مؤونة، حيث قلنا: تكون من نفس الزكاة.
ورب المال مخير بين أن ينقلها ويلتزم مؤونتها، وبين الصبر إلى أن يجد مستحقها، ولا تنزل الزكاة في يد من وجبت عليه منزلة الوديعة حتى يقال: إن وصل إليه مستحقها سلمها إليه، بل يجب عليه أن يفضها على المستحق إذا لم تلزمه مؤونة، وإن وجبت مؤونة، فعلى الاحتمال الذي ذكرناه.
ذكر العراقيون حِلَّة (1) ينتجعون في البادية ومعهم أصناف أهل الاستحقاق لا يفارقونهم، فيجب صرف زكاتهم إليهم؛ لأنهم بمنزلة المقيمين معهم. هذا على قول منع النقل. قال: وفيها احتمال يُشير كلامهم إليه؛ لأن منع النقل في حكم البعيد الذي لا يستقيم على [السبر] (2) ، والأخبار وردت في المقيمين، وهؤلاء مسافرون.
فصل
7811- قال: ويجمع أهل الاستحقاق أنهم أهل الحاجة، ولكن منهم من هو محتاج إلى أخذها، كالفقراء، ومنهم من يحتاج إلى دفعها إليه كالعاملين ونحوهم، فنبدأ منهم بمن بدأ الله تعالى بذكره فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، فللفقراء سهم، وللمساكين سهم، ولو جرى ذكر الفقراء في وصية، فهم
__________
(1) حِلّة: أي أهل حلٍّ، أي متحضرون، أهل حضر.
(2) السبر: بالباء، وهي الأصل بالياء المثناة التحتانية.(11/539)
والمساكين بمثابة، وكذلك لو جرى ذكر المساكين كانوا والفقراء بمثابة واحدة. فإذا اشتمل الكلام على الفقراء والمساكين، فلا بد من مغايرة بينهما.
والفقير عند الشافعي أشد حالاً من المسكين، [فالفقير] (1) الذي لا يجد شيئاً وراء الضرورة مثلاً في الملبس والمسكن، ولا يمنع أن يملك شيئاً لا موقع له من كفايته.
وأما من لا يفي دخله بخَرْجه، فهو المسكين. فهما يشتركان في أنّ كل واحد منهما لا يملك كَفافاً (2) أو سِداداً (3) من عيش، وفي القدرة على الكسب الذي يردّ القوت الكافي وغيرَه من الضرورات، ولا يخرجه من الاستحقاق بصفة الفقر أو المسكنة، فالفقير الذي لايملك شيئاً ولا له كسب يرد بعض كفايته، فإن رد بعضها، فهو مسكين.
وأما الصحيح الذي لا حرفة له، فمنهم من قال: يشترط في الفقر الزمانة؛ لأن الصحيح لا يخلو من نوع من الكسب يسد مسداً، ويخرجه عن كونه فقيراً، وإن لم يفِ دخله بخرجه، فهو مسكين.
فإن لم نشترط الزمانة، فلا كلام، وإن شرطناها، ففي اشتراط العمى تردد؛ فإن الزَّمِن البصير يكون ناطوراً.
وهذا سرفٌ، وحق الناظر في الجزئيات أن لا يغفل عن الكليات ونحن نعلم أن السلف لم ينتهوا إلى هذا الحد في التضييق.
وقد قال الشافعي في موضعٍ: "الفقير الذي يتعفف عن السؤال". فمن الأصحاب من شرط عدم السؤال، وجعله متمسكه، وقيل: لا تعويل على السؤال؛ فإنّ السائل [قد] (4) يُعطى، وقد يصرف، وأيضاً؛ فإن المعروف بالفقر إذا تعفف، قصده أرباب
__________
(1) في الأصل: والفقير.
(2) "كَفافاً" بفتح الكاف: كفاف الشيء مثله ومساويه، والكفاف من الرزق ما كان مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان. (المعجم) .
(3) "سِداداً" بكسر السين، السداد ما سددت به خللاً، وسِدادٌ من عوز، أو سِدادٌ من عيش: لما يسدّ الحاجة (المعجم) .
(4) زيادة اقتضاها السياق.(11/540)
الأموال بالكفاية، والأول يقول: السائل المضطرب (1) أوسع معيشة من المتعفف، والمسكنة لا تُنافي ضرباً من المال إذا لم يفِ الدخل بالخرج.
7812- ومن صرف سهم الفقراء والمساكين إلى الفقراء، وظن أن ما أضيف إلى [المساكين] (2) اكتفاء بالأقل درجة [من] (3) الفقر من طريق التخفيف، وطلبُ الفقر تمسكٌ [بالأشدّ] (4) الأشق، فهذا ظن باطل (5) ؛ لأن مقصود الشرع إزالة الحاجات بالزكوات؛ فقد يكون من غرضه أن يصرف إلى المساكين سهماً [ليتماسكوا] (6) ، ولا يصيروا فقراء؛ فلو وجد المسكين نصاباً، وكان لا يفي بمؤونته، لم يمنع صرف الزكاة إليه -وإن التزم إخراج الزكاة- فجواز صرف الزكاة إليه ينبني على تحقق مسكنته، فيجوز الصرف إليه إلى الاستكفاء.
وإن كان محترفاً بحرفةٍ تحتاج إلى آلات وهو لا يملكها، وإذا ملكها رددت (7) عليه كفافه، فله الأخذ إلى أن يُحَصِّل آلة الصنعة. وكذلك لو كان يكتسب بالتجارة ولا يتأتى منه الاتجار [إلا بألفٍ] (8) ، فله أخذ الألف من الزكاة.
ولو كان (9) يفتقر إلى عبدٍ يخدمه، لم يحتسب عليه إذا لم يكن العبد نفيساً، وكذلك لا يحسب عليه مسكنه اللائق بحاله، ولا يكلّف بيعه؛ فإن الحاجة إليه شديدة. وأما العبد، فإن كان المسكين يُخدم لمروءته ورتبته، فعدمه شاق على ذوي المروءات؛ فلا يمتنع أن يفرق بين هذا وبين العتق في الكفارة المرتبة؛ لأن الكفارات
__________
(1) المضطرب: أي الذي يدور على الناس.
(2) في الأصل: "المسكين" والمثبت تصرف من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) غير واضحة بالأصل، فيمكن أن تقرأ: (بالأصل) أو بالأسد.
(5) المعنى: أن من جعل الفقراء والمساكين صنفاً وأعطى السهم للفقراء؛ ظاناً أن ذكر المساكين جاء من باب التخفيف وأن توخِّي الفقراء وإعطاءهم وحدهم إنما هو من باب التمسك بالأشق، من فعل هذا فظنه باطل.
(6) في الأصل: يتماسكوا.
(7) كذا. والمعنى أنها ردّت دخلاً يكفي بخرجه.
(8) سقطت من الأصل بعض حروف؛ فقد رسمت هكذا: "الاتجارا بالف".
(9) "ولو كان ... إلخ": أي المسكين.(11/541)
تتطرق إليها توسعات؛ [منها] (1) أنها ليست على الفور، وليس في الانتقال من أصلٍ إلى بدلٍ إسقاطُ الكفارة، والزكاة [وجبت] (2) لسدّ حاجةٍ حاقة.
فإن كان يتضرر بترك الخدمة لضعفه أو لنقص بصره، فإن العبد لا يحسب عليه، فهذا متجه، فأما الفقير، فلا يحتمل حاله ملك مسكن ولا عبد.
[ولو سلّم] (3) من عليه الزكاة إلى عبد المسكين بإذن سيده وقعت موقعها، والعبد آلةٌ، وإن لم يكن بإذنه، ففيه خلاف ذكرناه في قبول العبد الوصية والهبة بغير إذن سيده، فإن لم يكن سيد العبد من أهل الاستحقاق، لم تقع الموقع؛ لأن العبد وسيده ليسا من أهل الزكاة، وإن كان العبد محتاجاً؛ لأنّا نشترط مع الحاجة كونه أهلاً للملك، العبد وإن قلنا: يملك بتمليك سيده، فملكه ضعيف لا يكتفى به في التمليك المشروط في تأدية الزكاة، كما لو قال لعبده: ملكتك ما تحتشه، أو تحتطبه، أو تصطاده، أو تتهبه؛ فإنه إذا وُجد شيء من هذه الأسباب، لم يملك بها العبد -وإن قلنا: يملك بتمليك سيده- لأن الملك لا يحصل إلا من جهة السيد في ملكٍ حاصل، وتمليكُ الأسباب لا يملّك العبد ما يَحصل بها.
ولا يجوز صرف شيء من سهم المساكين إلى المكاتب؛ لما ذكرناه من ضعف الملك.
ولا يجوز صرف الزكاة إلى صبي، وإن كان فقيراً أو مسكيناً، إلا أن يقبلها له وليه، أو منصوبٌ من جهة الحاكم.
7813- وإن كان للمسكين من تلزمه نفقتُه، ففي جواز صرف سهم المساكين وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأنه مكفيٌّ بنفقة قريبه؛ فهو كالكسب الدارّ بقدر حاجته، وهو القياس. والثاني - يجوز؛ لأن النفقة تجب عليه لمسكنته؛ فهي توجب الاستحقاق من الوجهين (4) على البدل، فإن سبقت الزكاة إليه، فلا نفقة له، وإن
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: " اد ـلها ".
(2) في الأصل: "ووجبت" بواوين.
(3) في الأصل: "ويسلّم" والمثبت تصرفٌ من المحقق.
(4) الوجهين: أي توجب المسكنة نفقتَه على قريبه، وكفايته من الزكاة، على البدل.(11/542)
سبقت النفقة، فقد اكتفى، لكنه لا يستغني بنفقة يومه، وقد يستغني بما يأخذه من الزكاة.
والوجهان في زوجته المكفيّة بنفقته. ونفقةُ الزوجية أولى بمنع صرف سهم المساكين؛ لأنها لا تسقط بالغنى، فهو كريع وقف عليها، ومن له ما يكفيه من ريْع عقار لا يصرف إليه من سهم المسكنة؛ فعلى هذا لو نشزت، سقطت نفقتها، ولم تستحق من سهم المساكين لقدرتها على العود إلى الطاعة؛ فتعود نفقتها، فهو كقدرتها على الكسب.
ولو سافرت في شغلها بإذن الزوج، فإن قلنا: تسقط نفقتها، جاز أن تأخذ من سهم المساكين -حيث نجوِّز نقل الزكاة-؛ لأن نفقتها سقطت ما دامت مسافرة.
قال: وفيه نظر؛ لأنها قادرة على الرجوع، فيظهر في زمان قدرتها على العود تردد، وما ذكروه أظهر؛ لأنه يجوز لها المكث، فإذا مكثت، لم تكن قادرة على العود في ذلك اليوم، وكذلك كل يوم يتجدد؛ ولأنها وإن خرجت بالإذن، فهي المتسببة إلى إسقاط نفقتها؛ لأنها وإن أذن لها، فسقوط نفقتها لتقلّبها في حظ نفسها.
قلت (1) : وفيما ذكره [وحكاه] (2) نظر؛ فإنها استحقت نصيباً بالمسكنة فسفرها وإقامتها سواء؛ فإنه بأخذها نصيب المسكنة، لا تمنع من السفر.
قال: ولو نشزت في غيبة زوجها، وقلنا: لا تعود نفقتها بعودها إلى الطاعة ما لم ينته الخبر إلى الزوج، ففي جواز صرف شيء من سهم المساكين إليها احتمال، لانتسابها إلى النشوز أولاً.
قلت: ولا ينبغي أن يكون في جواز صرف شيء من سهم ابن السبيل إليها خلاف؛ لأن نفقة الزوجية تسقط بسفرها على قول.
ولا ينبغي أن يجري خلاف في جواز أخذها من سهم الغارمين إذا ثبت غُرمها؛ لأن نفقة الزوجية للكفاية لا لقضاء الدين.
__________
(1) القائل ابن أبي عصرون.
(2) هكذا قدرناها على ضوء ما ظهر وبقي من أطراف الحروف وظلالها.(11/543)
7814- أما صرف الأب الزكاة إلى ولده المسكين أو ولده [الفقير] (1) من سهم [الفقراء] (2) أو المساكين، فلا يجوز اتفاقاً؛ لأنه إذا صرفه إليه اكتفى في يوم أو أيام، فتسقط نفقته، فيصير المال الواحد [محتسباً] (3) من الزكاة، مسقطاً للنفقة.
ويجوز أن يصرف إليهما من سهم الغارمين إذا كان عليهما دين؛ لأن القرابة لا توجب قضاء الدين، فتغسله (4) الزكاة، فيكون القريب كالأجنبي فيه، وسهم الفقر والمسكنة للكفاية، وهي واجبة على القريب.
أما الزوج إذا أراد أن يصرف إلى زوجته من سهم المسكنة، فهو كالأجنبي في ذلك؛ لأن نفقة الزوجية لا تسقط بوقوع الكفاية.
7815- ولا يجوز لرب المال أن يصرف من زكاته إلى واحدٍ من سهمين بأن يكون غارماً ومسكيناً. هذا ظاهر المذهب (5) ؛ لأنا فهمنا اعتناء الشارع ببث (6) الصدقات على الأشخاص، فلا بد من رعاية ذلك، كما لا يجوز أن يرث الإنسان بقرابتين [اجتمعتا] (7) فيه، وإن لم تحجب إحداهما الأخرى.
وقيل: يجوز الصرف إلى واحدٍ من سهمين بسبب الاستحقاق للصفات، وقد تجمعت. وقيل: يجوز الجمع بين سهم المسكنة وسهم الغرم لإصلاح ذات البين،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل رسمت هكذا: "معرياً" تماماً.
(4) كذا.
(5) على هذا استقر المذهب؛ إذ اختاره النووي، وحكاه عن جمع من أئمة المذهب، وقال: "إنه الأصح" (ر. المجموع: 6/219) .
(6) كذا. وهي من بث الشيء يبُثه: فرّقه ونشره (المعجم) .
(7) في الأصل: أجمعنا.
وهذا فيمن اجتمع فيه جهتا فرض، فلا يعطى بهما، أما من اجتمع فيه جهة فرضٍ، وجهة تعصيب، فهو يرث بهما كزوجٍ هو ابن عم في نفس الوقت. ولا يتصور اجتماع جهتي الفرض إلى عند من يستبيحون نكاح المحارم كالمجوس، فإذا أسلموا أو ترافعوا إليها، لا نورث بالقرابتين، وفد يتفق ذلك في المسلمين بغلطٍ واشتباه. (ر. الروضة 6/44) .(11/544)
وإن كان [لمصلحة] (1) نفسه، لأنهما جميعاً يرجعان إلى الكفاية.
ولا يجوز الجمع بين سهم الفقر وسهم المسكنة بحال؛ لأنهما يتناقضان، فلا يتصور الجمع بينهما في شخص واحد، وإذا أجزنا الجمع بين سهمين، أجزناه بين ثلاثة وأربعة إذا اجتمعت أسبابها.
ولا يجوز صرف سهم المساكين إلى مسكين واحد؛ لأن اللفظ ينبىء عن العدد مقصوداً؛ لأنه جرى ذكر كل صنفٍ بلفظ الجمع، فلا بدّ من رعايته.
7816- للمسكين أن يأخذ قدر كفايته بحيث يفي دخله بخرجه، ولا يتقدّر بمدة سنة؛ فإن الذي يملك [عشرين] (2) ديناراً يتَّجر بها، ولا يفي دخله بخرجه مسكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة، فالمعتبر أن يتموّل مالاً يحصل له منه دخل يفي بخرجه على ممرّ الزمان.
وإن كان لا يحسن تصرفاً، فالأقرب فيه أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب، وفيه نَبْوة (3) ؛ فإنه إذا كان ابنَ خمسَ عشرةَ سنة ويحتاج في السنة إلى عشرة، يؤدي إلى أن نجمع له مالاً جمّاً لا يليق بقواعد الكفايات في العادة.
والقريبُ من الفقه: إن كان يحسن التجارة، ملكناه مالاً يردُّ عليه التصرفُ فيه ما يكفيه، ولا يحطّه من الكفاية شيئاً، بل يكتفي بما هو أدنى درجات الكفاية.
وإن لم يحسن التجارة، فقد نقيم له قائماً يتَّجر له، وإن عسر ذلك، قال:
فالظاهر عندي أنه لا يزاد على نفقة سنة (4) ؛ فإنه لا ينضبط، وللسنة اختصاص بالزكاة؛ فإنها تجب في السنة مرة، فنزلت في كفاية المحتاجين منزلة النفقة الخاصة في كفاية من ينفق عليه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنة (5) .
__________
(1) في الأصل: "المصلحة".
(2) كذا قدرناها على ضوء ما ظهر من الحروف، وعلى ضوء ما يفيدة السياق.
(3) كذا تماماً، والمعنى وفيه بُعد، من نبا الشيء ينبو نبوة إذا بعد، والتعبير المألوف في لغة الإمام "وفيه بُعْدٌ"، وكما ترى المعنى واحد.
(4) المذهب أنه يعطى كفاية العمر، قال النووي: "إنه الأصح" (ر. المجموع: 6/194) .
(5) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنة" متفق عليه من حديث عمر =(11/545)
7817- وأما الفقير، فلو صرفنا إليه مقداراً، فيخرج به عن حد الفقراء، لم يكن للغير أن يصرف إليه من سهم الفقراء، نعم من سهم المساكين.
فأما الدافع الأول، فلو دفع إليه ما ينافي المسكنة دفعةً، ففيه تردد، فيجوز أن يقال: له ذلك، فالمنتَهى المرعيُّ في حق الفقير الكفايةُ، وإن كان ابتداء الدفع من سهم الفقراء، [فتُرعى] (1) غايةُ الضر، ويجوز أن يقال: لا يدفع من سهم الفقراء إلا ْأقل القليل، والمرعي أن يخرج عن حد الفقر، وهو كأكل الميتة؛ فإنه يراعى غاية الضرورة في الإقدام عليها، ويتردد في الزيادة على سدّ الرمق، قال: والأشبه عندي جواز الدفع إلى الفقير إلى الكفاية والاستقلال، فعلى [هذا] (2) لو صَرَفَ إليه من سهم الفقراء [ما] (3) أخرجه عن حد الفقر، ثم أراد هو بعينه أن يزيده من سهم الفقراء مرة أخرى، فيه (4) ترددٌ [و] (5) التفريع على جواز الدفع إلى حد الكفاية مرة واحدة، ويجوز أن يمتنع في دفعتين، لتعدد الفعل، وتميز الآخر عن الأول، ويجوز أن ينظر إلى اتحاد الدافع.
هذا كله في زكاة السنة الواحدة. فإذا تعددت السنة وفي يد الفقير بقية مما كان أخذه يخرجه عن حدّ الفقر، فلا يعطيه ذلك الشخص بعينه إلا من سهم المسكنة.
فرع:
7818- إن بني هاشم [وبني المطلب] (6) لا يصرف إليهم شيء من الزكاة، وقال عليه السلام: "إن الله أغناكم عن أوساخ أموال الناس بخمس الخمس" (7) . فإن
__________
= رضي الله عنه (ر. البخاري: النفقات، باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، ح 5357، مسلم: الجهاد، باب حكم الفيء، ح 1757) .
(1) في الأصل: "فيستدعي".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) جواب (لو) في قوله: "لو صرف".
(5) الواو زيادة من المحقق. والمعنى إذا فرعنا على جواز الدفع إلى حدّ الكفاية مرةَ واحدة.
(6) في الأصل: "وبني عبد المطلب"، وهو خطأ ظاهر.
(7) الحديث رواه مسلم: الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة، ح 1072. وانظر التلخيص: 3/238 ح 1503.(11/546)
لم يكن في يد الإمام فيء وافتقرت طائفة من ذوي القربى، فالجمهور أنه لا يجوز أن يصرف إليهم من سهم المساكين، وقال الإصطخري: يجوز إذا لم يكن فيء؛ لأنهم حرموا الصدقة، وأقيم الفيءُ في حقهم مقامها، فإذا لم يكن فيء، حلّوا محل الأجانب الذين لا قرابة لهم. وهذا بعيد.
وكما لا يصرف إليهم من سهم الفقراء والمساكين لا يصرف إليهم شيء من سهم (1) الزكاة، وإن اتصفوا بصفات الاستحقاق.
فإن [كانوا] (2) عاملين، فالأصح أنه يصرف إليهم؛ لأن نصيب العامل بمثابة الأجر. وقيل: لا يصرف إليهم.
وكانت الزكاة محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة التطوع، ويشهد له حديثٌ: فإنه عليه السلام دخل بيته، فرأى بُرْمة تغلي، فخرج وعاد، [فاستطعم] (3) ، فقدم إليه خبز قفار؛ فقال عليه السلام: "البرمة تفور باللحم"، فقيل: يا رسول الله إنه لحم تُصدق به على بريرة -والظاهر أنها كانت صدقة تطوع- فلم يردّ عليه السلام ذلك القول، لكنه قال: "هو عليها صدقة، ولنا منها هدية" (4) .
وفي تحريم صدقة التطوع على بني هاشم وبني المطلب وجهان: أحدهما - التحريم قياساً على المصطفى، والجامع استواؤهما في الصدقة المفروضة.
قلت: والاستدلال بقوله عليه السلام: "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" (5) أولى من القياس.
والوجه الثاني - أن النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتحريم صدقة التطوع. وفقه ذلك أنه عليه السلام كان مكفياً ببيت المال، وهو يُطعِم ويسقي، فلا يليق بمنصبه
__________
(1) من سهم الزكاة: المراد من جنس الزكاة.
(2) غير واضحة بالأصل.
(3) في الأصل: فاستعظم.
(4) حديث "هو عليها صدقة، ولنا منها هدية" سبق تخريجه.
(5) حديث "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" متفق عليه من حديث أبي هريرة (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/235 ح 645، التلخيص: 3/243 ح 1521) .(11/547)
العلي أن يُمتن عليه بالصدقة. وأما الفقير من ذوي القربى، فيجب كفايته، ويبعد صرف كفايته عن جهة [القربة] (1) إلى الله تعالى، فلا معنى للصدقة إلا [تحلّة] (2) يتقرب بها لله تعالى.
وفي الصدقة المنذورة خلافٌ، منهم من أنزلها منزلة الزكاة، فحرمها على ذوي القربى، ومنهم من أحلها محل صدقة التطوع، وفيها الخلاف المقدَّم.
فصل
7819- قال سبحانه: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فأثبت للعامل سهماً في الصدقات. والعامل: الساعي الذي يجبي الصدقات، ومنهم الحُسّاب والكتّاب، ومن لا بد من استعماله؛ لأن الساعي لا يستقل بذلك. فإن كان ثُمن الصدقة مثل أجور أمثالهم من غير زيادة ولا نقصان، فلا كلام، وإن فضل عن أجورهم شيء، فهو مردود على بقية الأصناف، ولو نقص عن أجورهم، فلا بد من تكميلها، ففي قول: تكمل من الصدقة، فيقدم سهم العاملين رأساً، ثم يُفضّ الباقي على بقية السهام بالسوية. والقول الثاني: يكمل من سهم المصالح، ولا يعطَوْن من الصدقة زيادة على الثمن.
وقيل: ليس للعامل إلا الثُّمن، فإن نقص عن أُجرة مثله، لم يكمل من موضعٍ آخر، ويلزم على هذا إذا زاد على أجرة مثله أن يأخذه بالغاً ما بلغ، وهذا بعيد، لم يبح به من قال بالأول، ويشهد لإمكانه تحريم هذا السهم على الهاشمي، وقد قيل: هي على اختلاف حالين، فإن بدأ بسهم العامل، فنقص، تممه من الصدقة، ثم يفض الباقي على السهام الباقية، وإن بدأ بسهام غير العاملين، ثم نقص سهام العاملين، لم تُنْقَض القسمة، وتمّم سهم العاملين من المصالح. قال: وليس فيه فقه، فإن اتفق هكذا، فلا يبعد ذلك، ويليق أنه إذا اتسع سهم المصالح، فرأى الإمام أن يجعل
__________
(1) في الأصل: القربى.
(2) في الأصل: لحله.(11/548)
مؤونة العاملين منه، فالظاهر جوازه، وهذا يدل على أن ما يأخذه العامل مؤونة على الصدقة، وليس من عين الصدقة، لكنها مؤونة محسوبة على مستحق الصدقة.
وللساعي أن يبذل شيئاً من الصدقة لنقلها إلى المستحقين.
ويدلّ فحوى كلام الأصحاب على أنه لا يجوز حرمان العاملين من الصدقة بالكليّة، ويدل على أن ما يأخذونه صدقة؛ ولذلك حرم على الهاشمي. والمذهب ما قدمناه.
7820- وإذا تولى رب المال تفرقة زكاة ماله، سقط سهم العامل عنه، وإن احتاج إلى مؤونة لنقلها، لم يلزمه؛ لأنها غرامة زائدة على الزكاة، ولا عدوان منه، فيُغلَّظ عليه، فإما أن يمسكها حتى يطرقه المستحقون، وإما أن يَحْتسب من الزكاة، [ما] (1) يجوز للساعي أن يحتسبه منها، ويعارض هذا أن الساعي قابض للمساكين وغيرهم، ناظر لهم نظر الولي للمَوْليّ عليه، أو نظر القاضي في أموال الغُيب، أو نظر الوكيل للموكل. ولو تلف ما يأخذه الساعي في يده، كان محسوباً على المساكين، والزكاة [ما بقيت] (2) في يد ملتزمها، فهي من ضمانه. فهذا وجه التردد.
[وإذا احتاج إلى كيال يكيل العشر، فهل مؤنته من سهم العاملين؟ ذكر الأئمة فيه وجهين؛ أحدهما - أنها من سهم العاملين؛ لأن ذلك من العمل] (3) في الزكاة، وقد زُيِّف؛ وصححنا أن مؤونة الكيال على رب المال (4) ، وقد بيّنّا أن من اشترى طعاماً مكايلة، فمؤونة الكيال على البائع. وسهم هؤلاء على قدر أجور أعمالهم، ولا يقسم عليهم بالسوية.
وليس لوالي البلد، ولا للإمام الأعظم من سهم العاملين شيء، وما كان الخلفاء
__________
(1) في الأصل: وما.
(2) غير مقروءة بالأصل، ورسمت هكذا: " ما اثبـ ".
(3) عبارة الأصل هكذا: "وإذا احتاج إلى كيال يكيل العُشر، فمؤنته من سهم العاملين، أحدهما أنها من سهم العاملين لأن ذلك من العمل ... إلخ" وفيها اضطراب ظاهر.
والمثبت بالتعديل والإضافة من عمل المحقق، بناء على الحكم الفقهي في المسألة (ر. المجموع: 6/187، 188) .
(4) هذا هو الوجه الثاني.(11/549)
يأخذون من الصدقات شيئاً، إنما حقهم في سهم المصالح إذا لم يتطوع بالعمل، فكان الصّدّيق والفاروق يأخذان من سهم المصالح قدراً دَرَراً (1) ثم ردّاه في آخر أعمارهما إلى بيت المال، وروي أن عمر بن الخطاب أرصد لنفسه ناقة من الفيء تحلب كل ليلة، فيفطر على لبنها، فأبطأت ليلة: فلم تعد من مرعاها، فحلب له من نَعَم الصدقة، وأتي به، فشربه، فأعجبه ذلك، فسأله عنه، فقيل: إنه من نعم الصدقة، فأدخل أصبعه، فاستقاءه، وغرم قيمته للصدقات (2) .
فصل
7821- قال الله عز وجل: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم} [التوبة: 60] فمنهم الكفار إذا بدا لنا حسن نياتهم، ورجَوْنا إسلامهم، وقد كانوا يُعَدون من المؤلفة، والذي استقر الشرع عليه أنهم لا يعطَوْن من الصدقات شيئاً، وهل يعطَوْن من المصالح؟ قولان: أحدهما - يعطَوْن؛ لاتساع وجوه المصالح وعَوْد الفائدة إلى الإسلام. والثاني - لا يعطَون؛ لأن سهم المصالح يُعدّ للمسلمين وهؤلاء كفار.
ومنهم من هو حديث عهد بالإسلام، وهم أشرافٌ، ولم تصدق نياتهم، وفي ثبوتهم مسلمين إسلامُ أتباعهم، ففيهم قولان: أحدهما - يعطَوْن من المصالح.
والثاني - من الصدقات.
ومنهم بطرف بلاد الإسلام يليهم كفار، إذا أعطوا، قاموا بجهادهم، ولو لم [يجاهدوهم] (3) ، نحتاج إلى مؤنة مجحفة في تجهيز جيش إليهم، فيجوز الصرف إليهم بلا خلاف، لأنه مُهمٌّ من مهمات الإسلام.
__________
(1) دَرَراً: جمع دارّ. والقدر الدارّ، والرزق الدارّ: أي الدائم الذي لا ينقطع، وجمعه دُرّار، ودُرّرٌ، ودَرَرٌ. (المعجم) . (ولعل الصواب "قدراً داراً") والله أعلم.
(2) أثر عمر رواه مالك في الموطأ، والشافعي عنه. قال في البدر المنير: هذا الأثر صحيح. (ر. الموطأ: 1/269، 1لأم: 2/72، البدر المنير: 7/396) .
(3) في الأصل: يحادهم.(11/550)
وكذا لو كان [وراءهم] (1) قوم من المسلمين، إذا صرف إليهم شيء جَبوْا صدقاتهم، وأوصلوها إلى الإمام، وامتثلوا أمره، ولو أنفذ إليهم ساعياً، عظمت مؤونته؛ لأن ذلك بذل مال في مقابلة عمل، وتسميتهم مؤلفة تجوّزٌ؛ فإن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
ومن أين يصرف إليهما (2) ؟ فيه أربعة أقوال: أحدها - من المصالح. والثاني - من سهم المؤلفة من الصدقات. والثالث - من سهم سبيل الله. والرابع - من سهم سبيل الله [و] (3) من سهم المؤلفة. وعلى الرابع قيل: يخرج على الوجهين فيمن فيه سببان يستحق بهما. وقيل: يجمع للمؤلفة (4) لحاجتنا إليهم، ولا يجمع لفقير غارم، لأنه محتاج إلينا، فيجوز الجمع للمؤلفة وجهاً واحداً، والوجهان في غيرهم.
قلت: ويتجه في هذين الصنفين أن يقال: يُعطى من يُرجى جبايته الصدقة من سهم العاملين؛ لأنهم قائمون بالعمالة حقيقة، وللمجاهدين من سهم سبيل الله؛ لأنهم غزاة حقيقة، ولا يعطَوْن من سهم المؤلفة. إلا أني لم أره للعراقيين.
وذكر العراقيون في الأشراف (5) هل يعطون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قولين. وإذا قلنا: يعطَوْن، فمن أين؟ فيه قولان. فإن قلنا: من الصدقات فقد أجرى صاحب التقريب الأقوال التي ذكرناها فيمن في أطراف خِطة الإسلام. وإذا قلنا: يجمع بين السهام، فهل يتعين؟ قيل: يتعين. وقيل: يفوّض إلى رأي ولي الأمر، ولعله الأصح.
فصل
7822- الرقاب: هم المكاتبون عند الشافعي، وأبي حنيفة. فيعطَوْن سهماً يستعينون به على أداء مال الكتابة، فيدفع إليه مقدار ما عليه من النجوم إذا لم يكن في
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا: " ما را ـهم ".
(2) الضمير يعود على الصنفين الأخيرين.
(3) في الأصل: وهو.
(4) أي يجمع لهم العطاء من السهمين.
(5) الأشراف: المراد الأشراف حديثو العهد بالإسلام، الذين أشار إليهم قبلاً، بأنهم لو ثبتوا على إسلامهم، لأسلم من وراءهم.(11/551)
يده وفاء بها. فإن كان في يده بعض ما عليه، أُعطي تمامَه، كما يُعطى الغارم بقدر ما عليه. وفي جواز أخذه قبل حلول النجم عليه وجهان: أظهرهما - لا يجوز؛ لأنه غير مطالب. والثاني - يجوز؛ لأن له تعجيله قبل محله، ويلزم السيد قبوله، فإن رضي المكاتب بتسليم الصدقة إلى سيده، جاز تسليمها. ولو دفعت إلى السيد بغير إذنه، لم تقع الموقع؛ لأنه لا يتعين عليه صرفها إليه، بل يجوز أن يؤدي من كسبه ويستبقي الصدقة لنفسه.
وإذا قبض قسطاً من الصدقة، ثم أبرأه المولى، أو نجّز عتقه، قال صاحب التقريب: نرجع فيما قبضه إن كان باقياً؛ لأنه لم يحصل به المقصود، وهو الإعتاق، ولو كان أتلفه قبل الإبراء أو العتق، ففيه وجهان: يغرم؛ لأنه يلزمه الرد، [لو] (1) بقيت. والثاني - لا يغرم؛ لأن القصد بالدفع إليه إرفاقه، وقد حصل. وقيل: إن فاتت العين، فلا غرم، وإن بقيت، ففي استردادها وجهان.
وجميع ما ذكرناه يجري فيما إذا أداه أجنبي عنه، ثم أُعتق عنه، أو أبرىء.
ولو لم يدفع ما قبضه إلى سيده، [فعجّزه] (2) السيد، استرد منه بلا خلاف، إن كان باقياً، أو قيمته إن كان [فائتاً] (3) ، بخلاف ما تقدم؛ لأن الغرض حصول العتق، فإذا نفذ، لم نتبعه.
وقيل: إذا دفع ما قبضه إلى سيده وعجز عن باقي النجوم، وعاد إلى الرق ففي استرداده من السيد طريقان: أحدهما - لا يسترد منه؛ لأنها بلغت محلها. والثاني - هي على وجهين. هذا إذا كانت العين باقية في يد السيد، أما إذا كانت فائتة، فالأمر على خلاف ذلك، وهذه أولى بأن لا يغرم السيد، وقطع الشيخ أبو محمد بالرد مهما (4) كانت العين باقية، وإن فاتت، غرم، وهو منقاس حسن؛ لأنه خرج عن كونه مكاتباً بانقلابه رقيقاً.
__________
(1) في الأصل: "ولو".
(2) في الأصل: فعجز.
(3) غير واضحة بالأصل، وفيها أثر تصويب.
(4) مهما: بمعنى (إذا) .(11/552)
ولو فاتت العين في يد المكاتب، تعلق عينها برقبته؛ لأنها تلفت مضمونة تحت يده، كما لو استعار عيناً، فتلفت في يده، بخلاف ما لو اشترى عيناً، فتلفت في يده كان بائعها رضي بذمته، وما قبضه من الصدقة لم يكن عوضاً، بل موقوفاً، وقد تبين أنه لم يقع منه موقعه.
فصل
7823- قال تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فإن لزمه الغرم لحاجته الخاصة فيُرعى فيه أن يستدين في إباحةٍ كحاجته إلى نفقته، أو نفقة عياله، فهذا يقضى من الصدقة.
فإن كان لزمه في جهة معصية هو مقيم عليها، لم يصرف إليه من الصدقة؛ لأنّ في قضائه إعانةً له على المعصية. ولو تاب منها، فوجهان: أحدهما - لا يقضى، زجراً عن الاستدانة على المعاصي؛ لأن التوبة لا اطلاع على حقيقتها، ولا يؤمن إظهارها توصلاً إلى أخذ المال والمعاودة إليها. وقيل: يقضى؛ لأن المعصية زالت ومحتها التوبة، وتبقى الذمة مرتهنة.
ونعني بالاستدانة في المعصية أن يقترض مثلاً، أو يشتري بعقد صحيح، لا أنه يعقد عقداً فاسداً.
ومن استدان غير قاصد للفساد، ثم بدا له، فصرفه في الفساد، فإذا تحقق ذلك، قُضي من سهم الغارمين. لكن إذا اقترض وقبض وصرفه في الفساد، وادّعى أنه لم يكن قاصداً للفساد، لم نصدقه. ولو اقترض بقصد به الفساد، ثم عصمه الله، فصرفه في جهةِ خيرٍ، قُضي دينه؛ لأن النية إنما تعتبر إذا صدَّقها العمل. وعلى مقتضى هذا، إذا اقترض للطاعة، ثم أنفقه في المعصية أنه لا يقضى دينه، لأن نيته موقوفة على عمله.
قال الشيخ أبو بكر: الاقتراض في جهة الإسراف كالاقتراض في المعصية.(11/553)
والسَّرف هو الخروج عن المعتاد، فيما لا يُكسب أجراً، ولا [يُسْمي] (1) شرفاً [و] (2) ليس محرّماً (3) .
ويشترط لقضاء دين الخاصة من الصدقة ألا يكون في يده ما يقضي به الدين، فأما [من] (4) تحمَّل ديةً في تسكين فتنة لولا تحملها، لثارت، فإذا طلب قضاء ذلك عنه، لزمت إجابته؛ وإن كان غنياً بعقاره ومنقولاته، متمكناً من قضاء تلك الحَمالة من غير عسر يلحقه.
وإن كان غنياً بالنقدين أو بأحدهما، ففيه قولان: أحدهما - يؤدى عنه دينه، كما لو كان غنياً بعقاره وعروضه تحريضاً [لسادات] (5) القبائل على تطفئة ثائرة الفتن؛ فإنه تكثر منهم، فلذلك لا يكلّفون بقضائها من أموالهم.
والقول الثاني - لا يقضى من الصدقة إذا كان له وفاء من نقد؛ لأن صرفه في هذا الوجه لا يثقل على المقتعِدين (6) للرياسة بخلاف بيع العقار والمنقولات، فإنها تصدّ المتحمل؛ فإنه يعد قريباً من الخروج من منصب المروءة في العرف، وهذا وإن لم نرضه في القياس، فهو لائق بالمعاني الكلية.
ولو تحمّل الغرامة في إتلاف مال جرَّ فتنةً، ففيه طريقان: أحدهما - أنه كمتحمل الدية. وقيل: إن كان معه وفاء من النقد، لم يعط من الصدقة قولاً واحداً، وإن كان له غير النقد، فقولان على عكس الترتيب المقدّم.
__________
(1) في الأصل هكذا: "يسما" والتصرف في الرسم والضبط من المحقق، على اعتبار أن الفعل (سما) بمعنى (علا) يُعدّى بالهمزة -والتعدية بها قياسية، كما أقرها مجمع اللغة العربية- فيُسمي بمعنى يعلي، فيكون المعنى: "فيما لا يكسب أجراً، ولا يُعلي شرفاً" والله أعلم.
وأجزم أنها محرفة عن (ينمي) من قولهم: فلان ينميه حسبُه، أي يرفعه.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) أي ليس محرماً لذاته، وإلا فهو محرم من حيث كونه إسرافاً ومجاوزة حد الاعتدال. (ر. المجموع: 6/208) .
(4) في الأصل: "ما" وهي تستعمل لمن يعقل على ندور إذا أمن اللبس، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ولكن غيرناها جرياً على الغالب.
(5) في الأصل: "لمسادات" ولا معنى لها.
(6) هكذا قرأناها بصعوبة، والمعنى: من يتصدون للرئاسة، ويقتعدون مقاعدها.(11/554)
7824- ولو ضمن عن رجل ديناً في معاملة من غير خوف فتنة؛ فإن كان المضمون عنه موسراً والرجوع عليه ممكناً، لم يعط من الصدقة؛ لأنه ليس بدين؛ فإنه يجد به مرجعاً.
وإن كان المضمون عنه معسراً، ولا يجد الضامن مالاً يقضي به الدين، [فله] (1) قضاؤه من الصدقة.
وإن كان موسراً بالنقد أو بغيره، فقد قيل: هو كتحمل الدية، وقيل: كتحمل بدل متلف لخوف الفتنة. ومنهم من قطع بأن ضمان دين المعاملات كالاقتراض لخاصة نفسه، فالذي يلتزمه الإنسان لخاصة نفسه قطع المراوزة باشتراط الفقر في قضائه من الصدقة، وقيل: يجوز أداؤه مع الغنى، وهو ضعيف.
قال: وفي هذا المقام نظر، فإن كان الغارم لا مال له، لم تتجه مطالبة غريمه له، والصدقة تصرف لسد خَلة، أو كفاية أذى مستَحِقِّ الدين (2) ، وإنما شرطنا الإعسار؛ لأنه لا يمتنع أن يكون للإنسان مستنض (3) ، فيصرفه إلى قضاء دينه، فيصير مفتقراً إلى الصدقة، فإن كان ينتهي بأدائه إلى المسكنة، فله أخذه من الصدقة، وهذا نوع غنى يكفي في دفع المفسدة، فإن زاد الغنى عن الكفاية، لم يقض دينه. ويجوز أن يقال: لا نهجم على قضاء دينه وهو ذو كفاف، فيرتدّ الفرض إلى مسكين عليه دين، فلا يؤدى من الصدقة إلا دين مسكين.
ويجوز أن يقال: إذا لم يملك ما يقضي به دينه فلا يتهنَّى بعيشه، وهو مكتسب قدر الكفاف، فينازع في قدره وينحو إلى المحاكمة، ولأنه إذا قضيت الديون من الصدقات استرسل الناس في إقراض المعسرين واثقين بالصدقات؛ فإنها أثبت من الأغنياء المعتدّين (4) .
__________
(1) في الأصل: فلو.
(2) في الأصل: "ومستحق للدين".
(3) "مستنض". كذا قرأناها بعد لأْي. والمستنض: هو النقد الذي حصله صاحبه من تنضيض متاع أو عُروض (ر. اللسان) .
(4) المعنى أن الصدقات أثبت وجوداً، والثقة بأداء الدين منها أكبر من الأغنياء المعتدّين أي الموجودين، فقد يعطون، وقد يمنعون بخلاف الصدقة.(11/555)
علم أن [للشرع] (1) على الحَمالات حث ظاهر، لصلتها بالمصالح العامة، حتى [كأن] (2) المتحمل مستناب من جهة الشرع في الاقتراض على الصدقة.
7825- وفي قضاء الدين المؤجل من الصدقة ثلاثة أوجه: أحدها - لا يقضى؛ لأنه لا مطالبة به. والثاني - أنه يقضى الذي سيطالب به، [فيليق بالشرع أن يكفي المطالَب توقع المطالبة] (3) . والثالث - إن كان الأجل ينقضي في وسط السنة المستقبلة قُضي دينه؛ فإنه سيؤدَّى قبل محل الصدقة الأخرى، وإن كان الأجل سنة فصاعداً، فيؤخر قضاء هذا الدين إلى صدقة السنة القابلة.
والغارم على أي وجه كان يستحق الأخذ من الصدقة بسبب الغرم، فلو أخذ الصدقة ثم أبرأه غريمه، فحكمه في رد ما أخذه إن كان تلف، حكم المكاتب إذا قبض حصته، ثم أُعتق أو أبرىء.
واحتج الشافعي في فصل الحَمالة بما روي أن قَبيصة بن مخارق الهلالي قال: "تحملت حَمالة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نؤديها عنك، أو نخرجها عنك إذا قدم إبل الصدقة، ثم قال: يا قَبِيصة: المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحَمَالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابه فاقة أو حاجة -شك الراوي- حتى يشهد أو يتكلم -وهذا أيضاً من الراوي- ثلاثة من ذوي الحجا أن أصابته فاقة، أو حاجة، حتى يصيب سِداداً، من عيش أو قَواماً من عيش -وهذا من الراوي أيضاً- ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة. الحديث" (4) .
يعرض في الأول لحلال السؤال مع الفقر، ومعنى آخره أن من كان على كفاية برأس مال يتعفف عن التكفف، فإن [حُطّ] (5) بجائحة عنه، فله السؤال إلى عود الكفاف.
__________
(1) في الأصل: الشرع.
(2) في الأصل: "أن".
(3) العبارة كانت في الأصل مضطربة، فيها تقديم وتأخير هكذا: "فيليق بالطالب الشرع أن يكفى توقع المطالبة" والمثبت من تصرف المحقق.
(4) حديث قَبيصة سبق تخريجه.
(5) في الأصل: "حطه".(11/556)
وفي أحاديث من الوعيد الذي يلحق الملحف في السؤال، قال عليه السلام: "الملحف في السؤال يحشر يوم القيامة وليس على وجهه مُزعة لحم" (1) ويروى "يحشر وفي وجهه خدوش".
ومتى انتهى السؤال إلى الإيذاء (2) فهو ممنوع. ولو آثر المرء الصمت في الضرورت مع قيام الدواعي، فهو ممنوع، قال عليه السلام: "من صمت وقد حقّ عليه النطق، فهو شيطان أخرس" (3) .
وإذا مست الحاجة، فالسؤال مسوّغ، والتعفف حسن، وإن لم يكن حاجة [و] (4) لم ينته السؤال إلى الإيذاء، فهو مكروه، إلا أن يُباسط صديق صديقاً، فلا كراهة في هذا، وقد يدخل المسرة.
فصل
7826- والمعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] سهم من الصدقة يصرف إلى الغُزاة المطّوعة، ولا يشترط فيه كونُه محتاجاً، بل لو كان من أغنى الناس إذا طلب، يُسعف بكفايته في مركبه وسلاحه ونفقته: فالمركب ما يبلِّغه إلى محل القتال، فارساً كان يقاتل أو راجلاً، كما لا تجب حجة الإسلام على من لا يجد راحلة
__________
(1) حديث "الملحف في السؤال يحشر يوم القيامة وليس على وجهه مُزعة لحم" رواه البخاري، والنسائي من حديث أبي هريرة (ر. البخاري: الزكاة، باب من سأل الناس تكثّراً، ح 1474، النسائي: الزكاة، باب المسألة، ح 2585) .
رواية "يحشر وفي وجهه خدوش" أخرجها أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن مسعود (ر. أبو داود: الزكاة باب من يعطى من الصدقة، ح 1626، الترمذي: الزكاة، باب ما جاء من تحل له الزكاة، ح 650، النسائي: الزكاة، باب حد الغني، ح 2593، ابن ماجه: الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى ح 1840) .
(2) كذا قرأناها، ويرشح هذه القراءة، ويؤيدها العبارة الآتية قريباً في ختام الفصل، حيث قال: "إلا أن يباسط صديق صديقاً، فلا كراهة في هذا، وقد يُدخل السرور".
(3) أثر "من صمت وقد حق عليه النطق، فهو شيطان أخرس". هذا ليس حديثاً، وإنما هو من كلام أبي علي الدقاق، ذكره عنه أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية (ص 36) .
(4) زيادة اقتضاها السياق.(11/557)
أو نحوها، فإن كان (1) حصّل له فرساً يقاتل عليه، إما أن يشتريه ويسبّله، فإذا اتفقت الحرب كان عتيداً للغزاة. وإما أن يستأجره، وإما أن يستعيره، وإن رأى أن يملّكه الفرس لعلمه ببلائه، فعل، ويعطيه نفقة الذهاب ومدة [الإقامة] (2) على القتال والحصار، ونفقة الإياب؛ لأن استشهاده ليس ضربة لازم، فهذا لأن الغرض من الدفع إليهم تحريضهم على الجهاد، فاعتبر ذلك مع كونهم أغنياء، كالمرتزقة من مال الفيء.
ولو عدم الفيء في بيت المال، وجاء وقت عطاء المرتزقة، ففي الصرف إليهم من الصدقة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن حقهم في الفيء لا يسَاهمون فيه، فيبغي أن يختص [المطوعة] (3) بسهم الصدقة، وعليه تدلّ سيرةُ السلف من الأئمة والخلفاء الراشدين، فإنهم ما كانوا يمزجون الفيء بالمطوعة. والثاني - يجوز أن يصرف إليهم؛ لأنه مرصد للغزاة، وهم منهم وأولى من المطوعة.
وإذا نحونا بالفيء نحو مال المصالح ورأى الإمام أن يصرف ما فضل من كفاية المرتزقة إلى المطّوعة، جاز، وإن قلنا أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، لم يجز أن يصرف منه شيء إلى المطوّعة. نعم، [يجوز] (4) أن يصرف إليهم من خمس الخمس المرصد للمصالح، وقال الصيدلاني: يجوز أن يصرف إلى المرتزقة من سهم سبيل الله إذا احتاجوا إلى قتال مانعي الزكاة، قال: فيعطَوْن مما يأخذون من الممتنعين، قال (5) : ولا تحقيق فيه؛ لأن ما يؤخذ من الممتنعين ومن المطيعين سواء، فلا تختلف مصارفها وهم مترصدون لأمر الإمام في كل قتال، فأي أثر لتخصيص قتال مانعي الزكاة؟ وإذا قلنا يجوز أن يصرف سهم المرتزقة إلى المطوّعة، جاز أن يصرف
__________
(1) (كان) تامة، أي وُجد المطَّوّع، وفاعل (حصَّل) ضمير يعود على ولي الأمر الذي يقسِمُ الصدقات ويُعد الغزاة.
(2) في الأصل: الإنابة.
(3) في الأصل: "الموعطة". وهو سبق قلم من الناسخ حصل بسبب هذا القلب المكاني للأحرف.
(4) زيادة من المحقق
(5) أي إمام الحرمين، فهو يعترض على الصيدلاني.(11/558)
إليهم جميع ما يحتاجون إليه من أصل النفقة، وما يزيد بسبب السفر على أحد الوجهين، كالمقارض إذا سافر.
فصل
7827- قال الله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وهو مريد السفر، ولا يجد ما يبلغ به إلى مقصده، فيُدفع إليه من سهم الزكاة، إذا كان سفره طاعة. وإن كان سفر معصية، لم يُدفع إليه، وكذلك الهائم على وجهه، ومن يهمّ بالعود إلى وطنه يستحق باتفاق، وطالب التجارة غرضه صحيح وسفره مباح، وهل يصرف إليه منه إذا كان ماله غائباً، وهو يبغيه ليتجر فيه؟ قطع شيخه (1) بجواز الصرف إليه. وقال الصيدلاني: من سافر إلى بلدةٍ (2) ، فقصده صحيح. قال: وفيه نظر ظاهر، فيجوز أن يقال: هذا ليس من الأغراض المعتبرة، وأكثر الأئمة على أن السفر [من] (3) غير غرض مكروه؛ لأنه إتعاب النفس بغير فائدة.
وإذا أجزنا نقل الصدقة، أجزنا صرف هذا السهم إلى الطارقين، وإلى المنشئين من وطن المال، وإن لم نُجز النقل، فيجوز صرفه إلى المنشئين، فأمّا الطارقون، فظاهر النص لا نجيز الدفع إليهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذه البلدة.
وقيل: إن أبناء السبيل الملازمون للأسفار، وهو بالطارقين ألْيق، فيجوز صرفه إليهم. وقال أبو حنيفة (4) : ابن السبيل هو الطارق دون المنشىء.
وإذا منعنا نقل الصدقة وفي البلد غرباء من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم، لم يجز الصرف إلى الغرباء؛ لأن تحريم النقل يقتضي أن يختص كل فريق بما عنده، وإذا علم الغرباء أن الصدقة تصرف إليهم، أمّوا البلد، وضيقوا على القاطنين في
__________
(1) شيخه: أي شيخ إمام الحرمين، ويعني والده الشيخ أبا محمد.
(2) بلدةٍ منكرة، أيّ بلدة، والمراد السفر لمجرد الانتقال، كما يتضح في السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) ر. البدائع: 2/46، البحر: 2/260.(11/559)
البلد، فيفسد به [الغرض الذي قدمناه] (1) في أول الكتاب من [بسط] (2) الصدقات على جميع الجهات، وقد ذكرنا أن [لحوم] (3) الهدايا تفرّق في الحرم، فلو حضره الغرباء قُسّطت عليهم جميعاً، بخلاف الزكاة إذا منعنا النقل، والفرق أن الغرض من تفريق [لحوم] (4) الهدايا في الحرم تشريف مكانه (5) لشرفه. والغالب المرعي في الزكوات تعميم جميع أهل البلاد؛ ولأنها كثيرة تفضل [عمّن هم أهل الحرم] (6) ؛ فهي بالغرباء الواردين أليق، وقد تضيق عليهم أطعمة الحرم لضيق خِطته.
فأما صدقات أهل الحرم، فإنها كصدقات سائر البلاد.
وإذا فارق وطنَ المال بعضُ أصناف أهل الزكاة، فنقل من عليه الزكاة نصيبَهم إليهم حيث كانوا، جاز؛ تعويلاً على الآخذ دون المكان، وهو جارٍ على القياس الذي ذكرناه، ويتضح به (7) إذا انتقل جملة المستحقين مثلاً، أما إذا كان في المقيمين في وطن [المال] (8) كفاية، وإنما انتقل طائفة منهم، فالقياس جواز الإخراج إلى الخارجين، وجَبُن بعضُ الاْصحاب في هذه الصورة على الخصوص؛ فلم يجيزوا النقل، فقد قيل: يجوز إخراج حصصهم إليهم؛ لأنهم من أهل النفقة، وقيل: لا يجوز حتى يحضروا وطنَ المال في سنة الزكاة، فلو حضروا بعضَ السنة، وغابوا قبل انقضائها، فهو مرتب على الصورة الأوّلة (9) ، وهذه أولى بجواز الإخراج.
ولو غابوا معظم السنة، ثم أتَوْا وقت وجوب الصدقة، جاز صرفها إليهم باتفاق، ولا حكم للغيبة السابقة، ولو غابوا بعد انقضاء السنة، صرفت صدقة تلك السنة إليهم، وتعليله بيّن.
__________
(1) عبارة الأصل: "فيفسد به غرض قدمنا" والمثبت من تصرف المحقق، لاستقامة العبارة.
(2) في الأصل: "قسط". وهو تحريف ظاهر.
(3) في الأصل: "لحوق".
(4) في الأصل: "نجوم".
(5) أي تشريف مكان التفريق.
(6) في الأصل: "لمن هم أهل الحرم".
(7) أي ويتضح به القياس إذا انتقل ... إلخ.
(8) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(9) تأنيث "الأول" بالتاء واردٌ، وإن لم يكن بالأفصح (ر. المصباح المنير) .(11/560)
ولو خرجوا على قصد قبل وجوب الصدقة، لم يجز نقل الصدقة إليهم إذا فرعنا على منع النقل، وإن انتقلوا بعد وجوب الصدقة، فإن اتسعت الخِطة، ولم ينحصر أهلها، فالأصح جواز الإخراج، وإن كانوا محصورين وقد غابوا بعد الاستحقاق، فلهم حصصهم.
ويشترط في استحقاق ابن السبيل الحاجةُ الناجزة: ألا يكون معه ما يبلغه مقصده وإن كان له مال غائب، فلو قصد بلدة بعيدة، وله في منتصف طريقها مال، لم يأخذ إلا ما يبلغه إلى ماله، بخلاف سهم سبيل الله، فإنا نصرفه إلى الموسرين؛ لأن الغرض استحثاثهم على الغزو، وهذا يقتضي أن يُكفَوْا من الصدقة؛ حتى لا يتخاذلوا؛ ضِنةً بأموالهم، وابن السبيل [يعطى للحاجة] (1) ؛ فاعتبر وجودها.
فصل
7828- من ادعى الغرم لم يصدق إلا ببيّنة؛ لأنه دعوى باطنٍ، لا يعسر إثباته.
وكذا إذا ادعى العبد أنه مكاتب. ومن ادعى الفقر، أو المسكنة، لم يكلّف بيّنة على ذلك؛ لأنه يعسر ذلك على آحاد المساكين، ويتضح ذلك بسيرة الأولين؛ ولما جاء الرجلان يطلبان الصدقة، فلم يردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على (2) أن قال: "لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي". وأُلحق به عدمُ الكسب، وإن أشعر ظاهر البِنْية بقوةٍ وتمكّنٍ من اكتساب بجهةٍ (3) ؛ لأنا نرى كثيراً من أصحاب [القوة] (4) يعرون عن عمل [مع قوتهم] (5) فلا يطالب بالبينة. نعم، إن كذبه شاهد الحال، كذبناه.
وكذلك [إن] (6) اشترطنا الزمانة في سهم الفقراء.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، مكان كلمة رسمت هكذا: "احير" بهذا الإعجام وبها لا يستقيم المعنى.
(2) في الكلام حذف تقديره، "بل ما زاد" على أن قال ...
(3) كذا. والعبارة بها مستقيمة.
(4) مكان كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: " حـ ـ " تماماً وبدون نقط.
(5) ما بين المعقفين تصرفٌ من المحقق، مكان كلمتين هكذا: " ـعيد قر ـهم " تماماً.
(6) زيادة لاستقامة العبارة.(11/561)
وإذا ادعى أن عليه ألفاً لزيد، فصدقه على ذلك، ففيه وجهان: أحدهما - يقبل تصديقه؛ ويُعطى من سهم الغارمين؛ لأنه ثبت بالإقرار. والثاني - لا يقبل؛ لأنه لا تؤمن المواطأة بينهما، وكذلك إذا صدق السيد أنه (1) عبده على الكتابة، وهذا أقوى من تصديق المدين.
ولو أقرّ بدين لغائب، [وقبلنا] (2) إقراره للحاضر، ففيه وجهان.
ولو قال: أنا عازم على سفر، أو أريد الغزو، لم يطالب بحجة على عزمه، وجاز الدفع إليه من السهم الذي طلبه.
وحيث لا يطالب بالبينة، ففي تحليفه إذا اتهمه المطلوب وجهان، وهل هي (3) مستحقة أو مستحبة؟ وجهان: فإن قلنا: هي استحباب استظهاراً، فنكل، فلا حكم لنكوله. وإن قلنا هي مستحقة، فإن نكل عن اليمين، لم يستحق شيئاً.
وقيل: إن طلب من سهم المساكين، فذكر أنه غير مكتسب، فإن شهد له ضَعفُه (4) ، لم يحلّف، و [إن] (5) بعُد بشاهد الحال صدقُه، ففي تحليفه وجهان.
فإن قيل: فقد قضيتم بالنكول، [إذا] (6) رأيتم التحليف مستحقاً كل، قلنا: لا بد [من شرط] (7) قيام حجة لائقةٍ بالحال، وهي اليمين، فإذا عدمت، صار كأن لم تكن بينة على الغرم والكتابة، ونحن تشترط قيامها.
ومن طلب من الغزاة أو ابن السبيل لم نحلفه، بل إن انتهض غازياً أو مسافراً (8) .
وحلفه، ولا نجد مرجعاً لفقره، وهل هي استحقاق أو استظهار، على ما تقدّم.
__________
(1) كذا. ولعل [أنه] زائدة.
(2) في الأصل: "وقلنا" والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى أنه من أهل الإقرار.
(3) هي: أي اليمين.
(4) أي ضعف جسده.
(5) زيادة اقتضاها السياق؛ فالمعنى إذا كان يوحي حاله بقوته وقدرته وأنه من أهل الاحتراف.
(6) في الأصل: "وإذا".
(7) في الأصل: "يشرط".
(8) هنا خرمٌ، لا ندري مقداره، فالكلام غير متصل، ولا مستقيم.(11/562)
وقيل: من ادّعى حَمالة، [وأشكل] (1) علينا حاله، طولب بالبينة، على قياسٍ بيِّن. فإن استفاض أمرها (2) ، اكتُفي بالاستفاضة فيها، وقيل: هذا إذا انتهت إلى حدٍّ يفيد العلم [كأخبار التواتر] (3) ؛ لأنها أقوى من البينة، وإذا لم تُفد إلاّ غلبة ظن، فلا أثر لها (4) ، وعليه البينة، وفيما ذكره [فقه] (5) .
وإذا انتهت الاستفاضة إلى إفادة العلم، فإنها تفيد القاضي علماً في الخصومات.
فإن قلنا: يجوز أن يحكم بعلمه، قضى بها، وإن منعنا القضاء بالعلم، فقد منع بعضهم القضاء بها؛ بناء على الأصل، ومنهم من أجازه؛ لأن المحذور من القضاء بعلمه تعرضه للتهمة، وقد زالت بالاستفاضة. والاكتفاء بها إذا أفادت ظناً فيما نحن فيه أفقه؛ لأن الأحكام فيه مبنية على الظن، بخلاف مفاصل الخصومات؛ فإنها منوطة بالعدد والتعبدات، ولا أظن بمن لم يكتف (6) اشتراطه إقامة بينة في مجلس القضاء، فإن طرد قياسه، فهو بعيد من وضع الباب، مخالف لسيرة السلف؛ فإنهم ما أخرجوا مستحقي الصدقة إلى مجلس الحكم. وإن اكتفى بقولٍ في غير مجلس القضاء، فالاستفاضة أقوى. ولعل المعتبر أن يشيع التحمل إشاعة يكتفى بمثلها في إثبات النسب، وتنبني الشهادة عليها.
***
__________
(1) في الأصل: "أو أشكل" والمثبت تقدير منا.
(2) أي الحَمالة.
(3) كذا قرأناها مراعاة لأقرب صورة للحروف، وأقرب معنى للسياق، وإلا فمكان ما بين المعقفين كلمتان في أولاهما أثر تصويب، وقد رسمتا هكذا: " كصاصـ االـ وا ـر " مع رسم حاء صغيرة تحت الثاني والرابع من الكلمة الأولى؛ علامة على إهمالها، مما ضلّلنا طويلاً.
(4) لم يفرق الرافعي بين إفادة الاستفاضة العلمَ أو غلبةَ الظن، وجعل حكمها في الحالين واحداً، وهو قبولها. (الشرح الكبير: 7/400) .
(5) في الأصل: فقيه. وهو سهو واضح.
(6) أي من لم يكتف بالاستفاضة.(11/563)
باب كيف تفريق قسم الصّدقات
7829- تجب قسمة الصدقة على الأصناف بالتسوية، ويجب تعديل السهام اتفاقاً، إلا سهم العامل، فقد سبق تفصيله، فإن تولّى قسمة صدقته بنفسه، سقط سهم العامل، ويخرج المؤلفة على الرأي الظاهر، فيبقى الفقراء، والمساكين، والرقاب، والغارمون، وأبناء السبيل، وسبيل الله: فيقسم على ستة، فيصرف كل سهم إلى ثلاثة فصاعداً، ولا تجب التسوية بينهم (1) ؛ لأنه ضبط للعدد (2) ، فيجوز التفضيل وفاقاً.
ولا يجوز النقصان من الثلاثة.
وإذا تولى [الإمام] (3) تفرقة الزكاة، لم يؤاخذ في صدقة كل شخص بهذا التعديل، لكن يجمعها كلها، ويتعاطى فيها بتعاطي الواحد في تفرقة زكاة نفسه؛ لأن يد الإمام يد المستحقين، وهي محل الصدقة، وعلى الإمام مزيد نظر أن يوصل الصدقة إلى محاويج الخِطة.
فصل
7830- إذا فرّق زكاة نفسه، ثم ظهر أن بعض من أخذ لم يكن مستحقاً، فقولان: أصحهما - أنها لم تقع موقعها؛ لأنها من ضمانه إلى أن يوصلها إلى مستحقها، وإلى
__________
(1) بينهم: أي بين الأصناف في العدد، بعد أن يستوفي ثلاثة من كل صنف.
(2) أي أن شرط استيعاب ثلاثة من كل صنف ضبطٌ للعدد الواجب، وبعده تجوز الزيادة من أحد الأصناف عن الآخر. ويحتمل أن يكون في الكلام سقط، وصحة العبارة: "لأنه لا ضبط للعدد" أي لا يطالب من عليه الزكاة بإحصاء الأصناف الثمانية، ومعرفة عدد الآحاد في كل صنف، والتسوية بينهم، فإن هذا لا ضبط له لدى الآحاد ممن لزمتهم الزكاة، وإنما يتيسر هذا للإمام، عندما يقوم هو بجمع الزكاة وتوزيعها.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(11/564)
هذا مَيْلُ النص في الجديد. والقديمُ: لا يلزمه تثنية (1) الزكاة؛ لأن فيه عسراً، ولا يتمكن الآحاد من نهاية البحث، وفي تثنيتها ثقل على أرباب الأموال.
هذا إذا خرج من قدَّرهُ فقيراً غنياً. فأما إذا خرج كافراً، أو رقيقاً، فقد قيل: هي على قولين كالتي قبلها. وقيل: يجب قطعاً تثنيتها؛ لأن الكافر والرقيق لا يخفيان غالباً، فظهورهما يدل على تقصير المعطي، بخلاف الفقير والغني، فأمرهما مشكل.
وإذا أدى سهم الغارم إلى من أقام بينة على غرمه، ثم بان كذبهم، ففيه قولان، كمن ادعى المسكنة، ثم بان غنياً. ولو لم يكلِّف مدعي الغرم البينة، وأعطاه بقوله، ثم بان كذبه، لم يقع المخرج موقعه، ورمز بعضهم [فيه] (2) إلى تردد، فإن قلنا: لا نسلّم إليه بقوله، لم يبق شك في أنه لا يقع ما أخرجه موقعه. وإن قلنا: يجوز له التعويل على قوله، فالظاهر أنه لا يعتد به؛ لأن الاستظهار بالبينة ممكن. وإذا اكتُفي بظاهر قول المخبر، كان مشروطاً بالسلامة.
ولا وجه لتحليف من يدعي المسكنة إذا لم تظهر تهمة، وإن ظهرت، فإن كان المفرِّق الإمام، فيليق بمنصبه تحليفه، وإن كان ربَّ المال، فيبعد منه التحليف، ويعضّده ترك السلف التحليف. ويجوز أن يقال: له أن يحلّف، كما يسمع قول الثقات في المغارم (3) ، وإن اختص سماع [البينة] (4) بمجالس الحكام، وإذا رأينا التحليف على دعوى المسكنة، لم نوجبه على من يفرق الصدقة، إذا لم يكن تهمة، بخلاف سهم الغارمين، ولا يبعد في القياس اشتراط اليمين إذا قلنا: اليمين مستحقة، وتخصيص التحليف على المسكنة بمحل التهمة، وغالب العادة
__________
(1) كذا قرأناها على ضوء السياق، وبمساعدة أطراف الحروف، حيث فيها أثر تصويب، طمس صورة حروفها.
(2) في الأصل: "منه".
(3) المعنى: أننا كما جوّزنا سماع الثقات (أي الشهود) من الغارمين، أي طلبنا منهم البينة، وسمعناها، مع أن سماع الشهود يختص بمجالس الحكم، فكذلك يجوز أن يحلَّف في المسكنة.
(4) في الأصل: بالبينة.(11/565)
اجتناب (1) التهمة في مصارف الزكوات. ولو تصور استواء النفي والإثبات في دعوى المسكنة، فعلى الوجهين.
أما إذا تولى الوالي تفرِقة الزكاة، فبان مَنْ ظنَّهُ مسكيناً غنياً، فالمشهور أن الوالي لا يغرم؛ لأن تغريمه يجر عسراً؛ لأنه يتعذّر عنه، ووقعت الزكاة موقعها، وبرىء [مَنْ أداها] (2) ، ويسترد الوالي ما بذله إن تمكن منه، ويصرفه إلى مستحقه. ولا يقف الحكم ببراءة ذمة رب المال على أن يفعل الوالي ذلك.
وإن كان (3) الآخذ كافراً، أو رقيقاً، فهل يغرم الوالي؟ فيه قولان، فإنه ينسب إلى تقصير. وقيل في الصورة الأولى أيضاً قولان.
وحيث نوجب على الإمام الاستظهار، فلم يفعل، فالوجه القطع بتغريمه؛ لأنه متصرف بالولاية في حقّ الغير، وحيث لا يغرم الإمام، فلا نشك بوقوع الزكاة موقعها، وإن رأينا تغريمه، فهو بمثابة ما لو أكلها، ولم يصرفها إلى مستحقها، ولو فرض ذلك، فلم نحكم بانعزال الوالي، فظاهر القياس أنه يبرأ مَن عليه الزكاة؛ فإن يد الإمام يد المستحقين، والواقع في يده كالواقع في يد المستحقين. وقيل: لا تبرأ ذمة من عليه الزكاة؛ لأنها لم تبلغ محلها، وهذا يجري حيث يغرم الإمام جرياناً ظاهراً.
وإن لم يغرم الإمام، أثبتنا له حق الاسترداد إذا تمكن منه، بخلاف الصدقة المعجلة إذا لم تقع موقعها، ففي بعض الصور نقول: لا تسترد؛ لإمكان صرفها إلى جهة التطوع، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنّ أَخْذ الصدقة ظلماً مستحيل أن يقدَّر جهة ثبوت الملك.
وأما إذا تولى تفرقتها من وجبت عليه، فالوجه أن نقول: إن أمكن الاسترداد، وجب ذلك، ويُقطع بأنّ الزكاة لم تقع موقعها.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة شديدة؛ لعدم وضوحها بالأصل، والمعنى أن معطي الزكاة غالباً يبعد عن موضع التهمة، ويتطلب أصحاب الحاجة الحاقة.
(2) في الأصل: "مِنْ أدائها" ولعل الصواب ما أثبتناه؛ فالإمام مفرّق، وليس بمؤدٍّ، ويؤيد صحة اختيارنا الكلام بعده.
(3) كذا، ولعلها: "بان".(11/566)
[....] (1) على أن نقول: يسترده للمساكين؛ فإن هذا لو قيل به، فهو أولى [به بعد تقدير بُرئه] (2) عن الزكاة، ولا سبيل إليه.
وإن عسر الاسترداد وأيس منه، حكمنا بوقوع الزكاة موقعها، وبرىء من كانت عليه، وهو بمثابة ما لو تلف المال قبل الإمكان، إذا قلنا: تجب بانقضاء الحول.
وما أخذه ذلك الإنسان هل يكون ديناً للمؤدي أم للمسلمين؟ قال: وهذا خَبْط لا يهتدى إليه، ونتبين منه تزييف القول بأن الزكاة سقطت عمن عليه. وبهذا يتضح الفرق بين الوالي ورب المال؛ فإن الوالي يتصرف للمستحقين وأرباب الأموال، ويده صالحة للنيابة للمساكين.
***
__________
(1) النقط بين المعقفين مكان ثلاث كلمات تعذّر قراءتها، كما تعذّر تقدير كلمات مكانها.
(2) كذا قرأنا هذه الكلمات بصعوبة بالغة. وقد رسمت كلمة (برئه) هكذا (براه) .(11/567)
باب ميسم الصّدقة
وسمُ الدواب جائزٌ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسم الدواب والنَّعَم في الصدقة والجزية (1) .
ووسمُ الأغنام في آذانها (2) وليخفَّ على قدر احتمالها. ووسمُ الإبل والبقر في أفخاذها، وكذلك وسم الخيل.
ونهى النبي عليه السلام عن وسم الوجه، ورأى حماراً في وجهه وسم فقال: "ألم يبلغكم أني لعنت من يسم الدواب في وجوهها" (3) . والذي ذكره الأصحاب الكراهية، وهذا الحديث يتضمن التحريم.
ثم قال الشافعي (4) رضي الله عنه: علامة الصدقة: لله، وعلامة الجزية: الصَّغَار.
ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه باباً (5) .
__________
(1) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم وسمَ الدواب والنعم في الصدقة والجزية" متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. البخاري: الزكاة، باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده ح 1502، واللباس، باب الخميصة السوداء، ح 5842. مسلم: اللباس، باب جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه وندبه في نعم الزكاة والجزية، ح 2119) .
(2) حديث وسم الأغنام في آذانها، ورد في بعض روايات حديث أنس السابق (ر. البخاري: الذبائح، باب الوسم والعلم في الصورة، ح 5542، مسلم: اللباس، باب جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه ح 2119، وابن ماجه: اللباس، باب لبس الصوف ح 3565، وأحمد 3/169) .
(3) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم رأى حماراً في وجهه وسم ... " رواه مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه (ر. مسلم: اللباس، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه ح 2117، 2118، أبو داود: الجهاد، باب النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه ح 2564، التلخيص: 3/240 ح 1512) .
(4) ر. المختصر: 3/244.
(5) هو باب (الاختلاف في المؤلفة) ر. المختصر: 3/246.(11/568)
آخر ربع البيوع (1) .
***
__________
(1) جاء في خاتمة النسخة:
وافق الفراغ منه بتوفيق الله تعالى وحسن معونته، سابع ليلة مضت من ربيع الآخر من شهور سنة سبعين وخمسمائة، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وكتبه العبد الضعيف الراجي رحمة ربه عمر بن أبي غانم ابن الموصلي حامداً لله ومصلياً على رسوله محمد خير خلقه وعلى آله وأصحابه وأزواجه صلاة زاكية تامة إلى يوم الدين.
ستبقى خطوطي بعد موتتي ... على أنها تبقى وتفنى أناملي
فيا ناظراً فيها اسأل الله رحمةً ... لكاتبها المدفون تحت الجنادل
اسأل الله رحمة.(11/569)
عز الفقه وشرفه في الاقتصار على مسالكه، مع التزام الجواب عن كل واقعة.
الإمام
في نهاية المطلب(12/4)
كتاب النكاح (1)
باب ما جاء في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأزواجه في النكاح
7831- والأصل في النكاح قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} [النساء: 3] .
وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تكثروا" (2) .
قال (3) : واتفق المسلمون على أن النكاح شرع لإحلال النساء للرجال.
قلت (4) : الآيتان، والخبر لا يخص ما ترجم الباب (5) ، بل هي عامة.
وقوله: "النكاح شرع لإحلال النساء للرجال" فيه نقد، بل لتحليل كل واحد من القبيلين للآخر.
قال: وصدّر الشافعي رضي الله عنه الكتاب بهذا الباب، وأضاف الأصحاب إليه خصائصه في غير النكاح.
__________
(1) من هنا خرم في الأصل، ينتهي عند أول باب اجتماع الولاة وتفرقهم، وقد أكملناه من مختصر ابن أبي عصرون (صفوة المذهب) حيث وجدناه يحتفظ بعبارة الأصل، ونكاد لا نجد لفظة منه غير ألفاظ الأمام.
(2) حديث "تناكحوا تكثروا": أخرجه صاحب مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه، وذكره البيهقي في (المعرفة) عن الشافعي بلاغاً، وكذا هو في الأم، والمختصر (ر. مسند الفردوس: 2/130 ح 2663، الأم: 5/144، مختصر المزني: 3/255، معرفة السنن والآثار: 5/219، البدر المنير: 7/423، التلخيص: 3/248) .
(3) القائل هو إمام الحرمين.
(4) أي ابن أبي عصرون.
(5) فإن الباب مترجم بأنه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه.(12/5)
7832- ويحصر خصائصه صلى الله عليه وسلم ضربان: تغليظٌ، وتخفيف، وينقسم التغليظ إلى التحريم والإيجاب: أما الإيجاب فمنه:
صلاة الليل، لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] والنافلة في اللغة: الزيادة. وهي في حق الأمة جائزة لنقصان فرائضهم، وفرائضه صلى الله عليه وسلم [منزّهة] (1) من النقص؛ فكان تهجده زيادة على مفروضاته.
ومنه وجوب الأضحى (2) ، والضُّحى، والوتر.
وفي وجوب السواك خلاف.
وكان يقضي دين من مات معسراً، لما اتسع عليه المال وجوباً عند الجمهور، أشعر به قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك كَلاًّ فإليَّ، أو ديناً فعليَّ" (3) . وقيل: كان تكرّماً منه، وهو غير سديد؛ لأن قوله حقٌ، فلا يجوز تقدير خلافه، ولا يمكن حمله على الضمان عند من أجاز ضمان المجهول لما يتضاعف فيه من جهالة الجنس، والقدر، والصفة، ومن له، وعليه.
وذُكر في إيجاب ذلك على الإمام من سهم المصالح وجهان.
قال (4) : وفيه تفصيل: فإن [من] (5) لم يقدر على القضاء، ولم يمطُل، يلقى الله تعالى ولا مظلمة عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: "لأن أموت وعلي مائة ألف
__________
(1) في الأصل: منزه.
(2) المراد الأضحية، وورد ذلك في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعاً "أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بها، وأمرت بالأضحى ولم تكتب"، وروى الدارقطني عن أنس مرفوعاً: "أمرت بالوتر والأضحى ولم يعزم علي" وقد ضعف الحافظ إسناد الحديثين (ر. مسند أحمد: 1/317، الدارقطني: 2/21، التلخيص: 3/254، 255 ح 1532) .
(3) حديث أنه كان يقضي دين من مات معسراً لما اتسع عليه المال، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك كلاًّ ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الكفالة، باب الدين ح 2298، مسلم: الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، ح 4157. التلخيص: 3/108 ح 1268) .
(4) أي إمام الحرمين.
(5) زيادة اقتضاها السياق.(12/6)
لا أملك قضاءها أحب إليّ من أن أموت وأخلف مثلها" (1) . ولا معنى لصرف مال المصالح في دينه (2) . وإن ظلم بالمطل، ومات معسراً، فالأوجه ألا يصرف مال المصالح إليه، فإن قيل بجوازه، فيقضى أيضاً دين من لم يظلم؛ ترغيباً لأرباب الأموال في إسعاف المحتاجين وشرطه -عاماً وخاصاً- أن يفضل المال عن مصالح الأحياء.
ومن الإيجاب مشاورة [ذوي الأحلام] (3) عند قومٍ؛ لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] . وقيل: نُدِب إليها استعطافاً للقلوب.
وسر تخصيصه بالإيجاب تعظيم ثوابه؛ فإن ثواب الفرض أعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل: "ما تقرّب المتقربون إليَّ بمثل أداء ما افترضت عليهم" (4) . وقال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: عبدي، أدِّ ما افترضت عليك، تكن أعبد الناس، وانته عما نهيتك عنه، تكن أورع الناس، وارض بما قسمت لك، تكن أغنى الناس، وتوكّل على الله، تكن أكفى الناس" (5) . وقيل: يزيد ثواب الفرض على النفل سبعين درجة؛ لما روى سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: "من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه" (6) .
__________
(1) أثر عائشة رضي الله عنها لم نقف عليه.
(2) فالراجح عند الإمام أنه لا يقضى دينه من سهم المصالح.
(3) في الأصل: "ذوي الأْرحام" وهو سبق قلم؛ فلا معنى لتخصيص ذوي الأرحام بالمشورة.
(4) حديث "ما تقرّب المتقربون إليَّ ... " طرف من حديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الرقاق، باب التواضع، ح 6502، التلخيص: 3/254 ح 1513) .
(5) حديث " ... عبدي، أدِّ ما افترضت عليك" قال في كشف الخفا (1/75 ح 171) : "رواه ابن عدي عن ابن مسعود. قال الدارقطني: رفعه وهم، والصواب وقفه".
(6) جاء في زيادات النووي في الروضة: 3/7 قوله: "قال إمام الحرمين هنا: قال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النافلة بسبعين درجة، واستأنسوا فيه بحديث" ا. هـ.
وجعل ابن حجر هذه من فوائده في تلخيص الحبير، وعقب على كلام النووي قائلاً: =(12/7)
فقابل النفل فيه بالفرض في غيره، وقابل الفرض فيه بسبعين فريضة في غيره، فأشعر أن الفرض يزيد على النفل سبعين درجة، بل دلّ أن كل نفل شهر رمضان كفرض غيره، وأن فرضه بسبعين فريضة في غيره.
7833- فأما ما وجب في النكاح:
فمنه تخييره نساءه، لقوله سبحانه: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28] . وقيل: إن سبب التخيير أنهن طالبنه بشيء من الدنيا، ولم يكن في يديه وفاء به (1) .
وروي أن إحداهن طلبت منه خاتماً من ذهب، فجاءها بخاتم من فضة، لطخه بالزعفران، فردته. وقد روي في سبب التخيير وجوه، ويظهر أن [نفرة] (2) زحفت إلى قلبه صلى الله عليه وسلم لمطالبتهن له بما لايجده، فآلى صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل عليهن شهراً.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنّا معاشر المهاجرين متسلطين على نسائنا بمكة، وكانت نساء الأنصار مسلّطات على رجالهن، فلما قدمنا المدينة اختلطت نساؤنا بنسائهم، فطفقن يتخلقن بأخلاقهن، فكلمت امرأتي ذات يوم في شيء، فراجعتني، فرفعت يدي لأضربها، وقلت: لا تراجعيني يا لكعاء، فقالت: إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وهو خير منك، فقلت: خابت حفصة وخسرت إذاً. فجمعت ثيابي وقمت، فأتيت حفصة، فقلت لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: نعم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلّ على
__________
= "والحديث المذكور ذكره الإمام في نهايته، وهو حديث سلمان مرفوعاً" وساق الحديث على نحو ما هو وارد هنا في شهر رمضان. ثم قال: "وهو حديث ضعيف، أخرجه ابن خزيمة، وعلّق القول بصحته [أي قال: إن صح الخبر] واعترض على استدلال الإمام به، والظاهر أن ذلك من خصائص رمضان، ولهذا قال النووي: استأنسوا، والله أعلم" انتهى كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/254) وانظر صحيح ابن خزيمة: 3/191-192 - رقم: 1887.
(1) حديث أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم طالبنه بشيء من الدنيا، ولم يكن في يديه وفاء به، رواه ابن سعد في الطبقات عن جابر رضي الله عنه (8/179) وما بعدها.
(2) الكلمة بين المعقفين اختيار من المحقق لمناسبة السياق، وفي الأصل كلمة تعذر قراءتها.(12/8)
بعض نسائه طول نهاره مغضباً، فقلت لها: لا تفعلي ذلك ولا تغترّي بابنة أبي قحافة، فإنها حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم، يحتمل منها ما لا يحتمل منك، وكنت قد ناوبت رجلاً من الأنصار حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أحضر يوماً، ويغيب في حاجته، فأخبره بما يجري، ويحضر يوماً وأغيب في حاجتي، فيحدثني بما جرى، فكنت في البيت إذْ قرع الأنصاري الباب عليّ، وقال: أَثمَّ عمر، فقلت: نعم. أحدث أمر؟ فقال: نعم، قلت: أجاءتنا غسان؟ - وكنا نحدث بأن [غسانَ] (1) تنعل خيولها لتغزونا فقال: أمر أفظع من ذلك: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فخرجت من البيت، ودخلت المسجد، ورأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المنبر جلوساً يبكون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على [مَشْرُبة] (2) ، وكان أسامة (3) على الباب، فتقدمت إليه فقلت: استأذن لي، فاستأذن، فلم يُجَب، فرجعت. فلما بلغت بعض حجر المدينة، نازعتني نفسي؛ فانصرفت فقلت: استأذن لي، فاستأذن؛ فلم يجب؛ فرجعت، فلما بلغت بعض حجر المدينة نازعتني نفسي، فانصرفت فقلت: استأذن لي، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتي، فقال: اصعد، فكان صلى الله عليه وسلم نائماً على حصير من الليف، فاستوى جالساً، وإذا الليف قد أثّر في جنبه، فقلت: إن كسرى وقيصر يفترشان الديباج والحرير وأنت على مثل هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: "في شك أنت يا بن الخطاب؟ أما علمت أنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة"، ثم قصصت عليه القصة، فلما بلغت إلى قولي لحفصة لا تغتري ببنت ابن أبي قحافة بَسِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أطلقت نساءك؟ فقال: "ل". فقلت: الله أكبر" (4) .
__________
(1) في الأصل: غساناً. ولم ندر لها وجهاً.
(2) بياض بالأصل، والمثبت من نصّ الخبر.
(3) في بعض روايات الحديث: "وكان على الباب غلام أسود". وفي بعضها: "رباح".
(4) أثر عمر رضي الله عنه متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/115-120، ح 944، 945) .(12/9)
وروي أنه آلى عن نسائه شهراً، فمكث في غرفته شهراً، فنزلت آية التخيير، فلما نزلت بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، فدخل عليها وقال: "إني ملق إليك أمراً، فلا تبادريني فيه بالجواب حتى تؤامري فيه أبويك"، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} [الأحزاب: 28] الآيات. فقالت: أفي مثل هذا أؤامر أبوي؟ اخترت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم قالت: لا تخبر زوجاتك بذلك، وطلبت أن يخترن الدنيا، فيفارقهن صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل على نسائه، وأخبرهن بما جرى مع عائشة، وكان يتلو عليهن آية التخيير، فاخترن بأجمعهن الله ورسوله والدار الآخرة (1) . فثبت بذلك وجوب التخيير عليه صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن واحدة منهن لو اختارت الدنيا، لكانت تبين بنفس الاختيار، كما لو خيّر أحدنا زوجته، ونوى تفويض الطلاق إليها، فقالت: اخترت نفسي، ونوت الطلاق؛ فإنها تبين بنفس الاختيار. قال (2) : وهذا غير مرضي؛ فإن الآية اقتضت التخيير بين الدنيا وزهرتها وبين الآخرة، ولا يماثل ما يجري بين الزوجين منا.
قال: والأولى في التوجيه أن اختيار إحداهن الدنيا يضاد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه أن هذا القائل يقول: لو اختارت الدنيا، كان يجب على المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يفارقها، والفرقة إذا وجبت، وقعت عندنا، ولهذا
__________
(1) واقعة التخيير أخرجها الشيخان من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، وليس فيها أن عائشة طلبت أن يختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا فيفارقهن، قال الحافظ في الفتح (8/382) : "وقع في النهاية، والوسيط التصريح بأن عائشة أرادت أن يختار نساؤه [صلى الله عليه وسلم] الفراق، فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق فذاك، وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك" ا. هـ
(ر. البخاري: التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب "قل لأزواجك إن كنتن تردن ... " ح 4785، مسلم: الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، ح 1475) .
(2) أي إمام الحرمين.(12/10)
استدللنا بوجوب الفراق في اللعان على وقوعه.
قلت: وفيما ذكره نظر؛ فإنه لو كان اختيار الدنيا يضاد صحبة رسولى الله صلى الله عليه وسلم، لتعجلت الفرقة، ولو وقعت الفرقة، لم يكن لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] معنى؛ فإن المفارِقة كيف تفارَق؟ وقوله: إن الفرقة إذا وجبت وقعت - لا يصح، وليس ذلك مذهباً، ولهذا إذا أمتنع المُولي من الفيئة، وجب عليه أن يطلق، ولا يقع الطلاق قبل تطليقه. وكذا إذا رأى الحكمان في باب النشوز الطلاق، كان التطليق واجباً، ولا تطلق بنفس وجوب التطليق. وأما في باب اللعان، فلا نقول بأن الفرقة وقعت بوجوبها، بل تقع بكمال ألفاظ اللعان.
قالى: ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الفرقة لا تقع، لكن كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها تلقياً من قوله سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] . وظاهرهُ وجوبُ الفرقة، وقد تحقق أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يناط بالأقيسة التي تناط بها أحكام العامة، وإنما يتبع فيها موارد الشرع من غير زيادة.
وذكر الخلاف في خصائصه خبطٌ، لا فائدة فيه؛ لأنه لا يتعلق بها حكم ناجز تمس الحاجة إليه، وإنما نجتهد فيما لا نجد بداً من إثباته أو نفيه، وما خلا منه تهجّم على الغيب من غير ثمرة.
وانبنى على هذا أنه هل كان يلزمهن الجواب على الفور؟ فقيل: إن قلنا: إن الفرقة تقع بنفس الاختيار، اقتضى أن يكون الجواب على الفور، على قولٍ، كما لو خير أحدنا زوجته، ففي وجوب الاختيار على الفور قولان. قالى: وهذا في نهاية الضعف؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ولا تبادريني بالجواب حتى تستأمري أبويك". فإن قيل: ما كان لها ذلك تخييراً ناجزاً، قلنا: فلم اكتفى به صلى الله عليه وسلم في جواب التخيير؟ فلا حاصل لذكر الخلاف فيه.
وإن قلنا: لا تحصل الفرقة بنفس الاختيار، فلا يلزمهن الجواب على الفور، وهو الصحيح.
ولما اخترن الله سبحانه ورسوله والدار الآخرة جازاهنّ الله سبحانه، فحرم عليه(12/11)
التبدل بهن، والتزوج عليهن، فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] والذي صح عند الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أُبيح له ما حرّم من ذلك (1) . وقال أبو حنيفة: مات ولم يبح له.
لنا ما روت عائشة رضي الله عنها: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء اللائي حرمن عليه" (2) .
وفي تحريم طلاقهن وجهان: أحدهما - كان حراماً عليه؛ لقوله تعالى: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] والتبدّل إنما يكون بمفارقتهن وإقامة غيرهن مقامهن. والثاني - لم يحرم طلاقهن، وهو الظاهر؛ لأن الخصائص يجب أن يقتصر فيها على المنقول.
وقال بعضهم: إنه في صورة خاصة، وهو أنه لو وجد التطليق باختيارهن الدنيا، فأما منعه من إنشاء طلاق بعد انقضاء التخيير، وأثره، فلا وجه له.
قال: وهذا التفصيل لا حاجة إليه، والوجه القطع بأنّ له اختيار الطلاق متى شاء.
ولما أباح الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم التبدّل بهن، لم يتبدّل، وهو السر في إباحته إظهاراً لمنته صلى الله عليه وسلم عليهن.
7834- أما المحرمات من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فمما حرم عليه من دون أمته إلا ذوي القربى، فالصدقة (3) المفروضة، وكذا صدقة التطوع على المذهب
__________
(1) ر. الأم: 5/140.
(2) حديث عائشة: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء اللائي حرمن عليه" رواه الشافعي في الأم، ولفظه "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء" قال الشافعي: كأنها تعنىِ اللاتي حظرن عليه في قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] . وأخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي دون الزيادة، قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح. (ر. الأم: 5/140، أحمد: 6/41، الترمذي: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، ح 3216، النسائي: النكاح. باب ما افترض الله عز وجل على رسوله عليه السلام وحرّمه على خلقه ليزيده إن شاء الله قربة إليه، ح 3204، البدر المنير: 7/440، التلخيص: 3/263 ح 1540) .
(3) فالصدقة: كذا بالفاء، ولم نعرف لها وجهاً، فقد سبق جواب أمّا بقوله: فمما حرم عليه. =(12/12)